نصبهم الحرب له، وإرادتهم إهلاكه، وكانت العاقبة له، وقد أشار عغليه السلام إلى ذلك يوم الفتح بقوله لقريش: كما قال يوسف: "لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين، اذهبوا فأنتم الطلقاء"، أي العتقاء.
__________
الفتح، بقوله لقريش" بعد الخطبة: "يا معشر قريش ما ترون أني فاعل فيكم"؟، قالوا: خيرًا أخ كريم وابن أخ كريم، وقد قدرت، فقال: "أقول كما قال" أخي "يوسف لا تثريب": عتب "عليكم اليوم"، خصه بالذكر؛ لأنه مظنة التثريب، فغيره أولى، "يغفر الله لكم، وهو أرحم الراحمين، اذهبوا فأنتم الطلقاء" "بضم المهملة وفتح اللام وقاف" جمع طليق.
قال المصنف في فتح مكة أي: الذين أطلقوا فلم يسترقوا، ولم يؤسروا، والطليق الأسير إذا أطلق، فتفسيره هنا بقوله، "أي: العتقاء": جمع عتيق بمعنى معتوق، فيه تجوز؛ لأن حقيقة العتيق من أزيل عنه الرق، وهؤلاء لم يسترقوا، لكن لما كان المصطفى متمكنا منه، ورفعه عنهم، شبههم بمن أزيل عنه الرق، وأطلق عليه اسمه، ثم هذا الذي ذكره المصنف إلى قوله: "اليوم يغفر"، هو ما ذكر في الفتح؛ أنه لخصه من السهيلي.
وأما لفظه في الروض، فهو: وأما لقاؤه ليوسف في الثالثة، فيؤذن بحالة ثالثة تشبه حال يوسف، وذلك أنه ظفر بأخوته بعد إخراجه من بين ظهرانيهم، فصفح عنهم، وقال: {لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُم} [يوسف: 92] ، وكذا نبينا أسر يوم بدر جملة من أقاربه الذين أخرجوه، فيهم عمه العباس، وابن عمه عقيل، فمنهم من أطلق، ومن من فدى، ثم ظهر عليهم عام الفتح، فقال: أقول، كما قال أخي يوسف: {لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُم} . انتهى.
وال ابن دحية: مناسبة لقائه ليوسف في الثالثة، أن الثالثة من الهجرة اتفقت فيها غزوة أحد، وكانت على المسلمين، لم يصابوا بنازلة قبلها ولا بعدها مثلها، فإنها كانت وقعة أسف وحزن، وأهل التعبير يقولون: من رأى أحدًا اسمه يوسف، آذن ذلك من حيث الاشتقاق، ومن حيث قصة يوسف بأسف يناله.
قال ابن دحية: فإن كان يوسف النبي، فالعاقبة حميدة والآخرة خير من الأولى، ومما اتفق في أحد من المناسبة شيوع قتل المصطفى، فناسب ما حصل للمسلمين من الأسف على فقد نبيهم، ما حصل ليعقوب من الأسف على يوسف، لاعتقاد أنه فقد إلى أن وجد ريحه بعد تطاول الأمد.
ومن المناسبة أيضًا بين القصتين؛ أن يوسف كيف وألقي في غيابة الجب حتى أنقذه الله على يد من شاء.(8/145)
وبإدريس على رفيع منزلته عند الله تعالى.
وبهارون إذ رجع قومه إلى محبته بعد إن آذوه.
__________
قال ابن إسحاق: وأكبت الحجارة على جبهته -صلى الله عليه وسلم- من قريش حتى سقط لجنبه في حفرة، كان أبو عامر الفاسق حفرها مكيدة للمسلمين، فأخذ علي بيده -صلى الله عليه وسلم-، واحتضنه طلحة حتى قام، "وبإدريس على رفيع منزلته عند الله تعالى"، لفظ الروض، ثم لقاؤه لإدريس في الرابعة، وهو المكان الذي سماه الله مكانًا عليًا، وهو أول من خط بالقلم، فكان ذلك مؤذنا بحالة رابعة، وهو علو شأنه -صلى الله عليه وسلم- حتى أخاف الملوك، وكتب إليهم يدعوهم إلى طاعته حتى قال أبو سفيان وهو عند ملك الروم حين جاءه كتاب النبي -صلى الله عليه وسلم- ورأى ما رأى من خوف هرقل، لقد أمر ابن أبي كبشة حتى أصبح يخافه ملك بني الأصفر، وكتب عنه بالقلم إلى جميع ملوك الأرض، فمنهم من أتبعه على دينه، كالنجاشي وملك عمان، ومنهم من هادنه، وأهدى إليه وأتحفه، ما أوتي إدريس. انتهى، ولا يفهم من قوله بحالة رابعة وقوع الكتابة إلى الملوك في رابعة الهجرة، كما ظن ابن المنير، فقال: فلعل ذلك صادف السنة الرابعة، مطابقًا للقاء إدريس في السماء الرابعة.
انتهى، فإنه سهو عجيب، فإن كتابته للملوك كانت أو السنة السابعة، كما تقدم في المكاتبات.
قال ابن المنير: واختلف هل رفع إدريس بعد الوفاة، أو رفع حيًا كعيسى، وفي المكان العلي هل هو السماء الرابعة، أو الجنة، فإن كان هو الجنة فقد شاركه المصطفى بلقائه فيها، وزاد عليه في الارتفاع إلى أعلى الجنان، وأرع الدرجات انتهى ملخصًا.
"وبهارون إذ رجع قومه إلى محبته بعد أن آذوه"، ولفظ الروض: ولقاؤه في الخامسة لهارون المحبب في قومه، يؤذون بحب قريش وجميع العرب له بعد بغضهم فيه.
وقال تلميذه ابن دحية: ما نال هارون من بني إسرائيل من الأذى، ثم الانتصار عليهم، والإيقاع بهم، وقصر التوبة فيهم على القتل دون غيره من العقوبات المنحطة عنه، وذلك أن هارون عندما تركه موسى في بني إسرائيل، وذهب للمناجاة، تفرقوا على هارون وتحزبوا عليه، وداروا حول قتله، ونقضوا العهد، وأخلفوا الموعد، واستصغروا جانبه، كما حكى الله تعالى ذلك عنهم، وكانت الجناية العظمى الصادرة منهم عبادة العجل، فلم يقبل الله منهم التوبة إلا بالقتل، فقتل في ساعة واحدة سبعون ألفًا، كان نظير ذلك في حقه -صلى الله عليه وسلم- ما لقيه في خامسة الهجرة من يهود قريظة، والنضير وقينقاع، فإنهم نقضوا العهد وخربوا الأحزاب، وجمعوها، وحشدوا، وحشروا، وأظهروا عداوة النبي -صلى الله عليه وسلم- وأرادوا قتله، وذهب إليهم قبل الوقعة بزمن يسير، يستعينهم(8/146)
وبموسى على ما وقع له من معالجة قومه، وقد أشار إلى ذلك عليه الصلاة والسلام بقوله: " لقد أوذي موسى بأكثر من هذا فصبر".
وبإبراهيم في استناده إلى البيت المعمور، بما ختم الله له -صلى الله عليه وسلم- في آخر عمره من إقامة نسك الحج، وتعظيم البيت الحرام.
__________
في دية قتيلين، فأظهروا إكرامه، وأجلسوه تحت جدار، ثم تواعدوا أن يلقوا عليه رحى، فنزل جبريل، فأخبره بمكرهم الذي هموا به، فمن حينئذ عزم على حربهم وقتلهم، وفعل الله تعالى ذلك، وقتل قريظة بتحكيمهم سعد بن معاذ، فقتلوا شر قتلة، وحاق المكر السيئ بأهله، ونظير استضعاف اليهود لهارون استضعافهم للمسلمين في غزوة الخندق.
"وبموسى على ما وقع له من معالجة قومه، وقد أشار إلى ذلك عليه الصلاة والسلام بقوله": "لما آثر ناسًا ليؤلفهم في قسمة غنائم حنين"، فقال رجل: والله إن هذه قسمة ما عدل فيها، وما أريد بها وجه الله، فتغير وجهه، ثم قال: فمن يعدل إن لم يعدل الله، ورسوله ثم قال: "لقد أوذي موسى بأكثر من هذا، فصبر"، رواه الشيخان.
ولفظ السهيلي: ولقاؤه في السادسة لموسى يؤذن بحالة تشبه حالة موسى حين أمر بغزو الشام، فظهر على الجبابرة الذين كانوا فيها، وأدخل بني إسرائيل البلد الذي خرجوا منه بعد إهلاك عدوهم، وكذلك غزا -صلى الله عليه وسلم- تبوك من أرض الشام، وظهر على صاحب دومة الجندل حتى صالحه على الجزية بعد أن أتى به أسيرًا وافتتح مكة، ودخل أصحابه البلد الذي خرجوا منه.
وقال ابن دحية: يؤذن لقاؤه له في السادسة بمعالجة قومه، فإن موسى ابتلي بمعالجة بني إسرائيل، والصبر على أذاهم، وما عالجة المصطفى في السنة السادسة: لم يعالج قبله ولا بعده مثله، ففيها افتتح خيبر وفدك وجميع حصون اليهود، وكتب الله عليهم الجلاء، وضربهم بسوط البلاء، وعالج -صلى الله عليه وسلم- في هذه السنة، كما عالج موسى من قومه، أراد أن يقيم الشريعة في الأرض المقدسة، وحمل قومه على ذلك، فتقاعدوا عنه، وقالوا: {إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا} ، وفي الآخر سجلوا بالقنوط: {إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا} ، فغضب الله عليهم، وحال بينهم وبينها، وأوقعهم في التيه، وكذلك أراد -صلى الله عليه وسلم- في السادسة أن يدخل بمن معه مكة، يقيم بها شريعة الله وسنة إبراهيم، فصدوه فلم يدخلها في هذا العام، فكان لقاؤه لموسى تنبيهًا على التأسي به، وجميل الأثر في السنة القابلة.
"و" وقع التنبيه "بإبراهيم في استناده إلى البيت المعمور بما ختم الله له -صلى الله عليه وسلم- في آخر عمره في إقامة نسك الحج وتعظيم البيت الحرام" ولفظ الروض: ثم لقاؤه في السابعة لإبراهيم لحكمتين إحداهما: أن البيت المعمور بحيال الكعبة، وإليه تحج الملائكة، كما أن إبراهيم هو(8/147)
وأجاب العارف ابن أبي جمرة عن وجه اختصاص كل واحد منهم بسماء:
بأن الحكمة في كون آدم في السماء الدنيا؛ لأنه أول الأنبياء، وأول الآباء،
__________
الذي بنى الكعبة، وأذن في الناس بالحج إليها، والثانية؛ أن آخر أحواله -صلى الله عليه وسلم- حجه إلى البيت الحرام، وحج معه ذلك العام نحو من تسعين ألفًا، ورؤية إبراهيم عند أهل التأويل تؤذن بالحج؛ لأنه الداعي إليه، والرافع لقواعد الكعبة المحجوجة.
وقال ابن دحية: مناسبة لقيه لإبراهيم في السابعة: أنه -صلى الله عليه وسلم- اعتمر عمرة القضاء في السنة السابعة من الهجرة، ودخل مكة وأصحابه، ملبين معتمرين محييًا لسنة إبراهيم، ومقيمًا لرسمه الذي كانت الجاهلية أماتت ذكره وبدلت أمره، ورؤيته لإبراهيم مسندًا ظهره إلى البيت المعمور، إشارة إلى أنه يطوف بالكعبة في السابعة، وهي أول دخلة دخل مكة بعد الهجرة، والكعبة في الأرض قبالة البيت المعمور.
قال: وفي قوله: فإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألفًا، لا يرجعون إليه، إلى آخر الدهر، إشارة إلى أنه إذا دخل البيت الحرام لا يرجع إليه؛ لأنه لم يدخله بعد الهجرة إلا عام الفتح، ثم لم يدخله في حجة الوداع، واعلم أن ما ذكره المصنف تبع فيه الحافظ، وقال في آخرها: هذه مناسبات لطيفة أبداها السهيلي، فأوردتها منقحة ملخصة.
وقد زاد ابن المنير في ذلك أشياء أضربت عنها، إذ أكثرها في المفاضلة بين الأنبياء، والإشارة في هذا المقام عندي أولى من تطويل العبارة. انتهى، وقال ابن دحية: لا بأس بما ذكه هذا الإمام، يعني شيخ السهيلي، لكن يحتاج إلى تنبيهات، منها إجراؤه لذلك، كالتعبير، فإنه يوهم أن الإسراء كان منامًا، والصحيح أنه يقظة، والذي يرفع الإشكال، أن الفأل في اليقظة: نظير الأحلام، فيكون تعبير الفألأ ببيان ما يدل عليه يقظة، كتعبير الأحلام بما تدل عليها منامًا، فعلى هذا يصح كلامه، وقد كان -صلى الله عليه وسلم- يحب الفأل الحسن، ويستدل به على حسن العاقبة، وبالضد من ذلك.
ومنها أنه لم يذكر للمستوى ولا لما بعده نظيرًا، إما لتعذر استنباط المناسبة، أو لانقطاع الفكرة دون، ذلك انتهى، أو؛ لأن الأولى ترك ذلك، كما أفصح به السهيلي نفسه عقب ذكر المناسبات، إذ قال: وكان الحزم ترك التكلف لتأويل ما لم يرد فيه نص عن السف، ولكن عارض هذا ما يجب من التفكر في حكم الله وتدبر آياته، قال: ولولا مسارعة للناس إلى إنكار ما جهلوه، وغلظ الطباع عن فهم كثير من الحكمة، لأبدينا من سر هذا السؤال أكثر مما كشفنا.
"وأجاب العارف ابن أبي جمرة عن وجه اختصاص كل واحد منهم بسماء"، الذي هو ثاني أسئلة المصنف، وفيه جواب الثالث، وهو لم كان في الثانية بخصوصها اثنان: "بأن(8/148)
وهو الأصل، ولأجل تأنيس النبوة بالأبوة.
وأما عيسى فإنما كان في السماء الثانية؛ لأنه أقرب الأنبياء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا انمحت شريعة عيسى عليه السلام إلا بشريعة سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم-؛ ولأنه ينزل في آخر الزمان لأمة محمد -صلى الله عليه وسلم- على شريعته ويحكم بها، ولهذا قال عليه السلام: "أنا أولى الناس بعسيى"، فكان في الثانية لأجل هذا المعنى.
وإنما كان يحيى عليه السلام معه هناك؛ لأنه ابن خالته، وهما كالشيء الواحد، فلأجل التزام أحدهما بالآخر كانا هناك معًا.
__________
الحكمة في كون آدم في السماء الدنيا؛ لأنه أول الأنبياء وأول الآباء"، فناسب مقام الأولية، "وهو الأصل"، فكان الأول في الأولى، "ولأجل تأنيس النبوة بالأبوة" في مبدأ العالم العلوي.
"وأما عيسى، فإنما كان في السماء الثانية؛ لأنه أقرب الأنبياء" من حيث الزمن "إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- و"؛ لأنه "لا انمحت شريعة عيسى عليه السلام إلا بشريعة سيدنا محمد؛ ولأنه ينزل في آخر الزمان، لأمة محمد -صلى الله عليه وسلم- على شريعته، ويحكم بها"، ووجه جعل هذا حكمة كونه في الثانية، أن عيسى لما شابه المصطفى في ثاني أحواله، وهي حكمه بشريعته، وكونه واحدًا من أمته، ناسب أن يكون في السماء الثانية، وأول أحوال عيسى كونه رسولًا إلى بني إسرائيل، "ولهذا" المذكور من الحكم الثلاث.
"قال عليه السلام" في الصحيحين وغيرهما: "أنا أولى الناس"، أي: أخصهم "بعيسى" ابن مريم، وأقربهم إليه؛ لأنه بشر بأنه يأتي من بعده، فالأولوية هنا من جهة قرب العهد، كما أنه أولى الناس بإبراهيم؛ لأنه أبوه، ودعا به، وأشبه الناس به خلقًا وملة، وبين وجه الأولوية بقوله في بقية الحديث: ليس بيني وبينه نبي، كأنه قال: لأنه ليس ... إلخ، وضعف هذا الحديث ما ورد؛ أن جرجيس وخالد بن سنان كانا نبيين بعد عيسى؛ لأن في إسنادهما مقالًا، وهذا صحيح بلا شك، إلا أن يجاب بأنها بعثا بتقرير شريعة عيسى لا شريعة مستقلة، ذكره الحافظ وغيره.
"فكان في الثانية لأجل هذا المعنى"، وفي فتح الصفا؛ لأنه خلق ثان كخلق آدم، أن مثل عيسى عند الله كمثل آدم، "وإنما كان يحيى عليه السلام معه هناك؛ لأنه ابن خالته، وهما كالشيء الواحد، فلأجل التزام أحدهما بالآخر كانا هناك معًا"، أدق من هذا قول ابن المنير: السر في ذلك أن عيسى لم يلقه بعد موته لرفعه حيًا صيانة له، وذخيرة إلى وقت عوده إلى الأرض قائمًا بشرع المصطفى، غير مجدد شرعًا، فهو في حكم الأحياء، ومقامه في السماء ليس على معنى السكنى الدائمة، بخلاف غيره من الأنبياء، ويحيى هو المقيم في السماء أسوة غيره من الأنبياء، واختص مقامه عند عيسى؛ لأنهما ابنا الخالة، وكانا لدتين، وكانت أم يحيى تقول(8/149)
وإنما كان يوسف عليه السلام في السماء الثالثة؛ لأن على حسنه تدخل أمة النبي -صلى الله عليه وسلم- الجنة، فأري له هناك لكي يكون ذلك بشارة له عليه السلام فيسر بذلك.
وإنما كان إدريس عليه السلام في السماء الرابعة؛ لأنه هناك توفي ولم تكن له تربة في الأرض على ما ذكر.
وإنما كان هارون عليه الئلام في السماء الخامسة؛ لأنه ملازم لموسى عليه
__________
لأم عيسى وهما حاملتان: إني أجد ما في بطني يسجد لما في بطنك، أي: سجود تحية، فكان بينهما اتحاد منذ كانا، فلما عرض لعيس الصعود إلى السماء جعل عند يحيى.
"وإنما كان يوسف عليه السلام في السماء الثالثة؛ لأن على حسنه تدخل أمة النبي -صلى الله عليه وسلم- الجنة"، وهي ثالث دورها، الدنيا، فالبرزخ، فالجنة، فناسب كونه في الثالثة، "فأري له هناك لكي يكون ذلك بشارة له عليه السلام، فيسر بذلك"، وفي فتح الصفا: ويوسف في الثالثة، باعتبار أن جعله في خزائن الأرض كان مرتبة ثالثة له؛ لأنه بعد خروجه من السجن، وذلك بعد رفعه من الجب.
"وإنما كان إدريس عليه السلام في السماء الرابعة؛ لأنه هناك توفي، ولم تكن له تربة في الأرض على ما ذكر" عن كعب الأحبار: أن الملك الموكل بالشمس، كان صديقًا لإدريس، فسأله أن يريه الجنة، فإذن الله له في ذلك، فرفعه فلما كان في السماء الرابعة رآه ملك الموت فعجب، وقال: أمرت أن أقبض روحه في السماء الرابعة، ققضبه.
قال السهيلي: ولكون رفعه حيًا إلى ذلك المقام خاصا به، قال تعالى: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} [مريم: 57] ، فلا ينافي رؤيته إبراهيم وموسى في مكان أعلى منه، ومر عن الحافظ؛ أن هذا من الإسرائيليات، والله أعلم بصحته، وأن رفعه وهو حي لم يثبت من طريق مرفوعة قوية.
وقال ابن المنير: اختلف في إدريس هل رفع إلى السماء بعد موته كغيره من الأنبياء، أو إنما رفع حيًا، وهو إلى الآن حي كعيسى، وجاء في القصص، أن إدريس أحبته الملائكة لكثرة عبادته، فسأل ملك الموت أن يذيقه الموت ليهون عليه، فأذاقه، ثم حيي، فسأل أن يورده الناء ليزداد رهبة، فأوردها، ثم أخرج، فسأل أن يدخل الجنة ليزيد رغبة، فأدخلها، فقيل له: اخرج، قال: لا يارب إني ذقت الموت ووردت النار ودخلت الجنة، وقد وعدت من دخلها على ذلك أن لا يخرج منها أبدًا، فأوحى الله إلى الخازن أن دعه، فبإذني فعل ما فعل، فبقي في الجنة في السماء الرابعة على هذا الوجه انتهى، فتأمله.
"وإنما كان هارون عليه السلام في السماء الخامسة؛ لأنه ملازم لموسى عليه السلام،(8/150)
السلام، لأجل أنه أخوه وخليفته في قومه، فكان هناك لأجل هذا المعنى، وإنما لم يكن مع موسى في السماء السادسة؛ لأن لموسى مزية وحمرة وهي كونه كليمًا واختص بأشياء لم تكن لهارون فلأجل هذا المعنى لم يكن معه.
وإنما كان موسى في السماء السادسة لأجل ما اختص به من الفضائل؛ ولأنه الكليم، وهو أكثر الأنبياء أتباعًا بعد نبينا -صلى الله عليه وسلم.
وإنما كان إبراهيم عليه الصلاة والسلام في السماء السابعة؛ لأنه الخليل والأب الأخير فناسب أن يتجدد للنبي عليه السلام بلقياه أنس، لتوجهه بعده إلى عالم آخر، وهو اختراق الحجب، وأيضًا؛ لأنه الخليل، ولا أحد أفضل من الخليل إلا الحبيب، والحبيب ها هو قد علا ذلك المقام فكان الخليل فوق الكل لأجل خلته وفضله، وارتفع الحبيب فوق الكل لأجل ما اختص مما زاد به عليهم، قال الله تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ
__________
لأجل أنه أخوه" ووزيره "وخليفته في قومه"، لما ذهب إلى المناجاة، "فكان هناك لأجل هذا المعنى، وإنما لم يكن مع موسى في السماء السادسة؛ لأن لموسى مزية وحرمة، وهي كونه كليمًا، واختص بأشياء لم تكن لهارون، فلأجل هذا المعنى لم يكن معه" تكرار لزيادة البيان.
"وإنما كان موسى في السادسة، لأجل ما اختص به من الفضائل؛ ولأنه الكليم، وهو أكثر الأنبياء اتباعًا بعد نبينا -صلى الله عليه وسلم"، فكان فهيا للإشعار بالقرب.
"وإنما كان إبراهيم عليه الصلاة والسلام في السماء السابعة؛ لأنه الخليل والأب الأخير" للمصطفى، "فناسب أن يتجدد للنبي عليه السلام بلقياه أنس لتوجهه بعده إلى عالم آخر، وهو اختراق الحجب"، كما أنس بأبيه آدم في أول عالم السماوات، ثم في وسطها بأبيه إدريس؛ لأن الرابعة من السبع وسط معتدل، "وأيضًا؛ لأنه الخليل، ولا أحد أفضل من الخليل إلا الحبيب، والحبيب ها هو قد علا ذلك المقام، فكان الخليل فوق الكل، لأجل خلته وفضله، وارتفع الحبيب فوق الكل، لأجل ما اختص مما زاد به عليهم"، وما أحسن اختصار الحافظ لهذا بقوله، وأيضًا، فمنزلة الخليل تقتضي أن تكون أرفع المنازل، ومنزلة الحبيب أرفع من منزلته، فلذلك ارتفع عن منزلة إبراهيم إلى قاب قوسين، أو أدنى.
"قال الله تعالى: " {تِلْك} " مبتدأ " {الرُّسُل} " صفة، والخبر " {فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} " بتخصيصه بمنقبة ليست لغيره، " {مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّه} " كموسى، " {وَرَفَعَ بَعْضَهُم} " أي: محمدًا " {دَرَجَات} " [البقرة: 253] "، على غيره بعموم الدعوة، وختم النبوة(8/151)
بَعْضَهُمْ دَرَجَات} [البقرة: 253] فحصل لهم الكمال والدرجة الرفيعة وهي درجة الرسالة، والنبوة، ورفعوا بعضهم فوق بعض بمقتضى الحكمة ترفيعًا للمرفوع دون تنقيص بالمنزول، انتهى فليتأمل.
وقد اختلف في رؤية نبينا -صلى الله عليه وسلم- لهؤلاء الأنبياء عليهم السلام، فحمله بعضهم على رؤية أرواحهم إلا عيسى، لما ثبت أنه رفع بجسده، وقد قيل في إدريس أيضًا ذلك.
وأما الذين صلوا معه في بيت المقدس، فيحتمل الأرواح خاصة، ويحتمل: الأجساد بأرواحها.
__________
به، وتفضيل أمته على سائر الأمم، والمعجزات المتكاثرة، والخصائص العديدة، "فحصل لهم الكمال والدرجة الرفيعة، وهي درجة الرسالة والنبورة، ورفعوا بعضهم فوق بعض بمقتضى الحكمة" الإلهية، "ترفيعًا للمرفوع دون تنقيص بالمنزول"، وفي نسخة: للمنزول بلام بدل الموحدة، أي: النازل عن غيرة في الفضل "انتهى، فليتأمل".
"وقد اختلف في" صفة "رؤية نبينا -صلى الله عليه وسلم- لهؤلاء الأنبياء عليهم السلام" في السماوات ولهم ولغيرهم في بيت المقدس، مع أن أجسادهم مستقرة في قبورهم بالأرض، "فحمله بعضهم على رؤية أرواحهم" متشكلة بصور أجسادهم، "إلا عيسى لما ثبت أنه رفع بجسده"، سواء قلنا رفع حيا عند الأكثرين، أو بعد أن توفي على ظاهر: {إِنِّي مُتَوَفِّيك} ، للاتفاق على رفعه بجسده.
"وقد قيل في إدريس أيضًا ذلك"، أي: رفع بجسده حيًا، ثم مات أم لا على قولين تقدمًا، "وأما الذين صلوا معه في بيت المقدس، فيحتمل الأرواح خاصة"، دون الأجساد ويؤيده حديث أبي هريرة عند الحاكم والبيهقي، فلقي أرواح الأنبياء وفي دليل على تشكل الأرواح بصور أجسادها في عالم الله، "ويحتمل الأجساد بأرواحها"، بأن يكون أسرى بأجسادهم من قبورهم لملاقاة النبي -صلى الله عليه وسلم- تلك الليلة تشريفًا وتكريمًا، ويؤيده حديث أنس عند البيهقي، وبعث له آدم، فمن دون من الأنبياء، فأمهم.
وعند البزار والطبراني: فنشر لي الأنبياء من سمى الله تعالى، ومن لم يسم، فصليت بهم.
قال الحافظ: واختاره بعض شيوخنا، واحتج بما في مسلم، مرفوعًا: "رأيت مسوى ليلة أسرى بي قائمًا يصلي في قبره". فدل على أنه أسري به لما مر به، وقلت، وليس ذلك بلازم، بل يجوز أن لروحه اتصالًا بجسده في الأرض، ولذلك تمكن من الصلاة فيها، وروحه مستقرة في السماء.(8/152)
وقيل: يحتمل أن يكون عليه السلام عاين كل واحد منهم في قبر في الأرض على الصورة التي أخبر بها من الموضع الذي ذكر أنه عاينه فيه، فيكون الله عز وجل قد أعطاه من القوة في البصرة، والبصيرة ما أدرك به ذلك، ويشهد له رؤيته عليه الصلاة والسلام رآهما من ذلك الموضع، أو مثل له صورتهما في عرض الحائط، والقدرة صالحة لكليهما.
وقيل: يحتمل أن يكون الله سبحانه وتعالى لما أراد بإسراء نبينا، رفعهم من قبورهم لتلك المواضع إكرامًا لنبيه عليه السلام وتعظيمًا له حتى يحصل له من قبلهم ما أشرنا إليه من الأنس والبشارة وغير ذلك مما لم نشر إليه ولا نعلمه نحن.
__________
"وقيل": أي: قال ابن أبي جمرة رؤيته لهؤلاء الأنبياء "يحتمل" وجوها: أحدها: أنه يحتمل "أن يكون عليه السلام عاين كل واحد منهم في قبر الأرض على الصورة التي أخبر بها من الموضع الذي ذكر أنه عاينه فيه، فيكون الله عز وجل قد أعطاه من القوة في البصر والبصيرة ما أدراك به ذلك"، لكن قد يبعده، فإذا فيها آدم إلخ ... لا سيما قوله: "فإذا أنا بإبراهيم مسندًا ظهره إلى البيت المعمور"، فإن الأصل الحقيقة، وكون المعنى، فإذا في وجودي في السماء عاينت آدم في قبره، ثم يقال مثله في البقية، مجاز بعيد جدًا بلا داعية، وكيف يقال: عاينت وأنا في السماء السابعة إبراهيم في قبره، وهو مسنده ظهره إلى البيت المعمور.
"ويشهد له رؤيته عليه الصلاة والسلام الجنة والنار في عرض الحائط": "بضم العين وإسكان الراء" جانبه وناحيته، "وهو محتمل أن يكون عليه الصلاة والسلام رآهما في ذلك الموضع" حقيقة، بأن كشف له عنهما، وأزيلت الحجب التي بينه وبينهما.
قال ابن أبي جمرة: كما يقال: رأيت الهلال من منزلي من الطاق، والمراد من موضع الطاق، "أو مثل له صورتهما في عرض الحائط، والقدرة صالحة لكليهما"، لكن هذان الاحتمالان ظاهران في ذا الحديث، وإجراء مثلهما في حديث المعراج لا يظهر لبعده.
"وقيل": أي: قاب ابن أبي جمرة أيضًا، "يحتمل" أن يكون -صلى الله عليه وسلم- عاين أرواحهم هناك في صورهم، "وأن يكون الله سبحانه وتعالى لما أراد بإسراء نبينا رفعهم من قبورهم لتلك المواضع إكرامًا لنبيه عليه السلام، وتعظيمًا له حتى يحصل له من قبلهم" بكسر ففتح، جهتهم، "ما أشرنا إليه من الإنس والبشارة وغير ذلك، مما لم نشر إليه ولا نعلمه نحن"،(8/153)
وكل هذه الوجوه محتملة، ولا ترجيح لأحدها على الآخر إذ القدرة صالحة لكل ذلك. انتهى.
وأما قوله في الحديث: "ثم رفعت إلى سدرة المنتهى، فإذا نبقها مثل قلال
__________
وهذا الاحتمال هو عين قوله أولًا، ويحتمل الأجساد بأرواحها غايته أنه مبسوط عنه، فهو كالشرح له، وبقي احتمال رابع، وبه جزم أبو الوفاء بن عقيل، أن أرواحهم مستقرة في الأماكن التي رآها المصطفى فيها متشكلة بصور أجسادهم، لكنه إنما يظهر في الذين رآهم في السماوات، لا في بيت المقدس.
"وكل هذه الوجوه محتملة" "بضم الميم الأولى وفتح الثانية"، أي: قريبة، "وإما بكسر الثانية"، فالواقعة نفسها، كما صرح به بعضهم، "ولا ترجيح لأحدها على الآخر"، من حيث الاحتمال في حد ذاته، "إذ القدرة صالحة لكل ذلك"، أما بالنظر لما يشهد له من خارج، فيرجع. "انتهى"، يعني كلام ابن أبي جمرة، وإن لم يفصح به، وأوله ما قد علمته، وما قبله أتى به المصنف من فتح الباري، وفيه رد على ما أطال به ابن القيم في كتاب الروح من ترجيح أن رؤيته إنما هي لأرواحهم فقط، إذ الأجساد في الأرض قطعا إنما تبعث يوم القيامة، ولو بعثت قبل ذلك لكانت انشقت عنهم الأرض قبلها، وكانت تذوق الموت عند نفخ الصور، وهذه موتة ثالثة، وهذا باطل قطعًا، وبأنها لو بعثت الأجساد لم تعد إلى القبور، بل كانت في الجنة مع أنها محرمة على الأنبياء حتى يدخلها نبينا، وهو أول من يستفتح باب الجنة، ولا تنشق الأرض عن أحد قبله إلى آخر ما أطال به، مما لا حجة له فيه، وجوابه كما أملاني شيخنا أنه إنما يتم ما قاله، لو كانت أرواحهم مفارقة لأجسادهم في قبورهم، وليس كذلك، بل هم أحياء في قبورهم بحياة حقيقية يأكلون ويشربون ويتمتعون فيها، وخروجهم من قبورهم، ومجيئهم لها ليس الخروج المقتضي للبعث، بل هو كخروج الإنسان من منزله لحاجة يقضيها، ويعود إليه، فلا يعد بذلك مفارقًا له، والذي يعد به مفارقًا هو الذي بحيث لا يعود إليه، بل يقوم للقيامة، وبهذا سقط كلامه.
"وأما قوله في الحديث: ثم رفعت"، رواه الأكثر بضم الراء، وسكون العين وضم التاء، ضمير المتكلم بعده حرف الجر، وهو "إلى سدرة المنتهى"، وللكشميهني: رفعت، بفتح العين وسكون التاء، أي: السدرة لي، أي: من أجلي.
وكذا في بدء الخلق، ويجمع بين الروايتين بأنه رفع إليها، أي: ارتقى به، وظهرت له، والرفع إلى الشيء يطلق على التقريب منه، وقد قيل في قوله: {وَفُرُشٍ مَرْفُوعَة} [الواقعة: 34] ، أي: تقرب لهم، "فإذا نبقها" بفتح النون وكسر الموحدة وبسكونها أيضًا.(8/154)
هجر، وإذا ورقها مثل آذان الفيلة، قال: هذه سدرة المنتهى، وإذا أربعة أنهار، نهران باطنان، ونهران ظاهران فقلت: وما هذا يا جبريل: قال: أما الباطنان فنهران في
__________
قال ابن دحية: والأول هو الذي ثبت في الرواية، أي: التحريك، وهو ثمر السدر، "مثل قلال"، قال الخطابي: بالكسر، جمع قلة بالضم، هي الجرار، يريد أن ثمرها في الكبر مثل القلال، وكانت معروفة عند المخاطبين "هجر": بفتح الهاء والجيم، بلدة لا تنصرف للتأنيث والعلمية، ويجوز الصرف، كما في الفتح، وقدمته.
قال النعماني: وأما ثمرها، فهل هو كالثمار المأكولة، وأنه يزول، ويعقبه غيره، وهل الزائل يؤكل أو يسقط، لم أر من ذكر هذا، ولا يمنته أن يكون كذلك، وأنه تأكله الطيور التي تسرح في الجنة، والروح على قول من يقول: إنهم صنف على صورة الإنسان، لهم أيد وأرجل ورؤوس، وأنهم يأكلون الطعامن وليسوا من الملائكة.
قال ابن عباس: ما ينزل من السماء ملك إلا ومعه واحد من الروح، وقال أبو صالح: وليسوا بناس، ولا بالملائكة، وعن بعضهم: أن الملائكة لا يرونهم، وليس بينه وبين قول ابن عباس هذا تناف، فإنه لا يلزم من نزولهم معهم رؤيتهم لهم انتهى.
"وإذا ورقها مثل آذان الفيلة" بكسر الفاء وفتحها غلط زاعمه، وفتح التحتية: جمع فيل، وفي بدء الخلق الفيول: جمع فيل أيضًا، والتشبيه في الشكل فقط لا في الكبر ولا في الحسن، فلا تنافي رواية تكاد الورقة تغطي هذه الأمة.
"قال" جبريل: "هذه سدرة المنتهى"، ولعل سبب إخباره أنه -صلى الله عليه وسلم- كان عالمًا بوجودها قبل الرؤية، فكأنه قال هذه سدرة المنتهى التي علمت بوجودها.
قال الرازي: وإضافته إلى المنتهى من إضافة الشيء إلى مكانه كقولك: أشجار بلدة كذا، فالمنتهى حينئذ موضع لا يتعداه ملك أو روح من الأرواح، أو من إضافة المحل إلى الحال فيه، ككتاب الفقه، فالتقدير سدرة عندها منتهى العلوم، أو من إضافة الملك إلى مالكه، كشجرة زيدن فالمنتهى إليه محذوف، تقديره سدرة المنتهى إليه.
قال تعالى: {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى} [النجم: 42] ، فالمنتهى إليه هو الله تعالى، وإضافتها إليه كإضافة البيت للتشريف والتعظيم.
"وإذا أربعة أنهار: نهران باطنان، ونهران ظاهران"، قال ابن أبي جمرة: يحتمل الحقيقة، فهذه الأنهار تنبع من أصل الشجرة نفسها، فتكون الشجرة طعمها نبق، وأصلها ينبع منه الماء، والقدرة لا تعجز عن هذا، ويحتمل أنه تسمية الشيء، بما قاربه، فتكون الأنهار تنبع قريبًا من أصل الشجرة. انتهى.(8/155)
الجنة"، وأما الظاهران: فالنيل والفرات.
وفي رواية عند البخاري أيضًا: "فإذا في أصلها -أي سدرة المنتهى- أربعة أنهار".
وعند مسلم: "يخرج من أصلها".
وعنده أيضًا من حديث أبي هريرة: "أربعة أنهار من الجنة، النيل والفرات وسيحان وجيحان".
فيحتمل: أن تكون سدرة المنتهى مغروسة في الجنة، والأنهار تخرج من أصلها، فيصح أنها من الجنة.
ووقع في رواية شريك، كما عند البخاري في التوحيد: أنه رأى في سماء
__________
"فقلت: وما هذا يا جبريل؟، قال: أما الباطنان فنهران في الجنة"، قال ابن أبي جمرة فيه: إن الباطن أجل من الظاهر؛ لأن الباطن جعل في دار البقاء، والظاهر جعل في دار الفناء، ومن ثم كان الاعتماد على ما في الباطن، كما قال -صلى الله عليه وسلم: "إن الله لا ينظر إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم".
"وأما الظاهران فالنيل" نهر مصر، "والفرات" بالفوقية في حال الوصل والوقف نهر الكوفة.
"وفي رواية عند البخاري أيضًا" في بدء الخلق: "فإذا في أصلها، أي: سدرة المنتهى، أربعة أنهار"، فيفسر قوله في المعراج: وإذا أربعة أنهار، أي: في أصلها، إذ الحديث واحد.
"وعند مسلم: "يخرج من أصلها" فقوله في أصلها، معناه يخرج منه، "وعنده"، أي: مسلم، "أيضًا من حديث أبي هريرة: "أربعة أنهار من الجنة: النيل والفرات وسيحان" من السيح، وهو جري الماء على وجه الأرض، وهو نهر العواصم بقرب مصيصة، وهو غير سيحون نهر بالهند، أو السند، "وجيحان" نهر أذنة وجيحون نهر بلخ، وينتهي إلى خوارزم، وزعم أنهما هما وهم.
فقد حكى النووي الاتفاق على أنهما غيرهما، لكن نازعه السيوطي في دعوى الاتفاق، "فيحتمل أن تكون سدرة المنتهى مغروسة في الجنة، والأنهار تخرج من أصلها، فيصح أنها من الجنة" بهذا الاعتبار، فلا يعارض حديث المعراج.
"ووقع في رواية شريك، كما عند البخاري في" كتاب "التوحيد" من صحيحه "أنه رأى في سماء الدنيا نهران يطردان": بالتشديد يجريان: "فقال له جبريل": جوابًا لقوله: "ما(8/156)
الدنيا نهران يطردان، فقال له جبريل: هما النيل والفرات عنصرهما.
والجمع بينهما: أنه رأى هذين النهرين عند سدرة المنتهى مع نهري الجنة، ورآهما في سماء الدنيا دون نهري الجنة، وأراد بـ"العنصر" عنصر انتشارهما بسماء الدنيا كذا قال ابن دحية.
وروى ابن أبي حاتم عن أنس أنه -صلى الله عليه وسلم- بعد أن رأى إبراهيم قال: "ثم انطلق بي على ظهر السماء السابعة، حتى انتهى إلى نهر عليه خيام الياقوت واللؤلؤ والزبرجد، وعليه طير خضر، أنعم طير رأيت، قال جبريل: هذا الكوثر الذي
__________
هذان النهران يا جبريل؟، قال: "هما النيل والفرات، عنصرهما"": بضم العين والصاد المهملتين، أصلهما بدل من النيل والفرات، "والجمع بينهما أنه رأى هذين النهرين عند سدرة المنتهى مع نهري الجنة"، الباطنين، "ورآهما في سماء الدنيا دوزن نهري الجنة وأراد بالعنصر عنصر انتشارهما بسماء الدنيا"، لا أصلهما الحقيقي، فإنه من أصل السدرة، فلا تنافي بين الأحاديث، "كذا قال ابن دحية": كأنه تبرأ منه لعدم تعين ما قال: لجواز أن يراد أصل نبعهما من تحت السدرة، ومقرهما في سماء الدنيا، ومنها ينزلان إلى الأرض، كما تقدم للمصنف، وهو في المعنى قريب من جمع ابن دحية، أو عينه.
وقال النعماني: يجوز أن عنصرهما مبتدأ يتعلق به خبر سابق لم يتقدم له ذكر من حيث اللفظ، لكن من حيث العهد، فيكون المعنى هذا النيل والفرات، فيتم الكلام، ثم يكون عنصرهما ما كنت رأيت عند سدرة المنتهى يا محمد، فاكتفى بهذا العهد السابق عن إعادة الكلام، انتهى وهو مع تعسفه لا يصح؛ لأن رؤيته ذلك في سماء الدنيا قبل رقيه للسدرة فلا عهد هنا.
"وروى ابن أبي حاتم عن أنس، أنه -صلى الله عليه وسلم- بعد أن رأى إبراهيم، قال: "ثم انطلق" جبريل "بي على ظهر السماء السابعة حتى انتهى إلى نهر عليه خيام الياقوت" بخاء معجمة، جمع خيم، كسهم وسهام، وهو مثل الخيمة.
وفي نسخة: جام بالجيم، بلا ياء، أي: إناء والمراد الجنس، فيصدق بالأواني الكثيرة "واللؤلؤ والزبرجد": بفتح الزاي ودال مهملة، جوهر معروف، ويقال: هو الزمرد، "وعليه طير خضر" هو "أنعم"، فهو خبر مبتدأ محذوف، "طير رأيت"، وهو اسم تفضيل من نعم بالضم نعومة؛ لأن ملمسه، يعني أن ملمس هذه الطيور ألين من ملمس سائر الطيور، وفي رواية: أنعم طير أنت راء.
"قال جبريل: هذا الكوثر الذي أعطاك الله، فإذا فيه آنية الذهب والفضة، يجري على(8/157)
أعطاك الله، فإذا فيه آنية الذهب والفضة يجري على رضراض من الياقوت والزمرد، ماؤه أشد بياضًا من اللبن، قال: فأخذت من آنيته فاغترفت من ذلك الماء فشربت، فإذا هو أحلى من العسل وأشد رائحة من المسك".
وفي حديث أبي سعيد عند البيهقي: وإذا فيها عين تجري يقال لها: السلسبيل، فينشق منها نهران: أحدهما الكوثر، والآخر يقال له نهر الرحمة، وسيأتي
__________
رضراض": بفتح الراء، وسكون الضاد المعجمة، آخره مثلها، حصى صغار، "من الياقوت والزمرد": بزاي، فميم، فراء ثقيلة مضمومات، آخره ذال معجمة ومهملة، كما في القاموس، وقال: إ نه الزبرجد معرب، "ماؤه أشد بياضًا من اللبن، قال: فأخذت من آنيته، فاغترفت من ذلك الماء، فشربت، فإذا هو أحلى من العسل، وأشد رائحة من المسك"، فجمع الأوصاف الثلاثة الحسنة.
"وفي حديث أبي سعيد عند البيهقي: وإذا فيها"، أي: السماء السابعة، "عين تجري يقال لها: السلسبيل، فينشق منها نهران: أحدهما الكوثر، والآخر يقال له: نهر الرحمة".
قال الحافظ: فيمكن أن يفسر بهما النهران الباطنان، المذكوران، في الحديث، وكذا روي عن مقاتل، قال: الباطنان السلسبيل والكوثر. انتهى، وفيه مسامحة؛ لأن ما روي عن مقاتل صريح في أن أحد النهرين السلسبيل، والآخر الكوثر.
وحديث أبي سعيد صريح في أن السلسبيل هو الأصل، ويخرج منه نهران، أحدهما الكوثر، فهو فرع منه لا قسيم له، فحق العبارة.
وروي عن مقاتل: بإسقاط لفظ كذا، ويكون مقابلًا لتفسيرهما بما في حديث أبي سعيد، ثم قال الحافظ عقب ما نقلته عنه: وأما الحديث الذي أخرجه مسلم بلفظ: "سيحان وجيحان، والنيل والفرات، من أنهار الجنة"، فلا يغاير هذا؛ لأن المراد به أن في الأرض أربعة أنهار، أصلها من الجنة، وحيئذ لم يثبت لسيحان وجيحان أنهما ينبعان من أصل صدرة المنتهى، فيمتاز النيل والفرات عليهما بذلك، وأما الباطنان، فهما غير سيحان وجيحان.
قال النووي في هذا الحديث: إن أصل النيل والفرات من الجنة، وأنهما يخرجان من أصل السدرة، ثم يسيران حيث شاء الله، ثم ينزلان إلى الأرض، ثم يسيران فيها، ثم يخرجان منها، وهذا لا يمنعه العقل، وقد شهد به ظاهر الخبر فليعتمد، وقول عياض الحديث يدل على أن أصل سدرة المنتهى في الأرض، لقوله: "إن النيل والفرات يخرجان من أصلها"، وهما يخرجان من الأرض، فليزم منه أن أصل السدرة في الأرض متعقب؛ لأن خروجهما من أصلها غير خروجهما بالنبع من الأرض، والحاصل أن أصلهما من الجنة، ويجران أولًا من أصلها، ثم يسيران إلى أن(8/158)
المقصد السادس: في ما ورد في آي التنزيل من عظيم قدره ورفعة ذكره
مدخل
...
المقصد السادس: في ما ورد في آي التنزيل من عظيم قدره ورفعة ذكره
في ما ورد في آي التنزيل من عظيم قدره ورفعة ذكره، وشهادته له بصدق
__________
المقصد السادس:
"في" بيان "ما ورد في آي التنزيل من عظيم قدره" بيان لما، أي: بيان مقداره وشرف رتبته "ورفعة" أي: أعلاه، "ذكره" بين الناس بأمرهم بالثناء عليه فيه، وقرن اسمه باسمه محمد رسول الله، وجعل طاعته طاعته، من يطع الرسول فقد أطاع الله، وخطابه بألقاب يا أيها النبي، يا أيها الرسول، "وشهادته له" أي: إخباره، والشهادة خبر قاطع، كما في القاموس "بصدق نبوته"(8/271)
نبوته، وثبوت بعثته، وقسمه تعالى على تحقيق رسالته، وعلو منصبه الجليل ومكانته، ووجوب طاعته، واتباع سنته، وأخذه تعالى له الميثاق على سائر النبيين فضلًا، ومنة ليؤمنن به إن أدركوه ولينصرنه، والتنويه به في الكتب السالفة كالتوراة والإنجيل بأنه صاحب الرسالة والتبجيل وغير ذلك.
__________
أي: بوجودها وتحققها في نفسها، لتحقق أنها وحي من الله، والمراد بصدقه عليه السلام في دعواها، ومن ذلك قوله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} [البقرة: 119] ، وقوله: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [المائدة: 67] ، وقوله: {وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب: 40] ، وقوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا، وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} [الأحزاب: 45] ، فجعله شاهدًا على أمته بإبلاغهم الرسالة، وهذا من خصائصه، ومبشرًا لأهل الطاعة، ونذيرًا لأهل المعصية، وداعيًا إلى توحيد الله، وسراجًا منيرًا يهتدى به للحق، "وثبوت بعثته" كالدليل على تحقق نبوته، "وقسمه تعالى على تحقيق رسالته" بنحو: {يس، وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ، إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ، عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [يس: 1] ، "وعلو منصبه" حسبه وشرفه "الجليل" العظيم، "ومكانته" عظمته، يقال: مكن فلان مكانة، بزنة ضخم ضخامة: عظم وارتفع، فهو مكين، أو استقامته، يقال: الناس على مكانتهم، أي: على استقامتهم، "ووجوب طاعته" بنحو: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [النساء: 59] ، "واتباع سنته" طريقته بنحو قوله: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31] ، وقوله: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} ، {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [آل عمران: 31] ، "وأخذه تعالى له الميثاق على سائر" أي: جميع "النبيين فضلًا" أي: إحسانًا "ومنة" أي: إنعامًا، "ليؤمنن به إن أدركوه، ولينصرنه" بقوله: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ} [آل عمران: 81] ، "والتنويه" أي: الرفع والتعظيم "به في الكتب السالفة" بذكر اسمه، ونعته فيها "كالتوراة والإنجيل" كما في الصحيح عن عبد الله بن عمر؛ أنه صلى الله عليه وسلم موصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} ، الحديث في التنزيل عن الإنجيل، ومبشرًا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد.
وفي نسخ: والتوراة والإنجيل من عطف الخاص على العام، تنبيهًا على عظم قدرهما حتى كأنهما نوع مغاير لما عطف عليه "بأنه صاحب الرسالة والتبجيل" متعلق بقوله، والتنويه به بعد تعلقه بالأول، والمعنى رفع ذكره؛ بأنه صاحب الرسالة، وهذا أظهر من كونه بدلًا منه "وغير ذلك".(8/272)
تمهيد:
اعلم أطلعني الله وإياك على أسرار التنزيل، ومنحنا بلطفه تبصرة تهدينا إلى سواء السبيل، أنه لا سبيل لنا أن نستوعب الآيات الدالة على ذلك، وما فيها من التصريح والإشارة إلى علو محله الرفيع ومرتبته، ووجوب المبالغة في حفظ الأدب معه، وكذلك الآيات التي فيها ثناؤه تعالى عليه وإظهاره عظيم شأنه لديه، وقسمه تعالى بحياته، ونداؤه بـ"الرسول" و"النبي" ولم يناد باسمه بخلاف غيره من الأنبياء، فناداهم بأسمائهم إلى غير ذلك مما يشير إلى أنافة قدره العلي عنده، وأنه لا مجد يساوي مجده، ومن تأمل القرآن العظيم وجنده طافحًا بتعظيم الله تعالى
__________
تمهيد:
"اعلم" أمر يصدر به ما يعتني به من الكلام، "أطلعني الله وإياك على أسرار التنزيل" بمعنى المنزل، وهو القرآن، والكتب المنزلة، فيشمل جميعها، "ومنحنا" وهبنا "بلطفه تبصرة" أي: تنويرًا في قلوبنا، وهي رؤية الأشياء بعين البصيرة، بحيث لا يقتصر منها على رؤية ظاهرها، بل تعير إلى ما يؤول إليه باطنها، كذا في لطائف الأعلام "تهدينا إلى سواء السبيل" الطريق، ومعمول اعلم؛ "أنه لا سبيل لنا أن نستوعب الآيات الدالة على ذلك، وما فيها من التصريح والإشارة" أي: من حيث دلالتها على ذلك، فلا ينافي أن الآيات الدالة محصورة معدودة في أنفسها، بل حروف القرآن كلها محصورة مضبوطة، واحتمال أن المراد بالآيات معناها اللغوي، وهو العلامات الدالة على نبوته وغيرها، مما ثبت له من الكمالات، مدفوع بأن الترجمة فيما ورد في آي التنزيل لا في مطلق العلامات، "إلى علو محله الرفيع" أي: لشريف، "ومرتبته، ووجوب المبالغة في حفظ الأدب معه" كقوله: {لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الحجرات: 1] ، "وكذلك الآيات التي فينا ثناؤه تعالى عليه، وإظهاره عظيم شأنه لديه" عنده، "وقسمه تعالى بحياته" بقوله: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الحجر: 72] ، اتفق المفسرون على أنه قسم من الله بمدة حياته صلى الله عليه وسلم، حكاه عياض، ومراده مفسر، والسلف، فإنه كما قال ابن القيم: لا يعرف بينهم في ذلك نزاع، ولم يوفق الزمخشري في قوله: إنه خطاب من الملائكة للوط، ويأتي إن شاء الله تعالى بسطه عند حكاية المصنف ذلك، "ونداؤه بالرسول والنبي، ولم يناد باسمه بخلاف غيره من الأنبياء" "فناداهم بأسمائهم" يا آدم، يا نوح، يا إبراهيم، يا لوط، يا موسى، يا عيسى، "إلى غير ذلك مما يشير إلى أنافة" أي: زيادة، "قدره" من أنافت الدراهم على مائة، زادت عليها "العلي" الرفيع "عنده" تعالى، "وأنه لا مجد يساوي مجده" شرفه وكرمه في ذاته وأصوله، "ومن تأمل القرآن العظيم وجده طافحًا" ممتلئًا، أي:(8/273)
لنبيه صلى الله عليه وسلم، ويرحم الله ابن الخطيب الأندلسي حيث قال:
مدحتك آيات الكتاب فما عسى ... يثني على علياك نظم مديحي
وإذا كتاب الله أثنى مفصحًا ... كان القصور فصار كل فصيح
وهذا المقصد -أكرمك الله- يشتمل على عشرة أنواع:
__________
دالًا دلالة ظاهرة بكثرة، بمعنى ناطقًا، فلذا عداه بالباء في قوله: "بتعظيم الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم ويرحم الله ابن الخطيب" أبا عبد الله محمد بن جابر "الأندلسي، حيث قال: مدحتك آيات الكتاب" كلها صريحًا، أو استلزامًا بذمها لمخالفه، ودلالتها على إكرامه بنزولها عليه مع اشتمالها على ما فات به غيرها من الكتب السماوية، "فما عسى، يثني على علياك" أي: شرفك، "نظم مديحي" أي: فأي: شيء يترجى به أن يليق الثناء به على شرفك التام بالنسبة لما أثنى الله عليك، "وإذا كتاب الله أنثى مفصحًا" عليك، "كان القصور" أي: العجز، "فصار": "بضم القاف" أي: غاية "كل فصيح" أنه يعترف عن الإتيان ببعض وصافك، "وهذا المقصد أكرمك الله" جملة دعائية "يشتمل على عشرة أنواع".(8/274)
النوع الأول: في ذكر آيات تتضمن عظم قدره ورفعة ذكره
وجليل مرتبته وعلو درجته على الأنبياء وشريف منزلته
قال الله تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ} [البقرة: 253] .
قال المفسرون: يعني موسى عليه الصلاة والسلام، كلمه بلا واسطة، وليس
__________
النوع الأول
في ذكر آيات تتضمن عظم قدره ورفعة ذكره، وجليل مرتبته وعلو درجته على الأنبياء وشريف منزلته" هي والرتبة متقاربان بمعنى علو القدر، "قال الله تعالى: {تِلْكَ} مبتدأ {الرُّسُلُ} صفة والخبر {فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} بتخصيصه بمنقبه ليس لغيره {مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ} [البقرة: 253] .
"قال المفسرون" أي: جمهورهم: "يعني موسى عليه الصلاة والسلام كلمه بلا واسطة" وقيل: المصطفى كلمه ليلة المعراج، "وليس نصًا في اختصاص موسى بالكلام".(8/274)
نصًا في اختصاص موسى بالكلام، وقد ثبت أنه تعالى كلم نبينا صلى الله عليه وسلم أيضا كما مر.
فإن قلت: إذا ثبت أنه عليه السلام كلمه ربه بلا واسطة وقام به هذا الوصف، فلم لم يشتق له من الكلام اسم الكليم، كما اشتق منه لموسى؟
أجيب: بأن اعتبار المعنى قد يكون لتصحيح الاشتقاق كاسم الفاعل فيطرد، بمعنى أن كل من قام به ذلك الوصف يشتق له منه اسم وجوبًا لملاحظة أن صحة استعماله بالنظر لمبدأ الاشتقاق دون غيره، وقد يكون للترجيح فقط، كالكليم والقارورة فلا يطرد، وحينئذ فلا يلزم في كل من قام به ذلك الوصف أن يشتق له منه اسم، كما حققه القاضي عضد الدين، وهذا ملخصه وتحريره، كما قاله
__________
لأنه إنما قال منهم، فلا يفهم منه؛ أنه لم يكلم غيره، ""وقد ثبت أنه تعالى كلم نبينا أيضًا، كما مر" ليلة المعراج.
وقد قال السيوطي: من جملة من كلم من الأنبياء آدم، كما في الحديث، "فإن قلت إذا" بمعنى حيث "ثبت أنه عليه السلام كلمه ربه بلا واسطة، وقام به هذا الوصف، فلم لم يشتق له من الكلام اسم الكليم" بمعنى المكالم، كالجليس بمعنى المجالس، والأنيس بمعنى المؤانس، والنديم بمعنى المنادم، وهو كثير، "كما اشتق منه لموسى، أجيب: بأن اعتبار المعنى قد يكون لتصحيح الاشتقاق، كاسم الفاعل" مثل القائم والضارب، فيطرد بمعنى: أن كل من قام به ذلك الوصف يشتق له منه اسم، "وجوبًا لملاحظة أن صحة استعماله بالنظر لمبدأ الاشتقاق دون غيره، وقد يكون للترجيح فقط، كالكليم والقارورة، فلا يطرد" وحاصله مع الإيضاح، كما قال شيخنا: إن المشتق، وهو ما دل على ذات مبهمة، باعتبار حدث معين قد يكون اشتقاقه لما فهم فيه من المصدر الذي اشتق منه ذلك اللفظ، فلاحظ أن صحة استعماله بالنظر لمبدأ الاشتقاق دون غيره، فإذا اشتق على هذا الوجه وجب إطلاقه على كل ما صدق عليه الضارب والقائم، فإن كلًا منهما يصدق على من اتصف بالضرب والقيام، وقد يكون إطلاقه على معنى، وتخصيصه به؛ باعتبار أثر قام به حمل المستعمل على ملاحظته في أصل وضع اللفظ لذلك المعنى، فوضعه، وهذا من الأسماء المشبهة للصفات، وليس منها، والكليم من هذا النوع، فلا يلزم من إطلاقه على موسى لكلام الله إطلاقه على غيره ممن كلمه الله تعالى.
"وحينئذ، فلا يلزم في كل من قام به ذلك الوصف أن يشتق له منه اسم، كما حققه القاضي عضد الدين" عبد الرحمن بن أحمد إلا يجيء المحقق التحرير، يروي تصانيف(8/275)
المولى سعد الدين التفتازاني.
وقوله: رفع بعضهم درجات يعني محمدًا صلى الله عليه سولم رفعه الله تعالى من ثلاثة أوجه:
بالذات في المعراج.
وبالسيادة على جميع البشر.
وبالمعجزات؛ لأنه عليه الصلاة والسلام أوتي من المعجزات ما لم يؤت نبي قبله.
قال الزمخشري: وفي هذا الإبهام من تفخيم فضله وإعلاء قدره ما لا يخفي لما فيه من الشهادة على أنه العلم الذي لا يشتبه، والمتميز الذي لا يلتبس، انتهى.
__________
البيضاوي عن زين الدين الهنكي، عنه، وروى عنه محمد بن يوسف الكرماني، شارح البخاري، "وهذا ملخصه وتحريره، كما قاله" تلميذه "المولى سعد الدين التفتازاني" بفتح الفوقيتين والزاي وسكون الفاء، نسبة إلى تفتازان: قرية بنواحي نسا، ولعل حكمة عدم إطلاقه على المصطفى مع ظهور دلالته على كلامه؛ أن قومه أنكروا الإسراء أصلًا، فلم يسم كليمًا حذرًا من إنكارهم، إذ سمعوه، وتكلمهم بما لا يليق في حقه، ولا دليل قطعي يرد عليهم، فاقتصر على ما ظهر لهم كالإسراء، فإنه وصف لهم بيت المقدس وغيره، فتحققوا صدقه وإن أنكروه عنادًا.
"وقوله: ورفع بعضهم درجات، يعني محمدًا صلى الله عليه وسلم، رفعه الله تعالى من ثلاثة أوجه بالذات في المعراج" إلى مقام لم يصل إليه ملك مقرب، ولا نبي مرسل، "وبالسيادة على جميع البشر" لقوله: "أنا سيد الناس يوم القيامة"، "وبالمعجزات؛ لأنه عليه الصلاة والسلام أوتي من المعجزات ما لم يؤت نبي قبله" قال عياض: ولأنه بعث إلى الأحمر والأسود، أي: لعموم بعثته.
"قال الزمخشري: وفي هذا الإبهام" بقوله بعضهم، "من تفخيم فضله وإعلاه قدره ما لا يخفى، لما فيه من الشهادة على أنه العلم الذي لا يشتبه، والمتميز الذي لا يلتبس" فهو وإن عبر عنه بالبعض المقتضى لإبهامه، معلوم متميز عن سائر من عداه، ومتعين فيه.
قال التفتازاني: في التعبير عنه باللفظ المبهم تنبيه على أنه من الشهرة بحيث لا يذهب الوهم إلى غيره في هذا المعنى، ألا ترى أن التنكير الذي يشعر بالإيهام كثيرًا ما يجعل علمًا على الإعظام والإفخام، فكيف اللفظ الموضوع لذلك، "انتهى" كلام الزمخشري، وقد أحسن فيه، لكنه أساء في قوله بعده، ويجوز أن يريد إبراهيم، أو غيره من أولي العزم من الرسل.(8/276)
وقد بينت هذه الآية وكذا قوله تعالى: {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ} [الإسراء: 55] أن مراتب الأنبياء والرسل متفاوتة، خلافًا للمعتزلة القائلين: بأنه لا فضل لبعضهم على بعض، وفي هاتين الآيتين رد عليهم: وقال قوم: آدم أفضل لحق الأبوة.
وتوقف بعضهم فقال: السكوت أفضل.
والمعتمد ما عليه جماهير السلف والخلف: أن الرسل أفضل من الأنبياء، وكذلك الرسل بعضهم أفضل من بعض بشهادة هاتين الآيتين وغيرهما.
__________
وقد قال بعض المحققين: لم يصب الزمخشري في تجويزه، أن المراد بالبعض غيره؛ لأن المستحق للتفضيل على الوجه المذكور هو أفضل الأنبياء بإجماع المسلمين، وتأييده بخبر ابن عباس تذاكرنا فضل الأنبياء، فذكرنا نوحًا، وإبراهيم، وموسى وعيسى، فقال صلى الله عليه وسلم: "لا ينبغي لأحد أن يكون خيرًا من يحيى بن زكريا" مدفوع بأن المراد؛ أن في كل نبي نوع فضيلة تخصه، فلا وجه لتخصيص بعضهم بالامتياز من تلك الجهة، فالمنفي في قوله: "لا ينبغي" إلخ، الخيرية من جميع الوجوه.
"وقد بنيت هذه الآية، وكذا قوله تعالى: {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ} ، بتخصيص كل منهم بفضيلة، كموسى بالكلام، وإبراهيم بالخلة، ومحمد بالإسراء، وسليمان بالملك، "أن مراتب الأنبياء والرسل" وفي نسخة: الرسل والأنبياء، أي: الذين ليسوا برسل أو هو عطف عام على خاص، "متفاوتة، خلافًا للمعتزلة القائلين؛ بأنه لا فضل لبعضهم على بعض، وفي هاتين الآيتين" {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [الإسراء: 55] ، و {لَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ} ، "رد عليهم" على سبيل الصراحة، وقال قوم: آدم أفضل لحق الأبوة" وليس بشيء؛ لأنها بمجردها لا تقتضي فضله عليهم مطلقًا، وكم من فرع فضل أصله لخصوصيات شرف بها على الأصل، بل كثيرًا ما تشرف الأصول بفرعها:
وكم أب قد علا بابن ذوي شرف ... كما علا برسول الله عدنان
"وتوقف بعضهم" لتعارض الأدلة عليه، "فقال: السكوت أفضل" لعدم القاطع عند ذا البعض، "والمعتمد ما عليه جماهير السلف والخلئف، أن الرسل أفضل من الأنبياء"؛ لأن الرسالة تثمر هداية الأمة، والنبوة قاصرة على النبي، كالعلم والعبادة، خلافًا لمن قال: النبي أفضل؛ لأن النبوة الوحي بمعرفته تعالى وصفاته، فهي متعلقة به من طرفيها، والرسالة: الأمر بالتبليغ، فهي متعلقة به من أحد الطرفين، وأجيب بأنها تستلزم النبوة، فهي مشتملة عليها؛ لأنها كالرسول، وأخص من النبوة التي هي أعم، كالنبي.(8/277)
قال بعض أهل العلم -فيما حكاه القاضي عياض-: والتفضيل المراد لهم هنا في الدنيا، وذلك بثلاثة أحوال: أن تكون آياته ومعجزاته أظزهر وأشهر، أو تكون أمته أزكى وأكثر، أو يكون في ذاته أفضل وأظهر، وفضله في ذاته راجع إلى ما خصه الله تعالى به من كرامته واختصاصه من كلام أو خلة أو رؤية أو ما شاء الله من ألطافه، وتحف ولايته واختصاصه، انتهى.
فلا مرية أن آيات نبينا صلى الله عليه وسلم ومعجزاته أظهر وأبهر وأكثر وأبقى وأقوى، ومنصبه أعلى ودولته أعظم وأوفر وذاته أفضل وأظهر، وخصوصياته على جميع
__________
"وكذلك الرسل بعضهم أفضل من بعض بشهادة هاتين الآيتين وغيرهما، قال بعض أهل العلم" بالكتاب والسنة، "فيما حكاه القاضي عياض" في الشفاء: "والتفضيل المراد لهم هنا" عطف على مقدار وعلى ما تقدم، وهنا إشارة لما ذكر قبله "في الدنيا" متعلق بالتفضيل، "وذلك بثلاثة أحوال" وفي نسخة أوجه، "أن تكون آياته ومعجزاته أظهر" وفي نسخة أبهر، أي: أقوى، وأغلب من بهر ضوء القمر الكواكب عليها، أو هو بمعنى أظهر "وأشهر" كانشقاق القمر، وانفلاق البحر، وانقلاب العصا حية، "أو تكون" بالنصب "أمته أزكى" أتقى وأطهر لبعدهم عن التلبس بما لا يليق، "وأكثر" من غيرهم، "أو يكون في ذاته أفضل" بزيادة علمه وخصاله المحمودة، "وأظهر" بمعجمة، أي: أشهر، وبمهملة أتقى وأنقى، "وفضله في ذاته" ونفسه "راجع إلى ما خصه الله تعالى به من كرامته" أي: إكرام الله له بما آثر، ومناقب عظيمة وهبها له، "واختصاصه" بالجر معطوف على مدخول إلى "من كلام" بلا واسطة لموسى والمصطفى، وهو بيان لاختصاصه بمعنى ما خصه به، "أو خلة" لإبراهيم والمصطفى، "أو رؤية" عيانًا لنبينا صلى الله عليه وسلم، "أو ما شاء الله" أراده لهم غير ما ذكر "من ألطافه" بفتح الهمزة، أي: عطاياه، "وتحف" بفاء، آخره "ولايته" أي: تحف أولاها لهم، هكذا في الشفاء، بالفاء فقط، وفسرها شارحها بما ذكر.
وقال شيخنا: كان المراد بها ما ميز به تعالى ولايته عن ولاية غيره من الخواص والمزايا التي لم تثبت لغيره.
وفي بعض نسخ المصنف: وتحقق ولايته بقافين، أي: ثبوتها بلا ريبة ولا تردد، لكثرة الأدلة المثبتة لها، "واختصاصه" بما اختصهم به من قرة أعين لا يعلمها إلا هو. "انتهى".
"فلا مرية" "بالكسر"، لا شك "أن آيات نبينا ومعجزاته أظهر وأبهر" بموحدة، أغلب، "وأكثر وأبقى" بالموحدة، "وأقوى" أشد، "ومنصبه" حسبه وشرفه "أعلى، ودولته أعظم وأوفر، وذاته أفضل وأظهر" بالمهملة، "وخصوصياته على جميع الأنبياء أشهر من أن تذكر".(8/278)
الأنبياء أشهر من أن تذكر، فدرجته أرفع من درجات المرسلين، وذاته أزكى وأفضل من سائر المخلوقين، وتأمل حديث الشفاعة في المحشر، وانتهائها إليه، وانفراده هناك بالسؤدد، كما قال صلى الله عليه وسلم: "أنا سيد ولد آدم، وأول من تنشق الأرض عنه يوم القيامة"، رواه ابن ماجه، وفي حديث أنس عند الترمذي: "أنا أكرم ولد آدم يومئذ على ربي ولا فخر".
لكن هذا لا يدل على كونه أفضل من آدم، بل من أولاده، فالاستدلال بذلك على مطلق أفضليته عليه السلام على الأنبياء كلهم ضعيف.
__________
فقد جمعت فيه الأحوال الثلاثة وزيادة، "فدرجته أرفع من درجات المرسلين، وذاته أزكى وأفضل من سائر المخلوقين" إنسًا وملكًا، "وتأمل حديث الشفاعة" إضافة لأدنى ملابسة لذكرها فيه "في المحشر" "بفتح الشين وكسرها"، "وانتهائها إليه" بعد تنصل رؤساء الأنبياء منها " "وانفراده هناك بالسؤدد" أي: السيادة، "كما قال صلى الله عليه وسلم: "أنا سيد ولد" يكون جمعًا، وواحدًا، والمراد الأول "آدم، وأول من تنشق الأرض عنه يوم القيامة" أي: أول من يعجل أحياؤه، مبالغة في إكرامه، وتخصيصًا بتعجيل جزيل إنعامه، "رواه ابن ماجه" محمد القزويني.
"وفي حديث أنس عند الترمذي" مرفوعًا: "أنا أول الناس خروجًا، إذا بعثوا، وأنا خطيبهم إذا وفدوا، وأنا مبشرهم إذا أيسوا، لواء الحمد يومئذ بيدي" "وأنا أكرم ولد آدم يومئذ على ربي" إخبار بما منحه من السودد والإكرام، وتحدث بمزيد الفضل والإنعام "ولا فخر" حال مؤكدة، أي أقول ذلك غير مفتخر به فخر تكبر، أتى به دفعًا لتوهم إرادة الافتخار به.
قال القرطبي: إنما قال ذلك؛ لأنه مما أمر بتبليغه لما يترتب عليه من وجوب اعتقاد ذلك، وأنه حق في نفسه، وليرغب في الدخول في دينه، ويتمسك به من دخل فيه، ولتعظيم محبته في قلوب متبعيه، فتكثر أعمالهم وتطيب أحوالهم، ويحصل لهم شرف الدنيا والآخرة؛ لأن شرف المتبوع متعد لشرف التابع.
"لكن هذا لا يدل على كونه أفضل من آدم، بل من أولاده، فالاستدلال بذلك على مطلق أفضليته عليه السلام على الأنبياء كلهم ضعيف" تبع التفتازاني في شرح العقائد، وقد تعقب بأن المراد سيد جنس الآدميين، فلا يخرج آدم؛ لأن المراد من ولد آدم كافة البشر، بدليل قوله في حديث أبي هريرة: "أنا سيد الناس"، وقوله في حديث أبي سعيد: آدم، فمن سواه إلا تحت لوائي، وقد لوح المصنف بعد قليل بمعنى هذا التعقب بقوله، وهذا يدل على أنه أفضل من آدم، وبأن دخول آدم أولوي؛ لأن في ولده من هو أفضل منه، وبأن ذلك من الأسلوب العربي على(8/279)
واستدل الشيخ سعد الدين التفتازاني لمطلق أفضليته عليه الصلاة والسلام بقوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110] قال: لأنه لا شك أن خيرية الأمم بحسب كمالهم في الدين، وذلك تابع لكمال نبيهم الذي يتبعونه.
واستدل له الفخر الرازي -في المعالم- بأنه تعالى وصف الأنبياء بالأوصاف الحميدة، ثم قال لمحمد صلى الله عليه وسلم: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام: 90] ، فأمره أن يقتدي بأثرهم، فيكون إتيانه به واجبًا، وإلا فيكون تاركًا للأمر، وإذا
__________
حد {اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا} [سبأ: 13] ، لدخول داود لزومًا، أو قصدًا، وعبر عنه بذلك لإرادة التنصيص على دخول آله معه.
"واستدل الشيخ سعد الدين" مسعود بن عمر بن عبد الله "التفتازاني" الشافعي، قال الحافظ في الدرر الكامنة: ولد سنة ست عشرة وسبعمائة، وأخذ عن القطب والعضد، وتقدم في الفنون، واشتهر ذكره وطار صيته، وله تصانيف انتفع بها الناس، مات بسمرقند سنة إحدى وتسعين وسبعمائة، "لمطلق أفضليته عليه الصلاة والسلام" عى جميع الأنبياء، "بقوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110] ، قال: لأنه لا شك أن خيرية الأمم بحسب كمالهم في الدين، وذلك تابع لكمال نبيهم الذي يتبعونه" وهذا إنما ذكره التفتازاني سندًا للإجماع على فضل المصطفى، وتعقب، بأنه لا يصح سندًا له؛ لأن خيريتهم في الدنيا بزيادة نفعهم، للغير لحديث: "خير الناس أنفعهم للناس"، وهذا هو الظاهر لحديث البخاري، عن أبي هريرة، قال في الناس: "ناس يأتون بهم والسلاسل في أعناقهم حتى يدخلون الإسلام"، وخيريتهم في الآخرة، بكثرة ثوابه لحديث البخاري: "لكم الأجر مرتين"، فغضبت اليهود والنصارى، وقالوا: نحن أكثر عملًا وأقل عطاء"، والسر في ذلك؛ أنهم صدقوا الأنبياء كلهم بخلاف جميع الأمم، فإنما صدق كل منهم نبيه ومن قبله، كما نبه عليه صلى الله عليه وسلم بقوله لهرقل: "أسلم تسلم، يؤتك الله أجرك مرتين".
قال الكرماني وغيره: مرة للإيمان بنبيهم، ومرة للإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، والخيرية بأحد هذين المعنيين للأمة لا تدل على أفضلية رسولهم. انتهى، وفيه تأمل.
"واستدل له الفخر الرازي في المعالم" أي: معالم التنزيل، اسم تفسيره، "بأنه تعالى وصف الأنبياء بالأوصاف الحميدة" في سورة الأنعام، "ثم قال لمحمد صلى الله عليه وسلم:
{أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى} هم {اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ} طريقهم التوحيد والصبر، {اقْتَدِهِ} "بهاء السكت" وقفًا ووصلًا وفي قراءة بحذفها وصلًا، "فأمره أن يقتدي بأثرهم، فيكون إتيانه به واجبًا، وإلا(8/280)
أتى بجميع ما أتوا به من الخصال الحميدة فقد اجتمع فيه ما كان متفرقًا فيهم، فيكون أفضل منهم، وبأن: دعوته عليه الصلاة والسلام في التوحيد والعبادة وصلت إلى أكثر بلاد العالم بخلاف سائر الأنبياء، فظهر أن انتفاع أهل الدنيا بدعوته صلى الله عليه وسلم أكل من انتفاع سائر الأمم بدعوة سائر الأنبياء، فوجب أن يكون أفضل من سائر الأنبياء. انتهى.
وقد روى الترمذي عن أبي سعيد الخدري قال قال صلى الله عليه وسلم: "أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وبيدي لواء الحمد ولا فخر، وما من نبي آدم فمن سواه إلا
__________
فيكون تاركًا للأمر" وهو محال، "وإذا أتى بجميع ما أتوا به من الخصال الحميدة، فقد اجتمع فيه ما كان متفرقًا فيهم، فيكون أفضل منهم"؛ لأن الواحد إذا فعل مثل فعل الجماعة كان أفضل منهم، قيل عليه: لا شك أنه أفضل من كل واحد منهم، ومن الجميع أيضًا، لكن في هذا الدليل خفاء؛ لأنه لا يلزم من إتيانه بكل ما أتى به كل واحد منهم إلا مساواته للمجموع، لا أفضليته عليهم، وكأنه الداعي للعز بن عبد السلام على قوله: "إنه أفضل من كل واحد منهم، لا من جميعهم، فتمالأ جماعة من علماء عصره على تكفيره، فعصمه الله، بل قد يتوقف في المساواة أيضًا؛ لأنك لو أنعمت على أربعة فأعطيت واحدًا دينارًا، وآخر دينارين، وآخر ثلاثة، وآخر أربعة، لزاد صاحب الأربعة على كل واحد دون جميع ما لغيره، ولو أعطيته ستة لساواهم، ولو أعطيته عشرة زاد عليهم، فينبغي أن يقال: إنه صلى الله عليه وسلم ساواهم في العمل، وزاد عليهم، بأنه أعلم منهم بالله، وأكثر من جميعهم خصائص ومعجزات، وهذا التفضيل في القرب والمنزلة، وهو أكثر ثوابًا، وأمته أكثر من جميع الأمم، وأجرهم له إلى يوم القيامة، ولو كانت للناس مساكن بعضها فوق بعض، لكان الذي فوق الأخير أعلى من الجميع، وفي آية تلك الرسل إيماء لهذا، حيث أبهم وعبر برفع الدرجات دون أن يسميه، ويقول: إنه أعظم وأفضل. انتهى.
"وبأن دعوته عليه الصلاة والسلام في التوحيد والعبادة، وصلت إلى أكثر بلاد العالم، بخلاف سائر الأنبياء، فظهر أن انتفاع أهل الدنيا بدعوته صلى الله عليه وسلم أكمل من انتفاع سائر الأمم بدعوة سائر الأنبياء، فوجب أن يكون أفضل من سائر الأنبياء. انتهى" استدلال الرازي.
"وقد روى الترمذي" وقال: حسن صحيح، وأحمد وابن ماجه، وصححه الحاكم "عن أبي سعيد الخدري، قال: قال صلى الله عليه وسلم: "أنا سيد ولد آدم يوم القيامة" خصه؛ لأنه يوم مجموع له الناس، فيظهر سودده لكل أحد عيانًا ووصف نفسه بالسودد، المطلئق المفيد، للعموم في المقام الخطابي، فيفيد سيادته على جميع أولاد آدم حتى أولي العزم واحتياجهم إليه، وتخصيص ولد(8/281)
تحت لوائي.
وفي حديث أبي هريرة مرفوعًا -عند البخاري-: "أنا سيد الناس يوم القيامة"، وهذا يدل على أنه أفضل من آدم عليه السلام ومن كل أولاده بل أفضل من الأنبياء، بل أفضل الخلق كلهم.
وروى البيهقي في فضائل الصحابة، أنه ظهر علي بن أبي طالب من البعد، فقال صلى الله عليه وسلم: "هذا سيد العرب" فقالت عائشة: ألست يا رسول الله بسيد العرب؟ قال: "أنا سيد العالمين وهو سيد العرب"، وهذا يدل على أنه صلى الله عليه وسلم أفضل الأنبياء.
__________
آدم ليس للاحتراز، فهو أفضل حتى من خواص الملائكة بإجماع من يعتد به، "ولا فخر" بل إنما قلته شكرًا، كقول سليمان: {عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} ، أي: لا أقوله تكبرًا وتعاظمًا على الناس في الدنيا، وإن كان فيه فخرًا الدارين، أولًا افتخر بذلك، بل فخري بمن أعطاني هذه الرتبة، "وبيدي لواء" بالكسر والمد، علم "الحمد" والعلم في العرصات مقامات لأهل الخير والشر، نصب في كل مقام لكل متبوع لواء، يعرف به قدره وأعلى تلك المقامات مقام الحمد، ولما كان صلى الله عليه وسلم أعظم الخلائق أعطى أعظم الألوية، لواء الحمد ليأوي إليه الأولون والآخرون، فهو حقيقي ولا وجه لحمله على لواء المال والكمال، "ولا فخر" لي بذلك فخر تكبرًا، ولا فخر بالعطاء، بل بالمعطي، "وما من نبي" يومئذ "آدم، فمن سواه إلا تحت لوائي".
قال الطيبي: آدم فمن سواه اعتراض بين النفي والاستثناء، وآدم بالرفع يدل، أو بيان من محله، ومن موصولة، وسواه صلته، وصح؛ لأنه ظرف، وآثر الفاء التفصيلية في، فمن للتريب على منوال الأمثل فالأمثل، وبقية هذا الحديث: "وأنا أول من تنشق عنه الأرض ولا فخر، وأنا أو شافع ولا فخر".
"وفي حديث أبي هريرة، مرفوعًا عند البخاري" ومسلم والترمذي وأحمد": "أنا سيد الناس يوم القيامة" وهل تدرون مم ذلك؟، يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد، فذكر حديث الشفاعة بطوله، "وهذا" المذكور من حديثي أبي سعيد وأبي هريرة، "يدل على أنه أفضل من آدم عليه السلام ومن كل أولاده، بل أفضل من الأنبياء" إضراب انتقالي لدفع توهم، أن المراد بأولاده من عد الأنبياء، "بل أفضل الخلق كلهم"؛ لأنه من ناس، إذا تحرك، فشمل الملائكة حتى أمين الوحي بإجماع حتى من المعتزلة، وجهل الزمخشري مذهبه، كما حققه جماعة من المحققين.
"وروى البيهقي في فضائل الصحابة؛ أنه ظهر على ابن أبي طالب من البعد، فقال صلى الله عليه وسلم: "هذا سيد العرب"، فقالت عائشة: ألست يا رسول الله بسيد العرب؟، قال: "أنا سيد(8/282)
وقد روى هذا الحديث -أيضًا- الحاكم في صحيحه عن ابن عباس، لكن بلفظ: "أنا سيد ولد آدم، وعلي سيد العرب"، وقال: إنه صحيح ولم يخرجاه.
وله شاهد من حديث عروة عن عائشة، وساقه من طريق أحمد بن عبيد عن ناصح قال: حدثنا الحسين بن علوان -وهما ضعيفان- عن هشام بن عروة عن أبيه، عن عائشة بلفظ: "ادعوا لي سيد العرب"، قالت: فقلت: يا رسول الله ألست سيد العرب؟ فقال": وذكره.
وكذا أورده من حديث عمر بن موسى الوجيهي -وهو ضعيف أيضًا- عن أبي الزبير عن جابر مرفوعًا: "ادعوا لي سيد العرب" فقالت عائشة: ألست سيد العرب"؟ وذكره.
__________
العالمين، وهو سيد العرب، وهذا يدل على أنه صلى الله عليه وسلم أفضل الأنبياء" والملائكة؛ لأن العالم ما سوى الله.
"وقد روى هذا الحديث أيضًا الحاكم في صحيحه" المستدرك من طريق أبي عوانة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، "عن ابن عباس" مرفوعًا، "لكن بلفظ: "أنا سيد ولد آدم، وعلي سيد العرب".
"وقال" الحاكم: "إنه صحيح ولم يخرجاه" أي: البخاري ومسلم، مع أن إسناده على شرطهما، "وله شاهد من حديث عروة" بن الزبير، "عن" خالته "عائشة، وساقه" أي: رواه الحاكم، "من طريق أحمند بن عبيد بن ناصح" أبي جعفر النحوي، يعرف بأبي عصيدة، قيل: إن أبا داود حكى عنه، مات بعد السبعين ومائتين.
"قال: حدثنا الحسين بن علوان، وهما ضعيفان" لكن اقتصر في التقريب على أن أحمد بن عبيد، لين الحديث، "عن هشام بن عروة، عن أبيه، عائشة" مرفوعًا "بلفظ: "ادعوا لي سيد العرب"، قالت" عائشة: "فقلت: يا رسول الله ألست سيد العرب؟، فقال: وذكره، وكذا أورده" الحاكم "من حديث عمر بن موسى الوجيهي" بفتح الواو وكسر الجيم، نسبة إلى وجيه، "وهو ضعيف أيضًا عن أبي الزبير" محمد بن مسلم المكي، "عن جابر، مرفوعًا: "ادعوا لي سيد العرب"، فقالت عائشة: ألست سيد العرب؟، وذكره" ورواه أبو نعيم في الحلية عن الحسن بن علي، رفعه: "ادع سيد العرب"، يعني عليًا، فقالت له عائشة: ألست سيد العرب؟، فقال: أنا سيد ولد آدم، وعلي سيد العرب".(8/283)
قال شيخنا: وكلها ضعيفة، بل جنح الذهبي إلى الحكم على ذلك بالوضع. انتهى.
ولم يقل صلى الله عليه وسلم: "أنا سيد الناس" عجبًا وافتخارًا على من دونه، حاشاه الله من ذلك، وإنما قاله إظهارًا لنعمة الله عليه، وإعلامًا للأمة بقدر إمامهم ومتبوعهم عند الله، وعلو منزلته لديه، لتعرف نعمة الله عليهم وعليه، وكذلك العبد إذا لاحظ ما هو فيه من فيض المدد، وشهده من عين المنة ومحض الجود، وشهد مع ذلك فقره إلى ربه في كل لحظة، وعدم استغنائه عنه طرفة عين أنشأ له ذلك في قلبه سحائب النور، فإذا انبسطت هذه السحائب في سماء قلبه، وامتلأ أفقه بها أمطرت عليه وابل الطرب مما هو فيه من لذيذ السرور، فإن لم يصبه وابل فطل، وحينئذ يجري على لسانه الافتخار من غير عجب ولا فخر، بل هو فرح بفضل الله
__________
"قال شيخنا" السخاوي: "وكله ضعيفة، بل جنح": مال "الذهبي إلى الحكم على ذلك بالوضع" انتهى، ولم يتبين لي ذلك، إذ ليس فيها وضاع ولا كذاب ولا متهم، والحاكم إنما أورد حديث عائشة من الطريقين، وإن كان فيهما ضعف، شاهد الحديث ابن عباس الذي صححه؛ لأن زواته من رجال الصحيح.
"ولم يقل صلى الله عليه وسلم: "أنا سيد الناس" عجبًا وافتخارًا على من دونه والفخر ادعاء العظم والمباهاة، "حاشاه من ذلك" إذ هو سيد المتواضعين، "وإنما قاله إظهارًا لنعمة الله عليه" لقوله: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّث} [الضحى: 11] ، "وإعلامًا للأمة بقدر إمامهم ومتبوعهم عند الله، وعلو منزلته لديه، لتعرف نعمة الله عليهم وعليه"، وليعتقدوا فضله على من سواه.
قال القرطبي: ولأنه مما أمر بتبليغه، لما يترتب عليه من وجوب اعتقاد ذلك، وأنه حق في نفسه، فإن قيل: هذا راجع للاعتقاد، فكيف يحصل القطع به من أخبار الآحاد، قلنا: من سمع شيئًا من هذه الأمور منه صلى الله عليه سولم مشافهة حصل له العلم به، كالصحابة، ومن لم يشافهه حصل له العلم به من طريق التوتر المعنوي، لكثرة أخبار الآحاد به.
"وكذلك العبد" أي: عبد من عباد الله الكاملين، "إذا لاحظ ما هو فيه من فيض المدد، وشهده من عين المنة ومحض الجود، وشهد مع ذلك فقره إلى ربه في كل لحظة، وعدم استغنائه عنه طرفة عين، أنشأ له ذلك في قلبه سحائب النور" وفي نسخة: السرور والنور أولى، "فإذا انبسطت هذه السحائب في سماء قلبه، وامتلأ أفقه بها أمطرت عليه وابل: الطرب مما هو فيه من لذيذ السرور، فإن لم يصبه وابل" مطر شديد "فطل" مطر خفيف، والمعنى أنه يزكو وينمو، كثر المطر، أو قل، "وحينئذ يجري على لسانه الافتخار من غير(8/284)
وبرحمته، كما قال تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا} [يونس: 58] فالافتخار على ظاهره، والافتقار والانكسار في باطنه، ولا ينافي أحدهما الآخر، وإلى هذا المعنى يشير قول العارف الرباني سيد علي الوفائي في قصيدته التي أولها:
من أنت مولاه حاشًا ... علاه أن يتلاشى
والله يا ر وح قلبي ... لا مات من بك عاشا
قوم لهم أنت ساق ... لا يرجعون عطاشا
لا قص دهر جناحًا ... له وفاؤك راشا
بك النعيم مقيم ... لمن وهبت انتعاشا
ومن بحولك يقوى ... لن يضعف الدهر جاشا
عبد له بك عز ... فكيف لا يتحاشى
حاشا وفاؤك يرمي ... من أنت مولاه حاشا
__________
عجب ولا فخر، بل هو فحر بفضل الله وبرحمته، كما قال تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ} {فَبِذَلِكَ} الفضل والرحمة، {فَلْيَفْرَحُوا} فالافتخار" كائن "على ظاهره" بحسب اللفظ "والافتقار والانكسار في باطنه، ولا ينافي أحدهما الآخر، وإلى هذا المعنى يشير قول العارف": هو من أشهده الحق نفسه، وظهرت عليه الأحوال والمعرفة حاله، هكذا ذكره الشيخ، فالعالم عنده أعلى مقامًا من العارف خلافًا للأكثرين، وقد قرر ذلك في الفتوحات ومواقع النجوم "الرباني سيد علي الوفائي في قصيدته التي أولها: من أنت مولاه" ناصره ومعينه "حاشا، علاه" رفعته "أن يتلاشى" يخس بعد رفعته، "والله يا روح" حياة "قلبي، لا مات من بك عاشا" بل يحيا حياة طيبة، "قوم لهم أنت ساق، لا يرجعون عطاشًا" بل غاية من الري "لا قص" بمهملة ثقيلة "دهر جناحًا، له وفاتك راشا" أصلح حاله ونفعه، "بك النعيم مقيم، لمن وهبت انتعاشًا" أي: رفعة وجبرًا وذكرًا حسنًا.
قال المجد: نعشه الله، كمنعه ورفعه، كأنعشه ونعشه، وفلانًا جبره بعد فقره، والميت ذكره ذكرًا حسنًا، "ومن بحولك" قوتك "يقوي، لن يضعف الدهر" بالنصب "جاشا" أي نفسًا.
قال المجد: الجأش نفس الإنسان، وقد لا يهمز "عبد له بك عز" قوة ومنعة، "فكيف لا يتحاشى" يكرم ويعظم "حاشا وفاؤك يرمي، من أنت مولاه حاشا" أي: تنزيها له أن يفعل(8/285)
فإن قلت: ما الجمع بين هاتين الآيتين، وبين قوله تعالى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 136] .
__________
ذلك "فإن قلت: ما الجمع بين" كل من "هاتين الآيتين" {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْض} [البقرة: 253] الآية، {لقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ} [الإسراء: 55] الآية، فإن كلًا منهما صريح في التفضيل وعدم التفريق في قوله تعالى: {لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ} [البقرة: 136] الآية، دال على التسوية، كجملة أحاديث، كما قال: "وبين قوله تعالى" خطايا للمؤمنين: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا} من القرآن {وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيم} من الصحف العشر، {وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ} أولاد يعقوب، {وَمَا أُوتِيَ مُوسَى} من التوراة، {وَعِيسَى} من الإنجيل، {وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ} من الكتب والآيات، {لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ} فنؤمن ببعض، ونكفر ببعض، كاليهود والنصارى، {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 136] وأورد أن بين إنما تقع على اثنين، كجلست بين زيد وعمرو، وأحد في الآية مفرد؛ لأنه بمعنى واحد لا بعينه، فكيف صح دخول بين عليه، وأجيب بأ، هـ باعتبار معطوف حذف لظهوره، أي: بين أحد منهم وبين غيره، وفيه دلالة صريحة على تحقيق عدم التفريق بين كل فرد منهم وبين من عداهم، كائنًا من كان، بخلاف ما لو قيل: لا نفرق بينهم، وأجاب الكشاف؛ بأن أحد في معنى الجماعة بحسب الوضع.
قال التفتازاني: لأنه اسم لمن يصلح أن يخاطب، يستوي فيه المفرد والمثنى والجمع، والمذكر والمؤنث، ويشترط أن يكون استعماله مع كلمة كل، أو في كلام غير موجب، وهذا غير الأحد اللذي هو أول العدد في مثل: {قُلْ هُوَ اللَّه} [الإخلاص: 1] ، قال: وليس كونه في معنى الجماعة من جهة كونه نكرة في سياق النفي على ما سبق إلى كثير من الأوهام، ألا ترى أنه لا يستقيم، لا نفرق بين رسول من الرسل، إلا بتقدير عطف، أي: رسول ورسول، وقال في: {لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِه} ، من زعم أن معنى الجمع في أحد أنه نكرة في سياق النفي، فقد سها، وإنما معناه ما ذكر في كتب اللغة؛ أنه اسم لمن يصلح أن يخاطب، فحين أضيف بين إليه، أو أعيد ضمير جميع إليه، أو نحو ذلك، فالمراد به جمع من الجنس الذي يدل عليه الكلام، فمعنى: {لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ} ، بين جمع من الرسل، ومعنى، "فما منكم من جماعة"، ومعنى: {لَسْتُنَّ كَأَحَد} [الأحزاب: 32] الآية، كجماعة من جماعات النساء، انتهى.(8/286)
والحديث الثابت في الصحيحين، عن أبي هريرة قال: استب رجل من المسلمين ورجل من اليهود فقال اليهودي في قسمه: لا والذي اصطفى موسى على العالمين، فرفع المسلم يده فلطم اليهودي وقال: أي خبيث، وعلى محمد؟
__________
"والحديث الثابت في الصحيحين عن أبي هريرة، قال: استب" أي: سب "رجل من المسلمين" قال عمرو بن دينار: هو أبو بكر الصديق، أخرجه سفيان بن عيينة في جامعه، وابن أبي الدنيا في كتاب البعث، ويعكر عليه أن في رواية للشيخين من حديث أبي هريرة أيضًا، وأبي سعيد؛ أنه من الأنصار، إلا أن كان المراد، المعنى الأعم، فإن الصديق من أنصاره صلى الله عليه وسلم، بل هو رأس من نصره ومقدمهم وسابقهم، قاله الحافظ في الفتح، زاد في المقدمة: أو يحمل، على تعدد القصة، لكن لم يسم من اليهود غير واحد.
"ورجل من اليهود" أي: سب كل منهما الآخر بمعنى غيره، قال الحافظ: لم أقف على اسم هذا اليهودي، وزعم ابن بشكوال أنه فنحاص، وهو "بكسر الفاء وسكون النون ومهملتين" وعزاه لابن إسحاق، والذي ذكره ابن إسحاق لفنحاص مع أبي بكر في لطمه إياه قصة أخرى في نزوله قوله تعالى: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ} [آل عمران: 181] ، "فقال اليهودي في قسمه" أي: حلفه.
وفي رواية للشيخين عن أبي هريرة، فقال المسلم: والذي اصطفى محمدًا على العالمين, وقال اليهودي: والذي اصطفى موسى على العالمين، فرفع المسلم عند ذلك يده فلطم وجه اليهودي.
وفي رواية لهما أيضًا: بينما يهودي يعرض سلعته أعطى فيها شيئًا كرهه، فقال: "لا، والذي اصطفى موسى على العالمين" وفي رواية لهما على البش، فقال ذلك ردًا على المسلم فيما قاله، وأكده بالقسم، "فرفع المسلم يده" عند ذلك، أي: سماعه قوله، لما فهمه من عموم لفظ العالمين، أو البشر، فدخل فيه محمد صلى الله عليه وسلم، وقد تقرر عند المسلم أنه أفضل، وقد جاء ذلك مبينًا في حديث أبي سعيد أن الضارب قال له: أي خبيث أعلى محمد، نفدل على أن لطمه عقوبة له على كذبه عنده، قاله الحافظ. "فلطم اليهودي" وفي رواية لهما: فلطم وجه اليهودي وقال: أتقول هذا ورسول الله بين أظهرنا. وفي رواية للإمام أحمد: فلطم عين اليهودي، وقوله: "وقال: أي خبيث" "بفتح الهمزة وسكون الياء" حرف نداء، "وعلى محمد" هذه الجملة أدخلها المصنف في حديث أبي هريرة، وليست منه، فقد أخرجه مسلم في الفضائل، والبخاري في الخصومات، والرقاق، والتوحيد وأحاديث الأنبياء مختصرًا ومطولًا، وليس فيه هذه الجملة، إنما هي عنده في مواضع عن أبي سعيد، قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس جاء يهودي(8/287)
فجاء اليهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم واشتكى على المسلم، فقال صلى الله عليه وسلم: "لا تفضلوني على الأنبياء" وفي رواية: "لا تفضلوا بين الأنبياء".
وحديث أبي سعيد الخدري عند البخاري ومسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال: "لا تخيروا بين الأنبياء".
وحديث ابن عباس عند البخاري ومسلم مرفوعًا ما ينبغي لعبد أن يقول: "أنا خير من يونس بن متى".
وحديث أبي هريرة عند الشيخين، من قال: "أنا خير من يونس بن متى فقد
__________
فقال: ضرب وجهي رجل من الأنصار، فقال: ادعوه، فقال: أضربته؟ قال: سمعته بالسوق يحلف: والذي اصطفى موسى على البشر، قلت: أي خبيث أعلى محمد صلى الله عليه وسلم، فأخذتني غضبة ضربت وجهه، فقال: "لا تخيروا بين الأنبياء" الحديث، وأخرجه مسلم بنحوه.
وقد صرح الحافظ، كما رأيت؛ بأن هذه الجملة من حديث أبي سعيد، "فجاء اليهودي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم واشتكى" ضمنه معنى اعترض، فعده بقوله: "على المسلم" وهذا نقل بالمعنى، وإلا فلم تقع هذه اللفظة في الصحيحين، لا في حديث أبي هريرة، ولا في حديث أبي سعيد.
ولفظ البخاري في الأشخاص في حديث أبي هريرة: فذهب اليهودي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبر بما كان من أمره وأمر المسلم، وكذلك في أولى روايته في أحاديث الأنبياء.
ولفظه في الثانية: يا أبا القاسم إن لي ذمة وعهدًا، فما بال فلان لطم وجهي؟، فقال: "لم لطمت وجهه"، فذكره، فغضب صلى الله عليه وسلم حتى رؤي في وجهه، وكذا أخرجه مسلم في الفضائل باللفظين من طريق، "فقال صلى الله عليه وسلم: "لا تفضلوني على الأنبياء".
"وفي رواية" لهما: "لا تفضلوا بين الأنبياء" وفي رواية: "لا تخبروني على موسى"، "وحديث أبي سعيد الخدري عند البخاري" في التفسير والتوحيد والخصومات، "ومسلم" في الفضائل: "أنه صلى الله عليه وسلم قال: "لا تخيروا بين الأنبياء" بأن تقولوا" فلان خير من فلان"، "وحديث ابن عباس عند البخاري ومسلم" أيضًا في الفضائل، "مرفوعًا: "ما ينبغي" ما يصح، ولا يجوز "لعبد" من عباد الله، "أن يقول: أنا خير من يونس" يحتمل أن يكون رجوع أنا إلى القائل، وإلى النبي صلى الله عليه وسلم.
قال الحافظ في التفسير: والأول أولى، لكنه قال في أحاديث الأنبياء: حديث عبد الله بن جعفر عند الطبراني: "لا ينبغي لنبي أن يقول: أنا".. إلخ، يؤيد رجوعها للنبي صلى الله عليه وسلم، وللطبراني في(8/288)
كذب".
أجاب العلماء: بأن قوله عز وجل: {لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ} يعني: في
__________
حديث ابن عباس: "ما ينبغي لأحد"، وللطحاوي، أنه سبح الله في الظلمات، فأشار إلى جهة الخيرية، انتهى.
"ابن متى" بفتح الميم، والفوقية الثقيلة، وألف مقصورة، وقع في تفسير عبد الرزاق أنه اسم أمه، ورده الحافظ بقوله في بقية هذا الحديث، ونسبه إلى أبيه، ففيه رد على من زعم أنه اسم أمه، وهو محكي عن وهب بن منبه، وذكره الطبري، وتبعه ابن الأثير في الكامل، والذي في الصحيح أصح، وقيل: سبب قوله ونسبه إلى أبيه؛ أنه كان في الأصل يونس ابن فلان، فنسبه الراوي، وكنى عنه بفلان، وذلك سبب نسبته إلى أمه، فقال الذي نسي يونس بن متى، وهي أمه، ثم اعتذر، فقال: ونسبه، أي: شيخه إلى أبيه، أي: سماعًا، فنسيته، ولا يخفى بعد هذا التأويل، وتكلفه. انتهى، بل يرده ما في الثعلبي عن عطاء: سألت كعب الأحبار عن متى، فقال: هو أبو يونس، واسم أمه برورة، أي: صديقة بارة قانتة، وهي من ولد هارون. انتهى.
فقول السيوطي: التأويل عندي أقوى، وإن استبعده الحافظ، فيه نظر.
قال الحافظ: ولم أقف في شيء من الأخبار على اتصال نسبه، وقد قيل: إنه كان في زمن ملوك الطوائف من الفرس.
"وحديث أبي هريرة عند الشيخين: " من قال أنا خير من يونس بن متى، فقد كذب" هذا لفظ البخاري في التفسير مختصرًا بلا واو أوله، فزيادتها في نسخ خطأ، ولم يخرجه مسلم بهذا اللفظ.
وقد أحسن السيوطي: فعزاه في الزوائد للبخاري، والترمذي وابن ماجه.
نعم أخرجه مسلم والبخاري في آخر الحديث السابق، بلفظ: "ولا أقول: إن أحد أفضل من يونس بن متى"، ورواه البخاري أيضًا مختصرًا، بلفظ: "لا ينبغي للعبد أن يقول: أنا خير من يونس بن متى".
وفي رواية مسلم عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال يعني الله: لا ينبغي لعبد لي، وقال ابن المثى: لعبدي أن يقول: أنا خير من يونس بن متى، ومسلم رواه عن شيوخه ابن أبي شيبة، وابن بشار ومحمد بن المثنى، فلذا بين اختلاف لفظهم، فالأولان بلام، والثالث بدونها، والإضافة لياء المتكلم.
"أجاب العلماء؛ بأن قوله عز وجل: {لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ} ، يعني في الإيمان، بما(8/289)
الإيمان بما أنزل إليهم والتصديق بأنهم رسل الله وأنبياؤه، والتسوية بينهم في هذا لا تمنع أن يكون بعضهم أفضل من بعض.
وأجابوا عن الأحاديث بأجوبة.
فقال بعضهم: أن نعتقد أن الله تعالى فضل بعضهم على بعض في الجملة، ونكف عن الخوض في تفصيل التفضيل بآرائنا، قال ابن ظفر: فإن أراد هذا القائل: إنا نكف عن الخوض في تفصيل التفضيل بآرائنا فصحيح، وإن أراد أنا لا نذكر في ذلك ما فهمناه من كتاب الله وروي لنا من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فسقيم.
__________
أنزل إليهم، والتصديق بأنهم رسل الله وأنبياؤه" عطف عام على خاص، على أن الرسول أخص من النبي، ومرادف على تساويهما، وإن كلا منهما إنسان أوحى إليه بشرع، وأمر بتبليغه، أو المعنى التصديق بأن منهم رسلًا وأنبياء ليسوا برسل، "والتسوية بينهم في هذا" المذكور من الإيمان بما أنزل إلخ، "لا تمنع أن يكون بعضهم أفضل من بعض" كما هو نص الآيتين بسبب خواص ترجع من قامت به على غيره بالنظر، لتلك الخصوصية.
"وأجابوا عن الأحاديث بأجوبة" سبعة أو ثمانية، "فقال بعضهم: أن" مخففة من الثقيلة، "نعتقد" بالرفع، أي: إنا نعتقد "أن الله تعالى فضل بعضهم على بعض في الجملة" وجاز حذف اللام مما دخلت عليه لظهور المراد، كقوله: إن الحق لا يخفى على ذي بصيرة، ولكن عدم الفصل بينها وبين الفعل الغير الناسخ نادر، والمضارع أندر من الماضي، كما في: أن يزينك لنفسك وأن يشينك لهيه، ويحتمل قراءته بفتح الهمزة، "ونكف" نمتنع "عن الخوض في تفصيل" تبيين "التفصيل بآرائنا"؛ لأنه هجوم على عظيم.
"قال ابن ظفر: فإن أراد هذا القائل: إنا نكف عن الخوض في تفصيل التفضيل بآرائنا" المجردة عن فهم كتاب، أو سنة، "فصحيح"، وبهذا الإيراد إن هذا عين ما قاله ذلك البعض، فكيف يجعله احتمالًا فيه.
"وإن أراد أنا لا نذكر في ذلك ما فهمناه من كتاب الله، وروي لنا من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم" وهو رأى أيضًا، لكن في فهم الدليل من غير أن تكون دلالته عليه قطعية، "فسقيم" أي: ضعيف؛ لأن الأخبار على غلبة الظن، وما أدى إليه الاجتهاد لا يمتنع، ومحصله أن التفضيل بالرأي: المحض مجمع على منعه، وبالدليل لا وجه لمنعه، وما أحسن اختصار الحافظ لهذا بقوله.(8/290)
وقال آخر: نفضل من رفع الله درجته بخصائص الحظوة والزلفى، ولا نخوض في تفضيل بعضهم على بعض في سياسة المنذرين والصبر على الدين، والنهضة في أداء الرسالة، والحرص على هدى الضلال، فإن كلا منهم قد بذل في ذلك وسعه الذي لا يكلفه الله تعالى أكثر منه.
وقال الآخر -مما ذكره القاضي عياض-: إن نهيه عليه السلام عن التفضيل كان قبل أن يعلم أنه سيد ولد آدم، فنهى عن التفضيل إذ يحتاج إلى توقيف، وإن من فضل بلا علم فقد كذب.
قال الحافظ عماد الدين بن كثير: وفي هذا نظر. انتهى.
__________
قال العلماء: إنما نهى عن ذلك من يقوله برأيه، لا من يقوله بدليل.
"وقال آخر: نفضل" أي: نعتقد فضل "من رفع الله درجته" منزلته "بخصائص الحظوة" بضم الحاء المهملة وكسرها ومعجمة، المحبة ورفع المنزلة، "والزلفى" القربى مصدر بمعنى التقريب، "ولا نخوض" لا نتكلم "في تفضيل بعضهم على بعض" عبر عن المتكلم بالخوض لما فيه من المشقة بلوم الدنيا، وعقوبة الأخرى.
وفي القاموس: خاض الماء دخله، والغمرات اقتحمها، "في سياسة" أمر ونهي "المنذرين" بفتح الذال، القوم الذين أرسلوا إليهم وبينوا لهم عواقب الفواحش، "والصبر على الدين" أي: القيام به، وهو هنا ما شرع من الأحكام التي من جملتها: وجوب تبليغ ما أمروا به، ومنع المخالفين لهم، الخارجين عن الطاعة، "والنهضة" أي: السرعة "في أداء الرسالة، والحرص على هدى الضلال" بضم الضاد وشد اللام، جمع ضال، ويجوز فتحها، والتخفيف بتقدير أهل الضلال، والأول أولى، "فإن كلًا منهم قد بذل في ذلك وسعه الذي لا يكلفه الله أكثر منه"؛ لأنه {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة: 286] .
وقال الآخر مما ذكره القاضي عياض" في الشفاء: "إن نهيه عليه الصلاة عن التفضيل كان قبل أن يعلم" بالبناء للفاعل، أو المفعول، أي: يعلمه الله، "أنه سيد ولد آدم، فنهى عن التفضيل، إذ يحتاج إلى توقيف" أي: إعلام به وأذن فيه، فلا يقدم عليه بالعقل، "وإن من فضل بلا علم" بل بالرأي: المجرد، "فقد كذب"؛ لأنه لا يطابق ما في نفس الأمر، والجملة حالية، أو استئنافية فيه، مقوية لما قبلها.
"قال الحافظ عماد الدين بن كثير: وفي هذا" الذي قاله الجماعة الآخرون "نظر.(8/291)
ولعل وجه النظر في جهة معرفة المتقدم تاريخًا من ذلك، ثم رأيت في تاريخ ابن كثير أن وجه النظر -من جهة- أن هذا من رواية أبي سعيد وأبي هريرة، وما هاجر أبو هريرة إلا عام خيبر، فيبعد أنه لم يعلمه بهذا إلا بعد هذا.
وقال آخر: إنما قاله صلى الله عليه وسلم على طريق التواضع ونفي التكبر والعجب.
قال القاضي عياض: وهذا لا يسلم من الاعتراض.
وقيل: لا نفضل بعضهم تفضيلًا يؤدي إلى تنقيص بعضهم أو الغض منه.
__________
انتهى، ولعل وجه النظر من جهة معرفة المتقدم تاريخًا من ذلك" يعني أنه يتوقف على العلم بتقدم النهي على العلم بأنه سيد ولد آدم ولم يعلم التاريخ، أو فيه مضاف، أي: جهة جهل معرفة إلخ، "ثم رأيت في تاريخ ابن كثير: أن وجه النظر من جهة، إن هذا من رواية أبي سعيد" الخدري، "وأبي هريرة" الدوسي، "وما هاجر أبو هريرة إلا عام خيبر" بالمعجمة وراء آخره على الصواب في المحرم سنة سبع، ونسخة حنين تصحيف، "فيبعد أنه لم يعلمه" الله تعالى "بهذا إلا بعد هذا" بل أعلمه فضله قبل ذلك.
قال السبكي: وفي حديث الإسراء ما يدل عليه. انتهى، ومن جملته قول إبراهيم: بهذا فضلكم محمد، "وقال آخر: إنما قاله صلى الله عليه وسلم على طريق التواضع" لين الجانب، وخفض الجناح، "ونفي التكبر" إظهارًا لعظمة، "والعجب" بضم فسكون، استحسان النفس والمدح لها.
"قال القاضي عياض: وهذا لا يسلم من الاعتراض"؛ لأنه عد الإخبار بخلاف الواقع الذي هو كذب مذموم تواضعًا، قيل: ولأن نفي التكبر والعجب يقتضي ثبوتهما له، وأنه مع من علم من حاله كيف يتوهم فيه ما لا يتوهم في صالحي أمته، ولا يخفى أنه اعتراض ساقط، فإن التواضع صفة محمودة، وهو من شأنه صلى الله عليه وسلم، كذا في شرح الشفاء.
وقال شيخنا: لأنه صلى الله عليه وسلم كثيرًا ما يفتخر من باب التحدث بالنعمة، بل المطلوب منه أن يظهر فضله لأمته، ليقوي إيمانهم به، ولئلا يجهلوا مقام فيضلوا.
"وقيل": مما ذكر عياض أيضًا: "لا نفضل بعضهم تفضيلًا يؤدي" بضم التحتية وفتح الهمزة وشد الدال، يجر ويوصل "إلى تنقيص بعضهم" تفعيل من النقص، أي: يقتضي وصفهم بما فيه نقص، "أو الغض منه" بفتح الغين والضاد المعجمتين، أي: انتقاصه، كما في القاموس وغيره، فهو مساو لما قبله، ولا يصلح أنه عطف تفسير؛ لأنه إنما يكون بالواو إلا أن تكون، أو استعملت بمعنى الواو مجازًا، فعوملت معاملتها.
وقد ورد هذا الجواب؛ بأنه إن أريد مطلق النقص، فهذا لا يقوله مسلم، وإن أريد نقص(8/292)
وقيل: منع التفضيل إنما هو في حق النبوة والرسالة، فإن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فيها على حد واحد، لا تتفاضل، وإنما التفاضل فيزيادة الأحوال والخصوص والكرامات والرتب، وأما النبوة نفسها فلا تتفاضل، وإنما التفاضل بأمور أخرى زائدة عليها، ولذلك كان منهم رسل وأولو عزم، انتهى، وهذا قريب من القول الثاني.
__________
بعضهم عن بعض في الفضل، فلا معنى لأفعل التفضيل إلا ذلك.
"وقيل" مما ذكره عياض أيضًا: "منع التفضيل" بين الأنبياء والرسل، "إنما هو في حق النبوة والرسالة" نفسها لا الأنبياء والرسل، "فإن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فيها"، أي: النبوة "على حد واحد" فرتبتها وقدرها متحد فيهم، إذ هي شيء واحد، "لا تتفاضل" أي: لا يزيد بعضها على بعض، "وإنما التفاضل في زيادة الأحوال" أي: العوارض الطارئة عليها، "والخصوص"، أي: ما خص به بعضهم دون بعض، "والكرامات" التي أكرم الله بها بعضهم، "والرتب" الدنيوية والأخروية، "وأما النبوة نفسها فلا تتفاضل".
قال السنوسي في شرح عقائده: ويدل عليه منع أن يقال لفلان النبي النصيب الأقل من النبوة، ولفلان النصيب الأوفر منها، ونحوه من العبارات التي تقتضي أن النبوة مقولة بالتشكيك، ولا شك أن امتناع ذلك معلوم من الدين بالضرورة بين السلف والخلف، فدل على أن حقيقة النبوة من المتواطئ المستوى إفراده، ولا يلتفت لمن خالف مقتضاه لوضوح فساده.
"وإنما التفاضل بأمور أخرى زائدة عليها" ليست من نفس حقيقتها، كما تبين، وفي ذكره ذلك في النبوة دون الرسالة إيماء إلى الفرق بينهما.
"ولذلك" المذكور من أن التفاضل لأمر زائد، "كان منهم رسل وأولو عزم" أي: شدة وقوة وتصميم على تنفيذ ما يراد به وبغيره. "انتهى، وهذا قريب من القول الثاني" وليس عينه لاختلاف ملحظهما.
وفي فتح الباري قال العلماء: إنما نهى صلى الله عليه وسلم عن ذلك من يقوله برأيه، لا من يقوله بدليل، أو من يقوله بحيث يؤدي إلى تنقيص المفضول، أو يؤدي إلى الخصومة والتنازع، أو المراد لا تفضلوا بجميع أنواع الفضائل، بحيث لا يترك للمفضول فضيلة، فالإمام مثلًا إذا قلنا أنه أفضل من المؤذن لا يستلزم نقص فضيلة المؤذن بالنسبة إلى الأذان، وقيل: النهي إنما هو في حق النبوة نفسها لقوله: {لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ} ، ولم ينه عن تفضيل الذوات لقوله: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [البقرة: 253] .
وقال الحليمي: الأخبار الواردة في النهي عن التخيير إنما هي في مجادلة أهل الكتاب،(8/293)
وقال ابن أبي جمرة في حديث يونس: يريد بذلك نفي التكييف والتحديد على ما قاله ابن خطيب الري؛ لأنه قد وجدت الفضيلة بينهما في عالم الحس؛ لأن النبي صلى الله عليه سولم أسري به إلى فوق السبع الطباق، ويونس نزل به إلى قعر البحر، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "أنا سيد ولد آدم يوم القيامة" وقال عليه السلام: "آدم ومن دونه تحت لوائي"، وقد اختص صلى الله عليه وسلم بالشفاعة الكبرى التي لم تكن لغيره من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. فهذه الفضيلة وجدت بالضرورة، فلم يبق أن يكون قوله عليه الصلاة والسلام: "لا تفضلوني على يونس بن متى" إلا بالنسبة إلى القرب من الله
__________
وتفضيل بعض الأنبياء على بعض بالمخايرة؛ لأن المخايرة، إذا وقعت بين دينين لم يؤمن أن يخرج أحدهما إلى الأزراء بالآخر، فيفضي إلى الكفر، فأما إذا كان التخيير مستندًا إلى مقابلة الفضائل ليحصل الرجحان، فلا يدخل في النهي، ثم قال: أعني في الفتح، في قوله: "ما ينبغي لعبد أن يقول: أنا خير من يونس".
قال العلماء: إنما قاله صلى الله عليه وسلم تواضعًا، إن كان قاله بعد أن علم أنه أفضل الخلق، وإن قاله قبل علمه، فلا إشكال.
وقيل: خص يونس بالذكر لما يخشى على من سمع قصته أن يقع في نفسه تنقيص له، فبالغ في ذكر فضله لسد هذه الذريعة. انتهى، وذكرته برمته لحسن تلخيصه، وإن تكرر بعضه مع ما ذكره المصنف.
"وقال ابن أبي جمرة" بجيم وراء، "في حديث يونس، يريد بذلك نفي التكييف والتحديد على ما قاله ابن خطي الري" الإمام فخر الدين محمد بن عمر بن الحسن بن الحسين التميمي، البكري، الطبرستاني، الرازي، بحر العلوم، ناصر السنة، الورع، الدين، صاحب التصانيف الكثيرة، تفقه على أبيه وغيره، ولد سنة ثلاث، وقيل: أربع وأربعين وخمسمائة، وتوفي بهراة يوم عيد الفطر يوم الاثنين سنة ست وستمائة، مر بعض ترجمته أيضًا، كان أبوه خطيبًا بالري: بفتح الراء وشد التحتية، مدينة مشهورة من أعلام البلاد، كانت أعظم من أصبهان والنسبة إليها بزيادة زاي؛ "لأنه قد وجدت الفضيلة بينهما في عالم الحس؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أسري به إلى فوق السبع الطباق" أي السماوات "ويونس نزل به إلى قعر البحر، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "أنا سيد ولد آدم يوم القيامة" خصه؛ لأنه يوم ظهور ذلك كل الظهور.
"وقال عليه السلام: آدم ومن دونه تحت لوائي" فالمراد بولد آدم جنس البشر، كما تقرر، فدخل آدم، "وقد اختص صلى الله عليه وسلم بالشفاعة الكبرى التي لم تكن لغيره من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فهذه الفضيلة وجدت بالضرورة، فلم يبق أن يكون قوله عليه الصلاة(8/294)
سبحانه، والبعد، فمحمد صلى الله عليه وسلم وإن أسري به لفوق السبع الطباق واخترق الحجب، ويونس عليه الصلاة والسلام وإن نزل به لقعر البحر فهما بالنسبة إلى القرب والبعد من الله سبحانه وتعالى على حد واحد. انتهى.
وهو مروي عن الإمام دار الهجرة مالك بن أنس وعزي نحوه لإمام الحرمين.
وقال ابن المنير: إن قلت: إن لم يفضل على يونس باعتبار استواء الجهتين بالنسبة إلى وجود الحق تعالى، فقد فضله باعتبار تفاوت الجهتين في تفضيل الحق فإنه تعالى فضل الملأ الأعلى على الحضيض الأدنى، فكيف لا نفضله عليه
__________
والسلام: "لا تفضلوني على يونس بن متى"، إلا بالنسبة إلى القرب من الله سبحانه والبعد، فمحمد صلى الله عليه وسلم وإن أسري به لفوق السبع الطباق واخترق الحجب، ويونس عليه الصلاة والسلام وإن نزل به لقعر البحر فهما بالنسبة إلى القرب والبعد من الله سبحانه وتعالى على حد واحد. انتهى. وهو مروي عن إمام دار الهجرة مالك بن أنس" وهو حمل حسن لا يرد عليه شيء، "وعزي نحوه لإمام الحرمين" أبي المعالي عبد الملك بن عبد الله بن يوسف الجويني.
ذكر القرطبي في التذكرة: أن القاضي أبا بكر بن العربي، قال: أخبرني غير واحد أن إمام الحرمين سئل هل الباري في جهة؟، فقال: لا هو متعال عن ذلك، قيل: ما الدليل عليه؟، قال: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تفضلوني على يونس بن متى"، قيل: ما وجه الدليل منه؟، قال: لا أقول حتى يأخذ ضيفي هذا ألف دينار يقضي بها دينًا، فقام رجلان، فقالا: هي علينا، فقال: لا يتبع بها اثنين؛ أنه يشق عليه، فقال واحد: هي علي، فقال: إن يونس رمى بنفسه في البحر، فالتقمه الحوت، وصار في قعر البحر في ظلمات ثلاث، ونادى: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، كما أخبر الله، ولم يكن محمد صلى الله عليه وسلم حين جلس على الرفرف الأخضر، وارتقى به صعدًا حتى انتهى به إلى موضع يسمع فيه صريف الأقلام، وناجاه بما ناجاه، وأوحى إليه ما أوحى بأقرب إلى الله من يونس في ظلمة البحر، فالله سبحانه قريب من عباده، يسمع دعاءهم ولا يخفى عليه حالهم، كيفما تصرفت من غير مسافة بينه وبينهم. انتهى.
"وقال ابن المنير" في معراجه: "إن قلت: إن لم يفضل" نبينا صلى الله عليه سولم "على يونس باعتبار استواء الجهتين بالنسبة إلى وجود الحق تعالى، فقد فضله باعتبار تفاوت الجهتين في تفضيل الحق" سبحانه، "فإنه تعالى فضل الملأ الأعلى" أي: السماوات "على الحضيض الأنى" أي: الأرض عند الأكثرين؛ لأنه لم يعص فيها، ومعصية إبليس لم تكن فيها، أو وقعت نادرة، فلم يلتفت إليها، وقيل: الأرض أفضل؛ لأنها مستقر الأنبياء ومدفنهم، ونسب للأكثر أيضًا،(8/295)
الصلاة والسلام على يونس، فإن لم يكن التفضيل بالمكان فهو بالمكانة بلا إشكال.
ثم قال: قلت لم ينه عن مطلق التفضيل، وإنما نهى عن تفضيل مقيد بالمكان يفهم منه القرب المكاني فعلى هذا يحمل جمعًا بين القواعد، انتهى.
واختلف هل البشر أفضل من الملائكة؟
فقال جمهور أهل السنة والجماعة: خواص بني آدم، وهو الأنبياء، أفضل من خواص الملائكة وهم جبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل وحملة العرش، والمقربون.
__________
وصحح الأول، ومحل الخلاف، كما قال السراج البلقيني: فيما عدا قبور الأنبياء فهي أفضل اتفاقًا.
"فكيف لا نفضله عليه الصلاة والسلام على يونس، فإن لم يكن التفضيل بالمكان فهو بالمكانة" الرفعة وعلو المنزلة، "بلا إشكال، ثم قال" تلو السؤال بلا فاصل "قلت: لم ينه عن مطلق التفضيل، وإنما نهى عن تفضيل مقيد بالمكان يفهم منه القرب المكاني" الذي يتعالى الله منه، "فعلى هذا يحمل جمعًا بين القواعد انتهى"، وهو في معنى ما قال إمام الحرمين ومالك وغيرهما.
"و" قد "اختلف" في جواب قول السائل: "هل البشر أفضل من الملائكة" أم الملائكة أفضل، ثالثها الوقف واختاره الكيا الهراسي، ومحل الخلاف في غير نبينا صلى الله عليه وسلم أما هو فأفضل الخلق إجماعًا، لا يفضل عليه ملك مقرب ولا غيره، كما ذكره الرازي، وابن السبكي، والسراج البلقيني، والزركشي، وما في الكشاف من تفضيل جبريل.
قال بعض المغاربة: جهل الزمخشري مذهبه، فإن المعتزلة مجمعون على تفضيل المصطفى، نعم قيل: إن طائفة منهم خرقوا الإجماع، كالرماني، فتبعهم.
"فقال جمهور أهل السنة والجماعة: خواص بني آدم، وهم الأنبياء أفضل من خواص الملائكة" واختاره الإمام فخر الدين في الأربعين.
وفي المحصل قال ابن المنير: وفضلهم باعتبار الرسالة والنبوة لا باعتبار عموم الأوصاف البشرية بمجردها، وإلا لكان كل البشر أفضل من الملائكة، معاذ الله.
وذكر الإمام فخر الدين: أن الخلاف في التفضيل بمعنى أيهما أكثر ثوابًا على الطاعات، ورد بذلك احتجاج الفلاسفة على تفضيل الملائكة بأنها نورانية علوية، والجسمانية ظلمانية سفلية، وقال: هذا لم يلاق محل النزاع، وبهذا يزول الإشكال في المسألة، "وهم جبريل(8/296)
والكروبيون والروحانيون، وخواص الملائكة أفضل من عوام بني آدم -قال التفتازاني: بالإجماع بل بالضرورة- وعوام بني آدم أفضل من عوام الملائكة. فالسجود له أفضل من الساجد، فإذا ثبت تفضيل الخواص على الخواص لآدم ثبت تفضيل العوام على العوام، فعوام الملائكة خدم عمال الخير، والمخدوم له.
__________
وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل" ملك الموت، "وحملة العرش" وهم أربعة، أو ثمانية، تقدم تحريره في المعراج، "والمقربون والكروبيون" بفتح الكاف وخفة الراء، كما مر، "والروحانيون" بضم الراء وفتحها، أما الضم؛ فلأنهم أرواح ليس معها ماء ولا نار ولا تراب، ومن قال هذا قال: الروح جوهر، ويجوز أن يؤلف الله أرواحًا، فيجسمها ويخلق منها خلقًا ناطقًا عاقلًا، فيكون الروح مخترعًا، والتجسيم بضم النطق والعقل إليه حادثًا من بعد، ويجوز أن أجساد الملائكة على ما هي عليه اليوم مخترعة، كما اخترع عيسى وناقة صالح, وأما الفتح، فبمعنى أنهم ليسوا محصورين في الأبنية والظلل، ولكنهم في فسحة وبساط، وقيل: ملائكة الرحمة روحانيون بفتح الراء، وملائكة العذاب الكروبيون من الكرب، قاله الحليمي والبيهقي.
"وخواص الملائكة" وهم المذكورون "أفضل من عوام بني آدم" يعني أولياء البشر، وهم من عدا الأنبياء، كما في الحبائك، أي: الصلحاء، كما يأتي "قال التفتازاني: بالإجماع، بل بالضرورة" لعصمتهم جميعهم.
قال السيوطي: لكن رأيت لطائفة من الحنابلة؛ أنهم فضلوا أولياء البشر على خواص الملائكة، وخالفهم ابن عقيل من أئمتهم، وقال: إن ذلك شناعة عظيمة عليهم، "وعوام بني آدم أفضل من عوام الملائكة" وهم غير خواصهم في أحد القولين، وجزم به الصفار والنسفي كلاهما من الحنفية.
وذكر البلقيني: أنه المختار عند الحنفية، ومال إلى بعضه، وهو أنه قد يوجد ن أولياء البشر من هو أفضل من غير الخواص من الملائكة، وذهب الأكثرون إلى تفضيل جميع الملائكة على أولياء البشر، وجزم به ابن السبكي في جمع الجوامع، وفي منظومته، فذكر المصنف ثلاث صور استدل لها بقوله:
"فالمسجود له أفضل من الساجد" وهو الملائكة، أي: أن مجموع البشر أفضل من مجموع الملائكة، كما أشار له بقوله: "فإذا ثبت تفضيل الخواص" وهم الأنبياء، "على الخواص" من الملائكة بالسجود "لآدم، ثبت تفضيل العوام على العوام" وهذا صريح في تفضيل المجموع، وأورد الرازي في الأربعين: لم لا يقال: السجدة كانت لله وآدم، كالقبلة سلمنا أنها لآدم، لكن لم لا يكون من السجود التواضع والترحيب، سلمنا أنها وضع الجبهة على(8/297)
فضل على الخادم؛ ولأن المؤمنين ركب فيهم الهوى والعقل، مع تسليط الشيطان عليهم بوسوسته، والملائكة ركب فيهم العقل دون الهوى ولا سبيل للشيطان عليهم.
فالإنسان -كما قاله في شرح العقائد- يحصل الفوائد والكمالات العلمية والعملية مع وجود العوائق، والموانع من الشهوة والغضب وسنوح الحاجات الضرورية الشاغلة عن اكتساب الكمالات، ولا شك أن العبادة وكسب الكمال مع
__________
الأرض، لكنها قضية عرفية، يجوز أن تختلف باختلاف الأزمنة، فلعل عرف ذلك الوقت؛ أن من سلم على غيره وضع جبهته على الأرض، وتسليم الكامل على غيره أمر معتاد، قال: والجواب عن الأسئلة الثلاثة أن ذلك السجود، لو لم يدل على زيادة منصب السجود له على المساجد لما قال إبليس: أرأيتك هذا الذي كرمت علي، فإنه لم يوجند شيء آخر يصرف هذا الكلام إليه سوى هذاالسجود، فدل على اقتضائه ترجيح المسجود له على الساجد.
"فعوام الملائكة خدم عمال الخير" وهم صلحاء المؤمنين، "والمخدوم له فضل على الخادم"، وهذا استدلال للصورة الثالثة، وعطف على، فالسجود له أفضل من الساجد باعتبار المعنى، أي: فبنو آدم من حيث هم أفضل؛ لأن هذا النوع مسجود له في الجملة؛ "ولأن المؤمنين" من حيث هم "ركب فيهم الهوى" بالقصر، أي: الميل إلى الشيء، ثم استعمل في الميل المذموم نحو: {وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّك} ، "والعقل" عبر به دون الشهوة، وإن كان أظهر في بيان المشقة الحاصلة للمؤمنين في العبادة، لبيان ما حصل به الاشتراك بين الآدمي والبشر، وقد أوضح ذلك الفخر في الأربعين، فقال: الملائكة لهم عقول بلا شهوة، والبهائم لهم شهوة بلا عقل، والآدمي له عقل وشهوة، فإن رجحت شهوته على عقله كان أخس من البهيمة، قال تعالى: {أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الأعراف: 179] ، فقياسه لو رجح عقله على شهوته وجب أن يكون أفضل من الملك. انتهى.
وذكر نحوه البيهقي، وزاد: ألا ترى من ابتلى من الملائكة بالشهوة كيف وقع في المعصية، وذكر قصة هاروت وماروت، وساقها من ثلاثة طرق، فكان المصنف عبر عن الشهوة بالهوى لتسببه عنها، "مع تسليط الشيطان عليهم بوسوسته، والملائكة ركب فيهم العقل دون الهوى" لعدم الشهوة، "ولا سبيل للشيطان عليهم" لعصمتهم، فهذه الآفة غير حاصلة للملائكة، "فالإنسان، كما قاله" التفتازاني "في شرح العقائد" للنسفي، "يحصل الفوائد والكمالات العلمية والعملية مع وجود العوائق والموانع من الشهوة، والغضب، وسنوح الحاجات" أي: ظهورها وعروضها "الضرورية" التي لا بد منها، "الشاغلة عن اكتساب(8/298)
الشواغل والصوارف أشق وأدخل في الإخلاص فيكون أفضل.
والمراد بعوام بني آدم -هنا- الصلحاء لا الفلسفة، كما نبه عليه العلامة كال الدين بن أبي شريف المقدسي، قال: ونص عليه البيهقي في الشعب وعبارته: قد تكلم الناس قديمًا وحديثًا في المفاضلة بين الملائكة والبشر، فذهب ذاهبون إلى أن الرسل من البشر أفضل من الرسل من الملائكة، والأولياء من البشر أفضل من
__________
الكمالات" من علم وعمل، ومع ذلك بحصلهما، "ولا شك أن العبادة وكسب الكمال مع الشواغل والصوارف" أي: الموانع، وهي لازمة للشواغل، وكأنه جمع صارف أو صارفة، أي: أمر صارف، أو خصلة صارفة؛ لأن فواعل يجمع قياسًا على فاعل وفاعلة، والمسموع صروف كفلس وفلوس على ما في المصباح.
"أشق وأدخل في الإخلاص، فيكون" الإنسان "أفضل" وفي الأربعين: لأن طاعة البشر أشق؛ لأن الشهوة والغضب والحرص والهوى من أعظم الموانع عن الطاعات، وهذه صفات موجودة في الشر، مفقودة في الملائكة، والفعل مع المانع أشق منه مع غير المانع؛ ولأن تكاليف الملائكة مبنية على النصوص، قال تعالى: {لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْل} [الأنبياء: 27] ، وتكاليف البشر بعضها مبني على النصوص، وبعضها على الاستنباط، قال تعالى: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَار} [الحشر: 2] وقال تعالى: {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83] ، والتمسك والاجتهاد والاسنباط في معرفة الشيء أشق من التمسك بالنص، والأشق أفضل نصًا وقياسًا، أما النص، فقوله صلى الله عليه وسلم: "أجرك على قدر نصبك"، وحديث: "أفضل العبادات أحمزها" أي: أشقها، وأما القياس، فلو اشتركت الطاعات السهلة والشاقة في الثواب لخلا تحمل الشاقة عن الفائدة، وتحمل الضرر الخالي عن الفائدة محظور قطعًا، فكان يجب حرمة الشاقة فلما لم يكن كذلك علم أن الأشق أكثر ثوابًا.
"والمراد بعوام بني آدم هنا" في هذا المبحث "الصلحاء" لا ما اشتهر أنهم مقابل العلماء، وما في الأصول؛ أنهم خلاف المجتهدين "لا الفسقة" جعلهم في مقابلة الصلحاء، يقتضي أن كل من لم يرتكب كبيرة، ولم يصر على صغيرة من صلحاء المؤمنين، وإن لم يصل درجة الأولياء، وهو قد ينافي تعريف الولي بالقائم بحق الله والعباد، لكن من هذه صفته قليل.
"كما نبه عليه العلامة كمال الدين بن أبي شريف المقدسي، قال: ونص عليه البيهقي في الشعب، وعبارته: قد تكلم الناس قديمًا وحديثًا في المفاضلة بين الملائكة والبشر" الإنسان سمي به لظهور بشرته، يطلق على الإنسان واحده وجمعه، وقد يثني ويجمع على الإبشار، كما في القاموس، "فذهب ذاهبون إلى أن الرسل من البشر" الذي يدعون الناس(8/299)
الأولياء من الملائكة. انتهى.
وذهبت المعتزلة والفلاسفة وبعض الأشاعرة إلى تفضيل الملائكة، وهو اختيار القاضي أبي بكر بن الباقلاني، وأبي عبد الله الحليمي، وتمسكوا بوجوه:
الأول: أن الملائكة أرواح مجردة كاملة بالعقل مبرأة عن مبادئ الشرور والآفات كالشهوة والغضب، وعن ظلمات الهيولي والصورة، قوية على الأفعال
__________
إلى الحق، ويبلغونهم ما نزل إليهم، "أفضل من الرسل من الملائكة" وهم الذين يتوسطون بين الله وبين الأنبياء، فهم رسل بالمعنى اللغوي، كقوله: {جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا} [فاطر: 1] ، أما الاصطلاحي، وهو إنسان حر ذكر، أوحي إليه بشرع، وأمر بتبليغه، فلا يكونون رسلًا، إذ لا شيء من الملائكة بإنسان، "والأولياء من البشر".
قال السيوطي: وهم من عدا الأنبياء.
"أفضل من الأولياء من الملائكة" وهم من عد خواصهم، كما أفاده السيوطي. "انتهى" كلام البيهقي.
وإنما يوافق دعواه بتأويل أولياء البشر بالصلحاء الذين لا كبيرة لهم ولا إصرار على صغيرة، لا بما عرفه التفتازاني؛ أنه العارف بالله، وصفاته حسبما يمكنه المواظب على الطاعات، المجتنب عن المعاصي، المعرض عن الانهماك في اللذات والشهوات، "وذهبت المعتزلة والفلاسفة وبعض الأشاعرة" أي: أهل السنة، كأبي إسحاق الإسفراييني، والحاكم أبي عبد الله، "إلى تفضيل الملائكة، وهو اختيار القاضي أبي بكر" محمد بن الطيب "بن الباقلاني" بتخفيف الللام والنون، نسبة إلى بيع الباقلاء، "وأبي عبد الله الحليمي" واختاره أيضًا الإمام فخر الدين في المعالم، وأبو شامة.
قال البيهقي: وأكثر أصحابنا ذهبوا إلى القول الأول، والأمر فيه سهل، وليس فيه من الفائدة إلا معخرفة الشيء على ما هو به. انتهى.
"وتمسكوا بوجوه" نحو عشرين، اقتصر منها على أربعة: "الأول" وهو أضعفها، "أن الملائكة أرواح مجردة".
قال الآمدي: هذا غير مسلم، بل أجسام ذات أرواح، والتفاوت في هذا المفهوم ليس بمسلم، "كاملة بالعقل" بمعنى أنها "مبرأة عن مبادئ الشرور والآفات، كالشهوة والغضب" والخيال والوهم، "وعن ظلمات الهيولي".
قال المجد: القطن، وشبه الأوائل طينه العالم به، أو هو في اصطلاحهم موصوف بما يصف به أهل التوحيد الله تعالى، أنه موجود بلا كمية وكيفية، ولم يقترن به شيء من سمات(8/300)
العجيبة عالمة بالكوائن ماضيها وآتيها من غير غلط.
والجواب: أن مبنى ذلك على الأصول الفلسفية دون الأصول الإسلامية.
الثاني: أن الأنبياء مع كونهم أفضل البشر يتعلمون ويستفيدون منهم بدليل قوله تعالى: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم: 5] وقوله تعالى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ، عَلَى قَلْبِكَ} [الشعراء: 193] ولا شك أن المعلم أفضل من المتعلم.
والجواب: أن التعليم إنما هو من الله والملائكة إنما هم مبلغون.
__________
الحديث، ثم حلت به الصفة، واعترضت به الأعراض، فحدث منه العالم، "والصورة" قالوا: وهذه الصفات هي الحجب القوية عن تجلي نور الله، ولا كمال إلا بحصول ذلك التجلي، ولا نقص إلا بحصول ذلك الحجاب، فلما كان هذا التجلي حاصلًا لهم أبدًا، والأرواح البشرية محجوبة عن ذلك التجلي في أكثر الأوقات، علم أنه لا نسبة لكمالهم إلى كمال البشر، والقول؛ بأن الخدمة مع كثرة العوائق أعلى منها بلا عوائق، كلام خيالي؛ لأن المقصود من جميع العبادات والطاعات حصول ذلك التجلي، فأي: موضع كان فيه التجلي أكثر، وعن المعاوق أبعد كان فيه الكمال والسعادة أتم، ولذا قال تعالى في الملائكة: {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ} [الأنبياء: 20] ، "قوية على الأفعال العجيبة" لا تستثقل حمل الأثقال، ولا تستصعب نقل الجبال، والرياح تهب بتحريكها، والسحاب تعرض وتزول بتصرفاتها، والزلازل تطوى بقوتها، "عالمة بالكوائن، ماضيها وآتيها من غير غلط"؛ لأنهم ناظرون إلى اللوح المحفوظ أبدًا، فيعملون ما وجد في الماضي، وما سيوجد في المستقبل، "والجواب أن مبنى ذلك" الذي احتجوا به "على الأصول الفلسفية" إذ هم القائلون؛ بأنهم أرواح مجردة، "دون الأصول الإسلامية" القائلين بأنهم أجسام ذات أرواح، والتفاوت في هذا غير مسلم عندنا.
وأما في باقي الصفات المذكورة، فغير مسلمة على ما عرف من أصولنا، قاله الآمدي.
"الثاني: أن الأنبياء مع كونهم أفضل البشر" باتفاق الفريقين، "يتعلمون ويستفيدون منهم بدليل قوله تعالى: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم: 5] أي: جبريل، "وقوله تعالى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ، عَلَى قَلْبِكَ} [البقرة: 31] ، ولا شك أن المعلم أفضل من المتعلم، والجواب أن التعليم إنما هو من الله، والملائكة إنما هم مبلغون" فلا يلزم تفضيلهم على الأنبياء؛ لأن مجرد كونهم وسائط في التبليغ لا يقتضي التفضيل، ألا ترى أن السلطان لو أرسل إلى الوزير مثلًا رسالة مع بعض أتباع السلطان، لا يلزم منه أن الرسول أفضل من الوزير، ولا مساو له، ولا يلزم أيضًا كون المعلم أعلم، كما ادعوه.
قال الآمدي: آدم كان أعلم منهم، لقوله: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} ، الآيات، والمراد.(8/301)
الثالث: أنه اطرد في الكتاب والسنة تقديم ذكرهم على ذكر الأنبياء، وما ذاك إلا لتقدمهم في الشرف والرتبة.
والجواب: أن ذلك لتقدمهم في الوجود، أو؛ لأن وجودهم أخفى فالإيمان بهم أقوى وبالتقديم أولى.
الرابع: قوله تعالى: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} [النساء: 172] ، فإن أهل اللسان يفهمون من ذلك أفضلية الملائكة من عيسى، إذ القياس في مثله الترقي من الأدنى إلى الأعلى، يقال: لا يستنكف من هذا الأمر الوزير ولا السلطان، ولا يقال: السلطان، ولا الوزير، ثم لا
__________
أصحاب الأسماء، وهي المسميات لقوله: {ثُمَّ عَرَضَهُم} ، ولو أراد الأسماء لقال: ثم عرضها، كما قاله ثعلب، ولو سلم أنهم أعلم، فإنما يدل على اختصاصهم بالأعلمية، ولا يلزم أن يكونوا أفضل عند الله، بمعنى أكثر ثوابًا وأرفع درجة.
"الثالث: أنه اطرد في الكتاب والسنة تقديم ذكرهم على الأنبياء" كقوله: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ} [الحج: 75] ، "وما ذاك إلا لتقدمهم في الشرف والرتبة"؛ لأن العرف شاهد بفضيلة المتقدم في الذكر، والأصل تنزيل الشرع عليه، ويدل عليه قول عمر للقائل:
كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيًا ... لو قدمت الإسلام لأعطيتك
"والجواب: أن ذلك لتقدمهم في الوجود" لا للدلالة على الفضيلة، بدليل أنه تعالى قدم ذكرهم على كتبه، والكتب على الرسل، والكتب إن كانت هي الكلام القديم النفساني، فهي أفضل من الملائكة، وإن كانت العبارات والكتابات الدالة، فالرسل أفضل منها باتفاق وقد أخر الرسل عنها في الذكر، قاله الآمدي. "أو؛ لأن وجودهم أخفى" لعدم رؤيتنا لهم، ولذا استدلوا على وجودهم بالأدلة السمعية، كذكرهم في الكتب السماوية، وأخبار الأنبياء بهم، "فالإيمان بهم أقوى، وبالتقديم أولى"؛ لأن الله أثنى على الذين يؤمنون بالغيب، أي: بما غاب عنهم.
"الرابع: قوله تعالى: {لَنْ يَسْتَنْكِف} يتكبر ويأنف {الْمَسِيحُ} الذي زعمتم أنه إله عن {أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} [النساء: 172] ، عنده، أن يكونوا عبيد الله، "فإن أهل اللسان يفهمون من ذلك أفضلية الملائكة من" أي: على "عيسى، إذ القياس في مثله الترقي من الأدنى إلى الأعلى، يقال: لا يستنكف من هذا الأمر الوزير، ولا السلطان، ولا يقال: السلطان ولا الوزير" إذ لا يحسن ذلك لاقتضائه زيادته على السلطان، ولا كذلك، فدل(8/302)
قائل بالفرق بين عيسى وغيره من الأنبياء عليهم السلام.
والجواب: أن النصارى استعظموا المسيح بحيث يرتفع من أن يكون عبدًا من عباد الله، بل ينبغي أن يكون ابنا له؛ لأنه مجرد لا أب له، وكان يبرئ
__________
على فضل الملائكة على الأنبياء، ثم أجابوا عن قصور الدليل على فضلهم على عيسى، فلا يلزم ذلك على بقية الأنبياء بقولهم، "ثم لا قائل بالفرق" وفي نسخ: بالفصل، بصاد مهملة، أي: التمييز "بين عيسى وغيره من الأنبياء عليهم السلام" فثبت الدليل بقياس المساواة، لكن قد اعترض الفخر هذا الاستدلال بوجوه، بأن محمدًا أفضل من المسيح، ولا يلزم من فضل الملائكة عليه فضلهم على محمد صلى الله عليه وسلم، وبأن قوله: {وَلَا الْمَلَائِكَة الْمُقَرَّبُونَ} ، صيغة جمع تتناول الكل، فتفيد أن مجموعهم أفضل من المسيح، لا أن كل واحد أفضل منه؛ ولأن الواو حرف عطف، فتفيد الجمع المطلق لا الترتيب، فأما المثال المذكور، فليس بحجة؛ لأن الحكم الكلي لا يثبت بالمثال الجزئي، ثم هو معارض بسائر الأمثلة، كقولك: ما أعانني على هذا الأمر لا عمرو ولا زيد، فلا يفيد فضل المتأخر في الذكر، ومنه قوله تعالى: {وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ} [المائدة: 2] ، فلما اختلفت الأمثلة امتنع التعويل عليها، ثم تحقيق المسألة، إذا قيل: هذا العالم لا يستنكف عن خدمته الوزير ولا السلطان، فنحن نعلم بعقولنا أن السلطان أعظم درجة من الوزير، فعرفنا أن الغرض من ذكر الثاني المبالغة، وإنما عرفناها بالعقل، لا بمجرد الترتيب، فلا يمكننا أن نعرف أن المراد في: {وَلَا الْمَلَائِكَة} ، بيان المبالغة، إلا إذا عرفنا قبل ذلك أن الملائكة أفضل من المسيح، وحينئذ تتوقف صحة الدليل على صحة المطلوب وهو دور.
"والجواب" على تقدير أن الآية دالة على أن منصب الملك أعلى من المسيح، لكنها لا تدل على أن تلك الزيادة في جميع المناصب، بل في بعضها، فقولك: لا يستنكف من خدمة هذا العالم الوزير، ولا السلطان، إنما يفيد أن السلطان أكمل منه في بعض الأشياء وهي القدرة والسلطة، ولا يفيد زيادته على الوزير في العلم والزهد، فإذا ثبت هذا، فنحن نقول بموجبه، وهو أن الملك أفضل من البشر في القدرة والقوة والبطش، فإن جبريل قلع مدائن قوم لوط، والبشر لا يقدر على ذلك، فلم قلتم بفضل الملك على البشر في كثرة الثواب الذي هو محل الخلاف في المسألة، وكثرته إنما تحصل بنهاية التواضع والخضوع، ووصف العبد بذلك لا يلائم صيرورته مستنكفًا عن العبودية لله، بل يناقضها، فامتنع كون المراد من الآية هذا المعنى، أما اتصافه بالقدرة الشديدة، والقوة الكاملة، فمناسب للتمرد وترك العبودية، وذلك "أن النصارى استعظموا المسيح بحيث يرتفع" وفي نسخة: يرتفع، أي: يتعالى، "من أن يكون عبدًا من عباد الله، بل ينبغي أن يكون ابنًا له" كما قال تعالى: {وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} [التوبة: 20] الآية،(8/303)
الأكمه والأبرص ويحيي الموتى، بخلاف سائر العباد من بني آدم، فرد عليهم بأنه لا يستنكف من ذلك المسيح ولا من هو أعلى منه في هذا المعنى وهم الملائكة الذين لا أب لهم ولا أم، ويقدرون بإذن الله تعالى على أفعال أقوى وأصعب وأعجب من إبراء الأكمه، والأبرص وإحياء الموتى بإذن الله تعالى فالترقي والعلو إنا هو في أمر التجرد وإظهار الآثار القوية لا في مطلق الشرف والكمال، فلا دلالة على الآية على أفضلية الملائكة البتة. انتهى.
__________
"لأنه مجرد لا أب له؛ و" لأنه "كان يبرئ الأكمه والأبرص، ويحيي الموتى، بخلاف سائر العباد من بني آدم، فرد" الله "عليهم بأنه لا يستنكف من ذلك"، أي: عبودية الله، "المسيح، ولا من هو أعلى منه في هذا المعنى، وهم الملائكة، الذين لا أب لهم، ولا أم، ويقدرون بإذن الله تعالى على أفعال أقوى وأصعب وأعجب من إبراء الأكمه والأبرص، وإحياء الموتى بإذن الله تعالى"، الذي شاهدتموه من المسيح، "فالترقي والعلو إنما هو في أمر التجرد" من الأب والأم، "وإظهار الآثار القوية" كالشدة والقوة والبطش، "لا في مطلق الشرف والكمال" المؤدي إلى كثرة الثواب، ومزيد الرفعة عند الله، "فلا دلالة في الآية على أفضلية الملائكة البتة. انتهى" ما أورده من هذا المبحث، وليس المراد انتهى ما في الشعب؛ لأنه ليس فيها ذلك، وقدم قوله انتهى يعني ما في الشعب قبل قوله وذهبت.
والقول الثالث الوقف، حكاه الكلاباذي عن جمهور الصوفية، قال شارحه القونوي: وهو أسلم الأقوال، والسلامة لا يعدلها شيء، كيف وأدلة الجانبين متجاذبة، وليست المسألة مما كلفنا الله تعالى بمعرف الحكيم فيها، فالصواب تفويض علمها إلى الله، واعتقاد أن الفضل لمن فضله الله ليس بشرف الجوهر، ليقال الملائكة أفضل؛ لأن جوهرهم أشرف، فإنهم خلقوا من نور، وخلق البشر من طين، وأصل إبليس وجوهره، وهو النار أشرف وأصفى من جوهر البشر، وما أفاده ذلك فضلًا، ولا بالعمل، ليقال عمل الملائكة أكثر؛ لأن إبليس أكثر عملًا أيضًا.
وقال في منع الموانع عن والده: المسألة ليست مما يجب اعتقاده ويضر الجهل به، ولو لقي الله ساذجًا منها بالكلية، لم يأثم.
قال القاضي تاج الدين: فالناس ثلاثة: رجل عرف أن الأنبياء أفضل واعتقده بالدليل، وآخر جهل المسألة ولم يشتغل بها، وهذان لا ضرر عليهما، وثالث قضى بأن الملك أفضل، وهذا على خطر، وهل من فضل الأنبياء على خطر: فالساذج أسلم منه، أو؛ لأنه لإصابة الحق إن شاء الله ناج من الخطر، هذا موضع نظر، والذي كنت أفهمه عن الوالد أن السلامة في السكوت، وأن الدخول في التفضيل بين هذين الصنفين الكريمين على الله بلا دليل قاطع دخول في خطر(8/304)
ثم الملائكة بعضهم أفضل من بعض، وأفضلهم الروح الأمين جبريل، المزكى من رب العالمين، المقول فيه من ذي العزة {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ، ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ، مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} [التكوير: 20] فوصفه بسبع صفات، وهو أفضل الملائكة الثلاثة -الذين هم أفضل الملائكة على الإطلاق- وهم: ميكائيل وإسرافيل وعزرائيل.
__________
عظيم، وحكم في مكان أسنا أهلًا للحكم فيه، وجاءت أحاديث مشيرة إلى عدم الدخول في ذلك، كقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تفضلوني على يونس بن متى"، ونحوه، ولا خلاف أنه أفضل منه، فلعله إشارة إلى أنكم لا تدخلوا في أمر لا يعنيكم، وما للسوقة والدخول بين الملوك، أعني بالسوقة أمثالنا، وبالملوك الأنبياء والملائكة انتهى.
وقد بسط في الحبائك المسألة، "ثم إن الملائكة بعضهم أفضل من بعض" فأعلاهم درجة حملة العرش، الحافون حوله، فأكابرهم كالأربعة، فملائكة الجنة والنار، فالموكلون ببني آدم، فالموكلو بأطراف هذا العالم، كذا ذكر الرازي، "وأفضلهم الروح الأمين جبريل المزكى" صفة بمنزلة التعليل، كأنه قال: لأنه المزكى "من رب العالمين، المقول فيه من ذي العزة" سبحانه {إِنَّهُ} أي: القرآن، {لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} على الله، أضيف إليه القرآن بنزوله به {ذِي قُوَّةٍ} أي: شديد القوة، {عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ} أي: الله {مَكِينٍ} ذي مكانة {مُطَاعٍ ثَمَّ} أي: تطيعه الملائكة في السماوات، وثم إما متعلقة بمطاع، أو بقوله: {أَمِينٍ} [التكوير: 20] ، على الوحي، "فوصفه بسبع صفات" على ما قاله الزمخشري، وهو ظاهر بجعل عند ذي العرش صفة مستقلة لا متعلقة بما قبلها ولا بما بعدها، وعدها الرازي سنة، فجعلها متعلقة بقوله: {ذِي قُوَّة} ، "وهو أفضل الملائكة الثلاثة الذين هم أفضل الملائكة على الإطلاق، وهم ميكائيل، وإسرافيل، وعزرائيل" كما قال كعب الأحبار: جبريل أفضل الملائكة، نقله النعماني، وكأن هذا لم يصح عند السيوطي، فقد قال في الحبائك: سئلت هل الأفضل جبريل، أو إسرافيل؟، والجواب: لم أقف على نقل في ذلك لأحد من العلماء والآثار متعارضة، فحديث الطبراني عن ابن عباس، مرفوعًا: ألا أخبركم بأفضل الملائكة جبريل، وأثر وهب أن أدنى الملائكة من الله جبريل، ثم ميكائيل، يدل على تفضيل جبريل، وحديث ابن مسعود، مرفوعًا: "أن أقرب الخلق من الله إسرافيل، صاحب الصور، جبريل عن يمينه، وميكائيل عن يساره".
وحديث عائشة، مرفوعًا: "إسرافيل ملك الله، ليس دونه شيء"، وأثر كعب: أن أقرب الملائكة إلى الله إسرافيل، وأثر الهذلي ليس شيء من الخلق أقرب إلى الله من إسرافيل.
وحديث ابن أبي جبلة: "أول من يدعى يوم القيامة إسرافيل"، وأثر ابن سابط: "يدبر أمر الدنيا(8/305)
وكذلك الرسل أفضل من الأنبياء، وكذلك الرسل بعضهم أفضل من بعض، ومحمد صلى الله علي وسلم أفضل الأنبياء والرسل، كما تقدم.
وأول الأنبياء آدم وآخرهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
فأما نبوة آدم فبالكتاب الدال على أنه قد أمر ونهي، مع القطع بأنه لم يكن في زمنه نبي آخر، فهو بالوحي لا غير، وكذا السنة والإجماع، فإنكار نبوته على ما نقل عن البعض يكون كفرًا.
__________
أربعة: جبريل، وميكائيل، وملك الموت، وإسرافيل، إلى أن قال: وأما إسرافيل، فأمين الله بينه وبينهم، أي: وبين الثلاثة، وأثر خالد بن أبي عمران وإسرافيل بمنزلة الحاجب، كل ذلك يدل على تفضيل إسرافيل انتهى.
"وكذلك الرسل أفضل من الأنبياء" الذين ليسوا برسل لزيادتهم بالرسالة، والأنبياء بعضهم أفضل، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ} [الإسراء: 55] .
قال الإمام الرازي: أجمعت الأمة على أن بعض الأنبياء أفضل من بعض، وأن محمدًا أفضل الكل، "وكذلك الرسل بعضهم أفضل من بعض" بنص الآية، "ومحمد صلى الله عليه وسلم أفضل الأنبياء والرسل" نصًا وإجماعًا، "كما تقدم" قريبًا، ويليه إبراهيم، كما نقل بعضهم عليه الإجماع، وفي الصحيح: خير البرية إبراهيم، خص منه المصطفى، فبقي على عمومه، كذا في النقاية.
وقال التفتازاني في شرح المقاصد: اختلف في الأفضل بعد المصطفى، فقيل: آدم لكونه أبا البشر، وقيل: نوح لطول عبادته ومجاهدته، وقيل: إبراهيم لزيادة توكله واطمئنانه، وقيل: موسى لكونه كليم الله ونجيه، وقيل: عيسى لكونه روح الله وصفيه. انتهى.
وجزم ابن كثير في تاريخه؛ بأن إبراهيم أفضل بعد محمد صلى الله عليه وسلم وعليهم.
"وأول الأنبياء آدم" أي: والرسل أيضًا، فالصحيح أنه مرسل إلى بنيه، كما دل عليه حديث أبي ذر، "وآخرهم نبينا صلى الله عليه وسلم، فأما نبوة آدم فالبكتاب الدال على أنه قد أمر" بنحو: {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} [البقرة: 35] ، "ونهى" بنحو: {وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَة} ، "مع القطع بأنه لم يكن في زمنه نبي آخر، فهو بالوحي لا غير، وكذا السنة" دلت على نبوته، كحديث أبي ذر الآتي، "والإجماع" من الأمة عليها، "فإنكار نبوته على ما نقل عن البعض يكون كفرًا" لمخالفة الإجماع والنص.(8/306)
وقد اختلف في عدد الأنبياء والمرسلين، والمشهور في ذلك ما في حديث أبي ذر عند ابن مردويه في تفسيره، قال: قلت يا رسول الله، كم الأنبياء؟ قال: "مائة ألف وأربعة وعشرون ألفًا"، قال: قلت: يا رسول الله، كم الرسل منهم؟ قال: "ثلثمائة وثلاثة عشر جم غفير"، قال قلت: يا رسول الله، من كان أولهم؟ قال: "آدم"، قال صلى الله عليه وسلم: "يا أبا ذر، أربعة سريانيون: آدم وشيت ونوح وخنوخ -وهو إدريس وهو أول من خط بالقلم-، وأربعة من العرب: هود وصالح وشعيب ونبيك يا أبا ذر"،
__________
"وقد اختلف في عدد الأنبياء، والمرسلين، والمشهور في ذلك ما في حديث أبي ذر عند ابن مردويه في تفسيره" وعبد بن حميد، والحاكم في المستدرك، وابن عساكر، والحكيم الترمذي في النوادر.
"قال" أبو ذر: "قلت: يا رسول الله كم الأنبياء؟ قال: "مائة ألف وأربعة وعشرون ألفًا"، قال: قلت: يا رسول الله كم الرسل منهم؟، قال: "ثلاثمائة وثلاثة عشر" هم "جم" أي: جمع "غفير" أي: كثير، "قال: قل: يا رسول الله من كان أولهم"؟ أي: الرسل، "قال: "آدم"، قال صلى الله عليه وسلم: "يا أبا ذر أربعة سريانيون آدم وشيث" ابنه "ونوح وخنوخ" بفتح المعجمة، وضم النون، وسكون الواو، ثم معجمة، بوزن ثمود عند الأكثر، وقيل: بزيادة ألف في أوله، وسكون المعجمة الأولى، وقيل: كذلك، لكن بحذف الواو، وقيل: كذلك، لكن بدل الخاء الأولى هاء، وقيل: كالثاني، لكن يدل المعجمة مهملة، "وهو إدريس" سرياني، وقيل: عربي مشتق من الدراسة، لكثرة درسه الصحف، ولا يمنع الحديث كون لفظ إدريس عربيًا، إذا ثبت أن له اسمين، "وهو أول من خط بالقلم" وذكر ابن إسحاق؛ أن له أوليات كثيرة، منها أنه أول من خاط الثياب، ذكره كله الحافظ، "وأربعة من العرب: هود" بن عبد الله بن رباح بن حرث بن عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح، وسماه في التنزيل أخا عاد، لكونه من قبيلتهم، لا من جهة أخوة الدين، هذا هو الراجح في نسبه، وأما ابن هشام، فقال اسمه عابر بن أرفخشد بن سام، "وصالح" بن عبيد بن أسف بن ماشج بن عبيد بن جادر بن ثمود بن عابر بن إرم بن سام، "وشعيب" بن سليل بن يشجن بن عنقاء بن مدين بن إبراهيم، وقيل: شعيب بن صفور بن عنقاء بن ثابت بن مدين، وقول ابن إسحاق: يشجن بن لاوى بن يعقوب لا يثبت، "ونبيك" محمد صلى الله عليه وسلم "يا أبا ذر"، ففي هذا الحديث؛ أن شعيبًا من العرب العارية، وقيل: إنه من بني عنزة بن أسد، ففي حديث سلمة بن سعيد العنزي؛ أنه قدم على النبي صلى الله عليه وسلم، فانتسب إلى عنزة، فقال: نعم الحي عنزة، مبغي عليهم، منصورون، رهط شعيب، وأختان موسى، أخرجه الطبراني، وفي أسانيده مجاهيل.
"وأول نبي من بني إسرائيل موسى" قد يستشكل هذا، بقوله: {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِن(8/307)
"وأول نبي من بني إسرائيل موسى وآخرهم عيسى، وأول النبيين آدم وآخرهم نبيك يا أبا ذر"، وقد روى هذا الحديث بطوله الحافظ أبو حاتم بن حبان في كتابه "الأنواع والتقاسيم" وقد وسعه بالصحيح.
وخالفه ابن الجوزي فذكره في الموضوعات واتهم به إبراهيم بن هشام.
قال الحافظ بن كثير: ولا شك أنه قد تكلم فيه غير واحد من أئمة الجرح والتعديل من أجل هذا الحديث، والله أعلم.
وروى أبو يعلى عن أنس مرفوعًا: "كان من خلا من إخواني من الأنبياء ثمانية آلاف نبي، ثم كان عيسى ابن مريم، ثم كنت أنا والذين نص الله تعالى على أسمائهم في القرآن: آدم وإدريس ونوح وهود وصالح وإبراهيم، ولوط وإسماعيل وإسحاق، ويعقوب ويوسف وأيوب وشعيب، وموسى وهارون ويونس، وداود وسليمان
__________
قَبْلُ بِالْبَيِّنَات} [غافر: 34] ، سواء قلنا: إنه ابن يعقوب، أو ابن أفرايم بن يوسف بن يعقوب، وكلاهما قبل موسى، وهما من بني إسرائيل، الذي هو يعقوب، إلا أن يقال: المعنى أول نبي أمر جميع من يأتي من أنبيائهم بعده باتباع شرعه والدعاء إليه.
"وآخرهم عيسى، وأول النبيين" على الإطلاق "آدم، وآخرهم نبيك يا أبا ذر". "وقد روى هذا الحديث بطوله الحافظ أبو حاتم" محمد "بن حبان" بكسر المهملة وشد الموحدة، "في كتابه الأنواع والتقاسيم، وقد وسعه بالصحيح" وكذا صححه الحاكم، "وخالفه ابن الجوزي، فذكره في الموضوعات، واتهم به إبراهيم بن هشام" الغساني.
"قال الحافظ ابن كثير: ولا شك أنه قد تكلم فيه" أي: إبراهيم، "غير واحد من أئمة الجرح والتعديل من أجل هذا الحديث" فقال أبو حاتم: إنه غير ثقة، وكذبه أبو زرعة الرازي، "والله أعلم" بصحته في نفس الأمر وعدمها.
"وروى أبو يعلى" وأبو نعيم في الحلية بسند ضعيف، "عن أنس، مرفوعًا: "كان من خلا من إخواني من الأنبياء ثمانية آلاف نبي" لا يعارض ما قبله بفرض صحتهما؛ لأن الأخبار بالأقل لا ينافي الأكثر لدخوله فيه، ولعله أوحى إليه بهذا، فأخبر به، ثم بالأول، وما ينطق علن الهوى، "ثم كان عيسى ابن مريم، ثم كنت أنا والذين نص الله على أسمائهم في القرآن: وإدريس ونوح وهود وصالح وإبراهيم، ولوط وإسماعيل وإسحاق" ولذا إبراهيم،
"ويعقوب" بن إسحاق، "ويوسف" بن يعقوب، وكذا حفيده يوسف بن أفرايم بن يوسف في قوله: {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَات} ، في أحد القولين، والثاني: أنه ابن يعقوب، وحكى النقاش والماوردي؛(8/308)
وإلياس واليسع، وزكريا ويحيى وعيسى. وكذا ذو الكفل عند كثير من المفسرين والله أعلم.
قال الله تعالى: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَك} .
روى ابن جرير من حديث أبي سعيد، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أتاني جبريل
__________
أنه رسول من الجن بعث إليهم، قال السيوطي: وهو غريب جدًا، "وأيوب".
قال ابن إسحاق: والصحيح أنه من بني إسرائيل، ولم يصح في نسبه شيء إلا أن اسم أبيه أبيض.
وقال ابن جرير: هو أيوب بن موص بن رازح بن عيص بن إسحاق.
وحكى ابن عساكر: أن أمه بنت لوط، وأن أباه آمن بإبراهيم، فعلى هذا كان قبل موسى، وقال ابن جرير: كان بعد شعيب.
وقال ابن أبي خيثمة: بعد سليمان ابتلى وهو ابن سبعين سنة سبع وسنين، وقيل: ثلاث عشرة، وقيل: ثلاث سنين.
وروى الطبراني: أن مدة عمره ثلاث وتسعون سنة.
"وشعيب، وموسى، وهارون" أخوه، شقيقه، وقيل: لأمه، وقيل: لأبيه، حكاهما الكرماني في عجائبه، "ويونس، وداود، وسليمان" ابنه، "وإلياس، واليسع، وزكريا، ويحيى" ولده، "وعيسى" ابن مريم، "وكذا ذو الكفل" نبي، "عند كثير من المفسرين" وقيل: هو ابن أيوب في المستدرك.
عن وهب: بعث الله بعد أيوب ابنه بشرًا نبيًا، وسماه ذا الكفل، وأمره بالدعاء إلى توحيده، وكان مقيمًا بالشام عمره حتى مات، وعمره خمس وستون سنة، وكفل مائة نبي، فروا إليه من القتل، وتكفل بصيام جميع النهار، وقيام جميع الليل، وأن يقضي بين الناس، ولا يغضب، فوفى بذلك، وقيل: هو إلياس، وقيل: يوشع، وقيل: زكريا، وقيل: اليسع، وإن له اسمين، وقيل: اسمه ذو الكفل، وقيل: لم يكن نبيًا، بل رجلًا صالحًا يتكفل بأمور فيوفي بها، "والله أعلم" بذلك.
ومن جملة المختلف في نبوته لقمان وذو القرنين، وكذا الخضر، لكن لم يفصح باسمه في القرآن.
"قال الله تعالى: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَك} [الإنشراح: 4] ، واستأنف بيانيًا، فقال: "روى ابن جرير" محمد الطبري، الحافظ، أحد الأعلام في تفسيره، وأبو يعلى، والطبراني "من حديث أبي سعيد" الخدري "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أتاني جبريل، فقال: إن ربي وربك" المحسن إلي(8/309)
"فقال: إن ربي وربك يقول: تدري كيف رفعت ذكرك؟ قلت: الله أعلم، قال: إذا ذكرت ذكرت معي". وذكره الطبراني، وصححه ابن حبان.
__________
وإليك، بجليل التربية، المزكي لي ولك بجميل التزكية، وإضافة رب للتشريف، فكما تفيده إضافة العبد إليه تعالى تشريفه، فكذا إضافته إليه تعالى تفيده، بل ذلك أقوى إفادة له، "يقول": زاد في رواية لك تنبيهًا على كمال العناية، ومزيدًا لوجاهة عنده والرعاية، "تدري" استفهام حذفت أداته تخفيفًا لكثرة وقوعها فيه، وفي رواية: أتدري بإثباتها، وهو غير حقيقي لاستحالته على علام الغيوب، بل تقريري ليقر بعدم علمه، فيعلمه من لدنه أي: أتدري جواب "كيف" أي: على أي: حال، ومعنى "رفعت ذكرك" وكيف في محل نصب حال من المفعول على القاعدة المشهورة، إن وقعت بعد كلام تام فحال، وإلا فخبر، وليست منصوبة بتدري؛ لأن لها الصدر، فتدري معلق عن الجملة بعده، كقوله:
وما أدري وسوف أخال أدري ... أقوم آل حصن أم نساء
وزعم أن كيف خرجت عن الاستفهام، أي: أتدري كيفية الرفع، وهذا من الانبساط مع المحبوب لأجل زيادة اتوجه والانتظار، نكتة أعجمية مع أن لفظ كيفية لم تسمع من العرب، كما صرح به أهل اللغة.
"قلت": وفي رواية: فقلت: "الله أعلم"، وكان هذا إخبار من جبريل عما وقع من المخاطبة بينه وبين الله قبل نزوله، والله عالم بأنه يجيب برد العلم إليه، فكأنه قال: إذا أجابك فقل، "قال: إذا ذكرت" "بضم التاء، والضمير لله" "ذكرت" "بفتحها" خطاب للمصطفى والفعل مجهول فيهما.
وفي رواية: لا أذكر إلا ذكرت "معي" بصيغة الحصر، وأي: رفع أعظم من ذلك، وأفادت هذه الرواية الثانية؛ أن الحصر هو المراد في الأولى، أي: إذا ذكرت، فاللائق أو المطلوب أن تذكر معي، فمن لم يذكرك ترك المطلوب، وفيه رد العلم إلى الله، ورد على من كرهه مطلقًا أو عقب ختم نحو الدرس، ولا إيهام فيه خلافًا لزاعمه، بل هو في غاية التفويض المطلوب، وقد قال تعالى: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام: 124] ، وقال علي: ما أبردها على كبدي، إذا سئلت عما لا أعلم أن أقول الله أعلم، ولا يعارضه ما في البخاري؛ أن عمر سأل الصحب عن سورة النصر، فقالوا: الله أعلم، فغضب، وقال: قولوا: نعلم أو لا نعلم؛ لأنه فيمن جعل الجواب به ذريعة إلى عدم إخباره عما سئل عنه، وهو يعلم، وفي المعالم أنه صلى الله عليه وسلم سأل جبريل عن الآية، فقال: قال الله، فكأنه بعد السؤال جاء وقال: {إِنَّ رَبِّي} إلخ، وقوله: قال الله، نقل بالمعنى، هكذا قال بعض المحققين، ثم قد وقع في بعض نسخ الشفاء: الله ورسوله أعلم،(8/310)
وروينا عن الإمام الشافعي قال: أخبرنا ابن عيينة عن ابن أبي نجيح: معناه لا أذكر إلا ذكرت معي، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله، قال الإمام الشافعي يعني -والله أعلم- ذكره عند الإيمان بالله، والأذان، قال: ويحتمل أن يكون المراد ذكره عند تلاوة القرآن، وعند العمل بالطاعة والوقوف عن المعصية انتهى.
وقيل: رفعه بالنبوة، قاله يحيى بن آدم الكوفي.
__________
فإن صحت رواية، فالمراد به جبريل؛ لأنه من رسل الملائكة، يرسل بالوحي للأنبياء والرسل، وتفضيله عليه في خصوص هذا العلم؛ لأنه علمه قبل أن يبلغه إليه.
"وذكره" أي: رواه أيضًا "الطبراني" سليمان بن أحمد، وإسناده حسن، وفي نسخة الطبري: ولا فائدة فيها، إذ هو ابن جرير الذي نسبه له أولًا، "وصححه ابن حبان" وكذا صححه الضياء المقدسي في الأحاديث المختارة.
"وروينا عن الإمام الشافعي، قال: أخبرنا ابن عيينة" سفيان، "عن" عبد الله "بن أبي نجيح" بفتح النون وكسر الجيم وحاء مهملة، يسار المكي، أبي يسار الثقفي، مولاهم، ثقة، من رجال الجميع، ورمي بالقدر، وربما دلس، مات سنة إحدى وثلاثين ومائة أو بعدها، "معناه" أي: ورفعنا لك ذكرك، "لا أذكر" مجهول المتكلم، "إلا ذكرت" مجهول المخاطب "معي" في قول "أشهد أن لا إله الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله" وفي التفسير بهذا إشارة إلى أن الحصر هو المراد بما قبله.
"قال الإمام الشافعي، يعني والله أعلم، ذكره عند الإيمان" بالله تعالى، "وفي الأذان" كما أشار له ابن أبي نجيح، فلا يرد على الحصر، أن الكافر كثيرًا ما يذكر الله وحده، بل والمؤمن كثيرًا ما يقول: لا إله إلا الله مقتصرًا عليها، وكثيرًا ما يذكر الله، ولا يطلب ذكره صلى الله عليه وسلم كسمع الله لمن حمده، ربنا لك الحمد، والتسمية في الوضوء والأكل والشرب.
"قال" الشافعي: "ويحتمل أن يكون المراد ذكره عند تلاوة القرآن، وعند العمل بالطاعة والوقوف عن المعصية" بأن يتذكر في نفسه؛ أن فعلها والكف عن ضده سببه تبليغ النبي صلى الله عليه وسلم الثواب الحاصل للمطيع، والعقاب الحاصل للعاصي، فيصلي عليه جزاء لتبليغه، وتحمل أعباء الرسالة. "انتهى" قول الشافعي.
"وقيل" معناه: "رفعه بالنبوة" الخاصة، وهي رسالته إلى جميع الخلائق، وبقاء شرعه إلى يوم الدين، وكونها رحمة للعالمين، فلا يرد أن وصف النبوة شاركه فيه الأنبياء، فلا يكون مرفوعًا بها عليهم، أو المراد بها سبقه بالنبوة جميع الأنبياء، وكونه أول الأنبياء في الخلق، أو على من(8/311)
وعن ابن عطاء: جعلتك ذكرًا من ذكري، فمن ذكرك ذكرني، وعنه أيضًا: جعلت تمام الإيمان بذكري معك.
وعن جعفر بن محمد الصادق: لا يذكرك أحد بالرسالة إلا ذكرني بالربوبية.
__________
في عصره، والفضل للمتقدم، "قاله يحيى بن آدم" بن سليمان، "الكوفي" أبو زكريا، مولى بني أمية، ثقة، حافظ، فاضل، روى عنه أحمد وغيره، وروى له الستة، ومات سنة ثلاث ومائتين.
"وعن ابن عطاء" بلا إضافة، هو أبو العباس أحمد بن محمد بن سهل بن عطاء البغدادي، الزاهد، الآدمي: "بفتحتين" نسبة إلى بيع الأدم، له لسان في فهم القرآن، يختص به صحب الجنيذ وغيره، ومات سنة تسع أو إحدى عشرة وثلاثمائة.
"جعلتك" أي: ذكرك "ذكرًا من ذكري" أو جعلت ذاتك مبالغة حتى كان من رأى ذاته ذكر الله، أو المعنى كان ذكرك عين ذكري، لعدم انفكاكه عنه غالبًا، أو هو مثله في التقرب به والأجر، أو هو معدود من أفراده؛ لأن كل مطيع لله ذاكره، "فمن ذكرك ذكرني" الفاء تفسيرية، أو تفريعية، "وعنه أيضًا: جعلت تمام الإيمان بذكري معك" وفي نسخة من الشفاء: بذكرك معين وهذه واضحة، والأولى مخالفة لقاعدة أن مع تدخل على المتبوع غالبًا، وقد تجيء لمطلق المصحابة، كما هنا، أي: جعلته يحصل بذكر الله مصحوبًا بذكره عليه السلام، بأن يأتي بالشهادتين على الوجه المعروف، وجعله تمام الإيمانن إما؛ لأن الإيمان عنده تصديق القلب واللسان، كما هو قول لأهل السنة، وأما من يقول مجرد التصديق، فباعتبار أنه لا يعتد به بدونه، ولا تترتب عليه الأحكام، ما لم يأت به لسانًا.
"وعن جعفر بن محمد" الباقر بن علي زين لعابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب، "الصادق" صفة لجعفر لصدقه في مقاله أبي عبد الله الهاشمي، ففي، إمام، صدوق، روى له مسلم، وأصحاب السنن، ومات سنة ثمان وأربعين ومائة، "لا يذكرك أحد بالرسالة إلا ذكرني بالربوبية" صيغة مصدر من الرب، والياء للمصدرية، فلا بد معها من تاء التأنيث، يعني لا يعترف أحد برسالتك إلا بعد أن يعترف بربوبية الله ووحدانيته، لوجوب معرفة الله عقلًا قبل ذلك، لئلا يلزم الدور، كما ذهب إليه الماتريدية، أو سمعًا، كما ذهب إليه غيرهم، وقيل: المراد أو أراد ذلك، أو عبر بالماضي عن المضارع مبالغة في تحقق وقوعه، ولا يشكل الأول بعدم مقارنة الحال للعامل، لتقدم الإيمان بالله، أو إرادته على الإيمان بالرسول، وأما التلفظ بما يدل على ذلك، فذكره عقبه بلا فاصل بعده، مقارنًا عرفًا، ومثله يكفي عند النحاة، فلا حاجة لجعل الحال مقدرة، ودعوى عدم اختصاصه صلى الله عليه وسلم بذلك مدفوعة، بأن هذه المقارنة في الأذان، والإقامة والخطب، والصلاة والإيمان، وهذا كله مختص بهذه الأمة، فتختص المقارنة على هذه الصفة(8/312)
قال البيضاوي: وأي رفع مثل أن قرن اسمه باسمه في كلمتي الشهادة، وجعل طاعته طاعته، انتهى، يشير إلى قوله تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80] ، {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} [التوبة: 62] ، {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَه} ، {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُول} [آل عمران: 132] .
وقول قتادة: رفع الله ذكره في الدنيا والآخرة، فليس خطيب ولا متشهد ولا صاحب صلاة إلا يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله انتهى.
__________
بنبيها لاختصاصها به، دون من عداه من الأمم والرسل، وهذا في غاية الظهور.
"قال البيضاوي: وأي: رع مثل أن قرن اسمه باسمه في كلمتي الشهادة، وجعل طاعته طاعته"، وصلى عليه في ملائكته، وأمر المؤمنين بالصلاة، وخاطبه بالألقاب، وإنما زاد ذلك ليكون أيها ما قبل إيضاح، فيفيد المبالغة. "انتهى" كلام البيضاوي بما زدته، فاقتصر المصنف على حاجته منه هنا لأجل شرحه بقوله.
"يشير" البيضاوي "إلى قوله تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80] فجعل طاعته طاعته، {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} أحق بالإرضاء بالطاعة والوفاق وتوحيد الضمير لتلازم الرضاءين؛ ولأن الكلام في إيذاء الرسول وإرضائه، أو؛ لأن التقدير، والله أحق أن يرضوه والرسول، كذلك قاله في الأنوار.
{وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 71] ، {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُول} [آل عمران: 132] ؛ لأنه بمعنى: {وَأَطِيعُوا الرَّسُول} ، فجمع بينهما بواو العطف المشتركة، ولا يجوز جمع هذا الكلام في غير حقه عليه الصلاة والسلام، قاله عياض، واعترض المشركة، ولا يجوز جمع هذا الكلام في غير حقه عليه الصلاة والسلام، قاله عياض، واعترض بأنه لا مانع أن يقال: أطع الله، والقاضي كقوله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59] الآية، حتى قال بعض: إنه وهم، وما أظن أحدًا منعه، وأجيب بأنه أراد أنه منهي عنه تنزيهًا وأد بالورود الحديث، بما يدل على رعاية الأدب في اللفظ، وترك ما يوهم خلافه، وأطلق نفي الجواز اعتمادًا على تصريح الخطابي وغيره بالكراهة، ولا دلالة في آية: {وَأُولِي الْأَمْر} ، لاحتمال الجواز بالتبعية، ولذا لم يكرر أطيعوا مرة أخرى، كما لم تكرر اللام في عامتهم في حديث: "الدين النصيحة لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم".
"و" يشير إلى "قول قتادة" بن دعامة، عند ابن أبي حاتم، والبيهقي، "رفع الله ذكره" صلى الله عليه وسلم "في الدنيا والآخرة، فليس خطيب" يخطب على جهة الكمال، وفي الحديث: "كل خطبة ليس فيها شهادة، فهي كاليد الجذماء"، "ولا متشهد" أي: آت بكلمة الشهادة في غير الخطبة والصلاة، "ولا صاحب صلاة" المراد بها الفرد الكامل المتبادر، فلا ترد صلاة الجنازة، "إلا(8/313)
فهو مذكور معه في الشهادة والتشهد، ومقرون ذكره بذكره في القرآن والخطب والآذان، ويؤذن باسمه في موقف القيامة.
وأخرج أبو نعيم في الحلية عن أبي هريرة رفعه: "لما نزل آدم عليه السلام بالهند استوحش فنزل له جبريل عليه السلام فنادى بالأذان: الله أكبر، الله أكبر مرتين، أشهد أن لا إله إلا الله مرتين، أشهد أن محمدًا رسول الله مرتين"، الحديث.
__________
يقول" مستثنى من أعم الأحوال، أي: ليس في حال من الأحوال إلا قائلًا: "أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله. انتهى" قول قتادة.
وأورد أن أمر الآخرة لا يعلم بالمقايسة، فرفع ذكره في الدنيا لا يستلزم رفعه في الآخرة، وأجيب؛ بأهنه أخذه من إطلاق الآية، والحديث: "ورفع ذكره في الدنيا عنوان رفعه في الأخرى"، ووجه التفريع، أن من رفع ذكره في الدارين حقيق بأن يشهد له بذلك، فهو بيان لبعض الأحوال التي تفعل في الدنيا، وليس فيها شيء من أحوال الآخرة، وإن شمله قوله في الدنيا والآخرة لما ذكره ولغيره، فيندرج فيه ما يفعل في الآخرة، "فهو مذكور معه" تفريع على قول قتادة، "في الشهادة" دخولًا في الإيمان، وثناء عليه بعده، "والتشهد"؛ لأن الشهادة من جملة ألفاظه الواردة فيه، سواء كان بلفظ حديث ابن مسعود: "أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله"، أو بلفظ حديث غيره: "وأن محمدًا رسول الله"، "ومقرون ذكره بذكره في القرآن" أي: مصاحب له، فالمقارنة المصاحبة، كما قيل:
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه ... فكل قرين بالمقارن يقتدي
"والخطب" الشرعية الكاملة، "والأذان، ويؤذن باسمه في موقف القيامة" إظهار الرفعة قدرة في ذلك الموطن.
روى ابن زنجويه عن كثير بن مرة الخضرمي، مرفوعًا: "يبعث بلال على ناقة من نوق الجنة، ينادي على ظهرها بالأذان، فإذا سمعت الأنبياء وأممها، أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، قالوا: ونحن نشهد على ذلك".
"وأخرج أبو نعيم في الحلية عن أبي هريرة رفعه: "لما نزل آدم عليه السلام بالهند استوحش": حصل له وحشة لانفراده، "فنزل له جبريل عليه السلام فنادى بالأذان: الله أكبر، الله أكبر مرتين، أشهد أن لا إله إلا الله مرتين، أشهد أن محمدًا رسول الله مرتين"، الحديث ورواه أيضًا الحاكم وابن عساكر، وحكمة ذلك التنويه باسمه في عهد آدم، ومصاحبته لاسم الله، وأن الأذان ينفع المستوحش الحزين.(8/314)
وكتب اسمه الشريف على العرش، وعلى كل سماء، وعلى الجنان، وما فيها.
رواه ابن عساكر.
وأخرج البزار عن ابن عمر مرفوعًا: "لما عرج بي إلى السماء، ما مررت بسماء إلا وجدت اسمي فيها مكتوبًا: محمد رسول الله".
وفي الحلية عن ابن عباس رفعه: "ما في الجنة شجرة عليها ورقة إلا مكتوب عليها لا إله لا الله محمد رسول الله".
وأخرج الطبراني من حديث جابر مرفوعًا: "كان نقش خاتم سليمان بن داود عليهما السلام لا إله إلا الله محمد رسول الله"، وعزاه الحافظ ابن رجب في كتاب
__________
وقد روى الديلمي عن علي: رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم حزينًا، فقال: "يا ابن أبي طالب ما لي أراك حزينًا، فمر بعض أهلك يؤذن في أذنك، فإنه دواء للهم، فجربته فوجدته كذلك"، وقال كل من رواته: جربته، فوجدته كذلك.
"وكتب اسمه الشريف على العرش"، أي: على ساقه، كما قدمه في الأسماء، أي: قوائمه.
ولابن عدي: لما عرج بي، رأيت مكتوبًا على ساق العرش: لا إله إلا الله، محمد رسول الله أيدته بعلي.
"وعلى كل سماء" أي: السماوات السبع، "وعلى الجنان وما فيها" من قصور وغرف، وعلى نحور الحور العين، ورق شجرة طوبى، وسدرة المنتهى، وأطراف الحجب، وبين أعين الملائكة، "رواه ابن عساكر" عن كعب الأحبار، وهو من الإسرائيليات، وقيل: إنه موضوع، وقدمه في الأسماء والمعجزات، وأعاده هنا لبيان رفع الذكر.
"وأخرج البزار عن ابن عمر، مرفوعًا: "لما عرج بي إلى السماء، ما مررت بسماء إلا وجدت اسمي فيها مكتوبًا محمد رسول الله"، وكتب مع أنه مشهور في السماوات بأحمد أكثر ليحصل به الرد ممن علم ذلك على منكري رسالته، وإنما يعرف بينهم بمحمد دون أسمائه.
"وفي الحلية عن ابن عباس، رفعه: "ما في الجنة شجرة عليها ورقة إلا مكتوب عليها" أي: الورقة، "لا إله إلا الله، محمد رسول الله" وكل من هذين شاهد وبيان لقوله في حديث كعب: "على كل سماء وعلى الجنان".
"وأخرج الطبراني من حديث جابر، مرفوعًا: "كان نقش خاتم سليمان بن داود عليهما السلام: لا إله إلا الله، محمد رسول الله".
ويروى عن عبادة بن الصامت، مرفوعًا عند الطبراني أيضًا: أن فص خاتم سليمان بن داود(8/315)
أحكام الخواتيم لجزء أبي علي الخالدي، وقال: إنه باطل موضوع.
وشق اسمه الكريم من اسمه تعالى، كما قال حسان:
وشق له من اسمه ليجله ... فذو العرش محمود وهذا محمد
وسماه من أسمائه الحسنى بنحو سبعين اسمًا، كما بينت ذلك في أسمائه صلوات الله وسلامه عليه، وصلى عليه في ملائكته، وأمرالمؤمنين بالصلاة عليه، فقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56] فأخبر عبادة بمنزلة نبيه عنده في الملأ الأعلى بأنه يثني عليه عند ملائكته المقربين، وأن الملائكة تصلي عليه، ثم أمر
__________
كان سماويًا، ألقى إليه، فوضعه في أصبعه، وكان نقشه: أنا الله لا إله إلا أنا، محمد عبدي ورسولي، "وعزاه" أي: نسبه "الحافظ ابن رجب" عبد الرحمن "في كتاب أحكام الخواتيم لجزء أبي علي الخالدي، وقال: إنه باطل موضوع" وتعقب بأنه شديد الضعف لا موضوع، "وشق اسمه الكريم من اسمه تعالى، كما قال حسان" بن ثابت، "وشق" بالبناء للفاعل، عطفًا على قوله قبل:
وضم الإله اسم النبي إلى اسمه
أي: أخذ "له" اسمًا، حروفه "من اسمه ليجله"، ليعظمه
"فذو العرش محمود، وهذا محمد، وسماه من أسمائه الحسنى بنحو سبعين اسمًا كما بينت ذلك في أسمائه صلوات الله وسلامه عليه" من المقصد الثاني، "وصلى عليه في ملائكته، وأمر المؤمنين بالصلاة" والتسليم "عليه" من جملة ما رفع به ذكره، "فقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ} ، اختلف المفسرون وغيرهم في أن الواو عائدة على الله تعالى وملائكته، أو على ملائكته فقط، وخبر الجلالة محذوف، أي: أن الله يصلي وملائكته يصلون، فأجازه بعضهم، ومنعه آخرون لعلة التشريك، حكاه عياض، أي: التسوية بين الله وملائكته في لفظ واحد، وهو ضمير الواو لما فيه من عدم رعاية التعظيم {عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56] خصه بالتأكيد وتنوين التعظيم، أي: تسليما، عظيما، تعريضا لمن لم يسلم، أو؛ لأن المراد تسليما لا كتسليم غيره من الأمة، والصلاة لا يشاركه فيها الأمة، فيفهم منها في نفسها التعظيم بلا تأكيد، أو؛ لأن التسليم لم يثبت لله والملائكة، فهو في معرض المساهلة في الجملة، "فأخبر عباده بمنزلة نبيه عنده في الملأ العلى؛ بأنه يثني عليه عند ملائكته المقربين، وأن الملائكة تصلي(8/316)
العالم السفلي بالصلاة والتسليم عليه، فيجتمع الثناء عليه من أهل العالمين العلوي والسفلي جميعًا.
وكتبه نبيًا وآدم بين الروح والجسد، وختم به النبوة والرسالة، وأعلن بذكره الكريم في الأولين والآخرين، ونوه بقدره الرفيع حين أخذ الميثاق على جميع النبيين، وجعل ذكره في فواتح الرسائل وخواتمها، وشرف به المصاقع على المنابر، وزين بذكره أرباب الأقلام والمحابر، ونشر ذكره في الآفاق شرقًا وغربًا، بحرًا.
__________
عليه، ثم أمر العالم السفلي" أي: المؤمنين، "بالصلاة والتسليم عليه" وكل ذلك إبانة لفضله، ورفعًا لذكره، "فيجتمع الثناء عليه من أهل العالمين": بفتح اللام والميم، تثنية العالم "العلوي، و" والعالم "السفلي جميعًا"، وقد أورد على هذا؛ أن المؤمنين شاركوه في ذلك، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ} [الأحزاب: 43] الآية، ومثله كثير في الأحاديث، كحديث: "إن الله وملائكته يصلون على ميامن الصفوف"، وأجيب؛ بأن الآية الأولى نزلت أولًا من غير مزاحم فيها، مع التأكيد بأن والاسمية، وتمييزه بمجموع ما ذكر، فبان بها فضله، ورفعه على غيره.
وقد أخرج عبد بن حميد عن مجاهد، قال: لما نزلت: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِي} ، قال أبو بكر: يا رسول الله ما أنزل الله عليك خيرًا إلا أشركنا فيه، فنزلت: {هوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ} .
وقال الإمام الرازي: صلاة الملائكة على المؤمنين بطريق التبعية لصلاته تعالى عليهم، فتأخر ذكرها، وصلاتهم على النبي صلى الله عليه وسلم بطريق الأصالة، ففيها تفضيله على غيره، كما إذ قيل يدخل فلان وفلان، فإنه يدل على تقديم الأول، بخلاف فلان وفلان يدخلان. انتهى، ولا يرد بأن الواو لمطلق الجمع بلا ترتيب؛ لأن ملحظه؛ أن التقديم الذكري يشعر بالاهتمام، والتقديم لا من حيث الواو.
"وكتبه نبيًا وآدم بين الروح والجسد" كما مر مبسوطًا في المقصد الأول، "وختم به النبوة والرسالة" فلا نبي بعده، ولا رسول، "وأعلن بذكره الكريم" أي: أظهره "في الأولين والآخرين، ونوه" رفع "بقدره الرفيع" العالي، "حين أخذ الميثاق على جميع النبيين" كما قال: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ} [آل عمران: 81] ، "وجعل ذكره في فواتح الرسائل وخواتمها، وشرف به المصاقع" بالصاد المهملة والقاف، الخطباء الفصحاء البلغاء، جمع مصقع بكسر الميم، "على المنابر" جمع منبر من النبر، وهو الارتفاع، "وزين بذكره أرباب الأقلام والمحابر" جمع محبرة بفتح الميم والباء، أو فتحها وضم الباء، أو كسرها وفتح الباء؛ لأنه آلة،(8/317)
وبرًا، حتى في السماوات السبع وعند المستوى وصريف الأقلام، والعرش والكرسي، وسائر الملائكة المقربين من الكروبين والروحانيين والعلويين والسفليين، وجعله في قلوب المؤمنين بحيث يستطيبون ذكره فترتاح أرواحهم، وربما من طرب سماع اسمه أشباحهم.
وإذا ذكرتم أميل كأنني ... من طيب ذكركم سقيت الراحا
كأنه تعالى يقول: أملأ الوجود كله من أتباعك، كلهم يثنون عليك، ويصلون عليك، ويحفظون سنتك، بل ما من فريضة من فرائض الصلاة إلا ومعها سنة، فهم يتمسكون في الفريضة بأمري، وفي السنة بأمرك، وجعلت طاعتي طاعتك، وبيعتي بيعتك، فالقراء يحفظون ألفاظ منشورك، والمفسرون يفسرون معاني فرقانك،
__________
أجودها الأولى، "ونشر ذكره في الآفاق" النواحي "شرقًا وغربًا، بحرًا وبرًا، حتى في السموات السبع، وعند المستوى، وصريف الأقلام" تصويتها، "والعرش، والكرسي، وسائر": بمعنى جميع "الملائكة المقربين من الكروبين"، بالتخفيف، سادة الملائكة، "والروحانيين" "بفتح الراء وضمها"، "والعلويين"، أي: الملازمين للسماوات، "والسفليين" من عداهم كالموكلين بحفظ بني آدم ومصالحهم، "وجعله في قلوب المؤمنين بحيث يستطيبون ذكره" ويتلذذون به، "فترتاح أرواحهم، وربما تميل من طرب سماع اسمه أشباحهم" أجسادهم، وأنشد لغيره قوله:
وإذا ذكرتم أميل كأنني ... من طيب ذكركم سقيت الراحا
قال المجد: الراح: الخمر، كالرياح "بالفتح" والارتياح؛ "كأنه تعالى يقول: أملأ الوجود كله" علويه وسفليه، "من أتباعك، كلهم يثنون عليك، ويصلون عليك، ويحفظون سنتك" وقد قال: "إلا أني أوتيت الكتاب"، ومثله معه، الحديث رواه أحمد وأبو داود، "بل ما من فريضة من فرائض الصلاة إلا ومعها سنة" مما سنه، كتكبيرة الإحرام معها رفع اليدين، والفاتحة معها السورة، وهكذا "فهم يتمسكون في الفريضة بأمري، وفي السنة بأمرك"؛ لأنه من أمري، "وجعلت طاعتي طاعتك" في نحو قولي: "من يطع الرسول فقد أطاع الله"، "وبيعتي بيعتك" إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله، وأتى بهما على القلب للمبالغة، "فالقراء يحفظون ألفاظ منشورك" على اختلاف القراءات الواردة عنك متواترة وغيرها، ويوجهون ما قد يخفى من جهة اللسان بأوجه متعددة، أو وجه هؤلاء هم القراء.
"والمفسرون يفسرون معاني فرقانك" بما ورد عنك، وعن أصحابك، وتابعيهم، وما(8/318)
والوعاظ يبلغون بليغ وعظك، والملوك والسلاطين يقفون في خدمتك ويسلمون عليك من وراء الباب، ويمسحون وجوههم بتراب روضتك، ويرجون شفاعتك، فشرفك باق أبد الآبدين، والحمد لله رب العالمين.
وقال تعالى: {طه، مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} [طه: 1-2] .
اعلم أن للمفسرين في قولين، أحدهما: أنها من حروف التهجي، والثاني أنها كلمة مفيدة.
وعلى القول الأول: قيل معناها، يا مطمع الشفاعة للأمة، ويا هادي الخلق إلى الملة، وقيل: "الطاء" في الحساب بتسعة والهاء بخمسة، فالجملة أربعة عشرة، ومعناها: يا أيها البدر، وهذه الأقوال لا يعتمد عليها إذ هي، كما قال المحققون،
__________
استنبطوه من اللغة، واستخرجوه من علوم البلاغة، "والوعاظ" المذكرون، "يبلغون بليغ وعظك" من إضافة الصفة للموصوف، أي: وعظك البليغ، "والملوك والسلاطين يقفون في خدمتك، ويسلمون عليك من وراء الباب" ادبًا واحتشامًا، "ويمسحون وجوههم بتراب روضتك، ويرجون شفاعتك، فشرفك باق أبد الآبدين، والحمد لله رب العالمين" على ذلك الفضل العظيم.
"وقال تعالى: {طه، مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} [طه: 1-2] من الشفاء والتعب، أو الشقاوة على ما يأتي.
"اعلم أن للمفسرين في قولين أحدهما: أنها" أي: هذه اللفظة، وإلا فهي حرفان، "من" أسماء "حروف التهجي والثاني: أنها كلمة مفيدة" أي: مركبة، لا مقطعة، من أسماء حروف التهجي.
"وعلى القول الأول: قيل معناها" الذي أريد بها، "يا مطمع"، بزنة مقعد "الشفاعة للأمة" أي: يا من هو محل تطمعها في الشفاعة لها، "ويا هادي الخلق إلى الملة"، يحتمل أن الاسم مركب من مجموع النداءين، وأن كل واحد منهما مسمى لمجموع الطاء والهاء، ومقتضى قول عياض، وقيل: هي حروف مقطعة لمعان الأول، فالطاء للأول، والهاء للثاني.
"وقيل: الطاء في الحساب بتسعة، والهاء بخمسة، فالجملة أربعة عشر، ومعناها: يا أيها البدر" ذكره معرفًا باللام، إشارة إلى أنه الكامل المنير، السالم من العوارض، "وهذه الأقوال" استعمل الجمع في اثنين؛ لأنه الذي قدمه بناء على أنهما أقله، فهو حقيقة، أو مجاز من استعمال الكل في البعض، بناء على أن أقله ثلاثة "لا يعتمد عليها، إذ هي، كما قال(8/319)
من بدع التفسير، ومثلها قول الواسطي، فيما حكاه القاضي عياض في "الشفاء"، أراد: يا طاهر يا هادي.
وأما على قول من قال: إنها كلمة مفيدة، ففيه وجهان: أحدهما، أن معناه: يا رجل، وهو مروي عن ابن عباس الحسن ومجاهد وسعيد بن جبير وقتادة وعكرمة. قال سعيد بن جبير: بلسان النبطية، وقال قتادة: بلسان السريانية، وقال عكرمة: بلسان الحبشة. وقال البيضاوي: إن صح أن معناه: يا رجل فلعل أصله: يا هذا فتصرفوا فيه بالقلب والاختصار، انتهى.
قال الكلبي: لو قلت في "عك" يا رجل، لم يجبك حتى تقول: طه.
__________
المحققون من بدع" بكسر، فسكون، أي: غريب "التفسير" الذي لا سند له سوى هذا التوهم العقلي.
وفي نسخة المفسرين: والمعنى واحد، وتجوز قراءته بفتح الدال، جمع بدعة، اسم من الابتداع، وهو الاستخراج والأحداث بلا أصل.
"ومثلها قول الواسطي" أبي بكر محمد بن موسى، الإمام العارف، من كبار أتباع الجنيد، "فيما حكاه القاضي عياض في الشفاء: أراد يا طاهر، ويا هادي" فالطاء من طاهر، والهاء من هادي، وقيل: الطاء قول القراءة، والهاء هيئاتها، وقيل: طوبى والهاوية، وقيل: قسم بطوله وهدايته عليه السلام، وهي أيضًا من البدع، وقيل: طه اسم من أسمائه صلى الله عليه وسلم، وقيل: من أسماء الله، حكاهما عياض والمصنف في المقصد الثاني، قائلًا: المعتمد أنها من أسماء الحروف.
"وأما على قول من قال: إنها كلمة مفيدة، ففيه وجهان: "أحدهما: أن معناه يا رجل" أي: معناه رجل، وحرف النداء مقدر معه، "وهو مروي عن ابن عباس" عند البيهقي، "والحسن" البصري، "ومجاهد، وسعيد بن جبير، وقتادة، وعكرمة" والكل من التابعين المفسرين.
"قال سعيد بن جبير بلسان النبطية" أي: المنسوبة إلى النبط، قوم كانوا ينزلون سواد العراق، "وقال قتادة: بلسان السريانية، وقال عكرمة: بلسان الحبشة" ولا يشكل عليهم قوله تعالى: {قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [يوسف: 2] ؛ لأن المراد عربي الأسلوب، لا الكلمات، أو هو اسم للجملة، وهي كثيرة، فلا يخرجه لاشتماله وبينهما؛ لأنه لا يلزم من نزوله بها؛ أن جميعه بلغته الجواز اشتهار تلك اللغة في تلك الأماكن، "وقال البيضاوي: إن صح أن معناه يا رجل، فلعل أصله يا هذا، فتصرفوا فيه بالقلب" للياء طاء، والاختصار" أي: الاقتصار على الهاء من هذا. "انتهى".
"قال الكلبي: لو قلت في عك" بفتح العين وشد الكاف، قال الجوهري: هو عك بن(8/320)
وقال السدي: معنى طه يا فلان.
وقال الزمخشري: لعل "عكا" تصرفوا في "يا هذا" كأنهم في لغتهم قالبون "الياء" "طاء" فقالوا: في "يا طا" واختصروا هذا فاقتصروا على "ها" وأثر الصيغة ظاهر لا يخفى في البيت المستشهد به:
إن السفاهة طه في خلائقكم ... لا قدس الله أخلاق الملاعين
انتهى.
__________
عدنان، أخو معد، وهو اليوم باليمن، "يا رجل لم يجبك حتى تقول طه"؛ لأنها لغتهم، ولا يعلمون لفظ يا رجل.
"وقال السدي" بضم السين وشد الدال: "معنى طه، يا فلان" كناية عن اسم الإنسان دون قصد واحد بعينه، نحو: رأيت زيدًا، فقلت له يا فلان افعل كذا، بخلاف يا رجل، القصد به يا هذا، لذكره من بني آدم.
"وقال الزمخشري: لعل عكا تصرفوا في يا هذا، كأنهم في لغتهم قالبون الياء طاء" الأحسن أن يقول ياء بلا أل؛ لأن الكلمة المركبة من حرفين فصاعدًا، إنما ينطق بلفظها، لا بحروف هجائها، والياء إنما هي اسم لأحد حروف التهجي.
"فقالوا في يا طا" أي: ذكروا بدل لفظ يا لفظ طا، ففي للبدل، وكذا في الكشاف بني، ويقع في بعض نسخ المصنف بإسقاط في على حذف مضاف، أي: بدل يا طا.
"واختصروا" لفظ "هذا" بحذف الذال، "فاقتصروا على ها" مضمومة إلى طا، فصار طه بالقصر؛ لأن أسماء حروف التهجي ما لم تلها العوامل، موقوفة، خالية من الإعراب، لفقد موجبه، لكنها قابلة إياه، معرضة له، إذا لم تناسب مبني الأصل، ولذا قيل ق وص مجموعًا فيهما بين الساكنين، ولم يعامل معاملة أين وما ولا، قاله في الأنوار.
"وأثر الصيغة ظاهر لا يخفى في البيت المستشهد به" وهو: "إن السفاهة طه" أي: يا رجل "في خلائقكم" أي: طبائعكم، "لا قدس الله أخلاق الملاعين": جمع ملعون، أي: مطرود، كما في القاموس وغيره.
وقول بعض: سموا ملاعين؛ لأنهم يلعنون الناس كثيرًا، لا يناسب اللغة، ولم يذكر المجد أن أخلاق من جموع خليقة، فيحتمل أنه جمع خلق، كعنق وأعناق، فيكون هجاهم أولًا بأن طبيعتهم مجبولة على السفاهة، ثم دعا على خلقهم.
"انتهى" كلام الزمخشري.(8/321)
قال في البحر: وكان قد قدم أن "طه" في لغة "عك" في معنى يا رجل، ثم تخوض وتجر على "عك" بما لا يقوله نحوي، وهو أنهم قلبوا "الياء" "طاء" وهذا لا يوجد في لسان العرب قلب "الياء" التي للنداء "طاء"، وكذلك حذف اسم الإشارة في النداء وإقرار "ها" التي للتنبيه، انتهى.
وقيل: معناه يا إنسان.
وقرئ طه بإسكان الهاء، على أنه أمر له صلى الله عليه وسلم بأن يطأ الأرض بقدميه.
فقد روي أنه صلى الله عليه وسلم كان يقوم في تهجده على إحدى رجليه، فأمر بأن يطأ الأرض بقدميه معًا، وأن الأصل "طاء" فقلبت همزته هاء، كما قالوا "هياك" في:
__________
ورده البيضاوي، فقال: الاستشهاد بالبيت ضعيف، لجواز أن يكون قسمًا، كقولهم: "حم لا ينصرون"، انتهى، أي: أن السفاهة وحق طه، أو وقسمي طه، كقوله صلى الله عليه وسلم ليلة الخندق: "إن لقيتم الليلة، فقولوا: حم لا ينصرون"، رواه أبو داود، والترمذي، والنسائي والحاكم، وصححه عن البراء بن عازب.
"قال" أبو حيان "في البحر" تفسيره الكبير: "وكان" الزمخشري، "قد قدم أن طه في لغة عك في معنى يا رجل، ثم تخوض" تكلف الخوض بمبالغته بما تكلفه، "وتجرأ" أسرع بالهجوم بلا توقف "على عك، بما لا يقوله نحوي، وهو أنهم قلبوا الياء طاء، وهذا لا يوجد في لسان"، أي: لغة "العرب قلب الياء التي للنداء طاء، وكذلك حذف اسم الإشارة في النداء وإقرار" أي: إبقاء" "ها التي للتنبيه" كذا في النسخ الصحيحة، وهو ما في النهر، فما في بعض النسخ، وأقرت تصحيف. "انتهى".
"وقيل: معناه يا إنسان" حكاه عياض وغيره، فإن صحبت هذه التفاسير، فهو مشترك، والوجه الثاني أنها كلمة دالة على الطلب، "و" يدل عليه؛ أنه "قرئ" شاذًا "طه" وبه قرأ الحسن البصري، "بإسكان الهاء، على أنه أمر له صلى الله عليه وسلم؛ بأن يطأ الأرض بقدميه، فقد روي أنه صلى الله عليه وسلم كان يقوم في تهجده على إحدى رجليه" لاستراحة من طول القيام، "فأمر بأن يطأ الأرض بقدميه معًا" حتى لا يتعب، فيحتاج للاستراحة.
أخرج عبد بن حميد، عن الربيع بن أنس، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى قام على رجل، ورفع الأخرى، فأنزل الله: {طه} .
وأخرج ابن مردويه عن علي، قال: لما نزل على النبي صلى الله عليه وسلم: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ، قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا} [المزمل: 1-2] ، قام الليل كله، حتى تورمت قدماه، فجعل يرفع رجلًا ويضع أخرى، فهبط(8/322)
إياك، و"هرقت" في: أرقت. ويجوز أن يكون الأصل من وطأ على ترك الهمزة، فيكون أصله "طا" يا رجل ثم أثبت الهاء فيه للوقف. وعلى هذا يحتمل أن يكون أصل "طه": طاها، والألف مبدلة من الهمزة والهاء كناية عن الأرض. لكن برد ذلك: كتبها على صورة الحرف.
وأما قوله تعالى: {مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} ، فذكروا في سبب نزولها أقوالًا:
أحدها: أنا أبا جهل والوليد بن المغيرة ومطعم بن عدي قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إنك لتشقى حيث تركت دين آبائك، فقال صلى الله عليه وسلم: "بل بعثت رحمة للعالمين"، فأنزل الله تعالى هذه الآية ردًا عليهم، وتعريفًا له صلى الله عليه وسلم، بأن دين الإسلام
__________
عليه جبريل، فقال: طه، طا الأرض بقدميك يا محمد، فأمر بأن يطأ الأرض بقدميه معًا، "وأن الأصل طاء، فقلبت همزته هاء، كما قالوا هياك" بكسر الهاء "في إياك، وهرقت في أرقت، ويجوز أن يكون الأصل من وطأ على ترك الهمزة".
قال الطيبي: بأن قلبت ألفًا، وبني الأمر عليه، وإذا بني عليه، "فيكون أصله طا يا رجل، ثم أثبت الهاء فيه للوقف" أي: السكت، فصار طه، "وعلى هذا يحتمل أن يكون أصل طه طاها، والألف مبدلة من الهمزة، والهاء كناية عن الأرض" أي: الضمير راجع إليها، لعلمها، من قرينة الحال، والضمير يسمى كناية عند النحاة، ويحتمل أنه أراد أن الهاء وحدها ضمير، كما عليه بعض النحاة، أو أن ها اسم لحرف مأخوذ من ها اسم للضمير، فهي كناية اصطلاحية عنه، لا أنه ضمير، "لكن يرد ذلك" كما قال البيضاوي: "كتبهما على صورة الحرف"، وتعقب بأن رسم المصحف غير قياسي، كما رسم المؤمنون بأن ألف في الإمام.
"وأما قوله تعالى: {مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ لْقُرْآنَ لِتَشْقَى} ، فذكروا في سبب نزولها أقوالًا" منها ما تقدم.
وأخرج البزوار عن علي، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يراوح بين قدميه، يقوم على كل رجل، حتى نزلت: {مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} .
"أحدها" ما عند ابن مردويه، بمعناه عن ابن عباس؛ "أن أبا جهل" فرعون الأمة، "والوليد بن المغيرة، ومطعم بن عدي، قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إنك لتشقى حيث تركت دين آبائك" ومرادهم ضد السعادة، "فقال صلى الله عليه وسلم: "بل بعثت رحمة للعالمين" فكيف أشقى أنا، "فأنزل الله تعالى هذه، ردًا عليهم وتعريفًا له صلى الله عليه وسلم بأن دين الإسلام والقرآن هو" أي: المذكور "السلم".(8/323)
والقرآن هو السلم إلى نيل كل فوز، والسبب في إدراك كل سعادة، وما فيه الكفرة هو الشقاوة بعينها.
وثانيها: أنه صلى الله عليه وسلم بالليل حتى تورمت قدماه، فقال له جبريل: أبق على نفسك، فإن لها عليك حقًا. اي ما أنزلنا عليك القرآن لتنتهك نفسك بالعبادة وتذيقها المشقة العظيمة، وما بعثت إلا بالحنيفية السمحة.
ووي أنه كان إذا قام من الليل ربط صدره بحبل حتى لا ينام. وقال بعضهم: كان يسهر طول الليل.
وتعقب: بأنه بعيد؛ لأنه صلى الله عليه وسلم إن فعل شيئًا من ذلك فلا بد أن يكون فعله بأمر الله تعالى، فإذا فعله عن أمره فهو من باب السعادة لا من باب الشقاء.
وثالثها: قال بعضهم: يحتمل أن يكون المراد، لا تشق نفسك، ولا تعذبها
__________
فلا يرد أن القياس هما السلم "إلى نيل كل فوز، والسبب في إدراك كل سعادة، وما فيه الكفرة هو الشقاوة بعينها" وأي. شقاوة مثل الخلود في جهنم.
"وثانيها: أنه" كما رواه ابن مردويه عن علي، بمعناه أنه "صلى الله عليه وسلم" لما نزل عليه: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ، قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا} "صلى بالليل حتى تورمت قدماه، فقال له جبريل": بأمر الله "ابق على نفسك، فإن لها عليك حقًا. أي: ما أنزلنا عليك القرآن لتنتهك" تتعب وتؤلم "نفسك بالعبادة" الزائدة، "وتذيقها المشقة العظيمة"، بالسهر وقيام الليل، "وما بعثت إلا بالحنيفية السمحة" السهلة التي لا تعب فيها، "وروي أنه كان إذا قام من الليل ربط صدره بحبل حتى لا ينام" مبالغة في امتثال الأمر.
"وقال بعضهم: كان يسهر طول الليل" في ابتداء أمره، حتى أمر بالتخفيف، "وتعقب بأنه بعيد؛ لأنه صلى الله عليه سولم إن فعل شيئًا من ذلك، فلا بد أن يكون فعله بأمر الله تعالى" وهذا ممنوع؛ لأنه فعل ذلك لتحقق مدلول ما أمر به من قيام الليل على الوجه الأتم، لا للأمر به بخصوصه، ويمنع تعقبه أيضًا بقوله؛ "فإذا فعله عن أمره، هو من باب السعادة لا من باب الشفاء" بل هو التباس، إذ الرد على أنه من باب الشقاء، بمعنى إتعاب النفس على هذا، لا ينافي أن الإتعاب المذكور للسعادة، وإنما يقال من باب السعادة لا الشقاء على الوجه الذي قبله في الرد على أبي جهل ومن معه، هكذا أملاني شيخنا.
"وثالثها: قال بعضهم" ظاهره أنه سبب لنزول الآية، لقوله أولًا: ذكروا في سبب نزلوها أقوالًا ولا كذلك، فإنما هذا فهم في الشقاء، إذ السبب لا يكون احتمالًا، بل نقل مجرد، وقد(8/324)
بالأسف على كفر هؤلاء، فإنما أنزلنا عليك القرآن لتذكر به من آمن، فمن آمن وأصلح فلنفسه، ومن كفر فلا يحزنك كفره، فما عليك إلا البلاغ وهذا كقوله تعالى: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} {فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ} .
ورابعها: أن هذه السورة من أوائل ما نزل بمكة، وفي ذلك الوقت كان صلى الله عليه وسلم مقهورًا مع أعدائه" الكفار" "فكأنه تعالى قال: لا تظن أنك تبقى على هذه الحالة" بل يعلو أمرك ويظهر قدرك، فإنا ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى، أي: لتبقى شقيًا، بل تصير معظمًا مكرمًا، زاده الله تعالى تعظيمًا وتكريمًا.
__________
قال: "يحتمل أن يكون المراد لا تشق نفسك ولا تعذبها بالأسف" الحزن والحسرة "على كفر هؤلاء" فهو كقوله: لا تذهب نفسك عليهم حسرات، "فإنما أنزلنا عليك القرآن لتذكر": تعظ "به من آمن فمن آمن وأصلح" عمل الصالحات من الفرائض وغيرها، "فلنفسه"؛ لأن ثمرته عائدة عليه، وإن كان للنبي أجره أيضًا، "ومن كفر فلا يحزنك كفره"، لا تهتم لكفره، "فما عليك إلا البلاغ"، وليس عليك هداهم، ولكن الله يهدي من يشاء، "وهذا كقوله تعالى: {لَعَلَّكَ بَاخِع} قاتل {نَفْسَكَ} ولعل الإشفاق، أي: أشفق على نفسك أن تقتلها {أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} لئلا يؤمنوا أو خيفة أن لا يؤمنوا، وكقوله: "ولا يحزنك كفرهم".
"ورابعها" وهو من نمط الثالث لا سبب النزول، كما يوهمه المصنف، "أن هذه السورة من أوائل ما نزل بمكة، وفي ذلك الوقت كان صلى الله عليه وسلم مقهورًا مع أعدائه" الكفار، "فكأنه تعالى قال: لا تظن أنك تبقى على هذه الحالة" التي هي قهر الأعداء، "بل يعلو أمرك ويظهر قدرك، فإننا ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى، أي: لتبقى شقيًا" متعبًا مقهورًا، والشقاء شائع بمعنى التعب، ومنه أشقى من رائض المهر، أي: أن معالجة المهارة شقاوة لما فيها من التعب، "بل تصير معظمًا مكرمًا، زاده الله تعالى تعظيمًا وتكريمًا" كما إلى هذه الإشارة بقوله: {إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى} [طه: 3] ، أي: لكن تذكيرًا لمن في قلبه خشية ورقة يتأثر بالأنوار، أو لمن علم الله أنه يخشى بالتخويف، فإنه المنتفع به، ومن خشي صار المصطفى لديه معظمًا مكرمًا كما وقع ذلك للصحابة حتى كانوا عنده، كأنما على رؤوسهم الطير، ولا يحدون النظر إليه، وكان أحب إليهم من أنفسهم.
قال البيضاوي: {مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} ، خبر طه إن جعلت مبتدأ على أنه مؤول بالسورة، والقرآن فيه واقع موقع العائد، وجواب إن جعلت مقسمًا به، ومنادى له إن جعلت نداء واستئناف إن كانت جملة فعلية او اسمية بإضمار مبتدأ، أو طائفة من الحروف محكية.(8/325)
وقال الله تعالى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَر} [الكوثر: 1] السورة.
قال الإمام فخر الدين بن الخطيب: في هذه السورة كثير من الفوائد. منها: أنها كالمتممة لما قبلها من السور، وذلك؛ لأن الله تعالى جعل سورة والضحى في مدح نبينا صلى الله عليه وسلم، وتفصيل أحواله، فذكر في أولها ثلاثة أشياء تتعلق بنبوته وهي قوله: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى، وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى، وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ
__________
قال تبعًا للكشاف: وانتصاب إلا تذكرة على الاستثناء المنقطع، ولا يجوز أن يكون بدلًا من محل لتشقى لاختلاف الجنسين، يعني أن نصب تذكرة نصبة صحيحة ليست بعارضة، والنصبة التي في لتشقى بعد نزع الخافض عارضة كما قال أبو حيان، ولا يجوز أن يكون مفعولًا له لأنزلنا، فإن الفعل الواحد لا يتعدى إلى علتين، وقيل: هو مصدر في موضع الحال من الكاف، أو القرآن، أو مفعول له، على أن لتشقى متعلق بمحذوف هو صفة للقرآن، أي: ما أنزلنا عليك القرآن المنزل لتتعب بتبليغه.
"وقال الله تعالى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الَْوْثَر} [الكوثر: 1] ، أكده مع ضمير العظمة، إيماء إلى عظمة المعطي والمعطى، وتشويقًا ونفيًا للشبهة فيه "السورة".
"قال الإمام فخر الدين" محمد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري، الطبرستاني، الرازي، "ابن الخطيب" بالري، مر بعض ترجمته غير مرة، "في هذه السورة كثير من الفوائد، منها: أنها كالمتممة لما قبلها من السور" المتعلقة به صلى الله عليه وسلم، وليس القصد بها بيان الأحكام، فلا يرد أن ما ذكره دليلًا على ذلك بعض السور لا جميعها، على أنه، كما قال شيخنا في التقرير: لم تظهر زيادة الكوثر على تفسيره، بما هو أعم من النهر على قوله: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى: 5] فإنه شامل لما شمله الكوثر، أو أشمل، "وذلك؛ لأن الله تعالى أنزل" وفي نسخة: جعل، "سورة والضحى في مدح نبينا صل الله عليه وسلم وتفصيل أحواله" أي: جنسها، فلا ينافي في أن ما ذكره في هذه السورة مشتمل على جميعها لزومًا، "فذكر في أولها" أي: أحواله "ثلاثة أشياء تتعلق بنوبته" أي: ترتبط بها، وتترتب عليها كالثمرة لهان وليس المراد التعلق النحوي، ولا المعنوي، المقتضي لكون هذه من معنى النبوة، إذ ليست من معناها، "وهو قوله: {مَا وَدَّعَك} أي: تركك {رَبُّكَ وَمَا قَلَى} أبغضك، حذف مفعوله اختصارًا للعلم به، وللجري على نهج الفواصل، ولئلا يخاطبه بالبغض، وإن كان منفيًا، أو ليعم نفسه وأصحابه وأمته.
روى الشيخان وغيرهما عن جندب بن عبد الله، قال: اشتكى النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يقم ليلة، أو ليلتين، فأتته امرأة، فقالت: يا محمد ما أرى شيطانك إلا قد تركك، فأنزل الله، {وَالضُّحَى، وَاللَّيْلِ(8/326)
...........................................
__________
إِذَا سَجَى، مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} [الضحى: 1] .
وروى سعيد بن منصور والفريابي، عن جندب، قال: أبطأ جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال المشركون: قد ودع محمد، فنزلت وهذه المرأة هي العوراء أم جميل أخت أبي سفيان بن حرب.
روى الحاكم برجال ثقات عن زيد بن أرقم، قال: مكث صلى الله عليه وسلم أيامًا لا ينزل عليه، فقالت أم جميل امرأة أبي لهب: ما أرى صاحبك إلا قد ودعك وقلاك، فأنزل الله: {وَالضُّحَى............} الآيات.
وفي الصحيح أيضًا، عن جندب: قالت امرأة: يا رسول الله ما أرى صاحبك إلا أبطأ عنك، فنزلتك {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} .
قال الحافظ: هي زوجته خديجة، كما في المستدرك أيضًا، وأعلام النبوة لأبي داود وأحكام القرآن للقاضي إسماعيل، وتفسير ابن مردويه من حديث خديجة نفسها، فخاطبته كل واحدة منهما بما يليق بها.
وروى سنيد في تفسيره: أن قائل ذلك عائشة، وهو باطل؛ لأنها لم تكن إذ ذاك زوجة.
وأخرج ابن جرير عن عبد الله بن شداد أن خديجة قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: ما أرى ربك إلا قد قلاك، فنزلت.
وأخرج أيضًا عن عكرمة: أبطأ جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم، فجزع جزعًا شديدًا، فقالت خديجة: إني أرى ربك قد قلاك مما ترى من جزعك، فنزلت وكلاهما مرسل، رجاله ثقات.
قال الحافظ: والذي يظهر أن كلًا من أم جميل وخديجة قالت ذلك، لكن أم جميل قالته شماتة، وخديجة قالته توجعًا.
وروى ابن أبي شيبة والطبراني بسند فيه من لا يعرف عن خولة خادم رسول الله صلى الله عليه سولم أن جروًا دخل بيته تحت السرير، فمات، فمكث صلى الله عله وسلم أربعة أيام لا ينزل عليه الوحي، فقال: "يا خولة، ما حدث في بيت رسول الله، جبريل لا يأتيني"، فقلت في نفسي: لو هيأت البيت وكنسته، فأوهيت بالمكنسة تحت السرير، فأخرجت الجرو، فجاء صلى الله عليه وسلم ترعد لحيته، وكان إذا نزل عليه أخذته الرعدة، فأنزل الله: {وَالضُّحَى} إلى قوله: {فَتَرْضَى} ".
قال الحافظ: قصة إبطاء جبريل بسبب الجرو مشهورة، لكن كونها سبب نزول الآية غريب، بل شاذ مردود بما في الصحيح.
{وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى} ؛ لأنها باقية، خالصة من الشوائب، وهذه فانية، مشوبة بالمضار، واللام لابتداء مؤكدة، أو جواب قسم، ففيه تعظيم آخر، أي: كما أعطاك في الدنيا(8/327)
فَتَرْضَى} ثم ختمها كذلك بأحوال ثلاثة فيما يتعلق بالدنيا، وهي قوله تعالى: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى، وَوَجَدَكَ ضَالًّا} أي عن علم الحكم والأحكام {فَهَدَى، وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى} . ثم ذكر في سورة {أَلَمْ نَشْرَحْ} أنه تعالى
__________
يعطيك في الآخرة ما هو أعلى وأكثر، فلا تبال بما قالوه، فهو وعد فيه تسلية بعد ما نفى عنه ما يكره، فهو تحلية بعد تخلية، وقيل: المعنى لنهاية أمرك خير من بدايته، فإنه لا يزال يتصاعد في الرفعة والكمال، {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى: 5] ، وعد شامل لما أعطاه من كمال النفس وظهور الأمر، وإعلاء الدين، ولما ادخر له مما لا يعرف كنهه سواه واللام للتأكيد، وقول الزمخشري، وتبعه البيضاوي: اللام للابتداء، دخل على الخبر بعد حذف المبتدأ والتقدير، ولأنت سوف، رده ابن الحاجب وغيره، بأن فيه تكلفين، وهما تقدير محذوف، وخلع اللام عن معنى الحال، لئلا يجتمع دليلان حال، واستقبال قال: وليست للقسم؛ لأنها إنما تدخل على المضارع مؤكدًا بالنون.
قال ابن هشام: وهو ممنوع، بل تارة تجب اللام وتمتنع النون، وذلك مع الفعلين كالآية، ومع تقدم المعمول بين اللام والفعل نحو: {وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ} ، ومع كون الفعل للحال نحو: {لَا أُقْسِم} ، وتارة يمنعان، وذلك مع الفعل المنفي نحو تالله تفتؤ، وتارة يحبان نحو وتالة لأكيدن، "ثم ختمها" أي: الأحوال المتعلقة بنبوته، "كذلك بأحوال ثلاثة فيما يتعلق بالدنيا" من حيث النبوة، لكن تعلق الثلاثة الأول بالنبوة من حيث كونها حاصلة بها، والثلاثة الثانية بمعنى: أن سببها إكرامه بالنبوة وإن كان أولاها حصل قبل النبوة، والاثنان بعد النبوة، ولو أسقط كذلك، فإن التنبيه على تعلقها بالنبوة، "وهي قوله تعالى: {أَلَمْ يَجِدْك} " منت الوجود بمعنى العلم، {يَتِيمًا} مفعوله الثاني، أو المصادفة ويتيمًا حال، أي: لا أب لك، وقيل: لا مثل لك، {فَآوَى} بأن ضمك إلى عمك أبي طالب، {وَوَجَدَكَ ضَالًّا} ، أي: عن علم الحكم" "بكسر ففتح" جمع حكمة، أي: معرفة العلل والأسباب، فقوله: "والأحكام" عطف مسبب على سبب، وليس الحكم مفرد الأحكام؛ لأنه يصير ما بعده مرادفًا، ولا ينافي ذلك أن بعض الأحكام تعبدي؛ لأنه بالنسبة لنا، أما هو صلى الله عليه وسلم، فكان عارفًا بالعلة {فَهَدَى} أي: هداك إلى معرفتها، وهذا أحد تفاسير في الآية، كما يأتي للمصنف، {وَوَجَدَكَ عَائِلًا} ذا عيال {فَأَغْنَى} [الانشراح: 8] بما حصل لك من ربح التجارة، كذا قصره البيضاوي، ولم يجعله شاملًا لذلك، ولغيره من مبدئه إلى نهاية ما حصل له، أو يقصره على ما حصل له من الغنائم والفتوحات؛ لأن ربح التجارة حصل به أصل الغنى، وما بعده حصل به الزيادة بعد اطمئنان النفس بالأول، فكانت النعمة في الحقيقة هي الربح؛ لأنها التي حصل بها دفع الحاجة، هذا ولم يذكر(8/328)
شرفه عليه الصلاة والسلام بثلاثة أشياء وهي: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَك} أي: ألم نفسحه حتى وسع مناجاة الحق ودعوة الخلق، {وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَك} أي عناءك الثقيل {الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ، وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} وهكذا سورة سورة، حتى قال: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَر} أي أعطيناك هذه المناقب المتكاثرة التي كل واحدة منها
__________
المصنف من أحواله بقية السورة، مع أنها خطاب له لعدم دلالتها على مدحه صريحًا، إذ ليست أوصافًا قائمة به يمدحه بتعدادها، ولا صفات كمالية قائمة به، ولا على تعداد النعم التي أنعم بها عليه، وإنما هي أمر له ونهي، وكلاهما لا يعد من النعم الصريحة، وإن ترتب عليه الامتثال بفعل المأمور وترك المنهي، وهما من أعظم النعم، ولا يرد، قوله أولًا جعل سورة والضحى في مدح نبينا؛ لأن المراد معظمها، أو كلها، ولكن ما تركه هنا مستلزم للكمال؛ لأن كونه منهيًا مأمورًا مقتض لامتثاله، وهو كمال استلزامًا لا صراحة.
"ثم ذكر في سورة: {أَلَمْ نَشْرَح} ، أنه تعالى شرفه عليه الصلاة والسلام بثلاثة أشياء، وهي: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} ، استفهم عن الشرح على وجه الإنكار مبالغة في إثبات الشرح، فكأنه قيل: شرحنا، ولذا عطف عليه، ووضعنا اعتبارًا للمعنى، قاله الكشاف.
قال الطيبي: أي: أنكر عدم الشرح، فإذا أنكره ثبت؛ لأن الهمزة للإنكار، ولم نفي إذا دخل عليه النفي عاد إثباتًا، ولا يجوز جعل الهمزة للتقرير. انتهى. أي: لأن التقرير سؤال مجرد، إذ هو حمل المخاطب على الاعتراف بأمر استقر عنده ثبوته، أو نفيه، فلا يحسن، عطف ووضعنا عليه، "أي: ألم نفسحه حتى وسع مناجاة الحق، ودعوة الخلق" فالمراد به ما يرجع إلى المعرفة والطاعة، فكأنه قيل: ألم نفتح ونوسع صدرك بالإيمان والنبوة، والعلم والحكمة، وبه جزم البغوي، وتقدم غير ذلك.
{وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَك} أي: عناءك" "بفتح المهملة والمد" أي: خضوعك "الثقيل" القوي الذي كنت فيه قبل ظهور أمرك، أو المشقة التي كنت فيها بمعاداة الكفار لك، فوضعنا ذلك بإظهارك عليهم بقتل من قتل، وهداية من اهتدى، فالعناء يكون بمعنى الخضوع، وبمعنى المشقة، {الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ} : أثقله، ويأتي للمصنف في النوع العاشر معنى الآية {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} مر الكلام عليه، "وهكذا سورة سورة حتى قال: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَر} ، أي: أعطيناك هذه المناقب" جمع منقبة "بفتح الميم" الفعل الكريم، كما في المصباح.
وفي المختار بوزن المتربة ضد المثلثة، انتهى، فالقاف مفتوحة، فقراءته بكسرها على هذا خطأ، "المتكاثرة، التي كل واحدة منها أعظم من ملك الدنيا بحذافيرها" بأسرها، أو(8/329)
أعظم من ملك الدنيا بحذافيرها، وإذا أنعمنا عليك بهذه النعم فاشتغل بطاعتنا ولا تبال بقولهم.
ثم إن الاشتغال بالعبادة إما أن يكون بالنفس وهو قوله: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ} ، وإما بالمال وهو قوله: {وَانْحَرْ} .
وتأمل قوله: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ} كيف ذكره بلفظ الماضي، ولم يقل: سنعطيك، ليدل على أن الإعضاء حصل في الزمان الماضي، قال صلى الله عليه وسلم: "كنت نبيًا وآدم بين الروح والجسد". ولا شك أن من كان في الزمان الماضي عزيزًا مرعي الجانب أشرف ممن سيصير كذلك، كأنه تعالى يقول: يا محمد قد هيأنا أسباب سعادتك قبل دخولك في هذا الوجود، فكيف أمرك بعد وجودك واشتغالك بعبوديتنا يا أيها العبد الكريم، إنا لم نعطك هذا الفضل العظيم لأجل طاعتك، وإنما اخترناك بمجرد فضلنا وإحساننا من غير موجب.
__________
بجوانبها: جمع حذفور، كعصفور، كما في القاموس، "وإذ" تعليلية "أنعمنا عليك بهذه النعم".
وفي نسخة: وإذا للظرفية المجردة، والفاء في "فاشتغل بطاعتنا" زائدة على النسختين، والتعليل أظهر، "ولا تبال بقولهم": ساحر، كاهن، مجنون، وغير ذلك، "ثم إن الاشتغال بالعبادة إما أن يكون بالنفس، وهو قوله: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ} أمر بالصلاة مطلقًا، أو التهجد، وكان الظاهر، فأشكر، فعدل عنه؛ لأن مثل هذه النعمة العظيمة ينبغي أن يكون شكرها كذلك، وأعظم ذلك العبادة، وأعظمها الصلاة، "وإما بالمال، وهو قوله: {وَانْحَرْ} أمر بتقريب البدن؛ لأن النحر يختص بها وفي غيرها، يقال: ذبح، "وتمل قوله: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ} كيف ذكره بلفظ الماضي، ولم يقل: سنعطيك" بلفظ المضارع، "ليدل" صلة ذكره، "على أن الإعطاء حصل في الزمان الماضي" كما "قال عليه الصلاة والسلام: "كنت نبيًا وآدم بين الروح والجسد"، رواه أحمد والبخاري في التاريخ وغيرهما، ومر الكلام عليه أول الكتاب.
"ولا شك أن من كان في الزمان الماضي عزيزًا، مرعي الجانب، أشرف ممن سيصير، كذلك كأنه تعالى يقول: يا محمد قد هيأنا": يسرنا وسهلنا "أسباب سعادتك قبل دخولك في هذا الوجود، فكيف أمرك بعد وجودك واشتغالك بعبوديتنا"، استفهام تفخيم وتعظيم، أي: فاعتقد من الكمالات التي تحصل لك بعد وجودك ما شئت، فإنها لا نهاية لها.
"يا أيها العبد الكريم إنا لم نعطك هذا الفضل العظيم" المعبر عنه بالكوثر، "لأجل طاعتك، وإنما اخترناك بمجرد فضلنا وإحساننا من غير موجب"، مرتب على ما قبل الاستفهام،(8/330)
واختلف المفسرون في تفسير الكوثر على وجوه.
منها: أنه نهر في الجنة، وهذا هو المشهور والمستفيض عند السلف والخلف، روى أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "بينما أنا أسير في الجنة إذ أنا بنهر حافتاه قباب الدر المجوف، قلت: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الكوثر الذي أعطاك ربك، فإذا طينه مسك إذفر" رواه البخاري.
__________
أي: هيأنا أسباب سعادتك قبل دخولك في هذا الوجود، لا لأجل طاعتك المتأخرة، بل فضلًا، وليس مرتبًا على الاستفهام لئلا يكون فيه بعض تناف.
"واختلف المفسرون في تفسير الكوثر على وجوه" وصلت إلى نحو عشرين قولًا، "منها: أنه نهر في الجنة، وهذا هو المشهور المستفيض عند السلف والخلف" ودليله أنه "روى أنس" بن مالك؛ "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "بينما" "بالميم" "أنا أسير في الجنة إذا أنا بنهر" وللترمذي: إذ عرض لي نهر، أي: ظهر، وللبخاري في التفسير عن أنس، قال: لما عرج بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى السماء قال: "أتيت على نهر، "حافتاه" "بحاء مهملة وخفة الفاء" جانباه؛ لأنه ليس أخدودًا، أي: شقا مستطيلًا في الأرض، يجري فيه الماء حتى يكون له حافتان، ولكنه سائل على وجه أرض الجنة، ومعلوم أنه ليس عامًا في جميعها، فما جاوز ما انتهى سيلانه إليه هو جانبه.
روى أبو نعيم والضياء عن أنس، قال: قال صلى الله عليه وسلم: "لعلكم تظنون أن أنهار الجنة أخدود في الأرض، لا والله إنها لسائحة على وج الأرض"، "قباب" "بكسر القاف وخفة الموحدة" جمع قبة، وللترمذي: حافتاه فيهما لؤلؤ مثل القباب، فالمراد في جانبيه مثل قباب "الدر المجوف": "بفتح الواو مشددة" صفة للدر، وهو كبار اللؤلؤ حقيقة، وتجويز أن مثله في الحسن والنضارة، خلاف الظاهر بلا داعية، "قلت: ما هذا يا جبريل؟، قال: هذا الكوثر الذي أعطاك ربك"، وعطف على مقدر، أي: فنظرت له، "فإذا طينه مسك" إذ المفاجأة إنما تترتب على النظر لا على أعطاك ربك، ويدل له رواية الترمذي عن أنس، قال: أي: المصطفى: ثم ضرب، أي: جبريل، بيده إلى طينه فاستخرج مسكًا، أي: إظهار الشرف المنعم به، وسماه طينًا جريًا على العادة في كون مقر الماء طينًا، كما قال الدلجي وغيره، فلا بد من تقدير في قوله: طينه مسك، ليصح الحمل، وهو هنا في المبتدأ، أي: فإذا مادة ما تحت مائه مسك، ولا يقدر في الخبر، أي: مثل مسك؛ لأنه خلاف الظاهر من الأحاديث؛ أنه يجري على المسك، ولا يعارضه حديث عبد الله بن عمرو بن العاصي، ومجراه على الدر والياقوت؛ لأنهما فوق طينه الذي هو مسك، كما أن الأنهار تجري على طين وحصى، فهذا حصاه جواهر وطينه مسك، "أذفر" "بمعجمة(8/331)
وقيل: الكوثر أولاده، فإن هذه السورة إنما نزلت ردًا على من عابه عليه الصلاة والسلام بعدم الأولاد، وعلى هذا فالمعنى: أنه يعطيه نسلًا يبقون على ممر الزمان. فانظر كم قتل من أهل البيت. ثم العالم ممتلئ منهم، ولم يتفق ذلك لنبي من الأنبياء غيره.
وقيل: الكوثر خير الكثير. وقيل: النبوة، وهي من الخير الكثير.
__________
ساكنة"، أي: شديد الرائحة الطيبة، ويطلق أيضًا على الكريهة، وليس بمراد هنا، وأما بمهملة، فخاص بالمنثنة، "رواه البخاري" في الرقاق بهذا اللفظ، عن شيخيه أبي الوليد هشام بن عبد الملك، وهدبة بن خالد، كلاهما عن همام، عن قتادة، عن أنس، ثم قال في آخر طينه، أي: بالنون، أو طيبه، أي: بموحدة شك هدبة، أي: ولم يشك أبو الويد أنه بالنون.
قال الحافظ وغيره: وهو المعتمد، ففي البعث للبيهقي من طريق عبد الله بن مسلم عن أنس بلفظ: "ترابه مسك"، ورواه في التفسير إلى قوله: "هذا الكوثر"، وأخرجه مسلم أيضًا، كما قدم في المعراج والترمذي.
"وقيل: الكوثر: أولاده" من فاطمة؛ لأن عقبه إنما هو منها، ويؤيده قوله الآتي: "فانظر كم قتل من أهل البيت"، "فإن هذه السورة إنما نزلت ردًا على من عابه عليه الصلاة والسلام بعدم" أي: بفقد "الأولاد" كالعاصي بن وائل، قال: لما مات القاسم، لقد أصبح محمد أبتر، فنزل: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} ، عوضًا عن مصيبتك بالقاسم، رواه يونس في زيادات المغازي.
ولابن جرير عن شمر بن عطية: كان عقبة بن أبي معيط يقول: لا يبقى لمحمد ولد وهو أبتر، فأنزل الله فيه: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ} .
وللطبراني بسند ضعيف عن أبي أيوب: لما مات إبراهيم مشى المشركون بعضهم إلى بعض، فقالوا: إن هذا الصابئ قد بتر الليلة، فأنزل الله: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَر} ، إلى آخر السورة، فإن صح هذا كله، فقد تعدد السبب، والنزول بمكة والمدينة، إذ موت إبراهيم بها.
"وعلى هذا، فالمعنى أنه" تعالى "يعطيه" صلى الله عليه وسلم "نسلًا يبقون على ممر الزمان" فهو من وضع الماضي موضع المستقبل، "فانظر كم قتل من أهل البيت" مع الحسين وبعده، "ثم العالم ممتلئ منهم، ولم يتفق ذلك لنبي من الأنبياء غيره" مثل هذا.
"وقيل: الكوثر: الخير الكثير" الذي أعطاه اليه إياه، قاله ابن عباس، رواه البخاري وغيره، فهو وصف مبالغة في المفرط الكثرة، فيشمل النبوة والقرآن والخلق الحسن العظيم، وكثرة الأتباع، والعلم، والشفاعة، والمقام المحمود وغيرها، مما أنعم به عليه، لكن أورد عليه أن أراد(8/332)
وقيل: علماء أمته، وقيل: الإسلام، ولا ريب أنهما من الخير الكثير، فالعلماء ورثة الأنبياء، كما رواه أحمد وأبو داود والترمذي، وأما "علماء أمتي كأنبياء بني
__________
ابن عباس بهذا بيان ما وضع له لغة، أو بيان معنى عام خص في الآية، فلا كلام فيه، وإن أراد تفسير الآية فالنص النبوي جاء بخلافه، كما مر ويأتي.
"وقيل: النبوة وهي من الخير الكثير" الذي أعطيه، "وقيل: علماء أمته" وجعل البيضاوي مجموع أولاده والاتباع العلماء لا واحد العلة، قول آخر لم يذكره المصنف.
"وقيل: الإسلام ولا ريب"، لا شك "أنهما" أي: الإسلام والعلماء "من الخير الكثير" الذي فسر به ابن عباس الكوثر، فلا يقصر عليهما ولا على النبوة ولا غيرها، بل يعم شرف الدارين، "فالعلماء ورثة الأنبياء"؛ لأن الميراث ينتقل للأقرب، وأقرب الذين فازوا بالحسنيين العلم والعمل، وحازوا الفضيلتين الكمال والتكميل، ولا رتبة فوق رتبة النبوة، فلا شرف فوق شرف وارث تلك الرتبة، ولذا اشتغلت الملائكة وغيرهم من المخلوقات بالاستغفار والدعاء لهم إلى يوم القيامة.
وروى ابن عدي وأبو نعيم والديلمي عن علي، رفعه: العلماء مصابيح الأرض، وخلفاء الأنبياء، وورثتي وروثة الأنبياء، قال تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} [فاطر: 32] .
قال الكشاف: ما سماهم ورثة الأنبياء، إلا لمداناتهم لهم في الشرف والمنزلة؛ لأنهم القوام بما بعثوا من أجله.
وقال الغزالي: لا يكون العالم وارثًا إلا إذا طلع على جميع معاني الشريعة، حتى لا يكون بينه وبينه إلا درجة النبوة، وهي الفارق بين الوارث والموروث، إذ هو الذي حصل له المال واشتغل بتحصيله، واقتدر عليه، والوارث هو الذي لم يحصله، لكن انتقل إليه وتلقاه عنه. انتهى.
"كما رواه أحمد وأبو داود والترمذي" وابن ماجه والبيهقي، كلهم عن ابي الدرداء، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سهل الله له طريقًا إلى الجنة، وأن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضا بما يصنع، وأن العالم ليستغفر له من في السماوات ومن في الأرض حتى الحيتان في الماء، وفضل العالم على العابد، كفضل القمر على سائر الكواكب، وأن العلماء ورثة الأنبياء، إن الأنبياء لم يورثوا دينارًا ولا درهمًا، إنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر"، صححه ابن حبان والحاكم وغيرهما، وحسنه حمزة الكناني، وضعفه الترمذي وغيره بالاضطراب في سنده.
قال السخاوي: لكن له شواهد يتقوى بها، ولذا قال شيخنا: له طرق يعرف بها أن(8/333)
إسرائيل" فقال الحافظ ابن حجر، ومن قبله الدميري والزركشي، أنه لا أصل له. نعم روى أبو نعيم في فضل العالم العفيف بسند ضعيف عن ابن عباس رفعه: أقرب الناس من درجة النبوة أهل العلم والجهاد.
وقيل: الكوثر كثرة الأتباع والأشياع.
وعن بعضهم: المراد بالكوثر العلم، وحمله عليه أولى لوجوه: أحدها أن العلم هو الخير الكثير، والثاني: إما أن يحمل الكوثر على نعم الآخرة أو على نعم الدنيا، قال: والأول غير جائز؛ لأنه قال: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَر} ، والجنة سيعطيها لا
__________
للحديث أصلًا، وقد أخرجه الديلمي عن البراء بن عازب، رفعه: "العلماء ورثة الأنبياء، يحبهم أهل السماء، وتستغفر لهم الحيتان في البحر إذا ماتوا"، وأورده أيضًا بلا سند عن أنس، مرفوعًا: "العلماء ورثة الأنبياء، وإنما العالم من عمل بعلمه".
"وأما" خبر "علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل"، فإنهم كانوا يدعون إلى شريعة موسى من غير أن يأتوا بشرع مجدد، وكذا علماء هذه الأمة يدعون إلى الشريعة المحمدية.
"فقال الحافظ ابن حجر، ومن قبله الدميري والزركشي: أنه لا أصل له".
زاد بعضهم: ولا يعرف في كتابه معتبر.
وسئل عنه الحافظ العراقي: فقال: لا أصل له، ولا إسناد بهذا اللفظ، ويغني عنه: "العلماء ورثة الأنبياء"، وهو حديث صحيح.
وعن عبد الله بن عمرو، مرفوعًا: "أكرموا حملة القرآن، فمن أكرمهم فقد أكرمني، ومن أكرمني فقد أكرم الله، وألا فلا تنقصوا حملة القرآن حقوقهم، فإنهم من الله بمكان، كاد حملة القرآن أن يكونوا أنبياء إلا أنه لا يوحى إليهم"، رواه الديلمي، وقال: إنه غريب جدًا.
قال السخاوي: وفيه من لا يعرف، وأحسبه غير صحيح.
"نعم، روى ابو نعيم في" كتاب "فضل العالم العفيف بسند ضعيف، عن ابن عباس، رفعه: "أقرب الناس من درجة النبوة أهل العلم والجهاد"؛ لأنهم لما قاموا مقام الأنبياء في الأمرين استحقوا أن يكونوا أقرب الناس من درجتهم.
"وقيل: الكوثر: كثرة الأتباع والأشياع" "بمعجمة وتحتية عطف" مساو، "وعن بعضهم: المراد بالكوثر العلم، وحمله عليه أولى لوجوه"، أي: ثلاثة.
"أحدها: أن العلم هو الخير الكثير" الذي يتفرع عنه سعادة الدارين.
"و" الوجه "الثاني: إما أن يحمل الكوثر على نعم الآخرة، أو على نعم الدنيا، قال" ذلك البعض: "والأول غير جائز" إن حمل على حقيقة اللفظ؛ "لأنه قال: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ(8/334)
أنه أعطاها، فوجب حمل الكوثر على ما وصل إليه في الدنيا، وأشرف الأمور الواصلة إليه في الدنيا هو العلم والنبوة، فوجب حمل اللفظ على العلم، والثالث: أنه لما قال {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} قال عقبة: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَر} والشيء الذي يتقدم على العبادة هو المعرفة؛ ولأن "الفاء" في قوله فصل للتعقيب، ومعلوم أن الموجب للعبادة ليس إلا العلم.
وقيل: الكوثر الخلق الحسن، كما قال صلى الله عليه وسلم في حديث: "ذهب حسن الخلق بخير الدنيا والآخرة". رواه الطبراني. وعن ابن عباس: جميع نعم الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم.
وبالجملة: فليس حمل الآية على بعض هذه النعم أولى من حملها على الباقي، فوجب حملها على الكل، ولذا روي أن سعيد بن جبير لما روى هذا القول
__________
الْكَوْثَرَ} بصيغة الماضي، "والجنة سيعطيها لا أنه أعطاها، فوجب حمل الكوثر على ما وصل إليه في الدنيا" إبقاء للفظ أعطينا على حقيقته، "وأشرف الأمور الواصلة إليه في الدنيا، هو العلم والنبوة، فوجب حمل اللفظ على العلم" كأنه قصره عليه مع اشتراكه مع النبوة في أنهما أشرف ما وصل إليه؛ لأن العلم مترتب عليها، فكأنه المقصود بالوحي، وثمراته كثيرة بخلاف النبوة، فخاصة به عليه الصلاة والسلام.
"و" الوجه "الثالث: أنه لما قال: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} ، قال عقبة: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} ، والشيء الذي يتقدم على العبادة هو المعرفة" أي: العلم بالأحكام، فيفيد أنه المراد؛ "ولأن الفاء في قوله فصل، للتعقيب، ومعلوم، أن الموجب"، أي: السبب المقتضي "للعبادة ليس إلا العلم"، فيفيد أنه المراد، لكن هذا كله استنباط عقلي لا يلاقي تفسيره صلى الله عليه وسلم بأنه نهر في الجنة.
"وقيل: الكوثر: الخلق الحسن"؛ لأن به سعادة الدارين، "كما قال صلى الله عليه وسلم في حديث: "ذهب حسن الخلق بخير الدنيا والآخرة"، رواه الطبراني" والبزار، "وعن ابن عباس" أن الكوثر "جميع نعم الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم"، فشمل النبوة والعلم، وجميع ما مر وغيره من النعم التي لم تذكر.
"وبالجملة، فليس حمل الآية على بعض هذه النعم أولى من حملها على الباقي، فوجب حملها على الكل، ولذا روي أن سعيد بن جبير لمغا روى هذا القول"، إن الكوثر(8/335)
عن ابن عباس قال له بعضهم: إن ناسًا يزعمون أنه نهر في الجنة، فقال سعيد: النهر الذي في الجنة من الخير الذي أعطاه الله إياه.
قال الإمام فخر الدين بن الخطيب: قال بعض العلماء: ظاهر قوله تعالى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَر} يقتضي أنه تعالى قد أعطاه ذلك الكوثر فيجب أن يكون الأقرب حمله على ما آتاه الله تعالى في الدنيا من النبوة والقرآن والذكر العظيم
__________
جميع النعم، "عن ابن عباس" لكن الذي رواه البخاري من طريق أبي بشر وعطاء بن السائب، عن سعبد بن جبير، عن ابن عباس، قال: الكوثر: الخير الكثير الذي أعطاه الله إياه.
قال أبو بشر: فقلت لسعيد: إنا ناسًا يزعمون أنه نهر في الجنة، فقال سعيد: النهر الذي في الجنة من الخير الذي أعطاه الله إياه، "قال له بعضهم"، هو أبو بشر جعفر بن أبي وحشية، واسمه إياس: "إنا ناسًا" وفي رواية: أناسًا "بضم الهمزة" وسمي منهم أبو إسحاق السبيعي وقتادة "يزعمون" يقولون، "أنه نهر في الجنة، فقال سعيد: النهر الذي في الجنة من الخير الذي أعطاه الله إياه"؛ لأن النهر فرد من أفراد الخير الكثير، فلا تنافي، لكن صرح صلى الله عليه وسلم؛ بأنه نهر في الجنة، كما في مسلم، ويأتي، وكما مر عن الصحيحين في حديث المعراج؛ أن جبريل قال له: هذا الكوثر الذي أعطاك ربك.
وفي الصحيح عن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود؛ أنه سأل عائشة عن قوله تعالى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَر} ، قالت: نهر أعطيه نبيكم في الجنة، شاطئاه عليه در مجوف، آنيته كعدد النجوم، فأي معدل عن هذا على أنه قد ورد عن ابن عباس تفسيره بالنهر. فكأن بلغه عن المصطفى، فرجع عن الاستنباط.
أخرج ابن أبي الدنيا عن ابن عباس في قوله تعالى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَر} ، قال: هو نهر في الجنة، عمقه سبعون ألف فرسخ، ماؤه أشد بياضًا من اللبن، وأحلى من العسل، شاطئاه من اللؤلؤ والزبرجد والياقوت، خص الله به نبيه قبل الأنبياء، وما ذكر في عمقه لا يخالفه ما رواه ابن أبي الدنيا.
عنه أيضًا أنه سئل: ما أنهار الجنة، أفي أخدود؟، قال: لا، ولكنها تجري على أرضها، لا تفيض ههنا ولا ههنا؛ لأنه أجيب؛ بأن المراد أنها ليست في أخدود، كالجداول ومجاري الأنهار في الأرض، بل سائحة على وجه الأرض مع عظمها وارتفاع حافاتها، فلا ينافي ما ذكر في عمقها.
"قال الإمام فخر الدين بن الخطيب" الرازي: "قال بعض العلماء: ظاهر قوله تعالى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَر} ، يقتضي أنه تعالى قد أعطاه ذلك الكوثر، فيجب أن يكون الأقرب(8/336)
والنصر على الأعداء. وأما الحوض وسائر ما أعده الله له من الثواب فهو وإن جاز أن يقال: إنه داخل فيه؛ لأن ما ثبت بحكم وزعد الله فهو كالواقع، إلا أن الحقيقة ما قدمناه؛ لأن ذلك وإن أعد له فلا يصح أن يقال على الحقيقة إنه أعطاه الكوثر في حال نزول هذه السورة بمكة، ويحتمل أن يجاب عنه بأن من أقر لولده الصغير بشيء يصح أن يقال: أعطاه ذلك الشيء مع أن الصبي في ذلك الحال ليس أهلًا للتصرف. انتهى.
وقد روينا في صحيح مسلم من حديث أنس بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا إذ أغفى إغفاءة، ثم رفع رأسه متبسمًا، فقلنا ما يضحكك أضحك الله
__________
حمله على ما آتاه الله تعالى في الدنيا من النبوة، والقرآن، والذكر العظيم، والنصر على الأعداء" والآيات البينات.
"وأما الحوض" الذي له في القيامة، وهو أحد ما قيل في تفسير الكوثر، كما في الشفاء، "وسائر ما أعده الله له من الثواب" في الآخرة، "فهو وإن جاز أن يقال: إنه داخل فيه؛ لأن ما ثبت بحكم وعد الله، فهو كالواقع"؛ لأنه لا يخلف وعده، وجوازه لا يوجب الحمل عليه، ولا يرجحه؛ لأنه إذا حمل عليه بخصوصه، أو على ما يشمله كان مجازًا، وإذا حمل على ما أعطيه في الدنيا فقط كان حقيقة، وهي مقدمة على المجاز ما أمكنت، حيث لا مانع، وقد علم أن المانع تفسيره صلى الله عليه وسلم؛ بأنه نهر في الجنة، "إلا أ، الحقيقة ما قدمناه" في قوله: فيجب أن يكون الأقرب.. إلخ؛ لأن ما أعطاه في الدنيا ثبت إعطاؤه له بالعقل، فاستعمال الإعطاء حقيقة فيه، بخلاف أمور الآخرة؛ "لأن ذلك وإن أعد له، فلا يصح أن يقال على الحقيقة، أنه أعطاه الكوثر في حال نزول هذه السورة بمكة"، وإنما يصح أن يقال ذلك على المجاز، إما؛ لأنها ستعطي، أو؛ لأنه تعالى قدر في علمه أنها له، فعبر عنها بأعطينا.
"ويحتمل أن يجاب عنه؛ بأن من أقر لولده الصغير بشيء، يصح أن يقال: أعطاه ذلك الشيء، مع أالصبي في ذلك الحال ليس أهلًا للتصرف. انتهى.
وعليه يحمل أعطي على ما أعطاه من أمور الدنيا والآخرة، ولا يكون مجازًا؛ لأن من وهب شيئًا لولده الصغير، وقبله له صار ملكًا حقيقيًا للصغير، فما هنا كذلك.
"وقد روينا في صحيح مسلم" وسنن أبي داود والنسائي، "من حديث أنس: بينما" "بالميم" "رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا"، أي: بيننا، وأظهر زائدة، "إذ أغفي إغفاءة"، أي: نام نومة خفيفة، "ثم رفع رأسه متبسمًا، فقلنا: ما يضحكك؟، أضحك الله سنك يا رسول الله" قال(8/337)
سنك، يا رسول الله؟ قال: "نزلت علي سورة آنفًا فقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ، فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ، إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ} . ثم قال: أتدرون ما الكوثر؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: فإنه نهر وعدنيه ربي، عليه خير كثير، وهو حوض ترد عليه أمتي يوم القيامة، آنيته عدد النجوم، فيختلج العبد منهم فأقول: رب إنه من أمتي، فيقول: ما تدري ما أحدث بعدك".
__________
الأبي: عبروا بالضحك عن التبسم لوضوح البسم منه صلى الله عليه وسلم، فعبروا عنه بالضحك، "قال: نزلت علي سورة آنفًا" أي: قريبًا، "فقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ، فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ، إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ} ، فهم منه فاهمون أن السورة نزلت في تلك الإغفاءة؛ لأن رؤيا الأنبياء وحي.
قال في الإتقان: والأشبه أن القرآن كله نزل يقظة، وأجاب الرافعي؛ بأنه خطر له في النوم سورة الكوثر، المنزلة في اليقظة، أو عرض عليه الكوثر الذي نزلت فيه السورة، فقرأها عليهم، "فسره لهم، أو الإغفاء ليست نومًا، بل هي البرحاء التي كانت تعتريه عند الوحي".
قال في الإتقان: والأخير أصح من الأول؛ لأنه قوله: أنزل علي آنفًا، بدفع كونها نزلت قبل ذلك.
"ثم قال: "أتدرون ما الكوثر؟ "، قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: "فإنه نهر" داخل الجنة، كما رآه المصطفى ليلة المعراج، كما مر في حديث أنس في الصحيح، "وعدنيه ربي" بقوله: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} ، "عليه خير كثير" منه قوله سابقًا: حافتاه قباب الدر، وطينه مسك أذفر، "وهو حوض"، أي: نهر في الجنة، يسيل في حوض، "ترد عليه أمتي يوم القيامة" وفي رواية لأحمد: ويفتح نهر الكوثر إلى الحوض.
وفي مسلم عن أبي ذر: أن الحوض يشخب فيه ميزابان من الجنة، قال المصنف: ويطلق على الحوض كوثر، لكونه يمد منه.
وقال الحافظ: وهذا النهر هو الذي يصب في الحوض، فهو مادة الحوض، كما جاء صريحًا في البخاري، "آنيته عدد النجوم" ولأحمد من رواية الحسنن عن أنس: أكثر من عدد نجوم السماء.
وفي الصحيحين من حديث ابن عمرو: "وكيزانه كنجوم السماء، من شرب منه فلا يظمأ أبدًا"، "فيختلج" "بضم التحتية، وسكون المعجمة، وفتح الفوقية"، واللام، وبالجيم مبني للمفعول" أي: يجتذب ويقتطع $"العبد منهم، فأقول: رب إنه من أمتي" فلم أخرج منهم، "فيقول: ما تدري ما أحدث بعدك" من الردة عن الإسلام والمعاصي، فيمنعون من الحوض(8/338)
وهذا تفسير صريح منه صلى الله عليه وسلم بأن المراد بالكوثر -هنا- الحوض، فالمصير إليه أولى، وهذا هو المشهور كما تقدم.
فسبحان من أعطاه هذه الفضائل العظيمة وشرفه بهذه الخصال العميمة، وحباه بما أفاضه عليه من نعمه الجسيمة.
وقد جرت عادة الله تعالى مع أنبيائه عليهم الصلاة والسلام أن يناديهم بأسمائهم الأعلام نحو: {يَا آدَمُ اسْكُن} [البقرة: 35] {يَا نُوحُ اهْبِط} [هود: 48] {يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّه} [القصص: 30] ، {يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ} .
__________
حتى يطهروا من ذنوبهم، وأحضر المرتدون" زيادة لتنكيلهم، وحسرتهم، "وهذا تفسير صريح منه صلى الله عليه وسلم بأن المراد بالكوثر هنا الحوض" أي: النهر الذي يصب في الحوض بدليل قوله نهر، "فالمصير إليه أولى" أي: أحق وأوجب.
وقول الشارح: أي: من حيث الاعتبار، فلا ينافي ما قدمه من أنه واجب فيه، أنه لم يقدم ذلك، إنما قدم الوجوب في تفسيره بغير ذلك، "وهذا هو المشهور، كما تقدم" في قوله: إنه نهر في الجنة، وهذا هو المشهور المستفيض عند السلف والخلف، وهذا صريح في تأويل قوله الكوثر: الحوض بما قلناه؛ لأنه الذي قدمه.
وقد قيل: إن المراد به الحوض الذي في القيامة على ظاهر الحديث، فلا تأويل، وقيل: الشفاعة، وقيل: المعجزات الكثيرة، وقيل: المعرفة، أي: العلوم اللدنية التي أفاضها عليه بلا واسطة، فكأنها كوثر، وقيلك تخفيفات الشريعة، وقيل: كثرة الأمة، ومغايرته لكثرة الأتباع بحمله على أصحابه لكثرتهم على اتباع غيره عن المرسلين جدا، وقيل: رفعة الذكر، وقيل: الدعوات المجابات له، وقيل: كلمة التوحيد لا إله إلا الله، محمد رسول الله، وقيل: الخمس صلوات التي خصت بها أمته، فهذه عشرة، والمصنف حكى عشرة، فتلك عشرون أصحها الأول.
"فسبحان من أعطاه هذه الفضائل العظيمة، وشرفه بهذه الخصال العميمة، وحباه" بموحدة "بما أفاضه عليه من نعمه" جمع نعمة، "الجسيمة، وقد جرت عادة الله تعالى مع أنبيائه عليهم الصلاة والسلام، أن يناديهم بأسمائهم الأعلام نحو: {يَا آدَمُ اسْكُن أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} ، وبدأ به؛ لأنه أبو البشر المقدم عليهم، {يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ} ، وكذا يا إبراهيم، وقد صدقت الرؤيا، {يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّه} ، {يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ} ، {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ} ، {يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى} ، {خُذِ الْكِتَاب} .(8/339)
[المائدة: 110] ، وأما نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فناداه بالوصف الشريف من الإنباء والإرسال فقال: يا أيها النبي، يا أيها الرسول. ولله در القائل:
ودعا جميع الرسل كلا باسمه ... ودعاك وحدك بالرسول وبالنبي
قال الشيخ عز الدين بن عبد السلام: ولا يخفى على أحد أن السيد إذا دعا عبيده بأفضل ما أوجد لهم من الأوصاف العلية والأخلاق السنية، ودعا الآخرين بأسمائهم الأعلام التي لا تشعر بوصف من الأوصاف، ولا بخلق من الأخلاق، أن منزلة من دعاه بأفضل الأسماء والأوصاف أعز عليه، وأقرب إليه ممن دعاه باسمه
__________
"وأما نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فناداه بالوصف الشريف من الإنباء والإرسال" الدال على التعظيم والملاطفة لمنزلته عنده، "فقال: يا أيها النبي، يا أيها الرسول" يا أيها المزمل، يا أيها المدثر، فلم يذكر باسمه في النداء تعظيمًا، وذكر في الخبر، كقوله: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُول} ، {ُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّه} ، {وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} ؛ لأنه ورد مورد التعيين والإعلام؛ بأن صاحب هذا الاسم هو الرسول، وقوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21] الآية، لما لم يورد هذا المورد لم يذكر اسمه.
"ولله در القائل:
ودعا جميع الرسل كلا باسمه ... ودعاك وحدك بالرسول وبالنبي
دعا: نادى، ومراد المصنف خطاب الله تعالى له في القرآن باسمه، فلا يرد عليه، كما توهم خطابه بقوله: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْت} [القصص: 56] الآية، وقوله: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52] الآية، وقوله في المحشر: ارفع رأسك وقل تسمع يا محمد ولم يقل: يا أيها النبي، أو يا أيها الرسول، وإن قيل: حكمته أنه أخصر، ففيه سرعة إجابته، وتطويل الكلام لا يناسب مقام الإذن في الشفاعة، وقد سرى هذا التشريف ببركته إلى أمته.
ففي الخصائص: إن الله شرفهم بخطابهم في القرآن، بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} ، وخاطب الأمم السالفة بيا أيها المساكين.
"قال الشيخ عز الدين بن عبد السلام: ولا يخفى على أحد أن السيد إذا دعا"، نادى "عبيده بأفضل ما أوجد لهم" أعطاهم، "من الأوصاف العلية، والأخلاق السنية" بمعنى العلية فحسنه اختلاف اللفظ، "ودعا آخرين" وفي نسخة: غيرهم "بأسمائهم الأعلام التي لا تشعر بوصف من الأوصاف، ولا بخلق" "بضمتين" "من الأخلاق" دل دعاؤه لذلك البعض على "أن منزلة من دعاه بأفضل الأسماء والأوصاف أعز عليه وأقرب إليه ممن دعاه باسمه العلم"،(8/340)
العلم، وهذا معلوم بالعرف: أن من دعي بأفضل أوصافه وأخلاقه كان ذلك مبالغة في تعظيمه واحترامه. انتهى.
وانظر ما في نحو قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30] من ذكر "الرب" تعالى وإضافته إليه صلى الله عليه وسلم، ومال في ذلك من التنبيه على شرفه واختصاصه وخطابه، وما في ذلك من الإشارة اللطيفة، وهي أن المقبل عليه بالخطاب، له الحظ الأعظم، والقسم الأوفر من الجملة المخبر بها إذا هو في الحقيقة أعظم خلفائه.
ألا ترى إلى عموم رسالته ودعائه، وجعله أفضل أنبيائه، أم بهم ليلة إسرائه، وجعل آدم فمن دونه يوم القيامة تحت لوائه، فهو المقدم في أرضه وسمائه، وفي دار تكليفه وجزائه.
وبالجملة، فقد تضمن الكتاب العزيز من التصريح بجليل رتبته، وتعظيم
__________
فالمقدر جواب، إذ؛ لأن لفظ أن الفرد لا يقع جوابًا لإذا، وجملة، إذا من الشرط والجواب خبر أن السيد.. إلخ.
"وهذا معلوم بالعرف؛ أن من دعي بأفضل أوصافه وأخلاقه كان ذلك مبلاغة في تعظميه واحترامه. انتهى" إذا العدول عن الاسم العلم يقتضي ذلك عرفًا، ولذا قال الله تعالى: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} [النور: 63] .
"وانظر" نظر تأمل وتدبر في المعاني المستنبطة من الألفاظ، "ما في نحو قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30] الآية، من ذكر الرب تعالى" المشعر بمزيد الرأفة "وإضافته" أي: رب، "إليه صلى الله عليه وسلم" بقوله: ربك، "وما في ذلك من التنبيه على شرفه" بإضافته إليه، "واختصاصه وخطابه، وما في ذلك من الإشارة اللطيفة، وهي أن المقبل عليه بالخطاب له الحظ الأعظم والقسم الأوفر من الجملة المخبر بها"، وهي هنا خلافة الله في الأرض، فلا ريب أن له النصيب الأوفى منها، "إذ هو في الحقيقة أعظم خلفائه، ألا ترى إلى عموم رسالته ودعائه" الخلق إلى ذلك: {إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف: 158] "وجعله أفضل أنبيائه"، بدليل أنه "أم بهم ليلة إسرائه" بتقديم جبريل له، والحق في الإمامة للأفضل، "وجعل آدم فمن دونه" أي: فمن بعده، "يوم القيامة تحت لوائه، فهو المقدم في أرضه وسمائه، وفي دار تكليفه" الدنيا "وجزائه" الاخرة" وبالجملة فقد(8/341)
قدره، وعلو منصبه، ورفعة ذكره ما يقضي بأنه استولى على أقصى درجات التكريم، ويكفي إخباره تعالى بالعفو عنه ملاطفة قبل ذكر العتاب في قوله تعالى: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} [التوبة: 43] ، وتقديم ذكره على الأنبياء تعظيمًا له، مع تأخره عنهم في الزمان في قوله تعالى: {وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} [الأحزاب: 7] وأخباره بتمني أهل النار طاعته في قوله تعالى: {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا} [الأحزاب: 66] ، وهذا بحر لا ينفد وقطر لا يعد.
__________
تضمن الكتاب العزيز" القوي الغالب، "من التصريح بجليل رتبته وتعظيم قدره"، أي: رتبته وشرفه، "وعلو منصبه"، بزنة مسجد العلو والرفعة، كما في المصباح كغيره، "ورفعة ذكره ما يقضي بأنه استولى على أقصى درجات التكريم" أي: أعلاها، "ويكفي إخباره تعالى بالعفو عنه ملاطفة" معاملة وشفقة، والماعلة مجازية لتنزيل استحقاقه بمنزلة فعله، أو هي لأصل الفعل بلا مشاركة، "قبل ذكر العتاب في قوله تعالى: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} [التوبة: 43] فقدم عفا الله عنك، دعامة تقصد بها الملاطفة، إذ هو خبر معناه: لا عهدة عليك، وليس المعنى أن الإذن ذنب يتعلق به العقوبة؛ لأن مسامحته لهم مع أذاهم إسقاط للحظوظ، فهو عتب بلطف، لا ملامة فيه، أي: قد بلغت في الامتثال والاحتمال الغاية، وزدت في طاعة الله ومحبته، والرفق بالبر والفاجر ما أجحف بك، فهو من عتب الحبيب من حيفة على نفسه، وتخفيف لا تعنيف، ومدح لا قدح، ويأتي بسط هذا إن شاء الله.
"و" يكفي في ذلك أيضًا "تقديم ذكره على الأنبياء تعظيمًا له" إذ التقديم يعطيه، "مع تأخره عنهم في الوجود في قوله تعالى": {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} قيل معناه: تبليغ الرسالة وتصديق بعضهم بعضًا، وقيل: أن يعلنوا بنبوة المصطفى، ويعلن هو بأنه لا بني بعده، ففيها تفضيل له من وجوه، منها: أنه ذكر النبيين جملة، ثم خص بالذكر بعضهم تشريفًا لهم، وقدمه صلى الله عليه وسلم عليهم تشريفًا على تشريف، وهؤلاء الخمسة هم أولوا العزم في قول، وإخباره بتمني أهل النار طاعته في قوله تعالى: {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا} للتنبيه، {لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا} [الأحزاب: 66] ، وهذا بحر لا ينفد" "بفتح الفاء: لا يفرغ "وقطر "بفتح القاف وسكون الطاء"، أي: مطر "لا يعد" لكثرته، أو "بضم القاف"، أي: إقليم لا يمكن عد نواحيه وبلاده لكثرتها، جوازهما شيخنا في التقرير، واقتصر في الحاشية، على الفتح؛ لأنه أظهر والله أعلم.(8/342)
النوع الثاني: في أخذ الله تعالى له الميثاق على النبيين
فضلًا ومنة ليؤمنن به إن أدركوه ولينصرنه
قال الله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ} الآية [آل عمران: 81] .
أخبر تعالى أنه أخذ ميثاق كل نبي بعثه، من لدن آدم إلى محمد صلى الله عليه وسلم أن يصدق بعضهم بعضًا، قال الحسن وطاوس وقتادة.
__________
"النوع الثاني":
"في أخذ الله تعالى له الميثاق على النبيين"، عداه بعلى، إشارة إلى أنه ألزمهم به، وعداه فيما يأتي بمن، إشارة إلى أنهم التزموه "فضلًا" أي: إحسانًا "ومنة" أي: إنعامًا، "ليؤمنن به إن أدركوه، ولينصرنه" على عدوه، "قال الله تعالى: {وَإِذْ} أي: حين متعلق بمقدر، أي: اذكر، وقيل: بأقررتم وإن أخر عنه {أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ} عهدهم كلهم، أو مع أممهم وأنبياء بني إسرائيل {لَمَا} "بفتح اللام للابتداء"، أو توكيد معنى القسم الذي في أخذ الميثاق، وكسرها متعلقة بأخذ، وما موصولة على الوجهين، أي: للذي {آتَيْتُكُم} إياه، وفي قراءة: آتيناكم، {مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ} من الكتاب والحكمة، وتنوين رسول، وإبهامه للتعظيم، والمراد محمد صلى الله عليه وسلم، أو للتميم على القولين الآتين للمصنف، {لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ} [آل عمران: 81] جواب القسم إن أدركتموه، وأممهم تبع لهم في ذلك.
"أخبر تعالى" في الأزل، كما حكاه المصنف أول الكتاب، "أنه أخذ ميثاق كل نبي بعثه" صفة نبي، ولا يرد أنه قاصر على الرسل، مع أن المتبادر العموم، لجواز أن معناه: أوحى إليه، والبعث يطلق على الإيحاء، "من لدن آدم إلى محمد صلى الله عليه وسلم أن يصدق بعضهم بعضًا" على نبوته، ومعناه، كما في البغوي: أنه أخذ العهد على كل نبي أن يؤمن بمن يأتي بعده، وينصره إن أدركه وأن يأمر قومه بنصره، فأخذ الميثاق من موسى أن يؤمن بعيسى، ومن عيسى أن يؤمن بمحمد، انتهى. فليس معنى هذا القول يصدق بعضهم بعضًا على نبوة المصطفى، وأنهم من أتباعه ومؤمنون به كما توهم، إذ لو كان كذلك ما صح قول المصنف الآتي: أن ذا القول لا يخالف قول علي وابن عباس، إذ هو عينه على ذا الفهم، "قاله الحسن" البصري، "وطاوس"(8/343)
وقيل معناه: أنه تعالى أخذ الميثاق من النبيين وأممهم، واستغنى بذكرهم عن ذكر الأمم.
وعن علي بن أبي طالب وابن عباس: ما بعث الله نبيًا من الأنبياء إلا أخذ عليه الميثاق لئن بعث محمد صلى الله عليه وسلم -وهو حي- ليؤمنن به ولينصرنه. وما قاله قتادة والحسن وطاوس لا يضاد ما قاله علي وابن عباس، ولا ينفيه بل يستلزمه ويقتضيه.
وقيل معناه: أن الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- كانوا يأخذون الميثاق من أممهم بأنه إذا بعث محمد صلى الله عليه وسلم أن يؤمنوا به وينصروه، واحتج له بأن الذين
__________
اليماني، "وقتادة" السدوسي، الثلاثة من التابعين.
"وقيل معناه: أنه تعالى أخذ الميثاق من النبيين وأممهم، واستغنى بذكرهم عن ذكر الأمم"؛ لأنهم تبع لهم، فهو من الاستغناء بذكر الملزوم عن لازمه، ولا يراد أنه خاص بالرسل؛ لأنهم هم الذين لهم أمم، أم النبيون فلا أمم لهم، لجواز أن يراد بأممهم الأناس الموجودون في زمانهم، وأطلق عليهم أممهم من حيث وجودهم في زمانهم، وإن لم يرسلوا إليهم، فالنبي وإن لم يأمر بشرع، يجب عليه أن يخبر بنبوته، لئلا يحتقر ولا يمتنع عليه الوعظ ونحوه، ومنه أخباره للناس بالإيمان بمحمد إذا جاء، أو الأنبياء.
"وعن علي بن أبي طالب"، عند ابن جرير وغيره، "وابن عباس" عند ابن جرير وابن عساكر، ووقع للزركشي، وابن كثير، والحافظ في الفتح في كتاب الأنبياء: أنهم عزوه لصحيح البخاري.
قال الشامي: ولم أظفر به، فيه "ما بعث الله نبيًا من الأنبياء" وفي رواية: لم يبعث الله نبيًا من آدم، فمن بعده، "إلا أخذ عليه الميثاق لئن بعث محمد صلى الله عليه وسلم، وهو" أي: ذلك النبي "حي ليؤمنن به ولينصرنه"، ويأخذ العهد بذلك على قومه، هذا بقية المروي عن علي وابن عباس، كما قدم، ثم هو موقوف لفظًا، مرفوع حكمًا؛ لأنه إخبار عن غيب، فلا مجال للرأي، فيه، ويحتمل أنهما قالاه فهمًا للآية، والظاهر الأول، ولذا اقتصرت عليه أول الكتاب، "وما قاله قتادة والحسن وطاوس" من أن المعنى أخذ على كل نبي أن يؤمن بمن بعده "لا يضاد" لا يخالف "ما قاله علي وابن عباس، ولا ينفيه، بل يستلزمه"؛ لأنه صدق بعضهم بعضًا، لزم أن يكونوا مأمورين بالإيمان بالمصطفى ونصره، "ويقتضيه" عطف تفسير.
"وقيل معناه: أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كانوا يأخذون الميثاق من أممهم، بأنه إذا بعث محمد صلى الله عليه وسلم أن يؤمنوا به وينصروه" وعلى هذا، فإضافة الميثاق إلى النبيين إضافته للفاعل، والمعنى وإذ أخذ الله الميثاق الذي وثقه الأنبياء على أممهم، قاله البيضاوي.(8/344)
أخذ الله الميثاق منهم يجب عليهم الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم عند مبعثه، وكان الأنبياء عند مبعث محمد صلى الله عليه وسلم من جملة الأموات، والميت لايكون مكلفًا، فتعين أن يكون الميثاق مأخوذًا على الأمم، قالوا: ويؤكد هذا، أنه تعالى حكم على الذين أخذ عليهم الميثاق أنهم لو تولوا لكانوا فاسقين، وهذا الوصف لا يليق بالأنبياء، وإنما يليق بالأمم.
وأجاب الفخر الرازي: بأن يكون المراد من الآية أن الأنبياء لو كانوا في الحياة لوجب عليهم الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم. ونظيره قوله تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65] ، وقد علم الله تعالى أنه لا يشرك قط، ولكن خرج هذا الكلام على سبيل التقدير والفرض، وقال تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ، لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ، ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} [الحاقة: 46] وقال في
__________
"واحتج له بأن الذين أخذ الله الميثاق منهم يجب عليهم الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم عند مبعثه، وكان الأنبياء عند مبعث محمد صلى الله عليه وسلم من جملة الأموات" لا يرد عيسى وإدريس على حياتهما، والخضر على حياته ونبوته؛ لأن الحكم للأكثر، "والميت لا يكون مكلفًا، فتعين أن يكون الميثاق مأخوذًا على الأمم، قالوا: ويؤكد" أي: يقوى "هذا" القول؛ "أنه تعالى حكم على الذين أخذ عليهم الميثاق، أنهم لو تولوا لكانوا فاسقين" بقوله تعالى بعد ذلك: {فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُون} [آل عمران: 82] ، "وهذا الوصف لا يليق بالأنبياء" أي: لا يجوز عليهم، "وإنما يليق بالأمم" لجوازه عليهم.
"وأجاب الفخر الرازي" وفي نسخة: وأجاب القفال، والظاهر فسادها، وفي أخرى: وأجيب، "بأن يكون المراد من الآية أن الأنبياء لو كانوا في الحياة لوجب عليهم الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم" كما قال: "لو كان موسى حيًا ما وسعه"، إلا اتباعي، "ونظيره قوله تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65] ، وقد علم الله تعالى؛ أنه لا يشرك قط، ولكن خرج هذا الكلام على سبيل التقدير والفرض" والمراد به تهييج الرسل، وإقناط الكفرة والإشعار على حكم الأمة، والخطاب باعتبار كل واحد.
"وقال تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّل} النبي، {عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ} بأن قال علينا ما لم نقله، سمي الافتراء تقولًا؛ لأنه قول متكلف، والأقوال المفتراة أقاويل، تحقيرًا لها، كأنها جمع أفعولة من القول، كأضاحيك، {لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ، ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} [الحاقة: 44] ، أي: نياط قلبه بضرب عنقه، وهو تصوير لإهلاكه بأفظع ما يفعله الملوك ممن يغضبون عليه، وهو أن(8/345)
الملائكة: {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ} [الأنبياء: 29] ، مع أنه تعالى أخبر عنهم بأنهم {لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْل} [الأنبياء: 27] وبأنهم {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِم} [النحل: 50] ، فكل ذلك خرج على سبيل الفرض والتقدير. وإذا نزلت هذه الآية على أن الله أوجب على جميع الأنبياء أن يؤمنوا بمحمد لو كانوا في الأحياء، وأنهم لو تركوا ذلك لصاروا في جملة الفاسقين، فلأن يكون الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم واجبًا على أممهم من باب أولى. فكان صرف هذا الميثاق إلى الأنبياء، أقوى في تحصيل المقصود.
وقال السبكي في هذه الآية: إنه عليه الصلاة والسلام على تقدير مجيئهم في زمانه يكون مرسلًا إليهم. فتكون نبوته ورسالته عامة لجميع الخلق، من زمن آدم إلى يوم القيامة، وتكون الأنبياء وأممهم كلهم من أمته، ويكون قوله عليه الصلاة والسلام: "وبعثت إلى الناس كافة" لا يختص به الناس من زمانه إلى يوم
__________
يأخذ القتال بيمينه، ويكفحه بالسيف، ويضرب جيده، وقيل: اليمن بمعنى القوة، قال البيضاوي.
"وقال في الملائكة: {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ} أي: الله، أي: غيره، "فذلك نجزيه جهنم" كذلك، كما جزيناه نجزي الظالمين، "مع أنه تعالى أخبر عنهم؛ بأنهم {لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْل} لا يأتون بقولهم إلا بعد قوله: وبأنهم {يَخَافُون} أي: الملائكة حال من ضمير يستكبرون، {رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِم} حال من هم، أي: عاليًا عليهم بالقهر، "فكل ذلك خرج على سبيل الفرض والتقدير، وإذا نزلت هذه الآية" {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّين} ، "على أن الله أوجب على جميع الأنبياء أن يؤمنوا بمحمد، لو كانوا في الأحياء، وأنهم لو تركوا ذلك" فرضًا وتقديرًا: "لصاروا في جملة الفاسقين" حاشاهم، "فلأن يكون الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم واجبًا على أممهم من باب أولى"؛ لأنه إذا أمر المتبوع بذلك، فكيف بالتابع، "فكان صرف هذا الميثاق إلى الأنبياء أقوى في تحصيل المقصود" بالتعظيم له، لشموله للأمم بالأخروية، بخلاف حمله على الأمم.
"وقال السبكي" الكبير في رسالة صغيرة، سماها التعظيم والمنة في: {لَيُؤْمِنَنَّ بِه} [آل عمران: 81] ، "في هذه الآية" أفادت "إنه عليه الصلاة والسلام على تقدير مجيئهم" أي: النبيين "في زمانه، يكون مرسلًا إليهم، فتكون نبوته ورسالته عامة لجميع الخلق من زمن آدم إلى يوم القيامة، وتكون الأنبياء وأممهم كلهم من أمته" مع بقاء الأنبياء على نبوتهم، "ويكون قوله عليه الصلاة والسلام" في حديث رواه الشيخان وغيرهما: "وبعثت(8/346)
القيامة، بل يتناول من قبلهم أيضًا، وإنما أخذ المواثيق على الأنبياء ليعلموا أنه المقدم عليهم، وأنه نبيهم ورسولهم.
وفي أخذ المواثيق -وهي في معنى الاستحلاف، ولذلك دخلت "لام" القسم في {لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ} - لطيفة: وهي كأنها أيمان البيعة التي تؤخذ للخلفاء، ولعل أيمان الخلفاء أخذت من هنا.
فانظر هذا التعظيم العظيم للنبي صلى الله عليه وسلم من ربه تعالى، فإذا عرف هذا فالنبي صلى الله عليه وسلم نبي الأنبياء، ولهذا ظهر ذلك في الآخرة جميع الأنبياء تحت لوائه،
__________
إلى الناس كافة" قومي وغيرهم من العرب والعجم، "لا يختص به الناس" الكائنون "من زمانه إلى يوم القيامة، بل يتناول من قبلهم أيضًا" وذكر نحوه البارزي في توثيق عرا الإيمان، وادعى بعض أن ما ذكره السبكي غريب، لا يوافقه عليه من يعتد به، والجمهور على أن المراد بالكافة ناس زمنه، فمن بعدهم إلى يوم القيامة، ودفعه شيخنا لما ذكرته له بأنه لا ينافي كلام الجمهور، إلا إذا أريد التبليغ بالفعل، أما إذا أريد بالبعث اتصافه بكونهم مأمورين في الأزل؛ بأن يتبعوه إذا وجد، كما هو صريح كلامه، فلا يخالفه واحد فضلًا عن الجمهور.
"وإنما أخذ المواثيق على الأنبياء ليعلموا أنه المقدم عليهم، وأنه نبيهم ورسولهم" مع بقائهم على النبوة والرسالة، ولذا لما أثنى على ربه في المعراج، قال إبراهيم: بهذا فضلكم محمد، "وفي أخذ المواثيق" خبر مقدم، "وهي في معنى الاستحلاف" "بحاء مهملة"، أي: طلب اليمين، قال ذلك؛ لأن الميثاق لغة العهد، "ولذلك دخلت لام" جواب "القسم في {لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّه} وجواب الشرط محذوف إن جعلت ما بمعنى الشرط، وقرئ بفتح اللام، أما على قراءة لما بكسرها، وجعل ما مصدرية، فهو جواب القسم في: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّه} ، إلخ.
"لطيفة "مبتدأ مؤخر، "وهي كأنها إيمان البيعة التي تؤخذ للخلفاء" على الناس بالطاعة، "ولعل إيمان الخلفاء أخذت من هنا، فانظر" نظر تدبر وتأمل، "هذا التعظيم العظيم للنبي صلى الله عليه وسلم من ربه تعالى، فإذا عرف هذا، فالنبي صلى الله عليه وسلم نبي الأنياء" أي: مبعوث إليهم لأخذ الميثاق عليهم بإيمانهم به، أن أدركوه، والمراد بالنبوة هنا الرسالة، أي: أنه رسول إلى جميع الأنبياء، أي: أوحي إليه بتبليغهم عن الله تعالى حتى لو اجتمع بواحد منهم في زمانه كان مرسلًا إليه، مع بقائه على رسالته ونبوته، "ولهذا ظهر ذلك في الآخرة" أي: كونه نبي الأنبياء، "جميع الأنبياء" بالرفع بدل من ذلك، أو بيان له "تحت لوائه"، كما قاله في أحاديث، "و" ظهر "في(8/347)
وفي الدنيا كذلك ليلة الإسراء صلى بهم، ولو اتفق مجيئه في زمن آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى وجب عليهم وعلى أممهم الإيمان به ونصرته، وبذلك أخذ الله الميثاق عليهم، فنبوته عليه السلام عليهم ورسالته إليهم معنى حاصل لهم في حياتهم، وإنما أمره يتوقف على اجتماعهم معه، فتأخر ذلك الأمر راجع إلى وجودهم لا إلى عدم اتصافهم بما يقتضيه. وفرق بين توقف الفعل على قبول المحل وتوقفه على أهلية الفاعل، فههنا لا توقف من جهة الفاعل، ولا من جهة ذات النبي الشريفة، وإنما هو من جهة وجود العصر المشتمل عليه، فلو وجد في عصرهم لزمهم اتباعه بلا شك، ولهذا يأتي عيسى عليه السلام في آخر الزمان على شريعته، وهو نبي كريم على حاله، لا كما يظن بعض الناس أن يأتي واحدًا من هذه الأمة، نعم هو واحد من هذه الأمة لمال قلنا من اتباعه للنبي، وإنما يحكم بشريعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بالقرآن والسنة، وكل ما فيهما من أمر ونهي، فهو متعلق
__________
الدنيا كذلك ليلة الإسراء صلى بهم" إمامًا، "ولو اتفق مجيئه في زمن آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى" وباقي الأنبياء والمرسلين، "وجب عليهم وعلى أممهم الإيمان به ونصرته، وبذلك أخذ الله الميثاق عليهم، فنبوته عليه السلام عليهم ورسالته إليهم، معنى حاصل لهم في حياتهم، وإنما أمره يتوقف على اجتماعهم معه، فتأخر ذلك الأمر راجع إلى وجودهم لا إلى عدم اتصافهم بما يقتضيه، وفرق بين توقف الفعل على قبول المحل" وهو ذاته صلى الله عليه وسلم من حيث قابلة للرسالة؛ بأن يوحى إليها، "وتوقفه على أهلية الفاعل" وهو أمر بالتبليغ؛ لأنه يفعل ما أمر به من تبليغ ما أمر به، ويأمر وينهى، وهي ذاته، فتطلق عليها محلًا وفاعلًا باعتبارين، "فههنا لا توقف من جهة الفاعل، ولا من جهة ذات النبي الشريفة، وإنما هو من جهة وجود العصر" الزمن "المشتمل عليه، فلو وجد في عصرهم، لزمهم إتباعه بلا شك، ولهذا يأتي عيسى في آخر الزمان على شريعته" أي: نبينا، بمعنى أنه مأمور بالعمل بها، كلونه مأمورًا بأتباعه، "وهو نبي كريم على حاله لا كما يظن بعض الناس؛ أنه يأتي واحدًا من هذه الأمة" ليس متصفًا بنبوته، وحذف هذه الصفة تأدبًا، قال السيوطي: وسبب هذا الظن تخيله ذهاب صفة النبوة منه، وهو فاسد؛ لأنه لا يذهب أبدًا ولا بعد موته.
"نعم، هو واحد من هذه الأمة لما قلنا من اتباعه للنبي، وإنما يحكم بشريعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بالقرآن والسنة" وأخذه لها من النبي صلى الله عليه وسلم بلا واسطة؛ لأنه اجتمع به غير مرة، فلا مانع أنه تلقى منه أحكام شريعته، المخالفة لشرع الإنجيل، لعلمه بأنه ينزل في أمته، ويحكم فيهم بشرعه، وإلى هذا أشار جماعة من العلماء، أو يتلقاها عنه، إذا نزل؛ لأنه يجتمع به في(8/348)
به كما يتعلق بسائر الأمة، وهو نبي كريم على حاله لم ينقص منه شيء.
وكذلك لو بعث النبي صلى الله عليه وسلم في زمانه، أو في زمان موسى وإبراهيم ونوح وآدم كانوا مستمرين على نبوتهم ورسالتهم إلى أممهم، والنبي صلى الله عليه وسلم نبي عليهم ورسول إلى جميعهم، فنبوته ورسالته أعم وأشمل وأعظم، وتتفق مع شرائعهم في الأصول؛ لأنها لا تختلف، وتقدم شريعته فيما عساه يقع الاختلاف فيه من الفروع، إما على سبيل التخصيص، وإما على سبيل النسخ، أو لا نسخ ولا تخصيص بل تكون شريعة النبي صلى الله عليه وسلم في تلك الأوقات بالنسبة إلى أولئك الأمم ما جاءت به أنبياؤهم، وفي هذا الوقت بالنسبة إلى هذا الأمة هذه الشريعة، والأحكام تختلف باختلاف
__________
الأرض، كما صرح به في أحاديث، فلا مانع أن يأخذ عنه ما احتاج إليه من أحكام شرعه، ذكره السيوطي، وتقدم له مزيد في خصائص الأمة.
"وكل ما فيهما من أمر ونهي، فهو متعلق به، كما يتعلق بسائر الأمة" من حيث كونه مأمورا بهما كغيره، وفي نسخة: لا، كما يتعلق بلا النافية، أي: لأن تعلقه به قطعي من حيث إنه إذا اجتهد في أخذ شيء منهما كان قطعيًا مطابقًا للواقع، بخلاف أخذ غيره من الأمة، فظني قد لا يصيب فيه، "وهو نبي كريم على حاله، لم ينقص منه شيء" إذ النبوة لا تذهب بالموت فكيف بمن هو حي، "وكذلك لو بعث النبي صلى الله عليه وسلم في زمانه، أو في زمان موسى وإبراهيم ونوح وآدم، كانوا مستمرين على نبوتهم ورسالتهم إلى أممهم، والنبي صلى الله عليه وسلم نبي عليهم، ورسول إلى جميعهم، فنبوته ورسالته أعم وأشمل وأعظم"، لكونها للأنبياء والأمم جميعًا، بخلاف غيره، فكل إلى أمته.
"وتتفق مع شرائعهم في الأصول؛ لأنها لا تختلف" كما قال تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى: 13] ، وقال صلى الله عليه وسلم في حديث: "والأنبياء أولاد علات، أمهاتهم شيء ودينهم واحد" رواه الشيخان، وعلات بفتح المهملة وشد اللام وفوقية، أي: ضرائر من رجل واحد.
"وتقدم شريعته فيما عساه" يختلف، أو "يقع الاختلاف فيه من الفروع، إما على سبيل التخصيص، وإما على سبيل النسخ، أو لا نسخ ولا تخصيص، بل تكون شريعة النبي صلى الله عليه وسلم في تلك الأوقات بالنسبة إلى أولئك الأمم ما جاءت به أنبياؤهم، وفي هذا الوقت بالنسبة إلى هذه الأمة هذه الشريعة" التي جاء بها عليه السلام.(8/349)
الأشخاص والأوقات، وبهذا بان لنا معنى حديثين كانا خفيًا عنا.
أحدهما: قوله صلى الله عليه وسلم: "بعثت إلى الناس كافة، كنا نظن أنه من زمانه إلى يوم القيامة، فبان أنه جميع الناس أولهم وآخرهم".
والثاني: قوله صلى الله عليه وسلم: "كنت نبيًا وآدم بين الروح والجسد"، كنا نظن أنه بالعلم، فبان أنه زائد على ذلك، وإنما يفترق الحال بين ما بعد وجود جسده الشريف
__________
"والأحكام تختلف باختلاف الأشخاص والأوقات" كعادم الماء لمرض أو سفر فرضه التيمم، واعترض بأن النصوص العقلية والنقلية ناطقان بخلافه، كقوله تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} [النساء: 163] ، وما هي معناها من الآيات، والأنبياء مع تعظيمهم له، ومحبتهم ليسوا مكلفين بأحكام شرعه، وإلا لم يكونوا أصحاب شرع، فالمحبة والتعظيم معنى، والتعبد بشرعه معنى آخر، ولا عبرة بظنهما أمرًا واحدًا، وقوله: {لَتُؤْمِنُنَّ بِه} ، دون بشرعه، مناد عليه، فما تبجح به السبكي واستحسنه هو ومن بعده لا وجه له عند من له أدن بصيرة نقادة، وكيف يتأتى ما قاله مع قوله تعالى: {أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [النحل: 123] فإن عكسه، وقد طلب موسى أن يكون من أمته، فأجابه الله بقوله: استقدمت واستأجر ولكن سأجمع بينك وبينه في دار الجلال. انتهى، وتعسفه لا يخفى، فإن قوله ذلك من جملة مدخول له في قوله: لو بعث في زمان عيسى أو موسى إلى آخره، فسقط جميع ما قاله، ومن أقوى تعسفه قوله: ليسوا مكلفين بأحكام شرعه، فإنه لم يدع تكليفهم به، بل إن شعائرهم على تقدير وجوده في أزمانهم شرع له فيهم.
"وبهذا بان" ظهر واتضح "لنا معنى حديثين كانا خفيا" أي: بعد إدراكهما "عنا، أحدهما قوله صلى الله عليه وسلم: "بعثت إلى الناس كافة"، كنا نظن أنه في زمانه إلى يوم القيامة، فبان أنه جميع الناس أولهم وآخرهم.
"والثاني قوله صلى الله عليه وسلم: "كنت نبيًا وآدم بين الروح والجسد" رواه أحمد والبخاري في التاريخ، وأبو نعيم وغيرهم: "كنا نظن أنه بالعلم، فبان أنه زائد على ذلك" على ما شرحناه يعني بقوله أولصا أنه قد جاء أن الله تعالى خلق الأرواح قبل الأجساد، فقد يكون قوله: "كنت نبيًا" إشارة إلى روحه وحقيقة من الحقائق، والحقائق تقصر عقولنا عن معرفته، وإنما يعلمها خالقها، ومن أمده بنور إلهي، ويؤتي الله كل حقيقة منها ما يشاء في الوقت الذي يشاء، فحقيقته صلى الله عليه وسلم قد تكون من حين خلق آدم، أتاها ذلك الوصف، بأن يكون خلقها متهيئة لذلك، وإفاضة عليها من ذلك الوقت، فصار نبيًا، فحقيقته موجودة من ذلك الوقت، وإن تأخر جسده المتصف بها، إلى أن قال: فقد علم أن من فسره بعلم الله؛ بأنه سيصير نبيًا لم يصل إلى هذا المعنى؛ لأن علمه(8/350)
وبلوغه الأربعين، وما قبل ذلك بالنسبة إلى المبعوث إليهم وتأهلهم لسماع كلامه لا بالنسبة إليه ولا إليهم، لو تأهلوا قبل ذلك، وتعليق الأحكام على الشروط قد يكون بحسب المحل القابل، وقد يكون بحسب الفاعل المتصرف فههنا التعليق إنما هو بحسب المحل القابل، وهو المبعوث إليهم وقبولهم سماع الخطاب والجسد الشريف الذي يخاطبهم بلسانه.
وهذا كما يوكل الأب رجلًا في تزويج ابنته إذا وجدت كفؤًا، فالتوكيل صحيح وذلك الرجل أهل للوكالة، ووكالته ثابتة، وقد يحصل التوقف أي توقت التصرف على وجود الكف، ولا يوجد إلا بعد مدة، وذلك لا يقدح في صحة الوكالة وأهلية التوكيل، انتهى.
__________
محيط بجميع الأشياء، ووصفه صلى الله عليه وسلم بالنبوة في ذلك الوقت ينبغي أن يعلم منه أمر ثابت له في ذلك الوقت، ولو كان المارد مجرد العلم لم تكن له خصوصية؛ بأنه نبي وآدم بين الروح والجسد؛ لأن جميع الأنبياء يعلم الله نبوتهم في ذلك الوقت وقبله، فلا بد من خصوصية له لأجلها، أخبر بهذا الخبر ليعرف قدره عند الله. انتهى.
"وإنما يفترق الحال بين ما بعد وجود جسده الشريف وبلوغه الأربعين، وما قبل ذلك بالنسبة إلى المبعوث إليهم، وتأهلهم لسماع كلامه، لا بالنسبة إليه، ولا إليهم لو تأهلوا قبل ذلك، وتعليق الأحكام على الشروط قد يكون بحسب المحل القابل، وقد يكون بحسب الفاعل المتصرف، فههنا التعليق إنما هو بحسب المحل القابل، وهو المبعوث إليهم، وقولهم سماع الخطاب، والجسد الشريف الذي يخاطبهم بلسانه، وهذا كما يوكل الأب رجلًا في تزويج ابنته إذا وجدت كفؤًا، فالتوكيل صحيح، وذلك الرجل أهل للوكالة، ووكالته ثابتة، وقد يحصل التوقف، أي: توقف التصرف" الأظهر في التعبير بقوله، والتصرف متوقف، "على وجود الكفء، ولا يوجد إلا بعد مدة، وذلك لا يقدح في صحة الوكالة وأهلية التوكيل" وهذا المثال ظاهر في حديث: "بعثت إلى الناس كافة". "انتهى"، كلام السبكي في رسالته، وهي نحو ورقتين، كما ذكر المصنف سواء بسواء، فمن كتب على قوله والأوقات، إلى هذا انتهى كلام السيوطي، لم يقف على رسالته فرجم بالغيب، والله تعالى أعلم.(8/351)
النوع الثالث: في وصفه تعالى له بالشهادة وشهادته له بالرسالة
قال الله تعالى حكاية عن إبراهيم وإسماعيل -عليهما السلام- عند بناء البيت الحرام: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا ُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ، رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [البقرة: 127-129] .
فاستجاب الله دعاءهما، وبعث في أهل مكة منهم رسولًا بهذه الصفة من
__________
"النوع الثالث":
"في" بيان ما يدل على "وصفه تعالى له" صلى الله عليه وسلم، "بالشهادة" على وحدانية الله وغيرها، مما يأتي في: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا} [الأحزاب: 45] ، "وشهادته" تعالى "له بالرسالة" أي: إخباره بذلك، فالشهادة خبر قاطع، كما في القاموس، وغيره.
"قال الله تعالى حكاية عن إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام" أي: ما وقع منهما من الألفاظ الحادثة، المنزلة على المصطفى، وإيجادها متأخر عن بعثته، فلا يرد أن كلامه تعالى قديم سابق على قولهما، فكيف يكون حكاية لما قالاه "عند" تمام "بناء البيت" إذ الدعاء إنما كان بعد أن فرغا من بنائه "الحرام"، أي: الكعبة، إذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل، {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ} للقول، {الْعَلِيمُ} بالفعل، {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ} منقادين {لَكَ} اجعل {وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا} أولادنا {أُمَّةً} جماعة
{مُسْلِمَةً لَكَ} ومن للتبعيض، وأتى به لتقدم قوله له: {لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِين} [البقرة: 124] الآية، {وَأَرِنَا} علمنا {مَنَاسِكَنَا} شرائع عبادتنا، أو حجنا، {وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} سألاه التوبة مع عصمتهما تواضعًا وتعليمًا لذريتهما، {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ} أي: أهل البيت، {رَسُولًا مِنْهُمْ} من أنفسهم {يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ} القرآن، {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ} القرآن {وَالْحِكْمَةَ} ما فيه من الأحكام، {وَيُزَكِّيهِمْ} يطهرهم من الشرك {إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ} الغالب {الْحَكِيمُ} في صنعه، "فاستجاب الله دعاءهما" بقولهما: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ} ، "وبعث في أهل مكة منهم رسولًا بهذه الصفة من ولد إسماعيل الذي دعا مع أبيه إبراهيم عليهما السلام بهذا الدعاء" أفاد أن المبتدئ بالدعاء إبراهيم، فوافقه إسماعيل، فلذا خص إبراهيم في الخبر الآتي، لكونه المبتدئ به، وزعم أن الدعاء كان من إبراهيم وضم إليه إسماعيل لمشاركته له في الدعاء، بتأمينه عليه أو غيره فاسد؛ لأن التأمين من خصوصية هذه الأمة،(8/352)
ولد إسماعيل الذي دعا مع أبيه إبراهيم عليهما السلام بهذا الدعاء.
فإن قلت: من أين علم أن الرسول هنا المراد به محمد صلى الله عليه وسلم؟
فالجواب من وجوه:
أحدها: إجماع المفسرين وهو حجة.
الثاني: قوله عليه الصلاة والسلام: "أنا دعوة أبي إبراهيم، وبشارة عيسى"، قالوا: وأراد بالدعوة هذه الآية، وبشارة عيسى هي ما ذكر في سورة الصف من قوله تعالى: {وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} [الصف: 6] ,
الثالث: إن إبراهيم إنما دعا بهذا الدعاء بمكة لذريته الذين كانوا بها وبما
__________
كما مر في الخصائص، قال صلى الله عليه وسلم: "وأعطيت آمين، ولم يعطها أحد ممن كان قبلكم إلا أن يكون الله أعطاها نبيه هارون، فإن موسى كان يدعو الله ويؤمن هارون"، رواه ابن مردويه وغيره.
"فإن قلت: من أين علم أن الرسول هنا، المراد به محمد صلى الله عليه وسلم، فالجواب من وجوه" ثلاثة.
"أحدها: إجماع المفسرين وهو حجة" قوية.
"الثاني: قوله عليه الصلاة والسلام" في حديث أخرجه الطيالسي والحارث والديلمي وابن عساكر: "أنا دعوة أبي إبراهيم" أي: صاحب دعوته، إذ لا يصح الإخبار بالمصدر، "وبشارة" أخي "عيسى" وفي رواية ابن عساكر: وكان آخر من بشر بي عيسى بن مريم، وفائدة إخبار المصطفى بذلك بعد علمه ثبوت وقوعه، مقدرًا له بذلك في الأزل، التنويه بشرفه وكونه مطلوب الوجود، تاليًا للآيات، معلمًا للكتاب والحكمة، مطهرًا للناس من الشرك، معروفًا عند جميع الأنبياء، "قالوا": ليس مراده التبري، بل الحكاية عن كل العلماء، "وأراد بالدعوة هذه الآية" وخصه؛ لأنه المبتدئ كما مر، "وبشارة عيسى هي" هكذا في النسخ الصحيحة خبر بشارة، وفي نسخة سقيمة وهي بزيادة واو، ولا يحس عطف بشارة على قوله هذه الآية؛ لأن المعنى عليه يصير حاصله أراد ببشارة عيسى ولا يخفى ما فيه "ما ذكر في سورة الصف من قوله تعالى: {وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} [الصف: 6] سماه به؛ لأنه مسمى به في الإنجيل؛ ولأنه أبلغ من محمد، بشر عيسى قومه بذلك، ليؤمنوا به عند مجيئه، أو ليكون معجزة لعيسى عند ظهوره.
"الثالث: أن إبراهيم إنما دعا بهذا الدعاء بمكة لذريته الذين كانوا بها وبما حولها، ولم يبعث الله تعالى إلى من بمكة" من ذرية إبراهيم وإسماعيل "إلا محمدًا صلى الله عليه وسلم" فتعين أنه المراد،(8/353)
حولها، ولم يبعث الله تعالى إلى من بمكة إلا محمدًا صلى الله عليه وسلم، وقد امتن الله تعالى على المؤمنين ببعث النبي منهم على هذه الصفة فقال: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ} الآية، [آل عمران: 164] ، فليس لله تعالى منه على المؤمنين أعظم من إرسال محمدًا صلى الله عليه وسلم يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم، وإنما كانت النعمة على هذه الأمة بإرساله أعظم النعم؛ لأن النعمة به صلى الله عليه وسلم تمت بها مصالح الدنيا والآخرة، وكمل بسببها دين الله تعالى الذي رضيه لعباده.
وقوله: {مِنْ أَنْفُسِهِمْ} يعني أنه بشر مثلهم، وإنما امتاز عليهم بالوحي.
وقرئ في الشوا من أنفسهم -بفتح الفاء- يعني من أشرافهم؛ لأنه من بني
__________
"وقد امتن الله تعالى"، وفي نسخة: من، وهما بمعنى أنعم مطلقًا، أو على من لا يطلب، ويكون بمعنى تعداد النعم "على المؤمنين، ببعث النبي منهم على هذه الصفة، فقال: {لَقَدْ مَن} أنعم {اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} ولا يحمد المن إلا من الله تعالى؛ لأنه بمنه بذكر العبد، فيبعثه على الشكر، فيثيبه، ومن الخلق قبيح مطلقًا، ولذا قال لنبيه: {وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِر} [المدثر: 6] ، فالمن إذا حرام عليه، مكروه لغيره، وقيل بحرمته أيضًا، {بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ} من جنسهم يعرفون حاله، وأنه ما قرأ ولا درس، وقد جاءه العلم دفعة، فقص سير الأولين والآخرين على ما هي عليه، فيعلم العاقل أنه أمر خارق من عند الخالق، كل ذلك إبلاغ في ظهور حجته ووضوح معجزته، فكيف يليق أن يجعل المقتضى مانعًا، فيلحدون ويجحدون، قاله ابن المنير في تفسيره.
{يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ} القرآن {وَيُزَكِّيهِمْ} ، يطهرهم من الذنوب، {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ} القرآن، بالنصب، أي: اقرأ أو اذكر، "فليس لله تعالى منة على المؤمنين أعظم من إرسال محمد صلى الله عليه وسلم يهدي إلى الحق" الإسلام، أو العقائد، "وإلى طريق مستقيم" من الشرائع، "وإنما كانت النعمة على هذه الأمة بإرساله أعظم النعم؛ لأن النعمة به صلى الله عليه وسلم تمت بها مصالح الدنيا والآخرة، وكمل بسببها دين الله تعالى" أحكامه وفرائضه، "الذي رضيه" اختاره "لعباده" كما قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3] الآية، وقوله: {مِنْ أَنْفُسِهِم} ، يعني أن بشر مثلهم، وإنما امتاز عليهم بالوحي" لا ملك ولا أعجمي، "وقرئ في الشواذ: من أنفسهم "بفتح الفاء"، يعني من أشرافهم" وإذا كان من أشرفهم كان منهم ضرورة؛ "ولأنه من بني هاشم وبنو هاشم، أفضل قريش، وقريش أفضل العرب، والعرب أفضل من غيرهم" وقد مر تفاصيل ذلك في المقصد الأول، وكذا(8/354)
هاشم، وبنو هاشم أفضل قريش، وقريش أفضل العرب، والعرب أفضل من غيرهم.
ثم قيل: لفظ المؤمنون عام، ومعناه خاص في العرب؛ لأنه ليس حي من أحياء العرب إلا وقد ولده، وخص المؤمنين بالذكر؛ لأنهم هم المنتفعون به أكثر، فالنعمة عليهم أعظم.
فإن قلت: هل العلم بكونه صلى الله عليه وسلم بشرًا، ومن العرب، شرط في صحة الإيمان، وهو من فروض الكفاية.
أجاب الشيخ ولي الدين بن العراقي: أنه شرط في صحة الإيمان. قال: فلو قال شخص: أؤمن برسالة محمد صلى الله عليه وسلم إلى جميع الخلق، ولكن لا أدري هل هو من البشر أو من الملائكة، أو من الجن، أو لا أدري أو هو من العرب أو العجم،
__________
قرئ، {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} الآية، "بفتح الفاء"، كما مر أيضًا.
"ثم قيل: لفظ المؤمنون عام، ومعناه خاص في العرب"؛ لأن المراد المؤمنين منهم، وفي الظرفية تسمح، إذا التخصيص إنما هو بكون المؤمنين من العرب، لا بكون المؤمنين فيهم، ولو من غيرهم، ويمكن تعلق في العرب بمقدر، كالدليل معناه خاصًا، أي: وإنما كان مخصوصًا بالعرب؛ لأن بعثه فيهم، ويحتمل تعلقه بمعناه تجوزًا لا حقيقة، إذ العموم والخصوص من عوارض الألفاظ دون المعنى؛ "لأنه ليس حي من أحياء العرب إلا وقد ولده" "بفتحات"، أي: له عليه ولادة، إما بكونه جدة، أو جدًا.
وفي البغوي قيل: أراد العرب؛ لأنه ليس حي منهم إلا وله فيهم نسب إلا بني تغلب، دليله هو الذي بعث في الأميين رسولًا منهم، وقيلك أراد جميع المؤمنين، ومعنى قوله من أنفسهم بالإيمان، والشفقة بالنسب، دليله: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} ، "وخص المؤمنين بالذكر" مع أن نعمة البعثة عامة؛ "لأنهم هم المنتفعون به أكثر، فالنعمة عليهم أعظم" فلا ينافي قوله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأحزاب: 45] ، "فإن قلت: هل العلم بكونه صلى الله عليه وسلم بشرًا، ومن العرب شرط في صحة الإيمان، وهو من فروض الكفاية" على الأبوين مثلًا، فإذا علم أحدهما ولده المميز ذلك سقط طلبه عن الآخر.
"أجاب الشيخ ولي الدين" أحمد "بن" عبد الرحيم "العراقي"، الحافظ، ابن الحافظ: "أنه شرط في صحة الإيمان، قال: فلو قال شخص أؤمن برسالة محمد صلى الله عليه وسلم إلى جميع الخلق، ولكن لا أدري هل هو من البشر، أو من الملائكة، أو من الجنن أو لا أدري، أو هو من العرب، أو العجم، فلا شك في كفره لتكذيبه القرآن" لقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي(8/355)
فلا شك في كفره لتكذيبه القرآن وجحده ما تلقته قرون الإسلام خلفًا عن سلف، وصار معلومًا بالضرورة عند الخاص والعام، ولا أعلم في ذلك خلافًا، فلو كان غبيًا لا يعرف ذلك وجب تعليمه إياه، فإن جحده بعد ذلك حكمنا بكفره. انتهى.
فإن قلت: هل هو عليه الصلاة والسلام باق على رسالته إلى الآن؟
أجاب أبو المعين النسفي: بأن الأشعري قال: إنه عليه الصلاة والسلام الآن
__________
الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ} [الجمعة: 2] ، وقال تعالى: {وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَك} [هود: 31] ، "وجحده ما تلقته قرون الإسلام خلفًا عن سلف، وصار معلومًا بالضرورة عند الخاص والعام، ولا أعلم في ذلك خلافًا، فلو كان غبيًا" "بمعجمة فموحدة" جاهلًا قليل الفطنة، "لا يعرف ذلك وجب تعليمه إياه، فإن جحده" أي: المعلوم بالضرورة "بعد ذلك حكمنا بكفره"؛ لأن إنكاره كفر، أما إنكاره أليس ضروريًا، فليس كفرًا، ولو جحده بعد التعليم على ما اقتضاه شراح البهجة لشيخ الإسلام زكريا. "انتهى" جواب الولي.
وتعقبه بعض شراح مسلم بقول الحليمي في منهاجه الإيمان به صلى الله عليه وسلم، أي: التصديق بأنه رسول إلى الإنس والجن إلى قيام الساعة، يتضمن الإيمان بجميع الأنبياء والمرسلين، فلذا اكتفي به في المقارنة للإيمان بالله تعالى، ومن آمن به صلى الله عليه وسلم، وقال: لا أدري أكان بشرًا، أم ملكًا، أم جنيًا، لم يضره ذلك إن كان ممن لم يسمع شيئًا من أخباره سوى أنه رسول الله، كما لو يعلم أنه كان شابًا، أو شيخًا مكيًا، أو عراقيًا، أو أعجميًا؛ لأن شيئًا من ذلك لا ينافي الرسالة، لإمكان اجتماعهما، بخلاف ما لو قال: آمنت بالله، ولا أدري أجسم هو أم لا؟؛ لأن الجسم لا يمكن أن يكون إلهًا، فتبين بذلك أن معرفته صلى الله عليه وسلم ليست شرطًا في صحة ابتداء الإيمان، وإنما هي واجبة بعد ذلك لأجل أن لا يقع في شيء ما ينقص مقامه الشريف، فليتأمل. انتهى.
"فإن قلت: هل هو عليه الصلاة والسلام باق على رسالته إلى الآن"، بعد الموت إلى الأبد؟.
"أجاب أبو المعين" ميمون بن محمد بن سعيد بن مكحول "النسفي" الحنفي، صاحب التبصرة، في علم الكلام والتمهيد لقواعد التوحيد وغيرهما، وهو غير صاحب الكنز عبد الله بن أحمد، وغير صاحب التفسير عمر بن محمد، وغير صاحب العقائد البرهان محمد بن محمد، وكلهم حنفيون من نسف: "بفتح النون والمهملة وبالفاء" مدينة بما وراء النهر، "بأن الأشعري قال: إنه عليه الصلاة والسلام الآن في حكم الرسالة، وحكم الشيء يقوم مقام أصل الشيء، ألا ترى أن العدة تدل على ما كان من أحكام النكاح. انتهى" قضيته أن وصفه بأنه رسول(8/356)
في حكم الرسالة، وحكم الشيء يقوم مقام أصل الشيء، ألا ترى أن العدة تدل على ما كان من أحكام النكاح. انتهى.
وقال غيره: إن النبوة والرسالة باقية بعد موته عليه الصلاة والسلام حقيقة، كما يبقى وصف الإيمان للمؤمن بعد موته؛ لأن المتصف بالنبوة والرسالة، والإيمان هو الروح وهي باقية لا تتغير بموت البدن بإجماع انتهى.
وتعقب: بأن الأنبياء أحياء في قبورهم، فوصف النبوة باق للجسد والروح معًا.
وقال القشيري: كلام الله تعالى لمن اصطفاه: أرسلتك أو بلغ عني، وكلامه تعالى قديم، فهو عليه الصلاة والسلام قبل أن يوجد كان رسولًا. وفي حال كونه وإلى الأبد رسولًا، لبقاء الكلام وقدمه، واستحالة البطلان على الإرسال الذي هو
__________
انقطع بموته، لكن بقاء حكمها نزل منزلة بقائها، فهي باقية حكمًا لا حقيقة.
"وقال غيره: إن النبوة والرسالة باقية" كل منهما، أو لاتحادهما في صفة الإيحاء فكأنهما شيء واحد، أو بناء على اتحادهما، فلا يرد أن الأولى للمطابقة باقيتان، "بعد موته عليه الصلاة والسلام حقيقة، كما يبقى وصف الإيمان للمؤمن بعد موته؛ لأن المتصف بالنبوة والرسالة والإيمان هو الروح، وهي باقية لا تتغير بموت البدن بإجماع. انتهى".
"وتعقب" هذا التعليل، "بأن الأنبياء أحياء في قبورهم" كما صرحت به الأحاديث "فوصف النبوة باق للجسد والروح معًا" أي: الاتصاف بالنبوة مع الرسالة، وإن انقطع العمل بشرائعهم سوى شريعة نبينا صلى الله عليه وسلم.
"وقال القشيري: كلام الله تعالى" النفسي، الأزلي، لا الألفاظ الدالة عليه، "لمن اصطفاه أرسلتك، أو بلغ عني، وكلامه تعالى قديم، فهو عليه الصلاة والسلام قبل أن يوجد كان رسولًا"، بقوله: "أرسلتك" أبو بلغ عني، "وفي حال كونه" أي: وجوده خارجًا بعد تكوينه وإيجاده رسولًا، وإن تأخر الأمر بالتبليغ إلى بعد الوحي، وتقدم تقريبه، بأن من أقر لولده الصغير بشيء يصح أن يقال: أعطاه ذلك الشيء، مع أن الصبي في هذا الحال ليس أهلًا للتصرف، وفي نسخة: وفي حال موته، وعليها يكون ساكتًا عن حال وجوده للعلم به، "وإلى الأبد رسولًا لبقاء الكلام، وقدمه، واستحالة البطلان على الإرسال الذي هو كلام الله تعالى" وهذا ظاهر على ما هو الراجح من أن كلامه تعالى الأزلي، يتنوع حقيقة إلى أمر ونهي، وخبر واستخبار وغير ذلك.(8/357)
كلام الله تعالى.
ونقل السبكي في طبقاته، عن ابن فورك أنه قال: إنه عليه السلام حي في قبره، رسول الله أبد الآباد على الحقيقة لا المجاز.
{هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [الجمعة: 2] .
والمراد بالأميين: العرب، تنبيهًا لهم على قدر هذه النعمة وعظمها حيث كانوا أميين، لا كتاب لهم، وليس عندهم شيء من آثار النبوة، كما كان عند أهل
__________
"ونقل السبكي في طبقاته عن ابن فورك" "بضم فسكون" "أنه عليه السلام حي في قبره، رسول الله أبد الآباد" أي: في جميع الأزمنة، الصادق بما بعد موته إلى قيام الساعة، "على الحقيقة لا المجاز"، لحياته في قبره، يصلي فيه بأذان وإقامة.
قال ابن عقيل الحنبلي: ويضاجع أزواجه ويستمتع بهن أكمل من الدنيا. وحلف ذلك، وهو ظاهر ولا مانع منه.
وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ} نسبًا محمدًا صلى الله عليه وسلم، {يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ} القرآن، {وَيُزَكِّيهِمْ} يطهرهم من الشرك، {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ} القرآن {وَالْحِكْمَةَ} ما فيه من الأحكام، {وَإِنْ} مخففة من الثقيلة، واسمها محذوف، أي: وإنهم {كَانُوا مِنْ قَبْلُ} قبل مجيئه {لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} بين.
"والمراد بالأميين العرب" سموا بذلك؛ لأنهم كانوا لا يكتبون ولا يقرؤون، وكانت الكتابة معدومة فيهم إلا نادرًا لا حكم له، ثم أطلق على من كتب منهم، ومن لم يكتب تغليبًا، والأمي هو الذي لا يكتب ولا يقرأ الخط، وإن قرأ ما حفظه بالسماع من غيره، وقيل: الذي يقرأ ولا يكتب.
"تنبيهًا لهم على قدر هذه النعمة وعظمها حيث كانوا أميين، لا كتاب لهم، وليس عندهم شيء من آثار النبوة"، لا يراد أنه كان عندهم بقايا من شرع إبراهيم، كالحج والغسل من الجنابة؛ لأنهم لهما اشتغلوا عنها بعبادة الأصنام، وغيروا البقايا عن وجهها، كأنها لم تكن عندهم، "كما كان عند أهل الكتاب" بقايا قليلة، "فمن الله عليهم بهذا الرسول وبهذا الكتاب، حتى صاروا أفضل الأمم" أي: الذين آمنوا منهم.(8/358)
الكتاب، فمن الله عليهم بهذا الرسول وبهذا الكتاب، حتى صاروا أفضل الأمم. وفي كونه عليه الصلاة والسلام منهم فائدتان:
إحداهما: أن هذا الرسول كان أيضًا أميًا كأمته المبعوث إليهم، لم يقرأ كتابًا قط ولم يخطه بيمينه، كما قال تعالى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ} [العنكبوت: 48] ، ولا خرج عن ديار قومه فأقام عند غيرهم حتى تعلم منهم، بل لو يزل أميًا بين أمة أمية لا يكتب ولا يقرأ حتى بلغ الأربعين من عمره، ثم جاء بعد ذلك بهذا الكتاب المبين، وهذه الشريعة الباهرة، وهذا الدين القيم الذي اعترف حذاق الأرض ونظارها أنه لم يقرع العالم ناموس أعظم منه، وفي هذا برهان عظيم على صدقه.
__________
"وفي كونه عليه الصلاة والسلام منهم فائدتان: إحداهما: أن هذا الرسول كان أيضًا أميًا، كأمته المبعوث إليهم، لم يقرأ كتابًا قط، ولم يخطه": يكتبه "بيمينه، كما قال تعالى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو} تقرأ {مِنْ قَبْلِهِ} أي: الكتاب المذكور في قوله: {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ} [العنكبوت: 47] الآية، أي: القرآن، {من الْكِتَابَ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ} [العنكبوت: 48] ، الجارحة التي يكتب بها، وذكرها زيادة تصوير لما نفي عنه من الكناية، "ولا خرج عن ديار قومه" عطف على قوله: لم يقرأ، أي: خروجًا يقتضي تعلم شيء من غيره، كما أفاده قوله: "فأقام عند غيرهم حتى تعلم منهم" فلا يرد خروجه مع عمه، وفي تجارة خديجة؛ لأنه لم يقم فيهما إقامة تقتضي التعلم منهم، "بل لم يزل أميًا بين أمة" طائفة "أمية" لا تقرأ ولا تكتب، كيوم ولدتها أمهاتها على جبلتها، وتطرف من قال:
من أعجب الأشياء إني امرؤ ... عمي خالي وأبي أمي
"لا يكتب ولا يقرأ حتى بلغ الأربعين من عمره، ثم جاء بعد ذلك"، أي: حضرا، وظهر، وبعث "بهذا الكتاب المبين" اسم فاعل من أبان، بمعنى البين الواضح، أو بمعنى المظهر للشرائع وما فيها، والموضح لها، "وهذه الشريعة الباهرة" الغالبة، الفاضلة، على غيرها من الشرائع، "وهذا الدين القيم" هو أبلغ من المستقيم، باعتبار الوزن؛ لأنه صفة مشبهة تدل على الثبوت والدوام، والمستقيم أبلغ باعتبار صيغته الدالة على الطلب، فكأنه نفسه الذي يطلب قوامه، "الذي اعترف حذاق الأرض ونظارها؛ أنه لم يقرع" أي: يصل "العالم ناموس" رسول صاحب سر يبلغهم ما جاء به عن الله "أعظم منه، وفي هذا برهان عظيم على صدقه" وامتنان وثناء عظيم.
"الفائدة الثانية: التنبيه على أن المبعوث منهم، وهم الأميون، خصوصًا أهل مكة(8/359)
الفائدة الثانية: التنبيه على أن المبعوث منهم وهم الأميون، خصوصًا أهل مكة، يعرفون نسبة وشرفه وصدقه وأمانته وعفته، وأنه نشأ بينهم معروفًا بذلك، وأنه لم يكذب قط، فكيف كان يدع الكذب على الناس ثم يفتري الكذب على الله عز وجل؟ هذا هو الباطل. ولهذا سأل هرقل عن هذه الأوصاف واستدل بها على صدقه فيما ادعاه من النبوة والرسالة.
__________
يعرفون نسبه وشرفه وصدقه، وأمانته وعفته، وأنه نشأ بينهم معروفًا بذلك، وأنه لم يكذب قط، فكيف كان يدع"، أي: يترك "الكذب على الناس، ثم يفتري" يقول "الكذب على الله عز وجل" من تلقاء نفسه، "هذا هو الباطل" والاستفهام إنكاري، "ولهذا سأل هرقل" "بكسر الهاء وفتح الراء، وإسكان القاف على المشهور" لا ينصرف للعلمية والعجمة.
وحكى الجوهري وغيره: سكون الراء وكسر القاف "عن هذه الأوصاف، واستدل بها على صدقه فيما ادعاه من النبوة والرسالة"، فقال: سألتك عن نسبه، فذكرت أنه فيكم ذو نسب، فكذلك الرسل تبعث في نسب قومها، وسألتك هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال، فذكرت أن لا، فقد أعرف أنه لم يكن ليذر الكذب على الناس، ويكذب على الله، إلى أن قال: وسألتك بما يأمركم، فذكرت أنه يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا، وينهاكم عن عبادة الأوثان، ويأمركم بالصلاة والصدق والعفاف، فإن كان ما تقول حقًا، فسيملك موضع قدمي هاتين.
"وقد قال الله تعالى خطابًا له"، خطاب شفقة وتسلية {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام: 33] ، واستشكل ظاهره؛ لأن كذب القول يستلزم كذب قائله إلا أن يكون ناقلًا غير ملتزم للصحة، والنبي صلى الله عليه وسلم إنما ذكره على أنه حق من عند الله، وأجيب بأن المراد ليس قصدهم تكذيبك؛ لأنك عندهم موسوم بالصدق، وإنما يقصدون تكذيبي والجحود بآياتي، أو لا يعتقدونك كاذبًا، وإنما ينسبون الكذب، لما جئت به عنادًا، أو لا يقولون عادتك الكذب لكننا ننكر النبوة، فلا يلزم أن تكون كذابًا، أو أنك غير متعمد للكذب، بل تخيلت أمرًا باطلًا، فالتكذيب المنفي بالنسبة لافتعاله وتعمده، فلا يكون عيبًا، قيل: وهذا أحسن التأويلات، وقيل: لا يخصونك بالتكذيب، وقيل: لا يكذبونك في السر ونقل ابن الجوزي عن قتادة: لا يكذبونك بحجة، بل بهتانًا وعنادًا.
وقال عياض: ففي هذه الآية منزع لطيف المأخذ، من تسليته تعالى له صلى الله عليه وسلم وألطافه في القول؛ بأن قرر عنده أنه صادق عندهم، وأنهم غير مكذبين له، معترفين بصدقه قولًا واعتقادًا، وكانوا يسمونه قبل النبوة الأمين، فدفع عنه بهذا التقرير ارتماض نفسه بسمة الكذب، ثم جعل الذم(8/360)
وقد قال الله تعالى خطابًا له: {فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَك} [الأنعام: 33] . ويروى أن رجلًا قال: والله يا محمد ما كذبتنا قط فنتهمك اليوم ولكنا إن نتبعك نتخطف من أرضنا، فنزلت هذه الآية، رواه أبو صالح عن ابن عباس.
وعن مقاتل: كان الحارث بن عامر يكذب النبي صلى الله عليه وسلم في العلانية، فإذا خلا مع أهل بيته قال: ما محمد من أهل الكذب.
وروى أن المشركين كانوا إذا رأوه عليه السلام قالوا: إنه لنبي.
وعن علي: قال أبو جهل للنبي صلى الله عليه وسلم: إنا لا نكذبك ولكن نكذب بما جئت
__________
لهم بتسميتهم جاحدين ظالمين، فحاشاه من لو صم، وطوقهم بالمعاندة، بتكذيب الآيات حقيقة الظلم، إذا الجحد إنما يكون ممن علم الشيء، ثم أنكره، كقوله تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل: 14] . انتهى.
"ويروN أن رجلًا" هو الحارث بن عامر بن نوفل، كما عند النسائين عن ابن عباس.
وروى ابن جرير من طريق العوفي، عن ابن عباس: أن أناسًا من قريش قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إن نتبعك تتخطفنا الناس، فنزلت، {وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى} ، فلعل الحارث هو المبتدي، "قال: والله يا محمد ما كذبتنا قط، فنتهمك اليوم، ولكنا إن نتبعك نتخطف من أرضنا، فنزلت هذه الآية"، ظاهره أن المراد؛ فإنهم لا يكذبونك، وقد علم من رواية النسائي وابن جرير، أنها: {وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا} [القصص: 57] ، "رواه أبو صالح" مشهور بكنيته، واسمه ميزان البصري، مقبول من أواسط التابعين، خرج له الترمذي "عن ابن عباس رضي الله عنهما".
"وعن مقاتل: كان الحارث بن عامر" بن نوفل بن عبد مناف: ووقع في الأنوار تسمية أبيه عثمان، وهو خلاف الروايات؛ أنه عامر، "يكذب النبي صلى الله عليه وسلم في العلانية، فإذا خلا مع أهل بيته، قال: ما محمد من أهل الكذب" ووقع في الأنوار؛ أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: نحن نعلم أنك على الحق، ولكنا نخاف إن اتبعناك وخالفنا العرب، وإنما نحن أكلة رأس أن يتخطفونا من أرضنا، فرد الله عليهم بقوله: {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا} [القصص: 57] .
"وروي أن المشركين كانوا إذا رأوه عليه السلام، قالوا: إنه لنبي" ويتعللون بالأنفة عن اتباعه حتى لا يكونوا تابعين، ويأتي الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون.
"و" روى الترمذي والحاكم "عن علي، قال أبو جهل للنبي صلى الله عليه وسلم: إنا لا نكذبك، ولكن نكذب بما جئت به" وفي نسخة مصححة من الشفاء: ما جئت بدون الباء، "فأنزل الله تعالى"(8/361)
به، فأنزل الله تعالى الآية.
والمعنى: أنهم ينكرونه مع العلم بصحته. إذ الجحد لغة هو الإنكار مع العلم.
فإن قلت: فما الجمع بين هذا وبين قوله تعالى: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ} الآية [الأنعام: 34] .
أجيب: بأنه على طريق الجحد، وهو يختلف باختلاف أحوالهم في الجهل، فمنهم من وقع منه ذلك لجهله، فحيث علم آمن، ومنهم من علم وأنكر كفرًا وعنادًا كأبي جهل. فيكون المراد بقوله: {فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ} ، قومًا مخصوصين منهم لا
__________
لفظ روايتهما، فأنزل الله تعالى: {فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} ، "والمعنى أنهم ينكرونه مع العلم بصحته، إذ الجحد لغة" كما صرح به الجوهري والمجد وغيرهما، "هو الإنكار مع العلم" فهو محض عناد وبغي، "فإن قلت: فما الجمع بين هذا" {فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ} ، وبين قوله تعالى: تلو هذه الآية {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِك} ، فإن مفادها أنهم كذبوا؛ لأنها تسلية له، إذ قوله: {فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا} [الأنعام: 34] ، معناه: فاصبر كما صبروا حتى يأتيك نصرنا بإهلاك من كذبك، كما أهلكنا من كذب الرسل من قبلك، ولا مبدل لكلمات الله ولقد جاءك من نبأ المرسلين، أي: ما فيه تسلية لك، قيل: كان الأولى المعارضة بقوله تعالى: {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ} [فاطر: 4] الآية، لصراحتها في التكذيب، دون هذه، ورده شيخنا تقريرًا؛ بأن ما سلكه المصنف أولى؛ لأن هذه الآية صرح فيها بالقضية الشرطية، فلا تستلزم التكذيب بالفعل بخلاف، ولقد كذبت تستلزمه.
"أجيب بأنه" أي: التكذيب الصادر منهم "على طريق الجحد" لعلمهم بصدقه، وكذبوه عنادًا واستكبارًا عن الاتباع، فهم مصدقون في نفس الأمر، وإن كذبوا ظاهرًا، "وهو يختلف باختلاف أحوالهم في الجهل، فمنهم من وقع منه ذلك لجهله" لا جحدًا، "فحيث علم آمن، ومنهم من علم وأنكر كفرًا وعنادًا، كأبي جهل، فيكون المراد بقوله: {فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَك} قومًا مخصوصين منهم" وهم الذين كذبوا جهلًا، ثم آمنوا، أو المكذبون عنادًا، إذ هم مصدقون باطنًا، "لا كلهم، وحينئذ فلا تعارض" بين الآيتين. وفي الشفاء: من قرأ لا يكذبونك بالتخفيف، معناه لا يجدونك كاذبًا.
وقال الفراء والكسائي: لا يقولون: إنك كاذب، وقيل: لا يحتجون على كذبك ولا يثبتونه،(8/362)
كلهم، وحينئذ فلا تعارض.
وروي أن أبا جهل لقيه النبي صلى الله عليه وسلم في بعض فجاج مكة فصافحه فقيل له: أتصافحه؟ فقال: والله إني لأعلم أنه نبي، ولكن متى كنا تبعًا لبني عبد مناف؟ فأنزل الله الآية، رواه ابن أبي حاتم.
والقرآن كله مملوء بالآيات الدالة على صدق هذا الرسول الكريم، وتحقيق رسالته، وكيف يليق بكمال الله تعالى أن يقر من يكذب عليه أعظم الكذب، ويخبر عنه بخلاف ما الأمر عليه، ثم ينصره على ذلك ويؤيده. ويعلي كلمته ويرفع شأنه، ويجيب دعوته ويهلك عدوه، ويظهر على يديه من الآيات والبراهين والأدلة
__________
ومن قرأ بالتشديد، فمعناه لا ينسبونك إلى الكذب، وقيل: لا يعتقدون كذبك. انتهى، ومر له مزيد.
"وروي؛ أن أبا جهل لقيه النبي صلى الله عليه وسلم في بعض فجاج مكة، فصافحه، فقيل له: أتصافحه" وأنت تعاديه، "فقال: والله إني لأعلم أنه نبي، ولكن متى كنا تبعًا لبني عبد مناف، فأنزل الله الآية" {فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَك} ، والجمع بين هذا وحديث علي؛ أنه صافحه وقال: له: إنا لا نكذبك. إلخ، وقال لسائله: والله إني.. إلخ، "رواه ابن أبي حاتم".
ونقل البغوي وغيره عن السدي، قال التقي الأخنس بن شريق: وأسلم بعد ذلك وأبو جهل، فقال: يا أبا الحكم أخبرني عن محمد، أصادق هو أم كاذب؟، فإنه ليس هنا أحد يسمع كلامك غيري، فقال أبو جهل: والله إن محمدًا لصادق، وما كذب محمد قط، ولكن إذا ذهب بنو قصي باللواء، والسبقاية، والحجابة، والندوة، والنبوة، فماذا يكون لسائر قريش، فأنزل الله هذه الآية، وفي الشفاء: روي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما كذبه قومه حزن، فجاءه جبريل، فقال: ما يحزنك، قال: "كذبني قومي، فقال: إنهم يعلمون أنك صاد"، فأنزل الله هذه الآية، قال السيوطي: لم أجد هذا.
"والقرآن كله مملوء بالآيات الدالة على صدق هذا الرسول الكريم، وتحقيق رسالته" نبوتها "وكيف" استفهام إنكاري على من ينسب الكذب للنبي، أي: لا "يليق بكمال الله تعالى أن يقر من يكذب عليه أعظم الكذب"، مع قوله: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} [الأنعام: 21] ، "ويخبر عنه بخلاف ما الأمر عليه، ثم ينصروه على ذلك، ويؤيده" ويقويه، "ويعلي كلمته، ويرفع شأنه" أمره "ويجيب دعوته" أي: جنسها، "ويهلك عدوه، ويظهر على يديه من الآيات والبراهين والأدلة": ألفاظ متقاربة، "ما يضعف عنه قوى البشر، وهو مع ذلك كاذب عليه، مفتر، ساع في الأرض بالفساد، ومعلوم أن شهادته" اطلاعه(8/363)
ما يضعف عنه قوى البشر، وهو مع ذلك كاذب عليه، مفتر ساعٍ في الأرض بالفساد.
ومعلوم أن شهادته سبحانه وتعالى على كل شيء، وقدرته على كل شيء وحكمته وعزته وكماله المقدس يأبى ذلك كل الإباء، ومن ظن ذلك به وجوازه عليه فهو من أبعد الخلق عن معرفته إن عرف منه بعض صفاته كصفة القدرة وصفة المشيئة.
والقرآن كله مملوء من هذه الطريق، وهذه طريق الخاصة، بل خاصة الخاصة الذين يستدلون بالله على أفعاله، وما يليق به أن يفعله وما لا يفعله. وإذا تدبرت القرآن رأيته ينادي على ذلك وبيديه ويعيده لمن له فهم وقلب واع عن الله تعالى. قال الله تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ الْأَقَاوِيلِ، لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ، ثُمَّ
__________
"سبحانه على كل شيء"، كما قال: {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيد} [سبأ: 47] ، "وقدرته على كل شيء، وحكمته، وعزته، وكماله المقدس"، المطهر عما لا يليق به، "يأبى ذلك كل الإباء" أشد الامتناع، "ومن ظن ذلك به، وجوزه عليه، فهو من أبعد الخلق عن معرفته إن عرف منه بعض صفاته، كصفة القدرة وصفة المشيئة" أي: أن جميع الناس يدركون كثيرًا من صفاته ويقرون بها، ومن حق من عرف شيئًا منها أن يعترف بما ظهر له من الأدلة باتصافه صلى الله عليه وسلم بجميع صفات الكمال اللائقة بالأنبياء.
"والقرآن كله مملو من هذه الطريق، وهذه طريق الخاصة، بل خاصة الخاصة الذين يستدلون بالله" أي: بذاته وصفاته، "على أفعاله، وما يليق به أن يفعله وما لا يفعله" وليس الحكم مقصورًا على الذات من غير اعتبار، صفة زائدة عليها، كما تقول المعتزلة، "وإذا تدبرت القرآن" أي: تأملت معانيه وتبصرت ما فيه، "رأيته ينادي على ذلك، ويبديه ويعيده لمن له في وقلب واع عن الله تعالى" يتفكر به في حقائقه، فالمنتفع بالقرآن المتأهل لأمره ونهيه هو الجامع بين الحفظ والفهم، وإتعاب النفس في تأمل ألفاظه ومعانيه.
"قال تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّل} الرسول الكريم {عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ} بأن قال عنا ما لم نقله، {لَأَخَذْنَا} لنلنا {مِنْهُ} عقابًا {بِالْيَمِينِ} بالقوة والقدرة، {ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} نياط القلب، وهو عرق متصل به إذا انقطع مات صاحبه، {فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ} هو اسم ماء ومن زائدة لتأكيد النفي، ومنكم حال من أحد، وهو في الأصل نعت له، فلما قدم عليه أعرب حالًا {عَنْهُ حَاجِزِينَ} [الحاقة: 44] ، مانعين، خبر ما، وجمع؛ لأن أحدًا في سياق النفي، بمعنى(8/364)
لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ، فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} [الحاقة: 47] ، أفتراه سبحانه وتعالى يخبر أن كماله وحكمته وقدرته تأبى أن يقر من تقول عليه بعض الأقاويل، بل لا بد أن يجعله عبرة لعباده، كما جرت بذلك سننه في المتقولين عليه.
وقال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ} [الشورى: 24] ههنا انتهى جواب الشرط. ثم أخبر خبرًا جازمًا غير معلق أنه يمحو الباطل ويحق الحق.
وقال تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ
__________
الجمع وضمير عنه للنبي، أي: لا مانع لنا عنه من حيث العقاب، "أفتراه سبحانه وتعالى يخبر أن كماله وحكمته وقدرته تأبى أن يقر من تقول عليه بعض الأقاويل"، ثم يقر من يكذب عليه، لا "بل لا بد أن يجعله عبرة لعباده، كما جرت بذلك سنته" عادته "في المتقولين عليه" فذلك دليل على صدقه صلى الله عليه وسلم.
"وقال تعالى: {أَمْ} بمعنى بل، {يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} بنسبة القرآن إلى الله، {فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ} [الشورى: 24] ، ههنا انتهى جواب الشرط" وهو فإن يشأ الله، والقصد به كما في البيضاوي استبعاد الافتراء عن مثله بالإشعار على أنه إنما يجترئ عليه من كان مختومًا على قلبه، جاهلًا، بربه، وأما من كان ذا بصيرة ومعرفة فلا، وكأنه قال: إن يشأ الله خذلانك تجترئ بالإفتراء عليه، وقيل: يختم على قلبك، يمسك القرآن والوحي عنه، أو يربط عليه بالصبر عليه، فلا يشق عليه إذا هم انتهى.
"ثم أخبر خبرًا جازمًا غير معلق، {وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [الشورى: 24] ، فهو كما في البيضاوي استئناف لنفي الافتراء عما يقول؛ بأنه لو كان مفتري لمحقه، إذ من عادته تعالى محو الباطل وإثبات الحق بوحيه، أو بقضائه لا مرد له.
"وقال تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} أي: ما عظموه حق عظمته، أو ما عرفوه حق معرفته، {إِذْ قَالُوا} للنبي صلى الله عليه وسلم، وقد خاصموه في القرآن، {مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 92] .
قال ابن عباس: قائل ذلك اليهود، وقال مجاهد: مشركو قريش، وقال السدي: فنحاض اليهودي، وقال سعيد بن جبير: مالك بن الصيف، أخرجهما ابن أبي حاتم، "فأخبر أن من نفي عنه الإرسال والكلام لم يقدره حق قدره، ولا عرفه كما ينبغي، ولا عظمه كما يستحق" في(8/365)
مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 91] ، فأخبر أن من نفى عنه الإرسال والكلام لم يقدره حق قدره، ولا عرفه كما ينبغي ولا عظمه كما يستحق، فكيف من ظن أنه ينصر الكاذب المفتري عليه، ويؤيده ويظهر على يديه الآيات والأدلة؟
وهذا في القرآن كثير يستدل تعالى بكماله المقدس وأوصافه وجلاله على صدق رسوله، وعلى وعده ووعيده، ويدعو عباده إلى ذلك.
وقال تعالى لمن طلب آية تدل على صدق رسوله: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ، قُلْ
__________
الرحمة والإنعام على العباد، فإن الوحي والبعث من عظائم رحمته وجلائل نعمته، أو ما قدروه في السخط على الكفار، وشدة البطش بهم حين جسروا على هذه المقالة.
"فكيف من ظن أنه ينصر الكاذب المفتري عليه، ويؤيده ويظهر على يديه الآيات والأدلة، وهذا" أي: تعظيمه صلى الله عليه وسلم بالآيات الدالة على كماله "في القرآن كثير" وذلك؛ لأنه "يستدل" بزيادة السين والتاء، أي: يدل "تعالى" خلقه" "بكماله المقدس، وأوصافه، وجلاله على صدق رسوله" فيما جاء به، "وعلى وعده ووعيده" مثلًا قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ} [البقرة: 21] ، دل بكونه خالقًا للناس، منعمًا عليهم، بجعل الأرض فراشًا، والسماء بنا.. إلخ، على أن من قدر على ابتداء هذه الأحوال لا يعجز عن بعثهم بعد فناء أجسادهم، ومن لازم ذلك صدق الرسول في أخباره عن الله بالبعث والإعادة، "ويدعو عباده إلى ذلك" أي: تصديقه فيما جاء عليه الصلاة والسلام، أو الإشارة راجعة للصدق بتقرير مضاف، أي: إلى اعتقاد صدق رسوله.
"وقال تعالى لمن طلب آية تدل على صدق رسوله" مثل ناقة صالح، وعصا موسى، ومائدة عيسى، وهم الذين قالوا: {لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ} [الرعد: 7] ، فرد عليهم بقوله: {قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ، أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ} فيما طلبوا {أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَاب} القرآن {يُتْلَى عَلَيْهِم} فهو آية مستمرة لا انقضاء لها، بخلاف ما ذكر من الآيات، {إِنَّ فِي ذَلِكَ} الكتاب {لَرَحْمَةً} لنعمة عظيمة {وَذِكْرَى} عظة {لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [العنكبوت: 51] الآية، لمن همه الإيمان دون التعنت.
وروى ابن جرير وابن أبي حاتم والدارمي عن يحيى بن جعدة، قال: جاء ناس من المسلمين يكتب قد كتبوها فيها بعض ما سمعوه من اليهود، فقال صلى الله عليه وسلم: "كفى بقوم ضلالة أن يرغبوا عما جاء بهم نبيهم إليهم إلى ما جاء به غيره" إلى غيرهم، فنزلت: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا} ، {قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا} بصدقي، وقد صدقني بالمعجزات، أو بتبليغ(8/366)
كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [العنكبوت: 51-52] ، فأخبر سبحانه أن الكتاب الذي أنزله يكفي من كل آية، ففيه الحجة والدلالة على أنه من الله تعالى، وأن الله سبحانه أرسل به رسوله، وفيه بيان ما يوجب لمن اتبعه السعادة، وينجيه من العذاب، ثم قال: {قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} فإذا كان سبحانه عالمًا بجميع الأشياء كانت شهادته أعظم شهادة وأعدلها، فإنها شهادة بعلم تام محيط بالمشهود به، وهو سبحانه وتعالى يذكر علمه عند شهادته وقدرته، وملكه عند مجازاته، وحكمته عند خلقه، وأمره ورحمته عند ذكر إرسال رسله، وحلمه عند ذنوب عباده. فتأمل ورود
__________
ما أرسلت به إليكم، ونصحي، ومقابلتكم إياي بالتكذيب والتعنت {يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} فلا يخفى عليه حالي وحالكم {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِل} ، وهو ما يعبد من دون الله {وَكَفَرُوا بِاللَّهِ} منكم {أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُون} [العنكبوت: 52] في صفقتهم حيث اشتروا الكفر بالإيمان.
"فأخبر سبحانه؛ أن الكتاب الذي أنزله يكفي من" أي: بدل، "كل آية" لانقضائها بخلافه، "ففيه الحجة، والدلالة على أنه من الله تعالى، وأن الله سبحانه أرسل به رسوله، وفيه بيان ما يوجب لمن اتبعه السعادة، وينجيه من العذاب" بقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} ، "ثم قال: {قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} ، فإذا كان سبحانه عالمًا بجميع الأشياء" المعبر عنها بما في السموات والأرض "كانت شهادته أعظم شهادة وأعدلها، فإنها شهادة بعلم تام، محيط بالمشهود به" بخلاف شهادة غيره، فليس لها هذا الوصف، إذ قد يخفى عليه ما يمنعه من الشهادة بما شاهده لو علمه، "وهو سبحانه وتعالى، يذكر علمه عند شهادته" فهذا حكمة قوله: {يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} ، بعد قوله: {شَهِيدًا} مع أنه مقطوع، محقق الحصول عند كل أحد.
"و" يذكر "قدرته وملكه عند مجازاته" لإفادته أنه لا يعجزه شيء، "وحكمته عند خلقه، وأمره ورحمته عند ذكر إرسال رسله، وحلمه عند ذنوب عباده" تنبيهًا لهم على التوبة، وأن لا يقنطوا، "فتأمل ورود أسمائه الحسنى في كتابه، وارتباطها بالخلق والأمر، والثواب والعقاب" يظهر لك من أسرارها العجب العجاب، وحاصله أن من عادته تعالى إذا ذكر أمرًا تقصر عن إدراكه العقول، ذكر أنه إنما أخبر عنه بعلم تام وقدرة كاملة، فليس إخباره عن شيء،(8/367)
أسمائه الحسنى في كتابه، وارتباطها بالخلق والأمر والثواب والعقاب.
وقال تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا، وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} [الأحزاب: 46] .
__________
كإخبار بعض البشر عما شاهده؛ لأنه قد يخفي عليه ما يمنعه الشهادة لو علمه، أو من المجازة عليه.
"وقال تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا، وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ} [الحج: 8] تيسيره أطلق له؛ لأنه من أسبابه، وقيد به إشارة إلى أنه أمر صعب، لا يتأتى إلا بمعونته تعالى، قاله البيضاوي وغيره.
وقال العز بن عبد السلام في مجاز القرآن: إذنه مشيئته وإرادته؛ لأن الغالب في الإذن أن لا يقع إلا بمشيئة، واعتبار الملازمة الغالبة تصحيح المجاز، أو بأمر التكوين، فإن الأمر يلازمه مشيئة الآمر غالبًا.
وقال ابن عباس في قوله تعالى: {فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّه} بأمره [البقرة: 251] ، وقوله: {كُنْ} ، وهو من مجاز التمثيل، شبه سهولة الأشياء في قدرته بسهولة هذه الكلمة على الناطق بها، تفهيمًا لسرعة نفوذ مشيئته وقدرته فيما يريده، ويعبر بالإذن عن التيسير والتسهيل، كقوله تعالى: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ} [البقرة: 221] ، أي: بتيسيره وتسهيله، إذ لا يحسن أن يقال دعوته بإذني، ولا قمت وقعدت بإذني، ولذا قال الزمخشري: يجوز أن يراد بالإذن هنا الأمر، أي: يدعوكم إلى الجنة والمغفرة، بأمره إياكم بطاعته، وكلاهما من مجاز الملازمة. انتهى.
{سِرَاجًا} أحوال مقدرة {مُنِيرًا} قال عياض: جمع الله له في هذه الآية ضروبًا من رتب الأثرة، وجملة أوصاف من المدحة، فجعله شاهدًا على أمته، بإبلاغهم الرسالة، وهي من خصائصه، ومبشرًا لأهل طاعته، ونذيرًا لأهل معصيته، وداعيًا إلى الله بإذنه إلى توحيده وعبادته وسراجًا منيرًا يهتدى به إلى الحق.
وقال ابن عطية: هذه أرحى آية في القرآن؛ لأنه أمره بتبشير المؤمنين بالفضل الكبير، وقد فسره في آية أخرى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} [الشورى: 22] الآية، "أي: شاهدًا على الوحدانية" أي: اتصافه تعالى؛ بأنه واحد أحد، لا شريك له في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، ولم يقيد الشهادة، فشملت الشهادة بها في الدنيا والآخرة.
وفي البيضاوي: شاهدًا على من بعثت إليهم، بتصديقهم وتكذيبهم، ونجاتهم وضلالهم،(8/368)
أي شاهدًا على الوحدانية، وشاهدًا في الدنيا بأحوال الآخرة من الجنة والنار والميزان والصراط، وشاهدًا في الآخرة بأحوال الدنيا، وبالطاعة وبالمعصية والصلاح والفساد، وشاهدًا على الخلق يوم القيامة، كما قال تعالى: {وَيَكُونَ الرَّسُول
__________
وكذا تقدم عن عياض؛ فجعلا ذلك صلة الشهادة، وجعلا صلة داعيًا إلى الإقرار بالله وتوحيده، وما يجب الإيمان به من صفاته، وهو خلاف ما ذكر المصنف.
"وشاهدًا في الدنيا بأحوال الآخرة" أي: بما يكون فيها ذاتًا، أو صفة، "من الجنة والنار، والميزان والصراط، وشاهدًا في الآخرة بأحوال الدنيا، و" ذلك بأن يشهد للمطيع "بالطاعة" وعلى العاصي، "بالمعصية" فهو بيان للمراد بالشهادة، "والصلاح" الواقع من المطيع "والفساد" من العاصي، وعلمه صلى الله عليه وسلم بذلك؛ لأن أعمال أمته تعرض عليه، كما ثبت في الحديث، واستشكل مع حديث الصحيح: "ليذاد رجال عن حوضي، كما يذاد البعير الضال، أناديهم ألا هلم، فيقال: إنهم بدلوا وغيروا بعدك، فأقول سحقًا سحقًا".
وفي رواية: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، وأجيب بأنها إنما تعرض عليه عرضًا مجملًا، فيقال: عملت أمتك شرًا عملت أمتك خيرًا، أو أنها تعرض عليه دون تعيين عاملها، قاله الأبي.
"وشاهدًا على الخلق يوم القيامة" بإبلاغ أنبيائهم وتزكية أمته، "كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} الآية.
روى أحمد والبخاري والترمذي والنسائي وابن ماجه عن أبي سعيد، مرفوعًا: "يجيء نوح وأمته، فيقول الله: هل بلغت؟، فيقول: نعم، أي: رب، فيقول لأمته: هل بلغكم؟، فيقولون: لا، ما جاءنا من نبي، فيقول لنوح: من يشهد لك، فيقول: محمد وأمته، وهو قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} ، والوسط العدل، فتدعون، فتشهدون له بالبلاغ، ثم أشهد عليكم".
وروى أحمد والنسائي وابن ماجه، عن أبي سعيد، رفعه: "يجيء النبي يوم القيامة ومعه الرجل، والنبي ومعه الرجلان، ويجيء النبي ومعه الثلاثة، وأكثر من ذلك، فيقال له: هل بلغت قومك؟، فيقول: نعم، فيدعي قومه، فيقال لهم: هل بلغكم هذا؟ فيقولون: لا، فيقال له: من يشهد لك؟، فيقول: محمد وأمته، فيقال لهم: هل بلغ هذا قومه؟، فيقولون: نعم فيقال: وما علمكم؟، فيقولون: جاء نبينًا، فأخبرنا أن الرسل قد بلغوا وصدقناه، فذلك قوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} " [البقرة: 143] .(8/369)
عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143] .
كأنه تعالى يقول: يا أيها المشرف من قبلنا، إنا أرسلناك شاهدًا بوحدانيتنا ومشاهدًا كمال فردانيتنا، تبشر عبادنا عنا، وتنذرهم مخالفة أمرنا، وتعلمهم مواضع الخوف منا، وداعيًا الخلق إلينا، وسراجًا يستضاء بك، وشمسًا تبسط شعاعك على جميع من صدقك وآمن بك، ولا يصل إلينا إلا من اتبعك وخدمك وقدمك، فبشر بفضلنا وطولنا عليهم وإحساننا لديهم.
ولما كان الله تعالى قد جعله عليه الصلاة والسلام شاهدًا على الوحدانية، والشاهد لا يكون مدعيًا، فالله تعالى لم يجعل النبي في مسألة الوحدانية مدعيًا
__________
قال البيضاوي: وهذه الشهادة وإن كانت لهم، لكن لما كان الرسول كالرقيب المؤتمن على أمته عدي بعلي، وقدمت الصلة للدلالة على اختصاصهم يكون الرسول شهيدًا عليهم، وطالبهم بالبينة، وهو أعلم إقامة للحجة على المنكرين. انتهى، ولإظهار فضل هذه الأمة على رؤوس الأشهاد.
قال أبو الحسن القابسي: أبان الله فضل نبينا وفضل أمته بهذه الآية، وفي قوله: {وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [الحج: 78] ، وكذلك قوله: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ} [النساء: 41] الآية.
"كأنه تعالى يقول: يا أيها المشرف" "بالفاء" بالنبوة "من قبلنا إنا أرسلناك شاهدًا بوحدانيتنا، ومشاهدًا كمال فردانيتنا، تبشر عبادنا عنا، وتنذرهم مخالفة أمرنا، وتعلمهم مواضع الخوف منا"، وهي المعاصي، "وداعيًا الخلق إلينا"، أي: إلى ما يجب إلينا، "وسراجًا يستضاء بك" من ظلمات الجهل، ويقتبس من نورك أنوار البصائر، "وشمسًا تبسط شعاعك يستضاء بك" من ظلمات الجهل، ويقتبس من نورك أنوار البصائر، "وشمسًا تبسط شعاعك على جميع من صدقك وآمن بك، ولا يصل إلينا إلا من أتبعك وخدمك وقدمك" على جميع الخلق، بأن علم كمالك الذي تتميز به على غيرك، وأذن له، "فبشر" يا أيها المشرف من قبلنا المؤمنين "بفضلنا" أنعامنا عاجلًا وآجلًا، "وطولنا" أي: إحساننا "عليهم" بترك عقابهم، فتغاير العطف، لكن يصير "وإحساننا لديهم" تفسيريًا، وفي نسخة: فبشره بضمير عائد على لفظ من، وحذفه أولى.
"ولما كان الله تعالى قد جعله عليه الصلاة والسلام شاهدًا على الوحدانية، والشاهد لا يكون مدعيًا، فالله تعالى لم يجعل النبي في مسألة الوحدانية مدعيًا لها؛ لأن المدعي من يقول شيئًا على خلاف الظاهر، والوحدانية أظهر من الشمس، والنبي صلى الله عليه وسلم كان أدعى النبوة" قبل نزول هذه الآية، حيث أخبر أن الله بعثه، ولم يعرف بها قبل الدعوة، فأتى بخلاف(8/370)
لها؛ لأن المدعي من يقول شيئًا على خلاف الظاهر، والوحدانية أظهر من الشمس، والنبي صلى الله عليه وسلم كان ادعى النبوة، فجعل الله تعالى شاهدًا له في مجازاة كونه شاهدًا له تعالى فقال سبحانه: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ} [المنافقون: 1] ، ومن هذا قوله تعالى: {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} [الرعد: 43] ، فاستشهد على رسالته بشهادة الله
__________
ظاهر حاله قبل، "فجعل" جواب لما أدخل عليه الفاء، "الله تعالى شاهدًا له في مجازاة كونه شاهدًا له تعالى، فقال سبحانه: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ} التلاوة، يعلم {إِنَّكَ لَرَسُولُهُ} ولا يصح أن يشهد تفسير ليعلم؛ لأن علم الشيء لا يستلزم الشهادة به، لكن في القاموس شهد الله أنه لا إله إلا هو، أي: علم الله، أو قال، أو كتب، "ومن هذا قوله تعالى: {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا} قيل: هم رؤساء اليهود، {لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} فإنه أظهر من الأدلة على رسالتي ما يغني عن شاهد يشهد عليها، {وَمَنْ عِنَْهُ عِلْمُ} مرتفع بالظرف، لاعتماده على الموصول، أو مبتدأ، والظرف خبره {الْكِتَابِ} القرآن [الرعد: 43] ، وما ألف عليه من النظم المعجز، أو علم التوراة، وهو ابن سلام وأضرابه.
قال سعيد بن جبير: هو جبريل، وقال عكرمة: هو عبد الله بن سلام، رواهما ابن أبي حاتم، وقال ابن عباس: هم اليهود والنصارى، وقال قتادة: كنا نتحدث أن منهم ابن سلام، وسلمان الفارسي، وتميمًا الدارمي، أخرجهما ابن جرير، وقيل: المراد علم اللوح المحفوظ، وهو الله.
قال الطيبي: فيلزم عطف الشيء على نفسه، فأول الزمخشري وغيره اسم الذاب بما يعطيه من معنى استحقاق العبادة، لكونه جامعًا لمعاني الأسماء، فقال: "كفى بالذي يستحق العبادة وبالذي لا يعلم ما في اللوح إلا هو شهيدًا بيننا"، فيخزي الكاذب منا، ويؤيده قراءة من قرأ ومن عنده بالكسر خبر، والمبتدأ علم.
قال الأزهري: لا يكون إلهًا حتى يكون معبودًا وخالفًا ورازقًا ومدبرًا، فأتى بالموصول ليتوافق المعطوف والمعطوف عليه.
"فاستشهد على رسالته بشهادة الله له"، وأمره بقول ذلك، إذ لا يجحد باطنًا، "وكذلك قوله تعالى" حين قالت قريش: يا محمد لقد سألنا عنك أهل الكتاب، فزعموا أن ليس لك عندهم ذكر ولا صفة، فأرنا ما يشهد لك أنك رسول الله، فنزلت على ما قال الكلبي، وتبعه البغوي وغيره.
وأخرج ابن إسحاق وابن جرير، عن ابن عباس: أن ثلاثة من اليهود جاءوا، فقالوا: يا محمد(8/371)
له. وكذلك قوله تعالى: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} [الأنعام: 19] ، وقوله تعالى: {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} [النساء: 166] ، وقوله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُه} [المنافقون: 1] ، وقوله: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّه} [الفتح:
__________
ما نعلم مع الله إلهًا غيره، فقال: لا إله إلا الله بذلك بعثت، وإلى ذلك أدعوا، فأنزل لله في قولهم: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ} آي: موجود {أَكْبَرُ شَهَادَةً} ، تمييز محول عن المبتدأ، {قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} [الأنعام: 9] ، على صدقي، فهو الجواب؛ لأنه تعالى إذا كان التشهد كان أكبر شيء شهادة.
قال الطيبي: فهو من أسلوب الحكيم، يعني فشهادته معلومة لا كلام فيها، وإنما الكلام في أنه شاهد لي عليكم، مبين لدعواي، وإذا ثبت أنه شيهد له، لزم أن أكبر شيء شهادة شهيد له.
ونحوه قوله التفتازاني، كأنه قيل: معلوم أن الله هو الأكبر شهادة، ولكن الأنسب بالمقام هو الإخبار بأن الله شهيد لي، لينتج مع قولنا: الله أكبر شهادة أن الأكبرة شهادة شهيد لي.
قال أبو حيان: هذا الوجه أرجح مما قدمه الزمخشري؛ أن المعنى قل الله أكبر شهادة، ثم ابتدأ شهيد، أي: هو؛ لأن فيه إضمارًا وآخرًا، والأول لا إضمار فيه مع صحة معناه.
"وقوله تعالى" روى ابن إسحاق عن ابن عباس: دخل جماعة من اليهود على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لهم: إلي والله أعلم أنكم تعلمون أني رسول الله، فقالوا: ما نعم ذلك، فأنزل الله: {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ} يبين نبوتك {بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ} من القرآن المعجز،
{أَنْزَلَهُ} ملتبسًا {بِعِلْمِهِ} أي: عالمًا به، أو فيه علمه، {وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ} أيضًا لك، {وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} [النساء: 166] ، على ذلك.
قال البيضاوي: استدرك على مفهوم ما قبله، وكأنه لما تعنتوا عليه بسؤال كتاب ينزل عليهم من السماء، واحتج عليهم بقوله: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْك} [النساء: 163] ، قال: إنهم لا يشهدون، ولكن الله يشهد، أو أنهم أنكروه، ولكن الله يثبت، ويقرره بما أنزل إليك من القرآن المعجز، الدال على نبوتك.
روى ابن جرير عن ابن عباس لما نزل: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْك} قالوا: ما نشهد لكن فنزلت، "وقوله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُه} [المنافقون: 1] ، فلا يضرك قول المنافقين ذلك بألسنتهم، مخالفًا لما في قلوبهم، وقوله: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ} [الفتح: 29] جملة مبينة للمشهود به، ويجوز أن يكون رسول الله صفة، ومحمد خبر محذوف، أو مبتدأ، والذين معه معطوف عليه، وخبرهما أشداء على الكفار رحماء بينهم، كما في الأنوار.(8/372)
29] ، فهذا كله معه تعالى شهادة لرسوله قد أظهرها وبينها، وبين صحتها غاية البيان بحيث قطع العذر بينه وبين عباده، وأقام الحجة عليهم بكونه سبحانه شاهدًا لرسوله.
وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} [الفتح: 28] .
فيظهر ظهورين: ظهورًا بالحجة والبيان، وظهورًا بالنصر والغلبة والتأييد حتى يظهر على مخالفيه ويكون منصورًا.
ومن شهادته تعالى أيضًا ما أودعه في قلوب عباده من التصديق الجازم، واليقين الثابت والطمأنينة بكلامه ووحيه، فإن الله فطر القلوب على قبول الحق
__________
"فهذا كله معه تعالى شهادة لرسوله صلى الله عليه وسلم، قد أظهرها وبينها وبين صحتها غاية البيان، بحيث قطع العذر" "بسكون الذال وتضم" للاتباع، أي: منع الأشياء التي تكون سببًا لطلب ما يزل اللوم عن الفاعل "بينه وبين عباده، وأقام الحجة عليهم، بكونه سبحانه شاهدًا لرسوله" صلى الله عليه وسلم.
"وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى} ملتبسًا به، أو بسببه، ولأجله، {وَدِينِ الْحَقِّ} الإسلام، {لِيُظْهِرَهُ} ليعليه {عَلَى} جنس {الدِّينِ كُلِّهِ} ينسخ ما كان حقًا، وإظهار فساد ما كان باطلًا، وتسليط المسلمين على أهله، إذا ما من أهل دين إلا وقد قهرهم المسلمون، وفيه تأكيد لما وعده من الفتح، {وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} [الفتح: 28] الآية" على أن ما وعده كائن، أو على نبوته بإظهار المعجزات، أو على أنك مرسل، كما قال محمد رسول الله، "فيظهر ظهورين: ظهورًا بالحجة والبيان" بحيث لا يستطيع المعاند ردهما، بل يخادعون أنفسهم بالتشغيب والتكذيب والإفتراء والمباهتة والرضا بالدنية، كقولهم: {قُلُوبُنَا غُلْف} [البقرة: 88] الآية، وفي أكنة مما تدعون إليه وغير ذلك، "وظهورًا بالنصر والغلبة والتأييد حتى يظهر على مخاليفه ويكون منصورًا" كما قال: "هو الذي أيدك بنصره لينصرك الله نصرًا عزيزًا" [الفتح: 3] .
"ومن شهادته تعالى أيضًا ما أودعه في قلوب عباده، من التصديق الجازم، واليقين الثابت، والطمأنينة بكلامه" سبحانه، "ووحيه" إلى أنبيائه، "فإن الله فطر" خلق "القلوب" مشتملة "على قبول الحق، والانقياد له، والطمأنينة، والسكون إليه، ومحبته وفطرها على" أعاد العامل تنبيهًا على أن كلًا من قبول الحق، و "بغض الكذب والباطل" مقصود بالذات "والنفور(8/373)
والانقياد له، والطمأنينة والسكون إليه ومحبته، وفطرها على بغض الكذب والباطل والنفور عنه وعدم السكون إليه، ولو بقيت الفطرة على حالها لما آثرت على الحق سواه، ولما سكنت إلا إليه، ولا اطمأنت إلا به، ولا أحبت غيره. ولهذا ندب الحق سبحانه إلى تدبر القرآن، فإن كل من تدبره أوجب له علمًا ضروريًا ويقينًا جازمًا أنه حق، بل أحق كل حق، وأصدق كل صدق قال تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 24] ، فلو رفعت الأقفال عن القلوب لباشرتها حقائق القرآن، واستنارت فيها مصابيح الإيمان، وعلمت علمًا ضروريًا كسائر الأمور الوجدانية كاللذة والألم أنه من عند الله، تكلم به حقًا، وبلغه رسوله جبريل إلى رسوله محمد صلى الله عليه وسلم. فهذا الشاهد في القلب من أعظم الشواهد. انتهى ملخصًا من مدارج السالكين.
وقال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف:
__________
عنه، وعدم السكون إليه، ولو بقيت الفطرة" "بالكسر" الخلقة "على حالها لما آثرت" قدمت "على الحق سواء، ولما سكنت" اطمأنت "لا إليه، ولا اطمأنت إلا به، ولا أحبت غيرهن ولهذا ندب" دعا "الحق سبحانه إلى تدبر القرآن، فإن كل من تدبره أوجب له علمًا ضروريًا، ويقينًا جازمًا أنه حق، بل أحق كل حق، وأصدق كل صدق، قال تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآن} يتصفحونه وما فيه من المواعظ والزواجر حتى لا يجسروا على المعاصي، {أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 24] ، لا يصل إليها ذكر، ولا ينكشف لها أمر، وقيل: أم منقطعة، والهمزة للتقرير ونكر قلوب؛ لأن المراد قلوب بعض منهم، أو للإشعار بأنها لإبهام أمرها في القساوة، أو لفرط جهالتها، كأنها مبهمة منكورة، وإضافة الأقفال إليها للدلالة على أقفال مناسبة لها، مختصة بها لا تجانس الأقفال المعهودة، وقرئ أقفالها على المصدر، قاله البيضاوي.
"فلو رفعت الأقفال عن القلوب لباشرتها حقائق القرآن، واستنارت فيها مصابيح الإيمان، وعلمت علمًا ضروريًا، كسائر الأمور الوجدانية" "بكسر الواو" كاللذة والألم، إنه من عند الله، كلم به حقًا، وبلغه رسوله جبريل إلى رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، فهذا الشاهد في القلب من أعظم الشواهد. انتهى ملخصًا من مدارج السالكين" للعلامة ابن القيم في شرح منازل السائلين لشيخ الإسلام الهروي. "وقال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف: 158] ، حال من الضمير في إليكم.(8/374)
158] .
ففي هذه الآية دلالة على أنه صلى الله عليه وسلم مبعوث إلى كافة الثقلين.
وقالت العيسوية من اليهود وهم أتباع عيسى الأصفهاني: إن محمدًا صادق مبعوث إلى العرب، غير مبعوث إلى بني إسرائيل.
ودليلنا على إبطال قولهم هذه الآية؛ لأن قوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} خطاب يتناول كل الناس، ثم قال: {إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} وهذا يقتضي كونه مبعوثًا إلى جميع الناس.
وأيضًا: فلأنًا نعلم بالتواتر أنه كان يدعي أنه مبعوث إلى الثقلين. فإما أن
__________
قال المفتي: لما حكى ما في الكتابين من نعوته صلى الله عليه وسلم، وشرف من يتبعه من أهلهما ونيلهم لسعادة الدارين، أمر عليهالصلاة والسلام ببيان أن تلك السعادة غير مختصة بهم، بل شاملة لكل من تبعه كائنًا من كان، ببيان عموم رسالته للثقلين مع اختصاص سائرالرسل بأقوامهم، وإرسال موسى إلى فرعون، وملئه بالآيات التسع، إنما كان لأمرهم بعبادة رب العالمين، وترك العظمة التي كان يدعيها الطاغية، ويقبلها منه الفئة الباغية، وبإرسال بني إسرائيل من الأسر والقسر، وأما العمل بأحكام التوراة، فمختص ببني إسرائيل. انتهى.
"ففي هذه الآية دلالة على أنه صلى الله عليه وسلم مبعوث إلى كافة الثقلين" الإنس والجن، سيما بذلك لثقلهما على الأرض، أو لرزانة رأيهم وقدرهم، أو؛ لأنهما مثقلان بالتكليف، ووجه الدلالة أن الناس وإن غلب استعماله في الإنس، لكنه اسم للإنس والجن؛ لأنه مشتق من ناس ينوس، إذا تحرك فيطلق عليهما وبهما، فسر في صدور الناس.
"وقالت العيسوية من اليهود، وهم أتباع عيسى" المنقول لغيره أبي عيى "الأصفهاني"، زاد في نسخة: النصراني، ولا ينافيها قوله أولا من اليهود، لجواز أنه كان نصرانيا، ثم تهود، فتبعته تلك الطائفة: "إن محمدا صادق مبعوث إلى العرب، غير مبعوث إلى بني إسرائيل، ودليلنا على إبطال قولهم في هذه الآية؛ لأن قوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} خطاب عام "يتناول كل الناس" العرب، وبني إسرائيل وغيرهم، فتخصيصه بالعرب من أين، "ثم قال" بأمر الله تعالى قل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} وهذا يقتضي كونه مبعوثا إلى جميع الناس، اقتضاء ظاهرا، لا سيما مع قوله جميعا، فهو قريب من الصريح.
"وأيضا" دليل ثان في الرد على العيسوية: "فلأنا نعلم بالتواتر أنه كان يدعي"، أي: يذكر "أنه مبعوث إلى الثقلين، فإما أن نقول أنه كان رسولا حقا، أو كان كذلك" من(8/375)
نقول: إنه كان رسولًا حقًا، أو ما كان كذلك، فإن كان رسولًا حقًا امتنع الكذب عليه، ووجب الجزم بكونه صادقًا في كل ما يدعيه، فلما ثبت بالتواتر وبظاهر هذه الآية أنه كان يدعي أنه مبعوث إلى جميع الثقلين، وجب كونه صادقًا، وذلك يبطل قول من يقول: إنه كان مبعوثًا إلى العرب فقط، لا إلى بني إسرائيل.
وإذا ثبت هذا فنقول: قوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} من الناس من يقول: إنه عام دخله التخصيص، ومنهم من أنكر ذلك.
أما الأولون فقالوا: دخله التخصيص من وجهين:
الأول: أنه رسول إلى الناس إذا كانوا من جملة المكلفين، فإذا لم يكونوا من جملة المكلفين لم يكن رسولًا إليهم، وذلك؛ لأنه عليه السلام قال: "رفع القلم
__________
إرخاء العنان للخصم للزوم الحجة له، "فإن كان رسولٌا حقًا" كما اعترفت به أيها الخصم، "امتنع الكذب عليه"، لاستحالته على الرسول، "ووجب الجزم بكونه صادقًا في كل ما يدعيه" ومنه أنه رسول إلى بني إسرائيل، "فلما ثبت بالتواتر وبظاهر هذه الآية" لما يقل بصريحها، لاحتمال أن أل فيها للجنس، ولكن يمنعه، أو يبعد التأكيد بقوله جميعًا؛ "أنه كان يدعي أنه مبعوث إلى جميع الثقلين، وجب كونه صادقًا، وذلك يبطل قول من يقول: إنه كان مبعوثًا إلى العرب فقط، لا إلى بني إسرائيل" وعبر بيدعي؛ لأن الإدعاء قول يخالف الظاهر، كما قدمه، وهذا وإن طابق الواقع بحسب نفس الأمر، لكنه مخالف للظاهر، فلذا أتى بالأدلة والبراهين لإثبات رسالته.
"وإذا ثبت هذا، فنقول قوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم جَمِيعًا} ، من الناس من يقول: إنه عام دخله التخصيص، ومنهم من أنكر ذلك".
"أما الأولون" ترك عديله إما لظهوره، أي: وأما المنكرون، فقالوا: هو باق على عمومه، والتكليف، ووصول خبر الرسالة ليس شرطًا في الرسالة، وإنما هو شرط في المؤاخذة بما بلغه.
"فقالوا: دخله التخصيص من وجهين: الأول: أنه رسول الله إلى الناس، إذا كانوا من جملة المكلفين" لا مجانين وصبيانًا، "فإذا لم يكونوا من جملة المكلفين لم يكن رسولًا إليهم، وذلك؛ لأنه عليه السلام قال" كما رواه أحمد وأبو داود والنسائي، وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم، عن علي وعمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "رفع القلم عن ثلاث" كناية عن عدم التكليف؛ لأنه يلزم منه الكناية، وعبر برفع إشعارًا؛ بأن التكليف لازم لبني آدم، لا ينفك(8/376)
"عن ثلاث: عن الصبي حتى يبلغ، وعن النائم حتى يستقيظ، وعن المجنون حتى يفيق".
والثاني: أنه رسول الله إلى كل من وصله خبر وجوده، وخبر معجزاته وشرائعه، حتى يمكنه عند ذلك متابعته. أما لو قدرنا حصول قوم في طرف من أطراف الأرض لم يبلغهم خبره وخبر معجزاته وشرائعه حتى لا يمكنهم عند ذلك متابعته فلا يكونون مكلفين بالإقرار بنبوته. وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
__________
عنهم إلا عن ثلاثة، "عن الصبي" الطفل، ولو مراهقًا "حتى يبلغ" وفي رواية: حتى يكبر، وأخرى: حتى يشب، وأخرى: حتى يحتلم.
قال السبكي: ليس في روايتي "حتى يكبر"، وحتى يبلغ من البيان ما في رواية حتى يحتلم، فالتمسك بها لبيانها أولى؛ لأن حتى يبلغ مطلق، وحتى يحتلم مقيد، فيحمل عليه، فإن الاحتمال بلوغ قطعًا، وعدم بلوغ السن ليس ببلوغ قطعًا، "وعن النائم حتى يستيقظ" من نومه، "وعن المجنون" زاد في رواية: المغلوب على عقله "حتى يفيق" وفي رواية: حتى يبرأ، أي: بالإفاقة، وفي أخرى: حتى يعقل، وفي أخرى: وعن المبتلى حتى يبرأن أي: المبتلي بداء الجنون.
قال ابن حبان: والمراد برفع القلم ترك كتابة الشر عليهم دون الخير.
قال الزين العراقي: وهو ظاهر في الصبي دون المجنون والنائم؛ لأنهما في حيز من ليس قابلًا لصحة العبادة منهم لزوال الشعور، فالمرفوع عن الصبي قلم المؤاخذة، لا قلم الثواب، لقوله صلى الله عليه وسلم للمرأة لما سألته: "ألهذا حج؟، قال: "نعم" واختلف في تصرف الصبي، فصححه أبو حنيفة ومالك بإذن وليه مراعاة للتميز، وأبطله الشافعي مراعاة للتكليف.
"والثاني: أنه رسول الله إلى كل من وصله خبر وجوده، وخبر معجزاته وشرائعه حتى يمكنه عند ذلك متابعته. أما لو قدرنا" قد يشعر بعدم وجوده والمصرح به في الفروع والأصول، خلافه "حصول قوم في طرف من أطراف الأرض لم يبلغهم خبره، وخبر معجزاته وشرائعه حتى لا يمكنهم عند ذلك متابعته، فلا يكونون مكلفين بالإقرار بنبوته" ويكونون من الناجين في الآخرة لعذرهم بعدم بلوغ الدعوة، ولكن لا يصلي عليهم؛ لأنه إنما يصلى على المحقق إسلامه، ولا يجوز لعنهم؛ لأنهم لعدم تكذيبهم في معنى المسلم، كما قال الغزالي: أنه التحقيق لا مسلم، كما عبر به بعض، أو على الفطرة، كما عبر به آخر، واختار السبكي التعبير بناج.
"وعن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنه قال: "والذي نفسي بيده" أقسم تقوية للحكم، "لا يسمع بي أحد من هذه الأمة" التي وجد فيهم إلى قيام الساعة، "ولا يهودي، ولا(8/377)
"والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة ولا يهودي ولا نصراني، ومات ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار" رواه مسلم. ومفهومه: أنه من لم يسمع به ولم تبلغه دعوة الإسلام فهو معذور، على ما تقرر في الأصول أنه لا حكم قبل الشرع على الصحيح، وفي هذا الحديث نسخ الملل كلها برسالة نبينا صلى الله عليه وسلم.
وقال تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ
__________
نصراني" عطف خاص على عام، لإفادة عموم بعثته، "ومات ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار" الخالدين فيها، "رواه مسلم" وأحمد.
"ومفهومه أن من لم يسمع به، ولم تبلغه دعوة الإسلام، فهو معذور" فيكون ناجيًا "على ما تقرر في الأصول أنه لا حكم قبل الشرع على الصحيح"، لقوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} ؛ ولأن الغافل لا يكلف، لقوله تعالى: {ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ} ، ثم اختلف هل نجاة من لم تبلغه الدعوة ودخوله الجنة غير متوقفة على الامتحان، أو متوقفة عليه، لورود أحاديث كثيرة؛ بأنهم يمتحنون يوم القيامة ببعث رسول إليهم أن ادخلوا النار، فمن دخلها كانت عليه بردًا وسامًا، ومن لم يدخلها سحب إليها.
"وفي هذا الحديث نسخ الملل كلها برسالة نبينا صلى الله عليه وسلم" لجعله من لم يؤمن برسالته من أهل النار، وإنما يكون كذلك بموته كافرًا، وكفره يستدعي نسخ الشريعة التي هو متمسك بها، والله أعلم.
"وقال تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ} اليهود والنصارى {قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا} محمد صلى الله عليه وسلم {يُبَيِّنُ لَكُمْ} الدين، وحذف لظهوره أو ما كتمتم من الكتاب، كآية الرجم، وصفته صلى الله عليه وسلم، وحذف لتقدم ذكره، ويجوز أن لا يقدر مفعول على معنى يبذل لكم البيان، والجملة في موضع الحال، أي: جاءكم رسولنا مبينًا {عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُل} ، متعلق بجاء، أي: على حين فتور من الإرسال وانقطاع من الوحي، فتعلق على فترة بجاءكم تعلق الظرفية، كقوله: {أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ} كراهة أن تقولوا ذلك، وتعتذروا به، فهو في موقع المفعول له، {فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ} متعلق بمحذوف، أي: لا تعتذروا بما جاءنا بأن تقولوا ذلك، قاله الكشاف.
قال التفتازاني: أي: بمحذوف تفصح عنه الفاء، وتفيد بيان سببه، كالتي تذكر بعد الأوامر(8/378)
الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [المائدة: 19] .
خاطب الله تعالى أهل الكتاب من اليهود والنصارى بأنه قد أرسل إليهم رسوله محمدًا خاتم النبيين الذي لا نبي بعده ولا رسول. بل هو المعقب لجميعهم، ولهذا قال تعالى: {عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ} أي من بعد مدة متطاولة، ما بين إرساله وعيسى ابن مريم.
وقد اختلفوا في مقدار هذه المدة، فقال النهدي وقتادة في رواية عنه:
__________
والنواهي بيانًا لسبب الطلب، لكن كمال حسنها وفصاحتها أن تكون مبنية على التقدير، منبئة عن المحذوف، بخلاف قولك: أعبد ربك، فالعبادة حق له، ولكون مبنى الفاء الفصيحة على الحذف اللازم، بحيث لو ذكر لم يكن بتلك الفصاحة، تختلف العبارة في تقدير المحذوف، فتارة أمرًا أو نهيًا، كما في هذه الآية، وتارة شرطًا، كقوله: {فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْث} [الروم: 56] ، وتارة معطوفًا عليه، كقوله: فانفجرت {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير} [المائدة: 19] فيقدر على الإرسال تترًا، كما فعل بين موسى وعيسى إذا كان بينهما ألف وسبعمائة سنة وألف نبي، وعلى الإرسال على الفترة، كما فعل بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام، "خاطب الله تعالى أهل الكتاب من اليهود والنصارى؛ بأنه قد أرسل إليهم رسوله محمدًا خاتم النبيين الذي لا نبي بعده ولا رسول" بيان لخاتم النبيين، "بل هو المعقب لجميعهم"، أي: الجائي بعدهم، "ولهذا قال تعالى: {عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُل} ، أي: من بعد مدة متطاولة ما بين إرساله وعيسى ابن مريم" والفترة لغة من فتر الشيء إذا سكنت حدته، سميت المدة التي بين الأنبياء فترة، الفتور الدواعي في العمل بتلك الشرائع.
"وقد اختلفوا في مقدار هذه المدة، فقال النهدي" "بفتح النون وإسكان الهاء" أبو عثمان عبد الرحمن بن مل "بلام ثقيلة، والميم مثلثة"، مشهور بكنيته، من كبار التابعين، مخضرم، ثقة، عابد، روى له الجميع، مات سنة خمس وتسعين، وقيل: بعدها، وعاش مائة وثلاثين سنة، وقيل: أكثر، "وقتادة" بن دعامة الأكمة التابعي، المشهور "في رواية عنه ستمائة سنةن ورواه البخاري" من حديث أبي عثمان النهدي "عن سلمان الفارسي" قال: فترة بين عيسى ومحمد ستمائة سنة.
قال الحافظ: أي: المدة التي لم يبعث فيها رسول من الله، ولا يمتنع أن ينبأ فيها نبي يدعو إلى شريعة الرسول الأخير.(8/379)
ستمائة سنة. ورواه البخاري عن سلمان الفارسي. وعن قتادة: أنها خمسمائة وستون سنة، وقال الضحاك: أربعمائة سنة ويضع وثلاثون سنة، وعن الشعبي -فيما ذكره ابن عساكر- تسعمائة وثلاث وثلاثون سنة.
قال الحافظ عماد الدين بن كثير: والمشهور أنها ستمائة سنة، قال: وكانت هي الفترة بين عيسى ابن مريم، آخر أنبياء بني إسرائيل، وبين محمد آخر النبيين من بني آدم على الإطلاق، كما في البخاري من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "أنا أولى الناس
__________
"وعن قتادة: أنها خمسمائة وستون سنة" أخرجه عبد الرزاق بن معمر عنه، لكن لم يقل: وستون سنة، كما في الفتح، قال: وعن الكلبي: خمسمائة وأربعون، "وقال الضحاك: أربعمائة سنة وبضع وثلاثون سنة. وعن الشعبي" عامر بن شراحيل، "فيما ذكره ابن عساكر"، عنه: "تسعمائة وثلاث وثلاثون سنة".
"قال الحافظ عماد الدين بن كثير: والمشهور أنها ستمائة سنة" خلافًا لنقل ابن الجوزي الإتفاق على ذلك، فإنه تعقب بوجود الخلاف، "قال: وكانت هي الفترة بين عيسى ابن مريم آخر أنبياء بني إسرائيل وبين محمد آخر النبيين من بني آدم"، بيان للواقع، "على الإطلاق، كما في البخاري" في أحاديث الأنبياء، وكذا مسلم، كلاهما "من حديث أبي هريرة، مرفوعًا" بلفظ: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أنا أولى الناس بابن مريم".
وفي رواية للبخاري: "بعيسى ابن مريم في الدنيا والآخرة"، ولفظ مسلم: "في الأولى، والآخرة"، قال الحافظ: أي: أخصهم به، وأقربهم إليه؛ لأنه بشر بأنه يأي من بعده، فالأولوية من جهعة قرب العهد، كما أنه أولى الناس إبراهيم من جهة قوة الاقتداء، زاد السيوطي: ولأنه أبوه ودعا به، وأشبه الناس به خلقًا وملة. انتهى.
وقول الكرماني: التوفيق بين الحديث، وبين قوله تعالى: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ} [الأعراف: 68] ، إن هذا الحديث وارد في كونه صلى الله عليه وسلم متبوعًا، والآية واردة في كونه تابعًا، رده الحافظ؛ بأن مساق الحديث كمساق الآية، فلا دليل على هذه التفرقة، والحق أن لا منافاة ليحتاج إلى الجمع، فهو أولى بكل منهما من جهة، وأسقط المصنف من هذه الرواية عند البخاري ومسلم، والأنبياء، أولاد علات؛ "لأنه ليس بيني وبينه نبي" لم تقع لفظه؛ لأنه في الصحيحين، ولذا قال السيوطي: ليس.. إلخ، بيان لجهة الأولوية.
وقال الحافظ: قوله: ليس بيني وبينه نبي، هذا أورده كالشاهد لقوله: إنه أقرب الناس إليه، وتبعه المصنف.
وفي رواية لهما: والأنبياء إخوة لعلات، أمهاتهم شتى ودينهم واحد، والعلات: "بفتح(8/380)
بابن مريم؛ لأنه ليس بيني وبينه نبي" وهذا فيه رد على من زعم أنه بعث بعد عيسى نبي يقال له: خالد بن سنان، كما حكاه القاضي وغيره.
والمقصود: أن الله بعث محمدًا على فترة من الرسل وطموس من السبل وتغير الأديان، وكثرة عبادة الأوثان والنيران والصلبان، فكانت النعمة به أتم والنفع به أعم.
وفي حديث عند الإمام أحمد مرفوعًا: "إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عجمهم وعربهم إلا بقايا من بني إسرائيل" وفي لفظ مسلم: "من أهل الكتاب" فكان
__________
المهملة" الضرائر، وأصله أن من تزوج امرأة، ثم أخرى، كأنه عل منها بعدما كان ناهلًا من الأخرى، والعلل الشرب بعد الشرب، وأولاد العلات الأخوة من الأب وأمهاتهم شتى، فقوله: أمهاتهم إلخ، من باب التفسير كقوله تعالى: {إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا، إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا، وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا} [المعارج: 19] ، ومعنى الحديث أن أصل دينهم واحد، وهو التوحيد، وإن اختلف فروع الشرائع، وقيل: المراد أن أزمنتهم مختلفة.
"وهذا فيه رد على من زعم أنه بعث بعد عيسى نبي، يقال له: خالد بن سنان" العبسي، "كما حكاه القاضي" عياض، وفي نسخة: القضاعي "وغيره".
ومن فتح الباري: استدل به على أنه لم يبعث بعد عيسى أحد إلا نبينا صلى الله عليه وسلم، وفيه نظر؛ لأنه ورد أن الرسل الثلاثة الذين أرسلوا إلى أصحاب القرية، المذكورة قصتهم في سورة يس كانوا من أتباع عيسى، وإن جرجيس وخالد بن سنان كانا نبيين وكانا بعد عيسى، والجواب أن هذا احديث يضعف ما ورد من ذلك، فإنه صحيح بلا تردد، وفي غيره مقال، أو المراد أنه لم يبعث بعد عيسى نبي بشريعة مستقلة، وإنما بعث بعده بتقرير شريعة عيسى.
"والمقصود أن الله بعث محمدًا على فترة من الرسل، وطموس" مصدر طمس، محى ودرس "من السبل" أي: ذهاب الشرائع وعدم العلم بشيء منها، "وتغير الأديان" بتحريف ما يدل عليها وتبديله، "وكثرة عبادة الأوثان والنيران والصلبان" جمع صليب للنصارى، "فكانت النعمة به أتم، والنفع به أعم".
"وفي حديث عند الإمام أحمد، مرفوعًا: "إن الله نظر إلى أهل الأرض" نظر غضب، "فمقتهم" أبغضهم أشد البغض، لقبح ما ارتكبوه، والمراد من هذا ونحوه غايته "عجمهم" "بفتحتين"، وفي لغة بضم فسكون، خلاف العرب، "وعربهم إلا بقايا من بني إسرائيل" فلم يمقتهم لتمسكهم بالحق. "وفي لفظ مسلم: من أهل الكتاب" بدل قوله: من بني إسرائيل، ومعناهما واحدًا، "فكان الدين قد التبس على أهل الأرض كلهم، حتى بعث الله محمدًا(8/381)
الدين قد التبس على أهل الأرض كلهم، حتى بعث الله محمدًا صلى الله عليه وسلم فهدى به الخلائق، وأخرجهم الله به من الظلمات إلى النور، وتركهم على المحجة البيضاء، والشريعة الغراء، صلوات الله وسلامه عليه.
وقال تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128] .
__________
صلى الله عليه وسلم، فهدى به الخلائق وأخرجهم الله به من الظلمات" الكفر "إلى النور" الإيمان "وتركهم على المحجة" "بفتح الميم" "البيضاء"، أي: الطريقة الواضحة بنيانه لهم الحق من الباطل، "والشريعة الغراء، صلوات الله وسلامه عليه".
قال الإمام الرازي: كان العالم مملوء من الكفر والضلال، أما اليهود، فكانوا في المذاهب الباطلة من التشبيه والإفتراء على الأنبياء وتحريف التوراة، وأما النصارى، فقالوا بالتثليث، والابن والأب والحلول والاتحاد، وأما المجوس، فأثبتوا الهين، وأما العرب، فانهمكوا في عبادة الأصنام والفساد في الأرض، فلما بعث صلى الله عليه وسلم انقلت الدنيا من الباطل إلى الحق، ومن الظلمة إلى النور، وانطلقت الألسنة بتوحيد الله، فاستنارت العقول بمعرفة الله، ورجع الخلق من حب الدنيا إلى حب المولى. انتهى.
"وقال تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} "بضم الفاء"، في قراءة الجمهور، أي: منكم، وقرئ شاذًا "بفتح الفاء" أي: من خياركم وأشرفكم.
وأخرج ابن مردويه عن أنس، قال: قرأ النبي صلى الله عليه وسلم {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} "بفتح الفاء"، وقال: "أنا أنفسكم نسبًا وصهرًا وحسبًا، ليس في آبائي من لدن آدم سفاح، كلنا نكاح"، {عَزِيزٌ} شديد {عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ} أن تهتدوا {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ} شديد الرحيم {رَحِيمٌ} يريد لهم الخير والرأفة مع الرحمة حيث وقعت مقدمة لا للفاصلة، كما قال البيضاوي ومن تبعه لوقوعه كذلك في غير الفواصل.
قال تعالى: {وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً} [الحديد: 27] ، بل؛ لأن أصل معنى الرأفة التلطف والشفقة، كما صرح به القرطبي في شرح الأسماء، فقال: قال الله تعالى: {وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ} الآية، حيث ذكر الوصفان، قدم الرؤوق على الرحيم في الذكر، وسببه أن الرحمة في الشاهد إنما تحصل بمعنى المرحوم من فاقته وضعفه وحاجته، والرأفة تطلق عندنا على ما يحصل الرحمة من شفقة على المرحوم".
وقال المشايخ: الرؤوق المتعطف، والذي جاد بلطفه ومن يعطفه. انتهى، "أي: عزيز عليه عنتكم، أي: إثمكم بالشرك والمعاصي" بيان للمراد بالعنت، وإلا فهو لغة المشقة(8/382)
أي: عزيز عليه عنتكم، اي إثمكم بالشرك والمعاصي. قال الحسن: عزيز عليه أن تدخلوا النار، حريص عليكم أن تدخلوا الجنة، ومن حرصه صلى الله عليه وسلم علينا أنه لم يخاطبنا بما يريد إبلاغه إلينا، وفهمنا إياه على قدر منزلته، بل على قدر منزلتنا، وإلى هذا أشار صاحب البردة بقوله:
لم يمتحنا بما تعيا العقول به ... حرصًا علينا فلم نرتب ولم نهم
أي لم نتحير ولم نشك فيما ألقاه إلينا. وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107] ، ولا رحمة مع التكليف بما لا يفهم.
ومن حرصه عليه السلام على هدايتنا أنه كان كثيرًا ما يضرب المثل بالمحسوس ليحصل الفهم، وهذه سنة القرآن، ومن تتبع الكتاب والسنة رأى من
__________
والخطأ، "قال الحسن" البصري: "عزيز عليه أن تدخلوا النار" من عزا إذا صعب وشق، قال الشاعر:
يعز علينا أن نفارق من نهوى
"حريص عليكم أن تدخلوا الجنة" والحرص فرط الشدة، أو الشح على الشيء، أن يضيع، والمراد هنا شدة الطلب لما يريده ويحبه، "ومن حرصه صلى الله عليه وسلم علينا" على الرفق بنا "أنه لم يخاطبنا بما يريد إبلاغه إلينا، و" يريد "فهمنا إياه على قدر منزلته" بأن يأتي بالألفاظ المتناهية في البلاغة والقرابة خشية عدم فهمنا للمراد منهما، "بل على قدر منزلتنا" بالألفاظ المتداولة بين الناس، وإن نزلت في الرتبة عن غيرها ليسهل فهمها علينا، ويتضح المراد منها.
"وإلى هذا أشار صاحب البردة بقوله: لم يمتحنا" لم يبتلنا "بما" أي: بخطاب، "تعيا العقول" أي: تقصر عن فهمه لغموضه، فلا نهتدي إلى المراد "به، حرصًا علينا" أن لا نضل، "فلم نرتب ولم نهم، أي: لم نتحير" تفسير لنرتب، "ولم نشك فيما ألقاه إلينا" بل تحققناه لسهولته، "وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً} أي: للرحمة، {لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107] ، والإنس والجن وغيرهم "ولا رحمة مع التكليف بما لا يفهم" بل هو عقاب.
"ومن حرصه عليه السلام على هدايتنا أنه كان كثيرًا ما يضرب المثل بالمحسوس، ليحصل الفهم" كقوله: $"لأن يهدي الله بك رجلًا واحدًا خير من أن يكون لك حمر النعم".
"وهذه سنة القرآن" عادته المستمرة أن الله لا يستحيي أن يضرب مثلًا ما، "ومن تتبع الكتاب والسنة رأى من ذلك العجب العجاب" البالغ فيما يتعجب منه، لاشتماله على الأشياء البالغة في زيادة البيان والإيضاح والرفق بالمؤمنين، "ولما ساوى سبحانه وتعالى بين الناس"(8/383)
ذلك العجب العجاب، ولما ساوى الله سبحانه وتعالى بين الناس في حرص رسوله عليه السلام على إسلامهم، خص المؤمنين برأفته ورحمته لهم.
وقال: {مِنْ أَنْفُسِكُم} ولم يقل: من أزواجكم، فقيل: يحتمل أن يكون مراده: أنه منا بجسده المنفس، لا بروحه المقدس، ويرحم الله القائل:
إذا رمت مدح المصطفى شغفًا به ... تبلد ذهني هيبة لمقامه
فأقطع ليلي ساهر الجفن مطرقًا ... هوى فيه أحلى من لذيذ منامه
إذا قال فيه الله جل جلاله ... رؤف رحيم في سياق كلامه
فمن ذا يجاري الوحي والوحي معجز ... بمختلفيه نثره ونظامه
__________
مؤمنهم، وكافرهم، "في حرص رسوله عليه السلام على إسلامه، خص المؤمنين برأفته ورحمته لهم" المستفادة من التقديم، كأنه قيل: بالمؤمنين لا بغيرهم.
"وقال: {مِنْ أَنْفُسِكُم} ولم يقل: من أرواحكم، فقيل: يحتمل أن يكون مراده" على مغايرة النفس للروح، "أنه منا بجسده المنفس" "بالتشديد" للمبالغة، أي: المكرم، ولرعاية "لا بروحه المقدس" المطهر، وإن كان أصل المنفس "بالتخفيف"، "ويرحم الله القائل: إذا رمت": قصدت "مدح المصطفى شغفًا": ولوعًا طبه" ومحبة له "تبلد" من البلادة: عدم الذكاء والفطنة، أي: انكسرت حدة "ذهني" ويرد عن الأوصاف اللائقة بمقامه.
وفي نسخة: تبدد، أي: تفرق، "هيبة لمقامه"؛ لأني أرى الأوصاف قاصرة عنه، فيعلوني الخجل عند إرادة مدحه، "فأقطع ليلى ساهر الجفن" أي: جنسه "مطرقًا" "بكسر الراء وفتحها" "هوى" القصر، أي: ميلًا، "فيه أحلى من لذيذ منامه"، إذ السهر في هوى المحبوب ألذ، "إذا قال فيه الله جل جلاله: رؤوف رحيم" وهما من أسمائه "في سياق كلامه" ومعنى إذا الظرفية المجردة لا الشرط؛ لأن القول تحقق من الله، فلا يليق جعله مستقبلًا، ويجوز أن إذا منون، أي: لأجل هذا، فمن ذا يجاري" يأتي بما يشابه "الوحي" بثنائه على المصطفى نثرًا، أو نظمًا، "والوحي معجز بمختلفيه" "بالفاء متعلق بيجاري" "نثره ونظامه" أي: نظمه، والمعنى أن الوحي معجز للكلام نثرًا كان، أو نظمًا، فلا يمكن مشابهته لأحد.
"تنبيه": إيقاظ وتبيين، "وأما قول القاضي عياض بعد ذكره الآية" {لَقَدْ جَاءَكُمْ} في الشفاء، بما لفظه، أعلم الله تعالى المؤمنين، أو العرب، أو أهل مكة، أو جميع الناس على اختلاف المفسرين من المواجه بهذا الخطاب؛ أنه بعث فيهم رسولًا من أنفسهم، يعرفونه ويتحققون مكانته، ويعلمون صدقه وأمانته، ولا يتهمونه بالكذب، وترك النصيحة لهم لكونه منهم،(8/384)
تنبيه: وأما قول القاضي عياض بعد ذكره الآية.
"ثم وصفه بعد بأوصاف حميدة، وأثنى عليه بمحامد كثيرة، من حرصه على هدايتهم، ورشدهم وإسلامهم، وشدة ما يعنتهم ويضربهم في دنياهم وأخراهم،
__________
وأنه لم يكن في العرب قبيلة إلا ولها على رسول الله صلى الله عليه وسلم ولادة، أو قرابة، وكونه من أنفسهم وأرفعهم وأفضلهم على قراءة الفتح، "ثم وصفه بعد"، أي: بعد الإعلام المذكور، "بأوصاف حميدة"، أي: محمودة عند الله والناس، أو حامدة على التجوز في النسبة، "وأثنى عليه بمحامد" جمع محمدة "كثيرة" والنثاء بها، لا يغاير الوصف بصفات حميدة، ولا يعاب مثله في مقام الخطابة، مع أنه لما كانت أوصاف جمع قلة، عقبه بجمع الكثرة دفعًا للإيهام، والأول مطابق لظاهر الآية، والثاني لما تضمنته مما لا يحصى، "من حرصه" بيان لما قبله من الأوصاف وما بعده، أي: من فرط شدته "على هدايتهم" أي: دلالتهم، والمراد طلب تأثيرها لا مجردها، "ورشدهم" أي: صلاحهم ظاهرا وباطنًا ليغاير الهداية، كما يقتضيه ظاهر العطف، فلا يفسر بضد الغي؛ لأنه الهداية، "وإسلامهم" مغاير لما قبله، فلذا عطف بالواو، وجعل ذلك كله متعلق الحرص، لدلالة السياق عليه ولقوله: {إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُم} [النحل: 37] ، فالقرآن يفسر بعضه بعضًا، والحرص لا يتعلق بالذوات، فإن قيل: لم قدم عياض هذه الصفة، وهي حريص عليكم مع تأخرها في الآية، أجيب: بأنه لما كانت العزة منشأ لحرصه قدمت في الآية على وفق الواقع لبيان حاله في ابتداء أمره، فلما حكاه عياض بيانًا لمحامده، قدم المقصود بالذات الذي هو الحمد، أو؛ لأن المقام مقام مدح، وهو في الحرص أتم وأكمل، وسياق الآية للامتنان، وهو كونه يعز عليه حالهم، فأشار إلى تفاوت المقامين، ولا يرد أن المنة في الحرص أتم؛ لأن مسلك الآية على الترقي، وما هنا بخلافه للتفنن.
"وشدة ما يعنتهم" روي بسكون العين وخفة النون من الإعنات، قال الله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ} ، وروي بفتح العين وتثقيل النون، وهما لغتان، أعنت وعنت، بمعنى المشقة والوقوع فيها، ويجيء بمعنى الإثم والفساد والهلاك.
"ويضربهم" "بفتح الياء وضم الضاد" وروي بضم الياء وكسر الضاد، مضارع أضر؛ لأنه يقال: ضره وأضر به، ومعناهما أوقعه في الضرر، "في دنياهم وأخراهم" الدنيا تقال في مقابل آخره، وأخرى، كما عبر به، "وعزته عليه" عطف تفسير على شدة، كقوله: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي} [يوسف: 86] ، وكان المناسب لعطف التفسير تأخير الأشهر الأظهر، فيقول: عزته وشدته، لكنه عكس للمبادرة، للمراد حتى يسلم السامع من عنت الانتظار، ولا حاجة لجعل الشدة غير العزة للتنازع في عليه، فإن التفسير لا ينافي التنازع، وبقية كلام عياض: ورأفته ورحمته(8/385)
وعزته عليه".
فهو وإن كان المقصد منه صحيحًا، ففي ظاهره شيء؛ لأنه يوهم أن قوله: "وشدة ما يعنتهم" معطوف على متعلق المصدر الذي هو "الحرص" فيكون مخفوضًا به.
ومما يقوي هذا التوهم قوة إعطاء الكلام، أن الضمير الأول من قوله: "وعزته عليه" عائد على النبي صلى الله عليه وسلم، والضمير الثاني عائد على الله تعالى، فلا تبقى "الشدة" إلا أن تكون معطوفة على متعلق المصدر. ولا يخفى ما في هذا.
وقد تأوله بعض العلماء على حذف مضاف أي: وكراهة شدة ما يعنتهم، ونحو ذلك من المضافات.
والأولى أو الصواب، إن شاء الله تعالى أن تكون "الشدة" معطوفة على
__________
بمؤمنيهم.
"فهو وإن كان المقصد منه صحيحًا، ففي ظاهره شيء؛ لأنه يوهم أن قوله: وشدة ما يعنتهم، معطوف على متعلق المصدر الذي هو الحرص" بيان للمصدر، ومتعلقه قوله على هدايتهم، "فيكون مخفوضًا به" فيصير المعنى من حرصه على شدة ما يعنتهم، وهذا فاسد.
"ومما يقوي هذا التوهم قوة إعطاء الكلام؛ أن الضمير الأول من قوله: وعزته عليه عائد على النبي صلى الله عليه وسلم، والضمير الثاني عائد على الله تعالى، فلا تبقى الشدة إلا أن تكون معطوفة على متعلق المصدر"، أي: قوله على هدايتهم، "ولا يخفى ما في هذا" من الفساد الموهم خلاف المراد، "وقد تأوله بعض العلماء على حذف مضاف" مجرور، معطوف على الحرص المجرور بمن، "أي: وكراهة شدة ما يعنتهم، ونحو ذلك من المضافات" المصححة للمراد.
قال في النسيم: لا حاجة إلى تقدير؛ لأن معنى شدته عليه إنه صعب شاق عليه، فيراد به أنه مكروه تأباه نفسه، فالمعنى من حرصه على هدايته، ومن كراهته لما يضرهم، وصاحب المواهب لم يخف عليه العطف، ولكن أوقعه التقدير فيما وقع فيه. انتهى.
وكأنه لم ير بقية الكلام وهو قوله: "والأولى" من تأويله على حذف مضاف، "أو الصواب" على إبقائه على ظاهره, "إن شاء الله تعالى أن تكون الشدة معطوفة على نفس المصدر الذي هو الحرص"، وكان هذا أولى من تقدير المضاف لما فيه من الاحتياج لتقدير الأصل عدمه، "ويكون قوله: عزته معطوفًا على وشدة، والضمير فيه راجع إلى الموصول،(8/386)
نفس المصدر الذي هو "الحرص" ويكون قوله: "وعزته" معطوفًا على "وشدة" والضمير فيه راجع إلى الموصول وهو "ما" في قوله: "ما يعنتهم" والهاء الثانية في "عليه" عائدة على النبي صلى الله عليه وسلم. انتهى.
وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107] .
يجوز أن يكون "رحمة" مفعولًا له، أي لأجل الرحمة، ويجوز أن ينصب على الحال مبالغة في أن جعله نفس الرحمة، وإما على حذف مضاف أي: ذا رحمة، أو بمعنى: راحم. قال السمين.
قال أبو بكر بن طاهر -فيما حكاه القاضي عياض-: زين الله تعالى
__________
وهو ما في قوله: ما يعنتهم" أي: الذي، "والهاء الثانية في عليه عائدة على النبي صلى الله عليه وسلم. انتهى".
والمعنى وصفه وأثنى عليه بمحامد من شدة الذي يعنتهم وعزة الذي يعنتهم على المصطفى.
"وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً} ، يجوز أن يكون" قوله: "رحمة مفعولًا له أي: لأجل الرحمة"، وللعالمين متعلق به، أي: إلا لترحم بك العالمين، بهدايتك إياهم لسعادة الدارين.
وفي الصحيح قيل: يا رسول الله ادع على المشركين؟، فقال: "وإني لم أبعث لعانًا إنما بعثت رحمة"، "ويجوز أن ينصب على الحال" من الكاف "مبالغة في أن جعله نفس الرحمة، وإما على حذف مضاف، أي: ذا رحمة" وليس للعالمين متعلقًا بأرسلنا؛ لأن ما قبل إلا لا يعمل فيما بعدها إلا في الاستثناء المفرغ نحو: ما مررت إلا بزيد، والمعنى إلا لأرحم العالمين بالبناء للفاعل، لا للمفعول كما زعم، "أو بمعنى راحم" اسم فاعل، "قاله السمين" الشيخ شهاب الدين أحمد بن يوسف بن عبد الدائم الحلبي، النحوي، نزيل القاهرة، مات سنة ست وخمسين وسبعمائة، له إعراب القرآن، وأيضًا تفسير كبير في عدة أجزاء.
"قال أبو بكر بن طاهر" بن مفوز بن أحمد بن مفوز المعافري، الشاطبي، كما جزم به البرهان الحلبي في المقتفى والشمني وغيرهما، "فيما حكاه القاضي عيا" في الشفاء، "زين الله تعالى محمد صلى الله عليه وسلم بزينة الرحمة"، استعارة مكنية، بجعلها كالحلة والخلعة البهية والزينة: ما يتزين به لباسًا وغيره، وإضافته للرحمة بيانية، أو من إضافة الأعم للأخص، كلجين الماء، وقيل: الزينة هنا اللباس، أي: ألبسه الله رحمة رحمانية شاملة له، وفيه إشارة إلى أنها منة من الله بها(8/387)
محمدًا صلى الله عليه وسلم بزينة الرحمة، فكان كونه رحمة، وجميع شمائله وصفاته رحمة على الخلق، فمن أصابه شيء من رحمته فهو الناجي في الدارين من كل مكروه، والواصل فيهما إلى كل محبوب، انتهى.
وقال ابن عباس: رحمة للبر والفاجر؛ لأن كل نبي إذا كذب أهلك الله من كذبه. ومحمد صلى الله عليه وسلم أخر من كذبه إلى الموت أو إلى القيامة. وأما من صدقه فله الرحمة في الدنيا والآخرة.
__________
عليه، غير الحلية البشرية، "فكان كونه" أي: وجوده، فهي تامة لا خبر لها، وتقدير من ربنا قبيح، "رحمة" خبر فكان، والفاء فيه للتفسير والتفصيل، "وجمع شمائله" جمع شمال "بالكسر".
قال الأزهري: الشمال خلقه الرجل، أي: خلقه، وجمعه شمائل، ورجل كريم الشمائل، أي: في أخلاقه ومخالطته. انتهى، فعطف، "وصفاته رحمة" عام على خاص؛ إذا لم يخصص الصفات بالظاهرة، والشمائل بخلافها.
وقال شراح الشفاء: صفاته تشتمل غضبه وظاهر مرآه؛ لأنه لا يغضب لنفسه، وإنما يغضب لله، وغضبه للإصلاح، وهو رحمة في ذاته، وأما مرآة الحسن، فإنه لمحبته والتصديق به، ألا ترى أن عبد الله بن سلام لما رآه آمن به، وقال: لما رأيت وجهه عرفت أنه ليس بوجه كذاب، "فمن أصابه شيء من رحمته" أي: اهتدى بهدايته؛ لأن من يهتد، كمن لم تصبه الرحمة، كما أن من شرب الماء ولم يرو، كأنه لم يشرب، "فهو الناجي" أي: السالم، "في الدارين" الدنيا والآخرة "من كل مكروه" يصيب من لم يهتد في الدنيا، كقتل وسبي وأخذ جزية، وفي الآخرة العذاب المخلد، وأما أسقام الدنيا وآلامها التي تصيب المؤمن فلا تعد مكروهة بعد العلم بما فيها من تكفير السيئات ونيل الحسنات، "والواصل فيهما إلى كل محبوب"، أما في الآخرة، فغني عن البيان, وأما في الدنيا، فإن كان ذا غنى ونعمة فظاهر، وإلا فالمؤمن العقال إذا صبر وقام بوظائف العبودية في دنيا سريعة الزوال كان ما أصابه من المكروه لإيصاله للنعم الأخروية محبوبًا عنده. "انتهى" كلام ابن طاهر.
"وقال ابن عباس: رحمة للبر" أي: المؤمن "والفاجر" أي: الكافر؛ "لأن كل نبي" من سبق "إذا كذب" "بشد الذال" مبني للمجهول، "أهلك الله من كذبه، ومحمد صلى الله عليه وسلم آخر من كذبه إلى الموت، أو إلى القيامة" فتأخير عذاب الدنيا عنهم بنحو الاستئصال والخسف والمسخ والعذاب النازل من السماء رحمة، فلا يرد عليه من قتل من الكفار في غزوات المصطفى، "وأما من صدقه"، أي: آمن به، "فله الرحمة في الدنيا والآخرة" وإن عذاب(8/388)
وقال السمرقندي: رحمة للعالمين يعني: الجن والإنس.
وقيل: لجميع الخلق للمؤمنين رحمة بالهداية، ورحمة للمنافقين بالأمان من القتل، ورحمة للكافرين بتأخير العذاب لما بعد الموت.
__________
العاصي فمآله إلى الجنة مع خفة عذابه عن الكفار بمراحل، بلا لا مشابهة.
وعن ابن عباس أيضًا عند الطبري وغيره: وهو رحمة للمؤمنين والكافرين، إذا عرفوا مما أصاب غيرهم من الأمم الكاذبة.
"وقال" أبو الليث "السمرقندي" نصر بن محمد بن أحمد بن إبراهيم الفقيه، الحنفي، الإمام المشهور، له التصانيف، كالتفسير، والنوازل، وخزانة الفتاوى، وتنبيه الغافلين، والبستان توفي سنة ثلاث وسبعين وثلاثمائة، منسوب إلى سمرقند، مدينة بفارس بما وراء النهر.
قال التلمساني المصحح في النسخ، بفتح السين والراء وسكون الميم، والمعروف فتح الميم وسكون الراء، وتبع قول المجد إسكان الميم وفتح الراء، لحن، وفيه نظر، وهو معرب شمركند، وشمر اسم رجل، وكندة بمعنى قرية "رحمة للعالمين، يعني الجن والإنس" تفسير للآية بجنس العقلاء من الثقلين، بقرينة جمع المذكر السالم، وإن كان جمع عالم، وهو كل ما يعلم به الصانع من العقلاء وغيرهم، فالمفرد أعم من جمعه، فخص ثم جمع بجعله صفة أو ملحقًا بها؛ لأن فاعل بالفتح اسم آلة، كالخاتم والقالب، وقيل: غلب العقلاء، أو جعل اسمًا لذي العلم من الثقلين، أو هما والملك، أو الإنس.
"وقيل: لجميع الخلق" مقابل لما اختاره.
قال الشريف الجرجاني: يطلق على كل جنس لا فرد، فهو للقدر المشترك بين الأجناس، فيصح إطلاقه على كل جنس وعلى مجموعها، وإذا عرف بلام الاستغراق شمل كل فرد من جنس، كالأقاويل، فمن فسره بجميع الخلق، فعلى الأصل، ومن فسره بالإنس والجن فعلى بعض الوجوه، أو خصه؛ لأنه صلى الله عليه سولم مبعوث إليهما، ومن فسره بالمؤمن والكافر أراد أنه يشملهما، لا أن معناه ذلك. انتهى.
وآخذ في بيان ما به تكون الرحمة على مختاره، فقال "للمؤمنين" بل من للعالمين، أو متعلق بمقدر، أي: أرسله، وعلى الأولن وهو الظاهر هو بيان لمختاره، وعلى الثاني يصلح لهما، وفي نسخة للمؤمن بالإفراد، "رحمة بالهداية" الزائدة على هداية الإيمان، أو لمن قدر إيمانه "ورحمة للمنافقين".
وفي نسخة: للمنافق بالإفراد على إرادة الجنس، "بالأمان من القتل" مطلقًا بخلاف الكفار، فإنما يأمن بجزية، أو أمان، "ورحمة للكافرين".(8/389)
فذاته عليه السلام رحمة تعم المؤمن والكافر كما قال تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} [الأنفال: 33] ، وقال عليه الصلاة والسلام: "إنما أنا رحمة مهداة" رواه الديلمي والبيهقي في "الشعب" من حديث أبي هريرة.
وقال بعض العارفين: الأنبياء كلهم خلقوا من الرحمة، ونبينا صلى الله عليه وسلم عين الرحمة، ولقد أحسن القائل:
غنيمة عمر الكون بهجة عيشه ... سرور حياة الروح فائدة الدهر
هو النعمة العظمى هو الرحمة التي ... تجلى بها الرحمن في السر والجهر
فبيانه عليه السلام ونصحه رحمة، ودعاؤه واستغفاره رحمة، فرزق ذلك من
__________
وفي نسخة بالإفراد، "بتأخير العذاب لما بعد الموت" وأما عذاب الدنيا بالقحط وغيره، فلا يختص بطائفة، أو المراد الاستئصال والمسخ والخسف والزنديق، سواء أدخل في المنافق، أو الكافر عذابه مؤخر أيضًا، فالظاهر اشتراكهما فيه، وتمييز المنافق بإجراء أحكام الإسلام عليه ظاهرًا، أو يقال: أراد في كل قسم ذكر رحمة مخصوصة من غير تخصيص، "فائدته عليه السلام رحمة تعم المؤمن والكافر، كما قال تعالى: {وَمَا كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} [الأنفال: 33] ؛ لأن العذاب إذا نزل عم، ولم تعذب أمة إلا بعد خروج نبيها والمؤمنين منها.
"وقال عليه الصلاة والسلام: "إنما أنا رحمة مهداة" "بضم الميم" معطاة من الله بلا عوض، "رواه الديلمي والبيهقي في الشعب" للإيمان "من حديث أبي هريرة" ورواه الحاكم، وصححه على شرطهما، وأقره الذهبي، ومر شرحه في الأسماء الشريفة.
"وقال بعض العارفين: الأنبياء كلهم خلقوا من الرحمة، ونبينا صلى الله عليه وسلم عين الرحمة" أعلاها وأجلها.
"ولقد أحسن القائل"
غنيمة عمر الكون بهجة عيشه ... سرور حياة الروح فائدة الدهر
هو النعمة العظمى هو الرحمة التي ... تجلى بها الرحمن في السر والجهر
ومعنى البيتين ظاهر، "فبيانه" أي: ظهوره أو تبيينه "عليه السلام ونصحه رحمة" أي: كل واحد منهما، "ودعاؤه واستغفاره" كل منهما "رحمة" سواء في حياته وبعد مماته، كما قال صلى الله عليه وسلم: "حياتي خير لكم ومماتي خير لكم، أما حياتي فأبين لكم السن وأشرع لكم الشرائع، وأما موتي، فإن أعمالكم تعرض علي، فما رأيت منها حسنًا حمدت الله، وما رأيت منها سيئًا استغفرت الله لكم" رواه البزار وغيره بسند جيد.(8/390)
قبله، وحرمه من رده.
فإن قلت: كيف كان رحمة، وقد جاء بالسيف واستباحة الأموال؟
فالجواب من وجهين:
أحدهما: أنه إنما جاء بالسيف لمن استكبر وعاند، ولم يتفكر ولم يتدبر، ومن أوصاف الله تعالى: الرحمن الرحيم، ثم هو منتقم من العصاة، وقال تعالى: {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا} [ق: 9] ثم قد يكون سببًا للفساد.
وثانيهما: أن كل نبي من الأنبياء قبل نبينا إذا كذبه قومه أهلك الله المكذبين بالخسف والمسخ والغرق، وقد أخر الله عذاب من كذب نبينا إلى
__________
"فرزق ذلك من قبله"، بأن آمن به، وإن عاصيًا، "وحرمه من رده"، فلم يؤمن به نسأل الله الثبات على الإيمان، "فإن قلت: كيف كان رحمة، وقد جاء بالسيف"؟ قال تعالى: {جَاهِدِ الْكُفَّار} [التوبة: 73] ، أي: بالسيف، "واستباحة الأموال" بالغنائم التي لم تحل لأحد قبله، ومنها استرقاق الذراري والنسائي، "فالجواب من وجهين".
"أحدهما: أنه إنما جاء بالسيف لمن استكبر وعاند ولم يتفكر ولم يتدبر" فعذابه إنما جاء من نفسه، كعين جرت فانتفع بها قوم وكسل آخرون، فهي رحمة لهما، وهو صلى الله عليه وسلم لم يرد ضررًا لأحد، وقد اجتهد في نفع كل أحد، وإيصال تلك الرحمة إليه، ولكن من يضلل الله فما له من هاد.
"ومن أوصاف الله تعالى الرحمن الرحيم، ثم هو منتقم من العصاة"، ولا تنافي بين الوصفين، فكذا لا تنافي بين بعثه بالسيف وكونه رحمة، "وقال تعالى: {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاء} مطرًا {مُبَارَكًا} [ق: 9] ، كثير البركة والمنافع، "ثم قد يكون سببًا للفساد" بإهلاك الزرع وغيره، والقصد أنه لا مانع من وصف الشيء بالشيء، وضده لاختلاف من يقع عليه الأمران.
"وثانيهما: أن كل نبي من الأنبياء قبل نبينا، إذا كذبه قومه أهلك الله المكذبين بالخسف"، كقارون، "والمسخ" قردة، كأصحاب أيلة بدعاء داود، وخنازير، كأصحاب المائدة بدعاء عيسى، قال تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} [المائدة: 71] ، "والغرق" كقوم نوح وفرعون وقومه، وبالريح العاصف فيها حصباء، كقوم لوط، وبالصيحة، كثمود، وقال تعالى: {فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا} [العنكبوت: 40] "وقد أخر الله عذاب من كذب نبينا إلى الموت، إو إلى يوم القيامة" فتأخيره رحمة؛ لأنه لم يجمع(8/391)
الموت، أو إلى يوم القيامة.
لا يقال: إنه تعالى قال: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ} [التوبة: 14] وقال تعالى: {لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِين} [الأحزاب: 73] ؛ لأنا نقول: تخصيص العام لا يقدح فيه.
وفي "الشفاء" للقاضي عياض: وحكى أنه صلى الله عليه وسلم قال لجبريل: "هل أصابك من هذه الرحمة شيء؟ قال: نعم، كنت أخشى عاقبة الأمر فأمنت، لثناء الله تعالى علي بقوله: {ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ، مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} " [التكوير: 40] . انتهى.
وذكر السمرقندي في تفسيره بلفظ: وذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لجبريل: "يقول
__________
عليهم عذابين، كالأمم السابقة، "لا يقال: إنه تعالى قال: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ} بقتلهم {بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ} أي: يذلهم بالأسر والقهر، "وقال عالى: {لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ} [الأحزاب: 73] ؛ "لأنا نقول: تخصيص العام" وهو العالمين من رحمة للعالمين ببعض إفراده، وهو المنافق والمشرك، "لا يقدح فيه"؛ لأنه يكفي في عمومه صدقه على غير ما خصص به.
"وفي الشفاء للقاضي عياضك وحكي" بالبناء للمجهول كما قال البرهان؛ "أنه صلى الله عليه وسلم قال لجبريل: "هل أصابك من هذه الرحمة شيء"؟ فيه إشارة إلى أنه مرحوم مقرب، وإنما السؤال عن رحمة نالته من رحمة المصطفى، كما أفاده اسم الإشارة، قال: نعم، كنت أخشى العاقبة" أي: سوءها، أو المراد بالعاقبة السيئة بجعل التعريف للعهد بقرينة الخشية، فإنها بمعنى الخوف، وإنما يكون في المكروه، والعاقبة ما يعقب الشيء ويحصل منه خيرًا كان أو شرًا، "فأمنت" "بفتح الهمزة المقصورة، وكسر الميم الخفيفة، مبني للفاعل من الأمن ضد الخوف"، وضبطه "بضم الهمزة مبني للمفعول"، خلاف المشهور، ثم إن كان بشد الميم، فظاهر، وإن كان بتخفيفها، فركيك جدًا؛ لأنه إن كان من ضد الخيانة، فلا يناسب المقام، أو من الأمن، فكذلك؛ لأن مفعوله الثاني من المعاني، لا الذوات، فيحتاج لتقدير وحذف، أي: أمنت سوء عاقبتي، ولا داعي له "لثناء الله تعالى علي قوله": {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} {ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ، مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} ، عند الله في علمه، أو في حكمه وقضائه؛ لأن ثناءه يقتضي رضاه وقبوله، وهو لا يرضى، ويقبل الأمن، كان مرحومًا مقربًا، فلما علم ذلك من القرآن الذي هو رحمة نازلة بالمصطفى اطمأن خاطره وأمن سوء الخاتمة. "انتهى".
نقل عياض: قال السيوطي: ولم أجده مخرجًا في شيء من كتب الحديث.
"وذكر السمرقندي في تفسيره بلفظ، وذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لجبريل: "يقول الله(8/392)
"الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} فهل أصابك من هذه الرحمة شيء؟ قال: نعم، كنت أخشى عاقبة الأمر فأمنت بك، لثناء الله تعالى علي في قوله: {ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} " [التكوير: 21] .
وهذا يقتضي أن محمدًا صلى الله عليه وسلم أفضل من جبريل، وهو الذي عليه الجمهور، خلافًا لمن زعم أن جبريل أفضل واستدل: بأن الله وصف جبريل بسبعة أوصاف من أوصاف الكمال في قوله: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ، ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ
__________
"تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} ، فهل أصابك من هذه الرحمة شيء؟ قال: نعم كنت أخشى عاقبة هذا الأمر" أي: خاتمته، "فآمنت بك لثناء الله تعالى علي في قوله: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ، ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} [التكوير: 21] ، ولا يعارض هذا ما روي أن جبريل أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبكي، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما يبكيك؟، قال: وما لي لا أبكي، فوالله ما جفت لي عين منذ خلق الله النار، مخافة أن أعصيه فيقذفني فيها"، أخرجه أحمد في الزهد عن أبي عمران الجوني بلاغًا.
وأخرج ابو الشيخ عن عبد العزيز بن أبي داود، قال: نظر الله إلى جبريل وميكائيل، وهما يبكيان، فقال الله: ما يبكيكما وقد علمتما أني لا أجور؟، قالا: يا رب إنا لا نأمن مكرك، قال: هكذا فافعلا، فإنه لا يأمن مكري إلا كل خاسر"؛ لأنه كلما زاد القرب زاد الخوف، فالمقرب لا يزال خائفًا ممن يهابه، أو؛ لأنه من عظمة الله تعالى قد يذهل عن الأمان.
"وهذا يقتضي أن محمدًا صلى الله عليه وسلم أفضل من جبريل، وهو الذي عليه الجمهور" بل حكى الرازي عليه الإجماع، وكذا ابن السبكي والبلقيني والزركشي، وقال: إنهم استثنوه من الخلاف في التفضيل بين النبي والملك، "خلافًا لمن زعم" وهو الزمخشري في الكشاف، "أن جبريل أفضل" وقد قال بعض علماء المغاربة: جهل الزمخشري مذهبه، فإن المعتزلة مجمعون على أنه أفضل من جبريل.
نعم قيل: إن طائفة منهم خرقوا الإجماع، كالرماني، فتبعهم الكشاف جهلًا.
"واستدل بأن الله وصف جبريل بسبعة أوصاف من أوصاف الكمال في قوله: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} أي: جامع لأنواع الخبر، ففيه شهادة له بعلو، الرتبة وليس المراد كريم عند مرسله، كما قيل به في {أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ} وإن أجيز هنا للاستغناء عنه بعند ذي العرش، {ذِي قُوَّة} على تبليغ ما حمله من الوحي، وعلى اقتلاع المدائن والجبال، وإهلاك صيحته كل من سمعها، وهبوطه إلى الأرض، وصعوده في طرفة عين إلى غير ذلك، {عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ} صفة مستقلة عنده؛ لأنه عدها سبعًا، لا متعلقة بما قبله، ولا ربما بعده، وإلا فهي ستة،(8/393)
مَكِينٍ، مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} ، ووصف محمدًا صلى الله عليه وسلم بقوله: {وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ} .
ولو كان محمد صلى الله عليه وسلم مساويًا لجبريل في صفات الفضل أو مقاربًا له لكان وصف محمدًا بمثل ذلك.
وأجيب بأنا متفقون على أن لمحمد صلى الله عليه وسلم فضائل أخرى سوى ما ذكر في هذه الآية، وعدم ذكر الله تعالى لتلك الفضائل هنا لا يدل على عدمها بالإجماع، وإذا ثبت أن لمحمد صلى الله عليه وسلم فضائل آخر زائدة فيكون أفضل من جبريل.
وبالجملة: فإفراد أحد الشخصين بالوصف لا يدل ألبتة على انتفاء تلك الأوصاف عن الثاني، وإذا ثبت بالدليل القرآني أنه صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين، والملائكة من جملة العالمين، وجب أن يكون أفضل منهم، والله أعلم.
__________
وقد عدها الرازي ستة، فعلقها بما قبلها، {مَكِينٍ} أي: متمكن المنزلة عند ربه، رفيع المحل عنده، {مُطَاعٍ ثَمَّ} أي: في السماء: {أَمِينٍ} على الوحي، "ووصف محمدًا صلى الله عليه وسلم، بقوله: {وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ} كما تبهته الكفرة، "ولو كان محمد صلى الله عليه وسلم مساويًا لجبريل في صفات الفضل، أو مقاربًا له لكان وصف محمدًا بمثل ذلك".
قال البيضاوي: وهو استدلال ضعيف، إذ المقصود منه نفي قولهم، إنما يعلمه بشر أفترى على الله كذبًا، أم به جنة، لا تعداد فضلهما، والموازنة بينهما.
"وأجيب: بأنا متفقون على أن لمحمد صلى الله عليه وسلم فضائل أخرى"، القرآن طافح بها: {إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31] ، {إِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54] ، {قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ} [النساء: 170] ، {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 22] إلى غير ذلك، "سوى ما ذكر في هذه الآية، وعدم ذكر الله تعالى لتلك الفضائل هنا لا يدل على عدمها بالإجماع"؛ لأنه، لم يقصد المفاضلة بينهما، "وإذا ثبت أن لمحمد صلى الله عليه وسلم فضائل أخرى زائدة" على هذه السبع التي تشبث بها جاهل المعتزلة، "فيكون أفضل من جبريل" وهو إجماع حتى من المعتزلة أيضًا، كما مر.
"وبالجملة، فإفراد أحد الشخصين بالوصف لا يدل البتة" بقطع الهمزة "على انتفاء تلك الأوصاف عن الثاني"، بل هو موصوف بها ضرورة؛ أنه لا يصح نفيها عنه، "وإذا ثبت بالدليل القرآني؛ أنه صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين، والملائكة من جملة العالمين، وجب أن يكون أفضل منهم" حتى جبريل، "والله أعلم" ولهذا ونحوه حذر جماعة من أكابر العلماء، كالسبكي من قراءة الكشاف.(8/394)
وقال تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب: 40] .
وهذه الآية نص في أنه لا نبي بعده، وإذا كان لا نبي بعده فلا رسول بطريق الأولى؛ لأن مقام الرسالة أخص من مقام النبوة، فإن كل رسول نبي، ولا ينعكس، كما قدمنا ذلك في أسمائه الشريفة من المقصد الثاني.
وبذلك وردت الأحاديث عنه صلى الله عليه وسلم:
فروى الإمام أحمد من حديث أبي بن كعب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مثلي في النبيين كمثل رجل بنى دارًا، فأحسنها وأكملها، وترك فيها موضع لبنة لم يضعها، فجعل
__________
"وقال تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ} ".
قال ابن عطية: أذهب الله بهذه الآية ما وقع في نفوس منافقين وغيرهم، من تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم زوجة دعية زيد بن حارثة؛ لأنهم كانوا استعظموا أن يتزوج زوجة ابنه، فنفى القرآن تلك النبوة، وأعلم أنه عليه السلام ما كان أبا أحد من المعاصرين له حقيقة، ولم يقصد بهذه الآية أنه لم يكن له ولد، فيحتاج إلى الاحتجاج في أمر بنيه بأنهم كانوا ماتوا، ولا في الحسن والحسين إلى أنهما ابنا بنته، ومن احتج بذلك تأول معنى البنوة على غير ما قصد بها، " {وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ} وقرئ بالرفع، أي: هو، وقرأ عاصم وأبو عمرو ونافع، بالنصب عطفًا على أبا، ولكن بالتخفيف، وقرأت فرقة، لكن بالتشديد، ورسول اسمها، والخبر محذوف، {وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} " "بكسر التاء" قراءة الجمهور، بمعنى أنه ختمهم، أي: جاء آخرهم، وقرأ عاصم بفتح التاء، أي: أنهم ختموا به، فهو كالخاتم والطابع لهم.
"وهذه الآية نص في أنه لا نبي بعده، وإذا كان لا نبي بعده، فلا رسول بطريق الأولى؛ لأن مقام الرسالة أخص من مقام النبوة، فإن كل رسول نبي ولا ينعكس" فليس كل نبي رسولًا، "كما قدمنا ذلك في أسمائه الشريفة من المقصد الثاني، وبذلك وردت الأحاديث عنه صلى الله عليه وسلم".
"فروى الإمام أحمد" بن حنبل "من حديث أبي بن كعب" الأنصاري الخزرجي، سيد القراء، من فضلاء الصحابة: "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مثلي" مبتدأ "في النبيين" متعلق به، وفي حديث جابر: "ومثل الأنبياء"، بالعطف والخبر، "كمثل رجل بنى دارا فأحسنها وأكملها، وترك فيها موضع لبنة" "بفتح اللام وكسر الموحدة ونون"، ويجوز كسر اللام وسكون الموحدة: قطعة طين تعجن، وتعد للبناء من غير إحراق، فإن أحرقت، فهي آجرة "لم يضعها، فجعل الناس يطوفون(8/395)
"الناس يطوفون بالبنيان ويتعجبون منه، ويقولون: لو تم موضع هذه اللبنة، فأنا في النبيين موضع تلك اللبنة" ورواه الترمذي عن بندار عن أبي عامر العقدي، وقال: حديث حسن صحيح.
وفي حديث أنس بن مالك مرفوعًا: "إن الرسالة والنبوة قد انقطعت، فلا رسول بعدي ولا نبي". رواه الترمذي وغيره.
وفي حديث جابر مرفوعًا: "مثلي ومثل الأنبياء، كمثل رجل بنى دارًا فأكملها وأحسنها إلا موضع لبنة، فكان من دخلها فنظر قال: ما أحسنها إلا موضع هذه اللبنة، وأنا موضع اللبنة، ختم بي الأنبياء عليهم السلام". رواه أبو داود الطيالسي،
__________
"بالبنيان ويتعجبون" بفوقية بعد التحتية، "منه" أي: من حسنه وكماله، "ويقولون" وددنا "لو تم موضع هذه اللبنة" فلو للتمني، فلا جواب لها، أو جوابهما محذوف لعلمه من المذكور، أي: أتم حسنها وكمالها، "فأنا في النبيين موضع تلك اللبنة" وفي رواية أحمد عن أبي هريرة: "ألا وضعت ههنا لبنة، فيتم بنيانك".
"ورواه الترمذي عن بندار" "بضم الموحدة وإسكان النون ودال مهملة فألف فراء بلا نقط" لقب محمد بن بشار بن عثمان العبدي، البصري أبي بكر، ثقة روى عنه الأئمة الستة وابن خزيمة وغيرهم، مات سنة اثنتين وخمسين ومائتين، وله خمس وثمانون سنة، "عن أبي عامر" عبد الملك بن عمرو القيسي، "العقدي" "بفتح المهملة والقاف" ثقة، مات سنة أربع، أو خمس ومائتين، روى له الجميع.
"وقال" الترمذي: "حديث حسن صحيح" عن أبي بن كعب.
"وفي حديث أنس بن مالك، مرفوعًا: "أن الرسالة والنبوة قد انقطعت، فلا رسول بعدي ولا نبي" قيل: ومن لا نبي بعده، يكون أشفق على أمته، كوالد ليس له غير ولد، "رواه الترمذي وغيره" كالإمام أحمد، والحاكم بإسناد صحيح.
"وفي حديث جابر، مرفوعًا" قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "مثلي" مبتدأ، "ومثل الأنبياء" عطف عليه، "كمثل رجل" خبر، "بنى دارًا فأكملها وأحسنها" وفي رواية همام عن أبي هريرة عند مسلم، كمثل رجل ابتنى بيوتًا فأحسنها وأجملها وأكملها، "إلا موضع لبنة" من زاوية من زوايها، "فكان من دخلها فنظر، قال: ما أحسنها إلا موضع هذه اللبنة".
وفي رواية الشيخين: "فجعل الناس يدخلونها ويتعجبون منها، ويقولون: لولا موضع هذه اللبنة".(8/396)
وكذا البخاري ومسلم بنحوه.
وفي حديث أبي سعيد الخدري: "فجئت أنا فأتممت تلك اللبنة". رواه مسلم.
__________
وفي حديث أبي هريرة: يقولون: "هلا وضعت هذه اللبنة".
وفي رواية همام: "ألا وضعت ههنا لبنة، فيتم بنيانك" قال صلى الله عليه وسلم: "فأنا موضع اللبنة، ختم بي الأنبياء"، ولمسلم: "جئتم، فختمت الأنبياء، عليهم السلام".
وفي حديث أبي هريرة، قال: "فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين"، "رواه أبو داود" سليمان بن داود بن الجارود، "الطيالسي" "بفتح الطاء والتحتانية" نسبة إلى الطيالسة المعروفة، البصري، الثقة، الحافظ، المصنف، مات سنة أربع، وقيل: ثلاث ومائتين، روى له مسلم والأربعة، "وكذا البخاري ومسلم، بنحوه" عن جابر، وأخرجاه أيضًا من حديث أبي هريرة، وسياقه، أتم، وقدمه المصنف في الخصائص.
"وفي حديث أبي سعيد الخدري: "فجئت أنا فأتممت تلك اللبنة"، رواه مسلم" فيه شيء؛ لأن مسلمًا لم يسق لفظه، بل أحال به على حديث أبي هريرة الذي رواه من ثلاثة طرق، فقال: حدثنا ابن أبي شيبة وأبو كريب، قالا: حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي سعيد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مثلي ومثل النبيين"، فذكر نحوه هذا لفظ مسلم، وقد علمت ثبوتها في حديث أبي هريرة، وأورد أن المشبه به واحد، والمشبه جماعة، فكيف صح التشبيه، وأجيب بأنه جعل الأنبياء كرجل واحد؛ لأنه لا يتم ما أراد من التشبيه إلا باعتبار الكل، وكذا الدار لا تتم إلا باجتماع البنيان، وبأنه من باب التبيه التمثيلي، وهو أن يوجد وصف من أوصاف المشبه، ويشبه بمثله من أحوال المشبه به، فكأنه شبه الأنبياء وما بعثوا به من إرشاد الناس بيت أسست قواعده ورفع بنيانه، وبقي منه موضع يتم به صلاح ذلك البيت، وزعم ابن العربي؛ أن اللبنة المشار إليها كانت في أس الدار المذكورة، وأنها لولا وضعها لا نقضت تلك الدار، قال: وبهذا يتم المراد من التشبيه المذكور.
قال الحافظ: وهذا إن كان منقولًا فحسن، وإلا فليس يلازم.
نعم ظاهر السياق أن اللبنة في مكان يظهر عدم الكمال في الدار بفقدها.
وفي رواية مسلم: "إلا موضع لبنة من زاوية من زواياها"، فظهر أن المراد أنها مكملة محسنة، وإلا لاستلزم أن يكون الأمر بدونها ناقصًا، وليس كذلك؛ فإن شريعة كل نبي بالنسبة إليه كاملة، فالمراد هنا النظر إلى الأكمل بالنسبة إلى الشريعة المحمدية مع ما مضى من الشرائع الكاملة، وفي الحديث ضرب الأمثال للتقريب للإفهام.(8/397)
وفي حديث أبي هريرة عند مسلم: "وأرسلت إلى الخلق كافة وختم بي النبيون".
فمن تشريف الله تعالى له ختم الأنبياء والمرسلين به، وإكمال الدين الحنيفي له، وقد أخبر الله في كتابه، ورسوله في السنة المتواترة عنه، أنه لا نبي بعده، ليعلموا أن كل من ادعى هذا المقام بعده فهو كذاب أفاك دجال ضال، ولو تحذلق وتشعبذ، وأتى بأنواع السحر والطلاسم والنيرنجيات، فكلها محال وضلالة
__________
"وفي حديث أبي هريرة عند مسلم" عن النبي صلى الله عليه وسلم: "فضلت على الأنبياء بست: أعطيت جوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا، "وأرسلت إلى الخلق كافة" إرساله عامة محيطة بهم؛ لأنها إذا عمتهم فقد كفتهم أن يخرج منها أحد منهم، "وختم بي النبيون" أي: أغلق باب الوحي والرسالة وسد لكمال الدين، وتصحيح الحجة، فلا نبي بعده، ومر الحديث في الخصائص.
"فمن تشريف الله تعالى له ختم الأنبياء والمرسلين به وإكمال الدين الحنيفي"، المائل عن الباطل للحق "له، وقد أخبر الله تعالى في كتابه ورسوله في السنة المتواترة عنه؛ أنه لا نبي بعده، ليعلموا"، أي: المخبرون، "أن كل من ادعى هذا المقام بعده، فهو كذاب" كثير الكذب، "أفاك" كذاب مبالغ فيه، "دجال" كذاب، قال ثعلب: الدجال: هو المموه، يقال: سيف مدجل، إذا طلي مذهب.
وقال ابن دريد: كل شيء غطيته فقد دجلته، واشتقاق الدجال من هذا؛ لأنه يغطي الأرض بالجمع الكثير، "ضال" لم يهتد، فالألفاظ الأربعة متقاربة، وقد علم صلى الله عليه وسلم بذلك، وأخبر به.
ففي الصحيحين، مرفوعًا: "لا تقوم الساعة حتى يبعث دجالون، كذابون، قريبًا من ثلاثين، كلهم يزعم أنه رسول الله"، "ولو تحذلق" "بفوقية فمهملة فمعجمة" أظهر الحذق، وادعى أكثر مما عنده، ومثله حذلق بلا تاء "وتشعبذ" "بالذال المعجمة بعد الموحدة" أتى بما يرى لإنسان منه ما لا حقيقة له، كالسحر، ويقال له أيضًا شعوذ: "بالواو" بدل الموحدة، "وأتى بأنواع السحر".
قال ابن فارس: وهو إخراج الباطل في صورة الحق، ويقال: هو الخديعة، وسحره بكلامه، استمالة برقته وحسن ترتيبه.
وقال الإمام فخر الدين: هو في عرف الشرع كل أمر يخفى سببه, ويتخيل على غير حقيقته، ويجري مجرى التمويه والخداع.
قال تعالى: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} [طه: 66] ، وإذا أطلق ذم فاعله.(8/398)
عند أولي الألباب.
ولا يقدح في هذا نزول عيسى ابن مريم عليه السلام بعده؛ لأنه إذا نزل من السماء كان على دين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ومنهاجه، مع أن المراد: أنه آخر من نبئ.
قال ابن حبان: من ذهب إلى أن النبوة مكتسبة لا تنقطع، أو إلى أن الولي أفضل من النبي فهو زنديق يجب قتله والله أعلم.
__________
والطلاسم، والنيرنجيات" "بكسر النون وإسكان التحتية وفتح الراء فنون ساكنة فجيم فتحتية فألف ففوقية".
قال المجد: النيرنج "بالكسر" أخذ كالسحر، وليس به، "فكلها محال" باطل، "وضلالة" زوال عن الحق، "عند أولي الألباب" العقول، "ولا يقدح في هذا نزول عيسى ابن مريم عليه السلام بعده؛ لأنه إذا نزل من السماء كان على دين نبينا محمد" صلى الله عليه وسلم، "ومنهاجه" طريقه في شرعه، فهو واحد من أمته، "مع" أنه لا يرد هذا أصلًا، إذ "أن المراد أنه آخر من نبئ" وأرسل، فلا يضر وجود واحد بعد، أو أكثر ممن نبئ، أو أرسل قبله.
"قال ابن حبان: من ذهب إلى أن النبوة مكتسبة لا تنقطع، أو إلى أن الولي أفضل من النبي فهو زنديق يجب قتله" لتكذيب القرآن، وخاتم النبيين، "والله أعلم".(8/399)
النوع الرابع: في التنويه به صلى الله عليه وسلم في الكتب السالفة
كالتوراة والإنجيل بأنه صاحب الرسالة والتبجيل
قال الله تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ} [الأعراف: 157] .
__________
"النوع الرابع في التنويه به":
أي: التعظيم ورفعة شأنه "صلى الله عليه وسلم" بذكره "في الكتب السالفة، كالتوراة والإنجيل؛ بأنه صاحب الرسالة والتبجيل" متعلق بقوله في التنويه، أي: رفع ذكره بأنه صاحب، وهذا أظهر من كونه بدلًا منه.
"قال الله تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ} باسمه وصفته، بحيث لا يشكون أنه هو، ولذا عدل عن يجدون اسمه أو وصفه مكتوبًا، فتضمن ذلك إخباره تعالى بذكره في الكتابين قبل وجوده، تعظيمًا له وحثًا على(8/399)
وهذا يدل على أنه لو لم يكن مكتوبًا لكان ذكر هذا الكلام من أعظم المنفرات، والعاقل لا يسعى فيما يوجب نقصان حاله، وينفر الناس عن قبول مقاله، فلما قال لهم عليه السلام هذا دل على أن ذلك النعت كان مذكورًا في التوراة والإنجيل. وذلك من أعظم الدلائل على صحة نبوته.
لكن أهل الكتاب كما قال الله تعالى: {يَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُون} [البقرة: 146] ، و {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} [المائدة: 13] ، وإلا فهم -قاتلهم الله- قد عرفوا محمدًا صلى الله عليه وسلم كما عرفوا أبناءهم، ووجدوه عندهم مكتوبًا في التوراة والإنجيل، لكن حرفوهما وبدلوهما ليطفئوا نور الله بأفواههم، ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون.
__________
اإتباعه إذا وجد.
روى أبو نعيم في الحلية عن وهب بن منبه، قال: كان في بني إسرائيل رجل عصى الله مائتي سنة، ثم مات فأخذوه، فألقوه على مزبلة، فأوحى الله إلى موسى أن أخرج فصل عليه، قال: يا رب بنو إسرائيل يشهدون أنه عصاك مائتي سنة، فأوحى الله إليه، هكذا كان إلا أنه كان كلما نشر التوراة ونظر إلى اسم محمد صلى الله عليه وسلم قبله، ووضعه على عينيه، وصلى عليه، فشكرت له ذلك، وغفرت هل وزوجته سبعين حوراء، "وهذا يدل على أن لو لم يكن مكتوبًا لكان ذكر هذا الكلام من أعظم المنفرات" لهم عن اتباعه، "والعاقل لا يسعى فيما يوجب نقصان حاله" بل في الزيادة، "و" لا فيما "ينفر الناس عنه قبول مقاله" فكيف بأرجح الخلق عقلًا، "فلما قال لهم عليه السلام: هذا" المذكور من كتابة اسمه، وصفه بالنبي الأمي، "دل على أن ذلك النعت" أي: الوصف الذي وصف لهم به نفسه "كان مذكورًا في التوراة، والإنجيل، وذلك من أعظم الدلائل على صحة نبوته، لكن أهل الكتاب، كما قال تعالى: {يَكْتُمُونَ الْحَق} نعت محمد صلى الله عليه وسلم {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} أنه الحق، {يُحَرِّفُونَ} يبدلون {الْكَلِمَ} الذي في التوراة من نعت محمد وغيره، {عَنْ مَوَاضِعِهِ} التي وضعه الله عليها، "وإلا فهم قاتلهم الله قد عرفوا محمدًا صلى الله عليه وسلم، كما عرفوا أبناءهم" كما قال تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ} [البقرة: 146] .
قال عبد الله بن سلام رضي الله عنه: لقد عرفته صلى الله عليه وسلم حين رأيته، كما أعرف ابني، ومعرفتي لمحمد أشد، "ووجدوه عندهم مكتوبًا في التوراة والإنجيل، لكن حرفوهما وبدلوهما" عطف تفسير {ْلِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ} بأقوالهم، {وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ} يظهره {وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} ذلك، "فدلائل نبوة نبينا في كتابيهما بعد تحريفهما طافحة".(8/400)
فدلائل نبوة نبينا في كتابيهما -بعد تحريفهما- طافحة، وأعلام شرائعه ورسالته فيهما لائحة، وكيف يغني عنهم إنكارهم، وهذا اسم النبي بالسريانية "مشفح"، فمشفح، محمد بغير شك، واعتباره أنهم يقولون "شفحا لاها" إذا أرادوا أن يقولوا: الحمد لله، وإذا كان الحمد، شفحا، فمشفح: محمد؛ ولأن الصفات التي أقروا بها هي وفاق لأحواله وزمانه، ومخرجه ومبعثه وشريعته صلى الله عليه وسلم، فليدلونا على من هذه الصفات له، ومن خرجت له الأمم من بين يديه، وانقادت له
__________
أي: ظاهرة، مالئة لكتابيهما من طفح الإناء امتلأ "وأعلام شرائعه ورسالته فيهما لائحة" فالباقي بعد التحريف كافٍ في بيان صدقه وإظهاره رسالته عليه السلام، "وكيف يغني عنهم إنكارهم وهذا اسم النبي بالسريانية" كما جزم به عياض وغيره.
"مشفح" بضم الميم وشين معجمة وفاء شديدة مفتوحتين، ثم حاء مهملة، مرفوع في النسخ الصحيحة، وفي كثيرها مشفحًا، بالنصب على الحال، أي: جاء حال كونه مشفحًا أو بتقدير يرى مشفحًا، لكن قال الدلجي: مشفح ممنوع الصرف للعلمية والعجمة.
وبالفاء جزم ابن دحية، وقال: أنه بوزن محمد، ومعناه وروى، كما قال المصنف بالقاف، وبه جزم الشمني والدلجي، وقال: القاف مفتوحة أو مكسورة، واقتصر المجد على الفتح، فقال: مشفح، كمعظم.
قال الحافظ البرهان: لا أعرف صحته ولا معناه، أي: سواء كان بالفاء أو بالقاف، وقال الدلجي: لا أعرف له معنى، ولعل مرادهما لا يعرفان هل معناه شافع، أو صاحب الحوض، أو اللواء، أو نحو ذلك، فلا ينافي قول عياض وابن دحية وغيرهما.
وتبعهم المصنف بقوله: "فمشفح محمد بغير شك" أي: معناه محمد، وهو ثابت في كتبهم بهذا الوصف، "واعتباره" أي: دليله؛ "أنهم يقولون "شفحا لاها" إذا أرادوا أن يقولوا الحمد لله، وإذا كان الحمد" أي: معناه في لغتهم "شفحا، فمشفح محمد"، وقد يقال: لا يلزم من التعبير عن الحمد لله بشفحا لاها أنه مشفح اسم لمحمد، لجواز أن يراد به اسم آخر، كمحمود أو ممدوح ونحوه.
إلا أن يقال: وجه الملازمة أنه إذا ثبت أن الحمد معناه الشفح، كان مصدرًا واسم المفعول المأخوذ من الحمد مصدرًا، هو محمد، فيكون مشفح بمعنى محمد؛ "ولأن الصفات التي أقروا بها" أيك بورودها في كتبهم "هي وفاق" أي: مطابقة "لأحواله وزمانه ومخرجه ومبعثه وشريعته صلى الله عليه وسلم" فإن أنكروا أنه هو، "فليدلونا على من هذه الصفات له" قامت به هذه الصفات هو النبي صلى الله عليه وسلم.(8/401)
واستجابت لدعوته، ومن صاحب الجمل الذي هلكت بابل وأصنامها به؟
إذ لو لم نأت بهذه الأنباء والقصص من كتبهم، لم يك فيما أودع الله عز وجل القرآن دليل على ذلك؟ وفي تركهم جحد ذلك وإنكاره -وهو يقرعهم به- دليل على اعترافهم له؟ فإنه يقول: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ} ، ويقول حكاية عن المسيح: {إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} [الصف: 6] . ويقول: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [آل عمران: 71] ، ويقول: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ} [البقرة: 146] ، وكانوا يقولون لمخالفيهم
__________
ولزمتهم الحجة، "ومن خرجت له الأمم"، أي: جاءت له طائعة مذعنة "من بين يديه" وقوله: "وانقادت له واستجابت" أجابت "لدعوته"، بيان للمراد به، "ومن صاحب الجمل الذي هلكت بابل" بلد في سواد العراق، ينسب إليه السحر والخمر، "وأصنامها به إذ" وفي نسخة على أنا "لو لم نأت بهذه الأنباء" الأخبار "والقصص من كتبهم" وجواب لو قوله: "لم يك فيما أودع الله عز وجل القرآن دليل على ذلك" وفي نسخ: ألم يك بهمزة الاستفهام الإنكاري، وعليها، فجواب لو محذوف، أي: لا يضرنا ذلك، أو كنا في غنية عنه، لكن حذف الهمزة أولى؛ لأن ذكرها لا يحصل المقصود من إلزامهم الحجة.
وقد يقال: بل يحصله بضميمة قوله: "وفي تركهم جحد ذلك وإنكاره" بالنصب، "وهو يقرعهم": يثربهم ويوبخهم "به دليل على اعترافهم له، فإنه يقول: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ} باسمه وصفته، ويقول حكاية عن المسيح، {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا} في حال تصديقي لما تقدمني من التوراة، وبتذكيري {بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} والعامل في الحالين ما في الرسول من معنى الإرسال لا الجار؛ لأنه لغو إذ هو صلة للرسول، فلا يعمل، قاله البيضاوي، "ويقول: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُون} تخلطون {الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ} بالتحريف والتزوير، {وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ} أي: نعت النبي صلى الله عليه وسلم: {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} أنه حق، "ويقول: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ} أي: محمد عليه السلام، {كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ} بنعته في كتبهم.
قال ابن سلام: بل معرفتي لمحمد أشد، "وكانوا يقولون لمخالفيهم عند القتال: هذا(8/402)
عند القتال: هذا نبي قد أظل مولده، ويذكرون من صفته ما يجدون في كتابهم، فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به حسدًا وخوفًا على الرياسة.
ويحتمل أنهم كانوا يظنون أنه من بني إسرائيل، فلما بعثه الله من العرب، من نسل إسماعيل عظم ذلك عليهم، وأظهروا التكذيب، فلعنة الله على الكافرين.
وقد كان صلى الله عليه وسلم يدعوهم إلى اتباعه وتصديقه، فكيف يجوز أن يحتج بباطل من الحجج، ثم يحيل ذلك على ما عندهم وما في أيديهم، ويقول: "من علامة نبوتي وصدقي أنكم تجدونني عندكم مكتوبًا" وهم لا يجدونه كما ذكر؟! أوليس ذلك مما يزيدهم عنه بعد استفهام إنكاري، وقد كان غنيًا أن يدعوهم بما ينفرهم، وأن يستميلهم بما يوحشهم. وقد أسلم من أسلم من علمائهم كعبد الله بن سلام،
__________
نبي قد أظل" أي: قرب "مولده، ويذكرون من صفته ما يجدون في كتابهم".
أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس: أن يهود كانوا يستفتحون على الأوس والخزرج برسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه، فلما بعثه الله من العرب كفروا به وجحدوا ما كانوا يقولون فيه، فقال لهم معاذ بن جبل وبشر بن البراء، وداود بن سلمة: يا معشر يهود اتقوا الله وأسلموا، فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد ونحن أهل شرك، وتخبرونا بأنه مبعوث وتصفونه بصفته، فقال سلام بن مشكم أحد بني النضير: ما جاءنا نبي نعرفه، وما هو الذي كنا نذكر لكم، فأنزل الله {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ} ، وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا، "فلما جاءهم ما عرفوا كروا به حسدًا وخوفًا على الرياسة" وجواب لما الأولى دل عليه جواب الثانية، "ويحتمل أنهم كانوا يظنون أنه من بني إسرائيل، فلما بعثه الله من العرب من نسل إسماعيل، عظم" شق "ذلك عليهم وأظهروا التكذيب" بغيًا أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده، "فلعنة الله على الكافرين" أي: عليهم، وأتى بالمظهر للدلالة على أنهم لعنوا لكفرهم، فاللام للعهد، ويجوز أنها للجنس، ويدخلون فيه دخولًا، أوليًا؛ لأن الكلام فيهم، "وقد كان صلى الله عليه وسلم يدعوهم إلى اتباعه وتصديقه، فكيف يجوز أن يحتج بباطل من الحجج، ثم يحيل ذلك على ما عندهم، وما في أيديهم، ويقول: "من علامة نبوتي وصدقي أنكم تجدونني عندكم مكتوبًا" باسمي وصفتي، "وهم لا يجدونه كما ذكر" في كتبهم، "أو ليس ذلك مما يزيدهم عنه بعد استفهام إنكاري، وقد كان غنيًا" عن "أن يدعوهم بما ينفرهم" عن اتباعه، "و" عن "أن يستميلهم بما يوحشهم".
"وقد أسلم من أسلم من علمائهم، كعبد الله بن سلام" بالتخفيف، الإسرائيلي أبي(8/403)
وتميم الداري، وكعب، وقد وقفوا منه على مثل هذه الدعاوي.
وقد روى ابن عساكر في تاريخ دمشق من طريق محمد بن حمزة بن يوسف بن عبد الله بن سلام عن أبيه عن جده عبد الله بن سلام: أنه لما سمع بمخرج النبي صلى الله عليه وسلم بمكة، خرج فلقيه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "أنت ابن سلام عالم أهل يثرب"؟ قال نعم: قال: "ناشدتك بالله الذي أنزل التوراة على موسى، هل تجد
__________
يوسف حليف بني الخزرج، قيل: كان اسمه الحصين، فسماه النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله، له أحاديث وفضل، مات بالمدينة سنة ثلاث وأربعين، "وتميم" من أوس بن خارجة "الداري" أبي رقية بقاف مصغر، صحابي مشهور سكن بيت المقدس بعد عثمان، مات سنة أربعين، "وكعب" بن مانع الحميري، المعروف بكعب الأحبار، كان يهوديًا من أحبارهم، من أهل اليمن، وأدرك الزمن النبوي، قيل: وأسلم فيه، وقيل: في خلافة أبي بكر، وقيل: عمر، وهو الراجح، وسكن الشام، ومات في خلافة عثمان، وقد زاد على المائة، وفي نسخة: وكم أسلم، ومعناها التكثير، لكن الثلاثة الذين ذكرهم قليل، فالمراد أن المسلمين من علمائهم كثير، لكن ليسوا من أضراب ابن سلام فلم يذكرهم، واقتصر على عظمائهم، "وقد وقفوا منه على مثل هذه الدعاوي" واعترفوا بثبوتها في كتبهم، "وقد روى ابن عساكر في تاريخ دمشق" والطبراني وأبو نعيم في الدلائل، كلهم "من طريق محمد بن حمزة بن يوسف بن عبد الل بن سلام" صدوق، من السادسة، ومنهم من زاد بين حمزة ويوسف محمدًا، روى له ابن ماجه "عن أبيه" حمزة بن يوسف، ويقال أن يوسف جده، واسم أبيه محمد، مقبول من السابعة.
روى له ابن ماجه، كما في التقريب "عن جده" يوسف بن عبد الله بن سلام الإسرائيلي، المدني، أبي يعقوب، صحابي صغير.
وقد ذكره العجلي في ثقات التابعين، وقوله: "عبد الله بن سلام أنه" يقتضي أن المراد جده الأعلى فيكون منقطعًا؛ لأنه لم يدركه.
وفي رواية الطبراني وأبي نعيم، عن أبيه: ان عبد الله بن سلام، وهو منقطع أيضًا، "لما سمع بمخرج النبي صلى الله عليه وسلم بمكة، خرج فلقيه" ولأبي نعيم والطبراني: أنه قال لأخبار يهود: إني أردت أن أحدث بمسجد أبينا إبراهيم عهدًا، فانطلق إلى رسول الله وهو بمكة، فوافاه بمنى والناس حوله، فقام مع النبي، "فقال له النبي صلى الله عليه وسلم" لما نظر إليه: "أنت" عبد الله "بن سلام، عالم أهل يثرب" فهو من معجزاته حيث أخبره بذلك بمجرد رؤيته له، "قال: نعم، قال صلى الله عليه وسلم: "$ادن"، فدنا منه كما في الطبراني وأبي نعيم، فقال: "ناشدتك بالله الذي أنزل التوراة على موسى، هل تجد صفتي في كتاب الله" التوراة، وفي رواية: "أنشدك بالله، أما تجدوني في التوراة رسول الله(8/404)
"صفتي في كتاب الله"؟ قال: انسب ربك يا محمد، فارتج النبي صلى الله عليه وسلم فقال له جبريل: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} " [الإخلاص: 1-4] ، فقال له ابن سلام: أشهد أنك رسول الله، وإن الله مظهرك ومظهر دينك على الأديان، وإني لأجد صفتك في كتاب الله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا
__________
"قال: انسب ربك يا محمد" وفي رواية: انعت لنا ربك "فارتج" بالبناء للمفعول ومخففًا، أي: لم ينطق "النبي صلى الله عليه وسلم" بجواب، ويقال: ارتج بهمزة وصل وتثقيل الجيم، وبعضهم يمنعها، وربما قيل: ارتتج، وزان اقتتل بالبناء للمفعول أيضًا، كما في المصباح.
وفي رواية: فارتعد صلى الله عليه وسلم حتى خر مغشيًا عليه، "فقال له جبريل: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} خبر ثان {اللَّهُ الصَّمَدُ} المقصود في الحوائج على الدوام، أو الذي لا جوف له، كما للطبراني عن بريدة، وبه قال كثير من المفسرين، قال ابن عطية: كأنه بمعنى المصمت.
وقال الشعبي: هو الذي لا يأكل ولا يشرب، وفي هذا التفسير كله نظر؛ لأن الجسم في غاية البعد عن صفات الله تعالى، فما الذي تعطينا هذه العبارات، قال: والصمد في كلام العرب السيد الذي يصمد ئغليه في الأمور ويستقل بها، وأنشدوا:
ألا بكر الناعي بخير بني أسد ... بعمرو بن مسعود بالسيد الصمد
وبهذا تفسر هذه الآية؛ لأن الله موجود الموجودات، وإليه يصمد، وبه قوامها، ولا غنى بنفسه إلا هو تبارك وتعالى. انتهى.
{لَمْ يَلِدْ} ؛ لأنه لم يجانس، ولم يفتقر إلى ما يعينه، أو يخلف عنه، لامتناع الحاجة والفناء عليه، {وَلَمْ يُولَدْ} ؛ لأنه لا يفتقر إلى شيء، ولا يسبقه عدم، {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} مكافئًا ومماثلًا، فله متعلق بكفؤا قدم عليه؛ لأنه محط القصد بالنفي، وأخر أحد، وهو اسم يكن عن خبرها رعاية للفاصلة، "فقال له ابن سلام: أشهد أنك رسول الله، وأن الله مظهرك ومظهر دينك على الأديان" كلها، بإبطال باطلها، ونسخ حقها.
وفي رواية الطبراني وأبي نعيم؛ فقال ابن سلام: أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، ثم انصرف إلى المدينة، وكتم إسلامه، وقضية هذا؛ أنه أسلم بمكة قبل الهجرة، لكن هذا حديث ضعيف، متكلم فيه، معارض بما في البخاري؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم لما هاجر أتاه ابن سلام، وقال: إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي، فسأله، وأجابه النبي صلى الله عليه وسلم عن مسائله، فقال: أشهد أنك رسول الله.
الحديث، وفيه قد علمت اليهود أني سيدهم وابن سيدهم، وأعلمهم وابن أعلمهم، فسلهم عني قبل أن يعلموا بإسلامي، وأنه سألهم عنه، فاعترفوا بما قال: فلما قال لهم: إني أسلمت(8/405)
أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} ، أنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكل، ليس
__________
كذبوه، وقالوا يه ما ليس فيه، ومن ثم لم يعرج الحافظ على رواية ابن عساكر ومن معه، هذه بل جزم في الفتح والإصابة؛ بأنه أسلم أول ما دخل النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، وغلط من قال: أسلم قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بعامين.
وقد أخرج أحمد وأصحاب السنن عن عبد الله بن سلام، قال: لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة انجفل الناس لقدومه، فكنت فيمن انجفل، فلما تبينت وجهه، عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب، فسمعته يقول: "أفشوا السلام، وأطعموا الطعام"، الحديث، ومحال على من أسلم قبل ذلك أن يشك بعد ذلك، وأنه يسأله امتحانًا ليعلم، أهو نبي أم لا؟، وقد اختلف في أن سورة الإخلاص مكية أو مدينة، وأخرج الترمذي والحاكم وابن خزيمة، عن أبي ابن كعب أن المشركين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: انسب لنا ربك، فأنزل الله {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَد} ، إلى آخرها.
وأخرج الطبراني وابن جرير، مثله من حديث جابر، فاستدل به على أنها مكية.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس: أن اليهود جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، منهم كعب بن الأشرف، وحيي بن أخطب، فقالوا: يا محمد صف لنا ربك الذي بعثك، فأنزل الله {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَد} ، وروى ابن جرير عن قتادة، وعن المنذر عن سعيد بن جبير مثله، فاستدل بهذا على أنها مدنية، ولابن جرير عن أبي العالية، قال: قال قادة الأحزاب: انسب لنا ربك، فأتاه جبريل بهذه السورة، قال في اللباب: وهذا يبين المراد بالمشركين في حديث أبي: فتكون السورة مدنية، كما دل عليه حديث ابن عباس، وينتفي التعارض بين الحديثين، لكن روى أبو الشيخ في العظمة، عن أنس أتت يهود خيبر إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا أبا القاسم خلق الله الملائكة من نور الحجاب، وآدم من حمأ مسنون، وإبليس من لهب النهار والسماء من دخان، والأرض من زبد الماء، فأخبرنا عن ربك، فلم يجبهم فأتاه جبريل بهذه السورة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَد} انتهى.
نعم بقية الحديث ثابتة عن ابن سلام، علقها البخاري تلو حديث ابن عمر، والآتي، وأخرجها الدارمي، ويعقوب بن سفيان، والطبراني، وهو قوله: "وإني لأجد صفتك في كتاب الله" يعني التوراة، ففي رواية الجماعة عنه: إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا} على أمتك بما يفعلون لهم وعليهم، مقبولًا عند الله، {وَمُبَشِّرًا} لمن أجابك بالثواب {وَنَذِيرًا} ، مخوفا لمن عصاك بالعذاب، "أنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكل" أي: على الله، لقناعته باليسير من الرزق، واعتماده على الله في السر والجهر، والصبر على انتظار الفرج، والأخذ بمحاسن الأخلاق، واليقين بتمام وعد الله، فتوكل على الله، فسماه الله المتوكل، "ليس بفظ" سيئ الخلق جاف.
وفيه التفات من الخطاب إلى الغيبة، إذ لو جرى على نسق الأول، لقال: لست بفظ(8/406)
بفظ ولا غليظ ولا سخاب في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة مثلها، ولكن يعفو ويصفح، ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء، حتى يقولوا: لا إله إلا الله، ويفتح به أعينًا عميًا، وآذانًا صمًا وقلوبًا غلفًا.
وقوله: "ليس بفظ ولا غليظ" موافق لقوله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159] ولا
__________
"ولا غليظ" قاسي القلب، "ولا سخاب" "بسين مهملة وخاء معجمة ثقيلة" لغة أثبتها الفراء وغيره بالصاد، أشهر من السين، بل ضعفها الخليل، أي: لا يرفع صوته على الناس لسوء خلقه، ولا يكثر الصياح عليهم "في الأسواق" بل يلين جانبه ويرفق بهم، وفيه ذم أهل السوق، الذين يكونون بالصفة المذمومة من صخب ولغط، وزيادة مدحه لما يبيعونه، وذم لما يشترونه، والإيمان الحانثة، ولذا كانت شر البقاع لما يغلب على أهلها من هذه الأحوال المذمومة، وقيد بالأسواق، والمراد نفيه عنه مطلقًا؛ لأنه إذا انتفى في المحل المعتاد فيه، انتفى في غيره بالطريق الأولى، وهذا أبلغ وأفصح من الإطلاق؛ لأنه نفي بدليل نحو قوله: لا ترى الضب بها ينحجر، فهو من نفي المقيد دون قيده، "ولا يجزي بالسيئة مثلها" أي: السيئة، "ولكن يعفو ويصفح" يعرض ما لم تنتهك حرمات الله، "ولن يقبضه" يميته "الله حتى يقيم به الملة العوجاء" ملة إبراهيم، فإنها اعوجت في الفترة، فزيدت، ونقصت، وغيرت عن استقامتها، وأميلت بعد قوامها، وما زالت كذلك حتى أقامها صلى الله عليه وسلم بنفي الشرك وإثبات التوحيد، كما قال: "حتى يقولوا: لا إله إلا الله" أي: ومحمد رسول الله، فالمراد كلمة التوحيد.
هكذا فسر شراح الحديث قاطبة: الملة العوجاء بملة إبراهيم، وكذا ابن الأثير في النهاية، قائلًا: إن العرب كانوا يزعمون أنهم على ملته، وأبعد من قال؛ أنها الملة التي رآها خارجة عن الحق، فأزال اعوجاجها، وإن لم تنسب إلى إبراهيم، كملة اليهود والنصارى، فإنهم حرفوا وبدلوا، ولم يتركوا ما نسخ من شرعهم، فجاهدهم حتى اهتدى من اهتدى، وقتل من قتل، "ويفتح به" بالنبي.
وفي رواية البخاري بها، أي: بكلمة التوحيد "أعينا عميًا" "بضم العين وسكون الميم صفة لا عين، أي: عن الحق، "وآذانًا صمًا" عن استماع الحق، "وقلوبًا غلفًا" "بضم المعجمة وسكون اللام صفة قلوبًا جمع أغلف، أي: مغطى ومغشى، "وقوله: ليس بفظ ولا غليظ، موافق لقوله تعالى: {فَبِمَا} زائدة، أي: فبـ {رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} أي: سهلت أخلاقك حيث خالفوك {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ} جافيًا، فأغلظت لهم {لَانْفَضُّوا} تفرقوا {مِنْ حَوْلِكَ}(8/407)
يعارض قوله: {وَاغْلُظْ عَلَيْهِم} [التوبة: 73] ؛ لأن النفي محمول على طبعة الكريم الذي جبل عليه، والأمر محمول على المعالجة، أو النفي بالنسبة إلى المؤمنين والأمر بالنسبة إلى الكفار والمنافقين كما هو مصرح به في نفس الآية.
"وقلوبًا غلفًا": أي مغشاة مغطاة، واحدها: أغلف، ومنه غلاف السيف وغيره.
وأخرج البيهقي وأبو نعيم عن أم الدرداء -أو امرأة أبي الدرداء- قالت: قلت لكعب، كيف تجدون صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة؟ قال: كنا نجده موصوفًا فيها: محمد رسول الله اسمه المتوكل، ليس بفظ ولا غليظ ولا سخاب في
__________
[آل عمران: 159] "ولا يعارض" هذا "قوله" تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 73] ؛ "لأن النفي محمول على طبعه الكريم الذي جبل عليه، والأمر محمول على المعالجة" لنفسه، على خلاف ما طبع عليه، "أو النفي بالنسبة إلى المؤمنين، والأمر بالنسبة إلى الكفار والمنافقين، كما هو مصرح به في نفس الآية" ذكر الجوابين الحافظ والثاني، كما قاله شيخنا أظهر لموافقة الآية، وإن كان الأول من حيث عمومه شاملًا لعصاة المؤمنين إذا فعلوا منكرًا، ولا سيما إذا ظهر منهم التصميم عليه، "وقلوبًا غلفًا، أي: مغشاة مغطاة، واحدها أغلف، ومنه غلاف السيف وغيره" والمعنى: أن قلوبهم كانت محجوبة عن الهداية، فأزال صلى الله عليه سولم حجابها وكشف غطاءها.
"وأخرج البيهقي وأبو نعيم، عن أم الدرداء، أو امرأة أبي الدرداء" شك من الراوي في اللفظ الذي قاله شيخه، وإن اتحد المعنى، ولأبي الدرداء زوجتان، تكنى كل منهما بذلك إحداهما الكبرى واسمها خيرة بنت أبي حدود، صحابية، من فضلاء النساء وعقلائهن، وذوات الرأي: منهن، مع العبادة والنسك، ماتت قبل زوجها بالشام في خلافة عثمان، والثانية الصغرى اسمها هجيمة أو جهيمة، ثقة، فقيهة، ماتت سنة إحدى وثمانين، وهي التي روى لها أصحاب الكتب الستة، لا صحبة لها ولا رؤية، وذكر في الإصابة للكبرى حديثين، سمعتهما من النبي صلى الله عليه وسلم، وكل منهما يحتمل أنها التي "قالت: قلت لكعب بن مانع الحميري، المعروف بكعب الأحبار: "كيف تجدون صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة؟، قال: كنا نجده موصوفًا فيها محمد رسول الله" كما في القرآن، "اسمه المتوكل" الذي يكل أمره إلى الله، فإذا أمره بشيء نهض بلا جزع، وفي التنزيل: {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} ، {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ} ، "ليس بفظ، ولا غليظ، ولا سخاب في الأسواق" التي هي محل السخب وارتفاع الأصوات، ففي(8/408)
الأسواق، وأعطي المفاتيح، ليبصر الله به أعينًا عورًا، ويسمع به آذانًا صمًا، ويقيم به ألسنة معوجة، حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يعين المظلوم ويمنعه من أن يستضعف.
وفي البخاري: عن عطاء بن يسار قال: لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص، فقلت: أخبرني عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أجل، والله إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} ،
__________
غيرها أولى، "وأعطي المفاتيح ليبصر الله به أعينًا عورًا" وهو الفاقد إحدى عينيه، ولكون الفتح والأبصار مجازًا عن الهداية، عبر تارة بعميًا، وأخرى بعورًا: جمع أعور، صفة أعينًا، "ويسمع به آذانًا صمًا" عن سماع الحق، "ويقيم به ألسنة معوجة" جمع لسان "حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له" أي: ومحمد رسول الله، ففيه اكتفاء نحو سرابيل تقيكم الحر، أي: والبرد "يعين المظلوم" على الظالم، "ويمنعه من أن يستضعف" بأن ينصره، بحيث يصير فيه قوة تحمله على أن يدفع عن نفسه، "وفي البخاري" في البيوع، ثم في تفسير الفتح، طعن عطاء بن يسار" الهلالي، أبي محمد المدني، مولى ميمونة.
ثقة، فاضل، صاحب مواعظ وعبادة، مات سنة أربع وتسعين, وقيل: بعدها، روى له الستة، "قال: لقيت عبد الله بن عمرو بن العاصي" الصحابي ابن الصحابي رضي الله عنهما، "فقلت: أخبرني عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم" أي: في التوراة بدليل الجواب، فإن السؤال يعاد في الجواب صراحة، أو ضمنًا، وهو من القواعد الأصولية، "قال" عبد الله: "أجل" "بفتح الهمزة والجيم، وباللام حرف جواب كنعم، فيكون تصديقًا للمحبر، وإعلامًا للمستخبر، ووعدًا للطالب، فيقع بعد نحو قام زيد، ونحو أقام زيد، واضرب زيدًا فيكون بعد الخبر، وبعد الاستفهام والطلب.
وقيل يختص بالخبر، وهو قول الزمخشري وابن مالك، وقيد المالقي الخبر بالمثبت، والطلب بغير النهي.
وفي القاموس: أجل كنعم، إلا أنه أحسن منه في التصديق، ونعم أحسن منه في الاستفهام، وهذا قاله الأخفش، كما في المعنى، وغيره قال الطيبي: أجل في الحديث جوابًا للأمر على تأويل: قرأت التوراة هي وجدت صفة رسول الله فيها، فأخبرني، قال: أجل "والله إنا لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن" أكده بمؤكدات الخلف بالله، والجملة الإسمية، ودخول أن عليها، ودخول لام التأكيد على الخبر، وإنما سأله عما في التوراة؛ لأنه كان يحفظها.(8/409)
وحرزًا للأميين، أنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكل ليس بفظ ولا غليظ ولا
__________
وقد روى البزار من حديث ابن لهيعة، عن وهب: أن عبد الله بن عمرو بن العاصي رأى في المنام في إحدى يديه عسلًا، وفي الأخرى سمنًا، وهو يلعقهما، فلما أصبح ذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: له تقرأ الكتابين التوراة والقرآن فكان يقرؤهما، فالنهي عن قراءتها ليس على إطلاقه لوقوعه في الزمن النبوي لكثير من الصحابة بلا إنكار، فهو مقيد بمن لم يميز المنسوخ والمحرف منها، ويضيع وقته في الاشتغال بها، أما غيره فلا يمنع، بل قد يطب لإلزامهم فيما أنكروه منها.
وقد أخرج الدارمي ويعقوب بن سفيان في تاريخه، والطبراني عن عطاء بن يسار عن ابن سلام مثله، وعلقمة البخاري، قال الحافظ: ولا مانع أن يكون عطاء حمله عن كل منهما، فقد أخرجه ابن سعد عن زيد بن أسلم، قال: بلغنا أن عبد الله بن سلام، كان يقول: إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ} بدل من بعض، أو بيان له {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا} لأمتك المؤمنين بتصديقهم، على الكافرين بتكذيبهم، وانتصاب شاهدًا على الحال المقدر من الكاف أو من الفاعل أي: مقدرًا أومقدرين شهادتك على من بعثت إليهم وعلى تكذيبهم وتصديقهم، أي: مقبولًا عند الله لهم وعليهم، أو شاهدًا للرسل قبله بالبلاغ {وَمُبَشِّرًا} للمؤمنين {وَنَذِيرًا} للكافرين، أو مبشرًا للمطيعين بالجنة، ونذيرًا للعصاة بالنار، "وحرزًا" بكسر المهملة، وإسكان الراء، ثم زاي، أي: حصنًا "للأميين" أي: للعرب؛ لأن أكثرهم لا يقرؤون ولا يكتبون، يتحصنون به عن غوائل الدهر، أ, سطوة العجم وتغلبهم، فخصهم لذلك أولًا رسالة بين أظهرهم، أو لشرفهم، أو من مطلق العذب ما دام فيهم، وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم، أو من عذاب الاستئصال، فلا يرد أن دعوته عامة، وجعله نفسه حرزًا، مبالغة لحفظه لهم في الدارين، "أنت عبدي" الكامل في العبودية "ورسولي" فقدم العبودية لشرفها، فإن له بها مزيد اختصاص، ولذا اقتصر عليها في الإسراء وإنزال الكتاب، وليست بالمعنى العام الذي يتصف به كل مخلوق، بل بالخاص الذي رضيه له حتى أطلعه على حظائر قدسه، وجعله رسولًا مبلغًا عنه، وكفاء جميع مؤناته، فقال: أليس الله بكاف عبده، فإن الملك لا يرضى بوقوف عبده بباب غيره، واحتياجه لسواه، وإهانة أحد له، فإنه هو الذي يؤدبه، كما قال: أدبني ربي فأحسن تأديبي، فلذا قال: "سميتك المتوكل" دون جعلتك أو وصفتك، المنادى بشدة توكله الذي صيره علمًا له، ففيه أشعار بشدة توكله، الساري في أمته صلى الله عليه وسلم، وخطابه بما في التوراة خطاب للحاضر في العلم، وبالماضي في أرسلناك لتحققه، أو حكاية لما يقال في المستقبل؛ أو لاستحضار الآتي، وعبر بما يعبر به عنه في الآتي: "ليس بلفظ" سيئ الخلق، جاف، "ولا غليظ" قاسي القلب،(8/410)
سخاب في الأسواق، ولا يدفع بالسية السيئة، ولكن يعفو ويغفر، ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء، بأن يقولوا: لا إله إلا الله، ويفتح به أعينًا عميًا وآذانًا
__________
بل ملته سمحة، ولا ينافيه وقوع الغلظة اللائقة أو الواجبة أحيانًا؛ لأنها لا تنافي حسن الخلق أو المراد نفيهما، بحسب الخلقة أو في غير محلهما، وقول النسوة لعمر: أنت أفظ أغلظ من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليس القصد به التفضيل، بل أصل الفعل، أو من قبيل العسل أحلى من الخل، أي: غلظتك يا عمر أشد من رقته صلى الله عليه وسلم، واختاره في المصابيح، ثم يحتمل أن يتكون هذه آية أخرى في التوراة، لبيان صفته، وأن تكون حالًا من المتوكل، أو من الكاف في سميتك، ففيه التفات من الخطاب إلى الغيبة حتى لا يواجهه بمثله، وإن كان منفيًا، "ولا سخاب" بشد الخاء بعد السين، ويقال: بالصاد، وهو أفصح، وادعى بعض أنه روى بهما، أي: لا يرفع صوته على الناس لسوء خلقه ولا يكثر الصياح عليهم "في الأسواق" بل يلين جانبه ويرفق بهم، وهو من نفي المقيد بدون قيده، ففيه دخوله صلى الله عليه وسلم الأسواق تواضعًا وتركًا لعادة الجبارين من الملوك، وردًا لقول الكفرة: ما لهذا الرسول، يأكل الطعام، ويمشي في الأسواق، ويحتمل أنه من نفي القيد والمقيد معًا، كما قال الطيبي: المراد نفي السخابية وكونه في الأسواق.
انتهى على معنى نفي اعتياد دخوله في الأسواق، كأرباب الدنيا، بل إنما يدخلها لحاجة، فلا يشكل ما قاله بأنه خلاف الواقع والمبالغة للنسبة، كخياط أو بذي سخب، كما في: وما ربك بظلام في أحد الوجوه أو على بابها، لثبوت أصل الخسب له في محله، كخطبة وتلبية ونحوهما، "ولا يدفع" هكذا الرواية في البخاري في المحلين، فنسخة: ولا يجزي تصحيف "بالسيئة السيئة" هو كقوله تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَة} [المؤمنون: 96] ، وخلقه القرآن.
وقد قال تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى: 40] ولذا قال: "ولكن يعفو" يمحو ويزيل السيئة من ظاهر وخاطره، "ويغفر" يستر السيئة، ولا يلزم منه إزالتها، أو يعفو تارة، ويستر أخرى، فلا يفضح، فيقول في خطبته: ما بال أقوام يفعلون كذا، أو هما متساويان، فالثاني تأكيد، ونقل القرطبي عن بعضهم؛ لأن الغفر ستر، لا يقع معه عقاب ولا عتاب، والعفو إنما يكون بعد عقاب أو عتاب، فإن استعمل في غيره فهو مجاز.
وفي نسخة: ويصفح، "ولن يقبضه" يميته "الله" وأصله أخذ المال واستيفاؤه، أطلق على الموت بتشبيه الحياة والروح بالمال، كما قيل:
إذا كان رأس المال عمرك فاحترس ... عليه من الإنفاق في غير واجب
أو هو من استعمال المقيد في المطلق، ثم شاع حتى صار حقيقة فيه، "حتى يقيم به(8/411)
صمًا وقلوبًا غلفًا.
وعند ابن إسحاق: ولا صخب في الأسواق، ولا متزين بالفحش، ولا قوال
__________
الملة العوجاء"، ملة إبراهيم التي غيرتها العرب عن استقامتها؛ لأنهم ذرية إسماعيل بن إبراهيم، وكانوا يزعمون؛ أنهم على ملته الحنيفية، والحنيف من يوجد الله تعالى ويعبده؛ لأن الحنف في اللغة الاستقامة، قاله ابن الأثير "بأن يقولوا" أي: أهلها: "لا إله إلا الله" اقتصر عليها، وجعلها إقامة الملة؛ لأن العوج الواقع عموده الشرك وعبادة الأصنام، يستقيم بها، أو أنهم يأتون بكلمة التوحيد التي هي عبارة عن لا إله إلا الله محمد رسول الله؛ لأن الكلمتين صارتا كالكلمة الواحدة، أو اكتفاء، كسرابيل تقيكم الحر، "ويفتح به"، أي: بالنبي، كذا وقع بتذكير الضمير هنا تبعًا للشفاء مع عز، وكليهما للبخاري، والذي فيه في الموضعين بها، أي: كلمة التوحيد "أعينًا عميًا" "بضم فسكون".
وفي رواية القابسي: أعين عمي بالإضافة، ولا تنافي بين هذا وبين قوله: وما أنت بهادي العمي عن ضلالتهم؛ لأنه دل إيلاء الفاعل المعنوي، حرف النفي على أن الكلام في الفاعل، وذلك أنه تعالى نزله لحرصه على إيمانهم منزلة من يدعي استقلاله بالهداية، فقال له: أنت لست بمستقل بها، بل إنك لتهدي إلى صراط مستقيم بإذن الله وتيسيره، وعلى هذا، فيفتح معطوف على يقيم، أي: يقيم الله بواسطته الملة العوجاء؛ بأن يقولوا: لا إله إلا الله، ويفتح بواسطة هذه الكلمة أعينًا عميًا، "وآذانًا صمًا، وقلوبًا غلفًا" "بضم وسكون".
وفي رواية أبي ذر: ويفتح بها أعين عمي، وآذان صم، وقلوب غلف "بضم أوله مبني للمفعول، ورفع أعين وآذان وقلو على النيابة".
"وعند" محمد "بن إسحاق بن يسار: بدل قوله ولا سخاب "ولا صخب" "بكسر الخاء". صفة مشبهة تفيد المبالغة، باعتبار إفادة الثبوت هكذا في عدة نسخ صحيحة، موافقة لما عند ابن إسحاق والشفاء عنه، فلا عبرة بنسخ ولا صخاب "في الأسواق" وعنده زيادة هي:، "ولا متزين" بزاي منقوطة من الزينة.
وروى بدال من الدين، وروى متزي بلا نون من الزي، والهيئة "الفحش": القبح وزنا ومعنى فعلًا كان أو قولًا، أي: لا يتجمل، أو لا يتدين، أو لا يتلبس به، ولا يرد أن ظاهره يوهم أنه قد يأتي به غير متجاوز، أو غير متزين به؛ لأنه لا مفهوم له لحرية، على عادة أرباب الفحش في المباهاة، به، أو هو استعارة تهكمية، أو التزين بمعنى الاتصاف تجريدًا، أو المراد: لا يرى الفحش زينة، فهي مكنية، وهذا من آياته؛ لأنه نشأ بين قوم يتزينون بالفواحش، كالقتل والزنا والطواف عراة، فأتى بما يخالف عادتهم، "ولا قوال" فعال صيغة مبالغة، أي: كثير لقول "للخنا" "بمعجمة(8/412)
للخنا، أسدده بكل جميل، وأهب له كل خلق كريم، ثم أجعل السكينة لباسه، والبر شعاره، التقوى ضميره، والحكمة معقوله, والصدق والوفاء طبيعته، والعفو والمعروف خلقه، والعدل سيرته، والحق شريعته، والهدى إمامه، والإسلام ملته،
__________
ونون مقصورة" قبيح الكلام، وهذا مع ما قبله يفيد أنه لا يصدر عنه صلى الله عليه وسلم شيء منه قليل ولا كثير؛ لأن الفحش بمعناه، أو فعال للنسبة، كتمًا رأى ليس بذي قول للخنا، ولما ذكر صفات التخلية، بقوله: ليس بفظ، إلى هنا ذكر صفات التحلية بطريق وعد من لا يخلف وعده، مستأنفًا لمقصد أعلى مما قبله، ولذا لم يعطفه، أو في جواب سؤال هو، فما تفعل به بعد أن صنته عن النقائص، فقال: "اسدده" أوفقه للسداد، وهو الصواب، واقصد من القول والعمل "بكل جميل" حسن صورة كان، أو معنى يليق به، "وأهب" بفتحتين" أعطي "له كل خلق "بضمتين وتسكن اللام" السجية والطبيعة، "كريم" عزيز نفيس، "ثم اجعل" مضارع المتكلم، وهو الله "السكينة" "بالفتح والتخفيف" الوقار والطمأنينة، وفيها لغة بالكسر والتشديد، حكاها في المشارق، وبها قرئ شذا "لباسه"، أي: ما يظهر عليه من الخشوع والتثبت، فشبه المعقول بالمحسوس تقريبًا للفهم، ومبدأ هذا الوقار يلوح للقلب في مراقبته، فلذا قال تعالى: {أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلوبِ الْمُؤْمِنِين} [الفتح: 4] ، فلكل وجهة، "و" اجعل "البر" الطاعة والإحسان، أي: زيادته، والخير والرحمة "شعاره": لباسه الذي يلي جسده، سمي به؛ لأنه لابس شعره وبدنه، ويقابله الدثار، وهو ما يتغطى به، ولما كانت السكينة ظاهرة فيه صلى الله عليه وسلم في سائر أحواله، ويراها كل أحد، برًا وفارجًا، جعلها لباسًا، والبر والخير والرحمة، وإن لازمه أيضًا وعم أحواله إنما يقف عليه المؤمنون ببصائرهم، جعله شعارًا، فانظر حسن موقعه مع ما قبله وما بعده أيضًا، وهو "والتقوى ضميره"؛ لأن الضمير ما يضمر في القلب وينوي في الخاطر، بحيث لا ينسى، فتأمل كيف انتقل من الظاهر للخفي، ثم الأخفى مع ما فيه من شبه اللف والنشر مع الأمور السلبية والتقوى ما بقي العذاب في الآخرة، ولها مراتب: أولها التبري عن الكفر، والثاني: التنزه عن كل ما يؤثم، والثالث: التنزه عما يشغل السر عن الله، وبهذا علم التئامها مع الضمير "والحكمة" كل كلام جامع لما يرشد إلى الحق، فيشمل المواعظ والأمثال لانتفاع الناس بها، وتطلق على القرآن والعلوم الشرعية، والقضاء بالعدل، وبه فسر ادع إلى سبيل ربك بالحكمة، "معقوله" مصدرًا واسم مفعول، فالمراد إنها تعقله وإدراكه، أو ما يعقله، كان حكم ومواعظ وعلوم نافعة؛ لأنه لا ينطق عن الهوى، "واجعل "الصدق والوفاء طبيعته" أي: إن الله جبله أنه لا ينطلق بغير ما وافق الواقع، وإذا عاقد أحدًا أو عدلًا يخلفه، "والعفو والمعروف" ما يعرفه ويألفه العقلاء.(8/413)
وأحمد، أهدى به بعد الضلالة، وأعلم به بعد الجهالة، وأرفع به بعد الخمالة،
__________
ولذا قيل: المعروف كاسمه "خلقه" وفي المصباح: المعروف الخير والرفق والإحسان، ومنه قولهم: من كان آمرًا بالمعروف فليأمر بالعروف، أي: من أمر بخير فليأمر برفق، "والعدل" القصد في الأمر ضد الجور "سيرته" طريقته الحميدة.
وفي التنزيل: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَان} [النحل: 90] ، قال ابن عطية: العدل فعل كل مفروض من العقائد والعبادة، وأداء الآمانات، والإنصاف والإحسان فعل المندوب.
وفي البغوي: العدل بين العبد وربه إيثار حقه على حظ نفسه، واجتناب الزواجر، وامتثال الأوامر، وبينه وبين نفسه منعها عما فيه هلاكها والتصبر، وبينه وبين غيره بذل النصيحة وترك الخيانة، وإنصافهم من نفسه، والصبر على أذاهم، وجعل العدل سيرته صلى الله عليه وسلم، لا ينافي أن يكون الإحسان سيرته فيم حل يليق به، ولا أن يكون العفو طبيعة له أيضًا لمصحلة تليق بالمقام "والحق شريعته" بنصبهما عطف على مفعول اجعل، كما هو في نسخ الشفاء الصحيحة المقروءة، لا يرفعهما لاقتضاء تعريف الطرفين الحصر، فيفهم أن شرائع غيره باطلة، وليس كذلك، وأنه وجه؛ بأن المراد الحق الكامل الذي لا ينسخ، أو في زمانه لا غيرها لنسخها بشريعته وبغير ذلك؛ لأن هذا إنما يحتاج إليه لو ثبت رواية.
"والهدى إمامه" "بكسر الهمزة"، كما ضبطه الحافظ البرهان، أي: مقتداه ومتبعه، وهو كناية عن ملازمته له وعدم انفكاكه عنه، ويجوز أن يراد بالإمام الطريق، كما قيل في قوله: وإنهما لبإمام مبين، وضبطه بعضهم "بفتح الهمز"، بمعنى قدام، فالمراد بطريق الكناية؛ أنه ملاحظ له، كما يقال: في ضده أنه ظهري وخلف ظهري، والهدى الدلالة بلطف، ولذا اختصت بالخير، وقيل: تعريفه للعهد، أي: هدى الأنبياء، لقوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} ، أي: ما اتفقوا عليه من التوحيد والأصول للفروع، "والإسلام ملته" بنصبهما على الصحيح، أي: أنه اسم لملته، أي: دينه خاصة دون الأمم على أحد القولين، وعلى الآخر بالعموم، لكل دين حق، فالمراد الكامل ليكون من خصائصه التي تميز بها عن غيره وكماله بنسخ غيره، وكونه سمحًا بين اللين والشدة، وغير ذلك.
وفي التنزيل: هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا، "واجعل "أحمد" اسمه، وبه سماه في الكتب قبل وجوده، ومبشرًا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد، ولما ذكر صفاته الموصوف بها في نفسه ذكر صفاته التي لوحظ فيها غيره، جوابًا لسؤال: هل تنفع بهذا الطاهر المطهر، الكامل في نفسه غيره؟، فقال: "أهدى" "بفتح الهمزة" مضارع هدى "به" بسببه، أو هديه "بعد الضلالة" بمعنى الضلال سلوك غير الطريق الموصلة، وقيل: إنما فصله لعلو رتبة الهداية، سواء(8/414)
وأسمي به بعد النكرة، وأكثر به بعد القلة، وأغنى به بعد العيلة، وأجمع به بعد الفرقة، وأؤلف به بين قلوب مختلفة، وأهواء متشتتة، وأمم متفرقة، وأجعل أمته خير
__________
كانت الإيصال أو الدلالة الموصلة، وفيه تقوية لمدحه السابق، والمراد الهداية إلى ما به النجاة، وإلى ما به يكمل الناجي، فلذا قال: "واعلم" "بضم الهمزة وشد اللام"، كما في المقتفى "به بعد الجهالة" "بفتح الجيم مصدر"، كالجهل ضد العلم، وهو الاعتقاد الذي لا يطابق الواقع، "وأرفع به بعد الخمالة" "بفتح الخاء المعجمة والميم"، أي: الخفاء، وادعى بعض أنه لا يقال خمالة، بل خمولة.
وفي الصحاح: الخامل: الساقط الذي لا نباهة له، وقد خمل يخمل خمولًا.
وفي الجمهرة: رجل خامل الذكر بين الخمول والخمولة، وهو ضد النبيه والنابه.
وفي القاموس: خمل ذكره وصوته خمولًا: خفي، وأخمله الله، فهو خامل، ساقط، لا نباهة له، جمعه خمل محركة.
وأجيب بأن ثبوت الخمالة في هذا الحديث الصحيح شاهد لصحتها، وإن كانت على غير قياس أو لمشاكلة الضلالة والازدواج معها، والمراد برفعه جعل الدين والتوحيد بعد ما ترك في الفترة، لغلبة الجهل مشهورًا شائعًا، فهو مجاز، كقوله: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَك} [الانشراح: 4] ، "وأسمي": روى "بضم الهمزة وفتح السين والتشديد"، وبه ضبطه في المقتفى، وروى بضم الهمزة وسكون السين به" بسببه "بعد النكرة" "بضم فسكون وبفتح فكسر" خلاف المعرفة، وتطلق بمعنى المجهول، أي: أعرف الناس بسببه، أو بما أوحيه إليه الناس المجهولين، أو أعرفهم ما جهلوه من التوحيد، أو أعرف الناس ما لم يعرفوه من الأنبياء وقصصهم، والأولى التعميم، كما قيل: "وأكثر" "بضم الهمزة وسكون الكاف وكسر المثلثة مخففة وبفتح الكاف وشد المثلثة يتعدى بالهمزة والتضعيف"، "به بعد القلة" أي: أكثر به الأرزاق مطلقًا، أو على من اتبعه، أو أكثر أمته بعد قلتها، أو بعد عدمها، لورود القلة بمعنى العدم، لكنه بعيد هنا، أو المراد قواعد الملة بعد اعوجاجها، فأعاد منها ما نقص بكلمة التوحيد، وهو تكلف مستغنى عنه لتقدم معناه، "وأغني": أعطى الغني "به بعد العيلة" "بفتح فسكون": الفقر، أي: ما كانوا عليه في الابتداء، ففتح لهم الفتوحات والممالك، وأحل لهم الغنائم، "وأجمع به" الناس "بعد الفرقة" الافتراق، وتنافر القلوب، والعداوة المؤدية للحروب وترك الديار، كما كان بين الأوس والخزرج من الحروب قبل الإسلام، فلما جاء الله به ألف بين قلوبهم، وسل أحقادهم وضغائنهم، وصيرهم أخوة، "وأؤلف" أجمع "به بين قلوب مختلفة" وذلك يستلزم التأليف بين الذوات، وكونه بسبب المصطفى؛ لأنه السبب الظاهري، والمؤلف الحقيقي هو الله، فلا ينافي إسناد التأليف إليه(8/415)
أمة أخرجت للناس.
وأخرج البيهقي عن ابن عباس قال: قدم الجارود فأسلم وقال: والذي بعثك
__________
سبحانه في قوله تعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [آل عمران: 103] ، "وأهواء" جمع هوى، وهو ميل النفس لما تحبه وتشتهيه "متشتتة" متفرقة، أي: اجعل مهويهم واحدًا، متفقًا محمودًا، وإن غلب إطلاقه على المذموم، كما قال: ولئن اتبعت أهواءهم، "وأمم" جمع أمة، فرقة من الناس "متفرقة" بتقديم التاء على الفاء من التفرق، وبتقديم الفاء على التاء من الافتراق روايتان: يعني أن كل أمة كانت على دين واعتقاد وطريقة، منهم من يعبد الأصنام، ومنهم من يعبد الكواكب، ومنهم يهودي ونصراني، ومنهم غير ذلك، فنسخ الله بشرعه صلى الله عليه وسلم جميع الشرائع، وجعل الدين دينًا واحدًا قيمًا، من حاد عنه هلك وشقي في الدارين, وإن حمل قوله وأجمع به بعد الفرقة على جميع العقائد والملل على التوحيد، أو الأعم كان ما بعده عطف تفسير له، "وأجعل أمته": الذين أجابوه "خير أمة أخرجت": أوجدت وخلقت أو أخرجت من العدم "للناس".
وفي التنزيل: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّة} ، أي: أنه تعالى قضى بذلك وقدره أزلًا، وفي عالم الذر، وقيل: المراد كنتم مذكورين في الأمم الذين قبلكم، موصوفين بذلك لخيرية نبيكم ودينكم، أو لما بينه، بقوله: تأمرون. إلخ.
ومر الكلام فيه، "وأخرج البيهقي عن ابن عباس، قال: قدم الجارود" بن المعلى، ويقال: ابن عمرو بن المعلى العبدي أبو المنذر، ويقال: أبو غثان، بمعجمة ومثلثة على الأصح، ويقال: "بمهملة وموحدة"، اسمه بشر بن خنش "بمهملة ونون مفتوحتين، ثم معجمة" وقيل: مطرف، وقيل: غير ذلك لقب الجارود؛ لأنه غزا بكر بن وائل، فاستأصلهم، قال الشاعر:
فدسناهم بالخيل من كل جانب ... كما جرد الجارود بكر بن وائل
وحكى ابن السكن: أن سبب تلقيبه بذلك أن إبل عبد القيس جريت، وبقيت للجارود بقية من إبله، فتوجه بها إلى قديد بن سنان وهم أخواله، فجربت إبل أخواله، فقال: الناس جردهم بشر، فلقب الجارود، "فأسلم".
قال ابن إسحاق: وكان نصرانيًا وحسن إسلامه، وكان صلبًا على دينه، قال في الإصابة: قدم الجارود سنة عشر في وفد عبد القيس الأخير، وسر النبي صلى الله عليه وسلم بإسلامه.
روى الطبراني عن أنس: لما قدم الجارود وافدًا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرح به وقربه وأدناه وروى الطبراني أيضًا عن الجارود، قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: إن لي دينًا، فلي إن تركت ديني ودخلت في دينك أن لا يعذبني الله، قال: "نعم"، "وقال" الجارود: "والذي بعثك بالحق(8/416)
بالحق لقد وجدت صفتك في الإنجيل، ولقد بشر بك ابن البتول.
وأخرج ابن سعد قال: لما أمر إبراهيم الخليل بإخراج هاجر حمل على البراق، فكان لا يمر إبراهيم بأرض عذبة سهلة إلا قال: أنزل ههنا يا جبريل، فيقول: لا، حتى أتى مكة فقال جبريل: انزل يا إبراهيم، قال: حيث لا ضرع ولا زرع، قال: نعم ههنا يخرج النبي الذي من ذرية ابنك الذي تتم به الكلمة العليا.
__________
لقد وجدت صفتك في الإنجيل، ولقد بشر بك ابن البتول" عيسى ابن مريم، وقتل الجارود بأرض فارس بعقبة الطير، فصار يقال لها: عقبة الجارود، وذلك سنة إحدى وعشرين في خلافة عمر، وقيل: قتل بنهاوند مع النعمان بن مقرن، وقيل: بقي إلى خلافة عثمان، قال أبو عمر: من محاسن شعره:
شهدت بأن الله حق وشاء بي ... ثبات فؤادي بالشهادة والنهض
فأبلغ رسول الله عني رسالة ... بأني حنيف حيث كنت من الأرض
فإن لا تكن داري سرت بي فيكم ... فإني بكم عند الإقامة والخفض
واجعل نفسي عند كل ملمة ... لكم خصة من دون عرضكم عرضي
وابنه المنذر كان من رؤساء عبد القيس بالبصرة، مدحة الأعشى وغيره، وحفيده الحم هو الذي يقول فيه الأعشى:
يا حكم بن المنذر بن الجارود ... سرادق المجد عليك ممدود
أنت الجواد ابن الجواد المحمود ... نبت في الجود وفي بيت الجود
والعود قد ينبت في أصل العود
قال: وكان الحجاج يحسد الحكم على هذه الأبيات، "وأخرج ابن سعد، قال: لما أمر إبراهيم الخليل بإخراج هاجر" بالهاء، ويقال: بالألف والجيم من أرض الشام حين غارت منها سارة زوجه، "حمل على البراق، فكان لا يمر إبراهيم بأرض عذبة"، أي: عذب ماؤها، "سهلة" لينة، يمكن زرعها، "إلا قال: انزل" "بصيغة المضارع وحذف همزة الاستفهام" أي: انزل "ههنا يا جبريل، فيقول: لا" ولم يزل كذلك "حتى أتى مكة" فالغاية لمقدر، "فقال جبريل: انزل يا إبراهيم، قال: حيث لا ضرع" "بفتح الضاد وسكون الراء" وهو لذات الظلف، كالثدي للمرأة، "ولا زرع" قال ذلك تعجبًا من أمره له، بنزوله في موضع قفر، أي: كيف أنزل في أرض لا أنيس بها، ولا ما يتأتى به المعيشة، "قال" جبريل: "نعم: ههنا يخرج النبي الذي من ذرية ابنك إسماعيل، "الذي تتم به الكلمة العليا" وهي كلمة الله، وفي ذلك تسلية له وترغيب بنزول تلك(8/417)
وفي التوراة -مما اختاروه بعد الحذف والتحريف والتبديل، مما ذكره ابن ظفر في "البشر" وابن قتيبة في "أعلام النبوة": تجلى الله من سينا، وأشرق من ساعير، واستعلن من جبال فاران.
فسينا هو الجبل الذي كلم الله فيه موسى.
و"ساعير" هو الجبل الذي كلم الله فيه عيسى، فظهرت فيه نبوته.
وجبال "فاران" وهو اسم عبراني -وليست ألفه الأولى همزة- هي جبال بني هاشم التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحنث في أحدها وفيه فاتحة الوحي، وهو أحد ثلاثة جبال، أحدها: أبو قبيس، والمقابل له قعيقعان إلى بطن الوادي، والثالث:
__________
الأرض، "وفي التوراة مما اختاروه" أي: العلماء "بعد الحذف والتحريف والتبديل" الواقع من اليهود، يحرفون الكلم عن مواضعه، "مما ذكره" العلامة محمد "بن ظفر" "بفتح الظاء المعجمة والفاء" "في" كتاب "البشر" "بكسر ففتح" بخير البشر "بفتحتين"، وابن قتيبة في كتاب "أعلام النبوة تجلى" ظهر "الله من سينا" بالقصر جبل بالشام.
كذا في القاموس: "وأشرق" بالقاف" "من ساعير".
قال ابن ظفر: كناية عن ظهور أنوار كلامه، "واستعلن من جبال فاران" "بفاء فألف فراء فألف فنون".
قال ابن ظفر: أي: ظهر أمره وكتابه وتوحيده وحمده، وما شرعه رسوله من الأذان والتلبية، "فسينا هو الجبل الذي كلم الله فيه موسى" واصطفاه وأرسله، "وساعير هو الجبل الذي كلم الله في عيسى" بمعنى أنزل عليه الإنجيل ونبأه فيه، كما يأتي عن ابن قتيبة، لا أنه كلمه فيه، ككلامه لموسى في الجبل، كما يوهمه هذا الكلام وعبارة البشر، وساعير جبل بالشام، منه ظهرت نبوة المسيح، وإليه بشير قوله: "فظهرت فيه نبوته، وجبال فاران" الإضافة من إضافة الكل إلى الجزء، كأن هذه الجبال اشتهرت بذلك، وإلا فلا معنى للإضافة هنا، مع أن فاران أحدها، "وهو اسم عبراني" "بكسر العين المهملة" نسبة إلى العبرانية، وهي لغة اليهود "وليست ألفه الأولى"، التالية للفاء "همزة، هي جبال بني هاشم التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحنث" "بفتح التحتية والفوقية والحاء المهملة والنون الثقيلة ثم مثلثة، يتعبد الليالي ذوات العدد "في أحدها، وفيه فاتحة الوحي" ابتداء إنزاله عليه، فهو جبل حراء، "وهو أحد ثلاثة جبال، أحدها أبو قيس" "بضم القاف وفتح الباء" "والمقابل له قعيقعان" "بقافين بعد كل عين مهملة، وبعد الأولى تحتية، آخره نون بعد ألف" بصيغة التصغير، جبل يشرف على الحرم من جهة(8/418)
الشرقي فاران، ومنفتحه الذي يلي قعيقعان إلى بطن الوادي، وهو شعب بني هاشم، وفيه مولده صلى الله عليه وسلم على أحد الأقوال.
قال ابن قتيبة: وليس بهذا غموض؛ لأن تجلي الله من سينا، إنزاله التوراة على موسى بطور سيناء، ويجب أن يكون إشراقه من "ساعير" إنزاله على المسيح الإنجيل، وكان المسيح يسكن من ساعير أرض الخليل، بقرية تدعى ناصرة، وباسمها تسمى من اتبعه نصارى، فكما وجب أن يكون إشراقه من ساعير إنزاله على المسيح الإنجيل فكذلك يجب أن يكون استعلانه من جبال فاران إنزاله القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم، وهي جبال مكة، وليس بين المسلمين وأهل الكتاب في
__________
الغرب "إلى بطن الوادي، والثالث: الشرقي فاران" المعروف بحراء، "ومنفتحه" بميم فنون ففاء ففوقية فمهملة فهاء، أي: المحل الذي يصعد منه إليه، ويهبط "الذي يلي قعيقعان إلى بطن الوادي، وهو شعب بني هاشم، وفيه مولده صلى الله عليه وسلم على أحد الأقوال" والثاني: بردم بني جمح بمكة، والثالث: بزقاق المدكك بمكة، والرابع: وهو شاذ، أنه ولد بعسفان، والصحيح الذي عليه الجمهور؛ أنه ولد بمكة، واختلف في عين المحل على الأقوال الثلاثة، "قال ابن قتيبة: وليس بهذا غموض" "بمعجمتين أوله وآخره"، أي: خفاء؛ "لأن تجلي الله من سينا إنزاله التوراة على موسى بطور سينا"، قال: في الأنوار جبل موسى بين مصر وأيلة، وقيل: بفلسطين، وقد يقال له طور سينين، ولا يخلو أن يكون الطور اسمًا للجبل، وسينا اسم بقعة أضيف إليها، أو المركب منها علم له، كامرئ القيس، ومنع صرفه للتعريف والعجمة، أو التأنيث على تأويل البقعة لا للألف؛ لأنه فيعال، كديماس من السنا بالمد، وهو الرفعة، وبالقصر، وهو النور، "ويجب أن يكون إشراقه من ساعير إنزاله على المسيح الإنجيل، وكان المسيح يسكن من ساعير أرض الخليل" إبراهيم، "بقرية تدعى" تسمى "ناصرة" وبها ولد على ما في البشر، "باسمها تسمى من اتبعه نصارى" جمع نصران، كندامى: جمع ندمان، "فكما وجب أن يكون إشراقه من ساعير إنزاله على المسيح" الإنجيل والنبوة، "فكذلك يجب أن يكون استعلانه من جبال فاران إنزاله القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم، وهي جبال مكة" الثلاثة المتقدمة، "وليس بين المسلمين وأهل الكتاب في ذلك اختلاف في أن فاران هي مكة" بدل من قوله في ذلك لبيان اسم الإشارة، لكن هذا يخالف ما قدمه أن فاران ليس مكة، بل جبل من جبالها إلا أن يقال: هو اسم للجبل وسميت مكة باسمه لقربها منه، وفي البشر، وفاران هي مكة، لا يخالف في ذلك أحد من أهل الكتاب، وفي التوراة: وربي، أي: إسماعيل في برية فاران، فمكة هي منشأ(8/419)
ذلك اختلاف في أن فاران هي مكة.
وإن ادعى أنها غير مكة قلنا: أليس في التوراة: إن الله أسكن هاجر وإسماعيل فاران؟ وقلنا: دلونا على الموضع الذي استعلن الله منه واسمه فاران، والنبي الذي أنزل عليه كتاب بعد المسيح، أوليس "استعلن" و "علن" بمعنى واحد، وهو ما ظهر وانكشف. فهل تعلمون دينًا ظهر ظهور الإسلام، وفشا في مشارق الأرض ومغاربها فشوه.
وفي التوراة أيضًا -مما ذكره ابن ظفر- خطابًا لموسى، والمراد به الذين اختارهم لميقات ربه الذين أخذتهم الرجفة خصوصًا، ثم بني إسرائيل عمومًا: والله ربك يقيم نبيًا من إخوتك، فاستمع له كالذي سمعت ربك في حوريت يوم الاجتماع حين قلت: لا أعود أسمع صوت الله ربي لئلا أموت، فقال الله تعالى:
__________
إسماعيل وحيث ربي، وفي جبال فاران أوحى الله إلى محمد صلى الله عليه وسلم، "وإن ادعى"، عن معاند "إنها غير مكة، قلنا: أليس في التوراة إن الله أسكن هاجر وإسماعيل فاران" فإن قالوا: بلى، طلبنا منهم تعيين ذلك المحل، "وقلنا" لهم: "دلونا على الموضع الذي استعلن الله"، أي: أظهر النبوة "منه، واسمه فاران، والنبي الذي أنزل عليه كتاب بعد المسيح" ابن مريم، "أو ليس استعلن وعلن بمعنى واحد"، وسين الأول للتأكيد، "وهو ما ظهر وانكشف، فهل تعلمون دينًا ظهر ظهور الإسلام، وفشا في مشارق الأرض ومغاربها فشوه" أيك انتشر واتسع، وبهذا غاير: ظهر، "وفي التوراة أيضًا مما ذكره ابن ظفر" في الصنف الذي لاينكر أهل الكتاب مجيئه في التوراة، "خطابًا لموسى، والمراد به" أي: الخطاب، "الذين اختارهم" موسى ممن لم يعبد العجل "لميقات ربه" بأمره، أي: للوقت الذي وعده بإتيانهم فيه ليعتذروا من عبادة أصحابهم العجل، "الذين أخذتهم الرجفة" الزلزلة الشديدة.
قال ابن عباس: لأنهم لم يزايلوا قومهم حين عبدوا العجل، قال: وهو غير الذين سألوا الرؤية وأخذتهم الصاعقة "خصوصًا، ثم" خاطب "بني إسرائيل عمومًا، والله ربك يقيم نبينا من أخوتك، فاستمع له" ما يخاطبه قومه تعنتًا، كما قال تعالى: إخبارًا عنهم {وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ} [البقرة: 118] ، أي: هلا يكلمنا كما يكلم الملائكة، أو يوحي إلينا أنك رسوله، أو تأتينا آية حجة على صدقه، والأول استكبار، والثاني جحود، كما في الأنوار، فهو تسلية لموسى عليه السلام، "كالذي سمعت ربك في حوريث" "بحاء مهملة أوله وفوقية آخره".
قال في القاموس: موضع ولا نظير لها، أي: لهذه الكلمة "يوم الاجتماع حين قلت: لا أعود(8/420)
نعم ما قالوا: وسأقيم لهم نبيًا مثلك من إخوتهم، وأجعل كلامي في فمه لهم كل شيء أمرته به، وأيما رجل لم يطع من تكلم باسمي فإني أنتقم منه.
قال: وفي هذا الكلام أدلة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم:
فقوله: "نبيًا من إخوتهم"، وموسى وقومه من بني إسحاق، وإخوتهم من بني إسماعيل، ولو كان هذا النبي الموعود به من بني إسحاق لكان من أنفسهم لا من إخوتهم.
وأما قوله: "نبيًا مثلك" وقد قال في التوراة: لا يقوم في بني إسرائيل أحد مثل موسى، وفي ترجمة أخرى، مثل موسى لا يقوم في بني إسرائيل أبدًا. فذهبت اليهود إلى أن هذا النبي الموعود به هو يوشع بن نون، وذلك باطل؛ لأن يوشع لم يكن كفؤًا لموسى عليه السلام، بل كان خادمًا له في حياته، ومؤكدًا لدعوته بعد
__________
أسمع صوت الله ربي لئلا أموت، فقال الله تعالى: نعم، ما قالوا، وسأقيم لهم نبيًا مثلك من أخوتهم واجعل كلامي في فمه، لهم كل شيء أمرته".
وفي نسخة: آمره "به، وأيما رجل لم يطع من تكلم باسمي، فإني أنتقم منه" وجوز شيخنا في التقرير، أن يكون هذا من باب، {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّين} ، أي: استمتع له إذا وجد وأنت حي، كسماعك لربك، وهذا بعيد جدًا، ولذا لم يذكره في الشرح.
"قال" ابن ظفر: "وفي هذا الكلام أدلة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم" من ثلاثة أوجه بينها، فقال: "فقوله" لفظه منها قوله: "نبينا من أخوتهم، وموسى وقومه من بني إسحاق، وإخوتهم من بني إسماعيل، ولو كان هذا النبي الموعود به من بني إسحاق لكان من أنفسهم لا من أخوتهم" كما قال عز وجل إخبارًا بدعوة إبراهيم لولد إسماعيل: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ} ، وكما قال سبحانه مخاطبًا لعرب {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُم} ، هذا تركه المصنف من كلام ابن ظفر، "وأما" لفظه، ومنها "قوله: نبيًا مثلك، وقد قال في التوراة: لا يقوم في بني إسرائيل أحد مثل موسى" من أنفسهم، فلا ينافي أنه قام فيهم مثل موسى، بل أجل، وهو محمد عليه السلام لعموم دعوته؛ لأنه من بني إسماعيل أخوتهم لا من أنفسهم، فلا خلف بين هذا وقول التوراة السابق، وسأقيم لهم نبيًا مثلك.
"وفي ترجمة أخرى مثل موسى لا يقوم في بني إسرائيل أبدًا" من أنفسهم، "فذهبت اليهود إلى أن هذا النبي الموعود به هو يوشع بن نون، وذلك باطل؛ لأن يوشع لم يكن كفؤًا لموسى عليه السلام، بل كان خادمًا له في حياته، ومؤكدًا لدعوته" وداعيًا إليها "بعد(8/421)
وفاته، فتعين أن يكون المراد به محمدًا صلى الله عليه وسلم فإنه كفؤ موسى؛ لأنه يماثله في نصب الدعوة، والتحدي بالمعجزة، وشرع الأحكام، وإجراء النسخ على الشرائع السالفة.
وقوله تعالى: "اجعل كلامي في فمه" فإنه واضح في أن المقصود به محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأن معناه أوحي إليه بكلامي، فينطق به على نحو ما سمعه، ولا أنزل صحفًا ولا ألواحًا؛ لأنه أمي، لا يحسن أن يقرأ المكتوب.
وفي الإنجيل -مما ذكره ابن طغر بك في "الدر المنتظم" قال يوحنا في إنجيله عن المسيح أنه قال: أنا أطلب لكم من الأب أن يعطيكم "فار قليط" آخر يثبت
__________
وفاته، فتعين أن يكون المراد به محمدًا صلى الله عليه وسلم فإنه كفؤ موسى؛ لأنه يماثله في نصب الدعوة، والتحدي بالمعجزة، وشرع الأحكام"، أي: إظهارها والمجيء بها، وإن كان أصلها من الله، "وإجراء النسخ على الشرائع السالفة و" منها "قوله تعالى: "اجعل كلامي في فمه" فإنه واضح في أن المقصود به محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأن معناه أوحي إليه بكلامي، فينطق به على نحو" زائدة لم تقع في ابن ظفر، إنما قال على "ما سمعه، ولا أنزل صحفًا ولا ألواحًا" كما أنزلت عليك يا موسى؛ "لأنه أمي، لا يحسن أن يقرأ المكتوب" مدة حياته.
وبقية كلام ابن ظفر، وقوله: أيما رجل لم يطع من تكلم باسمي، فإني أنتقم منه، دليل على كذب اليهود في قولهم: إن الله أمرنا بمعصية كل نبي دعانا إلى دين يتضمن نسخًا لبعض ما شرعه موسى، هكذا مع قطعنا أنهم يكتمون الحق وهم يعلمون، وأنهم يحرفون الكلم عن مواضعه، فإن أهل الكتابين عرفوا محمدًا صلى الله عليه وسلم، كما عرفوا أبناءهم، وجدوه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل، وإنما يذكر ما أظهروه، ورضوا التفسير له بما حكيناه عن تراجمهم، بلفظهم الذي اختاروه وأثبتوه في كتبهم، ليكون ذلك أقطع لعذرهم، وأحسم لروغانهم، وقد صح أنه صلى الله عليه وسلم أتى اليهود، فقال: أخرجوا إلى أعلمكم، فأخرجوا إليه عبد الله بن صوريا الأعور، فقال له صلى الله عليه وسلم: "أنشدك الله الذي أطعم أسباطكم المن والسلوى، وظلل عليهم الغمام، أتعلم أني رسول الله"، فقال ابن صوريا: اللهم نعم، وإن القوم ليعرفون من هذا ما أعرف، وإن نعتك لبين عندهم، ولكن القوم حسدوك؛ لأنك عربي، قال: فأسلم، قال: إني أكره خلاف قومي، وعسى أن يسلموا فأسلم، انتهى.
"وفي الإنجيل -مما ذكره ابن طغر بك" "بضم الطاء المهملة وسكون المعجمة وضم الراء وفتح الموحدة"، ثم كاف علم مركب عن طغرو بك الإمام، العلامة، المحدث سيف الدين عمر بن أيوب الحميري، التركماني، الدمشقي، الحنفي "في" كتاب "الدر المنتظم" في مولد النبي صلى الله عليه وسلم "قال يوحنا في إنجيله" أضافه إليه؛ لأن عيسى لم تظهر دعوته في عصره، وإنما(8/422)
معكم إلى الأبد، روح الحق الذي لن يطيق العالم أن يقتلوه.
وهو عند ابن ظفر بلفظ: إن أحببتموني فاحفظوا وصيتي، وأنا أطلب إلى أبي فيعطيكم "فار قليط" آخر يكون معكم الدهر كله.
قال: فهذا تصريح بأن الله تعالى سيبعث إليهم من يقوم مقامه، وينوب عنه في تبليغ رسالة ربه وسياسة خلقه منا به، وتكون شريعته باقية مخلفة أبدًا، فهل هذا إلا محمد صلى الله عليه وسلم؟ انتهى.
ولم يذكر فصول "الفارقليط" -كما أفاده ابن طغر بك- سوى يوحنا، دون غيره من نقلة الإنجيل.
وقد اختلف النصارى في تفسير "الفارقليط".
فقيل هو: الحامد، وقيل: هو المخلص.
__________
أخذ الإنجيل عنه أربعة من الحواريين متى ويوحنا وقيسر ولوقا، فتكلم كل واحد من هؤلاء بعبارة لملاءمة الذين تبعوا دعاءهم، ولذا اختلفت الأناجيل الأربعة اختلافًا شديدًا، قاله في المنتقى "عن المسيح أنه قال: أنا أطلب لكم من الأب أن يعطيكم فارقليط".
قال المصنف في المقصد الثاني: وأما البارقليط والفارقليط "بالموحدة وبالفاء بدلها وفتح الراء والقاف وبسكون الراء مع فتح القاف" وبفتح الراء مع سكون القاف وبكسر الراء وسكون القاف غير منصرف للعلمية والعجمة، "آخر يثبت معكم إلى الأبد" آخر الدهر، ببقاء دينه إلى القيامة، "روح الحق" أضافه إليه ليميز روحه عن سائر المخلوقات بما خصه الله به من الكمالات، "الذي لن يطيق العالم أن يقتلوه" وإن أراد بعضهم ذلك، "وهو عند ابن ظفر" في البشر "بلفظ"، ومما ترجموه في الإنجيل؛ أن عيسى قال: "إن أجبتموني فاحفظوا وصيتي، وأنا أطلب إلى أبي" أي: ربي، كما يأتي "فيعطيكم فارقليط آخر، يكون معكم الدهر كله" ببقاء شريعته إلى انقضاء الدهر.
"قال" ابن ظفر: "فهذا تصريح بأن الله سيبعث إليهم من يقوم مقامه"، أي: عيسى، "وينوب عنه في تبليغ رسالة ربه وسياسة خلقه منا به، وتكون شريعته باقية مخلدة أبدًا" إلى يوم القيامة، كما هو مفاد قوله الدهر كله، "فهل هذا إلا محمد صلى الله عليه وسلم" صاحب النبوة الخاتمة. "انتهى، ولم يذكر فصول" أي: أنواع المسائل التي ذكر فيها "الفارقليط، كما أفاده ابن طغر بك سوى يوحنا دون غيره، من نقلة الإنجيل" ومن حفظ حجة.
"وقد اختلف النصارى في تفسير الفارقليط" قال ابن ظفر: والذي صح عندي من ذلك عنهم؛ أنه الحكيم الذي يعرف السر، "فقيل: هو الحامد، وقيل: هو المخلص" "بشد اللام(8/423)
فإن وافقناهم على أنه المخلص أفضى بنا الأمر إلى أن المخلص رسول يأتي لخلاص العالم، وذلك من غرضنا؛ لأن كل نبي مخلص لأمته من الكفر، ويشهد له قول المسيح في الإنجيل: إني جئت لخلاص العالم، فإذا ثبت أن المسيح هو الذي وصف نفسه بأنه مخلص العالم، وهو الذي سأل الأب أن يعطيهم "فارقليط" آخر، ففي مقتضى اللفظ ما يدل على أنه قد تقدم فارقليط أول حتى يأتي فارقليط آخر.
وإن تنزلنا معهم على القول بأنه: الحامد، فأي لفظ أقرب إلى أحمد ومحمد من هذا.
قال ابن ظفر: وفي الإنجيل -مما ترجموه- ما يدل على أن الفارقليط: الرسول، فإنه قال: إن هذا الكلام الذي يسمعونه ليس هو لي، بل الأب الذي أرسلني بهذا الكلام لكم، وأما "البارقليط" روح القدس الذي يرسله أبي باسمي، فهو يعلمكم كل شيء، وهو يذكركم كل ما قلته لكم.
فهل بعد هذا بيان؟ أليس هذا صريحًا في أن "الفارقليط" رسول يرسله الله
__________
اسم فاعل"، "فإن وافقناهم على أنه المخلص أفضى بنا الأمر إلى أن المخلص رسول يأتي لخلاص العالم" من الهلاك، بإخراجهم من الكفر إلى الإيمان، "وذلك من غرضنا؛ لأن كل نبي مخلص لأمته من الكفر، ويشهد له قول المسيح في الإنجيل: إني جئت لخلاص العالم، فإذا ثبت أن المسيح هو الذي وصف نفسه بأنه مخلص العالم، وهو الذي سأل الأب أن يعطيهم "فارقليط" آخر، ففي مقتضى اللفظ ما يدل على أنه قد تقدم فارقليط أول حتى يأتي فارقليط آخر" وهو محمد صلى الله عليه وسلم، "وإن" "بكسر فسكون شرطية" "تنزلنا معهم" ووافقناهم "على القول بأنه: الحامد" وجواب الشرط هو: "فأي لفظ أقرب إلى أحمد ومحمد من هذا" الذي هو الحامد.
"قال ابن ظفر" محمد في البشر: "وفي الإنجيل -مما ترجموه- ما يدل على أن الفارقليط: الرسول، فإنه قال: إن هذا الكلام الذي يسمعونه ليس هو لي، بل الأب" أي: الرب "الذي أرسلني بهذا الكلام لكم" لفظ ابن ظفر: كلمكم بهذا وأنا معكم، "وأما البارقليط" روح القدس، الذي يرسله أبي باسمي، فهو يعلمكم كل شيء، وهو يذكركم" "بالتثقيل" "كل ما قلته لكم" لفظه جميع ما أقول لكم، فهذا يفهم منه أن الفارقليط الرسول، "فهل بعد هذا بيان؟ أليس هذا صريحًا في أن "الفارقليط رسول يرسله الله تعالى، وهو روح(8/424)
تعالى، وهو روح القدس، وهو يصدق بالمسيح، ويظهر اسمه أنه رسول حق من الله، وليس بإله، وهو يعلم الخلق كل شيء، ويذكرهم كل ما قاله المسيح عليه السلام، وكل ما أمرهم به من توحيد الله.
وأما قوله: "أبي" فهذه اللفظة مبدلة محرفة. وليست منكرة الاستعمال عند أهل الكتابين، إشارة إلى الرب سبحانه وتعالى؛ لأنها عندهم لفظة تعظيم، يخاطب بها المتعلم معلمه الذي يستمد منه العلم. ومن المشهور مخاطبة النصارى عظماء دينهم بالآباء الروحانية، ولم عتزل بنو إسرائيل وبنو عيصو يقولون: نحن أبناء الله بسوء فهمهم عن الله تعالى.
وأما قوله: "يرسله أبي باسمي" فهو إشارة إلى شهادة المصطفى له بالصدق والرسالة، وما تضمنه القرآن من مدحه عما افتري في أمره.
__________
القدس، وهو يصدق" بشد الدال المكسورة "بالمسيح، ويظهر اسمه أنه رسول حق من الله" وعبده "وليس بإله"، كما زعموا فضلوا، "وهو يعلم الخلق كل شيء، ويذكرهم كل ما"، أي: شيء "قاله" لهم "المسيح عليه السلام، وكل ما أمرهم به" المسيح "من توحيد الله" بنحو قوله: {اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [المائدة: 72] ، فهل جاء بهذا إلا محمد صلى الله عليه وسلم.
"وأما قوله: "أبي" فهذه اللفظة مبدلة محرفة، و" ومع ذلك "ليست منكرة الاستعمال عند أهل الكتابين" يقولها المتكلم "إشارة إلى الرب سبحانه وتعالى؛ لأنها عندهم لفظة تعظيم، يخاطب بها المتعلم معلمه الذي يستمد منه العلم" وهو شيخه، "ومن المشهور مخاطبة النصارى عظماء دينهم بالآباء الروحانية" "بضم الراء"، "ولم عتزل بنو إسرائيل" يعقوب "وبنو" "عيصو" "بكسر العين المهملة وإسكان الياء ومهملة" "يقولون: نحن أبناء الله بسوء فهمهم عن الله تعالى".
زاد ابن ظفر: واختلال بصائرهم في التلقي عن أنبيائه، وقد قرأت في التوراة مما أساؤوا الترجمة عنه، فنظر الرب وسخط حين أغضبه بنوه وبناته، وقال: سأعرض بوجهي عنهم، وأنظر إلى ما يصير عاقبتهم؛ لأنهم خلف أعوج، أبناء ليس لهم إيمان.
"وأما قوله يرسله أبي باسمي" فهو إشارة إلى شهادة المصطفى له" لعيسى، "بالصدق والرسالة، وما تضمنه القرآن من مدحه" وتنزيهه "عما افترى في أمره" لفظ ابن ظفر، عما افتراه في أمره اليهود، وعبارة المصنف أشمل.(8/425)
وفي ترجمة أخرى للإنجيل، أنه قال: "الفارقليط" إذا جاء وبخ العالم على الخطيئة، ولا يقول من تلقاء نفسه، ما يسمع يكلمهم به، ويسوسهم بالحق، ويخبرهم بالحوادث.
وهو عند ابن طغر بك بلفظ: فإذا جاء روح الحق، ليس ينطق من عنده، بل يتكلم بل ما يسمع من الله، ويخبرهم بما يأتي، وهو يمجدني؛ لأنه يأخذ مما هو لي ويخبركم.
فقوله: "ليس ينطق من عنده" وفي الرواية الأخرى: "ولا يقول من تلقاء نفسه بل يتكلم بكل ما يسمع" أي: من الله الذي أرسله، وهذا كما قال تعالى في صفته صلى الله عليه وسلم: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3] .
وقوله: "وهو يمجدني" فلم يمجده حق تمجيده إلا محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنه وصفه بأنه رسول الله، وبرأه وبرأ أمه -عليهما السلام- مما نسب إليهما، وأمر أمته بذلك.
قال ابن ظفر: فمن ذا الذي وبخ العلماء على كتمان الحق، وتحريف الكلم
__________
"وفي ترجمة أخرى للإنجيل أنه قال: الفارقليط إذا جاء وبخ العالم على الخطيئة، ولا يقول من تلقاء نفسه" واستأنف قوله "ما" أي: الذي "يسمع" من ربه بواسطة الوحي في أغلب الأحوال هو الذي "يكلمهم به ويسوسهم" يدبرهم ويقوم بأمرهم "بالحق، ويخبرهم بالحوادث" والغيوب التي كانت وتكون إلى يوم القيامة، "وهو عند ابن طغر بك، بلفظ: فإذا جاء روح الحق ليس ينطق من عنده"، بجر الظرف بمن، "بل يتكلم بكل ما يسمع" أي: "يسمعه "من الله" بالوحي، "ويخبرهم بما يأتي وهو يمجدني؛ لأنه يأخذ مما هو لي ويخبركم، فقوله: ليس ينطق من عنده" مبتدأ وعطف عليه قوله.
"وفي رواية الأخرى" التي فوق هذه، "ولا يقول من تلقاء نفسه، بل يتكلم بكل ما يسمع من الله الذي أرسله، وهذا كما قال تعالى" في القرآن "في صفته صلى الله عليه وسلم {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} هوى نفسه {إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} جملة معترضة لبيان أن ما في الإنجيل موافق للقرآن وعطف على المبتدأ أيضًا، فقال: "وقوله: وهو يمجدني" وحذف الخبر، وهو دليل على أن المقول فيه ذلك هو محمد صلى الله عليه وسلم، وعلل هذا الخبر المقدر، بقوله: "فلم يمجده حق تمجيده إلا" بمعنى غير "محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنه وصفه بأنه رسول الله، وبرأه وبرأ أمه" مريم "عليهما السلام مما نسب إليهما، وأمر أمته بذلك".
قال ابن ظفر" محمد في البشر، "فمن ذا الذي وبخ العلماء على كتمان الحق(8/426)
عن مواضعه، وبيع الدين بالثمن البخس، من ذا الذي أنذر بالحوادث وأخبر بالغيوب إلا محمد صلى الله عليه وسلم، ولله در أبي محمد عبد الله الشقراطسي حيث قال في قصيدته المشهورة:
توراة موسى أتت عنه فصدقها ... إنجيل عيسى بحق غير مفتعل
أخبار أحبار تلك الكتب قد وردت ... عما رأوا ورووا في الأعصر الأول
ويعجبني قول العارف الرباني أبي عبد الله بن النعمان حيث قال:
هذا النبي محمد جاءت له ... توراة موسى للأنام تبشر
وكذاك إنجيل المسيح موافق ... ذكرًا لأحمد معرب ومذكر
ويرحم الله ابن جابر محمدًا حيث قال:
لمبعثه في كل جيل علامة ... على ما جلته الكتب من أمره الجلي
فجاء به إنجيل عيسى بآخر ... كما قد مضت توراة موسى بأول
__________
وتحريف الكلم عن مواضعه، وبيع الدين بالثمن البخس" من عرض الدنيا، وانتصابهم أربابًا من دون الله، "ومن ذا الذي أنذر بالحوادث وأخبر بالغيوب إلا محمد صلى الله عليه وسلم" فوقعت كما قال: وما لم يقع لا بد من وقوعه، كما قال: "ولله در أبي محمد عبد الله الشقراطسي حيث قال في قصيدته" اللامية "المشهورة":
توراة موسى أتت عنه فصدقها ... إنجيل عيسى بحق غير مفتعل
أخبار أحبار تلك الكتب قد وردت ... عما رأوا ورووا في الأعصر الأول
ويعجبني قول العارف الرباني أبي عبد الله بن النعمام حيث قال:
هذا النبي محمد جاءت له ... توراة موسى للأنام تبشر
وكذاك إنجيل المسيح موافق ... ذكرًا لأحمد معرب ومذكر
ويرحم الله ابن جابر محمدًا حيث قال:
لمبعثه في كل جيل علامة ... على ما جلته الكتب من أمره الجلي
فجاء به إنجيل عيسى بآخر ... كما قد مضت توراة موسى بأول
والأبيات الستة غنية عن الشرح، وقد اعترض على المصنف وغيره ممن أكثر النقل عن التوراة والإنجيل وغيرهما من الكتب المنسوخة، فالاشتغال بها ينافي الغرض من نسخها، وقد حرم الفقهاء قراءتها والنظر فيها، وأنها محرفة مبدلة، ثم اختلفوا هل التحريف بالزيادة والنقص بتأويلها وتفسيرها بغير المراد منها، وأجيب؛ أنه لا مانع من قراءتها للعارف الفطن لمعرفة(8/427)
وفي الدلائل للبيهقي عن الحاكم -بسند لا بأس به- عن أبي أمامة الباهلي عن هشام بن العاص الأموي قال: بعثت أنا ورجل آخر إلى هرقل صاحب الروم ندعوه إلى الإسلام، فذكر الحديث، وأنه أرسل إليهم ليلًا، قال: فدخلنا عليه، فدعا بشيء كهيئة الربعة العظيمة مذهبة فيها بيوت صغار عليها أبواب، ففتح واستخرج حريرة سوداء، فنشرها فإذا فيها صورة حمراء، وإذا رجل ضخم العينين عظيم الأليتين، لم أر مثل طول عنقه، وإذا له ضفيرتان أحسن ما خلق الله تعالى، قال: أتعرفون هذا؟ قلنا: لا قال: هذا آدم عليه السلام، ثم فتح بابًا آخر فاستخرج حريرة سوداء، وإذا فيها صورة بيضاء، فإذا رجل أحمر العينين ضخم الهامة حسن اللحية، فقال: أتعرفون هذا؟ قلنا: لا، قال: هذا نوح عليه السلام، ثم فتح بابًا آخر
__________
النبي صلى الله عليه وسلم فيها، ولا لزامهم بما أنكروه وكيف يحرم لمثل هذا.
وقد قال تعالى: {قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا} [المائدة: 43] ، ووقع في أحاديث النقل عنها وقال التجاني في شرح الشفاء: إذا وجد فيها ما يقوم النظر على عدم تبديله، وأفاد النظر فيه مقصدًا شرعيًا، فلا يبعد أن يباح النظر فيه والاشتغال به.
"وفي الدلائل للبيهقي عن" شيخه "الحاكم" أبي عبد الله، المشهور "بسند لا بأس به عن أبي أمامة الباهلي"، صدى بالتصغير ابن عجلان، الصحابي، المشهور، سكن الشام ومات بها سنة ست وثمانين، "عن هشام بن العاص الأموي" "بضم الهمزة" نسبة إلى أمية على القياس، وبفتحها على خلافه، وهو الأشهر عندهم، تقدم مرارًا، "قال: بعثت أنا ورجل آخر" من قريش، كما في نفس رواية البيهقي، أي: في زمن الصديق "إلى هرقل" "بكسر الهاء وإسكان الراء وفتح القاف" على المشهور "صاحب الروم ندعوه إلى الإسلام، فذكر الحديث" وهو فنزلنا على جملة فدعوناه إلى الإسلام فإذا عليه ثياب سود، فسألناه عن ذلك، قال: حلفت أن لا أنزعها حتى أخرجكم من الشام، فقلنا له: والله لنأخذن مجلسك هذا، ولنأخذن ملك الملك الأعظم، أخبرنا بهذا نبينا، قال: لستم بهم، ثم ذكر قصة دخولهم على هرقل، "وأنه أرسل إليهم ليلًا" واستخلى بهم "قال: فدخلنا عليه، فدعا بشيء كهيئة الربعة العظيمة مذهبة فيها بيوت صغار عليها أبواب، ففتح واستخرج" أي: أخرج "حريرة سوداء، فنشرها فإذا فيها صورة حمراء، وإذا رجل" أي: وإذا تلك الصورة صورة رجل، "ضخم العينين عظيم الأليتين، لم أر مثل طول عنقه، وإذا له ضفيرتان" "بالضاد المعجمة" خصلتان من الشعر، "أحسن ما خلق الله تعالى، قال: أتعرفون هذا؟، قلنا: لا، قال: هذا آدم عليه السلام، ثم فتح بابًا آخر،(8/428)
وأخرج حريرة فإذا فيها صورة بيضاء، وإذا فيها -والله- رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أتعرفون هذا؟ قلنا: نعم، محمد رسول الله ونبينا، والله إنه قام قائمًا ثم جلس وقال: إنه لهو؟ قلنا: نعم إنه لهو كأنك تنظر إليه، فأمسك ساعة ينظر إليها، ثم قال: أما والله إنه لآخر البيوت، ولكن عجلته لكم لأنظر ما عندكم. الحديث، وفيه ذكر صور الأنبياء: إبراهيم وموسى وعيسى وسليمان وغيرهم. قال: فقلنا له: من أين لك هذه الصور؟ فقال: إن آدم سأل ربه أن يريه الأنبياء من ولده فأنزل عليه صورهم، فكان في خزانة آدم عند مغرب الشمس، فاستخرجها ذو القرنين من مغرب الشمس فدفعها إلى دانيال.
__________
فاستخرج حريرة سوداء، وإذا فيها صورة بيضاء، فإذا رجل أحمر العينين ضخم الهامة" عظيم الرأس، "حسن اللحية، فقال: أتعرفون هذا؟ قلنا: لا، قال: هذا نوح عليه السلام، ثم فتح بابًا آخر وأخرج حريرة، فإذا فيها صورة بيضاء، وإذا فيها -والله- رسول الله صلى الله عليه
وسلم، فقال: أتعرفون هذا"؟ أسقط من رواية البيهقي، فبكينا، "قلنا: نعم، محمد رسول الله ونبينا، والله إنه" أي: هرقل "قام قائمًا، ثم جلس" تعظيمًا لصورته، "وقال: إنه لهو؟ قلنا: نعم، إنه لهو كأنك تنظر إليه، فأمسك ساعة" مدة من الزمن "ينظر إليها، ثم قال: أما" بالفتح والتخفيف، "والله إنه لآخر البيوت، ولكن عجلته لكم لأنظر ما عندكم" من العلم بنبيكم "الحديث، وفيه ذكر صور الأنبياء: إبراهيم وموسى وعيسى وسليمان وغيرهم".
"قال: فقلنا له: من أين لك هذه الصور؟ فقال: إن آدم سأل ربه أن يريه الأنبياء من ولده فأنزل عليه صورهم" إجابة لسؤاله، "فكان في خزانة آدم" أي: ذلك المنزل من صورهم مع صورة آدم "عند مغرب الشمس، فاستخرجها ذو القرنين من مغرب الشمس
فدفعها إلى دانيال" النبي عليه السلام، ثم تنقلت إلى أن وصلت إلى هرقل.
وفي بقية خبر البيهقي: ثم قال هرقل، لو طابت نفسي بالخروج من ملكي لوددت أني كنت عبدًا لأميركم حتى أموت، قال: فلما رجعنا حدثنا أبا بكر، فبكى، ثم قال: لو أراد الله به خيرًا لفعل، ثم قال: أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم واليهود يعرفون نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال في الإصابة: وقد تقدم فيترجمة عدي بن كعب نحو هذه القصة، لكن فيها أنه هشام بن العاصي السهمي، فالله أعلم، وقال فيما تقدم: لا أعرف نسب عدي بن كعب، روى المعافى في الجليس عن عبادة بن الصامت، قال: بعثني أبو بكر ومعي عمرو بن العاصي وأخوه هشام بن العاصي وعدي بن كعب ونعيم بن عبد الله إلى ملك الروم، فدخلنا على جبلة، فذكر قصة طويلة نحو ورقتين، وإسناده ضعيف.(8/429)
وفي زبور داود عليه السلام، من مزمور أربعة وأربعين: فاضت النغمة من شفتيك، من أجل هذا باركك الله إلى الأبد، تقلد أيها الجبار سيفك، فإن شرائعك وسنتك مقرونة بهيبة يمينك، وسهامك مسنونة، وجميع الأمم يخرون تحتك.
فهذا المزمور ينوه بمحمد صلى الله عليه وسلم، فالنعمة التي فاضت من شفتيه هي القول الذي يقوله، وهو الكتاب الذي أنزل عليه والسنة التي سنها.
وفي قوله: "تقلد سيفك أيها الجبار" دلالة على أنه النبي العربي، إذ ليس يتقلد السيف أمة من الأمم إلا العرب، وكلهم يتقدلونها على عواتقهم.
__________
وقد أخرجها البيهقي عن هشام بن العاصي الأموي، "وفي زبور داود عليه السلام من مزمور": مفرد مزامير، كمزمار "أربعة وأربعين" أي: المتمم لها، وهي ما كان يتغنى به من الزبور وضروب الدعاء، "فاضت النغمة من شفتيك، من أجل هذا باركك" أي: جعلك "الله" مباركًا، وفي ابن ظفر، عن الزبور مخاطبًا المصطفى لتنزيله منزلة الموجود، لتحققه عنده: فاضت الرحمة على شفتيك من أجل ذلك أبارك عليك "إلى الأبد تقلد" أمر "أيها الجبار" من أسمائه صلى الله عليه وسلم، لجبره الخلق على الحق وصرفهم عن الكفر، أو لإصلاحه أمته بالهداية والتعليم، أو لقهر أعدائه، أو لعلو منزلته على الخلق وعظيم خطره، ونفى تعالى عنه جبرية التكبر، فقال: وما أنت عليهم بجبار "سيفك" أي: اجعل حمائله على عاتقك، واجعله كالقلادة، وفيه إشارة إلى أنه سيؤمر بالجهاد، "فإن شرائعك": جمع شريعة "وسنتك".
كذا في النسخ، والذي قدمه المصنف في الأسماء، ومثله في الشفاء، وابن ظفر وابن دحية؛ فإن ناموسك وشرائعك، والمراد بالناموس الوحي النازل عليك، ويحتمل أن شرائع عطف تفسير، ولذا وحد الخبر في قوله: مقرونة بهيبة يمينك" أي: بالخوف من سيفك، فكنى عنه بذلك، أو تجوز باليمين عما فيه، "وسهامك مسنونة، وجمع الأمم يخرون تحتك"، باملعجمة من الخرور، وهو السقوط، أي: يخضعون ويذلون لك، "فهذا المزمور ينوه يرفع "بمحمد صلى الله عليه وسلم، فالنعة التي فاضت من شفتيه هي القول الذي يقوله، وهو الكتاب الذي أنزل عليه" أي: القرآن "والسنة التي سنها"، إذ لا ينطق عن الهوى.
"وفي قوله: تقلد سيفك أيها الجبار دلالة على أنه النبي العربي، إذ ليس يتقلد السيف أمة من الأمم إلا العرب، وكلهم يتقلدونها على عواتقهم" بخلاف غيرهم، فيجعلونها في أوساطهم.(8/430)
وفي قوله "فإن شرائعك وسنتك" نص صريح على أنه صاحب شريعة وسنة، وأنها تقوم بسيفه.
و"الجبار" الذي يجبر الخلق بالسيف على الحق ويصرفهم عن الكفر جبرًا.
وعن وهب بن منبه قال: قرأت في بعض الكتب القديمة، قال الله تبارك وتعالى: وعزتي وجلالي، لأنزلن على جبال العرب نورًا يملأ ما بين المشرق والمغرب، ولأخرجن من ولد إساعيل نبيًا عربيًا أميًا يؤمن به عدد نجوم السماء ونبات الأرض، كلهم يؤمن بي ربًا، وبه رسولًا، ويكفرون بملل آبائهم ويفرون منها، قال موسى: سبحانك وتقدمت أسماؤك، ولقد كرمت هذا النبي وشرفته، قال الله: يا موسى، إني أنتقم من عدوه في الدنيا والآخرة، وأظهر دعوته على كل دعوة، وأذل من خالف شريعته، وبالعدل زينته، وللقسط أخرجته، وعزتي لأستنقذن به أممًا
__________
"وفي قوله: فإن شرائعك وسنتك نص صريح على أنه صاحب شريعة وسنة، وأنها تقوم بسيفه" قهرًا على من خالف، "والجبار الذي يجبر الخلق بالسيف على الحق" وهو التوحيد، "ويصرفهم عن الكفر"، وهو ما خالف الإيمان والتوحيد، "جبرًا" عليهم، كما قال: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، "وعن وهب بن منبه" "بضم الميم وفتح النون وكسر الموحدة الثقيلة" ابن كامل اليماني، أبي عبد الله الأبناري "بفتح الهمزة وسكون الباء بعدها نون"، تابعي، ثقة، رواه له الشيخان وغيرهما، مات سنة بضع عشرة ومائة، "قال: قرأت في بعض الكتب القديمة، قال الله تبارك وتعالى: وعزتي وجلالي، لأنزلن على جبال العرب" أهل مكة وما حولها "نورًا يملأ ما بين المشرق والمغرب، ولأخرجن من ولد إسماعيل" بن إبراهيم "نبيًا" رسولًا، "عربيًا أميًا" لا يقرأ ولا يكتب، "يؤمن به عدد نجوم السماء ونبات الأرض، كلهم يؤمن بي ربًا، وبه رسولًا، ويكفرون بملل" "بامين: جمع ملة "آبائهم، ويفرون منها" من الفرار، أي: يهربون.
"قال موسى" بن عمران عليه السلام: "سبحانك" تنزيهًا لك عما لا يليق بك، "وتقدمت أسماؤك، ولقد كرمت": فضلت "هذا النبي وشرفته" على من سواه، "قال الله: يا موسى، إني أنتقم من عدوه": الكفار "في الدنيا"، بالقتل والأسر، والإجلاء والقحط، والسنين وغير ذلك "و" في "الآخرة" بالعذاب المخلد، "وأظهر دعوته على كل دعوة"، وسلطانه ومن اتبعه على البر والبحر، وأخرج لهم من كنوز الأرض، هذا تركه المصنف من البشر قبل قوله: "وأذل من خالف شريعته" ولو كان له سلطان، فهو أبدًا ذليل، خائف من سطوة الإسلام وعزه، "وبالعدل" الإنصاف "زينته وللقسط" أي: العدل "أخرجته" فلا يحكم ولا يأمر إلا به، "وعزتي لأستنقذن(8/431)
من النار، فتحت الدنيا بإبراهيم وأختمتها بمحمد، فمن أدركه ولم يؤمن به ولم يدخل في شريعة فهو من الله بريء. ذكر ابن ظفر وغيره.
__________
به أممًا من النار، فتحت الدنيا بإبراهيم وختمتها بمحمد"، مثل كتابه الذي يجيء به، فاعقلوه يا بني إسرائيل، كمثل السقاء المملوء لبنًا، يمخفض فيخرج زبدًا، بكتابه أختم الكتب، وبشريعته أختم الشرائع، هذا أسقطه المصنف من كتاب البشر قبل قوله: "فمن أدركه ولم يؤمن" يصدق "به" باطنًا، "ولم يدخل في شريعته" ظاهرًا، "فهو من الله بريء".
"ذكره ابن ظفر" في البشر "وغيره" وبقيته: أجعل أمته يبنون في مشارق الأرض ومغاربها مساجد، إذ ذكر اسمي فيها ذكر اسم ذلك النبي معي، لا يزول ذكره من الدنيا حتى تزول.(8/432)
النوع الخامس: في آيات تتضمن أقسامه تعالى على تحقيق رسالته
وثبوت ما أوحى إليه من آياته وعلو رتبته الرفيعة ومكانته
وهذا النوع -أعزك الله- لخصت أكثره من كتاب أقسام القرآن للإمام العلامة ابن
__________
النوع الخامس:
في آيات تتضمن أقسامه تعالى على تحقيق رسالته": ثبوتها "وثبوت ما أوحى إليه" مستفاد من سابقه؛ لأنه متى تحققت رسالته قطع بصدقه في كل ما يقول، وقد أخبر؛ بأن القرآن من الله، فيكون حقًا، لكنه أراد التنبيه على أنه أقسم عليه بخصوصه اعتناء بشأنه، وسئل ما معنى القسم منه سبحانه مع أن القصد به تحقيق الخبر وتوكيده، فإن كان لأجل المؤمن، فهو مصدق بمجرد الأخبار بلا قسم، وإن كان للكافر، فلا يفيد فيه، وأجيب بأن القرآن نزل بلغة العرب، ومن عادتها القسم إذا أرادت توكيد أمر، وأجاب القشيري؛ بأن الله أقسم لكمال الحجة وتوكيدها؛ لأن الحاكم يفصل إما بالشهادة وإما بالقسم، فذكر الله تعالى في كتابه النوعين حتى لا يبقى لهم حجة، فقال: {شْهِدُ اللَّه} ، وقال: {قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ} ، "من آياته" القرآن، وهو الظاهر من استدلاله عليه، بقوله الآتي: إنه لقرآن كريم ويحتمل ما هو أعم، ودليله {وَالنَّجْم} إلى قوله: {إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ} ، "وعلو" أي: ارتفاع "رتبته" منزلته "الرفيعة" العلية الشريفة، فهو من الوصف بالمساوي حسنه اختلاف اللفظ، وهو سائغ شائع، كقوله تعالى: {صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِم وَرَحْمَةٌ} [البقرة: 157] ، "ومكانته" أي: مرتبته المعنوية، وهي الرفعة فهو عطف تفسير والمكان معروف إذا زيدت فيه الهاء أريد به المرتبة المعنوية كالمنزل والمنزلة، "وهذا النوع أعزك الله" جملة معترضة دعائية، "لخصت أكثره من(8/432)
القيم، مع زيادات من فرائد الفوائد.
فاعلم أن الله تعالى أقسم بأمور على أمور، وإنما أقسم بنفسه الموصوفة بصفاته، وبآياته المستلزمة لذاته وصفاته، وأقسامه ببعض مخلوقاته دليل على أنه من عظيم آياته.
ثم تعالى تارة يذكر جواب القسم وهو الغالب وتارة يحذفه. وتارة يقسم على أن القرآن حق، وتارة على أن الرسول حق، وتارة على أن الجزاء والوعد
__________
كتاب أقسام القرآن للإمام العلامة ابن القيم" محمد بن أبي بكر، "مع زيادات من فرائد"، أي: نفائس "الفوائد" وغرائبها، وهي الجواهر النفيسة، فهي من إضافة الصفة للموصوف، أي: الفوائد النفيسة، كالجواهر أو حقيقية.
وإذا أردت ذلك، "فأعلم أن الله تعالى أقسم بأمور على أمور، وإنما أقسم بنفسه"، أي: بالألفاظ الدالة على ذاته، "الموصوفة بصفاته"، وذلك في سبعة مواضع من القرآن {قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَق} [يونس: 53] ، وقوله: {قُلْ بَلَى وَرَبِّي} [التغابن: 7] ، {فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُم} [مريم: 68] ، {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ} [الحجر: 92] ، {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُون} [النساء: 65] ، {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ} [الذاريات: 23] ، {فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ} [المعارج: 40] .
والباقي كله أقسم بمخلوقاته، كما قال: "و" أقسم "بآياته المستلزمة لذاته وصفاته" لدلالة إلا آيات على الصانع، وأورد: كيف أقسم بالخلق وقد ورد النهي عن القسم بغير الله أجيب؛ بأن المراد بنحو، قوله: والقلم ورب القلم.
وكذا الباقي، وبأن العرب كانت تعظم هذه الأشياء، أو تقسم بها، فنزل القرآن على ما تعرفه، وبأن الأقسام إنما يكون بما يعظمه المقسم ويجله، وهو فوقه والله تعالى ليس فوقه شيء، فأقسم تارة بنفسه وتارة بمصنوعاته؛ لأنها تدل على بارئ وصانع، "وأقسامه ببعض مخلوقاته دليل على أنه" أي: ذلك البعض "من عظيم آياته" من إضافة الصفة للموصوف.
قال ابن القيم: والقسم إما على جملة خبرية، وهو الغالب، كقوله: {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ} وأما على جملة طلبية، كقوله: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ، عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} ، مع أن هذا القسم قد يراد به تحقيق المقسم عليه، فيكون من باب الخبر، وقد يراد به تحقيق المقسم به والمقسم عليه، ويراد بالمقسم توكيده وتحقيقه، "ثم تعالى تارة بذكر جواب القسم، وهو الغالب، وتارة يحذفه، وتارة يقسم على أن القرآن حق، وتارة على أن الرسول حق، وتارة على أن الجزاء والوعد" بالخير، "والوعيد" بالشر "حق".(8/433)
والوعيد حق.
فالأول: كقوله تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ، وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ، إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ، فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ، لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة: 75-79] .
والثاني: كقوله تعالى: {يس، وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ، إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ، عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [يس: 1-3] .
والثالث: كقوله: {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا} [الذاريات: 10] ، إلى قوله: {إِنَّ الدِّينَ لَوَاقِع} .
وهذه الأمور الثلاثة متلازمة، فمتى ثبت أن الرسول حق، ثبت أن القرآن حق، وثبت المعاد، ومتى ثبت أن القرآن حق ثبت صدق الرسول الذي جاء به، ومتى ثبت أن الوعد والوعيد حق ثبت صدق الرسول الذي جاء به.
وفي هذا النوع خمسة فصول.
__________
"فالأول" وهو أن القرآن حق، "كقوله تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ} بزيادة لا {بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} بمساقطها لغروبها، {وَإِنَّهُ} ، أي: القسم بها {لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} أي: لو كنتم من ذوي العلم لعلمتم عظم هذا القسم، {إِنَّهُ} ، أي: المتلو عليكم {لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} النفع، لاشتماله على أصول العلوم المهمة في إصلاح المعاش والمعاد، أو حسن مرضى في جنسه {فِي كِتَابٍ} مكتوب {مَكْنُونٍ} مصون، وهو المصحف، {لَا يَمَسُّهُ} خبر بمعنى النهي {إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة: 75] ، أي: الذين طهروا أنفسهم من الأحداث، ويأتي بسط هذا.
"والثاني: كقوله تعالى: {يس، وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ} المحكم بعجيب النظم وبديع المعاني {إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ، عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [يس: 1] ، أي: طريق الأنبياء قبلك التوحيد والهدى، والتأكيد بالقسم وغيره رد لقول الكفار لست مرسلًا.
"والثالث، كقوله: {وَالذَّارِيَاتِ} الرياح تذر التراب وغيره {ذَرْوًا} [الذاريات: 1] الآية، إلى قوله: {إِنَّ الدِّينَ} الجزاء بعد الحساب {لَوَاقِع} [الذاريات: 6] الآية، لا محالة، "وهذه الأمور الثلاثة" القرآن والرسول والمعاد، المعبر عنه أولا بالجزاء والوعد والوعيد "متلازمة، فمتى ثبت أن الرسول حق ثبت أن القرآن حق"؛ لأن الرسول اخبر بأنه من عند الله، ومحال على الرسول الكذب، "وثبت المعاد" الرجوع يوم القيامة الذي أخبر به، "ومتى ثبت أن القرآن حق ثبت صدق الرسول الذي جاء به، ومتى ثبت أن الوعد والوعيد حق ثبت صدق الرسول الذي جاء به" لاستحالة خلاف صدقه مع حقيقتهما، "في هذا النوع خمسة فصول:(8/434)
الفصل الأول: في قسمه تعالى على ما خصه به من الخلق العظيم
وحباه من الفضل العميم
قال الله تعالى: {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ، مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ، وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ، وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 1-4] .
{ن} من أسماء الحروف كـ {الم} و {المص} و {ق} .
واختلف فيها، فقيل: هي أسماء للقرآن، وقيل: أسماء للسور.
وقيل: أسماء لله، ويدل عليه أن عليًا رضي الله عنه كان يقول:
__________
"الفصل الأول": في قسمه تعالى على ما خصه به من الخلق العظيم وحباه" بموحدة أعطاه بلا أجر، فلم يحتج إلى أن يقول به، ولا إلى تبيينه، وأما قوله: "من الفضل العميم" فبيان لما المستفادة من العطف، "قال الله تعالى: {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} .
قال ابن عطية: معناه يكتبون سطورًا، فإن أراد الملائكة، فهو كتب الأعمال وما يوزن به، وإن أراد بني آدم، فهي الكتب المنزلة والعلوم وما جرى مجراها، {مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} ، أي: انتفى الجنون عنك بسبب إنعام ربك عليك بالنبوة وغيرها، وهذا رد لقولهم: إنه مجنون، {وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا} ثوابًا {غَيْرَ مَمْنُونٍ} منقطع، {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 1] الآية، أتى بعلي إشارة لاستعلائه عليه، لكونه مجبولًا عليه بغير تكلف، {ن} من أسماء الحروف كـ {الم} و {المص} و {ق} ، واختلف فيها، فقيل: هي أسماء للقرآن" قاله مجاهد: رواه ابن جرير وقتادة، ورواه عبد بن حميد، أي: أن فاتحة كل سورة ابتدأت بنحو هذه الأحرف اسم للقرآن بتمامه ولذا أخبر عنها بالكتاب في قوله: {الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ} ، والقرآن في قوله: {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ} [الحجر: 1] .
"وقيل: أسماء للسور" وهو قول أكثر المتكلمين، واختيار الخليل وسيبويه، قاله اإمام الرازي، وقد نقض هذا القول بأمور أحسنها أن أسماء السور توقيفية، ولم يرد مرفوعًا ولا موقوفًا عن أحد من الصحابة، ولا التابعين أن هذه أسماء للسور، فوجب إلغاء هذا القول ونقضه الرازي، بأنها لو كانت أسماء لها لوجب اشتهارها بها، وقد اشتهرت بغيرها، كسورة البقرة وآل عمران، "وقيل: أسماء لله"، قاله ابن عباس.(8/435)
يا {كهيعص} [مريم: 1] ، {حم، عسق} [الشورى: 1-2] ، كما قيل: ولعله أراد يا منزلهما.
وقيل: إنه سر استأثر الله بعلمه، وقد روي عن الخلفاء الأربعة وغيرهم من الصحابة ما يقرب منه، ولعلهم أرادوا أنها أسرار بين الله ورسوله، لم يقصد بها إفهام غيره، إذ يبعد الخطاب من الله بما لا يفيد.
__________
أخرجه ابن المنذر وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي، بإسناد صحيح، "ويدل عليه، أن عليًا رضي الله عنه كان يقول: يا {كهيعص} يا {حم، عسق} .
أخرجه ابن ماجه في تفسيره عن فاطمة بنت علي بن أبي طالب إنها سمعته يقول: يا كهيعص اغفر لي، "كما قيل": إن قول على ذلك يدل على أنها أسماء الله، "ولعله أراد يا منزلهما"، كما قال البيضاوي، فلا يدل على ذلك، قال السيوطي: يرده ما أخرجه ابن أبي حاتم عن الربيع بن أنس في قوله: {كهيعص} ؛ أن معناه يا من يجير ولا يجار عليه، ومثله ما أخرجه عن شهب، قال: سألت مالكًا أينبغي لأحد أن يسمى بيس، قال: لا، يقول الله: {يس، وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ} يقول: هذا اسمي تسميت به.
وكذا حديث: إن أتيتم الليلة، فقولوا: حم ولا ينصرون، "وقيل: إنه سر" أي: أمر خفي "استأثر الله بعلمه".
أخرجه أبو الشيخ وابن المنذر عن داود بن أبي هند، قال: كنت أسأل الشعبي عن فواتح السور، فقال: يا داود إن لكل كتاب سرًا، وإن سر هذا القرآن فواتحه، فدعها وسل عما بدا لك.
"وقد روي عن الخلفاء الأربعة وغيرهم من الصحابة" فحكاه الثعلبي وغيره عن أبي بكر وعلي وكثير، وحكاه السمرقندي عن عمر وعثمان وابن مسعود، ونقله الرازي عن ابن عباس "ما يقرب منه".
وحكاه القرطبي عن الثوري والربيع بن خيثمة وابن الأنباري وأبي حاتم وجماعة من المحدثين، واختاره ومال إليه الرازي، "ولعلهم أرادوا أنها أسرار بين الله ورسوله لم يقصد بها إفهام غيره" لا أنه أمر انفرد بعلمه تعالى، كما قد يقتضيه لفظ استأثر، "إذ يبعد الخطاب من الله" لرسوله "بما لا يفيد" وهذه عبارة البيضاوي في أول البقرة وما ترجاه، جزم به العلم السخاوي، فقال: المروي عن الصدر الأول في التهجي أنها أسرار بين الله وبين نبيه صلوات الله عليه، وقد يجري بين المحترمين كلمات معميات، تشير إلى سر بينهما، وتفيد تحريض الحاضرين على استماع ما بعد ذلك، وها معنى على قول السلف: حروف التهجي ابتلاء لتصديق المؤمنين وتكذيب الكافرين، هذا وهي أعلام توقظ من رقدة الغفلة بنصح التعليم، وتنشط(8/436)
وهل المراد بقوله هنا: {ن} اسم الحوت، وهل المراد به الجنس أو اليهموت وهو الذي عليه الأرض.
وقيل: المراد به الدواة وهو مروي عن ابن عباس، ويكون هذا قسمًا بالدواة والقلم، فإن المنفعة بهما بسبب الكتابة عظيمة، فإن التفاهم تارة يحصل بالنطق وتارة بالكتابة.
قيل: إن "نون" لوح من نور تكتب فيه الملائكة ما يأمرهم به الله. رواه معاوية بن قرة مرفوعًا.
__________
في إلقاء السمع على شهود القلب للتعظيم. انتهى.
"وهل المراد بقوله هنا {ن} اسم الحوت" أو غيره فيه خلاف، فحذف عديل هل لعلمه من قوله الآتي، وقيل: المراد الدواة، "و" على القول بأنه الحوت "هل المراد به الجنس" يعني، أي: حوت كان "أو اليهموت، وهو الذي عليه عليه الأرض"، وبهذا علم سقوط دعوى زيادة هل الثانية.
"وقيل: المراد به الدواة" عللة البيضاوي؛ بأنه بعض الحيتان يستخرج منه شيء أشد سوادًا من الحبر يكتب به، "وهو مروي عن ابن عباس" وقتادة والضحاك.
قال ابن عطية: فهذا إما أن يكون لغة لبعض العرب أو تكون لفظة أعجمية عربت، وقال الشاعر:
إذا ما الشوق برح بي إليهم ... ألقت النون بالدمع السجوم
فمن قال: إنه اسم الحوت جعل القلم الذي خلقه الله وأمره بكتب الكائنات، وجعل ضمير يسطرون للملائكة، ومن قال: اسم للدواة جعل القلم هذا المتعارف بين الناس، ونصر ذلك ابن عباس، وجعل الضمير في يسطرون للناس، "ويكون هذا قسمًا بالدواة والقلم" الذي يكتب به، "فإن المنفعة بهما بسبب الكتابة عظيمة، فإن التفاهم تارة يحصل بالنطق، وتارة بالكتابة" وفي ابن عطية، فجاء القسم على هذا بمجموع أمر الكتاب الذي هو قوام للعلوم والمعارف وأمور الدنيا والآخرة، فإن القلم أخو اللسان وفطنة الفطنة ونعمة من الله عامة. انتهى.
"قيل: إن نون" بالفتح بلا تنوين اسم أن، أو بالسكون على الحكاية، وقرئ بالفتح والكسر، ص "لوح من نور تكتب فيه الملائكة ما يأمرهم به الله، رواه معاوية بن قرة" "بضم القاف وشد الراء" ابن إياس بن هلال المزني أبو إياس البصري، التابعي، الثقة، من رجال الجميع، مات سنة ثلاث عشرة ومائة، وهو ابن ست وسبعين سنة، "مرفوعًا" مرسلًا، "وعلى المروي عن(8/437)
وأقسم الله تعالى بالكتاب وآلته هو القلم الذي هو إحد آياته وأول مخلوقاته الذي جرى به قدره وشرعه، وكتب به الوحي، وقيد به الدين، وأثبت به الشريعة، وحفظت به العلوم، وقامت به بمصالح العباد في المعاش والمعاد، وأقام به في الناس أبلغ خطيب وأفصحه وأنفعه لهم وأنصحه، وواعظًا تشفي مواعظه القلوب من السقم، وطبيبًا يبرئ بإذن باريه من أنواع الألم على تنزيه نبيه ورسوله محمد المحمود في كل أقواله، وأفعاله مما عمصته أعداؤه الكفرة به، وتكذيبهم له بقوله
__________
ابن عباس؛ أن المراد به الدواة، فقد "أقسم تعالى بالكتاب" أي: بمجموع أمر الكتاب، كما مر عن ابن عطية، وهو الدواة "وآلته" أي: الكتاب بمعنى المكتوب "هو القلم" وأبعد من قال، أي: في قوله: {حم، وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ} [الزخرف: 1] ، وفي قوله: {يس، وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ} ؛ لأن بقية السياق ترده، وأقواه قوله على تنزيه نبيه بقوله: ما أنت "الذي هو أحد آياته" هذا لا يظهر على قوله السابق بالدواة والقلم. إلخ.
نعم هو ظاهر على أنه الذي خط في اللوح، لكن قد علمت أن ابن عطية إنما فرعه عن أن ن اسم للحوت، وإن من قال: اسم للدواة جعل القلم هذا المتعارف، "وأول مخلوقاته" في أحد القولين، والأصح أن للعرش خلق قبله، كما مر، "الذي جرى به قدره وشرعه وكتب به الوحي"، أي: بالقلم لا بالمعنى السابق الذي كتب به الوحي بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، ففيه استخدام، ويحتمل رجوعه إليه بالمعنى الأول على ضرب من المجاز، بأن يراد بالوحي الموحى، أي: كتب به الوحي، ويؤيد الاستخدام قوله، "وقيد به الدين" أي: حفظه بكتابة ما يدل عليه، "وأثبت به الشريعة، وحفظت به العلوم، وقامت به مصالح العباد في المعاش" والمعاد، فإن هذه كلها صفات للقلم الذي يخط به الناس، لا سيما قوله، "وأقام به في الناس أبلغ خطيب" بكتابة ما حصل للخطيب به الرفعة على غيره، واتصافه بقوله: "وأفصحه وأنفعه لهم، وأنصحه وواعظًا، تشفي مواعظه القلوب من السقم" وبالجملة فقد لفق المصنف بين القولين في القلم، "وطبيبًا يبرئ" بضم التحتية وبالهمز من أبرئ الله من المرض "بإذن باريه" أي: الذي يبري القلم للكتابة به، والياء أصلية أو منقلبة عن واو؛ لأن في المصباح بريت القلم بريًا من باب رمي، فهو مبري، وبروته لغة "من أنواع الألم" أي: المرض، وذكر صلة قوله: وأقسم "على تنزيه نبيه ورسوله محمد المحمود" الممدوح "في كل أقواله وأفعاله"، وهو من أسمائه صلى الله عليه وسلم "مما عمصته" "بفتح العين المعجمة وكسر الميم وفتحها وفتح الصاد مهملة ومعجمة": احتقرته وعابته "أعداؤه الكفرة".
وقال ابن حبيب في غريب الموطأ: الغمض، بضاد معجمة تصغير النعمة وتحقيرها،(8/438)
تعالى: {مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُون} [القلم: 2] .
وكيف يرمى بالجنون من أتى بما عجزت العقلاء قاطبة عن معارضته، وكلت عن مماثلته، وعرفهم عن الحق بما لا تهتدي إليه عقولهم، بحيث أذعنت له عقول العقلاء، وخضعت له ألباب الألباء، وتلاشت في جنب ما جاء به، بحيث لم يسعها إلا التسليم له، والانقياد والإذعان طائعة مختارة، فهو الذي يكمل عقولها كما تكمل الطفل برضاع الثدي.
ثم أخبر تعالى عن كمال شريعة نبيه في دنياه وآخرته فقال: {وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ} أي: ثوابًا غير منقطع، بل هو دائم، ونكر الأجر للتعظيم، أي
__________
وبصاد مهملة إذا صغر الناس وازدرى بهم، واستحسن هذا الفرق بعد أن قال أنهما سواء، الآية، "وتكذيبهم له" بالحر، عطف على مان أي: نزهه عن تكذيبهم له، وهو وقاع "بقوله تعالى: {مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُون} ؛ لأن معنى الآية بسبب أنه تعالى أنعم عليك بكمال العقل والمعرفة، فأفادت تنزيهه عن الكذب، وأن تكذيبهم له كلا تكذيب لعدم الاعتداد به مع قيام الدليل على خلافه، "وكيف يرمى بالجنون" استفهام إنكاري، وهو أن يكون ما بعد أدلته عير واقع، ومدعيه كاذبًا، "من أتى بما عجزت العقلاء قاطبة"، أي: جميعًا "عن معارضته، وكلت" أعيت وعجزت "عن مماثلته، وعرفهم عن الحق" سبحانه "بما لا تهتدي إليه عقولهم، بحيث أذعنت": انقادت "له عقول العقلاء" ولم تستعص عليه، "وخضعت": ذلت "له ألباب" جمع لب، بزنة قفل وأقفال "الألباء" جمع لبيب، بزنة أشحاء وشحيح، أي: عقول وأصحاب العقول الراجحة، "وتلاشت" أي: خست حتى صارت بمنزلة العدم "في جنب ما جاء به، بحيث لم يسعها إلا التسليم له والانقياد والإذعان"، عطف خاص على عام؛ لأنه انقياد بلا استعصاء، بخلاف مطلق الانقياد، فقد يكون معه استعصاء، "طائعة مختارة، فهو الذي يكمل" "بشد الميم المكسورة" "عقولها كما تكمل الطفل برضاع الثدي، ثم" بعد أن نزهه وبرأه، "أخبر تعالى عن كمال شريعة نبيه في دنياه وآخرته" لفظ الشفاء، ثم أعلمه سبحانه، بما له عنده من نعيم دائم وثواب غير منقطع، لا يأخذه العد، ولا يمن به عليه، "فقال" بالفاء لتفرعه على ما قبله من الأخبار، أو تفصيل له في الجملة، {وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ} ، وعطفه أولًا بثم، إشارة إلى بعد ما بين الأمرين، تعبه السريع الانقطاع، ونعيمه الدائم، الواقع في مقابلة تكذيبهم له، والأجر المضاف على عمله، وصبره على طعنهم ورميهم بما لا يليق، ففيه تسلية له صلى الله عليه وسلم، كأنه قيل: لا تحزن، فقد تبين كذبهم بداهة، فلا نقص يعود عليك مما قالوه، فلك نعيم مؤيد في مقابلته،(8/439)
أجرًا عظيمًا لا يدركه الوصف ولا يناله التعبير.
ثم أثنى عليه بما منحه فقال: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} وهذه من أعظم آيات نبوته ورسالته، ولقد سئلت عائشة رضي الله عنها عن خلقه صلى الله عليه وسلم فقالت: "كان خلقه القرآن" ومن ثم قال ابن عباس وغيره: أي على دين عظيم، وسمي الدين خلقًا؛ لأن الخلق هيئة مركبة من علوم صادقة وإرادات زاكية وأعمال ظاهرة وباطنة موافقة للعدل والحكمة والمصلحة، وأقوال مطابقة للحق، تصدر تلك الأقوال والأعمال عن تلك العلوم والإرادات فتكسب النفس بها أخلاقًا حسنة هي
__________
ولصبر على الشدائد والمقاساة في التبليغ، ففيه تثبيت وتخصيص، "أي: ثوابًا" تفسير لأجرًا "غير منقطع، بل هو دائم" تفسير قوله {غَيْرَ مَمْنُونٍ} .
وفي ابن عطية اختلف في معنى ممنون، فأكثر المفسرين أنه الواهن المنقطع، وقيل: ضعيف، وقيل: غير ممنون عليك، أي: لا يكدره من به، وقال مجاهد: معناه غير مضر ولا محسوب، أي: بغير حساب. انتهى.
"ونكر الأجر للتعظيم، أي: أجرًا عظيمًا، لا يدركه الوصف، ولا يناله التعبير" المتعارف للناس، أي: يقصر عن أدائه لكثرته، وأتى بتأكيدات أربع للاهتمام والتقرير والإنكار وزيادته، فأكد المجموع بالمجموع، أو هي موزعة على ما ذكروا، إن لم يكن صلى الله عليه وسلم منكرًا؛ لأنه قد يراعي حال السامع، كما في التعريض، "ثم أثنى عليه" مدحه "بما منحه" أعطاه من مواهبه السنية، "فقال: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4] الآية، مؤكدًا بأن مع القسم واللام واسمية الجملة تتميمًا للتعظيم، "وهذه من أعظم آيات نبوته ورسالته، ولقد سئلت عائشة رضي الله عنها عن خلقه صلى الله عليه وسلم فقالت: كان" أحسن الناس خلقًا كان "خلقه القرآن" يرضي لرضاه، ويغضب لغضبه، لم يكن فاحشًا ولا متفحشًا، ولا صخابًا في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح، ثم قالت: اقرأ {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُون} ، إلى العشر، فقرأ السائل، فقالت: هكذا كان خلقه صلى الله عليه وسلم.
أخرجه ابن أبي شيبة وغيره مطولًا، ورواه أحمد ومسلم وأبو داود، عنها بلفظ: كان خلقه القرآن، يغضب لغضبه، ويرضى لرضاه، "ومن ثم قال ابن عباس وغيره" تفسيرًا لقوله على خلق، "أي على دين عظيم، وسمي الدين خلقًا؛ لأن الخلق" الحسن "هيئة مركبة من علوم صادقة وإرادات زاكية"، صالحة نامية، "وأعمال ظاهرة وباطنة موافقة للعدل" الإنصاف "والحكمة" وهي تحقيق العلم وإتقان العمل، وتطلق على أمور، "والمصلحة" التي يقتضيها، "وأقوال مطابقة للحق" لا كذب فيه أصلًا، "تصدر تلك الأقوال والأعمال عن تلك العلوم والإرادات،(8/440)
أزكى الأخلاق وأشرفها وأفضلها. وهذه كانت أخلاقه صلى الله عليه وسلم المقتبسة من القرآن، فكان كلامه مطابقًا للقرآن تفصيلًا وتبيينًا، وعلومه علوم القرآن، وإرادته وأعمال ما أوجبه وندبه إليه القرآن، وإعراضه وتركه لما منع القرآن، ورغبته فيما رغب فيه، وزهده فيما زهد فيه، وكراهته فيما كرهه، فيه ومحبته فيما أحبه، وسعيه في تنفيذ أوامره، فترجمت أم المؤمنين عائشة لكمال معرفتها بالقرآن وبالرسول، وحسن تعبيرها عن هذا كله بقولها: "كان خلقه القرآن"، وفهم السائل عنها هذا المعنى فاكتفى به واشتفى.
ولما وصفه تعالى بأنه على خلق عظيم قال: {فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُون، بِأَيِّيكُمُ}
__________
فتكتسب النفس بها أخلاقًا حسنة، هي أزكى": أنمى "الأخلاق وأشرفها وأفضلها" عطف تفسير، وهذا كله بيان للمراد بالخلق الحسن في استعمالهم، وهي آثار تترتب عليه، إذ الخلق الطبيعة، وهذه الكمالات ليست نفس الطبيعة، وتكون حسنة وقبيحة.
قال ابن الأثير: الخلق "بضم اللام وسكونها" الدين والطبع والسجية، وحقيقته أنه لصورة الإنسان الباطنة، وهي نفسه وأوصافه، معانيها المختصة بها بمنزلة الخلق لصورته الظاهرة، وأوصافها ومعانيها، ولها أوصاف حسنة وقبيحة، والثواب والعقاب يتعلقان بأوصاف الصورة الباطنة أكثر مما يتعلقان بأوصاف الصورة الظاهرة، "وهذه" الأخلاق الحميدة "كانت أخلاقه صلى الله عليه وسلم المقتبسة" أي: المأخوذة "من القرآن فكان كلامه مطابقًا للقرآن تفصيلًا وتبيينًا" تفسيري، "وعلومه علوم القرآن، وكانت "إرادته وأعماله ما أوجبه" طلبه طلبًا جازمًا، "وندبه" طلبه طلبًا غير جازم "إليه القرآن، إعراضه وتركه لما منع القرآن" منه، "ورغبته فيما رغب فيه، وزهده فيما زهد فيه، وكراهته فيما كرهه" بخفة الراء، ليناسب قوله بعد أحبه "فيه ومحبته فيما أحبه، وسعيه في تنفيذ أوامره، فترجمت أم المؤمنين عائشة، لكمال معرفتها بالقرآن وبالرسول، وحسن" فعل ماض عطف على فترجمت "تعبيرها" أو هو بضم الحاء وسكون السين والجر عطف على الكمال والأول أظهر" "عن هذا كله، بقولها: كان خلقه القرآن، وفهم السائل عنها هذا المعنى، فاكتفى به واشتفى" من داء الجهل، بمعنى أنه زوال ما كان عنده من التوقف الحامل على السؤال، حتى كأنه برئ من دائه، ومر مزيد لشرح هذا في الفصل الثاني من المقصد الثالث.
"ولما وصفه تعالى بأنه على خلق عظيم، قال" مسليًا له عما قالوه في حقه بما وعده من عقابهم وتوعدهم: {فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُون} [القلم: 5] .(8/441)
الْمَفْتُونُ} أي فسترى يا محمد وسيرى المشركون كيف عاقبة أمرك، فإنك تصير معظمًا في القلوب، ويصيرون أذلاء مغلوبين وتستولي عليهم بالقتل والنهب.
__________
قال أبو عثمان المازني: هنا تم الكلام، واستأنف قوله: {بِأَيِّيكُمُ الْمَفْتُونُ} [القلم: 6] الآية.
قال الأخفش: بل هو عامل في الجملة المستفهم عنها في معناها، أي: أيكم الذي فتن بالجنون والباء زائدة، قاله قتادة وأبو عبيدة معمر.
وقال الحسن والضحاك: المفتون بمعنى الفتنة، فالمعنى بأيكم الجنون، على أن المفتون مصدر كالمعقول، أي: العقل.
وقيل: المعنى بأي: الفريقين منكم المجنون، أبفريق المؤمنين أو بفريق الكافرين أي: في أيهما يوجد من يستحق هذا الاسم وهذا معنى قول الأخفش: المعنى بأيكم فتنة المفتون.
قال ابن عطية: وهذا قول حسن، قليل التكلف، "أي: فسترى يا محمد، وسيرى المشركون كيف عاقبة أمرك، فإنك تصير معظمًا في القلوب، ويصيرون أذلاء" جمع ذليل، "مغلوبين، وتستولي عليهم بالقتل والنهب" تفسير لقوله: {فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُون} .(8/442)
الفصل الثاني: في قسمه تعالى على ما أنعم به عليه
وأظهره من قدره العلي لديه
قال الله: {وَالضُّحَى، وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى، مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} السورة [الضحى: 1-3] .
__________
الفصل الثاني:
"في قسمه تعالى على ما أنعم به عليه"، الأظهر على إنعامه، كما عبر به قريبًا؛ لأن ما فعله الله مع رسوله هو حقيقة الأنعام وما قام به صلى الله عليه وسلم هو المنعم به إلا أن يقال أنه من حيث صدوره عن الله تعالى، فيساوي ما بعده، "وأظهره من قدره العلي لديه" عنده.
"قال الله تعالى: {وَالضُّحَى، وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} [الضحى: 1] ، معناه سكن واستقر ليلًا تامًا، وقيل: معناه أقبل وقيل: أدبر وأقبل، والأول أصح، يقال: بحر ساج، أي: ساكن، ومنه قول الأعشى:
وما ذنبنا أن جاش بحر ابن عمكم ... وبحرك ساج لا يواري الدعامصا
وطرف ساج إذا كان ساكنًا غير مضطرب النظر، قاله ابن عطية، والمراد سكون الأصوات(8/442)
أقسم الله تعالى على إنعامه على رسول الله صلى الله عليه وسلم وإكرامه له وإعطائه ما يرضيه، وذلك متضمن لتصديقه له، فهو قسم على صحة نبوته، وعلى جزائه في الآخرة فهو قسم على النبوة والمعاد.
__________
أو أصحابه {مَا وَدَّعَكَ} قرأ الجمهور بشد الدال من التوديع، وقرأ عروة بن الزبير وابنه هشام بتخفيف الدال بمعنى تركك.
وكذا قرأ مقاتل وابن أبي عيلة، وفي الحديث: "لينتهن قوم عن ودعهم الجمعات، أو ليختمن الله على قلوبهم، ثم ليكونن من الغافلين"، أخرجه مسلم وغيره، ولينتهن "بضم الياء التحتية وفتح الفوقية والهاء"، ليدل على واو الضمير المحذوفة، إذ أصله لينتهونن، وفي الحديث أيضًا: "شر الناس من ودعه الناس اتقاء شره"، وقال الشاعر:
فكان ما قدموا لأنفسهم ... أعظم نفعًا من الذي ودعوا
فلا عبرة بزعم النحاة، أن العرب أماتت ماضي يدع، ومصدر واسم الفاعل استغناء بترك، لوروده عن سيد الفصحاء قراءة وحديثًا للماضي، ومصدرا في الحديث الصحيح، وفي شعر العرب، وما هذا سبيله يجوز القول بقلة استعماله، ولا يجوز القول بالإماتة.
وقال الطيبي يحمل كلام النحاة على قلة استعماله مع صحته قياسًا، لكن قال السيوطي، رواه الطبراني الحديث بإسناد حسن، بلفظ: "لينتهين أقوام يسمعون النداء يوم الجمعة، لا يأتونها، أو ليطعن الله على قلوبهم"، فعلم أن الرواية الأوى من تغيير الرواة، لا من لفظ النبوة. ا. هـ، الآية، فإن سلم له ذلك، فكيف يصنع في القراءة والبيت العربي، مع أن أصل هذا الكلام التابع فيه لأبي حيان، مردود بأنه يرفع الوثوق بالحديث أصلًا، إذ كل لفظة يحتمل أنها من تغيير الرواة، فالوجه الجمع بأن يكون صلى الله عليه وسلم نطق باللفظين، ويؤيده اختلاف المخرج {رَبُّكَ وَمَا قَلَى} أي: ما أبغضك، "السورة" بالنصب بتقدير اقرأ أو أذكر، "أقسم الله تعالى على إنعامه على رسوله صلى الله عليه وسلم وإكرامه له"، أي: توقيره واللطف به، "وإعطائه ما يرضيه" في الدارين، "وذلك متضمن لتصديقه له" في دعواه: الرسالة، "فهو قسم على صحة نبوته وعلى جزائه في الآخرة، فهو قسم على النبوة والمعاد" جميعًا من قوله، والآخرة خير بناء على أن المراد بها القيامة.
قال ابن عطية: يحتمل أن يريد الدنيا والآخرة، وهذا تأويل ابن إسحاق وغيره، ويحتمل أن يريد حالته في الدنيا قبل نزول السورة وبعدها، فوعده الله على هذا التأويل بالنصر والظهور انتهى.(8/443)
وأقسم الله تعالى بآيتين عظيمتين من آياته دالتين على ربوبيته ووحدانيته، وحكمته ورحمته، وهما الليل والنهار، وفسر بعضهم -كما حكاه الإمام فخر الدين- الضحى بوجهه صلى الله عليه وسلم والليل بشعره، وقال: ولا استبعاد فيه.
وتأمل مطابقة هذا القسم فيه، وهو نور الضحى الذي يوافي بعد ظلام الليل، للمسقم عليه وهو نور الوحي الذي وافاه بعد احتباسه عنه، حتى قال أعداؤه: ودع محمدًا ربه، فأقسم بضوء النهار بعد ظلمة الليل على ضوء الوحي ونوره بعد ظلمة
__________
وقيل: أحولك الآتية خير من السابقة في الدارين، "وأقسم الله تعالى بآيتين عظيمتين من آياته"، كما قال: {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَار} [فصلت: 37] ، "دالتين على ربوبيته ووحدانيته وحكمته ورحمته" بيان لكونهما من الآيات، "وهما الليل" بقوله: {وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} والنهار، بقوله: {وَالضُّحَى} ففسره بقول قتادة الضحى هنا النهار، وكله وأيد بقوله أن يأتيهم بإسناد ضحى في مقالة بياتًا، وهو مجاز، إذ الضحى ارتفاع الضوء وكماله وبه فسر مجاهد، فخصه؛ لأن النهار يقوي فيه، أو كلم الله موسى فيه، وألقي السحرة سجدًا، "وفسر بعضهم كما حكاه الإمام فخر الدين الضحى بوجهه صلى الله عليه وسلم، والليل بشعره" وعليه فمعنى {إِذَا سَجَى} اشتد سواده، وظهر بزوال غبار نحو السفر عنه، ففيه استعارة.
"وقال" الرازي: "ولا استبعاد فيه"؛ لأن وجهه صلى الله عليه سولم كان شديد النور، بحيث يقع نوره على الجدر إذا قابلها، وكأن الشمس تجري في وجهه، وكان شعره شديد السواد، فلا يبعد إطلاق الضحى والليل عليهما، لكن حيث كان ذلك مجازًا احتاج إلى قرينة تصرف معناهما عن الحقيقة، إلا أن يقال: إن قائل ذلك استند إلى قرينة حالية وقت نزول الآية، "وتأمل مطابقة هذا القسم فيه وهو نور الضحى" مشعر بأنه آثره لشدة ضوئه، فهو إشارة للقول الآخر "الذي يوافي" يأتي "بعد ظلام الليل للمقسم عليه، وهو نور الوحي الذي وافاه" أي: أتاه "بعد احتباسه عنه" مدة خمسة عشر يومًا لما قال: أخبركم غدًا، ولم يقل: إن شاء الله حتى أرجف أهل مكة، وقالوا: قد قلاه ربه وتركه، قاله ابن عباس عند ابن إسحاق، وقال مجاهد: إثنا عشر، وقال التيمي وابن عطية: وإنما أبطى عليه ثلاثة أيام، وقيل: أربعة، وقيل: أربعين، "حتى قال أعداؤه" المشركون: "ودع محمدًا ربه" والصحيح في سبب نزولها ما في الصحيحين وغيرهما، عن جند بن عبد الله، قال: اشتكى النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يقم ليلة أو ليلتين، فأتته امرأة، فقالت: يا محمد ما أرى شيطانك إلا قد تركك، فأنزل الله تعالى: {وَالضُّحَى، وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى، مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} وهذه المرأة هي العوراء بنت حرب امرأة أبي لهب، رواه الحاكم برجال ثقات، عن زيد بن أرقم، وفي الصحيح أيضًا عن جندب، قالت امرأة: يا رسول الله ما أرى صاحبك إلا أبطأ(8/444)
احتباسه واحتجابه.
وأيضًا فإن الذي اقتضته رحمته أن لا يترك عباده في ظلمة الليل سرمدًا بل هداهم بضوء النهار إلى مصالحهم، ومعايشهم لا يتركهم في ظلمة الغي والجهل بل يهديهم بنور الوحي والنبوة إلى مصالح دنياهم وآخرتهم، فتأمل حسن ارتباط المقسم بالمقسم عليه.
وتأمل هذه الجزالة والرونق الذي على هذه الألفاظ، والجلالة التي في معانيها.
ونفى سبحانه أن يكون ودع نبيه أو قلاه، فالتوديع: الترك، والقلى: البغض،
__________
عنك فنزلت: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} ، قال الحافظ: هي زوجته خديجة، كما في المستدرك وغيره، فخاطبته كل واحدة منهما بما يليق بها، والعوراء قالته شماتة، وخديجة توجعًا، وقصة إبطاء الوحي بسبب الجرو مشهورة، لكن كونها سبب نزول الآية غريب، بل شاذ، مردود بما في الصحيح، وتقدم لهذا مزيد قريبًا، "فأقسم بضوء النهار بعد ظلمة الليل على ضوء الوحي، ونوره بعد ظلمة احتباسه واحتجابه"، فهذه مناسبة بين القسم والمقسم عليه، "وأيضًا" مناسبة أخرى، "فإن الذي اقتضته رحمته" الذي امتن بها في قوله: {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ} [القصص: 73] ، "أن لا يترك عبادة في ظلمة الليل سرمدًا" إلى يوم القيامة، "بل هداهم بضوء النهار إلى مصالحهم ومعايشهم"، كما قال: ولتبتغوا من فضله، "لا يتركهم في ظلمة الغي والجهل، بل يهديهم بنور الوحي والنبوة إلى مصالح دنياهم وآخرتهم، فتأمل حسن ارتباط القسم بالمقسم عليه" بكل من المناسبتين، "وتأمل هذه الجزالة" العظمة والحسن، "والرونق" الحسن، فهو مساوٍ حسنه اختلاف اللفظ.
ولذا قال: "الذي على هذه الألفاظ" اقتصارًا على وصف لرونق المساوي لما قبله معنى، حتى كأنهما اسم واحد، "والجلالة": العظمة "التي في معانيها" لكثرتها مع وجازة لفظها، "ونفى سبحانه أن يكون ودع نبيه" أي: قطعه قطع المودع، وقرئ بالتخفيف، أي: تركك كما في الأنوار، "أو قلاه" أبغضه، "فالتوديع الترك" لعله بيان المراد من الآية إذ الترك معنى الوداع مخففًا، وأما بالتثقيل، فتشييع المسافر، كما في اللغة، ولذا غاير البيضاوي في تفسير القراءتين كما رأيت، لكن في النسيم الوداع له معنيان في اللغة الترك وتشييع المسافر، وكلهم فسروه بالترك، ولما رأوا صيغة التفعيل تفيد زيادة المعنى، والمبالغة فيه تقتضي الانقطاع التام، قالوا: المبالغة في النفي لا في المنفي، أو النفي القيد، والمقيد ويجوز أن يفسر بتشييع المسافر.(8/445)
أي: ما تركك منذ اعتنى بك، وما أبغضك منذ أحبك، وحذف "الكاف" من "قلى" اكتفاء بكاف ودعك؛ ولأن رءوس الآيات بالياء فأوجب اتفاق الفواصل حذفها.
وهذا يعم كل أحواله، وإن كان حالة يرقيه إليها هي خير له مما قبلها، كما أن الدار الآخرة هي خير له مما قبلها، ثم وعده بما تقربه به عينه وتفرح به نفسه،
__________
على طريق الاستعارة، ففيه إيماء إلى أن الله تعالى لم يتركه أصلًا، فإنه معه أينما كان، وإنما الترك لو تصور من جانبه ظاهر مع دلالته بهذا المعنى على الرجوع والتوديع، إنما يكون لمن يحب ويرجى عوده، وإليه أشار الجرجاني، بقوله:
إذا رأيت الوداع فاصبر ... ولا يهمنك البعاد
وانتظر العود عن قريب ... فإن قلب الوداع عادوا
فقوله: {وَمَا قَلَى} ، مؤكدًا له، وهذا لم أر من ذكره مع غاية لطفه، "والقلى" "بكسر القاف والقصر"، وقد يمد "البغض"، مصدر قلي بوزن رمى، "أي: ما تركك منذ اعتنى بك" وهو من أول أمره تفسير ما ودعك، "وما أبغضك منذ أحبك"، تفسير للقلا، وفي الشفاء، أيك ما تركك وما أبغضك وقيل: ما أهملك بعد أن اصطفاك وزعم شارح أن المشهور الثاني واختار الأول لمناسبته لما قبله، والإهمال عدم التقييد مع الترك، فهو ترك مخصوص "وحذف الكاف من قلى اكتفاء بكاف ودعك" فهو اختصار للعلم به؛ "ولأن رؤوس الآي بالياء، فأوجب اتفاق الفواصل حذفها"، ولئلا يخاطبه بالبغض، وإن كان منفيًا، أو ليطعمه وأصحابه وأمته، واستحسن، "وهذا يعم كل أحواله، وأن كل حالة يرقيه إليها هي خير له مما قبلها" إذ كأنه قيل: ما ودعك لبغض، وسترى منزلتك، ففيه إفادة الترقي في الأحوال في الدنيا، "كما أن الدار الآخرة هي خير له مما قبلها" كما قال: {وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى} ، واللام للابتداء مؤكدة، أو جواب قسم، ففيه تعظيم آخر، أي: كما أعطاك في الدنيا يعطيك في الآخرة مما هو أعلى وأكثر، فلا تبال بما قالوه، فهو وعد فيه تسلية بعدما نفي عنه ما يكره، فهو تحلية بعد تخلية، "ثم وعده" بقوله: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} ، "بما تقر" "بفتح القاف الفوقية" "به عينه" أي: تسكن "وبتحتية أوله وشدة القاف مكسورة ونصب عينه"، يقال: قرت العين وأقر الله العين.
قال في فتح الباري: قرة العين يعبر بها عن المسرة ورؤية ما يحبه الإنسان ويوافقه؛ لأن عينه قرت، أي: سكنت حركاتها عن التلفت لحصول غرضها، فلا تتشوف شيء آخر، فكأنه مأخوذ من القرار، وقيل: معناه أنام الله عينك، وهو يرجع إلى هذا، وقيل: بل هو مأخوذ من القر، وهو البرد، أي: أن عينه بارة لسروره ولذا قيل: دمعة السرور باردة، ودمعة الحزن حارة، ومن ثم(8/446)
ويشرح به صدره، وهو أن يعطيه فيرضى. وهذا يعم ما يعطيه من القرآن والهدى والنصر والظفر بأعدائه يوم بدر وفتح مكة، ودخول الناس في الدين أفواجًا، والغلبة على بني قريظة والنضير، وبث عساكره وسراياه في بلاد العرب، وما فتح على خلفائه الراشدين في أقطار الأرض من المدائن، وما قذف في قلوب أعدائه من الرعب، ونشر الدعوة، ورفع ذكره وإعلاء كلمته، وما يعطيه بعد مماته، وما يعطيه
__________
قيل في ضده: أسخن الله عينه، "وتفرح" "بفتح الراء مع فتح أوله فوقية وبضمه تحتية مع كسر الراء" "به نفسه": يسرها ويرضيها، والفرح لذة القلب بنيل ما يشتهي ويتعدى "بالهمزة والتضعيف"، "وبشرح به صدره" يوسعه ويملؤه نورًا، "وهو أن يعطيه فيرضى، وهذا يعم ما يعطيه من القرآن" النازل عليه بعد هذه الآية، "والهدى والنصر": العون والتقوية، "والظفر بأعدائه" يقال: ظفر بعدوه، وأظفرته به وأظفرته عليه، بمعنى وأصله الفوز والفلاح "يوم بدر" بقتل سبعين وأسر سبعين، "وفتح مكة" وحل القتال له فيها ساعة من نهار، وصار أعظم أهلها عليه أحوجهم إليه، "ودخول الناس في الدين" دين الله "أفواجًا" جماعات، بعدما كان يدخل فيه واحدًا بعد واحد، وذلك بعد فتح مكة، جاءه العرب من أقطار الأرض طائعين، "والغلبة على بني قريظة" بقتل رجالهم وسبي ذريتهم ونسائهم، "والنضير" بإجلائهم وجعلها خالصة له، "وبث عساكره وسراياه في بلاد العرب" وفي غيرها، كبعث زيد والأمراء إلى موته من أرض الشام، وبعث أسامة ابنه بعد ذلك إلى محل قتل أبيه، فخرج بعد الوفاة النبوية، فنصره الله وقتل قاتل أبيه، فاقتصر على العرب لكثرتها فيها، "وما فتح على خلفائه الراشدين في أقطار الأرض من المدائن"، ففتح في أيام الصديق بصرى ودمشق وبلاد حوران وما والاها، ثم في أيام عمر البلاد الشامية كلها وأكثر إقليم فارس، وكسر كسرى، وفر إلى أقصى مملكته، وفر هرقل إلى القسطنطينية، ثم في زمن عثمان مدائن العراق وخراسان والأهواز، وبلاد المغرب كلها، ومن المشرق إلى أقصى بلاد الصين، وقتل كسرى، ومزق ملكه بالكلة، ثم امتدت الفتوحات بعده إلى الروم وغيرها، ولم تزل تجدد إلى الآن ولله الحمد، وقد فتح صلى الله عليه وسلم المدينة بالقرآن، وخيبر ومكة والبحرين وسائر جزيرة العرب، وأرض اليمن بكاملها وأخذ الجزية من مجوس هجر، ومن بعض أطراف الشام، وهاداه هرقل والمقوقس وملوك عمان، والنجاشي الذي ملك بعد أصحمة، "وما قذف في قلوب أعدائه من الرعب" مسيرة شهر من كل جهة؛ لأنه لم يكن بينه وبين أعدائه أكثر من شهر، "ونشر الدعوة" تفرقها وعمومها للخلق، "ورفع ذكره" فلا يذكر الله إلا ويذكر معه صلى الله عليه وسلم، "وإعلاء كلمته" على كل كلام، فهذا كله مما أعطاه له في الدنيا، "وما يعطيه بعد مماته" من الرحمات النازلات على قبره، والرضوان الذي لا يتناهى لدوام ترقياته ومضاعفة أعماله(8/447)
في موقف القيامة من الشفاعة والمقام المحمود، وما يعطيه في الجنة من الوسيلة والدرجة الرفيعة والكوثر.
وقال ابن عباس: يعطيه في الجنة ألف قصر من لؤلؤ أبيض، ترابها المسك وفيها ما يليق بها.
وبالجملة: فقد دلت هذه الآية على أنه تعالى يعطيه عليه الصلاة والسلام كل ما يرضيه.
وأما ما يفتريه الجهال من أنه لا يرضى وواحد من أمته في النار، أو لا يرضى أن يدخل أحد من أمته النار، فهو من غرور الشيطان لهم ولعبه بهم، فإنه
__________
فيه، فإنه حي يصلي في قبره بأذان، وإقامة، وله ثواب أعمال أمته مضاعفًا، "وما يعطيه في موقف القيامة من الشفاعة"، أي: جنسها، فيشمل الشفاعات الخاصة به كلها، "والمقام المحمود" هو مقام الشفاعة العظمى، الذي يحمده فيه الأولون والآخرون أو كل مقام يتضمن كرامة محمودة، وعلى هذا يكون بمعنى ما قبله، "وما يعطيه في الجنة، من الوسيلة" أعلى منزلة في الجنة فقوله: "والدرجة الرفيعة"، عطف تفسير، "والكوثر" نهر في الجنة، أعطانيه ربي، كما صح عنه صلى الله عليه وسلم، فلا معدل عنه.
"وقال ابن عباس" في تفسير هذه الآية "يعطيه في الجنة ألف قصر من لؤلؤ أبيض، ترابها المسك، وفيها ما يليق بها" من الأزواج والخدم.
رواه ابن جرير وغيره، ومثله لا يقال إلا عن توقيف، فهو في حكم المرفوع، وهذا تفصيل بعض ما أعطاه، "وبالجملة فقد دلت هذه الآية على أنه تعالى يعطيه عليه الصلاة والسلام كل ما يرضيه" مما لا يعلمه على الحقيقة إلا هو، "وأما ما يفتريه" بفاء من الافتراء، أي: الكذب، أو بالغين بالمعجمة، وبعد الراء موحدة من الغرور، وهذا أولى وإن كان ظاهر سياقه الأول، "الجهال من أنه لا يرضى، وواحد من أمته في النار"، روى الديلمي في الفردوس عن علي، قال: لما نزلت قال صلى الله عليه وسلم: "إذن لا أرضى وواحد من أمتي في النار".
وأخرجه أبو نعيم في الحلية موقوفًا على علي، قال: في قوله تعالى: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} ، قال: ليس في القرآن أرجى منها، ولا يرضى صلى الله عليه وسلم أن يدخل أحد من أمته النار، وقوله: ولا يرضى موقوف لفظًا، مرفوع حكمًا، إذ لا مدخل للرأي: فيه، "أو لا يرضى أن يدخل أحد من أمته النار"، كما روي عن علي موقوفًا، وحكمه الرفع، كما علم، "فهو من غرور الشيطان" أي: خداعه "لهم ولعبه بهم" حيث حملهم على الافتراء، أو على الغرور بما لم(8/448)
صلوات الله عليه سرضي بما يرضى به ربه تبارك وتعالى، وهو سبحانه وتعالى يدخل النار من يستحقها من الكفار والعصاة، ثم يحد لرسوله صلى الله عليه وسلم حدًا يشفع فيهم -كما يأتي إن شاء الله تعالى في المقصد الأخير- ورسوله عليه السلام أعرف به وبحقه من أن يقول: لا أرضى أن تدخل أحدًا من أمتي النار او تدعه فيها، بل ربه تبارك وتعالى يأذن له فيشفع فيمن شاء الله أن يشفع فيه، ولا يشفع في غير من أذن له ورضيه.
__________
يفهموا معناه، "فإنه صلوات الله عليه يرضى بما يرضى به ربه تبارك وتعالى"، إذ رضاه تابع لرضاه، "وهو سبحانه وتعالى يدخل النار من يستحقها من الكفار والعصاة" المسلمين، "ثم يحد" "بضم الحاء" "لرسوله صلى الله عليه وسلم حدًا" أي: يقدر له جماعة، ويميزهم عن غيرهم، "يشفع فيهم كما يأتي إن شاء الله تعالى في المقصد الأخير" فلا يدع أحدًا منهم، ولا يزيد على من أذن له في الشفاعة فيه، "ورسوله عليه السلام أعرف به وبحقه من أن يقول: ألا أرضى أن تدخل أحدًا من أمتي النار، أو تدعه فيها" هذا ظاهر جدًا في أنه أراد أنه من الافتراء الكذب لا الغرور، "بل ربه تبارك وتعالى يأذن له، فيشفع فيمن شاء الله أن يشفع فيه، ولا يشفع في غير من أذن له ورضيه" ومقام الرضا بما يريده الله، والتسليم مقام عظيم للسالكين، فكيف لا يكون لسيد المرسلين.
وقد رد العلامة الشريف الصفوي في شرح الشفاء وتبعه في النسيم على المصنف، التابع لابن القيم بأنه جراءة وسوء أدب، والوجه توجيه الحديث لوروده بطرق وإن ضعفت، ولا يبعد أن يكون عذاب العصاة غير مرضي لله تعالى، فلا يرضى له رسوله أيضً؛ لأن رضاه على وفق رضا ربه، والرضا بالمقضي قد يكون مذمومًا، فإذا لم يرض بعصيانهم ودخولهم النار، بعدهم رضا ربه به يدخلهم الله الجنة، ولو بالآخرة للوعد به، والرضا بفعل الله إنما يجب من حيث إنه فعل المولى الحكيم لا من حيث هو في ذاته، والمنفي في الحديث الثاني، فهو لا يرضى بدخول أحد من أمته النار من حيث هو في ذاته، لا من حيث أنه مراد الله، فلا إشكال أو الرضا مجاز عن ترك الطلب، أي: لا أترك طلب العفو وواحد من أمتي في النار، ولا يلزم منه عدم الرضا حقيقة، وكم طلب صلى الله عليه وسلم لأمته أمورًا، وهو في مقام الرضا دائمًا، وإذا وعد بالرضا فلا بد من إدخالهم الجنة لا ترك الطلب، فافهمه فإنه دقيق، فلا ينبغي أن يجترئ أحد على إبطال الروايات بأوهام الشبهات، وهذا محصل ما في شرح المواقف من أن للكفر نسبة إلى الله، باعتبار فاعليته له وإيجاده، ونسبة إلى العبد، باعتبار محليته واتصافه به، وإنكاره باعتبار النسبة الثانية، والرضا باعتبار النسبة الأولى.(8/449)
ثم ذكره سبحانه بنعمه عليه من إيوائه بعد يتمه، فقال: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآَوَى} وذهب بعضهم إلى أن معنى اليتيم من قولهم: درة يتمية، أي: ألم يجدك
__________
وقال بعض الشراح: يجوز أن المراد نفي الرضا بالدخول على وجه الخلود، وإنما قال: أن يدخل دون أن يخلد، قصد الإرادة نفي الرضا بالخلود على نهج المبالغة والاستدلال، أو أن المراد: ولا يرضى أن يعصي الله أحد من أمته، فعبر بالمسبب عن السبب إلا أن السياق يأباه انتهى.
أو لا يرضى دخولهم النار دخولا يشدد عليهم العذاب، بل يكون خفيفا، لا تسود وجوههم، ولا تزرق أعينهم، كما وردت به الأحاديث، فهو تعذيب كتأديب الحشمة، بل قال صلى الله عليه وسلم: "إنما حر جهنم على أمتي كحر الحمام".
أخرجه الطبراني، برجال ثقات عن الصديق، وللدارقطني في الأفراد عن ابن عباس، رفعه: "أن حظ أمتي من النار، طول بلائها تحت التراب".
وفي تفسير السبكي: أطلقت الأمة وجوب الرضا بالقضاء، وشاع على ألسنة العلماء والعوام، وورد مرفوعًا: يقول الله: من لميرض بقضائي، فليطلب ربا سواي، وفي شامل إمام الحرمين، لم يثبت عندنا وجوب الرضا بالقضاء، فإن الإنسان إذا اعترته الآلام، واكتنفته الأسقام، لا يجب عليه في الدين أن يطمئن إليها ويرضى بها، ولا عليه أن يكرهها ويبدي قلقا منها، يقول: لا ينطوي على اعتراض، قال: والخبر من الآحاد، لا تقوم به الحجة في القطعيات، ثم يعارضه استعادة النبي صلى الله عليه وسلم من قضاء السوء. انتهى.
"ثم ذكره" بشد الكاف، أي: جعله "سبحانه" متذكرا "بنعمه عليه"، أي: ذكره بتفصيلها أو تفضيلها بالضاد وإن كان ذاكرًا لها، وكيف ينسى مثله، وقد قام حتى تورمت قدماه، وقال: أفلا أكون عبدا شكورًا.
وقال بعض الشراح: المراد إعلامه بما أنعم به عليه، أو لاشتغاله بتذكير النعم العظيمة المتجددة، أو النعم كلها على الإجمال، قد يغفل عن تفصيلها، أو التذكير بمعنى الوعظ، لئلا يغفل، نحو: فذكر بالقرآن "من إيوائه" إلى عمه أبي طالب، حتى كان عنده أعز من بنيه "بعد يتمه" بموت أبيه وأمه حبلى به على الصحيح، وقيل: بعد أن ولد بقليل، "فقال: {أَلَمْ يَجِدْكَ} ، من الوجود بمعنى العلم {يَتِيمًا} مفعوله الثاني، أو المصادفة، ويتيما حال {فَآَوَى} بالمد وقرئ بالقصر بمعنى، رحم تقول أويت فلانا، أي: رحمته، قاله ابن عطية، وقيل: معنى الآية أواه الله إلى نفسه، ولم يحوجه لحمايةأحد وإيوائه، وهو بمعنى قول جعفر الصادق: يتم صلى الله عليه وسلم لئلا يكون عليه حق لمخلوق، "وذهب بعضهم إلى أن معنى اليتيم" عديم(8/450)
واحدا في أرض قريش عديم النظير فآواك إليه وأغناك بعد الفقر.
ثم أمره سبحانه وتعالى أن يقابل هذه النعم الثلاثة بما يليق بها من الشكر فنهاه أن يقهر اليتيم، وأن ينهر السائل، وأن يكتم النعمة، بل يحدث بها، فإن من شكر النعمة التحدث بها. وقيل: المراد بالنعمة النبوة، والتحدث بها: تبليغها.
__________
النظير "من قولهم: درة يتيمة" أي: لا نظير لها، وتسمى فريدة أيضا لانفرادها عن نظائرها، "أي: ألم يجدك واحدا في أرض قريش"، بل في جميع الخلق، "عديم النظير، فآواك إليه" لانتفاء من يكافئك أو يدانيك، بحيث تركن إليه.
قال التجاني: وهذا قول ضعيف، حكاه صاحب المشرع الروي، وجعله في الكشاف من بدع التفاسير، "وأغناك بعد الفقر".
قال ابن عطية: قال: مجاهد معناه بما أعطاك من الرزق، وقيل: فقير إليه، فأغناك به، والجمهور: على أنه فقر المال، لمعنى فيه صلى الله عليه وسل، أنه أغناه بالقناعة والصبر وحببا إليه، وقيل: بالكفاف لتصرفه في مال خديجة، ولم يكن كثير المال، ورفعه الله عن ذلك، وقال: ليس الغنى عن كثرة العرض، ولكنه غنى النفس، "ثم أمره سبحانه وتعالى أن يقابل هذه النعم الثلاث" التي لم يشر المصنف إلى وسطاها؛ لأنه سيتكلم عليه في إزالة الشبهات "بما يليق بها من الشكر، فنهاه أن يقهر اليتيم" بقوله: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ} ، في مقابلة {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآَوَى} ، "وأن ينهر السائل" بقوله {وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ} معناه أن يرده ردا جميلا أما بعطاء أو بقول حسن، "وأن يكتم النعمة، بل يحدث بها، فإن من شكر النعمة التحدث بها" وبإظهار الملابس والمطاعم والمراكب ونحوها، فلذا أتى بمن التبعيضية.
وفي ابن عطية قوله: {وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ} بإزاء، أي: مقابل {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى} ، على قول أبي الدرداء، والحسن وغيرهما.
إن السائل هنا السائل عن العلم والدين، بإزاء قوله: {وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى} وقوله: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} ومن قال: السائل هو سائل المال، المحتاج، جعلها بإزاء {وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى} وجعل {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} بإزاء {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى} "وقيل: المراد بالنعمة النبوة والتحدث" بالجر عطفا على النعمة، أي: والمراد بالتحدث "بها تبليغها" للناس وهذا قول مجاهد والكلبي.
وقال آخرون: بل هو عام في جميع النعم، وكان بعض الصالحين يقول: لقد أعطاني الله كذا، وصليت البارحة كذا، وذكرت الله كذا، فقيل له: مثلك لا يقول هذا، فقال: إن الله يقول: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} وأنتم تقولون: لا تحدث وقال صلى الله عليه وسلم: "التحدث بالنعمة شكر"، وقال: "من أسديت إليه يدا فذكرها، فقد شكرها، ومن سترها فقد كفرها"، ذكره ابن عطية.(8/451)
الفصل الثالث: في قسمه تعالى على تصديقه عليه الصلاة والسلام
فيما أتى به من وحيه وكتابه وتنزيهه عن الهوى في خطابه:
قال الله تعالى: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى، مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى، وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم: 1-3] .
أقسم تعالى بالنجم على تنزيه رسوله وبراءته مما نسبه إليه أعداؤه من الضلال والغي.
__________
"الفصل الثالث":
في قسمه تعالى على تصديقه عليه الصلاة والسلام فيما أتى به من وحيه "مصدر بمعنى اسم المفعول"، فقوله: "وكتابه" خاص على عام، "وتنزيهه عن الهوى في خطابه"، أي: نطقه، "قال الله تعالى: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} أقسم الله تعالى بهذا المخلوق تشريفا له وتنبيها للاعتبار به، حتى تؤول العبرة إلى معرفة الله تعالى، وقيل: المعنى: ورب النجم، وفيه قلق مع لفظ الآية {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} والضلال يكون بلا قصد وألغي كأنه شيء يكتسبه ويريده {وَمَا يَنْطِقُ} صاحبكم {عَنْ الْهَوَى} [النجم: 1] ، أي: بهواه وشهوته، وقيل: ما ينطق القرآن المنزل عن هوى وشهوة، ونسب النطق إليه من حدث أنه يفهم منه الأمور، كما قال تعالى: {هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ} [الجاثية: 29] وأسند النطق إليه وإن لم يتقدم له ذكر لدلالة المعنى عليه.
ذكره ابن عطية: "أقسم تعالى بالنجم على تنزيه رسوله، وبراءته مما نسبه إليه أعداؤه" الكفار "من الضلال والغي"، فنفى عنه أن يكون ضل في هذا السبيل لتي أسلكه إياها.
قال الرازي والنسفي: أكثر المفسرين أن لا فرق بين الضلال والغي، وبعضهم قال: الضلال في مقابلة الهدى، والغي في مقابلة الرشد.
قال تعالى: {وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا} وتحقيق الفرق؛ أن الضلال أعم استعمالا في الوضع، تقول: ضل بعيري ورحلي، ولا تقول: غوى، والمراد من الضلال أن لا يجد السالك إلى مقصده طريقا مستقيما، والغواية أن لا يكون إلى المقصد طريق مستقيم، ويدل عليه؛ أنه يقال للمؤمن الذي ليس على طريق السداد سفيه غير رشيد، ولا يقال: ضال، فالضال كالكافر، والغاوي كالفاسق، وكأنه تعالى قال: "ما ضل"، أي: ما كفر، ولا أقل من ذلك فما فسقئ، ويؤيده {فَإِنْ آَنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا} إذ يقال:(8/452)
واختلف المفسرون في المراد بالنجم بأقاويل معروفة.
منها: "النجم" على ظاهره، وتكون "أل" لتعريف العهد في قول، ولتعريف الجنس في آخر، وهي النجوم التي يهتدي بها. فقيل: الثريا إذا سقطت وغابت، وهو مروي عن ابن عباس في رواية علي بن أبي طلحة وعطية. والعرب إذا أطلقت النجم تريد بها الثريا. وعن ابن عباس في رواية عكرمة: النجوم التي ترمى بها
__________
الضلال كالعدم، والغواية كالوجود الفاسد في الدرجة والمرتبة، ويحتمل أن معنى ما ضل ما جن، فإن المجنون ضال، وعلى هذا، فهو كقوله: {مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} ، وقيل: معنى ما غوى: ما خاب لما طلب، قال:
فمن يلق خيرا يحمد الناس أمره ... ومن يغو لا يعدم على الغي لائما
أي: من خاب في طلبه لامه الناس، فيجوز أن هذا إخبار عما بعد الوحي، وأن يكون إخبارا عن أحواله على التعميم، أي: كان أبدا موحدا لله تعالى، وهو الصحيح.
"واختلف المفسرون في المراد بالنجم بأقاويل معروفة": جمع أقوال، جمع قول، فهو جمع الجمع، عبر به للدلالة على كثرتها، والباء متعلقة بالمفسرين، أو بمقدر من جنسه؛ لأنه يقال: فسره بكذا، فيتعدى بالباء، وهو وإن كان بعيدا أظهر من تقدير اختلافا مصحوبا بأقاويل "منها النجم على ظاهره" سمي الكوكب نجما لطلوعه، وكل طالع نجم، يقال: نجم السن والقرن والنبت، إذا طلع قاله ابن عادل والقرطبي، وزاد: ونجم فلان ببلد كذا.
إذا خرج على السلطان، "وتكون أل لتعريف العهد في قول": والمعهود الثريا أو غيرها كما يأتي "ولتعريف الجنس في آخر، وهي النجوم التي يهتدى بها" في ظلمات البر والبحر، وإلى هذا ذهب أبو عبيدة، قائلا: بأنه من إطلاق الواحد على الجمع، ونقله ابن عطية والماوردي عن الحسن، وقاله غيرهما عن مجاهد، وبه رد قول ابن جرير، هذا التأويل له وجه، ولكن لا أعلم أحدا من أهل التأويل قاله، "فقيل: الثريا" بالمثلثة تفريع على أن أل للعهد، "إذا سقطت وغابت" تفسير لهوى، وهويها مغيبها، وهو مروي عنابن عباس في رواية علي بن أبي طلحة" سالم مولى بني العباس، سكن حمص، وأرسل عن ابن عباس، ولم يره، صدوق، قد يخطئ، مات سنة ثلاث وأربعين ومائة، "وعطية" بن سعد العوفي، الكوفي، صدوق، يخطئ كثيرا، وكان شيعيا مدلسا، مات سنة إحدى عشرة ومائة، و"العرب إذا أطلقت النجم تريد بها الثريا"، قال الشاعر:
طلع النجم عشاء ... فابتغى الراعي الكساء
وفي الحديث: "ما طلع نجم قط، وفي الأرض من العاهة شيء إلا ارتفع"، رواه أحمد وأورد(8/453)
الشياطين إذا سقطت في آثارها عند استراق السمع، وهذا قول الحسن، وعن السدي الزهرة، وعن الحسن أيضا النجوم إذا سقطت يوم القيامة.
وقيل: المراد به النبت الذي لا ساق له، و"هوى" أي سقط على الأرض.
وقيل: القرآن، رواه الكلبي عن ابن عباس؛ لأنه نزل نجوما على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو قول مجاهد ومقاتل والضحاك.
وقال جعفر بن محمد بن علي بن الحسين: هو محمد صلى الله عليه وسلم "إذا هوى" أي نزل من السماء ليلة المعراج.
__________
الثريا، واختار هذا القول ابن جرير والزمخشري، وقال السمين: إنه الصحيح؛ لأن هذا صار علما بالغلبة، وقال عمر بن أبي ربيعة:
أحسن النجم في السماء الثريا ... والثريا في الأرض زين النساء
"وعن ابن عباس في رواية عكرمة بن عبد الله البربري، أراد "النجوم التي ترمى بها لاشياطين، إذا سقطت في آثارها"؛ لأن الهوى السقوط من علو، قاله الراغب "عند استراق السمع وهذا قول الحسن"، البصري، وهو تفريع على أن أل جنسية، "وعن السدي" "بضم السين وشد الدال المهملتين" إسماعيل بن عبد الرحمن الكوفي، صدوق، يهم، مات سنة سبع وعشرين ومائة، "الزهرة" بزنة رطبة نجم في السماء الثالثة.
وكذا قال سفيان الثوري: على أن أل عهدية: "وعن الحسن" البصري "أيضا: النجوم إذا سقطت يوم القيامة" فهو بمعنى قوله: وإذا الكواكب انتثرت على إنها جنسية.
وقيل: المراد الشعري على أنها عهدية، "وقيل: المراد به النبت الذي لا ساق له" ومنه: {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ} الآية، "وهوى، أي: سقط على الأرض" وهذا قول الأخفش، "وقيل: القرآن، رواه الكلبي" محمد بن السائب، "عن ابن عباس؛ لأنه نزل نجوما" أي: أجزاء مقدرة في أوقات، قاله ابن عطية، وفي ابن القيم، أربع آيات وثلاث آيات، والسورة "على رسول الله صلى الله عليه وسلم" في ثلاث وعشرين سنة، أو عشرين "بالفاء" مدة الفترة، "وهو قول مجاهد ومقاتل والضحاك" وهوى بمعنى نزل.
وفي هذا القول بعد وتحامل على اللغة قاله ابن عطية، "وقال جعفر" الصادق، لصدقه في مقاله "بن محمد" الباقري، لبقره العلم، "ابن علي" زين العابدين "بن الحسين" السبط، "وهو محمد صلى الله عليه وسلم، إذا هوى، أي: نزل من السماء ليلة المعراج".
قال النعماني: ويعجبني هذا التفسير لملاءمته من وجوه، فإنه صلى الله عليه وسلم نجم هداية، خصوصًا(8/454)
وأظهر الأقوال: -كما قاله ابن القيم- أنها النجوم التي ترمى بها الشياطين، ويكون سبحانه قد أقسم بهذه الآية الظاهرة المشاهدة التي نصبها الله تعالى آية وحفظًا للوحي من استراق الشياطين، على أن ما أتى به رسوله حق وصدق لا سبيل للشيطان ولا طريق له إليه، بل قد حرس بالنجم إذا هوى رصدًا بين يدي الوحي، حرسًا له، وعلى هذا فالارتباط بين المقسم به والمقسم عليه في غاية الظهور، وفي المقسم به دليل على المقسم عليه.
وليس بالبين تسمية القرآن عند نزوله: بالنجم إذا هوى، ولا تسمية نزوله هويًا، ولا عهد في القرآن بذلك، فيحمل هذا اللفظ عليه.
__________
لما هدى إليه من فرض الصلاة تلك الليلة، وقد علمت منزلة الصلاة من الدين، ومنها أنه أضاء في السماء والأرض، ومنها التشبيه بسرعة السير، ومنها أنه كان ليلًا، وهو وقت ظهور النجم، فهو لا يخفي على ذي بصر، وأما أرباب البصائر، فلا يمترون، كالصديق رضي الله عنه، وعن جعفر أيضًا أنه قلب محمد صلى الله عليه وسلم، كما في الشفاء، أي: لإشراقه بالأنوار الإلهية، وهو منبعها ومنبع الهداية، وإن كان فيه خفاء، وأبعد منه أنه الصحابة، لحديث: أصحابي كالنجوم، حكاه التجاني، وهو يهم موتهم، "وأظهر الأقوال، كما قاله ابن القيم؛ أنها النجوم التي ترمى بها الشياطين"؛ لأنها تبعد الشياطين عن أهل السماء، والأنبياء يبعدون الشياطين عن أهل الأرض، فناب أن يقسم برجمها عند البعثة، "ويكون سبحانه قد أقسم بهذه الآية، الظاهرة، المشاهدة" بالبصر، "التي نصبها الله تعالى آية وحفظًا للوحي من استراق الشياطين" السمع، فيزيدون فيه، فيكون ما زادوه باطلًا، "على أن ما أتى به رسوله حق وصدق، لا سبيل للشيطان ولا طريق له إليه" "عطف متساوٍ"، "بل قد حرس بالنجم إذا هوى رصدًا" أي: رصدًا له "بين يدي الوحي" يمنعهم عن استماعه "حرسًا له" منهم عطف تفسير لرصدًا، "وعلى هذا، فالارتباط بين المقسم به والمقسم عليه في غاية الظهور"؛ لأن المقسم به هو النجم الذي قصد بسقوطه حفظ الوحي، والمقسم عليه هو نفس الوحي، "وفي المقسم به دليل على المقسم عليه" فإن النجوم التي ترمى بها الشياطين آيات من آيات الله، يحفظ بها دينه ووحيه وآياته المنزلة على رسوله، بها ظهر دينه وشرعه، وأسماؤه وصفاته، وجعلت هذا النجوم المشاهدة حرسًا لهذه النجوم الهاوية، هذا أسقطه من ابن القيم قبل قوله مبينًا لخفاء ما عدا القول الذي استظهره، "وليس بالبين تسمية القرآن عند نزوله بالنجم إذا هوى، ولا تسمية نزوله هويًا" "بضم الهاء وفتحها"، "ولا عهد في القرآن بذلك" أي: تسميته بالنجم، "فيحمل" بالنصب "هذا اللفظ(8/455)
وليس بالبيت تخصيص هذا القسم بالثريا وحدها إذا غابت.
وليس بالبيت أيضًا القسم بالنجوم عند انتشارها يوم القيامة. بل هذا مما يقسم الرب عليه، ويدل عليه بآياته، فلا يجعله نفسه دليلًا لعدم ظهوره للمخاطبين ولا سيما منكرو البعث، فإنه تعالى إنما يستدل بما لا يمكن جحده ولا المكابرة فيه، ثم إنه بين المقسم به والمقسم عليه من المناسبة ما لا يخفى.
فإن قلنا: إن المراد النجوم التي للاهتداء فالمناسبة ظاهرة، وإن قلنا: إن المراد الثريا؛ فلأنه أظهر النجوم عند الرائي؛ لأنه لا يشتبه بغيره في السماء، وهو ظاهر لكل أحد، والنبي صلى الله عليه وسلم تميز عن الكل بما منح من الآيات البينات؛ ولأن الثريا إذا ظهرت من المشرق حان إدراك الثمار، وإذا ظهرت من المغرب قرب أوان الخريف فتقل الأمراض، والنبي صلى الله عليه وسلم لما ظهر قل الشرك والأمراض القلبية.
__________
عليه" بل قال ابن عطي: إنه تحامل على اللغة مع بعده، "وليس بالبين" أيضًا "تخصيص هذا القسم بالثريا وحدها إذا غابت"؛ لأنه تخصيص بلا مخصص، لكن فيه أن العرب إذا أطلقت النجم، تعني الثريا والقرآن، وأراد بلغتهم، فهو وجه التخصيص، "وليس بالبين أيضًا القسم بالنجوم عند انتشارها" تساقطها متفرقة "يوم القيامة، بل هذا مما يقسم الرب عليه" لا به، "ويدل عليه بآياته، فلا يجعله نفسه دليلًا لعدم ظهوره للمخاطبين، ولا سيما منكرو البعث، فإنه تعالى إنما يستدل بما لا يمكن جحده ولا المكابرة فيه" فيذكر الدليل لمن هو بصدد الإنكار.
قال ابن كثير: وهذا القول له اتجاه، "ثم إنه بين المقسم به والمقسم عليه من المناسبة ما لا يخفى" كلام مستأنف غرضه، به توجه الأقوال التي أسلفها، وإن استظهر واحدًا منها واستبعد غيره، "فإن قلنا: أن المراد النجوم التي للاهتداء، فالمناسبة ظاهرة"؛ لأنه يهتدى بها في معرفة الطرقات وغيرها.
وبالمصطفى من ظلمات الجهل ومعرفة الحق من الباطل، فأقسم بها لما بينهما من المناسبة والمشابهة، قال الرازي: "وإن قلنا أن المراد الثريا؛ فلأنه أظهر النجوم عند الرائي؛ لأنه" لكونه له علامة "لا يشتبه بغيره في السماء، وهو ظاهر لكل أحد، والنبي صلى الله عليه وسلم تميز عن الكل بما منح" أي: أعطي "من الآيات البينات" فأقسم به؛ "ولأن الثريا إذا ظهرت من" جهة "المشرق" وقت الفجر، "حان" أي: قرب "إدراك الثمار" أي: طيبها، "وإذا ظهرت من المغرب قرب أوان الخريف، فتقل الأمراض" معناه إنها تظهر بعيد الغروب، بحيث يكون ابتداء ظهورها بين المغرب والعشاء، وتستمر ظاهرة إلى الفجر، "والنبي صلى الله عليه وسلم لما ظهر قل(8/456)
وإن قلنا: إن المراد بها القرآن فهو استدلال بمعجزته صلى الله عليه وسلم على صدقه وبراءته، وأنه ما ضل ولا غوى، وإن قلنا: المراد به النبات، فالنبات به نبات القوى الجسمانية وصلاحها، والقوى العقلية أولى بالصلاح، وذلك بالرسل وإيضاح السبل.
وتأمل كيف قال الله تعالى: {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُم} ولم يقل: محمد، تأكيدًا لإقامة الحجة عليهم بأنه صاحبهم، وهو أعلم الخلق به وبحاله وأقواله وأعماله، وأنهم لا يعرفونه بكذب ولا غي ولا ضلال، ولا ينقمون عليه أمرًا واحدًا قط، وقد نبه تعالى على هذا المعنى بقوله عز وجل: {أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُم} [المؤمنون: 69] .
ثم نزه نطق رسوله صلى الله عليه وسلم عن أن يصدر عن هوى فقال تعالى: {وَمَا يَنْطِق
__________
الشرك والأمراض القلبية" وأدركت الثمار الحكمية، والحكمية هذا بقية المناسبة التي أبداها الإمام الرازي، "وإن قلنا: أن المراد بها القرآن، فهو استدلال بمعجزته صلى الله عليه وسلم على صدقه وبراءته، وأنه ما ضل ولا غوى".
زاد الرازي: فهو كقوله: {يس، وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ، إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} ، "وإن قلنا: المراد به النبات فالنبات به نبات، القوى الجسمانية" أي: المتعلقة بالجسم "بكسر الجيم"، وهو كل شخص مدرك، وقال أبو زيد: الجسم الجسد، "و" به "صلاحها والقوى العقلية"، وهي الصفة التي يميز بها الإنسان الحسن من القبيح، "أولى": أحق "بالصلاح، وذلك بالرسل وإيضاح السبل"، وبعد أن أبدى الرازي هذه المناسبات، قال: ومن هذا يظهر أن المختار هو النجوم التي في السماء؛ لأنه أظهر عند السامع، وقوله: إذا هوى دال عليه، ثم بعده القرآن لما فيه من الظهور، ثم الثريا، "وتأمل كيف، قال الله تعالى: {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُم} ولم يقل محمد تأكيدًا لإقامة الحجة عليهم؛ بأنه صاحبكم" الذي نشأ بين ظهرانيهم، "وهم أعلم الخلق به، وبحاله وأقواله وأعماله، وأنهم لا يعرفونه بكذب، ولا غي، ولا ضلال، ولا ينقمون" "بكسر القاف وفتحها"، لا يعيبون "عليه أمرًا واحدًا قط، وقد نبه تعالى على هذا المعنى، بقوله عز وجل: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ} [المؤمنون: 68] الآية، {أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ} بالأمانة والصدق وحسن الخلق، وكمال العلم مع عدم التعلم، والاستفهام للتقرير بالحق من صدق النبي، ومجيء الرسل للأمم الماضية، ومعرفة رسولهم بما ذكر، فهم له، منكرون دعواه لأحد هذه الوجوه، إذ لا وجه له غيرها، فإن إنكار الشيء قطعًا أو ظنًا إنما يتجه إذا ظهر امتناعه بحسب النوع، أو الشخص، أو بحسب ما يدل عليه أقصى ما يمكن، فلم يوجد، "ثم نزه نطق رسوله صلى الله عليه وسلم عن أن يصدر عن هوى" بالقصر المحبة في(8/457)
عَنِ الْهَوَى} ولم يقل: وما ينطق بالهوى؛ لأن نفي نطقه عن الهوى أبلغ، فإنه يتضمن أن نطقه لا يصدر عن هوى، وإذا لم يصدر عن هوى فكيف ينطق به، فيتضمن هو الأمرين: نفي الهوى عن مصدر النطق، ونفيه عن النطق نفسه، فنطقه بالحق ومصدره الهدى والرشاد، لا الغي والضلال.
__________
الأصل، ثم أطلق على ميل النفس وانحرافها نحو الشيء، ثم استعمل في ميل مذموم، نحو: اتبع هواه.
قال الرازي: وأحسن ما يقال في تفسيره أنه المحبة، لكن من النفس الأمارة، وحروفه تدل على الدنو والنزول والسقوط، ومنه الهاوية، فالنفس كانت دنية، وتركت المعالي، وتعلقت بالسفاسف، فقد هوت، فاختص الهوى بالنفس الإشارة بالسوء.
قال الشعبي: إنما سمي هوى؛ لأنه يهوى بصاحبه، "فقال تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} وهذا ترتيب في غاية الحسن، عبر أولًا بالماضي، وهنا بالآتي، أي: ما ضل حين اعتزلكم وما تعبدون، وما غوى حين اختلى بنفسه، وما ينطق عن الهوى الآن حين أرسل إليكم وجعل شاهدًا عليكم، فلم يكن أولًا ضالًا غاويًا، وصار الآن منقذًا من الضلال ومرشدًا وهاديًا، "ولم يقل: وما ينطق بالهوى؛ لأن نفي نطقه عن الهوى أبلغ" من نقي نطقه به، "فإنه يتضمن أن نطقه لا يصدر عن هوى وإذا لم يصدر عن هوى، فكيف ينطق به، فيتضمن هو" أي: نفي صدوره عن الهوى "الأمرين" بالنصب مفعول "نفي الهوى" بالنصب أيضًا بدل مفصل من مجمل، أو الرفع بتقدير، وهما نفي، ولا يصح جره بدلًا من الأمرين؛ لأنهما منفيان لا نفيان "عن مصدر النطق، ونفيه عن النطق نفسه، فنطقه بالحق ومصدره"، أي: محله الذي يصدر عنه هو "الهدى والرشاد، لا الغي والضلال" فعن على بابها.
قال النحاس: وهو أولى، أي: ما يخج نطقه عن رأيه بدليل إن هو.. إلخ، وقيل: بمعنى الباء، أي: ما ينطق بالهوى، وما يتكلم بالباطل، وذلك أنهم قالوا: إنه تقول القرآن من تلقاء نفسه.
قال: ابن القيم نفي الله عن رسوله الضلال المنافي للهدى، والغي المنافي للرشاد، ففي ضمن هذا النفي الشهادة له صلى الله عليه سولم بأنه على الهدى والرشد، فالهدى في علمه، والرشد في عمله، وهذان الأصلان هما غاية كمال العبد، وبهما سعادته وصلاحه، إلى أن قال: فالناس أقسام، ضال في علمه، غاوٍ في قصده وعمله، وهو لا شرار الخلق، وهم مخالفو الرسل، ومهتدي في عمله، وهؤلاء هم الأمة العصبية، ومن تشبه بهم، وهو حال كل من عرف الحق ولم يعمل به، وضال في علمه، ولكن قصده الخير، وهو لا يشعر، ومهتد في علمه، راشد في قصده، وهم ورثة(8/458)
ثم قال تعالى: {إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} فأعاد الضمير على المصدر المفهوم من الفعل، أي: ما نطقه إلا وحي يوحى، وهذا أحسن من جعل الضمير عائدًا إلى القرآن، فإنه نطقه بالقرآن والسنة، وإن كليهما وحي يوحى، قال الله تعالى: {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [النساء: 113] وهما القرآن والسنة، وذكر الأوزاعي عن حسان بن عطية قال: كان جبريل ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسنة كما ينزل عليه بالقرآن يعلمه إياها.
__________
الأنبياء، وإن كانوا أقل عددًا، فهم الأكثرون عند الله قدرًا، وصفوته من خلقه، "ثم قال تعالى: {إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 4] .
قال الرازي: هذا تكملة للبيان؛ لأنه لما قيل {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} ، كان قائلًا قال: فماذا ينطق، أعن الدليل والاجتهاد؟، فقال: لا إنما ينطق عن الله بالوحي وهذا أبلغ مما لو قيل: هو وحي يوحى، وكلمة إن استعملت مكان ما للنفي، كما استعملت ما للشرط مكان أن، "فأعاد الضمير على المصدر المفهوم من الفعل، أي: ما نطقه إلا وحي يوحى" صفة لنفي المجان، أي: هو وحي حقيقة، لا مجرد تسمية، كقولك: هذا قول يقال، قاله في اللباب، "وهذا أحسن من جعل الضمير عائدًا إلى القرآن" ووجه إلا حسنية، بوله: "فإن نطقه بالقرآن والسنة، وأن كليهما وحي يوحى"، أي: لإفادته أن السنة من الوحي، بخلاف عودة على القرآن، فلا يفيد ذلك، "قال الله تعالى: {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} الآية، وهما القرآن والسنة" تفسير الحكمة في أحد الأقوال، ومنه أخذ منع اجتهاده. وأجيب بأنه إذا اجتهد وافق الواقع، ولا يقع منه خطأ، ويقر عليه، وينبه على أنه حق، فصار بمنزلة الوحي، "وذكر الأوزاعي" عبد الرحمن بن عمرو، والفقيه، الثقة، الجليل، المتوفى سنة سبع وخمسين ومائة، "عن حسان بن عطية" المحاربي، مولاهم الدمشقي، ثقة، فقيه، عابد، مات بعد العشرين ومائة، "قال: كان جبريل ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسنة، كما ينزل عليه بالقرآن، يعلمه إياها".
أخرجه الدارمي بإسناد صحيح عنه وهو مرسل؛ لأن حسان بن عطية من صغار التابعين، وله شواهد كثيرة، منها: ما أخرجه أحمد عن أبي أمامة رفعه: "ليدخلن الجنة بشفاعة رجل من أمتي مثل الحيين ربيعة ومضر"، فقال رجل: يا رسول الله، وما ربيعة من مضر؟، فقال: "إنما أقول ما أقول"، وإسناده حسن.
وروى أبو داود وابن حبان، مرفوعًا: "إلا أني أوتيت الكتاب وما يعدله، فرب شبعان على أريكته يحدث بحديثي، فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله، ما كان فيه من حلال استحللناه، وما(8/459)
ثم أخبر تعالى عن وصف من علمه الوحي، والقرآن بما يعلم أنه مضاد لأوصاف الشياطين معلمي الضلال والغواية فقال: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} وهو جبريل، أي قواه العلمية والعملية كلها شديدة، ولا شك أن مدح المعلم مدح للمتعلم. فلو قال: علمه جبريل ولم يصفه لم يحصل للنبي صلى الله عليه وسلم به فضيلة ظاهرة. وهذا نظير قوله تعالى: {ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِين} [التكوير: 20] كما سيأتي البحث فيه إن شاء الله تعالى.
ثم أخبر سبحانه وتعالى عن تصديق فؤاده لما رأته عيناه. وأن القلب صدق العين، وليس كمن رأى شيئًا على خلاف ما هو به، فكذب فؤاده بصره، بل ما رآه ببصره صدقه الفؤاد، وعلم أنه كذلك. وفي حديث الإسراء مزيد لما ذكرته هنا، والله الموفق والمعين.
وقال تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ، الْجَوَارِ الْكُنَّسِ} إلى قوله: {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيم} [التكوير: 15] .
__________
"كان فيه من حرام حرمناه، ألا وإنما حرمه رسول الله مثل ما حرم الله"، "ثم أخبر تعالى عن وصف من علمه الوحي والقرآن بما يعلم" "بضم الياء وكسر اللام"؛ "أنه مضاد لأوصاف الشياطين معلمي الضلال والغواية" "بفتح الغين، وفي لغة بكسرها"، على ما في المصباح، ونفاها في القاموس، "فقال: {عَلَّمَهُ} أي: صاحبكم {شَدِيدُ الْقُوَى} وهو جبريل، أي قواه العلمية والعملية كلها شديدة، ولا شك أن مدح المعلم مدح للمتعلم. فلو قال: علمه جبريل ولم يصفه لم يحصل للنبي صلى الله عليه وسلم به فضيلة ظاهرة"، وأيضًا ففيه الوثوق، بقول جبريل؛ لأن قوة الإدراك شرط في الوثوق بقول القائل، وكذا قوة الحفظ والأمانة، فقال: ذلك ليجمع هذه الشروط، "وهذا نظير قوله تعالى: {ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِين} [التكوير: 20] الآية، "كما سيأتي البحث فيه إن شاء الله تعالى" قريبًا، "ثم أخبر سبحانه وتعالى عن تصديق فؤاده" صلى الله عليه وسلم "لما رأته" أبصرته "عيناه، وأن القلب" المعبر عنه بالفؤاد "صدق العين، وليس كمن رأى شيئًا على خلاف ما هو به، فكذب فؤاده بصره، بل ما رآه ببصره صدقه الفؤاد، وعلم أنه كذلك، وفي حديث الإسراء مزيد لما ذكرته هنا، والله الموفق والمعين" لا غيره.
"وقال تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ، الْجَوَارِ الْكُنَّسِ} بدون ياء لجميع القراء إلا يعقوب، فأثبتها {الْكُنَّسِ} [التكوير: 15] الآية، "إلى قوله: {وَمَا هُوَ} أي: القرآن {بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيم} ،(8/460)
أي: لا أقسم إذ الأمر أوضح من أن يحتاج إلى قسم.
أو: فاقسم، و"لا" مزيدة للتأكيد، وهذا قول أكثر المفسرين بدليل قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} .
قال الزمخشري: والوجه أن يقال: هي للنفي، أي أنه لا يقسم بالشيء إلا إعظامًا له، فكأنه بإدخال حرف النفي يقول: إن إعظامي بإقسامي به كلا إعظام، يعني أنه يستأهل فوق ذلك.
أقسم سبحانه وتعالى بالنجوم في أحوالها الثلاثة: في طلوعها وجريانها وغربوها، وبانصراف الليل وبإقبال النهار عقيبه من غير فصل، فذكر سبحانه حالة
__________
مرجوم بالكواكب واللعنة، وغير ذلك نفي لقول قريش: إن محمدًا كاهن، "أي: لا أقسم، إذ الأمر أوضح من أن يحتاج إلى قسم"، فلا ليست بزائدة عند كثير من المفسرين؛ لأن الأصل عدم الزيادة، "أو فأقسم، ولا مزيدة للتأكيد" والتقوية، "وهذا قول أكثر المفسرين"، وهو أنسب بالمقام، وبما عقد له الفصل، "بدليل قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} [الواقعة: 76] الآية، إذ الآيتان في بيان شأن القرآن، فهما متوافقتان في المعنى.
"قال الزمخشري: والوجه"، أي: المتجه "أن يقال: هي للنفي" لا زائدة، "أي: أنه لا يقسم بالشيء إلا إعظامًا له، فكأنه بإدخال حرف النفي يقول: إن إعظامي بأقسامي به كلا إعظام" ولم أوهم اللفظ ما ليس بمراد دفعه، بقوله: "يعني أنه يستأهل"، أي": يستحق "فوق ذلك" وفي ابن عطية: لا إما زائدة، وأما رد لقول قريش: ساحر كاهن ونحوه، وتكذيبهم نبوته صلى الله عليه وسلم، ثم ابتدأ ما بعده، "أقسم سبحانه وتعالى بالنجوم في ألآحوالها الثلاثة في طلوعها" المفهوم من الخنس؛ لأنها الكواكب التي تظهر ليلًا، "وجريانها" في سيرها، بقوله: الجوار، "وغروبها" المفهوم من قوله: الكنس، أي: السيارات التي تختفي تحت ضوء الشمس من كنس الوحش، إذا دخل كناسه، وهو بيته المتخذ من أصان الشجر، كما في الأنوار، وفي ابن عطية جمهور المفسرين أن الجوار الدراري السبعة: الشمس، والقمر، وزحل وعطارد، والمريخ، والزهرة، والمشتري.
وقال علي بن أبي طالب: المراد الخمسة دون الشمس والقمر، وذلك؛ لأن هذه الخمسة تخنس في جريانها، أي: تتقهقر وترجع فيما ترى العين، وهي جوار في السماء، وهي تكنس في أبراجها، أي: تستتر.
وقال علي أيضًا، والحسن وقتادة: المراد النجوم كلها؛ لأنها تخنس وتكنس بالنهار حتى(8/461)
ضعف هذا وإدباره، وحالة قوة هذا وإقباله، يطرد ظلمة الليل بتنفسه، فكلما تنفس هرب الليل وأدبر بين يديه، وذلك من آياته ودلائل ربوبيته أن القرآن قول رسول كريم، وهو هنا جبريل؛ لأنه ذكر صفته قطعًا بعد ذلك بما يعنيه به.
__________
تختفي.
وقال ابن مسعود، والنخعي، وجابر بن زيد، وجماعة: المراد بالخنس الجوار الكنس: بقر الوحش؛ لأنها تفعل هذه الأفعال في كناسها، وهي المواضع التي تأوي إليها من الشجر والغيران ونحوه.
وقال ابن عباس والحسن أيضًا والضحاك: هي الظباء، وذهب هؤلاء في الخنس إلى أنه صفة لازمة؛ لأنه يلزمها الخنس، وكذا في بقر الوحش أيضًا. انتهى.
"وبانصرام الليل"، أي: ذهابه المفهوم من قوله: إذا عسعس، "وبإقبال النهار عقيبه" "بالياء لغة" في عقب "من غير فصل"، المفهوم من قوله: {وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّس} [التكوير: 18] .
قال ابن عطية: عسعس الليل في اللغة إذا كان غير مستحكم الظلام، فقال الحسن: ذلك وقت إقباله، وبه وقع القسم، وقال زيد بن أسلم، وابن عباس، وعلي، ومجاهد، وقتادة: ذلك عند إدباره، وبه وقع القسم، ويرجع هذا قوله بعد {وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّس} ، فكأنهما حالان، ويشهد له قول علقمة:
حتى إذا الصبح لها تنفسا ... وانجاب عنها ليلها وعسعسا
وقال المبرد: أقسم بإقبال الليل ودباره معًا، قال الخليل: يقال: عسعس الليل، وسعسع إذا أقبل وأدبر وتنفس الصبح، استطاروا تسع ضوؤه، قال علوان بن قيس:
وليل دجوجي تنفس فجره ... لهم بعد ما خالوه لن يتنفسا
"فذكر سبحانه حالة ضعف هذا" أي: الليل "وإدباره" من حيث إنه لا يهتدى فيه إلى المصالح الدنيوية، وليس محلًا للسعي والتردد، "وحالة قوة هذا" أي: الصبح، "وإقباله يطرد ظلمة الليل بتنفسه، فكلما تنفس"، أي: زاد نوره "هرب الليل وأدبر بين يديه"، وفي تنفسه قولان: أحدهما: أن في إقبال الصبح روحًا ونسيمًا، فجعل ذلك نفسًا على المجاز الثاني؛ أنه شبه الليل بالمكروب، المحزون، فإذا جعل له التنفس وجد راحة، فكأنه يخلص من الحزن، فعبر عنه بالتنفس، فهو استعارة لطيفة، كما في الخازن، "وذلك من آياته ودلائل ربوبيته" ولذا أقسم به "أن القرآن قول" معمول أقسم، تفسير للضمير في {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} وقول بمعنى مقول، ورسول بمعنى مرسل.
قال ابن عطية: وكريم صفة تقتضي وقع المرام، "وهو هنا جبريل" عند جمهور المتأولين.(8/462)
وأما "الرسول الكريم" في سورة "الحاقة" فهو محمد صلى الله عليه وسلم، فأضافه إلى الرسول الملكي تارة، وإلى البشري أخرى، وإضافته إليهما إضافة تبليغ، لا إضافة إنشاء من عندهما، ولفظ "الرسول" يدل على ذلك، فإن الرسول هو الذي يبلغ كلام من أرسله، فهذا صريح في أنه كلام من أرسل جبريل ومحمدًا صلى الله عليه وسلم، فجبريل تلقاه عن الله، ومحمد صلى الله عليه وسلم تلقاه عن جبريل.
وقد وصف الله تعالى رسوله الملكي في هذه السورة بأنه كريم يعطي أفضل العطايا، وهي العلم والمعرفة والهدى والبر والإرشاد، وهذا غاية الكرم.
وذي قوة، كما قال في النجم: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} فيمتنع بقوته الشياطين أن يدنوا منه وأن يزيدوا فيه أو ينقصوا منه، وروي أنه رفع قريات قوم
__________
وقال آخرون: هو محمد صلى الله عليه وسلم في الآية كلها، والأول أصح؛ "لأنه ذكر صفته قطعًا بعد ذلك بما يعنيه به" على وجه لا يحتمل المراد غيره، "وأما الرسول الكريم في سورة الحاقة فهو محمد صلى الله عليه وسلم" لا جبريل؛ لأنه قال: {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ} ، ولا بقول كاهن والمشركون ما كانوا يصفون جبريل بالشعر والكهانة على ما يأتي، "فأضافه" أي: القول "إلى الرسول الملكي تارة، وإلى البشري أخرى، وإضافته إليهما" غير حقيقية، بل "إضافة تبليغ، لا إضافة إنشاء من عندهما، ولفظ الرسول يدل على ذلك، فإن الرسول هو الي يبلغ كلام من أرسله".
"فهذا صريح في أنه كلام من أرسل جبيل ومحمدًا صلى الله عليه وسلم، فجبريل تلقاه عن الله" تلقيًا روحانيًا "بضم الراء" لا يكيف، "ومحمد صلى الله عليه وسلم تلقاه عن جبريل، وقد وصف الله تعالى رسوله الملكي في هذه السورة"، أي: التكوير؛ "بأنه كريم، يعطي أفضل العطايا، وهي العلم والمعرفة والهدى والبر والإرشاد، هذا غاية الكرم"، نهايته التي ما بعدها غاية، "وذي قوة، كما قال في النجم {عَلَّمَهُ} أي: صاحبكم {شَدِيدُ الْقُوَى} ن [النجم: 5] الآية، العلمية والعملية، "فيمتنع بقوته الشياطين أن يدنوا منه" أي: من القول بأن يريدوا منع جبريل، من إيصاله إلى الرسول، أو منع الرسول من تبليغه للخلق، "وأن يزيدوا فيه، أو ينقصوا منه" شيئًا، ولو قل بل إذا رآه الشيطان هرب منه ولم يقربه.
"وروي" مما يدل على قوته "أنه رفع قريات" "بفتح الراء جمع تصحيح لقرية، بسكون الراء قياسًا"؛ لأن ما كان اسمًا يجمع على فعلات "بالفتح"، كجفنة وجفنات، وما كان صفة يجمع بالسكون، كصعبة وصعبات، والمتبادر من المصباح أنها اسم؛ لأنه قال: القرية كل مكان(8/463)
لوط على قوادم جناحه حتى سمع أهل السماء نباح كلابها وأصوات بنيها.
{ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} أي: متمكن المنزلة، وهذه العندية عندية الإكرام والتشريف والتعظيم.
مطاع، في ملائكة الله تعالى المقربين، يصدرون عن أمره ويرجعون إلى رأيه، ثم أمين على وحي الله ورسالته، فقد عصمه الله من الخيانة والزلل.
__________
اتصلت به الأبنية واتخذ قرارًا، ويقع على المدن وغيرها، والجمع قرى على غير قياس، أي: جمع التكسير، والتصحيح قريات "قوم لوط على قوادم جناحه" وهي أربع أو عشر ريشات في مقدم الجناح الواحدة، قادمة، كما في القاموس "حتى سمع أهل السماء نباح كلابها" "بضم النون" أصواتها "وأصوات بنيها" وصياح ديكاتها، ثم قلبها عليهم.
روى ابن عساكر عن معاوية، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجبريل: "ما أحسن ما أثنى عليك ربك {ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ، مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} ، ما كانت قوتك وما كانت أمانتك، قال: أما قوتي فإني بعثت إلى مدائن قوم لوط، وهي أربع مدائن، وفي كل مدينة أربعمائة ألف مقاتل، سوى الذرارين فحملتها من الأرض السفلى حتى سمع أهل السماء أصوات الدجاج ونباح الكلاب، ثم هويت بهن، فقلبتهن، وأما أمانتي، فلم أومر بشيء فعدوته إلى غيره".
وقال: محمد بن السائب الكلبي: من قوة جبريل أنه اقتلع مدائن قوم لوط من الماء الأسود، فحملها على جناحه حتى رفعها إلى السماء، حتى سمع أهل السماء نباح كلابهم وصياح ديكتهم، ثم قلبها، ومن قوته أيضا أنه أبصر إبليس يكلم عيسى ابن مريم على بعض عقاب الأرض المقدسة، فنفخه بجناحه نفخة ألقاه بأقصى جبل الهند، ومن قوته أيضًا: صيحته بثمود في عددهم وكثرتهم، فأصبحوا جاثمين خامدين، ومن قوته أيضًا: هبوطه من السماء على الأنبياء، وصعوده في أسرع من طرفة عين {ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} الآية، اختلف في تعلق عند ذي العرش، فقيل: متعلق بما قبله، وقيل: متعلق بمكين، "أي: متمكن المنزلة" أيك عظم مبجل، رفيع المقدار عنده، "وهذه العندية عندية الإكرام والتشريف والتعظيم" لاستحالة الحقيقة في الله تعالى: "مطاع في ملائكة الله تعالى المقربين، يصدرون عن أمره ويرجعون إلى رأيه، ثم" بفتح المثلثة وشد الميم، اسم إشارة للمكان بمعنى هناك، أي: في السماء، كما دل عليه قوله عند ذي العرش، وإشارة البعيد والمقام، ونحوه قول الكشاف: مطاع عند ذي العرش في ملائكته، ويجوز تعلقه بقوله: "أمين" أو بهما "على وحي الله ورسالته" وخصه بذلك؛ لأن المقام يقتضيه، وهو مؤتمن عليه وعلى غيره.
ولذا فسر بمقبول القول، مصدق فيما يقول: "فقد عصمه الله من الخيانة والزلل، فهذه(8/464)
فهذه خمس صفات تتضمن تزكية سند القرآن، وأنه سماع محمد صلى الله عليه وسلم من جبريل، وسماع جبريل من رب العالمين، فناهيك بهذا السند علوًا وجلالة، فقد تولى الله تزكيته بنفسه، ثم نزه رسوله البشري وزكاه مما يقول فيه أعداؤه فقال: {وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ} وهذا أمر يعلمونه ولا يشكون فيه، وإن قالوا بألسنتهم خلافه فهم يعلمون أنهم كاذبون.
ثم أخبر عن رؤيته صلى الله عليه وسلم لجبريل عليه الصلاة والسلام، وهذا يتضمن أنه ملك موجود في الخارج يرى بالعيان ويدرك بالبصر، خلافًا لقوم؛ حقيقته عندهم أنه خيال موجود في الأذهان لا في العيان، وهذا مما خالفوا فيه جميع الرسل وأتباعهم، وخرجوا به عن جميع الملل، ولهذا كان تقرير رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لجبريل أهم من تقريره لرؤية ربه تبارك وتعالى، فإن رؤيته عليه الصلاة والسلام لجبريل هي
__________
خمس صفات" بناء على أن العندية والمكان ليسا بصفتين حقيقتين، فلم يعدهما هنا، ولحظ الزمخشري أن كلا منهما دال على صفة كمال، فعدها سبعًا، وتبعه المصنف في موضعين تقدمًا، وعدها الرازي ستة، فجعل قوله: عند ذي العرش، متعلقًا بقوله: ذي قوة، "تتضمن تزكية سند القرآن، وأنه سماع محمد صلى الله عليه وسلم من جبريل، وسماع جبريل من رب العالمين، فناهيك بهذا السند علوًا وجلالة، فقد تولى الله تزكيته بنفسه" أي: ذاته، وفي إطلاق النفس على الله تعالى مقال، "ثم نزه رسوله البشري وزكاه مما يقول فيه أعداؤه" الكفرة، "فقال: {وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ} [التكوير: 22] ، "وهذا أمر يعلمونه ولا يشكون فيه، وإن قالوا بألسنتهم خلافه" استكبارًا وعنادًا، "فهم يعلمون" تحقيقًا "أنهم كاذبون" وإنما حملهم عليه البغي والعناد، "ثم أخبر عن رؤيته صلى الله عليه وسلم لجبريل عليه الصلاة والسلام"، بقوله: {وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ} ، قال ابن عطية: ضمير رآه لجبريل، وهذه الرؤية كانت بعد أمر غار حراء حين رآه على كرسي بين السماء والأرض، وقيل: هي رؤيته عند سدرة المنتهى في الإسراء، وسمي ذلك الموضع أفقًا تجوزًا وقد كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم رؤية ثالثة بالميدنة، وليست هذه ووصفه بالمبين؛ لأنه روى أنه كان في المشرق من حيث تطلع الشمس، قاله قتادة، وأيضًا فكل أفق فهو في غاية البيان، "وهذا يتضمن أنه ملك موجود في الخارج، يرى بالعيان" بكسر العين "ويدرك بالبصر خلافًا لقوم حقيقته عندهم أنه خيال موجود في الأذهان لا في العيان وهذا مما خالفوا فيه جميع الرسل وإتباعهم، وخرجوا به عن جميع الملل، ولهذا كان تقرير" إثبات وبيان "رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لجبريل أهم من تقريره لرؤية ربه تبارك وتعالى، فإن رؤيته عليه الصلاة والسلام لجبريل هي أصل الإيمان،(8/465)
أصل الإيمان لا يتم إلا باعتقادها، ومن أنكرها كفر قطعًا، وأما رؤيته لربه تعالى فغايتها أن تكون مسألة نزاع لا يكفر جاحدها بالاتفاق. وقد صرح جماعة من الصحابة بأنه لم يره، فنحن إلى تقرير رؤيته لجبريل أحوج منا إلى تقرير رؤيته لربه تعالى، وإن كانت رؤية الرب سبحانه وتعالى أعظم من رؤية جبريل، فإن النبوة لا تتوقف عليها البتة.
ثم نزه سبحانه وتعالى رسوليه كليهما صلى الله عليهما وسلم، أحدهما بطريق النطق، والثاني بطريق اللزوم عما يضاد مقصود الرسالة من الكتمان الذي هو الضنة والبخل والتبديل والتغيير الذي يوجب التهمة، فقال: {وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ} فإن الرسالة لا يتم مقصودها إلا بأمرين: إذاعتها من غير كتمان وأدائها على وجهها من غير زيادة ولا نقصان.
__________
لا يتم إلا باعتقادها، ومن أنكرها كفر قطعًا" لجحده ما انبنى عليه الإيمان، "وأما رؤيته لربه تعالى فغايتها أن تكون مسألة نزاع" خلاف بين العلماء من الصحابة، فمن بعدهم "لا يكفر جاحدها بالاتفاق. وقد صرح جماعة من الصحابة بأنه لم يره، فنحن إلى تقرير" إثبات " رؤيته لجبريل أحوج منا إلى تقرير رؤيته لربه تعالى، وإن كانت رؤية الرب سبحانه وتعالى أعظم من رؤية جبريل، فإن النبوة لا تتوقف عليها البتة"، بقطع الهمزة، وقد ضعف أيضًا كون ضمير رآه لله تعالى؛ بأنه قول غريب، لم ينقل عن أ؛ د ممن يعتمد عليه، ويأباه كل الآباء قوله: {بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ} ، سواء كان نواحي السماء، أو حيث تطلع الشمس، إذ لم يقل أحد أنه رأى ربه بالأفق، وأجيب بأن رؤيته بالأفق كاستوى على العرش، والمراد بالأفق الذي فوق السماء السابعة، أو المراد به المنزلة العالية، كما أشار إليه الإمام الرازي.
وقولهم: لم يقل به أحد يرده أنه روى عن ابن مسعود، "ثم نزه سبحانه وتعالى رسوليه كليهما صلى الله عليهما وسلم، أحدهما بطريق النطق، والثاني بطريق اللزوم"، إذ يلزم من نفيه عن أحدهما صريحًا، نفيه عن الآخر؛ لأنه تلقاه منه أو عنه "عما يضاد" يخالف "مقصود الرسالة من الكتمان الذي هو الضنة" "بكسر المعجمة وشد النون"، "والبخل" تفسير، "والتبديل والتغيير الذي يوجب التهمة، فقال: {وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ} "، أي: ما غاب عن الحس الذي أخبر به، أو ما هو وسائر الأنبياء على أخبار الغيب، فيشمل الذات والصفات والقرآن ويستدل به على غيره أو المراد ما غاب عن علمكم فيشمل أخباره عن المشاهد، والغائب "فإن الرسالة لا يتم مقصودها إلا بأمرين: إذاعتها من غير كتمان، وأدائها وأدائها على وجهها من غير زيادة ولا نقصان"،(8/466)
والقراءتان كالآيتين، فتضمنت إحداهما -وهي قراءة الضاد- تنزهه عن البخل، فإن الضنين: البخيل، يقال: ضننت به أضن، بوزن: بخلت به أبخل ومعناه، وقال ابن عباس: ليس ببخيل بما أنزل الله، وقال مجاهد: لا يضن عليهم بما يعلم.
وأجمع المفسرون على أن الغيب ههنا: القرآن بالوحي.
قال الفراء: يقول تعالى: يأتيه غيب من السماء وهو منفوس فيه، فلا يضن به عليكم.
وهذا معنى حسن جدًا، فإن عادة النفوس الشح بالشيء النفيس، ولا سيما عمن لا يعرف قدره، ومع هذا فالرسول صلى الله عليه وسلم لا يبخل عليكم بالوحي الذي هو أنفس شيء وأجله.
وقال أبو علي الفارسي: المعنى يأتيه الغيب فيبينه ويخبر به ويظهره ولا يكتمه كما يكتم الكاهن ما عنده ويخفيه حتى يأخذ عليه حلوانًا.
__________
إذا لو فرض زيادة أو نقص أو كتم ما حصل المقصود، "والقراءتان كالآيتين، فتضمنت أحداهما، وهي قراءة الضاد" قراءة نافع وعاصم وحمزة وابن عامر، "تنزهه عن البخل، فإن الضنين البخيل، يقال: ضننت به أضن" "بفتح الضاد"، "بوزن بخلت به أبخل، ومعناه" عطف على بوزن فبابه فرح.
زاد المصباح: وفي لغة من باب ضرب، "وقال ابن عباس: ليس ببخيل بما أنزل الله" بل يبلغه، "وقال مجاهد: لا يضن عليهم بما يعلم"، وهو قريب من تفسير ابن عباس، أو أعم إن خص ما أنزل بالقرآن، "وأجمع المفسرون على أن الغيب ههنا القرآن بالوحي".
"قال الفراء": يحيى بن زياد بن عبد الله الأسدي، أبو زكريا الكوفي، نزيل بغداد النحوي المشهور. ومات سنة سبع ومائتين، قيل له الفراء؛ لأنه كان يفري الكلام، وهو صدوق في الحديث، علق عنه البخاري، "يقول تعالى: "يأتيه غيب من السماء وهو منفوس" أي: مرغوب "فيه، فلا يضن" "بفتح الضاد وتكسر"، لا يبخل "به عليكم، وهذا معنى حسن جدًا، فإن عادة النفوس الشح بالشيء النفيس، ولا سيما عمن لا يعرف قدره، ومع هذا فالرسول صلى الله عليه وسلم لا يبخل عليكم بالوحي، الذي هو أنفس شيء وأجله".
"وقال أبو علي" الحسن بن أحمد "الفارسي" الإمام المشهور، المتوفي سنة سبع وسبعين وثلاثمائة: "المعنى: يأتيه الغيب فيبينه ويخبر به، ويظهره ولا يكتمه، كما يكتم الكاهن ما عنده ويخفيه، حتى يأخذه عليه حلوانًا" بضم فسكون عطاء اسم من حلوته أحلوه.(8/467)
وأما قراءة من قرأ بظنين بالظاء فمعناه: المتهم، يقال: ظننت زيدًا بمعنى اتهمته وليس هو من الظن الذي هو الشعور والإدراك، فإن ذلك يتعدى إلى مفعولين، والمعنى: وما هذا الرسول على القرآن بمتهم، بل هو أمين فيه لايزيد فيه ولا ينقص منه.
وهذا يدل على أن الضمير فيه يرجع إلى محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنه قد تقدم وصف الرسول الملكي بالأمانة ثم قال: {وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُون} ثم قال: وما هو: أي وما صاحبكم بمتهم ولا بخيل فنفي سبحانه عن رسوله صلى الله عليه وسلم ذلك كله، وزكى سند القرآن أعظم تزكية، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.
وقال تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ، وَمَا لَا تُبْصِرُونَ، إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} [الحاقة: 38] . أقسم تعالى بالأشياء، ما يبصر منها وما لا يبصر، وهذا أعم قسم وقع في القرآن، فإنه يعم العلويات والسفليات، والدنيا والآخرة، وما يرى وما
__________
"وأما قراءة من قرأ بظنين بالظاء" كأبي عمرو، والكسائي، وابن كثير: "فمعناه: المتهم، يقال: ظننت زيدًا بمعنى اتهمته" فيتعدى إلى مفعول واحد، "وليس هو من الظن الذي هو الشعور والإدراك، فإن ذلك يتعدى إلى مفعولين"، كظننت زيدًا قائمًا، "والمعنى: وما هذا الرسو على القرآن بمتهم" فالنفي فيه، كالنفي في لا ريب فيه، "بل هو أمين فيه لايزيد فيه ولا ينقص منه، وهذا يدل على أن الضمير فيه"، أي: قوله هو "يرجع إلى محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنه قد تقدم وصف الرسول الملكي" جبريل "بالأمانة ثم قال: {وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُون} " يعني محمدًا بإجماع، "ثم قال: وما هو: أي وما صاحبكم بمتهم ولا بخيل" على القراءتين.
ورجح أبو عبيدة قراءة الظاء مشالة بأن قريشًا لم تبخل محمدًا صلى الله عليه وسلم، وإنما كذبته، "فنفى سبحانه عن رسوله صلى الله عليه وسلم ذلك كله، وزكى سند القرآن أعظم تزكية" فلا يطلب بعد تزكية الله تزكية؛ لأنها أعظمها، "والله يقول الحق" ماله حقيقة عينية مطابقة له الآية، "وهو يهدي السبيل" سبيل الحق، "وقال تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ} "، تشاهدون بالبصر " {وَمَا لَا تُبْصِرُونَ} المغيبات {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} " [الحاقة: 38] ، "أقسم تعالى" تصريح بأن لا زائدة للتأكيد، قيل: نافية، أي: لا أقسم بذلك، وإن كان يستحق أن يقسم به لوضوح الأمر عن الاحتياج إلى قسم واستغنائه عن التحقيق بالقسم، وقيل: فلا رد لما تقدم من أقوال الكفار، واستأنف أقسم وقرأ الحسن، فلا قسم بلام القسم "بالأشياء، ما يبصر منها وما لا يبصر، وهذا أعم قسم وقع في القرآن، فإنه يعم العلويات والسفليات، والدنيا والآخرة، وما يرى وما(8/468)
لا يرى ويدخل في ذلك الملائكة كلهم والجن والإنس والعرش والكرسي واللوح والقلم، وكل مخلوق، وذلك كله من آيات قدرته وربوبيته، ففي ضمن هذا القسم أن كل ما يرى وما لا يرى آية ودليل على صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن ما جاء به هو من عند الله تعالى وهو كلامه تعالى، لا كلام شاعر ولا مجنون ولا كاهن، وأنه حق ثابت كما أن سائر الموجودات ما يرى منها وما لا يرى حق، كما قال تعالى: {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} فكأنه سبحانه وتعالى يقول: إنه القرآن حق كما أن ما تشاهدونه من الخلق وما لا تشاهدونه حق موجود، ويكفي الإنسان من جميع ما يبصره وما لا يبصره "نفسه" ومبدأ خلقه
__________
لا يرى"، دخل فيه الخالق وصفاته تعالى، كما في الخازن غيره.
"ويدخل في ذلك الملائكة كلهم والجن والإنس والعرش والكرسي واللوح والقلم، وكل مخلوق" وحيث شمل ذلك كله، فالحمل عليه أولى من الحمل على بعضه، فقيل: الدنيا والآخرة، أو ما على ظهر الأرض وبطنها، أو الأجساد، والأرواح، أو الإنس والجن، أو الخلق والخالق، أو النعم الظاهرة والباطنة، أو ما أظهره الله من مكنون غيبه، واللوح والقلم، وجميع خلقه، وما لا تبصرون ما استأثر بعلمه، فلم يطلع عليه أحدًا من خلقه، "وذلك كله من آيات قدرته وربوبيته، ففي ضمن هذا القسم أن كل ما يرى وما لا يرى آية ودليل على صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم"، قد يتوقف فيه بأن كثيرًا من المخلوقات ليس فيه دلالة على ذلك، كذات السماء مثلًا، اللهم إلا أن يقال: الأقسام بها دليل عظمتها، وكمالها، ففيها دلالة على صدق المصطفى من حيث الأخبار عن الله أنه إنما خلق السماوات وغيرها لأجله صلى الله عليه وسلم، أو أن الأقسام بكل واحدة منها من حيث تعلق الأقسام به يثبت صدقه فيما جاء به، "وأن ما جاء به هو من عند الله تعالى وهو كلامه تعالى، لا لام شاعر ولا مجنون ولا كاهن" كما زعموا، "وأنه حق ثابت كما أن سائر الموجودات ما يرى منها وما لا يرى حق، كما قال"، أي: ونظير ذلك قوله تعالى: " {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ} " أي: ما توعدونه " {لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} " [الذاريات: 23] ، يرفع مثل صفة، وما زائدة، وبفتح اللام مركبة مع ما المعنى مثل نطقكم في حقيته، أي: معلوميته عندكم ضرورة صدوره عنكم، فوجه التنظير بهذه الآية، أنه أقسم برب السماء والأرض على أن ما توعدوه حق، كما أن نطقكم الذي تأتون به حق لا تشكون فيه، "فكأنه سبحانه وتعالى يقول: إنه" أي: "القرآن" الذي رجع إليه ضمير إنه لقول رسول كريم "حق كما أن ما تشاهدونه من الخلق وما لا تشاهدونه حق موجود"، فلا وجه للإنكار، "ويكفي الإنسان من"، كذا في بعض النسخ الصحيحة من التي للبدل، وهو الصواب(8/469)
ونشأته وما يشاهده من أحواله ظاهرًا وباطنًا، ففي ذلك أبين دلالة على وحدانية الرب وثبوت صفاته وصدق ما أخبر به رسوله الله صلى الله عليه وسلم، ومن لم يباشر قلبه ذلك حقيقة لا تخالط بشاشة الإيمان قلبه.
ثم أقام سبحانه البرهان القاطع على صدق رسوله صلى الله عليه وسلم، وأنه لم يتقول عليه فيما قاله، وأنه لو تقول عليه وافترى لما أقره ولعاجله بالإهلاك، فإن كمال علمه وقدرته وحكمته يأبى أن يقر من تقول عليه وافترى عليه، وأضل عباده واستباح دماء
__________
الواقع في أصله ابن القيم، وفي غالب النسخ مع، ولا معنى لها، إذ المعنى بدل "جميع ما يبصره ولا يبصره نفسه" كما قال تعالى: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} [الذاريات: 21] ، أي: وفي أنفسكم أيضًا آيات من مبدأ خلقكم لي، منتهاه وما في تركيب خلقكم من العجائب، أفلا تبصرون ذلك فتستدلون به على صانعه وقدرته "ومبدأ خلقه ونشأته وما يشاهده من أحواله ظاهرًا وباطنًا"، إذ ما في العالم شيء إلا وفي الإنسان له نظير تدل ذاته على ما انفرد به من الهيئات النافعة والمناظر البهية والتركيبات العجيبة والتمكن من الأفعال الغريبة واستنباط الصنائع المختلفة واستجماع الكمالات المتنوعة، كما في البيضاوي، "ففي ذلك أبين دلالة على وحدانية الرب".
كذا في نسخ صحيحة متعددة، وهو الذي في أصله ابن القيم خلاف ما في بعضها أبين دلالة الرب، فإنه خطأ نشأ عن سقط "وثبوت صفاته وصدق ما أخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن لم يباشر قلبه ذلك حقيقة لم تخالط بشاشة الإيمان"، أي: طلاقة الوجه والتلطف بالضعفاء وحسن السيرة مع المؤمنين "قلبه" من إضافة المسبب إلى السبب، أي: لم تخالط البشاشة الناشئة عن الإيمان قلبه أو شبه الإيمان بإنسان حسن الأخلاق، كامل التودد والصدقة لإخوانه، وأثبت له ما هو من خواصه، وهو البشاشة تخييلًا، "ثم" بعد أن أثبت بالقسم أنه قول رسول كريم، ونفى عنه أقوال الكفرة، بقوله: {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ، وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ، تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ، "أقام سبحانه البرهان" الدليل "القاطع على صدق رسوله صلى الله عليه وسلم، وأنه لم يتقول عليه فيما قاله"، بقوله تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ، لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ، ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ، فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} ، قال الكشاف: سمي الإفتراء تقولًا؛ لأنه قول متكلف، والأقوال المفتراة أقاويل تحقيرًا لها، كأنها جمع أفعولة من القول، كالأضاحيك، "وأنه لو تقول عليه وافترى" عطف تفسير "لما أقره، ولعاجله بالإهلاك" أي: عجل إهلاكه، "فإن كمال علمه وقدرته وحكمته يأبى أن يقر من تقول عليه" ما لم يقل، "وافترى عليه وأضل عباده، واستباح دماء من كذبه، وحريمهم" نساءهم "وأموالهم، فكيف يليق بأحكم الحاكمين(8/470)
من كذبه وحريمهم وأموالهم، فكيف يليق بأحكم الحاكمين وأقدر القادرين أن يقر على ذلك، بل كيف يليق به أن يؤيده وينصره ويعليه ويظهره ويظفره بهم، بسفك دماءهم ويستبيح أموالهم وأولادهم ونساءهم قائلًا: إن الله أمرني بذلك، وأباحه لي؟ بل كيف يليق به أن يصدقه بأنواع التصديق كلها، فيصدقه بإقراره، وبالآيات المستلزمة لصدقه، ثم يصدقه بأنواعها كلها على اختلافها، فكل آية على انفرادها مصدقة له، ثم يقيم الدلالة القاطعة على أن هذا قوله وكلامه، فيشده له بإقراره وفعله وقوله، فمن أعظم المحال وأبطل الباطل، وأبين البهتان أن يجوز على أحكم الحاكمين أن يفعل ذلك.
والمراد بالرسول الكريم هنا محمد صلى الله عليه وسلم -كما قدمته-؛ لأنه لما قال: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيم} ذكره بعده "إنه ليس بقول شاعر ولا كاهن" والمشركون ما كانوا يصفون جبريل عليه السلام بالشعر والكهانة.
__________
وأقدر القادرين أن يقر على ذلك" لا فهو استفهام بمعنى النفي، "بل" إضراب انتقالي لا إبطالي، "كيف يليق به أن يؤيده وينصره ويعليه ويظهره ويظفره بهم" أي: المكذبين له "بسفك دماءهم ويستبيح أموالهم وأولادهم ونساءهم قائلًا: إن الله أمرني بذلك، وأباحه لي" استفهام بمعنى النفي أيضًا: أي: لا يكون ذلك، "بل" للإضراب الانتقالي أيضًا، "كيف يليق به أن يصدقه بأنواع التصديق كلها، فيصدقه بإقراره" على ما فعله فيهم من سفك دمهم وغيره، "وبالآيات" المعجزات، "المستلزمة لصدقه،
ثم يصدقه بأنواعها كلها على اختلافها، فكل آية" علامة ومعجزة "على انفرادها مصدقة له، ثم يقيم الدلالة القاطعة على أن هذا قوله وكلامه، فيشهد له بإقراره وفعله وقوله، فمن أعظم المحال وأبطل الباطل، وأبين البهتان" أي: افتراء الكذب، "أن يجوز على أحكم الحاكمين أن يفعل ذلك" ففي ذلك كله أبين الدلالة على صدقه صلى الله عليه وسلم، "والمراد بالرسول الكريم هنا محمد صلى الله عليه وسلم" في قول جماعة من أهل التفسير، "كما قدمته" في الآية التي قبل هذه، وأضيف إليه؛ لأنه بلغه، وقال جماعة منهم: هو جبريل، والأول أصح؛ "لأنه لما قال: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيم} ذكره بعده "إنه ليس بقول شاعر ولا كاهن" والمشركون ما كانوا يصفون جبريل عليه السلام بالشعر والكهانة، وأجيب بأنه يصح إرادة جبريل من حيث إن المشركين كانوا يصفون القول نفسه بأنه شعر وكهانة وإن لم يلحظوا قائله.
قيل: ذكر الإيمان مع نفي الشاعرية، والتذكير مع نفي الكاهنية؛ لأن عدم مشابهة القرآن(8/471)
ومن ذلك قوله تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ، وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ، إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ، فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ، لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة: 75-77] .
__________
الشعر لا ينكره إلا معاند، بخلاف مباينة الكهانة، فتتوقف على تذكر أحواله صلى الله عليه وسلم ومعاني القرآن النافية لطريقة الكهنة، ومعاني أقوالهم وأنت خبير بأن ذلك أيضًا مما يتوقف على قائل قطعًا.
كذا في بعض التفاسير والله أعلم، "ومن ذلك قوله تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ} قيل: لا زائدة، والمعنى: فأقسم، وزيادتها في بعض المواضع معروفة، نحو: {لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَاب} ، فهي مؤكدة تعطي في القسم مبالغة ما، وهي كاستفتاح كلام، مشبهة في القسم إلا في سائر الكلام، القسم وغيره، ومنه قوله فلا، وأبى أعدائه لا إخوانها، المعنى، وأبى أعدائها، وله نظائر، وقرأ الحسن: فلا أقسم، بلا ألف، أي: فلا أنا أقسم، وقال سعيد بن جبير وبعض النحاة، نافية كأنه، قال: لا صحة لما يقوله الكفرة، ثم ابتدأ أقسم {بِمَوَاقِعِ} بالجمع قراءة الجمهور، وقرأ عمرو بن مسعود، وابن عباس، وأهل الكوفة وحمزة والكسائي، بموقع، بالإفراد مرادًا به الجمع، ونظيره كثير، ومنه أن أنكر الأصوات لصوت الحمير، جمع من حيث إن لكل حمار صوتًا مختصًا، وأفرد من حيث إن الأصوات كلها نوع " {النُّجُومِ} ".
قال ابن عباس وعكرمة ومجاهد وغيرهم: هي نجوم القرآن التي نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك؛ لأنه نزل في ليلة القدر إلى سماء الدنيا، وقيل: إلى البيت المعمول جملة واحدة، ثم نزل بعد ذلك على المصطفى نجومًا مقطعة في عشرين سنة.
قال ابن عطية: ويؤيده عود الضمير في أنه إلى القرآن، فإنه لم يتقدم ذكره إلا على هذا التأويل، ومن قال بغيره، قال: الضمير عائد على القرآن، وإن لم يتقدم ذكره لشهرة الأمر ووضوح الحق، كقوله: حتى توارت وكل من عليها.
وقال جمهور المفسرين النجوم هنا الكواكب المعروفة واختلف في مواقعها، فقال مجاهد وأبو عبيدة: مواقعها عند غروبها وطلوعها.
وقال قتادة: مواضعها من السماء. وقيل: مواضعها عند الانقضاض أثر الجن.
وقال الحسن: مواقعها عند الانكدار يوم القيامة. انتهى، وهو ظاهر في أن للإضافة على بابها، وأن الأقسام، إنما هو بمواقعها لا بذواتها، وتجويز أنه من إضافة الصفة للموصوف، أي: بالنجوم حين سقوطها خلاف الأصل، وظاهر اللفظ، وكلام المفسرين: " {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ} " تأكيد للأمر وتقييد من المقسم به لا اعتراض، بل معنى قصد التتميم به، وإنما الاعتراض " {لَوْ تَعْلَمُونَ} " وقيل: أنه اعتراض، وأن لو تعلمون اعتراض في اعتراض، والتحرير ما ذكرناه، قاله ابن عطية: " {عَظِيمٌ} " أي: من ذوي العلم لعلمتم عظم هذا القسم، " {إِنَّهُ} " أي: المتلو عليكم " {لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} "، هو الذي وقع القسم عليه، ووصفه بالكرم إثباتًا.(8/472)
فقيل: المراد بـ"الكتاب" اللوح المحفوظ.
قال ابن القيم: والصحيح أنه الكتاب الذي بأيدي الملائكة، وهو المذكور في قوله: {فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ، مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ، بِأَيْدِي سَفَرَةٍ، كِرَامٍ بَرَرَةٍ} [عبس: 13-16] ، قال مالك: أحسن ما سمعت في هذه أنها مثل الذي في "عبس"، قال: ومن المفسرين من قال: إن المراد أن المصحف لا يمسه إلا طاهر، والأول أرجح؛ لأن الآية سيقت تنزيهًا للقرآن أن تتنزل به الشياطين، وأن محله لا تصل إليه، كما قال تعالى: {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ، وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ} [الشعراء: 210] وأيضًا: فإن قوله: {لَا يَمَسُّه} بالرفع، فهذا خبر لفظًا ومعنى، ولو كان
__________
لصة المدح له، ودفعًا لصفات الحطيطة عنه، " {فِي كِتَابٍ} " مكتوب " {مَكْنُونٍ} " مصون " {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} الآية"، تنزيل من رب العالمين.
واختلف في الكتاب بعد الاتفاق على أن المكون المصون، كما قال ابن عطية: "فقيل: المراد بـ"الكتاب" اللوح المحفوظ".
"قال ابن القيم: والصحيح أنه الكتاب الذي بأيدي الملائكة، وهو المذكور في قوله": {كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ، فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَه} ، " {فِي صُحُفٍ} خبر ثان؛ لأنها وما قبله اعتراض {مُكَرَّمَةٍ} عند الله، " {مَرْفُوعَةٍ} " في السماء، " {مُطَهَّرَةٍ} " منزهة عنه مس الشياطين، " {بِأَيْدِي سَفَرَةٍ"} ، كتبه، ينسخونها من اللوح المحفوظ، " {كِرَامٍ بَرَرَةٍ} " مطيعين لله وهم الملائكة.
"قال مالك" الإمام: "أحسن ما سمعت في هذه" الآية في كتاب مكنون، "إنها مثل الذي في" صورة عبس، استدلال لما صححه.
"قال" ابن القيم: "ومن المفسرين من قال: إن المراد أن المصحف لا يمسه إلا طاهر" من الحديث، "والأول أرجح" عند غيره، يعني اللوح المحفوظ، إذ هو الأول في كلامه، ولا يخالفه قوله في الثاني؛ أنه الصحيح؛ لأنه عند نفسه، ويؤيد ذلك قول ابن القيم الخامس، أي: من التراجيح؛ أن وصفه بكونه مكنونًا نظير وصفه بكونه محفوظًا، فقوله: {لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ} ، كقوله: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} ، الآية؛ "لأن الآية سيقت تنزيهًا للقرآن أن تتنزل به الشياطين، وأن محله لا تصل إليه، كما قال تعالى: {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ} " بالقرآن " {الشَّيَاطِينُ، وَمَا يَنْبَغِي} " بصلح " {لَهُمْ} " أن ينزلوا به، " {وَمَا يَسْتَطِيعُونَ} " ذلك، والقرآن يفسر بعضه بعضًا، فترجح كون المراد ما بأيدي الملائكة.
"وأيضًا فإن قوله: {لَا يَمَسُّه} بالرفع، فهذا خبر لفظًا ومعنى، ولو كان نهيًا لكان مفتوحًا،(8/473)
نهيًا لكان مفتوحًا. ومن حمل الآية على النهي احتاج إلى صرف الخبر عن ظاهره إلى معنى النهي، والأصل في الخبر والنهي حمل كل منهما على حقيقته، وليس ههنا موجب يوجب صرف الكلام عن الخبر إلى النهي، انتهى ملخصًا.
وهذا الذي قاله ابن القيم قد تمسك به جماعة منهم داود بن علي بأنه يجوز من المصحف للمحدث.
وأجاب ابن الرفعة في "الكفاية" عن أدلته المزخرفة فقال ما نصه: القرآن لا يصح مسه، فعلم أن المراد به الكتاب الذي هو أقرب المذكورين، ولا يتوجه النهي إلى اللوح المحفوظ؛ لأنه غير منزلن ومسه غير ممكن، ولا يمكن أن يكون
__________
ومن حمل الآية على النهي احتاج إلى صرف الخبر عن ظاهره إلى معنى النهي"، فقال: إنه خبر بمعنى النهي، وضمة السين ضمة إعراب، وقيل: هو نهي، وضمة السين ضمة بناء لا إعراب، "والأصل في الخبر، والنهي حمل كل منهما على حقيقته، وليس ههنا موجب يوجب صرف الكلام عن الخبر إلى النهي" بل الموجب موجود، وهو اجتماع النفي والإثبات. "انتهى" ما أراد نقله من كلام ابن القيم حال كونه "ملخصًا" بمعنى محذوفًا منه ما لم يرد نقله، وإلا فهو قد ذكر كلامًا طويلًا، من جملته عشرة أوجه في ترجيح أنه الذي بأيدي الملائكة، منها الوجهان المذكوران في المصنف، "وهذا الذي قاله ابن القيم قد تمسك به جماعة، منهم: داود بن علي بن خلف، الحافظ، المجتهد، أبو سليمان الأصفهاني، البغدادي، فقيه أهل الظاهر، ولد سنة اثنتين ومائتين، وأخذ عن إسحاق وابي ثور، وسمع القعنبي، وحدث عنه ابنه محمد وزكريا الساجي، وصنف التصانيف، وكان بصيرًا بالحديث صحيحه وسقيمه، إمامًا، ورعا، ناسكًا، زاهدًا، كان في مجلسه أربعمائة طيلسان، مات في رمضان سنة ثمانين ومائتين، "بأنه يجوز من المصحف للمحدث"؛ لأن الآية لم ترد فيه إنما وردت في اللوح، أو الذي بأيدي الملائكة، لكن ولو قلنا بذلك لا دلالة فيها على جواز مس المصحف للمحدث، إذ هو مسكوت عنه.
"وأجاب ابن الرفعة في الكفاية" شرح التنبيه للشيخ أبي إسحاق الشيرازي، كتاب واسع كبير، "عن أدلتهم المزخرفة" أي: المزينة بما يروجها، "فقال ما نصه القرآن لا يصح مسه" وإنما يمكن من النقوش الدالة عليه، "فعلم أن المراد به الكتاب الذي هو أقرب المذكورين" وهما القرآن الكريم والكتاب المكنون، "ولا يتوجه النهي إلى اللوح المحفوظ"، ولا إلى صحف الملائكة؛ "لأنه غير منزل، ومسه غير ممكن، ولا يمكن أن يكون المراد بالمطهرون(8/474)
المراد بالمطهرون الملائكة؛ لأنه قد نفى وأثبت وكأنه قال: يمسه المطهرون ولا يمسه غير المطهرين، والسماء ليس فيها غير مطهر بالإجماع، فعلم أنه أراد: بالمطهرين الآدميين، وبين ذلك ما روي أنه عليه الصلاة والسلام قال في كتاب عمرو بن حزم المروي في الدارقطني وغيره: "ولا تمس القرآن إلا وأنت على طهر" ثم قال، فإن قيل: قد قال الواحدي أن أكثر أهل التفسير على أن المراد اللوح المحفوظ، وأن المطهرين الملائكة، ثم لو صح ما قلتم لم يكن فيها دليل؛ لأن قوله: لا يمسه بضم السين، ليس نهيًا عن المراد ولو كان نهيًا لكان بفتح السين، فهو إذًا خبر.
قلنا: أما قول أكثر المفسرين فهو معارض بقول الباقين، والمرجع إلى الدليل.
__________
الملائكة؛ لأنه قد نفي" بقوله: لا يمسه، "وأثبت" بقوله: إلا المطهرون، "وكأنه قال: يمسه المطهرون، ولا يسمه غير المطهرين، والسماء ليس فيها غير مطهر بالإجماع" فحمله على الملائكة يلزم منه انقسامهم لمطهر وغيره، وهو خلاف الإجماع، "فعلم" بذلك، "أنه أراد بالمطهرين الآدميين".
وتعين أنه أراد بكتاب المصحف، "ويبين ذلك" ويزيده وضوحًا "ما روي أنه عليه الصلاة والسلام قال في كتاب عمرو" "بفتح العين" "ابن حزم" بن زيد بن لوذان الأنصاري يكنى أبا الضحاك، شهد الخندق وما بعدها، واستعمله النبي صلى الله عليه وسلم على نجران، وروى عنه كتابًا، كتبه له فيه الفرائض والزكاة والديات وغير ذلك، وعنه ابنه محمد وجماعة، قال أبو نعيم: مات في خلافة عمر، وكذا قال إبراهيم بن المنذر، ويقال: بعد الخمسين قال في الإصابة: وهو أشبه بالصواب، ففي مسند أبي يعلى برجال ثقات؛ إنه كلم معاوية في أمر بيعته ليزيد بكلام قوي، وفي الطبراني وغيره أنه روى لمعاوية ولعمرو بن العاصي حديث: "يقتل عمارًا الفئة الباغية".
"المروي في الدارقطني وغيره" كأبي داود، والنسائي، وابن حبان، والدارمي: "ولا تمس القرآن إلا وأنت على طهر" فهذا نص صريح في المطلوب، وإن احتملت الآية، "ثم قال" ابن الرفعة: "فإن قيل: قد قال: الواحدي: إن أكثر أهل التفسير على أن المراد اللوح المحفوظ، وأن المطهرين الملائكة، ثم لو صح ما قلتم" إن المراد المصحف، والمطهرون بنو آدم، "لم يكن فيها دليل" على حرمة مسه للمحدث؛ "لأن قوله: لا يمسه بضم السين، ليس نهيًا عن المراد، ولو كان نهيًا لكان بفتح السين، فهو إذا خبر" لا دلالة فيه على الحرمة، "قلنا: أما قول أكثر المفسرين، فهو معارض بقول الباقين، والمرجع إلى الدليل".(8/475)
وأما كون المراد بالآية الخبر، فجوابه: أن نقول: اللفظ لفظ الخبر ومعناه النهي، وهو كثير في القرآن، قال الله تعالى: {لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا} [البقرة: 223] ، {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ} [البقرة: 228] . انتهى.
وأجاب العلامة البساطي في شرحه لمختصر الشيخ خليل: بأن يمسه مجزوم، وضم السين لأجل الضمير، كما صرح به جماعة، وقالوا: إنه مذهب البصريين، ومنهم ابن الحاجب في "شافتيه" انتهى.
وقد ذكر هذا العلامة شهاب الدين أحمد بن يوسف بن محمد بن مسعود الحلبي الشهير بـ"السمين"، مع زيادة إيضاح وفوائد فقال في "لا" هذه وجهان، الثاني: أنها ناهية، والفعل بعدها مجزوم؛ لأنه لو فك عن الإدغام لظهر ذلك فيه كقوله تعالى: {لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوء} [آل عمران: 174] ولكنه أدغم، ولما أدغم
__________
وهو إنما دل على أن المراد المصحف، فلا نظر إلى كثرة القائلين بخلافه، "وأما كون المراد بالآية الخبر، فجوابه: أنا نقول اللفظ لفظ الخبر، ومعناه النهي" وهو أبلغ في النهي من النهي الصريح، "وهو كثير في القرآن".
وكذا السنة، "قال الله تعالى: {لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا} بسببه؛ بأن تكره على إرضاعه إذا امتنعت، فلفظه خبر، ومعناه النهي، " {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ} " [البقرة: 233] ، إذ معناه لتتربص المطلقات، ولا تبادر بالنكاح قبل انقضاء الإفراء. "انتهى" كلام ابن الرفعة.
"وأجاب العلامة البساطي" قاضي المالكية شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان، شيخ الإسلام، ولد سنة ستين وسبعمائة، وبرز في الفنون، ودرس في الشيخونية وغيرها، وصنف تصانيف، ومات في رمضان، سنة اثنتين وأربعين وثمانمائة، "في شرحه لمختصر الشيخ خليل" بن إسحاق، العلم الشهير في الآفاق، "بأن يمسه مجزوم، وضم السين لأجل الضمير، كما صرح به جماعة وقالوا: إنه مذهب البصريين ومنهم"، أي: الجماعة "ابن الحاجب في شافيته. انتهى" كلام البساطي.
"وقد ذكر هذا العلامة شهاب الدين أحمد بن يوسف بن محمد بن مسعود الحلبي، الشهير بالسمين" صاحب إعراب القرآن، وله أيضًا تفسير كبير، تقدم بعض ترجمته "مع زيادة إيضاح وفوائد، فقال: في لا هذه" في لا يمسه "وجهان" الأول: إنها نافية، "الثاني: أنها ناهية، والفعل بعدها مجزوم؛ لأنه لو فك عن الإدغام لظهر ذلك" الجزم "فيه، كقوله تعالى: {لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوء} " [آل عمران: 174] ، حيث ظهر الجزم فيه بفك الإدغام، "ولكنه أدغم" في(8/476)
حرك آخره بالضم لأجل "هاء" ضمير المذكر الغائب، ولم يحفظ سيبويه في هذا إلا الضم. وفي الحديث: "إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم" وإن كان القياس جواز فتحه تخفيفًا. قال: وبهذا الذي ذكرته يظهر فساد رد من رد بأنه لو كان نهيًا لكان يقال: لا يمسه بالفتح؛ لأنه خفي عليه جواز ضم ما قبل الهاء في هذا النحو، لا سيما على رأي سيبويه فإنه لا يجيز غيره. والله أعلم.
__________
لا يمسه، "ولما أدغم حرك آخره بالضم لأجل هاء ضمير المذكر الغائب، ولم يحفظ سيبويه في هذا إلا الضم".
"وفي الحديث" الذي أخرجه الشيخان وغيرهما، عن الصعب بن جثامة الليثي أنه أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم حمارًا وحشيًا، وهو بالأبواء أو بودان، فرده عليه، فلما رأى ما في وجهه، قال: "أنا" "بكسر الهمزة" "لم نرده عليك" لعله من العلل، "إلا أنا" بفتح الهمزة" "حرم" "بضم الحاء والراء" أي: محرمون.
زاد في رواية للنسائي: لا نأكل الصيد، قال المصنف: نرده "بفتح الدال" رواية المحدثين، وذكر ثعلب في الفصيح، لكن قال المحققون من النحاة: أنه غلط، والصواب: ضم الدال كآخر المضاعف من كل مضاعف مجزوم اتصل به ضمير المذكر مراعاة للواو التي توجبها ضمة الهاء بعدها لخفاء الهاء، فكان ما قبلها ولي الواو، ولا يكون ما قبل الواو إلا مضمومًا، كما فتحوها مع المؤنث، نحو: نردها مراعاة للأنف، وجوز الكسر أيضًا، وهو أضعفها، ففيها ثلاثة أوجه، وللحموي والكشميهني: لم نردده بفك الإدغام، فالدال الأولى مضمومة، والثانية مجزومة، وهو واضح. انتهى، "وإن كان القياس جواز فتحه تخفيفًا" وبه جاءت الرواية، فهي صحيحة للتخفيف، وليست بغلط.
"قال" السمين: "وبهذا الذي ذكرته يظهر فساد رد من رد؛ بأنه لو كان نهيًا لكان يقال: لا يمسه بالفتح؛ لأنه خفي عليه واز ضم ما قبل الهاء في هذا النحو"، أي: ما في هذا ونحوه من آخر كل مضاعف مجزوم اتصل به ضمير المذكر، "لا سيما على رأي: سيبويه، فإنه لا يجيز غيره" بقي أن ابن عطية قال: القول بأن لا يمسه نهي قول فيه ضعف؛ لأنه إذا كان خبرًا، فهو في موضع الصفة، وقوله: تنزيل صفة أيضًا، فإذا جعلناه نهيًا جاء بمعنى أجنبي معترض بين الصفات، وذلك لا يحسن في وصف الكلام، فتدبر وفي مصحف ابن مسعود: ما يمسه وهو مما يقوي ما رجحته من الخبر، الذي معناه حقه وقدره؛ أن لا يمسه إلا طاهر. انتهى.
وأجاب شيخنا لما ذكرته له؛ بأن تضعيفه بما ذكر إنما هو في سياق قصد به كله معنى واحد، أما إذ قصد به معنيان أو أكثر، فلا يضر ما قاله، "والله أعلم" بما أراد.(8/477)
الفصل الرابع: في قسمه تعالى على تحقيق رسالته
قال الله تعالى: {يس، وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ} [يس: 1-2] .
اعلم أن كل سورة بدأ الله تعالى فيها بحروف التهجي كان في أوائلها الذكر أو الكتاب أو القرآن إلا "ن".
ثم إن في ذكر هذه الحروف في أوائل السور أمورًا تدل على أنها غير خالية عن الحكمة، لكن علم الإنسان لا يصل إليها إلا إن كشف الله له سر ذلك.
واختلف المفسرون في معنى يس على أقوال:
أحدها: أنه يا إنسان، بلغة طيئ، وهذا قول ابن عباس والحسن وعكرمة
__________
"الفصل الرابع":
"في قسمه تعالى على تحقيق"، أي: إثبات "رسالته" صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى " {يس} "، أمال حمزة والكسائي الياء غير مفرطين، والجمهور يفتحونها، ونافع وسط في ذلك {وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ} ، المحكم فعيل بمعنى مفعل، أي: أحكم في مواعظه وأوامره ونواهيه، ويحتمل أنه بناء فاعل، أي: ذي الحكمة، أو الحكيم صاحبه، "اعلم أن كل سورة بدأ الله تعالى فيها بحروف التهجي كان في أوائلها الذكر"، كقوله: {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} [ص: 1] الآية، وينبغي أن المراد به ما يعم لفظه وما تضمن معناه، نحو {الم، أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا} [العنكبوت: 1] ، {الم، غُلِبَتِ الرُّومُ} [الروم: 1] ، ونحوهما.
"أو الكتاب {الم ذَلِكَ الْكِتَاب} [السجدة: 1] ، "أو القرآن" أو هما {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ} [الحجر: 1، 2] "إلا سورة "ن" فليس في أوائلها ذلك صريحًا لكن تقدم من جملة الأقوال: إن مبنى يسطرون، يكتبون القرآن وغيره، فعليه تكون {ن} كغيرها، "ثم إن في ذكر هذه الحروف في أوائل السور أمورًا تدل على إنها غير خالية عن الحكمة، لكن علم الإنسان لا يصل إليها إلا أن كشف الله له سر ذلك" بأن يطلعه عليه، وهذا بناء على أنه أريد بها ما خفي لا ما استأثر الله بعلمه، إذ لا يطلع عليه أحدًا.
"واختلف المفسرون في معنى {يس} على أقوال أحدها: أنه يا إنسان بلغة طيئ؛ لأنهم يقولون: يا إيسان، بمعنى يا إنسان، ويجمعونه على إيا سين، فهذا منه، وقالت فرقة: قوله يا حرف نداء، والسين مقامة مقام إنسان انتزع منه حرف، فأقيم مقامه، قاله ابن عطية، "وهوقول ابن عباس" عند ابن أبي حاتم، والثعلبي، "والحسن" البصري، "وعكرمة" البربري، "والضحاك،(8/478)
والضحاك وسعيد بن جبير، وقيل: بلغة الحبشة، وقيل: بلغة كلب، وحكى الكلبي أنها بالسريانية.
قال الإمام فخر الدين: وتقريره هو أن تصغير إنسان: أنيسين وكأنه حذف الصدر منه وأخذ العجز وقال يس، وعلى هذا فيكون الخطاب مع محمد صلى الله عليه وسلم، ويدل عليه قوله تعالى: {إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِين} [يس: 3] .
وتعقبه أبو حيان: بأن الذي نقل عن العرب في تصغير إنسان: أنيسيان -بياء بعدها ألف- فدل على أن أصله: إنسيان؛ لأن التصغير يرد الأشياء إلى أصولها، ولا نعلم أنهم قالوا في تصغيره أنيسين، وعلى تقدير أنه يصغر كذلك فلا يجوز ذلك إلا أن يبنى على الضم؛ لأنه منادى مقبل عليه، ومع ذلك فلا يجوز؛ لأنه تحقير، ويمتنع ذلك في حق النبوة. انتهى.
__________
وسعيد بن جبير، وقيل: بلغة الحبشة" حكي عن ابن عباس أيضًا، ومقاتل، "وقيل: بلغة كلب، وحكى الكلبي" محمد بن السائب؛ "إنها بالسريانية".
"قال الإمام فخر الدين" الرازي: "وتقريره" أي: هذا المقول؛ إن معناه يا إنسان بأي: لغة مما ذكر، "وهو أن تصغير إنسان أنيسين، وكأنه حذف الصدر منه وأخذ العجز" لكثرة النداء به، "وقال: {يس} "، وعلى هذا"، أي: يا إنسان بسائر ما قيل فيه، "فيكون الخطاب مع محمد صلى الله عليه وسلم"، ويؤيده حديث: "لي عند ربي عشرة أسماء"، وعد منها " {طه} " و" {يس} "، "ويدل عليه قوله تعالى: {إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِين} "؛ لأنه خطاب له صلى الله عليه وسلم بلا نزاع، فيقوي قول يس كذلك، وتبع الزمخشري الإمام على هذا.
"وتعقبه أبو حيان بأن الذي نقل عن العرب في تصغير إنسان أنيسيان، بيء" بعد السين، و"بعدها ألف، فدل على أن أصله إنسيان؛ لأن التصغير يرد الأشياء إلى أصولها" فيعرف به كما يعرف بالجمع، "ولا نعلم أنهم قالوا في تصغيره: أنيسين، وعلى تقدير أنه يصغر كذلك" ورودًا عن العرب، "فلا يجوز ذلك إلا أن يبنى على الضم؛ لأنه منادى، مقبل عليه" فكان قياسه ضم النون، وقرأه الجمهور بسكون النون وإظهارها، وإن كانت النون الساكنة تخفي مع الحروف، وإنما هي مع الانفصال، وحق هذه الحروف المقطعة أن تظهر، وقرأ عاصم وابن عامر بخلاف، عنهما " {يس وَالْقُرْآنِ} "، بإدغام النون، في الواو، وقرئ بنصب النون وبضمها، "ومع ذلك" وجه ثالث "فلا يجوز؛ لأنه تحقير، ويمتنع ذلك في حق النبوة. انتهى" كلام أبي حيان، واعتراضه الأول معارضه بنقل الرازي.(8/479)
قال الشيخ شهاب الدين السمين: وهذا الاعتراض الأخير صحيح، فقد نصوا على أن التصغير لا يدخل في الأسماء المعظمة شرعًا، ولذلك يحكى أن ابن قتيبة لما قال في "المهيمن" إنه مصغر من "مؤمن" والأصل: مؤيمن، فأبدلت الهمزة هاء، قيل له: هذا يقرب من الكفر، فليتق الله قائله، انتهى.
وقيل معنى يس: يا محمد، قاله ابن الحنيفة والضحاك.
__________
وتبعه الزمخشري والبيضاوي، والمثبت مقدم على النافي، ولا يرد بقوله المنقول عن العرب؛ لأنه باعتبار علمه، وجواب الثاني؛ أنه ينوي ضمه، كما في الأسماء المبنية على الكسر، كسيبويه، فنطق به بالسكون، مع أنه منادى نظرًا إلى أنه لما كان بصورة الحرف أبقى على ما يلفظ به الحرف.
"قال الشيخ شهاب الدين السمين: وهذا الاعتراض الأخير" الثالث "صحيح فقد نصوا على أن التصغير لا يدخل في الأسماء المعظمة شرعًا"، كأسماء الله تعالى وأنبيائه، لإيهامه التحقير، وإن جاء للتعظيم في قوله دويهية؛ لأنه إنما جاء فيما يجوز تصغيره تلطفًا منهم، كما قيل:
ما قلت حبيبي من التحقير ... بل يعذب اسم الشيء بالتصغير
وأجاب شيخنا عنه بأن التصغير يراد لغير التحقير، كالشفقة والمحبة، فيحمل اللفظ عليه، سيما مع وجود القرينة الدالة على ذلك، وقد يرد بأنه إنما ورد لغيره فيما يجوز تصغيره، إلا أن يقال: المنع إنما هو إذا وقع من غير الله، أما منه بقصد الملاطفة ونحوها، فلا يمتنع، لكن يرد بأنه ليس نصًا منه تعالى على ذلك، إنما هو على هذا التفسير، ولي بمتعين خصوصًا والمذاهب المنصور في أسماء الحروف، التي في أوائل السور؛ أنها مما استأثر الله بعلمه، "ولذلك يحكى أن" عبد الله بن مسلم "بن قتيبة" الدينوري "لما قال في المهيمن": بكسر الميم الثانية وفتحها، أي: المراقب "أنه مصغر من مؤمن، والأصل مؤيمن، فأبدلت الهمزة هاء" كراهة اجتماع همزتين في كلمة؛ لأن أصله مؤمن، وقلبت الأولى هاء لاتحاد مخرجهما، "قيل له: هذا يقرب من الكفر"؛ لأن أسماء الله وما في معناها من الأسماء العظيمة لا يناسبها التصغير؛ لأنه ينافي التعظيم، "فليتق الله قائله. انتهى".
ومع ذلك، فهو تكلف لا حاجة إليه مع سماع أبنية يلتحق بها، والياء أصلية لا مبدلة، "وقيل: معنى يس يا محمد"؛ لأنه وضع له ابتداء، أو بواسطة، "قاله ابن الحنفية" محمد بن علي بن أبي طالب، الهاشمي أبو القاسم المدني، ثقة، روى له الجميع، اشتهر بأمه، مات بعد الثمانين، "والضحاك" بن مزاحم، "وقيل: يا رجل، قاله أبو العالية" رفيع بن مهران التابعي.(8/480)
وقيل: يا رجل، قاله أبو العالية.
وقيل: هو اسم من أسماء القرآن، قاله قتادة.
وعن أبي بكر الوراق: يا سيد البشر.
وعن جعفر الصادق: أنه أراد يا سيد، مخاطبة للنبي صلى الله عليه وسلم وفيه من مزيد
__________
"وقيل: هو اسم من أسماء القرآن، قاله قتادة" وقيل: من أسماء السور، وهما من الأقوال المشتركة في أوائل جميع السور، "وعن أبي بكر الوراق" محمود بن الحسن: "يا سيد البشر، وعن جعفر الصادق" لصدقه في مقاله بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب؛ "أنه أراد: يا سيد، مخاطبة للنبي صلى الله عليه وسلم" بفتح الطاء منصوب بدل مما قبله، أو مصدر فعل مقدر أي: خاطبه به مخاطبة مخصوصة به، قيل: فعلى هذا، فهو اكتفاء ببعض الكلمة عن باقيها، وهو مذهب للعرب، حكاه سيبويه وغيره، يقولون: ألاتا، بمعنى تفعل، فيقول: بلى فأي: أفعل، فيكتفون عن الكلمة ببعض حروفها.
وفي الحديث: "كفي بالسيف شا" أي: شاهدًا.
وقال التجاني: التحقيق أنهم يكتفون ببعض حروف الكلمة، معبرين باسم بعض حروفها، كقولهم قلت لها: قفي، فقالت: {ق} ، أي: وقفت، فيحتمل {يس} ، أن يكون عبر عنه بإسمين من أسماء حروفه لا بمسماه، كما قال الرازي: وإن كانت العرب قد تكتفي ببعض الكلمة، كقوله: كانت مناها بأرض لا يبلغها، أي: مناياها، وقوله: درس المنا بمتالع فأبان، أي: المنازل، ونظائره كثيرة.
وفي بديع الاكتفاء للنواحي، قال علماء البديع: الاكتفء أن يدل موجود الكلام على محذوفه، وهذا الحد صادق على نحو: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَة} ، على أحد القولين فيه، ثم قسمه إلى الاكتفاء بكلمة نحو: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَر} الآية، أي: والبرد، وإلى الاكتفاء ببعض الكلمة، وهذا الثاني مما اخترعه المتأخرون من أهل البديع، وأكثر منه الشعراء المتأخرون، والتزموا فيه التورية، كقوله الدماميني:
يقول مصاحبي والروض زاه ... وقد بسط الربيع بساط زهر
تعال نباكر الروض المفدى ... وقم نسعى لى روض ونسر
أي: نسرين، وقول الحافظ ابن حجر:
دع يا عذول رقى الملام فمذ سرى ... عني الحبيب فنيت دام له البقا
والطرف مذ فقد الرقاد بكى مما ... يحكي الغمام فليس يهدي بالرقا
أي: الرقاد: واستشكل بأنه لا يجوز الترخيم في غير المنادى لمخالفة القياس، فكيف يعد(8/481)
تمجيده وتعظيمه ما لا يخفى.
وعن طلحة عن ابن عباس: أنه قسم أقسم الله به، وهو من أسمائه.
وعن كعب: أقسم الله به قبل أن يخلق السماوات والأرض بألفي عام: يا محمد إنك لمن المرسلين.
ثم قال: {إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِين} وهو رد على الكفار حيث قالوا: {لَسْتَ مُرْسَلًا} [الرعد: 43] فأقسم الله باسمه وكتابه: إنه لمن المرسلين بوحيه إلى عباده.
__________
محسنًا مع إخلاله بالفصاحة، فلا يخرج القرآن عليه وإن كان فيه تورية، اللهم إلا أن يقولوا: إنه مقيس مغتفر في الشعر، وما في القرآن ليس منه، بل من ذكر حرف من كلمة إيماء إلى بقيتها لا من الترخيم، وهو ما أشار إليه المفسرون، "وفيه من مزيد تمجيده" إعزازه وتشريفه، "وتعظيمه" إجلاله "ما لا يخفى" لوصفه بالسيادة، المفيدة للعموم في المقام الخطابي، فيفيد تفوقه على من سواه؛ لأنه صلى الله عليه وسلم واسطة كل خير.
"و" روى ابن جرير، "عن طلحة، عن ابن عباس أنه" أي: {يس} "قسم" بمعنى مقسم به أو جعله قسمًا لتضمنه له أو مبالغة "أقسم الله به، وهو من أسمائه" أي: الله تعالى: "وعن كعب" بن مانع، المعروف بكعب الأحبار {يس} قسم "أقسم الله به قبل أن يخلق السماوات والأرض بألفي عام" أي: بمقدار ألفي عام، إذ قبل خلقهما لا أعوام؛ لأن الزمان مقدار حركة الفلك، أو المراد مجرد الكثرة، أو عدم النهاية مجازًا، أو باعتبار أن الفلك الأعظم، وهو العرش مخلوق قبلهما، لقوله تعالى: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} ، ونظر في هذا؛ بأن مجرد تقدم العرش لا يقتضي تقدم الزمان بالمعنى المتعارف، واستشكل أيضًا؛ بأن كلام الله قديم، فلا قبلية فيه ولا بعدية، وخلقهما محدث.
وأجيب بأن المراد إبرازه في اللوح المحفوظ، المكتوب فيه جميع الكائنات، أو أنه أطلع عليه ملائكته قبلهما بهذا المقدار، وهو مناسب هنا لإفادة إظهار علم قدره في الملأ الأعلى، ومثل هذا ورد كثيرًا في الحديث، فتضعيف ما هنا بمجرد الإيراد، وأنه إن صح ترك علمه إلى الله، إذ مثله لا يقال: بالرأي: لا يسمع، فالتضعيف إنما هو من جهة الإسناد، "يا محمد إنك لمن المرسلين" بيان للمخاطب، وليس؛ لأنه لا يناسب إن الله أقسم به.
ولذا ذكر جواب القسم توضيحًا لمراده، وليس مراده أنه جواب مقدر للقسم بيس حتى يلزم عليه اجتماع قسمين من غير عطف على جواب، وقد أباه النحاة، كما في الكشاف، وقال: إن العرب تكرهه، "ثم قال: {وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ، إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} ، وهو رد على الكفار، حيث قالوا" للنبي صلى الله عليه وسلم {لَسْتَ مُرْسَلًا} ، فأقسم الله باسمه وكتابه إنه لمن المرسلين بوحيه(8/482)
وعلى طريق مستقيم من إيمانه، أي طريق لا اعوجاج فيه ولا عدول عن الحق.
قال النقاش: لم يقسم الله تعالى لأحد من أنبيائه بالرسالة في كتابه إلا له صلى الله عليه وسلم.
__________
إلى عباده" بكسر إن لتقدير القول، والحكاية بالمعنى، أي: قائلًا إنه ولذا لم يقل: إنك "وعلى طريق مستقيم من إيمانه" بيان للطريق وأن المراد بها التوحيد، أو هي تعليلية وزاد الواو إشارة إلى أنه خبر ثان، مقصود، مقسم عليه، لا متعلق بالمرسلين، أي: من أرسل على هذه الطريقة، فالقسم على أمرين، كما قال قبله؛ أن الإرسال على أمرين: رسالته والشهادة بهدايته، لا على أمر واحد، هو أنه صلى الله عليه وسلم رسول مهدي على طريقة مستقيمة، ولا حال كما قيل؛ لأنه قريب من هذا، وإن كان جعله قيدًا ينافي القصد؛ لأن هذا أوضح وأتم في المدح، "أي: طريق لا اعوجاج فيه ولا عدول عن الحق" "بفتح همزة"، أي: وسكون الياء مخففة، تفسير، للطريق المستقيم وهذا أعم من الإيمان، فهو تفسير ثان، وشد الياء على أن معناه طريق، وأي طريق؛ لأنه اعوجاج ولا عدول.. إلخ.
تفسير لعدم الاعوجاج مخالف للرواية، والظاهر، وإن جاز، "قال النقاش" الحافظ أبو بكر محمد بن الحسن بن أحمد الموصلي، البغدادي، المقري، المفسر، ضعيف في الحديث، وحاله في القراءات، أمثل وأثنى عليه أبو عمرو الداني، وزعم الجعبري أن المضعف له غالط، وتقدم قبل هذا بعض ترجمته، "لم يقسم الله تعالى لأحد من أنبيائه بالرسالة" أي: بسببها، أو الباء، بمعنى على "في كتابه إلا له صلى الله عليه وسلم" كما في هذه الآية، وإ، دلت على أن غيره مرسل أيضًا، لكن المقسم عليه بالقصد الذاتي رسالته عليه الصلاة والسلام ولم يقل: رسول أو مرسل، وهو أخصر لتثبيت رسالته، وأنه عريق فيها على نهج قوله: {كَانَتْ مِنَ الْقَانِتِين} ؛ لأن فلانًا من العلماء، أبلغ من العالم، أي: لم يذكر هذا القسم في القرآن لغيره، تشريفًا له وتعظيمًا، ولشدة إنكار قومه لرسالته، فلذا أكد بتأكيدات.(8/483)
الفصل الخامس: في قسمه تعالى بمدة حياته صلى الله عليه وسلم وعصره وبلده
__________
إلى عباده" بكسر إن لتقدير القول، والحكاية بالمعنى، أي: قائلًا إنه ولذا لم يقل: إنك "وعلى طريق مستقيم من إيمانه" بيان للطريق وأن المراد بها التوحيد، أو هي تعليلية وزاد الواو إشارة إلى أنه خبر ثان، مقصود، مقسم عليه، لا متعلق بالمرسلين، أي: من أرسل على هذه الطريقة، فالقسم على أمرين، كما قال قبله؛ أن الإرسال على أمرين: رسالته والشهادة بهدايته، لا على أمر واحد، هو أنه صلى الله عليه وسلم رسول مهدي على طريقة مستقيمة، ولا حال كما قيل؛ لأنه قريب من هذا، وإن كان جعله قيدًا ينافي القصد؛ لأن هذا أوضح وأتم في المدح، "أي: طريق لا اعوجاج فيه ولا عدول عن الحق" "بفتح همزة"، أي: وسكون الياء مخففة، تفسير، للطريق المستقيم وهذا أعم من الإيمان، فهو تفسير ثان، وشد الياء على أن معناه طريق، وأي طريق؛ لأنه اعوجاج ولا عدول.. إلخ.
تفسير لعدم الاعوجاج مخالف للرواية، والظاهر، وإن جاز، "قال النقاش" الحافظ أبو بكر محمد بن الحسن بن أحمد الموصلي، البغدادي، المقري، المفسر، ضعيف في الحديث، وحاله في القراءات، أمثل وأثنى عليه أبو عمرو الداني، وزعم الجعبري أن المضعف له غالط، وتقدم قبل هذا بعض ترجمته، "لم يقسم الله تعالى لأحد من أنبيائه بالرسالة" أي: بسببها، أو الباء، بمعنى على "في كتابه إلا له صلى الله عليه وسلم" كما في هذه الآية، وإ، دلت على أن غيره مرسل أيضًا، لكن المقسم عليه بالقصد الذاتي رسالته عليه الصلاة والسلام ولم يقل: رسول أو مرسل، وهو أخصر لتثبيت رسالته، وأنه عريق فيها على نهج قوله: {كَانَتْ مِنَ الْقَانِتِين} ؛ لأن فلانًا من العلماء، أبلغ من العالم، أي: لم يذكر هذا القسم في القرآن لغيره، تشريفًا له وتعظيمًا، ولشدة إنكار قومه لرسالته، فلذا أكد بتأكيدات.
"الفصل الخامس":
"في قسمه تعالى" بمعنى الأقسام، وهو الإيتان بالقسم، ويكون بمعنى المقسم به، والمراد الأول "بمدة حياته" صلى الله عليه وسلم فيه تمسح، إذ القسم إنما وقع بنفس الحياة، ولا يصح أن تكون الإضافة بيانية؛ لأن المدة ليست نفس الحياة، وأجاب شيخنا؛ بأنه من إضافة الصفة للموصوف، أي:(8/483)
قال الله تعالى: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُون} [الحجر: 72] .
العمر والعمر واحد، ولكنه في القسم يفتح للكثرة الاستعمال، فإذا أقسموا قالوا: لعمرك القسم.
قال النحويون: ارتفع قوله: لعمرك بالابتداء، والخبر محذوف، والمعنى، قسمي، فحذف الخبر؛ لأن في الكلام دليلًا عليه, وباب القسم يحذف منه الفعل نحو: تالله لأفعلن، والمعنى: أحلف بالله، فتحذف "أحلف" لعلم المخاطب بأنه حالف.
قال الزجاجي: من قال: لعمر الله كأنه حلف ببقاء الله فيحذف أحلف،
__________
بحياته، القائمين به في الزمن الذي كان فيه، أو ببقائه حقيقة، أو حكمًا، فشمل هذا الزمن "وعصره وبلده" قدم العصر؛ لأن المواهب الخاصة وأنواع الاهتداء إنما نشأت عن عصره، لا عن خصوص البلد؛ ولأن زيادة تشريف البلد إنما حصلت في عصره، فالاعتناء به أهم، وآخره في الترتيب رعاية لترتيب المصحف، إذ سورة البلد مقدمة على العصر، فزعم بعض أن الصواب تقديم البلد على العصر، لتقدمه عليه في الترتيب ساقط، وأيضًا الواو لا تقتضي ترتيبًا ولا شرفًا، فلا يقال في مثله الصواب، بلا ولا الأنسب.
"قال الله تعالى: " {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ} " أي: قوم لوط " {لَفِي سَكْرَتِهِمْ} " غفلتهم، وغلبة الهوى والشهوة عليهم، حتى صاروا سكارى، لا يميزون الخطأ من الصواب " {يَعْمَهُون} " [الحجر: 72] ، يتحيرون لعمي بصائرهم، "العمر" بالفتح"، "والعمر" "بالضم" واحد، ولكنه في القسم يفتح" أي: يلزم الفتح، وإلا حسن لو عبر به "لكثرة الاستعمال" علة للفتح، أي: بمعنى أن الكثرة يطلب لها التخفيف، والفتح خفيف، فخصوه بالقسم وإن استعمل في غيره قليلًا، والضم أكثر، "فإذا أقسموا قالوا لعمرك" لأفعلن، ومنه الآية، وقوله: "القسم" خبر مبتدأ محذوف، أي: هو القسم، أو منصوب لجعله مقدرًا، وليس من جملة اليمين، والأظهر لو استغنى عنه، بقوله: "قال النحويون: ارتفع قوله: {لَعَمْرُكَ} ، بالابتداء، والخبر محذوف، والمعنى قسمي" فسد جواب القسم مسد الخبر، "فحذف الخبر؛ لأن في الكلام دليلًا عليه" لسد جواب القسم مسده، "وباب القسم يحذف منه الفعل نحو تالله لأفعلن، والمعنى أحلف بالله، فتحذف أحلف لعلم المخاطب" بأنه حالف" من ذكر القسم.
"قال الزجاجي" "بفتح الزاي وشد الجيم" أبو القاسم عبد الرحمن بن إسحاق، صاحب الجمل والأمالي وغير ذلك، مات بطبرية سنة تسع وثلاثين وقيل: سنة أربعين وثلاثمائة، نسبة(8/484)
ومن ثم قال المالكية والحنفية: تنعقد بها اليمين؛ لأن بقاء الله من صفات ذاته. وعن مالك: لا يعجبني الحلف بذلك. وقام الإمام الشافعي وإسحاق: لا يكون يمينًا إلا بالنية، وعن أحمد كالمذهبين، والراجح عند الشافعي.
واختلف فيمن المخاطب في الآية على قولين:
أحدهما: أن الملائكة قالت للوط عليه السلام -لما وعظ قومه وقال: هؤلاء بناتي إن كنتم فاعلين: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} ، أي يتحيرون، فكيف يعقلون قولك، ويلتفتون إلى نصيحتك؟!
والثاني: أن الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه تعالى أقسم بحياته، وفي هذا
__________
إلى شيخه الزجاج غبراهيم بن محمد البغدادي: "من قال لعمر الله، كأنه حلف ببقاء الله، فيحذف أحلف"، جواب سؤال، حاصله الحلف بالعمر، ظاهر في غيره تعالى؛ لأن الحياة القائمة به صفة لها غاية يعبر عنها عدة العمر، وأما سبحانه، فهو حي أزلًا وأبدًا، لا يقال في مدة حياته: إنها مقدرة بمدة حلف بها، فأجاب بصرف العمر في حقه تعالى للبقاء، وهو صفة له لا نهاية لها، "ومن ثم قال المالكية والحنفية: تنعقد بها اليمين؛ لأن بقاء الله من صفات ذاته" الثمانية، المنظومة في قوله:
حياة وعلم قدرة وإرادة ... وسمع وأبصار كلام مع البقا
"وعن مالك" رواية: "لا يعجبني الحلف بذلك" لظاهر حديث من كان حالفًا، فليحف بالله، "وقال الإمام: الشافعي وإسحاق" بن راهويه: "لا يكون يمينًا إلا بالنية"، لاستعمال الحياة في غيره كثيرًا، ورد بأنه مضاف لله تعالى، وتعقب هذا شيخنا؛ بأن صريح متن البهجة وشرحها أن صفاته تعالى تنعقد بها اليمين، نوى بها اليمين أو أطلق، "وعن أحمد" روايتان "كالمذهبين، والراجح عند، الشافعي" تنعقدان نواها، "واختلف فيمن المخاطب في الآية على قولين":
"أحدهما: أن الملائكة قالت للوط عليه السلام لما وعظ" ذكر وخوف "قومه، وقال: هؤلاء بناتي إن كنتم فاعلين" ما تريدون من قضاء الشهوة، فتزوجوهن، {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} ، أي: يتحيرون" لعمي بصائرهم، والعمه في البصيرة، والعمى في البصر، "فكيف يعقلون قولك ويلتفتون إلى نصيحتك" وقدم الكشاف ذا القول؛ لأنه المناسب عنده للسياق.
"والثاني: أن الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه تعالى أقسم بحياته"، وقدمه البيضاوي. وقال عياض: اتفق عليه أهل التفسير، ومراده أهله الذين هم أهله، وهم مفسرو السلف.(8/485)
تشريف عظيم ومقام رفيع وجاه عريض.
قال ابن عباس: ما خلق الله، وما ذرأ وما برأ نفسًا أكرم عليه من محمد صلى الله عليه وسلم، وما سمعت الله أقسم بحياة أحد غيره، قال الله تعالى: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ
__________
قال ابن القيم: أكثر المفسرين عن السلف والخلف، بل لا يعرف في السلف، فيه نزاع أنهذا قسم من الله بحياة رسوله عليه الصلاة والسلام، وهذا من أعظم فضائله أن يقسم الرب بحياته، وهذه مزية لا تعرف لغيره، ولم يوفق الزمخشري لذلك، فصرف القسم إلى أنه بحياة لوط؛ وأنه من قول الملائكة له، فقال: هو على إرادة القول، أي: قالت الملائكة للوط: لعمرك إنهم لفي سكرتهم، وليس في اللفظ ما يدل على واحد من الأمرين، بل ظاهر اللفظ وسياقه إنما يدل على ما فهمه الطيب، لا أهل التعطيل والاعتزال. انتهى.
فما أوهمه المصنف من تساوي القولين مخالف لكلام أصله، إلا أن يقال لما رأى قوله: وليس في اللفظ ... إلخ.
اقتصر على مجرد حكايتهما بلا ترجيح، لكن قد علم إضراب أصله، بقوله: بل ظاهر اللفظ، إلخ، وعليه، فقيل: ضمير أنهم لقريش، والجملة اعتراض، كما في البيضاوي.
وقال التجاني: أنه بعيد لانقطاع الآية به عما بعدها وما قبلها، "وفي هذا تشريف عظيم ومقام رفيع وجاه"، أي: منزلة وقدر "عريض"، مجاز بمعنى عظيم، كدعاء عريض.
قال البيضاوي: أي: كبير مستعار مما له عرض متسع للإشعار بكثرته واستمراره، وهو أبلغ من الطول؛ لأنه أطول الامتدادين، فإذا كان عرضه، كذلك فما ظنك بطوله.
"قال: ابن عباس: ما خلق" أوجد "الله، وما ذرأ، وما برأ" "بالهمز" فيهما، وذكرهما للتأكيد؛ لأنها بمعنى، وقد يفرق بينهما بالاعبار، بأن يكون ذرأ من الذرية، وبرأ بمعنى صور، أي: لم يوجد "نفسًا أكريم عليه من محمد صلى الله عليه وسلم" أشرف منه ذاتًا ونسبًا وصورة، ومثل هذه العبارة تفيد عدم المساواة عرفًا، "وما سمعت الله أقسم" أي: ماعلمت من إطلاق السبب على مسببه.
وقيل: إنه هنا من النواسخ الداخلة على المبتدأ والخبر على أن المفعول الأول مصدر الخبر المضاف إلى المبتدأ، وإليه ذهب الرضي وغيره في فعل السماع الداخل على الذوات، كسمعت زيدًا يقول كذا، بشرط كون الخبر مما يسمع، والتقدير ما سمعت أقسام الله "بحياة أحد" والجملة مبينة للمقدر، لكن فيه؛ أنهم شرطوا كون السماع بلا واسطة "غيره" بالجر صفة أحدًا وبدل منه، وبالنصب على الاستثناء، قيل: وهو أحسن للصراحة في أنه أقسم بالنبي، ولم يقسم بغيره، بخلاف الخفض، فإنما يفيد أنه لم يقسم بغيره، وليس فيه أنه أقسم به ولا وجه له،(8/486)
يَعْمَهُونَ} يقول: وحياتك وعمرك وبقائك في الدنيا إنهم لفي سكرتهم يعمهون. ورواه ابن جرير.
ومراده بقوله: "سمعت الله"؛ سمعت كلامه المتلو في الكتب المنزلة.
ورواه البغوي في تفسيره بلفظ: وما أقسم الله بحياة أحد إلا بحياته صلى الله عليه سولم، وما أقسم بحياة أحد غيره، وذلك يدل على أن أكرم خلق الله على الله، وعلى هذا فيكون قسمه تعالى بحياة محمد صلى الله عليه وسلم كلامًا معترضًا في قصة لوط.
وقال القرطبي: وإذا أقسم الله بحياة نبيه فإنما أراد بيان التصريح لنا: أنه يجوز لنا أن نحلف بحياته.
__________
فإنه يفيدهما على الوجهين بقرينة السياق، وتلاوة الآية، "قال الله تعالى: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} ، يقول: وحياتك، وعمرك، وبقائك في الدنيا" وفي الشفاء معناه: وبقائك يا محمد، وقيل: وعيشك، وقيل: وحياتك "إنهم لفي سكرتهم يعمهون، رواه" محمد "بن جرير"، الحافظ الشهير، "ومراده بقوله: سمعت الله، سمعت كلامه المتلو في الكتب المنزلة"، وعلى لسان نبيه.
"ورواه البغوي في تفسيره" من طريق أبي الجوزاء، عن ابن عباس، "بلفظ: وما أقسم الله بحياة أحد إلا بحياته صلى الله عليه وسلم، وما أقسم بحياة أحد غيره"، أتى به مع استفادته مما قبله، لاشتماله على النفي والاستثناء، فكأنه قال: أقسم بحياته لا بحياة غيره؛ لأن دلالته على النفي بالمفهوم، وبعض الأئمة، كالحنفية يجعله مسكوتًا عنه، فنفي ذلك بالتصريح به، "وذلك يدل على أنه أكرم خلق الله على الله"، وذلك بإجماع، والكرم صفة جامعة لكل خير وإن خصه العرب الطارئ الآن بالجود، فليس بمراد هنا وحده، "وعلى هذا فيكون قسمه تعالى بحياة محمد صلى الله عليه وسلم كلامًا معترضًا في قصة لوط" تسلية للمصطفى عن أذية قومه له، وهو واضح بجعل ضمير "إنهم" لقريش، أما على أنه لقوم لوط، فلا يظهر جعله اعتراضًا، إذ هو من جملة ما يتعلق بقوم لوط.
نعم. لا يمنع ذلك أن القسم بحياة المصطفى، فغايته أنه تأكيد لحيرة قوم لوط وعبر بالمضارع حكاية للحال الماضية، أو لتشبيه الماضي بالحال.
"وقال القرطبي: وإذا أقسم الله بحياة نبيه، فإنما أراد بيان التصريح لنا انه يجوز لنا أن نحلف بحياته"، ولا دلالة فيه على ذلك، فإنما المراد التعظيم، والله تعالى له أن يقسم بما شاء، {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} ، {وَالضُّحَى، وَاللَّيْلِ} ، والمقرر في مذهب القرطبي قولان مشهوران:(8/487)
وقد قال الإمام أحمد بن حنبل: فيمن أقسم بالنبي صلى الله عليه وسلم تنعقد يمينه وتجب الكفارة بالحنث، واحتج أحمد بكونه صلى الله عليه وسلم أحد ركني الشهادة.
قال ابن خويز منداد واستدل من جوز الحلف به عليه الصلاة والسلام بأن أيمان المسلمين جرت من عهده صلى الله عليه وسلم أن يحلفوا به صلى الله عليه وسلم حتى إن أهل المدينة إلى يومنا هذاإذا جاء صاحبه وقال له: احلف لي بحق صاحب هذا القبر، أو بحق ساكن هذا القبر، يعني النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال تعالى: {لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ، وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ} الآية [البلد: 1، 2] .
__________
فذهب الأكثرون إلى حرمة الحلف بالنبي والكعبة، وكل معظم شرعا، وشهره بهرام في شامله، والأقلون إلى كراهة الحلف بذلك، وشهره التاج الفاكهاني.
وحجة كل قوله صلى الله عليه وسلم: فمن كان حالفا، فليحلف بالله، أو ليصمت، رواه الشيخان، ومحل الخلاف: إذا كان الحالف صادقا وإلا حرم اتفاقا، بل ربما يكون بالنبي كفرا.
"وقد قال الإمام أحمد بن حنبل: فيمن أقسم بالنبي صلى الله عليه وسلم تنعقد يمينه، وتجب الكفارة بالحنث"، ومذهب مالك والشافعي، والجمهور لا تنعقد ولا كفارة، "واحتج أحمد بكونه صلى الله عليه وسلم أحد ركني الشهادة" ولا حجة فيه، إذ لا يلزم منذلك انعقاد اليمين به، بل ولا جواز الحلف به، لا سيما مع النهي الصريح عنه صلى الله عليه وسلم.
"قال" أبو بكر محمد بن أحمد، المعروف بأنه "ابن خويز منداد" "بضم الخاء وكسر الزاي، وفتح الميم، وسكون النون ودالين بينهما ألف"، ويقال: خواز منداد، تفقه على الأبهري وله كتاب كبير في الخلاف، وكتاب في أصول الفقه، وكتاب في أحكام القرآن وعنده شواذ، عن مالك، وله اختيارات مخالفة للمذهب، ولم يكن بالجيد النظر، ولا قوي الفقه.
قال الباجي: لم أسمع له في علماء العراق ذكرا، وكان يجانب الكلام، وينافر أهله حتى يؤدي ذلك إلى منافرة المتكلمين من أهل السنة، ويحكم على جميعهم بأنهم من أهل الأهواء، قاله في الديباج، "واستدل من جوز الحلف به عليه الصلاة والسلام؛ بأن أيمان المسلمين جرت من عهده صلى الله عليه وسلم، أن يحلفوا به" وهذا بفرض تسليمه لا دلالة فيه على الجواز، إذ المختلف فيه لا يجب إنكاره، "حتى إن أهل المدينة إلى يومنا هذا، إذا جاء" من يريد التحليف "صاحبه" الذي يريد تحليفه، "وقال له: احلف" لي "بحق صاحب هذا القبر، أو بحق ساكن هذا القبر، يعني النبي صلى الله عليه وسلم" كان ذلك عنده غاية في تغليظ اليمين.
"وقال تعالى: {لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ، وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ} [البلد: 1، 2] ، من إقامة الظاهر(8/488)
أقسم تعالى بالبلد الأمين، وهو مكة أم القرى وهو بلده عليه الصلاة والسلام، وقيده بحلوله فيه إظهارا لمزيد فضله، وإشعارا بأن شرف المكان بشرف أهله قاله البيضاوي.
ثم أقسم بالوالد وما ولد، وهو فيما قيل: إبراهيم وإسماعيل، وما ولد: محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا تتضمن السورة الإقسام به في موضعين، وقيل: المراد به
__________
مقام المضمر، فلم يقل به استعظاما لحلوله فيه، "الآية" أتلها. "أقسم تعالى بالبلد الأمين"، فلا زائدة لإفادة التأكيد والتحسين، وإن كان حذفها لا يغير أصل المعنى، فاندفع قول الإمام الرازي: إنه مانع من الانتظام، وموهم جعل الإثبات نفيا، ويلزمه عدم الاعتماد على القرآن، مع أن لا تأتي زائدة مع القسم كثيرا، وقد تزاد في غيره أيضا.
وقد ذهب بعض المفسرين والنحاة إلى أنه لا يصلق على مثله زائد، بل يقال: صلة تأدبا، وهو حسن، ويحتمل كلام المصنف أنه حمل، لا على أنها واقعة جواب قسم مقدر، أي: ولله؛ لأنا أقسم ويؤيده القراءة الشاذة: لا أقسم، بلام الابتداء، "وهو مكة أم القرى، وهو بلده عليه الصلاة والسلام، وقيده بحلوله فيه إظهارا لمزيد فضله"، فالمعنى أقسم به، والحال إنك مقيم به لشرفك وعظمتك عندي، "وإشعارًا بأن شرف المكان بشرف أهله"، وفيه إيماء إلى أن القسم بقوله: {وهذا البلد الأمين} ، لكونه فيه، فلا تنافي بين الآيتين، فإذا كان فيه، فهو حقيق بالإقسام به، كما قيل:
وما حب الديار شغفن قلبي ... ولكن حب من سكن الديارا
"قاله البيضاوي" غير مقتصر عليه، بل حكى بعده ما يأتي لمصنف، لكنه لم ينقله عنه لوجوده في كلام من تقدمه "ثم أقسم بالوالد وما ولد" آثر ما على من لمعنى التعجب، كقوله: والله أعلم بما وضعت، أو؛ لأن كثيرا منالنحاة زوجوه، أو لتأويله بالمبهم، أي: الولد الكامل، الذي لا يدرك كنه ذاته، أو لاطراده فيما قصد به المعنى الوصفي، كالمولود هنا نظرا للصفة، فإنها ليست منجنس العقلاء، قال في حواشي الكشاف: التفرقة بين من وما إنما هي إذا أريد الذات، وأما إذا أريد الوصف، فيجوز ذهابا إلى الوصف، وقد خفي هذا على بعض الأفاضل، "وهو فيما قيل: إبراهيم وإسماعيل وما ولد محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا تتضمن السورة الأقسام به في موضعين" أحدهما: في البلد التي هي محله فإذا القسم بمكانه قسم به صلى الله عليه وسلم، أبلغ من القسم بذاته وحياته.
والثاني قوله: وما ولد، وزعم أنه لما أقسم بوالده، وهو في أصله، فكأنه أقسم به في غايةالبعد، اللهم إلا أن يقال لما قصد تعظيمه بالقسم بوالده، كأنه أقسم بصفة من صفاته، وهي(8/489)
آدم وذريته، وهو قول الجمهور من المفسرين.
وإنما أقسم تعالى بهم؛ لأنهم أعجب خلق الله على وجه الأرض لما فيهم من البيان والنظر واستخراج العلوم، وفيهم الأنبياء والدعاة إلى الله تعالى والأنصار لدينه، وكل ما في الأرض من مخلوق خلق لأجلهم، وعلى هذا فقد تضمن القسم أصل المكان وأصل السكان، فمرجع البلاد إلى مكة، ومرجع العباد إلى آدم.
__________
شرف حسبه.
"وقيل: المراد به" أي: بوالد "آدم و" بما ولد: "ذريته، وهو قول الجمهور من المفسرين" فما ولد عام شامل لجميع أولاده، لا يختص بمفرد منهم فالقسم على هذا بنوع الإنسان، "وإنما أقسم تعالى بهم" وإن كان فيهم فسقة وكفار للتعليل المذكور بقوله؛ "لأنهم أعجب خلق الله على وجه الأرض" إذ خلقهم في أحسن تقويم، "لما فيهم من البيان" النطق المبين عن المقاصد "والنظر" الاستدلال، "واستخراج العلوم، وفيهم الأنبياء" أريد بهم ما يشمل المرسلين "والدعاة" جمع داع، كالعلماء والأولياء والصلحاء، فالكل يدعون "إلى الله تعالى والأنصار لدينه" بالسيف والحجة، "وكل ما في الأرض من مخلوق خلق لأجلهم" كما قال تعالى: {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29] .
"وعلى هذا، فقد تضمن القسم أصل المكان وأصل السكان" آدم، خصه لشرفه وكونه أصلهم، "فمرجع البلاد إلى مكة"؛ لأنها أمها "ومرجع العباد إلى آدم"؛ لأنه أصلهم، ولو قال: ومرجع غير بني آدم إليهم، وفسر أصل السكان بآدم وذريته، كان أوفق بتفسير الولد والوالد؛ بأنهم آدم وذريته، ثم ظاهر هذا التفسير: ولو كان فيهم فسقة وكفار، من حيث تعليله بما ذكر ولا ضير فيه.
وفي الخازن: أقسم بآدم، وبالأنبياء والصالحين من ذريته؛ لأن الكافر وإن كان من ذريته، فلا حرمة له حتى يقسم به. انتهى.
وفيه نظر؛ لأن الإقسام لم يلاحظ فيه الحرمة فقط، بل كونه أعجب الخلق على الأرض، كيف وقد قال ابن عباس: الوالد والولد هنا على العموم، فهي أسماء جنس، يدخل فيها جميع الحيوا.
وقال ابن عباس وابن جبير وعكرمة: والد معناه كل من ولد وانسل، وما ولد لم يبق منه إلا العاقر، الذي لم يلد البتة.
وقيل: المراد نوح وجميع ولده، وقيل: إبراهيم وجميع ولده، حكى ذلك ابن عطية وغيره، وقيل: الوالد محمد صلى الله عليه وسلم، الحديث: "إنما أنا لكم بمنزلة الوالد والولد، أمته أو ذريته"، "وقوله" تعالى:(8/490)
وقوله: {وَأَنْتَ حِلٌّ} هو من الحلول، ضد الظعن، فيتضمن إقسامه تعالى ببلده المشتمل على عبده ورسوله، فهو خير البقاع واشتمل على خير العباد، فقد جعل الله تعالى بيته هدى للناس، ونبيه صلى الله عليه وسلم إماما وهاديا لهم، وذلك من أعظم نعمه وإحسانه إلى خلقه.
وقيل: المعنى وأنت مستحل قتلك وإخراجك من هذا البلد الأمين الذي يأمن فيه الطير والوحش، وقد استحل فيه قومك حرمتك. وهذا مروي عن شرحبيل بن سعد.
وعن قتادة: وأنت حل أي لست بآثم، وحلل لك أن تقتل بمكة من شئت.
__________
{وَأَنْتَ حِلٌّ} ، هو من الحلول" الإقامة "ضد الظعن" أي: الارتحال، وهو أحد مصادر حل، وفي الأخبار به المذاهب الثلاثة، إما أن يؤول بالمشتق، أو بتقدير مضاف، أي: ذو حل أو مبالغة، كزيد عدل.
وفي القاموس: حل المكان وبه يحل ويحل حلا وحلولا، وحللا محركة نادر نزل به، "فيتضمن أقسامه تعالى ببلده المشتمل على عبده ورسوله، فهو خير البقاع" حتى المدينة، أو إلا المدينة، الخلاف الشهير، "واشتمل على خير العباد" بالإجماع، "فقد جعل الله تعالى بيته" الكعبة "هدى للناس، ونبيه صلى الله عليه وسلم إماما" قدوة "وهاديا لهم" إلى صراط مستقيم، "وذلك من أعظم نعمه وإحسانه إلى خلقه".
وفي الشفاء: قيل: لا أقسم به إذا لم تكن فيه، أي: بعد خروجك منه، حكاه مكي، وقيل: لا زائدة، أي: أقسم به، وأنت به يا محمد حلال، أو حل لك ما فعلته فيه على التفسيرين.
"وقيل: المعنى وأنت مستحل قتلك وإخراجك من هذا البلد الأمين، الذي يأمن فيه الطير والوحش" تفسير الأمين، فهو إسناد مجازي، كعيشة راضية، "وقد استحل فيه قومك حرمتك" وفيه تثبيت له وتعجيب مما جرى عليه، وإشارة إلى علة عدم القسم، فسقط الاعتراض بإن الحال يقتضي عدم القسم بعد الخروج، فيتنافيان.
وهذا كما قال ابن عطية يتجه على أنه قسم، وعلى نفيه، أي: لا أقسم ببلد أنت ساكنه على أذى هؤلاء وكفرهم، "وهذا مروي" عند الثعلبي وغيره، "عن شرحبيل" "بضم الشين المعجمة وفتح الراء وسكون المهملة" "ابن سعد" المدني، مولى الأنصار، تابعي، صدوق، اختلط بآخره، مات سنة ثلاث وعشرين ومائة، وقد قارب المائة.
روى له أبو داود وابن ماجه، "وعن قتادة" بن دعامة الأكمه، المفسر، التابعي: "وأنت(8/491)
وذلك أن الله تعالى يفتح عليه مكة وأهلها، وما فتحت على أحد قبله، فأحل ما شاء وحرم ما شاء، فقتل ابن خطل وهو متعلق بأستار الكعبة وغيره، وحرم دار أبي سفيان.
فإن قلت: هذه السورة مكية، {وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ} إخبار عن الحال، والواقعة التي ذكرت في آخر مدة هجرته إلى المدينة، فكيف الجمع بين الأمرين؟
أجيب: بأنه قد يكون اللفظ للحال، والمعنى مستقبل، كقوله تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر: 30] .
__________
حل، أي: لست بآثم" بالمد؛ لأن حل له معان ضد الحرمة والإقامة بالمكان، والاسم منهما حل بالكسر، وحلال بمعنى جائز ومقيم، "وحلال لك أن تقتل بمكة من شئت، وذلك أن الله تعالى" وعده بأنه "يفتح عليه مكة وأهلها" أي: ويعطيه أهلها، "وما فتحت على أحد قبله، فأحل ما شاء وحرم ما شاء، فقتل" أي: أمر بقتل "ابن خطل" "بفتح المعجمة والمهملة" هلال، أو عبد الله، "وهو متعلق بأستار الكعبة، وقتل "غيره" كما تقدم في فتح مكة، "وحرم دار أبي سفيان" صخر بن حرب، أي: جعل لها حرمة؛ بأن أعطى الأمان من دخلها، بقوله: "من دخل دار أبي سفيان فهو آمن"، أو حرم قتل من دخلها، وعلى هذا، ففي الآية تسلية له صلى الله عليه وسلم، أي: إن أخرجوك منها، فستعود لها، وتفعل فيها ما تريد، وتثبيت ووعد بالنصر، والأول على أنه قسم، والثاني على انتفائه، أو كل منهما جار على التفسيرين.
وقيل: المعنى وأنت حلال، أي: غير محرم بها، إشارة إلى دخولها يوم الفتح حلالًا، فإن قلت: هذه السورة مكية" عند جمهور المفسرين، وبالغ النسفي، فحكي عليه الاتفاق، وينقضه قول ابن عطية.
وقال قول: هي مدنية {وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ} إخبار عن الحال، و" عن "الواقعة" "والجر عطفا"، ويحتمل الرفع، أي: الحال الواقعة "التي ذكرت في آخر مدة هجرته إلى المدينة، فكيف الجمع بين الأمرين" المتنافيين بحسب الظاهر.
"أجيب بأنه قد يكون اللفظ للحال، والمعنى" بالحال "مستقبل، كقوله تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} "، أي: ستموت ويموتون، فلا شماتة بالموت، فأطلق الحال، وأراد الاستقبال، لكن استشكل هذا؛ بأنه يلزمه اختلاف زمني الحال، وعاملها إلا أن يقال الجملة معترضة لا حالية، فتضمن وعدا فيه مبالغة، بتنزيل المستقبل المحقق منزلة الحال لا الماضي، كما يدل له قول عياض، أو حل لك ما فعلت فيه.(8/492)
وعلى كل حال فهذا متضمن للقسم ببلد رسول الله صلى الله علي وسلم ولا يخفى ما فيه من زيادة التعظيم، وقد روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لقد بلغ من فضيلتك عند الله أن أقسم بحياتك دون سائر الأنبياء، ولقد بلغ من فضيلتك عنده أن أقسم بتراب قدميك فقال: {لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَد} .
وقال تعالى: {وَالْعَصْرِ، إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر: 1] .
__________
"وعلى كل حال، فهذا متضمن للقسم ببلد رسول الله صلى الله عليه وسلم" بجعل لا زائدة، "ولا يخفى ما فيه من زيادة التعظيم"، حيث أقسم ببلده، بقيد كونه فيه دفعًا لتوهم أن المكان أشرف، أو أن شرفه مكتسب منه.
"وقد روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم" وأقره عليه: "بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لقد بلغ من فضيلتك عند الله أن أقسم بحياتك دون سائر الأنبياء" في قوله: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} ، وهذا إن صح دليل لقول الجمهور؛ أنه قسم بالمصطفى لا بلوط؛ لأن عمر قاله للنبي صلى الله عليه وسلم وأقره عليه، فهو نص في محل النزاع: "ولقد بلغ من فضيلتك عنده أن أقسم بتراب قدميك، فقا: {لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَد} ، ففيه إشارة إلى أن هذا القسم أدخل في تعظيمه من القسم بذاته وبحياته.
قال عياض: في الشفاء: والمراد بالبلد عند هؤلاء مكة.
وقال الواسطي: أي: يحلف بهذا البلد الذي شرفته الآية، بمكانك فيه حيًا وبركتك ميتًا، يعني المدينة، والأول أصح؛ لأن السورة مكية، وما بعده يصححه قوله: {حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَد} ، ونحوه قول ابن عطاء في تفسيره قوله: {وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِين} . قال: أمنها الله لمقامه فيها وكونه بها، فإن كون أمان حيث كان. انتهى.
لكن تعقبه الدلجي وغيره بأن القائل لا يسلم أن السورة مكية، والبلد عنده في الموضعين المدينة، والإشارة فيهما لها، وحل بمعنى حال مقيم، فكيف يقام عليه الدليل بما لا يسلمه.
"وقال تعالى: {وَالْعَصْرِ، إِنَّ الإِنْسَانَ} اسم جنس {لَفِي خُسْرٍ} [العصر: 1] ، نقصان وسوء حال، وذلك بين غاية البيان في الكافر؛ لأنه خسر الدنيا والآخرة، ذلك هو الخسران المبين، وأما المؤمن وإن كان في خسر في دنياه، في هرمه وما يقاسيه من شقاء هذا الدار، فذلك معفو عنه في جنب فلاحه في الآخرة، وربحه الذي لا يفنى، ومن كان في مدة عمره في التوصي بالحق والصبر، والعمل بحسب الوصاة، فلا خسر معه، وقد جمع له الخير كله، وقرأ علي: والعصر ونوائب الدهر إن الإنسان، وفي مصحف عبد الله: والعصر لقد خلقنا الإنسان،(8/493)
اختلف في تفسير العصر على أقوال:
فقيل: هو الدهر؛ لأنه مشتمل على الأعاجيب؛ لأنه يحصل فيه السراء والضراء، والصحة والسقم وغير ذلك.
وقيل: ذكر العصر الذي بمضيه ينقضي عمرك، فإذا لم يكن في مقابلته كسب صار ذلك عين الخسران، ولله در القائل.
إنا لنفرح بالأيام نقطعها ... وكل يوم مضى نقص من الأجل
__________
وعن علي: لفي خسر، وأنه فيه إلى آخر الدهر {إِلَّا الَّذِين} ، وقرأ عاصم والأعرج {لَفِي خُسْر} بضم السين وقرأ سلام أبو المنذر: {وَالْعَصْر} ، بكسر الصاد {والصبر} ، بكسر الباء، وهذا لا يجوز إلا في الوقف على نقل الحركة، وعن أبي عمرو {بالصبر} ، بكسر الباء إشمامًا، وهذا أيضًا لا يكون إلا في الوقف، قاله ابن عطية رحمه الله، "اختلف في تفسير العصر على أقوال، فقيل": عن ابن عباس: "هو الدهر"، يقال فيه: عصر، وعصر "بضم العين والصاد".
قال امرؤ القيس: وهل يعمن من كان في العصر الخالي؛ "لأنه مشتمل على الأعاجيب" المختلفة؛ "لأنه يحصل فيه السراء" "بالفتح والمد" الخير والفضل، "والضراء" "بفتح المعجمة والمد" نقيض السراء، "والصحة" في البدن حالة طبيعية، تجري أفعاله معها على المجرى الطبيعي، واستعيرت للمعاني، كصحة الصلاة إذا أسقطت القضاء، وصح العقد إذا ترتب عليه أثره، وصح إذا طابق الواقع، "والسقم" "بضم فسكون مصدر سقم" كقرب، "وبفتحتين مصدر سقم كفرح طال مرضه" "وغير ذلك".
"وقيل: ذكر العصر" مبني للمجهول إشارة إلى قول آخر في العصر، أي: قال بعضهم: المراد بالعصر هنا هو "الذي بمضيه" أي: انقضائه "ينقضي عمرك" أيها الإنسان، "فإذا لم يكن في مقابلته كسب" للطاعات "صار ذلك عين الخسران، ولله در القائل:
إنا لنفرح بالأيام نقطعها ... وكل يوم مضى نقص من الأجل
يعني أنه لا فرح بانقضاء الأيام حقيقة وإن كانت في شدة؛ لأنها نقص من أجل الإنسان، وقال قتادة: العصر العشي، وقال أبي بن كعب: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن العصر، فقال: أقسم ربك بآخر النهار، وقيل: اليوم والليل، ومنه قول حميد:
ولن يلبث العصران يوم وليلة ... إذا طلبا أن يدركا ما تيمما
أي: قصدا، وقيل: بكرة وعشية، وهما الإيرادان وقال مقاتل: العصر الصلاة الوسطى، أقسم بها، حكاه ابن عطية.(8/494)
وفي تفسير الإمام فخر الدين والبيضاوي وغيرهما: أنه تعالى أقسم بزمان الرسول صلى الله عليه وسلم. قال الإمام الرازي: واحتجوا له بقوله صلى الله عليه وسلم: "إنما مثلكم ومثل من كان قبلكم مثل رجل استأجر أجراء، فقال: من يعمل لي من الفجر إلى الظهر بقيراط، فعملت اليهود، ثم قال من يعمل لي من الظهر إلى العصر بقيراط، فعملت النصارى، ثم قال: من يعمل لي من العصر إلى المغرب بقيراطين فعملتم، فغضبت اليهود والنصارى وقالوا: نحن أكثر عملًا وأقل أجرًا، فقال الله تعالى: وهل
__________
"وفي تفسير الإمام فخر الدين الرازي، والبيضاوي وغيرهما؛ أنه تعالى أقسم بزمان الرسول صلى الله عليه وسلم" وهذا الموافق للترجمة؛ أنه أقسم بمدة حياته وعصره وبلده.
"قال الإمام الرازي: واحتجوا له"، أي: لهذا القول، "بقوله صلى الله عليه وسلم: "إنما مثلكم ومثل من كان قبلكم" من اليهود والنصارى، والمثل في الأصل بمعنى النظير، ثم استعمل لكل حال أو قصة أو صفة لها شأن وفيها غرابة لإرادة زيادة التوضيح والتقرير، فإنه أوقع في القلب، وأقمع للخصم، ليرى المتخيل محققًا والمعقول محسوسًا ولذا أكثر الله في كتابه الأمثال وفشت في كلام الأنبياء والمعنى مثلكم مع نبيكم، ومثل من قبلكم مع أنبيائكم "مثل رجل استأجر أجراء" "بضم الهمزة وفتح الراء جمع أجير".
وفي رواية كرجل استأجر عمالًا: جمع عامل، "فقال: من يعمل من الفجر إلى الظهر بقيراط".
زاد في رواية: قيراط، فذكره مرتين ليدل على تقسيم القراريط على جميعهم؛ لأن العرب إذا أرادت تقسيم الشيء على متعدد كررته، كما يقال: أقسم هذا المال على بني فلان درهمًا درهمًا: كما في الفتح: "فعملت اليهود، ثم قال: من يعمل من الظهر إلى العصر بقيراط"، قيراط بالتكرير أيضًا، كما في رواية، وهو نصف دانق، والمراد هنا النصيب، "فعملت النصارى، ثم قال: من يعمل من العصر إلى المغرب بقيراطين، فعملتم" أيتها الأمة المحمدية، "فغضبت اليهود والنصارى" أي: الكفار منهم، "وقالوا: نحن أكثر عملًا"؛ لأن الوقت من الفجر إلى الظهر أكثر من وقت العصر إلى الغروب، وتمسك به بعض الحنفية؛ على أن وقت العصر من مصير ظل كل شيء مثليه؛ لأنه لو كان من مصير مثله لكان مساويًا لوقت الظهر.
وقد قالوا: نحن أكثر عملًا، فدل على أنه دون وقت الظهر، وأجيب بمنع المساواة، وذلك معروف عند علماء هذا الفن أن مدة بين الظهر والعصر أطول من مدة بين العصر والمغرب، وما نقله بعض الحنابلة من الإجماع، على أن وقت العصر ربع النهار محمول على التقريب، إذا فرعنا على أن وقت العصر مصير الظل مثله، كما قال الجمهور، وأما على قول الحنفية؛ فالذي من(8/495)
نقصتكم من أجركم شيئًا؟ قالوا: لا، قال: فذلك فضلي أوتيه من أشاء، فكنتم أقل عملًا وأكثر أجرًا. رواه البخاري.
قالوا: فهذا الحديث دل على أن العصر هو عصره صلى الله عليه وسلم الذي هو فيه،
__________
الظهر إلى العصر أطول قطعًا، وعلى التنزل لا يلزم من التمثيل والتشبيه التسوية من كل جهة؛ وبأن الخبر إذا ورد في معنى مقصود، لا يؤخذ منه المعارضة، لما ورد في ذلك المعنى بعينه مقصودًا في أمر آخر؛ وبأنه ليس في الخبر، نص على أن كلا من الطائفتين أكثر عملًا، لصدق أن كلهم مجتمعين أكثر عملا من المسلمين، وباحتمال أن أطلق ذلك تغليبًا، وباحتمال أن ذلك قول اليهود خاصة، فيندفع الاعتراض من أصله، كما جزم به بعضهم، وتكون نسبة ذلك للجميع في الظاهر غير مرادة، بل هو عموم أريد به الخصوص وبأنه لا يلزم من كونهم أكثر عملًا أن يكونوا أكثر زمنًا، لاحتمال أن عمل زمنهم أشق، ويؤيده قوله تعالى: {رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} [البقرة: 286] ، ومما يؤيده أن المراد كثرة العمل وقلته، لا بالنسبة إلى طول الزمن وقصره، اتفاق أهل الأخبار على أن المدة التي بين عيسى ونبينا دون المدة التي بين نبينا وقيام الساعة؛ لأن جمهور أهل الأخبار قالوا: مدة الفترة بين عيسى ونبينا ستمائة سنة، وثبت ذلك في البخاري عن سلمان وقيل: إنها دون ذلك حتى قال بعضهم: إنها مائة وخمس وعشرون سنة ومدة المسلمين بالمشاهدة أكثر من ذلك، فلو تمسكنا بأن المراد التمثيل بطول الزمانيين وقصرهما، للزم أن وقت العصر أطول من وقت الظهر، ولا قائل به، فدل على أن المراد كثرة العمل وقلته، كما قاله في الفتح: وأقل أجرًا، فقال الله تعالى: وهل نقصتكم من أجركم" الآية، الذي شرطه لكم شيئًا.
وفي رواية: هو ظلمتكم من حقكم "شيئًا، قولوا: لا". لم تنقصنا شيئًا، وإنما لم يكن ظلمًا؛ لأنه تعالى شرط معهم شرطًا، وقبلوا أن يعملوا به، "قال: فذلك فضلي أوتيه من أشاء" من عبادي.
قال الطيبي: ما ذكر من المقاولة والمكالمة، لعله تخييل وتصوير، ولم يكن حقيقة؛ لأنه لم يكن ثمة هذه الأمة، اللهم إلا أن يحمل ذلك على حصوله عند إخراج الذر، فيكون حقيقة.
قال صلى الله عليه وسلم: "فكنتم أقل عملًا وأكثر أجرًا" ممن كان قبلكم، "رواه البخاري" من حديث ابن عمر في الصلاة، والإجارة وفضل القرآن، وفي ذكر بني إسرائيل، وفي التوحيد، بألفاظ متقاربة ليس في محل منها بهذا اللفظ، وإنما هو لفظ مسلم.
وأخرجه البخاري، بنحوه من حديث أبي موسى، لكن ظاهر سياقهما أنهما قضيتان، وحاول بعضهم الجمع بينهما، فتعسف كما في الفتح، "قالوا: فهذا الحديث دل على أن(8/496)
فيكون على هذا أقسم تعالى بزمانه في هذه الآية، وبمكانه في قوله تعالى: {وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَد} ، وبعمره في قوله: لعمرك، الآية، وذلك كله كالظرف له، فإذا وجب تعظيم الظرف فكيف حال المظروف، قال: ووجه القسم كأنه تعالى قال: ما أعظم خسرانهم إذا أعرضوا عنك. انتهى.
__________
العصر هو عصره صلى الله عليه وسلم، الذي هو فيه، فيكون على هذا أقسم الله تعاىلى بزمانه في هذه الآية، وبمكانه في قوله تعالى: {وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَد} سواء قلنا؛ أنه مكة أو المدينة، إذ كل مكانه، "وبعمره في قوله: {لَعَمْرُك} ، وذلك كله كالظرف له، فإذا وجب": ثبت، وحق "تعظيم الظرف" بالأقسام به، "فكيف حال المظروف" استفهام تعجيب.
"قال" الرازي: "ووجه القسم كأنه تعالى قال": "ما أعظم خسرانهم إذ أعرضوا عنك" انتهى كلام الرازي وهو وجيه.(8/497)
النوع السادس: في وصفه تعالى له عليه الصلاة والسلام بالنور والسراج المنير
اعلم أن الله تعالى قد وصف رسوله صلى الله عليه وسلم بـ"النور" في قوله تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ} [المائدة: 15] ، وقيل: المراد القرآن.
__________
العصر هو عصره صلى الله عليه وسلم، الذي هو فيه، فيكون على هذا أقسم الله تعاىلى بزمانه في هذه الآية، وبمكانه في قوله تعالى: {وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَد} سواء قلنا؛ أنه مكة أو المدينة، إذ كل مكانه، "وبعمره في قوله: {لَعَمْرُك} ، وذلك كله كالظرف له، فإذا وجب": ثبت، وحق "تعظيم الظرف" بالأقسام به، "فكيف حال المظروف" استفهام تعجيب.
"قال" الرازي: "ووجه القسم كأنه تعالى قال": "ما أعظم خسرانهم إذ أعرضوا عنك" انتهى كلام الرازي وهو وجيه.
النوع السادس:
"في وصفه تعالى له عليه الصلاة والسلام بالنور والسراج": المصباح، جمعه سرج، ككتاب وكتب "المنير" وصف به للتأكيد، أو؛ لأن بعض السرج لا يضيء إذا رق فتيله وقل زيته، وقد قيل ثلاثة تضني: رسول يضيء وسراج لا يضيء ومائدة ينتظر إليها من يجيء، "اعلم أن الله تعالى قد وصف رسوله صلى الله عليه وسلم بالنور" أي: أخبر عنه بأنه نور "في قوله تعالى: {قَدْ جَاءَكُم} الخطاب لأهل الكتاب في قوله: يا أهل الكتاب وهو شامل للتوراة والإنجيل، وكانوا يخفون ما فيها من صفات النبي صلى الله عليه وسلم " {مِنَ اللَّهِ نُور} " هو محمد صلى الله عليه وسلم " {وَكِتَابٌ مُبِين} " قرآن بين ظاهر.
"وقيل: المراد" بالنور "القرآن"، وعليه فالعطف للتفسير، وقوله: يهدي به الله في موقعه، وعلى الأول أفرده مع تغايرهما وعطفهما بالواو لرجوعه لهما معًا باعتبار المذكور، أو؛ لأنهما معًا كالشيء الواحد وهداية أحدهما عين هداية الآخر، فإن خلقه القرآن، وما أفاده المصنف من ترجيح الأول هو الصحيح، فق اقتصر عليه الجلال، وقد التزم الاقتصار على أرجح الأقوال، وبه جزم عياض في محل وساوى بينهما في آخر، وتبعه المصنف في الأسماء الشريفة، وفسر النور.(8/497)
وصفه عليه الصلاة والسلام أيضًا بـ"السراج المنير" في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا، وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} [الأحزاب: 46] .
والمراد: كونه هاديًا مبينًا كالسراج الذي يرى الطريق ويبين الهدى والرشاد، فبيانه أقوى وأتم وأنفع من نور الشمس، وإذا كان كذلك وجب أن تكون نفسه القدسية أعظم في النورانية من المشس، فكما أن الشمس في عالم الأجسام تفيد النور لغيرها ولا تستفيد من غيرها فكذا نفس النبي صلى الله عليه وسلم تفيد الأنور العقلية لسائر الأنفس البشرية، وكذلك وصف الله تعالى الشمس بأنها سراج حيث قال: {وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا} [الفرقان: 61] .
__________
أيضًا بالإسلام، "وصفه عليه الصلاة والسلام أيضًا بالسراج المنير في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا} على من أرسلت إليهم " {وَمُبَشِّرًا} " من صدقك بالجنة، " {وَنَذِيرًا} " منذرًا من كذبك بالنار، " {وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ} " إلى طاعته " {بِإِذْنِهِ} " أي: أمره فهو على ظاهره؛ لأن أمره إذن له أو المراد به الإرادة، فإنه كثيرًا ما يتجاوز به عنها وعن الأمر، كما في مجاز القرآن لابن عبد السلام، وفسر أيضًا بتوفيقه وتيسيره، " {وَسِرَاجًا مُنِيرًا} " [الأحزاب: 46] ، يستضاء به من ظلمات الجهالة، ويقتبس من نوره أنوار البصائر، "والمراد كونه هاديًا مبينًا كالسراج يرى الطريق"، أي: يكون سببًا في إراءتها، فالإسناد مجازي "ويبين الهدى والرشاد" الصلاح، وهو خلاف الغي والضلال، وهو إصابة الصواب، "فبيانه أقوى وأتم وأنفع من نور الشمس"؛ لأنه يفرق بين الحق والباطل والشمس إنما يتبين بها ما يدرك بحاسة البصر من الألوان ونحوها فهو تفريع على قوله يبين الهدى، "وإذا كان كذلك وجب أن تكون نفسه القدسية أعظم في النورانية من الشمس، فكما أن الشمس في عالم الأجسام تفيد النور لغيرها ولا تستفيد من غيرها، فكذا. نفس النبي صلى الله عليه وسلم تفيد الأنوار العقلية لسائر" أي: لجميع "الأنفس البشرية" ولم يقل ولا تستفيد من غيرها، كما قال في الشمس؛ لأنه صلى الله عليه وسلم يستفيد الوحي من جبريل، ولذا وقع تشبيهه بالسراج؛ لأنه في غاية الوضوح والبلاغة؛ لأنه يستضيء من الوحي ويضيء للناس بما أتاهم به، ففيه من البلاغة ما ليس في قوله: شسمًا وقمرًا.
قال القاضي أبو بكر بن العربي: قال علماؤنا: سمي سراجًا؛ لأن السراج الواحد يؤخذ منه السرج الكثيرة ولا ينقص من ضوئه شيء، وكذلك سرج الطاعات أخذت من سراجه صلى الله عليه وسلم ولم ينقص من أجره شيء "وكذلك وصف الله تعالى الشمس بأنها سراج، حيث قال: {وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا} [الفرقان: 61] ، وفي قراءة سرجًا بالجمع، أي: نبرات وخص القمر(8/498)
وكما وصف الله تعالى ورسوله بأنه نور، وصف نفسه المقدسة بذلك فقال: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْض} [النور: 35] ، فليس فيهما إلا الله، ونوره المقدس هو سر الوجود والحياة والجمال والكمال، وهو الذي أشرق على العالم فأشرق على العوالم الروحانية، وهم الملائكة، فصارت سرجًا منيرة، يستمد منها من دونها بوجود الله، ثم سرى النور إلى عالم النفوس الإنسانية، ثم طرحته النفوس على صفحات الجسوم، فليس في الوجود إلا نور الله الساري إلى الشيء منه بقدر قبوله ووسع استعداده ورحب تلقيه.
والنور في الأصل: كيفية يدركها الباصر أولًا، وبواستطها سائر المبصرات،
__________
منها بالذكر لنوع فضيلة، "وكما وصف الله تعالى رسوله بأنه نور وصف نفسه المقدسة، بذلك فقال: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْض} [النور: 35] .
قال ابن عباس وغيره: أي: هادي أهلهما، قال الرازي: في شرح الأسماء وهو حسن، إلا أن تفسيره به في الأسماء التسعة والتسعين لا يجوز؛ لأنه يصير محض تكرار، وأجيب: بجواز أن الهادي أعم، كما قالوه في الرؤوف الرحيم، أو يعتبر به هداية بالغة إلى حد لا يتناهى، فتحصل به المغايرة في الجملة، كالرحمن الرحيم، فلا وجه لقوله: لا يجوز؛ لأن له نظائر في الأسماء، وفي حواشي الكشاف معنى نور السماوات والأرض هادي العالمين، مبين ما يهتدون به ويتخلصون من ظلمات الكفر ولضلال بوحي منزل ونبي مرسل، "فليس فيهما إلا الله ونوره المقدس" أي: المراد به "هو سر الوجود" أي: إيجاده العالم " والحياة والجمال والكمال" وفي الأنوار أصل الظهور هو الوجود، كما أن أصل الخفاء هو العدم والله موجود بذاته، موجد لما عداه، "وهو الذي أشرق على العالم" كله، وهو ما سوى، لكن وقع ذلك الإشراق على وجوه متنوعة، "فأشرق على العوالم" "بكسر اللام" جمع عالم "الروحانية" بضم الراء"، فهو من عطف المفصل على المجمل نحو توضأ فغسل وجهه، "وهم الملائكة، فصارت سرجًا، "بضمتين" "منيرة يستمد" "بفتح أوله" "منها من دونها "فاعل" "بوجود الله، ثم سرى النور إلى عالم النفوس الإنسانية، ثم طرحته النفوس على صفحات الجسوم"، أي: جوانبها: جمع جسم، "فليس في الوجود إلا نور الله الساري إلى الشيء منه بقدر قبوله ووسع استعداده ورحب تلقيه" "بضم الراء وفتحها"، وعطفه على ما قبله كالمسبب على السبب، فالاستعداد هو الأسباب التي يكون اجتماعها فيه سببًا، لحصول المعرفة وقبول ما يلقى إليه، ورحب التلقي قوة قبوله لما يلقي إليه وحسن استماعه له، "والنور في الأصل" عند الحكماء لا اللغة، فإنه الضوء وأصله من نار ينور إذا نفر ومنه نوار للظبية، وبه سميت المرأة فوضع للضوء لانتشاره أو لإزالته الظلام فكأنه(8/499)
كالكيفية الفائضة من النيرين -الشمس والقمر- على الأجرام الكثيفة المحاذية لهما، وهو بهذا المعنى لا يصح إطلاقه على الله إلا بتقدير مضاف، كقولك: زيد كرم، بمعنى: ذو كرم، أو بمعنى منور السماوات والأرض، فإنه تعالى نورهما بالكواكب، وما يفيض عنها من الأنوار، وبالملائكة والأنبياء من قولهم للرئيس الفائق في التدبير: نور القوم؛ لأنهم يهتدون به في الأمور، ويؤيد هذا التأويل قراءة علي بن أبي طالب وزيد بن علي وغيرهما نورًا فعلًا ماضيًا، والأرض بالنصب.
وقوله تعالى: {مَثَلُ نُورِهِ} أي: مثل هداه سبحانه وتعالى.
وأضاف النور السماوات والأرض، إما دلالة على سعة إشراقه، وفشو إضاءته حتى تضيء له السماوات والأرض، وإما لإرادة أهل السماوات والأرض، أنهم
__________
ينفر منه "كيفية" أي": صفة، لكن لفظ كيفية لم يسمع من العرب، كما صرح به أهل اللغة "يدركها الباصر أولًا، و" يدرك "بواسطتها سائر المبصرات، كالكيفية الفائضة من النيرين الشمس والقمر على الأجرام الكثيفة المحاذية لهما.
وبعضهم زعم أنه أجرام صغار تنفصل من المضي وتتصل بالمستضيء، "وهو بهذا المعنى لا يصح إطلاقه على الله" لاستحالته إذ هو عرض أو جسم، وكلاهما محال عليه "إلا بتقدير مضاف، كقولك: زيد كرم بمعنى ذو كرم"، فمعنى الله نور، أي: ذو نور، "أو بمعنى منور السماوات والأرض" فهو من إطلاق المصدر وإرادة اسم الفاعل، "فإنه تعالى نورهما بالكواكب وما يفيض عنها من الأنوار، وبالملائكة والأنبياء" وذلك مأخوذ "من قولهم للرئيس الفائق في التدبير"، وهو فعل الأمر عن فكر وروية، "نور القوم؛ لأنهم يهتدون به في الأمور، ويؤيد هذا التأويل قراءة علي بن أبي طالب زيد بن علي" بن الحسين بن علي "غيرهما نور فعلًا ماضيًا" مفتوح النون، والواو ومشددة، "والأرض بالنصب" مفعول.
وأدعى الغزالي أنه حقيقة؛ لأن النور معناه الظاهر بنفسه المظهر لغيره، وهو ميل لقول الإشراقيين، قال: شارح حكمة الإشراق الله نور السماوات والأرض، لا بمعنى منورهما على ما يقوله بعض المفسرين هربًا من إطلاق اسم النور عليه، بمعنى أنه محض النور البحث، وأن سائر الأنوار تشرق من نوره، كذا قال، "وقوله تعالى: {مَثَلُ نُورِهِ} " [النور: 35] ، أي: مثل هداه سبحانه وتعالى.
وفسره البيضاوي بالصفة العجيبة، "وأضاف النور إلى السماوات والأرض، إما دلالة على سعة إشراقه وفشو إضاءته حتى تضيء له، السماوات والأرض، وإما لإرادة أهل السماوات(8/500)
يستضيئون به.
وعن مقاتل: أي مثل الإيمان في قلب محمد صلى الله عليه وسلم كمشكاة فيها مصباح، فالمشكاة نظير صدر عبد الله، والزجاجة نظير جسد محمد صلى الله عليه وسلم، والمصباح نظير الإيمان والنبوة في قلب محمد صلى الله عليه وسلم.
وعن غيره: المشكاة نظير إبراهيم، والزجاجة نظير إسماعيل عليهما، والمصباح جسد محمد صلى الله عليه وسلم، والشجرة: النبوة والرسالة.
وعن أبي سعيد الخراز: المشكاة: جوف محمد صلى الله عليه وسلم، والزجاجة قلبه، والمصباح النور الذي جعل الله في قلب محمد صلى الله عليه وسلم.
__________
والأرض" وأضاف النور إليهم لأجل "أنهم يستضيئون به" والإضافة تجيء لأدنى ملابسة.
"وعن مقاتل، أي: مثل الإيمان في قلب محمد صلى الله عليه وسلم، كمشكاة" كوة غير نافذة، والكوة بفتح الكاف وضمها اسم ما لا ينفذ، قيل: معربة من الحبشية، وقيل: هي القنديل، وقيل: موضع الفتيلة منه، وقيل: معلاقة، "فيها مصباح" قنديل أو الفتيلة، مأخوذ من الصباح أو الصباحة، "فالمشكاة نظير صدر".
كذا في جميع النسخ والأولى صلب "عبد الله والزجاجة" مثلثة الزاي، والضم أعرفها وأفصحها، "نظير جسد محمد صلى الله عليه وسلم، والمصباح نظير الإيمان والنبوة في قلب محمد صلى الله عليه وسلم وعن غيره"، أي: غير مقاتل "المشكاة نظير إبراهيم، والزجاجة نظير إسماعيل عليهما السلام، والمصباح جسد محمد صلى الله عليه وسلم، والشجرة النبوة والرسالة" التي يتوقد منها المصباح، ونحوه قول من قال: المشكاة أبدان آبائه، والزجاجة أصلابهم، والمصباح نوره المستودع فيهم، "وعن أبي سعيد الخراز" إبراهيم، وقيل: أحمد بن عيسى البغدادي، قال الخطيب: كان أحد المشهورين بالورع والمراقبة وحسن الرعاية، وحدث يسيرًا صحب السقطي وذا النون وغيرهما.
قال الجنيد: لو طالبنا الله بتحقيقة ما عليه أبو سعيد لهلكنا، أقام كذا كذا سنة، ما فاته ذكر الحق تعالى بين الخرزتين.
وقال السلمي: الخراز، إمام القوم في كل فن من علومهم وأحسنهم كلهم ما خلا الجنيد، فإنه الإمام لذلك، فإن جماعة يقولون الخراز قمر الصوفية، فأفاد أن أمثلهم مطلقًا الجنيد، فهو الشمس، والخراز القمر، مات سنة سبع وسبعين ومائتين، وقيل: غير ذلك: "المشكاة جوف محمد صلى الله عليه وسلم، والزجاجة قلبه، والمصباح النور الذي جعل الله في قلب محمد صلى الله عليه وسلم".(8/501)
وعن كعب وابن جبير: النور الثاني هنا محمد صلى الله عليه وسلم.
وعن سهل بن عبد الله: مثل نور نبوة محمد إذ كان مستودعًا في الأصلاب كمشكاة صفتها كذا وكذا، وأراد بالمصباح قلبه وبالزجاج صدره، أي كأنه كوكب دري لما فيه من الإيمان والحكمة.
توقد من شجرة مباركة، أي من نور إبراهيم، وضرب المثل بالشجرة المباركة.
__________
"وعن كعب" بن ناتع، بفوقية، المعروف بكعب الأحبار، "وابن جبير" سعيد أحد الأعلام، "النور الثاني هنا" في قوله: مثل نوره "محمد صلى الله عليه وسلم" بطريق المجاز الأول هو الله، أضيف لجميع مخلوقاته للتعميم، والثاني مضاف لله تعالى للتشريف والتعظيم، والثالث في قوله {يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} إضافته، كلجين الماء أتى به بيانًا للتشبيه الذي بنيت عليه الاستعارة، فالمعنى أنه نور عم نوره جميع مخلوقاته، وخص نبيه صلى الله عليه وسلم بأوفر اسم منه، فسماه باسمه وألبسه حلية، كما ألبسه الرأفة والرحمة.
"وعن سهل بن عبد الله" بن يونس بن عيسى التستري، بفوقيتين أولهما مضمومة، وفتح الثانية بينهما مهملة ساكنة، مدينة معروفة، الصالح المشهور، الذي لم يسمع الدهر بمثله علمًا وورعًا، وله كرامات، مات سنة ثلاث وثمانين ومائتين، وقيل غير ذلك: "مثل نور نبوة محمد إذ كان مستودعًا" "بفتح الدال" في الأصلاب"، أي: أصلاب آبائه، وضمير كان راجع لنور أو لمحمد نفسه، ورجع بأنه كان في صلب آبائه لا نوره، ورد بأن نوره كان ظاهرًا في جباههم من آدم لأبيه عبد الله، كالقمر ليلة البدر، والمستودع في الأصلاب مادة جسمه، والنور تابع لتلك المادة، "كمشكاة صفتها كذا وكذا" كناية عن قوله فيها مصباح.. إلخ، فإنها استعملت كذلك، أي: صفة نوره كصفة نور مشكاة فيها مصباح "وأراد بالمصباح قلبه وبالزجاجة صدره" والمشكاة جسده الشريف، "أي: كأنه" أي: صدره الشريف "كوكب دري" أي: مضيء "بضم الدال وكسرها، وفتحها مع الهمزة، وبدونها مشدد الياء"، قيل: أنه منسوب إلى الدر لحسنه وصفاته "لما فيه" أي: الصدر "من الإيمان والحكمة" وجعل ذلك في الصدر بواسطة القلب، ولا يبعد عود الضمير للقلب والحكمة العلم النافع.
وقيل: المراد بها هنا النبوة، كقوله: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ} [النخل: 125] ، "توقد" المصباح بالماضي، وفي قراءة بمضارع أوقد مبنيًا للمفعول بالتحتانية، وفي أخرى بالفوقانية، أي: الزجاجة "من شجرة مباركة، أي: من نور إبراهيم"؛ لأن النسب شبيه بالشجرة، وإبراهيم جده صلى الله عليه وسلم، وهو دعوته، "وضرب المثل" وهو كلام شبه مضربه بمورده، وضربه ذكره(8/502)
وقوله تعالى: {يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ} أي تكاد نبوة محمد صلى الله عليه وسلم تبين للناس قبل كلامه، حكى هذا الأخير القاضي أبو الفضل اليحصبي والفخر الرازي، لكنه عن كعب الأحبار.
وعن الضحاك: يكاد محمد يتكلم بالحكمة قبل الوحي. قال عبد الله بن رواحة:
لو لم تكن فيه آيات مبينة ... كانت بديهته تنبيك بالخبر
__________
كذلك بمعنى نباته "بالشجرة المباركة" على استعارة التمثيلية؛ لأنه شبه ظهور نبوته المتصلة بأبيه إبراهيم، وشبه المتصل به بمصباح أضاء بزيت من شجرة مباركة، واقتصر على أجزاء التمثيل لظهور ما فيه، وفائدة التمثيل كما في الكشاف إبراز المعقول في هيئة المحسوس ليتضح ويرسخ في الأذهان، ولذا كثر في الأحاديث والكتب الإلهية.
"وقوله تعالى: {يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ} [النور: 35] ، ولو لم تمسسه نار، "أي: تكاد نبوة محمد صلى الله عليه وسلم تبين" مضارع بأن أي: اتضح "للناس قبل كلامه" أي: تكليمه ودعواه النبوة وتحديه كذا الزيت والكلام يأتي مصدرًا بمعنى التكليم، كقوله: فإن كلاميها شفاء لما بيا، أو المراد ما يتكلم به فيقدر مضاف، أي: قبل إيراد كلامه الذي يتكلم به، وقيل: أن يوحى إليه، "حكي هذا الأخير" من قوله.
وعن سهل "القاضي أبو الفضل" عياض "اليحصبي" "بفتح التحتية وسكون المهملة وتثليث الصاد مهملة" نسبة إلى يحصب بن مالك أبي قبيلة باليمن، "والفخر الرازي، لكنه" أي: الرازي، إنما حكاه "عن كعب الأحبار" لا عن سهل بن عبد الله، فإن صح النقلان فيكونان معًا، قالاه، وفي شرح الشفاء للتجاني؛ أنه تأويل بعيد عن ظاهر القرآن، والصحيح ما عليه جمهور المفسرين أنه تعالى ضرب هذا مثلًا لنوره، وتمثالًا لقصور أفهام الخلق، إذ لولاه ما عرف الله، قال: وما أشبه هذا بتأويل الفضل قول الفرزدق:
أخذنا بأطراف السماء عليكم ... لنا قراها والنجوم الطوالع
لما سأله الرشيد عنه، فقال: أراد بالقمرين إبراهيم ومحمد صلى الله عليه وسلم عليهما، وبالنجوم الطوالع أنت وآبائك، فقال له الرشيد: أحسنت. انتهى.
"وعن الضحاك: يكاد محمد يتكلم بالحكمة": العلم النافع "قبل الوحي" به إليه، "قال عبد الله بن رواحة" الخزرجي الأمير الشهيد بمؤتة:
لو لم تكن فيه آيات مبينة ... كانت بديهته تنبيك بالخبر(8/503)
لكن التفسير الأول في هذه الآية هو المختار؛ لأنه تعالى ذكر قبل هذه الآية {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} [النور: 34] . فإذا كان المراد بقوله: {مَثَلُ نُورِه} أي مثل هداه كان مطابقًا لما قبله.
__________
وقال نفطويه: يكاد ذريتها يضيء هذا مثل ضربه الله لنبيه، يقول: يكاد نظره يدل على نبوته، وإن لم يتل قرآنًا، كما قال ابن رواحة: وذكر هذا البيت، "لكن التفسير الأول في هذه الآية هو المختار؛ لأنه تعالى ذكر قبل هذه الآية {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ} [النور: 46] الآية، بفتح الياء وكسرها في هذه السورة، بين فيها ما ذكر أو بينته، "فإذا كان المراد بقوله: {مَثَلُ نُورِه} [النور: 35] ، أي: مثل هداه كان مطابقًا لما قبله" بخلافه على ما بعده من التفاسير، فلا يطابق ما قبله ونحن في غنية عن ذلك، فقد سماه الله نورًا في قوله: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ} [المائدة: 15] وسماه سراجًا منيرًا في آية الأحزاب كما أشار إلى ذلك عياض يذكر هاتين الآيتين بعد آية النور، وبعض تلك التفاسير والله أعلم.(8/504)
النوع السابع: في آيات تتضمن وجوب طاعته واتباع سنته
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الأنفال: 20] .
وقال: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [آل عمران: 132] .
__________
النوع السابع:
"في" ذكر "آيات تتضمن"، أي: تدل لا التضمن المنطقي "وجوب طاعته"، أي: الانقياد له بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، فطاعة اسم مصدر أطاعه إذا انقاد له فيما أمر به قولًا أو فعلًا إذا كان الأمر بصيغة أفعل، وأما مادة، أمر فتحتمل الوجوب والندب، فتكون طاعته في المندوب مندوبة، فوجوبه على هذا الانقياد إلى أمره ولو مندوبًا والعمل به، فقوله: "واتباع سنته" بالجر عطفًا على طاعته، والنصب على وجوب من عطف الخاص على العام.
"قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الأنفال: 20] ، قال عطاء: باتباع الكتاب والسنة، رواه ابن أبي حاتم، وقدم طاعة الله تمهيدًا لوجوب طاعة رسوله، وإشارة إلى أن طاعته تعالى بطاعة رسوله، وهما شيء واحد، ولذا أفرد الضمير في قوله: {وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ} [الأنفال: 20] .
"وقال: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ} " الآية، أتبع الوعيد، بقوله: {وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [آل عمران: 131] ، بالوعد بقوله: {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [آل عمران: 132] الآية،(8/504)
وقال تعالى: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} [آل عمران: 32] .
قال القاضي عياض: فجعل طاعته طاعة رسوله، وقرن طاعته بطاعته، ووعد على ذلك بجزيل الثواب، وأوعد على مخالفته بسوء العقاب.
وقال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80] .
يعني: من أطاع الرسول لكونه رسولًا مبلغًا إلى الخلق أحكام الله فهو في
__________
ترهيبًا عن المخالفة وترغيبًا في الطاعة، ولعل وعسى في أمثال ذلك دليل على عزة المطلوب، وأن العبد دائر بين الرجاء والخوف.
وقال تعالى: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُول} فيما يأمركم به من التوحيد، {فَإِنْ تَوَلَّوْا} أعرضوا عن الطاعات، {فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} [آل عمران: 32] ، من إقامة الظاهر مقام المضمر، أي: لا يحبهم، بمعنى أنه يعاقبهم.
"قال القاضي عياض: فجعل طاعته طاعة رسوله" تشبيه بليغ، وجعل عينه ادعاء، فلا ينافي الآية؛ لأن الشرط والجزاء متغايران نظرًا لما في نفس الأمر، ولكل مقام مقال، والأولى تأخير هذا عن الآتية؛ لأنها التي صرح فيها بأن طاعته طاعته، ولفظ عياض: وجعل طاعته طاعته وموافقته موافقته فقال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّه} [النساء: 80] ، "وقرن طاعته بطاعته" في قوله: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} ، ونحوه مما أمر فيه بطاعة الله ورسوله معًا، "ووعد على ذلك بجزيل"، أي: عظيم أو كثير "الثواب" بنحو قوله: {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُون} ، "وأوعد على مخالفته بسوء العقاب" أي: أشده: "وقال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّه} .
روي أنه عليه الصلاة والسلام قال: "من أحبني فقد أحب الله، ومن أطاعني فقد أطاع الله". فقال المنافقون: لقد قارف الشرك، وهو ينهي عنه ما يريد إلا أن تتخذه ربًا، كما اتخذت النصارى عيسى ابن مريم، فنزلت.
كذا في الكشاف، قال الحافظ ولي الدين العراقي في حواشيه، لم أقف عليه، هكذا ونقله السيوطي عن البيضاوي ولم يزد عليه، "يعني من أطاع الرسول لكونه رسولًا مبلغًا"، علة غائية، أي: وغاية أمر الرسول كونه مبلغًا، "إلى الخلق أحكام الله"؛ لأنه لا ينطق عن الهوى، فلا مفهوم لهذه العبارة، "فهو في الحقيقة ما أطاع إلا الله"، أي: هو مبلغ حقيقة، والآمر هو الله، كما في الكشاف قال الطيبي: هذا التعليل يفيده لفظ الرسول؛ لأنه من وضع المظهر موضع(8/505)
الحقيقة ما أطاع إلا الله, وذلك في الحقيقة لا يكون إلا بتوفيق الله. {مَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} فإن من أعماه الله عن الرشد وأضله عن الطريق فإن أحدًا من خلق لا يقدر على إرشاده.
وهذه الآية من أقوى الأدلة على أن الرسول معصوم في جميع الأوامر والنواهي، وفي كل ما يبلغه عن الله؛ لأنه لو أخطأ في شيء منها لم تكن طاعته طاعة لله، وأيضًا وجب أن يكون معصومًا في جميع أحواله؛ لأنه تعالى أمر بمتابعته في قوله: {وَاتَّبِعُوه} [الأعراف: 158] . والمتابعة عبارة عن الإتيان بمثل فعل الغير، فثبت أن الانقياد له في جميع أقواله وأفعاله إلا ما خصه الدليل طاعة له, وانقياد لحكم الله تعالى.
__________
المضمر للإشعار بعلية إيحاب الطاعة له، ويدل عليه السياق، وهو قوله: {وَمَنْ تَوَلَّى} وكان مقتضى الظاهر، ومن تولى فقد عصى الله في مقابلة قوله: فقد أطاع الله، فوضع ذلك موضعه، ليدل على المبالغة، "وذلك" المذكور من الطاعة "في الحقيقة لا يكون إلا بتوفيق الله"، إذ لو أخذ له ما أطاع رسوله، {وَمَنْ تَوَلَّى} أعرض عن طاعته فلا يهمنك {فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} [النساء: 80] الآية، حافظًا لأعمالهم، بل نذيرًا وإلينا أمرهم فنجازيهم، وهذا، قبل الأمر بالقتال، كما في الجلال فشار إلى أن جواب الشرط محذوف، والمذكور دليل عليه، وهذا أحد وجهين، الثاني: إنه المذكور باعتبار ما دل عليه، "فإن من أعماه الله عن الرشد وأضله عن الطريق" المستقيم، "فإن أحدًا من خلق الله لا يقدر على إرشاده"، جواب الشرط، وجملة الشرط وجوابه علة لكونه ما جعل عليهم حفيظًا في أعمالهم، بحيث يلجئهم للطاعة، ويمنعهم عن العصيان، وأشار إلى تحقق ذلك وعدم احتمال خلافه، بالتأكيد بأن، "وهذه الآية من أقوى الأدلة على أن الرسول معصوم في جميع الأوامر والنواهي وفي كل ما يبلغه عن الله؛ لأنه لو أخطأ في شيء منها" وأقر عليه، فأمر به أو نهى عنه، ولم يكن كذلك في نفس الأمر، "لم تكن طاعته طاعة لله" بل مخالف لأمره أو نهيه "وأيضًا وجب أن يكون معصومًا في جميع أحواله؛ لأنه تعالى أمر بمتابعته" الأنسب أن يقول باتباعه ليطابق دليله "في قوله: {وَاتَّبِعُوه} لكنه أشار إلى أن المفاعلة قد ترد لأصل الفعل، فقال: "والمتابعة عبارة عن الإتيان بمثل فعل الغير" ومنه المتابعة في علوم الحديث، "فثبت أن الانقياد له في جميع أقواله وأفعاله" وجودًا أو عدمًا، "إلا ما خصه الدليل" به "طاعة له" بالآية منطوقا ومفهومًا؛ لأن مفهوم من يطع الرسول، من عصاه فقد عصى الله، "وانقياد لحكم الله تعالى" عطف تفسير.(8/506)
وقال تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ} الآية [النساء: 69] .
وهذا عام في المطيعين لله تعالى من أصحاب الرسول ومن بعدهم، وعام في المعية في هذه الدار، وإن فاتت فيها معية الأبدان.
وقد ذكروا في سبب نزول هذه الآية أن ثوبان، مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم كان
__________
"وقال تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ} فيما أمرا به، {فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ} أفاضل أصحاب الأنبياء لمبالغتهم في الصدق والتصديق " {وَالشُّهَدَاءِ} القتلى في سبيل الله " {وَالصَّالِحِينَ} " [النساء: 69] الآية، غير من ذكر "الآية" أي: {وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} .
أي: رفقاء في الجنة؛ بأن يستمتع فيها برؤيتهم وزيارتهم والحضور معهم، وإن كان مقرهم في درجات عالية بالنسبة إلى غيرهم.
قال البيضاوي: قسمهم أربعة أقسام: باعتبار منازلهم في العلم والعمل، وهم الأنبياء الفائزون بكمال العلم والعمل، المجاوزون حد الكمال إلى درجة التكميل، ثم صديقون صعدت نفوسهم تارة إلى مراقي النظر في الحجج والآيات، وأخرى إلى معارج القدس بالرياضة والتصفية، حتى اطلعوا على ما لم يطلع عليه غيرهم، ثم شهداء بذلوا نفوسهم في إعلاء كلمة الله وإظهار الحق، ثم صالحون صرفوا أعمارهم في طاعته، وأموالهم في مرضاته. انتهى.
"وهذا عام في المطيعين لله تعالى من أصحاب الرسول ومن بعدهم، وعام في المعية في هذه الدار" الدنيا لعموم اللفظ، "وإن فاتت فيها معية الأبدان"، وذلك فيمن آمن في زمنه صلى الله عليه وسلم ولم يره، ومن آمن بعده إلى يوم القيامة بقيد الطاعة، "وقد ذكروا في سبب نزول هذه الآية أن ثوبان" بفتح المثلثة والموحدة، ابن بجدد بضم الموحدة وسكون الجيم، وضم الدال المهملة الأولى، وقيل: ابن جحدر، بفتح الجيم وسكون الحاء المهملة، "مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم" قال في الإصابة: يقال: إنه من العرب من حكم ابن سعد بن حمير، وقيل: من السراة، اشتراه ثم أعتقه، فخدمه إلى أن مات، ثم تحول إلى الرملة، ثم حمص، ومات بها سنة أربع وخمسين، قاله: ابن سعد وغيره.
وروى ابن السكن، عن يوسف بن عبد الحميد، حدثني ثوبان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا لأهله، فقلت: أنا من أهل البيت، فقال: في الثالثة نعم، ما لم تقم على باب سدة، أو تأتي أميرًا فتسأله.
وروى أبو داود، عن أبي العالية عن ثوبان، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من يتكفل لي أن(8/507)
شديد الحب لرسول الله صلى الله عليه وسلم قليل الصبر عنه، فأتاه يومًا وقد تغير وجهه ونحل جسمه، فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حاله فقال: يا رسول الله، ما بي وجع، غير أن إذا لم أرك اشتقتك واستوحشت وحشة عظيمة حتى ألقاك، فذكرت الآخرة بحيث لا أراك هناك؛ لأني إن دخلت الجنة فأنت تكون في درجات النبيين، وإن أنا لم أدخل الجنة فحينئذ لا أراك أبدًا، فنزلت هذه الآية.
وذكر ابن أبي حاتم الضحى عن مسروق، قال أصحاب محمد: يا رسول الله
__________
"لا يسأل الناس وأتكفل له بالجنة"، فقال ثوبان: أنا، وكان لا يسأل أحدًا شيئًا، "كان شديد الحب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، قليل الصبر عنه" ولذا ألزمه حضرًا وسفرًا، "فأتاه يومًا وقد تغير وجهه ونحل جسمه" بفتح الحال، وفي لغة بكسرها، وأخرى بضمها مبنيًا للفاعل، فهو لازم، أي: قام بجسمه المرض، ويعدىء، بالهمزة، فيقال: أنحله المرض.
وفي القاموس: نحل، كمنع وعلم ونصر وكرم نحولًا ذهب من مرض أو سفر، "فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حاله، فقال: يا رسول الله ما بي وجع" حصل به نحولي، وتغير وجهي، "غير أني إذا لم أرك اشتقتك" ضمنه معنى طلب فعداه بنفسه، وإلا فاشتاق، إنما يتعدى بحرف الجر، وبالتضعيف على أن المنقول في غيره عن ثوبان اشتقت إليك، "واستوحشت وحشة عظيمة حتى ألقاك، فذكرت الآخرة" أي: فكرت في أمرها، "بحيث" الذي في غيره: فخفت "لا أراك هناك"؛ لأنه ظهر لي بالفكر، أما عدم رؤياك بالمرة أو قلتها؛ "لأني إن دخلت الجنة فأنت تكون في درجات النبيين" فتتعذر رؤيتي لك أو تقل، "وإن أنا لم أدخل الجنة، فحينئذ لا أراك أبدًا، فنزلت هذه الآية".
قال الشيخ ولي الدين: هذا ذكره الثعلبي في تفسيره بلا إسناد ولا راوٍ، وحكاه الواحدي في أسباب النزول عن اللبي.
وروى الطبراني في معجمه الصغير عن عائشة، وابن مردويه عن ابن عباس، والبيهقي عن الشعبي، وابن جرير عن سعيد بن جبير، كل منهم يحكي عن رجل، فذكر مثل قصة ثوبان ونزول الآية فيه. انتهى.
فإن ثبت، فالرجل المبهم ثوبان، وذكر ابن ظفر عن مقاتل بن سليمان أن المبهم عبد الله بن زيد بن عبد ربه الأنصاري، فإن ثبتا، فلعلهما معًا ذكرصا ذلك والعلم لله، "وذكر"، أي: روى "ابن أبي حاتم" الحافظ، ابن الحافظ عبد الرحمن بن محمد بن إدريس الرازي، "عن أبي الضحى" مسلم بن صبيح، بالتصغير الهمداني، الكوفي، العطار، مشهور بكنيته، تابعي، ثقة، فاضل، من رجال الجميع، مات سنة مائة، "عن مسروق" بن الأجدع بن مالك الهمداني،(8/508)
ما ينبغي لنا أن نفارقك، فإنك لو قد مت لرفعت فوقنا ولم نرك، فأنزل الله الآية.
وذكر عن عكرمة مرسلًا: أتى فتى صغير السن لرسول الله فقال: يا نبي الله، إن لنا منك نظرة في الدنيا ويوم القيامة، لا نراك؛ لأنك في الجنة في الدرجات العلى، فأنزل الله هذه الآية فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنت معي في الجنة".
فيها أيضا روايات أخر ستأتي إن شاء الله تعالى في مقصد محبته عليه الصلاة والسلام.
لكن قال المحققون: لا ننكر صحة هذه الروايات، إلا أن سبب نزول هذه
__________
الوداعي، أبي عائشة الكوفي، ثقة فقيه، عابد مخضرم، مات سنة اثنتين، ويقال: سنة ثلاث وستين، من رجال الجميع، قال: "قال أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله ما ينبغي لنا أن نفارقك" اعتذارًا عن كثرة ملازمتهم له، المقتضية للملال عادة، "فإنك لو قد" "بفتح فسكون "مت" بضم الميم"، ضبطه بعض العلماء الموثوق بهم، وتجويز ضم القاف وشد الدال مكسورة وسكون الميم، أي: قدمت علينا، أي: سبقتنا تحاشيا عن خطابه، بلفظ مت أدبًا، وأنه أولى خلاف المتبادر "لرفعت فوقنا ولم، نرك، فأنزل الله": {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} "الآية" وفي هذا إن قائلي ذلك جمع كثير لقوله أصحاب محمد، "وذكر" بالبناء للفاعل، أي: ابن أبي حاتم أيضًا بسنده "عن عكرمة" مولى ابن عباس "مرسلًا، قال: أتى فتى" أي: "صغير السن لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا نبي الله إن لنا منك نظرة في الدنيا"، أي: إنا نراك ونتمتع برؤيتك فيها، وعبر بالوحدة لقصر المدة، "ويوم القيامة لا نراك؛ لأنك في الجنة، في الدرجات العلى، فأنزل الله هذه الآية" وللطبراني وابن مردويه بسند لا بأس به، عن عائشة قالت: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله إنك لأحب إلي من نفسي، وإنك لأحب إلي من ولدي، وإني لأكون في البيت فأذكرك، فما أصبر حتى آتي فأنظر إليك، وإذا ذكرت موتي وموتك عرفت إنك إذا دخلت الجنة رفعت مع النبيين، وإني إذا دخلت الجنة خشيت أن لا أراك، فلم يرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم شيئًا حتى نزل جبريل بهذه الآية {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُول} ، "فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنت معي في الجنة" إن شاء الله، كما هو بقية رواية عكرمة.
وأخرج ابن جرير نحوه من مرسل سعيد بن المسيب ومسروق والربيع وقتادة والسدي، "وفيها أيضًا روايات أخر" بنحوها "ستأتي إن شاء الله تعالى في مقصد محبته عليه الصلاة والسلام" وهو السابع التالي لهذا.
"لكن قال المحققون: لا ننكر صحة هذه الروايات إلا أن، سبب نزول هذه الآية(8/509)
الآية يجب أن يكون شيئًا أعظم من ذلك، وهو الحث على الطاعة والترغيب فيها، فإنا نعلم أن خصوص السبب لا يقدح في عموم اللفظ، فهذه الآية عامة في حق جميع المكلفين، وهو أن كل من أطاع الله وأطاع الرسول فقد فاز بالدرجات العالية والمراتب الشريفة عنده تعالى.
ثم إن ظاهر قوله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُول} أنه يكتفي بالطاعة الواحدة؛ لأن اللفظ الدال على الصفة يكفي في جانب الثبوت حصول ذلك المسمى مرة واحدة، لكن لا بد أن يحمل على غير ظاهره، وأن تحمل الطاعة على فعل جميع المأمورات وترك جميع المنهيات، إذ لو حملناه على الطاعة الواحدة لدخل فيه الكفار والفساق؛ لأنهم قد يأتون بالطاعة الواحدة.
قال الرازي: قد ثبت في أصول الفقه أن الحكم المذكور عقب الصفة مشرع بكون ذلك الحكم معللًا بذلك الوصف، وإذا ثبت هذا فنقول قوله: {وَمَنْ
__________
يجب أن يكون شيئًا أعظم من ذلك"، أي: أنه لا ينحصر في تسلية المحبين له والتخفيف عنهم، بل يشمل ذلك وغيره، "وهو الحث على الطاعة والترغيب فيها، فإنا نعلم أن خصوص السبب لا يقدح في عموم اللفظ"، أي: لا يكون قاصرًا عليه خلافًا لزاعمه، "فهذه الآية عامة في حق جميع المكلفين"، خصهم لوقوع الثواب بعد الأمر المستفاد من قوله: {مَنْ يُطِع} ، إذ لا طاعة فرع الأمر أو النهي، وكلاهما خاص بالمكلف، إذ لا خطاب يتعلق بفعل غيره، وصحة عبادة الصبي وإثابته عليها لا لأمره بها، بل ليعتادها، فلا يتركها إن شاء الله ذلك، "وهو" أي: الأمر الأعظم، "أن كل من أطاع الله وأطاع الرسول فقد فاز": ظفر "بالدرجات اعالية، والمراتب": المنازل "الشريفة عنده تعالى، ثم إن ظاهر قوله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ} ، أنه يكتفي بالطاعة الواحدة؛ لأن اللفظ الدال على الصفة يكفي في جانب الثبوت حصول ذلكا لمسمى مرة واحدة"، فإذا قيل: صل مثلًا برئ من عهدة الطلب بصلاة واحدة؛ لأن الأمر بالشيء لا يقتضي فورًا ولا تكرارًا، أو خرج بالثبوت النهي، فامتثاله إنما يحصل بترك جمع المنهيات، "لكن لا بد أن يحمل على غير ظاهره، وأن تحمل الطاعة على فعل جميع المأمورات وترك جميع المنهيات، إذ لو حملناه على الطاعة الواحدة لدخل فيه الكفار والفساق؛ لأنهم قد يأتون بالطاعة الواحدة" وذلك غير مراد، فوجب حمله على غير ظاهره.
"قال الرازي" الإمام فخر الدين: "قد ثبت في أصول الفقه أن الحكم المذكور عقب الصفة" كقوله هنا: فأولئك مع الذين ... إلخ، بعد قوله: ومن يطع "مشروع بكون ذلك الحكم،(8/510)
يُطِعِ اللَّهَ} أي في كونه إلهًا، وطاعة الله في كونه إلهًا هي معرفته والإقرار بجلاله وعزته وكبريائه وصمديته، فصارت هذه الآية تنبيهًا على أمرين عظيمين من أحوال المعاد.
فالأول: أن منشأ جميع السعادات يوم القيامة إشراف الروح بأنوار معرفة الله، فكل من كانت هذه الأنوار في قلبه أكثر، وصفاؤها أقوى كان إلى السعادة أقرب، وإلى الفوز بالنجاة أوصل.
والثاني: أن الله تعالى ذكر في الآية السابقة وعد أهل الطاعة بالأجر العظيم والثواب الجسيم، ثم ذكر في هذه الآية وعدهم بكونهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.
وليس المراد بكون من أطاع الله وأطاع الرسول مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين كون الكل في درجة واحدة؛ لأن هذا يقتضي التسوية في الدرجة بين الفاضل والمفضول، وذلك لا يجوز، فهذا هو المراد من هذه المعية وقد ثبت
__________
معللًا بذلك الوصف، وإذا"، أي: حيث "ثبت هذا" وتقرر في الأصول، "فنقول قوله: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ} ، أي: في كونه إلهًا، وطاعة الله في كونه إلهًا هي معرفته" بالآية الدالة عليه، "والإقرار" الاعتراف "بجلاله": عظمته "وعزته": غلبته "وكبريائه" عظمته.
قال تعالى: {وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} ، "وصمديته" احتياج الخلق إليه على الدوام، "فصارت هذه الآية تنبيهًا" أي: منبهة "على أمرين عظيمين من أحوال المعاد، فالأول أن منشأ جميع السعادات يوم القيامة إشراق الروح بأنوار معرفة الله"، المؤدية إلى الإيمان به وطاعة أمره، "فكل من كانت هذه الأنوار في قلبه أكثر، وصفاؤها أقوى كان إلى السعادة أقرب وإلى الفوز بالنجاة أوصل" أكثر وصولًا، "والثاني: إن الله تعالى ذكر في الآية السابقة" على هذه اآية، "وعد" مصدر "أهل الطاعة بالأجر العظيم والثواب الجسيم".
وفي نسخة الجزيل، بقوله: ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرًا لهم وأشد تثبيتًا، وإذا لآتيناهم الآية، "ثم ذكر في هذه الآية وعدهم بكونهم مع النبيين والصديقين، والشهداء والصالحين، وليس المراد بكون من أطاع الله وأطاع الرسول مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، كون الكل في درجة واحدة؛ لن هذا يقتضي التسوية في الدرجة بين الفاضل والمفضول، وذلك لا يجوز" بدلالة النصوص الكثيرة، فالمراد كونهم في الجنة "بحيث يتمكن كل واحد منهم من رؤية الآخر، وإن بعد المكان؛ لأن الحجاب إذا زال شاهد بعضهم(8/511)
وصح بحيث يتمكن كل واحد منهم من رؤية الآخر، وإن بعد المكان؛ لأن الحجاب إذا زال شاهد بعضهم بعضًا، وإذا أرادوا الرؤية والتلاقي قدروا على ذلك، فهذا هو المراد من هذه المعية، وقد ثبت وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "المرء مع من أحب"، وثبت أيضًا أنه قال: "إن المدينة أقوامًا ما سرتم مسيرًا ولا نزلتم منزلًا إلا وهم معكم حبسهم
__________
بعضًا، وإذا أرادوا الرؤية والتلاقي قدروا على ذلك"، إذ لو عجزوا عنه لتحسروا، ولا حسرة في الجنة، "فهذا هو المراد من هذه المعية" لا المساواة في المنزلة، "وقد ثبت وصح" أتى به ليبين أن مراده بالثبوت الصحة للخلاف في علوم الحديث: هل لفظ ثبت يختص بالصحيح أو يشمل الحسن؟ قال السيوطي:
وهل يخص بالصحيح الثابت ... أو يشمل الحسن نزاع ثابت
وزعم أن الثبوت لا يستلزم الصحة، لجواز أنه مع ثبوته ضعيف، أو حسن عقلي، لم يقله أحد "عنه صلى الله عليه وسلم؛ أنه قال" كما أخرجه الشيخان من حديث أنس وابن مسعود وأبي موسى: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: كيف تقول في رجل أحب قومًا ولما يلحق بهم، فقال صلى الله عليه وسلم: "المرء مع من أحب"، زاد الترمذي من حديث أنس: "وله ما اكتسب"، وفي لفظ قال رجل: يا رسول الله متى قيام الساعة؟، قال: "إنها قائمة، فما أعددت لها"؟ قال: ما أعددت لها من كثير إلا أني أحب الله ورسوله، قال: "فأنت مع من أحببت ولك ما اكتسبت"؟، قال أنس: فما فرح المسلمون بشيء بعد الإسلام ما فرحوا به، فقيل: المراد من أحب قومًا بإخلاص فهو في زمرتهم، وإن لم يعمل عملهم، لثبوت التقارب مع قلوبهم، وقيل: بشرط عمله بمثله أعمالهم، لحديث: "من أحب قومًا على عملهم لثبوت التقارب مع قلوبهم"، وقيل: بشرط عمله بمثله أعمالهم، لحديث: "من أحب قومًا على أعمالهم حشر معهم يوم القيامة".
وروى العسكري عن الحسن: لا تغتر يا ابن آدم، بقوله: أنت مع من أحببت، فمن أحب قومًا اتبع آثارهم، واعلم أنك لن تلحق بالأخيار حتى تتبع آثارهم، وحتى تأخذ بهديهم، وتقتدي بسنتهم، وتصبح وتمسي على مناهجهم، حرصًا على أن تكون منهم.
وقال ابن العربي: يريد صلى الله عليه وسلم المرء مع من أحب في الدنيا والآخرة، في الدنيا بالطاعة والأدب الشرعي، وفي الآخرة بالمعاينة والقرب الشهودي، فمن لم يتحقق بهذا وادعى المحبة، فهو كاذب، "وثبت أيضًا" في البخاري، عن أنس؛ "أنه" صلى الله عليه وسلم "قال" حين رجع من غزوة تبوك، فدنا من المدينة: "إن بالمدينة أقوامًا ما سرتم مسيرًا ولا نزلتم منزلًا" وفي رواية: "ولا قطعتم وادي "إلا وهم معكم" بالقلوب والنيات، قالوا: يا رسول الله وهم بالمدينة؟، قال: "وهم بالمدينة،(8/512)
العذر، فالمعية والصحبة الحقيقية إنما هي بالسر والروح لا بمجرد البدن، فهي بالقلب لا بالقالب، ولهذا كان النجاشي معه صلى الله عليه وسلم وهو أقرب الناس إليه، وهو بين النصارى بأرض الحبشة، وعبد الله بن أبي من أبعد الخلق عنه، وهو معه بالمسجد، وذلك أن العبد إذا أراد بقلبه أمرًا من طاعة أو معصية أو شخص من الأشخاص فهو بإرادته ومحبته معه لا يفارقه، فالأرواح تكون يوم القيامة مع الرسول صلى الله عليه سولم وأصحابه رضي الله عنهم، وبينها وبينهم من المسافة الزمانية والمكانية بعد عظيم.
وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران: 31] .
وهذه الآية الشريفة تسمى: آية المحبة، قال بعض السلف: ادعى قوم محبة
__________
"حبسهم العذر" عن الغزو معكم، "فالمعية والصحبة الحقيقية إنما هو بالسر والروح" وفي شرحه للبخاري بالسير بالروح، "لا بمجرد البدن، فهي بالقلب لا بالقالب"، ونية المؤمن خير من عمله، فتأمل هؤلاء كيف بلغت بهم نيتهم مبلغ أولئك العاملين بأبدانهم، وهو على فرشهم في بيوتهم، فالمسابقة إلى الله تعالى وإلى الدرجات العوالي بالنيات والهمم، لا بمجرد الأعمال، "ولهذا كان النجاشي" "بفتح النون والجيم" أصحمة ملك الحبشة "معه صلى الله عليه وسلم، وهو من أقرب الناس إليه، وهو" أي: النجاشي "بين النصارى بأرض الحبشة وعبد الله بن أبي" ابن سلول رأس المنافقين، "من أبعد الخلق عنه، وهو معه بالمسجد" النبوي، لكونه معه قالبًا لا قلبًا، "وذلك أن العبد إذا أراد بقلبه أمرًا من طاعة أو معصية، أو" أراد أمرًا من "شخص من الأشخاص، فهو بإرادته ومحبته معه لا يفارقه" إذ كل مهتم بشيء منجذب إليه بطبعه شاء أو أبى، وكل امرئ يصبوا إلى مناسبة، رضا أم سخط، فالنفوس العلية تنجذب بذاتها وهمها وعملها إلى أعلى، والنفوس الدنية تنجذب بذاتها إلى أسفل، ومن أراد أن يعلم هل هو مع الرفيق الأعلى أو الأسفل، فلينظر أين هو، ومع من هو في هذا العالم، "فإن الروح إذا فارقت البدن تكون مع الرفيق الذي كانت تنجذب إليه، "فالأرواح" العلية كلها "تكون يوم القيامة"، وفي الدنيا "مع الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم، وبينها وبينهم من المسافة الزمانية" بتأخر وجودها عن وجودهم، "والمكانية" بطول المسافة "بعد عظيم" في الزمان والمكان، ولا يكون ذلك مانعًا من المعية في الدارين، والله أعلم.
"وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} ، أي: يثبكم " {وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} " [آل عمران: 31] ، "وهذه الآية الشريفة تسمى آية المحبة".(8/513)
الله فأنزل الله آية المحبة {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي} وقال: {يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} إشارة إلى دليل المحبة وثمرتها وفائدتها، فدليلها وعلامتها اتباع الرسول، وفائدتها وثمرتها محبة المرسل لكم، فما لم تحصل المتابعة فلا محبة لكم حاصلة، ومحبته لكم منتفية، فجعل سبحانه اتباع الرسول عليه الصلاة والسلام مشروطًا بمحبتهم لله، وشرطًا لمحبة الله لهم، ووجود المشروط ممتنع بدون وجود تحقق شرطه، فعلم انتفاء المحبة عند انتفاء المتابعة، فانتفاء محبتهم لله لازم لانتفاء المتابعة لرسوله، وانتفاء المتابعة ملزوم لانتفاء محبة الله لهم، فيستحيل حينئذ ثبوت محبتهم لله وثبوت محبة الله لهم بدون متابعة لرسوله صلى الله عليه وسلم ودل على
__________
بدليل أنه "قال بعض السلف"، زعم أنه الحسن البصري، لقوله: قال أقوام على عهد نبينا: والله يا محمد إنا لنحب ربنا، فأنزل الله الآية.
رواه ابن المنذر، وليس فيه، فأنزل آية المحبة، فلا يصح أنه المراد "ادعى قوم محبة الله" قيل: هم وفد نجران لما قالوا: إنما نعبد المسيح حبًا لله.
رواه ابن إسحاق، وابن جرير عن محمد بن جعفر بن الزبير، وقيل: هم اليهود لما قالوا: نحن أبناء الله وأحباؤه، وقيل: قريش لما قالوا: إنما نعبدهم ليقربونا إلى الله لفى، وبه جزم الجلال.
وروى ابن جرير، وابن المنذر عن الحسن مرسلًا؛ أنهم أقوام زعموا على عهد نبينا حب الله، فأمروا أن يجعلوا لقولهم تصديقًا من العمل، "فأنزل الله آية المحبة: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي} ، وقال: {يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} ، بالجزم في جواب الطلب، والراجح فيه أنه في جواب شرط مقدر تقديره هنا: "إن اتبعتموني يحببكم الله"، "إشارة إلى دليل المحبة وثمرتها أو فائدتها"، أي: باتباع الرسول، فإن اتباعه علامة على حبه لله تعالى، وثمرة محب الله للعبد مغفرته له، كما أفاده قوله: "فدليلها وعلامتها اتباع الرسول، وفائدتها وثمرتها محبة المرسل" "بكسر السين" أي: الله تعالى نبيه ليبلغ الخلق "لكم" متعلق بمحبة، "فما" مصدرية ظرفية "لم تحصل المتابعة" أي: مدة انتفاء حصولها، "فلا محبة لكم حاصلة" منكم لله، "ومحبته لكم منتفية"، أي: لايحبكم بمعنى: لا يثيبكم، "فجعل سبحانه اتباع الرسول عليه الصلاة والسلام مشروطًا بمحبتهم لله، وشرطًا لمحبة الله لهم ووجود المشروط ممتنع بدون وجود تحقق شرطه"، وهو اتباع الرسول، "فعلم انتفاء المحبة عند انتفاء المتابعة"؛ لأنها مشروطة بمتابعة رسوله، "فانتفاء محبتهم لله لازم لانتفاء المتابعة لرسوله, وانتفاء المتابعة ملزوم لانتفاء محبة الله لهم فيستحيل حينئذ ثبوت محبتهم لله وثبوت محبة الله لهم بدون(8/514)
أن متابعة الرسول هي حب الله ورسوله وطاعة أمره، ولا يكفي ذلك في العبودية حتى يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، فلا يكون شيء أحب إليه من الله ورسوله، ومتى كان عنده شيء أحب إليه منهما فهذا هو الشرك الذي لا يغفر لصاحبه البته ولا يهديه الله، قال تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ
__________
متابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم" لاستحالة وجود المشروط بدون شرطه "ودل" جعله اتباع الرسول مشروطًا بمحبتهم "على أن متابعة الرسول هي حب الله ورسوله، وطاعة أمره" أي: علامة عليه، أو جعلها نفس المحبة مبالغة، "ولا يكفي ذلك في العبودية حتى يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما"، كما في الحديث: "فلا يكون شيء أحب إليه من الله ورسوله".
قال الطيبي: فسر المتكلمون محبة العبد لله؛ بأنها محبة طاعته أو ثوابه وإحسانه، وأما العارفون، فقالوا: العبد يحب الله لذاته، وأما حب طاعته وثوابه فدرجة نازلة، والقول الأول ضعيف، وذلك لا يمكن أن يقال في كل شيء، أنه إنما محبوبًا لأجل معنى آخر، فلا بد من الانتهاء إلى شيء يكون محبوبًا لذاته، فكما يعلم أن اللذة محبوبة لذاتها، كذلك يعلم أن الكمال محبوب لذاته، وأكمل الكمالات لله تعالى، فيقتضي كونه محبوبًا لذاته من ذاته.
قال صاحب الفرائد: وهذا أبلغ أنواع الحب، فعى هذا حب العبد لله حقيقة، بل المحبة الحقيقية مستحقة لله، إذ كل ما يحب من المخلوقات، فإنما يحب لخصوص أثر من آثار وجوده، وفي الأحياء الحب ميل الطبع إلى الشيء المستلذ، فإن قوي سمى عشقًا، ولا يظن قصره على مدركات الحواس الخمس، حتى يقال: إن الله تعالى لا يدرك بها ولا يتمثل في الخيال، فلا يحب؛ لأنه صلى الله عليه وسلم سمي الصلاة قرة عين، وجعلها أبلغ المحبوبات، ومعلوم أنه ليس للحواس الخمس فيها حظ، والبصيرة الباطجنة أقوى من البصر الظاهر، والقلب أشد إدراكًا من العين، وجمال المعاني المدركة بالعقل أعظم من جمال الصور الظاهرة للأبصار، فيكون لا محالة لذة القلب بما يدركه من الأمور الشريفة الإلهية، التي تجل عن أن تدركها لحواس أتم وأبلغ، فيكون ميل الطبع السليم والعقل الصحيح إليه أقوى، ولا معنى للحب إلا الميل إلا ما في إدراكه لذة، فلا ينكر إذن حب الله إلا من قعد به القصور في درجة البهائم. انتهى.
وأما محبة الله للمتبعين، فهي رضاه عنهم، وإثباتهم، وكشف الحجب عن قلوبهم، والتجاوز عما فرط منهم، كما أشار إليه بقوله: {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيم} الآية، وعبر عن ذلك بالمحبة استعارة أو مشاكلة لاستحالة المعنى الحقيقي عليه، "ومتى كان عنده شيء أحب إليه منهما، فهذا هو الشرك الذي لا يغفر لصاحبه البتة، ولا يهديه الله" واستدل على هذا، بقوله:(8/515)
وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة: 24] ، فكل من قدم طاعة أحد من هؤلاء على طاعة الله ورسوله أو قول أحد منهم على قول الله ورسوله، أو مرضاة أحد منهم على مرضاة الله ورسوله، أو خوف أحد منهم أو رجاءه والتوكل عليه على خوف الله ورجائه والتوكل عليه، أو معاملة احد منهم على معاملة الله ورسوله، فهو ممن ليس الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وإن قال بلسانه فهو كذب منه، وإخبار بما ليس هو عليه. انتهى ملخصًا من كتاب "المدارج"، وسيأتي مزيد لذلك إن شاء الله تعالى في مقصد محبته عليه الصلاة والسلام.
وقال تعالى: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ
__________
"قال تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ} أقرباؤكم، وفي قراءة وعشيراتكم، " {وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا} " عدم نفاقها، " {وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ} "، فقعدتم لأجله عن الهجرة والجهاد، " {فَتَرَبَّصُوا} ": انتظروا " {حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} " تهديد لهم، " {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} " [التوبة: 24] .
"فكل من قدم طاعة أحد من هؤلاء" غلب العقلاء على غيرهم، وسمي من اقترن بالعاقل باسمه تجوز الان أحدًا إنما يستعمل في العاقل "على طاعة الله ورسوله، أو قول أحد منهم على قول الله ورسوله، أو مرضاة أحد منهم على مرضاة الله ورسوله، أو خوف أحد منهم، أو رجاءه والتوكل": الاعتماد "عليه على خوف الله ورجائه، والتوكل عليه، أو معاملة أحد منهم على معاملة الله ورسوله، فهو ممن ليس الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وإن قال بلسانه" أنهما أحب، "فهو كذب منه، وإخبار بما ليس هو عليه" عطف تفسير، وفيه إشارة إلى أن محبة غيرهما، المنهي عنها هي المحبة الاختيارية دون الطبيعية، فإنها لا تدخل تحت التكليف. "انتهى ملخصًا من كتاب المدارج" أي: مدارج السالكين لابن القيم إلى منازل السائرين لشيخ الإسلام الأنصاري الهروي، "وسيأتي مزيد لذلك إن شاء الله تعالى في مقصد محبته عليه الصلاة والسلام".
فذكر الحديث وتكلم عليه مبسوطًا هناك، "وقال تعالى: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ(8/516)
وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف: 158] .
أي إلى الصراط المستقيم، فجعل رجاء الاهتداء أثر الأمرين، الإيمان بالرسول واتباعه، تنبيهًا على أن من صدقه ولم يتابعه بالتزام شرعه فهو من الضلالة، فكل ما أتى به الرسول عليه الصلاة والسلام يجب علينا اتباعه إلا ما خصه الدليل.
وقال تعالى: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا} [التغابن: 8] يعني القرآن، فالإيمان به صلى الله عليه وسلم واجب متعين على كل أحد، لا يتم إيمان إلا به ولا يصح إسلام إلا معه، قال الله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا} [الفتح: 13] أي ومن لم يؤمن بالله ورسوله فهو من الكافرين، وإنا أعتدنا للكافرين سعيرًا.
وقال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} .
__________
الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته" القرآن، " {وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} " [الأعراف: 158] الآية، ترشدون، "أي: إلى الصراط المستقيم" صراط الله، "فجعل رجاء الاهتداء" من العبا؛ لأن صيغ الرجاء الواقعة في القرآن مصروفة إلى العباد، يعني أن المؤمن يرجو أنه من المهتدين، "أثر" عقب "الأمرين الإيمان بالرسول واتباعه تنبيهًا على أن من صدقه ولم يتابعه بالتزام شرعه فهو في الضلالة، فكل ما أتى به الرسول عليه الصلاة والسلام" من قول أو فعل أو غيرهما "يجب علينا اتباعه، إلا ما خصه الدليل" به، فلا يجب، بل يجزم تارة، كالزيادة على أربع، وتارة يكره كالوصال.
"وقال تعالى: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنّ ُرِ الَّذِي أَنْزَلْنَا} [التغابن: 8] ، يعني القرآن"، سماه نورًا؛ لأنه بإعجازه طاهر بنفسه، مظهر لغيره مما فيه شرحه وبيانه، فيستضاء به من ظلمات الجهل ويقتبس منه أنوار الهداية والفضل، "فالإيمان به صلى الله عليه وسلم واجب متعين على كل واحد لا يتم إيمان إلا به، ولا يصح إسلام إلا معه"، لاستحالة وجود إيمان أو إسلام بدون ذلك شرعًا.
"قال الله تعالى: {مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا} أعددنا وهيأنا " {لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا} " [الفتح: 13] ، نارًا شديدة، "أي: ومن لم يؤمن بالله ورسوله، فهو من الكافرين، وإنا اعتدنا للكافرين سعيرًا"، إشارة إلى أن جواب الشرط محذوف، والمذكور علة له؛ لأن الاعتاد لا يترتب على عدم الإيمان بهما، بل الكفر وجزاؤه السعير، "وقال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء: 65] .(8/517)
معناه: فوربك، كقوله تعالى: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِين} و"لا" مزيدة للتأكيد لمعنى القسم، كما في {لِئَلَّا يَعْلَم} ، ولا يؤمنون جواب.
أقسم الله تعالى بنفسه الكريمة المقدسة أنه لا يؤمن أحد حتى يحكم الرسول صلى الله عليه وسلم في جميع أموره، ويرضى بجميع ما حكم به، وينقاد له ظاهرًا وباطنًا، سواء كان الحكم بما يوافئق أهواءهم أو يخالفها، كما ورد في الحديث: "والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به"، وهذا يدل على
__________
روى الشيخان وأصحاب السنن عن عبد الله بن الزبير، قال: خاصم الزبير رجلًا في شراج الحرة، فقال صلى الله عليه وسلم: "اسق يا زبير، ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر، ثم أرسل الماء إلى جارك واستوعي للزبير حقه"، وكان أشار إليهما بأمر، لهما فيه سعة، قال الزبير: فما أحسب هذه الآية إلا نزلت في، نزلت في ذلك: {فَلا وَرَبِّك} ... إلخ.
"معناه: فوربك، كقوله تعالى: {فََرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِين} [الحجر: 92] الآية، "ولا مزيدة للتأكيد لمعنى القسم، كما في {لِئَلَّا يَعْلَم} [الحديد: 29] الآية، أهل الكتاب أي: ليعلم لا لتظاهر لا في قوله لايؤمنون؛ لأنها تزاد أيضًا في الإثبات، كقوله: {لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ} [البلد: 1] ، قاله في الكشاف.
قال التفتازاني: إن قيل: لا يجوز أن تكون مزيدة لمظاهرة، لا في لا يؤمنون، ومعاونتها والتنبيه من أول الأمر على أن المقسم به نفي، فالجواب أن مجيئها قبل القسم، سواء كان الجواب، نفيًا أو إثباتًا، يدل على أنها لتأكيد القسم، لا لمظاهرة النفي في الجواب، وذلك؛ لأن الأصل إجراء المحتمل على المحقق، والمشكوك على المقطوع، واتحاد منهج اللفظ على اتحاد منهج المعنى، وترك التصرف في الحرف، وبهذا يندفع اعتراض صاحب التقريب، بجواز أن يكون في النفي لمظاهرة النفي، وفي المثبت لتأكيد معنى القسم، وتجويز أنه في النفي لتأكيده، وفي الإثبات لتأكيده ليس على ما ينبغي. انتهى.
"ولا يؤمنون جواب" للقسم، "أقسم الله تعالى بنفسه الكريمة المقدسة؛ أنه لا يؤمن أحد حتى يحكم الرسول صلى الله عليه وسلم في جميع أموره"؛ لأنه عبر بما شجر وما من صيغ العموم، "ويرضى بجميع ما حكم به" بقوله: {ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ} الآية، "وينقاد له ظاهرًا وباطنًا، سواء كان الحكم بما يوافق أهواءهم أو يخالفها" هذا المقصود.
وذكر الموافق للتعميم، "كما ورد في الحديث: "والذي نفسي بيده" قسم كان صلى الله عليه سولم يقسم به كثيرًا، "لا يؤمن أحدكم" إيمانًا كاملًا، ونفي اسم الشيء بمعنى الكمال مستفيض في كلامهم، فالمراد نفي بلوغ حقيقته ونهايته، وخصوا بالخطاب؛ لأنهم الموجودون حينئذ والحكم(8/518)
أن من لم يرض بحكم الرسول صلى الله عليه وسلم لا يكون مؤمنًا، وعلى أنه لا بد من حصول الرضى بحكمه في القلب، وذلك بأن يحصل الجزم والتيقن في القلب بأن الذي يحكم به عليه الصلاة والسلام هو الحق والصدق، فلا بد من الانقياد باطنًا وظاهرًا، وسيأتي مزيد بيان لذلك إن شاء الله تعالى في مقصد محبته عليه الصلاة والسلام.
ثم إن ظاهر الآية يدل على أنه لا يجوز تخصيص النص بالقياس؛ لأنه يدل على أنه يجب متابعة قوله وحكمه، وأنه لا يجوز العدول عنه إلى غيره.
وقوله: {ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ} مشعر بذلك؛ لأنه متى خطر بقلبه قياس يقتضي ضد مدلول النص فهناك يحصل الحرج في النفس، فبين الله تعالى أنه لا يكمل إيمانه إلا بعد أن لا يتلفت إلى ذلك الحرج ويسلم إلى النص تسليمًا كليًا، قاله الإمام فخر الدين.
__________
عام، "حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به" الهوى بالقصر ما يهواه العبد ويحبه ويميل إليه، فحقيقته شهوة النفس، وهو ميلها لملائمها، ويستعمل في عرف الشرع في الميل إلا خلاف الحق، كقوله: ولا تتبع الهوى فيضلك، "وهذا" الحديث "يدل على أن من لم يرض بحكم الرسول صلى الله عليه وسلم لا يكون مؤمنًا" أصلًا، بل كافرًا إن اعتقد بطلانه، أو أنه ليس من الله، أما إن اعتقد حقيقته وتألم منه في نفسه لمشقته فمؤمن ناقص، "وعلى أنه لا بد من حصول الرضا بحكمه في القلب، وذلك بأن يحصل الجزم والتيقن في القلب بأن الذي يحكم به عليه الصلاة والسلام هو الحق والصدق، فلا بد من الانقياد باطنًا وظاهرًا.
ذكر هذا وإن تقدم معناه قريبًا؛ لأن شرح للحديث، فمراده أنه دل على ما دلت عليه الآية، "وسيأتي مزيد بيان لذلك إن شاء الله تعالى في مقصد محبته عليه الصلاة والسلام" وهو السابع، "ثم إن ظاهر هذه الآية يدل على أنه لا يجوز تخصيص النص بالقياس"، سواء كان جليًا أو خفيًا، كما أجازه الرازي، وقيل: المنع في الخفي لضعفه بخلاف الجلي؛ "لأنه يدل على أنه يجب متابعة قوله وحكمه" بالخفض، "وأنه لا يجوز العدول عنه إلى غيره، وقوله: {ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا} ضيقًا أو شكا " {مِمَّا قَضَيْتَ} " به "مشعر بذلك؛ لأنه متى خطر بقلبه قياس يقتضي ضد مدلول النص، فهناك يحصل الحرج في النفس، فبين الله تعالى؛ أنه لا يكمل إيمانه إلا بعد أن لا يلتفت إلى ذلك الحرج ويسلم إلى النص": ينقاد لحكمه "تسليمًا كليًا" من غير معارضة، "قاله الإمام فخر الدين" الرازي بعدما كان يقول(8/519)
وجوز غيره تخصيص الكتاب والسنة بالقياس، وبه صرح العلامة التاج بن السبكي في جمع الجوامع.
__________
بالجواز، "وجوز غيره تخصيص الكتاب والسنة بالقياس" المستند إلى نص خاص ولو خبر واحد، سواء كان القياس جليًا أو خفيًا على المختار، "وبه صرح العلامة التاج" عبد الوهاب "بن علي "السبكي في جمع الجوامع" في مبحث التخيص، وأجاب شيخنا في التقرير عن استدلال الرازي بهذه الآية، بأنا لا نسلم أن معارضته بالقياس حرج كما ادعى، وإنما هو تردد في فهمه: هل هو موافق أم لا.(8/520)
النوع الثامن: فيما تتضمن الأدب معه صلى الله عليه وسلم
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الحجرات: 1] .
__________
النوع الثامن:
"فيما" موصول أو نكرة موصوف، أي: الآيات التي تتضمن، أو في آيات "تتضمن"، أي: تدل، أو تستلزم لا خصوص دلالة التضمن الاصطلاحية "الأدب"، بحذف مضاف، أي: طلب الأدب "معه صلى الله عليه وسلم" في جميع، الأقوال والأفعال.
"قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الحجرات: 1] الآية، وجه تضمنها الأدب، النهي عن الشيء أمر بضده، وهو طلب التأخر وهو أدب.
روى البخاري عن ابن الزبير: قدم ركب من تميم على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال أبو بكر: أمر القعقاع بن معبد، وقال عمر: بل أمر الأقرع بن حابس، فقال أبو بكر، ما أردت إلا خلافي، فقال عمر: ما أردت خلافك، فتماريا حتى ارتفعت أصواتهما، فنزل في ذلك {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} الآية، حتى انقضت الآية.
وروى ابن المنذر عن الحسن: أن ناسًا ذبحوا قبله صلى الله عليه وسلم يوم النحر، فأمرهم أن يعديوا ونزلت الآية.
وأخرج الطبراني عن عائشة: أنا ناسًا كانوا يتقدمون الشهر، فيصومون، فنزلت.
وأخرج ابن جرير عن قتادة، قال: ذكر لنا أن ناسًا كانوا يقولون: لو أنزل في كذا، فنزلت ولا شك أن الأصح الأول؛ لأنه مروي البخاري، ويحتمل تعدد الأسباب.
وقد قال الرازي: الأصح أنه إرشاد عام يشمل الكل، ومنع مطلق يدخل فيه كل افتيات(8/520)
فمن الأدب لا يتقدم بين يديه بأمر ولا نهي، ولا إذن ولا تصرف حتى يأمر هو وينهي ويأذن كما أمر الله بذلك في هذه الآية، وهذا باق إلى يوما لقيامة لم ينسخ. فالتقدم بين يدي سنته بعد وفاته كالتقدم بين يديه في حياته، لا فرق بينهما عند ذي عقل سليم.
قال مجاهد: لا تفتاتوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء، حتى يقضيه الله على لسانه.
__________
وتقدم واستبداد بالأمر، وإقدام على فعل غير ضروري بلا مشاورة، "فمن الأدب أن لا يتقدم بين يديه" أي: عنده، سواء كان تجاهه، أو عن يمينه، أو يساره أو خلفه "بأمر ولا نهي ولا إذن ولا تصرف"، ويداوم على ذلك "حتى يأمر هو، وينهى ويأذن كما أمر الله بذلك في هذه الآية".
وظاهر هذا؛ أنه من قدم لازمًا بمعنى تقدم، وفي النوار، أي: لا تقدموا أمرًا، فحذف المفعول ليذهب الوهم إلى كل ما لا يمكن أو تركه؛ لأن المقصود نفي التقدم رأسًا، أو لا تتقدموا منه مقدمة الجيش لمتقدمهم، ويؤيده قراءة يعقوب: لا تقدموا، وفي ابن عطية: قال ابن زيد: معنى لا تقدموا لا تمشوا بين يدي رسول الله، وكذلك بين يدي العلماء، فإنهم ورثة الأنبياء هذا ظاهر في أن معناه التقدم الحسي.
"وهذا" النهي عن التقدم "باق إلى يوم القيامة لم ينسخ" سواء كان التقدم حقيقة أو حكمًا، "فالتقدم بين يدي سنته" الواردة عنه بإسناد صحيح أو حسن، ولا معارض راجح "بعد وفاته، كالتقدم بين يديه في حياته"، لقوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] ، "لا فرق بينهما عند ذي عقل سليم"، وقد علم التقدم أعم من كونه حقيقة أو حكمًا، فلا يرد أنه ينتهي بوفاته صلى الله عليه وسلم، فيتعذر النسخ بوفاته الانقطاع الوحي فلا يحسن بل لا يصح تفريعه على ما قبله.
"قال مجاهد" عند البخاري في تفسير لا تقدموا، "لا تفتاتوا" أي: لا تسبقوا "بشيء على رسول الله صلى الله عليه وسلم" بل أمهلوا وامتنعوا عن العمل فيه بشيء "حتى يقضيه الله على لسانه" فاعملوا به، فالغاية لمقدر.
قال الزركشي: الظاهر أن هذا التفسير على قراءة ابن عباس ويعقوب "بفتح التاء والدال" والأصل لا تتقدموا، فحذف إحدى التاءين.
قال الدماميني: بل هو متأت على القراءة المشهورة أيضًا، فإن قدم بمعنى تقدم.(8/521)
وقال الضحاك: لا تقضوا أمرًا دون رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال غيره: لا تأمروا حتى يأمر، ولا تنهوا حتى ينهى.
وانظر أدب الصديق -رضي الله عنه- معه عليه الصلاة والسلام في الصلاة. أن تقدم بين يديه كيف تأخر فقال: ما كان لابن أبي قحافة أن يتقدم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، كيف أورثه مقامة والإمامة بعده، فكان ذلك التأخر إلى خلفه، وقد أومأ إليه أن أثبت مكانك، سعيًا إلى قدام بكل خطوة إلى وراء مراحل إلى قدام
__________
قال الجوهري: وقدم بين يديه، أي: تقدم، "وقال الضحاك" أي: "لا تقضوا أمرا دون رسول الله" أي: دون أمره "صلى الله عليه وسلم" بل انتظروا أمره، "وقال غيره: لا تأمروا حتى يأمر، ولا تنهوا حتى ينهى" فأمروا حينئذ بأمره ونهيه، "وانظر أدب الصديق رضي الله عنه معه عليه الصلاة والسلام في الصلاة" أي: فيما فعله فيها؛ "أن تقدم بين يديه" أن مصدرية "بفتح الهمزة وتقدير اللام" أي: لأن تقدم علة لقوله: "كيف تأخر" مقدم عليه، أي: انظر كيف تأخر لتقدمه الحاصل بين يديه، أي: في غيبته صلى الله عليه وسلم، فقدم بعد إحرام أبي بكر، وفي نسخة: إذ لكن إصلاحًا ولا حاجة إليه، فإن بهذا التقدير كإذ.
روى مالك والشيخان من طريقه، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد؛ أنه صلى الله عليه وسلم ذهب إلى بني عمرو بن عوف وحانت الصلاة، فجاء المؤذن إلى أبي بكر، فقال: أتصلي للناس؟، فأقيم، قال: نعم، فصلى أبو بكر، فجاء رسول الله والناس في الصلاة، فتخلص حتى وقف في الصف، فصفق الناس، وكان أبو بكر لا يلتفت في صلاته، فلما أكثر الناس من التصفيق، التفت أبو بكر فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأشار إليه أن أمكث مكانك فرفع أبو بكر يديه وحمد الله على ما أمر به صلى الله عليه وسلم من ذلك ثم استأخر حتى استوى في الصف، وتقدم صلى الله عليه وسلم، فصلى بالناس، ثم انصرف، فقال: يا أبا بكر ما منعك أن تثبت إذ أمرتك، "فقال": أبو بكر "ما كان لابن أبي قحافة" "بضم القاف وخفة الحاء المهملة" عثمان بن عامر أسلم في الفتح، ومات سنة أربع عشرة في خلافة عمرو، عبر بذلك دون أن يقول: ما كان لي أو لأبي بكر تحقيرًا لنفسه "أن يتقدم".
وفي رواية: أن يصلي "بين يدي رسول الله"، وفي رواية: أن يؤم النبي "صلى الله عليه وسلم"، ففيه إن من أكرم بكرامة، تخير بين القبول والترك إذا فهم أن الأمر ليس على اللزوم، وكان القرينة التي بينت ذلك لأبي بكر أنه صلى الله عليه وسلم شق الصفوف حتى انتهى إليه، ففهم أن مراده أن يؤم الناس، وأن أمره إياه بالاستمرار في الإمامة من باب الإكرام والتنويه بقدره، فسلك هو طريق الأدب، ولذا لم يرد صلى الله عليه وسلم اعتذاره "كيف أورثه مقامه والإمامة" الخلافة "بعده، فكان" بمعنى صار "ذلك التأخر إلى خلفه، والحال أنه "قد أومأ" أشار "إليه أن أثبت مكانك".(8/522)
تنقطع فيها أعناق المطي.
ومن الأدب معه صلى الله عليه وسلم أن لا ترفع الأصوات فوق صوته، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ} [الحجرات: 2] .
قال الرازي: أفاد أنه ينبغي أن لا يتكلم المؤمن عنده صلى الله عليه وسلم كما يتكلم العبد عند سيده؛ لأن العبد داخل في قوله تعالى: {كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْض} ؛ لأنه للعموم، فلا ينبغي أن يجهر المؤمن للنبي صلى الله عليه وسلم كما يجهر العبد للسيد، وإلا كان قد جهر له كما يجهر بعضكم لبعض.
قال: ويؤيد ما ذكرناه قوله تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [الأحزاب: 6] ، والسيد ليس أولى عند عبده من نفسه، حتى لو كانا في مخمصة
__________
وفي رواية: فأشار إليه يأمره أن يصلي، وأخرى: فدفع في صدره ليتقدم، فأبى "سعيًا" خبر كمان "إلى قدام"، أي: كان في المعنى شروعًا وعملًا في طلب التقدم عبد الله بسبب أدبه مع نبيه، فنال "بكل خطوة إلى وراء" فهو متعلق بمقدر "مراحل" مفعول المقدر "إلى قدام تنقطع فيها أعناق المطي"، ولا توصل إليها، "ومن الأدب معه صلى الله عليه وسلم؛ أن لا ترفع الأصوات فوق صوته"؛ لأنه يدل على قلة الاحتشام وترك الاحترام، ومن خشي قلبه ارتجف وضعفت حركته الدافعة، فلا يخرج منه الصوت بقوة، ومن لم يخف بالعكس، "كما قال تعالى: " {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ} " إذا نطقتم " {فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} " إذا نطق، " {وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ} " إذا ناجيتموه، " {كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ} " بل دون ذلك إجلالًا له.
قال المصنف: وليس المراد بنهي الصحابة عن ذلك؛ أنهم كانوا مباشرين ما يلزم منه الاستخفاف والاستهانة، فكيف وهم خير الناس، بل المراد؛ أن التصويت بحضرته مباين لتوقيره وتعزيره.
"قال الرازي: أفاد أنه ينبغي أن لا يتكلم المؤمن عنده صلى الله عليه وسلم كما يتكلم العبد عند سيده"، بل يكون صوته دون صوته مع سيده؛ "لأن العبد داخل في قوله: {كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ} [الحجرات: 2] ؛ "لأنه للعموم" فيشمل ذلك، "فلا ينبغي أن يجهر المؤمن للنبي صلى الله عليه وسلم، كما يجهر العبد للسيد، وإلا كان قد جهر له كما يجهر بعضكم لبعض" فيدخل في النهي، "قال: ويؤيد ما ذكرناه قوله تعالى: " {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} " [الأحزاب: 6] الآية، "والسيد ليس أولى عند عبده من نفسه حتى لو كانا في مخمصة".(8/523)
ووجد العبد ما لو لم يأكله لمات لا يجب عليه بذله لسيده، ويجب البذل للنبي صلى الله عليه وسلم ولو علم العبد أن بموته ينجو سيده لا يلزمه أن يلقي نفسه في التهكلة لإنجاء سيده، ويجب لإنجاء النبي صلى الله عليه سولم، فكما أن العضو الرئيس أولى بالرعاية من غيره؛ لأن عند خلل القلب مثلًا لا يبقى لليدين والرجلين استقامة، فلو حفظ الإنسان نفسه وترك النبي صلى الله عليه وسلم لهلك هو أيضًا بخلاف العبد والسيد، انتهى.
إذا كان رفع الأصوات فوق صوته موجبًا لحبوط الأعمال فما الظن برفع الآراء، ونتائج الأفكار على سنته وما جاء به.
واعلم أن في الرفع والجهر استخفافًا قد يؤدي إلى الكفر المحبط، وذلك إذا انضم إليه قصد الإهانة وعدم المبالاة.
__________
مجاعة، "ووجد العبد ما لو لم يأكله لمات، لا يجب عليه بذله لسيده، ويجب البذل للنبي صلى الله عليه وسلم، ولو علم العبد أن بموته ينجو سيده، لا يلزمه أن يلقي نفسه في التهكلة" أي: الهلاك لإنجاء سيده، "ويجب لإنجاء النبي صلى الله عليه وسلم" على كل أحد، "فكما أن العضو الرئيس أولى بالرعاية من غيره" بقاء الاستئناف، وعلل الأولوية بقوله: "لأن عند خلل القلب مثلًا لا يبقى لليدين والرجلين استقامة" حذف المشبه، أي: كذلك تجب رعايته صلى الله عليه وسلم وفداؤه على المؤمنين بأنفسهم، إذ لو لم يدفع الهلاك عنه وقدم غيره لهلك ذلك الغير، وأشار إلى هذا المعنى بفاء التعليل، فقال: "فلو حفظ الإنسان نفسه وترك النبي صلى الله عليه وسلم لهلك هو أيضًا"، ويحتمل أن الفاء زائدة، والمعنى أن رعايته وتقديمه على النفس مشبهة بالعضو الرئيس في رعايته وتقديمه على بقية الأعضاء، "بخلاف العبد والسيد. انتهى" كلام الرازي.
"إذا كان رفع الأصوات فوق صوته موجبًا لحبوط الأعمال" أي: فسادها وهدرها مصدر لحبط من باب فرح، وفي لغة من باب ضرب، وبهذا قرئ شاذًا، كما قال تعالى: {أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُم لَا تَشْعُرُونَ} ، أي: خشية ذلك بالرفع والجهر المذكورين، "فما الظن برفع الآراء": جمع رأي، "ونتائج الأفكار" ما يظهر لها تشبيهًا بنتائج الحيوان، وهو ما يلده "على سنته وما جاء به".
"واعلم أن في الرفع والجهر استخفافًا" بحسب الصورة "قد يؤدي إلى الكفر المحبط، وذلك إذا انضم إليه قصد الإهانة وعدم المبالاة"، وإلا فالرفع والجهر لا يلزمهما الاستخفاف.(8/524)
وروي أن أبا بكر رضي الله عنه، لما نزلت هذه الآية قال: والله يا رسول الله لا أكلمك إلا كأخي السرار، وقد روى وأن عمر كان إذا حدثه حدثه كأخي السرار ما كان يسمع النبي صلى الله عليه وسلم حديثه بعد هذه الآية حتى يستفهمه.
وقد روي أن أبا جعفر أمير المؤمنين ناظر مالكًا في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له مالك: يا أمير المؤمنين، لا ترفع صوتك في هذا المسجد، فإن الله عز وجل أدب قومًا فقال: {لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} الآية ومدح قومًا
__________
"وروي أن أبا بكر رضي الله عنه لما نزلت هذه الآية، قال: والله يا رسول الله لا أكلمك إلا كأخي" أي: صاحب "السرار" "بكسر السين مصدر سارة"، أي: الكلام الخفي الذي يراد كتمه.
وفي البخاري عن ابن أبي مليكة: كاد الخيران أن يهلكا أبا بكر وعمر، رفعا صوتهما عند النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم عليه، ركب بني تميم فأنزل الله: {لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} .
قال: ابن الزبير: فكان عمر لا يسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية حتى يستفهمه، ولم يذكر ذلك عن أبيه، يعني أبا بكر.
"وقد روي؛ أن عمر كان إذا حدثه حدثه كأخي السرار، ما كان يسمع النبي صلى الله عليه وسلم حديثه بعد" نزول "هذه الآية حتى يستفهمه"، وفي الاعتصام من البخاري؛ فكان عمر بعد ذلك إذا حدثه يحدثه كأخي السرار، لا يسمعه حتى يستفهمه، ففي تعبيره بروي في هذا شيء، وفيهما وفي غيرهما نزل؛ {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّون} .
"وقد روي" فيما أسنده القاضي عياض من طريق أبي الحسن علي بن فهراي، مؤلف فضائل مالك بسنده؛ "أن أبا جعفر" المنصور عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، "أمير المؤمنين"، ثاني الخلفاء من بني العباس، ولي الخلافة اثنتين وعشرين سنة، وكان محدثًا، فقيهًا، بليغًا، حافظًا للقرآن والسنة، جماعًا للأموال، فلذا لقب أبا الدوانيق، مات سنة ثمان وخمسين ومائة بقرب مكة محرمًا بالحج وله ثلاث وستون سنة، "ناظر" مفاعلة من النظر، بمعنى الفكر، لا لأن كلا منهما ينظر في كلام من يجادله "مالكًا" الإمام في مسئلة فرفع صوته "في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم" ولم يذكروا ناظره فيه؛ لأنه لا يترتب عليه فائدة هنا، "فقال له مالك: يا أمير المؤمنين لا ترفع صوتك في هذا المسجد، فإن الله عز وجل أدب قومًا، فقال: {لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} [الحجرات: 2] الآية".
روى ابن جرير عن قتادة، قال: كانوا يجهرون له بالكلام ويرفعون أصواتهم، فنزلت:(8/525)
فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ} الآية، وذم قومًا، فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَات} الآية. وإن حرمته ميتًا كحرمته حيًا، فاستكان لها أبو جعفر.
ومن الأدب معه أن لا يجعل دعاؤه كدعاء بعضنا بعضًا، قال تعالى: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} [النور: 63] وفيه قولان للمفسرين.
أحدهما: لا تدعوه باسمه كما يدعو بعضكم بعضًا، بل قولوا: يا نبي الله يا رسول الله مع التوقير والتواضع، فعلى هذا: المصدر مضاف إلى المفعول، أي: دعاءكم الرسول.
__________
"ومدح قومًا" كالعمرين وثابت بن قيس وغيرهم، "فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُم} " [الحجرات: 3] "الآية، وذم قومًا" أي: بني تميم "فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُم} " أي: حجرات نسائه بأن أتوها حجرة حجرة، فنادوه أو تفرقوا عليها متطلبين له؛ لأنهم لم يعلموه بأيها مناداة الإعراب، بغلظة وجفاء أكثرهم، لا يعقلون محلك الرفيع وما يناسبه من التعظيم، إذ العقل يقتضي حسن الأدب، وفيه تسلية وتلميح بالصفح عنهم "الآية، وإن حرمته ميتًا كحرمته حيًا" إذ هو حي في قبره، فيجب أن يراعى بعد مماته ما كان له في حياته، "فاستكان": خضع وذل "لها"، لهذه المقالة والموعظة.
وفي نسخة له، أي: لمالك أي: لقوله "أبو جعفر" المنصور، لوضوح استدلاله، "ومن الأدب معه أن لا يجعل دعاؤه كدعاء بعضنا بعضًا.
"قال تعالى: {لَا تَجْعَلُو دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} [النور: 63] ، بأن تنادوه باسمه، بل قولوا: يا نبي الله يا رسول الله بلين وتواضع وخفض صوت.
روى أبو نعيم في الدلائل عن ابن عباس، قال: كانوا يقولون: يا محمد يا أبا القسم فأنزل الله {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} ، فقالوا: يا نبي الله يا رسول الله، "وفيه قولان للمفسرين".
"أحدهما: لا تدعوه" وفي نسخة تدعونه على أنه خبر بمعنى النهي "باسمه، كما يدعو" ينادي "بعضكم بعضًا، بل قولوا: يا نبي الله يا رسول الله".
وهذا ما دل عليه سبب النزول المذكور "مع التوقير" الإجلال "والتواضع" وخفض الصوت لآية الحجرات، "فعلى هذا" القول "المصدر مضاف إلى المفعول، أي: دعاءكم الرسول" أي: نداءكم له، "والثاني: أن المعنى لا تجعلوا دعاءه لكم بمنزلة دعاء بعضكم(8/526)
والثاني: أن المعنى: لا تجعلوا دعاءه لكم بمنزلة دعاء بعضكم بعضًا، إن شاء أجاب وإن شاء ترك، بل إذا دعاكم لم يكن لكم بد من إجابته، ولم يسعكم التخلف عنها البتة، فإن المبادرة إلى إجابته واجبة، والمراجعة بغير إذنه محرمة، فعلى هذا: المصدر مضاف إلى الفاعل، أي دعاءه إياكم، وقد تقدم في الخصائص من المقصد الرابع عن مذهب الشافعي أن الصلاة لا تبطل بإجابته صلى الله عليه وسلم.
ومن الأدب معه صلى الله عليه وسلم أنهم إذا كانوا معه على أمر جامع من خطبة أو جهاد، أو رباط، لم يذهب أحد مذهبًا في حاجة له حتى يستأذنه، كما قال الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ} [النور: 62] . فإذا كان هذا مذهبًا مقيدًا لحاجة عارضة لم
__________
بعضًا، إن شاء أجاب، وإن شاء ترك، بل إذا دعاكم لم يكن لكم بد": فراق ومحالة "من إجابته، ولم يسعكم التخلف عنها البتة" "بقطع الهمزة"، "فإن المبادرة إلى إجابته واجبة، والمراجعة بغير إذنه محرمة"، أي: الرجوع عن تمام ما ندب إليه، لقوله تعالى: {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ} [الأنقال: 24] ، "فعلى هذا المصدر" في دعاء الرسول "مضاف إلى الفاعل، أي: دعاءه إياكم" ولو في الصلاة.
"وقد تقدم في الخصائص من المقصد الرابع عن مذهب الشافعي"، وهو المعتمد في مذهب مالك "أن اصلاة لا تبطل بإجابته صلى الله عليه وسلم"، وقال جماعة: تجب الإجابة، وتبطل الصلاة، "ومن الأدب معه صلى الله عليه وسلم أنهم إذا كانوا معه على أمر جامع من خطبة أو جهاد أو رباط".
وفي الإكليل قال ابن أبي مليكة: الآية في الجهاد والجمعة والعيدين، وقال عطاء: أمر عام، وقال مقاتل: طاعة يجتمعون عليها.
أخرجها ابن أبي حاتم: "لم يذهب أحد مذهبًا في حاجة" عرضت "له حتى يستأذنه، كما قال الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ} [النور: 62] ، ففيه وجوب استئذانه قبل الانصراف عنه في كل أمر يجتمعون عليه.
قال الحسن: وغيره صلى الله عليه وسلم من الأئمة مثله في ذلك لما فيه من أدب الدين وأدب النفس.
قال ابن الفرس: ولا خلاف في الغزو أنه يستأذن إمامه إذا كان له عذر يدعوه إلى الانصراف، واختلف في صلاة الجمعة، إذا كان له عذر كالرعاف وغيره، وقيل: يلزمه الاستئذان سوءا كان إمامه الأمير أم غيره، أخذًا من الآية، "فإذا كان هذا مذهبًا"، أي: سببًا يقصد، مقيدًا(8/527)
يوسع لهم فيه إلا بإذنه، فكيف بمذهب مطلق في تفاصيل الدين، أصوله وفروعه، ودقيقه وجليله، هل يشرع الذهاب إليه بدون استئذانه؟ {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43] .
ومن الأدب معه صلى الله عليه وسلم أنه لا يستشكل قوله، بل تستشكل الآراء بقوله، ولا يعارض نصه بقياس، بل تهدر الأقيسة وتلقى لنصوصه، ولا يحرف كلامه عن حقيقته لخيال مخالف، يسميه أصحابه معقولًا، نعم هو مجهول وعن الصواب معزول، ولا يتوقف قبول ما جاء به على موافقة أحد، فكل هذا من قلة الأدب معه صلى الله عليه وسلم وهو عين الجراءة عليه.
ورأس الأدب معه صلى الله عليه وسلم كمال التسليم له والانقياد لأمره، وتلقي خبره بالقبول والتصديق دون أن يحمله معارضة خيال باطل يسميه صاحبه آراء أذهانهم، فيوحد التحكيم والتسليم والانقياد والإذعان، كما وحد المرسل بالعبادة والخضوع والذل
__________
لحاجة عارضة، لم يوسع لهم فيه إلا بإذنه، فكيف بمذهب مطلق في تفاصيل الدين: أصوله وفروعه ودقيقه": قليله "وجليله" كثيره، "هل يشرع الذهاب إليه بدون استئذانه؟، {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ} العلماء {إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43] الآية، ذلك فإنهم يعلمونه "ومن الأدب معه صلى الله عليه وسلم أن لا يستشكل قوله"، الثابت عنه بلا معارض راجح، بقوله أيضًا، ونحوه: "بل تستشكل الآراء بقوله: ولا يعارض نصه بقياس"؛ لأه فاسد الاعتبار مع وجود النص، "بل تهدر": تطرح "الأقيسة وتلقى": عطف تفسير لتهدر "لنصوصه، ولا يحرف كلامه عن حقيقته لخيال" أي: ظن "مخالف، يسميه أصحابه معقولًا، نعم هو مجهول، وعن الصواب معزول"، أي: مصروف إلى غيره، "ولا يتوقف قبول ما جاء به على موافقة أحد"، بل يقبل، ثم تارة يعمل به، وتارة لا لقيام دليل غيره على عدم العمل به، "فكل هذا من قلة الأدب معه صلى الله عليه وسلم، وهو عين الجرأة" بزنة غرفة وضخامة، أي: الهجوم بلا توقف، وذلك مذموم "ورأس الأدب معه صلى الله عليه وسلم كمال التسليم له والانقياد": الإذعان "لأمره، وتلقى خبره بالقبول والتصديق دون أن يحمله خيال" ظن" "باطل يسميه صاحبه" معقولًا، أو يسميه شبهة، أو شكا، أو يقدم عليه "آراء" الرجال، "وزبالات أوساخ "أذهانهم": جمع ذهن، وهو الذكاء والفطنة، كما في المصباح، "فيوجد التحكيم"، أي: يجب على كل أحد أن يجعل الحاكم هو النبي صلى الله عليه وسلم، "والتسليم والانقياد والإذعان" من أذعن: انقاد فهو عطف مساوٍ، "كما وحد المرسل" "بكسر السين"، وهو الله سبحانه "بالعبادة"، فجعله مستحقا لها دون غيره، "والخضوع والذل" عطف تفسير، "والإنابة"(8/528)
والإنابة والتوكل، فهما توحيدان لا نجاة للعبد من عذاب الله إلا بهما، توحيد المرسل، وتوحيد متابعة الرسول، فلا يتحاكم إلى غيره، ولا يرضى بحكم غيره، انتهى، ملخصًا من "المدارج" والقرآن مملوء بالآيات المرشدة إلى الأدب معه صلى الله عليه وسلم فليراجع.
__________
والرجوع "والتوكل" عليه في جميع الأمور، "فهما توحيدان لا نجاة للعبد من عذاب الله إلا بهما، توحيد المرسل"، وهو الله عز وجل، "وتوحيد متابعة الرسول، فلا يتحاكم إلى غيره" بالعدول عنه وطلب الحكم من غيره، "ولا يرضى بحكم غيره، انتهى ملخصًا من المدارج" للعلامة ابن القيم "والقرآن مملوء بالآيات المرشدة إلى الأدب معه صلى الله عليه وسلم فليراجع" وفيما ذكر كفاية.(8/529)
النوع التاسع: في آيات تتضمن رده تعالى بنفسه المقدسة على عدوه صلى الله عليه وسلم ترفيعًا لشأنه
قال تعالى: {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ، مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} [القلم: 1-2] لما قال المشركون: {يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ}
__________
النوع التاسع:
"في آيات تتضمن رده تعالى بنفسه المقدسة"، أطلق النفس عليه تبعًا لقول إمام الحرمين أنه الصحيح، وقيل: إنما يجوز للمشاكلة نحو تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك، ورد بقوله: كتب ربكم على نفسه الرحمة، وخبر أنت، كما أثنيت على نفسك، وتقدير كتب رب نفوسكم، ولا تحصى نفسي بعيد "على عدوه"، يحتمل أن يريد المفرد وعمومه من الإضافة استغراق المفرد أشمل عند أهل البيان، ويحتمل أن يريد الجمع، فإن لفظ عدو يقع لغة على الواحد المذكر والمؤنث، والمجموع "صلى الله عليه وسلم ترفيعًا" مفعول لأجله وتضعيفه للمبالغة، إذ هو متعد بدونه "لشأنه" أمره وخطبه.
"قال تعالى: " {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} "، أي: الملائكة، ومر الكلام فيه مبسوطًا " {مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} " [القلم: 1] ، أي: انتفى عنك الجنون، بسبب إنعامه عليك بالنبوة وغيرها.
"لما" حين "قال المشركون: {يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ} القرآن في زعمه " {إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} "، أي: لتقول قولهم، بدعواك أنه نزل عليك لا الجنون الحقيقي للقطع بعدمه، فلا يريدونه لئلا يكذب من قاله: "أجاب تعالى" الأولى، فأجاب بالفاء، إذ الجملة الأولى(8/529)
[الحجر: 6] ، أجاب تعالى عنه عدوه بنفسه من غير واسطة، وهكذا سنة الأحباب، فإن الحبيب إذا سمع من سب حبيبه تولى بنفسه جوابه، فههنا تولى الحق سبحانه جوابهم بنفسه منتصرًا له؛ لأن نصرته تعالى له أتم من نصرته وأرفع لمنزلته، ورده أبلغ من رده وأثبت في ديوان مجده.
فأقسم تعالى بما بما أقسم به من عظيم آياته على تنزيه رسوله وحبيبه وخليله مما غمصته أعداؤه الكفرة، به وتكذيبهم له بقوله: {مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} "وسيعلم أعداؤه المكذبون له أيهم المفتون"، هو أو هم؟ وقد علموا هم
__________
كافية، وكأنه تركها؛ لأنها بيان لتعظيمه؛ بأنه أجاب "عنه عدوه بنفسه من غير واسطة"، وتوطئة لقوله: "وهكذا سنة الأحباب" أي: عادتهم، "فإن الحبيب إذا سمع من سب حبيبه، تولى بنفسه جوابه" وفرع على هذا قوله: "فههنا تولى الحق سبحانه جوابهم بنفسه منتصرًا له؛ لأن نصرته تعالى" التي تولاها بنفسه "له أتم من نصرته" عليه الصلاة والسلام لنفسه، كقتال العدو وإن كان لله، أو المعنى لو فعل.
وروى ابن أبي حاتم عن وهيب بن الورد، قال: يقول الله تعالى: ابن آدم، إذا ظلمت فاصبر وارض بنصرتي، فإن نصرتي لك خير من نصرتك لنفس.
ورواه عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد عن وهيب، قال: بلغني أنه مكتوب في التوراة، فذكره، "وأرفع لمنزلته": مقداره العلي، "ورده" تعالى على عدوه بتكذيبهم "أبلغ من رده" لنفسه صلى الله عليه وسلم بإقامة الحجة، وإن كانت ليست لنفسه، بل الله، والمراد لو كان له رد ونصرة، كما مر، "وأثبت" أعظم وأقوى ثباتًا "في ديوان مجده" شرفه من أن يثبته هو بنفسه، فما أمضاه الله، لا نقض له، فاستعار لمجده ديوانًا يثبت فيه، فإذا أثبته الله حكان أتم وأكبر ثباتًا، وهكذا هو باقٍ إلى الأبد، "فأقسم تعالى بما أقسم به من عظيم آياته" أجمله، ليأتي على الخلاف السابق في تفسيره "على تنزيه رسوله وحبيبه وخليله مما غمصته" "بفتح الغين المعجمة والميم، وبكسر الميم أيضًا وصاد مهملة" أي: احتقرته وعابته "أعداؤه الكفرة به، وتكذيبهم له، بقوله: {مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} "، بدل من قوله من عظيم آياته يدل بعض من كل، أو متعلق بتنزيه "وسيعلم أعداؤه المكذبون له أيهم المفتون"، فيه إشارة إلى أن الباء زائدة، وهو أحد وجوه سبقت "هو أو هم"، واقتصر على الأعداء، مع أن الآية {فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُون} [القلم: 5] ؛ لأن القصد إخباره بأنهم سيعلمون ذلك، وأما ذكره عليه السلام فيها، فلأنه أدعى للقبول في مقام المحاجة، نحو: وأنا وإياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين، وقول حسان:
أتهجوه ولست به بكفء ... فشركما لخيركما فداء(8/530)
والعقلاء ذلك في الدنيا، ويزداد علمهم به في البرزخ، وينكشف ويظهر كل الظهور في الآخرة بحيث تتساوى الخلق كلهم في العلم به. وقال تعالى: {وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ} [التكوير: 22] .
ولما رأى العاصي بن وائل السهمي النبي صلى الله عليه وسلم يخرج من المسجد، وهو يدخل فالتقيا عند باب بني سهم وتحدثا، وأناس من صناديد قريش جلوس في المسجد، فلما دخل العاصي قالوا: من ذا الذي كنت تحدث معه، قال: ذلك الأبتر، يعني النبي صلى الله عليه وسلم، وكان قد توفي ابن لرسول الله صلى الله عليه وسلم من خديجة، فرد الله تعالى عليه، وتولى جوابه بقوله: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ} [الكوثر: 3] أي عدوك ومبغضك هو الذليل الحقير.
ولما قالوا: {افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} [سبأ: 8] قال الله تعالى: {بَلِ الَّذِين
__________
"وقد علموا هم والعقلاء" من غيرهم "ذلك" أي: أنهم المفتونون لا هو "في الدنيا" متعلق بعلموا، "ويزداد علمهم به في البرزخ": القبر، "وينكشف ويظهر كل الظهور في الآخرة، بحيث تتساوى الخلق كلهم في العلم به، وقال تعالى": عطف على بقوله: {مَا أَنْت} من عطف الفعل على اسم يشبه الفعل، وهو المصدر، والمعهنى قوله: {مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} ، وبقوله: " {وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ} " [التكوير: 22] ، فقال: {فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّس} .. إلخ.
"ولما رأى العاصي بن وائل السهمي" أحد المستهزئين الميت على كفره "النبي صلى الله عليه وسلم، يخرج من المسجد، وهو" أي: العاصي "يدخل، فالتقيا عند باب بني سهم": بطن من قريش، "وتحدثا وأناس من صناديد": جمع صنديد، وهو السيد الشجاع أو الحليم، أو الجواد، أو الشريف، كما في القاموس، "قريش جلوس في المسجد، فلما دخل العاصي، قالوا له: من ذا الذي كنت تحدث"، بحذف إحدى التاءين "معه، قال: ذلك الأبتر، يعني النبي صلى الله عليه وسلم، وكان قد توفي ابن لرسول الله صلى الله عليه وسلم من خديجة"، وهو القاسم أول من مات من ولده، أو عبد الله روايتان: "فرد الله تعالى عليه، وتولى جوابه بقوله: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ} " [الكوثر: 3] ، "أي: عدوك ومبغضك هو الذليل الحقير"، الذي لا عقب له ولا حسن ذكر، وأما أنت فتبقى ذريتك وحسن صيتك وآثار فضلك إلى يوم القيامة، ولك فيها ما لا يدخل تحت الوصف، ولا يرد أن العاصي أعقب عمرًا وهشامًا؛ لأنهما لما أسلما انقطع عقبه منهما، فصارا من أتباع المصطفى وأزواجه أمهاتهما، "ولما قالوا": أي: الذين كفروا على جهة التعجب لبعض هل(8/531)
لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ} [سبأ: 8] .
ولما قالوا: {لَسْتَ مُرْسَلًا} [الرعد: 43] أجاب الله تعالى عنه فقال: {يس، وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ، إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} [يس: 1-3] .
ولما قالوا: {أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} رد الله تعالى عليهم فقال: {بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ} فصدقه ثم ذكر وعيد خصمائه فقال: {إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الْأَلِيمِ} [الصافات: 36- 38] .
ولما قالوا: {أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ} [الطور: 30] ، رد الله عليهم بقوله: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ
__________
ندلكم على رجل ينبئكم إذا مزقتم كل ممزق أنكم لفي خلق جديد {أَفْتَرَى} "بفتح الهمزة للاستفهام واستغنى بها عن همزة الوصل" {عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} في ذلك، {أَمْ بِهِ جِنَّةٌ} [سبأ: 8] الآية، جنون، تخيل ذلك به، "قال الله تعالى": ردًا عليهم: {بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ} المشتملة على البعث والعذاب " {فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ} " [سبأ: 8] ، من الحق في الدنيا.
قال البيضاوي: رد الله عليهم ترديدهم، وأثبت لهم ما هو أفظع من القسمين وهو الضلال البعيد عن الصواب، بحيث لا ترجى الخلاص منه وما هو مؤداه من العذاب، "ولما قالوا {لَسْتَ مُرْسَلًا} [الرعد: 43] الآية، "أجاب الله تعالى عنه" بالإقسام، "فقال: {يس، وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ، إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} [يس: 1] الاية، ومرت مباحث ذلك، ولم يجعل الجواب من بقية الآية وهي {قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} [الرعد: 43] ومن عنده علم الكتاب، أي: على صدقي لعدم صراحتها في الرد، "ولما قالوا {أَئِنَّا} بتحقيق الهمزتين وتسهيل الثانية، وإدخال ألف بينهما على الوجهين " {لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} " [الصافات: 36] ، أي: لأجل قول محمد "رد الله تعالى عليهم، فقال: {بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ} [الصافات: 37] " الجاثين به، وهو لا إله إلا الله، "فصدقه، ثم ذكر وعيد خصمائه، فقال: {إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الْأَلِيمِ وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} "، "ولما قالوا": ما حكى الله عنهم بقوله: {أَمْ يَقُولُون} هو " {شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ} " [الطور: 30] الآية، حوادث الدهر، فيهلك كغيره من الشعراء، وقيل: المنون الموت، "رد الله عليهم، بقوله: " {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي} " يسهل {لَهُ} الشعر {إِنْ هُوَ} ، أي: الذي أتى به {إِلَّا ذِكْرٌ} عظة {وَقُرْآنٍ مُبِين} [يس: 69] الآية، مظهر للأحكام وغيرها.(8/532)
مُبِين} [يس: 69] .
ولما حكى الله عنهم قولهم: {إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ} [الفرقان: 4] سماهم الله تعالى كاذبين بقوله: {فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا} [الفرقان: 4] . وقال: {قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الفرقان: 6] .
ولما قالوا: يلقيه إليه شيطان قال الله تعالى: {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِين} [الشعراء: 210] ، وما ينبغي لهم وما يستطيعون.
ولما تلا عليهم نبأ الأولين قال النضر بن الحارث {لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [الأنفال: 31] قال الله تعالى: تكذيبًا لهم: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} [الإسراء: 88] .
__________
وذكر وعيدهم، بقوله: {لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ} [يس: 70] ، "ولما حكى الله عنهم قولهم: {إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ} كذب {افْتَرَاهُ} محمد {وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ} من أهل الكتاب "سماهم الله تعالى كاذبين، بقوله: {فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا} [الفرقان: 4] ، كفرًا وكذبًا، أي: بهما، "وقال" ردًا لقولهم: {أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الفرقان: 5] الآية، {قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ} الغيب {فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} [الفرقان: 6] الآية، "ولما قالوا: "يلقيه إليه الشيطان"، قال الله تعالى: لهم {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِين} كما زعم المشركون أنه من قبيل ما يلقي الشياطين على الكهنة {وَمَا يَنْبَغِي} يصلح {لَهُمْ} أن ينزلوا به {وَمَا يَسْتَطِيعُون} [الشعراء: 210] الآية، ذلك أنهم عن السمع لكلام الملائكة لمعزولون، أي: محجوبون بالشهب "ولما تلا عليهم نبأ" خبر "الأولين" الآية، قال النضر بن الحارث"، الكافر، المقتول بعد بدر، المشتري لهو الحديث: {لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا} ؛ لأنه كان يأتي الحيرة يتجر، فيشتري كتب أخبار الأعاجم، ويحدث بها أهل مكة، ويقول: إن محمدًا يحدثكم أحاديث عاد وثمود، وأنا أحدثكم حديث فارس والروم، فيستملحون حديثه، ويتركون استماع القرآن {إِنْ} ما {هَذَا} القرآن {إِلَّا أَسَاطِيرُ} أكاذيب {الْأَوَّلِينَ} [المؤمنون: 83] .
"قال الله تعالى: تكذيبًا لهم {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ} في الفصاحة والبلاغة {لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} ولو كان بعضهم لبعض ظهير [الإسراء: 88] .(8/533)
ولما قال الوليد بن المغيرة: {إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ، إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} [المدثر: 24] ، قال الله تعالى: {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} [الذاريات: 52] . تسلية له عليه الصلاة والسلام.
ولما قالوا: محمد قلاه ربه، فرد الله عليهم بقوله: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} [الضحى: 3] .
ولما قالوا: {مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ} [الفرقان: 7] قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ} [الفرقان: 20] .
ولما حسدته أعداء الله اليهود على كثرة النكاح والزوجات، وقالوا: ما همته إلا النكاح، رد الله تعالى عليهم عن رسوله ونافح عنه فقال: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاس
__________
أي: معينًا، "ولما قال الوليد بن المغيرة" المخزومي الميت على كفره: " {إِنْ} " ما " {هَذَا} " القرآن " {القرآن إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ} " ينقل عن السحرة.
" {إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} [المدثر: 25] الآية، كما قالوا: إنما يعلمه بشر، "قال الله تعالى: " {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رٍَسُول إِلَّا قَالُوا} " هو " {سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} " [الذاريات: 52] . الآية، "تسلية له عليه الصلاة والسلام"؛ لأن المعنى مثل تكذيبهم لك، بقولهم: إنك ساحر أو مجنون، تكذيب الأمم قبلهم لرسلهم، بقولهم: ذلك، "ولما قالوا: محمد قلاه ربه": أبغضه، "فرد" بالفاء في جواب لمبالغة قليلة "الله عليهم بقوله: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} [الضحى: 3] . ما أبغضك "ولما قالوا: {مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ} [الفرقان: 7] الآية، لولا أنزل إليه ملك، فيكون معه نذيرًا، أو يلقى إليه كنز، أي: من السماء ينفقه ولا يحتاج إلى المشي في الأسواق لطلب المعاش، أو تكون له جنة يأكل منها، أي: من ثمارها، فيكتفي بها، "قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ} [الفرقان: 20] الآية، فأنت مثلهم في ذلك، وقد قيل لهم كما قيل لك، وكسرت إن؛ لأن المستثنى محذوف، أي: إلا رسلًا إنهم، أو جملة إنهم حالية اكتفى فيها بالضمير، "ولما حسدته أعداء الله اليهود على كثرة النكاح والزوجات"؛ لأنه صفة كمال لا يقدرون عليها، وعبروا عن هذا، "وقالوا: ما همته إلا النكاح" لإيهام الاعتراض والتوبيخ، خلاف ما أبطنوه من الحسد الذي هو تمني زوال نعمة المحسود، "رد الله(8/534)
عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا} [النساء: 54] .
ولما استبعدوا أن يبعث الله رسولًا من البشر بقولهم الذي حكاه الله عنهم: {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا} [الإسراء: 94] وجهلوا أن التجانس يورث التآنس، وأن التخالف يورث التباين. قال الله تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَءِ مَلَكًا رَسُولًا} [الإسراء: 95] ، أي لو كانوا ملائكة لوجب أن يكون رسولهم من الملائكة، لكن لما كان أهل الأرض من البشر وجب أن يكون رسولهم من البشر.
__________
عليهم عن رسوله، ونافح" "بالفاء والحاء المهملة"، أي: منع ودافع "عنه، فقال: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاس} " أي: محمدا صلى الله عليه وسلم " {عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} " من النبوة وكثرة النساء، أي: يتمنون زواله عنه، ويقولون: لو كان نبيًا لاشتغل عن النساء، " {فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ} " جد محمد صلى الله عليه وسلم، كموسى وداود، وسليمان " {الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} ": النبوة " {وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا} " [النساء: 54] الآية، فكان لداود تسع وتسعون امرأة، ولسيمان ألف ما بين حرة إلى سرية، "ولما استبعدوا أن يبعث الله رسولًا من البشر، بقولهم: الذي حكاه الله عنهم، " {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا} " أي: قولهم منكرين " {أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا} " [الإسراء: 94] ، وجهلوا أن التجانس يورث التوانس"، فيمكن مخاطبته والفهم عنه، "وأن التخالف" في الجنس "يورث التباين"، فلا يمكن ذلك، فمن حكمة الله جعل الرسول بشر إلا ملكًا.
"قال الله تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا} [الإسراء: 95] الآية، يحتمل أنه حال من رسولًا، وأنه مفعول، وكذلك بشرًا، والأول أوفق، "أي: لو كانوا ملائكة، لوجب أن يكون رسولهم من الملائكة، لكن لما كان أهل الأرض من البشر، وجب أن يكون رسولهم من البشر"، لتمكنهم من الاجتماع به واللقى معه، وأما الإنس، فعامتهم عماة عن إدراك الملك والتلقف منه، فإن ذلك مشروط بنوع من التناسب والتجانس، قال البيضاوي، وفي الشفاء أي: لا يمكن في سنة الله إرسال الملك إلا لمن هو من جنسه، أو من خصه الله واصطفاه، وقواه على مقاومته، كالأنبياء والرسل، وفي الآية الأخرى: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} ، أي: جعلناه على صورة رجل ليتمكنوا من رؤيته، إذ لا قدرة للبشر على رؤية الملك، "فما أجل هذه الكرامة"، أي:(8/535)
فما أجل هذه الكرامة، وقد كان الأنبياء إنما يدافعون عن أنفسهم، ويردون على أعدائهم، كقول نوح عليه السلام: {يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَة} [الأعراف: 61] ، وقول هود {يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَة} [الأعراف: 67] وأشباه ذلك.
__________
الإكرام من الله لنبيه، حيث كان هو الراد عنه، لا الأمر الخارق للعادة، "وقد كان الأنبياء إنما يدافعون عن أنفسهم ويردون على أعدائهم، كقول نوح عليه السلام" رادًا لقولهم له: {إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِين} ، [الأعراف: 60] الآية، قال: {يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَة} [الأعراف: 61] فنفيها أبلغ من نفيه، "وقول هود" دفعًا لقولهم: {إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} الآية، قال: " {يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَة} " الآية جهالة، "وأشباه ذلك" من دفعهم عن أنفسهم.(8/536)
فهرس المجلد الثامن:
3 المقصد الخامس: في تخصيصه عليه الصلاة والسلام بخصائص المعراج والإسراء
271 المقصد السادس: ما ورد في آي التنزيل من عظيم قدره ورفعة ذكره
273 تمهيد
274 النوع الأول في ذكر آيات تتضمن عظم قدره ورفعة ذكره
343 النوع الثاني في أخذ الله تعالى له الميثاق على النبيين
352 النوع الثالث في وصفه تعالى له بالشهادة وشهادته له بالرسالة
399 النوع الرابع في التنويه به صلى الله عليه وسلم في الكتب السالفة
432 النوع الخامس في آيات تتضمن إقسامه تعالى على تحقيق رسالته
435 الفصل الأول في قسمه تعالى على ما خصه به من الخلق العظيم
442 الفصل الثاني في قسمه تعالى على ما أنعم به عليه
478 الفصل الثالث في قسمه تعالى على تصديقه عليه الصلاة والسلام
483 الفصل الخامس في قسمه تعالى بمدة حياته صلى الله عليه وسلم وعصره وبلده
497 النوع السادس في وصفه تعالى له عليه الصلاة والسلام بالنور والسراج المنير(8/541)
504 النوع السابع في آيات تتضمن وجوب طاعته واتباع سنته
520 النوع الثامن فيما تتضمن الأدب معه صلى الله عليه وسلم
529 النوع التاسع في آيات تتضمن رده تعالى بنفسه المقدسة على عدوه صلى الله عليه وسلم(8/542)
المجلد التاسع
تابع: المقصد السادس: ما ورد في آي التنزيل من عظم قدره ورفع ذكره
النوع العاشر: في إزالة الشبهات عن آيات وردت في حقه
...
بسم الله الرحمن الرحيم
النوع العاشر: في إزالة الشبهات عن آيات وردت في حقه عليه الصالة والسلام متشابهات
قال الله تعالى: {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى} [الضحى: 7] .
اعلم أنه قد اتفق العلماء على أنه صلى الله عليه وسلم ما ضل لحظة واحدة قط، وهل هو جائز عقلًا على الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين- قبل النبوة.
قالت المعتزلة: هو غير جائز عقلًا لما فيه من التنفير.
وعند أصحابنا: أنه جائز في العقول، ثم يكرم الله من أراده بالنبوة، إلا أن الدليل السمعي قام على أن هذا الجائز لم يقع لنبي، قال الله تعالى: {مَا ضَلَّ
__________
"النوع العاشر":
"في إزالة الشبهات" جمع شبهة، وهي ما يرى دليلًا، وليست بدليل، لفساد القيا أو لغير ذلك "عن آيات وردت في حقه عليه الصلاة والسلام، متشابهات" محتملات، لا يتضح مقصودها لإجمال أو مخالفة ظاهر، إلا بالفحص والنظر، أو دل القاطع على أن ظاهرها غير مراد، ولم يدل على المراد، وتطلق المتشابهات أيضًا على ما استأثر الله بعلمه، وليس بمراد هنا.
قال الله تعالى {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى} [الضحى: 7] أي: منها هذه الآية، لأن القواطع دلت على أن ظاهرها ليس بمراد، وأفاد هذا بنقل الإجماع، بقوله: "اعلم أنه قد اتفق العلماء على أنه صلى الله عليه وسلم ما ضل لحظة واحدة "قط"؛ بأن ظن بالله ما هو محال عليه، "وهل هو" أي الضلال المفهوم من قوله: ما ضل "جائز عقلًا على الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين قبل النبوة، قالت: المنزلة هو غير جائز عقلًا لما فيه" أي: تجوزير تلبسهم به وظهوره عليهم "من التنفير" عن اتباعهم بعد الوحي وإجابتهم للإيمان والطاعة، ولا يخفى أن هذه علة باردة، فالتنفير فعل المنفر، وأي فعل في تجويز العقل، فالتجويزات العقلية لا يلزم منها شيء البتة، فالعقل يجوز انقلاب البحر دمًا والحجر ذهبًا، ونحو ذلك قرره شيخنا، "وعند أصحابنا" أهل السنة "أنها جائز في العقول" وهو أبلغ في اتباعهم، لأنه حيث جاز عقلًا، ولم يقع علم أنهم مصطفون عند الله صادقون فيما أخبروا به عنه "ثم يكرم الله من أراده بالنبوة" بالعصمة من ابتدائه إلى منتهاه فحذف صلة يكرم ولذا عدل عن أن يقول ثم يكرمهم "غلا أن الدليل السمعي، قام على أن هذا الجائز لم يقع النبي" من الأنبياء أصلًا قال الله تعالى: {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} [النجم: 2] ، "قاله الإمام فخر الدين" الرازي: ويقال عليه الآية(9/3)
صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} [النجم: 2] قاله الإمام فخر الدين.
وقال الإمام أبو الفضل اليحصبي في "الشفاء": والصواب أنهم معصومون قبل النبوة من الجهل بالله تعالى وصفاته، والتشكيك في شيء من ذلك، وقد تعاضدت الأخبار والآثار عن الأنبياء بتنزيههم عن هذه النقيصة منذ ولدوا، ونشأتهم على التوحيد والإيمان، بل على إشراق أنوار المعارف، ونفحات ألطاف السعادة،
__________
في حق نبينا، فكيف صح جعلها دليلًا على جميع الأنبياء إذ لا يلزم من نفي ذلك عنه نفيه عنهم، ثم هي إنما سيقت في مقام نفي ما نسبه المشركون إليه، وكان بعد النبوة، والجواب: أما الأول، فالعلة في نفسي الضلال العصمة لإكرام الله تعالى له بالنبوة، وهذه العلة يشاركه فيها جميع الانبياء، فالآية نص فيه وقياس في باقيهم، وأما الثاني، فالأفعال بمنزلة النكرات والنكرة، نعم فكأنه قال: ما صدر منه ضلال لا قبل النبوة ولا بعدها.
"وقال الإمام أبو الفضل" عياض "اليحصبي" العلم الشهير "في الشفاء": وأما عصمتهم من هذا الشيء قبل النبوة، فللناس فيه خلاف، "والصواب" أي: القول الموافق للواقع، وللأدلة الدالة على أن خلافة خطأ من قائله، "أنهم معصومون" محفوظون، مصونون "قبل النبوة من الجهل بالله تعالى" أي: بوجود ذاته "وصفاته" فلا يجهلون شيئًا منها "و" معصومون أيضًا من "التشكيك" لأنفسهم "في شيء من ذلك".
وفي نسخة: أو التشكيك بالعطف بأو الفاصلة، أي: لا يقع في نفسهم شك في الذات ولا في صفة من صفاتها، لأن فطرتهم جبلت على التوحدي والإيمان، وأما قوله: {مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ} ، فالمراد به ما لا يعلم بالوحي، كوجوب الصلاة ونحوه من فروع الشريعة، "وقد تعاضدت" أي: تفوت مأخوذ من العصد، وهو ما بين المرفق إلى الكتشف، ولكون عمل الإنسان واعتماده بذلك، قيل: عضدته بمعنى قويته، قاله الراغب.
وقال التلمساني: أي قوي بعضها بعضًا، تفاعل من اثنين لقيام كل واحد من الأخبار مع صاحبه حتى حصلت القوة التامة بذلك "الأخبار والآثار" بمعنى، وقيل: الخبر المرفوع والأثر، قول الصحابي ومن دونه، والمراد بها ما اشتهر من أحوالهم وصفاتهم المأثورة، المعروفة عند كل أحد، "عن الأنبياء" كلهم والمرسلين بأسرهم، وليس المراد أنه نقل عنهم، بل عرف عنهم وفي حقهم، فلم يصب من قدر، وعن غيرهم "بتزيههم" أي تبرئتهم "عن هذه النقيصة" بصاد مهملة أي: الصفة المنقصة لمن اتصف بها "منذ ولدوا" إلى آخر عمرهم، "ونشأتهم" بالجر عطف على تنزيههم، أي: وبنشأتهم، أي: ابتداء خلقهم لا زمن شبابهم، كما توهم "على التوحيد" وهو عدم الشرك "والإيمان" بالله وبكل ما يجب الإيمان به، "بل" للانتقال على سبيل(9/4)
ولم ينقل احد من أهل الأخبار أن أحدًا نبئ واصطفي ممن عرف بكفر وغشراك قبل ذلك، ومستند هذا الباب النقل.
ثم قال: وقد استبان بما قررناه ما هو الحق من عصمته صلى الله عليه وسلم عن الجهل بالله وصفاته، أو كونه على حالة تنافي العلم بشيء من ذلك كله جملة بعد النبوة عقلًا وإجماعًا، وقبلها سمعًا ونقلًا، ولا بشيء مما قرره من أمور الشرع وأداه عن ربه من الوحي قطعًا، عقلاً وشرعًا، وعصمته عن الكذب وخلف القول منذ نبأه الله
__________
الترقي "على إشراق"، أي: شدة ظهور "أنوار المعارف" في أحوالهم وأقوالهم: أي: معرفة ذات الله وصفاته، وكل ما يتعلق به، "ونفحات" جمع نفحة، وهي الروائح الطيبة التي تفوح "ألطاف السعادة" أي: كونهم سعداء الدارين، فشبه ما يلوح منهم من أماراتها برائحة طيب، يعبق، فيملأ الكون، "ولم ينقل أحد من أهل الأخبار" عن أحد غيره "أن أحدًا نبئ" بهمز آخره، أي: صيره الله نبيًا "واصطفى " أي: اصطفاه الله واختاره "ممن عرف بكفر وإشراك" عطف خاص على عام "قبل ذلك، أي: نبوته واصطفائه، و"ومستند" اسم مفعول، أي: ما يستند إليه ويعلم به "هذا الباب" أي: باب معرفة أحوال الأنبياء، "النقل" عن الأخبار والآثار، ويؤيدهخ العقل الدال على أنه تعالى لا يختار من خلقه لنبوته إلا من كان كذلك، فليس المراد الحصر، وقد عقبه عياض بما يدل على موافقة العقل للنقل، "ثم قال" بعد كلام طويل في الأجوبة عن آيات وأحاديث: ليس المراد ظاهرها.
"وقد استبان" أي: تبين: والسين للتأكيد لا الطلب، ولأن ما يثبت من شأنه أن يناقش فيه "بما قررناه" الباء للسببية، فإذا تأملته بأن لك "ما هو الحق من عصمته صلى الله عليه وسلم عن الجهل بالله وصفاته" بأن ينفي وجود ذاته، أو يتردد فيه، أو ينفي شيئًا من صفاته، أو يعتقد شيئًا منها على خلاف حقيقته، وكذا سائر الأنبياء، "أو" استبان لك عصمته من "كونه" أي: وجوده وخلقه، كسائر الأنبياء "على حالة تنافي العلم بشيء من ذلك" أي: ذاته وصفاته "كله جملة" فلا يجهل شيئًا من ذلك أصلاً لا سيما "بعد النبوة عقلًا" وشرعًا لقضائه بحيازته جميع الشرف والكمال، لأنه تعالى لا يصطفي غلا من هو كذلك، "وإجماعًا" من كل المسلمين "وقبلها سمعًا ونقلًا" في الأحاديث الصحيحة، والجمع بينهما للتوكيد، والمنصوبات تمييز، "ولا بشيء" عطف على قوله بشيء قبله"، أي: ولا كونه على حالة تنافي العلم بشيء "مما قرره من أمور الشرع" الذي أمر بتبليغه، "وأداه" أوصله وبلغه "عن ربه من الوحي قطعًا" مقطوعًا به، متيقنًا بلا خلاف "عقلًا وشرعًا، لأنه منافٍ لإرساله به وأمره بتبليغه، فكيف يجوز عليه جهل شيء منه، فالأنبياء معصومون من ذلك لدلالة المعجزات على علمهم وصدقهم فيما بلغوه عن الله، وإلا كان افتراء(9/5)
وأرسله، قصدًا أو غير قصدًا، واستحالة ذلك عليه شرعًا وإجماعًا، ونظرًا وبرهانًا، وتنزيهه عنه قبل النبوة قطعًا، وتنزيهه عن الكبائر إجماعًا، وعن الصغائر تحقيقًا، وعن استدامة السهو والغفلة، واستمرار الغلط والنسيان عليه فيما شرعه للأمة، وعصمته في كل حالاته من رضا وغضب، وجد ومزح، ما يجب لك أن تتلقاه باليمين، وتشد عليه يد ضنين، فإن من يجهل ما يجب للنبي صلى الله عليه وسلم، أو يجوز أو
__________
على الله، وهو باطل عقلًا وشرعًا، "وعصمته" بالجر عطف على عصمته الأولى "عن الكذب" لمنافاة المعجزة له، "وخلف القول" لئلا يتهم في تبليغه "منذ نبأه الله وأرسله" فلم يصدر عنه شيء منه، وهو مستحيل "قصدًا" بأن يقول ما يخالفما أرسل به اختيارًا "أو غير قصدًا، فلا يقع ذلك منه سهوًا ونسيانًا، وإليه ذهب أبو إسحاق الإسفرايني، وجوزه الباقلاني لعدم منافاته للمعجزة، لأنه لا يقر عليه، "واستحالة ذلك" الكذب والخلف "عليه شرعًا وإجماعًا ونظرًا وبرهانًا".
وفي نسخة: أو قبل قولهنظرًا وهي أحسن، لأن المعنى أن استحالة ذلك شرعًا وإجماعًا مما دل عليه النظر، والدليل العقلي "وتنزيهه" أي: تبرئته "عنه قبل النبوة قطعًا" لتواتره، فكان يسمى الأمين، لأنه مأمونن قولًا وفعلًا، "وتنزيهه عن الكبائر إجماعًا" لرفعة قدره عنها، "عن الصغائر تحقيقًا" إثباتًا بالدلائل المفيدة لذلك، فالتحقيق إبات المسألة بدليلها، أو أمرًا محققًا، ولتجويز بعضهم لها لم يقل إجماعًا أو قصدًا بقرينة، قوله: "وعن اساتدامة السهو والغفلة" عطف تفسير لبعد ساحة التبليغ عنها، فإن وقع نبه عليه بسرعة، ولله در القائل:
يا سائلي عن رسول الله كيف سها ... والسهو من كل قلب غافل لاهي
قد غاب عن كل شيء سره فسها ... عما سوى الله فالتعظيم لله
"و" عن "أستمرار الغلط والنسيان عليه" حفظًا له بإيقاظ قلبه وتنبهه "فيما شرعه للأمة"، لأن استمراره منافٍ لتشريعه له، "وعصمته" بالجر، ويجوز رفعه خبره كائنة "في كل حالاته من رضا وغضب وجد" "وبكسر الجيم ضد الهزل"، "ومزح" فإن مزح لا يقول إلا حقًا "ما يجب لك" بدل من قوله ما هو الحق، ويجوز أن ما لتأكيد القلة في الحالات الأربع، ويجب مستأنف، ولفظ الشفاء: فيجب عليك "أن تتلقاه" أي: تأخذه وتعلمه "باليمين" أي: بالقبول واليمن والبركة، لأنه يؤخذ بها ما ينتفع به لسهولة العمل بها عادة، والعرب تقول لها يتمدح به أخذه باليمين، قال الشماخ:
إذا ما راية رفعت لمجد ... تلقاها عرابة باليمين
"وتشد عليه يد لضنين" البخيل وزنًا، ومعنى من الضنة، وهي شدة البخل، أي تحرص(9/6)
يتسحيل عليه، ولا يعرف صور أحكامه لا يأمن أن يعتقد في بعضها خلاف ما هي عليه، ولا ينزهه عما لا يجوز أن ياضف إليه، فيهلك من حيث لا يدري، ويسقط في هوة الدرك الأسفل من النار، إذ ظن الباطل به واعتقاده ما لا يجوز عليه يحل صاحبه دار البوار.
وقداستدل بعض الأئمة على عصمتهم من الصغائر، بالمصير إلى امتثال
__________
على حفظ ما ذكر من تنزيه قدره عما ذكر، كحرص البخيل على ما في يده لشدة بخله وخوفه من ذهابه، وفيه مع اليمين مراعاة النظير، وفسر بالقوة ولا يناسب هنا، "فإن من يجهل ما يجب للنبي صلى الله عليه وسلم" اعتقاده، "أو يجوز أو يستحيل عليه" أي: يمتنع في حقه شرعًا وعقلًا وعادة، "ولا يعرف صور أحكامه" أي: الحكم المتصور في حقه من وجوب وجواز وحرمه، "لا يأمن أن يعتقد في بعضها خلاف ما هي عليه"، فيقع فيما لا يجوز اعتقاده، "ولا ينزهه عما لا يجوز أن يضاف" أي: ينسب "إليه" ويوصف به، "فيهلك" أي: يقع في أمر هو سبب هلاكه في الدارين "من حيث لا يدري" لجهله، "ويسقط في هوة" "بضم الهاء وشد الواو"، وهو العميق، كالبئر "الدرك" "بفتحتين"، وقد تسكن الراء ما ينزل به إلى "الأسفل" من دركات المنازل "من النار" أي: نار جهنم، فالتعريف للعهد، وهي هنا مجاز عن محلها، ويستعمل كثيرًا بهذا المعنى، وهو عبارة عن قابه أشد العقاب في الآخرة بسبب ما ذكره، ولذا علله بقوله: "إذ ظن الباطل به" أي: ما لا يصح في حقه "واعتقاده" على طريق الجزم "ما لا يجوز عليه" شرعًا وعقلًا، "يحل" "بضم الياء وكسر الحاء وشد اللام"، وفاعله ضمير ما ذكر من الظن والاعتقاد، أي: يحل "صاحبه" أي: ذلك الاعتقاد "دار البوار" "بفتح الموحدة" الهلاك، يعني جهنم، هو من أسمائها، أي: يجعله حالاً فيها، وضبط البرهان يحل، بفتح أوله وضم ثانيه، وصاحبه فاعل، وهو جائز أيضًا، وطلب الرواية في مثل هذا عناء بلا طائل، فنطق عياض باحد الضبطين لا يمنع الثاني، فهو كلام لا حديث يمنع بغير ما روي به.
قال: في الشفاءك ولهذا احتاط على الرجلين اللذين رأياه ليلًا في المسد مع صفيه، فقال لهما: إنها صفية، ثم قال: إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شيئًا فتهلكا، ثم قال بعد طول جوز جماعة من السلف ويغرهم من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين الصغائر على الانبياء، وذهب طائفة إلى الوقف، وذهب المحققون من الفقهاء والمتكلمين إلى عصمتهم منها كالكبائر، ثم بعد كلام قليل ما حكاه المصنف، بقوله: "وقد استدل بعض الأئمة على عصمتهم من الصغائر بالمصير إلى امتثال أفعالهم"، أي: فعل مثلها اقتداء بهم، فلو وقع ذلك منهم، أو جاز فعله الناس، وظنوه شرعًا، فلذا عصموا(9/7)
أفعالهم واتباع آثارهم وسيرتهم مطلقًا، وجمهور الفقهاء على ذلك من أصحاب ملك والشافعي وأبي حنيفة من غير التزام قرينة بل مطلقًا عند بعضهم، وإن اختلفوا في حكم ذلك، فلو جوزنا عليهم الصغائر لم يمكن الاقتداء بهم في أفعالهم، غذ ليس كل فعل من أفعاله يتميز مقصده من القربة والإباحة والظر والمعصية، انتهى.
واختلف في تفسير هذه الآية على وجوه كثيرة:
أحدها: أي وجد ضالًا عن معالم النبوةب، وهو مروي عن ابن عباس
__________
منها، لأن ذنب العظيم عظيم، وإن قال: "واتباع آثارهم وسيرتهم مطلقًا" سواء كانت ضرورية أم جبلية، كالقيام والقعود، والأككل والشرب، فإنا نتأسى بهم، وفيه، وإن كان مباحًا أرجح من الظاهر، "وجمهور الفقهاء على ذلك"، أي: اتباع آثارهم مطلقًا إن لم يعلم أنه خصوصية لهم "من أصحاب" أي: كبار مذهب "ملك والشافعي، وأبي حنيفة، من غير التزام" قيام "قرينة" تدل على أنه فعله للتشريع والاقتداء به فيه "بل" يقتصدي بفعله "مطلقًا" من غير التزام قرينة المشروعية "عند بعضهم، وان اختلفوا" بعد القول "في حكم ذلك"، فذهب كثير من الفقهاء والمحدثين وأكثر الشافعية إلى استحباب اتباعه في الأمور الجبلية، كغيرها.
وذهبجماعة إعلى أنه مباح أحسن من غيره، وحكى أبو الفرج، وابن خويز منداد عن ملك، الوجوب، وبه قال أكثر أصحابنا، وأكثر أهل العراق، وابن سريج والاصطخري، وابن خيران، عن الشافعية، هذا ملخص ما حذفه المصنف من الشفاء قبل موته: "إذ ليس كل فعل من أفعاله" كغيره منهم "يتميز مقصده" أي: ما قصده به "من القربة" بأن يكون واجبًا أو مندوبًا، "والإباحة" بأن لا يترتب عليه ثواب، ولا عقاب، أو مدح، أو ذم، "والحظر" بالمشالة، أي: المنع شرعًا، لكونه محرمًا أو مكروهًا، أو خلاف الأولى والمكروه "انتهى" ما نقهل عن عياض.
وقال عقبة: ولا يصح أن يؤمر المرء بامتثال أمر لعله معصية، لا سيما على من يرى تقديم الفعل على القول إذا تعراضا، وما كان ينبغي للمصنف حذف هذا، لأنه من جملة الدليل وما كان يزيد به الكتاب، "واختلف في تفسير هذه الآية على وجوه كثيرة".
"أحدها: أي: وجدك ضالًا عن معالم النبو" أي: مظانها وهي ما أنزل عليه من القرآن وغيره، وما ظهر عليه من الآيات، فالمعالم، جمع معلم مظنة الشيء وما يستدل به عليه، كما في القاموس.(9/8)
والحسن والضحاك وشهر بن حوشب، ويؤيده قوله تعالى: {مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ} [الشورى: 52] أي ما كنت تدري قبل الوحي أن تقرأ القرآن، ولا كيف تدعو الخلق إلى الإيمان، قاله السمرقندي وقال بكر القاضي: ولا الإيمان الذي هو الفرائض والأحكام، فقد كان عليه الصلاة والسلام قبل مؤمنًا بتوحيده، ثم نزلت الفرائض التي لم يكن يدريها قبل، فازداد بالتكاليف إيمانًا، وسيأتي آخر هذا النوع مزيد لذلك إن شاء الله.
الثاني: من معنى قوله تعالى: ضالًا ما روي مرفوعًا مما ذكره الإمام فخر الدين الرازي أنه عليه الصلاة والسلام قال: ضللت عن جدي عبد المطلب وأنا صبي
__________
وزاد المصنف في معالم الشفاء: لعله إشارة إلى أن النبوة نفسها الأخبار بها كأن قيل له: أنت نبي، أو وجد ما يدل على اتصافه بالنبوة منغير وحي بشرع لا يفيد هداية وإنما يفيدها الآثار الآتية من الشرع التي يعمل بها وإن لم يؤمر بتبليغها قرره شيخنا، "وهو مروي عن ابن عباس، والحسن" البصري "والضحاك، وشهر بن حوشب" وقال به ابن جرير: لأن الضلال لغة العدول عن الاستقامة وضده الهداية، فكل عدول ضلال سواء كان عمدًا أم لا فمعناه غير مهتدٍ لما سبق لك من النبوة فهداك إليها، كقوله: {فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ} [الشعراء: 20] ويؤيده قوله تعالى: {مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ} [الشورى: 52] الآية، أي: ما كنت تري قبل الةوحي أن تقرأ القرآن" أي: لا تعرف قراءته ولا دراسته "ولا كيف تدعو الخلق إلى الإيمان" قيل وهذا في غاية البعد، لأنه تقدير بلا قرينة تدل عليه ووجه بأن تعريف الإيمان عهدي والمراد إيمان أمته أي: لا تدري كيف يؤمن قومك، وبأي طريق يدخلون في الإيمان وبعده لا يخفي، "قاله السمرقندي" الإمام أبو الليث الحنفي.
"وقال بكر" بن العلاء "القاضي" القشيري، المالكي: "ولا الإيمان الذي والفرائض والأحكام" الشرعية التي كلف بها علمًا وعملًا "فقد كان عليه الصلاة والسلام قبل" أي: قبل النبوة "مؤمنًا بتوحيده": أي: بأنه منفرد بالألوهية لا شريك له، "ثم نزلت الفرائض التي لم يكن يدريها قبل فازداد بالتكليف"، أي: بسبب ما كلف به من الفرائض "إيمانًا، وسيأتي آخر هذا النوع مزيد لذلك إن شاء الله" فإنه ذكر هنا للتأكيد.
"الثاني: من معنى قوله تعالى: {ضَالًّا} ما روي مرفوعًا مما ذكره الإمام فخر الدين الرازي، مما يفد أنه على حقيقته، فإنه يقال ضل الرجل الطريق، وضل عنه، زال عنه فلم يهتد إليه، فهو ضال، وذلك "أنه عليه الصلاة والسلام، قال: ضللت" بفتح اللام من باب ضرب لغة(9/9)
حتى كاد الجوع يقتلني فهداني الله.
الثالث: يقال: ضل الماء في اللبن إذا صار مغمورًا فمعنى الآية، كنت مغمورًا بين الكفار بمكة فقواك الله حتى أظهرت دينه.
الرابع: أن العرب تسمي الشجرة الفريدة في الفلاة ضالة، كأنه تعالى يقول: كانت تلك البلاد كالمفازة ليس فيها شجرة تحمل ثمر الإيمان بالله تعالى ومعرفته إلا أنت، فأنت شجرة فريدة في مفازة الحمد.
الخامس: قد يخاطب السيد والمراد قومه، أي وجد قومك ضالين فهداهم بك وبشرعك.
__________
نجد وهي الفصحى، وبها جاء القرآن في قوله: {قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي} [سبأ: 50] ، وفي لغة لاهل العالية من باب تعب، أي: تهت وغبت "عن جدي عبد المطلب" واصل الضلالة الغيبة ومنه، قيل للحيوان الضائع: ضالة "وأنا صبي حتى كاد" قارب "الجوع يقتلني فهداني الله" وردني إليه.
وفي سيرة ابن إسحاق زعموا أن أمه السعدية لما قدمت به مكة ضل منها في الناس فأتت جده فأخبرته فقام عند الكعبة، فدعا الله أن يرده فوجدجه ورقة بن نوفل ورجل آخر من قريش، فأتيا به إلى عبد المطلب، فأخذه على عنقه وطاف وعوذه ودعا له، ثم أرسله إلى آمنة.
ويروى أن عبد المطلب تصدق بألف ناقة كوماء وخمسين رطلًا من ذهب وجهز حليمة أفضل الجهاز.
"الثالث: يقال ضل الماء في اللين غذا صار مغمورًا" من تقديم الدليل على المدلول، وإذا كان كذلك، "فمعنى الآية كنت مغمورًا بين الكفار بمكة فقواك الله حتى أظهرت دينه الرابع أن العرب تسمى الشجرة الفريدة في الفلاة" الأرض لا ماء فيها، والجمع فلا مثل حصًا وحصاة وجمع الجمع أفلاء مثل سبب وأسباب "ضالة"، كأنه تعالى يقولك كانت تلك البلاد" مكة وما حولها، "كالمفازة" الموضع المهلك مأخوذ من فوز بالتشديد إذا مات لأنها مظنة الا الموت.
وقيل: ما فازا، إذا نجا وسلم، سميت به تفاؤلًا بالسلامة "ليس فيها شجرة تحمل ثمر الإيمان باللهتعالى ومعرفته إلا أنت، فأنت شجرة فريدة في مفازة الحمد" ولم يذكر الجوهري وإتباعه هذا وما قبله من معاني ضل، لكن اللغة والسعة "الخامس قد يخاطب السيد والمراد قومه" لاستحالة وصف السيد، بذلك الوصف أو باستعمال اسمه في اسم قومه مجازًا، "أي: وجد قومك ضالين فهداهم بك وبشرعك" عطف تفسير لقوله بك، المعبر به عن ذاته،(9/10)
السادس: أي محبًا لمعرفتي، وهو مروي عن ابن عطاء، والضال: المحب، كما قال تعالى: {إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ} [يوسف: 95] أي محبتك القديمة، ولم يريدوا هنا في الدين، إذ لو قالوا ذلك في نبي الله لكفروا.
السابع: أي وجدك ناسيًا فذكرك، وذلك ليلة المعراج نسي ما يجب أن يقال بسبب الهيبة، فهداه الله تعالى إلى كيفية الثناء حتى قال: لا أحصي ثناء عليك.
الثامن: أي وجدك بين أهل الضلال فعصمك من ذلك وهداك للإيمان وإلى إرشادهم.
__________
وأسند الهداية غليها مبالغة في مدحه حتى كأن ذاته نور يهتدي به بمجرد رؤيته صلى الله عليه وسلم، وجعله شرعه لظهوره على يديه ومجيئه به.
"السادس": ضالًا، "أي: محبًا لمعرفتي" بفتحتين، الصوفي له لسان في فهم القرآن يختص به، ولما كان هذا خلاف المشهور لغة بينه ابن عطاء نفسه، بقوله: "والضال المحب كما قال تعالى وعن أخوة يوسف خطابًا لأبيهم: {إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ} [يوسف: 95] ، "أي: محبتك القديمة" ليسوف لا تنساه، وهذا منقول عنقتادة وسفين، فلا يضر عدم وجوده ي الصحاح واتباعه، فاللغة واسعة "ولم يريدوا هنا" في هذه الآية ضلالة "في الدين" بأن يعتقدوا خطأه في دينه باعتقاده خلافه، أو إصراره على ما ينافيه "إذ لو قالوا ذلك في نبي الله" يعقوب "لكفروا" بنسبته إلى ما لا يجوز عليه وتحقيره، لكن عدم إرادة ذلك لا يستلزم حمله على المحبة، لجواز أن يريدوا لفي تحيرك عما يوصلك إلى العلم بحال يوسف أو نحو ذلك.
وفي الأنوار: لفي ذهابك عن الصواب قديمًا بالإفراط في محبة يوسف وإكثار ذكره والتوقع للقائه.
"السابع: أي: وجدك ناسيًا فذكرك، وذلك ليلة المعراج نسي ما يجب أن يقال بسبب الهيبة" من الله تعالى: "فهداه الله تعالى إلى كيفية" أي: صفة "الثناء" الذي فضل به الأنبياء "حتى قال: لا أحصي لثناء" أي: لا أستوعب ولا أبلغ الواجب في الثناء "عليك" أنت، كما أثنيت على نفسك.
"الثامن: أي وجدك بين أهل الضلال، فعصمك" عن الانتظام في سلكهم والتبلس بشيء من ضلالهم، كعبادة الأصنام "من ذلك" أي: الضلال وموافقة أهله فيه، "وهداك للإيمان" به ومعرفته، إذ جعله فطرة لك وأودع فيك ما يرشدك له بعقلك السليم، ثم أرشدك له بالوحي،(9/11)
التاسع: أي وجدك متحيرًا في بيان ما أنزل إاليك، فهداك لبيانه، كقوله: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44] وهذا مروي عن الجنيد.
العاشر: عن علي أمير المؤمنين أنه صلى الله عليه وسلم قال: ما هممت بشيء مما كان أهل الجاهلية يعملون به غير مرتين، كل ذلك يحول الله بيني وبين ما أريد، ثم ما هممت بعدهما بشيء حتى أكرمني الله برسالته. قلت ليلة الغلام من قريش كان يرعى غنما بأعلى مكة، لو حفظت لي غنمي حتى أدخل مكة فأسمر بها كما
__________
"وإلى إرشادهم" أفعال من الرشد ضد الغي وهو قريب من الهداية، كما قال الراغب، وأفاد بقوله: فعصمك أنه من قبل الشرع ولم يستفد هذا من الخامس، فبهذا غايره ولا يرد أن قوله فيه فهداهم بشرعك يفيد عصمته لاستحالة أن يهديهم مع موافقتهم، لأن شرعه متأخر، فقد كان بينهم قبله أربعين سنة، ثم هذا التأويل مروي عن السدي وغير واحد، كما قال عياض: فالضلال بمعناه المشهور، وليس متصفًا به، ولكونه بين أهله أطلق عليه مجاز العلاقة المجاورة.
"التاسع: أي: وجدك متحيرًا" واقعًا في الحيرة " في بيان ما أنزل إليك" من القرآن، "فهداك لبيانه" بإظهاره وبيان ما خص من معانيه في حال تبليغه لأمته، "كقوله: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ} القرآن لما فيه من التذكير والمواعظ {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44] الآية، مما خفي عليهم، فالضلال التحير فيما شق عليه في ابتداء أمره، "وهذا مروي عن الجنيد" أبي القسم بن محمد النهاوندي، شيخ المشايخ، العلم المشهور رحمه الله.
"العاشر: عن علي أمير المؤمنين أنه صلى الله عليه وسلم قال: ما هممت بفتح الميم الأولى بابه نصر، وهو أول العزم "بشيء مما كان أهل الجاهلية يعملون" ضمنه معنى يتمسكون، فعداه "به" أو الباء زائدة في المفعول "غير مرتين، كل ذلك يحول": يحجز ويمنع "الله بيني وبين ما أريد" من ذلك، "ثم ما هممت بعدهما بشيء حتى أكرمني الله برسالته" وبين المرتين، فقال: "قلت ليلة لغلام من قريش كان يرعى غنمًا بأعلى مكة" لبعض قريش: أود "لو حفظت لي غنمي" فلو لتتمني ما لها جواب أو محذوف، أي: لكان ذلك جميلًا منك "حتى أدخل مكة" وصريحه أنه رعاها قبل البعثة. ويؤيده حديث أبي هريرة عند البخاري مرفوعًا: ما بعث الله نبيًا إلا رعي الغنم، فقال أصحابه: وأنت؟، قال: كنت أرعاها قراريط لأهل مكة.
وفي رواية ابن ماجة: كنت أرعاها لأهل مكة بالقراريط، قال المصنف: كغيره، والحكمة في إلهامهم ذلك قبل النبوة ليحصل لهم التمرن برعيها على ما يكلفونه من القيام بأمر أمتهم، انتهى.(9/12)
يسمر الشباب، فخرجت حتى أتيت أول دار من دور مكة سمعت عزفًا بالدفوف والمزامير فجلست أنظر إليهم فضرب الله على أذني فنمت، فما أيقظني إلا مس الشمس، ثم قلت ليلة أخرى مثل ذلك فضرب الله على أذني فما أيقظني إلا مس الشمس، ثم ما هممت بعدهما بسوء حتى أكرمني الله برسالته.
__________
فزعم أن رعيهم لها إنما كان بعد البعثة تهور، وتمسكه لذلك بالحديث المذكور أعجب، منشؤه عدم الوقوف على شيء، "فأسمر بها" "بضم الميم"، أي: أتحدث.
قال المجد: وسمر سمر، أو سمورًا لم يتم، والسمر محركة الليل وحديثه، وفي خطبته، إذا ذكر المصدر، فالفعل بزنة كتب، "كما يسمر" "بفتح أوله وضم الميم" يتحدث "الشباب، فخرجت حتى أتيت أول دار من دور مكة سمعت عزفًا" "بمهملة وزاي وفاء بزنة فلس"، أي: لعبًا من باب التجريد، استعمل العزف في مطلق اللعب من استعمال المطلق في مقيده، فعلق به قوله: "بالدفوف": جمع دف، آلات يضرب بها، وإلا فالعزف اللعب بالدف "بضم الدال وفتحها"، "والمزامير": جمع مزمار "بكسر الميم"، "فجلست أنظر غليهم، فضرب الله على أذني"، أي: بعث عليهما النوم، "فنمت" فلم أسمع شيئًا، "فما أيقظني إلا مس الشمس" أي: حرها، "ثم قلت ليلة أخرى مثل ذلك، فضرب الله على أذني، فما أيقظني إلا مس الشمس" فلم أسمع شيئًا، "ثم ما هممت بعدهما بسوء حتى أكرمني الله برسالته" فكأنه عبر بضالًا عن هذا الهم مرتني، وأنه هداه بصرفه عن ذلك، بإلقاء النوم عليه، إشارة إلى عنايته به من صغره ومنعه من سماع لغط الجاهلية ولعبهم وغنائهم، وإن لم يكن ذلك حينئذٍ ضلالًا، لأنه صانه من قبل البعثة عما يخالف الشرع.
وقيل: معناه وجدك ضالًا لم يعرفك أحد بالنبوة حتى أظهرك الله، فهدى بك السعداء.
وقيل: وجدك ضالًا بين مكة والمدينة فهداك إلى المدينة وقيل: وجدك قائمًا بأعباء الرسالة وتبليغها، فهدي بك ضالًا.
وعن جعفر بن محمد: وجدك ضالًا عن محبتي لك في الأزل، أي: لا تعرفها، مننت عليك بمعرفتي.
وقيل: ناسيًا فهداك، كقول موسى {وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ} [الشعراء: 20] وقوله تعالى: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا} [البقرة: 282] ، أي: تنسى.
وقرأ الحسن بن علي: {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى} أي: اهتدى بك، حكاها في الشفاء، ثم قال: لا أعلم أحدًا من المفسرين، قال: فيها ضالًا عن الإيمان، وقد قال ابن عباس: لم يكن له ضلالة معصية انتهى.(9/13)
وأما قوله تعالى: {وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ، الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ} [الشرح: 2-3] .
فقد احتج بها جماعة من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين المجوزين للصغائر على الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- وبظواهر كثيرة من القرآن والحديث، إن التزموا ظواهرها أفضت بهم -كما قال القاضي عياض- إلى تجوزيز الكبائر، وخرق الإجماع، وما لا يقول به مسلم، فكيف وكل ما احتجوا به منها مما اختلف المفسرون في معناه، وتقابلت الاحتمالات في مقتضاه، وجاءت أقاويل فيها للسلف
__________
وفي الكشاف من قال: إنه كان على أمر قومه أربعين سنة، أن اراد خلوه عن الأمور السمعية فنعم، وإن أراد على كفرهم ودينهم، فمعاذ الله، فإنه صلى الله عليه وسلم وسائر الأنبياء معصومون قبل النبوة وبعدها عن الكبائر والصغائر البتة، فما بالك بالكفر والجهل بالله، ما كان لنا أن نشرك بالله من شيءء وكفى نقيصة عند الكفار أن يسبق منه كفر انتهى.
"وأما قوله تعالى": قسيم لمقدر أول النوع، أي: منها ما ذكره بقوله: قال الله تعالى: {وَوَضَعْنَا} حططنا {عَنْكَ وِزْرَكَ، الَّذِي أَنْقَضَ} أثقل: {ظَهْرَكَ} [الانشراح: 2] ، "فقد احتج بها جماعة من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين" أي: علماء الكلام الباحثين عن العقائد، سموا بذلك لأن مسألة كلام الله من أجل مباحثة، أو لكثرة دور الكلام فيه بين السلف "المجوزين" بلا واو في نسخ، وهي ظاهرة، وفي نسخة بالواو كأكثر الأصوليين "للصغائر على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام" حيث أبقوها على ظاهرها أن الوزر هو الإثم، "وبظواهر كثيرة من القرآن والحديث" أتى بظواهر إشارة إلى أنها ليست بحجة في الباطن "إن التزموا ظواهرها"، بأن قالوا: بلزوم اعتقاد الظاهر منها "أفضت بهم" أوصلتهم، "كما قال القاضي عياض: إلى تجويز الكبائر" عليهم عمدًا، "وخرق الإجماع" أي: مخالفة ما أجمع عليه الناس من قولهم: خرق المفازة إذا قطعها، فأريد به لازمه وهو المجاوزة "وما لا يقول به مسلم" أي: أفضت بهم إلى رأي: لم يقله أحد من المسلمين، لأن الآيات والأحاديث التي احتجوا بها، كما تشمل الكبيرة من حيث أنه إثم وذنب، وتشمل كل ما أجمع على أنه لا يقع منهم، مع أنهم لا يقولون بجواز وقوع الكبيرة منهم عمدًا، إذ لم يقله إلا الحشوية، ولا عبرة بهم ولا بجواز خرق الإجماع، وأما سهو فأجازه بعضهم، واختلف في أن امتناعه سمعي أو عقلي، كما مر، "فكيف" يسوغ لهم الاحتجاج بتلك الظواهر، "وكل ما احتجوا به منها مما اختلف المفسرون في معناه" فطرقته الاحتمالات فسقطت به الدلالات، "وتقابلت": تخالفت وتعارضت "الاحتمالات في مقتضاه" من تجويز وقوع ما خرج به عن(9/14)
بخلاف ما التزموه في ذلك. فإذا لم يكن مذهبهم إجماعًا، وكان الخلاف فيما احتجوا به قديمًا، وقامت الدلائل على خطأ قولهم، وصحة غيره، وجب تركه والمصير إلى ما صح، انتهى.
وقد اختلف في هذه الآية:
فقال أهل اللغة: الأصل فيه أن الظهر إذا أثقله الحمل سمع له نقيض، أي صوت كصوت المحامل والرحال، وهذا مثل لما كان يثقل على رسول الله صلى الله عليه وسلم من أقداره.
وقيلك المراد منه تخفيف أعباء البنوة التي يثقل الظهر القيام بأمرها، وحفظ موجباتها، والمحافظة على حقوقها، فسهل الله تعالى ذلك عليه، وحط عنه ثقلها
__________
صلاحيته للحجة "وجاءت أقاويل" جمع اقوال، جمع قول، فهو جمع الجمع، "فيها للسلف بخلاف ما التزموه في ذلك" الذي استدلوا به، "فإذا لم يكن مذهبهم" في تجويزها عليهم "إجماعًا" أي: مجمعًا عليه لكثرة من خالفهم، "وكان الخلاف فيما احتجوا به قديمًا" لا حادثًا بعد انعقاد الإجماع حتى يكون خلافًا لا يعتد به "وقامت الدلائل على خطأ قولهم" بتجويزها عليهم، "وصحة غيره" في عدم الجواز "وجب تركه والمصير إلى ما صح" من عدم التجويز، غذ العبرة بالأدلة لا بكثرة القائلين. انتهى كلام عياض متعة الله برؤيته في الرياض.
"وقد اختلف في هذه الآيبة، فقال أهل اللغة: الأصل فيه أن الظهر إذا أثقله الحمل سمع له نقيض، أي: صوت كصوت المحامل والرحال" وكلما حملته ثقيلًا، فإنه ينتقض تحته.
قال عباس بن مرداس:
وأنقض ظهري ما تطوقت منهم ... وكنت عليهم مشفقًا متحننا
قال ابن عطية، وصدر بقوله: أي: هزيلًا من الثقل، "وهذا مثل لما كان يثقل على رسول الله صلى الله عليه وسلم من أقداره" أي: من مقادير ما كلفه، "وقيل: المراد منه تخفيف أعباء" "بالفتح" أثقال "النبوة" جمع عبء "بالكسر" ويفتح الثقل من كل شيء تنزيلًا للمعقول منزلة المحسوسات "التي يثقل الظاهر القيام بأمرها" فهو مجاز عن أتعاب صاحبه، بحيث يصير كالحامل على ظهره ما يثقل عليه، بحيث تناله مشقة عظيمة من ذلك، وفسر القيام بقوله: "وحفظ موجباتها، والمحافظة على حقوقها فسهل الله تعالى ذلك عليه، وحط" تفسير لوضع "عنه ثقلها" بفتح القاف "بأن يسرها عليه حتى تيسرت له" وهذا عزاه عياض(9/15)
بأن يسرها عليه حتى تيسرت له.
وقيل: الوزر ما كان يكرهه من تغييرهم لسنة الخليل، وكان لا يقدر على منعهم غلى أن قواه الله وقال له: {اتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} [النحل: 123] .
وقيل: معناه عصمناك عن الوزر الذي أنقض ظهرك لو كان ذلك الذنب حاصلًا، فسمي العصمة "وضعًا" مجازًا، ومن ذلك ما في الحديث أنه عليه الصلاة والسلام حضر وليمة فيها دف ومزامير قبل البعثة فضرب الله على أذنه فما أيقظه إلا حر الشمس من الغد.
وقيل: ثقل شغل سرك وحيرتك وطلب شريعتك، حتى شرعنا لك ذلك.
وقيل معناه: خففنا عليك ما حملت بحفظنا لما استحفظت وحفظ عليك، ومعنى أنقض أي كان ينقضه، قال القاضي عياض: فيكون المعنى على قول من
__________
للماوردي والسلمي.
"وقيل: الوزر ما كان يكرهه من تغييرهم لسنة الخليل" لطريقة إبراهيم"، وكان لا يقدر على منعهم إلى أن قواه الله، وقال له: {اتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} في التوحيد، والدعوة برفق ونحو ذلك، فالوزر على هذه الاقوال الثلاثة مجاز بمعنى الثقل.
"وقيل: معناه عصمناك" أي: منعناك وحفظناك "عن" ملابسة "الوزر الذي أنقض ظهرك لو كان ذلك الذبن حاصلًا، فسمي العصمة وضعًا مجازًا".
"ومن ذلك ما في الحديث؛ أنه عليه الصلاة والسلام حضر وليمة فيها دف ومزامير قبل البعثة" ليلة إحدى المرتين السابقتين لقوله هناك غير مرتين، "فضرب الله على أذنه" بالإفراد على إرادة الجنس، "فما أيقظه" نبهه "إلا حر الشمس من الغد".
"وقيل": معناه "ثقل شغل سرك" أي: قلبك أو خواطر قلبك، "وحيرتك": تحيرك في ابتداء أمرك "وطلب شريعتك" "بالرفع" أي: طلبك من الله ما يثبت بالوحي، لتعمل به "حتى شرعنا لك ذلك" بوالحي فاطمأن قلبك وذهبت حيرتك حكي معناه القشيري، كما في الشفاء.
"وقيل معناه خففنا عنك ما حملت" أي: كلفت حمل أثقاله من دعوة الخلق تبليغا أمانة الرسالة التي لم تطق حملها الجبال، "بحفظنا لما استحفظت" أي: نحن حفظنا ما أمرناك بحفظه عليك مما عسرك عليك القيام به، وجعلنا لك قوة وصبرًا، صير أثقاله خفيفة، "وحفظ عليك"، أي: منع عن الضياع، فأديته على أتم وجه يمكن أداؤه به، ودفع ما ورد عليه أنه إذا خفقها لم تنقض ظهره، بقوله: تبعًا لعياض، "ومعنى أنقض" ظهره على هذا، "أي: كاد" أي:(9/16)
جعل ذلك لما قبل النبوة: اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم بأمور فعلها قبل نبوته وحرمت عليه جعل بعد النبوة فعدها أوزارًا وثقلت عليه وأشفق منها.
وقيل: إنها ذنوب أمته صارت عليه كالوزر، فأمنه لله من عذابهم في العاجل بقوله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} [الأنفال: 33] ووعده الشفاعة في الآجل.
وأما قوله تعالى: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح: 2] .
فقال ابن عباس: أي أنك مغفور لك غير مؤاخذ بذنب أن لو كان.
__________
قرب "ينقضه" أي: يعيه ويثقله، ولم ينقضه بالفعل، ويجوز إبقاؤه على ظاهره، وأنه أنقضه بالفعل، لكنه خفف عنه، فكأنه لم ينقضه.
"قال القاضي عياض" مبينًا وجه دفع ما ذكره لم تمسكوا به: "فيكون المعنى" لوضعنا عنك إلى آخره "على قول من جعل ذلك" الوضع مصروفًا "لما قبل النبوة، اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم" خبر يكون "بأمور فعلها قبل نبوته"، أي: اعتناءه ببيان الله لحكمها حتى لا يكون عنده هم وغم "وحرمت عليه بعد النبوة" ولم يكن مكلفًا بها قبلها "فعدت أوزارًا" بعدما حرمت باعتبار ما بعد النبوة، "وثقلت عليه، وأشفق" خاف "منها" من المؤاخذة بها لشدة مراقبته وخشيته لله، فمعنى وضعها على هذا، إعلامه بعدم المؤاخذة بها؛ وأنها ليست وزرًا عليه يخافه، لأنه لم يكن مكلفًا بتركها.
"وقيل: إنها ذنوب أمته صارت عليه كالوزر" بجعل المعقول كالمحسوس "فأمنه اله من عذابهم في العاجل بقوله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} [الأفال: 33] ، "ووعده الشفاعة في الآجل"، بنحو قوله: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى: 5] ، وقيل حططنا عنك ثقل أيام الجاهلية، كاه مكي "واما قوله تعالى: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح: 2] "فقال ابن عباس: في إزالة الشبهة عن ظاهره المقتضى وقوع ذنوب من عليه بغفرانها، مع أنه لا ذنب، "أي: إنك مغفور لك غير مؤاخذ بذنب، أن لو كان" أي: وجد فهي تامة، فهو على طريق الفرض تطمينًا له، فلم يرد أنه وقع ذنب غفر، بل لو فرض وقوعه وقع مغفورًا.
وأخرج ابن المنذر، عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أمر أن يقول: {وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ} ، سر بذلك الكفار، فأنزل {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} .(9/17)
وقال بعضهم: أراد غفران ما وقع وما لم يقع، أي أنك مغفور لك.
وقيل: المراد ما كان عن سهو وغفلة وتأويل، حكاه الطبري واختاره القشيري.
وقيل: ما تقدم لأبيك آدم عليه السلام، وما تأخر من ذنوب أمتك، حكاه السمرقندي والسلمي عن ابن عطاه.
__________
"وقال بعضهم: أراد غفران ما وقع" قبل النبوة مما لا يؤاخذ به، لأنه لا شرع يلتزم أحكامه، ولا يصح أن المراد من الصغائر عند مجوزها، لأن السياق في دفع شبهة من جعل هذه الاآية دليلًا على وقوع الصغائر، "وما لم يقع" بفرض وقوعه، "أي: إنك مغفور لك" في الحالين، فغاير كلام ابن عباس، لأنه فرض وتقدير لا غير، وهذا على تجويز الوقوع، لكن إن وقع مغفورًا فهو كغيره من الأنبياء، إن وقع منهم لم يؤاخذوا به قطعًا بخلاف الأمة فتحت المشيئة.
"وقيل: المراد" بما تقدم "ما كان" وقع منه "عن سهو وغفلة"، و"المراد بما تأخر، ما صدر عن "تأويل"، أي: بيان لمعنى يحتمله النص فيحمله عليه باجتهاده، ثم تبين له أن الصواب أو الأولى خلافه، لأن التأويل بيان ما يؤل إليه فيناسب ما تأخر، كما في شرح الشفاء، فلا حاجة لجعل الواو بمعنى، أو "حكاه الطبري" محمد بن جرير، "واختاره القشيري" عبد الكريم بن هوازن، ولعل المراد بغفران الثلاثة مع أن آحاد الأمة لا يؤاخذ بها عدم المؤاخذة باللوم على سبب الغفلة والسهو والنسبة إلى التقصير، بسبب التأويل المبني على شبهة لو فرض وقوعها بخلاف غيره، فمؤاخذ بذلك.
"وقيل: ما تقدم لأبيك آدم عليه السلام، وما تأخر من ذنوب أمتك"، فاللام للتعليل، أي: غفر لآدم لألك لما توسل بك، ولكونك في صلبه، ولأمتك لدعائك، ولأنك رحمة لهم، "حكه السمرقندي والسلمي" "بضم ففتح" "عن" أحمد "بن عطاء" الأدمي، وحكاه الثعلبي عن عطاء الخراساني.
قال السيوطي: وهو ضعيف، أما أولًا فلأن آدم نبي معصوم لا ينسب إليه ذنب البتة، فهو تأويل يحتاج إلى تأويل، انتهى.
وتأويله، بأن المراد بتقدير أنه ذنب، أو سماه ذنبًا مجازًا وإن كان في الحقيقة ليس بذنب من باب حسنات الأبرار سيئات المقربين، قال: وأما ثانيًا: فلأن نسبة ذنب الغير إلى غير من صدر منه بكاف الخطاب لا يليق، وأما ثالثًان فلأن ذنوب الأمة كلها لم تغفر بل منهم من يغفر له، ومنهم من لا يغفر له، انتهى.(9/18)
وقيل: المراد أمته.
وقيل: المراد بالذنب ترك الأولى، كما قيل: حسنات الأبرار سيآت المقربين، وترك الأولى ليس بذنب، لأن الأولى وما يقابله مشتركان في إباحة الفعل.
وقال السبكي: قد تأملتها -يعني الآية- مع ما قبلها وما بعدها فوجدتها لا تحتمل إلا وجهًا واحدًا، وهو تشريف النبي صلى الله عليه وسلم من غير أن يكون هناك ذنب،
__________
والجواب عن الثاني: أن اللام في الآية للتعليل، كما قلنا لا للتعدية، وعن الثالث: بأن من لا يغفر له يخفف عنه بالنسبة لما يؤاخذ به غيره على ذلك الذنب من بقية الأمم، فكأنه غفر له، "وقيل المارد أمته" أي: يغفر الله لأمتك ما صدر ويصدر، فالمراد بخطابه خطاب أمته وغضافة الذنب له لأدنى ملابسة؛ لأنه يسوءه ما يسوءهم وهو الشفيع لهم، قال شيخنا: والمراد بالمغفرة على هذا ما رفع العذاب عنهم مطلقًا بالعفو، فلا يعاقبهم على شيء، أو بتخفيفه عنهم، وذلك في حق من عذب للتطهير مما اقترفه، وقال غيره: المراد أن رحمة الله لهذه الامة أكثر من غيرها.
"وقيل: المراد بالذنب ترك الأولى" وعد ذنبًا لرفعة مقامه ونزاهته، فلا يفعله كما لا يفعل الذنب الحقيقي، نعم إن كان القصد من فعل خلاف الأولى، أو المكروه بيان أنه جائز لا إثم فيه، فعله وجوبًا إن تعين طريقًا للتعليم، فيثاب عليه ثواب الواجب، "كما قيل" قائله سعيد الخراز.
رواه عن ابن عساكر في ترجمته "حسنات الأبرار سيآت المقربين" لأنه كلما ارتقى درجة عدمًا قبلها سيئة، "وترك الأولى ليس بذنب، لأن الأولى وما يقابله مشتركان في إباحة الفعل" وما أبيح ليس بذنب، فأطلق عليه اسمه مجازًا.
وفي التحفة: استغفرك، أطلب منك المغفرة" أي: ستر ما صدر مني من نقص ذنبًا كان أو غير ذنب، فهي لا تستدعي سبق ذنب لافًا لمن زعمه.
قال شيخنا: فلا حاجة إلى الاعتذار عن تسمية خلاف الأولى ذنبًا تعلقت به المغفرة، وفيه نظر لتصريح الآية بلفظ ذنب، فحمله على خلاف الأولى يحتاج للاعتذار، ولفظ استغفرك ليس فيه من ذنبي، فإنما يتأتى ما قال: لو قيل ليغفر لك فقط.
"وقال السبكي" في تفسيره: "قد تأملتها يعني الآية" بذهني "مع ما قبلها" وهو: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} ، "وما بعدها" وهو: {وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ} ، إلى قوله: {نَصْرًا عَزِيزًا} "فوجدتها لا تحتمل إلا وجهًا واحدًا، وهو تشريف النبي صلى الله عليه وسلم من غير أن يكون هناك ذنب"، حاشى لله، "ولكنه أريد أن يستوعب في الآية جميع أنواع النعم من الله على عباده(9/19)
ولكنه أريد أن يستوعب في الآية جميع انواع النعم -من الله على عباده- الأخروية، وجميع النعم الأخروية شيآن: سلبية وهي غفران الذنوب، وثبوتية وهي لا تتناهى، أشار إليها بقوله: {وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ} [الفتح: 2] ، وجميع النعم الدنيوية شيآن: دينية أشار إليها بقوله: {وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} [الفتح: 2] ، ودنيوية وهي قوله: {وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا} [الفتح: 3] ، فانتظم بذلك تعظيم قدر النبي صلى الله عليه وسلم بإتمام أنواع نعم الله تعالى عليه المتفرقة في غيره، ولهذا جعل ذلك غاية للفتح المبين الذي عظمه وفخمه
__________
الأخروية" صفة النعم "وجميع النعم الأخروية" إظهار في مقام الإضمار ليتبين غاية البيان، "شيآن سلبية، وهي غفران الذنوب"، أي: من حيث هي، وإن لم يكن للمخاطب ذنب، لأنه لو لم يذكر غفرانها لكان فيه ترك استيعاب جميع أنواع النعم، "وثبوتية، وهي لا تتناهى، أشار إليها" إلى الثبوتية، بقوله: {وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيكَ} ، وجميع النعم الدنيوية شيآن: دينية أشار إليها بقوله: {وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا} طريقًا {ُسْتَقِيمًا} [الفتح: 2] يثبتك عليه، وهو دين الإسلام "ودنيوية" وإن كانت هناك المقصود بها الدين.
هذا أسقطه من السبكي قبل قوله: وهي قوله: {وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا} [الفتح: 3] ، الآية، لا ذل معه، وقدم الأخروية على الدنيوية وقدم في الدنيوية الدينية على غيرها تقديمًا للأهم فالأهم، هكذا في تفسير السبكي قبل قوله: "فانتظم بذلك تعظيم قدر النبي صلى الله عليه وسلم بإتمام أنواع نعم الله تعالى عليه، المتفرقة في غيره"، ثم يحتمل رجوع جوابه بآخرة الأمر إلى قول ابن عباس: أن لو كان ضرورة الخطاب والإضافة في الآية، والأظهر أن مراد السبكي أن المعنى منعك من الذنب فلا تواقعه، إذ الغفر الستر والغطاء، وعلىهذا فلا حاجة إلى تقدير أن لو كان.
وقد قال العلامة البرماوي في شرح البخاري: المعنى والله أعلم، أي: حال بينك وبين الذنوب فلا تأتيها، لان الغفر الستر، وهو إما بين العبد والذنب، وإما بين الذنب وبين عقوبته، فاللائق بالأنبياء الأول، وبأممهم الثاني: انتهى.
ونحوه قول بعض المحققين: المغفرة هنا كناية عن العصمة، فمعنى ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخرن ليعصمك فيما تقدم من عمرك وفيما أخر منه.
قال السيوطي: وهذا القول في غاية الحسن، وقد عد البلغاء من أساليب البلاغة في القرآ، أنه يكنى عن التخفيفات بلفظ المغفرة والعفو والتوبة، كقوله تعالى عند نسخ قيام الليل: "علم أن لن تحصوه فتاب عليكم فاقرؤوا ما تيسر منه" وعند نسخ تقديم الصدقة بين يدي النجوى {فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} [المجادلة: 13] ، وعند نسخ تحريم الجماع ليلة الصيام(9/20)
بإسناد إليه تعالى بنون العظمة، وجعله خاصًا بالنبي صلى الله عليه وسلم بقوله: لك.
وقد سبق إلى نحو هذا ابن عطية: وإنما المعنى التشريف بهذا الحكم، ولم يكن ذنوب ألبتة.
ثم قال: وعلى تقدير الجواز لا شك ولا ارتاب أنه لم يقع منه صلى الله عليه وسلم،
__________
{فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ} "ولهذا جعل ذلك أية للفتح المبين" وهو صلح الحديبية، أو مكة، نزلت مرجعة من الحديبية عدة له بفتحها، وعبر عنه بالماضي لتحقق وقوعه، أو فتح خيبر، أو غير ذلك أقوال: أرجحها عند قوم الأول، وتقدم بسطه في غزوة الحديبية "الذي عظمه وفخمه بإسناده إليه تعالى بنون العظمة" بقوله: {إِنَّا فَتَحْنَا} [الفتح: 1] ، "وجعله خاصًا بالنبي صلى الله عليه وسلم بقوله: لك" كأنه قيل لا لغيرك، واشار بهذا إلى جواب؛ أن المغفرة ليست سببًا، للفتح إذ السبب ما يلزم من وجوده وجود غيره، والمغفرة التي هي عدم المؤاخذة بالذنب لا تستدعي الفتح، وحاصل الجواب إن اللام علة غائية، أي: أن الفتح لما فيه من مقاساة الأهوال مع الكفار جعل سببًا للمغفرة وإتمامًا للنعمة والنصر العزيز.
وفي البيضاوي: علة للفتح من حيث أنه تسبب عن الجهاد والسعي في إعلاء الدين وإزاحة الشرك وتكميل النفوس الناقصة قهرًا ليصير ذلك بالتدريج اختيارًا، وتخليص الضعفة من أيدي الظلمة.
"وقد سبق إلى نحو هذا ابن عطية" لفظ السبكي: وبعد أن وقعت على هذا المعنى، وجدت ابن عطية قد وقع عليه، فقال بعد أن حكي قول سفين الثوري: ما تقدم قبل النبوة وما تأخر، يريد كل شيء لم يعمله، وهذا ضعيف، "وإنما المعنى التشريف بهذا الحكم"، وهو استيعاب جميع أنواع النغم، "ولم يكن" له "ذنوب البتة" وأجمع العلماء على عصمة الانبياء من الكبائر والصغائر التي هي رذائل، وجوز بعضهم الصغائر التي ليست برذائل، واختلفوا: هل وقعت من محمد صلى الله عليه وسلم أو لم تقع؟
وحكى الثعلبي عن عطاء الخراساني: ما تقدم من ذنب آدم وحواء، أي: ببركتك، وما تأخر من ذنوب أمتك بدعائك.
وقال بعضهم: ما تقدم قوله يوم بدر: "اللهم إن تهلك هذه العصابة لم تعبد"، وما تأخر قوله يوم حنين: "لن نغلب اليوم من قلة"، وهذا كله معترض، هذا كلام ابن عطية برمته.
قال السبكي: وقد وفق فيما قال: فقول المتن، "ثم قال" أي: السبكي لا ابن عطية، كما توهم، فإنه خلاف الواقع إذ ابن عطية ليس فيه كما رأيت قوله: "وعلى تقدير الجواز لا أشك ولا أرتاب أنه لم يقع منه صلى الله عليه وسلم" والذي أوقعه في هذا الوهم، أن السبكي لما نقل قول ابن(9/21)
وكيف يتخيل خلاف ذلك {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3، 4] .
وأما الفعل: فاجماع الصحابة على اتباعه والتأسي به في كل ما يفعله من قليل أو كثير، أو صغير أو كبير لم يكن عندهم في ذلك توقف ولا بحث، حتى أعماله في السر والخلوة يحرصون على العلم بها وعلى اتباعها، علم بهم أو لم يعلم، ومن تأمل أحوال الصحابة معه صلى الله عليه وسلم استحيي من الله أن يخطر بباله خلاف ذلك، انتهى.
وأما قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ}
__________
عطية، اختلفوا هل وقع من محمد ... إلخ. عقبه بقوله: قلت لا أشك، فظن أن قلت من جملة نقله، وليس كذلك، بل زيادة فصلها بلفظ قلت: "وكيف يتخيل خلاف ذلك" أسقط من قول السبكي وأحواله عليه السلام منقسمة إلى قول وفعل، أما القول، فقال تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم: 3] أي: هو نفسه {إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 4] .
"وأما الفعل" قسيم قول السبكي: أما القول، وكأنه أسقط من المصنف سهوًا أو من نساخه، "فإجماع الصحابة على اتباعه والتأسي": الاقتداء "به في كل ما" أي: شيء "يفعله أعماله" مجرور بحتى "في السر والخلوة، يحصرون على العلم بها وعلى اتباعها، علم بهم أو لم يعلم" كابن عمر لما سأل بلالا: هل صلى المصطفى لما دخل الكعبة؟ ولما رآه يقضي الحاجة مستقبلًا، فأفتى بذلك وغير ذلك مما وقع له ولغيره، "ومن تأمل أحوال الصحابة معه صلى الله عليه وسلم" وما عرفوه وشاهدوه منه في جميع أحواله من أوله إلى آخره، "استحى من الله أن يخطر" "بضم التحتية" من أخطر ليكون من فعله "بباله خلاف ذلك" لا بفتحها من خطر لصدقه بخطوره دون فعله، ومثله لا يؤاخذ به "انتهى" كلام السبكي رادًا به قول الزمخشري: معنى الآية جميع ما فرط منك.
وقال مقاتل: ما كان في الجاهلية، وقال سفيان الثوري: ما عملت في الجاهلية وما لم تعمل، وردهما السبكي بأنه صلى الله عليه وسلم ليست له جاهلية.
وقيل: ما كان قبل النبوة، ورده بأنه معصوم قبلها وبعدها، وقيل: ما تقدم حديث مارية وما تأخر امرأة زيد، قال: وهذا باطل، فمنم اعتقد أن في قصتهما ذنبًا فقد أخطأ، وقيل: غير ذلك مما زيف كله، وللسيوطي في ذلك وريقات، سماها القول المحرر، وأما قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ} [الأحزاب: 1] .(9/22)
[الأحزاب: 1] .
فلا مرية أنه صلى الله عليه وسلم أتقى الخلق، والأمر بالشيء لا يكون إلا عند عدم اشتغال المأمور بالمأمور به، إذ لا يصلح أن يقال للجالس اجلس، ولا للساكت اسكت، ولا يجوز عليه أن لا يبلغ، ولا أن يخالف أمر ربه، ولا أن يشرك ولا أن يطيع الكافرين والمنافقين، حاشاه الله من ذلك، وإنما امره الله بتقوى توجب استدامة الحضور.
وأجاب بعضهم عن هذا أيضًا بأنه صلى الله عليه وسلم كان يزداد علمه بالله تعالى، ومرتبته، حتى كن حال عليه الصلاة والسلام فيما مضى بالنسبة إلى ما هو فيه ترك للأفضل، فكان له في كل ساعة تقوى تتجدد.
__________
روى جرير عن الضحاك، عن ابن عباس قال: إن أهل مكة منهم الوليد بن المغيرة وشيبة بن ربيعة، دعوا النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن يرجع عن قوله، على أن يعطوه شطر أموالهم، وخوفه المنافقون واليهود، وإن لم يرجع قتلوه، فأنز الله {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ} "فلا مرية": لا شك في صرفها عن ظاهرها، وذلك "انه صلى الله عليه وسلم اتقى الخلق" بالنصوص القطعية والإجماع، "والأمر بالشيء لا يكون إلا عند عدم اشتغال المأمور بالمأمور به، إذ لا يصلح أن يقال للجالس إجلس، ولا للساكت اسكت"، فأمره بالتقوى، أمر بتحصيل الحاصل، وهو محال، "ولا يجوز عليه أن يبلغ" ما أوحى إليه، "ولا أن يخالف أمر ربه، ولا أن يشرك، ولا أن يطيع الكافرين والمنافقين"، لا عقلًا ولا نقلًا، "حاشاه الله من ذلك"، وهذا كله تصوير للإشكال، "و" الجواب أنه "إنما أمره الله بتقوى توجب استدامة الحضور" في مقام المشاهدة والقرب اللائق بكماله فأمره باستدامة ذلك أمر بما لم يكن حاصلًا، وأجاب عياض بأنه ليس في الآية أنه أطاعهم، والله سبحانه ينهاه عما شاء، ويأمره بما شاء، كما قال تعالى: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ} [الأنعام: 52] وما كان طردهم وما كان من الظالمين، أنتهى.
وهو منع للإشكال من أصله، وأن ابتناءه إنما هو على عرف أمر الخلق وخطابهم، والله تعالى ليس كذلك، فله أن ينهى من لم يقع منه خلافه، ويأمر بما لم يتصور من المأمور خلافه، وهذا جواب حسن، ويأتي في المتن بمعناه.
"وأجاب بعضهم عن هذا" الإشكال "أيضًا بأنه صلى الله عليه وسلم كان يزداد علمه بالله تعالى ومرتبته" منزلته العلية، "حتى كان" بالتشديد "حاله عليه الصلاة والسلام فيما مضى بالنسبة إلى ما هو فيه" الآن مما تجدد "ترك للأفضل" خبر كان، "فكان له في كل ساعة تقوى(9/23)
وقيل: المراد دم على التقوى. فإنه يصح أن يقال للجالس: أجلس ههنا إلى أن آتيك، وللساكت: قد أصبت فاسكت تسلم، أي دم على ما أنت عليه.
وقيل: الخطاب مع النبي صلى الله عليه وسلم والمراد أمته، ويدل عليه قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء: 94] ولم يقل بما تعمل.
وأما قوله تعالى: {فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ} [القلم: 8] .
فاعلم أنه تعالى لما ذكر ما عليه الكفار في أمره صلى الله عليه وسلم، ونسبته إلى ما نسبوه إليه، مع ما أنعم الله به عليه من الكمال في أمر الدين والخلق العظيم، أتبعه بما يقوي قلبه ويدعوه إلى التشديد مع قومه، وقوي قلبه بذلك مع قلة العدد وكثرة
__________
تتجدد" فلتورثه زيادة العلم وغيره من الكمالات، فكان معنى اتقِ الله دم على طلب الازدياد من العلوم والكمالات.
"وقيل: المراد دم" واظب "على التقوى، فإنه يصح أن يقال للجالس: إجلس ههنا إلى أن آتيك، وللساكت: قد أصبت فاسكت تسلم، أي: دم على ما أنت عليه".
قال ابن عطية: معناه دم على التقوى، ومتى أمر آخر بشيء وهو ملتبس به، فإنما منا، الدوام في المستقبل على مثل الحال الماضية.
"وقيل: الخطاب مع النبي صلى الله عليه وسلم والمراد أمته، ويدل عليه قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ} بالتاء والياء {خَبِيرًا} [النساء: 94] الآية، "ولم يقل بما تعمل" وعلى الأول، فقال ابن عطية: هو تسلية له صلى الله عليه وسلم، أي: لا عليك منهم ولا من إيمانهم، فالله عليم بمن يتبعك، حكيم في هدى من شاء وإضلال من شاء، ثم أمره باتباع ما يوحى إليه، وهو القرآن الحكيم، والاقتصار على ذلك وفي قوله: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} ، توعد ما، وقرأ أبو عمرو وحده {تَعْمَلُونَ} "بالتاء"، والتوعد على هذه القراءة للكافرين والمنافقين أبين، وأما قوله تعالى: {فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ} [القلم: 8] ، قال ابن عطية: يريد قريشًا، لأنهم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: لو عبدت آلهتنا وعظمتها لعبدنا إلهك وعظمناه، وودوا أن يداهنهم ويميل إلى قولهم فليميلوا هم أيضًا إلى قوله ودينه، والمداهنة الملاءمة فيما لا يحل، والمداراة الملاينة فيما يحل "فاعلم أنه تعالى لما ذكر ما عليه الكفار في أمره صلى الله عليه وسلم ونسبته إلى ما نسبوه إليه" من الجنون، نافيًا ذلك عنه بالقسم، بقوله: {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ، مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} [القلم: 1، 2] ، "مع ما أنعم الله به عليه من الكمال" الظاهر لكل أحد "في أمر الدين والخلق العظيم"، بقوله: {وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ، وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 3، 4] ، "ابتعه بما يقوي قلبه ويدعوه إلى(9/24)
الكفار، فإن هذه اسورة من أوائل ما نزل فقال: {فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ} والمراد رؤساء الكفار من أهل مكة، وذلك أنهم دعوه إلى دينهم، فنهاه الله أن يطيعهم، هذا من الله تهييج للتشديد في مخالفتهم.
وأما قوله تعالى: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ} [يونس: 94] ، الآية.
فاعلم أن المفسرين اختلفوا فيمن المخاطب بهذا: فقال قوم المخاطب به النبي صلى الله عليه وسلم، وقال آخرون: المخاطب به غيره.
فأما من قال بالأول فاختلفوا على وجوه.
الأول: أن الخطاب مع النبي صلى الله عليه وسلم في الظاهر والمراد به غيره، كقوله تعالى:
__________
التشديد مع قومه" المكذبين بالدين، "وقوي قلبه بذلك مع قلة العدد" الذين معه من المسلمين "وكثرة الكفار، فإن هذه السورة من أوائل ما نزل، فقال: {فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ} الآية، فنهاه وإن كان لم يقع منه طاعة لهم، تقوية لقلبه ليذهب عنه خوفهم المضعف للقلب، فيظهر دين الله بلا خوف.
"والمراد: رؤساء الكفار من أهل مكة، وذلك أنهم دعوه إلى دينهم" على أن يميلوا إلى دينه، فلم يفعل "فنهاه الله أن يطيعهم، وهذا من الله تهييج للتشديد في مخالفتهم" لأن النهي عما لم يقع يقوي تصويبه والمداومة على عدمه.
وأما قوله تعالى: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ} من القصص فرضًا، {فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ} التوراة {مِنْ قَبْلِكَ} فإنه ثبات عندهم، يخبرك بصدقه، "الآية" إشارة إلى أن الشبهة في تمامها أيضًا وهو: {لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ، وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [يونس: 94، 95] ، "فاعلم أن المفسيرن اختلفوا فيمن المخاطب بهذا، فقال قوم: المخاطب به النبي صلى الله عليه وسلم" ولا ضير فيه، لأنه شرط لم يقع نحو: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] ، أو على سبيل الفرض، وهذا أحسن.
وقال آخرون: المخاطب به غيره، فأما من قال بالأول، فاختلفوا على وجوه: الأول أن الخطاب مع النبي صلى الله عليه وسلم في الظاهر، والمراد به غيره".
قال بكر بن العلاء: ألا تراه يقول: {وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ} ، وهو كان المكذب بلفظ اسم المفعول كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} فطلقوهن(9/25)
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} [الطلاق: 1] ، وكقوله: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65] ، وكقوله لعيسى ابن مريم: {قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [المائدة: 116] ومثل هذا معتاد، فإن السلطان إذا كان له أمير، وكان تحت راية ذلك الأمير جمع، فأراد أن يأمر الرعية بأمر مخصوص فإنه لا يوجه خطابه إليهم، بل يوجهه إلى ذلك الأمير ليكون ذلك أقوى تأثيرًا في
__________
لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] ، الآية، فإن المخاطب بذلك هو، والمراد غيره، لأنه إذا طلق إنما يطلقهن لعدتهن.
وقول البيضاوي: خص النداء وعم الخطاب بالحكم، لأنه إمام أمته، فنداؤه كندائهم، أو لأن الكلام معه والحكم يعمهم، والمعنى: إذا أردتم تطليقهن على تنزيل المشارف له منزلة علم وكيف، وفيه {وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ} فيكون في حقه من تحصيل الحاصل.
ورد شيخنا كلام المصنف لظاهر البيضاوي بأن المراد غيره بخصوصه، فيصدق بما إذا كان المراد هو وغيره، لأنه مع غيره، وغيره بخصوصه لا يليق لما علم، وكقوله: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65] ، أي: يفسد ويسقط عن الاعتبار، ويبطل من حبطت الدابة إذا أفرطت في المرعى حتى ماتت وانتفخت، وجعل هذه الآية مشبهًا بها، لأنها أظهر في التعليق بالمحال، لأن الخطاب فيها للرسل كلهم، إذ أولها {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ} ، وأفرد، لأن المراد كل واحد منهم وهم مبرؤن عن الشرك فالمراد أممهم ممن يجوز عليه الشرك تعريضًا وتهييجًا لحميتهم حتى ينتهوا عنه، وكقول لعيسى ابن مريم: {أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [المائدة: 116] ، صفة لإلهين أو صلة اتخذوني، ومعنى دون المغايرة تنبيهًا على أن عبادة الله مع عبادة غيره كلا عبادة، فمنعبده مع عبادتهما، كأنما عبدهما ولم يعبده، أو القصور، فإنهم لم يعتقدوا استحقاقهما للاستقلال بالعبادة، وغنما زعموا أنها توصل إلى عبادة الله، وكأنه قيل: اتخذوني وأمي إلهين متوصلين بنا إلى عبادة الله، قاله البيضاوي، ففي التنظير بهذه الآية شيء، فإنه لم يخاطب عيسى مريدًا غيره، بل توبيخ الكفرة لا خطابهم خصوصًا، وذلك يوم القيامة، "ومثل هذا معتاد" واقع كثيرًا في القرآن، وكلام العرب، وهو باب واسع يسمونه التعريض والتلويح.
وله نكات ومقاصد جليلة، كحمله على الإذعان والقبول وإطفاء نار الغضب والحمية، "فإن السلطان إذا كان له أمير، وكانت تحت راية ذلك الأمير جمع، فأراد أن يأمر الرعية بأمر مخصوص" بها دون الأمير، "فإنه لا يوجه خطابه إليهم، بل يوجهه إلى ذلك الأمير، ليكون(9/26)
قلوبهم.
الثاني: قال القراء: علم الله تعالى أن رسوله صلى الله عليه وسلم غير شاك، ولكن هذا كما يقول الرجل لولد: إن كنت ابني فبرني، ولعبده: إن كنت عبدي فأطعني.
الثالث: أن يقال لضيق الصدر شاك، يقول: إن ضقت ذرعًا بما تعاني من تعنتهم وأداهم فاصبر واسأل الذين يقرؤن الكتاب من قبلك كيف صبر الأنبياء على أذى قومهم، وكيف كان عاقبة أمرهم من النصر، فالمراد تحقيق ذلك والاستشهاد بما في الكتب المتقدمة، وأن القرآن مصدق لما فيه، أو تهييج الرسول عليه الصلاة والسلام وزيادة تثبيته، أو يكون على سبيل الفرض والتقدير، لا إمكان
__________
ذلك أقوى تأثيرًا في قلوبهم" فيبادروا بفعل الأمر، "الثاني: قال القراء" لقب ليحيى بن زياد الكوفي، نزيل بغداد، النحوي المشهور، المتوفى سنة سبع ومائتين، لأنه كان يفري الكلام فريًا، "علم الله تعالى أن رسوله صلى الله عليه وسلم غير شاكٍ".
قال عياض: احذر ثبت الله قلبك أن يخطر ببالك ما ذكره بعض المفسرين عن ابن عباس أو غيره من إثبات شك له فيما أوحي إليه، وأنه من البشر، فمثل هذا لا يجوز حمله عليه، بل قد قال ابن عباس وغيره: لم يشك صلى الله عليه وسلم ولم يسأل، ونحوه.
عن ابن جبير والحسن، وحكى قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما أشك ولا أسأل، وعامة المفسرين على هذا، "ولكن هذا كما يقول الرجل لولده، إن كنت ابني فبرني، ولعبده: إن كنت عبدي فأطعني" في التنظير بهذا نظر، فإنما يقول الرجل ذلك لولده وعبده إذا استشعر منهما نوع تقصير في حقه، والنبي صلى الله عليه وسلم لا تقصير عنده في حق الله تعالى، تى يخاطبه بما يوهم لو ما حاشاه من ذلك. وقد يجاب بأن التنظير به من حيث أنه يخاطب به مع عمله أنه لا شك عنده من غير ملاحظة لوم على تقصير، وإن كان هو عليه السلام ينسب التقصير لنفسه، بنحو قوله: لا أحصي ثناء عليك أنت، كما أثنيت على نفسك.
"الثالث: أن يقال لضيق صدرك شاك" فالمعنى أنه "يقول إن ضقت ذرعًا" صدرًا "بما تعاني" تقاسي "من تعنتهم وأداهم، فاصبر واسأل الذين يقرؤن الكتاب من قبلك كيف صبر الأنبياء على أذى قومهم" وقد قال: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف: 35] ، "وكيفل كان عاقبة أمرهم من النصر" على الكافرين، "فالمراد تحقيق ذلك والاستشهاد بما في الكتب المتقدمة، وأن القرآن مصدق لما" أي: المعاني التي اشتمل عليها ما جاء في الكتب، فضمير "فيه" راجع "لما"، وصح ذلك رعاية للفظ ما، وإن كان مدلولها متعددًا "أو تهييج الرسول عليه الصلاة والسلام" إثارته، "وزيادة تثبيته".(9/27)
ووقع الشك له، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم لما نزلت هذه الآية: "والله لا أشك ولا أسال".
وأما الوجه الثاني - وهو أن المخاطب غيره صلى الله عليه وسلم فتقريره: أن الناس كانوا في زمانه فرقًا ثلاثة: المصدقون به، والمكذبون له، والمتوقفون في أمره الشاكون فيه فخاطبهم الله تعالى بهذا الخطاب فقال: فإن كنت في شك أيها الإنسان مما أنزلنا إليك من الهدى على لسان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فاسأل الله أهل الكتاب ليدلوك على صحة نبوته، وهذا مثل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} [الانفطار: 6] ، و {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ} [الانشقاق: 6] ، و {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ} [الزمر: 8] فإن المراد "بالإنسان" هنا الجنس، لا إنسان
__________
قال البيضاوي: وفيه تنبيه على أن من خالطته شبهة في الدين، ينبغي أن يسارع إلى حلها بالرجوع إلى أهل العلم، "أو يكون على سبيل الفرض والتقدير" أي: إن فرض وقدر وقوع ذلك منك "لا إمكن وقوع الشك له" لأن هذه الشرطية غير ممكنة، "ولذلك قال صلى الله عليه وسلم لما نزلت هذه الآية: "والله لا أشك ولا أسأل" رواه ابن جرير عن قتادة مرسلًا، لكن بدون قسم.
وقيل: المراد قل للشاك إن كنت في شك من ديني، وفي السورة نفسها ما يدل على هذا التأويل قوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي} [يونس: 104] .
وقيل: هو تقرير، كقوله: {أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [المائدة: 116] ، وقد علم سبحانه أنه لم يقل ذلك.
وقيل: معناه ما كنت في شك فاسأل تزدد طمأنينه وعلمًا إلى علمك، ويقينًا إلى يقينك.
وقيل: معناه إن كنت تشك فيما شرفناك وأعطيناك وفصلناك به فسلهم عن صفتك في الكتب، ونشر فضائلك، وقيل: المراد إن كنت في شك من اعتقاد غيرك فيما أنزلناه، حكاه في الشفاء.
"وأما الوجه الثاني: وهو أن المخاطب غيره صلى الله عليه وسلم فتقريره أن الناس كانوا في زمانه فرقًا ثلاثة" فريق منهم "المصدقون به" وفريق منهم "المكذبون له" وفريق منهم "المتوقفون في أمره، الشاكون فيه" صفة كاشفة لمعنى المتوقفون، "فخاطبهم الله تعالى بهذا الخطاب، فقال: فإن كنت في شك أيها الإنسان مما أنزلنا إليك من الهدى على لسان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فأسال أهل الكتاب ليدلوك على صحه نبوته، فليس هو مخاطبًا أصلًا، "وهذا مثل قوله: {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} [الانفطار: 6] ، حتى عصيته {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ} [الانشقاق: 6] جاهد في عملك إلى لقاء ربك، وهو الموت، ومثل قوله: {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ} [الزمر: 8] الآية، دعانا، وفي نسخة: وإذا مس الإنسان ضر، بالواو،(9/28)
بعينه، فكذا هنا، ولما ذكر الله تعالى لهم ما يزيل ذلك الشك عنهم حذرهم من أن يلحقوا بالقسم الثاني وهم المكذبون فقال: {وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [يونس: 95] .
وأما قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} [الأنعام: 114] .
أي في أنهم لا يعلمون ذلك، أويكون المراد: قل لمن امترى يا محمد، لا تكونن من الممترين فليس الخطاب له وأنه صلى الله عليه وسلم يخاطب به غيره، وقيل غير ذلك.
__________
وهي آية قبل هذه في سورة الزمر، جواب شرطها: دعا ربه منيبًا إليه، "فإن المراد بالإنسان هنا" في الآيات الثلاث "الجنس لا إنسان بعينه، فكذا هنا" في {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} خطاب لكل من يصح أن يحبط عمله وأن يشرك لا لمخاطب بعينه، "ولما ذكر الله تعالى لهم ما يزيل ذلك الشك عنهم، حذرهم من أن يلحقوا بالقسم الثاني، وهم المكذبون، فقال: {وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [يونس: 95] الآية.
وأما قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ} أي القرآن {مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ} ملتبسًا {بِالْحَقِّ} ونسب العلم لجميعهم لعلهم أحبارهم به، وتمكن باقيهم من ذلك بأدنى تأمل {فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} [الأنعام: 114] ، الشاكين فيه، أي: من هذا النوع، فهو أبلغ من لا تمتر، وحذف جواب أما - للعلم به من السوابق واللواحق: وهو، فليس المراد أنه صلى الله عليه وسلم شك فليما ذكر أول الآية، وهي {فَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا} بل المعنى، "أي: في أنهم لا يعلمون ذلك" وصوابه إسقاط لا، فالمعنى لا يستقيم على وجودها.
ولفظ الشفاء: أي: في علمهم بأنك رسول الله، وإن لم يقروا بذلك، وليس المراد به شكه صلى الله عليه وسلم فيما ذكر في أول الآية، وفي الأنوار: {فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} في أنهم يعلمون ذلك، أو في أنه منزل بجحود أكثرهم وكفرهم به، فيكون من باب التهييج، كقوله: {وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} "أو يكون المراد: قل لمن امترى يا محمد؟ " متعلق بقل قدم عليه متعلقة "لا تكونن من الممترين" في أن القرآن نزل عليك من الله، وأيدك بمعجزاته، "فليس الخطاب له، وإنما المراد "أنه صلى الله عليه وسلم يخاطب به غير" من الكفار.
قال عياض: ويدل على قوله أول الآية {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا} [الأنعام: 114] الآية، "وقيل غير ذلك"، فقيل: الخطاب له والمراد غيره، ولاقصد تقرير الكفار بأنه حق، وقيل:(9/29)
وأما قوله: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [الأنعام: 35] .
فقال القاضي عياض: لا يلتفت إلى قول من قال: لا تكونن ممن يجهل أن الله تعالى لو شاء لجمعهم على الهدى إذ فيه إثبات الجهل بصفة من صفات الله تعالى، وذلك لا يجوز على الأنبياء، والمقصود وعظمهم أن لا يتشبهوا في أمورهم بسمات الجاهلين، وليس في الآية دليل على كونه على تلك الصفة التي نهاه الله على الكون عليها، فأمره الله تعالى بالتزام الصبر على إعراض قومه، ولا تحرج عند ذلك فيقارب حال الجاهل بشدة التحسر. حكاه أبو بكر بن فورك.
وقيل: معنى الخطاب لأمته صلى الله عليه وسلم لا له، أي فلا تكونا من الجاهلين، حكاه أبو
__________
الخطاب لكل أحد على معنى أن الأدلة لما تعاضدت على صحتهن فلا ينبغي لأحد أن يمتري فيه.
وأما قوله: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ} أي: جعل الناس كلهم مجتمعين، متفقين "على الهدى" بهدايتهم للعقائد الحقة واتباع الشريعة اللازمة، فلا يضل أحد منهم عن الطريق المستقيم "فلا تكونن من الجاهلين" [الأنعام: 35] ، فنهيه عن ذلك يوهم أنه لم يحط به وهو منزه عنه، "فقال القاضي عياض: لا يلتفت" بالبناء للمجهول، أي: لا يتوجه التفات نظر "إلى قول من قال" من المفسرين: "لا تكونن ممن يجهل أن الله تعالى لو شاء لجمعهم على الهدى"، بإسناد الجهل بمشيئة الله إليه، إذ فيه إثبات الجهل بصفة من صفات الله تعالى"، وهي قدرته وعلمه، "وذلك لا يجوز على الأنبياء" لعلمهم الله وصفاته "والمقصود" أي: المعنى المراد "وعظمهم" أي: الأمة، أي: إرشادهم وتنبيهم على "أن لا يشتبهوا في أمورهم بسمات الجاهلين" أي: لا يتصفوا بصفاتهم من عدم الصبر والحرص على سرعة المراد، كما هو شأن الجهلة، "وليس في الآية دليل على كونه على تلك الصفة التي نهاه الله على الكون عليها" وعليه، فالخطاب له والمراد غيره، "فأمره الله تعالى بالتزام الصبر على إعراض قومه" بقوله: {وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ} [الأنعام: 35] ، المختومة بالنهي، فالمراد بالأمر ما يلزم النهي، وقد أمر بالصبر صريحًا في آيات، كقوله: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف: 35] الآية، "ولا تحرج" من الحرج، وهو ضيق الصدر "عند ذلك" أي: عند إعراضهم، عنه هكذا ذبطه شراح الشفاء ويقع محرفًا في نسخ المصنف ولا يرج عن ذلك من الخروج فمشى عليه الشارح، فقال: اي: والتزام عدم خروجه عن ذلك، "فيقارب" حاله "حال الجاهل بشدة التحسر" التأسف والندم بسبب إعراضهم "حكاه أبو بكر بن فورك" "بضم الفاء"،(9/30)
محمد مكي، قال: ومثله في القرآن كثير، وكذلك قوله: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ} [الأنعام: 116] يضلوك عن سبيل الله فالمراد غيره، كما قال تعالى: {إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا} [آل عمران: 149] ، وقوله تعالى: {فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ} [الشورى: 24] و {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65] وما أشبه ذلك فالمراد غيره، وأن هذه حال من أشرك، والنبي صلى الله عليه وسلم لا يجوز عليه هذا، هذا والله ينهاه عما شاء ويأمره بما يشاء، كما قال تعالى له: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} [الأنعام: 52] وما طردهم عليه السلام وما كان من
__________
العلامة الشهير.
تقم غير مرة.
"وقيل: معنى الخطاب لأمته صلى الله عليه وسلم لا له" فهو تعريض، "أي: فلا تكونوا من الجاهلين" أي: ممن اتصف بصفاتهم، "حكاه أبو محمد" وفي نسخة أبو بكر، وهي خطأ، فكنيته أبو محمد "مكي" "بالميم" ابن أبي طالب، تقدم أيضًا.
قال مكي: "ومثله في القرآن كثيرًا" يخاطب المصطفى، والمراد أمته، "وكذلك قوله: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ} وهم الكفار بمافقة ما هم عليه {يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} مع أنه علم أنه لا يطيعهم، "فالمراد غيره" وإن كان الخطاب له، فهو تعريض، "كما قال تعالى: خطابًا لغيره: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} [آل عمران: 149] فهو يؤيد أن المراد بالخطاب في تلك الآية غيره، لأن القرآن يفسر بعضه، وقوله تعالى: {إِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ} بربط {عَلَى قَلْبِكَ} [الشورى: 24] ،وقد علم أنه لا يشاء ذلك، فالمراد غيره.
والتنظير بهذه بناءً على أن المراد الربط المذموم، أما على أن المعنى يربط بالصبر على أذاهم، وبالصبر على قولهم: إفتراه وغيره، وقد فعل، فليست مما الكلام فيه {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65] ، وقد علم سبحانه انه لا يشرك، فالمراد غيره، "وما أشبه ذلك"، كقوله: {وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ} [يونس: 106] ، فإن فعلت فإنك إذا من الظالمين، وقوله: {إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ} [الإسراء: 75] وقوله: {لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ} "فالمراد غيره" تعريضًا وإيقاظًا، "وأن هذه حال من أشرك" بالله لا حاله "والنبي صلى الله عليه وسلم لا يجوز عليه هذا" فلابد من تأويله "هذا، والله" سبحانه "ينهاه عما شاء" وإن لم يمكن وقوعه منه، "ويأمره بما شاء" وإن استحال عليه تركه نحو اتق الله أن يعامل نبيه بما يمتنع أن يعامل به غيره "كما قال تعالى له: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ} ، أي: يعبدونه {بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} .(9/31)
الظالمين.
وأما قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} [يوسف: 3] .
فليس بمعنى قوله: {وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آَيَاتِنَا غَافِلُونَ} [يونس: 7] ، وإنما المعنى: لمن الغافلين عن قصة يوسف عليه السلام، إذ لم تخطر ببالك، ولم تقرع سمعك قط، فلم تعلمها إلا بوحينا.
وأما قوله تعالى: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} [الأعراف: 200] الآية.
فمعناه: يستخفنك بغضب يحملك على ترك الإعراض عنهم.
__________
[الأنعام: 52] ، وما كان "طردهم عليه السلام" عن مجلسه، "وما كان من الظالمين" أي: ممن ظلمهم بطردهم، لأنه لم يقع منه ذلك.
روى ابن حبان والحاكم عن سعد بن أبي وقاص، قال: لقد نزلت هذه الآية في ستة، وأنا وعبد الله بن مسعود وأربعة، قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: اطردهم، فإن نستحي أن نكون تبعًا لك كهؤلاء، فوقع في نفس النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله {وَلَا تَطْرُدِ} الآية إلى قوله: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} [الأنعام: 53] .
وفي حديث ابن مسعود عند أحمد، وغيره أن الاربعة خباب وصهيب وبلال وعمار، وإنما هم بذلك رجاء إسلام قومه، مع أن ذلك لا يضر أصحابه لعلمه بأحوالهم ورضاهم بما يرضاه.
وأما قوله تعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآَنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} [يوسف: 3] ، "فليس بمعنى قوله: {وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آَيَاتِنَا} أي: دلائل وحدانيتنا {غَافِلُونَ} [يونس: 7] ، تاركون النظر فيها، لأنه صلى الله عليه وسلم معصوم عن هذه الغفلة، "وغنما المعنى لمن الغافلين عن قصة يوسف عليه السلام، إذ لم تخطر ببالك ولم تقرع سمعك قط، فلم تعلمها إلا بوحينا" والغفلة عن مثل ذلك مما لا يعلم إلا بالنقل لا نقص فيه، وفي التعبير بالغفلة إشارة إلى شدة استعداده للعلم بما لم يعلم، حتى كأنه كان عالمًا به ونسيه.
روى ابن جرير، عن ابن عباس، قال: قالوا: يا رسول الله لو قصصت علينا، فأنز الله {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} .
وروى ابن مردويه، عن ابن مسعود، مثله: وأما قوله تعالى: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} من الشيطان الرجيم [الأعراف: 200] ، مع عصمته من تسليطه عليه بأذية، أو وسوسة، وإن كانت أن الشرطية لا تقتضي الوقوع، "فمعناه يستخفنك بغضب، يحملك على(9/32)
والنزغ: أدنى حركة تكون، كما قاله الزجاج.
فأمره الله أنه متى يحرك عليه غضب على عداوة، أو رام الشيطان من إغرائه به وخواطر أدنى وساوسه ما لم يجعل له سبيل إليه أن يستعيد به تعالى منه، فيكفي أمره، ويكون سبب تمام عصمته، إذ لم يسلط عليه بأكثر من التعرض له، ولم يجعل له قدرة عليه. وكذلك لا يصح أن يتصور له الشيطان في صورة الملك ويلبس عليه، لا في أول الرسالة ولا بعدها بل لا يشك النبي أن ما يأتيه من الله
__________
ترك الإعراض عنهم"، فهي راجعة لقوله قبلها {وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} أي: لا تكافئ السفهاء الذين أغضبوك بمثل أفعالهم وأعرض عنهم فهذه الآية كما قيل جامعة لمكارم الأخلاق.
ولذا قال له جبريل لما سأله عنها: إن الله تعالى أمرك أن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمن ظلمك، فهذا من مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال، لا من شي تسببه، فالغضب على الجاهل، وجزاؤه بمثل فعله تأديبًا له، لا بعد من نزغ الشيطان والاستعاذة مشروعة عند الغضب، فليست الآية منسوخة بآية القتال، كما قيل: "والنزغ أدنى": أقل "حركة تكون"، توجد "كما قاله الزجاج".
وفي الأنوار: النزغ والنسغ والنخس الغرز، شبه وسوسته الناس إغراء لهم على المعاصي وإزعاجًا بغرز السائق ما يسوقه، وقيل: النزغ في الآية الإفساد، فأصل معناه الطعن، ثم شاع استعماله في كل مفسد، كقوله: من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين أخوتي، أي: أفسد ما بيني وبينهم، وقيلك معناه يغرينك ويحركنك، والنزغ أدنى الوسوسة، "فأمره الله أنه متى يحرك عليه غضب على عدوه" لسوء ما وقع منه "أو رام الشيطان من إغرائه" "بغين معجمة" وراء، أي: إيقاعه "به" كحثه على قتله وقراءته"، بغين وزاي" معجمتين تصحيف، "وخواطر أدنى" أقل "وساوسه": جمع وسواس، "ما لم يجعل له سبيل إليه"، لعصمته مفعول رام "أن يستعيذ به تعالى منه" فيقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجين، ولا يطيعه ويفعل بنزغه، "فيكفي أمره" بصرفه عنه "ويكون" ذلك "سبب تمام عصمته" لأنها من مجرد الخاطر نهاية الحفظ والمنع، إذ الخطور بالبال لا يصرفها، "إذ لم يسلط" الشيطان "عليه بأكثر من التعرض له" فضلًا عن التمكن منه وإيصال أذيته له "ولم يجعل له قدرة عليه" فيرجع خائبًا خاسرًا، "وكذلك لا يصح أن يتصور له الشيطان في صورة الملك" بأن يتمثل بمثاله، ويقول: أنا ملك، أرسلني الله إليك لحفظ الله تعالى له عنه "ويلبس" بزنة يخلط، ومعناه "عليه" أمره لا يقع ذلك "لا في أول الرسالة" أيك أول دعوة الخلق إلى الله "ولا بعدها" الظاهر بعده، أي: بعد الأول.
وأسقط من عياض قوله: والاعتماد في ذلك دليل المعجزة أي: اعتماده في أن ذلك(9/33)
هو الملك ورسوله حقيقة إما بعلم ضروري يخلقه الله له أو ببرهان يظهر لديه كما قدمته في المقصد الأول عند البعثة، لتتم كلمة ربك صدقًا وعدلًا لا مبدل لكلماته.
وأما قوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} [الحج: 52] الآية.
فأحسن ما قيل فيها ما عليه جمهور المفسرين: أن التمني المراد به هنا: التلاوة وإلقاء الشيطان فيها إشغاله بخواطر وأذكار من أمور الدنيا للتالي حتى
__________
وحي، دليل على أنه معجزة له، أو هو يعتمد على ما ظهر له من المعجزة، كتسليم الحجر والشجر "بلا لا يشك النبي" أي: نبي كان نبينا وسائر الأنبياء "إن ما يأتيه من الله هو الملك ورسوله" إليه "حقيقة" بلا شك "إما بعلم ضروري يخلقه الله له" بديهي لا يحتاج لدليل لعدم تردده فيه "أو ببرهان" دليل قطعي "يظهر لديه" مما يشاهده من الآيات، كنطق الحجر وتسليم الشجر "كما قدمته في المقصد الأول عند" ذكر "البعثة" وكل ذلك "لتتم كلمة ربك" بتبليغ أحكامه ومواعيده "صدقًا" في خبره له ومواعيده "وعدلًا": ما حكم به من الأحكام التي بلغها، وهما تمييزان محولان عن الفاعل، أو حالان: "لا مبدل لكلماته" أي: لا يمكن تغييرها، ولا تنسخ بعدما بلغت غاية لا تبل الزيادة عليها.
ولذا كانت شريعته صلى الله عليه وسلم آخر الشرائع، وهذا تعليل لحفظه من تصور الشيطان بصورة ملك، فيكون ما يلقيه تخليطًا قابلًا، ولذا عقبه بقوله: وأما قوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ} عطف عام على خاص، فيفيد أن المراد بالإرسال الإيحاء، وفائدة ذكره النبي غير الرسول، لا سيما من لا أتباع له أن كل نبي يجب عليه إعلام غيره بأنه نبي، لئلا يحتقر وحينئذٍ فيتطرق لسماع تلاوته ووعظه فيلقي الشيطان ذلك للتلبيس {إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} [الحج: 52] فظاهره أن الشيطان يخلط عليهم الوحي عند التلاوة، فيخالف ما قبله.
وأجيب عن ذلك بأجوبة "فأحسن ما قيل فيها ما عليه جمهور المفسرين" أي: اكثرهم "أن التمني المراد به هنا التلاوة" كقول حسان:
تمنى كتاب الله أول ليلة ... تمنى داود الزبور على رسل
ومنه قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ} [البقرة: 78] ، أي: تلاوة وليس تمنى هنا تفعل من منى قدر، كقوله:
لا تأمنن وإن أمسيت في حرم ... حتى تلاقي ما يمني لك الماني(9/34)
يدخل عليه الوهم والنسيان فيما تلاه، أو يدخل غير ذلك على أفهام السامعين من التحريف وسوء التأويل ما يزيله الله وينسخه ويكشف لبسه ويحكم آياته، قاله القاضي عياض، وقد تقدم في المقصد الأول مزيد ذلك.
قال في الشفاء: وأما قوله عليه الصلاة والسلام حين نام عن الصلاة يوم الوادي: "إن هذا وادٍ به شيطان" فليس فيه ذكر تسلطه عليه ولا وسوسته له، بل
__________
أي: ما قدره لك المقدر، والتمني أمر يقدره المرء في نفسه، والظاهر تفسير التلاوة هنا بالقراءة لتشمل المواعظ والحكم، والأذكار والدعاء، فإن الشيطان كما يتسلط على قارئ القرآن يتسلط على الذاكر ونحوه وإن كانت القصة إنما كانت عند قراءته لسورة النجم التي هي سبب نزول {وَمَا أَرْسَلْنَا} الآية. كذا قال الشارح: ولا دخل في ذلك للاستظهار مع كون النص التمني، والأمنية المفسر بالتلاوة، فلا يقاس عليه غيره، وتعليله بتسلط الشطيان على الذاكر ونحوه من حيث هو لا ينهض هنا، كما لا يخفى، "و" أن "إلقاء" فنصبه عطفًا على التمني، وخفضه على ضمير به، أي: والمراد بإلقاء "الشيطان فيها" أي: أمنيته، أي: متلوه، "إشغاله" الذي في الشفاء شغله، بزنة ضرب وهي الفصحى.
قال تعالى: {شَغَلَتْنَا} [الفتح: 11] ، لكن في القاموس شغله، كمنعه شغلًا، ويضم وأشغله لغة جيدة أو قليلة أو ردية، والمصدر مضاف للفاعل، أي: إشغال الشيطان التالي "بخواطر" أمور دنيوية تخطر على قلبه، فتشغله عما تلاه، "وأذكار" "بذال معجمة، جمع ذكر، بالكسر والضم"، أحاديث قلبية، فيساوي نسخة، وافكار "بالفاء" "من أمور الدنيا" بيان لهما ِ"للتالي" صفة الخواطر، وأذكار، أي: كائنة وعارضة، أو متعلق بأشغال "حتى يدخل" الشيطان "عليه الوهم"، بفهم غير المراد من المتلو "والنسيان" الواو بمعنى، أو "فيما تلاه" بناءً على جواز ذلك على الأنبياء، أما على الأصح من منعه، فيقال: حتى يدخل على إفهام السامعين، "أو يدخل" غير ذلك" الوهم والنسيان "على أفهام السامعين" وبين الغير، بقوله: "من التحريف" لما تلاه عليهم، "وسوء التأويل" الناشئ عن تحريف ما سمعوه، "ما يزيله الله" مفعول إلقاء، "وينسخه" يحوله من الباطل إلى الحق، "ويكشف لبسه": يزيله ويبينه، "ويحكم آياته": يحققها ويظهرها، "قاله القاضي عياض" في الشفاء.
وقد تقدم في المقصد الأول مزيد لذلك" بفرائد نفيسة، "قال في الشفاء" بعد هذا بقليل "وأما قوله عليه الصلاة والسلام حين نام عن الصلاة يوم الوادي"، لما عاد من خيبر أو من الحديبية أو بطريق تبوك روايات.(9/35)
إن كان بمقتضى ظاهرة فقد بين عليه السلام بأمر ذلك الشيطان بقوله: إن الشيطان أتى بلالًا، فلم يزل يهديه كما يهدي الصبي حتى نام، فاعلم أن تسلط الشيطان في ذلك الوادي إنما كان على بلال الموكل بكلاءة الفجر، هذا إن جعلنا قوله "إن
__________
وقد اختلف: هل كان النوم مرة أو مرتين، ورجحه عياض وتبعه النووي، ومر هذا مبسوطًا في خيبر وغيرها، "إن هذا واد به شيطان" لفظ الموطأ، ولمسلم: أن هذا منزل حضرنا فيه الشيطان "فليس فيه" صريحًا "ذكر تسلط عليه" إذ لا يقدر على قرب سرادق حمايته وعصمته "ولا وسوسته له" لعصمته ونزاهته عن مثله، "بل إن كان" ذكر في الحديث مايوهم تسلطه عليه "بمقتضى ظاهره" قبل التأمل فيه، فهو انتقال عن لفظ "صريحًا" المقدر، فكأنه قيل: سلمنا أنه ليس صريحًان فهو ظاهر في ذلك، والشبهة يكتفي إيرادها بمقتضى الظاهر، فدفع ذلك بأنه لا يصح الحمل هنا على مقتضى الظاهر، لأنه صلى الله عليه وسلم بين أن ذلك الظاهر ليس بمراد، كما أفاده بقوله: "فقد بين" كشف "عليه السلام أمر ذلك الشيطان" بقوله: فيما رواه ملك عن زيد بن أسلم مرسلًا؛ "إن الشيطان أتى بلالًا" وهو قائم يصلي نفلًا بالسحر، فأضجعه.
وفي حديث أبي قتادة في الصحيحين: سرنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة، فقال بعض القوم: يا رسول الله لو عرست بنا، فقال: أخاف أن تناموا عن الصلاة، فقال بلال: أنا أوقظكم، ونام رسول الله وأصحابه.
وفي مسلم: فصلى بلال ما قدر له، ثم استند إلى راحلته وهو مقابل الفجر، فغلبته عيناه.
وفي حديث زيد بن أسلم، ووكل بلالًا أن يوقظهم للصلاة، فرقد بالل ورقدوا "فلم يزل يهديه" بضم التحتية، وسكون الهاء، وكسر الدال مخففة وياء ساكنة.
قال ابن عبد البر: أهل الحديث يرون هذه اللفظة بلا همز، واصلها عند أهل اللغة الهمز، وقال في المطالع: هو بالهمز، أي: يسكنه وينومه من هدأت الصبي غذا وضعت يدك عليه لينام، ورواه المهلب بلا همز على التسهيل، ويقال أيضًا: يهدنه بنون، وروى يهدهده من هدهدت الأم ولدها لينام، أي: حركته "كما يهدي الصبي" الصغير في مهده "حتى نام" بالل، وفي هذا تأنيس لبلال واعتذار عنه، وأنه ليس باختياره، "فأعلم" النبي صلى الله عليه وسلم الناس بهذا القول؛ "أن تسلط الشيطان في ذلك الوادي إنما كان على بلال الموكل بكلاءة" "بكسر الكاف وفتح اللام والمد والهمز" أي: بحراسة "الفجر"، وقد تبدل همزته، كما في النهاية وغيرها، وفي لغة "بفتح الكاف واللا" والقصر، وضمن معنى المراقبة، أي: مراقبة طلوع الفجر ليوقظهم.
وقيل المراد كلاءة صلاة الفجر بتقدير مضافولهوجه وجيه، "هذا" المذكور أن ظاهره تسلط الشيطان، وصرفه إلى بلال "إن جعلنا قوله: إن ذها وادٍ به شيطان تنبيهًا" مفعول له(9/36)
هذا وادٍ به شيطان"، تنبيهًا على سبب النوم عن الصلاة، وأما إن جعلناه تنبيهًا على سبب الرحيل عن الوادي وعلة لترك الصلاة به، وهو دليل مساق حديث زيد بن أسلم فلا اعتراض به في هذا الباب، لبيانه وارتفاع إشكاله.
قال عياض: وأما قوله تعالى: {عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى} [عبس: 1-2] ، الآيات، فليس فيها إثبات ذنب له عليه الصلاة والسلام. بل إعام الله تعالى له بأن ذلك المتصدي له ممن لا يتزكى، وأن الصواب والأولى كان لو كشف له
__________
"على سبب النوم عن الصلاة"، وهو تنويم الموكل بحراسة الوقت.
"وأما أن جعلناه تنبيهًا على سبب الرحيل عن الوادي وعلة لترك الصلاة به" مع أن الأصل في قضاء الفائته بعذر المبادرة بفعلها، وقد أمرهم بالارتحال، "وهو دليل" أي: مدلول، أي: ما يستفاد من "مساق" "بفتح الميم"، مصدر بمعنى سياق، كما في النسيم، أو بمعنى سوق، كما في الأنوار.
"حديث زيد بن أسلم" في الموطأ، قال: عرس صلى الله عليه وسلم ليلة بطريق مكة، ووكل بلالًا أن يوقظهم للصلاة، فرقد بلال، ورقدوا حتى استيقظوا، وقد طلعت عليهم الشمس، فاستيقظ القوم وقد فزعوا، فأمرهم صلى الله عليه وسلم أن يركبوا حتى يخرجوا من ذلك الوادي، وقال: إن هذا وادٍ به شيطان، فركبوا حتى خرجوا من ذلك الواد، ثم أمرهم أن ينزلوا ويتوضئوا، أمر بلالًا أن يؤذن بالصلاة ألأو فيقيم، فصلى بالناس الحديث.
وعلى ما يفيده سيقاه هذا "فلا اعتراض به في هذا الباب" المعقود في أن الشيطان لا تسطل له على الأنبياء "لبيانه" أي: حديث زيد ووضوح دلالته على ما ذكر "وارتفاع إشكاله" أي: زواله أصلًا، حتى استغنى عن الجواب لعدم احتماله ما يخالفه، "قال عياض" بعد هذا بكثير وأما قوله تعالى: {عَبَسَ} كلح وجهه، {وَتَوَلَّى} أعرض عنه {أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى} الآيات التي أخرها {فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى} التي استدل بها مجوزوا الصغائر على الأنبياء لما شعر به ظاهرها من وقوع شيء عوتب عليه، "فليس فيها إثبات ذنب له عليه الصلاة والسلام", ولا تجويزه عليه "بل إعلام الله تعالى له" صلى الله عليه وسلم "بأن ذلك المتصدي" اسم مفعول نائبه "له"، أي: أقبل عليه وتوجه له، واصله مقابلة الشيء كما يقابله الصدى، وهو الصوت الراجح إليه من جبل ونحوه، كما قاله الراغب، وفي التعبير به نكتة، وهي أن كلام هؤلاء لا عبرة به، كما قال المتنبئ: أنا الطائر المحكي وغيري هو الصدى "ممن لا يتزكى" أي: لا يسلم، فيطهر من دنس الشرك، أي: باعتبار ما في نفس الأمر أو قرائن الأحوال الدالة على فرط عناده وبعده عن الحق، ويدل للأول قوله: أعلام الله، وقوله: "وأن الصواب والأولى كان لو كشف له(9/37)
حال الرجلين لاختار الاقبال على الأعمى وفعل النبي صلى الله عليه وسلم لما فعل وتصديه لذلك الكافر كان طاة لله، وتبليغًا عنه، واستئلافًا له، كما شرعه الله له، لا معصية ولا مخالفة له، وما قصد الله تعالى عليه من ذلك إعلام بحال الرجلين، وتوهين أمر الكافر عنده، والإشارة إلى الإعراض عنه بقوله {وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى} [عبس:
__________
حال الرجلين" ابن أم مكتوم، ومن كان عنده من المشركين، واقتصر على الأقل، وإلا فالكفرة كانوا جماعة، أو المتكلم معه منهم واحد، وحالهما عدم تزكي الكافر وانتفاع الاعمى، "لاختار الإقبال على الأعمى" دون غيره.
روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس أن أبن أم مكتوم أتى النبي صلى الله عليه وسلم وعنده صناديد قريش يدعوهم إلى الإسلام، فقال: يا رسول الله علمني مما علمك الله، وكرر ذلك، ولم يعلم تشاغله بالقوم فكره صلى الله عليه وسلم قطعه لكلامه وعبس وأعرض عنه، فنزلت، وأخرج الترمذي والحاكم، عن عائشة قالت: أنزل {عَبَسَ وَتَوَلَّى} الآية، في ابن أم مكتوم الأعمى، أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل يقول: يا رسول الله أرشدني، وعند رسول الله رجل من عظماء المشركين، فجعل يعرض عنه ويقبل على الآخر، فيقول: أترى بما أقول: بأسًا، فيقول: لا، فنزلت {عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى} .
وروى أبو يعلى مثله عن أنس، وفي ابن عطية، قيل: الجرل الوليد بن المغيرة، وقيل: عتبة وقيل: شيبة، وقيل: العباس، وقيل: أمية، وقيل: أبي بن خلف، وقال ابن عباس: كان في جمع منهم عتبة والعباس، وأبو جهل. انتهى.
وعلى أن العباس فيهم لا ينافي أنه تزكى، لأن المعنى لا يتزكى في وقت الإعراض عن الأعمى، وإنما تزكى العباس بعد بكثير "وفعل النبي صلى الله عليه وسلم لما "بكسر اللام التخفيف، أو فتحها والتشديد"، "فعل" من العبوس والإعراض، "وتصديه لذلك الكافر كان طاعة لله وتبليغًا عنه" فهو فعل حسن وأمر لازم له، "واستئلافًا" استمالة "له" للكافر رجاء إسلامه" كما شرعه الله له" وفرصه بالتبليغ ولين الجانب لمن يدعوه {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} "لا معطية ولا مخالفة له"، أي: لما شرعه، وذكر هذا بعد قوله أولًا، فليس فيه إثبات ذنب تنبيهًا على أنه ليس مباحًا فقط، بل طاعة واجبة، "وما قصة الله تعالى عليه من ذلك إعلام بحال الرجلين وتوهين" بالرفع عطف على أعلام أي: تضعيف "أمر الكافر عنه" وأنه لا قدر له يعتد به، "والإشارة إلى الأعاض عنه، بقوله: {وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى} [عبس: 7] ، وفي إلقاء الكلام له بدون الخطاب إكرام له صلى الله عليه وسلم عن أن يواجه بالعتب، لا مبالغة في العتب(9/38)
7] ، أي ليس عليك بأس في أن لا يتزكى بالإسلام، أي لا يبلغن بك الحرص على إسلامهم أن تعرض عمن أسلم بالاشتغال بدعوتهم، إن عليك إلا البلاغ.
وقد كان ابن مكتوم يستحق التأديب والزجر، لأنه -وإن فقد بصره- كان يسمع مخاطبة الرسول صلى الله عليه وسلم لأولئك الكفار، وكان يعرف بواسطة استماع تلك الكلمات شدة اهتمامه عليه السلام بشأنهم، فكان إقدامه على قطع كلامه عليه السلام بعد سماعه إيذاء له عليه السلام وذلك معصية عظيمة. فثبت أن فعل ابن أم مكتوم كان ذنبًا ومعصية وأن الذي فعله الرسول صلى الله عليه وسلم كان هو الواجب المتعين، وقد كان عليه الصلاة والسلام مأذونًا له في تأديب أصحابه، لكن ابن أم مكتوم بسبب عماه
__________
لأن فيه بعض أعراض، كما زعم ابن عطية "أي: ليس عليك بأس في أن لا يتزكى بالإسلام، أي: لا يبلغن بك الحرص على إسلامهم" لأنه كان شديد الحرص على إسلام قريش وأسماعهم، لما جبله الله عليه من الرأفة والرحمة، "أن تعرض عمن أسلم بالاشتغال بدعوتهم" إلى الإسلام "أن" ما "عليك إلا البلاغ" وقد فعلت، وأما قوله: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى} فضميره لابن أم مكتوم.
وقيل للكافر، أي: إذا طمعت في أن يزكى بالإسلام أو يذكر فتنفعه، أي: تفر به الذكرىإلى قبول الحق، وما يدريك أن ما طمعت فيه كائن، ورجح الأول بأن ما في القرآن من يدريك، فهو مما أعلمه الله به وما فيه من إدراك مما لم يعلمه به وأيضًا فالكافر لم يسبق له ذكر صريح.
زاد عياض: وقيل: المراد {عَبَسَ وَتَوَلَّى} الكافر الذي كان مع النبي صلى الله عليه وسلم قاله أبو تمام، انتهى.
وتعقب بأنه قول في غاية الضعف، بعيد من السياق، مخالف لقول المفسرين، أنه النبي صلى الله عليه سلم وزاد المصنف على الشفاء قوله: "وقد كان ابن أم مكتوم يستحق التأديب والزجر" بحسب ظاهر الحال، إذ في قطع كلامه إيذاء له، "لأنه وإن فقد بصره كان يسمع مخاطبة الرسول صلى الله عليه وسلم شدة اهتمامه عليه السلام بشأنهم، فكان إقدامه على قطع كلامه عليه السلام بعد سماعه إيذاءً له عليه السلام، وذلك معصية عظيمة" واعتذر عنه بأنه شدة حرصه على طلب ما ينفعه من النبي صلى الله عليه وسلم واشتغاله به صرفه عن معرفة أنه كان مشغولًا بتأليف الكفار، "فثبت أن فعل ابن أم مكتوم كان ذنبًا ومعصية، وأن الذي فعله الرسول صلى الله عليه وسلم كان هو الواجب المتعين" إذ هو مأمور بالإبلاغ والدعوة برفق، "وقد كان عليه الصلاة والسلام مأذونًا له في تأديب(9/39)
استحق مزيد الرفق به.
وأما قوله تعالى: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} [التوبة: 43] الآية.
فروى ابن أبي حاتم عن مسعر عن عون قال: هل سمعتم بمعاتبة أحسن من هذا؟ بدأ بالعفو قبل المعاتبة، وكذا قال مورق العجلي وغيره.
وقال قتادة: عاتبه الله كما تسمعون ثم أنزل الذي في سورة النور، فرخص له في أن يأذن لهم إنشاء فقال تعالى: {فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ} [النور: 62] ، ففوض الأمر إلى رأيه عليه الصلاة والسلام.
__________
أصحابه، لكن ابن أم مكتوم بسبب عماه استحق مزيد الرفق به" فذكره الله في كتابه بلفظ الأعمى، وأنه جاءه يسعى، أي: يمشي مع عجزه إلى إشارة لذلك، وللصفح عنه، وذكر من فضله أنه يخشى: أي: الله تعالى، وأنه يزكى أو يذكر فتنفعه الذكرى.
وروى أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا رآه بعد ذلك، قال: مرحبًا بمن عاتبني فيه ربي، وبسط له رداءه، واستخلفه على المدينة مرارًا، قال أنس: رأيته يوم القادسية ومعه راية سوداء، وعليه درع، قيل: استشهد بها، وقيل: بل شهدها ورجع، فمات بالمدينة، ولم يسمع له بذكر بعد عمر، ومر بعض شيء من مناقبه في غير موضع رضي الله عنه.
وأما قوله تعالى: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} [التوبة: 43] ، في التخلف عن الغزو الآية، فروى ابن أبي حاتم مسعر" "بكسر الميم وسكون السين، وفتح العين المهملتين"، "عن عون" "بالنون" ابن عبد الله بن عتبة بن مسعود الهذلي الكوفي، الزاهد، الفقيه، الثقة، المتوفى في حدود الستين عد المائة: "قال: هل سمعتم بمعاتبة أحسن من هذا، بدأ بالعفو قبل المعاتبة" الصورية لما يأتي أن الخطاب به يدل على التعظيم، ثم لا ينافيه قوله الآتي: لم يعد هذا أهل العلم معاتبة، لأنهم لما رأوه في غاية الملاطفة ولم يظهر منه لوم لم يعدوه معاتب، لأن شأنها أن تكون على جهه لوم من المعاتب، ولذا قال: لم يعدوه ولم ينسب إليهم، نفي المعاتبة من أصلها.
"وكذا قال مورق" "بضم الميم وفتح الواو وكسر الراء الثقيلة وقاف" "العجلي" أبو المعتمر البصري، تابعي، ثقة، عابد، مات سنة اثنتين ومائة نسبة إلى عجل بن بكر بن وائل "وغيره".
"وقال قتادة: عاتبه الله تعالى كما تسمعون" في براءة "ثم أنزل الذي في سورة النورن فرخص له في أن يأذن لهم إن شاء، فقال تعالى: {فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ} أمرهم، {فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ} [النور: 62] بالانصراف، "ففوض الأمر إلى رأيه عليه الصلاة(9/40)
وقال عمرو بن ميمون: اثنتان فعلهما النبي صلى الله عليه وسلم لم يؤمر فيهما بشيء: إذنه للمنافقين وأخذه الفداء من الأسرى، فعاتبه الله كما تسعمون. وأما قول بعضهم إن هذه الآية تدل على أنه وقع من الرسول ذنب لأنه تعالى قال: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} والعفو يستدعي سالفة ذنب، وقول الآخر: {لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} استفهام بمعنى الإنكار، فاعلم أنا لا نسلم أن قوله تعالى: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ} يوجب ذنبًا، ولم لا يقال إن ذلك يدل على مبالغة الله تعالى في توقيره وتعظيمه، كما يقول الرجل لغيره، إذا كان عظيمًا عنده: عفا الله عنك، ما صنعت في أمري، ورضي الله عنك ما جوابك عن كلامي، وعافاك الله ألا عرفت حقي، فلا يكون غرضه من هذا الكلام إلا زيادة التعظيم والتبجيل، وليس عفا هنا بمعنى: غفر، بل كما قال هذا الكلام إلا زيادة التعظيم والتبجيل، وليس عفا هنا بمعنى: غفر، بل كما قال صلى الله عليه وسلم: "عفا الله عنك عن صدقة الخيل والرقيق" ولم تجب عليهم قط، أي لم
__________
والسلام" لكن إنما يتم هذا إن كان التفويض سابقا على الإذن، أما إن كان بعده، كما يشعر به تعبيره بثم، فلا يظهر ذلك.
"وقال عمرو": بفتح العين "ابن ميمون" بن مهران الجزري، ثقة، فاضل، من رواة الجماعة، مات سنة سبع وأربعين ومائة، "اثنتان فعلهما النبي صلى الله عليه وسلم، لم يؤمر فيهما بشيء" أي: لم يبين له فيهما شيء، لا يطلب فعل ولا ترك "إذنه للمنافقين" في التخلف عن الغزو، "وأخذه الفداء من الاسرى" ببدر، "فعاتبه الله كما تسمعون" في القرآن.
"وأما قول بعضهم: إن هذه الآية تدل على أنه وقع من الرسول ذنب، لأنه تعالى قال: {عفا الله عنك لم أذنت لهم} والعفو يستدعي سالفة" بلام وفاء، أي: سابقة "ذنب".
هذا قول من يجهل لغة العرب، كما يأتي: "وقول الآخر" ممن يجوز الصغائر عليهم، قوله تعالى: {لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} استفهم بمعنى الإنكار، والإنكار يقتضي ذلك "فاعلم أنا لا نسلم أن قوله تعالى: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ} يوجب ذنبًا، إذ لم يتقدم فيه نهى من الله حتى يكون ذنبًا، ولا عده الله عليه معصية، ولفظ عفا لا يقتضي ذلك ولا يستلزمه، "ولم لا يقال أن ذلك يدل على مبالغة الله تعالى في توقيره وتعظيمه" تفسير "كما يقول الرجل لغيره إذا كان عظيمًا عنده عفا الله عنك ما صنعت في أمري" آتيًا بالعفو قبل الاستفهام، حتى لا يبدأ به خطابه تعظيمًا، "ورضي الله عنك، ما جوابك عن كلامي، وعافاك الله ألا" "بفتح الهمزة أداة استفتاح" "عرفت حقي فلا يكون غرضه من هذا الكلام إلا زيادة التعظيم والتبجيل" تحاشيًا عن جعل الاستفهام أول كلامه للمعظم، عنده "وليس عفا هنا" في الآية" "بمعنى غفر" أي: ستر، وترك المؤاخذة "بل" بمعنى لم يلزمك شيئًا في الإذن، "كما قال صلى الله عليه وسلم: عفا الله لكم عن صدقه(9/41)
يلزمكم ذلك.
ونحوه للقشيري قال: وإنما يقول العفو لا يكون إلا عن ذنب من لا يعرف كلام العرب، قال: ومعنى عفا الله عنك أي لم يلزمك ذنبًا.
وأما الجواب عن الثاني فيقال: إما أن يكون صدر من الرسول صلى الله عليه وسلم ذنب أم لا؟ فإن قلنا: امتنع على هذا التقدير أن يكون قوله: {لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} إنكارًا عليه، وإن قلنا إنه صدر عنه ذنب - وحاشاه الله من ذلك- فقوله: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ} يدل على حصول العفو، وبعد حصول العفو يستحيل أن يتوجه الإنكار عليه، فثبت أنه على جميع التقادير يمتنع أن يقال: إن قوله: {لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} يدل على كون
__________
الخيل والرقيق، ولم تجب عليهم" زكاة في خيل ورقيق "قط، أي: لم يلزمكم ذلك" فليس معناه إسقاط ما كان واجبًا ولا ترك عقوبة هنا.
وهذا الحديث رواه أبو داود والترمذي والنسائي عن علي، مرفوعًا بلفظ: قد عفوت لكم عن زكاة الخيل والرقيق، فهاتوا صدقة الرقة.. الحديث بطوله، فنازع بعضهم عياضًا، متبوع المصنف، بأنه لم يقف عليه بلفظ عفا الله لكم، وتعقب بأن عياضًا من الحفاظ، وقف عليه، ومثله لا يقرع له العصا، "ونحوه" أي: ما ذكره "للقشيري" بلفظه من قوله: وليس عفا، وبمعناه من أول قوله: فاعلم، ولفظه عند عياض؛ ومعنى {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ} ، لم يلزمك ذنبًا.
قال الداودي:
روي أنها تكرمة، وقال مكي: هو استفتاح كلا مثل أصلحك الله وأعزك، وحكى السمرقندي، أن معناه عافاك الله.
قال القشيري: "وإنما يقول العفو لا يكون إلا عن ذنب من لا يعرف كلام العرب"، فيقف على معانيه الواردة في لغتهم، كعدم اللزوم الوارد في كلام أفصح العرب، وأصل معنى العفو الترك، وعليه تدور معانيه، "ومعنى عفا الله عنك، أي: لم يلزمك ذنبًا، وأما الجواب عن الثاني، فيقال" على طريق المنزل مع الخصم "إما أن يكون صدر من الرسول صلى الله عليه وسلم ذنب أم لا؟ فإن قلنا: أمتنع على هذا التقدير أن يكون قوله: لم أذنت لهم إنكارًا عليه" إذ من لم يذنب لا ينكر عليه فعله، "وإذن قلنا أنه صدر عنه ذنب، وحاشاه الله من ذلك" أي: نزهة، فقوله: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ} يدل على حصول العفو وبعد حصول الفعو، يستحيل أن يتوجه الإنكار عليه، إذ بعد العفو كأنه لم يقع منه "فثبت أنه على جميع المقادير" أي: التقديرين المذكورين بناءً على أن الجمع ما زاد على الواحد، "يمتنع أن يقال: إن قوله: {لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} .(9/42)
الرسول مذنبًا، وهذا جواب شاف كافٍ قاطع، وعند هذا يحمل قوله لم أذنت لهمعلى ترك الاولى والأكمل، بل لم يعد هذا أهل العلم معاتبة، وغلطوا من ذهب إلى ذلك قال نفطويه: ذهب ناس إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم معاتب بهذه الآية، وحاشاه من ذلك، بل كان مخيرًا، فلما أذن لهم اعلمه الله أنه لو لم يأذن لهم لقعدوا لنفاقهم، وأنه لا حرج عليه في الإذن لهم.
__________
يدل على كون الرسول مذنبًا" كما ادعى ذلك البعض.
"وهذا جوا شافٍ" من هذا الداء العضال، وهو نسبة ذنب إلى أفضل الخلق، "كافٍ" في دفع شبهة الخصم، "قاطع" لها أصلًا لما فيه من التنزل معه، "وعند هذا يحمل قوله: لم أذنت لهم على ترك الأولى، والأكمل" فقط لا على الإنكار، "بل لم يعد هذا أهل العلم" أي: أحد منهم "معاتبة" بفعل خلاف الأولى، "ولغطوا من ذهب إلى ذلك" من المفسرين، "فقال نفطويه": "بنون ففاء فطاء مضمومة فواو ساكنة، فياء مفتوحة عند أصحاب الحديث، لأنهم لا يحبون، وبه وعند الأدباء "بفتح الطاء والواو وسكون الياء" وهو لقب لإبراهيم بن محمد الأزدي، النحوي، لدناءة منظرة، مات سنة ثلاث وعشرين وقيل: أربع وعشرين، وثلاثمائة، "ذهب ناس إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم معاتب بهذه الآية، وحاشاه" الله "من ذلك" أي: برأه ونزهه وأصل معناه جعله في حشي، أي: جانب "بل كان مخيرًا" في الإذن وتركه، وقد كن له أن يفعل ما شاء فيما لم ينزل فيه شيء، فكيف، وقد قال الله تعالى له: {فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ} هكذا في كلام نفطويه، أي: فتعليق الأمر بالمشيئة صريح في أنه مخير "فلما أذن لهم أعلمه الله" بما لم يطلع عليه، "أنه لو لم يأذن لهم لقعدوا" ولو أمروا بخلاف القعود "لنفاقهم" وهم يدعون بالاستئذان أنه لو لم يأذن ما تخلفوا، فإذا ظهر كذبهم وانكشف مغطاهم لزم شق العصا وما يترتب عليه، فكان ما فعله أولى وأصوب، "و" أعلمه "أنه لا حرج" لا وزر ولا إثم "عليه في الإذن لهم" بقوله: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ} حيث لم يلزمك أن لا تأذن حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين، أي: لو صبرت لتبين لك أمرهم، فهو إشارة إلى كمال الرفق به صلى الله عليه وسلم، وأنه لم يقع منه تقصير يقتضي العتاب، ولا خطأ في الاجتهاد، ولا ارتكاب خلاف الأولى، وما أحلى قول ابن المنير في تفسيره {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ} [التوبة: 43] ، دعامة في الكلام، يقصد بها ملاطفة المخاطب، وهو عادة العرب في التلطف بتقديم الدعاء لاستدعاء الإصغاء أو خير معناه لا عهدة عليك، فهو تخصيص وتمييز، لا أن الإذن ذنب يتعلق به العفو، لأن في تحمله ومسامحته لهم مع أذاهم حملًا للمشقة على نفسه، وإسقاطًا للجظوظ، فهو عتب عليه بلطف لا ملامة فيه، أي: قد بلغت في الامتثال والاحتمال الغاية، وزدت ما أجحف بك في محبة الله وطاعته، والرفق بالبر(9/43)
وأما قوله تعالى في أسارى بدر {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ} إلى قوله: {عَظِيمٌ} [الأنفال: 67-68] .
فروى مسلم من إفراده من حديث عمر بن الخطاب قال: لما هزم الله المشركين يوم بدر، وقتل منهم سبعون وأسر سبعون، استشار النبي صلى الله عليه وسلم أباب بكر وعمر وعليًا، فقال أبو بكر: يا نبي الله، هؤلاء بنو العم والعشيرة والإخوان، وإني أرى أن تأخذ منهم الفدية، فيكون ما أخذناه منهم قوة لنا على الكفار وعسى أن يهديهم الله فيكونوا لنا عضدًا. فقال صلى الله عليه وسلم: ما ترى يا ابن الخطاب؟ قال: قلت
__________
والفاجر، وأين هذا من التخطئة التي بزغ بها الزمخشري، عرق العجمة لإساءة الادب على المصطفى، وأراد بعضهمأن يصلح، فأفسد، فقال: بدأ بالعفو قبل العتب، ولو عكس انقطع نياط قلبه، وكله ذهول عن عتب الحبيب في خيفه على نفسه، وهو تخفيف لا تعنيف، ومدح لا قدح، وهذا كما قيل له إذ جهد وجد في العبادة {مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لِتَشْقَى} ، {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ} .
"وأما قوله تعالى في أسارى بدر" {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ} "بالتاء والياء" {لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا} حطامها بأخذ الفداء {وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ} [الأنفال: 67] أي: ثوابه بالقتل إلى قوله: {عَظِيمٌ} فروى مسلم في إفراده" عن البخاري فهو من الثالثة من مراتب الصحيح "من حديث عمر بن الخطاب، قال: لما هزم الله المشركين يوم بدر، وقتل منهم سبعون، وأسر سبعون" مثله في حديث البراء عند البخاري، وابن عباس عند مسلم، ووافقهم آخرون، وبه جزم ابن هشام محتجًا له، بقوله: قد أصبتم مثليها لاتفاق علماء التفسير، على أن الخطاب لأهل أحد، وإصابتهم مثليها يوم بدر، وإن اتفق أهل السير على أن القتلى خمسون، يزيدون قليلًا أو ينقصون، وعدهم ابن إسحاق خمسين.
زاد الواقدي: ثلاثة أو أربعة، وابن هشام زيادة على ستين، لأنه لا يلزم من عدم معرفة أسماء من قتل على التعيين، أن يكونوا جميع القتلى "استشار النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر وعمر، وعليًا".
وفي رواية أحمد، عن أنس، فقال: إن الله قد مكنكم منهم، وإنما هم إخوانكم بالأمس، "فقال أبو بكر: يا نبي الله هؤلاء بنو العم، والعشيرة والإخوان، وإني أرى أن تأخذ منهم الفدية، فيكون ما أخذناه منهم قوة" أي: مقويًا "لنا على الكفار، وعسى أن يهديهم الله" للإسلام" فيكونوا لنا عضدًا": ناصرين، فحاصله أنه رأى عدم القتل استبقاء للقرابة، ولرجاء إسلامهم مع أخذ الفدية، مراعاة للجيش ليقووا على الكفار "فقال صلى الله عليه وسلم: ما ترى يا ابن(9/44)
والله ما أرى ما رأى أبو بكر، ولكني أرى أن تمكنني من فلان قريب لعمر فأضرب عنقه، وتمكن عليًا من عقيل فيضرب عنقه، وتمكن حمزة من فلان أخيه فيضرب عنقه، حتى يعلم الله أنه ليس في قلوبنا هوادة للمشركين، فهوي ما هوى أبو بكر ولم يهو ما قلت، فأخذ منهم الفداء، فلما كان من الغد غدوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإذ هو قاعد وأبو بكر الصديق وهما يبكيان فقلت يا رسول الله أخبرني ماذا يبكيك أنت وصاحبك فإن وجدت بكاء بكيت وإن لم أجد تباكيت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أبكِ للذي عرض على أصحابك من الفداء، لقد عرض علي عذابكم أدنى من هذه الشجرة، لشجرة قريبة فأنز الله تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} إلى قوله: {عَظِيمٌ} .
__________
الخطاب، قال: قلت والله ما أرى ما رأى أبو بكر، ولكن أرى أن تمكنني من فلان، قريب لعمر، فأضرب عنقه، وتمكن عليًا من عقيل": أخيه، شقيقه، "فيضرب عنقه، وتمكن حمزة من فلان أخيه": يعني العباس: "فيضرب عنقه" أي: يقتله "حتى يعلم الله أنه ليس في قلوبنا هوادة" "بفتح الهاء والواو فألففدال مهملة فهاء"، ميل ورجوع "للمشركين".
زاد في راوية: هؤلاء أئمة الكفر وصناديد قريش وأئمتهم وقادتهم، فأضرب أعناقهم، ما أرى أن تكون لك أسرى، فإنما نحن رعايا مؤلفون "فهوى" "بكسر الواو"، أحب "ما هوى أبو بكر، ولم يهو ما قلت" لماجبل عليه من الرأفة والرحمة في حال إيذائهم له، فكيف في حال قدرته عليهم، ولم يذكر أيًا عن علي، لأنه لم يظهر له مصلحة حتى يذكرها، أو لأنه لما رأى أن المصطفى هوى قول أبي بكر، رآه أنه الصواب، فسكت عليه، "فأخذ منهم الفداء، فلما كان من الغد غدوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإذا هو قاعد وأبو بكر الصديق، وهما يبكيان، فقلت: يا رسول الله أخبرني ماذا يبكيك أنت وصاحبك؟ " لأن عمر ما تغير رأيه "فإن وجدت بكاء" أي: سببًا له، بحيث تطاوعني عيني في نزول الدمفع "بكيت، وإن لم أجد بكاء تباكيت"، أي: تشبهت بالباكين موافقة لكما، وإن لم يسل دمع، "فقال النبي صلى الله عليهوسلم: أبك للذي عرض"، أي: أظهر لي، يقال: عرض له أمر إذا ظهر "أدنى" أقرب "من هذه الشجرة لجشرة قريبة منه فأنزل الله تعالى".
وفي حديث ابن مسعود عند أحمد والترمذي: فنزل القرآن بقول عمر: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} إلى قوله: {عَظِيمٌ} .
وفي حديث أنس عند أحمد فأنزل الله {لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ(9/45)
وقوله: {حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} : أي يكثر القتل ويبالغ فيه حتى يذل الكفر ويقل حزبه، ويعز الغسلام ويستولي أهله.
وليس في هذا إلزام ذنب للنبي صلى الله عليه وسلم بل فيه بيان ما خص به وفضل من بين سائر الأنبياء عليه الصلاة والسلام فكأنه عز وجل قال: ما كان هذا لنبي غيرك كما قال عليه الصلاة والسلام: "أحلت لي الغنائم ولم تحل لنبي قبلي".
وأما قوله تعالى: {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا} فقيل المراد بالخطاب من أراد
__________
عَذَابٌ عَظِيمٌ، فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} فقالك صلى الله عليه وسلم: إن كان ليمسنا في خلاف ابن الخطاب عذاب عظيم، ولو نزل العذاب ما أفلت منه إلا ابن الخطاب، وقوله: {حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} أيك يكثر القتل ويبالغ فيه، حتى يذل الكفر ويقل حزبه، ويعز الإسلام ويستولي أهله" على البلاد ويل: معنى يثخن: يتمكن في الأرضن وما كان نفي للكون، وجاء بمعنى لا يليق ولا ينبغي أن يأتي به، وبه سر المستدل بالآية على الصغائر وقد رده، بقوله: "وليس في هذا إلزام ذنب للنبي صلى الله عليه وسلم، بل فيه بيان ما خص به" إكرامًا له، "وفضل به من بين سائر" باقي"الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فكأنه عز وجل، قال: ما كان هذا؟ " أي: لم يقع "لنبي غيرك، كما قال عليه الصلاة والسلام: أحلت لي الغنائم".
وفي رواية المغانم: "ولم تحل لنبي قبلي"، قيل: ليس في الآية دليل على ما قال المصنف، بخلاف الحديث، ورد بأن الفداء في معنى الغنائم، لأنه مال مأخوذ من الكفرة، فذكرل الحديث إشارة إلى أنه يؤيد هذا التأويل، وفي المسائل الأربعين للرازي، العتاب وقع هنا على ترك الأولى، لأن الأفضل في ذلك الوقت الإثخان وترك الفداء قطعًا للأطماع، ولوا أنه خلاف الأولى، ما فوضه صلى الله عليه وسلم لأصحابه، وفي حواشيه للقرافي الصواب إنه فوض الاجتهاد في أمر الاسرى له، ففوضه لأصحابه، فرأى عمر القتل، وكان هو المصلحة، وهو من إحدى موافقاته، واجتهاد الصحابة لم يؤد للمصلحة، فخلص عمر ولم يؤاخذ النبي صلى الله عليه وسلم لبذل جهده في اجتهاده، فله الأجر.
ولذا قال: عرض علي عذابكم دون عذابي، لخروجه عن موجبه ببذل جهده وإلى هذا ذهب فحول العلماء جمعًا بين ظاهر الاية وما يجب لمقامه صلى الله عليه وسلم من العصمة، وأما قوله تعالى: {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ} "فقيل" في الجواب: "المراد بالخطاب من أراد ذلك منهم" أي: الصحابة: "وتجرد": خلص(9/46)
ذلك منهم وتجرد غرضه لعرض الدنيا وحده، والاستكثار منها، وليس المراد بهذا النبي صلى الله عليه وسلم ولا عليه أصحابه.
بل قد روي عن الضحاك أنها نزلت حين انهزم المشركون يوم بدر واشتغل الناس بالسلب وجمع الغنائم عن القتال حتى خشي عمر أن يعطف عليهم العدو.
ثم قال تعالى: {لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ} فاختلف المفسرون في معنى هذه الآية:
فقيل معناه: لولا أنه سبق مني أن لا أعذب أحدًا إلا بعد النهي لعذبتكم، فهذا ينفي أن يكون أمر الأسرى معصية.
وقيل: لولا إيمانكم بالقرآن وهو الكتاب السابق، فاستوجبتم به الصفح لعوقبتم على الغنائم.
__________
وتمحض "غرضه" بمعجمتين، أي: قصده "لعرض" بمهملة "الدنيا وحده"، أي: منفردًا عن قصد ثواب الآخرة، وهو مؤكد لما قبله، "والاستكثار منها" بأخذ ما يناله، "وليس المراد بهذا" الخطاب "النبي صلى الله عليه وسلم" لشرف نفسه عن النظر لها، "ولا عليه" "بكسر العين وإسكان اللام وخفة الياء"، أي: معظم "أصحابه" كأبي بكر، وأن أشار بالفداء، فلرجاء الإسلام والتقوى على الكفار ومراعاة القرابة، كما مر، "بل" إضراب انتقالي.
"قد روى عن الضحاك أنها نزلت حين انهزم المشركون يوم بدر، واشتغل الناس بالسلب" "بفتحتين" ما يسلب، أي: يؤخذ من القتلى من لباس ونحوه، "وجمع الغنائم عن القتال" متعلق باشتغل "حتى خشي عمر أن يعطف" يرجع "عليهم العدو" كارًا، "ثم قال تعالى: {لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ} [الأنفال: 68] ، تقدم على هذه القصة بإحلال الغنائم والاسرى لكم {لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الأنفال: 68] ، "فاختلف المفسرون" في معنى هذه الأية، فإن أردت بيان معناه "فقيل: معناه" كما نقله الطبري عن محمد بن علي بن الحسين "لولا أنه سبق مني أن لا أعذب أحدًا إلا بعد النهي لعذبتكم" على ما أخذت من الفداء، إذ لو كان منهيًا عنه محرمًا لاستحق بمخالفته العذاب، فامراد بالكتاب حكم الله الذي كتبه وقدهر، "فهذا" التفسير "ينفي": يمنع "أن يكون أمر الأسرى" أي: فداؤهم "معصية لعدم النهي عنه.
"وقيل": المعنى "لولا إيمانكم بالقرآن، وهو الكتاب السابق"، المراد في قوله: {لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ} ، "فاستوجبتم به الصفح": عدم المؤاخذة "لعوقبتم على" أخذ(9/47)
وقيل: لولا أنه سبق في اللوح المحفوظ أنها حلال لكم لعوقبتم.
وهذا كله ينفي الذبن والمعصية، لأن من فعل ما أحل له لم يعص، قال الله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا} .
وقيل: بل كان عليه الصلاة والسلام قد خير في ذلك، وقد روي عن علي قال: جاء جبريل عليه السلام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر فقال: خير أصحابك في الأسارى إن شاءوا القتل وإن شاءوا الفداء على أن يقتل منهم في العام المقبل مثلهم فقالوا الفداء ويقتل منا، وهذا دليل على أنهم لم يفعلوا إلا ما أذن لهم فيه.
__________
"الغنائم" وما في حكمها من الفداء.
قال عياض: ويزاد هذا القول تفسيرًا وبيانًا بأن يقال: لولا ما كنتم مؤمنين بالقرآن، وكنتم ممن أحلت لهم الغنائم لعوقبتم كما عوقب من تعدى، أي: تجاوز ما نهى عنه، فالكتاب على هذا القرآن وسبقه تقدمه أزلًا، أو لتقدم ما نزل.
"وقيل: لولا أنه سبق في اللوح المحفوظ" المكتوب فيه جميع ما هو كائن، "إنها" أي: الغنائم "حلال لكم" الانتفاع بها والتصرف فيها، "لعوقبتم"على أخذها، "وهذا كله ينفي الذنب والمعصية، لأن من فعل ما أحل له لم يعص"، فلا دليل فيها على تجويز الصغائر على الأنبياء، وأصرح من ذلك ما قال الله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا} [الأنفعال: 69] ، أي: انتفعوا به لا خصوص الأكل وذكره لكثرته وغلبته واستدل به الأكثر على أن الأمر الوارد بعد الحظر للإباحة.
"وقيل: بل كان عليه الصلاة والسلام قد خير في ذلك" أخذ الفداء والقتل فلما أخذ قيل كان الأولى خلافه، "و" يدل على أنه خير أنه "قد روى" عن الترمذي والنسائي وابن حبان والحكم، بإسناد صحيح، فما كان ينبغي تعبيره.
يروى: "عن علي، قال: جبريل عليه السلام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر" أي: زمنه، "فقال: خير أصحابك في الأسارى أن شاؤا الفداء"فليفدوا "على أن يقتل منهم في العام المقبل" التالي لهذا العام أي: إن الله قدر عليهم إن أخذوا الفدا يقتل من الصحابة "مثلهم" سبعين، "فقالوا": نختار "الفداء، ويقتل منا" مثلهم رغبة في الشهادة.
وعند ابن سعد من مرسل قتادة، فقالوا: بل نفاديهم فنقوى به عليهم، ويدخل القابل منا الجنة سبعون، ففادوهم، "وهذا دليل على أنههم لم يفعلوا إلا ما أذن لهم فيه" فلا ذنب(9/48)
لكن بعضهم مال إلى أضعف الوجين مما كان الأصلح غيره من الإثخان والقتل فعوتبوا على ذلك وبين لهم ضعف اختيارهم وتصويب اختيار غيرهم، فكلهم غير عصاة ولا مذنبين.
وقال القاضي بكر بن العلاء: أخبر الله تعالى نبيه في هذه الآية أن تأويله وافق ما كتب له من إحلال الغنائم والفداء، وقد كان قبل هذا فادي في سرية عبد الله بن جحش التي قتل فيها ابن الحضرمي بالحكم بن كيسان وصاحبه، فما
__________
ولا معصية "لكن بعضهم مال إلى أضعف الوجهين" وهو الفداء باجتهاده، وهو جائز بحضرته عليه الصلاة والسلام "مما كان، الأصلح" للإسلام "غيره من الأثخان والقتل" الذي هو أعز الوجهين بيان لغيره "فعوتبوا على ذلك" أي: اختيار غير الاصلح "وبين لهم ضعف اختيارهم وتصويب اختيار غيرهم" وهو عمر، "فكلهم غير عصاة ولا مذنبين" لأن كلا منهم اختار ما أدى إليه اجتهاده ظانًا أن الخير فيه.
قال عياض: وإلى نحو هذا أشار الطبري، وقوله صلى الله عليه وسلم: لو نزل عذاب من السماء ما نجا منه إلا عمر، غشارة إلى أن هذا من تصويب رأيه، ورأى من أخذ بمأخذه في إعزاز الدين وإظهار كلمته وإبادة عدوه، وأن هذه القصة لو استوجبت عذابًا لنجا عمر، وعينه، لأنه أول من أشار، بقتلهم ولكن الله لم يقدر عليهم ذلك لحله لهم فيما سبق.
وقال الداودي: الخبر بهذا لم يثبت، ولو ثبت لما جاز أن يظن أنه صلى الله عليه وسلم يحكم بما لا نص فيه ولا دليل من نص، ولا جعل الأمر فيه إليه، وقد نزهه الله عن ذلك، هكذا في الشفاء قبل قوله: "وقال القاضي بكر" بن محمد "بن العلاء" بن محمد البصري، ثم المصري، أحد كبار المالكية والمحدثين، له تصانيف جليلة، تقدمت ترجمته، "أخبر الله تعالى نبيه في هذه الأية أن تأويله وافق ما كتب له من إحلال الغنائم والفداء"، وكيف لا يكون الفداء حلالهم قبل ذلك، "وقد كان صلى الله عليه وسلم قبل هذا"، أي: غزوة بدر "فأدى في سرية عبد الله بن جحش" الأسدي، ابن عمته عليه الصلاة والسلام أميمة، أحد السابقين الأولين، استشهد بأحد "التي قتل فيها" عمرو "بن الحضرمي" بسهم رماه به واقد بن عبد الله، وذلك أنه عليه الصلاة والسلام بعث عبد الله في سرية يعترض عبر قريش، فنزلوا بطن نخلة، وقتل ابن الحضرمي، وأسر الحكم وعثمان بن عبد الله "بالحكم بن كيسان" متعلق بفادي لا بقتل، وكان الأولى حذف الباء، وأسره المقداد بن الأسود، فأراد ابن جحش قتله، فقال المقداد: دعه، تقدم به على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأسلم وحسن إسلامه، واستشهد ببئر معونة، "وصاحبه" عثمان بن عبد الله ذهب حين فدى إلى مكة، فمات بها كافرًا، "فما عتب الله ذلك عليهم"، فلو كان ممنوعًا لعتب" "وذلك قبل بدر(9/49)
عبت الله ذلك عليهم، وذلك قبل بدر بأزيد من ام، فهذا كله يدل على أن فعل النبي صلى الله عليه وسلم في شأن الأسرى كان على تأويل وبصيرة على ما تقدم قبل ذلك فلم ينكره الله عليه. لكن الله تعالى أراد لعظم أمر بدروكثرة أسرارها -والله أعلم- إظهار نعمته وتأكيد منته بتعريفهم ما كتب في اللوح المحفوظ من حل ذلك لا على وجه عتاب أو إنكار أو تذنيب قاله القاضي عياض رحمه الله تعالى.
وأما قوله تعالى: {وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا،
__________
بأزيد من عام"، هذا سهو، لأن السرية كانت في رجب، وقيل: في جمادى الآخرة، وبدر في رمضان، كلاهما في ثانية الهجرة، فبينهما أقل من ثلاثة أشهر، وقد تعقبوا الشفاء، متبوع المصنف بهذا، ومثله لا يخفى عليهما، ولكن الكمال لله، "فهذا كله يدل على أن فعل النبي صلى الله عليه وسلم في شأن الأسرى كان على تأويل" باجتهاد منه ومن أصحابه، "وبصيرة" جريًا "على ما تقدم قبل"، أي: قبل "ذلك" الفعل "مثله، فلم ينكره الله عليه، لكن الله تعالى أراد" وله ما كان لنبي ... إلخ.
"لعظم أمر بدر" بكسرها شوكة المشركين وإرعاب قلوبهم، فلو زادوا بقتل الاسرى كان أقوى، "وكثرة أسرارها"،جمع أسير، "الله أعلم" بما أراد جملة معترضة" "إظهار نعمته" مفعول أراد، أي: ظهورها على المسلمين، "وتأكيد منته" عليهم "بتعريفهم ما كتب في اللوح المحفوظ" على أحد الوجوه السابقة قريبًا في المراد بالكتاب "من حل ذلك" لهم، "لا على وجه عتاب" أي: لوم، بل لبيان النعمة "أو إنكار" عليهم "أو تذنيب" أي: نسبتهم لذنب في فعلهم "قال القاضي عياض رحمه الله تعالى": في الشفاء من أول قوله: وليس في هذا إلزام ذنب إلى هنا وهو وجيه خلافًا لقول بعض شراحه؛ أنه تكلف لا ينبغي ارتكابه، والحق أنه عتاب من الله.
وفي فتح الباري: اختلف السلف في أي الرأيين كان أصوب، فقال بعضهم: كان رأي أبي بكر، لأنه وافق ما قدر الله في نفس الأمر، ولما استقر عليه الأمر، ولدخول كثير منهم في الإسلام، إما بنفسه وإما بذريته التي ولدت له بعد الوقعة، ولأنه وافق غلبة الرحمة على الغضب، كما ثبت ذلك عن الله تعالى في حق من كتب له الرحمة، وأما من رجح الرأي الآخر، فتمسك بما وقع من العتاب على أخذ الفداء، وهو ظاهر، لكن الجواب عنه أنه لا يدفع حجة الرجحان عن الأول، بل ورد للغشارة إلى ذم من آثر شيئًا من الدنيا على الآخرة، ولو قل: "وأما قوله تعالى: {وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ} على الحق بالعصمة، {لَقَدْ كِدْتَ} قاربت {تَرْكَنُ} تميل {إِلَيْهِمْ(9/50)
إذ لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات} [الإسراء: 74] الآية.
فالمعنى: لولا أن ثبتناك لقاربت أن تميل إلى إتباع مرادهم، لكن أدركتك عصمتنا فمنعت أن تقرب فضلًا عن أن تركن، وهو صريح في أنه صلى الله عليه وسلم ما هم بإجابتهم مع قوة الداعي إليها، فالعصمة بتوفيق الله وحفظه، ولو قاربت لأذقناك
__________
شَيْئًا} ركونًا {قَلِيلًا} لشدة احتيالهم وإلحاحهم وهوص ريح في أنه صلى الله عليه وسلم ما ركن ولا قارب، {إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ} عذاب {الْحَيَاةِ وَضِعْفَ} عذاب {الْمَمَاتِ} أي: مثلي ما يعذب غيرك في الدينا والآخرة "الآية" ثم لا تجد لك علينًا نصيرًا مانعًا منه.
أخرج ابن مردويه وابن أبي حاتم، عن ابن عباس، قال: خرج أمية بن خلف، وأبو جهل، ورجال من قريش، فاتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا محمد تعال، فتمسح بآلهتنا، وندخل معك في دينك، وكان يحب إسلام قومه، فرق لهم، فأنزل الله {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ} [الأعراف: 73] الآية، إلى قوله: {نَصِيرًا} .
قال السيوطي: هذا أصح ما ورد في سبب نزولها، وهو إسناد جيد وله شاهد.
أخرج ابن أبي حاتم، عن سعيد بن جبير، قال: كان صلى الله عليه وسلم يستلم الحجر، فقالوا: لا ندعك تستلم حتى تلم بآلهتنا، فقال صلى الله عليهوسلم: وما علي لو فعلت، والله يعلم مني خلافه، فنزلت "فالمعنى، لولا أن ثبتناك لقاربت": تفسير لكدت "أن تميل إلى اتباع مرادهم" تفسير لتركن من الركون الذي هو أدنى ميل، على ما قال المفتي، وعليه فقوله: شيئًا قليلًا، كالصفة الكاشفة لمعنى تركن، "لكن أدركتك عصمتنا، فمنعت أن تقرب فضلًا عن أن تركن" وببيان المعنى حصل الجواب عن الىي، وإنها من الآيات المادحة للمصطفى، لا أنها من المتشابهات، "وهو صريح في أنه صلى الله عليه وسلم ما هم بإجاباتهم"، أي: قريش لما طلبوه منه، من التمسح بآلهتهم والإلمام بها على الأصح في سبب نزولها، وبه استدل من قال هذه الآيات مكية، ومن قال: إنها مدنية، استدل بما رواه ابن مردويه عن ابن عباس، أن ثقيفًا قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: أجلنا سنة حتى يهدى لآلهتنا فإذا قبضنا ما يهدى لها أحرزناه، ثم أسلمنا، فهم أن يؤجلهم فنزلت وإسناده ضعيف.
وذكر الثعلبي بلا إسناد عن ابن عباس، أنها نزلت في ثقيف، قالوا: لا ندخل في أمرك حتى تعطينا خصالًا نفختر بها على العرب، لا نعشر، ولا نحضر، ولا نحني في صلاتنا، وكل ربا لنا فهو لنا، وكل ربا علينا فهو موضوع عنا، وإن تمتعنا باللات سنة، وتحرم وادينا كمكة، فإن قالت العرب لم فعلت ذلك، فقل: إن الله أمرني.
قال الولي العراقي: لم أقف له على إسناد "مع قوة الداعي إليها" لشدة احتيالهم وقوة خدعهم، وكونه في مقام التلطلف بهم والحرص على إيمانهم "فالعصمة بتوفيق الله وحفظه" عن(9/51)
ضعف الحياة وضعف الممات، أي ضعف ما يعذب به في الدارين بمثل هذا الفعل غيرك، لأن خطأ الخطير أخطر، وقد أعاذه الله تعالى من الركون إلى أعدائه بذرة من قلبه. ومما يعزى للحريري مما يؤيد ذلك قوله:
أنحوي هذا العصر ما هي لفظة ... جرت في لسان جرهم وثمود
إذا استعملت في صورة الجحد اثبتت ... وإن اثبتت قامت مقام جحود
وفسر الأول وهو النفي المثبت بنحو {فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} [البقرة: 71] وقد فعلوا والثاني وهو الثبوت المنفي بنحو قوله تعالى: {لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ} قالوا: وهو صلى الله عليه وسلم ثبت قلبه ولم يركن.
__________
مقاربة ذلك، "ولو قاربت لأذقناك ضعف" عذاب "الحياة وضعف" عذاب "الممات" تفسير لقوله: {إِذًا لَأَذَقْنَاكَ} "أي: ضعف ما يعذب في الدارين" الدنيا والآخرة "بمثل هذا الفعل غيرك، لأن خطأ" أي: ذنب "الخطير" الشريف "أخطر" أعظم من غيره، لأنه لشرفه حقه أن لا يقرب مما يلام عليه، بل يصون نفسه عن الفهوات وإن صغرت، "وقد أعاذه الله تعالى" أي: عصمه "من الركون إلى أعدائه" أي: أعدء الله "بذره من قلبة" أي: بشيء قليل صغير جدًا كالذرةى فضلًا عما فوقها.
"ومما يعزى للحريري مما يؤيد ذلك" أي: إن كاد نا، بمعنى قرب "قوله": ملغزًا:
"
انحوى هذا العصر ما هي لفظة ... جرت في لساني جرهم وثمود"
جرهم: بضم الجيم، حي من اليمن، وثمود قوم صالح، وخصهما زيادة في التعمية:
"إذا استعملت في صورة الجحد أثبتت
وإن أثبتت قامت مقام جحود"
"وفسر الأول، وهو النفي المثبت، بنحو {فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} [البقرة: 71] لغلاء ثمن البقرة، "وقد فعلوا" بنص، فذبحوها.
"الثاني: وهو الثبوت المنفي، بنحو قوله تعالى: {لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ} ، قال: أي: العلماء كلهم، "وهو صلى الله عليه وسلم ثبت قلبه ولم يركن" بنص قوله: {ثَبَّتْنَاكَ} وأيده بذلك وإن كان ضعيفًا لاشتهاره، كما في شرح الكافية والمغني، وقالا: إن من زعممهم لم يصب، بل حكم كاد حكم سائر الأفعال، فمعناها منفي إذا صحبها حرف نفي، وثابت إذا لم يصحبها، فإذا قيل: كان زيد يبكي، معناه: قارب البكاء، فمقاربة البكاء، ثابتة، وإذا قيل: لم يكد يبكي، فمعناه: لم يقارب البكاء، فمقاربته منفية، ونفسه منتف انتفاء أبعد من انتفائه عند ثبوت المقاربة.(9/52)
وأما قوله تعالى {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ، لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ، ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} [الحاقة: 44، 45، 46] .
فالمعنى: لو افترى علينا بشيء من عند نفسه لاخذنا منه باليمين وقطعنا نياط قلبه وأهلكناه، وقد أعاذه الله تعالى من التقول عليه.
فإن قلت: لا مرية أنه يعفي للمحب ولصاحب المحاسن والإحسان العظيم ما لا يعفي لغيره، ويسامح بما لا يسامح به غيره، كما قال الشاعر:
وغذا الحبيب أتى بذنب واحد ... جاءت محاسنه بألف شفيع
ولا شك أن نبينا صلى الله عليه وسلم هو الحبيب الأعظم ذو المحاسن والإحسان الأكبر، فما هذه العقوبة المضاعفة والتهديد الشديد الوارد إن وقع منه ما يكره، وكم منه
__________
وأما قوله تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ} [الحاقة: 44] ، أي: افترى، سمي تقولا، لأنه قول متكلف، والأوال المفتراة أقاويل تحقيرًا لها، كأنها جمع أفعوله من القول، كالأضاحيك {لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ} بالقوة والقدرة، {ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} [الحاقة: 46] الآية، نياط القلب، وهو عرق متصل به إذا انقطع مات صاحبه، "فالمعنى: لو افترى علينا بشيء من عنده نفسه" كما زعم الكفار بنحو: إن هذا إلا إفك افتراه "لأخذنا": لنلنا "منه" عقابًا "باليمين، وقطعنا نياط قلبه، وأهلكناه، وقد أعاذه الله تعالى من التقول عليه"، أفلا تعقون أنه تنزل من رب العالمين، فالآية من جملة مدحه، إذ فيها القسم على تصديقه بجميع الموجودات، وأنه لا يمكنه الافتراء عليه" فإن قلت: لا مرية" لا شك "أنه يعفي للمحب":اسم مفعول المحبوب أو اسم فاعل، أي: لمن أحب غيره، ولا شك أنه عليه السلام محب لله ومحبوب له، ولصاحب المحاسن والإحسان العظيم ما لا يعفي لغيره، ويسامح مما لا يسامح به غيره، كما قال الشاعر:
وإذا الحبيب أتى بذنب واحد ... جاءت محاسنه بألف شفيع
وفي القرآن إشارة إليه {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ} [المائدة: 18] ، "ولا شك أن نبينا صلى الله عليه وسلم هو الحبيب الأعظم" من كل حبيب، "ذو المحاسن والإحسان الأكبر" الفائق على كل محسن، "فما هذه العقوبة المضاعفة" بقوله: {إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ} إلخ.
"والتهديد الشديد في قوله: {لَأَخَذْنَا مِنْهُ} إلخ، "الوارد" كل منهما، "إن وقع منه ما يكره" "بكسر الهمزة وسكون النون شرط"، "وكم من راكن إلى أعدائه"أي: الله تعالى(9/53)
راكن إلى أعدائه ومتقول عليه تعالى من قبل نفسه لم يعبأ به كأرباب البدع ونحوهم؟
فالجواب: أنه لا تنافي بين الأمرين، فإن من كملت عليه نعمة الله، واختصه منها بما لم يختص به غيره، وأعطاه منها ما لم يعط غيره، فحباه بالأنعام وخصه بمزيد القرب والإكرام اقتضت حاله من حفظ مرتبة القرب والولاية والاختصاص أن يراعي مرتبته من أدنى تشويش وقاطع، فلشدة الاعتناء به ومزيد تقريبه واتخاذه لنفسه واصطفائه على غيره تكون حقوق وليه وسيده عليه أتم ونعمه عليه أكمل وأعم، فالمطلوب منه فوق المطلوب من غيره، فهو إذاغفل أو أخل بمقتضى مرتبته نبه بما لم ينبه عليه البعيد، مع كونه يسامح بما لم يسامح به ذلك البعيد أيضًا، فيجتمع في حقه الأمران، وإذا أردت معرفة اجتماعهما وعدم تناقضهما فالواقع شاهد بذلك، فإن الملك يسامح خاصته وأولياءه بما لم يسامح به من ليس في منزلتهم، ويؤاخذ بما لا يؤاخذ به غيرهم، وأنت إذا كان لك عبدان أو ولدان أحدهما أحب إليك من الآخر وأقرب إلى قلبك وأعز عليك عاملته بهذين الأمرين،
__________
حقيقة، فضلًا عن مقاربته "ومتقول" "بكسر الواو، اسم فاعل كاذب" "عليه تعالى من قبل" جهة "نفسه لم يعبأ" لم يبال "به، كاربابالبدع ونحوهم" من الخوارج وغيرهم.
"فالجواب، أنه لا تنافي بين الأمرين، فإن من كملت عليه نعمة الله، واختصه منها بما لم يختص به غيره، وأعطاه منها ما لم يعط غيره، فحباه" "بموحده" "بالأنعام، وخصه بمزيد القرب" المعنوي "والإكرام" وهذا بمعنى ما قبله، فهو اطناب" "اقتضت حاله من حفظ مرتبة القرب والولاية، والاختصاص أن يراعي مرتبته، فيباعد نفسه "من أدنى": أقل "تشويش وقاطع" عن الله، "فلشدة الاعناء به ومزيد تقيبه، واتخاذه لنفسه، واصطفائه": اختياره "على غيره، تكون حقوقه وليوسيدهعليه أتم، ونعمه عليه أكمل وأعم" من غيره "فالمطلوب منه فوق المطلوب من غيره، فهو إذا غفل" "بفتح الفاء، كنصر، وفي لغة بكسرها"، "أو أخل بمقتضى مرتبته" منزلته السنية، "نبه بما لم ينب عليه البعيد، مع كونه يسامح بما لم يسامح به ذلك البعيد أيضًا، فيجتمع في حقه الأمران" عظم مايصدر منه لمنافاته لمرتبته، والمسامحة لمحبته وشدة نصحه لمحبوبه، وإذا أردت معرفة اجتماعهما وعدما تناقضهما، فالواقع" في عرف الآدميين "شاهد بذلك، فإن الملك" السلطان "يسامح خصاته وأولياءه" الموالين له والمعاضدين "بما لم يسامح به من ليس في منزلتهم، ويؤاخذ بما لم يؤاخذ به غيرهم" ممن دونهم "وأنت كان لك عبدان أو ولدان، أحدهما: أحب إليك من الآخر وأقرب إلى(9/54)
واجتمع في حقه المعاملتان بحسب قربه منك، وحبك له وعزته عليك، فإذا نظرت إلى إكمال إحسانك إليه، وإتمام نعمك عليه اقتضت معاملته بما لا يعامل به من دونه من التنبيه وعدم الإهمال. وإذا نظرت إلى محبته لك وطاعته وخدمته وكمال عبوديته ونصحه، وهبت له وسامحته وعفوت عنه بما لا تفعله مع غيره. فالمعاملتان بحسب ما بينك وبينه.
وقد ظهر اعتبار هذا المعنى في الشرع، حيث جعل حد من أنعم عليه بالتزويج، إذا تعداه الزنا الرجم، وحد من لم يعطه هذه النعمة الجلد، وكذلك ضاعف الحد على الحر الذي قد ملكه نفسه وأتم نعمته عليه ولم يجعله مملوكًا لغيره، وجعل حد العبد المنقوص بالرق - الذي لم يجعل له هذه النعمة- نصف ذلك، فسبحان من بهرت حكمته في خلقه.
فلله سر تحت كل لطيفة فأخو البصائر غائص يتعقل انتهى ملخصًا.
__________
قلبك وأعز عليك، عاملته بهذين الأمرين"، المسامحة والمؤاخذة"، واجتمع في حقه المعاملتان بحسب قربه منك، وحبك له وعزته عليك، فإذا نظرت إلى إكمال إحسانك إليه وإتمام نعمة عليه، بمعنى حسنه اختلاف اللفظ، "اقتضت" تلك الحالة التي هي النظر لكمال الإحسان "معاملته بما لا يعامل به من دونه به من التنبيه وعدم الإهمال" بيان لما، "وإذا نظرت إلى محبته ولك وطاعته، وخدمته وكمال عبوديته، ونصحه" لك في أمورك "وهبت له وسامحته، وعفوت عنه بما لا تفعله مع غيره، فالمعاملتان بحسب ما بينك وبينه، وقد ظهر اعتبار هذا المعنى" العرفي "في الشرع حيث جعل حد من أنعم عليه بالتزويج إذا تعداه إلى الزنا الرجم" لأن الذي مع المزني بها مع زوجته "وحد من لم يعطه هذه النعمة الجلد" لأنه معذور بالنسبة للمتزوج، فكفي جلده في عقوبته، "وكذلك ضاعف الحد على الجلد" لأنه معذور بالنسبة للمتزوج، فكفي جلده في عقوبته، "وكذلك ضاعف الحد على الحر الذي قد ملكه نفسه، وأتم نعمته عليه، ولم يجعله مملوكًا لغيره، وجعل حد العبد المنقوص بالرق الذي لم يجعل له هذه النعمة نصف ذلك" كما قال: فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب "فسبحان من بهرت" "بفتح الموحدة والهاء" غلبت وظهرت "حكمته في خلقه" وما أحسن قول القائل:"فلله سر تحت كل لطيفة" أي: رفق بالعبد لا يعلمه إلا هو سبحانه "فأخو البصائر" الناظر بعين البصيرة "غائص" أي: غارق في المعاني والأفكار التي يتوصل بها إلى معرفة كماله عز وجل "يتعقل"، أي: يستعمل عقله فيما يوصل إليه "اهـ" هذا الجواب.(9/55)
وأما قوله تعالى: {مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ} [الشورى: 52] .
فقيل: معناه ما كنت تدري الإيمان على التفصيل الذي شرع في القرآن.
وقال أبو العالية: هو بمعنى الدعوة إلى الإيمان، لأنه كان قبل الوحي لا يقدر أن يدعو إلى الإيمان بالله تعالى.
وقيل: معناه أنه ما كان يعرف الإيمان حين كان في المهد وقبل البلوغ، حكاه الماوردي والواحدي والقشيري.
وقيل: إنه من باب حذف المضاف، أي ما كنت تدري أهل الإيمان، أي من الذي يؤمن، أبو طالب، أبو العباس، أو غيرهما.
وقيل: المراد به شرائع الإيمان ومعالمه وهي كلها إيمان، وقد سمى الله
__________
"ملخصًا" حال.
وأما قوله تعالى: ما كنت تدري ما الكتاب" القرآن "ولا الإيمان" مع ما مر أنه صلى الله عليه وسلم كان عالمًا بالله وصفاته قبل النبوة "فقيل: معناه ما كنت تدري الإيمان على التفصيل الذي شرع في القرآن"، فلا ينافي أنه كان يدريه إجمالًا.
وقال أبو العلية: رفيع ابن مهران التابعي الكبير "هو بمعنى الدعوة إلى الإيمان" فيكون على حذف مضاف، "لأنه كان قبل الوحي لا يقدر أن يدعو" الناس "إلى الإيمان بالله تعالى" فلا ينافي علمه بأنه إله واحد.
وقيل: معناه أنه ما كان يعرف الإيمان حين كان في المهد وقبل البلوغ" فلا ينافي عرفانه بعد ببصيرته.
حكاه الماوردي: على بن حبيب القاضي أبو الحسن البغدادي البصري، نسب أبوه لعمل الورد أو بيعه، والقياس الوردي صاحب التصانيف الجليلة مات سنة خمسين وأربعمائة عن ست وثمانين سنة "والواحدي" أبو الحسن علي المفسر تلميذ الثعلبي" و"القشيري" الإمام المشهور صاحب الرسالة.
وقيل: أنه من باب حذف المضاف أي: ما كنت تدري أهل الإيمان أي: من الذي يؤمن أبو طالب" عبد مناف "أو العباس أو غيرهما" فلا ينافي أنه مؤمن بالله وصفاته، وقد يدل له بقية الآية، ولكن جعلناه نورًًا نهدي به من نشاء من عبادنا.
وقيل: المراد به أي: الإيمان "شرائع الإيمان ومعالمه، أي: ما يدل عليه فهو على حذف مضاف أيضًا "وهي كلها إيمان وقد سمى الله الصلاة إيمانًا بقوله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ(9/56)
الصلاة إيمانًا بقوله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: 143] أي صلاتكم إلى بيت المقدس، فيكون اللفظ عامًا والمراد الخصوص، كما قاله ابن قتيبة وابن خزيمة.
وقد اشتهر في الحديث أنه صلى الله عليه وسلم كان يوحد الله ويبغض الأوثان ويحج ويعتمر.
وروى أبو نعيم وابن عساكر عن علي: أنه قيل للنبي صلى الله عليه وسلم هل عبدت وثنًا قط؟ قال: لا، قيل: فهل شربت خمرًا قط؟ قال: لا، وما زلت أعرف أن الذين هم عليه كفر. وما كنت أدري ما الكتاب ولا الإيمان. وقد ورد أن العرب لم يزالوا على بقايا من دين إسماعيل كحج البيت والختان والغسل من الجنابة، وكان عليه الصلاة والسلام لا يقرب الأوثان ويعيبها، ولا يعرف شرائع اللهالتي شرعها لعباده
__________
إِيمَانَكُمْ} [البقرة: 43] الآية، "أي: صلاتكم إلى بيت المقدس" مدة "فيكون اللفظ عامًا" وهو مطلق التصديق، "والمراد الخصوص"، وهو الشرائع والمعالم، "كما قاله ابن قتيبة" عبد الله بن مسلم "وابن خزيمة" محمد إمام الأئمة.
قال بكر القاضي: فكان صلى الله عليه وسلم مؤمنًا بتوحيده، ثم نزلت الفرائض التي لم يكن يدريها قبل فزاد بالتكليف إيمانًا.
قال عياض: وهذا أحسن وجهه، "وقد اشتهر في" كتب الحديث، إنه صلى الله عليه وسلم كان يوحد الله ويبغض الأوثان" كما في قصة بحيرا الراهب لما استحلفه باللات والعزى وهو صبي فقال صلى الهل عليه وسلم: لا تسألني بهما فو الله ما أبغضت شيئًا قط بغضهما، فقال بحيرا: فبالله إلا ما أخبرتني عما اسألك، فقال: سل عما بدا لك، "ويحج ويعتمر" مخالفًا للمشركين في وقوفهم بمزدلفة في الحج، فكان من توفيق الله له يقف بعرفة، لأنه موقف إبراهيم.
"وروى أبو نعيم، وابن عساكر، عن علي أنه قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: هل عبدت وثنًا قط" صنمًا متخذًا من حجارة أو خشب أو غيرهما.
وقيل: الصنم المتخذ من الجواهر المعدنية التي تذوب والوثن المتخذ من حجدر أو خشب "قال: لا" لم أعبده قط، "قيل: فهل شربت خمرًا قط قال: لا" ما شربته "وما زلت أعرف إن الذي هم عليه" من عبادة الأوثان "كفر، وما كنت أدري ما الكتاب، ولا الإيمان، وقد ورد أن العرب لم يزالوا على بقايا من دين إسماعيل، كحج البيت والختان والغسل من الجنابة" وقد حلف أبو سفيان بعد وقعة بدر لا يغسل رأسه من جنابة حتى يغزو محمدًا، "وكان عليه الصلاة والسلام لا يقرب" "بفتح الراء وضمها" "الأوثان" أي: لا يدنو منها "ويعيبها"(9/57)
على لسانه، فذلك قوله: {مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ} ولم يرد الإيمان الذي هو الإقرار بالله، لأن آباءه الذين ماتوا على الشرك كانوا يؤمنون بالله ويحجون مع شركهم، والله أعلم.
المقصد السابع
في وجوب محبته واتباع سنته والاهتداء بهديه وطريقته وفرض محبة آله وصحبه وقرابته وعترته، وحكم الصلاة والتسليم عليه زاده الله فضلًا وشرفًا لديه.
__________
"بفتح الياء" "و" الحال أنه حينئذٍ "لا يعرف شرائع الله التي شرعها لعباده على لسانه، فذلك قوله: {مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ} [الشورى: 54] ، هو بمعنى ما قدمه، أعاده لزيادة قوله: "ولم يرد الإيمان الذي هو الإقرار بالله، لأن آباءه الذين ماتوا على الشرك كانوا يؤمنون بالله ويحجون مع شركهم" وقد كانوا في الفترة فهم لا يعذبون، إذ لا يجب فيها إيمان، ولا يمنع كفر على الصحيح.
قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15] ، ومفهومه أن منهم من مات على الإيمان، ورجح الرازي وغيره أنه لم يكن في آبائه شرك، ومر بسط ذلك في أول الكتاب "انتهى".
هذا المقصد "والله أعلم" وله الحمد على ما أنعم، ونسأله إتمام الإحسان بالإتمام، وأن يجعله خالصًا له بجاه المصطفى عليه أفضل الصلاة والسلام.(9/58)
المقصد السابع: في وجوب محبته واتباع سنته والاهتداء بهديه
مدخل
...
المقصد السابع: في وجوب محبته واتباع سنته والاهتداء بهديه
في وجوب محبته واتباع سنته والاهتداء بهديه وطريقته وفرض محبة آله وصحبه وقرابته وعترته، وحكم الصلاة والتسليم عليه زاده الله فضلًا وشرفًا لديه.
وفيه ثلاثة فصول:
__________
"المقصد السابع"
"في" بيان "وجوب محبته و" بيان وجوب "أتباع سنته": طريقته التي كان عليها، وهي شاملة للواجب، والمستحب والمباح، ومعنى وجوب اتباعها اعتقاد حقية ما دلت عليه، وأن مباحًا، وأنه عن الله، وأما مباشرة الفعل، فتختلف بالوجوب والندب والإباحة والحرمة والكراهة، ولا يشكل بأن المستحب يجب بالنذر فيخالف سنته، لأنه صلى الله عليه وسلم أمر بالوفاء به كالقرآن، فهو من سنته "و" بيان وجوب "الاهتداء بهديه وطريقته" بأن يقتدي به فيما ورد عنه، وافق غيره من بقية الأنبياء، كالتوحيد، أوخالفهم كالأحكام الناسخة لشرائع من قبله، "وفرض محبة آله وصحبه" عبر بفرض، وفيما قبله بوجوب تفننا، وذكره اهتمامًا بهم لئلا يتساهل في محبته لعدم بلوغهم رتبته، ولايصح حمله على مذهب الفارقين بين الواجب والفرض، لأن المقام يأباه، إذ يصير المعنى محبة المصطفى بدليل ظني ومحبة آله وصحبه بدليل قطعي "وقرابته وعترته" "بكسر العين وإسكان الفوقية" عطف خاص على عام أو مساوٍ للقرابة.
قال ابن الإعرابي: العتر ولد الرجل وذريته وعقبه من صلبه، ولا تعرف العرب من العترة(9/58)
الفصل الأول: في وجوب محبته واتباع سنته والاقتداء بهديه وسيرته صلى الله عليه وسلم
اعلم أن المحبة -كما قال صاحب "المدارج" هي المنزلةالتي يتنافس فيها المتنافسون، وإليها يشخص العاملون، وإلى علمها شمر السابقو، وعليها تفاني المحبون، وبروح نسيمها بروح العابدون، فهي قوت القلوب، وغذاء الأرواح
__________
غير هذا، ويقال: رهطه الأدنون، ويقال: أقرباؤه، فهذا الأخير صريح في أنه عطف مساوٍ، والقولان: قبله خاص على عام "وحكم الصلاة والتسليم عليه زاده الله فضلًا وشرفًا لديه" أي: عنده والجمع بينهما أطناب، أو الأول لطلب زيادة العلوم والمعارف الباطنة، والثاني: لطلب الأخلاق الكريمة الظاهرة، أو الأول ضد النقص، والثاني: علو المجد وهوميل إلى ترادفهما، وسؤال الزيادة لا يشعر بسبق نقص لقبول الكامل زيادة الترقي في غايات الكمال، فاندفع زعم جمع امتناع الدعاء له عقب نحو ختم القرآن، باللهم اجعل ذلك زيادة في شرفه على أن جميع أعمال أمته يتضاعف له نظيرها، لأنه السبب فيها أضعافًا مضاعفة لا تحصى، فهي زيادة شرفه، وأن يسأل له ذلك، فسؤاله تصريح بالمعلوم، كما في التحفة "وفيه ثلاثة فصول":
الأول: في وجوب محبته واتباع سنته والاقتداء بهديه وسيرته صلى الله عليه وسلم، اعلم أن المحبة" اللام عوض عن المضاف إليه، أي: محبة المصطفى، وبدأ ببيانها لأن الحكم على الشيء فرع تصوره، فاعتقادوجوبها إنما يكون بعد تصورها، "كما قال صاحب المدارج" أي: مدارج السالكين اسم لشرح ابن القيم على كتاب منازل السائرين لشيخ الإسلام عبد الله بن محمد بن علي الأنصاري، من ولد أبي أيوب الصحابي، المؤلف، الواعظستين سنة للناس، الميت سنة إحدى وثمانين وأربعمائة عن ست وثمانين سنة "هي المنزلة": الرتبة العلية "التي يتنافس فيها المتنافسون" أي: يتسابقون إليها ويتزاحمون عليها؛ بأن يطلبها كل واحد، وأدًا أنه يبلغ فيها مرتبة لا يبلغها غيره.
وفي القاموس: نافس فيه رغب على وجه المباراة في الكرم، كتنافس "وإليها يشخص العاملون" أي: يرفعون أبصارهم مجتهدين في تحصيلها، والمراد أنهم يجتهدون في الأعمال ويخلصون فيها، لينالوا بها تلك المرتبة السنية، وعبر عن ذلك بشخوص المبصر لما جرت به العادة إن منطلب غائبًا عنه وانتظره كثر تلفته ونظره إلى الجهة التي يأتي منها، "وإلى علمها أي: معرفتها "شمر السابقون" اجتهدوا في معرفتها والوصول إليها "وعليها تفاني"(9/59)
وقوة العيون، وهي الحياة التي من حرمها فهو من جملة الأموات، والنور الذي من فقده في بحار الظلمات، والشفاء الذي من عدمه حلت بقلبه جميع الأسقام، واللذة التي من لم يظفر بها فعيشه كله هموم وآلام، وهي روح الإيمان والأعمال والمقامات والأحوال التي متى خلت منها فهي كالجسد الذي لا روح فيه، تحمل أثقال السائرين إلى بلد لم يكونوا إلا بشق الأنفس بالغيه، وتوصلهم إلى منازل لم
__________
"بفاء ونون" "المحبون" أي: تغالبوا في فنائهم فيها، فكل يريد أن يغلب غيره فيها، بأن تزيد محبته على محبة غيره، "وبروح نسميها "بفتح الراء"،بمعنى الراء"، بمعنى الراحة، كأنهش به المحبة من حيثاللذة وانبساط النفس بها طيبة هابة، تحيا بها النفوس، واثبت لها النسيم تخييلًا، والروح بمعنى الراحة تشريحًا "بروح" بالتثقيل "العابدون" أي: وصل إليهم رائحة منها اطمأنت بها نفوسهم واستلذوا بها وارتاحوا، "فهي قوت القلوب" أي: هي للقلوب كالقوت من حيث أنها تحيا بها، وتتقوى، كما يقوي البدن بالقوت، وهو مكا يقوم به من الطعام جمعه أقوات "وغذاء" "بكسر الغين وذال معجمتين" "الأرواح": جمع روح، بالضم يذكر ويؤنث، تشبيه بليغ كسابقه، أو كل منهما استعارة نحو زيد أسد، وأضاف القوت للقلوب، لأنها من البدن، وهو ينتفع بما يؤكل، والغذاء للأرواح، لأنها لا تنتفع بما يؤكل وإنما تنتفع بالأذكار ونحوها.
"وقرة" "بضم القاف" "العيون" أي: سرورها بالمحبة وسكونها عن الالتفات إلى غيرها، "وهي الحياة، التي من حرمها فهو جملة الأموات" لأنه لا يجد لذتها كالأموات، ولا عائدتها، "والنور الذي من فقده، ففي بحار الظلمات" أي: فهو كالمنغمر فيها، بحيث لا يهتدي إلى شيء ينفعه، "والشفاء" بالمد.
قال ابن الجوزي في كتابه نزهة البيان: الشفاء ملائم للنفس، يزيل عنها الأذى، ويستعمل في القرآن على ثلاثة أوجه: الفرح، كقوله: {وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ} أي: بسرهم والعاقبة كقوله: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء: 80] الآية، والبيان، كقوله: {وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ} [يونس: 57] ، "الذي من عدمه" "بكسر الدال" فقده "حلت بقلبه جميع الأسقام": الأمراض الطويلة "واللذة التي من لم يظفر": يفز "بها، فعيشه كله هموم" أحزان جمع هم، "والآم" جمع ألم، "وهي روح الإيمان" تشبيه بليغ، أي: له كالروح للأبدان، "و" روح "الأعمال والمقامات والأحوال التي متى خلت" تلك الأربعة "منها، فهي كالجسد الذي لا روح فيهِ" فهو بيان لوجه الشبه في الأربع، ويحتمل أنه بيان لقوله، وهي روح الحياة، إلى هنا "تحمل أثقال" أحمال "السائرين إلى بلد لم يكونوا إلا بشق الأنفس": بجهدها "بالغيه" واصلين إليه على غيرها. وأخر بالغيه لرعاية السجع، "وتوصلهم إلى منازل لم يكونوا بدونها(9/60)
يكونوا بدونها أبدًا وأصليها، وتبوؤهم من مقاعد الصدق إلى مقامات لم يكونوا لولا هي داخليها، وهي مطايا القوم التي سراهم في ظهورها دائمًا إلى الحبيب، وطريقهم الأقوم الذي يبلغهم إلى منازلهم الأولى من قريب، تالله لقد ذهب أهلها بشرف الدنيا والآخرة، إذ لهم من معيةمحبوبهم أوفر نصيب، وقد قدر الله يوم قدر مقادير الخلق بمشيئة وحكمته البالغة أن المرء مع من أحب، فيا لها من نعمة على المحبين سابغة، لقد سبق القوم المحبين السعادة وهم على ظهور الفرش
__________
أبدًا واصليها"، جملة مفسرة لما قبلها "وتبؤوهم": تسكنهم "من مقاعد الصدق": مجالس الحق التي لا لغو فيها ولا تأثيم "إلى مقامات" منازل رفيعة في الجنة "لم يكونوا لولا هي داخليها" وفيها تلميح لمعنى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ، فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ} والتقوى بالإيمان لا تكون إلا مع محبة الرسول، "وهي مطايا القوم": جمع مطية، فعيلة بمعنى مفعولة البعير ذكرًا أو أنثى، سمي بذلك، لأنه يركب مطاه، أي: ظهره، والمطا بزنة عصا الظهر "التي سراهم" "بضم السين جمع سرية بوزن مدية ومدى".
قال أبو زيد: ويكون السري أول الليل وأوسطه وآخره "في ظهورها دائمًا إلى الحبيب"، وقد استعملت العرب سرى في المعاني تشبيهًا لها بالأجسام واتساعًا ومنه {وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ} [الفجر: 4] المعنى إذا يمضي، وقال البغوي: إذا سار وذهب، وقال جرير:
سرت الهموم فبتن غير نيام ... وأخو الهموم يروم كل مرام
"وطريقهم الأقوم الذي يبلغهم إلى منازلهم الأولى" التي كانوا بها في صلب آدم، وهي الجنة "من قريب" بدون عذاب قبل دخولها للمحبة، وقال شيخنا: الأولى، أي: التي قدر أزلا حصولها لهم، بكن بأعمال يصلون بها إليها، فهي سابقة أزلًا على وجود أصحابه، ثم بعد ظهورهم في الخارج وفقهم الله ببركة المحبة إلى فعل تلك الاعمال، فوصلوا إليها في زمن قليل لا يحصل عادة في مثله ما قدر عليه من العمل، بل ولا ما يقاربه وهو تكلف مستغنى عنه، "تالله لقد ذهب أهلها" المحبة "بشرف الدينا والآخرة" وعلله بقوله: "إذ لهم من معية محبوبهم" المشار لها بقوله: "أنت مع من أحببت" "أوفر نصيب" لشمولها للدارين وإن لم يدركه في الدنيا أو كان بينهما مسافة بعيدة كما تقدم بسطه في المتن، "وقد قدر الله يوم مقادير الخلق" قبل خلق السماوات والأرض، وبخمسين ألف سنة "بمشيئته وحكمته البالغة" التامة "أن المرء مع من أحب" كما أخبر المحبوب صلى عليه علام الغيوب، "فيها لها" "بفتح اللام" "من نعمة على المحبين سابغة" "بغين معجمة" طويلة متسعة، ثم يحتمل أنه مستغاث به، وأنه مستغاث له، لأن اللام الداخلة على المستغاث له يجب فتحها إن كان ضميرًا كان هنا، فإن كان اسمًا ظاهرًا وجب كسرها، والداخلة على المستغاث به يجب فتحها مطلقًا، "لقد سبق القوم المحبين"(9/61)
نائمون، ولقد تقدموا الركب بمراحل وهم في سيرهم واقفون.
من لي بمثل سيرك المذلل ... تمشي رويدًا وتجي في الأول
أجابوا مؤذن الشوق إذ نادى بهم حي على الفلاح في الجنة، وبذلوا أنفسهم في طلب الوصول إلى محبوبهم، وكان بذلهم بالرضى والسماح، وواصلوا إليه المسير بالإدلاج والغدو والرواح، ولقد حمدوا على الوصول مسراهم، وإنما يحمد القوم السرى عند الصباح.
وقد اختلفوا في تعريف المحبة، وعباراتهم وإن كثرت فليست في الحقيقة
__________
مفعول "السعادة" فاعل، سبق فهيأت لهم أنواع النعيم.
وفي نسخة: لقد سبق القوم السعاة: جمع ساع، أي: الماشين بسرعة، فالقوم فاعل، "وهم على ظهور الفش": بضمتين جمع فراش، فعال بمعنى مفعول "نائمون" والجملة حالية، "ولقد تقدموا الركب بمراحل وهم في سيرهم واقفون" أي أنهم، فازوا بالسعادة والتقرب إلى الله بحب المصطفى وإن لم يكن لهم كثير عمل، فأشبهوا من حيث قلة العمل من وقف في سيرة بحبس دابته مثلًا، ومع ذلك حصل ما تمناه، وأنشد لغيره:
من لي بمثل سيرك المذلل ... تمشي رويدًا وتجي في الأول
أي: من يتكفل لي بسير مثل سيرك السهل "أجابوا: مؤذن الشوق" أي: المعلم به والداعي له "إذ نادى بهم حي على الفلاح" أي: هلم إلى الفوز والنجاة، أو البقاء في الجنة، أي: أقبلوا إلى سبب الفلاح والبقاء "في الجنة وبذلوا أنفسهم": أعطوها "في طلب الوصول إلى محبوبهم"، وجرد البذل عن بعض معناه، فاستعمله في مطلق الإعطاء، فلذا قال: "وكان بذلهم بالرضا والسماح" مراعاة للسجع، أو دفعًا لتوهم أنه مجرد الإعطاء وإلا فهو لغة الإعطاء بسماحة وطيب نفس، "ووصلوا إليه السير بالإدلاج"، بالكسر بزنة الإكرام، أي: بسير الليل كله "والغدو" أي: الذهاب وقت الغدوة وهي ما بين الفجر والشمس أو منه، إلى الزوال "والرواح" من الزوال إلى الغروب والمعنى واصلوا سيرهم إليه ليلًا ونهارًا "ولقد حمدوا على الوصول مسراهم" عند وصولهم إلى محبوبهم، حيث ترتب على سيرهم ما قصدوه بلا تعب ومشقة. "وإنما يحمد القوم السري عند الصباح" لوصولهم إلى منازلهم المترتب على سراهم "وقد اختلفوا في تعريف المحبة" بعبارات كثيرة مختلفة، "وعباراتهم وإن كثرت" الواو للحال، لأن الواقع أنها كثيرة فين نفسها، فلا يصح أنها غائية، أو هي غائية بالنظر للواقف عليها، لا في نفس الأمر، أي: سواء كانت قليلة أو كثيرة للواقف عليها، وإن كثرت في الواقع، "فليست في(9/62)
ترجع إلى اختلاف مقال، وإنما هي اختلاف أحوال، وأكثرها يرجع إلى ثمراتها، دون حقيقتها.
وقد قال بعض المحققين: حقيقة المحبة عند أهل المعرفة، من المعلومات التي لا تحد وإنما يعرفها من قامت به وجدانًا لا يمكن التعبير عنه.
وهكذا يقول صاحب مدارج السالكين - تبعًا لغيره: والمحبة لا تحد بحد أوضح منها، فالحدود لا تزيدها إلا خفاء وجفاء فحدها وجودها، ولا توصف المحبة بوصف أظهر من المحبة.
وإنما يتكلم الناس في أسبابها وموجباتها وعلاماتها وشواهدها وثمراتها
__________
الحقيقة ترجع إلى اختلاف مقال" في معناها، بحجيث يعتقد كل واحد في معناها غير ما اعتقده الآخر، ومقال مصدر، قال: وإنما هي" عبارات منشؤها "اختلاف أحوال" قامت بالمحبين، فكل عبر بما يليق بالمعنى الذي قام به:
عباراتنا شتى وحسنك واحد ... وكل إلى ذاك الجمال يشير
"وأكثرها" أي: العبارات "يرجع إلى" بيان "ثمراتها" وهي ما يترتب على المحبة من الفوائد، سماها ثمرات، لمشابهتها لها في الانتفاع بها وترتبها عليها "دون حقيقتها" لاتحادها.
"وقد قال بعض المحققين: حقيقة المحبة عند أهل المعرفة من المعلومات" لهم، "التي لا تحد، وإنما يعرفها من قامت به وجدانًا لا يمكن التعبير عنه" كلذة المجامع يمكن التعبير عن حقيقتها بعبارة، "وهكذا يقول صاحب مدارج السالكين" ابن القيم "تبعًا لغيره: والمحبة لا تحد بحد أوضح منها" أي: لا تعرف بحد يفيد أكثر مما يفيده لفظ المحبة، لأنها علقة تقوم بالمحب يدركها من نفسه، ولا يمكن أن يوصل خصوص ما قام به إلى غيره، بحيث يكشف له حقيقة ما عنده، وغايته أن يخب بأنه يحب كذا محبة قوية، لا يمكنه التخلف عنه، وليس هذا عين ما قام به، وقريب من هذا قولهم: الحسن يدرك ولا يوصف، أي: لا يبين بعبارة تحقق معناه عند المخاطب "فالحدود لا تزيدها إلا خفاء" لعدم بيانها حقيقة الماهية، "وجفاء" "بالجيم والمد" ويقصر، أي: بعدًا مأخوذ من جفاء السرج عن الفرس: رفعه كإجفاه، "فحدها وجودها" وذلك الوجود لا يمكن بيان حقيقته للغير، "ولا توصف المحبة بوصف أظهر من المحبة" فلا معنى لحدها بأخفى منها، "وإنما يتكلم الناس في أسبابها وموجباتها" بكسر الجيم عطف تفسير "وعلاماتها" الدالة عليها "وشواهدها" التي تشهد بقيامها بالمحب، "وثمراتها" فوائدها "وأحكامها" التيتبنى عليها، "فحدودها": جمع حدو هو التعريف بذاتيات(9/63)
وأحكامها، فحدودهم ورسومهم دارت على هذه السنة، وتنوعت بهم العبارات، وكثرت الإشارات بحسب الإدراك والمقام الحال.
وقد وضعوا لمعناها حرفين مناسبين للمسمى غاية المناسبة: "الحاء" التي هي من أقصى الحلق، و"الباء" الشفهية التي هي نهايته، فللحاء الابتداء، وللباء الانتهاء وهذا شأن المحبة وتعلقها بالمحبوب، فإن ابتداءها منه وانتهاءها إليه.
وأعطوا "الحب" حركة الضم التي هي أشد الحركات وأقواها مطابقة لشدة حركة مسماة وقوتها، وأعطوا "الحب" وهو المحبوب حركة الكسر لخفتها من
__________
المعرفة، كتعريف الإنسان بالحيوان الناطق، "ورسومهم": جمع رسم، وهو التعريف بخاصة من خواصه، كتعريفه بالضاحك، والمراد بهما هنا شيء واحد، وهو التعريف بالأثر "دارت على هذه السنة" "بنون"،أي: الطريقة، وبفوقية، أي: الستة المذكورة، فهي ألفاظ متقاربة، "وتنوعة بهم العبارات، وكثرت الإشارات بحسب الإدراك" أي: وصول كل إلى المعنى الذي تصوره من لفظ المحبة، "والمقام" المكان المورد فيه الكحلام الذي يريد التعبير به، "والحال" زممن إيارد ذلك الكلام، فالفرق بينهما اعتباري، وحقيقته صفة الشيء تذكر وتؤنث، فيقال: حال حسنة وحسن، "وقد وضعوا لمعناها" أي: لمعنى المحبة، وهو الحب، وجعل الحب معنى لها لاشتماله على زيادة، وإلا فالحب والمحبة لغة معناهما واحد، وهو الوداد "حرفين مناسبين للمسمى غاية المناسبة" أحدهما: "الحاء التي هي من أقصى الحلق، و" الثاني "الباء الشفهية التي هي نهايته" أي: نهاية الصوت وفي نسخة نهاية بلا ضمير، أي: للمخارج "فللحاء الابتداء" لأنها مبدأ الصوت المشتمل على الحروف، وإن كان مخرجها أقصى الحلق، "وللباء الانتهاء" والحاصل، كما قال شيخنا: أنهم جعلوا آخر الحلق مما يلي الصدر أقصى باعتبار وضع الإنسان، لأن كل شيء لها نهايتان، فأيتهما فرضتها أوله كان مقابله آخره، هذا فيما وضع على الامتداد، كالبساط وأما ما وضع على الانتصاب، فأعلاه أوله واسفله آخر، ولذا كان أول المخارج الشفتين، وأولهما مما يلي البشرة التي هي ظاهر الجلد، وآخرها الحلق، وأوله مما يلي اللسان، وآخره بما يلي الصدر، والصوت لما كان مبدؤه من الئة يخرج منها، ثم يمر على الحلق، جعل أول المخارج بهذا الاعتبار، وأقصى الحلق وآخرها الشفتين.
"وهذا شأن المحبة وتعلقها بالمحبوب، فإن ابتداءها منمه" بأن يرى المحب من المحبوب ما يدعو غلىميله إليه، فيتعلق به، بحيث لا يصير عنده سواه، "وانتهاءها إليه"، إذ هو غاية المطلوب، "وأعطوا الحب" الذي هو المصدر "حركة الضم التي هي أشد الحركات وأقواها" "عطف مساو" "مطابقة" "مفعول لأجله"، أي: لمطابقته "لشدة حركة مسماه وقوتها،(9/64)
الضمة، وخفة المحبوب وذكره على قلوبهم وألسنتهم.
فتأمل هذا اللطف والمطابقة والمناسبة العجيبة بين الألفاظ والمعاني، تطلعك على قدر هذه اللغة، وأن لها شأنًا ليس لسائر اللغات.
وهذه بعض رسوم وحدود قيلت في المحبة بحسب آثارها وشواهدها، والكلام على ما يحتاج إلى الكلام عليه منها.
فمنها: موافقة الحبيب في المشهد والمغيب، وهذا موجبها ومقتضاها.
ومنها: محوب المحب لصفاته وإثبات المحب لذاته، وهذا من الفناة في المحبة، وهي أن تمحى صفات المحب وتفنى في صفات محبوبه وذاته، وهذا يستدعي بيانًا أتم من هذا لا يدركه إلا من أفناه وارد المحبة عنه وأخذه منه.
ومنها: استقلال الكثير من نفسك، واستكثار القليل من محبوبك، وهو لأبي
__________
وأعطوا الحب وهو المحبوب حركة الكسر لخفتها من الضمة، وخفة المحبوب و" خفة "ذكره على قلوبهم وألسنتهم فتأمل هذا اللطف والمطابقة، والمناسبة العجيبة بين الألفاظ والمعاني تطلعك على قدر" أي: شرف "هذه اللغة" العربية وتميزها على غيرها "وأن لها شأنًا ليس لسائر اللغات، وهذه بعض رسول وحدود قيلت في المحبة بحسب آثارها"، علاماتها التي بها يهتدي إليها "وشواهدها" أي: ما يشهد بها ويدل عليها، حتى كأنها شهدت به وأثبتته، "والكلام على ما يحتاج إلى الكلام عليه منها، فمنها موافقة الحبيب في المشهد والمغيب"، أي: في حالتي شهوده، أي: حضوره ومغيبة، "وهذا موجبها" "بفتح الجيم" "ومقتضاها" مساوٍ له في المعنى: أي: أنهما أثر المحبة، ومسبب عنها، "ومنها محو المحب لصفاته" بحيث لا يبقى له صفة، "وإثبات المحب لذاته" بدون صفة، فالمحو في أصل اطصلاحهم رفع أوصاف العادة.
قال ابن عطاء: يمحو أوصافهم، ويثبت أسرارهم، ويقابل المحو الإثبات، وهو إقامة أحكام العادة، "وهذا من الفناء في المحبة، وهو أن تمحى صفات المحب وتفنى": تزول وتضمحل "في صفات محبوبه وذاته، وهذا يستدعي بيانًا أتم من هذا، لا يدركه إلا من أفناه وارد المحبة عنه" أي: الفناء "وأخذه" أي: أخذ الوارد الفناء "منه"، ويسمونه فناء الفناء، وهو الفناء عن شهود هذا الفناء، بحيث يفنى عن كل ما سوى محبوبه، وحينئذٍ يدرك ذلك بالوجدان لا بالعبارة "ومنها استقلال الكثير من نفسك واستكثار القليل من محبوبك" كما قيل:
قليل منك يكفيني ولكن ... قليلك لا يقال له قليل(9/65)
يزيد، وهو أيضًا من أحكامها وموجباتها وشواهدها. والمحب الصادق لو بذل لمحبوبة جميع ما يقدر عليه لاستقله ولو ناله من محبوبه أيسر شيء لاستكثره واستعظمه.
ومنها: استكثار القليل من جنايتك، واستقلال الكثير من طاعتك، وهو قريب من الأول لكنه مخصوص بما من المحب.
ومنها: معانقة الطاعة ومباينة المخالفة، وهو لسهل بن عبد الله، وهو أيضًا حكم المحبة وموجبها.
ومنها أن تهب كلك لمن أحببت، فلا يبقى لك منك شيء، وهو لسيدنا ابي عبد الله القرشي، وهو أيضًا من موجبات المحبة وأحكامها، والمراد أن تهب
__________
"وهو لأبي يزيد" بياء قبل الزاي، اسمه طيفور، بطاء مهملة وتحتية وفاء، ابن عيسى البسطامي، نادرة زمانه حالاً وأنفاسًا وورعًا وعلمًا وزهدًا وتقي، مات سنة إحدى وستين ومائتين عن ثلاث وسبعين سنة، "وهو أيضًا من أحكامها وموجباتها" "بفتح الجيم" "وشواهدها" الدالة عليها، "والمحب الصادق لو بذل لمحبوبه جميع ما يقدر عليه لاستقله": اعتقده قليلًا، "ولو ناله من محبوبه أيسر شيء لاستكثره واستعظمه" عدة، واعتقده كثيرًا عظيمًا، "ومنها استكثارًا لقليل من جنايتك واستقلال الكثير من طاعتك، وهو قريب من الأول" أي: ما قبله فهو أول نسي وإلا فهو ثالث "لكنه مخصوص بما من المحب "في الحالين، بخلاف ما قبله فمنه ومن المحبوب، فافترقا، "ومنها معانقة الطاعة" أي: التزام المحب طاعة محبوبه، بحيث يفعل كل ما أمره به، أو فهم أنه يريرده وإن لم يأمره، "ومباينة المخالفة" بأن لا يخالفه في شيء أراده منه، ولا يفعل شيئًا نهاه عنه، وهذا المعنى لازم لالتزام الطاعة، فذكره أيضًا "وهو لسهل بن عبد الله" التستري الولي الذي لم يسمح الدهر بمثله، له كرامات وتصانيف، مات سنة ثلاث وثمانين ومائتين عن ثلاث وثمانين سنة "وهو إيضاحكم المحبة، وموجبها" لا حد لها حقيقي، "ومنها أن تهب كلك لمن أحببت، فلا يبقى لك منه شيء" وعليه أنشد:
تملك بعض حبك كل قلبي ... فإن ترد الزيادة هات قلبًا
"وهو لسيدنا أبي عبد الله" محمد بن أحمد بن إبراهيم "القرشي" من أعيان مشايخ المغرب ومصر، لقي نحو ستمائة شيخ، وجد واجتهد وأخذ عنه كثيرون، منهم البوني، وله كرامات كثيرة، مات ببيت المقدس سنة تسع وتسعين وخمسمائة، وقيل غير ذلك، ودفن به، ثم دفن بجانبه ابن رسلان، وجربت استجاب الدعاء بين قبريهما، "وهو أيضًا من موجبات المحبة،(9/66)
إرادتك وعزماتك وأفعالك ونفسك ومالك ووقتك لمن تحبه، وتجعلها حبسًا في مرضاته ومحابه، ولا تأخذ منها لنفسك إلا ما أعطاكه، فتأخذ منه له.
ومنها: أن تمحو من القلب ما سوى المحبوب، وكمال المحبة يقتضي ذلك، فإنه ما دامت في القلب بقية لغيره ومسكن لغيره فالمحبة مدخولة.
ومنها: أن تغار على المحبوب أن يحبه مثلك، وهو للشبلي، ومراده: احتقارك لنفسك واستصغارها أن يكون مثلك يحبه.
ومنها: غض طرف المحب عما سوى المحبوب غيره، وعن المحبوب هيبة، وهذا يحتاج إلى إيضاح، أما الأول فظاهر، وأما الثاني: فإن غض طرف القلب
__________
وأحكامها" لا تعريف لها، "والمراد: أن تهب إرادتك وعزماتك" بفتح الزاي جمع عزمة، وهي الاجتهاد في الشيء والمحافظة عليه، "وأفعالك ونفسك ومالك ووقتك لمن تحبه"، والوقت عندهم عبارة عن حال في زمان الحال، لا تعلق فيه بالماضي ولا الاستقبال، فيقال: فلان وقته كذا، أي: حاله كذا، ولذا قالوا: الوقت ما أنت فيه، إن كنت بالدنيا فوقتك بالدنيا، وإن كنت بالعقبى فوقتك العقبى، وإن كنت بالسرور فوقتك السرور، وإن كنت بالحزن فوقتك الحزن، فعنوا بذلك أن وقت الإنسان هو حاله الغالبة عليه، و"تجعلها"، أي: المذكورات "حبسًا"، بضمتين وتسكن الباء لغة، وقفًا "في مرضاته"، أي: مقصورة على رضاه لا تتعداه إلى غيره، "ومحابه" ما يحبه هو، "ولا تأخذ منها لنفسك إلا ما أعطاكه فتأخذه منه له" لأنه لم يبق لك منك شيء فأخذك ما أعطاك إنما هو له "ومنها أن تمحو من القلب ما سوى المحبوب" حتى نفسك، وذلك عندما ينسى أوصاف نفسه في ذكر محاسن حبه، كما قيل:
شاهدته وذهلت عني وغيره ... مني عليه فذا المثنى مفرد
"وكمال المحبة يقتضي ذلك، فإنه ما دامت في القلب بقية لغيره ومسكن لغيره، فالمحبة مدخولة"، أي: مشوبة بغيرها، ومتى كانت كذلك لم تكن حقيقية.
"ومنها أن تغار على المحبوب أن يحبه مثلك، وهو للشبلي" أبي بكر دلف بن جحدر، وقيل: اسمه جعفر بن يونس، وقيل: غير ذلك صحب الجنيد والنساج وطبقتهما، وصار أوحد وقته علمًا وحالًا، وتفقه على مذهب مالك، وكتب حديثًا كثيرًا، ثم شغلته العبادة عن الراية، مات سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة عن سبع وثمانين سنة، ودفن بمقبرة الخيزران ببغداد، "ومراده احتقارك لنفسك، واستصغارها أن يكون مثلك يحبه" لجلالته، فيغار عليه من أن ينسب له الشيء الحقير "ومنها: غض طرف المحب عما سوى المحبوب غيره"، مفعول له، "وعن المحبوب هيبة"، أي: لأجل الغيرة والهيبة "وهذا يحتاج إلى إيضاح، أما الأول فظاهر، وأما(9/67)
عن المحبوب مع كمال محبته كالمستحيل، ولكن عند استيلاء سلطان المحبة يقع مثل هذا، وذلك من علامات المحبة المقارنة للهيبة والتعظيم.
ومنها: ميلك إلى الشيء بكليتك ثم إيثارك له على نفسك وروحك ومالك، ثم موافقتك له سرًّا وجهرًا ثم علمك بتقصيرك في حبه، قال الجنيد: سمعت الحارث المحاسبي يقول ذلك.
ومنها: سكر لا يصحو صاحبه إلا بمشاهدة محبوبه، ثم السكر الذي يحصل عند المشاهدة لا يوصف، وأنشد بعضهم:
فأسكر القوم دورًا لكأس بينهم ... لكن سكري نشأ من رؤية الساقي
ومنها: سفر القلب في طلب المحبوب، ولهج لسانه يذكره على الدوام، أما سفر القلب في طلبه فهو الشوق إلى لقائه، وأما لهج اللسان بذكره فلا ريب أن
__________
الثاني، فإن غض طرف القلب عن المحبوب مع كمال محبته كالمستحيل"، إذ أصل معنى المحبة ميل القلب، فكيف يصرفه عنه "ولكن عند استيلاء سلطان المحبة يقع مثل هذا" بدون اختيار، كأنه لا يدري ما هو عليه، "وذلك من علامات المحبة المقارنة للهيبة والتعظيم" للمحبوب "ومنها ميلك إلى الشيء" الذي تحبه "بكليتك" بجملتك "ثم إيثارك له على نفسك وروحك ومالك، ثم موافقتك له سرًّا وجهرًا، ثم علمك بتقصيرك في حبه" وهذا بمعنى ما سبق عن القرشي، لكن غرض المصنف بيان العبارات، وإن رجع بعضها إلى بعض.
قال الجنيد: أبو القاسم بن محمد البغدادي شيخ الطريقة، العلم الشهير: "سمعت الحرث" بن أسد البصري، "المحاسبي" قيل: له ذلك لكثرة محاسبته لنفسه، أو لأنه كان له حصى يعدها ويحسبها حال الذكر، أو لغير ذلك صحب الشافعي، وقيل: بل عاصره وكان عابدًا، زاهدًا، راسخًا في الأصول والفقه والحديث والتصوف والكلام، صنف نحو مائتي مؤلف، ومات ببغداد سنة ثلاث وأربعين ومائتين، "يقول ذلك" المذكور في معنى المحبة "ومنها" المحبة "سكر لا يصحو صاحبه إلا بمشاهدة محبوبه" لأنه عند الطائفة عبارة عن غيبة بوارد قوي، والغيبة عدم الإحساس، وذلك إذا كوشف بنعت الجمال, وطرب وهام قلبه، "ثم السكر الذي يحصل عند المشاهدة" للمحبوب "لا يوصف" بل يحل عن الوصف "وأنشد بعضهم"
"فأسكر القوم دورًا لكأس بينهم ... لكن سكري نشأ من رؤية الساقي"
فالصادق المحبة لا يتوقف سكره على كأس ولا غيرها بل بمجرد رؤية الحب يسكر سكرًا يجل عن الوصف، "ومنها سفر القلب" أي: توجهه "في طلب المحبوب، ولهج لسانه يذكره على الدوام" بحيث لا يفتر عنه، "أما سفر القلب في طلبه، فهو الشوق إلى لقائه"،(9/68)
من أحب شيئًا أكثر من ذكره.
ومنها: الميل إلى ما يوافق الإنسان، كحب الصور الجميلة والأصوات الحسنة وغير ذلك من الملاذ التي لا يخلو كل طبع سليم عن الميل إليها لموافقتها له، أو لاستلذاذه كحب الصورة الجميلة بإدراكه بحاسته، أو يكون حبه لذلك لموافقته له من جهة إحسانه إليه وإنعامه عليه، فقد جبلت القلوب على حب
__________
فكل حبيب يحب لقاء حبيبه، وما أحسن قوله:
وإني لأهوى الحشر إذ قيل إنني ... وعفراء يوم الحشر نلتقيان
وأحلى قول الآخر:
إن كان يحلو لديك ظلمي ... فزد من الهجر في عذابي
عسى يطيل الوقوف بيني ... وبينك الله في الحساب
"وأما لهج اللسان بذكره؛ فلا ريب أن من أحب شيئًا أكثر من ذكره"، وهو لفظ حديث، رواه أبو نعيم، ثم الديلمي من طريق مقاتل بن حيان، عند داود بن أبي هند، عن الشعبي، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم: "من أحب شيئًا أكثر من ذكره"، "ومنها": المحبة: "الميل إلى ما يوافق الإنسان" المحب، وتكون موافقته له إما لاستلذاذه بإدراكه منه أمرًا محبوبًا "كحب الصور الجميلة والأصوات الحسنة وغير ذلك" كالأطعمة والأشربة اللذيذة والروائح الطيبة والملابس الفاخرة "من الملاذ التي لا يخلو كل طبع سليم" من غلظ الطبع وفساد الحواس، كالمريض يحد الحلو مر الفساد ذوقه، فلا يرد نقضًا "عن الميل إليها لموافقتها له" طبعا "أو لاستلذاذه" أي: وجود لذته، وهو إدراك الملائم من حيث هو ملائم، والألم ضده، والمراد بالملائم للشيء كماله اللائق به، كالتكيف بالحلاوة للذائق ونحوه، من المحسوسات، وكتعقل الأشياء على ما هي عليه بالقوة العاقلة، وقيد الحيثية لا الشيء قد يكون ملائمًا من وجه دون آخر، فاللذة حسية، وإليها أشار بقوله: "كحب الصورة الجميلة" وعقيلة، وبينها بقوله: "بإدراكه بحاسته" بعد الوصول إليه لا قبله بمجرد تخيله بحاسة عقله وقلبه معاني لطيفة شريفة، كحب الصالحين والعلماء وأهل المعروف، كما في الشفاء، وفيه تسمح على رأي الحكماء؛ لأن المدرك عندهم القوى الباطنة في الدماغ لا العقل المدرك للكليات، لكن لما يثبتها أهل الشرع تسمح فيها، "أو يكون حبه لذلك لموافقته له" أي: لملائمته وموافقة طبعه "من جهة إحسانه" إنعامه وبذله وجوده "إليه".
وفي نسخة له، أي: لأجل ذلك، فقوله: "وإنعامه عليه" عطف تفسير، "فقد جبلت" خلقت وطبعت "القلوب على حب من أحسن إليها، وبغض من أساء إليها" كما رواه أبو نعيم(9/69)
من أحسن إليها، وبغض من أساء إليها، وإذا كان الإنسان يحب منحه في دنياه مرة أو مرتين معروفًا فانيًا منقطعًا أو استنفذه من مهلكة أو مضرة لا تدوم، فما بالك بمن منحه منحًا لا تبيد ولا تزول ووقاه من العذاب الأليم ما لا يفنى ولا يحول.
__________
في كتاب الحلية، وأبو الشيخ وغيرهما كانب حبان في "روضة العقلاء" والخطيب في "تاريخ بغداد" وأخرين عن ابن مسعود، موقوفًا.
وأخرجه ابن عدي والبيهقي وابن الجوزي، عنه مرفوعًا، قال السخاوي: وهو باطل موقوفًا ومرفوعًا وقول ابن عدي والبيهقي، الموقوف معروف فيه تأمل ففي سندهما: من أبهم بالكذب والوضع بسياق أجل الأعمش عن مثله، وهو أنه لما ولي الحسن بن عمارة مظالم الكوفة، فقال الأعمش: ظالم ولي مظالم، فبلغ الحسن فبعث إليه بأثواب ونفقة، فقال الأعمش: مثل هذا ولي علينا يرحم صغيرها ويجود على فقيرنا ويوقر كبيرنا فقال له رجل: ما هذا قولك بالأمس، فقال: حدثني خيثمة عن ابن مسعود، فذكره موقوفًا، وأخرجه القضاعي، مرفوعًا من جهة ابن عائشة عن محمد بن عبد الرحمن القرشي، قال: كنت عند الأعمش، فقيل: إن الحسن ولي المظالم، فقال الأعمش: يا عجبًا من ظالم ولي المظالم، ما للحائك بن الحائك والمظالم، فأتيت الحسن، فأخبرته، فقال: عليَّ بمنديل وأثواب، فوجه بها إليه، فبكرت إلى الأعمش من الغاد، فأجربت ذكره، فقال: بخ بخ، هذا الحسن بن عمارة ولي العمل وما زانه، فقلت: بالأمس تقول ما قلت واليوم تقول هذا، فقال: دع عنك هذا.
حدثني خيثمة عن ابن مسعود مرفوعًا به، فقد كان رحمه الله زاهدًا، ناسكًا، تاركًا للدنيا، حتى وصفه القائل بقول: ما رأيت الأغنياء والسلاطين عند أحد أحقر عنده منهم مع فقره وحاجته، وقال آخر: أنه فقير، صبور، مجانب للسلطان، ورع، عالم بالقرآن، انتهى.
وفي تذكرة ابن عبد الهادي، قال مهنأ: سألت أحمد ويحيى عن هذا الحديث، فقالا: ليس له أصل وهو موضوع، "وإذا كان الإنسان يحب منحه" أي: أعطاه "في دنياه" أي: حياته في الدنيا "مرة أو مرتين معروفًا"، أي: شيئًا حسنًا، "فانيًا، منقطعًا" أي: زائلًا في زمن قليل، "أو استنقذه"، نحاه "من مهلكة" أمر مهلك، "أو مضرة" "بفتح الميم والضاد" أمر يضره ويؤذيه "لا تدوم" مدة ذلك "فما بالك بمن منحه منحا لا تبيد" بكسر الموحدة وإسكان التحتية لا تذهب وتنفذ "ولا تزول" عطف تفسير من نعيم الخلد في الجنة، "ووقاه" بالتشديد والتخفيف صانه "من العذاب الأليم"، عذاب النار "ما لا يفنى ولا يحول" عنه إلى غيره، فهذا أحق أن يحب من كل شيء يحب حتى من نفسه وماله وأهله، "وإذا كان المحب يحب غيره على" أي: لأجل "ما فيه من صورة جميلة وسيرة حميدة" كملك وقاضٍ وإن كان بعيد الدار(9/70)
وإذا كان المحب يحب غيره على ما فيه صورة جميلة وسيرة حميدة، فكيف بهذا النبي الكريم والرسول العظيم الجامع لمحاسن الأخلاق والتكريم، المانح لنا جوامع المكارم والفضل العميم، فقد أخرجنا الله به من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان، وخلصنا به من نار الجهل إلى جنات المعارف والإيقان، فهو السبب لبقاء مهجنا البقاء الأبدي في النعيم السرمدي، فأي إحسان أجل قدرًا وأعظم خطرًا من إحسانه إلينا، فلا منة -وحياته- لأحد بعد الله كما له علينا، ولا فضل لبشر كفضله لدينا.
فكيف ننهض ببعض شكره، أو نقوم من واجب حقه بمعشار عشرة، فقد منحنا الله به منح الدنيا والآخرة، وأسبغ علينا نعمة باطنة وظاهرة، فاستحق صلى الله عليه وسلم أن يكون حظه من محبتنا له أوفى وأزكى من محبتنا لأنفسنا وأولادنا وأهلينا وأموالنا والناس أجمعين، بل لو كان في كل منبت شعرة منا محبة تامة له صلوات
__________
عنه ولم يره، "فكيف بهذا النبي الكريم والرسول العظيم"، الذي لا أكرم ولا أعظم منه، "الجامع لمحاسن الأخلاق والتكريم، المانح" المعطي "لنا جوامع المكارم والفضل العميم، فقد أخرجنا الله به من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان"، بالإضافة البيانية فيهما أو من إضافة الأعم إلى الأخص، "وخلصنا به من نار الجهل إلى جنات المعارف والإيقان، فهو السبب لبقاء مهجنا" بضم ففتح "البقاء الأبدي" الدائم "في النعيم السرمدي" المتواصل الذي لا ينقطع، "فأي: إحسان أجل قدرًا" رتبة "وأعظم خطرًا" بفتح الخاء المعجمة والطاء المهملة، أي: قدرًا أو شرفًا غاير بينهما تفننًا "من إحسانه إلينا" معاشر المؤمنين، وخصهم لأنهم هم المنتفعون به وإن كان إحسانه عامًا، وأي: للتعظيم والتفخيم، كما يقال: عندي رل، أي: رجل كامل الرجولية، "فلا منة وحياته" قسمي "لأحد بعد الله كما له علينا ولا فضل لبشر" ولا لملك "كفضله لدينا" عندنا وقيد بالبشر؛ لأنه المشاهد فضله، "فكيف ننهض" نقوم بسرعة "ببعض شكره" على ما أولانا، "أو" كيف "نقوم من واجب حقه بمعشار عشرة، فقد منحنا الله به منح الدنيا والآخرة وأسبغ: أوسع وأتم "علينا" بسببه "نعمة" أي: الله "باطنة"وهي المعرفة وغيرها، "وظاهرة" حسن الصورة وتسوية الأعضاء، فاستحق صلى الله عليه وسلم أن يكون حظه" نصيبه "من محبتنا له أوفى" أتم "وأزكى" أطهر "من محبتنا لأنفسنا وأولادنا وأهلينا وأموالنا والناس أجمعين"، عطف على خاص وهو كثير، "بل" انتقال "لو كان في كل منبت" محل نبات "شعرة منا محبة تامة له صلوات الله وسلامه عليه لكان ذلك بعض ما يستحقه(9/71)
الله وسلامه عليه لكان ذلك بعض ما يستحق علينا.
وقد روى أبو هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال: "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده". رواه البخاري.
وقدم الوالد للأكثرية؛ لأن كل أحد له والد، من غير عكس، وفي رواية النسائي تقديم الولد على الوالد وذلك لمزيد الشفقة، وزاد في رواية عبد العزيز بن صهيب عن أسن والناس أجمعين، وفي صحيح ابن خزيمة: من أهله وماله بدل
__________
علينا".
"وقد روى أبو هريرة أنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا يؤمن" إيمانًا كاملًا "أحدكم" خطاب للحاضرين عام فيهم وفي غيرهم، بقياسهم عليهم بطريق المساواة بجامع العلة، أو تنزيلًا لهم منزلة المخاطبين، وتوجيه الكلام لجملتهم مجازًا من باب الاستعارة التمثيلية، ويؤيد عمومه رواية مسلم لا يؤمن الرجل.
وفي رواية الأصيلي: لا يؤمن أحد وزعم أن في مسلم: لا يؤمن عبد وابن حبان: لا يبلغ عبد حقيقة الإيمان غلط، فإنما فيهما ذلك في حديث: حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه. "حتى أكون أحب" أفعل بمعنى مفعول، وهو مع كثرته على خلاف القياس، وفصل بينه وبين معموله بقوله: "إليه" لأن الممتنع الفصل بأجنبي.
قاله الحافظ وقال المصنف: لأنه يتوسع في الظرف ما لا يتوسع في غيره "من والده" أي: أبيه، قال الحافظ: وهل تدخل الأم في لفظ والده، إن أريد به من له الولد، فيعم، أو اكتفى بذكر أحدهما كما يكتفي عن أحد الضدين بالآخر، ويكون ما ذكر على سبيل التمثيل والمراد، إلا عزة، كأنه قال: أحب إليه من أعزته "وولده" ذكرًا أو أنثى.
"رواه البخاري" من حديث أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: والذي نفسي بيده لا يؤمن، ذكره، وهو عن أبي هريرة من أفراد البخاري، ورواه هو ومسلم من حديث أنس، "وقدم الوالد للأكثرية؛ لأن كل أحد له والد من غير عكس" أو نظرًا إلى جانب التعظيم، أو لسبقه بالزمان، قاله المصنف.
"وفي رواية النسائي": لحديث أنس: "تقدم الولد على الوالد، وذلك لمزيد الشفقة"، ونطق صلى الله عليه وسلم عند كل من أبي هريرة، وأنس بما رواه عنه، فلا خلف، وليس أحدهما بالمعنى لاختلاف المخرج، وأفاد الحافظ أن الروايات لم تختلف في حديث أبي هريرة "وزاد في رواية عبد العزيز بن صهيب"، بضم المهملة وفتح الحاء وسكون التحتية وموحدة، البناني بضم الموحدة نسبة إلى بنانة: بطن من قريش التابعي، كأبيه "عن أنس" عند البخاري ومسلم: "لا يؤمن(9/72)
والده وولده وذكر الوالد والولد أدخل في المعنى لأنهما أعز على العاقل من الأهل والمال، بل ربما يكونان أعز من نفسه. ولذا لم يذكر "النفس" في حديث أبي هريرة، وذكر الناس بعد الوالد والولد من عطف العام على الخاص.
قال الخطابي: والمراد بالمحبة هنا، حب الاختيار لا حب الطبع.
وقال النووي: فيه تلميح إلى قضية النفس والأمَّارة والمطمئنة، فإن من رجح
__________
أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده" "والناس أجمعين" دخل في عمومه النفس على الظاهر، وقيل: إضافة المحبة إليه تقتضي خروجه منهم، وهو بعيد، وقد نص على النفس في حديث عبد الله بن هشام، كما يأتي انتهى. ووجه بعده أن اللفظ عام، وما ذكر ليس من المخصصات، وحينئذٍ فلا يخرج.
"وفي صحيح" محمد "بن خزيمة" المعروف بإمام الأئمة، من طريق عبد العزيز بن صهيب، عن أنس مرفوعًا: "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من أهله وماله" بدل والده وولده.
وكذا لمسلم من طريق ابن علية، والإسماعيلي من طريق عبد الوارث بن سعيد، كلاهما عن عبد العزيز، عن أنس، بلفظ: لا يؤمن الرجل، قال الحافظ: وهو أشمل من جهة، وأحدكم أشمل من جهة، وأشمل منهما رواية الأصيلي: لا يؤمن أحد، "وذكر الوالد والولد أدخل في المعنى" أي: أنسب المعنى الذي الكلام فيه، "لأنهما أعز على العاقل من الأهل والمال، بل ربما يكونان أعز من نفسه، ولهذا لم يذكر النفس في حديث أبي هريرة" بل قال: من والده وولده فقط، "وذكر الناس بعد الوالد والولد" في حديث أنس عند الشيخين، كما علم "من عطف العام على الخاص"، وهو كثير، كما في الفتح، فمحبة الوالد محبة إجلال ومحبة الولد رحمة وشفقة، والناس محبة إحسان، وقد ينتهي المحب في المحبة إلى أن يؤثر هوى المحبوب على هوى نفسه فضلا عن ولده، بل يحب أعداء نفسه لمشابهتهم محبوبه قال:
أشبهت أعدائي فصرت أحبهم ... إذ صار حظي منك حظي منهم
"قال الخطابي: والمراد بالمحبة هنا حب الاختيار"، الذي يقتضي العقل إيثاره وإن خالف الطبع، كمحبة المريض الدواء "لا حب الطبع" الذي لا يدخل تحت اختيار، فإنه لا يؤاخذ به لعدم دخوله تحت استطاعته.
"وقال النووي: فيه تلميح إلى قضية النفس الإمارة"، المائلة بطبعها إلى الشهوات، وتهيم بها، وتستعمل القوى والجوارح في أثرها كل الأوقات، "والمطمئنة" بذكر الله، فإن النفس تترقى في الأسباب والمسببات إلى الواجب لذاته، فتستقر دون معرفته، وتستغنى به عن غيره، أو(9/73)
جانب المطمئنة كان حبه للنبي صلى الله عليه وسلم راجحًا، ومن رجح جانب الأمَّارة كان حبه بالعكس.
وفي كلام القاضي عياض: إن ذلك شرط في صحة الإيمان؛ لأنه حمل المحبة على معنى التعظيم والإجلال، وتعقبه صاحب المفهم: بأن ذلك ليس مرادًا، هنا لأن اعتقاد الأعظمية ليس مستلزمًا للمحبة؛ إذ قد يجد الإنسان إعظام شيء مع خلوه من محبته. قال: فعلى هذا من لم يجد من نفسه ذلك الميل لم يكمل إيمانه، وإلى ذلك يومئ قول عمر بن الخطاب في الحديث الذي رواه البخاري في "الإيمان والنذور" من حديث عبد الله بن هشام أن عمر بن الخطاب قال للنبي: لأنت يا رسول الله أحب إليَّ من كل شيء إلا نفسي التي بين جنبي، فقال
__________
إلى الحق، بحث لا يريبها شك، والآمنة لا يستفزها خوف ولا حزن، قاله البيضاوي: "فإن من رجح جانب المطمئنة كان حبه للنبي صلى الله عليه وسلم راجحًا" حتى على نفسه، "ومن رجح جانب الأمارة كان حبه بالعكس"، أي: مرجوحًا "وفي كلام القاضي عياض" إشارة إلى "أن ذلك شرط في صحة الإيمان؛ لأنه حمل المحبة على معنى التعظيم والإجلال"، باعتقاد عظمته وجلاله صلى الله عليه وسلم، وحمله على ذلك يلزم منه التنقيص عند ضد التعظيم، وهوكفر، فلذا قال: شرط في صحة الإيمان "وتعقبه صاحب المفهم" أبو العباس أحمد بن محمد القرطبي، مرت ترجمته في شرح مسلم، "بأن ذلك ليس مرادًا هنا؛ لأن اعتقاد الأعظمية ليس مستلزمًا للمحبة؛ إذ قد يجد الإنسان إعظام شيء مع خلوه من محبته" بأن لا يحبه ولا يبغضه، أو يعظمه مع بغضه، يعني: فكما لا يلزم من الأعظمية المحبة، لا يلزم من ضدها البغضاء.
قال شيخنا: هو كذلك عقلا، وأما بحسب العرف، فالعادة قاضية؛ بأن من اعتقد عظمة إنسان أحبه، "قال" صاحب المفهم: "فعلى هذا من لم يجد من نفسه ذلك الميل لم يكمل إيمانه" فقط، لا أنه كافر، "وإلى ذلك يومئ قول عمر بن الخطاب في الحديث الذي رواه البخاري في" كتاب "الإيمان والنذور" من صحيحه "من حديث عبد الله بن هشام" بن زهرة بن عثمان التيمي، صحابي، صغير، مات في خلافة معاوية، وأبوه صحابي، "أن عمر بن الخطاب، قال للنبي: لأنت يا رسول الله"، لفظه عن عبد الله بن هشام، قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم، وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب، فقال له عمر: يا رسول الله، والله لأنت "أحب إليَّ" "بشد الياء واللام"، لتأكيد القسم "من كل شيء" في الدنيا وغيرها، "إلا" من "نفسي التي بين جنبي" "بشد الياء" مثنى؛ لأن بين لا تضاف إلا لمتعدد، وهذا كناية عن السر الذي قامت به الحياة، وأضافه إلى(9/74)
النبي صلى الله عليه وسلم: "لن يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه" فقال عمر: والذي أنزل عليك الكتاب لأنت أحب إليَّ من نفسي التي بين جنبي فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "الآن يا عمر"، فهذه المحبة ليست باعتقاد الأعظمية فقط، فإنها كانت حاصلة لعمر قبل ذلك قطعًا.
وفي رواية فقال صلى الله عليه وسلم: "لا والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك" قال بعض الزهاد: تقدير الكلام، لا تصدق في حبي حتى تؤثر رضاي على هواك وإن كان فيه الهلاك.
وأما وقوف عمر في أول أمره، واستثناؤه نفسه؛ فلأن حب الإنسان نفسه طبع، وحب غيره اختيار بتوسط الأسباب، وإنما أراد عليه الصلاة والسلام منه حب الاختيار؛ إذ لا سبيل إلى قلب الطباع وتغييرها عما جبلت عليه. وعلى هذا
__________
الجنبين، لجرى العادة بسلب الحياة، بسلب ما بينهما وهو القلب، وما يتعلق به من سائر الأعضاء الرئيسة، "فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لن يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه"، فقال عمر": مؤكدًا بالقسم تحقيقًا لخلوص طويته في قوله: "والذي أنزل عليك الكتاب" أوحى إليك القرآن "لأنت أحب من نفسي التي بين جنبي، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "الآن" عرفت، فنطقت بكمال الإيمان، فهو متعلق بمقدر، وهو مبني على الفتح، وأل فيه لازمه، وهو الزمان الحاضر، وصرح بقوله: "يا عمر" إشارة إلى وصوله لرتبة عليه، تخصه بالنسبة لبض من عداه، أي: لا تكفيك الرتبة الأولى، ولا يليق بعلو همتك الاقتصار عليها، "فهذه المحبة ليست باعتقاد الأعظمية فقط، فإنها كانت حاصلة لعمر قبل ذلك قطعًا"، بدليل قوله أحب إليّ من كل شيء.
"وفي رواية: فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر: "لا" يكمل إيمانك، "والذي نفسي بيده" أي: بقدرته، أو هو من المتشابه المفوض علمه لله، وهو أسلم وأقسم تأكيدًا، وفيه جواز الحلف على الأمر المبهم للتوكيد، وإن لم يكن هناك محلف "حتى أكون أحب إليك من نفسك" فقال له عمر: فإنه الآن والله لأنت أحب إليّ من نفسي، فقال صلى الله عليه وسلم: "الآن يا عمر".
هذا بقية هذه الرواية في البخاري: "قال بعض الزهاد: تقدير الكلام" في قوله: لا حتى أكون، "لا تصدق في حبي حتى تؤثر رضاي على هواك، وإن كان فيه الهلاك" بالجهاد أو إماتة النفس، "وأما وقوف عمر في أول أمره واستثناؤه نفسه، فلأن حب الإنسان نفسه طبع" لا يسلم منه إلا من ملك نفسه: جاهدها، "وحب غيره اختيار بتوسط الأسباب" المؤدية إلى ذلك، "وإنما أراد عليه الصلاة والسلام منه حب الاختيار؛ إذ لا سبيل إلى قلب الطباع"، أي:(9/75)
فجواب عمر كان أولًا بحسب الطبع، ثم تأمل فعرف بالاستدلال أن النبي صلى الله عليه وسلم أحب إليه من نفسه لكونه السبب في نجاتها من المهلكات في الدنيا والآخرة، فأخبره بما اقتضاه الاختيار، فلذلك حصل الجواب بقوله: "الآن يا عمر" أي الآن عرفت فنطقت بما يجب.
وإذا كان هذا شأن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم عبد الله ورسوله في محبتنا له ووجوب تقديمها على أنفسنا وأولادنا ووالدينا والناس أجمعين، فما الظن بمحبة الله تعالى ووجوب تقديمها على محبة ما سواه، ومحبة الله تعالى تختص عن محبة غيره قدرها وصفتها، وإفراده سبحانه وتعالى بها، فإن الواجب له من ذلك أن يكون أحب إلى العبد من ولده ووالده، بل من سمعه وبصره ونفسه التي بين جنبيه، فيكون إلهه الحق، ومعبوده أحب إليه من ذلك كله، والشيء قد يحب من وجه
__________
لا طريق إلى تحويلها عما تهواه، "وتغييرها عما جبلت عليه" لأنه لا يدخل تحت الاستطاعة فليس مكلفًا به، ولا مؤاخذًا بعدمه، "وعلى هذا، فجواب عمر كان أولًا بحسب الطبع" الذي جبل عليه الإنسان من ترجيح نفسه وتقديمها، "ثم تأمل، فعرف بالاستدلال؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم أحب إليه من نفسه، لكونه السبب في نجاتها من المهلكات في الدنيا والآخرة، فأخبره بما اقتضاه الاختيار"، الناشئ من التفكر "فلذلك حصل الجواب، بقوله" صلى الله عليه وسلم: "الآن يا عمر"، أي: الآن عرفت فنطقت بما يجب"، وحال عمر أنه لا يفعل غير ما وجب عليه؛ لأنه منهي عنه؛ إذ الأمر بالشئ الموجب له نهى عن ضده، "وإذا كان هذا شأن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم عبد الله ورسوله في محبتنا له ووجوب تقديمها على أنفسنا وأولادنا ووالدينا والناس أجمعين، فما الظن" استفهام تعظيم، أي: ظن تظنه، أي: لا تظن إلا أعظم ظن، "بمحبة الله تعالى وجوب تقديمها على محبة ما سواه".
وإلى هذا أشار صلى الله عليه وسلم بقوله: "أحبوا الله لما يغذوكم به من نعمه، وأحبوني لحب الله، وأحبوا أهل بيتي لحبي"، أخرجه الترمذي والحاكم، وصححاه عن ابن عباس:
"ومحبة الله تعالى تختص عن محبة غيره في قدرها وصفتها"، وفي "إفراده سبحانه وتعالى بها، فإن الواجب له من ذلك أن يكون أحب إلى العبد من ولده ووالده، بل من سمعه وبصره ونفسه التي بين جنبيه، فيكون إلهه الحق، ومعبوده أحب إليه من ذلك كله"، ولا انفكاك لأحد عن الاحتياج إليه، "والشيء قد يحب من وجه دون وجه"، كحب العالم لعلمه، وكراهته لبخله مثلًا، "وقد يحب لغيره وليس شيء يحب لذاته من كل وجه إلا الله(9/76)
دون وجه، وقد يحب لغيره وليس شيء يحب لذاته من كل وجه إلا الله تعالى حده، ولا تصلح الألوهية إلا له. والتأله هو المحبة والطاعة والخضوع.
ومن علامات الحب المذكور لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعرض الإنسان على نفسه أنه لو خير بين فقد غرض من أغراضه وفقد رؤية النبي صلى الله عليه وسلم أن لو كانت ممكنة، فإن كان فقدها أن لو كانت ممكنة أشد عليه من فقد غرض من أغراضه فقد أصتف بالأحبية المذكورة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن لا فلا.
__________
تعالى وحده".
قال ابن عطاء: الله ما من وقت ولحظة إلا وهو مورد عليك فيهما نعمًا، يجب حبه وشكره عليه دائمًا فمتى فات حق وقت لا يمكن قضاؤه أبدًا؛ إذ ما من وقت إلا وله عليك فيه حق جديد، وهو الشكر، وأمر أكيد وهو الاستغفار والتجريد {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} الآية، "ولا تصلح الألوهية"، أي: العبادة "إلا له والتأله"، أي: التعبد "هو المحبة والطاعة والخضوع"، والغرض من هذه الجملة بعدما تقدم التنبيه على استحقاقه الكمال المطلق، فلا يشاركه أحد في شيء من صفاته إلا في مجرد الاسم إن اتفاق ذلك، ولما كان هذا نتيجة الأسباب المحصلة لمحبة الله تعالى، كما قال بعد أن هذا ثمرة المعرفة، عطفة بالواو في قوله: ولا تصلح، ولم يقل إذا المقتضية للعلة لما قبله، غائية أو غير غائية؛ لأن ذلك يقتضي سبق معرفة العلة الغائية، أو غيرها على الأسباب المحصلة، "ومن علامات الحب المذكور لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أن يعرض" "بفتح الياء وكسر الراء"، أي: يظهر ويبرز "الإنسان على نفسه أن لو خير بين فقد غرض من أغراضه أو فقد رؤية النبي صلى الله عليه وسلم، أن لو كانت ممكنة"، أي: سهلة في نفسها، بحيث يتمكن منها إذا أرادها، فليس المراد بالإمكان ما قابل الاستحالة "فإن كان فقدها أن لو كانت ممكنة أشد عليه من فقد غرض من أغراضه، فقد اتصف بالأحبية المذكورة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن لا" يكن ذلك أشد، "فلا" يتصف بالأحبية المذكورة.
وهذا ذكره الحافظ، وزاد: وليس ذلك محصورًا في الوجود والفقد، بل يأتي مثله في نصرة سنته والذب في شريعته، وقمع مخالفيها، ويدخل فيها باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال: وفي هذا الحديث إيماء إلى فضيلة التفكر، فإن الأحبية المذكورة تعرف به، وذلك أن محبوب الإنسان، إما نفسه وإما غيرها، أما نفسه فهو أن يريد دوام بقائها سالمة من الآفات، هذا هو حقيقة المطلوب، وأما غيره فإذا حقق الأمر فيه، فإنما هو بسبب تحصيل نفع ما على وجوهه المختلفة حالًا ومآلًا، فإذا تأمل النفع الحاصل من جهة رسول الله صلى الله عليه وسلم إما بالمباشرة(9/77)
قال القرطبي: كل من آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم إيمانًا صحيحًا لا يخلو عن وجدان شيء من تلك المحبة الراجحة، غير أنهم متفاوتون، فمنهم من أخذ من تلك المرتبة بالحظ الأوفى، ومنهم من يأخذ بالحظ الأدنى، كمن كان مستغرقًا في الشهوات محجوبًا بالغفلات في أكثر الأوقات، لكن الكثير منهم إذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم اشتاق إلى رؤية بحيث يؤثرها على أهله وماله وولده ويبذل نفسه في الأمور الخطيرة ويجد رجحان ذلك من نفسه وجدانًا لا تردد فيه، وقد شوهد من هذا الجنس من يؤثر زيارة قبره ورؤية مواضع آثاره على جميع ما ذكر، لما وقر في قلوبهم، من محبته، غير أن ذلك سريع الزوال لتوالي الغفلات، انتهى.
ملخصًا فكل مسلم في قلبه محبة الله ورسوله، لا يدخل الإسلام إلا بها، ولكن الناس متفاوتون في محبته صلى الله عليه وسلم بحسب استحضار ما وصل إليهم من جهته
__________
وأما بالسبب، علم أنه سبب بقاء نفسه البقاء الأبدي في النعيم السرمدي، وعلم أن نفعه بذلك أعظم من جميع وجوه الانتفاعات، فاستحق لذلك أن يكون حظه من محبته أوفر من غيره؛ لأن النفع الذي يثير المحبة حاصل منه أكثر من غيره، ولكن الناس يتفاوتون في ذلك بحسب استحضار ذلك والغفلة عنه.
"قال القرطبي" أبو العباس في المفهم: "كل من آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم إيمانًا صحيحًا لا يخلو عن وجدان شيء من تلك المحبة الراجحة، غير أنهم متفاوتون" فيها بحسب الاستحضار والغفلة "فمنهم من أخذ من تلك المرتبة بالحظ الأوفى، ومنهم من أخذ بالحظ الأدنى، كمن كان مستغرقًا في الشهوات، محجوبًا بالغفلات في أكثر الأوقات، لكن الكثير منهم إذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم اشتاق إلى رؤيته"، والشوق انجذاب النفس في الغيبة، فهو أخص من المحبة؛ لأنها تكون في الحضور والغيبة، "بحيث يؤثرها على أهله وماله وولده، ويبذل نفسه": يعطيها بسهولة ويلقيها "في الأمور الخطيرة" "بمعجمة فمهملة" الشاقة الصعبة، "ويجد رجحان ذلك من نفسه وجدانًا لا تردد فيه" ولا شك، "وقد شوهد من هذا الجنس من يؤثر زيارة قبره و" يؤثر "رؤية مواضع آثاره على جميع ما ذكره، فيذهب إلى ذلك بدون مراعاة المذكور "لما وقر": ثبت "في قلوبهم من محبته، غير أن ذلك سريع الزوال لتوالي الغفلات، انتهى" كلام القرطبي "ملخصًا، فكل مسلم" كائن وثابت "في قلبه محبة الله ورسوله" إذ "لا يدخل الإسلام إلا بها، ولكن الناس متفاوتون في محبته صلى الله عليه وسلم، بحسب استحضار ما وصل إليهم من جهته، من وجوه النفع الشامل لخير الدارين"، وهو أعظم من جميع وجوه الانتفاعات،(9/78)
من وجوه النفع الشامل لخير الدارين والغفلة عن ذلك، ولا شك أن حظ الصحابة رضي الله عنهم في هذا المعنى أتم؛ لأن هذا ثمرة المعرفة وهم بها أعلم.
وقد روى ابن إسحاق -كما حكاه في الشفاء- أن امرأة من الأنصار قتل أبوها وأخوها وزوجها يوم أحد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: خيرًا هو بحمد الله كما تحبين، فقالت: أرونيه حتى أنظر إليه، فلما رأته قالت: كل مصيبة بعدك جلل، تعني: صغيرة.
ورواه البيهقي في دلائله، وذكر صاحب البيان بلفظ: لما قيل يوم أحد قتل
__________
"و" بحسب "الغفلة عن ذلك" الاستحضار "ولا شك أن حظ الصحابة رضي الله عنهم في هذا المعنى أتم؛ لأن هذا ثمرة المعرفة، وهم بها أعلم" من غيرهم والله الموفق.
هذا وقد نقل المصنف بعد نحو كراس كلام سهل الذي نقله الشارح هنا عن الشفاء.
"وقد روى ابن إسحاق" محمد إمام المغازي في السيرة، "كما حكاه في الشفاء: أن امرأة من الأنصار" لم تسم، ولفظ ابن إسحاق: حدثني عبد الواحد بن أبي عون عن إسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقاص، قال: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بامرأة من بني دينار وقد "قتل أبوها وأخوها وزوجها" شهداء "يوم أحد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت" لما نعوا لها "ما فعل رسول الله" هكذا في أكثر النسخ، وهو اموجود في الشفاء وابن إسحاق رسول بلا باء، وليس المراد السؤال عن فعله حقيقة، وإنما المراد السؤال عن سلامته وحياته، وعبرت بذلك تأدبًا؛ لأن الفعل يستلزم الحياة، فأريد لازمة، وفي بعض نسخ المصنف برسول الله صلى الله عليه وسلم بالباء "قالوا" فعل "خيرًا" والمراد أنه بخبر، ولذا قالوا: "هو بحمد الله كما تحبين" أي: سالم منصور مظفر، "قالت: أرونيه"، بالجمع، وهو ما رأيته في ابن إسحاق، وفي نسخة: أرنيه بالإفراد خطابًا لمن سألته "حتى أنظر إليه" فإن الخبر ليس كالعيان، قال في الراوية: فأشير لها إليه، "فلما رأته قالت: كل مصيبة بعدك"، أي: بعد سلامتك ورؤيتك "جلل" "بفتح الجيم واللام"، "تعني صغيرة" وفي النهاية وغيرها، أي: هين حقير، والمعنى متقارب، وفي سيرة ابن هشام: الجلل من القليل والكثير، وهو هنا من القليل، كقوله امرئ القيس:
لقتل بني أسد ربهم ... إلا كل شيء سواه جلل
ومن الكثير قول الحارث بن وعلة، قال:
ولئن عفوت لأعفون جللا ... ولئن سطوت لأوهنن عظمى
"ورواه البيهقي في دلائله" النبوية من طريق ابن إسحاق، "وذكر صاحب البيان بلفظ: لما قيل يوم أحد قتل محمد عليه الصلاة والسلام، وكثرت الصوارخ"، الصائحون(9/79)
محمد عليه الصلاة والسلام وكثرت الصوارخ بالمدينة، خرجت امرأة من الأنصار، فاستقبلت بأخيها وابيها وابنها وزوجها قتلى، لا تدري بأيهم استقبلت، وكلما مرت بواحد منهم صريعًا قالت: من هذا؟ قالوا: أخوك وأبوك وزوجك وابنك قالت: فما فعل النبي صلى الله عليه وسلم؟ فيقولون: أمامك، حتى ذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذت بناحية ثوبه ثم جعلت تقول: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لا أبالي إذ سلمت من عطب. وكذا رواه ابن أبي الدنيا بنحوه مختصرًا.
وقال عمرو بن العاص: ما كان أحد أحب إليَّ من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال علي بن أبي طالب: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إلينا من أموالنا، وأولادنا وآبائنا وأمهاتنا، ومن الماء البارد على الظمأ.
ولما أخرج أهل مكة زيد بن الدثنة -بفتح الدال المهملة وكسر المثلثة
__________
"بالمدينة" من هول هذا الخبر "خرجت امرأة من الأنصار، فاستقبلت" ضمنه معنى اشتغلت، فعداه بالباء في قوله: "بأخيها وأبيها وزوجها"، فزاد ابنها على الرواية السابقة: "قتلى لا تدري بأيهم استقبلت، وكلما مرت بواحد منهم صريعًا، قالت: من هذا؟ قالوا: أخوك وأبوك وزوجك وأبنك، قالت: فما فعل النبي صلى الله عليه وسلم"، أي: ما لذي قام به "فيقولون: أمامك حتى ذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذت بناحية ثوبه، ثم جعلت تقول" أفديك "بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لا أبالي"، لا أكترث ولا أهتم "إذ سلمت" أنت من القتل "من عطب" "بكسر الطاء" أي: هلك.
"وكذا رواه ابن أبي الدنيا" عبد الله بن محمد الحافظ، الشهير "بنحوه مختصر، وقال عمرو بن العاص" بالياء وحذفها "ما كان أحد أحب إليّ من رسول الله صلى الله عليه وسلم"، ولا أجل في عيني منه، وما كنت أطيق أن أملأ عيني منه إجلالًا له، حتى لو قيل لي صفه ما استطعت أن أصفه.
أخرجه مسلم في حديث طويل "وقال علي بن أبي طالب" وقد سئل كيف كان حبكم لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إلينا من أموالنا، وأولادنا، وآبائنا وأمهاتنا" "بضم الهمزة وكسرها، مع فتح الميم، وكسرها جمع أمهة"، لغة في أم، لكنها تختص ببني آدم، قال: أمهتي خندف واليأس أبي، ويقال في البهائم: أمات "و" أحب "من الماء البارد على الظمأ" بقصره أفصح من مده، أي: شدة العطش، خصه لأنه حال محبة الماء وشدة الرغبة فيه، وأعاد الجار؛ لأنه نوع آخر مما يحب، ولشدة نفعه، "و" روى البيهقي عن عروة، قال: "لما(9/80)
وتشديد النون- من الحرم ليقتلوه قال له أبو سفيان بن حرب: أنشدك بالله يا زيد أتحب أن محمدًا الآن عندنا مكانك نضرب عنقه وأنك في أهلك؟ فقال زيد: والله ما أحب أن محمدًا الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكه وإني جالس في أهلي، فقال أبو سفيان: ما رأيت أحدًا من الناس يحب أحدًا كحب أصحاب محمد محمدًا.
وروي -مما ذكره القاضي عياض- أن رجلًا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله لأنت أحب إلي من أهلي ومالي، وإني لأذكرك فما أصبر حتى أجيء
__________
أخرج أهل مكة زيد بن الدثنة" بن معاوية بن عبدي بن معاوية بن عامر بن بياضة الأنصاري، البياضي، شهد بدرًا وأحدًا "بفتح الدال المهملة وكسر المثلثة وتشديد النون" وقد تسكن المثلثة وتخفف النون وهاء تأنيث، اسم والده من قولهم دثن الطائر إذا طار حول وكره، ولم يسقط عليه أو من دثن إذا اتخذ عشا، وكان قد أسر يوم الرجيع مع خبيب بن عدي، فاشترى صفوان بن أمية زيد أو غيره خبيبًا، وذلك في ذي القعدة سنة ثلاث؛ فحبسا بمكة حتى خرجت الأشهر الحرم، فخرجوا بهما "من الحرم" تعظيمًا له؛ لأنهم كانوا لا يقتلون فيه، واجتمع هو وخبيب في الطريق فتواصوا بالصبر والثبات على ما يلحقها من المكاره "ليقتلوه" بالتنعيم.
"قال له أبو سفيان بن حرب" وهو يومئذٍ مشرك: "أنشدك" بفتح الهمزة وضم الشين: أسألك "بالله يا زيد أتحب أن محمدًا الآن عندنا مكانك نضرب عنقه، وإنك في أهلك فقال زيد": مؤكد بالقسم "والله ما أحب أن محمدًا الآن في مكانه الذي هو فيه" مقيم "تصيبه شوكة"، أي: أقل شيء من الأذى فضلًا عما قلتم، "وإني جالس في أهلي" سالم من الأذى، "فقال أبو سفيان: ما رأيت أحدًا من النس"، ما نافية لا تعجبية، وإن كان مراده التعجب من شدة حبهم له "يحب أحدًا كحب أصحاب محمد محمدًا"، مفعول المصدر، وهو حب، ثم قتله نسطاس مولى صفوان، وأسلما بعد رضي الله عنهما.
وفي رواية: أنهم ناشدوا بذلك خبيبًا فقال: والله ما أحب أن يفديني بشوكة في قدمه، ولا خلف، فقد يكونون قالوه لخبيب، وقاله أبو سفيان لزيد، ومر بسط القصة في المغزي.
"وروى" عند الطبراني في الصغير عن عائشة، وابن مردويه عن ابن عباس "مما ذكره القاضي عياض أن رجلًا" ثوبان أو عبد الله بن زيد على ما يأتي "أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله لأنت" "اللام في جواب قسم مقدر" "أحب إليّ من أهلي ومالي، وإني لأذكرك"، أي: أتذكرك في ذهني وأتصورك، أو أذكر اسمك وصفاتك فهو من الذكر "بالكسر أو الضم" "فما أصبر" أي: لا أستطيع الصبر عنك، أي: عن رؤيتك لشدة حبي لك، "حتى أجيء فأنظر(9/81)
فأنظر إليك، وإني ذكرت موتي وموتك فعرفت أنك إذا دخلت الجنة رفعت مع النبيين، وإن دخلتها لا أراك، فانزل الله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النساء: 69] فدعا به فقرأها عليه.
قال: وفي حديث آخر: كان رجل عند النبي صلى الله عليه وسلم ينظر إليه لا يطوف، فقال: "ما بالك"؟ قال: بأبي أنت وأمي، أتمتع من النظر إليك، فإذا كان يوم القيامة رفعك الله بتفضيله، فأنزل الله الآية.
__________
إليك" فيطمئن قلبي، وتقر عيني برؤيتك "وإني ذكرت موتي وموتك" أي: مكاني ومكانك بعد الموت، "فعرفت": تحققت "إنك إذا دخلت الجنة" بعد الموت "رفعت" إلى الدرجات العلا "مع النبيين" صلوات الله عليهم أجمعين، "وإن دخلتها" أنا "بضم التاء" "لا أراك" بعد الدخول؛ لأنك في مقام لا يصل إليه غيرك، وعبر في جانبه صلى الله عليه وسلم بإذا لتحقق دخوله الجنة، ورفعته فيها وفي جانبه هو؛ بأن لعدم جزمه في نفسه بذلك، "فأنزل الله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ} " بامتثال أمره ونهيه، ويلزمه محبته له أيضا، ولم تذكر لتحققها لذكر الرجل لها والعلم بخلوصه فيها، " {فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} " بنعيم الجنة وعالي مراتبها، ففيه تبشير له بمرافقة أكرم خلق الله وأقربهم، وأرفعهم منزلة " {مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ} " بيان للمنعم عليهم بما أخفي لهم من قرة أعين " {وَحَسُنَ أُولَئِكَ} " تعجب أي: ما أحسنهم " {رَفِيقًا} " [النساء: 69] ، تمييز، ولم يجمع لوقوعه على الواحد وغيره، أو لإرادة كل واحد منهم "فدعا به" طلب حضوره "فقرأها عليه" جوابًا له وتبشيرًا، والمراد بالمعية والمرافقة كونه في الجنة يستمتع فيها برؤيتهم وزيارتهم والحضور معهم متى شاء، لا التسوية في المنزلة.
"قال": عياض: "وفي حديث آخر كان رجل عند النبي صلى الله عليه وسلم" أي: ملازمًا لمجلسه "ينظر إليه" أي: يديم النظر إلى وجهه الوجيه "لا يطرف" "بفتح الياء وسكون الطاء وكسر الراء المهملتين وفاء" أي: لا يصرف طرفه عن النظر إليه، أو لا يطبق أحد جفنيه على الآخر، ويغض بصره، وظاهر قول بعضهم، أي: لا يغض بصره مطرقًا راميًا ببصره إلى الأرض، أنه من أطرق "بضم أوله وقاف"، وهو صحيح أيضًا.
قال بعضهم: لكني لا أعرف هل هو رواية أو تحرف عليه أو تسامح في تفسيره: "فقال" له صلى الله عليه وسلم: "ما بالك؟ " أي: ما شأنك حتى تحد النظر وتديمه كالمبهوت، "قال": أفديك "بأبي أنت وأمي، أتمتع من النظر"، لفظ الشفاء: بالنظر "إليك" أي: أتلذذ بإدامة نظري في وجهك ما دام ممكنًا في الدنيا لأنتفع به وأتزوده منه، "فإذا كان" وجد "يوم القيامة رفعك الله" إلى(9/82)
وذكره البغوي في تفسيره بلفظ: نزلت -أي الآية- في ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان شديد الحب لرسول الله صلى الله عليه وسلم قليل الصبر عنه، فأتاه ذات يوم وقد تغير لونه يعرف الحزن في وجهه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما غير لونك"؟ فقال يا رسول الله، ما بي من مرض ولا وجع غير أني إذا لم أرك استوحشت وحشة شديدة حتى ألقاك، ثم ذكرت الآخرة، فأخاف أن لا أراك؛ لأنك ترفع مع النبيين، وأني إن دخلت الجنة في منزلة أدنى من منزلتك، وإن لم أدخل الجنة لا أراك أبدًا، فنزلت هذه الآية، وكذا ذكره الواحدي في "أسباب النزول"، وعزاه الكلبي عن ثوبان.
وقال قتادة: قال بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: كيف يكون الحال في الجنة وأنت في الدرجات العلا ونحن أسفل منك فكيف نراك؟ فأنزل الله الآية.
__________
الدرجات العالية في الجنة، "بتفضيله" لك على جميع خلقه، والباء للسببية "فأنزل الله الآية" المذكورة، "وذكر البغوي" محبي السنة الحسين بن مسعود، أحد الحفاظ "في تفسيره" بلا عزو، "بلفظ: نزلت، أي: الآية في ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم" اشتراه وأعتقه، فلازمه حضرًا وسفرًا، وخدمه حتى مات، فتحول إلى الرملة، ثم حمص، فمات بها سنة أربع وخمسين، "وكان شديد الحب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، قليل الصبر عنه فأتاه ذات يوم وقد تغير لونه"، وعند الثعلبي: تغير وجهه، ونحل جسمه "يعرف الحزن في وجهه"، "فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما غير لونك؟ فقال: يا رسول الله ما بي مرض" مطلق علة، "ولا وجع" أي: مرض مؤلم، ويقع أيضًا على كل مرض، ولا يراد هنا للمغايرة، "غير أني إذا لم أرك استوحشت وحشة شديدة" أي: حصل لي انقطاع بعد قلب عن الود وعدم استئناس، "حتى ألقاك" فتزول وحشتي، ثم ذكرت الآخرة" أي: فكرت في أمرها "فأخاف أن لا أراك؛ لأنك ترفع مع النبيين" في أعلى الدرجات، "وإني إن دخلت الجنة في منزلة أدنى من منزلتك" فتقل رؤيتي لك، بدليل قوله: "وإن لم أدخل الجنة لا أراك أبدًا، فنزلت هذه الآية" المذكورة.
"وكذا ذكره الواحدي في" كتاب "أسباب النزول، وعزاه الكلبي" محمد بن السائب، "عن ثوبان" الصحابي، المذكور، وذكره شيخه الثعلبي في تفسيره بلا إسناد، ولا راوٍ، "وقال قتادة" كما أسنده ابن جرير.
"قال بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، كيف يكون الحال في الجنة، وأنت في الدرجات العلا، ونحن أسفل منك فكيف نراك، فأنزل الله الآية" المذكورة "وذكره ابن ظفر" محمد(9/83)
وذكره ابن ظفر في "ينبوع الحياة" بلفظ: إن عامر الشعبي قال: إن رجلًا من الأنصار أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: والله لأنت يا رسول الله أحب إلي من نفسي ومالي وولدي وأهلي، ولولا أني آتيك فأراك لرأيت أن أموت أو قال أن سوف أموت، وبكى الأنصاري، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أبكاك"؟ قال: بكيت أن ذكرت أنك تموت ونموت، وترفع مع النبيين، ونكون نحن إن دخلنا الجنة دونك، فلم يحر النبي صلى الله عليه وسلم إليه، بمعنى أي: لم يرجع إليه يقول، فأنزل الله الآية.
قال: وذكر مقاتل بن سليمان مثل هذا، وقال: هو عبد الله بن زيد بن عبد ربه الأنصاري الذي رأى الأذان. وذكر أيضًا: أن عبد الله بن زيد هذا كان يعمل في جنة له فأتاه ابنه فأخبره أن النبي صلى الله عليه وسلم توفي فقال: اللهم أذهب بصري تى لا أرى بعد حبيبي محمدًا أحدًا، فكف بصره.
__________
"في ينبوع الحياة" اسم تفسيره، وأسنده البيهقي "بلفظ: أن عامر" بالنصب، وإن رسم بصورة الرفع بلا ألف على لغة ربيعة، أو حذفت الألف للتخفيف، كقوله: ولا أذكر الله إلا قليلًا، ولا يختص ذلك بالضرورة خلافًا، فالزاعمة، وفي نسخة: بالألف، ولعلها اصطلاح، وإلا فالنسخ القديمة بدونها، وكذا في نسخة الشيخ الجارحي، تلميذ المصنف، وعليها خط المؤلف "الشعبي"، التابعي، فهو مرسل، "قال: إن رجلًا من الأنصار"، فهو غير ثوبان؛ لأنه ليس من الأنصار، ويأتي أنه ابن زيد "أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: والله لأنت يا رسول الله أحب إليَّ من نفسي ومالي وولدي وأهلي، ولولا أني آتيك فأراك لرأيت أن أموت، أو قال: أن سوف أموت" شك من الراوي "وبكى الانصاري فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أبكاك"؟ قال: بكيت" لأجل "أن ذكرت أنك تموت" "بالتاء" أنت، "ونموت" "بالنون أوله نحن"، "وترفع" أنت "مع النبيين، ونكون نحن إذا دخلنا الجنة دونك" فتتعذر، أو تقل رؤيتنا لك، "فلم يحر" "بفتح التحتية وضم الحاء المهملة وبالراء" من حار إذا رجع "وبضم الياء وكسر الحاء" من أحار.
الجواب رده "النبي صلى الله عليه وسلم إليه، بمعنى" ومقتضى قوله: "أي: لم يرجع إليه" أنه بالضبط الأول؛ إذ هو تفسير ليحر، "يقول": تفسير لقوله، بمعنى: "فأنزل الله الآية، قال" ابن ظفر "وذكر مقاتل بن سليمان مثل هذا، وقال: هو" أي: الرجل الأنصاري، "عبد الله بن زيد بن عبد ربه الأنصاري"، الخزرجي "الذي رأى الأذان" مات سنة اثنتين وثلاثين، وقيل: استشهد بأحد، "وذكر" ابن ظفر "أيضًا، أن عبد الله بن زيد هذا كان يعمل في جنة" بستان "له فأتاه ابنه، فأخبره أن النبي صلى الله عليه وسلم توفي، فقال: اللهم أذهب بصري حتى لا أرى بعد حبيبي محمد(9/84)
واعلم أنه لا يجتمع في القلب حبان، فإن المحبة الصادقة تقتضي توحيد المحبوب، فليختر المرء لنفسه أحدى المحبتين فإنهما لا يجتمعان في القلب، والإنسان عند محبوبه كائنًا ما كان كما قيل:
أنت القتيل بأي من أحببته ... فاختر لنفسك في الهوى من تصطفي
ولبعض الحكماء: كما أن الغمد لا يتسع لعضبين فكذلك القلب لا يتسع لمحبتين، ولذلك لازم إقبالك على من تهواه إعراضك عن كل شيء سواه، فمن
__________
أحدًا، فكف بصره" عمي.
وفي الحديث: إن منكم معشر الأنصار من لو أقسم على الله لأبره، وفي تفسير القرطبي؛ أنه صلى الله عليه وسلم لما قرأ الآية على الرجل، دعا الله أن يعميه حتى لا يرى أحدًا غيره في الدنيا، فعمي مكانه، وتقدم مزيد لهذا النوع السابع من المقصد السادس، ويأتي إن شاء الله تعالى مزيد في المقصد العاشر.
"واعلم أنه لا يجتمع في القلب حبان، فإن المحبة الصادقة"، أي: الخالصة التي لا يشوبها رياء ولا مداهنة، ويعرف بالقرائن والأحوال، وصفها بذلك تنزيلًا لدلالتها على صدق صاحبها منزلتها، ووصف غير العاقل بالصدق، وهو الإخبار بما يطابق الواقع، كثير في كلامهم، ومنه صدق القتال إذا قوي واشتد، "تقتضي توحيد المحبوب" أي: جعله واحدًا، بحيث لا تتعلق محبته بغيره، فإذا تعلق قلب إنسان بمحبة شخصين لم تكن محبته لواحد منهما صادقة، فإن أراد صدقها، "فليختر المر لنفسه إحدى المحبتين" المتعلقتين بالشخصين، بالاقتصار على محبة واحد منهما، "فإنهما لا يجتمعان في القلب والإنسان عند محبوبه"، منقاد إليه، مسلم له جميع أموره، فيصير معه كعبد عامل بمقتضى العبودية من انقياده إلى سيده ظاهرًا وباطنًا وحرصه على طاعته وفعل مراده، وإن لم يأمره "كائنًا ما كان، كما قيل" قائله ابن الفارض: "أنت القتيل، بأي من أحببته"، لاستيلاء الحب عليك، فنقني في حبه بالانقياد له، فتصير كالميت الذي لا قدرة له على فعل شيء، فكأن المحبوب أزال شعور المحب لاستفراغه في هواه، "فاختر لنفسك في الهوى من تصطفي"، أي: من تعده صافيًا في الدين، بحيث يحملك على ملازمة الطاعة سرا وإعلانا، وليس المراد من نختار؛ لأنه يصير في غاية الركة، كأنه قال: اختر من تختار، "ولبعض الحكماء: كما أن الغمد" "بكسر الغين المعجمة" "لا يتسع لعضبين": "بفتح المهملة وإسكان المعجمة" تثنية عضب، وهو السيف القاطع تسمية بالمصدر، فهو أخص من مطلق السيف، "فكذلك القلب لا يتسع لمحبتين، ولذلك لازم إقبالك على من تهواه إعراضك عن كل شيء سواه، فمن داهن في المحبة" أي: أظهر خلاف ما يبطن "أو(9/85)
داهن في المحبة أو داجى، فقد عرض لمدى الغيرة أوداجًا، فمحبة الرسول عليه الصلاة والسلام -بل تقديمه في الحب على الأنفس والآباء والأبناء- لا يتم الإيمان إلا بها؛ إذ محبته من محبة الله تعالى.
وقد حكي عن أبي سعيد الخراز -مما ذكره القشيري في رسالته- أنه قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، فقلت: يا رسول الله أعذرني فإن محبة الله شغلتني عن محبتك، فقال لي: يا مبارك من أحب الله فقد أحبني.
__________
داجى"، بأن دارى، والمراد بها الأخذ للشيء والتوصل إليه بحيلة، "فقد عرض لمدى" "بضم الميم" جمع مدية السكين "الغيرة أوداجًا": جمع ودج، أي: العروق المكتنفة ثغرة البحر يمينًا وشمالًا، والمعنى: من لم يخلص المحبة عرض نفسه لأسباب الهلاك، الناشئة من غيرته على حبه لعدم وصوله لمراده منه، فيصاب بأسباب قاتلة كالمدى في شدة تأثيرها في البدن، "فمحبة الرسول عليه الصلاة والسلام، بل تقديمه في الحب على الأنفس والآباء والأبناء لا يتم الإيمان إلا بها". أي: لا يوجد ولا يكمل، فاستعمله بمعنى الوجود فيما قبل الإضراب، وبمعنى الكمال فيما بعده، "إذ محبته من محبة الله تعالى"، الواجبة لذاته، كما مر.
"وقد حكي عن أبي سعيد" إبراهيم، وقيل: أحمد بن عيسى البغدادي، "الخراز": بالخاء المعجمة وشد الراء فألف فزاي منقوطة، نسبة إلى خرز جلود القرب، ونحوها من أئمة القوم وجلة المشايخ، قيل: وهو أول من تكلم في علمي الفناء والبقاء، وقيل: فيه قمر الصوفية صحب السري، وذا النون المصري، وبشر الحافي وغيرهم.
قال الجنيد: لو طالبنا الله بحقيقة ما عليه أبو سعيد لهلكنا أقام كذا وكذا، سنة ما فاته ذكر الله بين الخرزتين.
مات سنة سبع وسبعين، وقيل: سنة ست وثمانين ومائتي، ومرت ترجمته أيضًا، "مما ذكره القشيري" أبو القاسم عبد الكريم بن هوازن، الإمام العلامة، المفسر، المحدث، الولي، الذي ما رأى الراءون مثله، مر بعض ترجمته "في رسالته أنه" أي: أبا سعيد "قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، فقلت: يا رسول الله أعذرني" "بكسر الهمزة، وسكون العين، وكسر الذال المعجمة، وهمزته وهمزة وصل من عذر، كضرب، وبفتح الهمزة، وكسر الذال، وهمزته همزة قطع من أعذروهما، لغتان سوى بينهما المجد، ولم نر ضم الهمزة وكسر الذال، وهمزته همزة قطع من أعذروهما، لغتان سوى بينهما المجد، ولم نر ضم الهمزة والذال، والمعنى، أقبل عذري، فلا تؤاخذني بتقصيري، وارفع اللوم عني، "فإن محبة الله شغلتني عن محبتك، فقال لي: يا مبارك": اسم مفعول من البركة، وهي الزيادة والتنمية، هذا أصله لغة، ثم استعمل عرفًا في قليل الفطنة، فيحتمل أنه المراد هنا دفعًا لتوهمه، أن محبة الله تنافي محبته، ويعد المشتغل بها مقصرًا(9/86)
وقيل إن ذلك وقع لامرأة من الأنصار معه صلى الله عليه وسلم يقظة، ولابن أبي المجد سيدي إبراهيم الدسوقي.
ألا يا محب المصطفى زد صبابة ... وضمخ لسان الذكر منك بطيبه
ولا تعبان بالمبطلين فإنما ... علامة حب الله حب حبيبه
وكذلك كل حب في الله، كما في الصحيحين، عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان، أن يكون الله ورسوله أحب
__________
في حبه عليه الصلاة والسلام، مع أنها عينها، كما قال: "من أحب الله فقد أحبني"؛ لأني الداعي إلى الله، الموصل إليه.
"وقيل: إن ذلك وقع لامرأة من الأنصار معه صلى الله عليه وسلم يقظة"، فإن ثبت فلا منافاة، كما لا يخفى، "ولابن أبي المجد" العارف بالله تعالى، "سيدي إبراهيم الدسوقي"، الشريف، الحسينيد، وقد ذكر نسبه في اللواقح، فقال إبراهيم بن أبي المجد بن قرش بن محمد بن أبي النجاء بن زين العابدين بن عبد الخالق بن محمد بن أبي الطيب بن عبد الله الكاتم بن عبد الخالق بن أبي القاسم بن جعفر الزكي بن علي بن محمد الجواد بن علي الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي الزاهد بن زين العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب الهاشمي، تفقه على مذهب الشافعي، ثم اقتفى آثار الصوفية وجلس في مرتبة الشيخوخة، وحمل الراية البيضاء، وعاش ثلاثًا وأربعين سنة، ولم يغفل قط عن امجاهدة للنفس والهوى والشيطان، حتى مات سنة ست وسبعين وستمائة، "ألا يا محب المصطفى زد صبابة" "بفتح الصاد" شوقًا، أو رقته وحرارته، أو رقة هوى "وضمخ" "بمعجمتين بينهما ميم" الطخ "لسان الذكر" لله تعالى الذي تستعمله "منك بطيبه"، بإثناء عليه وتعظيمه صلى الله عليه وسلم "ولا تعبان" أي: لا تهتم ولا تبال "بالمبطلين"، الزاعمين أن ذلك يشغل عن الله تعالى "فإنما علامة حب الله حب حبيبه" وزعمهم باطل، كيف، وقد قال: أحبوني لحب الله "وكذلك كل حب في الله، ولله كما في الصحيحين".
البخاري في الإيمان والأدب، ومسلم في الإيمان، عن أبي قلابة "عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ثلاث" مبتدأ، خبره جملة "من كن" أي: حصلن "فيه"، فهي تامة "وجد"، أي: أصاب، ولذا اكتفى بمفعول واحد، أعني "حلاوة الإيمان"، وجاز الابتداء بالنكرة؛ لأن التنوين عوض عن المضاف إليه، أي: ثلاث خصال، أو لأنه صفة موصوف محذوف، وهو مبتدأ حقيقة، أي: خصال ثلاث، أو لأن الجملة الشرطية صفته، والخبر "أن يكون الله ورسوله أحب"،(9/87)
إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا الله وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار"، فعلق ذوق الإيمان بالرضا بالله ربًَّا، وعلق وجدان حلاوته بما هو موقوف عليه، ولا يتم إلا به، وهوكونه سبحانه أحب الأشياء إلى
__________
بالنصب خبر يكون "إليه مما سواهما" ولم يثن أحب ليطابق خبر كان اسمها؛ لأن أفعل التفضيل إذا وصل بمن، فهو مفرد مذكر دائمًا، ولا تجوز المطابقة لمن هوله "وأن يحب المرء" حال كونه "لا يحبه إلا الله تعالى"، وللنسائي من رواية طلق بن حبيب عن أنس، وأن يحب في الله ويبغض في الله.
قال يحيى بن معاذ: حقيقة الحب في الله أن لا يزيد بالبر ولا ينقص بالجفاء، نقله الحافظ "وأن يكره أن يعود" أي: العود "في الكفر كما يكره أن يقذف" "بضم أوله وفتح ثالثه، أي: مثل كراهة القذف "في النار".
زاد البخاري من وجه آخر بعد أن أنقذه الله منه، قال الحافظ: والإنقاذ أعم من أن يكون بالعصمة منه ابتداء، بأن يولد على الإسلام ويستمر، أو بالإخراج من ظلمة الكفر إلى نور الإيمان، وعلى الأول، فيحمل قوله يعود على معنى الصيرورة، بخلاف الثاني، فالعود فيه على ظاهره.
وفي رواية قتادة، عن أنس، عند مسلم والبخاري في الأدب: وحتى أن يقذف في النار أحب إليه ن أن يرجع إلى الكفر بعد أن أنقذه الله منه، وهي أبلغ من هذه الرواية؛ لأنه سوى فيها بين الأمرين، وهنا جعل الوقوع في نار الدنيا أولى من الكفر الذي أنقذه الله بالخروج منه من نار الأخرى، فإن قيل لِمَ عدي العود بقي ولم يعده بالي، فالجواب أنه ضمنه معنى الاستقرار، كأنه قال: يستقر فيه، ومثله قوله تعالى: {وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا} [الأعراف: 89] انتهى.
وزعم العيني أنه تعسف، وإنما "في" هنا بمعنى "إلى" كقوله تعالى: {أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} [الأعراف: 88] ، أي: لتصيرن إلى ملتنا، ومنعه شيخنا في قراءة البخاري بأنه لا تعسف، فكل من الطريقين مسلوك، وذلك لأن الفعل إذا عدي بحرف لا يتعدى به، جاز تأويل الفعل بما يتعدى به، كتأويل يؤمنون بالغيب بيعترفون، وتأويل الحرف مع بقاء الفعل على حقيقته، كالمثال الذي ذكره، بل قال بعضهم: التأويل في الفعل أولى "فعلق ذوق الإيمان بالرضا بالله ربا"، بقوله صلى الله عليه وسلم: "ذاق طعم الإيمان من رضى بالله ربا"، الحديث الآتي قريبًا، وطعم الإيمان، بمعنى حلاوة الإيمان؛ لأن الثلاثة لا توجد إلا ممن صح إيمانه وانشرح صدره، قال عياض، "وعلق" في هذا الحديث "وجدان حلاوته بما هو موقوف عليه، ولا يتم إلا به، وهو كونه سبحانه أحب الأشياء(9/88)
العبد هو ورسوله، فمن رضي الله ربًّا رضيه الله له عبدًا.
ومعنى حلاوة الإيمان: استلذاذ الطاعات وتحمل المشقات في الدين، ويؤثر ذلك على أغراض الدنيا، ومحبة العبد لله تحصل بفعل طاعته وترك مخالفته، وكذلك الرسول، قاله النووي.
وقال غيره: معناه أن من استكمل الإيمان علم أن حق الله ورسوله آكد عليه من حق والده وولده وجميع الناس؛ لأن الهدى من الضلالة، والخلاص من النار، إنما كان بالله على لسان رسوله.
وفي قوله عليه الصلاة والسلام: "حلاوة الإيمان" استعارة تخييلية، فإنه شبه رغبة المؤمن في الإيمان بشيء حلو، وأثبت له لازم ذلك الشيء وأضافه إليه، وفيه تلميح إلى قضية المريض والصحيح؛ لأن المريض الصفراوي يجد طعم العسل مرًّا،
__________
إلى العبد هو" تعالى "ورسوله" عليه السلام "فمن رضي بالله ربا رضيه الله له عبدًا"، بمعنى أثابه جزيل الثواب، "ومعنى حلاوة الإيمان استلذاذ الطاعات وتحمل المشقات في الدين"، فاستعمال الحلاوة فيه مجاز مرسل من ذكر الملزوم وإرادة اللازم "ويؤثر" لفظ الفتح، وإيثار "ذلك على أعراض الدنيا ومحبة العبد لله تحصل"، أي: تتحقق وتوجد "بفعل طاعته وترك مخالفته، وكذلك الرسول، قاله النووي": بمعنى أن فعل الطاعة علامة على محبة العبد، فليس عين المحبة، بل هو مسبب عنها، كما أشار إليه البيضاوي، في إن كنتم تحبون الله.
"وقال غيره: معناه أن من استكمل الإيمان علم أن حق الله ورسوله آكد عليه من حق والده وولده وجميع الناس؛ لأن الهدى من الضلالة والخلاص من النار إنما كان بالله على لسان رسوله"، فكأن حمله على معنى الحديث قبله: "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين".
"وفي قوله عليه الصلاة والسلام: "حلاوة الإيمان" كما قال الحافظ "استعارة تخييلية، فإنه شبه رغبة المؤمن في الإيمان بشيء حلو، وأثبت له لازم ذلك الشيء، وأضافه إليه"، ولا يتعين هذا فيجوز أنه شبه اللذة الحاصلة من التلبس بالإيمان بحلاوة الحلو، واستعار له اسمه، فتكون استعارة تصريحية، ويجوز أنه مجاز مرسل أطلق الحلاوة وأراد لازمها عند تناولها، وهو اللذة"، وفيه تلميح إلى قضية المريض والصحيح؛ لأن المريض الصفراوي"، الذي غلب خلط الصفراء على مزاجه، "يجد طعم العسل مرًّا" لفساد مزاجه.(9/89)
والصحيح يذوق حلاوته على ما هي عليه، وكلما نقصت الصحة شيئًا ما، نقص ذوقه بقدر ذلك.
وقال العارف ابن أبي جمرة واختلف في الحلاوة المذكورة هل هي محسوسة أو معنوية، فحملها قوم على المعنى وهم الفقهاء ومن شابههم، وحملها
__________
"والصحيح يذوق حلاوته على ما هي عليه، وكلما نقصت الصحة شيئًا ما" قليلًا "نقص ذوقه بقدر ذلك".
زاد الحافظ: فكانت هذه الاستعارة من أوضح ما يقوى به استدلال البخاري على الزيادة والنقص أي: للإيمان، وقال الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة إنما عبر بالحلاوة؛ لأن الله شبه الإيمان بالشجرة في قوله: {مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ} فالكلمة هي كلمة الإخلاص، والشجرة أصل الإيمان، وأغصانها اتباع الإمر واجتناب النهي، وزهرتها ما يهم به المؤمن من الخير، وثمرتها عمل الطاعات، وحلاوة الثمرة جني الشجرة، وغاية كماله تناهي نضج الثمرة، وبه تظهر حلاوتها. انتهى.
وقال البيضاوي: المراد بالحب العقلي، الذي هو إيثار ما يقتضي العقل السليم رجحانه، وإن كان على خلاف هوى النفس، كالمريض يعاف الدواء بطبعه فينفر عنه ويميل إليه بمقتضى عقله فيهوى تناوله، فإذا تأمل المرء أن الشارع لا يأمر ولا ينهى إلا بما فيه صلاح عاجل أو خلاص آجل، والعقل يقتضي رجحان جانب ذلك، تمرن على الاتمار بأمره، بحيث يصير هواه تبعًا له، ويتلذذ به تلذاذًا عقليًّا؛ إذ الالتذاذ العقلي إدراك ما هو كمال وخير من حيث هو كذلك، وعبر الشارع عن هذه الحالة بالحلاوة؛ لأنها أظهر اللذائذ المحسوسة، وإنما جعل هذه الثلاثة عنوانًا لكمال الإيمان لأن المرء إذا تأمل أن المنعم بالذات هو الله وأن لا مانح ولا مانع في الحقيقة سواه وأن ما عداه وسائط، وأن الرسول هو الذي يبين مراد ربه، اقتضى ذلك أن يتوجه بكليته نحوه، فلا يحب إلا ما يحب، ولا يحب من يحب إلا من أجله، وأن يتيقن أن جملة ما وعد وأوعد حق يقينًا، يخيل إليه الموعود، كالواقع، فيحسب أن مجالس الذكر رياض الجنة، وأن العود في الكفر إلقاء في النار، انتهى ملخصًا.
وشاهد هذا الحديث من القرآن قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ} إلى أن قال: {أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة: 24] ، ثم هدد على ذلك، وتواعد بقوله: {فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} فإن فيه إشارة إلى التحلي بالفضائل والتخلي عن الرذائل، فالأول من الأول، والثاني من الثاني. انتهى كله من فتح الباري.
"وقال العارف ابن أبي جمرة": بجيم وراء، "واختلف في الحلاوة المذكورة" في قوله حلاوة الإيمان "هل هي محسوسة أو معنوية، فحملها قوم على المعنى"، بمعنى: أن من وجدت(9/90)
قوم على المسحوس وأبقوا اللفظ على ظاهره من غيره أن يتأولوه وهم أهل الصفة، أو قال أهل الصوفة. قال: والصواب معهم في ذلك والله أعلم؛ لأن ما ذهبوا إليه أبقوا به لفظ الحديث على ظاهره من غير تأويل.
قال: ويشهد إلى ما ذهبوا إليه أحوال الصحابة والسلف الصالح وأهل
__________
فيه جزم بالإيمان وانقاد إلى أحكامه، "وهم الفقهاء ومن شابههم" من أهل المعقولات "وحملها قوم على المحسوس، وأبقوا اللفظ على ظاهره من غير أن يتأولوه، وهم أهل الصفة" "بضم الصاد وشد الفاء" السادة الصوفية، سموا بذلك لجريهم على نحو ما كان عليه أهل الصفة، وهي ظلة في مؤخر المسجد النبوي، يأوي إليها المساكين من الانقطاع إلى الله وعبادته، والإعراض عن الدنيا، "أو قال أهل الصوفة" للبسهم الصوف تقشفًا وإعراضًا عما تنعم به الأغنياء.
"قال" ابن أبي جمرة: "والصواب معهنم في ذلك والله أعلم؛ لأن ما ذهبوا إليه أبقوا به لفظ الحديث على ظاهره من غير تأويل"، والأصل أنه لا يعدل عن الحقيقة، ما وجد إليها سبيل، والمتبادر من هذا أنها أمر يدرك حلاوته بالفم، كما يدرك حلاوة السكر والعسل ونحوهما، وهذا شيء لا يدركه إلا من وصل إلى ذلك المقام، فلا يليق اعاء أنه غير مراد، بل المراد ما يأتي أنه أمر يجده القلب، تكون نسبته إليه، كذوق حلاوة الطعام إلى الفم، وذوق حلاوة الجماع إلى اللذة؛ لأن الآتي كلام ابن القيم حملا له على المعنى؛ إذ هو لم يذكر القول بأنها محسوسة فلا يرد إليه، وكذا ما نقلناه آنفًا من نفس كلام ابن أبي جمرة، المصرح بأن التعبير بإطلاق الحلاوة إنما هو على وجه التشبيه، أي: يجد في قلبه حلاوة تشبه الحلاوة المأكولة بالفم، إنما هو تقرير للقول بأنها معنوية، وما لنا وللتكلم فيما لا نعرفه ولا يمكننا تخيله:
وإذا لم تر الهلال فسلم ... لأناس رأوه بالأبصار
"قال: ويشهد إلى ما ذهبوا إليه أحوال الصحابة والسلف الصالح" كالتابعين "وأهل المعاملات" وهي منازل عشرة ينزلها السائرون إلى الحق عز اسمه، وهي الرعاية والمراقبة والحرمة والإخلاص، والتهذيب والاستقامة، التوكل والتفويض، والثقة والتسليم، سميت بالمعاملات؛ لأن العبد لا يصلح له معاملة الحق إلا بأن يتحقق بهذه المقامات، فالمعاملة عندهم عبارة عن توجه النفس الإنساني إلى باطنها، الذي هو الروح الروحاني والسر الرباني، واستمدادها منهما ما يزيل الحجب عنها، ليحصل لها قبول المدد في المقابلة إزالة كل حجاب، وهذا إنما يصح لعبد يملك ناصية الزهد، ثم الورع، ثم الحزن، فمن ملك ناصية هذه الثلاثة استحق أن يصير من أهل المعاملات، وأهم ما عليه أن يتحقق بأعم مقاماتها وأهمه، وهو الإخلاص؛ إذ لا تصبح المعاملة بدونه، ثم المراقبة، ثم التفويض، قاله في الأعلام بإشارات أهل الإلهام، "فإنهم(9/91)
المعاملات، فإنهم حكوا عنهم أنهم وجدوا الحلاوة محسوسة.
فمن ذلك: حديث بلال حين صنع به ما صنع في الرمضاء إكراهًا على الكفر، وهو يقول أحد أحد، فمزج مرارة العذاب بحلاوة الإيمان. وكذلك أيضًا عند موته، أهله يقولون: واحرباه، وهو يقول: واطرباه، غدًا ألقى الأحبة محمدًا وحزبه، فمزج مرارة الموت بحلاوة اللقاء وهي حلاوة الإيمان.
ومنها حديث الصحابي الذي سُرق فرسه بليل وهو في الصلاة، فرأى السارق حين أخذه فلم يقطع لذلك صلاته، فقيل له في ذلك فقال: ما كنت فيه ألذ من
__________
حكوا عنهم؛ أنهم وجدوا الحلاوة محسوسة، فمن ذلك حديث بلال"، بن رباح، أحد السابقين الأولين "حين صنع به ما صنع في الرمضاء": "بفتح الراء وسكون الميم وضاد معجمة والمد" أرض اشتد وقع الشمس فيها، سواء كان فيها رمل أو حصى أو غيرهما.
روي أنهم كانوا يلصقون ظهره برمضاء البطحاء في الحر، ولأحمد عن أبي ذران بلالاً، هانت عليه نفسه في الله، وهان على قومه فأعطوه الولدان، فجعلوا يطوفون به في شعاب مكة "إكراهًا على الكفر، وهو يقول أحد أحد"، مرفوع منون، كذا أحفظه، وكذا في أصلنا من ابن ماجه خبر مبتدأ محذوف، أي: الله أحد، كأنه يشير إلى أنه لا يشرك بالله شيئًا، ويحتمل أنه غير منون، أي: يا أحد، قاله في النور "فمزج": خلط "مرارة العذاب": مشقته وألمه "بحلاوة الإيمان، وكذلك أيضًا" وقع له ذلك "عنه موته أهله، يقولون": أي زوجته، كما في الشفاء والمصنف في المقصد الأول، ولفظه: وهذا كما وقع له عند موته، كانت امرأته تقول: "واحرباه": روي بفتح الحاء والراء المهملتين، والموحدة من الحرب بفتحتين، وهو كما في النهاية نهب مال الإنسان وتركه لا شيء له، فكأنها لتفجعا نهبت وسلبت.
وروي بفتح الحاء والزاي، وبضم الحاء وسكون الزاي، وروى واحوباه، بحاء مفتوحة وواو ساكنة فموحدة من الحوب الإثم، والمراد ألمها بشدة جزعها وقلقها في المصيبة، فهي تتفجع على نفسها، أو من الحوبة بمعنى رقة القلب، وهو تكلف، "وهو يقول: واطرباه": أي: فرحاه، والواو للندبة، والألف والهاء مزيدة في آخره، كأنه يستغيث بطربه، ويدعوه في سكرات الموت لما تيقنه من الثواب وملاقاة الأحباب، كما أشار إليه بقوله: "غدًا ألقى الأحبة محمدًا وحزبه": أصحابه، والمراد بغدا الزمان المستقبل بعد الموت، "فمزج مرارة الموت بحلاوة اللقاء، وهي حلاوة الإيمان"، أي: من جملة حلاوته "ومنها حديث الصحابي الذي سرق فرسه بليل، وهو في الصلاة، فرأى السارق حين أخذه، فلم يقطع لذلك صلاته، فقيل له في ذلك"، أي: ليم على(9/92)
ذلك، ولا ذاك إلا للحلاوة التي وجدها محسوسة في وقته ذلك.
ومنها حديث الصحابيين اللذين جعلهما صلى الله عليه وسلم في بعض مغازيه من قبل العدو، وقد أقبل فرآهما، فكبل الجاسوس القوس ورمى الصحابي فأصابه، فبقي على صلاته ولم يقطعها، ثم رماه ثانية فأصابه فلم يقطع لذلك صلاته، ثم رماه ثالثة فأصابه، فعند ذلك أيقظ صاحبه وقال: لولا أني خفت على المسلمين ما قطعت صلاتي. وما ذاك إلا لشدة ما وجد فيها من الحلاوة حتى أذهبت عنه ما يجد من ألم السلاح.
قال: ومثل ذلك حكى عن كثير من أهل المعاملات، انتهى.
وحديث هذين الصحابيين ذكره البخاري في صحيحه في باب "من لم ير الوضوء إلا من المخرجين" بلفظ: ويذكر عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في غزوة "ذات الرقاع" فرُمي رجل بسهم فنزفه الدم فركع وسجد ومضى في صلاته. وقد
__________
عدم اتباع السارق وتخليصها منه، "فقال: ما كنت فيه ألذ من ذلك ولا ذاك إلا للحلاوة التي وجدها محسوسة في وقته ذلك" إذ لو كانت معقولة معنوية ما قدمها على ضياع فرسه "ومنها حديث الصحابيين اللذين جعلهما النبي صلى الله عليه وسلم في بعض مغازيه من قبل العدو"، أي: من جهته "وقد أقبل" العدو "فرآهما فكبل" "باللام بزنة ضرب والتشديد مبالغة" "الجاسوس القوس" أي: أوتره، عبر عنه بالتكبيل مجازًا تشبيهًا لابتار القوس بوضع القيد في رجل الأسير، لمبالغته في إبتاره، ليتمكن من قوة الرمي، وفي نسخة: فكبد بالدال، أي: جعل النشاب في وسط القوس، "ورمى الصحابي فأصابه، فبقي على صلاته ولم يقطعها، ثم رماه ثانية فأصابه، فلم يقطع لذلك صلاته، ثم رماه ثالثة فأصابه، فعند ذلك أيقظ صاحبه".
"وقال: لولا إني خفت على المسلمين ما قطعت صلاتي"، أي: ما اختصرتها؛ لأنه لم يقطعها بالفعل "وما ذاك": أي: عدم قطعها واعتذاره "إلا لشدة ما وجده فيها من الحلاوة حتى أذهبت عنه ما يجد من ألم السلاح".
"قال: ومثل ذلك حكي عن كثير من أهل المعاملات انتهى". كلام ابن أبي جمرة.
"وحديث هذين الصحابيين ذكره البخاري في صحيح في باب: من لم ير الوضوء إلا من المخرجين" من كتاب الوضوء "بلفظ: ويذكر عن جابر" بن عبد الله الصحابي ابن الصحابي؛ "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في غزوة ذات الرقاع، فرُمي" "بضم الراء مبنيًّا للمفعول" "رجل" هو عباد بن بشر "بسهم، فنزفه الدم" "بفتح الزاي والفاء" أي: خرج منه دم كثير حتى يضعف.(9/93)
وصله ابن إسحاق في المغازي قال: حدثني صدقة بن يسار عن عقيل بن جابر عن أبيه مطولًا، وأخرجه أحمد وأبو داود والدارقطني وصححه ابن خزمية وابن حبان والحاكم، كلهم من طريق ابن إسحاق، قال في فتح الباري، وشيخه "صدقة" ثقة،
__________
قاله الجوهري، وفي أفعال ابن طريف يقال: نزفه الدم وأنزفه.
إذا سال منه كثيرًا حتى يضعفه، فهو نزيف ومنزوف "فركع وسجد، ومضى في صلاته" فلم يقطعها.
قال الحافظ: أراد البخاري بهذا الحديث الرد على الحنفية في أن الدم السائل ينقض الوضوء، فإن قيل: كيف مضى في صلاته مع وجود الدم في بدنه أو ثوبه، واجتناب النجاسة فيها واجب، أجاب الخطابي: باحتمال أن الدم جرى من الجرح على سبيل الدفق، بحيث لم يصب شيئًا من ظاهر بدنه وثيابه وفيه بعد، ويحتمل أن الدم أصاب الثوب، فقط فنزعه عنه، ولم يسل على جسمه إلا قدر يسير معفو عنه، ثم الحجة قائمة به على أن خروج الدم لا ينقض، ولو لم يظهر الجواب عن كون الدم أصابه.
"وقد وصله ابن إسحاق في المغازي" في غزوة ذات الرقاع، "قال: حدثني صدقة بن يسار" الجزري، نزيل مكة، مات سنة اثنتين وثلاثين ومائة "عن عقيل بن جابر" بن عبد الله الأنصاري، المدني، مقبول "عن أبيه" جابر الصحابي "مطولًا" قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة ذات الرقاع، فأصبنا امرأة رجل من المشركين، فلما قفل صلى الله عليه وسلم، أتى زوجها وكان غائبًا، فحلف لا ينتهي حتى يصيب في أصحاب محمد دمًا، فخرج يتبع أثره صلى الله عليه وسلم فنزل منزلًا، فقال: "من رجل يكلؤنا ليلتنا"؟، فانتدب رجل من المهاجرين ورجل من الأنصار، فقالا: نحن يا رسول الله، قال: "فكونا في فم الشعب"، وكان صلى الله عليه وسلم وأصحابه قد نزلوا إلى شعب من الوادي، فقال الأنصاري للمهاجري: أي الليل تحب أن أكفيك، أوله أم آخره، قال: بل أكفني أوله، فنام المهاجري، وقام الأنصاري يصلي، وأتى الرجل، فلما رأى شخص الرجل، عرف أنه ربيئة القوم، فرمى بسهم فوضعه فيه، فنزعه ووضعه، وثبت قائمًا ثم رماه بسهم آخر فوضعه فيه فنزعه ووضعه وثبت قائمًا ثم عاد له بالثالث فوضعه فيه فنزعه فوضعه ثم ركع وسجد، ثم أهب صاحبه، فقال: اجلس فقد أثبت، فوثب، فلما رآهما الرجل عرف أنه قد نذرا به، فهرب، ولما رأى المهاجري ما بالأنصاري من الدماء، قال: سبحانه الله ألا أهببتني أول ما رماك؟ قال: كنت في سورة أقرؤها، فلم أحب أن أقطعها حتى أنفدها، فلما تابع عليَّ الرمي ركعت، فآذنتك، وايم الله لولا أن أضيع ثغرًا أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظه، لقطع نفسي قبل أن أقطعها أو أنقدها.
"وأخرجه أحمد وأبو داود والدارقطني، وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم، كلهم من طريق ابن إسحاق"، محمد إمام المغازي، "قال في فتح الباري: وشيخه صدقة ثقة".(9/94)
وعقيل -بفتح العين- لكني لا أعرف راويًا عنه غير صدقة، ولهذا لم يحزم به البخاري، أو لكونه اختصره، أو للاختلاف في ابن إسحاق وأخرجه البيهقي في الدلائل من وجه آخر، وسمي أحدهما: عباد بن بشر الأنصاري، والآخر عمار بن ياسر من المهاجرين، والسورة الكهف.
وإنما قال: "أحب إليه مما سواهما" ولم يقل "ممن" ليعم من يعقل ومن لا يعقل.
وفي قوله: "أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما" دليل على أنه لا بأس بهذه التثنية، وأما قوله للذي خطب فقال: "ومن يعصهما" "بئس الخطيب أنت".
__________
روى له مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه وعقيل "بفتح العين" وكسر القاف"، وإن كان مقبول الرواية، "لكني لا أعرف راويًا عنه غير صدقة"، فيكون مجهول العين، وهو مردود عند الأكثر، "ولهذا لم يجزم به البخاري" بل أتى بصيغة التمريض، بقوله: يذكر على عادته فيما لم يصح عنده "أو لكونه اختصره"، وهو مسوغ للتمريض، "أو للاختلاف في ابن إسحاق"، فمنهم من وثقه، ومنهم من ضعفه.
"وأخرجه البيهقي في الدلائل" النبوية "من وجه آخر وسمي أحدهما": أي: الرجلين المبهمين في رواية ابن إسحاق، "عباد بن بشر الأنصاري"، وهو الذي رُمي بالسهام، "و" سمي الرجل "الآخر عمار بن ياسر من المهاجرين" وسمي "السورة" التي كان يقرؤها عباد في صلاته "الكهف" فحصل بهذه الطريق تقوية، رواية ابن إسحاق، مع بيان المبهم في روايته من الرجلين والسورة، "وإنما قال: "أحب إليه مما سواهما"، ولم يقل ممن، ليعم من يعقل ومن لا يعقل" لأن ما موضوعة لهما بخلاف من، فموضوعة للعاقل.
قال تعالى: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} وقال تعالى: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} قال البيضاوي: لما استعمل ما للعقلاء، كما استعمل من لغيرهم كان استعماله حيث اجتمعا أولى من إطلاق من تغليبًا للعقلاء "وفي قوله: "أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما"، دليل على أنه لا بأس بهذه التثنية"، أي: يجوز جمع الله ورسوله في ضمير واحد، "وأما قوله صلى الله عليه وسلم للذي خطب"، قال الحافظ برهان الدين في المقتفى: لا أعرفه، وقال بعض الحفاظ: إنه ثبات بن قيس، وقال الطوفي: هو عدي بن حاتم.
روى مسلم وأبو داود عن عدي بن حاتم، أن خطيبًا خطب عند النبي صلى الله عليه وسلم "فقال": من يطع الله ورسوله فقد رشد، "ومن يعصهما" فقد غوى، فقال صلى الله عليه وسلم: "بئس الخطيب أنت"، قل: "ومن يعص الله ورسوله فقد غوى"، ورشد بفتح الشين المعجمة وكسرها، كما قال المصنف على مسلم.(9/95)
فليس من هذا؛ لأن المراد في الخطب الإيضاح، وأما هنا فالمراد الإيجاز في اللفظ ليحفظ، ويدل عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم حيث قاله في موضع آخر، قال: "ومن يعصهما فلا يضر إلا نفسه".
وقيل: إنه من الخصائص، فيمتنع من غير النبي صلى الله عليه وسلم ولا يمتنع منه؛ لأن غيره إذا جمع أوهم إطلاق التسوية بخلافه هو، فإن منصبه لا يتطرق إليه إيهام ذلك، وإلى هذا مال ابن عبد السلام. ومن محاسن الأجوبة في الجمع بين هذا الحديث وقصة الخطيب، أن تثنية
__________
"فليس من هذا؛ لأن المراد في الخطب الإيضاح" واجتناب الرمز، ولذا كان صلى الله عليه وسلم إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثًا، لتفهم كما في الصحيح، "وأما هنا، فالمراد الإيجاز": الاختصار "في اللفظ ليحفظ" إذ القليل يسهل حفظه وهذا صوبه النووي قائلًا: وهذا هو الفرق بين الحديثين، حديث من يعصهما كان في خطبة، وحديث مما سواهما كان في تعليم حكم، فتقليل اللفظ فيه أولى؛ لأنه أقرب إلى الحفظ "ويدل عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم حيث قاله في موضع آخر، قال": كما رواه أبو داود عن ابن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب، فقال في خطبته: "من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فلا يضر إلا نفسه"، واعترض بأن هذا الحديث إنما ورد أيضًا في خطبة النكاح، وأجيب بأن المقصود في خطبة النكاح أيضًا الإيجاز، فلا نقض، وثَمَّ أجوبة أخرى، منها دعوى الترجيح، فيكون خبر المنع أولى،؛ لأنه عام، والآخر يحتمل الخصوصية، ولأنه ناقل، والآخر مبني على الأصل، ولأنه قول، والآخر فعل ورد بأن احتمال التخصيص في القول أيضًا حاصل، بل ليس فيه صيغة عموم أصلًا.
هكذا في الفتح قبل قوله: "وقيل: إنه من الخصائص فيمتنع من غير النبي صلى الله عليه ولم ولا يمتنع منه؛ لأن غيره إذا جمع أوهم إطلاق التسوية" بينهما؛ لأنه لفظ واحد متصل، لا سيما إذا لوحظ العدول عن العطف، الدال على التفاوت والتبعية، ولذا قال له: قل ومن يعص الله ورسوله "بخلافه هو، فإن منصبه لا يتطرق إليه إيهام ذلك"، لأنه يعطي مقام الربوبية حقه، "وإلى هذا مال ابن عبد السلام" الشيخ عز الدين.
زاد الحافظ: ومنها دعوى التفرقة بوجه آخر، هو أن كلامه صلى الله عليه وسلم هنا جملة واحدة، فلا يحسن إقامة الظاهر فيها مقام المضمر، وكلام الذي خطب جملتان، فالأولى إقامة الظاهر فيهما.
"ومن محاسن الأجوبة في الجمع بين هذا الحديث وقصة الخطيب أن تثنية الضمير هنا(9/96)
الضمير هنا للإيماء إلى أن المعتبر هو المجموع المركب من المحبتين، لا كل واحدة منهما، فإنها وحدها لاغية إذا لم ترتبط بالأخرى، فمن يدعي حب الله مثلًا ولا يحب رسوله لا ينفعه ذلك، ويشير إلى قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31] فأوقع متابعته مكتنفة بين قطري محبة العباد لله، ومحبة الله للعباد. وأما الأمر الخطيب بالإفراد فلأن كل واحد من العصيانين مستقل باستلزام الغواية؛ إذ العطف في تقدير التكرير، والأصل استقلال كل من المعطوفين في الحكم، ويشير إليه قوله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59] فأعاد أطيعوا في الرسول، ولم يعده في أولي الأمر؛ لأنهم لا استقلال لهم في الطاعة كاستقلال الرسول، انتهى ملخصًا من كلام البيضاوي والطيبي، كما حكاه في فتح الباري.
وفي الصحيح: "ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربًّا وبالإسلام دينًا، وبمحمد
__________
للإيماء إلى أن المعتبر هو المجموع المركب من المحبتين لا كل واحدة منهما، فإنها وحدها لاغيه" متروكة، لا اعتداد به "إذ لم ترتبط بالأخرى، فمن يدعي حب الله مثلًا ولا يحب رسوله، لا ينفعه ذلك"، كعكسه، "ويشير إليه قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} ، فأوقع متابعته مكتنفة" "بفتح النون" اسم مفعول من اكتنفه القوم أحاطوا به "بين قطري" تثنية قطر، أي: جانبي "محبة العباد لله، ومحبة الله للعباد"، والإضافة بيانية، يعني؛ أنه جعل المتابعة محاطًا بها طرفان، أحدهما: محبة الله، والآخر محبة رسوله، وعليه فبين هنا بمعنى الباء؛ لأن بين ظرف لا يظهر معناها إلا بإضافتها لمتعدد "وأما أمر الخطيب بالإفراد فلأن كل واحد من العصيانين مستقل باستلزام الغواية" "بفتح الغين المعجمة" اسم من غوى غيًا من باب ضرب انهمك في الجهل، وهو خلاف الرشد "إذ العطف في تقدير التكرير"، والاستقلال لقيام الواو مقام تكرار العامل، أو تقديره معها، "والأصل استقلال في كل من المعطوفين في الحكم، ويشير إليه قوله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59] ، فأعاد أطيعوا في الرسول، ولم يعده في أولي الأمر؛ لأنهم لا استقلال لهم في الطاعة كاستقلال الرسول، انتهى ملخصًا من كلام البيضاوي والطيبي"، كلاهما في شرح المصابيح، "كما حكاه في فتح الباري" وزاد وهنا أجوبة أخرى فيها نظر، منها: أن المتكلم لا يدخل في عموم خطابه، ومنها: أن له أن يجمع بخلاف غيره، انتهى.
"وفي الصحيح" لمسلم من إفراده، عن العباس بن عبد المطلب أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم(9/97)
رسولًا نبيًّا.
قال في المدارج: فأخبر أن للإيمان طمعًا، وأن القلب يذوقه كما يذوق الفم طعم الطعام والشراب. وقد عبر النبي صلى الله عليه وسلم عن إدراك حقيقة الإيمان والإحسان وحصوله للقلب ومباشرته له بالذوق تارة وبالطعم أخرى، ويوجد الحلاوة تارة، كما
__________
يقول: "ذاق طعم الإيمان"، قال عياض: أي: عرف الله سبحانه واستحلى الإيمان "من رضي بالله ربًّا" فالرضا دليل على هذه المعرفة، قال لأبي: لأنه تسبب عنها، ووجود السبب يدل على وجود المسبب، ثم الرضا يكون بمعنى القناعة وبمعنى الإيثار، وهو المراد؛ لأن الأول مشترك بين جميع الناس؛ إذ من لم يقنع بالله ربًّا ليس من الإسلام في شيء، واستحلاء الإيمان من صفة الخواص، فإنما يدل عليها ما هو من صفتهم، فالمعنى عرف الله، واستحلاء الإيمان به من أثره، فإن قيل: هذان هما الغاية، فلو أريد ألم يعبر عنهما بالذوق، وهو مبدأ الفعل؛ إذ لا يعبر عن غاية الشيء بمبدئه، قلت: الذوق إنما هو مبدأ الفعل إذ استعمل في المحسوسات، كذوق الطعام، أما إذا استعمل في المعاني، كما هنا، فإنما هو كناية عن كمال الإدراك، والرضا بالله يستلزم الرضا عنه، انتهى.
وقال الراغب: الذوق، وجود الطعم في الفم، وأصله فيما يقل تناوله، فإذا كثر، يقال له الأكل، واستعمل في القرآن بمعنى الإصابة، أما في لرحمة نحو {وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً} ، وأما في العذاب، نحو {لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} [النساء: 56] ، وقال غيره: ضرب الذوق مثلًا لما ينالونه من الخير عند المصطفى "وبالإسلام دينًا" بأن لم يسع في غير طريقه.
قال الطيبي: لا يخلو أما أن يراد به الانقياد، كما في حديث جبريل، أو مجموع ما يعبر بالدين عنه، كخبر بني الإسلام على خمس، ويؤيد الثاني اقترانه بالدين؛ لأنه جامع باتفاق، وعلى التقديرين هو عطف عام على خاص.
وكذا قوله: "وبمحمد رسولا" بأن لم يسلك إلا ما يوافق شرعه، ومن كان هذا نعته فقد وصلت حلاوة الإيمان إلى قلبه، وذاق طعمه، شبه الأمر الحاصل الوجداني من الرضا بالأمور المذكورة بمطعوم يلتذ به، ثم ذكر المشبه به، وأراد المشبه، ورشح بقوله: ذاق، فإن قيل الرضا بالثالث مستلزم للأولين، فلم ذكرهما، قلنا للتصريح، بأن الرضا بكل منها مقصود "ونبيًّا"، كذا في النسخ عطف لازم على ملزوم؛ لأن الرسالة مستلزمة للنبوة، ولكن ليس في مسلم ونبيًَّا، ولم يتكلم شارحاه النووي والأبي على أنها راوية، وقد نسبه السيوطي لأحمد ومسلم والترمذي بدون ونبيًّا، فكأنها دخلت على المصنف من حديث آخر.
"قال في المدارج" لابن القيم "فأخبر أن للإيمان طعمًا، وأن القلب يذوقه كما يذوق الفم طعم الطعام والشراب"، أي: بإدراكه لذة الإيمان وسهولة ما بني عليه من فعل الطاعات(9/98)
قال "ذاق". وقال: "ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان"، ولما نهاهم عن الوصال قالوا: إنك تواصل قال: "إني لست كهيئتكم، إني أطعم وأسقى"، وقد غلظ حجاب من ظن أن هذا طعام وشراب حسي للفم، وسيأتي تحقيق الكلام في هذا إن شاء الله تعالى في الصوم، من مقصد عباداته عليه الصلاة والسلام.
والمقصود أن ذوق حلاوة الإيمان أمر يجده القلب تكون نسبته إليه كذوق حلاوة الطعام إلى الفم، وذوق حلاوة الجماع إلى اللذة، كما قال عليه الصلاة والسلام: "حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك".
وللإيمان طعام وحلاوة يتعلق بهما ذوق ووجد، ولا تزول الشبه والشكوك إلا إذا وصل العبد إلى هذه الحالة، فيباشر الإيمان قلبه حقيقة المباشرة، فيذوق طعمه
__________
واجتناب المعاصي، فعبر بالذوق عن الإدراك، وبالطعم عن السهولة، واطمئنان النفس بما يقتضيه الإيمان مجازًا.
"وقد عبر النبي صلى الله عليه وسلم عن إدراك حقيقة الإيمان والإحسان، وحصوله للقلب، ومباشرته له بالذوق" متعلق بعبر "تارة بالطعم أخرى، ويوجد" "بفتح السكون" مصدر "الحلاوة تارة، كما قال: ذاق" طعم الإيمان "وقال" في الحديث الذي قبله: "ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان" ولذا قال الطيبي: مجاز قوله ذاق طعم الإيمان مجاز قوله: وجد حلاوة الإيمان، وكذلك موقعه كموقعه؛ لأن من أحب أحدًا يتحرى ماضيه ويؤثر رضاه على رضا نفسه "لما نهاهم عن الوصال" في الصوم "قالوا": مستفهمين "أنك تواصل، قال: "إني لست كهيئتكم، إني أطعم وأسقى" بما يغذيني به ربي من معارفه، وما يفيض على قلبي من لذة مناجاته، وقرة عيني بقربه، ونعيمه بحبه والشوق إليه، المغني ذلك عن غذاء الأجسام مدة:
لها أحاديث من ذكراك تشغلها ... عن الشراب ويليها عن الزاد
"وقد غلظ" أي: قوي "حجاب من ظن أن هذا" الذي يطعمه ويسقاه حين الوصال "طعام وشراب حسي للفم"، يؤتى له من الجنة؛ لأنه لم يدرك الأمور على حقيقتها، فعبر عن ذلك بالغلظ والحجاب مجازًا، "وسيأتي تحقيق الكلام في هذا إن شاء الله تعالى في الصوم من مقصد عباداته عليه الصلاة والسلام"، وأن الجمهور على أنه مجاز عن لازم الطعام والشراب، وهو القوة، كأنه قال: أعطى قوة الطاعم الشارب، "والمقصود" هنا "أن ذوق حلاوة الإيمان أمر يجده القلب، تكون نسبته إليه كذوق حلاوة الطعام إلى الفم"، فهو على التشبيه، أي: وجد في فعله حلاوة تشبه الحلاوة والمأكولة، "وذوق حلاوة الجماع إلى اللذة، كما قال عليه الصلاة والسلام" لامرأة رفاعة: "لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك"، وللإيمان طعم(9/99)
ويجد حلاوته.
وقال العارف الكبير تاج الدين بن عطاء الله: فيه يعني في هذا الحديث إشارة إلى أن القلوب السليمة من أمراض الغفلة والهوى تتنعم بملذوذات المعاني كما تتنعم بملذوذات الأطعمة، وإنما ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربًّا لأنه لما رضي بالله ربًّا استسلم له وانقاد لحكمه، وألقى قياده إليه، فوجد لذاذة العيش وراحة التفويض، ولما رضي بالله ربًّا كان له الرضا من الله، وإذا كان له الرضا من الله أوجده الله حلاوة ذلك ليعلم ما من به عليه، وليعلم إحسانه عليه، ولما
__________
وحلاوة يتعلق بها ذوق ووجد" أي: إدراك، "ولا تزول الشبه والشكوك إلا إذا وصل العبد إلى هذه الحال، فيباشر الإيمان قلبه حقيقة المباشرة، فيذوق طعمه ويجد حلاوته" المعنوية، المشابهة للحسية.
"وقال العارف الكبير تاج الدين" أبو العباس أحمد بن محمد بن عبد الكريم "بن عطاء الله"، نسبة إلى جده الأعلى لشهرته به الجذامي، الإسكندراني، الإمام، المتكلم على طريقة الشاذلي، الجامع لأنواع العلوم من تفسير وحديث ونحو وأصول وفقه، على مذهب مالك، وصحب في التصوف الشيخ أبا العباس المرسي، وكان أعجوبه زمانه فيه، وأخذ عنه التقي السبكي، واختصر تهذيب المدونة للبرادعي في الفقه، وألف التنوير والحكم وغير ذلك، ومات بالمدرسة المنصورية في القاهرة في ثالث جمادى الآخرة، سنة تسع وسبعمائة ودفن بالقرافة ذكره السيوطي وابن فرحون، في طبقات المالكية وغيرهما. ولا نزاع في أنه مالكي وذكر ابن السبكي له في طبقات الشافعية، لقوله: أراه كان شافعيًّا وليس كما ظن "فيه، يعني في هذا الحديث إشارة إلى أن القلوب السليمة من أمراض الغفلة والهوى"، إضافة أعم إلى أخص، أو بيانية "تتنعم بملذوذات المعاني، كما تتنعم بملذوذات الأطعمة" تشبيه بمطلق اللذاة، فلا ينافي أن لذتهم أقوى قال إبراهيم بن أدهم: والله إنا لفي لذة لو علمها الملوك لجالدونا عليها بالسيوف.
وقال الجنيد: أهل الليل في ليلهم ألذ من أهل اللهو في لهوهم.
وقال عتبة الغلام: كابدت الصالة عشرين سنة، ثم استمتعت بها بقية عمري، "وإنما ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربًّا؛ لأنه ما رضي بالله ربًّا" أعاده مظهرًا تلذذًا بذكره:
أعد ذكر نعمان لنا أن ذكره ... هو المسك ما كررته يتضوع
"استسلم له وانقاد لحكمه"، عطف تفسير، "وألقى قياده" "بكسر القاف" "إليه" أي: أطاعه وأذعن له، فهي ألفاظ متقاربة "فوجد لذاذة" "بالفتح بزنة سلامة مصرد لذيذ لذاذًا ولذاذة بالفتح" "العيش وراحة التفويض، ولما رضي بالله ربًّا كان له الرضا من الله" جزاء من جنس(9/100)
سبقت لهذا العبد العناية خرجت له العطايا من خزائن المنن، فلما واصلته أمداد الله وأنواره عوفي قلبه من الأمراض والأسقام، فكان سليم الإدراك، فأدرك لذاذة الإيمان وحلاوته لصحة إدراكه وسلامة ذوقه. وقوله صلى الله عليه وسلم: "وبالإسلام دينًا" لأنه إذا رضي بالإسلام دينًا فقد رضي مما رضي به المولى، ولازم من رضي بمحمد نبيًّا أن يكون له وليًّا، وأن يتأدب بآدابه ويتخلق بأخلاقه زهدًا في الدنيا وخروجًا عنها، وصفحًا عن الجناة وعفوًا عمن أساء إليه، إلى غير ذلك من تحقيق المتابعة قولًا وفعلًا، وأخذًا وتركًا، وحبًّا وبغضًا، فمن رضي بالله استسلم له، وانقاد ومن رضي بالإسلام عمل له، ومن رضي بمحمد صلى الله عليه وسلم تابعه، ولا يكون واحد منها إلا بكلها؛ إذ محال أن يرضى بالله ربًّا ولا يرضى بالإسلام دينًا، أو يرضى بالإسلام دينًا ولا يرضى بمحمد نبيًّا، وتلازم ذلك بين لا خفاء فيه، انتهى ملخصًا.
واعلم أن محبة الله تعالى على قسمين: فرض وندب.
فالفرض: المحبة التي تبعث على امتثال الأوامر والانتهاء عن المعاصي،
__________
العمل، "وإذا كان له الرضا من الله أوجده الله حلاوة ذلك، ليعلم ما من" "بشد النون": أنعم "به عليه، وليعلم إحسان الله عليه"، فيزداد شكره، فيزيد ثوابه، "ولما سبقت لهذا العبد العناية" الحفظ "خرجت له العطايا من خزائن المنن"، جمع منه "فلما واصلته أمداد الله": زياداته "وأنواره عوفي قلبه من الأمراض والأسقام": الأمراض المهلكة، "فكان سليم الإدراك، فأدرك لذاذة الإيمان وحلاوته، لصحة إدراكه وسلامة ذوقه"، مما يغير طعمه عليه، "وقوله صلى الله عليه وسلم: "وبالإسلام دينًا" لأنه إذا رضي بالإسلام دينًا فقد رضي مما رضي به المولى" تبارك وتعالى، كما قال: ورضيتت لكم الإسلام دينًا "ولازم من رضي بمحمد نبيًّا أن يكونه له وليًّا"، مواليًا، "وأن يتأدب بآدابه، ويتخلق بأخلاقه زهدًا في الدنيا وخروجًا عنها، وصفحًا عن الجناة", بضم الجيم جمع جان، أي: المذنبين ذنبًا يؤاخذ به، "وعفوًا عمن أساء إليه، إلى غير ذلك من تحقيق المتابعة قولًا وفعلًا وأخذًا وتركًا وحبًّا وبغضًا، فمن رضي بالله استسلم له وانقاد، ومن رضي بالإسلام عمل له، ومن رضي بمحمد صلى الله عليه وسلم" رسولًا "تابعه" متابعة تامة، "ولا يكون" لا يوجد "واحد منها إلا بكلها إذ محال أن يرضى بالله ربًّا ولا يرضى بالإسلام دينًا أو يرضى بالإسلام دينًا ولا يرضى بمحمد نبيًّا، وتلازم ذلك بين لا فخاء فيه. انتهى ملخصًا" كلام ابن عطاء الله.
"واعلم أن محبة الله تعالى"، كما نقله في فتح الباري عن بعضهم "على قسمين فرض(9/101)
والرضى بما يقدره، فمن قوع في معصية من فعل محرم أو ترك واجب فلتقصيره في محبة الله، حيث قدم هوى نفسه، والتقصير يكون مع الاسترسال في المباحات والاستكثار منها، فيورث الغفلة المقتضية للتوسع في الرجاء فيقدم على المعصية، أو تستمر الغفلة فيقع، وهذا الثاني يسرع إلى الإقلاع مع الندم.
والندب: أن يواظب على النوافل ويجتنب الوقوع في الشبهات، والمتصف بذلك عموم الأوقات والأحوال نادر.
وفي البخاري من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه تعالى
__________
وندب، فالفرض المحبة التي تبعث على امتثال الأوامر" المفيدة للفرضية، وأطلقها؛ لأن إطلاقها على غير الواجب مجاز، كما حققه المحلى لا مشترك، "والانتهاء عن المعاصي والرضى بما يقدره" أي: بقدره أن حمل على التقدير الأزلي، أو يقدره حالًا ومآلًا أن حمل على التعلق التنجيزي والصلوحي، "فمن وقع في معصية من فعل محرم أو ترك واجب"، عبر عن الأمرين المتقدمين بواحد، وأن تحته فردين إشارة إلى تلازمهما، وإن اختلفا بحسب المفهوم، وما صدقهما؛ إذ الأول هو الفعل الذي طلبه الشارع طلبًا حازمًا، والثاني الفعل الذي نهى عنه نهيًا جازمًا، "فلتقصيره في محبة الله حيث قدم هوى نفسه" حيثية تعليل، فهو تعليل للتعليل، فإن قيل: يلزم عليه تعليل الشيء بنفسه؛ لأن المعنى: أن الوقوع في المعصية سببه فعلها، الذي هو اتباع هوى نفسه، فالجواب أنه دفع ذلك بقوله: "والتقصير يكون مع الاسترسال في المباحات والاستكثار منها"، ووجه الدفع أن التقصير الذي هو سبب العصيان ليس ناشئًا عن اتباع هوى نفسه، الذي هو المعصية فقط؛ إذ هواها لا يختص بالمعصية، فيحمل على أمر مباح ليصح مغايرة السبب للمسبب "فيورث" ذلك الاسترسال والاستكثار "الغفلة" عما يحمله على امتثال الأمر واجتناب النهي، لغفلته عن الرغبة في الثواب والخوف من العقاب، "المقتضية للتوسع في الرجاء" لرحمة الله، كأن يقوم في نفسه أنه وإن أكثر من الشبهات لا يناله مكروه، "فيقدم" بذلك، أي: يجترئ "على المعصية" ويرجو المغفرة.
زاد في الفتح: "أو تستمر الغفلة فيقع، وهذا الثاني يسرع إلى الإقلاع مع الندم" وإليه يشير حديث: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن" "والندب أن يواظب على النوافل ويجتنب الوقوع في الشبهات"، وهي ما ليس بواضح الحل والحرمة، مما تنازعته الأدلة وتجاذبته المعاني والأسباب، فبعضها يعضده دليل الحرام، وبعضها يعضده دليل الحلال، "والمتصف بذلك عموم الأوقات والأحوال نادر".
زاد المحافظ: وكذا محبة الرسول على قسمين كما تقدم، ويزاد أن لا يتلقى شيئًا من(9/102)
أنه قال: "ما تقرب إليَّ عبدي بمثل أداء ما افترضته عليه -وفي رواية: بشيء أحب إلي من أداء ما افترضت عليه- ولايزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي، ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس المؤمن، يكره الموت، وأنا أكره مساءته".
__________
المأمورات والمنهيات إلا من مشكلته، ولا يسلك إلا طريقته، ويرضى بما شرعه حتى لا يجد في نفسه حرجًا مما قضين ويتخلق بأخلاقه في الجود والإيثار والحلم والتواضع وغيرها، فمن جاهد نفسه على ذلك وجد حلاوة الإيمان، وتتفاوت مراتب المؤمنين بحسب ذلك انتهى.
"وفي البخاري" في الرقائق "من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه تعالى أنه قال" لفظه: حدثني محمد بن عثمان بن كرامة، حدثنا خالد بن مخلد حدثنا سليمان بن بلال، حدثني شريك بن عبد الله بن أبي نمر، عن عطاء، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله تعالى قال: من عادى لي وليًّا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي" وللكشميهني عبد "بحذف الياء" "بمثل أداء ما افترضته عليه" عينًا أو كفاية، وظاهره اختصاصه بما ابتدأ الله فرضه، وفي دخول ما أوجبه المكلف على نفسه نظر للتقييد، بقوله: افترضت إلا أن يوجه من جهة المعنى الأعم، قاله الحافظ.
"وفي رواية "بشيء أحب"، بالفتح صفة لشيء، فهو مفتوح في موضع جر، وبالرفع بتقدير هو أحب "إليَّ من أداء ما افترضت عليه" أي: تأديته لا المقابل للقضاء فقط، بل المراد فعل ما افترض عليه، "ولا يزال" بلفظ المضارع، وللحموي والمستملي، وما زال "عبدي" بإضافة التشريف "يتقرب إلي بالنوافل" مع الفرائض، كالصلاة والصيام "حتى أحبه"، بضم أوله، أي: أرضى عنه، "فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها" "بضم الطاء وكسرها" روايتان: وبهما قرئ أم لهم أيد يبطشون بها، أي: تأخذ بقوة، "ورجله التي يمشي بها".
زاد في حديث عائشة عند أحمد والبيهقي في الزهد، "وفؤاده الذي يعقل به، ولسانه الذي يتكلم به".
وفي حديث أنس عند أبي يعلى وغيره: "ومن أحببته كنت له سمعًا وبصرًا ويدًا ومؤيدًا"، وقوله: "فبي يسمع وبي يبصر، وبي يبطش وبي يمشي".
ليست هذه الجمل في رواية البخاري: "ولئن سألني"، زاد في حديث عائشة عبدي "لأعطيننه" ما سأل مما يعود بنفع عليه، كصحة وتوفيق إلى طاعه، "ولئن استعاذني"، قال(9/103)
ويستفاد من قوله: "وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي من أداء ما
__________
المصنف: بالنون بعد الذال المعجمة في الفرع كأصله، وبالموحدة في غيرهما "لأعيذنه" مما يخاف.
وفي حديث أبي أمامة عند الطبراني والبيهقي في الزهد: وإذا استنصرني نصرته.
وفي حديث حذيفة عند الطبراني: ويكون من أوليائي وأصفيائي، ويكون جاري مع النبيين والصديقين والشهداء في الجنة، وفيه: أن العبد ولو بلغ أعلى الدرجات حتى يكون محبوبًا لله تعالى، لا ينقطع عن الطلب من الله لما فيه من الخضوع وإظهار العبودية، "وما ترددت عن" بمعنى في أو ضمن تردد معنى تأخر؛ لأنه لازمه "شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس المؤمن"، تشبيه بليغ بحذف الأداة، ولم يقل نفس عبدي للاستغناء بوصف الإيمان، أي: ما أخرت وما توقفت توقف المتردد في أمر أنا فاعله إلا في قبض نفس المؤمن، حتى يسهل عليه ويميل قلبه مشوقًا إليه، لانخراطه في سلك المقربين، والتبوء في عليين، أو إزالة كراهة الموت مما يبتلى به من نحو مرض وفقر، فأخذه المؤمن عن حب الحياة شيئًا فشيئًا بهذه الأسباب يشبه فعل المتردد، فعبر به مجازًا؛ لأن حقيقة التردد التحير، بأن يظهر له ما يقتضي الفعل وما يقتضي الترك، فينشأ من ذلك الحيرة لمريد الفعل لتعارض مقتضاهما عنده، والله منزه عن ذلك، كما يأتي "يكره الموت" لصعوبته وشدته ومرارته وشدة ائتلاف روحه لجسده وتعلقها به، ولعدم معرفته بما هو صائر إليه بعده "وأنا أكره مساءته" بفتح الميم والمهملة بعدها همزة ففوقية، أي: أن أفعل به ما يحزنه، والجملة في موضع التعليل للتردد، وهو استئناف بياني، كأنه جواب سؤال.
قال الذهبي في الميزان حديث غريب جدًّا: لولا هيبة الجامع الصحيح لعدوه في منكرات خالد بن مخلد القطواني لغرابة لفظه، ولأنها مما تفرد به شريك، وليس بالحافظ، ولم يرو هذا المتن إلا بهذا الإسناد، ولأخرجه من عند البخاري، ولا أظنه في مسند أحمد.
قال الحافظ: ليس في مسند أحمد جزمًا، وإطلاق أنه لم يرو إلا بهذا الإسناد مردود، وشريك شيخ شيخ خالد، فيه مقال أيضًا، لكن للحديث طرق يدل مجموعها على أن له أصلًا، فرواه أحمد في الزهد وابن أبي الدنيا، والبيهقي في الزهد من طريق عبد الواحد بن ميمون عن عروة، عن عائشة، وذكر ابن حبان وابن عدي أن عبد الواحد تفرد به.
وقد قال البخاري: إنه منكر الحديث، لكن أخرجه الطبراني من طريق يعقوب بن مجاهد، عن عروة وقال: لم يروه عن عروة إلا يعقوب وعبد الواحد.
وأخرجه الإسماعيلي من حديث علي والطبراني والبيهقي، عن أبي أمامه بسند ضعيف،(9/104)
افترضته عليه" أن أداء الفرائض أحب الأعمال إلى الله تعالى.
وعلى هذا فقد استشكل كون النوافل تنتج المحبة ولا تنتجها الفرائض؟
وأجيب: بأن المراد من النوافل إذا كانت مع الفرائض، مشتملة عليها ومكملة لها ويؤيده: أن في رواية أبي أمامة "ابن آدم، إنك لن تدرك ما عندي إلا بأداء ما افترضته عليك"، أو يجاب: بأن الإتيان بالنوافل لمحض المحبة لا لخوف
__________
وأبو يعلى والبزار والطبراني عن أنس، وفي سنده ضعف، والطبراني عن حذيفة مختصرًا، وسنده حسن غريب، وابن ماجه وأبو نعيم في الحلية، عن معاذ بن جبل مختصرًا، وسنده ضعيف، وأحمد في الزاهد، وأبو نعيم في الحلية، عن وهب بن منبه مقطوعًا انتهى.
وهو أصل عظيم في السلوك إلى الله تعالى والوصول إلى معرفته ومحبته؛ لأن المفترض إما باطن وهو الإيمان، وظاهر وهو الإسلام، أو مركب منهما وهو الإحسان، المتضمن مقامات السالكين، كالإخلاص والزهد، والتوكل والمراقبة، فقد جمع هذا الحديث الشريعة والحقيقة، "ويستفاد من قوله: وما تقرب إلي عبدي بشيء" من الطاعات "أحب إليَّ من أداء ما افترضته عليه، أن أداء الفرائض أحب الأعمال إلى الله تعالى"، أي: فعلها لا مقابل القضاء، كما مر، فالمراد اللغوي، فشمل النذر أخذًا للافتراض بالمعنى الأعم؛ لأن من نذر شيئًا فرض الله عليه الوفاء به، فلا ينافي قوله مما افترضته، ومر أن الحافظ نظر فيه، وأشار إلى الجواب بنحو هذا، "وعلى هذا" المستفاد "فقد استشكل كون النوافل تنتج المحبة" لأنه تعالى جعلها مرتبة على كثرة النوافل، "ولا تنتجها الفرائض" لأنه سبحانه جعلها أحب الأشياء إليه، ولم يذكر سبب الأحبية، فلم تترتب المحبة على أداء الفرائض.
"وأجيب بأن المراد من النوافل إذا كانت مع الفرائض، مشتملة عليها ومكملة لها"، لا مطلقًا فإنما انتجت المحبة من حيث الاشتمال والتكميل.
"ويؤيده أن في رواية أبي أمامة" الباهلي، عند الطبراني، والبيهقي مرفوعًا: "ابن" "بفتح الهمزة وكسرها" "آدم إنك لن تدرك ما عندي إلا بأداء ما افترضته عليك"، فلا يعتد بالنوافل بدون الفرائض.
قال ابن أبي جمرة: إنما سميت نافلة؛ لأنها تأتي زائدة على الفريضة، فلو لم تؤد الفريضة لا تحصل، ومن أداها، ثم زاد النفل وأدامه، محضت منه إرادة التقرب، وقد جرت العادة، بأن التقرب يكون غالبًا بغير ما وجب على المتقرب، كهديه وتحفة، بخلاف ما يجب عليه، أو يقتضي ما لزمه، ومما يحقق ذلك أن جملة ما شرع له النفل جبره الفرض، فالمراد من التقرب بالنفل، أن يقع ممن أدى الفرض، لا ممن أخل به.(9/105)
العقاب على الترك، بخلاف الفرائض.
وقال الفاكهاني: معنى الحديث أنه إذا أدى الفرائض، وداوم على إتيان النوافل من صلاة وصيام وغيرهما أفضى به ذلك إلى محبة الله تعالى إياه.
وقد استشكل أيضًا: كيف يكون الباري جل وعلا "سمع العبد وبصره" إلخ.
وأجيب بأجوبة:
منها: أنه ورد على سبيل التمثيل، والمعنى: كنت كسمعه وبصره في إيثاره أمري، فهو يحب طاعتي ويؤثر خدمتي كما يحب هذه الجوارح.
__________
قال بعض الأكابر: من شغله الفرض عن النفل، فهو معذور، ومن شغله النفل عن الفرض، فهو مغرور، انتهى.
"أو يجاب، بأن الإتيان بالنوافل لمحض المحبة، لا لخوف العقاب على الترك"فاستحق محبة الله، لكونه لا في مقابلة شيء، "بخلاف الفرائض"، ففعلها مانع من العقاب على تركها، فهو في مقابلة عوض، وإن كانت أفضل.
"وقال الفاكهاني" عمر بن علي بن سالم اللخمي، المالكي، الشهير بتاج الدين الفاكهاني الفقهي، الفاضل، المتفنن في الحديث والفقه والأصول، والعربية والأدب، والدين المتين، والصلاح العظيم، والتخلق بأخلاق الأولياء، وصحب منهم جماعة، وحج غير مرة، وولد بالإسكندرية سنة أربع، وقيل: سنة ست وخمسين وستمائة، ومات بها سنة أربع وثلاثين وسبعمائة، وله مصنفات عديدة.
"معنى الحديث أنه إذا أدى الفرائض، ودام على إتيان النوافل من صلاة وصيام وغيرهما"، وبين الفاكهاني نفسه ذلك الغير، فقال في شرح الأربعين: من صلاة في الليل، أو في النهار، لا سيما التوابع للمفروضات، أو صيام أو صدقة، أو حج تطوع، أو جهاد غير متعين، أو إصلاح بين اثنين، أو جبر خاطر يتيم، أو إغاثة مسلم أو تيسير على معسر أو فعل خير من حيث الجملة "أفضى به ذلك إلى محبة الله تعالى إياه" أي: أوصله لها، فالباء زائدة للتوكيد.
"وقد استشكل أيضًا كيف يكون الباري جل وعلا سمع العبد وبصره ... إلخ". يعني: ويده ورجله، مع أن السمع عرض؛ إذ هو قوة منبثة في مقعر الصماخ، والله تعالى ذات، والذات لا تقوم في العرض، بل العكس مع استحالة حلوله الحق تعالى في غيره، فتضمن السؤال أمرين، كما لا يخفى.
"وأجيب بأجوبة، منها: أنه ورد على سبيل التمثيل والمعنى: كنت كسمعه وبصره(9/106)
ومنها: أن المعنى أن كليته مشغولة بي، فلا يصغي بسمعه إلا إلى ما يرضيني، ولا يرى ببصره إلا ما أمرته به.
ومنها: أن المعنى، كنت له في النصرة كسمعه وبصره ويده ورجله في المعاونة على عدوه.
ومنها: انه على حذف مضاف، أي حافظ سمعه الذي يسمع به، فلا يسمع إلا ما يحل سماعه، وحافظ بصره كذلك إلخ. قاله الفاكهاني.
قال: ويحتمل معنى آخر أدق من الذي قبله: وهو: أن يكون بمعنى مسموعه؛ لأن المصدر قد جاء بمعنى المفعول، مثل: فلان أملي، بمعنى: مأمولي، والمعنى: أنه لا يسمع إلا ذكري ولا يتلذذ إلا بتلاوة كتابي ولا يأنس إلا بمناجاتي، ولا ينظر
__________
في إيثاره أمري، فهو يحب طاعتي، ويؤثر خدمتي، كما يحب هذه الجوارح"، فهو من التشبيه البيلغ، كزيد أسد.
"ومنها أن المعنى أن كليته"، أي: جملته لا الكلية المنطقية، التي هي الحكم على جميع الأفراد المقابلة للكلي، وهو ما لا يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه وللكل وهو ما كان ذا أجزاء "مشغولة بي، فلا يصغي بسمعه إلا إلى ما يرضيني، ولا يرى ببصره إلا ما أمرته به", ولا يبطش إلا لمرضاتي، ولا يمشي إلا فيما يقربه إلى.
"ومنها: أن المعنى كنت له في النصرة" "بضم النون" الإعانة والتقوية" "كسمعه وبصره، ويده ورجله في المعاونة"، بيان للنصرة "على عدوه"، وهذا أيضًا على جهة التمثيل، لكنه من جهة أخرى، فغاير الأول.
"ومنها: أنه على حذف مضاف، أي: حافظ سمعه الذي يسمع به، فلا يسمع إلا ما يحل سماعه، وحافظ بصهر كذلك"، أي: فلا يبصر إلا لحلال، "إلخ"، يعني: وحافظ يده وحافظ رجله كذلك، والدليل على المضاف الاستحالة، "قاله" أي: هذا الجواب الرابع "الفاكهاني" في شرح الأربعين، ولم يذكر فيه سواه، وسوى ما نقله بقوله.
"قال" الفاكهاني: "ويحتمل" في الحديث "معنى"، فهو فاعل، أو يحتمل الحديث معنى، فهو نصب المفعولية، والأول أظهر، والخطب سهل "آخر، أدق من الذي قبله، وهو أن يكون" سمعه "بمعنى مسموعة؛ لأن المصدر قد جاء بمعنى المفعول، مثل فلان أملي بمعنى مأمولي"، فأمل مصدر أمل يأمل، من باب طلب، واسم مفعوله مأمول، واسم فاعله آمل، وعبارة الفاكهاني: قالوا: أنت رجائي بمعنى مرجوي "والمعنى أنه لا يسمع إلا ذكري"، سماع تلذذ، "ولا يتلذذ إلا(9/107)
إلا في عجائب ملكوتي، ولا يمد يده إلا فيمال فيه رضاي، ورجله كذلك.
وقال غيره: اتفق العلماء -ممن يعتد بقوله- على أن هذا مجاز وكناية عن نصرة العبد وتأييده وإعانته، حتى كأنه سبحانه ينزل نفسه من عبده منزلة الآلات التي يستعين بها، ولهذا وقع في رواية: "فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي"، قال: والاتحادية زعموا أنه على حقيقته، وأن الحق عين العبد، تعالى الله عما يقول الظالمون علوًّا كبيرًا.
وقال الخطابي: عبر بذلك عن سرعة إجابة الدعاء، والنجح في الطلب، وذلك أن مساعي الإنسان كلها إنما تكون بهذه الجوارح المذكورة.
وعن أبي عثمان الحيرى -أحد أئمة الطريق- قال: معناه كنت أسرع إلى
__________
بتلاوة كتابي، ولا يأنس إلا بمناجاتي" في الصلاة وغيرها "ولا ينظر إلا في عجائب ملكوتي، ولا يمد يده إلا فيما فيه رضاي"، كمدها بالصدقة ونحوها، وعبر هنا بالمد إشارة إلى أن المراد مطلق حركة يده، لا حقيقة المد، وفي الحديث بالبطش لشرفه، وهو الأخذ بقوة "ورجله كذلك"، لا يسعى بها إلا فيما فيه رضاي.
"وقال غيره"، وهو الطوافي: "اتفق العلماء ممن يعتد بقوله" بأفراد الضمير على لفظ من، وهو أكثر، كقوله: ومنهم من يؤمن به "على أن هذا مجاز وكناية عن نصرة العبد"، مصدر مضاف لمفعوله، أي: عن نصرة الله عبده، "وتأييده وإعانته، حتى كأنه سبحانه ينزل نفسه من عبده منزلة الآلات التي يستعين بها"، أي: أن أفعاله لا توجد إلا بإرادته وأقداره عليها، لا أنه بمنزلة الآلة الحقيقية.
"ولهذا وقع في رواية: فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي، قال" ذلك الغير، "والاتحادية" نسبة إلى الاتحاد، وهو تصيير الذاتين ذاتًا واحدة، وهو محال لأنه إن كانت عين كل واحدة منهما موجودة في حال الاتحاد، فهما اثنتنان لا واحدة، وإن عدمت واحدة، فليس ذلك باتحاد، بل عدم إحداهما، وإن عدمتا كان عدم الاتحاد أظهر، "زعموا أنه على حقيقته، وأن الحق عين العبد"، محتجين بمجيء جبريل في صورة دحية، "تعالى الله عما يقول الظالمون علوًّا كبيرًا"، وللشيخ قطب الدين القسطلاني كتاب بديع في الرد عليهم.
"وقال الخطابي: عبر بذلك عن سرعة إجابة الدعاء والنجح" "بضم النون" الظفر بالقصد "في الطلب، وذلك أن مساعي الإنسان" أي: تصرفاته في أعماله "كلها إنما تكون بهذه الجوارح المذكورة".(9/108)
قضاء حوائجه من سمعه في الاستماع وعينه في النظر، ويده في اللمس ورجله في المشي، كذا أسنده عنه البيهقي في "الزهد".
وحمله بعض أهل الزيغ على ما يدعونه، من أن العبد إذا لازم العبادة الظاهرة والباطنة حتى تصفى من الكدورات، أنه يصير في معنى الحق، تعالى الله عن ذلك، وأنه يفنى عن نفسه جملة، حتى يشهد أن الله هو الذاكر لنفسه، الموحد لنفسه، والمحب، وأن هذه الأسباب والرسوم تصير عدمًا صرفًا.
وعلى الأوجه كلها فلا متمسك فيه للاتحادية ولا القائلين بالوحدة المطلقة، لقوله في بقية الحديث ولئن سألني، زاد في رواية عبد الواحد عبدي، انتهى ملخصًا.
__________
"وعن أبي عثمان" سعيد بن إسماعيل النيسابوري "الحيرى" بحاء مكسورة وراء مهملتين، بينهما تحتية ساكنة"، نسبة إلى الحيرة، محلة بنيسابور غير المدينة المعروفة بالكوفة، وأصله من الري، وصحب قديمًا يحيى بن معاذ الرازي، وشاه بن شجاع الكرماني، ثم رحل إلى نيسابور قاصدًا أبا حفص الحداد، فأخذ عنه طريقته، وزوجه ابنته "أحد أئمة الطريق".
قال أبو نعيم: كان بالحلم منتطقًا، وللمريدين نصيحًا مشفقًا، وقال الخطيب، كان مجاب الدعوة وكان يقول: من أمر السنة على نفسه قولًا وفعلًا نطق بالحكمة، ومن أمر الهوى عليها نطق بالبدعة، وإن تطيعوه تهتدوا مات بنيسابور سنة ثمان وتسعين ومائتين، وقيل: غير ذلك "قال: معناه كنت أسرع إلى قضاء حوائجه من سمعه في الاستماع، وعينه في النظر، ويده في اللمس، ورجله في المشي، كذا أسنده" أي: رواه "عنه البيهقي في" كتاب "الزهد، وحمله بعض أهل الزيغ": الضلال والميل عن الحق إلى الباطل "على ما يدعونه من أن العبد إذا لازم العبارة الظاهرة والباطنة حتى تصفى من الكدورات أنه" تأكيد لقوله: إن العبد أعاده لطول الفصل وهو وراد في الفصيح، كقوله تعالى: {أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ} [المؤمنون: 35] ، والخبر قوله: "يصير في معنى الحق، تعالى الله عن ذلك، وأنه يفنى عن نفسه جملة، حتى يشهد أن الله هو الذاكر لنفسه، الموحد"، "بالحاء المهملة" "لنفسه المحب، وأن هذه الأسباب والرسوم تصير عدمًا صرفًا"، وهذا ضلال مبين، "وعلى الأوجه" السبعة السابقة "كلها، فلا متمسك فيه للاتحادية، ولا القائلين بالوحدة المطلقة لقوله في بقية الحديث: ولئن سألني، زاد في رواية عبد الواحد"، بن ميمون عن عروة، عن عائشة "عبدي"، فإن كلا من سألني، وعبدي نص في(9/109)
وقال العلامة ابن القيم:
تضمن هذا الحديث الشريف الإلهي -الذي حرام على غليظ الطبع كثيف القلب فهم معناه والمراد به- حصر أسباب محبته في أمرين، أداء الفرائض، والتقرب إليه بالنوافل، وأن المحب لا يزال يكثر في النوافل حتى يصير محبوبًا لله، فإذا صار محبوبًا لله أوجبت محبة الله له محبة أخرى منه لله فوق المحبة الأولى، فشغلت هذه المحبة قلبه عن الفكرة والاهتمام بغير محبوبه، وملكت عليه روه، ولم يبق فيه سعة لغير محبوبة ألبثة، فصار ذكر محبوبة وحبه ومثله الأعلى مالكًا لزمام قلبه، مستوليًا على روحه استيلاء المحبوب على محبة الصادق في
__________
نفي الاتحاد والوحدة المطلقة "انتهى ملخصًا".
"وقال العلامة بن القيم" شمس الدين محمد بن أبي بكر: "تضمن هذا الحديث الشريف الإلهي" المنسوب إلى الإله تعالى مما تلقاه المصطفى عنه بلا واسطة أو بها "الذي حرام" أي: ممنوع، فالحرمة لغة المنع ومنه، وحرام على قرية "على غليظ الطبع"، شديده في التباعد عن الحق وعدم الانقياد له، "كثيف القلب"، المراد هنا معنى ما قبله، فهو مساوٍ له، حسنه اختلاف اللفظ، فحرام خبر مقدم، والمبتدأ "فهم معناه و" فهم "المراد به"، فهو بالجر عطف على معناه، وإن اتحدا معنى، كسابقه لاختلاف اللفظ، وقوله "حصر" بالنصب مفعول تضمن "أسباب محبته" تعالى لعبده، فالمصدر مضاف لفاعله "في أمرين، أداء الفرائض والتقرب إليه بالنوافل"، بدل من أمرين ولا يقرأ قوله، والمراد بالرفع مبتدأ خبره حصر، ويعترض عليه، بأن الظاهر حذفه؛ لأن حصر مفعول تضمن؛ إذ لا ملجئ لذلك، فالكلام صحيح بجر المراد، وهو الظاهر أو المتعين "و" تضمن أيضًا "أن المحب لا يزال يكثر في النوافل حتى يصير محبوبًا لله"، فالسبب الثاني هو المحقق لصيرورة العبد محبوبًا لله، بحيث يكون سمعه ... إلخ.
"فإذا صار محبوبًا لله أوجبت"، أثبتت "محبة الله له محبة أخرى منه"، أي: العبد "لله فوق المحبة الأولى"، الحاصلة منه قبل "فشغلت هذه المحبة" الثانية "قلبه عن الفكرة والاهتمام بغير محبوبه"، وهو الله عز وجل "وملكت" أي: قصرت تلك المحبة "عليه"، أي: على المحبوب "روحه"، أي: لمحب، بحيث لا تجاوزه للتعلق لغيره، "ولم" الأولى، فلم "بالفاء" "يبق فيه سعة لغيره محبوبه البتة، فصار ذكر محبوبه وحبه" "بضم الحاء والرفع" "ومثله" "بفتحتين"، وصفه "الأعلى" العجيب الشأن، كالقدرة العامة والحكمة التامة، "مالكًا لزمام قلبه" خبر، أي: صار ما ذكر مانعًا لقلبه من التلفت إلى غيره، ففيه استعارة بالكناية،(9/110)
محبته التي قد اجتمعت قوى محبته كلها له، ولا ريب أن هذا المحب إن سمع سمع بمحبوبه وإن أبصر أبصر بمحبوبه، وإن مشى مشى به، فهو في قلبه ونفسه، وأنيسه وصاحبه.
والباء -هنا- باء المصاحبة، وهي مصاحبة لا نظير لها، ولا تدرك بمجرد الأخبار عنها والعلم بها، فالمسألة حالية لا علمية محضة.
قال: ولما حصلت الموافقة من العبد لربه في محابه، حصلت موافقة الرب لعبده في حوائجه ومطالبه فقال: "ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه" أي
__________
وتخييلية، شبه القلب بالبعير الممنوع من استرساله مع هواه استعارة بالكناية، وإثبات الزمام له تخييل، "مستوليًا على روحه استيلاء المحبوب على محبه، الصادق في محبته، التي قد اجتمعت قوى محبته كلها له"، فسمع محبه وبصره وغيرهما. من بقية المعاني صارت حافظة للمحب مانعة من لحوق ضرر به مقوية له على مطلوبه من زيادة القرب ودوامه، فكأنها مختصة به، لا تتجاوزه إلى غيره، "ولا ريب"، شك "أن هذا المحب إن سمع سمع بمحبوبه، وإن أبصر أبصر بمحبوبه، وإن مشى مشى به، فهو في قلبه ونفسه وأنيسه وصاحبه"، ويقرب من هذا جواب العارف والأستاذ علي بن وفي؛ بأن معنى كنت سمعه ... إلخ أن ذلك الكون الشهودي مرتب على ذلك الشرط، الذي هو حصول المحبة، فمن حيث الترتب الشهودي جاز الحدوث، المشار إليه بقوله: كنت سمعه، لا من حيث التقدير الوجودي، وقال في الفتوحات لابن العربي: المراد به انكشاف أمر لمن تقرب إليه تعالى بالنوافل، لا أنه لم يكن الحق تعالى سمعه قبل التقرب، ثم كان تعالى عن ذلك وعن العوارض الطارئة، وهذه من غرر المسائل الإلهية، نقلهما في اليواقيت والجواهر، "والباء هنا" في قوله: فبي يسمع ... إلخ "باء المصاحبة، وهي مصاحبة لا نظير لها"؛ لأن الأصل في الصحبة إطلاقها على من حصل له رؤية ومجالسة، ووراء ذلك شروط للأصوليين، وتطلق مجازًا على من تمذهب بمذهب إمام، كأصحاب الشافعي، ولا يصح حملها هنا على شيء من ذلك، "ولا تدرك بمجرد الإخبار عنها والعلم بها"؛ لأنها لا نظير لها، تصور به في الخارج، فإنما يدركها من قامت به، كالملاحة تدرك ولا توصف، بعبارة تحصل حقيقتها وصورتها للمخاطب، "فالمسألة: حالية" أي: حال من أحوال النفس، يدركها من قامت به "لا علمية محضة" أي: ليست متعلقًا للعلم، بحيث يصورها بما يميزها من غيرها خارجا.
"قال" ابن القيم: "ولما حصلت الموافقة من العبد لربه في محابه" جمع حب، كمحاسن جمع حسن على غير قياس، "حصلت موافقة الرب لعبده في حوائجه ومطالبه،(9/111)
كما وافقني في مرادي بامتثال أوامري، والتقرب إلي بمحابي، فأنا أوافقه في رغبته ورهبته فيما سألني أن أفعله به، وفيما يستعيذني أن يناله. وقوي أمر هذه الموافقة من الجانبين حتى اقتضى تردد الرب سبحانه وتعالى في إماتة عبده لأنه يكره الموت، والرب تعالى يكره ما يكره عبده، ويكره مساءته فمن هذه الجهة يقتضي أن لا يميته ولكن مصلحته في إماتته، فإنه ما أماته إلا ليحييه، ولا أمرضه إلا ليصحه، ولا أفقره إلا ليغنيه، ولا منعه إلا ليعطيه، ولم يخرجه من الجنة في صلب أبيه آدم إلا ليعيده إليها على أحسن أحواله، فهذا هو الحبيب على الحقيقة لا
__________
فقال: "ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه"، أي: كما وافقني في مرادي، بامتثال أوامري والتقرب إلي بمحابي، فأنا أوافقه في رغبته" فيما عندي، "ورهبته": خوفه مني "فيما سألني أن أفعله به" عائد لرغبته"، "وفيما يستعيذني أن يناله"، عائد لرهبته، ففي وعده المحقق، المؤكد بالقسم
إيذان بأن من تقرب إليه بما مر لا يرد دعاءه وأن الكمل يطلب منهم الدعاء.
وقال الشيخ أكمل الدين في شرح المشارق، أقوى ما قاله الشراح بحسب الظاهر في هذا الحديث: كنت سمعه، فلا يسمع ما لم يأذن الشرع بسماعه، ولا يبصر ما لم يأذن في النظر إليه، ولا يبطش إلا ما أذن ببطشه، ولا يسعى إلا فيما أذن بالسعي إليه، وبحسب الباطن: لا يزال العبد يتقرب إلى الله بأنواع الطاعات وأصناف الرياضات، ويترقى من مقام إلى أعلى منه حتى يحبه الله، فيجعل سلطان حبه غالبًا عليه حتى يسلب منه الاهتمام بكل شيء غير تقربه إليه، فيصير منخلعًا عن الشهوات، ذاهلًا عن اللذات، مستغرقًا بملاحظة جناب قدسه، بحيث ما لاحظ شيئًا إلا لاحظ ربه، ولا التفت إلى شيء إلا رأى ربه، وهذا آخر درجات السالكين، وأول درجات الواصلين، فيكون بهذا الاعتبار سمعه وبصره، وهذا نفس محجوب، والذائق يقول: العبد يتقرب إلى الله بالنوافل حتى يكون الرب، صفات عبده المذكورة لتحصل له المناسبة الصفتية بين المحب والمحبوب، فإنها لا بد منها ولذا جعل السبب فيه أداء النوافل، فإن الله فاعل مختار، ليس عليه إيجاب لأحد النوافل ليست بإيجاب، فكان ذلك مناسبة أخرى بين المحب والمحبوب، وهذا يسمى قرب النوافل، وثمة قرب الفرائض، وهو أعظم من قرب النوافل، انتهى.
"وقوي أمر هذه الموافقة من الجانبين حتى اقتضى تردد الرب سبحانه وتعالى في إماتة عبده؛ لأنه يكره الموت، والرب تعالى يكره ما يكره عبده، ويكره مساءته فمن هذه الجهة يقتضي أن لا يميته، ولكن مصلحته في إماتته"، فتفصل بفعل المصلحة، "فإنه ما أماته إلا ليحييه" الحياة الأبدية، "ولا أمرضه إلا ليصحه" "بضم التحتية وكسر الصاد"، أي: يزيل(9/112)
سواه انتهى.
وقال الخطابي: التردد في حق الله غير جائز، والبداء عليه في الأمور غير سائغ، ولكن له تأويلان.
أحدهما: أن العبد قد يشرف على الهلاك في أيام عمره من داء يصيبه، أو فاقة تنزل به، فيدعو الله فيشفيه منها، ويدفع عنه مكروهًا، فيكون ذلك من فعله كتردد من يريد أمرًا ثم يبدو له فيه فيتركه ويعرض عنه، ولا بد له من لقائه إذا بلغ الكتاب أجله؛ لأن الله قد كتب الفناء على خلقه، واستأثر بالبقاء لنفسه.
والثاني: أن يكون معناه: ما رددت رسلي في شيء أنا فاعله كترديدي إياهم في قبض نفس عبدي المؤمن، كما في قصة موسى عليه السلام، وما كان من
__________
مرضه، يصونه من أهوال الآخرة وآلامها، أو ليزيل عنه المكروهات الدنيوية ويثيبه وهذا أظهر، "ولا أفقره إلا ليغنيه، ولا منعه إلا ليعطيه، ولم يخرجه من الجنة في صلب أبيه آدم إلا ليعيده إليها على أحسن أحواله، فهذا هو الحبيب على الحقيقة لا سواه انتهى". كلام ابن القيم.
"وقال الخطابي: التردد في حق الله غير جائز"؛ إذ لا يكون إلا ممن لا يعلم العاقبة فيتعارض عنده مقتضى الفعل والترك، فيتحير في أيهما أولى ليفعله، والله لا يخفى عليه شيء، فيستحيل التردد منه، "والبداء" "بفتح الموحدة والدال المهملة والمد" ظهور مصلحة كانت خفيت "عليه في الأمور غير سائغ" لأنه محال أن يظهر له شيء كان عنه غائبًا، "ولكن له"، أي: الحديث "تأويلان".
"أحدهما: أن العبد قد يشرف على الهلاك في أيام عمره من داء يصيبه، وفاقة تنزل به، فيدعو الله فيشفيه منها، ويدفع": يزيل "عنه مكروهها، فيكون ذلك من فعله، كتردد من يريد أمرًا، ثم يبدو له فيه، فيتركه ويعرض عنه"، فليس من التردد الحقيقي في شيء "ولا بد له من لقائه"، أي: الموت، "إذا بلغ الكتاب": المكتوب من العمر "أجله" {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً} [الأعراف: 34] ، {وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسً إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا} [المنافقون: 11] "لأن الله قد كتب الفناء على خلقه" {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ، وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن: 26، 27] ، "واستأثر بالبقاء لنفسه"، فكل شيء هالك إلا وجهه.
"والثاني: أن يكون معناه: ما رددت رسلي في شيء أنا فاعله، كترديدي إياهم في(9/113)
لطمه عين ملك الموت، وتردده إليه مرة بعد أخرى.
قال: وحقيقة المعنى -على الوجهين- عطف الله على العبد، ولطفه به، وشفقته عليه.
وقال الكلاباذي ما حاصله: إنه غير عن صفة الفعل بصفة الذات، يعني باعتبار متعلقها، أي عن الترديد بالتردد، وجعل متعلق الترديد اختلاف أحوال العبد من ضعف ونصب إلى أن تنتقل محبته في الحياة إلى محبة للموت، فيقبض على ذلك.
قال: وقد يحدث الله تعالى في قلب عبده من الرغبة فيما عنده والشوق
__________
قبض نفس عبدي المؤمن"، فأطلق التردد، وأراد لازمه، وهو الترديد، وأضاف تعالى ذلك لنفسه؛ لأن ترددهم عن أمره "كما في قصة موسى عليه السلام" في الصحيحين، عن أبي هريرة، مرفوعًا في أحاديث الأنبياء: "أرسل ملك الموت إلى موسى، فلما جاءه صكه، فرجع إلى ربه فقال: أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت، فرد الله عليه عينه، وقال: ارجع، فقل له يضع يده على متن ثور، فله بكل ما غطت يده بكل شعرة سنة، قال: ثم ماذا؟، قال: الموت، قال: فالآن" الحديث "وما كان من لطمه عين ملك الموت" ففقأها، كما في رواية مسلم؛ وكأن موسى ظنه آدميًّا، تسور عليه منزله بغير إذنه، ليوقع به مكروهًا، ويحتمل أنه علم أنه ملك الموت، ودافعه عن نفسه باللطمة المذكورة، والأول أولى، ويؤيده أنه جاء إلى قبضه، ولم يخيره، وقد علم موسى أنه لا يقبض حتى يخير، ولهذا لما خيره، قال: الآن. وعند أحمد، كان ملك الموت يأتي الناس عيانًا. "وتردده إليه مرة بعد أخرى" أي: ثانية بعد الأولى.
"قال" الخطابي: "وحقيقة المعنى على الوجهين عطف الله على العبد، ولطفه به، وشفقته عليه" ألفاظ متقاربة "وقال الكلاباذي": "بفتح الكاف والموحدة فألف فذال معجمة" نسبة إلى كلاباذ محلة كبيرة ببخارى، الحافظ، الإمام أبو نصر أحمد بن محمد بن السين بن الحسن بن علي بن رستم البخاري، سمع الهيثم بن كليب الشاشي ومعه جعفر المستغفري.
قال الحاكم: كان من الحفاظ حسن المعرفة والفهم، متقنًا، ثبتًا، لم يخلف مثله بما وراء النهر، وحدث ببغداد في حياة الدارقطني، وكان يثني عليه، ومات في جمادى الآخرة، سنة ثمان وتسعين وثلاثمائة، عن خمس وثمانين سنة، "ما حاصله أنه عبر عن صفة الفعل بصفة الذات، يعني باعتبار متعلقها، أي: عن الترديد، بالتردد وجعل متعلق الترديد اختلاف أحوال العبد من ضعف ونصب" "بفتحتين وبضمتين وبضمة" أي: داء وبلاء "إلى أن تنتقل محبته في الحياة إلى محبته للموت فيقبض على ذلك" فسماه ترددًا مجازًا.(9/114)
إليه والمحبة للقائه ما يشتاق معه إلى الموت، فضلًا عن إزالة الكراهة عنه، انتهى.
وبالجملة: فلا حياة للقلب إلا بمحبة الله ومحبة رسوله، ولا عيش إلا عيش المحبين الذين قرت أعينهم بحبيبهم وسكنت نفوسهم إليه واطمأنت قلوبهم به، واستأنسوا بقربه وتنعموا بمحبته، ففي القلب طاقة لا يسدها إلا محبة الله ورسوله ومن لم يظفر بذلك فحياته كلها هموم وغموم وآلام وحسرات.
قال صاحب المدارج: ولن يصل العبد إلى هذه المنزلة العلية والمرتبة السنية حتى يعرف الله تعالى ويهتدي إليه بطريق توصله إليه، ويحرق ظلمات الطبع بأشعة البصيرة، فيقوم بقلبه شاهد من شواهد الآخرة، فينجذب إليها بكليته، ويزهد في
__________
"قال: وقد يحدث الله في قلب عبده من الرغبة فيما عنده، والشوق إليه، والمحبة للقائه ما يشتاق معه إلى الموت فضلًا عن إزالة الكراهة عنه انتهى".
وقال الجنيد: الكراهة هنا لما يلقى المؤمن من الموت وصعوبته، وليس المعنى أني أكره له الموت؛ لأن الموت يورده إلى رحمه الله ومعرفته.
وقال غيره: لما كانت مفارقة الروح للجسد لا تحصل إلا بألم عظيم جدًّا، والله تعالى يكره أذى المؤمن، أطلق على ذلك الكراهة ويحتمل أن تكون المساءة بالنسبة إلى طول الحياة؛ لأنها تؤدي إلى أرذل العمر وتنكيس الخلق والرد إلى أسفل سافلين، وفي ذلك دلالة على شرف الأولياء ورفعة منزلتهم حتى لو تأتى أنه تعالى لا يذيقه الموت الذي حتمه على عبادة لفعل، ولهذا المعنى ورد لفظ التردد، كما أن العبد إذا كان له أر لا بد له أن يفعله بحبيبه، لكنه يؤلمه فإن نظر إلى ألمه كف عن الفعل، وإن نظر إلى أنه لا بد له منه لمنفعته، أقدم عليه، فعبر عن هذه الحالة في قلبه بالتردد، فخاطب الله الخلق بذلك على حسب ما يعرفونه ودلهم على شرف الولي عنده، "وبالجملة فلا حياة" لذيذة محمودة "للقلب إلا بمحبة الله ومحبة رسوله، ولا عيش" محمود "إلا عيش المحبين، الذين قرت أعينهم بحبيبهم، وسكنت نفوسهم إليه، واطمأنت قلوبهم به، واستأنسوا بقربه وتنعموا بمحبته، ففي القلب طاقة"، أي: اشتياق وتلهف واحتراق على عدم وصوله إلى مطلوبه، شبه ذلك بطاقة مفتوحة يدخل منها ما يؤلم المحب في جسده، وأنه "لا يسدها" أي: يمنع عنه ذلك الاحتراق والتلهف "إلا محبة الله ورسوله، ومن لم يظفر بذلك، فحياته كلها هموم وغموم، وآلام وحسرات"، فهي حياة كلا حياة.
"قال صاحب المدارج" ابن القيم: "ولن يصل العبد إلى هذه المنزلة": المرتبة "العلية والمرتبة السنية"، مساوٍ حسنة اختلاف اللفظ، "حتى يعرف الله تعالى، ويهتدي إليه بطريق توصله إليه"، وهي اتباع الكتاب والسنة، "ويحرق ظلمات الطبع بأشعة"، أي: أنوار "البصيرة"(9/115)
التعلقات الفانية، ويدأب في تصحيح التوبة، والقيام بالمأمورات الظاهرة والباطنة، وترك المنهيات الظاهرة والباطنة، ثم يقوم حارسًا على قلبه فلا يسامحه بخطرة يكرهها الله، ولا بخطرة فضول لا تنفعه، فيصفو لذلك قلبه بذكر ربه ومحبته والإنابة إليه، ويخرج من بين بيوت طبعه ونفسه، إلى فضاء الخلوة بربه وذكره ربه كما قال.
وأخرج من بين البيوت لعلني ... أحدث عنك النفس بالسر خاليًا
فحينئذٍ يجتمع قلبه وخواطره وحديث نفسه على إرادة ربه وطلبه والشوق إليه، فإذا صدق في ذلك رزق محبة الرسول، واستولت روحانيته على قلبه، فجعله إمامه وأستاذه ومعلمه وشيخه وقدوته، كما جعله الله نبيه ورسوله وهاديه، فيطالع سيرته ومبادئ أموره، وكيفية نزول الوحي عليه، ويعرف صفاته وأخلاقه وآدابه وحركاته وسكونه، ويقظته ومنامه، وعبادته ومعاشرته لأهله وأصحابه، إلى غير ذلك
__________
للقلب، كالبصر للعين، "فيقوم بقلبه شاهد من شواهد الآخرة، فينجذب"، يُقبل "إليها بكليته" جملته "ويزهد في التعلقات الفانية"، كما في الحديث: ازهد في الدنيا يحبك الله، "ويدأب" يجهد ويتعب نفسه "في تصحيح التوبة" المأمور به بها في {تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا} [التحريم: 8] الآية، "والقيام بالمأمورات الظاهرة"، كالصلاة، "والباطنة"، كالحب لله ولرسوله، "وترك المنهيات الظاهرة" كالغيبة، "والباطنة" كالحسد "ثم يقوم حارسًا على قلبه، فلا يسامحه بخطرة يكرهها الله" بل يتوب منها في الحال "ولا بخطرة فضول لا تنفعه" لأنه إذا سامحه من ذلك انتقل إلى ما فوقه، وهكذا، وإذا فعل ما ذكر "فيصفو لذلك قلبه بذكر، ومحبته والإنابة": الرجوع "إليه، ويخرج من بين بيوت طبعه ونفسه إلى فضاء الخلوة بربه، وذكره ربه كما قال:
"وأخرج من بين البيوت لعلني ... أحدث عنك النفس بالسر خاليًا
فأراد الشاعر بالبيوت: الطبع والنفس، بدليل ترجيه لا البيوت الحقيقية؛ إذ لا اعتداد بالخروج منها مع بقاء الطبع "فحينئذٍ يجتمع قلبه وخواطره، وحديث نفسه على إرادة ربه، وطلبه، والشوق إليه، فإذا صدق في ذلك رزق محبة الرسول، واستولت روحانيته على قلبه، فجعله إمامه" الذي يقتدي به "وأستاذه" أي: معلمه، كلمة أعجمية؛ لأن السين والذال المعجمة لا يجتمعان في كلمة، ومعناها الماهر بالشيء العظيم "ومعلمه وشيخه وقدوته" ألفاظ متقاربة "كما جعله الله نبيه ورسوله وهاديه"، الدال عليه، "فيطالع سيرته ومبادئ" أوائل(9/116)
مما منحه الله به مما ذكرت بعضه، حتى يصير من بعض أصحابه، فإذا رسخ في قلبه ذلك فتح عليه بفهم الوحي المنزل عليه من ربه بحيث إذا قرأ السورة شاهد قلبه ماذا أنزلت فيه، وماذا أريد بها، وحظه المختص به منها، من الصفات والأخلاق والأفعال المذمومة، فيجتهد في التخلص منها، كما يجتهد في تحصيل الشفاء من المرض المخوف.
ولمحبة الرسول عليه الصلاة والسلام علامات:
أعظمها الاقتداء به، واستعمال سنته، وسلوك طريقته، والاهتداء بهديه وسيرته، والوقوف عندما حد لنا من أحكام شريعته.
قال الله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31] ، فجعل متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم آية محبة العبد ربه، وجعل جزاء العبد على حسن متابعة الرسول محبة الله تعالى إياه، وقد قال الحكيم -وهو محمود الوراق-
__________
"أموره، وكيفية نزول الوحي عليه، ويعرف صفاته وأخلاقه وآدابه"، رياضيات نفسه ومحاسن أخلاقه "وحركاته وسكوته ويقظته ومنامه وعبادته ومعاشرته لأهله وأصحابه، إلى غير ذلك مما منحه"، أعطاه وخصه "الله به مما ذكرت بعضه" فيما سبق "حتى يصير كأنه معه من بعض أصحابه، فإذا رسخ في قلبه ذلك فتح عليه بفهم الوحي، المنزل عليه من ربه، بحيث إذا قرأ السورة شاهد قلبه ماذا أنزلت فيه، وماذا أريد بها، وحظه" نصيبه "المختص به منها من الصفات والأخلاق والأفعال المذمومة، فيجتهد في التخلص منها، كما يجتهد في تحصيل الشفاء من المرض المخوف" بل أقوى للعاقل؛ لأن المرض كفارة، وهذه موبقة، "ولمحبة الرسول عليه الصلاة والسلام علامات" دالة عليها "أعظمها الافتداء به": اتباعه "واستعمال سنته"، أي: طريقته، فعطف "وسلوك طريقته" تفسيري وكذا "والاهتداء بديه وسيرته"، ولا ضير في ذلك؛ لأن المقام أطناب، وسنته شاملة للتأسي به، في الاقتداء به في الشدائد والحروب وغيرهما، وليس مخصوصًا بالعبادات التي سنها، "والوقوف عندما حد"، أي قدر "لنا من أحكام شريعته" سميت الأحكام حدًّا، لمنعها عن الإقدام على ما يخالفها من قول أو فعل أو عزم، فالحد لغة المنع، فإذا أمر أو نهى، فقد منع من ضده.
"قال الله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31] "فجعل متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم آية"، أي: علامة "محبة العبد ربه، وجعل جزاء العبد على حسن(9/117)
كما أفاده المحاسبي في كتاب "القصد والرجوع":
تعصي الإله وأنت تظهر حبه ... هذا لعمري في القياس بديع
لو كان حبك صادقًا لأطعته ... إن المحب لمن يحب مطيع
وهذه المحبة تنشأ من مطالعة العبد منة الله عليه من نعمه الظاهرة والباطنة، فبقدر مطالعة ذلك تكون قوة المحبة، ومن أعظم مطالعه منة الله تعالى على عبده منه تأهله لمحبته ومعرفته ومتابعة حبيبه صلى الله عليه وسلم، وأصل هذا نور يقذفه الله تعالى في قلب ذلك العبد، فإذا دار ذلك النور أشرقت له ذاته، فرأى في نفسه وما أهلت له من الكمالات والمحاسن، فعلت به همته، وقويت عزيمته، وانقشعت عنه ظلمات نفسه وطبعه؛ لأن النور والظلمة لا يجتمعان إلا ويطرح أحدهما الآخر، فوقعت
__________
متابعة الرسول محبة الله تعالى إياه" وغفرانه، وأشار بحسن إلى أن مجرد الاتباع لا يكون علامة إلا إذا كان على أكمل الوجوه، بحيث يتحقق فيه معنى حديث: "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه" إلخ. ن
"وقد قال الحكيم": الذي ينطق بالحكمة، "وهو محمود" بن الحسن "الوراق، كما أفاده الحارث بن أسد "المحاسبي" بكسر السين لمحاسبته نفسه، أو لغير ذلك، مر ضبطه وبعض ترجمته قريبًا جدًّا "في كتاب القصد والرجوع"، أحد تصانيفه، وهي نحو مائتين، وقال غيره إنه لمنصور الفقيه، بليغ، كان في أول الدولة العباسية:
"تعصي الإله وأنت تظهر حبه، هذا لعمري" أي: حياتي "في القياس بديع": غريب عجيب، مخالف لأنواع القياس "لو كان حبك صادقًا لأطعته، إن المحب" بكسر الهمزة لأنها تعليلية "لمن يحب مطيع" لا يعصيه أصلًا، ويقع في بعض النسخ بيت ثالث، وهو هذا:
في كل يوم يبتديك بنعمة ... منه وأنت لشكر ذاك تضيع
بضم الفوقية من أضاع، كذا إذا أهمله، وأكثر النسخ، كما في الشفاء بدون هذا الثلاث، "وهذه المحبة تنشأ من مطالعة العبد" أي: نظره "منة الله": نعمه التي أنعم بها "عليه" ومعرفة قدرها، وأنها لا تكون إلا منه "من نعمه الظاهرة والباطنة "بيان لمنة الله تعالى "فبقدر مطالعة ذلك تكون قوة المحبة، ومن أعظم مطالعة منة الله تعالى على عبده، منة" تمييز "تأهله لمحبته ومعرفته ومتابعة حبيبه صلى الله عليه وسلم، وأصل هذا نور يقذفه الله تعالى في قلب ذلك العبد، فإذا دار ذلك النور أشرق له ذاته، فرأى في نفسه" أمرًا عظيمًا، تقصر عنه العبارة" "و" رأى فيما أهلت له من الكمالات والمحاسن، ما لا يمكنه التعبير عنه، فالمفعول محذوف فيهما، "فعلت به همته، وقويت عزيمته، وانقشعت"، انكشفت "عنه ظلمات نفسه وطبعه؛ لأن النور(9/118)
الروح حينئذٍ بين الهيئة والأنس إلى الحبيب الأول.
نقل فؤادك حيث شئت من الهوى ... ما الحب إلا للحبيب الأول
كم منزل في الأرض يألفه الفتى ... وحنينه أبدًا لأول منزل
وبحسب هذا الاتباع توجب المحبة والمحبوبية معًا، ولا يتم الأمر إلا بهما، فليس الشأن أن تحب الله، بل الشأن يحبك الله، ولا يحبك إلا إذا اتبعت حبيبه ظاهرًا وباطنًا، وصدقته خبرًا، وأطعته أمرًا، وأجبته دعوة، وآثرته طوعًا، وفنيت عن حكم غيره بحكمه، وعن محبة غيره من الخلق وعن طاعة غيره بطاعته، وإن لم تكن كذلك فلا تتعن فلست على شيء.
__________
والظلمة لا يجتمعان" لا يدخل أحدهما على الآخر "إلا ويطرح" يزيل ويذهب "أحدهما الآخر، فوقعت الروح حينئذٍ بين الهيبة والأنس إلى الحبيب الأول"، يتنازعه كل من الهيئة والأنس، ويحتمل تعلقه بوقعت، وبين الهيبة والأنس حال، يعني أنه وقع بين أمرين متضادين، فالهيبة تقتضي الفزع والخوف ممن يهابه، والإنس يقتضي انشراح النفس وانبساطها ممن تأنس به، وأنشد لغيره:
"نقل فؤادك حيث ئت من الهوى ... ما الحب إلا للحبيب الأول"
"كم منزل في الأرض يألفه الفتى ... وحنينه أبدًا لأول منزل"
نقل "بالنون" ومن الهوى متعلق به، أي: نقل فؤادك وعلقه بمن تهوى من كل ما تميل نفسك إليه، فإنك وإن فعلت ذلك لا بد لك من الرجوع إلى الحبيب الأول، لمعرفة مقامه بالميل إلى غيره "وبحسب" أي: بقدر "هذا الاتباع توجب" "بضم التاء وفتح الجيم وموحده"، أي: تحصل وتوجد "المحبة والمحبوبية معًا، ولا يتم الأمر إلا بهما، فليس الشأن" الأمر العظيم المرتب عليه سائر الكمالات؛ "أن تحب الله" فقط، "بل الشأن أن يحبك الله، ولا يحبك إلا إذا اتبعت حبيبه" صلى الله عليه وسلم "ظاهرًا وباطنًا، وصدقته خبرًا"، أي: فيما وصل إليك من أخباره، "وأطعته أمرًا"، أي: فيما أمر به، "وأجبته دعوة" أي: أجبت دعوته حيث دعاك "وآثرته طوعًا"، أي: فضلت طاعته وقدمتها على كل شيء لأن من فضل شيئًا قدمه على غيره، فلا يرد أن معنى الإيثار التفضيل، والمراد هنا التقديم، كقوله: {َيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ} [الحشر: 9] ؛ لأن التقديم لازم للتفضيل، فاللفظ هنا مستعمل فيهما، والأنصار لما فضلوا المهاجرين قدموهم على أنفسهم غاية التعظيم، حتى إن بعض من كان له زوجتان، عرض إحداهما على المهاجري الذي أخى المصطفى بينه وبينه، "وفنيت عن حكم غيره" فلم تجعل لنفسك وجودًا، ولا انقيادًا له(9/119)
وتأمل قوله تعالى: {فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31] أي الشأن في أن الله يحبكم، لا في أنكم تحبونه، وهذا لا ينالونه إلا باتباع الحبيب.
وقال المحاسبي في كتاب "القصد والرجوع": وعلامة محبة العبد لله عز وجل اتباع مرضاة الله، والتمسك بسنن رسوله الله صلى الله عليه وسلم، فإذا ذاق العبد حلاوة الإيمان، ووجد طعمه، ظهرت ثمرة ذلك على جوارحه ولسانه، فاستحلى اللسان ذكر الله تعالى وما والاه، وأسرعت الجوارح إلى طاعة الله، فحينئذٍ يدخل حب الإيمان في القلب كما يدخل حب الماء البارد الشديد برده في اليوم الشديد الحر للظمآن الشديد العطش فيرتفع عنه تعب الطاعة لاستلذاذه بها، بل تبقى الطاعات غذاء لقلبه وتنعيمًا وسرورًا له، وقرة عين في حقه وتنعيمًا لروحه، يلتذ بها أعظم من اللذات الجسمانية، فلا يجد في أوراد العبادة كلفة.
وفي الترمذي عن أنس مرفوعًا: "ومن أحيا سنتي فقد أحبني، ومن أحبني
__________
"بحكمه" فقصرت نفسك عليه، "وعن محبة غيره من الخلق" بحبه "وعن طاعة غيره بطاعته" في أوامره ونواهيه "وإن لم تكن كذلك، فلا تتعن" "بفوقيتين وعين مفتوحات وشد النون" أي: لا تتعب نفسك في أمر تتوهم به الوصول إليه "فلست على شيء" من المحبة المقتضية لإقباله عليك، ورفعه إياك في المحل الأعلى "وتأمل قوله تعالى: {فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} أي: الشأن" بالرفع بيان لحاصل المعنى "في أن الله يحبكم لا في أنكم تحبونه، وهذا لا ينالونه إلا باتباع الحبيب" عليه الصلاة والسلام.
"وقال المحاسبي في كتاب القصد والرجوع: وعلامة محبة العبد لله عز وجل اتباع مرضاة الله" أي: رضاه "والتمسك بسنن" جمع سنة "رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا ذاق العبد حلاوة الإيمان ووجد طعمه" باتباع مرضاة الله والسنن، "ظهرت ثمرة ذلك على جوارحه ولسانه، فاستحلى اللسان ذكر الله تعالى، وما والاه" مما فيه طاعة لله، كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هذا إن أريد بالذكر ذكر اللسان، "وأسرعت الجوارح إلى طاعة الله، فحينئذٍ يدخل حب الإيمان في القلب، كما يدخل حب الماء البارد الشديد برده في اليوم الشديد الحر للظمآن الشديد العطش، فيرتفع عنه تعب الطاعة لاستلذاذه بها، بل تبقى الطاعات غذاء" "بمعجمتين والمد" "لقلبه" أي: كالغذاء له "وسرورًا له، وقرة عين في حقه، وتنعيمًا لروحه، يلتذ بها أعظم من اللذات الجثمانية" "بضم الجيم ومثلثة" نسبة إلى الجثمان، وهو الجثة.
وفي نسخة: بالسين والجيم مكسورة، أي: أعظم من اللذات الحاصلة للشخص من تناوله ما يلتذ به "فلا يجد في أوراد العبادة كلفه".(9/120)
كان معي في الجنة".
وعن ابن عطاء: من ألزم نفسه آداب السنة نور الله قلبه بنور المعرفة، ولا مقام أشرف من مقام متابعة الحبيب في أوامره ونواهيه، وأفعاله وأخلاقه.
وقال أبو إسحاق الرقي -من أقران الجنيد: علامة محبة الله إيثار طاعته ومتابعة نبيه صلى الله عليه وسلم.
وعن غيره: لا يظهر على أحد شيء من نور الإيمان إلا باتباع السنة ومجانبة البدعة.
__________
"وفي الترمذي، عن أنس مرفوعًا" ولفظه: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن قدرت أن تمسي وتصبح ليس في قلبك غش لأحد فافعل"، ثم قال: "يا بني، وذلك من سنتي"، "ومن أحيا سنتي" بالإفراد على الأشهر، وبالجمع، "فقد أحبني" أي: علم محبته لي، أي: أظهرها وعمل بها وحث عليها، فشبه إظهارها بعد ترك الأخذ بها بالإحياء، ثم اشتق منه الفعل، فجرت الاستعارة في المصدر أصلية، ثم سرت إلى الفعل تبعًا، ولذا قالوا: السنن كسفينة نوح، اتباعها يدفع البلاء عن أهل الأرض، والسنة إنما سنها لما علم في خلافها من الخطأ والزلل، ولو لم يكن إلا أن الله وملائكته وحملة عرشه يستغفرون لمتبعها لكفى، فقد أحبني، أي: علم حبه لي، "ومن أحبني كان معي في الجنة"؛ لأن المرء مع من أحب.
وفي رواية، "فقد أحياني ومن أحياني"، أي: أظهر ذكري ورفع أمري، فجعله بمنزلة الإحياء، كما قيل:
ويحسبه قد عاش آخر دهره ... إلى الحشر أن أبقى الجميل من الذكر
"وعن" أبي العباس أحمد بن محمد بن سهل "بن عطاء" الآدمي "بفتحتين"، تقدم "من ألزم نفسه آداب السنة، نور الله قلبه بنور المعرفة، ولا مقام أشرف من مقام متابعة الحبيب" لله تعالى "في أوامره ونواهيه، وأفعاله وأخلاقه".
"وقال أبو إسحاق" إبراهيم بن داود القصار "الرقي"، "بفتح الراء وشد القاف" نسبة إلى الرقة مدينة على طرف الفرات، من كبار مشايخ الشام، وصحب أكثر المشايخ بها، وكان ملازمًا للفقر، مجردًا فيه محبًا لأهله، وقال: حسبك من الدنيا شيئان: صحبه فقير وحرمة ولي، وقال: الأبصار قوية، والبصائر ضعيفة، وهو "من أقران الجنيد" وابن الجلاء إلا أنه عمر طويلًا، حتى مات سنة ست وعشرين، وثلاثمائة، "علامة محبة الله إيثار طاعته ومتابعة نبيه صلى الله عليه وسلم" المتابعة التامة، "وعن غيره لا يظهر" وفي نسخ: بالواو، أي: قال: ما مر عن الرقي وزاد، ولا يظهر "على أحد شيء من نور الإيمان إلا باتباع السنة ومجانبة البدعة، فأما من أعرض عن الكتاب(9/121)
فأما من أعرض عن الكتاب والسنة، ولم يتلق العلم من مشكاة الرسول عليه الصلاة والسلام بدعواه علمًا لدنيا أوتيه فهو من لدن الشيطان والنفس وإنما يعرف كون العلم لدنيا روحانيًّا بموافقته لما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام عن ربه تعالى، فالعلم اللدني نوعان: لدني رحماني ولدني شيطاني، والمحك هو الوحي، ولا وحي بعد الرسول صلى الله عليه وسلم.
وأما قصة موسى مع الخضر فالتعلق بها في تجويز الاستغناء عن الوحي بالعلم اللدني إلحاد وكفر، يخرج عن الإسلام، موجب لإراقة الدم، والفرق: أن موسى عليه السلام لم يكن مبعوثًا إلى الخضر، ولم يكن الخضر مأمورًا بمتابعته،
__________
والسنة ولم يتلق العلم من مشكاة الرسول" أي: الأحاديث الواردة عنه "عليه الصلاة والسلام"، وعبر عنها بالمشكاة تشبيهًا لها بالكوة التي يصل النور منها إلى إنسان ببيت، إذا ورد عليه فيه انكشف ما كان خفيًّا عنه بسببه، "بدعواه علمًا لدنيا أوتيه، فهو من لدن الشيطان"، أي: من عنده "و" من عند "النفس، وإنما يعرف كون العلم لدنيا روحانيًّا بموافقته لما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام عن ربه تعالى، فالعلم اللدني"، الآتي لصاحبه من عند غيره "نوعان":
أحدهما: "لدني رحماني" من عند الرحمن تبارك وتعالى، سمي لدنيا لحصوله من الله، لا من كسب العبد "و" ثانيهما: "لدني شيطاني" من عنده لعنه الله "والمحك" "بالكاف" المميز لذلك "هو الوحي، ولا وحي بعد الرسول صلى الله عليه وسلم"، فما وافقه كان لدنيا رحمانيًّا، وما لا فشيطانيًّا.
قال الجنيد: علمنا هذا مقيد بالكتاب والسنة، قال ابن عربي: يريد أنه نتيجة عن العمل عليهما، وهما الشاهدان العدلان.
وفي نسخة: المحل باللام، أي: الذي يتلقى منه العلم عن الله هو الوحي، أي: الكتاب والسنة فما تلقى عن غيرهما، ولم يخرج على قواعدهما، فهو من وسوسة الشيطان، يجب صرفه حالًا، والحكم بأنه ليس من الله، "وأما قصة موسى مع الخضر"، وقوله تعالى: {آَتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا} [الكهف: 65] ، "فالتعلق بها في تجويز الاستغناء عن الوحي بالعلم اللدني الحاد، وكفر يخرج عن الإسلام موجب لإراقة الدم".
وهذا جواب سؤال هو، لا يلزم أن ما أخذ من غير الوحي يكون من الشيطان، لجواز أنه علم غيبي من الله به على عبده، فأوصله إليه من غير طريق الوحي، بدليل قصة الخضر.
"و" الجواب: "الفرق أن موسى عليه السلام لم يكن مبعوثًا إلى الخضر، ولم يكن(9/122)
ولو كان مأمورًا بها لوجب عليه أن يهاجر إلى موسى ويكون معه، ولهذا قال له: أنت موسى نبي بني إسرائيل؟ قال: نعم، ومحمد صلى الله عليه وسلم مبعوث إلى جميع الثقلين، فرسالته عامة للجن والإنس في كل زمان، ولو كان موسى وعيسى حيين لكانا من أتباعه.
فمن أدعى أنه مع محمد كالخضر مع موسى، أو جواز ذلك لأحد من الأمة، فليجدد إسلامه، وليشهد شهادة الحق، فإنه مفارق لدين الإسلام بالكلية، فضلًا عن أن يكون من خاصة أولياء الله تعالى.
وإنما هو من أولياء الشيطان وخلفائه ونوابه.
والعلم اللدني الرحماني هو ثمرة العبودية والمتابعة لهذا النبي الكريم، عليه أزكى الصلاة وأتم التسليم، وبه يحصل الفهم في الكتاب والسنة بأمر يختص به صاحبه كما قال علي بن أبي طالب، وقد سئل: هل خصكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء دون الناس؟ فقال: لا، إلا فيما يؤتيه الله عبدًا، في كتابه، فهذا هو العلم اللدني الحقيقي.
__________
الخضر مأمورًا بمتابعته" ودليل ذلك أنه "لو كان مأمورًا بها لوجب عليه أن يهاجر إلى موسى ويكون معه"، ولم يفعل؛ لأنه لم يؤمر بذلك، "ولهذا قال له: أنت موسى نبي بني إسرائيل؟ قال: نعم"، فرسالته خاصة بهم "ومحمد صلى الله عليه وسلم مبعوث إلى جميع الثقلين، فرسالته عامة للجن والإنس في كل زمان، ولو كان موسى وعيسى حيين لكانا من أتباعه"، كما في الحديث "فمن ادعى أنه مع محمد، كالخضر مع موسى، أو جوز ذلك لأحد من الأمة، فليجدد إسلامه"، لكفره بهذه الدعوى، "وليشهد شهادة الحق"، أي: يعتقد خلاف دعواه باطنًا، ويأتي بالشهادتين ظاهرًا ليعود إلى الإسلام، "فإنه مفارق لدين الإسلام بالكلية، فضلًا عن أن يكون من خاصة أولياء الله تعالى، وإنما هو من أولياء الشيطان وخلفائه ونوابه" في الضلال والإضلال.
"والعلم اللدني الرحماني هو ثمرة العبودية، والمتابعة لهذا النبي الكريم عليه أزكى الصلاة وأتم التسليم، وبه يحصل الفهم في الكتاب والسنة، بأمر يختص به صاحبه، كما قال علي بن أبي طالب" أمير المؤمنين "وقد سئل" والسائل له أبو جحيفة، كما في الصحيح، وقيس بن عباد "بضم العين وخفة الموحدة"، والأشتر النخعي، وحديثهما في سنن النسائي، "هل خصكم" أهل البيت النبوي، أو الجمع للتعظيم "رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء دون الناس" من أسرار(9/123)
فاتباع هذا النبي الكريم حياة القلوب، ونور البصائر، وشفاء الصدور، ورياض النفوس، ولذة الأرواح، وأنس المستوحشين، ودليل المتحيرين.
ومن علامات محبته: أن يرضى مدعيها بما شرعه، حتى لا يجد في نفسه حرجًا مما قضى، قال الله تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65] ، فسلب اسم الإيمان عمن وجد في صدره حرجًا من قضائه ولم يسلم له.
قال شيخ المحققين وإمام العارفين، تاج الدين بن عطاء الله الشاذلي، أذاقنا
__________
علم الوحي، كما تزعم الشيعة، "فقال: لا إلا فهما يؤتيه الله عبدًا في كتابه" القرآن من فحوى الكلام، ويدركه من باطن المعاني التي هي غير الظاهر من نصه، ومراتب الناس في ذلك متفاوتة، وفيه جواز استخراج العالم من القرآن بفهمه، ما لم يكن منقولا عن المفسرين إذا وافق أصول الشريعة "فهذا هو العلم اللدني الحقيقي، فاتباع هذا النبي الكريم حياة القلوب، ونور البصائر، وشفاء الصدور ورياض النفوس" جمع روضة، وهي الموضع المعجب بالزهور، جعل اتباعه كرياض مزهرة مثمرة للنفوس، الالتذاذ ها كلذة رائي الرياض بها، "ولذة الأرواح، وأنس المستوحشين، ودليل المتحيرين ومن علامات محبته أن يرضى مدعيها" عبر به دون محب؛ لأنه إذا ثبت أنه محب لا يحتاج لعلامة "بما شرعه" صلى الله عليه وسلم أمرًا ونهيًا، سماه شارعًا لمجيئه على يده وتبليغه، وإن كان الشارع حقيقة هو الله تعالى.
وفي نسخة: بما شرعه الله، أي: ما جاء به رسوله وبلغه، لقوله: {بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [المائدة: 67] فمآلهما واحد، لكن الأولى أنسب بما الكلام فيه، "حتى لا يجد في نفسه حرجًا مما قضى" أي: ضيقًا أو شكًا.
"قال الله تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ} لا مزيدة للتأكيد، ونفي لما تقدمها، أي: ليس كما زعموا أنهم آمنوا بما أنزل إليك، وما أنزل من قبلك، وقيل: لا الثانية زائدة، والقسم معترض بين حرفي النفس {حَتَّى يُحَكِّمُوكَ} أي: يرجعوا لحكمك ويرضوا به {فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} من المشاجرة، وهي المخاصمة، وأصل معناه الاختلاط، ومنه الشجر لتداخل أغصانه واختلاطها {ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ} ضيقًا مما حكمت به، أو من حكمك أو شكا من أجله، فإن الشاك في ضيق من أمره {وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65] ، أي: ينقادوا لحكمك، وأكده ليفيد الانقياد ظاهرًا، وباطنًا "فسلب اسم الإيمان عمن وجد في صدره حرجًا من قضائه ولم يسلم له" بقوله: لا يؤمنون.(9/124)
الله حلاوة مشربه: في هذه الآية دليل على أن الإيمان الحقيقي لا يحصل إلا لمن حكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم على نفسه قولًا وفعلًا، وأخذًا وتركًا، وحبًا وبغضًا، ويشتمل ذلك على حكم التكليف وحكم التعريف، والتسليم والانقياد واجب على كل مؤمن في كليهما.
فأحكام التكليف، الأوامر والنواهي المتعلقة باكتساب العباد.
وأحكام التعريف هو ما أورده عليه من فهم المراد.
فتبين من هذا: أنه لا يحصل لك حقيقة الإيمان إلا بالأمرين الامتثال لأمره، والاستسلام لقهره.
ثم إنه سبحانه لم يكتف بنفي الإيمان عمن لم يحكم، أو حكم ووجد
__________
"قال شيخ المحققين وإمام العارفين": جمع عارف، وهو من أشهده الحق نفسه وظهرت عليه الأحوال المعرفة، حاله هكذا ذكره الشيخ فالعالم عنده أعلى مقامًا، من العارف خلافًا للأكثر، فإن العالم من أشهده الله ألوهيته، ولم يظهر عليه حال العلم حاله، وقد قرر ذلك في الفتوحات وكتاب مواقع النجوم.
وفي نسخ المعرفين: وهي أبلغ؛ لأنه الدال على ما يوصل إلى ذلك، فيلزم أن يكون عارفًا، وتلميحًا بقول شيخه المرسي: لأجعلنك سيد الطريقتين "تاج الدين" أحمد بن محمد بن عبد الكريم "بن عطاء الله الشاذلي" السكندري، ثم المصري، وبها مات سنة تسع وسبعمائة، ودفن بالقرافة بقرب بني الوفاء، ومن نظمة.
أعندك عن ليلى حديث محرر ... لا يراده يحيا الرميم وينشر
فعهدي بها العهد القديم وإنني ... على كل في هواها مقصر
"أذاقنا الله حلاوة مشربه" في كتاب التنوير في إسقاط التدبير، "في هذه الآية دلالة على أن الإيمان الحقيقي لا يحصل إلا لمن حكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم على نفسه قولًا وفعلًا، وأخذًا وتركًا، وحبًّا وبغضًا، ويشتمل ذلك" المذكور "على حكم التكليف وحكم التعريف والتسليم" مبتدأ، "والانقياد" عطف كائن "على كل مؤمن في كليهما"، أي: حكمي التكليف والتعريف، "فأحكام التكليف الأوامر والنواهي، المتعلقة باكتساب العباد" أي: ما دل على الأحكام المستفادة منهما؛ إذ الأوامر ليست هي الأحكام التي يأتي بها المكلف؛ لأنه إنما يأتي بالمأمور، "وأحكام التعريف هو ما أورده عليه من فهم المراد، فتبين من هذا؛ أنه لا يحصل لك حقيقة الإيمان إلا بالأمرين: الامتثال لأمره والاستسلام لقهره"، أي: لما قهرك(9/125)
الجرح في نفسه، حتى أقسم على ذلك بالربوبية الخاصة برسوله صلى الله عليه وسلم رأفة وعناية وتخصيصًا ورعاية؛ لأنه لم يقل: فلا والرب، وإنما قال: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} ففي ذلك تأكيد بالقسم، وتأكيد في القسم، علمًا منه سبحانه بما في النفوس منطوية عليه من حب الغلبة ووجود النصرة سواء كان الحق عليها أو لها، وفي ذلك إظهار لعنايته برسوله صلى الله عليه وسلم؛ إذ جعل حكمه حكمه، وقضاءه قضاءه، فأوجب على العباد الاستسلام لحكمه، والانقياد لأمره، ولم يقبل منهم الإيمان بإلهيته حتى يذعنوا لأحكام رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه كما وصفه به ربه {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3] فحكمه حكم الله، وقضاؤه قضاء الله، كما قال: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ} [الفتح: 10] وأكد ذلك بقوله: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} .
__________
عليه وألزمك به من المطلوبات والمنهيات، "ثم إنه سبحانه لم يكتف بنفي الإيمان عمن لم يحكم، أو حكم ووجد الحرج في نفسه"، بل بالغ في ذلك "حتى أقسم على ذلك"، فهو غاية لمقدر "بالربوبية الخاصة برسوله"، أي: المضافة إليه صلى الله عليه وسلم وجعلها خاصة به؛ لأن الرب في الأصل بمعنى التربية، وهي تبليغ الشيء إلى كماله شيئًا فشيئًا، وهي وإن كانت شاملة لجميع العالمين، لكن تربية الحق لحبيبه لا يوازيها تربيته لغيره؛ لأنه بلغه أعلى الكمالات التي لم يبلغها لأحد سواه "رأفة وعناية" اهتمامًا "وتخصيصًا ورعاية؛ لأنه لم يقل: فلا والرب، إنما قال: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} ففي ذلك تأكيد" لما أخبر به "بالقسم، وتأكيد في القسم" نفسه، بإضافة ربوبيته إليه؛ تعظيمًا له وتنويهًا لمقامه، وإنما أكد بذلك "علمًا منه"، أي: لعلمه "سبحانه بما في النفوس، منطوية عليه من حب الغلبة ووجود النصرة" على غيرها.
"سواء كان الحق عليها أو لها، وفي ذلك إظهار لعنايته برسوله صلى الله عليه وسلم؛ إذ جعل حكمه حكمه، وقضاءه قضاءه"، عطف مساوٍ للإشارة إلى أن مدلول "يحكموك" و"قضيت" واحد، "فأوجب على العباد الاستسلام لحكمه والانقياد لأمره" عطف تفسير.
قال في الشفاء: يقال: سلم واستسلم وأسلم، إذا انقاد "ولم يقبل منهم الإيمان بإلهيته"، أي: بأنه آله "حتى يذعنوا" ينقادوا "لأحكام رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه كما وصفه به ربه" تبارك وتعالى، حيث قال، أو قائلًا: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} ، أي: هوى نفسه {إِنْ} ما {هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} فحكمه حكم الله، وقضاؤه قضاء الله، كما قال: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا(9/126)
وفي الآية إشارة أخرى إلى تعظيم قدره، وتفخيم أمره صلى الله عليه وسلم وهي قوله تعالى: {وَرَبَّكَ} فأضاف نفسه إليه، كما قال في الآية الأخرى: {كهيعص، ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا} [مريم: 1، 2] فأضاف الحق سبحانه نفسه إلى محمد صلى الله عليه وسلم، وأضاف زكريا إليه ليعلم العباد فرق ما بين المنزلتين وتفاوت ما بين الرتبتين.
ثم إنه تعالى لم يكتف بالتحكيم بالظاهر فيكونوا به مؤمنين، بل اشترط فقدان الحرج -وهو الضيق- من نفوسهم في أحكامه صلى الله عليه وسلم، سواء كان الحكم بما يوافق أهواءهم أو يخالفها، وإنما تضيق النفوس لفقدان الأنوار، ووجود الأغيار، فعنه يكون الحرج وهو الضيق، والمؤمنون ليسوا كذلك؛ إذ نور الإيمان ملأ قلوبهم فاتسعت وانشرحت، فكانت واسعة بنور الواسع العليم، ممدودة بوجود فضله العظيم، مهيآت لواردات أحكامه مفوضة له في نقضه وإبرامه، انتهى.
__________
يُبَايِعُونَ اللَّهَ} لأنه المقصود ببيعته، "وأكد ذلك بقوله: {يَدُ اللَّهِ فَوَْ أَيْدِيهِمْ} ، حال واستئناف مؤكد له على سبيل التخييل، قاله البيضاوي "وفي الآية إشارة أخرى إلى تعظيم قدره وتفخيم أمره صلى الله عليه وسلم، وهي قوله تعالى: {وَرَبَّكَ} فأضاف نفسه تعالى "إليه" عليه الصلاة والسلام، "كما قال في الآية الأخرى: {كهيعص، ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا} ، فأضاف الحق سبحانه نفسه، في الآيتين "إلى محمد صلى الله عليه وسلم" فقال في الأولى: وربك وفي الثانية: ربك "وأضاف زكريا إليه"؛ لأنه بدل من عبده أو بيان له، فكان المعنى: ذكر رحمة ربك زكريا، الذي هو عبده "ليعلم" "بضم التحتية وسكون العين وكسر اللام" الله "العباد، فرق ما بين المنزلتين"، منزلة نبينا ومنزلة زكريا، فإن في إضافة رب إلى المصطفى غاية التعظيم، "وتفاوت ما بين الرتبتين" عطف تفسير، فالرتبة لغة المنزلة والمكانة، "ثم إنه تعالى لم يكتف بالتحكيم بالظاهر، فيكونوا به مؤمنين، بل اشترط فقدان الحرج، وهو الضيق من نفوسهم في أحكامه صلى الله عليه وسلم، سواء كان الحكم بما يوافق أهواءهم أو يخالفها، والثاني ظاهر وأما الأول، فلأنه لا يلزم من كونه الحكم موافقًا لهاه أن لا يشق عليه لما في الإلزام به من مشقة التكليف المترتب على فعله أو تركه عقوبة لا العفو، ويقرب ذلك أن الرجل قد يهوى زواج امرأة، لكن يمنعه كثرة نفقتها مثلًا، فإلزامه بتزوجها وإن وافق هواه، لكنه يشق عليه، فإذا أخذها للأمر ناله حرج في نفسه، "وإنما تضيق النفوس لفقدان الأنوار ووجود الأغيار، فعنه" أي: عما ذكر من الأمرين "يكون الحرج، وهو الضيق، والمؤمنون ليسوا كذلك؛ إذ نور الإيمان ملأ قلوبهم فاتسعت وانشرحت، فكانت واسعة بنور الواسع" الذي وسع علمه ورحمته كل شيء،(9/127)
وقال سهل بن عبد الله: من لم ير ولاية الرسول صلى الله عليه وسلم في جميع أحواله، ويرى نفسه في ملكه لم يذق حلاوة سنته؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قال: "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه".
وروينا عن السيد العارف بالله تعالى الكبير أبي عبد الله القرشي أنه قال: حقيقة المحبة أن تهب كلك لمن أحببت، ولا يبقى لك منك شيء. انتهى.
فمن آثر هذا النبي الكريم على نفسه، كشف الله له عن حضرة قدسه، ومن معه بلا اختيار ظهرت له خفايا حقائق أسرار أنسه.
__________
أو الغني الذي وسع غناه معاش عباده، ورزقه كافة خلقة "العليم" لكل معلوم، أو البالغ في العلم، فعلمه شامل لجميع المعلومات، محيط بها، سابق على وجودها "ممدودة" أي: مقواة في أنفسها "بوجود فضله العظيم" زيادة على إشراقها بأنوار قدسه، مأخوذة من مد الجيش وأمده إذا زاده وقواه، "مهيآت لواردات أحكامه"، وهي ما يرد على القلب من الخواطر المحمودة من غير عمل العبد، وتطلق أيضًا على كل ما يرد على القلب، سواء كان وارد قبض، أو بسط، أو حزن، أو فرح، أو غير ذلك من المعاني، قاله الكاشي: "مفوضة له في نقضه وإبرامه انتهى". كلام ابن عطاء الله.
"وقال سهل بن عبد الله" التستري: "من لم ير" أي: يعمل ويتيقن "ولاية الرسول صلى الله عليه وسلم" بفتح الواو وكسرها نفوذ حكمه وسلطانه "عليه في جميع أحواله" بأن لا يخالفه في أمر من الأمور، "وير نفسه في ملكه" بكسر الميم حتى كأنه مملوكه، "لم يذق حلاوة سنته؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قال: "لا يؤمن أحدكم" أي: لا يكمل إيمانه "حتى أكون أحب إليه من نفسه"، فإنه يدل على تلذذه بالاقتداء به، وإنما يلتذ بذلك إذا أحبه، فإن المحب لا يخالف محبوبه، فيترك مراده لمراده وبهذا دل على الأحبية، وطابقة العلة معلولها.
"وروينا عن السيد العارف بالله تعالى، الكبير" محمد بن أحمد بن إبراهيم "أبي عبد الله القرشي"، الأندلسي، ثم المصري، ثم المقدسي، وبه توفي سنة تسع وتسعين وخمسمائة، والدعاء عند قبره مجاب، ولقي نحو ستمائة شيخ، وجد واجتهد، وأخذ عنه كثيرون، وله كرامات، "أنه قال: حقيقة المحبة أن تهب كلك لمن أحببت، ولا يبقى لك منك شيء، انتهى".
وهو من ثمراتها وعلاماتها، "فمن آثر هذا النبي الكريم على نفسه" بأن قدم ما فيه رضاه، بامتثال أمره واجتناب نهيه، مطمئنًا بقبول ما جاء عنه زيادة على الإيمان "كشف الله له(9/128)
ومن علامات محبته عليه الصلاة والسلام نصر دينه بالقول والفعل، والذب عن شريعته، والتخلق بأخلاقه في الجود والإيثار، والحلم والصبر والتواضع وغيرها، مما ذكرته في أخلاقه العظيمة، وتقدم في كلام العارف ابن عطاء الله مزيد لذلك قريبًا. فمن جاهد نفسه على ذلك وجد حلاوة الإيمان، ومن وجدها استلذ الطاعات، وتحمل المشاق في الدين، وآثر ذلك على أغراض الدنيا الفانية يا هذا أول نقدة من أثمان المحبة بذل الروح فما للمفلس الجبان وسومها بدم المحب يباع وصلهم تالله ما هزلت فيستامها المفلسون ولا كسدت فينفقها بالنسيئة المعسرون لقد أسيمت للعرض في سوق من يزيد فلم يرض لها بثمن دون بذل النفوس فتأخر الباطلون وقام المحبون ينظرون أيهم يصلح أن يكون ثمنًا فدارت السلعة
__________
عن حضرة قدسه"، فصار يعبد الله كأنه يراه، "ومن كان معه بلا اختيار" لشيء تميل إليه نفسه، مخالف لما طلب منه، "ظهرت له خفايا: حقائق أسرار أنسه، ومن علامات محبته عليه الصلاة والسلام نصر دينه بالقول والفعل" مجاهدة الكفار لإعلاء كلمة الله "والذب": "بمعجمة وموحدة" المنع والطرد "عن شريعته" برد ما يخالفها ودفع الشبه الواردة عليها، وتفسير أحاديثه وبيانها، والانقياد لها، "والتخلق بأخلاقه في الجود" فقد كان أجود الناس، "والإيثار" تقديم الغير عليه في أمور الدنيا، "والحلم، والصبر، والتواضع" فقد بلغ في كل منها الغاية القصوى، أفلا أقل من التخلق به في بعضها:
ومتى تفعل الكثير من الخير إذا كنت تاركًا لأقله
"وغيرها مما ذكرته في أخلاقه العظيمة، وتقدم في كلام العارف ابن عطاء الله مزيد لذلك قريبًا" جدًّا فوق هذا، "فمن جاهد نفسه على ذلك وجد حلاوة الإيمان، ومن وجدها استلذ الطاعات، وتحمل المشاق في الدين، وآثر ذلك على أعراض الدنيا الفانية، يا هذا أول نقده من أثمان المحبة بذل الروح".
سئل الجنيد عن العشق، فقال: لا أدري ما هو، لكن رأيت رجلًا أعمى عشق صبيًّا، وكان الصبي لا ينقاد له، فقال الأعمى: يا حبيبي إيش تريد مني؟ قال: روحك، ففارق روحه حالًا، "فما للمفلس الجبان" ضعيف القلب "وسومها": طلب شرائها "بدم المحب، يباع وصلهم" الأحباب، "تالله ما هزلت": ضعفت، "فيستامها" يقال: سام واستام، بمعنى "المفلسون، ولا كسدت" بفتحتين"، لم تنفق لقلة الرغبات فيها، "فينفقها": يروجها "بالنسيئة" التأخير "المعسرون" الفقراء، "لقد أسميت للعرض في سوق من يزيد، فلم يرض لها بثمن دون بذل(9/129)
بينهم ووقعت في يد قوم {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة: 54] .
لما كثر المدعون للمحبة طولبوا بإقامة البينة على صحة الدعوى فلو يعطى الناس بدعواهم لادعى الخلي حرفة الشجي فتنوع المدعون في الشهود فقيل لا تثبت هذه الدعوى إلا ببينة {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31] فتأخر أكثرهم وثبت أتباع الحبيب في أفعاله وأقواله وأخلاقه فطولبوا بعدالة البينة بتزكية {يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ} [المائدة: 54] فتأخر أكثر المحبين وقام المجاهدون فقيل لهم: إن نفوس المحبين وأموالهم ليست لهم فهلموا إلى بيعه {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ} [التوبة: 111] فلما عرفوا عظمة المشتري وفضل الثمن وجلالة من أجرى على يده عقد التبايع عرفوا قدر السلعة وإن لها شأنًا، فرأوا من أعظم الغبن أن يبيعوها لغيره بثمن بخس، فعقدوا معه بيعة الرضوان، من غير ثبوت خيار، وقالوا: والله لا نقيلك ولا نستقيلك، فلما تم العقد وسلموا المبيع قيل لهم: قد صارت
__________
النفوس"، إعطائها بسماحة "فتأخر البطالون، وقام المحبون ينظرون، أيهم يصلح أن يكون ثمنًا فدارت السلعة بينهم، ووقعت في يد قوم أذلة"، عاطفين "على المؤمنين أعزة" أشداء "على الكافرين لما كثر المدعون للمحبة، طولبوا بإقامة البينة على صحة الدعوى، فلو يعطى الناس بدعواهم لا دعى الخلي" من المحبة "حرفة" بالكسر اسم من الاحتراف الاكتساب "الشجي" الحزين "فتنوع المدعون في الشهود"، كل بما قدر عليه، فتعارضت الشهادة "فقيل: لا تثبت هذه الدعوى إلا ببينة" بإضافته إلى قوله: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [العمران: 31] ، فتأخر أكثرهم" لعدم اتباعه الكامل، "وثبت اتباع الحبيب في أفعاله وأقواله وأخلاقه، فطولبوا بعدالة البينة" المذكورة "بتزكية {يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ} فيه "فتأخر أكثر المحبين" لمشقة الجهاد عليهم، "وقام المجاهدون، فقيل لهم: إن نفوس المحبين وأموالهم ليست لهم، فهلموا": أقبلوا إلى بيعة {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ} بأن يعذلوها في طاعته، "فلما عرفوا عظمة المشترى" سبحانه وتعالى: "وفضل الثمن، وجلالة من أجرى على يده" صلى الله عليه وسلم "عقد التبايع، عرفوا قدر السلعة" المشتراه، "وأن لها شأنًا": أمرًا عظيمًا، "فرءوا من أعظم الغبن: أن يبيعوها لغيره بثمن بخس" ناقص "فعقدوا معه بيعة الرضوان من غير ثبوت خيار"، بل بتا،(9/130)
المقصد الثامن: في طبه صلى الله عليه وسلم لذوي الأمراض والعاهات وتعبيره الرؤيا وإنبائه بالأنباء المغيبات
مدخل
...
ال مقصد الثامن: في طلبه صلى الله عليه وسلم لذوي الأمراض والعاهات وتعبيره الرؤيا وإنبائه بالأنباء المغيبات
__________
"المقصد الثامن:"
"في طبه صلى الله عليه وسلم" "بكسر الطاء اسم مصدر من طبه طبًّا بالفتح" إذا داواه، والمراد بيان أنه كان يصف ما يتداوى به من الأمراض البدنية والقلبية "لذوي الأمراض" "بفتح الهمزة جمع مرض بالفتح".
قال البيضاوي: هو حقيقة فيما يعرض للبدن، فيخرجه عن الاعتدال الخاص به، ويوجب الخلل في أفعاله، ومجاز في الأعراض النفسانية التي تخل بكمالها، كالجهل وسوء العقيدة، والحسد والضغينة، وحب المعاصي؛ لأنها مانعة من نيل الفضائل، أو مؤدية إلى زوال الحياة الحقيقية الأبدية، زاد في نسخة: والأعراض: "بفتح الهمزة" ما ينشأ عن المرض من الآلام والأورام، وأكثر النسخ بحذفها، وهو المطابق لما مر من الديباجة، فمراده بالمرض ما يشمل ما نشأ عنه، "والعاهات" أي الآفات: جمع عاهة في تقدير فعله "بفتح العين" وتعبيره" أي تفسيره "الرؤيا" مصدر عبر بالتشديد للمبالغة، وأنكرها الأكثرون وقالوا: المسموع التخفيف، كقوله تعالى: تعبرون، لكن أثبتها الزمخشري اعتمادًا على بيت أنشده المبرد:
رأيت رؤيا ثم عبرتها ... وكنت للأحلام عبارا(9/329)
اعلم أنه لا سبيل لأحد إلى الإحاطة بنقطة من بحار معارفه، أو قطرة مما أفاضه الله عليه من سحائب عوارفه، وأنت إذا تأملت ما منحه الله تعالى به من جوامع الكلم، وخصه به من بدائع الحكم، وحسن سيره، وحكم حديثه، وإنبائه بأنباء القرون السالفة والأمم البائدة، والشرائع الدائرة، كقصص الأنبياء مع قومهم، وخبر موسى مع الخضر، ويوسف مع إخوته، وأصحاب الكهف، وذي القرنين، وأشباه ذلك، وبدء الخلق، وأخبار الدار الآخرة، وما في التوراة والإنجيل والزبور وصحف إبراهيم وموسى، وإظهار أحوال الأنبياء وأممهم، وأسرار علومهم ومستودعات سيرهم، وإعلامه بمكتوم وإعلامه شرائعهم، ومضمنات كتبهم وغير
__________
وتبعه في القاموس، "وإنبائه بالأنبياء" أي إخباره بالأخبار "المغيبات" الأمور التي ستقع قبل وقوعها بإلهام أو وحي، "اعلم أنه لا سبيل" لا طريق "لأحد" توصله "إلى الإحاطة بنقطة من بحار معارفه" أي إلى حقيقة شيء من معارفه التي هي كالبحار؛ لأنه إنما يحيط من الأشياء بالظواهر، ولا يصل عقل إلى حقيقة البواطن وإضافة البحار إلى المعارف من إضافة المشبه به للمشبه، "أو قطرة مما أفاضه الله عليه من سحائب عوارفه" إذ لا طريق إلى شيء من الحقائق التي أوتيها، فالمراد منه، كالمراد مما قبله، "وأنت إذا تأملت ما منحه الله تعالى به" أي أعطاه وضمنه معنى خص، فعداه بالباء "من جوامع الكلم" أي الكلم الجوامع للمعاني الكثيرة في ألفاظ قليلة، كما قال صلى الله عليه وسلم: "أوتيت جوامع الكلم" واختصر لي الكلام اختصارًا، "وخصه به من بدائع الحكم" التي لم يسبق بها، "وحسن سيره" جمع سيرة، "وحكم حديثه وإنبائه بأنباء" إخباره بأخبار "القرون السالفة" الأمم الماضية التي لم يصل علمها إلينا إلا منه صلى الله عليه وسلم، وهو بهذا المعنى يخالف المغيبات بتفسيره المتقدم، فهما متغايران "والأمم البائدة" أي الهالكة "والشرائع الدائرة" أي التي نسيت وترك العمل بها، حتى كأنها محيت، بحيث لم يبق لها أثر، "كقصص الأنبياء مع قومهم، وخبر موسى" الكليم بن عمران "مع الخضر" المختلف في نبوته، وصحح جمع نبوته "ويوسف" نبي الله "مع إخوته" وليسوا بأنبياء على الصحيح، "وأصحاب الكهف" الغار في الجبل، مر لي الإلمام بشيء من قصتهم في المقصد الأول، "وذي القرنين" اسمه الصعب، والأصح أنه كان رجلًا صالحًا لا نبيًّا، كما قيل: وهو الأكبر، وذو القرنين الأصغر اسمه الإسكندر كافر، والحق أن الذي في القرآن هو الأول، وإليه أشار البخاري بذكره قبل إبراهيم ومر بسط ذلك في الأول "وأشباه ذلك، وبدء الخلق وأخبار الدار الآخرة وما في التوراة" كتاب موسى "والإنجيل" كتاب عيسى، "والزبور" كتاب داود، "وصحف إبراهيم" العشرة، "و" صحف "موسى" غير التوراة، "وإظهار أحوال الأنبياء وأممهم، وأسرار علومهم ومستودعات"(9/330)
ذلك مما صدقه فيه العلماء بها، ولم يقدروا على تكذيب ما ذكر منها، بل أذعنوا لذلك فضلًا عما أضافه من العلم ومحاسن الآداب والشيم، والمواعظ والحكم، والتنبيه على طرق الحجج العقليات، والرد على فرق الأمم ببراهين الأدلة الواضحات، إلى فنون العلوم التي اتخذ أهلها كلامه فيها قدوة، وإشاراته حجة، كاللغة والمعاني والبيان والعربية، وقوانين الأحكام الشرعية، والسياسات العقلية،
__________
محفوظات "سيرهم، وإعلامه بمكتوم شرائعهم ومضمنات كتبهم، وغير ذلك مما صدقه فيه العلماء بها" من أخبارهم، "ولم يقدروا على تكذيب ما ذكر منها" لحقيتها وثبوتها عندهم، "بل أذعنوا" أي انقادوا "لذلك" ولم يستعصوا، "فضلًا" زيادة "عما أضافه من العلم" وانتصابه على المصدر.
قال أبو حيان: لم أظفر بنص على أن مثل هذا التركيب من كلام العرب "ومحاسن الأدب" رياضة النفس ومحاسن الأخلاق.
قال أبو زيد الأنصاري: الأدب يقع على كل رياضة محمودة يتخرج بها الإنسان في فضيلة من الفضائل، وقال نحوه الأزهري: فالأدب اسم لذلك، والجمع آداب، كسبب وأسباب، "والشيم" "بكسر المعجمة وفتح الياء" جمع شيمة، كسدرة وسدر الطبيعة التي خلق عليها الإنسان "والمواعظ" أي أمور الترغيب والترهيب، "والحكم" جمع حكمة، أي جوامع الكلم المحكمة، المرشدة لتكميل النفوس بالملكات الفاضلة: "والتنبيه على طرق الحجج العقليات" أي الإرشاد إلى نصب الأدلة العقلية، كيفية إلزام الخصم بها، نحو: لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا، قل: يحييها الذي أنشأها أول مرة، أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم، "والرد على فرق الأمم" الضالة من عباد الكواكب وغيرهم "ببراهين الأدلة الواضحات" الظاهرات لسهولة ألفاظها، بحيث يفهمها كل من يسمعها، ويحفظها لقلتها، مع دلالتها على معانيها المبهمة الكثيرة، فليس فيها اختصار مخل، ولا عبارة مغلقة "إلى فنون" أي أنواع "العلوم" متعلق بقوله، أو لا إضافة "التي اتخذ أهلها كلامه فيها قدوة" "مثلثة القاف"، "و" اتخذوا "إشاراته حجة" على ما يستنبطونه منها، "كاللغة والمعاني والبيان والعربية" "من عطف الكل على بعض أجزائه أو العام على الخاص"، فإنهم قسموه إلى اثني عشرة قسمًا: لغة وصرف واشتقاق ونحو ومعان وبيان وعروض وقافية وخط وقرض الشعر وإنشاء الرسائل والخطب والمحاضرات، ومنه التواريخ.
قال السيوطي: والمراد بالمحاضرات ما تحاضر به صاحبك من نظم أو نثر أو حديث أن نادرة أو مثل سائر، وأما البديع، فجعلوه ذيلًا لا قسمًا برأسه، وقد يطلق علم العربية، ويراد به(9/331)
ومعارف عوارف الحقائق القلبية، إلى غير ذلك من ضروب العلوم، وفنون المعارف الشاملة لمصالح أمته، كالطب والعبارة والحساب وغير ذلك مما لا يعد ولا يحد. قضيت بأن مجال هذا الباب في حقه عليه الصلاة والسلام ممتد، تنقطع دون نفاده الأدلاء، وأن بحر علمه ومعارفه زاخر لا تكدره الدلاء.
وهذا المقصد -أعزك الله- يشتمل على ثلاثة فصول:
__________
النحو فقط، "وقوانين الأحكام الشرعية" أي قواعدها التي يستخرج منها أحكام جزئيات موضوعاتها "والسياسات العقلية" أي الآداب والتدبيرات المستفادة من العقل، "ومعارف عوارف الحقائق القلبية" هي عشر مقامات، ينزلها السائرون إلى الله تعالى، سميت حقائق لأن المنازل منازل تحقيق، من جهة أن السائرين فيها، إلى الله عند نزولهم فيها وتحققهم بها يظهر لهم حقيقة كل شيء وسره عند إتمامها، فتظهر لهم الحقائق كما هي علية في حضرة العلم، بلا تغيير ولا تبديل، وأول هذه المقامات العشرة المكاشفة، ثم المشاهدة، ثم المعاينة، ثم الحياة، ثم القبض، ثم البسط، ثم السكر، ثم الصحو، ثم الاتصال، ثم الانفصال قاله في لطائف الأعلام في إشارات أهل الإلهام، "إلى غير ذلك من ضروب العلوم" أي أصنافها، "وفنون المعارف الشاملة لمصالح أمته، كالطب والعبارة" "بكسر العين مصدر عبر الرؤيا مخففًا فسرها" "والحساب، وغير ذلك مما لا يعد ولا يحد" لعدم إمكان واحد منهما، "قضيت" جواب قوله أولًا، وأنت إذا تأملت، أي حكمت، "بأن مجال" "بجيم" أي ميدان "هذا الباب" أي امتداد الفكر "في حقه عليه الصلاة والسلام" ممتد متسع جدًّا، "تنقطع دون نفاده" "بدال مهملة"، أي فراغه "الأدلاء" نجمع دليل، وهو ما يفيد المعنى ويحصله، "وأن بحر علمه ومعارفه زاخر" بزأي وخاء معجمتين" أي ممتلئ طافح "لا تكدره الدلاء" جمع دلو، "وهذا المقصد أعزك الله يشتمل على ثلاثة فصول" الطب والتعبير والإنباء بالمغيبات.(9/332)
الفصل الأول: في طبه صلى الله عليه وسلم لذوي الأمراض والعاهات
اعلم أنه صلى الله عليه وسلم كان يعود من مرض من أصحابه، حتى لقد عاد غلامًا
__________
"الفصل الأول:"
"في طبه صلى الله عليه وسلم لذوي الأمراض والعاهات: اعلم" قبل الشروع في المقصود، "أنه صلى الله عليه وسلم كان يعود من مرض من أصحابه" العظيم منهم وغيره، والمراد بالأصحاب هنا مطلق الاجتماع ولو كفارًا، لئلا يخرج من عادهم وهم كفار، كأبي طالب وابن أبي المنافق والغلام، فإنه كان حين(9/332)
كان يخدمه من أهل الكتاب، وعاد عمه وهو مشرك، وعرض عليهما الإسلام، فأسلم الأول وكان يهوديًّا، كما روى البخاري وأبو داود من حديث أنس: أن غلامًا من اليهود كان يخدم النبي صلى الله عليه وسلم فمرض فعاده النبي صلى الله عليه وسلم فقعد عند رأسه، فقال: "أسلم"، فنظر إلى أبيه وهو عنده فقال: أطع أبا القاسم فأسلم، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: "الحمد لله الذي أنقذه من النار".
__________
عيادته يهوديًّا، كما أفاده بقوله: "حتى لقد عاد غلامًا كان يخدمه من أهل الكتاب، وعاد عمه" أبا طالب، "وهو مشرك، وعرض عليهما الإسلام، فأسلم الأول وكان يهوديًّا" ولم يسلم الثاني، والله يهدي من يشاء، "كما روى البخاري" في الجنائز والجهاد والطب، "وأبو داود" وكذا النسائي "من حديث أنس" بن مالك "أن غلامًا من اليهود".
قال الحافظ: لم أقف في شيء من الطرق الموصولة على تسميته إلا أن ابن بشكوال ذكر أن صاحب العتبية حكى عن زياد شيطون أن اسم هذا الغلام عبد القدوس، وهو غريب ما وجدته عند غيره، ووقع للمصنف في الطب أن اسمه عبدوس، وهو تصحيف، "كان يخدم النبي صلى الله عليه وسلم، فمرض، فعاده النبي صلى الله عليه وسلم، فقعد عند رأسه، فقال: "أسلم"، فنظر إلى أبيه وهو نده" لفظ البخاري، وفي رواية أبي داود: عند رأسه أخرجه عن سليمان بن حرب شيخ البخاري فيه، وكذا للإسماعيلي عن أبي خليفة عن سليمان "فقال أطع أبا القاسم" لتحققه صدقه وإن كان يهوديًّا، "فأسلم" في رواية النسائي عن إسحاق بن راهويه عن سليمان المذكور، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، "فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: "الحمد لله الذي أنقذه من النار" في رواية أبي داود وأبي خليفة: "أنقذه بي من النار"، وفي الحديث جواز استخدام المشرك وعيادته إذا مرض، وفيه حسن العهد، وفيه استخدام الصغير وعرض الإسلام على الصبي، ولولا صحته منه ما عرضه عليه، وفي قوله: "أنقذه بي من النار" دلالة على صحة إسلامه، وعلى أن الصبي إذا عقل الكفر ومات عليه؛ أنه يعذب. انتهى.
ووجه صحة إسلام الصبي ظاهر من عرضه عليه، كما قال، ولأن الغلام الابن الصغير وإطلاقه على الرجل مجاز، كما في المصباح وغيره، ولا يرده قول القاموس الغلام الطار الشارب، والكهل ضد أو من حين يولد إلى أن يشب لما علم من استعماله المجازات كثيرًا، وتجويز أن المراد بالغلام الصغير لا يقيد كونه صبيًّا، وقد يشعر به قوله: أنقذه من النار ممنوع، فالأصل الحقيقة، وقد فهمها منه البخاري، فترجم عليه في الجنائز باب: إذا أسلم الصبي، فمات هل يصلى عليه وهل يعرض على الصبي الإسلام؟، وترجم في الجهاد باب، كيف يعرض الإسلام على الصبي؟ نعم دلالته على أن الصبي إذا عقل الكفر ومات عليه أنه يعذب، لعله كان قبل أن(9/333)
وكان صلى الله عليه وسلم يدنو من المريض، ويجلس عند رأسه، ويسأله عن حاله ويقول: "كيف تجدك"؟.
وفي حديث جابر عند البخاري ومسلم والترمذي وأبي داود، قال: مرضت فأتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم يعودني وأبو بكر، وهما ماشيان، فواجداني أغمي علي، فتوضأ النبي صلى الله عليه وسلم ثم صب وضوءه علي فأفقت، فإذا النبي صلى الله عليه وسلم، وعند أبي داود: فنفخ في وجهي فأفقت. وفيه: أنه صلى الله عليه وسلم قال: "يا جابر لا أراك ميتًا من وجعك هذا".
وفي حديث أبي موسى عند البخاري مرفوعًا: "أطعموا الجائع، وعودوا المرضى، وفكوا العاني".
__________
يعلم صلى الله عليه وسلم بأنه لا يعذب، وأنه في الجنة، كما في الأصح من عشرة أقوال: "وكان صلى الله عليه وسلم يدنو" يقرب "من المريض ويجلس عند رأسه" تواضعًا وشفقه على خلق الله، "ويسأله عن حاله، ويقول: "كيف تجدك" أي كيف تجد نفسك على أي حالة.
"وفي حديث جابر" بن عبد الله الأنصاري "عند البخاري" في التفسير والطب والفرائض، "ومسلم والترمذي وأبي داود، قال: مرضت، فأتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم يعودني وأبو بكر" الصديق عام حجة الوداع، "وهما ماشيان، فوجداني أغمي علي" وفي رواية: لا أعقل شيئًا، "فتوضأ النبي صلى الله عليه وسلم" الوضوء الشرعي، "ثم صب وضوءه" أي الماء الذي توضأ به "علي، فأفقت" من ذلك الإغماء، "فإذا النبي صلى الله عليه وسلم" موجود عندي، وبقية الحديث، فقلت: يا رسول الله كيف أصنع في مالي؟، فلم يجبني بشيء حتى نزلت آية الميراث.
"وعند أبي داود: فنفخ في وجهي فأفقت، وفيه أنه صلى الله عليه وسلم قال: "يا جابر لا أراك ميتًا من وجعك هذا" وفيه علم من أعلام النبوة، فإنه مات بالمدينة بعد سنة سبعين من الهجرة، عن أربع وتسعين سنة، وفيه أن وضوء العائد للمريض إذا كان إمامًا في الخير يتبرك به، وإن صبه ماء وضوئه يرجى نفعه، وقيل: كان مرض جابر الحمى المأمور بإبرادها بالماء، وصفه ذلك أن يتوضأ الرجل المرجو خيره وبركته ويصب فضل وضوئه عليه، ولا تتوقف مشروعية العيادة على علم المريض بالعائد؛ لأن وراء ذلك جبر خاطر أهله، وما يرجى من بركة دعاء العائد ووضع يده على المريض، والمسح على جسده والنفث عليه عند التعويذ.
"وفي حديث أبي موسى" عبد الله بن قيس الأشعري، "عند البخاري" في الطب، "مرفوعًا" اختصار لقوله: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أطعموا الجائع، وعودوا المرضى، وفكوا العاني" "بعين مهملة ونون مكسوة خفيفة، أي خلصوا الأسير بالفداء" وجمع المرضى لكثرة(9/334)
وعنده من رواية البراء: أمرنا صلى الله عليه وسلم بسبع، وذكر منها عيادة المريض.
وعند مسلم: "خمس تجب للمسلم على المسلم"، فذكرها منها.
قال ابن بطال: يحتمل أن يكون الأمر على الوجوب، يعني الكفاية، كإطعام الجائع وفك الأسير ويحتمل أن يكون على الندب على التواصل والألفة.
وعند الطبري: يتأكد في حق من ترجى بركته، ويسن في من يراعي حاله، ويباح فيما عدا ذلك.
__________
أنواع المرضى واختلافها وأفراد الجائع والعاني؛ لأن كلا منهما صفة واحدة وإن كثرت أفرادهما، "وعنده" أي البخاري، وكذا عند مسلم "من رواية البراء" بن عازب: "أمرنا" رسول الله "صلى الله عليه وسلم بسبع، وذكر منها عيادة المريض"، أي زيارته، ولفظه، أمرنا بسبع، ونهانا عن سبع، أمرنا بعيادة المريض وإتباع الجنائز وتشميت العاطس ورد السلام وإجابة الداعي وإبرار القسم ونصر المظلوم، ونهانا عن خواتم الذهب وعن الحرير والاستبرق والديباج والميثرة الحمراء والقسي وآنية الفضة والميثرة "بكسر الميم وسكون التحتية وفتح المثلثة بلا همز" وقال النووي: بالهمز، وهي وطاء كانت النساء تصنعه لأزواجهن في السروج، يكون من الحرير والديباج وغيرهما، والنهي واقع على ما هو من الحرير والقسي "بفتح القاف وكسر السين المهملة المشددة" ثياب تنسب إلى القس بساحل بحر مصر، وفي أبي داود؛ أنها ثياب من الشام، أو من مصر مصبغة فيها أمثال الأترج.
"وعند مسلم" في كتاب الأدب من صحيحه، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "خمس تجب للمسلم على المسلم" أي تطلب طلبًا مؤكدًا يقرب من الواجب، "فذكرها منها" ولفظه خمس تب للمسلم على أخيه المسلم: زاد السلام وتشميت العاطس وإجابة الدعوة وعيادة المريض واتباع الجنائز، وله وجه آخر "حق المسلم على المسلم ست"، فذكر الخمسة، وزاد: "وإذا استنصحك فانصح له"، وليس المراد الحصر، ففي حديث آخر: "للمسلم على المسلم ثلاثون حقًّا".
"قال ابن بطال: يحتمل أن يكون الأمر" في قوله: وعودوا المرضى محمولًا "على الوجوب، يعني" وجوب "الكفاية، كإطعام الجائع وفك الأسير" المذكورين معه، "ويحتمل أن يكون" محمولًا "على "الندب" حثًّا "على التواصل والألفة" "بضم الهمزة" الأنس والمحبة والاجتماع، "وعن الطبري: يتأكد" فعل العيادة، أو هو بفوقيتين، فلا يقدر فعل "في حق من ترجى بركته" لينال منها المريض، "ويسن في" حق "من يراعي حاله" أي المريض؛ بتعهده فيما يحتاج إليه، كشراء دواء وتهنئة حاجته منه، "ويباح فيما عدا ذلك" المذكور من الحالين،(9/335)
وهو فرض كفاية عند الحنفية، كما قال أبو الليث في "مقدمته".
واستدل بعموم قوله: "عودوا المرضى" على مشروعية العيادة في كل مرض، لكن استثنى بعضهم: الأرمد، ورد: بأنه قد جاء في عيادة الأرمد بخصوصها حديث زيد بن أرقم، قال: عادني رسول الله صلى الله عليه وسلم من وجع كان بعيني، رواه أبو داود وصححه الحاكم.
وأما ما أخرجه البهيقي والطبراني مرفوعًا: ثلاثة ليس لهم عيادة، الرمد والدمل والضرس، فصحح البيهقي أنه موقوف على يحيى بن أبي كثير.
ويؤخذ من إطلاقه أيضًا عدم التقييد بزمان يمضي من ابتداء مرضه. وهو قول
__________
وقد تجب، كأن علم به ضررًا يزول بعيادته، وتحرم إن أدت إلى ضر يلحقه، كتضرره بدخوله عليه، أو رؤية محارمه، وتكره إن ترتب على دخوله أمر يكرهه المريض، "وهو فرض كفاية عند الحنفية، كما قال أبو الليث" أحمد بن عمر بن محمد بن أحمد بن إسماعيل النسفي، الفقيه، الواعظ، مات سنة ثلاث وخمسين وخمسمائة "في مقدمته" المشهورة، "واستدل بعموم قوله: "عودوا المرضى" على مشروعية العيادة في كل مرض، لكن استثنى بعضهم الأرمد" أي وجع العين، "وورد بأنه قد جاء في عيادة الأرمد بخصوصها حديث زيد بن أرقم" بن زيد الأصناري، الخزرجي، مات سنة ست أو ثمان وستين، "قال: عادني رسول الله صلى الله عليه وسلم من وجع كان بعيني" "بشد الياء على التثنية" قاله ابن رسلان، "رواه أبو داود" سليمان بن الأشعث، "وصححه الحاكم" محمد بن عبد الله النيسابوري.
"وأما ما أخرجه البهيقي" في الشعب، "والطبراني" في الأوسط، وابن عدي من حديث مسلمة بن علي الخشني، عن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي جعفر، ع أبي هريرة، "مرفوعًا: "ثلاثة ليس لهم عيادة" أي لا تندب عيادتهم، لا إنها لا تجوز في رواية "ثلاث لا يعاد صاحبهن" "الرمد" أي وجع العين، "والدمل" "بضم الدال وفتح الميم مثقلة ومخففة" الخراج الصغير، وإن تعدد، "والضرس" أي الذي به وجع الضرس وغيره من الأسنان، وفي رواية: وصاحب الضرس وصاحب الدمل، "فصحح البيهقي أنه موقوف على يحيى بن أبي كثير" لأنه أخرجه من طريق هقل، عن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، وجعله من قوله لم يجاوزوه، قال: أعني البيهقي، وهو الصحيح، فقد قال زيد بن أرقم: رمدت، فعادني النبي صلى الله عليه وسلم، فإن ثبت النهي أمكن أن يقال: إنها لكونها من الآلام التي لا ينقطع صاحبها غالبًا بسببها، وقال الحافظ: تصحيحه وقفه لا يوجب الحكم بوضعه، إذ مسلمة، وإن كان ضعيفًا لم يخرج بكذب، فجزم ابن الجوزي بوضعه، وهم، "ويؤخذ من إطلاقه" أي قوله: عودوا المرضى(9/336)
الجمهور، وجزم الغزالي في "الأحياء" بأنه لا يعاد إلا بعد ليال ثلاث، واستند إلى حديث أخرجه ابن ماجه عن أنس: كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يعود مريضًا إلا بعد ثلاث. وهذا حديث ضعيف تفرد به مسلمة بن علي، وهو متروك، قال أبو حاتم هو حديث باطل.
__________
"أيضًا عدم التقييد بزمان يمضي من ابتداء مرضه، وهو قول الجمهور" من العلماء، زاد الحافظ: وإنها لا تتقيد بوقت دون وقت، لكن جرت العادة بها طرفي النهار، "وجزم الغزالي في الإحياء، بأنه لا يعاد إلا بعد ليال ثلاث، واستند إلى حديث أخرجه ابن ماجه" في الجنائز من سننه، وابن أبي الدنيا في المرض والكفارات، والبيهقي في الشعب، كلهم من حديث مسلمة بن علي، قال: حدثنا ابن جريج عن حميد الطويل، "عن أنس: كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يعود مريضًا إلا بعد ثلاث" من الأيام تمضي من ابتداء مرضه، قيل: ومثل العيادة تعهده وتفقد أحواله، قال الزركشي: وهذا يعارضه أنه عاد زيد بن أرقم في رمده قبلها. انتهى.
ويمكن أن ذلك أغلب أحواله، فلا معارضة إن صح الخبر، "و" لكن "هذا حديث ضعيف" جدًَّا "تفرد به مسلمة" بفتح الميمين "ابن علي" بضم العين مصغرًا، وكان يكره تصغير اسمه، وإنما صغر في أيام بني أمية مراغمة من الجهلة، كما في التبصير، وهو الخشني "بضم الخاء وفتح الشين المعجمتين" الدمشقي، مات قبل سنة تسعين ومائة، "وهو متروك" أي تركوا الرواية عنه لضعفه، وما روى له إلا ابن ماجه.
"قال أبو حاتم: هو حديث باطل" موضوع، ونقله الذهبي في الميزان وأقه، وأورده ابن الجوزي في الموضوعات، وتعقبوا بأنه ضعيف فقط لا موضوع؛ فإن مسلمة لم يجرح بكذب، كما قاله الحافظ، فلا التفات لمن غر بزخرف القول، فقال: هو موضوع، كما قال الذهبي وغيره، لكنه إذا راج على البيهقي وابن ماجه، فلا ملام على من راج عليه بعدهما، فهذا كلام فارغ لا يتمشى على القواعد، فإن المدار على الإسناد، فإن تفرد به كذاب أو وضاع، فحديثه موضوع، وإن كان ضعيفًا فالحديث ضعيف فقط، ودعوى رواجه غير مسموعة؛ لأن دأب المحدثين إذا أبرزوا الحديث بسنده، فقد برءوا من عهدته، على أن مسلمة لم يتفرد به، كما زعم المصنف، فقد أخرجه أبو يعلى في مسنده من حديث عباد بن كثير، عن ثابت عن أنس، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا فقد الرجل من إخوانه ثلاثة أيام سأل عنه، فإن كان غائبًا عاله، وإن كان شاهدًا أزاره، وإن كان مريضًا عاده، وعباد ضعيف.
وأخرج الديلمي من حديث أبي عصمة عن عبد الرحمن بن الحارث، عن أبيه، عن أنس، رفعه: "المريض لا يعاد حتى يمرض ثلاثة أيام"، وأبو عصمة ضعيف، فقد تابع عباد مسلمة في شيخ شيخه حميد، في روايته عن أنس، وتابعه أيضًا الحارث في روايته عن أنس، فأين التفرد وله(9/337)
ولا نطيل بإيراد ما ورد في فضل العبادة خوف الملل، ويكفي حديث أبي هريرة، مما حسنه الترمذي مرفوعًا: "من عاد مريضًا ناداه مناد من السماء: طبت وطاب ممشاك، وتبوأت من الجنة منزلًا"، وهذا لفظ ابن ماجه.
وفي سنن أبي داد عن أنس مرفوعًا: "من توضأ فأحسن الوضوء، وعاد أخاه المسلم محتسبًا، بوعد من جهنم مسيرة سبعين خريفًا".
وفي حديث أبي سعيد عن ابن حبان في صحيحه مرفوعًا: "خمس من
__________
شاهد من طريق آخر، رواه الطبراني في الأوسط من طريق نصر بن حماد، وأبو الحارث الوراق عن روح بن جناح، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا يعاد المريض إلا بعد ثلاث، ونصر ضعيف.
قال ابن عدي: ومع ذلك، فيكتب حديثه، قال السخاوي: وهذه الطرق يتقوى بعضها ببعض، ولذا أخذ بمضمونها جماعة، فقال النعمان بن أبي عياش الرزقي، أحد التابعين الفضلاء، من أبناء الصحابة، فيما أخرجه في الشعب، وابن أبي الدنيا: عيادة المريض بعد ثلاث.
وقال الأعمش عند البيهقي: كنا نقعد في المجلس، فإذا فقدنا الرجل ثلاثة أيام سألنا عنه، فإن كان مريضًا عدناه، وهذا يشعر باتفاقهم على هذا، وليس في صريح الأحاديث ما يخالفه، وما رواه الطبراني، عن ابن عباس: عيادة المريض أول يوم سنة، فما كان بعد ذلك فتطوع، ورواه البزار بلفظ، ما زاد بعد ذلك فنافلة، فيحتمل أن مراده أول مرة، وقوله سنة يريد سنة النبي صلى الله عليه وسلم على الصحيح، "ولا نطيل بإيراد ما ورد في فضل العبادة خوف الملل، ويكفي حديث أبي هريرة" عند الترمذي واب ماجه، "مما حسنه الترمذي مرفوعًا" أي قال: قال صلى الله عليه وسلم: "من عاد مريضًا" زاد في رواية الترمذي: "أو زار أخا له في الله"، "ناداه مناد من السماء، طبت وطاب ممشاك وتبوأت" أي سكنت "من الجنة منزلًا" نسب السكنى إليه مبالغة؛ لأنه جزاء لفعله، "وهذا لفظ ابن ماجه" وكذا هو لفظ الترمذي، لكن بالزيادة المذكورة، ورواه ابن حبان بلفظ: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا عاد الرجل أخاه، أو زاره، قال الله: طبت وطاب ممشاك، وتبوأت منزلًا في الجنة".
"وفي سنن أبي داود عن أنس، مرفوعًا: "من توضأ فأحسن الوضوء" بفعل سننه وفضائله وتجنب مكروهاته، "وعاد أخاه المسلم محتسبًا" أجره على الله، "بوعد من جهنم مسيرة سبعين خريفًا" أي عامًا، ويحتمل أن المراد التكثير.
"وفي حديث أبي سعيد" سعد بن مالك الخدري، "عن ابن حبان في صحيحه" برجال(9/338)
علمهن في يوم كتبه الله من أهل الجنة: من عاد مريضًا، وشهد جنازة وصام يومًا وراح إلى الجمعة وأعتق رقبة".
وعند أحمد عن كعب مرفوعًا: "من عاد مريضًا، خاض في الرحمة، فإذا جلس عنده استنقع فيها". زاد الطبراني: "وإذا قام من عنده فلا يزال يخوض فيها حتى يرجع من حيث خرج".
ولم يكن صلى الله عليه وسلم يخص يومًا من الأيام بعيادة المريض، ولا وقتًا من الأوقات، وترك العيادة يوم السبت مخالف للسنة، ابتدعه يهودي طبيب لملك قد مرض وألزمه بملازمته، فأراد يوم الجمعة أن يمضي لسبته فمنعه، فخاف على استحلال سبته، ومن سفك دمه، فقال: له إن المريض لا يدخل عليه يوم السبت، فتركه
__________
ثقات، "مرفوعًا: "خمس" من الخصال "من علمهن في يوم" أي يوم جمعة "كتبه الله" أي قدر أوامر الملائكة أن تكتب له أنه "من أهل الجنة" وهذا علامة على حسن الخاتمة، وبشرى له بذلك: "من عاد مريضًا" أي زاره في مرضه، ولو أجنبيًّا، "وشهد جنازة" أي حضرها وصلى عليها، "وصام يومًا" وفي رواية أبي يعلى: وصام يوم الجمعة، أي تطوعًا، "وراح إلى الجمعة" إلى محل صلاتها، "وأعتق رقبة" أي خلصها من الرق لوجه الله، وظاهره أنه لا يكتب له ذلك إلا بفعل الخمس في يوم واحد يكون يوم جمعة، أي جمعة كانت، وعند أحمد عن معاذ مرفوعًا: "خمس من فعل واحدة منهن كان ضامنًا على الله؛ من عاد مريضًا، أو خرج مع جنازة، أو خرج غازيًا، أو دخل على إمامه يريد تعزيزه وتوقيره، أو قعد في بيته وسلم الناس منه وسلم من الناس".
"وعند أحمد عن كعب" بن مالك، "مرفوعًا" عن النبي صلى الله عليه وسلم: "من عاد مريضًا خاض في الرحمة" حال ذهابه لعيادته، "فإذا جلس عنده استنقع فيها" أي شملته وعمت جميع أجزائه "زاد الطبراني" في روايته لهذا الحديث: "وإذا قام من عنده، فلا يزال يخوض فيها حتى يرجع من حيث خرج" أي حتى يعود إلى مكانه الذي جاء منه للعيادة، فأفاد الحديث خوضه فيها ذاهبًا وراجعًا، والاستنقاع مدة جلوسه عنده، "ولم يكن صلى الله عليه وسلم يخص يومًا من الأيام بعيادة المريض، ولا وقتًا من الأوقات" ولكن جرت العادة بها طرفي النهار، كما مر عن الحافظ، ومن آدابها عدم تطويل الجلوس عنده، فربما شق على المريض أو على أهله، "وترك العيادة يوم السبت مخالف للسنة ابتدعه يهودي طبيب لملك" سلطان "قد مرض، وألزمه بملازمته، فأراد يوم الجمعة أن يمضي لسبته، فمنعه، فخاف على استحلال سبته" إن جاء، "ومن سفك دمه"(9/339)
الملك، ثم أشيع ذلك، وصار كثير من الناس يعتمده.
ومن الغريب ما نقله ابن الصلاح عن الفراوي: أن العيادة تستحب في الشتاء ليلًا، وفي الصيف نهارًا، ولعل الحكمة في ذلك أن المريض يتضرر بطول الليل في الشتاء، وبطول النهار في الصيف، فيحصل له بالعبادة استرواح.
وينبغي اجتناب التطبب من أعداء الدين، من يهودي ونحوه، فإنه مقطوع بغشه سيما إن كان المريض كبيرًا في دينه أو علمه، خصوصًا إن كان هذا العدو يهوديًّا؛ لأن قاعدة دينهم: أن من نصح مسلمًا فقد خرج عن دينه، وأن من استحل السبت فهو مهدر الدم عندهم، حلال لهم سفك دمه، ولا ريب أن من خاطر بنفسه يخشى عليه أن يدخل في عموم النهي فيمن قتل نفسه بشيء.
وقد كثر الضرر في هذا الزمن بأهل الذمة، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، والله تعالى يرحم القائل:
__________
إن لم يجئ، "فقال له: إن المريض لا يدخل عليه يوم السبت فتركه الملك، ثم أشيع ذلك، وصار كثير من الناس يعتمده" ويعتقد أنه يضر المريض.
"ومن الغريب ما نقله ابن الصلاح عن الفراوي" بضم الفاء نسبة إلى فراوة بلدة قرب خوارزم "أن العيادة تستحب في الشتاء ليلًا، وفي الصيف نهارًا، ولعل الحكمة في ذلك" إن صح "أن المريض يتضرر بطول الليل في الشتاء، وبطول النهار في الصيف، فيحصل له بالعيادة استرواح" أي راحة في نفسه بالزيادة "وينبغي اجتناب التطيب من أعداء الدين، من يهودي ونحوه" نصراني، "فإنه مقطوع بغشه" للمسلمين، "سيما إن كان المريض كبيرًا في دينه أو علمه" فإنهم يتقربون بالسعي في فقد المسلمين له، "خصوصًا إن كان هذا العدو يهوديًّا؛ لأن قاعدة دينهم" الباطل؛ "أن من نصح مسلمًا فقد خرج عن دينه" وقد حكي أن الإمام المازري مرض، فكان يطلبه يهودي، فقال له يومًا: يا سيدي مثلي يطب مثلكم، وأي قربة أجدها أتقرب بها في ديني مثل أن أفقدكم للمسلمين، فشفي وقرأ الطب، فكان يفزع إليه فيه، كما يفزع إليه في الفقه رحمه الله، "وإن من استحل السبت، فهو مهدر الدم عندهم، حلال لهم سفك دمه" والمسلمون يستحلونه، فيعملون فيه ما يرى اليهودي تحريمه، "ولا ريب أن من خاطر بنفسه يخشى عليه أن يدخل في عموم النهي فيمن قتل نفسه بشيء، وقد كثر الضرر في هذا الزمن بأهل الذمة، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، والله تعالى يرحم القائل:"(9/340)
لعن النصارى واليهود فإنهم ... بلغوا بمكرهم بنا الآمالا
خرجوا أطباء وحسابًا لكي ... يتقسموا الأرواح والأموالا
ومما كان يفعله عليه الصلاة والسلام ويأمر به تطييب نفوس المرضى وتقوية قلوبهم، ففي حديث أبي سعيد الخدري، قال صلى الله عليه وسلم: إذا دخلتم على مريض فنفسوا له في أجله، فإن ذلك يطيب نفسه، مثل أن يقول له: لا بأس عليك، طهور إن شاء الله، ووجهك الآن أحسن، وما أشبه ذلك.
وقد يكون من هذا أن يذكر له الأجور الداخلة عليه في مرضه، وأن المرض كفارة، فربما أصلح ذلك قلبه، وأمن من خوف زلل ونحوه.
وقال بعضهم: في هذا الحديث نوع شريف جدًّا من أشرف أنواع العلاج، وهو الإرشاد إلى ما يطيب نفس العليل من الكلام الذي تقوى به الطبيعة، وتنتعش
__________
"لعن النصارى واليهود فإنهم ... بلغوا بمكرهم بنا الآمالا"
"خرجوا أطباء وحسابًا لكي ... يتقسموا الأرواح والأموالا"
"ومما كان يفعله عليه الصلاة والسلام ويأمر به تطييب نفوس المرضى، وتقوية قلوبهم" كما في البخاري عن ابن عباس؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل على مريض يعوده، قال: "لا بأس طهور إن شاء الله".
"ففي حديث أبي سعيد اخدري" عند الترمذي وابن ماجه، بإسناد ضعيف، "قال صلى الله عليه وسلم إذا دخلتم على مريض" تعودونه، "فنفسوا له في أجله" أي وسعوا له وأطمعوه في طول الحياة، أو اذهبوا حزنه فيما يتعلق بأجله، قال الطيبي: في أجله متعلق بنفسوا مضمنًا معنى التطميع، أي طمعوه في طول أجله، واللام للتأكيد والتنفيس التفريج، "فإن ذلك يطيب نفسه" فيرتاح، وقد قيل للرشيد وهو عليل: هون عليك وطيب نفسك، فإن الصحة لا تمنع من الفناء، والعلة لا تمنع من البقاء، فارتاح لذلك، ولفظ الحديث عند الترمذي وابن ماجه: فإن ذلك لا يرد شيئا وهو يطيب بنفس المريض "مثل أن يقول له: لا بأس عليك طهور إن شاء الله" "بفتح الطاء، أي مطهر من الذنوب"، "ووجهك الآن حسن، وما أشبه ذلك" مما يدخل السرور عليه، "وقد يكون من هذا أن يذكر له الأجور الداخلة عليه في مرضه، وأن المرض كفارة" للذنوب، "فربما أصلح ذلك قلبه وأمن من خوف زلل ونحوه".
"وقال بعضهم" هو ابن القيم "في هذا الحديث نوع شريف جدًّا من أشرف أنواع العلاج، وهو الإرشاد إلى ما يطيب نفس العليل من الكلام الذي تقوى به الطبيعة، وتنتعش(9/341)
به القوة، وينبعث به الحار الغريزي، ويساعد على دفع العلة أو تخفيفها الذي هو غاية تأثير الطب. وفي تفريج نفس المريض، وتطييب قلبه، وإدخال السرور عليه تأثير عجيب في شفاء علته وخفتها، فإن الأرواح والقوى تقوى بذلك، فتساعد الطبيعة على دفع المؤذي. وقد شاهد الناس كثيرًا من المرضى تنتعش قواهم بعيادة من يحبونه ويعظمونه، ورؤيتهم له، ولطفهم بهم، ومكالمتهم إياهم.
قال في الهدي: وكان صلى الله عليه وسلم يسأل المريض عن شكواه، وكيف يجد، وعما يشتهيه، فإن اشتهى شيئًا وعلم أنه لا يضره أمر له به، ويضع يده على جبهته، وربما وضعها بين ثدييه، ويدعو له، ويصف له ما ينفعه في علته، وربما كان يقول
__________
به القوة، وينبعث به الحار الغريزي، ويساعد على دفع العلة، أو تخفيفها، الذي هو غاية تأثير الطب" بالأدوية، "وفي تفريج نفس المريض وتطييب قلبه وإدخال السرور عليه": بالكلام "تأثير عجيب في شفاء علته وخفتها" "الواو بمعنى"، أو "فإن الأرواح والقوى تقوى بذلك، فتساعد الطبيعة على دفع المؤذي، وقد شاهد الناس كثيرًا من المرضى تنتعش قواهم بعيادة من يحبونه ويعظمونه، ورؤيتهم له ولطفهم بهم ومكالمتهم إياهم" ولا يعارض ذلك ندب التنبيه على الوصية؛ لأنه يقول مع ذلك: الوصية لا تنقص الأجل، بل العامل بالنسبة ترجى له البركة في عمره، وربما تكون الوصية بقصد امتثال الشرع سببًا لزيادة العمر، ونحو ذلك "قال في الهدي" النبوي لابن القيم: "وكان صلى الله عليه وسلم يسأل المريض عن شكواه وكيف يجد" نفسه.
روى أحمد والترمذي عن أنس، قال: دخل صلى الله عليه وسلم على مريض يعوده وهو في الموت، فسلم عليه، فقال: "كيف تجدك"؟، قال: بخير يا رسول الله، أرجو الله وأخاف ذنوبي، فقال صلى الله عليه وسلم: "لم يجتمعا في قلب رجل عند هذا الموطن إلا أعطاه الله رجاءه وآمنه مما يخاف"، "وعما يشتهيه، فإن اشتهى شيئًا وعلم أنه لا يضره أمر له به، و" كان "يضع يده على جبهته" ففي حديث سعد بن أبي وقاص: ثم وضع يده على جبهته بعد مسح يده على وجهي وبطني، ثم قال: "اللهم اشف سعدًا وأتمم له هجرته"، فما زلت أجد برده على كبدي، "وربما وضعها بين ثدييه ويدعو له".
ففي الصحيحين عن عائشة: أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا أتى مريضًا، أو أتي به إليه، قال: "أذهب البأس رب الناس، اشف أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك"، "ويصف له ما ينفعه في علته" مرضه، وربما توضأ وصب على المريض من وضوئه، كما في حديث جابر المتقدم قريبًا، "وربما كان يقول للمريض: "لا بأس عليك" هو "طهور" "بفتح الطاء، أي مطهر لك من ذنوبك" "إن(9/342)
للمريض: "لا بأس عليك، طهور إن شاء الله تعالى"، وربما كان يقول: "كفارة وطهور".
وقالت عائشة رضي الله عنها: كان صلى الله عليه وسلم إذا عاد مريضًا يضع يده على المكان الذي يألم ثم يقول: "بسم الله". رواه أبو يعلى بسند صحيح.
وأخرج الترمذي بسند لين من حديث أبي أمامة رفعه من تمام عيادة المريض أن يضع أحدكم يده على جبهته ويسأله كيف هو، وعند ابن السني بلفظ: كيف أصبحت أو كيف أمسيت؟
وإذا علمت هذا، فاعلم أن المرض نوعان: مرض القلوب ومرض الأبدان.
فأما طب القلوب ومعالجتها فخاص بما جاء به الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم عن ربه
__________
شاء الله تعالى" دعاء لا خبر، "وربما كان يقول: "كفارة وطهور" وفيه استحباب مخاطبة العائد للعليل بما يسليه من ألمه، وتذكيره بالكفارة لذنوبه والتطهير لآثامه.
"وقالت عائشة رضي الله عنها: كان صلى الله عليه وسلم إذا عاد مريضًا يضع يده على المكان الذي يألم" "بفتح اللام"، أي يتوجع منه، "ثم يقول: "بسم الله" أداويك، "رواه أبو يعلى بسند صحيح" وفي نسخ بسند حسن، "وأخرج الترمذي بسند لين" أي ضعيف، قال الترمذي: إسناده ليس بذاك، وقال في موضع آخر فيه علي بن زيد ضعيف، "من حديث أبي أمامة" صدى بن عجلان، "رفعه من تمام عيادة المريض" أي مكملاتها ومتمماتها "أن يضع أحدكم" يعني العائد "يده على جبهته" حيث لا عذر، "ويسأله كيف هو" أي كيف حاله، وبقية رواية الترمذي، وتمام تحيتكم بينكم المصافحة.
"وعند ابن السني، بلفظ" ويقول له: "كيف أصبحت" إذا عاده في الصباح، "أو كيف أمسيت" إذا عاده في المساء، فإن ذلك ينفس عن المريض، هذا بقية رواية ابن السني.
قال ابن بطال: في وضع اليد على المريض تأنيس له، وتعرف لشدة مرضه ليدعو له بالعافية على حسب ما يبدو له منه، وربما رقاه ومسح على ألمه بما ينتفع به العليل إذا كان العائد صالحًا، وقد يعف العلاج، فيعرف العلة، فيصف له ما يناسبه.
"وإذا علمت هذا فأعلم أن المرض نوعان، مرض القلوب" أي فسادها بنحو الحسد وسوء العقيدة، وهو مجاز، "ومرض الأبدان" خروجها عن الاعتدال، وهو حقيقي، ولكل منهما طب ودواء يعالج به؛ "فأما طب القلوب" هكذا في أكثر النسخ، وهي المناسبة لقوله الآتي، وأما طب الأجساد، ولأن القصد ذكر الطب لا المرض، "ومعالجتها" عطف تفسير.(9/343)
تعالى، لا سبيل لحصوله إلا من جهته، فإن صلاح القلوب أن تكون عارفة بربها وفاطرها وبأسمائه وصفاته وأفعاله وأحكامه، وأن تكون مؤثرة لرضاه ومحابه متجنبة لمناهيه ومساخطه، ولا صحة لها ولا حياة ألبتة إلا بذلك، ولا سبيل إلى تلقي ذلك إلا من جهة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.
وأما طب الأجساد، فمنه ما جاء في المنقول عنه صلى الله عليه وسلم، ومنه ما جاء به غيره؛ لأنه صلى الله عليه وسلم إنما بعث هاديًا وداعيًا إلى الله وإلى جنته، ومعرفًا بالله، ومبينًا لأمته
__________
وفي نسخة: فأما مرض القلوب، وهي أنسب بما قبلها، لكن القصد ذكر الطب لا المرض إلا أن يقدر مضاف أي فأما طب مرض القلوب أو أن نفس معرفة مرضها لا يكون إلا من جهته كالرياء والشرك الخفي ونحو ذلك، وعلى هذا، فمعالجتها عطف مغاير، "فخاص بما جاء به الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم عن ربه تعالى" أي مقصور عليه، لا يعلم إلا من جهته، إما نصًّا كالأحاديث الواردة فيما يصلح القلوب ويمنعها من الاعتقادات الباطلة والجهالات، وإما استنباطًا، كالأحكام التي استنبطها الأئمة من الأحاديث قياسًا عليها، أو استخراجًا من القواعد التي دلت عليها الأحاديث، "لا سبيل لحصوله إلا من جهته" كالصفة اللازمة لما قبله، وعلله بقوله: "فإن صلاح القلوب أن تكون" أي كونها "عارفة بربها وفاطرها" فاتصافها بذلك عين صلاحها، وخص الرب والفاطر إشارة إلى نعمتي الإيجاد والتدبير، فإنه أنعم عليهم بالإيجاد، ثم بتدبير مصالحهم والقيام بها أبدًا ما بقوا، "وبأسمائه وصفاته وأفعاله" أي أنه متى تعلقت إرادته بشيء كان، "وأحكامه" التي شرعها من إيجاب وندب وغيرها "و" صلاح القلوب أيضًا، "أن تكون مؤثرة لرضاه ومحابه" أي أنها تحرص على ذلك وتقدمه على غيره، وإن كان فيه غاية المشقة عليها، "متجنبة لمناهيه ومساخطه" جمع مسخط، كمقعد ضد الرضا، وهو الغضب، وهو ارتكاب ما نهى عنه، فالمراد منهما واحد، أو أنه من عطف المسبب على السبب، "ولا صحة لها ولا حياة ألبتة إلا بذلك" المذكور من كونها عارفة ... إلخ.
"ولا سبيل إلى تلقي ذلك إلا من جهة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم" هذا غير قوله أولًا: لا سبيل إلى حصوله؛ لأنه وجوده نفسه، والثاني قبوله وأخذه عنه، فاختلف السبيلان.
"وأما طب الأجساد، فمنه ما جاء في المنقول عنه صلى الله عليه وسلم" فيجب اعتقاد حقيقته، وأنه إن تخلف حصول الشفاء عنه، فذلك لمانع قام بالمريض أو الدواء، "ومنه ما جاء عن غيره" ولم يكن كل طب الأجساد منه، "لأنه صلى الله عليه وسلم إنما بعث" هاديًا، فالتعليل لمقدر فهم من السياق، "وداعيًا إلى الله وإلى جنته، ومعرفًا بالله" ما يجب له وما يستحيل عليه وغير ذلك من العقائد، "ومبينًا لأمته مواقع رضاه" النافعة لهم، "وآمرًا لهم بها، و" مبينًا لهم، "مواقع سخطه" الضارة(9/344)
مواقع رضاه وآمرًا لهم بها، ومواقع سخطه وناهيًا لهم عنها، ومخبرهم أخبار الأنبياء والرسل وأحوالهم مع أممهم، وأخبار تخليق العالم، وأمر المبدأ والمعاد، وكيفية شقاوة النفوس وسعادتها وأسباب ذلك.
وأما طب الأجساد فجاء من تكميل شريعته، ومقصودًا لغيره، بحيث إنه إنما يستعمل للحاجة إليه، فإذا قدر الاستغناء عنه كان صرف الهمم إلى علاج القلوب وحفظ صحتها، ودفع أسقامها وحميتها مما يفسدها هو المقصود بإصلاح الجسد، وإصلاح الجسد بدون إصلاح القلب لا ينفع، وفسد البدن مع إصلاح القلب مضرته يسيرة جدًّا، وهي مضرة زائلة، تعقبها المنفعة الدائمة التامة.
وإذا علمت هذا، فاعلم أن ضرر الذنوب في القلوب كضرر السموم في الأبدان، على اختلاف درجاتها في الضرر. وهل في الدنيا والآخرة شر وداء إلا
__________
لهم "وناهيا لهم عنها" بوحي الله وأمره له بذلك، "ومخبرهم أخبار الأنبياء والرسل، وأحوالهم مع أممهم" أي مخبرهم بأحوال الأنبياء مع أممهم، أو بأخبار الأنبياء الذين صدرت منهم الأخبار إلى أممهم، كقول صالح: {هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً} [الأعراف: 73] ، "وأخبار تخليق" أي خلق "العالم" كأخباره عن خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام، والأرض بعد ذلك دحاها، والجبال أرساها "وأمر المبدأ والمعاد" الرجوع يوم القيامة، "وكيفية شقاوة النفوس وسعادتها، وأسباب ذلك" المذكور من شقاوة وسعادة، ولما نشأ من الحصر؛ بأنه إنما بعث هاديًا ... إلخ سئل هو: فلما تكلم على كثير من أمور الطب، أجاب عنه بقوله: "أما طب الأجساد، فجاء من تكميل شريعته، و" وجاء "مقصودًا لغيره" لا لذاته، "بحيث إنه إنما يستعمل للحاجة إليه" أي عند الحاجة إليه "فإذا قدر الاستغناء عنه كان صرف الهمم إلى علاج القلوب وحفظ صحتها ودفع أسقامها وحميتها" "بكسر الحاء" منعها "مما يفسدها هو المقصود بإصلاح الجسد" ويجوز كما يفهم من هذا الكلام، أنه قسيم لمقدر، أي: فأما طب القلوب وإصلاحها فهو المقصود من شرعه، وأما طب الأجساد ... إلخ.
وبهذا جزم في الشرح، وجوز الأول في تقريره، "وإصلاح الجسد بدون إصلاح القلب لا ينفع" بل قد يضر، "وفساد البدن مع إصلاح القلب مضرته يسيرة جدًّا" لأنه إنما يترتب عليها وفات غرض دنيوي لا يؤثر خللًا في الدين، "وهي مضرة زائلة" "مصدر ميمي بمعنى الضرر"، "تعقبها المنفعة الدائمة التامة" بالخلود في جنات النعيم؛ "وإذا علمت هذا، فاعلم أن ضرر الذنوب في القلوب، كضرر السموم في الأبدان على اختلاف درجاتها" أي أنواعها(9/345)
وسببه الذنوب والمعاصي، فللمعاصي من الآثار القبيحة المذمومة والمضرة بالقلب والبدن في الدنيا والآخرة، ما لا يعلمه إلا الله.
فمنها: حرمان العلم، فإن العلم نور يقذفه الله في القلب، والمعصية تطفئ ذلك النور، وللإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه:
شكوت إلى وكيع سوء حفظي ... فأرشدني إلى ترك المعاصي
وقال اعلم بأن العلم نور ... ونور الله لا يؤتاه عاصي
ومنها: حرمان الرزق، ففي المسند: "وإن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه".
__________
"في الضرر، وهل في الدنيا والآخر شر وداء" "بالفتح والمد" مرض، "إلا وسببه الذنوب والمعاصي" بمعنى الذنوب، فحسن العطف اختلاف اللفظ، "فللمعاصي من الآثار القبيحة المذمومة والمضرة" الضرر "بالقلب والبدن في الدنيا والآخرة ما لا يعلمه إلا الله".
"فمنها حرمان العلم" أي أن المعاصي سبب في حصول ذلك وقيامه بالعبد، "فإن العلم نور يقذفه الله في القلب" وفائدته امتثال الأوامر واجتناب النواهي، "والمعصية تطفئ ذلك النور" فيكون إما سببًا لحرمانه، بحيث لا يدرك شيئًا منه، وإما سببًا لعدم ترتب فائدته عليه، بل قد يكون علمه الذي حصله ضررًا عليه في الدارين، "وللإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه:
"شكوت إلى وكيع سوء حفظي ... فأرشدني إلى ترك المعاصي"
وقال اعلم بأن العلم نور ... ونور الله لا يؤتاه عاصي"
وذكر ابن القيم: لما جلس الشافعي بين يدي مالك وقرأ عليه، أعجبه ما رأى من وقور فطنته وتوقد ذكائه وكمال فهمه، فقال: إني أرى الله قد ألقى على قلبك نورًا، فلا تظلمه بالمعصية، "ومنها: حرمان الرزق" الحلال، أو البركة فيه، "ففي المسند" لأحمد، والظاهر أن المراد الحديث المسند، أي المرفوع لقول مغلطاي: إذا كان الحديث في أحد الستة لا يجوز لحديثي نقله من غيرها. انتهى.
وهذا الحديث أخرجه النسائي وابن ماجه وأحمد وأبو يعلى وابن منيع والطبراني والضياء في المختارة والعسكري عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الدعاء يرد القضاء، وأن البر يزيد في العمر" "وإن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه" ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ، وَلَا يَسْتَثْنُونَ} [القلم: 17، 18] .
ويروى عن ابن مسعود رفعه: "إن الرجل ليذنب الذنب، فيحرم به الشيء من الرزق، وقد كان هبيئ، وأنه لينذب فينسى به الباب من العلم قد كان علمه، وأنه ليذنب، فيمنع به قيام الليل" وفي هذا المعنى أحاديث كثيرة، ويعارضها ما أخرجه الطبراني عن أبي سعيد، رفعه: "إن(9/346)
ومنها: وحشة يجدها العاصي في قلبه، بينه وبين الله تعالى، لا يوازيها ولا يقارنها لذة أصلًا.
ومنها: تعسير أموره عليه، فلا يتوجه لأمر إلا يجده مغلقًا دونه، أو متعسرًا عليه.
ومنها: ظلمة يجدها في قلبه حقيقة يحس بها، كما يحس بظلمة الليل البهيم إذا أدلهم، وكلما قويت الظلمة ازدادت حيرته حتى يقع في البدع والضلالات والأمور المهلكة وهو لا يشعر، وتقوى هذه الظلمة حتى تعلو الوجه وتصير سوادًا فيه، يراه كل أحد.
__________
الرزق لا تنقصه المعصية، ولا تزيده الحسنة، وترك الدعاء معصية".
وعند العسكري بسند ضعيف، عن ابن مسعود، رفعه: "ليس أحد بأكسب من أحد قد كتب الله النصيب والأجل، وقد قسم المعيشة والعمل، والرزق مقسوم وهو آت على ابن آدم على أي سيرة سارها، ليس تقوى تقي بزائدة، ولا فجور فاجر يناقصه، وبينه وبينه ستر وهو في طلبه".
وعند ابن أبي الدنيا وغيره مرفوعًا: "إن الرزق ليطلب العبد، كما يطلبه أجله"، وفي ذا المعنى أحاديث، ويمكن الجمع بينها كما أشرت إليه؛ بأن الذي يحرمه الرزق الحلال أو البركة فيه أو صرفه في وجوه الخير ونحو ذلك، فلا معارضة.
وأسلفت في مراتب الوحي شيئًا من ذلك، "ومنها: وحشه يجدها العاصي في قلبه بينه وبين الله تعالى لا يوازيها" أي يقابلها، يقال: وازاه موازاة، أي حاذاه، "ولا يقارنها" "بالنون"، أي لا يجتمع معها "لذة أصلًا" بالعبادات وإن فعلها.
قال وهيب ابن الورد لمن سأله: أيجد طعم العبادة من عصى الله سبحانه؟، قال لا، ولا من هم بالمعصية.
"ومنها: تعسير أموره عليه، فلا يتوجه لأمر إلا يجده مغلقًا دونه" بحيث لا يصل إليه بوجه، "أو متعسرًا عليه" بحيث يناله تعب في الوصول إليه.
"ومنها: ظلمة يجدها في قلبه حقيقة، يحس بها كما يحس بظلمة الليل البهيم" الأسود "إذا أدلهم" أي اشتد سواده وكثفت ظلمته، "وكلما قويت الظلمة ازدادت حيوته حتى يقع في البدع" الأمور القبيحة المخالفة للشرع، وإن أطلقت البدع على غير القبيح، فليس المراد هنا كما هو بين، "والضلالات والأمور المهلكة، وهو لا يشعر، وتقوى هذه الظلمة حتى تعلو الوجه وتصير سوادًا فيه يراه كل أحد" بحاسة البصر.(9/347)
ومنها: أن يوهن القلب والبدن.
ومنها: حرمات الطاعة، وتقصير العمر، ومحق البركة، ولا يمتنع زيادة العمر بأسباب، كما ينقص بأسباب، وقيل: تأثير المعاصي في محق العمر إنما هو بأن حقيقة الحياة هي حياة القلب، فليس عمر المرء إلا أوقات حياته بالله، فتلك ساعات عمره، فالبر والتقوى والطاعات تزيد في هذه الأوقات التي هي حقيقة عمره، ولا عمر له سواها. وبالجملة: فالعبد إذا أعرض عن الله، واشتغل بالمعاصي ضاعت عليه أيام حياته الحقيقة. ومنها: أن المعصية تورث الذل. ومنها: أنها تفسد العقل، فإن للعقل نورًا، والمعصية تطفئ نور العقل.
ومنها: أنها تزيل النعم وتحل النقم، فما زالت عن العبد نعمة إلا بذنب، ولا حلت به نقمة إلا بذنب، ولا حلت به نقمة إلا بذنب {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ
__________
"ومنها: أنه يوهن القلب والبدن" يضعفهما.
"ومنها حرمات الطاعة وتقصير العمر ومحق البركة" وأجاب عن سؤال: هو أن الأجل مكتوب، فكيف يتأتى نقصه أو زيادته، بقوله: "ولا يمتنع زيادة، العمر بأسباب، كما ينقص بأسباب" باعتبار ما في صحف الملائكة، أما باعتبار علم الله، فلا يزيد ولا ينقص.
"وقيل: تأثير المعاصي في محق العمر، إنما هو بأن" أي بسبب أن "حقيقة الحياة هي حياة القلب، فليس عمر المرء إلا أوقات حياته بالله، فتلك ساعات عمره" النافعة له، "فالبر والتقوى والطاعات تزيد في هذه الأوقات التي هي حقيقة عمره، ولا عمر له سواها؛ وبالجملة، فالعبد إذا أعرض عن الله واشتغل بالمعاصي ضاعت عليه أيام حياته الحقيقة" التي تحصل له نفع الدارين.
"ومنها: أن المعصية تورث الذل" أي كونه يصير ذليلًا محتقرًا بين الناس، وإن لم يطلعوا على ما فعله "ومنها: أنها تفسد العقل" فيرى الصواب خطأ، والخطأ صوابًا، "فإن للعقل نورًا، والمعصية تطفئ نور العقل" فيصير كالمجنون.
"ومنها: أنها تزيل النعم" كما اشتهر، ومعناها صحيح، ولم أقف عليه.
قال السخاوي: "وتحل النقم" "بضم التاء وكسر الحاء من أحله" كذا أنزله به، "فما زالت عن العبد نعمة إلا بذنب، ولا حلت به نقمة إلا بذنب" كما قال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى: 30] ، بسبب المعاصي، والفاء؛ لأن ما شرطية أو مضمنة معناه، ولم يذكرها نافع وابن عامر استغناء بما في الباء من معنى السببية، {وَيَعْفُو عَنْ(9/348)
كَثِيرٍ} [الشورى: 30] وللقد أحسن القائل:
إذا كنت في نعمة فارعها ... فإن الذنوب تزيل النعم
وحطها بطاعة رب العباد ... فرب العباد سريع النقم
__________
كَثِيرٍ} من الذنوب، فلا يعاقب عليها، والآية مخصوصة بالمجرمين، فإن أصاب غيرهم، فلأسباب آخر، منها: تعريضه للأجر العظيم بالصبر عليه، قال البيضاوي: "ولقد أحسن القائل" هو أبو الحسن الكندي القاضي فيما أسنده عنه البيهقي:
"إذا كنت في نعمة فارعها ... فإن الذنوب تزيل النعم"
وفي رواية فإن المعاصي بدل الذنوب.
"وحطها بطاعة رب العباد ... فرب العباد سريع النقم"
حطها بحاء وطاء مهملتين، أي أحفظها، وبقية القصيدة:
وإياك والظلم مهما استطعت ... فظلم العباد شديد الوخم
وسافر بقلبك بين الورى ... لتبصر آثار من قد ظلم
فتلك مساكنهم بعدهم ... شهود عليهم ولا تتهم
وما كان شيء عليهم أضر ... من الظلم وهو الذي قد قصم
فكم تركوا من جنان ومن ... قصور وأخرى عليهم أطم
صلوا بالجحيم وفات النعيم ... وكان الذي نابهم كالحلم
وقد يشهد لصدر الأبيات قوله صلى الله عليه وسلم: "ما عظمت نعمة الله على عبد إلا عظمت مؤنة الناس عليه، فمن لم يحتمل تلك المؤنة فقد عرض تلك النعمة للزوال"، رواه البيهقي وأبو يعلى والعسكري عن معاذ، وللطبراني والبيهقي عن ابن عمر، رفعه: "إن لله أقوامًا اختصهم بالنعم لمنافع يقرهم فيها ما بذلوها، فإذا منعوها نزعها منهم، فحولها إلى غيرهم"، وللبيهقي عن أبي هريرة، رفعه: "ما من عبد لله عليها نعمة أسبغها عليه إلا جعل إليه شيئًا من حوائج الناس، فإن تبرم بهم فقد عرض تلك النعمة للزوال"، قال السخاوي: وبعضها يؤكد بعضًا.
وعن الفضيل بن عياض: "أما علمتم أن حاجة الناس إليكم نعمة من الله عليكم، فاحذروا أن تملوا النعم فتصير نقمًا" أخرجه البهيقي.
"ومن عقوباتها أنها تستجلب مواد هلاك العبد في دنياه وآخرته" أي أسباب هلاكه، ومادة الشيء ما يكون الشيء حاصلًا مع بالقوة فيتسبب حصوله عنها كالآلة التي تركب منها السرير مثلًا "فإن الذنوب هي أمراض متى استحكمت قتلت، ولا بد كما أن البدن لا يكون(9/349)
هي أمراض متى استحكمت قتلت ولا بد، كما أن البدن لا يكون صحيحًا إلا بغذاء يحفظ قوته، واستفراغ يستفرغ المواد الفاسدة والأخلاط الرديئة التي متى غلبت عليه أفسدته، وحمية يمتنع بها من تناول ما يؤذيه ويخشى ضرره فكذلك القلب، لا تتم حياته إلا بغذاء من الإيمان والأعمال الصالحة يحفظ قوته، واستفراغ بالتوبة النصوح يستفرغ المواد الفاسدة والأخلاط الرديئة، وحمية توجب له حفظ الصحة، وتجنب ما يضادها، وهي عبارة عن ترك استعمال ما يضاد الصحة، والتقوى اسم متناول لهذه الأمور الثلاثة، فما مات منها فات من التقوى بقدره.
وإذا تبين هذا فالذنوب مضادة لهذه الأمور الثلاثة، فإنها تستجلب المواد المؤذية، وتوجب التخليط المضاد للحمية، وتمنع الاستفراغ بالتوبة النصوح. فانظر إلى بدن عليل قد تراكمت عليه الأخلاط ومواد المرض، وهو لا يستفرغها ولا يحتمي لها، كيف تكون صحته وبقاؤه ولقد أحسن القائل:
__________
صحيحًا إلا بغذاء" "بمعجمتين ممدود" "يحفظ قوته، واستفراغ" أي علاج "يستفرغ" يخرج "المواد الفاسدة والأخلاط الرديئة التي متى غلبت عليه أفسدته" فتؤدي إلى الأمراض أو الهلاك عادة، "وحمية يمتنع بها من تناول ما يؤذيه، ويخشى ضرره" من مرض أو هلاك، "فكذلك القلب لا تتم حياته إلا بغذاء من الإيمان" من بيانية أو تبعيضية، أي: أشياء هي الإيمان "والأعمال الصالحة" أو بأمور هي بعض مكملات الإيمان، والأعمال الصالحة "تحفظ قوته" وإطلاق الغذاء على ذلك مجاز؛ لأنه لغة ما يتغذى به من الطعام والشراب، "واستفراغ بالتوبة النصوح" لغة من النصح، وهو صفة التائب، فإنه ينصح نفسه بالتوبة، وصفت به على الإسناد المجازي مبالغة في النصح، أو من النصاحة، وهي الخياطة، كأنها تنصح ما خرق الذنب.
قال البيضاوي: "يستفرغ المواد الفاسدة والأخلاط الرديئة، وحمية" عن المعاصي "توجب له حفظ الصحة وتجنب ما يضادها، وهي عبارة عن ترك استعمال ما يضاد الصحة والتقوى، اسم متناول لهذه الأمور الثلاثة" الغذاء والاستفراغ والحمية، "فما فات منها فات من التقوى بقدره" فتكون ناقصة؛ "وإذا تبين هذا، فالذنوب مضادة لهذه الأمور الثلاثة، فإنها تستجلب المواد المؤذية وتوجب التخليط المضاد" المخالف "للحمية، وتمنع الاستفراغ بالتوبة النصوح، فانظر إلى بدن عليل قد تراكمت عليه الإخلاط ومواد المرض، وهو لا يستفرغها ولا يحتمي لها" مراده تقريب المعقول بالمحسوس، أي تأمل بدن عليل موصوف بما ذكر، "كيف تكون صحته وبقاؤه" استفهام توبيخي بمعنى النفي، أي لا تكون له صحة ولا بقاء،(9/350)
جسمك بالحمية حصنته ... مخافة من ألم طاري
وكان أولى بك أن تحتمي ... عن المعاصي خشية النار
فمن حفظ القول بامتثال الأوامر، واستعمل الحمية باجتناب النواهي، واستفرغ التخليط بالتوبة النصوح، لم يدع للخير مطالبًا، ولا للشر مهربًا، وفي حديث أنس: "ألا أدلكم على دائكم ودوائكم، ألا إن دائكم الذنوب، ودواؤكم الاستغفار".
فقد ظهر لك أن طب القلوب ومعالجتها لا سبيل إلى معرفته إلا من جهة الرسول صلى الله عليه وسلم بواسطة الوحي.
__________
والقلب العليل شبيه بالبدن العليل، فإذا تراكمت عليه الخطايا، بحيث اشتدت غفلته وإعراضه عن الله، وما تدارك ما يوقظه من تلك الغفلة، بل تمادى على ضلاله، كيف يرجى قربه من الله واندراجه في الصالحين، لا يكون ذلك إلا أن يحفه الله بالرحمة، فيوفقه إلى عمل صالح يكون سببًا لنجاته، "ولقد أحسن القائل":
"جسمك بالحمية حصنته ... مخافة من ألم طاري
وكان أولى بك أن تحتمي ... عن المعاصي خشية النار"
"فمن حفظ القوة بامتثال الأوامر، واستعمل الحمية باجتناب النواهي، واستفراغ التخليط بالتوبة النصوح، لم يدع للخير مطلبًا" أي لم يترك شيئًا من الأسباب التي تسوق إلى الرحمة والقرب من الله، "ولا للشر مهربًا" بزنة جعفر: موضع يذهب إيه الفأر خوفًا، أي لم يترك سببًا من الأسباب التي تدفع الشر عنه، وتبعده عن النار وعذابها؛ بل إذا اتقى هرب الشر عنه كما يفر الخائف من عدو يريد البطش به.
"وفي حديث أنس" قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ألا أدلكم على دائكم" "بفتح الدال ممدود" أي مرضكم "ودوائكم" شفائكم من المرض "بفتح الدال والمد"، وحكى الجوهري وغيره "كسر الدال لغة" وهي شاذة، قاله عياض: "ألا إن داءكم الذنوب" لأنها سبب إلى دخول النار، وذلك أعظم من كل المراض، وفي التنزيل: ولعذاب الآخرة أشق، "ودواؤكم الاستغفار" أي التوبة والإقلاع عن الذنوب، والندم والعزم على أن لا يعود: وهذا الحديث رواه البيهقي عن أنس مرفوعًا.
قال المنذري: وقد روي عن قتادة من قوله، وهو أشبه بالصواب، "فقد ظهر لك" مما ذكر "أن طب القلوب ومعالجتها لا سبيل" طريق "إلى معرفته إلا من جهة الرسول صلى الله عليه وسلم، بواسطة الوحي" بملك أو غيره.(9/351)
وأما طب الأجساد فغالبه يرجع إلى التجربة. ثم هو نوعان:
نوع لا يحتاج إلى فكر ونظر، بل فطر الله على معرفته الحيوانات، مثل ما يدفع الجوع والعطش والبرد والتعب، وهذا لا يحتاج فيه إلى معالجته طبيب.
ونوع يحتاج إلى النظر والفكر، كدفع ما يحدث في البدن مما يخرجه عن الاعتدال، وهو إما حرارة وإما برودة، وكل منهما، إما إلى رطوبة أو يبوسة، أو إلى ما يتركب منهما، وغالب ما يقاوم الواحد منها بضده، والدفع قد يقع من خارج البدن، وقد يقع من داخله وهو أعسرهما، والطريق إلى معرفته بتحقيق السبب والعلامة.
فالطبيب الحاذق هو الذي يسعى في تفريق ما يضر بالبدن جمعه، أو عكسه، وفي تنقيص ما يضر بالبدن زيادته أو عكسه، ومدار ذلك على ثلاثة أشياء: حفظ الصحبة
والاحتماء عن المؤذي.
__________
"وأما طب الأجساد، فغالبه يرجع إلى التجربة، ثم هو نوعان: نوع لا يحتاج إلى فكر ونظر، بل فطر الله على معرفته الحيوانات" عاقلة وغيرها، "مثل ما يدفع الجوع والعطش والبرد والتعب، وهذا لا يحتاج فيه إلى معالجة طبيب" لمعرفة الحيوانات كلها له، "ونوع يحتاج إلى النظر والفكر، كدفع ما يحدث في البدن مما يخرجه عن الاعتدال، وهو إما حرارة وإما برودة، وكل منهما إما" مائل "إلى رطوبة أو يبوسة، أو إلى ما يتركب منهما، وغالب ما يقاوم" يقابل ويعالج "الواحد منها بضده" وقد يعالج بموافقة لخاصية فيه على زعم الحكماء، "والدفع قد يقع من خارج البدن" كالأدهان والاستحمام بالأدوية، "وقد يقع من داخله، وهو أعسرهما، والطريق إلى معرفته بتحقيق" أي معرفة "السبب" الذي حدث منه المرض، "والعلامة" التي يستدل بها على معرفته، وفي نظم ابن سينا:
فإن أصل الطب أن تدري المرض ... والسبب الحادث منه والعرض
"فالطبيب الحاذق" الماهر في علم الطب، "هو الذي يسعى في تفريق ما يضر" "بضم الياء من أضر رباعيًّا" ولذا عداه بالباء في قوله: "بالبدن" ويتعدى بنفسه ثلاثيًَّا، نحو: لن يضروكم إلا أذى "جمعه" فاعل يضر "بفتح فسكون" "أو عكسه" أي جمع ما يضر بالبدن تفريقه، "وفي تنقيص ما يضر بالبدن زيادته أو عكسه" أي زيادة ما يضر بالبدن نقصه، "ومدار ذلك على ثلاثة أشياء حفظ الصحة والاحتماء عن المؤذي واستفراغ المادة الفاسدة"(9/352)
واستفراغ المادة الفاسدة
وقد أشير إلى الثلاثة في القرآن:
فالأول: قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] وذلك أن السفر مظنة النصب، وهو من مغيرات الصحة، فإذا وقع فيه الصيام ازداد فأبيح الفطر، وكذلك القول في المرض.
والثاني: وهو الحمية، من قوله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُم} [النساء: 29] فإنه استنبط منه جواز التيمم عند خوف استعمال الماء البارد، وقال تعالى في آية الوضوء {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [المائدة: 6] فأباح للمريض العدول عن الماء إلى التراب حمية له أن يصيب جسده ما يؤذيه، وهو تنبيه على الحمية عن كل مؤذ له من داخل أو خارج.
والثالث: من قوله تعالى: {أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ} [البقرة: 196] فإنه
__________
بإخراج الدم والإسهال والقيء، "وقد أشير إلى الثلاثة في القرآن، فالأول قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ} [البقرة: 184] ، أي مسافر "فعدة" أي فعليه عدد "من أيام آخر" يصومها بدله، "وذلك أن السفر مظنة النصب" بفتحتين التعب، "وهو من مغيرات الصحة، فإذا وقع فيه الصيام ازداد، فأبيح الفطر، وكذلك القول في المرض" ففي هذا الإشارة إلى حفظ الصحة، "والثاني، وهو الحمية من قوله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُم} " [النساء: 29] ، فإنه استنبط منه جواز التيمم عند خوف استعمال الماء البارد" واحتج بذلك عمرو بن العاصي، وأقره النبي صلى الله عليه وسلم، كما رواه أبو داود وغيره.
"وقال تعالى في آية الوضوء: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى} [المائدة: 6] ، مرضًا يضره الماء " {أَوْ عَلَى سَفَرٍ} " أي مسافرين وأنتم جنب، أو محدثون، " {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} " المكان المعد لقضاء الحاجة، أي أحدث، {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} وفي قراءة بلا ألف، وكلاهما بمعنى من اللمس، وهو الجس باليد، قاله ابن عمر، وقال ابن عباس: هو الجماع، {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} تطهرون به بعد الطلب والتفتيش، وهو عائد لما عدا المرضى {فَتَيَمَّمُوا} اقصدوا {صَعِيدًا طَيِّبًا} طاهرًا، "فأباح للمريض العدول عن الماء إلى التراب حمية له أن يصيب جسده ما يؤذيه، وهو تنبيه على الحمية عن كل مؤذ له من داخل أو خارج" فهو أصل الحمية؛ "والثالث" مأخوذ "من قوله تعالى" {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى(9/353)
أشير بذلك إلى جواز حلق الرأس الذي منع منه المحرم، لاستفراغ الأذى الحاصل من البخار المحتقن في الرأس تحت الشعر؛ لأنه إذا حق رأسه تفتحت المسام فخرجت تلك الأبخرة منها. فهذا الاستفراغ يقاس عليه كل استفراغ يؤذي انحباسه.
فقد أرشد الله تعالى عباده إلى أصول الطب الثلاثة ومجامع قواعده.
وفي الصحيحين من حديث عطاء عن أبي هريرة قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء".
__________
يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196] ، {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ} كقمل وصداع، فحلق في الإحرام، {فَفِدْيَة} عليه من صيام لثلاثة أيام أو صدقة أو نسك، "فإنه أشير بذلك إلى جواز حلق الرأس الذي منه منه المحرم" بقوله: ولا تحلقوا رؤوسكم، "لاستفراغ" أي لأجل إخراج "الأذى الحاصل من البخار المحتقن" المحتبس المجتمع "في الرأس تحت الشعر؛ لأنه إذا حلق رأسه تفتحت المسام، فخرجت تلك الأبخرة منها" فترتاح، "فهذا الاستفراغ يقاس عليه كل استفراغ يؤذي انحباسه" من باب قياس لا فارق، "فقد أرشد الله تعالى عباده إلى أصول الطب الثلاثة ومجامع قواعده" وقد قال تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38] .
"وفي الصحيحين من حديث عطاء" بن أبي رباح: "بفتح الراء والموحدة" "عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أنزل الله داء" أي مرضًا، وللإسماعيلي: من داء بزيادة من "إلا أنزل له شفاء" أي دواء، وجمعه أشفية، وجمع الجمع آشاف، وشفاء يشفيه أبرأه، وطل له الشفاء، كأشفاه، قاله المصنف، فإذا استعمله المريض، وصادف المرض حصل له الشفاء، سواء كان الداء قلبيًّا أو بدنيًّا. انتهى.
قال الكرماني: أي ما أصاب الله أحدًا بداء إلا قدر له دواء، أو المراد بإنزالهما إنزال الملائكة الموكلين بمباشرة مخلوقات الأرض من الدواء والداء. انتهى.
قال المصنف: فعلى الأول المراد بإنزال التقدير، وعلى الثاني إنزال علم ذلك على لسان الملك للنبي مثلًا، أو إلهام لغيره. انتهى.
وقيل: معنى الإنزال إعلامه عباده، ومنع بأن الحديث أخبر بعموم الإنزال لكل داء ودوائه، وأكثر الخلق لا يعلمون ذلك، كما يصرح به خبر علمه، من علمه وجهله من جهله.
وقيل: عامة الأدواء، والأدوية بواسطة إنزال الغيث الذي تتولد به الأغذية والأدوية وغيرهما،(9/354)
وأخرجه النسائي وصححه ابن حبان والحاكم عن ابن مسعود رضي الله عنه بلفظ: "إن الله لم ينزل داء إلا أنزل له شفاء فتداووا".
وعند أحمد من حديث أنس: "إن الله حيث خلق الداء خلق الدواء فتداووا".
وعند البخاري في "الأدب المفرد" وأحمد وأصحاب السنن، وصححه الترمذي وابن خزيمة والحاكم عن أسامة بن شريك، رفعه: "تداووا عباد الله، فإن الله
__________
وهذا من تمام لطف الرب بخلقه، كما ابتلاهم بالأدواء أعانهم عليها بالأدوية، وكما ابتلاهم بالذنوب أعانهم عليها بالتوبة والحسنات الماحية.
"وأخرجه النسائي، وصححه ابن حبان والحاكم، عن ابن مسعود رضي الله عنه" عن النبي صلى الله عليه وسلم، "بلفظ: "أن الله لم ينزل داء إلا أنزل له شفاء".
قال بعضهم: الداء علة تحصل بغلبة بعض الأخلاط، والشفاء رجوعها إلى الاعتدال، وذلك بالتداوي، وقد يحصل بمحض لطف الله بلا سبب.
وقال ابن سينا: الداء هيئة ناسخة للصحة، تخرج البدن عن المجرى الطبيعي، وعرفه غيره بأنه المخرج للبدن عن المجرى الطبيعي، بتناول أو غالب من الأخلاط.
قال الرازي: وهذا أوجه لعمومه، "فتداووا" وجوبًا في الأمراض القلبية، وندبًا أو إباحة في الأمراض البدنية، إن لم يترتب على ترك التداوي هلاك أو ترك واجب، وإلا وجب التداوي، وقد يحرم، كقدح عين أدى للصلاة مستلقيًا عند جمع من المالكية، وصحح بعضهم: وهو مذهب الشافعية جوازه.
"وعند أحمد من حديث أنس" مرفوعًا: "إن الله حيث خلق الداء" ظرف مكان بالاعتبار أي قدره وأوجده في بدن أو عضو، "خلق الدواء فتداووا" فإن أصيب الدواء واستعمل على وجه برئ.
"وعند البخاري في" كتاب "الأدب المفرد، وأحمد وأصحاب السنن" الأربعة، "وصححه الترمذي وابن خزيمة والحاكم، عن أسامة بن شريك" الثعلبي "بمثلثة ومهملة"، صحابي تفرد بالرواية عنه زياد بن علاقة على الصحيح، "رفعه" فقال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه عنده، كأن على رءوسهم الطير، فسئل عن التداوي، فقال: "تداووا عباد الله" كذا في كثير من النسخ بدون يا، ومثله في الجامع.
وفي بعض النسخ: يا عباد الله، ومثله في شرح المصنف للبخاري: فلعلهما روايتان، وصفهم بالعبودية إيذانًا بأن التداوي، لا يخرجهم عن التوكل الذي هو من شرطها، أي تداووا ولا تعتمدوا في الشفاء على التداوي بل كونوا عباد الله متوكلين عليه، "فإن الله لم يضع داء إلا(9/355)
لم يضع داء إلا وضع له شفاء إلا داء واحدًا وهو الهرم" وفي لفظ "إلا السام" -وهو بمهملة مخففًا- الموت، يعني إلا داء الموت، أي المرض الذي قدر على صاحبه الموت فيه. واستثناء الهرم في الرواية الأولى إما لأنه جعله شبيهًا بالموت، والجامع بينهما نقص الصحة، أو لقربه من الموت وإقضائه إليه، ويحتمل أن يكون الاستثناء منقطعًا، والمعنى: لكن الهرم لا دواء له.
ولأبي داود، عن أبي الدرداء، رفعه: "إن الله عز وجل جعل كل داء دواء، فتداووا، ولا تداووا بحرام".
__________
وضع له شفاء" وهو سبحانه لو شاء لم يخلق داء، وإذا خلقه لو شاء لم يخلق له دواء، وإذا خلقه لو شاء لم يأذن في استعماله، لكن أذن، فمن تداوى، فعليه أن يعتقد حقًّا ويوقن يقينًا بأن الدواء لا يحدث سقما ولا يولده، كما أن الداء لا يحدث سقمًا ولا يولده، لكن الباري سبحانه يخلق الموجودات واحدًا عقب آخر على ترتيب هو أعلم بحكمته "إلا داء واحدًا" وفي رواية: غير داء واحد، قال أبو البقاء: لا يجوز في غير هنا إلا النصب على الاستثناء من داء، "وهو الهرم" "بفتحتين" أي الكبر، وليس في الرواية لفظ، وهو كما في شرحه كالفتح والجامع.
قال أبو البقاء: الهرم يجوز رفعه بتقدير هو، وجره على البدل من داء المجرور بغير، ونصبه على إضمار، أعني، "وفي لفظ "إلا السام"، وهو بمهملة مخففًا الموت، يعني: إلا داء الموت، أي المرض الذي قدر على صاحبه الموت فيه، واستثناء الهرم في الرواية الأولى إما لأنه جعله شبيهًا بالموت" أي بدائه وداء الموت لا دواء له، فكذا الهرم لمشابهته له في نقص الصحة كما قال، "والجامع بينهما نقص الصحة" في الجملة، وإن كان في المشبه به انتهاؤها دون المشبه، أي الهرم، فلا يقال: الموت مزيل للصحة من أصلها، لا منقص لها، "أو لقربة من الموت وإقضائه إليه" لأن الموت يعقبه، كما يعقب الداء، قاله ابن العربي، وجعله أولى من انقطاع الاستثناء، وهو عطف على قوله لأنه جعله.
"ويحتمل أن يكون الاستثناء منقطعًا، والمعنى، لكن الهرم لا دواء له" فلا ينجح فيه التداوي، "ولأبي داود عن أبي الدرداء" عويمر العجلاني، "رفعه" فقال: قال صلى الله عليه وسلم: "إن الله عز وجل جعل لكل داء دواء" لطفًا منه بخلقه، "فتداووا" متوكلين على الله، "ولا تداووا بحرام" بحذف إحدى التاءين في تداووا.(9/356)
وفي البخاري: "إن الله تعالى لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم"، فلا يجوز التداوي بالحرام.
وروى مسلم عن جابر، مرفوعًا: "لكل داء دواء، فإذا أصيب دواء الداء برأ بإذن الله تعالى".
فالشفاء متوقف على إصابة الداء الدواء بإذن الله تعالى. وذلك أن الدواء قد
__________
"وفي البخاري" تعليقًا عن ابن مسعود، وبين الحافظ؛ أنه جاء من طرق صحيحة إليه "إن الله تعالى لم يجعل شفاءكم" من الأمراض القلبية والنفسية، أو الشفاء الكامل المأمون الغائلة "فيما حرم" بالبناء للفاعل، ويجوز للمفعول "عليكم" لأنه سبحانه وتعالى لم يحرمه إلا لخبثه عناية بعباده وحمية لهم وصيانة عن التلطخ بدنسه، وما حرم عليهم شيئًا إلا عوضهم خيرًا منه، فعدولهم عما عوضه لهم إلى ما منعهم منه يوجب حرمان نفعه؛ ومن تأمل ذلك هان عليه ترك المحرم المردي، واعتاض عنه النافع المجدي والمحرم، وأن أثر في إزاله المرض، لكنه يعقب بخبثه سقمًا قلبيًّا أعظم منه، فالمتداوي به ساع في إزالة سقم البدن بسقم القلب، وبه علم أنه لا تدافع بين الحديث.
وآية: أن في الخمر منافع، وحمل المنافع في الآية على منفعة الأتعاظ، أي أن من رأى حالته اتعظ به، فإن السكران هو والكلب واحد، يلحس في ذا مرة، وذا مرة تكلف بارد، "فلا يجوز التداوي بالحرام" وقد روى الطبراني في الكبير، وأبو يعلى عن أم سلمة، قالت: نبذت نبيذًا في كوز، فدخل رسول الله صلى اله عليه وسلم وهو يغلي، فقال: "ما هذا"؟ قلت: اشتكت ابنة لي، فنقعت لها هذه، فقال صلى الله عليه وسلم: "لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم".
"وروى مسلم" في الطب، والإمام أحمد "عن جابر مرفوعًا: "لكل داء" "بفتح الدال ممدود"، وقد يقصر "دواء" أي شيء مخلوق مقدر له، "فإذا أصيب دواء الداء" بالبناء للمفعول، والأصل، فإذا أصاب المريض دواء الداء المناسب له، سواء أصابه بتجربة أو أخبار عارف، واستعمله على القدر الذي ينبغي، في الوقت الذي ينبغي "برأ بإذن الله تعالى" لأن الشيء يداوى بضده غالبًا، لكن قد يدق حقيقة المرض وحقيقة طبع الدواء، فيقل الفقه بالمتضادين، ومن ثم أخطأ الأطباء، فمتى كان مانعًا بخطأ أو غيره، تخلف البرء، فإن تمت المضادة حصل البرء لا محالة، فصحت الكلية واندفع التدافع، هذا أحد محملي الحديث.
وقيل: هو عام مخصوص، والمراد، لكل داء يقبل الدواء، "فالشفاء متوقف على إصابة" أي ملاقاة "الداء الدواء بإذن الله تعالى" بحيث لا يكون بينهما حائل، ولا ثم مانع كما يأتي "وذلك أن الدواء قد يحصل معه مجاوزة الحد في الكيفية" أي الصفة، كاستعماله على(9/357)
يحصل معه مجاوزة الحد في الكيفية أو الكمية فلا ينجح، بل ربما أحدث داء آخر.
وفي رواية علي عند الحميدي في كتابه المسمى بطب أهل البيت: ما من داء إلا وله دواء، فإذا كان كذلك بعث الله عز وجل ملكًا ومعه ستر فيجعله بين الداء والدواء، فكلما شرب المريض من الدواء لم يقع على الداء، فإذا أراد الله برأه أمر الملك فرفع الستر، ثم يشرب المريض الدواء فينفعه الله تعالى به.
وفي حديث ابن مسعود رفعه: "إن الله لم ينزل داء إلا نزل له شفاء، علمه من علمه، وجهله من جهله" رواه أبو نعيم وغيره.
__________
جوع أو شبع مفرطين، أو أخطأ في تركيبه، كاختلال بعض أجزائه، أو أوقد عليه إلى حد يفسده، أو لم يوقد عليه إلى حد استوائه المطلوب له، "أو الكمية" أي المقدار، ككون المناسب للمرض درهمين، فاستعمل أكثر أو أقل، "فلا ينجح" "بنون فجيم فمهملة" أي لا يظهر أثره، "بل ربما أحدث داء آخر" ثار من ذلك الدواء.
"وفي رواية علي" أمير المؤمنين، "عند الحميدي في كتابه المسمى بطب أهل البيت: ما من داء إلا وله دواء، فإذا كان كذلك" أي لكل داء دواء وأطلع الله المريض على دواء مرضه، واستعمله على الوجه المطلوب في استعماله، ولكن يرد الله شفاءه حالًا بذلك الدواء، "بعث الله عز وجل ملكًا" فهو مرتب على مقدر دل عليه ما بعده، وأحاديث آخر، وإلا فقوله: بعث لا يترتب بظاهره، على أن لكل داء دواء، "ومعه ستر" بكسر السين له وسكون الفوقية" شيء يستر به، "فيجعله بين الداء والدواء، فكلما شرب المريض من الدواء لم يقع على الداء" لوجود الستر، "فإذا أراد الله برأه أمر الملك، فرفع الستر، ثم يشرب المريض الدواء، فينفعه الله تعالى به" أي يبرأ بإذن الله.
"وفي حديث ابن مسعود، رفعه: "إن الله لم ينزل داء إلا أنزل له شفاء، علمه من علمه" بإلهام الله تعالى له واطلاعه عليه، "وجهله من جهله" بإخفاء الله تعالى عنه إياه، فإذا شاء الله الشفاء يسر ذلك الدواء، ونبه مستعمله بواسطة أو دونها، فيستعمله على وجهه، وفي وقته فيبرأ، وإذا أراد هلاكه أذهله عن دوائه، وحجبه بمانع فهلك، وكل ذلك بمشيئته وحكمه، كما سبق في علمه؛ ولقد أحسن القائل:
والناس يلحون الطبيب وإنما ... غلط الطبيب إصابة المقدور
"رواه أبو نعيم وغيره" كالنسائي وابن ماجه وابن حبان والحاكم وصححاه، ورواه(9/358)
وفيه إشارة إلى أن بعض الأدوية لا يعلمها كل أحد.
وأما قوله "لكل داء دواء" فيجوز أن يكون على عمومه حتى يتناول الأدواء القاتلة، والأدواء التي لا يمكن طبيب معرفتها، ويكون قد جعل الله لها أدوية تبرئها، ولكن طوى علمها عن البشر، ولم يجعل لهم إليها سبيلًا؛ لأنه لا علم للخلق إلا ما علمهم الله تعالى. ولهذا علق صلى الله عليه وسلم الشفاء على مصادفة الدواء للداء، وقد يقع لبعض المرضى أنه يتداوى من دائه بدواء فيبرأ، ثم يعتريه بعد ذلك الداء، والدواء
__________
الحاكم أيضًا من حديث أبي سعيد، بزيادة، إلا السأم وهو الموت، "وفيه إشارة إلى أن بعض الأدوية لا يعلمها كل أحد" لقوله: جهله من جهله.
"وأما قوله" صلى الله عليه وسلم: "لكل داء دواء"، فيجوز أن يكون على عمومه حتى يتناول الأدواء القائلة" كالسم، "والأدواء التي لا يمكن طبيب معرفتها" لخروجها عن قواعد علمه، "ويكون قد جعل الله لها أدوية تبرئها، ولكن طوى علمها عن البشر، ولم يجعل لهم إليها سبيلًا" طريقًا يهديهم إليها، "لأنه لا علم للخلق إلا ما علمهم الله تعالى" كما قالت الملائكة: {سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا} جزم القرطبي، فقال: هذه كلية صادقة العموم؛ لأنها خبر عن الصادق، عن الخالق جل وعلا ألا يعلم من خلق، فالداء والدواء، والشفاء والهلاك فعله، وربط الأسباب بالمسببات حكمته وحكمه، وكل ذلك بقدر لا معدل نه. انتهى.
"ولهذا علق صلى الله عليه وسلم الشفاء على مصادفة الدواء للداء" بقوله: "إذا أصيب دواء الداء برأ بإذن الله"، وهذا قدر زائد على مجرد وجوده.
قال المازري رحمه الله: فيه بيان واضح؛ لأنه قد علم أن الأطباء يقولون: المرض خروج الجسم عن المجرى الطبيعي، والمداواة رده، وحفظ الصحة بقاؤه عليه، فحفظها يكون بإصلاح الأغذية وغيرها، ورده يكون بالموافق من الأدوية المضادة للمرض، وبقراط يقول: الأشياء تداوى بضدها، ولكن قد يدق ويغمض حقيقة المرض، وحقيقة طبع الدواء فيقل الفقه بالمضادة، ومن هنا يقع الخطأ من الطبيب، فقد يظن الطبيب العلة عن مادة حارة، فتكون عن غير مادة أو عن مادة، باردة، أو عن مادة حارة دون الحرارة التي ظنها، فلا يحصل الشفاء؛ فكأنه صلى لله عليه وسلم نبه بآخر كلامه على ما قدر يعارض به أوله، فيقال: قلت: لكل داء دواء، وكثير من المرضى يداوون، فلا يبرءون، فقال: إنما ذلك لفقد العلم بحقيقة المداواة، لا لفقد الدواء، وهذا واضح.
"وقد يقع لبعض المرضى أنه يتداوى من دائه بدواء فيبرأ، ثم يعتريه بعد ذلك الداء والدواء" يستعمل ولا يقدر، يعتريه كما هو ظاهر "بعينه" تأكيد للدواء، ويقدر مثله في الداء، أي(9/359)
بعينه فلا ينجع، والسبب في ذلك الجهل بصفة من صفات الداء، فرب مرضين تشابهًا، ويكو أحدهما مركبًا، لا ينجع فيه ما ينجع في الذي ليس مركبًا، فيقع الخطأ من هناك، وقد يكون متحدًا لكن يريد الله أن لا ينجع، وهنا تخضع رقاب الأطباء.
وفي مجموع ما ذكرناه من الأحاديث الإشارة إلى إثبات الأسباب، وأن ذلك لا ينافي التوكل، كما لا ينافيه دفع الجوع والعطش بالأكل والشرب، وكذلك تجنب المهلكات، والدعاء بطلب الشفاء ودفع المضار وغير ذلك.
وقد سئل الحارث بن أسد المحاسبي في كتاب "القصد" من تأليفه: هل
__________
والدواء الذي يستعمله هو الدواء الأول بعينه، "فلا ينجع" أي: يظهر أثره، "والسبب في ذلك الجهل بصفة من صفات الداء، فرب مرضين تشابها، ويكون أحدهما مركبًا" من حرارة وبرودة، مثلًا، "لا ينجع فيه ما ينجع في الذي ليس مركبًا" بل من حرارة فقط أو برودة فقط، "فيقع الخطأ من هناك، وقد يكون متحدًا، لكن يريد الله أن لا ينجع، وهنا تخضع رقاب الأطباء" ولذا قيل:
إن الطبيب بطبه ودوائه ... لا يستطيع دفع نحب قد أتى
ما للطبيب يموت بالداء الذي ... قد كان يبرئ غيره فيما مضى
وقال آخر:
إن الطبيب لذو عقل ومعرفة ... ما دام في أجل الإنسان تأخير
حتى إذا ما انقضت أيام مدته ... حار الطبيب وخانته العقاقير
"وفي مجموع ما ذكرناه من الأحاديث الإشارة إلى أن إثبات الأسباب" وترتيب مسبباتها عليها، لأمره بالتداوي "وإن ذلك لا ينافي التوكل" على الله؛ لأن التداوي من قدر الله، ففيه حجة على من أنكر التداوي من غلاة الصوفية، وقال: كل شيء بقضاء وقدر، فلا حاجة للتداوي، وحجة العلماء هذه الأحاديث ونحوها، ويعتقد أن الله هو الفاعل، وأن التداوي أيضًا من قدر الله، فلا ينافي التوكل، "كما لا ينافيه دفع الجوع والعطش بالأكل والشرب، وكذلك تجنب المهلكات والدعاء بطلب الشفاء ودفع المضار وغير ذلك" كالأمر بقتال الكفار وبالتحصن، ومجانبة الإلقاء باليد إلى التهلكة، مع أن الأجل لا يتغير، والمقادير لا تتأخر ولا تتقدم عن أواقتها، ولا بد من وقوع المقدورات.
"وقد سئل الحارث بن أسد المحاسبي" "بضم الميم وكسر المهملة"، سمي بذلك(9/360)
يتداوى المتوكل؟ قال: نعم، قيل له: من أين لك ذلك؟ قال: من وجود ذلك عن سيد المتوكلين، الذي لم يلحقه لاحق، ولا سبقه في التوكل سابق، محمد خير البرية صلى الله عليه وسلم. قيل له: ما تقول في خبر النبي صلى الله عليه وسلم: "من استرقى واكتوى برئ من التوكل" قال: برئ من توكل المتوكلين الذين ذكرهم في حديث آخر فقال: "يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفًا بغير حساب"، وأما من سواهم من المتوكلين فمباح لهم الدواء والاستقراء.
فجعل المحاسبي التوكل بعضه أفضل من بعض.
وقال في "التمهيد": إنما أراد بقوله: "برئ من التوكل" إذا استرقى الرقى المكروهة في الشريعة، أو اكتوى وهو يعلق رغبته في الشفاء بوجود الكي، وكذلك
__________
لكثرة محاسبته لنفسه، مرت ترجمته مرارًا "في كتاب القصد، من تأليفه: هل يتداوى المتواكل، قال: نعم، قيل له: من أين لك ذلك؟، قال: من وجود ذلك عن سيد المتوكلين الذي يلحقه لاحق" أي لم يبلغ أحد ممن بعده مقامه في التوكل، "ولا سبقه في التوكل سابق، محمد خير البرية صلى الله عليه وسلم" فإنه تداوى كثيرًا، وأمر به، "قيل له: ما تقول في خبر النبي صلى الله عليه وسلم" الذي أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي؟، وقال: حسن صحيح، وصححه ابن حبان والحاكم عن المغيرة بن شعبة، مرفوعًا: "من استرقى واكتوى برئ من التوكل" لفظه عند المذكورين: "من اكتوى واسترقى، فقد برئ من التوكل"، "قال:" معناه "برئ من توكل المتوكلين الذين ذكرهم في حديث آخر، فقال: "يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفًا بغير حساب" "هم الذين لا يسترقون ولا يتطيرون ولا يكتوون وعلى ربهم يتوكلون".
أخرجه الشيخان وغيرهما، يعني: بئ من توكل الخواص المعرضين عن أسباب الدنيا، الذين لا يلتفون إلى شيء من علائقها؛ "وأما من سواهم من المتوكلين، فمباح لهم الدواء والاسترقاء، فجعل المحاسبي التوكل بعضه أفضل من بعض" ولا يشكل عليه استدلاله على تداوي المتوكلين بوجوده من سيدهم؛ لأنه فعله لئلا يشق على من لم يبلغ درجة الخواص، ولأنه مشرع.
"وقال" أبو عمر يوسف بن عبد البر "في التمهيد" لما في الموطأ من المعاني والأسانيد، "إنما أراد" صلى الله عليه وسلم بقوله "بقوله: برئ من التوكل إذا استرقى الرقى المكروهة في الشريعة" وهي ما كان بغير اللسان العربي، وما لا يعرف معناه، لجواز كونه شركًا، وبغير أسماء الله وصفاته وكلامه في الكتب المنزلة؛ أما الرقي بالقرآن وأسماء الله تعالى وصفاته، والرقى المروية، فلا(9/361)
قوله: "لا يسترقون" معناه الرقى المخالفة للشريعة، و "لا يكتوون" وقلوبهم معلقة بنفع الكي ومعرضه عن الله تعالى وعن أن الشفاء من عنده. وأما إذا فعل ذلك على ما جاء في الشريعة، وكان ناظرًا إلى رب الدواء، يتوقع الشفاء منه، وقصد بذلك استعمال بدنه إذا صح لله تعالى، وإتعاب نفسه وكدها في خدمة ربه، فتوكله باق على حاله لا ينقص منه الدواء شيئًا، استدلالًا بفعل سيد المتوكلين إذ عمل بذلك في نفسه وفي غيره، انتهى.
__________
تخرج عن التوكل، بل هو باق على حاله لا ينقص منه شيء، وقد قال صلى الله عليه وسلم للذي رقى بالفاتحة، وأخذ أجرًا من أخذ برقية باطل، فقد أخذت برقية حق، وقال: اعرضوا علي رقاكم فعرضوها، فقال: لا بأس بها إنما هي مواثيق، كأنه خاف أن يقع فيها شيء مما كانوا يتلفظون به ويعتقدون من الشرك في الجاهلية، "أو اكتوى وهو يعلق رغبته في الشفاء بوجود الكي" باعتماده عليه ذاهلًا عن التوكل على الله الذي يخلق عنده الشفاء، "وكذلك قوله: "لا يسترقون" معناه الرقى المخالفة للشريعة، "ولا يكتوون" وقلوبهم معلقة بنفع الكي، ومعرضة عن الله تعالى، وعن أن الشفاء من عنده" فهذا هو البريء من التوكل؛ "وأما إذا فعل ذلك على ما جاء في الشريعة، وكان ناظرًا إلى رب الدواء، ويتوقع الشفاء منه" وإن استعماله إنما هو امتثالًا لربط الأسباب بمسبباتها، "وقصد بذلك استعمال بدنه إذا صح" من دائه "لله تعالى، وإتعاب نفسه وكدها في خدمة ربه، فتوكله باق على حاله، لا ينقص منه الدواء شيئًا" منه "ستدلالًا بفعل سيد المتوكلين، إذ" تعليلية "عمل بذلك في نفسه و" في "غيره. انتهى" كلام التمهيد، وهو نفيس؛ ونحوه قول البيهقي في الشعب: برئ من التوكل؛ لأنه ركب ما يستحب التنزه عنه من الاكتواء، لما فيه من الخطر ومن الاسترقاء، بما لا يعرف من كتاب الله تعالى، وذكره لجواز أن يكون شركًا، فقد روينا الرخصة فيه بما يعلم من كتاب الله تعالى، أو ذكره من غير كراهة، وإنما الكراهة فيما لا يعلم من لسان اليهود وغيرهم، أو استعملها معتمدًا عليها، لا على الله تعالى فيما وضع فيها من الشفاء، فصار بهذا أو بارتكابه المكروه، بريئًا من التوكل، فإن لم يوجد واحد من هذين وغيرهما من الأسباب المباحة، لم يكن صاحبها بريئًا من التوكل، انتهى.
وقال ابن قتيبة: الكي نوعان: كي الصحيح لئلا يعتل، فهذا الذي برئ من التوكل؛ لأنه يريد دفع القدر، وهو لا يدفع، والثاني: كي الجرح إذا فسد، والعضو إذا قطع، فهو الذي شرع التداوي فيه؛ فإن كان لأمر محتمل، فخلاف الأولى لما فيه من تعجيل التعذيب بالنار، لأمر غير محقق.(9/362)
وقد تبين أن التداوي لا ينافي التوكل، بل لا يتم حقيقة التوحيد إلا بمباشرة الأسباب التي نصبها الله تعالى مقتضيات لمسبباتها قدرًا وشرعًا، وأن تعطيلها يقدح في نفس التوكل، كما يقدح في الأمر والحكمة.
وحكى ابن القيم: أنه ورد في خبر إسرائيل، أن الخليل عليه الصلاة والسلام قال: يا رب ممن الداء؟ قال: مني، قال: ممن الدواء؟ قال: مني قال: فما بال الطبيب؟ قال: رجل أرسل الدواء على يديه.
قال: وفي قوله صلى الله علي وسلم: "لكل داء دواء" تقوية لنفس المريض والطبيب، وحث على ذلك الدواء، والتنفيس عليه، فإن المريض إذا استشعرت نفسه أن لدائه دواء يزيله تعلق قلبه بروح الرجاء، وبرد من حرارة اليأس، وانفتح له باب الرجاء، وقويت نفسه وانبعثت حرارته الغريزية، وكان ذلك سببًا لقوة الأرواح الحيوانية والنفسانية
__________
"وقد تبين، أن التداوي لا ينافي التوكل، بل" هو من جملته، إذ "لا يتم حقيقة التوحيد إلا بمباشرة" أي تعاطي "الأسباب التي نصبها الله تعالى، مقتضيات" "بكسر الضاد" "لمسبباتها قدرًا وشرعًا" وذلك أنه إذا باشرها وترتبت عليها مسبباتها، علم أن ذلك لحكمة منه تعالى، حيث خلق الشفاء عند مباشرتها، فكمل بذلك اعتقاده أن الله هو المنفرد بالإيحاد، وأن لا فعل لغيره، "وأن تعطيلها" أي الأسباب بعدم العمل بها واعتقاد أن لا يحصل أثر عند مباشرتها، "يقدح في نفس التوكل" إذ لو صدق في التوكل لعمل ما أمر به من السبب معتمدًا على الله، "كما يقدح في الأمر" بها، "والحكمة" في خلق الشفاء عندها.
"وحكى ابن القيم: أنه ورد في خبر إسرائيلي أن الخليل" إبراهيم "عليه الصلاة والسلام قال: يا رب ممن الداء" المرض "قال: مني، قال ممن الدواء، قال: مني، قال" فإذا كان منك، "فما بال الطبيب" أي حاله وما يحصل منه حتى يعالج المريض ليصح، أو يحفظ صحته، أو نحو ذلك مما يحصل بفعله وحاصله: فأي حاجة للطبيب؛ "قال: رجل أرسل الدواء على يديه" ليس هو الفاعل بنفسه، وإنما فعله بإجرائي ما هو سبب لإزالة المرض ونحوه.
"قال" ابن القيم: وفي قوله صلى الله عليه وسلم: "لكل داء دواء" تقوية لنفس المريض والطبيب" المعالج، "وحث على ذلك الدواء والتنفيس عليه" أي كشف الكربة عنه، "فإن المريض إذا استشعرت نفسه؛ أن لدائه دواء يزيله، تعلق قلبه بروح الرجاء" أي بالأثر المصلح لبدنه الذي يترتب على الدواء الذي يستعمله لما رجاه من حصول النفع به، سمي ذلك الأثر روحًا، تشبيهًا بروح الحياة، "وبرد" "بضم الراء وفتحها" "من حرارة اليأس" أي سكنت حرارته "وانفتح له باب الرجاء، وقويت نفسه وانبعثت حرارته الغريزية، وكان ذلك سببًا لقوة الأرواح الحيوانية(9/363)
والطبيعية، ومتى قويت هذه الأرواح قويت القوى التي هي حاملة لها، فقهرت المرض ودفعته. انتهى.
فإن قلت: ما المراد بالإنزال في قوله في الأحاديث السابقة "إلا أنزل الله له دواء" وفي الرواية الأخرى "شفاء" فالجواب: أنه يحتمل أن يكون عبر بالإنزال عن التقدير، ويحتمل أن يكون المراد أنزل علم ذلك على لسان الملك للنبي صلى الله عليه وسلم.
وأين يقع طب حذاق الأطباء، الذي غايته أن يكون مأخوذًا من قياس أو مقامات وحدس وتجربة، من الوحي الذي يوحيه الله تعالى إلى رسوله صلى الله عليه وسلم بما ينفعه ويضربه، فنسبة ما عند حذاق الأطباء من الطب إلى هذا الوحي كنسبة ما عندهم من العلوم إل ما جاء يه النبي صلى الله عليه وسلم، بل ههنا من الأدوية التي تشفي الأمراض ما لم يهتد إليها عقول أكابر الأطباء، ولم تصل إليها علومهم وتجربتهم وأقيستهم من الأدوية القلبية والروحانية، وقوة القلب، واعتماده على الله تعالى
__________
والنفسانية والطبيعة، ومتى قويت هذه الأرواح قويت القوى التي هي حاملة لها، فقهرت المرض ودفعته" بإذن الله. "انتهى" وهذا مشاهد.
"فإن قلت ما المراد بالإنزال في قوله في الأحاديث السابقة: "إلا أنزل الله له دواء"، وفي الرواية الأخرى شفاء" وهما بمعنى، على ما ذكر المصنف كما مر؛ "فالجواب أنه يحتمل أن يكون عبر بالإنزال عن التقدير" أي قدر الله تعالى له دواء، "ويحتمل أن يكون المراد أنزل علم ذلك على لسان الملك للنبي صلى الله عليه وسلم" وغيره من الأنبياء، وبالإلهام لغيرهم، أو المعنى: أنزل الغيث الذي تتولد منه الأغذية والأدوية وغيرهما، أو معنى الإنزال إعلام عباده، ورد بأنه أخبر بعموم الإنزال لكل داء ودوائه، وأكثر الخلق لا يعلمون ذلك، ومر هذه كله "وأين يقع" استفهام إنكاري، أي لا يقع "طب حذاق الأطباء، الذي غايته أن يكون مأخوذًا من قياس أو مقامات" كذا في نسخ، ولعله معاناة، وفي نسخ: أو مناطات، أي متعلقات، "وحداس وتجربة" مولعا "من الوحي الذي يوحيه الله تعالى إلى رسوله صلى الله عليه وسلم بما ينفعه ويضره، فنسبة ما عند حذاق الأطباء من الطب إلى هذا الوحي، كنسبة ما عندهم من العلوم، إلى ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم" وهي لا تعد شيئًا بالنسبة إلى الوحي، "بل ههنا من الأدوية التي تشفي من الأمراض" من في من الأدوية بيانية لما في قوله: "ما لم يهتد إليها عقول أكابر الأطباء، ولم تصل إليها علومهم وتجربتهم وأقيستهم من الأدوية القلبية والروحانية، وقوة القلب واعتماده على الله تعالى والتوكل عليه، والانكسار بين يديه، والصدقة والصلاة والدعاء، والتوبة.(9/364)
والتوكل عليه والانكسار بين يديه، والصدقة والصلاة والدعاء والتوبة والاستغفار، والإحسان إلى الخلق والتفريج عن المكروب.
فإن هذه الأدوية قد جربتها الأمم على اختلاف أديانها ومللها، فوجدوا لها من التأثير في الشفاء ما لم يصل إليه علم أعلم الأطباء، وقد جربت ذلك -والله- مرات، فوجدته يفعل ما لا تفعل الأدوية الحسية.
ولا ريب أن طب النبي صلى الله عليه وسلم متيقن البرء، لصدوره عن الوحي ومشكاة النبوة، وطب غيره أكثره حدس أو تجربة، وقد يتخلف الشفاء عن بعض من يستعمل طب النبوة، وذلك لمانع قام بالمستعمل، من ضعف اعتقاد الشفاء به وتلقيه بالقبول. وأظهر الأمثلة في ذلك القرآن العظيم، الذي هو شفاء لما في الصدور، ومع ذلك فقد لا يحصل لبعض الناس شفاء صدره به لقصوره في اعتقاده والتلقي بالقبول، بل لا يزيد المنافق إلا رجسًا إلى رجسه، ومرضًا إلى مرضه، فطب النبوة لا يناسب إلا الأبدان الطيبة، كما أن شفاء القرآن لا يناسب إلا الأرواح الطيبة.
__________
والاستغفار، والإحسان إلى الخلق، والتفريج عن المكروب، فإن هذه الأدوية قد جربتها الأمم على اختلاف أديانها ومللها، فوجدوا لها من التأثير في الشفاء ما لا يصل إليه علم أعلم الأطباء، وقد جربت ذلك، والله مرات، فوجدته يفعل ما لا تفعل الأدوية الحسية" ذكر ذلك، وأقسم عليه محدثًا بنعمة الله تعالى، وحثًّا على تلقي ما جاء في ذلك من الأحاديث بالقبول، فمن فعله ولم ينجح معه، فلمانع قام به، كما قال: "ولا ريب أن طب النبي صلى الله عليه وسلم متيقن البرء" باستعماله، "لصدوره عن الوحي ومشكاة البوة" أي من جهة النبوة، "وطب غيره أكثره حدس أو تجربة" يخطئ ويصيب، "وقد يتخلف الشفاء عن بعض من يستعمل طب النبوة، وذلك مانع قام بالمستعمل من ضعف اعتقاد الشفاء به، و" ضعف "تلقيه بالقبول" لا لأنه قد يتخلف في نفسه؛ لأنه محال، "وأظهر الأمثلة في ذلك القرآن العظيم، الذي هو شفاء لما في الصدور، ومع ذلك فقد لا يحصل لبعض الناس شفاء صدره به، لقصوره في اعتقاده، و" قصور "التلقي بالقبول؛ بل لا يزيد المنافق إلا رجسًا إلى رجسه" كفرًا إلى كفره، لكفره به، "ومرضًا إلى مرضه" ضعف اعتقاده، كما قال تعالى: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَة} [التوبة: 127] ، إلى أن قال: {وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ} [التوبة: 125] ، "فطب النبوة لا يناسب إلا الأبدان الطيبة" الطاهرة من ضعف الاعتقاد ونحوه، "كما أن شفاء القرآن لا يناسب إلا الأرواح الطيبة والقلوب الحية" بكمال القبول والاعتقاد، "فإعراض عن طب(9/365)
والقلوب الحية. فإعراض عن طب النبوة كإعراضهم عن الاستشفاء بالقرآن الذي هو الشفاء النافع.
وكان علاجه صلى الله عليه وسلم للمرض على ثلاثة أنواع:
أحدها: بالأدوية الإلهية والروحانية.
والثاني: بالأدوية الطبيعية.
والثالث: بالمركب من الأمرين.
__________
النبوة" إلى التلقي عن الأطباء وعملهم بما يصفون، "كإعراضهم عن الاستشفاء بالقرآن، الذي هو الشفاء النافع" وهم ملومون على ذلك غير معذورين؛ وإذا أعرضوا عن القرآن القطعي، لم يستبعد إعراضهم عن الطب النبوي الظني، وإن كانوا ملومين فيهما، ونازع شيخنا؛ بأنه لا يلزم من إعراضهم عن القرآن، وإن كانوا غير معذورين، إعراضهم عن الطب النبوي، لجواز أن إعراضهم عن القرآن؛ لأنه في أعلى طبقات البلاغة، تقصر عقولهم عن إدراكه، ومن ثم قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النمل: 44] بخلاف ما جاء به صلى الله عليه وسلم، فهو قريب من أفهامهم؛ لأنه من جنس كلام البشر، فحقهم التمسك به وعدم الإعراض عنه، لعلمهم أنه حق، ولفهمهم معناه. انتهى.
وفيه: أن الاستشفاء بالقرآن لا يتوقف على إدراك معناه، فلا دخل لكونه في أعلى طبقات البلاغة هنا؛ إذ مجرد تلاوته أو كتابته كافية في الاستشفاء.
"وكان علاجه صلى الله عليه وسلم للمرض على ثلاثة أنواع: أحدها بالأدوية الإلهية والروحانية، والثاني بالأدوية الطبيعية" أي التي توافق طبيعة المريض، وهي مزاجه المركب من الأخلاط الأربعة، "والثالث بالمركب من الأمرين" بأن يدعو بدعاء ومعه دواء يوافق الطبيعة(9/366)
"النوع الأول:" "في طبه صلى الله عليه وسلم بالأدوية الإلهية"
اعلم أن الله تعالى لم ينزل من السماء شفاء قط أعم ولا أنفع ولا أعظم ولا أنجع في إزالة الداء من القرآن، فهو للداء شفاء، ولصدأ القلوب جلاء، كما قال تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء: 82] .
ولفظه "من" -كما قال الإمام فخر الدين- ليست للتبعيض بل للجنس، والمعنى، وننزل من هذا الجنس الذي هو القرآن شفاء من الأمراض الروحانية وشفاء أيضًا من الأمراض الجسمانية.
أما كونه شفاء من الأمراض الروحانية فظاهر وذلك المرض الروحاني نوعان: الاعتقادات الباطلة والأخلاق المذمومة، وأشدها فسادًا الاعتقادات الفاسدة في
__________
"النوع الأول:" "في طبه صلى الله عليه وسلم بالأدوية الإلهية"
"اعلم أن الله تعالى لم ينزل من السماء شفاء قط أعم" أي أشمل، "ولا أنفع، ولا أعظم، ولا أنجع" أي أشد تأثيرًا "في إزالة الداء من القرآن، فهو للداء شفاء، ولصدأ".
"بالهمز والقصر" وسخ "القلوب" أي ما يعلوها من ظلمة الذنوب، فإطلاق الصدأ عليه مجاز، "جلاء" "بكسر الجيم والمد" كشف لها، وعبر في الأول بشفاء، وفي الثاني بجلاء، تنبيهًا على أن الثاني ليس داء قائمًا بالعضو، لكنه لتغطيته للقلب، بحيث يمنع من وصول ما ينفع من حلول الحق فيه، طلب جلاؤه منه لينتفع بما يصل إليه من المواعظ والأحكام، واقتصر في قوله الآتي: الذي هو القرآن شفاء من الأمراض على الشفاء، إشارة إلى أن الصدأ كالداء الذي يقوم بالعضو، فزواله شفاء، "كما قال تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء: 82] ، استدلال على قوله، فهو للداء شفاء؛ وأما دلالته على كونه أعظم، فلعله من قرينة خارجية، أو من التنوين في شفاء المفيد للتعظيم، مع دعوى أنه لا أعظم منه، واستفادة الأمرين، أعني شفاء، وجلاء من قوله شفاء وقوله: ورحمة للمؤمنين زيادة على مدعاه، "ولفظة من، كما قال الإمام فخر الدين" الرازي: "ليست للتبعيض" لئلا يكون بعضه ليس شفاء، مع أنه كله شفاء؛ "بل للجنس، والمعنى: وننزل من هذا الجنس الذي هو القرآن" كأنه لوحظ أن المراد بالقرآن معناه اللغوي، الشامل لكل منزل، كالتوراة والإنجيل والزبور، وللذكر، وأن القرآن بالمعنى الشرعي نوع من هذا الجنس ضرورة؛ أن المنزلة على المصطفى نوع من الجنس.
وقال البيضاوي: من للبيان، فإنه كله كذلك، وقيل: للتبعيض، والمعنى.
أن منه ما يشفي المرض، كالفاتحة وآيات الشفاء. انتهى.
ولا يخفى أن البيان يستدعي مبينًا اسم مفعول، وهو قوله: ما هو شفاء، وقدم عليه البيان اهتمامًا بشأنه وتعظيمًا له، "شفاء من الأمراض الروحانية" وهي ما لا تؤثر ظاهرًا في الجسم، سمي روحانيًّا لتعلقه بالروح الذي هو قوام البدن، فإطلاق المرض عليه مجاز، نحو: في قلوبهم مرض، "وشفاء أيضًا من المراض الجسمانية" "بكسر الجيم" التي تظهر في الجسم.
"أما كونه شفاء من الأمراض الروحانية، فظاهر، وذلك المرض الروحاني نوعان" النوع الأول: "الاعتقادات الباطلة، و" النوع الثاني: "الأخلاق المذمومة" كما يأتي، "وأشدها(9/367)
الإلهية والنبوات والمعاد والقضاء والقدر، والقرآن مشتمل على دلائل المذهب الحق في هذه المطالب، وإبطال المذاهب الباطلة. ولما كان أقوى الأمراض الروحانية هو الخط في هذه المطالب، والقرآن مشتمل على الدلائل الكاشفة عما في هذه المذاهب الباطلة من العيوب لا جرم كان القرآن شفاء من هذا النوع من المرض الروحاني. وأما الأخلاق المذمومة فالقرآن مشتمل على تفصيلها وتعريفها وما فيها من المفاسد، والإرشاد إلى الأخلاق الفاضلة والأعمال المحمودة، فكان القرآن شفاء من هذا النوع من المرض: فثبت أن القرآن شفاء من جميع الأمراض الروحانية.
وأما كونه شفاء من الأمراض الجسمانية، فلأن التبرك بقراءته ينفع كثيرًا من الأمراض. وإذا اعتبر الجمهور من الفلاسفة وأصحاب الطلسمات بأن لقراءة الرقى
__________
فسادًا الاعتقادات الفاسدة في الإلهية" كاعتقاد بعض الفلاسفة، أنه تعالى لا يعلم الجزئيات، وكنفي المعتزلة الصفات الذاتية عنه، ونحو ذلك، "والنبوات والمعاد" كنفيه أصلًا، أو نفي المعاد الجسماني، "والقضاء والقدر والقرآن مشتمل على دلائل المذهب الحق في هذه المطالب، وإبطال المذاهب الباطلة، ولما كان أقوى الأمراض الروحانية هو الخط في هذه المطالب، والقرآن مشتمل على الدلائل الكاشفة عما في هذه المذاهب الباطلة من العيوب، لا جرم" بمعنى حقًّا، والعامل فيه "كان" والمعنى: كان حقًّا "القرآن شفاء من هذا النوع من المرض الروحاني" ويحتمل أنه معمول للكاشفة.
قال شيخنا: ولعله الأقرب لقربه منه، ولأن الأصل عدم تقديره مؤخرًا، قال الفراء: لا جرم في الأصل، بمعنى: لا بد ولا محالة، ثم كثرت، فحولت إلى معنى القسم، وصارت بمعنى حقًّا، ولذا يجاب باللام نحو لا جرم، لأفعلن.
"وأما الأخلاق المذمومة" قسيم لمقدر، فهم من الكلام السابق، "فالقرآن مشتمل على تفصيلها وتعريفها وما فيها من المفاسد" ومشتمل على "الإرشاد إلى الأخلاق الفاضلة والأعمال المحمودة، فكان القرآن شفاء من هذا النوع من المرض، فثبت أالقرآن شفاء من جميع الأمراض الروحانية" تفريع على ما قدمه، أنه شفاء للاعتقادات الفاسدة والأخلاق المذمومة.
"وأما كونه شفاء من الأمراض الجسمانية، فلأن التبرك بقراءته ينفع كثيرًا، من الأمراض" كما شوهد كثيرًا "وإذا اعتبر" كذا في نسخ: بمعنى اعتد، وفي أخرى: اعترف،(9/368)
المجهولة والعزائم التي لا يفهم منها شيء آثارًا عظيمة في تحصيل المنافع ودفع المفاسد أفلا تكون قراءة القرآن العظيم المشتمل على ذكر جلال الله وكبريائه، وتعظيم الملائكة المقربين، وتحقير المردة والشياطين سببًا لحصول النفع في الدين والدنيا.
ويتأيد ما ذكرنا بما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من لم يستشف بالقرآن فلا شفاه الله".
ونقل عن الشيخ أبي القاسم القشيري -رحمه الله. أن ولده مرض مرضًا شديدًا حتى أشرف على الموت، واشتد عليه الأمر، قال: فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فشكوت إليه ما بولدي فقال: أين أنت من آيات الشفاء؟ فانتبهت فأفكرت فيها فإذا هي في ستة مواضع من كتاب الله، وهي قوله تعالى: {وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ} [التوبة: 14] .
__________
وهي أنسب "الجمهور من الفلاسفة وأصحاب الطلسمات؛ بأن لقراءة الرقى المجهولة والعزائم التي لا يفهم منها شيء آثارًا عظيمة في تحصيل المنافع ودفع المفاسد، أفلا تكون قراءة القرآن العظيم" ينبغي أن تجعل الفاء في أفلا مؤخرة، والأصل فألا، لتكون الفاء داخلة على جواب الشرط، أما جعلها في محلها عاطفة على مقدر بعد الهمزة، كما هو أحد المذهبين، فيرد عليه؛ أن جواب الشرط إذا كان طلبيًّا يجب اقترانه بالفاء، وهو هنا كذلك؛ لأن الاستفهام طلب "المشتمل على ذكر جلال الله وكبريائه، وتعظيم الملائكة المقربين، وتحقير المردة الشياطين سببًا لحصول النفع في الدين والدنيا، ويتأيد ما ذكرنا بما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "من لم يستشف بالقرآن" أي من لا يعتد بطلب كونه شافيًا، لاعتقاده عدم الشفاء به، وبهذا حسن تفريع الجواب، بقوله: "فلا شفاه الله" وسقطت معارضته لأحاديث الأمر بالدواء.
"ونقل عن الشيخ أبي القاسم" عبد الكريم بن هوازن "القشيري" العلم الشهير، صاحب الرسالة "رحمه الله: أن ولده مرض مرضًا شديدًا حتى أشرف منه على الموت، واشتد عليه الأمر، قال: فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، فشكوت إليه ما بولدي، فقال: أين أنت من آيات الشفاء" أي التي ذكر فيها الشفاء، والاستفهام تعجبي من شكوى مرض ولده، ولم يستعمل آيات الشفاء المزيلة للمرض، والغرض منه إرشاده إلى استعمالها، لا إنه تعجب حقيقي، ولا توبيخه؛ لأنه قبل ذلك لم يكن عالمًا بأنها سبب للشفاء، "فانتبهت فأفكرت فيها، فإذا هي في ستة مواضع من كتاب الله، وهي قوله: {وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ} " مما بهم " {وَشِفَاء} "(9/369)
{وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ} [يونس: 557] .
{يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} [النحل: 69] .
{وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء: 82] .
{وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء: 80] .
{قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء} [فصلت: 44] .
قال: فكتبتها ثم حللتها بالماء وسقيته إياها فكأنما نشط من عقال، أو كما قال.
وانظر رقية اللديغ بـ"الفاتحة" وما فيها من السر البديع والبرهان الرفيع.
__________
دواء " {لِمَا فِي الصُّدُور} " [يونس: 57] ، من العقائد الفاسدة والشكوك، " {يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا} " أي النحل " {شَرَابٌ} " هو العسل، " {مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُه} " بالبياض والحمرة، وغيرهما، " {فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} " من الأوجاع، قيل لبعضها، كما دل عليه تنكير شفاء، أو لكلها بضميمته إلى غيره.
قال السيوطي: وبدونها بنيته وقد أمر به النبي صلى الهل عليه وسلم من استطلق بطنه " {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ} " من الضلالة " {وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} " به، " {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} " من الأمراض " {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى} " من الضلالة " {وَشِفَاءٌ} " من الجهل، "قال: فكتبتها" على هذا الترتيب الموافق لترتيب القرآن، كما هو ظاهره، قال شيخنا: ولعله ليس بشرط من حصول المقصود بها، فلو قرأها أو كتبها على غير هذا الترتيب، لم يمنع من حصول الشفاء بها، انتهى.
والأظهر خلافه، فإن للترتيب تأثيرًا عندهم، "ثم حللتها بالماء وسقيته إياها، فكأنما نشط من عقال" ما يعقل به البعير، "أو كما قال" شك، ولعله اختار ذلك على مجرد تلاوتها، ليصل أثر الحروف لبدن المريض، فيكون أبلغ.
وفي الكواكب الدرية في ترجمة القشيري المذكور: مرض له ولد، بحيث أيس منه، فرأى الحق تعالى في النوم، فقال: أجمع آيات الشفاء واقرأها عليه، أو اكتبها في إناء واسقه إياه، ففعل فعوفي، انتهى.
فلعل الواقعة تعددت في الولد نفسه، أو في غيره، فإنه كان له عدة أولاد، ولعله نسي الرؤيا الأولى حتى رأى الثانية منهما، فأخبر بهما جميعًا تحدثًا بنعمة رؤية الله ورسوله، "وانظر" نظر تأمل وتدبر "رقية اللديغ" "بدال مهملة وغين معجمة" "بالفاتحة، وما فيها من السر البديع والبرهان الرفيع" تجد تحقيق كون القرآن شفاء من جميع الأدواء والعلل، "وتأمل قوله عليه(9/370)
وتأمل قوله عليه السلام في بعض أدعيته: "وأن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي، وشفاء صدري" أي فيكون بمنزلة الدواء الذي يستأصل الداء، ويعيد البدن إلى صحته واعتداله.
وفي حديث علي عند ابن ماجه مرفوعًا: "خير الدواء القرآن".
وههنا أمر ينبغي أن يتفطن له، نبه عليه ابن القيم، وهو أن الآيات والأذكار والأدعية التي يستشفى بها، ويرقى بها، هي في نفسها نافعة شافية، ولكن تستدعي قبول المحل، وقوة همة الفاعل وتأثيره، فمتى تخلف الشفاء كان لضعف تأثير الفاعل، أو لعدم قبول المحل المنفعل، أو لمانع قوي فيه يمنع أن ينجع فيه الدواء كما يكون ذلك في الأدوية والأدواء الحسية، فإن عدم تأثيرها لعدم قبول الطبيعة لذلك الدواء، وقد يكون لمانع قوي يمنع من اقتضائه أثره، فإن الطبيعة إذا
__________
السلام في بعض أدعيته، وأن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي وشفاء صدري" يأتي الحديث تامًّا في طبه من داء الهم والكرب، عن مسند أحمد، لكن بلفظ: أن تجعل بلا واو، "أي فيكون" القرآن "بمنزلة الدواء الذي يستأصل الداء ويعيد البدن إلى صحته واعتداله".
"وفي حديث علي" أمير المؤمنين، "عند ابن ماجه مرفوعًا، "خير الدواء القرآن" أي خير الرقية ما كان بشيء من القرآن لأنه دواء القلوب والأرواح والأبدان، وكلام الرحمن الذي فضله كفضل الله تعالى على خلقه، وفيه آيات مخصوصة، تعرفها الخواص لإزالة الأمراض والأعراض، وممن اعتنى بذلك الغزالي وغيره، "وههنا أمر ينبغي أن يتفطن، له نبه عليه ابن القيم، وهو أن الآيات والأذكار والأدعية التي يستشفى" يطلب الشفاء "بها" من الله "ويرقى بها هي في نفسها نافعة شافية، ولكن تستدعي" تتطلب "قبول المحل" يعني المرقي بها "وقوة همة الفاعل وتأثيره" بمزيد صلاحه وتقواه "فمتى تخلف الشفاء، كان لضعف تأثير الفاعل" كسيف قاطع في يد ضعيف أو جبان، "أو لعدم قبول المحل المنفعل" أي الذي من شأنه أن يتأثر بقبول الدواء أو الذي يظهر فيه أثر الدعاء عادة، فلا ينافي قوله لعدم قبول المحل، فالمريض الذي أيس منه، إذا رقي أو دعي له، فتخلفه لعدم قبول المريض، فالفاعل ذلك معتد إذ اللائق بمن رأى علامات الموت ترغيبه في الآخرة والتوبة والرجاء وتحسين الظن بالله ونحو ذلك، "أو لمانع قوي فيه، يمنع أن ينجع فيه الدواء" بالأدوية الإلهية، كتراكم الذنوب، "كما يكون ذلك في الأدوية والأدواء الحسية، فإن عدم تأثيرها لعدم قبول الطبيعة لذلك الدواء" وإن كان في نفسه نافعًا.(9/371)
أخذت الدواء بقبول تام كان انتفاع البدن به بحسب ذلك القبول، وكذلك القلب إذا أخذ الرقى والتعاويذ بقبول تام، وكان الدواء في نفس فعالة، وهمة مؤثرة أثر في إزالة الداء.
وكذلك الدعاء، فإنه من أقوى الأسباب في رفع المكروه، وحصول المطلوب، ولكن قد يتخلف أثره عنه، إما لضعفه في نفسه بأن يكون دعاء لا يحبه الله لما فيه من العدوان، وإما لضعف القلب وعدم إقباله على الله وجمعيته عليه وقت الدعاء، وأما الحصول المانع من الإجابة: من أكل الحرام والظلم، ورين الذنوب على القلوب، واستيلاء الغفلة والسهو واللهو، وقد روى الحاكم حديث:
__________
"وقد يكون نافع قوي يمنع من اقتضائه أثره، فإن الطبيعة إذا أخذت الدواء بقبول تام، كان انتفاع البدن به بحسب ذلك القبول" بخلاف ما إذا لم تقبله، فلا يظهر أثره، بل قد يضرها، "وكذلك القلب إذا أخذ الرقى والتعاويذ بقبول تام، وكان الدواء في نفس فعالة وهمة مؤثرة أثر في إزالة الداء، وكذلك الدعاء، فإنه من أقوى الأسباب في رفع المكروه وحصول المطلوب، ولكنه قد يتخلف أثره عنه إما لضعفه" أي الدعاء "في نفسه بأن يكون دعاء لا يحبه الله لما فيه من العدوان" كما قال تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [الأعراف: 55] أي بالتشدق ورفع الصوت، وقد فسره زيد بن أسلم بالجهر، وأبو مجاز بسؤال منازل الأنبياء، وسعيد بن جبير بالدعاء على المؤمن بالشر.
أخرج ذلك ابن أبي حاتم، وأخرج أحمد وأبو داود وغيرهما، عن سعيد بن أبي وقاص، أنه سمع ابنًا له يدعو ويقول: اللهم إني أسألك الجنة ونعيمها واستبرقها، وأعوذ بك من النار وسلاسلها، وأغلالها، فقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنه سيكون قوم يعتدون في الدعاء"، وقرأ هذه الآية، وإن بحسبك أن تقول: اللهم إني أسألك الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل، وأعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول أو عمل، "وإما لضعف القلب وعدم إقباله على الله وجمعيته عليه وقت الدعاء" بأن يرى أن جميع الأفعال منه، وأنه لا شريك له في شيء منها، حتى لو جرى على يده شفاء أو نحوه، كان ذلك إنما هو بخلق الله لما حصل على يده من الشفاء أو غيره.
"وأما الحصول المانع من الإجابة من أكل الحرام والظلم" كما في حديث: فأنى يستجاب له، "ورين الذنوب على القلوب" أي: الصدأ الحاصل عليها من ارتكاب الذنوب، وأشير إلى ذلك في خبر؛ أن العبد إذا أذنب ذنبًا حصل في قلبه، نكتة سوداء حتى يسود قلبه فذلك السواد الذي يشبه الصدأ هو المعبر عنه بالرين، "واستيلاء الغفلة والسهو واللهو، وقد(9/372)
واعلموا أن الله لا يقبل دعاء من قلب غافل لاه.
ومن أنفع الأدوية الدعاء، وهو عدو البلاء، يدافعه ويعالجه ويمنه نزوله ويرفعه أو يخففه إذا نزل، وهو سلاح المؤمن، وإذا جمع مع الدعاء حضور القلب، والجمعية بالكلية على المطلوب، وصادف وقتًا من أوقات الإجابة، كثلث الليل الأخير، مع الخضوع والانكسار، والذل والتضرع، واستقبال القبلة، والطهارة ورفع اليدين، والبداءة بالحمد والثناء على الله والصلاة والسلام على سيدنا محمد، بعد التوبة والاستغفار والصدقة، وألح في المسألة، وأكثر التعلق والدعاء، والتوسل إليه
__________
روى الحاكم" في الدعاء والذكر من مستدركه، ومن قبله الترمذي في الدعوات، وقال: غريب وضعفه النووي والعراقي والحافظ: "حديث" أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم: ادعو الله وأنتم موقنون بالإجابة، "واعلموا أن الله لا يقبل" وفي رواية، لا يستجيب "دعاء" "بالمد" "من قلب غافل" "بالإضافة ويجوز عدمها وتنوينهما" "لاه" أي: لا يعبأ بسؤال سائل غافل عن الحضور مع مولاه، مشغول بما أهمله من أمر دنياه.
قال الإمام الرازي: أجمعت الأمة على أن الدعاء اللساني الخالي عن الطلب النفساني قليل النفع، عديم الأثر، قال: وهذا الاتفاق غير مختص بمسألة معينة، ولا بحالة مخصوصة، "ومن أنفع الأدوية الدعاء، وهو عدو البلاء، يدافعه ويعالجه، ويمنع نزوله ويرفعه، أو يخففه إذا نزل".
وقد روى أبو الشيخ، عن أبي هريرة مرفوعًا: "الدعاء يرد البلاء" ورواه الديلمي، بلفظ: "يرد القضاء".
وروى الترمذي، عن ابن عمر رفعه: "أن الدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل"، وللطبراني عن عائشة، مرفوعًا: "الدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل، وأن الدعاء والبلاء ليعتلجان إلى يوم القيامة"، وللترمذي، وقال حسن غريب، عن سلمان مرفوعًا: "لا يرد القضاء إلا الدعاء، ولا يزيد في العمر إلا البر"، ولأحمد والطبراني، وصححه ابن حبان والحاكم، عن ثوبان، رفعه: "لا يرد القدر إلا الدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل، فعليكم بالدعاء عباد الله"، "وهو سلاح المؤمن" كما رواه أبو يعلى والحاكم عن علي، مرفوعًا: "الدعاء سلاح المؤمن وعماد الدين ونور السماوات والأرض"، "وإذا جمع مع الدعاء حضور القلب" مع الله، "والجمعية بالكلية على المطلوب، وصادف وقتًا من أوقات الإجابة، كثلث الليل الخير" وساعة يوم الجمعة، وسماع الأذان "مع الخضوع والانكسار والذل والتضرع، واستقبال القبلة، والطهارة، ورفع اليدين والبداءة بالحمد والثناء على الله والصلاة والسلام على سيدنا محمد بعد التوبة" الندم والعزم على(9/373)