نعم الذي يعتقد فيه صلى الله عليه وسلم أنه لم يكن لإبطه رائحة كريهة، بل كان نظيفًا طيب الرائحة، كما ثبت في الصحيح.
وكان عليه الصلاة والسلام يبلغ صوته وسمعه ما لا يبلغه صوت غيره ولا سمعه.
وكان تنام عينه ولا ينام قلبه. رواه البخاري.
وما تثاءب قط. كما رواه ابن أبي شيبة والبخاري في تاريخه من مرسل يزيد ابن الأصم قال: ما تثاءب النبي صلى الله عليه وسلم قط، وأرج الخطابي من طريق مسلمة بن عبد
__________
دلالته على ذلك يقول الحافظ: إن شأن المغابن أن يكون لونها في البياض دون لون بقية الجسد، "نعم الذي يعتقد فيه صلى الله عليه وسلم" وجوبًا، "أنه لم يكن لإبطه رائحة كريهة، بل كان نظيفًا، طيب الرائحة؛ كما ثبت في الصحيح" عن أنس وغيره، وقد روى البزار عن رجل، قال: ضمني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسال علي من عرق إبطيه مثل رائحة المسك، "وكان عليه الصلاة والسلام يبلغ صوته وسمعه ما لا يبلغه صوت غيره ولا سمعه" من الأصوات والأسماع المعتادين، فقد كان يخطب، فتسمعه العواتق في البيوت، ويسمع أطيط السماء؛ كما مر بسط ذلك في شمائله، "وكان تنام عينه ولا ينام قلبه" وكذلك الأنبياء، فهو خصوصية له على الأمم؛ كما مر مبسوطًا، "رواه البخاري" ومسلم، وغيرهما بلفظ: "يا عائشة إن عيني تنامان ولا ينام قلبي"، وأخرجه بلفظ المصنف الحاكم من حديث أنس: "كانت تنام".... إلخ.
وتقدم أيضًا. "وما تثاءب" بالهمز تثاؤبًا، وزان تثاقل تثاقلا، قيل: هي فترة تعتري الشخص، فيفتح عندها فمه وتثاوب بالواو عامي؛ كما في المصباح، وقال غيره: هو التنفس الذي ينفتح منه الفم لدفع البخار المنخفق في عضلات الفك "قط" وكلك الأنبياء، لأن سببه ناشئ عن إبليس، لأنه يدعو إلى الشهوات التي منها الامتلاء من الطعام الذي ينشأ عنه التثاؤب غالبًا، وهم معصومون من ذلك؛ "كما رواه ابن أبي شيبة والبخاري في تاريخه من مرسل يزيد" بباء قبل الزاي، "ابن الأصم" ضد السامع، ونسخة الأعصم بزيادة عين تصحيف من الجهال، واسم الأصم عمرو، وقيل: يزيد بن عمرو بن عبيد العامري، البكائي، بفتح الموحدة، والكاف الثقيلة، ابن أخت ميمونة أم المؤمنين، من الثقات، مات سنة ثلاث ومائة، "قال: ما تثاءب النبي صلى الله عليه وسلم قط" وظاهر هذا اختصاصه، لكن في رواية عن يزيد المذكور عند ابن أبي شيبة أيضًا، بلفظ: "ما تثاءب نبي قط"؛ كما قدمه المؤلف في الصوت الشريف وهذا يعم جميع الأنبياء ونحوه قوله هنا: "وأخرج الخطابي من طريق مسلمة بن عبد الملك" بن مروان الأموي، الأمير، مقبول،(7/198)
الملك، قال: ما تثاءب نبي قط ويؤيده ذلك. أن التثاؤب من الشيطان. رواه البخاري.
وما احتلم قط، وكذلك الأنبياء. ورواه الطبراني. وكان عرقه أطيب من المسك. رواه أبو نعيم وغيره.
وإذا مشى مع الطويل طاله، رواه البيهقي، ولم يقع له ظل على الأرض، ولا رؤي له ظل في شمس ولا قمر.
__________
روى له أبو داود، ولم يلق أحدًا من الصحابة، مات سنة خمس وعشرين ومائة أو بعدها، "قال: ما تثاءب نبي قط" هذا يعم الجميع، فهو من خصائصهم على الأمم.
"ويؤيده ذلك أن التثاؤب من الشيطان" لأنه الحامل على سببه بتزيين الشهوات، "رواه البخاري" ومسلم، عن أبي هريرة مرفوعًا: "التثاؤب من الشيطان، فإذا تثاءب أحدكم فليرده ما استطاع"، "وما احتلم قط" أي: ما رأى من منامه ما يقتضي خروج المني؛ لأنه من الشيطان ولا سبيل له عليك، "وكذلك الأنبياء" هذا هو المراد، إن أطلق الاحتلام لغة على الرؤيا المنامية، لا بهذا القيد، "رواه الطبراني" عن ابن عباس، قال: ما احتلم نبي قط، وإنما الاحتلام من الشيطان؛ كما قدمه في جماعة صلى الله عليه وسلم، "وكان عرقه أطيب من المسك، رواه أبو نعيم وغيره" بلفظ: كان عرقه في وجهه مثل اللؤلؤ، أي: في البياض والصفاء أطيب من المسك الأذفر بالمعجمة، أي: الطيب الريح، ومر بسط هذا في الشمائل.
"وإذا مشى مع الطويل طاله" أي:" زاد عليه في الطول، مع أنه ربعة إكرامًا من الله حتى لا يزيد عليه أحد صورة، كما لا يزيد معنى، فمثل ارتفاعه في عين الناظر يراه رفعة حسية، وهذا من المعجزات.
رواه البيهقي" وغيره عن عائشة، قالت: لم يكن بالطويل البائن، ولا بالقصير المتردد وكان ينسب إلى الربعة إذا مشي وحده، ولم يكن على حال يماشيه أحد من الناس ينسب إلى الطول الإطالة، ولربما اكتنفه الرجلان الطويلان فيطولهما، فإذا فارقاه ينسب إلى الربعة.
وروى عبد الله بن أحم عن علي: كان صلى الله عليه وسلم ليس بالذاهب طولا وفوق الربعة، إذا جامع القوم غمرهم، بفتح المعجمة والميم، أي: زاد عليهم في الطول من غمر الماء إذا علا، ولذا زاد رزين وابن سبع: أنه كان إذا جلس يكون كتفه أعلى من جميع الجالسين، وتوقف بعض فيه؛ بأنه لم يره إلا في كلام رزين، وكلام الناقلين عنه تقصير، فإنه المجامعة شاملة للجلوس والمشي.
"ولم يقع له ظل على الأرض، ولا رؤي له ظل في شمس ولا قمر" رواه الحكيم الترمذي مرسلا، قال ابن سبع: لأنه كان نورًا كله، وقال رزين: لغلبة أنواره، قيل: وحكمته صيانته(7/199)
ويشهد له أنه صلى الله عليه وسلم لما سأل الله تعالى أن يجعل في جميع أعضائه وجهاته نورًا، ختم بقوله: واجعلني نورًا.
وكان صلى الله عليه وسلم لا يقع على ثيابه ذباب قط. نقله الفخر الرازي، ولا يمتص دمه البعوض، كذا نقله الحجازي وغيره، وما آذاه القمل، قاله ابن سبع في "الشفاء" والسبتي في "أعظم الموارد".
ومنها: انقطاع الكهنة عند مبعثه، وحراسة السماء من استراق السمع.
__________
عن أن يطأ كافر ظله، وإطلاق الظل على القمر مجاز؛ لأنه إنما يقال ظلمة القمر ونوره، وروى ابن المبارك وابن الجوزي عن ابن عباس: لم يكن للنبي صلى الله عليه وسلم ظل، ولم يقم مع الشمس قط إلا غلب ضوءه ضوء الشمس، ولم يقم مع سراج قط إلا غلب ضوءه ضوء السراج، وتقدم هذا كله في مشيه صلى الله عليه وسلم. ويشهد له أنه صلى الله عليه وسلم لما سأل الله تعالى أن يجعل في جميع أعضائه وجهاته نورًا، ختم بقوله: "واجعلني نورًا" أي: النور لا ظل له، وبه يتم الاستشهاد، "وكان صلى الله عليه وسلم لا يقع على ثيابه ذباب قط، نقله الفخر الرازي" عن بعضهم، "ولا يمتص دمه البعوض؛ كذا نقله الحجازي وغيره" ونوزع بعدم ثبوته، "وما أذاه القمل" لعدم وجوده فيه، "قاله" أبو ربيع سليمان "بن سبع" بإسكان الموحدة، وقد تضم السبتي "في" كتاب "الشفاء" أي: شفاء الصدور في إعلام نبوة الرسول وخصائصه، ولفظه: لم يكن فيه قمل، لأنه نور، ولأن أصله من العفونة، ولا عفونة فيه، وأكثره من العرق، وعرقه طيب.
"والسبتي" بفتح، فسكون، نسبة إلى سبتة بالمغرب، وجزم الرشاطي؛ بأن سبتة، بالفتح، والذي ينسب إليها السبتي، بالكسر "في" كتابه "أعظم الموارد" وأطيب الموالد، وقدم المصنف في اللباس، أنه يشكل عليه حديث عائشة: كان يفلي ثوبه، ومن لازمه وجود شيء يؤذيه قمل أو برغوث أو نحو ذلك، ويجاب بأن التفلي لاستقذار ما علق بثوبه من غيره، وإن لم يؤذه، وفيه: إن أذاه غذاؤه من البدن، وإذا امتنع الغذاء لم يعش الحيوان غالبًا، انتهى ملخصًا، ومر أن شيخنا دفع بحثه، بأن التفلية لإزالة القذر الحاصل من غيره، لا القمل ونحوه، ولا يلزم أنه حيوان، وبتقديره حيوانًا يجوز أنه فلاه قبل مضي مدة، لا يصبر فيها على عدم الغذاء.
"ومنها: انقطاع الكهنة" بمعنى الكهانة تجوز العلامة التعلق بينهما: فأطلق اسم المتعلق، وأراد به المتعلق، فهو مجاز لغوي، أو هو من مجاز النقص، أي: إخبار الكهنة؛ إذ نفس الكهنة لم ينقطعوا: جمع كاهن، وهو المخبر ببعض المغيبات كتابيًا أو غيره، "عند مبعثه" أي عقبه "وحراسة السماء من استراق السمع" أي: استراق الشياطين لاستماع ما تقوله الملائكة(7/200)
والرمي بالشهب، قال ابن عباس: كانت الشياطين لا يحجبون عن السماوات، وكانوا يدخلونها ويأتون بأخبارها، فيلقون على الكهنة، فلما ولد عيسى عليه السلام منعوا من ثلاث سموات، فلما ولد محمد صلى الله عليه وسلم منعوا من السموات كلها.
__________
فيخبرون به غيرهم، "والرمي" بالجر بباء مقدرة، أي: وحراسة السماء بالرمي "بالشهب"، أي: رمي الملائكة للشياطين عند استراق السمع، قال تعالى: {فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا} الآية، قيل: الأولى تأخير عند مبعثه عن هذا ليتعلق بالثلاثة، وجوابه أنهما عطف علة على معلول والعلة تقارن معلولها، في الزمان، فيفيد أن الثلاثة عند مبعثه، فلا فرق بين تقديمها وتأخيرها، ثم المتبادر من المصنف؛ أنه لم يتخلل زمن بين المبعث والرمي بالشهب، وذكر ابن الجوزي؛ أن قريشًا وبني لهب، بكسر اللام رأت الرمي بالنجوم بعد المبعث بعشرين يومًا، فاجتمعوا إلى كاهن اسمه حظر، أتت عليه مائتان وثمانون سنة، فذكر الخبر مطولا جدًا، وفي آخره أنه من أجل مبعوث عظيم الشأن، يبعث بالتنزيل والقرآن، من نجل هاشم الأكارم، يبعث بالملاحم، وقتل كل ظالم، هذا هو البيان، أخبرني به رئيس الجان أغمي عليه، فما أفاق إلا بعد ثالثة، فقال: لا إله إلا الله، فقال صلى الله عليه وسلم: "لقد نطق عن مثل نبوة، وإنه يبعث يوم القيامة أمة وحده"، وفي سيرة ابن إسحاق: لما تقارب أمره صلى الله عليه وسلم، وحضر مبعثه، حجبت الشياطين عن السمع، وحيل بينها وبين المقاعد التي كانت تسترق فيها، فرموا بالنجوم، فعرف الجن أنه أمر حدث فأول من فزع من ذلك ثقيف، فأتوا عمرو بن أمية بن علاج، وكان أدهى العرب، وأفكرها رأيًا، فقال: إن كانت هي النجوم التي يهتدى بها في البر والبحر، ويعرف بها الأنواء، فهو طي الدنيا وهلاك الخلق، وإن كانت غيرها، وهي ثابتة على حالها، فهو لأمر أراد الله به هذا الخلق.
"قال ابن عباس: كانت الشياطين لا يحجبون عن السماوات، وكانوا يدخلونها ويأتون بأخبارها فيلقون على الكهنة" وفي تفسير ابن عطية: روي في الرمي بالشهب أحاديث صحاح، مضمونها أن الشياطين كانت تصعد إلى السماء، فتقعد لتسمع واحدًا فوق واحد، فيتقدم الأجسر نحو السماء، ثم الذي يليه ثم الذي يليه، فيقضي الله بأمر من أمر الأرض، فيتحدث به أهل السماء، فيسمعه، منهم الشيطان الأدنى، فيلقيه إلى الذي تحته فربما، أحرقه شهاب، وقد ألقى الكلام، وربما لم يحرقه جملة، فتنزل تلك الكلمة إلى الكهان، فيكذبون معها مائة كذبة، فتصدق تلك الكلمة، فيصدق الجاهلون الجميع، "فلما ولد عيسى عليه السلام منعوا من ثلاث" كأن حكمة تخصيصه دون باقي الأنبياء على ظاهره تعظيم المصطفى لقرب زمنه؛ كما قال: "أنا أولى الناس بعيسى ليس بيني وبينه نبي"، "فلما ولد محمد صلى الله عليه وسلم منعوا من السماوات كلها" وما وقع عند الزبير بن بكار، أن إبليس كان يخترق السماوات ويصل إلى أربع، فلما ولد المصطفى،(7/201)
فما منهم أحد يريد استراق السمع إلا رمي بشهاب، وهو الشعلة من النار، فلا يخطئ أبدًا، فمنهم من يقتله، ومنهم من يحرق وجهه، ومنهم من يخبله فيصير غولا يضل الناس في البراري، وهذا لم يكن ظاهرًا قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يذكره أحد قبل زمانه، وإنما ظهر في بدئ أمره، وكان ذلك أساسًا لنبوته.
__________
حجب من السبع، محمول على ما بعد ولادة عيسى، بدليل تفصيل ابن عباس المذكور، "فما منهم أحد يريد استراق السمع إلا رمي بشهاب، وهو الشعلة من النار" التي تشبه النجم المنقض، وبهذا جزم البيضاوي، ويأتي أنهم كانوا يرمون بنفس النجوم، "فلا يخطئ أبدًا" من حيث الإصابة، وإن كان قد يتخلف الإحراق، كما بينه بقوله: "فمنهم من يقتله" فيموت حريقًا، "ومنهم من يحرق وجهه" ولا يموت، "ومنهم من يخبله" بضم التحتية، وفتح الخاء المعجمة، وشد الباء أبلغ من فتح الياء، وسكون الخاء، وكسر الباء، أي: يفسد عقله أو عضوه، "فيصير غولا" أي: شيطانًا "يضل الناس في البراري" وفي الحديث: "إذا تغولت لكم الغيلان، فنادوا بالأذان".
وفي البغوي: فاتبعه شهاب ثاقب، كوكب مضيء لا يخطئه فيقتله أو يحرقه أو يخبله، وإنما يعودون إلى استراق السمع، مع علمهم أنهم لا يصلون إليه طمعًا في السلامة، ونيل المراد، كراكب البحر، قال عطاء: سمي النجم الذي يرمى به ثاقبًا؛ لأنه يثقبهم.
وفي البيضاوي: والشهاب ما يرمى به؛ كأنه كوكب انقض، وما قيل أنه بخار يصعد إلى الجو فيشتغل، فتخمين إن صح لم يناف ذلك، إذ ليس فيه ما يدل على أنه ينقض من الفلك، ولا ينافي قوله: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ} الآية، فإن كل نير يحصل في الجو العالي، فهو مصباح لأهل الأرض، وزينة للسماء من حيث إنه يرى كأنه على سطحه، ولا يبعد أن يصير الحادث بما ذكر في بعض الأوقات رجمًا للشياطين، يتصعد إلى قرب الفلك للسمع، وما روي أن ذلكم حدث بميلاد النبي صلى الله عليه وسلم إن صح، فلعل المراد كثرة وقوعه أو مصيره دحورًا، واختلف في أن المرجوم يتأذى به فيرجع أو يحرق به، لكن قد يصيب الصاعد مرة وقد لا يصيب كالموج لراكب السفينة ولذلك لا يرتدعون عنه رأسًا، ولا يقال: إن الشيطان من النار لا يحترق لأنه ليس من النار الصرف، كما أن الإنسان ليس من التراب الخالص، مع أن النار القوية إذا استولت على الضعيفة استهلكتها، انتهى، ولعل قوله: قد يصيب وقد لا، معناه: قد يحترق وقد لا، فلا خلف، "وهذا" أي: الرمي بالشهب "لم يكن ظاهرًا قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يذكره أحد قبل زمانه، وإنما ظهر في بدء أمره، وكان ذلك أساسًا لنبوته" وفيه إفادة أنه كان موجودًا، لكنه قليل بالنسبة لزمنه، فلا يخالف قوله: "وقال معمر" بن(7/202)
وقال معمر قلت للزهري: أكان يرمى بالنجوم في الجاهلية؟ قال: نعم.
قلت: أفرأيت قوله: يقال {وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ} [الجن: 9] الآية، قال: غلظت وشدد أمرها حين بعث محمد صلى الله عليه وسلم.
وقال ابن قتيبة: إن الرجم كان قبل مبعثه، ولكن لم يكن في شدة الحراسة بعد مبعثه، وقيل: إن النجم كان ينقض ويرمي الشياطين ثم يعود إلى مكانه. ذكره البغوي.
ومنها أنه أتي بالبراق.
__________
راشد: "قلت للزهري" محمد بن مسلم بن شهاب: "أكان يرمى بالنجوم في الجاهلية؟ " أي: ما قبل البعثة، "قال: نعم، قلت: أفرأيت قوله تعالى: {وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ} [الجن: 9] الآية، فإن ظاهرها؛ أنه لم يكن يرمي بها في الجاهلية، "قال: غلظت، وشدد أمرها حين بعث محمد صلى الله عليه وسلم" وقد روى ابن إسحاق، عن ابن عباس، عن نفر من الأنصار: أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال لهم: "ما كنتم تقولون في هذا الذي يرمي به"؟، قالوا: يا نبي الله! كنا نقول مات ملك ملك ملك، ولد مولود مات، فقال صلى الله عليه وسلم: "ليس ذلك، ولكن الله تبارك وتعالى كان إذا قضى في خلقه أمرًا، سمعه حملة العرش، فسبحوا، فسبح من تحتهم لتسبيحهم، فسبح من تحت ذلك، ولا يزال التسبيح يبسط حتى ينتهي إلى السماء الدنيا، فيسبحوا، ثم يقول بعضهم لبعض: ممن سبحتم؟، فيقولون: سبح من فوقنا، فسبحنا بتسبيحهم، فيقولون: ألا تسألون من فوقكم مم سبحوا، فيقولون مثل ذلك حتى ينتهوا إلى حملة العرش، فيقال لهم: مم سبحتم؟ فيقولون: قضى الله في خلقه كذا وكا للأمر الذي كان، فيهبط الخبر من سماء إلى سماء، حتى ينتهي إلى السماء الدنيا، فيتحدثوا به، فيسترقه الشياطين بالسمع على توهم واختلاف، ثم يأتوا به الكهان من أهل الأرض فيحدثونهم فيخطئون ويصيبون فيتحدث به الكهان فيصيبون بعضًا، ويخطئون بعضًا، ثم إن الله حجب الشياطين بهذه النجوم التي يقذفون بها، فانقضت الكهانة اليوم فلا كهانة".
"وقال ابن قتيبة: "إن الرجم كان قبل مبعثه، ولكن لم يكن في شدة الحراسة" كالشدة الكائنة "بعد مبعثه، وقيل: إن النجم كان ينقض ويرمي الشياطين، ثم يعود إلى مكانه" من السماء "ذكره البغوي" في تفسيره، وقضية هذا كله منعهم من الاستراق رأسًا؛ لكن قال السهيلي: إنه بقي من استراق السمع بقايا يسيرة، بدليل وجودهم على الندور في بعض الأزمنة وبعض البلاد، انتهى.
"ومنها: أنه أتي بالبراق" بضم الموحدة، وخفة الراء: دابة فوق الحمار ودون البغل من(7/203)
ليلة الإسراء مسرجًا ملجمًا، وقيل وكانت الأنبياء إنما تركبه عريانًا.
ومنها أنه أسري به صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى وعرج به من المحل الأعلى، وأراه من آياته الكبرى، وحفظه في المعراج حتى ما زاغ البصر وما طغى، وأحضر الأنبياء له وصلى بهم وبالملائكة إمامًا. وأطلعه على الجنة والنار. وعزيت هذه للبيهقي.
ومنها: أنه رأى الله تعالى بعينيه، كما يأتي في مقصد الإسراء إن شاء الله تعالى، وجمع الله له بين الكلام والرؤية، وكلمة الله تعالى في الرفيع الأعلى، وكلم موسى بالجبل.
__________
البرق لسرعة سيره؛ لأنه يضع حافره عند منتهى طرفه، أو لشدة صفائه، لأنه أبيض، أو لأنه ذو لونين بياض وسواد، "ليلة الإسراء مسرجًا ملجمًا، قيل: وكانت الأنبياء إنما تركبه عريانًا" فيه تجوز؛ لأنه إنما يقال في الآدمي وفي غيره عرى، بضم فسكون.
"ومنها: أنه أسرى به صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام" راكبًا على البراق، وحوله جبريل وغيره "إلى المسجد الأقصى" فربط البراق بالحلقة التي يربط بها الأنبياء، ثم دخل المسجد وصلى فيه ركعتين، "وعرج به من المحل الأعلى" الأقرب علوًا من الأرض إلى السماء، "وأراه من آياته الكبرى، وحفظه في المعراج حتى ما زاغ" مال "البصر وما طغى" ما تجاوز إلى رؤية ما لم يرد منه، بل جمع همته في توجهه إلى الحق بكليته، فما التفت إلى ما سواه، "وأحضر الأنبياء، له وصلى بهم وبالملائكة" في بيت المقدس، وفي السماوات "إمامًا" ليعلم أنه إمام الكل في الدنيا، والأخرى، "وأطلعه على الجنة والنار" يقظة ليلة الإسراء ليحصل على الإنس بأهوال يوم القيامة، وليتفرع فيه للشفاعة، ويقول: "أنا لها أنا لها وأمتي أمتي" حيث يقول غيره: نفسي نفسي، "وعزيت هذه" أي: اطلاعه عليهما "للبيهقي" ولفظ لأنموذج: عد هذه البيهقي، أي: من خصائصه.
"ومنها: أنه رأى الله تعالى بعينيه" يقظة على الراجح؛ "كما يأتي في مقصد الإسراء إن شاء الله تعالى، وجمع له بين الكلام والرؤية، وكلمه الله تعالى في الرفيع" بالفاء، أي: المكان "الأعلى" على سائر الأمكنة تشريفًا، له، لا لأنه تعالى في مكان يوصف بقرب أو بعد، "وكلم موسى بالجبل"، وذاك أشرف منه للفرق بين من رفعه الملك إلى محل شريف ليخاطبه فيه، وبين من خاطبه في محل يساويه فيه غيره، وقد روى ابن عساكر في حديث المعراج مرفوعًا: "هبط جبريل، فقال: إن ربك يقول: لقد وطئت في السماء موطئًا لم يطأه أحد قبلك ولا يطؤه أحد بعدك".(7/204)
ومنها أن الملائكة تسير معه حيث سار يمشون خلف ظهره وقاتلت الملائكة معه -كما مر- في غزوة بدر وحنين.
ومنها: أنه يجب علينا أن نصلي ونسلم عليه، لآية: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} [الأحزاب: 56] .
__________
وعنده أيضًا عن أنس مرفوعًا: "لما أسري بي قربني ربي حتى كان بيني وبينه قاب قوسين أو أدنى" وما أجمع قول الأنموذج، وبالإسراء وما تضمنه من اختراق السماوات السبع، والعلو إلى قاب قوسين، ووطئه مكانًا ما وطئه نبي مرسل، ولا ملك مقرب، وإحياء الإنبياء له، وصلاته إمامًا بهم وبالملائكة، وإطلاعه على الجنة والنار، عد هذه البيهقي، ورؤيته آيات ربه الكبرى، وحفظه حتى ما زاغ البصر وما طغى، ورؤيته للباري تعالى مرتين، وبركوب البراق في أحد القولين، انتهى.
"ومنها: أن الملائكة تسير معه حيث سار، يمشون خلف ظهره" قال أبو نعيم: ليكونوا حرسًا له من أعدائه، ولا ينافيه: والله يعصمك من الناس؛ لأن هذا إن كان قبل نزول الآية، فطاهر، وإلا فمن عصمة الله له أن يوكل به جنده من الملأ الأعلى تشريفًا له، وقد روى ابن سعد عن جابر: خرج صلى الله عليه وسلم، وقال لأصحابه: "امشوا أمامي وخلوا ظهري للملائكة" أي: فرغوه لهم ليمشوا خلفي، وهذا كالتعليل لومر بالمشي للملائكة، وقيل: إنما كان يمشي خلف أصحاه، ليختبر حالهم، وينظر إليهم حال تصرفهم في معاشهم، ويربي من يحتاج إلى التربية، وهذا شأن الراعي مع الرعية.
قال النووي: وإنما تقدمهم في قصة جابر: لأن دعاهم إليه فجاؤوا تبعًا، كصاحب الطعام إذا دعا طائفة يمشي أمامهم، وقدمت هذا في مشيه، "وقاتلت الملائكة معه" ولم يكونوا مع غيره إلا مددًا، "كما مر في غزوة بدر" قتالهم عن جميع الجيش، "وحنين" على ما جزم به ابن القيم، نقله عنه المصنف في غزوتها عملا بظواهر أحاديث مرت، والجمهور على أنها لم تقاتل يوم حنين؛ كما قدمه المصنف في بدر، لأن الله قال: {وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا} الآية، ولا دلالة فيه على قتال، نعم في الصحيحين: أن ملكين قاتلا عن النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد كأشد القتال، والمعروف من قتال الملائكة، كما قال ابن كثير: إنما هو يوم بدر، وكانوا فيما عداها عددًا ومددًا، ولا يرد هذا الحديث، لأنه عن المصطفى خاصة، لا عن عموم الجيش كبدر.
"ومنها: أنه يجب علينا أن نصلي ونسلم عليه" في الجملة اتفاقًا، فمرة في العمر عند المالكية، وفي التشهد الأخير عند الشافعية، وكلما ذكر عند جمع من المذاهب الأربع؛ "الآية" {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}(7/205)
ولم ينقل أن الأمم المتقدمة كان يجب عليهم أن يصلوا على أنبيائهم.
ومنها: أنه أوتي الكتاب العزيز، وهو أمي لا يقرأ ولا يكتب، ولا اشتغل بمدارسة.
ومنها: حفظ كتابه هذا من التبديل والتحريف.
__________
الآية، "ولم ينقل أن الأمم المتقدمة كان يجب عليهم أن يصلوا على أنبيائهم" قال في الأنموذج: ومن خواصه أنه ليس في القرآن، ولا غيره صلاة من الله على غيره، فهي خصيصية اختصه الله بها دون سائر الأنبياء.
"ومنها: أنه أوتي الكتاب العزيز" الغالب على كل كتاب بمعانيه وإعجازه، ونسخة أحكامها أو الذي لا نظير له، أو الممتنع مضاهاته لإعجازه أو من التغيير والتحريف لحفظ الله له، "وهو أمي، لا يقرأ، ولا يكتب، ولا اشتغل بمدارسة" ومن يقرأ ويكتب لتكون الحجة أثبت والشبهة أدحض، وهذا أعلى درجات الفضل له حيث كان كذلك، وأتى بالعلوم الجمة، والحكم المتوافرة، وأخبار القرون الماضية بلا تعلم خط ولا استفادة من كتاب بخلاف غيره؛ كما قدم المصنف بسط ذلك.
وروى ابن أبي حاتم عن عبادة رفعه: "أن جبريل أتاني، فقال: اخرج فحدث بنعمة الله التي أنعم الله عليك" الحديث، وفيه: "لقنني كلامه وأنا أمي"، وفي رواية: "وأتاني كتابه وأنا أمي".
"ومنها: حفظ كتابه هذا من التبديل والتحريف" على ممر الدهور، بخلاف غيره من الكتب؛ فإن بعضها بدل، وحرف للبيهقي عن الحسن في تفسير قوله تعالى: {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ} الآية، {عَلَى مُكْثٍ} ، قال حفظه الله: فلا يزيد أحد فيه باطلا، ولا ينقص منه حقًا، وكأنه أخذ هذا التفسير من لازم الآية، وللبيهقي أيضًا عن يحيى بن أكثم دخل يهودي على المأمون، فأحسن الكلام، فدعاه إلى الإسلام، فأبى، ثم بعد سنة جاء مسلمًا، فتكلم على الفقه، فأحسن الكلام، فسأله المأمون ما سبب إسلامه، قال: انصرفت من عندك، فامتحنت هذه الأديان فعمدت إلى التوراة، فكتبت ثلاث نسخ، فزدت فيها ونقصت، وأدخلتها البيعة، فاشتريت مني، وعمدت إلى القرآن، فكتبت ثلاث نسخ، فزدت فيها ونقصت، وأدخلتها الوراقين، فتصفحوها، فوجدوا فيها الزيادة والنقصان، فرموا بها فلم يشتروها، فعلمت أن هذا الكتاب محفوظ، فكان هذا سبب إسلامي.
قال يحيى: فحججت تلك السنة، فلقيت سفيان بن عيينة، فذكرت له هذا، فقال: مصداقه في الكتاب، قلت: في أي موضع؟، قال: في قوله في التوراة والإنجيل: بما استحفظوا من كتاب(7/206)
حتى سعى كثير من الملحدة والمعطلة، سيما القرامطة في تغييره وتبديل محكمه، فما قدروا على إطفاء.
__________
الله، فجعل حفظه إليهم، وقال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} الآية، فحفظه الله تعالى فلم يضع، "حتى سعى كثير من الملحدة" من الإلحاد، وهو الميل، سموا بذلك لعدولهم عن ظواهر الشريعة وتأويلها بأمور سخيفة، ويسمون باطنية، وهم الإسماعيلية المنسوبون إلى إمامة إسماعيل بن جعفر الصادق، وغرضهم إبطال الشرع؛ لأنهم في الأصل يهود ومجوس، "والمعطلة" الذين نفوا الصانع، وتستروا بزي الإسلام خوفًا من القتل، وسعوا في نقض الدين وتزيين ما يروج على بعض العقول القاصرة، "سيما القرامطة" طائفة من الملحدين.
قال السمعاني في الأنساب: القرمطي، بكسر القاف، وسكون الراء، وكسر الميم والمهملة، نسبة إلى طائفة خبيثة من أهل هجر ولحيان، وأصلهم رجل من سواد الكوفة، يقال له: قرمط، وقيل: حمدان بن قرمط، وسبب ظهورهم؛ أن جماعة من أولاد بهرام جور ذكروا آباءهم وجددوهم وما كانوا فيه من العز والملك وزوال ذلك بالإسلام، فاتفقوا على رفعه، وقالوا: نفرقهم ونفسد الرعايا عليهم، فقسموا الدنيا أربعة أقسام لكل ربعها، فذهب واحد إلى الكوفة، فأول من أجابه حمدان بن قرمط، فأعانه على الدعوة، وقيل: سموا قرامطة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم رأى عامرًا يمشي، وهو من أهل المدينة فقال: "إنه ليقرمط في مشيه"، انتهى، أي: يقارب خطاه، ومنه الخط المقرمط، وعلى هذا فهو عربي، وقيل: معرب؛ وإن جدهم كان يمشي كرمد، بالكاف العجمية، ومعناه بالفارسية السفلة، فغيروه وعربوه قرمط، وكان أحمر البشرة والعينين، وكان ظهوره سنة ثمان وسبعين ومائتين، فأظهر زهدًا وصلاحًا حتى اجتمع عليه خلق كثير، فزعم أن النبي صلى الله عليه وسلم بشر به؛ وأنه الإمام المنتظر، وابتدع مقالات في كتاب، وقال: إنه الكلمة والمهدي، وزعم أنه انتقل إليه كلمة المسيح وجعل الصلاة ركعتين بعد الصبح، ركعتين بعد المغرب، والصوم يومين بالنيروز والمهرجان، وجعل القبلة إلى بيت المقدس، فكانت لهم وقائع وحروب، ودعاة وخلفاء، مذكورة في التواريخ حتى ظهر منهم سليمان بن الحسن الجبائي، فعاث في البلاد وأفسد، وقصد مكة، فدخلها يوم التروية سنة سبع عشرة وثلاثمائة في خلافة المقتدر، فقتل الحجاج، ورماهم بزمزم، وقلع باب الكعبة، وأخذ كسوتها، وأخذ الحجر الأسود، فبقي عندهم اثنتين وعشرين سنة، فبذل لهم خمسون ألف دينار ليردوه، فأبوا، ثم ردوه مكسورًا فوضع في مكانه وتغلبوا على مصر والشام حتى قاتلهم جوهر، القائد فهزمهم وقتل منهم خلقًا كثيرًا، وكانت مدة خروجهم ستًا وثمانين سنة، حتى أهلكهم الله وأبادهم، وكانوا يحرفون القرآن ويتأولونه بتأويلات فاسدة لا تقبلها العقول، "في تغييره وتبديل محكمه، فما قدروا" في هذه المدة الطويلة "على إطفاء شيء من نوره" تمثيل لحالهم في سعيهم(7/207)
شيء من نوره، ولا تغيير كلمة من كلمه، ولا تشكيك المسلمين في حرف من حروفه، قال تعالى: {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ} [فصلت: 42] الآية.
وكتابه يشتمل على ما اشتملت عليه جميع الكتب، جامعًا لأخبار القرون السالفة والأمم البائدة، والشرائع الدائرة، مما كان لا يعلم منه القصة الواحدة إلا الفذ من أحبار أهل الكتاب، الذي قطع عمره في تعلم ذلك.
__________
في تحريف القرآن بمن أراد إطفاء نور عظيم منتشر في الآفاق، "ولا تغيير كلمة من كلمه" تفسير لما قبله بجعل كلام الله نورًا، "ولا تشكيك المسلمين في حرف من حروفه" فضلا عن كلمة فهو ترق "قال تعالى: {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ} أي يتطرق إليه "من بين يديه ولا من خلفه" أي: من جهة الجهات "الآية، وكتابه يشتمل على ما اشتملت عليه جميع الكتب" الإلهية وزيادة، روى البيهقي عن الحسن: أنزل الله مائة كتاب وأربعة كتب، أودع علومها أربعة كتب: التوراة، والإنجيل، والزبور والفرقان، وأودع علوم التوراة، والإنجيل، والزبور في الفرقان، "جامعًا" كل شيء، قال تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَْءٍ} [النحل: 89] الآية.
روى ابن جرير وغيره عن ابن مسعود: من أراد العلم فعليه بالقرآن فإن فيه خير الأولين والآخرين، وأنزل فيه كل علم، وبين لنا فيه كل شيء، لكن علمنا يقصر عما بين فيه، كجمعه لأخبار القرون السالفة" أي الماضية "والأمم البائدة" الذاهبة المنقطعة؛ كما في القاموس، فهو مساوٍ لما قبله وما بعده، أو الهالكة على ما في المصباح، فهو مباين لما قبله مفهومًا، وإن اتحدا ما صدقا، "والشرائع الدائرة" بمهملة، ومثلثة من دثر إذا ذهب ولم يبق له أثر، وفي تعبيره نوع من البلاغة يسمى التفنن، لأن الثلاثة متغايرة اللفظ، متقاربة المعاني، وهذا لفظ الشفاء في الوجه الرابع من إعجاز القرآن، ثم المراد التي دثرت وذهبت أهاليها، إذ الأحكام باقية لم تدثر، فهو مجاز، وإليه يشير قوله: "مما كان لا يعلم منه القصة الواحدة إلا الفذ" الفرد الواحد "من أحبار" علماء "أهل الكتاب الذي قطع عمره في تعلم ذلك" فيورده النبي صلى الله عليه وسلم على وجهه، ويأتي به على نعته، فيعترف العالم بذلك بصحته وصدقه؛ وأن مثله لم ينله بتعليم، قال عياض؛ وذلك لكبر كتبهم وعدم تقييد الأخبار بجملتها حتى قبل التوراة ستون سفرًا متفرقة بين أحبارهم بيد كل واحد سفر، فإذا وقعت حادثة وسئلوا عنها، قالوا: هذا في سفر فلان، وقال بعضهم: القرآن جامع لنبأ الأولين والآخرين، فعلم الأمم الماضية علم خاص وعلم هذه الأمة علم عام، وعلم أهل الكتاب قليل، وما أوتيتم من العلم إلا قليلا، وقرأ ابن عباس: وما أوتوا، وعلم هذه الأمة كثير، ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرًا كثيرًا، أنزل إليك الكتاب والحكمة، الكتاب(7/208)
ويسر حفظه لمتعلميه، وقربه على متحفيه، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ} [القمر: 17] ، وسائر الأمم لا يحفظ كتبها الواحد منهم، فكيف بالجم الغفير على مرور السنين الكثيرة عليهم، والقرآن ميسر حفظه للغلمان في أقرب مدة.
ومنها: أنه أنزل على سبعة أحرف تسهيلا علينا، وتيسيرًا وشرفًا ورحمة وخصوصية لفضلنا.
__________
القرآن، والحكمة فهمه، "ويسر" سهل "حفظه لمتعلميه" عن ظهر قلب، "وقربه" سهل فهمه "على متحفيه" أي: الذين أتحفوا به، أي: سروا بحفظه: وفي نسخة: على متحفظيه، أي: قرب تحصيله على المتحفظ، أي: المتمسك به، الخائف ذهابه منه، إذ نسيانه كبيرة، ولا يرد أنه مرفوع عن الأمة، لأن الذنب في التفريط في محفوظه بتعاهده ودرسه.
قال القرطبي: من حفظ القرآن أو بعضه، فقد علت رتبته، فإذا أخل بهاتيك الرتبة حتى تزحزح عنها، ناسب أن يعاقب، فإن ترك تعاهده يفضي إلى الجهل والرجوع إلى الجهل بعد العلم شديد؛ "كما قال تعالى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا} سهلنا أو هيأنًا {الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ} [القمر: 17] الآية" للأذكار والاتعاظ؛ بأن صرفنا فيه أنواع المواعظ والعبر، أو للحفظ بالاختصار وعذوبة اللفظ، {فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} متعظ، "وسائر" أي: باقي "الأمم" غير هذه الأمة" لا يحفظ كتبها الواحد منهم" وإذا كان كذلك "فكيف" يتوهم "بالجم الغفير حفظه "على مرور السنين الكثيرة عليهم" وطول أعمالهم، فهو استفهام فيه تعجيب ممن يتوهم أن غير هذه الأمة شاركها في حفظ كتبهم، "والقرآن ميسر حفظه للغلمان في أقرب مدة" فغالبه يحفظه قبل البلوغ أو كثير منهم، وهو من أعظم النعم.
روى البخاري في تاريخه والبيهقي مرفوعًا: "من أعطاه الله تعالى حفظ كتابه، فظن أن أحدًا أعطي أفضل مما أعطي فقط غلط" وفي رواية: "صغر أعظم النعم، لأن قد أوتي النعمة العظمى التي كل نعمة، وإن عظمت فهي بالنسبة إليها حقيرة، فإذا رأى أن غيره ممن لم يعظ ذلك أوتي أفضل مما أوتي فقد صغر عظيمًا" ومن خواصه أنه نزل منجمًا، وأنه مستغن عن غيره؛ وأنه نزل من سبعة أبواب.
"ومنها: أنه أنزل على سبعة أحرف" كما في الصحيحين وغيرهما، واختلف في معناه على نحو أربعين قولا، بسطها في الإتقان، أشار المصنف إلى قول منها، فقال: وإنما نزل كذلك "تسهيلا علينا، وتيسيرًا، وشرفًا، ورحمة وخصوصية لفضلنا" فليس المراد حقيقة العدد، بل المراد ما ذكر، لأن سبعة يطلق على إرادة الكثرة في الآحاد، كما يطلق السبعون في(7/209)
ومنها: كونه آية باقية لا تعدم ما بقيت الدنيا.
ومنها: أنه تعالى تكفل بحفظه، فقال تعالى:
{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] .
__________
العشرات والسبعمائة في المئين، ولإيراد العدد المعين إلى هذا جنح عياض ومن تبعه، ويرده حديث ابن عباس في الصحيحين مرفوعًا: "أقرأني جبريل على حرف، فراجعته، فلم أزل أستزيده ويزيدني حتى انتهى إلى سبعة أحرف".
وفي حديث أبي عند مسلم: "إن ربي أرسل إلي أن أقرأ القرآن على حرف، فرددت عليه أن هون على أمتي، فأرسل إليّ أن أقرأه على سبعة أحرف".
وفي لفظ عند النسائي: "أن جبريل وميكائيل أتياني، فقعد جبريل على يميني وميكائيل على يساري، فقال جبريل: اقرأ القرآن على حرف، فقال ميكائيل: استزده حتى بلغ سبعة أحرف".
وفي حديث أبي بكر عند أحمد: "فنظرت إلى ميكائيل، فسكت، فعلمت أنه قد انتهت العدة" فهذا يدل على إرادة حقيقة العدد وانحصاره، وأقرب الأقوال قولان، أحدهما: أن المراد سبع لغات، وعليه أبو عبيدة، وثعلب، والزهري، وآخرون، وصححه ابن عطية، والبيهقي، وتعقب بأن لغات العرب أكثر من سبعة، وأجيب بأن المراد أفصحها، والثاني: أن المراد سبعة أوجه من المعاني المتفقة بألفاظ مختلفة، نحو: أقبل وتعال، وهلم، وعجل، وأسرع، وعليه سفيان بن عيينة، وابن وهب، وخلائق، ونسبة ابن عبد البر لأكثر العلماء.
قال السيوطي: والمختار أن هذا من المتشابه الذي لا يدري معناه، كمتشابه القرآن والحديث، وعليه ابن سعدان النحوي، لأن الحرف يصدق لغة على الهجاء، وعلى الكلمة وعلى المعنى، وعلى الجهة.
وفي فتح الباري قال أبو شامة: ظن قوم أن القراءات سبع، الموجودة الآن هي التي أريدت في الحديث، وهو خلاف إجماع أهل العلم قاطبة، وإنما يظن ذلك بعض أهل الجهل، وقال مكي بن أبي طالب: من ظن أن قراءة هؤلاء القراء، كعاصم ونافع هي الأحرف السبعة التي في الحديث، فقط غلط غلطًا عظيمًا، ويلزم من هذا، أن ما خرج عن قراءة هؤلاء السبعة مما ثبت عن الأئمة وغيرهم، ووافق خط المصحف؛ أن لا يكون قرآنًا وهذا غلط عظيم، انتهى.
"ومنها: كونه آية باقية لا تعدم" بفتح، فسكون، أي: لا تزول "ما بقيت الدنيا" مدة بقائها إلى قرب قيام الساعة فيرفع، كما في الأحاديث.
"ومنها: أنه تعالى تكفل بحفظه" دون غيره، فوكل حفظه إليهم، "فقال تعالى: {إِنَّا(7/210)
أي: من التحريف والزيادة والنقصان، ونظيره قوله تعالى في صفة القرآن: {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ} ، وقوله: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82] .
فإن قلت: هذه الآية تنفي الاختلاف فيه، وحديث "أنزل القرآن على سبعة أحرف" المروي في البخاري وغيره عن عمر، يثبته، فأجاب الجعبري في أول شرحه للشاطبية: بأن المثبت اختلاف تغاير، والمنفي ختلاف تناقض، فموردهما مختلف، انتهى.
فإن قلت: فلم اشتغلت الصحابة بجمع القرآن في المصحف.
__________
نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ} أي: القرآن {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} الآية، أي: من التحريف والزيادة والنقصان" فلم يقع فيه شيء منها، "ونظيره قوله تعالى في صفة القرآن" " {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ} {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ} الآية" أي: ليس قبله كتاب يكذبه ولا بعده، "وقوله: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} ، {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} الآية، تناقضًا في معانيه وتباينًا في نظمه، "فإن قلت: هذه الآية تنفي الاختلاف فيه، وحديث: "أنزل القرآن على سبعة أحرف"، المروي في البخاري وغيره" كمسلم وأحمد، "عن عمر" وهو متواتر، رواه أحد وعشرون صحابيًا، ونص على تواتره أبو عبيد، وأخرج أبو يعلى أن عثمان قال على المنبر: اذكر الله رجلا سمع النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن القرآن أنزل على سبعة أحرف، كلها شاف كاف"، فقاموا حتى لم يحصوا، فشهدوا بذلك، فقال: وأنا أشهد معهم، "يثبته" أي: الاختلاف، فهذا تناقض، قلت: "أجاب الجعبري" نسبة إلى جعبر، بموحدة، بوزن، جعفر، قلعة على الفرات، "في أول شرحه للشاطبية؛ بأن المثبت اختلاف تغاير، والمنفي اختلاف تناقض" بأن يكون مفهوم أحد المحلين إيجابًا، والآخر سلبًا لذلك الإيجاب، وهذا لا يقع منه شيء في القرآن، "فموردهما مختلف، انتهى" ولا يرد عليه أن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم قرئ برفع عباد ونصبه، فبينما تناف، إذ في الرفع إثبات أنها عباد مملوكون، مسخرون، مقهورون، والنصب نفي كونهم عبيدًا؛ لأن المراد النفي بقيد الصفة، أي: ليسوا مماثلين لكم في العقل والإدراك، بل هي أجسام تنحتونها بأيديكم، "فإن قلت: فلم اشتغلت الصحابة بجمع القرآن في المصحف" وكان ابتدءا ذلك على يد أبي بكر بمشورة عمر، فقيض لذلك زيد بن ثابت؛ كما رواه البخاري مطولا، وروى ابن أبي داود بإسناد حسن عن علي: أعظم الناس في المصاحف أجرًا أبو بكر، هو أول من جمع كتاب الله،(7/211)
وقد وعد الله تعالى بحفظه، وما حفظه الله تعالى فلا خوف عليه.
فالجواب: كما قال الرازي -إن جمعهم للقرآن كان من أسباب حفظ الله تعالى إياه، فإنه تعالى لما أراد حفظه قيضهم لذلك، قال: وقال أصحابنا: وفي هذه الآية دلالة قوية على أن البسملة آية من كل سورة، لأن الله قد وعد بحفظ القرآن، والحفظ لا معنى له إلا أن يبقى مصونًا عن التغيير، وإلا لما كان محفوظًا عن الزيادة، ولو جاز أن يظن بالصحابة أنهم زادوا لوجب أيضًا أن يظن بهم النقصان. وذلك يوجب الخروج عن كونه حجة.
__________
لكن عنده أيضًا عن علي: لما مات صلى الله عليه وسلم آليت لا آخذ ردائي إلا لصلاة جمعة حتى أجمع القرآن، فجمعه، قال الحافظ: وهذا الأثر ضعيف لانقطاعه وبتقدير صحته، فمراده بجمعه حفظه في صدره، ونازعه السيوطي، بأن له طريقًا آخر عند ابن الضريس، وثالثًا عند ابن أمية، وفيه: أن عليًا كتب في مصحفه الناسخ والمنسوخ، وابن سيرين، قال: تطلبته وكتب فيه إلى المدينة فلم أقف عليه، فكان ما جمع في عهد أبي بكر عنده حياته، ثم عند عمر، ثم حفصة بنته حتى قدم حذيفة على عثمان، فقال: أدرك الأمة قبل أن يختلفوا اختلاف اليهود والنصارى، فأرسل إلى حفصة أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها، ثم نردها إليك، فأرسلتها، فأمر جماعة من الصحابة، فنسخوها في المصاحف، ثم ردها إلى حفصة، وأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا، وأمر بما سواه في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق؛ كما في البخاري.
"وقد وعد الله تعالى بحفظه، وما حفظه الله تعالى فلا خوف عليه" وكيف قال حذيفة ما ذكروا ووافقه عثمان، "فالجواب كما قال الرازي" الإمام فخر الدين: "إن جمعهم للقرآن كان من أسباب حفظ الله تعالى إياه، فإنه تعالى لما أراد حفظه قيضهم" سببهم "لذلك" ويسره لهم.
"قال: وقال أصحابنا" الشافعية: "وفي هذه الآية دلالة قوية على أن البسملة آية من كل سورة؛ لأن الله قد وعد بحفظ القرآن" ولن يخلف الله وعده، "والحفظ لا معنى له إلا أن يبقي مصونًا عن التغيير" بالزيادة والنقص، "وإلا" نقل أنها آية من كل سورة، "لما كان محفوظًا عن الزيادة، ولو جاز أن يظن بالصحابة أنهم زادوا" البسملة أول كل سورة، "لوجب أيضًا أن يظن بهم النقصان" إذ لا فرق بينهم عقلا، "وذلك يوجب الخروج عن كونه حجة" ولا قائل بذلك، فثبت أنها قرآن بمنزلة سورة قصيرة للفصل بين السور، ومنهم من قال: ليست آية من الفاتحة، ولا من كل سورة إلا في النمل فقط، لكن يستحب افتتاحه بها في غير الصلاة،(7/212)
واختلف فيه، كيف يحفظ القرآن؟
فقال بعضهم: حفظه بأن جعله معجزًا مباينًا لكلام البشر، يعجز الخلق عن الزيادة فيه والنقصان منه، لأنهم لو زادوا فيه أو نقصوا منه تغير نظم القرآن، فيظهر لكل العقلاء أن هذا ليس من القرآن.
وقال آخرون: أعجز الخلق عن إبطاله وإفساده بأن قيض جماعة يحفظونه ويدرسونه فيما بين الخلق إلى آخر بقاء التكليف.
وقال آخرون: المراد بحفظه هو أن أحدًا لو حاول أن يغير بحرف أو نقطة لقال له أهل الدنيا: إنه كذب، حتى إن الشيخ المهيب لو اتفق له تغيير في حرف منه لقال الصبيان كلهم: أخطأت أيها الشيخ وصوابه كذا، ولم يتفق لشيء، من الكتب مثل هذه الكتاب، فإنه لا كتاب إلا وقد دخله التصحيف والتغيير والتحريف.
__________
كما يستحب ابتداؤه بالاستعاذة إجماعًا ونصًا، فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم، والإجماع على أن الاستعاذة ليست منه، فليس في كتب البسملة ما يدل على الدعوى، بل ولا على أنها آية مستقلة.
"واختلف فيه كيف يحفظ القرآن" أي: في، أي: صفة حفظه له، "فقال بعضهم: حفظه بأن جعله، معجزًا مباينًا لكلام البشر، يعجز الخلق عن الزيادة فيه والنقصان منه؛ لأنهم لو زادوا فيه أو نقصوا منه، تغير نظم القرآن فيظهر لكل العقلاء أن هذا ليس من القرآن" وهذا حفظ عظيم. "وقال آخرون: أعجز الخلق عن إبطاله وإفساده؛ بأن قيض" الباء سببية، أي: بتقييض، وفي نسخة: بل قيض ببل الانتقالية "جماعة يحفظونه ويدرسونه فيما بين الخلق إلى آخر بقاء التكليف" ولا تباين بين هذين القولين، فلا مانع من كونهما معًا بيانًا لصفة الحفظ، كالثالث، وهو: "وقال آخرون: المراد بحفظه هو أن أحدًا لو حاول أن يغير بحرف"، أي: بإبدال حرف منه بحرف آخر، "أو نقطة" بأن يزيدها أو ينقصها أو يسقطها؛ "لقال أهل الدنيا إنه كذب، حتى أن الشيخ المهيب" بوزن مبيع "لو اتفق له تغيير في حرف منه لقال الصبيان كلهم" فضلا عن الرجال: "أخطأت أيها الشيخ، وصوابه كذا، ولم يتفق لشيء من الكتب مثل هذا الكتاب، فإنه لا كتاب إلا وقد دخله التصحيف، والتغيير، والتحريف.
"وقد صان الله تعالى هذا الكتاب العزيز عن جميع التحريف" وحكمة ذلك مع أن الكتب السماوية كلها كلام الله؛ أنها إن غيرت جاء نبي بعده يبين ما غير أو بدل بخلاف القرآن(7/213)
وقد صان الله تعالى هذا الكتاب العزيز عن جميع التحريف، مع أن دواعي الملحدة واليهود والنصارى متوفرة على إبطاله وإفساده، وانقضى الآن ثمانية وتسعون سنة وثمانمائة سنة، وهو بحمد الله في زيادة من الحفظ.
ومنها: أنه عليه السلام خص بآية الكرسي.
__________
نزل على خاتم النبيين، فلا نبي بعده يبين التغير لو وقع فيه، "مع أن دواعي الملحدة واليهود والنصارى متوفرة" حريصة ومجتمعة "على إبطاله" أصلا، "وإفساده وانقضى الآن ثمانية وتسعون سنة وثمانمائة، وهو بحمد الله في زيادة من الحفظ" وكذا انقضى ست بعد مائة وألف، وهو كذلك، ولا يزال حتى يرفع.
"ومنها: أنه عليه السلام خص بآية الكرسي" يعني: أنها لم تنزل على غيره، روى الديلمي مسلسلا عن أبي أمامة: سمعت عليًا يقول: ما أرى رجلا أدرك عقله في الإسلام يبيت حتى يقرأ هذه الآية: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} الآية، وإلى قوله: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} الآية، فلو تعلمون ما هي أو ما فيها لما تركتموها على حال، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أعطيت آية الكرسي من تحت العرش، ولم يؤتها نبي قبلي" قال علي: فما بت ليلة منذ سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أقرأها، قال أبو أمامة: وما تركتها منذ سمعتها من علي، ثم سلسله الباقون.
وأخرج أبو عبيد وابن الضريس، عن علي: آية الكرسي أعطيها نبيكم من كنز تحت العرش، ولم يعطها نبي قبل نبيكم، وسميت بذلك لذكر الكرسي فيها، والآية العامة وآية القرآن على تمام الكلام، أو لأنها جماعة من كلمات القرآن، والآية تقال للجماعة، قال بعضهم: والكرسي فيه صور الأشياء كلها فما في الأرض صورة إلا ولها في الكرسي مثل، فما في العرش إقامته، ففي الكرسي أمثلته، وما في السماوات إقامته ففي الأرض صورته، فجمعت هذه الآية تفصيل المفصلات.
وقال ابن عربي: قد ثبت في القرآن الأخبار بتفاضل سوره، وإنافة بعضها على بعض في حق القارئ بالنسبة لما لنا فيه من الأجر، وقد ورد: آية الكرسي سيدة آي القرآن؛ لأنه ليس فيه آية ذكر الله فيها بين مضمر وظاهر ستة عشر موضعًا إلا آية الكرسي، قال شيخنا: ليس المراد أن الجلالة واقعة بين المضمر والظاهر، ولا أن المضمر واقع بين شيئين، أحدهما لفظ الجلالة، والآخر اسم ظاهر، بل المراد أن الله ذكر في ستة عشر موضعًا، وتلك المواضع منقسمة إلى كون بعضها مضمرًا وبعضها ظاهرًا، فالظاهر في خمسة، وهي: الله والحي القيوم العلي العظيم، والمضمر أحد عشر هو من لا إله إلا هو، والضمير البارز في لا تأخذه، ثالثها له، رابعها وخامسها(7/214)
وبالمفصل وبالمثاني وبالسبع الطوال، كما في حديث ابن عباس بلفظ: "وأعطيت خواتيم سورة البقرة من كنوز العرش، وخصصت به دون الأنبياء
__________
عنده إلا بإذنه، سادسها المستتر في يعلم، سابعها البارز في علمه، ثامنها المستتر في شاء، تاسعها البارز في كرسيه، عاشرها البارز في لا يئوده، حادي عشرها المنفصل في قوله: وهو. وكأنه لم يعتبر الضمائر المستترة في الحي القيوم العلي العظيم؛ لأن المستتر فيه هو الاسم الظاهر، الدال على ذاته، فكأنه هو والضمير عبارة عن معنى واحد.
وقال الغزالي: إذا تأملت جملة معاني أسماء الله الحسنى من التوحيد والتقديس، وشرح الصفات العلا، وجدتها مجموعة في آية الكرسي، فلذا ورد أنها سيدة آي القرآن، فإن شهد الله ليس فيها إلا التوحيد، و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} الآية، ليس فيها إلا التوحيد والتقديس، و {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ} الآية، ليس فيها إلا الأفعال وكمال القدرة، والفاتحة فيها رمز إلى هذه الصفات بلا شرح، وهي مشروحة في آية الكرسي، ويقرب منها في هذه المعاني آخر الحشر وأول الحديد، إذ تشتمل على أسماء وصفات كثيرة، لكنها آيات لا آية واحدة، وهذه ذا قابلتها بآحاد تلك الآيات وجدتها أجمع للمقاصد، فلذا استحقت السيادة على الآي، انتهى.
وفي هذا الحديث: "من قرأ آية الكرسي دبر كل صلاة مكتوبة، لم يمنعه من دخول الجنة إلا الموت"، رواه النسائي وابن حبان، وروي أن من أدمن قراءتها عقب كل صلاة؛ فإنه لا يتولى قبض روحه إلا الله، وخص "بالمفصل" ويسمى المحكم، سمي مفصلا، لأن سوره قصار، كل سورة كفصل من الكلام، وآخره الناس اتفاقًا، وهل أوله الحجرات، أو الجاثية، أو القتال، أو ق، أو الصافات، أو الصف، أقوال أرجحها الأول، "وبالمثاني وبالسبع الطوال" بكسر الطاء جمع طويلة، وأما بضمها، فمفرد كرجل طوال؛ كما في حديث ابن عباس بلفظ: "وأعطيت خواتيم سورة البقرة" من آمن الرسول، وقيل: من لله إلى آخرها، ويدل له ما روى أبو عبيد عن كعب، قال: إن محمدًا أعطي أربع آيات لم يعطها موسى {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [البقرة: 255] الآية، حتى ختم البقرة، فتلك ثلاث، وآية الكرسي "من كنوز العرش"، قال الحافظ العراقي: معناه أنها ادخرت وكنزت له، فلم يؤتها أحد قبله، وكثير من القرآن منزل في الكتب السابقة باللفظ أو المعنى، وإن كان فيه أيضًا ما لم يؤت غيره، لكن في هذه الخصوصية لأمته، وهي وضع الإصر الذي على من قبل، ولذا قال: "وخصصت به دون الأنبياء" أي: بإعطاء ما ذكر من الخواتيم، وقال غيره: الله أعلم ما هذا الكنز، ويجوز كونه كنز اليقين، فهو كنز مخبوء تحت العرش، أخرج منه تعالى ثمانية مثاقيل من نور اليقين، فأعطي منها(7/215)
وأعطيت المثاني مكان التوراة، والمئين مكان الإنجيل، والحواميم مكان الزبور وفضلت بالمفصل". رواه أبو نعيم في الدلائل.
__________
رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة، وزيد ذخيرة خصوصية للرسالة، فلذا وزن إيمانه بإيمان الخلق فرجح، انتهى وهو غريب.
وقد جرى على الأول الطيبي، فقال الكنز: النفائس المدفونة المدخرة، فهو إشارة إلى أنها ادخرت له، فلم تنزل على من قبله، وهو من إدخال الشيء في جنس، وجعله أحد أنواعه على التغليب، فالكنز نوعان متعارف، وهو المال الكثير، يجعل بعضه فوق بعض ويحفظ، وغير متعارف، وهو هذه الآيات الجامعة المكتنزة بالمعاني الإلهية.
وروى الطبراني، وأبو الشيخ، والضياء في المختار، عن أبي أمامة، رفعه: "أربع أنزلت من كنز تحت العرش، لم ينزل منه شيء غيرهن: أم الكتاب، وآية الكرسي، وخواتيم سورة البقرة، والكوثر". "وأعطيت المثاني مكان التوراة" أي: بدل ما فيها، "والمئين" بفتح الميم عند بعض، وكسرها عند آخر، وهو المناسب للمفرد، وكسر الهمزة، ومثناة تحتية ساكنة، أي: السور التي تلي السبع الطوال، أو التي أولها ما يلي الكهف، لزيادة كل منها على مائة آية، أو تقاربها أو التي فيها القصص، وقيل غير ذلك، "مكان الإنجيل، والحواميم مكان الزبور، وفضلت بالمفصل" أي: صيرت أفضل، أي: أزيد من غيري بما أنزل عليّ منه، "رواه أبو نعيم في الدلائل" ويعارضه ما روى أحمد، والبيهقي، والطبراني عن واثلة مرفوعًا: "أعطيت مكان التوراة السبع الطول، وأعطيت مكان الزبور المئين, وأعطيت مكان الإنجيل المثاني، وفضلت بامفصل".
وروى محمد بن نصر عن أنس مرفوعًا: "إن الله أعطاني السبع مكان التوراة، وأعطاني الراءات مكان الإنجيل، وأعطاني ما بين الطواسين إلى الحواميم مكان الزبور، وفضلني بالحواميم والمفصل، ما قرأهن نبي قبلي" وهذا مخالف لحديثي ابن عباس وواثلة معًا من وجهين، أحدهما: في المعطى مكان تلك الكتب، والثاني: صريحة أن الحواميم والمفصل مما أعطي، لا في مقابلة شيء، وصريح حديث ابن عباس، أن الحواميم مكان الزبور، فليطلب الجمع أو الترجيح.
وروى الحاكم عن معقل بن يسار مرفوعًا: "أعطيت سورة البقرة من الذكر الأول، وأعطيت طه، والطواسين، والحواميم من ألواح موسى، وأعطيت فاتحة الكتاب، وخواتيم سورة البقرة، وتحت العرش، والمفصل نافلة" والطول في حديث واثلة، بضم الطاء، وفتح الواو، كما ضبطه السيوطي بالقلم، وفي النهاية الطول، بالضم، وفي القاموس السبع الطوال كصرد والذكر الأول(7/216)
وقال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} [الحجر: 87] ، وفي البخاري من حديث أبي هريرة، عنه صلى الله عليه وسلم قال: "أم القرآن هي السبع المثاني والقرآن العظيم" سائره.
__________
الصحف العشرة، والكتب الثلاثة، قال الكلابادي.
"وقال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي} الآية، بيان لسبعًا من التثنية أو الثناء، فإنه مثنى، تكرر قراءته وألفاظه، أو قصصه ومواعظه، أو مثنى عليه بالبلاغة والإعجاز، ومثن على الله بما هو أهله من صفاته العظمى وأسمائه الحسنى، {الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} عطف كل على بعض، أو عطف عام على خاص، وفي المثاني تفاسير ذكر بعضها مقدمًا أرجحها، فقال: "وفي البخاري" في تفسير سورة الحجر من حديث أبي هريرة عنه صلى الله عليه وسلم قال: "أم القرآن هي السبع المثاني، والقرآن العظيم" وفي رواية الترمذي: "الحمد لله أم القرآن وأم الكتاب، والسبع المثاني".
قال الخطابي: وفي الحديث رد على ابن سيرين، حيث قال: لا يقال للفاتحة أم القرآن، وإنما يقال لها فاتحة الكتاب، ويقول أم الكتاب هو في اللوح المحفوظ، قال: وأم الشيء أصله، وسميت أم القرآن، لأنها أصل القرآن، وقيل: لأنها متقدمة، لأنها تؤمه "سائره" كذا وقع في النسخ.
وليست في البخاري ولا غيره، فسقط من المصنف لفظ، أي: التفسيرية، إشارة إلى أنه محذوف الخبر؛ كما قال الحافظ والقرآن، العظيم، عطف على أم القرآن مبتدأ خبره محوف، أو خبر مبتدأ محذوف، أي: والقرآن العظيم ما عداها، وليس عطفًا على السبع المثاني؛ لأن الفاتحة ليست هي القرآن العظيم، وإن جاز إطلاقه عليها، لأنها منه لكن ليست كله، ثم وجدت الحديث في تفسير ابن أبي حاتم عن أبي هريرة بلفظ: "القرآن العظيم الذي أعطيتموه"، أي هو الذي أعطيتموه، فيكون هذا هو الخبر، وقد روى الطبراني بإسنادين جيدين عن عمر، ثم عن علي السبع المثاني: فاتحة الكتاب، زاد عن عمر: تثنى في كل ركعة، وبإسناد حسن عن ابن عباس: "وقد آتيناك سبعًا من المثاني هي فاتحة الكتاب"، انتهى.
وقال التوربشتي: إن قيل كيف صح عطف القرآن على السبع المثاني: وعطف الشيء على نفسه لا يجوز، قلنا: ليس كذلك وإنما هو من باب ذكر الشيء بوصفين، أحدهما معطوف على الآخر، والتقدير: آتيناك ما يقال له السبع المثاني والقرآن العظيم، أي: الجامع لهذين النعتين.
وقال الطيبي: عطف القرآن على السبع المثاني؛ المراد منه الفاتحة من باب عطف العام(7/217)
واختلفوا: لم سميت مثاني، فعن الحسن وابن عباس وقتادة لأنها تثنى في الصلاة، فتقرأ في كل صلاة، وقيل لأنها مقسومة بين الله وبين العبد نصفين، نصفها ثناء ونصفها دعاء، كما في حديث أبي هريرة عنه صلى الله عليه وسلم: "يقول الله تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين".
__________
على الخاص، تنزيلا للتغاير في الوصف منزلة التغاير في الذات، وإليه أومأ صلى الله عليه وسلم بقوله لأبي سعيد بن المعلى: "ألا أعلمك أعظم سورة في القرآن" حيث نكر سورة وأفردها ليدل على أنك إذا تقصيت سورة سورة وجدتها أعظم منها، ونظيره في النسق، ولكن من عطف الخاص على العام؛ من كان عدوًا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكائيل، انتهى، وهو معنى كلام الخطابي.
قال الحافظ: وفيه بحث لاحتمال أن قوله: "والقرآن العظيم"، محذوف الخبر والتقدير ما بعد الفاتحة مثلا، فيكون وصف الفاتحة بقوله المثاني، ثم عطف والقرآن العظيم، أي: ما زاد على الفاتحة، وذكر ذلك رعاية لنظم الآية، فيكون التقدير: والقرآن العظيم هو الذي أوتيته زيادة على الفاتحة، قال: وعلى هذا، فالمراد بالسبع الآي؛ لأن الفاتحة سبع آيات بالإجماع، لكن جاء عن حسين بن علي الجعفي أنها ست آيات، لأنه لم يعد البسملة، وعن عمرو بن عبيد أنها ثمان آيات؛ لأنه عدها، وعد أنعمت عليهم، وقيل: ما بعدها، وعد إياك نعبد، وهذا أغرب الأقوال، انتهى.
"واختلفوا: لم سميت" الفاتة "مثاني؟ فعن الحسن" البصري، "وابن عباس" عبد الله، "وقتادة" بن دعامة: "لأنها تثنى"، أي: تكرر "في الصلاة، فتقرأ في كل صلاة": من ثنيت الشيء بالتثقيل، جعلته اثنين، لكن ليس المراد خصوص الاثنين، بل مطلق التكرير، كما أن المراد قراءتها في جميع الصلوات حتى الركعة كالوتر، ويدل له قول عمر عند ابن جرير: لأنها تثنى في كل ركعة، أي: تقرأ.
"وقيل: لأنها مقسومة بين الله وبين العبد نصفين" باعتبار المعنى لا اللفظ، لأن نصف الدعاء من قوله: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} الآية، يزيد على نصف الثناء، أو المراد قسمين، والنصف قد يراد به أحد قسمي الشيء، إن كان بينهما تفاوت "نصفها ثناء" على الله وعبادة له، "ونصفها دعاء" طلب منه تعالى ليثني العبد على ربه، ثم يدعوه فيجيب دعاءه؛ "كما في حديث أبي هريرة" عند مالك ومسلم، وأحمد، وأبي يعلى، عنه صلى الله عليه وسلم: "يقول الله تعالى: قسمت الصلاة" أي: قراءتها بدليل تفسيره بها، قال المنذري. أو يعني الفاتحة، سميت صلاة لأنها لا تصح إلا بها؛ كقوله: "الحج عرفة" وقيل: من أسماء الفاتحة الصلاة، فهي المعنية في الحديث. "بيني وبين عبدي نصفين. ولعبدي ما سأل، فإذا قال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ(7/218)
وقيل: لأنها نزلت مرتين مرة بمكة ومرة بالمدينة. وعن مجاهد: لأن الله استثناها وادخرها لهذه الأمة، فما أعطاها غيرهم.
وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس: أن السبع المثاني هي السبع الطوال، أولها سورة البقرة وآخرها سورة الأنفال مع التوبة، وقال بعضهم: سورة يونس بدل الأ
__________
الْعَالَمِينَ} ، قال: حمدني عبدي، وإذا قال: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ، قال الله: أثنى علي عبدي، وإذا قال: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} ، قال: مجدني عبدي، وإذا قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ، قال: هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل، وإذا قال: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ، صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} ، قال: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل"، هذا بقية الحديث عندهم.
قال الحافظ: لم يخرجه البخاري، لأنه ليس على شرطه، ولكن أشار إليه فيه، "وقيل: لأنها نزلت مرتين: مرة بمكة، ومرة بالمدينة" حكاه قوم؛ لأنه قد يتكرر النزول للتذكير، أو موعظة، أو تعظيم شأنه، لكن في فتح الباري يستنبط من تفسير السبع المثاني بالفاتحة؛ أنها مكية، وهو قول الجمهور خلافًا لمجاهد، ووجه الدلالة، أنه سبحانه امتن على رسوله بها، وسورة الحجر مكية اتفاقًا، فيدل لى تقدم نزول الفاتحة عليها.
قال الحسين بن الفضل: هذه هفوة من مجاهد؛ لأن العلماء على خلاف، قوله: وأغرب بعض المتأخرين، فنسب القول بذلك لأبي هريرة، والزهري, وعطاء بن يسار، وحكى القرطبي أن بعضهم زعم أنها نزلت مرتين، انتهى.
"وعن مجاهد: لأن الله استثناها وادخرها" بدال مهملة، وقد تعجم: أعدها "لهذه الأمة" عطف تفسير، "فما أعطاها غيرهم" روى البيهقي وغيره عن أنس، رفعه: "إن الله أعطاني فيما من علي، أن قال: إني أعطيتك فاتحة الكتاب، وهي من كنوز عرشي، ثم قسمتها بيني وبينك نصفين".
"وعن سعيد بن جبير، عن ابن عباس" فيما رواه النسائي، والطبري، والحاكم، بإسناد صحيح: "أن السبع المثاني هي السبع الطوال، أولها سورة البقرة، وآخرها سورة الأنفال مع التوبة" لأنهما في حكم سورة واحدة، ولذا لم يفصل بينهما بالبسملة، وفي لفظ للطبري: البقرة, وآل عمران, والنساء، والمائدة، والأنعام, والأعراف، قال الراوي: وذكر السابعة فنسيتها، "وقال بعضهم: سورة يونس بدل الأنفال" مع التوبة، قال الحافظ: رواه ابن أبي حاتم صحيحًا عن مجاهد وسعيد بن جبير، وعند الحاكم: أنها الكهف، وزاد: قيل له: ما المثاني؟ قال: تثنى فيهن القصص.(7/219)
قال ابن عباس: وإنما سميت السبع الطوال مثاني لأن الفرائض والحدود والأمثال والعبر تثنت فيها.
وقال طاوس: القرآن كله مثاني، قال الله تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ} [الزمر: 23] ، وسمي القرآن مثاني لأن القصص تثنت فيه والله أعلم.
ومنها: أنه أعطي مفاتيح الخزائن.
__________
"قال ابن عباس: وإنما سميت السبع الطوال مثاني؛ لأن الفرائض، والحدود، والأمثال والعبر تثنت" تعددت وتكررت "فيها" وهذا قول مشهور أيضًا في تفسير المثاني وإن رجح الأول، وقد أخرج الطبري من طريق أبي جعفر الرازي عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية: السبع المثاني فاتحة الكتاب. قلت للربيع: إنهم يقولون: إنها السبع الطوال، قال: لقد أنزلت هذه الآية، وما نزل من الطوال شيء، وروى الطبري أيضًا عن زيادة بن أبي مريم، قال في {لَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي} ، قال: مر وانه، وبشر وأنذر، واضرب الأمثال، واعدد النعم والإيتاء، وحكي في الشفاء: أنها السبع كرامات: الهدى والنبوة، والرحمة والشفاعة، والولاية والتعظيم، والسكينة، ورجح ابن جرير الأول، أي: الفاتحة لصحة الخبر فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
"وقال طاوس: القرآن كله مثاني، قال الله تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا} الآية يدل من أحسن، أي: قرءانًا {مُتَشَابِهًا} أي: يشبه بعضه بعضًا في النظم، وغيره {مَثَانِي} ، وسمي القرآن مثاني؛ لأن القصص تثنت فيه" ولأنه ثنى فيه الوعد والوعيد وغيرما.
وفي البيضاوي: وقيل سبع صحائف، وهي الإسباع، ويجوز أن يراد بالمثاني القرآن، أو كتب الله كلها، فتكون من للتبعيض، والقرآن العظيم إن أريد السبع آيات أو السور، فمن عطف الكل على البعض، أو العام على الخاص، وإن أريد الإسباع، فمن عطف أحد الوصفين على الآخر، "والله أعلم" بما أراد.
"ومنها: أنه أعطي مفاتيح الخزائن" أي خزائن الأرض، كما رواه البخاري وغيره، وأخرج أحمد، وابن حبان، والضياء برجال الصحيح عن جابر، مرفوعًا: "أتيت بمقاليد الدنيا على فرس أبلق، جاءني به جبريل، عليه قطيفة من سندس"، وفي رواية إسرافيل، ولا تنافي، لأنه إن تعدد المجيء، وإلا فالآتي جبريل وصحبته إسرائيل، وركوبه الفرس إشارة إلى أنه أوتي العز، وإلى إعزاز دينه، ولم يكن لونًا واحدًا إشارة إلى استيلاء أمته على خزائن جميع الملوك من أحمر(7/220)
قال بعضهم: هي خزائن أجناس العالم ليخرج لهم بقدر ما يطلبونه لذواتهم، فكل ما ظهر من رزق العالم فإن الاسم الإلهي لا يعطيه إلا عن محمد صلى الله عليه وسلم الذي بيده المفاتيح، كما اختص تعالى بمفاتيح الغيب لا يعلمها إلا هو، وأعطي هذا السيد الكريم منزلة الاختصاص بإعطائه مفاتيح الخزائن.
ومنها: أنه أوتي جوامع الكلم.
__________
وأبيض وأسود، على اختلاف ألوانها وأشكالها، إذ الأبلق ما خالط لونه بياضًا وسوادًا، ثم يحتمل أنها حيزوم فرس جبريل الذي ما خالط موطئ حافره مواتًا إلا صار حيوانًا، ويحتمل غيرها، والخزائن: جمع خزانة ما يخزن فيه، والمال مخزون عند أهل البلاد قبل فتحها، فهو استعارة تصريحة بفتح البلاد.
"قال بعضهم: هي خزائن أجناس" جمع جنس "العالم" مفرد عوالم، فاللام عوض عن المضاف إليه، أي: خزائن العالم السفلي بأسره؛ "ليخرج لهم بقدر ما يطلبونه لذواتهم" سواء تعلق بنفس الذوات، أو بمتعلقاتها، كالمواشي والزراعات، وهذا وجه في تقرير الاستعارة في إعطاء مفاتيح الخزائن، "فكل ما ظهر من رزق العالم، فإن الاسم الإلهي لا يعطيه إلا عن محمد صلى الله عليه وسلم" أي: فكان من يوصله إلى العالم، كالوكيل في إعطائه لهم نيابة عنه؛ لأنه حقه "الذي بيده المفاتيح، كما اختص تعالى بمفاتيح الغيب لا يعلمها إلا هو، وأعطي هذا السيد الكريم منزلة الاختصاص بإعطائه مفاتيح الخزائن" فلا يخرج منها شيء إلا على يديه.
قال الزمخشري: المراد بالخزائن: المعان أو البلاد التي فيها ذلك، أو البلاد التي فتحت لأمته بعده؛ التي منها خزائن كسرى وقيصر، إذ الغالب على نقود خزائن كسرى الدنانير، وعلى قود ممالك قيصر الدراهم، وأشار في الكشاف إلى أن هذا، وما أشبهه من قبيل التمثيل والاستعارة، قال في قوله: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ} الآية، ذكر الخزائن تمثيل، والمعنى، وما من شيء ينتفع به العباد إلا ونحن قادرون على إيجاده وتكوينه والإنعام به، فضرب الخزائن مثلا لاقتداره على كل مقدور.
"ومنها: أنه أوتي جوامع الكلم" أي: الكلم، الجوامع لمعان كثيرة بألفاظ قليلة، قال صلى الله عليه وسلم: "أعطيت جوامع الكلم واختصر.لي الكلام اختصارًا" رواه البيهقي، وأبو يعلى، والدارقطني، يعني: أعطيت البلاغة والفصاحة، والتوصل إلى غوامض المعاني، وبدائع الحكم، ومحاسن العبارات، بلفظ موجز لطيف، وقيل: المراد بها القرآن، سمي به لإيجازه واحتواء لفظه القليل على المعنى الكثير، واشتماله على ما في الكتب السماوية، وجمعه ما فيها من العلوم،(7/221)
فالكلم جمع كلمة، وكلمات الله لا تنفذ، فالكلمة منه كلمات، ولما علم جوامع الكلم أعطي الإعجاز بالقرآن الذي هو كلام الله تعالى، وهو المترجم عن الله تعالى. فوقع الإعجاز في الترجمة التي هي له، فإن المعاني المجردة عن المواد لا يتصور الإعجاز بها، وإنما الإعجاز ربط هذه المعاني بصور الكلم القائم من نظم الحروف، فهو لسان الحق وسمعه وبصره.
ومنها: أنه بعث إلى الناس كافة، قال بعضهم: وهو من الكفت، وهو الضم،
__________
وقال صلى الله عليه وسلم: "أعطيت فواتح الكلم وجوامعه وخواتمه"، رواه الطبراني وغيره، "فالكلم جمع كلمة" في أحد الأقوال، وقيل: اسم جمع، وقيل: اسم جنس إفرادي يطلق على القليل والكثير، لكن خصه الاستعمال بالثلاثة فما فوق، والمختار أنه اسم جنس جمعي، يجوز في ضميره التذكير على الأصل، وهو الأكثر، نحو: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} الآية، والتأنيث ملاحظة للجمعية.
"وكلمات الله لا تنفذ" بفتح التاء والفاء، كما في التنزيل لا تفنى ولا تنقطع، وكأنه جعل هذا جواب سؤال، هو: هل تنحصر جوامع كلمة؟ فأجاب: لا تحصر، بل متى أرادها قدر عليها، لأنها من كلمات، الله ولا تنفد؛ "فالكلمة منه كلمات، ولما علم جوامع الكلم أعطي الإعجاز بالقرآن الذي هو كلام الله تعالى، وهو" أي: القرآن "المترجم" المبين، الكاشف "عن" الصفة القديمة، القائمة بذات "الله" حيث دل عليه، فتسميته مترجمًا، مجاز، علاقته المشابهة، فالترجمة تفسير كلام الغير بلسان آخر، ويحتمل أن ضمير هو للنبي صلى الله عليه وسلم، والظاهر الأول؛ لقوله: "فوقع الإعجاز" ذ هو إنما وقع في القرآن "في الترجمة التي هي له" أي: في الكلمات التي وقع التعبير بها على المعاني القائمة بذاته, حيث وقعت على أسلوب يعجز البشر عن الإتيان بمثله، "فإن المعاني المجردة عن المواد" جمع مادة، أي: الألفاظ التي تؤدي بها المعاني، إذ مادتها الألفاظ، لأنها قوالب المعاني، كأنها صبت فيها كالقالب "لا يتصور الإعجاز بها، وإنما الإعجاز ربط هذه المعاني بصور الكلم القائم من نظم الحروف" وهذا تعليل لكون الإعجاز بالكلمات المعبر بها عن المعاني، لا بالمعاني أنفسها، "فهو" أي القرآن "لسان الحق" لأنه المبين للمعاني القائمة به، المعبر عنها بالكلمات، "وسمعه وبصره" لأنه المبين للمسموعات والمبصرات.
"ومنها: أنه بعث إلى الناس كافة" أي: كلهم، ولا تقل الكافة، لأنها تدخل أل، ووهم الجوهري، فأدخل أل؛ كما في القاموس.
"قال بعضهم: وهو" مأخوذ "من الكفت، وهو الضم" للمناسبة بينهما، والكفت يتعدى(7/222)
قال الله تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا} [المرسلات: 25] ، أي: تضم الأحياء على ظهرها، والأموات في بطنها، كذلك ضمت شريعته صلى الله عليه وسلم جميع الناس، فلا يسمع به أحد إلا لزمه الإيمان به، ولما سمع الجن القرآن يتلى قالوا: {يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ} [الأحقاف: 31] الآية، فضمت شريعته الإنس والجن، وعمت رحمته التي أرسل بها للعالم، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107] ، فمن لم تنله رحمته فما ذاك من جهته، وإنما ذلك من جهة القابل. فهو كالنور الشمسي أفاض شعاعه.
__________
بنفسه، وبإلى، قال المجد: كفته يكفته، صرفه عن وجهه فانكفت، والشيء إليه ضمه وقبضه ككفته.
"قال الله تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا} الآية، أي: تضم الأحياء على ظهرها، والأموات في بطنها" فكفاتًا بمعنى كافتة اسم لما يكفت، أي: يضم ويجمع؛ كما في البيضاوي: قال: أو مصدر نعت به، أو جمع كافت، كصائم وصيام، أو كفت، وهو الوعاء أجري على الأرض، أي: أطلق عليها باعتبار أقطارها، انتهى، فعلى الأخيرين أطلق كفاتًا على الأض من حيث جعل كل جزء منها كافتًا، أي: جامعًا لما يحتوي عليه، "كذلك ضمت شريعته صلى الله عليه وسلم جميع الناس، فلا يسمع به أحد" عاقل، "إلا لزمه الإيمان به" لظهور المعجزات القطعية على يده، الدالة على حقية ما جاء به، وشمل أحد الإنس والجن، ولذا رتب عليه قوله: ومن ثم "لما سمع الجن القرآن يتلى، قالوا: {يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ} محمد صلى الله عليه وسلم إلى الإيمان، " {وَآمِنُوا بِهِ} [الأحقاف: 31] الآية، فضمت شريعته الإنس والجن" إجماعًا، كما يأتي قريبًا بأدلته، "وعمت رحمته التي أرسل بها العالم" ودليله أنه "قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107] الآية" لأن ما بعثت به سبب لإسعادهم، وموجب لصلاح معاشهم ومعادهم، ورحم الله به الخلق مؤمنهم وكافرهم بالأمن من الخسف والمسخ وعذاب الاستئصال، ومنافقهم بالأمن من القتل وتأخير العذاب.
قال ابن عطية: ويحتمل أن معناه أنه هو رحمة وهدى بين أخذ به من أخذ، وأعرض عنه من أعرض، انتهى، وإليه أشار بقوله: "فمن لم تنله رحمته" من الكفار فلم يؤمن به، "فما ذاك من جهته" صلى الله عليه وسلم، "وإنما ذلك من جهة القابل" حيث طبع الله على قلوبهم، واستحبوا الكفر على الإيمان، أنهما كافي التقليد، وإعراضًا عن النظر الصحيح، فلا ينفذ في قلوبهم الحق، وأسماعهم تنفر منه، ولا يجتلي لأبصارهم الآيات المنصوبة في الآفاق، "فهو كالنور الشمسي أفاض شعاعه(7/223)
على الأرض، فمن استتر عنه في كن أو ظل جدار فهو الذي لم يقبل انتشار النور عليه، وعدل عنه، فلم يرجع إلى الشمس من ذلك منع، انتهى.
فإن قلت: إن نوحًا كان مبعوثًا إلى أهل الأرض بعد الطوفان، فإنه لم يبق إلا من كان مؤمنًا معه، وقد كان مرسلا إليه، وقد جاء في حديث جابر وغيره: "وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى كل أحمر وأسود". وفي رواية: "إلى الناس كافة".
أجاب الحافظ ابن حجر، رحمه الله تعالى: بأن هذا العموم الذي حصل لنوح عليه الصلاة لم يكن في أصل بعثته، وإنما اتفق بالحادث الذي وقع، وهو انحصار الخلق في الموجودين بعد هلاك سائر الناس. وأما نبينا صلى الله عليه وسلم فعموم رسالته من أصل البعثة فثبت اختصاصه بذلك.
__________
على الأرض، فمن استتر عنه في كن أو ظل جدار فهو الذي لم يقبل انتشار النور عليه، وعدل عنه، فلم يرجع إلى الشمس من ذلك منع" عن فيض شعاعها، "انتهى" كلام بعضهم.
"فإن قلت" يرد على أن بعثه إلى كافة الناس من خصائصه؛ "إن نوحًا كان مبعوثًا إلى أهل الأرض بعد الطوفان، فإنه لم يبق إلا من كان مؤمنًا معه، وقد كان مرسلا إليه، وقد جاء في حديث جابر" في الصحيحين "وغيره" النص على الخصوصية في قوله صلى الله عليه وسلم: "أعطيت خمسًا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي" ... الحديث، وفيه: "وكان النبي يبعث إلى قومه" المبعوث إليهم "خاصة، وبعثت إلى كل أحمر" وهم العجم أو الإنس، "وأسود" العرب أو الجن، وهذه رواية مسلم.
"وفي رواية" للبخاري: "وبعثت إلى الناس كافة" وفي رواية له أيضًا: "عامة"، وهما بمعنى، فظاهر الحديث أن كل واحدة من الخمس لم تكن لأحد قبله.
"أجاب الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى" في فتح الباري في التيمم: "بأن هذا العموم الذي حصل لنوح عليه السلام لم يكن في أصل بعثته وإنما" هو اتفاقي "اتفق بالحادث الذي وقع" وبينه، فقال: "وهو انحصار الخلق في الموجودين بعد هلاك سائر الناس" بالغرق؛ كما في القرآن والقصة مبسوطة في التفاسير وغيرها.
"وأما نبينا صلى الله عليه وسلم، فموم رسالته من أصل البعثة، فثبت اختصاصه بذلك" قال في الفتح:(7/224)
وأما قول أهل الموقف لنوح -كما صح في حديث الشفاعة- أنه أول رسول إلى أهل الأرض، فليس المراد به عموم بعثته، بل إثبات أولية إرساله، وعلى تقدير أن يكون مرادًا فهو مخصوص بتنصيصه سبحانه وتعالى في عدة آيات على أن إرسال نوح كان إلى قومه، ولم يذكر أنه أرسل إلى غيرهم.
واستدل بعضهم لعموم بعثته: بكونه دعا على جميع من في الأرض فأهلكوا بالغرق إلا أهل السفينة، ولو لم يكن مبعوثًا إليهم لما أهلكوا، لقوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15] ، وقد ثبت أنه أول الرسل.
وأجيب: بجواز أن يكون غيره أرسل إليهم في أثناء مدة نوح.
__________
وغفل الداودي الشارح غفلة عظيمة، فقال: قوله: "لم يعطهن أحد قبلي"، يعني: لم تجتمع لأحد قبله، لأن نوحًا بعث إلى الناس كافة.
وأما لأربع فلم يعط أحد واحدة منهن، وكأنه نظر في أول الحديث، وغفل عن آخر؛ لأنه صلى الله عليه وسلم نص على خصوصيته بهذه أيضًا بقوله: "وكان النبي صلى الله عليه وسلم يبعث إلى قومه خاصة"، وفي رواية: "وكان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة".
"وأما قول أهل الموقف لنوح، كما صح في حديث الشفاعة" عند الشيخين: "أنه أول رسول إلى أهل الأرض، فليس المراد به عموم بعثته، بل إثبات أولية إرساله" إلى من انحصر فيهم الوجود بعد الطوفان؛ فالأولية منصبة على الإرسال، فلا يلزم منه العموم، وأورد هذا آدم وإدريس على أنه كان قبل نوح، فإن حديث ابن حبان دل على أنهما رسولان، وأجيب: بأن المراد أول رسول بعث إلى الأرض بالإهلاك وإنذار قومه؛ لأن رسالة آدم كانت بمنزلة التربية والإرشاد للأولاد، لأنهم لم يكونوا كفارًا، وكذا رسالة إدريس.
"وعلى تقدير أن يكون مرادًا، فهو مخصوص بتنصيصه سبحانه وتعالى" أي ذكره "في عدة آيات؛ على أن إرسال نوح كان إلى قومه"؛ كقوله: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ} {إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ} الآية، "ولم يذكر أنه أرسل إلى غيرهم"؛ كما قال لنبينا {لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} ، {لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} الآية، "واستدل بعضهم لعموم بعثته، بكونه دعا على جميع من في الأرض" بقوله: {رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} الآية، "فأهلكوا بالغرق إلا أهل السفينة" لإيمانهم، "ولو لم يكن مبعوثًا إليهم لما أهلكوا؛ لقوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} الآية "وقد ثبت أنه أول الرسل، وأجيب بجواز أن يكون غيره أرسل إليهم في أثناء مدة نوح" لأنه كان في الزمن الأول إذا(7/225)
وعلم نوح بأنهم لم يؤمنوا فدعا على من لم يؤمن من قومه وغيرهم.
فأجيب: وهذا جواب حسن، لكن لم ينقل أنه نبئ في زمن نوح غيره. ويحتمل أن يكون معنى الخصوصية لنبينا صلى الله عليه وسلم في ذلك بقاء شريعته إلى يوم القيامة، ونوح وغيره بصدد أن يبعث نبي في زمانه أو بعده فينسخ بعض شريعته، انتهى.
وأما قول بعض اليهود: إن نبينا محمد صلى الله علي وسلم مبعوث إلى العرب خاصة، ففاسد. والدليل عليه أنهم -أي اليهود- سلموا أنه رسول صادق إلى العرب، فوجب أن يكون كل ما يقوله.
__________
بعث نبي إلى قومه بعث غيره إلى آخرين، وكان يجمع في الزمن جماعة من الرسل؛ كما قاله ابن الجوزي، فمن جاء من الرسل بشريعة إلى قومه، وجب عليهم العمل بها دون غيرها من الشرائع، وإن بلغتهم عن أصحابها، "وعلم نوح بأنهم لم يؤمنوا، فدعا على من لم يؤمن به من قومه وغيرهم، فأجيب" دعاؤه بإهلاك الجميع بالطوفان، "وهذا جواب حسن، لكن لم ينقل أنه نبئ في زمن نوح غيره" فضلا عن كونه أرسل، "ويحتمل أن يكون معنى الخصوصية" بضم الخاء المعجمة، وتفتح؛ كما في القاموس، وفي المصباح، بالفتح والضم، لغة "لنبينا صلى الله عليه وسلم" أي: جعلها له دون غيره "في ذلك بقاء شريعته إلى يوم القيامة، ونوح وغيره، بصدد أن يبعث نبي في زمانه أو بعده" فينسخ بعض شريعته، انتهى" ما نقله عن الحافظ، وترك بقيته، وهو: ويحتمل أن يكون دعاؤه قومه إلى التوحيد بلغ بقية الناس، فتمادوا على الشرك، فاستحقوا العذاب، وإلى هذا نحا ابن عطية في تفسير سورة هود، قال: وغير ممكن أن نبوته لم تبلغ القريب والبعيد لطول مدته.
ووجهه ابن دقيق العيد؛ بأن توحيد الله تعالى يجوز أن يكون عامًا في حق الأنبياء، وإن كان التزام فروع شريعته ليس عامًا، لأن منهم من قاتل غير قومه على الشرك، ولو لم يكن التوحيد لازمًا لهم لم يقاتلهم، ويحتمل أن لم يكن في الأرض عند إرسال نوح إلا وقوم نوح، فبعثته خاصة لكونها إلى قومه فقط، وهي عامة في الصورة لعدم وجود غيرهم، لكن لو اتفق وجود غيرهم لم يكن مبعوثًا إليهم، انتهى.
"وأما قول بعض اليهود: أن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم مبعوث إلى العرب خاصة، ففاسد، والدليل عليه" أي: على فساده، وفي نسخة: عليهم, أي: الحجة الرادة عليهم "أنهم، أي: اليهود سلموا أنه رسول صادق إلى العرب، صلة رسول، "فوجب أن يكون كل ما يقوله(7/226)
حقًا، وقد ثبت بالتواتر أنه كان يدعي أنه رسول إلى كل الناس، فلو كذبوه فيه لزم التناقض، أشار إليه صاحب المعالم.
ومنها: نصره صلى الله عليه وسلم بالرعب مسيرة شهر، والشهر قدر قطع القمر درجات الفلك المحيط، فهو أسرع قاطع، لعموم رعبه في قلوب أعدائه، فلا يقبل الرعب إلا عدو مقصود ليتميز السعيد من الشقي.
__________
حقًا، لاستحالة الكذب على الرسول.
"وقد ثبت بالتواتر أنه كان يدعي أنه رسول إلى كل الناس، فلو كذبوه فيه لزم التناقض، أشار إليه صاحب المعالم" أي: معالم السنن، شرح أبي داود للخطابي، مرت ترجمته.
"ومنها: نصره صلى الله عليه وسلم بالرعب" بالضم الخوف؛ كما قال: "نصرت بالرعب، يقذف في قلوب أعدائي "مسيرة شهر" كما رواه جابر، وأبو أمامة وغيرهما، ولا ينافيه رواية ابن عباس عند الطبراني مسيرة شهرين؛ لحمله على ما إذا كان العدو أمامه وخلفه، فيصدق أنه مسيرة شهرين، ويدل له رواية السائب بن يزيد في الطبراني أيضًا مرفوعًا: "ونصرت بالرعب شهرًا أمامي وشهرًا خلفي".
قال الشامي: فيه أن العدو الواحد لا يكون في وجهين بعيدين، وإنما يكون أمامه أو خلفه، فهو يرعب، ولو لم يقابله، فأطلق الشهر باعتبار إحدى الجهتين، وكذا لو كانا عدوين في جهتين أمامه، وخلفه، فالشهر نهاية مسافة الخوف، ولم أر من نبه على هذا، وهو بديع.
"والشهر قدر قطع القمر درجات الفلك المحيط، فهو أسرع قاطع" حيث قطعها في شهر، فالرعب المقذوف في قلوب أعدائه، أسرع قاطع، لهم عن معاداته؛ "لعموم رعبه في قلوب أعدائه، فلا يقبل" بموحدة "الرعب" قبول تأثير ينتقل به من الكفر إلى الإيمان "إلا عدو مقصود" هدايته، فأثر بقلبه حتى آمن، ولم يقصد هدايته، وإن رعب، لكن لم يتأثر قلبه تأثيرًا يوجب له الإيمان، بل يؤثر ما يوجب سعيه في جمع الجيوش وإهلاك الأموال في حربه؛ كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ} الآية، وإنما كان كذلك "ليتميز السعيد من الشقي" ومن ذلك ما للطبراني بسند حسن عن معاوية بن حيدة القشيري، قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما دفعت إليه، قال: "أما أني سألت الله أن يعينني بالسنة، تحفيكم وبالرعب في قلوبكم" فقال: بيديه جميعًا أما أني قد حلفت هكذا وهكذا أن لا أؤمن بك فما زالت السنة تحفيني، وما زال الرعب يجعل في قلبي حتى قمت بين يديك، والسنة، بفتح السين المهملة، والنون الخفيفة:(7/227)
ومفهوم هذا: أنه لم يوجد لغيره النصر بالرعب في هذه المدة، ولا في أكثر منها، أما ما دونها فلا، لكن لفظ رواية عمرو بن شعيب: "ونصرت على العدو بالرعب ولو كان بيني وبينهم مسيرة شهر". فالظاهر اختصاصه به مطلقًا.
وإنما جعل الغاية شهرًا، لأنه لم يكن بين بلده عليه الصلاة والسلام وبين أعدائه أكثر من شهر وهذه الخصوصية حاصلة له على الإطلاق، حتى ولو كان وحده بغير عسكر، وهل هي حاصلة لأمته من بعده فيه احتمال.
ومنها: إحلال الغنائم ولم تحل لأحد قبله.
وكان.
__________
الجدب، وتحفيكم، بضم الفوقية، وسكون المهملة، وفاء تحتية: تستأصلكم وتبالغ في إهلاككم.
"ومفهوم هذا"، كما في الفتح: "أنه لم يوجد لغيره النصر بالرعب في هذه المدة" أي: الشهر، "ولا في أكثر منها" بالأولى، "أما ما دونها فلا" يختص به، بل يكون لغيره؛ "لكن لفظ رواية عمرو بن شعيب" عن أبيه، عن جده: "ونصرت على العدو بالرعب، ولو كان بيني وبينهم مسيرة شهر". "فالظاهر" من الإغياء بلو "اختصاصه به مطلقًا".
قال الحافظ: وليس المراد بالخصوصية مجرد حصول الرعب، بل هو وما ينشأ عنه من الظفر بالعدو، "وإنما جعل الغاية شهرًا؛ لأنه لم يكن بين بلده عليه الصلاة والسلام" المدينة، "وبين أعدائه أكثر من شهر" في جميع الجهات، "وهذه الخصوصية حاصلة له على الإطلاق حتى لو كان وحده بغير عسكر" ولا يشكل الاختصاص بخوف الجن وغيرهم من سليمان، لأن المراد على الوجه المخصوص الذي كان عليه صلى الله عليه وسلم من عدم العلم بالتسخير، بل بمجرد الشجاعة والإقدام البشري.
وأما سليمان عليه السلام، فكل أحد علم أن له قوة التسخير، "وهل هي حاصلة لأمته من بعده، فيه احتمال" إلى هنا كلام الفتح، وأصل الاحتمال حديث أحمد: "والرعب يسعى بين يدي أمتي شهرًا" قال بعض: الأشهر أنهم رزقوا منه حظًا وافرًا، لكن ذكر ابن جماعة أن في رواية أنهم مثله.
"ومنها: إحلال الغنائم" له ولأمته، "ولم تحل لأحد قبله"، كما في حديث جابر في الصحيحين وغيرهما: "وأحلت لي الغنائم، ولم تحل لأحد قبلي" وقدم المصنف الحديث تامًا في ابتداء الخصائص واستأنف في جواب سؤال ماذا كان يعل فيها من قبله؟ فقال: "وكان"(7/228)
من تقدم على ضربين، منهم من لم يؤذن له في الجهاد، فلم تكن له مغانم، ومنهم من أذن له فيه، لكن كانوا إذا غنموا شيئًا لم يحل لهم أن يأكلوه، وجاءت نار فأحرقته.
قال بعضهم: أعطي صلى الله عليه وسلم ما يوافق شهوة أمته، لأن النفوس لها التذاذ بها، لكونها حصلت لهم عن غير قهر منهم لتحصيلها وغلبة، فلا يريدون أن يفوتهم التنعم بها في مقابلة ما قاسوه من الشدة والتعب.
ومنها: جعل الأرض له ولأمته مسجدًا وطهورًا.
__________
كما نقله الحافظ عن الخطابي، "من تقدم على ضربين منهم من لم يؤذن له في الجهاد، فلم تكن له مغانم، ومنهم من أذن له فيه، لكن كانوا إذا غنموا شيئًا لم يحل لهم أن يأكلوه" أي: يتصرفوا فيه، وخص الأكل، لأنه أقوى طرق الانتفاع، "وجاءت نار فأحرقته" إلا الذرية، كما استثناها الحافظ، والمراد بها نساء الكفار وصبيانهم وأرقاؤهم ومجانينهم، وقضية ذلك أنها كانت تحرق الحيوانات، ومجيء النار إذا لم يكن فيها غلول ولا خيانة، وإلا بقيت حتى تذريها الرياح؛ لحديث أبي هريرة في الصحيحين: "غزا نبي من الأنبياء" ... الحديث، وفيه: "فجمع الغنائم، فجاءت النار لتأكلها، فلم تطعمها، فقال: إن فيكم غلولا" , إلى أن قال: "فجاءوا برأس مثل رأس بقرة من الذهب فوضعوها فجاءت النار فأكلتها ثم أحل الله لنا الغنائم، رأى عجزنا وضعفنا، فأحلها لنا". زاد الحافظ: وقيل: المراد أنه خاص بالتصرف في الغنيمة بصرفها حيث شاء، والأول أصوب، وهو أن من مضى لم تحل لهم الغنائم أصلا.
"قال بعضهم" استئناف بياني، كأنه قيل: ما حكمة ذلك؟ فأجاب بأنه "أعطي صلى الله عليه وسم ما يوافق شهوة أمته؛ لأن النفوس لها التذاذ بها" يعني أن إحلالها له ولأمته، وإن كان تعظيمًا له وإكرامًا، ليس إلى الدنيا، ولا لرغبته فيها لنفسه، بل ذلك توسعة على أمته لاحتياجهم إليها ورغبتهم فيها؛ "لكونها حصلت لهم عن غير قهر منهم لتحصيلها وغلبة" بفتح الغين، أي: قهر، "فلا يريدون أن يفوتهم التنعم بها في مقابلة ما قاسوه" صلة التنعم، أي: يريدون التنعم في نظير ما قاسوه "من الشدة" بالكسر اسم من الاشتداد، "والتعب" عطف لازم على ملزوم، ثم لا يرد على ذلك؛ أن المراد بالغنيمة ما يشمل الفيء، لأن كلا منهما إذا انفرد عم الآخر، والفيء لا يشترط حصوله عن قهر وغلبة، بل يشمل ما انجلوا عنه بلا قتال، وما أهدوه والحرب قائمة وغير ذلك؛ لأن ذلك كله يصدق عليه أنه عن قهر في الجملة، إذ لولا خوفهم ما أهدوا وما جلوا عن شيء يتعلق بهم.
"ومنها: جعل الأرض له ولأمته مسجدًا وطهورًا" بفتح الطاء على المشهور؛ كما(7/229)
والمراد: موضع سجود، أي: لا يختص السجود منها بموضع دون غيره، ويمكن أن يكون مجازًا عن المكان المبني للصلاة، وهو من مجاز التشبيه، لأنه لما جازت الصلاة في جميعها كانت كالمسجد في ذلك. وقيل المراد: جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا، وجعلت لغيري مسجدًا ولم تجعل له طهورًا، لأن عيسر كان يسيح في الأرض، ويصلي حيث أدركته الصلاة، قاله ابن التين ومن قبله الداودي. وقيل: إنما أبيح لهم في موضع يتيقنون طهارته، بخلاف هذه الأمة فأبيح لهم في جميع الأرض، إلا فيما تيقنوا نجاسته.
__________
قال صلى الله عليه وسلم: "وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل حيث كان"، رواه الشيخان وغيرهما عن جابر، وقدمه المصنف تامًا في مبدأ الخصائص، فعجيب قول الشارح لم يذكر المصنف الحديث الدال لهذه ولحل الغنائم، ولكن آفة العلم النسيان.
"والمراد: موضع سجود" تباح الصلاة فيه، حيث لا مانع كنجاسة، فأطلق السجود على الصلاة، مجازًا من تسمية الكل باسم الجزء، "أي: لا يختص السجود منها، بموضع دون غيره" بل يشمل كل مكان، "ويمكن أن يكون" المسجد "مجازًا عن المكان المبني للصلاة، وهو من مجاز التشبيه" أي: شبه الموضع الذي جاز فيه السجود، ولو في صحراء بالبيت المهيأ للصلاة، وأطلق عليه اسمه، وهو المسجد؛ "لأنه لما جازت الصلاة في جميعها، كانت كالمسجد في ذلك" فيكون استعارة تصريحية، أو أنه قصد تشبيهه به بتقدير الأداة، وكأنه قيل: الموضع الذي يباح فيه السجود، كالبيت المهيأ للصلاة في جوازها فيه، لكن هذا الثاني لا يطابق قوله، وهو من مجاز التشبيه.
"وقيل: المراد" ليس هذا مقابلا لما قبله، إذ الأول بيان لمدلول اللفظ، وهذا في جهة الخصوصية، ولفظ الفتح الذي نقل عنه المصنف ظاهر؛ لأنه ليس فيه هذه الواو وعبارته.
قال ابن التين: قيل المراد "جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا، وجعلت لغيري مسجدًا، ولم تجعل له طهورًا، لأن عيسى كان يسيح في الأرض ويصلي حيث أدركته الصلاة" فالخصوصية لنا الجمع بين جواز الصلاة في أي محل، وبين كون الصعيد طهورًا والمسجد شورك فيه على ما "قاله" عبد الواحد "ابن التين، ومن قبله" أحمد بن نصر "الداودي" كلاهما في شرح البخاري، وسبقهما ابن بطال لذلك، ولم يبنوا على هذا حكم أمة عيسى في صلاتهم، لكن الأصل أن ما شرع لنبي شرع لأمته.
"وقيل: إنما أبيح لهم في موضع يتيقنون طهارته بخلاف هذه الأمة، فأبيح لهم في جميع الأرض؛ إلا فيما تيقنوا نجاسته" فالخصوصية على هذا جواز الصلاة في مظنون(7/230)
والأظهر: ما قاله الخطابي، وهو أن من قبله إنما أبيحت لهم الصلاة في أماكن مخصوصة نحو البيع والصوامع ويؤيده رواية عمرو بن شعيب بلفظ: "وكان من قبلي إنما يصلون في كنائسهم" وهذا نص في موضع النزاع فتثبت الخصوصية، ويؤيده ما رواه البزار من حديث ابن عباس، نحو حديث جابر وفيه: ولم يكن أحد من الأنبياء يصلي حتى يبلغ محرابه، قاله في فتح الباري.
ومنها: أن معجزته عليه الصلاة والسلام مستمرة إلى يوم القيامة، ومعجزات
__________
الطهارة، "والأظهر ما قاله الخطابي، وهو أن من قبله إنما أبيحت لهم الصلاة في أماكن مخصوصة نحو البيع" كنائس النصارى "والصوامع" للرهبان، فإن تعذر مجيئهم لها لنحو سفر، لم يصلوا على ظاهره، فيسقط عنهم أداؤها، ويقضون إذا بلغوها.
قال بعض شراح الرسالة القيروانية: كان من مضى من الأمم إنما يصلون بالوضوء في مواضع اتخذوها وسموها بيعًا، وكنائس وصوامع، فمن غاب منهم عن موضع صلاته لم يجز له أن يصلي في غيره من بقاع الأرض حتى يعود إليه، ثم يقضي كل ما فاته، وكذا إذا عدم الماء لم يصل حتى يجده، ثم يقضي ما فاته، وخصت اليهود برفع الجنابة بالماء الجاري دون غيره، انتهى، وهو ظاهر الأحاديث المذكورة في قوله: "ويؤيده رواية عمرو بن شعيب" عن أبيه، عن جده، "بلفظ: "وكان من قبلي إنما يصلون في كنائسهم". وهذا" اللفظ "نص في موضع النزاع" وهو هل الخصوصية بالمسجد أيضًا كالطهارة، "فتثبت الخصوصية" بالمسجد، كما هي ثابتة بالطهارة، "ويؤيده" أيضًا "ما رواه البزار من حديث ابن عباس نحو حديث جابر" المتقدم قبل عد الخصائص في المتن، "وفيه: ولم يكن أحد من الأنبياء يصلي حتى يبلغ محرابه" فهاتان الروايتان صريحتان في سقوط الأداء، ويقضون إذا رجعوا؛ كما جزم به بعض، كما رأيت، ويؤيده ظاهر قوله: حتى يبلغ محرابه، فلا اتجاه لما قيل: هل سقط عنهم مطلقًا، أو أداؤها، ويقضون إذا رجعوا، أو محل الحصر في الكنائس ونحوها في الحضر لا السفر، ويكون محل خصوصية الأمة المحمدية الصلاة بأي محل، ولو بجوار المسجد، وسهولة الصلاة فيه، بل هو تقصير، ويمنع الثالث حديث ابن عباس المذكور والحصر في الحديث قبله، إذ التقييد لا بد له من دليل، "قاله في فتح الباري" في كتاب التيمم في شرح حديث جابر المتقدم.
"ومنها: أن معجزته عليه الصلاة والسلام" إضافة عهدية أي المتبادرة المعهودة شرعًا وهي القرآن، وبه أفصح السيوطي "مستمرة إلى" قرب "يوم القيامة" حتى ترفع "ومعجزات(7/231)
سائر الأنبياء انقرضت لوقتها، فلم يبق إلا خبرها.
والقرآن العظيم لم تزل حجته قاطعة ومعارضته ممتنعة.
ومنها: أنه أكثر الأنبياء معجزة. قال القاضي عياض: أما كونها كثيرة فهذا القرآن كله معجز، وأقل ما يقع الإعجاز فيه عند بعض الأئمة المحققين بسورة {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} أو آية في قدرها، وذهب بعضهم: إلى أن كل آية منه كيف كانت معجزة، وذهب آخرون إلى أن كل جملة منتظمة.
__________
سائر الأنبياء انقرضت لوقتها، فلم يبق إلا خبرها" ولم يشاهدها إلا من حضرها وأكثرها حسية تشاهد بالبصر كناقة صالح وعصا موسى لبلادة أممهم، "والقرآن العظيم" الذي أريد بالمعجزة المستمرة "لم تزل حجته قاطعة" وهي عقلية تشاهد بالبصيرة لفرط ذكاء هذه الأمة فلا يمر عصر إلا ويظهر فيه شيء أخبر بأنه سيكون، "ومعارضته ممتنعة" لإعجازه فكان من يتبعه لأجلها أكثر إذ ما يدرك بالعقل يشاهده كل من جاء بعد الأول، وجميع معجزات المصطفى آحاد إلا القرآن، وحكمة ذلك مرت للمصنف في انشقاق القمر عن الخطابي وغيره.
"ومنها: أنه أكثر الأنبياء معجزة" فقد قيل: إنها تبلغ ألفًا، وقيل: ثلاثة آلاف، حكاهما البيهقي سوى القرآن، ففيه ستون ألف معجزة تقريبًا. قال الحليمي: وفيها مع كثرتها معنى آخر وهو أنه ليس في شيء من معجزات غيره ما ينحو نحو اختراع الأجسام، وإنما ذلك في معجزات نبينا خاصة نقله في الأنموذج.
"قال القاضي عياض" في الشفاء: ومعجزات نبينا خاصة أظهر من سائر معجزات الرسل بوجهين كثرتها وأنه لم يؤت نبي إلا وعند نبينا مثلها، أو ما هو أبلغ منها وقد نبه اناس على ذلك. "أما كونها كثيرة، فهذا القرآن كله معجز" دليل لكثرتها، وفي نسخة من الشفاء: وهذا بالواو بدل الفاء، فالتقدير: فهذا القرآن موجود معروف وجميع أجزائه معجز فناهيك به كثرة، "وأقل ما يقع الإعجاز فيه عند بعض الأئمة المحققين بسورة" بباء الجر داخلة على الخبر، وفي نسخ إسقاطها {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} ، وهي أقصر سورة في القرآن، "أو آية في قدرها" أي: مساوية لها في الحروف والكلمات وهي ثلاث آيات فأقل ما يقع الإعجاز به ثلاث آيات سورة أولا بحيث يظهر فيه تفاصيل قوى البلاغة، "وذهب بعضهم إلى أن كل آية منه كيف كانت" مقدار سورة أم لا؟ "معجزة" وقال قوم: لا يحصل الإعجاز بآية بل تشترط الآيات الكثيرة إذ لم يقم دليل على عجزهم عن معارضة أقل من سورة، وقيل: يتعلق الإعجاز بسورة طويلة كانت أو قصيرة تشبثًا بظاهر قوله: {بِسُورَةٍ} . "وذهب آخرون إلى أن كل جملة منتظمة" أي: مفيدة تامة(7/232)
منه معجزة، وإن كانت من كلمة أو كلمتين.
قال القاضي: والحق ما ذكرناه أولا، لقوله تعالى: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} [البقرة: 23] فهو أقل ما تحداهم به، مع ما ينصر هذا القول من نظر وتحقيق يطول بسطه.
فإذا كان هذا، ففي القرآن من الكلمات نحو من سبعة وسبعين ألف كلمة ونيف على عدد بعضهم.
__________
"معجزة وإن كانت من كلمة أو كلمتين" لا يرد كيف تكون جملة منتظمة وهي كلمة؛ لأنه يكون فيها مقدر كمدهامتان، وقال آخرون: يتعلق بقليل القرآن وكثيره بقوله: {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ} . قال القاضي: ولا دلالة في الآية لأن الحديث التام لا تتحصل حكايته في أول كلمات سورة.
"قال القاضي" عياض: "والحق ما ذكرناه أولا" أن المعجزة أقصر سورة أو مقدارها؛ "لقوله تعالى: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ} أي سورة كانت {مِنْ مِثْلِهِ} ، في الإعجاز ودخل مقدار السورة فيه بدلالة النص فلا يتوهم أنه ليس فيه دليل على مدعاه، "فهو" أي ما ذكر "أقل ما تحداهم" الله أو رسوله "به" أي طلب منهم معارضته "مع ما ينصر هذا القول" المذكور أولا، أي: يقويه ويؤيده "من نظر" أي فكر وتدبر "وتحقيق يطول بسطه" ببيان الأدلة والبراهين القائمة لمن تدبره، ونظير ما فيه من مراعاة كل مقام وما احتوى عليه من الجزالة واللطافة التي تحير العقول فقد تحداهم أولا بجملته، فقال: {قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} ، ثم بعشر سور فأتوا بعشر سور مثله ثم بسورة فسجل عجزهم بعد إرخاء عنان التكليف، "فإذا كان هذا" أي ثبت أن ما تحداهم به هذا المقدر الأقل، "ففي القرآن من الكلمات نحو من سبعة وسبعين ألف كلمة ونيف" أي: زيادة عليه "على عدد بعضهم" إن هذا مقداره وفي قدر هذا الزائد خلف، قال في الإتقان: عد قوم كلمات القرآن سبعة وسبعين ألف كلمة وتسعمائة وأربعًا وثلاثين كلمة، وقيل: وأربعمائة وسبعًا وثلاثين، وقيل: ومائتان وسبع وسبعون وقيل غير ذلك، قيل: وسبب الاختلاف في عدد الكلمات أن الكلمة لها حقيقة ومجاز ولفظ ورسم واعتبار كل منها جائز، وكل من العلماء اعتبر أحد الجوائز، قال: والاشتغال باستيعاب ذلك مما لا طائل تحته وقد استوعبه ابن الجزري في فنون الأفنان فراجعه منه، فإن كتابنا موضوع للمهمات، لا لمثل هذه البطلات، وقد قال السخاوي: لا أعلم لعدد الكلمات والحروف فائدة؛ لأن ذلك إنما يفيد في كتاب يمكن فيه الزيادة والنقص، والقرآن لا يمكن فيه ذلك، انتهى. فلفظ: نحو للمصنف زائد؛ لأن واحد من هذه الأقوال يصدق عليه أنه نيف.(7/233)
وعدد كلمات {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} عشر كلمات، فيتجزأ القرآن على نسبة {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} أزيد من سبعة آلاف جزء، كل واحد منها معجز في نفسه، ثم إعجازه -كما تقدم- بوجهين. بلاغته، وطريق نظمه، فصار في كل جزء من هذا العدد معجزاته فتضاعف العدد من هذا الوجه.
__________
"وعدد كلمات {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} عشر كلمات، فيتجزأ القرآن على نسبة {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} أي: على مقدارها وأتى بنسبة ليشمل آية واحدة وقدرها؛ كما مر، فالنسبة مجاز عن المقدار "أزيد من سبعة آلاف جزء" أي: بسبعمائة جزء وشيء؛ لأن السبعين ألفًا إذا قسمت على العشرة خرج لكل واحد منها سبعة آلاف، وإذا قسمت السبعة آلاف خرج لكل واحد منها سبعمائة فيصير الحاصل أن كل جزء سبعة آلاف وسبعمائة والنيف يختلف الخارج منه بحسب الخلاف فيه، "كل واحد منها معجز في نفسه" أي: بقطع النظر عن غيره "ثم إعجازه" أي القرآن؛ "كما تقدم" من ذكر الاختلاف في قدره "بوجهين" الأول "بلاغته" أي: ما فيه من مراعاة الوجوه التي بها يطابق اللفظ مقتضى الحال فهي من جهة المعنى، "والثاني "طريق نظمه" أي أسلوبه وكونه على نسق لا يشبه غيره من الكلام نظمًا وسجعًا ونثرًا وتناسب كلماته وجملة وإيتاء كل كلمة منه ما تستحقه وتنزيلها في محل لا يليق بها غيره، كما يعرفه من ذاق طعم البلاغة، "فصار في كل جزء من هذا العدد معجزتان" من جهة بلاغته ونظمه، "فتضاعف" ماض من التفاعل أو مضارع من المفاعلة "العدد" أي: عدد معجزته "من هذا الوجه" المشتمل على البلاغة والنظم، قال ابن عطية: الصحيح والذي عليه الجمهور والحذاق في وجه إعجازه أنه بنظمه وصحة معانيه وتوالي فصاحة ألفاظه وذلك أن الله أحاط بكل شيء علمًا وأحاط بالكلام كله، فإذا تركبت اللفظة من القرآن علم بإحاطته أي لفظة تصلح أن تلي الأولى، وتبين المعنى بعد المعنى ثم كذلك من أول القرآن إلى آخره والبشر يعمهم الجهل والنسيان والذهول، ومعلوم ضرورة أن أحدًا من البشر لا يحيط بذلك فبهذا جاء نظم القرآن في الغاية القصوى من الفصاحة، وبهذا يبطل قول من قال: إن العرب كان في قدرتها الإتيان بمثله فصرفوا عن ذلك. والصحيح أنه لم يكن في قدرة أحد قط، ولهذا ترى البليغ يفتتح القصيدة أو الخطبة حولا ثم ينظر فيها يتعرفها وهلم جرًا، وكتاب الله سبحانه لو نزعت منه لفظة ثم أدير لسان العرب على لفظة أحسن منها لم يوجد، ونحن تتبين لنا البلاغة في أكثره ويخفى علينا وجهها في مواضع لقصرنا عن مرتبة العرب يومئذ في سلامة الذوق، وجودة القريحة، وإقامة الحجة على العالم بالقرآن؛ لأنهم كانوا أرباب الفصاحة ومظنة المعارضة كما قامت الحجة في معجزة موسى بالسحر، وفي معجزة عيسى بالطب، فكأن السحر انتهى في مدة موسى إلى غايته، وكذا(7/234)
ثم فيه وجوه إعجاز آخر، من الإخبار بعلوم الغيب، فقد يكون في السورة الواحدة من هذه التجزئية الإخبار عن أشياء من الغيب، كل خبر منها بنفسه معجز، فتضاعف العدد كرة بعد أخرى.
ثم وجوه الإعجاز الآخر التي ذكرناها توجب التضعيف، هذا في حق القرآن، فلا يكاد يأخذ العد معجزاته، ولا يحوي الحصر براهينه.
ومن ذلك انشقاق القمر وتسليم الحجر، وحنين الجذع ونبع الماء من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم، ولم يثبت لواحد من الأنبياء مثل ذلك، كما ذكره ابن عبد السلام وغيره، وتقدم ما فيه من المباحث.
ومنها: أنه خاتم الأنبياء والمرسلين.
__________
الطب في زمن عيسى، والفصاحة في زمن محمد صلى الله عليه وسلم، انتهى.
"ثم فيه وجوه إعجاز آخر" غير الطريقين "من الإخبار بعلوم الغيب" أي الأمور المغيبة سابقة أو لاحقة بيان لوجوه، "فقد يكون في السورة الواحدة من هذه التجزئة" أي الأجزاء المذكورة المضاعفة من جهتي الإعجاز "الإخبار عن أشياء من الغيب" الأمور المغيبة عن علمنا "كل خبر منها بنفسه معجز" باعتبار إخباره عن الغيب وقطع النظر عن غيره من وجوه الإعجاز، "فتضاعف" ماض أو مضارع؛ كما مر "العدد" المذكور، أي: العدد المضاعف لقوله: "كرة" أي: مرة "بعد أخرى" أي: بعد مضاعفته السابقة "ثم وجوه الإعجاز الآخر التي ذكرناها" وهي ذكر المغيبات "توجب التضعيف" الزيادة إلى ما لا يكاد يحصى كثرة "هذا في حق القرآن" دون غيره من المعجزات الزائدة على معجزات سائر الأنبياء، "فلا يكاد يأخذ العد" وفي نسخة: العدد، وهما بمعنى "معجزاته" أي: لا يحيط بها لكثرتها، فالمراد بالأخذ الإحاطة مجازًا بليغًا؛ كقوله: {لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} ، وهو مبالغة، ولذا قال: لا يكاد "ولا يحوي الحصر" أي: الإحاطة "براهينه" أي: أدلته القاطعة الدالة على ثبوت رسالته لسائر الخلق وبقية كلام الشفاء في هذا الوجه ثم الأحاديث الواردة في هذه الأبواب، أي: أبواب معجزاته وما دل على أمره مما أشرنا إلى جمل منه تبلغ نحوًا من هذا، أي: المقدار الكثير. "ومن ذلك انشقاق القمر، وتسليم الحجر، وحنين الجذع، ونبع الماء من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم، ولم يثبت لواحد من الأنبياء مثل ذلك" المذكور من الأربع، وكذا اختراع الأجسام كتكثير التمر والطعام؛ "كما ذكره ابن عبد السلام عز الدين "وغيره وتقدم ما فيه من المباحث" في المعجزات.
"ومنها: أنه خاتم الأنبياء والمرسلين" كما قال تعالى: {وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمُ(7/235)
قال صلى الله عليه وسلم: "مثلي ومثل الأنبياء قبلي كمثل رجل بنى بيتًا فأحسنه وأكمله إلا موضع لبنة من زاوية من زواياه فجعل الناس يطوفون به ويتعجبون له ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة، فأنا تلك اللبنة وأنا خاتم النبيين". رواه البخاري ومسلم.
__________
النَّبِيِّينَ} ، أي: آخرهم الذي ختمهم أو ختموا به على قراءة عاصم بالفتح، وروى أحمد والترمذي والحاكم بإسناد صحيح عن أنس مرفوعًا: "إن الرسالة والنبوة قد انقطعت فلا رسول بعدي ولا نبي"، وقيل: من لا نبي بعده يكون أشفق على أمته وهو كالوالد لولد ليس له غيره، ولا يقدح نزول عيسى بعده؛ لأنه يكون على دينه مع أن المراد أنه آخر من نبئ، وكذا الخضر والياس على بقائهما إلى آخر الزمان تابعان لأحكام هذه الملة.
قال عليه الصلاة والسلام: "مثلي" مبتدأ "ومثل الأنبياء قبلي" عطف عليه "كمثل رجل" خبره "بنى بيتًا فأحسنه وأكمله" وفي رواية جابر: كرجل بنى دارًا فأكملها وأحسنها "إلا موضع لبنة" بفتح اللام وكسر الموحدة بعدها نون وبكسر اللام وسكون الموحدة أيضًا قطعة طين تعجن وتعد للبناء من غير إحراق فإذا أحرقت فهي آجرة، "من زاوية من زواياه فجعل الناس يطوفون به" بالبيت "ويتعجبون له" أي: لأجله، وفي رواية جابر: فجعل الناس يدخلونها ويتعجبون أي من حسنها، "ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة"؟ وزاد في رواية أحمد: فيتم بنيانك "فأنا تلك اللبنة وأنا خاتم النبيين" ومكمل شرائع الدين، فإن قيل: المشبه به واحد والمشبه جماعة، فكيف صح التشبيه؟ أجيب: فإنه جعل الأنبياء كرجل واحد لأنه لا يتم ما أراد من التشبيه إلا باعتبار الكل، وكذا الدار لا تتم إلا باجتماع البنيان، ويحتمل أن يكون من التشبيه التمثيلي وهو أن يؤخذ وصف من أوصاف المشبه ويشبه بمثله من أحوال المشبه به فكأنه شبه الأنبياء وما بعثوا به من إرشاد الناس ببيت أسست قواعده ورفع بنيانه وبقي منه موضع يتم به صلاح ذلك البيت، وزعم ابن العربي: أن اللبنة المشار إليها كانت في أس الدار المذكورة، وأنها لولا وضعها لانقضت تلك الدار، قال: وبهذا يتم المراد من التشبيه المذكور. قال الحافظ: وهذا إن كان منقولا فهو حسن، وإلا فليس بلازم نعم ظاهر السياق أن تكون اللبنة في مكان يظهر عدم الكمال في الدار بفقدها، وقد وقع في رواية مسلم: "إلا موضع لبنة من زاوية من زواياها" فظهر أن المراد أنها مكملة محسنة وإلا لاستلزم أن يكون الأمر بدونها ناقصًا وليس كذلك فإن شريعة كل نبي بالنسبة إليه كاملة، فالمراد هنا النظر إلى الأكمل بالنسبة إلى الشريعة المحمدية مع ما مضى من الشرائع الكاملة، "رواه البخاري" في أحاديث الأنبياء "ومسلم" في الفضائل من حديث أبي هريرة واللفظ له، ومن حديث جابر بنحوه، وفي الحديث ضرب الأمثال للتقريب للأفهام وفضل النبي صلى الله عليه وسلم على سائر الأنبياء وأن الله ختم به النبيين وأكمل شرائع الدين.(7/236)
ومنها: أن شرعه مؤبد إلى يوم الدين، وناسخ لجميع شرائع النبيين، وأنه أكثر الأنبياء تابعًا كما قال عليه السلام: فأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا يوم القيامة. رواه الشيخان من حديث أبي هريرة.
ومنها أنه لو أدركه الأنبياء لوجب عليهم اتباعه.
__________
"ومنها: أن شرعه مؤبد" بموحدة: باق "إلى يوم الدين" أي: يوم الجزاء ومنه كما تدين تدان، وبيت الحماسة:
ولم يبق سوى العدوا ... ن دناهم كما دانوا
وقيل: الدين الشريعة والطاعة، فالمعنى يوم جزاء الدين وقد تكفل الله لشرعه ببقائه على ممر الدهور حتى ينزل عيسى فيحكم به ثم يضمحل عند قيام الساعة بموت الطائفة الذين لا يزالون قائمين بالحق لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي الله، أي: ربح لينة تقبض أرواحهم فلا يبقى على الأرض من يقول لا إله إلا الله، فتقوم الساعة؛ كما بين في أحاديث.
"وناسخ لجميع شرائع النبيين" إجماعًا حكاه غير واحد نعم خصه الإمام الرازي بالشرائع السمعية لا العقلية فيمتنع نسخة كمعرفة الباري وطاعته، "وأنه أكثر الأنبياء تابعًا؛ كما قال عليه السلام": "ما من الأنبياء من نبي إلا وقد أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيًا أوحاه الله إليّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا يوم القيامة". ورجاؤه محقق وقد جزم به في مسلم عن أنس رفعه: "أنا أكثر الأنبياء تبعًا يوم القيامة"، وروى البزار: "يأتي معي من أمتي يوم القيامة مثل السيل والليل". وخصها لأنها يوم ظهور ذلك، "رواه الشيخان من حديث أبي هريرة" ورتب قوله: "فأرجو" ... إلخ، على ما تقدم من معجزات القرآن المستمرة لكثرة فائدة وعموم نفعه لاشتماله على الدعوة والحجة والإخبار بما سيكون فعم نفعه من حضر ومن غاب من وجد ومن سيوجد، فحسن ترتيب الرجاء على ذلك، وهذا قد تحقق فإنه أكثرهم تبعًا ودل الحديث على أن النبي لا بد له من معجزة تقتضي إيمان من شاهدها بصدقه ولا يضره من أصر على المعاندة، وقوله: ما مثله ما موصول وقعت مفعولا ثانيًا لأعطى ومثله مبتدأ وآمن خبره، والمثل يطلق ويراد به عين الشيء وما يساويه والمعنى أن كل نبي أعطي آية أو أكثر من شأن من يشاهدها من البشر أن يؤمن لأجلها وعليه بمعنى اللام أو الباء ونكتة التعبير بها تضمنها معنى الغلبة، أي: يؤمن بذلك مغلوبًا عليه بحيث لا يستطيع دفعه عن نفسه لكن قد يخذل فيعاند؛ كما قال تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ} ، وقوله: "وإنما كان الذي أوتيته وحيًا"، أي: القرآن، المراد النوع المختص به أو أعظمها وأفيدها لا حصر معجزاته فيه؛ لأنها لم تنحصر فيه أو أنه لا مثل له لا صورة ولا حقيقة بخلاف غيره من المعجزات، فلا يخلو عن مثل، وقيل غير ذلك؛ كما بسطه في الفتح.
"ومنها: أنه لو أدركه الأنبياء لوجب عليهم اتباعه" لقوله صلى الله عليه وسلم: "لو كان موسى حيًا(7/237)
كما سيأتي تقريره إن شاء الله تعالى.
ومنها أنه أرسل إلى الجن.
__________
ما وسعه إلا اتباعي"، رواه أبو نعيم وغيره، "كما سيأتي تقريره إن شاء الله تعالى" في المقصد السادس، وسبقت الإشارة إليه في ذا المقصد والمقصد الأول.
"ومنها: أنه أرسل إلى الجن" وهم كما قال الحافظ عن أبي يعلى بن الفراء الحنبلي: أجسام مؤلفة وأشخاص ممثلة يجوز. أن تكون رقيقة وأن تكون كثيفة خلافًا لدعوى المعتزلة أنها رقيقة وأن امتناع رؤيتنا لهم من جهة رقتها، وهو مردود بأن الرقة لا تمنع الرؤية، ويجوز أن يخفي عن رؤيتنا بعض الأجساد الكثيفة إذا لم يخلق الله فينا إدراكها. وروى البيهقي عن الشافعي: من زعم أنه يرى الجن أبطلنا شهادته إلا أن يكون نبيًا، وهو محمول على من ادعى رؤيتهم على صورهم التي خلقوا عليها. وأما من ادعى أنه يرى شيئًا منهم بعد أن يتصور على صورة شيء من الحيوان، فلا يقدح فيه وقد تواترت الأخبار بتطورهم في الصور، واختلف المتكلمون هل هو تخيل فقط ولا ينتقل أحد عن صورته الأصلية، أو ينتقلون لكن لا اقتدار لهم على ذلك بل بضرب من الفعل إذا فعله انتقل كالسحر، وهذا قد يرجع إلى الأول. قال ابن عبد البر: الجن عند الجماعة مكلفون، قال عبد الجبار: لا نعلم خلافًا بين أهل النظر في ذلك إلا ما حكي عن بعض الحشوية أنهم مضطرون إلى أفعالهم وليسوا مكلفين. قال: والدليل للجماعة ما في القرآن من ذم الشياطين والتحرز من شرهم وما أعد لهم من العذاب، وهذه الخصال إنما تكون لمن خالف الأمر وارتكب النه مع تمكنه من أن لا يفعل والآيات والأخبار الدالة على ذلك كثيرة جدًا، وإذا تقرر تكليفهم فهم مكلفون بالتوحيد وأركان الإسلام. وأما ما عداه من الفروع ففيه خلاف، لما ثبت أن الروث والعظم زاد الجن، وفي رواية في الصحيح: أنهما طعام الجن، فدل على جواز تناولهم الروث وهو حرام على الإنس؛ كذا في فتح الباري ولا دليل في حديث الروث، لأنه علف دوابهم، كما في الصحيح. وقد نقل ابن عطية وغيره الإجماع على أن الجن متعبدون بهذه الشريعة، فإن قيل: لو كانت الأحكام بجملتها لازمة لهم لترددوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم حتى يتعلموها مع أنهم إنما اجتمعوا به قليلا، أجيب بأنه لا يلزم من عدم اجتماعهم به وحضورهم مجلسه وسماعهم كلامه أن لا يعلموا الأحكام فإن في الآثار والأخبار أن مؤمنيهم يصلون، ويصومون، ويحجون، ويطوفون، ويقرءون القرآن، ويتعلمون العلوم ويأخذونها عن الإنس، ويروون عنهم الأحاديث، وإن لم يشعروا بهم وبأنه يمكن اجتماعهم بالنبي صلى الله عليه وسلم من غير أن يراهم المؤمنين، ويكون هو يراهم دون أصحابه بقوة يعطيها الله له زائد عن قوة أصحابه، ثم لا خلاف أنهم يعاقبون على المعاصي.(7/238)
اتفاقًا، والدليل على ذلك قبل الإجماع: الكتاب والسنة، قال الله تعالى: {لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان: 1] ، وقد أجمع المفسرون على دخول الجن في هذه الآية، وهو مدلول لفظها.
__________
واختلف: هل ينامون؟ وإليه ذهب الجمهور، وقال به الأئمة الثلاثة والأوزاعي وأبو يوسف ومحمد بن الحسن، وعليه فهل يدخلون مدخل الإنس؟ وهو قول الأكثر والأشهر والأكثر أدلة، زاد الحارث بن أسد المحاسبي: ونراهم في الجنة ولا يرونا عكس الدنيا، قال الضحاك: ويأكلون فيها ويشربون، وقال مجاهد: يلهمون التسبيح والتقديس فيجدون فيه ما يجده الإنس من اللذة أو يكونون في ربض الجنة أو العراف أو الوقف أقوال، واستدل الإمام مالك على أن لهم الثواب وعليهم العقاب بقوله تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} ، ثم قال: {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} ، والعذاب للإنس والجن فإذا ثبت أن فيهم مؤمنين، ومن شأن المؤمنين أن يخاف مقام ربه ثبت المطلوب، واستدل ابن وهب بقوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ} ، وابن عبد الحكم وغيره بقوله تعالى: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا} بعد قوله: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} ، وذهب أبو حنيفة وليث بن أبي سليم أن ثواب الجن أن يجاروا من النار ثم يكونوا أترابًا، واحتجا بقوله تعالى: {وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} ، وقوله: {فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا} ، قالا: فلم يذكر في الآيتين ثوابا غير النجاة من العذاب، وأجيب بأن الثواب مسكوت عنه وأن ذلك من قول الجن، فيجوز أنهم لم يطلعوا على ذلك وخفي عليهم ما أعد الله لهم من الثواب.
وروى ابن مردويه وأبو الشيخ وابن أبي الدنيا والحكيم الترمذي والديلمي بإسناد فيه ضعف عن أبي الدرداء مرفوعًا: "خلق الله الجن ثلاثة أصناف: صنف حيات وعقارب وخشاش الأرض، وصنف كالريح في الهواء، وصنف عليهم الحساب والعقاب" "اتفاقًا" أي: إجماعًا بدليل قوله: "والدليل على ذلك قبل الإجماع" المعلوم من الدين بالضرورة "الكتاب والسنة" أما الكتاب، فقد "قال الله تعالى: {لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} منذرًا أو إنذارًا كالتكبير بمعنى الإنكار، "وقد أجمع المفسرون على دخول الجن في هذه الآية" ولا يقدح فيه القول بأن المراد الناس فقط؛ لأن كل واحد منهم من حيث اشتماله على نظائر ما في العالم الكبير من الجواهر والأعراض يعلم بها الصانع كما يعلم فيه عالم على حاله، ولذا أمر بالنظر إلى الأنفس في الآفاق، فقيل: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} أما الشذوذ فلم يعتد به حاكى الإجماع أو أن قائله ليس من المفسرين، "وهو مدلول لفظها" بناء على أن العالمين اسم جمع لمن يعقل خاصة، وهم الملائكة والثقلان لا جمع له؛ لأن العالم اسم لما سوى الله فلو كان جمعًا له للزم أن معنى(7/239)
فلا يخرج عنه إلا بدليل.
وإن قيل إن الملائكة خارجون من ذلك فلا يضر، لأن العام المخصوص حجة عند جمهور العلماء والأصوليين، ولو بطل الاستدلال بالعمومات المخصوصة لبطل الاستدلال بأكثر الأدلة.
وقال تعالى في الأحقاف: {أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ} [الأحقاف: 31] ، فأمر بعضهم بعضًا بإجابته دليل على أنه داع لهم، وهو معنى بعثته لهم، إلى غير ذلك من الآيات.
__________
المفرد أكثر من معنى الجمع، وهذا أحد قولين. والثاني: أنه جمع شامل لذوي العلم وغيرهم، قال البيضاوي: العالم اسم لما يعلم به كالخاتم والقالب غلب فيما يعلم به الصانع وهو كل ما سواه من الجواهر والأعراض فإنها لإمكانها وافتقارها إلى مؤثر فيها واجب لذاته تدل على وجوده، وإنما جمعت ليشمل ما تحته من الأجناس المختلفة وغلب العقلاء منهم فجمعه بالياء والنون كسائر أوصافهم. وقيل: اسم وضع لذوي العلم من الملائكة والثقلين، انتهى. وإذا كان كذلك، "فلا يخرج عنه إلا بدليل" ولم يوجد فثبت دخولهم في اللفظ "وإن قيل: إن الملائكة خارجون من ذلك" العموم على مذهب الأكثر أنه ليس مرسلا إليهم فتضعف دلالة العام على إفراده لاحتماله التخصيص زيادة على ما خص به، فحيث ثبت استثناء الملائكة من العالمين جاز استثناء الجن أيضًا، فلا تدل الآية على أنه مرسل إليهم، "فلا يضر" ذلك في الاستدلال بها على دخول الجن؛ "لأن العام المخصوص حجة عند جمهور العلماء والأصوليين" مطلقًا لاستدلال الصحابة به من غير نكير، وقيل: إن خص بمعين لا مبهم كاقتلوا المشركين إلا بعضهم، وقيل: إن خص بمتصل كالصفة وقيل غير ذلك، ومحل الخلاف إن لم نقل إنه حقيقة وإلا احتج به جزمًا؛ كما قاله ابن السبكي فتقييد المصنف بالجمهور بناء على أنه مجاز، فإن قلنا حقيق كان حجة عند الجميع.
"ولو بطل الاستدلال بالعمومات المخصوصة" كما قيل به مطلقًا أيضًا، "لبطل الاستدلال بأكثر الأدلة" لكونها مخصوصة وهو خلاف عمل الصحابة والأئمة بعدهم، "وقال تعالى في الأحقاف" ذكر لمن يعلم أو شذ عنه: {يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ} ، فأمر بعضهم بعضًا بإجابته دليل على أنه داع لهم وهو معنى بعثته لهم إلى غير ذلك من الآيات" كقوله تعالى: {لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغ} والجن بلغهم القرآن، وقوله تعالى: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلَانِ} وهما الإنس والجن؛ لأنهما ثقلا الأرض أو لأنهما مثقلان بالذنوب. وقال: ولمن خاف مقام ربه(7/240)
وأما السنة، ففي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "فضلت على الأنبياء بست" فذكر منها، "وأرسلت إلى الخلق كافة" فإنه يشمل الجن والإنس، وحمله على الإنس خاصة تخصيص بغير دليل فلا يجوز. والكلام فيه كالكلام في آية الفرقان.
فإن قلت: إن قوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف: 58] ، {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ} [سبأ: 28] ظاهر في اختصاص رسالته عليه السلام بالإنس، واحتمال غير ذلك عدول عن الظاهر.
فالجواب: إن هذا إنما يتمشى على مذهب الدقاق.
__________
جنتان ولذا قيل: من الجن مقربون وأبرار كالإنس.
"وأما السنة" قسيم لمقدر كما مر، "ففي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "فضلت على الأنبياء بست" من الخصال وليس المراد الحصر، لأنه فضل بأكثر بل أخبر بما أوحي إليه أولا ثم أخبر بالباقي؛ كما مر بسطه. "فذكر" الحديث المتقدم لفظه في المتن أول الخصائص، فلا ننقله من غيره.
منها: "وأرسلت إلى الخلق كافة" إرساله عامة محيطة بهم لأنها إذا شملتهم فقد كفتهم أن يخرج منها أحد منهم، وهذا أصرح الروايات وأشملها، "فإنه يشمل الجن والإنس" بل والملائكة كما يأتي، "وحمله على الإنس خاصة تخصيص بغير دليل، فلا يجوز" لأنه تحكم، "والكلام فيه كالكلام في آية الفرقان" المذكورة أولا إذ العالمين والخلق كل منهما عام، "فإن قلت: إن قوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} حال من إليكم والخلق كل منهما عام، "وقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ} إلا إرساله عامة لهم من الكف؛ فإنها إذا لحقتهم فقد كفتهم أن يخرج منها أحد أو إلا جامعًا لهم في الإبلاغ فهو حال من الكاف والتاء للمبالغة، ولا يجوز جعلها حالا من الناس على المختار، قاله البيضاوي. "ظاهر" ما ذكر من الآيتين ولذا لم يقل ظاهر إن "في اختصاص رسالته عليه السلام بالإنس" لأن الخطاب لهم، "واحتمال غير ذلك عدول عن الظاهر" فهل يخالف الآيات والأحاديث الدالة على بعثه إلى الجن؟ "فالجواب: إن هذا" السؤال "إنما يتمشى على مذهب" الأستاذ أبي علي الحسن بن علي النيسابوري "الدقاق" إمام عصره برع في الفقه والأصول والعربية والتصوف، قال الغزالي: كان زاهد زمانه وعالم أوانه له كرامات ظاهرة ومكاشفات باهرة، قيل له: لم زهدت في الدنيا؛ قال: لما زهدت في أكثرها أنفت عن الرغبة في أقلها، مات سنة خمس أو ست وأربعمائة:(7/241)
القائل بأن مفهوم اللقب حجة، و"الناس" من قبيل اللقب، فإن المسألة المترجمة في الأصول "بمفهوم اللقب" لا تختص باللقب، بل الأعلام وأسماء الأجناس كلها كذلك ما لم تكن صفة. و"الناس" اسم جنس غير صفة فلا مفهوم له. فهذه الآية ليس فيها أصلا ما يفهم منه أنه ليس رسولا إلى غيرهم إلا على مذهب الدقاق، بل ولا يتم على مذهبه التمسك بهذا المفهوم أيضًا لأن الدقاق إنما يقول به حيث لم يظهر غرض سواه في ذلك الاسم، وحيث غرض لا يقول بالمفهوم، بل يحمل التخصيص على ذلك الغرض، والغرض في الآية التعميم في جميع الناس، وعدم اختصاص الرسالة ببعضهم، فلا يلزم نفي الرسالة عن غيرهم، لا على مذهب الدقاق ولا على مذهب غيره، وإنما خاطب الناس لأنهم الذين تغلب رؤيتهم والخطاب معهم، فمقصود الآية خطاب الناس، والتعميم فيهم لا النفي عن.
__________
"القائل بأن مفهوم اللقب حجة" خصه لاشتهاره بذلك وإلا فقد قال به الصيرفي من الشافعية وهو أقدم منه وأجل وابن خويز منداد من المالكية إذ لا فائدة لذكره إلا نفي الحكم عن غيره كالصفة. وأجيب بأن فائدته استقامة الكلام إذ بإسقاطه يختل بخلاف إسقاط الصفة، "والناس من قبيل اللقب" عند الأصوليين وهو الاسم الجامد سواء كان عالمًا أو اسم جنس لا عند النحاة الذي هو ما أشعر برفعه المسمى أوضعته، "فإن المسألة المترجمة في الأصول بمفهوم اللقب لا تختص باللقب" المشعر بمدح أو ذم، "بل الأعلام كلها وأسماء الأجناس كلها، كذلك لم تكن صفة" ظاهره أنها من أسماء الأجناس، وفي المحلى خلافه فكأن مراده أن أسماء الأجناس لا تشمل الصفة فلا تدخل في اللقب، "والناس اسم جنس غير صفة فلا مفهوم له" فسقط السؤال، "فهذه الآية ليس فيه أصلا ما يفهم منه أنه ليس رسولا إلى غيرهم" أي: اإنس "إلا على مذهب الدقاق" وهو ضعيف "بل" انتقالية، "ولا يتم على مذهبه التمسك بهذا المفهوم أيضًا؛ لأن الدقاق إنما يقول به حيث لم يظهر غرض سواه" أي غيره "في ذلك الاسم" فيوافق الدقاق غيره على عدم اعتبار مفهوم اللقب، "وحيث ظهر غرض" كموافقة الغالب وما معها المذكور في الأصول، "لا يقول" الدقاق "بالمفهوم بل يحمل التخصيص على ذلك الغرض، والغرض في الآية التعميم في جميع الناس وعدم اختصاص الرسالة ببعضهم" كما زعم اليهود والنصارى لا نفي غير الناس، وحينئذ "فلا يلزم نفي الرسالة عن غيرهم لا على مذهب الدقاق ولا على مذهب غيره" وهم الجمهور، "وإنما خاطب الناس" فقط؛ "لأنهم الذين تغلب رؤيتهم والخطاب معهم، فمقصود الآية خطاب الناس والتعميم فيهم لا النفي عن(7/242)
غيرهم، وهذا إذا قلنا إن لفظ الناس لا يشمل الجن، فإن قلنا إنه يشملهم فواضح.
والاختلاف فيه مبني على الاختلاف في اشتقاق الناس، هل هو من النوس، وهو الحركة، أو من الإنس وهو ضد الوحشة؟ فإذا قلنا بالأول أطلق على الفريقين، ولكن استعماله في الإنس أغلب، فحيث أطلق فالمراد به ولد آدم، وإذا قلنا بالثاني فلا، لأنا لا نبصر الجن ولا نأنس بهم، فدخول الجن في الآية إما ممتنع وإما قليل فلا يحمل عليه، وبهذا يتبين ضعف الاستدلال بها، لكنها لا تدل على خلافه.
وأما قول الضحاك ومن تبعه: أن الرسل إلى الجن منهم، لقوله تعالى: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} [الأنعام: 130] ، فهو ظاهر الآية،
__________
غيرهم" حتى يتأتى السؤال، "وهذا" كله إنما يحتاج إليه "إذا قلنا: إن لفظ الناس لا يشمل الجن" كما هو أحد القولين، "فإن قلنا: إنه يشملهم" كما هو القول الآخر، "فواضح" عدم تأتي السؤال وتكون الآيتان من جملة أدلة العموم، "واختلاف فيه" أي الشمول للجن "مبني على الاختلاف في اشتقاق الناس هل هو من النوس" المصدر "وهو الحركة" لأن أصل المشتقات المصدر على الراجح، وهو قول البصريين ولذا لم يقل من ناس إذا تحرك لابتنائه على قول الكوفيين إن أصلها الفعل، "أو من الإنس وهو ضد الوحشة، فإذا قلنا بالأول" من النوس "أطلق على الفريقين" لأن الجن يتحركون كالإنس، "ولكن" مع ذلك "استعماله في الإنس أغلب" من استعماله في الجن، "فحيث أطلق فالمراد به ولد آدم" لأنه الأغلب، "وإذا قلنا بالثاني" وهو الإنس، "فلا" يدخل الجن "لأنا لا نبصر الجن ولا نأنس بهم، فدخول الجن في الآية إما ممتنع" على أنه من الإنس. "وإما قليل" على أنه من النوس، "فلا يحمل عليه" الآية "وبهذا يتبين ضعف الاستدلال بها" على أنه مرسل إليهم؛ "لكنها لا تدل على خلافه" وهو خروج الجن عن كونه مرسلا إليهم بل هي ساكنة عنه.
"وأما قول الضحاك" من مزاحم الهلالي أبو القاسم أو أبو محمد الخراساني صدوق كثير الإرسال روى له الأربعة مات بعد المائة، "ومن تبعه: أن الرسل إلى الجن منهم؛ لقوله تعالى: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} ، فهو ظاهر الآية" قال ابن جرير: لأن الله أخبر أن من الجن والإنس رسلا أرسلوا إليهم، فلو جاز أن المراد برسل الجن رسل الإنس لجاز عكسه وهو فاسد، وأجاب الجمهور بأن معنى الآية أن رسل الإنس رسل من قبل الله إليهم ورسل الجن يتهم الله في الأرض ليسمعوا كلام رسل الإنس ويبلغوه قومهم؛ كما قال تعالى: {وَلَّوْا إِلَى(7/243)
لكن لم يقل الضحاك ولا أحد غيره باستمرار ذلك في هذه الملة. وإنما محل الخلاف في ذلك في الملل المتقدمة خاصة، وأما في هذه الملة فنبينا محمد صلى الله عليه وسلم هو المرسل إليهم وإلى غيرهم، ولم ينقل أحد عن الضحاك أن رسل الجن منهم مطلقًا، ولا ينبغي أن ينسب إليه ما يخالف الإجماع، على أن الأكثرين قالوا: لم تكن الرسل إلا من الإنس، ولم يكن من الجن قط رسول، لكن لما جمعوا مع الجن في الخطاب صح ذلك. ونظيره قوله: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} [الرحمن: 22] ، وهما يخرجان من الملح دون العذب، وقيل الرسل من الجن رسل الرسل من بني آدم إليهم لا رسل الله، لقوله تعالى: {وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ} [الأحقاف: 29] .
__________
قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى} الآية؛ "لكن لم يقل الضحاك ولا أحد غيره باستمرار ذلك في هذه الملة" المحمدية، "وإنما محل الخلاف في ذلك في الملل المتقدمة خاصة, وأما في هذه الملة فنبينا صلى الله عليه وسلم هو المرسل إليهم وإلى غيرهم" إجماعًا حكاه ابن عبد البر وابن حزم وغيرهما: "ولم ينقل أحد عن الضحاك أن رسل الجن منهم مطلقًا" أي: في الأمم السابقة وهذه الأمة بدليل قوله: "ولا ينبغي أن ينسب إليه ما يخالف الإجماع" ويحتمل أن معنى الإطلاق لا بأنفسهم ولا عن أحد من البشر، فهو مقابل قوله الآتي، وقيل: الرسل من الجن وفيه بعد "على أن الأكثرين قالوا: لم تكن الرسل إلا من الإنس" خاصة، "ولم يكن من الجن رسول قط لكن لما جمعوا مع الجن في الخطاب صح ذلك" من باب الحكم على المجموع فلا يستلزم الحكم على الجميع، "ونظيره قوله: {يَخْرُجُ} بالبناء للفاعل والمفعول {مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} ، وهما" إنما "يخرجان من الملح دون العذب" على الصحيح، وقول الجمهور: خلافًا لقوم أنه يخرج من العذب أيضًا، قال ابن عطية: وقد رد الناس هذا القول لأن الحسن يكذبه ووجهت آية {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ} أيضًا بأنه لما كان النداء لهما معًا والتوبيخ جرى الخطاب عليهما على سبيل التجوز المعهود في كلام العرب تغليبًا للإنس لشرفهم وتأوله الفراء على حذف مضاف، أي: من أحدكم؛ كقوله: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} ، أي: من أحدهما وهو الملح؛ وكقوله: {وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا} ، أي: في إحداهن وهي سماء الدنيا، و {يَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} أراد بالذكر التكبير وبالأيام العشر، أي: أحد أيام العشر وهو يوم النحر.
"وقيل: الرسل من الجن رسل الرسل من بني آدم إليهم" فهم رسل الله بواسطة إذ هم رسل رسله، "لا رسل الله" بلا واسطة؛ "لقوله تعالى: {وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ} وهذا(7/244)
قاله بعض العلماء.
ومنها أنه أرسل إلى الملائكة في أحد القولين، ورجحه السبكي.
__________
منقول عن ابن عباس والضحاك أيضًا ونقل بعضهم عنه موافقة الجمهور أيضًا، "قاله بعض العلماء" وقيل: بعث الله رسولا واحدًا من الجن إليهم اسمه يوسف ونقل عن ابن عباس أنه المراد في قوله تعالى: {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ} واحتج ابن حزم على أن الرسل إلى الجن منهم في الأمم السابقة بقوله صلى الله عليه وسلم: "وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة"، وليس الجن من قوم الإنس فيثبت أنه كاهن منهم أنبياء إليهم، وفي استدلاله بالحديث نظر. وما أخرجه الحاكم والبيهقي عن ابن عباس في قوله: "ومن الأرض مثلهن" قال: سبع أرضين في كل أرض آدم كآدمكم ونوح كنوحكم وإبراهيم كإبراهيمكم وعيسى كعيساكم ونبي كنبيكم، فقال البيهقي: إسناده صحيح لكنه شاذ بمرة، يعني: فلا يلزم من صحة إسناده صحة متنه فقد يصح الإسناد، ويكون في المتن شذوذًا وعلة تقدح في صحته؛ كما تقرر عند المحدثين. قال ابن كثير: وهذا إن صح عنه يحمل على أنه أخذه من الإسرائيليات، وهذا أو أمثاله إذا لم يخبر به ويصح سنده إلى معصوم فهو مردود على قائله، انتهى. وعلى تقدير ثبوته يكون المعنى أن ثم من يقتدي به مسمى بهذه الأسماء وهم الرسل المبلغون إلى الجن عن أنبياء الله سمي كل منهم باسم النبي الذي يبلغ عنه والله أعلم.
"ومنها: أنه أرسل إلى الملائكة" قال في فتح الباري: قال جمهور أهل الكلام من المسلمين: الملائكة أجسام لطيفة أعطيت قدرة على التشكل بأشكال مختلفة ومسكنها السماوات، وأبطل قول من قال إنها الكواكب أو الأنفس الخيرة التي فارقت أجسادها وغير ذلك من الأقوال التي لا يوجد في الأدلة السمعية شيء منها، وجاء في صفتهم وكثرتهم أحاديث، منها ما أخرجه مسلم عن عائشة مرفوعًا: "خلقت الملائكة من نور". الحديث، وأخرج الترمذي وابن ماجه والبزار عن أبي ذر مرفوعًا: "أطت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع أربع أصابع إلا وعليه ملك ساجد". الحديث، وروى الطبراني عن جابر رفعه: "ما في السماوات موضع قدم ولا شبر ولا كف إلا وفيه ملك قائم أو راكع أو ساجد". وذكر في ربيع الأبرار عن سعيد بن المسيب، قال: الملائكة ليسوا ذكورًا ولا إناثًا"، ولا يأكلون ولا يشربون، ولا يتناكحون، ولا يتوالدون، وفي قصة الملائكة مع إبراهيم وسارة ما يؤيد أنهم لا يأكلون. وأما ما وقع في قصة الأكل من الشجرة أنها الخلد التي تأكل منها الملائكة فليس بثابت، وفي هذا ما ورد من القرآن رد على أن من أنكر وجود الملائكة من الملاحدة، انتهى.
في أحد القولين، ورجحه السبكي" والبارزي وابن حزم والسيوطي لأنهم مكلفون(7/245)
قال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان: 1] ولا نزاع أن المراد من العبد ها هنا محمد عليه الصلاة والسلام، والعالم هو ما سوى الله تعالى، فيتناول جميع المكلفين من الجن والإنس والملائكة، وبطل بذلك قول من قال: إنه كان رسولا إلى البعض دون البعض، لأن لفظ "العالمين" يتناول جميع المخلوقات، فتدل الآية على أنه رسول إلى الخلق.
ولو قيل لمدعي "خروج الملائكة من هذا العموم" أقم الدليل عليه ربما عجز عنه، فإنه يحتمل أن يكون من الملائكة من أنذره صلى الله عليه وسلم إما ليلة الإسراء وإما غيرها. لكن لا يلزم من الإنذار والرسالة إليهم في شيء خاص أن يكون.
__________
بالطاعات العملية؛ كما قال تعالى: {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ} ، وإن لم يكونوا مكلفين بالوحدانية لظهورهم لهم فتكليفهم بها تحصيل للحاصل ودليل رجحان هذا القول. ما "قال تعالى: {تَبَارَكَ} تعالى: {الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} مخوفًا من عذاب الله، "ولا نزاع أن المراد من العبد ها هنا محمد عليه الصلاة والسلام" إذ الإضافة عهدية وجاء استعماله بهذا اللفظ فيه: أسرى بعبده أنزل على عبده الكتاب، واشتهر حتى صار كالعلم المخصوص به صلى الله عليه وسلم فهو دفع لتجويز أن المراد غيره، "والعالم" بفتح اللام والرفع استئناف "هو ما سوى الله" وليس بالخفض عطفًا على العبد؛ لأنه يكون التقدير ولا نزاع في أن المراد من العالم ما سواه "تعالى" مع أن فيه النزاع، قال المجد: العالم الخلق كله أو ما حواه بطن الفلك، وفي المصباح: العالم الخلق، وقيل: مختص بمن يعقل؛ "فيتناول جميع المكلفين" على أنه الخلق كله "من الجن والإنس والملائكة" وعلى أنه اسم للعاقل فالمكلفون مفهومه والتناول فيه باعتبار كل فرد أو نوع، "وبطل بذلك" أي: شمول الآية لجميع المكلفين "قول من قال: إنه كان رسولا إلى البعض دون البعض" لمخالفة التخصيص لصريح الآية، "لأن لفظ العالمين يتناول جميع المخلوقات" توجيه للإبطال، "فتدل الآية على أنه رسول إلى الخلق" كلهم ومنهم الملائكة فثبت المطلوب. "ولو قيل لمدعي خروج الملائكة من هذا العموم: أقم الدليل عليه" لأن تخصيص العام لا بد له من دليل، "ربما عجز عنه" فإن اعتل بأنه قال نذيرًا فيخرج الملائكة لعصمتهم، ولأنه لم ينذرهم لم تقبل علته، "فإنه يحمل أن يكون من الملائكة من أنذره صلى الله عليه وسلم إما ليلة الإسراء وإما غيرها" وإذا احتمل ذلك بطل تخصيصها بغير الملائكة إذ لا يثبت إلا بدليل، وظاهر الآية شمولها لهم وهو كاف في الاستدلال إذ ليس كل احتمال يقدح فيه بل إنما يقدح الاحتمال القوي، وكذا لا يلزم من العصمة عدم الإنذار ومن يقل منهم إني إله فقد أنذرهم مع العصمة، "لكن لا يلزم من الإنذار والرسالة إليهم في شيء خاص أن يكون(7/246)
بالشريعة كلها.
وإذا قلنا إن الملائكة هم مؤمنوا الجن السماوية، فإذا ركب هذا مع القول بعموم الرسالة للجن الذي قام الإجماع عليه، لزم عموم الرسالة لهم، لكن القول بأن الملائكة من الجن قول شاذ.
والجمهور: على أن "العالمين" في آية الفرقان عام مخصوص بالإنس والجن
__________
بالشريعة كلها" إذ لا تتأتى كلها فيهم ومما يدل على شمول الآية للملائكة قوله تعالى: {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ} ، قال السيوطي: لم أقف على إنذار في القرآن للملائكة سوى هذه الآية، والحكمة في ذلك واضحة؛ لأن غالب المعاصي راجعة إلى البطن والفرج وذلك ممتنع عليهم من حيث الخلقة فاستغنى عن إنذارهم فيه.
"وإذا قلنا: إن الملائكة هم مؤمنوا الجن السماوية" كما ذهب إليه من زعم أن العقلاء الناطقين فريقان إنس وجان، وكل فريق أخيار وأشرار، فأخيار الإنس هم الأبرار منهم رسل وغير رسل، وأشرارهم الفجار كفار وغير كفار، وأخيار الجن هم الملائكة منهم رسل وغير رسل، وأشرارهم الشياطين، واستدل من قال الملائكة هم خيار الجن، بقوله تعالى: {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا} ، والمراد قول الكفار: الملائكة بنات الله تعالى عن ذلك، فدل على أن الملائكة من الجن، وبقوله تعالى: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ، وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ} ، فلو كانت الملائكة صنفًا ثالثًا لما ترك التمدح بالقدرة على أشرف خلقه وذكر ما دونه، ورد بأن هذه الآية لبيان ما ركبه من خلق متقدم فلم تدخل الملائكة فيه لأنهم مخترعون، قال تعالى لهم كونوا فكانوا؛ كما قال للأصل الذي خلق منه الإنس والجن وهو التراب والماء والنار والهواء: {كُنْ} فكان، فالملائكة في الاختراع كأصول الإنس والجن لا كأعيانهم، فلذا لم يذكروا معهم كما في الحبائك. "فإذا ركب هذا مع القول بعموم الرسالة للجن الذي قام الإجماع عليه" أي: عموم رسالته للجن بأن يقال للملائكة مؤمنو الجن السماوية ورسالته إلى الجن مجمع عليها، "لزم عموم الرسالة" لهم؛ "لكن القول بأن الملائكة من الجن قول شاذ" لا اعتداد به؛ لقيام الأدلة على خلافه، ومن أصرحها قوله صلى الله عليه وسلم: "خلقت الملائكة من نور وخلق الجان من مارج من نار، وخلق آدم مما وصف لكم". رواه مسلم. قال البيهقي: ففي فصله بينهما دليل على أنه نور آخر غير نور النار، انتهى.
"والجمهور على أن العالمين في آية الفرقان عام مخصوص بالإنس والجن" فيخرج الملائكة، وهذا من حين الاستدراك الذي قبله، ويمكن أن مراد الجمهور أنها مخصوصة بهما من حيث عمومها لجميع الأحكام من أمر ونهي، فلا ينافي أن إرساله للملائكة لأمر خاص؛ كما(7/247)
كما فسر بهما حديث: "وأرسلت إلى الخلق كافة" المروي في مسلم.
وصرح الحليمي والبيهقي في الباب الرابع من شعب الإيمان بأنه عليه الصلاة والسلام لم يرسل إلى الملائكة، صرح في الباب الخامس عشر بانفكاكهم عن شرعه.
وفي تفسير الإمام فخر الدين الرازي، والبرهان النسفي: حكاية الإجماع في تفسير آي الفرقان على أنه لم يكن رسولا إليهم، كما حكاه العلامة الجلال المحلي، والله أعلم.
وعبارة النسفي: ثم إنهم قالوا هذه.
__________
يقوله السبكي والمحققون، كشرفه ودخولهم تحت دعوته، واتباعه تشريفًا له على سائر المرسلين "كما فسر بهما حديث: "وأرسلت إلى الخلق كافة"، المروي في مسلم" بهذا اللفظ عن أبي هريرة؛ كحديثه عن جابر بلفظ: "وبعثت إلى كل أحمر وأسود" وللبخاري: "إلى الناس كافة"، "وصرح الحليمي" العلامة البارع، رئيس أهل الحديث بما وراء النهر القاضي أبو عبد الله الحسين بن الحسين بن محمد بن حليم، نسبه إلى جده هذا البخاري الشافعي من أصحاب الوجوه، وأذكياء زمانه، وفرسان النظر, له اليد الطولى في العلوم والأدب.
قال الذهبي: وما هو من فرسان هذا الشأن، أي: الحديث، مع أن له فيه عملا جيدًا، مات سنة ثلاث وأربعمائة، "والبيهقي" أحمد بن الحسين الحافظ الشهير، "في الباب الرابع من شعب الإيمان بأنه عليه الصلاة والسلام لم يرسل إلى الملائكة، وصرح في الباب الخامس عشر" من الشعب "بانفكاكهم عن شرعه، وفي تفسير الإمام فخر الدين الرازي" المسمى بأسرار التنزيل "و" تفسير "البرهان النفسي حكاية الإجماع على أنه لم يكن رسولا إليهم، كما حكاه" شارح جمع الجوامع في الكتاب السابع "العلامة الجلال" أي: جلال الدين محمد بن أحمد بن محمد بن إبراهيم "المحلى" ولد بمصر سنة إحدى وتسعين وسبعمائة، واشتغل وبرع في الفنون فقهًا، وكلامًا، وأصولا، ونحوًا وغيرها وأخذًا عن الأقصراي والبيجوري والبساطي وغيرهم، وكان آية في الذكاء والفهم، قال في بعض أهل عصره: ذهنه يثقب ألماس، وقال: هو فهمي؛ لا يقبل الخطأ، ولم يكن يقدر على حفظ كراس، وكان ورعًا، صالحًا، آمرًا بالمعروف، ناهيًا عن المنكر، يواجه بذلك أكابر الظلمة والحكام، ويأتون إليه، فلا يلتفت إليهم، ولا يأذن لهم بالدخول عليه، توفي أول يوم من سنة أربع وستين وثمانمائة، "والله أعلم" بما في نفس الأمر.
"وعبارة "النسفي" ليست صريحة في حكاية إجماع الأمة، فإنه قال: "ثم إنهم قالوا: هذه(7/248)
الآية تدل على أحكام: أولها: إن قوله: {لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} يتناول جميع المكلفين من الجن والإنس والملائكة. لكنا أجمعنا على أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن رسولا إلى الملائكة، بل يكون رسولا إلى الجن والإنس جميعًا.
وقد تعقب الجلال المحلي العلامة كمال الدين بن أبي شريف فقال: اعلم أن البيهقي نقل ذلك عن الحليمي: فإنه قال: هذا معنى كلام الحليمي، وفي قوله هذا إشعار التبري من عهدته، وبتقدير أن لا إشعار فيه فلم يصرح بأنه مرضي عنده. وأما الحليمي فإنه وإن كان من أهل السنة فقد وافق المعتزلة في تفضيل الملائكة على الأنبياء عليهم السلام. وما نقل عنه موافق لقوله بأفضلية الملائكة، فلعله بناه عليه.
وأما ما ذكره من حكاية الراوي والنسفي الإجماع على أنه عليه الصلاة والسلام لم.
__________
الآية تدل على أحكام، أولها إن قوله: {لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} الآية، يتناول جميع المكلفين من الجن والإنس والملائكة، لكنا" لا نسلم تناوله للملائكة لأنا "أجمعنا على أنه لم يكن رسولا إلى الملائكة" وهذه العبارة تستعمل في إجماع الخصمين المتناظرين، كما يأتي، ويفرض تسليمه، فيمكن حمله على أنه لم يكن رسولا إليهم بشرع، يعملون به؛ لأنهم مطبوعون على ما به، أمروه حتى إن العبادة لهم كالأمور الضرورية لنا، بحيث لا يفترون عنها كالنفس للحيوان، فلا ينافي أنه رسول إليهم بغير ذلك، "بل يكون رسولا إلى الجن والإنس جميعًا" بلا نزاع، "وقد تعقب الجلال" مفعول "المحلي" وفاعله، "العلامة كمال الدين بن أبي شريف" المقدسي، ثم المصري الفقيه الأصولي، "فقال: اعلم أن البيهقي نقل ذلك عن الحليمي، فإنه قال هذا معنى كلام الحليمي، وفي قوله هذا إشعار بالتبري من عهدته" فلا ينبغي نسبته حكية الإجماع للبيهقي، "وبتقدير أن لا إشعار فيه" بالتبري، "فلم يصرح بأنه مرضي عنده" فكان ينبغي أن يقول: قال البيهقي: عن الحليمي.
"وأما الحليمي فإنه وإن كان من أهل السنة، فقد وافق المعتزلة في تفضيل الملائكة على الأنبياء عليهم السلام" ومحل الخلاف ما عدا نبينا، فإنه أفضل من الملائكة بإجماع حتى من المعتزلة؛ كما قاله جمع من المحققين، كالإمام الرازي، "وما نقل عنه موافق لقوله بأفضلية الملائكة، فلعله بناه عليه" وهو مردود، فكذا ما بني عليه.
"وأما ما ذكره من حكاية الرازي والنسفي: الإجماع على أنه عليه الصلاة والسلام لم(7/249)
يكن رسولا إليهم، فقد وقع في نسخ من تفسير الرازي: لكنا بينا بدل أجمعنا، على أن قوله: "أجمعنا" ليس صريحًا في إجماع الأمة، لأن مثل هذه العبارة تستعمل لإجماع الخصمين المتناظرين، بل لو صرح به لمنع، فقد قال الإمام السبكي في قوله تعالى: {لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} قال المفسرون كلهم في تفسيرها للجن والإنس، وقال بعضهم: وللملائكة، انتهى.
وبالجملة: فالاعتماد على تفسير الرازي والنسفي في حكاية إجماع انفردا بحكايته أمر لا ينهض حجة على طريق علماء النقل، لأن مدارك نقل الإجماع من كلام الأئمة وحفاظ الأمة كابن المنذر وابن عبد البر، ومن فوقهما في الاطلاع كالأئمة أصحاب المذاهب المتبوعة.
__________
يكن رسولا إليهم" فغير مسلم، "فقد وقع في نسخ من تفسير الرازي: لكنا بينا بدل أجمعنا" وهذا لا إشعار فيه بإجماع "على أن قوله" في النسخ الأخرى: "أجمعنا" ومثله في النسفي "ليس صريحًا في إجماع الأمة؛ لأن مثل هذه العبارة" أي: هي ومثلها "تستعمل لإجماع الخصمين المتناظرين" فلا يلزم منها عدم الخلاف، فضلا عن الإجماع، "بل لو صرح به" بأن قال: أجمعت الأمة "لمنع" بوجود الخلاف، "فقد قال الإمام السبكي في" تفسير "قوله تعالى: {لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} الآية".
"قال المفسرون كلهم في تفسيرها: للجن والإنس، وقال بعضهم" لهما "وللملائكة" فدعوى الإجماع على عدمها باطلة، فمن حفظ حجة، "انتهى" كلام السبكي، ومعناه: أنهم اتفقوا على إرساله للثقلين واختلفوا في الملائكة، كما هو واضح جدًا، ولم يفهمه من قال قوله، كلهم ينافي قوله: وقال بعضهم، فهذا من سوء الفهم ما تنبه للواو، "وبالجملة فالاعتماد على تفسير الرازي والنسفي في حكاية إجماع انفردا بحكايته، أمر لا ينهض حجة على طريق علماء النقل؛ لأن مدارك" جمع مدرك مصدر ميمي نفسي الإدراك، أو الشيء المدرك "نقل الإجماع من كلام الأئمة" متعلق بنقل، "وحفاظ الأمة كابن المنذر" محمد بن إبراهيم بن المنذر النيسابوري، الحافظ، العلامة، الفقيه، شيخ الحرم، وصاحب الكتب التي لم يصنف مثلها، كان غاية في معرفة الخلاف، والدليل مجتهدًا لا يقلد أحدًا، مات بمكة سنة ثمان عشرة وثلاثمائة، "وابن عبد البر" يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر بن عاصم، الإمام، الحافظ ساد أهل الزمان في الحفظ والإتقان، كان فقيهًا، حافظًا، مكثرًا، عالما، بالقراءات والرجال، والحديث والخلاف، "ومن فوقهما في الاطلاع" الواسع؛ "كالأئمة أصحاب المذاهب المتبوعة" المقلدة أربابها، المدونة كتبها كالأربعة المشهورة، والسفيانين، والليث، وابن راهويه، وابن جرير، وداود الظاهري(7/250)
ومن يلحق بهما في سعة دائرة الاطلاع والحفظ والإتقان لها من الشهرة عند علماء النقل ما يغني عن بسط الكلام فيها.
واللائق بهذه المسألة المتوقف عن الخوض فيها على وجه يتضمن دعوى القطع في شيء من الجانبين، انتهى.
__________
والأوزاعي، فكان لكل من هؤلاء أتباع يفتون بقولهم ويقضون، وإنما انقرضوا بعد الخمسمائة لموت العلماء وقصور الهمم.
ذكره السيوطي، وذكر عياض أن أتباع الطبري انقرضوا بعد أربعمائة، وأن الثوري لم تكثر أتباعه ولم يطل تقليده، وانقطع مذهبه عن قريب، "ومن يلحق بهما" أي: ابن المنذر وابن عبد البر، وفي نسخة: بها، أي: الأئمة، وفي أخرى: بهم "في سعة دائرة الاطلاع والحفظ والإتقان" وقوله: "لها" خبر أن في قوله: لأن مدارك أي للمدارك "من الشهرة عند علماء النقل ما يغني عن بسط الكلام فيها" فكيف يعتمد على إجماع انفرد بنقله رجلان ليسا من الحفاظ، ولا لهما سعة اطلاع، وقد ذكر الحافظ أن الرازي نوزع في ذلك.
قال في الإصابة: هل تدخل الملائكة في حد الصحابي محل نظر، وقال بعضهم: إن ذلك ينبغي على أنه كان مبعوثا إليهم، أم لا؟ وقد نقل الرازي الإجماع على أنه لم يرسل إليهم، وتوزع في هذا النقل، بل رجح الشيخ تقي الدين السبكي إرساله إليهم، واحتج بأشياء يطول شرحها، وفي صحة بناء هذه المسألة على هذا الأصل نظر لا يخفى، انتهى.
وفي الإصابة أيضًا أنكر ابن الأثير على أبي موسى المديني ترجمة الجن في الصحابة، ولا معنى لإنكاره، لأنهم مكلفون، وقد أرسل إليهم النبي صلى الله عليه وسلم.
وأما قوله: كان الأولى أن يذكر جبريل، ففيه نظر؛ لأنه صلى الله عليه وسلم بعث إليهم قطعًا، وهم مكلفون، فيهم العصاة والطائعون، فمن عرف اسمه منهم لا ينبغي التردد في ذكره في الصحابة، وإن كان ابن الأثير عاب ذلك على أبي موسى فلم يستند في ذلك إلى حجة، وأما الملائكة فيتوقف عدهم فيهم على ثبوت بعثته إليهم، فإن فيه خلافًا بين الأصوليين حتى نقل بعضهم الإجماع على ثبوته وعكس بعضهم، انتهى.
"واللائق بهذه المسألة التوقف عن الخوض فيها" لا مطلقًا، "بل على وجه يتضمن دعوى القطع في شيء من الجانبين" لتعسره أو تعذره، "انتهى" كلام ابن أبي شريف.
وفي كشف الأسرار لابن العماد أن آدم عليه السلام أرسل إلى الملائكة لينبئهم بما علم من الأسماء، نقله الحبائك، وهو منابذ لعده في الأنموذج من الخصائص التي اختص بها عن جميع الأنبياء، ولم يؤتها نبي قبله أنه أرسل إلى الملائكة في أحد القولين، ورجحه السبكي، زاد(7/251)
ومنها: أنه أرسل رحمة للعالمين، كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107] قال السمرقندي: يعني للجن والإنس، وقيل لجميع الخلق، رحمة بالهداية للمؤمن ورحمة للمنافق بالأمان من القتل. وقال ابن عباس: رحمة للبر والفاجر، لأن كل نبي إذا كذب أهلك الله من كذبه، ومحمد صلى الله عليه وسلم أخر من كذبه إلى الموت أو القيامة. وأما من صدقه فله الرحمة في الدنيا والآخرة. فذاته عليه الصلاة والسلام -كما روي- رحمة نعم المؤمن والكافر كما قال تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} [الأنفال: 33] وقال: "إنما أنا رحمة مهداة".
__________
البارزي: وإلى الحيوانات والجمادات.
"ومنها: أنه أرسل رحمة للعالمين" منّ بها على عباده لطفًا منه تعالى، ومحض جود وفضل، لا وجوبًا، كما زعمت المعتزلة، "كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} ، قال أبو بكر بن ظاهر: زين الله تعالى محمدًا صلى الله عليه وسلم بزينة الرحمة، فكونه وجميع شمائله وصفاته وحيائه وموته رحمة؛ كما قال: "حياتي خير لكم ومماتي خير لكم"، وقال: "إذا أراد الله رحمة بأمة قبض نبيها قبلها فجعله لها فرطًا وسلفًا".
"قال السمرقندي: يعني للجن والإنس" تفسير للعالمين، لإرشاده لهم ولطفه بهم، وحمله لهم على ذلك، الراحمون يرحمهم الرحمن ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء، "وقيل لجميع الخلق" أهم من الثقلين، وهو المتبادر من العالمين "رحمة بالهداية" للمؤمن، "ورحمة للمنافق بالأمان من القتل" وتأخير عذابهم، وللكفار بالأمن من المسخ والخسف، وعذاب الاستئصال "وقال ابن عباس: رحمة للبر والفاجر، لأن كل نبي إذا كذب أهلك الله من كذبه ومحمد صلى الله عليه وسلم أخر من كذبه إلى الموت أو إلى القيامة"، والتأخير رحمة.
"وأما من صدقه، فله الرحمة في الدنيا والآخرة" بالشفاعة التي ادخرها لأمته في القيامة، "فذاته عليه الصلاة والسلام، كما روي رحمة، نعم المؤمن والكافر؛ كما قال تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ} بما سألوه {وَأَنْتَ فِيهِمْ} الآية" لأن العذاب إذا نزل عم ولم تعذب أمة إلا بعد خروج نبيها، والمؤمنين منها.
"وقال عليه الصلاة والسلام: "إنما أنا رحمة" أي: ذو رحمة، أو بالغ في الرحمة حتى كأني عينها، لأن الرحمة ما يترتب عليه النفع ونحوه وذاته كذلك فصفاته التابعة لها، كذلك "مهداة" بضم الميم، وللطبراني: "بعثت رحمة مهداة".
قال ابن دحية: معناه أن الله بعثني رحمة للعباد، لا يريد لها عوضًا؛ لأن المهدي إذا كانت هديته عن رحمة لا يريد لها عوضًا، وقال غيره: أي ما أنا إلا رحمة أهداها الله للعالمين، فمن(7/252)
رواه الدارمي والبيهقي من حديث أبي هريرة، وسيأتي في المقصد السادس مزيد لذلك إن شاء الله تعالى. والله الموفق.
ومنها: أن الله خاطب جميع الأنبياء بأسمائهم في القرآن، فقال: يا آدم، يا نوح، يا إبراهيم، يا داود، يا زكريا، يا يحيى، يا عيسى، ولم يخاطبه هو إلا بـ"يا أيها الرسول" "يا أيها النبي" "يا أيها المزمل" "يا أيها المدثر".
ومنها أنه حرم على الأمة نداءه باسمه، قال تعالى: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} [النور: 63] أي لا تجعلوا نداءه وتسميته
__________
قبلها أفلح ونجا، ومن أبى خاب وخسر، ولا يشكل الحصر بوقوع الغضب منه كثيرًا؛ لأنه لم يقصد من بعثته، بل المقصود بالذات الرحمة الغضب بالتبعية بل في حكم العدم مبالغة، أو المعنى أنه رحمة على كل فرد، لأن غضبه لله كانتقامه؛ كقوله: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} الآية، أو أنه رحمة في الجملة، فلا ينافي الغضب في الجملة.
"رواه الدارمي" عبد الله بن عبد الرحمن الحافظ، وفي المقصد السادس الديلمي، "والبيهقي" وشيخه الحاكم "من حديث أبي هريرة" وقال: على شرطهما، وأقره الذهبي، وفي الصحيحين عن أبي هريرة مرفوعًا: "إنما بعثت رحمة ولم أبعث عذابًا".
وروى ابن عساكر عن ابن عمر، رفعه: "إن الله بعثني رحمة مهداة، بعثت برفع قوم وخفض آخرين"، أي: برفعهم بالسبق إلى الإيمان وإن كانوا من الضعفاء، وخفض من أبى وإن بلغ غاية الشرف؛ لأنه لم تنفع فيه الآيات والنذر، أي: أنه يضع قدرهم ويذلهم باللسان والسنان، "وسيأتي في المقصد السادس مزيد لذلك" قليل "إن شاء الله تعالى، والله الموفق" لا غيره.
"ومنها: أن الله خاطب جميع الأنبياء" الذين ذكرهم في القرآن، أو الذين بلغنا في القرآن أنه خاطبهم "بأسمائهم" فلا يرد أنه لم يقم دليلا على خطاب الجميع، إنما ذكر آيات ذكروا فيها بأسمائهم، وذلك لا يستلزم خطاب غيرهم لا باسمه ولا بغيره، "فقال: يا آدم" {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} "يا نوح" {اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا} الآية، "يا إبراهيم" {أَعْرِضْ عَنْ هَذَا} "يا موسى" {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى} الآية، "يا داود" {إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ} الآية، "يا زكريا" {إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ} الآية، "يا يحيى" {خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} الآية، "يا عيسى" {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَي} الآية، "ولم يخاطبه هو" تشريفًا وإجلالا "إلا بـ {يَا أَيُّهَا الرَّسُول بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} الآية، {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا} الآية، {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} الآية، {قُمِ اللَّيْلَ} ، {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ، قُمْ فَأَنْذِرْ} الآية، ومشى هنا على قول السهيلي: ليس(7/253)
كنداء بعضكم بعضًا باسمه، ورفع الصوت به، والنداء وراء الحجرات، ولكن قولوا: يا رسول الله، يا نبي الله، مع التوقير والتواضع وخفض الصوت.
__________
المزمل والمدثر باسم من أسمائه يعرف به، وإنما هو مشتق من حالته التي كان متلبسًا بها حالة الخطاب، ملاطفة على عادة العرب؛ كقوله صلى الله عليه وسلم لعلي: "قم يا أبا تراب"، وقوله لحذيفة: "قم يا نومان"، لا على القول بأنهما من أسمائه لإشكاله، اللهم إلا أن يكون لم يرد بغير الأسماء ما يراد به مجرد الذات الشريفة، وأراد بغير الذات ما يراد به الذات مع صفة قائمة بها، ومنه المزمل والمدثر، ثم لا يخفى أن الخطاب نداء، فخرج به ذكره بلا داء من محمد رسول الله، {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ} ، {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ} ، {مُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} , {وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ} ؛ لأنه للتعريف بأنه الذي أخذ الله عهده على الأنبياء بالإيمان به، ولو لم يسمه لم يعرفوه.
وأما قول الله سبحانه يوم القيامة: يا محمد ارفع رأسك وقل تسمع إلى آخره، فتنويه بذكر اسمه الدال على الصفة التي يحمده بها جميع الخلائق، فانظر إلى هذا التعظيم يناديه في كل مقام بأشرف تعظيم يناسب ذلك المقام، ففي الدنيا بالنبوة والرسالة ليشهد له بهما، وفي الآخرة لما تحققت الحقائق، ناداه باسمه لما اشتمل عليه من المعنى المناسب لذلك اليوم، وليفجأه سبحانه بما يدل على صفة يحمده بها الخلق، ليستدل بالنداء بها على قبول شفاعته، ثم عقب ذلك بقوله: قل تسمع، وسل تعط فهو تكريم بعد تكريم، وتعظيم بعد تعظيم.
زاد في الأنموذج: وخاطبه بألطف مما خاطب به الأنبياء، أي كقوله لداود: {وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} الآية، وقال للمصطفى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} تنويهًا له على ذلك بعد الإقسام عليه، وقال موسى: {فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ} ، وقال عن نبينا: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا} الآية، فكنى عن خروجه وهجرته بأحسن العبارات، ولم يذكره بالفرار الذي فيه نوع غضاضة.
"ومنها: أنه حرم على الأمة نداءه باسمه" في كتابه العزيز "قال تعالى: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} الآية، أي: لا تجعلوا دعاءه وتسميته" فهو من إضافة المصدر لمفعوله، أي: لا تجعلوا دعاءكم إياه "كنداء" تفسير لدعاء "بعضكم بعضًا" بخطابه "باسمه، ورفع الصوت به، والنداء وراء الحجرات" بجرهما عطفًا على اسمه، ذكرهما لتمام التشبيه المستفاد من الآية، لا بالرفع على نداؤه لذكره حكمهما بعد، ولأنه من تمام تفسير الآية بقوله: "ولكن قولوا يا رسول الله، يا نبي الله مع التوقير" أي التعظيم "والتواضع" التذلل، "وخفض الصوت" لحرمة رفعه عليه والظرف، أي: بينكم متعلق بتجعلوا، لا حال من الرسول لأنه يوهم نداؤه باسمه بعد وفاته، مع أن الحرمة ثابتة مطلقًا.(7/254)
وقيل: لا تقيسوا دعاءه إياكم على دعاء بعضكم بعضًا في جواز الإعراض والمساهلة في الإجابة.
ومنها أنه حبيب الله، وجمع له بين المحبة والخلة، وسيأتي تحقيق ذلك وما فيه من المباحث في آخر المقصد السابع، إن شاء الله تعالى.
__________
"وقيل" المصدر مضاف إلى فاعله، أي: "لا تقيسوا دعاءه إياكم على دعاء بعضكم بعضًا" بظنكم مساواته "في جواز الإعراض والمساهلة في الإجابة" والرجوع بلا إذن فإن المبادرة إلى إجابته واجبة، قال تعالى: {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ} الآية، والرجوع بلا إذن حرام؛ كما قال تعالى: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا} الآية، فالمعنى: لا تظنوا أنه مثلكم فتقيسوا، إذ القياس إلحاق فرع بآخر، لظن القائس اتحاد الجامع، ولولا ملاحظة هذا لورد أن القيام ليس من معنى الجعل.
زاد البيضاوي: أو لا تجعلوا دعاءه عليكم كدعاء بعضكم على بعض، فلا تنالوا بسخطه، فإن دعاءه موجب، أي: لحصول ما دعا به أو لا تجعلوا دعاءه ربه كدعاء صغيركم كبيركم، يجيبه مرة ويرده أخرى، فإن دعاءه مستجاب، انتهى، ومعناه عليهما، أي: لا تظنوا، أو تعتقدوا هذا، وكره الشافعي أن يقال في حقه الرسول لأنه ليس فيه من التعظيم، ما في الإضافة.
قال الحافظ: وعلى هذا فلا ينادى بكنيته، قال تلميذه الشيخ زكريا: وهو ممنوع، إذ الكية تعظيم باتفاق، ولذا احتيج للجواب عن تكنية عبد العزى في {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} الآية، مع أنه لا يستحق الكنية، لأنها تعظيم، فالأوجه جواز ندائه بكنيته، وإن كان نداؤه بوصفه أعظم، وتعقب بأن مقتضى آية النور المذكورة أنه ينادى بكنيته لأنهم كانوا يدعون بعضهم بعضًا بها، والحافظ لم يعلل الحكمة بترك التعظيم حتى يتوجه عليه ما قاله تلميذه.
"ومنها: أنه حبيب الله" قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} الآية، فإذا كان متابعوه أحباءه، فنفسه أولى، وروى البيهقي عن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اتخذ الله إبراهيم خليلا، وموسى نجيًا واتخذني حبيبًا"، ثم قال: "وعزتي وجلالي لأوثرن حبيبي على خليلي ونجيي".
"وجمع له بين المحبة والخلة" قيل: هما سواء، وقيل: الخلة أرفع، والأكثر على أن المحبة أعلى، "وسيأتي تحقيق ذلك وما فيه من المباحث في آخر المقصد السابع إن شاء الله تعالى" في نحو ورقة.
وقد روى أبو يعلى في حديث المعراج، فقال له ربه: إني اتخذتك خليلًا وحبيبًا، وصح أنه صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا".(7/255)
ومنها أنه تعالى أقسم على رسالته وبحياته وببلده وعصره، كما سيأتي ذلك في المقصد الثالث إن شاء الله تعالى.
ومنها أنه كلم بجميع أصناف الوحي، كما نقل عن ابن عبد السلام، وسبق تحقيقه في المبعث من المقصد الأول.
ومنها أن إسرافيل هبط عليه، ولم يهبط على نبي قبله، أخرج الطبراني من حديث ابن عمر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لقد هبط علي ملك من السماء ما هبط على نبي قبلي، ولا يهبط على أحد بعدي، وهو إسرافيل، فقال: أنا رسول ربك إليك أمرني أن أخيرك إن شئت نبيًا عبدًا، وإن شئت نبيًا ملكًا، فنظرت إلى جبريل فأومأ إليّ بيده أن تواضع
__________
"ومنها: أنه تعالى أقسم على رسالته" بقوله تعالى: {يس، وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ، إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} ، "وبحياته"، فقال: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} الآية، "وبلده" {لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدْ} الآية، "وعصره" {وَالْعَصْرِ، إِنَّ الإِنْسَانَ} السورة، قال أبو هريرة: ما حلف الله بحياة أحد إلا بحياة محمد، رواه ابن مردويه؛ "كما سيأتي ذلك في المقصد الثالث إن شاء الله تعالى" مطولا.
"ومنها: أنه كلم" بالبناء للمفعول "بجميع أصناف الوحي، كما نقل عن" الشيخ عز الدين "بن عبد السلام، وسبق تحقيقه في المبحث من المقصد الأول".
"ومنها: أن إسرافيل هبط، عليه، ولم يهبط على نبي قبله" عد هذه ابن سبع، "أخرج الطبراني، من حديث" عبد الله "بن عمر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لقد هبط" نزل "علي ملك من السماء ما هبط على نبي قبلي، ولا يهبط على أحد بعدي" إذ لا نبي بعده "وهو إسرافيل، فقال: أنا رسول ربك إليك" استدل به السيوطي على ضعف مرسل الشعبي أن إسرافيل أتاه في ابتداء الوحي، فقرن بنبوته ثلاث سنين، قال: لأن هذه القصة بعد ابتداء الوحي بعدة سنين؛ كما قدمته.
"أمرني أن أخبرك إن شئت نبيًا عبدًا" قدم العبودية إشارة إلى أنه يختارها، "وإن شئت نبيًا ملكًا، فنظرت إلى جبريل" وكان جالسًا عنده قبل نزول إسرافيل، "فأومأ إليّ".
وفي رواية: فأشار جبريل إلي "بيده أن تواضع" وسبب هذا التخيير ما رواه الطبراني بإسناد حسن عن ابن عباس: كان صلى الله عليه وسلم ذات يوم وجبريل على الصفاء، فقال: "يا جبريل والذي بعثك بالحق ما أمسى آل محمد سفة من دقيق، ولا كف من سويق"، فلم يكن كلامه بأسرع من(7/256)
فلو أني قلت نبيًا ملكًا، لسارت الجبال معي ذهبًا.
ومنها أنه سيد ولد آدم، رواه مسلم من حديث أبي هريرة بلفظ: "أنا سيد ولد آدم يوم القيامة"، وعند الترمذي من حديث أبي سعيد الخدري: "أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وبيدي لواء الحمد، ولا فخر".
__________
أن سمع هدة من السماء أفزعته، فقال صلى الله عليه وسلم: "أمر الله القيامة أن تقوم" قال: لا، ولكن أمر إسرافيل، فنزل إليك حين سمع كلامك، فأتاه إسرافيل، فقال: إن الله قد سمع ما ذكرت، فبعثني إليك بمفاتيح خزائن الأرض، وأمرني أن أعرض عليك، أسير معك جبال تهامة زمردًا وياقوتًا وذهبًا وفضة، فإن شئت نبيًا ملكًا، وإن شئت نبيًا عبدًا، ثلاثًا، "فلو أني قلت نبيًا ملكًا لسارت الجبال معي ذهبًا".
وأخرج الترمذي عن أبي أمامة أنه صلى الله عليه وسلم قال: "عرض علي ربي ليجعل لي بطحاء مكة ذهبًا، فقلت: لا يا رب" ... الحديث، ذكرهما المصنف في عيشه من المقصد الثالث، فمعيب نقل أحدهما من غيره، لكن آفة العلم النسيان، وبهما يعلم وجه ترتب قوله: "فلو أني قلت"، إذ هي قصة واحدة، طولها راوٍ واختصرها آخر، فلا يرد أنه لا تلازم بين قوله نبيًا ملكًا، وبين سير الجبال معه ذهبًا وفضة، وكأنه اقتصر عليها ي هذه الرواية مع ذكر إسرافيل له الزمرذ والياقوت أيضًا؛ لأن المخاطب لا يعلم غيرهما ولا يتعامل به.
"ومنها: أنه سيد ولد آدم" بضم الواو، وكسرها جمع ولد بفتحها، "رواه مسلم" في المناقب، وأبو داود في السنة "من حديث أبي هريرة، مرفوعًا بلفظ: "أنا سيد ولد آدم يوم القيامة" خصه لأنه يوم مجموع له الناس فيه من سؤدده لكل أحد عيانًا، وصف نفسه بالسؤدد المطلق المفيد للعموم في المقام الخطابي على ما تقرر في علم المعاني، فيفيد تفوقه على جميع ولد آدم حتى أولي العزم من الرسل واحتياجهم إليه كيف لا هو واسطة كل فيض، وتخصيص ولد آدم ليس للاحتراز فهو أفضل حتى من الملائكة إجماعًا؛ كما حكاه الرازي وغيره، ولأن الآدمي أفضل من الملك وتتمة هذا الحديث في مسلم وأبي داود: "وأول من ينشق عنه القبر، وأول شافع، وأول مشفع".
"وعند الترمذي" في المناقب، وقال: حسن صحيح، وابن ماجه، والإمام أحمد "من حديث أبي سعيد الخدري" رفعه: "أنا سيد ولد آدم" دخل آدم لأن في ولده من هو أفضل منه كإبراهيم "يوم القيامة ولا فخر" أي: أقول ذلك شكرًا لا فخرًا، أي: لا أقوله تكبرًا على الناس وتعاظمًا وإن كان فيه فخر الدارين، فهو من قبيل قول سليمان: {عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} الآية, وقيل غير ذلك، "وبيدي لواء الحمد" بالكسر والمد، علمه، والعلم في(7/257)
وإنما قال ذلك إخبارًا عما أكرمه الله به من الفضل والسؤدد، وتحدثًا بنعمة الله عنده، وإعلامًا لأمته ليكون إيمانهم به على حسبه وموجبه، ولهذا أتبعه بقوله: "ولا فخر" أي أن هذه الفضيلة التي نلتها كرامة من الله، لم أنلها من قبل نفسي، ولا بلغتها بقوتي، فليس لي أن أفتخر بها.
ومنها أنه غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.
__________
العرصات مقامات لأهل الخير والشر، نصب في كل مقام لكل متبوع لواء يعرف به قدره، وأعلى مقامات الخير مقامات الحمد، فلما كان أعظم الخلائق أعطي أعظم الألوية، وهو لواء الحمد ليأوي إليه الأولون والآخرون، فهو حقيقي وعند الله علم حقيقته.
وأما ما روي من صفته فموضوع بين الوضع، كما أفاده المصنف في المقصد الأخير، فلا وجه لعدول الطيبي ونحوه عن الحقيقة، وحمله على انفراده بالحمد، وشهرته به على رءوس الخلائق، وبقية هذا الحديث عند الترمذي ومن معه: "وما من نبي يومئذ آدم فمن سواه إلا تحت لوائي، وأنا أول من تنشق عنه الأرض ولا فخر، وأنا أول شافع وأول مشفع ولا فخر"، وإنما قال ذلك" كما قال ابن الأثير في النهاية: "إخبارًا عما أكرمه الله به من الفضل والسؤدد وتحدثًا بنعمة الله عنده" امتثالا لقوله: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} الآية، "إعلامًا لأمته" فهو من البيان الذي يجب عليه تبليغه إليهم؛ "ليكون إيمانهم به على حسبه وموجبه" بفتح الجيم: ما يتسبب عن الشيء فهو تفسير لحسبه، والمعنى: ليكون على قدر ما علموه من فضله؛ بأن يكون إيمانًا تامًا لا شبهة فيه، لأنهم حيث علموا كمال فضله، استحق أن يعظموه ويعتقدوا فيه الكمال اللائق بمن قام به هذا الفضل، "ولهذا أتبعه بقوله: "ولا فخر"، أي: إن هذه الفضيلة التي نلتها كرامة من الله لم أنلها من قبل" بكسر، ففتح، أي: جهة "نفسي ولا بلغتها بقوتي" إذ ليست في طوق البشر، "فليس لي أن أفتخر بها" وإنما أفتخر بمن أعطانيها، وأما خبر: "لا تفضلوا بين الأنبياء" فمعناه تفضيل مفاخرة، وهو ادعاء العظم والمباهاة، أو في نفس النبوة، فلا تفاضل فيها. وإنما التفضيل بنحو الخصائص، ولا بد من اعتقاده: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} ، وقيل غير ذلك.
"ومنها: أنه غفر له ما تقدم من ذنبه" أنه لو كان كما قاله ابن عباس: أي أنه على سبيل الفرض والتقدير؛ لأنه كغيره من الأنبياء معصومون حتى من الصغائر قبل النبوة، ولو سهوًا على الأصح لكرامتهم على الله، خلافًا للأكثر في تجويز وقوع الصغائر منهم سهوًا إلا الدالة على خسة كتطفيف، وينبهون عليها، واحتجوا بظواهر، قالوا بها: أفضت بهم إلى حرق الإجماع، وما لا يقول به مسلم، كما بسطه عياض في الشفاء، "وما تأخر" لا يشكل بأن الغفر الستر،(7/258)
قال تعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا، لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} .
قال الشيخ عز الدين بن عبد السلام: من خصائصه صلى الله عليه وسلم أنه أخبره الله تعالى بالمغفرة ولم ينقل أنه أخبر أحدًا من الأنبياء، بمثل ذلك ويدل له قولهم في الموقف: نفسي نفسي.
وقال ابن كثير في تفسير هذه الآية -يعني آية الفتح- لم يشاركه فيها غيره.
وقد أخرج أبو يعلى والطبراني والبيهقي عن ابن عباس قال: إن الله فضل محمدا صلى الله عليه وسلم على أهل السماء وعلى الأنبياء، قالوا: فما فضله على أهل السماء، قال: إن الله تعالى قال لأهل السماء: {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ} [الأنبياء: 29] ، وقال لمحمد صلى الله عليه وسلم: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا، لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} فقد كتب له براءة.
__________
فكيف يتصور فيما لم يقع؛ لأن ما لم يقع يفوض وقوعه مبالغة، "قال تعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا، لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ ومَا تَأَخَّرَ} الآية" وفيها وجوه آخر، ذكر بعضها في المقصد السادس، وبعضها لا يرضي.
"قال الشيخ عز الدين بن عبد السلام: من خصائصه صلى الله عليه وسلم أنه أخبره الله بالمغفرة، ولم ينقل أنه أخبر أحدًا من الأنبياء بمثل ذلك" فالخصوصية إخباره بذلك تعظيمًا له بإدخال السرور عليه، "ويدل قولهم في الموقف" يوم القيامة، حيث تطلب الشفاعة في فصل القضاء من آدم، ونوح، وإبراهيم، وموسى وعيسى، فيقول كل منهم: "نفسي نفسي، وقال ابن كثير في تفسير هذه الآية، يعني آية الفتح: لم يشاركه فيها غيره" ولذا قال ابن عطية: المعنى التشريف بهذا الحكم، ولم تكن ذنوب البتة، "وقد أخرج أبو يعلى" أحمد بن علي الموصلي الحافظ الثقة، "والطبراني" سليمان بن أحمد بن أيوب، "والبيهقي" أحمد بن الحسين، "عن ابن عباس، قال: إن الله فضل محمدًا على أهل السماء وعلى الأنبياء، قالوا: فما فضله على أهل السماء؟ قال: إن الله تعالى قال لأهل السماء" أي: الملائكة " {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ} أي الله، أي غيره، {فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ} الآية، وقال لمحمد صلى الله عليه وسلم: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا، لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} الآية، فقد كتب له براءة" من الذنوب أن يفعلها، وإذا منعه من فعلها فقد سترها عنه، وهذا من ألطف الأجوبة.(7/259)
قالوا: فما فضله على الأنبياء؟ قال: إن الله تعالى قال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} [إبراهيم: 4] ، وقال لمحمد: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ} [سبأ: 28] فأرسله إلى الإنس والجن.
ومنها أنه أكرم الخلق على الله، فهو أفضل من كل المرسلين، وجميع الملائكة المقربين، وسيأتي الجواب عن قوله عليه الصلاة والسلام في حديث ابن عباس، عند مسلم: ما ينبغي لعبد أن يقول أنا خير من يونس بن متى، ونحو ذلك في المقصد السادس إن شاء الله تعالى.
ومنها إسلام قرينه. رواه مسلم من حديث ابن مسعود.
__________
"قالوا: فما فضله على الأنبياء؟ قال: إن الله تعالى قال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} الآية" أي: بلغتهم، "وقال لمحمد: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ} الآية، فأرسله إلى الإنس والجن" جميعًا، تفضيلا له على جميع المرسلين.
"ومنها: أنه أكرم الخلق على الله" تعالى بنص قوله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} الآية، إذ خيريتها تستلزم خيرية نبيها، وإن صفاته أعلى وأجل، وذاته أفضل وأكمل، ويصرح به قوله: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} الآية، "هو أفضل من كل المرسلين وجميع الملائكة المقربين" حتى الروح الأمين إجماعًا، وغلط الزمخشري في تفضيله عليه؛ بأن المعتزلة مجمعون على استثنائه من الخلاف في التفضيل بين البشر والملك فقد جهل مذهبه، "وسيأتي الجواب عن قوله عليه الصلاة والسلام في حديث ابن عباس عند مسلم" والبخاري: "ما ينبغي لعبد أن يقول أنا خير من يونس بن متى" ونحو ذلك كحديث الصحيحين: "لا تفضلوني على الأنبياء".
وفي رواية: "لا تفضلوا بين الأنبياء"، وأخرى: "لا تخيروا بين الأنبياء" وقوله تعالى: {لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ} الآية، "في المقصد السادس إن شاء الله تعالى" بأجوبة سبعة، منها قول ابن أبي جمرة أنه بالنسبة إلى القرب والبعد، فمحمد صلى الله عليه وسلم وإن أسري به لفوق السبع الطباق واخترق الحجب، ويونس عليه الصلاة والسلام وإن نزل به إلى قعر البحر، هما بالنسبة إلى القرب والبعد من الله على حد واحد، وروى هذا الجواب عن مالك الإمام ونحوه لإمام الحرمين في قصة شهيرة.
"ومنها: إسلام قرينه" أي صاحبه الموكل من الجن، "رواه مسلم" وأحمد "من حديث ابن مسعود": أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن وقرينه من(7/260)
والبزار من حديث ابن عباس.
ومنها أنه لا يجوز عليه الخطأ، كما ذكره ابن أبي هريرة والماوردي: وذكره الحجازي في مختصر الروضة.
__________
الملائكة"، قالوا: وإياك؟ قال: "وإياي، إلا أن الله أعانني عليه فأسلم، فلا يأمرني إلا بخير" ومعلوم عصمة الملائكة وإيمانهم، فإنما المراد الإخبار بمصاحبة الملك والجني لكل أحد، فالجني يغوي بخلاف الملك، فقول بعض إسلام قرينه من الملائكة والشياطين لا معنى له بالنسبة للملائكة، ولا دلالة في الحديث عليه، اللهم إلا أن يريد بإسلام ملكه انقياده التام له، وفيه ما فيه، "والبزار من حديث ابن عباس" رفعه: "فضلت على الأنبياء بخصلتين، كان شيطاني كافرًا فأعانني الله عليه فأسلم"، قال: ونسيت الأخرى، فحديث ابن عباس نص في إيمانه.
وأما حديث ابن مسعود فروي بفتح الميم وضمها، أي: فأسلم أنا من فتنته وكيده، وصحيح الخطابي رواية الرفع، ورجح عياض والنووي الفتح لقوله: "فلا يأمرني إلا بخير".
قال الدميري: وهو المختار، والإجماع على عصمته من الشيطان، وإنما المراد تحذير غيره من فتنة القرين، ووسوسته وإغوائه، فأعلمنا أنه معنا لنحترز منه بحسب الإمكان، انتهى.
وقال غيره: اعترضت رواية بالضم؛ بأنه تعوذ منه بقوله: وأعوذ بك أن يتخبطني الشيطان عند الموت، أي يضرعني ويلعب بي، ويفسد ديني أو عقلي عند الموت؛ بنزعاته التي تزل بها الأقدام وتصرع العقول، وقد يستولي على الإنسان حينئذ فيضله، أو يمنعه التوبة، أو يعوقه عن الخروج عن مظلمة؛ أو يؤيسه من الرحمة، أو يكره له الموت فيختم له بسوء، والعياذ بالله تعالى، وأجيب بأنه إنما قاله تعليمًا لأمته صلى الله عليه وسلم، فإن شيطانه أسلم، ولا تسلط له ولا لغيره بحال، بل سائر الأنبياء لا تسلط لشياطينهم عليهم وإن لم يسلموا.
"ومنها: أنه لا يجوز عليه الخطأ" في اجتهاده، "كما ذكره ابن أبي هريرة، والماوردي، وذكره الحجازي في مختصر الروضة" لأنه لا نبي بعده يستدرك خطأه، فلذا عصم من بينهم، كذا في الشامية، وقال ابن السبكي: الصواب أن اجتهاده لا يخطئ تنزيهًا لمنصب النبوة عن الخطأ في الاجتهاد ومقتضى هذا التعميم، ثم هذا مبني على الصحيح عند الأصوليين من جواز الاجتهاد له صلى الله عليه وسلم ووقوعه لقوله: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} الآية، {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} ، فالعتاب لا يكون فيما صدر عن وحي، وقيل: يمتنع اجتهاده لقدرته على اليقين بانتظار الوحي، ورد بأن إنزاله ليس في قدرته، وثالثها، الجواز في الآراء والحروب فقط، والمنع في غيرها جمعًا بين الأدلة.(7/261)
وقال قوم: ولا النسيان، حكاه النووي في شرح مسلم.
ومنها أن الميت يسأل عنه عليه الصلاة والسلام في قبره، فعن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "وأما فتنة القبر فبي تفتنون وعني تسألون، فإذا كان الرجل الصالح أجلس، فيقال له: ما هذا الرجل الذي كان فيكم؟ فيقول: محمد رسول الله". الحديث رواه أحمد والبيهقي.
__________
"وقال قوم: ولا النسيان، حكاه النووي في شرح مسلم" ما لم يترتب عليه تشريع، كسلامه من ركعتين وصلاته الظهر خمسًا.
"ومنها: أن الميت يسأل عنه عليه الصلاة والسلام" إذا وضع "في قبره"، وتولى عنه أصحابه، واختلف في اختصاصه فتنة القبر بهذه الأمة، وجزم الحكيم الترمذي بالاختصاص، فعن عائشة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "أما فتنة الدجال، فإنه لم يكن نبي إلا وقد حذر أمته، وسأحذركموه بحديث لم يحذره نبي أمته: إنه أعور، وإن الله ليس بأعور، مكتوب بين عينيه كافر، يقرؤه كل مؤمن".
"وأما فتنة القبر فبي تفتنون وعني تسألون، فإذا كان الرجل الصالح" أي: المسلم "أجلس" في قبره غير فزع، كما هو لفظ الحديث، "فيقال له: ما هذا الرجل الذي كان فيكم؟ فيقول: محمد رسول الله" ... الحديث. بقيته: "جاءنا بالبينات من عند الله، فصدقناه، فيفرج له فرجة قبل النار، فينظر إليها يحطم بعضها بعضًا، فيقال له: انظر ما وقاك الله ثم يفرج له فرجة إلى الجنة فينظر إلى زهرتها وما فيها، فيقال له: هذا مقعدك منها، ويقال: على اليقين كنت وعليه مت، وعليه تبعث إن شاء الله؛ وإذا كان الرجل الوء أجلس في قبره فزعًا، فيقال له: ما كنت تقول؟ فيقول: لا أدري، فيقال: ما هذا الرجل الذي كان فيكم؟ فيقول: سمعت الناس يقولون قولا، فقلت كما قالوا: فيفرج له فرجة من قبل الجنة، فينظر إلى زهرتها وما فيها، فيقال: انظر إلى ما صرف الله عنك، ثم يفرج له فرجة قبل النار فينظر إليها، يحطم بعضها بعضًا، ويقال له: هذا مقعدك منها على الشك كنت، وعليه مت، وعليه تبعث إن شاء الله، ثم يعذب". "رواه" بتمامه الإمام "أحمد والبيهقي" وروى الشيخان وأحمد، وغيرهم عن أنس؛ أنه صلى الله عليه وسلم قال: "إن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه حتى إنه يسمع قرع نعالهم، أتاه ملكان يقعدانه، فيقولان له: ما كانت تقول في هذا الرجل محمد؟ فأما المؤمن فيقول: أشهد أنه عبد الله ورسوله، فيقال: انظر إلى مقعدك من النار، قد أبدلك الله به مقعدًا من الجنة، فيراهما جميعًا، ويفسح له في قبره سبعون ذراعًا، ويملأ عليه خضرًا إلى يوم يبعثون"(7/262)
ومنها أنه حرم نكاح أزواجه من بعده، وقال الله تعالى: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} ، أي: هن في الحرمه كالأمهات، حرم نكاحهن عليهم بعده تكرمة له وخصوصية، ولأنهن أزواج له في الآخرة، وهذا في غير المخيرات، فمن اختارت منهن الدنيا ففي حلها للأزواج طريقان: أحدهما طرد الخلاف، والثاني: القطع بالحل واختاره الإمام والغزالي.
وأزواجه اللاتي توفي عنهن محرمات على غيره أبدًا، وفي جواز النظر إليهن وجهان: أشهرهما المنع، وثبت لهن حكم الأمومة في احترامهن وطاعتهن وتحريم نكاحهن، لا في جواز الخلوة بهن والنفقة عليهن والميراث.
__________
وأما الكافر والمنافق، فيقال له: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ فيقول: لا أدري كنت أقول ما يقول الناس، فيقال له: لا دريت، ولا تليت، ثم يضرب بمطراق من حديد ضربة بين أذنيه، فيصيح صيحة، يسمعها من يليه غير الثقلين، ويضيق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه".
"ومنها: أنه حرم نكاح أزواجه من بعده" بقوله تعالى: {وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا} الآية، "وقال الله تعالى: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} الآية، أي: هن في الحرمة"، أي: الاحترام "كالأمهات" في استحقاق التعظيم والرعاية، ومن ذلك أنه "حرم نكاحهن عليهم بعده تكرمة له وخصوصية" له عليه الصلاة والسلام، حيث جعلن أمهات، والأم لا يحل نكاحها، "ولأنهن أزواج له في الآخرة" بنصه صلى الله عليه وسلم، ولا يليق بحرمته تزوج امرأة يعلم عودها له، ولأن المرأة لآخر أزواجها في الجنة على أحد الأقوال، فنكاح غيره لها المقتضى، لكونها تكون لمن هو آخر، يمنعه ما ثبت أنها تكون زوجًا له عليه السلام في الجنة، "وهذا في غير المخيرات، فمن اختارت منهن الدنيا، ففي حلها للأزواج طريقان، أحدهما: طرد الخلاف" الآتي في قوله: وفي التي فارقها في الحياة أوجه. "والثاني: القطع بالحل" بلا خلاف، "واختاره الإمام" أي: إمام الحرمين، "والغزالي" وقال في الشرح الصغير أنه الأظهر، وإلا فلا معنى للتخيير، اعتمد الرملي الحرمة ولو اختارت قبل الدخول، "وأزواجه اللاتي توفي عنهن محرمات على غيره أبدًا" كما قال الله تعالى، وهذا مستأنف بيانيًا في جواب سؤال، تقديره ما ذكر في زوجاته؛ هل يشمل من مات عنهن، ومن فارقهن في الحياة مدخولا بهم، أم لا؟ "وفي جواز النظر إليهن" ولو لشهادة أو مداواة "وجهان، أشهرهما المنع، وثبت لهن حكم الأمومة في احترامهن وطاعتهن" فيما أمرن به، "وتحريم نكاحهن لا في جواز الخلوة بهن" فيحرم، "والنفقة عليهن" فلا تجب، "والميراث" فلا توارث بينهن وبين الأجانب منهن، "ولا(7/263)
ولا يتعدى ذلك إلى غيرهن فلا يقال بناتهن أخوات للمؤمنين على الأصح.
وقيل: إنما حرمن لأنه عليه السلام حي في قبره، ولهذا حكى الماوردي أنه لا يجب عليهن عدة الوفاة.
وفي التي فارقها في الحياة -كالمستعيذة- والتي رأى بكشحها بياضًا أوجه: أحدها، يحرمن أيضًا، وهو الذي نص عليه الشافعي وصححه في الروضة، لعموم الآية، إذ ليس المراد بمن بعده بعدية الموت، بل بعدية النكاح.
وقيل: لا. والثالث وصححه إمام الحرمين والرافعي في الصغير: تحريم المدخول بها فقط، لما روي أن الأشعث بن قيس نكح المستعيذة في زمن عمر، فهم عمر برجمه.
__________
يتعدى ذلك" التحريم "إلى غيرهن، فلا يقال بناتهن أخوات للمؤمنين على الأصح" لأنه صلى الله عليه وسلم أنكح عثمان وعليًا بناته، ولا لأمهاتهن جدات المؤمنين على قياسه، وإلا لزم أن كل من نكحها حرمت أمها على زوجها.
"وقيل: إنما حرمن، لأنه عليه السلام حي في قبره" ويكون حاله عند صاحب ذا القيل كالنائم، وهذا مقابل قوله تكرمة له وخصوصية، لأنه يفيد انقطاع نكاحه بموته، وهذا يفيد أنه لم ينقطع، "ولهذا حكى الماوردي" وجهًا للشافعية "أنه لا يجب عليهن عدة الوفاة" لحياته ومثله يقال في غيره من الأنبياء على قياسه وذكر الخطابي عن ابن عيينة أنهن في معنى المعتدات، فلهن سكنى البيوت ما عشن، ولا يملكن رقابها، "وفي" الزوجات "التي فارقها في الحياة" وقدرنا ذلك لقوله الآتي: أحدها يحرمن، ولا يضر وصف الجمع بالمفرد، لأن جمع الإناث وما لا يعقل، يجوز وصفه بالمفرد، ولهم فيها أزواج مطهرة، "كالمستعيذة" التي قالت: أعوذ بالله منك، "والتي رأى بكشحها بياضًا" أي: برصًا فردها، وقال: "دلستم عليّ"، "أوجه، أحدها: يحرمن أيضًا، وهو الذي نص عليه الشافعي، وصححه في الروضة لعموم الآية" {وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا} ، "إذ ليس المراد بمن بعده بعدية الموت" فقط، "بل بعدية النكاح، وقيل: لا" يحرمن مدخولا بها أم لا على ظاهر هذا الوجه، لكن في شرح البهجة الجزم بعدم حل المدخول بها.
"والثالث: وصححه إمام الحرمين والرافعي في" الشرح "الصغير" على وجيز الغزالي: "تحريم المدخول بها فقط" وحل من لم يدخل "لما روي أن الأشعث بن قيس" بن معد يكرب الكندي، صحابي نزل الكوفة، ومات سنة أربعين أو إحدى وأربعين، وهو ابن ثلاث وستين، "نكح المستعيذة في زمن عمر" بن الخطاب، "فهم عمر برجمه" بناء على أن نكاحها(7/264)
فأخبر بأنها لم تكن مدخولا بها فكف.
وفي أمة فارقها بعد وطئها أوجه ثالثها: تحرم إن فارقها بالموت -كمارية- ولا تحرم إن باعها في الحياة، انتهى.
ومنها ما عده ابن عبد السلام أنه يجوز أن يقسم على الله به وليس ذلك لغيره، قال ابن عبد السلام: هذا ينبغي أن يكون مقصورًا على النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه سيد ولد آدم، وأن لا يقسم على الله بغيره من الأنبياء والملائكة والأولياء لأنهم ليسوا في درجته، وأن يكون هذا مما خص به لعلو درجته ومرتبته، انتهى.
ومنها أنه يحرم رؤية أشخاص أزواجه في الأزر.
__________
حرام، فهو زنا وحد زنا المحصن الرجم، "فأخبر بأنها لم تكن مدخولا بها فكف" عن رجمه الذي كان هم به، وذلك يدل على حل من لم يدخل بها، ومن أطلق التحريم يقول: هو اجتهاد من عمر "وفي أمة فارقها بعد وطئها أوجه" بالحرمة والحل، "ثالثها تحرم إن فارقها بالموت كمارية" القبطية، "ولا تحرم إن باعها في الحياة" واعتمد شارح البهجة وغيره التحريم، "انتهى".
"ومنها: ما عده ابن عبد السلام أنه يجوز أن يقسم على الله به" أخرج الترمذي، وابن ماجه، والحاكم عن عثمان بن حنيف أن رجلا أعمى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ادع الله أن يعافيني، فقال: "إن شئت أخرت لك وهو خير، وإن شئت دعوت"، قال: فادعه، فأمره أن يتوضأ ويصلي ركعتين، ويقول: اللهم إني أسألك وأتوسل إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، اللهم إني توجهت بك إلى ربي في حاجتي، "وليس ذلك لغيره" من الأنبياء والملائكة والأولياء.
وأما الاستشفاع بهم بلا إقسام، فمستحب، لأن دعاءهم أرجى للإجابة، كما استشفع عمر بالعباس، فقال: اللهم إنا كنا إذا قحطنا توسلنا إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا فيسقون، رواه البخاري، وكذا بما فعل من خير يذكره في نفسه فيجعله شافعًا؛ لأن ذلك لائق بالشدائد، كما في خبر الثلاثة الذين آووا في الغار.
"قال ابن عبد السلام: وهذا ينبغي أن يكون مقصورًا على النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه سيد ولد آدم، وأن لا يقسم على الله بغيره من الأنبياء والملائكة والأولياء، لأنهم ليسوا في درجته، وأن يكون هذا مما خص به لعلو درجته ومرتبته، انتهى".
وتعقب: بأنه لا اتجاه لما ذكره، لأن الخصائص لا تثبت بالاحتمال، بل في بعض الأخبار التصريح بخلافه، وذكر التستري عن معروف الكرخي أنه قال لتلامذته: إذا كان لكم إلى الله حاجة، فاقسموا عليه بي، فإني الواسطة بينكم وبينه الآن بحكم الوراثة عن المصطفى.
"ومنها: أنه يحرم رؤية أشخاص" أي: أجسام "أزواجه في الأزر"، ولا كذلك أزواج(7/265)
وكذا يحرم كشف وجوههن وأكفهن لشهادة أو غيرها، كما صرح به القاضي عياض، وعبارته: فرض الحجاب مما اختصصن به، فهو فرض عليهن بلا خلاف في الوجه والكفين، فلا يجوز لهن كشف ذلك في شهادة ولا غيرها، ولا إظهار شخوصهن وإن كن مستترات، إلا ما دعت إليه ضرورة من براز، ثم استدل بما في الموطإ، أن حفصة لما توفي عمر سترها النساء عن أن يرى شخصها، وأن زينب بنت جحش جعلت لها القبة فوق نعشها ليستر شخصها، انتهى.
قال الحافظ ابن حجر: وليس فيما ذكره دليل على ما ادعاه من فرض ذلك عليهن، فقد كن بعد النبي صلى الله عليه وسلم يحجبن ويطفن، وكان الصحابة ومن بعدهم يسمعون منهن الحديث وهن مستترات الأبدان لا الأشخاص. انتهى.
__________
غيره، قال المصباح: الشخص سواد الإنسان، يراه من بعد، ثم استعمل في ذاته.
قال الخطابي: ولا يسمى شخصًا إلا جسم مؤلف، له شخوص وارتفاع، "وكذا يحرم كشف وجوههن" مصدر مضاف إلى مفعوله، أي: أن يكشفن وجوههن "وأكفهن لشهادة أو غيرها" إكرامًا له صلى الله عليه وسلم "كما صرح به القاضي عياض" وأقره النووي، "وعبارته" في شرح مسلم: "فرض الحجاب مما اختصصن به فهو فرض عليهن بلا خلاف في الوجه والكفين، فلا يجوز لهن كشف ذلك في شهادة ولا غيرها" بل يحرم عليهن، "ول اإظهار شخوصهن وإن كن مستترات" بالأزر ونحوها، "إلا ما دعت إليه ضرورة من" خروجهن إلى "براز" فترى أشخاصهن فلا حرمة، قال الجوهري وغيره: بالكسر ثقل الغذاء، وهو الغائط، وبالفتح اسم للقضاء الواسع، ولا يظهر معناه هنا إلا بكلفة، قاله النووي: أي يجعله مجازًا علاقته المجاورة، أو من تسمية الحال باسم المحل لخروجه بالفضاء، "ثم استدل بما في الموطأ؛ أن حفصة لما توفي" أبوها "عمر سترها النساء عن أن يرى شخصها" ولم ينكر عليهن، فكان إجمعًا، "وأن زينب بنت جحش" المتوفية بالمدينة في خلافة عمر سنة عشرين "جعلت لها القبة فوق نعشها ليستر شخصها" وذلك بمحضر الصحابة، ومنهم عمر الذي صلى عليه ولم ينكر، وفيه أنه يمنع رؤى أشخاصهن بعد الموت، "انتهى" كلام عياض.
"قال الحافظ ابن حجر: وليس فيما ذكره دليل على ما ادعاه من فرض ذلك عليهن" لجواز أنه فعل ذلك تكرمة لهن، بل قد ورد عنهن ما يدل على خلاف ذلك، "فقد كن بعد النبي صلى الله عليه وسلم يحججن ويطفن" وفي البخاري قول ابن جريج لعطاء: لما ذكر له طواف عائشة أقبل الحجاب أو بعد؟ قال: إن أدركت ذلك إلا بعد الحجاب، "وكان الصحابة ومن بعدهم يسمعون منهن الحديث، وهن مستترات الأبدان" بثياب تمنع رؤية البشرة "لا الأشخاص" إذ(7/266)
وأما حكم نظر غير أزواجه عليه الصلاة والسلام ففي الروضة وأصلها عن الأكثرين: جواز النظر إلى وجه حرة كبيرة أجنبية وكفيها إذا لم تكن فتنة، مع الكراهة، وقوة كلام الشيخين: الرافعي والنووي تقتضي رجحانه، وصوبه في "المهمات" لتصريح الرافعي في الشرح بأن الأكثرين عليها، ولكن نقل ابن العراقي أن شيخه البلقيني قال: الترجيح بقوة المدرك، والفتوى على ما في المنهاج، وقد جزم به في "التدريب"، وقوة كلام الشرح الصغير تقتضي رجحانه، وعلله باتفاق المسلمين على منع النساء من الخروج سافرات. ونقلا في الروضة وأصلها هذا الاتفاق وأقراه.
وعورضا بنقل القاضي عياض عن العلماء مطلقًا: أنه لا يجب على المرأة ستر وجهها في الطريق، وإنما هو سنة، وعلى الرجال غض البصر، وحكاه عنه النووي في شرح مسلم وأقره. قال الشيخ نجم الدين بن قاضي عجلون في تصحيح المنهاج، والله أعلم.
__________
لا يمنعها، لا كونها بهودج ونحوه بحيث لا يرى شخصها، "انتهى" ويمكن الجواب عن عياض بأن ذلك من جملة ما دخل في قوله: إلا ما دعت إليه ضرورة، وقوله: من براز مثال لا قيد.
"وأما حكم نظر غير أزواجه عليه الصلاة والسلام، ففي الروضة وأصلها عن الأكثرين" من الشافعية "جواز النظر إلى وجه حرة كبيرة أجنبية، وكفيها، إذا لم تكن" أي: توجد "فتنة مع الكراهة، وقوة كلام الشيخين الرافعي والنووي" في الروضة، "تقتضي رجحانه، وصوبه في المهمات" للأسنوي "لتصريح الرافعي في الشرح" لوجيز الغزالي "بأن الأكثرين عليه" وذلك يقتضي رجحانه "لكن نقل ابن العراقي: أن شيخه البلقيني قال في الترجيح بقوة المدرك" أي: الدليل "والفتوى على ما في المنهاج" للنووي من حرمة ذلك، "وقد جزم به في التدريب" للبلقيني، "وقوة كلام الشرح الصغير" للرافعي على الوجيز "تقتضي رجحانه، وعلله باتفاق المسلمين على منع النساء من الخروج سافرات"، كاشفات وجوههن، "ونقلا في الروضة وأصلها هذا الاتفاق وأقراه وعورضا بنقل القاضي عياض عن العلماء مطلقًا" عن التقييد بمذهب، فكأه قال: اتفق العلماء على "أنه لا يجب على المرأة ستر وجهها في الطريق، وإنما هو سنة و" يجب "على الرجال غض البصر، وحكاه عنه" أي: عياض "النووي في شرح مسلم وأقره" وهو ينقض دعوى اتفاق المسلمين على المنع، "قاله الشيخ نجم الدين بن قاضي عجلون في تصحيح المنهاج، والله أعلم" بالحق في ذلك،(7/267)
وكان النكاح في حقه عليه الصلاة والسلام عبادة مطلقًا، كما قاله السبكي، وهو في حق غيره ليس بعبادة عندنا، بل من المباحات, والعبادة عارضة له.
ومنها أن أولاد بناته ينسبون إليه، قال عليه الصلاة والسلام في الحسن: "إن ابني هذا سيد" رواه أبو يعلى.
__________
"وكان النكاح في حقه عليه الصلاة والسلام عبادة، مطلقًا" عن التقييد بالاحتياج وغيره "كما قاله السكبي، وهو في حق غيره ليس بعبادة" على الأصح "عندنا" أي: الشافعية، أي ليس مستحبًا لذاته، فيثاب فاعله مطلقًا، "بل من المباحات" لقوله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُم} الآية، إذ العبادة لا تتعلق بالاستطابة، "والعبادة عارضة له" من جهة بقاء النسل وحفظ النسب، والاستعانة على المصالح الدينية، وصرحوا بأنه تجري فيه الأحكام الخمسة، وقيل: هو عبادة.
قال الحافظ: والتحقيق أن الصورة التي يستحب فيها تستلزم كونه عبادة، فمن نفى العبادة عنه نظر إليه في حد ذاته، ومن أثبت نظر إلى صورة مخصوصة، انتهى، أي: وأولى صورة الوجوب.
"ومنها: أن أولاد بناته ينسبون إليه" شرعًا، فهو عصبة لهم؛ مما قال صلى الله عليه وسلم في حديث: "وكل ولد آدم، فإن عصبتهم لأبيهم ما خلا ولد فاطمة، فإني أنا أبوهم وعصبتهم" رواه أبو نعيم عن عمر برجال ثقات، وقال صلى الله عليه وسلم: "لكل بني آدم عصبة إلا ابني فاطمة أنا وليهما وعصبتهما"، أخرجه الحاكم عن جابر وأبو يعلى عن فاطمة، وقال صلى الله عليه وسلم: "إن الله لم يبعث نبيًا قط إلا جعل ذريته من صلبه غيري، فإن الله جعل ذريتي من صلب علي". رواه الطبراني والخطيب بخلاف غيره، فأولاد بناته لا ينسبون إليه؛ كما قال الشاعر:
بنونا بنو أبنائنا وبناتنا ... بنوهن أبناء الرجال الأباعد
"قال عليه الصلاة والسلام في الحسن" بالتكبير: "إن ابني هذا سيد" وفي رواية: سيد باللام، أي: حليم، كريم، متجمل، شريف من السؤدد، وقيل: من السواد؛ لكونه يرأس على السواد العظيم من الناس، أي: الأشخاص العظيمة، ذكره ابن الأثير، وقال عليه السلام لما ولد: "أروني ابني ما سميتموه"، وكذا لما ولد الحسين، وكذا لما ولد محسن أخوهما أخرجه أحمد، "رواه أبو يعلى" والبخاري في مواضع من صحيحه، وأحمد، وأبو داود، والترمذي، والنسائي كلهم عن أبي بكرة، وقال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر، والحسن بن علي إلى جنبه، وهو يقبل على الناس مرة وعليه أخرى، ويقول: "إن ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين" فقصر المصنف وأوهم شديدًا، وقد صرح مغلطاي بأنه لا يجوز(7/268)
ومنها أن كل نسب وسبب منقطع يوم القيامة إلا سببه ونسبه. قال عليه الصلاة والسلام كل سبب ونسب منقطع يوم القيامة إلا سببي ونسبي. والنسب بالولادة والسبب بالنكاح.
قيل: ومعناه أن أمته ينتفعون بالنسبة إليه يوم القيامة بخلاف أمة غيره.
__________
لحديثي نقل حديث في أحد الكتب الستة من غيرها.
"ومنها: أن كل نسب وسبب منقطع يوم القيامة" قال تعالى: {فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ} الآية، "إلا سببه ونسبه" فلا ينقطعان.
"قال عليه الصلاة والسلام" فيما رواه الحاكم والبيهقي عن عمر: "وكل سبب ونسب منقطع يوم القيامة إلا سببي ونسبي".
قال عمر: فتزوجت أم كلثوم لذلك، وأحببت أن يكون بيني وبينه نسب وسبب، رواه البزار، وهذا لا يعارضه حثه في إخباره لأهل بيته على خوف الله، وتقواه، وتحذيرهم الدنيا وغرورها، وإعلامهم بأنهم لا يغني عنهم من الله شيئًا؛ لأن معناه أنه لا يملك لهم نفعًا، لكن الله يملكه نفعهم بالشفاعة العامة والخاصة، فهو لا يملك إلا ما ملكه ربه، فقوله: "لا أغني عنكم"، أي: بمجرد نفسي من غير ما يكرمني الله به من نحو شفاعة، أو مغفرة، وخاطبهم بذلك رعاية لمقام التخويف، أو كان قبل علمه بأنه يشفع.
وفي رواية ابن عساكر: "كل نسب وصهر منقطع يوم القيامة إلا نسبي وصهري" "والنسب بالولادة، والسبب بالنكاح" حكاه الديلمي مصدرًا بأن السبب هنا الوصلة والمودة، وكل ما يتوصل به إلى الشيء لبعد عنه، فهو سبب.
وفي البيضاوي: فجعله نسبًا وصهرًا، أي: قسم البشر قسمين ذوي نسب أي ذكورًا ينسب إليهم، وذوات صهر، أي إناثًا يصاهر بهن؛ كقوله: {فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى} الآية، ويمكن حمل المصنف عليه بجعل الولادة عبارة عن النسب إلى الآباء، والسبب عبارة عن القرابة من جهة النساء والتزوج بهن؛ كما قال الطيبي: السبب النسب ما رجع إلى ولادة قريبة من جهة الآباء، والصهر ما كان خلطة يشبه القرابة، يحدثها التزوج.
وأما حديث ابن عمر وابن عباس مرفوعًا: "الأنساب تنقطع يوم القيامة غير نسبي وسببي وصهري" فيراد بالصهر فيه خصوص النكاح، وبالسبب القرابة من جهة الأم لجمعه بين الثلاثة.
"قيل: ومعناه" أي: الحديث بقطع النظر عن تفسيره المذكور، فلا يرد عليه أنه لا يرتب على الولادة والنكاح، "أن أمته ينتفعون بالنسبة إليه يوم القيامة بخلاف أمة غيره" من سائر الأنبياء، فلا ينسبون إليهم، وقد ضعف هذا القيل بأنه تأويل نشأ من خفاء الجمع على قائله بينه(7/269)
ومنها: أنه لا يتزوج على بناته. فعن المسور بن مخرمة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر يقول: "إن بني هاشم بن المغيرة استأذنوني في أن ينكحوا ابنتهم علي بن أبي طالب، فلا آذن لهم، ثم لا آذن ثم لا آذن لهم
__________
وبين حديث: "لا أغني عنكم من الله شيئًا" وقد علم الجمع بينهما بوجهين، وضعفه أيضًا الجلال البلقيني بما في الصحيح عن أبي سعد مرفوعًا: "يجيء نوح وأمته، فيقول الله: هل بلغت؟ فيقول: نعم، أي رب، فيقال لأمته: هل بلغكم" الحديث، فهو صريح في نسبة أمة نوح إليه يومئذ، وأجاب شيخنا، بأن مراده من خص الانتساب إلى نبينا والانتفاع به الشفاعة الحاصلة منه لأمته على وجوه متعددة، لا تحصل لغيره مع أمته.
وقيل: معناه ينتفع يومئذ بالنسبة إليه، ولا ينتفع بجميع الأنساب، ورجحه السيوطي وأيده بحديث عمر المتقدم، قال البلقيني: وهذا هو الطي يظهر، انتهى.
"ومنها: أنه لا يتزوج على بناته" أي: يحرم، "فعن المسور" بكسر الميم، وسكون المهملة، وفتح الواو "ابن مخرمة" بفتح الميم، وسكون المعجمة، وفتح الراء ابن نوفل بن أهيب بن عبد مناف بن زهرة القرشي، الزهري، أبي عبد الرحمن له ولأبيه ولأمه عاتكة بنت عوف أخت عبد الرحمن صحبة، ولد بعد الهجرة بسنتين، وقدم المدينة في ذي الحجة بعد الفتح سنة ثمان، وهو ابن ست سنين، وحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث، وفي الصحيحين في بعض طرق الحديث: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا يومئذ محتلم، وهذا يدل على أنه ولد قبل الهجرة لكن أطبقوا على أنه ولد بعدها، وقد تأول بعضهم قوله: محتلم على أنه من الحلم، بالكسر، لا من الحلم، بالضم، يريد أنه كان عاقلا ضابطًا لما يتحمله، مات سنة أربع وستين على الصواب بحجر أصابه من حجارة المنجنيق في حصار الجيش الذي أرسله يزيد بن معاوية لابن الزبير، وكان قائمًا يصلي، فأقام خمسة أيام، ومات يوم أتى نعي يزيد؛ كما في الإصابة. "أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر يقول: "إن بني هاشم" كذا وقع في مسلم وصوابه، كما في البخاري هشام "بن المغيرة" المخزومي، إذ بنو هشام هم أعمام بنت أبي جهل لأنه عمرو بن هشام بن المغيرة، وقد أسلم أخواه الحارث وسلمة ابنا هشام عام الفتح، "استأذنوني" وفي رواية: استأذنوا " في أن ينكحوا" بضم أوله من أنكح "ابنتهم علي بن أبي طالب" وعند الحاكم بسند صحيح إلى سويد بن غفلة، بفتح المعجمة والفاء، أحد المخضرمين ممن أسلم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ولم يلقه، قال: خطب علي بنت أبي جهل إلى عمها الحارث فاستشار النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "أعن حسبها تسألني"؟، فقال: لا، ولكن أتأمرني، قال: "لا" الحديث، "فلا آذن لهم" في ذلك، "ثم لا آذن، ثم لا آذن لهم" بالتكرار ثلاثًا.
قال الكرماني: فإن قلت لا بد في العطف من المغايرة بين المعطوفين، قلت: الثاني فيه(7/270)
إلا أن يحب ابن أبي طالب أن يطلق ابنتي وينكح ابنتهم، فإنما ابنتي بضعة مني يريبني ما رابها، ويؤذيني ما آذاها". أخرجه الشيخان، وصححه الترمذي.
وعنه أن علي بن أبي طالب خطب بنت أبي جهل، وعنده فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم، فلما سمعت بذلك فاطمة أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إن قومك يتحدثون أنك لا تغضب لبناتك، وهذا علي ناكح ابنة أبي جهل.
__________
مغايرة للأول، فإن فيه تأكيد للأول، وفيه إشارة إلى تأييد مدة منع الإذن؛ كأنه أراد رفع المجاز، لاحتمال أن يحمل النفي على مدة بعينها، فقال: "ثم لا آذن"، أي: ولو مضت المدة المفروضة تقديرًا لا آذن بعدها، ثم كذلك أبدًا، "إلا أن يحب" هذا لفظ مسلم، ولفظ البخاري: إلا أن يريد "ابن أبي طالب أن يطلق ابنتي" فكنى بمحبة الطلاق عن نفس الطلاق إشارة إلى أنه باختياره لا بإكراه، "وينكح" بفتح الياء من نكح "ابنتهم، فإنما ابنتي بضعة مني" بفتح الموحدة، وسكون المعجمة، وحكى ضم الموحدة وكسرها، أي قطعة لحم؛ كما ضبطه الحافظ وغيره، فمفاده أن الرواية بالفتح، ولذا اقتصر عليه المصنف في موضع "يريبني" بضم أوله "ما رابها" وفي نسخة: ما أرابها، وهما صحيحان، يقال: رابني فلان وأرابني إذا رأيت منه ما تكرهه، "ويؤذيني ما آذاها" فمن آذاها فقد آذاه، وهو حرام بإجماع، ولم يقل: ما يؤذيها إشارة إلى أن أذاه مسبب عن أذاها، فالمعنى إذا آذاها أحد آذاني وهذا تعليل لعدم إذنه يعني أن المانع لي من الإذن أنه يؤذيها كما يؤذيني، "أخرجه الشيخان" في مواضع، ومعلوم أنه أرفع الصحيح وإنما ذكر قوله "وصححه الترمذي" أي صرح بصحته، رد الزعم وضعه.
قال الحافظ: إنما قام صلى الله عليه وسلم خطيبًا ليشيع الحكم الذي سيقرره، ويأخذوا به على سبيل الوجوب أو الأولوية، وغفل الشريف المرتضى عن هذه النكتة، فزعم أن هذا الحديث موضوع؛ لأنه من رواية المسور، وكان فيه انحراف على علي، وجاء من رواية ابن الزبير، وهو أشد في ذلك، ورد كلامه بإطباق أصحاب الصحيح على تخريجه، انتهى، والشريف هذا من رءوس الشيعة، وحمله على هذا قولهم: أن عليًا لا يمكن منه أن يفعل ذلك، "وعنه" أي عن المسور أيضًا "أن علي بن أبي طالب خطب بنت أبي جهل، وعنده فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم" أخذ بعموم الجواز، فلما أنكره النبي صلى الله عليه وسلم ترك الخطبة، "فلما سمعت بذلك فاطمة أتت النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: إن قومك يتحدثون".
وفي رواية: يزعم قومك "أنك لا تغضب لبناتك" إذ أوذوا، ولعل سبب التحدث أو الزعم مشاهدتهم حلمه، وأنه لا يغضب لنفسه، وإنما يغضب إذا انتهكت حرمات الله، "وهذا علي ناكح" أي يريد أن ينكح "بنت أبي جهل"، وفي مسلم والطبراني: ناكحًا بالنصب، أطلق عليه(7/271)
قال المسور: فقال النبي صلى الله عليه وسلم فسمعته حين تشهد قال: "أما بعد، فإني أنكحت أبا العاصي بن الربيع، فحدثني فصدقني، وإن فاطمة بنت محمد بضعة مني، وإنما أكره أن يفتنوها، والله لا تجتمع بنت رسول الله وبنت عدو الله عند رجل واحد أبدًا". قال: فترك علي الخطبة أخرجه الشيخان.
__________
اسم ناكح مجازًا باعتبار قصده له.
"قال المسور: فقام النبي صلى الله عليه وسلم" خطيبًا على المنبر، "فسمعته حين تشهد" زاد في رواية للبخاري ومسلم: وأنا يومئذ محتلم، قال: "أما بعد، فإني أنكحت أبا العاصي" لقيط أو مقسم، بكسر الميم، أو هشيم، أو غير ذلك "ابن الربيع" بن ربيعة بن عبد العزى بن عبد شمس بن عبد مناف، ويقال بإسقاط ربيعة مشهور بكنيته وأمه هالة بنت خويلد أخت خديجة، أي: أنكحه أكبر بناته زينب قبل النبوة، "فحدثني فصدقني" بخفة الدال بعد الصاد المهملتين، أي في حديثه، زاد في رواية: "ووعدني فوفى لي".
قال الحافظ: ولعله كان شرط على نفسه أن لا يتزوج على زينب، وكذلك علي، فإن يكن كذلك فهو محمول على أن عليًا نسي ذلك الشرط، فلذلك أقدم على الخطبة، أو لم يقع عليه شرط، إذ لم يصرح به، لكن كان ينبغي له أن يراعي هذا القدر، فلذلك وقعت المعاتبة، وكان صلى الله عليه وسلم قل أن يواجه أحدًا بما يعاب به، ولعله إنما جهر بمعاتبة علي مبالغة في رضا فاطمة، وكانت هذه الواعة بعد فتح مكة، ولم يكن حينئذ تأخر من بناته صلى الله عليه وسلم غيرها، وكانت أصيبت بعد أمها بأخواتها، فكان إدخال الغيرة عليها مما يزيد حزنها، انتهى.
"وإن فاطمة بنت محمد بضعة مني" قال المصنف: بفتح الموحدة فقط، وسكون المعجمة، ولأبي ذر عن الحموي والمستملي: مضغة بميم مضمومة بدل الموحدة، وغين معجمة بدل المهملة، واقتصر على الفتح، لأنه الرواية، وإلا فحكى الضم والفتح أيضًا كما مر.
وفي الكرماني قال الجوهري: بفتح الباء النووي بضمها صاحب النهاية بالفتح وقد تكسر، "وإنما أكره أن يفتنوها" لفظ مسلم، وله أيضًا وللبخاري: "إني أخاف أن تفتن في دينها"، وللبخاري في المناقب: "وإني أكره أن يسوءها" أي أحد عليّ أو غيره.
زاد في رواية للشيخين: "وإني لست أحرم حلالا ولا أحل حرامًا، ولكن والله لا تجتمع بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وبنت عدو الله عند رجل واحد أبدًا". قال: المسور: "فترك على الخطبة" أعرض عنها وعزم أن لا ينكح ابنة أبي جهل، "أخرجه الشيخان" أيضًا مسلم في الفضائل والبخاري في مواضع.
قال ابن التين: أصح ما تحمل عليه هذه القصة أنه صلى الله عليه وسلم حرم على علي أن يجمع بين ابنته(7/272)
واسم بنت أبي جهل هذه: جويرية، أسلمت وبايعت، وتزوجها عتاب بن أسيد، ثم أبان بن سعيد بن العاصي.
قال أبو داود: حرم على علي أن ينكح على فاطمة في حياتها، لقوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] .
وذكر الشيخ أبو علي السنجي في شرح التلخيص: أنه يحرم التزويج على بنات النبي صلى الله عليه وسلم.
__________
وبين ابنة أبي جهل؛ لأنه علل بأن ذلك يؤذيه، وأذيته حرام بالإجماع، ومعنى قوله: "لا أحرم حلالا" أنها حلال له لو لم تكن عنده فاطمة، وأما الجمع بينهما المستلزم تأذيه لتأذية فاطمة فلا، انتهى.
"واسم بنت أبي جهل هذه" المخطوبة "جويرية" بضم الجيم، وجزم بذلك لأنه أشهر الأقوال، قال في الفتح: اختلف في اسم بنت أبي جهل، فروى الحاكم في الإكليل: جويرية، وهو الأشهر، وفي بعض الطرق اسمها العوراء.
أخرجه ابن طاهر في المبهمات، وقيل: اسمها الحنفاء، ذكره ابن جرير الطبري، وقيل: جهدم، حكاه السهيلي.
وقيل: جميلة، ذكره شيخنا ابن الملق في شرحه، وكان لأبي جهل بنت تسمى صفية، تزوجها سهيل بن عمر، وسماها ابن السكيت وغيره، وقال: هي الحنفاء المذكورة، "أسلمت وبايعت" النبي صلى الله عليه وسلم وحفظت عنه، "وتزوجها" فيما يقال كما في الفتح "عتاب" بفتح العين والفوقية الثقيلة "ابن أسيد" بفتح فكسر الصحابي، أمير مكة، فولدت له عبد الرحمن بن عتاب، "ثم" لما مات عنها تزوجها "أبان" بفتح الهمزة وخفة الموحدة، فألف، فنون "ابن سعيد بن العاصي" بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف القرشي، الأموي، الصحابي.
"قال أبو داود: حرم على علي" رضي الله عنه "أن ينكح على فاطمة في حياتها"، أي: مدة حياتها، فحذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه "لقوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ} أعطاكم {الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} الآية، وقد نهاه عن الزواج عليها، "وذكر الشيخ أبو علي السنجي" أحد عظماء الشافعية، أصحاب الوجوه، نسبة إلى سنج، بكسر المهملة، وسكون النون وجيم، قرية بمرو "في شرح التلخيص" لابن القاص "أنه يحرم التزويج" أي: والتزوج "على بنات النبي صلى الله عليه وسلم" إلى هنا كلام أبي علي وهو يبطل النكاح مقتضى تحريمًا للنهي المستفاد من {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ} الآية، البطلان لأن الأصل في النهي(7/273)
ويحتمل أن يكون ذلك خاصًا بفاطمة رضي الله عنها، وقد علل صلى الله عليه وسلم بأن ذلك يؤذيه، وإذايته حرام بالاتفاق، وفي هذا تحريم أذى من يتأذى النبي صلى الله عليه وسلم بتأذيته، لأن إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم حرام اتفاقًا قليله وكثيره. وقد جزم عليه الصلاة والسلام بأنه يؤذيه ما آذى فاطمة، فكل من وقع منه في حق فاطمة شيء تأذت به فهو يؤذي النبي صلى الله عليه وسلم بشهادة الخبر الصحيح.
__________
الفساد.
وفي فتح الباري: لا يبعد أن يعد من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يتزوج على بناته، "ويحتمل أن يكون ذلك خاصًا بفاطمة رضي الله عنها" لأنها كانت أصيبت بأمها ثم بأخواتها واحدة فواحدة، فلم يبق من تأنس به ممن يخفف عليها أمر الغيرة، انتهى كلام الفتح.
"وقد علل عليه السلام" المنع "بأن ذلك يؤذيه، وإذايته حرام بالاتفاق" أي الإجماع، "وفي هذا" كما في الفتح "تحريم أذى من يتأذى النبي صلى الله عليه وسلم بتأذيه لأن أذى النبي صلى الله عليه وسلم حرام اتفاقًا قليله وكثيره" {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ} الآية، "وقد جزم عليه الصلاة والسلام، بأن يؤذيه ما آذى فاطمة، فكل من وقع منه في حقها شيء تأذت به، فهو يؤذي النبي صلى الله عليه وسلم بشهادة الخبر الصحيح" المذكور، زاد في الفتح: ولا شيء أعظم من إدخال الأذى عليها من قبل ولدها، ولهذا عرف بالاستقراء معاجلة من تعاطى ذلك بالعقوبة في الدنيا، ولعذاب الآخرة أشد، انتهى.
وقال الشريف السمهودي: ومعلوم أن أولاد فاطمة بضعة منها، فيكونون بواسطتها بضعة منه، ومن ثم لما رأت أم الفضل في منامها أن بضعة منه وضعت في حجرها أوله النبي صلى الله عليه وسلم، بأن فاطمة تلد غلامًا، فيوضع في حجرها فولدت الحسن، فوضع فيه، فكل من يشاهد الآن من ذريتها بضعة من تلك البضعة، وإن تعددت الوسائط، ومن تأمل ذلك انبعث من قبله دواعي الإجلال لهم، وتجنب بغضهم على أي حال كانوا، انتهى.
وروى أحمد والحاكم، والطبراني: أن حسين بن حسين خطب بنت المسور بن مخرمة، فقال له: ما من نسب ولا صهر أحب إلي من نسبكم وصهركم، ولكن رسول الله قال: "فاطمة بضعة مني يغضبني ما يغضبها، ويبسطني ما يبسطها" وعندك بنتها ولو زوجتك أغضبها ذلك، فذهب عاذرًا له.
قال في ذخائر العقبي: فيه دليل على أن الميت يراعى منه ما يراعى من الحي، قال: ولعل مراد أبي علي بقوله: يحرم التزويج على بناته من ينسب إليه بالنبوة، ويكون هذا الحديث دليل.
قال السيوطي: فإن أخذ هذا على ظاهره، فمقتضاه أنه يحرم التزويج على ذرية بناته، وأن(7/274)
وقد استشكل اختصاص فاطمة بذلك، مع أن الغيرة على النبي صلى الله عليه وسلم أقرب إلى خشية الافتتان في الدين، ومع ذلك فكان صلى الله عليه وسلم يستكثر من الزوجات، ويوجد منهن الغيرة ومع ذلك ما راعى صلى الله عليه وسلم ذلك في حقهن، كما رعاه في حق فاطمة.
وأجيب: بأن فاطمة كانت إذ ذاك فاقدة من تركن إليه ممن يؤنسها ويزيل وحشتها من أم أو أخت، بخلاف أمهات المؤمنين، فإن كل واحدة منهن كانت ترجع إلى من يحصل لها معه ذلك، وزيادة عليه وهو زوجهن صلى الله عليه وسلم لما كان عنده من الملاطفة وتطييب القلوب وجبر الخاطر، بحيث إن كل واحدة منهن ترضى به بسبب خلقه وترضى بجميع ما يصدر منه، بحيث لو وجد ما يخشى وجوده من الغيرة لزال عن قريب.
ومنها: أنه لا يجتهد في محراب صلى إليه يمنة ولا يسرة، وأفتى شيخ الإسلام أبو زرعة.
__________
يتعلق ذلك إلى يوم القيامة، وفيه وقفة، انتهى، بل لا يصح لقيام الإجماع الفعلي في كل عصر على خلافه، فهو خاص ببناته أو بفاطمة فقط على ما مر، وامتناع المسور من مزيد ورعه حملًا لما سمعه على عمومه.
"وقد استشكل اختصاص فاطمة بذلك، مع أن الغيرة على النبي صلى الله عليه وسلم أقرب إلى خشية الافتتان في الدين" الذي خشيه على فاطمة في نحو قوله: "وإني أخاف أن تفتن في دينها" "ومع ذلك: فكان صلى الله عليه وسلم يستكثر من الزوجات، ويوجد منهن الغيرة" عليه، "ومع ذلك ما راعى صلى الله عليه وسلم ذلك في حقهن، كما راعاه في حق فاطمة" فهل لذلك حكمة؟ "وأجيب بأن فاطمة كانت إذا ذاك فاقدة من تركن إليه ممن يؤنسها، ويزيل وحشتها من أم" لموت أمها وهي صغيرة جدًا، "أو أخت" لموت أخواتها قبل ذلك واحدة بعد واحدة، "بخلاف أمهات المؤمنين، فإن كل واحدة منهن كانت ترجع إلى من يحصل لها معه ذلك" المذكور من الإيناس وإزالة الوحشة "وزيادة عليه، وهو زوجهن صلى الله عليه وسلم لما كان عنده من الملاطفة وتطييب القلوب، وجبر الخاطر، بحيث أن كل واحدة منهن ترضى به بسبب حسن خلقه" بضمتين، وجميل خلقه، بفتح وسكون، إذ لا أجمل منه، "وترضى بجميع ما يصدر منه، بحيث لو وجد ما يخشى وجوده من الغيرة لزال عن قريب" حتى كأنه لم يكن كما يعلم من تصفح الأخبار.
"ومنها: أنه لا يجتهد في محراب" وهو ما ثبت أنه "صلى إليه" وإن لم يكن بمسجد "يمنة ولا يسرة" أي: لا يجوز ذلك، لأنه قطعي، أنه باجتهاده، إذ لا يقر على خطأ، فلو تحيل حاذق فيه يمنة أو يسرة، فحياله باطل، "وأفتى شيخ الإسلام" قاضي القضاة، "أبو زرعة" أحمد(7/275)
ابن العراقي في شخص امتنع من الصلاة إلى محراب النبي صلى الله عليه وسلم وقال: أنا أجتهد وأصلي، بأنه إن فعل ذلك مع الاعتراف بأنه على ما كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فهو ردة، وإن ذكر تأويلا بأن قال: ليس هو الآن على ما كان عليه في زمنه عليه الصلاة والسلام بل غير عما كان عليه، فهذا سبب اجتهادي، لم يحكم بردته، وإن لم يكن هذا التأويل صحيحًا.
ومنها أن من رآه في المنام فقد رآه حقًا.
__________
"ابن" عبد الرحمن "العراقي" الحافظ ابن الحافظ في الفتاوى المكية، وهو نحو كراسين "في شخص امتنع من الصلاة إلى محراب النبي صلى الله عليه وسلم وقال: أنا أجتهد وأصلي بأنه إن فعل ذلك مع الاعتراف بأنه على ما كان عليه في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، فهو ردة" لتضمنه أنه كان مخطئًا في صلاته وهو ردة "وإن ذكر تأويلا، بأن قال: ليس هو الآن على ما كان عليه في زمنه عليه الصلاة والسلام، بل غير عما كان عليه، فهذا سبب اجتهادي لم يحكم بردته" لأنه لم يتضمن خطأ، "وإن لم يكن هذا التأويل صحيحًا" إذ خطأ تأويله يستلزم شيئًا في حقه صلى الله عليه وسلم، والله أعلم.
"ومنها: أن من رآه في المنام فقد رآه حقًا" قال القضاعي: هذه الخصوصية مما خص به دون غيره من الأنبياء، وجزم البغوي بمشاركة جميع الأنبياء والملائكة له في ذلك.
وحكى الشيخ أكمل الدين في شرح المشارق فيه خلافًا، فقال: هل ذلك مختص بالنبي صلى الله عليه وسلم، أم لا؟ قال بعضهم: رؤيا الله تعالى والأنبياء والملائكة والشمس والقمر والنجوم المضيئة والسحاب، الذي فيه الغيم ايتمثل الشيطان بشيء منها، وذكر المحققون أنه خاص به صلى الله عليه وسلم، وقالوا في ذلك أنه وإن ظهر بجميع أسماء الله تخلقًا وتحققًا، لكن المقصود من رسالته صلى الله عليه وسلم هدايته للناس، وأن يكون مظهرًا لاسمه الهادي، والشيطان بخلاف ذلك، فهو ضال مضل، ولا يظهر أحدهما بصفة الآخر، ولو ظهر إبليس بصفته لالتبس على الناس، فضلوا بما يلقيه لهم لظنهم أنه الرسول، فعصم الله صورته من أن يتصور بها شيطان، انتهى.
والحكمة المذكورة تقتضي عمومه في جميع الأنبياء والملائكة، ثم أورد أعني الشيخ أكمل الدين، أن عظمة الله أتم من عظمة كل عظيم، مع أن إبليس يتراءى لكثير، وخاطبهم بأنه الحق ليضلهم، فضل جمع حتى ظهنوا أنهم رأوا الحق، وسمعوا خطابه، وأجاب: بأن كل عاقل يعلم بأن الحق لا صورة له معينة توجب الاشتباه بخلاف النبي، فصورته معينة معلومة؛ وبأن مقتضى الحكمة الحق أنه يضل من يشاء ويهدي من يشاء بخلاف النبي، فإنه متصف بالهداية ظاهر بصورتها ورسالته إنما هي لذلك لا للإضلال، فلا يكون منه إضلال لأحد البتة، فوجب(7/276)
فإن الشيطان لا يتمثل به.
وفي رواية مسلم: "من رآني في المنام فسيراني في اليقظة"، أو قال: "فكأنما رآني في اليقظة، لا يتمثل الشيطان بي".
__________
عصمة صورته من أن يظهر بها شيطان، وقال عياض: لم يختلف العلماء في جواز صحة رؤيا الله في النوم، وإن رؤي علة صفة لا تليق بحاله من صفات الأجسام، لتحقق أن المرئي غير ذات الله، إذ لا يجوز عليه التجسم، ولا اختلاف الحالات رؤيا، بخلاف النبي صلى الله عليه وسلم فكانت رؤياه تعالى في النوم من باب التمثيل والتخييل.
وقال ابن العربي: رؤيا الله في النوم أوهام وخواطر في القلب، لا تليق به الحقيقة، ويتعالى عنها، وهي دلالات للرأي على أمر كان أو يكون كسائر المرئيات، وقال غيره: رؤياه تعالى منامًا حق وصدق، لا كذب فيها في قول ولا فعل، "فإن الشيطان لا يتمثل به" كما أخرج أحمد والبخاري والترمذي عن أنس، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من رآني في المنام فقد رآني، فإن الشيطان لا يتمثل بي".
"وفي رواية مسلم" من حديث أبي هريرة: "من رآني في المنام فسيراني في اليقظة" بفتح القاف، رؤية خاصة بصفة القرب منه.
قال الدماميني: وهذه بشارة لرائيه بالموت مسلمًا؛ لأن لا يراه في القيامة تلك الرؤية الخاصة، باعتبار القرب منه إلا من تحقق موته على الإسلام.
وقال شيخنا: أي: فسيراني في اليقظة على الصورة التي رآني عليها في المنام، وذلك يدل على أن من رآه في المنام كانت رؤياه صادقة، "أو قال" شك من الراوي: "فكأنما رآني في اليقظة".
قال الشيخ أكمل الدين: ومعناه غير الأول لأنه تشبيه، وهو صحيح؛ لأنه ما رآه في النوم مثالي، وما يرى في عالم الحس حسي، فهو تشبيه خيالي بحسي، انتهى.
"لا يتمثل الشيطان بي" هذا كالتتميم للمعنى، والتعليل للحكم، أي: لا يحصل للشيطان مثال صورتي، ولا يتشبه بي، فكما منعه الله أن يتصور بصورته في اليقظة، منعه ذلك في النوم لئلا يشتبه الحق بالباطل، أو هو استئناف في جواب ما سبب ذلك، يعني: ليس ذلك المنام من قبيل تمثل الشيطان في خيال الرائي ما شاء من التخيلات، وإنما عزاه لمسلم وحده لوقع الشك من راويه في لفظه.
وقد رواه البخاري ومسلم أيضًا بلا شك، كلاهما من حديث أبي هريرة: "من رآني في المنام، فسيراني في اليقظة، ولا يتمثل الشيطان بي"، رواه الطبراني، وزاد: "ولا بالكعبة"، وقال: لا تحفظ هذه اللفظة إلا في هذا الحديث.(7/277)
قال الحافظ ابن حجر: وقع عند الإسماعيلي: "فقد رآني في اليقظة" بدل قوله: "فسيراني" ومثله عند ابن ماجه وصححه الترمذي من حديث ابن مسعود.
وفي رواية أبي قتادة -عند مسلم أيضًا: "من رآني فقد رأى الحق".
وله أيضًا من حديث جابر: "من رآني في المنام فقد رآني، فإنه لا ينبغي للشيطان أن يتمثل في صورتي"، وفي رواية: "من رآني في المنام فقد رآني فإنه لا ينبغي للشيطان أن يتمثل بي".
__________
وروى الأزرقي عن عثمان بنساج، قال: بلغني عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنه قال: "أول ما يرفع الركن، والقرآن ورؤيا النبي في المنام".
"قال الحافظ ابن حجر" في فتح الباري في شرح حديث أبي هريرة المذكور: "ووقع عند الإسماعيلي" في مستخرجه: "فقد رآني في اليقظة" بدل قوله: "فسيراني"، ومثله عند ابن ماجه، وصححه الترمذي من حديث ابن مسعود, ولا منافاة بينها وبين: "فسيراني"؛ لحمل هذه الرواية على أنها من التعبير بالماضي عن الآتي، لتحقق وقوعه نحو: أتى أمر الله، ولا بينها وبين فكأنما رآني؛ لحملها على التشبيه؛ كزيد أسد.
"وفي رواية أبي قتادة" الحارث، أو عمرو، أو النعمان الأنصاري، شهد أحدًا وما بعدها، "عند مسلم أيضًا" والبخاري بلفظه في التعبير، فلا وجه لقصر العز، وقال أبو قتادة: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من رآني فقد رأى الحق" هكذا الرواية في الصحيحين، فما في نسخ من زيادة نون قبل الياء في رأي لا عبرة بها، أي: رأى الرؤيا الصادقة الصحيحة، وهي التي يريها الملك الموكل بضرب أمثال الرؤيا بطريق الحكمة لبشارة أو ندارة أو معاتبة، ليكون على بصيرة من أمره، وأبعد بعضهم، فقال: يمكن أن يراد بالحق الله مبالغة، تنبهًا على أن من رآه على وجه المحبة والاتباع، كأنه رأى الله؛ كقوله: "ومن أحبني فقد أحب الله، ومن أطاعني فقد أطاع الله"، ورد بأنه يأباه قوله: "فإن الشيطان" ... إلخ.
"وله أيضًا من حديث جابر"، رفعه: "من رآني في المنام فقد رآني" أي: فليبشر بأنه رآني حقيقة، أي رأى حقيقتي، كما هي، فلم يتحد الشرط والجزاء، أو هو في معنى الإخبار، أي: من رآني، فأخبره بأن رؤياه حق لا أضغاث أحلام، ولا تخييل شيطان، ثم أردف ذلك بما هو تتميم للمعنى، وتعليل للحكم، فقال: "فإنه لا ينبغي" لا يصح ولا يتصور "للشيطان أن يتمثل في صورتي" لاستحالة ذلك، "وفي رواية" لمسلم أيضًا من وجه آخر عن جابر: "من رآني في المنام فقد رآني، فإنه لا ينبغي للشيطان أن يتشبه بي" والمعنى واحد.(7/278)
وفي حديث أبي سعيد عند البخاري: "فإن الشيطان لا يتكونني". أي لا يتكون كوني، فحذف المضاف ووصل المضاف إليه بالفعل.
وفي حديث أبي قتادة عند البخاري: "فإن الشيطان لا يتراءى بي"، بالراء، بوزن يتعاطى، ومعناه: لا يستطيع أن يتمثل بي، يعني إن الله وإن أمكنه من التصور في أي صورة أراد فإنه لم يمكنه من التصور في صورة النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد ذهب إلى هذا جماعة، فقالوا في الحديث: إن محل ذلك إذا رآه الرائي على صورته التي كان عليها، ومنهم من ضيق الذرع في ذلك حتى قال: لا بد أن يراه على صورته التي قبض عليها، حتى يعتبر عدد الشعرات البيض التي لم تبلغ عشرين شعرة.
__________
"وفي حديث أبي سعيد" الخدري "عند البخاري" من إفراده عن مسلم: أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "من رآني فقد رأى الحق، فإن الشيطان لا يتكونني" أي: لا يصير كائنًا في مثل صورتي، "أي لا يتكون كوني" أي: لا يتصور تصورًا كصورتي، "فحذف المضاف، ووصل المضاف إليه بالفعل، وفي حديث أبي قتادة عند البخاري" ومسلم أيضًا بلفظ: "من رآني فقد رأى الحق، فإن الشيطان لا يتراءى بي"، بالراء، بوزن يتعاطى، ومعناه: لا يستطيع أن يتمثل بي" أي: المقصود منه ذلك، إذ المعنى ما يعني من اللفظ، ولو مجازًا، فإن معناه الحقيقي النظر؛ كما في القاموس لا الاستطاعة، فاستعمله في لازمه، فإن من نظر شيئًا تصوره، أو ضمن ترائى معنى تصور فعداه بالباء وإلا فهو متعد بنفسه، وهذا على ما اقتصر عليه هنا من ن الرواية، بالراء المهملة، وهي رواية لأبي ذر وحده للبخاري، ورواه الباقون بالزاي المنقوطة، أي: لا يظهر في زيي، كما بينه المصنف وغيره، "يعني: إن الله وإن أمكنه من التصور في أي صورة أراد، فإنه لم يمكنه التصور في صورة النبي صلى الله عليه وسلم" فهذا الحديث يقيد مطلق الأحاديث قليلة المفيدة أنه لا يتمثل به على أي صفة كانت، "وقد ذهب إلى هذا جماعة" منهم الحكيم الترمذي وعياض، "فقالوا في الحديث: إن محل ذلك إذا رآه الرائي على صورته التي كان"، أي وجد خلق "عليها في الدنيا، ومنهم من ضيق الذرع في ذلك" فبالغ "حتى قال: لا بد أن يراه على صورته التي قبض عليها حتى يعتبر عدد الشعرات البيض التي لم تبلغ عشرين شعرة" فإنما تصح رؤياه عند هؤلاء لأحد رجلين، صحابي رآه فعلم صفته، فانطبع في نفسه مثاله، فإنه رآه جزم بأنه رأى مثاله المعصوم من الشيطان، والثاني رجل تكررت عليه صفاته المنقولة في الكتب حتى انطبعت في نفسه صفاته ومثاله المعصوم، كما حصل ذلك لمن شاهده فإذا رآه جزم برؤية مثاله، وأما غير هذين فلا يحصل الجزم بأنه رآه، ولو وجد في نفسه أن(7/279)
وعن حماد بن زيد عن أيوب قال: كان محمد -يعني ابن سيرين- إذا قص عليه رجل أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم قال: صف الذي رأيت، فإن وصف له صفة لا يعرفها قال: لم تره، وسنده صحيح.
وقد أخرج الحاكم من طريق عاصم بن كليب قال: حدثني أبي.
__________
المرئي هو النبي، أو قال له قائل هذا النبي بل يجوز أنه رأى تمثاله، ويحتمل أنه من تخييل الشيطان، ولا يفسده قوله للذي يراه: أن رسول الله، ولا قول من يحضر معه، ذكر العلامة الشهاب القرافي في قواعده ناسبًا له للعلماء، أي بعضهم قائلا: إنه من المهم، وتعقبه من قال: لقد ضيقت واسعًا، وما على الذي قلته دليل ولا برهان إلا مجرد دعوى الحق في خلافها، والمعبرون على خلاف هذا الشرط، ويبطله رؤيا الله تعالى ورؤيا الملائكة، فإنه يلزمك أن لا تصلح رؤيا الله، فإنه لا صورة له حتى يتمثل لنا، انتهى.
وزعم بعض أن القرافي أخذ بعضه من كلام شيخه العز بن عبد السلام بعيد، فلفظه: كيف تقولون إنه رآه شابًا وشيخًا وأسود وأبيض وغير ذلك، وأجيب بأن هذه صفات الرائين، وأحوالهم تظهر فيه عليه الصلاة والسلام، وهو كالمرأة لهم، فإن قلت: كيف يبقى المثال مع هذه الأحوال المضادة له؟ قلت: لو كان لك أب شاب فغبت عنه، ثم وجدته شيخًا أو أصابه مرض فاصفر، أو اسود، أتشك أنه أبوك؟ فما ذاك إلا لما ثبت في نفسك من مثاله المتقدم عندك، فكذلك من ثبت عنده حال النبي صلى الله عليه وسلم لا يشك فيه مع عروض هذه الأحوال، وإذا حصل له الضبط فرآه على غير صفته، دل على ظلم الرائي، انتهى، لكن هذا يشكل على الحكمة الثانية المتقدمة.
"وعن حماد بن زيد" بن درهم الأزدي البصري، ثقة، ثبت، فقيه، مات سنة تسع وسبعين ومائة، وله إحدى وثمانون سنة، "عن أيوب" بن كيسان السختياني، البصري، مات سنة إحدى وثلاثين ومائة، وله خمس وستون سن، "قال: كان محمد، يعني ابن سيرين" الأنصاري، أبو بكر البصري، ثقة، ثبت، عابد، كبير القدر، لا يرى الرواية بالمعنى مات سنة عشر ومائة، "إذا قص عليه رجل أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم، قال: صف الذي رأيت فإن وصف له صفة لا يعرفها، قال: لم تره" وإنما رأيت مثالا خيل لك أنه مثاله، أخرجه إسماعيل القاضي، "وسنده صحيح".
قال الشامي: وجرى عليه علماء التعبير، فإذا قال الجاهل: رأيته، سئل عن صفته، فإن وافقها فذاك، وإلا فلا يقبل منه.
"وقد أخرج الحاكم من طريق عاصم بن كليب" بن شهاب الجزمي، الكوفي، صدوق رمي بالإرجاء، روى له مسلم والأربعة ومات سنة بضع وثلاثين ومائة، "قال: حدثني أبي" كليب بن شهاب بن المجنون، صدوق، من كبار التابعين، ووهم من ذكره في الصحابة، روى له(7/280)
قال: قلت لابن عباس، رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، قال: صفه لي، قال: فذكرت الحسن بن علي فشبهته به، قال: قد رأيته، وسنده جيد.
لكن يعارضه: ما أخرجه ابن أبي عاصم من وجه آخر عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من رآني في المنام فقد رآني، فإني أرى في كل صورة". وفي سنده ابن التوأمة وهو ضعيف لاختلاطه، وهو من رواية من سمع منه بعد الاختلاط.
قال القاضي أبو بكر بن العربي: رؤيته بصفته المعلومة إدراك له على الحقيقة، ورؤيته على غير صفته إدراك للمثال، فإن الصواب أن الأنبياء لا تغيرهم الأرض، ويكون إدراك الذات الكريمة حقيقة، وإدراك الصفات إدراك المثال.
__________
الحسن بن علي، فشبهته به" لأنه كان يشبهه، كما قال الصديق، وقد حمله:
بأبي شبيه بالنبي ... ليس شبيهًا بعلي
وعلي يضحك كما في الصحيحين، "قال: قد رأيته، فدل ذلك على أن رؤياه إنما تصح لرائيه على صفته "وسنده جيد"، أي مقبول "لكن يعارضه ما أخرجه ابن أبي عاصم من وجه آخر عن أبي هريرة" قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من رآني في المنام فقد رآني، فإني أرى في كل صورة صورتي أو غيرها". وفي سنده ابن التوأمة، بفتح الفوقية وسكون الواو بعدها همزة مفتوحة، وصوابه صالح مولى التوأمة، وهو صالح بن نبهان المدني، التابعي الصغير، "هو" صدوق اختلط فهو "ضعيف لاختلاطه، وهو من رواية من سمع منه بعد الاختلاط".
قال ابن عدي: لا بأس برواية القدماء عنه، كان أبي ذئب وابن جرير، مات سنة خمس أو ست وعشرين ومائة، روى له أبو داود والترمذي وابن ماجه، وأخأه من زعم أن البخاري أخرج له.
"قال القاضي أبو بكر" محمد "بن العربي" الحافظ الفقيه المالكي: "رؤيته صلى الله عليه وسلم بصفته المعلومة" التي كان عليها "إدراك له على الحقيقة، ورؤيته على غير صفته إدراك للمثال، فإن الصواب أن الأنبياء لا تغيرهم الأرض، ويكون إدراك الذات الكريمة حقيقة، وإدراك الصفات إدراك المثال" لا الحقيقة، فالأولى لا تحتاج إلى تعبير، والثانية تحتاجه، وللصوفية ما يوافق معنى هذا وإن اختلف اللفظ، حيث قالوا: هنا ميزان يجب التنبه به، وهو أن الرؤيا الصحيحة أن يرى بصورته الثابتة بالنقل الصحيح، فإن رآه بغيرها، كطويل، أو قصير، أو شيخ، أو شديد السمرة لم يكن رآه، وحصول الجزم في نفس الرائي بأنه رآه غير حجة، بل ذلك المرئي(7/281)
قال: وقد شذ بعض القدرية فقال: الرؤيا لا حقيقة لها أصلا.
قال وقوله: "فسيراني" معناه فسيرى تفسير ما رأى، لأنه حق وغيب، وأما قوله: "فكأنما رآني" فهو تشبيه ومعناه: أنه لو رآني في اليقظة لطابق ما رآه في المنام، فيكون الأول حقًا وحقيقة، والثاني حقًا وتمثيلا.
قال: وهذا كله إذا رآه على صورته المعروفة، فإن رآه على خلاف صفته فهي أمثال. فإن رآه مقبلا عليه مثلا فهو خير للرائي، وعلى العكس فبالعكس.
وقال القاضي عياض: يحتمل أن يكون المراد بقوله: "فقد رآني" أو: "فقد رأى الحق" أن من رآه على صورته المعروفة في حياته كانت رؤياه حقًا، ومن رآه على
__________
صورة الشرع بالنسبة لاعتقاد الرائي، أو خياله، أو صفته، أو حكم من أحكام الإنسان، أو بالنسبة للمحل الذي رأى فيه تلك الصورة.
قال القونوي كابن العربي: وقد جربناه فوجدناه لم ينخرم.
"قال" القاضي ابن العربي: "وقد شذ بعض القدرية، فقال: الرؤيا" من حيث هي للنبي أو لغيره "لا حقيقة لها أصلا" لأنهم حالوا الوقوف على حقيقتها بالعقل، وهي لا تدرك به، وهم لا يصدقون بالسمع، فنفوا عنها الحقيقة، وقالوا: إنما هي خيالات لا أصل لها كما بينه ابن العربي نفسه، وكذا غيره.
"قال" ابن العربي: "وقوله: "فسيراني" معناه: فسيرى تفسير ما رأى، لأنه حق" في نفس الأمر "وغيب" عنًا.
وأما قوله: "فكأنما رآني"، فهو تشبيه، ومعناه: أنه لو رآني في اليقظة لطابق ما رآه في المنام، فيكون الأول، وهو رؤيته يقظة "حقًا وحقيقة" أي: محققًا، "والثاني" أي رؤيا المنام "حقًا وتمثيلا، قال: وهذا كله إذا رآه على صورته المعروفة" بأن كان صحابيًا، أو تكررت عليه صفته من الكتب كما مر "فإن رآه على خلاف صفته فهي أمثال أي أمور شبهت له في المنام تدل على ما يحصل له يقظة "فإن رآه مقبلا عليه مثلا، فهو خير لرائي، وعلى العكس، أي: مدبرًا عنه "فبالعكس"، أي: فهو شر للرائي، لكن لا يظهر تفريع هذا على مقابله، إذ مجرد رؤياه مقبلا أو مدبرًا لا ينافي أنه رآه على صفته الأصلية، فالأولى لو مثل بنحو من رآه شيخًا، أو شابًا، أو جسمًا ملأ البلد الذي هو فيه.
"وقال القاضي عياض: يحتمل أن يكون المراد بقوله: "فقد رآني"، أو: "فقد رأى الحق" أن من رآه على صورته المعروفة في حياته كانت رؤياه حقًا، ومن رآه على غير(7/282)
غير صورته كانت رؤيا تأويل، انتهى.
وتعقبه النووي فقال: هذا ضعيف، بل الصحيح أنه يراه حقيقة سواء كان على صفته المعروفة أو غيرها، انتهى.
وتعقبه شيخ الإسلام الحافظ ابن حجر فقال: لم يظهر لي في كلام القاضي عياض ما ينافي ذلك، بل ظاهر قوله أنه يراه حقيقة في الحالتين، لكن في الأولى تكون الرؤيا مما لا تحتاج إلى تعبير، والثانية: مما تحتاج إلى التعبير.
وقال بعضهم: معناه، أن من رآه على صورته التي كان.
__________
صورته كانت رؤيا تأويل" بأن يؤول بما يناسب ما رآه من خير وغيره، "انتهى".
"وتعقبه النووي فقال: هذا ضعيف، بل الصحيح أنه يراح حقيقة، سواء كان على صفته المعروفة أو غيرها. انتهى".
وتبعه عليه بعض المحققين، ثم قال: فإن قيل كيف يرى على خلاف صورته، ويراه شخصان في ليلة واحدة في مكانين، والبدن الواحد إنما يكون في مكان واحد، قلنا: التغيير في صفاته لا في ذاته، فتكون ذاته مرئية وصفاته متخيلة غير مرئية، والإدراك لا يشترط فيه تحقق الإبصار، ولا قرب المسافة، ولا كون المرئي ظاهرًا على الأرض، أو مدفونًا فيها، وإنما الشرط كونه موجودًا، انتهى.
"وتعقبه شيخ الإسلام الحافظ ابن حجر، فقال: لم يظهر لي من كلام القاضي عياض ما ينافي ذلك" الذي ذكره النووي أنه يراه حقيقة مطلقًا، "بل ظاهر قوله" أي: كلام عياض المذكور "أنه يراه حقيقة في الحالتين" رؤياه على صورة حياته وعلى غيرها؛ "لكن في الأولى تكون الرؤيا مما لا تحتاج إلى تعبير، والثانية مما تحتاج إلى التعبير" فإذا رآه على غير صورته، كان المراد منها أمرًا يحصل للرائي، فهي حق من هذا الوجه، وفي المفهم للقرطبي اختلف في معنى الحديث، فقال قوم من القاصرين: هو على ظاهره، فمن رآه في النوم رآه على حقيقته، كمن يراه في اليقظة سواء، وهو قول يدرك فساده ببادئ العقل، إذ يلزم عليه أن لا يراه أحد إلا على صورته التي مات عليها، وأن لا يراه اثنان في وقت واحد في مكانين وأن يحيا الآن، ويخرج من قبره ويمشي في الأسواق، ويخاطب الناس ويخاطبوه، ويخلو قبره عنه فيزار مجرد القب، ويسلم على غائب، لأنه يرى ليلا ونهارًا على اتصال الأوقات وهذه جهالات لا يلتزمها من له أدنى مسكة من عقل، وملتزم ذلك مختل مخبول.
"وقال بعضهم" ولفظ القرطبي: طائفة، "معناه: أن من رآه على صورته التي كان(7/283)
عليها. ويلزم من قول من قال: "إنها لا تكون إلا على صورته المعلومة" أن من رآه على غير صفته أن تكون رؤياه من أضغاث الأحلام. ومن المعلوم أنه يرى في النوم على حالة بخلاف حالته في الدينا من الأحوال اللائقة به، ولو تمكن الشيطان من التمثيل بشيء مما كان عليه أو ينسب إليه لعارض عموم قوله: فإن الشيطان لا يتمثل بي. فالأولى أن تنزه رؤياه، وكذا رؤيا شيء منه، أو مما ينسب إليه عن ذلك، فإنه أبلغ في الحرمة، وأليق بالعصمة، كما عصم من الشيطان في يقظته.
فالصحيح في تأويل هذا الحديث أن مقصوده أن رؤيته في كل حالة ليست باطلة ولا أضغاثًا، بل هي حق في نفسها، ولو رؤي على غير صورته، فتصور تلك الصور ليس من الشيطان، بل هو من قبل الله تعالى.
__________
عليها" فقد رآه حقًا، فهو شرط حذف جوابه، أو قوله على صورته معمول لمقدر، أي: من رآه على صورته، "ويلزم من قول من قال: إنها لا تكون إلا على صورته المعلومة"، أخصر منه قول القرطبي: ويلزم منه "أن من رآه على غير صفته، أن تكون رؤياه من أضغاث الأحلام" والأحاديث تأبى ذلك، "ومن المعلوم أنه يرى في النوم على حالة بخلاف حالته في الدنيا من الأحوال اللائقة به" ومع ذلك تكون الرؤيا حقًا كما لو رآه ملأ بلدًا أو دارًا بجسمه، فإنه يدل على امتلاء البلدة بالحق والشرع، وتلك الدار بالبركة، وكثيرًا ما وقع ذلك.
هذا أسقطه المصنف من القرطبي، "ولو تمكن الشيطان من التمثل بشيء مما كان عليه، أو ينسب إليه لعارض عموم قوله: "فإن الشيطان لا يتمثل بي" إذ هو نفي مطلق، "فالأولى، أي الأحق "أن تنزه رؤياه، وكذا رؤيا شيء منه" كعمامته ونحوها، "أو مما ينسب إليه عن ذلك، فإنه أبلغ في الحرمة، أي: الاحترام والتعظيم، وأليق بالعصمة، كما عصم من الشيطان في يقظته"، بفتح القاف، "فالصحيح في تأويل هذا الحديث؛ أن مقصوده أن رؤيته في كل حالة" سواء كان صفته أم غيرها "ليست باطلة ولا أضغاثًا" أخلاط أحلام "بل هي حق في نفسها، ولو رؤي على غير صورته فتصور تلك الصورة ليس من الشيطان بل هو من قبل الله تعالى" مثل الله ذلك للرائي بشرى، فينبسط للخير، أو إنذارًا، فينزجر عن الشر تنبيهًا على خير يحصل، وقد ذكرنا أن المرئي في المنام أمثلة المرئيات لا أنفسها غير أن تلك الأمثلة تارة تطابق حقيقة المرئي، وتارة لا تتم المطابقة، وقد تظهر في اليقظة كذلك، فالمقصود بتلك الصورة معناها لا عينها، ولذا خالف المثال صورة المرئي بزيادة أو نقص، أو تغير لون، أو(7/284)
وهذا قول القاضي أبي بكر بن الطيب وغيره. ويؤيده قوله "فقد رأى الحق" أشار إليه القرطبي.
وقال ابن بطال: قوله: "فسيراني في اليقظة" يريد تصديق ذلك في اليقظة وصحتها وخروجها على الوجه الحق، وليس المراد أنه يراه في الآخرة، لأنه سيراه يوم القيامة في اليقظة جميع أمته، ومن رآه في النوم ومن لم يره.
وقال المازري: إن كان المحفوظ "فكأنما رآني في اليقظة" احتمل أن يكون أراد عصره ممن لم يهاجر إليه، فإنه إذا رآه في المنام جعل ذلك علامة أن يراه بعد ذلك في اليقظة.
__________
زيادة عضو تنبيهًا على معاني الأمور.
هذا أسقطه من كلام القرطبي "وهذا قول القاضي أبي بكر" محمد "بن الطيب" بن محمد القاضي، المعروف بابن الباقلاني، الملقب بشيخ السنة ولسان الأمة، البصري، ثم البغدادي المالكي، وإليه انتهت رئاسة المالكية في وقته، وكان حسن الفقه، عظيم الجدل، وله بجامع المنصور ببغداد حلقة عظيمة، وورده عشرون ركعة كل ليلة، ما تركها حضرًا ولا سفرًا، وإذا قضى ورده كتب خمسًا وثلاثين ورقة تصنيفًا من حفظه مات سنة ثلاث وأربعمائة "وغيره، ويؤيده قوله: "فقد رأى الحق"، أشار إليه القرطبي" في شرح مسلم، وحاصل كلامه أن رؤياه بصفته إدراك لذاته، فلا تحتاج لتعبير، وبغيرها إدراك لمثاله، فتحتاج إلى التعبير.
وقال ابن بطال" أبو الحسن في شرح البخاري: "قوله: فسيراني في اليقظة"، يريد به أنه يرى "تصديق ذلك في اليقظة وصحتها"، أي: رؤياه "وخروجها على الوجه الحق" ولا يلزم منه أنه يرى ذاته يقظة، "وليس المراد أنه يراه في الآخرة؛ لأنه سيراه يوم القيامة جميع أمته، ومن رآه في النوم ومن لم يره" فلا معنى لقصر الحديث عليه، ويأتي الجواب بأنه يراه بصفة خاصة.
"وقال" أبو عبد الله محمد بن علي بن عمر التميمي "المازري" بفتح الزاي وكسرها، نسبة إلى مازر جزيرة بصقلية، الإمام الفقيه، العلامة الشهير في شرح إحدى روايتي مسلم، وهي التي بالشك: "إن كان المحفوظ: فكأنما رآني في اليقظة، فمعناه ظاهر" لأنه تشبيه "وأن المحفوظ فسيراني في اليقظة"، وهو المجزوم به في الصحيحين.
"احتمل أن يكون أراد أهل عصه ممن لم يهاجر إليه، فإنه إذا رآه في المنام جعل ذلك علامة على أنه يراه بعد ذلك في اليقظة" فيوفقه الله للهجرة إليه والتشرف برؤيته(7/285)
وأوحى الله بذلك إليه صلى الله عليه وسلم.
وقيل: معناه سيرى تأويل تلك الرؤيا في اليقظة وصحتها.
وأجاب القاضي عياض: باحتمال أن تكون رؤياه في النوم على الصفة التي عرف بها، ووصف عليها، موجبة لتكرمته في الآخرة، وأن يراه رؤية خاصة من القرب منه، أو الشفاعة له، بعلو الدرجة ونحو ذلك من الخصوصيات. قال: ولا يبعد أن يعاقب الله بعض المذنبين في القيامة بمنع رؤيته صلى الله عليه وسلم مدة.
وحمله ابن أبي جمرة على محمل آخر فذكر عن ابن عباس أو غيره، أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم في النوم، فبقي بعد اليقظة متفكرًا في هذا الحديث، فدخل على بعض أمهات المؤمنين -ولعلها خالته ميمونة- فأخرجت له المرآة التي كانت للنبي صلى الله عليه وسلم فنظر فيها صورة النبي صلى الله عليه وسلم ولم ير صورة نفسه.
__________
ولقائه، "وأوحى الله بذلك إليه صلى الله عليه وسلم" فأخبر به "وقيل: معناه سيرى تأويل تلك الرؤيا في اليقظة وصحتها" أي: يرى يقظة ما يصلح أن يكون تأويلا للرؤيا وهذا اختاره ابن بطال نافيًا قول من قال: سيراه في الآخرة لأنها لا تختص بمن رآه منامًا.
"وأجاب القاضي عياض" عنه "باحتمال أن تكون رؤياه له في النوم على الصفة التي عرف بها ووصف عليها" في الأحاديث "موجبة لتكرمته في الآخرة، وأن يراه رؤية خاصة من القرب منه" عطف تفسير لتكرمته، أي: بالقرب منه "أو الشفاعة له بعلو الدرجة" في الجنة زيادة على الشفاعة العامة وعلى إدخال الجنة، "ونحو ذلك من الخصوصيات".
"قال" عياض: "ولا يبعد أن يعاقب الله بعض المذنبين في" يوم "القيامة" قبل دخول الجنة "بمنع رؤيته صلى الله عليه وسلم مدة" فلا يضر قائل معنى: فسيراني في اليقظة أنه يراه في الآخرة، كون أمته جميعًا يرونه فيها، لأنهم وإن اشتركوا في الرؤية يختلفون في وقتها وصفتها.
"وحمله" الإمم "ابن أبي جمرة" بجيم وراء "على محمل آخر، فذكر عن ابن عباس أو غيره أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم في النوم، فبقي بعد اليقظة متفكرًا في هذا الحديث" أي: معنى قوله: "فسيراني في اليقظة" "فدخل على بعض أمهات المؤمنين ولعلها خالته ميمونة"؛ إن كان الرائي ابن عباس لأنه لم يجزم به أولا، "فأخرجت له المرأة" بكسر الميم على وزن فعلاة معروفة، وجمعها مراء كنواص؛ كما في المصباح "التي كانت للنبي صلى الله عليه وسلم فنظر فيها صورة النبي صلى الله عليه وسلم، ولم ير صورة نفسه" فدل ذلك على أن معناه رؤية صورته في مرآته وإن أمكن، ويأتي إن هذا أبعد المحامل.(7/286)
وقال الغزالي: ليس معنى قوله: "فقد رآني" أنه رأى جسمي وبدني وإنما المراد أنه رأى مثالا صار ذلك المثال آلة يتأذى بها المعنى الذي في نفسي إليه، وكذلك قوله: "فسيراني في اليقظة" ليس المراد أنه يرى جسمي وبدني. قال: والآية تارة تكون حقيقية وتارة تكون خيالية. والنفس غير المثال المتخيل، فما رآه من الشكل ليس هو روح المصطفى ولا شخصه بل هو مثال له على التحقيق. قال: ومثل ذلك من يرى الله تعالى في المنام، فإن ذاته تعالى منزهة عن الشكل والصورة، ولكن تنتهي تعريفاته تعالى إلى العبد بواسطة مثال محسوس من نور أو غيره، ويكون ذلك المثال آلة حقًا في كونه واسطة في التعريف، فيقول الرائي: رأيت الله عز وجل في المنام، ولا يعني أني رأيت ذات الله تعالى، كما يقول في حق غيره.
وقال الغزالي أيضًا في بعض فتاويه: من رأى الرسول -يعني في المنام- لم ير حقيقة شخصه الودع روضة المدينة، وإنما رأى مثاله لا شخصه، ثم قال: وذلك المثال مثال روحه المقدسة عن الصورة.
__________
"وقال الغزالي: ليس معنى قوله: "فقد رآني أنه رأى جسمي وبدني" حقيقة، "وإنما المراد أنه رأى مثالا صار ذلك المثال آلة يتأذى بها المعنى الذي في نفسي إليه، وكذلك قوله: "فسيراني في اليقظة" ليس المراد أنه يرى جسمي وبدني، بل المثال، "قال: والآلة تارة تكون حقيقية وتارة تكون خيالية. والنفس" أي الذات "غير المثال المتخيل، فما رآه من الشكل ليس هو روح المصطفى ولا شخصه بل هو مثال له على التحقيق. قال" الغزالي: "ومثل ذلك من يرى الله تعالى في المنام، فإن ذاته تعالى منزهة عن الشكل والصورة، ولكن تنتهي تعريفاته" أي: الأمور التي تتعقل بها ذاته "تعالى إلى العبد بواسطة مثال محسوس من نور أو غيره" تقريبًا لعقله، "ويكون ذلك المثال آلة حقًا في كونه واسطة في التعريف" أي: التعقل، "فيقول الرائي: رأيت الله عز وجل في المنام، ولا يعني أني رأيت ذات الله تعالى، كما يقول في حق غيره، بل يعني أنه رأى مثالا علم به بعض صفاته المميزة له عن غيره؛ لأن رؤية ذات الله تعالى لا تجوز يقظة في الدنيا، فكذا منامًا لا ترى حقيقة، بل مثالا.
"وقال الغزالي أيضًا في بعض فتاويه: من رأى الرسول -يعني في المنام- لم ير حقيقة شخصه الودع روضة المدينة"، أي: قربها، إذ هي بين القبور المنبر؛ كما في الحديث، "وإنما رأى مثاله لا شخصه، ثم قال: وذلك المثال مثال روحه المقدسة عن الصورة والشكل"(7/287)
والشكل.
وقال الطيبي: المعنى من رآني في المنام بأي صفة كنت فليبشر وليعلم أنه قد رآني الرؤيا الحق، أي رؤية الحق لا الباطل، وكذا قوله: "فقد رآني" فالشرط والجزاء إذا اتحدا دل على الغاية في الكمال، أي فقد رآني رؤيا ليس بعدها شيء.
والحاصل من الأجوبة أنه على التشبيه والتمثيل ويدل عليه قوله "فكأنما رآني في اليقظة".
ثانيها: معناه، سيرى في اليقظة تأويلها بطريق الحقيقة.
ثالثها: أنه خاص بأهل عصره ممن آمن به قبل أن يراه.
رابعها: المراد أنه يراه في المرآة التي كانت له إن أمكنه ذلك، قال شيخ مشايخنا الحافظ ابن حجر: وهذا من أبعد المحامل.
__________
فحاصله أن المرئي ليس ذات الروح ولا الشخص كما قاله قبل.
"وقال الطيبي" في شرح المشكاة: "المعنى: من رآني في المنام بأي صفة كنت فليبشر"، بفتح الياء والشين، "وليعلم أنه قد رآني الرؤيا الحق، أي رؤية الحق لا الباطل، وكذا قوله: "فقد رآني" فالشرط والجزاء إذا اتحدا" صورة "دل على الغاية في الكمال، أي فقد رآني رؤيا ليس بعدها شيء" أي: فقد رأى حقيقتي على كمالها، لا شبهة ولا ارتياب فيما رأى؛ كما هو بقية كلام الطيبي.
زاد الكرماني: أو هو في معنى الإخبار، أي: من رآني، فأخبره بأن رؤياه حق ليست من أضغاث الأحلام، ولا تخييلات الشيطان، ومثله قوله صلى الله عليه وسلم، أي في أسامة بن زيد: "إن تطعنوا في إمارته فقد كنتم تطعنون في إمارة أبيه من قبله" فيؤول بالإخبار، أي: إن طعنتم فيه، فأخبركم بأنكم طعنتم في أبيه أو يلازمه عند البيانية، أي: إن طعنتم فيه أثمتم بذلك.
"والحاصل من الأجوبة" المذكورة في قوله: "فسيراني في اليقظة" خمس تأويلات:
أولها: "أنه على التشبيه والتمثيل" عطف تفسير. ويدل عليه قوله: "فكأنما رآني اليقظة" بناء على ثبوته، إذ هو بالشك؛ كما مر.
"ثانيها: معناه، سيرى في اليقظة تأويلها بطريق الحقيقة".
"ثالثها: أنه خاص بأهل عصره ممن آمن به قبل أن يراه" فيهاجر ويراه.
"رابعها: المراد أنه يراه في المرآة التي كانت له إن أمكنه ذك".
"قال شيخ مشايخنا الحافظ ابن حجر: وهذا من أبعد المحامل" إذ لا دليل عليه، ورؤية ابن عباس أو غيره إن تثبت لا تدل على التخصيص.(7/288)
خامسها: أنه يراه يوم القيامة بمزيد خصوصية، لا مطلق من رآه حينئذ ممن لم يره في المنام.
والصواب كما قدمناه في رؤيته عليه الصلاة والسلام التعميم، على أي حالة رآه الرائي بشرط أن تكون على صورته الحقيقية في وقت ما، سواء كان في شبابه أو رجوليته أو كهوليته، أو آخر عمره، وقد يكون لما خالف ذلك تعبير يتعلق بالرائي، كما قال بعض علماء التعبير: إن رآه شيخًا فهو غاية سلم، ومن رآه شابًا فهو غاية حرب.
وقال أبو سعيد أحمد بن محمد بن نصر: من رأى نبيًا على حاله وهيئته فذلك دليل على صلاح حال الرائي وكمال جاهه وظفره بمن عاداه، ومن رآه متغير الحال عابسًا مثلا فذلك دل على سوء حال الرائي.
__________
"خامسها: أنه يراه يوم القيامة بمزيد خصوصية" من نحو قرب أو شفاعة برفع درجات، "لا مطلق من رآه حينئذ ممن لم يره في المنام" وزيد سادس: وهو أنه يراه في الدنيا حقيقة ويخاطبه.
وقال القرطبي: من فوائد رؤياه صلى الله عليه وسلم تسكين شوق الرائي لكونه صادقًا في محبته ليعمل على مشاهدته، وإلى ذلك الإشارة بقوله: "فسيراني في اليقظة"، أي: أن من رآني رؤية معظم لحرمتي ومشتاق إلى مشاهدتي، وصل إلى رؤية محبوبه وظفر بمطلوبه.
قال: ويجوز أن يكون مقصود تلك الرؤيا معنى صورته، وهو دينه وشريعته، فتعبر بحسب ما يراء الرائي من زيادة أو نقصان، أو إساءة أو إحسان.
قال الحافظ: وهذا جواب سابع والذي قبله لم يظهر لي، وإن ظهر فهو ثامن.
"والصواب كما قدمناه في رؤيته عليه الصلاة والسلام التعميم على أي حالة رآه الرائي" لأنه ظاهر الأحاديث الصحيحة، إذ لم يقيد فيها بأنه على صورته، "بشرط أن تكون على صورته الحقيقية في وقت ما"، أي: وقت كان، "سواء كان في شبابه أو رجوليته أن كهوليته، أو آخر عمره، وقد يكون لما خالف ذلك تعبير يتعلق بالرائي، كما قال بعض علماء التعبير: إنه رآه شيخًا فهو غاية سلم"، بالفتح والكسر: صلح، لأن الشيخ لا حرب عنده غالبًا "ومن رآه شابًا فهو غاية حرب"، لأنه دأب الشباب.
"وقال أبو سعيد أمد بن محمد بن نصر: من رأى نبيًا" أي نبي كان "على حاله وهيئته فذلك دليل على صلاح حال الرائي وكمال جاهه وظفره بمن عاداه، ومن رآه متغير الحال عابسًا مثلا فذلك دل على سوء حال الرائي"؛ لأن الأرض لا تغير الأنبياء، وهذا تقدم بمعناه عن ابن العربي.(7/289)
وقال العارف ابن أبي جمرة: من رآه في صورة حسنة فذلك حسن في دين الرائي، وإن كان في جوارحه شين أو نقص فذلك خلل في الرائي من جهة الدين. قال: وهذا هو الحق. فقد جرب ذلك فوجد على هذا الأسلوب، وبه تحصل الفائدة الكبرى في رؤياه حتى يتبين للرائي هل عنده خلل أم لا؟ لأنه عليه الصلاة والسلام نوراني مثل المرآة الصقيلة، ما كان في الناظر إليها من حسن أو غيره تصور فيها، وفي ذاتها على أحسن حال لا نقص فيها، وكذلك يقال في كلامه عليه السلام في النوم أنه يعرض على سنته، فما وافقها فهو حق، وما خالفها فالخلل في سمع الرائي، فرؤيا الذات الكريمة حق، والخلل إنما هو في سمع الرائي له أو بصره، قال: وهذا خير ما سمعته في ذلك، انتهى.
وقال بعضهم: ليست رؤياه صلى الله عليه وسلم رؤيا عين، وإنما يرى بالبصائر، وذلك لا يستدعي حصر المرئي بل يرى من المشرق إلى المغرب.
__________
"وقال العارف" الرباني عبد الله "ابن أبي جمرة" المقرئ، نزيل مصر، عالم، عابد، خير، من بيت كبير بالمغرب، شهير الذكر: الشيطان لا يتصور بصورته أصلا، فـ"من رآه في صورة حسنة فذلك حسن في دين الرائي، وإن كان في جوارحه شين أو نقص فذلك خلل في الرائي من جهة الدين" فتدل رؤياه على شين أو نقص دينه أي: الطريق، "قال: وهذا هو الحق. فقد جرب ذلك فوجد على هذا الأسلوب، وبه تحصل الفائدة الكبرى في رؤياه حتى يتبين للرائي هل عنده خلل أم لا؟ لأنه عليه الصلاة والسلام نوراني مثل المرآة الصقيلة، ما كان في الناظر إليها من حسن أو غيره تصور فيها، وهي في ذاتها على أحسن حال لا نقص فيها" فكذلك النبي صلى الله عليه وسلم هو على صفته التي ليس شيء أحسن منها، والتغير إنما هو في صفة الرائي، "وكذلك يقال في كلامه عليه السلام في النوم أنه يعرض على سنته، فما وافقها فهو حق، وما خالفها فالخلل في سمع الرائي" لأنه لا يضبط ما يقال له "فرؤيا الذات الكرمة حق، والخلل إنما هو في سمع الرائي له أو بصره".
"قال: وهذا خير ما سمعته" أي: أحسن الوجوه التي سمعتها "في ذلك" قال: ويؤخذ من قوله: "فإن الشيطان ... إلخ"، أن من تمثلت صورة المصطفى في خاطره من أرباب القلوب، وتصور له في عالم سره أنه يكلمه، أن ذلك يكون حقًا، بل هو أصدق من مرئي غيرهم. "انتهى" كلام ابن أبي جمرة رحمه الله تعالى.
"وقال بعضهم: ليست رؤياه صلى الله عليه وسلم" في المنام "رؤيا عين" كرؤية اليقظة، "وإنما يرى بالبصائر، وذلك لا يستدعي حصر المرئي" في محل، "بل يرى من المشرق إلى المغرب،(7/290)
ومن الأرض إلى العرش، كما ترى الصورة في المرأة المحاذية لها، وليست الصورة متنقلة إلى جرم المرآة، وعين الناظر مقابلة جميع الكائنات كالمرآة.
واختلاف رؤياه صلى الله عليه وسلم بأن يراه بعضهم شيخًا وآخر شابًا، وآخر ضاحكًا وآخر باكيًا، يرجع إلى الرائين، كاختلاف الصورة الواحدة في مرائي مختلفة الأشكال والمقادير، ففي المرآة الكبيرة يرى وجهه كبيرًا، وفي الصغيرة صغيرًا، وفي المعوجة معوجًا، وفي الطويلة طويلا، إلى غير ذلك، فالاختلاف راجع إلى اختلاف أشكال المرائي، لا إلى وجه المرائي.
كذلك الراءون له عليه السلام أحوالهم بالنسبة إليه مختلفة، فمن رآه متبسمًا إليه دل على أن الرائي متمسك بسنته، والله أعلم.
وقد أجاب الشيخ بدر الدين الزركشي عن سؤال رؤية جماعة له صلى الله عليه وسلم في آن واحد من أقطار متباعدة، مع أن رؤيته صلى الله عليه وسلم حق بأنه صلى الله عليه وسلم سراج، ونور الشمس في هذا العالم، مثال نوره في العوالم كلها، وكما أن
__________
"ومن الأرض إلى العرش، كما ترى الصورة في المرآة المحاذية لها، وليست الصورة متنقلة إلى جرم المرآة" إنما هي مثال، "وعين الناظر مقابلة جميع الكائنات كالمرآة واختلاف رؤياه صلى الله عليه وسلم بأن يراه بعضهم شيخًا" أي: ما قابل الشباب فيشمل الكهل، "وآخر شابًا، وآخر ضاحكًا وآخر باكيًا، يرجع إلى الرائين، كاختلاف الصورة الواحدة في مرائي" بزنة نواص: جمع مرآة، بكسر الميم، "مختلفة الأشكال والمقادير، ففي المرآة الكبيرة يرى وجهه كبيرًا، وفي الصغيرة صغيرًا، وفي المعوجة معوجًا، وفي الطويلة طويلا، إلى غير ذلك، الاختلاف راجع إلى اختلاف أشكال المرائي" جمع مرآة، "لا إلى وجه المرائي" إذ لا تختلف ذاته، "كذلك الراءون له عليه السلام أحوالهم بالنسبة إليه مختلفة، فمن رآه متبسمًا إليه، دل على أن الرائي متمسك بسنته، والله أعلم".
وفي الوردية:
رؤيا محمد سرور كامله ... وليس للشيطان أن يماثله
"وقد أجاب الشيخ بدر الدين الزركشي عن سؤال رؤية جماعة" إضافة بيانية "له صلى الله عليه وسلم في آن واحد من أقطار" نواح "متباعدة، مع أن رؤيته صلى الله عليه وسلم حق" وهو حي في قبره، يصلي فيه بأذان وإقامة، "بأنه صلى الله عليه وسلم سراج"، كما قال تعالى: {وَسِرَاجًا مُنِيرًا} ، "ونور الشمس في هذا العالم، مثال نوره في العوالم" بكسر اللام: جمع عالم بفتحها لأن فاعل يجمع على فواعل، "وكما أن(7/291)
الشمس يراها من في المشرق والمغرب في ساعة واحدة وبصفات مختلفة فكذلك النبي صلى الله عليه وسلم، ولله در القائل:
كالبدر من أي النواحي جئته ... يهدي إلى عينيك نورًا ثاقبًا
وأما رؤيته صلى الله عليه وسلم في اليقظة بعد موته عليه الصلاة والسلام فقال شيخنا: لم يصل إلينا ذلك عن أحد من الصحابة، ولا عن من بعدهم.
وقد اشتد حزن فاطمة عليه صلى الله عليه وسلم حتى ماتت كمدًا بعده بستة أشهر -على الصحيح- وبيتها مجاور لضريحه الشريف، ولم ينقل عنها رؤيته في المدة التي تأخرتها عنه.
__________
الشمس يراها من في المشرق والمغرب في ساعة واحد"، وهي في محلها، "وبصفات مختلفة فكذلك النبي صلى الله عليه وسلم" إذ نوره أتم وأعلى منها، "ولله در القائل"
"كالبدر من أي النواحي جئته ... يهدي إلى عينيك نورًا ثاقبًا"
كالشمس في كبد السماء وضوءها ... يغشى البلاد مشارقًا ومغاربا
وهذا الجواب نسبه بعضهم للصوفية، وقال: هو باطل، فإنه صلى الله عليه وسلم يراه زيد في بيته، وعمرو كذلك في بيته بجملته، والشمس إنما ترى من أماكن عدة، وهي في مكان واحد، فلو رؤيت داخل بيت بجرمها، استحال رؤية جرمها داخل بيت آخر، وهذا هو الذي يوازي رؤيته صلى الله عليه وسلم في بيتين، والإشكال، إنما يراد في رؤيته في مواضع عدة، وإذا ورد بحسب ما قلنا، فلا يتجه الجواب إلا بإثبات الأمثال وتعدادها، فالمرئي في آن واحد في مكانين مثالان، فلا إشكال.
"وإما رؤيته صلى الله عليه وسلم في اليقظة" بفتح القاف "بعد موته عليه الصلاة والسلام فقال شيخنا" السخاوي: "لم يصل إلينا ذلك عن أحد من الصحابة، ولا عن من بعدهم" كالتابعين، ولم يرد في ذلك شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا ما قد يؤخذ من قوله: "فسيراني في اليقظة" على أحد الاحتمالات، بخلاف حديث رؤياه منامًا، فقال السيوطي: إنه متواتر، وأيد عدم الورود بقوله: "وقد اشتد حزن فاطمة" رضي الله عنها "عليه صلى الله عليه وسلم حتى ماتت كمدًا"، بفتح فسكون، وبفتحتين: حزنًا شديدًا "بعده بستة أشهر على الصحيح" الثابت في البخاري وغيره عن عائشة، وقيل: بثمانية أشهر، وقيل: أربعة، وقيل: شهرين، وقيل غير ذلك، "وبيتها مجاور لضريحه" أي قبره "الشريف، ولم ينقل عنها رؤيته في المدة التي تأخرتها عنه" فلو كان يرى في اليقظة لرأته لاشتداد حزنها، ولم يقع ذلك، إذ لو وقع لنقل، ورد هذا بأن عدم نقله لا يدل على عدم وقوعه، وتعقب أنه ظاهر لو جعله لمانع دليلا قطعيًا على أنه لا يرى يقظة، وإنما جعله ظاهرًا في عدم وقوعه لفاطمة، وقول غيرها أنه يراه يقظة مؤول فلا يتم أنه قد يوجد في المفضول ما لا يوجد في الفاضل.(7/292)
وإنما حكى بعض الصالحين حكايات عن أنفسهم، كما هو في كتاب "توثيق عرى الإسلام" للبارزي و"بهجة النفوس" لأبي محمد عبد الله بن أبي جمرة و"روض الرياحين" للعفيف اليافعي، وغيره من تصانيفه والشيخ صفي الدين ابن أبي المنصور في رسالته.
وعبارة ابن أبي جمرة: قد ذكر عن السلف والخلف إلى هلم جرا.
__________
"وإنما حكى بعض الصالحين حكايات عن أنفسهم" أنهم رأوه يقظة، "كما هو في كتاب توثيق عرى الإسلام" للبارزي" القاضي شرف الدين، "وبهجة النفوس" وتحليها بمعرفة ما عليها ولها "لأبي محمد عبد الله بن أبي جمرة" وهو اسم لشرحه على الأحاديث التي انتخبها من البخاري، "وروض الرياحين" للعفيف اليافعي، وغيره من تصانيفه والشيخ صفي الدين ابن أبي المنصور في رسالته، وعبارة ابن أبي جمرة" في بهجة النفوس في قوله صلى الله عليه وسلم: "من رآني في المنام، فسيراني في اليقظة" هل هذا على عمومه في حياته وبعد مماته، أو في حياته؟ وهل ذلك لكل من رآه مطلقًا أو خاص بمن فيه الأهلية والاتباع لسنته؟ اللفظ يقتضي العموم، ودعوى الخصوص بغير تخصيص عنه عليه السلام تعسف، فإن خرق العادة قد يقع للزنديق إغواء وإملاء، ثم ذكر متقدم عن ابن عباس أو غيره من رؤية صورته في مرآته، ثم قال: "وقد ذكر عن السلف" لعله أراد بهم من دون من بعد الصحابة، فلا ينافي ما قدمه المصنف عن شيخه، أو أن نفي السخاوي إنما هو من جهة اصطلاح المحدثين بالأسانيد ولو ضعيفة، "والخلف إلى هلم جرا".
قال الشيخ جمال الدين بن هشام: هذا كلام مستعمل في العرف كثيرًا، وذكره الجوهري، فقال: تقول كان ذلك عام كذا وهلم جرا إلى اليوم، وفي عباب الصغني مثله.
وقال ابن الأنباري: معناها سيروا على هينتكم، أي: تثبتوا في سيركم ولا تجهدوا أنفسكم، مأخوذ من الجر، وهو ترك الإبل والغنم ترعى في السير.
وقال أبو حيان في الارتشاف: هلم جرًا معناه: تعال على هينتكم، ونصب جرًا على أنه مصدر في موضع الحال، أي جارين، قال البصريون، وقال الكوفيون: مصدر لأن معنى هلم جر، وقيل: نصب على التمييز، وأول من قاله عابدين بن زيد، قال:
فإن جاوزت مقفرة رمت بي ... إلى أخرى كتلك هلم
وتوقف ابن هشام في كونه عربيًا محضًا، وأطال في بيانه بأربعة أوجه، منها: أن الجوهري لا يقبل ما تفرد به، كما قال ابن الصلاح، ولم ينقله لغوي قبله، والصغاني تبعه، ثم قال: الظاهر لي على أنه عربي أن هلم هي القاصرة، بمعنى ائت وتعال إلا أن فيها تجوزين، أحدهما: ليس(7/293)
عن جماعة كانوا يصدقون بهذا الحديث يعني من رآني في المنام فسيراني في اليقظة أنهم رأوه صلى الله عليه وسلم في النوم فرأوه بعد ذلك في اليقظة، وسألوه عن أشياء كانوا منها متشوشين فأخبرهم بتفريجها، ونص لهم على الوجوه التي منها يكون فرجها، فجاء الأمر كذلك بلا زيادة ولا نقص.
ثم قال: والنكر لهذا لا يخلو إما أن يكون ممن يصدق بكرامات الأولياء أو لا، فإن كان الثاني فقد سقط البحث معه، فإنه يكذب ما أثبتته السنة بالدلائل الواضحة، وإن كان الأول فهذه منها لأن الأولياء يكشف لهم بخرق العادة عن أشياء في العالمين العلوي.
__________
المراد المجيء الحسي، بل الاستمرار على الشيء والمداومة عليه، والثاني: أنه ليس المراد الطلب حقيقة، بل الخبر عبر عنه بالطلب، كما في {فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا} . وجرًا، مصدر جره إذا سحبه، لكن ليس المراد الحسي، بل التعميم، فإن قيل: كان ذلك عام كذا، وهلم جرا، فكأنه قيل: واستمر في بقية الأعوام استمرار، فهو مصدر أو واستمر مستمرًا فهو حال مؤكدة، وبهذا ارتفع إشكال الضعف، فإن هلم جرًا حينئذ خبر وإشكال التزام إفراد الضمير، إذ فاعل هلم مفرد أبدًا.
"عن جماعة كانوا يصدقون بهذا الحديث يعني من رآني في المنام فسيراني في اليقظة أنهم رأوه صلى الله عليه وسلم في النوم فرأوه بعد ذلك في اليقظة، وسألوه عن أشياء كانوا منها متشوشين فأخبرهم بتفريجها، ونص لهم على الوجوه التي منها يكون فرجها، فجاء الأمر كذلك بلا زيادة ولا نقص".
قال السيوطي: وأكثر من يقع له ذلك إنما يقع له قرب موته، أو عند الاحتضار، ويكرم الله من يشاء، "ثم قال" ابن أبي جمرة: "والمنكر لهذا لا يخلو، إما أن يكون ممن يصدق بكرامات الأولياء أو لا" يصدق بها، "فإن كان الثاني فقد سقط البحث معه، فإنه يكذب ما أثبتته السنة" أقواله، وأفعاله، وتقريره، وهممه، وعزمه صلى الله عليه وسلم "بالدلائل" أي: الدلالات "الواضحة" جمع دلالة، وهي ما يقتضيه اللفظ عند إطلاقه لا جمع دليل، فلا يرد أنه لا معنى فثبات السنة بالدلائل إذ هي نفسها، أو المراد بالسنة ما نقل عنه صلى الله عليه وسلم مما يدل على ثبوت الكرامات، وبالأدلة المثبتة لها الطرق الموصلة إلى العلم بها، أي: أسانيدها، أو المراد أهل السنة بتقدير مضاف أو استعمل السنة في أهلها مجازًا أولياء للتصوير لا متعلقة بأثبتته، أي: السنة التي هي الدلائل أو المراد الأحاديث الواضحة عن أشياء في إثبات كرامات الأولياء، "وإن كان الأول فهذه منها, لأن الأولياء يكشف لهم بخرق العادة عن أشياء في العالمين العلوي(7/294)
والسفلي عديدة مع التصديق بذلك.
وقال الشيخ ابن أبي المنصور في رسالته، ويقال: إن الشيخ أبا العباس بن القسطلاني دخل مرة على النبي صلى الله عليه وسلم فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أخذ الله بيدك يا أحمد.
وعن الشيخ أبي السعود قال: كنت أزور شيخنا أبا العباس غيره من صلحاء مصر فلما انقطعت واشتغلت وفتح علي، لم يكن لي شيخ إلا النبي صلى الله عليه وسلم وأنه كان يصافحه عقب كل صلاة.
وقال الشيخ أبو العباس الحرار: دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم مرة فوجدته يكتب مناشير الأولياء بالولاية، قال: وكتب لأخي محمد معهم منشورًا، فقلت: يا سيدي يا رسول الله، ما تكتب لي.
__________
والسفلي عديدة" صفة أشياء "مع التصديق بذلك" أي: متهم لظهور مطابقته الواقع عندهم، أو ممن علموا به، حيث صدقوا بما أخبروا به، ولم ينكروه عليهم، وهو حال من الهاء في لهم أو متعلق بيكشف.
"وقال الشيخ ابن أبي المنصور في رسالته، ويقال: إن الشيخ أبا العباس بن القسطلاني دخل مرة على النبي صلى الله عليه وسلم فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أخذ الله بيدك يا أحمد. وعن الشيخ أبي السعود" بن أبي العشائر بن سفيان بن الطيب الواسطي، ثم المصري، ذكره الحافظ المنذري في معجم شيوخه وأثنى عليه، وكان من أوسع الأولياء دائرة في السلوك، وله كرامات وخوارق، وكلام عال في الحقائق مات سنة سبع وأربعين وستمائة، ودفن بالقرافة، "قال: كنت أزور شيخنا أبا العباس" البصير، أحمد بن محمد بن عبد الرحمن الأنصاري، الخزرجي، الأندلسي برع في علوم الشرع ببلده، ثم سافر على قدم التجريد، فدخل الصعيد، ثم أقام بالقاهرة يقرئ الناس وينفعهم، أجاز سبعة آلاف رجل بالقراءات السبع، وكان بارعًا في الحديث، حافظًا لمتونه، عارفًا بعلله ورجاله، حسن الاستنباط بذهن وقاد. مات سنة ثلاث وعشرين وستمائة، "وغيره من صلحاء مصر فلما انقطعت واشتغلت وفتح علي، لم يكن لي شيخ إلا النبي صلى الله عليه وسلم و" ذكر "أنه كان يصافحه عقب كل صلاة" وذلك يقظة، وحسبه بذلك شرفًا، "وقال الشيخ أبو العباس" بن أبي بكر "الحرار" بمهملات كما في الكواكب المضيئة المغربي، الأشبيلي، العابد، الزاهد، صاحب الكرامات، قدم مصر وأقام بها، ومات بعد الستمائة: "دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم مرة فوجدته يكتب" أي يأمر بأن يكتب "مناشير" جمع منشور، أي: كتب "الأولياء بالولاية، قال: وكتب لأخي محمد معهم منشورًا" كتابًا "فقلت: يا سيدي يا رسول الله، ما تكتب لي(7/295)
كأخي؟ قال: أتريد أن تكون قهمارًا. وهذه لغة أندلسية، يعني طرقيًا، وفهم عنه أن له مقامًا غير هذا.
وقال حجة الإسلام الغزالي في كتابه "المنقذ من الضلال": وهم -يعني أرباب القلوب- في يقظتهم يشاهدون الملائكة وأرواح الأنبياء ويسمعون منهم أصواتًا ويقتبسون منهم فوائد، انتهى.
ورأيت في كتاب المنح الإلهية في مناقب السادة الوفائية عن سيدي علي ابن سيدي محمد أنه قال في بعض مشاهده: كنت وأنا ابن خمس سنين أقرأ القرآن على رجل يقال له الشيخ يعقوب، فأتيته يومًا فرأيت إنسانًا يقرأ عليه سورة {وَالضُّحَى} وصحبته رفيق له وهو يلوي شدقيه بالإمالة، ورفيقه يضحك إعجابًا، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم يقظة لا منامًا وعليه قميص أبيض قطن، ثم رأيت القميص علي فقال لي: اقرأ فقرأت عليه سورة {وَالضُّحَى} و {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} ثم غاب عني، فلما بلغت إحدى وعشرين أحرمت.
__________
كأخي؟ قال: أتريد أن تكون قهمارًا. وهذه لغة أندلسية" بفتح الألف، والدال، وضم اللام، إقليم بالمغرب، "يعني طرقيًا" وخاطبه بها، لأنه من المغرب، "وفهم عنه أن له مقامًا غير هذا".
"وقال حجة الإسلام الغزالي في كتابه "المنقذ من الضلال": وهم يعني أرباب القلوب في يقظتهم يشاهدون الملائكة" على غير صورهم الأصلية، "وأرواح الأنبياء ويسمعون منهم أصواتًا ويقتبسون" أي: يكتسبون، "منهم فوائد" ثم يرتقي الحال من مشاهدة الصور والأمثال إلى درجات يضيق عنها نطاق النطق، "انتهى" كلام الغزالي بما زدته.
"ورأيت في كتاب المنح الإلهية في مناقب السادة الوفائية عن سيدي علي ابن سيدي محمد" وفي العارف الكبير ابن العارف الشهير، الغنيين بالشهرة عن التعريف، وتقدم بعضه، "أنه قال في بعض مشاهده: كنت وأنا ابن خمس سنين أقرأ القرآن على رجل يقال له الشيخ يعقوب، فأتيته يومًا فرأيت إنسانًا يقرأ عليه سورة {وَالضُّحَى} الآية وصحبته رفيق له وهو يلوي" يميل "شدقيه" جانبي فمه "بالإمالة، ورفيقه يضحك إعجابًا" بقراءة القارئ، ومقتضى يلوي شدقيه أنها لم تكن حسنة، ولعله حكمة أمره عليه الصلاة والسلام لسيدي علي بالقراءة، "فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم يقظة لا منامًا" محل الشاهد، "وعليه قميص أبيض قطن، ثم رأيت القميص عليّ فقال لي: اقرأ فقرأت عليه سورة {وَالضُّحَى} و {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} ثم غاب عني، فلما بلغت إحدى وعشرين" سنة "أحرمت بصلاة الصبح بالقرافة"(7/296)
بصلاة الصبح بالقرافة فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم قبالة وجهي فعانقني فقال لي: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} ، فأوتيت لسانه من ذلك الوقت، وصريح هذا أيضًا أنه يقظة.
وأما ما حكاه الشيخ تاج الدين بن عطاء الله في "لطائف المنن" عن الشيخ أبي العباس المرسي، أنه كان مع الشيخ أبي الحسن الشاذلي بالقيروان في ليلة الجمعة سابع عشر رمضان، فذهب معه إلى الجامع. الحكاية، إلى أن قال: ورأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: يا علي طهر ثيابك من الدنس تحظ بمدد الله في كل نفس ... إلخ، فيحتمل أن يكون منامًا.
__________
بزاويتهم، "فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم قبالة وجهي فعانقني فقال لي: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} ، فأوتيت لسانه من ذلك الوقت" بأن صرت أتكلم بالكلام الجامع المشتمل على الحكم الكثيرة، والمواهب الربانية، "انتهى، وصريح هذا أيضًا أنه يقظة".
"وأما ما حكاه الشيخ تاج الدين" أبو العباس أحمد بن محمد بن عبد الكريم "بن عطاء الله" الجذامي، الإسكندراني، الإمام المتكلم على طريقة الشاذلي، كان جامعًا لأنواع العلوم من تفسير وحديث ونحو وأصول وفقه مالكي، وتصوف، وكان أعجوبة زمانه، وله تصانيف كثيرة؛ كاختصار المدونة للبرادعي، مات سنة تسع وسبعمائة، ودفن بالقرافة، "في لطائف المنن" في مناقب الشيخ أبي العباس، والشيخ أبي الحسن،"عن الشيخ أبي العباس المرسي" بضم الميم نسبة إلى مرسية مدينة بالمغرب، أحمد بن عمر الأنصاري، المالكي، العارف الشهير قطب زمانه، ورأس أصحاب أبي الحسن الشاذلي، مات بالإسكندرية سنة ست وثمانين وستمائة، "أنه كان مع الشيخ أبي الحسن الشاذلي" بمعجمة، ومهملة، الشريف علي بن عبد الله بن عبد الجبار، العلوي الهاشمي، من ذرية محمد بن الحنفية.
قال ابن دقيق العيد: ما رأيت أعرف بالله منه، وقال ابن عطاء الله: نشأ بالمغرب الأقصى ومبدأ ظهوره بشاذلة، وله السياحات الكثيرة والمنازلات الجليلة والعلوم الكثيرة، لم يدخل في طريق الله تعالى حتى كان يعد للمناظرة في العلوم الظاهرة، ذو علوم جمة، جاء في هذا الطريق بالعجب العجاب، وشرح من علم الحقيقة بالأطناب، ووسع للسالكين الركاب وكان العز بن عبد السلام يحضر مجلسه، ويسمع كلامه، مات سنة ست وخمسين وستمائة، "بالقيروان" بفتح القاف، والراء، والواو بلد بأفريقية، "في ليلة الجمعة سابع عشر رمضان، فذهب معه إلى الجامع. الحكاية، إلى أن قال: ورأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: "يا علي طهر ثيابك من الدنس تحظ بمدد الله في كل نفس" إلى آخره، فيحتمل أن يكون منامًا" لأنه لم يصرح(7/297)
وكذلك قول الشيخ قطب الدين القسطلاني: كنت أقرأ على أبي عبد الله محمد بن عمر بن يوسف القرطبي بالمدينة النبوية، فجئته يومًا في وقت خلوة، وأنا يومئذ حديث السن فخرج إلي وقال لي: من أدبك بهذا الأدب؟ وعاب علي، فذهبت وأنا منكسر الخاطر، فدخلت المسجد وقعدت عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فبينما أنا جالس على تلك الحال، وإذا أنا بالشيخ قد جاءني وقال: قم، فقد جاء فيك شفيع لا يرد.
ونحوه ما حكاه السهروردي في "عوارف المعارف" عن الشيخ عبد القادر الكيلاني أنه قال: ما تزوجت حتى قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: تزوج.
وحكي عن السيد نور الدين الإيجي، والد السيد عفيف الدين، أنه في بعض زياراته للنبي صلى الله عليه وسلم سمع جواب سلامه من داخل القبر الشريف: عليك السلام يا ولدي.
وقال البدر حسن بن الأهدل في مسألة الرؤية له: إن وقوعها للأولياء قد تواترت بأجناسها الأخبار.
__________
"وكذلك قول الشيخ قطب الدين القسطلاني: كنت أقرأ على أبي عبد الله محمد بن عمر بن يوسف القرطبي بالمدينة النبوية، فجئته يومًا في وقت خلوة، وأنا يومئذ حديث السن فخرج إلي وقال لي: من أدبك بهذا الأدب؟ وعاب علي" المجيء هذا الوقت، ومراده تربيته وتأديبه، "فذهبت وأنا منكسر الخاطر، فدخلت المسجد" النبوي، "وقعدت عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فبينما أنا جالس على تلك الحال، وإذا أنا بالشيخ قد جاءني وقال: قم، قد جاء فيك شفيع لا يرد" يعني النبي صلى الله عليه وسلم، فيحتمل أنه جاءه في المنام، "ونحوه ما حكاه السهروردي" بضم السين، وسكون الهاء، وضم الراء، وفتح، وسكون الراء، ومهملة نسبة إلى سهرورد بلد عند زنجان العلامة العارف شهاب الدين، تقدم بعض ترجمته "في عوارف المعارف عن الشيخ عبد القادر" بن موسى بن يحيى الشريف الحسني "الكيلاني" بكاف أو جيم مكسورتين، ولد ببغداد سنة سبعين وأربعمائة، وحسبك فيه قول العز بن عبد السلام: بلغت إمامته مبلغ القطع، ومات ببغداد سنة نيف وستين وخمسمائة، مناقبه شهيرة كثيرة، "أنه قال: ما تزوجت حتى قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: تزوج" فيحتمل أنه منام.
"وحكي عن السيد نور الدين الإيجي" بالكسر وتحتية، وجيم نسبة إلى إيج بلدة بفارس، "والد السيد عفيف الدين، أنه في بعض زياراته للنبي صلى الله عليه وسلم سمع جواب سلامه من داخل القبر الشريف: عليك السلام يا ولدي" فهذا من سماع الصوت، وإن لم يكن برؤية، "وقال البدر حسن بن الأهدل في مسألة الرؤية له: إن وقوعها للأولياء قد تواترت بأجناسها الأخبار،(7/298)
وصار العلم بذلك قويًا، انتفى عنه الشك، ومن تواترت عليه أخبارهم لم يبق له فيه شبهة، ولكن يقع لهم ذلك في بعض غيبة حس وغموض طرف، لورود حالة لا تكاد تضبطها العبارة. ومراتبهم في الرؤية متفاوتة، وكثيرًا ما يغلط فيها رواتها، فقل ما تجد متصلة صحيحة عمن يوثق به, وأما من لا يوثق به فقد يكذب، وقد يرى منامًا، أو في غيبة حس، فيظنه يقظة، وقد يرى خيالا أو نورًا فيظنه الرسول، وقد يلبس عليه الشيطان فيجب التحرز في هذا الباب
__________
"وصار العلم بذلك قويًا، انتفى عنه الشك" لاستحالة الكذب مع التواتر، "ومن تواترت عليه أخبارهم لم يبق له فيه شبهة، ولكن يقع لهم ذلك في بعض غيبة حس وغموض طرف، لورود حالة لا تكاد تضبطها العبارة. ومراتبهم في الرؤية" المذكورة في شبه اليقظة "متفاوتة" باعتبار مقاماتهم، فبعضهم أعلى فيها من بعض"، "وكثيرًا ما يغلط فيها رواتها، فقل ما تجد متصلة صحيحة عمن يوثق به" لأن غالبهم يكتمون الأمر.
"وأما من لا يوثق به فقد يكذب، وقد يرى منامًا، أو في غيبة حس، فيظنه يقظة، وقد يرى خيالا أو نورًا فيظنه الرسول" صلى الله عليه وسلم، واعترض هذا بأنه سوء ظن بهم، حيث يشتبه عليهم رؤية الغيبة برؤية اليقظة، وهذا لا يظن بأدون العقلاء، فكيف بالأكابر؟ "، "وقد يلبس" بكسر الباء: يخلط "عليه الشيطان" لعدم تمكنه.
أما المتمكن فلا، كما حكى أن العارف الكيلاني رأى مرة نورًا ملأ الأفق، ونودي منه أنا ربك، وقد أبحت لك المحرمات، فقال: اخسأ يا لعين، فانقلب النور دخانًا وظلامًا، فقال: نجوت مني بفقهك في أحكام منازلاتك، وقد أضللت بهذا سبعين صديقًا، فسئل بم عرفت أنه الشيطان؟ قال: بقوله أبحت لك المحرمات، "فيجب التحرز في هذا الباب" فإن رؤيته صلى الله عليه وسلم في اليقظة باب ضيق وقل من يقع له ذلك إلا من كان على صفة عزيز وجودها في هذا الزمان بل عدمت غالبًا مع أنا لا ننكر من تقع له من الأكابر الذين حفظهم الله تعالى في بواطنهم وظواهرهم، قاله ابن الحاج في المدخل، قال: وقد أنكر بعض علماء الظاهرية رؤية النبي صلى الله عليه وسلم يقظة؛ لأن العين الفانية لا ترى العين الباقية، والنبي في دار الباقية، والرائي في دار الفناء، ورده الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة بأن المؤمن إذا مات يرى الله تعالى، وهو لا يموت، والواحد منهم يموت في كل يوم سبعين مرة، انتهى، ويتأمل معنى موت الواحد في اليوم سبعين مرة، وفي روض الرياحين عن المرسي: لما جاء الغلاء الكبير إلى مصر توجهت لأن أدعو، فقيل لي: لا تدع، فلا يسمع لأحد منكم في هذا الأمر دعاء، فسافرت إلى الشام، فلما وصلت إلى قرب ضريح الخليل عليه السلام، تلقاني، فقلت: يا رسول الله! اجعل ضيافتي عندك الدعاء لأهل مصر، فدعا لهم،(7/299)
وبالجملة: فالقول برؤيته صلى الله عليه وسلم بعد موته بعين الرأس في اليقظة يدرك فساده بأوائل العقول، لاستلزامه خروجه صلى الله عليه وسلم من قبره، ومشيه في الأسواق ومخاطبته للناس ومخاطبتهم له، وخلو قبره عن جسده الشريف، فلا يبقى منه فيه شيء، بحيث يزار مجرد القبر، ويسلم على غائب. أشار إلى ذلك القرطبي في الرد على من قال بأن الرائي له في المنام رؤيا حقيقية، يراه بعد ذلك في اليقظة.
قال: وهذه جهالات لا يقول بشيء منها من له أدنى مسكة من المعقول، وملتزم شيء من ذلك مختل مخبول.
وقال القاضي أبو بكر بن العربي: وشذ بعض الصالحين فزعم أنها تقع بعيني الرأس حقيقة.
__________
ففرج الله عنهم.
قال اليافعي، قوله: تلقاني الخليل قول حق، لا ينكره إلا جاهل بمعرفة ما يرد عليهم من الأحوال التي يشاهدون فيها ملكوت السماوات والأرض، وينظرون الأنبياء أحياء غير أموات، كما نظر النبي صلى الله عليه وسلم موسى عليه السلام في الأرض، ونظره أيضًا هو وجماعة من الأنبياء في السماوات، وسمع منهم مخاطبات، انتهى.
"وبالجملة: فالقول برؤيته صلى الله عليه وسلم بعد موته بعين الرأس في اليقظة يدرك فساده بأوائل العقول" مبادئها بدون احتياج إلى تأمل، "لاستلزامه خروجه صلى الله عليه وسلم من قبره، ومشيه في الأسواق" وقد لا يلزم ذلك، إذ من الجائز أن يكشف لهم عنه وهو في قبره، "ومخاطبته للناس ومخاطبتهم له" وهم في أماكنهم، وهو في ضريحه، ولا محذور في ذلك، "وخلو قبره عن جسده الشريف، فلا يبقى منه فيه شيء، بحيث يزار مجرد القبر، ويسلم على غائب" وقد علمت أن ذلك ليس بلازم كما يرى القمران والنجوم في أقطار الأرض شرقًا وغربًا، وهي في أماكنها، "أشار إلى ذلك القرطبي" الإمام أبو العباس في المفهم، "في الرد على من قال بأن الرائي له في المنام رؤيا حقيقية، يراه بعد ذلك في اليقظة" زاعمًا أن ذلك معنى "من رآني في المنام، فسيراني في اليقظة".
"قال" القرطبي: "وهذه جهالات لا يقول بشيء منها من له أدنى مسكة" بضم الميم: شيء يمسكه "من المعقول، وملتزم شيء من ذلك" فضلا عن جميعه، "مختل" مخدوع، "مخبول" مجنون ولا شك في ذلك أن التزامه أما إن قال بما أولناه، فلا. "وقال القاضي أبو بكر بن العربي" الفقيه، الحافظ، "وشذ بعض الصالحين فزعم أنها تقع بعني الرأس حقيقة"(7/300)
وقال في فتح الباري -بعد أن ذكر كلام ابن أبي جمرة: وهذا مشكل جدًا، ولو حمل على ظاهره لكان هؤلاء صحابة، ولأمكن بقاء الصحبة إلى يوم القيامة.
وللشيخ مسلم شيخ الطائفة المسلمة:
فمن يدعي في هذه الدار أنه ... يرى المصطفى حقًا فقد فاه مشتطا
ولكن بين النوم واليقظة التي ... تباشر هذا الأمر مرتبة وسطا
وقد جعل القاضي أبو بكر بن العربي القول بأن الرؤيا في المنام بعين الرأس غلو وحماقة، ثم حكى ما نسب لبعض المتكلمين، وهو القول بأنها مدركة بعينين في القلب، وأنه ضرب من المجاز، انتهى.
فلا يمتنع من الخواص، أرباب القلوب القائمين بالمراقبة والتوجه على قدم الخوف، بحيث لا يسكنون لشيء مما يقع لهم من الكرامات، فضلا عن التحدث بها لغير ضرورة، مع السعي في التخلص من.
__________
فجعله شاذًا، لا يعتد به لعدم إمكانه عنده.
"وقال في فتح الباري بعد أن ذكر كلام ابن أبي جمرة" المتقدم قريبًا: "وهذا مشكل جدًا، ولو حمل على ظاهره لكان هؤلاء صحابة، ولأمكن بقاء الصحبة إلى يوم القيامة" وأجيب بأن شرط الصحبة رؤيته على الوجه المتعارف قبل موته صلى الله عليه وسلم لا بعده، وإن كان حيًا في قبره، وهذه خوارق، والخوارق لا تنقض لأجلها القواعد، "وللشيخ مسلم شيخ الطائفة المسلمية:
"فمن يدعي في هذه الدار أنه ... يرى المصطفى حقًا فقد فاه مشتطا
"ولكن بين النوم واليقظة التي ... تباشر هذا الأمر مرتبة وسطا"
"وقد جعل القاضي أو بكر بن العربي القول بأن الرؤيا في المنام بعين الرأس غلو" تجاوز حدّ "وحماقة" قلة عقل، "ثم حكى ما نسب لبعض المتكلمين، وهو القول بأنها مدركة بعينين في القلب، وأنه ضرب من المجاز، انتهى" فإذا قيل ذلك في رؤيا المنام، فما بالك برؤية اليقظة؟ "فلا يمتنع" سيأتي فاعله في قوله: أن يتمثل "من الخواص، أرباب القلوب" النيرة السليمة من الأغبار، "القائمين بالمراقبة" لله في أقوالهم وأفعالهم، "والتوجه على قدم الخوف، بحيث لا يسكنون" أي: لا يركنون "لشيء مما يقع لهم من الكرامات" بحيث يعولون عليها، ويرون أن لهم مقامًا، "فضلا عن التحدث بها لغير ضرورة، مع السعي في التخلص من(7/301)
المكدرات، والإعراض عن الدنيا وأهلها جملة، وكون الواحد منهم يود أن يخرج من أهله وماله، وأنه يرى النبي صلى الله عليه وسلم، كالشيخ عبد القادر الكيلاني: أن يتمثل صورته صلى الله عليه وسلم في خاطره ويتصور في عالم سره أنه يكلمه، بشرط استقرار ذلك وعدم اضطرابه، فإنه تزلزل أو اضطرب كان لمة من الشيطان، وليس ذلك خادشًا في علو مناصبهم لعدم عصمة غير الأنبياء.
فقد قال العلامة التاج ابن السبكي في جمع الجوامع تبعًا لغيره: وإن الإلهام ليس بحجة لعدم ثقة من ليس معصومًا بخواطره، وحينئذ فمن قال -ممن حكينا عنه أو غيره- بأن المرئي هو المثال، لا يمتنع حمله على هذا، بل حمل كل من أطلق عليه هو اللائق. وقريب منه قوله صلى الله عليه وسلم: "إني رأيت الجنة والنار". مع مزيد استبعاد هناك أن يكون المراد بالرؤية رؤية العلم.
ويحكى عن الشيخ أبي العباس المرسي أنه قال: لو حجب عني.
__________
المكدرات، والإعراض عن الدنيا وأهلها جملة، وكون الواحد منهم يود أن يخرج من أهله وماله" مع عزتهما على البشر، "وأنه يرى النبي صلى الله عليه وسلم، كالشيخ عبد القادر الكيلاني: أن يتمثل صورته صلى الله عليه وسلم في خاطره ويتصور في عالم سره أنه يكلمه، بشرط استقرار ذلك وعدم اضطرابه، فإنه تزلزل أو اضطرب كان لمة" مصدر محذوف: الزوائد من ألم إلمامًا "من الشيطان، وليس ذلك خادشًا في علو مناصبهم" مقاماتهم "لعدم" وجوب "عصمة غير الأنبياء" والملائكة، وإنما هي حائرة للغير، "فقد قال العلامة التاج ابن السبكي في جمع الجوامع" في الباب الخامس "تبعًا لغيره: وإن الإلهام" لفظه مسألة الإلهام: إيقاع شيء في القلب يثلج له الصدر، يخص الله به بعض أصفيائه، و"ليس بحجة لعدم ثقة من ليس معصومًا بخواطره" لأنه لا يأمن من دسيسة الشيطان فيها خلافًا لبعض الصوفية في قوله: إنه حجة في حقه.
أما المعصوم كالنبي صلى الله عليه وسلم، فهو حجة في حقه وحق غيره إذا تعلق بهم كالوحي، "وحينئذ فمن قال ممن حكينا عنه أو غيره بأن المرئي هو المثال، لا يمتنع حمله على هذا" الذي قلناه أن يتمثل صورته في خاطره ... إلخ، لا حقيقة الرؤية، "بل حمل كل من أطلق" أنه رآه حقيقة "عليه" أي: على هذا التأويل "هو اللائق. وقريب منه قوله صلى الله عليه وسلم" في حديث صلاة الكسوف: "إني رأيت الجنة والنار". "مع مزيد استبعاد هناك" أي: في هذا الحديث "أن يكون المراد بالرؤية رؤية العلم" لبعده من لفظه، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "ما من شيء لم أكن رؤيته إلا رأيته في مقامي هذا، حتى الجنة والنار" الحديث في الصحيحين.
"ويحكى عن الشيخ أبي العباس المرسي، أنه قال" مرة: "لو حجب عني(7/302)
رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفة عين ما عددت نفسي من المسلمين.
وعلى هذا فيكون معنى "فسيراني في اليقظة" أي يتصور مشاهدتي وينزل نفسه حاضرًا معي بحيث لا يخرج عن أدابه وسنته صلى الله عليه وسلم بل يسلك منهاجه ويمشي على شريعته وطريقته. ومنه قوله عليه الصلاة والسلام في الإحسان: أن تعبد الله كأنك تراه ويحمل العموم في "من رآني" على الموقفين، وإليه يشير قول بعض المعتمدين: أي من رآني رؤية معظم لحرمتي ومشتاق لمشاهدتي وصل إلى رؤية محبوبه وظفر بكل مطلوبه.
وقريب منه قول شارح المصابيح: أو أنه يراه في الدنيا حالة الذوق والانسلاخ عن العوائق الجسمانية، كما نقل ذلك عن بعض الصالحين أنه رآه في حالة الذوق.
__________
رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفة عين ما عددت نفسي من المسلمين" الكاملين؛ لدلالة الحجب على تقصيري، "وعلى هذا فيكون معنى" قوله: "فسيراني في اليقظة" أي يتصور مشاهدتي وينزل نفسه حاضرًا معي" لا مجرد تصور، وتنزيل بل "بحيث لا يخرج عن آدابه وسنته صلى الله عليه وسلم بل يسلك منهاجه" طريقه، "ويمشي على شريعته وطريقته. ومنه قوله عليه الصلاة والسلام في الإحسان" الإخلاص، أو إجادة الفعل جوابا لسؤال جبريل: "أن تعبد الله كأنك تراه" بعين إيمانك، مطلعًا على جميع أحوالك، حتى كأنك تشاهده عيانًا، فلا تنحرف عن الطريق الذي نهجه الشرع، وأدى إليه طريق المعرفة، وهذا من جوامع الكلم لجمعه مع الإيجاز بيان المراقبة في كل حال، وهو الإخلاص في جميع الأعمال، والحث عليه، بحيث لو فرض أنه عاينه، لم يترك شيئًا من ممكنه، "ويحمل العموم في" قوله: "من رآني" على الموقفين" لا عموم الناس، ويكفي في صدق العام عمومه في فرد، "وإليه يشير قول بعض المعتمدين" وهو الشيخ أبو العباس القرطبي في المفهم في قوله: "فسيراني في اليقظة"، "أي من رآني رؤية معظم لحرمتي" قال ابن عربي: التعظيم ملاحظة الجلال بلواحظ الوقار على بساط الأدب في مقام المعرفة بعظمة قدر الملحوظ، قال: والحرمة تعظيم مهاب بالغيب والشهادة، وحقيقتها الامتناع من تعدي الحد، "ومشتاق لمشاهدتي وصل إلى رؤية محبوبه وظفر بكل مطلوبه".
قال الحافظ: وهذا لم يظهر لي، وإن ظهر، فهو ثامن الأجوبة، كما مر، "وقريب منه قول شارح المصابيح: أو" معنى الحديث "أنه يراه في الدنيا حالة الذوق والانسلاخ عن العوائق الجسمانية" بكسر الجيم، "كما نقل ذلك عن بعض الصالحين أنه رآه في حالة الذوق".
قال ابن عربي: هو إدراك في القلب، يميز به بين أشخاص أصناف المعاني، هذا إذا صح(7/303)
والشوق، وقد قال الشيخ الأهدل عقب الحكاية عن الشيخ أبي العباس المرسي: وهذا فيه تجوز يقع مثله في كلام الشيوخ، وذلك أن المراد أنه لم يحجب حجاب غفلة ونسيان عن دوام المراقبة واستحضارها في الأعمال والأقوال، ولم يرد أنه لم يحجب عن الروح الشخصية طرفة عين، فذلك مستحيل، والله أعلم.
ومما اختص به عليه الصلاة والسلام أن التسمي باسمه.
__________
من علة داء الشرك الخفي، وحقيقته وجدان حلاوة في رياض روض الرضا، وغايته الاستغناء في تصور معاني الحقائق عن نصب الأدلة والبراهين السمعية والعقلية.
وقال غيره: الذوق أول مبادئ التجليات، والشرب أوسطها، والري نهايتها، والأذواق التي يشير لها القوم هي علوم لا تنال إلا لمن كان خالي القلب عن جميع العلائق والعوائق، "والشوق" وقال بعضهم: يعنون به قواصف قهر المحبة، بشدة ميلها إلى إلحاق المشتاق بمشوقه، والعاشق بمعشوقه.
وقال ابن عربي: الشوق انزعاج أثاره تعشق مسموع يوجب الاستشراف إلى لقيه، وحقيقته طلب يتعلق بمطلوب حجبه البعد، يصحبه قلق، وغايته تمني النفس ما لا بد لها منه، ولا قدرة لها على التوصل إليه، ولا قرار لها دون حصوله.
"وقد قال الشيخ الأهدل عقب الحكاية" السابقة "عن الشيخ أبي العباس المرسي": لو حجب إلى آخره، "وهذا فيه تجوز يقع مثله في كلام الشيوخ" جمع شيخ، وحقيقته عند الصوفية الإنسان البالغ في علم الشريعة والطريقة، الحقيقة إلى حد من بلغه، كان عالما ربانيًا، مربيًا، هاديًا، مهديًا، مرشدًا إلى طريق الرشاد، معينًا لمن أراد الاستعانة به على بلوغ رتب أهل السداد، وذلك مما وهبه الله من العلم اللدني الرباني، والطب المعنوي الروحاني، فهو طبيب الأرواح الشافي لها بما عمله الله من أدوية أدوائها المردية لها، "وذلك أن المراد أنه لم يحجب حجاب غفلة ونسيان" ولم يحجب "عن دوام المراقبة" المحافظة.
قال تعالى: {كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ} الآية، أي: الحفيظ، وهي عند الصوفية الملاحظة لما هو المقصود بالتوجه ظاهرًا وباطنًا، ويندرج فيها الرعاية والحرمة، "واستحضارها في الأعمال، والأقوال ولم يرد أنه لم يحجب عن الروح الشخصية طرفة عين، فذلك مستحيل" فلا يريده العارف المرسي، وتعقب هذا بأنه إن أراد الاستحالة العقلية، فباطل، أو الشرعية، فمن أي دليل أو قاعدة أخذ لك كلا لا استحالة لذلك بوجه، "والله أعلم" بما أراد رسوله عليه الصلاة والسلام.
"ومما اختص به عليه الصلاة والسلام أن التسمي باسمه" المعهود، المشتهر به، وهو(7/304)
ميمون ونافع في الدنيا والآخرة.
روينا عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يوقف عبدان بين يدي الله تعالى فيؤمر الله إلى الجنة؟ فيقول الله تعالى: ادخلا الجنة، فإني آليت على نفسي
__________
محمد وأحمد، بدليل أحاديث الترجمة التي ذكرها "ميمون" أي مبارك بركة تامة لا توجد في التسمي باسم غيره من الأنبياء، وإن كان فيها أيضًا بركة، والتسمية بها مستحبة لقوله صلى الله عليه وسلم: "تسموا بأسماء الأنبياء، وأحب الأسماء إلى الله عبد الله وعبد الرحمن" الحديث، رواه أبو داود والنسائي، لأنهم سادة الخلق، وأخلاقهم أشرف الأخلاق، وأعمالهم أصلح الأعمال، فأسماؤهم أشرف الأسماء، فالتسمي بها فيه شرف للمسمى، وحفظها وذكرها؛ وأن لا ينسى، فلذا ندب مع المحافظة على الأدب، قال ابن القيم: هذا هو الصواب، وكان مذهب عمر كراهته، ثم رجع.
"ونافع في الدنيا والآخرة" إن سماه تبركًا به وحبًا له، لا لكونه اسم أحد آبائه، أو اسم نحو أمير، ويشهد له ما رواه ابن عساكر والحسين بن أحمد بن عبد الله بن بكير، عن حامد بن حماد العسكري، حدثنا إسحاق بن يسار النضيبي، حدثنا حجاج بن منهال، حدثنا حماد بن سلمة، عن برد بن سنان، عن مكحول، عن أبي أمامة مرفوعًا: "من ولد له مولود فسماه محمدًا حبًا لي وتبركًا باسمي، كان هو ومولوده في الجنة".
قال السيوطي: هذا أمثل حديث ورد في هذا الباب، وإسناده حسن، ونازعه تلميذه الشامي، فقال: وليس كذلك، ففي سنده أبو الحسين حامد بن حماد العسكري، شيخ ابن بكير، فيه قال في اللسان كالميزان، خبره هذا موضوع، وهو آفته وشيخه إسحاق بن يسار مجهول، كذا قال وفيه نظر، فإنه لم ينفرد به، فقد أخرجه الحافظ بن بكير أيضًا، عن شيخه محمد بن عبد الله الخضرمي، حدثنا حبيب بن نصر المهلبي، حدثنا عبد الصمد بن محمد العباداني، حدثنا منصور بن عكرمة، عن برد بن سنان، عن مكحول، عن أبي أمامة الباهلي، رفعه به، "روينا" مما أخرجه الحافظ أبو الطاهر السلفي، وابن بكير في جزئه من طريق حميد الطويل، "عن أنس بن مالك: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يوقف عبدان بين يدي الله تعالى، فيأمر الله بهما إلى الجنة، فيقولان: ربنا بما استاهلنا الجنة، ولم نعمل عملا يجازينا"؟ أي: يجازينا الله بذلك العمل "الجنة" بأنه يجعله سببًا لدخولها، فإسناد المجازاة للعمل مجاز عقلي من إسناد الفعل إلى سببه، وفي نسخة: تجازينا به الجنة، وهي ظاهرة، "فيقول الله تعالى: ادخلا الجنة فإني آليت" أي: حلفت "على نفسي" والإيلاء إنما يتعدى بعلى للمحلوف عليه، وضمن في قوله(7/305)
أن لا يدخل النار من اسمه أحمد ولا محمد".
وروى أبو نعيم عن نبيط ابن شريط قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى: "وعزتي وجلالي، لا عذبت أحدًا تسمى باسمك في النار".
وعن علي بن أبي طالب قال: ما من مائدة وضعت فحضر عليها من اسمه أحمد أو محمد إلا قدس الله ذلك المنزل كل يوم مرتين، رواه أبو منصور الديلمي.
__________
تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} الآية، معنى البعد فعدي بمن، كما في البيضاوي، فكان الظاهر: آليت على "أن لا يدخل" لكنه ضمن معنى فرضت، أو كتبت على نفسي أن لا يدخل "النار من اسمه أحمد ولا محمد" وهذان العبدان اسم أحدهما أحمد والآخر محمد، ويحتمل أن كلا اسمه أحمد ومحمد.
"وروى أبو نعيم عن نبيط" بضم النون، وفتح الموحدة، وسكون التحتية، وطاء مهملة، "ابن شريط" بفتح المعجمة، وكسر الراء، كما في الجامع والإصابة، فلا عبرة بقول القاموس: كزبير، فأهل الفن أعلم به؛ ابن أنس من مالك بن هلال الأشجعي، نزل الكوفة، له ولأبيه صحبة، روى أحمد عنه: إني لرديف أبي في حجة الوداع، إذ تكلم صلى الله عليه وسلم، فوضعت يدي على عاتق أبي: فسمعته يقول: "إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام" ... الحديث.
وأخرجه البغوي، وابن السكن من وجه آخر، عن نبيط بن شريط، عن أبيه، قال ابن أبي حاتم: بقي نبيط بعد النبي صلى الله عليه وسلم زمانًا، "قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قال الله تعالى: وعزتي وجلالي لا عذبت أحدًا تسمى باسمك" أحمد أو محمد "في النار" بل أعفو عنه.
"وعن علي بن أبي طالب، قال: "ما من مائدة وضعت، فحضر عليها من اسمه أحمد أو محمد إلا قدس الله ذلك المنزل كل يوم مرتين" رواه أبو منصور والديلمي" وهو موقوف لفظًا مرفوع حكمًا، إذ لا مدخل فيه للرأي، وقد ورد مرفوعًا عن علي، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أخرجه ابن بكير في جزئه، وأخرج ابن عدي عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما أطعم طعام على مائدة، ولا جلس عليها وفيها اسمي إلا وقدسوا كل يوم مرتين" وفيه أحمد بن كنانة، قال: وقال في اللسان كالميزان: حديث مكذوب، وتعقب ذلك السيوطي، فقال: قد وجدت للحديث طريقًا آخر، ليس فيه أحمد بن كنانة، أخرجه أبو سعد النقاش في معجم شيوخه، عن جابر به، ورجاله ثقات، انتهى. وحديث علي المذكور شاهد له، وأخرجه الحاكم في تاريخه والديلمي والخطيب عن علي رفعه: "إذا سميتم الولد محمدًا، فأكرموه، وأوسعوا له في المجلس، ولا تقبحوا له وجهًا" أي: لا تقولوا له قبح الله وجهك، أو لا تنسبوه إلى القبح في شيء من أقواله وأفعاله،(7/306)
وليس لأحد أن يتكنى بكنيته "أبي القاسم" سواء كان اسمه محمد أم لا، ومنهم: من كره الجمع بين الاسم والكنية، وجوز الإفراد، ويشبه أن يكون هو الأصح.
__________
وكنى بالوجه عن الذات.
وأخرج البزار عن أبي رافع مرفوعًا: "إذا سميتم محمدًا فلا تضربوه، ولا تحرموه"، وروى البزار، وأبو يعلى، والحاكم، عن أنس رفعه: "تسمون أولادكم محمدًا، ثم تلعنونهم"، وهذا استفهام إنكاري بحذف الأداة، أنكر اللعن إجلالا لاسمه كما منع ضرب الوجه تعظيمًا لصورة آدم، وشذ من أخذ من الحديث منع التسمية به، لأنه مدلوله النهي عن لعن من اسمه محمد، لا عن التسمية به.
وأخرج الطرائقي، وابن الجوزي عن علي مرفوعًا: "ما اجتمع قوم قط في مشورة، وفيهم رجل اسمه محمد، لم يدخلوه في مشورتهم إلا لم يبارك لهم فيه"، وذكر بعض الحفاظ أنه لم يصح في فضل التسمية بمحمد حديث، وزعم ابن تيمية أن كل ما ورد فيه موضوع متعقب.
وروى ابن سعد مرسلا: "ما ضر أحدكم لو كان في بيته محمد ومحمدان وثلاثة"، وقال مالك: ما كان في أهل بيت اسم محمد إلا كثرت بركته.
وفي فتاوى السخاوي ما رواه أبو شعيب الحراني عن عطاء: من أراد أن يكون حمل زوجته ذكرًا، فليضع يده على بطنها وليقل: إن كان ذكرًا فقد سميته محمدًا، فإنه يكون ذكرًا لم يرد مرفوعًا، ورفع بعضهم له، أورده ابن الجوزي في الموضوعات.
"و" منها: أنه "ليس لأحد أن يتكنى بكنيته" المشهورة المعروفة له قديمًا "أبي القاسم" باسم أكبر أولاده عند الجمهور، أو لأنه يقسم الجنة بين أهلها أو لقوله: "إني جعلت قاسمًا أقسم بينكم" قال المصنف في أسمائه: كنيته المشهورة أبو القاسم، كما جاء في عدة أحاديث صحيحة، ويكنى بأبي إبراهيم، كما في حديث أنس في مجيء جبريل، وقوله: السلام عليك يا أبا إبراهيم، وبأبي الأرامل ذكره ابن دحية، وبأبي المؤمنين ذكره غيره، انتهى، "سواء كان اسمه محمدًا أم لا" لظاهر حديث الصحيحين عن أنس، قال: نادى رجل رجلا بالبقيع: يا أبا القاسم، فالتفت إليه صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! إني لم أعنك، إنما دعوت فلانًا، فقال صلى الله عليه وسلم: "تسموا باسمي، ولا تكنوا بكنيتي".
"ومنهم" أي: العلماء "من كره الجمع بين الاسم والكنية، وجوز الإفراد" أي التسمي بأحدهما، "ويشبه أن يكون هو الأصح" إذ سبب النهي اشتهاره بأبي القاسم، ولذا لا يكره تكنية من اسمه محمد بأبي إبراهيم، وأبي الأرامل، وأبي المؤمنين، وإن كني بها المصطفى، لأنه لم يكن ينادى بشيء منها، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "لولا أكره أن أحول كنيتي التي عرفت بها لتكنيت بأبي(7/307)
قال النووي: في هذه المسألة مذاهب، الشافعي منع مطلقًا، وجوزه مالك، والثالث: يجوز لمن ليس اسمه محمدًا، ومن جوز خص النهي بحياته، وهو الأقرب، انتهى.
ومنها أنه يستحب الغسل لقراءة حديثه والتطيب، ولا ترفع عند الأصوات، بل تخفض، كما في حياته إذا تكلم، فإن كلامه المأثور بعد موته في الرفعة مثل كلامه المسموع من لفظه الشريف.
__________
إبراهيم، كما به كناني جبريل"، رواه الطبراني، ومن الغريب أنه قيل: يحرم التسمي بمحمد، والتسمي بالقاسم لئلا يكنى أبوه أبا القاسم، حكاهما المازري في شرح مسلم، وتبعه النووي، فأما الثاني فمحتمل، وأما الأول فقد قام الإجماع على خلافه.
"قال النووي: في هذه المسألة مذاهب" فصلها، فقال "الشافعي: منع مطلقًا" لمن اسمه محمد وغيره في حياته وبعده، "وجوز مالك" الجمع بينهما لمن اسمه محمد ولغيره بعده، وبه قال أكثر العلماء كما قال عياض: "والثالث: يجوز لمن ليس اسمه محمدًا، ومن جوز خص النهي بحياته" لأنه صلى الله عليه وسلم أذن لعلي وغيره أن يسموا من يولد لهم بعده محمدًا، ويكنوه بأبي القاسم، فعلم من إذنه اختصاص النهي بحياته، ودعوى أنه خص به عليًا لا دليل عليها، إذ أباح لغيره ذلك أيضًا، ولذا رجحه النووي، فقال: "وهو الأقرب" وإن كان الأصح عند الشافعية الإطلاق، "انتهى".
وحكى غيره المنع مطلقًا في حياته، والتفصيل بعده بين من اسمه محمد، أو أحمد فيمنع، وإلا فيجوز.
قال الحافظ: وهذا أعدل المذاهب، وقال ابن أبي جمرة بعد أن أشار إلى ترجيح مذهب الجمهور: لكن الأولى الأخذ بالمذهب الأول، فإنه أبرأ للذمة، وأعظم للحرمة.
"ومنها: أنه يستحب الغسل" وكذا الوضوء "لقراءة حديثه" وروايته، واستماعه، وظاهره ولو سبق الغسل لسبب آخر، "والتطيب" لذلك، "و" يستحب أنه "لا ترفع عنده" أي عند قراءته "الأصوات" وقول ابن العربي. يجب، لعله أراد به تأكد الندب، "بل تخفض، كما في حياته إذا تكلم" تشبيه في مطلق الخفض، وإن كان الأول مستحبًا، والثاني واجبًا، "فإن" حرمته ميتًا كحرمته حيًا كما قال ابن العربي، قائلا: وإن "كلامه المأثور بعد موته في الرفعة مثل كلامه المسموع من لفظه الشريف" لا سيما إن تواتر أو صح، وكلامه شامل لمنع مساواة صوت قارئ الحديث.(7/308)
وأن يقرأ على مكان مرتفع.
روينا عن مطرف قال: كان الناس إذا أتوا مالكًا -رحمه الله- خرجت إليهم الجارية فتقول لهم: يقول لكم الشيخ: تريدون الحديث أو المسائل، فإن قالوا المسائل خرج إليهم في الوقت، وإن قالوا الحديث، دخل مغتسله فاغتسل وتطيب ولبس ثيابًا جددًا وتعمم ولبس ساجه -والساج: الطيلسان- وتلقى له منصة فيخرج ويجلس عليها، وعليه الخشوع، ولا يزال يبخر بالعود حتى يفرغ من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
__________
زاد أبو بكر بن العربي: فإذا قرئ كلامه، وجب على كل حاضر أن لا يرفع صوته عليه، ولا يعرض عنه، كما كان يلزمه ذلك عند تلفظه به، وقد نبه الله تعالى على دوام الحرمة المذكورة على مرور الأزمنة بقوله: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ} الآية، وكلامه صلى الله عليه وسلم من الوحي له مثل ما للقرآن، إلا معاني مستثنى بيانها في كتب الفقه، وإذا كان رفع الصوت فوق صوته موجبًا لحبوط العمل، فما الظن برفع الآراء ونتائج الأفكار على سنته وما جاء به، انتهى.
"و" يستحب "أن يقرأ على مكان مرتفع" عال، زاد في الأنموذج: وقراءة حديثه عبادة، يثاب عليها، كقراءة القرآن في إحدى الروايتين، أي: والرواية الثانية اختصاص ذلك بالقرآن، لأنا تعبدنا بألفاظه، والحديث بمعانيه ولذا جازت روايته بالمعنى للعارف، ولا يجوز ذلك في القرآن مطلقًا.
"روينا عن مطرف" بن عبد الله بن مطرف اليساري، بالتحتانية والمهملة المفتوحتين، أبي مصعب المدني، ابن أخت مالك، وثقه ابن سعد والدارقطني، وروى عنه البخاري وغيره، ولم يصب ابن عدي في تضعيفه، مات سنة عشرين ومائتين على الصحيح، وله ثلاث وثمانون سنة، "قال: كان الناس إذا أتوا مالكًا رحمه الله" لطلب العلم، وهو داخل بيته، وطلبوا خروجه لإقرائهم، "خرجت إليهم الجارية، فتقول لهم: يقول لكم الشيخ تريدون" بتقدير أداة الاستفهام، أي: أتريدون "الحديث، أو المسائل" الفقهية، فتعريفه للعهد، "فإن قالوا المسائل، خرج إليهم في الوقت" على حالته التي هو عليها، "وإن قالوا الحديث، دخل مغتسله" المكان الذي أعده للغسل فيه، "فاغتسل وتطيب، ولبس ثيابًا جددًا" بضم أوله وثانيه: جمع جديد، كسرير وسرر، "وتعمم ولبس ساجه، والساج: الطيلسان" مطلقًا، أو الأخضر، أو الأسود، "وتلقى له منصة" بكسر الميم، لأنها آلة على ما في المصباح، وقال غيره، بالكسر والفتح شيء عال كالكرسي والسرير من نصصته، إذ رفعته، وهي في الأصل ما يوضع للعروس، يجلس عليه، أو يقف عند جلائها، "فيخرج ويجلس عليها، وعليه الخشوع" والسكينة والوقار، "ولا يزال يبخر بالعود حتى يفرغ من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم" إجلالا له، فإنه كان يحب الرائحة الطيبة.(7/309)
ولم يكن يجلس على تلك المنصة إلا إذا حدث.
قال ابن أبي أويس: فقيل له في ذلك، فقال: أحب أن أعظم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحدث به إلا على طهارة متمكنًا. ويقال: إنه أخذ ذلك عن سعيد بن المسيب.
وقد كره قتادة ومالك وجماعة التحديث على غير طهارة، حتى كان الأعمش إذا كان على غيرها تيمم.
ولا شك أن حرمته صلى الله عليه وسلم وتعظيمه وتوقيره بعد مماته عند ذكره، وذكر حديثه وسماع اسمه وسيرته كما كان في حياته، والله أعلم.
__________
فجعل مجلس حديثه كمجلسه حيًا صلى الله عليه وسلم، "ولم يكن يجلس على تلك المنصة إلا إذا حدث" فعلم أنه إنما فعله رعاية للحديث لا لنفسه، "قال" إسماعيل "بن أبي أويس" عبد الله بن عبد الله بن أويس بن مالك بن أبي عامر الأصبحي، ابن أخت الإمام مالك المدني، صدوق، روى عنه الشيخان، وروى له الباقون سوى النسائي، فأطلق القول بضعفه، مات سنة ست وعشرين ومائتين، "فقيل له في ذلك" أي: سئل عن سبب فعله جميع ما مر، "فقال: أحب أن أعظم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم" لنسبته له، وردًا على المنافقين، ومن على سنتهم، "ولا أحدث به إلا على طهارة متمكنًا، ويقال إنه أخذ ذلك" المذكور من الغسل والتبخير والتطيب ... إلخ، "عن سعيد بن المسيب" أي: بواسطة، لأنه لم يلق سعيدًا، لأنه مات بعد التسعين وولد مالك سنة ثلاث وتسعين، وقد روى عن الزهري وغيره عن سعيد، "وقد كره قتادة" بن دعامة "ومالك الإمام، "وجماعة التحديث على غير طهارة حتى كان الأعمش" سليمان بن مهران، "إذا كان على غيرها تيمم" لأنه بدل الوضوء، حيث فقد لشدة اعتنائه بالحديث، "ولا شك أن حرمته صلى الله عليه وسلم، وتعظيمه وتوقيره بعد مماته عند ذكره وذكر حديثه، وسماع اسمه وسيرته، كما كان في حياته" ولذا استحبت الصلاة عليه كلما ذكر صلى الله عليه وسلم، "والله أعلم".
زاد في الشفاء: وكان مالك يكره أن يحدث في الطريق، أو هو قائم، وقال: أحب أن أفهم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال ابن المبارك: كنت مع مالك إل العقيق، فسألته عن حديث فانتهرني، وقال: كنت في عيني أجل من أن تسألني عن الحديث، ونحن نمشي، وسأله جرير بن عبد الحميد القاضي، عن حديث، وهو قائم، فضربه عشرين سوطًا، ثم أشفق عليه، فحدثه عشرين حديثًا، فقام هشام: وددت لو زادني سياطًا، ويزيدني حديثًا.(7/310)
ومنها: أنه يكره لقارئ حديثه أن يقوم لأحد، قال ابن الحاج في "المدخل": لأنه قلة أدب مع النبي صلى الله عليه وسلم وقلة احترام وعدم مبالاة أن يقطع حديثه لأجل غيره، فكيف لبدعه، وقد كان السلف لا يقطعون حديثه ولا يتحركون إن أصابهم الضرر في أبدانهم ويتحملون المشقة التي تنزل بهم إذ ذاك التحديث احترامًا لحديث نبيهم صلى الله عليه وسلم.
وحسبك ما وقع لمالك -رحمه الله- في لسع العقرب له سبع عشر مرة، وهو لم يتحرك، وتحمله للسعها توقيرًا لجناب حديثه صلى الله عليه وسلم أن يكون يقرأ وهو يتحرك لضر أصابه، مع أنه معذور فيما وقع، فكيف بالحركة والقيام إذ ذاك لا لضرورة بل لبدعة، لا سيما إذا انضاف إلى ذلك ما لا ينبغي من الكلام المعتاد، انتهى.
ومنها أن قراء حديثه لا تزال وجوههم نضرة، وأن قراء حديثه اختصوا بالتلقيب بالحفاظ.
__________
"ومنها: أنه يكره لقارئ حديثه" دون غيره من العلوم "أن يقوم لأحد، قال ابن الحاج في المدخل: لأنه" أي: القيام "قلة أدب مع النبي صلى الله عليه وسلم وقلة احترام وعدم مبالاة أن" أي: بأن "يقطع حديثه لأجل غيره، فكيف لبدعه" وهي القيام، "وقد كان السلف لا يقطعون حديثه ولا يتحركون إن أصابهم الضرر في أبدانهم ويتحملون المشقة التي تنزل بهم إذ ذاك" أي: وقت "التحديث احترامًا لحديث نبيهم صلى الله عليه وسلم، وحسبك ما وقع لمالك رحمه الله في لسع العقرب له سبع عشرة" وفي الشفاء: ست عشرة "مرة"، فصار يصفر ويتلوى حتى تم المجلس وتفرق الناس، وقال: صبرت للنبي صلى الله عليه وسلم، ولا ينافي قوله: "وهو لم يتحرك" لأن المراد حركة عنيفة لا اللالتواء، "وتحمله للسعها توقيرًا لجناب حديثه أن يكون يقرأ وهو يتحرك لضر أصابه، مع أنه معذور فيما وقع، فكيف بالحركة والقيام إذ ذاك لا لضرورة بل لبدعة، لا سيما إذا انضاف إلى ذلك ما لا ينبغي من الكلام المعتاد" نحو: ما حالكم أنتم طيبون، "انتهى" كلام ابن الحاج.
"ومنها: أن قراء حديثه لا تزال وجوههم نضرة" أي: حسنة ذات بهجة وسرور لقوله صلى الله عليه وسلم: "نضر الله امرأ، سمع مقالتي فوعاها، فأداها كما سمعها". رواه أحمد والترمذي وغيرهما بأسانيد صحيحة، بل قال الحافظ: إنه مشهور، وعده بعضهم من المتواتر، لأنه ورد عن أربعة وعشرين صحابيًا وسردهم، "وأن قراء حديثه اختصوا بالتلقيب بالحفاظ" والحافظ من حفظ مائة ألف حديث متنًا وإسنادًا، ولو بتعدد الطرق والأسانيد، أو من روى ما يحتاج إليه.(7/311)
وأمراء المؤمنين من بين سائر العلماء.
ومنها أنه تثبت الصحبة لمن اجتمع به صلى الله عليه وسلم لحظة، بخلاف التابعي مع الصحابي، فلا تثبت إلا بطول الاجتماع معه.
__________
وروى ابن أبي حاتم عن الزهري، قال: لا يولد الحافظ إلا في كل أربعين سنة، "وأمراء المؤمنين" في الحديث"من بين سائر العلماء" من المفسرين والفقهاء وغيرهم، واختصوا أيضًا بأنهم خلفاؤه لقوله صلى الله عليه وسلم: "اللهم ارحم خلفائي الذين يأتون من بعدي، الذين يروون أحاديثي وسنتي، ويعلمونها الناس" رواه الطبراني، ويقع في بعض النسخ تأخير هذه عن التي بعدها، وتقديمها أنسب كما لا يخفى.
"ومنها" أي فضائله التي اختص بها عن أمته، "أنه تثبت الصحبة لمن اجتمع له صلى الله عليه وسلم" وإن لم يره لعارض كعمى، ولو بلا مجالسة ومكالمة ذكرًا أو أنثى، إنسيًا أو جنيًا، روى عنه أم لا، مميزًا أم لا، فدخل من حنكه، أو مسح وجهه، أو تفل فيه، وهو رضيع على الأصح لكن أحاديث هؤلاء من قبيل مراسيل كبار التابعين، كما بينه الحافظ، ثم هذه صفة في الحقيقة لأصحابه، لكن لما كانت بركته بتأثيره فيهم، عدت من خصائصه أو التقدير، ومنها نور النبوة المفاض على من صبحه، وقد يكون هذا أولى، لأن السياق في خصائصه كما قرر شيخنا. "لحظة" مؤمنًا في حياته، وأما من رآه بعد موته وقبل دفنه، فالراجح أنه ليس بصحابي، وإلا لعد من اتفق أن يرى جسده المكرم، وهو في قبره، ولو في هذه الأعصار، وكذلك من كشف له عنه من الأولياء، فرآه كذلك على طريق الكرمة إذ حجة من أثبت الصحبة لمن رآه قبل دفنه أنه مستمر الحياة، وهذه الحياة ليست دنيوية، وإنما هي أخروية، لا تعلق لها بأحكام الدنيا، فإن الشهداء أحياء، ومع ذلك، فالأحكام المتعلقة بهم بعد القتل، جارية على أحكام غيرهم من الموتى، وكذا المراد بهذه الرؤية من اتفقت له، وهو يقظان، أما منامًا، فهو وإن كان رآه حقًا، فذلك مما يرجع إلى الأمور المعنوية، لا الأحكام الدنيوية، فذلك لا يعد صحابيًا، ولا يجب عليه أن يعمل بما أمره به في تلك الحالة، قاله الحافظ.
وقال البقاعي: يخرج من التعريف من رآه بعد الموت وقبل الدفن، كأبي ذؤيب الهزلي، فإن الإخبار الذي هو معنى النبوة انقطع، وأيضًا لا يعد ذلك لقيًا عرفًا، وقد صرحوا بأن عدم جعله صحابيًا أرجح، انتهى، فإن ارتد ومات عليها، فلا يسمى صحابيًا، فإن عاد، فقولان أطبق المحدثون على عد من وقع له ذلك؛ كالأشعث بن قيس الكندي في الصحابة، وعلى إخراج أحاديثهم في المسانيد، ويأتي تمام ذلك إن شاء الله تعالى في المقصد السابع، "بخلاف التابعي مع الصحابي، فلا تثبت" التابعية "إلا بطول الاجتماع معه" عرفًا، بحيث يعده ممن تلقى عن(7/312)
على الصحيح عند أهل الأصول، والفرق عظم مرتبة النبوة ونورها، فمبجرد ما يقع بصره على الأعرابي الجلف ينطق بالحكمة.
ومنها أن أصحابه كلهم عدول، لظواهر الكتاب والسنة، فلا يبحث عن عدالة أحد منهم.
__________
الصحابي، وضبط ما قاله "على الصحيح عند أهل الأصول" لا المحدثين، فالأصح عندهم؛ كما عند ابن الصلاح والنووي: أنه من لقي الصحابي كما قاله الحاكم وغيره.
قال العراقي: وعليه عمل الأكثر، كمسلم وابن حبان وإن لم يسمع من الصحابي، ولم يميز، واشترط ابن حبان تمييزه، وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى الصحابة والتابعين بقوله: "طوبى لمن رآني وآمن بي، وطوبى لمن رأى من رآني" ... الحديث، فاكتفى فيهما بمجرد الرؤية، انتهى باختصار، واختاره أيضًا الحافظ بن حجر، وهو صريح في أن فضل التابعية يحصل بمجرد اللقى والرؤية، وإن كانت روايته عن ذلك الصحابي الذي رآه لا تصح، إلا إذا ثبت سماعه منه، وإلا فهي منقطعة كما بين في علوم الحديث، ومن عكس هذا فقد وهم.
"والفرق" على ما صححه الأصوليون, ووافقهم طائفة من المحدثين، كالخطيب، "عظم مرتبة النبوة" أي: نبوته قال عهدية، أو عوض عن المضاف إليه، وجعلها جنسية يقتضي مشاركة الأنبياء له في ذلك، وإن لم يكن رسولا، ويحتاج لنقل صريح لعدم ثبوت الخصائص بالاحتال "و" لعظم "نورها، فمبجرد ما" مصدرية "يقع بصره على الأعرابي الجلف" بالكسر، أي: الجافي، ووقع بصره تمثيل لا تقييد، فلو رأى النبي على بعد، ولم يره النبي صلى الله عليه وسلم، كان صحابيًا "ينطق بالحكمة" لشرف منزلته، فيظهر أثر نوره في قلب من لقيه، وعلى جوارحه، فالاجتماع به يؤثر من النور القلبي أضعاف ما يؤثر الاجتماع الطويل بالصحابي وغيره، ولا يشترط إيمان التابعي وقت اجتماع بالصحابي، قال البقاعي: وإنما اشترط في الصحبة الإيمان لشرفها، فاحتيط لها، ولأنه تعالى شرط في الصحابة كونهم مع النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ} ولا يكونون معه إلا إذا آمنوا به، انتهى.
نعم، لو أسلم بعدما لقيه كافرًا، وحدث ما سمعه منه حالتئذ قبل، وإن لم يكن صحابيًا. قال العراقي:
وقبلوا من مسلم تحملا ... في كفره كذا صبي حملا
"ومنها: أن أصحابه كلهم عدول" بتعديل الله تعالى وتعديله عليه الصلاة والسلام "لظواهر الكتاب" نحو: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ} الآية، "والسنة" فتقبل رواياتهم ولو كان حجة لفعلهم كرواية علي قتل الخوارج وشهادتهم لا ثبوت عصمتهم واستحالة المعصية عليهم؛ كما نص عليه ابن الأنباري وغيره, وأشار إليه بقوله: "فلا يبحث عن عدالة أحد منهم"(7/313)
كما يبحث عن سائر الرواة. قال الله تعالى خطابًا للموجودين حينئذ: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143] ، أي: عدولا، وقال عليه السلام:
__________
في شهادة ولا رواية "كما يبحث عن سائر الرواة" وغيرهم لأنهم خير الأمة ومن طرأ له منهم قادح كسرقة وزنا عمل بمقتضاه، ولكن لا يفسقون بما يفسق به غيرهم كما ذكره الحلال المحلي في شرح الجوامع فتقبل رواياتهم وشهاداتهم، ولو وقعت كبيرة من بعضهم أقيم حدها أم لا؟ وإن لم يبلغنا توبته. ومن فوائد عدالتهم مطلقًا أنه إذا قيل عن رجل من أصحاب النبي، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم كان حجة كتعيينه باسمه بخلاف غيرهم فلا يقبل المبهم لاحتمال أنه ليس عدلا وسواء من لابس الفتنة وغيره على المختار طال اجتماعهم به أو قصر، وقول المازري في شرح البرهان: لسنا نعني بعدالة الصحابة كل من رآه يومًا أو زاره أو اجتمع به لغرض وانصرف عن قرب، بل الذين لازموه وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه. قال العلائي الحافظ: غريب لا يواف عليه، والجمهور على التعميم، انتهى. ويؤيد العموم رواية الأئمة أحاديثهم مطلقًا بدون تردد مع ورود النهي عن روايته عن غير العدل، قال صلى الله عليه وسلم: "لا تأخذوا الحديث إلا عمن تجوزون شهادته"، رواه الخطيب وغيره عن ابن عباس، وقال ابن سيرين: هذا الحديث دين فانظروا عمن تأخذون دينكم. وقال مالك: لا تحمل العلم عن أهل البدع، ولا تحمله عمن لم يعرف بالطلب، ولا عمن يكذب في حديث الناس، وإن كان في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يكذب، رواه ابن عساكر، وكان عروة بن الزبير يسمع الحديث يستحسنه ولا يرويه لكونه لا يثق ببعض رواته لئلا يؤخذ عنه رواه الشافعي، فلو لم تكن الصحابة كلهم عدولا لامتنع مالك وغيره من الأئمة عن رواية كثير منهم.
"قال الله تعالى خطابًا للموجودين حينئذ" يعني الصحابة: {وَكَذَلِكَ} أي: كما هديناكم إلى صراط مستقيم أو جعلنا قبلتكم أفضل القبل، {جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} ، أي عدولا" مزكين بالعلم والعمل أو خيارًا، وكذا قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} ، قال الحافظ العراقي: قيل اتفق المفسرون على أن الخطاب في الآيتين للصحابة الموجودين، انتهى. لكن البيضاوي والجلال جعلا الخطاب لأمة محمد الشامل لهم ولمن بعدهم إلى يوم القيامة، ويؤيده حديث البخاري وغيره في جحد الأمم تبليغ أنبيائهم فيؤتى بأمة محمد فيشهدون بالبلاغ ويزكيهم النبي صلى الله عليه وسلم ويمكن الجمع بأن الخطاب للصحابة حقيقي لوجودهم، وإن كان المراد ما يشملهم وغيره لاشتراك الجميع في العلم.
"وقال عليه السلام" فيما أخرجه الشيخان وأصحاب السنن من حديث أبي سعيد الخدري، وفي بعض طرقه عند مسلم، قال: كان بين خالد بن الوليد وبين عبد الرحمن بن عوف(7/314)
"لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبًا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه".
__________
شيء فسبه خالد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم" وفي رواية: "فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبًا" كل يوم كما زاد في رواية البرقاني، قال: وهي زيادة حسنة: "ما بلغ مد أحدكم" بضم الميم، مكيال معروف، وحكى الخطابي أنه روي بفتح الميم، قال: والمراد به الفضل والطول ذكره الحافظ وتوقف الدماميمي، فقال: لا أدري هل أراد أنه روى في البخاري أو رواية في الحديث في الجملة، فينبغي تحريره، انتهى. وهو تشكيك لا طائل تحته، فالمتبادر أنه في البخاري. "ولا نصيفه" أي: المد من كل شيء يوزن رغيف، أي: نصفه كما يقال: عشر وعشير وثمن
.وثمين، وقيل: النصيف مكيال دون المد ذكره الفتح، وقال تلميذه شيخ الإسلام زكريا بفتح النون وضمها مصغرًا، أي: نصفه والنصف مثلث النون، فمجموع ذلك خمس لغات، انتهى. قال البيضاوي: معنى الحديث لا ينال أحدكم بإنفاق مثل أحد ذهبًا من الأجر والفضل ما نال أحدهم بإنفاق مد أو نصفه وسبب التفاوت ما يقارن الأفضل من مزيد الإخلاص وصدق النية، قال الحافظ: وأعظم من ذلك في سبب الأفضلية عظم موقع ذلك لشدة الاحتياج إليه وأشار بالأفضلية بسبب الاتفاق إلى الأفضلية بسبب القتال كما في آية: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ} ، ففيها إشارة إلى موقع السبب الذي ذكرته وذلك أن الإنفاق والقتال كان قبل فتح مكة عظيمًا لشدة الحاجة إليه وقلة المعتنى به بخلاف ما وقع بعد ذلك لأن المسلمين كثروا بعد الفتح ودخل الناس في دين الله أفواجًا فلا يقع ذلك الموقع المتقدم، انتهى. وسبقه الطيبي، فقال: يمكن أن يقال فضيلتهم بحسب فضيلة إنفاقهم وعظم موقعها؛ كما قال تعالى: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ} ، وهذا في الإنفاق، فكيف بمجاهدتهم وبذلهم أرواحهم ومهجهم؟ قال الحافظ: وفي قوله: "فلو أن أحدكم" إشعار بأن المراد بقوله أصحابي أصحاب مخصصون وإلا فالخطاب كان للصحابة، وقد قال: لو أن أحدكم أنفق، وهذا مثل قوله تعالى: {لَا يَسْتَوِي} الآية، ومع ذلك فنهي بعض من أدرك النبي صلى الله عليه وسلم وخاطبه بذلك عن سب من سبقه يقتضي زجر من لم يدركه ولم يخاطبه عن سب من سبقه من باب أولى، وغفل من قال -يعني الكرماني- الخطاب بذلك لغير الصحابة، والمراد من سيوجد من المسلمين المفروضين في العقل تنزيلا لمن سيوجد منزلة الموجود للقطع بوقوعه، ووجه التعقب عليه وقوع التصريح في نفس الخبر بأن المخاطب بذلك خالد بن الوليد وهو من الصحابة الموجودين إذ ذاك بالاتفاق، انتهى. وتعقبه العيني بأن الحديث الذي فيه قصة خالد لا يدل على أنه المخاطب بذلك الخطاب، وإن سلمنا أنه المخاطب فلا نسلم أنه كان إذ ذاك صحابيًا بالاتفاق إذ يحتاج إلى دليل، ولا يظهر ذلك إلا بالتاريخ ولم يجب(7/315)
وقال عليه السلام: "خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم" في آيات كثيرة وأحاديث تقتضي تعديلهم.
ولذلك: أجمع من يعتد به على ذلك، سواء في التعديل من لابس الفتنة منهم وغيره.
__________
الحافظ في انتقاض الاعتراض عن هذا التعقب لسقوطه، فإن عدم تسليمه صحبته حينئذ مع وجود الاتفاق عليها مجرد مكابرة وعناد، وقال في خطبة الانتقاض: أنه إنما يجيب عن الاعتراض الذي له نوع تماسك، وقال الشيخ زكريا: الخطاب للحاضرين من الصحابة ولغيرهم ولو من غير الصحابة ففيه تغليب الحاضر على الغائب، انتهى.
"وقال عليه السلام" فيما رواه الشيخان وغيرهما من حديث ابن مسعود: "خير الناس" أهل "قرني" أي: عصري من الاقتران في الأمر الذي يجمعهم، يعني: أصحابي ومن رآني أو من كان حيًا في عهدي. قال الحافظ: ومدتهم من البعثة مائة وعشرون سنة أو دونها أو فوقها بقليل على الخلاف في وفاة أبي الطفيل آخر من مات من الصحابة، وإن اعتبر ذلك من بعد وفاته صلى الله عليه وسلم كان مائة سنة أو تسعين أو سبعًا وتسعين، وفي رواية للشيخين: "خير أمتي قرني ثم الذين يلونهم" أي: القرن الذي بعدهم وهم التابعون ومدتهم نحو سبعين أو ثمانين سنة، إن اعتبر من سنة مائة، "ثم الذين يلونهم" وهم أتباع التابعين نحوًا من خمسين إلى حدود العشرين ومائتين، قال الحافظ: فظهر بهذا أن مدة القرن تختلف باختلاف أعمار كل زمان، واتفق أن آخر من كان من أتباع التابعين ممن يقبل قوله: من عاش إلى حدود العشرين ومائتين، وفي هذا الوقت ظهرت البدع ظهورًا فاحشًا وأطلقت المعتزلة ألسنتها ورفعت الفلاسفة رءوسها، وامتحن العلماء ليقولوا بخلق القرآن وتغيرت الأحوال تغيرًا شديدًا ولم يزل الأمر في نقص إلى الآن، وظهر قوله صلى الله عليه وسلم، ثم يفشوا الكذب ظهورًا بينًا حتى يشمل الأقوال والأفعال والمعتقدات والله المستعان. قال: ووقع في رواية أبي الزبير عن جابر عند مسلم ذكر طبقة رابعة وهي رواية شاذة وأكثر الروايات مقتصر على ذكر الثلاثة ثم الجمهور على أن ذا الفضل باعتبار الإفراد، وقال ابن عبد البر باعتبار المجموع، ويأتي إن شاء الله تعالى مزيد لذلك في المقصد السابع وقبله في خصائص الأمة قريبًا، "في" أي: مع "آيات كثيرة وأحاديث" كثيرة جدًا "تقتضي تعديلهم، ولذلك أجمع من يعتد به على ذلك" من المسلمين وهم أهل السنة والجماعة؛ كما في الاستيعاب. "سواء في التعديل من لابس الفتنة" الواقعة حين قتل عثمان كالجمل وصفين، "منهم وغيره" وهو من لم يلابسها خلافًا لمن قال: لا يحكم بعدالة من لابسها حتى يبحث عنه؛ لأن أحد الفريقين فاسق. وقيل: يقبل الداخل فيها إذا انفرد لأن الأصل العدالة، وشككنا في ضدها ولا يقبل إذا خولف(7/316)
لوجوب حسن الظن بهم، حملا للملابس على الاجتهاد، ونظرًا إلى ما تمهد لهم من المآثر، من امتثال أوامره عليه السلام، وفتحهم الأقاليم، وتبليغهم عنه الكتاب والسنة، وهدايتهم الناس، مواظبتهم على الصلاة والزكاة وأنواع القربات، مع الشجاعة والبراعة والكرم والأخلاق الحميدة التي لم تكن في أمة من الأمم المتقدمة، ولا يكون أحد بعدهم مثلهم في ذلك. كل ذلك بحلول نظره عليه الصلاة والسلام.
وأفضلهم عند أهل السنة إجماعًا: أبو بكر ثم عمر، وأما بعدهما: فالجمهور على أنه عثمان ثم علي. وسيأتي مزيد لذلك إن شاء الله تعالى في المقصد السابع.
__________
لتحقق إبطال أحدهما من غير تعيين. وقيل: القول بالعدالة مختص بمن اشتهر منهم ومن عداهم كسائر الناس. "لوجوب حسن الظن بهم حملا للملابس على الاجتهاد" الواقع منه المقتضى لجواز فعله، بل قد يؤديه إلى وجوبه ولا التفات إلى ما يذكره الإخباريون فأكثره لم يصح، وما صح فله تأويل صحيح, وما أحسن قول عمر بن عبد العزيز: تلك دماء طهر الله منها سيفنا فلا نخضب بها ألسنتنا. "ونظرًا إلى ما تمهد لهم من المآثر" الجليلة "من امتثال أوامره عليه السلام وفتحهم الأقاليم" بعده، "وتبليغهم عنه الكتاب والسنة وهدايتهم الناس مع مواظبتهم على الصلاة والزكاة وأنواع القربات مع الشجاعة والبراعة" الفضل في العلم والشجاعة وغيرهما، "والكرم والأخلاق الحميدة التي لم تكن في أمة من الأمم المتقدمة، ولا يكون أحد بعدهم مثلهم في ذلك، كل ذلك بحلول نظره عليه الصلاة والسلام" وقد قال محمد بن كعب القرظي: أوجب الله لجميع الصحابة الجنة محسنهم منهم ومسيئهم. قال ابن جرير: وورد نص النبي صلى الله عليه وسلم بالبشارة والشهادة بالجن لغير العشرة كالحسنين وأمهما وجدتهما وجمع أكثر من أن يحوى، انتهى. وأشار بذلك إلى أن لا تدافع بينه وبين تبشير العشرة في حديث واحد لأن العدد لا ينفي الزائد. وروى الترمذي وصححه الضياء عن بريدة رفعه: "ما من أحد من أصحابي يموت بأرض إلا بعث قائدًا ونورًا لهم يوم القيامة"، أي: إلا بعث ذلك الصحابي قائدًا لأهل تلك الأرض إلى الجنة ونورًا لهم يسعى بين أيديهم، فيمشي في ضوئه، وإطلاقه شامل للذكر وغيره وطول صحبته وملازمته ولغيره وقد عد هذا بعضهم من خصائصه. "وأفضلهم عند أهل السنة إجماعًا" منهم: "أبو بكر، ثم عمر" وإلزامًا للشيعة بما صح عن علي أنهما خير منه، "وأما بعدهما فالجمهور على أنه عثمان ثم علي" ومنهم من قدمه، ومنهم من وقف. "وسيأتي مزيد لذلك إن شاء الله تعالى في المقصد السابع" مع فوائد نفيسة.(7/317)
ومنها أن المصلي يخاطبه بقوله: السلام عليك أيها النبي، ولا يخاطب غيره.
ومنها أنه كان يجب على من دعاه وهو في الصلاة أن يجيبه، ويشهد له حديث أبي سعيد بن المعلى: كنت أصلي في المسجد، فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم أجبه. الحديث، وفيه: "ألم يقل الله تعالى: {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال: 24] "، فإجابته فرض، يعصي المرء بتركها.
وهل تبطل الصلاة أم لا؟ صرح جماعة من أصحابنا الشافعية وغيرهم: أنها لا تبطل.
__________
"ومنها: أن المصلي يخاطبه بقوله: السلام عليك أيها النبي" ورحمة الله وبركاته؛ كما في حديث التشهد والصلاة صحيحة، "ولا يخاطب غيره" من الخلق ملكًا أو شيطانًا أو جمادًا أو ميتًا، ولا ينافيه قوله صلى الله عليه وسلم لإبليس: "ألعنك بلعنة الله"؛ لأنه خصوصية أو خطاب نفسي لا لما قيل إنه قبل تحريم الكلام في الصلاة، لأنه كان بالمدينة وتحريمه قبلها.
"ومنها: أنه كان يجب على من دعاه وهو في الصلاة أن يجيبه، ويشهد له حديث أبي سعيد" بكسر العين "ابن المعلى" الأنصاري المدني، قا ابن عبد البر: اسمه الحارث بن نفيع بن المعلى على الأصح، ومن قال رافع بن المعلى فقد وهم؛ لأنه قتل ببدر مات سنة أربع وسبعين، وقيل: سنة ثلاث. قالوا: وعاش أربعًا وستين سنة، قال في الإصابة: وهو خطأ، فإنه يستلزم أن تكون قصته مع النبي صلى الله عليه وسلم وهو صغير وسياق الحديث يأبى ذلك، روى البخاري في تفسير الفاتحة عنه، قال: "كنت أصلي في المسجد فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم أجبه" وللبخاري في تفسير الأنفال فلم آته حتى صليت ثم أتيته، فقلت: يا رسول الله! إني كنت أصلي، فقال: "ألم يقل الله {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} ، ثم قال: "لأعلمنك سورة هي أعظم سورة في القرآن قبل أن تخرج من المسجد" ثم أخذ بيدي فلما أراد أن يخرج، قلت له: ألم تقل: "لأعلمنك سورة هي أعظم سورة في القرآن"، قال: "الحمد لله رب العالمين هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته". هذا لفظه، فاقتصر المصنف على حاجته منه مشيرًا إلى ما حذفه بقوله: "الحديث وفيه: "ألم يقل الله {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} " من أمر الدين لأنه سبب للحياة الأبدية، "فإجابته فرض يعصي المرء بتركها" اتفاقًا، "و" اختلف العلماء "هل تبطل الصلاة" بذلك "أم لا؟ صرح جماعة من أصحابنا الشافعية وغيرهم" كالعلامة بهرام من المالكية في طائفة منهم "أنها لا تبطل" ولو فرضًا بل هي صحيحة ولو أجابه بالفعل فتجب ولا تبطل على الراجح، قال الإسنوي: وهو المتجه. قال(7/318)
وفيه بحث لاحتمال أن تكون إجابته واجبة مطلقًا، سواء كان المخاطب مصليًا أو غير مصل. أما كونه يخرج بالإجابة أو لا يخرج فليس في الحديث ما يستلزمه، فيحتمل أن تجب الإجابة ولو خرج المجيب من الصلاة، وإلى ذلك جنح بعض الشافعية، والله أعلم.
ومنها: أن الكذب عليه ليس كالكذب على غيره.
__________
الخيضري: ومحله إذا اقتصر على لفظ يفهم منه الجواب كنعم أو لبيك، فإن زاد بطلت فيما يظهر، انتهى. لكن قال الرملي: لا فرق بين قليل الإجابة وكثيرها بالقول والفعل، فلو سأل مصليًا عن شيء وجبت إجابته وصحت صلاته كما ألحقه بعض بدعائه. أما لو ابتدأه المصلي بالكلام فإن تعلق بنحو الصلاة والسلام عليه اغتفر، وإلا كجاءك فلان أو نصرك الله يوم بدر، فالمتجه البطلان؛ لأنه كلام أجنبي غير محتاج إليه، ولا دعاء فيه للنبي صلى الله عليه وسلم ولا جواب. "وفيه بحث لاحتمال أن تكون إجابته واجبة مطلقًا سواء كان المخاطب مصليًا أو غير مصلٍ. أما كونه يخرج من الصلاة بالإجابة" لبطلانها، "أو لا يخرج" لعدمه "فليس في الحديث" أي: حديث ابن المعلى المذكور "ما يستلزمه" ويدل عليه، "فيحتمل أن تجب الإجابة ولو خرج المجيب من الصلاة" وبعض المالكية أيضًا، وهو ضعيف والمعتمد في المذهبين الصحة، "والله أعلم" بالحكم. وهذا أخذه المصنف من فتح الباري، وزاد في الأنموذج: وكذلك الأنبياء، أي: تجب إجابتهم ولا تبطل الصلاة. وفي التحفة: وألحق به عيسى إذا نزل ولعل قائله غفل عن جعل هذا من خصائص نبينا، أو رأى أنه من خصائصه على الأمة لا على بقية الأنبياء وهو بعيد من كلامهم، وكذا قال: ويوافقه قول بعض تسن إجابة عيسى وتبطل بها الصلاة، والسيوطي حجة في النقل، وقد جزم بن الأنبياء مثله.
"ومنها: أن الكذب" أي: الإخبار عنه بشيء على خلاف ما هو "عليه" ولو في غير الأحكام كترغيب وترهيب ووعظ "ليس كالكذب على غيره" كما قال صلى الله عليه وسلم: "إن كذبًا علي ليس ككذب على أحد، فمن كذب علي متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار"، أخرجه الشيخان من حديث المغيرة وأبو يعلى والبزار وكثيرون عن سعيد بن زيد، وظاهره حتى على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وكان حكمة ذلك أنه يصير شرعًا مستمرًا، لأنه بصدد بعثة نبي بعده تبين ما كذب عليه بخلاف نبينا فلا نبي بعده، فمن قال الأنبياء مثله فيما يظهر فيه نظر للفرق، وأيضًا فالخصائص إنما تثبت بدليل صحيح لا بالاحتمال ولا مفهوم لقوله: "علي"، لأنه لا يتصور أن يكذب له لنهيه عن مطلق الكذب، وقد اغتر قوم من الجهلة كالكرامية فجوزوا ووضعوا أحاديث(7/319)
..............................................................
__________
في الترغيب والترهيب، وقالوا: إنه كذب له لا عليه، وهذا جهل باللغة العربية وما دروا أن قوله صلى الله عليه وسلم: "من نقل عني ما لم أقل يقتضي الكذب على الله تعالى"؛ لأنه إثبات حكم سواء كان في الإيجاب أو الندب، وكذا مقابلهما وهو الحرام والمكروه، وقد اشتد النكير على من كذب على الله في قوله: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ} ، فسوى بين من كذب عليه وبين الكافر. وقال: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ} ، والآيات في ذلك متعددة، فلذا شدد في الكذب عليه صلى الله عليه وسلم وتمسك بعضهم بما ورد في بعض طرق الحديث من زيادة لم تثبت، وهي ما أخرجه البزار عن ابن مسعود: "من كذب علي ليضل به الناس" الحديث، ورجح الدارقطني والحاكم إرساله، ورواه الدارمي عن يعلى بن مرة بسند ضعيف وعلى تقدير ثبوته فليست اللام للعلة بل للصيرورة؛ كقوله تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ} ، والمعنى أن مآل أمره إلى الإضلال أو هو من تخصيص بعض أفراد العموم بالذكر فلا مفهوم له؛ كقوله: {لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} ، {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ} ، فقتلهم ومضاعفة الربا والإضلال إنما هو لتأكيد الأمر فيها لا لاختصاص الحكم؛ كما قاله الحافظ رحمه الله تعالى: قال: وقوله صلى الله عليه وسلم: "من كذب علي متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار" رواه عنه خلق كثير من الصحابة، واعتنى جماعة من الحفاظ بجمع طرقه، فأول من وقفت على كلامه في ذلك علي بن المديني وتبعه يعقوب بن شيبة، فقالا: إنه ورد عن عشرين صحابيًا ثم إبراهيم الحربي والبزار، فقالا: ورد عن أربعين وزاد ابن صاعد قليلا. وقال الصيرفي: رواه ستون، وجمع الطبراني فزاد قليلا. وقال ابن منده: رواه أكثر من ثمانين، وجمع ابن الجوزي طرقه في مقدمة الموضوعات فجاوز تسعين، وبه جزم ابن دحية. وقال أبو موسى المديني: يرويه مائة صحابي وجمعها بعده الحافظ المزي وأبو علي البكري، وهما متعاصران، فوقع لكل ما ليس عند الآخر ومجموع ما ذكراه مائة على ما فيها من صحيح وحسن وضعيف وساقط مع أن فيها ما هو في مطلق ذم الكذب عليه من غير تقييد بهذا الوعيد الخالص ونقل النووي أنه جاء عن مائتين من الصحابة، ولأجل كثرة طرقه أطلق جماعة أنه متواتر، ونازع بعض مشائخنا في ذلك بأن شرط التواتر استواء طرفيه وما بينهما في الكثرة، وليست موجودة في كل طريق بمفردها.
وأجيب: بأن المراد بإطلاقه كونه متواترًا رواية المجموع عن المجموع من ابتدائه إلى انتهائه في كل عصر، وهذا كاف في إفادة العلم وأيضًا فطريق أنس وحدها قد رواها عنه العدد الكثير، وتواترت عنهم. وحديث علي رواه عنه ستة من مشاهير التابعين، وكذا حديث ابن مسعود، وأبي هريرة، وعبد الله بن عمرو؛ فلو قيل في كل منها أنه متواتر عن صحابيه لكان(7/320)
ومن كذب عليه لم تقبل روايته أبدًا وإن تاب، فيما ذكره جماعة من المحدثين.
وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن رجل عن سعيد بن جبير أن رجلا كذب على النبي صلى الله عليه وسلم.
__________
صحيحًا، فإن العدد المعين لا يشترط في المتواتر بل ما أفاد العلم كفى، والصفات العلية في الرواية تقوم مقام العدد أو تزيد عليه كما قررته في نكت علوم الحديث وشرح النخبة، وبيت هناك الرد على من ادعى أن مثال المتواتر لا يوجد إلا في هذا الحديث فأمثلته كثيرة؛ كحديث: "من بنى لله مسجدًا" والمسح على الخفين ورفع اليدين والشفاعة والحوض ورؤية الله في الآخرة والأئمة من قريش، وغير ذلك.
وأما ما نقله البيهقي عن الحاكم ووافقه أنه جاء من رواية العشرة، وليس في الدنيا حديث أجمع العشرة على روايته غيره، فقد تعقبه غير واحد؛ لكن الطرق عنهم موجودة فيما جمعه ابن الجوزي فمن بعده، والصحاح منها علي، والزبير، والحسان، وطلحة، وسعد، وسعيد، وأبو عبيد. ومن الضعيف المتماسك طريق عثمان وبقيتها ضعيف أو ساقط ويخالفه قوله: قبل، وصح أيضًا في غير الصحيحين من حديث عثمان بن عفان، فإنه قال: أولا أنه في الصحيحين من حديث علي، وأنس، وأبي هريرة، والمغيرة، والبخاري عن الزبير وواثلة بن الأسقع، وعبد الله بن عمرو بن العاصي، ومسلم عن أبي سعيد، وصح أيضًا في غير الصحيحين عن طلحة وسعيد بن أبي زيد، وأبي عبيدة، ومعاذ بن جبل، وعقبة بن عامر، وعمران، وسلمان، ومعاوية، ورافع بن خديج، وطارق الأشجعي، والسائب بن يزيد، وخالد بن عرفطة، وأبي أمامة، وأبي قرصافة، وأبي موسى، وعائشة؛ فهؤلاء ثلاثون من الصحابة. وورد أيضًا عن نحو خمسين غيرهم بأسانيد ضعيفة، وعن نحو عشرين آخرين بأسانيد ساقطة، انتهى. وقد استبعد العراقي في شرح الألفية قول النووي: جاء عن مائتين من الصحابة. قال السخاوي: ولعلها تصحفت من ثمانين، وهذا أقرب من قول شيخنا لعله تصحفه من مائة، انتهى. ونقل بعض عن ابن دحية أنه جاء من أربعمائة طريق خلاف نقل الحافظ عنه أزيد من تسعين وتبعه تلميذه السخاوي.
"ومن كذب عليه لم تقبل روايته" عطف علة على معلول "أبدًا، وإن تاب" بخلاف الكذب على غيره فتقبل إن تاب، "فيما ذكره جماعة من المحدثين" كالإمام أحمد وعبد الله بن الزبير الحميدي شيخ البخاري وابن معين وغيرهم. "وقال عبد الرزاق" بن همام الصنعاني الثقة الحافظ المصنف الشهير: "أخبرنا معمر" بن راشد الأزدي مولاهم البصري نزيل اليمن، ثقة، ثبت، "عن رجل" لم يسم "عن سعيد بن جبير" الأسدي مولاهم الكوفي ثقة ثبت فقيه تابعي روايته عن عائشة وأبي موسى ونحوهما مرسلة قتل بين يدي الحجاج سنة خمس وتسعين وله تسع وأربعون سنة وكونه من أواسط التابعين معلوم عند من له أدنى إلمام بالفن، فمن أين أن سياق المصنف يقتضي أنه صحابي، وليس كذلك. "أن رجلا كذب على النبي صلى الله عليه وسلم" لفظ(7/321)
فبعث عليًا والزبير وقال: "اذهبا فإن أدركتماه فاقتلاه".
ولهذا حكى إمام الحرمين عن أبيه أن من تعمد الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم يكفر.
لكن لم يوافقه أحد من الأئمة على ذلك. والحق أنه فاحشة عظيمة وموبقة كبيرة ولكن لا يكفر بها إلا إن استحله.
__________
رواية عبد الرزاق عن سعيد، قال: جاء رجل إلى ناس من الأنصار، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسلني إليكم وزوجني فلانة، فبعث عليًا والزبير، فقال: "اذهبا فإن أدركتماه فاقتلاه, وما أراكما تدركانه" فوجداه ميتًا من لدغة حية، هذا بقية الحديث. قال البيهقي: وقد سمي هذا الرجل في راية عطاء بن السائب عن عبد الله بن الحارث جدجد الجندعي، وكذا أخرجه ابن منده عن عبد الله بلفظ: أن جديد الجندعي، فذكره وهو بجيمين مضمومتين بينهما دال ساكنة مهملة صحابي كما في الإصابة. "ولهذا" الحديث "حكى إمام الحرمين عن أبيه" الشيخ أبي محمد الجويني، وكان الأولى أن يقول: ولذا قال الجويني كما حكاه ابنه إذ الحديث ليس علة لحكاية الإمام عن أبيه بل علة لقول أبيه بذلك والخطب سهل "أن من تعمد الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم يكفر، لكن" لا حجة في الحديث لضعفه إذ فيه راوٍ مبهم، أي: لم يسم مع أنه مرسل وعلى تقدير صحته فهي قضية عينية يتطرق إليها الاحتمال لكن ليس منه علمه بأنه كافرًا صلى لأنه صحابي كما رأيت، ولذا ضعف إمام الحرمين قول أبيه وضعفه من بعده أيضًا كما في الفتح أيضًا، "لم يوافقه أحد من الأئمة على ذلك" قال ابنه إمام الحرمين: لم أره لأحد من الأصحاب وإنه هفوة عظيمة لكن في الفتح مال ابن المنير إلى اختياره، ووجهه بأن الكاذب عليه في تحليل حرام مثلًا لا ينفك عن استحلال ذلك الحرام أو الحمل على استحلاله واستحلال الحرام كفر، والحمل على الكفر كفر، وفيما قاله نظر لا يخفى، والجمهور على أنه لا يكفي إلا إن اعتقد حل ذلك، انتهى.
"والحق أنه" أي: تعمد الكذب عليه "فاحشة عظيمة" فلو تعمد الكذب ولم يكن في الواقع كذبًا بأن صادف الواقع لم يدخل في الوعيد؛ لأن إثمه من جهة قصده، "وموبقة" مهلكة مصدر وبق "كبيرة، ولكن لا يكفر بها إلا إن استحله" قال بعض: وكلام الجويني محمول على ذلك وفيه نظر إذ لو حمل على ذلك ما خالفه أحد، قال في الفتح: فإن قيل الكذب معصية إلا ما استثنى في الإصلاح وغيره والمعاصي قد توعد عليها بالنار، فما الذي امتاز به الكاذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوعيد على من كذب على غيره، فالجواب من وجهين، أحدهما: إن الكاذب عليه عمدًا يكفر عند الجويني، ثم قال: الثاني إن الكذب عليه كبيرة(7/322)
وقال النووي: لم أر له في أصل المسألة دليلا، ويجوز أن يوجه بأن ذلك جعل تغليظًا وزجرًا بليغًا عن الكذب عليه صلى الله عليه وسلم لعظم مفسدته فإنه يصير شرعًا مستمرًا إلى يوم القيامة بخلاف الكذب على غيره والشهادة، فإن مفسدتهما قاصرة ليست عامة.
ثم قال: وهذا الذي ذكره هؤلاء الأئمة ضعيف، مخالف للقواعد الشرعية: والمختار القطع بصحة توبته وقبول روايته بعدها إذا صحت توبته بشروطها المعروفة.
قال: فهذا هو الجاري على قواعد الشرع، وقد أجمعوا على صحة رواية من كان كافرًا فأسلم، قال: وأجمعوا.
__________
والكذب على غيره صغيرة، فافترقا ولا يلزم من استواء الوعيد في حق من كذب عليه أو كذب على غيره أن يكون مقرهما واحد، أو طول إقامتهما سواء؛ فقد دل قوله صلى الله عليه وسلم: "فليتبوأ" على طول الإقامة فيها بل ظاهره أنه لا يخرج منها لأنه يجعل له منزلا غيره لكن الأدلة القطعية قامت على أن خلود التأبيد مختص بالكافرين، وقد فرق بين الكذب عليه وبين الكذب على غيره، بقوله: "إن كذبًا علي ليس ككذب على أحد"، وقال: "فليتبوأ" أمر بمعنى الخبر أو التهديد أو التهكم أو دعاء، أي: بوأه الله ذلك. وقال الكرماني: يحتمل أنه على حقيقته والمعنى من كذب فليأمر نفسه بالتبوؤ ويلزم عليه كذا قال: وأولها أولاها فقد رواه أحمد بإسناد صحيح عن ابن عمر بلفظ: "يبنى له بيت في النار". قال الطيبي: فيه إشارة إلى معنى القصد في الذنب وجزائه، أي: كما أنه قصد في الكذب التعمد فليقصد في جزائه التبوؤ.
"وقال النووي" في شرح مسلم: "لم أر له" أي: للقو بعدم قبول رواية الكاذب عليه إذا تاب "في أصل المسألة دليلا" يعتد به وخبر ابن جبير ضعيف لا يعتد به وبفرضه يحتمل التأويل، كما مر. "ويجوز أن يوجه بأن ذلك جعل تغليظًا وزجرًا بليغًا عن الكذب عليه صلى الله عليه وسلم لعظم مفسدته فإنه" أي: الكذب عليه إذا قبل ونقل "يصير شرعًا مستمرًا إلى يوم القيامة، بخلاف الكذب على غيره والشهادة فإن مفسدتهما قاصرة ليست عامة" صفة كاشفة، "ثم قال: وهذا الذي قاله هؤلاء الأئمة" من عدم قبول روايته ولو تاب "ضعيف مخالف للقواعد الشرعية" أن التوبة مقبولة، "والمختار القطع" الجزم "بصحة توبته وقبول روايته بعدها إذا صحت توبته بشروطها" وهي الإقلاع عن المعصية والندم على فعلها والعزم على أن لا يعود إليها هذا حذفه من كلام النووي، وأبدله بقوله: "والمعرفة، قال: فهذا هو الجاري على قواعد الشرع" دون ما قاله أولئك الأئمة، "وقد أجمعوا على صحة رواية من كان كافرًا فأسلم، وأجمعوا(7/323)
على قبول شهادته ولا فرق بين الرواية والشهادة في هذا.
قال شيخنا: ويمكن أن يقال: فيما إذا كان كذبه في وضع حديث وحمل عنه ودون أن الإثم غير منفك عنه بل هو لاحق له أبدًا، فإن من سن سنة سيئة عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة، والتوبة حينئذ متعذرة ظاهرًا، وإن وجد مجرد اسمها.
ومنها أنه يحرم نداؤه من وراء الحجرات. قال الله.
__________
على قبول شهادته ولا فرق بين الرواية والشهادة في هذا، قال شيخنا" السخاوي في شرح الألفية تعقبًا على النووي: "ويمكن أن يقال: فيما إذا كان كذبه في وضع حديث وحمل عنه ودون أن الإثم غير منفك عنه بل هو لاحق له أبدًا، فإن من سن سنة سيئة عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة، والتوبة حينئذ متعذرة ظاهرًا، وإن وجد مجرد اسمها" فإنما تصح عند من قال بها بالنظر لإثم الكذب نفسه، لا لما ترتب عليه وتولد منه، قال -أعني السخاوي: ولا يستشكل بقبولها ممن لم يمكنه التدارك برد أو محالة، فالأموال الضائعة لها مرد وهو بيت المال والاعراض قد انقطع تجدد الإثم بسببها فافترقا، وأيضًا فعدم قبول توبة الظالم ربما يكون باعثًا له على الاسترسال والتمادي في غيه فيزداد الضرر به بخلاف الراوي فإنه لو اتفق استرساله فاسمه بالكذب مانع من قبول متجدداته، وأيضًا فقبول توبته قد يشتهر عند من حمل عنه كذبه فيبعثه على التمسك بما رواه عنه، بل قال الذهبي: من عرف بالكذب على الرسول لا يحصل لنا ثقة بقوله إني تبت، يعني كما قيل بمثله في المعترف بالوضع، وكما اتفق لزياد بن ميمون أنه تاب بحضرة ابن مهدي والطيالسي، وقال لهما: أرأيتما رجلا يذنب فيتوب، أليس يتوب الله عليه؟ قالا: نعم، ثم بلغهما أنه نقل عمن اعترف لهما بكذبه في سماعه منه فأتياه، فقال لهما أيضًا: أتوب، ثم بلغهما أيضًا التحديث عنه فتركاه، أخرجه مسلم في مقدمة صحيحه، انتهى.
وقال شيخ الإسلام زكريا: وقد كنت ملت لما قاله النووي، ثم ظهر لي أن الأوجه ما قاله الأئمة لما مر، يعني من الفرق بين الرواية والشهادة، وهو أن الحديث حجة لجميع المكلفين وفي جميع الأعصار، فكان حكمه أغلظ؛ لأن متعلقها عام مبالغة في الزجر عن الرواية له بلا إتقان وعن الكذب فيه عملا بقوله صلى الله عليه وسلم: "إن كذبًا علي ليس ككذب على أحد" قال: ويؤيده قول أئمتنا أن الزاني إذا تاب لا يعود محصنًا ولا يحد قاذفه. وأما إجماعهم على صحة رواية من كان كافرًا فأسلم، فلنص القرآن على غفران ما سلف منه.
"ومنها: أنه يحرم نداؤه من وراء الحجرات" أي: من خارج حجرات، نسائه، "قال الله(7/324)
تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} إذ العقل يقتضي حسن الأدب ومراعاة الحشمة، {وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} ، أي: لكان الصبر خيرًا لهم، أي: لكان الصبر خيرًا من الاستعجال لما فيه من حفظ الأدب وتعظيم رسول الله صلى الله عليه وسلم الموجبين للثناء والثواب.
ومنها أنه يحرم الجهر له بالقول، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} وقال ابن عباس لما نزل قوله تعالى: {لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ} .
__________
تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ} ، بأن أتوها حجرة حجرة، فنادوه أو تفرقوا عليها متطلبين له، لأنهم لم يعلموه بأيها {أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} الآية، محلك الرفيع، وما يناسبه من التعظيم، "إذ العقل يقتضي حسن الأدب ومراعاة الحشمة" عطف سبب على مسبب، " {وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} ، أي: لكان الصبر خيرا من الاستعجال لما فيه من حفظ الأدب، وتعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم الموجبين للثناء والثواب" وهذا نزل في وفد بني تميم، وسبقت قصتهم في المقصد الأول، وفيه تسلية له صلى الله عليه وسلم، وتلميح بالصفح عنهم، خصوصًا بقوله: {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الحجرات: 5] الآية.
"ومنها: أنه يحرم الجهر له بالقول، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ} إذا نطقتم "فوق صوت النبي" إذا نطق، "ولا تجهروا له بالقول" إذا ناجيتموه {كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ} ، بل دون ذلك إجلالا له، {أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} الآية" أي: خشية ذلك بالرفع والجهر المذكورين.
روى البخاري عن ابن أبي مليكة، قال: كاد الخيران أن يهلكا أبو بكر وعمر لما قدم وفد بني تميم، قال أبو بكر: أمر القعقاع بن معبد، وقال عمر: أمر الأقرع بن حابس، فقال أبو بكر لعمر: إنما أردت خلافي، فقال عمر: ما أردت خلافك، فارتفعت أصواتهما عند النبي صلى الله عليه وسلم، فنزلت: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} [الحجرات: 2] الآية، إلى قوله: {عَظِيمٌ} [الحجرات: 3] الآية.
قال ابن أبي مليكة، عن ابن الزبير: فكان عمر بعد إذا حدث النبي صلى الله عليه وسلم، حدثه كأخي السرار، لم يسمعه حتى يستفهمه، ولم يذكر ذلك عن أبيه، يعني أبا بكر.
"وقال ابن عباس: لما نزل قوله تعالى: {لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ} الآية، "كان أبو بكر(7/325)
كان أبو بكر لا يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا كأخي السرار، وروي أنه صلى الله عليه وسلم ما كان يسمع عمر حتى يستفهمه مما يخفض صوته. وكان ثابت بن قيس بن شماس في أذنه وقر، وكان جهوريًا، فلما نزلت تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتفقده ودعاه فقال: يا رسول الله! لقد أنزلت عليك هذه الآية وإني رجل جهير الصوت فأخاف أن يكون عملي قد حبط، فقال عليه الصلاة والسلام: "لست هناك، إنك تعيش بخير وتموت بخير وإنك من أهل الجنة"، قال أنس فكنا ننظر إلى رجل من أهل الجنة يمشي بين أيدينا.
__________
لا يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا كأخي السرار".
قال المصنف: بكسر السين المهملة، أي: كصاحب السرار، أي: لا يرفع صوته إذا حدثه، بل يكلمه كلامًا مثل المساواة، وشبهها لخفض صوته.
قال الزمخشري: ولو أريد بأخي السرار المسارر كان وجهًا، والكاف على هذا في محل نصب على الحال، يعني: لأن التقدير حدثه حديثًا مثل المسارة، انتهى، فهو براءين، بينهما ألف، كما في النسخ، ومثله في صحيح البخاري، كما رأيت وصحفه من قال السر، فأسقط منه الألف والراء، وقال: أي كالأخ الذي يريد مسارة أخيه بما يريد كتمه، فلا يحب أن يطلع عليه غيره، فيخفي كلامه عند مخاطبته غاية الإخفاء، فهذا صحيح في نفسه، لكن ليس هو الرواية.
"وروي: أنه صلى الله عليه وسلم ما كان يسمع عمر حتى يستفهمه مما يخفض صوته" ما مصدرية، قال الحافظ: وأما خبر ابن عباس وجابر في الصحيح أن نسوة كن يكلمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، عالية أصواتهن، فالظاهر أنه كان قبل النهي، ويحتمل أن علو الصوت كان بالهيئة الاجتماعية، لا لانفراد كل منهن، وقال غيره: إنه بعده، لكنهن لم يعلمن به، ورد بأنه كان يجب عليه بيان الحكم لهن، ولم ينقل، "وكان ثابت بن قيس بن شماس" خطيبه صلى الله عليه وسلم، وخطيب الأنصار "في أذنه وقر" بسكون القاف، صمم، "وكان جهوريًا" أي: عالي الصوت، "فلما نزلت، تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم" فقعد في بيته، وأغلق بابه، "فتفقده" المصطفى، "ودعاه، فقال: يا رسول الله! لقد أنزلت عليك هذه الآية، وإني رجل جهير الصوت، فأخاف أن يكون عملي قد حبط، فقال عليه الصلاة والسلام: "لست هناك" أي: في ذلك الموضع الذي يحبط فيه العمل، والمعنى: لست ممن يحبط عمله، "إنك تعيش بخير، وتموت بخير، وإنك من أهل الجنة".
وعند ابن سعد والدارقطني، فقال له صلى الله عليه وسلم: "أما ترضى أن تعيش حميدًا وتقتل شهيدًا وتدخل الجنة" وأخرجه ابن جرير، وقال في آخره: فعاش حميدًا وقتل شهيدًا.
"قال أنس: فكنا ننظر إلى رجل من أهل الجنة يمشي بين أيدنا" وفي رواية: أظهرنا،(7/326)
فلما كان يوم اليمامة في حرب مسيلمة. رأى ثابت بعض الانكشاف وانهزمت طائفة منهم فقاتل حتى قتل.
ومنها أنه معصوم من الذنوب كبيرها وصغيرها، وعمدها وسهوها.
__________
"فلما كان يوم اليمامة في حرب مسيلمة" بكسر اللام الكذاب، "رأى ثابت" من بعض المسلمين "بعض الانكشاف، وانهزمت طائفة منهم، فقاتل حتى قتل" وظهر بذلك مصداق خبره صلى الله عليه وسلم، وروى ابن أبي حاتم، قال أنس: فكنا نراه يمشي بين أظهرنا، ونحن نعلم أنه من أهل الجنة، فلما كان يوم اليمامة، كان في بعضنا بعض الانكشاف، فأقبل، وقد تكفن وتحنط، فقاتل حتى قتل.
وأخرج البخاري عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم افتقد ثابت بن قيس، فقال رجل: أنا أعلم لك علمه، فأتاه، فوجده جالسًا في بيته منكسًا في رأسه، فقال: ما شأنك؟ فقال: شر كان يرفع صوته فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم، فقد حبط عمله، وهو من أهل النار، فأتى الرجل النبي، فقال: إنه قال كذا وكذا، فرجع المرة الآخرة ببشارة عظيمة، فقال: اذهب إليه، فقل له: "إنك لست من أهل النار، ولكن من أهل الجنة"، وأخرجه مسلم من وجه آخر، عن أنس: سأل النبي صلى الله عليه وسلم سعد بن معاذ: "ما شأن ثابت اشتكى"؟ فقال: إنه لجاري، وما علمت له شكوى، الحديث.
وروى ابن المنذر من طريق آخر عن أنس، فقال سعد بن عبادة: هو جاري، الحديث.
قال الحافظ: وهذا أشبه بالصواب لأن ابن عبادة من قبيلة ثابت، فهو أشبه أن يكون جاره من ابن معاذ لأنه من قبيلة أخرى.
وقد استشكل بعض الحفاظ رواي مسلم بأن نزول الآي في سنة تسع، وموت ابن معاذ في سنة خمس، ويمكن الجمع؛ بأن الذي نزل في قصة ثابت مجرد رفع الصوت، والذي نزل في قصة الأقرع أول الصورة، وهو {لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} الآية، وقد نزل قوله: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} الآية، في قصة عبد الله بن أبي بن سلول قبل أن يسلم عبد الله كما في الصحيح، وإسلامه كان بعد بدر، وللطبري وابن مردويه، عن ثابت: لما نزلت هذه الآية، قعد ثابت يبكي، فمر به عاصم بن عدي، فقال: ما يبكيك؟ قال: أتخوف أن تكون نزلت في فقال صلى الله عليه وسلم: "أما ترضى أن تعيش حميدًا" الحديث، وهذا لا يغاير أن يكون الرسول إليه من النبي صلى الله عليه وسلم سعد بن معاذ، انتهى، ولم يظهر لي جمعه المذكور مع ما في البخاري، كما مر أنها نزلت بسبب اختلاف العمرين فيمن يؤمره من القعقاع، أو الأقرع، وهما من وفد تميم، وقدومهم سنة تسع.
"ومنها: أنه معصوم من الذنوب" بعد النبوة وقبلها، "كبيرها وصغيرها، وعمدها وسهوها"(7/327)
وكذلك الأنبياء.
ومنها أنه لا يجوز عليه الجنون لأنه نقص، ولا الإغماء الطويل الزمن، فيما ذكره الشيخ أبو حامد في التعليق، وجزم به البلقيني في حواشي الروضة، وكذلك الأنبياء.
ونبه السبكي على أن إغماءهم يخالف إغماء غيرهم، وإنما هو ناشئ عن غلبة الأوجاع للحواس الظاهرة دون القلب، لأنه قد ورد أنه إنما تنام أعينهم دون قلوبهم، فإذا حفظت قلوبهم وعصمت من النوم الذي هو أخف من الإغماء، فمن الإغماء.
__________
على الأصح في ظاهره وباطنه، سره وجهره، جده ومزحه، رضاه وغضبه، كيف، وقد أجمع الصحب على اتباعه والتأسي به في كل ما يفعله، "وكذلك الأنبياء".
قال السبكي: أجمعت الأمة على عصمة الأنبياء فيما يتعلق بالتبليغ وغيره من الكبائر، وصغائر الخسة، والمداومة على الصغائر، ومن صغائر لا تحط من رتبتهم، خلاف ذهب المعتزلة وكثير من غيرهم إلى جوازها، والمختار المنع لأنا أمرنا بالاقتداء بهم فيما يصدر عنهم، فكيف يقع منهم ما لا ينبغي، ومن جوزه، لم يجوزه، بنص ولا دليل، انتهى، أي: وإنما تمسكوا بظواهر إن التزموها أفضت بهم إلى خرق الإجماع، وما لا يقول به مسلم؛ كما بسطه عياض.
"ومنها: أنه لا يجوز عليه الجنون" ولو قصر "لأنه نقص" وهو لا يجوز على الأنبياء لتأديته إلى النفرة عنهم، وعدم الانقياد إليهم، "ولا الإغماء الطويل الزمن فيما ذكره الشيخ أبو حامد" الغزالي "في التعليق، وجزم به البلقيني في حواشي الروضة".
أما القصير، كلحظة أو لحظتين، فيجوز، صرح به الدارمي، والقاضي، وارتضاه الأسنوي، "وكذلك الأنبياء" وإن لم يكونوا رسلا، "ونبه السبكي على أن إغماءهم يخالف إغماء غيرهم، وإنما هو ناشئ عن غلبة الأوجاع" عطف علة على معلول؛ كأنه قيل: لغلبة الأوجاع "للحواس الظاهرة دون القلب" بخلاف إغماء غيرهم، فيؤثر حتى في القلب، بحيث يصير المغمى عليه لا شعور له، وهل الإغماء سهو يلحق الإنسان مع فتور الأعضاء، لعلة أو امتلاء بطون الدماغ من بلغم بارد غليظ، أو هو الغشي، وهو تعطيل القوى المحركة، والأوردة الحساسة لضعف القلب، بسبب وجع شديد، أو برد أو جوع مفرط أقوال، وإنما خالف إغماء غيرهم؛ "لأنه قد ورد" في الصحيح؛ "أنه إنما تنام أعينهم دون قلوبهم، فإذا حفظت قلوبهم وعصمت من النوم الذي هو أخف من الإغماء" لسرعة زواله، غايته أن يمنع الإدراك والمعرفة، "فمن الإغماء(7/328)
بطريق الأولى.
قال السبكي: ولا يجوز عليهم العمى، لأنه نقص، ولم يعم نبي قط. وأما ما ذكر عن شعيب أنه كان ضريرًا فلم يثبت، وأما يعقوب فحصلت له غشاوة وزالت، انتهى.
وقال الرازي: في قوله تعالى: {وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ} لما قاله: {يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ} غلبه البكاء، وعند غلبة البكاء يكثر الماء في العين، فتصير العين كأنها ابيضت من بياض ذلك الماء، وقوله: {وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ} كأنه من غلبة البكاء، والدليل على صحة هذا القول: أن تأثير الحزن في غلبة البكاء، لا في حصول العمى، فلما حملنا الابيضاض على غلبة البكاء كان هذا التعليل حسنًا، ولو حملناه على العمى لم يحسن هذا التعليل، فكان ما ذكرناه أولى.
__________
بطريق الأولى" لاستيلائه على الحواس الظاهرة والباطنة استيلاء تامًا، بحيث لا يزول إلا بعلاج، وربما دام، فلا يفيد علاجه.
"قال السبكي: ولا يجوز عليهم العمى لأنه نقص، ولم يعم نبي قط، وأما ما ذكر عن شعيب؛ أنه كان ضريرًا، فلم يثبت" ويفرض ثبوته وإنه حقيقي، فلا يضر، لأنه طارئ بعد تحقق النبوة بالآيات، فلا يغير الاعتقاد فيهم، والكلام في المقارن لابتداء الأنباء، لأنه ينفر، فلا تطمئن النفس بما جاءوا به، "وأما يعقوب، فحصلت له غشاوة، وزالت، انتهى".
وقال القاضي عياض: الأنبياء منزهون عن النقائص في الخلق، والخلق سالمون من العاهات والمعائب، ولا التفات لما يقع في التاريخ من وقوع بعض العاهات في بعضهم بل نزههم الله من كل عيب، وكل ما ينقص العيون، أو ينفر القلوب.
"وقال الرازي" الإمام فخر الدين "في" تفسير "قوله تعالى: {وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ} الآية، لما قال: {يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ} غلبه بالبكاء، وعند غلبة البكاء يكثر الماء في العين، فتصير العين؛ كأنها ابيضت من بياض ذلك الماء" أي: ولم يحصل له عمى، ولا نقص إبصار، "وقوله: {وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ} الآية، كأنه من غلبة البكاء، والدليل على صحة هذا القول أن تأثير الحزن في غلبة البكاء، لا في حصول العمى، فلما حملنا الابيضاض على غلبة البكاء كان هذا التعليل حسنًا، ولو حملناه على العمى لم يحسن هذا التعليل، فكان ما ذكرناه أولى".(7/329)
ثم قال: واختلفوا، فقال بعضهم: إنه كان قد عمي بالكلية، فالله تعالى جعله بصيرًا في هذا الوقت، وقال آخرون: بل كان قد ضعف بصره من كثرة البكاء والأحزان بحيث صار يدرك إدراكًا ضعيفًا، فلما ألقوا القميص على وجهه وبشر بحياة يوسف عظم فرحه وانشرح صدره وزالت أحزانه، فعند ذلك قوي بصره وزال النقصان عنه، انتهى.
ومنها أن من سبه أو انتقصه قتل.
واختلف هل يحتم قتله في الحال، أو يوقف على استتابته؟ وهل.
__________
قال البيضاوي: وفي الآية دليل على جواز التأسف والبكاء عند التفجع، ولعل أمثال ذلك لا تدل تحت التكليف؛ فإنه قل من يملك نفسه عند الشدائد، ولقد بكى صلى الله عليه وسلم على إبراهيم، وقال: "القلب يجزع والعين تدمع ولا نقول ما يسخط الرب، وإنا عليك يا إبراهيم لمحزونون"، انتهى، وذلك الجزع والحزن لما جبلوا عليه من الرحمة، ولا ينافي ذلك الرضا بالقضاء، فلا ينافي أن الأنبياء عالمون بأن الله فعال لما يريد، وقضاؤه كائن ويؤخذ منه أن الإنسان إذا أصيب بمصيبة، لا يخرجه البكاء والحزن عن كونه صبرًا راضيًا، إذ كان قلبه مطمئنًا، بل قد يقال: إن من ينزعج من المصيبة، ويعالج نفسه على الصبر والرضا أرفع رتبة ممن لا يبالي بوقوع المصيبة أصلا، أشار إلى ذلك ابن جرير، وأطال في بيانه، "ثم قال" الرازي: "واختلفوا، فقال بعضهم" كمقاتل: "إنه كان عمي بالكلية، فالله تعالى جعله بصيرًا في هذا الوقت" الذي ألقى فيه القميص على وجهه، "وقال آخرون: بل كان قد ضعف بصره من كثرة البكاء والأحزان، بحيث صار يدرك إدراكًا ضعيفًا، فلما ألقوا القميص على وجهه" وهو قميص إبراهيم الذي أتى به جبريل لإبراهيم حين ألقي في النار من حرير الجنة، فلما مات أخذه إسحاق، فلما مات أخذه يعقوب، فلما شب يوسف، جعله يعقوب في قصبة من فضة، وسد رأسها، وجعلها في عنقه، كالتعويذة لما يخاف عليه من العين، وكانت في عنق يوسف حين ألقي في الجب عريانًا، فأتاه جبريل، وأخرج ذلك القميص وألبسه إياه، فلما كان هذا الوقت أمره جبريل بإرساله لأبيه، وقال: إنه فيه ريح الجنة، ولا يلقى على مبتلى إلا عوفي؛ كما قاله مجاهد وغيره، وجزم به البغوي والجلال، "وبشر بحياة يوسف" من ابنه يهوذا جاءه بالقميص، وكان قد حمل قميص الدم، فأحب أن يفرحه، كما أحزنه، "عظم فرحه، وانشرح صدره، وزالت أحزانه، فعند ذلك قوي بصره، وزال النقصان عنه، انتهى" كلام الرازي.
"ومنها: أن من سبه" أي: شتمه "أو انتقصه" بأن وصفه بما يعد نقصًا عرفًا، "قتل" بإجماع، "واختلف هل يتحتم قتله في الحال، أو يوقف على استتابته" والامتناع منها، "وهل(7/330)
الاستتابة واجبة أم لا؟
فمذهب المالكية: يقتل حدًا لا ردة: ولا تقبل توبته ولا عذره إن ادعى سهوًا أو غلطًا، وعبارة شيخهم العلامة خليل في مختصره، وإن سب نبيًا أو ملكًا، وإن عرض أو لعنه، أو عابه أو قذفه، أو استخف بحقه، أو غير صفته، أو الحق به نقصًا وإن في دينه
__________
الاستتابة واجبة، أم لا؟ فمذهب المالكية يقتل حدًا لا ردة" بمعنى أنه يتحتم قتله، ثم تارة يكون مرتدًا، وتارة لا، "ولا تقبل توبته" في إسقاط الحد منه، كتوبة الزاني والسارق بعد بلوغ الإمام، لا تفيدهما في عدم الحد، وليس المعنى أنه لا يقبل رجوعه للإسلام، إذ لا قائل به، "ولا عذره إن ادعى" وقوع ذلك منه "سهوًا أو غلطًا، وعبارة شيخهم العلامة خليل" بن إسحاق بن موسى الجندي المجموع على فضله، وديانته، وتحقيقه، ثاقب الذهن، أصيل البحث، الفاضل في المذهب، المشارك في الحديث، والعربية، والأصول، والفرائض، تخرج به جماعة فقهاء فضلاء، وجمع بين العمل، والعلم، والإقبال على نشره مع الزهد والانقباض عن أهل الدنيا، وحج وجاور بمكة.
قال ابن فرحون: اجتمعت به في القاهرة، وحضرت مجلسه يقرأ في الفقه والحديث، والعربية، وله تصانيف مفيدة، كمختصره الذي قصد فيه بيان المشهور، مجردًا عن الخلاف مع الإيجاز البليغ، مات سنة ست وسبعين وسبعمائة "وإن سب" مكلف "نبيًا أو ملكًا" مجمعًا على نبوته وعلى ملكيته بدليل ذكره، بعد أن يشدد عليه الأدب في سب من لم يجمع على نبوته، أي: أو ملكيته، كالخضر، وخالد بن سنان، وهاروت وماروت، فلا يقبل سابهما على المذهب خلافًا للقرافي، ثم المراد إجماع المسلمين، فلا عبرة بخلاف أهل الكتاب في بعضهم كسليمان، فيقتل سابه، "وإن عرض" بالسب بلا تصريح، "أو لعنه" بصيغة الفعل أو غيرها، "أو عابه" أي: نسبه للعيب، وهو خلاف المستحسن عقلا، أو شرعًا، أو عرفًا في خَلق أو خُلق أو دين، وهو أعم من السب، فإن من قال: فلان أعلم منه، فقد عابه ولم يسبه، "أو قذفه" بنسبته للزنا أو نفيه عن أبيه، "أو استخف بحقه" كلا أبالي بنهيه عن كذا، "أو غير صفته" كأسود، أو قصير، أو جبريل ينزل في صفة عبد أسود على النبي صلى الله عليه وسلم، "أو ألحق به نقصًا".
قال العلامة البساطي: ليست بجيدة، أي: لأن النقص لا يلحقه بإلحاقه، والأولى بدلها، أو ذكر ما يدل على النقص في بدن أو دين، انتهى، كعمى، وعرج أو حكم بالهوى، وأجابوا عمن قال: إن كان ابن عمتك. بأن تركه، لأن الحق له في حياته، وليس لنا بعده تركه، "وإن في دينه" كذا في كثير من نسخ المختصر، وهو الذي عند شارحه بهرام تلميذه، وتوقف فيها محشيه(7/331)
أو خصلته أو غض من مرتبته أو وفور علمه أو زهده أو أضاف له ما لا يجوز عليه، أو نسب إليه ما لا يليق بمنصبه على طريق الذم، أو قيل له: بحق رسول الله، فلعن وقال أردت العقرب قتل -ولم يستتب- حدًا، إلا أن يسلم الكافر، وإن ظهر أنه لم يرد ذمه لجهل أو سكر أو تهور.
__________
العلامة محمد بن غازي، فذكر أن أكثر النسخ وإن في بدنه وفي بعضها، وإن في دينه؛ وتأمل ما يليق به الإغياء في كلامه، انتهى، "أو خصلته" طبيعته التي جبل عليها، كالكرم، "أو غض"، أي: نقص "من مرتبته، أو" غض من "وفور علمه، أو زهده، أو أضاف" أي: نسب "له ما لا يجوز عليه" كعدم التبليغ، "أو نسب إليه ما لا يليق بمنصبه" كنفي زهده؛ وأنه لم يكن حقيقيًا، ولو قدر على الطيبات أكلها، أو قال: ليس بمكي أو بحجازي؛ لأنه وصفه بغير صفته المعلومة نفي له وتكذيب، ومقصوده تعداد الألفاظ الموجبة للقتل، وقدم نظير ذلك في الإقرار والطلاق، فلا يعترض عليه بأن بعضها مكرر، وبعضها يستغنى عنه بذكر غيره "على طريق الذم" عائد لقوله: أو غض من مرتبته، ولقوله: أو أضاف له، وقوله: أو نسب ... إلخ، لكن مفهومه لا يعتمد، إذ هو لا يعتبره، فالمعتمد المبالغة بعده، "أو قيل له: بحق رسول الله" تفعل أو تقول كذا، "فلعن، وقال: أردت العقرب" لأن الله تعالى أرسلها إلى من تلدغه وساقها؛ كما في قوله تعالى: {وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ} الآية، وهذا حقيقة الإرسال، وإنكاره مابرة، لكنه لا يقبل من قائله، لأن رسول الله إنما يراد به الأنبياء، ولا يخطر ببال أحد غيره، ولذا قال في الشفاء عن حبيب بن الربيع؛ لأن ادعاءه التأويل في لفظ صراح لا يقبل، وهو غير معزر لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا موقر له، فوجب إباحة دمه، انتهى.
"قتل" المسلم الكافر "ولم يستتب" أي: لا يطلب منه توبة، بل ولا يقبل منه من غير طلب، ولو جاء تائبًا قبل الاطلاع عليه على ظاهره لازدرائه، فهو حق آدمي، مبناه المشاحة، بخلاف الزنديق كما قدمه "حدًا" إن تاب، أو أنكر ما شهد به عليه, ويغسل ويصلى عليه، ويدفن بمقابر المسلمين، وإلا قتل كفرًا بلا استتابة، ويدفن بمقابر الكفار بدون غسل وصلاة، "إلا أن يسلم الكافر" فلا يقتل لأن الإسلام يجب ما قبله، والفرق بينه وبين المسلم، أنه زنديق لا تعرف توبته، والكافر كان على كفره، فاعتبر إسلامه، ولم يجعل سبه من جملة كفره، لأنا لم نعطه العهد على ذلك، ولا على قتل مسلم أو أخذ ماله، فإن قتل قتلناه، وإن كان يستحله في دينه، وبالغ على قتل الساب، وإن كان كافرًا بقوله: "وإن ظهر أنه لم يرد" الساب "ذمه" أي: المذكور من نبي أو ملك، "لجهل، أو سكر، أو تهور" في الكلام، وهو كثرته بلا ضبط، إذ لا يعذر أحد في الكفر بذلك، وخرج بالمكلف المجنون وصغير لم يميز، فلا يقتلان بالسب.(7/332)
وهذا قد ذكره القاضي عياض في الشفاء وغيره، واستدلوا له بالكتاب والسنة والإجماع.
أما الكتاب: فقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا} [الأحزاب: 57] ، واللعنة من الله هي إبعاد الملعون عن رحمته وإحلاله في وبيل عقوبته، قال القاضي عياض: وإنما يستوجب اللعن من هو كافر، وحكم الكافر القتل.
والأذى: هو الشر الخفيف، فإن زاد كان ضررًا، كذا قاله الخطابي وغيره. وإطلاق الأذى في حقه تعالى إنما هو على سبيل المجاز لتعذر الحقيقة. ويشهد لذلك الحديث الإلهي: "يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني".
__________
أما المميز، فإسلامه وردته معتبران، فإن بلغ ولم يتب قتل، وإن تاب أو أنكر ما شهد به عليه لم يقتل لوقوعه من غير مكلف، وفي المدخل من قال في نبي من الأنبياء في غير التلاوة والحديث عصى أو خالف فقد كفر، انتهى، ويتبادر منه أنه مرتد، ويحتمل أنه ساب.
"وهذا قد ذكره القاضي عياض في الشفاء" في أواخرها، "و" ذكره "غيره، واستدلوا له بالكتاب والسنة والإجماع، أما الكتاب، فقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} يرتكبون ما يكرهانه من الكفر والمعاصي، ويؤذون رسول الله بكسر رباعيته، وقولهم شاعر مجنون، ونحو ذلك {لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} أبعدهم {وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا} ذا إهانة، وهو النار، فأطلق في الآية وعمم، وقال: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} الآية، فقيد وشرط وغاير في الجزاء، "واللعنة من الله هي إبعاد الملعون عن رحمته وإحلاله في وبيل" بموحدة، فتحتية، أي: شديد "عقوبته" من إضافة الصفة للموصوف، أي: عقوبته الشديدة.
"قال القاضي عياض: وإنما يستوجب اللعن" أي: يستحقه وجوبًا "من هو كافر" وهذه مقدمة أولى من برهان منطقي على الحكم بقتله، "و" المقدمة الثانية هي "حكم الكافر القتل" لأنه غير معصوم بالذات، وإنما عرض له ما يمنع من قتله، ومن كفر بسببه أشد من الكافر الأصلي، فحتم قتله، "والأذى هو الشر الخفيف، فإن زاد كان ضررًا؛ كذا قال الخطابي وغيره، وإطلاق الأذى في حقه تعالى، إنما هو على سبيل المجاز لتعذر الحقيقة" إذ هو إيصال المكروه، وهو لا يتصور في حقه تعالى، لكنه لما خولف أمره وارتكبت معاصيه، عد ذلك أذى له على ما تعارفه الناس فيما بينهم، أو ذكر تهويلًا لأذية الرسول، وأن من يؤذيه، كمن يؤذي الله، ويشهد لذلك الحديث الإلهي: "يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني".(7/333)
وهذا بخلاف جانب الرسول.
فالأذى في حق الله تعالى وحق رسوله كفر بشهادة هذه الآية، لأن العذاب المهين إنما يكون للكفار، وكذلك العذاب الأليم.
وقال تعالى: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ، لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة: 65] ، قال القاضي عياض: قال أهل التفسير: كفرتم بقولكم في رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأما السنة: فروى أبو داود والترمذي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من لنا بابن الأشرف"، وفي رواية أخرى "من لكعب بن الأشرف"، أي: من ينتدب لقتله.....
__________
"وهذا بخلاف جانب الرسول" فتارة يكون حقيقيًا، كأذاه بما أصابه من كسر رباعيته، وشج وجهه؛ كما قاله ابن عباس وتارة مجاز أيضًا، كأذاه بارتكاب ما يكرهه "فالأذى في حق الله تعالى وحق رسوله كفر بشهادة هذه الآية لأن العذاب المهين إنما يكون للكفار" والمسلمون، وإن عذبوا بالنار، لكنه بلا إهانة، فلا تسود وجوههم، ولا تزرق أعينهم، "وكذلك العذاب الأليم" في آية: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [التوبة: 61] الآية، أي: مؤلم، وفيه مجاز عقلي.
"وقال تعالى" في المنافقين الذين قالوا، وهو ذاهب إلى تبوك: انظروا إلى هذا الرجل يريد فتح الشام، هيهات، هيهات: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} استفهام توبيخ على استهزائهم بمن لا يصح الاستهزاء به، وإلزامًا للحجة عليهم، {لا تَعْتَذِرُوا} باعتذاراتكم فإنها معلومة الكذب، ولا يعبأ باعتذار الكاذب، {قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} الآية أي: ظهر كفركم بعد إظهار الإيمان.
"قال القاضي عياض: قال أهل التفسير كفرتم بقولكم في رسول الله صلى الله عليه وسلم" هو أذن، وفي البيضاوي بإيذاء الرسول والطعن فيه.
"وأما السنة" فكثيرة، منها ما رواه الدارقطني والطبراني، عن علي، رفعه: "من سب نبيًا فاقتلوه، ومن سب أصحابي فاضربوه"، وسنده ضعيف، لكن اعتضد بالإجماع، "فروي" جواب، إما بتقدير فما روى أو جوابها محذوف، أي: فكثيرة، كما قدرت منها ما روى أبو داود والترمذي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "من" يتكفل "لنا بابن الأشرف" أي: بقتله.
"وفي رواية أخرى" عند ابن عائذ عن عروة: "من لكعب بن الأشرف"، بفتح الهمزة وسكون المعجمة، وفتح الراء وبالفاء اليهودي حلفًا حالف بني النضير، "أي: من ينتدب لقتله"،(7/334)
"فقد استعلن بعداوتنا وهجائنا" وفي رواية: "فإنه يؤذي الله ورسوله".
قال القاضي عياض: ووجه إليه من قتله غيلة دون دعوة، بخلاف غيره من المشركين، وعلل بأذاه له، فدل على أن قتله إياه كان لغير الإشراك بل كان للأذى.
وفي حديث مصعب بن سعد عند أبي داود: لما كان يوم الفتح أمن رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس، إلا أربعة فذكرهم ثم قال: وأما ابن أبي سرح فاختبأ عند عثمان بن عفان.
__________
أي: يتوجه له، "فقد استعلن" الفاء، تعليلية، والسين للتأكيد، أي: أعلن "بعداوتنا" أو للطلب والباء زائدة، أي: طلب إظهار عداوتنا حتى من غيره، "وهجائنا" عطف سبب عن مسبب.
"وفي رواية" في الصحيح عن جابر: "من لكعب بن الأشرف، فإنه يؤذي الله ورسوله" لأنه أعلن سب الرسول وهجاءه، ورثى أهل القليب، وذهب إلى المشركين يحرضهم عليه.
"قال القاضي عياض: ووجه إليه" أي: أرسل له، وأصله الإرسال لجهته "من قتله" وهو محمد بن مسلمة الأنصاري في أربعة، وتقدمت القصة في المغازي، "غيلة" بكسر المعجمة، وسكون التحتية، أي: خفية من غير شعور أحد، "دون دعوة" للإسلام، "بخلاف غيره من المشركين" مطلق الكفرة، فإنما يقتله بعد الدعوة والإنذار، "وعلل" صلى الله عليه وسلم قتله "بأذاه له فدل على أن قتله إياه كان لغير الإشراك" مطلق الكفر؛ لأنه يهودي، وورد الإشراك بهذا المعنى أيضًا، "بل كان للأذى" لله ورسوله، فدلت قصته على أن من سب النبي صلى الله عليه وسلم وآذاه من الكفار يقتل.
"وفي حديث مصعب بن سعد" بن أبي وقاص الزهري، المدني، التابعي، ثقة، روى له الجميع، مات سنة ثلاث ومائة، "عند أبي داود" عن مصعب، عن أبيه، لا أنه مرسل، كما أوهمه المصنف.
قال سعد: "لما كان يوم الفتح أمن رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس إلا أربعة فذكرهم" مفصلين، فقال عكرمة، وابن خطل، ومقيس، وابن أبي سرح، وفي رواية الحويرث بدل عكرمة، واسم ابن خطل عبد العزى، فلما أسلم سمي عبد الله، ومن قال اسمه هلال، التبس عليه بأخ له اسمه هلال؛ كما تقدم بسطه في فتح مكة؛ وأن جلة من هدر دمه تسع رجال وست نسوة، "ثم قال: وأما ابن أبي سرح" عبد الله بن سعد، "فاختبأ عند عثمان بن عفان" وكان أخاه من(7/335)
فلما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس إلى البيعة جاء به حتى أوقفه على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبي الله بايع عبد الله فرفع رأسه فنظر إليه ثلاثًا، كل ذلك وهو يأبى، فبايعه بعد الثلاث، ثم أقبل صلى الله عليه وسلم على أصحابه فقال: "أما كان فيكم رجل رشيد يقوم إلى هذا حين كففت يدي عن بيعته فيقتله"، قالوا: ما ندري يا رسول الله ما في نفسك، ألا أومأت إلينا؟ قال: "إنه لا ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين".
وفيه: أنه أمر بقتل عبد الله بن خطل، لأنه كان يقول الشعر يهجو به النبي صلى الله عليه وسلم ويأمر جاريتيه أن تغنيا به.
__________
الرضاعة؛ كما في ابن إسحاق، "فلما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس إلى البيعة، جاء به" عثمان "حتى أوقفه" بالألف لغة قليلة، وأنكرها الأصمعي، وقال الجوهري: إنها رديئة، والكثير وقفه "على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال" عثمان: "يا نبي الله! بايع عبد الله، فرفع رأسه، فنظر إليه" ملا، أي: طويلًا "ثلاثًا كل" بالرفع "ذلك، وهو يأبى" أن يبايعه، "فبايعه بعد الثلاث، ثم" لما انصرف به عثمان كما في ابن إسحاق، "أقبل صلى الله عليه وسلم على أصحابه، فقال" "أما" فهمزة الاستفهام مقدرة، "كان فيكم رجل رشيد"، نبيه، يفهم مرادي، "يقوم إلى هذا حين كففت يدي عن بيعته فيقتله" فالاستفهام للوم على عدم قتله، وعند ابن إسحاق: "لقد صمت ليقوم إليه بعضكم فيقتله"، "قالوا: ما ندري يا رسول الله ما في نفسك ألا" بالفتح والتخفيف لمجرد التنبيه، نحو: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ} الآية، "أومأت" أشرت "إلينا" بحاجب أو يد، أو غيرهما، فقال: "إنه لا ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين" وهي الإيماء إلى مباح من نحو قتل أو ضرب، على خلاف ما يظهر، سميت بذلك لشبهها بالخيانة لإخفائها، كما لو أومأ لقتله حين طلب عثمان مبايعته، فإنه خلاف الظاهر من سكوته، وتجوز لغيره إلا في محظور، وعليه قوله تعالى: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} الآية، ففيه ذم النظر إلى ما لا يجوز؛ كما فسره به ابن عباس ومجاهد وغيرهما.
وفسره السدي والضحاك بالرمز بالعين، وقد كان عبد الله بعد أن بايعه ممن حسن إسلامه، ولم يظهر منه شيء ينكر عليه، وله المواقف المحمودة في الفتوح، وولاه عمر صعيد مصر، ثم عثمان مصر كلها، واعتزل الفتنة بعده، "وفيه" أي حديث مصعب "أنه أمر بقتل عبد الله بن خطل" بفتح الخاء المعجمة، والطاء المهملة "لأنه كان يقول الشعر، يهجو به النبي صلى الله عليه وسلم ويأمر جاريتيه أن تغنيا به" وفي الصحيح أنه عليه السلام جاءه رجل، فقال: ابن خطل متعلق بأستار الكعبة، فقال: "اقتلوه"، زاد ابن حبان: فقتل.
وروى عمر بن شبة في كتاب مكة عن السائب بن يزيد، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم(7/336)
وكذلك قتل جاريتيه.
فقالوا: إنه قد ثبت أمره بقتل من آذاه، ومن تنقصه، والحق له عليه السلام وهو مخير فيه، فاختار القتل في بعضهم وعفا عن بعضهم وبعد وفاته تعذرت المعرفة بالعفو، لعدم الاطلاع على العفو، وليس لأمته بعده أن يسقطوا حقه صلى الله عليه وسلم فإنه لم يرد عنه الإذن في ذلك. وهذا جعله في الشفاء.
وأما الإجماع: فقال القاضي عياض: أجمعت الأمة على قتل منتقصه من المسلمين وسابه، قال ابن المنذر: أجمع عوام أهل العلم.
__________
استخرج من تحت أستار الكعبة ابن خطل فضربت عنقه صبرًا بين زمزم ومقام إبراهيم، وقال صلى الله عليه وسلم: "لا يقتل قرشي بعد هذا صبرًا" وأصح الروايات في تعيين قاتله أنه أبو برزة كما قدمه المصنف في فتح مكة تبعًا للحافظ.
"وكذلك قتل" مصدر مجرور، عطف على عبد الله، أي: أمر بقتل "جاريتيه" اللتين كانتا تغنيان بهجائه، وهما فرتنى، بفتح الفاء، وإسكان الراء، ففوقية، فنون مقصورة وقريبة، بقاف، وموحدة، مصغر. قتلت، وأسلمت فرتنى، فلم تقتل؛ كما مر في الفتح، فلا يقرأ قتل فعلا، للإخبار بأنه قتلهما، لأنه خلاف الواقع، "فقالوا" في وجه الاستدلال: "أنه قد ثبت أمره بقتل من آذاه، ومن تنقصه، والحق له عليه السلام، وهو مخير فيه، فاختار القتل في بعضهم" كابن خطل ومقيس، "وعفا عن بعضهم" كابن أبي سرج وعكرمة، "وبعد وفاته تعذرت المعرفة بالعفو" فبقي الحكم على عمومه في القتل، "لعدم الاطلاع على العفو، وليس لأمته بعده أن يسقطوا حقه صلى الله عليه وسلم؛ فإنه لم يرد عنه الإذن في ذلك وهذا جعله في الشفاء" سؤالا وجوابًا، وأطال في بيان تفاصيله.
"وأما" مقامه "من المسلمين وسابه" بالشتم الذي هو معنى السب، فليس إطنابًا، إذ الانتقاص يشمل السب كما زعم ولكن في الاستدلال بهذا الجماع على قتله إذا تاب لأن محصله أنه يقتل فقط، والتوبة وعدمها لم يجمع عليه، وعياض نفسه لم يجعله دليلا على ذلك، وعبارته القسم الرابع في تصريف وجوه الأحكام فيمن تنقصه إلى أن قال: حرم الله أذاه في كتابه، وأجمعت الأمة ... إلخ. وقيد بالمسلمين للخلاف في الكافر، هل يقتل أو ينتقض عهده ويبلغ مأمنه، وقد عقد عياض لذلك فصلا بعد.
"قال ابن المنذر" أبو بكر محمد بن إبراهيم النيسابوري: "أجمع عوام" أي: جماعة "أهل العلم" جمع عامة، والمتقدمون يعبرون بهذه العبارة للعموم، فكأنه قيل: أجمع عموم، أي كل العلماء وليس المراد العامي، إذ لا عبرة بهم، ولا بإجماعهم، وأهل العلم ينادي عليه؛ لأن العامي(7/337)
على أن من سب النبي صلى الله عليه وسلم يقتل، وممن قال ذلك: مالك بن أنس والليث وأحمد وإسحاق، وهو مذهب الشافعي، وقال الخطابي: لا أعلم أحدًا من المسلمين اختلف في وجوب قتله إذا كان مسلمًا. وقال محمد بن سحنون: أجمع العلماء على أن شاتم النبي صلى الله عليه وسلم المنقص له كافر، والوعيد جار عليه بعذاب الله وحكمه عند الأمة القتل، ومن شك في كفره وعذابه كفر، انتهى.
ومذهب الشافعي: أن ذلك ردة، تخرج من الإسلام إلى الكفر، فهو مرتد كافر قطعًا لا نزاع في ذلك عند الجمهور من أمتنا، والمرتد يستتاب، فإن تاب
__________
لا يكون أهل علم، "على أن من سب النبي صلى الله عليه وسلم يقتل، وممن قال ذلك مالك" بن أنس، "والليث" بن سعد المصري، الإمام، المجتهد، المشهور، "وأحمد" بن حنبل "وإسحاق" بن راهويه، "وهو مذهب الشافعي" المشهور عنه، وبعد هذا الإجماع يأتي الخلاف في تحتم قتله واستتابته وقبولها، وهذا لم يفهمه من اعترض حكاية الإجماع بمذهب الشافعي.
"وقال الخطابي" حمد، بسكون الميم، ابن محمد بن إبراهيم بن الخطاب، يقال إنه من نسل زيد بن الخطاب أخي عمر: "لا أعلم أحدًا من المسلمين اختلف في وجوب قتله إذا كان مسلمًا" ولم يتب، وإنما الخلاف في الكافر.
"وقال محمد بن سحنون" الإمام، ابن الإمام، الجامع لخلال فلما اجتمعت في غيره من الفقه البارع، والعلم بالأثر، والجدل، والحديث، والذب عن مذهب أهل الحجاز، كريمًا في معاشرته، نفاعًا، مطاعًا، جوادًا بماله وجاهه، وجيها عند الملوك والعامة، جيد النظر في الملمات ألف نحو مائتي كتاب في فنون العلم، تفقه بأبيه، وسمع من جماعة غيره بالمغرب والمشرق، توفي سنة ست وخمسين ومائتين، وله أربع وخمسون، أو ست وخمسون سنة، ودفن بالقيروان.
"أجمع العلماء على أن شاتم النبي صلى الله عليه وسلم المنقص له" لو عطفه كان أحسن "كافر مرتد، والوعيد" في القرآن والسنة، "جار عليه" لشموله له "بعذاب الله" كقوله: {لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} الآية، "وحكمه عند الأمة" أمة الإجابة كلهم "القتل" إلا أن يتوب، فاختلفوا، "ومن شك في كفره وعذابه كفر" لتكذيبه لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} الآية، "انتهى".
"ومذهب الشافعي أن ذلك ردة تخرج من الإسلام إلى الكفر فهو مرتد كافر قطعًا لا نزاع في ذلك عند الجمهور من أئمتنا" بل جميعهم وجميع غيرهم، إنما النزاع في قتله إذا تاب، "والمرتد يستتاب، فإن تاب" قبلت توبته، ولم يجز قتله عند الشافعية، وإن تكررت ردته، لكن(7/338)
وإلا قتل.
وفي الاستتابة قولان: أصحهما وجوبها، لأنه كان محترمًا بالإسلام، وإنما عرضت له شبهة، فينبغي إزالتها، وقيل: تستحب لأنه غير مضمون الدم، فإن قلنا بالأول فتجب الاستتابة في الحال ولم يؤجل كغيره. وفي الصحيح: "من بدل دينه فاقتلوه". وفي قول: يمهل ثلاثة أيام، فإن لم يتب وأصر -رجلا كان أو امرأة- قتل، وإن أسلم صح الإسلام وترك لقوله تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ} [التوبة: 5] الآية.
وعن ابن عباس: أيما مسلم سب الله أو سب أحدًا من الأنبياء فقد كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي ردة يستتاب منها، فإن تاب وإلا قتل، وأيما معاهد.
__________
يعزر لزيادة تهاونه، ويتحتم قتله عند المالكية وطائفة، "وإلا" يتب "قتل، وفي الاستتابة قولان، أصحهما وجوبهما؛ لأنه كان محرمًا بالإسلام، وإنما عرضت له شبهة" فأوقعته في الجناب الرفيع، "فينبغي" أي: يجب "إزالتها" بعد الإسلام على الأصح، وفي وجه يناظر أولا؛ لأن الحجة مقدمة على السيف.
"وقيل: تستحب" إزالتها "لأنه غير مضمون الدم" إذ لا يقتل قاتله حينئذ، "فإن قلنا بالأول، فتجب الاستتابة في الحال" أي: فورًا "ولم يؤجل" ثلاثة أيام "كغيره" من المرتدين.
"وفي الصحيح" للبخاري عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "من بدل دينه" أي: انتقل من الإسلام لغيره بقول أو فعل، وأصر "فاقتلوه" بعد الاستتابة وجوبًا وخص عمومه بدين الإسلام، فمن انتقل من كفر لآخر لم يقتل، "وفي قول يمهل" الساب "ثلاثة أيام، فإن لم يتب، وأصر" على الكفر، "رجلا كان أو امرأة قتل" الرجل بإجماع، والمرأة عند الأئمة الثلاثة لأن عموم من يشملها.
وقال أبو حنيفة: لا تقتل، لأن من الشرطية لا تعم المؤنث للنهي عن قتل النساء، فكما لا تقتل في الكفر الأصلي، لا تقتل في الطارئ، "وإن أسلم صح الإسلام وترك لقوله تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} "الآية" والذين قالوا بتحتم قتل الساب، وإن تاب خصوا منها المسلم، إذ سبه لأدلة أخرى.
"وعن ابن عباس: أيما مسلم سب الله، أو سب أحدًا من الأنبياء، فقد كذب رسول الله، وهي ردة يستتاب منها، فإن تاب وإلا قتل". وعجيب احتجاج المصنف بهذا، وابن عباس لم يرفعه، وهو مما يقال بالرأي وقول الصحابي ليس حجة عند الشافعية، "وأيما معاهد(7/339)
سب الله أو سب أحدًا من الأنبياء فقد نقض العهد فاقتلوه.
وأجيب عما تقدم من أدلة المالكية:
فأما قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} الآية، فليس فيه إلا كفر مؤذيه عليه السلام، وأما كونه يقتل فلا دلالة فيه أصلا، وأما ابن خطل فإنما قتل ولم يستتب للكفر والزيادة فيه بالأذى مع ما اجتمع فيه من موجات القتل، ولأنه اتخذ الأذى ديدنا، فلا يقاس عليه من فرط منه فرطة -وقلنا بكفره بها- وتاب ورجع إلى الإسلام، فالفرق واضح. لكن وكذلك قتل جاريته لأنهما جعلا ذلك ديدنا مع ما قام بهما من صفة الكفر.
__________
سب الله، أو سب أحدًا من الأنبياء، فقد نقض العهد، فاقتلوه" ظاهر قول ابن عباس الإطلاق، فهو مذهبه، فتنزيله على مذهب الشافعية أو غيرهم لا يليق.
"وأجيب عما تقدم من أدلة المالكية، فأما قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} الآية، فليس فيه إلا كفر مؤذيه عليه السلام، أما كونه يقتل" حتمًا، "فلا دلالة فيه أصلًا" لكن قد بين عياض وجه الدلالة من الآية على القتل بأن من لعنته في الدنيا القتل، بدليل قوله: {مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا} الآية، وقال في أذى المؤمنين ما دون القتل من الضرب والنكال، فكان حكم مؤذي الله ونبيه أشد، وهو القتل.
"وأما ابن خطل فإنما قتل ولم يستتب للكفر والزيادة فيه بالأذى، مع ما اجتمع فيه من موجبات القتل" كقتل مولاه المسلم حين خالفه في شيء أمره به، "ولأنه اتخذ الأذى ديدنا" أي: عادة مستمرة، ولم ينطق بالشهادتين عند الأمر بقتله، "فلا يقال عليه من فرض منه فرطة، وقلنا بكفره بها، وتاب ورجع إلى الإسلام" عطف تفسير "فالفرق واضح لكن" فيه أن وجه الدلالة منه أنه كان أسلم، وبعثه النبي صلى الله عليه وسلم مصدقًا، ثم آذاه عليه السلام، فأمر بقتله، وإن تعلق بأستار الكعبة، ولم يأت في خبر أنه أمر باستتابته، مع أن استتابة المرتد واجبة، فدل على أن مؤذيه يقتل بلا استتابة، على أن شيخنا قال: هذا الفرق لا يتم فيمن تكررت منه الردة والعناد مرارًا كثيرة، "وكذلك قتل جاريتيه" أي: الأمر بقتلهما، والمقتول واحدة كما مر، "لأنهما جعلا ذلك ديدنًا مع ما قام بهما من صفة الكفر" لا يرد على مالك، لأنه قال: يقتل الكافر أيضًا إذا سبه، ما لم يسلم، وهما كانتا كافرتين، فقتلت الباقية عليه، وتركت المسلمة، فهو حجة لمالك لا عليه.(7/340)
وقد روى البزار عن ابن عباس أن عقبة بن أبي معيط نادى: يا معشر قريش ما لي أقتل من بينكم صبرًا، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "بكفرك وافترائك على رسول الله". فذكر له سببين في تحتم قتله، وهذا في غاية الظهور.
وأما قول الخطابي وغيره: "لا أعلم أحدًا من المسلمين اختلف في وجوب قتله إذا كان مسلمًا" فمحمول على التقييد بعدم التوبة.
وأما سياق القاضي عياض لقصة الرجل الذي كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه بعث عليًا والزبير ليقتلاه، فليس يفيد غرضًا في هذا المقام لأن الظاهر أن هذا كذب، فيه إفساد وفتنة بين المؤمنين، لا سيما إن كان كافرًا، فيكون من محاربي الله ورسوله، مع السعي في الأرض بالفساد، فيكون متحتم القتل، وإلا فليس مطلق
__________
"وقد روى البزار عن ابن عباس: أن عقبة بن أبي معيط" أحد أسرى بدر، لما قدم ليقتل بمحل على ثلاثة أميال من الروحاء قرب المدينة، "نادى" رافعًا صوته: "يا معشر قريش" ذكرهم بيانًا لحجته في عدم الفرق بينه وبين غيره، أو ليعطف عليه المسلمون منهم، "ما لي أقتل من بينكم" استفهام إنكاري، أي: دون غيري منكم، ومثله يستعمل للاختصاص "صبرًا" أي: بلا حرب، ولا غفلة، وأصل معناه الحبس، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "بكفرك وافترائك" أي تعمدك الكذب "على رسول الله". فذكر له سببين في تحتم قتله، وهذا في غاية الظهور" وهو من جملة أدلة المالكية، إذ هم قائلون بقتل الكافر إذا سبه، ولذا ذكره في الشفاء دليلا.
"وأما قول الخطابي وغيره: "لا أعلم أحدًا من المسلمين اختلف في وجوب قتله إذا كان مسلمًا فمحمول على التقييد بعدم التوبة" لأنه الإجماع الإجماع.
"وأما سياق القاضي عياض لقصة الرجل الذي كذب على رسول الله" المتقدمة قريبًا، ولفظ عياض، ويروى أن رجلا كذب على النبي "صلى الله عليه وسلم وأنه بعث عليًا والزبير ليقتلاه" إن أدركاه، قال: "وما أراكما تدركانه"، فوجداه ميتًا من لدغة حية، "فليس يفيد غرضًا في هذا المقام" الذي هو تحتم قتل مؤذيه، وإن تاب إن كان مسلمًا "لأن الظاهر أن هذا كذب فيه إفساد وفتنة بين المؤمنين" هذا الاستظهار من عدم الاطلاع على الحديث، فإن لفظه جاء إلى ناس من الأنصار، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسلني إليكن وزوجني فلانة، "لا سيما إن كان كافرًا، فيكون من محاربي الله ورسوله، مع السعي في الأرض بالفساد، فيكون متحتم القتل" لذلك، وفيه: أن المحارب لا يتحتم قتله، كما بين في القرآن مع أن منشأه القصور، فإن الرجل صحابي، وهو جدجد الجندعي، ذكره صاحب الإصابة وغيره، "وإلا فليس مطلق(7/341)
الكذب عليه مما يوجب القتل.
وكذا سياقه حديث ابن عباس: هجت امرأة من خطمة النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "من لي بها"؟ 0 فقال رجل من فوقها: أنا يا رسول الله فنهض فقتلها فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فقال: "لا ينتطح فيها عنزان"، أي: لا يجري فيها خلف ولا نزاع، فإن في هذه القصة ونظائرها نظرًا واضحًا لقيام الكفر بالمحكي عنهم والزيادة منه، وقد أخبر عليه السلام أنه لا عصمة لأحد من الناس بعد دعواهم إلى الإسلام إلا
__________
الكذب عليه مما يوجب القتل" ولا الكفر على الصواب، خلافًا للجويني، وإنما هو إذا كذب عليه بما فيه نقص له، كساحر ونحوه، والجواب عن عياض أنه لم يذكر هذه القصة دليلا مستقلا، إذ هو لا يقول، يقتل من كذب عليه ولا بكفره، وإنما ذكرها استئناسًا لما ساقه من الأدلة وأشار إلى ضعفها بقوله: ويروى، وقد علم أدنى الطلبة أنه لا يحتج بضعيف.
"وكذا سياقه حديث ابن عباس: هجت امرأة من خطمة" بفتح المعجمة، وسكون المهملة، وميم بطن من الأنصار، ينسبون إلى جدهم خطمة بن جشم من مالك بن الأوس، وهي عصماء بنت مروان اليهودية، نسبت إلى بني خطمة لأنها زوج يزيد بن زيد الصحابي، الخطمي، "النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "من لي بها"؟ أي: من يقوم لأجل حقي عليه بقتلها "فقال رجل من قومها" عمير بن عدي الخطمي، صحابي شهير، كان المصطفى يزوره، وكان أعمى، وسماه النبي صلى الله عليه وسلم البصير: "أنا" لك بها أقتلها "يا رسول الله، فنهض" قام بسرعة عقب قوله: فجاءها ليلا ودخل عليها بيتها، وحولها نفر من ولدها نيام، منهم من ترضعه، فجسها ونحى الصبي عنها، "فقتلها" بأن وضع سيفه على صدرها، حتى أنفذه من ظهرها، ثم رجع، فصلى الصبح مع المصطفى، "فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك" أي: قتلها لما قال له، كما عند ابن سعد: "أقتلت ابنة مروان"؟، قال: نعم، هل علي في ذلك شيء؟ "فقال: "لا ينتطح فيها عنزان"، فكانت هذه الكلمة أول ما سمعت من النبي صلى الله عليه وسلم، "أي: لا يجري فيها خلف ولا نزاع" بل هي هدر، فضربه مثلا للأمر الذي يقع بلا خلف ولا نزاع لأن العنزين لا ينتطحان، بل يتشامان ويتفرقان، وإنما ينتطح التيوس والكباش، ومرت القصة في المغازي، "فإن في هذه القصة" أي: الاستدلال بها، "ونظائرها نظرًا واضحًا لقيام الكفر بالمحكي عنهم، والزيادة منه" وقد حاد المصنف رحمه الله للحمية المذهبية عن سواء السبيل، فإنها كانت ذمية، يهودية، متزوجة بمسلم صحابي، فأمره بقتلها لأذاها له، مع أن نساء الحربيين، فضلا عن أهل الذمة، لا تقتل دليل لقول المالكية، يقتل الكافر بسبه صلى الله عليه وسلم ما لم يسلم، فالدليل من قصتها شمس في رابعة النهار.
"وقد أخبر عليه السلام أنه لا عصمة لأحد من الناس بعد دعواهم إلى الإسلام إلا(7/342)
بالإسلام، فكل منهم مهدر الدم إلا من عصمه الله منهم بالإسلام. وإنما النافع له في مقام الاستدلال ذكر من طرأ عليه من المسلمين وصمة الارتداد بالسب على القول بكونه ردة، فرجع إلى الإسلام وتاب. وهذا هو محل النزاع وموضع الاستدلال لكل من المتنازعين.
أما ذكر كافرًا صلى بلغته دعوة النبي صلى الله عليه وسلم وامتنع من إجابته وحاربه بيده ولسانه فلا نزاع في إهدار دمه قطعًا، لا سيما وقد نقل عن هذه المرأة الكافرة أنها كانت تعيب الإسلام، وتؤذي النبي وتحرض عليه، فاجتمع فيها موجبات القتل إجماعًا.
فقد تبين مما ساقه القاضي عياض أن أمره عليه السلام بقتل سابه إنما نقل عن الكفرة.
__________
بالإسلام" بقوله: "أمرت أن أقاتل الناس" الحديث، "فكل منهم مهدر الدم، إلا من عصمه الله منهم بالإسلام" أو بإعطاء الجزية كما في القرآن، أو عهد، أو أمان؛ كما بين في السنة، فما هذا الحصر من المصنف، "وإنما النافع له في مقام الاستدلال، ذكر من طرأ عليه من المسلمين وصمة الارتداد بالسب على القول، بكونه ردة" فيه نظر، إذ هو ردة إجماعًا كما مر، "فرجع إلى الإسلام وتاب، وهذا هو محل النزاع، وموضع الاستدلال لكل من المتنازعين" وسبحان الله، المصنف قد ذكر ذلك قبل، فإنه ذكر قصة ابن أبي سرح، وهو قد كان مسلمًا أصليًا، وأحد كتاب الوحي، ورجع إلى الإسلام، وامتنع النبي صلى الله عليه وسلم من مبايعته ثلاث مرات، ولام أصحابه على عدم قتله حين امتنع من بيعته وإنما بايعه لأجل عثمان وهو صلى الله عليه وسلم ولي ذلك، فله العفو دون غيره بعده، لعدم إذنه في ذلك.
"أما ذكر كافرًا صلى بلغته دعوة النبي صلى الله عليه وسلم، وامتنع من إجابته، وحارب بيده ولسانه، فلا نزاع في إهدار دمه قطعًا، لا سيما، وقد نقل عن هذه المرأة الكافرة" التي هي عصماء بنت مروان، "أنها كانت تعيب الإسلام" بفتح، فكسر من عاب يستعمل لازمًا متعديًا أو بضم ففتح وشد التحتية من عيبه إذ نسبه إلى العيب أو أحدث فيها عيبًا، "وتؤذي النبي صلى الله عليه وسلم" عطف أعم على أخص؛ لأن عيب الإسلام ما يكون بذكر خلل في الدين، وإيذاء النبي يكون به وبغيره أو لازم على ملزوم، لأن عيب الإسلام يلزمه إيذاؤه، "وتحرض" تحث "عليه، فاجتمع فيها موجبات القتل إجماعًا" يعني: فلم يتعين أن قتلها للسب، وفيه أنه خلاف الظاهر من قول ابن عباس: هجت امرأة النبي ... الحديث، "فقد تبين مما ساقه القاضي عياض، أن أمره عليه السلام بقتل سابه إنما نقل عن" بمعنى في "الكفرة" يرد عليه ابن أبي سرح فقد امتنع من بيعته بعد(7/343)
ولم ينقل أنه قتل مسلمًا بسبه، وإنما كان ذلك في أهل الكفر والعناد، ولو نقل فلا يتعين كونه حدًا، لاحتمال أن يكون قتله كفرًا، وقد قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] ، فأعلمنا أن ما وراء الشرك في حيز إمكان المغفرة، وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر: 53] .
فإن قلت: هذا بالنظر إلى ظلم النفس وحقوق الله تعالى لا بالنظر إلى حقوق العباد، لأن حقوق الله تعالى مبنية على المسامحة، وحقوق العباد مبنية على المشاحة. وهذا حق النبي صلى الله عليه وسلم وليس لنا أن نسقطه.
__________
إسلامه، ولام الصحابة على ترك قتله، كما مر، "ولم ينقل أنه قتل مسلمًا بسبه، وإنما كان ذلك في أهل الكفر والعناد" لكريم أخلاقه وحبه العفو والصفح، وهو ولي ذلك، فأحب العفو عمن وقع له ذلك وأسلم، وقد قال: "من سب نبيًا فاقتلوه" أخرجه الدارقطني والطبراني من حديث علي، ومن تشمل المسلم والكافر وأمره كفعله، "ولو نقل فلا يتعين كونه حدًا لاحتمال أن يكون قتله كفرًا" ويدفع هذا الاحتمال قتل ابن أبي سرح بعدما أسلم، ويؤيده عموم من سب نبيًا فاقتلوه، فإن ظاهره: ولو عاد إلى الإسلام.
وروى ابن قانع: أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إني سمعت أبي يقول فيك قولًا قبيحًا فقتلته، فلم يشق ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم، فلو لم يكن قتل الساب مشروعًا، كان ذلك من أكبر الكبائر؛ لأنه قتل وعقوق، وظاهر قوله: فلم يشق أنه كان مسلمًا، إذ قتل الكافر لا يشق عليه حتى ينفى.
"وقد قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} أي: الإشراك به، {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ} سوى {ذَلِكَ} من الذنوب {لِمَنْ يَشَاءُ} الآية المغفرة له، فيدخله الجنة بلا عذاب، ومن شاء عذبه من المؤمنين بذنوبه ثم يدخله الجنة، "فأعلمنا أن ما وراء الشرك في حيز إمكان المغفرة" وهو كذلك بلا شك، لكنه لا يمنع إقامة الحدود، ألا ترى أن الزاني والسارق إذا تاب بعد بلوغ الإمام لا يسقط حده، فكذلك حد ساب الأنبياء إذا تاب نقول بتوبته وصحة إسلامه، ولكن نقيم حده، وهو القتل عملا بعموم قوله: "فاقتلوه".
"وقال تعال: {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} الآية، لمن تاب من الشرك، ولكن ليس ذلك مانعًا من إقامة الحدود، فالقاتل يقتل وإن تاب، فذكر المصنف هاتين الآيتين لا يفيد غرضًا في استدلاله، "فإن قلت: هذا بالنظر إلى ظلم النفس وحقوق الله تعالى" كصلاة وصوم، "لا بالنظر إلى حقوق العباد؛ لأن حقوق الله تعالى مبنية على المسامحة وحقوق العباد مبنية على المشاحة، وهذا حق النبي صلى الله عليه وسلم، وليس لنا أن نسقطه؛ لأنه لم(7/344)
لأنه لم يرد إذنه في ذلك بخلافه هو صلى الله عليه وسلم فإن له ذلك.
فالجواب: لا بد لنا من نص على ذلك منه عليه السلام، كأن يقول من سبني مثلًا فاقتلوه، ولا تقبلوا له توبة ولا رجوعًا عن سبه، فإن نقل اتبعناه، ثم إنه من جهة النظر ينبغي إلحاق حقوق رسول الله صلى الله عليه وسلم بحقوق الله، فكما أن حقوق الله مبناها على المسامحة، وكذلك حقوقه صلى الله عليه وسلم، فإنه متخلق بأخلاق الله تعالى.
ومما عد من خصائصه أنه إذا قصده ظالم وجب على من حضره أن يبذل نفسه دونه.
__________
يرد إذنه في ذلك بخلافه هو صلى الله عليه وسلم فإن له ذلك"، لأن الحق له، ومن له حق، فله إسقاطه "
فالجواب: لا بد لنا من نص على ذلك منه عليه السلام، كأن يقول من سبني مثلا فاقتلوه، ولا تقبلوا له توبة ولا رجوعًا عن سبه، فإن نقل اتبعناه"، والجواب: أن ظاهر قوله: "من سب نبيًا فاقتلوه" عدم قبول توبته من ترك قتله لأنه حده، وإن قبلناها في إجراء أحكام الإسلام عليه من تغسيل، وتكفين، وصلاة، ودفن بمقابر المسلمين، كالقاتل والزاني المحصن ونحوهما، "ثم إنه من جهة النظر" العقلي "ينبغي إلحاق حقوق رسول الله صلى الله عليه وسلم بحقوق الله، فكما أن حقوق الله مبناها على المسامحة، وكذلك حقوقه صلى الله عليه وسلم، فإنه متخلق بأخلاق الله تعالى" التي تليق به، كما أشارت إليه عائشة، بقولها: كان خلقه القرآن لكن منع من هذا الدليل العقلي قيام الأدلة الشرعية على خلافه في هذه المسألة بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، وقد روى النسائي عن أبي برزة الأسلمي، قال: أتيت أبا بكر وقد أغلظ الرجل، فرد عليه، قال: فقلت: يا خليفة رسول الله دعني أضرب عنقه بسبه إياك، فقال: اجس فليس ذلك لأحد إلا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك أن عامل عمر بن عبد العزيز على الكوفة استشاره في قتل رجل سب عمر بن الخطاب فكتب إليه أنه لا يحل قتل امرئ مسلم سب أحد من الناس، إلا رجلا سب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن سبه فقد حل دمه.
وقال أبو بكر الصديق: حد قذف الأنبياء ليس يشبه الحدود، رواه ابن سعد وابن عساكر، فهذه أدلة متظاهرة على قتل الساب، ولو تاب.
قال عياض: ويدل على قتله من جهة النظر والاعتبار أن من سبه صلى الله عليه وسلم أو تنقصه قد ظهرت علامة مرض قلبه، وبرهان على سوء طويته وكفره، ولهذا حكم له كثير من العلماء بالردة، وهي رواية الشاميين عن مالك.
ومما عد من خصائصه: أنه إذا قصده ظالم، وجب على من حضره، أن يبذل" بضم الذال "نفسه دونه" أي: يجود بها، وإن أدى إلى قتله بخلاف غيره، فلا يجب الدفع مع خوف(7/345)
حكاه النووي في زيادات الروضة عن جماعات من الأصحاب.
ومن خصائصه عليه السلام أنه كان يخص من شاء بما شاء من الأحكام.
كجعله شهادة خزيمة بشهادة رجلين. روى أبو داود عن عمارة ابن خزيمة بن ثابت عن عمه وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم ابتاع من أعرابي فرسًا، فاستتبعه ليقبضه ثمن الفرس، فأسرع النبي صلى الله عليه وسلم المشي، وأبطأ الأعرابي، فطفق رجال يعترضون الأعرابي يساومونه بالفرس، ولا يشعرون أن.
__________
ذلك، كما قاله الرافعي والنووي؛ لأن من قصد غيره مسلمًا لا يكفر، وقاصده صلى الله عليه وسلم بذلك يكفر، "حكاه النووي في زيادات الروضة عن جماعات من الأصحاب" الشافعية؛ لقوله تعالى: النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم، وظاهره وإن كان له صلى الله عليه وسلم قدرة على الدفع والدافع عاجز، قال الحافظ: ولم أر وقوع ذلك في شيء من الأحاديث صريحًا، ويمكن أن يستأنس له؛ بأن طلحة وفاه بنفسه يوم أحد، وكان أبو طلحة الأنصاري يتقي بترسه دونه، ونحو ذلك من الأحاديث.
"ومن خصائصه عليه السلام؛ أنه كان يخص من شاء بما شاء من الأحكام" وغيرها، "كجعله شهادة خزيمة" ابن ثابت بن الفاكه بن ثعلبة الأنصاري، الخطمي، أبي عمارة المدني، من كبار الصحابة، شهد بدرًا، وقتل مع علي بصفين سنة سبع وثلاثين "بشهادة رجلين" ولذا لقب ذا الشهادتين.
"روى أبو داود" واب خزيمة، وشيخهما فيه الذهلي، باللام عن شعيب، عن ابن شهاب، عن "عمارة بن خزيمة بن ثابت" الأوسي أبي عبد الله، أو أبي محمد المدني، تابعي، ثقة، مات سنة خمس ومائة، وهو ابن خمس وسبعين، روى له الأربعة، "عن عمه" قيل: اسمه عمارة قال ابن منده "وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم ابتاع" أي: اشترى "من أعرابي" هو سواء بن الحارث صحابي "فرسًا" هو المرتجز، أو الظرب، أو النجيب، أقوال ذكرها المصنف في خيله في تعيين هذا الفرس المشترى من أفراسه صلى الله عليه وسلم، وزاد غيره القول بأنه الملاوح، ويرد على ذلك أنه ردها على الأعرابي، فماتت من الغد؛ كما في رواية الحارث وتأتي، فهي صريحة في أنها لم تكن من خيله المعينة، المسماة بالأسماء المعلومة، "فاستتبعه" أي تبعه فالسين زائدة والأولى كونها للطلب، أي: طلب المصطفى من الأعرابي أن يتتبعه "ليقبضه ثمن الفرس، فأسرع النبي صلى الله عليه وسلم المشي، وأبطأ الأعرابي" ومعه الفرس، "فطفق" بكسر الفاء وفتحها، أي: جعل "رجال يعترضون الأعرابي" أي: يعترضون له بالكلام معه، مأخوذ من اعترض على الأمير، أي مر عليه لينظر حاله، "يساومونه بالفرس" أي يطلبون بيعها منه، فالمفاعلة ليست مرادة، بل بمعنى السوم، والباء سببية، أو للمقابلة والعوض، أي يذكرون له ثمنًا في مقابلته، "ولا يشعرون أن(7/346)
رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ابتاعه، حتى زادوا على ثمنه. فذكر الحديث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فطفق الأعرابي يقول هلم شهيدًا يشهد أني قد بعتك، فمن جاء من المسلمين يقول: ويلك، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن ليقول إلا الحق، حتى جاء خزيمة بن ثابت فاستمع المراجعة فقال: أنا أشهد أنك قد بايعته ... الحديث، وفيه، قال: فجعل النبي صلى الله عليه وسلم شهادة خزيمة برجلين.
وفي البخاري من حديث زيد بن ثابت قال: فوجدتها مع خزيمة الذي جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم شهادته بشهادتين.
__________
رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ابتاعه حتى زادوا على ثمنه، فذكر الحديث" وهو: فنادى الأعرابي فقال: إن كنت مبتاعًا هذا الفرس فابتعه، وإلا بعته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم حين سمع نداء الأعرابي: "أو ليس قد ابتعته منك"، قال الأعرابي: لا والله ما بعتك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "بلى قد ابتعته"، "قال: فطفق الأعرابي يقول: هلم" أحضر "شهيدًا يشهد أني قد بعتك، فمن جاء من المسلمين" بعد هذا "يقول" إنكارًا على الأعرابي: "ويلك إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن" مريدًا "ليقول" شيئًا "إلا الحق" فخبر يكن محذوف، يتعلق به الجار "حتى جاء خزيمة بن ثابت، فاستمع المراجعة" التي بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين الأعرابي، "فقال: أنا أشهد أنك قد بايعته" أي: بعته "الحديث، وفيه قال: فجعل النبي صلى الله عليه وسلم شهادة خزيمة برجلين" هكذا رواه أبو داود وغيره من طريق عن عمه أخي خزيمة بدون تسمية الأعرابي، وقد رواه عمارة أيضًا عن أبيه، وسمي الأعرابي.
أخرج أبو بكر بن أبي شيبة، وأبو يعلى، وابن خزيمة، والطبراني عن عمارة بن خزيمة بن ثابت، عن أبيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى فرسًا من سواء بن الحارث فجحده، فشهد له خزيمة، فقال صلى الله عليه وسلم: "ما حملك على الشهادة ولم تكن معه حاضرًا" فقال: صدقتك بما جئت به، وعلمت أنك لا تقول إلا حقًا، فقال صلى الله عليه وسلم: "من شهد له خزيمة، أو شهد عليه فحسبه".
"وفي البخاري" في التفسير "من حديث" خارجة، عن أبيه "زيد بن ثابت" بن الضحاك، الأنصاري، النجاري، صحابي مشهور، كتب الوحي، قال مسروق: كان من الراسخين في العلم، مات سنة خمس أو ثمان وأربعين، وقيل: بعد الخمسين، "قال" لما نسخنا الصحف في المصاحف فقدت آية من سورة الأحزاب، كنت أسمع رسول الله يقرؤها، "فوجدتها مع خزيمة.
وفي رواية لم أجدها مع أحد إلا مع خزيمة "الذي جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم شهادته بشهادتين" {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} ، هذا بقية رواية البخاري.
قال العلماء: أي: لم أجدها مكتوبة مع كونها محفوظة عنده وعند غيره: إذ القرآن(7/347)
وعند الحارث بن أبي أسامة في مسنده من حديث عن النعمان بن بشير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اشترى من أعرابي فرسًا، فجحده الأعرابي، فجاء خزيمة فقال: يا أعرابي أتجحد، أنا أشهد أنك بعته، فقال الأعرابي: أن شهد علي خزيمة فأعطاني الثمن، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "يا خزيمة إنا لم نشهدك، كيف تشهد"؟ قال: أنا أصدقك على خبر السماء، ألا أصدقك على ذا الأعرابي؟! فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم شهادته بشهادة رجلين، فلم يكن في الإسلام من تعدل شهادته بشهادة رجلين غير خزيمة.
قال الخطابي: هذا الحديث حمله كثير من الناس على غير محمله، وتذرع به قوم من أهل البدع.
__________
لا يثبت إلا بالتواتر.
"وعند الحارث بن أبي أسامة" واسمه داهر، "في مسنده من حديث" مجاهد، عن الشعبي، "عن النعمان بن بشير" رضي الله عنهما: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اشترى من أعرابي فرسًا، فجحده الأعرابي، فجاء خزيمة فقال: يا أعرابي أتجحد؟ " بالاستفهام الإنكاري أي: وتطلب منه شهيدًا، "أنا أشهد أنك بعته، فقال الأعرابي: أن" بفتح الهمزة، أي لأجل إن، وكسرها بمعنى إذا تعليلية نحو:
أتغضب إن أذنا قتيبة حزنا
وفي نسخة، وهي ظاهرة، إذ "شهد علي خزيمة فأعطاني الثمن، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "يا خزيمة إنا لم نشهدك" بالمبايعة، بمعنى لم تحضرها، كما في الرواية التي قدمتها؛ ما حملك على الشهادة ولم تكن معه حاضرًا: "كيف تشهد" على ما لم تعانيه ولم تحضره؟ "قال: أنا أصدقك على خبر السماء" والأرض، كما في رواية الحارث، فسقط من قلم المصنف والأرض؛ "ألا أصدقك على ذا الأعرابي؟! فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم شهادته بشهادة
رجلين، فلم يكن في الإسلام من تعدل" لفظ الحارث من تجوز "شهادته بشهادة رجلين غير خزيمة"، بتخصيص المصطفى له، ففيه أن يخص من شاء بما شاء، وبقية رواية الحارث عن النعمان: فرد صلى الله عليه وسلم الفرس على الأعرابي وقال: "لا بارك الله لك فيها، فأصبحت من الغد شائلة برجلها" أي: ماتت، وهذا الأعرابي اسمه سواء بن الحارث من وفد محارب، وروى ابن منده، وابن شاهين، عن المطلب بن عبد الله، قال: قلت لبني الحارث: إن سواء أبوكم الذي جحد بيعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالوا: لا تقل ذلك، فلقد أعطاه بكرة، فما أصبحنا نسوق سارحًا ولا بارحًا إلا منها. "قال الخطابي" في شرح أبي داود: "هذا الحديث حمله كثير من الناس على غير محمله، وتذرع" بذال معجمة توسع وتوسل "به قوم من أهل البدع" وبإهمال الدال، أي: تمسكوا به وجعلوه كالدرع في اتقاء ما يرد(7/348)
إلى استحلال الشهادة لمن عرف عندهم بالصدق على كل شيء ادعاه، وإنما وجه الحديث أنه صلى الله عليه وسلم حكم على الأعرابي بعلمه، وجرت شهادة خزيمة مجرى التوكيد لقوله: والاستظهار على خصمه، فصار في التقدير بشهادة اثنين في غيرها من القضايا، انتهى.
ومن ذلك ترخيصه في النياحة لأم عطية، روى مسلم عنها: "قالت: لما نزلت هذه الآية.
__________
عليهم، "إلى استحلال الشهادة لمن عرف عندهم بالصدق على كل شيء ادعاه" متعلق بالشهادة، وليس حمل الحديث على ذلك بصحيح، "وإنما وجه الحديث" أي: جهته التي ينبغي حمله عليها، "أنه صلى الله عليه وسلم حكم على الأعرابي بعلمه" لأنه من خصائصه.
"وجرت شهادة خزيمة مجرى التوكيد" التقوية "لقوله: والاستظهار على خصمه، فصار في التقدير بشهادة اثنين في غيرها من القضايا" لأن شهادته متى وقعت كانت كشهادة رجلين، فلا يطلب له ثان، "انتهى" كلام الخطابي، وفيه نظر، فإن الأحاديث ظاهرة، بل صريحة في تخصيصه بذلك دائمًا، إلا لمجرد الحكم بعلمه، كيف! وفي رواية الحارث، فلم يكن في الإسلام من تجوز شهادته بشهادة رجلين غير خزيمة، وفي رواية محمد بن أبي عمر العدني في مسنده، فأجاز النبي صلى الله عليه وسلم شهادته بشهادة رجلين حتى مات خزيمة، وروى أبو يعلى عن أنس، قال: افتخر الحيان الأوس والخزرج، فقالت الأوس: ومنا من جعل النبي صلى الله عليه وسلم شهادته بشهادة رجلين ... الحديث، فإنه لو كان للحكم بعلمه لم يكن فخرًا أصلا، والغاية بقوله: حتى مات خزيمة، صريحة في ذلك إذ هو قد عاش بعد النبي سبعًا وعشرين سنة، نعم لا حجة فيه للمبتدعة، لأنه خصوصية لخزيمة، خصه بها من له تخصيص من شاء بما شاء، "ومن ذلك ترخيصه في النياحة" رفع الصوت على الميت بالندب، وهو عد محاسنه كواكهفاء، واجبلاه، "لأم عطية" نسيبة، بضم النون، وفتح المهملة، مصغر، ويقال بفتح أولها، وكسر السين بنت الحارث الأنصارية المدنية، ثم سكنت البصرة.
وقيل: بنت كعب، وأنكره أبو عمر؛ لأن بنت كعب هي أم عمارة، روت أم عطية عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن عمر، وعنها أنس ومحمد وحفصة، ولدا سيرين وآخرون.
وفي مسلم عنها غزوة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع غزوات، كانت أخلفهم في رحالهم، وفي الصحيح أيضًا عن حفصة بنت سيرين: أن أم عطية قدما البصرة فنزلت قصر بني خلف.
"روى مسلم" في الجنائز من طريق حفصة، "عنها قالت: لما نزلت هذه الآية" {يَا أَيُّهَا(7/349)
{يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا} ، {وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} [الممتحنة: 12] ، قالت: كان منه النياحة، فقلت يا رسول الله إلا آل فلان فإنهم كانوا أسعدوني في الجاهلية، فلا بد لي من أن أسعدهم، فقال: "إلا آل فلان". قال النووي: هذا محمول على الترخيص لأم عطية في آل فلان خاصة، وللشارع أن يخص من العموم ما يشاء.
__________
النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا} [الممتحنة: 12] الآية، إلى قوله: {وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} الآية، قالت" أم عطية: "كان منه" أي: من "النياحة" على الميت، وهي من كفر النعمة، لأن من ناح على الميت كفر نعمة أنه حي، "فقلت: يا رسول الله إلا آل فلان" لم يسم، "فإنهم كانوا أسعدوني، في الجاهلية" الإسعاد: قيام المرأة مع الأخرى في المناحة تراسلها، أي: تساعدها، وهو خاص بهذا المعنى، ولا يستعمل إلا في المساعدة عليها، "فلا بد لي من أن أسعدهم، فقال" رسول الله صلى الله عليه وسلم "إلا آل فلان" وأخرجه البخاري في التفسير عن حفصة بنت سيرين، عن أم عطية قالت: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقرأ علينا: {أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا} ، ونهانا عن النياحة، فقبضت امرأة يدها، فقالت: أسعدتني فلانة، أريد أن أجزيها، فما قال لها النبي صلى الله عليه وسلم شيئًا فانطلقت، ورجعت فبايعها، وللنسائي قال: "اذهبي فاسعديها"، قالت: فذهبت فأسعدتها، ثم جئت فبايعته، وللترمذي، فأذن لها، ولأحمد قال: "اذهبي فكافئيهم".
قال الحافظ: التي قبضت يدها هي أم عطية، وفلانة لم أقف على اسمها انتهى. وكأنه صلى الله عليه وسلم سكت أولا ثم أذن.
"قال النووي: هذا محمول على الترخيص لأم عطية" خاصة، "في آل فلان خاصة وللشارع أن يخص من العموم ما يشاء" لمن يشاء.
قال المصنف كغيره، وأورد على النووي حديث ابن العباس عند ابن مردويه، قالت: لما أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم على النساء، فبايعهن على {أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا} الآية، قالت خولة بنت حكيم: يا رسول الله كان أبي وأخي ماتا في الجاهلية، وإن فلانة أسعدتني، وقد مات أخوها ... الحديث، وحديث أسماء بنت يزيد الأنصارية عند الترمذي، قالت: قلت يا رسول الله إن بني فلان أسعدوني على عمي، ولا بد من قضائهن فأبى، قالت: فراجعته مرارًا، فأذن لي، ثم لم أنح بعد ذلك، وعند أحمد والطبراني من طريق مصعب بن نوح، قال: أدركت عجوزًا لنا، كانت فيمن بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: فأخذ علينا أن لا تنحن، فقالت عجوز: يا نبي الله إن أناسًا كانوا أسعدونا على مصائب أصابتنا، وإنهم قد أصابتهم مصيبة، فأريد أن أسعدهم، قال: "اذهبي(7/350)
ومن ذلك: ترك الإحداد لأسماء بنت عميس، أخرج ابن سعد عن أسماء بنت عميس قالت: لما أصيب جعفر بن أبي طالب، قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تسلبي ثلاثًا ثم اصنعي ما شئت".
ومن ذلك: الأضحية بالعناق لأبي بردة ابن نيار، رواه الشيخان من حديث البراء بن عازب قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم النحر فقال: "من صلى صلاتنا ونسك نسكنا فقد أصاب السنة".
__________
فكافئيهم، فانطلقت، فكافأتهم، ثم إنها أتت فبايعته، وحينئذ فلا خصومة لأم عطية، والظاهر أن النياحة كانت مباحة، ثم كرهت كراهة تنزيه، ثم تحريم، فيكون الإذن لمن ذكرنا، وقع لبيان الجواز مع الكراهة، ثم لما تمت مبايعة النساء وقع التحريم، فورد حينئذ الوعيد الشديد.
وفي حديث أبي مالك الأشعري عند أبي يعلى: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة عليها سربال من قطران، ودرع من جرب". انتهى، "ومن ذلك ترك الإحداد" على الزوج، أي: ترخيصه في تركه "لأسماء بنت عميس" بضم العين، مصغر آخره سين مهملة، الخثعمية، صحابية تزوجها جعفر بن أبي طالب، ثم أبو بكر، ثم علي، وولدت لهم، وماتت بعد علي، ولها أحاديث في البخاري والسنن، وهي أخت ميمونة بنت الحارث أم المؤمنين لأمه، "أخرج ابن سعد" محمد "عن أسماء بنت عميس، قالت: لما أصيب" قتل بغزوة مؤتة، سنة ثمان من الهجرة "جعفر بن أبي طالب" الهاشمي، ذو الجناحين، الصحابي الجليل، له في النسائي، "قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تسلبي " أي: حدي على زوجك "ثلاثًا" قال المصباح: التسلب: امتناع المرأة من الزينة والخضاب بعد موت زوجها، وفي نسخة تسلي بدون موحدة؛ فإن صحت فالمعنى، تصبري، أي: صبري نفسك على الإحداد ثلاثة أيام، "ثم اصنعي ما شئت" فأباح لها ترك الإحداد بعدها، مع وجوبه على المرأة ما دامت في العدة، "ومن ذلك الأضحية بالعناق" بفتح المهملة، وخفة النون الأنثى من ولد المعز قبل استكمالها الحول، "لأبي بردة" بضم الموحدة، "ابن نيار" السلولي، حليف الأنصار، اسمه هانئ، وقيل: الحارث بن عمرو، وقيل: مالك بن هبيرة، مات سنة إحدى وأربعين، وقيل: بعدها، "رواه الشيخان" البخاري في العيد، والأضاحي ومسلم في الذبائح، "من حديث البراء بن عازب" رضي الله عنهما، "قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم النحر" وفي رواية يوم الأضحى بعد الصلاة، فقال: "من صلى صلاتنا ونسك" بفتح النون والسين، "نسكنا" بضم النون والسين، ونصب الكاف، أي: ضحى مثل ضحيتنا، "فقد أصاب السنة" أي: الطريقة، وفي رواية فقد أصاب سنتنا، وفي رواية النسك، وفي أخرى: ومن ذبح بعد الصلاة فقد: تم نسكه وأصاب سنة المسلمين، "ومن(7/351)
ومن نسك قبل الصلاة فتلك شاة لحم، فقام أبو بردة بن نيار فقال: يا رسول الله، لقد نسكت قبل أن أخرج إلى الصلاة، وعرفت أن اليوم يوم أكل وشرب فتعجلت وأكلت وأطعمت أهلي وجيراني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تلك شاة لحم"، قال: عندي عناق جذعة هي خير من شاتي لحم
__________
نسك قبل الصلاة، فتلك شاة لحم" وليست أضحية، فلا ثواب فيها، واستشكلت هذه الإضافة، بأن الإضافة إما معنوية مقدرة بمن، كخاتم حديد، أو اللام، كغلام زيد، أو في كضرب اليوم، أو لفظية مضافة إلى معلومها، كضارب زيد وحسن الوجه، ولا يصح شيء منها في شاة لحم، وأجيب بأن الإضافة بتقدير محذوف، أي: شاة طعام لحم لا طعام نسك، وما أشبه ذلك، يعني شاة لحم غير نسك، فهي مضافة إلى محذوف، أقيم المضاف إليه مقامه، وفي رواية للصحيح أيضًا، فإنما هو لحم قدمه لأهله، ليس من النسك في شيء، "فقام أبو بردة بن نيار، فقال: يا رسول الله لقد نسكت" شاتي، أي ذبحتها "قبل أن أخرج إلى الصلاة، وعرفت أن اليوم يوم أكل وشرب" بضم الشين، وتجويز الزركشي فتحها كما قيل به في أيام منى أيام أكل وشرب، رده الدماميني؛ بأنه ليس محل قياس، إنما المعتمد الرواية.
زاد في رواية: وأحببت أن تكون شاتي أول شاة تذبح في بيتي، وفي أخرى عن أنس في الصحيحين، فقال: يا رسول الله إن هذا يوم نشتهي فيه اللحم، أي: تجري العادة بكثرة الذبح فيه، فتشوف له النفس التذاذ به، "فتعجلت" وفي رواية: فذبحت شاتي، "وأكلت، وأطعمت أهلي وجيراني" قبل أن آتي الصلاة، "فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تلك شاة لحم" لا أضحية، فلا ثواب فيها، بل هي على عادة الذبح للأك المجرد عن القربة، فأفاد بإضافتها إلى اللحم نفي الأجزاء.
وفي رواية: فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "أبدلها"، "قال" وفي رواية، فقال: "عندي عناق جذعة" بالتنوين فيهما، فالثاني عطف بيان، وفي رواية: عندي جذعة، وأخرى عندي عناق لبن إشارة إلى صغرها؛ وأنها قريبة من الرضاع، وفي أخرى: فإن عندنا عناقًا لنا جذعة، صفتان لـ"عناقا" المنصوب بأن.
وفي رواية: فإن عندي داجنًا جذعة، وما يوجد في بعض النسخ، فإن عندي عناق جذعة، وإن أمكن توجيهها بجعل اسم أن ضمير الشأن محذوفًا، والجملة خبر، لكنه ليس رواية، "هي خير من شاتي، لحم" لطيب لحمها وسمنها، فإن قيل: كيف تكون واحدة خيرًا من أضحيتين، بل العكس أولى: كعتق اثنين خير من عتق واحد، ولو كان أنفس، أجيب بأن القصد بالضحايا طيب اللحم وكثرة السمن، فشاة سمينة أفضل من هزيلتين، وأما العتق فالمقصود منه التقريب إلى(7/352)
فهل تجزي عني؟ قال: "نعم ولن تجزي عن أحد بعدك".
و"نيار" بكسر النون وتخفيف المثناة التحتية وآخره راء.
وقوله "تجزي" بفتح أوله غير مهموز، أي تقضي.
و"الجذع" بالجيم والذال المعجمة.
وفي هذا الحديث تخصيص أبي بردة بإجزاء الجذع من المعز في الأضحية.
ولكن وقع في عدة أحاديث التصريح بنظير ذلك لغير أبي بردة، ففي حديث عقبة بن عامر -عند البيهقي: "ولا رخصة فيها لأحد بعدك". قال البيهقي: إن كانت هذه.
__________
الله بفك الرقبة، فعتق اثنين أفضل من عتق واحد، نعم إن عرض للواحد وصف يقتضي رفعته على غيره، كالعلم وأنواع الفضل، فجزم بعض المحققين أنه أفضل لعموم نفعه للمسلمين.
وفي رواية: هي خير من مسنة، وأخرى من مسنتين، بالتثنية، قال الجوهري: يكون ذلك في الظلف والحافر في الثالثة، وفي الخف في السادسة "فهل تجزي عني؟ قال: "نعم تجزي عنك"، وفي رواية قال: "اجعلها مكانها"، "ولن تجزي عن أحد بعدكم" أي: غيرك لأنه لا بد في تضحية المعز من الثنية، "ونيار، بكسر النون، وتخفيف المثناة التحتية، وآخره راء بعد ألف، "وقوله تجزي، بفتح أوله غير مهموز أي: تقضي"، كقوله: {لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ} ، قال ابن بري: الفقهاء يقولون: لا يجزئ، بالضم والهمزة في موضع لا يقضي، والصواب الفتح بلا همز، ويجوز الضم والهمز، بمعنى الكفاية، في الأساس بنو تميم تقوله: نضم أوله، وأهل الحجاز، بفتح أوله، وبهما قرئ: "لا تجزى نفس عن نفس"، وجوز بعضهم هنا الضم من الرباعي، وبه قال الزركشي في تعليق العمدة اعتمادًا على نقل الجوهري، وغيره؛ أنها لغة تميم، وتعقب بأن الاعتماد إنما هو الرواية، لا مجرد النقل عن تميم، "والجذع، بالجيم والذال المعجمة" ثم عين مهملة ما استكمل سنة، فالعناق تجذع لسنة، وربما أجذعت قبل تمامها للخصب، فتسمن، فيسرع أجذاعها، "وفي هذا الحديث تخصيص أبي بردة بأجزاء الجذع من المعز في الأضحية" على سبيل الصراحة، "ولكن وقع في عدة أحاديث التصريح بنظير ذلك لغير أبي بردة، ففي حديث عقبة بن عامر" الجهني، الفقيه، الفاضل، مات قرب الستين "عند البيهقي" وأصله في الصحيحين، عن عقبة قال: قسم النبي صلى الله عليه وسلم بين أصحابه ضحايا، فصارت لعقبة جذعة، فقلت: يا رسول الله صارت لي جذعة، قال: "ضح بها".
زاد في رواية البيهقي: "ولا رخصة فيها لأحد بعدك"، قال البيهقي: إن كانت هذه(7/353)
الزيادة محفوظة كان هذا رخصة لعقبة كما رخص لأبي بردة.
قال الحافظ ابن حجر: وفي هذا الجمع نظر، لأن في كل منهما صيغة عموم، فأيهما تقدم على الآخر اقتضى انتفاء الوقوع للثاني ويحتمل في الجمع أن تكون خصوصية الأول نسخت بثبوت الخصوصية للثاني، لا مانع من ذلك، لأنه لم يقع في السياق استمرار المنع لغيره صريحًا.
وفي كلام بعضهم: أن الذين ثبتت لهم الرخصة أربعة أو خمسة واستشكل الجمع وليس بمشكل، فإن الأحاديث التي وردت في ذلك ليس فيها التصريح بالنفي إلا في قضية أبي بردة في الصحيح، وفي قضية عقبة بن عامر عند البيهقي، وأما ما عدا ذلك: فأخرج أبو داود وصححه ابن حبان من حديث زيد بن خالد أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه عتودًا جذعًا، فقال: ضح به، فقلت إنه جذع أفأضحي به؟ قال: ضح به
__________
الزيادة محفوظة" أي: ليست بشاذة، "كان هذا رخصة لعقبة، كما رخص لأبي بردة".
"قال الحافظ ابن حجر: وفي هذا الجمع نظر، لأن في كل منهما صيغة عموم" وهو نفي الأجزاء عن غير المخاطب في كل منهما، "فأيهما تقدم على الآخر اقتضى انتفاء الوقوع للثاني" فلا يصح الجمع المذكور، "ويحتمل في الجمع أن تكون خصوصية الأول نسخت بثبوت الخصوصية للثاني، لا مانع من ذلك، لأنه لم يقع في السياق استمرار المنع لغيره صريحًا" لكن فيه دعوى النسخ بالاحتمال، وإنما يكون بمعرفة التاريخ، وإلى هذا أشار بقوله الآتي: وإن تعذر الجمع ... إلخ.
"وفي كلام بعضهم أن الذين ثبتت لهم الرخصة أربعة أو خمسة واستشكل" هذا البعض "الجمع" بحسب الظاهر، "وليس بمشكل" عند التحقيق، "فإن الأحاديث التي وردت في ذلك ليس فيها التصريح بالنفي إلا في قضية أبي بردة في الصحيح" للشيخين.
"وفي قضية عقبة بن عامر عند البيهقي، وأما ما عدا ذلك" فوقعت المشاركة في مطلق الأجزاء، لا في خصوص منع الغير، "فأخرج أبو داود، وصححه ابن حبان من حديث زيد بن خالد" الجهني المدي، صحابي شهير مات بالكوفة سنة ثمان وستين، أو سبعين، وله خمس وثمانون سنة؛ "أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه عتودًا" بفتح المهملة، وضم الفوقية الخفيفة: ما قوى ورعى من أولاد المعز، وأتى عليه حول، أو العتود: الجذع من المعز ابن خمسة أشهر، وفي المحكم العتود الجدي الذي استكرش، وقيل: الذي بلغ السفاد "جذعًا" أي: صغيرًا، "فقال: "ضح به"، فقلت: إنه جذع" لا يجزي ضحية، أفأضحي به، قال: "ضح به" ولم يقل لا رخصة،(7/354)
وفي الأوسط للطبراني من حديث ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم أعطى سعد بن أبي وقاص جذعًا من المعز فأمره أن يضحي به. وأخرجه الحاكم من حديث عائشة، وفي سنده شدة ضعف.
فلا منافاة بين ذلك وحديثي أبي بردة وعقبة، لاحتمال أن يكون ذلك في ابتداء الأمر، ثم تقرر الشرع بأن الجذع من المعز لا يجزي، واختص أبو بردة، وعقبة بالرخصة في ذلك.
وإن تعذر الجمع بين حديث أبي بردة وحديث عقبة، فحديث أبي بردة أصح مخرجًا. وإن كان حديث عقبة عند البيهقي من مخرج الصحيح.
__________
أو لا يجزي عن أحد بعدك.
"وفي الأوسط للطبراني من حديث ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم أعطى سعد بن أبي وقاص" مالكًا أحد العشرة "جذعًا من المعز، فأمره أن يضحي به، وأخرجه الحاكم من حديث عائشة" أنه أعطى سعد بن ... إلخ. "وفي سنده شدة ضعف" وإن خرجه الحاكم، وكذا وقع لعويمر بن أشقر، رواه ابن حبان، وابن ماجه، وروى أبو يعلى والحاكم عن أبي هريرة: أن رجلا قال: يا رسول الله هذا جذع من الضأن مهزولة، وهذا جذع من المعز سمين، وهو خيرهما، أفأضحي به، فقال: "ضح به فإن لله الخير"، وسنده ضعيف، "فلا منافاة بين ذلك" كله "و" بين "حديثي أبي بردة وعقبة؛ لاحتمال أن يكون ذلك في ابتداء الأمر" مجزيًا، "ثم تقرر الشرع بأن الجذع من المعز لا يجزي، واختص أبو بردة وعقبة بالرخصة في ذلك" لكن يبقى التعارض بين حديثيها، فإن ساغ أحد الجمعين المتقدمين فلا تعارض، "وإن تعذر الجمع بين حديث أبي بردة وحديث عقبة" لأن جمع البيهقي فيه نظر، بأن في كل منهما صيغة عموم، كما مر، والجمع باحتمال نسخ خصوصية الأول بالثاني لا ينهض، إذ النسخ لا يكون بالاحتمال رجعنا إلى الترجيح، "فحديث أبي بردة أصح مخرجًا" لاتفاق البخاري ومسلم عليه، هو أرفع الصحيح، فيقدم على حديث عقبة عند البيهقي، خصوصًا وقد أخرجه الشيخان بدون تلك الزيادة، "وإن كان حديث عقبة عند البيهقي من مخرج الصحيح" لأنه لا يلزم من إخراج الشيخين لرجاله أن يكون صحيحًا مثل تخريجهما بالفعل، وقد نبه على ذلك ابن الصلاح في مقدمة شرح مسلم، فقال: من حكم لشخص بمجرد رواية مسلم عنه في الصحيح، بأنه من شرط الصحيح عند مسلم، فقد غفل وأخطأ، ذلك يتوقف على النظر في كيفية روايته عنه، وعلى أي وجه أخرج حديثه، انتهى.(7/355)
ومن ذلك: إنكاح ذلك الرجل بما معه من القرآن، فيما ذكره جماعة، وورد به حديث مرسل أخرجه سعيد بن منصور عن أبي النعمان الأزدي، قال: زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة على سورة من القرآن.
__________
"ومن ذلك إنكاح ذلك الرجل" الذي كان عند المصطفى، لما عرضت امرأة نفسها عليه صلى الله عليه وسلم، فالإشارة إلى معلوم "بما معه من القرآن" أي: بتعليمه إياها، بأن جعله صداقًا، وذلك لا يجوز كونه صداقًا، فهو خصوصية "فيما ذكره جماعة" كأبي حنيفة وأحمد ومالك، وهو أحد قولين مرجحين عند أصحابه، وجوزه الشافعي والمصنف كغيره ممن ذكر الخصائص، غالبًا لا يقتصرون فيها على مذهبهم، بل يذكرون ما قيل أنه خصوصية، ولو كان ضعيفًا، فعجيب الاعتراض عليه بأنه مذهب الشافعي، وكان المعترض ما تنبه لقوله فيما ذكره جماعة "وورد به حديث مرسل".
"أخرجه سعيد بن منصور عن أبي النعمان الأزدي" ظاهر المصنف أنه تابعي لقوله مرسل، وقد أورده في الإصابة في الكنى في القسم الأول، وقال: ذكره أبو موسى عن الطبراني، وأخرج ابن السكن عن أبي النعمان الأزدي أن رجلا خطب امرأة، فقال صلى الله عليه وسلم: "أصدقها" قال: ما عندي شيء، قال: "أما تحسن سورة من القرآن فأصدقها السورة، ولا يكون لأحد بعدك مهر". قال ابن السكن: لا تحفظ هذه الزيادة إلا في هذه الرواية، انتهى.
وفي التجريد للذهبي أبو النعمان: له حديث ساقه مطين وغيره في التزويج على سورة من القرآن؛ فهو صحابي قطعًا فمراد المصنف، كالسيوطي بقولهما مرسل ما سقط منه، رواه على أحد الأقوال لا ما رفعه التابعي، وإن كان هو المشهور في تعريفه، لأن الواقع أن أبا النعمان صحابي، لا تابعي، "قال زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة" يقال إنها خولة بنت الحكم، أو أم شريك، أو ميمونة، قال الحافظ في المقدمة: ولا يثبت شيء من ذلك، ولم يسم الرجل "على سورة من القرآن" أي على جنس، فلا ينافي رواية الصحيحين، قال: معي سورة كذا، وسورة كذا، وسورة كذا بعددها، فقال صلى الله عليه وسلم: "أنكحتها بما معك من القرآن" ولأبي داود والنسائي، عن أبي هريرة سورة البقرة، أو التي تليها، وللدارقطني عن ابن مسعود البقرة وسورة من المفصل، ولتمام الرازي عن أبي أمامة قال زوج النبي صلى الله عليه وسلم رجلا من الأنصار على سبع سور, وفي فوائد أبي عمر بن حبوبة عن ابن عباس، قال: معي أربع سور أو خمس سور، ذكره الحافظ.
وفي أبي داود بإسناد حسن عن أبي هريرة: "قم فعلمها عشرين -أي: آية- من القرآن، وهي امرأتك"، فظاهر حديث الصحيحين أنه جعل الصداق تعليمه إياها جميع ما معه من القرآن على اختلاف الروايات في تعيينه، ولا منافاة بينها، لأن كلا حفظ ما لم يحفظ الآخر، وأما الجمع(7/356)
وقال: "لا يكون لأحد بعدك مهرًا".
__________
بجواز أن ما كان مع الرجل سورة، وعدتها عشرون آية، أو كان عنده سور قصار تبلغ عشرين آية، ففاسد لما رأيت من أن منها البقرة، أو آل عمران، هذا وإنما عدل المصنف كالسيوطي عن الصحيحين إلى المرسل، لأنه صرح فيه بالخصوصية بقوله: "وقال: لا يكون لأحد بعدك مهرًا" وتجويز المراد لا يقع أن أحدًا يجعل السورة صداقًا حتى لا يخالف الشافعي عدول عن الظاهر، وقد قال مكحول: ليس ذلك لأحد بعده، أي: أنه خصوصية بخلاف حديث الصحيحين، فإفادته الخصوصية بالقوة لا الصريح.
روى الشيخان عن سهل بن سعد: أن امرأة عرضت نفسها على النبي صلى الله عليه وسلم، وفي رواية لهما، فقالت: يا رسول الله إني قد وهبت نفسي إليك، فصعد فيها النظر، فقامت قيامًا طويلا، فقام رجل، فقال: يا رسول الله زوجنيها، إن لم يكن لك بها حاجة، قال: "ما عندك"؟ قال: ما عندي شيء قال: "اذهب فالتمس ولو خاتمًا من حديد". فذهب، ثم رجع، فقال: لا والله ما وجدت شيئًا ولا خاتمًا من حديد، ولكن هذا إزاري، ولها نصفه، قال سهل: وما له رداء؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "وما تصنع بإزارك، إن لبسته لم يكن عليها منه شيء، وإن لبسته لم يكن عليك منه شيء". فجلس الرجل حتى إذا طال مجلسه قام، فرآه النبي صلى الله عليه وسلم، فدعاه أو دعى له، فقال له: "ماذا معك من القرآن؟ ". قال: معي سورة كذا، وسورة كذا، وسورة كذا السور، يعدها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أنكحتكها بما معك من القرآن".
هذا وزاد السيوطي ترخيصه في إرضاع سالم، مولى أبي حذيفة وهو كبير في تعجيل صدقة عامين للعباس، وفي الجمع بين اسمه وكنيته للولد الذي يولد لعلي، وفي المكث في المسجد جنبًا لعلي، وفي فتح باب داره في المسجد له، وفي فتح خوخة فيه لأبي بكر، وأكل المجامع في رمضان من كفارة نفسه، وفي لبس الحرير للزبير وعبد الرحمن فيما قاله جماعة، وهو وجه عندنا، وفي لبس الخاتم الذهب للبراء، وفي اشتراط الولاء لموالي بريرة، ولا يوفى به فيما ذكره بعضهم، وفي العزية لعلبة بن زيد الحارثي فيما ذهب إليه الواقدي، وفي خيار الغبن لحبان بن منقذ فيما ذكره النووي في شرح مسلم، وفي التحلل بالمرض لضباعة بنت الزبير في أحد القولين، وفي ترك مبيت منى لأجل السقاية لبني العباس في وجه، وبني هاشم في آخر، ولعائشة في صلاة ركعتين بعد العصر، ولمعاذ في قبول الهدية حين بعثه إلى اليمن، وفي المستدرك وغيره، عن أنس: أن أم سليم تزوجت أبا طلحة على إسلامه، قال ثابت: ما سمعت بامرأة كانت أكرم مهرًا منها في الإسلام، وأعاد امرأة أبي ركانة إليه بعد أن طلقها ثلاثًا من غير محلل، وأسلم رجل على أن لا يصلي إلا صلاتين، فقبل منه، وضرب لعثمان يوم بدر بسهم، ولم يضرب لغائب غيره، رواه أبو داود عن ابن عمر، كان يواخي الصحابة ويثبت بينهم التوارث،(7/357)
ومنها أنه كان يوعك كما يوعك رجلان لمضاعفة الأجر.
ومنها أن جبريل أرسل إليه ثلاثة أيام في مرضه يسأله عن حاله، ذكره البيهقي وغيره.
__________
وليس ذلك لغيره، قاله علي بن زيد، وخص نساء المهاجرين بأنهن يرثن دون أزواجهن لأنهن غرائب لا مأوى لهن، وكان أنس يصوم من طلوع الشمس، لا من طلوع الفجر، فالظاهر أنها خصوصية، "ومنها أنه كان يوعك"، أي: يأخذه الوعك، بسكون العين، أي: شدة الحمى، أو ألمها، أو رعدتها، "كما يوعك رجلان لمضاعفة الأجر".
روى الشيخان عن ابن مسعود، قال: دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يوعك، فقلت: إنك لتوعك وعكًا شديدًا، فقال: "أجل إني أوعك، كما يوعك رجلان منكم"، قلت: وذلك لأن لك أجرين، قال: "أجل ذلك كذلك، ما من مسلم يصيبه أذى شوكة فما فوقها إلا كفر الله بها سيئاته كما تحط الشجرة أوراقها".
زاد الأنموذج، وكذلك الأنبياء، وعصم من الأعلال الموحية، ذكر هذه القضاعي، الأعلال: بمهملة جمع علة، والموحية: بحاء مهملة القاتلة بسرعة، فلم يصب منها بشيء حياته.
وروى الطبراني عن أبي أمامة: كان صلى الله عليه وسلم يتعوذ من موت الفجأة، وكان يعجبه أن يمرض قبل أن يموت.
وروى ابن ماجه، وصححه الديلمي، عن أبي سعيد مرفوعًا: "إنا معاشر الأنبياء يضاعف لنا البلاء، كما يضاعف لنا الأجر، كان النبي من الأنبياء يبتلى بالقمل حتى يقتله، وإنهم كانوا يفرحون بالبلاء، كما تفرحون بالرخاء".
وروى أحمد بسند حسن، والطبراني، عن فاطمة بنت اليمان، قالت: أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم نعوده في نساء، فإذا شن معلق نحوه، يقطر ماؤه في فيه من شدة ما يجد من حر الحمى، فقلنا: يا رسول الله لو دعوت اله فشفاك، قال: "إنا معاشر الأنبياء يضاعف علينا البلاء".
"ومنها جبريل أرسل إليه ثلاثة أيام في مرضه" الذي مات فيه إكرامًا له وإجلالا، "يسأله عن حاله" كل يوم يقول: إن الله أرسلني إليك تفضيلا وخاصة، يسألك عما هو أعلم به منك، كيف تجدك؟ قال: "أجدني مكروبًا ومغمومًا" , وفي اليوم الثالث جاء، ومعه ملك الموت، فاستأذنه في قبض روحه، فأذن "ذكره" أي خرجه "البيهقي" في الدلائل "وغيره" وأشار البيهقي لضعفه، ولما نزل إليه ملك الموت نزل معه ملك يقال له إسماعيل، وهو على سبعين ألف ملك يسكن الهواء، لم يصعد السماء قط، ولم يهبط إلى الأرض قبل ذلك اليوم قط، وسبقهما جبريل، فقال له ما تقدم، فقال له: ملك الموت يستأذن عليك، ولم يستأذن على آدمي قبلك، فأذن له،(7/358)
ومنها: أنه صلى عليه الناس أفواجًا أفواجًا بغير إمام، وبغير دعاء الجنازة المعروف ذكره البيهقي وابن سعد وغيرهما.
__________
فدخل، فوقف بين يديه، وقال: إن الله أرسلني إليك، وأمرني أن أطيعك، فإن أمرتني أقبض نفسك قبضتها، وإن أمرتني أن أتركها تركتها، فقال له جبريل: إن الله اشتاق إلى لقائك، أي: أراده، فقال صلى الله عليه وسلم لملك الموت: "امض لما أمرت به"، رواه الشافعي والبيهقي عن علي بإسناد معضل.
وروى أبو نعيم عن علي: لما قبض صلى الله عليه وسلم، صعد ملك الموت باكيًا إلى السماء، والذي بعثه بالحق لقد سمعت صوتًا من السماء ينادي: وامحمداه.
"ومنها أنه صلى عليه الناس أفواجًا أفواجًا" أي: فوجًا بعد فوج، روى الترمذي أن الناس قالوا لأبي بكر، أنصلي على رسول الله؟ قال: نعم، قالوا: وكيف نصلي؟ قال: يدخل قوم يصلون ويدعون، ثم يدخل قوم فيصلون، فيكبرون ويدعون، فرادى "بغير إمام" قال علي: هو إمامكم حيًا وميتًا، فلا يقوم عليه أحد، فكان الناس تدخل رسلا فرسلا، فيصلون صفًا صفًا ليس لهم إمام، رواه ابن سعد.
قيل: وصلوا كذلك لعدم اتفاقهم على خليفة، وقيل: بوصية منه، روى الحاكم والبزار بسند فيه مجهول أنه صلى الله عليه وسلم لما جمع أهله في بيت عائشة، قالوا: فمن يصلي عليك؟ قال: "إذا غسلتموني وكفنتموني، فضعوني على سريري، ثم اخرجوا عني، فإن أول من يصلي علي جبريل، ثم ميكائيل ثم إسرافيل، ثم ملك الموت مع جنوده من الملائكة بأجمعهم، ثم ادخلوا علي فوجًا بعد فوج، فصلوا علي وسلموا تسليمًا".
"وبغير دعاء الجنازة المعروف ذكره" أي: رواه "البيهقي، وابن سعد وغيرهما" عن علي أنهم كانوا يكبرون، ويقولون السلام عليك أيها النبي ورحمة الله، اللهم إنا نشهد أن محمدًا قد بلغ ما أنزل عليه، ونصح لأمته، وجاهد في سبيلك حتى أعز الله كلمته، فاجعلنا نتبع ما أنزل إليه، وثبتنا بعده، واجمع بيننا وبينه، فيقول الناس: آمين، أي: الناس الذين لم يكونوا مشغولين بالصلاة، أو من سبق بالسلام ولم ينصرف أو المصلون أنفسهم.
وروى الحاكم والبيهقي: أول من صلى الملائكة فرادى، ثم الرجال فرادى، ثم النساء، ثم الصبيان بوصية منه بذلك.
وروى البيهقي عن ابن عباس: لما مات صلى الله عليه وسلم أدخل عليه الرجال فصلوا بغير إمام أرسالا حتى فرغوا، ثم أدخل النساء، فصلين عليه كذلك، ثم العبيد كذلك، ولم يؤمهم عليه أحد، وتكرار الصلاة عليه من خصائصه عند مالك وأبي حنيفة، وفي اقتصار المصنف على أنه بغير دعاء الجنازة(7/359)
وترك بلا دفن ثلاثة أيام كما سيأتي، ففرش له في لحده قطيفة، والأمران مكروهان في حقنا، وأظلمت الأرض بعد موته كما سيأتي.
ومنها: أنه لا يبلى جسده.
__________
إفادة أنهم صلوا عليه الصلاة المعروفة، ولم يقتصروا على مجرد الدعاء، وهو كذلك.
قال عياض، وتبعه النووي: الصحيح الذي عليه الجمهور أن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم كانت صلاة حقيقية، لا مجرد الدعاء فقط، وعد طائفة من خصائصه أنه لم يصل عليه أصلا, وإنما كان الناس يدخلون أرسالا، فيدعون ويصدقون على ظاهر حديث علي، وعلل بأنه لفضله وشرفه غير محتاج للصلاة عليه، ورد بأن المقصود من الصلاة عليه عود التشريف على المسلمين، مع أن الكامل يقبل زيادة التكميل، "وترك بلا دفن ثلاثة أيام" لاختلافهم في موته، أو في محل دفنه، أو لاشتغالهم في أمر البيعة بالخلافة، حتى استقر الأمر على أبي بكر، "كما سيأتي" ذلك بتعليله في المقصد الأخير زاد غيره، أو لدهشتهم من ذلك الأمر الهائل الذي ما وقع قبله، ولا بعده مثله، فصار بعضهم كجسد بلا روح، وبعضهم عاجز عن النطق، وبعض عن المشي، أو خوف هجوم عدو أو لصلاة جم غفير، "ففرش له لحده قطيفة" نجرانية، كان يتغطى بها، وضعها مولاه شقران، وقال: والله لا يلبسه أحد بعدك، فوضعها خصوصية له، كما قال وكيع، فقد كره جمهور العلماء وضع قطيفة، أو مضربة، أو مخدة ونحو ذلك في القبر تحت الميت، وشذ البغوي، فجوزه، والصواب: الكراهة، وأجاب الجمهور عن هذا الحديث، بأن شقران انفرد بفعل ذلك، ولم يوافقه أحد من الصحابة، ولا علموا بذلك، وإنما فعل ذلك كراهة أن يلبسها أحد بعده، قال النووي، وقد قال ابن عبد البر: أنها أخرجت لما فرغوا من وضع اللبنات التسع، ورجحه الحافظ وشيخه في الألفية، قال:
وفرشت في قبره قطيفة ... وقيل أخرجت وهذا أثبت
"والأمران" تأخير الدفن والفرش "مكروهان في حقنا" تنزيهًا، "وأظلمت الأرض بعد موته" رواه الترمذي عن أنس: لما كان اليوم الذي دخل فيه صلى الله عليه وسلم المدينة أضاء منها كل شيء، فلما كان اليوم الذي مات فيه أظلم منها كل شيء، وما نفضنا أيدينا عن التراب، وإنا لفي دفنه حتى أنكرنا قلوبنا، "كما سيأتي" في المقصد العاشر.
زاد الأنموذج: ولا يضغط في قبره، وكذلك الأنبياء، ولم يسلم من الضغطة صالح، ولا غيره سواهم، وفي تذكرة القرطبي: إلا فاطمة بنت أسد ببركته، وتحرم الصلاة على قبره واتخاذه مسجدًا.
قال الأوزاعي: ويحرم البول عند قبور الأنبياء، ويكره البول عند قبور غيرهم.
"ومنها أنه لا يبلى" بالبناء للمفعول "جسده" أي: لا يتغير عن حالته التي كان عليها في(7/360)
وكذلك الأنبياء، رواه أبو داود وابن ماجه.
ومنها: أنه لا يورث، فقيل لبقائه على ملكه، وقيل لمصيره صدقة، وبه قطع الروياني، ثم حكى وجهين في أنه هل يصير وقفًا على ورثته؟ وأنه إذا صار وقفًا هل هو الواقف؟ وجهان.
قال النووي في زيادات الروضة: الصواب الجزم بزوال ملكه وأن ما تركه صدقة على المسلمين، لا يختص به الورثة، انتهى.
وقال في الشرح الصغير: المشهور أنه صدقة.
__________
الدنيا، فلا يقال هذه الخصوصية شارك الأنبياء فيها الشهداء وغيرهم، "وكذلك الأنبياء" ولا خلاف في طهارة ميتتهم وفي غيرهم خلاف، ولا يجوز للمضطر أكل ميتة نبي، "رواه أبو داود وابن ماجه" عن أوس، رفعه: "إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء".
وروى الزبير بن بكار من مرسل الحسن: "من كلمه روح القدس لم تأكل الأرض لحمه".
وروى البيهقي عن أبي العالية: "إن لحوم الأنبياء لا تبليها الأرض، ولا تأكلها السبع".
قال الشيخ أبو الحسن المالكي في شرح الترغيب: وحكمة عدم أكل الأرض أجساد الأنبياء، ومن ألحق بهم، أن التراب يمر على الجسد فيطهره والأنبياء لا ذنب لهم، فلم يحتج إلى تطهيرهم بالتراب.
"ومنها أنه لا يورث، فقيل لبقائه على ملكه" لأنه حي "وقيل: لمصيره صدقة، وبه قطع" جزم "الروياني" وهو المعتمد لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا نورث ما تركنا صدقة"، الرواية برفع صدقة، ونصبها الشيعة، ورد بأنه يبطل معنى الحديث؛ إذ كل من ترك ما لا حالة كونه صدقة كذلك، وبأن عليًا والعباس من أهل اللسان، وقد احتج الصديق عليهم بالحديث، فقبلوه، "ثم حكى وجهين في أنه هل يصير وقفًا على ورثته؟ " لو كان يورث "وأنه إذا صار وقفًا هل هو الواقف" أو صار وقفًا من غير إنشاء صيغة؟ "وجهان، قال النووي في زيادات الروضة: الصواب الجزم بزوال ملكه، وأن ما تركه صدقة على المسلمين لا يختص به الورثة، انتهى".
وقال الحافظ: يظهر أن ما تركه بعده من جنس الأوقاف المطلقة، ينتفع بها من يحتاج إليها، وتقر تحت يد من يؤتمن عليها، ولهذا كان له عند سهل بن قدح، وعند أنس آخر، وعند عبد الله بن سلام آخر، وكان الناس يشربون منها تبركًا، وكانت جبته عند أسماء بنت أبي بكر إلى غير ذلك مما هو معروف.
"وقال" الرافعي "في الشرح الصغير" على وجيز الغزالي: "المشهور أنه صدقة،(7/361)
وذكر الرافعي في قسم الفيء أن الخمس كان له صلى الله عليه وسلم ينفق منه على نفسه ومصالحه، ولم يكن يملكه ولا ينتقل إلى ورثته.
وقال في باب الخصائص: إنه ملكه، ويجمع بينهما: بأن لجهة الإنفاق مادتين: مملوكة وغير مملوكة، والخلاف جار في إحداهما، انتهى. والله أعلم.
وعلى هذا، فيباح له أن يوصي بجميع ماله للفقراء، ويمضي ذلك بعد موته بخلاف غيره فإنه لا يمضي مما أوصى به إلا الثلث بعد موته.
وكذلك الأنبياء لا يورثون، لما رواه النسائي من حديث الزبير مرفوعًا: "إنا معاشر الأنبياء لا نورث".
__________
وذكر الرافعي" في الشرح الكبير على الوجيز "في قسم الفيء أن الخمس كان له صلى الله عليه وسلم، ينفق منه على نفسه ومصالحه، ولم يكن يملكه، ولا ينتقل إلى ورثته" لو كان يورث، "وقال في باب الخصائص: إنه ملكه، ويجمع بينهما بأن لجهة الإنفاق مادتين مملوكة وغير مملوكة، والخلاف جار في إحداهما، انتهى والله أعلم".
"وعلى هذا، فيباح له أن يوصي بجميع ماله للفقراء، ويمضي" أي: ينفذ "ذلك بعد موته، بخلاف غيره، فإنه لا يمضي مما أوصى به إلا الثلث بعد موته" فالوصية بجميع المال في سائر الأحوال من غير حرمة، ولا كراهة من خصائص الأنبياء، لأنهم لا يورثون "وكذلك الأنبياء لا يورثون" لأنهم لو ورثوا لظن أن لهم رغبة في الدنيا لوارثهم، أو لأنهم أحياء، أو لئلا يتمنى ورثتهم، موتهم فيهلكون، "لما رواه النسائي من حديث الزبير" بن العوام "مرفوعًا: "إنا معاشر الأنبياء" نصب على الاختصاص أو المدح، والمعشر كل جمع أمرهم واحد، فالإنس معشر، والجن معشر، والأنبياء معشر، وهو معنى قول جمع المعشر: الطائفة الذين يشملهم وصف "لا نور" وهذا بمعنى ما اشتهر مما لم يثبت لفظة: "نحن معاشر الأنبياء لا نورث".
"وقال الحافظ في تخريج المختصر": والحاصل أنه لم يوجد بلفظ نحن، ووجد بلفظ: إنا، ومفادهما واحد، فلعل من ذكره ذكره بالمعنى، وهو في الصحيحين عن أبي بكر رضي الله عنه سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "لا نورث ما تركنا صدقة" بحذف إنا، وكذا في السنن الثلاث، انتهى، وصدقة، بالرفع خبر المبتدأ الذي هو ما تركنا، والكلام جملتان الأولى فعلية، والثانية اسمية.
قال الحافظ: ويؤيده وروده في بعض طرق الصحيح: "ما تركنا فهو صدقة"، وادعى بعض الرافضة أن الصواب قراءته بتحتية أوله، ونصب صدقة على الحال، والذي توارد عليه أهل الحديث في القديم والحديث بالنون، ورفع صدقة، انتهى.(7/362)
وعلى هذا فيجاب عن قوله تعالى: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ} [النمل: 16] وقوله: {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا، يَرِثُنِي} [مريم: 6] بأن المراد يرث النبوة والعلم.
__________
وفي شرح المصنف وحرفه الإمامية فقالوا: لا يورث بتحتية بدل النون، وصدقة نصب على الحال، وما تركنا مفعول لما لم يسم فاعله، فجعلوا الكلام جملة واحدة، ويكون المعنى: إن ما يترك صدقة لا يورث، وهذا تحريف يخرج الكلام عن نمط الاختصاص الذي دل عليه قوله في بعض طرق الحديث: "نحن معاشر الأنبياء لا نورث"، ويقضي ما صرفوه إلى أمر لا يختص به الأنبياء لأن آحاد الأمة إذا وقفوا أموالهم أو جعلوها صدقة، انقطع حق الورثة عنها، فهذا من تحاملهم، أو تجاهلهم، وقد أورده بعض أكابر الإمامية على القاضي شاذان، صاحب القاضي أبي الطيب، فقال القاضي شاذان وكان ضعيف العربية، قويًا في علم الخلاف: لا أعرف نصب صدقة من رفعه، ولا احتياج إلى علمه، فإنه لا خفاء بي وبك أن عليًا وفاطمة من أفصح العرب، لا تبلغ أنت ولا أمثالك إلى ذلك منهما، فلو كان لهما حجة فيما لحظت لأبدياها لأبي بكر، فسكت ولم يجر جوابًا، وذهب النحاس إلى صحة نصب صدقة على الحال، وأنكره عياض لتأييده مذهب الإمامية، لكن قدره ابن مالك ما تركناه متروك صدقة فحذف الخبر، وبقي الحال كالعوض منه، ونظير قراءة بعضهم: "ونحن عصبة" بالنصب. انتهى، لكن في التوجيه نظر إذ لم تأت رواية بالنصب حتى توجه، ولأنه لم يتعين حذف الخبر، بل يحتمل ما قاله الإمامية، ولذا أنكره عياض وإن صح في نفسه، "وعلى هذا فيجاب عن قوله تعالى: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ} الآية، وقوله {فَهَبْ لِي} الآية، ويقع في نسخة: {رَبِّ هَبْ لِي} ، وهو تصحيف مخالف للتلاوة {مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا، يَرِثُنِي} الآية، "بأن المراد يرث النبوة والعلم" خلافًا لمن زعم أن خوف زكريا من مواليه كان على ما له، لأنه لا يخاف على النبوة، لأنها من فضل الله، يعطيها من شاء، فلزم أنه يورث، وهذا مدفوع بأن خوفه منهم لاحتمال شرتهم من جهة تغييرهم أحكام شرعه، فطلب ولدًا يرث نبوته ليحفظها.
"ومنها: أنه حي في قبره" قال البيهقي: لأن الأنبياء بعدما قبضوا ردت إليهم أرواحهم، فهم أحياء عند ربهم كالشهداء، وقد رأى نبينا صلى الله عليه وسلم جماعة منهم وأمهم في الصلاة، وأخبر وخبره صدق أن صلاتنا معروضة عليه، وإن سلامنا يبلغه، وإن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء.
قال السيوطي: وكل نبي إلا وقد جمع مع النبوة وصف الشهادة، فيدخلون في عموم قوله تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا} الآية. وأخرج أحمد، وأبو يعلى، والطبراني، والحاكم،(7/363)
ومنها: أنه حي في قبره ويصلي فيه بأذان وإقامة وكذلك الأنبياء، ولهذا قيل: لا عدة على أزواجه.
وقد حكى ابن زبالة، وابن النجار أن الأذان ترك في أيام الحرة ثلاثة أيام وخرج الناس، وسعيد بن المسيب في المسجد، قال سعيد: فاستوحشت فدنوت من القبر فلما حضرت الظهر سمعت الأذان في القبر فصليت الظهر.
__________
والبيهقي عن ابن مسعود، قال: لأن أحلف تسعًا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل، أحب إلي من أن أحلف واحدة أنه لم يقتل، وذلك أن الله اتخذه نبيًا واتخذه شهيدًا.
وأخرج البخاري والبيهقي، عن عائشة: كان صلى الله عليه وسلم يقول في مرضه الذي توفي فيه: "لم أزل أجد ألم الطعام حين أكلت بخيبر، فهذا أوان انقطاع أبهري من ذلك السم"، "يصلي فيه بأذان وإقامة" من ملك موكل بذلك، إكرامًا له على ما يظهر، ويحتمل غير ذلك، "وكذلك الأنبياء" أحياء في قبورهم يصلون، روى أبو يعلى والبيهقي، عن أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "مررت على موسى ليلة أسري بي عند الكثيب الأحمر، وهو قائم يصلي في قبره"، "ولهذا قيل: لا عدة على أزواجه" لأنه حي، فزوجيتهن باقية غايته أن انتقل من دار إلى دار وحياته باقية، وذلك مقتضى لبقاء العصمة، وكأن قائل هذا رأى أن روحه لما ردت بعد موته إليه، كأنه لم يمت، لا أنه لم يمت حقيقة بل هو أمر كهيئة الإغماء، نظن به موته، إذ لا قائل بذلك، ومثله يقال في بقية الأنبياء.
"وقد حكى" محمد بن الحسن "بن زبالة" بفتح الزاي وتخفيف الموحدة، المخزومي، أبو الحسن المدني، كذبوه ومات قبل المائتين، "وابن النجار أن الأذان ترك في أيام" وقعة "الحرة" بفتح الحاء المهملة، والراء الشديدة: أرض بظاهر المدينة ذات حجارة سود، كأنها أحرقت بالنار، كانت بها الوقعة بين أهل المدينة وبين عسكر يزيد بن معاوية سنة ثلاث وستين، بسبب خلع أهل المدينة يزيد، وولوا على قريش عبد الله بن مطيع وعلى الأنصار عبد الله بن حنظلة وأخرجوا عامل يزيد عثمان بن محمد بن أبي سفيان ابن عم يزيد من بين أظهرهم وكان عسكر يزيد سبعة وعشرين ألف فارس وخمسة عشر ألف راجل، قتل فيها خلق كثير من الصحابة وسيرهم، ونهبت المدينة وافتض فيها ألف عذارء.
وفي البخاري عن سعيد بن المسيب: إن هذه الفتنة لم تبق من أصحاب الحديبية أحدًا "ثلاثة أيام، وخرج الناس" من المسجد، "وسعيد بن المسيب في المسجد" لم يخرج، "قال سعيد: فاستوحشت" أي: حصلت لي وحشة، أي نفرة في نفسي لخلو المسجد ممن يستأنس به، "فدنوت من القبر" الشريف لنزول الوحشة، "فلما حضرت الظهر سمعت الأذان في القبر، فصليت الظهر" بذلك اكتفاء به لعلمه أنه حق، لكن مقتضى: فلما حضرت الظهر أنه علم(7/364)
ثم مضى ذلك الأذان والإقامة في القبر لكل صلاة حتى مضت الثلاث ليال، ورجع الناس وعاد المؤذنون فسمعت أذانهم كما سمعت الأذان في قبر النبي صلى الله عليه وسلم، انتهى.
وقد ثبت أن الأنبياء يحجون ويلبون.
فإن قلت: كيف يصلون ويحجون ويلبون وهم أموات في الدار الآخرة وليست دار عمل؟
فالجواب: أنهم كالشهداء، بل أفضل منهم، والشهداء أحياء عند ربهم يرزقون.
__________
دخول الوقت قبل سماع الأذان، لكن روى الدارمي: أخبرنا مروان بن محمد، عن سعيد بن عبد العزيز، قال: لما كان أيام الحرة لم يؤذن في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثًا ولم يقم، وأن سعيد بن المسيب لم يبرح مقيمًا، كان لا يعرف وقت الصلاة إلا بمهملة يسمعها من قبر النبي صلى الله عليه وسلم، "ثم مضى" استمر "ذلك الأذان والإقامة في القبر لكل صلاة" يحتمل من ملك عنده بقبره تعظيمًا له على الظاهر، ويحتمل غير ذلك "حتى مضت الثلاث ليال، ورجع الناس، وعاد المؤذنون، فسمعت أذانهم، كما سمعت الأذان في قبر النبي صلى الله عليه وسلم، انتهى.
وأشار بذلك إلى أن ما سمعه في القبر هو الأذان المعروف، لا الإعلام بدخول وقت الصلاة بألفاظ أخر، أو نبه بذلك على سماعه بعد عود الناس أذان المؤذنين دون القبر، وإن كان باقيًا، لأن سماعه تلك المدة كرامة له، وتأنس لاستيحاشه بانفراده في المسجد، وتجويز أنه انقطع الأذان في القبر بعد عود الناس لا يسمع، وكلامهم يأباه.
روى أبو نعم عن سعيد بن المسيب، قال: لقد رأيتني ليالي الحرة، وما في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم غيري، وما يأتي وقت صلاة إلا سمعت الأذان من القبر.
وروى الزبير بن بكار، عنه: لم أزل أسمع الأذان والإقامة في قبر رسول الله أيام الحرة حتى عاد الناس.
وأخرج ابن سعد، عنه: أنه كان يلازم المسجد أيام الحرة والناس يقتتلون، قال: فكنت إذا حانت الصلاة أسمع أذانًا من القبر الشريف، "وقد ثبت أن الأنبياء يحجون ويلبون" فيجب اعتقاده لنبوته، "فإن قلت: كيف يصلون ويحجون ويلبون وهم أموات في الدار الآخرة، وليست دار عمل" بل دار جزاء ونعيم للمؤمنين، "فالجواب: أنهم كالشهداء، بل أفضل منهم، والشهداء أحياء عند ربهم يرزقون" كما في التنزيل، وقال صلى الله عليه وسلم: "الشهداء على بارق نهر بباب(7/365)
فلا يبعد أن يحجوا ويصلوا، أو نقول: إن البرزخ ينسحب عليه حكم الدنيا لأنه قبل يوم القيامة في استكثارهم من الأعمال وزيادة الأجور، وأن المنقطع في الآخرة إنما هو التكليف، وقد تحصل الأعمال في الآخرة من غير تكليف على سبيل التلذذ بها، ولهذا ورد أنهم يسبحون ويقرءون القرآن، ومن هذا سجود النبي صلى الله عليه وسلم وقت الشفاعة.
وقد قال صاحب "التلخيص": إن ماله عليه السلام قائم على نفقته وملكه، وعده من خصائصه.
ونقل إمام الحرمين عنه أنه ما خلفه بقي على ما كان عليه في حياته، فكان ينفق منه أبو بكر على أهله وخدمه، وكان يرى أنه باق على ملك النبي صلى الله عليه وسلم. فإن الأنبياء أحياء.
__________
الجنة في قبة خضراء، يخرج عليهم رزقهم بكرة وعشية". رواه أحمد، "فلا يبعد أن يحجوا" ويلبوا "ويصلوا" وهذا لا يدفع السؤال: كيف تقع أعمال الدنيا في الآخرة، وليست دار عمل، وكما يرد هذا في الأنبياء يرد أيضًا في الشهداء، والأحسن الجواب بأنه ورد عن الشارع، وهو ممكن، فيجب قبوله، ولا يبحث فيه بشيء، وكون الآخرة ليست دار عمل، أي: مكلف به، وأعمالهم إنما هي لمجرد التلذذ وتيسيره لهم، فهو من جملة النعيم، "أو نقول" في الجواب: "أن البرزخ ينسحب" ينحر "عليه حكم الدنيا لأنه قبل يوم القيامة" وكل ما قبله يعد من الدنيا "في استكثارهم من الأعمال وزيادة الأجور، وأن المنقطع في الآخرة إنما هو التكليف وقد تحصل الأعمال في الآخرة من غير تكليف على سبيل التلذذ بها" فهو من النعيم، وكان هذا تتمة الجواب الأول، "ولهذا" أي: حصول الأعمال في الآخرة تلذذًا، "ورد أنهم" أي أهل الآخرة "يسبحون ويقرءون القرآن" في الجنة، كما في مسلم مرفوعًا: "إن أهل الجنة يلهمون التسبيح والتحميد، كما يلهمون النفس"، "ومن هذا سجود النبي صلى الله عليه وسلم وقت الشفاعة" ثلاث مرات.
"وقد قال صاحب التلخيص" ابن القاص: "أن ماله عليه السلام قائم" أي: باق "على نفقته وملكه" فيصرف منه على أزواجه ومن كان ي نفقته في حياته "وعده من خصائصه، ونقل إمام الحرمين" وصححه "عنه أنه ما خلفه بقي على ما كان عليه في حياته، فكان ينفق منه أبو بكر على أهله" أي: زوجاته "وخدمه" ويصرف منه ما كان يصرف في حياته، "وكان يرى" يعتقد "أنه باقٍ على ملك النبي صلى الله عليه وسلم، فإن الأنبياء أحياء" ومال السبكي إليه لهذا التعليل،(7/366)
وهذا يقتضي إثبات الحياة في أحكام الدنيا، وذلك زائد على حياة الشهيد.
والذي صرح به النووي: زوال ملكه عليه السلام وأن ما تركه صدقة على جميع المسلمين لا يختص به ورثته.
فإن قلت: القرآن ناطق بموته عليه السلام، قال الله تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر: 30] ، وقال عليه السلام: "إني امرؤ مقبوض". وقال الصديق: فإن محمدًا قد مات، وأجمع المسلمون على إطلاق ذلك.
فأجاب الشيخ تقي الدين السبكي، بأن ذلك الموت غير مستمر، وأنه صلى الله عليه وسلم أحيي بعد الموت، ويكون انتقال الملك ونحوه مشروطًا بالموت المستمر، وإلا فالحياة الثانية.
__________
"وهذا يقتضي إثبات الحياة في أحكام الدنيا، وذلك زائد على حياة الشهيد" لأنها وإن كانت واقعة، لكن يزول ملكه معها، وتعتد نساؤه ويورث ماله فلا ينفق شيء منه على زوجاته وخدمه اتفاقًا في ذلك كله بخلاف الأنبياء، ففيه خلاف.
"والذي صرح به النووي" وقال إنه الصواب، كما مر قريبًا "زوال ملكه عليه السلام" بالموت، "وأن ما تركه صدقه على جميع المسلمين، لا يختص به ورثته" وإنما أنفق منه على زوجاته لوجوب نفقتهن في تركته مدة حياتهن، لأنهن في معنى المعتدات لحرمة النكاح عليهن أبدًا، وليس ذلك لإرثهن منه، ولذلك اختصصن بمساكنهن مدة حياتهن، ولم يرثها ورثتهن بعدهن "فإن قلت" كيف يكون حيًا ويختلف في زوال ملكه عن ماله وفي عدة زوجاته، وهذا "القرآن ناطق بموته عليه السلام".
"قال الله تعالى" خطابًا له صلى الله عليه وسلم: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَُّمْ مَيِّتُونَ} أي: ستموت ويموتون، فلا شماتة بالموت، نزلت لما استبطأ الكفار موته عليه السلام، وقال عليه السلام: "إني امرؤ مقبوض". وقال الصديق" ومن كان يعبد محمدًا، "فإن محمدًا قد مات، وأجمع المسلمون على إطلاق ذلك" ورجع عمر عن قوله أنه ما مات، ولن يموت حتى يفني الله المنافقين، فقام لما بويع أبو بكر، واستوى على منبره عليه السلام، وتشهد، ثم قال: أما بعد، فإني قلت لكم مقالتي بالأمس، ولم تكن كما قلت، وإني والله ما وجدتها في كتاب الله، ولا في عهدٍ عهِدَ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكني كنت أرجو أن يعيش حتى يكون آخرنا موتًا، فاختار الله له ما عنده، "فأجاب" أي: فأقول أجاب، لأن هذا ليس من المواضع التي تدخل عليها الفاء "الشيخ تقي الدين السبكي بأن ذلك الموت غير مستمر، وأنه صلى الله عليه وسلم أحيي بعد الموت، ويكون انتقال الملك ونحوه" كاعتداد الزوجات "مشروطًا بالموت المستمر، وإلا فالحياة الثانية حياة(7/367)
حياة أخروية، ولا شك أنها أعلى وأكمل من حياة الشهداء، وهي ثابتة للروح بلا إشكال، وقد ثبت أن أجساد الأنبياء لا تبلى، وعود الروح إلى الجسد ثابت في الصحيح لسائر الموتى فضلا عن الشهداء، فضلا عن الأنبياء، وإنما النظر في استمرارها في البدن، وفي أن البدن يصير حيًا كحالته في الدنيا، أو حيًا بدونها، وهي حيث شاء الله تعالى، فإن ملازمة الروح للحياة أمر عادي لا عقلي، فهذا مما يجوزه العقل، فإن صح به سمع اتبع، وقد ذكره جماعة من العلماء.
ويشهد له صلاة موسى في قبره، فإن الصلاة تستدعي جسدًا حيًا، وكذلك الصفات المذكورة في الأنبياء ليلة الإسراء، كلها صفات الأجسام، ولا يلزم من كونها حياة حقيقية أن تكون الأبدان معها كما كانت في الدنيا من الاحتياج إلى الطعام والشراب وغير ذلك من صفات الأجسام.
__________
أخروية ولا شك أنها أعلى وأكمل من حياة الشهداء" لفضل الأنبياء عليهم، "وهي ثابتة للروح بلا إشكال" أي: بلا خلاف عند أهل السنة، إذ لا تموت بموت الأجساد في جميع الناس، ففي فنائها عند القيامة توفيه بظاهر قوله تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} الآية، وعدمه قولان استقرب السبكي الثاني.
"وقد ثبت أن أجساد الأنبياء لا تبلى، وعود الروح إلى الجسد ثابت في الصحيح لسائر الموتى فضلا" أي: نهاية "عن الشهداء، فضلا عن الأنبياء، وإنما النظر في استمرارها في البدن، وفي أن البدن يصير حيًا كحالته في الدنيا، أو حيًا بدونها، وهي حيث شاء الله تعالى، فإن ملازمة الروح للحياة أمر عادي" أجرى الله به العادة، فيجوز تخلفه "لا عقلي" فيمتنع بخلفه "فهذا" أي: الحياة بلا روح "مما يجوزه العقل، فإن صح به سمع اتبع، وقد ذكره جماعة من العلماء، ويشهد له صلاة موسى في قبره" كما ثبت في الصحيح.
واختلف فيها، فقيل: الصلاة اللغوية، أي: يدعو الله ويذكره ويثني عليه وقيل: الشرعية، ولا مانع من ذلك، لأنه إلى الآن في الدنيا، وهي دار تعبد، وعلى هذا جرى القرطبي، فقال: الحديث يدل بظاهره على أنه رآه رؤية حقيقية في اليقظة، وأنه حي في قبره، يصلي الصلاة التي كان يصليها في الحياة، وذلك ممكن، "فإن الصلاة تستدعي جسدًا حيًا" سواء قلنا أنها الشرعية أو اللغوية، "وكذلك الصفات المذكورة في الأنبياء ليلة الإسراء، كلها صفات الأجسام، ولا يلزم من كونها حياة حقيقية أن تكون الأبدان معها، كما كانت في الدنيا من الاحتياج إلى الطعام والشراب، وغير ذلك من صفات الأجسام" لأن ذلك عادي لا عقلي،(7/368)
التي نشاهدها بل يكون لها حكم آخر، فليس في العقل ما يمنع إثبات الحياة الحقيقية لهم.
وأما الإدراكات كالعلم والسماع فلا شك أن ذلك ثابت لهم بل ولسائر الموتى، حكاه الشيخ زين الدين المراعي، وقال: إنه مما يعز وجوده وفي مثله يتنافس المتنافسون.
__________
وهذه الملائكة أحياء، ولا يحتاجون إلى ذلك، وقيد بقوله: "التي نشاهدها" حتى لا يرد عليهم أنهم يأكلون ويشربون مما لا نشاهده.
وفي الفتاوى الرملية: الأنبياء والشهداء والعلماء لا يبلون، والأنبياء والشهداء يأكلون في قبورهم، ويشربون، ويصلون، ويصومون ويحجون، واختلف هل ينكحون نساءهم، أم لا؟ ويثابون على صلاتهم وحجهم، ولا كلفة عليهم في ذلك، بل يتلذذون، وليس هو من قبيل التكليف؛ لأن التكليف انقطع بالموت، بل من قبيل الكرامة لهم ورفع درجاتهم بذلك، "بل يكون لها حكم آخر، فليس في العقل ما يمنع من إثبات الحياة الحقيقية لهم".
"وأما الإدراكات كالعلم والسماع، فلا شك أن ذلك ثابت لهم، بل ولسائر الموتى" كما ورد ذلك في الأحاديث.
قال صلى الله عليه وسلم: "ما من رجل يزور قبر أخيه، ويجلس عليه إلا استأنس ورد عليه حتى يقوم"، رواه ابن أبي الدنيا، وقال صلى الله عليه وسلم: "ما من أحد يمر بقبر أخيه المؤمن، كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه، إلا عرفه ورد عليه السلام"، رواه ابن عبد البر، وصححه أبو محمد عبد الحق، وقال صلى الله عليه وسلم: "إن الميت يعرف من يغسله ويحمله ويدليه في قبره"، رواه أحمد وغيره.
"حكاه الشيخ زين الدين المراعي" بفتح الميم، معجمة آخره المحدث، العالم النحرير، "وقال: إنه ما يعز وجوده، وفي مثله يتنافس المتنافسون" يرغبون بالمبادرة إليه لنفاسته، وفي نبأ الأذكياء حياة النبي صلى الله عليه وسلم في قبره هو وسائر الأنبياء، معلومة عندنا علمًا قطعيًا لما قام عندنا من الأدلة في ذلك، وتواترت به الأخبار، وألف البيهقي في ذلك جزأ، وفي تذكرة القرطبي عن شيخه: الموت ليس بعدم محض، وإنما هو انتقال من حال إلى حال، ويدل على ذلك؛ أن الشهداء بعد قتلهم وموتهم أحياء عند ربهم يرزقون، فرحين مستبشرين، وهذه صفة الأحياء في الدنيا، وإذا كان هذا في الشهداء، فالأنبياء أحق بذلك وأولى، وقد صح أن الأرض لا تأكل أجسادهم؛ وأنه صلى الله عليه وسلم اجتمع بالأنبياء ليلة الإسراء في بيت المقدس، وفي السماء، ورأى موسى قائمًا يصلي في قبره، وأخبره صلى الله عليه وسلم بأنه يرد السلام على كل من يسلم عليه، إلى غير ذلك مما يحصل من جملته القطع بأن موت الأنبياء إنما هو راجع إلى أن غيبوا عنا بحيث لا ندركهم وإن(7/369)
ومنها: أنه وكل بقبره ملك يبلغه صلاة المصلين عليه.
__________
كانوا موجودين أحياء، ولا يراهم أحد من نوعنا إلا من خصه الله تعالى بكرامة من أوليائه، انتهى، ولا تدافع بين رؤيته موسى يصلي في قبره، وبين رؤيته في السماء لأن للأنبياء مراتع ومسارح يتعرفون فيما شاءوا، ثم يرجعون، أو لأن أرواحهم بعد فراق الأبدان في الرفيق الأعلى، ولها إشراق على البدن وتعلق به، فيتمكنون من التعرف والتقرب، بحيث يرد السلام على المسلم، وبهذا التعلق رآه يصلي في قبره، ورآه في السماء، ورأى الأنبياء في بيت المقدس وفي السماء كما أن نبينا بالرفيق الأعلى، وبدنه في قبره يرد السلام على من يسلم عليه، ولم يفهم هذا من قال: رؤيته يصلي في قبره منامية، أو تمثيل، أو إخبار عن وحي، لا رؤية عين، فكلها تكلفات بعيدة.
وأخرج البيهقي في كتاب حياة الأنبياء والحاكم في تاريخه، عن أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الأنبياء لا يتركون في قبورهم بعد أربعين ليلة، ولكن يصلون بين يدي الله تعالى حتى ينفخ في الصور".
قال الحافظ في سنده: محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى سيئ الحفظ، قال: وأما ما أوردهم الغزالي والرافعي، بلفظ: "أنا أكرم على ربي أن يتركني في قبري بعد ثلاث"، فلا أصل له إلا إن أخذ من رواية ابن أبي ليلى هذه، وليس الأخذ بجيد إذ تلك قابلة للتأويل، قال البيهقي: إن صح، فالمراد أنهم لا يتركون يصلون، إلا هذا المقدار، ويكونون مصلين بين يدي الله.
"ومنها: أنه وكل بقبره ملك" قائم على قبره إلى يقوم اليامة، "يبلغه صلاة المصلين عليه" بلفظ محمد وأحمد وغيرهما من أسمائه، كالعاقب والماحي، ولام المصلين للاستغراق، فهي للعموم، وعموم الأشخاص يستلزم عموم الأحوال ككون المصلي جنبًا، أو متعاطيًا لمحرم، أو في مكان لا يذكر الله فيه كالأخلية، ولا مانع من ذلك لجواز أن النهي لأمر خارج، وهو لا ينافي التبليغ الذي يترتب عليه الثواب، ويبلغها له عقب التلفظ بها، كما روى الديلمي عن أبي بكر، رفعه: "أكثروا الصلاة عليّ، فإن الله وكل بي ملكًا عند قبري، فإذا صلى علي رجل من أمتي قال لي ذلك الملك: يا محمد إن فلان بن فلان يصلي عليك الساعة"، وبه سقط توهم أنه لا حاجة إلى ذلك لأن أعمال أمته كلها تعرض عليه، والصلاة من جملتها لأنها تعرض ساعة التلفظ بها، وهو غير وقت عرض الأعمال، ولذا جعلوا من أدلة حياته على الدوام، وأن روحه لا تفارقه أبدًا، قوله صلى الله عليه وسلم: "ما من أحد يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام"، رواه أبو داود بهذا اللفظ لاستحالة خلو الوجود كله من أحد يسلم عليه عادة، ويأتي إن شاء الله(7/370)
رواه أحمد والنسائي والحاكم وصححه بلفظ: "إن لله ملائكة سياحين في الأرض يبلغوني عن أمتي أمة السلام". وعند الأصفهاني عن عمارة: "إن لله ملكًا أعطاه الإجابة سمع العباد كلهم
__________
تعالى بسط هذا الحديث في المقصد العاشر، "رواه أحمد والنسائي" في الصلاة "والحاكم، وصححه" في التفسير، وابن حبان، والطبراني، وأبو الشيخ، والبيهقي عن ابن مسعود، "بلفظ" قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن لله ملائكة" جمع ملك نكره على معنى بعض صفته "سياحين" بسين مهملة من السياحة، وهي السير، يقال: ساح في الأرض، يسيح سياحة إذا ذهب فيها، وأصله من السيح، وهو الماء الجاري المنبسط "في الأرض" في مصالح بني آدم، وفي رواية: يدله في الهواء، "يبلغوني عن" وفي رواية: "من أمتي" أمة الإجابة، "السلام" ممن يسلم عليّ منهن، وإن بعد قطره وتناءت داره، أي: فيرد عليهم بسماعه منهم؛ كما في خبر آخر، وفيه تعظم له صلى الله عليه وسلم، وإجلال لأمته، حيث سخر الملائكة الكرام لذلك، وهذا الحديث في الصحيحين دون قوله: "سياحين" فلم يعزه المصنف لهما لزيادتهما، فإن ورد أنه لا يطابق ترجمته، إذ هي ملك يبلغه الصلاة، والحديث ملائكة تبلغه السلام، فالجواب: أنه أراد يملك الجنس، وهو نوعان، واحد موكل بالقبر وآخرون سياحون، وأراد بالصلاة ما يشمل السلام مجازًا، وفي الحديث الأول تبليغ السلام، والثاني تبليغ الصلاة فطابق الترجمة، ولا يجاب بأن السياحين يبلغون الموكل لأنه صرح برده عليهم، بسماعه منهم، ودعوى التجوز ممنوعة، فالأصل الحقيقة.
قال بعض: هل يبلغ السياحون غير السلام، أو الملك غير الصلاة؟ لم أقف على شيء في ذلك، والظاهر لا لأنه غير مشروع وكأنه أراد بغير الصلاة والسلام نحو ترضية وترحم عليه، لتعليله بأنه لم يشرع، ولأن الأمر توفيقي لا دخل فيه للقياس.
"وعند الأصفهاني" بكسر الهمزة وفتحها، وهي همزة قطع، قال النووي: ويجوز حذفها في الوصل، وبفتح الموحدة، وقد تكسر، ويقال بالفاء مفتوحة ومكسورة، مع كسر الهمزة وفتحها مدينة معروفة، وهو أبو الشيخ عبد الله بن محمد بن جعفر بن حيان، بفتح المهملة والتحتية، حافظ أصبهان، ومسند ذلك الزمان سنة ست وتسعين وثلاثمائة، أو أراد به الحافظ أبا القاسم إسماعيل بن محمد بن الفضل بن علي القرشي، التيمي، الطلحي، الأصفهاني الإمام الحافظ الكبير، الذي يضرب به المثل في الصلاة مات سنة خمس وثلاثين وخمسمائة، وكلاهما صحيح، فأبو الشيخ روى هذا الحديث في كتاب العظمة، وأبو القاسم رواه في كتاب الترغيب والترهيب له، وقصر المصنف في العزو، فقد رواه البخاري في تاريخه، والطبراني، والعقيلي، وابن النجار، كلهم عن عمار بن ياسر، أحد السابقين، وقوله: "عن عمارة" تصحيف من الكتاب، فالصواب إسقاط الهاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "إن لله ملكًا أعطاه الإجابة سمع العباد كلهم,(7/371)
فما من أحد يصلي عليّ صلاة إلا أبلغنيها".
__________
أي: قوة يقتدر بها على سماع ما ينطق به كل مخلوق من إنس وجن وغيرهما "فما" وفي رواية: فليس "من أحد يصلي علي صلاة إلا" سمعها و"أبلغنيها".
زاد الطبراني في روايته: "وإني سألت ربي أن لا يصلي علي عبد صلاة إلا صلى عليه عشر أمثالها" للطبراني أيضًا عن عمار بن ياسر، عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إن لله ملكًا أعطاه أسماع الخلائق كلها، وهو قائم على قبري، إذا مت إلى يوم القيامة، فليس أحد من أمتي يصلي عليّ صلاة إلا سماه باسمه واسم أبيه، وقال: يا محمد صلى عليك فلان من فلان، فيصلي الرب تبارك وتعالى عليه بكل واحدة عشرًا".
وروى الخطيب عن أبي هريرة، مرفوعًا: "من صلى عليّ عند قبري سمعته، ومن صلى علي نائيًا وكل الله به ملكًا يبلغني"، ورواه الديلمي بلفظ: "نائيًا أبلغته" أي: بعيدًا أبلغنيه الملك، فظاهره أن تبليغه ما لم يكن المصلي عند القبر الشريف، وإلا سمعه صلى الله عليه وسلم بنفسه.
قال الشهاب بن حجر في فتاويه: والذي يظهر أن المراد بالعندية أن يكون في محل قريب من القبر، بحيث يصدق عليه عرفًا أنه عنده، وبالبعد عنه ما عدا ذلك، وإن كان بمسجده صلى الله عليه وسلم وفي القول البديع: إذا كان المصلي عند قبره الشري سمعه صلى الله عليه وسلم بلا واسطة، سواء كان ليلة الجمعة أو غيرها، وما يقوله بعض الخطباء ونحوهم أنه يسمع بأذنيه في هذا اليوم من يصلي عليه، فهو مع حمله على القريب لا مفهوم له، وسئل النووي عمن حلف بالطلاق الثلاث؛ أنه صلى الله عليه وسلم يسمع الصلاة عليه هل يحنث أم لا؟ فأجاب: لا يحكم عليه بالحنث للشك في ذلك، والورع أنه يلزمه الحنث انتهى، لكن يعارضه خبر: "من صلى علي عند قبري، وكل الله به ملكًا يبلغني، وكفي أمر دنياه وآخرته، وكنت له شفيعًا، أو شهيدًا يوم القيامة". وجمع صاحب الجوهر المنظم بأنه يسمع الصلاة والسلام عند قبره بلا واسطة، ويبلغه الملك أيضًا إشعارًا بمزيد خصوصيته والاعتناء بشأنه، والاستمداد له بذلك.
وروى الطبراني وغيره عن الحسن بن علي، رفعه: "حيثما كنتم فصلوا عليّ، فإن صلاتكم تبلغني"، ومعناه: لا تتكلفوا المعاودة إلى قبري، لكن الحضور فيه مشافهة أفضل من الغيبة والمنهي عنه الاعتياد الرافع للحشمة، المخالف لكمال المهابة.
وأخرج البيهقي في شعب الإيمان عن أنس قال صلى الله عليه وسلم: "إن أقربكم مني يوم القيامة في كل موطن" أكثركم عليّ صلاة في الدنيا، من صلى عليّ يوم الجمعة، وليلة الجمعة قضى الله له مائة حاجة، سبعين من حوائج الآخرة، وثلاثين من حوائج الدنيا، ثم يوكل الله بذلك ملكًا يدخله في قبري، كما يدخل عليكم الهدايا، يخبرني بمن صلى علي باسمه، ونسبه إلى عشيرته، فأثبته عندي في صحيفة بيضاء".(7/372)
وتعرض أعمال أمته عليه، ويستغفر لهم، روى بن المبارك عن سعيد بن المسيب قال: "ليس من يوم إلا وتعرض على النبي صلى الله عليه وسلم أعمال أمته غدوة وعشيًا فيعرفهم بسيماهم وأعمالهم".
__________
وأخرج الطبراني والبيهقي عن أبي هريرة، وابن عدي عن أنس مرفوعًا: "أكثروا الصلاة علي في الليلة الغراء، واليوم الأزهر، فإن صلاتكم تعرض عليّ"، قالوا: وكيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت؟ أي: بليت، فقال: "إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء"، أي: لأنها نور، وهو لا يتغير بل ينتقل من حالة إلى حالة.
وروى ابن ماجه برجال ثقات عن أبي الدرداء مرفوعًا: "أكثروا من الصلاة علي يوم الجمعة فإنه يوم مشهود تشهده الملائكة، وإن أحدًا لن يصلي عليّ إلا عرضت عليّ صلاته حتى يفرغ منها" قلت: وبعد الموت؟ قال: "وبعد الموت، إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء"، أي: عرضت علي عرضًا خاصًا، زيادة شرف للمصلي في ذلك اليوم فلا ينافي أنها تعرض عليه في أي وقت صلى عليه ولذا قال: "أكثروا من الصلاة عليّ في يوم الجمعة وليلة الجمعة، فمن فعل ذلك كنت له شهيدًا وشافعًا يوم القيامة"، رواه البيهقي عن أنس بإسناد ضعيف لكنه حسن لشواهده، أي: شهيدًا بأعماله التي منها الصلاة عليّ، وشافعًا له شفاعة خاصة اعتناء به، وإلا فشفاعته عامة، ووجه مناسبة الإكثار من الصلاة عليه يوم القيامة وليلتها أن يومها سيد أيام الأسبوع، والنبي صلى الله عليه وسلم سيد الخلق فللصلاة عليه فيه مزية ليست لغيره، وأيضًا فكل خير تناله الأمة في الدارين إنما هو بواسطته، وأعظم كرامة تحصل لهم في يوم الجمعة، وهي بعثهم إلى منازلهم في الجنة، وكما أنه عيد لهم في الدنيا، فكذا في الأخرى فإنه يوم المزيد الذي يتجلى لهم الحق تعالى فيه، وهذا حصل لهم بواسطته؛ فمن شكره إكثار الصلاة عليه فيه، وذكر أبو طالب في القوت: أن أقل الأكثرية ثلاثمائة مرة، وورد في الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم ألفاظ كثيرة، أشهرها: اللهم صلى على محمد، وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، ويأتي إن شاء الله تعالى مزيد لذلك في المقصد السابع والأخير.
"وتعرض عليه أعمال أمته" حسنها وسيئها فيحمد الله على حسنها، "ويستغفر لهم" سيئها، وروى البزار بسند جيد عن ابن مسعود، رفعه: "حياتي خير لكم ومماتي خير لكم، تعرض عليّ أعمالكم، فما كان من حسن حمدت الله عليه، وما كان من سيئ استغفرت الله لكم" أي: طلبت مغفرة الصغائر وتخفيف عقوبات الكبائر، وظاهره أن المراد عرض أعمال المكلفين، إذ غير المكلف لا ذنب له، ويحتمل العموم، وذلك العرض كل يوم مرتين كما "روى ابن المبارك" عبد الله، الذي تستنزل الرحمة بذكره "عن سعيد بن المسيب" التابعي الجليل ابن الصحابي، "قال: ليس من يوم إلا وتعرض على النبي صلى الله عليه وسلم أعمال أمته غدوة وعشيًا" زيادة إكرام لهم، "فيعرفهم بسيماهم وأعمالهم" فيحمد الله ويستغفر لهم، فإذا علم المسيء ذلك قد(7/373)
ومنها: أن منبره على حوضه كما في الحديث وفي رواية: "ومنبري على ترعة من ترع الجنة" وأصل الترعة الروضة على المكان المرتفع خاصة، فإذا كانت في المطمئن فهي روضة. ولم يختلف أحد من العلماء أنه على ظاهره وأنه حق محسوس موجود، فإن القدرة صالحة لا عجز فيها، وكل ما أخبر به الصادق عليه الصلاة والسلام من أمور الغيب فالإيمان به واجب.
__________
يحمله على الإقلاع، ولا يعارضه قوله صلى الله عليه وسلم: "تعرض الأعمال كل يوم الاثنين والخميس على الله، وتعرض على الأنبياء والآباء والأمهات يوم الجمعة، فيفرحون بحسناتهم، وتزداد وجوههم بياضًا وإشراقًا، فاتقوا الله ولا تؤذوا موتاكم"، رواه الحكيم الترمذي، لجواز أن العرض على النبي صلى الله عليه وسلم كل يوم على وجه التفصيل، وعلى الأنبياء، ومنهم نبينا على وجه الإجمال يوم الجمعة، فيمتاز صلى الله عليه وسلم بعرض أعمال أمته كل يوم تفصيلا، ويوم الجمعة إجمالا، ويأتي إن شاء الله تعالى وجه أن مماته خير في المقصد العاشر.
"ومنها: أن منبره على حوضه" أي: ينقل المنبر الذي قال عليه هذه المقالة يوم القيامة، فينصب على الحوض، ثم تصير قوائمه رواتب في الجنة، كما روى الطبراني "كما في حديث" أخرجه الشيخان، وأحمد، والترمذي عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة، ومنبري على حوضي". "وفي رواية" عند النسائ في هذا الحديث بدل قوله: "ومنبري على حوضي": "ومنبري على ترعة " بضم، فسكون "من ترع" بضم، ففتح، جمع ترعة "الجنة" أي: موضع معين فيها، "وأصل الترعة" أي حقيقتها لغة "الروضة على المكان المرتفع خاصة، فإذا كانت في المطمئن، فهي روضة" وبهذه الحقيقة فسرها الديلمي، قال: وقيل هي الدرجة، وفي رواية لأحمد والطبراني عن بعض الصحابة تفسير الترعة بالباب، وسوى في القاموس بين هذه الحقائق، فظاهره أنها كلها لغوية، والروضة الموضع المعجب بالزهور لاستراضة المياه السائلة إليها، أي: سكونها بها، وعلم من المصنف أن الروضة تطلق على مجمع الزهور في المرتفع والمنخفض، ويخص المنخفض بالروضة دون الترعة.
"ولم يختلف أحد من العلماء أنه على ظاهره" أي: إن المراد منبره الذي كان يخطب عليه في الدنيا، "وأنه حق محسوس" مشاهد بحاسة البصر، "موجود" في الجنة وعلى الحوض قبل، "فإن القدرة صالحة" لذلك "لا عجز فيها" تعليل لنفي الخلاف، "وكل ما أخبر به الصادق عليه الصلاة والسلام من أمور الغيب، فالإيمان به واجب" إذ لا ينطق عن الهوى، لكن في نفس الخلاف نظر، فالخلاف موجود، فقيل: هو منبره الذي كان يخطب عليه.(7/374)
ومنها أن ما بين منبره وقبره روضة من رياض الجنة، رواه البخاري بلفظ: "ما بين بيتي ومنبري"، وهذا يحتمل الحقيقة والمجاز.
أما الحقيقة: فبأن يكون ما أخبر عنه صلى الله عليه وسلم بأنه من الجنة مقتطعًا منها، كما أن الحجر الأسود منها.
__________
قال السيوطي: وهو الأصح، وقيل: منبر يوضع له هناك، وقيل: التعبد عنده يورث الجنة، فكأنه قطعة منها، واستبعد الثاني بأن في رواية أحمد برجال الصحيح عن أبي هريرة، رفعه: "منبري هذا على ترعة من ترع الجنة" فاسم الإشارة ظاهرًا، وصريح في أنه منبره في الدنيا، والثالث: بأنه لا يكون خصوصية له، إذا التعبد في أي مكان يورث الجنة، اللهم إلا أن يجاب عن المصنف بأن المعنى لم يختلف أحد في أن المنبر على ظاهره، وإن اختلفوا في أنه الذي كان في الدنيا أو غيره، وفي أنه على حذف مضاف، أي: العمل عنده أم لا؟ ويحتمل أن لفظ أحد بمعنى الجماعة، أي: لم يختلف جماعة في هذا، وإن اختلف غيرهم على نحو قول البيضاوي في: {لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} أحد في معنى الجمع لوقوعه في سياق النفي، أو إن أحد بمعنى واحد، كما في القاموس، أي: لم يتردد واحد في ذلك، فلم يقل أراد بالمنبر المقام، وهذا قريب مما قبله لكن قال شيخنا: تقريرًا هذا من حيث اللفظ، ومرادهم بمثله حكاية الاتفاق، فالأقرب الأول.
"ومنها: أن ما بين منبره وقبره روضة من رياض الجنة، رواه البخاري" ومسلم وغيرهما، "بلفظ: "ما بين بيتي ومنبري" ووقع في رواية ابن عساكر للبخاري في فضل المدينة من صحيحه: وقبري بدل بيتي، قال الحافظ: وهو خطأ، فقد قدم البخاري الحديث في كتاب الصلاة بإسناده بلفظ: بيتي، وكذا هو في مسند مسدد شيخ البخاري فيه، نعم وقع في حديث سعد بن أبي وقاص عند البزار برجال ثقات، وابن عمر عند الطبراني بلفظ: قبري، فعلى هذا المراد بالبيت في قوله: بيتي أحد بيوته لا كلها، وهو بيت عائشة الذي صار فيه قبره، وقد ورد الحديث بلفظ: "ما بين المنبر وبيت عائشة روضة من رياض الجنة"، أخرجه الطبراني في الأوسط، "وهذا يحتمل الحقيقة" بأن يكون على ظاهره ولم يثبت خبر عن بقعة بخصوصها أنها من الجنة إلا هذه البقعة، "والمجاز. أما الحقيقة فبأن يكون ما أخبر عنه صلى الله عليه وسلم بأنه من الجنة مقتطعًا منها" نقل ابن زبالة أن ذرع ما بين المنبر والبيت الذي فيه القبر الآن ثلاث وخمسون ذراعًا، وقيل: أربع وخمسون وسدس وقيل: خمسون إلا ثلثي ذراع.
قال الحافظ: وهو الآن كذلك، فكأنه نقص لما أدخل بين الحجرة في الجدار "كما أن الحجر الأسود منها" كما قال صلى الله عليه وسلم: "الحجر الأسود من الجنة"، رواه أحمد عن أنس والنسائي(7/375)
وكذلك النيل والفرات من الجنة، وكذلك الثمار الهندية من الورق التي أهبط بها آدم عليه السلام من الجنة، فاقتضت الحكمة الإلهية أن يكون في هذه الدار من مياه الجنة، ومن ترابها، ومن حجرها، ومن فواكهها، حكمة حكيم جليل.
وأما المجاز: فبأن يكون من إطلاق اسم المسبب على السبب، فإن ملازمة ذلك المكان للصلاة والعبادة سبب في نيل الجنة، قاله ابن أبي جمرة، وهو معنى قول بعضهم: لكون العبادة فيه تئول إلى دخول العابد روضة الجنة.
وهذا فيه نظر: إذ لا اختصاص لذلك بتلك البقعة على غيرها.
__________
عن ابن عباس، والأصل الحقيقة، ويؤيده ما للخطيب وابن عساكر مرفوعًا: "والحجر الأسود ياقوتة بيضاء من ياقوت الجنة، وإنما سودته خطايا المشركين، يبعث يوم القيامة مثل أحد يشهد لمن استلمه وقبله من أهل الدنيا".
ووى الأزرقي مرفوعا: "الحجر الأسود نزل به ملك من السماء". "وكذلك النيل والفرات من الجنة".
وروى مسلم عن أبي هريرة، مرفوعًا: "سيحان وجيحان والفرات والنيل كل من أنهار الجنة" , وهو على ظاهره على الأصل، وقيل: مؤول، "وكذلك الثمار الهندية من الورق التي أهبط بها آدم عليه السلام من الجنة، فاقتضت الحكمة الإلهية أن يكون في هذه الدار من مياه الجنة" كالنيل والفرات، "ومن ترابها" وهو الأرض التي بين المنبر والقبر، "ومن حجرها" وهو الحجر الأسود، "ومن فواكهها" وهو الثمار الهندية، "حكمة حكيم جليل" ليتدبر العاقل، فيسارع إليها بالأعمال الصالحة، وقيل في معنى الحقيقة أن ذلك الموضع ينقل بعينه في الآخرة إلى الجنة.
"وأما المجاز، فبأن يكون من إطلاق اسم المسبب على السبب، فإن ملازمة ذلك المكان للصلاة والعبادة فيه سبب في نيل الجنة، قاله ابن أبي جمرة" بجيم وراء، وفيه تسمح إذ الروضة ليست مسببة من حيث ذاتها، بل الوصول إليها مسبب عن العمل، لكنها لما كانت المقصودة أطلق اسمها مريدًا التعبد الموصل إليها، "وهو معنى قول بعضهم لكون العبادة فيه تئول" أي: تؤدي، أي: تكون طريقًا "إلى دخول العابد روضة الجنة" ففيه تجوز أيضًا، لأن الأيلولة الرجوع، "وهذا فيه نظر؛ إذ لا اختصاص لذلك بتلك البقعة على غيرها" فالعبادة في أي مكان كذلك وجوابه أنها سب قوي يوصل إليها على وجه أتم من بقية الأسباب، أو هي سبب لروضة خاصة أجل من مطلق الدخول والتنعم، فإن أهل الجنة يتفاوتون في منازلها بقدر أعمالهم.(7/376)
في كتاب "بهجة النفوس" لابن أبي جمرة أيضًا حكاية قول: إن تلك البقعة تنقل فتكون في الجنة، يعني روضة من رياضها. قال: والأظهر الجمع بين الوجهين معًا، يعني احتمال كونها تنقل إلى الجنة، وكون العمل فيها موجبًا لصاحبه روضة من رياض الجنة، ويأتي مزيد لذلك في فصل الزيارة من المقصد الأخير إن شاء الله تعالى.
ومنها: أنه صلى الله عليه وسلم أول من ينشق عنه القبر. وفي رواية مسلم: "أنا أول من تنشق عنه الأرض".
وهو أول من يفيق من الصعقة.
__________
"وفي كتاب بهجة النفوس" وتحليها بمعرفة ما عليها ولها "لابن أبي جمرة أيضًا حكاية قول إن تلك البقعة تنقل بعينها" يوم القيامة، "فتكون في الجنة، يعني روضة من رياضها، قال: والأظهر الجمع بين الوجهين معًا" إذ لا تخالف بينهما، "يعني احتمال كونها تنقل إلى الجنة، وكون العمل فيها موجبًا لصاحبه روضة من رياض الجنة" أخصر، وأجمع من هذا قول المصنف على البخاري، ولا مانع من الجمع، فهي من الجنة، والعمل فيها يوجب لصاحبه روضة من الجنة، وتنقل هي أيضًا إلى الجنة، "ويأتي مزيد لذلك في فصل الزيارة من المقصد الأخير إن شاء الله تعالى" وهو نقل كلام ابن أبي جمرة في الاستدلال على ذين الوجهين بالنظر والقياس بنحو ورقة، وقيل: في وجه المجاز أيضًا أنه من التشبيه البليغ، أي: كروضة من رياض الجنة في تنزل الرحمة وحصول السعادة.
"ومنها: أنه صلى الله عليه وسلم أول من ينشق عنه القبر" كما قال صلى الله عليه وسلم: "أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، وأول من ينشق عني القبر، وأول شافع، وأول مشفع". رواه مسلم وأبو داود عن أبي هريرة، أي: أول من يعجل إحياؤه مبالغة في إكرامه، وتخصيصًا بتعجيل جزيل إنعامه.
"وفي رواية مسلم" أيضًا من حديث أبي هريرة: "أنا أول من تنشق عنه الأرض" فلا يتقدم عليه أحد، أي: أرض قبره، فهو مساوٍ للرواية قبله، زاد الترمذي وقال: حسن غريب، والحاكم من حديث ابن عمر: "ولا فخر، ثم أبو بكر، ثم عمر، ثم آتي أهل البقيع، فيحشرون معي، ثم أنتظر أهل مكة حتى أحشر بين الحرمين". قال السمهودي: وفيه بشرى عظيمة لكل من مات بالمدينة، وإشعار بذم الخروج منها مطلقًا، وهو عام أبدًا في كل زمان كما نقله المحب الطبري وارتضاه.
وروى الترمذي عن أنس مرفوعًا: "أنا أول الناس خروجًا إذا بعثوا، وأنا خطيبهم إذا وقدوا، وأنا مبشرهم إذا أيسوا، لواء الحمد يومئذ بيدي، وأنا أكرم ولد آدم على ربي، ولا فخر". "وهو أول من يفيق" بضم أوله "من الصعقة" وهي غشي يلحق من سمع صوتًا، أو رأى شيئًا يفزع(7/377)
قال عليه الصلاة والسلام: "أنا أول من يرفع رأسه بعد النفخة فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش، فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة الطور". رواه البخاري.
والظاهر أنه عليه الصلاة والسلام لم يكن عنده علم بذلك حتى أعلمه الله تعالى، فقد أخبر عن نفسه الكريمة أنه أول من ينشق عنه القبر.
وهو أول من.
__________
منه، واستشكل كون جميع الخلق يصعقون، مع أن الموتى لا إحساس لهم، فقيل: المراد من كان حيًا إذ ذاك والأموات هم المستثنون في قوله تعالى: {إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} الآية، أي: من سبق له الموت قبل ذلك، فيصعق.
وأما الأنبياء، ففي حكم الأحياء، وقيل: المراد صعقة فزع بعد البعث حين تنشق السماء والأرض، وهي غشية تحصل للناس في الموقف.
قال عليه الصلاة والسلام: "أنا أول من يرفع رأسه بعد النفخة" الأخيرة، كما في الرواية، "فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش" أي بعمود من عمده، وللشيخين من حديث أبي هريرة، أيضًا: "باطش بجانب العرش"، أي: آخذ بشيء منه بقوة، فالبطش الأخذ بقوة، "فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة الطور" لما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقًا، وفي الصحيحين، أيضًا: "فما أدري أكان ممن صعق فأفاق قبلي، أم كان ممن استثنى الله"؟، أي: في قوله: {إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} الآية، فلم يصعق، وكل من الأمرين فضيلة ظاهرة لكن لا يلزم من فضله من هذه الجهة أفضليته مطلقًا، ولا منافاة بين الروايتين لأن المعنى لا أدري، أي: هذه الثلاثة كانت الإفاقة، أو الاستثناء، أو المحاسبة، "رواه البخاري" ومسلم وغيرهما، وبه استشكل كونه صلى الله عليه وسلم أول من تنشق عنه الأرض وأول من يفيق، مع التردد في خروج موسى من قبره، وأجاب عياض باحتمال أن هذه الصعقة ليست النفخة الأولى ولا الثانية التي يعقبها النشور، بل صعقة تأتي يوم القيامة حين تنشق السماء والأرض، ورده القرطبي بأنه صلى الله عليه وسلم صرح بأنه يخرج من قبره فيلقى موسى متعلقًا بالعرش، وهذا إنما هو عند نفخة البعث.
قال: ويؤيده أنه عبر بقوله: أفاق؛ لأنه إنما يقال: أفاق من الغشي وبعث من الموت، ولذا عبر عن صعقة الطور بالإفاقة، لأنها لم تكن موتًا بلا شك، وإذا تقرر ذلك ظهر صحة الحمل على أنها غشية تحصل للناس في الموقف، وأجاب المصنف كغيره، بقوله: "والظاهر أن عليه الصلاة والسلام لم يكن عنده علم ذلك" أي: كونه أول "حتى أعلمه الله تعالى" بأنه أول، "فقد أخبر عن نفسه الكريمة أنه أول من ينشق عنه القبر" كما مر في الأحاديث المفيدة علمه بإفاقته قبل موسى، فحينئذ يكون ممن استثنى الله أو جوزي بصعقة الطور، "وهو أول من يجيز" بضم الياء،(7/378)
يجيز على الصراط، رواه البخاري عن أبي هريرة.
وأنه يحشر في سبعين ألفًا من الملائكة، كما روي عن كعب الأحبار: ما من فجر يطلع إلا نزل سبعون ألف ملك يحفون بقبره عليه الصلاة والسلام يضربون بأجنحتهم حتى إذا أمسوا عرجوا وهبط سبعون ألف ملك، حتى إذا انشقت عنه الأرض خرج في سبعين ألفًا من الملائكة يوقرونه صلى الله عليه وسلم. رواه ابن النجار في تاريخ المدينة.
وأنه يحشر راكبا البراق، رواه الحافظ السلفي، كما ذكره الطبري.
__________
وكسر الجيم، وبالزاي، أي: يمضي "على الصراط" ويقطعه، وفي رواية: يجوز، وهما بمعنى يقال أجزت الوادي وجزته، "رواه البخاري" ومسلم "عن أبي هريرة" في حديث طويل بلفظ: قال صلى الله عليه وسلم: "فأكون أنا وأمتي أول من يجيز على الصراط, ودعاء الرسل يومئذ: اللهم سلم سلم". "وأنه يحشر في سبعين ألفًا من الملائكة، كما روي عن كعب الأحبار" جمع حبر، أي: ملجأ العلماء، الحميري أبي إسحاق الثقة المخضرم، كان من أهل اليمن، فسكن الشام، مات في خلافة عثمان أنه دخل على عائشة، فتذاكروا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال كعب: "ما من فجر يطلع إلا نزل سبعون ألف ملك يحفون بقبره عليه الصلاة والسلام، يضربون بأجنحتهم" أسقط منها، أيضًا: يحفون بالقبر، يضربون بأجنحتهم، ويصلون على النبي صلى الله عليه وسلم سبعون ألفًا بالليل، وسبعون ألفًا بالنهار، "حتى إذا انشقت عنه الأرض، خرج في سبعين ألفًا من الملائكة يوقرونه صلى الله عليه وسلم، رواه ابن النجار" الحافظ، الإمام البارع أبو عبد الله، محمد بن محمود بن الحسن بن هبة الله بن محاسن البغدادي، سمع ابن الجوزي وابن كليب وغيرهما، وكان من أعيان الحفاظ الثقات مع الدين والورع، والصيانة والفهم، وسعة الرواية، له ثلاث آلاف شيخ، ومؤلفات عدة، مات في خامس شعبان، سنة ثلاث وأربعين وستمائة، عن ست وستين سنة، رحل منها في الأقطار سبعًا وعشرين سنة للرواية "في تاريخ المدينة" المسمى بالدرر الثمينة، وكذا رواه أبو الشيخ، وابن المبارك، وابن أبي الدنيا، كلهم عن كعب، وكله من الكتب القديمة، لأنه حبرها.
"وأنه يحشر راكبا البراق" بضم الموحدة، "رواه الحافظ" العلامة، شيخ الإسلام الناقد، الدين، الخير، أبو طاهر عماد الدين أحمد بن محمد بن أحمد بن إبراهيم الأصبهاني، "السلفي" بكسر السين المهملة، وفتح اللام، لقب جده أحمد، ومعناه الغليظ الشفة، وله التصانيف، وروى عنه الحفاظ، مات سنة ست وسبعين وخمسمائة؛ "كما ذكره الطبري" الحافظ محب الدين المكي في ذخائر العقبي، فقال: أخرج السلفي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "تبعث(7/379)
ويكسى في الموقف أعظم الحلل من الجنة. رواه البيهقي بلفظ، فأكسى حلة من الجنة لا يقوم لها البشر.
__________
الأنبياء على الدواب، ويحشر صالح على ناقته، ويحشر ابنا فاطمة على ناقتي العضباء والقصواء، وأحشر أنا على البراق، خطوها عند أقصى طرفها، ويحشر بلال على ناقة من نوق الجنة" انتهى. وأخرجه الطبراني والحاكم بلفظ: "تحشر الأنبياء على الدواب ليوافوا المحشر، ويبعث صالح على ناقته، وأبعث على البراق، ويبعث ابناي الحسن والحسين على ناقتين من نوق الجنة، ويبعث بلال على ناقة من نوق الجنة ينادي بالأذان محضًا، وبالشهادة حقًا، حتى إذا قال: أشهد أن محمدًا رسول الله شهد له المؤمنون من الأولين والآخرين، فقبلت ممن قبلت، وردت على من ردت"، وفيه مخالفة لما قبله فيما يركبه السبطان إلا أن يجمع بركوب ناقتيه، وبركوب ناقتي الجنة زيادة في تعظيمهما، ثم لا يعارض هذا ما ورد مرسلا، أن المؤمن يركب عمله، والكافر يركبه عمله؛ لأن بعضهم يركب الدواب، وبعضهم الأعمال، أو يركبونها فوق الدواب.
وروى النسائي والحاكم والبيهقي عن أبي ذر رفعه: "إن الناس يحشرون يوم القيامة على ثلاثة أفواج، فوج طاعمين كاسين راكبين، وفوج يمشون ويسعون، وفوج تسحبهم الملائكة على وجوههم" وأخرج الترمذي، وحسنه عن أبي هريرة، مرفوعًا: "يحر الناس يوم القيامة ثلاثة أصناف: صنفًا مشاة، وصنفًا ركبانًا، وصنفًا على وجوههم، إن الذي أمشاهم على أقدامهم قادر على أن يمشيهم على وجوههم، أما إنهم يتقون بوجوههم على حدب وشوك".
هذا، وجزم الحليمي والغزالي، بأن الذين يحشرون ركبانًا يركبون من قبورهم، وقال الإسماعيلي: إنهم يمشون من قبورهم إلى الموقف، ويركبون من ثم جمعًا بينه وبين حديث الصحيحين: "يحشر الناس حفاة مشاة".
قال البيهقي: والأول أولى، وفي تاريخ ابن كثير: يحشر الناس مشاة، والنبي صلى الله عليه وسلم راكب على ناقته الحمراء، فإذا كان هذا من خصائصه، فإنما يؤتون بالنجائب بعد الجواز على الصراط، وهو الأشبه، وفي حديث: "إنهم يؤتون بنجائب يركبونها عند قيامهم من قبورهم" وفي صحته نظر.
"ويكسى في الموقف أعظم الحلل من الجنة" بعد حشر الناس كلهم عراة، أو بعضهم كاسيًا، أو بعد خروجهم من قبورهم بثيابهم التي ماتوا فيها، ثم تتناثر عنهم عند ابتداء الحشر، فيحشرون عراة لحديث أبي سعيد عند أبي داود، وصححه ابن حبان، مرفوعًا: "إن الميت يبعث في ثيابه التي يموت فيها" "رواه البيهقي" في الأسماء، عن ابن عباس، مرفوعًا "بلفظ": "أول من يكسى إبراهيم حلة من الجنة ويؤتى بكرسي، فيطرح عن يمين العرش، ويؤتى به". "فأكسى حلة من الجنة لا يقوم" أي: لا يصلح "لها البشر" وفي نسخة بالباء بدل اللام، يقال: قام بالأمر إذا(7/380)
ورواه كعب بن مالك بلفظ: "يحشر الناس يوم القيامة فأكون أنا وأمتي على تل، ويكسوني ربي حلة خضراء"، رواه الطبراني، وهو عند ابن أبي شيبة بلفظ: "يحشر الناس على تل، وأمتي على تل"، وعند الطبراني أيضًا من حديث ابن عمر: فيرقى هو -يعني محمدًا صلى الله عليه وسلم- وأمته على كوم فوق الناس.
__________
استقل به دون غيره، فاستعمله في لازم معناه اللغوي، وذلك اللازم عدم صلاحية غيره لتلك الحلة. وفي البخاري عن ابن عباس، مرفوعًا: "إنكم تحشرون حفاة عراة غرلا"، ثم قرأ: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} الآية، "وأول من يكسى يوم القيامة إبراهيم" ... الحديث، فعجيب عزو بعض له للبزار، قال الحافظ: قيل في حكمة خصوصية إبراهيم بذلك، لكونه ألقي في النار عريانًا، أو لأنه من لبس السراويل، ولا يلزم من ذلك تفضيله على نبينا لأن المفضول قد يمتاز بشيء يخص به، ولا يلزم منه الفضيلة المطلقة، ويمكن أن يقال: لا يدخل في عموم خطابه.
وقال القرطبي: قد جبر صلى الله عليه وسلم عن هذا السبق بكونه يكسى حلتين؛ كما في حديث البيهقي، وأجاب الحليمي: بأنه يكسى إبراهيم أولا، ثم نبينا على ظاهر الخبر؛ لكن حلة نبينا أعلى وأكمل، فتجبر بنفاستها ما فات من الأولية؛ على أنه يحتمل أن نبينا صلى الله عليه وسلم خرج من قبره في ثيابه التي مات فيها، والحلة التي يكساها يومئذ حلة الكرامة بقرينة إجلاسه عند ساق العرش، فتكون أولية إبراهيم في الكسوة بالنسبة لبقية الخلق.
"ورواه كعب بن مالك" الأنصاري، السلمي، المدني، أحد الثلاثة الذي تيب عليهم، مرفوعًا. بلفظ: "يحشر الناس يوم القيامة، فأكون أنا وأمتي على تل" مكان عال، "ويكسوني ربي حلة خضراء" رواه الطبراني, فبين في هذه الرواية لونها، وهو عطف على أكون، والواو لا ترتب، فلا ينافي مقتضى التعقيب بالفاء في السابق، أن الكسورة تكون عقب الخروج من القبر، وفي الترمذي عن أبي هريرة: "أنا أول من ينشق عنه الأرض، فأكسى حلة من حلل الجنة" ... الحديث، وعلى احتمال أنه يقوم بثيابه التي مات فيها، ولا تبلى حتى يكسى، يكون ذلك له خصوصية أخرى، حيث تبلى ثياب الخلائق وثوبه لا يبلى، ولا ينافيه الفاء لأن التعقيب في كل شيء يحسبه.
"وهو عند ابن أبي شيبة" عن كعب، بلفظ: "يحشر الناس" كلهم "على تل وأمتي" أي: وهو معهم، كما قال قبل "على تل" أعلى من التل الذي عليه الناس.
"وعند الطبراني، أيضًا من حديث ابن عمر: فيرقى هو يعني محمدًا صلى الله عليه وسلم وأمته على كوم" هو التل، بمعنى "فوق الناس" ولم يبين هل الكوم من كافور، أو مسك، أو نحوهما،(7/381)
وأنه يقوم عن يمين العرش، رواه ابن مسعود عنه عليه الصلاة والسلام وفيه: لا يقومه غيره، يغبطه فيه الأولون والآخرون.
ومنها: أنه يعطى المقام المحمود، قال مجاهد: هو جلوسه صلى الله عليه وسلم على العرش، وعن عبد الله بن سلام، جلوسه على الكرسي، ذكرهما البغوي.
__________
"وأنه يقوم عن يمين العرش" خصيصية شرفه الله بها، "رواه ابن مسعود عنه عليه الصلاة والسلام" في حديث، "وفيه لا يقومه غيره يغبطه فيه" حال من المفعول، أي: يغبط النبي حالة كونه في ذلك المقام، أو في سببية، أي: يغبطونه بسببه.
وقد ذكر المصنف الحديث فيما يأتي، بلفظ: "يغبطه به"، أو الضمير لموقف الخلائق، فيكون حالا من فاعل يغبط، أي: يغبطه حال كونهم في مقامهم "الأولون والآخرون".
قال الحافظ الغبطة أن يتمنى أن يكون له مثل ما لغيره من غير أن يزول عنه، والحرص على هذا يسمى منافسة، فإن كان في الطاعة فمحمود، ومنه: {فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} الآية؛ وفي المعصية فمذموم، ومنه: "فلا تنافسوا"، وفي الجائز، فمباح، انتهى.
والمراد بالتمني هنا حالة تستدعي محبته واستحسانه لا الطلب لعلمهم أنه لا يكون لغيره، فغبطتهم له استحسانهم لمقامه المخصوص به، وعده مقامًا عظيمًا له، ففيه تجريد، إذ بالغبطة تمني المستحسن، فمجرد عن تمني، وأريد به الجزء الثاني، وهو المستحسن.
وروى الترمذي: وقال: حسن صحيح غريب، عن أبي هريرة، مرفوعًا: "أنا أول من تنشق عنه الأرض، فأكسى حلة من حلل الجنة، ثم أقوم عن يمين العرش، ليس أحد من الخلائق يقوم ذلك المقام غيري".
"ومنها: أنه يعطى المقام المحمود" قال تعالى: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} الآية، "قال مجاهد" لتابعي، المفسر المشهور، "هو جلوسه على العرش" حملا للمقام على أنه مصدر ميمي، لا اسم مكان.
"وعن عبد الله بن سلام" الصحابي: هو "جلوسه على الكرسي" وهو مغاير لما قبله على الأصح أنه غير العرش ومساوٍ على أنه هو، "ذكرهما البغوي" في تفسيره بعد أن صدر بأن المراد الشفاعة، وساق حديثها الطويل في إتيان الناس آدم ... إلخ، وهذان التفسيران من جملة ما زيف لأنه تفسير للشيء بخلاف ما فسره به صاحبه، فقد روى البخاري والترمذي عن ابن عمر، قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن المقام المحمود، فقال: "هو الشفاعة".
وأخرج أبو نعيم والبيهقي، عن أبي هريرة: رفعه: "المقام المحمود الشفاعة" أي: الموعود(7/382)
وسيأتي ما قيل في ذلك في ذكر تفضيله عليه الصلاة والسلام بالمقام المحمود إن شاء الله تعالى.
ومنها أنه يعطى الشفاعة العظمى في فصل القضاء بين أهل الموقف، حين يفزعون إليه بعد الأنبياء، والشفاعة في إدخال قوم الجنة بغير حساب، وفي ربع درجات ناس في الجنة.
كما جوز النووي اختصاص هذه والتي قبلها به.
__________
بها في فصل القضاء، ولذا قال الرازي وغيره: الصحيح المشهور أنه الشفاعة، ولابن أبي حاتم عن سعيد بن هلال، أحد صغار التابعين أنه بلغه أن المقام المحمود يوم القيامة يكون بين يدي الجبار، وبين جبريل، يضبطه بمقامه أهل الجمع، وهو مما زيف أيضًا لكن قال الحافظ: يمكن رده إلى القول بأنه الشفاعة، لأنه لما كان مقامه الذي يقوم فيه أقرب إليه من مقام جبريل، صار صفة للمقام المحمود الذي يشفع فيه ليقضي بين الخلائق. وقيل: هو إعطاؤه لواء الحمد، وقيل: ثناؤه على ربه، "وسيأتي ما قيل في ذلك" مبسوطًا "في ذكر تفضيله عليه الصلاة والسلام بالمقام المحمود إن شاء الله تعالى" في المقصد العاشر.
"ومنها: أنه يعطي الشفاعة العظمى في فصل القضاء" بين أهل الموقف حين يفزعون إليه لما يطول عليهم الوقوف بعد إتيانهم الأنبياء: آدم، فنوح، فإبراهيم، فموسى فعيسى، "والشفاعة في إدخال قوم الجنة بغير حساب" لما في الصحيحين: "فأرفع رأسي، فأقول يا رب أمتي، يا رب أمتي، فيقال: أدخل من أمتك من لا حساب عليهم من الباب الأيمن من أبواب الجنة".
وروى هناد، وابن منيع، والديلمي بسند جيد، عن أبي هريرة، رفعه: "سألت الله الشفاعة لأمتي، فقال: لك سبعون ألفًا يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، قلت: ب زدني، فحثى لي بيده مرتين عن يمينه وعن شماله"، والظاهر أن المراد التكثير، لا خصوص العدد، وضرب المثل بالحثيات؛ لأنه شأن المعطي الكريم إذا استزيد أن يحثي بكفيه بلا حساب، وربما ناوله بغير كف، وقال بعض: هذا كناية عن المبالغة في الكثرة، وإلا فلا كف ولا حثي.
"وفي رفع درجات ناس في الجنة كما جوز النووي اختصاص هذه" به، ولم يذكر لذلك مستندًا، "والتي قبلها به" وهي إدخال قوم الجنة بغير حساب، وفيه: أنه لم يجوزها، بل جزم به، وعبارته للنبي صلى الله عليه وسلم: شفاعات خمس الشفاعة العظمى للفصل، وفي جماعة يدخلون الجنة بغير حساب، وفي ناس استحقوا النار فلا يدخلونها، وفي ناس دخلوها فيخرجون منها، وفي رفع درجات ناس في الجنة"، والمختص به الأولى والثانية، وتجوز الثالثة والخامسة. ا. هـ.
وبحث بعض في إثبات الخصوصية، بتجويز النووي بما صرحوا به أن الخصائص لا تثبت(7/383)
ووردت الأحاديث به في التي قبل، وسيأتي مزيد لذلك إن شاء الله تعالى في المقصد الأخير، والله المعين.
ومنها: أنه صاحب لواء الحمد، يوم القيامة، آدم فمن دونه تحته. رواه البزار.
ومنها: أنه أول من يقرع باب الجنة. روى مسلم من حديث المختار بن فلفل عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا أكثر الناس تبعًا يوم القيامة
__________
باحتمال، "ووردت الأحاديث به في التي قبل" وهي الشفاعة العظمى، "وسيأتي مزيد لذلك إن شاء الله تعالى في المقصد الأخير" مع فوائد حسنة، "والله المعين" لا غيره.
"ومنها: أنه صاحب لواء الحمد" بالكسر والمد علمه، ورأيته "يوم القيامة" وأضيف إلى الحمد الذي هو الثناء على الله بما هو أهله؛ لأنه منصبه في الموقف، وهو المقام المحمود المختص به، والعرف جار؛ بأن اللواء إنما يكون مع كبير القوم ليعرف مكانه، إذ موضوعه أصالة شهرة مكان الرئيس، وتنصب في القيامة مقامات لأهل الخير والشر، لكل متبوع لواء يعرف به قدره، وأعلاها مقام الحمد، فأعطي لأعظم الخلائق لواء الحمد، وفي أنه حقيقي وعند الله علم حقيقته، أو معنوي، وهو انفراده بالحمد يومئذ، وشهرته على رءوس الخلائق، به رأيان رجح بعض الأول، وهو الأصل "آدم فمن دونه" أي: سواه "تحته، رواه البزار" وأخرجه أحمد والترمذي، وقال: حسن صحيح، وابن ماجه، عن أبي سعيد، مرفوعًا: "أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وبيدي لواء الحمد ولا فخر، وما من نبي يومئذ آدم فمن سواه إلا تحت لوائي". الحديث.
"ومنها: أنه أول من يقرع" يطرق وينقر "باب اجنة" كما قال صلى الله عليه وسلم: "أنا أول من يدق باب الجنة، فلم تسمع الآذان أحسن من طنين الخلق على تلك المصاريع" رواه ابن النجار، وجمع المصاريع باعتبار الأبواب، فإنه إذا قرع أعظمها، تحرك الجميع، أو لتعدد القرع، كأنه تعددت المصاريع، أو إن في كل مصراع مصاريع اعتبارية.
"روى مسلم" في الإيمان "من حديث المختار بن فلفل" بضم الفاءين، ولامين، الأولى ساكنة مولى عمرو بن حريث، صدوق له أوهام، روى له أبو داود، والترمذي، والنسائي ومسلم، "عن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا أكثر الناس" الذي رأيته في مسلم، وكذا نقله جمع من الحفاظ عنه الأنبياء "تبعًا" بفتح الفوقية، والباء الموحدة: جمع تابع، وفي القاموس وغيره: التبع محركة، يكون واحد أو جمعًا، ويجمع على أتباع ونصب على التمييز "يوم القيامة" خصه لأنه يوم ظهور ذلك الجمع، وهذا يوضحه خبر مسلم أيضًا: "إن من الأنبياء من يأتي يوم القيامة(7/384)
وأنا أول من يقرع باب الجنة". وعنده أيضًا عن أنس قال صلى الله عليه وسلم: "آتي باب الجنة يوم القيامة فأستفتح فيقول الخازن، بك أمرت
__________
ما معه مصدق غير واحد"، ولا يعارضه: "وأرجو أن أكون أكثرهم تبعًا" إما لأن رجاءه محقق الوقوع، أو قاله قبل أن يكشف له عن أمته ويراهم، ثم حقق الله رجاءه، فجزم به، "وأنا أول من يقرع باب الجنة" أي يطرقه للاستفتاح، فيكون أول داخل.
"وعنده": أي: مسلم "أيضًا" في كتاب الإيمان من حديث ثابت عن أنس، قال: قال صلى الله عليه وسلم: "آتي باب الجنة" أي أجيء بعد الانصراف من الحشر والحساب إلى أعظم المنافذ التي توصل إلى دار الثواب، وهو باب الرحمة، أو باب التوبة، كما في النوادر، وعبر بآتي دون أجيء للإشارة إلى أن مجيئه يكون بصفة من لبس خلعة الرضوان، فجاء على تمهل وأمان من غير نصف في الإتيان؛ إذ الإتيان، كما قال الراغب مجيء بسهولة، والمجيء أعم، ففي إيثاره عليه مزية "يوم القيامة فأستفتح" بسين الطلب، عبر بها إيماء إلى القطع بوقوع مدخولها وتحققه، أي: أطلب فتحه بالقرع؛ كما في الأحاديث، لا بالصوت.
وفي رواية أحمد: "آخذ بحلقة الباب"، والفاء للتعقيب إشارة إلى أنه قد أذن له من ربه غير واسطة خازن ولا غيره، وذلك أن من ورد باب كبير، وقف عادة حتى يستأذن له، فالتعقيب إشارة إلى أن ربه صانه عن ذل الوقوف، وأذن له في الدخول ابتداء، بحيث صار الخازن مأموره، منتظرًا قدومه، "فيقول الخازن": أي: الحافظ: وهو المؤتمن على ما استحفظه، وأل عهدية والمعهود رضوان، وخص مع كثرة الخزنة؛ لأنه أعظمهم، ومقدمهم، وعظيم الرسل إنما يتلقاه عظيم الخزينة، "بك أمرت" كذا في جميع ما رأيناه من نسخ المصنف، وفيه سقط منه أو من نساخه، فلفظ رواية مسلم: "فيقول الخازن: من أنت؟ فأقول: محمد، فيقول: بك أمرت". وقد ساقه المصنف في المقصد الأخير تامًا، وإنما أجابه بالاستفهام، وأكده بالخطاب تلذذًًا بمناجاته، وإلا، فأبواب الجنة شفافة؛ كما في خبر، وهو العلم الذي لا يشتبه، والتمييز الذي لا يلتبس، وقد رآه رضوان الجنة قبل ذلك، وعرفه أتم معرفة، ولذا اكتفى بقوله: "فأقول محمد"، وإن كان المسمى به كثيرًا، ولا ينافي كون أبوبا الجنة شفافة.
خبر أبي يعلى عن أنس، رفعه: "أقرع باب الجنة فيفتح لي باب من ذهب وحلقه من فضة" لأن ما في الدنيا لا يشبه ما في الجنة إلا في مجرد الاسم، كما في حديث: فلا مانع من كونه ذهبًا شفافًا، ولم يقل أن لإبهامه، مع إشعاره بتعظيم النفس، وهو سيد المتواضعين، وهذه الكلمة جارية على ألسنة المتجبرين إذا ذكروا مفاخرهم وزهوا بأنفسهم.
وقال ابن الجوزي: أنا لا تخلو عن نوع تكبر؛ كأنه يقول: أنا لا أحتاج إلى ذكر اسمي ولا نسبي، لسمو مقامي.(7/385)
أنا لا أفتح لأحد قبلك".
__________
وقال بعض المحققين: ذهبت طائفة من العلماء وفرقة من الصوفية إلى كراهية إخبار الرجل عن نفسه؛ بأنا تمسكًا بظاهر الحديث، حتى قالوا: إنها كلمة لم تزل مشئومة على قائلها؛ كقول إبليس: أنا خير، وفرعون: أنا ربكم، وليس كما قرروا، بل الشؤم لما صحبه من الخير والربوبية، وأصابه الصوفية في دقائق العلوم والإشارات في التبري من الدعاوي الوجودية، لكن الذي أشاروا إليه بهذا راجع إلى معان تتعلق بأحوالهم دون القول كيف، وقد ناقضهم نصوص كثيرة: "إنما أنا بشر، أنا أول المسلمين، وما أنا من المتكلفين، أنا سيد ولد آدم، أنا أكثر الأنبياء تبعًا"، وغير ذلك.
وقد قال النووي: لا بأس أن يقول أن الشيخ فلان، أو القاضي فلان إذا لم يحصل التمييز إلا به، وخلا عن الخيلاء والكبر، والباء في قوله: "بك" متعلقة بالفعل بعدها، وهي سببية، أي: بسببك أمرت بالبناء للمفعول والفاعل الله، "أن لا أفتح" كذا في نسخ، وفي أخرى بدون أن، وهي التي وقفت عليها في مسلم.
وذكره السيوطي في جامعيه بأن وتعقبه شارحه بأن، الذي في نسخ مسلم الصحيحة المقروءة بلا أن "لأحد قبلك" لا من الأنبياء ولا من غيرهم، إذ أحد من سياق النفي للعموم، فيفيد استغراق جميع الأفراد، وعلم منه أطلب الفتح إنما هو من الخازن، وإلا لما كان هو المجيب، فإن قيل: لم طلب الفتح من الخازن، ولم يطلبه منها بلا واسطة، فإنه ورد عن الحسن، وقتادة وغيرهما: أن أبوابها يرى ظاهرها من باطنها وعكسه، وأنها تتكلم وتكلم وتعقل ما يقال لها انفتحي انغلقي، أجيب: بأن الظاهر أنها مأمورة بعد الاستقلال بالفتح والغلق، وأنها لا تستطيع ذلك إلا بأمر عريفها، المالك لأمرها بإذن ربها، وإنما يطالب بما يراد من القوم عرفاؤهم، وحكمة اتخاذ الخزنة للجنة، مع أن الخزنة عرفًا إنما تكون لما يخاف ضياعه، أو تلفه أو نقصه، فيفوت كله، أو بعضه، أو وصفه على صاحبه، ولا يمكن ذلك في الجنة، هي أن الغرض من تعيين الخزنة لها إنما هو مراعاة الداخلين إكرامًا لهم، فتقدم الخزنة لكل منهم ما أعد له من النعيم، ثم لا تعارض بين الحديث وبين قوله تعالى: {جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ} ، {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} الآية، ووجهه الرازي وغيره، بأنه يوجب السرور والفرح حيث نظروها مفتحة من بعد وفيه الخلاص من ذل الوقوف للاستفتاح لأن أبوابها تفتح أولا بعد الاستفتاح من جمع، ويكون مقدمًا بالنسبة إلى البعض، كما يقتضيه خبر: "إن الأغنياء يدخلون الجنة بعد الفقراء بخمسمائة عام"، والظاهر أنها لا تغلق بعد فتحها للفقراء، وأجيب، أيضًا بخمسة أجوبة غير هذا، نوقش فيها، وهذا أحسنها كما قال: مض المحققين.(7/386)
ورواه الطبراني بزيادة فيه، قال: "فيقوم الخازن فيقول: لا أفتح لأحد قبلك، ولا أقوم لأحد بعدك"، وهذه خصوصية أخرى له صلى الله عليه وسلم وهي: أن خازن الجنة لا يقوم لأحد غيره صلى الله عليه وسلم، فقيامه له صلى الله عليه وسلم فيه إظهار لمزيته ومرتبته، ولا يقوم لأحد بعده، بل خزنة الجنة يقوم لخدمته وهو كالملك عليهم، وقد أقامه الله تعالى في خدمة عبده ورسوله حتى مشى وفتح له الباب.
ومنها أنه صلى الله عليه وسلم أول من يدخل الجنة، قال عليه الصلاة والسلام: "أنا أول من يحرك حلق الجنة فيفتح الله لي فيدخلنيها ومعي فقراء المؤمنين
__________
"ورواه الطبراني بزيادة فيه، قال: "فيقوم الخازن فيقول: لا أفتح لأحد قبلك" كما أمرت، "ولا أقوم لأحد بعدك"، وهذه خصوصية أخرى له صلى الله عليه وسلم، وهي أن خازن الجنة لا يقوم لأحد غيره صلى الله عليه وسلم، فقيامه له فيه إظهار لمزيته ومرتبته، ولا يقوم لأحد بعده، بل خزنة الجنة يقومون لخدمته" أي: رضوان، "وهو كالملك عليهم، وقد أقامه الله تعالى في خدمة عبده ورسوله حتى مشى وفتح له الباب" زيادة في إكرامه.
"ومنها: أنه أول من يدخل الجنة" كما في مسلم وغيره، واستشكل بإدريس حيث أدخل الجنة بعد موته وهو فيها كما ورد، بأن السبعين ألفًا الداخلين بغير حساب يدخلون قبله، وبحديث أحمد في رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم بلال سبقه في دخولها، وخبر أبي يعلى وغيره: "أول من يفتح له باب الجنة أنا، إلا أن امرأة تبادرني، فأقول: ما لك؟ أو من أنت؟ فتقول: أنا امرأة قعدت على يتامى".
وخبر البيهقي: "أول من يقرع باب الجنة عبد أدى حق الله وحق مواليه" وأجيب بأن دخوله صلى الله عليه وسلم يتعدد، فالدخول الأول لا يتقدمه، ولا يشاركه فيه أحد، ويتخلل بينه وبين ما بعده دخول غيره.
وقد روى ابن منده في حديث، أنه كرر الدخول أربع مرات ونحوه في البخاري. وأما إدريس فلا يرد، لأن المراد الدخول التام يوم القيامة، وإدريس يحضر الموقف للسؤال عن التبليغ، وثم أجوبة أخرى هذا أظهرها، وسيكون لنا إن شاء الله تعالى عودة لمزيد الكلام على ذلك في المقصد الأخير.
قال عليه الصلاة والسلام: "وأنا أول من يحرك حلق الجنة" بفتح اللام جمع حلقة، بسكونها على غير قياس، وقيل: فتحها لغة، فالجمع قياسي، ولأحمد والترمذي، عن أنس مرفوعًا: "أنا أول من يأخذ بحلقة باب الجنة، فأقعقعها". "فيفتح الله لي" لا يخالف ما مر أن الفاتح رضوان لأن الفاتح الحقيقي هو الله تعالى، وتولى رضوان ذلك، إنما هو بأمره وإقداره وتمكينه، "فيدخلنيها ومعي فقراء المؤمنين" أي: يدخلون عقبه بسرعة، فكأنهم دخلوا معه.(7/387)
ولا فخر". رواه الترمذي.
ومن خصائصه صلى الله عليه وسلم الكوثر، نهر في الجنة يسيل في حوضه مجراه على الدر والياقوت، ماؤه أحلى من العسل وأبيض من الثلج.
__________
وروى أبو داود عن أبي هريرة، مرفوعًا: "إن أبا بكر أول من يدخل الجنة"، وأخرج أبو نعيم عن أبي هريرة، رفعه: "أنا أول من يدخل الجنة ولا فخر، وأول من يدخل علي الجنة ابنتي فاطمة"، أي: من النساء، "وأبو بكر من الرجال" فلا خلف.
وروى ابن ماجه، وصححه الحاكم عن أبي، مرفوعًا: "أول من يصافحه الحق عمر، وأول من يسلم عليه، وأول من يأخذ بيده فيدخله الجنة". "ولا فخر" أي: لا أفتخر بذلك، بل بمن أعطانيه، أو أقول ذلك شكرًا لا فخرًا، وهو ادعاء العظمة والمباهاة، "رواه الترمذي" عن ابن عباس في حديث، ساقه المصنف بتمامه في المقصد العاشر.
"ومن خصائصه صلى الله عليه وسلم الكوثر" كما قال تعالى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} الآية، ونقل المفسرون فيه أقوالا تزيد على عشرة، وأولاها قول ابن عباس: إنه الخير الكثير لعمومه لكن ثبت تخصيصه بالنهر من لفظه صلى الله عليه وسلم، فلا معدل عنه.
روى مسلم وغيره أنه صلى الله عليه وسلم قرأ {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} لآية، ثم قال: "أتدرون ما الكوثر"؟، قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: "إنه نهر وعدنيه ربي عليه خير كثير، وهو حوض ترد عليه أمتي يوم القيامة" آنيته عدد النجوم، فيختلج العبد منهم، فأقول: رب إنه من أمتي، فيقول: ما تدري ما أحدث بعدك".
ولأحمد أن رجلا قال: يا رسول الله! ما الكوثر؟ قال: "نهر في الجنة أعطانيه ربي، لهو أشد بياضًا من اللبن، وأحلى من العسل". ولذا اقتصر المصنف هنا على قوله: "نهر في الجنة يسيل في حوضه" كما في حديث البخاري، ولأحمد: ويفتح نهر الكوثر إلى الحوض "مجراه على الدر" اللؤلؤ الكبار، "والياقوت" وعند النسائي: ترابه النسك وحصاه اللؤلؤ والياقوت، "وماؤه أحلى من العسل، وأبيض من الثلج" لعله سقط منه من اللبن، وأبرد من الثلج، فعند الحاكم من حديث أبي برزة: "ماؤه أحلى من العسل، وأبيض من اللبن، وأبرد من الثلج، وألين من الزبد، أوانيه من فضة".
ولابن مردويه من حديث ابن عباس: "حافتاه الزبرجد" وفي حديث ثوبان: "لا يظمأ من شرب منه" رواه ابن ماجه فالمختص به صلى الله عليه وسلم الكوثر الذي يصب من مائه في حوضه، فإنه لم ينقل نظيره لغيره، وأن حوضه أكبر الحياض، وأكثر واردًا؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: "إن لكل نبي حوضا، وإنهم يتباهون أيهم أكثر واردة، وإني أرجو أن أكون أكثرهم واردة" رواه الترمذي، وفي أثر أن(7/388)
ومنها الوسيلة، وهي أعلى درجة في الجنة.
__________
حوضه أعرض الحياض وأكثرها واردًا، قال القرطبي: وقول البكري المعروف بابن الواسطي: لكل نبي حوض إلا صالحًا، فحوضه ضرع ناقته، لم أقف على ما يدل عليه أو يشهد له، انتهى
"ومنها: الوسيلة" لما في مسلم مرفوعًا: "إذا سمعتم المؤذن، فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا علي، فإنه من صلى علي صلاة صلى الله عليه عشرًا، ثم سلوا الله لي الوسيلة، فإنها منزلة في الجنة، لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل الوسيلة حلت عليه الشفاعة". "وهي أعلى درجة في الجنة" كما قال صلى الله عليه وسلم: "الوسيلة درجة عند الله ليس فوقها درجة، فسلوا الله لي الوسيلة"، رواه أحمد.
قال ابن كثير: الوسيلة علم على أعلى منزلة في الجنة، وهي منزلة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وداره في الجنة، وهي أقرب أمكنة الجنة إلى العرش، وقال غيره: فعليه من وسل إذا تقرب، وتطلق على المنزلة العلية؛ كما في الحديث؛ فإنها منزلة في الجنة على أنه ممكن ردها إلى الأول، فإن الواصل إلى تلك المنزلة قريب من الله، فتكون كالقرية التي يتوسل بها، ولما كان صلى الله عليه وسلم أعظم الخلق عبودية لربه، وأعلمهم به، وأشدهم له خشية، وأعظمهم له محبة، كانت منزلته أقرب المنازل إلى الله، وأمر أمته أن يسألوها لينالوا بهذا الدعاء الزلفى وزيادة الإيمان، وأيضًا فالله قدرها له بأسباب، منها: دعاء أمته له بما نالوه على يده من الهدى.
وأما الفضيلة، فهي المرتبة الزائدة على سائر الخلائق، ويحتمل أنها منزلة أخرى، وتفسير للوسيلة.
ولابن أبي حاتم عن علي: إن في الجنة لؤلؤتين، إحداهما بيضاء، واسمها الوسيلة لمحمد صلى الله عليه وسلم وأهل بيته، والصفراء لإبراهيم وأهل بيته.
قال ابن كثير: هذا أثر غريب، ذكره المصنف في المقصد الأخير، وقال عبد الجليل القصري في شعب الإيمان: الوسيلة هي التوسل به صلى الله عليه وسلم إلى الله، وذلك أنه في الجنة بمنزلة الوزير من الملك بغير تمثيل، لا يصل إلى أحد شيء إلا بواسطته، وهذا كما قال بعض: وإن كان حسنًا، لكنه تفسير للشيء بخلاف ما فسره هـ صاحبه على أنه يحتاج إلى توقيف.(7/389)
خصائص أمته صلى الله عليه وسلم:
وأما خصائص أمته صلى الله عليه وسلم
__________
خصائص أمته صلى الله عليه وسلم:
"وأما خصائص أمته صلى الله عليه وسلم" في الدنيا والآخرة، أي: بعضها في الدارين لتركه كثيرًا فيهما،(7/389)
وزادها شرفًا، فأعلم إنه لما أنشأ سبحانه وتعالى العالم على غاية من الإتقان، وأبرز جسد نبينا صلى الله عليه وسلم للعيان، وظهرت عنايته بأمته الإنسانية، بحضوره وظهوره فيها، وإن كان العالم الإنساني والناري كله أمته، ولكن لهؤلاء خصوص وصف، فجعلهم خير أمة أخرجت للناس، وجعلهم ورثة الأنبياء، وأعطاهم الاجتهاد في نصب الأحكام، فيحكمون بما أدى إليه اجتهادهم.
وكل من دخل في زمان هذه الأمة من الأنبياء عليهم السلام بعد نبيها صلى الله عليه وسلم، كعيسى عليه السلام.
__________
"وزادها شرفًا" والمراد أمة الإجابة، "فاعلم أنه لما أنشأ سبحانه وتعالى العالم على غاية من الإتقان، وأبرز جسد نبينا" أي: شخصه، وهو الصورة التي يرى عليها "صلى الله عليه وسلم للعيان" بكسر العين، "وظهرت عنايته" رعايته واهتمامه "بأمته الإنسانية" بمعاملته لهم معاملة من يريد نفع غيره، "بحضوره وظهوره فيها" عطف تفسير، "وإن كان العالم الإنساني والناري" أي: عالم الجن "كله أمته" لبعثه إليهم إجماعًا، "ولكن لهؤلاء" أي العالم الإنساني "خصوص وصف" من إضافة الصفة للموصوف، أي: وصف خاص بهم لا يتجاوزهم إلى غيرهم وهو الخيرية المشار إليها بقوله: {فَجَعَلَهُمْ} جواب لم دخلت عليه الفاء على قلة، أو هو عطف على مقدر، أي: لما أنشأ العالم على ما ذكر، وخص الأمة المحمدية بصفة زائدة، ميزهم على غيرهم، وفضلهم فجعلهم {خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} الآية وجعلهم ورثة الأنبياء؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: "العلماء ورثة الأنبياء لم يورثوا دينارًا ولا درهمًا وإنما ورثوا العلم"، رواه أبو داود والترمذي وأحمد وغيرهم، وصححه ابن حبان والحاكم وغيرهما.
وأما خبر: "علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل"، فقال الحافظ، ومن قبله الدميري والزركشي: لا أصل له، وسئل عنه الحافظ العراقي، فقال: لا أصل له، ولا إسناد بهذا اللفظ، ويغني عنه: "العلماء ورثة الأنبياء"، وهو صحيح، وأخرج ابن عدي وأبو نعيم والديلمي، عن النبي صلى الله عليه وسلم: "العلماء مصابيح الأرض وخلفاء الأنبياء, وورثتي وورثة الأنبياء". "وأعطاهم الاجتهاد في نصب الأحكام" من الكتاب والسنة وغيرهما، "فيحكمون بما أدى إليه اجتهادهم" ويؤجرون ولو أخطئوا فيه، ولعل هذين من عطف بعض الأسباب على المسبب؛ لأن كونهم ورثة الأنبياء وإعطاءهم الاجتهاد من أسباب الخيرية المبينة في الآية بقوله: {تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} الآية، وكان هذا هو الحامل على إدخال الأمرين في الخيرية، "وكل من دخل في زمان هذه الأمة من الأنبياء عليهم السلام بعد نبيها صلى الله عليه وسلم، كعيسى عليه السلام"، فإنه حين ينزل من هذه الأمة اتفاقًا مع بقائه على نبوته، بل ذهب جمع من العلماء إلى أنه(7/390)
أو على تقدير دخوله كالخضر، فإنه لا يحكم في العالم إلا بما شرعه محمد صلى الله عليه وسلم في هذه الأمة، فإذا نزل سيدنا عيسى عليه الصلاة والسلام فإنما يحكم بشريعة نبينا صلى الله عليه وسلم بإلهام أو اطلاع على الروح المحمدي، أو بما شاء الله تعالى
__________
صحابي لاجتماعه بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو حي، مؤمنًا ومصدقًا، وكان اجتماعه به مرات في غير ليلة الإسراء.
روى ابن عساكر عن أنس: قلنا يا رسول الله! رأيناك صافحت شيئًا ولا نراه؟ قال: "ذاك أخي عيسى ابن مريم، انتظرته حتى قضى طوافه، فسلمت عليه".
وروى ابن عدي عن أنس: بينا نحن مع النبي صلى الله عليه وسلم إذ رأينا بردًا ويدًا، فقلنا: يا رسول الله! ما هذا البرد الذي رأينا واليد؟ قال: "قد رأيتموه"؟ قلنا: نعم، قال: "ذاك عيسى ابن مرين سلم عليّ"، "أو على تقدير دخوله، كالخضر" على أنه نبي، وإلياس على أنهما باقيان، "فإنه لا يحكم في العالم إلا بما شرعه محمد صلى الله عليه وسلم في هذه الأمة" لا بشرائعهم التي كانت قبله، "فإذا نزل سيدنا عيسى عليه الصلاة والسلام، فإنما يحكم بشريعة نبينا صلى الله عليه وسلم" ويكون وصولها إليه "بإلهام" بأحكامها، "أو اطلاع على الروح المحمدي" فيخبره بشريعته، "أو بما شاء الله تعالى" من استنباطه لها من الكتاب والسنة ونحو ذلك، وقد سئل السيوطي بأي طريق تصل أحكام شريعتنا إلى عيسى، فأجاب بأن الأنبياء كانوا يعلمون في زمانهم بجميع شرائع من قبلهم، ومن بعدهم بالوحي من الله على لسان جبريل وبالتنبيه على بعض ذلك في الكتاب الذي أنزل عليهم وبأن عيسى ينظر في القرآن، فيفهم منه جميع أحكام هذه الملة من غير احتياج إلى مراجعة الأحاديث؛ كما فهم النبي صلى الله عليه وسلم ذلك من القرآن، فإنه قد أنطوى على جميع أحكام الشريعة وفهمها نبينا بفهمه الذي اختص به، ثم شرحها لأمته في السنة، وإفهام الأمة تقصر عن إدراك ما أدركه صاحب النبوة، وعيسى نبي، فلا بد أن يفهم من القرآن كفهم النبي صلى الله عليه وسلم، وبأن عيسى معدود في الصحابة لأنه اجتمع بالنبي صلى الله عليه وسلم غير مرة، فلا مانع أنه تلقى منه أحكام شريعته المخالفة لشريعة الإنجيل؛ لعلمه بأنه سينزل في أمته، ويحكم فيهم بشرعه، فأخذها عنه بلا واسطة، وإلى هذا أشار جماعة من العلماء.
قال: ورأيت عبارة السبكي نصها: إنما يحكم عيسى بشريعة نبينا بالقرآن والسنة، فترجح أن أخذه السنة بطريق المشافهة بلا واسطة، وبأنه إذا نزل يجتمع بالنبي صلى الله عليه وسلم في الأرض، كما صرح به في أحاديث فلا مانع من أن يأخذ عنه ما احتاج إليه من أحكام شريعته. واستدل السيوطي لكل واحد من هذه الأربع بما يطول ذكره، وذكر أنه اعترض عليه في الجواب الأول بلزوم أن القرآن مضمن في الكتب السابقة فأجاب بأنه لا مانع من ذلك، فقد دلت الأحاديث على ثبوت هذه اللازم، وقال تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} إلى قوله: {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ} ؛ ثم ساق أدلة ذلك في نحو ورثة، ثم قال:(7/391)
فيأخذ عنه ما شرع الله له أن يحكم به في أمته، فلا يحكم في شيء من تحريم وتحليل إلا بما كان يحكم به نبينا صلى الله عليه وسلم، ولا يحكم بشريعته التي أنزلت عليه في أوان رسالته ودولته، فهو تابع لنبينا صلى الله عليه وسلم, وقد نبه على ذلك الترمذي الحكيم في كتاب ختم الأولياء، وأعرب عنه صاحب "عنقاء مغرب" وكذا الشيخ سعد الدين التفتازاني في شرح عقائد النسفي
__________
إن السائل نفسه سأله ثانيًا: هل ثبت أن عيسى ينزل عليه الوحي بعد نزوله؟ فأجاب: نعم. روى مسلم وغيره أثناء حديث: "أوحى الله إلى عيسى أني قد أخرجت عبادًا من عبادي لا يد لك بقتالهم"، فهذا صريح في أنه يوحى إليه بعد نزوله، والذي نقطع به أن الجائي إليه جبريل لأنه السفير بين الله وبين أنبيائه كما صرحت الآثار بذلك وساقها، ثم قال: وقد زعم أن عيسى إذا نزل لا يوحى إليه حقيقة بل وحي إلهام وهو ساقط مهمل لمنابذته لحديث مسلم وغيره، ولأن ما توهمه من تعذر الوحي الحقيقي فاسد لأنه نبي، فأي مانع من نزول الوحي إليه؟ فإن تخييل أنه ذهب منه وصف النبوة فهو قول يقارب الكفر لأن النبوة لا تذهب أبدًا ولا بعد موته، وإن تخيل اختصاص الوحي بزمن دون زمن فهو قول لا دليل عليه، ويبطله ثبوت الدليل على خلافه، انتهى.
"فيأخذ عنه ما شرع الله له أن يحكم به في أمته فلا يحكم بشيء من تحريم وتحليل إلا بما كان يحكم به نبينا صلى الله عليه وسلم ولا يحكم" عيسى "بشريعته التي أنزلت عليه في أوان رسالته ودولته فهو" أي عيى تابع لنبينا صلى الله عليه وسلم وقد نبه على ذلك الترمذي الحكيم" محمد بن علي من طبقة البخاري حافظ واعظ زاهد له تصانيف "في كتاب ختم الأولياء" أحد تصانيفه، "وأعرب" بمهملة بين "عنه صاحب عنقاء" بالمحد مجرور بالفتحة لا ألف التأنيث الممدودة "مغرب" قال الدميري: طائر غريب يبيض بيضًا كالجبال ويبعد في طيرانه، وقيل سميت بذلك لأنه كان في عنقها بياض كالطوق، وقيل هو طائر يكون عند مغرب الشمس وأطال الدميري الكلام فيها، فعلى الأخير ميمه مفتوحة وعلى الأولين مضمومة، واقتصر عليه القاموس فقال: عنقاء مغرب بالرفع على الوصف وبالجر مضافة وهي بضم الميم، طائر معروف الاسم مجهول الجسم وهو اسم كتاب للعارف القطب محيي الدين بن علي بن محمد بن عربي الطائي الأندلسي، مات بدمشق سنة ست وثلاثين وستمائة، وعند الشعراوي كتابه هذا من الكتب التي لا يكاد يفهم العلماء منها معنى مقصودًا لقائله أصلًا لأنه لسان قدسي لا يعرفه إلا من تجرد عن هيكله من البشر. "وكذا الشيخ سعد الدين التفتازاني في شرح عقائد النسفي" أبي الفضل محمد بن محمد بن محمد ثلاثية المعروف بالبرهان الحنفي له مختصر تفسير الرازي ومقدمة في الخلاف وتصانيف كثيرة في علم الكلام وغيره، وأجاز للبرزالي، وتوفي(7/392)
وصحح أنه يصلي بالناس ويؤمهم ويقتدي به المهدي لأنه أفضل منه، فإمامته أولى، انتهى.
فهو عليه السلام وإن كان خليفة في الأمة المحمدية، فهو رسول ونبي
__________
سنة سبع وثمانين وستمائة وهو متأخر عن النسفي عمر بن محمد صاحب التفسير والفتاوى وغيرهما.
توفي سنة سبع وثلاثين وخمسمائة، وغير صاحب الكنز والمدارك والمنار وغيرها، واسمه عبد الله بن أحمد بن محمود وغير أبي المعين ميمون بن محمد، وكلهم حنفيون من نسف بفتح النون والسين المهملة وبالفاء مدينة بما وراء النهر.
"وصحح أنه" أي عيسى "يصلي بالناس ويؤمهم" يصلي بهم إمامًا ويقتدي به المهدي" محمد بن عبد الله الحسني الحسيني الخليفة الآتي آخر الزمان، وفي حديث ضعيف المهدي بعد المائتين "لأنه" أي عيسى "أفضل منه" أي المهدي "فإمامته أولى انتهى" كذا جزم به اعتمادًا على تعليله وورد ما يشهد له في بعض الآثار وعورض بحديث الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كيف أنتم إذا نزل ابن مريم فيكم وإمامكم منكم" ولمسلم أيضًا: "كيف بكم إذا نزل ابن مريم فيقال صل بنا فيقول: لا إن بعضكم على بعض أمراء تكرهه لهذه الأمة ولا حمد" ومن حديث جابر: فإذا هم بعيسى فيقال: تقدم، فيقول: ليتقدم إمامكم فليصل بكم، ولابن ماجه في حديث أبي أمامة وكلهم أي: المسلمين ببيت المقدس وإمامهم رجل صالح قد تقدم ليصلي بهم إذ نزل عيسى فرجع الإمام ينكص ليتقدم عيسى فيقف عيسى بين كتفيه ثم يقول: تقدم فإنها لك أقيمت. وروى أبو نيم عن أبي سعيد مرفوعًا: "منا الذي يصلي عيسى ابن مريم خلفه" أي: منا أهل البيت. وجمع بأن عيسى يقتدي بالمهدي أولا ليظهر أنه نزل تابعًا لنبينا حاكمًا بشرعه، ثم بعد ذلك يقتدي المهدي به على أصل القاعدة من اقتداء المفضول بالفاضل. قال ابن الجوزي: لو تقدم عيسى إمامًا لوقع في النفس إشكال ولقيل أتراه تقدم نائبًا أو مبتدئًا شرعًا فيصلي مأمومًا لئلا يتدنس بغبار الشبهة وجه قوله: "لا نبي بعدي" وفي صلاة عيسى خلف رجل من هذه الأمة مع كونه في آخر الزمان وقرب قيام الساعة دلالة للصحيح من الأقوال أن الأرض لا تخلو عن قائم لله بحجة، وقيل: معنى وإمامكم منكم أنه يحكم بالقرآن لا بالإنجيل كما في رواية لمسلم وإمامكم منكم، قال ابن أبي ذئب: معناه أمكم بكتاب ربكم وعليه لم يتبين أن عيسى إذا نزل يكون إمامًا أو مأمومًا لكن يعكر عليه رواية أحمد ومسلم فإنهما صريحتان لا يقبلان هذا التأويل، وقال أبو الحسن: ألا ترى في مناقب الشافعي تواترت الأخبار أن المهدي من هذه الأمة وأن عيسى يصلي خلفه، ذكر ذلك رد الحديث ابن ماجه عن أنس ولا مهدي إلا عيسى "فهو عليه السلام وإن كان خليفة في الأمة المحمدية فهو رسول ونبي(7/393)
كريم على حاله، لا كما يظن بعض الناس أنه يأتي واحدًا من هذه الأمة، نعم هو واحد من هذه الأمة لما ذكر من وجوب اتباعه لنبينا صلى الله عليه وسلم والحكم بشريعته.
فإن قلت: قد ورد في صحيح مسلم قوله صلى الله عليه وسلم: "ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكمًا مقسطًا، فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية"، وأن الصواب في معناه: أنه لا يقبل الجزية، ولا يقبل إلا الإسلام أو القتل.
__________
كريم على حاله لا كما يظن بعض الناس أنه يأتي واحدًا من هذه الأمة" بدون نبوة ورسالة وجهل أنهما لا يزولان بالموت كما تقدم فكيف بمن هو حي؟ "نعم هو واحد من هذه الأمة" مع بقائه على نبوته ورسالته لما ذكر من وجوب اتباعه لنبينا صلى الله عليه وسلم والحكم بشريعته" لا بشرع الإنجيل لنسخه.
"فإن قلت: قد ورد في صحيح مسلم" والبخاري أيضًا: فما هذا الإبهام، كلاهما عن أبي هريرة، "قوله صلى الله عليه وسلم": "والذي نفسي بيده ليوشك" بكسر المعجمة، أي: ليقربن، أي لا بد من ذلك سريعًا "أن ينزل فيكم"، أي: في هذه الأمة، فإنه خطاب لبعضها ممن لا يدرك نزوله "ابن مريم حكمًا" أي: حاكمًا "مقسطًا" أي: عادلا بخلاف القاسط، فهو الجائر، ولمسلم أيضًا: "إمامًا مقسطًا"، ولفظ البخاري: "حكمًا عدلا ".
وفي مسلم عن أبي هريرة، مرفوعًا: "ينزل عيسى ابن مريم على المنارة البيضاء شرقي دمشق" وفي الصحيحين عنه، رفعه: "ينزل عيسى، فيقتل الدجال". "فيكسر الصليب" تفريع على عدله، أي: فسبب عدله يكسره حقيقة، أو يبطل ما تزعمه النصارى من تعظيمه، "ويقتل الخنزير" فيبطل دين النصرانية، وفيه تحريم اقتناء الخنزير، وتحريم أكله ونجاسته؛ لأن الشيء المنتفع به لا يشرع إتلافه، لكن في الطبراني الأوسط، بإسناد لا بأس به، عن أبي هريرة: ويقتل الخنزير والقرد، فلا يصح الاستدلال به على نجاسة عين الخنزير، لأن القرد ليس بنجس العين اتفاقًا، وفيه أيضًا تغيير المنكرات، وكسر آلة الباطل، زاد في رواية لمسلم: "ولتذهبن الشحناء والتباغض والتحاد". "ويضع الجزية" وفي رواية: "ويضع الحرب"، وبقية الحديث في الصحيحين: "ويفيض المال حتى لا يقبله أحد حتى تكون السجدة الواحدة خير من الدنيا وما فيها". ثم يقول أبو هريرة: اقرءوا إن شئتم: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا} [النساء: 159] الآية.
قال الحافظ: والمعنى أن الذين يصيرون واحدًا، فلا يبقى أحد من أهل الذمة يؤدي الجزية، وقيل: معناه يكثر المال، فلا يبقى من يمكن صرف مال الجزية له، فيترك الجزية استغناء عنها.
وقال عياض: يحتمل أن المراد بوضعها تقريرها على الكفار من غير محاباة وتكون كثرة المال بسبب ذلك، وتعقبه النووي، "و" قال: "أن الصواب في معناه؛ أنه لا يقبل الجزية، ولا يقبل إلا الإسلام، أو" "القتل" إن امتنعوا منه.(7/394)
وهذا خلاف ما هو حكم الشرع اليوم، فإن الكتابي إذا بذل الجزية وجب قبولها ولم يجز قتله ولا إكراهه على الإسلام، وإذا كان كذلك، فكيف يكون عيسى عليه السلام حاكمًا بشريعة نبينا صلى الله عليه وسلم؟
فالجواب: أنه لا خلاف أن عيسى عليه الصلاة والسلام إنما ينزل حاكمًا بهذه الشريعة المحمدية ولا ينزل نبي برسالة مستقلة وشريعة ناسخة، بل هو حاكم من حكام هذه الأمة.
وأما حكم الجزية وما يتعلق بها فليس حكمًا مستمرًا إلى يوم القيامة، بل هو مقيد بما قبل نزول عيسى، وقد أخبر نبينا صلى الله عليه وسلم بنسخه، وليس عيسى عليه السلام هو الناسخ، بل نبينا صلى الله عليه وسلم هو المبين للنسخ، فدل على أن الامتناع في ذلك الوقت من قبول الجزية هو شرع نبينا صلى الله عليه وسلم. أشار إليه النووي في شرح مسلم.
__________
قال الحافظ: ويؤيده رواية أحمد من وجه آخر، وتكون الدعوى واحدة، "وهذا خلاف ما هو حكم الشرع اليوم، فإن الكتابي إذا بذل" أي: أعطي "الجزية وجب قبولها، ولم يجز" بالزاي "قتله" لقوله تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ} الآية، وفي نسخة: لم يجب بالباء بدل الزاي، وكأنه عبر بها لمطابقة ظاهر الآية، فلا ينافي أنه لا يجوز قتله وعلى قاتله ديته؛ لأن ذلك ثبت بدليل آخر، "ولا إكراهه على الإسلام، وإذا كان كذلك، فكيف يكون عيسى عليه الصلاة والسلام حاكمًا بشريعة نبينا صلى الله عليه وسلم، فالجواب: أنه لا خلاف أن عيسى إنما ينزل حاكمًا بهذه الشريعة المحمدية" لحديث عبد الله بن مغفل: "ينزل عيسى ابن مريم مصدقًا بمحمد على ملته" رواه الطبراني، "ولا ينزل نبي برسالة مستقلة وشريعة ناسخة" لأن هذه الشريعة لا تنسخ، "بل هو حاكم من حكام هذه الأمة" كقاض بين الخصوم بالملة المحمدية.
"وأما حكم الجزية وما يتعلق بها" من إقرارهم على إبقاء صليبهم وخنزيرهم ونحوهما حيث لم يظهروها، "فليس حكمًا مستمرًا إلى يوم القيامة، بل هو مقيد بما قبل نزول عيسى" فوضعها بعد نزوله من شريعتنا.
"وقد أخبر نبينا صلى الله عليه وسلم بنسخه" بهذا الحديث، كما في عبارة النووي "وليس عيسى هو الناسخ، بل نبينا صلى الله عليه وسلم هو المبين للنسخ"، بقوله: ويضع الجزية، "فدل على أن الامتناع في ذلك الوقت من قبول الجزية، وهو شرع نبينا صلى الله عليه وسلم" في ذلك الوقت لا قبله، "أشار إليه النووي في شرح مسلم" ولخصه الحافظ بأوجز عبارة، بقوله قال النووي معنى وضع الجزية، مع أنها(7/395)
فإن قلت: ما المعنى في تغيير حكم الشرع عند نزول عيسى عليه الصلاة والسلام في قبول الجزية؟
فأجاب ابن بطال: بأنا إنما قبلناها نحن لاحتياجنا إلى المال، وليس يحتاج عيسى عليه الصلاة والسلام عند خروجه إلى مال، لأنه يفيض في أيامه المال حتى لا يقبله أحد، فلا يقبل إلا القتل أو الإيمان بالله وحده، انتهى.
وأجاب الشيخ ولي الدين ابن العراقي: بأن قبول الجزية من اليهود.
__________
مشروعة في هذه الشريعة؛ أن مشروعيتها مقيدة بنزول عيسى؛ كما دل عليه هذا الخبر، وليس عيسى بناسخ لحكمها، بل نبينا صلى الله عليه وسلم هو المبين للنسخ بقوله هذا.
"فإن قلت: ما المعنى" أي: السر والحكمة "في تغيير حكم الشرع عند نزول عيسى عليه الصلاة والسلام في" منع "قبول الجزية" أهو تعبدي أم معقول المعنى، "فأجاب" أي: فأقول في ذلك، أجاب: فلا حاجة للفاء لدخولها على ماض مترف، وهو صالح لكونه جواب الشرط، ونقل البدر بن مالك جوازه، اعترض بأن ظاهره الإطلاق، وليس كذلك، بل الماضي المتصرف، المجرد ثلاثة أضرب: ضرب لا يجوز اقترانه بالفاء، وهو المستقبل الذي لم يقصد به وعد أو وعيد، نحو: إن قام زيد قام عمرو، وضرب يجب اقترانه بالفاء، وهو المستقبل الماضي لفظًا ومعنى، نحو: {إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ} ، وقد معه مقدرة، وضرب يجوز اقترانه بالفاء وهو المستقبل معنى، وقصد به وعد أو وعيد، نحو: ومن جاء بالسيئة فكبت، لأنه إذا كان وعدًا أو وعيدًا حسن أن يقدر ماضي المعنى، فعومل معاملة الماضي حقيقة، وقد نص أبوه على هذا التفصيل في شرح كافيته "ابن بطال" أبو الحسن علي في شرح البخاري، "بأنا إنما قبلناها نحن لاحتياجنا إلى المال، وليس يحتاج عيسى عليه الصلاة والسلام عند خروجه" أي: ظهوره ونزوله من السماء إلى الأرض "إلى مال لأنه يفيض" بفتح أوله، وكسر الفاء، وبالضاد المعجمة، أي: يكثر "في أيامه المال حتى لا يقبله أحد" كما قال في الصحيحين ولمسلم في رواية: وليدعون إلى المال فلا يقبله أحد.
قال الحافظ: وسبب كثرته نزول البركات بسبب العدل وعدم الظلم، وحينئذ تخرج الأرض كنوزها ويقل الراغب في اقتناء المال لعلمهم بقرب الساعة، "فلا يقبل إلا القتل" أي: لا يحكم إلا به، فعبر بنفي القبول عن فعل القتل تجوزًا، نحو: وزججن الحواجب والعيونا، "أو الإيمان بالله وحده، انتهى" جواب ابن بطال.
"وأجاب الشيخ ولي الدين" أحمد "ابن العراقي؛ بأن قبول الجزية من اليهود(7/396)
والنصارى لشبهة ما بأيديهم من التوراة والإنجيل, وتعلقهم بزعمهم بشرع قديم، فإذا نزل عيسى عليه الصلاة والسلام زالت تلك الشبه بحصول معاينته، فصاروا كعبدة الأوثان في انقطاع شبهتهم وانكشاف أمرهم، فعوملوا معاملتهم في أنه لا يقبل منهم إلا الإسلام، والحكم يزول بزوال علته. قال وهذا معنى حسن مناسب لم أر من تعرض له. قال: وهذا أولى مما ذكره ابن بطال، انتهى.
__________
والنصارى لشبهة" بالضم، أي: التباس "ما بأيديهم من التوراة والإنجيل" عليهم، فظنوا بسبب الالتباس حقية ما هم عليه، "وتعلقهم بزعمهم بشرع قديم" وهذه الشبهة، والتعلق وإن كانا باطلين لقيام الأدلة الواضحة على حقية الإسلام وبطلان ما سواه، لكنهم عذروا في الجملة لذلك، فاكتفى منهم بما دل على ذلهم وانقيادهم لبعض أحكام الإسلام، قهرًا عليهم، "فإذا نزل عيسى عليه الصلاة والسلام زالت تلك الشبهة بحصول معاينته، فصاروا كعبدة الأوثان في انقطاع شبهتهم وانكشاف أمرهم، فعوملوا معاملتهم في أنه لا يقبل منهم إلا الإسلام والحكم يزول بزوال علته" وهذا أيضًا ملحظ جواب ابن بطال.
"قال: وهذا معنى حسن مناسب لم أر من تعرض له، قال: وهذا أولى مما ذكره ابن بطال، انتهى" وكان وجه أولويته، أنه مبني على علة معنوية معقولة دون جواب ابن بطال، وهو ظاهر في زوال شبهة النصارى بنزول.
وأما زوالها عن اليهود بنزوله، فكأنه لأنهم زعموا هم والنصارى بقاء شرعهما مع شريعة الإسلام، وفي الفتح قال العلماء: الحكمة في نزول عيسى دون غيره من الأنبياء للرد على اليهود في زعمهم أنهم قتلوه، فبين الله كذبهم؛ وأنه الذي يقتلهم، أو نزوله لدنو أجله ليدفن في الأرض، إذ ليس لمخلوق من التراب أن يموت في غرها، وقيل: إنه دعا الله لما رأى صفة محمد وأمته أن يجعله منهم، فاستجاب الله دعاءه وأبقاه حتى ينزل في آخر الزمان مجددًا لأمر الإسلام، فيوافق خروج الدجال فيقتله، والأول أوجه.
وفي مسلم عن ابن عمرو: أنه يمكث في الأرض بعد نزوله سبع سنين، وروى نعيم بن حماد في كتاب الفتن من حديث ابن عباس: أن عيسى إذ ذاك يتزوج في الأرض، ويقيم بها تسع عشرة سنة، وبإسناد فيه مبهم عن أبي هريرة: يقيم بها أربعين سنة.
وروى أحمد وأبو داود بإسناد صحيح، عن أبي هريرة مرفوعًا: "ينزل عيسى عليه السلام وعليه ثوبان ممصران، فيدق الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويدعو الناس إلى الإسلام، ويهلك الله في زمانه الملل كلها إلا الإسلام، وتقع الأمنة في الأرض حتى ترتع الأسود مع الإبل، وتلعب الصبيان بالحيات، فيمكث في الأرض أربعين سنة ثم يتوفى ويصلي عليه المسلمون"، انتهى.(7/397)
.............................................................................
__________
قال ابن كثير: يشكل عليه خبر مسلم أنه يمكث في الأرض سبع سنين، اللهم إلا أن تحمل هذه السبع على مدة إقامته بعد نزوله، وتكون مضافة إلى مكثه فيها قبل رفعه إلى السماء، وكان عمره إذ ذاك ثلاثًا وثلاثين سنة على المشهور، قال في مرقاة الصعود: وقد أقمت سنين أجمع بذلك، ثم رأيت البيهقي قال في كتاب البعث والنشور في هذا الحديث: إن عيسى يمكث في الأرض أربعين سنة، وفي مسلم من حديث عبد الله بن عمرو في قصة الدجال: فيبعث الله عيسى ابن مريم فيطلبه فيهلكه ثم يلبث الناس بعده سبع سنين، ليس بين اثنين عداوة.
قال البيهقي: ويحتمل أن قوله: ثم يلبث الناس بعده، أي: بعد موته، فلا يكون مخالفًا للأول، انتهى، فترجح عندي هذا التأويل من وجوه، أحدها: إن حديث مسلم ليس نصًا في الإخبار عن مدة لبث عيسى، وخبر أبي داود نص فيها، والثاني: أن ثم تؤيد هذا التأويل، لأنها في التراخي. والثالث: قوله: يلبث الناس بعده، فيتجه أن الضمير فيه لعيسى؛ لأنه أقرب مذكور، والرابع: أنه لم يرد في ذلك سوى هذا الحديث المحتمل، ولا ثاني له، وورد مكث عيسى أربعين سنة في عدة أحاديث من طرق مختلفة، فحديث أبي داود، وهذا هو صحيح، وأخرج الطبراني، عن أبي هريرة مرفوعًا: "ينزل عيسى ابن مريم، فيمكث في الناس أربعين سنة" وأخرج أحمد في الزهد عنه، قال: "يلبث عيسى في الأرض أربعين سنة لو يقول للبطحاء سيلي عسلا لسالت"، وأخرج ي المسند، عن عائشة مرفوعًا في حديث الدجال: "فينزل عيسى فيقتله، ثم يمكث عيسى في الأرض أربعين سنة إمامًا عادلا وحكمًا مقسطًا". وورد أيضًا من حديث ابن مسعود عند الطبراني: فهذه الأحاديث المتعددة الصريحة أولى من ذلك الحديث الواحد المحتمل، انتهى.
ويؤيده أن حديث رفعه، وهو ابن ثلاث وثلاثين، إنما يروى عن النصارى، فعند الحاكم عن وهب بن منبه، قال: "إن النصارى تزعم"، فذكر الحديث إلى أن قال: "وإنه رفع وهو ابن ثلاث وثلاثين"، وفيه عبد المنعم بن إدريس كذبوه، ولو صح، فهو عن النصارى كما ترى، والثابت في الأحاديث النبوية أنه رفع، وهو ابن مائة وعشرين.
روى الطبراني والحاكم في المستدرك عن عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في مرضه الذي توفي فيه لفاطمة: " إن جبريل كان يعارضني القرآن في كل عام مرة، وإنه عارضني بالقرآن العام مرتين، وأخبرني أنه لم يكن نبي إلا عاش نصف الذي قبله، وأخبرني أن عيسى ابن مريم عاش عشرين ومائة سنة، ولا أراني إلا ذاهبًا على رأس الستين". ورجاله ثقات وله طرق، وذكر ابن عساكر؛ أن وفاة عيسى تكون بالمدينة، فيصلي عليه هنالك، ويدفن بالحجرة النبوية، وروى الترمذي عن عبد الله بن سلام، قال: مكتوب في التوراة صفة محمد وعيسى ابن مريم يدفن معه،(7/398)
وكذلك من يقول من العلماء بنبوة الخضر.
__________
واختلف في موته قبل رفعه لظاهر قوله تعالى: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ} [آل عمران: 55] الآية.
قال الحافظ: وعليه إذا نزل إلى الأرض، ومضت المدة المقدورة له يموت ثانيًا، وقيل: معنى متوفيك رافعك من الأرض، فعليه لا يموت إلا في آخر الزمان، وقال في موضع آخر: رفع عيسى وهو حي على الصحيح، ولم يثبت رفع إدريس وهو حي من طريق مرفوعة قوية، انتهى.
وفي الإصابة: عيسى ابن مريم بنت عمران رسول الله، وكلمته ألقاها إلى مريم، ذكره الذهبي في التجريد مستدركًا على من قبله، فقال: رأى النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء، وسلم عليه، فهو نبي وصحابي، وهو آخر من يموت من الصحابة، وألغزه القاضي تاج الدين السبكي في قصيدته التي في أواخر القواعد له، فقال:
من باتفاق جميع الخلق أفضل من ... خير الصحاب أبي بكر ومن عمر
ومن علي ومن عثمان وهو فتى ... من أمة المصطفى المختار من مضر
وأنكر مغلطاي على من ذكر خالد بن سنان في الصحابة، كأبي موسى المديني، وقال: إن ذكره لكونه ذكر النبي صلى الله عليه وسم، فكان ينبغي له أن يذكر عيسى وغيره من الأنبياء، أو من ذكره هو من الأنبياء غيرهم، ومن المعلوم أنهم لا يذكرون في الصحابة، انتهى.
ويتجه ذكر عيسى خاصة لأمور اقتضت ذلك، وهي رفعه حيًا على أحد القولين، وأنه ينزل إلى الأرض، فيقتل الدجال، وأنه يحكم بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم؛ فبهذه الثلاث يدخل في تعريف الصحابي، وهو الذي عليه عول الذهبي، انتهى كلام الإصابة.
ويؤيده اجتماعه بالمصطفى مرات في غير ليلة الإسراء في الطواف وغيره؛ كما تقدم قريبًا من رواية ابن عساكر وابن عدي عن أنس، ونقل السيوطي عن العلم القرافي؛ أنه تعقب قول الناظم وهو فتى؛ بأنه إن كان عني عيسى؛ فلا يطلق اسم الفتى على الأنبياء، إنما يسمى به الصبيان والعبيد والخدم، وإن أراد إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم، فلا يطلق عليه فتى، فقد نص الأزهري على أن الصبي لا يسمى فتى حتى يراهق، وإن أراد الحسن فأبو بكر أفضل منه، فلو قال شخص بدل فتى صح على عيسى وعلى إبراهيم وعلى فاطمة؛ لحديث: "فاطمة بضعة مني"، قال مالك: لا أفضل على بضعة من النبي صلى الله عليه وسلم أحدًا، انتهى.
"وكذلك من يقول" وهم الجمهور؛ كما قال ابن عطية، والمازري، والبغوي، والقرطبي "من العلماء بنبوة الخضر" قائلين: لأن قوله تعالى: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} الآية، يدل على أنه نبي يوحى إليه، ولأن النبي لا يتعلم ممن هو دونه، ولأن الحكم بالباطن لا يطلع عليه إلا الأنبياء، ثم اختلفوا في أنه رسول الله أم لا؟ فقال الثعلبي: الخضر نبي بعثه الله بعد شعياء، وقالت(7/399)
وأنه باق إلى اليوم، فإنه تابع لأحكام هذه الملة.
__________
طائفة منهم القشيري: هو ولي، وأجابوا عن الآية باحتمال بعيد جدًا، هو: أن الله أوحى إلى نبي ذلك العصر، بأن يأمر الخضر بذلك، وهو بفتح الخاء، وكسر الضاد المعجمتين، وقد تسكن مع كسر الخاء، وكنيته أبو العباس.
وفي الصحيحين، عن أبي هريرة مرفوعًا: "إنما سمي الخضر، لأنه جلس على فروة بيضاء، فإذا هي تهتز من تحته خضراء".
زاد عبد الرزاق: الفروة الحشيش الأبيض وما أشبهها، قال عبد الله بن أحمد: أظن هذا تفسيرًا من عبد الرزاق، وبه جزم عياض، ويوافقه قول الحربي: الفروة من الأرض قطعة يابسة من حشيش، وقال ابن الأعرابي: الفروة أرض بيضاء، ليس فيها نبات، وبه جزم الخطابي ومن تبعه، وحكى مجاهد: أنه قيل له الخضر، لأنه كان إذا صلى اخضر ما حوله، واختلف في اسمه واسم أبيه ونسبه، فالأصح الذي نقله أهل السير وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ كما قال البغوي وغيره: أن اسمه بليا، بفتح الموحدة، وسكون اللام، فتحتية، فألف، وبخط الدمياطي في أول الاسم نقطتان، وقيل: كالأول بزيادة ألف بعد الباء، وقيل: اسمه إلياس، وقيل: اليسع، وقيل: عامر، وقيل: إرميا بكسر أوله، وقيل بضمه وأشبعها بعضهم واوًا، وقيل: المعمر، وقيل: خضرون، وقيل غير ذلك ابن ملكان، بفتح الميم، وسكون اللام ابن فالغ بن عابر بن شالح بن أرفخشذ بن سام بن نوح، وعلى هذا فمولده قبل إبراهيم؛ لأنه يكون ابن عم جد إبراهيم.
وحكى الثعلبي قولين في أنه كان قبل الخليل أو بعده، وروى الدارقطني عن ابن عباس، قال: هو ابن آدم لصلبه، قال الحافظ: وهذا ضعيف منقطع، وحكى أبو حاتم السختياني أنه ابن قابيل بن آدم، وقيل: ابن مالك بن عبد الله بن نصر بن الأزد، وقيل: ابن غاييل بن معمر بن عيصور بن إسحاق بن إبراهيم، وقيل: الخضر بن فرعون صاحب موسى، وهو غريب جدًا، وقيل: ابن بنت فرعون، وقيل: كان أبوه فارسيًا.
وحكى السهيلي عن قوم أنه كان ملكًا من الملائكة وليس من بني آدم، قال النووي: وهو غريب ضعيف أو باطل، وقيل: إنه من ذرية بعض من آمن بإبراهيم، وقيل: إنه الذي أماته الله مائة عام، ثم بعثه، فلا يموت حتى ينفخ في الصور، رواه الدارقطني وزاد: مد للخضر في أجله حتى يكذب الدجال.
ونقل عبد الرزاق عن معمر، قال: بلغني أن الخضر هو الذي يقتله الدجال ثم يحييه، "وأنه باقٍ إلى اليوم، فإنه تابع لأحكام هذه الملة" قال ابن الصلاح: هو حي عند جمهور العلماء، والعامة معهم في ذلك، وإنما شذ بإنكاره بعض المحدثين، وتبعه النووي، وزاد: وفي ذلك متفق(7/400)
.................................................................
__________
عليه بين الصوفية وأهل الصلاح، وحكاياتهم في رؤيته والاجتماع به، والأخذ عنه، وسؤاله وجوابه، ووجوده في المواضع الشريفة أكثر من أن تحصر، وأشهر من أن تذكر.
قال في الإصابة: لا يقال يستفاد من هذه الأخبار التواتر المعنوي؛ لأن المتواتر لا يشترط فيه عدالة، إنما العمدة على وروده بعدد تحيل العادة تواطأهم على الكذب، فإن اتفقت ألفاظه فذاك، وإن اختلفت فمهما اجتمعت فهو التواتر المعنوي، وهذه الحكايات تجتمع في أن الخضر حي، لأنا نقول بطرق حكاية القطع قول جماعة من الصوفية لكل زمان، وأنه نقيب الأولياء، وكلما مات نقيب أقيم نقيب مقامه، وسمي الخضر، فلا نقطع مع هذا أن الذي ينقل عنه الخضر صاحب موسى، بل هو خضر ذلك الزمان، ويؤيده اختلافهم في صفته، فمنهم من يراه شيخًا، أو كهلا، أو شابًّا، وهو محمول على تغاير المرئي وزمانه، انتهى.
وروى ابن إسحاق في المبتدأ عن أصحابه: أن آدم أخبر بنيه عند الموت بأمر الطوفان، ودعا لمن يحفظ جسده حتى يدفنه بالتعمير، فجمع نوح بينه لما وقع الطوفان، وأعلمهم بذلك، فحفظوه حتى كان الذي تولى دفنه الخضر.
وروى خيثمة بن سليمان، عن جعفر الصادق، عن أبيه: أن ذا القرنين كان له صديق من الملائكة، فطلب منه أن يدله على شيء يطول به عمره، فدله على عين الحياة، وهي داخل الظلمة، فسار إليها والخضر على مقدمته، فظفر بها الخضر، فشرب منها، وتوضأ، واغتسل فيها، ولم يظفر بها ذو القرنين، فلا يموت حتى يرفع القرآن.
وأخرج ابن عدي بسند ضعيف عن عمرو بن عوف: أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع وهو في المسجد كلامًا، فقال: "يا أنس اذهب إلى هذا القائل، فقل له يستغفر لي". فذهب إليه، فقال: قل إن الله فضلك على الأنبياء بما فضل به رمضان على الشهور، وفضل أمتك على الأمم مثل ما فضل يوم الجمعة على سائر الأيام، فذهبوا ينظرونه، فإذا هو الخضر.
وروى ابن عساكر نحوه، عن أنس بإسناد، أوهى منه، قال ابن المنادى: حديث واهٍ منكر الإسناد سقيم المتن، لم يراسل الخضر بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم ولم يلقه، واستبعده ابن الجوزي من جهة إمكان لقيه له صلى الله عليه وسلم، واجتماعه معه ثم لا يجيء إليه وجاء في اجتماعه ببعض الصحابة أخبار أكثره واهي الإسناد، وقد جزم بموته، وأنه غير موجود الآن: البخاري وإبراهيم الحربي، وأبو جعفر بن المناد، وأبو يعلى بن الفراء، وأبو طاهر العبادي، وأبو بكر بن العربي وطائفة.
قال ابن عطية: أخرج النقاش أخبارًا كثيرة تدل على بقائه، لا يقوم بشيء منها حجة، قال: لو كان باقيًا كان له في ابتداء الإسلام ظهور، ولم يثبت شيء من ذلك؛ انتهى، وعمدتهم الحديث المشهور عن ابن عمر وجابر، وغيرهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في آخر حياته: "لا يبقى(7/401)
وكذلك إلياس..................................................
__________
على وجه الأرض بعد مائة سنة ممن هو عليها اليوم أحد". قال ابن عمر: أراد بذلك انخرام قرنه، وأجاب: من أثبت حياته، بأنه كان حينئذ على وجه البحر، أو هو مخصوص من الحديث؛ كما خص منه إبليس باتفاق، ومن حجج من أنكر ذلك قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ} الآية، وحديث ابن عباس: "ما بعث الله نببيًا إلا أخذ عليه الميثاق لئن بعث محمد وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه". ولم يأت في خبر صحيح، أنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولا قاتل معه، وقد قال صلى الله عليه وسلم يوم بدر: "اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض"، فلو كان الخضر موجودًا لم يصح هذا النفي، وقال صلى الله عليه وسلم: "رحم الله موسى، لوددنا لو كان صبر حتى يقص الله علينا من خبرهما"، فلو كان الخضر موجودًا لما حسن هذا التمني ولأحضره بين يديه، وأراه العجائب، وكان أدعى لإيمان الكفرة لا سيما أهل الكتاب، وقد بسط الكلام فيه في الإصابة بنحو كراس، وألم بشيء منه في فتح الباري من جملته: روى يعقوب بن سفيان في تاريخه، وأبو عروبة عن رياح بتحتية ابن عبيدة، قال: رأيت رجلا يماشي عمر بن عبد العزيز معتمدًا على يديه، فلما انصرف، قلت له: من الرجل؟، قال: رأيته؟ قلت: نعم، قال: أحسبك رجلا صالحًا، ذاك أخي الخضر، بشرني أني سألي وأعدل، لا بأس برجاله، ولم يقع لي إلى الآن خبر، ولا أثر بسند جيد غيره، وهذا لا يعارض الحديث في مائة سنة؛ لأنه كان قبل المائة، انتهى.
قال في الإصابة: وعلى بقائه إلى زمن النبي صلى الله عليه وسلم وحياته بعده، فهو داخل في تعريف الصحابي على أحد الأقوال، ولم أر من ذكره فيهم من القدماء، مع ذهاب الأكثر إلى الأخذ بما ورد من أخباره في تعميره وبقائه.
"وكذلك إلياس" بهمزة قطع اسم عبراني، وأما قوله تعالى: {سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ} الآية، فقرأه الأكثر بصورة الاسم المذكورة، وزيادة ياء ونون في آخره، وقرأه أهل المدينة: "آل ياسين"، بفصل آل من ياسين، وبعضهم تأول أن المراد آل محمد، وهو بعيد، ويؤيد الأولى أن الله تعالى إنما أخبر في كل موضع ذكر فيه نبيًا من الأنبياء في هذه السورة بأن السلام عليه، فكذلك السلام في هذا الموضع على المبدأ بذكره في قوله تعالى: {وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} الآية، وإنما زيدت فيه الياء والنون، كما قالوا في إدريس إدراسين، ونقل بعضهم الإجماع على أن إدريس جد نوح، وفيه نظر؛ لأنه إن ثبت قول ابن عباس: أن إلياس هو إدريس، لزم أن إدريس من ذرية نوح؛ لقوله تعالى: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ} الآية، إلى أن قال: {وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ} الآية، سواء كان ضمير ذريته لنوح أو لإبراهيم؛ لأن من كان من ذريته هو من ذرية نوح لا محالة.
وذكر ابن إسحاق: أن إلياس هو ابن نسي بن فينحاس، ابن العزر بن هارون أخي موسى بن(7/402)
على ما صححه أبو عبد الله القرطبي أنه حي أيضًا.
وليس في الرسل من يتبعه رسول إلا نبينا صلى الله عليه وسلم، وكفى بهذا شرفًا لهذه الأمة المحمدية زادها الله شرفًا.
فالحمد لله الذي خصنا بهذه الرحمة، وأسبغ علينا هذه النعمة، ومن علينا بما عمنا به من الفضائل الجمة، ونوه بنا في كتابه العزيز بقوله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} [آل عمران: 110] ، فتأمل قوله {كُنْتُمْ} .
__________
عمران، "على ما صححه أبو عبد الله" محمد بن فرج "القرطبي" المفسر، "أنه حي أيضًا" ذكر وهب في المبتدأ أن إلياس عمر، كما عمر الخضر، وأنه يبقى إلى آخر الزمان.
وروى الدارقطني عن ابن عباس مرفوعًا: "يجتمع الخضر وإلياس كل عام في الموسم، فيحلق كل واحد منهما رأس صاحبه ويتفرقان عن هؤلاء الكلمات: بسم الله، ما شاء الله، لا يسوق الخير إلا الله، لا يصرف السوء إلا الله، بسم الله، ما شاء الله، ما كان من نعمة فمن الله، بسم الله، ما شاء الله، لا حول ولا قوة إلا بالله"، وإسناده ضعيف، ورواه ابن الجوزي بسنده واهٍ جدًا، وزاد: قال صلى الله عليه وسلم: "ما من عبد قالها في كل يوم إلا أمن من الغرق والحرق والسرق، وكل شيء يكرهه حتى يمسي، وكذلك حتى يصبح"، ورواه أحمد في الزهد بسند حسن، لكنه معضل، عن عبد العزيز بن أبي رواد، وزاد: "ويشربان من زمزم شربة تكفيهما إلى قابل، ويصومان رمضان ببيت المقدس".
وروي عن كعب الأحبار، قال: أربعة من الأنبياء أحياء، اثنان في الأرض، الخضر وإلياس، واثنان في السماء: إدريس وعيسى.
وروى الحاكم في المستدرك عن أنس: أإلياس اجتمع بالنبي صلى الله عليه وسلم، وأكلا جميعًا، وأن طوله ثلاثمائة ذراع، وأنه قال: إنه لا يأكل في السنة إلا مرة واحدة، قال الذهبي: هذا خبر باطل.
وفي الإصابة: يلزم من ذكر الخضر في الصحابة أن يذكر إلياس، ومن أغرب ما روي فيه: أنه هو الخضر، فأخرج ابن مردويه في تفسير سورة الأنعام عن ابن عباس مرفوعًا: "الخضر هو إلياس".
"وليس في الرسل من يتبعه رسول" عاملا بشريعته، تاركًا للشرع الذي أوحي إليه به، "إلا نبينا صلى الله عليه وسلم" لأنه نبي الأنبياء، "وكفى بهذا شرفًا لهذه الأمة المحمدية، زادها الله شرفًا، فالحمد لله الذي خصنا بهذه الرحمة، وأسبغ" أفاض وأتم "علينا هذه النعمة، ومن علينا بما عمنا به من الفضائل الجمة" الكثيرة "ونوه بنا" أي: رفع ذكرنا "في كتابه العزيز، بقوله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110] الآية، "فتأمل قوله: {كُنْتُمْ} الدال على(7/403)
أي: في اللوح المحفوظ، وقيل: كنتم في علم الله.
فينبغي لمن هو من هذه الأمة المحمدية أن يتخلق بالأخلاق الزكية، ليثبت له ما لهذه الأمة الشريفة من الأوصاف المرضية، ويتأهل لما لها من الخيرية.
قال مجاهد: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} إذا كنتم على الشرائط المذكورة، أي: {تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} .
وقيل: إنما صارت أمة محمد صلى الله عليه وسلم خير أمة لأن المسلمين منهم أكثر، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيهم أشهر.
وقيل: هذا لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كما قال عليه الصلاة والسلام: "خير الناس قرني
__________
ثبوت قدم الخيرية لهم من قبل وجود الأمم، "أي: في اللوح المحفوظ، وقيل: كنتم في علم الله" والقصد بهذين القولين تحقيق معنى المضي، وقيل: معنى: {كُنْتُمْ} أنتم؛ كقوله: {وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا} الآية، وفي موضع آخر: {إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ} الآية.
وأشار البغوي إلى ترجيح الأول بما أخرجه هو وأحمد والترمذي وغيرهم عن معاوية بن حيدة؛ أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول في قوله عز وجل: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} الآية، قال: "إنكم تتمون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله". "فينبغي لمن هو من هذه الأمة المحمدية أن يتخلق بالأخلاق الزكية" بملازمة الطاعات واجتناب المنهيات، "ليثبت له ما لهذه الأمة الشريفة" بشرف نبيها "من الأوصاف المرضية" لله وعباده التقين، "ويتأهل لما لها من الخيرية".
"قال مجاهد" في تفسير قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} : إذا كنتم على الشرائط المذكورة، أي" قوله: {تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} الآية؛ لأن ذلك استئناف لبيان الخيرية فهو شرط فيها فمن لم يكن كذلك لم يتصف بالخيرية.
"وقيل: إنما صارت" أي كانت ووجدت "أمة محمد صلى الله عليه وسلم خير أمة؛ لأن المسلمين منهم أكثر والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيهم أشهر" وهذا كله على أن الخطاب للأمة كلهم، "وقيل: هذا" الخطاب "لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم" كما قال عليه الصلاة والسلام" في الصحيحين وغيرهما: "خير الناس" وفي رواية: خير أمتي، "قرني" أي: أهل عصري، يعني(7/404)
ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم"، وهذا يدل على أن أول هذه الأمة أفضل من بعدها. وإلى هذا ذهب معظم العلماء.
وإن من صحبه صلى الله عليه وسلم ورآه ولو مرة من عمره أفضل من كل من يأتي بعده، وأن فضيلة الصحبة لا يعدلها عمل، هذا مذهب الجمهور.
وذهب أبو عمر بن عبد البر: إلى أنه قد يكون فيمن يأتي بعد الصحابة أفضل ممن كان في جملة الصحابة، وإن قوله عليه الصلاة والسلام: "خير الناس قرني" ليس على عمومه بدليل ما يجمع القرن من الفاضل والمفضول، وقد جمع قرنه عليه الصلاة والسلام جماعة من المنافقين المظهرين للإيمان، وأهل الكبائر الذين أقام عليهم وعلى بعضهم الحدود، وقد روى أبو أمامة أنه صلى الله عليه وسلم قال: "طوبى لمن رآني وآمن بي، وطوبى سبع مرات
__________
الصحابة، ومدتهم من البعثة مائة وعشرون سنة أو دونها، أو فوقها بقليل على الخلاف في وفاة آخر الصحابة موتا أبي الطفيل، وإن اعتبر من وفاته صلى الله عليه وسلم كان مائة أو تسعين أو سبعا وتسعين، "ثم الذين يلونهم" أي: القرن الذين بعدهم، وهم التابعون، ومدتهم نحو سبعين أو ثمانين سنة إن اعتبر من سنة مائة، "ثم الذين يلونهم" وهم أتباع التابعين من خمسين إلى حدود عشرين ومائتين، فمدة القرن تختلف باختلاف أعمار كل زمان، ومر الحديث قريبًا.
"وهذا يدل على أن أول هذه الأمة أفضل من بعدها، وإلى هذا ذهب معظم العلماء، وإن من صحبه صلى الله عليه وسلم ورآه ولو مرة من عمره أفضل من كل من يأتي بعده، وإن فضيلة الصحبة لا يعدلها عمل" عطف علة على معلول، "هذا مذهب الجمهور" إطناب مساو لقوله معظم العلماء.
"وذهب أبو عمر بن عبد البر إلى أنه قد يكون فين يأتي بعد الصحابة أفضل ممن كان في جملة الصحابة" كمن رآه مرة، "وإن قوله عليه الصلاة والسلام: "خير الناس قرني"، ليس على عمومه بدليل ما يجمع القرن من الفاضل والمفضول، وقد جمع قرنه عليه الصلاة والسلام جماعة من المنافقين المظهرين للإيمان" لكن في الاستظهار بذكر هؤلاء على الدعوى شيء، إذ هؤلاء كفار، والكلام في المؤمنين، "وأهل الكبائر الذين أقام عليهم وعلى بعضهم الحدود" وفي الاستظهار بهم أيضا شيء، فالحدود جوابر على الصحيح، "وقد روى أبو أمامة" الباهلي، صدي بالتصغير ابن عجلان، صحابي مشهور، سكن الشام، ومات بها سنة ست وثمانين، "أنه صلى الله عليه وسلم قال: "طوبى" تأنيث أطيب، أي: راحة وطيب عيش، حاصل "لمن رآني وآمن بي، وطوبى سبع مرات"، المتبادر أنه قال: هذا اللفظ، لا أنه كرر طوبى سبعًا(7/405)
لمن لم يرني وآمن بي".
وفي مسند أبي داود الطيالسي عن محمد بن أبي حميد عن زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر قال: كنت جالسًا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أتدرون أي الخلق أفضل إيمانًا؟ " قلنا: الملائكة.
__________
"لمن لم يرني وآمن بي" لأن الله مدح المؤمنين بإيمانهم بالغيب، وإيمان الصحابة بالله واليوم الآخر غيبًا، وبالنبي صلى الله عليه وسلم شهودًا للآيات والمعجزات، ومن بعدهم آمنوا غيبًا بما آمنوا به شهودًا، فلذا أثنى عليهم، وحديث أبي أمامة هذا أخرجه أحمد والبخاري في التاريخ، وابن حبان والحاكم بلفظ: "طوبى لمن رآني وآمن بي مرة، وطوبى لمن لم يرني وآمن بي سبع مرات"، فزاد مرة وأخر سبع مرات، وصححه الحاكم وتعقب، لكن له شاهد من حديث أنس عند أحمد.
وروى الطيالسي وعبد بن حميد عن ابن عمر، قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقيل له: أرأيت من آمن بك ولم يرك، وصدقك ولم يرك؟ قال: "أولئك إخواني أولئك معي، طوبى لمن رآني وآمن بي، وطوبى لمن آمن بي ولم يرني ثلاث مرات"، ولا يعارض ما قبله؛ لأنه أخبر بما علمه أولا، ثم زيد فأخبر به، ويدل على ذلك حديث الطبراني عن ابن عمر، وابن النجار عن أبي هريرة رفعاه: "طوبى لمن أدركني وآمن بي، وطوبى لمن لم يدركني، ثم آمن بي"، فأخبر أن كلا له طوبى، ولم يذكر عددًا، لأنه قبل أن يوحى إليه بالعدد.
وأخرج أحمد وابن حبان عن أبي سعيد، أن رجلا قال: يا رسول الله! طوبى لمن رآك وآمن بك، فقال صلى الله عليه وسلم: "طوبى لمن رآني وآمن بي، ثم طوبى، ثم طوبى، ثم طوبى لمن آمن بي ولم يرني"، فقال رجل: يا رسول الله! وما طوبى؟ قال: "شجرة من الجنة مسيرة مائة سنة، ثياب أهل الجنة تخرج من أكمامها".
وروى الطبراني برجال ثقات، والحاكم عن عبد الله بن يسر، مرفوعًا: "طوبى لمن رآني وآمن بي، وطوبى لمن رأى من رآني، وطوبى لمن رأى من رأى من رآني، طوبى لهم وحسن مآب".
"وفي مسند أبي داود" سليمان بن داود بن الجارود "الطيالسي"، البصري، ثقة، حافظ، روى له مسلم والأربعة، ومات سنة أربع ومائتين، "عن محمد بن أبي حميد" إبراهيم الأنصاري، الزرقي، المدني، ضعيف روى له الترمذي وابن ماجه، "عن زيد بن أسلم" العدوي، المدني ثقة، عالم من رجال الجميع مات سنة ست وثلاثين ومائة، "عن أبيه" أسلم مولى عمر، ثقة مخضرم، روى له الجميع ومات سنة ثمانين، وقيل: بعد سنة ستين، وهو ابن أربع عشرة ومائة سنة، "عن عمر" بن الخطاب، "قال: كنت جالسًا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "أتدرون أي الخلق أفضل إيمانًا؟ " قلنا: الملائكة" لأنهم لا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون،(7/406)
قال: "وحق لهم، بل غيرهم". قلنا: الأنبياء، قال: "وحق لهم، بل غيرهم"، ثم قال صلى الله عليه وسلم: "أفضل الخلق إيمانًا قوم في أصلاب الرجال يؤمنون بي ولم يروني فهم أفضل الخلق إيمانًا".
وروي أن عمر بن عبد العزيز لما ولي الخلافة كتب إلى سالم بن عبد الله أن أكتب إلى بسيرة عمر بن الخطاب لأعمل بها، فكتب إليه سالم: إن عملت بسيرة عمر فأنت أفضل من عمر، لأن زمانك ليس كزمان عمر، ولا رجالك كرجال عمر، قال: وكتب إلى فقهاء زمانه فكلهم كتب بمثل قول سالم.
قال أبو عمر: فهذه الأحاديث تقتضي مع تواتر طرقها وحسنها، التسوية بين أول هذه الأمة وآخرها في فضل العمل، إلا أهل بدر والحديبية. ومن تدبر هذا
__________
"قال: وحق" بفتح الحاء من حق لازمًا، أي: ثبت "لهم"، وبضم الحاء من المتعدي، أثب: أثبت ويبنى منه للمفعول، فيقال: حق لك أن تفعل كذا بالضم؛ كما في القاموس، واقتصر المصباح على اللازم "بل" مرادي "غيرهم" أو غيرهم المراد، فهو بالرفع، ويحتمل النصب بتقدير أريد غيرهم، "قلنا: الأنبياء، قال: "وحق لهم، بل غيرهم"، ثم قال صلى الله عليه وسلم: "أفضل الخلق إيمانًا قوم في أصلاب الرجال يؤمنون بي ولم يروني فهم أفضل الخلق إيمانًا" أعاده تأكيدًا، والمراد: من أفضل، فلا ينافي قوله صلى الله عليه وسلم: "أفضل المؤمنين إسلامًا من سلم المسلمون من لسانه ويده، وأفضل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا". رواه الطبراني بإسناد حسن.
وروى ابن ماجه، وصححه الحاكم مرفوعًا: "أفضل المؤمنين أحسنهم خلقًا"، ولا قوله صلى الله عليه وسلم: "أفضل المؤمنين إيمانًا المقل، الذي إذا سأل أعطى، وإذا لم يعط استغنى"، رواه ابن ماجه والخطيب، ويجمع بينهما أيضًا باعتبار الجهة، أي: أفضل الخلق من جهة الإيمان بالغيب، وهكذا.
"وروي أن عمر بن عبد العزيز" الإمام العادل "لما ولي الخلافة، كتب إلى الم بن عبد الله" بن عمر، أحد الفقهاء: "أن اكتب إلي بسيرة عمر بن الخطاب لأعمل بها، فكتب إليه سالم: إن عملت بسيرة عمر، فأنت أفضل من عمر؛ لأن زمانك ليس كزمان عمر ولا رجالك كرجال عمر" أي: ولا يمكنك ذلك، لأنه يتصور، فالتعليق على محال.
"قال: وكتب إلى فقهاء زمانه فكلهم كتب بمثل قول سالم"، ترغيبًا له، وحثا على العدل الذي رامه.
"قال أبو عمر" عبد البر بعد ذكر هذا، وأحاديث آخر: "فهذه الأحاديث تقتضي مع تواتر طرقها" تواترًا معنويًا لاتفاقها على تفضيل العامل في أي زمان، "وحسنها" باعتبار المجموع(7/407)
الباب بأن له الصواب، انتهى.
وإسناد حديث أبي داود الطيالسي عن عمر ضعيف فلا يحتج به، لكن روى أحمد والدارمي والطبراني عن أبي عبيدة -ابن الجراح: يا رسول الله، أحد خير منا؟ أسلمنا معك وجاهدنا معك؟ قال: "قوم يكونون من بعدكم يؤمنون بي ولم يروني". وإسناده حسن وصححه الحاكم.
والحق ما عليه الجمهور: أن فضيلة الصحبة لا يعدلها عمل لمشاهدة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والدلائل على أفضلية الصحابة على غيرهم كثيرة متظاهرة لا نطيل بذكرها وسيأتي بقية مباحث ذلك في فضل الصحابة من المقصد السابع إن شاء الله تعالى.
وقد خص الله تعالى هذه الأمة الشريفة بخصائص لم يؤتها أمة.
__________
"التسوية بين أول هذه الأمة وآخرها في فضل العمل إلا أهل بدر والحديبية" لنصه صلى الله عليه وسلم على أفضلية أهلهما على من سواهما، فمحل النزاع فيمن لم يحصل له إلا مجرد المشاهدة، "ومن تدبر هذا الباب؛ بأن له الصواب، انتهى؛ وإسناد حديث أبي داود الطيالسي، عن عمر ضعيف" لضعف محمد بن أبي حميد، "فلا يحتج به" فتحسين ابن عبد البر ما حكم على المجموع؛ لأنه قال: وحسنها بعد أحاديث عدة، وأبرز سند حديث عمر، أو باعتبار شاهده الذي استدركه بقوله: "لكن روى أحمد والدارمي، والطبراني عن أبي عبيدة" عامر "ابن الجراح" أحد العشرة، أنه قال: "يا رسول الله! أحد" بتقدير أداة الاستفهام همزة، أو هل أحد "خير منا، أسلمنا معك وجاهدنا معك؟ "قال: خير منكم " قوم يكونون من بعدكم يؤمنون بي ولم يروني"، وإسناده حسن، وصححه الحاكم" وهو بمعنى حديث عمر، فهو شاهده.
"والحق ما عليه الجمهور: أن فضيلة الصحبة لا يعدلها عمل؛ لمشاهدة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو مرة، وذلك لا يكون لمن بعد الصحابة ولو بلغوا ما بلغوا، "والدلائل على أفضلية الصحابة على غيرهم كثيرة متظاهرة، لا نطيل بذكرها، وسيأتي بقية مباحث ذلك في فضل الصحابة من المقصد السابع إن شاء الله تعالى" بما منه ما محصله: أنه يمكن تأويل الأحاديث المتدمة، بأن زيادة الأجر والخيرية بسبب الإيمان بالغيب دون مشاهدة الآيات، لا تستلزم الأفضلية المطلقة، فإنما يقع التفاضل بالنسبة إلى ما يماثله، وما فاز به من شاهده صلى الله عليه وسلم لم يفز به من لم يقع له ذلك، فلا يعدله فيه أحد.
"وقد خص الله تعالى هذه الأمة الشريفة" أي: أمة الإجابة "بخصائص لم يؤتها أمة(7/408)
قبلهم، أبان بها فضلهم، والأخبار والآثار ناطقة بذلك.
فخرج أبو نعيم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن موسى -عليه الصلاة والسلام- لما نزلت عليه التوراة وقرأها، فوجد فيها ذكر هذه الأمة، قال: يا رب إني أجد في الألواح أمة هم الآخرون السابقون، فاجعلها أمتي، قال: تلك أمة أحمد، قال: يا رب إني أجد في الألواح أمة
__________
قبلهم" كالصفة الكاشفة لما قبلها، فإن عدم إيتائها لمن قبلهم هو معنى تخصيصهم بها، "أبان" أظهر "بها فضلهم" على غيرهم، وكذلك خص أمة الدعوة برفع ما كان من أنواع العذاب في الأمم السابقة، كالخسف ونحوه؛ لكن لم تعد كمالات لهم لكفرهم، ولأنها لم تنجهم من العذاب الأشد، ومتاع الدنيا قليل، "والأخبار والآثار" عطف خاص على عام، أو مباين "ناطقة بذلك" أي: دالة دلالة قوية، كالنطق، وبين بعضها مقتصرًا عليه؛ لأن دلالتها أوضح، وكافية في المقصود بقوله: "فخرج أبو نعيم" أحمد بن عبد الله الأصفهاني، "عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن موسى عليه الصلاة والسلام لما نزلت عليه التوراة وقرأها، فوجد فيها ذكر هذه الأمة" بالأوصاف الحميدة التي لم توجد لغيرها، "قال: يا رب إني أجد في الألواح" التي أنزلت التوراة فيها، وكانت تسعة ألواح، وقيل: عشرة، وفي الحديث: "كانت من سدر الجنة، طول اللوح اثنا عشر ذراعًا" وقال الحسن: كانت من خشب، والكلبي: كانت من زبرجدة خضراء، وسعيد بن جبير: من ياقوت أحمر، والربيع بن أنس: كانت من برد، وابن جريج: من زمرد، أمر الله جبريل حت جاء بها من عدن، وكتبها بالقلم الذي كتب به الذكر، واستمد من نهر النور.
قال وهب: أمره الله بقطع ألواح من صخرة صماء، لينها الله له، فقطعها بيده، ثم شققها بأصبعه.
قالت الرواة: كانت التوراة سبعة أسباع، فلما ألقى الألواح تكسرت، فرفعت سنة أسباعها، وبقي سبع، فرفع ما كان من أخبار الغيب، وبقي ما فيه المواعظ والأحكام، والحلال والحرام؛ كذا في المعالم. "أمة هم الآخرون" زمانًا في الدنيا، "السابقون" أهل الكتاب وغيرهم منزلة وكرامة في الحشر والحساب، والقضاء لهم قبل الخلائق، وفي دخول الجنة قبل الأمم.
وفي الصحيحين عن أبي هريرة: سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "نحن الآخرون السابقون يوم القيامة بيد أنهم أتوا الكتاب من قبلنا". الحديث.
وفي رواية مسلم: "نحن الآخرون من أهل الدنيا، والسابقون يوم القيامة، المقضي لهم قبل الخلائق"، "فاجعلها أمتي، قال: تلك أمة أحمد، قال: يا رب إني أجد في الألواح أمة(7/409)
أناجيلهم في صدورهم يقرءونها فاجعلها أمتي، قال: تلك أمة أحمد، قال: يا رب إني أجد في الألواح أمة يجعلون الصدقة في بطونهم يؤجرون عليها فاجعلها أمتي، قال: تلك أمة أحمد، قال: يا رب إني أجد في الألواح أمة
__________
أناجيلهم" مصاحفهم، أي: ما فيها محفوظ "في صدورهم" أي: قلوبهم.
قال في الإتقان: فيه تسمية القرآن إنجيلا، وروى ابن الضريس وغيره عن كعب، قال: في التوراة يا محمد إني منزل عليك توراة حديثة، تفتح أعينًا عميًا، وآذانًا صمًا، وقلوبًا غلفًا، ففيه تسمية القرآن توراة، ومع هذا لا يجوز الآن أن يطلق عليه ذلك، وهذا كما سميت التوراة فرقانًا في قوله تعالى: {وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ} الآية، وسمى صلى الله عليه وسلم الزبور قرآنًا في قوله: "خفف على داود القرآن". "يقرءونها" وكان من قبلهم يقرءون كتبهم ولا يحفظونها.
قال الربيع بن أنس: نزلت التوراة سبعون وقر، بعير الجزء منها في ستة، لم يقرأها إلا أربعة: موسى، ويوشع، وعزير وعيسى، وبتفسير الأناجيل بالمصاحف يكون تجوز بكتاب عيسى عن بقية الكتب تسمية للمطلق باسم المقيد، ثم استعملها في القرآن خاصة، وجمعه نظرًا إلى أن ما يلفظ به قارئ مغاير لما يلفظ به غيره من حيث التلفظ، وإن كان المقروء واحدًا، إذ القرآن اللفظ المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، ولا يتعدد بتعدد محله، فالمقروء على لسانه عليه الصلاة والسلام هو المتلو الآن، والمختلف التلفظ لا نفس الألفاظ، وإلا لكان ما يقرؤه المصطفى غير ما قرأه جبريل، وهو باطل قطعًا، "فاجعلها أمتي، قال: تلك أمة أحمد، قال: يا رب إني أجد في الألواح أمة يجعلون الصدقة في بطونهم" أي: ما يصرفونه على أنفسهم وأهاليهم "يؤجرون" أي: يثابون "عليها" ثواب الصدقة بالمال على الغير؛ لأنه ينكف بذلك عن السؤال، ويكف أهله؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: "كل معروف صدقة، وما أنفق المسلم من نفقة على نفسه وأهله كتب له بها صدقة" الحديث، رواه عبد بن حميد، والحاكم، وصححه عن جابر، وفي كتاب البشر لابن ظفر: هكذا الرواية، يأكلون كفاراتهم وصدقاتهم، ومعنى ذلك أنهم يطعمونها مساكينهم، ولا يحرقونها، كما كانت الأمم تفعل، وجاء في حديث غير هذا مما هو منسوب إلى كتب الله السالفة: يأكلون قرابينهم في بطونهم، فالمراد بهذا اللفظ الضحايا وما يؤكل من الهدايا، انتهى.
وتبعه بعضهم، فقال: أي يأكلها فقراؤهم الذين هم منهم، وكان من قبلهم إنما تأكل صدقاتهم وقرابينهم نار تنزل من السماء إن كانت مقبولة، وإلا بقيت بحالها، انتهى، وهو وإن صح في نفسه، إلا أن اللفظ والامتنان عليه بذلك ينبو عنه ويبعده، فالحمل الأول أولى لا سيما ويؤيده أحاديث: "فاجعلها أمتي، قال: تلك أمة أحمد، قال: يا رب إني أجد في الألواح أمة(7/410)
يأكلون الفيء فاجعلها أمتي قال: تلك أمة أحمد، قال: يا رب إني أجد في الألواح إذا هم أحدهم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة وإن عملها كتبت له عشر حسنات فاجعلها أمتي، قال: تلك أمة أحمد، قال: يا رب إني أجد في الألواح أمة إذا هم أحدهم بسيئة فلم يعملها لم تكتب عليه، وإن عملها كتبت سيئة واحدة
__________
يأكلون الفيء" أي: ما أخذ من الكفار بلا قهر أو به فيشمل الغنيمة؛ لأن كلا منهما إذا انفرد عم الآخر هكذا ثبتت هذه الجملة في أصل صحيح عليه خط المصنف، وسقطت في غالب النسخ. "فاجعلها أمتي، قال: تلك أمة أحمد، قال: يا رب إني أجد في الألواح أمة إذا هم أحدهم بحسنة" أي: عقد عزمه عليهم، "فلم يعملها"، بفتح الميم، "كتبت له حسنة واحدة" كاملة لا نقص فيها، وإن نشأت عن مجرد الهم، سواء كان الترك لمانع، أو لا، قيل: ما لم يقصد به الإعراض عنها، وإلا لم تكتب.
وفي الصحيحين: فمن هم بحسنة، فلم يعملها، كتبها الله له عنده حسنة كاملة، أي: قدرها أو أمر الحفظة بكتابتها، "وإن عملها" بكسر الميم "كتبت له عشر حسنات" لأنه أخرجها من الهم إلى العمل ومن جاء بالحسنة، فله عشر أمثالها.
وفي الصحيحين: فإن هم بها، فعملها، كتبها الله عنده عشر حسنات، إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة، فالعشرة أقل ما وعد به من الأضعاف حتى قيل: المراد بها الكثرة لا العدد، "فاجعلها أمتي، قال: تلك أمة أحمد: قال: يا رب إني أجد في الألواح أمة، إذا هم أحدهم بسيئة فلم يعملها" بجوارحه ولا بقلبه، "لم تكتب عليه" سيئة، بل تكتب حسنة؛ كما في الصحيحين، وإن هم بسيئة لم يعملها، كتبها الله عنده حسنة كاملة، "وإن عملها كتبت سيئة واحدة" لم توصف بكاملة تفضلا منه؛ ولمطابقة قوله تعالى: {وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا} الآية، ولإفادة أنها لا تتضاعف.
قال العز بن عبد السلام: ولإفادة أنها لا تكتب اثنتين، واحدة للعمل، وواحدة لهم، حيث انضم له العمل، واستثنى بعضهم الحرم المكي، فتضاعف فيه السيئات كالحسنات لتعظيم حرمته، والجمهور على التعميم في الأزمنة والأمكنة، ولا يرد على ذلك قوله تعالى: {مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ} الآية؛ لأنه ورد تعظيمًا لحقه صلى الله عليه وسلم، لأن وقوعه من نسائه يقتضي أمرًا زائدًا على الفاحشة، وهو أذاه، وقوله تعالى: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} الآية، قال قتادة ومجاهد: الإلحاد هو الشرك وعبادة غير الله، وقال عطاء: دخول الحرم بلا إحرام أو ارتكاب شيء من محظورات الحرم من قتل صيد، أو قطع شجر.(7/411)
فاجعلها أمتي، قال: تلك أمة أحمد، قال: يا رب إني أجد في الألواح أمة يؤتون العلم الأول والعلم الآخر، فيقتلون المسيح الدجال، فاجعلها أمتي، قال: تلك أمة أحمد، قال: يا رب فاجعلني من أمة أحمد، فأعطي عند ذلك خصلتين، فقال: يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي، فخذ ما آتيك وكن من الشاكرين، قال: قد رضيت يا رب".
__________
وقال ابن عباس: هو أن تقتل من لا يقتلك، أو تظلم من لا يظلمك، وقال قوم: هو كل شيء كان منهيًا عنه من قول أو فعل حتى شتم الخادم، ولكنه لا يدل على تضعيف العدد، "فاجعلها أمتي، قال: تلك أمة أحمد، قال: يا رب إني أجد في الألواح أمة يؤتون العلم الأول" الذي أنزل على الأنبياء قبل المصطفى، "والعلم الآخر" الذي نزل على نبينا صلى الله عليه وسلم من الأحكام التي ليست من الشرائع السابقة، "فيقتلون المسيح الدجال" نسبه إليهم لقتله في زمانهم على يد عيسى عليه السلام، وهو واحد منهم، "فاجعلها أمتي، قال: تلك أمة أحمد، قال: يا رب فاجعلني من أمة أحمد، فأعطي عند ذلك خصلتين" أي: أخبر بأن الله أكرمه بهما، فلا ينافي أن الرسالة والكلام سابقان على ذلك.
وفي رواية كعب الأحبار: فلما عجز موسى، قال: يا ليتني من أصحاب محمد، فأوحى الله إليه ثلاث آيات يرضيه بها، "فقال: {يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ} الموودين في زمانك وهارون، وإن كان نبيًا، كان مأمورًا باتباعه، ولم يك كليمًا، ولا صاحب شرع، {بِرِسَالَاتِي} بالتوحيد قراءة أهل الحجاز، وبالجمع قراءة غيرهم، {وَبِكَلَامِي} تكليمي إياك، "فخذ ما آتيتك" من الفضل، "وكن من الشاكرين" لأنعمي.
قال البغوي: فإن قيل ما معنى اصطفائه بالرسالة، وقد أعطاها غيره لما لم يكن على العموم في حق الناس كافة، استقام قوله: {اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ} الآية، وإن شاركه فيه غيره، كما تقول: خصصتك بمشورتي وإن شاورت غيره إذا لم تكن المشورة على العموم ويكون مستقيمًا، وفي الفقه أن موسى لما كلمه ربه لم يستطع أحد أن ينظر إليه، غشى وجهه من النور ولم يزل على وجهه برقع حتى مات، وقالت له امرأته: أنا أيم منك منذ كلمك ربك، فكشف لها عن وجهه، فأخذها مثل شعاع الشمس، فوضعت يدها على وجهها وخرت لله ساجدة، وقالت: ادع الله أن يجعلني زوجك في الجنة، قال: ذاك إن لم تتزوجي بعدي، فإن المرأة لآخر أزواجها، انتهى.
وفي الأنوار روي أن سؤال الرؤية كان يوم عرفة، وإعطاء التوراة كان يوم النحر، "قال: قد رضيت يا رب"، وروى البغوي من طريق أبي العباس السراج بسنده عن كعب الأحبار: هذا(7/412)
وروى ابن طغر بك في "النطق المفهوم" عن ابن عباس رفعه: "قال موسى: يا رب، فهل في الأمم أكرم عليك من أمتي، ظللت عليهم الغمام، وأنزلت عليهم المن والسلوى، فقال: سبحانه وتعالى: يا موسى، أما علمت أن فضل أمة محمد على سائر الأمم، كفضلي على جميع خلقي؟ قال: يا رب فأرينيهم، قال: لن تراهم، ولكن أسمعك كلامهم، فناداهم الله تعالى، فأجابوا كلهم بصوت واحد: لبيك اللهم لبيك، وهم في أصلاب آبائهم وبطون أمهاتهم فقال سبحانه: صلاتي عليكم، ورحمتي سبقت غضبي، وعفوي سبق
__________
الحديث مطولا غير مرفوع، وقال في آخره: فلما عجز موسى عن الخير الذي أعطى الله محمدًا وأمته، قال: يا ليتني من أصحاب محمد، فأوحى الله ثلاث آيات يرضيه بهن: {يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ} الآية، إلى قوله: {سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ} ، {وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} الآية، قال: فرضي موسى كل الرضا.
"وروى ابن طغر بك" بضم الطاء المهملة والراء، بينهما معجمة ساكنة، ثم موحدة مفتوحة، كأنه علم مركب من طغر وبك لقب للإمام، العلامة المحدث سيف الدين أبي جعفر عمر بن أيوب بن عمر الحميري التركاني الدمشقي، الحنفي، لم أر له في ابن خلكان ترجمة، إنما فيه آخر من الأمراء بهذا الضبط، وزيادة لام ساكنة بعد الراء، وقدمت هذا في أول الكتاب "في" كتاب "النطق المفهوم"، عن ابن عباس رفعه": لفظة استعملها المحدثون بمعنى، قال صلى الله عليه وسلم: "قال موسى: يا رب، فهل من الأمم أكرم عليك من أمتي، ظللت عليهم الغمام" سترتهم بالسحاب الرقيق من حر الشمس في التيه، "وأنزلت عليهم" فيه "المن والسلوى" هما الترنجبين، والطير السماني، بتخفيف الميم والقصر، "فقال" الله "سبحانه وتعالى: يا موسى أما علمت أن فضل أمة محمد على سائر" باقي "الأمم كفضلي على جميع خلقي" وتلك مزايا لا تقتضي التفضيل، "قال: يا رب فأرينيهم، قال: لن تراهم، ولكن أسمعك كلامهم، فناداهم الله تعالى، فأجابوا كلهم بصوت واحد، لبيك اللهم لبيك" إجابة لك بعد إجابة، "وهم في أصلاب آبائهم وبطون أمهاتهم" أي: بعض أصول هذه الأمة، كان حينئذ في أصلاب الآباء، وبعضهم في بطون الأمهات بخلافه حين أخذ العهد على الذرية، فلم يكن أحدًا موجودًا في بطون الأمهات، ولذا لم تذكر في قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} الآية، "فقال سبحانه وتعالى: صلاتي" رحمتي ومغفرتي "عليكم، ورحمتي سبقت" وفي رواية: غلبت، أي: غلبت آثار رحمتي على آثار "غضبي" والمراد لازمه، وهو إرادة إيصال العذاب إلى من يقع عليه الغضب، وإليه أشار بقوله: "وعفوي سبق عذابي" وفي مسلم، عن(7/413)
عذابي، أستجيب لكم قبل أن تسألوني، فمن لقيني منكم يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله غفرت له ذنوبه".
__________
أبي هريرة مرفوعًا: قال الله تعالى: "سبقت رحمتي غضبي" وفي البخاري، عنه رفعه: "إن الله لما قضى الخلق كتب عنده فوق عرشه إن رحمتي سبقت غضبي".
قال في الفتح: في رواية غلبت، والمراد من الغضب لازمه، وهو إرادة إيصال العذاب إلى من يقع عليه الغضب، والسبق والغلبة باعتبار التعلق، أي: تعلق الرحمة غالب سابق على تعلق الغضب؛ لأن الرحمة مقتضى ذاته المقدسة، وأما الغضب، فيتوقف على سابقه عمل من العبد الحادث، وبهذا التقرير يندفع استشكال من أورد وقوع العذاب قبل الرحمة في بعض المواطن، كمن يدخل النار من الموحدين، ثم يخرج بالشفاعة وغيرها، وقيل: معنى الغلبة الكثيرة والشمول، تقول: غلب على فلان الكرم، أي: هو أكثر أفعاله، وهذا كله بناء على أن الرحمة والغضب من صفات الذات.
وقال بعض العلماء: إنهما من صفات الفعل، لا من صفات الذات، ولا مانع من تقدم بعض الأفعال على بعض، فتكون الإشارة بالرحمة إلى إسكان آدم الجنة أول ما خلق مثلا، ومقابله ما وقع من إخراجه منها، وعلى ذلك استمرت أحوال الأمم تتقدم الرحمة في حقهم بالتوسيع عليهم في الرزق وغيره، ثم يقع بهم العذاب على كفرهم.
وأما ما أشكل من أمر من يعذب من الموحدين، فالرحمة سابقة في حقهم أيضًا، ولولا جودها لخلدوا أبدًا.
وقال الطيبي: في سبق الرحمة إشارة إلى أن قسط الخلق منها أكثر من قسطهم من الغضب، وأنها تنالهم من غير استحقاق، وأن الغضب لا ينالهم إلا باستحقاق، فالرحمة تشمل الشخص جنينًا، ورضيعًا، وفطيمًا، وناشئًا قبل أن يصدر منه شيء من الطاعات، ولا يلحقه الغضب إلا بعد أن يصدر عنه من الذنوب ما يستحق معه ذلك، انتهى.
وفي المصابيح: الرحمة إرادة الثواب، والغضب إرادة العاب، والصفات لا توصف بغلبة، ولا يسبق بعضها بعضًا، لكن هذا ورد على الاستعارة، ولا منع من جعل الرحمة والغضب صفتي فعل لا ذات، فالرحمة الثواب والإحسان، والغضب الانتقام والعذاب، فتكون الغلبة على بابها، انتهى.
"أستجيب لكم قبل أن تسألوني" زيادة في الإكرام، "فمن لقيني منكم، يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، غفرت له ذنوبه" وفي مسلم، عن عبادة مرفوعًا: "من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله حرم الله عليه النار".(7/414)
قال صلى الله عليه وسلم: "فأراد الله أن يمن عليّ ذلك فقال: {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا} [القصص: 46] "، أي: أمتك حتى أسمعنا موسى كلامهم.
ورواه قتادة, وزاد: فقال: يا رب، ما أحسن أصوات أمة محمد صلى الله عليه وسلم أسمعني مرة أخرى.
وفي الحلية لأبي نعيم، عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أوحى الله تعالى إلى موسى، نبئ بني إسرائيل أنه من لقيني وهو جاحد بأحمد أدخلته النار، قال: يا رب، ومن أحمد؟ قال: ما خلقت خلقًا أكرم علي منه
__________
وفي الصحيحين مرفوعًا: "من شهد أن لا إله إلا الله, وجبت له الجنة". وفي الطبراني رفعه: "من شهد أن لا إله إلا الله, خالصًا من قلبه، دخل الجنة، ولم تمسه النار". وفي بسط الكلام في هذا طول.
قال صلى الله عليه وسلم: "فأراد الله أن يمن عليّ بذلك، فقال: {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ} ", الجبل {إِذْ نَادَيْنَا} ، أي: أمتك حين أسمعنا موسى كلامهم. وفي البغوي: قيل نادينا موسى: خذ الكتاب بقوة، وقال وهب: قال موسى: يا رب أرني محمدًا، قال: إنك لن تصل إلى ذلك، وإن شئت ناديت أمته، وأسمعت صوتهم، قال: بلى يا رب، قال الله تعالى: يا أمة محمد، فأجابوه من أصلاب آبائهم.
وقال أبو زرعة عن عمرو بن جرير: "نادى يا أمة محمد قد أجبتكم قبل أن تدعوني، وأعطيتكم قبل أن تسألوني".
وروى عن ابن عباس ورفعه: "بعضهم قال الله: يا أمة أحمد، فأجابوا من أصلاب الآباء وأرحام الأمهات: لبيك الله، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك، قال تعالى: يا أمة محمد إن رحمتي سبقت غضبي، وعفوي عقابي، قد أعطيتكم من قبل أن تسألوني، وقد أجبتكم من قبل أن تدعوني، وقد غفرت لكم من قبل أن تعصوني، من جاءني يوم القيامة بشهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبدي ورسولي دخل الجنة، وإن كانت ذنوبه أكثر من زبد البحر"، انتهى.
ورواه قتادة، وزاد: "فقال يا رب ما أحسن أصوات أمة محمد صلى الله عليه وسلم أسمعني مرة أخرى" أصواتهم ولم أر هل أسمعه أم لا؟
"وفي" كتاب "الحلية" أي: حلية الأولياء وطبقات الأصفياء "لأبي نعيم" أحمد بن عبد الله الأصفهاني، الحافظ الشهير، "عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أوحى الله تعالى إلى موسى نبئ" خبر "بني إسرائيل" يعقوب, "أنه من لقيني وهو جاحد بأحمد، أدخلته النار" خالدًا فيها لكفره به، "قال: يا رب ومن أحمد؟ قال: ما خلقت خلقًا أكرم عليّ منه".(7/415)
كتبت اسمه مع اسمي في العرش قبل أن أخلق السماوات والأرض، إن الجنة محرمة على جميع خلقي حتى يدخلها هو وأمته، قال: ومن أمته؟ قال: الحمادون، يحمدون صعودًا وهبوطًا وعلى كل حال, يشدون أوساطهم
__________
بل هو الأكرم، وكان الظاهر في جواب السؤال أن يقال، هو: أحمد بن عبد الله الهاشمي، من ذرية عمك إسماعيل بن إبراهيم، مثلا ليتميز عند السائل عن غيره، لكنه عدل عن ذلك إلى ما يفهم منه الجواب زيادة في تبجيله؛ كما أشار إليه بقوله: "كتبت اسمه مع اسمي في العرش" أي: عليه "قبل أن أخلق السماوات والأرض" حين خلقت العرش فاضطرب، وهو أول المخلوقات بعد النور المحمدي.
روى أبو الشيخ والحاكم، وصححه، عن ابن عباس: "أوحى الله إلى عيسى آمن بمحمد ومر أمتك أن يؤمنوا به، فلولا محمد ما خلقت آدم ولا الجنة، ولا النار، ولقد خلقت العرش على الماء فاضطرب، فكتبت عليه لا إله إلا الله، محمد رسول الله فسكن". وهذا لا يقال رأيًا فحكمه الرفع.
"إن الجنة" دار الثواب، "محرمة" ممنوعة "على جميع خلقي حتى يدخلها هو وأمته" حكم على الجملة، فلا ينافي أن الأنبياء تدخلها قبل هذه الأمة؛ كما رواه ابن ماجه، وللطبراني والدارقطني، عن عمر مرفوعًا: "إن الجنة حرمت على الأنبياء كلهم حتى أدخلها وحرمت على الأمم حتى تدخلا أمتي"، "قال: ومن أمته؟ قال: الحمادون" صيغة مبالغة، أي الكثيرون الحمد، وتعريف الطرفين يفيد الحصر، فكثرة الحمد مختصة بهم، وهو بالنظر إلى الغالب، أو المجموع، أو الموفقين منهم، أو هذا من شأنهم، وكأنه قيل: ما سبب وصفهم بالمبالغة، فأجاب بقوله: "يحمدون" على الاستئناف البياني، جوابًا لسؤال اقتضته الأولى، ولذا ترك العاطف "صعودًا" إلى المحل العالي "وهبوطًا" إلى الأسفل. وقال ابن القيم: كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إذا علو الثنايا كبروا، وإذا هبطوا سبحوا، فوضعت الصلاة على ذلك، "وعلى كل حال" من قيام، وقعود، واضطجاع، وحضر، وسفر، وسراء، وهو سعة العيش والسرور، وضراء، كالأمراض والمصائب، فهم راضون عن الله في كل حال.
وروى النسائي عن ابن عباس مرفوعًا: "المؤمن بخير على كل حال تنزع نفسه من بين جنبيه، وهو يحمد الله" ولما أحس معاذ بالموت، قال: مرحبًا بحبيب جاء على فاقة، لا أفلح من ندم، الحمد لله، والحمد لا يلزم كونه في مقابلة نعمة كالشكر، فلا يحتاج الحمد في الضراء للتوجيه بمنفعة الثواب عليها، "ويشدون أوساطهم" بالأزر، كما ثبت في هذا الحديث المرفوع، ومثله نقل عن التوراة والإنجيل، وللديلمي مرفوعًا: "ائتزروا، كما رأيت الملائكة تأتزر عند ربها(7/416)
ويطهرون أطرافهم، صائمون بالنهار، رهبان بالليل، أقبل منهم اليسير وأدخلهم الجنة بشهادة أن لا إله إلا الله، قال: اجعلني نبي تلك الأمة، قال: نبيها منها، قال: اجعلني من أمة ذلك النبي، قال: استقدمت واستأخر، ولكن سأجمع بينك وبينه في دار الجلال".
__________
إلى أنصاف سوقها"، ولذا عد من خصائص هذه الأمة، وتوقف فيه، بأنه ليس فيه أن الأمم الماضية لم تكن تأتزر، ولا تثبت الخصوصية بالاحتمال، ويدفع بأن المتبادر من وصفهم بذلك الاختصاص، ولا يلزم النص على لفظ الخصوصية.
نعم، يحتمل أن المراد بشد الأزر الاجتهاد في العبادة، بحيث يقومون لها بنشاط وفراغ قلب، نحو ما قيل في خبر: "كان إذا دخل العشر الأخير من رمضان شد مئزره" ويكون وجه الاختصاص إتيانهم بها على وجه أكمل من الأمم السابقة، "ويطهرون أطرافهم" أي: يتوضئون، "صائمون بالنهار، رهبان" عباد "بالليل، أقبل منهم" العمل "اليسير" وأثيبهم عليه الثواب الكثير رحمة منه بهم.
روى مالك، وأحمد، والبخاري وغيرهم عن ابن عمر مرفوعًا: "إنما بقاؤكم فيما سلف قبلكم من الأمم كما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس، أوتي أهل التوراة التوراة، فعملوا بها، حتى إذا انتصف النهار، عجزوا فأعطوا قيراطًا قيراطًا، ثم أوتي أهل الإنجيل الإنجيل، فعملوا إلى العصر، ثم عجزوا فأعطوا قيراطًا، ثم أوتينا القرآن فعملنا إلى غروب الشمس، فأعطينا قيراطين قيراطين، فقال أهل الكتاب: ربنا أعطيت هؤلاء قيراطين قيراطين، وأعطيتنا قيراطًا قيراطًا، ونحن أكثر عملا، قال: هل ظلمتكم من أجركم شيء؟ قالوا: لا، قال: فهو فضلي أوتيه من أشاء".
قال السيوطي: والمراد تشبيه من تقدم بأول النهار إلى الظهر والعصر في كثرة العمل الشاق والتكليف، وتشبيه هذه الأمة بما بين العصر والليل في قلة ذلك وتخفيفه، وليس المراد طول الزمن وقصره، إذ مدة هذه الأمة أول من مدة أهل الإنجيل.
قال إمام الحرمين: الأحكام لا تؤخذ من الأحاديث التي لضرب الأمثال، انتهى.
"وأدخلهم الجنة بشهادة أن لا إله إلا الله" يعني: وأن محمدًا رسول الله، فاكتفى بأحدهما عن الأخرى، لكونهما صارا كالشيء الواحد.
"قال" موسى: "اجعلني نبي تلك الأمة" فإن قيل: كيف ساغ سؤال موسى عليه السلام ذلك مع إخبار الله تعالى أنهم أمة أحمد، قلت: "قال نبيها منها، قال: اجعلني من أمة ذلك النبي، قال: استقدمت" في الوجود الزماني، "واستأخر" أحمد فيه، بحيث كان خاتم النبيين، فلا يمكن أن تكون من أمته. "ولكن سأجمع بينك وبينه في دار الجلال" يوم القيامة في الجنة،(7/417)
وعن وهب بن منبه قال: أوحى الله إلى سعيا: إني باعث نبيًا أميًا، أفتح به آذانًا صمًا، وقلوبًا غلفًا، وأعينًا عميًا، مولده بمكة ومهاجره طيبة، وملكه بالشام، عبدي المتوكل المصطفى المرفوع الحبيب المنتخب
__________
ولا يرد اجتماعه به ليلة الإسراء في بيت المقدس، وفي السماوات له مرار عديدة في أمر الصلوات؛ لأن المراد الاجتماع المتعارف في الدنيا بلا موت.
"وعن وهب بن منبه" بضم الميم، وفتح النون، وكسر الباء، ابن كامل اليماني، أبي عبد الله الأنباري، التابعي، الثقة من رجال الصحيحين، مات سنة بضع عشرة ومائة، "قال: أوحى الله تعالى إلى سعيا" بسين مهملة وإعجامها لغة ابن أبي أمصيا نبي بشر بعيسى؛ كما في القاموس: "إني باعث" إلى جميع العالمين "نبيًا أميًا" لا يقرأ ولا يكتب "أفتح به آذانًا صمًا" بضم الصاد، وشد الميم جمع صماء كعمى وعمياء، لا تسمع، وفتحها إزالته مجاز، استعير الصمم لعدم الإذعان للحق والانتفاع به؛ لأنها لما لم تسمع السمع المعتد به، نزل منزلة الصمم، فلما أرشدهم صلى الله عليه وسلم للحق، وكشف عنهم الحجب المظلمة، وانقادوا مذعنين، كانوا كمن زال صممه، "وقلوبًا" جمع قلب العضو المعروف: ويراد به العقل، وبه فسر، وهو الظاهر؛ لقوله: "غلفًا" بضم المعجمة، وسكون اللام: جمع أغلف، أي: مغطاة في أكنة، ومعناه: أن قلوبهم كانت محجوبة عن الهداية، فأزال الله تعالى بالنبي صلى الله عليه وسلم حجابها، وكشف غطاءها حتى اهتدت، "وأعينا" جمع قلة لعين، عدل عن عيونًا جمع كثرة، وإن كان أنسب هنا؛ لأن جمع القلة قد يكون للكثرة، كعكسه، أو لعده قليلا بالنسبة لقدرة الله، أو لأنها كانت قليلة في الابتداء "عميًا" جمع عمياء، وهو عدم البصر عما هو من شأنه استعير لعدم انتفاعهم بها فهي كالمفقودة، ولا ينافيه قوله تعالى: {وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ} الآية؛ لأنه فيمن طبع على قلبه، وهذا في غيره: "مولده" يكون "بمكة، ومهاجره" أي: هجرته، أي مكان هجرته "طيبة" المدينة المنورة، "وملكه"، أي ظهوره "بالشام" لاشتماله على الأمراء الذين يتصرفون في الدنيا تصرف الملوك بخلاف الحجاز، وإن كان مبدؤه فيهم، لكنهم لم يكونوا كالملوك، بل كانوا حريصين على اتباع خلافة النبوة، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "الخلافة بالمدينة، والملك بالشام" رواه البيهقي، أي: خلافة النبوة التي ذكرها بقوله الخلافة بعدي ثلاثون، ثم تكون ملكًا عضودًا "عبدي المتوكل" الذي يكل أمره إلى الله، فإذا أمره بشيء نهض بلا جزع "المصطفى" أي: المختار من أشهر أسمائه، وفي أحاديث: إن الله اصطفاه، " المرفوع" الدرجات على جميع الخلائق، "الحبيب" فعيل من المحبة بمعنى مفعول؛ لأنه محبوب الله، أو بمعنى فاعل، لأنه محب له تعالى، "المنتخب" بالخاء المعجمة، أو بالجيم، كلاهما بمعنى المختار، وهما من أسمائه عليه السلام.(7/418)
المختار، لا يجزي بالسيئة، ولكن يعفو ويصفح ويغفر، رحيمًا بالمؤمنين، يبكي للبهيمة المثقلة، ولليتيم في حجر الأرملة، ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق، ولا متزين بالفحش.
__________
وفي نسخة: المتحبب، بكسر الباء اسم فاعل من تحبب إليه تودد، وأظنها تصحيفًا، ولم يذكره المصنف في الأسماء، "المختار" اسم مفعول من الاختيار، وهو الاصطفاء؛ كما في الصحاح، وهما أيضًا معدودان في أسمائه؛ كما مر. "لا يجزي" بفتح أوله "بالسيئة" لأنه خلقه القرآن، وفيه جزاء سيئة مثلها، فمن عفا وأصلح، فأجره على الله، وقال فاصفح عنهم، ولذا قال: "ولكن يعفو"، فلا يسيء لمن أساء عليه، "ويصفح" يعرض عنه إغضاء وتكرمًا، فلا يقول: لم فعلت كذا يا فلان، بل يقول: "ما بال أقوام يفعلون كذا"، "ويغفر" يستر ويدفع بالتي هي أحسن وذكر الغفر بعد العفو تأكيد إن كانا بمعنى أو يعفو تارة ويستر أخرى، واستدرك، لأنه لا يلزم من عدم جزائها بمثلها الغفر، لجواز أن يكله إلى الله ويؤخره للآخرة، "رحيمًا بالمؤمنين" كما في الكتاب المبين: "يبكي للبهيمة المثقلة" لشدة شفقته على خلق الله، "ويبكي لليتيم في حجر الأرملة" ويقوم به، "ليس بفظ" سيئ الخلق جاف، "ولا غليظ" قاسي القلب، وهو موافق لقوله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} الآية، ولا يعارضه قوله تعالى: {وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} الآية، لأن النفي محمول على طبعه الذي جبل عليه، والأمر محمول على المعالجة، أو النفي بالنسبة للمؤمنين، والأمر بالنسبة للكفار والمنافقين، كما هو مصرح به في نفس الآية، "ولا صخاب" بصاد وسين روايتان، وهما لغتان، والصاد أشهر وأفصح، والسين لغة أثبتها الفراء وغيره، وضعفها الخليل وخاء معجمة ثقيلة، أي: لا يرفع صوته على الناس لسوء خلقه، ولا يكثر الصياح عليهم "في الأسواق" بل يلين جانبه، ويرفق بهم، وفيه ذم أهل السوق، الموصوفين بصفة مذمومة من صخب ولغط، وزيادة مدح وذم لما يتبايعونه وأيمان خانثة، ولذا ورد أنها شر البقاع لما يغلب على أهلها من الأحوال المذمومة
"ولا متزين" روي بزاي منقوطة وتحتية ونون، وروي بدال مهملة من الدين، وروي متزي، بزاي بلا نون من الزي، وهو اللباس والهيئة، أي: لا يتلبس "بالفحش" أو يتحمل أو يباهي وهو القبح، والقول السيئ، ولا يرد إبهام ظاهره؛ أنه قد يأتي به غيره متزين به؛ لأنه لا مفهوم له، لجريه على عادة أرباب الفحش في المباهاة به.
وقيل: التزين بمعنى الاتصاف على التجريد، أو المراد؛ أنه لا يرى الفحش زينة وهذا من علاماته صلى الله عليه وسلم؛ لأنه نشأ بين قوم يتزينون بالفواحش، كالقتل والطواف عراة، فأتى بخلافهم.(7/419)
ولا قوال للخنا، ولو يمر إلى جنب السراج لم يطفئه من سكينته، ولو يمشي على القصب الرعراع لم يسمع من تحت قدميه، أبعثه مبشرًا ونذيرًا إلى أن قال: وأجعل أمته خير أمة أخرجت للناس أمرًا بالمعروف ونهيًا عن المنكر، وتوحيدًا لي وإيمانًا بي، وإخلاصًا لي، وتصديقًا لما جاءت به رسلي، وهم رعاة الشمس والقمر، طوبى لتلك القلوب والوجوه والأرواح التي أخلصت لي، ألهمهم التسبيح والتكبير والتحميد والتوحيد،
__________
"ولا قوال" صيغة مبالغة، أي: كثير القول "للخنا" بخاء معجمة، ونون، مقصور قبيح الكلام، وهذا مع ما قبله يفيد أنه لا يصدر عنه شيء منه لا قليل ولا كثير؛ لأن الفحش بمعناه أو فعال هنا للنسبة كتما ونبال، أي: ليس بذي قول للخنا، "ولو يمر إلى جنب السراج" المصباح، والجمع سرج، ككتاب وكتب، "لم يطفئه" بفتح أوله "من سكينته" بفتح السين، وكسر الكاف مخففة.
وحكى عياض في المشارق كسر السين، وشد القاف، وبها قرئ شاذًا فعلية من السكون، أي: وقاره وطمأنينته، "ولو يمشي على القصب" كل نبات يكون ساقه أنابيب وكعوبًا، قاله في مختصر العين الواحدة قصبة "الرعراع" أي: الطويل؛ كما في القاموس: "لم يسمع من تحت قدميه" لأن مشيه بتؤدة، وهو نبي، "أبعثه مبشرًا" من صدقه بالجنة، "ونذيرًا" منذرًا من كذبه بالنار، وهذا كله من صفاته عليه الصلاة والسلام "إلى أن قال: وأجعل أمته خير أمة أخرجت للناس أمرًا بالمعروف ونهيًا عن المنكر" تمييز، أي: من جهة الأمر والنهي، أو حال بمعنى أمرين وناهين، "وتوحيدًا لي وإيمانًا بي" كما قال تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ} الآية، "وإخلاصًا لي وتصديقًا لما جاءت به رسلي" والمنصوبات تمييزًا وأحوال، كما علم، "وهم رعاة الشمس والقمر" للعبادة والذكر، قال صلى الله عليه وسلم: "إن خيار عباد الله الذين يراعون الشمس والقمر والأظلة لذكر الله تعالى". رواه الحاكم والطبراني، أي: يرصدون دخول الأوقات بها لأجل ذكر الله من الأذان للصلاة، ثم إقامتها، ولإيقاع الأوراد في أوقاتها المحبوبة.
وأخرج الطبراني والخطيب مرفوعًا: لو أقسمت لبررت أن أحب عباد الله إلى الله لرعاة الشمس والقمر، وإنهم ليعرفون يوم القيامة يوم لا ظل إلا ظله" وقال في عدهم: "ورجل يراعي الشمس لمواقيت الصلاة".
"طوبى" فرح وقرة عين، وشجرة في الجنة "لتلك القلوب" بإخلاصها في الإيمان والعبادة، "والوجوه والأرواح التي أخلصت لي" صفة، قامت مقام التعليل، "ألهمهم التسبيح والتكبير، والتحميد، والتوحيد" وثواب ذلك لا يعلمه إلا الله، وفي الحديث: "أفضل الذكر:(7/420)
في مساجدهم ومجالسهم ومضاجعهم ومتقلبهم ومثواهم، ويصفون في مساجدهم كصفوف الملائكة حول عرشي، هم أوليائي وأنصاري، أنتقم بهم من أعدائي عبدة الأوثان، يصلون لي قيامًا وقعودًا وركعًا وسجودًا، ويخرجون من ديارهم وأموالهم ابتغاء مرضاتي ألوفًا، ويقاتلون صفوفًا، أختم بكتابهم الكتب، وبشريعتهم الشرائع، وبدينهم الأديان، فمن أدركهم فلم يؤمن بكتابهم، ويدخل في دينهم.
__________
لا إله إلا الله، وأفضل الدعاء: الحمد لله". رواه الترمذي وحسنه، والنسائي، وابن ماجه، والحاكم وصححه، وقال صلى الله عليه وسلم: "أحب الكلام إلى الله أربع: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، لا يضرك بأيهن بدأت". رواه مسلم والنسائي.
وروى البزار بإسناد حسن عن عمران بن حصين قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما يستطيع أحدكم أن يعمل كل يوم مثل أحد عملا"؟ قالوا: ومن يستطيعه؟ قال: "كلكم يستطيع ذلك" قالوا: وما ذاك يا رسول الله؟ قال: "سبحان الله أعظم من أحد، والحمد لله أعظم من أحد، ولا إله إلا الله أعظم من أحد، والله أكبر أعظم م أحد"، وأحاديث الباب كثيرة.
"في مساجدهم" جمع مسجد في الصلاة ودونها، "ومجالسهم، ومضاجعهم، ومتقلبهم" منصرفهم لأشغالهم بالنهار، "ومثواهم" مأواهم إلى مضاجعهم بالليل، والمراد، أنه يلهمهم ذلك على أي حال كانوا، "ويصفون في مساجدهم" مصلاهم "كصفوف الملائكة حول عرشي" قال صلى الله عليه وسلم: "ألا تصافون، كما تصف الملائكة عند ربها يتمون الصفوف الأول ويتراصون في الصف"، رواه مسلم وغيره.
"هم أوليائي" فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون، "وأنصاري" كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ} الآية، والمراد: أنصار دينه ورسوله، كما في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} الآية، "أنتقم بهم من أعدائي عبدة الأوثان" إكرامًا لهم وابتلاء؛ كما قال: {ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا} الآية، الآيتين، "يصلون لي قيامًا وقعودًا" للعذر في الفرض وبدونه في النفل، والمراد: يصلون على أي حال كانوا، "وركعًا وسجدًا، ويخرجون من ديارهم وأموالهم ابتغاء مرضاتي، ألوفًا" لأجل الجهاد، "ويقاتلون في سبيلي" جهاد الكفار "صفوفًا" بعضهم بجنب بعض من شدة حبهم للقتال، وفي القرآن: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} الآية، أي: ملزق بعضه إلى بعض ثابت، "أختم بكتابهم الكتب، وبشريعتهم الشرائع، وبدينهم الأديان" فلا كتاب ولا شرع ينسخ كتابهم ودينهم، "فمن أدركهم فلم يؤمن بكتابهم ويدخل في دينهم(7/421)
وشريعتهم فليس مني، وهو مني برئ، وأجعلهم أفضل الأمم، وأجعلهم أمة وسطًا شهداء على الناس، إذا غضبوا هللوني، وإذا تنازعوا سبحوني، يطهرون الوجوه والأطراف، ويشدون الثياب إلى الأنصاف، ويهللون على التلول والأشراف، قربانهم دماؤهم، وأنا جيلهم في صدورهم، رهبانًا بالليل ليوثًا بالنهار، طوبى لمن كان معهم، وعلى دينهم ومنهاجهم وشريعتهم، وذلك فضلي أوتيه من أشاء، وأنا ذو الفضل العظيم. رواه أبو نعيم.
وقد ذكر الإمام فخر الدين: أن من كانت معجزاته أظهر يكون ثواب أمته أقل، قال السبكي: إلا هذه الأمة، فإن معجزات نبيها أظهر وثوابها أكثر من سائر الأمم.
__________
وشريعتهم فليس مني" لكفره، "وهو مني بريء، وأجعلهم أفضل الأمم، وأجعلهم أمة وسطًا" خيارًا عدولا، "شهداء على الناس" يوم القيامة، إن رسلهم بلغتهم، "إذا غضبوا هللوني" قالوا: لا إله إلا الله، ولا يعملون بمقتضى الغضب، "وإذا تنازعوا" في شيء بينهم "سبحوني" فهم يذكرونه في جميع أحوالهم، "يطهرون الوجوه والأطراف" الأيدي والأرجل في الوضوء، "ويشدون الثياب إلى الأنصاف" من سوقهم، اقتداء بنبيهم، ولا يرخونها إلى أسفل من ذلك تيها وتكبرًا، "ويهللون على التلول" جمع تل الأمكنة العالية، "والأشراف" جمع شرف، بفتحتين المكان العالي، فالعطف مساوٍ حسنه اختلاف اللفظ ومراعاة الفاصلتين، "قربانهم دماؤهم" أي: أضاحيهم وهداياهم، أو المراد أنهم متهيئون للجهاد في سبيل الله، فكأنهم يتقربون إلى الله بدماء أنفسهم، أو بدماء من قتلوه من الكفار؛ كما قال كعب بن زهير في مدح الأنصار:
يتقربون يرونه نسكا لهم ... بدماء من علقوا من الكفار
وفي الأنموذج قربانهم ودماؤهم، وروى ابن عدي مرفوعًا: "إن الصلاة قربان المؤمن"، وفي حديث: "الصلاة قربان كل تقي"، أي: الصلاة من المتقي بمنزلة الهدايا والضحايا لفاقدهما. "وأناجيلهم" مصاحفهم محفوظة "في صدورهم، رهبانًا" عبادًا "بالليل ليوثًا" أسدًا على الأعداء، "بالنهار طوبى" فرح وقرة عين وشجرة في الجنة، "لمن كان معهم وعلى دينهم ومنهاجهم" طريقتهم، "وشريعتهم، وذلك فضلي أوتيه من أشاء، وأنا ذو الفضل" الإحسان "العظيم" فلا حجر في تخصيصهم بهذه الفضائل دون غيرهم، "رواه أبو نعيم" الأصبهاني.
"وقد ذكر الإمام فخر الدين" الرازي: "أن من كانت معجزاته أظهر، يكون ثواب أمته أقل"، لأن قوة ظهورها يلجئ إلى الإيمان.
قال السبكي: "إلا هذه الأمة، فإن معجزات نبيها أظهر، وثوابها أكثر من سائر الأمم".(7/422)
ومن خصائص هذه الأمة إحلال الغنائم، ولم تحل لأحد قبلها
__________
فضلا من الله ونعمة.
"ومن خصائص هذه الأمة إحلال الغنائم" وابتداء ذلك في غزوة بدر، وفيها نزل: {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا} الآية، كما في الصحيح من حديث ابن عباس، وعند ابن إسحاق: أول غنيمة خمست غنيمة السرية التي كان عليها عبد الله بن جحش، وهو قبل بدر بشهرين.
قال الحافظ: ويمكن الجمع بما ذكر ابن سعد؛ أنه صلى الله عليه وسلم أخر غنيمة تلك السرية حتى رجع من بدر، فقسمها مع غنائم أهل بدر، "ولم تحل لأحد" من الأمم، وفي نسخة لأمة "قبلها" والمراد بها ما أخذ من الكفار بقهر وغيره، فنعم الفيء؛ إذ كل منهما انفرد عن الآخر.
روى النسائي، عن أبي هريرة رفعه: "إن الله أطعمنا الغنائم، رحمة رحمنا بها، تخفيفًا خففه عنا، لما رأى من ضعفنا وعجزنا، فأحلها لنا".
وفي حديث جابر في الصحيحين: "وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي".
قال الخطابي: كان من تقدم على ضربين منهم من لم يؤذن له في الجهاد فلم يكن لهم مغانم، ومنهم من أذن له فيه، لكن كانوا إذا اغتنموا شيئًا لم يحل لهم أن يأكلوه، وجاءت نار فأحرقته.
وقيل: المراد أنه خاص بالتصرف في الغنيمة، يصرفها حيث شاء، والأقل الأول أصوب، وهو أن من مضى لم تحل لهم الغنائم أصلا، ذكره الحافظ، ويرجع ما صوبه قوله: "ولم تحل لأحد قبلي"؛ لأنه التقييد بالقبلية بطريق المفهوم؛ أنها حلت له ولأمته.
وروى الترمذي بسند صحيح، عن أبي هريرة رفعه: "لم تحل الغنائم لأحد، سود الرءوس من قبلكم، كانت تجمع فتنزل نار من السماء فتأكلها".
قال في الفتح: كان من مضى يغزون ويأخذون أموال أعدائهم وإسلابهم، لكن لا يتصرفون فيها، بل يجمعونها، وعلامة قبول غزوهم أن تنزل نار من السماء فتأكلها، وعلامة عدم قبوله أن لا ينزل، ومن أسباب عدم القبول الغلول، وقد من الله على هذه الأمة بشرف نبيها عنده، فأحل لهم الغنيمة، وستر عليهم الغلول، وستر عليهم فضيحته، ودخل في عموم أكل النار الغنيمة السبي وفيه بعد، لأن مقتضاه إهلاك الذرية ومن لم يقاتل من النساء، ويمكن أن يستثنوا من ذلك، ويلزم منه استثناؤهم من تحريم الغنائم عليها، ويؤيده أنه كانت لهم عبيدًا وإماء، فلو لم يجز لهم السبي لما كان لهم أرقاء، ولم أر من صرح بذلك انتهى، ونظر فيه شيخنا بأنه كان في شرع يعقوب إذا سرق إنسان شيئًا، ووجد عنده جعل السارق رقيقًا للمسروق منه، وجزم بعضهم باستثناء الذرية من أكل(7/423)
وجعلت لهم الأرض مسجدًا ولم تكن الأمم تصلي إلا في البيع والكنائس، وجعلت تربتها لهم طهورًا وهو التيمم. وفي رواية أبي أمامة عند البخاري: "وجعلت الأرض كلها لي ولأمتي مسجدًا وطهورًا". وفي رواية مسلم من حديث حذيفة: "وجعلت لنا الأرض كلها لي ولأمتي مسجدًا، وجعلت تربتها طهورًا إذا لم نجد الماء".
__________
النار، يفهم منه أنها كانت تحل لغير هذه الأمة. وفي شرح المشارق للشيخ أكمل الدين أنهم كانوا إذا أغنموا حيوانات تكون ملكًا للغانمين دون أنبيائهم، وإذا أغنموا غير الحيوانات، جمعوها، فتجيء نار فتحرقها.
"وجعلت لهم الأرض مسجدًا" أي: موضع سجود، لا يختص السجود منها بموضع دون غيره، ويمكن أنه مجاز عن المكان المبني للصلاة من مجاز التشبيه؛ لأنه لما جازت الصلاة جميعها كانت كالمسجد في ذلك.
"ولم تكن الأمم تصلي إلا في البيع" كنائس النصارى، وقيل: اليهود، فقوله "والكنائس" عطف تفسير على الأول: جمع كنيسة، متعبد النصارى، وقيل: اليهود، وعبارة المصنف فيما مر عن الفتح إلا في نحو البيع والصوامع، أي: متعبد الرهبان، فإن تعذر مجيئهم لها لنحو سفر، لم يصلوا على ظاهره، فيسقط عنهم أداؤها، ويقضون إذا رجعوا؛ كما جزم به بعض شراح الرسالة في فقه المالكية.
ويؤيده ظاهر قوله في حديث ابن عباس: "ولم يكن من الأنبياء أحد يصلي حتى يبلغ محرابه"، فما قيل: هل تسقط عنهم مطلقًا أو محل الحضر في نحو البيع في الحضر.
أما في السفر، فتباح في غيرها، ويكون محل خصوصيتنا الصلاة بأي محل، ولو بجوار المسجد، وسهولة الصلاة فيه تقصير، ويمنع الثاني أن القيد لا بد له من دليل، مع أن ظاهر قوله حتى يبلغ محرابه يمنعه، وتقدم هذا مرتين: "وجعلت تربتها لهم طهورًا" بفتح الطاء على المشهور، أي مطهرًا لغيره، لا طاهرًا، وإلا لزم تحصيل الحاصل، ولم تثبت الخصوصية، "وهو التيمم" لفقد الماء حسدًا، أو حكمًا بعدم القدرة على استعماله.
وفي رواية أبي أمامة عند البخاري: "وجعلت الأرض كلها لي، ولأمتي مسجدًا وطهورًا" فصرح بمشاركة أمته له فيهما.
وفي رواية مسلم من حديث حذيفة: "وجعلت لنا الأرض كلها لي ولأمتي مسجدًا، وجعلت تربتها طهورًا، إذا لم نجد الماء". أو لم نقدر على استعماله، وبه احتج للشافعي وأحمد على تخصيص التيمم بالتراب، وأجيب بأن تربة كل مكان ما فيه من تراب أو غيره، وقد قال تعالى(7/424)
ومن خصائص هذه الأمة أيضًا الوضوء، فإنه لم يكن إلا للأنبياء دون أممهم، ذكره الحليمي، واستدل بحديث البخاري: "إن أمتي يدعون يوم القيامة غرًا محجلين من آثار الوضوء".
__________
{فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} ، والصعيد: ما صعد على الأرض ترابًا أو غيره، وفي حديث جابر في الصحيحين: "وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا" وبهذا احتج لمالك وأبي حنيفة على جواز التيمم بجميع أجزاء الأرض.
وأما قوله في رواية ابن خزيمة وغيره: "وجعل ترابها طهورًا"، وقوله في حديث علي: "وجعل التراب لي طهورًا"، رواه أحمد والبيهقي بإسناد حسن، فالنص على التراب في هاتين الروايتين لبيان أفضليته، لا لأنه لا يجزئ غيره، وليس مخصصًا لعموم قوله: وطهورًا، لأن شرط المخصص أن يكون منافيًا للعام، ولذا قال القرطبي هو من باب النص على بعض أشخاص العموم، كقوله تعالى: {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} الآية، "ومن خصائص هذه الأمة أيضًا الوضوء، فإنه لم يكن إلا للأنبياء دون أممهم" بخلاف هذه الأمة، فهو لها كنبيها، "ذكره الحليمي" قال السيوطي: وهو الأصح، ونوزع بما يأتي بيانه، "واستدل بحديث البخاري" ومسلم، عن أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم: "إن أمتي" أمة الإجابة لا الدعوة، "يدعون" بضم أوله، أي: ينادون أو يمون، ولفظ مسلم: يأتون "يوم القيامة" أي: موقف الحساب، أو الميزان، أو الصراط، أو الحوض، أو غير ذلك "غرًا" بالضم والتشديد، جمع أغر، أي: ذي غرة، بضم الغين، بياض في جبهة الفرس فوق درهم، ثم استعملت في الجمال والشهرة وطيب الذكر، شبه به ما يكون لهم من النور في الآخرة، ونصب مفعول يدعون، أو حالا، أي: إذ دعوا يوم التناد على رءوس الأشهاد نودوا بهذا الوصف، أو كانوا على هذا النعت.
قال الطيبي: ولا يبعد التسمية باعتبار الوصف الظاهر؛ كما يسمى رجل به حمرة الأحمر، للمناسبة بين الاسم والمسمى، "محجلين" من التحجيل، وهو بياض في قوائم الفرس أو في ثلاث منها، أو في غيره قل أو أكثر بعدما تجاوز الأرساغ، ولا يجاوز الركبتين.
"من آثار الوضوء" بضم الواو، وجوز ابن دقيق العيد فتحها على أنه الماء، وظاهر هذا، كقوله في رواية لمسلم: "أنتم الغر المحجلون يوم القيامة، من إسباغ الوضوء" أن هذه السيما إنما تكون لمن توضأ في الدنيا، ففيه رد لما نقله الزناتي الفاسي في شرح الرسالة عن العلمي: إن الغرة والتحجيل لهذه الأمة من توضأ منهم ومن لا؛ كما يقال لهم أهل القبلة من صلى ومن لا. انتهى.
وفي القياس على الإيمان نظر؛ لأنه التصديق والشهادة، وإن ترك الواجب وفعل الحرام،(7/425)
لكن قال في فتح الباري: فيه نظر: لأنه ثبت في البخاري في قصة سارة -عليها السلام- مع الملك الذي أعطاها هاجر: لما هم الملك بالدنو منها قامت تتوضأ وتصلي.
__________
بخلاف الغرة والتحجيل، فمجرد فضيلة وتشريف للمتوضئ، فلا يكونان لسواه، ومن ثم قال شيخ الإسلام زكريا في شرح البخاري، لا تحصل الغرة والتحجيل إلا لمن توضأ بالفعل، أما من لم يتوضأ، فلا يحصلان له.
قال شيخنا في حواشي الرملي: ومن نقل عنه خلاف ذلك فقد أخطأ إنما هو قول للزناتي لا لشيخ الإسلام، وينبغي على قوله أن ذلك خاص بمن توضأ حال حياته، فلا يدخل من وضأه الغاسل، وبقي أيضًا ما لو تيمم ولم يتوضأ، هل يحصل له ذلك أم لا؟ وفيه نظر، وينبغي أن يحصل لقيامه مقام الوضوء، انتهى.
"لكن قال في فتح الباري: فيه" أي: استدلاله بهذا الحديث "نظر" لأن الذي دل على أنه خصوصية إنما هو الغرة والتحجيل، لا أصل الوضوء، "لأنه ثبت في البخاري في قصة سارة" بخفة الراء، وقيل بتشديدها، واختلف في اسم أبيها، فقيل: هاران ملك حران، تزوجها إبراهيم لما هاجر من بلاد قومه إلى حران، وإن هذا هو السبب في إعطاء الملك لها هاجر، وأنه قال لإبراهيم: رأيتها تطحن، وهي لا تصلح أن تخدم نفسها، وقيل هي بنت أخيه، وكان ذلك جائزًا في شرعه، حكاه ابن قتيبة والنقاش واستبعد، وقيل: بنت عمه، وتوافق الاسمان، وقيل: اسم أبيها نويل "عليها السلام" وهي إحدى النسوة اللاتي قيل بنبوتهن "مع الملك الذي أعطاها هاجر" بالهاء، رواه البخاري في أحاديث الأنبياء، وبهمزة بدلها، رواه في البيوع، وكذا مسلم، وفتح الجيم عليهما اسم سرياني، يقال: إن أباها كان من ملوك القبط، من حفن، بفتح المهملة، وسكون الفاء قرية بمصر كانت مدينة، وهي الآن كفر من عمل أنصنا بالبر الشرقي من الصعيد، وفيها آثار عظيمة باقية، "لما هم الملك" عمرو بن امرئ القيس بن سبأ، وكان على مصر، ذكره السهيلي، وهو قول ابن هشام في التيجان.
وقيل: اسمه صادف، وكان على الأردن، حكاه ابن قتيبة، وقيل سنان بن علوان بن عبيد بن جريج بن عملاق بن لاوذ بن سام بن نوح، حكاه الطبري، ويقال: إنه الضحاك الذي ملك الأقاليم: "بالدنو منها، قامت تتوضأ وتصلي"، ففيه أن الوضوء كان مشروعًا للأمم قبلنا، وليس مختصًا بهذه الأمة، ولا بالأنبياء لثبوت ذلك عن سارة، والجمهور أنها ليست نبية.
أخرج البخاري من طريق أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "هاجر إبراهيم بسارة، فدخل بها قرية ملك من الملوك، أو جبار من الجبابرة، فقيل: دخل إبراهيم(7/426)
.........................................
__________
بامرأة، وهي من أحسن النساء، فأرسل إليه أن يا إبراهيم من أين هذه التي معك؟ فقال: أختي، ثم رجع إليها، فقال: لا تكذبي حديثي فإني أخبرتهم أنك أختي، والله ما على الأرض مؤمن غيري وغيرك، فأرسل بها إليه، فقام إليها، فقامت تتوضأ وتصلي، فقالت: اللهم إن كنت تعلم أني آمنت بك وبرسولك، وأحصنت فرجي إلا على زوجي، فلا تسلط علي الكافر، فغط حتى ركض برجله".
قال الأعرج: قال أبو سلمة بن عبد الرحمن: إن أبا هريرة قال: قالت: اللهم إن يمت يقال هي قتلته، فأرسل، ثم قام إليها، فقامت تتوضأ وتصلي، وتقول: اللهم إن كنت تعلم أني آمنت بك وبرسولك وأحصنت فرجي إلا على زوجي، فلا تسلط علي هذا الكافر، فغط حتى ركض برجله، قال الأعرج: قال أبو سلمة: قال أبو هريرة: قالت: اللهم إن يمت يقال هي قتلته، فأرسل في الثانية أو في الثالثة، فقال: ما أرسلتم إلي إلا شيطانًا، أرجعوها إلى إبراهيم وأعطوها أجر، فرجعت إلى إبراهيم، فقالت: أشعرت أن الله كبت الكافر، وأخدم وليدة، أخرجه أيضًا مسلم وأحمد وغيرهما من طرق في ألفاظها اختلاف، ليس هذا موضع بيانه.
قال في فتح الباري: قوله: فأرسل إليه ظاهر في أنه سأله عنها أولا، ثم أعلمها بذلك لئلا تكذبه عنده، وفي رواية هشام بن حسان عن ابن سرين عن أبي هريرة عند البزار والنسائي وابن حبان، أنه قال لها: إن هذا الجبار إن يعلم أنك امرأتي يغلبني عليك، فإن سألك فأخبريه أنك أختي، وإنك أختي في الإسلام، فلما دخل أرضه رآها بعض أهل الجبار، فأتاه، فقال: لقد قدم أرضك امرأة لا ينبغي أن تكون إلا لك، فأرسل إليها، فيجمع بينهما بأن إبراهيم أحس بأنه سيطلبها منه، فأوصاها، فلما وقع ما خشيه، أعاد عليها الوصية، واختلف في السبب الحامل له على الوصية، مع أن مراده غصبها أختًا كانت أو زوجة، فقيل: كان من شأنه أن لا يتعرض إلا لذات الزوج، فأراد إبراهيم دفع أعظم الضررين بارتكاب أخفهما؛ لأن اغتصابه واقع لا محالة، لكن إن علم لها زوجًا حملته على قتله، أو حبسه وإضراره، بخلاف الأخ، فالغيرة حينئذ من قبله خاصة، لا من قبل الجبار، فلا يبالي به، وهذا تقرير جاء صريحًا عن وهب بن منبه، رواه عبد بن حميد عنه.
وذكر ابن الجوزي في مشكل الصحيحين، وتبعه المنذري في حواشي السنن عن بعض أهل الكتاب، أن الجبار كان من رأيه أن لا يقرب ذات زوج حتى يقتله، فلذا قال إبراهيم: هي أختي؛ لأنه إن كان عادلا خطبها منه ثم يرجو مدافعته عنها، وإن كان ظالمًا خلص من القتل، وليس هذا يبعد من الأول.
وقيل: كان من دين الجبار أن الأخ أحق بأن أخته زوجته، فقال: هي أختي اعتمادًا على(7/427)
وفي قصة جريج الراهب: أنه قام فتوضأ وصلى ثم كلم الغلام.
__________
ما يعتقده الجبار، فلا ينازعه فيها، وتعقب بأنه لو كان كذلك لقال: هي أختي وأنا زوجها، فلم اقتصر على قوله هي أختي، وأيضًا فهذا الجواب إنما يفيد لو كان الجبار يريد أن يتزوجها لا أن يغصبها نفسها، وقيل: أراد إبراهيم أنه إن علم أنك امرئتي ألزمني بالطلاق، ولا يشكل قوله: ليس على وجه الأرض مؤمن غيري وغيرك بلوط، وقد قال تعالى: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ} الآية، لأن مراده بالأرض التي وقع له فيها ذلك، ولم يكن لوط معه فيها، وقوله: فغط بضم المعجمة.
وحكى ابن التين: فتحها والصواب الضم حتى ركض برجله، يعني أنه اختنق كأنه مصروع، وفي رواية مسلم: فلما دخلت عليه لم يتمالك أن بسط يده إليها، فقبضت قبضة شديدة، ويمكن الجمع بأنه عوقب تارة بقبض يده، وتارة بصرعه، ويجاب عن قولها إن كنت تعلم أنها قاطعة بأنه تعالى يعلم ذلك، بأنها قالته على سبيل الفرض هضمًا لنفسها، وفيه إجابة الدعاء بإخلاص النية، وكفاية الرب، لمن أخلص بعمله الصالح، ونظيره قصة أصحاب الغار، وابتلاء الصالحين لرفع درجاتهم، ويقال: إن الله كشف لإبراهيم حتى رأى حال الملك مع سارة معاينة، وأنه لم يصل منها إلى شيء ذكره في التيجان، ولفظه: فأمر بإدخال إبراهيم وسارة عليه ثم نحى إبراهيم إلى خارج القصر، وقام إلى سارة، فجعل الله القصر لإبراهيم، كالقارورة الصافية، فصار يراهما ويسمع كلامهما، انتهى.
"وفي قصة جريج" بجيمين مصغر "الراهب" روى أحمد عن أم سلمة: كان رجل يقال له جريج من بني إسرائيل تاجرًا، وكان ينقص مرة ويزيد أخرى، فقال: ما في هذه التجارة خير، لألتمسن تجارة هي خير من هذه، فبى صومعة، وترهب فيها، الحديث.
قال الحافظ: دل أنه كان بعد عيسى ومن أتباعه، لأنهم الذين ابتدعوا الترهب، وحبس النفس في الصوامع "أنه قام، فتوضأ وصلى" ركعتين، كما في حديث عمران، "ثم كلم الغلام"، نفيه أن الوضوء لا يختص بهذه الأمة خلافًا لزاعمه، روى الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة: عيسى، وكان في بني إسرائيل رجل يقال له جريج يصلي، جاءته أمه، فدعته، فقال: أجيبها، أو أصلي؟ فقالت اللهم لا تمته حتى تريه وجوه المومسات، وكان جريج في صومعته، فتعرضت له امرأة، فكلمته، فأبى، فأتت راعيًا، فأمكنته من نفسها فولدت غلامًا، فقالت: من جريج، فأتوه، فكسروا صومعته، فأنزلوه وسبوه، فتوضأ وصلى، ثم أتى الغلام، فقال: من أبوك يا غلام؟ قال: الراعي، قالوا: نبني صومعتك من ذهب، قال: لا إلا من طين" ... الحديث.(7/428)
فالظاهر أن الذي اختصت به هذه الأمة هو الغرة والتحجيل، لا أصل الوضوء.
__________
قال الحافظ: لم أقف في شيء من الطرق على اسم أم جريج، ولا على اسم الزانية، لكن في حديث عمر أنها كانت بنت ملك القرية، ولأحمد: فذكر بنو إسرائيل عبادة جريج، فقالت: بغي منهم إن شئتم لأفتننه، قالوا: قد شئنا فأتته، فتعرضت له، فلم يلتفت إليها، فأمكنت نفسها من راعٍ كان يؤوي غنيمة إلى أصل صومعته، وله من وجه آخر، وكانت تأوي إلى صومعته راعية ترعى الغنم، وفي أخرى: كان عند صومعته راعي ضأن، وراع معز، ويمكن الجمع بين هذه الروايات، بأنها خرجت من دار أبيها بغير علم أهلها متنكرة، وكانت تعمل الفساد إلى أن ادعت أنها تستطيع أن تفتن جريجًا، فاحتالت بأن خرجت في صورة راعية، ليمكنها أن تأوي إلى ظل صومعته لتتوصل بذلك إلى فتنته، وفي رواية: أنه طعن الغلام بأصبعه، فقال: بالله يا غلام من أبوك؟ قال: أنا ابن الراعي.
وفي مرسل الحسن عند ابن المبارك؛ أنه سألهم أن ينظروه، فأنظروه، فرأى في المنام من أمره أن يطعن في بطن المرأة، فيقول: أيتها السخلة من أبوك؟ ففعل، فقال: راعي الغنم.
وفي رواية: ثم مسح رأس الصبي، فقال: من أبوك؟ قال: راعي الضأن، ولأحمد: فوضع أصبعه على بطنها، وفي رواية: فأتى بالمرأة والصبي وفمه في ثديها، فقال له جريج: يا غلام من أبوك؟ فنزع الغلام فاه من الثدي، وقال: أبي راعي الضأن، وفي أخرى: فلما أدخل على ملكه، قال جريج: أين الصبي الذي ولدته؟ فأتى فقال له: من أبوك؟ فسمى أباه، ولم أقف على اسم الراعي، ويقال: اسمه صهيب.
وأما الابن، فللبخاري في أواخر الصلاة بلفظ، فقال: يا ناموس، وليس اسمه كما زعم الداودي، إنما المراد به الصغير.
وفي حديث عمران: ثم انتهى إلى شجرة، فأخذ منها غصنًا، ثم الغلام، وهو في مهده فضربه بذلك الغصن، فقال: من أبوك؟ ولأبي الليث السمرقندي بلا إسناد، قال للمرأة: أين أصبتك؟ قالت: تحت شجرة، فقال: يا شجرة أسألك بالذي خلقك من زنى بهذه المرأة؟ فقال: كل غصن منها راعي الغنم، ويجمع بين هذا الاختلاف بوقوع جميع ما ذكر، بأنه مسح رأس الصبي، ووضع أصبعه على بطن أمه، وطعنه بأصبعه وضربه بطرف العصا التي كانت معه، وأبعد من جمع بينها بتعدد القصة؛ وأنه استنطقه، وهو في بطن أمه مرة قبل أن تلد ثم بعد أن ولد، زاد في رواية: فوثبوا إلى جريج فجعلوا يقبلونه، وفي أخرى: فأبرأ الله جريجًا، وأعظم الناس أمره، انتهى ملخصًا، وحيث ثبت وضوء سارة وجريج وليسا نبيين.
"فالظاهر أن الذي اختصت به هذه الأمة هو الغرة والتحجيل" زاد بعضهم أو التثليث أو الكيفية، أو مزيد الحث عليه، والمبالغة في التأكيد "لا أصل الوضوء" وقول ابن بطال: يحتمل(7/429)
وقد صرح بذلك في رواية لسملم عن أبي هريرة مرفوعًا، قال: "لكم سيما ليست لغيركم". أي: علامة.
ومنها مجموع الصلوات الخمس، ولم تجمع لأحد غيرهم، أخرج الطحاوي عن عبيد الله بن محمد.
__________
أن يكون جريج نبيًا، فيكون معجزة لا كرامة، إنما هو احتمال لا تثبت به نبوته، "وقد صرح بذلك في رواية لمسلم عن أبي هريرة مرفوعًا" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن حوضي أبعد من أيلة من عدن، لهو أشد بياضًا من الثلج، وأحلى من العسل باللبن، ولآنيته أكثر من عدد النجوم، وإني لأصد الناس عنه، كما يصد الرجل إبل الناس عن حوضه"، قالوا: يا رسول الله أتعرفنا يومئذ؟ قال: "نعم لكم سيما" بكسر، فسكون "ليست لغيركم" لفظ مسلم: "ليست لأحد من الأمم، تردون الحوض علي غرًا محجلين من أثر الوضوء". هذا لفظ مسلم تامًا في الوضوء، وأخرج نحوه من حديث حذيفة، وقوله: سيما، "أي: علامة" كقوله تعالى: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} الآية، وهي نور وبياض يعرفون به في الآخرة أنهم سجدوا في الدنيا، وقد قال صاحب المطامح: تعلق بحديث أنتم الغر المحجلون إلى آخره الداودي، وغيره من ضعفاء النظر على أن الوضوء من خصائصنا، وهو غير قاطع؛ لاحتمال أن الخاص بنا الغرة والتحجيل بقرينة خبر هذا وضوئي، ووضوء الأنبياء من قبلي، وقصره على الأنبياء دون أممهم برده أن الوضوء إذا كان معروفًا عند الأنبياء، فالأصل أنه شرع ثابت لأممهم حتى يثبت خلافه، انتهى.
وتعقب بأن حديث: هذا وضوئي، ضعيف لا حجة فيه، مع احتمال أن الوضوء من خصائص الأنبياء دون أممهم إلا هذه الأمة على أنه صرح فيه بأن الوضوء للأمم المتقدمة.
روى الطبراني عن بريدة: دعا النبي صلى الله عليه وسلم بوضوء، فتوضأ واحدة واحدة، قال: "هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة به إلا مرتين"، وقال: "هذا وضوء الأمم قبلكم"، ثم توضأ ثلاثًا ثلاثًا، وقال: "هذا وضوئي ووضوء الأنبياء قبلي".
"ومنها مجموع الصلوات الخمس" على هذه الكيفية، "ولم تجمع لأحد غيرهم" من الأنبياء والأمم، والحجة لذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "اتقوا الله وصلوا خمسكم"، رواه الترمذي وقال: حسن صحيح وابن حبان والحاكم، فإضافتها إليهم تعطي ذلك، ولا يعارضه قول جبريل في حديث المواقيت حين صلى الخمس بالنبي صلى الله عليه وسلم، هذا وقتك ووقت الأنبياء قبلك، لأن المراد، كما قال الرافعي أنه وقتهم إجمالا، وإن اختص كل منهم بوقت فقد. "أخرج الطحاوي عن عبيد الله" بضم العين "ابن محمد" بن حفص بن عمر بن موسى بن عبد الله بن معمر التيمي,(7/430)
ابن عائشة قال: إن آدم لما تيب عليه عند الفجر صلى ركعتين فصارت الصبح، وفدى إسحاق عند الظهر، فصلى أربع ركعات، فصارت الظهر، وبعث عزير عند العصر، فقيل له: كم لبثت قال: يومًا، فرأى الشمس فقال: أو بعض يوم فصلى أربع ركعات فصارت العصر، وغفر لداود عند المغرب، فقام يصلي أربع ركعات فجهد فجلس في الثالثة فصارت المغرب ثلاثًا. وأول من صلى العشاء الآخرة نبينا صلى الله عليه وسلم.
__________
ثقة، رمي بالقدر ولا يثبت، مات سنة ثمان وعشرين ومائتين، روى له أبو داود والترمذي والنسائي، ويقال له "ابن عائشة"، والعائشي، والعيشي، نسبة إلى عائشة بنت طلحة، لأنه من ذريتها، "قال: إن آدم لما تيب عليه عند الفجر صلى ركعتين، فصارت الصبح" فكان يصليها إلى أن مات، "وفدى إسحاق عند الظهر" من الذبح، ففيه حجة لقول الجمهور أنه الذبيح؛ كقوله صلى الله عليه وسلم: "الذبيح إسحاق". رواه الدارقطني وغيره بإسناد جيد، ومر بسطه، وتسمح من قال بناء على أنه الذبيح، والصحيح أنه إسماعيل؛ لأن هذا إخبار عن بلاغ، فلا يبنى على خلاف العلماء، "فصلى" إبراهيم "أربع ركعات" سقط إبراهيم من قلم المصنف أو نساخه مع أنه في رواية الطحاوي: فأوهم سقوطه أن المصلي إسحاق وليس كذلك، "فصارت الظهر؛ وبعث عزير" بالصرف ابن سروحا لما مر على قرية هي بيت المقدس، أو غيرها راكبًا على حمار ومعه سلة تين وقدح عصير بعد ما خرب القرية بختنصر، قال: استعظامًا لقدرة الله تعالى أنى يحيي هذه الله بعد موتها، فأماته الله مائة عام، ثم بعثه: أحياه ليريه كيفية ذلك "عند العصر، فقيل له: كم لبثت؟ " مكثت هنا، "قال: لبثت يومًا، فرأى الشمس، فقال: أو بعض يوم" لأنه نام أول النهار، فقبض وأحيي أثناء نهار غيره فظن أنه يوم النوم، "فصلى أربع ركعات" وقد اختلف أهل التفسير في المراد بقوله تعالى: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ} الآية، فالمشهور أنه عزير، وأخرجه الحاكم وغيره عن علي، والخطيب عن عبد الله بن سلام وعن ابن عباس، وقيل: كان نبيًا اسمه أرميا، وقيل الخضر، وقيل: حزقيل، وقيل: هو كافر بالبعث، وقيل غير ذلك؛ إلا أن ما أفاده بقوله: "فصارت العصر" أنها كانت له مخالف لما في شرح المسند للرافعي أن العصر لسليمان "وغفر لداود" بن إيشاء، بكسر الهمزة، وسكون التحتية، ومعجمة ابن عوبد، بمهملة، وموحدة، بزنة جعفر, ابن باعر، بموحدة، ومهملة مفتوحة، ابن سلمون بن يارب، بتحتية، آخر ابن رام بن حضرون، بمهملة، ثم ابن فارض بفاء، وآخره مهملة، ابن يهود بن يعقوب، "عند المغرب، فقام يصلي أربع ركعات، فجهد" تعب، "فجلس في الثالثة، فصارت المغرب ثلاثًا"، وفيه مخالفة لنقل الرافعي أن المغرب ليعقوب، "وأول من صلى العشاء الآخرة نبينا صلى الله عليه وسلم" فهي من خصائصنا، وعورض بما في شرح المسند أن(7/431)
وأخرج أبو داود في سننه، وابن أبي شيبة في مصنفه والبيهقي في سننه عن معاذ بن جبل قال: أخر رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة العتمة ليلة حتى ظن الظان أنه قد صلى, ثم خرج فقال: "أعتموا بهذه الصلاة فإنكم فضلتم بها على سائر الأمم ولم تصلها أمة قبلكم".
__________
العشاء ليونس؛ لكن يؤيد خبر الطحاوي حديث معاذ، وهو المذكور بقوله: "وأخرج أبو داود في سننه" في الصلاة، "وابن أبي شيبة في مصنفه، والبيهقي في سننه" بإسناد حسن، "عن معاذ بن جبل، قال: أخر رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة العتمة" أي: العشاء الآخرة "ليلة، حتى ظن الظان أنه قد صلى" لفظ الرواية: حتى ظن الظان أنه ليس بخارج، والقائل منا يقول قد صلى، "ثم خرج" فقالوا له كما قالوا: كما في الحديث، أي: القول الذي قالوا قبل خروجه، فقال: "أعتموا" بفتح الهمزة، وكسر الفوقية "بهذه الصلاة" صلاة العشاء. والباء للتعدية، أي: أدخلوها في العتمة، وهي ما بعد غيبوبة الشفق، أو للمصاحبة، أي: ادخلوا في العتمة متلبسين بها، قال البيضاوي: أعتم الرجل: دخل العتمة، وهي ظلمة الليل، أي: صلوها بعدما دخلتم في الظلمة، وتحققتم سقوط الشفق، ولا تستعجلوا فيها، فتوقعوها قبل وقتها، وعليه فلا يدل على أفضلية التأخير، ويحتمل أنه من العتم الذي هو الإبطاء، يقال: أعتم الرجل إذا أخر. انتهى. "فإنكم فضلتم" بالبناء للمفعول "بها على سائر الأمم، ولم تصها أمة قبلكم".
وأورد الحافظ الولي العراقي ما المناسبة بين تأخيرها واختصاصها بنا دون سائر الأمم، حتى يجعل الثاني علة للأول، وأجاب بأن المراد إذا أخروها منتظرين خروج النبي صلى الله عليه وسلم كانوا في صلاة، وكتب لهم ثواب المصلي، فقوله: فضلتم بها يعارض رواية أن العشاء ليونس، ورواية ابن سعد: أن إبراهيم وإسماعيل أتيا منى، فصليا بها الظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء, والصبح، وهو ظاهر قول جبريل: هذا وقتك ووقت الأنبياء من قبلك، وجمع الهروي وغيره بأن المصطفى أول من صلاها مؤخرًا لها إلى ثلث الليل أو نحوه، أما الرسل فكانوا يصلونها عند أول مغيب الشفق، ويدل لذلك، بل يصرح به قوله في أثر الطحاوي نفسه العشاء إلا آخره، وجمع البيضاوي في شرح المصابيح؛ بأن العشاء كانت تصليها الرسل ناقلة لهم، ولم تكتب على أممهم كالتهجد، وجب على نبينا دوننا. انتهى.
واحتج بحديث معاذ من قال: الأفضل تأخير العشاء، وإليه ذهب جمع شافعية ومالكية، والمعتمد في المذهبين تفضيل التقديم، وورد ما يدل على نسخ التأخير.
روى أحمد والطبراني بسند حسن عن أبي بكرة، قال: أخر النبي صلى الله عليه وسلم العشاء تسع ليال إلى ثلث الليل، فقال له أبو بكر: يا رسول الله لو أنك عجلت لكان أمثل لقيامنا من الليل، فعجل بعد ذلك.(7/432)
ومنها الأذان والإقامة.
ومنها البسملة، قال بعضهم فيما نقله الشيخ شهاب الدين الحلبي النحوي في تفسيره، قال: ولم ينزلها الله على أحد من الأمم قبلنا إلا على سليمان بن داود، فهي مما اختصت به هذه الأمة، انتهى.
ومنها التأمين، روى الإمام أحمد من حديث عائشة: بينا أنا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ استأذن رجل من اليهود، فذكر الحديث.
__________
"ومنها الأذان والإقامة" للصلاة بدليل تحيرهم فيما يجتمعون به للصلاة، حتى رأى عبد الله بن زويد الرؤيا المشهورة كما تقدم، ولا يعارضه ما روى عند الحاكم وابن عساكر، أن آدم لما نزل بالهند استوحش، فنزل جبريل فنادى بالأذان، لأن مشروعيته للصلاة هي الخصوصية، "ومنها البسملة" أي قول: بسم الله الرحمن الرحيم، بهذه الألفاظ العربية على هذا الترتيب، وما روي أن آدم لما أراد الخروج من الجنة قالها، فقال له جبريل: لقد تكلمت بكلمة عظيمة، قف ساعة، لعل أن يظهر من الغيب لطف لا يرد، لأنها لم تنزل عليه، وإنما ألهمها، ومحل الخصوصية نزولها على نبينا، وصارت لأمته، كما "قال بعضهم فيما نقله الشيخ شهاب الدين" أحمد بن يوسف بن عبد الدائم، "الحلبي النحوي" نزيل القاهرة، الشهير باسمين.
قال الحافظ ابن حجر: تعالى النحو فمهر فيه، ولازم أبا حيان، إلى أن فاق أقرانه، وأخذ القراءات عن التقي الصائغ، ومهر فيها، وولى تدريس القرآن بجامع ابن طولون، والإعادة بالشافعي، وناب في الحكم، وله تفسير القرآن، وإعراب القرآن، وشرح التسهيل، وشرح الشاطبية، مات في جمادى الآخرة، سنة ست وخمسين وسبعمائة "في تفسيره" وهو كبير في عدة أجزاء غير إعراب القرآن له، كما علم، "ولم ينزلها الله على" نبي "أحد من الأمم قبلنا إلا على سليمان بن داود" وما شرع لنبي شرع لأمته، فالمراد بقوله: "فهي مما اختصت به هذه الأمة" أي: نزر لها قرآنًا يتلى.
وأما بالنسبة لسليمان فلعله التبرك بها كذا قال: شيخنا، وأحسن منه قول بعض المحققين: الأصح أنها بهذه الألفاظ العربية على هذا الترتيب من خصائص المصطفى وأمته، وما في سورة النمل جاء على جهة الترجمة عما في الكتاب، لأنه لم يكن عربيًا، "انتهى".
نقله الشهاب الحلبي، وقد روى الطبراني بريدة، رفعه: "أنزل علي آية لم تنزل على نبي بعد سليمان غيري: بسم الله الرحمن الرحيم". "ومنها التأمين" عقب الفاتحة، للمأموم على ما يفهمه قول خلف الإمام، "وروى الإمام أحمد من حديث عائشة: بينما أنا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ استأذن رجل من اليهود، فذكر الحديث" وهو فأذن له، فقال: السام عليك، فقال النبي: "وعليك"،(7/433)
وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنهم لم يحسدونا على شيء كما حسدونا على الجمعة التي هدانا الله لها وضلوا عنها
__________
قالت فهممت أن أتكلم، ثم دخل الثانية، فقال: مثل ذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم، ثم دخل الثالثة، فقال: السام عليك، قالت: قلت: بل السام عليكم، وغضب الله إخوان القردة والخنازير، أتحيون رسول الله بما لم يحيه به الله، فنظر إليّ، فقال: "مه إن الله لا يحب الفحش ولا التفحش، قالوا: قولا فرددناه عليهم، فلم يضرنا شيئًا ولزمهم إلى يوم القيامة". "وفيه" عقب هذا: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنهم لم يحسدونا" كذا في النسخ، وفي مسند أحمد: لا يحسدونا، فلعله حذف نون الرفع تخفيفًا، وقد اختلف في أن لا تخلص الفعل للاستقبال أم لا "على شيء، كما حسدونا على الجمعة التي هدانا الله لها" بأن نص لنا عليها أو بالاجتهاد، ويشهد له أثر ابن سيرين في جمع أهل المدينة قبل قدوم النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه يدل على أن أولئك الصحابة اختاروا يوم الجمعة بالاجتهاد، ولا يمنع ذلك أنه صلى الله عليه وسلم علمه بالوحي بمكة، فلم يتمكن من إقامتها، وقد جاء بذلك حديث ابن عباس عه الدارقطني، ولذا جمع بهم أول ما قدم المدينة، كما ذكر ابن إسحاق وغيره، فحصلت الهداية بجهتي البيان والتوفيق، قاله الحافظ، ملخصًا وأسقط من الحديث هنا قوله: "وضلوا عنها"، أي: لأنه فرض عليهم يوم من الجمعة يقيمون فيه شريعتهم، ووكل إلى اختيارهم، فاختلفوا في أي الأيام؟ وهو لم يهتد، واليوم الجمعة، قاله ابن بطال، وقواه عياض، ورجح الحافظ أنه فرض عليهم يوم الجمعة بعينه، فاختاروا السبت.
فقد روى ابن أبي حاتم عن السدي: أن الله فرض على اليهود الجمعة، فأبوا وقالوا: يا موسى إن الله لم يخلق يوم السبت شيئًا، فاجعله لنا، فجعل عليهم، وليس هذا بعجيب من مخالفتهم كما وقع لهم في قوله تعالى: {ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ} الآية، وغير ذلك، وهم القائلون: سمعنا وعصينا، وأسقط أيضًا من الحديث قوله: "وعلى القبلة التي هدانا الله لها". أي: بصريح البيان بالأمر المكرر، أولا لبيان تساوي حكم السفر وغيره، وثانيًا للتأكيد، "وضلوا عنها" لأنهم لم يؤمروا باستقبال الصخرة، بل كان عن مشورة منهم، كما عند أبي داود عن خالد بن يزيد بن معاوية، وعنده أيضًا أن يهوديًا خاصم أبا العالية في القبلة، فقال أبو العالية: كان موسى يصلي عند الصخرة، ويستقبل البيت الحرام، وكانت الكعبة قبلته، وكانت الصخرة بين يديه.
وقال اليهودي: بيني وبينك مسجد صالح النبي عليه السلام، فقال أبو العالية: فإني صليت في مسجد صالح وقبلته إلى الكعبة، وفي مسجد ذي القرنين وقبلته إليها.
وفي البغوي في قوله تعالى: {وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً} الآية، روى ابن جريج عن ابن(7/434)
وعلى قولنا خلفا الإمام آمين".
قال الحافظ ابن حجر: وهذا حديث غريب لا أعرفه بهذه الألفاظ إلا من هذا الوجه، لكن لبعضه متابع حسن في التأمين.
__________
عباس، قال: كانت الكعبة قبلة موسى ومن معه، انتهى.
وقد رجح الحافظ العلائي: أن الكعبة قبلة الأنبياء كلهم، كما دلت عليه الآثار، قال بعضهم: وهو الأصح، واختار ابن العربي وتلميذه السهيلي أن قبلة الأنبياء بيت المقدس، قال بعضهم، وهو الصحيح المعروف، فعد صاحب الأنموذج من خصائص المصطفى وأمته: استقبال الكعبة إنما هو على أحد قولين مرجحين، نعم ذكر فيما اختص به على جميع الأنبياء والمرسلين الجمع له بين القبلتين، "وعلى قولنا خلف الإمام آمين" فإنها مختصة بنا بقيد الخلفية في الصلاة، وكذا عقب الدعاء، لكن شارك هارون في ذلك كما روى الحارث بن أسامة، وابن مردويه، عن أنس مرفوعًا: "أعطيت ثلاث خصال: أعطيت الصلاة في الصفوف، وأعطيت السلام، وهو تحية أهل الجنة، وأعطيت آمين، ولم يعطها أحد ممن كان قبلكم، إلا أن يكون الله أعطاها نبيه هارون، فإن موسى كان يدعو الله ويؤمن". أي: أعطي الخصلة الثالثة، فإنه كان يؤمن على دعاء موسى، كما قال تعالى: {قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا} الآية، وفي أول الآية، وقال موسى: ربنا، فدل على أنه الداعي، وهارون يؤمن، فسماه داعيًا، لأنه لتأمينه عليه مشارك له.
وفي مسند الفردوس، مرفوعًا: "الداعي والمؤمن في الأجر شريكان" فعلم أن الخصلتين الأوليين من خصوصيات هذه الأمة مطلقا، وكذا الثالثة بالنسبة لغير هارون في غير الصلاة.
"قال الحافظ ابن حجر: وهذا حديث غريب لا أعرفه بهذه الألفاظ إلا من هذا الوجه" وقال شيخه الزين العراقي: دخول اليهودي عليه ثلاثًا، واستئذانه وما بعده الألفاظ لم أره في شيء منها، أي: الأحاديث غير هذا، "لكن لبعضه متابع" بكسر الباء، أي: عليه، "حسن في التأمين" متعلق بمتابع بيان لبعضه، أي: دون الجمعة والقبلة، "أخرجه ابن ماجه، وصححه ابن خزيمة، كلاهما من رواية سهيل" بالتصغير، "ابن أبي صالح" ذكوان المدني، أبي يزيد، صدوق، تغير حفظه بآخره. وروى له الستة، إلا أن البخاري روى له مقرونًا، وتعليقًا "عن أبيه" ذكوان السمان الزيات المدني، تابعي، ثقة، ثبت، كان يجلب الزيت إلى الكوفة، مات سنة إحدى ومائة.
"وعن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم"، قال: "ما حسدتنا اليهود على شيء ما حسدتنا" أي: مثل حسدهم، أو مثل الذي حسدتنا "على السلام" عند التلاقي، ففيه دلالة على أنه مختص بنا دونهم، "والتأمين" أي ختم القارئ قراءته في الصلاة وغيرها، بقول: آمين أو الداعي دعاء بلفظ(7/435)
أخرجه ابن ماجه وصححه ابن خزيمة كلاهما من رواية سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما حسدتنا اليهود على شيء ما حسدتنا على السلام والتأمين".
ومنها الاختصاص بالركوع، عن علي رضي الله عنه قال: أول صلاة ركعنا فيها العصر، فقلت: يا رسول الله، ما هذا؟ قال: "بهذا أمرت". رواه البزار والطبراني في الأوسط.
ووجه الاستدلال منه أنه عليه السلام صلى قبل ذلك الظهر، وصلى قبل فرض الصلوات الخمس قيام الليل، فكون الصلاة السابقة بلا ركوع قرينة لخلو صلاة الأمم السابقة منه. قاله بعض العلماء.
قال: وذكر جماعة من المفسرين في قوله تعالى: {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة: 43] أن مشروعية الركوع في الصلاة خاص بهذه الأمة، وأنه لا ركوع في صلاة بني إسرائيل، ولذا أمرهم بالركوع
__________
آمين، لكن خص من هذا هارون كما روى ابن ماجه بإسناد ضعيف عن ابن عباس رفعه: "ما حسدتكم اليهود على شيء ما حسدتكم على آمين، فأكثروا من قول آمين".
"ومنها" أي: خصائص الأمة "الاختصاص بالركوع" في الصلاة، وكأنه زاد الاختصاص زيادة تأكيد، لأن فيه نزاعًا، وميله للاختصاص، وإلا فالكلام فيه وأيضًا ضمير منها عائد له، "عن علي رضي الله عنه، قال: أول صلاة ركعنا فيها العصر، فقلت: يا رسول الله ما هذا؟ " الفعل الذي لم نعرفه قبل، قال: "بهذا أمرت"، رواه البزار والطبراني في" معجمه "الأوسط" الذي ألفه في غرائب شيوخه، كان يقول هذا الكتاب روحي؛ لأنه تعب عليه، "ووجه الاستدلال منه؛ أنه عليه السلام صلى قبل ذلك الظهر" فالصلاة التي ركع فيها هي عصر صبيحة الإسراء، "وصلى قبل فرض الصلوات الخمس قيام الليل" وكذا غيره مما كان يصليه نهارًا، "فكون" أي: وجود "الصلاة السابقة بلا ركوع قرينة لخلو صلاة الأمم السابقة منه" بناء على أن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد ناسخ، ويمكن بناؤه على القول الآخر، وتقدر القرينة بأنه لو كان في صلاة الأمم السابقة ركوع لكان النبي صلى الله عليه وسلم أولى بأنه لا يصلي بدونه صلاة واحدة، لئلا تكون صلاة غيره أتم من صلاته، "قاله بعض العلماء" يعني الجلال السيوطي، كما يعلم من الشامية.
"قال: وذكر جماعة من المفسرين في قوله تعالى" لبني إسرائيل: " {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} الآية، أن مشروعية الركوع في الصلاة خاص بهذه الأمة، وأنه ركوع في صلاة بني إسرائيل، ولذا أمرهم بالركوع" إظهارًا في محل الإضمار، زيادة في البيان، "مع أمة(7/436)
مع أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
وهذا يعارضه قوله تعالى: {يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} [آل عمران: 43] ، المفسر بأمرت بالصلاة في الجماعة بذكر أركانها مبالغة في المحافظة عليها.
قالوا: وقدم السجود قبل الركوع إما لكونه كذلك في شريعتهم، أو للتنبيه على أن "الواو" لا توجب الترتيب.
وقيل: المراد بالقنوت إدامة الطاعة، لقوله تعالى: {أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا} [الزمر: 9] وبالسجود الصلاة والركوع الخشوع والإخبات الخضوع.
ومنها الصفوف في الصلاة، كصفوف الملائكة.
__________
محمد صلى الله عليه وسلم" إذ لو كان في صلاتهم لم يحسن أمرهم به مع قوله قبله: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} الآية، "وهذا يعارضه قوله تعالى: {يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} الآية، المفسر" صفة، أي: إنما يعارضه على تفسيره "بأمرت بالصلاة في الجماعة، بذكر أركانها" من سجود وركوع "مبالغة في المحافظة عليها" ومريم من بني إسرائيل، فهو ظاهر في أن الركوع ليس من خواص هذه الأمة، "قالوا: وقدم السجود على الركوع، إما لكونه كذلك في شريعتهم" أي: بني إسرائيل، "أو للتنبيه على أن الواو لا توجب الترتيب" بل مجرد العطف، وكلا الجوابين تقوية للمعارضة لا دفع لها؛ كما هو ظاهر، وأجيب عن المعارضة بأن المراد به من مريم ليس كذلك، بدليل ما بعده على أن المعارضة إنما تتم لو كان المفسر بهذا هم الجماعة المتقدمون، أما إن كانوا غيرهم فلا، لأنه مقبل أولئك ومثبت الخصوصية معترف بذلك بقوله: ذكر جماعة من المفسرين.
"وقيل: المراد بالقنوت إدامة الطاعة لقوله تعالى: {أَمْ مَنْ} بتخفيف الميم {هُوَ قَانِتٌ} قائم بوظائف الطاعات {آَنَاءَ اللَّيْلِ} ساعاته {سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآَخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} الآية، أي: كمن هو عاص بالكفر وغيره، وفي قراءة: "أم من" بمعنى بل والهمزة، "وبالسجود الصلاة" تسمية للكل باسم البعض، "والركوع الخشوع" لا مقابل السجود، فلا معارضة على هذا التفسير أصلا، "والإخبات" عطف تفسير قال البيضاوي: {وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ} : اطمأنوا إليه وخشعوا له من الخبت، وهي الأرض المطمئنة.
"ومنها الصفوف في الصلاة كصفوف الملائكة" أي: التراص وإتمام الأول فالأول،(7/437)
رواه مسلم من حديث حذيفة.
ومنها تحية الإسلام لحديث عائشة السابق.
__________
وكانت الأمم السابقة يصلون منفردين، وكل واحد على حدة، قال بعضهم: وحكمة الأمر بتسوية الصفوف، أن المصلين دعوا إلى حالة واحدة مع الحق، وهي الصلاة، فساوى في هذه الدعوة بين عباده، فلتكن صفتهم فيها إذا أقبلوا إلى ما دعاهم إليه تسوية الصفوف لأن الداعي إنما دعاهم ليناجيهم من حيث أنهم جماعة على السواء، لا يختص واحد عنهم دون آخر، فلا يتأخر واحد عن الصف، ولا يتقدم بشيء من بدنه يؤدي إلى اعوجاجه.
وقال ابن العربي: شرعت الصفوف في الصلاة ليتذكر الإنسان بها وقوعه بين يدي الله يوم القيامة في ذلك المواطن المهول، والشفعاء من الأنبياء والملائكة والمؤمنين بمنزلة الأئمة في الصلاة يتقدمون الصفوف، وصفوفهم في الصلاة كصفوف الملائكة عند ربها، وقد أمرنا بذلك، وإن كانت الملائكة لا يلزم من خلل صفوفها لو اتفق أن يدخلها خلل كصفوفنا، إذ السماء ليست محلا لدخول الشياطين، وإنما تتراص الملائكة لتناسب الأنوار حتى يتصل بعضها ببعض، فتتنزل متصلة إلى صفوف المصلين، فتعمهم تلك الأنوار، فإن كان فيها خلل ودخلت فيه الشياطين أحرقتهم تلك الأنوار، "رواه مسلم من حديث حذيفة" بن اليمان عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "فضلنا على الناس بثلاث، جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة" ... الحديث، وتقدم بتمامه أول مبحث الخصائص، فيستحب انضمام بعض المصلين إلى بعض، بحيث لا يبقى بينهم فرجة ولا خلل، كأنهم بنيان مرصوص، فإن الشيطان إبليس، أو أعم إذا رأى فرجة دخلها، كما في الحديث.
وقال صلى الله عليه وسلم: "من وصل صفًا وصله الله، ومن قطع صفًا قطعه الله". رواه النسائي، وصححه الحاكم على شرط مسلم، أي: وصله برحمته، ورفع درجته، وقطعه بإبعاده عن ذلك وعن الثواب، فالجزاء من جنس العمل.
"ومنها تحية الإسلام" أي: السلام عند التلاقي؛ لأنه فتح باب المودة وتأليف للقلوب، مؤد لكمال الإيمان، وفي مسلم عن أبي هريرة، مرفوعًا: "لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا، ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم، أفشوا السلام بينكم". "لحديث عائشة السابق" قريبًا عن النبي صلى الله عليه وسلم: "ما حسدتنا اليهود على شيء ما حسدتنا على السلام والتأمين" ففيه أنه شرع لنا دونهم، وفي مسلم عن أبي ذر في قصة إسلامه: وكنت أول من حياه بتحية الإسلام، فقال: "وعليك السلام ورحمة الله". للطبراني والبيهقي عن أبي أمامة، رفعه: "إن الله جعل السلام تحية لأهل ملتنا، وأمانا لأهل ذمتنا"، ولأبي داود عن عمران بن حصين: كنا نقول(7/438)
ومنها الجمعة، قال صلى الله عليه وسلم: "نحن الآخرون السابقون يوم القيامة، بيد
__________
في الجاهلية أنعم الله بك عينًا وأنعم صباحًا، فلما جاء الإسلام نهينا عن ذلك. ورجاله ثقات، لكنه منقطع.
وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل بن حبان، قال: كانوا يقولون في الجاهلية: حييت مساء، حييت صباحًا، فغير الله ذلك بالسلام، ففي هذا كله أنه خاص بهذه الأمة دون من تقدمهم، لكن عورض بحديث الصحيحين عن أبي هريرة رفعه: "خلق الله آدم على صورته، وطوله ستون ذراعًا، ثم قال له: اذهب، فسلم على أولئك النفر من الملائكة، فاسمع ما يحيونك فإنها تحيتك وتحية ذريتك، فذهب فقال: السلام عليكم، فقالوا: السلام عليك ورحمة الله فزادوه ورحمة الله". الحديث.
قال القرطبي: فيه دليل على تأكيد السلام، وأنه من الشرائع القديمة التي كلف بها آدم، ثم لم ينسخ في شريعة، انتهى، وجمع بأن المراد بالذرية بعضهم، وهم المسلمون، أو المراد تحية ذريته من جهة الشرع، وكلاهما تعسف، وقد ذكر المعارضة في الفتح وما تنزل للجمع.
"ومنها الجمعة" بضم الميم على المشهور، وقد تسكن، وقرأ بها الأعمش، وحكى الواحدي عن الفراء فتحها، وحكى الزجاج الكسر أيضًا، سمي بذلك مع الاتفاق على أنه كان يسمى في الجاهلية العروبة، بفتح المهمة، وضم الراء، وبالموحدة، لأن خلق آدم جمع فيه أصح الأقوال.
قال صلى الله عليه وسلم: "نحن الآخرون" زمانًا، "السابقون" أي: الأولون منزلة "يوم القيامة" والمراد أن هذه الأمة وإن تأخر وجودها في الدنيا عن الأمم الماضية، فهي سابقة لهم في الآخرة؛ بأنهم أول من يحشر، وأول من يحاسب، وأول من يقضى بينهم، وأول من يدخل الجنة.
وفي حديث حذيفة عند مسلم: "نحن الآخرون من أهل الدنيا، والأولون يوم القيامة، المقضي لهم قبل الخلائق". وقيل: المراد بالسبق هنا فضيلة، اليوم السابق بالفضل وهو يوم الجمعة، وإن سبق بسبب قبله، لكن لا يتصور اجتماع الأيام الثلاثة متوالية إلا ويكون يوم الجمعة سابقًا، وقيل: المراد بالسبق إلى القبول والطاعة التي حرمها أهل الكتاب، فقالوا: سمعنا وعصينا. قال الحافظ: والأول أقوى.
"بيد" بموحدة، فتحتية ساكنة مثل غير وزنًا ومعنى، وبه جزم خليل والكسائي، ورجحه ابن سيدة، وقال الشافعي: معنى بيد من أجل، واستبعده عياض، ولا بعد فيه، إذ المعنى إنا سبقنا بالفضل، مع تأخرنا في الزمان، بسبب أنهم ضلوا عنها مع تقدمهم، ويشهد له ما وقع في فوائد ابن المقري بلفظ نحن الآخرون في الدنيا، ونحن أول من يدخل الجنة، لأنهم أتوا الكتاب من قبلنا.(7/439)
أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا، ثم هذا يومهم الذي فرض الله عليهم فاختلفوا فيه
__________
وفي الموطأ رواية سعيد بن عقير عن مالك، بلفظ: "ذلك أنهم أوتوا الكتاب"، وقال الداودي: هي بمعنى على أو مع، قال القرطبي: إن كانت بمعنى غير، فنصب على الاستثناء، وإن كانت بمعنى مع فنصب على الظرف، وقال الطبري: هي للاستثناء، وهو من تأكيد المدح بما يشبه الذم، والمعنى: نحن السابقون للفضل، غير "أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا" أي: التوراة والإنجيل، فاللام للجنس، قال: ووجه التأكيد فيه ما أدمج فيه من معنى النسخ، لأن الناسخ هو السابق في الفضل وإن تأخر في الوجود، وبهذا التقرير يظهر قوله: نحن الآخرون مع كونه أمرًا واضحًا.
وقال القرطبي: المراد بالكتاب التوراة، وفيه نظر لقوله: وأوتينا من بعدهم، فأعاد الضمير على الكتاب، فلو كان المراد التوراة لما صح الإخبار، ولأنا إنما أوتينا القرآن، وسقط من الأصل، وأوتيناه من بعدهم، وهي ثانية في رواية أبي زرعة الدمشقي عن أبي اليمان، شيخ البخاري، فيه أخرجه الطبراني في مسند الشاميين، وكذا مسلم من طريق ابن عيينة عن أبي الزناد، وذكره البخاري تامًا بعد أبواب من وجه آخر، عن أبي هريرة: "ثم هذا يومهم الذي فرض الله عليهم" كذا للحموي، ورواه الأكثر بإسقاط الجلالة، أي: فرض تعظيمه، وأشير إليه بهذا، لكونه ذكر في أول الكلام عند مسلم من طريق آخر عن أبي هريرة، ومن حديث حذيفة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أضل الله عن الجمعة من كان قبلنا".
قال ابن بطال: ليس المراد أن يوم الجمعة فرض عليهم بعينه، فتركوه لأنه لا يجوز لأحد ترك ما فرض عليه وهو مؤمن، وإنما يدل، والله أعلم, أنه فرض عليهم يوم من الجمعة، وكل إلى اختيارهم ليقيموا فيه شريعتهم فاختلفوا في أي الأيام هو، ولم يهتدوا ليوم الجمعة، ومال عياض إلى هذا، ورشحه بأنه فرض عليهم بعينه، لقيل: فخالفوا بدل "فاختلفوا فيه" وقال النووي: يمكن أنهم أمروا به صريحًا، فاختلفوا هل يلزم بعينه، أم يسوغ إبداله بيوم آخر، فاجتهدوا في ذلك، فأخطئوا انتهى، ويشهد له ما رواه الطبري بإسناد صحيح، عن مجاهد في قوله تعالى: {إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ} الآية، قال: أرادوا الجمعة فأخطئوا وأخذوا السبت مكانه ويحتمل أن يراد بالاختلاف اختلاف اليهود والنصارى في ذلك، وقد روى ابن أبي حاتم عن السدي التصريح بأنه فرض عليهم يوم الجمعة بعينه فأبوا، ولفظه: أن الله فرض على اليهود الجمعة فأبوا، وقالوا: يا موسى إن الله لم يخلق يوم السبت شيئًا فاجعله لنا، فجعل عليهم، وليس ذلك بعجيب من مخالفتهم، كما وقع لهم في قوله تعالى: {ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ} الآية، وغير ذلك، وكيف لا وهم القائلون: سمعنا وعصينا، قاله في فتح الباري.
قال المصنف: ويشهد له بقوله: هذا يومهم الذي فرض عليهم، فإنه ظاهر، أو نص في(7/440)
فهدانا الله له، فالناس لنا فيه تبع، اليهود غدًا والنصارى بعد غد"
__________
التعيين، وذكر أبو عبد الله الأبي عن بعض الآثار، أن موسى عين لهم يوم الجمعة، وأخبرهم بفضله، فناظروه بأن السبت أفضل، فأوحى الله: "دعهم وما اختاروا"، أي: بأن قالوا هو يوم فراغ وقطع عمل، فإن الله فرغ من خلق السماوات والأرض، فينبغي انقطاعنا عن العمل فيه للتعبد، قالت النصارى: الأحد لأنه يوم الخلق الموجب الشكر والتعبد، ووفق الله هذه الأمة للصواب، فعينوا الجمعة، لأن الله خلق الإنسان للعبادة، وكان خلقه يومها، فالعبادة فيه أحق، لأنه أوجد سائر الأيام ما ينفع الإنسان، وفي الجمعة أوجد نفس الإنسان، فالشكر على نعمة الوجود، "فهدانا الله له" بالنص عليه، أو بالاجتهاد، ويشهد للثاني ما رواه عبد الرزاق بإسناد صحيح، عن محمد بن سيرين قال: جمع أهل المدينة قبل أن يقدمها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقبل أن ينزل الجمعة، فقالت الأنصار: إن لليهود يومًا يجتمعون فيه كل سبعة أيام وللنصارى مثل في ذلك، فهلم، فلنجعل يومًا نجتمع فيه، فنذكر الله، ونصلي ونشكره، فجعلوه يوم العروبة، واجتمعوا إلى أسعد بن زرارة، فصلى بهم يومئذ، وأنزل الله بعد ذلك: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ} [الجمعة: 9] الآية، وهذا وإن كان مرسلا، فله بإسناد حسن أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه، وصححه ابن خزيمة، وغير واحد من حديث كعب بن مالك، قال: كان أول من صلى بنا الجمعة قبل مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أسعد بن زرارة ... الحديث، فمرسل ابن سيرين يدل على أن أولئك الصحابة اختاروا يوم الجمعة بالاجتهاد، ولا يمنع ذلك أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم علمه بالوحي، وهو بمكة، فلم يتمكن من إقامتها، ثم وقد ورد فيه حديث ابن عباس عند الدارقطني، ولذا جمع بهم أول ما قدم المدينة، كما حكاه ابن إسحاق وغيره.
وعلى هذا فقد حصلت الهداية للجمعة بجهتي البيان والتوفيق، وقيل: في حكمة اختيارهم الجمعة وقوع خلق آدم فيه، والإنسان إنما خلق للعبادة، فناسب الاشتغال بها، ولأن الله أكمل في الموجودات وأوجد فيه الإنسان الذي ينتفع بها، فناسب أن يشكر على ذلك بالعبادة، ذكره الحافظ.
"فالناس لنا فيه تبع اليهود غدًا" أي: السبت، "والنصارى بعد غد" أي: الأحد, وفي رواية ابن خزيمة: "فهو لنا، ولليهود يوم السبت، وللنصارى يوم الأحد". والمعنى: أنه لنا بهداية الله، ولهم باختيارهم، وخطئهم في اجتهادهم.
قال القرطبي: غدا منصوب على الظرف، متعلق بمحذوف، تقديره اليهود يعظمون غدًا، وكذا قوله بعد غد، ولا بد من هذا التقدير، لأن ظرف الزمان لا يكون خبرًا من الجنة، وقال: ابن مالك: الأصل أن يكون المخبر عنه بظرف الزمان من أسماء المعاني، كقولك: غدًا التأهب، وبعد غد الرحيل، فيقدر هنا مضافان، يكون ظرفا الزمان خبرين عنهما، أي: تبعية اليهود غدًا، وتبعية النصارى بعد غد. انتهى.(7/441)
رواه البخاري.
ومنها ساعة الإجابة التي في الجمعة، واختلف في تعيينها على أقوال تزيد على الثلاثين
__________
قال الحافظ: وسبقه إلى نحو ذلك عياض وهو أوجه من كلام القرطبي، وفيه فرضية الجمعة، كما قال النووي لقوله: فرض عليهم، فهدانا الله له، فإن التقدير فرض عليهم وعلينا، فضلوا وهدينا، وفي رواية لمسلم، بلفظ: كتب علينا، وفيه إن الهداية والإضلال من الله، كما هو قول أهل السنة، وإن سلامة الإجماع من الخطأ، مخصوص بهذه الأمة، وإن استنباط معنى من الأصل يعود عليه بالإبطال باطل، وإن القياس مع وجود النص فاسد، وإن الاجتهاد في زمن الوحي جائز، وإن الجمعة أول الأسبوع شرعًا، ويدل عليه تسمية الأسبوع كله: جمعة، وكانوا يسمون الأسبوع: سبتًا، كما في حديث أنس في الاستسقاء: فمطرنا سبتًا، وذلك أنهم كانوا مجاورين لليهود، فتبعوهم في ذلك، وفيه بيان واضح لمزيد فضل هذه الأمة على الأمم السالفة، زادها الله تعالى. انتهى. "رواه البخاري" ومسلم، والنسائي عن أبي هريرة.
"ومنها: ساعة الإجابة التي في" يوم "الجمعة" المشار إليها بحديث الصحيحين، من طريق مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر يوم الجمعة، فقال: "فيها ساعة لا يوافقها مسلم، وهو قائم يصلي يسأل الله تعالى فيها شيئًا إلا أعطاه إياه". وأشار بيده يقللها، وقوله: شيئًا، أي: مما يليق بالمسلم سؤاله من ربه.
وفي رواية لمسلم، كالبخاري في الطلاق: "يسأل الله خيرًا"، وفي ابن ماجه من حديث أبي لبابة: "ما لم يسأل حرامًا"، ولأحمد عن سعد بن عبادة: "ما لم يسأل إثمًا أو قطيعة رحم"، وهو خاص على عام للاهتمام به، فقطيعة الرحم من الإثم.
وروى البزار وأبو يعلى، عن أنس مرفوعًا: "أتاني جبريل في يده مرآة بيضاء، فيها نكتة سوداء، قلت: ما هذه؟ قال: الجمعة فرضها عليك ربك لتكون لك عيدًا ولقومك؟ قلت: ما هذه النكتة السوداء؟ قال: هذه الساعة". وحقيقة الساعة هنا جزء من الزمان مخصوص ويطل على جزء من اثني عشر من مجموع النهار أو على جزء ما غير مقدر من الزمان، فلا يتحقق أو على الوقت الحاضر.
وفي حديث جابر مرفوعًا عند أبي داود وغيره بإسناد حسن ما يدل للأول، ولفظه: "يوم الجمعة ثنتا عشرة ساعة فيها ساعة" ... إلى آخره، قال ابن المنير: الإشارة إلى تقليلها للترغيب فيها والحض عليها ليسارة وقتها وغزارة فضلها.
"واختلف في تعيينها على أقوال تزيد على الثلاثين" وقال غيره: على نحو خمسين(7/442)
ذكرتها في "لوامع الأنوار في الأدعية والأذكار".
__________
قولا، "ذكرتها في لوامع الأنوار"، اسم كتاب للمصنف "في الأدعية والأذكار"، وقد سردها في فتح الباري ثنتين وأربعين قولا، هل رفعت، وكذب أبو هريرة قائله: أو في جمعة واحدة من كل سنة أو مخفية في جميع اليوم، أو تنتقل يوم الجمعة، ولا تلزم ساعة: لا ظاهرة ولا مخفية، أو عند أذان الغداة، أو من الفجر إلى طلوع الشمس، أو منه كذلك، ومن العصر للغروب، أو في هذين الوقتين، وما بين النزول من المنبر حتى يكبر، أو أول ساعة بعد طلوع الشمس، أو عند طلوعها، أو آخر الساعة الثالثة من النهار، أو الزوال، حتى يصير الظل نصف ذراع، أو كذلك حتى يصير ذراعًا، أو بعد الزوال بقليل إلى ذراع، أو إذا زالت الشمس، أو إذا أذن المؤذن للجمعة، أو من الزوال حتى يدخل الرجل في الصلاة, أو منه حتى يخرج الإمام، أو منه إلى الغروب، أو ما بين خروج الإمام إلى أن تقام الصلاة، أو عند خروجه، أو ما بين خروجه إلى انقضاء الصلاة، أو ما بين حرمة البيع وحله، أو ما بين الأذان إلى انقضاء الصلاة، أو ما بين أن يجلس الإمام على المنبر إلى أن تنقضي الصلاة، ويمكن اتحاد هذا القول مع اللذين قبله، أو عند التأذين، وعند تذكير الإمام، وعند الإقامة، أو إذا أذن وإذا رقى، وإذا أقيمت وهذا مثل ما قبله، أو إذا أخذ الخطيب في الخطبة، أو عند الجلوس بين الخطبتين، أو عند نزوله من المنبر، أو حين الإقامة حتى يقوم الإمام في مقامه، أو من إقامة الصف إلى تمام الصلاة، أو هي الساعة التي كان عليه السلام يصلي فيها الجمعة، ومغايرته لما قبله من جهة إطلاقه وتقييد هذا، أو من صلاة العصر إلى الغروب، أو في صلاة العصر أو بعده لآخر وقت الاختيار، أو بعده مطلقًا، أو من وسط النهار إلى قرب آخره، أو من الصفرة للغروب، أو آخر ساعة بعد العصر، أو من حين يغيب نصف قرص الشمس، أو تدليها للغروب إلى تكامل غروبها، وبسط الكلام عليها بأدلتها، مع بيان الصحة، أو الضعف، أو الرفع، أو الوقوف، والإشارة إلى مأخذ بعضها بما يصلح أنه تأليف مفرد.
قال: وليست كلها متغايرة، بل كثير منها يمكن اتحاده مع غيره، ثم نقل ابن المنير الجمع، بأن ساعة الإجابة واحدة منها لا بعينها، فيصادفها المجتهد في الدعاء في جميعها، وليس المراد من أكثرها، أنها تستوعب جميع الوقت الذي عين، بل إنها تكون في أثنائه؛ لقوله: يقللها.
وقوله في رواية أخرى: "وهي ساعة خفيفة"، وفائدة ذكر الوقت؛ أنها تنتقل فيه، فيكون ابتداء مظنتها ابتداء الخطبة مثلا، وانتهاؤه انتهاء الصلاة، وكان كثيرًا من القائلين عين ما اتفق له وقوعه فيها من ساعة في أثناء وقت من الأوقات، فبهذا التقريب يقل الانتشار جدًا، ولا شك أن أرجح الأقوال حديث أبي موسى، وحديث عبد الله بن سلام، وما عداهما إما ضعيف الإسناد، أو موقوف، استند قائله إلى اجتهاد دون توقيف، ولا يعارضهما حديث أبي سعيد؛ أنه صلى الله عليه وسلم أنسيها بعد أن علمها؛ لاحتمال أنهما سمعا ذلك منه قبل أن ينسى، أشار إليه البيهقي وغيره.(7/443)
......................................
__________
فأما حديث أبي موسى، فروى مسلم، وأبو داود، عن أبي موسى: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "هي ما بين أن يجلس الإمام على المنبر إلى أن تنقضي الصلاة".
وأما حديث ابن سلام، فروى الإمام مالك، وأصحاب السنن، وابن خزيمة، وابن حبان، عن أبي هريرة، أنه قال لعبد الله بن سلام، أخبرني، ولا تضن عليّ، فقال عبد الله بن سلام: "هي آخر ساعة من يوم الجمعة" قال أبو هريرة: قلت: كيف تكون آخر ساعة، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "لا يصادفها عبد مسلم وهو يصلي"، وتلك ساعة لا يصلى فيها، فقال ابن سلام: ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من جلس مجلسًا ينتظر الصلاة فهو في صلاة حتى يصلي"، قال أبو هريرة: فقلت: بلى، قال: هو ذلك. ولذا استشكل قوله في حديث أبي هريرة السابق وهو قائم، وكان ابن وضاح يأمر بطرحه لأنه لو كان ثابتًا عند أبي هريرة لاحتج به على ابن سلام، ولم يعارضه بأنها ليست ساعة صلاة، وقد ورد النص على الصلاة، وأجابه بالنص الآخر؛ أن منتظر الصلاة في حكم المصلي، وسلم له أبو هريرة الجواب، وارتضاه وأفتى به بعده، وأجيب بحمل الصلاة على الدعاء، أو الانتظار وحمل القيام على الملازمة، أو المواظبة، ولفظ: "وهو قائم"، ثابت عند أكثر رواة الموطأ، وهي زيادة محفوظة عن أبي الزناد من رواية مالك وورقاء وغيرهما عنه.
واختلف السلف في أي الحديثين أرجح، فقال مسلم: حديث أبي موسى أجد شيء من هذا الباب وأصحه، وبذلك قال البيهقي وابن العربي وجماعة، وقال القرطبي: هو نص في موضع الخلاف، فلا يلتفت إلى غيره.
وقال النووي: هو الصحيح، بل الصواب، وجزم في الروضة، بأنه الصواب، ورجح أيضًا بكونه مرفوعًا صريحًا، وفي أحد الصحيحين، ورجح آخرون قول ابن سلام كإسحاق بن راهويه وأحمد، فقال: أكثر الأحاديث عليه. وقال ابن عبد البر: إنه أثبت شيء في هذا الباب.
وروى سعيد بن منصور، بإسناد صحيح، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن: أن ناسًا من الصحابة اجتمعوا، فتذاكروا ساعة الجمعة ثم افترقوا فلم يختلفوا أنها آخر ساعة من يوم الجمعة.
وحكى العلائي أن شيخه ابن الزملكاني كان يختاره، ويحكيه عن نص الشافعي، وأجابوا بأن الترجيح بما في الصحيحين، أو أحدهما إنما هو حيث لا يكون مما انتقده الحفاظ؛ كحديث أبي موسى هذا؛ فإنه أعل بالانقطاع والاضطراب، وبينهما بما يطول، ثم قال: واختار صاحب الهدى انحصارها في أحد الوقتين المذكورين، وأن أحدهما لا يعارض الآخر؛ لاحتمال أنه صلى الله عليه وسلم دل على أحدهما في وقت، وعلى الآخر في وقت آخر، وهذا كقول ابن عبد البر: الذي ينبغي الاجتهاد في الدعاء في الوقتين المذكورين، وسبق إلى نحو ذلك الإمام أحمد، وهو أولى في طريق الجمع.(7/444)
ومنها: أنه إذا كان أول ليلة من شهر رمضان نظر الله تعالى إليهم، ومن نظر إليه لم يعذبه، أبدًا، وتزين الجنة فيه، وخلوف أفواه الصائمين.
__________
وقال ابن المنير: إذا علم أن فائدة إبهام هذه الساعة كليلة القدر بعث الدواعي على الإكثار من الصلاة والدعاء، ولو بين لاتكل الناس على ذلك وتركوا ما عداها، فالعجب بعد ذلك ممن يجتهد في طلب تحديدها، انتهى.
وقال السيوطي: هنا أمر، وهو أن ما أورده أبو هريرة على ابن سلام وارد على حديث أبي موسى أيضًا لأن حال الخطبة ليست ساعة صلاة، ويتميز ما بعد العصر، بأنها ساعة دعاء، وقد قال: "يسأل الله شيئًا"، وليس حال الخطبة ساعة دعاء لأنه مأمور فيها بالإنصات، وكذا غالب الصلاة، ووقت الدعاء منها إما عند الإقامة، أو في السجود أو التشهد، فإن حمل الحديث على هذه الأوقات اتضح، ويحمل قوله: وهو قائم يصلي على حقيقته في هذين الموضعين، وعلى مجازه في الإقامة، أي: قائم يريد الصلاة، وهذا تحقيق حسن, فتح الله به، وبه يظهر ترجيح رواية أبي موسى على قول ابن سلام لإبقاء الحديث على ظاهره من قوله: يصلي ويسأل، فإنه أولى من حمله على انتظار الصلاة؛ لأنه مجاز بعيد، ويوهم أن انتظار الصلاة شرط في الإجابة، ولأنه لا يقال في منتظر الصلاة قائم يصلي، وإن صدق أنه في صلاة، لأن لفظ قائم يشعر بملامسة الفعل، انتهى.
وفي الفتح: فإن قيل ظاهر الحديث حصول الإجابة لكل داع بالشرط المتقدم مع اختلاف الزمان باختلاف البلاد والمصلي، فيتقدم بعض على بعض، وساعة الإجابة متعلقة بالوقت، فكيف تتفق مع الاختلاف؟ أجيب: باحتمال أن ساعة الإجاب متعلقة بفعل كل مصل، كما قيل نظيره في ساعة الكراهة، ولعل هذه فائدة جعل الوقت الممتد مظنة لها، وإن كانت هي خفيفة، ويحتمل أنه عبر عن الوقت بالفعل، فيكون التقدير وقت جواز الخطبة أو الصلاة ونحو ذلك، قال: وقول صاحبنا العلامة شمس الدين الجزري في الحصن الحصين: وأذن لي في روايته عنه: الذي أعتقده أنها وقت قراءة الفاتحة في صلاة الجمعة، إلى أن يقول آمين، جمعًا بين الأحاديث التي صحت، يخدش فيه أنه يفوت على الداعي حينئذ الإنصات لقراءة الإمام. انتهى.
"ومنها: إذا كان أول ليلة من شهر رمضان نظر الله تعالى إليهم" أي: الأمة المحمدية نظر رحمة وغفران، "ومن نظر إليه" كذلك "لم يعذبه أبدًا" لأن الكريم لا يرجع فيما أعطى، ولا أكرم منه سبحانه، "وتتزين الجنة فيه" تبشيرًا للصائمين، فإذا علموا ذلك بخبر الصادق، زاد نشاذهم، وتلقوه بمزيد القبول والمحبة، وإعلامًا للملائكة، أنه بمنزلة عظيمة عند الله، "وخلوف" بضم الخاء وفتحها خطأ، وقيل: لغة قليلة، أي: تغير ريح "أفواه الصائمين" لخلو معدتهم عن(7/445)
أطيب عند الله من ريح المسك، وتستغفر لهم الملائكة في كل يوم وليلة حتى يفطروا، وإذا كان آخر ليلة غفر لهم جميعًا. رواه البيهقي بإسناد لا بأس به.
__________
الطعام، "أطيب عند الله" أي: في الآخرة؛ كما جزم به العز بن عبد السلام؛ لأن في رواية لمسلم يوم القيامة، أو في الدنيا والآخرة معًا، كما جزم به ابن الصلاح لأن رواية ابن حبان: "لخلوف فم الصائم حين يخلف أطيب عند الله" وروى الحسن بن سفيان من حديث جابر: "أعطيت أمتي في شهر رمضان خمسًا"، قال: "وأما الثانية فإنهم يمسون، وخلوف أفواههم أطيب عند الله من ريح المسك"، فكل واحد من الحديثين صريح في أنه وقت وجود الخلوف في الدنيا، يتحقق وصفه بذلك، قال: وقد ذكر العلماء شرقًا وغربًا معنى ما ذكرته، ولم يذكر أحد تخصيصه بالآخرة، بل جزموا بأنه عبارة عن الرضا والقبول ونحوهما مما هو ثابت في الدارين، وأما ذكر يوم القيامة في رواية مسلم، فلأنه يوم الجزاء، وفيه يظهر رجحان الخلوف في الميزان على المسك المستعمل لدفع الرائحة الكريهة، طلبًا لرضا الله حيث يؤمر باجتنابها، واجتلاب الرائحة الطيبة للمساجد والصلوات وغيرها من العبادات، فخص يوم القيامة بالذكر في تلك الرواية لذلك؛ كما خص في قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ} الآية، وأطلق في باقي الروايات نظرًا إلى أن أصل أفضليته ثابت في الدارين، "من ريح المسك" اختلف في معناه؛ لأنه تعالى منزه عن استطابة الروائح، فقال الماوردي: هو مجاز؛ أنه جرت العادة بتقريب الروائح الطيبة لنا، فاستعير ذلك لتقريب الصوم من الله، فالمعنى أنه أطيب عند الله من ريح المسك عندكم، أي: أنه يقرب إليه أكثر من تقريب المسك إليكم.
وقيل: إن ذلك في حق الملائكة, إنهم يستطيبون ريح الخلوف أكثر مما يستطيبون ريح المسك.
وقيل: المعنى أن الله يجزيه في الآخرة بكونه نكهته أطيب من المسك كما يأتي المكلوم، وريح جرحه يفوح مسكًا.
وقيل: المعنى أن الخلوف أكثر ثوابًا من المسك المطلوب في الجمع والأعياد، ومجالس الذكر والخير، وصححه النووي.
ونقل القاضي حسين في تعليقه: إن للطاعات يوم القيامة ريحًا يفوح، قال: فرائحة الصيام فيها بين العبادات كالمسك، "وتستغفر لهم" أي: للصائمين "الملائكة في كل يوم وليلة حتى يفطروا" حين انقضاء الشهر، "وإذا كان آخر ليلة غفر لهم جميعًا".
وزاد في رواية للبيهقي، وأحمد والبزار: قيل: يا رسول الله! هي ليلة القدر، قال: "لا، ولكن العامل إنما يوفى أجره عند انقضاء عمله". "رواه البيهقي بإسناد لا بأس به" أي: مقبول عن(7/446)
بلفظ: "أعطيت أمتي في شهر رمضان خمسًا لم يعطهن نبي قبلي ... وتستغفر لهم الحيتان حتى يفطروا". رواه البزار. "وتصفد مردة الشياطين" رواه أحمد والبزار.
__________
جابر، "بلفظ" إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أعطيت أمتي في شهر رمضان خمسًا لم يعطهن نبي قبلي أما واحدة؛ فإنه إذا كان أول ليلة من شهر رمضان نظر الله إليهم، ومن نظر إليه لم يعذبه أبدًا، وأما الثانية: فإن خلوف أفوافهم حين يمسون أطيب عند الله من ريح المسك، وأما الثالثة: فإن الملائكة تستغفر لهم في كل يوم وليلة، وأما الرابعة: فإن الله عز وجل يأمر جنته، فيقول لها: استعدي، وتزيني لعبادي، أوشك أن يستريحوا من تعب الدنيا إلى داري وكرامتي، وأما الخامسة: فإنه إذا كان آخر ليلة غفر لهم جميعًا". فقال رجل من القوم: أهي ليلة القدر؟ قال: "لا، ألم تر العمال يعملون، فإذا فرغوا من أعمالهم وفوا أجورهم". وهذا لفظ رواية البيهقي.
وأخرجه الحسن بن سفيان من حديث جابر أيضًا، وحسنه أبو بكر بن السمعاني في أماليه، وتبعه ابن الصلاح، وله شاهد بنحوه من حديث أبي هريرة، رواه أحمد والبزار والبيهقي، "وتستغفر لهم الحيتان حتى يفطروا". رواه البزار, وأحمد، والبيهقي من حديث أبي هريرة المذكور، ورواه أبو الشيخ بلفظ: الملائكة بدل الحيتان، "وتصفد" تشد وتربط بالأصفاد، وهي القيود "مردة الشياطين" أي: عتاتهم، وفي حديث ابن عباس عند البيهقي: "ويقول الله: يا جبريل اهبط إلى الأرض فاصفد مردة الشياطين وغلهم بالأغلال، ثم اقذفهم في البحار حتى لا يفسدوا على أمة محمد صيامهم". "رواه أحمد والبزار" من حديث أبي هريرة، فزيادة: "فلا يخلصوا فيه إلى ما كانوا يخلصون إليه في غيره". وفي الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "إذا دخل رمضان فتحت أبواب الجنة، وغلقت أبواب النار، وصفدت الشياطين".
قال القاضي عياض: يحتمل أنه على ظاهره وحقيقته، وذلك علامة للملائكة بدخول الشهر وتعظيمه، والتصفيد ليمنعوا من إيذاء المؤمنين والتهويش عليهم، ويحتمل أنه مجاز عن كثرة الثواب والعفو، وأن الشياطين يقل إغواؤهم وإيذاؤهم، فيصيرون كالمصفدين، ويكون تصفيدهم عن أشياء لناس دون ناس، ويحتمل أن فتح أبواب الجنة عبارة عما يفتحه الله لعباده من الطاعات في هذا الشهر التي لا تقع في غيره عمومًا؛ كالصيام والقيام، وفعل الخيرات، والانكفاف عن كثير من المخالفات، وهذه أسباب لدخول الجنة وأبواب لها، وكذا تغليق أبواب النار، وتصفيد الشياطين عبارة عما ينكفون عنه من المخالفات، ومعنى صفدت: غلت، والصفد، بفتح الفاء الغل، انتهى.
ونقله النووي، ولم يزد عليه، ورجح ابن المنير الأول، وقال: لا ضرورة تدعو إلى صرف(7/447)
ومنها السحور، وتعجيل الفطر، رواه الشيخان
__________
اللفظ عن ظاهره، وكذا رجحه القرطبي، وقال: فإن قيل: فكيف ترى الشرور والمعاصي واقعة في رمضان كثيرًا، فلو صفدت لم يقع ذلك، فالجواب إنها إنما تغل عن الصائمين الصوم الذي حوفظ على شروطه، وروعيت آدابه، والمصفد بعض الشياطين، وهو المردة لا كلهم؛ كما في رواية الترمذي وغيره مردة الجن، والمقصود تقليل الشرور فيه، وهذا أمر محسوس؛ فإن وقوع ذلك فيه أقل من غيره إذ لا يلزم من تصفيد جميعهم أن لا يقع شر ولا معصية؛ لأن لذلك أسبابًا غير الشياطين، كالنفوس الخبيثة والعادات القبيحة، والشياطين الإنسية.
وقال الحليمي: يحتمل أن المراد بالشياطين مسترقوا السمع منهم؛ لأنهم كانوا منعوا في زمن نزول القرآن من استراق السمع، فزيدوا التسلسل في رمضان مبالغة في الحفظ.
وقال الطيبي: فائدة تفتيح أبواب الجنة توقيف الملائكة على استحماد فعل الصائمين، وأنه من الله بمنزلة عظيمة، وإذا علم المكلف ذلك بإخبار الصادق، زاد في نشاطه، وتلقاه بأريحية.
"ومنها: السحور" بفتح السين وضمها، ويحصل بأقل ما يتناوله المرء من مأكول أو مشروب؛ كما في الفتح وغيره، "وتعجيل الفطر" عند تحقق الغروب، وما يفعله الفلكيون من التمكين بعد الغروب بدرجة، فمخالف للسنة، فلذا قل الخير، قاله المصنف.
"رواه الشيخان" عن سهل بن سعد؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يزال الناس بخير ما علوا الفطر" زاد أبو داود، وابن ماجه، وغيرهم من حديث أبي هريرة: "لأن اليهود والنصارى يؤخرون". ولابن حبان، والحاكم من حديث سهل: "لا تزال أمتي على سنتي ما لم تنتظر بفطرها النجوم". وليس في رواية الشيخين تصريح، بأنه من خصوصياتنا، إنما هو في غيرهما كما رأيت.
وأما السحور، فروى مسلم عن عمرو بن العاصي، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحور". وفصل، بصاد مهملة، وقراءته بمعجمة تصحيف، ولم يخرجه البخاري، نعم رويا معًا أنس، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "تسحروا فإن في السحور بركة" , وهذا لا تصريح فيه بالخصوصية.
قال في الفتح: بفتح السين وضمها روايتان لأن المراد بالبركة الأجر والثواب، فيناسب الضم لأنه مصدر بمعنى التسحر أو البركة، كونه يقوى على الصوم وينشط له، ويخفف مشقته، فيناسب الفتح لأنه ما يتسحر به، وقيل: البركة ما تضمنه من الاستيقاظ والدعاء في السحر، والأولى أنها تحصل بجهات متعددة: اتباع السنة، ومخالفة أهل الكتاب، والتقوي على العبادة، والزيادة في النشاط، والتسبب بالصدقة على من يسأل إذ ذاك، أو يجتمع معه على الأكل، والتسبب للذكر والدعاء ومظنة الإجابة، وتدارك نية الصوم لمن أغفلها قبل أن ينام، ووقع لبعض(7/448)
وإباحة الأكل والشرب والجماع ليلا إلى الفجر، وكان محرمًا على من قبلنا بعد النوم، وكذا في صدر الإسلام ثم نسخ.
__________
المتصوفة: أن حكمة الصوم كسر شهوة البطن والفرج: والسحور قد يباين ذلك.
قال ابن دقيق العيد: والصواب أن من زاد قدره حتى تعدم هذه الحكمة بالكلية لا يستحب، كتأنق المترفين في المآكل، وكثرة الاستعداد لها، وما عداه تختلف مراتبه، انتهى، وقيل: المراد بالبركة نفي التبعية.
روى البزار والطبراني عن ابن عباس مرفوعًا: "ثلاثة ليس عليهم حساب فيما طعموا إن شاء الله إذا كان حلالا: الصائم، والمتسحر، والمرابط في سبيل الله". وذكره في الفردوس، بلفظ: "ثلاثة لا يحاسب عليها العبد: أكلة السحور، وما أفطر عليه، وما أكل مع الإخوان". وقيل: يبارك في قليله، بحيث يعين على الصوم، فروى ابن عدي: "تسحروا ولو بشربة من ماء"، وللطبراني: "ولو بتمرة، ولو بحبات من زبيب" هذا والخصوصيتان للأمة على الأمم، لا على الأنبياء؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "إنا معاشر الأنياء أمرنا أن نعجل إفطارنا ونؤخر سحورنا، ونضع أيماننا على شمائلنا في الصلاة". رواه الطيالسي بإسناد صحيح.
"وإباحة الأكل والشرب والجماع" للصائم "ليلا" ولو نام "إلى الفجر" كما قال تعالى {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ} الآية، "وكان محرمًا على من قبلنا بعد النوم، وكذا كان" محرمًا علينا "في صدر الإسلام، ثم نسخ" روى البخاري عن البراء: كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان الرجل صائمًا، فحضر، فنام قبل أن يفطر، لم يأكل ليلته ولا يومه حتى يمسي، وأن قيس بن صرمة الأنصاري، كان صائمًا، فلما حضر الإفطار أتى امرأته، فقال: هل عندك طعام؟ فقالت: لا، ولكن أنطلق فأطلب لك، وكان يومه يعمل، فغلبته عينه، وجاءت امرأته، فلما رأته قالت: خيبة لك، فلما انتصف النهار غشي عليه، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} الآية، ففرحوا بها فرحًا شديدًا، {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ} [البقرة: 187] .
وأخرج أحمد وابن جرير عن كعب بن مالك، قال: كان الناس في رمضان إذا صام الرجل، فأمسى فنام، حرم عليه الطعام والشراب والنساء، حتى يفطر من الغد، فرجع عمر من عند النبي صلى الله عليه وسلم وقد سمر عنده، فأراد امرأته، فقالت: إني قد نمت، قال: وأنا ما نمت ووقع عليها، وصنع كعب بن مالك مثل ذلك، فغدا عمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فنزلت الآية.
وروى البخاري عن البراء: لما نزل صوم شهر رمضان كانوا لا يقربون النساء رمضان كله، فكان رجال يخونون أنفسهم، فأنزل الله: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ} [البقرة: 187] الآية.(7/449)
ومنها: ليلة القدر، كما قاله النووي في شرح المهذب.
وهل صيام رمضان من خصائص هذه الأمة أم لا؟ إن قلنا إن التشبيه الذي دلت عليه كاف "كما" في قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة: 183] على حقيقته فيكون رمضان كتب على من قبلنا.
وذكر ابن أبي حاتم عن ابن عمر رفعه: "صيام رمضان كتبه الله على الأمم قبلكم". وفي إسناده مجهول.
وإن قلنا المراد مطلق الصيام دون قدره ووقته فيكون التشبيه واقعًا على مطلق الصوم، وهو قول الجمهور.
__________
وروى الباري عن سهل بن سعد، قال: نزلت {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ} الآية، ولم ينزل من الفجر، فكان رجال إذا أرادوا الصوم، ربط أحدهم في رجله الخيط الأبيض والخيط الأسود، فلا يزال يأكل ويشرب حتى يتبين له رؤيتهما، فأنزل الله بعد: {مِنَ الْفَجْرِ} ، فعلموا إنما يعني الليل والنهار.
"ومنها: ليلة القدر" لخبر الديلمي عن أنس، مرفوعًا: "إن الله وهب لأمتي ليلة القدر، ولم يعطها من كان قبلهم". "كما قاله النووي في شرح المهذب" وعبارته: "ليلة القدر مختصة بهذه الأمة، لم تكن لمن قبلنا"، هذا هو الصحيح المشهور الذي قطع به أصحابنا كلهم، وجمهور العلماء، قال الحافظ: وجزم به ابن حبيب من المالكية وسبقهم كلهم الحكيم الترمذي فجزم بذلك، "وهل صيام رمضان من خصائص هذه الأة" كما ذهب إليه الجمهور، منهم معاذ، وابن مسعود، وجماعة من الصحابة والتابعين، والحجة لهم قوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله افترض صوم رمضان، وسننت لكم قيامه" رواه النسائي والبيهقي بإسناد حسن، عن عبد الرحمن بن عوف، فهو ظاهر في الاختصاص "أم لا؟ " كما ذهب إليه جمع، منهم الحسن والشعبي.
"إن قلنا: إن التشبيه الذي دلت عليه" لفظة، "كما في قوله تعالى: {كُتِبَ} فرض {عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} الآية، على حقيقته" أي: تشبيهًا تامًا، "فيكون رمضان كتب على من قبلنا" من جميع الأمم، وعن السدي هم النصارى كتب عليهم رمضان، "وذكر" أي روى ابن أبي حاتم عن ابن عمر، رفعه: "صيام رمضان كتبه الله على الأمم قبلكم". فهذا يؤيد تمام التشبيه، ويرد على السدي تخصيصهم بالنصارى، "و" لكن "في إسناده مجهول" فهو ضعيف، لكن له شاهد في الترمذي.
"وإن قلنا: المراد مطلق الصيام دون قدره ووقته" وهو شهر رمضان، "فيكون التشبيه واقعًا على مطلق الصوم" فلا ينافي اختصاصنا برمضان، "وهو قول الجمهور" من الصحابة(7/450)
ومنها أن لهم الاسترجاع عند المصيبة، قال سعيد بن جبير فيما رواه ابن جرير والبيهقي وغيرهما عنه: لقد أعطيت هذه الأمة عند المصيبة ما لم يعط الأنبياء عليهم السلام مثله: إنا لله وإنا إليه راجعون. ولو أعطيت الأنبياء لأعطيه يعقوب عليه السلام إذ قال: {يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ} [يوسف: 84] .
ومنها: أن الله تعالى رفع عنهم الإصر الذي كان على الأمم قبلهم، قال تعالى:
__________
والتابعين وغيرهم.
قال الزمخشري: وبالجملة، فالصوم عبادة أصلية قديمة، ما أخلى الله أمة من افتراضه عليهم.
"ومنها: أن لهم الاسترجاع عند المصيبة" لقوله صلى الله عليه وسلم: "أعطيت أمتي شيئا لم يعطه أحد من الأمم أن يقولوا عند المصيبة: إنا لله وإنا إليه راجعون"، رواه الطبراني وابن مردويه عن ابن عباس.
"قال سعيد بن جبير، فيما رواه ابن جرير، والبيهقي، وغيرهما عنه: "لقد أعطيت هذه الأمة"، أي: أمة الإجابة أن يقول المصاب منهم "عند المصيبة"، أي مصيبة كانت، لقوله صلى الله عليه وسلم: "كل شيء ساء المؤمن فهو مصيبة"، رواه ابن السني، "ما لم يعط الأنبياء عليهم السلام مثله" وهو "إنا لله" ملكا وعبدا يفعل بنا ما شاء، "وإنا إليه راجعون" في الآخرة فيجاز بنا.
وروى أبو داود في مراسيله: إن مصباح النبي صلى الله عليه وسلم طفئ، فاسترجع، فقالت عائشة: إنما هذا مصباح، فقال: "كل ما ساء المؤمن فهو مصيبة".
وفي الحديث: "من استرجع عند المصيبة، آجره الله فيها، وأخلف عليه خيرا". وظاهره أن المأمور به مرة واحدة فورا، وذلك في الموت عند الصدمة الأولى، وخير إذا ذكرها، ولو بعد أربعين عاما، فاسترجع، كان له أجرها يوم وقوعها، كما ورد؛ لأنه زيادة فضل، لا ينافي الطلب بفور وقوع المصيبة.
"ولو أعطبت الأنبياء لأعطيه يعقوب عليه السلام، إذ قال: {يَا أَسَفَى} " الألف بدل من ياء الإضافة، أي: يا حزني {عَلَى يُوسُفَ} وهذا ظاهر في أنه من خصوصيات هذه الأمة، حتى على الأنبياء، إذ قوله: "لقد أعطيت"، لا دخل للرأي فيه، فلا يكون إلا عن بلاغ.
وأما: ولو أعطيت ... إلخ، فإن كان من البلاغ فواضح، وإن كان استنبطه، فهو استظهار وتقوية لسابقه ببعض أفراده، فلا يقال: لا يلزم منه أنه لم يشرع لغيره من الأنبياء.
"ومنها: أن الله تعالى رفع عنهم الإصر" الأمر الذي يثقل حمله عليهم، أي: لم يوجبه عليهم، ولم يجعله من شرعهم، لا أنه جعله عليهم، ثم رفعه "الذي كان على الأمم قبلهم" أي: على بعضهم، وهم بنو إسرائيل؛ كما "قال تعالى": {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي(7/451)
{وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: 157] ، أي: ويخفف عنهم ما كلفوا به من التكاليف الشاقة، وقطع كتعيين القصاص في العمد والخطأ وقطع الأعضاء الخاطئة، وقطع موضع النجاسة، وقتل النفس في التوبة.
__________
يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، ويحل لهم الطيبات، ويحرم عليهم الخبائث، {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ} ثقلهم، {وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} فأتى بالآية دليلا على أن من قبلهم كان عليهم الإصر، فالوضع عن بني إسرائيل الذين آمنوا بالمصطفى حقيقي، وبه يستدل على رفعه عن الأمة بطريق الأولى، بمعنى أنه لم يوضع عليهم بدليل: {رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} الآية، "أي: ويخفف عنهم ما كلفوا به من التكاليف الشاقة" فالأغلال استعارة شبه الأمور الشاقة التي كلفوا بها بالأغلال التي تجعل في الأعناق: جمع غل، وهو طوق حديد.
وعن عطاء: كانت بنو إسرائيل إذا قاموا يصلون، لبسوا المسوح، وغلوا أيديهم إلى أعناقهم، وربما نقب الرجل ترقوته وجعل فيها طرف السلسلة، وأوثقها إلى السارية، يحبس نفسه على العبادة "كتعيين القصاص في العمد والخطأ" لخبر البخاري: كان في بني إسرائيل القصاص، أي: تحتمه حتى في الخطأ، ولم تكن فيهم الدية في نفس أو جرح؛ وذلك قوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا} [المائدة: 45] الآية، فهو شرع اليهود.
أما النصارى، فيتعين عندهم العفو عن القود، والمراد بالخطأ العمد، وهو أن يقصد شيئا، فيخالف لغيره ما قصد، لا ضد الصواب؛ كما زعم، لأن تعمد الإثم يسمى خطأ بالمعنى الثاني، ولا يمكن إرادته هنا.
"وقطع الأعضاء الخاطئة" كاللسان في الكذب، والذكر في الزنى، وفقء العين في النظر للأجنبية، "وقطع موضع النجاسة" أخرج البخاري عن أبي وائل، قال: كان أبو موسى يشدد في البول، ويبول في قارورة، ويقول: إن بني إسرائيل كان إذا أصاب ثوب أحدهم قرضه، فقال حذيفة: ليته أمسك ... الحديث، أي: قطعه.
قال الحافظ: ووقع في مسلم جلد أحدهم، قال القرطبي: مراده الجلد، واحد الجلود التي كانوا يلبسونها، وحمله بعضهم على ظاهره، وزعم أنه من الإصر الذي حملوه، ويؤيده رواية أبي داود: كان إذا أصاب أحدهم، لكن رواية البخاري صريحة في الثياب, فلعل بعضهم رواه بالمعنى، انتهى.
"وقتل النفس في التوبة" كما قال تعالى: {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} الآية، قال الجلال: أي ليقتل البريء منهم المجرم، فأرسل سحابة سوداء لئلا يبصر بعضهم بعضًا، فيرحمه، حتى قتل منهم نحو سبعين ألفًا.(7/452)
وقد كان الرجل من بني إسرائيل يذنب الذنب فيصبح قد كتب على باب بيته: إن كفارته أن تنزع عينيك فينزعهما.
وأصل الإصر: الثقل الذي يأصر صاحبه، أي يحبسه من الحراك لثقله.
ومنها أن الله تعالى أحل لهم كثيرًا مما شدد على من قبلهم، ولم يجعل عليهم في الدين من حرج، قال تعالى:
__________
وروى ابن أبي حاتم عن علي، قال الذين عبدوا العجل: يا موسى ما توبتنا؟ قال: يقتل بعضكم بعضًا، فأخذوا السكاكين، فجعل الرجل يقتل أباه وأمه وأخاه، حتى قتل سبعون ألفًا، فأوحى الله إليه، فليرفعوا أيديهم فقد غفر لهم.
وروى من طرق نحوه عن ابن عباس وغيره، وقول البيضاوي: أو المراد بالقتل قطع الشهوات؛ كما قيل: من لم يعذب نفسه لم ينعمها، ومن لم يقتلها لم يحيها.
قال السيوطي: هذا ذكره بعض أرباب الخواطر، قال جماعة: ولا يجوز أن يفسر به بإجماع المفسرين على أن المراد القتل الحقيقي، انتهى. وفي الجليل استبعده جماعة بإجماع المفسرين على أن المراد القتل الحقيقي؛ بأن يسلم من عبد العجل نفسه للبريء ليقتلها، فلا يرد عليه قول بعضهم: أجمع المفسرون على أنهم ما قتلوا أنفسهم بأيديهم، إذ لو كانوا مأمورين بذلك؛ لصاروا عصاة بتركه، "وقد كان الرجل من بني إسرائيل يذنب الذنب، فيصبح قد كتب على باب بيته إن كفارته أن تنزع عينيك فينزعهما" وروى ابن جرير مرفوعًا: "كان بنو إسرائيل إذا أصاب أحدهم الخطيئة وجدها مكتوبة على بابه وكفارتها، فإن كفرها كانت له خزيًا في الدنيا، وإلا كانت له خزيًا في الآخرة، "وقد أعطاكم الله خيرًا من ذلك ومن يعمل سوءًا أو يظلم نفسه"، وروى البيهقي مرفوعًا: "كان بنو إسرائيل إذا أذنب أحدهم ذنبًا، أصبح وقد كتبت كفارته على أسكفة بابه، وجعلت كفارة ذنوبكم قولا تقولونه، تستغفرون، الله فيغفر لكم".
"وأصل الإصر الثقل" بكسر المثلثة، وفتح القاف، وتسكن للتخفيف ضد الخفة، وأما واحد الأثقال، فبالسكون، كحمل وأحمال والثقل، بفتحتين متاع المسافر وحشمه، أو مطلق المتاع "الذي يأصر"، بكسر الصاد "صاحبه أي: يحبسه من الحراك" بفتح أوله وثانيه، "لثقله"، فلا يقدر على التحرك.
"ومنها: إن الله تعالى أحل لهم كثيرًا مما شدد على من قبلهم" يريد الله بكم اليسر، ولا يريد بكم العسر، وقال صلى الله عليه وسلم: "إن الله رضي لهذه الأمة اليسر، وكره لها العسر"، رواه الطبراني برجال الصحيح، "ولم يجعل عليهم في الدين من حرج" بل سهله، "قال تعالى" {هُوَ(7/453)
{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] أي: ضيق بتكليف ما اشتد القيام به عليهم، إشارة إلى أنه لا مانع لهم عنه ولا عذر لهم في تركه، يعني من لم يستطع أن يصلي قائمًا فليصل قاعدًا، وأباح للصائم الفطر في السفر، والقصر فيه.
وقيل ذلك بأن جعل لهم من كل ذنب مخرجًا، وفتح لهم باب التوبة، وشرع لهم الكفارات في حقوقه، والأروش والديات في حقوق العباد. قاله البيضاوي.
وروى عن ابن عباس أنه قال: الحرج ما كان على بني إسرائيل من الإصر والشدائد، وضعه الله عن هذه الأمة.
__________
اجتباكم {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} الآية.
روى أحمد عن حذيفة: سجد صلى الله عليه وسلم، فلم يرفع رأسه حتى ظننا أن نفسه قبضت، فلما فرغ، قال: "ربي استشارني" الحديث، وفيه: "وأحل لنا كثيرًا مما شدد على من قبلنا، ولم يجعل علينا في الدين من حرج، فلم أجد شكرًا إلا هذه السجدة"، "أي: ضيق بتكليف ما اشتد القيام به عليهم، إشارة إلى أنه لا مانع لهم عنه، ولا عذر لهم في تركه" لعدم مشقة فعله عليهم، "يعني: من لم يستطع أن يصلي قائمًا، فليصل قاعدًا" ومن لا فمضطجعًا على ما بين في الفروع، "وأباح للصائم الفطر في السفر" وإن كان الصوم أفضل، "والقصر فيه" للصلاة، وجعله أفضل من الإتمام، بل ذهب الحنفية إلى أنه عزيمة، فلا يجوز الإتمام.
زاد البيضاوي: أو إلى الرخصة في إغفال بعض ما أمرهم به حيث شق عليهم؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم"، "وقيل ذلك"، أي: معنى الآية "بأن جعل لهم من كل ذنب مخرجًا" بأن رخص لهم في المضائق، هكذا في البيضاوي قبل قوله: "وفتح لهم باب التوبة، وشرع لهم الكفارات في حقوقه" كالحنث في اليمين به، "والأروش والديات في حقوق العباد" دون تعين القود، "قاله البياوي" في تفسير الآية.
"وروي" عند ابن أبي حاتم، "عن ابن عباس، أنه" قيل له: أما علينا في الدين من حرج في أن نسرق أو نزني؟ قال: "بلى"، قيل: فما جعل عليكم في الدين من حرج؟ "قال: الحرج ما كان على بني إسرائيل من الإصر والشدائد، وضعه الله عن هذه الأمة" بمعنى أنه لم يجعله عليهم، قال تعالى: {وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} الآية، قال البيضاوي: حملا مثل حملك إياه من قبلنا، أو مثل الذي حملته إياهم، فيكون صفة لإصرًا،(7/454)
وعن كعب، أعطى الله هذه الأمة ثلاثًا لم يعطهن إلا الأنبياء: جعلهم شهداء على الناس، وما جعل عليهم في الدين من حرج، وقال: ادعوني أستجب لكم.
ومنها: إن الله تعالى رفع عنهم المؤاخذة بالخطأ.
__________
أو المراد به ما كلف به بني إسرائيل من قتل الأنفس، وقطع موضع النجاسة، وخمسين صلاة في اليوم والليلة، وصرف ربع المال للزكاة، أو ما أصابهم من الشدائد والمحن.
قال السيوطي: قول خمسين صلاة غلط، فلم يفرض على بني إسرائيل خمسون صلاة قط، بل ولا خمس صلوات، ولم تجتمع الخمس إلا لهذه الأمة، وإنما فرض على بني إسرائيل صلاتان فقط؛ كما في الحديث.
وقال شيخ الإسلام: نسب التكليف بها إلى بني إسرائيل لم يفرض عليهم خمسون، بل ولا خمس صلوات، مع أن من حفظ حجة على من لم يحفظ؛ كذا قال وفيه ما لا يخفى، فكون المراد من بني إسرائيل اليهود، لا يدفع الرد بأن الخمسين لم تفرض عليهم، فليس ملحظ الرد إبهامه أنها فرضت على جميع بني إسرائيل، مع أنها إنما فرضت على اليهود منهم، فيجاب، بأنهم المراد من بني إسرائيل، وكون من حفظ حجة لا يجدي هنا؛ لأن النافي صحبه دليل نفيه، وهو قوله: كما في الحديث، يشير إلى ما في حديث المعراج في مراجعة موسى لنبينا، وفيه ما لفظه: فإنه فرض على بني إسرائيل صلاتان، فما قاموا بهما، أخرجه النسائي من حديث أنس.
"وعن كعب: أعطى الله هذه الأمة ثلاثًا" لفظه ثلاث خصال، "لم يعطهن إلا الأنبياء، كان النبي يقال له: بلغ، ولا حرج، وأنت شهيد على أمتك، وادع أجبك، "جعلهم شهداء على الناس" يوم القيامة، بأن رسلهم بلغتهم، "وما جعل عليهم في الدين من حرج" بل سهله، وقال صلى الله عليه وسلم: "خير دينكم أيسره"، أي: ما لا مشقة فيه ولا إصر، لكن بعضه أيسر من بعض، فأمر بعدم التعمق فيه، فإنه لن يغالبه أحد إلا غلبه، وجاءت الأنبياء السابقة بتكاليف، وآصار بعضها أغلظ من بعض، "وقال: ادعوني" اسألوني "أستجب لكم" دعاءكم، وقيل: المعنى اعبدوني أثبكم بقرينة، {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} الآية، وأجاب من فسر الدعاء بالسؤال، بأن الاستكبار الصارف عنه منزل منزلته للمبالغة، أو المراد بالعبادة الدعاء؛ لأنه من أبوابها.
أخرج الفريابي عن كعب: أعطيت هذه الأمة ثلاث خصال لم يعطهن الأنبياء، كان النبي يقال له: بلغ ولا حرج، وأنت شهيد على أمتك، وادع أجبك، وقال لهذه الأمة: {مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} ، {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} ، {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} الآية، فاقتصر المصنف على حاجته منه.
"ومنها: إن الله تعالى رفع عنهم المؤاخذة بالخطأ" أي: إثمه لا حكمه، إذ حكمه من(7/455)
والنسيان، وما استكرهوا عليه، وحديث النفس، وقد كان بنو إسرائيل إذا نسوا شيئًا مما أمروا أو أخطئوا في شيء عجلت لهم العقوبة، فحرم عليهم شيء من مطعم أو مشرب على حسب ذلك الذنب.
وقد قال صلى الله عليه وسلم: "إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه".
__________
الضمان لا يرتفع، أو عن حكمه على القول الثاني أو عنهما، قيل: وهو أقرب لعموم التناول وعدم المرجح، ولا ينافيه ضمان المال والدية، ونحوهما لخروجه بدليل منفصل، "والنسيان" بالكسر ضد الذكر والحفظ، ويطلق على الترك، وليس بمراد هنا، "وما استكرهوا عليه" أي: حملوا على فعله قهرًا، وخص بغير الزنا، وقتل المسلم وقطعه، فلا يبيح ذلك الإكراه، "وحديث النفس" رفع عن هذه الأمة المؤاخذة به، أي: ما يقع في قلوبهم من القبائح ظهرًا؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم به أو تعمل"، رواه الشيخان.
روى أحمد، ومسلم، وغيرهما، عن أبي هريرة قال: لما نزلت {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} الآية، اشتد ذلك على الصحابة، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجثوا على الركب، وقالوا: قد أنزل عليك هذه الآية ولا نطيقها، فقال: "أتريدون أن تقولوا، كما قال أهل الكتابين من قبلكم سمعنا وعصينا، بل قولوا سمعنا وأطعنا، غفرانك ربنا وإليك المصير" فلما اقترأها القوم، وذلت بها ألسنتهم، أنزل الله في أثرها {آمَنَ الرَّسُولُ} الآية، فلما فعلوا ذلك نسخها الله، فأنزل {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} الآية، إلى آخرها.
وروى مسلم وغيره عن ابن عباس نحوه، وعند الفريابي عن محمد بن كعب، قال: ما بعث من نبي، ولا أرسل من رسول، أنزل عليه الكتاب إلا أنزل عليه هذه الآية: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} الآية، فكانت الأمم تأتي على أنبيائهم ورسلهم ويقولون: نؤاخذ بما تحدث به أنفسنا، ولم تعمل جوارحنا، فيكفرون ويضلون، فلما نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم اشتد على المسلمين ما اشتد على الأمم قبلهم، فقالوا: أنؤاخذ بما تحدث به أنفسنا ولم تعمل جوارحنا، قال: "نعم، فاسمعوا وأطيعوا" فذلك قوله تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ} [البقرة: 285] الآية، فرفع الله عنهم حديث النفس إلا ما عملت الجوارح، "وقد كان بنو إسرائيل إذا نسوا شيئًا مما أمروا به أو أخطئوا في شيء، عجلت لهم العقوبة، فحرم عليهم شيء من مطعم أو مشرب" عقوبة من الله لهم "على حسب ذلك الذنب" من كبر وصغر، "وقد قال صلى الله عليه وسلم: "إن الله وضع"، وفي رواية: رفع "عن أمتي" أمة الإجابة، فقوله: أمتي دليل على أن ذلك كان على من قبلهم "الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه" حديث جليل، قال بعض العلماء: ينبغي أن(7/456)
رواه أحمد وابن حبان والحاكم وابن ماجه.
ومنها أن الإسلام وصف خاص بهم، لا يشركهم فيه غيرهم إلا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، لقوله تعالى: {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا} [الحج: 78] {وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3] إذ لو لم يكن خاصًا بهم لم يكن في الامتنان عليهم بذلك فائدة.
__________
يعد نصف الإسلام؛ لأن الفعل إما عن قصد واختيار أولا، الثاني: ما يقع عن خطأ، أو نسيان، أو إكراه, وهذا القسم معفو عنه اتفاقًا، وإنما اختلف هل المعفو عنه الإثم أو الحكم، أو هما معًا؟ وهو ظاهر الحديث وما خرج عنه، كضمان الدم الخطأ وإتلاف المال خطأ ونحوهما، فبدليل منفصل، وفيه: "إن طلاق المكره لا يقع"، "رواه أحمد، وابن حبان، والحاكم، وابن ماجه" والطبراني، والدارقطني، بأسانيد جيدة، وفي بعضها كلام لا يضر، كما بينه النور الهيثمي، وتليمذه الحافظ، وحسنه النووي في الروضة، وأخرجه الطبراني عن ثوبان، بلفظ: "رفع عن أمتي" ... إلخ، وخفي على الكمال بن الهمام، فقال: هذا الحديث يذكره الفقهاء بهذا اللفظ، ولا يوجد شيء من كتب الحديث، كذا قال والكمال لله.
قال البيضاوي: ومفهوم الخبر أن الخطأ والنسيان كان مؤاخذًا بهما أولًا، أي: في الأمم السابقة ولا يمتنع ذلك عقلًا، فإن الذنوب كالسموم، فكما أن تناولها يؤدي إلى الهلاك، وإن كان خطأ، فتعاطي الذنوب لا يبعد أن يفضي إلى العقاب، وإن لم يكن عزيمة؛ لكنه تعالى وعدنا التجاوز عنه رحمة وفضلا، ومن ثم أمر الإنسان بالدعاء، استدامة واعتدادًا بالنعمة.
"ومنها: أن الإسلام وصف خاص بهم، ولا يشركهم فيه غيرهم إلا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام" كما ذهب إليه جمع من العلماء، فشرفت هذه الأمة بأن وصفت بالوصف الذي كان يوصف به الأنبياء، تكريمًا لها؛ "لقوله تعالى": {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ} الآية في أم الكتاب، وهو اللوح المحفوظ، وفي التوراة والإنجيل وسائر كتبه على أن ضمير هو عائد لله؛ كما قاله جمع من المفسرين، كابن عباس ومجاهد عند ابن المنذر، وعلى بن زيد عند ابن أبي حاتم، وكذا روى عن قتادة وابن عيينة ومقاتل، قالوا: {وَفِي هَذَا} ، يعني القرآن، وأيد بأنه قرئ "الله سماكم المسلمين" الآية، فلو لو يكن ذلك خاصًا به، كالذي ذكر قبله لم يكن لتخصيصه بالذكر، ولا لاقترانه بما قبله معنى، وهذا ما فهمه السلف من الآية، ولقوله تعالى: {وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3] الآية، فإنه ظاهر في الاختصاص، "إذ لو لم يكن خاصا بهم لم يكن في الامتنان عليهم بذلك فائدة" لأنه لو(7/457)
وقد يجاب: بأن رضي الإسلام دينًا لهم، وتسميه إبراهيم إياها بذلك، لا ينفي اتصاف غيرهم بذلك. وفائدة ذلك: الإعلام بالإنعام عليهم بما أنعم به على غيرهم من الفضائل.
وقيل: لا يختص بهم، بل يطلق على غيرهم أيضًا، وهو اسم لكل دين حق لغة وشرعًا. كما أجاب به ابن الصلاح لقوله تعالى: حكاية عن وصية يعقوب {فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 132] {فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الذاريات: 36] .
__________
رضيه لغيرهم ما حسن الامتنان به عليهم ولا تقديم لكم، "وقد يجاب بأن رضا الإسلام دينًا لهم" في هذه الآية، "وتسمية إبراهيم إياها بذلك" في الآية التي ساقها قبلها؛ بناء على أن الضمير لإبراهيم؛ لأنه أقرب مذكور، كما قاله جماعة، كابن زيد في أحد قوليه، قال: وهو إبراهيم ألا ترى إلى قوله: {مِنْ ذُرِّيَّتِنَا} الآية، {أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ} ، "لا ينفي اتصاف غيرهم بذلك" الوصف، "وفائدة ذلك" أي: الامتنان على هذه الأمة مع الاشتراك "الإعلام بالإنعام عليم بما أنعم به على غيرهم من الفضائل" ودفع السيوطي هذا الجواب بأنه جهل بقواعد المعاني؛ فإن تقديم "لكم" يستلزمه؛ كما قال صاحب الكشاف في قوله تعالى: {وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} الآية، أن تقديم "هم" تعريض بأهل الكتاب؛ وأنهم لا يوقنون بالآخرة، وكما قال الأصفهاني في قوله: {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} الآية، أن تقديم "هم" يفيد أن غيرهم يخرجون منها، وهم الموحدون.
"وقيل: لا يختص بهم، بل يطلق على غيرهم أيضًا، وهو اسم لكل دين حق لغة وشرعًا، كما أجاب به ابن الصلاح؛ لقوله تعالى حكاية عن وصية يعقوب" {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} الآية.
قال السيوطي: هذا من قول إبراهيم ويعقوب لبنيهما، وفي بني كل الأنبياء، فلا يحسن الاستدلال به على غيرهم، مع أنه لا يلزم منه طرده في أمة موسى وعيسى، لما علم أن ملة إبراهيم تسمى الإسلام، وبها بعث النبي صلى الله عليه وسلم، وكان أولاد إبراهيم ويعقوب، عليها فصح أن يخاطبوا بذلك، ولا يتعدى إلى من ملته اليهودية والنصرانية، قال: وأما قوله تعالى حكاية عن أولاد يعقوب: {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} الآية، فجوابه أن ذلك إما على سبيل التبعية له إن لم يكونوا أنبياء، مع أن فيهم يوسف وهو نبي قطعًا، فلعله هو الذي تولى الجواب، وأخبر عن نفسه بالإصابة، وأدرج أخوته معه تغليبًا، وإن كانوا أنبياء كلهم، فلا إشكال من أدلة العموم قوله: {فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} وأجاب عنه السيوطي بما حققه صاحب القول الراجح:(7/458)
إلى غير ذلك. ولأن الإيمان أخص من الإسلام، كما هو مذهب كثير من العلماء، وليس خاصًا بهذه الأمة، بل يوصف به كل من دخل في شريعة مقرًا بالله وبأنبيائه.
__________
أن هذا الوصف يطلق على الأنبياء والبيت المذكور بيت لوط، ولم يكن فيه مسلم إلا هو وبناته، وهو نبي فصح إطلاقه عليه بالأصالة، وعلى بناته بالتغليب أو على التبعية، إذ لا مانع أن تختص أولاد الأنبياء بخصائص لا يشاركهم فيها بقية الأمة، كما اختصت فاطمة؛ بأنه لا يتزوج عليها وأخوها إبراهيم بأنه لو عاش لكان نبيًا، وذكر أمورًا استظهارًا على ذا الجواب "إلى غير ذلك" كقوله تعالى: {وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ} الآية، وأجاب السيوطي بحمله على التغليب؛ لأنه خاطبهم وفيهم هارون ويوشع، وهما نبيان، فأدرج بقية القوم في الوصف تغليبًا، أو يحمل على أالمراد: إن كنتم متقادين لي فيما آمركم به، قال: والتحقيق الذي قامت عليه الأدلة ما رجحناه من الخصوصية بالنسبة إلى الأمم، وأن كل ما ورد من إطلاق ذلك فيمن تقدم فإنما أطلق على نبي، أو ولده تبعًا، أو جماعة فيهم نبي غلب لشرفه، ومن ذلك قوله تعالى: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آَمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ} الآية، فإن الحواريين فيهم أنبياء منهم الثلاثة المذكورون في قوله تعالى: {إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ، إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ} الآية، نص العلماء على أنهم من حواري عيسى، وأحد قولي العلماء، أن الثلاثة أنبياء، ويرشحه ذكر الوحي إليهم؛ "ولأن الإيمان" لكونه التصديق القلبي "أخص من الإسلام" لأنه الانقياد للأحكام المأمور بها، فإن صحبه تصديق قلبي فمسلم فقط تجري عليه أحكام الدنيا، ولا ينفعه ذلك عند الله، "كما هو مذهب كثير من العلماء، وليس خاصًا بهذه الأمة بل يوصف به" أي: بالإيمان "كل من دخل في شريعة مقرًا بالله تعالى وبأنبيائه كما قاله الراغب" فقياس الوصف بالأخص الوصف بالأعم، وجوابه أنه قياس في معرض النصوص الظاهرة بخلافه، فلا يعتبر. وقد حكى السيوطي القولين في تأليف سماه إتمام النعمة، ورجح القول بالاختصاص، وذكر له ثلاثة وعشرين دليلا، منها ما رواه ابن راهويه، وابن أبي شيبة عن مكحول: كان لعمر على رجل حق، فأتاه يطلبه، فقال عمر: لا والذي اصطفى محمدًا على البشر، لا أفارقك، فقال اليهودي: والله ما اصطفاه، فلطمه عمر، فأتى النبي فأخبره، فقال صلى الله عليه وسلم: "بل يا يهودي آدم صفي الله, وإبراهيم خليل الله، وموسى نجي الله، وعيسى روح الله، وأنا حبيب الله، بل يا يهودي تسمى الله باسمين سمى بهما أمتي هو السلام، وسمى أمتي المسلمين، وهو المؤمن, وسمي أمتي المؤمنين" الحديث، وهو صريح في اختصاصنا بوصف الإسلام، وإلا لم يحسن إيراده في معرض التفضيل، إذ كان اليهودي يقول: ونحن وسائر الأمم كذلك.(7/459)
كما قال الراغب.
__________
وأخرج البخاري في تاريخه، والنسائي، وابن مردويه، عن الحارث الأشعري، عن النبي صلى الله عليه وسلم: "من دعا بدعوى الجاهلية، فإنه من جثا جهنم" قال رجل: وإن صام وصلى، قال: "نعم، فادعوا الله بدعوة الله التي سماكم بها المسلمين والمؤمنين عباد الله". ولابن جرير عن قتادة: ذكر لنا أنه يمثل لأهل كل دين دينهم يوم القيامة، فأما الإيمان فيبشر أصحابه وأهله, ويعدهم الخير حتى يجيء الإسلام، فيقول: يا رب أنت السلام وأنا الإسلام، فصريحه اختصاص الإسلام بنا لفرقه بينه وبين الإيمان المتعلق بأهل الأديان، وقوله تعالى: {وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ} الآية، دليل على الخصوص، وإلا لقال: الكتابيون نحن مسلمون وديننا الإسلام، وذكر في آخره قول السبكي: القصد من تكثير الأدلة أن الآية الواحدة والآيتين قد يمكن تأويلها، ويتطرق لها الاحتمال، فإن كثرت قد تترقى إلى حد يقطع بإرادتها ظاهرًا، ونفي الاحتمال والتأويل، قال: ولذا ذكرت ثلاثة وعشرين دليلا؛ لأن كلا على انفراده يمكن تأويله، وتطرق الاحتمال، فلما كثرت غلب على الظن إرادة ظاهرها، ونفي الاحتمال والتأويل، وعبرت بغلب على الظن دون القطع، لأجل ما عارضها من الآيات التي استدل بها للقول الآخر.
ومنها: قوله: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ، وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ} الآية، والجواب أن مسلمين اسم فاعل مراد به الاستقبال على حقيقته، وهو الأصل لا الحال ولا الماضي الذي هو مجاز، والتقدير: إنا كنا من قبل مجيئه عازمين على الإسلام به إذا جاء لما كنا نجده في كتبنا، ويرشحه أن السياق يرشد إلى أن قصدهم الإخبار بحقية القرآن، وإنهم كانوا على قصد الأسلام به إذا جاء به صلى الله عليه وسلم لما عندهم من صفاته وقرب زمانه، وليس قصدهم الثناء على أنفسهم، بأنهم كانوا بصفة الإسلام؛ لأنه ينبو عنه المقام أو يقدر في الآية: {إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ} الآية، توصف الإسلام سببه القرآن لا التوراة والإنجيل ويرشحه ذكر الصلة في قوله: {قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ} الآية، فدل على أنها مراده في الثانية، وحذفت كراهة لتكرارها مرتين في آية واحدة لذكرها في قوله: {آمَنَّا بِهِ} الآية، أو وصفهم به من أول أمرهم اعتبارًا بما ختم لهم من الدخول في الإسلام؛ كقول الأشعري: من كتب الله أن يموت مؤمنًا، فيسمى عند الله مؤمنًا، ولو في حالة كفر سبقت منه، وكذا عكسه فإذا وصف الكافر حال كفره بالإيمان للخاتمة، فلأن يوصف بالإسلام من كان على دين حق لما قدر له من دخوله فيه من باب أولى، انتهى.
هذا ومن خصوصيات الإسلام، أنه يجب ما قبله، أي: يقطع، روى ابن سعد والطبراني،(7/460)
ومنها أن شريعتهم أكمل من جميع الشرائع المتقدمة، وهذا مما لا يحتاج إلى بيانه لوضوحه. وانظر إلى شريعة موسى عليه السلام, فقد كانت شريعة جلال وقهر، أمروا بقتل نفوسهم في التوبة، وحرمت عليهم الشحوم، وذوات الظفر وغيرها من الطيبات، وحرمت عليهم الغنائم وعجل لهم في العقوبات ما عجل، وحملوا من الآصار والأغلال.
__________
عن الزبير وجبير بن مطعم، مرفوعًا: "الإسلام يجب ما كان قبله" وفي رواية: يهدم، أي: من كفر وعصيان، وما يترتب عليهما من حقوق الله، أما حقوق عباده، فلا تسقط إجماعًا، ولو كان المسلم ذميًا والحق ماليًا، وظاهره أساء بعده أو أحسن، وأما خبر: "من أحسن في الإسلام لم يؤخذ بما عمل في الجاهلية، ومن أساء في الإسلام أخذ بالأول والآخر". رواه الشيخان، فوارد على نهج التحذير.
وروى مسلم عن عمرو بن العاصي، قلت: يا رسول الله تبايعني على أن تغفر لي، فقال: "أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها، وأن الحج يهدم ما كان قبله". ففيه أن كل واحد بمفرده يكفر ما قبله.
قال ابن تيمية: واختص صحبه صلى الله عليه وسلم باسم الأنصار والمهاجرين، فهما اسمان شرعيان جاء بهما الكتاب والسنة، وسماهما الله بهما، كما سماهم بالمسلمين.
"ومنها: أن شريعتهم أكمل من جميع الشرائع المتقدمة" لا زيادة تشديد فيها، فيصعب القيام بها، ولا زيادة تخفيف، بل على غاية الاعتدال وخير الأمور أوسطها، "وهذا مما لا يحتاج إلى بيانه لوضوحه" لأنك إذا تدبرت في أي حكم منها وجدته معتدلا، واستظهر على ذلك بقوله: "وانظر إلى شريعة موسى عليه السلام، فقد كانت شريعة جلال، وقهر أمروا بقتل نفوسهم في التوبة" وقد امتن الله علينا بعدم ذلك، وذكرنا بهذه النعمة في قوله: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ} الآية، أي: إنه رحمنا فلم يكتب علينا ذلك، كما كتبه على بني إسرائيل، "وحرمت عليهم الشحوم" وهي الثروب وشحم الكلى من البقر والغنم، إلا ما حملت على ظهورهما ... إلخ، "وذوات الظفر" وهو ما لم تفرق أصابعه كالإبل والنعام والطيور، "وغيرها من الطيبات" بعد حلها؛ كما قال تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} الآية، وقال تعالى: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ} ، أي: الإبل لما حصل له عرق النسا، بالفتح والقصر، فنذر إن شقي لا يأكلها، فحرم عليه، "وحرمت عليهم الغنائم" وعلى غيرهم سوانا، فجعلت لنا من أحل أموالنا، "وعجل لهم من العقوبات ما عجل" من عذاب وغيره، كعقابهم بتحريم ما كان لهم حلالا، "وحملوا من الآصار والأغلال" عطف تفسير، أي: التكاليف الشاقة، "ما لم يحمله(7/461)
ما لم يحمله غيرهم.
وكان موسى عليه السلام من أعظم خلق الله هيبة ووقارًا وأشدهم بأسًا وغضبًا لله، وبطشًا بأعداء الله، فكان لا يستطاع النظر إليه.
وعيسى عليه السلام كان في مظهر الجمال، وكانت شريعته شريعة فضل وإحسان، وكان لا يقاتل ولا يحاب، وليس في شريعته قتال ألبتة، والنصارى يحرم عليهم في دينهم القتال، وهم به عصاة، فإن الإنجيل يأمر فيه: من لطمك على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر، ومن نازعك ثوبك فأعطه رداءك، ومن سخرك ميلا فامش معه ميلين، ونحو هذا، وليس في شريعتهم مشقة ولا آصار ولا أغلال.
__________
غيرهم" بسبب ظلمهم، "وكان موسى عليه السلام من أعظم خلق الله هيبة ووقارًا" كسحاب رزانة، "وأشدهم بأسًا" شدة، "وغضبًا لله وبطشًا بأعداء الله، فكان لا يستطاع النظر إليه" لذلك، ونبينا صلى الله عليه وسلم: وإن كان أعظم في كل ذلك منه، لكنه كان يعامل أمته بالرفق واللين، فيقدمون عليه ويكلمونه، "وعيسى عليه السلام كان في مظهر" أي: محل ظهور "الجمال، وكانت شريعته شريعة فضل وإحسان" لا من كل وجه، بل فيها بعض تشديد، لكنها تخفيف بالنسبة لشريعة موسى؛ لقوله "وكان لا يقاتل ولا يحارب، وليس في شريعته قتال البتة، والنصارى يحرم عليهم في دينهم القتال وهم به عصاة" لحرمته عليهم، "فإن الإنجيل" كتابهم، "يأمر فيه" بقوله: "من لطمك" ضربك بكفه، مفتوحة، ويكون على الخد وعلى غيره من الجسد، ولذا قال: "على خدك الأيمن، فأدر له خدك الأيسر" إشارة إلى عدم الانتقام، "ومن نازعك ثوبك فأعطه رداءك، ومن سخرك ميلا فامش معه ميلين، ونحو هذا" مما كله كناية عن المساهلة مع الناس في الأخذ والعطاء والمعاشرة؛ كما يدل عليه سوقه في مقام تخفيف شرع عيسى، لا الأمر بشيء مما ذكر حقيقة، "وليس في شريعتهم مشقة، ولا آصار، ولا أغلال" تفسيري؛ كما في شرع موسى، فلا يخالف قول ابن الجوزي: بدء الشرائع كان على التخفيف، ولا يعرف في شرع صالح ونوح وإبراهيم تثقيل، ثم جاء موسى بالتشديد والأثقال، وجاء عيسى بنحوه، وجاءت شريعة نبينا بنسخ تشديد أهل اكتاب، ولا يطلق على تسهيل من كان قبلهم، فهي على غاية الاعتدال، فقوله: وجاء عيسى بنحوه ظاهر في خلاف كلام المصنف، لكن يمكن تأويله، بأنه تشديد نسبي، وإن كان بعيدًا يأباه لفظ الإنجيل المذكور، فإن ظاهره أن لا تشديد فيها البتة، فلعل أصل العبارة: وجاء عيسى بضده فتحرفت بنحوه.(7/462)
وأما النصارى فابتدعوا تلك الرهبانية من قبل أنفسهم ولا تكتب عليهم.
وأما نبينا صلى الله عليه وسلم فكان مظهر الكمال، الجامع لتلك القوة والعدل والشدة في الله، واللين والرأفة والرحمة فشريعته أكمل الشرائع، وأمته أكمل الأمم، وأحوالهم ومقاماتهم أكمل الأحوال والمقامات، ولذلك تأتي شريعته صلى الله عليه وسلم بالعدل إيجابًا له وفرضًا، وبالفضل ندبًا إليه واستحبابًا، وبالشدة في موضع الشدة، وباللين في موضع اللين، ووضع السيف موضعه، ووضع الندى موضعه، فيذكر الظلم ويحرمه، والعدل ويأمر به، والفضل ويندب إليه في بعض آية، كقوله تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40] الآية، فهذا عدل.
__________
"وأما النصارى، فابتدعوا تلك الرهبانية" وهي رفض النساء واتخاذ الصوامع "من قبل أنفسهم، ولا تكتب عليهم" أي: لم يؤمروا بها؛ كما قال تعالى: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ} الآية، وهو منقطع، أي: لكن فعلوها ابتغاء ... إلخ، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "لا خزم، ولا زمام، ولا سياحة، ولا تبتل، ولا ترهب في الإسلام" رواه عبد الرزاق، وقال صلى الله عليه وسلم: "عليكم بالجهاد فإنه رهبانية الإسلام"، رواه أحمد وقال عليه الصلاة والسلام: "تزوجوا فأني مكاثر بكم الأمم، ولا تكونوا كرهبانية النصارى"، رواه البيهقي.
"وأما نبينا صلى الله عليه وسلم، فكان مظهر" بفتح الميم محل ظهور، "الكمال الجامع لتلك القوة، والعدل والشدة في الله، واللين والرأفة، والرحمة، فشريعته أكمل الشرائع، وأمته أكمل الأمم، وأحوالهم ومقاماتهم أكمل الأحوال والمقامات، ولذلك" المذكور من كونه مظهر ... إلخ، "تأتي" بمعنى أتت "شريعته بالعدل"، أي: الحكم المشمل عليه وهو القصد، أي: التوسط في الأمور، ثم تنوع ذلك الحكم إلى واجب وغيره؛ كما قال "إيجابًا له" أي: للعدل بمعنى الحكم، كما علم، "وفرضًا" مساوٍ "وبالفضل ندبًا إليه واستحبابًا" لا فرضًا وإيجابًا كالعفو عن الجاني، "وبالشدة في موضع الشدة" كقتال الكفار ونحوهم، "وباللين في موضع اللين" كالعفو عن الأسارى، "ووضع السيف موضعه، ووضع الندى" أي الخير "موضعه" أي: المحل اللائق به شرعًا، "فيذكر الظلم ويحرمه والعدل ويأمر به، والفضل ويندب" أي: يدعو "إليه في بعض آية؛ كقوله تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} ، سميت الثانية بذلك لمشابهتها للأولى صورة، وإن كانت عدلا لوقوعها جزءًا، والسيئة هي الفعلة القبيحة.
قال الجلال: وهذا ظاهر فيما يقتص منه من الجراحات، قال بعضهم: وإذا قال له: أخزاك الله، فيقول له: أخزاك الله، "فهذا عدل" ولذا قال صلى الله عليه وسلم لهبار بن الأسود: "سب من سبك"، لما(7/463)
{فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} ، فهذا فضل {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [الشورى: 40] ، فهذا تحريم للظلم.
وقوله: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} ، فهذا إيجاب للعدل وتحريم للظلم {وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} [النحل: 126] ندب إلى الفضل.
وكذلك تحريم ما حرم على هذه الأمة صيانة وحمية لهم، حرم عليهم كل خبيث وضار، وأباح لهم كل طيب ونافع، فتحريمه عليهم رحمة، وعلى من كان قبلهم لم يخل من عقوبة، كما أشرت إليه قريبًا.
وهداهم لما ضلت عنه الأمم قبلهم كيوم الجمعة، كما سأذكره إن شاء الله تعالى في.
__________
كانوا يسبونه بعد إسلامه بما كان منه قبله، فكفوا عنه، {فَمَنْ عَفَا} عن ظلمه {وَأَصْلَحَ} الود بينه وبينه بالعفو عنه، {فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} أي: إن الله يأجره لا محالة، "فهذا فضل.
وقد قال صلى الله عليه وسلم: "من عفا عند القدرة عفا الله عنه يوم العسرة"، رواه الطبراني، وقال: "من عفا عن دم لم يكن له ثواب إلا الجنة". رواه الخطيب.
وقال عليه السلام: "من عفا عن قاتله دخل الجنة"، رواه ابن منده، أي: مع السابقين، أو بلا سبق عذاب أو هو إعلام بوفاته على الإسلام وإلا من سوء الخاتمة {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} أي: البادين بالظلم فيرتب عليه عقابهم، "فهذا تحريم للظلم" وفي الحديث القدسي: "يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرمًا، فلا تظالموا". "وقوله: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} ، هذا إيجاب للعدل وتحريم للظلم" وهو العقاب بغير مثل ما عوقبوا به، {وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ} عن العقاب، {لَهُوَ} أي الصبر {خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} ندب على الفضل دون إيجابه فترتاح النفوس، بذكره وتسمح به، "وكذلك تحريم ما حرم الله على هذه الأمة صيانة وحمية لهم" عما يضرهم كالميتة والدم المسفوح، "حرم عليهم كل خبيث" كما قال {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} ، "وضار" كالخنزير، "وأحل لهم كل طيب" أي: مستلذ لا ضر فيه؛ كما قال: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} ، "ونافع" للبدن والعقل، "فتحريمه عليهم رحمة وعلى من كان قبلهم لم يخل من عقوبة؛ كما أشرت إليه قريبًا" في قوله: "وقد كان بنو إسرائيل إذا نسوا شيئًا مما أمروا به وأخطئوا عجلت لهم العقوبة"، فحرم عليه شيء من مطعم أو مشرب، "وهداهم لما ضلت عنه الأمم قبلهم؛ كيوم الجمعة كما سأذكره إن شاء الله تعالى في(7/464)
مقصد عباداته عليه السلام، وتقدم ما يشهد له.
ووهب لهم من علمه وحلمه، وجعلهم خير أمة أخرجت للناس، وكمل لهم من المحاسن ما فرقه في الأمم، كما كمل لنبيهم من المحاسن ما فرقه في الأنبياء قبله، كما كمل في كتابهم من المحاسن ما فرقه في الكتب قبله، وكذلك في شريعته.
فهذه الأمة هم المجتبون، كما قال إلههم: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] ، وجعلهم شهداء على الناس، فأقامهم في ذلك مقام الرسل الشاهدين على أممهم، أشار إليه ابن القيم.
ومنها: أنهم لا يجتمعون على ضلالة. رواه أحمد في مسنده، والطبراني في الكبير، وابن أبي خيثمة في تاريخه عن أبي بصرة.
__________
مقصد عباداته عليه السلام وتقدم ما يشهد له" قريبًا، "ووهب لهم من علمه وحلمه" كمالات كثيرة لم تحصل لغيرهم، "وجعلهم خير أمة أخرجت للناس، وكمل لهم من المحاسن ما فرقه في الأمم" فجمعوا محاسن كل أمة، "كما كمل لنبيهم من المحاسن ما فرقه في الأنبياء قبله" وزاده عليهم "وكما كمل في كتابهم من المحاسن ما فرقه في الكتب قبله، وكذلك في شريعته فهذه الأمة هم المجتبون" أي: الذين اختارهم الله لدينه ولنصره؛ "كما قال إلههم" جل وعلا: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} ، أي: ضيق "وجعلهم شهداء على الناس, فأقامهم في ذلك مقام الرسل الشاهدين على أممهم أشار إليه ابن القيم"، وذكر ابن عبد السلام أنهم نزلوا منزلة العدول من الحكام فيشهدون على الناس أن رسلهم بلغتهم ما جاءوا به عن الله، قال تعالى: {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} ، قال: وهذه خصيصية لم تثبت لغيرهم.
"ومنها: أنهم لا يجتمعون على ضلالة" أي: محرم، باعتقاد خلاف لواقع، فيشمل كل حكم اعتقد فيه خلاف ما هو عليه في نفس الأمر، فلا يجتمعون على نفي مكروه، لا ندب مندوب، ولا إباحة مباح، بل متى اجتمعوا على حكم، كان عند الله كذلك؛ كما أفاده كلام الشيخ ولي الدين، ويأتي، ولكن قيدوا الأمة هنا بالعلماء، لأن العامة عنها تأخذ دينها، وإليها يفزع في النوائب، فاقتضت الحكمة حفظها، "رواه أحمد في مسنده والطبراني" سليمان بن أحمد بن أيوب "في" معجمه "الكبير، وابن أبي خيثمة" أحمد بن زهير بن حرب البغدادي "في تاريخه" وهو كبير، قال في محمد بن سلام الجمحي: لا أعرف أغزر من فوائده، "عن أبي بصرة" بفتح الموحدة، وإسكان الصاد المهملة، واسمه حميل، بضم الحاء المهملة، ولام آخره،(7/465)
الغفاري مرفوعًا في حديث: "سألت ربي أن لا تجتمع أمتي على ضلالة فأعطانيها". ورواه ابن أبي عاصم والطبراني أيضًا من حديث أبي مالك الأشعري رفعه: "إن الله أجاركم من ثلاث، -وذكر منها- وأن لا تجتمعوا على ضلالة".
__________
وقيل: بفتح أوله، وقيل: بالجيم ابن بصرة، بفتح الموحدة، ابن وقاص بن حبيب بن غفار، وقيل: ابن حاجب بن غفار "الغفاري" روى عن النبي صلى الله عليه وسلم وعنه أبو هريرة، وجماعة، وهو وأبوه وجده صحابة، قال ابن يونس: شهد فتح مصر واختط بها، ومات بها، ودفن في مقبرتها، وقال أبو عمر: كان يسكن الحجاز، ثم تحول إلى مصر، ويقال: إن عزة صاحبة كثير من ذريته، وأنكر ذلك ابن الأثير، "مرفوعًا في حديث: "سألت ربي أن لا تجتمع أمتي" أي: أمة الإجابة "على ضلالة، فأعطانيها" أي: هذه الخصلة، "ورواه ابن أبي عاصم" الحافظ الكبير، الإمام أبو بكر أحمد بن عمرو بن النبيل، أبي عاصم الشيباني الزاهد، قاضي أصبهان، له الرحلة الواسعة والتصانيف النافعة.
قال ابن أبي حاتم: ذهبت كتبه بالبصرة في فتنة الزنج فأعاد من حفظه خمسين ألف حديث.
وقال ابن الأعرابي: كان من حفاظ الحديث والفقه، ظاهري المذهب، مات في ربيع الآخر سنة سبع وثمانين ومائتين، "والطبراني أيضًا" وغيرهما، كلهم "من حديث أبي مالك الأشعري".
قال الحافظ في تخريج أحاديث المختصر: اختلف في أبي مالك راوي هذا الحديث؛ فإن في الصحب ثلاثة، يقال لكل منهم أبو مالك الأشعري، أحدهم راوي حديث المعازف، مشهور بكنيته، وفي اسمه خلف الثاني الحارث بن الحارث، مشهور باسمه أكثر الثالث كعب بن عاصم، مشهور دون كنيته، حتى قال المزي في ترجمته: لا يعرف له كنية، وتعقب بأن اليخين والنسائي كنوه، وذكر المزي هذا الحديث في ترجمة الثاني، ووضح لي أنه الثالث؛ لأن ابن أبي عاصم لما خرج الحديث المذكور، قال في سابق سنده، عن كعب بن عاصم الأشعري، فدل على أنه هو إلا أن يكون ابن أبي عاصم تصرف في التسمية بظنه وهو بعيد. "إن الله تعالى أجاركم" حماكم ومنعكم، وأنقذكم "من ثلاث" خلال: أن لا يدعو عليكم نبيكم فتهلكوا جميعًا، وأن لا يظهر أهل الباطل على أهل الحق، هذا ما أشار إلى حذفه، بقوله: "وذكر منها" تلو هذا ما لفظه: "وأن لا تجتمعوا على ضلالة".
قال الطيبي: حرف النفي في القرآن زائد؛ كقوله تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَنْ لَا تَسْجُدَ} الآية، وفائدته معنى الفعل وتحقيقه، وذلك أن الإجارة إنما تستقيم إذا كانت الخلال مثبتة لا منفية.(7/466)
قال شيخنا: وبالجملة، فهو حديث مشهور المتن، وأسانيده كثيرة وله شواهد متعددة في المرفوع وغيره.
ومنها: إن إجماعهم حجة.
__________
"قال شيخنا" يعني السخاوي في المقاصد: "وبالجملة، فهو حديث مشهور المتن" أي: لفظ الحديث، وإنما قال السخاوي هذا القول شيخه الحافظ في إسناده انقطاع، وله طرق لا يخلو واحد منها من مقال، لكنه قال في موضع آخر: إسناده حسن؛ لأنه من رواية أبي بكر بن عياش عن الشاميين، وهي مقبولة.
قال: وله شاهد عند أحمد، رجاله ثقات، لكن فيه راوٍ لم يسم، "وأسانيده كثيرة" متعددة الطرق والمخارج، وذلك علامة القوة، فلا ينزل عن الحسن، فأخرجه أبو نعيم والحاكم، وأعله اللالكائي في السنة له، وابن منده، ومن طريقه الضياء في المختارة، عن ابن عمر رفعه: "أن الله لا يجمع هذه الأمة على ضلالة أبدًا، وإن يد الله مع الجماعة، فاتبعوا السواد الأعظم، فإن من شذ شذ في النار"، وكذا أخرجه الترمذي، لكن بلفظ: "هذه الأمة"، أو قال: "أمتي"، ورواه ابن ماجه، والدارقطني وغيرهما، عن أنس مرفوعًا: "أن أمتي لا تجتمع على ضلالة، فإذا رأيتم اختلافًا فعليكم بالسواد الأعظم"، والحاكم عن ابن عباس، رفعه: "لا يجمع الله هذه الأمة على ضلالة، ويد الله مع الجماعة". وابن أبي عاصم وغيره، مرفوعا عن عقبة بن عمر الأنصاري، مرفوعًا في حديث: "عليكم بالجماعة، فإن الله لا يجمع هذه الأمة على ضلالة"، والطبري في تفسيره عن الحسن مرسلا بلفظ أبي بصرة، "وله شواهد متعددة في المرفوع" إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ كقوله: "أنتم شهداء الله في الأرض"، "و" في "غيره" أي: غير المرفوع، وهو الموقوف؛ كقول ابن مسعود: إذا سئل أحدكم، فلينظر في كتاب الله، فإن لم يجد، ففي سنة رسول الله، فإن لم يجد، فلينظر ما اجتمع عليه المسلمون وإلا فليجتهد، هذا، والاختلاف شامل لما كان في أمر الدين كالعقائد، أو الدنيا كالإمامة العظمى، ومعنى: "فعليكم بالسواد الأعظم". الزموا متابعة جماهير المسلمين الذين يجتمعون على طاعة السلطان وسلوك المنهج القويم، فهو الحق الواجب، والفرض الثابت الذي يحرم خلافه، فمن خالفه مات ميتة جاهلية.
"ومنها: أن إجماعهم حجة" قاطعة، فإن تنازعوا في شيء ردوه إلى الله ورسوله، إذ الواحد منهم غير معصوم، بل كل أحد يؤخذ من قوله، ويرد عليه إلا النبي صلى الله عليه وسلم؛ كما قال مالك.
قال الحافظ الولي العراقي: والمراد به الاتفاق، أي: الاشتراك في القول، أو الفعل، أو الاعتقاد، أو ما في معناها من السكوت عند من يقول به، ويتناول الأمور الشرعيات واللغويات بلا(7/467)
وإن اختلافهم رحمة، وكان اختلاف من قبلهم عذابًا، روى البيهقي في المدخل في حديث من رواية سليمان بن أبي كريمة، عن جويبر عن الضحاك عن ابن عباس قال:
__________
نزاع، والعقليات والدنيويات على الراجح، "وأن اختلافهم" أي: الأمة، أي: مجتهديها في الفروع التي يسوغ الاجتهاد فيها "رحمة" أي: توسعة على الناس، ونعمة كبيرة، وفضيلة جسيمة بجعل المذاهب كشرائع متعددة، بعث صلى الله عليه وسلم بكلها لئلا تضيق بهم الأمور، فالمذاهب التي استنبطها الصحابة فمن بعدهم من أقواله وأفعاله على تنوعها كشرائع متعددة له، وقد وعد بوقوع ذلك، فوقع، فهو من معجزاته.
أما الاجتهاد في العقائد فضلال، والحق ما عليه أهل السنة والجماعة، فإنما الحديث في الاختلاف في الأحكام؛ كما في تفسير البيضاوي، قال: فالنهي مخصوص بالتفرق في الأصول لا في الفروع.
قال السبكي: لا شك أن الاختلاف في الأصول ضلال، وسبب كل فساد؛ كما أشار إليه القرآن، قال: وما ذهب إليه جمع؛ أن المراد الاختلاف في الحرف والصنائع، فمردود بأنه كان المناسب أن يقال: اختلاف الناس إذ لا خصوصية للأمة، فإن كل الأمم مختلفون في الصنائع والحرف، فلابد من خصوصية، قال: وما ذكره إمام الحرمين، كالحليمي؛ أن المراد اختلافهم في المناصب والدرجات والمراتب، فلا ينساق الذهن من لفظ الاختلاف إليه، "وكان اختلاف من قبلهم عذابًا" ومن جملته أنه كان في شرع بني إسرائيل نسخ الحكم إذا رفعه الخصم إلى حاكم آخر يرى خلافه، كما في الخصائص بخلاف شرعنا فيرفع، فتصير المسألة، كالمجمع عليها، فليس لحاكم آخر نقضه، بل عليه تنفيذه، وإن كان يرى غيره أصوب على الأرجح، إلا أن يكون مما ينقض.
"روى البيهقي" وفي نسخة: رواه بالضمير، والأول أصوب؛ لأنه لم يروِ الترجمة إلا أن يكون المراد بمعناه، فقد ذكر السمهودي, وغيره أن اختلاف الصحابة في معنى اختلاف الأمة "في المدخل" إلى السنن الكبرى "في حديث من رواية سليمان بن أبي كريمة عن جويبر" تصغير جابر، ويقال اسمه: جابر وجويبر لقب ابن سعيد الأزدي، أبي القاسم، نزيل الكوفة، راوي التفسير، مات بعد الأربعين ومائة، "عن الضحاك" بن مزاحم الهلالي الخراساني، صدوق، مات بعد المائة، روى له الأربعة.
"عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم": "مهما أوتيتم من كتاب الله، فالعمل به لا عذر لأحد في تركه، فإن لم يكن في كتاب الله، فسنة مني ماضية، فإن لم تكن سنة مني،(7/468)
"واختلاف أصحابي لكم رحمة".
__________
فما قال أصحابي، إن أصحابي بمنزلة النجوم في السماء فأيما أخذتم به اهتديتم". "واختلاف أصحابي لكم رحمة" ومن هذا الوجه أخرجه الطبراني، والديلمي بلفظه سواء، فاقتصر المصنف على حاجته منه، والأوجه أن المراد اختلافهم في الأحكام، ويؤيده ما رواه البيهقي في المدخل، عن عمر بن عبد العزيز: ما سرني لو أن أصحاب محمد لم يختلفوا، لأنهم لو لم يختلفوا لم تكن رخصة؛ وكذا قول يحيى بن سعيد الآتي: أهل العلم ... إلخ، وقول مالك لما سأله الرشيد الخروج معه إلى العراق، وأن يحمل الناس على الموطأ، كما حمل عثمان الناس على القرآن، أما حمل الناس على الموطأ فلا سبيل إليه؛ لأن الصحابة افترقوا في الأمصار، فعند كل أهل مصر علم صريح في أن المراد الاختلاف في الأحكام، وما نقله ابن الصلاح عن مالك؛ أنه قال في اختلاف الصحابة: مخطئ ومصيب، فعليك بالاجتهاد، وليس كما قال ناس فيه توسعة، فإنما هو بالنسبة إلى المجتهد؛ لقوله "فعليك بالاجتهاد"، فالمجتهد مكلف بما أدى إليه اجتهاده، فلا توسعة عليه في اختلافهم، وإنما التوسعة على المقلد، فقوله: اختلاف أمتي وأصحابي رحمة للناس، أي: المقلدين.
وفي قول مالك: مخطئ ومصيب، رد على القائل إن المجتهد يقلد الصحابة دون غيرهم؛ كما أفاده السمهودي، ثم لا يرد على هذا كله نهي الله عن الاختلاف بقوله: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} الآية، وبقوله: {لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا} الآية، لأن المنهي عنه الاختلاف على الرسل فيما جاءوا به.
قال ابن العربي وغيره: إنما ذم الله كثرة الاختلاف على الرسل كفاحًا بدليل خبر: "إنما أهلك الذين من قبلكم كثرة اختلافهم على أنبيائهم"، أما هذه الآية، فمعاذ الله أن يدخل فيها أحد من العلماء المختلفين، لأنه أوعد الذين اختلفوا بعذاب عظيم، والمعترض موافق على أن اختلاف الأمة في الفروع، مغفور لمن أخطأ منهم، فتعين أن الآية فيمن اختلف على الأنبياء، فلا تعارض بينها وبين الحديث، وفيه رد على المتعصبين لبعض الأئمة على بعض، وقد عمت به البلوى.
قال الذهبي: وبين الأئمة اختلاف كثير في الفروع وبعض الأصول، وللقليل منهم غلطات، وزلقات، ومفردات منكرة، وإنما أمرنا باتباع أكثرهم صوابًا، وتجزم بأن غرضهم ليس إلا اتباع الكتاب والسنة، وكل ما خالفوا فيه لقياس أو تأويل، فإذا رأيت فقيهًا خالف هذين أورد حديثًا أو حرف معناه، فلا تبادر لتغليطه، وقد قال علي لمن قال له: أتظن أن طلحة والزبير كانا على باطل، يا هذا إنه ملبوس عليك أن الحق لا يعرف بالرجال، اعرف الحق تعرف أهله، وما زال الاختلاف بين الأئمة في الفروع وبعض الأصول مع اتفاق الكل على تعظيم البارئ وأنه ليس(7/469)
وجويبر: ضعيف جدًا، والضحاك عن ابن عباس: منقطع.
وهو كما قال الحافظ شيخ الإسلام ابن حجر: حديث مشهور على الألسنة، وقد أورده ابن الحاجب في المختصر في مباحث القياس بلفظ: "اختلاف أمتي رحمة للناس". قال: وكثر السؤال عنه، وزعم كثير من الأئمة أنه لا أصل له، لكن ذكره الخطابي في غريب الحديث مستطردًا، وقال: اعترض على هذا الحديث رجلان، أحدهما ماجن والآخر ملحد، وهما: إسحاق.
__________
كمثله شيء، وأن ما شرعه رسوله حق، وأن كتابهم واحد، ونبيهم واحد، وقبلتهم واحدة، وإنما وضعت المناظرة لكشف الحق، وإفادة العالم الأزكى العلم لمن دونه وتنبيه الأغفل الأضعف، فإن داخلها هو من الأكمل وانكسار من الأصغر فذاك دأب النفوس الزكية في بعض الأحيان غفلة عن الله، فما الظن بالنفوس الشريرة، انتهى.
"وجويبر ضعيف جدًا، والضحاك عن ابن عباس منقطع" لأنه لم يسمع منه، والضحاك كثير الإرسال، وقد عزاه العراقي لآدم بن أبي إياس في كتاب العلم والحلم، بلفظ: "اختلاف أصحابي رحمة لأمتي"، قال: وهو مرسل ضعيف.
"وهو كما قال الحافظ شيخ الإسلام ابن حجر: حديث مشهور على الألسنة" لفظ المقاصد: قرأت بخط شيخنا، يعني الحافظ ابن حجر، أي حديث "واختلاف أصحابي لكم رحمة"، معنى حديث مشهور على الألسنة، وبهذا يتضح قوله: "وقد أورده ابن الحاجب في المختصر" الأصولي في مباحث القياس بلفظ: "اختلاف أمتي رحمة للناس" وإنما كان بمعناه؛ لأن اختلاف الصحابة في معنى اختلاف الأمة، كما أفصح به غيره، وكذا أورده نصر المقدسي في كتاب الحجة له، والبيهقي في الرسالة الأشعرية، ولم يذكرا له سندًا، ولا صحابيًا، وكذا إمام الحرمين والقاضي حسين.
قال السيوطي: ولعله خرج في بعض كتب الحفاظ التي لم تصل إليها، "قال" الحافظ: "وكثر السؤال عنه، وزعم كثير من الأئمة؛ أنه لا أصل له" بهذا اللفظ، "لكن ذكره الخطابي في غريب الحديث مستطردًا" مصدر ميمي، أي: استطرادًا لمناسبة.
"وقال: اعترض على هذا الحديث رجلان، أحدهما ماجن" بكسر الجيم: اسم فاعل من مجن مجونًا، طلب وغلظ، ومنه الماجن لمن لا يبالي قولا وفعلا كأنه صلب الوجه، "والآخر ملحد" طاعن في الدين، قال بعض الأئمة: وهم في زماننا الباطنية المدعون أن للقرآن ظاهرًا وباطنًا، وأنهم يعلمون الباطن، فأحالوا بذلك الشريعة، لأنهم تأولوا بما يخالف العربية التي نزل بها القرآن، وقال أبو عبيدة: ألحد إلحادًا، جادل ومارى، ذكره المصباح، "وهما إسحاق(7/470)
الموصلي، وعمرو بن بحر الجاحظ وقالا جميعًا: لو كان الاختلاف رحمة لكان الاتفاق عذابًا، قال: ثم تشاغل الخطابي برد هذا الكلام، ولم يقع في كلامه نص في عزو الحديث، ولكن أشعر بأن له أصلا عنده.
ومن حديث الليث بن سعد عن يحيى بن سعيد قال: أهل العلم أهل توسعة، وما برح المفتون يختلفون، فيحل هذا ويحرم هذا، فلا يعيب هذا على هذا، أشار إليه شيخنا في المقاصد الحسنة.
ومنها أن الطاعون لهم شهادة ورحمة، وكان على الأمم عذابًا.
__________
الموصلي" بفتح، فسكون وكسر المهملة، نسبة إلى مدينة بالجزيرة، الماجن المغني في الدولة العباسية، "وعمرو بن بحر الجاحظ" لقب لعمرو الملحد لجحظ كان بعينيه، وكان قبيح الشكل جدًا حتى قيل فيه:
لو يمسخ الخنزير مسخًا ثانيا ... ما كان إلا دون قبح الجاحظ
رجل ينوب عن الجحيم بوجهه ... وهو القذى في عين كلا ملاحظ
"وقالا جميعًا: لو كان الاختلاف رحمة لكان الاتفاق عذابًا، قال" الحافظ: "ثم تشاغل الخطابي برد هذا الكلام، ولم يقع في كلامه نص في عزو الحديث، ولكن أشعر بأن له أصلا عنده" وهو من كبار الحفاظ، "ومن حديث" عطف على قوله: من رواية سليمان، أي: وروى البيهقي أيضًا في المدخل من حديث "الليث بن سعد" بن عبد الرحمن الفهمي، المصري، الإمام، الثقة، الثبت، الفقيه، المشهور، مات في شعبان سنة خمس وسبعين ومائة، "عن يحيى بن سعيد" بن قيس الأنصاري، المدني، ثقة، ثبت، من رجال الجميع، مات سنة أربع وأربعين ومائة أو بعدها، "قال: أهل العلم أهل توسعة، وما برح المفتون يختلفون، فيحل هذا ويحرم هذا، فلا يعيب هذا على هذا" لأنه بحسب فهم الأدلة في الأحكام الاجتهادية، "أشار إليه شيخنا" السخاوي "في المقاصد الحسنة" في الأحاديث المشهورة على الألسنة.
"ومنها: أن الطاعون" فاعول من الطعن، عدلوا به عن أصله، ووضعوه دالا على الموت العام، كالوباء، ذكره الجوهري، "لهم شهادة" أي: سبب لكون الميت به شهيدًا، وظاهرًا يشمل الفاسق، فيكون شهيدًا، لكنه لا يساوي مرتبة مسلم غير فاسق في أنه يغفر له جميع ذنوبه، وإنما يغفر له غير حق الآدمي، أخذًا من خبر: إن الشهداء يغفر لهم كل ذنب إلا الدين، قال شيخ الإسلام زكريا وهو ظاهر، "ورحمة" رحم بها المؤمنين، وهل المراد بهم الكمل أو أعم احتمالان، "وكان على الأمم عذابًا" ففيه مزيد عناية بهذه الأمة، حيث جعل ما كان عذابًا(7/471)
رواه أحمد والطبراني في الكبير، عن حديث أبي عسيب مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ورجال أحمد ثقات ولفظه: "الطاعون شهادة لأمتي ورحمة لهم ورجز على الكافرين".
__________
لغيرهم وبلاء رحمة لهم؛ لحصول الشهادة لهم به، وأن العادة لا تؤثر بنفسها؛ لأنه كان بلاء بنفسه لمن تقدم، ثم عاد بنفسه وصفته رحمة، والصفة واحدة لم تتغير، "رواه أحمد والطبراني في الكبير من حديث أبي عسيب مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم" مشهور بكنيته، قيل: اسمه أحمر براء آخره، وقيل: سفينة، قال في الإصابة: والراجح أنه غيره.
ووقع في الاستيعاب أحمر بن عسيب، وتعقب: ويحتمل أن كنيته وافقت اسم أبيه، "ورجال أحمد ثقات، ولفظه: "الطاعون شهادة لأمتي ورحمة لهم ورجز" بكسر الراء، أي: عذاب "على الكفار" ووقع في بعض الأصول رجس، بسين بدل الزاي، والمعروف بالزاي.
وروى أحمد والبخاري عن عائشة: أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الطاعون، فقال: "الطاعون كان عذابًا يبعثه الله على من يشاء وإن الله جعله رحمة للمؤمنين، فليس من أحد يقع الطاعون، فيمكث في بلده صابرًا محتسبًا، يعلم أنه لا يصيبه إلا ما كتب الله له إلا كان له مثل أجر شهيد"، وسر التعبير بمثل أن من لم يمت به له مثل أجره، وإن لم يحصل له درجة الشهادة نفسها.
قال الحافظ: ويؤخذ منه أن من اتصف بالصفات المذكورة، ثم مات بالطاعون له أجر شهيدين، ولا مانع من تعدد الثواب بتعدد الأسباب، كمن يموت غريبًا، أو نفساء بالطاعون، والتحقيق أنه يكون شهيدًا بوقوعه له، ويضاف له مثل أجر شهيد لصبره، فإن درجة الشهادة شيء وأجرها شيء، قال: ويؤخذ منه أن من لم يتصف بذلك لا يكون شهيدًا؛ وإن مات بالطاعون، وذلك ينشأ من شؤم الاعتراض الناشئ عن الضجر والسخط للقدر, وفي الصحيحين مرفوعًا: "الطاعون رجز أو عذاب، أرسل على طائفة من بني إسرائيل فإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا منها فرارًا منه، وإذا وقع بأرض ولستم بها فلا تهبطوا عليها".
قال الخطابي: أحد الأمرين تأديب وتعليم، والآخر تفويض وتسليم، وروى أحمد برجال ثقات عن عائشة مرفوعًا: "الطاعون غدة كغدة البعير المقيم به، كالشهيد والفار منه كالفار من الزحف".
وروى الطبراني وأبو نعيم بإسناد حسن، عن عائشة مرفوعًا: "الطاعون شهادة لأمتي، ووخز أعدائكم من الجن غدة كغدة الإبل، تخرج في الآباط والمراق، من مات منه مات شهيدًا، ومن أقام به، كالمرابط في سبيل الله، ومن فر منه كالفار من الزحف".
وروى الحاكم، عن أبي موسى مرفوعًا: "الطاعون وخز أعدائكم من الجن"، وخز بفتح الواو وسكون المعجمة، ثم زاي: أي: طعن، وفي النهاية تبعًا للهروي، إخوانكم، قال الحافظ:(7/472)
ومنها أنهم إذا شهد اثنان منهم لعبد بخير وجبت له الجنة، وكانت الأمم السالفة إذا شهد منهم مائة.
ومنها أنهم أقل الأمم عملا، وأكثرهم أجرًا.
__________
ولم أره بلفظ إخوانكم بعد التتبع الطويل البالغ في شيء من طرق الحديث المسندة، ولا في الكتب المشهورة، ولا الأجزاء المنثورة، وعزاه بعض لمسند أحمد، والطبراني وابن أبي الدنيا، ولا وجود له فيها.
قال السيوطي: وأما تسميتهم إخوانًا في حديث المطعم، فباعتبار الإيمان، فإن الأخوة في الدين لا تستلزم الاتحاد في الجنس.
"ومنها: أنهم إذا شهد اثنان منهم" عدلان، لا نحو فاسق ومبتدع، "لعبد بخير" بعد موته؛ بأن أثنيا عليه بخير، فليس المراد الشهادة عند القاضي، ولا لفظ أشهد بخصوصه، "وجبت له الجنة" قال الحافظ: أي ثبتت، أو هو في صحة الوقوع كالواجب، إذ لا يجب على الله شيء، بل الثواب فضل، والعقاب عدل، لا يسأل عما يفعل، والمراد مع السابقين الأولين، أو من غير سبق عذاب، وإلا فكل من مات مسلمًا دخلها، ولا بد شهد له أحد، أم لا.
روى أحمد والبخاري والنسائي عن عمر، مرفوعًا: "أيما مسلم شهد له أربعة أدخله الله الجنة" قيل: وثلاثة؟ قال: "وثلاثة"، قيل: واثنان؟ قال: "واثنان" ثم لم نسأله عن الواحد.
قال النووي: في معناه قولان: أحدهما: أن هذا الثناء بالخير لمن أثنى عليه أهل الفضل، وكان ثناؤهم مطابقًا لأفعاله، فيكون من أهل الجنة، فإن لم يكن كذلك، فليس هو مراد بالحديث.
والثاني: وهو الصحيح المختار، أنه على عمومه وإطلاقه، وإن كل مسلم مات فألهم الله تعالى الناس أو معظمهم الثناء، عليه كان ذلك دليلا على أنه من أهل الجنة، سواء كانت أفعاله تقتضي ذلك، أم لا؟ لأنه وإن لم تكن أفعاله تقتضيه فلا تتحتم عليه العقوبة، بل هو في المشيئة، فإذا ألهم الله الناس الثناء عليه، دل ذلك على أنه شاء المغفرة له، وبهذا تظهر فائدة الثناء، وقوله صلى الله عليه وسلم: "وجبت وأنتم شهداء الله"، ولو كان لا ينفعه ذلك إلا أن تكون أعماله تقتضيه، لم يكن للثناء فائدة، وقد أثبت صلى الله عليه وسلم له فائدة، انتهى، وترك الشهادة بالشر لفهم حكمه قياسًا أو اختصارًا، وهو أظهر؛ كما قال الحافظ، وبه صرح حديث أنس في الصحيحين مرفوعًا: "من أثنيتم عليه خيرًا وجبت له الجنة، ومن أثنيتم عليه شرًا وجبت له النار، أنتم شهداء الله في الأرض". "وكانت الأمم السالفة إذا شهد منهم مائة" لحديث أبي يعلى، أن الأمم السابقة المائة، أمة إذا شهدوا لعبد بخير وجبت له الجنة، وأن أمتي الخمسون، منهم أمة، فإذا شهدوا لعبد بخير وجبت له الجنة.
"ومنها: أنهم أقل الأمم عملا، وأكثرهم أجرًا" لخبر مالك، وأحمد، والبخاري، عن ابن(7/473)
وأقصرهم أعمارًا، وأوتوا العلم الأول والآخر، وآخر الأمم فافتضحت الأمم عندهم ولم يفتضحوا.
ومنها: أنهم أوتوا الإسناد، وهو خصيصة فاضلة من خصائص هذه الأمة، وسنة بالغة من السنن المؤكدة.
__________
عمر مرفوعًا: "إنما بقاؤكم فيما سلف قبلكم من الأمم، كما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس، أوتي أهل التوراة التوراة، فعملوا بها حتى انتصف النهار، عجزوا فأعطوا قيراطًا قيراطًا، ثم أوتي أهل الإنجيل الإنجيل، فعملوا إلى العصر، ثم عجزوا فأعطوا قيراطًا قيراطًا، ثم أوتينا القرآن فعملنا إلى غروب الشمس، فأعطينا قيراطين قيراطين، فقال أهل الكتاب: ربنا أعطيت هؤلاء قيراطين قيراطين، وأعطيتنا قيراطًا قيراطًا، ونحن أكثر عملا! قال: هل ظلمتكم من أجركم شيئا؟ قالوا: لا، قال: فهو فضلي أوتيه من أشاء".
قال السيوطي: والمراد تشبيه من تقدم بأول النهار إلى الظهر والعصر في كثرة العمل الشاق والتكليف، وتشبيه هذه الأمة بما بين العصر والليل في قلة ذلك، وتخفيفه، وليس المراد طول الزمن وقصره، إذ مدة هذه الأمة أطول من مدة أهل الإنجيل.
قال إمام الحرمين: الأحكام لا تؤخذ من الأحاديث التي لضرب الأمثال، "وأقصرهم أعمارًا" رحمة من الله بهم، وعطفًا عليهم أخرهم في الأصلاب حتى أخرجهم إلى الأرحام بعد نفاذ الدنيا، وجعل أعمالهم قصيرة ليقل التباسهم بالدنيا وتدنسهم بها، وكان الأمم الماضون أعمارهم، وأجسادهم، وأرزاقهم أضعاف ذلك، كان أحدهم يعمر ألف سنة، وحبة القمح ككلية البقر، والرمانة يحملها عشرة، وهكذا، فلطف الله بهذه الأمة ليأخذوا من الدنيا أرزاقًا قليلة بأجسام ضعيفة في مدة قصيرة، لئلا يأروا ويبطروا، ثم ضاعف لهم الحسنات، فجعل الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، إلى ما لا يعلمه إلا الله.
"وأتوا العلم الأول" الذي أوتيه الأمم قبلهم "والآخر" الذي أوتوه، فجمع لهم ما فرق في غيرهم وزيدوا، "وآخر الأمم، فافتضحت الأمم عندهم" بما قص عليهم في القرآن من وقائع بعضهم الشنيعة، ومخالفتهم، وتعنتهم على أنبيائهم، وكفى بقول بني إسرائيل لموسى: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} , {أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً} الآية، وغير ذلك، "ولم يفتضحوا".
"ومنها: أنهم أوتوا الإسناد" وهو حكاية طريق المتن، والسند الطريق الموصلة إلى المتن، وقد يستعمل أحدهما في الآخر, والأمر سهل، "وهو خصيصة فاضلة من خصائص هذه الأمة لم يؤتها أحد من الأمم قبلهم، "وسنة بالغة من السنن المؤكدة".
قال ابن المبارك: الإسناد من الدين، ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء، وعنه مثل الذي(7/474)
وقد روينا من طريق أبي العباس الدغولي قال: سمعت محمد بن حاتم بن المظفر يقول: إن الله تعالى قد أكرم هذه الأمة وشرفها وفضلها بالإسناد، وليس لأحد من الأمم كلها قديمها وحديثها إسناد موصول، إنما هو صحف في أيديهم، وقد خلطوا بكتبهم أخبارهم، فليس عندهم تمييز بين ما نزل من التوراة والإنجيل وبين ما ألحقوه بكتبهم من الأخبار التي اتخذوها عن غير الثقات.
وهذه الأمة الشريفة -زادها الله شرفًا بنبيها- إنما تنص الحديث عن الثقة المعروف
__________
يطلب أمر دينه بلا إسناد، كمثل الذي يرتقي السطح بلا سلم، وقال سفيان الثوري: الإسناد سلاح المؤمن، فإذا لم يكن معه سلاح، فبأي شيء يقاتل؟ وقال الشافعي: مثل الذي يطلب الحديث بلا إسناد، كمثل حاطب ليل.
وفي تاريخ الحاكم عن إسحاق بن إبراهيم الحنظلي، قال: كان عبد الله بن طاهر إذا سألني عن حديث فذكرته له بلا إسناد سألني عن إسناده، ويقول: رواية الحديث بلا إسناد من عمل الزمنى. فإن إسناد الحديث كرامة من الله تعالى لأمة محمد، وقيل في قوله تعالى: {أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ} : إسناد الحديث، وقال بقية: ذاكرت حماد بن زيد بأحاديث، فقال: ما أجودها لو كان لها أجنحة، يعني إسنادًا.
"وقد روينا من طريق" الإمام "أبي العباس" محمد بن عبد الرحمن "الدغولي" بفتح الدال المهملة، والغين المعجمة، فواو، فلام، نسبة إلى دغول رجل، ويقال للخبز الذي ليس رقيقًا بسرخس دغول.
قال ابن الأثير: فلعل بعض أجداد المنتسب كان يخبزه، "قال: سمعت محمد بن حاتم بن المظفر يقول: إن الله تعالى قد أكرم هذه الأمة، وشرفها، وفضلها، بالإسناد، وليس لأحد من الأمم كلها قديمها وحديثها إسناد موصول، إنما هو صحف في أيديهم، وقد خلطوا بكتبهم أخبارهم، فليس عندهم تمييز بين ما نزل من التوراة والإنجيل وبين ما ألحقوه بكتبهم من الأخبار التي اتخذوها" أي: نقلوها "عن غير الثقات".
قال ابن حزم: نقل الثقة حتى يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم مع الاتصال شيء خص به المسلمون دون جميع الملل، أما مع الإرسال والإعضال، فيوجد في اليهود، لكن لا يقربون به من موسى قرينًا من نبينا، بل يقفون حيث يكون بينهم وبينه أكثر من ثلاثين نفسًا، وإنما يبلغون به إلى مانوح وشمعون.
وأما النصارى، فليس عندهم من صفة هذا النقل إلا تحريم الطلاق، "وهذه الأمة الشريفة زادها الله شرفًا بنبيها إنما تنص" أي: تروي "الحديث عن الثقة المعروف في(7/475)
في زمانه بالصدق والأمانة عن مثله حتى تتناهى أخبارهم، ثم يبحثون أشد البحث حتى يعرفوا الأحفظ فالأحفظ، والأضبط فالأضبط، والأطول مجالسة لمن فوقه ممن كان أقصر مجالسة، ثم يكتبون الحديث من عشرين وجهًا وأكثر، حتى يهذبوه من الغلط والزلل، ويضبطوا حروفه ويعدوه عدًا، فهذا من فضل الله على هذه الأمة، فنستودع الله تعالى شكر هذه النعمة وغيرها من نعمه.
وقال أبو حاتم الرازي: لم يكن في أمة من الأمم منذ خلق الله تعالى آدم أمناء يحفظون آثار الرسل إلا في هذا.
__________
زمانه بالصدق والأمانة عن مثله حتى تتناهى أخبارهم" لكن هذا الحصر إنما يكون لرواة الصحيح، والحسن؛ إذ الضعيف بأنواع قد رووه كثيرًا، "ثم يبحثون أشد البحث حتى يعرفوا الأحفظ، فالأحفظ، والأضبط فالأضبط" لما حفظ في صدره، بأن يثبت ما سمعه، بحيث يتمكن من استحضاره متى شاء، أو بكتابه، بصيانته عنده منذ سمع فيه، وصححه إلى أن يؤدي منه، "والأطول مجالسة لمن فوقه" أي: شيخه "ممن كان أقصر مجالسة" له؛ فإن قدم السماع من أقسام العلو النسبي، "ثم يكتبون الحديث من عشرين وجهًا" تارة "وأكثر" أخرى، "حتى يهذبوه من الغلط والزلل، ويضبطوا حروفه، ويعدوه عدًا" ويبينوا الألفاظ التي اختلفت فيها الرواة، وعذر أصحاب الحديث في تكثير طرق الحديث، الواحد ليعتمد عليه، إذ المقبول ما اتصل سنده، وعدلت رجاله، أو اعتضد بعض طرقه ببعض حتى تحصل القوة بالصورة المجموعة، ولو كان كل طريق منها لو انفردت لم تكن القوة فيها مشروعة، والإعراض عن ذلك يستلزم ترك العمل بكثير من الأحاديث، اعتمادًا على ضعف الطريق التي فيها مقال، وقد قال عبد الله بن جعفر بن خالد: سألت إبراهيم بن سعيد الجوهري، ابغدادي، يعني شيخ مسلم، وأصحاب السنن، عن حديث لأبي بكر الصديق، فقال لجاريته: أخرجي لي الجزء الثالث والعشرين من مسند أبي بكر، فقلت: لا يصح لأبي بكر خمسون حديثًا فمن أين ثلاثة وعشرون جزءا؟ فقال: كل حديث لا يكون عندي من مائة وجه، فأنا فيه يتيم، "فهذا من فضل الله على هذه الأمة، فنستودع الله تعالى شكر هذه النعمة وغيرها من نعمه" فإنه إذا استودع شيئًا حفظه.
"وقال أبو حاتم" محمد بن إدريس بن داود "الرازي" الحنظلي، عن أحمد وقتيبة، وخلق، وعنه أبو داود، والنسائي، وابن ماجه وآخرون، قال الخطيب: كان أحد الأئمة الحفاظ الأثبات، مشهورًا بالعلم، مذكورًا، بالفضل، وثقه النسائي وغيره، قال ابن يونس: قدم مصر قديمًا، وكتب بها، وكتب عنه، مات بالري سنة خمس، وقيل سنة سبع وسبعين ومائتين، "لم يكن في أمة من الأمم مذ" أي: حين "خلق الله آدم أمناء" جمع أمين، "يحفظون آثار الرسل إلا في هذه(7/476)
الأمة.
ومنها: أنهم أوتوا الأنساب والإعراب، قال أبو بكر محمد بن أحمد: بلغني أن الله خص هذه الأمة بثلاثة أشياء لم يعطها من قبلها: الإسناد والأنساب والإعراب، انتهى. وهو مروي عن أبي علي الجياني.
__________
الأمة" وهذا رواه ابن عساكر، عن الرازي المذكور بلفظ: "لم يكن في أمة من الأمم منذ خلق الله آدم أمة يحفظون آثار نبيهم وأنساب خلفهم كهذه الأمة".
وفي تاريخ ابن عساكر أيضًا، عنه: "لم يكن في أمة من الأمم أمة يحفظون آثار نبيهم غير هذه الأمة" فقيل له: ربما رووا حديثًا لا أصل له، قال علماؤهم: يعرفون الصحيح من السقيم، فروايتهم للواهي للمعرفة ليتبين لمن بعدهم أنهم ميزوا الآثار فيه وحفظوها.
وأخرج الحاكم، وأبو نعيم، وابن عساكر، عن علي مرفوعًا: "إذا كتبتم الحديث فاكتبوه بإسناده؛ فإن يك حقًا كنتم شركاء في الأجر، وإن يكن باطلا كان وزره عليه"، وفيه شرف أصحاب الحديث، ورد على من كره كتابته من السلف، والنهي عنه في خبر آخر منسوخ أو مؤول.
"ومنها: أنهم أوتوا الأنساب" أي: معرفتها "والإعراب" أي: الإبانة والكلام الفصيح، وكل منهما مما يتنافس فيه المتنافسون، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم، فإن صلة الرحم محبة في الأهل، مثراة في المال، منساة في الأثر"، رواه أحمد، والترمذي، والحاكم صحيحًا عن أبي هريرة، ولا يعارضه قوله صلى الله عليه وسلم: "علم النسب علم لا ينفع، وجهالة لا تضر"، رواه أبو نعيم وغيره عن أبي هريرة؛ لأن المنهي عنه الاسترسال فيه، بحيث يشتغل به عما هو أهم منه، كما يفيده قوله: "وجهالة لا تضر".
أما علمه بقدر ما يصل به رحمه، فمحبوب مطلق، فقد قال صلى الله عليه وسلم: "تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم، ثم انتهوا وتعلموا من العربية ما تعرفون به كتاب الله، ثم انتهوا" رواه ان زنجويه.
"قال أبو بكر محمد بن أحمد" بن عبد الباقي، بن منصور البغدادي، الحافظ، الإمام، القدوة، كان فاضلا، حسن القراءة للحديث، ورعًا، ثبتًا، زاهدًا، ثقة، قائمًا باللغة، علامة في الأدب، مات في ثاني ربيع الأول، سنة تسع وثمانين وأربعمائة، "بلغني أن الله خص هذه الأمة بثلاثة أشياء، لم يعطها من قبلها من الأمم الإسناد، والأنساب والإعراب، انتهى، وهو مروي عن أبي علي" الإمام، الحافظ، الثبت، الحسين بن محمد الأندلسي، "الجياني" بفتح الجيم، والتحتية الثقيلة، ونون. بلدة كبيرة بالأندلس، ولد في محرم سنة سبع وثلاثين وأربعمائة، وأخذ(7/477)
ومنها: أنهم أوتوا تصنيف الكتب، ذكره بعضهم.
ولا تزال طائفة منهم ظاهرين على الحق حتى يأتي أمر الله. رواه الشيخان.
__________
عن الباجي، وابن عتاب، وابن عبد البر، وخلق، ولم يخرج من الأندلس، وكان من جهابذة الحفاظ، بصيرًا باللغة، والعربية، والشعر، والأنساب صنف في كل ذلك، ورحل إليه الناس، وتصدر بجامع قرطبة، وأخذ عنه الأعلام مع التواضع والصيانة، توفي ليلة الجمعة، ثاني عشر شعبان، سنة ثمان وتسعين وأربعمائة.
"ومنها: أنهم أوتوا تصنيف الكتب، ذكره بعضهم" قال ابن العربي في شرح الترمذي: لم يكن قط في أمة من الأمم من انتهى إلى حد هذه الأمة من التصرف في التصنيف والتحقيق، ولا جاراها في مداها من التفريع والتدقيق، وتصنيف الكتب، وتدوين العلوم، وحفظ سنة نبيهم، أي: أقواله وأفعاله، فتدوين العلوم، وتصنيفها، وتقرير القواعد، وكثرة التفريع وفرض ما لم يقع، وبيان حكمه، وتفسير القرآن والسنة، واستخراج علوم الأدب، وتتبع كلام العرب أمر مندوب إليه، وأهله خير الخليقة.
وقال العراقي في شرح المحصول: من خصائصه صلى الله عليه وسلم أن الواحد من أمته يحصل له في العمر القصير من العلوم والفهوم ما لم يحصل لأحد من الأمم السابقة في العمر الطويل، ولهذا تهيأ للمجتهدين من هذه الأمة من العلوم، والاستنباطات، والمعارف ما تقصر عنه أعمارهم انتهى.
وقال قتادة: أعطى الله هذه الأمة من الحفظ ما لم يعطه أحدًا من الأمم، خاصة خصهم بها، وكرامة أكرمهم بها، انتهى.
"ولا تزال طائفة منهم" أي: من أمة الإجابة "ظاهرين" أي: غالبين "على الحق" منصورين على من خالفهم، واحتمال أن المراد بالظهور الشهرة، وعدم الاستتار بعيد، "حتى يأتي أمر الله" وهو وقوع الآيات العظام التي يعقبها قيام الساعة، ولا يتخلف عنها إلا قليلا.
وفي مسلم عن جابر بن سمرة، رفعه: "لن يرح هذا الدين قائمًا، تقاتل عليه عصابة من المسلمين حتى تقوم الساعة"، أي: إلى قرب قيامها، أو المراد: تقوم ساعتهم وهي حين تأتي الريح فتقبض روح كل مؤمن، فلا تنافي بينه وبين خبر مسلم: "لا تقوم الساعة إلا على شرار الناس"، وخبر مسلم والترمذي عنه صلى الله عليه وسلم: "لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض الله الله". "رواه الشيخان" من حديث المغيرة بن شعبة، رفعه: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك".
قال البخاري في الصحيح: والطائفة أهل العلم، وقال النووي في التهذيب: حمله العلماء(7/478)
ومنها: أن فيهم أقطابًا.
__________
أو جمهورهم على أهل العلم، وقد دعا لهم النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "نضر الله امرأ، سمع مقالتي فوعاها، فأداها كما سمعها". وجعلهم عدولا في حديث: "يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالبين وانتحال المبطلين". وهذا إخبار منه بصيانة العلم وحفظه، وعدالة ناقليه، وأنه تعالى يوفق له في كل عصر عدولا يحملونه وينفون عنه، وهو من أعلام نبوته، ولا يضر معه كون بعض الفساق يعرفون شيئًا من العلم؛ لأن الحديث إنما هو إخبار بأن العدول يحملونه، لا أن غيرهم لا يعرف منه شيئًا.
وقال النووي أيضًا: يجوز أن تكون الطائفة جماعة متعددة من أنواع الأمة، ما بين شجاع وبصير بالحرب، وفقيه ومفسر، ومحدث، وقائم بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وزاهد وعابد، ولا يلزم اجتماعهم في بلد واحد، بل يجوز اجتماعهم في قطر واحد، وتفرقهم في الأقطار، وأن يكونوا في بعض دون بعض، ويجوز إخلاء الأرض كلها من بعضهم أولا فأولا إلى أن لا يبقى إلا فرقة واحدة ببلد واحد، فإذا انقرضوا جاء أمر الله بقيام الساعة. انتهى.
وفيه معجزة بيته، فإن أهل السنة لم يزالوا ظاهرين في كل عصر إلى الآن، فمن حين ظهرت البدع على اختلاف نوفها من خوارج، ومعتزلة، ورافضة وغيرهم؛ لم يقم لأحد منهم دولة، ولم تستمر لهم شوكة، بل كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله بنور الكتاب والسنة، وزعمت المتصوفة أن الإشارة إليهم، لأنهم لزموا الاتباع بالأحوال، وأغناهم الاتباع عن الابتداع.
"ومنها أن فيهم" أي: الأمة "أقطابًا" ولا يلزم منه تعددهم في زمن واحد، فلا يخالف قوله الآتي: والغوث واحد وتصريح غيره بأن القطب واحد كلما مات أبدل، قال اليافعي في الكفاية: سمي قطبًا لدورانه في جهات الدنيا الأربع كدوران الفلك في أفق السماء، وقد سترت أحوال القطب وهو الغوث عن العامة والخاصة غيره من الحق عليه غير أنه يرى عالمًا كجاهل وأبله كفطن آخذًا تاركًا قريبًا بعيدًا سهلا عسرًا آمنًا حذرًا. وقال غيره: الأقطاب جمع قطب وهو الخليفة الباطن وسيد أهل زمانه سمي قطبًا لجمعه جميع المقامات والأحوال ودورانها عليه مأخوذ من القطب، وهو الحديدة التي تدور عليها الرحى ولا يعرف القطب من الأولياء إلا القليل جدًا، بل قال جمع: لا يراه أحد إلا بصورة استعداد الرائين فإذا رآه لم يره حقيقة. وذهب قوم إلى أن مرتبة القطبانية ثقيلة جدًا قل أن يقيم فيها أحد أكثر من ثلاثة أيام، وجمع إلى أنها كغيرها من الولايات يقيم فيها صاحبها لا ينعزل إلا بموت، وأول من تقطب بعد النبي صلى الله عليه وسلم الخلفاء الأربعة على ترتيبهم في الخلافة، ثم الحسن هذا ما عليه الجمهور، وذهب بعض الصوفية إلى أن أول من تقطب بعده ابنته فاطمة، قال بعضهم: ولم أره لغيره. وأول من تقطب بعد الصحابة عمر بن عبد العزيز، وإذا مات القطب خلفه أحد الإمامين لأنهما بمنزلة الوزيرين له أحدهما مقصور على(7/479)
وأوتادًا ونجباء وأبدالا.
عن أنس مرفوعًا: "الأبدال أربعون رجلا
__________
عالم الملكوت والآخر على عالم الملك، والأول أعلى مقامًا من الثاني. "وأوتادًا" أربعة في كل زمان لا يزيدون ولا ينقصون وهم العمد وهم حكم الجبال في الأرض، ولذا سموا أوتادًا يحفظ الله بأحدهم المشرق، والآخر المغرب، والآخر الجنوب، والآخر الشمال. وروى ابن عساكر من حديث علي الأوتاد من أبناء الكوفة، أي: أصلهم لا أنها مقرهم. وروى الحكيم الترمذي عن أبي الدرداء أن الأنبياء كانوا أوتاد الأرض، فلما انقطعت النبوة أبدل الله مكانهم قومًا من أمة محمد صلى الله عليه وسلم لم يفضلوا الناس بكثرة صوم ولا صلاة لكن بحسن الخلق والنية وصدق الورع وسلامة القلوب للمسلمين والنصح لله في ابتغاء مرضاته بصبر وحلم ولب وتواضع في غير مذلة فهم خلفاء الأنبياء قوم اصطفاهم الله لنفسه، واستخلصهم لعلمه يدفع الله بهم المكاره عن الأرض والبلايا عن الناس وبهم يرزقون ويمطرون. قال الحكيم: فهؤلاء أمان هذه الأمة فإذا ماتوا أفسدت الأرض وخربت الدنيا؛ وذلك قوله تعالى: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} "ونجباء" سبعون مسكنهم مصر ورتبتهم فوق النقباء ودون الأبدال على ما يأتي، "وأبدالا" بفتح الهمز جمع بدل سموا بذلك؛ لأنه إذا مات واحد أبدل مكانه آخر أو لأنهم أعطوا من القوة أن يتركوا بدلهم حيث يريدون، أي: أخلفوا صورة تحاكي صورتهم بحيث أن كل من رآها لا يشك في أنه هو، وهو لفظ مشترك يطلقونه على من تبدلت أوصافه الذميمة لمحمودة، ويطلقونه على عدد خاص مختلف في قدره، قاله ابن عربي. وأخرج الحاكم في كتاب الكنى له عن عطاء بن أبي رباح مرسلا، الأبدال من الموالي ولا يبغض الموالي إلا منافق، قال الحافظ ابن حجر في فتاويه: الأبدال ورد في عدة أخبار منها ما يصح وما لا. وأما القطب فورد في بعض الآثار، وأما الغوث بالوصف المشتهر بين الصوفية فلم يثبت، انتهى. عن أنس مرفوعًا: "ألإبدال أربعون رجلا" وفي حديث عبادة: ثلاثون رجلا قلوبهم على قلب إبراهيم، وكل منهم يعكر على قول الرافعي الأصح أنها سبعة، وقيل: أربعة عشر. وجمع بين الحديثين بأن ثلاثين منهم قلوبهم على قلب إبراهيم والعشرة ليسوا كذلك؛ كما صرح به خبر الحكيم الترمذي عن أبي هريرة؛ ومرده حديث ابن مسعود: "لا يزال أربعون رجلا من أمتي على قلب إبراهيم". وجمع بأن البدل له إطلاقًا كما يفيده الأحاديث في تخالف علاماتهم وصفاتهم أو أنهم يكونون في زمان أربعين وفي آخر ثلاثين، ورد بقوله: ولا الأربعون، أي: ينقصون كلما مات رجل ... إلخ، أو أن تلك الأعداد اصطلاح لوقوع الخلاف في بعضهم كالأبدال فقد يكون في ذلك العدد نظروا إلى مراتب عبروا عنها بالأبدال والنقباء والنجباء والأوتاد، وغير ذلك, والحديث نظر إلى مراتب أخرى والكل متفقون(7/480)
وأربعون امرأة، كلما مات رجل أبدل الله رجلا مكانه، وإذا ماتت امرأة أبدل الله مكانها امرأة". رواه الخلال في "كرامات الأولياء".
ورواه الطبراني في الأوسط بلفظ: "لن تخلو الأرض من أربعين رجلا مثل خليل الرحمن عليه الصلاة والسلام، فبهم يسقون وبهم ينصرون
__________
على وجود تلك الأعداد وبعد هذا لا يخفى، والأولى في الجمع بين الحديثين أن الإخبار بالثلاثين كان قبل أن يعلمه الله بالأربعين بدليل زيادة النساء في حديث أنس هذا، بقوله: "وأربعون امرأة كلما مات رجل أبدل الله رجلا مكانه وإذا ماتت امرأة أبدل الله مكانها امرأة" فإذا كان عند قيام الساعة ماتوا جميعًا، "رواه" أبو محمد الحسن بن أبي طالب بن محمد بن الحسن بن علي "الخلال" بفتح الخاء المعجمة وشد اللام الحافظ البغدادي ولد سنة اثنتين وخمسين وثلاثمائة، وسمع ابن شاذان وغيره وعنه الخطيب وعدة، قال الخطيب: كان ثقة خرج المسند على الصحيحين، مات سنة تسع وثلاثين وأربعمائة "في" كتابه المؤلف في "كرامات الأولياء" وأورده ابن الجوزي في الموضوعات، ثم سرد أحاديث الأبدال وطعن فيها واحدًا، وحكم بوضعها وتعقبه السيوطي بأن خبر الإبدال صحيح وإن شئت قلت متواتر، وأطال في بيان ذلك مثل هذا بالغ حد التواتر المعنوي بحيث يقطع بصحة وجود الأبدال ضرورة، "ورواه" أي: حديث أنس "الطبراني في الأوسط" قال الحافظ نور الدين الهيثمي بإسناد حسن بلفظ: "لن" قال الطيبي لتأكيد النفي في المستقبل وتقريره "تخلو الأرض من أربعين رجلا مثل خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام" أي: انفتح لهم طريق إلى الله على طريق إبراهيم، وفي إيثار الرحمن والخلة مزيد مقام وإيماء إلى مناسبة المقام إذ من كان مرضيًا للرحمن حقه أن ينشأ عنه صفة الرحمة من نفع البلاد والعباد، "فبهم يسقون وبهم ينصرون" على الأعداء، أي: بوجودهم أو بدعائهم وهو الأظهر فقد فسره ابن مسعود ولتفسيره مزية لأنه أدرى بما يسمع روى أبو نعيم عن ابن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن لله عز وجل في الخلق ثلاثمائة قلوبهم على قلب آدم ولله في الخلق أربعون قلوبهم على قلب موسى ولله سبعة في الخلق قلوبهم على قلب إبراهيم، ولله في الخالق خمسة قلوبهم على قلب جبريل، ولله في الخلق ثلاثة قلوبهم على قلب ميكائيل، ولله واحد قلبه على قلب إسرافيل فإذا مات الواحد أبدل الله مكانه من الثلاثة، وإذا مات من الثلاثة أبدل الله مكانه من الخمسة، وإذا مات من الخمسة أبدل الله مكانه من السبعة، وإذا مات من السبعة أبدل الله مكانه من الأربعين، وإذا مات من الأربعين أبدل الله مكانه من الثلاثمائة، وإذا مات من الثلاثمائة أبدل الله مكانه من العامة فيهم يحيي ويميت ويمطر وينبت ويرفع البلاء". قيل لابن مسعود: كيف يحيي ويميت؟ قال: لأنهم يسألون الله إكثار الأمم فيكثرون،(7/481)
ما مات منهم أحد إلا أبدل الله مكانه آخر".
ورواه ابن عدي في كامله بلفظ: "البدلاء أربعون، اثنان وعشرون بالشام وثمانية عشر بالعراق، كلما مات منهم أحد بدل الله مكانه آخر، فإذا جاء الأمر قبضوا كلهم، فعند ذلك تقوم الساعة".
وكذا يروى كما عند أحمد في المسند، والخلال، من حديث عبادة بن الصامت مرفوعًا. "لا يزال في هذه الأمة ثلاثون مثل إبراهيم خليل الرحمن، كلما مات واحد أبدل الله تعالى مكانه
__________
ويدعون على الجبابرة فيقصمون، ويستقون فيسقون، ويسألون فتنبت الأرض، ويدعون فيدفع بهم أنواع البلاء، قال في الفتوحات: معناه أنهم يتقلبون في المعارف الإلهية تقلب ذلك الشخص إذا كانت واردات العلوم الإلهية إنما ترد على القلوب فكل علم لم يرد على قلب ذلك الكبير من ملك أو رسول يرد على هذه القلوب التي هي على قلبه، وربما يقول بعضهم فلان على قدم فلان، ومعناه ما ذكر. وقال اليافعي في الكفاية عن بعض العارفين: الواحد الذي على قلب إسرافيل هو القطب ومكانه في الأولياء كالنقطة في الدائرة التي هي مركز لها به يقع صلاح العالم، وقال عن بعضهم: لم يذكر أن أحدًا على قلبه صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لم يخلق الله في عالم الخلق والأمم أعز وألف وأشرف من قلبه، فقلوب الأنبياء والملائكة والأولياء بالإضافة إلى قلبه كإضافة سائر الكواكب إلى كامل الشمس، انتهى. وهذا يرد قول ابن عربي أحد الأوتاد على قلبه عليه السلام، وله ركن الحجر الأسود "ما مات منهم أحد إلا أبدل الله مكانه آخر" بأن إقامته في التصرف الذي كان أمر به في حياته، فلا يرد أن الأولياء يتصرفون بعد موتهم بتصرفات خاصة تمكنوا منها وفعلوها لا لكونهم مأمورين بها لزوال التكليف بالموت، رواه ابن عدي في كامله بلفظ: "البدلاء أربعون اثنان وعشرون بالشام وثمانية عشر بالعراق، كلما مات منهم أحد أبدل الله مكانه آخر، فإذا جاء الأمر". قرب الساعة وهو الريح التي تأتي بقبض روح كل مؤمن ومؤمنة "قبضوا كلهم" وليس المراد بالأمر النفخة الأولى، لأن هؤلاء من خيار الخلق وقد قال صلى الله عليه وسلم: "لا تقوم الساعة إلا على شرار الناس". رواه مسلم. وقال هنا: "فعند ذلك" أي: مجيء الأمر "تقوم الساعة" وجعل قيامها بعقب موتهم؛ لأنه يقرب من قيامها والقريب من الشيء يعده العرف عنده أو المراد ساعتهم كما مر نظيره، "وكذا يروى كما عند أحمد في المسند والخلال" نسبة إلى الخل المأكول "من حديث عبادة بن الصامت مرفوعًا" بإسناد حسن: "ولا يزال في هذه الأمة ثلاثون مثل إبراهيم" وفي لفظ لأحمد من حديث عبادة: "الأبدال في هذه الأمة ثلاثون رجلا قلوبهم على قلب إبراهيم". "خليل الرحمن كلما مات واحد" وفي لفظة: رجل " أبدل الله تعالى(7/482)
رجلا".
وفي لفظ الطبراني في الكبير: "بهم تقوم الأرض وبهم يمطرون وبهم ينصرون".
ولأبي نعيم في الحلية، عن ابن عمر رفعه: "خيار في كل قرن خمسمائة والأبدال أربعون، فلا الخمسمائة ينقصون ولا الأربعون كلما مات رجل أبدل الله مكانه آخر، وهم في الأرض كلها".
وفي الحلية أيضًا عن ابن مسعود رفعه: "لا يزال أربعون رجلا من أمتي على
__________
مكانه رجلا"، قيل: فلذا سموا أبدالا، وقيل: لأنهم بدلوا الأخلاق السيئة حسنة وراضوا أنفسهم حتى صارت محاسن أخلاقهم حلية أعمالهم، قال العارف المرسي: كنت جالسًا بين يدي أستأذي الشاذلي، فدخل جماعة فقال: هؤلاء أبدال فنظرت ببصيرتي فلم أرهم أبدالا فتحيرت، فقال الشيخ: من بدلت سيآته حسناته فهو بدل فعلمت أنه أول مراتب البدلية، وعند ابن عساكر أن ابن المثنى سأل أحمد بن حنبل: ما تقول في بشر بن الحارث؟ قال: رابع سبعة من الأبدال، وقال المرسي: جلت في الملكوت فرأيت أبا مدين معلقا بساق العرش رجل أشقر أزرق العين، فقلت: ما علومك وما مقامك؟ قال: علومي أحد سبعون علمًا ومقامي رابع الخلفاء ورأس الأبدال السبعة، قلت: فالشاذلي قال ذاك بحر لا يحاط به، فظاهر هذا كله أن مراتب الثلاثين مختلفة.
"وفي لفظ الطبراني في الكبير" بإسناد صحيح من حديث عبادة الأبدال: "في أمتي ثلاثون بهم تقوم الأرض" أي: تعمر وينتظم أمر أهلها ببركتهم ودعائهم "وبهم يمطرون وبهم ينصرون على الأعداء". "ولأبي نعيم في الحلية" بإسناد ضعيف لا موضوع كما زعم ابن الجوزي والذهبي، فغاية ما في إسناده رجلان مجهولان، وذلك لا يقتضي اوضع بحال، "عن ابن عمر" بن الخطاب "رفعه: "خيار أمتي في كل قرن خمسمائة" من الناس "والأبدال أربعون" رجلا، "فلا الخمسمائة ينقصون ولا الأربعون" ينقصون "كلما مات رجل أبدل الله مكانه آخر" وبقية هذا الحديث في الحلية، قالوا: يا رسول الله دلنا على أعمالهم؟ قال: "يعفون عمن ظلمهم ويحسنون إلى من أساء إليهم ويتواسون فيما أتاهم الله". "وهم في الأرض كلها" فلا يختص وجودهم بمكان دون آخر ويؤيد هذا ما رواه الحكيم الترمذي: "إن الأرض شكت إلى ربها انقطاع النبوة، فقال تعالى: فسوف أجعل على ظهرك أربعين صديقًا كلما مات منهم رجل أبدلت مكانه رجلا". ولا يعارضه حديث: "الأبدال بالشام" لجواز أنها مقرهم ولكن يتصرفون في الأرض كلها.
وفي الحلية أيضًا عن ابن مسعود رفعه: "لا يزال أربعون رجلا من أمتي على قلب(7/483)
قلب إبراهيم، يدفع الله بهم عن أهل الأرض، يقال لهم الأبدال، إنهم لم يدركوها بصلاة ولا بصوم ولا بصدقة"، قال: فيما أدكروها يا رسول الله؟ قال: "بالسخاء والنصيحة للمسلمين".
__________
إبراهيم" أي: على حال مثل قلبه، فتخصيصه وقلبه لإفادة الصبر على البلاء بذبح الولد الاحتساب بالمولى والرضا مع التلذذ بما يرضاه الحبيب والتحبب إلى الخلق والبذل والكرم، المبادرة إلى التكاليف بأصدق الهم. "يدفع الله بهم عن أهل الأرض". كلها وخبر: "الأبدال في أهل الشام وبهم ينصرون وبهم يرزقون"، رواه الطبراني بسند حسن عن عوف بن مالك ونحوه حديث علي عند أحمد لا يخالفه، لأن نصرتهم لمن هم في جوارهم أتم وإن كانت أعم. "يقال لهم الأبدال إنهم لم يدركوها بصلاة ولا بصوم ولا بصدقة". قال: فبم أدركوها يا رسول الله؟ قال: "بالسخاء والنصيحة للمسلمين". ولا يرد هذا على قول أبي طالب في قوله يصير الأبدال أبدالا بالصمت والعزلة والجوع والسهر؛ لأن من بهذه الصفات يتصف بالسخاء والنصيحة. ولابن أبي الدنيا عن علي، قلت: يا رسول الله صفهم لي؟ قال: "ليسوا بالمتنطعين ولا بالمبتدعين ولا بالمتعمقين لم ينالوا ما نالوا بكثرة صيام ولا صلاة، ولكن بسخاء الأنفس وسلامة القلوب والنصيحة لأئمتهم". قال ابن عربي في كتاب حلية الأبدال: أخبرني صاحب لنا قال: بينا أنا ليلة في مصلاي قد أكملت وردي وجعلت رأسي بين ركبتي أذكر الله تعالى إذ أحسست بشخص قد نقض مصلاي من تحتي وبسط حصيرًا بدلها، وقال: صل عليه فداخلني منه فزع، فقال: من يأنس بالله لم يجزع، ثم قال: اتق الله في كل حال ثم ألهمت الصبر، فقلت: بماذا تصير الأبدال أبدالا؟ قال: بالأربعة التي ذكر أبو طالب في القوت الصمت والعزلة والجوع والسهر، ثم انصرف ولا أعرف كيف دخل ولا خرج وبابي مغلق. قال ابن عربي: وهذا رجل من الأبدال اسمه معاذ بن أشرس والأربعة المذكورة هي عماد هذا الطريق وقوامه زمن لا قدم له فيها ولا رسوخ فهو تائه عن طريق الله، قال: وإذا رحل البدن عن موضع ترك فيه بدله حقيقة روحانية تجتمع إليها أرواح أهل ذلك الموطن الذي رحل عنه هذا الولي، فإن ظهر شوق شديد من أناس ذلك الموطن لهذا الشخص تجسدت لهم تلك الحقيقة الروحانية التي تركها بدله فكلمتهم وكلموه وهو غائب عنهم، وقد يكون هذا في غير البدن لكن الفرق بينهما أن البدن يرجع ويعلم أنه ترك غيره، وغيره البدل لا يعرف ذلك وإن تركه، لأنه لم يحكم هذه الأربعة المذكورة، قال: وفي ذلك قلت:
يا من أراد منازل الأبدال ... من غير قصد منه للأعمال
لا تطمعن بها فلست من أهلها ... إن لم تزاحمهم على الأحوال(7/484)
وعن معروف الكرخي: من قال اللهم ارحم أمة محمد في كل يوم كتبه الله من الأبدال. وهو في الحلية بلفظ: من قال في كل يوم عشر مرات اللهم أصلح أمة محمد، اللهم فرج عن أمة محمد، اللهم ارحم أمة محمد كتب في الأبدال.
وعن غيره قال: من علامة الأبدال أن لا يولد لهم، ويروى في مرفوع معضل: "علامة أبدال أمتي أنهم لا يلعنون شيئًا أبدًا".
__________
واصمت بقلبك واعتزل عن كل من ... يدينك من غير الحبيب الوالي
وإذا سهرت وجعت نلت مقامهم ... وصحبتهم في الحل والترحال
بيت الولاية قسمت أركانه ... ساداتنا فيه من الأبدال
ما بين صمت اعتزال دائم ... والجوع والسهر النزيه العالي
"وعن معروف" بن فيروز "الكرخي" بفتح فسكون فخاء معجمة نسبة إلى كرخ ببغداد الإمام شيخ السلسلة، أستاذ السري السقطي، لم يكن في العراق من يربي المريدين في زمنه مثله، حتى عرف جميع المشايخ فضله، وكان ابن حنبل وابن معين يختلفان إليه يسألاه ولم يكن مثلهما في علم الظاهر، فيقال لهما مثلكما يفعل ذلك، فيقولان: كيف نفعل إذا جاءنا أمر لم نجده في كتاب الله ولا سنة رسوله، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "سلوا الصالحين". وكرامته كثيرة وكان يهدى إليه طيبات الطعام فيأكل، فقيل له: إن أخاك بشرا الحافي لا يأكل، فيقول: أخي قبضه الورع وأنا بسطتني المعرفة، إنما أنا ضيف في دار مولاي مهما أطعمني أكلت، مات سنة إحدى ومائتين. "من قال: اللهم ارحم أمة محمد في كل يوم كتبه الله من الأبدال" إن فعل الطاعات واجتنب المنهيات أو أن قائل ذلك وإن كان مرتكبًا للحرام، يوفق للتوبة النصوح إلى أن يكون منهم، ثم لا يلزم من كتبه منهم في الأجر كونه منهم حقيقة نحو حديث: "من حفظ على أمتي أربعين حديثًا"، وخبر: "أعطي أجر الشهيد" "وهو في الحلية" عن معروف "بلفظ من قال في كل يوم عشر مرات: اللهم أصلح أمة محمد، اللهم فرج عن أمة محمد، اللهم ارحم أمة محمد كتب من الأبدال" مصاحبة ووصفًا بحيث يحشر معهم لا ذاتًا، فلا ينافي أن قائل ذلك يكون منهم وإن ولدهم أولاد كثيرة "وعن غيره قال: من علامة الأبدال أن لا يولد لهم" لئلا يشغلوا عما أقيموا فيه، ولا يرد على ذلك الأنبياء ونحوهم لأن البدلاء لم يصلوا إلى مقامهم، "ويروى في مرفوع" إلى النبي صلى الله عليه وسلم "معضل" بأن سقط من سنده اثنان ففوق، وهذا رواه ابن أبي الدنيا في كتاب الأولياء عن بكر بن خنيس بمعجمة، ونون ومهملة مصغر الكوفي صدوق له أغلاط قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "علامة أبدال أمتي أنهم لا يلعنون شيئًا" من المخلوقات "أبدًا" لأن اللعن: الطرد والبعد عن الله وهم إنما يقربون إلى الله ولا يبعدون عنه ويروى عن معاذ مرفوعًا: "ثلاث من كن فيه فهو من الأبدال الرضا(7/485)
وقال يزيد بن هارون: الأبدال هم أهل العلم، وقال الإمام أحمد، إن لم يكونوا أصحاب الحديث فمن هم؟
وفي تاريخ بغداد للخطيب، عن الكتاني، قال: النقباء ثلاثمائة، والنجباء سبعون، والبدلاء أربعون، والأخيار سبعة، والعمد أربعة، والغوث واحد، فمسكن النقباء المغرب، ومسكن النجباء مصر، ومسكن الأبدال الشام.
__________
بالقضاء والصبر عن محارم الله والغضب في ذات الله"، رواه الديلمي. "وقال يزيد" بتحتية أوله فزاي "ابن هارون" السلمي مولاهم أبو خالد الوسطى، ثقة متقن من رجال الجميع عابد، مات سنة ست ومائتين، وقد قارب التسعين "الأبدال هم أهل العلم" النافع، وهو علم الظاهر والباطن لا الظاهر وحده، "وقال أحمد" الإمام ابن حنبل: "إن لم يكونوا أصحاب الحديث فمن هم" قال الحافظ ابن رجب الحنبلي في فضل الشام له: مراد أحمد بأصحاب الحديث من حفظه وعلمه وعمل به، فإنه نص أيضًا من عمل بالحديث لا من اقتصر على طلبه، ولا ريب أن من علم سنن النبي صلى الله عليه وسلم وعمل بها وعلمها الناس، فهو من خلفاء الرسل وورثة الأنبياء ولا أحد أحق بأن يكون من الأبدال منه، انتهى. وقال غيره مراده من هو مثله ممن جمع بين علمي الظاهر والباطن، وأحاط بالأحكام والحكم والمعارف كسائر الأئمة الأربعة ونظرائهم، فهؤلاء خيار الأبدال والنجباء والأوتاد، فاحذر أن يسوء بأحد منهم وأن يسول لك الشيطان، ومن استولى عليه ممن لم يهتد بنور المعرفة إن المجتهدين لم يبلغوا تلك المرتبة، وقد اتفقوا على أن الشافعي كان من الأوتاد، وقيل: إنه تقطب قبل موته، "وفي تاريخ بغداد للخطيب" وتاريخ الشام لابن عساكر كلاهما، "عن الكتاني" بالفتح والفوقية نسبة إلى الكتان، وعمله الإمام المحدث المتقن أبي محمد عبد العزيز بن محمد بن علي التميمي الدمشقي محدث دمشق، ومفيدها سمع الكثير وألف وجمع. قال الذهبي: ويحتمل أن يوصف بالحفظ في زمنه، ولو وجد في زماننا لعد في الحفاظ. وقال ابن الأثير: حافظ كبير متقن: روى عن تمام بن محمد وغيره وعنه الخطيب وابن ماكولا وغيرهما، مات سنة تسع وثمانين وثلاثمائة "قال: النقباء ثلاثمائة" لعلهم الذين قال فيهم: قلوبهم على قلب آدم، "والنجباء سبعون والبدلاء أربعون، والأخيار سبعة، والعمد أربعة" وهم الأوتاد "والغوث واحد، فمسكن النقباء المغرب ومسكن النجباء مصر" المدينة المعروفة، فلا تصرف كقوله: {ادْخُلُوا مِصْرَ} ، "ومسكن الأبدال الشام" أي: أكثرهم فلا يخالف ما مر أن ثمانية عشر بالعراق إن صح، ثم المراد محل إقامتهم، فلا ينافي تصرفهم في الأرض كلها كما مر في حديث: "وهم في الأرض"، "والأخيار سياحون في الأرض" لا يستقرون بمكان، "والعمد" الأوتاد "في زوايا الأرض، أي: جهاتها الأربع" واحد بالمشرق وآخر بالمغرب، وآخر بالجنوب، وآخر بالشمال. قال ابن عربي: ولكل ركن من البيت، ويكون على قلب(7/486)
ومسكن الغوث مكة، فإذا عرضت الحاجة من أمر العامة ابتهل النقباء ثم النجباء ثم الأبدال ثم الأخيار ثم العمد، فإن أجيبوا وإلا ابتهل الغوث، فلا تتم مسألته حتى تجاب دعوته، انتهى.
ومنها أنهم يدخلون قبورهم بذنوبهم، ويخرجون منها.
__________
إبراهيم العراق وقلب عيسى اليماني وقلب محمد له ركن الحجر الأسود. كذا قال وهو مخالف لما سبق أن قلب المصطفى لا يضارعه أحد، فلذا لم يذكر أن أحدًا على قلبه "ومسكن الغوث" وهو القطب الفرد الجامع "مكة" وقيل اليمن، رواه ابن عساكر عن أبي سليمان الداراني، والأصح أن إقامته لا تختص بمكة ولا بغيرها، بل جوال وقلبه طواف في حضرة الحق يقدس لا يخرج من حضرته أبدًا، ويشهده في كل جهة ومن كل جهة مما جاء فيه كما قال بعض المحدثين: خبر أبي نعيم مرفوعًا: "إن لله تعالى في كل بدعة كيد بها الإسلام وأهله، وليًا صالحًا يذب عنه ويتكلم بعلاماته، فاغتنموا حضور تلك المجالس بالذب عن الضعفاء وتوكلوا على الله وكفى بالله وكيلا". "فإذا عرضت الحاجة من أمر العامة ابتهل فيها النقباء، ثم النجباء، ثم الأبدال، ثم الأخيار، ثم العمد فإن أجيبوا" بخصوص تلك الحاجة "وإلا ابتهل الغوث" فلا يخاف ما ورد أن دعوة المؤمن لا ترد، لا سيما وحال هؤلاء يقتضي إجابة دعائهم دائمًا، إلا أن الإجابة قد تكون بخصوص المسئول وقد تكون بغيره، قد تدخر للقيامة، وقد تؤخر الإجابة فتشد الضرورة لحصول المطلوب في ذلك الوقت، فيبتهل الغوث لتنجيز المسئول دفعًا للضرورة ما أمكن، "فلا تتم مسألته حتى تجاب دعوته" لطفًا من الله بعباده, وقد زعم ابن الجوزي أن أحاديث الأبدال كلها موضوعة، ونازعه السيوطي، وقال: خبر الأبدال صحيح وإن شئت قلت: متواترًا يعني: تواترا معنويًّا كما أشار إليه بعده. وقال السخاوي له طرق عن أنس بألفاظ مختلفة كلها ضعيفة، ثم ساق ما ذكره المصنف وزيادة، ثم قال: وأحسن مما تقدم ما رواه أحمد من حديث شريح، يعني: ابن عبيد قال: ذكر أهل الشام عند علي وهو بالعراق، فقالوا: العنهم يا أمير المؤمنين، قال: لا إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "البدلاء يكونون بالشام، وهم أربعون رجلا، كلما مات رجل أبدل الله مكانه رجلا يستقي بهم الغيث وينتصر بهم على الأعداء، ويصرف عن أهل الشام العذاب". رجاله من رواة الصحيح إلا شريحًا، وهو ثقة، انتهى. وقال السيوطي حديث أخرجه أحمد والطبراني، والحاكم من طرق أكثر من عشرة، انتهى. قال السخاوي: ومما يقوي الحديث ويدل لانتشاره بين الأئمة، قول الشافعي في بعضهم: كنا نعده من الأبدال، وقول البخاري في غيره كانوا لا يشكون أنه من الأبدال، وكذا وصف غيرهما من النقاد والحفاظ والأئمة غير واحد بأنهم من الأبدال، ويقال: ما تغرب الشمس يومًا ويطوف بالبيت رجل من الأبدال، ولا يطلع الفجر من ليلة إلا ويطوف به واحد من الأوتاد، وإذا انقطع ذلك كان سبب رفعه من الأرض.
"ومنها: أنهم يدخلون قبورهم بذنوبهم" غير معرضين عنها ولا تائبين، "ويخرجون منها(7/487)
بلا ذنوب، تمحص عنهم باستغفار المؤمنين لهم. رواه الطبراني في الأوسط من حديث أنس، ولفظه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمتي أمة مرحومة تدخل قبورها بذنوبها، وتخرج من قبورها لا ذنوب عليها، تمحص عنها باستغفار المؤمنين لها
__________
بلا ذنوب تمحص عنهم باستغفار المؤمنين لهم"بيان لسبب خروجهم بلا ذنوب، كأنه قال: لأنها تمحص عنهم بسبب طلب المغفرة لهم، والتمحيص تنقيص الشيء شيئًا فشيئًا إلى أن يذهب، فاستغفار المؤمنين يزيل الذنوب شيئًا فشيئًا، حتى تذهب، فيخرج من قبره طاهرًا منها، وقد يكون بحسابه في قبره، ويستوفي منه فيه إما بعقابه على جميعها، أو على بعضها، مع العفو عن باقيها، فيخرج أيضًا طاهرًا منها.
قال الحكيم الترمذي: إنما حوسب المؤمن في قبره ليكون أهون عليه في الموقف، فتمحص ذنوبه في البرزخ، فيخرج منه، وقد اقتص منه، وأيضًا لسرهم في المحشر حيث لم يكن عليهم ما يفتضحون به على رءوس الأشهاد، "رواه الطبراني في الأوسط من حديث أنس، ولفظه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمتي" أي: أمة الإجابة "أمة مرحومة" من الله، أو من بعضهم لبعض، مغفور لها من بارئها، متوب عليها من الله، بمعنى: أنه لا يتركا مصرة على الذنب، ورواه ابن ماجه والبيهقي في البعث، بلفظ: "إن هذه الأمة مرحومة". "تدخل قبورها بذنوبها" والروايتان متفقتان معنى في صدر الحديث، ولفظًا ومعنى في باقيه، "وتخرج من قبورها لا ذنوب عليها، تمحص عنها باستغفار المؤمنين لها" فنزول جميعها حقيقة أو حكمًا بزوال معظمها للأدلة القطعية أنه لا بد من دخول طائفة من عصاة هذه الأمة النار، لكنه لما قل بالنسبة لما ذهب نزل منزلة العدم، حتى كأنها غفرت جميعها.
وروى أبو داود وغيره: "أمتي هذه أمة مرحومة ليس عليها عذاب في الآخرة، إنما عذابها في الدنيا في الفتن، والزلازل، والقتل، والبلايا"، ونفي عذابها في الآخرة، بمعنى أن من عذب منهم لا يحس بألم النار إلا قليلا؛ كما ورد مرفوعًا: "إذا أدخل الموحدين النار أماتهم فيها إماتة، فإذا أراد أن يخرجهم منها أمسهم ألم العذاب تلك الساعة"، رواه الديلمي ولخفة ألمها، قال صلى الله عليه وسلم: "إنما حر جهنم على أمتي كحر الحمام". رواه الطبراني برجال ثقات، ولا تناقض بين الخبرين؛ لأنها تكون عليهم عند إحيائهم، والأمر بإخراجهم كحر الحمام اللطيف الذي لا يؤذي الجسم ولا يوهنه.
وروى الدارقطني عن ابن عباس رفعه: "إن حظ أمتي من النار طول بلائها تحت التراب" وزعم أن المراد لا عذاب عليها في عموم الأعضاء؛ لأن أعضاء الوضوء لا تمسها النار تكلف مستغنى عنه، وقوله: "الفتن"، أي: الحروب والهرج بينهم، والبلايا التي منها استيفاء الحد ممن فعل موجبه، وعجلت العقوبة على الذنب في الدنيا؛ لأن شأن الأمم السالفة كان يجري على(7/488)
ومنها أنهم اختصوا في الآخرة بأنهم أول من تنشق عنهم الأرض من الأمم. رواه أبو نعيم عن ابن عباس مرفوعًا بلفظ: "وأنا أول من تنشق الأرض عني وعن أمتي ولا فخر".
ومنها: أنهم يدعون يوم القيامة غرًا محجلين من آثار الوضوء، رواه البخاري.
والغرة: بياض في وجه الفرس. والتحجيل: بياض في قوائمه وذلك مما يكسبه حسنًا وجمالا.
فشبه صلى الله عليه وسلم النور الذي يكون يوم القيامة في أعضاء الوضوء بالغرة والتحجيل، ليفهم أن هذا البياض في أعضاء الإنسان مما يزينه لا مما يشينه، يعني أنهم إذا دعوا على رءوس الأشهاد نودوا بهذا الوصف، أو كانوا على هذه الصفة.
__________
سبيل العدل وأساس الربوبية، وشأن هذه الأمة يجري على نهج الفضل، فمن ثم ظهر في بني إسرائيل السياحة والرهبانية، وعليهم في شريعتهم الأغلال والآصار، وظهرت في هذه الأمة السماحة، ففك عنهم الأغلال، ووضع عنهم الآصار؛ كما مر.
"ومنها: أنهم اختصوا في الآخرة؛ بأنهم أول من تنشق عنهم الأرض من الأمم" بعد الأنبياء، "رواه أبو نعيم عن ابن عباس، مرفوعًا" في حديث، "بلفظ: "وأنا أول من تنشق الأرض عني"، قيل الأنبياء، وعن أمتي" قبل الأمم، "ولا فخر" أعظم من ذلك، أو لا أقول ذلك، افتخارًا، بل تحدثا بالنعمة.
"ومنها: أنهم يدعون يوم القيامة" إلى موقف الحساب، أو الميزان، أو الصراط، أو الحوض، أو غير ذلك "غرًا" بضم المعجمة والتشديد: جمع أغر، أي: ذي غرة "محجلين من آثار الوضوء" رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة، "والغرة بياض في وجه" أي: جبهة "الفرس" فوق الدرهم "والتحجيل" أصله من الحجل، بكسر الحاء: الخلخال، "بياض في قوائمه" الأربع، أو في ثلاث منها أو في غيرها، "وذلك مما يكسبه حسنًا وجمالا، فشبه صلى الله عليه وسلم النور الذي يكون يوم القيامة في أعضاء الوضوء بالغرة والتحجيل، ليفهم أن هذا البياض في أعضاء الإنسان مما يزينه" بفتح أوله "لا مما يشينه" دفعًا لتوهم البرص لو قال: يدعون بيضًا مثلا، "يعني: أنهم إذا دعوا على رءوس الأشهاد نودوا بهذا الوصف" بأن يقال لهم: يا غر يا محجلون، "أو كانا على هذه الصفة" وهي النور الكائن في أعضائهم، وإن نودوا بأسمائهم، وظاهره حجة للشافعي من ندب إطالة الغرة بغسل زائد على ما وجب من اليدين والرجلين ومع الوجه مقدم الرأس، وصفحة العنق، وذهب الأئمة الثلاثة(7/489)
ومنها أنهم يكونون في الموقف على مكان عال. رواه ابن جرير وابن مردويه من حديث جابر مرفوعًا بلفظ: "أنا وأمتي على كوم مشرفين على الخلائق، ما من الناس أحد إلا ودَّ أنه منا، وما من نبي كذبه قومه إلا ونحن نشهد له أنه بلغ رسالة ربه".
وعند ابن مردويه من حديث كعب قال صلى الله عليه وسلم: "أنا وأمتي على تل".
ومنها: أن لهم سيما في وجوههم من أثر السجود. قال تعالى: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} [الفتح: 29] . وهل هذه العلامة في الدنيا أو في الآخرة؟، فيه قولان:
أحدهما: أنها في الدنيا، قال ابن عباس في رواية أبي طلحة: السمت الحسن. وقال في رواية مجاهد: ليست السيمات بالتي ترون، هي سمة الإسلام وسيماه وخشوعه.
__________
إلى عدم ندب ذلك، وأولوا الإطالة في قوله: "فمن استطاع منكم أن يطيل غرته، فليفعل بإدامة الوضوء".
"ومنها: أنهم يكونون في الموقف" مع نبيهم "على مكان عال" عبر عنه في الحديث تارة بكوم، وأخرى بتل، "رواه ابن جرير، وابن مردويه، من حديث جابر، مرفوعًا بلفظ: "أنا وأمتي" نكون "على كوم" فهو صلة محذوف، "مشرفين على الخلائق، ما من الناس أحد إلا ود" تمنى "أنه منا" لنيل هذا المقام والاستراحة، مما في الموقف من الزحام، "وما من نبي كذبه قومه إلا ونحن نشهد له أنه بلغ رسالة ربه" كما قال تعالى: {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143] الآية، قال ابن عد السلام: وهذه خصوصية لم تثبت لغيرهم.
"وعند ابن مردويه من حديث كعب" من مالك الأنصاري، قال صلى الله عليه وسلم: "أنا وأمتي على تل" مكان عال، زاد في الأنموذج: ولهم نوران كالأنبياء، وليس لغيرهم إلا نور واحد.
"ومنها: أن لهم سيما" فعلى من سامه إذا أعلمه، وقد قرئت ممدودة، "في وجوههم من أثر السجود، قال تعالى: {سِيمَاهُمْ} علامتهم مبتدأ {فِي وُجُوهِهِمْ} ، خبره {مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} متعلق بما علق به الخبر، أي: كائنة، وأعرب حالًا من ضميره المنتقل إلى الخبر، "وهل هذه العلامة في الدنيا أو في الآخرة، فيه قولان، أحدهما: أنها في الدنيا".
"قال ابن عباس في رواية أبي طلحة" عنه: هي "السمت الحسن" أي: السكينة والوقار، "وقال" ابن عباس "في رواية مجاهد" عنه: "ليست السيمات بالتي ترون" من الأثر في جباه الساجدين، بل "هي سمة الإسلام، وسيماه وخشوعه"، وفي البيضاوي تفسيرها بالأثر،(7/490)
وقيل: الصفرة في الوجه من أثر السجود، فتحسبهم مرضى وما هم بمرضى.
والقول الثاني: أنه في الآخرة يعني أن مواضع السجود من وجوههم تكون أشد بياضًا يوم القيامة، يعرفون بتلك العلامة أنهم سجدوا في الدنيا، رواه العوفي عن ابن عباس, وعن شهر بن حوشب: تكون مواضع السجود من وجوههم كالقمر ليلة البدر.
__________
قال: يريد السمة التي تحدث في جباههم من كثرة السجود، "وقيل" هي "الصفرة في الوجه من أثر السجود، فتحسبهم مرضى وما هم بمرضى" وذلك محمود بخلاف ما إذا لم يكن للغير سجود ولا علة.
روى أبو نعيم في الطب، عن أنس، رفعه: "إذا رأيتم الرجل أصفر الوجه من غير مرض ولا عبادة فذاك من غش الإسلام في قلبه" وروى الديلمي عن ابن عباس مرفوعًا: "احذروا صفر الوجوه؛ فإنه لم يكن من علة أو سهر، فإنه من غل في قلوبهم للمسلمين".
"والقول الثاني: أنه في الآخرة، يعني: أن مواضع السجود من وجوههم تكون أشد بياضًا يوم القيامة" من بقية أجسادهم، "يعرفون بتلك العلامة؛ أنهم سجدوا في الدنيا، رواه العوفي" بفتح المهملة، وسكون الواو، وبالفاء عطية بن سعد بن جنادة، بضم الجيم، بعدها نون خفيفة، أبو الحسن الكوفي، صدوق، يخطئ كثيرًا، وكان شيعيًا مدلسًا، مات سنة إحدى عشرة ومائة، روى له أبو داود، والترمذي، والنسائي، وهو المراد عند الإطلاق؛ كما في الأنساب من التقريب، فليس المراد به يحيى بن يعمر، قاضي مرو، كما توهم من قول اللباب، يروي عن ابن عباس وابن عمر، "عن ابن عباس، وروى "عن شهر بن حوشب" الأشعري، الشامي، مولى أسماء بنت يزيد بن السكن، تابعي، صدوق: كثير الإرسال والأوهان، مات سنة اثنتي عشرة ومائة، روى له مسلم وأصحاب السنن: "تكون" يوم القيامة "مواضع السجود من وجوههم، كالقمر ليلة البدر" وأيد ذ القول بقوله صلى الله عليه وسلم: "أمتي يوم القيامة غر من السجود، محجلون من الوضوء"، رواه الترمذي عن عبد الله بن بسر، بضم الموحدة، وسكون المهملة، أي: من أثر سجودهم في الصلاة، أثر وضوئهم في الدنيا، وقد سجدت الأمم قبلهم، فلم يظهر على جباههم ذلك النور، وتطهروا فلم يظهر على أطرافهم من ذلك شيء، فهو علامة هذه الأمة في الموقف، بها يعرفون، ذكره الحكيم الترمذي.
ولا تنافي بين هذا الحديث وبين حديث الصحيحين: "أن أمتي يدعون يوم القيامة غرًا محجلين من آثار الوضوء" لأن وجه المؤمن يكسى في القيامة نورًا من أثر السجود، ونورًا من أثر الوضوء، نور على نور، فمن كان أكثر نورًا، وأكثر وضوءا في الدنيا، كان وجهه أعظم ضياء(7/491)
وقال عطاء الخراساني: ودخل في هذه الآية من حافظ على الصلوات الخمس.
ومنها أنهم يؤتون كتبهم بأيمانهم. رواه البزار.
ومنها: أن نورهم يسعى بين أيديهم. أخرجه أحمد بإسناد صحيح.
ومنها: أن لهم ما سعوا، وما يسعى لهم، وليس لمن قبلهم إلا ما سعى، قاله عكرمة.
وأما قوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم: 39] ، ففيها
__________
وأشد إشراقًا من غيره، فيكونون فيه على مراتب في عظم النور والأنوار لا تتزاحم، ألا ترى أنه لو أدخل سراج في بيت ملأه نورًا، فإذا أدخل فيه آخر وآخر تزايد النور، ولا يزاحم الثاني الأول، ولا الثالث الثاني، وهكذا.
"وقال عطاء" بن أبي مسلم أبو عثمان "الخراساني" واسم أبيه ميسرة، وقيل: عبد الله صدوق، يهم كثيرًا ويرسل ويدلس، مات سنة خمس وثلاثين ومائة، روى له النسائي وابن ماجه ولم يصح أن البخاري أخرج له: "ودخل في هذه الآية كل من حافظ على الصلوات الخمس" فليس المراد النوافل فقط، فما تقرب متقرب إلى الله بأحب من أداء ما افترضه عليه.
"ومنها: أنهم يؤتون كتبهم بأيمانهم، رواه البزار" وغيره.
"ومنها: أن نورهم يسعى بين أيديهم" أمامهم على الصراط، ويكون بإيمانهم، قال تعالى: {يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا} [التحريم: 8] الآية، أي: إلى الجنة، "أخرجه أحمد بإسناد صحيح" عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إني لأعرف أمتي يوم القيامة من بين الأمم، أعرفهم يؤتون كتبهم بأيمانهم، وأعرفهم بسيماهم في وجوههم من أثر السجود، وأعرفهم بنورهم يسعى بين أيديهم"، زاد الأنموذج: "ويمرون على الصراط كالبرق والريح، ويشفع محسنهم في مسيئهم".
"ومنها: أن لهم ما سعوا" أي: عملوا، فكتب لهم ثواب أعمالهم، "وما يسعى لهم" أ: يعمل لأجلهم من صدقة ودعاء وغيرهما على ما يأتي، "وليس لمن قبلهم إلا ما سعى، قاله عكرمة" رواه ابن أبي حاتم وغيره عنه.
"وما قوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} قال البيضاوي: إلا سعيه، أي: كما لا يؤاخذ أحد بذنب الغير، لا يثاب بفعله، وما جاء في الأخبار من أن الصدقة والحج ينفعان الميت، فلكون الناوي له كالنائب عنه، "ففيها" أي: ففي الجواب عنها(7/492)
أجوبة:
أحدها: أنها منسوخة، روي ذلك عن ابن عباس، نسخها قوله تعالى: {وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الطور: 21] ، فجعل الولد الطفل في ميزان أبيه، ويشفع الله تعالى الآباء في الأبناء، والأبناء في الآباء، بدليل قوله تعالى: {آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا} [النساء: 11] .
__________
"أجوبة" فالظرفية هنا اعتبارية، فلا يقال كان المتبادر فعنها، وليس من معاني عن في، فلا ترد بمعناها، فقد ذكر صاحب المغني جملة ما ذكر لعن عشرة معان ليس فيه ورودها بمعنى في، "أحدها: أنها منسوخة، روى ذلك عن ابن عباس نسخها، قوله تعالى" {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ} معطوف على آمنوا {ذُرِّيَّتُهُمْ} الكبار والصغار {بِإِيمَانٍ} من الكبار ومن الآباء في الصغار، ثم الذين آمنوا مبتدأ، والخبر قوله: {أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُْ} الآية، المذكورين في الجنة، فيكونون في درجتهم وإن لم يعملوا بعملهم تكرمة للآباء باجتماع الأولاد إليهم، "فجعل الولد الطفل في ميزان أبيه" أي: في درجته أو في دخول الجنة، "ويشفع الله تعالى للآباء في الأبناء، والأبناء في الآباء" أي: يأذن لكل منهم في الشفاعة فيشفع، وإذا شفع قبل شفاعته، "بدليل قوله تعالى: {آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ} مبتدأ، خبره {لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا} الآية، في الدنيا والآخرة، فظان أن ابنه أنفع له فيعطيه الميراث فيكون الأب أنفع وبالعكس، وإنما العالم هو الله تعالى، ففرض لكم الميراث.
أخرج ابن مردويه، وصححه الضياء المقدسي، عن ابن عباس، رفعه: "إذا دخل الرجل الجنة، سأل عن أبويه وزوجته وولده، فيقال: إنهم لم يبلغوا درجتك أو عملك، فيقول: يا رب قد عملت لي ولهم، فيؤمر بالإلحاق به"، وأخرجه الطبراني، والبزار، وأبو نعيم، عن ابن عباس مرفوعًا، بلفظ: "ذرية المؤمن في درجته، وإن كانوا دونه في العمل لتقر بهم عينه"، ثم قرأ: {وَالَّذِينَ آمَنُوا} الآية، إلى قوله: {وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} ، قال: ما نقصنا الآباء مما أعطينا البنين هذا، وقد ضعف ابن عطية هذا القول بالنسخ، بأن قوله: {وَأَنْ لَيَسَ} الآية خبر، والخبر لا ينسخ؛ ولأن شروط النسخ ليس هنا، قال: اللهم إلا أن يتجوز في لفظ النسخ، وقال ابن القيم في كتاب الروح: ذهبت طائفة إلى أنها منسوخة.
وروي عن ابن عباس، وهو ضعيف، ولا يرفع حكم الآية بمجرد قول ابن عباس ولا غيره أنها منسوخة، قال: والجمع بين الآيتين غير متعذر؛ كذا قال: وفيه أنه إن صح ما روي عن ابن عباس، كان حكمه الرفع؛ لأنه لا مجال للرأي فيه.(7/493)
الثاني: أنها مخصوصة بالكافر، وأما المؤمن فله ما سعى غيره. قال القرطبي: وكثير من الأحاديث يدل على هذا القول، وأن المؤمن يصل إليه ثواب العمل الصالح من غيره, وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: "من مات وعليه صيام صام عنه وليه"، وقال صلى الله عليه وسلم للذي حج عنه غيره: "حج عن نفسك ثم حج عن شبرمة"، وعن عائشة أنها اعتكفت عن أخيها عبد الرحمن وأعتقت عنه.
وقال سعد للنبي صلى الله عليه وسلم: إن أمي توفيت.
__________
"الثاني: أنها مخصوصة بالكافر" أي: كافرًا وكافر مخصوص اختلف فيه على ما يأتي، "وأما المؤمن، فله ما سعى" أي: عمل "غيره" عنه بنيته على تفصيل وخلاف مقرر في الفروع.
"قال القرطبي: وكثير من الأحاديث يدل على هذا القول، وأن المؤمن يصل إليه ثواب العمل الصالح من غيره" عنه بالنية، "وفي الصحيح" للبخاري ومسلم عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم: "من مات" عام في المكلفين بقرينة قوله: "وعليه صيام" وهذا لفظ الصحيحين، ولم يصب من عزاه لهما بلفظ صوم، "صام عنه" ولو بغير إذنه، "وليه" جوازًا لا لزومًا، وإليه ذهب الشافعي في القديم وعمل به الجمهور.
وقال في الجديد: وهو مذهب أبي حنيفة ومالك: لا يجوز الصوم عن الميت؛ لأنه عبادة بدنية، والمراد بوليه على الأول كل قريب أو الوارث أو عصبته، وخرج الأجنبي، فإنما يصوم بإذنه أو وليه بأجر أو دونه.
"وقال صلى الله عليه وسلم للذي حج عن غيره" كما روى أبو داود، وابن ماجه، برجال ثقات، ن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلا يقول: لبيك عن شبرمة، فقال: "من شبرمة"؟ فقال: أخ أو قريب لي، قال: "حججت عن نفسك"؟ قال: لا، قال: "حج عن نفسك، ثم حج عن شبرمة" بضم الشين المعجمة، وإسكان الموحدة، وضم الراء، قال الحافظ في تخريج أحاديث الشرح الكبير: زعم ابن باطيس أن اسم الملبي تبيشة، ومن النوادر أن بعض القضاة ممن أدركنا صحف شبرمة، فقال: شبرمنت، بلفظ القرية التي بالجيزة، انتهى، فمن عليه حج الفرض لا يصح حجه عن غيره، فإن أحرم عنه وقع عن نفسه وعليه الشافعي، وصححه أبو حنيفة ومالك مع الكراهة، والجمهور على كراهة إجارة الإنسان نفسه للحج، لكن حمل على قصد الدنيا، أما لقصد الآخرة لاحتياجه للأجرة ليصرفها في واجب أو مندوب، فلا.
وعن عائشة: أنها اعتكفت عن أخيها" شقيقها "عبد الرحمن، وأعتق عنه" بعد موته فجأة، سنة ثلاث وخمسين، وقيل بعدها في طريق مكة، "وقال سعد" بن عبادة سيد الخزرج "للنبي صلى الله عليه وسلم: إن أمي" عمرة بنت مسعود الصحابية "توفيت" سنة خمس والنبي صلى الله عليه وسلم في غزوة(7/494)
أفأتصدق عنها؟ قال: "نعم"، قال: فأي الصدقة أفضل؟، قال: "سقي الماء".
وفي الموطأ عن عبد الله بن أبي بكر عن عمته أنها حدثته عن جدته: أنها جعلت على نفسها مشيًا إلى مسجد قباء فماتت ولم تقضه، فأفتى عبد الله بن عباس: أنها تمشي عنها.
ومن المفسرين من قال: إن "الإنسان" في الآية، أبو جهل، ومنهم من قال: عقبة بن أبي معيط، ومنهم من قال: الوليد بن المغيرة، ومنهم من قال: إخبار عن شرع من قبلنا
__________
دومة الجندل في شهر ربيع ومعه سعد، فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم المدينة أتى قبرها، فصلى عليها، ذكره سعد، "أفأتصدق عنها، قال: "نعم"، قال: أي الصدقة أفضل؟ قال: "سقي الماء" ولعله كان وقت السؤال، الناس أحوج إلى الماء من غيره لقلته في ذلك الموضع، أو لشدة حرارته، كما هو الغالب في الحجاز، وإلا فالصدقة بالطعام وإن قل عند كثرة الماء وتيسره أفضل والنبي صلى الله عليه وسلم سيد الحكماء، فيجيب كل سائل بما هو الأفضل في حقه.
قال ابن القيم في كتاب الروح: وأفضل الصدقة ما صادف حاجة من المتصدق عليه، وكان دائمًا مستمرًا، ومنه قوله: "أفضل الصدقة سقي الماء" وهذا في موضع يقل فيه الماء، ويكثر العطش، وإلا فسقي الماء على الأنهار والقنى لا يكون أفضل من إطعام الطعام عند الحاجة.
"وفي الموطأ" للإمام مالك، "عن عبد الله بن أبي بكر" بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري، المدني القاضي، مات سنة خمس وثلاثين ومائة، وهو ابن سبعين سنة، "عن عمته" أم كلثوم أو أم عمرو، فهي عمته الحقيقية لا المجازية التي هي عمرة بنت حزم جد عبد الله الصحابية؛ لأنه لم يدركها؛ "أنها حدته عن جدته؛ أنها جعلت على نفسها مشيًا إلى مسجد قباء، فماتت ولم تقضه" أي: لم تفعله، "فأفتى عبد الله بن عباس أنها تمشي عنها" ففي هذا كله دلالة على أن للمؤمن ما سعى غيره، لكن هذا مذهب صحابي، وقد عقبه في الموطأ بقوله: قال يحيى: سمعت مالكًا يقول: لا يمشي أحد عن أحد، على أن الراجح أن من نذر مشيًا إلى غير بيت الله الحرام وما ألحق به، لا يجب عليه لا لعبادة ولا لغيره عند الشافعية، وقال مالك: من نذر المشي إلى المدينة أو إيلياء فليس عليه ذلك إلا أن ينوي صلاة بمسجديهما، فيركب.
"ومن المفسرين من قال: إن الإنسان في الآية أبو جهل" فرعون هذه الأمة، "ومنهم من قال: عقبة بن أبي معيط" الكافر المقتول بعد انصرافهم من بدر صبرًا، "ومنهم من قال: الوليد بن المغيرة" الميت على كفره قبل وقعة بدر، فعمومها على هذه الأقوال مخصوص بواحد مختلف في تعيينه، "ومنهم من قال" الآية "إخبار عن شرع من قبلنا" لأن قبلها أم لم ينبأ بما في صحف موسى(7/495)
وقد دل شرعنا على أن الإنسان له سعيه، وما سعى له، ومنهم من قال: الإنسان بسعيه في الخير وحسن صحبته وعشرته اكتسب الأصحاب، وأهدى لهم الخير وتودد إليهم فصار ثوابهم له بعد موته من سعيه.
ومنهم من قال "الإنسان" في الآية للحي دون الميت. ومنهم من قال: لم ينف في الآية انتفاع الرجل بسعي غيره له، وإنما نفي ملكه لسعي غيره، وبين الأمرين فرق:
فقال الزمخشري في قوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} : فإن
__________
وإبراهيم، "وقد دل شرعنا على أن الإنسان له سعيه وما سعى له" وهذا قول عكرمة.
"ومنهم من قال: الإنسان بسعيه في الخير، وحسن صحبته وعشرته اكتسب الأصحاب" أي: تسبب في وقوع الصحبة بينه وبين غيره، "وأهدى لهم الخير، وتودد إليهم، فصار ثوابهم له بعد موته من سعيه" لأن الدال على الخير كفاعله، وقد انتفع أصحابه منه بمعرفة الخصال الحميدة، فعملوا بها فحصل له بتسببه في حصول ذلك لهم مثل ثواب ما عملوه.
"ومنهم من قال: الإنسان في الآية للحي دون الميت" يعني إن الحي لا يسقط عنه الحج مثلًا ما دام حيًا، يحج غيره عنه بخلاف ما لو فعل عنه بعد موته، فينفعه عند هذا القول.
قال ابن القيم في كتاب الروح: وهذا أيضًا من النمط الأول في الفساد، وكله من سوء التصرف في اللفظ العام، وصاحب هذا التصرف لا ينفذ تصرفه في دلالات الألفاظ وحملها على خلاف موضوعها وما يتبادر إلى الذهن منها، وهو تصرف فاسد قطعًا، يبطله السياق والاعتبار، وقواعد الشرع وأدلته وعرفه، وسبب هذا التصرف السيئ أن صاحبه يعتقد قولا، ثم يرد كل ما دل على خلافه بأي طريق اتفقت له، فالأدلة المخالفة له كالصائل لا يبالي بأي شيء دفعه، وأدلة الحق لا تتعارض ولا تتناقض، بل يصدق بعضها بعضًا، انتهى.
"ومنهم من قال: لم ينف في الآية انتفاع الرجل بسعي غيره له، وإنما نفى ملكه لسعي غيره"، لأن قاتل ذلك يرى أن اللام في الإنسان للملك، وو أخص من مجرد انتفاع الإنسان بمال غيره، وهو المراد هنا؛ فمن تصدق عن غيره مثلا بمال لا يصير المال مقصورا نفعه على من تصدق عنه، بحيث ينتفي ثوابه بالكلية عن المتصدق، وإليه أشار بقوله: "وبين الأمرين فرق" وإذا أردت بيانه، "فقال الزمخشري" ما يفيده "في قوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} ، فإن قلت: أما صح في الأخبار الصدقة عن الميت والحج عنه"، وهما سعي غيره؟ "قلت: فيه جوابان".(7/496)
قلت: أما صح في الأخبار الصدقة عن الميت والحج عنه؟ قلت: فيه جوابان.
أحدهما: إن سعي غيره لما لم ينفعه إلا مبنيًا على سعي نفسه، وهو أن يكون مؤمنًا مصدقًا، كان سعي غيره كأنه سعي نفسه لكونه تبعًا له، وقائمًا مقامه.
والثاني: إن سعي غيره لا ينفعه إذا عمله لنفسه، ولكن إذا نواه له فهو في حكم الشرع كالنائب عنه، والوكيل القائم مقامه.
والصحيح من الأجوبة أن قوله: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} ، عام مخصوص بما تقدم من الأجوبة.
وقد اختلف العلماء في ثواب القراءة، هل يصل للميت؟
__________
"أحدهما: أن سعي غيره لما لم ينفعه إلا مبنيًا على سعي نفسه، وهو أن يكون مؤمنًا مصدقًا" فالصدقة على الكافر ونحوها لا تنفعه، بل يحرم على المسلم فعل ذلك عنه، وإنما تنفعه الصدقة ونحوها إذا كان مسلمًا، فهو أس، وسبب في حصول فعل غيره له، فذلك "كان سعي غيره كأنه سعي نفسه؛ لكونه تبعًا له وقائمًا مقامه" أي: موجود الأجل وجود الإيمان منه، فنزل إيمانه الذي هو سبب في حصول ذلك له منزلة ما لو تصدق هو عن نفسه.
"والثاني: أن سعي غيره لا ينفعه إذا عمله لنفسه" أي: الغير، "ولكن إذا نواه له، فهو في حكم الشرع كالنائب عنه والوكيل القائم مقامه" فيصل ثوابه إليه تنزيلا له منزلة المتصدق، واستبعده إمام الحرمين؛ بأنه لم يأمر به، وأوله بأنه يقع عن المتصدق، وينال الميت ببركته، ورده ابن عبد السلام؛ بأن ما ذكروه من وقوع الصدقة نفسها عن الميت حتى يكتب له ثوابها هو ظاهر السنة، "والصحيح من الأجوبة إن قوله: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} ، عام مخصوص بما تقدم من الأجوبة" فالآية محكمة، كما عليه الجمهور لا منسوخة.
قال ابن عطية: والتحرير عندي أن ملاك المعنى في اللام من قوله للإنسان، فإذا حققت الشيء الذي حق لإنسان أن يقول لي، كذا لم يجز إلا سعيه، وما زاد من رحمة لشفاعة، أو رعاية أب صالح، أو ابن صالح، أو تضعيف حسنات ونحو ذلك، فليس هو للإنسان، ولا يصح أن تقول لي كذا إلا على تجوز وإلحاق بما هو له حقيقة، وسأل عبد الله بن طاهر والي خراسان، الحسين بن الفضل عن هذه الآية مع قوله تعالى: {وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ} ، فقال: ليس له بالعدل إلا ما سعى، وله بفضل الله ما شاء الله.
"وقد اختلف العلماء في ثواب القراءة هل تصل للميت فذهب الأكثرون إلى المنع، وهو المشهور من مذهب الشافعي" لكن المحققون من متأخري مذهبه على الوصول،(7/497)
فذهب الأكثرون إلى المنع، وهو المشهور من مذهب الشافعي ومالك، ونقل عن جماعة من الحنفية.
وقال كثير من الشافعية والحنفية: يصل وبه قال أحمد بن حنبل -رحمه الله- بعد أن قال: القراءة على القبر بدعة، بل نقل عن الإمام أحمد: يصل إلى الميت كل شيء من صدقة وصلاة وحج واعتكاف وقراءة وذكر وغير ذلك.
__________
أي: وصول مثل ثواب القارئ للميت وأولوا المنع على معنى وصول عين الثواب الذي للقارئ، أو على قراءته لا يحضره الميت ولا بنية القارئ ثواب قراءته له، نواه ولم يدع.
قال ابن الصلاح: وينبغي الجزم بنفع اللهم أوصل ثواب ما قرأناه، أي: مثله، فهو المراد؛ وأن يصرح به لفلان؛ لأنه إذا نفعه الدعاء بما ليس للداعي، فما له أولى، ويجري ذلك في سائر الأعمال.
"ومالك" لكن قال الإمام ابن رشد في نوازله: إن قرأ، ووهب ثواب قراءته لميت جاز، وحصل للميت أجره ووصل إليه نفعه، وقال أبو عبد الله الأبي: إن قرأ ابتداء الميت وصل إليه ثوابه، كالصدقة والدعاء، وإن قرأ، ثم وهبه له لم يصل؛ لأن ثواب القراءة للقارئ لا ينتقل عنه إلى غيره.
وقال العلامة الشهاب القرافي: الذي يتجه أن يحصل للموتى بركة القراءة، كما يحصل لهم بركة الرجل الصالح يدفن عندهم أو يدفنون عنده، ووصل القراءة للميت، وإن حصل الخلاف فيها، فلا ينبغي إهمالها، فلعل الحق الوصول، فإن هذه الأمور معيبة عنا، وليس الخلاف في حكم شرعي إنما هو في أمر هل يقع كذلك أم لا؟ وكذلك التهليل الذي عادة الناس يعملونه اليوم، ينبغي أن يعمل ويعتمد فضل الله وجوده وإحسانه، هذا هو اللائق بالعبد، انتهى.
"ونقل عن جماعة من الحنفية، وقال كثير من الشافعية والحنفية: يصل، وبه قال أحمد بن حنبل بعد أن، قال: القراءة على القبر بدعة" مكروهة، وهو أصل مذهب مالك، "بل نقل عن الإمام أحمد يصل إلى الميت كل شيء من صدقة وصلاة وحج واعتكاف وقراءة وذكر وغير ذلك" كالدعاء له، فقد صح خبر: "إن الله يرفع درجة العبد في الجنة باستغفار ولده له"، ومعنى نفعه بالدعاء حصول المدعو له إذا استجيب، واستجابته محض فضل منه تعالى، ولا يسمى في العرف ثوابًا.
أما نفس الدعاء وثوابه فللداعي، لأنه شفاع أجرها للشافع، ومقصودها للمشفوع له، نعم دعاء الولد يحصل ثوابه نفسه للوالد الميت؛ لأن عمل ولده لتسببه في وجوده من جملة عمله،(7/498)
وذكر الشيخ شمس الدين بن القطان العسقلاني: إن وصول ثواب القراءة إلى الميت من قريب أو أجنبي هو الصحيح، كما تنفعه الصدقة والدعاء والاستغفار بالإجماع.
وقد أفتى القاضي حسين: بأن الاستئجار لقراءة القرآن على رأس القبر جائز، كالاستئجار للأذان وتعليم القرآن.
لكن قال الرافعي وتبعه النووي: عود المنفعة إلى المستأجر شرط في الإجارة، فيجب عود المنفعة في هذه الإجارة إلى المستأجرة أو ميته، لكن المستأجر لا ينتفع بأن يقرأ الغير له، ومشهور أن الميت لا يلحقه ثواب القراءة المجردة، فالوجه تنزيل الاستئجار على صورة انتفاع الميت بالقراءة وذكروا له طريقين.
أحدهما: أن يعقب القراءة بالدعاء للميت من قريب أو أجنبي، فإن الدعاء يلحقه، والدعاء بعد القراءة أقرب إلى الإجابة وأكثر بركة.
والثاني: ذكر الشيخ عبد الكريم الشالوسي:
__________
كما صرح به خبر: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث"، ثم قال: "أو ولد صالح" أي: مسلم يدعو له، فجعل دعاءه من جملة عمل الوالد، وإنما يكون منه، ويستثنى من انقطاع العمل إن أريد نفس الدعاء لا المدعو به.
"وذكر الشيخ شمس الدين بن القطان العسقلاني: إن وصول ثواب القراءة إلى الميت من قريب أو أجنبي هو الصحيح" مع النية، وهو المعتمد عند متأخري الشافعية؛ "كما تنفعه الصدقة" عنه، "والدعاء والاستغفار" له "بالإجماع" المؤيد بصريح كثير من الأحاديث، "وقد أفتى القاضي حسين؛ بأن الاستئجار لقراءة القرآن على رأس القبر جائز" وإن قلنا بكراهة القراءة على القبر؛ لأن المكروه من الجائز، كالاستئجار للأذان وتعليم القرآن. لكن قال الرافعي، وتبعه النووي: عود المنفعة إلى المستأجر شرط في الإجارة، فيجب عود المنفعة في هذه الإجارة إلى المستأجر أو ميته، لكن المستأجر لا ينتفع بأن يقرأ الغير له، ومشهور أن الميت لا يلحقه ثواب القراءة المجردة" عن نيته بها أو الدعاء بوصول ثوابها له، "فالوجه تنزيل الاستئجار على صورة انتفاع الميت بالقراءة، وذكروا له طريقين".
"أحدهما: أن يعقب القراءة بالدعاء للميت من قريب أو أجنبي، فإن الدعاء يلحقه، والدعاء بعد القراءة أقرب إلى الإجابة، وأكثر بركة".
"والثاني: ذكر الشيخ عبد الكريم" بن أحمد بن الحسن بن محمد الفقيه "الشالوسي" بشين معجمة، ولام مضمومة، ثم سين مهملة؛ كما ضبطه ابن السمعاني وغيره، نسبة إلى شالوس(7/499)
أنه إن نوى القارئ بقراءته أن يكون ثوابها للميت لم يلحقه، لكن لو قرأ ثم جعل ما حصل من الأجر له، فهذا دعاء بحصول ذلك الأجر للميت فينتفع الميت.
قال النووي في زيادات الروضة: ظاهر كلام القاضي حسين صحة الإجارة مطلقًا وهو المختار، فإن موضع القراءة موضع بركة وتنزل الرحمة. وهذا مقصود: بنفع الميت.
وقال الرافعي وتبعه النووي في الوصية: الذي يعتاد من قراءة القرآن على رأس القبر قد ذكرنا في باب الإجارة طريقين في عودة فائدتها إلى الميت كالحي الحاضر، فترجى له الرحمة ووصول البركة إذا أهدى الثواب إليه القارئ.
وقال الشالوسي: إذا نوى بقراءته أن يكون ثوابها للميت لم يلحقه، إذا جعل
__________
قرية كبيرة بنواحي آمل بطبرستان، كان فقيه عصره بآمل ومدرسها، واعظًا، زاهدًا، وبيته بيت العلم والزهد، مات سنة خمس وستين وأربعمائة.
قال الأسنوي: ووهم النووي في التهذيب، فأهمل سينه الأولى أيضًا، وأهل المشرق، خصوصًا ابن السمعاني أعرف ببلادهم من أهل الشام، ولا شك أن النووي هنا لم ينظر إلى ابن السمعاني ولا غيره، وإنما اعتمد على ما يتعلق به كثير من المتفقهة الذين لا اطلاع لهم على ذلك، "أنه إن نوى القارئ بقراءته أن يكون ثوابها للميت لم يلحقه" قال شيخنا: المعتمد أنه يلحقه ثوابها حيث قرأ بحضرته أو دعا له عقبها أو نواه بها، وإن لم يكن عنده ولا دعا له؛ "لكن لو قرأ، ثم جعل ما حصل من الأجر له، فهذا دعاء بحصول ذلك الأجر للميت، فينتفع الميت" بذلك الدعاء.
"قال النووي في زيادات الروضة: ظاهر كلام القاضي حسين صحة الإجارة مطلقًا وهو المختار، فإن موضع القراءة موضع بركة وتنزل الرحمة، وهذا مقصود بنفع الميت".
"وقال الرافعي: وتبعه النووي في" باب "الوصية: الذي يعتاد" مبني للمجهول "من قراءة القرآن على رأس القبر، قد ذكرنا في باب الإجارة طريقين" هما السابقان "في عود فائدتهما إلى الميت".
"وعن القاضي أبي الطيب طريق ثالث، وهو أن الميت كالحي الحاضر، فترجى له الرحمة ووصول البركة إذا أهدى الثواب إليه القارئ" قريبًا أو أجنبيًا، "وقال" أبو عبد الله "الشالوسي: إذا نوى بقراءته أن يكون ثوابها للميت لم يلحقه إذا جعل ذلك قبل حصوله" أي: الثواب، "وتلاوته عبادة البدن فلا تقع عن الغير، وإن قرأ، ثم جعل ما حصل من الثواب(7/500)
قبل حصوله، وتلاوته عبادة البدن فلا تقع عن الغير، وإن قرأ ثم جعل ما حصل من الثواب للميت فينفعه، إذا قد جعل من الأجر لغيره.
لكن إطلاق أن الدعاء ينفع الميت، اعترض عليه بعضهم بأنه موقوف على الإجابة.
ويمكن أن يقال: الدعاء للميت مستجاب -كما أطلقوه- اعتمادًا على سعة فضل الله.
وقال الرافعي وتبعه النووي: يستوي في الصدقة والدعاء، الوارث والأجنبي. قال الشافعي: وفي وسع الله أن يثيب المتصدق أيضًا.
وقال الأصحاب: يستحب أن ينوي المتصدق بالصدقة عن أبويه مثلا، فإن الله ينيلهما الثواب ولا ينقص من أجره شيئًا.
وذكر صاحب العدة: أنه لو أنبط بعلمه عينًا أو حفر بئرًا، أو غرس شجرًا، أو
__________
للميت، فينفعه إذا قد جعل من الأجر لغيره" أي: لأنه جعل بدعائه عقب القراءة شيئًا من أجرها للميت، فينفعه؛ "لكن إطلاق أن الدعاء ينفع الميت اعترض عليه بعضهم، بأنه موقوف على الإجابة" ونحن لا نعلمها، "ويمكن أن يقال" في الجواب: "الدعاء للميت مستجاب، كما أطلقوه اعتمادًا على سعة فضل الله" فلا اعتراض، وهو جواب لين.
"قال الرافعي، وتبعه النووي: يستوي في الصدقة والدعاء الوارث والأجنبي" على ظاهر الأخبار.
"قال الشافعي: وفي وسع الله" من فضله "أن يثيب المتصدق أيضًا، و" من ثم "قال الأصحاب: يستحب أن ينوي المتصدق الصدقة عن أبويه مثلا، فإن الله ينيلهما الثواب ولا ينقص من أجره شيئًا" وقول الزركشي: ما ذكر في الوقف يلزمه تقدير دخوله في ملكه وتمليكه الغير، ولا نظير له، رد بأن هذا يلزم في الصدقة أيضًا، وإنما لم ينظر له؛ لأن جعله كالمصدق محض فضل، فلا يضر خروجه عن القواعد لو احتيج لذلك التقدير، مع أنه غير محتاج إليه، بل يصح نحو الوقف عن الميت، وللفاعل ثواب البر، وللميت ثواب الصدقة المرتبة عليه، ذكره الرملي.
"وذكر صاحب العدة؛ أنه لو أنبط" بفتح الهمزة، وإسكان النون، فموحدة مفتوحة، فطاء مهملة، أي: استخرج "بعمله عينًا، أو حفر بئرًا، أو غرس شجرًا" ويأتي الحديث نخلا؛ فكأنه لأنه غالب شجر المدينة، "أو وقف مصحفًا في حال حياته، أو فعل غيره" ذلك "عنه بعد موته يلحق الثواب بالميت".(7/501)
وقف مصحفًا في حال حياته، أو فعل غيره عنه بعد موته، يلحق الثواب بالميت.
وقال الرافعي والنووي: إن هذه الأمور إذا صدرت من الحي فهي صدقات جارية يلحقه ثوابها بعد الموت، كما ورد في الخبر، ولا يختص الحكم بوقف
__________
"وقال الرافعي والنووي: إن هذه الأمور إذا صدرت من الحي، فهي صدقات جارية يلحقه ثوابها بعد الموت؛ كما ورد في الخبر" كقوله صلى الله عليه وسلم: "إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته علمًا نشره، وولدًا صالحًا تركه، ومصحفًا ورثه، ومسجدًا بناه أو بيتًا لابن السبيل بناه، أو نهرًا أجراه، أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته تلحقه من بعد موته"، رواه ابن ماجه عن أبي هريرة بإسناد حسن.
وروى البزار، عن أنس مرفوعًا: "سبع يجري للعبد أجرها بعد موته وهو في قبره من علم علمًا، أو أجرى نهرًا، أو حفر بئرًا، أو غرس نخلا، أو بنى مسجدًا، أو ورث مصحفًا، أو ترك ولدًا يستغفر له بعد موته".
وروى ابن عساكر عن أبي سعيد، رفعه: "من علم آية من كتاب الله أو بابًا من علم، أنمى الله أجره إلى يوم القيامة".
وروى أحمد والطبراني، عن أبي أمامة، رفعه: "أربعة تجري عليهم أجورهم بعد الموت: من مات مرابطًا في سبيل الله" الحديث، فتحصل من هذه الأحاديث أحد عشر أمرًا تلحق بعد الموت نظمها السيوطي، فقال:
إذا مات ابن آدم ليس يجري ... عليه من فعال غير عشر
علوم بثها ودعاء نجل ... وغرس نخل والصدقات تجري
وراثة مصحف ورباط ثغر ... وحفر البئر أو إجراء نهر
وبيت للغريب بناه يأوي ... إليه أو بناء محل ذكر
وتعليم لقرآن كريم ... فخذها من أحاديث بحصر
ولا يرد أن هذه أحد عشر، فينافي قوله غير عشر؛ لأنه نوع التاسع لشيئين، أو ترجم لشيء وزاد عليه، أو قال البيت الأخير بعد ذلك، ويدل له أنه بخطه في شرح ابن ماجه لم يذكر الأخير، وهو وتعليم لقرآن، ولا يعارض هذه قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا مات الإنسان"، وفي رواية: "ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له". رواه مسلم وغيره عن أبي هريرة؛ لأن هذه الثلاثة في الحقيقة أمهات يرد إليها كثيرًا من الأنواع.
"ولا يختص الحكم بوقف المصحف، بل يلتحق به كل من وقف" كما صرح به الحديث في قوله: "مسجدًا" ... إلخ، ومعنى قوله في الخبر: ومصحفًا ورثه بالتشديد، خلفه(7/502)
المصحف، بل يلتحق به كل من وقف، وهذا القياس يقتضي جواز التضحية عن الميت، فإنها ضرب من الصدقة، لكن في التهذيب: أنه لا تجوز التضحية عن الغير بغير أمره، وكذا من الميت إلا أن يكون أوصى به.
وقد روي عن علي أو غيره من الصحابة أنه كان يضحي عن النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته، وعن أبي العباس محمد بن إسحاق السراج قال: ضحيت عن النبي صلى الله عليه وسلم سبعين أضحية.
وأما إهداء القراءة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يعرف فيه خبر ولا أثر، وقد أنكره جماعة منهم الشيخ برهان الدين بن الفركاح لأن الصحابة لم يفعله أحد منهم.
وحكى صاحب "الروح":
__________
لوارثه، قال بعض: ويظهر أن مثله كتب الحديث كالصحيحين، "وهذا القياس يقتضي جواز التضحية عن الميت" بلا كراهة، "فإنها ضرب من الصدقة، لكن في التهذيب؛ أنه لا يجوز التضحية عن الغير بغير أمره، وكذا عن الميت إلا أن يكون أوصى به" وهذا هو المعتمد في المنهاج وغيره.
"وقد روي عن علي أو غيره من الصحابة أنه كان يضحي عن النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته"؛ لأنه أوصاه بذلك.
روى الترمذي عن علي: أوصاني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أضحى عنه على أن جماعة ذكروا في خصائصه جواز التضحية عنه.
"وعن أبي العباس محمد بن إسحاق" بن إبراهيم بن مهران "السراج" الثقفي، مولاهم النيسابوري، الإمام الحافظ، الثقة شيخ خراسان، صاحب المسند والتاريخ، مات سنة ثلاث عشرة وثلاثمائة، "قال: ضحيت عن النبي صلى الله عليه وسلم سبعين أضحية" لأنه خصوصية.
"وأما إهداء القراءة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يعرف فيه خبر ولا أثر، بل أنكره جماعة، منهم الشيخ برهان الدين بن الفركاح" بكسر الفاء، وإسكان الراء؛ "لأن الصحابة لم يفعله أحد منهم" وهم أحق بالاتباع، لكن اختار السبكي وغيره خلاف ذلك، وكذا أنكر البرهان القراري قولهم: اللهم أوصل ثواب ما تلوته إلى فلان خاصة، وإلى المسلمين عامة؛ لأن ما اختص بشخص لا يتصور التعميم فيه، وده الزركشي؛ بأن الظاهر خلاف ما قاله، فإن الثواب يتفاوت فاعلاه ما خصه، وأدناه ما عمه، وغيره والله تعالى يتصرف فيما يعطيه من الثواب، على أن المراد مثل ثواب ما تلوته لفلان خاصة، ومثل ذلك عامة، وهذا متصور.
"وحكى صاحب الروح" الشمس بن القيم، والروح جزء نحو خمسة عشر كراسة، سماه بذلك لتكليمه فيه على الروح وما يتعلق بها: "أن من الفقهاء المتأخرين من استحبه، ومنهم(7/503)
أن من الفقهاء المتأخرين من استحبه ومنهم من رآه بدعة، قالوا: والنبي صلى الله عليه وسلم غني عن ذلك، فإن له أجره من عمل خيرًا من أمته من غير أن ينقص من أجر العامل شيء.
قال الشافعي: ما من خير يعمله أحد من أمة النبي صلى الله عليه وسلم إلا والنبي صلى الله عليه وسلم أصل فيه.
قال في تحقيق النصرة: فجميع حسنات المسلمين وأعمالهم الصالحة في صحائف نبينا صلى الله عليه وسلم زيادة على ما له من الأجر، مع مضاعفة لا يحصرها إلا الله تعالى، لأن كل مهتد وعامل إلى يوم القيامة يحصل له أجر، ويتجدد لشيخه مثل ذلك الأجر ولشيخ شيخه مثلاه، وللشيخ الثالث أربعة, وللرابع ثمانية وهكذا، تضعيف كل مرتبة بعدد الأجور الحاصلة بعده إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
وبهذا تعلم تفضيل السلف على الخلف. فإذا فرضت المراتب عشرة بعد النبي صلى الله عليه وسلم، كان للنبي صلى الله عليه وسلم من الأجر ألف وأربعة وعشرون.
__________
من رآه بدعة" مذمومة، "قالوا: والنبي صلى الله عليه وسلم غني عن ذلك" لكن ليس في كونه غنيًا ما يقتضي منع ذلك، بل يجوز أن يكون إهداؤها سببًا في ثواب يصل إليه زائدًا على الثواب الواصل له من كل خير عملته أمته، "وأن له أجر كل من عمل خيرا من أمته من غير أن ينقص من أجر العامل شيء" لقوله صلى الله عليه وسلم: "من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجر من تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه، لا ينقص ذلك من آثامهم شيئًا"، رواه مسلم أصحاب السنن، عن أبي هريرة، ومن ثم "قال الشافعي: ما من خير يعمله أحد من أمة النبي صلى الله عليه وسلم إلا والنبي صلى الله عليه وسلم أصل فيه" لأنه إنما علم بإرشاده.
"قال في تحقيق النضرة" للزين المراغي المحدث: "فجميع حسنات المسلمين وأعمالهم الصالحة في صحائف نبينا صلى الله عليه وسلم زيادة على ما له من الأجر مع مضاعفة لا يحصرها إلا الله تعالى، لأن كل مهتد وعامل إلى يوم القيامة يحصل له أجر، ويتجدد لشيخه مثل ذلك الأجر" لدلالته له عليه، "ولشيخ شيخه مثلاه، وللشيخ الثالث أربعة، وللرابع ثمانية، وهكذا تضعيف كل مرتبة بعدد الأجور الحاصلة بعده إلى النبي صلى الله عليه وسلم".
"وبهذا تعلم تفضيل السلف على الخلف" لأن السلف يحصل لهم ثواب ما عملوه، ويزيد عليه ثواب بمن أخذ منهم بواسطة أو بدونها، مضاعفًا على ما علم، فيفضلون الخلف، وهو من تأخر عنهم بذلك، "فإذا فرضت المراتب عشرة بعد النبي صلى الله عليه وسلم كان النبي صلى الله عليه وسلم من الأجر ألف وأربعة وعشرون" لعل ذلك بواسطة ما يحصل لكل عامل من المضاعفة، مضمومًا إلى بقية أعمال من دونه، مثلا ما يكتب للرابع من الثمانية يكتب للنبي مثله، مع عمل من دونه من الأول(7/504)
فإذا اهتدى بالعاشر حادي عشر صار أجر النبي صلى الله عليه وسلم ألفين وثمانية وأربعون، وهكذا كلما ازداد واحد يتضاعف ما كان قبله أبدًا، كما قاله بعض المحققين، انتهى، ولله در القائل، وهو سيدي محمد وفا:
فلا حسن إلا من محاسن حسنه ... ولا محسن إلا له حسناته
وبهذا يجاب عن استشكال دعاء القارئ له صلى الله عليه وسلم بزيادة الشرف مع العلم بكماله عليه الصلاة والسلام في سائر أنواع الشرف. فكأن الداعي لحظ أن قبول قراءته يتضمن لمعلمه نظير جزء، وهكذا حتى يكون للمعلم الأول -وهو الشارع صلى الله عليه وسلم- نظير جميع ذلك كما قدرته.
ومن ذلك ما شرع عند رؤية الكعبة من قوله: اللهم زد هذا البيت تشريفًا وتعظيمًا، فثمرة الدعاء بذلك عائد إلى الداعي، لاشتماله على طلب قبول القراءة، وهذا كما قالوا في الصلاة عليه -زاده الله شرفًا لديه- إن ثمرتها عائدة على المصلي أشار لنحوه الحافظ ابن حجر.
__________
والثاني والثالث، "فإذا اهتدى بالعاشر حادي عشر صار أجر النبي صلى الله عليه وسلم ألفين وثمانية وأربعين، وهكذا كلما ازداد واحد يتضاعف ما كان قبله أبدًا؛ كما قاله بعض المحققين، انتهى" كلام تحقيق النصرة، "ولله در القائل، وهو سيدي محمد وفا" إمام العارفين، العالم المشهور:
فا حسن إلا من محاسن حسنه ... ولا محسن إلا له حسناته
لأنه الجامع لذلك والدال عليه، "وبهذا" المذكور عن تحقيق النصرة، "يجاب عن استشكال دعاء القارئ له صلى الله عليه وسلم بزيادة الشرف، مع العلم بكماله عليه الصلاة والسلام في سائر أنواع الشرف، فكان الداعي لحظ أن قبول قراءته يتضمن لمعلمه نظير جزء، وهكذا حتى يكون للمعلم الأول، وهو الشارع" صلى الله عليه وسلم "نظير جميع ذلك كما قدرته، ومن ذلك ما شرع عند رؤية الكعبة من قوله" أي: الرائي المفهوم من رؤية: "اللهم زد هذا البيت تشريفًا وتعظيمًا، فثمرة الدعاء بذلك عائدة على الداعي لاشتماله على طلب قبول القراءة، وهذا كما قالوا في الصلاة عليه زاده الله شرفًا لديه أن ثمرتها عائدة على المصلي" وهذا نظيره عند من قال به، وإلا فالراجح أنها تصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، لأن الكامل يقبل التكميل، "أشار لنحوه الحافظ ابن حجر" ووقع السؤال عما يقع من الداعين عقب الختمات من قولهم: اللهم اجعل ثواب ما قرئ زيادة في شرفه صلى الله عليه وسلم، ثم يقول: واجعل مثل ثواب ذلك وأضعاف أمثاله إلى روح فلان، أو في صحيفته، أو نحو ذلك هل يجوز أم يمتنع لما فيه من إشعار تعظيم المدعو له(7/505)
ومن خصائص هذه الأمة أنهم يدخلون الجنة قبل سائر الأمم، رواه الطبراني -في الأوسط- من حديث عمر بن الخطاب مرفوعًا: "حرمت الجنة على الأنبياء حتى أدخلها، وحرمت على الأمم حتى تدخلها أمتي".
ومنها: أنه يدخل منهم الجنة سبعون ألفًا بغير حساب رواه الشيخان
__________
بذلك، حيث اعتنى به، فدعا له بأضعاف مثل ما دعا للنبي صلى الله عليه وسلم، وأجاب شيخنا؛ بأن الظاهر أن ذلك لا يمتنع؛ لأن الداعي لم يقصد بذلك تعظيم غيره صلى الله عليه وسلم، بل كلامه محمول على إظهار احتياج غيره للرحمة منه سبحانه، فاعتناؤه بل للاحتياج المذكور، وللإشارة إلى أنه صلى الله عليه وسلم لقرب مكانته من الله جل وعز الإجابة بالنسبة له محققة، وغيره لبعد رتبته عما أعطيه صلى الله عليه وسلم لله، لا تحقق الإجابة له، بل قد لا تكون مظنونة، فناسب تأكيد الدعاء له وتكريره رجاء الإجابة، انتهى، وهو توجيه وجيه، لكن الأولى ترك ما يوهم ببادئ الرأي، ولا يصحح إلا بمزيد تحقيق وتدقيق.
"ومن خصائص هذه الأمة: أنهم يدخلون الجنة قبل سائر الأمم" كما رواه ابن ماجه عن عمر، "وروى الطبراني في الأوسط من حديث عمر بن الخطاب، مرفوعًا" إلى النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "حرمت" أي: منعت "الجنة على الأنبياء" زاد في رواية الدارقطني: كلهم "حتى أدخلها وحرمت على الأمم حتى تدخلها أمتي" أي: أن المطيع الذي لم يعذب من أمته يدخلها قبل المطيع الذي لم يعذب من أمة غيره، والداخل للنار من أمته يدخل الجنة قبل الداخل للنار من أمة غيره، فالمراد أن جملة أمته، وتمام دخولها الجنة سابق على دخول أمة غيره، فلا يرد ما قد يتوهم أنه لا يدخل أحد من سابقي الأمم الطائفين إلا بعد خروج العاصين من الأمة المحمدية من النار، وقد أخذ من الحديث أن هذه الأمة يخفف عن عصاتها أو يخرجون قبل عصاة غيرها.
قال ابن القيم: فهذه الأمة أسبق الأمم خروجًا من الأرض، وأسبقهم إلى أعلى مكان في الموقف، وإلى ظل العرش، وإلى فصل القضاء، وإلى الجواز على الصراط، وإلى دخول الجنة.
"ومنها: أنه يدخل منهم الجنة سبعون الفًا" زمرة واحدة "بغير حساب" ولا عذاب، بدليل رواية: "ولا حساب عليهم ولا عذاب"، "رواه الشيخان" عن أبي هريرة: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يدخل الجنة من أمتي زمرة، هم سبعون ألفًا، تضيء وجوههم إضاءة القمر ليلة البدر"، فقام عكاشة بن محصن الأسدي يرفع نمرة عليه، فقال: يا رسول الله! ادع الله أن يجعلني منهم؟ فقال: "اللهم اجعله منهم". ثم قام رجل من الأنصار، فقال: يا رسول الله! ادع الله أن يجعلني منهم؟ فقال: "سبقك بها عكاشة".
وفي الصحيحين عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم: "عرضت علي الأمم فرأيت النبي ومعه الرهط، والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي ليس معه أحد، ورفع لي سواد عظيم، فظننت أنهم(7/506)
............................................................
__________
أمتي، فقال جبريل: هذا موسى وقومه، ولكن انظر إلى الأفق، فنظرت، فإذا سواد كثير، قال: هؤلاء أمتك وهؤلاء سبعون ألفًا قدامهم لا حساب عليهم ولا عذاب، قلت: ولم؟ قال: لا يكتوون، ولا يسترقون، ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون"، وفي رواية: "هم الذين لا يرقون، ولا يسترقون، ولا يتطيرون، ولا يكتوون، وعلى ربهم يتوكلون".
وروى الشيخان أيضًا عن سهل بن سعد: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ليدخلن من أمتي الجنة سبعون ألفًا أو سبعمائة ألف متماسكين، آخذًا بعضهم ببعض، حتى يدخل أولهم وآخرهم، وجوههم على صورة القمر ليلة البدر". قال السبكي في شفاء الغرام: ظاهر قوله سبعون ألفًا، أنهم لا يزيدون على ذلك، وأنهم كلهم بالصفة المذكورة ورجح غيره أن المراد الكثرة باختلاف الأخبار في المقدار، فروى: "مائة ألف، ومع كل ألف سبعون ألفًا، ومع كل واحد سبعون ألفًا". وليس في الحديث نفي دخول أحد على الصفة المذكورة غير هؤلاء، كالأنبياء، والشهداء والصديقين والصالحين.
قال عياض: ويحتمل أن معنى كونهم متماسكين أنهم على صفة الوقار فلا يسابق بعضهم بعضًا بل يكون دخولهم جميعًا.
وقال النووي: معناه أنهم يدخلون معترضين صفًا واحدًا، بعضهم بجنب بعض، فيدخل الجميع دفعة واحدة، وفي ذلك إشارة إلى سعة الباب الذي يدخلون منه، ووصفهم بالأولية والآخرية باعتبار الصفة التي جازوا فيها الصراط، ثم هذا الحديث يخص عموم الحديث الذي أخرجه مسلم عن أبي برزة الأسلمي، رفعه: "اتزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيم أفناه، وعن جسده فيم أبلاه، وعن علمه ما عمل فيه، وماله من أين اكتسبه، وفيم أنفقه"؛ لأنه وإن كان عامًا لأنه نكرة في سياق النفي، لكنه مخصوص بمن يدخل الجنة بغير حساب، وبمن يدخل النار من أول وهلة، على ما دل عليه قوله تعالى: {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ} ، الآية، قال القرطبي.
قال الحافظ: وفي سياق حديث أبي برزة إشارة إلى الخصوص، لأنه ليس كل أحد عنده علم يسأل عنه، وكذا المال، فهو مخصوص بمن له علم ومال دون من لا علم له ولا مال، وأما السؤال عن الجسد والعمر فعام، ويخص من المسئولين من ذكر، انتهى.
وجزم ابن عبد السلام؛ بأن هذه الخصوصية لم تثبت لغير نبينا.
وقال السبكي: لم يرد فيه شيء بنفي ولا إثبات في الأمم السابقة، واستظهر أبو طالب، عقيل بن عطية أن فيهم من هو كذلك، انتهى، وفيه أن الاستظهار لا دخل له هنا، إذ هو من الأشياء التي لا تكون إلا بمحض النقل.
وروى الحاكم والبيهقي عن جابر مرفوعًا: "من زادت حسناته على سيئاته، فذاك الذي(7/507)
وعند الطبراني والبيهقي في البعث: "إن ربي وعدني أن يدخل من أمتي الجنة سبعين ألفًا لا حساب عليهم، وإني سألت ربي المزيد فأعطاني مع كل واحد من السبعين ألفًا سبعين ألفًا".
وبالجملة: فقد اختصت هذه الأمة بما لم يعطه غيرها من الأمم تكرمة لنبيها عليه الصلاة والسلام وزيادة في شرفه، وتفضيل فضلها وخصائصها يستدعي سفرًا بل أسفارًا، وذلك فضل الله، يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
__________
يدخل الجنة بغير حساب، ومن استوت حسناته، فذاك الذي يحاسب حسابًا يسيرًا، ومن أوبق نفسه فهو الذي يشفع فيه بعد أن يعذب". وقال صلى الله عليه وسلم: "إن الله يدخل الجنة من أمتي يوم القيامة سبعين ألفًا، ومع كل ألف سبعين ألفًا"، رواه الترمذي.
"وعند الطبراني والبيهقي في البعث" عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إن ربي وعدني أن يدخل من أمتي" أمة الإجابة، وفي إضافتها إليه إخراج غيرها من الأمم من العدد المذكور "الجنة سبعين ألفًا لا حساب عليهم" أي: ولا عذاب، "وإني سألت ربي المزيد فأعطاني مع كل واحد" المراد بالمعية مجرد دخولهم الجنة بغير حساب، وأن دخولها في الزمرة الثانية أو ما بعدها، "من السبعين ألفًا سبعين ألفًا" زاد في رواية البزار من حديث أنس: "وهم الذين لا يكتوون، ولا يسترقون، ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون"، ومر في حديث ابن عباس وصف السبعين ألفًا بذلك أيضًا، فيكون الكل موصوفين به.
وأخرج أحمد والديلمي عن أبي بكر، مرفوعًا: "أعطيت سبعين ألفًا من أمتي يدخلون الجنة بغير حساب، وجوههم كالقمر ليلة البدر، قلوبهم على قلب رجل واحد، فاستزدت ربي، فزادني مع كل واحد سبعين ألفًا".
"وبالجملة فقد اختصت هذه الأمة بما لم يعطه غيرها من الأمم، تكرمة لنبيها عليه الصلاة والسلام، وزيادة في شرفه وتفضيل" بصاد مهملة، "فضلها" بمعجمة، "وخصائصها يستدعي سفرًا، بل أسفارًا، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء" النبي أو أمته، "والله ذو الفضل العظيم" وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا دائمًا أبدًا، ولله الحمد على ما أنعم.(7/508)
فهرس المجلد السابع: من شرح المواهب اللدنية
الفهرس:
3 معجزة نبع الماء الطهور من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم.
17 تفجر الماء ببركته وابتعاثه بمسه ودعوته صلى الله عليه وسلم.
39 تكثير الطعام القليل ببركته ودعائه صلى الله عليه وسلم.
61 إبراء ذوي العاهات وإحياء الموتى وكلامهم له وكلام الصبيان وشهادتهم له بالنبوة.
74 الفصل الثاني فيما خصه الله تعالى به من المعجزات وشرفه به على سائر الأنبياء من الكرامات والآيات البينات.
140 القسم الثاني ما اختص به صلى الله عليه وسلم مما حرم عليه.
152 القسم الثالث ما اختص به صلى الله عليه وسلم من المباحات.
185 الفصل الرابع ما اختص به صلى الله عليه وسلم من الفضائل والكرامات.
389 خصائص أمته صلى الله عليه وسلم.(7/510)
المجلد الثامن
المقصد الخامس: في تخصيصه عليه الصلاة والسلام بخصائص المعراج والإسراء
...
بسم الله الرحمن الرحيم
المقصد الخامس: في تخصيصه عليه الصلاة والسلام بخصائص المعراج
والإسراء، وتعميمه بعموم لطائف التكريم في حضرة التقريب بالمكالمة والمشاهدة والآيات الكبرى.
اعلم -منحني الله وإياك الترقي في معارج السعادات، وأولصلنا به إليه في حظائر الكرامات- أن قصة الإسراء والمعراج من أشهر المعجزات وأظهر البراهين البينات، وأقوى الحجج المحكمات وأصدق الأنباء، وأعظم الآيات، وأتم الدلالات الدالة على تخصيصه عليه الصلاة والسلام بعموم الكرامات.
__________
"المقصد الخامس: في" بيان "تخصيصه عليه الصلاة والسلام بخصائص المعراج والإسراء" أي: جعلها مخصوصة به لا تتجاوزه إلى غيره، والمراد به الأمور الخارقة التي اختص بها ليلته كرؤية الله والجنة، وقطعه في زمن قليل، واتساع الزمن حتى صلى بالأنبياء التي غير ذلك، فلمان كانت تلك الأمور كلها لم تتعده إلى غيره جعل المصنف همته في الترجمة بيانها؛ لأنه صار بها مقدمًا على من عداه ومقربًا في حضرة التقديس عن كل ما سواه، وقدم المعراج في الذكر لتعلقه بالحضرة الإلهية، وآخره في الترتيب مطابقة للواقع.
"وتعميمه"، أي: تغطيته وستره "بعموم،" أي: كثرة "لطائف التكريم" أي: النعم التي أكرمه الله بها التي لا تحصى بجعلها شاملة كالملاءة التي تشتمل على جميع جسد من جعلت عليه طفي حضرة التقريب،" أي: المكان الذي خاطبه فيه، "بالمكالمة والمشاهدة" له سبحانه وتعالى "والآيات الكبرى" العظمى.
"اعلم منحني" أعطاني، "الله وإياك الترقي في معارج السعادات" أي: المراتب المحصلة لها لمن أراد الله به الخير والمعراج عند أهل الطريق منتهى سير المقربين الذي هو عروجهم، أي: سلوكهم؛ لأن كل سالك إلى طريق كان غايته الحق بشرط فوزه منه بسعادة ما، فذلك السالك صاحب معراج وسلوكه عروج، "وأصولنا" الله "به"، أي: النبي -صلى الله عليه وسلم- "إليه"، أي: إلى قرب المكانة إلى الله "في حظائر الكرامات"، أي: المحلات التي تنزل بها الكرمات وتليق بها، أو المراد بها الجنهة، وأصل الحظيرة ما يعمل للإبل من الشجر ليقيها البرد، ونحوه، "أن قصة الإسلاء والمعراج"، بزنة مفتاح السلم، وجمعه معارج ومعاريج، ويقال: معرج للواحد، بكسر الميم وفتحا "من أشهر المعجزات وأظهر البراهين البينات" الواضحات، "وأقوى الحجج" بالضم، جمع حجة "المحكمات وأًدق الأنباء"، جمع نبأ، بالهمز، وهو الخبر، "وأعظم الآيات وأتم الدلالات الدالة على تخصيصه عليه الصلاة والسلام بعمو الكرامات" لما اشتملت عليه من الأمور الخارقة للعادة التي تقصر العقول عن إدراك مثلها.(8/3)
وقد اختلف العلماء في الإسراء.
هل هو إسراء واحد في ليلة واحدة؟ يقظة أو منامًا؟ أو إسراءان كل واحد منهما في ليلة، مرة بروحه وبدنه يقظة ومرة منامًا، أو يقظة بروحه وجسده؟ من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ثم منامًا من المسجد الأقصى إلى العرش، أو هي أربع إسراءات؟
احتج القائلون بأنه رؤيا منام مع اتفاقهم على أن رؤيا الأنبياء وحي -بقوله: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ} [الإسراء: 60] ؛ لأن الرؤيا مصدر الحلمية، وأما البصرية: فالرؤية بالتاء، وقد أنكر ابن مالك والحريري وغيرهما -كما أفاده الشيخ بدر الدين الزركشي- ورود "الرؤيا" للبصرية، ولحنوا المتنبي في قوله:
ورؤياك أحلى من العيون من الغض وأجيب: بأنه إنما قال: "الرؤيا" لوقوع ذلك المرئيفي الليل، وسرعة تفضيه كأنه
__________
"وقد اختلف العلماء" بحسب اختلاف الأخبار "في الإسراء" أي: في جواب قول السائل: "هل هو إسراء واحد في ليلة واحدة"، فقيل: كان كذلك، ثم اختلف بناء على ذا القول هل كان "يقظة أو منامًا"، وعلى أنه يقظة هل إلى المسجد الأقصى فقط، أو إلى العرش منامًا، "أو" هما "إسراءان" واحد يقظة، وآخر منامًا، "كل واحد منهما في ليلة مرة بروحه وبدنه يقظة، ومرة منامًا"، وليلة اليقظة غير ليلة المنام، وبهذا فارق القول الذي قبله، "أو يقظة بروحه وجسده في المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ثم منامًا من المسجد الأقصى إلى العرش،" فالإسراء كان يقظة، والمعراج منامًا، عند هذا القائل، وقد علم تفريع هذا القول على اتحاد الليلة فيهما، "أو هي أربع إسراءات" يقظة كلها كما يأتي.
"احتج القائلون بأنه رؤيا منام مع اتفاقهم على أن رؤيا الأنبياء وحي بقوله: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ} [الإسراء: 60] ، ليلة الإسراء، {إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ} ، أهل مكة إذ كذبوا بها، وارتد بعضهم لما أخبرهم؛ "لأن الرؤيا" بالألف "مصدر
الحلمية"، وهي المنامية، منسوبة إلى الحلم "بضمتين وقد تسكن اللام تخفيفًا" "وأما البصرية، فالرؤية بالتاء" بالألف "وقد أنكر ابن مالك والحريري وغيرهما، كما أفاده الشيخ بدر الدين الزركشي ورود الرؤيا" بالألف "للبصرية، ولحنوا" أبا الطيب أحمد بن الحسين "المتنبي" الشاعر المشهور "في قوله: ورؤياك أحلى في العيون من الغض"؛ لأنه استعمل الرؤيا بالألف في البصرية التي بالتاء، "وأجيب: بأنه" لا حجة في الآية على أنه منام؛ لأنه "إنما قال: الرؤيا لوقوع ذلك المرئي في وقد اختلف العلماء في الإسراء.
هل هو إسراء واحد في ليلة واحدة؟ يقظة أو منامًا؟ أو إسراءان كل واحد منهما في ليلة، مرة بروحه وبدنه يقظة ومرة منامًا، أو يقظة بروحه وجسده؟ من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ثم منامًا من المسجد الأقصى إلى العرش، أو هي أربع إسراءات؟
احتج القائلون بأنه رؤيا منام مع اتفاقهم على أن رؤيا الأنبياء وحي -بقوله: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ} [الإسراء: 60] ؛ لأن الرؤيا مصدر الحلمية، وأما البصرية: فالرؤية بالتاء، وقد أنكر ابن مالك والحريري وغيرهما -كما أفاده الشيخ بدر الدين الزركشي- ورود "الرؤيا" للبصرية، ولحنوا المتنبي في قوله:
ورؤياك أحلى من العيون من الغض وأجيب: بأنه إنما قال: "الرؤيا" لوقوع ذلك المرئيفي الليل، وسرعة تفضيه كأنه
__________
"وقد اختلف العلماء" بحسب اختلاف الأخبار "في الإراء" أي: في جواب قول السائل: "هل هو إسراء واحد في ليلة واحدة،" فقيل: كان كذلك، ثم اختلف بناء على ذا القول هل كان "يقظة أو منامًا"، وعلى أنه يقظة هل إلى المسجد الأقصى فقط، أو إلى العرش منامًا، "أو" هما "إسراءان" واحد يقظة، وآخر منامًا، "كل واحد منهما في ليلة مرة بروحه وبدنه يقظة، ومرة منامًا،" وليلة اليقظة غير ليلة المنام، وبهذا فارق القول الذي قبله، "أو يقظة بروحه وجسده في المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ثم منامًا من المسجد الأقصى إلى العرش،" فالإسراء كان يقظة، والمعراج منامًا، عند هذا القائل، وقد علم تفريع هذا القول على اتحاد الليلة فيهما، "أو هي أربع إسراءات" يقظة كلها كما يأتي.
"احتج القائلون بأنه رؤيا منام مع اتفاقهم على أن رؤيا الأنبياء وحي بقوله: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ} [الإسراء: 60] ، ليلة الإسراء، {إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ} ، أهل مكة إذ كذبوا بها، وارتد بعضهم لما أخبرهم؛ "لأن الرؤيا" بالألف "مصدر
الحلمية"، وهي المنامية، منسوبة إلى الحلم "بضمتين وقد تسكن اللام تخفيفًا" "وأما البصرية، فالرؤية بالتاء" بالألف "وقد أنكر ابن مالك والحريري وغيرهما، كما أفاده الشيخ بدر الدين الزركشي ورود الرؤيا" بالألف "للبصرية، ولحنوا" أبا الطيب أحمد بن الحسين "المتنبي" الشاعر المشهور "في قوله: ورؤياك أحلى في العيون من الغض"؛ لأنه استعمل الرؤيا بالألف في البصرية التي بالتاء، "وأجيب: بأنه" لا حجة في الآية على أنه منام؛ لأنه "إنما قال: الرؤيا لوقوع ذلك المرئي في(8/4)
منام، وبأن "الرؤيا" و"الرؤية" واحدة كقربى وقربة، ويشهد له قول ابن عباس في الآية -كما عند البخاري-: هي رؤية أريها -صلى الله عليه وسلم- ليلة أسري به، وزاد سعيد بن منصور عن سفيان في آخر الحديث: وليس رؤيا منام: ولم يصرح في رواية البخاري بالمرئي.
وعند سعيد بن منصور من طريق أبي مالك هو ما أري في طريقه إلى بيت المقدس، وهذا مما يستدل به على إطلاق لفظ: "الرؤيا" على ما يرى بالعين في
__________
الليل وسرعة تقضيه" حتى "كأنه منام"، فهو مجاز علاقته المشابهة، "وبأن الرؤيا" بالألف "والرؤية" "بالتاء" "واحدة"، يعني أن كلا منهما يستعمل موضع الآخر "كقربى وقربة"، وهذا نقله ابن دحية ولفظه.
قال أهل اللغة: رأيت رؤية ورؤيا مثل قربة وقربى، "ويشهد له قول ابن عباس" وهو من أئمة اللسان "في" تفسير "الآية، كما عند البخاري: هي رؤية عين أريها -صلى الله عليه وسلم- ليلة أسرى به"، فاستعمل ابن عباس الرؤيا "بالألف" في البصرية، "وزاد سعيد بن منصور عن سفيان" بن عيينة راويه عن عمرو بن دينار، عن عكرمة، عن ابن عباس، "في آخر الحديث وليس منام"، فهو دليل قوي على استعمال كل منهما موضع الآخر.
قال الحافظ: وقد تمسك بكلام ابن عباس هذا من قال: الإسراء منام، ومن قال: يقظة فالأول أخذه من لفظ الرؤيا لاختصاصها برؤيا المنام، والثاني من قوله: أريها ليلة الإسراء إذ لو كان منامًا كذبه الكفار ولا فيما هو أبعد منه، وإذا كان يقظة والمعراج تلك الليلة تعين كونه يقظة أيضًا إذ لم ينقل أنه نام لما وصل بيت المقدس، ثم عرج به وهو نائم، "ولم يصرح في رواية البخاري بالمرئي"، بل لفظه ما قدمه المصنف.
قال الحافظ عقب ما نقلته عنه: وإذا كان يقظة فإضافة الرؤيا إلى العين للاحتراز عن رؤيا القلب، وقد أثبت الله في القرآن رؤيا القلب، فقال: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم: 11] الآية، ورؤيا العين، فقال: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى، لَقَدْ رَأَى} [النجم: 17-18] .
وروى الطبراني في الأوسط بإسناد قوي عن ابن عباس قال: رأى محمد ربه مرتين ومن وجه آخر قال: نظر محمد إلى ربه، جعل الكلام لموسى والخلة لإبراهيم والنظر لمحمد، فإذا تقرر ذلك ظهر أن مراد ابن عباس هنا برؤيا العين جميع ما ذكره -صلى الله عليه وسلم- من الأشياء في تلك الليلة.
"وعند سعيد بن منصور من طريق أبي مالك هو ما أري في طريقه إلى بيت المقدس" مما يأتي بعضه، "وهذا مما يستدل به على إطلاق لفظ الرؤيا على ما يرى بالعين في اليقظة"، كما تطلق على رؤيا المنام، "وهو يرد من خطا المتنبي", ولا عبرة بإنكار ذلك(8/5)
اليقظة، وهو يرد على من خطأ المتنبي.
على أنه اختلف المفسرون في هذه الآية.
فقيل: أن الرؤيا التي أريناك ليلة المعراج، قال البيضاوي: ففسر الرؤيا بالرؤية.
وقيل: رؤيا عام الحديبية، حين رأى أنه دخل مكة فصده المشركون وافتتن بذلك ناس.
وقيل: رؤيا وقعة بدر، وسأل ابن النقيب شيخه أبا العباس القرطبي فقال:
__________
إذ من حفظ حجة خصوصًا وابن عباس من فصحاء بني هاشم وأئمة اللسان.
وفي كلام الأشموني إفادة أن مصدر رأي: حلمية، أو بصرية أو علمية بالدليل، أو السمع يجيء بالألف في لغة، وأن المشهور كونها مصدرًا للحلمية؛ "على أنه اختلف المفسرون في هذه الآية" على هذه للاستدراك، وقيل: تتعلق بما قبلها من الكلام، وقيل: لا تتعلق بشيء، "فقيل: إن الرؤيا التي أريناك ليلة المعراج" كما مر عن ابن عباس.
"قال البيضاوي:" وتعلق به من قال في المنام، ومن قال: كان في اليقظة، "ففسر الرؤيا" "بالألف" "بالرؤية" "بالتاء"، "وقيل: رؤيا عام الحديبية حين رأى أنه دخل" المسجد الحرام، فسافر قاصدًا "مكة فصده المشركون وافتتن بذلك ناس"، أي: تحيروا من ذلك؛ لأن رؤياه وحي حتى قال -صلى الله عليه وسلم-: "أقلت لكم في هذا العام"، وفي الفتح قال هذا القائل والمراد بقوله: فتنة للناس ما وقع من صد المشركين له في الحديبية عن دخول المسجد الحرام، وهذا وإن أمكن أنه مراد الآية لكن الاعتماد في تفسيرها على ترجمان القرآن أولى.
"وقيل: رؤياه وقعة بدر، وسأل ابن النقيب" الإمام المفسر العلامة المفتي جمال الدين أبو عبد الله محمد بن سليمان بن حسن البلخي، ثم المقدسي الحنفي مدرس العاشورية بالقاهرة، ولد سنة إحدى عشرة وستمائة، قدم مصر فسمع بها من يوسف المخلي، وأقام مدة بالجامع الأزهر، وصنف بها تفسيرًا كبيرًا إلى الغاية، وكان إماما ابدًا زاهدًا، أمارًا بالمعروف، كبير القدر، يتبرك بدعائه وزيارته، مات بالقدس في المحرم سنة ثمان وتسعين وستمائة، ذكره الذهبي في العبر "شيخه أبا العباس" أحمد بن عمر بن إبراهيم "القرطبي" الأنصاري، المالكي، الفقيه المحدث، نزيل الإسكندرية، ولد سنة ثمان وسبعين وخمسمائة، وسمع الكثير وقدم الإسكندرية، فأقام بها يدرس، وصنف المفهم في شرح صحيح مسلم، واختصر الصحيحين، مات في ذي القعدة سنة ست وخمسين وستمائة، وليس المراد بابن النقيب هنا شهاب الدين بن النقيب أحمد أبو العباس، أحد علماء الشافعية؛ لأنه ولد بالقاهرة سنة اثنين وسبعمائة، ومات بها في رمضان(8/6)
الصحيح أنها رؤية عين، أراه جبريل مصارع القوم ببدر، فأرى النبي -صلى الله عليه وسلم- الناس مصارعهم التي أراه جبريل، فتسامعت به قريش فاستخروا منه. انتهى.
واستدل القائلون بأنها رؤيا منام أيضًا بقول عائشة: "ما فقد جسده الشريف".
وأجيب بأن عائشة لم تحدث به عن مشاهدة؛ لأنها لم تكن إذا ذاك زوجًا، ولا في سن من يضبط، أو لم تكن ولدت بعد على الخلاف في الإسراء متى كان.
__________
سنة تسع وستين، كما ذكر السيوطي فلم يدرك القرطبي، "فقال: الصحيح أنها رؤية عين أراه جبريل مصارع القوم ببدر، فأري النبي -صلى الله عليه وسلم- الناس" أصحابه الحاضرين "مصارعهم،" أي: القوم الهالكين ببدر من المشركين "التي أراه جبريل،" فصار يقول قبل الوقعة واضعًا يده على الأرض: "هذا مصرع فلان، وهذا مصرع فلان"، "فتسامعت به قريش
فاستخروا" مثل سخروا، أي: هزؤوا "منه،" فلما التقى الجمعان كان كما قال "انتهى".
لكن ما صححه خلاف ما صححه الشامي أنها رؤيا عين ليلة الإسراء، ونحوه للحافظ في الفتح قائلًا: وما روى ابن مردويه عن ابن عباس؛ أن المراد رؤيا الحديبية، وعن الحسن بن علي مرفوعًا، "إني أريت كأن بني أمية يتعاورون منبري هذا، فقيل: دنيا تنالهم"، ونزلت الآية، فكلاهما إسناده ضعيف.
"واستدل القائلون بأنها منام أيضًا عائشة" المروي عند ابن إسحق، حدثني بعض آل أبي بكر أن عائشة كانت تقول: "ما فقد جسده الشريف" ولكن أسري بروحه.
قال الشامي: كذا فيما وقفت عليه من نسخ السير فقد بالبناء للمفعول، والذي وقفت عليه من نسخ الشفاء ما فقدت بالبناء للفاعل وإسناد الفعل لتاء المتكلم، كذا قال وقد حكاهما في الشفاء، روايتين، فقال أولًا: وأما قول عائشة: ما فقد جسده، فهي لم تحدث به عن مشاهدة ... إلخ" ثم قال بعد أسطر، وأيضًا قد روي حديث عائشة: ما فقدت، يعني بالبناء للفاعل، قال: ولم يدخل بها النبي -صلى الله عليه وسلم- إلا بالمدينة، وكل هذا يوهنه، بل الذي يدل عليه صحيح قولها: إنه بجسده الشريف لإنكارها رؤيته لربه رؤية عين، ولو كانت عندها لم تنكره، وحديثها هذا ليس بالثابت عنها انتهى، يعني لما في متنه من العلة القادحة، وفي سنده من انقطاع وراو مجهول.
وقال ابن دحية في التنوير: إنه حديث موضوع عليها، وقال في معراجه الصغير: قال إمام الشافعية أبو العباس بن سريج: هذا حديث لا يصح، وإنما وضع ردًا للحديث الصحيح.
"وأجيب" على تقدير صحته؛ "بأن عائشة لم تحدث به عن مشاهدة؛ لأنها لم تكن إذ ذاك زوجًا، ولا في سن من يضبط"؛ لأنها سنة الهجرة، وكانت بنت ثمان سنين، "أو لم تكن(8/7)
وقال التفتازاني: أي ما فقد جسده عن الروح، بل كان مع روحه، وكان المعراج للجسد والروح جميعًا، انتهى.
واحتج القائون بأنه بالجسد يقظة إلى بيت المقدس، وإلى السماء بالروح، بقوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} [الإسراء: 1] ، فجعل المسجد الأقصى غاية الإسراء الذي وقع التعجب به بعظيم القدرة، والتمدح بتشريف النبي -صلى الله عليه وسلم- وإظهار الكرامة له بالإسراء، ولو كان الإسراء بجسده إلى زائد على المسجد الأقصى لذكره، فيكون أبلغ في المدح.
__________
ولدت بعد،" بالناء على الضم، أي: بعد هذه القصة، وهي ضد قبل، ويستعملان في التقدم والتأخر المتصل والمنفصل، والمراد هنا الأول، أو المراد زمن وقوعه للمحاورة والتضاد، وهو استعمال شائع "على الخلاف في الإسراء متى كان"، فعلى أنه كان بعد المبعث بعام لم تكن ولدت، وعلى أنه قبل الهجرة بعام تكون ابنة سبع، وعلى أنه قبلها بأكثر تكون أصغر من سبع.
قال عياض: وإذا لم تشاهد ذلك عائشة دل على أنها حدثت بذلك عن غيرها، فلم يرجح خبرها على خبر غيرها، وكان الظاهر أن يقول: فرجح خبر غيرها على خبرها، أي: لعدم ثبوته عنها كما أفصح به بعد، وقد قدمت كلامه لا لروايتها عن مجهول إذ لو ثبت لكان مرسل صحابي وهو حجة.
"وقال التفتازاني" في الجواب على تقدير الصحة، "أي: ما فقد جسده عن الروح، بل كان مع روحه وكان المعراج للجسد والروح جميعًا. انتهى"، وهو جواب حسن على ما فيه من كونه خلاف المتبادر من اللفظ.
"واحتج القائلون بأنه بالجسد يقظة إلى بيت المقدس، وإلى السماء بالروح،" فالإسراء يقظة، والمعراج منام، "بقوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} [الإسراء: 1] الآية، فجعل المسجد الأقصى غاية الإسراء الذي وقع التعجب به"، من الكفاء تعجب استحالة، ومن المؤمنين تعجب تعظيم "بعظيم القدرة" بالباء الجارة، وفي نسخة بالفوقية منصوب على أنه مفعول له، أي: لتعظيم قدرة الله الباهرة "والتمدح بتشريف النبي -صلى الله عليه وسلم- وإظهار الكرامة له بالإسراء، ولو كان الإسراء بجسده إلى" مكان "زائد عن المسجد الأقصى لذكره، فيكون أبلغ في المدح،" فلما لم يقع ذكر المعراج في هذا الموضع من كون شأنه أعجب وأمره أغرب بكثير من الإسراء دل على أنه كان(8/8)
وأجيب: بأن حكمة التخصيص بالمسجد الأقصى سؤال قريش له على سبيل الامتحان على ما شاهدوه وعرفوه، من صفة بيت المقدس، وقد علموا أنه لم يسافر إليه، فيجيبهم بما عاين ويوافق ما يعلمونه، فتقوم الحجة عليهم، وكذلك وقع، ولهذا لم يسألوه عما رأى في السماء، ولا عهد لهم بذلك.
وقال النووي في فتاويه: وكان الإسراء به عليه الصلاة والسلام مرتين: مرة في المنام، ومرة في اليقظة.
وذكر السهيلي تصحيح هذا المذهب عن شيخه القاضي أبي بكر بن العربي،
__________
منامًا، وأما الإسراء فلو كان منامًا، لما كذبوه ولا استنكروه لجواز وقوع مثل ذلك وأبعد منه لآحاد الناس.
"وأجيب" كما ذكر ابن المنير؛ "بأن حكمة التخصيص بالمسجد الأقصى سؤال قريش له على سبيل الأمتحان على ما شاهدوه وعرفوه من صفة بيت المقدس، وقد علموا أنه لم يسافر إليه فيجيبهم بما عاين"، كما يأتي بيانه؛ "ويوافق ما يعلمونه، فتقوم الحجة عليهم، وكذلك وقع، ولهذا لم يسألوه عما أرى في السماء، ولا عهد لهم بذلك"، عطف علة على معلول، أي: لأنه لا عهد أي: لا علم لهم به.
وفي الشامي، وأجب الأئمة عن ذلك، بأنه استدرجهم إلى الإيمان بذكر الإسراء، فلما ظهرت أمارات صدقه، ووضحت له براهين رسالته، واستأنسوا بتلك الآية أخبرهم بما هو أعظم منها، وهو المعراج فحدثهم به، وأنزله الله في سورة النجم.
قال الحافظ: ويؤيد وقوع الإسراء عقب المعراج في ليلة واحدة رواية ثابت عن أنس عند مسلم: "أتيت بالبراق فركبت حتى أتيت بيت المقدس"، فذكر القصة إلى أن قال: "ثم عرج بنا إلى السماء الدنيا"، وحديث أبي سعيد عند ابن إسحاق، فلما فرغ مما كان في بيت المقدس أتي بالمعراج.
"وقال النووي في فتاويه: وكان الإسراء عليه الصلاة والسلام مرتين: مرة في المنام، ومرة في اليقظة"، وإلى هذا ذهب المهلب شارح البخاري، وحكاه عن طائفة، وأبو نصر بن القشيري ومن قبلهم أبو سعد في شرف المصطفى قال: كان للنبي -صلى الله عليه وسلم- معاريج، منها ما كان في اليقظة، ومن ما كان في المنام.
"وذكر السهيلي تصحيح هذا المذهب عن شيخ القاضي أبي بكر بن العربي" واختاره؛ "وأن مرة النوم توطئة له" وتمهيد "وتيسير عليه، كما كان بدء نبوته الرؤيا الصادقة"،(8/9)
وأن مرة النون توطئة وتيسير عليه، كما كان بدء نوبته الرؤيا الصادقة ليسهل عليه أمر النبوة، فإنه أمر عظيم تضعف عنه القوى البشرية، وكذلك الإسراء سهلت عليه بالرؤيا؛ لأن هوله عظيم، فجاءت اليقظة على توطئة وتقدمة، رفقًا من الله بعبده وتسهيلًا عليه.
وقد جوز بعض قائلي ذلك أن تكون قصة المنام قبل المبعث، لأجل قول شريك في روايته: "وذلك قبل أن يوحى إليه"، وسيأتي البحث في ذلك إن شاء الله تعالى.
واحتج القائلون بأنه أربع إسراءات يقظة بتعدد الروايات في الإسراء، واختلف ما يذكر فيها، فبعضهم يذكر شيئًا لم يذكر الآخر، وبعضهم يسقط شيئًا ذكره الآخر.
وأجيب: بأنه لا يدل على التعدد؛ لأن بعض الرواة قد يحذف بعض الخبر للعلم به، أو ينساه، وقال الحافظ ابن كثير: من جعل كل رواية خالفت الأخرى
__________
كما قالت عائشة: أول ما بدئ به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الرؤيا الصادقة، وفي رواية: الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، "ليسهل عليه" بالرؤيا "أمر النبوة، فإنه أمر عظيم تضعف عنه القوى البشرية"، فقد ذكر أبو ميسرة التابعي الكبير، وغيره؛ أن ذلك وقع في المنام، وجمعوا بينه وبين حديث عائشة؛ بأن ذلك وقع مرتين كما في الفتح، "وكذلك الإسراء سهلت" قصته عليه "بالرؤيا" في النوم قبل اليقظة؛ "لأن هوله عظيم، فجاءت اليقظة على توطئة وتقدمة رفقًا من الله بعبده وتسهيلًا عليه".
"وقد جوز بعض قائلي ذلك؛ أن تكون قصة المنام قبل المبعث لأجل قول شريك" بن أبي نمر "في روايته" عن أنس؛ "وذلك قبل أن يوحى إليه، وسيأتي البحث في ذلك إن شاء الله تعالى" قريبًا مع الجواب عن إشكاله بالإجماع، على أن فرض الصلاة كان ليلة الإسراء فكيف يكون قبل الوحي.
"واحتج القائلون، بأنه أربع إسراءات يقظة،" كما ذهب إليه جماعة "بتعدد الروايات في الإسراء واختلاف ما يذكر فيها، فبعضهم يذكر شيئًا لم يذكره الآخر، وبعضهم يسقط شيئًا لم يذكره الآخر، وبعضهم يسقط شيئًا ذكره الآخر، وأجيب بأنه لا يدل على التعدد؛ لأن بعض الرواة قد يحذف بعض الخبر للعلم به أو ينساه،" أو ما يذكر هو الأهم عنده، أو ينشط تارة فيسوقه كله، وتارة يحدث المخاطب با هو أنفع له.(8/10)
مرة على حدة فأثبت إسراءات متعددة فقد أبعد وأغرب، وهرب إلى غير مهرب، ولم يحصل على مطلب، ولم ينقل ذلك عن أحد من السلف، ولو تعدد هذا التعدد لأخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- أمته، بذلك ولنقله الناس على التعدد والتكرار. انتهى.
وقد وقع في رواية عبثر بن القاسم الزبيدي -بموحدة ثم مثلثة بوزن جعفر- في روايته عن حصين بن عبد الرحمن، عند الترمذي والنسائي: لما أسري برسول الله -صلى الله عليه وسلم- جعل يمر بالنبي ومعه الواحد، الحديث، فإن كان ذلك محفوظًا
__________
"وقال الحافظ ابن كثير: من جعل كل رواية خالقت الأخرى مرة على حدة، فأثبت إسراءات متعددة فقد أبعد وأغرب"، جاء بشيء غريب لا يعرف، "وهرب إلى غير مهرب"، يعني أن ذلك لا يجد به نفعًا في دفع التعارض، "ولم يحصل على مطلب"، حذف من كلام ابن كثير في تاريخه تعليله بقوله؛ لأن كل السياقات فيها تعريفه بالأنبياء، وفي كلها تفرض عليه الصلاة، فكيف يدعي تعدد ذلك، هذا في غاية البعد، ووصله بقوله: "ولم ينقل ذلك عن أحد من السلف، ولو تعدد هذا التعدد لأخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- أمته بذلك، ولنقله الناس على التعدد والتكرار،" ولم يقع ذلك. "انتهى".
ونحوه في الفتح، وزاد: ويلزم أيضًا وقوع التعدد في سؤاله -صلى الله عليه وسلم- عن كل نبي، وسؤال أهل كل باب هل بعث إليه وفرض الصلوات الخمس وغير ذلك؟، فإن تعدد مثل ذلك في القصة لا يتجه، فتعين رد بعض الروايات المختلفة إلى بعض أو الترجيح.
وقال ابن القيم: هذه طريقة ضعفاء الظاهرية الذين إذا رأوا في القصة لفظة تخالف سياق بعض الرواة جعلوه مرة أخرى، فكلما اختلفت عليهم الرواة عددوا لهم الوقائع والصواب الذي عليه أئمة النقل؛ أن الإسراء كان مرة واحدة بمكة بعد البعثة، ويا عجبًا لهؤلاء الذين زعموا أنه وقع مرارًا كيف ساغ أن يظنوا أنه في كل مرة تفرض عليه الصلاة خمسين، ثم يتردد بين ربه تعالى وبين موسى حتى يظنوا أنه في كل مرة تفرض عليه الصلاة خمسين، ثم يتردد بين ربه تعالى وبين موسى حتى تصير خمسًا، فيقول: أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي، ثم يعيدها في المرة الثانية خمسين، ثم يحطها عشرًا عشرًا.
"وقد وقع رواية عبثر بن القسم الزبيدي" "بضم الزاي" أبو زبيد، كذلك الكوفي الثقة من رجال الجميع، مات سنة تسع وسبعين ومائة، وعبثر بفتح العين المهملة، و"بموحدة" ساكنة، "ثم مثلثة" مفتوحة، ونسخحة فمثناة تحريف، فالذي في التقريب: وفتح المثلثة "بوزن جعفر في روايته عن حصين بن عبد الرحمن" السلمي، الكوفي، ثقة، روي له الجماعة وتغير حفظه في الآخر، مات سة ست وثلاثين ومائة، وله ثلاث وتسعون سنة.
"عند الترمذي والنسائي: لما أسري برسول الله -صلى الله عليه وسلم- جعل يمر بالنبي ومعه الواحد ...(8/11)
كان فيه قوة لمن ذهب إلى تعدد الإسراء، وأنه وقع بالمدينة أيضًا غير الذي وقع بمكة.
قال في فتح الباري: والذي يتحرر في هذه المسألة أن الإسراء الذي وقع بالمدينة ليس فيه ما وقع بمكة، من استفتاح أبواب السماء بابا بابًا، ولا من التقاء الأنبياء كل واحد في سماء، ولا المراجعة مع موسى فيما يتعلق بفرض الصلوات، ولا طلب تخفيفها وسائر ما يتعلق بذلك، وإنما تكررت قضايا كثيرة سوى ذلك رآها -صلى الله عليه وسلم- فمنها بمكة البعض، ومنها بالمدينة بعد الهجرة البعض، ومعظمها في المنام والله أعلم. انتهى.
__________
الحديث، فإن كان ذلك محفوظًا كان فيه قوة لمن ذهب إلى تعدد الإسراء، وأنه وقع بالمدينة أيضًا" إسراء "غير الذي وقع بمكة"، فغير صفة محذوف.
"قال في فتح الباري: والذي يتحرر من هذه المسألة أن الإسراء الذي وقع بالمدينة ليس فيه وما وقع بمكة من استفتاح أبوب السماء بابًا بابًا" بالتكرير، "ولا من التقاء الأنبياء كل واحد في سماء، ولا المراجعة مع موسى فيما يتعلق بفروض الصلوات، ولا طلب تخفيفها وسائر ما يتعلق بذلك، وإنما تكررت قضايا كثيرة سوى ذلك رآها النبي -صلى الله عليه وسلم- فمنها بمكة البعض، ومنها بالمدينة بعد الهجرة البعض، ومعظمها في المنام" ضد اليقظة، "والله أعلم، انتهى".
وفي فتح الباري أيضًا: وجنح الإمام أبو شامة إلى وقوع المعراج مرارًا، واستند إلى ما أخرجه البزار، وسعيد بن منصور عن أنس رفعه: بينا أنا جالس إذ جاء جبريل، فوكز بين كتفي، فقمنا إلى شجرة فيها مثل وكري الطائر، فقعدت في أحدهما، وقعد جبريل في الآخر، فارتفعت حتى سدت الخافقين.. الحديث، وفيه: ففتح لي باب من السماء، فرأيت النور الأعظم، وإذا حجاب رفرف الدر والياقوت، ورجاله لا بأس بهم، إلا أن الدارقطني ذكر له علة تقتضي إرساله، وعلى كل حال، فهي قصة أخرى، الظاهر أنها وقعت بالمدينة، لا بعد في وقوع أمثالها، وإنما المستبعد وقوع التعدد في قصة المعراج الذي وقع سؤاله عن كل نبي، وسؤال أهل كل باب هل بعث إليه وفرض الصلوات الخمس وغير ذلك، فإن تعدد ذلك في اليقظة لا يتجه، فتعين رد بعض الروايات المخلتفة إلى بعض، أو الترجيح، إلا أنه بعد في وقوع جميع ذلك في المنام توطئة، ثم وقوعه في اليقظة على وفقه كما قدمته، ومن المستغرب قول ابن عبد السلام في تفسيره: وكان الإسراء في النوم واليقظة ووقع بمكة والمدينة، فإن أراد تخصيص المدينة بالنوم،(8/12)
وقال بعض العارفين: إن له -صلى الله عليه وسلم- أربعة وثلاثين مرة، والذي أسري به منها واحد بجسمه، والباقي بروحه رؤيا رآها. انتهى.
فالحق: أنه إسراء واحد، بروحه وجسده يقظة، في القصة كلها.
وإلى هذا ذهب الجمهور من علماء المحدثين والفقهاء والمتكلمين وتواردت عليه ظواهر الأخبار الصحيحة، لا ينبغي العدول عن ذلك، إذ ليس في العقل ما يحيله.
__________
ويكون كلامه على طريق اللف والنشر غير المرتب، فيحتمل، ويكون الإسراء الذي اتصل به المعراج، وفرضت فيه الصلاة بمكة، والآخر في المنام بالمدينة، وينبغي أن يزاد فيه أن الإسراء بالمنام تكرر بالمدينة النبوية.
"وقال بعض العارفين؛ أن له -صلى الله عليه وسلم- أربعة وثلاثين مرة" من الإسراءات "الذي أسري به منها واحد بجسمه، والباقي بروحه" دون جسده "رؤيا رآها انتهى".
"فالحق" وهو الصحيح "أنه إسراء واحد برروحه وجسده يقظة في القصة كلها، وإلى هذا ذهب الجمهور من علماء المحدثين والفقهاء والمتكلمين، وتواردت عليه ظواهر الأخبار الصحيحة، ولا ينبغي العدول": الرجوع والميل "عن ذلك" الظاهر، "إذ ليس في العقل ما يحيله" حتى يعدل عنه، وإنما عده محالًا صدر من كفار قريش وبعض ضعفاء المسلمين، لتوهمهم أن قطع مثل هذه المسافة ذهابًا وإيابًا في بعض ليلة محال لبعدها، فتقطع في أيام كثيرة، ومن بعض أرباب علم الهيئة، الزاعمين أن الأفلاك لا فرجة فيها ولا تقبل الخرق والالتئام، وكلاهما خطا عقلًا ونقلًا. ألاى ترى نقل عرش بلقيس في طرفة عين مع بعد مسافته، وقد نطقت النصوص بأن للسماء أبوابًا تفتح وتغلق، فلا عبرة بأوهام الفلاسفة.
قال التفتازاني: ادعاء استحالة المعراج باطل؛ لأنه إنما ينبني على أصول الفلاسفة من امتناع الخرق والالتئام على السموات، وإلا فلخرق والالتئام على السموات واقع عند أهل الحق، والأجسام العلوية والسفلية متماثلة مركبة من الجواهر الفردة المتماثلة ما يصح على كل من الأجسام ما يصح على الآخر ضرورة التماثل المذكور، فإن أمكن خرق الأجسام السفلية أمكن خرق الأجسام العلوية، والله قادر على الممكنات كلها، فهو قادر على خرق السموات وقد ورد به السمع، فيجب تصديقه.
وقال البيضاوي تبعًا للرازي الاستحالة مدفعوة بما ثبت في الهندسة، أما ما بين طرفي قرص الشمس ضعف ما بين طرفي كرة الأرض مائة ونيفًا وستين مرة، ثم إن طرفها الأسفل ليصل لموضع طرفها الأعلى في أقل من درجة، والأجسام كلها متساوية في قبول الإعراض، والله قادر(8/13)
قال الرازي: قال أهل التحقيق: الذي يدل على أنه تعالى أسرى بروح سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- وجسده من مكة إلى المسجد الأقصى القرآن والخبر.
أما القرآن فهو قوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} ، وتقرير الدليل: أن "العبد" اسم للجسد والروح، فواجب أن يكون الإسراء حاصلًا بجميع الجسد والروح، ويدل عليه قوله: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى، عَبْدًا إِذَا صَلَّى} [العلق: 9] ولا شك أن المراد هنا مجموع الجسد والروح، وأيضًا: قال سبحانه وتعالى في سورة الجن: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ} [الجن: 19] ، والمردج: جميع الروح والجسد وكذا ههنا، في قوله: {أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} ، انتهى.
واحتجوا أيضًا: بظاهر قوله عليه الصلاة والسلام: "أسري بي"؛ لأن الأصل في الأفعال أن تحمل على اليقظة حتى تدل دليل على خلافه.
__________
على كل الممكنات، فيقدر أن يخلق مثل هذه الحركة السريعة في بدن النبي صلى الله عليه وسلم، أو فيما حمله، والتعجب من لوازم المعجزات.
"ال الرازي" الإمام فخر الدين: "قال أهل التحقيق: الذي يدل على أنه تعالى أسرى بروح سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وجسده" معا يقظة "من مكة إلى المسجد الأقصى القرآن والخبر" أي: الحديث، "أما القرآن، فهو قوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} [الإسراء: 1] الآية، إلا بعد، "وتقرير الدليل أن العبد اسم للجسد والروح، فواجب أن يكون الإسراء حاصلا بجميع الجسد والروح" إذ لو كان مناما لقال بروح عبده.
"ويدل عليه قوله: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى، عَبْدًا إِذَا صَلَّى} [العلق: 9] الآية, ولا شك أن المراد هنا مجموع الجسد والروح"؛ لأن العبد هنا محمد صلى الله عليه وسلم والناهي له عن الصلاة أبو جهل، وهو لا ينهاه عن الصلاة بروحه، "وأيضا قال سبحانه وتعالى في سورة الجن: وأنه بالفتح عطفا، وبالكسر استئنافا، والضمير للشأن {لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ} محمد صلى الله عليه وسلم {يَدْعُوهُ} ، يعبده ببطن نخلة، "والمراد" في تينك الآيتين "جميع الروح والجسد، وكذلك ههنا" في قوله: {أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} [الإسراء: 1] الآية، إذ الآيات تحمل على نظيرها. انتهى.
وأما الخبر فأشار إليه بقوله: "واحتجوا أيضا بظاهر قوله عليه الصلاة والسلام: "أسري بي"؛ لأن الأصل في الأفعال أن تحمل على اليقظة حتى يدل دليل على خلافه" عقلي أو شرعي.(8/14)
وإن ذلك لو كان منامًا لما كان فيه فتنة للضعفاء، ولا استعبده الأغبياء.
ولأن الدواب لا تحمل الأرواح وإنما تحمل الأجسام، وقد تواترت الأخبار بأنه أسري به على البراق.
فإن قلت: ما الحكمة في كونه تعالى جعل الإسراء ليلًا؟
أجيب: بأنه إنما جعل ليلًا تمكينًا للتخصيص بمقام المحبة؛ لأنه تعالى اتخذه -صلى الله عليه وسلم- حبيبًا وخليلًا، والليل أخص زمان للمحبين لجمعهما فيه، والخلوة
__________
قال عياض وتبعه غيره: الحق والصحيح أنه إسراء بالجسد في القصة كلها، وتدل عليه الآية نصًا، وصحيح الأخبار إلى السموت استفاضة، ولا يعدل عن الظاهر والحقيقة إلى التأويل إلا عند الاستحالة، وليس في الإسراء بجسده حال يقظته استحالة تؤذن بتأويل، إذ لو كان منامًا لقال بروح عبده ولم يقل بعبده، وقوله: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} [النجم: 17] الآية، أي: ما عدل عن رؤية ما أمر به من عجائب الملكوت، وما جاوزها لصراحة ظاهره في أنه بجسده يقظه؛ لأنه أضاف الأمر إلى البصر، وهو لا يكون إلا يقظة بجسده، بشهادة لقد رأى من آيات ربه الكبرى، ولو كان منامًا لما كانت فيه آية ولا معجزة خارقة للعادة، دالة على صدقه وإن كانت رؤيا الأنبياء وحيًا، وليس فيها من الأبلغية وخرق العادة ما فيه يقظة على أن ذلك إنما يعرف من صدقه وصدق خبره، "وإن ذلك لو كان منامًا لما كان فيه فتنة للضعفاء" الذين كانوا أسلموا فارتدوا فوقعوا في فتنة، أي: بلية عظيمة توقعهم في العاب لردتهم وتكذيبهم وإنكارهم لخبر الصادق بما هو خارق للعادة، "ولا استبعده الأغبياء": جمع غبي بمعجمة، أي: الكفار ولا كذبوه، فيه؛ لأن مثل هذا من المنامات لا ينكر، بل لم يكن منهم ذلك إلا وقد علموا أن خبره إنما كان عن إسرائه بجسده وحال يقظته؛ "ولأن الدواب لا تحمل الأرواح وإنما تحمل الأجسام، وقد تواترت الأخبار، بأنه أسري به على البراق" وهو دابة، فوجب كونه بالجسد والروح معًا.
"فإن قلت ما الحكمة في كونه تعالى جعل الإسراء ليلًا،" مع أن غالب الفرائض كالصوم والجهاد والصبح والظهر والعصر والابتغاء من فضل الله، إنما هو بالنهار، وإن وقع جهاد ليلًا فنادر لنحو غارة، وفيه الصلاة الوسطى، والصوم الذي قال الله فيه: "كل عمر ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به"، ومن ثم صحح الشرف المناوي أنه أفضل من الليل، وصحح غيره تفصيل الليل.
"أجيب بأنه إنما جعل ليلًا تمكينا للتخصيص بمقام المحبة؛ لأنه تعالى أتخذه عليه السلام حبيبًا وخليلًا"، فجمع له من بين المقامين، وهذا دليل لما أفهمه قوله بمقام المحبة، "والليل أخص زمان للمحبين" بفتح الباء المشددة تثنية محب، أي: أولى زمان يلخلو فيه(8/15)
بالحبيب متحققة بالليل.
وقال ابن المنير: ولعل تخصيص الإسراء بالليل ليزداد الذين آمنوا إيمانًا بالغيب، وليفتتن الذين كفروا زيادة على فتنتهم، إذ الليل أخفى حالًا من النهار، قال: ولعله لو عرج به نهارًا لفات المؤمن فضيلة الإيمان بالغيب، ولم يحصل ما وقع من الفتنة على من شقي وجحد، انتهى.
وفي ذلك حكمة أخرى على طريق أهل الإشارات، ذكرها العلامة ابن مرزوق، وهي: أنه قيل؛ لأن الله تعالى لما محا آية الليل وجعل آية النهار مبصرة انكسر الليل، فجبر بأن أسري فيه بمحمد -صلى الله عليه وسلم- وقيل: افتخر النهار على الليل
__________
المحب بحبيب "لجمعهما فيه"، فليس المراد بأخص هنا مقابل الأعم، ثم المحب لغة من وقعت منه المحبة، والحبيب والمحبوب من وقت عليه فغلب المحب على المحبوب، فقال المحبين، أو إشارة إلى أن المتحابين إذا صدقت محبة كل منهما لصاحبه كان محبًا ومحبوبًا باعتبارين، "والخلوة بالحبيب متحققة" بالليل من تحقق الأمر إذا ثبت، ويجوز فتح القاف اسم مفعول أي: مثبتة، والأول أولى.
"وقال ابن المنير: ولعل تخصيص الإسراء بالليل ليزداد الذين آمنوا إيمانًا بالغيب، وليفتتن الذين كفروا زيادة على فتنتهم، إذ الليل أخفى حالًا من النهار"، فما وقع فيه لا يطلع عليه غالبًان فكان من الغيب، وما وقع نهارًا يطلع عليه غالبًا لمشاهدته، فإذا أخبر -صلى الله عليه وسلم- عما وقع له ليلًا صدقه المؤمنون فزادوا به إيمانًا، وكذبه الكافرون فزادت فتنتهم.
"قال ابن المنير": ولعله لو عرج به نهارًا لفات المؤمن من فضيلة الإيمان بالغيب"، وقد أثنى الله على الذين يؤمنون بالغيب، ففيه فضل عظيم، "ولم يحصل ما وقع من الفتنة على من شقي وجحد"، عطف علة على معلول أي: شقي بجحوده "انتهى".
"وفي ذلك حكمة أخرى" ثالثة "على طريق أهل الإشارات"، وهم المحققون من الصوفية، والإشارات الحقائق التي يأخذونها من نص القرآن وغيره، ولا يقصدون أن ما أخذوه تفسير صريح النص، كما قاله العز بن عبد السلام وغيره.
"ذكرها العلامة" محمد "بن مرزوق، وهي أنه قيل: لأن الله تعلى لما محا آية الليل" طمس نورها بالظلام لنكسن فيه، والإضافة للبيان، "وجعل آية النهار مبصرة"، أي: مبصرًا فيها بالضوء، وفائدة إضافة البيان تحقيق مضمون الجملة السابقة، "انكسر الليل، فجبر بأن أسري فيها بمحمد -صلى الله عليه وسلم-" وذلك أعظم الجبر، "وقيل: افتخر النهار على الليل بالشمس، فقيل له:(8/16)
بالشمس فقيل له: لا تفتخر، فإن كانت الشمس الدنيا تشرق فيك فسيعرج شمس الوجود في الليل إلى السماء، وقيل: لأنه -صلى الله عليه وسلم- سراج، والسراج إنما يوقد بالليل، وأنشد:
قلت: يا سيدي فلم تؤثر الليـ ... ـل على بهجة النهار المنير
قال: لا أستطيع تغيير رسمي ... هكذا الرسم في طلوع البدور
إنما زرت في الظلام لكيما ... يشرق الليل من أشعة نوري
فإن قلت: أيما أفضل، ليلة الإسراء أم ليلة القدر؟
فالجواب: كما قاله الشيخ أبو أمامة بن النقاش -أن ليلة الإسراء أفضل في حق النبي -صلى الله عليه وسلم- من ليلة القدر، وليلة القدر أفضل في حق الأمة؛ لأنها لهم خير لهم
__________
لا تفتخر، فإن كانت شمس الدنيا تشرق فيك فسيعرج شمس الوجود في الليل إلى السماء،" وهذا أيضًا من كلام أهل الإشارات، "وقيل: لأنه -صلى الله عليه وسلم- سراج"، كما قال تعالى: {وَسِرَاجًا مُنِيرًا} [الأحزاب: 46] الآية، "والسراج إنما يوقد بالليل"، أي: إنما يحصل الانتفاع بإيقاده ليلًا، ويذم بإيقاده نهارًا.
قال الفرزدق:
فك والد لك يا جرير كأنه ... قمر المجرة أو سراج نهار
"وأنشد" في ذلك المعنى يقول:
"قلت: يا سيدي فلم تؤثر الليـ ... ـل على بهجة النهار المنير
قال: لا أستطيع تغيير رسمي ... هكذا الرسم في طلوع البدرو
إنما زرت في الظلام لكيما ... يشرق الليل من أشعة نوري"
وحاصل معنى الأبيات أنه سأل محبوبه عن حكمة زيارته ليلًا دون النهار، فقال: أنا بدر، وهو إنما يظهر أثره ليلًا ولا يستطيع تغيير ذلك الأثر، وإن في زيارته ليلًا فائدة لا تظهر لو زاره نهارًا، وهي إشراق الليل بنوره، فصار الليل في حقه كالنهار في الإضاءة والإشراق.
"فإن قلت: إيما أفضل ليلة الإسراء أم ليلة القدر" التي هي خير من ألف شهر؟، "فالجواب كما قاله الشيخ أبو أمامة بن النقاش، أن ليلة الإسراء أفضل في حق النبي -صلى الله عليه وسلم- من ليلة القدر،" لما أكرم به فيها من خوارق العادات التي أجلها رؤيته لله تعالى على الصحيح.
"وليلة القدر أفضل في حق الأمة؛ لأنها" أي: العمل فيها "خير لهم من عمل في ثمانين سنة لمن قبلهم"، بإلغاء الكسر، وهو ثلاث سنين وثلث سنة، بناء على أن المراد حقيقة العدد(8/17)
من عمل في ثمانين سنة لمن قبلهم، وأما ليلة الإسراء فلم يأت في أرجحية العمل فيها حديث صحيح ولا ضعيف، ولذلك لم يعينها النبي -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه، ولا عينها أحد من الصحابة بإسناد صحيح، ولا صح إلى الآن ولا إلى أن تقوم الساعة فيها شيء، ومن قال فيها شيئًا فإنما قال من كيسه لمرجع ظهر له استأنس به، ولهذا تصادمت الأقوال فيها وتباينت، ولم يثبت الأمر فيها على شيء، ولو تعلق بها نفع للأمة، ولو بذرة، لبينه لهم نبيهم -صلى الله عليه وسلم- انتهى.
__________
وهو ألف شهر، وصدر البيضاوي، بأن المراد التكثير.
"وأما ليلة الإسراء فلم يأت في أرجحية العمل فيها حديث صحيح،" أراد به ما يشمل الحسن بدليل قوله، "ولا ضعيف، ولذلك لم يعينها النبي -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه، ولا عينها أحد من الصحابة بإسناد صحيح، ولا صح إلى الآن، ولا" يصح "إلى أن تقوم الساعة فيها شيء"؛ لأنه إذا لم يصح من أول الزمان، لزم أن لا يصح في بقيته، لعدم إمكان تجدد واحد عادة يطلع على ذلك بعد الزمن الطويل، وهذا لا يشكل عليه ما قيل أنه كان ليلة سبع عشرة، أو سبع وعشرين خلت من شهر ربيع الأول، أو سبع وعشرين من رمضان، أو من ربيع الآخر، أو من رجب، واختير وعليه العمل؛ لأن ابن النقاش لم ينف الخلاف فيها من أصله، وإنما نفى تعيين ليلة بخصوصها للإسراء وأنها أصح.
"ومن قال فيها شيئًا، فإنما قال من كيسه"، أي: من عند نفسه دون استناد لنص يعتمد عليه "لمرجع ظهر له، استأنس به" لما جزم به، "ولهذا" أي: عدم إتيان شيء فيها "تصادمت الأقوال فيها وتباينت، ولم يثبت الأمر فيها على شيء ولو تعلق بها نفع للأمة ولو بذرة"، أي: شيئًا قليلًا جدًا "لبينه لهم نبيهم -صلى الله عليه وسلم-"؛ لأنه حريص على نفعهم. "انتهى" كلام أبي أمامة.
زاد الشامي عقبه: ويؤخذ من قول الإمام البلقيني في قصيدته التي مدخ فيها المصطفى:
فأولاك رؤيته في ليلة فضلت ... ليالي القدر فيها الرب رضاكا
إن ليلة الإسراء أفضل من لية القدر، قال في الاصطفاء: ولعل الحكمة في ذلك اشتمالها على رؤيته تعالى التي هي أفضل كل شيء، ولهذا لم يجعلها ثوابًا عن عمل من الأعمال مطلقًا بل من بها على عباده يوم القيامة تفضلًا منه تعالى انتهى، لكن هذا لا يصادم كلام ابن النقاش، إذ ليس في النظم أنها أفضل في حق الأمة وإن كان فضل الزمان، والمكان لا يختص بالعمل فيهما عل ما رجحه الشهاب القرافي وغيره، فهو خاص بتلك الليلة، لا يتعداها لمماثلها كل سنة لعدم ورود شيء فيه.
وفي الهدى لابن القيم، أن ابن تيمية سئل هل ليلة الإسراء أفضل أم ليلة القدر؟ فأجاب،(8/18)
فإن قلت: هل وقع الإسراء لغيره -صلى الله عليه وسلم- من الأنبياء؟
أجاب العارف عبد العزيز المهدوي: بأن مرتبة الإسراء بالجسم إلى تلك الحضرات العلية لم تكن لأحد من الأنبياء، إلا لنبينا -صلى الله عليه وسلم- انتهى.
وإنما قال تعالى: {أَسْرَى بِعَبْدِه} إشارة إلى أنه تعالى هو المسافر به، ليعلم أن الإسراء من عبده هبة إلهية، وعناية ربانية، سبقت له عليه السلام، مما لم يخطر بسره، ولا اختلج في ضميره.
__________
بأن القائل ليلة الإسراء أفضل إن أراد أنها ونظائرها كل عام أفضل، فهذا باطل لم يقله أحد من المسلمين، وهو معلوم الفساد بالاضطرار، وإن أراد أنها بخصوصها أفضل؛ لأنه حصل له -صلى الله عليه وسلم- فيها ما لم يحصل له في غيرها، وما لم يحصل لغيره، فهو صحيح إن سلم إن إنعام الله على نبيه ليلة الإسراء أعظم من إنعامه عليه بإنزال القرآن ليلة القدر، وهذا لا يعلم إلا بوحي، ولا يجوز التلم فيه بلا علم، ولا يعرف عن أحد من الصحابة، أنه خص ليلة الإسراء بأمر من الأمور.
"فإن قلت: هل وقع الإسراء لغيره -صلى الله عليه وسلم- من الأنبياء" أم هو من خصائصه عليهم؟، "أجاب العارف عبد العزيز المهدوي: بأن مرتبة الإسراء بالجسم إلى تلك الحضرات:" "بفتح الضاد" جمع حضرة، أي: المراتب "العلية لم تكن لأحد من الأنبياء إلا لنبينا -صلى الله عليه وسلم- انتهى".
وعبارة الأنموذج في الخصائص التي اختص بها على الأنبياء ولم يؤتها نبي قبله لفظها، وبالإسراء وما تضمنه من اختراق السموات السبع والعلو إلى قاب قوسين، ووطئه مكانًا ما وطئه نبي مرسل ولا ملك مقرب، وإحياء الأنبياء له، وصلاته إمامًا بهم وبالملائكة، وإطلاعه على الجنة والنار، عد هذه البيهقي، ورؤيته آيات ربه الكبرى وحفظه حتى ما زاغ البصر وما طغى، ورؤيته للباري تعالى مرتين، وبركوب البراق في أحد القولين، "وإنما قال تعالى: {أَسْرَى} مأخوذ من السرى، وهو سير الليل، تقول: أسرى وسرى إذا سار ليلًا، هذا قول الأكثر.
وقال الحوفي: أسرى: سار ليلًا، وسرى: سار نهارًا، وقيل: أسرى: سار من أول الليل، وسرى: سار من آخره، وهذا أقرب {بِعَبْدِهِ} محمد -صلى الله عليه وسلم- اتفاقًا، والضمير لله تعالى، والإضافة للتشريف، والمراد جعل البراق يسري به كما يقال: أمضيت كذا، أي: جعلته يمضي، وحذف المفعول لدلالة السياق عليه؛ ولأن المراد ذكر المسرى به لا ذكر الدابة، قاله في الفتح "إشارة إلى أنه تعالى هو المسافر به ليعلم أن الإسراء من عبده هبة إلهية، وعناية ربانية سبقت له عليه اسلام مما لم يخطر بسره ولا اختلج في ضميره،" ولعل وجه الإعلام بذلك، إنه إذا كان تعالى هو المسافر به أفاد أنه لم يكن منه فعل في الإسراء بل هو من ونعمة منه عليه،(8/19)
وأدخل "باء" المصاحبة في قوله تعالى: {بِعَبْدِهِ} ليفيد أنه تعالى صحبه في مسراه، بالألطاف والعناية والإسعاف والرعاية، ويشهد له قوله عليه الصلاة والسلام: "اللهم أنت الصاحب في السفر".
وتأمل قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [يونس: 22] ، وقوله: {أَسْرَى بِعَبْدِه} تلح لك خصوصية مصاحبة الرسول عليه الصلاة والسلام الحق سبحانه وتعالى دون عموم الخلق.
وقرن سبحانه وتعالى "التسبيح" بهذا الإسراء، ولينفي عن قلب صاحب الوهم
__________
"وأدخل باء المصاحبة" على قول المبرد والسهيلي؛ لأن الفعل اللازم، إذا تعدى بالباء غيرت الباء معناه، بخلاف بقية الحروف إذا تعدى بها الفعل، فلا يغير شيء منها معناه، فلذا جعلت للمصحابة "في قوله: {بِعَبْدِه} ليفيد أنه تعالى صحبه في مسراه بالألطاف والعناية والإسعاف والرعاية"، بيان لمعنى صحبة الله لعبده لاستحالة المصاحبة الحقيقية عليه، هكذا جزم المبرد والسهيلي، أن الباء تقتضي مصاحبة الفعل للمفعول في الفعل بخلاف الهمزة، حتى قال السهيلي: إذا قلت قعدت به، فلا بد من مشاركة ولو باليد، وبه جزم ابن دحية وابن المنير.
زاد ابن دحية، "ويشهد له،" أي: لوصفه تعالى بالصحبة "قوله عليه الصلاة والسلام: "اللهم أنت الصاحب في السفر"،" والجمهور أن الباء للتعدية وترادف الهمزة، ولا تقتضي المصاحبة، ورد على المبرد وأتباعه بقوله تعالى: {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِم} [البقرة: 17] الآية؛ لأن الله تعالى لا يوصف بالذهاب مع النور، وبقول الشاعر:
ديار التي كانت ونحن على منى ... تحل بنا لولا نجاء الركائب
أي: تحلنا، فالباء هنا للتعدية، ولم يقتضي المشاركة؛ لأن الديار لم تكن حرامًا فتصير حلالًا، ولكن الباء بمعنى الهمزة لا يجمع بينهما، فلا يقال: أذهبت بزيد، "وتأمل قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْر} [يونس: 22] الآية، وقوله: {أَسْرَى بِعَبْدِه} تلح لك خصوصية مصاحبة الرسول عليه الصلاة والسلام الحق سبحانه وتعالى دون عموم الخلق؛" لأنه أتى بباء المصاحبة في "بعبده"، وأتى بـ"في" في العموم إشارة إلى الفرق بين لطفه بعبده وبين غيره من الخق، "وقرن سبحانه وتعالى التسبيح بهذا الإسراء"، فقال: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى} وأصلها التنزيه، ويطلق في موضع التعجب، فعلى الأول المعنى تنزه الله عن أن يكون رسوله كذابًا، وعلى الثاني عجب الله عباده بما أنعم به على رسوله، ويحتمل أنه بمعنى الأمر، أي: سبحوا الذي أسرى، قاله في الفتح "ينفي عن قلب صاحب الوهم ومن يحكم عليه خياله من(8/20)
ومن يحكم عليه خياله من أهل التشبيه، والتجسيم ما يتخيله في حق الحق سبحانه من الجهة والحد والمكان، ولذا قال: {لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا} يعني ما رأى في تلك الليلة من عجائب الآيات، كأنه سبحانه وتعالى يقول: ما أسريت به إلا لرؤيته الآيات، لا "إلي" فإني لا يحدني مكان، ونسبة الأمكنة إلى نسبة واحدة، فكيف أسري به إلي، وأنا عبده، وأنا معه أينما كان، ولله در القائل لا محا معنى ما ذكر:
سبحان من أسرى إليه بعبده ... ليرى الذي أخفاه من آياته
كحضوره في غيبة وكسكره ... في صحوه والمحو في إثباته
ويرى الذي عنه تكون سره ... في منعه إن شاءه وهباته
__________
أهل التشبيه والتجسيم ما يتخليه في حق الحق سبحانه من الجهة والحد والمكان" حملًا لقوله: {أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ} ، على ظاهره، فيكون معناه صاحبه في سيره من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ولذلك محال في حقه.
وفي البيضوي تصديره بالتسبيح للتنزيه عن العجز عما ذكر بعد.
"ولذا قال: {لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا} ، ويعني ما رأى في تلك الليلة من عجائب الآيات، كأنه سبحانه وتعالى، يقول: ما أسريت به إلا لرؤيته الآيات، لا إلي فإني لا يحدني مكان؛" لأنه الخالق له وموجده فكيف يحده "ونسبة الأمكنة إلى نسبة واحدة، فكيف أسري
به" "بضم الهمزة مضارع من أسرى"، أي: كيف أنقله من المكان الذي هو به لأحضره "إلي، وأنا عنده وأنا معه أينما كان،" أي: في أي مكان حل به، "ولله در القائل: لا محا معنى ما ذكر:"
"سبحان من أسرى إليه بعبده ... ليرى الذي أخفاه من آياته"
أي: ستره عن عامة خلقه، ويرى مبني للفاعل بفتح أوله أو بضمه وحذف المفعول، أي: ليريه، ومثل لذلك على طريق أهل الإشارات بقوله: "كحضوره في غيبة" يعنون بها غيبة القلب عن علم ما يجري من أحكام الخلق لشغل الحس بما ورد عليه من الحق حتى إنه قد يغيب عن إحساسه بنفسه فضلًا عن غيره، والغيبة بإزاء الحضور، والغيب بإزاء الشهادة، فيقال: الغيب عن عالم الشهادة حضور في عالم الغيب، والحضور في عالم القدس غيبة عن عالم الحس، "وكسكره"، وهو غيبة بوارد قوي "في صحوه"، وهو الرجوع إلى الإحساس بعد الغيبة بوارد قوي، وذلك أن العبد إذا كوشف بنعت الجمال سكر وطرب وهام قلبه، فإذا عاد من سكره سمى صاحيًا، "والمحو" رفع أوصاف العادة "في إثباته" وهو إقامة أحكام العادة مقابل للمحو.
"ويرى الذي عنه تكون سره،" السر يعني به عن حصة كل موجود من الحق بالتوجه(8/21)
ويريه ما أبدى له من جوده ... بوجوده والفقد من هيآته
سبحانه من سيد ومهيمن ... في ذاته وسماته وصفاته
وأكد الله تعالى بقوله: {لَيْلًا} مع أن الإسراء لا يكون في اللسان العربي إلا ليلًا، لا نهارًا، "ليدفع الإشكال حتى لا يتخيل أنه أسرى بروحه فقط، ويزيل من خاطر من يعتقد من الناس أن الإسراء ربما يكون نهارًا، فإن القرآن وإن كان نزوله بلغة العرب، فإنه خاطب به الناس أجمعين، أصحاب اللسان العربي وغيرهم.
__________
الإيجادي المنبه عليه بقوله تعالى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُون} [النحل: 40] الآية، "في منعه إن شاءه"، أي: المنع "وهباته": جمع هبة، ذكره كله في لطائف الأعلام، "ويريه" من الإراءة "ما أبدى": أظهر "له من جوده" تعالى عليه -صلى الله عليه وسلم- "بوجوده والفقد من هيئاته".
"سبحانه من سيد" من أسمائه تعالى، كما في حديث "ومهيمن"، كما في التنزيل، المهيمن، أي: الشاهد الحافظ، أو المؤمن، أو الرقيب، أو القائم على خلقه، "في ذاته وسمائه" "بتثليث السين" لغة
في الأسماء، وهو ما دل على الذات باعتبار صفة "وصفاته": جمع صفة، وهي المعنى القائم بالذات، "وأكد الله تعالى بقوله ليلًا مع أن الإسراء لا يكون في اللسان العربي إلا ليلًا لا نهارًا" وكذا سرى عند الأكثر كما مر.
قال الحافظ: "ولم تختلف القراء في {أَسْرَىْ} بخلاف قوله تعالى في قصة لوط {فَأَسْر} [هود: 81] ، فقرئت بالوصل والقطع، ففيه تعقب على من قال سرى وأسرى بمعنى واحد.
قال السهيلي: السرى من سريت إذا سرت ليلًا، يعني فهو لازم، والإسراء يتعدى في المعنى، لكن حذف مفعوله حتى ظن أنهما بمعنى واحد، وإنما معنى {أَسْرَى بِعَبْدِهِ} جعل البراق يسري به، كما تقول: أمضيت كذا، أي: جعلته يمضي، لكن حذف المفعول لقوة الدلالة عليه والاستغناء عن ذكره، إذ المقصود بالذكر المصطفى لا الدابة التي سارت به.
وأما قصة لوط، فالمعنى سر بهم على ما يتحملون عليه من دابة ونحوها، هذا معنى قراءة القطع، ومعنى الوصل سر بهم ليلًا، ولم يأت مثل ذلك في الإسراء؛ لأنه لا يجوز أن يقال: سرى بعبده بوجه من الوجوه.
قال الحافظ: والنفي الذي جزم به إنما هو من هذه الحيثية التي قصد فيها الإشارة قصد فيه الإشارة إلى أنه سار ليلًا على البراق، وإلا فلو قال قائل: سرت بزيد، بمعنى صاحبته لكان المعنى صحيحًا "ليدفع الإشكال حتى لا يتخيل أنه أسرى بروحه فقط" دون جسده "ويزيل من خاطر من يعتقد من(8/22)
وقال البيضاوي تبعًا لصاحب الكشاف: وفائدته الدلالة بتنكيره على تقليل مدة الإسراء، ولذلك قرئ "من الليل" أي بعضه: كقوله تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَك} [الإسراء: 79] وتعقبه القطب في حاشيته على الكشاف كما نبهت عليه في حاشية الشفاء.
والمعاريج ليلة الإسراء عشرة، سبع إلى السموات، والثامن إلى سدرة المنتهى، والتاسع إلى المستوى الذي سمع فيه صريف الأقلام في تصاريف
__________
الناس أن الإسراء ربما يكون نهارًا، فإن القرآن وإن كان نزوله بلغة العرب، فإنه خاطب به الناس أجمعين أصحاب اللسان العربي وغيرهم".
وهذا على قول الأكثر من اختصاصه بالليل وإلا ففي الفتح ليلًا ظرف للإسراء للتأكيد، وفائدته دفع توهم المجاز؛ لأنه قد يطلق على سير النهار أيضًا.
"وقال البيضاوي تبعًا لصاحب الكشاف" الزمخشري، "وفائدته الدلالة بتنكيره على تقليل مدة الإسراء" أي: أنه وقع في بعض الليل لا في جميعه، والعرب تقول: سرى فلان ليلًا إذا سار بعضه، وسرى ليلة إذا سار جميعها، كما في الفتح، "ولذلك قرئ" في الشواذ": من الليل، أي: بعضه، كقوله تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَك} [الإسراء: 79] الآية".
وقيل: يقال: أسرى ليلًا إذا سار أثناء الليل، وإذا سار في أوله، ويقال: أدلج منه، ومنه قوله تعالى في قصة موسى: {فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا} [الدخان: 23] الآية، أي: من وسط الليل، "وتعقبه القطب في حاشيته على الكشاف، كما نبهت عليه في حاشية الشفا،" أي: نقل القطب التعقب عن غيره وأقره، فلذا نسبه إليه، وعبارته قال بعضهم، وفيه نظر؛ لأن التنكير للتقليل لا يكون إلا فيما يقبل القلة والكثرة، والليل لا يقبلهما ولا يسلم له أيضًا على تقدير أنه بالاعتبار؛ لأن هذا
المعنى وهو البعض حاصل ولو لم ينكر، فإن قولك: دخل زيد البلد الليل، أو ليلًا، يفيد هذا المعنى، إذ ليس الدخول في كل الليل انتهى.
قال النعماني: وفيه نظر، إذ لا نسلم أن هذا وزانه، وإنما وزانه طاف الأمير البلد ليلًا، فإن طوافه قد يكون مستغرقًا لكل الليلة، ولما استشعر صاحب الكشاف هذا استشهد بقراءة عبد الله وحذيفة من الليل، ولا يسلم أيضًا كونها تبعيضية، بل يجوز أنها ابتدائية، فالسؤال باق انتهى.
"والمعارج ليلة الإسراء عشرة، سبع إلى السموات" السبع، "والثامن إلى سدرة المنتهى، والتاسع إلى المستوى الذي سمع فيه صريف الأقلام:" تصويتها "في تصاريف(8/23)
الأقدار، والعاشر إلى العرش والرفرف والرؤية وسمع الخطاب المكافحة، والكشف الحقيقي.
وقد وقع له عليه السلام في سني الهجرة العشرة ما كان فيه مناسبات لطيفة بهذه المعاريج العشرة، ولهذا ختمت سني الهجرة، بالوفاة، وهي لقاء الحق جل جلاله، والانتقال من دار الفناء إلى دار البقاء، والعروج بالروح الكريمة إلى المقعد الصدق، وإلى الموعد الحق وإلى الوسيلة، وهي المنزلة الرفيعة. كما ختمت معاريج الإسراء باللقاء والحضور بحظيرة القدس.
وقد أفاد الإمام الذهبي أن الحافظ عبد الغني جمع أحاديث الإسراء في جزأين، ولم يتيسر لي الوقوف عليهما بعد الفحص الشديد.
وقد صنف الشيخ أبو إسحاق النعماني -رحمه الله- في الإسراء والمعراج كتابًا جامعًا لإطناب بزيادة الرقائق والإشحان بفواضل الحقائق، ولم أقف عليه
__________
الأقدار، والعاشر إلى العرش والرفرف والرؤية" لله عز وجل، "وسمع الخطاب" منه "بالمكافحة": المخاطبة "والكشف الحقيقي، وقد وقع له عليه الصلاة والسلام في سني الهجرة": بكسر السين، جمع سلامة لسنة، وبسكون الياء، فحذفت النون للإضافة، فالتقى ساكنان الياء واللام، فحذفت الياء لفظًا لالتقاء الساكنين، فبقي هكذا سني خطأ فتكتب الياء ولا تقرأ "العشرة ما كان فيه مناسبات لطيفة بهذه المعاريج العشرة"، ويأتي ذكرها للمصنف، "ولهذا ختمت سني الهجرة"، كذا في جميع النسخ بالياء والصواب سنو بالواو؛ لأنه جمع مذكر سالم نائب فاعل، ختمت "بالوفاة، وهي لقاء الحق جل جلاله والانتقال من دار الفناء إلى دار البقاء، والعروج بالروح الكريمة إلى المقعد الصدق"، مجلس حق لا لغو فيه ولا تأثيم وأريد به الجنس، وقرئ مقاعد صدق، والمعنى أن مجالس الجنات سالمة من اللغو والتأثيم بخلال مجالس الدنيا، فقل أن تسلم من ذلك، "وإلى الموعد الحق وإلى الوسيلة، وهي المنزلة الرفيعة، كما ختمت معاريج الإسراء باللقاء والحضور بحظيرة القدس، وقد أفاد الإمام الذهبي" محمد الحافظ، العالم الشهير، نسبة إلى الذهب "أن الحافظ عبد الغني" المقدسي "جمع أحاديث الإسراء في جزأين، ولم يتيسر لي الوقوف عليهما بعد الفحص" الطلب "الشديد، وقد صنف الشيخ أبو إسحاق" إبراهيم "النعماني،" تلميذ الحافظ ابن حجر "رحمه الله في الإسراء والمعراج كتابًا جامعًا للإطناب بزيادة الرقائق والإشحان بفواضل الحقائق،" أي: بزيادة بيانها، "ولم أقف عليها حال كتابتي هذا المقصد الشريف"، وقد(8/24)
حال كتابتي هذا المقصد الشريف.
والله تعالى يرحم شيح الإسلام والحافظ الشهاب ابن حجر العسقلاني، فإنه جمع في كتابه "الفتح" كثيرًا مما تشتت من طرق حديث الإسراء وغيره من الأحاديث، مع تدقيق مباحث فقهية، والكشف عن أسرار معاني كلمه وبدائع ألفاظه وحكمه.
وكل من صنف في شيء من المنح النبوية، والمناقب المحمدية لا يستغني عن استجناء معارف اللطائف من رياض "عياض" والاستشفاء من أدواء المشكلات بدواء "شفائه" والمبرئ لمعضل الأمراض.
والله تعالى يفيض عليه وعلى سائر علماء الأمة سجال رحمته ورضوانه، ويسكننا معهم في بحبوحة جنانه.
وقد وردت أحاديث الإسراء من حديث أنس، وأبي بن كعب، وجابر بن
__________
وقفت عليه، "والله تعالى يرحم شيخ الإسلام، والحافظ الشهاب ابن حجر العسقلاني فإنه جمع في كتابه الفتح كثيرًا مما تشتت من طرق حديث الإسراء وغيره من الأحاديث مع تدقيق مباحث فقهية، والكشف عن أسرار معاني كلمه وبدائع ألفاظه وحكمه"، وأكثر ما ذكره المصنف هنا منه، "وكل من صنف في شيء من المنح": العطايا: "النبوية والمناقب المحمدية لا يستغني عن استجناء معارف اللطائف من رياض عياض"، أي: فوائده المذكورة في الشفا، سماها رياضًا لكثرة نفعها، كنفع الأشجار المثمرة للعامة، "والاستشفاء من أدواء المشكلات بدواء شفائه المبرئ لمعضل" بكسر الضاد، أي: شديد "الأمراض، والله تعالى يفيض عليه وعلى سائر علماء الأمة سجال رحمته ورضوانه، ويسكننا معهم في بحبوحة" بضم الباءين، "جنانه"، أي: وسطها.
"وقد وردت أحاديث الإسراء من حديث أنس" بن ملك في روايته عن النبي -صلى الله عليه وسلم- بلا واسطة، رواه أحمد ومسلم عن ثابت، والشيخان عن شريك، وابن مردويه عن كثير بن خنيس، والنسائي وابن مردويه عن يزيد بن أبي مالك، وابن أبي حاتم، وابن جرير، وابن مردويه، والبيهقي عن عبد الرحمن بن هاشم، وعبد العزيز بن صهيب والطبراني عن ميمون بن سيار، وابن جرير عن كثير بن سليم، وابن مردويه عن أبي هاشم، وعلي بن زيد، وثمامة، وابن سعد، وسعيد بن منصور، والبزار عن أبي عمراني الجوني، الأحد عشر عن أنس عن المصطفى بلا واسطة، "وأبي بن كعب" رواه عن ابن مردويه عن طريق عبيد بن عمير، ومن طريق مجاهد عن ابن عباس،(8/25)
عبد الله، وبريدة، وسمرة بن جندب، وابن عباس، وابن عمر، وابن مسعود، وابن عمرو، وحذيفة بن اليمان، وشدبد بن أوس، وصهيب، وعلي بن أبي طالب، وعمر بن الخطاب، ومالك بن صعصعة، وأبي أمامة، وأبي أيوب، وأبي حبة، وأبي
__________
وعبد الله بن أحمد في زوائد المسند، بلفظ حديث عن أبي ذر حرفًا حرفًا.
قال الحافظ في أطراف المسند، أنه وقع فيه تحريف، وكان في الأصل عن أبي ذر، فسقط من النسخة لفظة ذر، فظن أنه ابن كعب فأدرج في مسند أبي بن كعب غلطًا.
قال الشامي: نبه الدارقطني في العلل على أن الوهم فيه من أبي حمزة أنس بن عياض، "وجابر بن عبد الله" عند الشيخين، ورواه الطبراني وابن مردويه بلفظ آخر بسند صحيح، "وبريدة" "بضم الموحدة وفتح الراء وسكون التحتية" ابن الحصيب" "بمهملتين مصغر"، رواه الترمذي والحاكم وصححه، "وسمرة بن جندب" عند ابن مردويه، "وابن عباس" عبد الله رواه أحمد، والشيخان، وأبو يعلى، وأبو نعيم، وابن مردويه، والنسائي، والبزار بطرق كلها مختصرة "وابن عمر" رواه أبو داود والبيهقي، "وابن مسعود" رواه مسلم، وابن عرفة، وأحمد، وابن ماجه، والبزار، وأبو يعلى، والطبراني، والبيهقي بطرق عندهم عنه، "وابن عمرو" بفتح العين" ابن العاصي عند ابن سعد، وابن عساكر، "وحذيفة بن اليمان" عند ابن أبي شيبة، وأحمد والترمذي وصححه، "وشداد بن أوس" عند البزار، والطبراني والبيهقي وصححه، "وصهيب" بن سنان عند الطبراني وابن مردويه، "وعلي بن أبي طالب" عند أحمد وابن مردويه، "وعمر بن الخطاب" رواه أحمد وابن مردويه، "ومالك بن صعصعة" رواه أحمد، والشيخان، وابن جرير، والبيهقي وغيرهم، "وأبي أمامة" عد ابن مردويه في تفسيره، "وأبي أيوب" الأنصاري، رواه الشيخان في أثناء حديث أبي ذر، "وأبي حبة" "بموحدة على الصحيح" الأنصاري، الألوسي، البدري، رواه ابن مردويه.
قال في الإصابة: وقع ذكره في الصحيح من رواية الزهري عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن أبي حبة البدري، عقب حديث الزهري، عن أنس، عن أبي ذر في الإسراء، وروي عنه أيضًا عمار بن عمار وحديثه عنه في مسند ابن أبي شيبة، وأحمد، وصححه الحاكم، وصرح بسماعه منه، وعلى هذا فهو غير الذي ذكر ابن إسحاق أنه استشهد بأحد.
قال أبو حاتم: اسمه عامر بن عبد عمرو بن عمير بن ثابت، وقال أبو عمر: يقال بالموحدة وبالنون وبالياء والصواب بالموحدة، وقيل: اسمه عامر، وقيل: مالك، وبالنون ذكره ابن عقبة وابن أبي خيثمة، وأمكر الواقدي أن يكون في البدري من يكنى أبا حبة بالموحدة، وقد خلطه غير واحد بأبي حبة بن غزية بن عمرو الخزرجي، النجاري، وفرق بينهما غير واحد، وصوبه ابن عبد(8/26)
ذر، وأبي سعيد الخدري، وأبي سفيان بن حرب، وأبي هريرة، وعائشة، وأسماء بنت أبي بكر، وأم هانئ، وأم سلمة، وغيرهم رضي الله تعالى عنهم أجمعين.
وفي تفسير الحافظ ابن كثير من ذلك ما يكفي ويشفي.
وبالجملة: حديث الإسراء أجمع عليه المسلمون، وأعرض عنه الزنادقة
__________
البر، فقال: هذا خزرجي، وذاك أوسي، وهذا لم يشهد بدرًا، وذاك شهدها، "وأبي ذر" رواه الشيخان، "وأبي سعيد الخدري" رواه ابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي من طريق هارون العبدي، وهو متكلم فيه.
وقد روى البيهقي عن أبي الأزهر، قال: حدثنا زيد بن أبي حكيم، قال: رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في النوم فقلت: يا رسول الله رجل من أمتك يقال له: سفين لا بأس به، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "لا بأس به".
حدثنا عن أبي هارون عن أبي سعيد، عنك؛ أمك ليلة أسري بك قلت: رأيت في السماء، فحدثته بالحديث، فقال: نعم، فقلت: إن إناسًا من أمتك يحدثون عنك في الإسراء بعجائب فقال: ذاك حديث القصاص.
"وأبي سفيان بن حرب" عند أبي نعيم في الدلائل، "وأبي هريرة" رواه مطولًا ابن جرير، وابن أبي حاتم، والبيهقي، والحاكم، وصححه مختصرًا الشيخان، وأحمد، وابن ماجه، وابن مردويه، وابن سعد، والطبراني، وسعيد بن منصور بطرق عنه، "وعائشة" عند الحاكم وصححه، والبيهقي وابن مردويه" وأسماء بنت أبي بكر" روه ابن مردويه، "وأم هانئ" عند الطبراني، "وأم سلمة" عند الطبراني، وأبي يعلى، وابن عساكر، وابن إسحاق "وغيرهم،" فأخرجه ابن عساكر عن سهل بن سعد، والبزار، والبغوي، وابن قانع عن عبد الله أسعد بن زرارة، والطبراني عن أبي الحمراء، وابن مردويه والطبراني عن أبي ليلى الأنصاري، وسعيد بن منصور عن عبد الرحمن بن قرط، وذكره ابن دحية عن أبي بكر الصديق، وعبد الرحمن بن عابس، وأبي سلمة وعياض.
وذكره أبو حفص النسفي عن العباس بن عبد المطلب، وعثمان بن عفان، وأبي الدرداء، وأبي سلمى راعي النبي -صلى الله عليه وسلم- وأم كلثوم بنت المصطفى، وبلال بن حمامة، وبلال بن سعد، وابن الزبير، وابن أبي أوفى، وأسماة بن زيد.
ال الشامي: ولم أقف على حديثه، فهؤلاء خمسة وأربعون صحابة رووا القصة "رضي الله تعالى عنهم أجمعين".
"وفي تفسير الحافظ ابن كثير من ذلك ما يكفي ويشفي، وبالجملة حديث الإسراء(8/27)
الملحدون، {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [الصف: 8] .
وقد روى البخاري، عن قتادة عن أنس بن مالك عن مالك بن صعصعة أن نبي الله -صلى الله عليه وسلم- حدثه عن ليلة أسري به.
"بينما أنا نائم في الحطيم" -وربما قال: في الحجر- "مضطجعًا"، إذ أتاني آت فقد -قال: سمعته يقول: فشق- ما بين هذه إلى هذه. قال: فقلت للجارود وهو
__________
أجمع عليه المسلمون، وأعرض عنه الزنادقة الملحدون،" لاستحالته في زعمهم الكاذب، {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا} منصوب بأن مقدرة، واللام مزيدة {نُورَ اللَّهِ} "، وشرعه وبراهينه " {بِأَفْوَاهِهِمْ} "، بأقوالهم فيه، " {وَاللَّهُ مُتِمُّ} " مظهر " {نُورِهِ وَلَوْ كَرَِ الْكَافِرُونَ} " [الصف: 8] الآية، ذلك وقد، ساق البرهان النعماني غالب ألفاظ الصحابة الذين رووا القصة، والمصنف اقتصر على حديث البخاري في باب المعراج، وتكلم بعده بما غالبه في فتح الباري، فقال: "وقد روى البخاري" بسنده، وهو حدثنا هدبة بن خالد، حدثنا همام "عن قتادة" بن دعامة، وليس هذا من التعليق في شيء، "عن أنس بن مالك،" وكذا رواه مسلم والنسائي، وأخرجه البخاري في بدء الخلق من وجه آخر عن قتادة، حدثنا أنس، فزال ما يخشى من تدليس قتاده لتصريحه بالتحديث، "عن مالك بن صعصعة" بن وهب بن عدي بن مالك الأنصاري، من بني النجار ما له في البخاري ولا في غيره سوى هذا الحديث، ولا يعرف من روى عنه إلا أنس قاله في الفتح.
وذكر في الإصابة الخلاف في أنه من بني عدي بن النجار، وبه جزم ابن سعد أو من بني مازن بن النجار، وبه جزم البغوي، وقال: سكن المدينة.
وروي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- حديثين، وذكر الخطيب في المبهمات أنه الذي قال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أكل تمر خيبر هكذا"؟، "أن نبي الله -صلى الله عليه وسلم- حدثه عن ليلة أسري به" فيها صفة الليلة، هكذا رواه الكشميهني والنسفي، ورواه الأكثر عن ليلة الإسراء وبين ما حدثه به بقوله، "بينما"، أي: فقال المصطفى: "بينما" وثبت في بعض نسخ البخاري قال: "بينما" بالميم، "أنا نائم في الحطيم، وربما قال: في الحجر" بكسر فسكون، والشك من قتادة كما يأتي، والمراد بالحطيم الحجر، "مضطجعًا" نصب على الحال "إذا أتاني آت" هو جبريل، "فقد" بالقاف والدال الثقيلة، "قال" قتادة: "سمعته" أي: أنسا "يقول:" فالقائل قتادة، والمقول عنه أنس، ولأحمد قال قتادة: وربما سمعت أنسا يقول: قاله الحافظ، فلم يصب من قال الظاهر أن ضمير قال لمالك بن صعصعة، "فشق ما بين هذه إلى هذه، قال" قتادة: "فقلت للجارود:" بفتح الجيم فألف فراء مضمومة فواو فدال مهملة.(8/28)
"إلى جنبي: ما يعني به؟ قال: من ثغره نحره إلى شعرته. فاستخرج قلبي، ثم أتيت بطست من ذهب مملوءة إيمانًا، فغسل قلبي، ثم حشي ثم أعيد".
__________
قال الحافظ: لم أر من نسبه من الرواة ولعله ابن أبي سبرة البصري، صاحب أنس، فقد أخرج له أبو داود من روايته، عن أنس حديثًا غير هذا انتهى، وجزم المصنف بما تراجاه، "وهو إلى جنبي ما يعني" أنس "به"، أي: بقوله: فشق ما بين هذه إلى هذه، "قال:" يعني "من ثغره نحره" بضم المثلثة وسكون المعجمة: الموضع المنخفض بين الترقوتين "إلى شعرته" بكسر المعجمة، أي: شعر العانة، ووقع السؤال: هل كان شق صدره الشريف بآلة أم لا؟، ولم يجب عنه أحد، ولم أر من تعرض له بعد التتبع، وظاهر قوله: فشق أنه كان بآلة، ويدل له قول الملك في حديث أبي ذر خط بطنه فخاطه، وفي لفظ عتبة بن عبد حصه فحاصه.
وفي حديث أنس: كانوا يرون أثر المخيط في صدره -صلى الله عليه وسلم- ذكره الشامي، وزعم بعض أن الشق في المرات كلها لم يكن بآلة، ولم يسل منه دم، ولم يجد لذلك ألما، كما صرح في بعض الروايات؛ لأنه من خرق العادات وظهور المعجزات، "فاستخرج قلبي، ثم أتيت" "بضم الهمزة" "بطست" "بفتح الطاء وبكسرها وسكون السين المهملة وبمثناة وقد تحدف"، وهو الأكثر إثباتها لغة طيئ، وأخطأ من أنكرها، قاله الحافظ "من ذهب" قبل تحريم استعماله، "مملوءة" بالجر على الصفة والتأنيث على لفظ الطست؛ لأنها مؤنثة "إيمانًا" نصب على التمييز ملئًا حقيقة، وتجسد المعاني جائز، كتمثيل الموت كبشًا، ووزن الأعمال وغير ذلك من أحوال الغيب، أو مجازًا، من باب التمثيل إذ تمثيل المعاني قد وقع كثيرًا، كما مثلت له الجنة والنار في عرض الحائط، وفائدته كشف المعنوي بالحسي، ثم هذا لفظ البخاري في المعراج، وله في بدء الخلق بطست ملئ حكمة وإيمانًا بالتذكير باعتبار الإناء، وللمستملي والحموي ملآن بفتح الميم وسكون اللام وهمزة ونون، وللكشميهني ملأى بفتح الميم وسكون اللام وفتح الهمزة مؤنث على لفظ الطست، فزاد في هذه الرواية حكمة.
قال ابن أبي جمرة فيه، إن الحكمة ليس بعد الإيمان أجل منها، ولذا قرنت معه، ويؤيده قوله تعالى: {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة: 269] الآية، وأوضح ما قيل فيها، أنها وضع الشيء في محله أو الفهم في كتاب الله، وعلى الثاني قد توجد الحكمة دون الإيمان، وقد لا توجد وعلى الأول قد يتلازمان؛ لأن الإيمان يدل على الحكمة، "فغسل" بضم الغين، أي: غسل جبريل "قلبي".
وفي مسلم والبخاري في الصلاة بماء زمزم؛ لأنه أفضل المياه ويقوي القلب، "ثم حشي" بضم المهملة، وكسر المعجمة إيمانًا وحكمة، "ثم أعيد" موضعه من الصدر المقدس، وللبخاري(8/29)
"ثم أتيت بدابة، دون البغل وفوق الحمار أبيض" -فقال له الجارود: هو البراق يا أبا حمزة؟ قال أنس: نعم -يضع خطوه عند أقصى طرفه، فحملت عليه، فانطلق بي جبريل حتى أتى السماء الدنيا، فاسفتح، قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قال:
__________
"في الصلاة: ثم جاء بطست من ذهب ممتلئ حكمة وإيمانًا، فأفرغه في صدري، ثم أطبقه" "ثم أتيت" بضم الهمزة، "بدابة دون البغل وفوق الحمار أبيض"، ذكر باعتبار كونه مركوبًا أو نظرًا للفظ البراق، وحكمة كونه بهذه الصفة الإشارة إلى أن الركوب في سلم وأمن لا في حرب وخوف، أو لإظهار المعجزة بوقوع الإسراع الشديد بدابة لا توصف بذلك عادة.
"فقال له الجارود: هو البراق" استفهام حذفت أداته "يا أبا حمزة" بمهملة وزاي، كنية أنس، "قال أنس "نعم": هو البراق بضم المواحجة وتخفيف الراء، ضبطه الحافظ وغيره، وكثيرًا ما يخطئ المتشدقون، فيقرؤنه بكسر الباء، "يضع خطوه" بفتح المعجمة المرة الواحدة وبضمنا الفعلة "عند أقصى طرفه" بسكون الراء، وبالفاء، أي: نظره، أي: يضع رجله عند منتهى ما يرى بصره.
قال الحافظ: والتعبير بالخطو مجاز؛ لأنه مصدر وهو لا يتصف بالوضع، "فحملت عليه" بضم الحاء مبنيًا للمفعول، "فانطلق بي جبريل أتى السماء الدنيا"،ظاهره أنه استمر على البراق حتى عرج إلى السماء، وليس بمراد، بل هذا اختصار من الراوي، ويأتي بسطه للمصنف.
وقال النعماني: ما المانع من أنه -صلى الله عليه وسلم- رقي المعراج فوق ظهر البراق بظاهر هذا الحديث انتهى، والمانع من ذلك ربطه ببيت المقدس، كما يأتي بيانه، "فاستفتح"، أي: طلب فتح باب السماء بقرع أو صوت، والأِشبه الأول؛ لأن صوته معروف، قاله الحافظ، وصرح به في رواية مسلم عن ثابت عن أنس بلفظ: "فقرع الباب.
وفي حديث أبي ذر: قال جبريل لخازن السماء: افتح، فيجمع بينهما بأنه فعل القرع والصوت معًا، والتعليل بمعرفة صوته لا ينهض مع كون السماء شفافة.
وفي حديث أبي سعيد عند البيهقي في ذكر الأنبياء إلى باب من أبواب السماء الدنيا، يقال له باب الحفظة، وعليه مالك يقال له: إسماعيل تحت يده اثنا عشر ألف ملك.
وفي حديث جعفر بن محمد عند البيهقي أيضًا: يسكن الهواء لم يصعد إلى السماء قط، ولم يهبط إلى الأرض قط إلا يوم مات النبي -صلى الله عليه وسلم.
وفي حديث أبي سعيد عند البيهقي في الدلائل وبين يديه سبعون ألف ملك مع كل ملك جنده مائة ألف.
"قيل: من هذا" الذي يقرع الباب؟، "قال: جبريل، قال: ومن معك؟ قال: محمد"،(8/30)
"ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحبًا به فنعم المجيء جاء، ففتح فلما خلصت فإذا فيها آدم، قال: هذا أبوك فسلم عليه، فسلمت عليه فرد السلام، ثم قال: مرحبًا بالابن الصالح النبي الصالح.
ثم صعد بي إلى السماء الثانية، فاسفتح قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قال: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحبًا به، فنعم
__________
وهذا يشعر بأنهم أحسوا معه برفيق إما بمشاهده؛ لأن السماء شفافة، وإما بأمر معنوي، كزيادة أنوار ونحوها، تشعر بتجدد أثر يحسن معه السؤال بهذه الصيغة، وإلا كان السؤال بلفظ: أمعك أحد؟، "قيل: وقد أرسل إليه" للعروج إلى السماء على الأظهر لقوله إليه؛ لأن أصل بعثه قد اشتهر في الملكوت الأعلى، كما يأتي في المتن، "قال: نعم، قيل: مرحبًا به"، أي: لقي رحبًا "بضم الراء وفتحها وسكون الحاء وبفتحها" وسعة، وكني بذلك عن
الانشراح، "فنعم" لفظ البخاري في المعراج، وله في بدء الخلق، ولنعم "المجيء جاء".
قال ابن مالك: فيه شاهد على الاستغناء
بالصلة عن الموصول، أو الصفة ن الموصوف في باب نعم؛ لأنها تحتاج إلى فاعل هو المجيء وإلى مخصوص، بمعناها وهو مبتدأ مخبر عنه بنعم، وفاعلها، فهو في هذا وشبهه موصول أو موصوف بحاء، والتقدير نعم المجيء الذي جاء، أو نعم المجيء مجيء جاء، وكونه موصولًا أجود؛ لأنه مخبر عنه، والمخبر عنه إذا كان معرفة أولى من كونه نكرة انتهى، فلا حذف فيه ولا تقديم خلافًا لقول المظهري المخصوص المدح محذوف، وفيه تقديم وتأخير تقديره جاء، فنعم المجيء مجيئه، "ففتح" الباب، "فلما خلصت" بفتح اللام، أي: وصلت، "فإذا فيها آدم".
وفي حديث أنس عن أبي ذر عند البخاري في الصلاة: "فإذا رجل قاعد عن يمينه أسودة، وعن يساره أسودة، إذا نظر قبل يمينه ضحك، وإذا نظر قبل شماله بكى، فقلت لجبريل: من هذا"؟، "قال: هذا أبوك"، ووقع ذكر الاسم هنا في بعض النسخ، والصواب إسقاطه، إذ ليس في حديث أنس عن مالك بن صعصعة الذي هو في سياق لفظه، وإنما هو في حديث أنس عن أبي ذر، كما في البخاري، "فسلم عليه"، لأن المار يسلم على القاعد، وإن كان المار أفضل، "فسلمت عليه، فرد علي السلام، ثم قال: مرحبًا بالابن الصالح"، فيه إشارة إلى افتخاره، بأبوة "النبي -صلى الله عليه وسلم- "والصالح" القائم بما يلزمه من حقوق الله وحقوق
العباد، فلذا كانت كلمة جامعة لمعاني الخير وتوارد الأنبياء على وصفة بها، وكررها كل منهم عند كل صفة.
"ثم صعد بي إلى السماء الثانية، فاستفتح" جبريل بابها، "وقيل: من هذا؟ قال: جبريل: قال: ومن معك؟ قال: محمد، "قيل: وقد أرسل إليه؟، قال: نعم، قيل: مرحبًا به،(8/31)
"المجيء جاء ففتح لنا، فلما خلصت إذا يحيى وعيسى، وهما ابنا الخالة، قال: هذا يحيى وعيسى فسلم عليهما، فسلمت عليهما فردا ثم قالا: مرحبًا بالأخ الصالح والنبي الصالح.
ثم صعد بي إلى السماء الثالثة، فاستفتح قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحبًا به، فنعم المجيء جاء، ففتح فلما خلصت إذا يوسف، قال: هذا يوسف فسلم عليه، فسلمت عليه فرد ثم قال: مرحبًا بالأخ الصالح والنبي الصالح".
__________
"فنعم المجيء" مجيء جاء، أو الذي "جاء، ففتح لنا" الخازن الباب، "فلما خلصت إذا يحيى" بن زكريا "وعيسى" ابن مريم.
زاد في حديث أبي سعيد عن ابن جرير، وابن أبي حاتم والبيهقي شبيه أحدهما بصاحبه ثيابهما وشعرهما ومعهما نفر من قومهما، وإذا عيسى جعد مربوع الخلق إلى الحمرة والبياض سبط الرأس، كأنوما خرج من ديماس، أي: حمام شبهه بعروة بن مسعود الثقفي، "وهما ابنا الخالة"؛ لأن أم يحيى إيشاع، بنت فاقود أخت حنة بمهملة ونون شديدة، بنت فاقود أم مريم، وذلك أن عمران بن ماثان تزوج حنة، وتزوج زكريا إيشاع، فولدت إيشاع يحيى، وولدت حنة مريم، فتكون إيشاع خالة مريم، وحنة خالة يحيى، فهما ابنا خالة بهذا الاعتبار وليس عمران هذا أبا موسى، إذ بينهما فيما قيل ألف وثمانمائة سنة.
قال ابن السكيت: يقال: ابنا خالة ولا يقال: ابنا عمة، ويقال: ابنا عم ولا يقال: ابنا خال.
قال الحافظ: والسبب فيه أن ابني الخالة أم كل منهما خالة الآخر لزوما بخلاف ابني العمة، "قال: هذا يحيى وعيسى، فسلم عليهما، فلسمت عليهما فردا" علي السلام، "ثم قالا: مرحبًا بالأخ الصالح والنبي الصالح، ثم صعد بي إلى السماء الثالثة، فاستفتح" جبريل الباب، "قيل: من هذا؟، قال: جبريل، قيل: ومن معك؟، قال محمد، قيل: وقد أرسل إليه؟، قال: نعم، قيل: مرحبًا به، فنعم المجيء جاء، ففتح فلما خلصت، إذا يوسف قال" لي جبريل: "هذا يوسف فسلم عليه"، ولعل حكمة أمره بالسلام على كل من ورد عليه، ولم يكتف بالأمر الأول مع حصول العلم بطلب السلام على كل من مر عليه منهم، الإشارة إلى استحقاق كل منهم للتعظيم، وإن من مر على جماعة مترتبين يطلب منه السلام على كل منهم بخصوصه، "فسلمت عليه، فرد، ثم قال: مرحبًا بالأخ الصالح والنبي الصالح"، زاد في مسلم في رواية ثابت عن أنس: "فإذا هو قد أعطى شطر الحسن، أي: الذي أوتيه نبينا -صلى الله عليه وسلم-، كما(8/32)
"ثم صعد بي حتى أتى السماء الرابعة فاستفتح، قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحبًا به فنعم المجيء جاء، فلما خلصت إذا إدريس، قال: هذا إدريس فسلم عليه، فسلمت عليه فرد، ثم قال: مرحبًا بالأخ الصالح والنبي الصالح".
__________
قال ابن المنير، أو المراد غير المصطفى بالمرة، ويأتي بسطه للمصنف، "ثم صعد بي حتى أتى السماء الرابعة، فاستفتح، قيل: من هذا؟ قال: جبريل: قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد أرسل إليه؟، قال: نعم، قيل: مرحبًا به، فنعم المجيء" الذي "جاء، فلما خلصت، فإذا إدريس"، زاد في حديث أبي سعيد عند ابن جرير، وابن أبي حاتم والبيهقي: قد رفعه الله مكانًا عليًا، واستشكل بأنه رأى هرون وموسى وإبراهيم في مكان أرفع منه، واجيب بأن وجهه ما ذكر كعب الأحبار؛ أن إدريس خص من بين جميع الأنبياء برفعه حيًا، رفعه الملك الموكل بالشمس، وكان صديقًا له، وكان إدريس يسأله أن يريه الجنة، فأذن له الله في ذلك، فلما كان في السماء الرابعة، رآه ملك الموت، فعجب، وقال: أمرت أن أقبض روح إدريس في السماء الرابعة، فقبضه هناك، فرفعه حيًا إلى ذلك المقام، خاص به دون الأنبياء، قاله السهيلي، وتعقبه الحافظ في كتاب الأنبياء، فقال: فيه نظر؛ لأن عيسى أيضًا رعف وهو حي على الصحيح، وكون إدريس رفع وهو حي لم يثبت من طريق مرفوعة قوية.
وروى الطبري، أن كعبًا قال لابن عباس: إن إدريس سأل صديقًا له من الملائكة، فحمله بين جناحيه، ث صعد به، فلما كان في السماء الرابعة تلقاه ملك الموت، فقال له: أريد أن تعلمني كم بقي من أجل إدريس؟، قال: وأين إدريس؟، قال: هو معي، قال: إن هذا لشيء عجيب، أمرت أن أقبض روحه في السماء الرابعة: فقلت: كيف ذلك وهو في الأرض، فقبض روحه، فذلك قوله تعالى: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} [مريم: 57] الآية، وهذا من الإسرئيليات، والله أعلم بصحته انتهى.
والجواب عن السهيلي؛ أنه قيد خصوصية إدريس برفعه حيًا إلى السماء الرابعة، فلا يرد عيسى؛ لأنه رفع حيًا إلى السماء الثانية، وذكر ابن قتيبة، أن إدريس رفع وهو ابن ثلاثمائة وخمسين سنة.
"قال: هذا إدريس فسلم عليه، فسلمت عليه، فرد، ثم قال: مرحبًا بالأخ الصالح والنبي الصالح"، قيل: فيه رد على النسابة في قولهم: إدريس جد نوح، وإلا لقال: والابن الصالح، كما قال آدم، ولا رد فيه؛ لأنه خاطبه بالأخوة نادبًا وتلطفًا، وإن كان أبا، والمؤمنون إخوة وكان وجه الخطاب بذلك لرفعه مكانًا عليًا، "ثم صعد بي حتى أتى السماء الخامسة،(8/33)
"ثم صعد بي حتى أتى السماء الخامسة فاستفتح، فقيل: من هذا؟ قال: جبريل، قال: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحبًا به فنعم المجيء جاء، فلما خلصت فإذا هارون، قال: هذا هارون فسلم عليه، فسلمت عليه فرد ثم قال: مرحبًا بالأخ الصالح والنبي الصالح.
ثم صعد بي حتى أتى السماء السادسة فاستفتح، فقيل: من هذا؟ قال: جبريل، قال: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحبًا، به فنعم المجيء جاء، فلما خلصت فإذا موسى، قال: هذا موسى فسلم عليه، فسلمت عليه فرد ثم قال: مرحبًا بالأخ الصالح والنبي الصالح، فلما تجاوزت بكى، فقيل له: ما يبكيك؟ قال: أبكي؛ لأن غلاما بعث من بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر ممن يدخلها من أمتى".
__________
"فاستفتح فقيل: من هذا؟ قال: جبريل، قال: ومن معك؟، قال: محمد، قيل: وقد أرسل إليه؟، قال: نعم، قيل: مرحبًا به فنعم المجيء جاء، فلما خلصت، فإذا هارون" زاد في حديث أبي سعيد عند ابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردويه والبيهقي، ونصف لحيته بيضاء، ونصف لحيته سوداء، تكاد تضرب إلى سرته من طولها.
وفي حديث أبي هريرة عند ابن جرير، والبيهقي وغيرهما: وحوله قوم من بني إسرائيل، وهو يقص عليهم، "قال: هذا هارون، فسلم عليه، فسلمت عليه، فرد، ثم قال: مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح، ثم صعد بي حتى أتى السماء السادسة، فاستفتح، فقيل: من هذا؟ قال: جبيرل، قال: ومن معك؟، قال: محمد، قيل: وقد أرسل إليه؟، قال: نعم"، هكذا ثبت في البخاري في باب المعراج هنا، وفي السابعة قال: نعم أيضًا وسقط في الموضعين في بدء الخلق، وهو الذي وقف عليه الشارح فتجرأ وقال: لم يذكر البخاري، قال: نعم، لا في السادسة ولا في السابعة، "قيل: مرحبا به، فنعم المجيء جاء، فلما خلصت، فإذا موسى" بن عمران، رجل آدم طوال، كأنه من رجال شنوأة، كما في البخاري عن أبي هريرة، ومسلم عن ابن عباس.
وفي حديث أبي سعيد: كثير الشعر، لو كان عليه قميصان لنفذ شعره دونهما، "قال: هذا موسى، فسلم عليه، فسلمت عليه، فرد، ثم قال: مرحبًا بالأخ الصالح والنبي الصالح، فلما تجاوزت"، بجيم وزاي حذف الضمير المنصوب، "بكى" موسى، "فقيل له: ما يبكيك؟، قال: أبكي؛ لأن غلامًا" صغير السن بالنسبة إليه، وقد أنعم الله عليه بما لم ينعم به عليه من طول عمره، "بعث من بعدي، يدخل الجنة من أمته أكثر ممن يدخلها من أمتي"، وليس بكاؤه(8/34)
"ثم صعد بي إلى السماء السابعة، فاستفتح جبريل، قيل: من هذا؟ قال: جبيل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم، قال: مرحبًا به فنعم المجيء جاء، فلما خلصت فإذا إبراهيم، قال: هذا أبوك إبراهيم فسلم عليه، قال: فسلمت عليه، فرد السلام، فقال: مرحبا بالابن الصالح والنبي الصالح.
ثم رفعت إلى سدرة المنتهى، فإذا نبقها مثل قلال هجر، وإذا ورقها مثل"
__________
حسدًا، معاذ الله، فإنه منزوع عن آحاد المؤمنين في ذلك العالم، فكيف بمن اصطفاه الله، بل لا وجه تأتي في المتن.
"ثم صعد بي إلى السماء السابعة، فاستفتح جبريل، قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قال: ومن معك؟، قال: محمد، قيل: وقد أرسل إليه؟، قال: نعم، قال: مرحبًا، فنعم المجيء جاء، فلما خلصت فإذا إبراهيم، قال" جبريل: "هذا أبوك إبراهيم، فسلم عليه، قال: فسلمت عليه، فرد السلام، فقال":بالفاء وحذفها روايتان في البخاري "مرحبًا بالابن الصالح والنبي الصالح"، زاد في حديث أبي أيوب عند ابن أبي حاتم، وابن حبان، وابن مردويه، وأحمد، وقال: مر أمتك فليكثروا من غراس الجنة، فإن تربتها طيبة وأرضها واسعة، فقال له: وما غراس الجنة؟، قال: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
وأخرج الترمذي وقال: حسن، والطبراني عن ابن مسعود رفعه؛ أن إبراهيم قال: أقرئ أمتك مني السلام، وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة، عذبة الماء، وأن غراسها سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر.
قال لنووي: وقد من الله الكريم، فجعل لنا سندًا متصلًا بخليله إبراهيم.
وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة وهو، أي: المصطفى، أشبه ولد إبراهيم به، ويأتي في المتن توجيه روايته لهؤلاء الأنبياء في السموات، ولهم ولغيرهم في بيت المقدس مع أن أجسادهم في قبورهم.
"ثم رفعت" كذا للأكثر بضم الراء وسكون العين، وضم التاء من رفعت بضمير المتكلم، وبعده حرف الجر، وهو "إلى سدرة المنتهى"، وللكشميهني رفعت بفتح العين، وسكون التاء أي: من أجلي، وسدرة المنتهى بالرفع نائب فاعل رفعت، وكذا في بدء الخلق، ويجمع بين الروايتين، بأن المراد أنه رفع إليها، أي: ارتقى به، وظهرت له، والرفع إلى الشيء يطلق على التقريب منه، وقد قيل في قوله: {وَفُرُشٍ مَرْفُوعَة} [الواقعة: 34] الآيةأي: تقرب لهم، "فإذا نبقها" بفتح النون، وكسر الموحدة وبسكونها أيضًا، قال ابن دحية: والأول هو الذي ثبت في الرواية، أي: التحريك المعروف، وهو ثمر السدر، "مثل قلال"، قال الخطابي: بالكسر، جمع قلة(8/35)
"آذان الفيلة، قال: هذه سدرة المنتهى، وإذا أربعة أنهار: نهران باطنان، ونهران ظاهران، فقلت: ما هذا يا جبريل؟ قال: أما الباطنان فنهران في الجنة، و"أما الظاهران، فالنيل والفرات.
ثم رفع إلى البيت المعمور، يدخله كل يوم سبعون ألف ملك، ثم أتيت".
__________
"بالضم" هي الجرار، يريد أن ثمرها في الكبر مثل القلال، وكانت معروفة عند المخاطبين فلذا وقع التمثيل بها، وهي التي وقع تحديد الماء الكثير بها في قوله: "إذا بلغ الماء قلتين"، "هجر" بتفح الهاء والجيم، بلدة لا تنصرف للتأنيث والعلمية، ويجوز الصرف، "وإذا ورقها مثل آذان الفيلة" بكسر الفاء، وفتح التحتية بعدها لام: جمع فيل، وفي بدء الخلق مثل آذان الفيول، وهو جمع فيل أيضًا، قاله كله في فتح الباري، وقول الزركشي: الفيلة بفتح الفاء والياء سهو، قاله في المصابيح، "قال" جبريل: "هذه سدرة المنتهى"، ووجه تسميتها بذلك بينه -صلى الله عليه وسلم- بقوله: "وإليها انتهى ما يعرج من الأرض فيقبض منها وإليها، ينتهي ما يبسط من فوقها فيقبض منها": رواه مسلم من حديث ابن مسعود.
قال الحافظ: وأورده النووي بصيغة التمريض، فقال: وحكي عن ابن مسعود، أنها سميت بذلك ... إلخ، فأشعر بضعفه عنده، ولا سيما ولم يصرح برفعه، وهو صحيح مرفوع انتهى، ويأتي بعض هذا في المتن، "وإذا أربعة أنهار" تخرج من أصلها "نهران باطنان، ونهران ظاهران، فقلت: ما هذا يا جبريل؟، قال: أما الباطنان فنهران في الجنة"، ويجريان في أصل سدرة المنتهى، ثم يسيران حيث شاء الله، ثم ينزلان إلى الأرض ثم يسيران فيها، وقال مقاتل: الباطنان السلسبيل والكوثر، كذا في شرح المصنف، ويأتي في المتن أبسط منه، "وأما الظاهران فالنيل" نهر مصر "والفرات" بالفوقية خطا ووقفًا، لا بالهاء نهر بغداد.
قال الحافظ: هذه في القراءات المشهورة، وجاء في قراءة شاذة، أنها هاء تأنيث، وشبهها أبو المظفر بن الليث بالتابوت، والتابوه، "ثم رفع إلى البيت المعمور"، زاد الكشميهني "يدخله كل يوم سبعون ألف ملك"، وتقدمت هذه الزيادة في بدء الخلق بزيادة إذا خرجوا لم يعودوا آخر ما عليهم، كذا وقع مضمومًا إلى رواية قتادة عن أنس، عن مالك بن صعصعة، وهو مدرج من رواية قتادة، عن الحسن، عن أبي هريرة؛ لأن البخاري عقب الحديث في بدء الخلق بقوله، وقال عمام عن قتادة، عن الحسن، عن أبي هريرة، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في البيت المعمور. قال الحافظ: ثمة يريدان هما ما فصل في سياقه قصة البيت المعمور من قصة الإسراء، فروي أصل الحديث عن قتادة، عن أنس، وقصة البيت عن الحسن البصري، وأما سعيد، وهو ابن أبي عروبة، وهشام وهو الدستوائي، فأدرجا قصة البيت المعمور في حديث أنس، والصواب رواية همام، وهي(8/36)
"بإناء من خمر وإناء من لبن وإناء من عسل، فأخذت اللبن، فقال جبريل: هي الفطرة التي أنت عليها وأمتك".
__________
موصولة هنا عن هدبة عنه، ووهم من زعم أنها معلقة، فقد روى الحسن بن سفيان الحديث بطوله عن هدبة إلى قوله: فرفع لي البيت المعمور.
فقال: قال قتادة: فحدثنا الحسن عن أبي هريرة، أنه -صلى الله عليه وسلم- رأى البيت المعمور يدخله كل يوم سبعون ألف ملك، ولا يعودون فيه، وعرف بذلك مراد البخاري بقوله في البيت المعمور.
وأخرج الطبري من طريق سعيد بن أبي عروبة عن قتادة، قال: ذكر لنا أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "البيت المعمور مسجد في السماء بحذاء الكعبة لو خر لخر عليها، يدخله كل يوم سبعون ألف ملك، إذا خرجوا منه لم يعودوا، وهذا وما قبله يشعر بأن قتادة كان يدرج قصة البيت المعمور في حديث أنس، وتارة يفصلها، وحين يفصلها تارة يذكرها سندها، وتارة يبهمه انتهى".
"ثم أتيت بإناء من خمر، وإناء من لبن، وإناء من عسل، فأخذت اللبن،" فشربت منه، "فقال جبريل: هي الفطرة التي أنت عليها وأمتك".
وفي حديث أبي هريرة عند البخاري في الأشربة: ولو أخذت الخمر غوت أمتك، وفي حديث أنس عند البيهقي: ولو شربت الماء غرقت وغرقت أمتك.
وفي مسلم من حديث ثابت عن أنس: أن إتيانه بالآنية كان ببيت المقدس قبل المعراج، ولفظه: "ثم دخلت المسجد فصليت فيه ركعتين، ثم خرجت، فجاءني جبريل بإناء من خمر، وإناء من لبن، فأخذت اللبن، فقال جبريل: أخذت الفطرة، ثم عرج بي إلى السماء، وجمع الحافظ بحمل، ثم على غير بابها من الترتيب، وإنما هي بمعنى الواو هنا، أو بوقوع عرض الآنية مرتين، مرة عند فراغه من الصلاة ببيت المدس، وسببه ما وقع له من العطش، ففي حديث شداد: فصليت من المسجد حيث شاء الله، وأخذني من العطش أشد ما أخذني، فأتيت بإناءين أحدهما اللبن، والآخر عسل، فعدلت بينهما، ثم هداني الله، فأخذت اللبن، فقال شيخ بين يدي، يعني لجبريل، أخذ صاحبك الفطرة، ومرة عند وصوله إلى سدة المنتهى، ورؤية الأنهار الأربعة".
وأما الاختلاف في عدد الآنية وما فيها فيحمل على أن بعض الرواة ذكر ما لم يذكر الآخر، ومجموعها أربعة أشياء من الأنهار التي رآها تخرج من أصل سدرة المنتهى، وهي الماء واللبن والعسل والخمر، كما في حديث أبي هريرة عند الطبري، فلعله عرض عليه من كل نهر إناء.
وجاء عن كعب أن نهر العسل نهر النيل، ونهر اللبن نهر جيحان، ونهر الخمر نهر الفرات ونهر الماء نهر سيحان.(8/37)
"ثم فرضت علي الصلاة، خمسين صلاة كل يوم، فرجعت فمررت على موسى، فقال: بما أمرت؟ قال: أمرت بخمسين صلاة كل يوم، قال: إن أمتك لا تستطيع خمسين صلاة كل يوم، وإني والله قد جربت الناس قبلك، وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك، فرجعت فوضع".
__________
وفي حديث أبي هريرة عند ابن عائذ بعد ذكر إبراهيم: "ثم انلطقنا فإذا نحن بثلاثة آنية مغطاة، فقال لي جبريل: يا محمد ألا تشرب مما سقاك ربك، فتناولت أحدها فإذا هو عسل، فشربت منه قليلًا، ثم تناولت الآخرن فإذا هو لبن، فشربت منه حتى رويت، فقال: ألا تشرب من الثالث؟، قلت: قد رويت، قال: وفقك الله".
وفي رواية البزار: أن الثالث كان خمرًا، لكن وقع عنده أن ذلك كان ببيت المقدس، وأن الأول كان ماء، ولم يذكر العسل، ويأتي مزيد لذلك في كلام المصنف.
"ثم فرضت" بالبناء للمفعول "علي الصلاة" بالإفراد، وفي رواية: "الصلوات بالجمع"، "خمسين صلاة كل يوم"،أي: وليلة، وللنسائي عن أنس: "وأتيت سدرة المنتهى، فغشيتني ضبابة، فخررت ساجدًا، فقيل لي: إني يوم خلقت السموات والأرض فرضت عليك وعلى أمتك خمسين صلاة، فقم بها أنت وأمتك، قال -صلى الله عليه وسلم-: "فرجعت".
وفي حديث أنس عند ابن أبي حاتم، فمر علي إبراهيم، فلم يقل شيئًا، "فمررت على موسى"، زاد في حديث أبي سعيد: ونعم الصاحب كان لكم، "فقال: بما" ولأبي ذر: بم، "أمرت" بضم الهمزة مبني للمفعول، وفغي حديث أنس عند النسائي وغيره: ما فرض ربك عليك وعلى أمتك، "قال: أمرت بخمسين صلاة كل يوم"، ولمسلم عن ثابت عن أنس قال: "فرض علي وعلى أمتي خمسين صلاة كل يوم وليلة".
"قال" موسى: "إن أمتك لا تستطيع" أن تصلي، "خمسين صلاة كل يوم" وليلة "وإني والله قد جربت".
وفي رواية: خبرت "الناس قبلك، وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة"، مثل المزاولة، يعني مارستهم ولقيت الشدة فيما أردت منهم.
وفي رواية النسائي: فإنه فرض على بني إسرائيل صلاتان، فما قاموا بها.
وفي الصحيحين من رواية شريك عن أنس: وبلوت بني إسرائيل، وعالجتهم أشد المعالجة على أدنى من هذا، فضعفوا وتركوه، وأمتك أضعف أجسادًا، وأبدانا وأبصارًا وأسماعًا، فالتفت النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى جبريل يستشيسره فأشار إليه جبريل أن نعم إن شئت، "فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك، فرجعت، فوضع عني عشرًا، فرجعت إلى موسى، فقال مثله:" إن أمتك لا(8/38)
"عني عشرًا، فرجعت إلى موسى فقال مثله، فرجعت فوضع عني عشرًا، فرجعت إلى موسى فقال مثله، فرجعت فوضع عني عشرًا، فرجعت إلى موسى فقال مثله، فرجعت فأمرت بعشر صلوات كل يوم، فرجعت إلى موسى فقال مثله، فرجعت فأمرت بخمس صلوات كل يوم، فرجعت إلى موسى فقال: بم أمرت؟ قلت: أمرت بخمس صلوات كل يوم، فقال: إن أمتك لا تستطيع خمس صلوات كل يوم، وإني قد جربت الناس قبلك وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة، فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك. قال: سألت ربي حتى استحييت، ولكني أرضى وأسلم.
قال: فلما جاوزت ناداني مناد: أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي".
__________
تستطيع إلى آخره. " فرجعت فوضع عني عشرًا" من الأربعين، "فرجعت إلى موسى"، فأخبرته، "فقال مثله، فرجعت فوضع عني عشرًا" من الثلاثين "فرجعت إلى موسى، فقال مثله، فرجعت فأمرت بعشر صلوات"، بالإضافة.
وفي رواية بتنوين عشر، "كل يوم" وليلة، "فرجعت إلى موسى، فقال مثله: فرجعت فأمرت بخمس صلوات كل يوم"، كما في لفظ الحديث، أي: وليلة، "فرجعت إلى موسى، فقال: بم"؟ "بلا ألف" رواية أبي ذر، ولغيره بما، بألف بعد الميم، "أمرت؟، قلت: أمرت بخمس صلوات كل يوم، قال: إن أمتك لا تستطيع خمس صلوات كل يوم، وإني قد جربت الناس قبلك، وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة، فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك".
وفي رواية: فسله، والأصل فسأله؛ لأنه أمر من السؤال، فنقلت حركة الهمزة إلى السين، فحذفت تخفيفًا، واستغنى عن همزة الوصل فحذفت، "قال" -صلى الله عليه وسلم- لموسى: "سألت ربي حتى استحييت، ولكني" رواية أبي ذر عن الكشميهني وغيره، ولكن "أرضى وأسلم".
"قال" الحافظ: فيه حذف وتقدير الكلام، سألت ربي حتى استحييت، فلا أرجع، فإني إن رجعت صرت غير راض ولا مسلم، ولكني أرضى وأسلم، "فلما جاوزت ناداني مناد: أمضيت فريضتني، وخففت عن عبادي". قال الحافظ: هذا من أقوى ما استدل به على أنه تعالى كلم نبيه محمدًا ليلة الإسراء بلا واسطة.
وفي رواية النسائي عن أنس: "فخمس بخمسين، فقم بها أنت وأمتك، فعرفت أنها عزمة من الله، فرجعت إلى موسى، فقال: ارجع، فلم أرجع".
وفي الصحيح من طريق شريك عن أنس، فقال: "اهبط باسم الله"، قال المصنف، أي: قال جبريل لا موسى، وإن كان ظاهر السياق.
"وفي رواية له"، أي: للبخاري، وكذا مسلم، كلاهما من حديث أنس عن أبي ذر: أن(8/39)
وفي رواية له: "ففرج صدري ثم غسله بماء زمزم، ثم جاء بطست من ذهب ممتلئ حكمة وإيمانًا، فأفرغه في صدري ثم أطبقه".
وفي رواية شريك: فحشى به صدره ولغاديده وهي بلام مفتوحة وغين معجمة، أي عروق حلقه، وفي النهاية: جمع لغدودة: وهي لحمة مشرفة عند اللهاة.
والشك في قوله: وربما قال في الحجر من قتادة، كما بينه أحمد بن عفان، ولفظه: "بينما أنا نائم في الحطيم، وربما قال قتادة: في الحجر والمراد بالحطيم هنا: الحجر".
__________
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: فرج سقف بيتي وأنا بمكة، فنزل جبريل، "ففرج" بفتحان، أي: شق "صدري".
وفي رواية: عن صدري، بزيادة عن لمجرد التأكيد، أو فرج مضمن معنى كشف، والمراد بالصدر القلب، أي: كشف عن قلبي ما منع الوصول إليه، وذلك بشق الصدر، "ثم غسله بماء زمزم"، قال ابن أبي جمرة: إنما لم يغسل بماء الجنة، لما اجتمع في زمزم من كون أصل مائها من الجنة، ثم استقر في الأرض، فأريد بذلك برقاء بركة النبي -صلى الله عليه وسلم- في الأرض، وقال السهيلي: لما كانت زمزم حفرة جبريل روح القدس لأم إسماعيل جده ناسب أن يغسل بها عند دخوله حضرة القدس لمناجاته، "ثم جاء بطست من ذهب ممتلئ حكمة وإيمانًا، فأغرفعه في صدري، ثم أطبقه"، أي: الصدر الشريف.
وفي رواية مسلم: "فاستخرج قلبي، فغسل بماء زمزم، ثم أعيد مكانه، ثم حشي إيمانًا وحكمة".
"وفي رواية شريك" بن أبي نمر عن أنس عند الشيخين، "فحشى به صدره ولغاديده وهي"، أي: هذه اللفظة "بلام مفتوحة وغين معجمة، أي: عروق حلقه".
"وفي النهاية" لابن الأثير: "جمع لغدودة، وهي لحمة مشرفة عند اللهاة والشك في قوله، وربما قال في الحجر" كائن "من قتادة، كما بينه" الإمام "أحمد" في روايته هذا الحديث، "عن عفان" بتشديد الفاء" ابن مسلم بن عبد الله الباهلي، البصري، ثقة، ثبت روي له الجميع، مات في سنة تسع عشرة ومائتين، "ولفظه: "بينما أنا نائم في الحطيم، وربما قال قتادة في الحجر"، أي: أنه كان يحدث به تارة، فيقول: في الحطيم، وتارة يقول: في الحجر، لشكه في خصوص اللفظ الذي سمعه من أنس، وإن كان المعنى واحدًا كما قال، "والمرد بالحطيم هنا الحجر،" زاد الحافظ، وأبعد من قال: المراد به ما بين الركن والمقام، أو بين زمزم والحجر،(8/40)
ووقع عند البخاري في أول بدء الخلق بلفظ: "بينما أنا عند البيت" وهو أعم.
وفي رواية الزهري عن أنس عن أبي ذر: "فرج سقف بيتي وأنا بمكة".
وفي رواية الواقدي بأسانيده: "أنه أسري به من شعب أبي طالب".
وفي حديث أم هانئ -عند الطبراني- أنه بات في بيتها، قالت: ففقدته من الليل، فقال: "إن جبريل أتاني".
والجمع بين هذه الأقوال -كما في فتح الباري- أنه بات في بيت أم هانئ، وبيتها عند شعب أبي طالب، ففرج سقف بيته، وأضاف البيت إليه؛ لأنه كان يسكنه فنزل منزله الملك، فنزل منه الملك فأخرجه من البيت إلى المسجد، فكان به مضطجعا وبه أثر النعاس، ثم أخرجه الملك فأخرجه من المسجد إلى باب
__________
وهو وإن كان مختلفًا في الحطيم، هل هو الحجر أم لا؟، لكن المراد هنا البقعة التي وقع ذلك فيها، ومعلوم أنها لم تتعدد؛ لأن القصة متحدة لاتحاد مخرجها.
"ووقع عند البخاري في أول بدء الخلق" أولية نسبة، إذ هو في باب ذكر الملائكة بعد خمسة أبواب من كتاب بدء الخلق من طريق قتادة، عن أنس، عن مالك بن صعصعة أيضًا، "بلفظ: "بينا"،بإسقاط ما المذكورة في باب المعراج، "أنا عند البيت، وهو أعم" من قوله: في الحطيم، وربما قال: في الحجر، أي: أنه محتمل لهما، ولمحل آخر من المسجد بقرب البيت.
"وفي رواية الزهري عن أنس، عن أبي ذر،" عند البخاري ومسلم: "فرج" بضم الفاء وكسر الراء أي: فتح، "سقف بيتي وأنا بمكة" جملة حالية إسمية.
"وفي رواية الواقدي بأسانيده، أنه أسري به من شعب أبي طالب" بكسر الشين المعجمة.
"وفي حديث أم هانئ" فاخته، أو هند، أو عاتكة شقيقة علي، لها أحاديث في الكتب الستة وغيرها، "عند الطبراني؛ أنه بات في بيتها، قالت: ففقدته من الليل،" فسألته لما رجع ذهب إلى أي: محل في الوقت الذي فقدته فيه، "فقال: إن جبريل أتاني"، فذكر الحديث ...
"والجمع بين هذه الأقوال،" أي: الروايات، "كما في فتح الباري، أنه بات في بيت أم هانئ، وبيتها عند شعب أبي طالب" أبيها، "ففرج سقف بيته، وأضاف البيت إليه"، في رواية أبي ذر: "لأنه كان يسكنه، فنزل منزلة الملك:" والإضافة تكون بأدنى ملابسة؛ ولأن البيت ينسب لساكنه، "فنزل منه الملك" جبريل، "فأخرجه من البيت إلى المسجد" الحرام، "فكان به مضطجعًا، به وأثر النعاس" فلذا قال: "أنا نائم في الحطيم، مضطعجًا"، "ثم أخرجه(8/41)
المسجد، فأركبه البراق، قال: وقع في مرسل الحسن عند ابن إسحاق أن جبريل أتاه فأخرجه إلى المسجد، فأركبه البراق، وهو يؤيد هذا الجمع.
فإن قيل: لم فرج سقف بيته عليه الصلاة والسلام ونزل منه الملك، ولم يدخل من الباب، مع قوله تعالى: {وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} [البقرة: 189] .
أجيب: بأن الحكمة من ذلك أن الملك انصب من السماء انصبابة واحدة على جهة الاستقامة، ولم يعرج على شيء سواه، فكان نزوله على السقف مبالغة في المفاجأة، وتنبيها على أن الطلب وقع على غير ميعاد، كرامة له عليه الصلاة والسلام.
وهذا بخلاف موسى عليه الصلاة والسلام، فكانت كرامته بالمناجاة عن ميعاد واستعداد بخلاف نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- فإنه حمل عنه ألم الانتظار، كما حمل عنه ألم
__________
الملك فأخرجه من المسجد إلى باب المسحد، فأركبه البراق".
"قال" في الفتح: "وقد وقع في مرسل الحسن" البصري "عند ابن إسحاق: أن جبريل أتاه، فأخرجه إلى المسجد، فأركبه البراق، وهو يؤيد هذا الجمع"، تأييدًا قويًا، "فإن قيل: لم فرج سقف بيته عليه الصلاة والسلام، ونزل منه الملك، ولم يدخل من الباب مع قوله تعالى: {وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} [البقرة: 189] "أجيب" كما قال ابن دحية: "بأن الحكمة في ذلك أن الملك انصب"، أي: نزل "من السماء، انصبابة واحدة على جهة الاستقامة، ولم يعرج على شيء سواه"، أي: من غير تعريج عن الجهة التي نزل منها إلى غيرها؛ "فكان نزوله على السقف مبالغة في المفاجأة، وتنبيها على أن اللب وقع على غير ميعاد، كرامة له عليه الصلاة والسلام"، كما أفهمه قوله: بينما أنا نائم، إذ مجيئه له فجأة يشعر بأنه لا موعد بينهما، وكذا قوله: فرج سقف بيتي، إذ لو كان بينهما موعد لانتظر مجيئه له فيه، ولأتاه من الباب على عادة الجائي لمن ينتظره، وفيه إشارة إلى طلب الاستقامة في الأمور وإلى المبادرة إليها، وأخذها من أقرب الطرق، "وهذا بخلاف موسى عليه الصلاة والسلام، فكانت كرامته بالمناجاة" لله سبحانه وتعالى، "عن ميعاد واستعداد" بالصوم قال تعالى: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً} ، قال الجلال: أي؛ نكلمه عند انتهائها بأن يصومها، وهي ذو القعدة، فلما تمت أنكر خلوف فمه، فاستاك، فأمره الله تعالى بعشرة أخرى ليكلمه بخلوف فمه، كما قال تعالى: {وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ} [الأعراف: 142] الآية، أي: من ذي الحجة، "بخلاف نبينا عليه الصلاة والسلام، فإنه حمل عنه ألم الانتظار" الواقع لموسى مدة الصوم، حتى كلمه ربه، "كما حمل(8/42)
الاعتذار، ويؤخذ من هذا: أن مقام نبينا عليه الصلاة والسلام بالنسبة إلى مقام موصى عليه الصلاة والسلام مقام المراد بالنسبة إلى مقام المريد، ويحتمل أن يكون توطئة وتميهدًا لكونه فرج عن صدره، فأراه الملك بإفراجه عن السقف ثم التئام السقف على الفور كيفية ما يصنع به، وقرب له الأمر في نفسه بالمثال المشاهد في بيته، لطفًا في حقه عليه الصلاة والسلام وتثبيتًا لصبره، والله أعلم بحقيقة السر.
وقوله: مضطجعًا، زاد في بدء الخلق بين النائم واليقظان.
وهو محمول على ابتداء الحال، ثم لما خرج به إلى باب المسجد فأركبه البراق، استمر في يقظته.
وأما ما وقع في رواية شريك عنده أيضًا فلما استيقظت فإن قلنا بالتعدد فلا إشكال، وإلا حمل على أن المراد استيقظت: أفقت: يعني أنه أفاق مما كان فيه
__________
عنه ألم الاعتذار" الذي اعتذر به موسى، أنه إنما استاك لإنكار رائحة فمه، "ويؤخذ من هذا أن مقام نبينا -صلى الله عليه وسلم- بالنسبة إلى مقام موسى عليه الصلاة والسلام مقام المراد" حيث طلب للمناجاة بلا سؤال، "بالنسبة إلى مقام المريد" بقوله: {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْك} [الأعراف: 143] ، "ويحتمل أن يكون توطئة وتمهيد لكونه فرج عن صدره، فأراه الملك بإفراجه عن السقف، ثم التئام السقف على الفور كيفية" أي: صفة "ما يصنع به، وقرب له الأمر في نفسه بالمثال المشاهد في بيته لطفًا في حقه عليه السلام وتثبيتا لبصره" وفي الفتح قيل: الحكمة في نزوله عليه من السقف الإشارة إلى المبالغة في مفاجآته بذلك، والتنبيه على أن المراد منه أن يعرج به إلى جهة العلو، "والله أعلم بحقيقة السر" في ذلك، "وقوله: مضطجعًا، زاد" البخاري "في بدء الخلق بين النائم واليقظان"، أي: أن نومه قريب من اليقظة، "وهو محمول على ابتداء الحال، ثم لما خرج به إلى باب المسجد، فأركبه البراق استمر في يقظته" التي لا يخالطها نوم.
وفي نسخة: لما أخرج به بزيادة الباء في المفعول، والأصل أخرجه فهو مبني للفاعل، "وأما ما وقع في رواية شريك عنده،" أي: البخاري أيضًا" في كتاب التوحيد في آخر الحديث، "فلما استقظت" لفظ الحديث في الصحيح: واستيقظ وهو بالمسجد الحرام، "فإن قلنا بالتعديد" للمعاريج، "فلا إشكال"؛ لأنه معراج آخر في النوم، "وإلا حمل على أن المراد استيقظت أفقت، يعني أنه أفاق مما كان فيه من شغل البال بمشاهدة الملكوت"، باطن(8/43)
من شغل البال بمشاهدة الملكوت ورجع إلى العالم الدنيوي، فالمراد: الإفاقة البشرية من الغمرة الملكية.
وقوله: "إذ أتاني آت هو جبريل عليه السلام"، وفي رواية شريك أنه جاءه ثلاثة نفر، قبل أن يوحى إليه، وهو نائم في المسجد الحرام، فقال أولهم: أيهم هو؟ قال أوسطهم: هو خيرهم، فقال آخرهم: خذوا خيرهم وكانت تلك الليلة -أي كانت تلك القصة الواقعة تلك الليلة ما ذكر هنا- فلم يرهم حتى أتوه ليلة أخرى فيما
__________
الملك، "ورجع إلى العلام الدنيوي فالمراد: الإفاقة البشرية" التي يكون البشر عليها عادة "من الغمرة الملكية" التي كان عليها.
وقال ابن أبي جمرة: لو قال -صلى الله عليه وسلم- أنه كان يقظانًا لأخبر بالحق؛ لأن نومه ويقظته سواء، وعينه أيضًا لم يكن النوم تمكن منها، ولكن تحرى الصدق في الأخبار بالواقع، فيؤخذ منه أنه لا يعدل عن حقيقة اللفظ إلا لضرورة.
"وقوله: إذ أتاني آت، وهو جبريل عليه السلام"، ووقع في بدء الخلق، وذكر بين الرجلين وهو مختصر، أوضحته رواية مسلم بلفظ: إذ سمعت قائلًا يقول: أحد الثلاثة بين الرجلين، فأتيت، فانطلق بي، والمراد بالرجلين حمزة وجعفر، كان -صلى الله عليه وسلم- نائمًا بينهما.
قال ابن أبي جمرة: وفيه تواضعه وحسن خلقه، إذ أنه في الفضل حيث هو، ومع ذلك كان يضطجع مع الناس، ويقعد معهم، ولم يجعل لنفسه مزية عليهم، وفيه جواز نوم جماعة في موضع واحد، لكن بشرط أن يكون لكل واحد منهم ما يستر به جسده.
"وفي رواية شريك،" عن أنس في الصحيحين: "أنه جاءه" بكسر الهمزة، وللكشميهني: إذ بدل أنه، والأولى أولى، وللحموي والمستملي؛ أنه بفتح الهمزة، وجاء بلا ضمير، "ثلاثة نفر".
قال الحافظ: لم أقف على أسمائهم صريحًا، لكن في رواية الطبري: فأتاه جبريل: وميكائيل انتهى.
وكذا رواه ابن جرير وأبو يعلى، ويقال: إن الثالث إسرافيل، "قبل أن يوحى إليه وهو نائم في المسجد الحرام، فقال أولهم" جبريل، "أيهم هو؟ "؛ لأنه كان نائمًا بين حمزة وجعفر كما علم، "قال: أوسطهم"، أي: الثلاثة الذين جاوه وهو ميكائيل، "هو خيرهم، فقال آخرهم:" الثالث.
ولأبي ذر عن الكشميهني: أحدهم بالدال، أي: أحد الثلاثة، "خذوا خيرهم، وكانت تلك الليلة، أي: كانت تلك القصة الواقعة تلك الليلة ما ذكر هنا" بالضمير المستتر في كانت(8/44)
يرى قلبه وتنام عليه ولا ينام قلبه، وكذلك الأنبياء تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم، فلم يكلموه حتى احتملوه ...
وقد أنكر الخطابي قوله: قبل أن يوحى إليه ولذلك قال القاضي عياض والنووي، وعبارة النووي: وقع في رواية شريك -يعني هذه- أوهام أنكرها العلماء، أحدها قوله: قبل أن يوحى إليه وهو غلط لم يوافق عليه، وأجمع العلماء على أن فرض الصلاة كان ليلة الإسراء، قبل الوحي. انتهى، فقد صرح هؤلاء بأن شريكًا تفرد بذلك.
لكن قال الحافظ ابن حجر: في دعوى التفرد نظر، وافقه كثير بن خينس -بالمعجمة ونون مصغرًا- عن أنس، كما أخرجه سعيد بن يحيى بن سعيد الأموي في كتاب المغازي له من طريقه. قال: ولم يقع التعيين بين المجيئين،
__________
المحذوف، وكذا خبر كان، وهذا شرح من المصنف لقوله، وكانت تلك الليلة، "فلم يرهم حتى أتوه ليلة أخرى" هي ثالثة على ما يفيده رواية ابن مردويه عن أنس بلفظ: حتى أتوه ليلة أخرى، فقال الأول: هو هو، فقال الأوسط: نعم، وقال الآخر: خذوا سيد القوم: فرجعوا عنه، حتى إذا كانت الليلة الثالثة رآهم، فقال الأول: هو، فقال الأوسط: نعم، وقال الآخر: خذوا سيد القوم الأوسط بين الرجلين، فاحتملوه حتى جاءوا به زمزم، فاستلقوه عن ظهره، وكان مجيء الملائكة له، "فيما يرى قلبه وتنام عينه ولا ينام قلبه، وكذلك الأنبياء تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم،" الثابت في الروايات أنه كان يقظة، فإن قلنا بالتعدد فلا إشكال، وإلا حمل على أنه كان في طرفي القصة نائمًا، وليس في ذلك ما يدل على كونه نائمًا في كلها، "فلم يكلموه" -صلى الله عليه وسلم- "حتى احتملوه،" فوضعوه عند بئر زمزم فتولاه منهم جبريل، كما في نفس حديث شريك.
"وقد أنكر الخطابي قوله قبل أن يوحى إليه، ولذلك قال القاضي عياض، والنووي"، وابن حزم وعبد الحق، "وعبارة النووي: وقع في رواية شريك، يعني هذه أوهام،" أزيد من عشرة، فصلها الافظ، وأجاب عن بعضها، "أنكرها العلماء أحدها" مبتدأ خبره "قوله: قبل أن يوحى إليه، وهو غلط" من شر يك، "لم يوافق عليه، وأجمع العلماء على أن فرض الصلاة كان ليلة الإسراء"، فكيف يكون الإسراء "قبل الوحي. انتهى" كلام النووي.
"فقد صرح هؤلاء" الخطابي ومن بعده، "بأن شريكًا تفرد بذلك، لكن قال الحافظ ابن حجر في دعوى التفرد نظر، فقد وافقه كثير من خنيس "بالمعجمة ونون مصغرًا" عن أنس كما أخرجه سعيد بن يحيى بن سعيد" بن أبان بن سعيد بن العاصي، "الأموي" أبو عثمان(8/45)
فيحمل على أن المجيء الثاني كان بعد الوحي، وحينئذ وقع الإسراء والمعراج، وإذا كان بين المجيئين مدة فلا فرق بين أن تكون تلك المدة ليلة واحدة، أو ليالي أو عدد سنين، وبهذا يرتفع الإشكال عن رواية شريك، ويحصل به الوفاق أن الإسراء كان في اليقظة بعد البعثة وقبل الهجرة وسقط تشنيع الخطابي وغيره بأن شريكًا خالف الإجماع في دعواه أن المعراج كان قبل البعثة، وأقوى ما يستدل به على أن المعراج كان بعد البعثة، قوله في هذا الحديث نفسه: إن جبريل قال لبواب السماء إذ قال: أبعث؟ قال: نعم، فإنه ظاهر في أن المعراج كان بعد البعثة.
ووقع في رواية ميمون بن سياه -عند الطبراني-: فأتاه جبريل وميكائيل،
__________
البغدادي، ثقة، روى له الشيخان وغيرهما، وربما أخطأ، مات سنة تسع وأربعين ومائتين،"في كتاب المغازي له من طريقه".
"قال" الحافظ مجيبًا عن إشكال قوله: قبل أن يوحى إليه، "ولم يقع التعيين بين المجييئين" أي: زمن، "فيحمل على أن المجيء الثاني كان بعد الوحي، وحينئذ وقع الإسراء والمعراج،" فقوله: قبل أن يوحى إليه ظرف للمجيء الأول، لا لهما الذي هو منشأ التغليظ، "وإذا كان بين المجيئين مدة، فلا فرق بين أن تكون تلك المدة ليلة واحدة، أو ليالي" كثيرة، "أو عدد سنين، وبهذا" التقرير "يرتفع الإشكال عن رواية شريك، ويحصل به الوفاق" على "أن الإسراء كان في اليقظة بعد البعثة، وقبل الهجرة،" وفي ليلته فرضت الصلاة، "وسقط تشنيع الخطابي وغيره؛ بأن شريكًا خالف الإجماع في دعواه أن المعراج كان قبل البعثة".
وقال الحافظ أبو الفضل بن طاهر تعليل الحديث بتفرد شريك، ودعوى ابن حزم؛ أن الآفة منه شيء لم يسبق إليه، فإن شريكًا قبله أئمة الجرح والتعديل، ووثقوه ورووا عنه، وأدخلوا حديثه في تصانيفهم، واحتجوا به قال: وحديثه هذا رواه عنه سليمان بن بلال، وهو ثقة، وعلى تقدير تفرد بقوله: قبل أن يوحى إليه، فلا يقتضي طرح حديثه، فوهم الثقة في موضع من الحديث لا يسقط جميع الحديث، ولا سيما إذا كان الوهم لا يستلزم ارتكاب محذور، ولو ترك حديث من وهم في تاريخ، لترك حديث جماعة من أئمة المسلمين انتهى.
"وأقوى ما يستدل به على أن المعراج كان بعد البعثة قوله في هذا الحديث نفسه، أن جبريل قال لبواب السماء: إذ قال: أبعث" إليه لم يقع في لفظ الحديث إليه، لكن حملها على المصنف كغيره، فقال إليه للاستواء وصعود السماوات وليس الاستفهام عن أصل البعثة والرسالة؛ لأنه لا يخفى إلى هذه المدة، ولاشتهار أمر النبوة في الملكوت الأعلى، "قال:(8/46)
فقال: أيهم؟ وكانت قريش تنام حول الكعبة، فقال: أمرنا بسيدهم، ثم ذهبا، ثم جاؤه وهم ثلاثة نفر، وفي رواية مسلم: سمعت قائلًا يقول: أحد الثلاثة بين الرجلين، فأتيت فانطلق بي، والمراد بالرجلين: حمزة بن عبد المطلب وجعفر بن أبي طالب، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- نائمًا بينهما.
وقوله: "فقد" بالقاف والدال الثقيلة وفي رواية فشق.
"من ثغره" بضم المثلة وسكونة الغين المعجمة بعدها، راء الموضع المنخفض الذي بين الترقوتين.
إلى شعرته بكسر الشين المعجمة، أي شعر العانة الشريفة، وفي رواية مسلم: إلى أسفل البطن.
__________
نعم، فإنه ظاهر في أن المعراج كان بعد البعثة"، ولفظه: ثم عرج به إلى السماء الدنيا، فضرب بابا من أبوابها، فناداه أهل السماء من هذا؟، فقال: جبريل قالوا: ومن معك؟، قال: محمد، قال وقد بعث؟، قال: نعم.
"ووقع في رواية ميمون بين سياه" بكسر السين المهملة وخفة التحتية، البصري، أبي بجر التابعي، صدوق، عابد، يخطئ، روى له البخاري والنسائي "عند الطبراني، فأتاه جبريل وميكائيل، فقالا:" المطلوب "أيهم؟،" أي: الثلاثة حمزة، وجعفر والمصطفى، "وكانت قريش تنام حول الكعبة، فقال": الملك الآخر الذي لم يسم، "أمرنا بسيدهم، ثم ذهبا، ثم جاؤه وهم ثلاثة نفر،" كما جاؤه أولًا، وكون هذا يقتضي أن الجائين جاؤه أولًا اثنان فقط، ليس بمراد؛ لأن الثالث لم يسم كما مر.
"وفي رواية مسلم" من طريق سعيد، عن قتادة، عن أنس، "سمعت قائلًا يقول: أحد الثلاثة بين الرجلين، فأتيت، فانطلب بي، والمراد بالرجلين حمزة بن عبد المطلب، وجعفر بن أبي طالب، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- نائمًا بينهما"، من مزيد تواضعه، وأجيب أيضًا؛ بأن المراد قبل أن يوحى إليه في شأن الصلاة، ومنهم من أجراه على ظاهره، ملتزمًا أن الإسراء كان مرتين قبل النبوة وبعدها، حكاه في المصابيح.
"وقوله: فقد -بالقاف والدال الثقيلة- وفي رواية: فشق" وأخرى فرج والمعنى واحد، "من ثغرة": نحره، "بضم المثلثة وسكون الغين المعجمة بعدها راء" الموضع المنخفض الذي بين الرقوتين" تثنية ترقوة، بزنة فعلوة بفتح الفاء وضم اللام، وهي العظم الذي بين ثغره النحر والعاتق من الجانبين، والجمع التراقي.
قال بعضهم: ولا تكون الترقوة لشيء من الحيوان إلا للإنسان، خاصة "إلى شعرته(8/47)
وفي رواية البخاري: إلى مراق البطن.
وفي رواية شريك: فشق جبريل ما بين نحره إلى لبته -بفتح اللام وتشديد الموحدة- وهو موضع القلادة من الصدر.
وقد أنكر القاضي عياض في "الشفاء" وقوع شق صدره الشريف ليلة الإسراء، وقال: إنما كان وهو صبي قبل الوحي في بني سعد.
ولا إنكار في ذلك -كما قاله الحافظ أبو الفضل العسقلاني رحمه الله- فقد تواترت الروايات به، وثبت شق الصدر أيضًا عند البعثة، كما أخرجه أبو نعيم
__________
"بكسر الشين المعجمة، أي: شعر العانة الشريفة،" أي: الشعر النابت عليها، من إضافة اسم الحال للمحل.
قال الأزهري: وجماعة العانة منبت الشعر فوق قبل المرأة، وذكر الرجل والشعر النابت عليها يقال له: الإسب بكسر الهمزة، وسكون المهملة وموحدة، وقال الجوهري: هي شعر الركب بالتحري: أي: فتح الراء والكاف، منبت العانة للمرأة خاصة عند الخليل، وللرجل أيضًا عند الفراء.
وقال ابن السكيت وابن الأعرابي: استعان واستحد حد عانته، وعلى هذا فالعانة الشعر النابت، وذكر الكرماني؛ أنه وقع في رواية إلى ثنته، بضم المثلثة وتشديد النون، أي: ما بين السرة والعانة.
"وفي رواية مسلم إلى أسفل البطن، وفي رواية البخاري" في بدء الخلق "إلى مراق" بفتح الميم وخفة الراء فألف فقاف ثقيلة، وأصله مرافق بقافين، فأدغمت الأولى في الثانية، أي: ما سفل من بطنه ورق من جلده.
"وفي رواية شريك" عن أنس، "فشق جبريل ما بين نحره إلى لبته" حتى فرغ من صدره وجوفه "بفتح اللام وتشديد الموحدة -وهو موضوع القلادة من الصدره" وفيه تنحر الإبل، "وقد أنكر القاضي عياض في الشفاء"، وسبقه إلى الإنكار ابن حزم "وقوع شق صدره الشريف ليلة الإسراء، وقال: إنما كان وهو صبي، وقبل الوحي" يعني "في بني سعد" بن بكر، وهو عند مرضعته حليمة، وادعى ابن حزم وعياض؛ أن ذلك من تخليط شريك.
قال الحافظ العراقي: وليس كذلك، فقد ثبت في الصحيحين من غير طريق شريك، وقال في المفهم: لا يلتفت لإنكاره؛ لأن رواته ثقات مشاهير، "ولا إنكار في ذلك كما قاله الحافظ أبو الفضل" أحمد بن حجر "العسقلاني رحمه الله" في الفتح، "فقد تواترت الروايات به"، فقد(8/48)
في الدلائل، ولكل منها حكمة:
فالأول: وقع فيه من الزيادة، كما عند مسلم من حديث أنس: فاستخرج منه علقة فقال: هذا حظ الشيطان منك، وكان هذا في زمن الطفولية، فنشأ على أكمل الأحوال من العصمة من الشيطان، ولعل هذا الشق كان سببًا في إسلام قرينه المروي عند البزار من حديث ابن عباس، ويحتمل أن يكون الإشارة إلى حظ الشيطان المباين كالعفريت الذي أراد أن يقطع عليه صلاته وأمكنه الله منه.
وأما شق الصدر عند البعث، فلزيادة الكرامة، وليتلقى ما يوحى إليه بقلب
__________
ثبت في الصحيحين من حديث مالك بن صعصعة، وفي مسلم وغيره عن أنس في روايته عن النبي -صلى الله عليه وسلم- بلا واسطة، وفي الصحيحين من رواية أنس عن أبي ذر وله طرق أخرى.
"وثبت شق الصدر أيضًا عند البعثة، كما أخرجه أبو نعيم في الدلائل"، والطيالسي والحارث بن أبي أسامة، والبيهقي في الدلائل من حديث عائشة، وقدمته في المقصد الأول في المبعث النبوي، "ولكل منها،" أي: المرات الثلاث المذكورة في بني سعد، ثم عند المبعث، ثم ليلة الإسراء، "حكمة، فالأول" الذي وقع، وهو عند حليمة "وقع فيه من الزيادة، كما عند مسلم من حديث أنس"؛ أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أتاه جبريل وهو يلعب مع الغلمان، فأخذه وصرعه، فشق عن قلبه، واستخرج القلب، ثم شقه، "فاستخرج منه علقة، فقال: هذا حظ الشيطان،" أي: الموضع الذي يتوصل منه إلى وسوسة الناس، ولا ينافيه قوله: "منك" لجواز تقدير مضاف، أي: من مثلك من بني آدم، وبقية خبر مسلم، ثم غسله من طست من ذهب بماء زمزم، ثم لأمه، فأعاده مكانه، وجعل الغلمان يسعون إلى أمه، يعني ظئره، فقالوا: إن محمدًا قد قتل، فجاؤوا وهو منتقع اللون.
قال أنس: فلقد كنت أرى أثر المخيط في صدره، "وكان هذا في زمن الطفولية، فنشأ على أكل الأحوال من العصمة من الشيطان" وغيره، وخلقت هذه العلقة؛ لأنها من جملة الأجزاء الإنسانية، فخلقت تكملة للخلق الإنساني، ونزعها كرامة ربانية أبلغ من خلقه بدونها، قاله التقي السبكي، وقال غيره: لو خلق سليمًا منها لم يطلع الآدميون على حقيقته، فأظهره الله على يد جبريل ليتحققوا كمال باطنه، كما برز لهم مكمل الظاهر.
"ولعل هذا الشق كان سببًا في إسلام قرينه،" أي: صاحبه الموكل به من الجن، "المروي عند البزار من حديث ابن عباس،" رفعه: فضلت على الأنبياء بخصلتين: "كان شيطاني كافرًا، فاعانني الله عليه، فأسلم"، قال: ونسيت الأخرى، "ويحتمل أن يكون" قوله هذا حظ الشيطان منك، "الإشارة إلى حظ الشيطان المباين،" أي: خلاف القرين، "كالعفريت الذي(8/49)
قوي على أكمل الأحوال من التطهير.
وأما شقه عند إرادة العروج إلى السماء فللتهيؤ للترقي إلى الملأ الأعلى، والثبوت في المقام الأسنى، والتقوى لاستجلاء الأسماء الحسنى، ولهذا لما لم ينفق لموسى عليه السلام مثل هذ التهيؤ لم تتفق له الرؤية، وكيف يثبت الرجل لما لا يثبت له الجبل؟!.
ويحتمل أن تكون الحكمة في هذا الغسل، لتقع المبالغة في الإسباغ بحصول المرة الثالثة، كما تقرر في شرعه عليه السلام.
ثم أن جميع ما ورد من شق الصدر، واستخراج القلب، وغير ذلك من
__________
أراد أن يقطع عليه صلاته، وأمكنه الله منه،" وقدمت لفظ الحديث قريبًا في الخصائص، وإن لفظ عفريت ظاهر في أن المراد غير إبليس، كما قال الحافظ.
"وأما شق الصدر عند البعث فلزيادة الكرامة، وليتلقى ما يوحى إليه بقلب قوي على كمل الأحوال من التطهير،" وكذلك كان.
"وأما شقه عند إرادة العروج إلى السماء، فللتهيؤ للترقي إلى الملأ الأعلى والثبوت في المقام الأسنى، والتقوى لاستجلاء" بالجيم، "الأسماء الحسنى،" يعني رؤية الله سبحانه، بدليل قوله، "ولهذا لما يتفق لموسى عليه السلام مثل هذا التهيؤ، لم تتفق له الرؤية" مع كونه سألها، "وكيف يثبت الرجل لما لا يثبت له الجبل" المذكور في قوله: {لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا} [الأعراف: 143] ، والحافظ قال حكمة ذلك ليتأهب للمناجاة، "ويحتمل أن تكون الحكمة في هذا الغسل لتقع المبالغة في الإسباغ بحصول المرة الثلاثة، كما تقرر في شرعه عليه السلام،" كذا أبدى هذا الاحتمال تبعًا للحافظ، مع أنه قال في المقصد الأول.
روى أبو نعيم الشق أيضًا، وهو بن عشر قال: وروى خامسة، ولا تثبت، وحكمته أن العشر قريب من سن التكليف، فشق قلبه وقدس حتى لا يتلبس بشيء مما يعاب على الرجال، إلا أن يكون جعل مرتي الصبا بمنزلة المرة الواحدة.
قال النعماني: وقد سن لداخل الحرم الغسل، فما ظنك بداخل الحضرة المقدسة، فلما كان الحرم من عالم الملك، وهو ظاهر الكائنات نيط الغسل له بظاهر البدن في عالم المعاملات، ولما كانت الحضرة الشريفة من عالم الملكوت، وهو باطن الكائنات، نيط لها الغسل بباطن البدن في التحقيقات، وقد عرج به لتفرض عليه الصلوات، وليصلي بملائكة السماوات، ومن شأن الصلاة الطهور، فقدس ظاهرًا وباطنًا قال: وقد رأيت في بعض المعاريج أن(8/50)
الأمور الخارقة للعادة، مما يجب التسليم له دون التعرض لصرفه عن حقيقته، لصلاحية القدرة، فلا يستحيل شيء من ذلك.
قال العارف ابن أبي جمرة: فيه دليل على أن قدرة الله تعالى لا يعجزها ممكن، ولا تتوقف لعدم شيء ولا لوجوده، وليست مربوطة بالعادة إلا حيث شاءته القدرة؛ لأنه على ما يعهد ويعرف أن البشر مهما شق بطنه كله وانجرح القلب مات ولم يعش، وهذ النبي -صلى الله عليه وسلم- قد شق بطنه المكرمة، حتى أخرج القلب وغسل،
__________
جبريل وضأه بعد غسل قلبه قلت: ليصير مطهرًا متطهرًا انتهى.
"ثم إن جميع ما ورد،" وبينه بقوله: "من شق الصدر واستخراج القلب، وغير ذلك من الأمور الخارقة للعادة" كاختراق السماوات "مما يجب التسليم له،" أي: تسليمه، فاللازم زائدة للتقوية "دون التعرض لصرفه عن حقيقته لصلاحية القدرة، فلا يستحيل شيء من ذلك؛" لأن القدرة إنما تتعلق بالممكن دون المستحيل، هكذا قاله القرطبي في المفهم، والطيبي، والتوربشتي والحافظ في الفتح، والسيوطي وغيرهم، ويؤيده الحديث الصحيح أنهم كانوا يرون أثر المخيط في صدره.
قال السيوطي: وما وقع من بعض جهلة العصر من إنكار ذلك، وحمله على الأمور المعنوي، وإلزام قائله القول بقلب الحقائق، فهو جعل صراح، وخطأ قبيح، نشأ من خذلان الله تعالى لهم، وعكوفهم على العلوم الفلسفية، وبعدهم عن دقائق السنة، عافانا الله من ذلك انتهى.
"قال العارف ابن أبي جمرة" بجيم وراء، "فيه دليل على أن قدرة الله تعالى لا يعجزها ممكن"، أي: لا يمنعها من التعلق به، بل يجوز تعلقها بسائر الممكنات، لا بالمستحيلات، فلا تتعلق بها أصلا، ولذا قي بممكن، فلا يفهم منه أنها تعجز عن التعلق بالمستحيل؛ لأنها لا تتعلق به أصلا، فلا يلتفت إلى مثل هذا الإيهام، "ولا تتوقف"، أي: لا تتخلف عن إيجادها إرادة، "لعدم" وجود "شيء" يؤثر فيها تعلقت به، "ولا لوجوده"، أي: شيء يمنع تأثيرها فيما تعلقب به، "وليست مربوطة بالعادة"، أي: ليس تأثيرها قاصرا على ما جرت به العادة، بل عام في جميع الممكنات، "إلا حيث شاءته"، أي: ربط التأثير بالعادة "القدرة،" ونسبة المشيئة إلى القدرة تسمح، إذ المشيئة إنما تنسب للقادر لا لشيء من صفاته فهو إما على حذف مضاف، أي: ذو القدرة أو مصدر بمعنى القادر؛ "لأنه على ما يعهد ويعرف أن البشر" "بفتحتين" ذكروا أو أثنى، واحد أو جمعا، وقد يثنى ويجمع أبشارا، كما في القاموس.
وفي المصباح؛ أن العرب ثنوه ولم يجمعوه من التثنية، أنؤمن لبشرين، "مهما شق بطنه كله، وانجرح القلب مات ولم يعش"، وكذا سائر الحيوان واقتصر على البشر لكون(8/51)
وقد شق بطنه كذلك أيضًا وهو صغير وشق قلبه وأخرج منه نزغة الشيطان، ومعلوم أن القلب مهما وصل له الجرح مات صاحبه، وهذا النبي عليه الصلاة والسلام شق بطنه في هاتين المرتين، ولم يتألم بذلك، ولم يمت لما أن أراد الله تعالى أن لا يؤثر ما أجرى به العادة، أن يؤثر بها موت صاحبها، فأبطل تلك العادة، وقد رمي إبراهيم عليه الصلاة والسلام في النار فلم تحرقه، وكانت عليه بردًا وسلامًا. انتهى.
وقد حصل من شق صدره الكريم إكرامه عليه السلام بتحقيق ما أوتي من الصبر، فهو من جنس ما أكرم به إسماعيل الذبيح بتحقيق صبره على مقدمات الذبح شدًا وكتفًا وتلا للجبين، وإهواء بالمدية إلى المنحر فقال: {سَتَجِدُنِي إِن
__________
المصطفى منهم لا لإخراج غيره، "وهذا النبي -صلى الله عليه وسلم- قد شق بطنه المكرمة"، أنثه باعتبار الجارحة، وإلا فالبطن خلاف الظهر مذكر، "حتى أخرج القلب وغسل" وهو حي، "وقد شق بطنه كذلك"، كهذا الشق الواقع في المعراج "أيضًا، وهو صغير، وشق قلبه، وأخرج منه نزغة الشيطان"، أي: محل نزغته، أي: وسوسته الحاملة على خلاف ما أمر به كاعتراه غضب وفكر، ومعلوم أن القلب مهما وصل له الجرح، مات صاحبه، وهذا النبي -صلى الله عليه وسلم- شق بطنه في هاتين المرتين" وأخرج قلبه وشق، "ولم يتألم بذلك، ولم يمت لما أراد الله تعالى أن لا يؤثر ما"، أي: شيئًا، أو الذي "أجرى به العادة أن يؤثر بها موت صاحبها، فأبطل تلك العادة"، جواب لما، ودخول فيه قليل قاله شيخنا، والأظهر أن اللام في لما تعليلية لعدم موته، فالفاء للتفريع على التعليل.
"وقد رمي إبراهيم عليه الصلاة والسلام في النار، فلم تحرقه، وكانت عليه بردًا وسلامًا"، أي: إن شق الدر الشريف، وإن كان خارقًا للعادة، لا بعد فيه؛ لأنه ممكن، وقد وقع مثله للخليل حيث فعل به ما هو مهلك عادة، ولم يؤثر فيها شيء، فذكره للتقريب. "انتهى" كلام ابن أبي جمرة.
"وقد حصل من شق صدره الكريم إكرامه عليه السلام بتحقيق ما أوتي من الصبر"، بجعله صفة قائمة به، وكان ذلك تحقيقًا له لبروزه إلى الوجود الخارجي، "فهو من جنس ما أكره به إسماعيل الذبيح" على أحد القولين الشهيرين، والثاني إسحاق، وليت شعري، أي: اقتضاء فيمن حكى هذين القولين في الذبيح أن إبراهيم ليس له غيرهما من الأولاد، مع أن أولاده ثلاثة عشر، كلهم ذكور، كما في تاريخ ابن كثير، أو خمس منهم أناث على ما في الروض "بتحقيق صبره على مقدمات الذبح شدًا وكتفًا، وتلا" إلقاء "للجبين، وأهواء بالمدية" السكين، "إلى(8/52)
شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِين} [الصافات: 102] ، ووفي بما وعد الله تعالى، فأكره الله بالثناء على صبره إلى الأبد.
ولا مرية أن الذي حصل من صبر نبينا -صلى الله عليه وسلم- أشد وأجل؛ لأن تلك مقدمات وهذه نتيجة، وتلك معاريض وهذه حقيقة، والمنحر مقتل وما أصابه من إسماعيل إلا صورة القتل لا فعله، وشق صدر نبينا -صلى الله عليه وسلم- واستخراج قلبه، ثم شقه ثم كذا مقاتل عديدة وقعت كلها، ولكن انخرقت العادة ببقاء الحياة، فهذا الابتلاء أعظم من ابتلاء الذبيح بما ذكر.
فإن قلت: إنما يتحقق الصبر أن لو كانت هناك مشقة، فلعل العادة لما
__________
النحر"، يعني أنه لما تله للجبين بأن ألقاه على جنبه انقلب على جبهته، أو أنه فعل ذلك بإشارته لئلا يرى فيه تغيرًا فيرق له فلا يذبحه، "فقال: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات: 102] ، على الذبح، أو على قضاء الله، وترتيب ما ذكر على ما قبله يقتضي أن قوله ذلك بعده، وسوق الآية صريح أنه قال ذلك جوابًا لقول أبيه: {يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى} ، إلا أن تجعل الفاء في المصنف بمعنى الواو، ولفظ ابن المنير متبوع المؤلف، وقد قال: ستجدني بالواو، "ووفي بما وعد الله تعالى" بقوله: {سَتَجِدُنِي} الآية "فأكرمه الله بالثناء على صبره إلى الأبد، ولا مرية" بكسر
الميم، أي: لا شك، "أن الذي حصل من صبر نبينا -صلى الله عليه وسم- أشد وأجل؛ لأن تلك" الأحوال الواقعة لإسماعيل من الشد والكتف والتل "مقدمات" للذبح، "وهذه" الواقعة للمصطفى "نتيجة" ما يفعل بمن أريد ذبحه، أو نحوه من الأثر الذي قصد ترتبه على الفعل.
"وتلك معاريض"، أي: مقدمات لا حقائق، وتسميتها معاريض تجوز، إذ هي لغة التورية فشبه المقدمات بالمعاريض، واستعار له اسمه لما سبق في علم الله، أن حقيقة ما أمر به أبوه من الذبح لا يقع، "وهذه حقيقة، والمنحر مقتل"، أي: يصدق عليه، وليس مفهومهما واحدًا، إذ المنحر موضع النحر من الحلق، ويكون مصدرًا أيضًا، "وما أصابه"، أي: المنحر "من إسماعيل" ظاهره أنه أمر السكين على منحره، مع أن الفداء وقع قبل مرور السكين إليه، فقوله: "إلا صورة القتل لا فعله"، أي: الصورة التي تحصل عند إرادة القتل، "وشق صدر نبينا -صلى الله عليه وسلم- واستخراج قلبه ثم شقه، ثم كذا"، أي: نزع العلقة منه وغسله، ونحو ذلك، "مقاتل عديدة": جمع مقتل "وقعت كلها، ولكن انخرقت العادة ببقاء الحياة، فهذا الابتلاء أعظم من ابتلاء الذبيح بما ذكر".(8/53)
انخرقت في إبقاء الحياة انخرقت في دقع المشاق وحمل الآلام.
أجيب: بأنه ورد في حديث شق صدره: فأقبل وهو منقع اللون أو ممتقع، بالميم بدل النون، وهو يدل على أن الصبر على مشقة المعالجة المذكورة محقق. انتهى.
قال القاضي عياض: وأصل "انتقع" صار كلون النقع، والنقع الغبار، وهو شبيه بلون الأموات، وهذا يدل على غاية المشقة.
وأما قول ابن الجوزي: فشقه وما شقه عليه، فيحمل على أنه صبر صبر من لا يشق عليه. انتهى.
وكذلك الابتلاء أيضًا من حيث الشق، فإن ذلك وقع لنبينا -صلى الله عليه وسلم- بعيد ما
__________
وفي المصباح: المقتل الموضع الذي إذا أصيب لا يكاد صاحبه يسلم، والواقع للمصطفى أسباب تفضي إلى القتل، فلعل المقاتل في المصنف جمع: مقتل، بمعنى القتل، وأطلقه على سببه مجازًا، "فإن قلت: إنما يتحقق الصبر أن لو كانت هناك مشقة، فلعل العادة لما انخرقت في إبقاء الحياة"، أي: لم تؤثر إزالتها، بل استمرت بعدما يوجب إزالتها عادة، وفي نسخ في بقاء، وهي أظهر؛ لأن البقاء استمرار الحياة، وهو أثر الإبقاء، "انخرقت" أيضًا "في دفع المشاق وحمل الآلام"، فلا تتم المفاضلة المذكورة بينه وبين الذبح، "أجيب"، أي: أجاب ابن المنير، "بأنه ورد في حديث شق صدره" في بني سعد وهو صغير، "فأقبل، وهو منتقع اللون" بنون فوقية فقاف مفتوحة، أي: متغير، "أو ممتقع بالميم بدل النون" روايتان قاله ابن المنير.
قال الكسائي: انتقع مبنيا إذا تغير من حزن أو فزع، قال: وكذا ابتقع بالموحدة، وامتقع بالميم أجود، قاله الجوهري، أي: مبنيا للمفعول، صرح به المجد وغيره، وفي المصباح ما يفيد بناءه للفاعل، "وهو يدل على أن الصبر على مشقة المعالجة المذكورة محقق" فتتم المفاضلة. "انتهى: ما أجيب به.
"قال القاضي عياض: وأصل انتقع صار كلون النقع، والنقع الغبار، وهو شبيه بلون الأموات، وهذا يدل على غاية المشقة"، إذ لا يصير كلون الأموات إلا بعد مشقة شديدة، "وأما قول ابن الجوزي: فشقه وما شق عليه"، أي ما آلمه ذلك الشق، "فيحمل على أنه صبر صبر من لم يشق عليه"، ويحمل أيضًا على أنه ما شق عليه المشقة التي تحصل مثلها عادة من ذلك الفعل، فلا ينافي حصول مشقة دون المعتاد فنزلها منزلة العدم، "انتهى" كلام ابن المنير.(8/54)
فطم، وأيضًا: فإنه كان منفردًا عن أمه ويتيما من أبيه، واختطف من بين الأطفال، وفعل به ما فعل من الأهوال تسهيلًا لما يلقاه في المآل، وتعظيمًا لما يناله على الصبر من الثواب والثناء، ولهذا لما شج وجهه الشريف وجرح وكسرت رباعيته قال: "اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون"، زاده الله شرفًا وفضلًا.
وقوله: "ثم أتيت بطست من ذهب" إنما أتي بالطست؛ لأنه أشهر آلات الغسل عرفًا.
فإن قلت: إن استعمال الذهب حرام في شرعه عليه السلام فكيف استعمل الطست الذهب هنا؟.
أجاب العارف ابن أبي جمرة: بأن تحريم الذهب إنما هو لأجل الاستمتاع به
__________
وفي الشامي: اختلف هل وقع له مع ذلك مشقة أم لا؟، فقال الحافظ: من غير مشقة، وبه جزم ابن الجوزي، فقال: فشقه وما شقه عليه، وقال ابن دحية، بمشقة عظيمة، ولهذا انتقع لونه أي: صار كلون النقع، قلت: رواية انتقع لونه حكاية لما وقع في المرة الأولى وهو صغير في بني سعد، وأما ما وقع بعدها، فلم ينقل أنه تأثر لذلك. انتهى.
"وكذلك الابتلاء أيضًا من حيث الشق، فإن ذلك وقع لنبينا -صلى الله عليه وسلم- بعيد"، بلفظ التصغير، "ما فطم" بشهرين أو ثلاثة، وكان فطامه بعد عامين، "وأيضًا كان منفردًا عن أمه" في بني سعد، وأمه بمكة، "ويتيمًا من أبيه"، لموته وهو حمل على الصحيح، "واختطف من بين الأطفال" الذين كان معهم في البرية، "وفعل به ما فعل من الأهوال تسهيلًا لما يلقاه في المآل، وتعظيمًا لما يناله على الصبر من الثواب والثناء" من الكبير المتعال، "ولهذا لما شج وجهه الشريف" في أحد، "وجرح وكسرت رباعيته" بفتح الراء الموحدة وخفة التحتية، "قال: "اللهم اغفر لقومي" مغفرة
تصرف عنهم عذاب الاستئصال، "فإنهم لا يعملون" رفع قدري عندك، فأعتذر عنهم بالجهل الحكمي، وإن كان عد الآيات البينات ليس بعذر، ولم يقل: يجهلون تحسينا للعبارة ليجذبهم بزمام لطفه إلى الإيمان، ويدخهلم بعظيم عفوه، حرم الأمان، "زاده الله شرفًا وفضلًا" -صلى الله عليه وسلم.
"وقوله: "ثم أتيت بطست من ذهب"، إنما أتى بالطست؛ لأنه أشهر"، أي: أظهر "آلات الغسل عرفًا" من حيث إن استعماله للغسل أكثر من استعمال غيره، "فإن قلت: إن استعمال الذهب حرام في شرعه عليه السلام"، بنصه على حرمته، "فكيف استعمل الطست الذهب(8/55)
في هذه الدار، وأما الآخرة فهو للمؤمنين خالصًا، لقوله عليه السلام: "هو لهم في الدنيا وهو لنا في الآخرة"، قال: ثم إن الاستمتاع بهذا الطست لم يحصل منه عليه الصلاة والسلام وإنما كان غيره في السائق له والمتناول لما كان فيه حتى وضعت في القلب المبارك.
فسوقان الطست من هناك، وكونه كان من ذهب دال على ترفيع المقام فانتفى التعارض بدليل ما قررنا. انتهى.
وتعقبه الحافظ ابن حجر: بأنه لا يكفي أن يقال: إن المستعمل له ممن لم يحرم عليه ذلك لمن الملائكة؛ لأنه إذا كان قد حرم عليه استعماله لتنزه أن يحرم عليه ذلك من الملائكة؛ لأنه إذا كان قد حرم عليه استعماله لتنزه أن يستعمله غيره في أمر يتعلق ببدنه المكرم، ويمكن أن يقال: إن تحريم استعماله مخصوص بأحوال الدنيا، وما وقع في تلك الليلة كان الغالب أنه من أحوال الغيب، فيلحق بأحوال الآخرة، ولعل ذلك كان قبل أن يحرم الذهب في هذه
__________
هنا"، قلت: "أجاب العارف ابن أبي جمرة، بأن تحريم الذهب"، أي: علته، "إنما هو لأجل الاستمتاع به في هذه الدار" الدنيا، "وأما الآخرة فهو للمؤمنين خالصًا لقوله عليه السلام: "هو لهم في الدنيا" الفانية، "وهو لنا في الآخرة" " الباقية، وما هنا كان الغالب أنه من أحوال الآخرة.
"قال" ابن أبي جمرة: "ثم إن الاستمتاع بهذا الطست لم يحصل منه عليه الصلاة والسلام" حتى يجيء السؤال، "وإنما كان غيره في السائق"، أي: الحامل "له" حتى أحضره له، يقال: ساق الصداق إلى امرأته: حمله إليها، "والمتناول لما كان فيه حتى وضعه في القلب المبارك فسوقان" مصدر على فعلان هذا ظاهره، ولم يذكره الجوهري، ولا المجد ولا غيرهما، وإنما قالوا في مصدر ساق سوقًا، وسياقة ومساقًا، فينظر سند المصنف "الطست من هناك، وكونه كان من ذهب دال على ترفيع المقام"، أي: إعلائه، "فانتفى التعارض بدليل ما قررنا، انتهى" جواب ابن أبي جمرة، وهو مشتمل على جوابين، أحدهما مسلم وهو الأول.
"و" الثاني: تعقبه الحافظ ابن حجر؛ بأنه لا يكفي أن يقال: إن المستعمل له ممن لم يحرم عليه ذلك من الملائكة؛ لأنه إذا كان قد حرم عليه استعماله لتنزه أن يستعمله غيره في أمر يتعلق ببدنه المكرم"؛ لأنه صين عما يخالف شرعه حتى قبل النبوة، يمكن أن يقال" في الجواب: "إن تحريم استعماله مخصوص بأحوال الدنيا، وما وقع تلك الليلة كان الغالب أنه من أحوال الغيب": ما غاب من مشاهدة الناس، "فيلحق بأحوال الآخرة"، وهذا مستفاد من الجواب الأول لابن أبي جمرة، فأشار إلى توافقهما عليه، والحافظ لم ينقل كلامه إنما قال:(8/56)
الشريعة، ويظهر ههنا مناسبات: منها أنه من أواني الجنة، ومنها أنه لا تأكله النار ولا التراب، ومنها أنه لا يلحقه الصدأ، ومنها أنه أثقل الجواهر فناسب قلبه عليه الصلاة والسلام؛ لأنه من أواني أحوال الجنة، ولا تأكله النار ولا التراب، كما قال -صلى الله عليه وسلم: "إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء"، ولا يلحقه الصدأ، ومنها أنه أثقل الجواهر، فناسب قلبه عليه الصلاة والسلام؛ لأنه من أواني أحوال الجنة، وأنه أثقل من كل قلب عدل به، وفيه مناسبة أخرى وهي ثقل الوحي فيه. انتهى.
قلت: قوله: "ولعل ذلك قبل أن يحرم استعمال الذهب في هذه الشريعة"، قد جزم هو في أول الصلاة من كتابه فتح الباري: بأنه تحريم الذهب إنما وقع بالمدينة.
قال السهيلي: وابن دحية: إن نظر إلى لفظ الذهب ناسب من جهة إذهابه
__________
"ولعل ذلك كان قبل أن يحرم الذهب في هذه الشريعة"، ولا يكفي أن يقال إلى آخر ما ذكر المصنف، فقوله: ولعل جواب مستقل فهي ثلاثة، وقال: أعني الحافظ في أول كلامه: خص الذهب لكونه أعلى الأواني الحسنة، وأصفاها؛ ولأن فيه خواص ليست لغيره، ووصل هذا بقوله: "ويظهر" لها "ههنا مناسبات" للناظر في المقام، لا من خصوص ما قدمه "منها، أنه من أواني الجنة"، كما قال تعالى: {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ} [الزخرف: 71] ، "ومنها أنه لا تأكله النار"، وكذلك القرآن لا تأكله النار، ولا قلبنا وعاه، ولا بدنا عمل به يوم القيامة، ففيه مناسبة له، "ولا التراب" لا يأكله، ولا يغيره، وكذلك القرآن لا يستطاع تغييره، كذا في الروض.
"ومنها أنه لا يلحقه الصدأ" بفتح المهملتين مهموز.
ومنها أنه أثقل الجواهر، فناسب قلبه عليه الصلاة والسلام؛ لأنه من أواني أحوال الجنة"، أي: من الأواني التي تستعمل في الأحوال التي تقع في الجنة وتحتاج إلى إناء، وعبارة الحافظ: ومنها أنه أثقل الجواهر، فناسب ثقل الوحي، "ولا تأكله النار ولا التراب كما قال -صلى الله عليه وسلم: "إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء" "، ولا يلحقه الصدأ، بخلاف غيره، كما قال: إن القلوب لتصدأ.
"وأنه أثقل من كل قلب عدل به، وفيه مناسبة أخرى، وهو ثقل الوحي فيه. انتهى" كلام الحافظ.
"قلت قوله: ولعل ذلك قبل أن يحرم استعمال الذهب في هذه الشريعة"، يشعر أنه لم يطلع فيه على شيء، وإنما ترجاه من نفسه، وينافيه أنه قد جزم هو في أول الصلاة من كتابه فتح الباري، بأنه تحريم الذهب إنما وقع بالمدينة"، حيث قال: أبعد من استدل به، أي: حديث المعراج على جواز تحلية المصحف وغيره بالذهب؛ لأن المستعمل له الملك، فيحتاج إلى(8/57)
الرجس عنه ولكونه وقع عند الذهاب إلى ربه، وإن نظر إلى معناه، فلوضاءته ونقائه وصفاته. انتهى.
والمراد بقوله: ملئ حكمة وإيمانًا أن الطست جعل فيها شيء يحصل به كمال الإيمان والحكمة، فسمي حكمة وإيمانًا مجازًا.
والملء يحتمل أن يكون حقيقة وبجسد المعاني جائز، كما جاء أن سورة البقرة
__________
ثبوت كونهم مكلفين بما كلفنا به وراء ذلك أن ذلك كان على أصل الإباحة؛ لأن تحريم الذهب إنما وقع بالمدينة كما سيأتي واضحًا في اللباس انتهى.
"قال السهيلي و" تلميذه "ابن دحية: أن نظر إلى لفظ الذهب ناسب من جهة إذهابه الرجس الإثم والسوء عنه، ولكونه وقع عند الذهاب إلى ربه، وإن نظر إلى معناه فلوضاءته ونقائه وصفائه"، ولثقله ورثوبته، والوحي ثقيل، قال الله تعالى: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} [المزمل: 5] {مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [المؤمنون: 102] الآية؛ ولأنه أعز الأشياء في الدنيا، والقرآن هو الكتاب العزيز. "انتهى" كلام السهيلي بهذا الذي زدته.
زاد ابن دحية: ولأنه رأس الإيمان وقيمة المتلفات، فهو إذا أصل الدنيا، والإيمان أصل الدين، فوقع التنبيه على أن أصل الدنيا آلة لأصل الدين، وخادم له ووسيلة إليه، وأنه إذا قضيت الحاجة منه عدل عنه.
قال بعض: ومن المناسبات خلق سرور القلب عند رؤيته، كما قال تعالى في البقرة، {صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِين} [البقرة: 69] الآية، ويكون جعل الذهب آنية الإيمان من جنس قوله: "الدنيا مطية الآخرة" "والمراد بقوله: ملئ حكمة وإيمانًا، أن الطست جعل فيها شيء يحصل به كمال الإيمان والحكمة، فسمي حكمة وإيمانًا مجازًا".
وأورد السهيلي كيف يكون الإيمان والحكمة في طست من ذهب، والإيمان عرض من الأعراض لا يوصف بها إلا محلها الذي تقوم به، ولا يجوز فيها الانتقال؛ لأنه صفة الأجسام لا الأعراض، وأجاب؛ بأنه إنما غبر عما في الطست بهما، كما عبر عن اللبن الذي شربه وأعطى فضله عمر بالعلم، فكان تأويل ما أفرغ في قلبه إيمانا وحكمة، ولعل الذي كان في الطست ثلجًا، وبردًا، كما في الحديث الأول، فعبر في المرة الثانية بما يؤول إليه، وعبر عنه في الأولى بصورته التي رآها؛ لأنه كان طفلًا فلما رأى الثلج في طست الذهب، اعتقده ثلجا حتى عرف تأويله بعد، وفي المرة الأخرى كان نبيًان فلما رأى طست الذهب مملوءة ثلجًا علم التأويل لحينه، أي: لوقته، واعتقده في ذلك المقام حكمة وإيمانًا، فكان لفظه في الحديثين على حسب اعتقاده في المقامين، انتهى.(8/58)
تجئ يوم القيامة، كأنها ظلة، والموت في صورة كبش، وكذلك وزن الأعمال وغير ذلك.
وقال البيضاوي: لعل ذلك من باب التمثيل، إذ تمثيل المعاني قد وقع كثيرًا، كما مثلت له الجنة والنار في عرض الحائط، وفائدته كشف المعنوي بالمحسوس.
__________
"و" هذا "الملء يحتمل أن يكون حقيقة، وبجسد المعاني جائز، كما جاء أن سورة البقرة تجيء يوم القيامة كأنها ظلة"، كما قال -صلى الله عليه وسلم: "اقرؤوا الزهراوين البقرة وآل عمران، فإنهما يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان، أو غيايتان، أو كأنهما فرقان من طير صواف"، الحديث رواه مسلم، وأو للتنويع وتقسيم القارئين، فالأول لمن قرأهما بلا فهم معناهما، والثاني لمن قرأهما مع فهمه، والثالث لمن ضم إليهما تعليم المستفيد، وإرشاد الطالب، وبيان حقائقهما، وكشف ما فيهما، الأول عام في كل أحد، والثاني يختص بمثل الملوك، والثالث أرفع كما كان سليمان، وغمامتان "بالميم"، وغيايتان "بتحتية": كل شيء أظل الإنسان فوق رأسه كالسحابة وغيرها، كما في النهاية.
قال البيضاوي: ولعله أراد ما يكون له صفاء وضوء، إذ الغيابة ضوء شعاع الشمس، "والموت"، وهو عرض يمثل "في صورة كبش" كما قال -صلى الله عليه وسلم: "يؤتى بالموت كأنه كبش أملح، حتى يوقف على السور بين الجنة والنار، فيقال: يا أهل الجنة، ويا أهل النار، هل تعرفون هذا؟، فيقولون: نعم، هذا الموت، فيضجع ويذبح، فلولا أن الله قضى لأهل الجنة الحياة والبقاء لماتوا فرحًا، ولو أن الله قضى لأهل النار الحياة فيها لماتوا ترحًا".
وفي رواية: "فيذبح وهم ينظرون، فلو أن أحدًا مات فرحًا لمات أهل الجنة، ولو أن أحدًا مات حزنا لمات أه النار"، رواهما الترمذي عن أبي سعيد، والقول: إن الموت جسم لا يصح.
قال الحافظ: من الأخبار الواهية في صفة البراق ما ذكره الماوردي عن مقاتل، وأورده القرطبي في التذكرة، ومن قبله الثعلبي من طريق الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس قال: الموت والحياة جسمان، فالموت ليس يجد ريحه شيء إلا مات، والحياة فرس بلقاء أنثى، وهي التي كان جبريل والأنبياء يركبونها، لا تمر بشيء، ولا يجد ريحها شيء إلا حيي، "وكذلك وزن الأعمال وغير ذلك" من أحوال الغيب.
"وقال البيضاوي" في شرح المصابيح: "لعل ذلك من باب التمثيل، إذ تمثيل المعاني قد وقع كثيرًا، كما مثلت له الجنة والنار في عرض الحائط" بضم العين، أي: جانبه، وهذا تنظير؛ لأن الجنة والنار ليستا من المعاني التي تنتقل في الذهن، ولا صور لها خارجية، فلا يصح(8/59)
وقال العارف ابن أبي جمرة: فيه دليل على أن الإيمان والحكمة جواهر محسوسات لا معاني؛ لأنه عليه السلام قال عن الطست: "إنه أتي به مملوءا حكمة وإيمانًا"، ولا يقع الخطاب إلا على ما يفهم ويعرف، والمعاني ليس لها أجسام حتى تملأ، وإنما يملأ الإناء بالأجسام والجواهر، وهذا نص من الشارع عليه الصلاة والسلام بضد ما ذهب إليه المتكلمون في قولهم: إن الإيمان والحكمة أعراض.
والجمع بين الحديث وما ذهبوا إليه، هو أن حقيقة أعيان المخلوقات التي ليس للحواس فيها إدراك، ولا من النبوة إخبار عن حقيقتها غير محققة، وإنما هي غلبة ظن؛ لأن للعقل -بالإجماع من أهل العقل المؤيدين بالتوفيق- حدًا يقف عنده، ولا يتسلط فيما عدا ذلك، ولا يقدر أن يصل إليه، فهذا وما أشبهه منها؛ لأنهم تكلموا على ما ظهر لهم من الأعراض الصادرة عن هذه الجواهر التي ذكرها الشارع -صلى الله عليه وسلم- في الحديث، ولم يكن للعقل قدرة أن يصل إلى هذه الحقيقة
__________
جعلهما مثالين للمعاني، لكنه قصد تقريب تعقل تصور المعاني بتصوير الجنة والنار، فإنهما مع عظمهما صور له في عرض الحائط، فكما وقع خرق العادة بذلك كذلك لا بعد في تصوير المعاني بصور محسوسة خرقًا للعادة "وفائدته كشف المعنوي"، إظهاره وتصويره "بالمحسوس" أي: تصويره بصورته للتقريب.
"وقال العارف ابن أبي جمرة: فيه دليل على أن الإيمان، والحكمة جواهر محسوسات، لا معاني؛ لأنه عليه السلام قال عن الطست: "إنه أتى به مملوء حكمة وإيمانًا، ولا يقع الخطاب إلى على ما يفهم ويعرف" للمخاطبين، فالمتبادر منه أنها جواهر، "والمعاني ليس لها أجسام حتى تملأ" الطست، "وإنما يلمأ الإناء بالأجسام والجواهر"، لا بالأعراض، "وهذا نص من الشارع عليه الصلاة والسلام بضد ما ذهب إليه المتكلمون في قولهم: إن الإيمان والحكمة أعراض، والجمع بين الحديث" المذكور الدال على أنها جواهر قائمة بأنفسها، "وما ذهبوا إليه" من أنها أعراض تقوم بغيرها لا بأنفسها، "هو أن حقيقة أعيان المخلوقات التي ليس للحواس فيها إدراك، ولا" ثبت من "جهة النبوة أخبار عن حقيقتها"، فلم يخبر بها أحد من الأنبياء "غير محققة، وإنما هو غلبة ظن؛ لأن للعقل بالإجماع من أهل العقل المؤيدين بالتوفيق حدًا يقف عنده، ولا يتسلط فيما عدا ذلك، ولا يقدر أن يصل إليه، فهذا وما أشبهه منها؛ لأنهم تكلموا على ما ظهر لهم من الأعراض الصادرة عن هذه الجواهر التي كذرها الشارع عليه السلام في الحديث، ولم يكن للعقل قدرة أن يصل(8/60)
التي أخبر بها -صلى الله عليه وسلم- فيكون الجمع بينهما أن يقال: ما قاله المتكلمون حق؛ لأنه الصادر عن الجواهر وهو الذي يدرك بالعقل، والحقيقة ما ذكره عليه الصلاة والسلام في الحديث.
ولهذا نظائر كثيرة بين المتكلمين وآثار النبوة، ويقع الجمع بينهما على الأسلوب الذي قررناه وما أشبهه، ثم مثل بمجيء الموت في هيئة كبش أملح، ثم بالأذكار والتلاوة، ثم قال: لأن ما ظهر منها هنا معان، وتوجد يوم القيامة جواهر محسوسات؛ لأنها توزن، ولا يوزن في الميزان إلا جواهر.
قال: وفي ذلك دليل لأهل الصوفية وأصحاب المعاملات والتحقيق القائلين بأنهم يرون قلوبهم وقلوب إخوانهم، وإيمانهم وإيمان إخوانهم بأعين بصائرهم جواهر
__________
إلى هذه الحقيقة التي أخبر بها عليه السلام، فيكون الجمع بينهما أن يقال ما قاله المتكلمون حق؛ لأنه الصادر عن الجواهر، وهو الذي يدرك بالعقل والحقيقة ما ذكره عليه الصلاة والسلام في الحديث" المفيد، أنها جواهر محسوسات؛ لأنه شاهدها، والتمكلمون لم يشاهدوها، فوقفوا على ما أدركته عقولهم، "ولهذا نظائر كثيرة" واقعة "بين المتكلمين، و" ناشئة عن "آثار النبوة"، بأن تكلم بها الأنبياء، أو أخذت مما جاء عنهم، "ويقع الجمع بينهما على الأسلوب الذي قررناه وما أشبهه" فيحمل كل من الكلامين المتخالفين على وجه لا يخرج عن قواعد الشرع، "ثم مثل" ابن أبي جمرة للنظائر، "بمجيء الموت في هيئة"، أي: صورة "كبش أملح، ثم" مثل "بالأذكار والتلاوة، ثم قال: لأن ما ظهر منها هنا" في دار الدنيا "معان، وتوجد يوم القيامة جواهر محسوسات؛ لأنها توزن، ولا يوزن في الميزان إلا جواهر"، لاستحالة وزن المعاني، "قال: وفي ذلك دليل لأهل الصوفة"، واحدة الصوف، أي: القطعة منه، وهم السادة الصوفية، سموا بذلك للبسهم الصوف، أو لصفاء قلوبهم، أو لغير ذلك مما هو معلوم، "وأصحاب المعاملات"، وهي عند الطائفة توجه النفس الإنساني إلى باطنها الذي هو الروح الروحاني والسر الرباني، واستمدادها منهما ما يزل به الحجب عنها، فيحصل لها قبول المراد في إزالة كل حجاب، ومنازل هذه المعاملات عشرًا: الرعاية، والمراقبة، والحرمة، والإخلاص، والتهذيب، والاستقامة، والتوكل، والتفويض، والثقة، والتسليم، سميت هذه المنازل بالمعاملات؛ لأن العبد لا تصلح له المعاملة للحق حتى يتحقق بهذه المقامات، كما في اللطائف، وقول شيخنا: هم الذين يعاملون الله تعالى بالتمادي في(8/61)
محسوسات، فمنهم من يعاين إيمانه مثل المصباح، ومنهم من يعاينه مثل الشمعة، ومنهم من يعاينه مثل المشعل وهو أقواها. ويقولون: بأنه لا يكون المحقق محققًا، حتى يعاين قلبه بعين بصيرته، كما يعاين كفه بعين بصره فيعرف الزيادة فيه من النقصان.
فإن قلت: ما الحكمة في شق صدره الشريف ثم ملئه إيمانًا وحكمة، ولم لم يوجد الله تعالى ذلك فيه من غير أن يفعل به ما فعل؟
أجاب العارف ابن أبي جمرة: بأنه -صلى الله عليه وسلم- لما أعطي كثرة الإيمان وقوي
__________
الطاعات، واجتناب المنهيات، سمي ذلك معاملة أخذًا من قوله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} [البقرة: 245] .
قال البيضاوي: إقراضه مثل لتقديم العمل الذي يطلب ثوابه، أي: إقراضصا حسنًا مقرونًا بالإخلاص وطيب النفس، أو مقرضًا حلالًا طيبًا، وقيل: القرض الحسن المجاهدة والإنفاق في سبيل الله، صحيح في نفسه، لكنه غير ما يعنيه الصوفية، وإن رجع إلى بعض ما قالوا.
"والتحقيق القائلين بأنهم يرون قلوبهم وقلوب إخوانهم، وإيمانهم وإيمان إخوانهم بأعين بصائرهم": جمع بصيرة، وهي قوة للقلب المنور بنور القدس، يرى بها حقائق الأشياء، وبواطنها بمثابة البصر للعين، يرى به صور الأشياء وظاهرها قاله ابن الكمال.
"جواهر محسوسات، فمنهم من يعاين إيمانه مثل المصباح"، أي السراج، أي: الفتيلة الموقودة، "ومنهم من يعانيه مثل الشمعة" واحدة الشمع بفتح الميم وتسكن تخفيفًا، وقيل: الفتح، لغة العرب والسكون لغة المولدين، "ومنهم من يعاينه مثل المشعل"، كمقعد القنديل، كما في القاموس، والمراد هنا معناه العرفي، وهو الشعلة العظيمة، وإلا ساوى المصباح، ونافى قوله: "وهو أقواها"، أي: أكثر من ضوء المصباح والشمعة.
"ويقولون: بأنه لا يكون المحقق محققًا حتى يعاين قلبه بعين بصيرته" قلبه، فله عين، كما أن للجسد عينًا، "ما يعاين كفه بعين بصره، فيعرف الزيادة من النقصان"، وحينئذ يكون محققًا.
"فإن قلت: ما الحكمة في شق صدره الشريف، ثم ملئه"؟ بكسر الميم وسكون اللام، من عطف الاسم على الاسم، هكذا في نسخة صحيحة، وهي ظاهرة.
وفي نسخة: ثم ملئ وينبغي تأويله بالمصدر ليحصل التناسب بين المتعاطفين "إيمانًا وحكمة، ولم لم يوجد الله تعالى ذلك" المذكور من الإيمان والحكمة "فيه"، أي: القلب،(8/62)
التصديق إذ ذاك، أعطي برؤية شق البطن والقلب عدم الخوف في جميع العادات الجارية بالهلاك، فحصلت له عليه السلام قوة الإيمان، من ثلاثة أوجه: بقوة
التصديق، والمشاهد، وعدم الخوف من العادات المهلكات فكمل له عليه الصلاة والسلام بذلك ما أريد منه من قوة الإيمان بالله عز وجل، وعدم الخفو مما سواه.
ولأجل ما أعطيه مما أشرنا إليه كان عليه السلام في العالمين أشجعهم، وأثبتهم وأعلاهم حالًا ومقالًا.
ففي العلوى: كان -كما أخبر عليه السلام- أن جبريل لما وصل إلى مقامه قال: ها أنت وربك، وهذا مقامي لا أتعداه، فزج به في النور زجة، ولم يتوان ولم
__________
"من غير أن يفعل به ما فعل" من الشق قلت: "أجاف العارف ابن أبي جمرة: بأنه عليه السلام ولما أعطى كثرة الإيمان" أي: خصاله وشعبه، أو الأسباب المحصلة لكماله، فلا يرد أن الإيمان هو التصديق، هو شيء واحد لا تعدد فيه ولا تكثر، وإنما التكثر في متعلقاته من صلاة وصوم ونحوهما.
"وقوي" بضم القاف أولى من فتحها، لاحتياجه لتقدير قوي "التصديق" منه بذلك، لكل ما ورد عليه من قبل الله، "إذ ذاك" ليس هذا من الإضافة إلى المفرد، بل إلى الجملة الإسمية أو الفعلية، والتقدير إذا ذاك، كذلك، أو إذ كان ذاك كذلك "أعطي برؤية شق البطن والقلب عدم الخوف في جميع العادات الجارية بالهلاك، فحصلت له عليه السلام قوة الإيمان من ثلاثة أوجه، بقوة التصديق"،: أي: الحاصلة بزيادة الإيمان، والحكمة، "وبالمشاهدة" لشق الصدر وغسل القلب، "وعدم الخوف" المترتب على عدم حصول أذى له بعد فعل ما يهلك به عادة "من العادات"، أي: مما تجري به العادات "المهلكات": جمع عادة، وتجمع أيضًا على عادة وعوائذ، وجعل المشاهدة وعدم الخوف من قوة الإيمان بناء على أنه يزيد وينقص، فلا يرد أنهما خارجان عن التصديق الذي هو مسمى الإيمان، "فكمل له عله الصلاة والسلام بذلك ما أريد منه من قوة الإيمان بالله عز وجل وعدم الخوف، مما سواه، ولأجل ما أعطيه مما أشرنا إليه، كان عليه السلام في العالمين أشجعهم وأثبتهم وأعلاهم حالًا ومقالًا"، أي: قولًا مصدر، قال كقولًا ومقالة، "ففي" أي: فرفعة حاله وشأنه في العالم "العلوي": بضم العين وكسرها مع سكون اللام، المكان المرتفع من نسبة الكلي، وهو المكان العالي من حيث هو إلى جزئية، وهو ما وصل إليه تلك الليلة، فإنه جزئي، من جزئيات مطلق المكان.
"كان كما أخبر عليه السلام أن جبريل لما وصل إلى مقامه"، أي: جبريل المشار إليه(8/63)
يلتفت، فكان هناك في الحضرة كما أخبر عنه ربه عز وجل بقول: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} [النجم: 17] .
وأما حاله عليه السلام في هذا العالم: فكان إذا حمي الوطيس في الحرب ركض بغلته في نحر العدو، وهم شاكون في سلاحهم، ويقول: "أنا النبي لا كذب".
ثم إن في العناية بتطهير قلبه المقدس، وإفراغ الإيمان والحكمة، فيه إشارة إلى مذهب أهل السنة في أن محل العقل ونحوه من أسباب الإدراكات كالنظر أو
__________
بقوله: "وما منا إلا له مقام معلوم، وهو سدرة" المنتهى التي لم يتجاوزها أحد إلا نبينا، -صلى الله عليه وسلم-، قاله النووي، "قال: ها أنت وربك وهذا مقامي" بفتح الميم، أي: موضعي، "لا أتعداه، فزج به في النور زجة، ولم يتوان، ولم يلتفت"، أي: ألقى نفسه بلا توقف لما عنده من الثبات وقوة القلب، "فكان هناك في الحضرة، كما أخبر عنه ربه عز وجل بقوله: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ} "، ما مال بصره -صلى اله عليه وسلم- عما رآه، " {وَمَا طَغَى} [النجم: 17] الآية، ما تجاوزه، بل أثبته إثباتا صحيحًا متيقنا، أو ما عدل عن رؤية العجائب التي أمر برؤيتها، وما جاوزها، وما أحسن اختصار الحافظ لهذا كله بقوله في الفتح.
قال ابن أبي جمرة: الحكمة في شق بطنه مع القدرة على أن يمتلئ قلبه إيمانًا وحكمة بغير شق، الزيادة في قوة اليقين؛ لأنه أعطى بشق بطنه وعدم تأثره بذلك، م أمن معه من جميع المخاوف العادية، فلذا كان أشجع الناس وأعلاهم حالًا ومقالًا، ولذلك وصف بقوله تعالى: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} [النجم: 17] الآية.
"وأما حاله عليه السلام في هذ العالم: فكان إذا حمي الوطيس" التنور، أي: اشتد الحرب كما فسر به حديث: "الآن حمي الوطيس"، فالأولى إسقاط قوله: "في الحرب" اللهم إلا أن يجرد عن معناه، بأن يقال: المعنى إذا اشتد الأمر "ركض بغلته"، أي: ضربها لتعدو "في نحر العدو"، أي: صدورهم فلا يهاب أحدًا منهم، ولا يمنعه من ذلك كثرتهم ولا شدتهم في الحرب، "وهم شاكون" أي: داخلون "في سلاحهم" دروعًا وغيرها، فهي محيطة بكل بدنهم، وفيه مسامحة، إذ لا يتأتى أن تكون الأسلحة لهم غير الدروع ظروفًا، فالظرفية اعتبارية فيه كما في جذوع النخل بالغ في جعل السلاح ظرفًا لهم، كأنهم لشدة تمكنهم منها واستيلائهم عليها مظروفون فيها.
"ويقول: "أنا النبي لا كذب": لأن صفة النبوة يستحيل معها الكذب، فكأنه قال: أنا النبي، والنبي لا يكذب، فلست بكاذب، أنا ابن عبد المطلب، فركوبه البلغة مزيد ثبات؛ لأنها(8/64)
الفكر إنما هو القلب لا الدماغ، خلافًا للمعتزلة والفلاسفة.
وأما الحكمة في غسل قلبه المقدس عليه الصلاة والسلام بماء زمزم، فقيل: لأنه ماء زمزم يقوي القلب ويسكن الروع، قال الحافظ الزين العراقي: ولذلك غسل به قلبه عليه الصلاة والسلام ليلة الإسراء ليقوى على رؤية الملكوت، واستدل شيخ الإسلام السراج البلقيني، بغسل قلبه الشريف به على أنه أفضل من ماء الكوثر.
__________
ليست من مراكب الحرب، بل الأمن، فالحرب عنده كالسلم، وكذا إشهار نفسه مبالغة في الشجاعة وعدم المبالاة بالعدو، ومر بسط هذا في حنين ثم إن في العناية"، أي: الاهتمام "بتطهير قلبه المقدس، وإفراغ الإيمان والحكمة فيه إشارة إلى مذهب أهل السنة، في أن محل العقل ونحوه من أسباب الإدراكات كالنظر أو الفكر، إنما هو القلب لا الدماغ، خلافًا للمعتزلة والفلاسفة" وبعض أهل السنة كالحنفية، وعبد الملك بن الماجشون من المالكية، لكن مذهب الأكثرين ظاهر على إثبات القوى الباطنية، ولم يقولوا بها، فوصفها بأن لها محلًا تسمح، والمراد أنه جعل للقلب حالة يدرك بها الأمور المعقولة، وفي قوله: من أسباب الإدراك إشعار بأن المدرك هو العقل، وما عداه طريق لإدراكه، وفي العقل تعاريف نقل المجد منا جملة، وقد نقل كلامه المصنف في الفصل الثاني من المقصد الثالث.
"وأما الحكمة في غسل قلبه المقدس عليه الصلة والسلام"، كما مر في رواية البخاري: ففرج صدري ثم غسله "بماء زمزم فقيل: لأن ماء زمزم يقوي القلب ويسكن الروع" بالفتح، الفزع.
"قال الحافظ الزين العراقي: ولذلك غسل به قلبه عليه الصلاة والسلام ليلة الإسراء، ليقوى على رؤية الملكوت": باطن الملك.
وقال ابن أبي جمة: إنما لم يغسل بماء الجنة، لما اجتمع في زمزم من كون أصل مائها من الجنة، ثم استقر في الأرض، فأريد بذلك بقاء بركة النبي -صلى الله عليه وسلم- في الأرض.
وقال السهيلي: لما كانت زمزم حفرة جبريل روح القدس لأم إسماعيل جد النبي -صلى الله عليه وسلم- ناسب أن يغسل عند دخوله حضرة القدس لمناجاته.
وقال غيره: لما كان ماء زمزم أصل حياة أبيه إسماعيل، وقد ربي عليها ونما قلبه وجسده وصار هو صاحبه وصاحب البلدة المباركة، ناسب أن يكون ولده الصادق المصدوق، كذلك ولما فيه من الإشارة إلى اختصاصه بذلك بعد وفاته، فإنه قد صارت الولاية إليه في الفتح، فجعل السقاية للعباس وولده، وحجابة البيت لعثمان بن شيبة، وعقبه إلى يوم القيامة.
"واستدل شيخ الإسلام السراج البلقيني بغسل قلبه الشريف به"، بماء زمزم، "على أنه(8/65)
قال: لأنه لم يغسل قلبه المكرم إلا بأفضل المياه، وإليه يومئ قول العارف ابن أبي جمرة في كتابه "بهجة النفوس".
__________
أفضل من ماء الكوثر، قال: لأنه لم يغسل قلبه المكرم إلا بأفضل المياه"، وتوقف السيوطي فيه بأن كونه لا يغسل إلا بأفضل المياه مسلم، ولكن بأفضل مياه الدنيا، إذ الكوثر من متعلقات دار البقاء، فلا يستعمل في دار الفناء، ولا يشكل بكون الطست الذي غسل منه صدره -صلى الله عليه وسلم- من الجنة؛ لأن استعمال هذا ليس فيه ذهاب عين بخلاف ذاك.
وأجاب في الإيعاب، بأنه إذا سلم أنه لا يغسل إلا بأفضل المياه لزمه تسليم قول البلقيني، وتخصيصه بأفضل مياه الدنيا، لما ذكره لا دليل عليه، وكون ماء الكوثر من الجنة لا يقضي عدم الغسل به؛ لأن المناسب لحاله -صلى الله عليه وسلم- أن يستعمل له الأفضل مطلقًا لا بالنسبة لدار الدنيا، إذ لا أصل في الأفضل على الإطلاق أن لا يستعمل له إلا الأفضل، كذلك والفرق بينه وبين الطست بما ذكره لا تأثير له؛ لأن ذلك الوقت وقت إظهار كرامته وخرق العادة له وإلا لحرم استعمال الذهب، فلما جاز علمنا أن القصد به خرق العادة لمزيد إظهار الكرامة، وهذا مقتضى استعمال الذهب، فلما جاز علمنا أن القصد به خرق العادة لمزيد إظهار الكرامة، وهذا مقتضى لاستعمال ماء الكوثر، لو كان أفضل، فلما نزل إلى ماء زمزم اقتضى ذلك بقرينة المقام أنه أفضل منه.
قال: وبهذا يرد على من نازع البلقيني أيضًا، يعني السيوطي، بخبر لقاب قوس أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها، وأجاب عن الغسل به دون مائها؛ بأنه قد ألفه ونشأ عليه كجده إسماعيل، إذ هو أول ماء نبع بمكة لأجله، ووجه رد أن الخبر مخصوص والألفة لا تقتضي ما ذكر، سيما في مقام إظهار شرفه.
ونازعه أيضًا بأن الحكمة الغسل به، قول الزين العراقي: إنه يقوى به على رؤية الملكوت؛ لأن من خواصه أنه يقوي القلب، ويسكن الروع، فإذا ثبت هذا لم يكن في الغسل به دلالة على أفضليته؛ لأن سلب هذا المعنى عن ماء الكوثر لا يقتضي أن ماء زمزم أفضل منه؛ لأن سبب انتفائه عنه أنه من مياه الجنة وهي لا روع فيها حتى يحتاج لسلبه، فسلبه عنده لعدم المحل القابل، لا لعجز الفاعل، وبأن الكوثر مما من الله به على نبيه، وأنزل فيه القرآن وزمزم من عطاء إسماعيل، ولم ينزل فيها ما نزل من القرآن فيه، ومن خصوصياته أن من شرب منه شربة لا يظمأ بعدها أبدًا، وغير ذلك انتهى.
ووجه رده أن ما ذكر من الحكمة لم يثبت على أنه يكفي في تقوية قلبه، وتسكين روعه، ما وقع له من تكرر شق الصدر المنبئ عن بلوغه في قولة القلب، وسكون الروع إلى الغاية القصوى، فلا يحتاج لشيء آخر، وعلى التنزل، فكونه غسل به لأجل ذلك لا يقتضي أنه غسل به لذلك، بل يحتمل أنه لذلك، ولإظهار شرفه، فالأمران يحتمل أنهما مقصودان، فما الليل على(8/66)
وأما قوله عليه الصلاة والسلام: $"فغسل صدري" فالظاهر أن المراد به القلب كما في الرواية الأخرى، وقد يحتمل أن تحمل كل رواية على ظاهرها، ويقع الجمع بأن يقال: أخبر عليه الصلاة والسلام مرة بغسل صدره الشريف ولم يتعرض لذكر قلبه، وأخبر مرة أخرى بغسل قلبه ولم يتعرض لذكر صدره، فيكون الغسل قد حصل فيهما معًا مبالغة في تنظيف المحل المقدس، ولا شك أن المحل الشريف كان طاهر مطهرًا، وقابلًا لجميع ما يلقى إليه من الخير، وقد غسل أولًا
وهو عليه السلام طفل، وأخرج من قلبه نزغة الشيطان، وإنما كان ذلك إعظامًا وتأهبا لما يلقى هناك، وقد جرت الحكمة بذلك في غير موضع مثل الوضوء للصلاة لمن كان متنظفًا؛ لأن الوضوء في حقه إنما هو إعظام، وتأهب للوقوف بين يدي الله تعالى ومناجاته، فكذلك
__________
قصره على أحدهما، وكون الكوثر مما من الله به على نبينا بخلاف زمزم لا يكون صريحًا في الأفضلية، وما ذكر فيه من الخصوصية ورد في زمزم أعظم منه، وهو أن من شرب منها للأمن من العطش يوم القيامة أعطيه، كما يصرح به الحديث الصحيح، خلافًا لمن نازع فيه ماء زمزم لما شرب له، وقول ابن الرفعة والماء النابع من بين أصابعه -صلى الله عليه وسلم- أشرف المياه، لا يرد على البلقيني؛ لأن قوله إلا بأفضل المياه، أي: الموجودة إذ ذاك، والنابع لم يكن موجودًا إذ ذاك، ولا يرد على ابن الرفعة الحديث الصحيح خير ماء على وجه الأرض ماء زمزم؛ لأن ما نبع من أصابعه لم يكن موجودًا عند قوله ذلك انتهى.
"وإليه يومئ قول العارف ابن أبي جمرة في كتابه بهجة النفوس"، اسم شرحه على الأحاديث التي انتخبها من البخاري.
"وأما قوله عليه الصلاة والسلام: $"فغسل صدري" فالظاهر أن المراد به القلب، كما في الرواية الأخرى" في البخاري عن مالك بن صعصعة: فغسل قلبي، وفي رواية مسلم: فاستخرج قلبي فغسل بماء زمزم، "وقد يحتمل أن تحمل كل رواية على ظاهرها، ويقع"، أي: يحصل، "الجمع" بينهما، "بأن يقال: أخبر عليه الصلاة والسلام مرة بغسل صدره الشريف، ولم يتعرض لذلك قلبه، وأخبر مرة أخرى بغسل قلبه، ولم يتعرض لذكر صدره، فيكون الغسل قد حصل فيهما" مرة لقلبه بعد إخراجه، ومرة لصدره بعد شقه، "معًا مبالغة في تنظيف المحل المقدس، ولا شك أن المحل الشريف كان طاهرًا مطهرًا، وقابلًا لجميع ما يلقى إليه من الخير"، ومنه الإيمان والحكمة، "وقد غسل أولًا وهو عليه السلام طفل، وأخرج من قلبه نزغة الشيطان، وإنما كان ذلك إعظامًا وتأهبًا لما يلقى هناك" لا لإزالة أمر مستقذر فيه لكمال خلقه، والعلقة التي أخرجت منه لم يكن للشيطان عليها لو لم تخرج سبيل، وإنما قصد(8/67)
غسل جوفه الشريف هنا، وقد قال الله تعالى: {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32] ، فكان الغسل له عليه السلام من تعظيم شعائر الله، وإشارة لأمته بالفعل بتعظيم شعائر الله، كما نص عليه بالقول.
وأما قوله: " ثم أتيت بدابة دون البغل وفوق الحمار أبيض، يضع خطوه عند أقصى طرفه فحملت عليه، فانطلق بي جبريل حتى أتى السماء الدنيا"، وفي رواية عنده في الصلاة ثم أخذ بيدي فعرج بي إلى السماء.
فظاهره: أنه استمر على البراق حتى عرج إلى السماء.
قال العارف ابن أبي جمرة: أفاد ذلك أنهم كانوا يمشون في الهواء، وقد
__________
بإخراجها المبالغة في إظهار تعظيمه، وتكميله من بين أفراد أنواعه.
"وقد جرت الحكمة بذلك في غير موضع"، وفي نسخة بزيادة ما للتأكيد، "مثل الوضوء للصلاة لمن كان متنظفًا"، ولو نظافة حسية، بأن غسل بدنه، وبالغ في تنظيفه، ولم يأت بأفعال الوضوء على الوجه المعتبر فيه شرعًا؛ "لأن الوضوء" الشرعي "في حقه، إنما هو إعظام وتأهب للوقوف بين يدي الله تعالى ومناجاته"؛ لأن المصلي يناجي ربه، والقصد بالوضوء إعظامه، إذ ليس ثم دنس محسوس يزيله الوضوء، ولا ينافي هذا قول الفقهاء أن الحدث أمر اعتباري يقوم بالأعظاء يمنع صحة الصلاة حيث لا مرخص لجواز أنهم أرادوا بالاعتباري معنى أراده الشارع منافيًا لكمال التعيظم مع خلو الأعضاء من الدنس الحسي، "فكذلك غس جوفه الشريف هنا" ليس لعدم القابل، بل للإعظام والتأهب للمناجاة.
"وقد قال الله تعالى: {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32] "، أي: فإن تعظيمها منه من أفعال ذوي تقوى القلوب، فحذفت هذه المضافات والعائد إلى من، وذكر القلوب؛ لأنها منشأ التقوى والفجور والآمرة بهما، قاله البيضاوي.
"فكان الغسل له عليه السلام من تعظيم شعائر الله وإشارة لأمته بالفعل"، من الملك معه بتعظيم شعائر الله كما نصل عليه بالقول" في الآية المذكورة.
"وأما قوله: "ثم أتيت بدابة دون البلغ وفوق الحمار أبيض"، ذكر باعتبار أنه مركوب أو نظر اللفظ البراق: "يضع خطوه عند أقصى طرفه" براء ساكنة وفاء، أي: نظره، "فحملت عليه، فانطلق بي جبريل حتى أتى السماء الدنيا".
"وفي رواية عنده": أي: البخاري "في الصلاة، "ثم أخذ بيدي فعرج بي السماء، فظاهره أنه استمر على البراق حتى عرج إلى السماء"، وهذا الظاهر ليس بمراد لما ثبت أنه ربط البراق ببيت المقدس، ورقي السماء على المعراج كما يأتي بيانه، ومشى على ظاهره ابن(8/68)
جرت العادة بأن البشر لا يمشي في الهواء، سيما وكان راكبًا على دابة من ذوات الأربع، لكن لما أن شاءت القدرة ذلك كان، فكما بسط تعهالى لهم الأرض يمشون عليها، كذلك يمشيهم في الهواء، كل ذلك بيد قدرته، لا ترتبط قدرته تعالى بعادة جارية، وقد سئل عليه السلام حين أخبر عن الأشقياء الذين يمشون على وجوههم يوم القيامة كيف يمشون فقال عليه السلام: "الذي أمشاهم في الدنيا على أقدامهم قادر أن يمشيهم يوم القيامة على وجوههم". انتهى.
وقد استدل بعضهم بهذا الحديث على أن المعراج كان في ليلة غير ليلة الإسراء إلى بيت المقدس، لكون الإسراء إليه لم يذكر هنا.
فأما المعراج ففي غير هذه الرواية من الأخبار أنه لم يكن على البراق، بل رقي في المعراج وهو السلم، كما وقع التصريح به في حديث عن ابن إسحاق
__________
أبي جمرة في قوله، والقدرة كانت صالحة؛ لأن يصعد بنفسه من غير براق، لكن ركوب البراق كان زيادة في تشريفه؛ لأنه لو صعد بنفسه كان في صورة ماش، والراكب أعز من الماشي.
"قال العارف ابن أبي جمرة" عقب هذا: "أفاد ذلك أنهم كانوا يمشون في الهواء، وقد جرت العادة بأن البشر لا يمشي في الهواء، سيما وكان راكبًا على دابة من ذوات الأربع"، يعني البراق، "لكن لما أن شاءت القدرة ذلك كان"، أي: شاء ذو القدرة، ففيه مضاف، أو مصدر، بمعنى اسم الفاعل، أي القادر، وأنث الفعل نظرًا للفظ، فلا يرد أن القدرة صفة لا تنسب لها المشيئة، وإنما تنسب لله تعالى، "فكما بسط تعالى لهم الأرض يمشون عليها، كذلك يمشيهم في الهواء، كل ذلك بيد قدرته، لا ترتبط قدرته تعالى بعادة جارية"، أي: لا يتوقف تأثيرها على موافقة عادة، بل تؤثر في كل ممكن أراد تأثيرها فيه وإن خالف العاد.
"وقد سئل عليه السلام حين أخبر عن الأشقياء" الكفار، "الذين يمشون على وجوههم يوم القيامة، كيف يمشون؟ فقال عليه السلام": "إن الذي أمشاهم في الدنيا على أقدامهم" في رواية: "على أرجلهم"، "قادر على أن يمشيهم يوم القيامة على وجوههم"، والحديث في الصحيحين عن أنس. "انتهى" كلام ابن أبي جمرة.
"وقد استدل بعضهم بهذا الحديث على أن المعراج، كان في ليلة غير ليلة الإسراء إلى بيت المقدس، لكون الإسراء إليه لم يذكر هنا"، إذ ظاهر قوله: فانطلق بي جبريل حتى أتى السماء الدنيا، أنه استمر سائرًا به إليها، ثم إلى حيث شاء الله، ولم ينزل بيت المقدس، "فأما المعراج ففي غير هذه الرواية من الأخبار" ما يدل على "أنه لم يكن على البراق، بل(8/69)
والبيهقي في الدلائل كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
ويموكن أن يقال: ما وقع هنا اختصار من الراوي، والإتيان بـ"ثم" المقتضية للتراخي لا ينافي وقوع الإسراء بين الأمرين المذكورين، وهما: الانطلاق والعروج.
وحاصله: أن بعض الرواة ذكر ما لم يذكره الآخر، وثابت البناني قد حفظ الحديث، ففي روايته عند مسلم: أنه أتى بيت المقدس فصلى به ثم عرج إلى السماء كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
وقد قيل: إن الحكمة في الإسراء به راكبًا، مع القدرة على طي الأرض له، إشارة إلى أن ذلك وقع تأنيسًا له بالعادة، في مقام خرق العادة؛ لأن العادة جرت أن الملك إذا استدعى من يختص به بعث إليه بمركوب سني يحمله عليه في
__________
رقي في المعراج، وهو المسلم كما وقع التصريح به في حديث عند ابن إسحاق، والبيهقي في الدلائل" النبوية، من حديث أبي سعيد "كما سيأتي إن شاء الله تعالى" قريبًا "ويمكن أن يقال" في الجمع "ما" الذي "وقع هنا اختصار من الراوي"، فيرد ما هنا إلى تلك الرواية، كأن يقال قوله: "حتى أتى السماء الدنيا"، ذكر غاية ما وصل به جبريل، ولم ينظر لتفاصيل، ما دون ذلك، "والإتيان بثم المقتضية للتراخي لا ينافي وقوع الإسراء بين الأمرين المذكورين، وهما الانطلاق" المذكور في قوله: "فانطلق بي جبريل"، "والعروج" المذكور بقوله: "حتى أتى السماء"، وفي نسخة: الإطباق "بكسر الهمزة فطاء ساكنة فموحدة ثم قاف"، أي: إطباق صدره كما كان، وفيه تعسف، "وحاصله"، أي: هذا الجمع "أن بعض الرواية ذكر ما لم يذكره الآخر".
وقال النعماني: ما المانع من أنه -صلى الله عليه وسلم- رقي المعراج فوق ظهر البراق لظاهر الحديث ... انتهى، والمانع موجود، وهو أحاديث ربطه البراق بالحلقة كما يأتي.
"وثاب البناني" "بضم الموحدة وبالنون"، "قد حفظ الحديث، ففي روايته عند مسلم" عن أنس، "أنه أتى إلى بيت المقدس، فصلى به، ثم عرج إلى السماء، كما سيأتي إن شاء الله تعالى"، ومن قواعد المحدثين تقديم رواية من حفظ القصة وفصلها، فيرد إليه رواية من أجمل أو نقص فيها.
"وقد قيل: إن الحكمة في الإسراء به راكبًا مع القدرة على طي الارض له إشارة إلى أن ذلك وقع تأنيسا له بالعادة"، حيث أسرى به راكبًا مع إمكان إيصاله بلا ركوب، بل لو أراد حضوره بغير شيء كان "في مقام العادة"، حيث قطع تلك المسافات الكثيرة ذهابًا وإيابًا في أقل زمن؛ "لأن العادة جرت أن الملك إذا استدعى"، أي: طلب من يختص به بعث إليه(8/70)
وفادته إليه.
وفي كلام بعض أهل الإشارات: لما كان -صلى الله عليه وسلم- ثمرة شجرة الكون، ودرة صدقة الوجود، وسر معنى كلمة "كن" ولم يكن بد من عرض هذه الثمرة بين يدي مثمرها رفعها إلى حضرة قدسه، والطواف بها على ندمان حضرته، أرسل إليه أعزل خدام الملك عليه، فلما ورد عليه قادمًا، وافاه على فراشه نائمًا، فقال له: "قم يا نائم، فقد هيئت لك الغنائم، قال: "يا جبريل إلى أين"؟ قال: يا محمد ارفع "الأين" من البين، إنما أنا رسول للقدم أرسلت إليك لأكون من جملة الخدم، يا محمد أنت مراد الإرادة، الكل مراد لأجلك، وأنت مراد لأجله، أنت صفوة كأس المحبة،
__________
بمركوب سني"، أي: شريف، "يحمله عليه في وفادته إليه"، فعامله بذلك تأنيسًا وتعظيمًا.
"وفي كلام بعض أهل الإشارات"، أي: محقق الصوفية، "لما كان -صلى الله عليه وسلم- ثمرة شجرة الكون"، يعنون بالشجرة في اصطلاحهم الإنسان الكامل المشار إليه في آية النور، وهو الشجرة المباركة الزيتونة، التي لا شرقية ولا غربية، لاعتدالها بين طرفي الإفراط والتفريط في الأقوال والأحوال، "ودرة صدقة الوجود وسر معنى كلمة كن" السر، يعني به حصة كل موجود من الحق بالتوجه الإيجادي المنبه عليه، بقوله تعالى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل: 40] ، فقولهم: لا يحب الحق إلا الحق، ولا يطلب الحق إلا الحق، ولا يعلم الحق إلا الحق؛ إنما أشاروا بذلك إلى السر المصحب من الحق للخلق على الوجه الذي عرفت، فإنه هو الطالب للحق، والمحبب له، والعالم به، كذا في الأعلام بإشارات أهل الإلهام، "ولم يكن بد" فراق ومحالة، "من عرض هذه الثمرة بين يدي مثمرها، رفعها إلى حضرة قدسه والطواف": الدوران "بها على ندمان حضرته، أرسل إليه" جبريل، "أعز خدام الملك" "بكسر اللام" سبحانه "عليه، فلما ورد عليه قادمًا وافاه على فراشه نائمًا، فقال": بلسان الحال، "قم يا نائم، فقد هيئت لك الغنائم": جمع غنيمة، "فقال" بلسان حاله: "يا جبريل إلى أين؟، فقال: يا محمد ارفع الأين من البين، إنما أنا رسول للقدم"، أي: لذي القدم، وهو الحق تعالى، "أرسلت إليك لأكون من جملة الخدم، يا محمد أنت مراد الإرادة" المراد عبارة عن المجذوب عن إرادته مع تهيؤ الأمور له، فجاوز الرسوم كلها، والمقامات من غير مكابدة وهزاهز، وهذا مراد شيخ الإسلام أبي إسماعيل الأنصاري بقوله: المراد هو المختطف من وادي التفرق إلى ربوة الجمع، وهذا هو الإنسان الذي اجتباه الحق واستخلصه "الكل"، أي: كل المخلوقات "مراد لأجلك" كما قال تعالى لآدم: لولا محمد ما خلقتك، رواه الحاكم مرفوعًا.(8/71)
أنت درة هذه الصدفة، أنت شمس المعرف، أنت بدر اللطائف، ما مهدت الدار إلا لأجلك، ما حمي ذلك الحمى إلا لوصلك، وما روق كأس المحبة إلا لشربك.
فقال عليه السلام: "يا جبريل فالكريم يدعوني إليه، فما الذي يفعل"؟ قال: ليغفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، قال: يا جبريل هذا لي، فما لعيالي وأطفالي؟ قال: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى: 6] ، قال: الآن طاب قلبي ها أنا
__________
وروى أبو الشيخ والحاكم، وصححه عن ابن عباس: "أوحى الله إلى عيسى؛ آمن بمحمد ومر أمتك أن يؤمنوا به، فلولا محمد ما خلقت آدم ولا الجنة ولا النار"، وذكر ابن سبع وغيره عن علي: أن الله قال لنبيه: من أجلك أسطح البطحاء، وأموج الموج، وأرفع السماء، وأجعل الثواب والعقاب، "وأنت مراد لأجله، أنت صفوة كأس المحبة، أنت درة هذه الصدفة، أنت شمس المعارف"، هي في اصطلاح القوم عبارة عن إحاطة العبد بعينه، وإدراك ما له وعليه، كما قال الإمام الجنيد: أن تعرف ما لك وما له، "أنت بدر اللطائف": جمع لطيفة، وهي كل إشارة دقيقة المعنى، تلوحك في الفهم لا تسعها العبارة، "ما مهدت الدار إلا لأجلك، ما حمى ذلك الحمى إلا لوصلك، ما روق كأس المحبة إلا لشريك"، فسر شيخ الإسلام الهروي في منازل السائرين المحبة؛ بأنها تعلق القلب بين الهمة والأنس في البذل والمنع، أي: بذل النفس للمحبوب، ومنع القلب من التعرض إلى ما سواه، وإنما يكون ذلك بإقرار المحب لمحبوبه بالتوجه إليه، والأعرض عما عداه، وذلك عندما ينسى أوصاف نفسه في ذكر محاسن حبه، فتذهب ملاحظته الثنوية، وإلى هذا المعنى أشار القائل: بقوله:
شاهدته وذهلت عني غيرة ... مني عليه فذا المثنى مفرد
وإنما كانت المحبة حالة بين الهمة والأنس، كما أشار إليه الشيخ؛ لأن المحب لما كان أشد الراغبين طلبًا صارت الهمة من جملة أوصافه، إذ المراد بالهمة شدة طلب القلب للحق، طلبًا خالصًا عن رغبة في ثواب، أو رهبة من عقاب، ولما كان الطلب بالهمة قد يعرى عن الأنس، ومن شرط المحب كونه مستأنسًا بمحاسن محبوبه مستغرقًا، وجب أن يكون المحب موصوفًا بالأنس، فلذا اكتفت المحبة بالهمة الأنس.
"فقال عليه السلام" بلسان الحال: "يا جبريل، فالكريم يدعوني إليه، فما الذي يفعل؟، قال: ليغفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر"، أي: يستر الذنب عنك، فلا تلابسه، "قال: يا جبريل هذا لي، فما لعيالي": أمتي "وأطفالي" أصحابه وآلي، "قال: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى: 6] الآية، فقال -صلى الله عليه وسلم: "إذن لا أرضى ووالاحد من أمتي في النار". روى البيهقي عن ابن عباس في هذ الآية قال: رضاه أن يدخل أمته كلهم الجنة.(8/72)
ذاهب إلى ربي، ثم قال جبريل: يا محمد إنما جيء بي إليك الليلة لأكون خادم دولتك، وحاجب حاشيتك، وحامل غاشيتك، وجيء بالمركوب إليك لإظهار كرامتك؛ لأن من عادة الملوك إذا استزاروا حبيبًا، أو استدعوا قريبًا وأرادوا ظهور كرامته واحترامه أرسلو أخص خدامهم وأعز قوامهم لنقل أقدامهم، فجئناك على رسم عادة الملوك وآداب السلوك، ومن اعتقد أنه يصل إليه بالخطا فقد وقع بالخطأ، ومن ظن أنه محجوب بالغطا فقد حرم العطا. انتهى.
والحكمة في كون البراق دابة دون البغل وفوق الحمار أبيض، ولم يكن
__________
وفي مسلم عن ابن عمر أنه -صلى الله عليه وسلم- تلا قول الله عن إبراهيم: {فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي} [إبراهيم: 36] الآية، وعن عيسى: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُك} [المائدة: 118] ، ثم رفع يديه فقال: "اللهم أمتي"، وبكى، فقال الله: يا جبريل، اذهب إلى محمد، فقل له: إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك "قال: "الآن طاب قلبي": لذ وزكا، "ها أنا ذاهب إلى ربي، ثم قال جبريل: يا محمد، إنما جيء بي إليك الليلة لأكون خادم دولتك وحاجب حاشيتك"، جانبك.
قال المصباح: حاشية الثوب: جانبه، والجمع الحواشي، وحاشية النسب كأنه مأخوذ منه، وهو الذي يكون على جانبه كالعم وابنه، "وحامل غاشيتك" بغين وشين معجمتين، اسم لشيء نفيس يحمل أمام الأكابر، ويمشي به بين يديهم عرفًا والغشاء في الأصل الغطاء وزنًا ومعنى، "وجيء بالمركوب إليك لإظهار كرامتك؛ لأن من عادة الملوك إذا استزاروا حبيبًا": طلبوا زيارته، "أو استدعوا قريبًا، وأرادوا ظهور كرامته واحترامه، أرسلوا أخص خدامهم، وأعز قوامهم لنقل أقدامهم"، أي: الذين أرسل إليهم، وجمعه حملًا على أن المراد بالحبيب الجنس الصادق بالواحد والمتعدد، "فجئناك على رسم عادة الملوك"، تأنيسًا بالعادة "وآداب السلوك"، وهو في اصطلاح الطائفة عبارة عن الترقي في مقامات القرب إلى حضرات الرب فعلًا وحالًا، وذلك بأن يتحد باطن الإنسان وظاهره فيما هو بصدده، مما يتكلفه من فنون المجاهدات، وما يقاسيه من مشاق المكابدات، بحيث لا يجد في نسفه حرجًا من ذلك، "ومن اعتقد أنه يصل إليه بالخطأ": بالضم، جمع خطوة، ما بين القدمين، "فقد وقع في الخطأ": بالفتح خلاف الصواب، "ومن ظن أنه محجوب بالغطاء" بغين معجمة، "فقد حرم العطاء انتهى".
"والحكمة في كون البراق"، الذي أعد له وتعلق علمه تعالى بأنه سيسري به عليه، "دابة دون البغل وفوق الحمار أبيض" أو فيه حذف، أي: الحكمة في المجيء له بالبراق(8/73)
على شكل الفرس، إشارة إلى أن الركوب كان في سلم وأمن لا في حرب وخوف، أو لإظهار المعجزة بوقوع الإسراء الشديد بدابة لا توصف بذلك في العادة، وذكره بقوله: أبيض، باعتبار كونه مركوبًا، أو عطفًا على لفظ البراق.
واختلف في تسميته بذلك، فقيل: من البريق، وقال القاضي عياض: لكونه ذا لونين، يقال: شاة برقاء، إذا كان في خلال صوفها الأبيض طاقات سود، وقيل: من البرق؛ لأنه وصف بسرعة السير، ويحتمل أن يكون مشتقًا.
ووصفه بأنه يضع خطوه عند أقصى طرفه -بسكون الراء وبالفاء- أي يضع رجله عند منتهى ما يرى بصره، وقال ابن المنير: يقطع ما انتهى إليه بصره في
__________
الموصوف بما ذكر، فلا يدر أنه ليس المراد بيان حكمة خلق البراق على هذه الصورة، فحق العبارة الحكمة في المجيء له بالبراق دون فرس مثلًا، "ولم يكن على شكل الفرس" التي هي أشرف الدواب المركوبة، "إشارة" خبر الحكمة، "إلى أن الركوب كان في سلم وأمن، لا في حرب وخوف"، فإن الحرب هي التي يعتد لها نحو الفرس، وصورة البراق لم يعهد عليه قتال البتة، "أو لإظهار المعجزة"، أي: المبالغة في إظهارها "بوقوع الإسراء الشديد بدابة لا توصف بذلك في العادة"، لكن البياض لا دخل له فغي الحكمتين، فلعل ذكره لبيان الواقع، أو لإظهار السرور؛ لأن البياض يختار عادة لإظهاره، "وذكره بقوله: أبيض باعتبار كونه مركوبًا أو عطفًا" لغويا، أي: ميلًا، يقال: عطفت على كذا، ملت له، "على لفظ البراق"، على بمعنى إلى، ولفظ الفتح أو بالنظر للفظ البراق.
"واختلف في" اشتقاق "تسميته بذلك" لقوله الآتي، ويحتمل أن لا يكون مشتقًا، "فقيل" مشتق "من البريق" اللمعان، أي: سمي بذلك للمعان بدنه لصفاء بياضه، "وقال القاضي عياض: لكونه ذا لونين، يقال: شاة برقاء، إذا كان في خلال صوفها الأبيض طاقات سود".
قال الحافظ: ولا ينافيه وصفه في الحديث بأنه أبيض؛ لأن البرقاء من الغنم معدودة في البيض. انتهى.
ولكن اعترض بأن هذا الوصف لم يثبت للبراق، وما يأتي أن صدره ياقوتة حمراء ضعيف.
"وقيل": مشتق "من البرق" ما يلمع من السحاب؛ "لأنه وصف بسرعة السير" فأشبه البرق في سيره، "ويحتمل أن لا يكون مشتقًا"، فلا يلاحظ في تسميته أخذه من مادة أصلًا، وإنما هو اسم له، "ووصفه بأنه يضع خطوه عند أقصى طرفه بسكون الراء وبالفاء" أي: نظره، "أي: يضع رجله"، بيان للمراد بخطوه، فليس المراد نفس المصدر "عند منتهى ما يرى بصره"،(8/74)
خطوة واحدة، قال: فعلى هذا يكون قطع من الأرض إلى السماء في خطوة واحدة؛ لأن بصر الذي في الأرض يقع على السماء، فبلغ أعلى السماوات في سبع خطوات. انتهى.
وفي حديث ابن مسعود عد أبي يعلى والبزار -كما أفاده في الفتح-: "إذا أتى على جبل ارتفعت رجلاه، وإذا هبط ارتفعت يداه".
وفي رواية لابن سعد عن الواقدي بأسانيده: "له جناحان"، قال الحافظ ابن حجر: ولم أرها لغيره.
__________
فالطرف بمعنى البصر، فقوله: أقصى طرفه، في المكن الذي هو غاية منتهى ما يصل إليه بصره.
"وقال ابن المنير: يقطع ما انتهى إليه بصره في خطوة واحدة، قال: فعلى هذا يكون قطع من الأرض إلى السماء في خطوة واحدة؛ لأن بصر الذي في الأرض يقع على السماء، فبلغ أعلى السموات في سبع خطوات"، أخبار عما وصف به في حالة عروجه؛ لأنه يرى كل سماء، وهو فيما دونها. "انتهى" كلام ابن المنير، وهو مبني على أنه عرج به على البراق أخذا بظاهر الحديث، والصحيح خلافه.
"وفي حديث ابن مسعود عند أبي يعلى والبزار، كما أفاده في التح ما لفظه: "إذا أتى"، بمعنى أقبل، "على جبل ارتفعت رجلاه، وإذا هبط ارتفعت يداه"، فلا مشقة على راكبه في صعود ولا هبوط.
"وفي رواية لابن سعد" محمد، "عن الواقدي" محمد بن عمر بن واقد، "بأسانيده: له جناحان".
"قال الحافظ ابن حجر: ولم أرها لغيره"، وهو عجب مع قول الشامي قوله: "له جناحان في فخذيه يحفز بهما"، رواه ابن إسحاق، وابن جرير، وابن المنذر عن الحسن البصري مرسلًا، ورواه ابن سعد من طريق الواقدي، وابن عساكر من حديث جماعة من الصحابة، ويحفز بفتح التحتية وسكون المهملة وكسر الفاء فزاي: يحث بهما رجليه على سرعة السير.
قال ابن الأثير: الحفز الحث والإعجال، ولعل سر كونهما في فخذيه لثقل مؤخر الدابة، أو؛ لأن ذلك جار على هذا الأمر في خرق العادة، أو؛ لأنهما لو كانا في جنبيه على العادة لكانا تحت فخذي الراكب، أو فوقهما، ويحصل له مشقة بضمهما ونشرهما خصوصًا مع السرعة العظيمة انتهى.(8/75)
وعند الثعلبي -بسند ضعيف- عن ابن عباس في صفة البراق: له خد كخد إنسان وعرف كعرف الفرس، وقوائم كالإبل، وأظلاف وذنب كالبقر، وكان صدره ياقوتة حمراء.
وفي رواية أبي سعد في "شرف المصطفى"، فكان الذي أمسك بركابه جبريل، وبزمام البراق ميكائيل.
وفي رواية معمر عن قتادة عن أنس: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم أتي بالبراق ليلة أسري به مسرجًا ملجمًا، فاستصعب عليه، فقال له جبريل: ما حملك على هذا، ما
__________
"وعند الثعلبي بسند ضعيف عن ابن عباس في صفة البراق له خد كخد إنسان، وعرف" "بضم المهملة وإسكان الراء وقد تضم وبالفاء" "كعرف الفرس"، وهو شعره النابت في محدب رقبته، "وقوائم كالإبل"، أي: كقوائمها، "وأظلاف": بمعجمة: جمع ظلف بالكسر، للبقرة والشاة بمنزلة القدم لنا، "وذنب كالبقر" عائد لهما، أي: لها أظلاف كالبقر وذنب كالبقر، "وكان صدره ياقوتة حمراء" تشبيه بليغ، أي: كياقوتة لا أن ذاته ياقوتة بالفعل، هذا إن قرئ كان بالفعل، فإن قرئ بالتشديد والهمز، فهو تشبيه حقيقي، لكن ظاهر السياق الأول.
"وفي رواية أبي سعد" هكذا في نسخة صحيحة بأداة الكنية وإسكان العين، واسمه عبد الرحمن بن الحسن الأصفهاني، النيسابوري، الحافظ المشهور، الثقة، المتوفى سنة سبع وثلاثمائة، وقد وصفه الذهي في تاريخه الحافظ، وأغفله من طبقات الحفاظ، والسهيلي يكنيه أبا سعيد بالياء، ورده مغلطاي بأنه إنما هو سعد بسكون العين، ويقع في نسخ ابن سعد، وهي خطأ لقوله: "في شرف المصطفى"، إذ هذا الكتاب إنما هو لأبي سعد عبد الرحمن، لا لابن سعد محمد، والذي في التفح وغيره أبي سعد، "فكان الذي أمسك بركابه جبريل، وبزمام": بكسر الزاي مقود "البراق ميكائيل"، ولا ينافي ذلك أن جبريل كان راكبًا معه كما يأتي؛ لأنه أمسك ركابه حتى ركب، فركب أمامه.
نعم يعارضه رواية: وجبريل عن يمينه وميكائيل عن يساره، رواه سعيد بن منصور والطبراني وابن مردويه، فإنه ظاهر في عدم الركوب، إلا أن يكون ذلك إخبارًا عن مبدأ سيره، ثم ركب جبريل قدامه رفقًا به، والعلم لله.
"وفي رواية معمر عن قتادة، عن أنس: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أتى بالبراق ليلة أسري به مسرجًا ملجمًا" حالان من البراق، "فاستصعب عليه"، أي: عسر وامتنع، "فقال له جبريل: ما حملك على هذا"؟، يعني أي: شيء أغراك بهذا، أي: ما منعك من الانقياد له، مع أنه أعظم من يستحق غاية التعيظم؛ لأنه "ما ركبك خلق"، أي: مخلوق، "أكرم على الله منه"، بل هو(8/76)
ركبك خلق أكرم على الله منه، قال: فارفض عرقًا، أخرجه الترمذي وقال: حسن غريب وصححه ابن حبان.
وذكر ابن إسحاق عن قتادة: أنه لما شمس وضع جبريل -عليه السلام- يده على معرفته وقال: أما تستحيي وذكر نحوه، لكنه مرسل؛ لأنه لم يذكر أنسا.
وفي رواية وثيمة عند ابن إسحاق: "نعست حتى لصقت بالأرض فاستويت عليها".
في رواية للنسائي وابن مردويه من طريق يزيد بن أبي مالك عن أنس نحوه موصولًا، وزاد: وكانت تسخر للأنبياء قبله، ونحوه في حديث أبي سعيد الخدري عند ابن إسحاق.
__________
أكرم من ركبك على مفاد النفي عرفًا، وإن صدق لغة بالمساواة، "قال: فارفض" سال وجرى، "عرقا" منصوب على التمييز من الفاعل، ولهذا ورد مخففًا، والمعنى خجل من الاستصعاب وعرق من خجل العتاب، قاله في الآيات الباهرة، "أخرجه الترمذي وقال: حسن غريب، وصححه ابن حبان" من حديث أنس، وأخرجه أبو داود، والطبراني والبيهقي، وصححه من حديث شداد بن أوس.
"وذكر ابن إسحاق" حيث قال: حدثت "عن قتادة؛ أنه لما شمس" بفتح المعجمة والميم فسين مهملة، أي: منع ظهره من ركوبه بامتناعه، "وضع جبريل عليه السلام يده على معرفته": بفتح فسكون ففتح موضع نبات العرف، أي: الشعر النابت على عنقه، "وقوال: أما تستحيي" وذكره نحوه"، فقال: "أما تستحيي يا براق مما تصنع، فوالله ما ركبكك عبد لله قبل محمد أكرم عليه منه، فاستحيا حتى ارفض عرقًا، ثم قر حتى ركبته"، "لكنه مرسل؛ لأنه لم يذكر أنسا"، إنما قال قتادة: حدثت عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: لما دنوت منه لأركبه شمس فذكره.
"وفي رواية وثيمة" بمثلثة وتحتية وميم "عند ابن إسحاق: نعست" الدابة، كذا في النسخ، وهو تصحيف فالذي في الفتح وغيره، فارتعشت "حتى لصقت بالأرض، فاستويت عليها".
"وفي رواية للنسائي وابن مردويه" بفتح الميم ويكسر، كما مر "من طريق يزيد" بتحتية فزاي، "ابن أبي مالك" عبد الرحمن الهمداني بالسكون، الدمشقي، القاضي، صدوق ربما وهم، مات سنة ثلاثين ومائة أو بعدها، روى له أبو داود والنسائي وابن ماجه "عن أنس نحوه موصولًا، وزاد وكانت تسخر للأنبيء قبله ونحوه في حديث أبي سعيد الخدري عند ابن إسحاق"(8/77)
وفيه دلالة على أن البراق كان معدًا لركوب الأنبياء، خلاف لمن نفى ذلك، كابن دحية، وأول قول جبريل: "فما ركبك أكرم على الله منه" أي: ما ركبك أحد قط، فكيف يركبك أكرم منه؟ فيكون مثل قول امرئ القيس:
على لاحب لا يهتدي لمناره
فيفهم أن له منارًا لا يهتدي له، وليس المراد: إلا أنه لا منار له البتة، فتأمله.
وقد جزم السهيلي بأن البراق إنما استصعب عليها لبعد عهد ركوب الأنبياء قبله.
قال النووي: قال صاحب مختصر العين، وتبعه صاحب التحرير: كان الأنبياء يركبون البراق، قال: وهذا يحتاج إلى نقل صحيح، انتهى وقد تقدم النقل بذلك.
قال في الفتح: ويؤيده ظاهر قوله: فربطته بالحلقة التي تربط بها الأنبياء.
__________
محمد صاحب السيرة، "وفيه دلالة على أن البراق كان معدًا لركوب الأنبياء خلافًا لمن نفى ذلك كابن دحية، وأول قول جبريل: فما ركبك أكرم على الله منه، أي: ما ركبك أحد قط، فكيف يركبك أكرم منه"، فيكون من نفي الموصوف، فينتفي ذلك الوصف بانتفائه، وهي طريقة معلومة خرجوا عليها قوله تعالى: {لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} [البقرة: 273] ، أي: لا سؤال، فلا إلحاق، ولم يرد إثبات السؤال، ونفي الإلحاف بدليل يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف، إذ التعفف لا يجامع المسألة، وقوله تعالى: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدثر: 48] : لا شافع، فلا شفاعة بغير عمد ترونها، أي: لا عمدة، فلا رؤية، "فيكون مثل قول امرئ القيس على لاحب" بمهملة وموحدة، طريق واضح، "لا يهتدي لمناره"، أي: عمله، "فيفهم أن له منارًا لا يهتدي له، وليس المراد إلا أنه لا منار له البتة"، فالمراد نفي المنار من أصله لا إثبات منار انتفى عنه الاهتداء "فتأمله"؛ لأن شرط التخريج على هذا إذا وجد ما يدل عليه، وليس كذلك هنا، كيف "وقد جزم السهيلي؛ بأن البراق إنما استصعب عليه لبعد عهد ركوب الأنبياء قبله"، فصرح بأنه ليس خاصًا به، وهو من الحفاظ الكبار، وهو مثبت فيقدم على نفي تلميذه ابن دحية وإن وافقه ما "قال النووي: قال صاحب مختصر العين" الزبيدي، "وتبعه صاحب التحرير: كان الأنبياء يركبون البراق".
"قال" النووي متعقبًا لهما، "وهذا يحتاج إلى نقل صحيح. انتهى. وتقدم النقل بذلك قريبًا".
"قال في الفتح: ويؤيده ظاهر قوله: فربطته"، أي: شددته "بالحلقة التي تربط" بكسر(8/78)
انتهى، فليتأمل فإنه ليس فيه فربطته التي تربطه بها الأنبياء، وإنما قال: تربط بها الأنبياء وسكت عن ذكر المربوط ما هو؟ فيحتمل -كما قال ابن المنير- أن يكون غير البراق، ويحتمل أن يريد ارتباط الأنبياء أنفسهم بتلك الحلقة، أي تمسكهم بها، ويكون من جنس العروة الوثقى، انتهى.
ولكن وقع التصريح بذلك في حديث أبي سعيد عند البيهقي ولفظه: "فأوثقت دابتي بالحلقة التي كانت الأنبياء تربطها فيه". وقد وقع عند ابن إسحاق من رواية وثيمة في ذكر الإسراء أيضًا: "فاستصعب البراق وكانت الأنبياء تركبها قبلي وكانت بعيدة العهد بركوبهم، لم تكن ركبت في الفترة".
وفي مغازي ابن عائذ، من طريق الزهري عن سعيد بن المسيب قال: البراق هي الدابة التي كان يزور إبرهيم عليها إسمعيل، وعلى ذلك فلا يكون ركوب
__________
الباء وضمها لغة "بها الأنبياء، انتهى، فليتأمل، فإنه ليس فيه، فربطته بالحلقة التي تربطه بها الأنبياء" بالضمير، "وإنما قال: تربط بها الأنبياء، وسكت عن ذكر المربوط ما هو، فيحتمل كما قال ابن المنير أن يكون غير البراق"، ويصير تقديره ترتبط بها الأنبياء دوابهم، وذلك لا يستلزم كون البراق مركوبًا لهم، وهذا لا يرد على الحافظ؛ لأنه لم يقل: يؤيده قوله، إنما قال: ظاهر قوله، ولا شك أن ظاهره ربط البراق؛ لأنه المحدث عنه، وأما هذا الاحتمال فبعيد وأبعد منه قوله.
"ويحتمل أن يريد ارتباط الأنبياء أنفسهم بتلك الحلقة، أي: تمسكهم بها، ويكون من جنس العروة الوثقى"، وهو متمسك المححق من النظر الصحيح؛ والرأي: القويم، كما في البيضاوي. "انتهى" كلام ابن المنير، ثم استدرك المصنف تعقبه على الحافظ؛ بأن الروايات يفسر بعضها بعضًا، فتعين أن المراد تربط بها البراق لا الدواب ولا أنفسهم، قال: "لكن وقع التصريح بذلك في حديث أبي سعيد عند البيهقي، ولظفه: "فأوثقت"، أي: ربطت "دابتي بلحلقة التي كانت الأنبياء تربطها فيه، وقد وقع عند ابن إسحاق" في المبتدأ "من رواية وثيمة في ذكر الإسراء أيضًا، فاستصعب البراق، وكانت الأنبياء تركبها قبلي، وكانت بعيدة العهد بركوبهم، لم تكن ركبت في الفترة" التي بينه وبين عيسى، وهي ستمائة على الصحيح.
"وفي مغازي ابن عائذ من طريق الزهري عن سعيد بن المسيب، قال البراق: هي الدابة التي كان يزور إبراهيم عليها إسماعيل".
وفي أوائل الروض للسهيلي: أن إبراهيم حمل هاجر على البراق لما سار إلى مكة بها(8/79)
البراق من خصائصه -صلى الله عليه وسلم. نعم قيل: ركوبه مسرجًا ملجمًا لم يرو لغيره من الأنبياء عليهم السلام.
فإن قلت: ما وجه استصعاب البراق عليه؟
أجيب: بأنه تنبيه على أنه لم يذلل قبل ذلك، إن قلنا: إنه لم يركبه أحد قبله، أو لبعد العهد إن قلنا: إنه ركب قبله.
ويحتمل أن يكون استصعابه تيها وزهوًا بركوبه -صلى الله عليه وسلم- وأراد جبريل "أبمحمد تستعصب"؟ استنطاقه بلسان الحال أنه لم يقصد الصعوبة وإنما تاه زهوًا لمكان الرسول عليه السلام منه، ولهذا قال: فارفض عرقًا، فكأنه أجاب بلسان الحال متبريًا
__________
وبولدها.
وفي كتاب مكة للفاكهي والأزرقي: أن إبراهيم كان يحج على البراق، فهذه آثار يشد بعضها بعضًا، وجاءت آثار أخرى تشهد لذلك لم أر الإطالة بإيرادها قاله الحافظ، "وعلى ذلك" كله، "فلا يكون ركوب البراق من خصائصه -صلى الله عليه وسلم".
قال النعماني: ولعل النافي ركوب غيره لم يستحضر هذه الأحاديث والآثار؛ لأنه اقتصر على الحديثين، ولم أر نصًا ينفي ركوب غيره من الأنبياء عليه، ومعارضه النص بتأويل قول جبريل فيه نظر، بل ورد ما يدل على أن غير الأنبياء ركبه.
ففي أوائل روض السهيلي: أن إبراهيم حمل هاجر على البراق لما سار إلى مكة بها وبولدها، وفيه أيضًا عن الطبري أوحى إلى أرمياء أن اذهب إلى بختنصر، فأعلمه أني قد سلطته على العرب، فاحمل معدًا على البراق، كي لا تصيبه النقمة، فإني مستخرج من صلبه نبيًا كريمًا أختم به الرسل، فحمله معه على البراق إلى أرض الشام انتهى.
"نعم، قيل: ركوبه مسرجًا ملجما لم يروا لغيره من الأنبياء عليهما السلام"، فيحمل القول بأن ركوبه من خصائصه على ركوبه مسرجًا ملجمًا لا مطلقًا، فلا ينافي أن غيره ركبه لا بهذه الصفة، "فإن قلت: ما وجه استصعاب البراق عليه، أجيب"، أي: أجاب ابن المنير، "بأنه"، أي: وجهه، "تنبيه": إعلام، "أنه لم يذلل قبل ذلك إن قلنا: إن لم يركبه أحد قبله، أو لبعد العهد به، إن قلنا: إنه ركب قبله"، وهم قولان، أرجحهما الثاني كما علم، "ويحتمل أن يكون استصعابه تيهًا" بكسر الفوقية، وسكون التحتية، تكبرًا "وزهوا" عطف تفسير.
ففي القاموس: الزهو: التيه والفخر "بركوبه -صلى الله عليه وسلم- وأراد جبريل" بقوله: "أبمحمد تستصعب استنطاقة بلسان الحال، أنه لم يقصد الصعوبة، وإنما تاه زهوًا لمكان الرسول عليه(8/80)
من الاستصعاب، وعرق من خجل العتاب، ومثل هذا رجفة الجبل به حتى قال: "أثبت أحد فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان"، فإنها هزة الطرب لا هزة الغضب.
وكذا البراق لما قال له جبريل: اسكن فما ركبك أحد أكرم على الله منه أقر فاستقر وخجل من ظاهر الاستصعاب، وتوجه الخطاب فعرق حتى غرق.
ووقع في حديث حذيفة عند الإمام أحمد قال: أتي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالبراق فلم يزل على ظهره هو وجبريل حتى انتهيا إلى بيت المقدس، وهذا لم يسنده حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم، فيحتمل أنه قاله عن اجتهاده، ويحتمل أن يكون قوله: "هو وجبريل" متعلقًا مرافقته في السير، لا في الركوب. وقال ابن دحية معناه: وجبريل قائد أو سائق بمرافقته في السير، لا في الركوب، وقال ابن دحية معناه: وجبريل قائد أو سائق أو دليل، قال: وإنما جزمنا بذلك؛ لأن قصة المعراج كانت كرامة للنبي -صلى الله عليه وسلم- فلا مدخل لغيره فيها.
__________
السلام منه"، أي: لوجوده عنده وإرادته ركوبه، "ولهذا قال: فارفض عرقًا، فكأنه أجاب بلسان الحال متبريًا من الاستصعاب، وعرق من خجل العتاب"، أي: عتاب جبريل له، "ومثل هذا رجقه الجبل" تحركه "به، حتى قال": كما في الصحيح عن أنس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- صعد أحدًا، وأبو بكر، وعمر وعثمان، فرجع بهم، فقال: "أثبت أحد، فإنما عليك نبي وصديق" أبو بكر، "وشهيدان" عمر وعثمان، "فإنهما هزة الطرب": الفرح، "لا هزة الغضب"، فلذا قر الجبل وسكن، "وكذا البراق لما قال له جبريل: أسكن فما ركبك أحد أكرم على الله منه أقر فاستقر": سكن "وخجل من ظاهر الاستصعاب، وتوجه الخطاب" إليه بالعتاب، "فعرق حتى غرق" أي: عمه العرق، فشبه عمومه له بالغرق في الماء.
"ووقع في حديث حذيفة" بن اليمان "عند الإمام أحمد، قال: أتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالبراق، فلم يزل على ظهره هو وجبريل، حتى انتهيا إلى بيت المقدس، وهذا لم يسنده حذيفة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فيحتمل أنه قاله عن اجتهاد"، ولم تبلغه الأحاديث التي فيها نزوله في أماكن قبل بيت المقدس.
"ويحتمل أن يكون قوله: "هو وجبريل" متعلقًا بمرافقته في السير، لا في الركوب" إلى بيت المقدس دون نزول قبله، فلا يخالفه أحاديث نزوله قبله في أماكن، "وقال ابن دحية معناه: وجبريل قائد أو سائق، أو دليل، قال: وإنما جزمنا بذلك؛ لأن قصة المعراج كانت كارمة للنبي -صلى الله عليه وسلم- فلا مدخل لغيره فيها"، وتبعه ابن المنير وغيره، والتعليل لا ينهض، فإن من جملة كرامته إكرام صاحبه.(8/81)
وقد تعقب الحافظ ابن حجر التأويل المذكور: بأن في صحيح ابن حبان من حديث ابن مسعود: أن جبريل حمله على البراق رديفًا له، وفي رواية الحارث في مسنده: أتي بالبراق فركبه خلف جبريل فسار بهما، فهذا صريح في ركوبه معه، والله أعلم. انتهى.
وقد وقع غير هذه الرواية بيان ما رآه في ليلة الإسراء، فمن ذلك:
ما وقع في حديث شداد بن أوس -عند البزار والطبراني، وصححه البيهقي في الدلائل- أنه أول ما أسري به مر بأرض ذات نخل، فقال له جبريل: انزل
__________
"وقد تعقب الحافظ ابن حجر"، فقال: يرد "التأويل المذكور؛ بأن في صحيح ابن حبان من حديث ابن مسعود، أن جبريل حمله على البراق رديفًا له"، أي: جاعلًا له خلفه.
"وفي رواية الحارث" بن أبي أسامة "في مسنده" عن ابن مسعود: "أتي بالبراق فركبه خلف جبريل"، وكأنه لسرعة السير، وكونه ليلًا، وكونها دابة غير مألوفة، فخفف عليه لئلا ينزعج، فلم يجعله أمامه، "فسار بهما، فهذا صريح في ركوبه معه، والله أعلم انتهى".
ومعلوم تقديم صريح المنقول على مقتضى العقول، "وقد وقع في غير هذه الرواية بيان ما رآه ليلة الإسراء"، قبل إتيانه بيبت المقدس، فلا يحسن إبقاء قول حذيفة استمرا على ظهر البراق حتى انتهيا إلى بيت المقدس على ظاهره، وكذا قوله في حديث مالك بن صعصعة: "ثم أتيت بدابة، فحملت عليها، فانطلق بي جبريل حتى أتى السماء الدنيا"، لا يليق بقاؤه على ظاهره؛ لأنه مجمل، فيقضي عليه المفصل الأحاديث المذكور فيها ما رآه في ذهابه وإيابه وفي السماوات، ولما كانت ما صيغة عموم تغيد استيعاب جميع ما رآه، أتى بقوله: "فمن ذلك" لإفادة أنه لم يستوعب ذلك.
"ما وقع في حديث شداد بن أوس عند البزار والطبراني، وصححه البيهقي في الدلائل؛ أنه أول ما"، أي: شيء رآه ليلة "أسري به، مر بأرض ذات نخل"، فهو أول المرئيات، أو سماه أول باعتبار قطع المسافة سريعًا، فلا يقال: بين مكة ويثرب مسافة طويلة، فلا يصدق الخبر على المبتدأ، وهو أول فعلى هذا فالخبر جملة قوله مر.. إلخ، بتقدير أنه واسمها ضمير الشأن، أو يجوز نصب أول على أنه ظرف متعلق بمر، فما مصدرية، واسم إن ضمير للنبي -صلى الله عليه وسلم- أي: أنه مر أول إسرائه بأرض، والأولية نسبية أي: إنه عد المرور أول إسرائه مع تأخره لقصر سيره فيه، وقرر شيخنا أن هذا أحسن.
"فقال له جبريل": أنزل فصل"، فنزل، "فصلى"، ثم ركب "فقال له: أتدري أين(8/82)
فصل، فصلى، فقال له: أتدري أين صليت؟ صليت بيثرب، ثم مر بأرض بيضاء فقال: انزل فصل، فصلى، فقال له جبريل: صليت بمدين، ثم مر ببيت لحم فقال له جبريل: انزل فصل، فصلى، فقال صليت حيث ولد عيسى.
__________
صليت"؟، فقلت: الله أعلم، هكذا في حديث شداد نفسه قبل قوله: "صليت بيثرب"، صليت بطيبة، هكذا جمع بينهما في حديث شداد، فيثرب؛ لأنها إنما كانت مشهورة بهذا الاسم، فقصد إخباره بالمحل وطيبة، للإشارة إلى أنها تسمى به بعد حلوله فيها.
وفي حديث أنس عند النسائي: أتدري أين صليت؟، صليت بطيبة وإليها المهاجر "بفتح الجيم"، فجبريل تبرع بإخباره بذلك بعد سؤاله، هل يدري المحل صلى فيه أولًا قاصدًا إدخال السرور عليه، ولم يسأله النبي -صلى الله عليه وسلم- عنه على الظاهر المتبادر.
"ثم مر بأرض بيضاء، فقال: انزل فصل، فصلى"، ثم ركب، "فقال له جبريل": أتدري أين صليت؟، قال: "لا"، قال: "صليت بمدين" عند شجرة موسى، كما في خبر شداد، ومدين: "بفتح الميم، والتحتية، وإسكان المهملة بينهما" بلد ابالشام، تلقاء غزة، سميت باسم بانيها مدين بن إبراهيم ويحتمل أن المراد بشجرة موسى الشجرة التي كلمه الله عندها لما خرج من عند شعيب، بعد انقضاء الأجل، قاصدًا مصر، فنودي منها: {أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [القص: 30] ، أو المراد الشجرة التي أوى بعد سقي الغنم للمرآتين المذكورة في قوله: {فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ} [القصص: 24] ، فإنه كان ظل سمرة، قاله ابن عطية عن ابن عباس، وعلى هذا، ففي إطلاق مدين على بقعتها تجوز؛ لأنها بالطور، وليس هو مدين، لكنه لقربه منه سماه بذلك.
وفي حديث شداد تلو قوله: عند شجرة موسى، ثم ركب فانطلق البراق يهوي به، ثم قال له: انزل فصل، ففعل، ثم ركب، فقال: أتدري أين صليت؟، قال: "لا"، قال: صليت بطور سيناء، حيث كلم الله موسى، فصرح بأنه صلى في الموضعين عند الشجرة وعند الجبل، وكلمه الله عندهما معًا، لكن بين التكليمين لموسى مدة طويلة، فالتكليم الأول الذي نبئ فيه كان عمره أربعين سنة، كما في ابن عطية، والثاني كان بعد غرق فرعون واستقرار الأمر لموسى بعد الأمر بالصوم وانقضاء مدة الوعد المذكورة في قوله تعالى: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ} [الأعراف: 142] ، "ثم مر ببيت لحم: بلام مفتوحة، فمهملة ساكنة، قرية من الشام، بلقاء بيت المقدس، والمصنف اختصر الحديث، وإلا فلفظ حديث شداد عند من عزاه لهم عقب قوله: "حيث كلم الله موسى" الآية، ثم بلغ أرضًا بدت له قصور، "فقال له جبريل: انزل فصل، فصلى"، ثم ركب، وانطلق البراق يهوي به، "فقال" له جبريل: أتدري أين صليت؟،(8/83)
وفي حديث أنس عند البيهقي في الدلائل: لما جاء جبريل بالبراق إليه -صلى الله عليه وسلم- فكأنها أصرت أذنيها، فقال لها جبريل: مه يا براق، فوالله ما ركبك مثله، فسار رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فإذا هو بعجوز على جنب الطريق، فقال: "ما هذه يا جبريل"؟ قال: سر يا محمد، فسار ما شار الله أن يسير، فإذا هو بشيخ يدعوه منحنيًا متنحيا عن الطريق يقول: هلم يا محمد، فقال له جبريل: سر، وأنه مر بجماعة فسلموا عليه فقالوا: السلام عليك يا أول، السلام عليك يا آخر، السلام عليك يا حاشر، فقال له جبريل: أردد عليهم السلام، فرد، الحديث، وفي آخره فقال له جبريل: أما العجوز التي رأيت جانب الطريق، فلم يبق من الدنيا إلا ما بقي من عمر تلك العجوز،
__________
قال: "لا"، قال: "صليت" ببيت لحم، "حيث ولد عيسى" بن مريم.
"وفي حديث أنس عند البيهقي في الدلائل: لما جاء جبريل بالبراق إليه -صلى الله عليه وسلم- استصعب عليه، "فكأنها" بسبب ذلك "أطرت أذنيها"، أي: جمعت بينهما، فهو مفرع على محذوف، وأصل الصر الجمع والشد، كما في النهاية، "فقال لها جبريل: معه"، أي: انكفي عن هذا واتركيه وانقادي له، "يا براق، فوالله ما ركبك مثله" "بكسر الكاف" ليناسب أصرت، وإن جاز فتحها، "فسار رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فإذا هو بعجوز على جنب الطريق": ناحيتها، سقط من البيهقي عن أنس، فقالت: يا محمد، انظرني أسألك، فلم يلتفت إليها، "فقال: "ما هذه يا جبريل:، قال: سر يا محمد"، أمره بالسير خشية أن يسمع سؤالها رقة عليها لسنها، لما جعل الله في قلبه من الرأفة والرحمة، "فسار ما شاء الله أن يسير، فإذا هو بشيخ يدعوه منحنيًا" من شدة الكبر "متنحيا"، مصروفًا، مباعدًا "عن الطريق، يقول: هلم يا محمد، فقال له جبريل: سر" يا محمد، لئلا يرق له لسنه، فيقبل عليه.
"و" في حديث أنس المذكور: "أنه بجماعة" في مسيره ذلك. ولفظه: وبينما هو يسير، إذ لقيه خلق من خلق الله تعالى، "فسلموا عليه، فقالوا: السلام عليك يا أول" من أسمائه -صلى الله عليه وسلم-؛ لأنه أول الأنبياء خلقًا، وأول من قال: بلى يوم {أَلَسْتُ بِرَبِّكُم} ، والأول عودًا، فهو أول من تنشق عنه الأرض، وأول من يدخل الجنة، وأول شافع، وأول مشفع، "السلام عليك يا آخر"؛ لأنه آخر الأنبياء بعثًا، "السلام عليك يا حاشر"؛ لأنه يحشر الناس على قدميه، أي: يقدمهم وهم خلفه، أو يسبقهم، فيحشر قبلهم، والثلاثة من أسمائه، كما مر في مقصدها، "فقال: له جبريل: أردد عليهم السلام، فرد ... الحديث""، أسقط منه، ثم لقيه الثانية، فقال له مثل ذلك، ولقيه الثالثة، فقال له مثل ذلك.
"وفي آخره، فقال له جبريل: أما العجوز التي رأيت جانب الطريق، فلم يبق من الدنيا(8/84)
والذي دعاك إبليس، والعجوز الدنيا، أما لو أجبتها، لاختارت أمتك الدنيا على الآخرة، وأما الذين سلموا عليك فإبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام، قال الحافظ عماد الدين بن كثير: في ألفاظه نكارة وغرابة.
وفي رواية: أنه -صلى الله عليه وسلم- مر بموسى عليه السلام، وهو يصلي في قبره، قال أنس: ذكر كلمة فقال: أشهد أنك رسول الله، ولا مانع أن الأنبياء عليهم السلام يصلون في
__________
إلا ما بقي من عمر تلك العجوز، والذي دعاك إبليس"، أراد أن تميل إليه، كما في نفس الحديث، "والعجوزالدنيا"، أي: أنها صورت لها بصورة عجوز إشارة إلى قرب انقضائها، وإلا فهي نقيض الآخر، لا صورة لها يرى فيها.
"أما" "بالتخفيف" "لو أجبتها، لاختارت أمتك الدنيا على الآخرة"، تجعلها نصب أعينهم، وعبادتهم دون الله، فلا يرد الله، فلا يرد أن كثيرًا من أمته، بل أكثرهم يبتغون الدنيا، ويتهالكون عليها؛ لأنهم وإن فعلوا ذلك، لكن لأغراض قامت عندهم مع اعتقاد كمال قدرة الله ووحدانيته، فلا يصدق عليهم اتباعهم للدنيا، "وأما الذين سلموا عليك، فإبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام"، سلموا عليه ثلاثًا، زيادة في المحبة.
"قال الحافظ عماد الدين بن كثير في ألفاظه"، أي: هذا الحديث: "نكارة وغرابة"، لمخالفته لما في حديث أبي سعيد: أن جبريل أجابه بقوله: لو أجبتها ... إلخ، لما تمثلت بامرأة حاسرة عن ذراعيها، عليها من كل زينة، خلقها الله، وأما حين تمثلها بعجوز -فأجابه بأنه لم يبق من الدنيا ... إلخ، ومن جهة تفرده بذكر لقائه لهؤلاء الثلاثة في ذهابه إلى بيت المقدس قبل دخوله.
"وفي رواية" عند أبي يعلى الموصلى عن أنس، بلفظ: "أنه -صلى الله عليه وسلم- مر بموسى عليه السلام، وهو يصلي في قبره".
"قال أنس" روايه، "ذكر كلمة، فقال: أشهد أنك رسول الله"، بيان لكملة، ويحتمل أن الجملة غيرها، وقوله: أشهد ... إلخ، ناشئ عنها، والحديث في مسلم والنسائي وغيرهما عن أنس؛ أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "مررت على موسى ليلة أسري بي عند الكثيب الأحمر، وهو قائم يصلي في قبره".
وفي حديث ابن مسعود عند الحسن بن عرفة، والطبراني وأبي نعيم وغيرهم، رجل طوال سبط آدم، كأنه من رجال شنوأة، وهو يقول برفع صوته: أكرمته وفضلته، فدفعنا إليه، فسلمنا عليه، فرد السلام، وقال: من هذا معك يا جبريل؟، قال: هذا أحمد، قال: مرحبًا بالنبي الأمي العربي، الذي بلغ رسالة ربه، ونصح لأمته، ودعا له بالبركة، وقال: سل لأمتك اليسر، ثم أبعد(8/85)
قبورهم؛ لأنهم: {أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُون} [ألاعراف: 169] ، فهم يتعبدون بما يجدون من دواعي أنفسهم، لا بما يلزمون به، كما يلهم أهل الجنة الذكر، وسيأتي الإشارة إلى ذلك في حجة الوداع إن شاء الله تعالى.
وفي حديث أبي هريرة عند الطبراني والبزار: أنه عليه الصلاة والسلام مر علي قوم يزرعون ويحصدون في يوم، كلما حصدوا عاد كما كان، فقال لجبريل: ما هذا؟ قال: هؤلاء المجاهدون، في سبيل الله تضاعف لهم الحسنة إلى سبعمائة ضعف، وما أنفقوا من شيء فهو يخلفه، وهو خير الرازقين، ثم أتى على قوم ترضخ
__________
عنا، فقلت: "ما هذا يا جبريل": قال: هذا موسى بن عمران، قلت: "ومن يعاتب"؟ قال: يعاتب ربه، قلت: "أيرفع صوته على ربه"؟، قال: إن الله قد عرف له حدته، فذكر الحديث، وفيه: أنه لقي إبراهيم في طريقه، ثم دخل الأقصى، وصلى بالأنبياء.
قال النعماني: وفيه غرابة، "وبلا مانع أن الأنبياء عليهم السلام يصلون في قبورهم" الصلاة الشرعية، التي كانوا يصلونها في الحياة الدنيا؛ لأنهم إلى الآن في الدنيا؛ لأنهم إلى الآن في الدنيا، وهي دار تعبد، وقيل: المراد الصلاة اللغوية، أي: يدعون الله ويذكورنه ويثنون عليه، وجزم القرطبي الأول؛ لأنه ظاهر الحديث.
"لأنهم {أَْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُون} [الأعراف: 169] حياة حقيقة، والصلاة تستدعي جسدًا حيًا، سواء قلنا: إنها الشرعية، أو اللغوية، ولا يلزم من كونها حقيقة أن تكون الأبدان معها، كما كانت في الدنيا من الاحتياج إلى الطعام والشراب ونحوهما من صفات الأجسام التي نشاهدها؛ لأن ذلك عادي لا عقلي، وهذه الملائكة أحياء ولا يحتاجون إلى ذلك.
"فهم يتعبدون بما يجدون من دواعي أنفسهم"، فتعبدهم بذلك لذة، أي: لذة، "لا بما"، أي: شيء، "يلزمون به"؛ لأنه لا تكليف بعد الموت، "كما يلهم أهل الجنة الذكر"، ويجدون اللذة القوية، ولا تكليف في الجنة، "وسيأتي الإشارة" القليلة "إلى ذلك في حجة الوداع إن شاء الله تعالى"، وسبق في الخصائص بأبسط مما في الموضعين.
"وفي حديث أبي هريرة عند الطبراني، والبزار"، والبيهقي، وابن جرير، وأبي يعلى؛ "أنه عليه الصلاة والسلام مر على قوم يزرعون ويحصدون" بكسر الصاد وضمها "في يوم، كلما حصدوا عاد كما كان، فقال لجبريل: "ما هذا"؟، قال: هؤلاء المجاهدون، في سبيل الله تضاعف لهم الحسنة إلى سبعمائة ضعف، وما أنفقوا من شيء، فهو يخلفه"، إخبار عن حالهم، ولم يقصد القرآن، فلا بد أن التلاوة: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ"، وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سبأ: 39] "، والمراد أن ما يتنعمون به من فواقكه وغيرها، إذا نفذ في ذلك الوقت،(8/86)
رؤسهم بالصخر، كلما رضخت عادت كما كانت، ولا يفتر عنهم من ذلك شيء، فقال: "ما هذا يا جبريل"؟ قال: هؤلاء الذين تتثاقل رؤسهم عن الصلاة المكتوبة، ثم أتى على قوم على أقبالهم رقاع، وعلى أدبارهم رقاع، يسرحون كما تسرح الأنعام، يأكلون الضريع والزقوم ورضف جهنم، قال: "ما هؤلاء يا جبريل"؟ قال: هؤلاء الذين لا يؤدون زكاة أموالهم، وما ظلمهم الله وما الله بظلام للعبيد، ثم أتى على قوم بين أيديهم لحم نضيج في قدر، ولحم نيئ في قدر خبيث، فجعلوا يأكلون من
__________
جيء لهم بغيره على التوالي، وبذلك يتميزون عن غيرهم من أهل الجنة، أو أنه إخبار بأنه ما أنفقه المجاهدون يعوضون به في الدنيا سريعًا، ولا يؤخر ثوابهم للآخرة.
"ثم أتى على قوم ترضخ"، أي تشدخ، كما في التقريب، وفي المصباح: تكسر "رؤوسهم بالصخر، كلما رضخت عادت كما كانت، ولا يفتر عنهم" بضم أوله وفتح الفاء وشد الفوقية، أي: لا يخفف عنهم "من ذلك" الرضخ "شيء"، أو هو بفتح الياء وضم الفوقية مخففًا، أي: لا يرتفع عنهم ذلك، ولا يسهل، "فقال: "ما هذا يا جبريل"؟، قال: هؤلاء الذين تتثاقل رؤوسهم عن الصلاة المكتوبة"، بالتساهل فيها، إما بتركها أصلًا، أو بإخراجها عن وقتها، كلا أو بعضها، "ثم أتى على قوم أقبالهم رقاع": جمع قبل، كأعناق وعنق، وهو من كل شيء خلاف دبره، قيل: سمي قبلًا؛ لأن صاحبه يقابل به غيره، "وعلى أدبارهم رقاع، يسرحون كما تسرح الأنعام" الذي في رواية البزار، والبيهقي وغيرهما، كما تسرح الإبل والغنم، "يأكلون الضريع": الشوك اليابس، أو نبات أحمر، منتن الريح، يرمي به البحر، "والزقوم": ثمر، شجر كريه الطعم، قيل: لا يعرف في شجر الدنيا، وإنما هي في النار، يكره أهل النار على أكلها، كما قال تعالى: {إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ، طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ} [الصافات: 64] ، وفي القاموس: الزقوم كتنور الزبد بالتمر، وشجرة بجنهم، ونبات بالبادية، له زهر ياسميني الشكل، وطعام أهل النار.
وأخرج ابن جرير عن قتادة، قال: قال أبو جهل: زعم صاحبكم هذا أن في النار شجرة، والنار تأكل الشجر، وإنا والله ما نعلم الزقوم إلا التمر والزبد، فأنزل الله: حين عجبوا أن يكون في النار شجرة: {إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ} . "ورضف جهنم": بفتح الراء وسكون الضاد المعجمة بعدها فاء الحجارة المحماة، واحدها رضفة بسكون الضاد وتفتح: "قال: "ما هؤلاء يا جبريل"؟، قال: هؤلاء الذين لا يؤدون زكاة أموالهم، وما ظلمهم الله" شيئًا، "وما الله بظلام"، أي: بذي ظلم "للعبيد"، فيعذبهم بلا ذنب.
"ثم أتى على قوم بين أيديهم لحم نضيج": مستو "في قدر، ولحم نيئ"، بالهمز،(8/87)
النيئ الخبيث، ويدعون النضيج، فقال: "ما هؤلاء يا جبريل"؟ قال جبريل: هذا الرجل من أمتك تكون عنده المرأة الحلال الطيب، فيأتي امرأة خبيثة فيبيت عندها حتى يصبح، والمرأة تقوم من عند زوجها حلالًا طيبا، فتأتي رجلًا خبيثًا فتبيت عنده حتى تصبح، ثم أتى على رجل قد جمع حزمة عظيمة لا يستطيع حملها، وهو يزيد عليها، قال: "ما هذا يا جبريل"؟ قال: هذا الرجل من أمتك تكون عنده أمانات الناس لا يقدر على أدائها، وهو يريد أن يحمل عليها، ثم أتى على قوم تقرض ألسنتهم وشفاههم بمقاريض من حديد كلما قرضت عادت كما كانت، لا يفتر عنهم من ذلك شيء، قال: "ما هذا يا جبريل"؟ قال: هؤلاء خطباء الفتنة، قال: ثم أتى على
__________
وزان حمل كل شيء شأنه أن يعالج بطبخ، أو شيء لم يطبخ، فيقال: لحم نيئ والإبدال والإدغام عامي "في قدر خبيث" بالرفع نعت لحم، "فجعلوا يأكلون من النيئ الخبيث، ويدعون النضيج، فقال: ما هؤلاء يا جبريل؟، قال جبريل: هذا الرجل من أمتك، تكون عنده المرأة الحلال الطيب، فيأتي امرأة خبيثة، فيبيت عندها حتى يصبح"، ولعله قيد بأمته؛ لأن لغيرهم عذابًا أعظم من هذا، أو؛ لأن الغرض إعلامه بما أعد لمرتكبي ذلك لينكفوا عنه، "والمرأة تقم من عند زوجها حلالًا طيبًا، فتأتي رجلًا خبيثًا عنده، حتى تصبح"، ولعل التقييد بذلك؛ لأنه الأغلب، والمراد الزنا، وإن لم يكن بيات حتى الصباح، ويؤيده أن الحافظ اختصر الحديث بقوله: قال: هؤلاء الزناة.
"ثم أتى على رجل قد جمع حزمة": بضم فسكون ما حزم من أي شيء، وفي فتح الباري: حزمة حطب، "عظيمة لا يستطيع حملها، وهو يزيد عليها" أي: بضم إليها غيرها، "قال: "ما هذا يا جبريل"؟، قال: هذا الرجل من أمتك تكون عنده"، أي: في جهته، "أمانات الناس، لا يقدر على أدئها"، أي: الخروج من عهدتها، فدخل فيها ما تحت يده كوديعة، وما وكل على بيعه، وما تحت يده من مال يتيم ونحوه، وما فوض إليها كإمامة، وخطابة وغيرهما من المناصب الشرعية، مما لا يوصف بكونه تحت يده حسا، "وهو يريد أن يحمل"، أي: يزيد "عليها" ما يحتاج إلى حمله معها، مع عدم قدرته على حمل الأولى.
"ثم أتى على قوم تقرض": تقطع "ألسنتهم وشفاههم": جمع شفة مخففة "بمقاريض": حمع مقراض بكسر الميم، "من حديد، كلمات قرضت عادت كما كانت، لا يفتر عنهم من ذلك شيء، قال: "ما هذا يا جبريل"؟:، قال: هؤلاء خطباء الفتنة"، أي: الذين يقولون ما لا يفعلون، فيفتنون الناس بذلك لعدم مطابقة قولهم لفعلهم، وأسقط من الرواية خطباء أمتك، يقولون ما لا يفعلون، والمراد بالخطباء كل من تصدى لتعليم العامة ما طلب منهم، ونهيهم عما نهوا،(8/88)
جحر صغير يخرج منه ثور عظيم، فجعل الثور يريد أن يرجع من حيث خرج فلا يستطيع، فقال: "ما هذا يا جبريل"؟ قال: هذا الرجل يتكلم بالكلمة العظيمة ثم يندم عليها فلا يستطيع أن يردها. ثم أتى على واد فوجد فيه ريحًا طيبة باردة، كريح المسك، وسمع صوتًا، فقال: "ما هذا يا جبريل"؟ قال: هذا صوت الجنة، تقول: رب آتني بما وعدتني، فقد كثرت غرفي واستبرقي وحريري وسندسي وعبقري ولؤلؤي، ومرجاني وفضتي وذهبي، وأكوابي وصحافي وأباريقي، ومراكبي، وعسلي
__________
فدخل العالم الواعظ وغيرهما.
"قال: ثم أتى على جحر": بضم الجيم وسكون المهملة، ثقب مستدير، "صغير يخرج منه ثور عظيم": بمثلثة، ذكر البقر، "فجعل الثور يريد أن يرجع من حيث خرج، لا يستطيع، فقال: "ما هذا يا جبريل"؟، قال: هذا الرجل يتكلم بالكلمة العظيمة"، من سخط الله، "ثم يندم عليها، فلا يستطيع أن يردها" لعدم إمكانه.
"ثم أتى على واد، فودد فيه ريحًا طيبة باردة، كريح المسك، وسمع صوتًا، فقال: "ما هذا يا جبريل"؟ قال: هذا صوت الجنة، تقول" بلاسان القال على الظاهر المتبادر، فلا مانع من أن يخلق لها إدراك ونطق، "رب آتني" بالمد، "بما وعدتني"، بزيادة الباء في المفعول، كقوله تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ} [البقرة: 195] ؛ لأن آتى يتعدى بنفسه، كقوله: {وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْك} [البقرة: 251] ، "فقد كثرت غرفي": بالضم، جمع غرفة، وهي العلية، "واستبرقي" ثخين الديباج، وفي البيضاوي: ثخين الحرير، "وحريري" عطف عام على خاص، "وسندسي" رقيق الديباج، "وعبقري"، قيل: هو الديباج، أو البسط الموشية، أو الطنافس الثخان، وأصله فيما قيل: إن عبقر قرية يسكنها الجن، فيما يزعمون، فكلما رأوا شيئًا فائقًا غريبًا، مما يصعب علمه ويدق، أو شيئًا عظيما في نفسه، نسبوه إليها، فقالوا: عبقري.
وفي القاموس: العبقري الكامل في كل شيء، والسيد الذي ليس فقوه شيء، وعليه فالمراد هنا، وكثرت نفائسي الكاملة من ثياب وغيرها، ويكون من ذكر العام بعد الخاص، "ولؤلؤي" بهمزتين، وبحذفهما، وبإثبات الأولى دون الثانية، "ومرجاني"، قال الأزهري وغيره: هو صغار اللؤلؤ.
قوال الطرسوسي: هو عروق حمر، تطلع من البحر كأصابع الكف، قال: وهكذا شاهدناه بمغارب الأرض، "وفضتي، وذهبي وأكوابي": جمع كوب إناء لا عروة له ولا خرطوم، "وصحافي": جمع صحفة إناء كالقصعة، "وأباريقي" جمع أبريق إناء له عروة وخرطوم،(8/89)
ومائي ولبني وخمري، فائتني بما وعدتني، قال: لك كل مسلم ومسلمة ومؤمن ومؤمنة، ومن آمن بي وبرسلي وعمل صالحًا، ولم يشرك بي شيئًا، ولم يتخذ من دوني أنددًا، ومن خشيني فهو آمن، ومن سألني أعطيته، ومن أقرضني جازيته، ومن توكل علي كفيته، إنني أنا الله، لا إله إلا أنا، لا أخلف الميعاد، وقد أفلح المؤمنون، وتبارك الله أحسن الخالقين، قالت: قد رضيت، ثم أتى على واد فسمع صوتًا منكرًا، ووجد ريحا منتنة فقال: "ما هذا يا جبريل"؟ قال: هذا صوت جهنم، تقول: رب آتني ما وعدتني، فقد كثرت سلاسلي وأغلالي وسعيري وحميمي وغساقي وعذابي، وقد بعد قعري واشتد حري، فآتني بما وعدتني، قال: لك كل
__________
"ومراكبي": ما يركب، "وعسلي، ومائي، ولبني وخمري" بالأنهار الأربعة، "فأتني بما وعدتني".
"قال: لك كل مسلم ومسلمة، ومؤمن ومؤمنة، ومن آمن بي، وبرسلي، وعمل صالحًا" الطاعات، "ولم يشرك بي شيئًا"، بل لا يرائي أحدًا بعبادته لي، وحلمناه على هذا ليغاير قوله: "ولم يتخذ من دوني اندادًا" شركاء يخصهم بالعبادة، "ومن خشيني"، خافني مع الإجلال، "فهو آمن، ومن سألني أعطيته، ومن أقرضني" بإنفاقه في سبيلي لأجلي، "جازيته" جزاء مضاعفًا، كما قال: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ} [الحديد: 11] ، "ومن توكل علي كفيته، إنني أنا الله لا إله إلا أنا، لا أخلف الميعاد"، الوعد بالبعث والجزاء، "وقد" للتحقيق "أفلح" فاز "المؤمنون، وتبارك الله أحسن الخالقين"، أي: المقدرين، بزنهة اسم الفاعل، ومميز أحسن محذوف للعلم به، أي: خلقًا "قلت" الجنة: "قد رضيت ثم أتى على واد، فسمع صوتًا منكرًا" ينكره سامعه لعدم سماع نظيره في الأصوات المعتادة لشناعته وقبحه، "ووجد ريحًا منتنة": بضم الميم وكسر التاء اسم فاعل من أنتن كذا، ويجوز كسر الميم للاتباع، وضم التاء اتباعًا للميم، قليل كما في المصباح، "فقال: "ما هذا يا جبريل"؟، قال: هذا صوت جهنم تقول" بلسان القال: "رب آتني ما وعدتني، فقد كثرت سلاسلي": جمع سلسلة، "وأغلالي": قيودي، "وسعيري": ناري، وسعرتها وأسعرتها: أوقدتها، وحميمي": مائي الحار غاية الحرارة، "وغساقي": بخفة السين وتثقيلها، أي: ما يسيل: ويخرج مني، لشدة حرارتي.
وفي البيضاوي وغيره: الغساق أن يسيل من صديد أهل النار، فإنهم يذوقونه، "وعذابي وقد بعد قعري، واشتد حري، فآتني بما وعدتني، قال: لك كل مشرك ومشركة، وكافر وكافرة"، عطف عام على خاص؛ لأن المشرك إذا جمع مع الكافر أريد به من جعل لله(8/90)
مشرك ومشركة وكافر وكافرة، وكل جبار عنيد لا يؤمن بيوم الحساب، قالت: قد رضيت، قال: فسار حتى أتى بيت المقدس.
وفي رواية أبي سعيد عند البيهقي: "دعاني داع عن يميني: انظرني أسألك، فلم أجبه، ثم دعاني آخر عن يساري كذلك فلم أجبه، وفيه: إذا امرأة حاسرة عن ذراعيها وعليها من كل زينة خلقها الله تعالى فقالت: يا محمد انظرني أسألك، فلم ألتفت إليها، وفيه أن جبريل قال له: أما الداعي الاول فهو داعي اليهود، ولو أجبته لتهودت أمتك، وأما الثاني فداعي النصارى ولو أجبته لتنصرت أمتك، وأما المرأة فالدنيا، وفيه: أنه صعد إلى السماء الدنيا ورأى فيها آدم، وأنه رأى أخونة عليها لحم طيب ليس عليها أحد، وأخرى عليها لحم نتن عليها ناس يأكلون، قال
__________
شريكًا كعباد الأوثان، والكافر يشمل ذلك وغيره، "وكل جبار" كافر "لا يؤمن بيوم الحساب" يوم القيامة"، "قالت: قد رضيت، قال: فسار حتى أتى بيت المقدس"، وفي نسخة: أتيت، أي: فسار بي حتى أتيت.
"وفي رواية أبي سعيد" الخدري سعد بن مالك بن سنان، "عند البيهقي"، وابن جرير، وابن أبي حاتم، مردويه: "دعاني آخر عن يساري": يا محمد، انظر لي أسألك، كما في الرواية، واختصرها بقوله: "كذلك، فلم أجبه، وفيه"،أي: حديث أبي سعيد المذكور، وبينما هو يسير "إذا امرأة حاسرة": كاشفة "عن ذراعيها" اسم فاعل من حسر، إذا كشف، "وعليها من كل زينة خلقها الله تعالى، فقالت: يا محمد، انظرني أسألك، فلم ألتفت إليها، وفيه"، أي: الحديث المذكور، "أن جبريل قال له: أما الداعي الأول" الذي هو عن يمينه، "فهو داعي اليهود، ولو أجبته لتهودت أمتك"، لعل حكمة ذلك لو وقع أن الله جعل إجابته سببًا لذلك في سابق علمه، وكذا يقال في قوله.
"وأما الثاني فداعي النصارى، ولو أجبته لتنصرت أمتك، وأما المرأة فالدنيا"، أما أنك لو أجبتها، اختارت أمتك الدنيا على الآخرة، هكذا في حديث أبي سعيد، المذكور وتصورت له أيضًا بصورة عجوز، إشارة إلى قلة ما بقي منها كما مر.
"وفيه": أي: الحديث المذكور، "أنه صعد إلى السماء الدنيا، ورأى فيها آدم، وأنه" بعد اجتماعه، بآدم، مضى هنيهة، و"رأى أخونة": جمع خوان بكسر المعجمة وضمها، الذي يؤكل عليه، وقال الخليل: هو المائدة "عليها لحم طيب، ليس عليها أحد" يأكل منها،(8/91)
"يا جبريل: ما هذا"؟ قال جبريل: هؤلاء الذين يتركون الحلال ويأكلون الحرام، وفيه: أنه مر بقوم بطونهم أمثال البيوت كلما نهض أحدهم خر، وأن جبريل قال له: هم أكلة الربا، وأنه مر بقوم مشارفهم كالإبل يلتقمون حمرًا، فيخرج من أسافلهم، وأن
__________
"وأخرى عليها لحم نتن، عليها ناس يأكلون"منها، "قال: يا جبريل ما هذا؟ قال جبريل: هؤلاء الذين يتركون الحلال ويأكلون الحرام"، وفي لفظ عند البيهقي أيضًا وغيره: فإذا هو بأقوام على مائدة لحم عليها شوى كأحسن ما رؤي من اللحم، وإذا حوله جيف، فجعلوا يقبلون على الجيف، يأكلون منها، ويدعون اللحم، فقال: "من هؤلاء يا جبريل"؟، قال: هؤلاء الزناة، يحلون ما حرم الله عليهم، وتركوا ما أحل الله لهم.
"وفيه"، أي: حديث أبي سعيد المذكور؛ "أنه مر بقوم بطونهم أمثال البيوت، كلما نهض أحدهم خر": سقط من قيام، "وأن جبريل قال له" جوابًا لقوله: "يا جبريل من هؤلاء"؟، قال: "هم أكلة الربا"، أي: الذين يتناولون من الأموال ما أخذوه على وجه الربا، وهو خاص بالمطعومات والنقود، إذا أخذت بالعقد المسمى بعقد الربا، بأن اشتمل أحد العوضين يه على زيادة، أو تأخير في البدلين، أو أحدهما، وخرج بذلك المأخوذ بعقود فاسدة، كفقد رؤية، أو شرط فاسد مع انتفاء الربا عنها، فلا يكون لفاعها ذلك الوصف، وإن أثم، ولم يملك ما أخذه.
وقد أفاد المصنف أنه اختصر الحديث، وهو كذلك، ولفظه في هذه الجملة، ثم مضى هنيهة، فإذا هو بقوم بطونهم مثال البيوت، فيه الحيات ترى من خارج بطونهم، كلما نهض أحدهم خر، يقول: اللهم لا تقم الساعة، وهم على سابلة آل فرعون، فتجيء السابلة فتطؤهم، فسمعهم يضجون إلى الله تعالى، فقال: "يا جبريل من هؤلاء"؟، قال: هؤلاء من أمتك، الذين يأكلون الربا، لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس، والسابلة أبناء السبيل المختلفة، وجعلوا بطريق آل فرعون يمرون عليهم غدوا وعشيًا؛ لأن آل فرعون هم أشد الناس عذابًا، يطؤنهم فضلًا عن غيرهم من الكفار، وهم لا يستطيعون القيام، ومعنى ذلك؛ أن الله وقف أمرهم بين أن ينتهوا، فيكون جزاء لهم، وبين أن يعودوا ويصروا، فيدخلهم النار واستشكل بأن هذه الحالة إن كانت عبارة عن حالهم في الآخرة، فآل فرعون قد دخلوا أشد العذاب، وإنما يعرضون على النار غدوا وعشيًا في البرزخ، وإن كانت هذه الحال التي رآهم عليها، فأي: بطون لهم، وقد صاروا عظامًا ورفاتا، ومزقوا كل ممزق، وأجيب بأنه إنما رآهم في البرزخ؛ لأنه حدث عما رأى، وهذه الحال هي حال أرواحهم بعد الموت، وفيه تصحيح لمن قال: الأرواح أجسادًا لطيفة، قابلة للنعيم والعذاب، فخلق الله تعالى في تلك الأرواح من الألم ما يجده من انفتخ بطنه حتى وطئ بالأقدام، ولا يستطيع معه قيامًا، ولا دليل فيه على أنهم أشد عذابًا من آل فرعون، بل(8/92)
جبريل قاله له: هؤلاء الذين يأكلون أموال اليتامى ظلمًا، وأنه مر بنساء يعلقن بثديهن وأنهن الزواني، وأنه مر بقوم يقطع من جنوبهم اللحم فيطعمون، وأنهم الغمازون اللمازون.
__________
فيه دليل على أن آل فرعون وغيرهم من الكفار الذين لا يأكلون الربا يطؤونهم ما داموا في البرزخ إلى أن يقوموا يوم القيامة، كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس، ثم ينادي منادي الله: {أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} ، ذكره السهيلي؛ "وأنه مر بقوم مشافرهم": بفتح الميم، وخفة المعجمة، فألف ففاء مكسورة فراء، أي: شفاههم، "كالإبل"، لفظ الرواية: كمشافر الإبل، وعبر عن شفاههم بذلك مجازًا، إذ يقال: شفة الإنسان، ومشفر البعير: وجحفل الفرس، "يلتقمون جمرًا، فيخرج من أسافلهم".
وفي رواية: يجعل في افواههم صخر من جهنم، ثم يخرج من أسافلهم، فسمعهم يضجون إلى الله تعالى؛ "وأن جبريل قال له" جوابًا لقوله: "يا جبريل من هؤلاء"؟، قال: "هؤلاء: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا، إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء: 10] ، كما في بقية جواب جبريل.
"وأنه مر بنساء يعلقن بثديهن": بضم المثلثة، ويقال بكسرها وكسر المهملة، جمع ثدي يذكر ويؤنث، فيقال: هو الثدي، وهي الثدي، وهو معروف، "وأنهن الزواني"، يجوز أنه رأى أرواحهن، وقد خلق فيها من الآلام ما يجده من هذه حاله، وأن يكون مثلث له حالهن في الآخرة، قاله السهيلي.
ولفظ الحديث: ثم مضى هنيهة، فإذا هو بنساء معلقات بثديهن، ونساء منكسات بأرجلهن، فسمعهن يضججن إلى الله، فقال: "من هؤلاء يا جبريل"؟، قال: هؤلاء اللاتي يزين ويقتلن أولادهن.
"وأنه مر بقوم يقطع من جنوبهم اللحم، فيطعمون، وأنهم الغمازون"، كذا في نسخ بغين معجمة، أي: المشيرون بأعينهم أو حواجبهم لمعايب الناس، ولما فيه ضررهم، لكن لفظ الرواية: الهمازون، بالهاء بدل الغين، وهم الذين يغتابون الناس بلا مواجهة، "اللمازون": العيابون، كما في الشامي، أي: الذين يكسرون من أعراض الناس.
قال البيضاوي: اللمز: الكسر كالهمز، شاعا في كسر أعراض الناس، والطعن فيهم.
ولفظ الحديث: ثم مضى هنيهة، فإذا هو بأقوام يقطع من جنوبهم اللحم، فيلقمون، فيقال له: كل كما كنت تأكل لحم أخيك، فقال: "يا جبريل من هؤلاء"؟، قال: هؤلاء الهمازون، من أمتك اللمازون.(8/93)
وفي حديث أبي هريرة -عند البزار والحاكم- أنه -صلى الله عليه وسلم- صلى ببيت المقدس مع الملائكة، وأنه أتي هناك بأرواح الانبياء فأثنوا على الله، وفيه قول إبراهيم: لقد فضلكم محمد.
وفي رواية عبد الرحمن بن هاشم عن أنس: ثم بعث له آدم فمن دونه فأمهم تلك الليلة.
وفي حديث أم هانئ عند أبي يعلى: ونشر لي رهط من الأنبياء، منهم إبراهيم وموسى وعيسى.
وفي رواية أبي سملة ثم حانت الصلاة فأممتهم، أخرجه مسلم.
__________
"وفي حديث أبي هريرة عند البزار، والحاكم" والبيهقي: "أنه -صلى الله عليه وسلم- صلى ببيت المقدس" قبل صعوده كما هو، سياق الحديث عند الثلاثة ولفظه: ثم صار إلى بيت المقدس فنزل فربط فرسه إلى صخرة بيت المقدس، ثم دخل، فصلى "مع الملائكة"، ويأتي أنه صلى بالأنبياء أيضًا، "وأنه أتى هناك بأرواح الأنبياء، فأثنوا على الله -وفيه"، أي: الحديث، "قول إبراهيم"، لما أثنى نبينا على ربه، بعد ثناء الأنبياء، "لقد فضلكم محمد"، أي: زاد عليكم، وتميز بما أثنى به على ربه، قال ذلك إبراهيم إظهارًا لشرف المصطفى وفضله، وليس ضميرًا فيه عائدًا لما أثنوا به كما توهم؛ لأن ثنائهم إنما كان على الله، والمصنف، اختصر الحديث هنا، وسنذكره تامًا عن قريب.
"وفي رواية عبد الرحمن بن هاشم، عن أنس"، عند الطبراني والبيهقي، "ثم بعث له آدم"، أي: أمر بالمجيء إليه، "فمن دونه" من الأنبياء، كما في نفس حديث أنس، "فأمهم تلك الليلة"، أي: صلى بهم إمامًا.
"وفي حديث أم هانئ عند أبي يعلى، ونشر"، أي: سيق "لي رهط من" جملة "الأنبياء"، وجمعوا حولي، عبر عن ذلك بالنشر إشارة إلى كثرتهم وتفرقهم، "منهم: إبراهيم وموسى وعيسى"، أو المعنى: أخرجوا من قبورهم عبر عنه بالنشر، تشبيهًا له ببعثهم من قبورهم وسعيهم إلى المحشر وحضورهم فيه، ويحتمل أن المراد جميع الأنبياء، مأخوذ من نشر الراعي غنمه نشرًا، من باب قتل إذا بثها، ولا ينافيه لفظ رهط من الأنبياء، لجواز أن من للبيان، وسماهم رهطًا، نظرً لقلتهم بالنسبة لغيرهم من الناس، هذا وإن كان بعيدًا لكن الحامل عليه الجمع بينه وبين قوله في الحديث: قبله آدم، فمن دونه من الأنبياء.
"وفي رواية أبي سلمة" بن عبد الرحمن بن عوف اسمه عبد الله، وقيل: إسماعيل عن(8/94)
وفي حديث أبي أمامة عند الطبراني في الأوسط: ثم أقيمت الصلاة فتدافعوا حتى قدموا محمدًا -صلى الله عليه وسلم.
وفي رواية ثابت البناني عن أنس عند مسلم قال: "فربطته"، يعني البراق، بالحلقة -وهي بإسكان اللام على الأشهر- التي تربط به الأنبياء بتذكير الضمير، إعادة على معنى الحلقة وهو الشيء، والمراد حلقة باب مسجد بيت المقدس، قاله صاحب التحرير- قال عليه السلام: "ثم دخلت المسجد فصليت فيه ركعتين، ثم
__________
أبي هريرة، رفع، "ثم حانت الصلاة"، أي: دخل وقتها، ويأتي للمصنف الخلاف في أنها الصبح، أو العشاء، ويأتي تضعيفهما، وأن الأظهر أنها من النفل المطلق، أو من الفرض الذي كان قبل الخمس، فالمراد بحانت الصلاة، دخل الوقت المأمور بالصلاة فيه، "فأممتهم": صليت بهم إمامًا، "أخرجه مسلم".
"وفي حديث أبي أمامة عند الطبراني في الأوسط: ثم أقيمت الصلاة"، أي: تهيؤا وقاموا لها، لا الإقامة المشروعة الآن؛ لأنها إنما شرعت بالمدينة، "فتدافعوا"، أي: منع كل نفسه الإمامة بعد أن طلب منه أن يكون إمامًا، وطلب من غيره التقدم عليه، "حتى قدموا محمدً -صلى الله عليه وسلم"، لا ينافيه حديث ابن مسعود الآتي: فقمنا صفوفًا ننتظر من يؤمنا، فأخذ جبريل بيدي، فقدمني، فصليت بهم المفيد، ظاهره أنهم لم يتدافعوا، ولم يقدموه؛ لأن انتظار من يؤم لا ينافي تدافعهم، أي: قول بعضهم لبعض تقدم أنت مثلًا، ولما قدمه جبريل رضوا به، فنسب هنا تقديمه إليهم لرضاهم به وسرورهم.
وفي رواية ثابت البناني عن أنس"، رفعه "عن مسلم"، قال: "أتيت بالبراق"، فوصفه، "قال": "فركبته حتى أتيت بيت المقدس، فربطته" "فربطته، يعني البراق"، تفسير من المصنف لإسقاطه أول الحديث كما ترى، "بالحلقة، وهي بإسكان اللام على الأشهر"، وقد تفتح لامها وتكسر، أو ليس في الكلام حلقة بفتح اللام، إلا جمع حالق، أو لغة ضعيفة، حكاه القاموس: "التي تربط به الأنبياء" البراق، كما رواه البيهقي لأدوابهم، كما توهمه بعض، وقد تقدم.
قال النووي: قوله به كذا في الأصول، "بتذكير الضمير إعادة"، أي: إرجاعًا للضمير، مذكرًا حملًا "على معنى الحلقة، وهو"، أي: المعنى "الشيء"، وإلا فكان الظاهر أن يقول بها؛ لأن الحلقة مؤنثة تأنيثًا لفظيًا.
وقال غيره: روي بالتأنيث والتذكير في مسلم والشفاء، "والمراد حلقة باب مسجد بيت المقدس، قاله صاحب التحرير"، أي: بابه المعهود المعروف، وإن كان للمسجد أبواب متعددة.(8/95)
"خرجت، فجاءني جبريل عليه السلام بإناء من خمر وإناء من لبن فاخترت اللبن، فقال جبريل: اخترت الفطرة".
أي اخترت اللبن الذي عليه بنيت الخلقة، وبه نبت اللحم ونشز العظم،
__________
وعند البيهقي، والطبراني والبزار من حديث شداد: ودخل المدينة، من بابها اليمني، ودخل المسجد من باب يميل فيه الشمس والقمر.
وروى الواسطي في فضائل بيت المقدس عن الوليد بن مسلم، قال: حدثني بعض أشياخنا، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- رأى عن يمين المسجد، وعن يساره نورين ساطعين، فقال: "يا جبريل ما هذان النوران"؟، قال: أما الذي عن يمينك فإن محراب أخيك داود، وأما الذي عن يسارك فعلى قبر أختك مريم.
"قال عليه السلام" في رواية مسلم، عن ثابت، عن أنس: "ثم دخلت المسجد، فصليت فيه ركعتين"، غير الصلاة التي صلاها بالأنبياء: كما صرح به في حديث ابن مسعود الآتي، ومن ثم قيل: يحتمل أنها تحتية المسجد وأنها غيرها، "ثم خرجت" بعد صلاته بالأنبياء، الواقعة بعد هذين الركعتين، كما صرح به حديث أبي هريرة، ثم حانت الصلاة، فأممتهم، رواه مسلم.
وعند ابن إسحاق، عن أبي سعيد، فصلى بهم، أي: الأنبياء ثم أتي بإناء فيه لبن ... إلخ، فعرض الأواني إنما كان بعد صلاته بالأنبياء، ففي هذا السياق اختصار، فليس المراد أنه خرج من المسجد بعد صلاة الركعتين، بل بعد صلاته بالأنبياء.
"فجاءني جبيل عليه اللام بإناء من خمر، وإناء من لبن"، فلم يقع في رواية مسلم هذه، وإناء من عسل، خلاف ما يوجد في نسخ سقيمة من المصنف، وإناء من عسل بعد قوله: من خمر، نعم هو ثابت في غير ما رواية، فلس النزاع في أنه أتي بإناء فيه عسل، إنما هو في العز.
ولمسلم ما ليس فيه في روايته من طريق ثابت عن أنس مرفوعًا بلا وسطة، "فاخترت"، وفي رواية، فأخذت، "اللبن، فقال جبيل: اخترت" وفي رواية: أخذت "الفطرة" "بكسر الفاء".
قال ابن دحية: تطلق الفطرة على الإسلام، كخبر كل مولود يولد على الفطرة، وتطلق على أصل الخلقة، كقوله تعالى: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم: 30] ، و {فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [يوسف: 101] ، أي: مبدئ خلقهما، وقول جبريل: اخترت الفطرة، "أي: اخترت اللبن الذي عليه"، أي: بسببه، "بنيت الخلقة"، وبين بناءها عليه بقوله: "وبه نبت اللحم ونشز": "بزاي منقوطة" أي: ارتفع "العظم" وغلظ، "واخترته؛ لأنه الحلال الدائم"، هو "في دين(8/96)
واخترته؛ لأنه الحلال الدائم في دين الإسلام بخلاف الخمر فحرام فيما يستقر عليه الأمر.
وقال النووي: المراد بالفطرة هنا، في قول جبريل: أخذت الفطرة الإسلام والاستقامة، قال: ومعناه -والله أعلم-: اخترت علامة الإسلام والاستقامة، قال: وجعل اللبن علامة لكونه سهلًا طيبًا طارهًا سائغًا للشاربين، سليم العاقبة، وأما الخمر فإنها أم الخبائث، وجالبة الأنواع الشر في الحال والمآل. انتهى.
__________
الإسلام" فاستتر الضمير الفاعل، وحذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه، أي الدائم حله كـ {عِيشَةٍ رَاضِيَة} [الحاقة: 21] ، "بخلاف الخمر، فحرام فيما يسقر عليها الأمر".
وقد روى أبو يعلى، والبزار من حديث أبي هريرة: أتي بآنية ثلاثة مغطاة أفواهها، فأتي بإناء منها فيه ماء، فشرب منه قليلًا، وفي لفظ: فلم يشرب منه شيئًا، ثم دفع إليه إناء آخر فيه لبن، فشرب منه حتى روي منه، ثم دفع إليه إناء آخر فيه خمر، فقيل له: اشرب، قال: "لا أريده قد رويت"، فقال جبريل: أما إنها ستحرم على أمتك".
قال ابن دحية أيضًا: وقد تكون الإشارة بتقديم اللبن إلى أنه شعار العلم في التعبير، كما ورد أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "رأيت كأني أتيت بقدح من لبن، فشربت حتى أرى الري يخرج من أظفاري، ثم ناولت فضلي عمر بن الخطاب، قالوا: يا رسول الله ما أولته، قال: العلم" والإسراء، وإن كان يقظة، إلا أنه ربما وقعت في اليقظة إشارة إلى حكم الفأل، فيعبر كما يعبر في المنام، ولذا كان -صلى الله عليه وسلم- يحب الفأل الحسن، فكأنه لما لمئ قلبه إيمانا وحكمة، أردف ذلك بالعلم مطلقًا ويجعل الله تعالى شرب ذلك اللبن سببًا في ترادف العلوم، وإشحان القلب النبوي بأنوارها.
"وقال النووي: المراد بالفطرة هنا في قول جبريل: أخذت الفطرة الإسلام والاستقامة"، وبه فسرت الآية، أي: بملة الإسلام، فإنهم لو خلوا وما خلقوا عليه، لأدى بهم إليها، وفسرت أيضًا بخلقته التي خلقهم عليها، وهي قبولهم للحق، وتمكنهم من إدراكه، وبالعهد المأخوذ من آدم وذريته.
"قال: ومعناه، والله أعلم، اخترت علامة الإسلام، و"علامة "الاستقامة" بالجر، ففيه حذف مضاف، إذ شرب اللبن ليس هو هما، "قال: وجعل اللبن علامة لكونه سهلًا طيبًا" لذيذًا، "طاهرا" لا يشوبه شيء من الفرث والدم من لون، أو طعم أو ريح، وهو بينهما "سائغا للشاربين" سهل المرور في حلقهم، لا يغص به، "سليم العاقبة" في الحالة والمآل، وهذا كله تعليل لجعله علامة الإسلام والاستقامة.
"أما الخمر، فإنها أم الخبائث" كما ورد مرفوعًا عند القضاعي، بلفظ الخمر أم(8/97)
وقال القرطبي: يحتمل أن يكون سبب تسمية اللبن فطرة لكون أول شيء يدخل جوف المولود، ويشق أمعاءه، والسر في ميل النبي -صلى الله عليه وسلم- إليه دون غيره لكونه مألوفًا له أولًا، انتهى.
وإذا كانت الخمرة مباحة؛ لأنها إنما حرمت بالمدينة والإسراء كان بمكة، فما وجد تعيينه عليه السلام لأحد المباحين، وما وجه عد ذلك صوابًا وعد الآخر خطأ، وهما سواء في الإباحة؟
فيحتمل أن يكون توقاها تورعًا وتعريضًا بأنها ستحرم، وأنه لما وافق الصواب في علم الله تعالى قال له جبريل: أصبت الفطرة، أو أصبت أصاب الله
__________
الخبائث، أي: أصلها الذي تنشأ عنه لحملها الشارب على مجاوزة الحدود، "وجالبة لأنواع الشر في الحال والمآل. انتهى".
وقد قال -صلى الله عليه وسلم: "الخمر أم الفواحش، وأكبر الكبائر، من شربها ترك الصلاة، ووقع على أمه وخالته وعمته"، رواه الطبراني.
"وقال القرطبي" شارح مسلم في المفهم: "ويحتمل أن يكون سبب تسمية اللبن فطرة، لكونه أول شيء يدخل جوف المولود، ويشق أمعاءه، والسر"، أي: السبب "في ميل النبي -صلى الله عليه وسلم- إليه دون غيره لكونه مألوفًا أولًا"، ولكونه لا ينشأ عن جنسه مفسدة، "انتهى" كلام القرطبي بما زدته.
وحقيقة السر ما يكتم، وهو خلاف الإعلان، فإطلاقه على السبب مجاز مرسل من تسمية الجزئي باسم الكلي، "وإذا كانت الخمر مباحة؛ لأنها إنما حرمت بالمدينة، والإسراء كان بمكة"، وجواب إذا الشرطية قوله: "فما وجه تعيينه عليها سلام لأحد المباحين"، باختياره الشرب منه، "وما وجه عد ذلك صوابًا، وعد الآخر خطأ، وهما سواء في الإباحة"، وفرع على ذلك بجواب شرط هو، وإذا أردت بيان الوجه، "فيحتمل أن يكون توقاها تورعًا" لما في تنافي تناوله الغائلة المتوقعة، وإن كان مباحًا، ولا خلاف أن مثل هذا الورع يثاب عليه، قال ابن المنير، "وتعريضًا بأنها ستحرم"، ولعل سبب التعريض، انه أوحى إليه بذلك، ولو بالإلهام، فتركها تنبيهًا على أن حلها لا يستمر، "وأنه لما وافق الصواب في علم الله تعالى، قال له جبريل: أصبت الفطرة، أو أصبت، أصاب الله بك، كما رويا" الأول في الصحيح، والثاني في غيره.
قال ابن المنير: فدل قول جبريل ذلك على أن اختيار الخمر خطأ عصم منه -صلى الله عليه وسلم-، وأن(8/98)
بك، كما رويا، وإن قلنا: أنها كانت من خمر الجنة، فيكون سب تجنبها صورتها ومضاهاتها الخمر المحرمة، أي في علم الله تعالى، وذلك أبلغ في الورع.
ويستفاد منه: أن من اتخذ من ماء الرمان أو غيره، ولو ماء قراحًا، وضاهى به الخمر في الصورة وهيأه في الهيآت التي يتعاطاها أهل السماعات الشهوات من الاجتماعات فقد أتى منكرًا، وإن كان لا يحد عليه، قاله ابن المنير.
__________
المسألة اجتهادية؛ لأن الخمر لم تكن حرمت، قال: وفيه دليل على المذهب المشهور لمالك والشافعي، وغيرهما أن المسائل الاجتهادية لله فيها حكم معين، من أصابه فقد أصاب الحق، ومن أخطأه الحق، خلافًا للقول؛ بأن حكم الله على كل مجتهد ما غلب على ظنه انتهى.
وفيه إفادة وجه، كون اختيار الخمر خطأ، وهو أن حكم الله فيها تحريمها بعد أبدًا، وإن كانت مباحة حينئذ لأمور خفيت علينا، ثم الخمر المحضرة، أنها من خمر الدنيا، وأنها من خمر الجنة التي لا يصدعون عنهان ولا ينزفون، فإذا قلنا: من خمر الدنيا، فوجه تجنبها ما تقدم.
"وإن قلنا: إنها"، أي الخمر المحضرة له، "كانت من خمر الجنة، فيكون سبب تجنبها، صورتها، ومضاهاتها" مشابهتها "الخمر المحرمة، "أي: في علم الله تعالى، وذلك أبلغ في الورع"، فإن قلت: فيلزم اجتنابها في الجنة تورعًا من صورتها، قلت: لا يلوم؛ لأن الجنة ليست دار تكاليف، قاله ابن المنير.
"ويستفاد منه؛ أن من اتخذ من ماء الرمان أو غيره" شيئًا يستعمله على الصفة المعتادة بين شربة الخمر، "ولو ماء قراحًا": صرفا، "وضاهى به الخمر في الصورة وهيأه في الهيئات التي يتعاطاها أهل السماعات"، لفظ ابن المنير أهل الشهوات من الاجتماعات، فقد أتى منكرًا، وإن كان لا يحد عليه".
قال، أعني ابن المنير: وقد نص العلماء على هذا، فينبغي أن يؤخذ من حديث الإسراء كما بيناه، "قاله ابن المنير" في المقتفى فيما لخصه المصنف منه فأحسن، وإلا فهو قد أتى بعبارة طويلة استطرد فيها فوائد نفيسة على عادته، وأورد قبل ذك إحضار الخمر واللبن، هل أريد إباحتها معًا أو أحدهما؟، لا بعينه، وعلى كل فمشكل؛ لأنه إن كان المراد إباحتهما معًا، كما لو أحضرت طعامين لضيف، وأبحتهما له، فما معنى اختياره لأحدهما، وتصويت جبريل له، وإن كان في أحدهما لا بعينه، بحيث يكون الآخر ممنوعًا، لزم التخيير بين ممنوع ومباح، وذلك لا يتصور.(8/99)
وينظر فيما يعمله كثير من فقراء اليمن بمكة المشرفة وجدة وغيرهما من ماء قشر اللبن ويسمونه بالقهوة، وهو اسم من أسماء الخمر.
وفي حديث ابن عباس -عند أحمد-: فلما أتى المسجد الأقصى قام يصلي، فلما انصرف جيء بقدحين في أحدها لبن، وفي الآخر عسل، فأخذ اللبن.
وفي رواية البزار: بثلاث أوان، وأن الثالث كان خمرًا، وأن ذلك وقع ببيت المقدس، وأن الأول كان ماء، ولم يذكر العسل.
وفي حديث شداد بن أوس: "فصليت من المسجد حيث شاء الله، وأخذني
__________
قال: والذي يرفع الإشكال؛ أن المراد تفويض الأمر في تحريم ما يحم، وتحليل ما يحل إلى اجتهاده -صلى الله عليه وسلم-، وسداد نظره المعصوم، فلما نظر فيهما أداه اجتهاده إلى تحريم الخمر وتحليل اللبن، فوافق الصواب في حكم الله تعالى، فقال له جبريل: أصبت، وفيه اجتهاده فيما لم يوح إليه فيه، وهي مسألة خلاف، وهذا الحديث يحقق الجواز مع اتفاق المسلمين على أن اجتهاده معصوم، من الخطأ بخلاف غيره من العلماء.
"وينظر فيما يعلمه كثير من فقراء اليمن بمكة المشرفة وجدة": بضم الجيم، ساحل البحر بمكة، "وغيرهما من ماء قشر البن"، ثم صاروا بعد ذلك يعملونه من البن أيضًا، ويسمونه بالقهوة، وهو اسم من" أشهر "أسماء الخمر"، هل يحرم تناوله لتسميتهم بالخمر، فكأنهم شهبوه بها، وجوابه لا حرمة؛ لأنه لا يشرب على الهيئة التي يشرب عليها الخمر، ومجرد تسميته قهوة لا يقتضي أن يعطى حكمها.
"وفي حديث ابن عباس عند أحمد؛ فلما أتى المسجد الأقصى، قام يصلي، فلما انصرف" من صلاته بالأنبياء، "جيء بقدحين، في أحدهما لبن، وفي الآخر عسل، فأخذ اللبن"، وهاذ موافق لرواية مسلم؛ أن إتيانه بالآنية كان ببيت المقدس قبل المعراج، ومر لفظه قريبًا.
"وفي رواية البزار" من حديث أبي هريرة، أنه جيء له "بثلاث أوان، وأن الثالث كان خمرًا، وأن ذلك وقع ببت المقدس، وأن الأول كان ماء، ولم يذكر العسل"، وأخرجه ابن عائذ من هذا الوجه في حديث المعراج بعد ذكر إبراهيم قال: "ثم انطلقنا، فإذا نحن بثلاثة آنية مغطاة، فقال لي جبريل: يا محمد ألا تشرب مما سقاك ربك، فتناولت إحداها، فإذا هو عسل، فشربت منه قليلا، ثم تناولت الآخر، فإذا هو لبن، فشربت منه حتى رويت، قال: ألا تشرب من الثالث، قلت: قد رويت، قال: وفقك الله".
"وفي حديث شداد بن أوس" عند البزار، والطبراني، والبيهقي: "فصليت" في جانب(8/100)
"من العطش أشد ما أخذني، فأتيت بإناءين أحدهما لبن والآخر عسل، ثم هداني الله فأخذت اللبن، فقال شيخ بين يدي -يعني لجبريل-: أخذ صاحبك الفطرة".
وقد كان إتيانه بالأواني مرتين، مرة عند فراغه من الصلاة، ومرة عند وصوله إلى سدرة المنتهى ورؤية الأنهار الأربعة.
وممن صرح بأنه كان مرتين الحافظ عماد الدين بن كثير، وعلى هذا فيكون
__________
"من المسجد حيث شاء الله، وأخذني من العطش أشد ما أخذني، فأتيت بإناءين أحدهما لبن، والآخر عسل"، فعدلت بينهما، هكذا في الحديث قبل قوله: "ثم هداني الله، فأخذت اللبن، فقال شيخ بين يدين" أسقط من الرواية، متكئ على منبر له، "يعني لجبريل: أخذ صاحبك الفطرة"، وإنه لمهدي، كما في بقية حديث شداد.
وفي حديث أبي هريرة عند الشيخين: أتي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليلة أسري به بإيلياء بإناء فيه خمر، وإناء فيه لبن، فنظر إليهما، فأخذ اللبن، فقال له جبريل: الحمد لله الذي هداك للفطرة، لو أخذت الخمر غوت أمتك.
وفي حديث أنس عند البيهقي: فعرض عليه الماء والخمر واللبن، فأخذ اللبن، فقال له جبريل: أصبت الفطرة، لو شربت الماء لغرقت وغرقت أمتك، ولو شربت الخمر لغويت وغويت أمتك.
قال الحافظ: ويجمع بين هذا الاختلاف في عدد الآنية وما فيها، بحمله على أن بعض الرواة ذكر ما لم يذكر الآخر، ومجموعها أربعة آنية، فيها أربعة أشياء من الأنهار الأربعة التي رآها تخرج من أصل سدرة المنتهى، فلعله عرض عليه من كل نهر إناء، انتهى، وسيأتي هذا في كلام المصنف.
وأما الاختلاف، أن عرض الأواني في بيت المقدس، أو بعد سدرة المنتهى، والبيت المعمور، فالجمع بينهما ما ذكره بقوله:
"وقد كان إتيانه بالأواني مرتين، مرة عند فراغه من الصلاة" ببيت المقدس، وسببه ما وقع له من العطش، قاله الحافظ، "ومرة عند وصله إلى سدرة المنتهى، ورؤية الأنهار الأربعة" التي رآها تخرج من أصل سدرة المنتهى، وفي هذا أعمال لجميع الروايات لصحتها كلها، وهو أولى من جمع الحافظ أيضًا بحمل، ثم في رواية مالك بن صعصعة؛ أنه أتى بالأواني بعد سدرة المنتهى. ورفع البيت المعمور له على غير بابها من الترتيب، وإنما هي بمعنى الواو هنا.
"وممن صرح" على طريق الترجي؛ "بأنه كان مرتين الحافظ عماد الدين بن كثير"، لا الجزم كما يوهمه المصنف، فعبارة الشامي.(8/101)
تكرار جبريل عليه السلام بالتصويب حيث اختار اللبن تأكيدًا للتحذير مما سواه.
وقد أنكر حذيفة ربط البراق بالحلقة، فروى أحمد والترمذي من حديث حذيفة قال: يحدثون أنه ربطه، أخاف أن يفر منه، وقد سخره له عالم الغيب والشهادة؟ وكذا أنكر حذيفة أيضًا صلاته عليه السلام ببيت المقدس.
وتعقبه البيهقي وابن كثير: بأن المثبت مقدم على النافي، يعني من أثبت ربط البراق والصلاة في بيت المقدس معه زيادة علم على من نفي ذلك، فهو أولى بالقبول.
__________
قال السيهلي، وابن دحية، وابن المنير، وابن كثير والحافظ: ولعله قدم مرتين، أي: جمعا بين الروايات، "وعلى هذا، فيكون تكرار جبريل عليه السلام للتصويب، حيث اختار اللبن تأكيدًا للتحذير مما سواه"، أي: اللبن، وذلك السوي هو الخمر خاصة، "وقد أنكر حذيفة"، بن اليمان رضي الله عنهما "ربط البراق بالحلقة، فروى أحمد والترمذي من حديث حذيفة قال: يحدثون أنه ربطه"، أي: البراق، "أخاف أن يفر منه"، كذا في النسخ الصحيحة، بهمزة الإنكار، ومثلها في الفتح، والنعماني، والشامي والغيطي، فيما في نسخ: خاف بحذفها سهو من قلم المصنف أو نساخه.
"و" الحال أنه "قد سخره له عالم الغيب والشهادة" فكيف يخاف أن يفر منه، وتجويز أن خاف بلا همزة، حكاية عن كلام المحدث عنهم، وأنه رد عليهم بقوله، وقد ممنوع، إذ جميع الذين حدثوا بأنه ربطه، لم يقل أحد منهم أنه خاف أن يفر منه، والجواب عما وجه به إنكار ربطه؛ أنه لم يفعل ذلك خوفًا.
قال النووي في ربط البراق: الأخذ بالاحتياط في الأمور وتعاطي الأسباب، وأن ذلك لا يقدح في التوكل، إذا كان الاعتماد على الله.
وقال السهيلي: فيه من الفقه التنبيه على الأخذ بالحزم مع صحة التوكل، وأن الإيمان بالقدر لا يمنع الحزم من توقي المهالك.
كما روي عن وهب بن منبه، "وكذا أنكر حذيفة أيضًا" في هذا الحديث "صلاته عليه السلام ببيت المقدس"، واحتج بأنه لو صلى فيه لكتب عليكم الصلاة فيه، كما كتبت عليكم الصلاة في البيت العتيق.
"وتعقبه البيهقي وابن كثير، بأن المثبت مقدم على النافي، يعني من أثبت ربط البراق والصلاة في بيت لمقدس"، وهم جمهور الصحابة "معه زيادة علم على من نفى ذلك، فهو أولى بالقبول" من النافي؛ لأنه لم يصحبه دليل نفيه.(8/102)
ووقع في رواية بريدة عند البزار: "لما كان ليلة أسري بي، فأتى جبريل الصخرة التي ببيت المقدس فوضع أصبعه فيها فخرقها، فشد البراق"، ونحوه للترمذي.
وفي حديث أبي سعيد عند البيهقي: "حتى أتيت ببيت المقدس، فأوثقت دابتي بالحلقة التي كانت الأنبياء ترطبها فيه، فدخلت أنا وجبريل بيت المقدس،
__________
قال الحافظ: والجواب عنه منع التلازم في الصلاة إن كان أراد بقوله: كتب عليكم الفرض، وأن أراد التشريع، فنلتزمه، وقد شرع النبي -صلى الله عليه وسلم- فيه، فقرنه بالمسجد الحرام ومسجده في شد الرحل، وذكر فضيلة الصلاة فيه في غير ما حديث.
"ووقع في رواية بريدة عند البزار: "لما كان ليلة أسري بي، فأتى جبريل الصخرة"، بالفاء، في جواب لما، وهو قليل، أجازه ابن مالك ورده ابن هشام "التي ببيت المقدس" التي كانت قبلة.
قال البرقي في غريب الموطأ: هي من غرائب الدنيا، فإن جميع المياه تخرج من تحتها، وهي صخرة صماء في وسط المسجد الأقصى، كجبل بين السماء والأرض، معلقة لا يمسكها إلا الله، وفي أعلاها موضع قدم النبي -صلى الله عليه وسلم- حين ركب البراق ليلة الإسراء، فمالت من تلك الجهة من هيبته، وفي الجهة الأخرى أثر أصابع الملائكة التي أمسكتها إذا مالت، وكان بعضها أبعد من الأرض من بعض، وتحتها غاز عليه باب يفتح لمن يدخله للصلاة والدعاء.
"فوضع أصبعه فيها، فخرقها، فشد بها البراق، ونحوه للترمذي"، وابن حبان والحاكم، وصححه عن بريدة، قال: قال -صلى الله عليه وسلم-: "لما أنتهينا إلى بيت المقدس ليلة أسري بي، قال جبريل: بأصبعه، فخرق بها الحجر، وشد به البراق"، والمراد بالحجر صخرة بيت المقدس: كما في رواية البزار، فلذا اختار سياقه لصراحته، والجمع بين هذا وبين قوله في حديث أنس عند مسلم: "فربطته بالحلقة التي كانت تربط بها الأنبياء"، ما قاله بعضهم؛ أنه -صلى الله عليه وسلم- ربطه أولًا بالحلقة تأدبًا واتباعًا للأنبياء، فأخذه جبريل وحله من الحلقة، وخرق الصخرة وشده بها، كأنه يقول: أنت لست ممن يكون مركوبه بالباب، بل أنت أعلى وأغلى، قلا يكون مركوبك إلا في داخل المحل، وهذا أمر مشاهدج في العادة بين الكبراء، وأما جواب الطيبي؛ بأن المراد بالحلقة الموضع الذي كان فيه الحلقة، وقد اشتد، فخرقه جبريل فرده النجم؛ بأن الحلقة وموضعها الباب، والذي خرقه جبريل بأصبعه إنما هو الصخرة، وهي داخل المسجد بعيدة عن الباب انتهى.
"وفي حديث أبي سعيد عند البيهقي: حتى أتيت بيت المقدس، فأوثقت دابتي بالحلقة التي كانت الأنبياء تربطها فيه، فدخلت أنا وجبريل بيت المقدس، فصلى كل(8/103)
فصل كل واحد منا ركعتين.
وفي رواية ابن مسعود نحوه، وزاد: "ثم دخلت المسجد فعرفت النبيين ما بين قائم وراكع وساجد، ثم أذن مؤذن فأقيمت الصلاة فقمنا صفوفًا ننتظر من يؤمنا، فأخذ بيدي جبريل فقدمني فصليت بهم".
وفي حديث ابن مسعود أيضًا -عند مسلم-: "وحانت الصلاة فأممتهم".
وفي حديث ابن عباس، عند أحمد: لما أتى -صلى الله عليه وسلم- الأقصى قام يصلي، فإذا
__________
واحد منا ركعتين" غير الصلاة التي صلاها بالأنبياء كما هو صريحه.
قال بعضهم: يحتمل أنهما تحية المسجد، ويحتمل غير ذلك، أي: ككونهما من صلاة الليل، أو القصد بهما شغل البقعة.
قال ابن دحية: وفيه دليل على أن الصلاة لم تزل معهودة قبل أن تفرض، ومعهودة مثنى مثنى.
قال النعماني: وقد فرضت الصلاة قبل الهجرة ركعتين.
"وفي رواية ابن مسعود" عند الحسن بن عرفة وأبي نعيم "نحو، وزاد" ابن مسعود عن النبي -صلى الله عليه وسلم: "ثم دخلت المسجد، فعرفت النببين ما بين قائم وراكع"، أي: خاشع كخشوع الراكع، فلا يرد أن الركوع من خصائص الأمة، وما صلاه المصطفى قبل الإسراء لا ركوع فيه، وكذا ظهر عقب الإسراء، وأول صلاة بركوع العصر بعدها، "وساجد، ثم أذن" كذا في النسخ، وفيها سقط، فليس هذا من رواية ابن مسعود، إنما هو عن أنس، ففي فتح الباري بعد قوله: "وساجد، ثم أقيمت الصلاة فأممتهم"، وفي رواية يزيد بن أبي مالك عن أنس عند ابن أبي حاتم: "فلم ألبث إلا يسيرًا حتى اجتمع ناس كثير، ثم أذن مؤذن -أي: أعلم بطلب الصلاة- فأقيمت الصلاة"، أي: تهيئوا لها، وشرعوا فيها، فلا يرد أن الأذان والإقامة إنما شرعًا بالمدينة، والإسراء كان بمكة، "فقمنا صفوفًا ننتظر من يؤمنا"، وفي نسخة: ننتظر وهي بمعنى ننتظر، كقوله تعالى: {مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً} ، أي: ما ينتظرون، "فأخذ بيدي جبريل، فقدمني، فصليت بهم" إمامًا.
"وفي حديث ابن مسعود أيضًا عند مسلم: "وحانت الصلاة"، دخل وقت طلبهم بها، "فأممتهم": صليت بهم إمامًا.
"وفي حديث ابن عباس عند أحمد: فلما أتى -صلى الله عليه وسلم" المسجد "الأقصى، قام يصلي" بعد انتظارهم من يؤمهم، وتقديم جبريل للمصطفى، "فإذا النبيون أجمعون يصلون معه"، كما(8/104)
النبيون أجمعون يصلون معه.
وفي حديث أبي سعيد: "ثم سار حتى أتى بيت المقدس، فربط فرسه إلى صخرة، ثم دخل فصلى مع الملائكة، فلما قضيت الصلاة قالوا: يا جبريل من هذا
__________
في الحديث قبله، فليس المراد ظاهره؛ أنه قام يصلي وحده، فاقتدوا به؛ لأن الأحاديث يفسر بعضها بعضًا، فإن قيل: كيف يصلي الأنبياء وهم أموات في الدار الآخرة، وليست دار عمل، أجاب عياض، وتبعه السبكي؛ بأنهم كالشهداء، بل أفضل، والشهداء أحياء عند ربهم يرزقون، فلا يستبعد أن يحجوا ويصلوا، وأن يتقربوا إلى الله ما استطاعوان؛ لأنهم وإن ماتوا فهم في هذه الدنيا التي هي دار العمل حتى إذا فنيت مدتها، وتعقبها الآخرة التي هي دار الجزاء انطقع العمل، وحاصله أن البرزخ ينسحب عليه حكم الدنيا في استكثارهم من الأعمال وزيادة الأجور، وبأن المنقطع في الآخرة إنما هو التكليف، وقد تحصل الأعمال من غير تكليف على سبيل التلذذ بها والخضوع لله، ولذا أصح عن أهل الجنة أنهم يسبحون ويدعون ويقرؤون القرآن، كما في الحديث: "إنهم يلهمون التسبيح، كما يلهمون النفس"، وهو معنى قوله: {دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ} [يونس: 10] الآية، وانظر إلى سجوده -صلى الله عليه وسلم- وقت الشفاعة، أليس ذلك عبادة وعملًا، وعلى كلا الجوابين لا يمتنع حصول هذه الأعمال في مدة البرزخ، وقد صح عن ثابت البناني التابعي أنه قال: اللهم إن كنت أعطيت أحدًا أن يصلي في قبره، فأعطني ذلك، فرأي بعد موته يصلي في قبره، وتكفي رؤيته -صلى الله عليه وسلم- قائمًا يصلي في قبره؛ ولأن جميع الأنبياء لم يقبضوا حتى خيروا في البقاء في الدنيا وبين الآخرة، ولا شك أنهم لو بقوا في الدنيا لازدادوا من الأعمال الصالحة، ثم انتقلوا إلى الجنة، فلو لم يعلموا أن انتقالهم إلى الله أكمل لما اختاروه، ولو كان انتقالهم من هذه الدار يفوت عليهم زيادة فيما يقوب إلى الله لما اختاروه. انتهى.
"وعن أبي سعيد" الخدري، "ثم سار حتى أتى بيت المقدس، فربط فرسه"، أي: البراق، سماه فرسًا، تجوزًا لقرب صورته منها، ولا؛ لأن الفارس يطلق على مقابل الماشي، سواء ركب فرسًا، أو بغلًا، أو حمارًا؛ وتجويز أن جبريل ركب معه فرسًا لا يصح لحديث؛ أنه ركب معه على البراق، وقد جاء تسمية البراق فرسًا في ر واية أخرى؛ أنه أتى بفرس؛ فحمل عليه، وضمن ربط معنى ضم، فعداه بإلى في قوله "إلى صخرة"، أو إلى بمعنى الباء، أو عند كقوله:
أشهى إلي من الرحيق السلسل
والمراد بالصخرة هنا الحلقة التي بالباب، لا التي بداخل المسجد، بدليل قوله: "ثم دخل، فصلى مع الملائكة"، إمامًا بهم على المتبادر، فضمير صلى للنبي -صلى الله عليه وسلم- بعد صلاته ركعتين، وهو وجبريل كما مر قريبًا.(8/105)
معك؟ قال: هذا محمد رسول الله خاتم النبيين، قالوا: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم، قالوا: حياه الله من أخ ومن خليفة، فنعم الأخ ونعم الخليفة، ثم لقوا أرواح الأنبياء فأثنوا على ربهم.
فقال إبراهيم عليه السلام: الحمد لله الذي اتخذني خليلًا، وأعطاني ملكًا عظيمًا، وجعلني أمة قانتًا يؤتم بي، وأنقذني من النار، وجعلها علي بردًا وسلامًا.
__________
وترجيح ضمير صلى بجبريل، وأن المعنى صلى مع الملائكة لما وجدهم يصلون بعيد جدًا، بل يمنعه ما رواه الواسطي عن كعب، فأذن جبريل، ونزلت الملائكة من السماء، وحشر الله له المرسلين، فصلى النبي -صلى الله عليه وسلم- بالملائكة والمرسلين، "فلما قضيت الصلاة"، بالنباء للمفعول، أي: تمت، وفرغوا منها، "قالوا: يا جبريل من هذا معك"؟، خبر بعد خبر، أو حال، "قال: هذا محمد رسول الله خاتم النبيين" والرسل، "قالوا: وقد أرسله إليه"، أي: طلب للحضور، لا أرسل إليه بالوحي، أم لا لقوله لهم رسول الله، "قال: نعم، قالوا: حياه الله"، أي: أبقاه، وسلمه وملكه ما أعظمه وأكرمه "من أخ"، فمن متعلق بمحذوف، أو مبنية للضمير، أو زائدة، وجعلواه أخا لهم؛ لأن المراد أخوة الإيمان، "ومن خليفة" لله تعالى لعمارة الأرض وسياستها، وتكميل النفوس البشرية، وتنفيذ الأوامر الإلهية، لا لاحتياجه تعالى، بل لقصور الخلق عن التلقي بلا واسطة فنعم الأخ، ونعم الخليفة، ثم لقوا"، أي: المصطفى واملائكة ببيت المقدس بعد انقضاء الصلاة "أرواح الأنبياء" متشكلة بصور أجسادهم، "فأثنوا"، أي: الأنبياء "على ربهم"، وتجويز أن المثنى الملائكة لملاقاتهم الأنبياء، كما يقول: من رأى صالحًا، الحمد لله الذي من علي بلقائك، يمنعه قوله، "فقال إبراهيم عليه السلام: الحمد لله الذي اتخذني خليلًا" صفيًا خالص المحبة له، "وأعطاني ملكًا عظيمًا".
قال ابن دحية: لا يعهد لإبراهيم ملك عرفي، فإما أن يراد بالملك الإضافة إليه نفسه، لقهره عظماء الملوك، وناهيك بنمروذ وقد قهره الله لحليله وعجزه عنه، وغاية الملك العظيم قهر الملك العظيم، فالقاهر أعظم من المقهور قطعًا، أو يراد الإضافة إلى بنيه وذريته نحو ملك يوسف، ولهم جرًا، كملك داود وسليمان، والكل من ولد إبراهيم، وفي التنزيل: {آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا} [النساء: 54] ، والإشارة هنا إلى ذريته، وإما أن يراد ملك النفس في مظنة الاضطرار مثل ملكه لنفسه، وقد سأله جبريل: ألك حاجة؟ قال: "أما إليك فلا"، "وجعلني أمة": إمامًا جامعًا لخصال الخير، وفضائل لا تكاد توجد إلا مفرقة في أشخاص كثيرة، والجامع لذلك أمة لقيامه مقام الجماعة، كأنه اجتمع فيه ما تفرق في غيره، كقوله:(8/106)
ثم إن موسى عليه السلام أثنى على ربه فقال: الحمد الله الذي كلمني تكليمًا، واصطفاني، وأنزل علي التوراة، وجعل هلاك فرعون ونجاة بني إسرائيل على يدي، وجعل من أمتي قومًا يهدون بالحق وبه يعدلون.
ثم إن داود أثنى على ربه فقال: الحمد لله الذي جعل لي ملكًا عظيمًا وعلمني الزبور، وألان لي الحديد، وسخر لي الجبال يسبحن معي والطير وآتاني الحكمة وفصل الخطاب.
__________
وليس على الله بمستنكر ... أن يجمع العالم في واحد
"قانتًا" مطيعًا، "ثؤتم": يقتدى "بي، وأنقذني من النار، وجعلها علي بردًا": ذهبت حرارتها: فلم تحرق غير وثاقه، وبقيت إضاءتها، "وسلامًا" سلم من الموت ببردها، "ثم إن موسى عليه السلام أثنى على ربه، فقال: الحمد لله الذي كلمني تكليمًا" بلا واسطة "واصطفاني"، واختارني على أهل زماني.
قال تعالى: {يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي} [الأعراف: 144] ، "وأنزل علي التوراة" فيها هدى ونور، وسماها الله تعالى الفرقان لفرقها بين الحق والباطل، والحلال والحرام، وبصائر للناس، وهدى ورحمة، "وجعل هلاك فرعون" على يدي، "ونجاة بني إسرائيل على يدي"، يتنازعه هلالك ونجاة، "وجعل من أمتي قومًا يهدون" الناس "بالحق، وبه يعدلون" ويحكمون، "ثم إن داود أثنى على ربه، فقال: الحمد لله الذي جعل لي ملكًا عظيمًا" في بني إسرائيل، ولم يجتمعوا على نبي قبله، "وعلمني الزبور": كتاب الله المنزل عليه، "وألان في الحديد"، فكان في يدي كالعجين، "وسخر لي الجبال، يسبحن معي" بالعشي، وقت صلاة العشاء، والإشراق وقت صلاة الضحى، وهو أن تشرق الشمس ويتناهى ضوءها.
وفي التنزيل: {يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ} [سبأ: 10] ، أي: سبحي معه، قاله مجاهد: رواه الفريابي، وعن الضحاك: هو التسبيح، بلغة الحبشة، قال ابن كثير: فيه نظر، فالتأويب لغة الترجيح، وقال وهب: نوحي معه، وذلك إما بخلق صوت مثل صوته فيها، أو بحملها إياه على التسبيح، إذا تأمل فيها، وقيل: سيري معه حيث سار والتضعيف للتكثير، "والطير"، قال تعالى: {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ} [الأنبياء: 79] ، للتسبيح معه لأمره به، إذا وجد فترة لينشط للتسيبح، "وآتاني الحكمة" النبوة والإصابة في الأمور، "وفصل الخطاب"، البيان الشافي في كل قصد.
وفي البيضاوي: وفصل الخصام بتمييز الحق عن الباطل، أو الكلام الملخص الذي ينبه(8/107)
ثم إن سليمان عليه السلام أثنى على ربه فقال: الحمد الله الذي سخر لي الرياح، وسخر لي الشياطين، يعملون ما شئت من محاريب وتماثيل، وعلمني منطق الطير وآتاني من كل شيء فضلًا، وسخر لي جنود الشياطين والإنس والجن، والطير وآتاني ملكًا لا ينبغي لأحد من بعدي، وجعل لي ملكًا طيبًا ليس علي فيه حساب.
__________
المخاطب على المقصود من غير التباس، يراعى في مظان الفصل والوصل، والعطف والاستئناف، والإضمار والإظهار، والحذف والتكرار، ونحوها.
"ثم إن سليمان عليه السلام أثنى على ربه، فقال: الحمد لله الذي سخر لي الرياح"، ذللها لطاعتي إجابة لدعوتي، تجري بأمره رخاء: لينة من الرخاوة، لا تزعزع، أو لا تخالف إرادته، كالمأمور المنقاد حيث أصاب، أي: أراد، "وسخر لي الشياطين يعملون" لي "ما شئت من محاريب": أبنية مرتفعة يصعد إليها بردج كالقصور، سميت بها؛ لأنها يذب عنها ويحارب عليها، "وتماثيل": جمع تمثال، وهو كل شيء مثلثه بشيء، أي: صورًا من نحاس وزجاج ورخام، ولم يكن اتخاذ الصور حرامًا في شريعته.
وأسقط المصنف من حديث أبيس سعيد: وجفان كالجوابي وقدور راسيات، وكذا هو ثابت في حديث أبي هريرة عند البيهقي وغيره، وهو موافق للقرآن، فكأنه سقط من قلم المصنف سهوًا، والجوابي: جمع جابية وهي حوض كبير: يجتمع على الجفنة ألف رجل يأكلون منها، وقدور راسيات ثابتات لها قوائم، لا تحرك عن أماكنها: تتخذ من الجبال باليمن يصعد إليها بالسلاليم.
"وعلمني منطق الطير"، أي: فهم أصواته، "وآتاني من كل شيء" يؤتاه الأنبياء والملوك "فضلًا" مبينًا ظاهرًا، "وسخر لي جنود الشياطين، أي: أعوانا هم الشياطين، فهو من إضافة الأعم إلى الأخص، أو إضافة بيانية، "والإنس والجن" ظاهره أنهم غير الشياطين، وهو كذلك باعتبار الإيمان، فمن كفر من الجن يقال له: شيطان، كما في حياة الحيوان وغيرها، "والطير" أسقط من الحديث: وفضلني عل كثير من عباده المؤمنين، قبل قوله "وآتاني ملكًا لا ينبغي"، لا يكون "لأحد من بعدي"، أي: سواء، ولو في حياتي، كقوله تعالى: {فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ} [الجاثية: 23] ، أي: سواء، "وجعل لي ملكًا طيبًا ليس علي فيه حساب" ولا عقاب، كما في الرواية، لعصمته من الظلم المؤدي إلى ذلك، فهو وإن اتسع ملكه بحيث تجري العادة في مثله بترتب الحساب والعقاب، لم يحصل فيه شيء يقتضيهما للملوك، لا سيما الجبابرة.(8/108)
ثم إن عيسى عليه السلام أثنى على ربه فقال: الحمد لله الذي جعلني كلمته وجعلني مثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون، وعلمني الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل وجعلني أخلق من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرًا بإذن الله، وجعلني أبرئ الأكمه والأبرص، وأحيي الموتى بإذن الله، ورفعني وطهرني وأعاذني وأمي من الشيطان الرجيم، فلم يكن للشيطان علينا سبيل.
قال: وإن محمدًا -صلى الله عليه وسلم- على ربه فقال: كلكم أثنى على ربه وأنا أثني على ربي: فأٌول الحمد لله الذي أرسلني رحمة للعالمين، وكافة للناس بشيرًا
__________
"ثم إن عيسى عليه السلام أثنى على ربه، فقال: الحمد الله الذي جعلني كلمته"، أي: مكونًا بها، وهي قوله تعالى: كن من غير واسطة أب ولا نطفة، "وجعلني مثل آدم"، كشأنه في خلقه من غير أب، وهو من تشبيه الغريب بالأغرب، ليكون أقطع للخصم، وأوقع في النفس "خلقه"، أي: آدم، أي: قالبه "من تراب، ثم قال له: كن" بشرًا، "فيكون"، أي: فكان، وكذلك عيسى قاله له: كن من غير أب، فكان، والجملة مفسرة للتمثيل، مبينة لما به الشبه، "وعلمني الكتاب" الخط، أو جنس الكتب الإلهية، "والحكمة"، أي: العلوم وتهذيب الأخلاق، "والتوراة" النازلة قبله على موسى، "والإنجيل" المنزل على عيسى، "وجعلني أخلق"، أصور "من الطين كهيئة الطير"، مثل صورته والكاف اسم مفعول، "فأنفخ فيه"، الضمير للكاف، أو للطين، أو للطير، وهكذا بالتذكير في آل عمرا، وبالتأنيث في المائدة، عائدًا للهيئة، وهنو تفنن على عدة العرب في التفنن في الكلام، "فيكون طيرًا بإذن الله"، أي: بإرادته، "وجعلني أبرئ": أشفي "الأكمه" الذي ولد أعمى: "والأبرص": وخصا؛ لأنهما داء أعياء، وكان بعثه في زمن الطب، فأبرأ في يوم خمسين ألفًا بالدعاء، بشرط الإيمان، "وأحيي الموتى بإذن الله"، بإرادته، فأحيا عاذر صديقا له، وابن العجوز، وابن العاشر، فعاشوا وولد لهم، وسام بن نوح، ومات في الحال، "ورفعني" إليه من الدنيا بلا موت، "وطهرني": بعدني من الذين كفروا، "وأعاذني وأمي من الشيطان الرجيم" المطرود، "فلم يكن للشيطان علينا سبيل": قال -صلى الله عليه وسلم: "ما من مولود يولد إلا مسه الشيطان حين يولد: فيستهل صارخًا إلا مريم وابنها"، رواه الشيخان.
"قال: وإن محمدًا -صلى الله عليه وسلم- أثنى على ربه، فقال: "كلكم" يا هؤلاء الذين أثنوا، "أثنى على ربه، وأنا أثني على ربي، فأقول: الحمد لله الذي أرسلني رحمة للعالمين" المسلمين، لسعادتهم في الدارين في معاشهم ومعادهم، والكافرين، بأمنهم من الخسف، والمسخ والاستئصال، "وكافة للناس"، بيان لعموم رسالته، فهو إما صفة مصدر، أي: إرساله كافة، أي:(8/109)
"ونذيرًا، وأنزل علي الفرقان، فيه تبيان كل شيء، وجعل أمتي خير أمة أخرجت للناس، وجعل أمتي أمة وسطًا، وجعل أمتي هم الأولون والآخرون وشرح لي صدري، ووضع عني وزري، ورفع لي ذكري، وجعلني فاتحًا وخاتمًا".
__________
عامة كفتهم عن الخروج منها، فهو مفعول مطلق لأرسلني، أو اسم فاعل حال من الياء، أي: حال كوني كافا للناس، فالتاء للمبالغة وكونه حالًا من الناس، مقدمًا على صاحبها المجرور قول ضعيف، "بشيرًا"، أي: مبشرؤًا بالخير لمن آمن وأتقى، "ونذيرًا": منذرًا، محذرًا من كفر وعصى، وهو حال مترادفة، أو متداخلة حمدًا، لا على ما أنعم عليه، ثم ثنى بماله من المنافع والفوائد، وبعبارة كافة، أي: جامعًا في الإنذار والإبلاغ من الكف، بمعنى الجمع، ومنه كف الثواب، وهو جمعه بالخياطة، والهاء للمبالغة، كعلامة ونحوها، وقيل: معناه مانعًا ورادعًا من الكفر، وسائر المعاصي من الكف، بمعنى المنع، والهاء للمبالغة أيضًا، ونصب كافة على الوجهين حال من المفعول في أرسلني، "وأنزل علي الفرقان": من أسماء القرآن؛ لأنه فرق بين الحق والباطل، وهذا عام لغة، وعليه: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ} [الأنبياء: 48] ، ثم خص عرفًا بالقرآن، فصار علمًا له بالغلبة، وأصله تبارك الذي نزل الفرقان على عبده، وهو مصدر بمعنى الفارق، أو المفرق آياته، أو إنزاله "فيه تبيان كل شيء": بكسر التاء البيان الشافي، كما قال تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38] ، أي: يحتاج إليه من الأمور المهمة الشرعية، تفصيلًا في بعض، وإجمالًا في بعض، وأحاله على الرسول عغليه السلام في أمره باتباعه بقوله: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] ، وعلى الإجماع بقوله، ويتبع غير سبيل المؤمنين وهو شامل للقياس والاجتهاد، كما في الكشاف وغيره.
"وجعل أمتي خير أمة أخرجت للناس" كم في الكتاب العزيز: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ} [آل عمران: 110] ، "وجعل أمتي أمة وسطًا"، أي: خيارًا عدولًا، جامعين بين العمل والعلم، وسائر الصفات التي بين التفريط والإفراط.
"وجعل أمتي هم الأولون" في دخول الجنة، "والآخرون" في الوجود، وهم ضمير مبتدأ مفيد للحصر، لا ضمير فصل؛ لأنه لو كان كذلك لقيل: الأولين، "وشرح لي صدري": وسعه بالعلم والإيمان والحكمة واليقين: بحيث لا أحزن على أمر من أمور الدنيا، أو شقه وملأه بالأنوار، كما مر، "ووضع عني وزري": طهر قلبي من حظ الشيطان، وعصمني فلا أرتكب ذنبًا، ولذا قال: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [القلم: 2] ، فسوى بينهما لعدم وقوعهما، أو خفف أعباء النبوة والتبليغ بإفاضة منته علي، والجملتان في غاية التناسب، "ورفع لي ذكري": جعلني مذكورًا في الملأ الأعلى، وجعل اسمي طراز الجنان، ومقرونا باسمه تعالى على كل(8/110)
فقال إبراهيم: بهذا فضلكم محمد، ثم ذكر أنه عرج به إلى السماء الدنيا، ومن سماء إلى سماء، ذكره القاضي عياض في "الشفاء" مختصرًا من حديث أبي هريرة من غير عزو.
ورواه البيهقي من حديث أبي سعيد الخدري، وهذا لفظه.
__________
لسان، وعلى المنابر في إقامة وأذان، قال حسان:
وضم الإله اسم النبي إلى اسمه ... إذا قال في الخمس المؤذن: أشهد
"وجعلني فاتحًا" لأبوب الإيمان والهداية إلى الصراط المستقيم، ولبيان أسباب التوفيق، وما استغلق من العلم، أو هو من الفتح بمعنى الحكم، فجعله حاكمًا كما في خلقه، ففتح ما انغلق بين الخصمين، بإحيائه الحق وإيضاحه، وإماتته الباطل وإدحاضه، أو فاتحًا بالشفاعة يوم القيامة، "وخاتمًا" للنبيين، أي: آخرهم بعثًا.
"فقال إبراهيم: بهذا"، أي: بمجموع ما ذكر، وبكل واحدة منها لا بالأولى فقط، كما زعم "فضلكم محمد"، أي: زاد فضله عليكم، وقدم المعمول للحصر، وقال هذا إبراهيم خطابًا للأنبياء إذاعة لفضله لما سمع ثناءه، "ثم ذكر" في هذا الحديث؛ "أنه عرج به إلى السماء الدنيا": القريبة إلينا من بين السبع سموات، "ومن سماء إلى سماء، ذكره القاضي عياض في الشفاء مختصرًا"، بمعنى أنه لم يذكر ثناء الأنبياء، بل قال: فأثنوا على ربهم، وذكر كلام كل واحد منهم، وهم: إبراهيم وموسى، وعيسى، وداود، وسليمان؛ ثم ذكر كلام النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال: "كلكم".... فذكره بلفظ المصنف هنا "من حديث أبي هريرة من غير عزو" لمخرج، وقد أخرجه أبو يعلى، والبزار، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردويه والبيهقي، كلهم من حديث أبي هريرة، فما يوهمه قول المصنف، "ورواه"، أي: الحديث الذي ذكره أولًا بقوله.
وعن أبي سعيد: ثم سار حتى أتى بيت المقدس إلى هنا، لا قوله: ثم عرج به إلى السماء، كما زعمه من لم يقف على شيء.
"البيهقي من حديث أبي سعيد" الخدري، "وهذا لفظه": من أن البيهقي لم يروه عن أبي هريرة، وأن عياضًا، وهم في نسبته له، ليس بمراد، وروى أحمد، وابن ماجه، وصححه الحاكم عن ابن مسعود، مرفوعًا: "لقيت ليلة أسري بي إبراهيم، وموسى وعيسى، فتذاكروا أمر الساعة، فردوا أمرهم إلى إبراهيم، فقال: لا علم لي بها، فردوا الأمر إلى موسى، فقال: لا علم لي بها، فردوا الأمر إلى عيسى، فقال: أما وجبتها، فلا يعلم بها أحد إلى الله، وفيما عهد إلى ربي أن الدجال خارج، ومعي قضيبان، فإذا رآني، ذاب كما يذوب الرصاص، فيهكله الله إذا رآني، حتى إن الحجر والشجر ليقول: يا مسلم إن تحتي كافرًا، فتعال فاقتله، فيهلكهم الله، ثم ترجع الناس(8/111)
وفي رواية ابن أبي حاتم في تفسيره، عن أنس: لما بلغ بيت المقدس، فبلغ المكان الذي يقال له: باب محمد، أتى إلى الحجر الذي به فغمز جبريل بأصبعه فثقبه ثم ربطها، ثم صعدا، فلما استويا في سرحة المسجد قال جبريل: يا محمد، هل سألت ربك أن يريك الحور العين؟ قال: "نعم"، قال: فانطلق إلى أولئك النسوة
__________
إلى بلادهم وأوطانهم، فعند ذلك يخرج يأجوج ومأجوج، وهم من كل حدب ينسلون، فيطؤون بلادهم لا يطؤون على شيء إلا أهلكوه، ولا يمرون على ماء إلا شربوه، ثم ترجع الناس إلي فيشكونهم، فأدعوا الله عليهم، فيهلكهم ويميتهم حتى تجوى الأرض من نتن ريحهم، فينزل الله المطر، فيجترف أجسادهم حتى يقذفهم في البحر، ثم تنسف الجبال، وتمد الأرض مد الأديم، ففيما عهد إلي ربي أن ذلك إذا كان كذلك، فإن الساعة كالحامل المتم، لا يدري أهلها متى تفجؤهم بولادتها، ليلًا أو نهارًا، وتجوى "بالجيم": أي تنتن وقوله: فيهلكه الله إذا رآني، أي: على يدي، بقتلي له بعد هروبه، لا بمجرد رؤيته، وقوله: حتى إن الشجر غاية لمقدر، ففي حديث أبي أمامة عند ابن ماجه، وصححه ابن خزيمة والحاكم، مرفوعًا: "فإذا انصرف، أي: من الصلاة خلف المهدي، قال عيسى: افتحوا الباب، فيفتحون وراءه الدجال، معه سبعون ألف يهودي، كلهم ذو سيف محلى، وساج، فإنا نظر إليه الدجال ذاب، كما يذوب الملح في الماء، وينطلق هارًا، ويقول عيسى: إن لي فيك ضربة لن تسبقني، فيدركه عند باب لد الشرقي، فيقتله، فيهزم الله اليهود فلا يبقى شيء مما خلق الله عز وجل، تتوافى به دابة إلا الغرقدة، فإنها من شجرهم، لا تنطق، إلا قال: يا عبد الله المسلم هذا يهودي فتعال اقتله".
"وفي رواية ابن أبي حاتم في تفسيره، عن أنس: لما بلغ بيت المقدس، فبلغ"، أي: فسار حتى بلغ، "المكان الذي يقال له باب محمد" الآن بعد دخوله -صلى الله عليه وسلم- منه، ويحتمل أنه كان معروفًا عندهم قبل المعراج، وبهاذ الاسم من الأنبياء والكتب القديمة، "أتى إلى الحجر" جواب لما "الذي به" وهو الصخرة المعروفة، "فغمز جبريل بإصبعه، فثقبه، ثم ربطها" أي: الدابة، وهو البراق، وفي نسخة: ثم "صعدا" أي: مرا بعد ربط البراق، وإلا فلا معنى للصعود هنا، وأكثر النسخ بإسقاطها وهي ظاهرة.
"فلما استويا في سرحة" بسين مهملة وراء وحاء، أي: فناء "المسجد"، أي ساحته التي في وسطه، وفي نسخة: صراحة المسجد بصاد مهملة، وهي ظاهرة، أي: ساحته وفي نسخة: عرضه المسجد، أي: ساحته التي لا بناء فيها، ونقل الشامي هذا الحديث بعينه، بلفظ: في صخرة المسجد، أي: عندها.
"قال جبريل: يا محمد هل سألت ربك أن يريك الحور العين": بكسر العين جمع عيناء، حسنة العينين واسعتهما، والحور: النساء البيض، اللواتي بأعينهن حور، وهو شدة بياض بياضها،(8/112)
"فسلم عليهن: قال: فسلمت عليهن فرددن علي السلام، فقلت: لمن أنتن؟ ققلن: خيرات حسان، نساء قوم أبرار، نقوا فلم يدرنوا، وأقاموا فلم يظعنوا، وخلدوا فلم يموتوا، قال: ثم انصرفت فلم ألبث إلا يسيرًا، حتى اجتمع ناس كثير، ثم أذن مؤذن وأقيمت الصلاة، قال: فقمنا صفوفًا ننتظر من يؤمنا، فأخذ جبريل عليه السلام بيدي فقدمني فصليت بهم، فلما انصرفت قال لي جبريل: أتدري من صلى خلفك؟ قلت: لا، قال: صلى خلفك كل نبي بعثه الله".
قال القاضي عياض: يحتمل أن يكون -صلى الله عليه وسلم- صلى بالأنبياء جميعًا في بيت المقدس، ثم صعد منهم إلى السماء من ذكر أنه عليه السلام رآه في السماوات ويحتمل أن يكون صلى بهم بعد أن هبط من السماء، فهبطوا أيضًا، والأظهر أن
__________
وسواد سوادها، وقيل: الحور اسوداد المقلة كلها، كعيون الظباء، قالوا: ولا حور في الإنسان وإنما قيل ذلك في النساء على التشبيه، "قال: "نعم"، قال: فانطلق إلى أولئك النسوة"، فإنهن من الحور العين، "فسلم عليهن، قال" -صلى الله عليه وسلم-: فانطلقت، "فسلمت عليهن، فرددن علي السلام، فقلت: لمن أنتن؟، فقلن: خيرات" أخلاقًا، "حسان" وجوها: جمع حسناء، وقيل: خيرات: جمع خيرة بفتح فسكون، وهي الحوارء، "نساء قوم أبرار، نقوا فلم يدرنوا" بفتح الياء والراء، أو بضم الياء وكسر الراء، أي: لم يصبهم درن، وهو الوسخ، "وأقاموا، فلم يظعنوا"، يرتحلوا من محل لآخر، فتصيبهم مشقة الظعن، "وخلدوا، فلم يموتوا، قال: ثم انصرفت" من عند الحور، "فلم ألبث إلا يسيرًا حتى اجتمع ناس كثير، ثم أذن مؤذن وأقيمت الصلاة"، تقدم المراد بهما؛ "قال: فقمنا صفوفًا ننتظر من يؤمنا، فأخذ جبريل عليه السلام بيدي، فقدمني، فصليت بهم، فلما انصرفت" من السلاة، "قال لي جبريل: أتدري من صلى خلفك؟، قلت: لا، قال: صلى خلفك كل نبي بعثه الله" تعالى، أي: أوحي إليه بشرع، فشمل الأنبياء والمرسلين لقوله في الحديث السابق: "فإذا النبيون أجمعون يصلون معه"، ثم ظاهر سياق هذا الحديث يخالف قوله في الرواية السابقة، ثم دخلت المسجد، فعرفت النبيين ما بين قائم وراكع وساجد، ثم أقيمت الصلاة، فأممتهم.
"قال القاضي عياض: يحتمل أن يكون -صلى الله عليه وسلم- صلى بالأنبياء جميعًا في بيت المقدس قبل العروج.
قال الشامي: وهو الذي تظافرت به الروايات، واستظهره الحافظ "ثم صعد منهم إلى السماء من ذكر أنه عليه السلام رآه في السموات" آدم، فيحيى وعيسى، فيوسف، فإدريس، فهارون فموسى فإبراهيم، "ويحتمل أن يكون صلى بهم بعد أن هبط من السماء فهبطوا أيضًا"(8/113)
صلاته بهم في بيت المقدس كان قبل العروج. انتهى.
وقال ابن كثير: صلى بهم ببيت المقدس قبل العرج وبعده، فإن في الحديث ما يدل على ذلك، ولا مانع منه، انتهى.
وقد اختلف في هذه الصلاة، هل هي فرض أو نفل؟ وإذا قلنا: إنها فرض، فأي صلاة هي؟
قال بعضهم: الأقرب أنها الصبح، ويحتمل أن تكون العشاء، وإنما يتأتى على قول من قال: إنه -صلى الله عليه وسلم- صلى بهم قبل عروجه إلى السماء، وأما على قول من قال:
__________
للصلاة معه.
قال الشامي: وصححه ابن كثير، وقوله: والأظهر أن صلاته بهم ببيت المقدس كان قبل العوج، انتهى" ظاهره أنه من كلام عياض، وليس كذلك.
إنما هو للحافظ، ذكره في فتح الباري بعد كلام عياض، وكذا عزاه له تلميذه النعماني، ثم الشامي، ثم الغيطي.
"وقال ابن كثير: صلى بهم ببيت المقدس قبل العروج وبعده، فإن في الحديث ما يدل على ذلك، ولا مانع منه، انتهى"، وهذا منابذ لنقله عن ابن كثير نفسه، ومن قوله: الظاهر أنه بعد رجوعه إلى ما يأتي بعد أسطر، وقد نسب النعماني ما هنا لنفسه، وتبعه الشامي فعزا له.
"وقد اخلتف في هذه الصلاة"؛ هل هي الشرعية المعروفة، أو اللغوية؟، وصواب الأول؛ لأن النص يحمل على حقيقته الشرعية قبل اللغوية ما لم يتعذر حمله على الشرعية، ولم يتعذر هنا، فوجب حمله على الشرعية، وعلى هذا اختلف "هل هي فرض"؟، ويدل عليه، كما قال النعماني حديث أنس عند ابن أبي حاتم المتقدم قريبًا للمصنف، "أو نفل، وإذا قلنا: إنها فرض، فأي: صلاة هي؟، قال بعضهم: الأقرب أنها الصبح، ويحتمل أن تكون العشاء، وإنما يتأتى على قول من قاله: إنه -صلى الله عليه وسلم- صلى بهم قبل عروجه إلى السماء.
وفي النعماني: إنما يتأتلى على أن الإسراء من أول الليل، لكن قال بعض رواة حديث الإسراء: إنه بعد صلاة العشاء، "وأما على قول من قال: صلى بهم بعد العروج، فتكون الصبح"؛ والاحتمالان، كما قال الشامي ليسا بشيء، سواء قلنا: صلى بهم قبل العروج أو بعده؛ لأن أول صلاة صلاها النبي -صلى الله عليه وسلم- من الخمس مطلقًا الظهر بمكة باتفاق، ومن حمل الأولية على مكة، فعليه الدليل، قال: والذي ظهر أنها كانت من النفل المطلق، أو كانت من الصلاة المفروضة عليه قبل ليلة الإسراء، وفي فتاوى النووي ما يؤيد الثاني.(8/114)
صلى بهم بعد العروج فتكون الصبح.
قال ابن كثير: ومن لناس من يزعم أنه أمهم في السماء، والذي تظاهرت به الروايات أنه ببيت المقدس، والظاهر أنه بعد رجوعه إليهم؛ لأنه لما مر بهم في منازلهم جعل من يسأل جبريل عنهم واحدًا بعد واحدًا، وهو يخبره بهم، ثم قال: وهذا هو اللائقق؛ لأنه أولًا كان مطلوبًا إلى الجناب العلوي، ليفرض الله عليه وعل أمته ما يشاء، ثم لما فرغ مما أريد به اجتمع هو وإخوانه من النبيين، ثم أظهر شرفه عليهم بتقدمه في الإمامة.
وفي رواية ابن إسحاق: أنه عليه السلام قال: "لما فرغت مما كان في بيت
__________
"قال ابن كثير: ومن الناس من يزعم أنه أمهم في السماء، والذي تظاهرت به الروايات أنه ببيت المقدس"، فهو الواجب القبول، "والظاهر أنه بعد رجوعه إليهم؛ لأنه لما مر بهم في منازلهم" من السماوات "جعل من يسأل جبريل عنهم واحدًا بعد واحد، وهو يخبره بهم"، فلو رآهم قبل العروج ما حسن السؤال ولا الجواب، ولكن هذا عقلي يدفعه قوله: ثم دخلت المسجد، فعرفت النبيين ما بين قائم، وراكع وساجد، والسؤال عنهم بعد ذلك في السماوات لا يستلزم أنه لم يرهم قبل، لجواز اختلاف الصفة.
وقد نقل الحافظ، أن رؤيته الذين صلوا ببيت المقدس تحتمل الأرواح خاصة، والأرواح بأجسادها، وأما في السماء، فمحمولة على الأرواح إلا عيسى، لما أثبت أنه رفع بجسده، وقد قيل في إدريس أيضًا ذلك، ويأتي ذلك للمصنف.
"ثم قال" ابن كثير: "وهذ هو اللائق؛ لأنه أولًا كان مطلوبًا إلى الجناب العلوي، ليفرض الله عليه وعلى أمته ما يشاء، ثم لما فرغ مما أريد به اجتمع هو وإخوانه من النبيين"، وهذا أيضًا عقلي لا ينهض حجة في المدعي؛ لأنه قدم على هذا الأمر العظيم الذي ليس في طوق بشر يناسبه بالانتقال من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، وما رآه في سيره من الآيات، ثم دخوله الأقصى وصلاته ركعتين، فناسب أن يجتمع بإخوانه ليزيد إيناسه بالاجتماع بجنسه "ثم أظهر شرفه عليهم بتقديمه في الإمامة"، ثم ثناء من أثنى منهم على ربه، وزيادة ثنائه عليهم، وقول إبراهيم: بهذا فضلكم محمد، فيتلقى المعراج بقلب قوي، فلا يكون عنده وحشة في العالم العلوي.
"وفي رواية ابن إسحاق"، عن أبي سعيد، "أنه عليه السلام قال: "لما فرغت مما كان في بيت المقدس" من صلاته الركعتين، وصلاته بالأنبياء وثنائهم على الله، "أتي بالمعراج"(8/115)
"المقدس، أتي بالمعراج، ولم أر قط شيئًا أحسن منه، وهو الذي يمد إليه الميت عينيه إذا احتضر، فأصعدني صاحبي جبريل فيه حتى انتهى إلى باب من أبواب السماء".
وفي روياة كعب: "فوضعت له مرقاة من فضة ومرقاة من ذهب حتى عرج هو وجبريل".
وفي "شرف المصطفى" أنه أتي بالمعراج من جنة الفردوس، وأنه منضد باللؤلؤ عن يمينه ملائكة، وعن يساره ملائكة.
وفي رواية أبي سعيد -عند البيهقي- "ثم أتيت بالمعراج الذي تعرج عليه أرواح بني آدم، فلم تر الخلائق أحسن من المعراج، أما رأيت الميت حين يشق
__________
الذي تعرج عليه أرواح بني آدم، كما في الرواية الآتية، "ولم أر قط شيئًا أحسن منه، وهو الذي يمد إليه الميت عينيه إذا احتضر"، ولو كان الميت أعمى، كما في شرح الصدور، فالميت يكشف له إذا احتضر عن المعراج، فيراه، فيمد عينه إليه، فإذا قبضت روحه، صعدت فيه إلى حيث شاء الله، "فأصعدني صاحبي جبريل فيه، حتى انتهى إلى باب من أبواب السماء"، أي: الدنيا، كما مر في الحديث.
"وفي رواية كعب" عند الواسطي في فضائل بيت المقدس؛ "فوضعت له مرقاة من فضة، ومرقاة من ذهب"، وهو المعراج، "حتى عرج هو وجبريل" عليها، والمرقاة موضع الرقي، ويجوز فتح الميم على أنه موضع الارتقاء، وكسرها تشبيها باسم الآلة، كالمطهرة، وأنكره أبو عبيد وقال: لم تقله العرب.
"وفي" رواية لابن سعد في كتاب "شرف المصطفى؛ أنه أتي بالمعراج من جنة الفردوس"، قال -صلى الله عليه وسلم: "الفردوس أعلى الجنة ووسطها، وفوقه عرض الرحمن، ومنها تفجر أنهار الجنة، فإذا سألتم الله، فاسألوه الفردوس" رواه ابن ماجه، وصححه الحاكم.
"وأنه منضد اللؤلؤ"، أي: جمع عليه بحيث عمه بجعل بعضه فوق بعض، "وعن يمينه ملائكة، وعن يساره ملائكة".
"وفي رواية أبي سعيد عند البيهقي: ثم أتيت بالمعراج الذي تعرج عليه أرواح بني آدم، فلم تر الخلائق أحسن من المعراج، أما رأيت الميت"، استفهام قصد به تقرير المبالغة في حسنه، "حين يشق بصره"، أي: تنفتح عيناه عند الاحتضار انفتاحًا لا يرتد عما رآه، قال المجد: شق بصر الميت، نظر إلى شيء لا يرتد إليه طرفه، ولا تقل شق الميت بصره فأفاد أنه لازم، وفسره الفقهاء بيشخص بصره، ولعله إشارة إلى أنه صار كالشاخص الذي لا يتحرك من(8/116)
"بصره طامحًا إلى السماء، فإن ذلك عجبه بالمعراج".
وقد تقدم في حديث البخاري السابق: "فانطلق بي جبريل حتى أتى السماء الدنيا فاسفتح، قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: أوقد أرسل إليه؟ قال: نعم".
ولم يقل جبريل عليه السلام: أنا، حيث قال له: من هذا؟ إنما سمى نفسه فقال: جبريل؛ لأن لفظ "أنا" فيه إشعار بالعظمة، وفي الكلام السائر: أول من قال: "أنا" إبليس فشقي، وأيضًا فقوله: "أنا" مبهمة لافتقار الضمير إلى العود، فهي غير كافية في البيان.
وعلى هذا ف ينبغي للمستأذن إذا قيل له: من أنت؟ لا يقول: "أنا"، بل
__________
شدة نظره للمعراج الذي تعرج روحه عليه، وترى بصرية حالة كونه، "طامحًا"، أي: رافقًا بصره إلى السماء، "فإن ذلك"، أي: سببه "عجبه بالمعراج، وقد تقدم في حديث البخاري السابق" عن مالك بن صعصعة "فانطلق بي جبريل حتى أتى السماء الدنيا فاستفتح، قيل: من هذا؟، قال: جبريل: قيل: ومن معك؟، قال: محمد، قيل: أوقد أرسل إليه؟، قال: نعم، ولم يقل جبريل عليه السلام: أنا حيث قال له: من هذا؟، إنما سمى نفسه، فقال جبريل"، واقتصر عليه؛ لأنه ليس في الملائكة من تسمى بهذا الاسم غيره؛ "لأن لفظ أنا فيه إشعار بالعظمة" التي لا تخلو عن نوع تكبر، كأنه يقول: أنا لا أحتاج إلى ذكر سمي لسمو مقامي، قاله ابن الجوزي.
قال بعضهم: وعادة العارفين المتقنين، أن يذكر أحدهم اسمه بدل قوله أنا، ولا في نحو إقرار، بحق، فالضمير أولى، "وفي الكلام السائر" الجاري بين الناس، "أول من قال أنا إبليس، فشقي"، وقال فرعون: أنا ربكم الأعلى فتعس، "وأيضًا، فقوله أنا مبهمة لافتقار الضمير إلى العود، فهي غير كافية في البيان"، والضمير إذا عاد وتعين مضمره كان أعرف المعارف، والمستأذن محجوب عن المستأذن عليه، غير متعين عنده، فكأنه أحاله على جهالة، كما في ابن المنير وغيره.
"وعلى هذا فينبغي للمستأذن إذا قيل له: من أنت؟، أن لا يقول: أنا، بل يقول: فلان"، ويصف نفسه بما يميزه عن غيره، فلا يكفي أن يقول محمدًا مثلًا، إلا إذا كان معروفًا للمخاطب بذلك الاسم، وقد أنكر النبي -صلى الله عليه وسلم- على الذي استأذن عله، فقال: "من هذا؟، فقال: أنا، فقال -صلى الله عليه وسلم: أنا أنا" إنكارًا عليه، قاله ابن المنير وغيره.
وقال بعض المحققين: ذهبت طائفة من العلماء، وفرقة من الصوفية إلى كراهة إخبار الرجل(8/117)
يقول: فلان.
وفي رواية للبخاري ومسلم: فعرج، وهو بفتح العين بمعنى صعد.
وفي حديث أبي سعيد عند البيهقي: حتى انتهى إلى باب من أبواب السماء يقال له: باب الحفظة، وعليه مالك يقال له: إسماعيل تحت يده اثنا عشر ألف ملك.
__________
عن نسفه بأنا، تمسكا بظاهر الحديث حتى قالوا: كلمة أنا لم تزل مشؤومة على أصحابها، وزادوا أن إبليس إنما لعن بقولها، وليس كما قالوا، بل النهي عنه لما صحبه من النظر إلى نفسه بالخيرية: ولا تنكر إصابة الصوفية في دقائق علومهم، وإشاراتهم في التبري من الدعاوي الوجودية، لكن الذي أشاروا إليه بهذا راجع إلى معان تتعلق بأحوالهم دون ما فيه من التعلق بالقول، كيف وقد ناقض أقوالهم نصوص كثيرة، وهم أشد الناس فرارًا من مخالفتها، كقوله تعالى: {إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} [الكهف: 110] ، {أَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِين} [الأعراف: 143] ، {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِين} [ص: 86] ، وقوله -صلى الله عليه وسلم: "أنا سيد ولد آدم"، والحاصل كما قال بعض الأفاضل؛ أن ذلك يتفاوت بتفاوت الأحوال والمقامات، فالمتردد في الأحوال، المتحول في الفناء والتلوين ينافي حاله أن يقول أنا، ومن رقي إلى مقام البقاء بالله، وتصاعد إلى درجات التمكين فلا يضره.
"وفي رواية البخاري" ففي الصلاة وغيرها، "ومسلم" في الإيمان من حديث أنس، عن أبي ذر: "فعرج" بي جبريل إلى السماء الدنيا، بدل قوله في رواية ابن صعصعة: فانطلق، "وهو بفتح العين" والفاء والراء، "بمعنى صعد".
"وفي حديث أبي سعيد عند البيهقي" وابن إسحاق: "حتى انتهى إلى باب من أبواب السماء، يقال له: بال الحفظة وعليه ملك يقال له إسماعيل"؛ وهو صاحب سماء الدنيا، كما في رواية البيهقي عن أبي سعيد.
وفي حديث جعفر بن محمد عند البيهقي معضلًا أيضًا: يسكن الهواء، لم يصعد إلى السماء قط، ولم يهبط إلى الأرض قط إلا يوم مات النبي -صلى الله عليه وسلم- ومعلوم أن علم ذلك بإخباره عليه السلم به قبل موته؛ لأن هذا لا مدخل فيه للرأي.
"تحت يده اثنا عشر ألف ملك"، ينقادون لأمره ونهيه كالجند، زاد في رواية ابن إسحاق: مع كل ملك اثنا عشر ملك، وروى ابن جرير والبيهقي في الدلائل من حديث أبي سعيد: وبين يديه سبعون ألف ملك، مع كل ملك جنده مائة ألف.
وفي رواية للبزار: تحت يده سبعون ألف ملك، تحت يد كل ملك سبعون ألف ملك، ولعل المراد التكثير، فلا يخالف مائة ألف، ولعل الإثني عشر ألفًا رؤساء السبعين ألفًا، وكذا الإثنا(8/118)
وفي رواية شريك -عند البخاري أيضًا- ثم عرج به إلى سماء الدنيا، فضرب بابا من أبوابها فناداه أهل سماء الدنيا: من هذا؟ قال: جبريل، قالوا: ومن معك قال: محمد. قالوا: وقد بعث إليه؟ قال: نعم، قالوا: مرحبًا وأهلًا، فيستبشر به اهل السماء، لا يعلم أهل السماء بما يريد الله به في الأرض حتى يعلمهم، أي على لسان من شاء كجبريل.
ووقع في هذه الرواية أيضًا أنه رأى في سماء الدنيا النيل والفرات عنصرهما.
وظاهرها يخالف حديث مالك بن صعصعة فإن فيه بعد ذكر سدرة المنتهى: وإذا في أصلها أربعة أنهار.
ويجمع بينهما: بأن أصل نبعهما من تحت سدرة المنتهى ومقرهما في السماء الدنيا، ومنها ينزلان إلى الأرض.
__________
عشر ألفًا الذين مع كل ملك رؤساء على باقي المائة ألف، فلا خلف، والله أعلم.
"وفي رواية شريك" بن عبد الله المدني، عن أنس، "وعند البخاري أيضًا، ثم عرج" جبريل "به"، بالنبي -صلى الله عليه وسلم- "إلى سماء الدنيا، فضرب بابا من أبوابها، فناداه أهل سماء الدنيا"، أي: جنسهم الصادق بالحفظة للباب: "من هذا"؟، الذي يدق الباب.
وفي حديث أبي ذر: فلما جئت إلى السماء، قال جبريل لخازن السماء الدنيا: افتح قال: من هذا؟، "قال: جبريل قالوا: ومن معك؟، قال: محمد، قالوا: وقد بعث إليه؟، قال: نعم، قالوا: مرحبًا وأهلًا، فيستبشر به أهل السماء"، سقطت الفاء من رواية الأصيلي، وزاد الدنيا، "لا يعلم أهل السماء بما يريد الله به في الأرض حتى يعملهم، أي: على لسان من شاء، كجبريل" عليه السلام، "ووقع في هذه الرواية"، أي: رواية شريك عن أنس "أيضًا، أنه رأى في سماء الدنيا النيل والفرات، عنصرهما" بضم المهملتين، بينهما نون ساكنة أصلهما الذي تميزا به عن نهري الجنة، فينزلان إلى سمءا الدنيا، ثم ينزلان إلى الأرض بدل مما قبله.
ولفظ رواية شريك: فإذ هو في السماء الدنيا بنهرين يطردان: فقال: ما هذان النهران يا جبريل؟، قال: هذا الني والفرات عنصرهما، "وظاهرها"، أي: هذه الرواية "يخالف حديث مالك بن صعصعة، فإن فيه بعد ذكر سدرة المتنتهى، وإذا في أصلها أربعة أنهار"، نهران باطنان ونهران ظاهران، فقلت: ما هذان يا جبريل؟، قال: أما الباطنان فنهران في الجنة، وأما الظاهران فالنيل والفرات، "ويجمع بينهما؛ بأن أصل نبعهما من تحت سدرة المنتهى، ومقرهما في السماء الدنيا، ومنها ينزلان إلى الأرض" وجمع ابن دحية، بأنه رأى هذين عند سدرة المنتهى(8/119)
ووقع في هذه الروياة أيضًا: ثم مضى به في السماء الدنيا فإذا هو بنهر آخر، عليه قصر من لؤلؤ وزبرجد، وأنه الكوثر.
وهو مما استشكل من رواية شريك، فإن الكوثر من الجنة، والجنة فوق السماء السابعة، ويحتمل أن يكون تقديره: ثم مضى في سماء الدنيا إلى السابعة فإذا هو بنهر.
ثم إن قوله في الحديث: "استفتح" دلالة على أنه صادف أبواب السماء مغلقة، والحكمة في ذلك -والله أعلم- التنويه بقدره عليه السلام، وتحقيق أن السماوات لم تفتح أبوابها إلا من أجله، ولو وجدها مفتحة لم يتحرر أنها فتحت
__________
مع نهري الجنة، ورآههما في السماء الدنيا دون نهري الجنة، وأراد بالعنصر عنصر انشتارهما السماء الدنيا، وكان الحافظ لم يرتضه لقوله، كذا قال ابن دحية انتهى، وتبعه المصنف فيما يأتي وجمع غيره بأن منبعهما من السدرة، وإذا نزلا إلى الأرض، يسلكان أولًا على الجنة، فيدخلانها، ثم ينزلان إلى الأرض بعد ذلك، ويأتي مزيد لذلك إن شاء الله قريبًا.
"ووقع في هذه الروياة أيضًا: ثم مضى به في السماء الدنيا، فإذا هو بنهر آخر عليه قصر من لؤلؤ وزبرجد، وأنه" فسره جبريل بقوله: هذا "الكوثر"، ولفظه عقب زبرجد، فضرب يده، فإذا هو مسك، قال: "ما هذا يا جبريل"؟، قال: هذا الكوثر الذي خبا لك ربك، "وهو مما استشكل من رواية شريك، فإن الكوثر في الجنة، والجنة فوق السماء السابعة، ويحتمل الجمع برد رواية شريك إلى هذا، وهو "أن يكون" هناك حذف "تقديره: ثم مضى في سماء الدنيا إلى السابعة، فإذا هو بنهر"، كذا ذكره الحافظ، واستبعده تلميذه القطب الخيضري في الخصائص، بأن بين الأولى والسابعة خمس سماوات، كل منها له صفة غير صفة الأخرى، ولها أبواب وخدام غير الأخرى، فإطلاق المسير إليها بعيد، وذكرها بعد السادسة مما يبعده أيضًا لكن قد يقال من غير استبعاد؛ أن أصل الكوثر في الجنة، وجعل الله تعالى منه فرعًا في السماء الدنيا، عجل لنبيه رؤيته استبشارًا؛ لأنها أول المراتب العلوية بعد السفلية، ويؤيد هذا قول جبريل: خبا لك ربك انتهى.
"ثم إن قوله في الحديث: استفتح، دلالة" صريحة "على أنه صادف أبواب السماء مغلقة"، وأصرح منه قوله في حديث أبي ذر: قال جبريل لخازن السماء: افتح، وكذا ضربه الباب.
"والحكمة"، كما قال ابن المنير "في ذلك، والله أعلم، التنويه بقدره"، أي: إظهاره ورفعه "عليه السلام، وتحقيق أن السماوات لم تفتح أبوابها إلا من أجله، ولو وجدها مفتحة(8/120)
لأجله، فلما فتحت له تحقق غليه السلام أن المحل مصون، وأن فتح له كرامة وتبجيل.
وأما قوله في الحديث: "أرسل إليه"؟ وفي رواية وقد "بعث إليه"؟ فيحتمل أن يكون استفهم عن الإرسال إليه للعروج إلى السماء، وهو الأظهر لقوله: "إليه"؛ لأن أصل بعثه قد اشتهر في الملكوت الأعلى.
وقيل: سألوا تعجبًا من نعمة الله تعالى عليه بذلك، أو استبشارًا به، وقد علموا أن بشرًا لا يترقى هذا الترقي إلا بإذن من الله تعالى، وأن جبريل لا يصعد بمن لم يرسل إليه.
قيل: إن الله تعالى أراد أراد إطلاع نبيه على أنه معروف عند الملأ الأعلى،
__________
لم يتحرر"، أي: لم يعلم "أنها فتحت لأجله"، ولا بد، بل كان يحتمل أنها مفتوحة دائمًا، وأنها فتحت لغيره، تصادف مجيئه بعده، "فلما فتحت له تحقق عليه السلام أن المحل مصون، وأن فتحه له كرامة وتبجيل": تعظيم وقال ابن دحية: وإنما لم تهيأ له بالفتح قبل مجيئه، وإن كان أبلغ في الإكرام؛ لأنه لو رآها مفتحة لظن أنها لا تزال كذلك، ففعل ذلك ليعلم أن ذلك فعل من أجله؛ ولأن الله تعالى أراد أن يطلعه على كونه معروفًا عند أهل السماوات.
"وأما قوله في الحديث: أرسل إليه"، بهمزة واحدة، ولأبي ذر: أأرسل بهمزتين، الأولى للاستفهام، والثانية للتعدية، وهي مضمومة، وللكشميهني أوأرسل، بواو مفتوحة بين الهمزتين.
"وفي رواية" لشريك عن أنس: "وقد بعث إليه، فيحتمل أن يكون استفهم عن الإرسال إليه للعرود إلى السماء" والإسراء، "وهو الأظهر لقوله: إليه"، إذ لو كان المراد أصل البعثة، لم يحتج لقوله إليه؛ "لأن أصل بعثه قد اشتهر في الملكوت الأعلى"، فلا يخفى عليهم إلى هذه المدة.
قال الحافظ: بعدها استظهر هذا تبعًا لابن المنير وغيره: ويحتمل أن يكون خفي عليه أصل إرساله لاشتغاله بعبادته، قال: ويؤيده رواية شريك: وقد بعث إليه. انتهى، وقد يقال: لا تأييد فيه؛ لأن المراد البعث الخاص للإسراء وصعود السماوات، لا عن أصل البعثة.
"وقيل: سألوا تعجبًا من نعمة الله تعالى عليه بذلك، أو استبشارًا به، وقد علموا أن بشرًا لا يترقى هذا الترقي إلا بإذن الله تعالى"، إذ لا قدرة له على ذلك حتى يأذن، "وأن جبريل لا يصعد بمن لم يرسل إليه"، فليس سؤالًا حقيقيًا.
"وقيل: إن الله تعالى أراد اطلاع نبيه على انه معروف عند الملأ الأعلى؛ لأنهم(8/121)
لأنهم قالوا: وقد بعث إليه؟ أو: أرسل إليه؟ فدل على أنهم كانوا يعرفون أن ذلك سيقع له، وإلا لكانوا يقولون: ومن محمد مثلًا؟ ولذلك أجابوا بقولهم: مرحبًا به ولنعم المجيء جاء، وكلامهم بهذه الصيغة أدل دليل على ما ذكرناه من معرفتهم بجلالته وتحقيق رسالته؛ ولأن هذا أحسن ما يكون من حسن الخطاب والترفيع، على المعروف من عادة العرب.
وأما قوله: "من معك"؟ فيشعر بأنهم أحسوا به عليه الصلاة والسلام، وإلا لكان السؤال بلفظ: أمعك أحد؟ وهذا الإحساس إما بمشاهدة لكون السماء شفافة، وإما لأمر معنوي كزيادة أنوارها ونحوه، قاله الحافظ ابن حجر.
ولعله أخذه من كلام العارف ابن أبي جمرة، حيث قال في "بهجته": الثاني أن يكون سؤالهم له لما رأوا حين رأوا إقبالهم عليه من زيادة الأنوار وغيرها من
__________
قالوا: وقد بعث إليه"، بحذف همزة الاستفهام، للعلم بها، "أو أرسل إليه"، بحذفها وإثباتها روايتان كما علم، "فدل على أنهم كانوا يعرفون أن ذلك سيقع له" -صلى الله عليه وسلم- "وإلا لكانوا يقولون: ومن محمد مثلًا، ولذلك أجابوا بقولهم: مرحبًا به، ولنعم المجيء جاء، وكلامهم بهذه الصيغة أدل دليل على ما ذكرناه من معرفتهم بجلالته وتحقيق رسالته؛ ولأن هذا أحسن ما يكون من حسن الخطاب والترفيع": المبالغة في إظهار قدره وشرفه بين الملائكة، بناء "على المعروف من عادة العرب"، فيمن خاطبوه بذلك، وهذا ذكره ابن أبي جمرة.
وذكر ابن المنير: أن موقع قول الخازن، وقد بعث إليه استنطاق جبريل بالسبب الموجب للإذن، والفتح؛ لأن مجرد قوله: معي محمد، لا يوجب الإذن إلا بواسطة البعث من الله تعالى، ويلزم منه الإذن في إزالة الموانع وفتح أبواب السماء، فلم يتوقف الخازن على أن يوحى إليه بالفتح؛ لأنه لزم عنده من البعث الإذن.
"وأما قوله: من معك، فيشعر بأنهم أحسوا به عليه الصلاة والسلام"، لفظ الحافظ؛ بأنهم أحسوا عه برفيق، "وإلا لكان السؤال بلفظ أمعك أحد؟، وهذا الإحساس إما بمشاهدة لكون السماء شفافة" لا تحجب ما وراءها، "وإما لأمر معنوي، كزيادة أنوار ونحوها، قاله الحافظ ابن حجر" في فتح الباري: "ولعله أخذه من كلام العارف ابن أبي جمرة، حيث قال في بهجته"، أي: كتابه بهجة النفوس وتحليلها بمعرفة ما لها وعليها، وهو اسم شرحه على الأحاديث التي انتخبها من البخاري.
"الثاني: أن يكون سؤالهم له" لجبريل، "لما رأوا حين رأوا إقبالهم عليه" على جبريل "من(8/122)
المآثر الحسان زيادة على ما يعهدونه منه، قال: وهذا هو الأظهر، كأنهم قالوا: من الشخص الذي من أجله هذه الزيادة التي معك؟ فأخبرهم بما أردوا وهو تعيين الشخص باسمه حتى عرفوه، انتهى.
وقد قال بعض العلماء: {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [النجم: 18] أنه -صلى الله عليه وسلم- رأى صورة ذاته المباركة في الملكوت فإذا هو عروس المملكة.
وأما قولهم له: "مرحبًا به ولنعم المجيء جاء" فيحتمل أن يكونوا قالوه لما عاينوه من بركاته عليه السلام التي سبقته للسماء مبشرة بقدومه، وفيه تقديم وتأخير، والتقدير: جاء فنعم المجيء مجيئه، وإنما لم يقل الخازن: مرحبًا بك،
__________
زيادة الأنوار وغيرها"، بيان لما رأوا "من المآثر الحسان، زيادة على ما يعهدونه منه، قال: وهذا هو الأظهر" من احتمال أن ذلك؛ لأن السماء شفافة، "كأنهم قالوا: من الشخص الذي من أجله هذه الزيادة التي معك فأخبرهم بما أرادوا، وهو تعيين الشخص باسمه حتى عرفوه. انتهى.
"و" يؤيده أنه "قد قال بعض العلماء في قوله تعالى: {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [النجم: 18] ، أنه -صلى الله عليه وسلم- رأى صورة ذاته المباركة في الملكوت، فإذا هو عروس المملكة" لشدة أنواره "وأما قولهم له: مرحبًا به"، أي: أصاب رحبًا وسعة، كنى بذلك عن الانشراح، وأخذ منه ابن المنير جواز رد السلام بغير لفظه، وتعقب بأن مرحبًا به ليس ردًا؛ لأنه كان قبل فتح الباب، والسياق يرشد إليه وقد نبه على ذلك ابن أبي جمرة.
"ولنعم المجيء جاء، فيحتمل أن يكونوا قالوه لما عاينوه من بركاته عليه السلام التي سبقته للسماء مبشرة بقدومه"، وفيه دللة على أن للحاشية إذا فهموا من سيدهم عزمًا إكرام وافد أن يبشروه بذلك، وإن لم يأذن لهم فيه، ولا يكون إفشاء سر؛ لأن الخازن أعلم النبي -صلى الله عليه وسلم- حال استدعاء؛ أنه استدعاء إكرام وإعظام، فعجل بالبشرى والفراسة الصادقة عند أهلها، وفي محلها تحصل العلم، كما يحصله الوحي، قاله ابن المنير.
"وفيه تقديم وتأخير، والتقدير جاء، فنعم المجيء مجيئه" كذا قاله بعض الشراح وخرجه ابن مالك في التوضيح على وجه لا تقديم فيه ولا تأخير، فقال: في هذا الكلام شاهد على الاستغناء بالصلة عن الموصول، أو الصفة عن الموصوف في باب، نعم؛ لأنها تحتاج إلى فاعل على المجيء وإلى مخصوص بمعناها، وهو مبتدأ مخبر عنه بنعم وفاعلها فهو في هذا الكلام، وشبهه موصول أو موصوف بجاء والتقدير نعم المجيء الذي جاء، أو نعم المجيء(8/123)
بصيغة الخطاب، بل قال به بصيغة الغيبة؛ لأنه حياة قبل أن يفتح الباب، وقبل أن يصدر من النبي -صلى الله عليه وسلم- خطاب، ويحتمل أن يكون حياه بصيغة الغيبة تعظيمًا له؛ لأن "هاء" الغيبة ربما كانت أهم من كاف الخطاب.
وأما قوله في الحديث: فإذا رجل قاعد عن يمينه أسودة وعن يساره أسودة، إذا نظر قبل يمينه ضحك، وإذا نظر قبل شماله بكى، فقال: مرحبًا بالنبي الصالح والابن الصالح قلت: لجبريل: "من هذا"؟ قال: هذا آدم، وهذه الأسودة التي عن
__________
مجيء جاء، وكونه موصولًا أجود؛ لأنه مخبر عنه، والمخبر عنه إذا كان معرفة أولى من كونه نكرة، نقله في الفتح، وقدمته في شرح الحديث.
"وإنما لم يقل الخازن: مرحبًا بك، بصيغة الخطاب، بل قال به بصيغة الغيبة؛ لأنه حياه قبل أن يفتح الباب، وقبل أن يصدر من النبي -صلى الله عليه وسلم- خطاب"، ولهذا قال الملك لجبريل: ومن معك؟، فخاطبه بصيغة الخطاب؛ لأن جبريل خاطب الملك، فارتفع حكم الغيبة بالتخاطب من الجانب، قاله ابن المنير.
"ويحتمل أن يكون حياه بصيغة الغيبة تعظيمًا له؛ لأن هاء الغيبة ربما كانت أهم من كاف الخطاب"، لما فيها من إجلال المخاطب على مخاطبه؛ لأنه لم ينزل نفسه أهلًا لخطابه، لجلالته عليه، وهذان الاحتمالان ذكرهما ابن المنير.
"وأما قوله في الحديث" ليس يعني به حديث مالك بن صعصة الذي قدمه؛ لأنه ليس فيه ذكر النسم، كما في البخاري ومسلم، وإنما عني به حديث أنس عن أبي ذر عند البخاري أول كتاب الصلاة، ولفظه: "فلما فتح علونا السماء الدنيا، "فإذا"" بالفاء وللأصيلي وابن عساكر بدونها، "رجل قاعد عن يمينه أسودة" أشخاص: جمع سواد، كأزمنة جمع زمان، "وعن يساره أسودة، إذا نظر قبل" بكسر القاف وفتح الموحدة، أي: جهة "يمينه ضحك، وإذا نظر قبل شماله بكى، فقال" ذلك الرجل القاعد: "مرحبًا بالنبي الصالح والابن الصالح".
وفي رواية شريك: فقال: مرحبًا وأهلًا يا بني، نعم الابن أنت، والصالح القائم بما يلزمه من حقوق الله، وحقوق العباد فهي صفة جامعة لمعاني الخير، فوصفه بها مكررًا مع النبوة، والبنوة إشارة إلى أنه جمع بين صلاح الأنبياء وصلاح الأبناء، كأنه قال مرحبًا بالنبي التام في نبوته، والابن البار في نبوته وفيه افتخار بأبوته للنبي -صلى الله عليه وسلم-، ولجمع الصلاح لخلال الخير، اقتصر الأنبياء على وصفه بالصالح وتواردوا على ذلك، وكررها كل منهم عند كل صفة، ولم يقولوا بالنبي الصادق، أو الأمين، قال بعضهم: وصلاح الأنبياء غير صلاح الأمم، فصلاح الأنبياء صلاح كامل؛ لأنهم يزول بهم كل فساد، فلهم صلاح خاص لا يتناول عموم الصالحين؛ لأن كثيرًا من(8/124)
يمينه وشماله نسم بنيه، فأهل اليمين منهم أهل الجنة، والأسودة التي عن شماله أهل النار، فإذا نظر قبل يمينه ضحك، وإذا نظر عن شماله بكى.
فالأسودة: بوزن أزمنة، مفرد سواد، هي الأشخاص.
والنسيم: بالنون والسين المفتوحتين جمع نسمة، وهي الروح.
وقد قال القاضي عياض: جاء أن أرواح الكفار في سجين، وأن أرواح المؤمنين منعمة في الجنة، يعني: فكيف تكون مجتمعة في سماء الدنيا؟
__________
الأنبياء تمنى أن يلحق بالصالحين، ولا يتمنى الأعلى أن يلحق بالأدنى، فهذا يحقق أن صلاح الأنبياء غير صلاح الأمم، ومن دونهم الأمثل فالأمثل، فكل واحد يستحق اسم الصلاح على قدر ما زال به، أو منه من الفساد.
"قلت لجبريل: "من هذا"؟، قال: هذا آدم"، ظاهره أنه سأله عنه بعد أن قاله له آدم مرحبًا ورواية مالك بن صعصعة بعكس ذلك، وهي المعتمدة فتحمل هذه عليها، إذ ليس في هذه أداة ترتيب كذا في فتح الباري، وتبعه الشامي، أي: لأنه لم يقل هنا، فقلت لجبريل، بالفاء، إنما قال قلت: فيحمل على أن القول وقع قبل قول آدم مرحبًا، والمراد بالعكس المخالفة، فلظ رواية ابن صعصعة: "فلما خلصت، فإذا فيها آدم، فقال: هذا أبوك آدم، فسلم عليه، فسلمت عليه، فرد السلام، ثم قال: مرحبا بالابن الصالح والنبي الصالح".
"وهذه الأسودة التي عن يمينه وشماله نسيم بنيه": أرواحهم، "فأهل اليمين منهم أهل الجنة، والأسودة التي عن شماله أهل النار، فإذا نظر قبل يمينه ضحك" سرورًا، "وإذ نظر قبل شماله بكى" حزنًا، "فالأسودة بوزن أزمنة مفرد سواد" بوزن زمان، "هي الأشخاص" من كل شيء وتطلق بمعان آخر، "والنسيم: بالنون والسين المفتوحتين، جمع نسمة" بزنة قصب وقصبة "وهي الروح" بيان للمراد بها هنا، وإلا ففي المصباح النسم والنسمة نفس الريح، ثم سميت به النفس بالسكون.
قال الحافظ: وحكى ابن التين؛ أنه رواه شيم: "بكسر الشين المعجمة وفتح الياء آخر الحروف بعدها ميم"، وهو تصحيف وظاهره أن أرواح بني آدم من أهل الجنة والنار في السماء، وهو مشكل.
"وقد قال القاضي عياض: جاء أن أرواح الكفار في سجين": مكان يعذبون فيه أسفل السافلين، كما في ابن المنير وفي المصنف: في سجين الأرض السابعة، وفي القاموس: سجين موضع فيه كتاب الفجار، وواد في جهنم.
"وأن أرواح المؤمنين منعمة في الجنة"، روى الطبراني والبيهقي بسند حسن عن أم(8/125)
وأجاب: بأنه يحتمل أنها تعرض على آدم أوقاتًا، فوافق عرضها مرور النبي -صلى الله عليه وسلم- ويدل على كونهم في النار في أوقات دون أوقات، قوله تعالى: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا} [غافر: 46] .
واعتراض: بأن أرواح الكفار لا تفتح لها أبواب السماء، كما هو نص القرآن.
والجواب عنه: ما أبداه هو احتمالًا أن الجنة كانت في جهة يمين آدم، والنار كانت في جهة شماله: وكان يكشف له عنهما، ولا يلزم من رؤية آدم لها -وهو في السماء- أن تفتح لها أبواب السماء ولا تلجها.
وفي حديث أبي هريرة عند البزار: فإذا عن يمينه باب يخرج منه ريح طيبة، وعن شماله باب يخرج منه ريح خبيثة، إذا نظر عن يمينه استبشر وإذا نظر عن
__________
مبشر، وكعب بن مالك، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن نسمة المؤمن تسرح في الجنة حيث شاءت، ونسمة الكافر في سجين"، وسئل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن أرواح المؤمنين، فقال: "في طير خضر تسرح في الجنة حيث شاءت"، قالوا: وأرواح الكفار، قال: "محبوسة في سجين"، رواه الطبراني "يعني: فكيف تكون مجتمعة في سماء الدنيا" مع أرواح الكفار في سجين الأرض السابعة.
"وأجاب"عياض: "بأنه يحتمل أنها تعرض على آجم أوقاتًا، فوافق": صادف "عرضها مرور النبي -صلى الله عليه وسلم-، ويدل على أن كونهم في النار في أوقات دون أوقات قوله" تعالى: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا} [غافر: 46] صباحًا ومساء، "واعترض بأن أرواح الكفار لا تفتح لها أبواب السماء، كما هو نص اقرآن" في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ} "والجواب عنه ما أبداه هو، احتمالًا أن الجنة كانت في جهة يمين آدم، والنار كانت في جهة شماله، كان يكشف له عنهما"، وحين مر المصطفى على آدم كشف له عن ذلك، فرأى ما رآه آدم، وإلى هنا جواب عياض، كما في الفتح.
زاد المصنف: "ولا يلزم من رؤية آدم لها، وهو في السماء؛ أن تفتح لها أوبا السماء ولا تلجها"، فلا اعتراض على عياض، وإن كان الحافظ في الفتح، إنما ذكر هذا عقب احتمال؛ أن المراد من خرجت من أجسادها حين خروجها، لا أنها مستقرة ولا يلزم إلى آخر ما هنا، ويأتي كلامه.
"وفي حديث أبي هريرة عند البزار"،وأبي يعلى، وابن جرير والبيهقي: "فإذا عن يمينه"، أي: آدم، "باب يخرج منه ريح طيبة، وعن شماله باب يخرج منه ريح خبيثة، إذا نظر عن يمينه(8/126)
شماله حزن، وهذا -لو صح- لكان المصير إليه أولى من جميع ما تقدم، ولكن سنده ضعيف، قاله الحافظ ابن حجر.
__________
استبشر، وإذا نظر عن شماله حزن، وهذا لو صح لكان المصير إليه أولى من جميع ما تقدم"، لعدم احتياجه لتأويل؛ لأن المستفاد منه رؤية البابين حين مروره على آدم، وهو لا يستلزم أن عنده شيئًا من النسم التي رآها عند آدم، لجواز أنه رآها من الأبواب، "ولكن سنده ضعيف، قاله الحافظ ابن حجر" في كتاب الصلاة ببعض تصرف من المصنف.
وفيه أيضًا قبل ذكر هذا الحديث الضعيف، ويحتمل أن النسم المرئية هي التي لم تدخل الأجساد بعد، وهي مخلوقة قبل الأجساد، ومستقرها عن يمين آدم وشماله، وقد أعلم بما سيصيرون إليه، فلذلك كان يستبشر إذا نظر إلى من على يمينه، ويحزن إذا نظر إلى من على يساره، بخلاف التي في الأجساد، فليست مرادة قطعًا، وبخلاف التي انتقلت من الأجساد إلى مستقرها، فليست مرادة أيضًا فيما يظهر، وبهذا يندفع الإيراد، ويعرف أن قوله: نسم بنيه عام مخصوص، أو أريد به الخصوص انتهى، وهو مبني على أن الأرواح كلها خلقت قبل الأجساد، كما جزم به، ثم إذا أراد الله إحياء شخص أرسل الروح التي سبق في علمه أنها معدة لذلك الجسد.
وقال في الفتح هنا في باب المعراج: وظهر لي الآن احتمال آخر، وهو أن يكون المراد من خرجت من الأجساد حين خروجها إلا أنها مستقرة، ولا يلزم من رؤية آدم لها، وهو في السماء أن تفتح لها أبواب السماء، ول تلجها.
وفي حديث أبي سعيد عند البيهقي ما يؤيده ولفظه: "فإذا أنا بآدم تعرض عليه أرواح ذريته المؤمنين، فيقول: روح طيبة ونفس طيبة، اجعلوها في عليين، ثم تعرض عليها أرواح ذريته الفجار، فيقول: روح خبيثة، اجعلوها في سجين"، ويظهر منه ومن حديث أبي هريرة عدم اللزوم المذكور، وهذا أولى مما جمع به القرطبي في المفهم؛ أن ذلك حالة مخصوصة. ا. هـ، وهو مخصص للأرواح بالخارجة من الأجساد حين الموت لا مطلقًا، فهو أيضًا عام مخصوص، أو أريد به الخصوص، وأجاب بعضهم عن الإشكال بحمل الأسودة التي عن شماله على العصاة من الموحدين، لا على الجاحدين، وعضده ببكاء آدم رحمة لهم، ولا يرحم الكفار.
وتعقبه ابن المنير، بأن المؤمنين، برهم وفاجرهم، مطيعهم وعاصيهم من أهل اليمين، وقد فسر الله أصحاب الشمال بالكفار، فقال: {وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ، فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ، وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ} [الواقعة: 41] ، وهذا إنما هو لكافر لا حظ له في الإيمان، ولا حجة في بكاء آدم؛ لأنه ليس فيه استغفار لهم، ولا خلاف أن من مات أبوه كافرًا، وهو مسلم، لا يحمر عليه البكاء عليه، لا سيما الطبيعي والرقة الطبيعية.(8/127)
وأما قوله في الحديث: "ثم صعد بي، حتى أتى السماء الثانية، فاستفتح فقيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم، فقيل: مرحبًا به، فنعم المجيء جاء، ففتح فلما خلصت إذا بيحيى وعيسى، وهما ابنا الخالة، قال: هذا يحيى وعيسى فسلم عليهما، فسلمت عليهما فردًا، ثم قالا: مرحبًا بالأخ الصالح والنبي الصالح إلى قوله: ثم صعد بي إلى السماء السابعة فاستفتح جبريل، قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد بعث إليه؟ قال: نعم، قال: مرحبًا به، فنعم المجيء جاء، فلما خلصت فإذا إبراهيم، قال: هذا أبوك إبراهيم فسلم عليه، قال: فسلمت عليه فرد
__________
وقال ابن دحية: فإن قيل: كيف يكون نسم السعداء كلهم في السماء، وقد كان حين الإسراء جماعة من الصحابة في الأرض وهم من السعداء، فالجواب أن آدم إنما رآهم في مواضعهم ومقارهم في الأرض، ولكنه يراهم من الجانب الأيمن، فالتقييد للنظر لا للمنظور. ا. هـ، وتبعه ابن المنير وهو واضح.
وقال السهيلي: فإن قيل: كيف رأى عن يمينه أرواح أصحاب اليمين، ولم يكن إذا ذاك منهم إلا نفر قليل، ولعله لم يكن مات تلك الليلة منهم أحد.
وظاهر الحديث يقتضي أنهم جماعة، فالجواب أن الإسراء إن كان منامًا، فتأويله أن ذلك سيكون وإن كان يقظة، فمعناه أن أرواح المؤمنين رآها هنالك؛ لأن الله يتوفى الخلق في منامهم، فصعد بالأرواح إلى هنالك، فرآها، ثم أعيدت إلى أجسادها انتهى، وهو مبني على تخصيص الأرواح بالخارجة من الأجساد بالموت، ولو بالنوم.
"وأما قوله في الحديث"، أي: حديث مالك بن صعصعة، "ثم صعد بي حتى أتى السماء الثانية"، كذا في رواية أبي ذر، للبخاري ولغيره: "ثم صعد بي إلى السماء"،وهي التي قدمه المصنف، "فاستفتح فقيل: من هذا؟، قال: جبريل، قيل: ومن معك؟، قال: محمد، قيل وقد أرسله إليه؟، قال: نعم"، أرسل إليه، "فقيل: مرحبًا بن، فنعم المجيء جاء، ففتح" الخازن الباب، "فلما خلصت إذا بيحيى وعيسى، وهما ابن الخالة، قال: هذا يحيى وعيسى، فسلم عليهما، فسلمت عليهما، فردا" علي السلام، "ثم قالا: مرحبًا بالأخ الصالح والنبي الصالح، إلى قوله: ثم صعد بي إلى السماء السابعة، فاستفتح جبريل، قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟: قال: محمد، قيل: وقد بعث إليه؟، قال: نعم، قال: مرحبًا به، فنعم المجيء جاء فلما خلصت" "فتح اللام، وصلت "فإذا إبراهيم قال: هذا أبوك إبراهيم، فسلم عليه، قال: فسملت عليه، فرد السلام، وقال: مرحبًا بالنبي الصالح، والابن(8/128)
"السلام وقال: مرحبًا بالنبي الصالح والابن الصالح".
فهذه الرواية موافقة لروية ثابت عن أنس عن مسلم: أن في السماء الأولى؛ آدم، وفي الثانية يحيى وعيسى، وفي الثالثة يوسف، وفي الرابعة إدريس، وفي الخامسة هارون وفي السادسة موسى وفي السابعة إبراهيم.
وخالف ذلك ابن شهاب الزهري في روايته عن أنس عن أبي ذر -كما في أول الصلاة من البخاري أيضًا- أنه لم يثبت كيف منازلهم، وقال فيه: وإبراهيم في السماء السادسة.
وفي رواية شريك عن أنس أن إدريس في الثانية وهارون في الرابعة، وآخر في الخامسة لم أحفظ اسمه، وإبراهيم في السادسة وموسى في السابعة، بتفضيل
__________
الصالح"، وقصد المصنف زيادة البيان لطول العهد لفظ الحديث، وإلا فالأوجز لو قال، وأما ما ذكره في الحديث من أماكن الأنبياء في السماوات.
"فهذه الرواية موافقة لرواية ثابت" البناني، "عن أنس عند مسلم" وفيه: "أن في السماء الأولى آدم، وفي الثانية يحيى وعيسى، وفي الثالثة يوسف، وفي الرابعة إدريس وفي الخامسة هارون، وفي السادسة موسى، وفي السابعة إبراهيم" فهذا بيان للموافقة محكي بالمعنى.
"وخالف ذلك ابن شهاب الزهري في روايته، عن أنس، عن أبي ذر، كما في أول الصلاة من البخاري أيضًا".
وقد خرج مسلم حديثه أيضًا في الإيمان، وذكر "أنه لم يثبت" من الإثبات، أبو ذر، "كيف منازلهم"، أي: لم يعين أبو ذر، لكل نبي سماء، والمراد منازل الجميع، فلا ينافي أنه قال آدم في السماء الدنيا.
"وقال فيه: وإبراهيم في السماء السادسة"، ولفظ البخاري، قال أنس: فذكر، أي: أبو ذر أنه وجد في السماوات آدم، وإدريس، وموسى، وعيسى وإبراهيم، ولم يثبت كيف منازلهم، غير أنه ذكر أنه وجد آدم في السماء الدنيا، وإبراهيم في السماء السادسة.
"وفي رواية شريك، عن أنس" في الصحيحين: ثم عرج به إلى السابعة، فقالوا له مثل ذلك، كل سماء فيها أنبياء، قد سماهم وعيت منهم "أن إدريس في الثانية، وهارون في الرابعة وآخر في الخامسة، ولم أحفظ اسمه، وإبراهيم في السادسة، وموسى في السابعة بتفضيل كلام الله تعالى"، أي: بسبب أن له فضل كلام الله إياه، وفيه دلالة على أن شريكا(8/129)
كلام الله تعالى، وسياقه يدل على أنه لم يضبط منازلهم أيضًا كما صرح به الزهري.
ورواية من ضبط أولى، لا سيما من اتفاق، قتادة وثابت، وقد وافهما يزيد بن أبي مالك عن أنس، إلا أنه خالف في إدريس وهارون فقال: "هارون في الرابعة، وإدريس في الخامسة".
ووافقهم أبو سعيد الخدري إلا أن في روايته: يوسف في الثانية، وعيسى ويحيى في الثالثة.
والمشهور في الروايات: أن الذي في السابعة هو إبراهيم، وأكد ذلك في حديث مالك بن صعصعة: بأنه كان مسندًا ظهره إلى البيت المعمور.
__________
ضبط كون موسى في السابعة، فيتعين أحد الجموع الآتية.
"وسياقه يدل على أنه لم يضبط منازلهم"، أي: جميعهم، وإلا فقد صرح بقوله: وعيت، أنه ضبط أربعة، "أيضًا، كما صرح به الزهري" محمد بن مسلم بن شهاب في حديث أبي ذر.
"ورواية من ضبط أولى"، أحق بتقديمها على من لم يضبط، "لا سيما" مع ما حصل فيها من القوة "من" أجل "اتفاق"، ولفظ الفتح مع اتفاق فلا يحتاج لهذا التعسف "قتادة" بن دعامة عند الشيخين، "وثابت" البناني عند مسلم، "وقد وافقهما يزيد بن أبي مالك"، هو ابن عبد الرحمن، نسب إلى جده الهمداني "بالسكون" الدمشقي، القاضي، صدوق، ربما وهم، مات سنة ثلاثين ومائة أو بعدها، ولنه أكثر من سبعين سنة، روى له أبو داود، والنسائي وابن ماجده، "عن أنس: إلا أنه خالف في إدريس وهارون، فقال: "هارون في الرابعة"، فوافق شريكا في ذلك، "وإدريس في الخامسة"، فخالف قتادة وثابتًا في أنه في الرابعة، وشريكا في أنه في الثانية، "ووافقهم أبو سعيد الخدري" عند ابنه مردويه، وكان الأولى وافقهما بتثنية الضمير، عائدًا على قتادة وثابت وجمعه قد يوهم موافقه أبي ذر، وشريك، وليس بمراد، فإن رواية أبي سعيد إنما وافقت رواية قتادة وثابت "إلا أن في روايته يوسف في الثانية، وعيسى ويحيى في الثالثة"، وجمع باحتمال الانتقال لا التعدد؛ لأنه خلاف الصحيح.
"والمشهور في الروايات" كلها، غير روايتي أبي ذر وشريك، "أن الذي في السابعة هو إبراهيم.
قال الحافظ: وهو الأرجح، "وأكد": قوى "ذلك في حديث مالك بن صعصعة، بأنه كان مسندًا ظهره إلى البيت المعمور".(8/130)
فمع التعدد: فلا إشكال.
ومع الاتحاد فقد جمع: بأن موسى كان حالة العروج في السادسة وإبراهيم في السابعة على ظاهر حديث مالك بن صعصعة، وعند الهبوط: كان موسى في السابعة؛ لأنه لم يذكر في القصة أن إبراهيم كلمه في شيء مما يتعلق بما فرض على أمته من الصلاة، كما كلمه موسى عليه السلام، والسماء السابعة هي أول شيء انتهى إليه حالة الهبوط، فناسب أن يكون موسى بها؛ لأنه هو الذي خاطبه في ذلك، كما ثبت في جميع الروايات.
ويحتمل أن يكون لقي موسى في السادسة فأصعد معه إلى السابعة تفضيلًا
__________
قال الحافظ: وهو في السابعة، بلا خلاف، وما جاء عن علي أنه في السادسة عند شجرة طوبى، فإن ثبت، حمل على البيت الذي في السادسة بجانبه شجرة طوبى، لأنه جاء عنه؛ أن في كل سماء بيتا يحاذي الكعبة، وكل منهما معمور بالملائكة، وكذا القول فيما جاء عن الربيع بن أنس وغيره، أن البيت المعمور في السماء الدنيا، فإن محمول على أول بيت يحاذي الكعبة من بيوت السماوات، "فمع التعدد"، أي: مع القول بتعدد المعراج، "فلا إشكال" بين الثابت المشهور في الروياات أنه في السابعة، وبين روايتي أبي وشريك؛ أذرنه في السادسة يحمل كل على مرة، "ومع الاتحاد" الذي هو الصحيح وقول الجمهور.
"فقد جمع بأن موسى كان حالة العروج في السادسة، وإبراهيم في السابعة على ظاهر حديث مالك بن صعصعة، وعند الهبوط كان موسى في السابعة"؛ بأن يكون صعد معه أو بعده، لأجل المراجعة في مر الصلاة؛ "لأنه لم يذكر في القصة، أن إبراهيم كلمه في شيء مما يتعلق بما فرض على أمته من الصلاة"، لكن لا يلزم من عدم الكلام أن يكون في السادسة حين الرجوع الذي هو تمام الجمع بين الروايتين، إذ تركه وإن كان في السابعة؛ لأن الخليل شأنه التسليم لخليله، "كما كلمه موسى عليه السلام"، وجزاه عنا خيرًا، "والسماء السابعة هي أول شيء انتهى إليه حالة الهبوط"، مما هو أعلى منها.
"فناسب أن يكون موسى بها؛ لأنه هو ال ذي خاطبه في ذلك"، أي: أمر الصلاة، "كما ثبت في جميع الروايات"؛ لأن شأن الكليم التكلم، ولا بأس بهذا الجمع، لكن قد علمت أن تمامه بوجوده إبراهيم حين رجع في السادسة، وأن تعليله بعدم تكلمه في الصلاة لا ينهض بل قد يخدش فيه قوله في حديث أنس عند أبن أبي حاتم ثم انجلت عنه السحابة، وأخذ بيده، فانصرف سريعًا، فأتى على إبراهيم، فلم يقل شيئًا، فظاهر هذا أنه مر على إبراهيم قبل موسى.
"ويحتمل" في الجمع أيضًا، "أن يكون لقي موسى في السادسة، فأصعد معه إلى(8/131)
له على غيره من أجل كلام الله تعالى، وظهرت فائدة ذلك في كلامه مع نبينا فيما يتعلق بأمر أمته في الصلاة، قاله في فتح الباري، وقال: إن النووي أشار إلى شيء من ذلك.
وفي رواية شريك عن أنس في قصة موسى: "لم أظن أن أحدًا يرفع علي".
قال ابن بطال: فهم موسى عليه الصلاة والسلام من اختصاصه بكلام الله تعالى له في الدنيا دون غيره من البشر: لقوله تعالى: {إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي} [الأعراف: 144] أن المراد بالناس هنا: البشر كلهم، وأنه استحق بذلك أن لا يرفع عليه أحد، فلما فضل الله تعالى محمدًا عليه الصلاة والسلام بما أعطاه من المقام المحمود وغيره، ارتفع على موسى وغيره بذلك.
__________
السابعة، تفضيلًا له على غيره من أجل كلام الله تعالى، وظهرت فائدة ذلك مع كلامه مع نبينا فيما يتعلق بأمر أمته في الصلاة"، وهو قريب من الاحتمال قبله، ولم يعرج في هذا أيضا على رواية: وإبراهيم في السادسة: "قاله في فتح الباري".
"وقال: إن النووي أشار إلى شيء من ذلك"، وجمع الكرماني في كتاب الصلاة، بأنه رأى إبراهيم في السادسة: ثم ارتقى إبراهيم إلى السابعة، ليراه في مكانين تعظيمًا له، وتبعه شيخ الإسلام زكريا، وهو عندي أولى من الاحتمالين.
"وفي رواية شريك، عن أنس في قصة موسى": تلو قوله بتفضيل كلام الله، فقال موسى: رب "لم أظن" فيما مضى، "أحدا يرفع علي"، لا في الماضي ولا في المستقبل، ولفظ الصحيح: لم أظن أن يرفع على أحد.
قال المصنف: بضم التحتية وفتح الفاء، ولأبي ذر عن الحموي والمستملي: أن ترفع على أحدًا بالنصب وفتح الفوقية.
"قال ابن بطال: فهو موسى عليه الصلاة والسلام من اختصاصه بكلام الله تعالى له في الدنيا دون غيره من البشر، لقوله تعالى": تعليل لفهم اختصاصه، {إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي} [الأعراف: 144] ، أن المراد بالناس هنا: البشر كلهم"، من في زمنه ومن تقدمه ومن تأخره، "وأنه استحق بذلك أن لا يرفع عليه أحد، فلما فضل الله تعالى محمدًا عليه الصلاة والسلام بما أعطاه من المقام المحمود وغيره، ارتفع على موسى وغيره بذلك"، فكان المراد بالناس ناس زمانه، لا جميع البشر.(8/132)
وفي حديث أبي سعيد قال موسى: تزعم بنو إسرائيل أني أكرم الخلق على الله، وهذا أكرم على الله مني، زاد الأمور في روايته: ولو كان هذا وحده لهان علي، ولكن معه أمته، وهم أفضل الأمم عند الله.
وفي حديث مالك بن صعصعة: "ولما جاوزته -بقي موسى- يبكي، فنودي: ما يبكيك؟ قال: رب، هذا غلام بعثته من بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر ممن يدخل من أمتي".
ولم يكن بكاء موسى حسدًا، معاذ الله، فإن الحسد في ذلك العالم منزوع من آحاد المؤمنين، فكيف بمن اصطفاه الله تعالى، بل كان اسفًا على ما فاته من
__________
"وفي حديث أبي سعيد" عند البيهقي وغيره، "قال موسى: تزعم بنو إسرائيل إني أكرم الخلق على الله، وهذا أكرم على الله مني"، وأخرج البزار، والبيهقي وغيرهما من حديث أبي هريرة، قال موسى: تزعم بنو إسرائيل أني أكرم بني آدم على الله، وهذا رجل من بني آدم خلفني في دنيا، وأنا في أخرى، فلو أنه بنفسه لم أبال، ولكن مع كل نبي أمته.
"زاد" سعيد بن يحيى بن سعيد بن أبان بن سعيد بن العاصي بن أمية، "الأموي" بفتح الهمزة، على غير قياس، وضمها على القياس وهو الأشهر عندهم، كما في المصباح نسبة لجده الأعلى أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، وجزم الجوهري بالفتح، ثم قال: وربما ضموا "في روايته" لحديث المعراج في مغازيه، "ولو كان هذا وحده لهان علي، ولكن معه أمته، وهم أفضل الأمم عند الله"، ومعلوم أن هذا من الغبطة لا الحسد، معاذ الله.
"وفي حديث مالك بن صعصعة: "ولما جاوزته بقي موسى يبكي، فنودي" لفظ الحديث، كما مر: فلما تجاوزت بكى، قيل له: ما يبكيك"؟، وكذا هو لفظ البخاري في المعراج، وبدء الخلق وكذا لفظ مسلم وغيره، "ما يبكيك"؟، قال": قال ابن أبي جمرة: الظاهر أن قائل ذلك له الباري تبارك وتعالى، يدل على هذا قوله في الجواب، "رب هذا غلام بعثته من بعدي، يدخل من أمته الجنة أكثر مما يدخل من أمتي"، وفي رواية أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود، عن أبيه أنه مر بموسى عليه السلام يرفع صوته، فيقول: "أكرمته وفضلته، فقال جبريل: هذا موسى قلت: من يعاتب؟ قال: يعاتب ربه، قلت: ويرفع صوته على ربه؟، قال: إن الله قد عرف له حدته".
قال العلماء: "ولم يكن بكاء موسى حسدًا، معاذ الله"، مفعول مطلق حذف عامله، أي: أعوذ، أي: أعتصم بالله معاذا من توهم أن بكاءه حسدًا، "فإن الحسد في ذلك العالم منزوع من آحاد المؤمنين فكيف بمن اصطفاه الله تعالى، بل كان آسفًا على ما فاته من الأجر.(8/133)
الأجر الذي يترتب عليه رفع الدرجات له بسبب ما وقع من أمته من كثرة المخالفة المقتضية لتنقيص أجورهم، المستلزمة لتنقيص أجره؛ لأن لكل نبي مثل أجر كل من اتبعه، ولهذا كان من اتبعه في العدد دون من اتبع نبينا -صلى الله عليه وسلم- مع طول مدتهم بالنسبة لمدة هذه الأمة.
وقال العارف ابن أبي جمرة: قد جعل الله تعالى في قلوب أنبيائه عليهم الصلاة والسلام الرأفة والرحمة لأمتهم، وركبهم على ذلك، وقد بكى نبينا -صلى الله عليه وسلم- فقيل له: ما يبكيك؟ قال: "هذا رحمة وإنما يرحم الله من عباه الرحماء"، والأنبياء
__________
الذي يترتب عليه رفع الدرحات له بسبب ما وقع من أمته من كثرة المخالفة المقتضية لتنقيص أجورهم المستلزمة لتنقيص أجره؛ لأن لكل نبي مثل أجر كل من تبعه"، من غير أن ينقص من أجورهم شيء، "ولهذا كان من أتبعه في العدد دون من أتبع نبينا -صلى الله عليه وسلم- مع طول مدتهم بالنسبة لمدة هذه الأمة، وقال العارف ابن أبي جمرة: قد جعل الله تعالى في قلوب أنبيائه عليهم الصلاة والسلام الرأفة والراحمة لأمتهم وركبهم"، أي: ركب بنيتهم في أصل خلقتهم، مجبولة "على ذلك"، حتى كأنهم خلوقا من الرأفة والرحمة، "وقد بكى نبينا فقيل له: ما يبكيك"؟.
روى الشيخان عن أسامة: أرسلت بنت النبي -صلى الله عليه وسلم؛ أن ابني قد احتضر، فأشهدنا، فأرسل يقرئ السلام، ويقول: "إن لله ما أخذ وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى، فلتصبر ولتحتسب، فأرسلت إليه تقسم عليه ليأتينها، فقام ومعه سعد بن عبادة، ومعاذ بن جبل وأبي بن كعب، وزيد بن ثابت ورجال: فدفع إليه الصبي، فأقعده في حجره، ونفسه تقعقع، ففاضت عيناه، فقال سعد: يا رسول الله ما هذا؟، "قال: "هذا رحمة" جعلها الله في قلوب عباده، "وإنما يرحم الله من عباده الرحماء"، روي بالنصب مفعول يرحم، على أن ما في إنما كافة، أو أداة حصر، وبالرفع خبر أن على أنها موصولة بمعنى الذين، والرحماء جمع رحيم من صيغ المبالغة، فمقتضاه أن رحمة الله تختص بالمتصف بالرحمة الكاملة، لخلاف من فيه رحمة ما.
لكن قضية خبر أبي داود الراحمون يرحمهم الله، شموله له، ورجح، وإنما بولغ في الأول؛ لأن ذكر الجلالة دال على العظمة، فناسب فيه التعيظم والمبالغة.
وقال شيخنا: لعل مراد الحديث أنه يرحم، كثير الرحمة رحمة تامة، بحيث تمنع من قامت به من العذاب، فلا يرد أن يرحم الكافر بتخفيف العذاب عنه، وبتأخيره في سعة عيش وصحة، وغيرهما إلى وقت قبض روحه، وقد يخفف عنه عذاب غير الكفر.(8/134)
عليهم الصلاة والسلام قد أخذوا من رحمة الله أوفر نصيب، فكانت الرحمة في قلوبهم لعباد الله أكثر من غيرهم، فلأجل ما كان بموسى عليه الصلاة والسلام من الرحمة واللطف بكى إذ ذاك رحمة منه لأمته؛ لأن هذا وقت إفضال وكرم وجود لعل أن يكون وقت القبول والإفضال فيرحم الله أمته ببركة هذه الساعة.
فإن قال قائل: كيف يكون هذا، وأمته لا تخلو من قسمين: قسم مات على الإيمان، وقسم مات على الكفر، فالذي مات على الإيمان لا بد له من دخول الجنة، والذي مات على الكفر لم يدخل الجنة أبدًا فبكاؤه لأجل ما ذكر لا يسوغ؛ لأن الحكم فيهم قد مر ونفذ.
قيل: إن الله تعالى قدر قدره على قسمين، فقدر قدرًا وقدر أن ينفذ على كل الأحوال، وقدر قدرًا وقدر أن لا ينفذ، ويكون رفعه بسبب دعاء أو صدقة أو غير ذلك، فلأجل ما ركب في موسى عليه الصلاة والسلام من اللطف ...
__________
"والأنبياء عليهم الصلاة والسلام قد أخذوا من رحمة الله أوفر نصيب، فكانت الرحمة في قلوبهم لعباد الله أكثر من غيرهم فلأجل ما كان بموسى عليه الصلاة والسلام من الرحمة واللطف بكى إذ ذاك رحمة منه لأمته؛ لأن هذا وقت إفضال وكرم وجود، فرجًا" حصول ما يتمناه من الثواب لأمته، فقال: "لعل أن يكون"، والرجاء يستعمل بمعنى التمني والخوف؛ لأن الراجي يخاف أن لا يدرك ما يترجاه، "وقت القبول والإفضال"، أي: الزيادة من النعم والخير على العباد، فيرحم الله أمته ببركة هذه الساعة"؛ لأن لله أوقاتًا يتجلى فيها بالرحمة على العباد، فلا يرد فيها سائلًا ولا يمنع راجيًا "فإن قال قائل: كيف يكون هذا": الواقع من موسى "وأمته لا تخلو من قسمين" جملة حالية، مقررة للإشكال، "قسم مات على الإيمان، وقسم مات على الكفر، فالذي مت على الإيمان لا بد له من دخول الجنة"، وإن كثر عصيانه في الدنيا، "والذي مات على الكفر لا يدخل الجنة أبدًا" {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] ، "فبكاؤه لأجل ما ذكر لا يسوغ؛ لأن الحكم فيم قد مر ونفذ"، عطف تفسير، "قيل" في الجواب: "إن الله تعالى قدر قدره على قسمين، فقدر قدرًا، وقدر أن ينفذ على كل الأحوال"، فلا بد من وقوعه، "وقد قدرًا، وقدر أن لا ينفذ"، أي: أن لا يوجد خارجا، ولكن "يكون رفعه بسب دعاؤه أو صدقه، أو غير ذلك" مما علق عليه في الأول، وحصل ذلك المعلق عليه، "فلأجل ما ركب في موسى عليه الصلاة والسلام من اللطف والرحمة بالأمة، طمع" في ذلك، وقال: "لعل أن يكون ما اتفق لأمته من القدر الذي(8/135)
والرحمة بالأمة طمع لعل أن يكون ما اتفق لأمته من القدر الذي قدره الله تعالى، وقدر ارتفاعه بسب الدعاء والتضرع إليه، وهذا وقت يرجى فيه التعطف والإحسان من الله تعالى؛ لأنه وقت أسرى فيه بالحبيب الكريم، ليخلع عليه خلع القرب والفضل العميم، فطمع الكليم لعل أن يحلق لأمته نصيبًا من هذا الخير العظيم وقد قال نبينا -صلى الله عليه وسلم: "إن لله نفحات فتعرضوا لنفحات الله"، وهذه نفحة من النفحات فتعرض لها موسى، فكان أمرًا قد قدر، والأسباب لا تؤثر إلا بما سبقت
__________
قدره الله تعالى، وقدر ارتفاعه بسبب الدعاء والتضرع إليه، وهذا وقت يرجى فيه التعطف والإحسان من الله تعالى؛ لأنه وقت أسرى فيه بالحبيب الكريم ليخلع عليه خلع": بكسر ففتح، جمع خلعة، بزنة سدرة وسدر: "القرب والفضل العميم، فطمع الكليم، لعل أن يلحق لأمته نصيبًا من هذ الخير العظيم".
"وقد قال نبينا -صلى الله عليه وسلم: إن لله نفحات، فتعرضوا"، أي: تصدوا، أو من التعرض، وهو الميل إلى الشيء من أحد جوانبه، "لنفحات الله"، أي: اسلكوا طرقها حتى تصير عادة، وطبيعة وسجية، وتعاطوا أسبابها، وهو فعل الأوامر، وتجنب المناهي، رجاء أن تهب من رياح رحمته نفحة بسعدكم، أو المعنى تعرضوا لها بطلبكم منه.
قال الصوفية: التعرض للنفحات: الترقب لورودها بدوام اليقظة والانتباه من سنة الغفلة، حتى إذا مرت، نزلت بفناء القلوب.
قال بعضهم: ومقصود الحديث إن لله فيوضًا ومواهب، تبدو لموامعها من أبواب خزائن الكر والمنن في بعض الأوقات، فتهب فورتها ومقدماتها، كالأنموذج لما وراءها من مدد الرحمة، فمن تعرض لها مع الطهارة الظاهرة والباطنة، بجمع همة وحضور قلب، حصل له منها في دفعة واحدة، ما يزيد على النعم الدارة في الأزمنة الطويلة على طول الأعمال، فإن خزائن الثواب بمقدار على طريق الجزاء، وخزائن المنن، النفحة منها تفوق، فما يعطى على الجزاء له مقدار ووقت معلوم، ووقت النفحة مبهم في الأزمنة، والساعات ليداوم على الطلب بالسؤال، كما في ليلة القدر، وساعة الجمعة، فقصد أن يكونوا متعرضين له في كل الأوقات قيامًا، وقعودًا، وعلى جنوبهم، وفي وقت التصرف في أشغال الدنيا، فإنه إذا دام أوشك أن يوافق الوقت الذي ينفخ فيه فيسعد بسعادة الأبد، فقال -صلى الله عليه وسلم: "اطلبوا الخير دهركم كله، وتعرضوا لنفحات رحمة الله، فإن لله نفحات، تصيب من يشاء من عباده"، الحديث، أخرجه البيهقي من حديث أنس وأبي هريرة.
"وهذه نفحة من النفحات"، عطية من العطيات، قال المصباح: النفحة: العطية، وقيل: مبدأ شيء قليل من كثير، وفي المصباح: نفح الطيب: فاح، ونفحت الريح: هبت، "فتعرض لها(8/136)
القدرة بأنها فيه تؤثر، وما كان قضاء نافذا لا تؤثر فيه ولا ترده الأسباب، حتم قد لزم.
وفي بكائه عليه الصلاة والسلام وجه آخر، وهو البشارة لنبينا -صلى الله عليه وسلم-، وإدخال السرور عليه، وذلك قول موسى عليه السلاة والسلام - الذي هو أكثر الأنبياء أتباعًا: إن الذين يدخلون الجنة من أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- أكثر مما يدخلها من أمتي.
وأما قول موسى عليه الصلاة والسلام: لأن غلامًا ولم يقل غير ذلك من الصيغ، فإشارة إلى صغر سنه بالنسبة إليه.
وفي القاموس: الغلام، الطار الشارب، والكهل ضد.
وقال الخطابي: العرب تسمي الرجال المستجمع السن غلامًا، ما دامت فيه
__________
موسى، فكان أمرًا قد قدر، والأسباب لا تؤثر إلا بما سبقت القدرة؛ بأنها فيه تؤثر" من تعليقه على سبب وقوعه، "وما كان قضاء نافذًا لا تؤثر فيه، ولا ترده الأسباب"؛ لأنه "حتم قد لزم"، ومثال ذلك دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- لأمته، أن يظهر عليهم عدو من غيرهم، وأن لا يهلكهم بالسنين، فأعطيهما، وأن لا يجعل بأسهم بينهم، فمنعها، فأستجيب له في الاثنتين دون الثالثة، وقيل له: هذا أمر قدرته، أي: أنفذته، فكانت الاثنتان من القدر الذي قدره الله، وقدر أن لا ينفذه بسبب الدعاء، والثالثة من القدر الذي قدره، وقدر إنفاذه على كل الأحوال لا يرده راد.
"وفي" حكمة "بكائه"، أي: موسى، "عليه الصلاة والسلام: وجه آخر: وهو البشارة لنبينا -صلى الله عليه وسلم- وإدخال السرور عليه"، بكثرة أمته المستلزمة لكثرة أجره، "وذلك قول موسى عليه الصلاة والسلام، الذي هو أكثر الأنبياء أتباعًا، أن الذين يدخلون الجنة من أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- أكثر مما يدخلها من أمتي"، فكباؤه حين جاوزه المصطفى، وقبل أن يبعد عنه، لأجل أن يسمعه هذه البشارة، إذ لو لم يكن لذلك لترك لبكاء حتى يبعد عنه، فلا يسمعه، ولم يبك حين كان معه، بل رحب به وأثنى عليه، ودعا له بخير لئلا يشوش عليه.
"وأما قول موسى عليه الصلاة والسلام: لأن غلامًا، ولم يقل غير ذلك من الصيغ"، كرجلًا، أو نبيًا، "فإشارة إلى صغر سنه"، أي: المصطفى، "وبالنسبة إليه"، إلى موسى، "وفي القاموس: الغلام الطار"، أي: النابت، "الشارب، والكهل ضد"، فيحتمل أنه استعمله بمعنى الكهل لاستعماله فيه وفي الكهل.
"وقال الخطابي: العرب تسمى الرجال المستجمع السن"، أي: البالغ مبلغ الرجال، بأن بلغ أشده، واستوت لحيته "غلامًا، ما دامت فيه بقية من القوة في الكهولة"، إشارة إلى مدحه(8/137)
بقية من القوة في الكهولة.
قال في فتح الباري: ويظهر لي أن موسى عليه السلام أشار إلى ما أنعم الله به على نبينا عليه السلام من استمرار القوة في الكهولة إلى أن دخل في سن الشيخوخة، ولم يدخل على بدنه هرم، ولا اعتراه في قوته نقص، حتى إن الناس في قدومه المدينة لما رأوه مردفًا أبا بكر، أطلقوا عليه اسم الشاب وعلى أبي بكر اسم الشيخ، مع كونه عليه السلام في العمر أسن من أبي بكر والله أعلم. انتهى.
وقد ذكرت ذلك في الهجرة من المقصد الأول.
__________
بقوة الشاب مع أنه كهل.
وقال ابن أبي جمرة: العرب إنما يطلقون على المرء غلامًا إذا كان سيدًا فيهم، فلأجل ما في هذا اللفظ من الاختصاص على غيره من ألفاظ الأفضلية، ذكره موسى دون غيره تعظيمًا للنبي -صلى الله عليه وسلم.
"قال في فتح الباري: ويظهر لي أن موسى عليه السلام، أشار إلى ما أنعم الله به على نبينا عليه السلام، من استمرار القوة في الكهولة، إلى أن دخل في سن الشيخوخة، ولم يدخل على بدنه هرم، ولا اعتراه في قوته نقص"، وهذا غير كلام الخطابي؛ لأنه قال بقية من القوة، وهذا صرح ببقاء قوته كلها، "حتى أن الناس في قدومه المدينة لما رآوه مردفًا أبا بكر" على راحلته، وإن كان له راحلة، إكرامًا له، أو على راحلة أخرى، قال تعالى: {بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِين} [الأنفال: 9] ، أي: يتلو بعضهم بعضًا، قاله الداودي.
ورجح ابن التين الأول، وقال: لا يصح الثاني؛ لأنه يلزمه منه أن يمشي أبو بكر بين يديه -صلى الله عليه وسلم- ورده الحافظ؛ بأنه إنما يلزم ذلك لو جاء الخبر بالعكس، فأما، ولفظه وهو مردف أبا بكر فلا.
وفي البخاري من وجه آخر، عن أنس، فكأني أنظر إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- على راحلته، وأبو بكر ردفه، "أطلقوا عليه اسم الشاب، وعلى أبي بكر اسم الشيخ".
قال أنس: أقبل -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة، وهو مردف أبا بكر، وأبو بكر شيخ يعرف، والنبي -صلى الله عليه وسل- شاب لا يعرف، الحديث في البخاري، "مع كونه عليه السلام في العمر أسن من أبي بكر"، بأزيد من عامين؛ لأنه استكمل بمدة خلافته عمر المصطفى، "والله أعلم انتهى. وقد ذكرت ذلك"، أي: حديث أنس المذكور "في الهجرة من المقصد الأول".
قال الحافظ: وقد وقع من موسى في هذه القصة من مراعاة جانب النبي -صلى الله عليه وسلم-، أنه أمسك(8/138)
وقد وقع في حديث أبي هريرة عند الطبري في ذكر إبراهيم: "فإذا هو برجل أشمط جالس عند باب الجنة على كرسي".
وفي رواية مسلم من حديث ثابت عن أنس: ثم عرج بنا إلى السماء السابعة فإذا بإبراهيم مسندًا ظهره إلى البيت المعمور، وإذ هو يدخله كل يوم سبعون ألف ملك ثم لا يعودون إليه، إلى يوم القيامة وفيه، فإذا أنا بيوسف، وإذا هو قد أعطي
__________
عن جميع ما وقع له حتى فارقه النبي -صلى الله عليه وسلم- أدبًا معه وحسن عشرة، فلما فارقه بكى، وقال ما قال. انتهى.
"وقد وقع في حديث أبي هريرة عند الطبري" محمد بن جرير، "في ذكر إبراهيم"، فإذا هو برجل أشمط"، أي: أبيض الرأس يخالط سواده، "جالس عند باب الجنة على كرسي"، وفي حديث أبي سعيد: "فإذا بإبراهيم خليل الرحمن مسندًا ظهره إلى البيت المعمور، كأحسن الرجال".
"وفي رواية مسلم من حديث ثابت" البناني، "عن أنس، ثم عرج" بالبناء للفاعل وضمير، "بنا" للمصطفى، وجبريل، ويجوز بناؤه للمفعول، "إلى السماء السابعة، فإذا إبراهيم مسندًا ظهره إلى البيت المعمور".
قال أبو عبيدة: معنى المعمور: الكثير الغاشية، ويقال له الضراح "بضم المعجمة"، واهمًا لها غلط بين، كما في ربيع الأبرار، سمي به؛ لأنه ضرح عن الأرض، أي: بعد.
قال الحافظ: فيه جواز الاستناد إلى القبلة بالظهر وبغيره؛ لأن البيت المعمور كالكعبة في أنه قبلة من كلة جهة، وقد أسند إبراهيم ظهره إليه. انتهى.
وقال التلمساني قيل: فيه دلالة على أن الأفضل في غيره الصلاة إسناد الظهر للقبلة، وقيل: الأفضل استقبالها، ولعل إبراهيم أسند ظهره ليتوجه للمصطفى ويخاطبه. انتهى.
وقد يقال: إنما دل على الجواز لا على أنه أفضل، كيف وفي الحديث: "أشرف المجالس ما استقبل به القبلة" رواه الطبراني.
"وإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألف ملك"، للعبادة، "ثم لا يعودن إليه"؛ لأن حجة مرة، كفرض الحج علينا، أو لإشغال غير دخوله، هذا في مسلم، وزاد ابن إسحاق من حديث أبي سعيد إلى يوم القيامة، هكذاب بينه في الفتح، فما أوهمه قوله: "إلى يوم القيامة" من أنه في رواية مسلم خطأ نشأ عن سقط، ثم وجدت في نسخ صحيحة عدمها، ووقعت هذه الزيادة عند البخاري في بدء الخلق، مضمومة إلى رواية قتادة عن أنس، عن مالك بن صعصعة، بلفظ: "إذا خرجوا لم يعودوا آخر ما عليهم"، وهي مدرجة من رواية قتادة عن الحسن، عن أبي هريرة، كما(8/139)
شطر الحسن.
وفي حديث أبي سعيد عند البيهقي، وأبي هريرة عند الطبري: "فإذا أنا برجل أحسن ما خلق الله: قد فضل الناس بالحسن كالقمر ليلة البدر على سائر الكواكب".
وهذا ظاهره أن يوسف عليه السلام كان أحسن من جميع الناس، لكن روى
__________
بينه في الفتح، وإليه أشار البخاري، وقد قدمته، وآخر روي بالرفع بتقدير ذلك آخر، والنصب على الظرف.
قال عياض: والرفع أجود، قال الحافظ: واستدل به على أن الملائكة أكثر المخلوقات؛ لأنه لا يعرف من جميع العوالم من يتحدد من جنسه في كل يوم سبعون ألفًا، غير ما ثبت من الملائكة في هذا الخبر. انتهى.
ويأتي مزيد لهذا في المصنف، وسئل علي عنه، فقال: "بيت في السماء السابعة بحيال البيت، حرمته كحرمة هذا في الأرض، يدخله كل يوم سبعون ألف ملك، لا يعودون إليه"، أخرجه ابن راهويه، وحكمه الرفع، إذ لا يقال رأيا.
"وفيه"، أي: حديث ثابت، المذكور عن أنس: ثم عرج بنا إلى السماء الثالثة، فذكر مثل الأول، "ففتح لنا"، "فإذا أنا بيوسف، وإذا هو قد أعطى شطر الحسن"، أي: نصفه، والناس كلهم بعده شركاء في النصف الآخر، هذا ظاهر ببادي الرأي، لكن الحقيقة والمراد منه أنه أوتي شطر الحسن الذي أوتي المصطفى جملته، قاله ابن المنير.
وقال بعض شراح المصابيح: المراد بالشطر البعض؛ لأن الشطر، كما يراد به نصف الشيء قد يراد به بعضه مطلقًا.
قال الطيبي: وقد يراد به الجهة أيضًا، نحو: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَام} [البقرة: 150] ، أي: جهة من الحسن، ومسحة منه، كما يقال على وجهه مسحة ملك، ومسحة جمال، أي: ظاهر، ولا يقال ذلك إلا يقال ذلك إلا في المدح.
"وفي حديث أبي سعيد عند البيهقي، وأبي هريرة عند الطبري" محمد بن جرير: "فإذا أنا برجل"، يعني يوسف، "أحسن ما خلق الله، قد فضل"، زاد، "الناس بالحسن، كالقمر ليلة البدر"، أربعة عشر، وهو أعلى ما يكون البدر "على سائر الكواكب، وهذا ظاهره؛ أن يوسف عليه السلام، كان أحسن من جميع الناس، لكن" هذا الظاهر ليس بمراد، إذ لا نزاع أن المصطفى أحسن منه.
وقد "روى الترمذي من حديث أنس: "ما بعث الله نبيا إلا حسن الوجه، حسن الصوت،(8/140)
الترمذي من حديث أنس: "ما بعث الله نبيًا إلا حسن الوجه حسن الصوت، وكان نبيكم أحسنهم وجهًا وأحسنهم صوتًا"، فعلى هذا يحتمل حديث المعراج على أن االمراد غير النبي -صلى الله عليه وسلم- ويؤيده قول من قال: إن المتكلم لا يدخل في عموم كلامه.
وحمل ابن المنير حديث الباب على أن المراد: أن يوسف أعطي شطر الحسن الذي أوتيه نبينا -صلى الله عليه وسلم.
وأما قوله في الحديث عن إدريس: ثم قال: مرحبًا بالنبي الصالح والأخ الصالح فيحمل على أخوة النبوة والإسلام؛ لأنها تجمع الوالد والولد، وقال ابن المنير: وفي طريق شاذة: مرحبًا بالابن الصالح، وهذه هي القياس؛ لأنه جده الأعلى.
__________
وكان نبيكم أحسنهم وجهًا، وأحسنهم صوتًا"، فصرح بأنه أحسن من يوسف وغيره.
"فعلى هذا يحمل حديث المعراج"، المذكور من رواية أبي سعيد، وأبي هرير، "على أن المراد غير النبي -صلى الله عليه وسلم"، فلا تعارض بينه وبين حديث أنس المذكور.
"ويؤيده قول من قال" من أهل الأصول، "أن المتكلم لا يدخل في عموم كلامهن وحمل ابن المنير حديث الباب"، المروي في مسلم، "على أن المراد، أن يوسف أعطي شطر الحسن الذي أوتيه نبينا"، أي: أوتي جملته، كما عبر به ابن المنير قائلًا، فالنبي -صلى الله عليه وسلم- قد بلغ الغاية، ويوسف عليه السلام بلغ نصفها، قال: ويحقق هذا حديث ما بعث الله نبيًا، فذكره أو المراد به البعض، أو الجهة، كما مر عن الطيبي وغيره.
"وأما قوله في الحديث عن إدريس، ثم قال: مرحبًا بالنبي الصالح والأخ الصالح"، فسماه بالأخ، مع أنه جد له أعلى؛ لأنه إدريس بن يارد بن مهلائيل بن قينان بن أنوش بن شيث بن آدم، فكان قياسه أن يقول بالابن، كما قال إبراهيم وآدم، "فيحمل على أخوة النبوة والإسلام؛ لأنها تجمع الوالد والد"، فلا إشكال في خطابه له بالأخوة؛ لأنه، كما هو والده نسبًا أخوه في النبوة والإسلام، وعدل للأخوة تلطفًا وتأدبًا.
"وقال ابن المنير: وفي طريق شاذة: مرحبًا بالابن الصالح"، هكذا ذكره في الفوائد من معراجه، وقال قبل ذلك في أوائله أكثر الطرق على أنه خاطبه بالأخ، وقال لي ابن أبي الفضل: صحت لي طريق أنه خاطبه بالابن الصالح، انتهى وكأنه بين مراه أولًا، فالشاذ ما خلف فيه الثقة غيره، "وهذه هي القياس"، وإن قال بعضهم: في صحتها نظر؛ "لأنه جده(8/141)
وقيل: إن إدريس الذي لقيه ليس هو الجد المشهور، ولكنه إلياس، فإن كان كذلك ارتفع الإشكال.
فإن قلت: لم يكن هؤلاء الانبياء عليهم الصلاة والسلام في السماوات دون غيرهم من الأنبياء؟
وما وجه اختصاص كل واحد منهم بسماء تخصه؟
ولم كان في السماء الثانية بخصوصها اثنان؟
أجيب عن الاقتصار على هؤلاء دون غيرهم من الأنبياء، بأنهم أمروا بملاقاة
__________
الأعلى"، إذ هو سبط شيث، كما علم، وجد أبي نوح بن لمك "بفتح اللام وإسكان الميم وكاف"، ابن متوشلخ "بفتح الميم، وشد الفوقية مضمومة وسكون الواون وفتح المعجمة، واللام آخره معجمة"، ابن خنوخ، وهو إدريس، سمي به لكثرة درسه للحف؛ على أنه عربي مشق من الدراسة، وقيل: سرياني.
"وقيل: إن إدريس الذي لقيه ليس هو الحد المشهور، ولكنه إلياس" بن ياسين، سبط هارون أخي موسى، بعث بعده، ويسمى إدريس أيضًا؛ لأنه قرئ إدريس وإدراس مكان إلياس.
وفي البخاري، يذكر عن ابن مسعود، وابن عباس؛ أن إدريس هو إلياس، واختار هذا القول ابن العربي وتلميذه السهيلي، لحديث المعراج حيث سماه أخا، "فإن كان كذلك ارتفع الإشكال"، وإن كان هو الجد الأعلى، فيحمل على أخوة النبوة والإسلام؛ لأنها تجمع الوالد والولد، وإنما خص إبراهيم ونوح، وآدم بالأبوة لعرف خاص، كما يشتهر الإنسان بأحد أجداده دون من سواه من الأعلين والأدنين، كاشتهار محمد بن إدريس بالشافعي، نسبة إلى أحد أجداده شافع، وهكذا أسماء القبائل كلها، يشتهر واحد من طبقة الأجداد، فينسب إله الأولاد دون من فوقه وتحته، هذا بقية كلام ابن المنير.
"فإن قلت: لم كان هؤلاء الأنبياء" الثمانية، المذكورون في حديث مالك بن صعصعة: آدم فيحيى وعيسى، فيوسف، فإدريس، فهارون، فموسى، فإبراهيم "عليهم الصلاة والسلام في السماوات دون غيرهم من الأنبياء"، لعل المراد أنه إنما وجد هؤلاء دون غيرهم في السموات وإلا، فكونه مر على هؤلاء لا يلزم منه أن لا يكون فيها غيرهم، ولا يأتي نص بنفي كون غيرهم فيها.
"وما وجه اختصاص كل واحد منهم بسماء تخصه، ولم كن في السماء الثانية بخصوصها اثنان" يحيى وعيسى، "أجيب عن الاقتصار على هؤلاء دون غيرهم من الأنبياء بأنهم أمروا بملاقاة نبينا -صلى الله عليه وسلم- فمنهم من أدركه من أول وهلة، ومنهم من تأخر فلحقه، ومنهم(8/142)
نبينا -صلى الله عليه وسلم- فمنهم من أدركه من أول وهلة، ومنهم من تأخر فلحقه، ومنهم من فاته.
وقيل: إشارة إلى ما سيقع له -صلى الله عليه وسلم- مع قومه، من مظير ما وقع لكل منهم:
فأما آدم عليه السلام فوقع التنبيه بما وقع له من الخروج من الجنة إلى الأرض، بما سيقع لنبينا -صلى الله عليه وسلم- من الهجرة إلى المدينة، والجامع بينهما ما حصل لكل منهما من المشقة، وكراهة فراق ما ألفه من الوطن، ثم كان عاقبة كل منهما أن يرجع إلى وطنه الذي خرج منه.
__________
من فاته" على عرف الناس، إذا تلقوا الغئب مبتدرين للقائه، فلا بد غالبًا أن يسبق بعضهم بعضًا، ويصادف بعضهم اللقاء، ولا يصادف بعضهمن وإلى هذا أشار ابن بطال.
قال السهيلي: فلم يصنع شيئًا، انتهى لكن هذا الجواب لا يطابق سؤال المصنف إلا بتقدير مضاف، أي: لم كان انتظار هؤلاء لملاقاة النبي في السماوات، فحذف المضاف لفهمه من الجواب.
وفي فتح الباري اختلف في حكمة اختصاص كل منهم بالسماء التي التقاه بها، فقيل: ليظهر تفاضلهم في الدرجات، وقيل: لمناسبة تتعلق بالحكمة في الاقتصار على هؤلاء دون غيرهم من الأنبياء، فقيل: أمروا بملاقاته، فمنهم من أدركه من أول وهلة، ومنهم من تأخر فلحق، ومنهم من فاته، وهذا زيفه السهيلي، فأصاب، انتهى، فلو أتى المصنف بهذا كان أفيد مما ذكره، وأسلم من الإيراد.
"وقيل": الحكمة في الاقتصار على المذكورين، "إشارة إلى ما سيقع له -صلى الله عليه وسلم- مع قومه من نظير ما وقع لكل منهم"، ووجه الإشارة؛ أن رؤيته لصورهم كالفال، فتفسر رؤية كل واحد بما يشبه ما وقع له، فهو تنبيه على الحالات الخاصة بهم، وتمثيل بما سيقع للمصطفى مما اتفق لهم مما قصه الله عنهم في كتابه، والنبي -صلى الله عليه وسلم- كان يحب الفأل الحسن، ويستدل به على حسن العاقبة، وبالضد من ذلك، والفأل في اليقظة نظير الرؤيا في المنام، وهل التعبير يقولون: من رأى نبيًا من الأنبياء بعينه في المنام، فإن رؤياه تؤذن بما يشبه من حال ذلك النبي من شدة أو رخاء أو غير ذلك من الأمور التي أخبر بها عن الأنبياء في القرآن والحديث، أشار إلى هذا ابن المنير وغيره.
"فأما آدم عليه السلام، فوقع التنبيه بما وقع له من الخروج من الجنة" التي كان فيها في أمن الله وجواره، "إلى الأرض بما سيقع لنبينا -صلى الله عليه وسلم- من الهجرة" من مكة، وهي حرم الله وأمنه، وقطانها جيران الله؛ لأن فيها بيته "إلى المدينة، والجامع بينهما ما حصل لكل منهما من المشقة، وكراهة فراق ما ألفه من الوطن، ثم كان عاقبة كل منهما أن يرجع إلى وطنه(8/143)
وبعيسى ويحيى على ما وقع له أول الهجرة من عداوة اليهود، وتماديهم على البغي عليه، وإرادتهم وصول السوء إليه.
وبيوسف، على ما وقع له مع إخوته على ما وقع لنبينا -صلى الله عليه وسلم- من قريش، من
__________
الذي خرج منه"، فآدم رجع إلى السماء بعد أن أهبط منها، والمصطفى رجع إلى مكة لما فتحها وصارت في يده، وهذا معنى كلام السهيلي، وزاد تلميذه ابن دحية، وتبعه ابن المنير؛ أن فيه تنبيهًا على أنه يقوم مقامه في مبدأ الهجرة؛ لأن مقام آدم التهيئة، والنشأة وعمارة الدنيا بأولاده، وكذا كان مقام المصطفى أول سنة من الهجرة مقام تنشئة الإسلام، وتربية أهله، واتخاذ الأنصار لعمارة الأرض كلها بهذا الدين الذي أظهره الله على الدين كله، وزوي الأرض لنبيه حتى أراه مشارقها ومغاربها.
وقال -صلى الله عليه وسلم: "ليبلغن ملك أمتي ما زوى لي منها"، واتفق في ذلك في زمن هشام بن عبد الملك، جيء إليه خراج الأرض شرقًا وغربًا، وكان إذا نشأت سحابة يقول: أمطري حيث شئت، فسيصل إلي خراجك "وبعيسى ويحيى على ما وقع له أول الهجرة"، وهي ثاني حاله له، والأولى بمكة "من عداوة اليهود وتماديهم" بالدال، أي: استمرارهم.
وفي نسخ: تماليهم باللام، أي: تعاونهم أو اجتماعهم "على البغي عليه وإرادتهم وصول السوء إليه"، وهذا لفظ الفتح قائلًا: إنه لخصه من السهيلي، وهو محتاج لبيان، ولفظ السهيلي واضح، وهو: ثم رأى في الثانية عيسى ويحيى، وهما الممتحنان باليهود، أما عيسى، فكذبته اليهود وآذوه، وهموا بقتله، فرفعه الله، أما يحيى، فقتلوه، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعد انتقاله إلى المدينة صار إلى حالة ثانية من الامتحان، وكانت محنته فيها باليهود آذوه، وظاهروه عليه، وهموا بإلقاء الصخرة عليه ليقتلوه، فنجاه الله، كما نجى عيسى، ثم سموه في الشاة، فلم تزل تلك الأكلة تعاوده حتى قطعت أبهره.
وقال ابن دحية: كانت حالة عيسى ومقامته معالجة بني إسرائيل والصبر على معالجة اليهود وحيلهم ومكرهم، وطلب عيسى الانتصار عليهم بقوله: {مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّه} ، أي: مع الله، قال الحواريون: نحن أنصار الله، فهذه كانت حالة نبينا صلى الله عليه وسلم في السنة الثانية من الهجرة، ففيها طلب الأنصار إلى بدر العظمى، فأجابوه ونصروه، فلقاؤه لعيسى في السماء الثانية، تنبيه على أنه سيلقى مثل حاله ومقامه في السنة الثانية من الهجرة.
"وبيوسف على ما وقع له مع أخوته، على ما وقع لنبينا -صلى الله عليه وسلم- من قريش": أقاربه، "من نصبهم الحرب له، وإرادتهم إهلاكه، وكانت العاقبة له، وقد أشار عليه السلام إلى ذلك يوم(8/144)