ولما قال تعالى: {إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [التوبة: 80] فقال -صلى الله عليه وسلم: "لأزيدنَّ على السبعين".
وأمر ولد الذي تولى كبر النفاق والأذى منهم ببر أبيه، ولما مات كفَّنه في ثوب خلعه عن بدنه وصلّى عليه،..........
__________
الاستغفار ولو كثر لا يفيد حتى أقدم جماعة؛ كالغزالي، وإمام الحرمين، والباقلاني، والداودي، فطعنوا في صحته؛ مع كثرة طرقه، واتفاق الشيخين، وسائر الذين خرَّجوا الصحيح على صحته، وذلك ينادي على الجماعة بعدم معرفة الحديث، وقلة الاطلاع على طرقه، وأجيب بأجوبة، أجودها: إن النهي عن الاستغفار لمن مات مشركًا، لا يستلزم النهي عنه لمن مات مظهرًا للإسلام، لاحتمال كونه صحيحًا، ولا ينافيه بقية الآية؛ لجواز أن الذي نزل أولًا إلى قوله: {فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [التوبة: 80] الآية، بدليل تمسكه -صلى الله عليه وسلم- به, وقوله: "إنما خَيَّرَنِي الله" تمسكًا بالظاهر على ما هو المشروع في الأحكام، حتى يقوم الدليل الصارف عن ذلك، فكشف الله الغطاء بعد ذلك، وقال: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} الآية، وبهذا يرتفع الإشكال، وتقدم بسط هذا في المقصد الأول.
"ولما قال تعالى: {إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [التوبة: 80] الآية. فقال" جواب، لما دخلت عليه الفاء على قوله -صلى الله عليه وسلم: "لأزيدنَّ على السبعين" وفي رواية: "فوالله لأزيدنَّ"، وأخرى "فأنا أستغفر سبعين سبعين"، وهي وإن كانت مراسيل يقوي بعضها بعضًا، ووعده صدق، لا سيما، وقد حلف، وأتى بصيغة المبالغة في التأكيد؛ وفي رواية عبد الرزاق عن معمر عن قتادة، لما نزلت: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [التوبة: 80] الآية. قال -صلى الله عليه وسلم: "لأزيدنَّ على السبعين"، فأنزل الله تعالى: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [المنافقون] الآية. ورجاله ثقات، أي: فترك الاستغفار بعد نزول آية سورة المنافقين؛ إذ لا يتأتَّى فيها تخيير؛ إذ المعنى استغفارك وعدمه سواء، "وأمر ولد" وهو عبد الله الصحابيّ الصالح؛ "الذي تولَّى كبر النفاق" تحمل معظمه، وهو عبد الله بن أُبَيّ بن سلول، "والأذى منهم" أي: المنافقين "ببر أبيه" حين جاءه يستأذنه في قتله، لما بلغه بعض مقالاته في النبي -صلى الله عليه وسلم، فقال: "بل أحسن صحبته".
رواه ابن مندة بإسناد حسن، "ولما مات كفَّنه في ثوب خلعه عن بدنه" بطلب منه، لذلك روى الطبراني عن ابن عباس: لما مرض ابن أُبَيّ جاءه -صلى الله عليه وسلم- فكلمه، فقال: قد فهمت ما تقول، فأمنَنَّ علي، وكفِّني في قميصك, وصلّ عليّ، ففعل "وصلى عليه" بطلبه وطلب ابنه، لذلك، ففي الصحيحين عن ابن عمر، لما مات ابن أُبَيّ، جاء ابنه عبد الله إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فسأله(6/36)
هذا وعمر بن الخطاب -رضي الله تعالى- عنه يجذبه بثوبه ويقول: يا رسول الله, أتصلي على رأس المنافقين؟ فنتر ثوبه من عمر وقال: "إليك عنِّي يا عمر". فخالف مؤمنًا وليًّا في حق منافق عدو، وكل ذلك رحمة منه لأمته، أشار إليه الحراني.
وقال النووي: قيل: إنما أعطاه قميصه وكفَّنه فيه تطييبًا لقلب ابنه، فإنه كان صحابيًّا صالحًا. وقد سأل ذلك فأجابه إليه، وقيل: مكافأة لعبد الله المنافق الميت؛ لأنه كان ألبس العباس حين أُسِرَ يوم بدر قميصًا.
وفي ذلك كله بيان عظيم مكارم أخلاقه -صلى الله عليه وسلم، فقد علم ما كان......
__________
أن يعطيه قميصه يكفِّن فيه أباه، فأعطاه، ثم سأله أن يصلي عليه. الحديث. وفيه: فصلَّى عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم, فأنزل الله تعالى: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ} [التوبة: 84] الآية. فلا عبرة بتصدير البيضاوي بأنَّه لم يصلِّ عليه، وللطبراني وغيره، عن قتادة، فذكر لنا أنه، لما نزلت الآية، قال -صلى الله عليه وسلم: "وما يغني عنه قميصي، وإني لأرجو أن يسلِم بذلك ألف من قومه"، وروي أن ألفًا من الخزرج أسلموا، لما رأوه يستشفع بثوبه، ويتوقَّع اندفاع العذاب عنه، "هذا وعمر بن الخطاب -رضي الله تعالى عنه- يجذبه" بكسر الذال، "بثوبه، ويقول: يا رسول الله! أتصلي على رأس المنافقين, فنتر ثوبه من عمر" بالمثناة الفوقية جذبه بقوة، "وقال: "إليك عني يا عمر" وفي الصحيحين.
فقام عمر، فأخذ بثوب رسول الله، فقال: أتصلي عليه, إنه منافق، فصلى عليه "فخالف مؤمنًا وليًّا في حق منافق عدو" إجراء على الظاهر، "وكل ذلك رحمة منه لأمته، أشار إليه الحراني" بالفتح والتشديد إلى حران مدينة بالجزيرة، قال الخطابي وابن بطال: إنما فعل ذلك لكمال شفقته على من تعلَّق بطرف من الدين، وليطيّب قلب ولده الصحابي الصالح، ولتألّف الخزرج لرياسته فيهم؛ فلو لم يجب سؤال ابنه وترك الصلاة عليه، قبل ورود النهي الصريح، لكان سبَّة على ابنه وعارًا على قومه، فاستعمل -صلى الله عليه وسلم- أحسن الأمرين في السياسة؛ حتى كشف الله الغطاء، فأنزل: {وَلا تُصَلِّ} [التوبة: 84] الآية. فما صلّي على منافق بعد، ولا قام على قبره.
"وقال النووي: قيل: إنما أعطاه قميصه وكفَّنه فيه تطيبًا لقلب ابنه، فإنه كان صحابيًّا صالحًا" شهد بدرًا، وما بعدها، فاستشهد يوم اليمامة؛ في خلافة أبي بكر، "وقد سأل ذلك، فأجابه إليه" لأنه لا يرد سائلًا، والضنة بالقميص ليست من شأن الكرام، "وقيل: مكافأة لعبد الله المنافق الميت؛ لأنه كان ألبس العباس حين أسر يوم بدر قميصًا" فكافأة قميصه حتى لا يكون له على عَمِّه مِنَّة، "وفي ذلك كله بيان عظيم مكارم أخلاقه -صلى الله عليه وسلم، فقد علم ما كان من هذا(6/37)
من هذا المنافق من الإيذاء له، وقابله بالحسنى, فألبسه قميصه كفنًا, وصلَّى عليه واستغفر له.
من ذلك أنه -عليه الصلاة والسلام- لم يؤاخذ لبيد بن الأعصم إذ سحره.
وعفا عن اليهودية التي سمَّته في الشاة على الصحيح من الرواية. والله يرحم القائل:
وما الفضل إلا خاتم..............
__________
المنافق من الإيذاء له" كقوله: ليخرجن الأعز منها الأذل، لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا, وتولّيه كبر الإفك، "وقابله بالحسنى، فألبسه قميصه كفنًا، وصلى عليه، واستغفر له.
ذكر الواقدي: إن مجمع بن جارية، قال: ما رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أطال الصلاة على جنازةٍ قط ما أطال على جنازة ابن أُبَيّ من الوقوف، ولابن إسحاق عن عمر: ومشى معه حتى قام على قبره؛ حتى فرغ منه، وفي رواية للبخاري، عن عمر: فصلينا معه، قال أبو نعيم: ففيه أن عمر ترك رأي نفسه وتابعه -صلى الله عليه وسلم "ومن ذلك؛ أنه -عليه الصلاة والسلام- لم يؤاخذ لبيد" -بفتح اللام، وكسر الموحدة، وإسكان التحتية، ومهملة- "ابن الأعصم" بمهملتين، بوزن أحمر، ويقال: أعصم بلا ألف يهودي، كما في الصحيحين، عن عائشة, من بني زريق -بضم الزاي وفتح الراء- بطن من الأنصار, ذكر الواقدي؛ أنه كان حليفًا فيهم, ووقع لعياض أنه أسلم، ورده البرهان؛ بأنه لا يعلم له إسلامًا، ولا ذكرًا في الصحابة، وقيل: كان منافقًا، ولعل المراد العرفي؛ إذ النفاق إخفاء الكفر، وإظهار الإسلام، ولبيد لم يكن كذلك، فهو على حد قوله -صلى الله عليه وسلم: "آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب؛ وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان". رواه الشيخان. ويطلق النفاق على الكفر أيضًا، "إذ سحره" تعليلية بنفسه على ظاهر حديث الصحيحين، وعند ابن سعد: إنما سحره بنات لبيد، ولبيد هو الذي ذهب به، فإن صحَّ، فنُسِبَ إليه مجازًا لأخذه من بناته، وذهابه إلى البئر به، ومكث -صلى الله عليه وسلم- في السحر أربعين يومًا، رواه الإسماعيلي، ولأحمد ستة أشهر، وجمع بأنها من ابتداء تغير مزاجه، والأربعين من استحكامه، قال في الشفاء: وقد أعلم به، وأوحي إليه بشرح أمره، ولا عتب عليه فضلًا عن معاقبته، "وعفا عن اليهودية التي سمته في الشاة على الصحيح من الرواية" قال عياض: أي في حق نفسه، فلا ينافي أنه قتلها بعد ذلك، لما مات بشر بن البراء قصاصًا، ومرَّت القصة في خيبر، وأنها أسلمت -رضي الله عنها، "والله يرحم القائل، وما الفضل" الزيادة في مراتب القرب "إلّا خاتم" أي: زيادة(6/38)
................... أنت فصه
وعفوك نقش الفص فاختم به عذري
ومن ذلك إشفاقه -صلَّى الله عليه وسلم- على أهل الكبائر من أمته، وأمره إياهم بالستر، فقال: "من بلي بهذه القاذورات -يعني المحرمات- فليستتر".
وأمر أمته أن يستغفروا للمحدود ويترحَّموا عليه لما حنقوا عليه فسبوه ولعنوه، فقال: "قولوا: اللهم اغفر له، اللهمَّ ارحمه".
__________
خاتم "أنت فصه" المتميز عنه بزيادة الفضل والقرب، وكأنه أراد بالخاتم جميع الأنبياء، ففضلُهم وقربهم عند الله، لا يساويهم فيه غيرهم، وجعلهم خاتمًا؛ لأنَّ بواسطتهم تصان الملل عن الفساد؛ وتتزين بهم، فأشبهوا ما يطبع به على الكتاب، مثلًا: فيصان به ما في بطنه عن الفساد بالعلم به، وتزينت بهم الملل حيث أظهروا أحكامها ونشروها، فأشبهوا الحلي الذي يتزين به؛ "وعفوك نقش الفص" أي: كنقشه، لكونه زينة وشرفًا لأفعالك ومعاملتك مع الناس، كما أنَّ النقش زينة الخاتم، وهي ظهور آثاره، بحيث يقتدي بك فيها، كتأثير الفصل المنقوش، إذا طبع به أثرًا ظاهرًا ينتفع به، "فاختم به عذري" كأنه أظهر له عذرًا في تقصيره في حقه، وسأله قبوله منه، وجعل عفوه، كخاتم لا يتطرق للطبع، به خلل، "ومن ذلك إشفاقه -صلى الله عليه وسلم" مصدر أشفق، قال المجد: شفق وأشفق: حاذر، ولا يقال: ألا أشفق، أي: لا يستعمل إلا مزيدًا، وهجروا المجرد، وإن جاء في أصل اللغة مجردًا ومزيدًا، فلا يرد أن فيه إثباتًا ونفيًا، وهو تناقض "على أهل الكبائر من أمته؛ وأمره إياهم بالستر، فقال: "من بلي بهذه القاذورات" جمع قاذورة، وهي كل قول، أو فعل يستقبح، ولذا قال: "يعني المحرمات" سميت بذلك؛ لأن حقها أن تذر، فوصفت بما يوصف به صاحبها، "فليستتر" وجوبًا مع التوبة، ولا يخبر أحدًا، فإن خالف واعترف عند الحاكم؛ حدَّه، أو عزَّره، وهذا الحديث أخرجه الحاكم والبيهقي في السنن عن ابن عمر، قال: قام النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد رجم ماعز الأسلمي، فقال: "اجتنبوا هذه القاذورات التي نهى الله عنها، فمن أَلَمَّ بشيء منها فليستتر بستر الله، وليتب إلى الله، فإنه من يبد لنا صحتته نقم عليه كتاب الله"، صححه الحاكم وابن السكن، وقال الذهبي في المهذب: إسناده جيد، ولا ينافيه قوله في اختصارٍ له المستدرك: غريب جدًّا؛ لأن الغرابة تجامع الصحة، وقول إمام الحرمين: صحيح متفق على صحته، قال ابن الصلاح: عجيب أوقعه فيه عدم إلمامه بصناعة الحديث التي يفتقر إليها كل عالم، "وأمر أمته" أتباعه الحاضرين عنده، "أن يستغفروا للمحدود، ويترحموا عليه، لما حنقوا" -بفتح المهملة، وكسر النون، اغتاظوا "عليه، فسبوه" شتموه بذكر مساويه "ولعنوه" بأن دعوا عليه باللعن، ولعلهم لم يريدوا به الطرد عن رحمة الله، "فقال: "قولوا: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه".(6/39)
وقال لهم في رجل كان كثيرًا ما يؤتى به سكران بعد تحريم الخمر، فلعنوه مرة فقال: "لا تلعنوه فإنه يحب الله رسوله". فأظهر لهم مكتوم قلبه لما رفضوه بظاهر فعله، وإنما ينظر الله إلى القلوب -طهَّر الله قلوبنا وغفر عظيم ذنوبنا.
ومن ذلك ما رواه الدارقطني من حديث عائشة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه كان يصغي إلى الهرة الإناء حتى تشرب ثم يتوضأ بفضلها.
ومن ذلك اتساع خلقه..................................................
__________
"وقال لهم في رجل" اسمه عبد الله، ولقبه حمار بلفظ الحيوان، "كان كثيرًا ما يؤتى به سكران بعد تحريم الخمر، فلعنوه مرة، فقال: "لا تلعنوه، فإنه يحب الله ورسوله".
روى البخاري من طريق زيد بن أسلم، عن أبيه، عن عمر، قال: كان رجل يسمَّى عبد الله ويلقَّب حمارًا، وكان يضحك رسول الله -صلى الله عليه وسلم، وكان يؤتى به في الشراب، فجيء به يومًا، فقال رجل: لعنه الله, ما أكثر ما يؤتى به، فقال -صلى الله عليه وسلم: "لا تلعنه، فإنه يحب الله ورسوله"، وذكر الواقدي: أنَّ القصة وقعت له في غزاة خيبر، ولأبي يعلى أنه كان يهدي للنبي -صلى الله عليه وسلم- العكة من السمن، أو العسل، ثم يجيء بصاحبها، فيقول: أعطه الثمن، ووقع نحو ذلك لنعيمان فيما ذكر الزبير بن بكار في كتاب المزاح، وروى أبو بكر المروزي أنَّ عبد الله المعروف بحمار شرب في عهد عمر، فأمر الزبير وعثمان فجلداه، "فأظهر لهم مكتوم قلبه" أي: ما كتمه قلبه وأخفاه من حب الله ورسوله؛ بحيث لم يعلم حقيقته سواه -صلى الله عليه وسلم، "لما رفضوه" حين تركوه "بظاهر فعله" من إضافة الصفة للموصوف، أي: بسبب فعله الظاهر، تركوه ظنًّا أنه مبعد عن الله، "وإنما ينظر الله إلى القلوب" أي: إلى ما فيها، فيجازي عليه بأحسن الجزاء، وإن كان ظاهر فعله يقتضي خلافه، "طهر الله قلوبنا" بحبه وحب رسوله، "وغفر عظيم ذنوبنا" بفضله وكرمه.
"ومن ذلك ما رواه الدارقطني" وحسَّنه، والحاكم، وصحَّحه، وأبو نعيم، والطبراني برجال ثقات، "من حديث عائشة عن النبي -صلى الله عليه وسلم؛ أنه كان يصغي" بمهملة فمعجمة، يميل "إلى الهرة الإناء حتى تشرب" منه بسهولة، "ثم يتوضأ بفضلها" أي: بما فضل من شربها، وفيه طهارة الهرة وسؤرها، وبه قال عامَّة العلماء، إلّا أن أبا حنيفة كره الوضوء بفضلها، وخالفه أصحابه، وندب سقي الماء والإحسان إلى خلق الله، وأن في كل كبد حرى أجرًا، وأنه ينبغي للعالم فعل المباح إذا تقرَّر عند بعض الناس كراهة، ليبين جوازه، "ومن ذلك اتساع خلقه" إن قيل اسم الإشارة عائد على اتساع خلقه، فما فائدة ذكره" فالجواب: لعل فائدته التنبيه على أن هذا من أحسن أخلاقه، كأنه قال: اتساع خلقه الحسن المتميز عن بقية أحواله، اتساع خلقه، مع أصحابه(6/40)
في شريف تواضعه وآدابه وحسن عشرته مع أهله وخدمه وأصحابه.
قال بعضهم: اعلم أن العبد لا يبلغ حقيقة التواضع إلّا عند لمعان نور المشاهدة في قلبه، فعند ذلك تذوب النفس، وفي ذوبانها صفاؤها من غش الكبر والعجب، فتَلِينُ وتنطبع للحق والخلق بِمَحْوِ آثارها وسكون وهَجِهَا وغُبَارِها.
وكان الحظ الأوفر من التواضع لنبينا -صلى الله عليه وسلم- في أوطان القرب، وحسبك من تواضعه -عليه الصلاة والسلام- أن خَيَّره ربه بين أن يكون نبيًّا ملكًا، أو نبيًّا عبدًا، فاختار أن يكون نبيًّا عبدًا،.......................................
__________
كذا أملاني شيخنا "في شريف تواضعه" أي: تواضعه الشريف، "وآدابه، وحسن عشرته" فهو من إضافة الصفة للموصوف؛ إذ حسنها "مع أهله، وخدمه، وأصحابه" ليس من أشرف تواضعه؛ إذ الحظ الأوفر من تواضعه في أوطان القرب، كما "قال بعضهم: اعلم أن العبد لا يبلغ حقيقة التواضع إلا عند لمعان" إضاءة النور، الحاصل بسبب "المشاهدة في قلبه" وإنما يحصل برياضة النفس ومجاهدتها في الإقبال على الله، بامتثال أوامره واجتناب نواهيه؛ "فعند ذلك تذوب النفس" تفني قواها عن ميلها إلى الشهوات المائلة إليها بالطَّبع، فتنهم بها وتستعمل القوى والجوارح في أثرها كل الأوقات؛ فإذا جاهدها بمنعها من شهواتها، وتذكيرها ما آل ذلك من الذل والهوان، أهلكها؛ بحيث تغيرت طباعها، حتى كأنها ذابت فلم يبق لها أثر، "وفي ذوبانها" سيلانها، "صفاؤها" خلوصها، "من غش الكب والعجب" من إضافة الأعم إلى الأخص، أي: غش النفوس الذي هو الكبر والعجب، فشبَّه النفس باعتبار ما طبعت عليه، أصالة من نحو كبر وحسد، بتبر اشتمل على أوساخ منعت نفعه؛ وجعل معالجة النفس في خلوصها مما ألفته من الميل إلى القبيح، كتصفية التبر مما يمنع نفعه، فحينئذٍ تطمئن بذكر الله؛ لترقيها في معرفة الأسباب والمسببات؛ وعملها بمقتضاها، وعرفت الحق، وأقبلت عليه بجملتها، فلم يبق لها تعلق بشيء من مألوفها، "فتلين وتنطبع للحق والخلق، بمحو آثارها" التي طبعت عليها من فخر وسرعة غضب وحرارة عند غليان دم القلب، إذا أصابها ما تكرهه، وغير ذلك من كل ما يشين؛ "وسكون وهجها" بالواو، والهاء المفتوحين اتقادها "وغبارها" عطف مغاير، وفي نسخة وهجها -بالراء المفتوحة، والهاء الساكنة، وتفتح الغبار، وعليها، فعطف الغبار تفسير، "وكان الحظ الأوفر من التواضع لنبينا -صلى الله عليه وسلم- في أوطان القرب" فكلما زاد قربًا زاد تواضعًا، "وحسبك" يكفيك "من تواضعه -عليه الصلاة والسلام، أن" مصدرية، أو مخففة، أي: إنه "خَيَّرَه ربه بين أن يكون نبيًّا ملكًا، أو نبيًّا عبدًا، فاختار أن يكون نبيًّا عبدًا" تواضعًا لربه، مع أنَّه لو كان نبيًّا ملكًا ما ضره،(6/41)
فأعطاه الله بتواضعه أن جعله أول من تنشق عنه الأرض وأول شافع، وأول مشفَّع، فلم يأكل متكئًا بعد ذلك حتى فارق الدنيا, وقد قال -عليه الصلاة والسلام: "لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله" رواه الترمذي.
ومن تواضعه -عليه الصلاة والسلام- أنَّه كان لا ينهر خادمًا، روينا في كتاب الترمذي عن أنس قال: خدمت النبي -صلى الله عليه وسلم- عشر سنين،..............
__________
فالنبوة معطاة له في الوجهين، "فأعطاه الله بتواضعه، أن جعله أول من تنشق عنه الأرض" يوم القيامة "وأول شافع، وأول مشَفَّع" مقبول الشفاعة، كما يأتي بسط ذلك من الخصائص إن شاء الله تعالى، كقوله: "فلم يأكل متكئًا" مائلًا على أحد الجانبين، كما عزاه عياض في شرح مسلم للأكثر، وجزم به ابن الجوزي، أو معتمدًا على وطاء تحته، جزم به الخطابي، وعزاه في الشفاء للمحققين، أو معتمدًا على شيء، أو على يده اليسرى، من الأرض. أقوال بسطها المصنف في الأكل من ذا المقصد "بعد ذلك حتى فارق الدنيا"؛ لأنه لما اختار العبودية فعل فعل العبد، ولذا قال: "آكل، كما يأكل العبد، وأجلس، كما يجلس العبد".
وروى ابن عدي، والديلمي، وغيرهما بإسناد ضعيف عن أنس: جاء جبريل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو يأكل متكئًا، فقال: التكأة من النقمة، فاستوى بعد ذلك قاعدًا، فما رؤي بعد ذلك متكئًا، وقال: "إنما أنا بد أكل، كما يأكل العبد، وأشرب، كما يشرب العبد" والتكأة، بوزن الهمزة ما يتكأ عليه، ورجل تكأة: كثير الاتكاء، والتاء بدل من الواو، كما في النهاية، "وقد قال -عليه الصلاة والسلام: "لا تطروني" بضم أوله، وسكون الطاء، والإطراء: المدح بالباطل، أي لا تتجاوز الحد في مدحي، بأن تقولوا ما لا يليق بي، "كما أطرت النصارى ابن مريم" , وفي رواية: "عيسى ابن مريم"، حيث كذبوا، وقالوا: إله وابن الله، وأحد ثلاثة, وغير ذلك من إفكهم، "إنما أنا عبد، فقولوا عبد الله ورسوله" ولا تقولوا ما قالته النصارى، فأثبت لنفسه ما هو ثابت له من العبودية والرسالة، وأسلم لله ما هو له، لا لسواه "رواه الترمذي" كذا في النسخ، وقد رواه البخاري من حديث عمر، وعزاه المصنف نفسه له في الأسماء النبوية.
"ومن تواضعه -عليه الصلاة والسلام- أنه كان لا ينهر خادمًا، روينا في كتاب الترمذي" ومسلم، والبخاري، "عن أنس، قال: خدمت النبي -صلى الله عليه وسلم" زاد في رواية أحمد في السفر والحضر "عشر سنين" الرواية، بسكون الشين، ويجوز فتحها، وفي مسلم تسع سنين، وحملت على التحديد، والأولى، وهي أكثر الروايات على التقريب، إلغاء للكسر، فخدمته؛ إنما كانت أثناء(6/42)
فما قال لي أفٍّ قط, ولا قال لشيء صنعته: لِمَ صنعته؟ ولا لشيء تركته لم تركته؟
وكذلك كان النبي -صلى الله عليه وسلم- مع عبيده وإمائه، ما ضرب منهم أحد قط، وهذا أمر لا تتسع له الطباع البشرية لولا التأييدات الربَّانية.
وفي رواية مسلم: ما رأيت أحد أرحم بالعيال من رسول الله -صلى الله عليه وسلم.
وقالت عائشة: ما ضرب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شيئًا قط، ولا ضرب امرأة ولا خادمًا إلا أن يجاهد في سبيل الله،.............................
__________
السنة الأولى من الهجرة، "فما قال لي أف" بضم الهمزة، وسكون الفاء مشددة، ولأبي ذر أف، بفتحها: صوت يدل على التضجر, "قط" تأكيد لنفي الماضي بمعنى الدهر والأَبَد، مع أنه قد يتفق له فعل شيء ليس على الوجه الذي أراده منه المصطفى، ففي رواية أبي نعيم، فمَا سبَّني قط، وما ضربني من ضربة، ولا انتهرني، ولا عبس في وجهي، ولا أمرني بأمر، فتوانيت فيه، فعاتبني عليه، فإن عاتبني أحد، قال: دعوه، ولو قدر شيء كان، "ولا قال لشيء صنعته لِمَ صنعته، ولا لشيء تركته لِمَ تركته" زاد في رواية، ولكن يقول: "قدَّر الله، وما شاء الله فعل، ولو قدر الله كان، ولو قضى لكان"، "وكذلك كان النبي -صلى الله عليه وسلم- مع عبيده وإمائه، ما ضرب منهم أحد قط، وهذا أمر لا تتسع له" لا تطيقه، ولا تقدر عليه "الطباع البشرية، لولا التأييدات الربانية", وما ذاك إلّا لكمال معرفته -صلى الله عليه وسلم- أنه لا فاعل، ولا معطي، ولا مانع إلا الله، وأن الخلق آلات وسائط، فالغضب على المخلوق في شيء فعله، كالإشراك المنافي للتوحيد، وقيل: سبب ذلك أنه كان يشهد تصريف محبوبه فيه، وتصريف المحبوب في المحب، لا يعلل، بل يسلم ليستلذ، فكل ما يفعله الحبيب محبوب، "وفي رواية مسلم" عن أنس في حديث: "ما رأيت أحد أرحم بالعيال من رسول الله -صلى الله عليه وسلم، وقالت عائشة: ما ضرب -صلى الله عليه وسلم. زاد في رواية: بيده، وهو لتأكيد النوعية نحو يطير بجناحيه؛ إذ الضرب عادة لا يكون إلّا باليد، "شيئًا قط" آدميًّا، أو غيره، أي: ضربًا مؤذيًا, وضربه لمركوبه لم يكن مؤذيًا، ووكْزَه بعير جابر، حتى سبق القافلة بعدما كان عنها بعيدًا، معجزة، وكذا ضربه لفرس طفيل الأشجعي لما رآه متخلفًا عن الناس، وقال: "اللهم بارك فيها" وقد كان هزيلًا ضعيفًا، قال طفيل: فلقد رأيتني ما أملك رأسها، ولقد بعت من بطنها باثني عشر ألفًا.
رواه النسائي، "ولا ضرب امرأة، ولا خادمًا" خاص على عام، مبالغة في نفي الضرب، لكثرة وجود سبب ضربهما، للابتلاء بمخاطبتهما ومخالفتهما غالبًا، فقد يتوهّم عدم إرادتهما من قولها شيئًا، "إلّا أن يجاهد في سبيل الله" فيضرب إن احتاج إليه، وقد قتل بأُحُد أُبَيّ بن خلف،(6/43)
وما نيل منه شيء فينتقم من صاحبه إلّا أن ينتهك شيء من محارم الله فينتقم لله. رواه مسلم.
وسئلت عائشة: كيف كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا خلا في بيته؟ قالت: كان ألين الناس، بسَّامًا ضحَّاكًا، لم ير قط مادًّا رجليه بين أصحابه.
وعنها: ما كان أحد أحسن خلقًا من رسول الله -صلى الله عليه وسلم, ما دعاه أحد من أصحابه إلّا قال: لبيك. رواه.
وعند أحمد وابن سعد وصحَّحَه ابن حبان عنها قالت: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يخيط ثوبه ويخصف -بكسر- نعله، وفي رواية لأحمد: ويرفع دلوه، وعنده أيضا: يغلي
__________
وما قتل بيده أحد غيره، بل قال ابن تيمية: لا نعلمه ضرب بيده أحدًا غيره، "وما نيل منه شيء، فينتقم من صاحبه"؛ إذ طبعه لا ينتقم لنفسه "إلا أن ينتهك" -بضم، فسكون، ففتح- أي: لكن إذا انتهك "شيء من محارم الله، فينتقم لله" لا لنفسه ممن ارتكب تلك الحرمة، "رواه مسلم" وبعضه رواه البخاري، "وسئلت" كما رواه ابن سعد وغيره "عائشة: كيف كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا خلا في بيته؟، قالت: كان" إذا خلا بنسائه "ألين الناس، بسَّامًا" كثير التبسم، "ضحَّاكًا" بمعنى ضاحكًا زيادة عن التبسم قليلًا، في بعض الأحيان "لم ير قط مادًّا رجليه بين أصحابه" زاد في رواية حتى يضيق بهما على أحد، "وعنها: ما كان أحد أحسن خلقًا من رسول الله -صلى الله عليه وسلم" وبيَّنت بعض ذلك؛ بأنه "ما دعاه" أي ناداه "أحد من أصحابه إلا، قال: "لبيك" ظاهره أنه جوابه دائمًا، ويحتمل أنه كناية عن سرعة الجواب مع التعظيم، "رواه" كذا في نسخ وبعدها بياض، وفي أخرى بدون رواه، وفي بعضها رواه البخاري، وهي خطأ، فقد قال السيوطي في تخريج أحاديث الشفاء:
رواه أبو نعيم في الدلائل بسند واهٍ, وروى أبو داود، والترمذي عن أنس، والبزار عن أبي هريرة: ما التقم أحد أذن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فنحَّى رأسه عنه، حتى يكون الرجل هو الذي ينحِّي رأسه، وما أخذ أحد بيده، فيرسل يده حتى يرسلها الآخذ، "وعند أحمد، وابن سعد، وصححه ابن حبان، عنها" أي: عائشة، "قالت: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يخيط" -بفتح الياء، وكسر الخاء- "ثوبه ويخصف -بكسر" المهملة، "فعله" أي: خرز طاقًا على طاق، بقية هذه الرواية عند أحمد، ويعمل ما يعمل الرجال في بيوتهم، أي: من الاشتغال بمهنة الأهل والنفس إرشاد للتواضع، وترك التكبر، لكنه مشرف بالوحي والنبوة، مكرَّم بالرسالة والآيات، "وفي رواية لأحمد، ويرفع" بفتح، فسكون، ففتح، "دلوه" أي: يصلحه، "وعنده أيضًا يفلي" بفتح، فسكون مضارع فلي ثلاثيًّا،(6/44)
ثوبه، ويحلب شاته ويخدم نفسه.
وهذا يتعيِّن حمله على أوقات, فإنه ثبت أنه كان له خدم، فتارة يكون بنفسه وتارة بغيره، وتارة بالمشاركة.
وكان يركب الحمار، ويردف خلفه، وركب يوم بني قريظة على حمار مخطوم بحبل من ليف. رواه الترمذي.
وعن قيس بن سعد قال: زارنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم, فلما أراد الانصراف قرَّب له سعد حمارًا وطأ عليه بقطيفة، وركب رسول الله -صلى الله عليه وسلم, ثم قال سعد: يا قيس، اصحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم،.......................................
__________
كما ضبطه غير واحد، يجوز ضم أوله، وسكون ثانيه مخففًا، أو فتحه مثقلًا "ثوبه" أي: يزيل قمله، وظاهره إن العمل يؤذيه، لكن قال ابن سبع: لم يكن فيه قمل، لأنه نور، ولأن أكثره من العفونة، ولا عفونة فيه، ومن العرق، وعرقه طيب، ولا يلزم من التفلية وجود القمل، فقد يكون للتعليم، أو لتفتيش نحو: خرق فيه ليرقعه، أما لما علق به من نحو شوك ووسخ، وقيل: كان في ثوبه قمل، ولا يؤذيه، وإنما كان يفليه استقذارًا له، "ويحلب"، بضم اللام، "شاته، ويخدم" بضم الدال، "نفسه"، عطف عام على خاص، ونكتته الإشارة إلى أنه كان يخدم نفسه عمومًا وخصوصًا، "وهذا يتعيِّن حمله على" أنه كان يفعل ذلك في بعض "أوقات" لا دائمًا، "فإنه ثبت أنه كان له خدم، فتارة يكون بنفسه، وتارة بغيره، وتارة بالمشاركة" وفيه ندب خدمة الإنسان نفسه، وأنه لا يخل بمنصبه وإن جلَّ.
"وكان يركب الحمار" زاد ابن سعد في روايته عريًا ليس عليه شيء، وذلك مع ما فيه من غاية التواضع، إرشاد للعباد، وبيان أن ركوبه لا يخل بمروءة، ولا رفعة، بل ف غاية التواضع، وكسر النفس، "ويردف" بضم التحتية "خلفه" الذكر والأنثى، الصغار والكبار، "وركب يوم بني قريظة" وفي رواية لأبي الشيخ يوم خيبر، ويوم قريظة، والنضير "على حمار مخطوم" في أنفه "بحبل من ليف" زاد في رواية الشمائل: عليه أكاف من ليف، وهو برزعه لذوات الحوافر، بمنزلة السرج للفرس، وهذا نهاية التواضع، وأي تواضع، وقد ظهر له -صلى الله عليه وسلم- من النصرة عليهم، والضفر بأموالهم، ما هو معروف، "رواه الترمذي" من حديث أنس، "وعن قيس بن سعد" بن عبادة، "قال: زارنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم" على عادته في تفقد أصحابه، قيل: كان سعد دعاه رجل ليلًا، فخرج له، فضربه بسيفه، فعاده -صلى الله عليه وسلم، "فلما أراد الانصراف، قرَّب له سعد حمارا" ليركبه "وطأ" بشد المهملة، وهمزة، "عليه بقطيفة" كساء له خمل ووبر، وضعه على ظهر الحمار، "وركب رسول الله -صلى الله عليه وسلم، ثم قال سعد" لابنه: "يا قيس, اصحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم" أي: كن معه في خدمته،(6/45)
قال قيس: فقال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "اركب"، فأبيت، فقال: "إما أن تركب وإما أن تنصرف". وفي رواية أخرى: "اركب أمامي فصاحب الدابَّة أَوْلَى بمقدمها"، رواه أبو داود وغيره.
وفي البخاري من حديث أنس بن مالك: أقبلنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من خيبر، وإني لرديف أبي طلحة وهو يسير، وبعض نساء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رديف رسول الله -صلى الله عليه وسلم؛ إذ عثرت الناقة، فقلت: المرأة، فقال -صلى الله عليه وسلم: "إنها أمكم"، فشددت الرحل، وركب رسول الله -صلى الله عليه وسلم. الحديث.
والمرأة: صفية، والردف والرديف: الراكب خلف الراكب بإذنه.
وقال معاذ بن جبل: بينا أنا رديف النبي -صلى الله عليه وسلم- ليس بيني وبينه إلا آخرة
__________
وفي ذا الحديث؛ أنه -صلى الله عليه وسلم- جاء على حمار، مردفًا أسامة خلفه، فسَعْدُ وهبه الحمار ليركبه وحده، ويبقى أسامة على الحمار الذي جاء به، "قال قيس: فقال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "اركب"، فأبيت" أن أركب، تأدبًا معه لا مخالفة لأمره، "فقال: "أما أن تركب، وإما أن تنصرف" أي: ترجع ولا تمشي معي, أي: فوافقه على الركوب "وفي رواية أخرى: "اركب أمامي فصاحب الدابة أَوْلَى بمقدمها"؛ إذ هو أدرى بسيرها، وسماه صاحبًا، باعتبار ما كان، لأنَّه ابن مالكها سعد بن عبادة، لا ابن أبي وقاص، كما غلط من قاله، وعند ابن مندة: فأرسل ابنه معه ليرد الحمار، فقال: "احمله بين يدي"، قال: سبحان الله, أتحمله بين يديك؟، قال: "نعم، هو أحق بصدر حماره"، قال: هو لك يا رسول الله، قال: "أحمله إذن خلفي"، "رواه أبو داود وغيره" وفيه قصة طويلة.
"وفي البخاري من حديث أنس بن مالك، أقبلنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من خيبر" بمعجمة، فتحتية، فموحدة، فراء آخره، ونسخة من حنين، تصحيف من الجهال، فالثابت في البخاري خيبر، "وإني لرديف أبي طلحة" زيد بن سهل الأنصاري، زوج أم أنس، "وهو يسير وبعض نساء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رديف رسول الله -صلى الله عليه وسلم؛ إذ عثرت الناقة، فقلت" وقعت "المرأة" فنزلت، هذا أسقطه من الرواية، وفي رواية، نصب المرأة، أي: أوقعت الدابة المرأة، وفي أخرى، فقلت: بالفاء من الفلى، وهو الإخراج والفصل، ونزلت بلفظ المتكلم، "فقال -صلى الله عليه وسلم: "إنها أمكم" تذكيرًا لهم بوجوب تعظيمها، "فشددت الرحل، وركب رسول الله -صلى الله عليه وسلم. الحديث" بقيته، فلما دنا ورأى المدينة، قال: "آيبون، تائبون، عابدون، لربنا حامدون"، "والمرأة صفية" بنت حيي أم المؤمنين، "والردف، والرديف، الراكب خلف الراكب بإذنه" قيد به، لأنه المتبادر؛ إذ من ركب بلا إذن، غاصب شرعًا، وإن كانت اللغة لا فرق بين الإذن وعدمه.
"وقال معاذ بن جبل: بينا أنا رديف النبي -صلى الله عليه وسلم, ليس بيني، وبينه إلا آخرة" بفتح(6/46)
الرحل. وقد ركب -صلى الله عليه وسلم- على حمار على إكاف, عليه قطيفة فذكيه, أردف أسامة وراءه.
ولما قدم -عليه الصلاة والسلام- مكة استقبله أغيلمة بني عبد المطلب، فحمل واحدًا بين يديه، وآخر خلفه. وقال ابن عباس: أتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مكة وقد حمل قثم بين يديه والفضل خلفه، أو قثم والفضل خلفه، أو قثم خلفه والفضل بين يديه. رواه البخاري.
وذكر المحب الطبريّ في مختصر السيرة النبوية له، أنه -صلى الله عليه وسلم- ركب حمارًا عريًا إلى قبا وأبو هريرة معه, قال: "يا أبا هريرة أأحملك؟ " قال: ما شئت يا رسول الله, فقال: "اركب" , فلم يقدر, فوثب أبو هريرة ليركب فلم يقدر, فاستمسك برسول الله -صلى الله عليه وسلم, فوقعا جميعًا. ثم ركب -صلى الله عليه وسلم, ثم قال: "يا أبا هريرة, أأحملك؟ " قال: ما
__________
الهمزة، والمد، وكسر الخاء، "الرجل", قال المصباح: خشبة يستند إليها الراكب "وقد ركب -صلى الله عليه وسلم- على حمر، على إكاف" بالكسر، البرذعة, "عليه قطيفة فَدَكية" بفتحتين، موضع بخيبر، "أردف أسامة وراءه" ففيه جواز الإرداف، وإن كانوا ثلاثة إذا لم تكن الدابة ضعيفة لا تطبيق ذلك، وقيل: يكره ما فوق الاثنين، "ولما قدم -عليه الصلاة والسلام- مكة، استقبله أغيلمة" تصغير الغلمة، جمع الغلام، وهو شاذ، والقياس غليمة، قال الكرماني، "بني عبد المطلب، فحمل واحدًا بين يديه، وآخر خلفه" رواه البخاري، عن عبد الله بن عباس، "وقال ابن عباس: أتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مكة، وقد حمل قُثَم" بضم القاف، وخفة المثلثة المفتوحة، ابن العباس الهاشمي، كان آخر الناس عهدًا بالنبي -صلى الله عليه وسلم, ولي مكة من قِبَلِ عليّ، ثم سار أيام معاوية إلى سمرقند، فاستشهد وقُبِرَ بها "بين يديه، والفضل" بسكون الضاد، أخوة ثبت يوم حنين، ومات سنة ثمان عشرة على الأصح، "خلفه، أو قثم خلفه، والفضل بين يديه" شكَّ الراوي "رواه البخاري", ففي هذه الرواية الثانية، بيان البهمين في الأولى، "وذكر المحب الطبري في مختصر السيرة النبوية له أنه -صلى الله عليه وسلم- ركب حمارًا عريًا" بضم العين، وإسكان الراء، أي: ما عليه إكاف، ولا يقال ذلك في الآدمي، إنما يقال عريان، "إلى قبا" بالضم: موضع بالمدينة، وفيه لغات، جمعها القائل:
حرًا وقبا ذكر وأنثهما معًا ... ومد، أو اقصر واصرفنَّ وامنع الصرفا
"وأبو هريرة معه، قال: "يا أبا هريرة أأحملك؟ "، قال: ما شئت" افعله "يا رسول الله، فقال: "اركب"، فوثب أبو هريرة ليركب، فلم يقدر، فاستمسك" تمسك وتعلَّق "برسول الله -صلى الله عليه وسلم، فوقعا جميعًا، ثم ركب -صلى الله عليه وسلم، ثم قال: "يا أبا هريرة أأحملك"؟، قال" افعل "ما شئت يا رسول الله، فقال: "اركب"، فلم يقدر أبو هريرة على ذلك، فتعلَّق برسول الله -صلى الله عليه وسلم، فوقعا جميعًا،(6/47)
شئت يا...................................................................................................................................
رسول الله، فقال: "اركب"، فلم يقدر أبو هريرة على ذلك، فتعلَّق برسول الله -صلى الله عليه وسلم- فوقعا جميعًا، فقال: "يا أبا هريرة أأحملك؟ " فقال: لا والذي بعثك بالحق لأرميتك ثالثًا.
وذكر المحب الطبري أيضًا: أنه -عليه الصلاة والسلام- كان في سفر، وأمر أصحابه بإصلاح شاة, فقال رجل: يا رسول الله عليّ ذبحها، وقال آخر: يا رسول الله، عليَّ سلخها، وقال آخر: يا رسول الله، علي طبخها، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "علي جمع الحطب"، فقالوا: يا رسول الله نكفيك العمل، فقال: "فقد علمت أنكم تكفوني ولكن أكره أن أتميز عليكم، فإن الله يكره من عبده أن يراه متميزًا بين أصحابه". انتهى.
ولم أر هذا لغير الطبري بعد التتبُّع، نعم رأيت في جزء تمثال النعل الشريف
__________
فقال: "يا أبا هريرة أأحملك"؟، فقال: لا والذي بعثك بالحق لأرميتك" أي: لا أرميك "ثالثًا" فاستعمل الماضي موضع المضارع، لأنه قوي عنده؛ أنه إذا ركب وقعا جميعًا أيضًا، "وذكر المحب الطبري أيضًا" في الكتاب المذكور "أنه -عليه الصلاة والسلام- في سفر، وأمر أصحابه" أي: جنس "بإصلاح شاة" أي: تهيئتها للأكل، "فقال رجل: يا رسول الله عليَّ ذبحها، وقال آخر: يا رسول الله علي سلخها، وقال آخر: يا رسول الله عليّ طبخها، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "عليّ جمع الحطب" من الوادي", "فقالوا: يا رسول الله نكفيك العمل، فقال: "قد علمت أنكم تكفوني" بحذف إحدى النونين تخففًا، والأصل تكفونني، "ولكن أكره أن أتميِّزَ عليكم، فإن الله يكره من عبده أن يراه متميزًا بين أصحابه" , أي: لا يثني عليه إذا رآه متميزًا، والمكروه له تعالى في الحقيقة هو تميز العبد، لا رؤيته تعالى لذلك.
"ولم أر هذا لغير الطبري بعد التتبع" وقد أنكره شيخه السخاوي، فقال: لا أعرفه، "نعم رأيت في جزء تمثال" أي: صورة "النعل الشريف", وهو نحو كراسة والأولى الشريفة؛ إذ النعل مؤنثة "لأبي اليمين بن عساكر، بعد أن روى حديث عبد الله بن عامر، بن ربيعة" العنزي -بسكون النون، حليف بني عدي، وُلِدَ على عهد النبي -صلى الله عليه وسلم، وثَّقه العجلي، وروى له الستة، ومات سنة بضع وثمانين "عن أبيه" عامر، بن ربيعة، بن كعب، بن مالك العنزي، حليف الخطاب، صحابي مشهور؛ أسلم قديمًا، وهاجر وشهد بدرًا، وله أحاديث في الكتب الستة، ومات ليالي قتل عثمان،(6/48)
لأبي اليمن بن عساكر بعد أن روى حديث عبد الله بن عامر بن ربيعة عن أبيه....... قال: كنت مع النبي -صلى الله عليه وسلم- في الطواف, فانقطعت شسعه, فقلت: يا رسول الله, ناولني أصلحه، فقال: "هذه أثرة ولا أحب الأثرة".
والأثرة: بفتح الهمزة والثاء، الاسم من آثر يؤثر إذا أعطى، والأثرة: والاستئثار وهو الانفراد بالشيء. قال: وكأنه كره -صلى الله عليه وسلم- أن ينفرد أحد عنه بإصلاح نعله، فيحوز فضيلة الخدم, فيكون له بمثابة الخادم, ويكون له -صلى الله عليه وسلم- ترفع المخدوم على خادمه، كره ذلك -صلى الله عليه وسلم- لتواضعه وعدم ترفعه على من يصحبه.
ويؤيده ما روي أنه -صلى الله عليه وسلم- أراد أن يمتهن نفسه في شيء, فقالوا: نحن نكفيك يا رسول الله، قال: "قد علمت أنكم تكفوني, ولكن أكره أن أتميز عليكم, فإن الله يكره من عبده أن يراه متميزًا بين أصحابه". انتهى.
ثم رأيت شيخنا في الأحاديث المشهورة حكى ذلك.
__________
"قال: كنت مع النبي -صلى الله عليه وسلم- في الطواف فانقطعت شِسْعه" بكسر المعجمة، وسكون المهملة: قبال نعله، "فقلت: يا رسول الله ناولني" بحذف المفعول الثاني، أي: ناولنيها "أصلحه" بضم الهمزة أي: الشسع، "فقال: "هذه" الحالة التي تفعلها عني "أثرة، ولا أحب الأثرة" والأثرة، بفتح الهمزة والثاء, الاسم من آثر يؤثر، إذا أعطي" وفي المصباح آثرته بالمد فضَّلته؛ واستأثر بالشيء استبدَّ به، والاسم الأثرة، مثال قصبة، "والأثرة والاستئثار، وهو الانفراد بالشيء، قال" أبو اليمن: "وكأنه كره -صلى الله عليه وسلم- أن ينفرد أحد عنه بإصلاح نعله، فيجوز" أن يحصل "فضيلة الخدم، فيكون له بمثابة الخادم، ويكون له -صلى الله عليه وسلم- ترفع المخدوم على خادمه", واستأنف مجيبًا لم كره هذا، فقال: "كره ذلك -صلى الله عليه وسلم- لتواضعه، وعدم ترفعه على من يصحبه، ويؤيده ما روي أنه -صلى الله عليه وسلم- أراد أن يمتهن" يستعمل "نفسه في شيء" يباشره بنفسه، "فقالوا: نحن نكفيك يا رسول الله، قال: "قد علمت أنكم تكفوني، ولكني أكره أن أتميز عليكم، فإن الله يكره من عبده أن يراه متميزًا بين أصحابه". انتهى كلام أبي اليمن.
"ثم رأيت شيخنا" السخاوي في المقاصد الحسنة، "في الأحاديث المشهورة" على الألسنة، "حكى ذلك" فقال: حديث إن الله يكره العبد المتميز على أخيه لا أعرفه، ثم رأيت في جزء تمثال النعل الشريف، لأبي اليمن بن عساكر، في الكلام على الأثرة ما نصه، ويؤيده ما روي أنه أراد أن يمتهن، فذكره، فلا يعود اسم الإشارة على جميع ما نقله المصنف؛ إذ السخاوي إنما(6/49)
وعن أبي قتادة: وَفَدَ وَفْدُ النجاشي، فقام النبي -صلى الله عليه وسلم- يخدمهم، فقال له أصحابه: نحن نكفيك، قال: "إنهم كانوا لأصحابنا مكرمين، وأنا أحب أن أكافئهم"، ذكره في الشفاء.
وفي البخاري عن أنس: كان الرجل يجعل للنبي -صلى الله عليه وسلم- النخلات حتى افتتح قريظة والنضير، وإن أهلي أمروني أن آتي النبي -صلى الله عليه وسلم- فأسأله الذي كانوا أعطوه أو بعضه، وكان قد أعطاه أم أيمن، فجاءت أم أيمن فجعلت الثوب في عنقي تقول: كلّا والذي لا إله غيره لا نعطيكم وقد أعطانيها -أو كما قال, والنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "لك كذا"، وتقول كلا................
__________
نقل أخره، كما رأيت، "وعن أبي قتادة" الأنصاري السلمي -بفتحتين- الحارث، ويقال: عمرو أو النعمان بن ربيع -بكسر الراء، وسكون الموحدة، بعدها مهملة- شهد أحد وما بعدها، ولم يصح شهوده بدرًا، ومات سنة أربع وخمسين، وقيل: ثمان وثلاثين، والأول أصح، وأشهر، قال: "وفد" أي قدم: "وَفْد" بسكون الفاء، اسم جمع بمعنى وافدين "النجاشي، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- يخدمهم" بنفسه، تواضعًا منه وإرشادًا لغيره، "فقال له أصحابه: نحن نكفيك" خدمتهم، أي: نقوم عنك بذلك، فأبى، و"قال: "أنهم كانوا لأصحابنا مكرمين، وأنا أحب أن أكافئهم" أي: أجازيهم على إكرامهم لأصحابنا، ولا إكرام أعظم من تعاطيه أمورهم بنفسه؛ "ذكره" عياض "في الشفاء" وأخرجه ابن إسحاق والبيهقي في الدلائل، عن أبي قتادة المذكور.
"وفي البخاري عن أنس: كان الرجل" من الأنصار؛ "يجعل للنبي -صلى الله عليه وسلم- النخلات، حتى افتتح" أي: إلى أن افتتح "قريظة والنضير", وفي رواية الكشميهني حين بدل حتى، والأول أوجه، قال الحافظ: حاصله أن الأنصار كانوا واسوا المهاجرين بنخيلهم لينتفعوا بتمرها، فلما فتح الله النضير، ثم قريظة؛ قسم في المهاجرين من غنائمهم، فأكثر، وأمرهم برد ما كان للأنصار لاستغنائهم عنه، ولأنهم لم يكونوا ملكوهم رقاب ذلك، كما قال: "وإن أهلي أمروني أن آتي النبي -صلى الله عليه وسلم- فأسأله" بهمزة قطع مفتوحة، منصوب عطفًا على المنصوب السابق النخل، "الذي" رواية أبي ذر، والأصيلي، وابن عساكر، ولغيرهم الذين "كانوا أعطوه، أو بعضه؛ وكان قد أعطاه أم أيمن، فجاءت" فيه حذف يوضحه رواية مسلم، فأتيت النبي -صلى الله عليه وسلم- فأعطانيه، فجاءت "أم أيمن"، "فجعلت الثوب في عنقي، تقول: كلا والذي لا إله غيره، لا نعطيكم" أي: لا نمكنكم مما بيدي، وفي نسخة، لا أعطيكم، "وقد أعطانيها" الواو للحال، "أو كما قال" أنس: إشارة إلى شك وقع في اللفظ مع حصول المعنى، قال المصنف: "والنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "لك كذا"، وتقول: كلا،(6/50)
والله، حتى أعطاها -حسبت أنه قال- عشر أمثاله. أو كما قال.
وإنما فعلت هذا أم أيمن لأنها ظنت أنها كانت هبة مؤيدة وتمليكًا لأصل الرقبة، وأراد -صلى الله عليه وسلم- استطابة قلبها في استرداد ذلك, فلاطفها, وما زال يزيدها في العوض حتى رضيت، وكل هذا تبرع منه -صلى الله عليه وسلم- وإكرام لها، لما لها من حق الحضانة والتربية، ولا يخفى ما في هذا من فرط جوده وكثرة حلمه وبره -صلى الله عليه وسلم.
وجاءته -صلى الله عليه وسلم- امرأة في عقلها شيء، فقالت: إن لي إليك حاجة، فقال: "اجلسي في أي سكك المدينة شئت أجلس إليك" , وفي رواية سلم: "حتى أقضي حاجتك،.............
__________
والله حتى أعطاها".
قال سليمان بن طرخان: الراوي عن أنس "حسبت أنه" أي: أنسًا "قال: عشر أمثاله، أو كما قال" أنس. وفي مسلم حتى أعطاها عشرة أمثاله، أو قريبًا من عشرة أمثاله، قال الحافظ: وعرف بهذا أن معنى قوله: ولك كذا وكذا، أي: مثل الذي لك مرة، ثم شرع يزيدها مرتين ثلاثًا، إلى أن بلغ عشرة، "وإنما فعلت هذا أم أيمن؛ لأنها ظنَّت أنها كانت هبة مؤيدة؛ وتمليكًا لأصل الرقبة", والواقع: إنها هبة للمنفعة فقط، ففيه مشروعية هبة المنفعة، دون الرقبة، فلم يكن لها امتناع، ولا أخذ بدل، "و" لكن "أراد -صلى الله عليه وسلم- استطابة قلبها، في استرداد ذلك، فلاطفها، وما زال يزيدها في العوض حتى رضيت، وكل هذا تبرع منه -صلى الله عليه وسلم- وإكرام لها، لما لها من حق الحضانة والتربية، ففيه منزلة أم أيمن، وهي أم أسامة بن زيد، وابنها أيمن، صحابيّ أسنّ من أسامة، استشهد بحنين، وعاشت أم أيمن بعده -صلى الله عليه وسلم- قليلًا، ولا يخفى ما في هذا من فرط جوده، وكثره حلم وبره -صلى الله عليه وسلم".
"وجاءته -صلى الله عليه وسلم- إمرأة", قال الحافظ: لم أقف على اسمها، وفي بعض الحواشي: إنها أم زفر ماشطة خديجة، ونزع فيه، وتردد البرهان في المقتفى، في أنها هي، أو غيرها؛ وجزم غيره بأنها هي، لكن نوزع، "كان في عقلها شيء" من الجنون، ولم يصرح به إشارة لخفته، وأنها لم تستغرق فيه، فإن لفظ شيء يشعر بالقلة، "فقالت: إن لي إليك حاجة" أي: لي حاجة أريد أن أنهيها إليك، وأعلمك بها، "فقال: "اجلسي" بصيغة المخاطبة من أمر الحاضر، "في أي سكك" طرق "المدينة شئت أجلس" بالجزم جواب الأمر "إليك" , أي: معك، فإلى بمعنى عند، وهذا الحديث في الصحيحين، "و" زاد في "في رواية مسلم "حتى أقضي حاجتك" , قيل: ولعلها كانت تعقد بالطريق، لما في عقلها، فعبَّر عن إجابتها بذلك، أو أظهر كمال الاهتمام والاستعجال بقضاء حاجتها بهذا البيان، "فخلا معها في بعض الطريق، حتى فرغت من حاجتها" لأنه كان(6/51)
فخلا معها في بعض الطريق حتى فرغت من حاجتها.
ولا ريب أن هذا كله من كثرة تواضعه -صلى الله عليه وسلم.
وقال عبد الله بن أبي الحمساء -بالحاء المهملة المفتوحة والميم الساكنة وبالسين المهملة في آخره وهمزة ممدودة: بايعت النبي -صلى الله عليه وسلم- قبل أن يبعث، وبقيت له بقية، فوعدته أن آتيه بها في مكانه، فنسيت, فذكرته بعد ثلاث, فإذا هو في مكانه, فقال: "لقد شققت علي، أنا ههنا منذ ثلاث أنتظرك" رواه أبو داود.
وقال عبد الله بن أبي أوفى: كان -عليه الصلاة والسلام- لا يأنف أن يمشي مع الأرملة والمسكين فيقضي له الحاجة. رواه النسائي.
__________
محرمًا لجميع النساء، قال بعض: وفيه إيماء وإرشاد إلى أنه لا يخلو أجنبي مع أجنبية، بل إذا عرضت حاجة يكون معها بموضع لا يتطرق فيه تهمة، ولا يظن به ريبة؛ لكونه بطريق المارة, وفيه حل الجلوس في الطريق لحاجة، وموضع النهي من يؤذي، أو يتأذَّى بقعوده فيها، وأنه ينبغي للحاكم المبادرة إلى تحصيل غرض أولي الحاجات، ولا يتساهل في ذلك "ولا ريب أن هذا كله من كثرة تواضعه -صلى الله عليه وسلم" لبروزه للناس، وقربه، وصبره على المشاق لأجل غيره خصوصًا، امرأة في عقلها شيء.
"وقال عبد الله بن أبي الحمساء -بالحاء المهملة المفتوحة، والميم الساكنة، وبالسين المهملة في آخره، وهمزة ممدودة- العامري, سكن البصرة، وقيل: إنه ابن أبي الجدعاء، قال في الإصابة: والراجح أنه غيره، "بايعت النبي -صلى الله عليه وسلم" أي: بعت له شيئًا "قبل أن يبعث، وبقيت له" أي: لذلك المبيع "بقية" لم تسلم له، "فوعدته أن آتيه بها في مكانه" أي: في مكان وقع فيه البيع؛ "فنسيت" الوعد، فذكرته بعد ثلاث" أي: أيام، ولم يقل ثلاثة لحذف المعدود، فيجوز تذكيره مع المذكور، وتأنيثه مع المؤنث، فجئته "فإذا هو" مستقر "في مكانه" لم يفارقه، "فقال:" "يا فتى، لقد شققت علي، أنا ههنا منذ ثلاث أنتظرك" ففيه وفاؤه بعهده، ووعد من قبل البعثة، "رواه أبو داود" منفردًا به عن الكتب الستة؛ وأخرجه البزار من طريق عبد الكريم بن عبد الله بن سفيان، عن أبيه، عن ابن أبي الحمساء، "وقال عبد الله بن أوفى" -بفتح الهمزة، والفاء، بينهما واو ساكنة- واسمه علقمة، صحابي، ابن صحابي، "كان -عليه الصلاة والسلام- لا يأنف" لا يستكبر، "أن يمشي مع الأرملة" المرأة التي لا زوج لها؛ "والمسكين" بكسر الميم، لغة جميع العرب، إلّا بني أسد، فبفتحها من السكون؛ لسكونه إلى الناس، "فيضي له الحاجة، رواه النسائي".(6/52)
وفي رواية البخاري: إن كانت الأمة لتأخذ بيد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فتنطلق به حيث شاءت، وفي رواية أحمد: فتنطلق به في حاجتها، وعند أيضا: إن كانت الوليدة من ولائد أهل المدينة لتجيء فتأخذ بيد رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فما ينزع يده من يدها حتى تذهب به حيث شاءت.
والمقصود من الأخذ باليد لازمه وهو الانقياد.
وقد اشتمل على أنواع من المبالغة في التواضع، لذكره المرأة دون الرجل، والأمة دون الحرة؛ وحيث عمَّم بلفظ الإماء، أي: أي أمة كانت، أي: كانت، وبقوله: حيث شاءت، أي: من الأمكنة، والتعبير باليد إشارة إلى غاية التصرُّف، حتى لو كانت حاجتها خارج المدينة والتمست مساعدتها في تلك الحالة لساعدها على ذلك، وهذا من مزيد تواضعه وبراءته من جميع أنواع الكبر -صلى الله عليه وسلم.
ودخل الحسن وهو يصلي قد سجد، فركب على ظهره، فأبطأ في...............................................
__________
"وفي رواية البخاري" في باب الكبر من كتاب الأب، عن أنس قال: "إن" أي: أنه "كانت" رواية أبي ذر عن الكشميهني ولغيره، بحذف إن، كما بينه المصنف، "الأَمَة" أيّ أَمَة كانت، وأسقط البخاري من إماء المدينة، "لتأخذ بيد رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فما ينزع يده من يدها، حتى تذهب به حيث شاءت", وبقية هذه الرواية: ويجيب إذا دعي، "والمقصود من الأخذ باليد لازمه، هو الانقياد، وقد اشتمل" الحديث الذي رواه البخاري، وأحمد معًا، وقصره على الثاني لا وجه له؛ إذ لا ريب أن سياق البخاري اشتمل "على أنواع من المبالغة، في التواضع لذكره، والمرأة دون الرجل، والأمة دون الحرة" بقوله: إن كانت الأمة، "وحيث عمَّم بلفظ الإماء، أي: أي أمة كانت، وبقوله: حيث شاءت، أي: من الأمكنة، والتعبير باليد إشارة إلى غاية التصرف حتى لو كانت حاجتها خارج المدينة، والتمست مساعدتها في تلك الحالة، لساعدها على ذلك" بالخروج معها، "وهذا من مزيد تواضعه وبراءته من جميع أنواع الكبر -صلى الله عليه وسلم" ومن ثَمَّ أورده البخاري في باب الكبر، إشارة إلى براءته منه، "ودخل الحسن" السبط، "وهو" صلى الله عليه وسلم "يصلي، قد سجد، فركب على ظهره، فأبطأ ف سجوده حتى نزل الحسن، فلمَّا فرغ، قال له بعض أصحابه: يا رسول الله، قد أطلت(6/53)
سجوده حتى نزل الحسن، فلمَّا فرغ, قال له بعض أصحابه: يا رسول الله, قد أطلت سجودك. قال: "إن ابني ارتحلني فكرهت أن أعجله". أيّ جعلني كالراحلة فركب على ظهري.
وكان -عليه الصلاة والسلام- يعود المرضى، ويشهد الجنازة. أخرجه الترمذي في الشمائل.
وحجَّ -عليه الصلاة والسلام- على رحل رثٍّ وعليه قطيفة لا يساوي أربعة دراهم.........
__________
سجودك! قال: "إن ابني ارتحلني، فكرهت أن أعجله"، أي: جعلني كالراحلة، فركب على ظهري".
"وكان -عليه الصلاة والسلام- يعود المرضى" الشريف، والوضيع، والحر، والعبد، حتى عاد غلامًا يهوديًّا كان يخدمه، فقعد عند رأسه، فقال له: "أسلم" فنظر إلى أبيه، فقال له: أطع أبا القاسم، فأسلم، فخرج -صلى الله عليه وسلم- وهو يقول: "الحمد لله الذي أنقذه من النار" رواه البخاري عن أنس، وعاد عمَّه أبا طالب، وهو مشرك، وعرض عليه الإسلام، وقصته في الصحيحين، وعدت العيادة تواضعًا مع أن فيها رضا الله، وحيازة الثواب، ففي الترمذي، وحسَّنه مرفوعًا، "من عاد مريضًا ناداه مناد، طبت وطاب ممشاك، وتبوأت من الجنة منزلًا"، ولأبي داود: "من توضأ، فأحسن الوضوء، وعاد أخاه المسلم محتسبًا, بُوعِدَ من جهنم سبعين خريفًا" إلى غير ذلك، لما فيها من خروج الإنسان عن مقتضى جاهه، وتنزهه عن مرتبته إلى ما دون ذلك، "ويشهد الجنازة" أي: يحضرها للصلاة عليها، هبها لشريف أو وضيع، فيتأكد التأسي به، وآثر قوم العزلة، ففاتهم خير كثير، "أخرجه الترمذي في الشمائل" من حديث أنس، "وحجَّ -عليه الصلاة والسلام- كما رواه ابن ماجه، والترمذي في الشمائل، والبيهقي عن أنس، قال: حج رسول الله -صلى الله عليه وسلم "على رحل" بالفتح، أي: راكبًا عليه، وهو للجمل، كالسرج للفرس، "رث" بمثلثة، بالٍ خَلِق، "وعليه" أي: على الرحل، كما هو أنسب بالسياق، ويؤيده قوله في رواية أخرى، على رحل وقطيفة، فأفادت أن ضمير عليه ليس للمصطفى، "قطيفة" كساء خمل، "لا يساوي" أي: لا يسع ثمنها "أربعة دراهم", وفي رواية: كنا نرى ثمنها أربعة دراهم، قال المصنف: وفيه مسامحة، والتحقيق أنها لا تساويها، كما في هذه الرواية، وزعم تعدد القصة ممنوع؛ إذ لم يحج إلا مرة واحدة، انتهى.
وذلك لأنه في أعظم مواطن التواضع؛ إذ الحج حالة تجرد وإقلاع، وخروج من الموطن(6/54)
فقال: "اللهم اجعله حجًّا لا رياء فيه ولا سمعة".
وكان إذا صلَّى الغداة جاءه خدم المدينة بآنيتهم فيها الماء، فما يؤتى بإناء إلَّا غمس يده فيه، فربما جاءه في الغداة الباردة فيغمس يده فيها. رواه مسلم والترمذي.
وكان -عليه الصلاة والسلام- حسن العشرة مع أزواجه، وكان -عليه الصلاة والسلام- ينام مع أزواجه.
__________
سفر إلى الله، ألا ترى ما فيه من الإحرام؟ ومعناه: إحرام النفس من الملابس، تشبيهًا بالفارين إلى الله، والتذكير بالموقف الحقيقي، "فقال: "اللهم اجعله حجًّا" بفتح الحاء، وكسرها، "لا رياء فيه" لا عمل لغرض مذموم، كان يعمل ليراه الناس، "ولا سمعة" لا عمل ليسمع الناس، ويصير مشهورًا به، فيكرم، ويعظم جاهه في قلوبهم، فتضرع -صلى الله عليه وسلم- إلى الله، وسأله عدم الرياء والسمعة، مع كمال بعده عنهما، تخشعًا، وتذللًا، وعدًّا لنفسه كواحد من الآحاد من عظيم تواضعه؛ إذ لا يتطرق ذلك إلا لمن حجَّ على مراكب نفيسة، وملابس فاخرة، وأغشية محبرة، وأكوار مفضَّضة، هذا مع أنه -صلى الله عليه وسلم- أهدى في هذه الحجة مائة بدنة، وأهدى أصحابه ما لا يسمح به أحد، ومنهم عمر، أهدى فيما أهدى بعيرًا، أعطى فيه ثلثمائة دينار، فأبى قبولها، "وكان إذا صلَّى الغداة" أي: الصبح، "جاءه خدم" أهل "المدينة بآنيتهم فيها الماء، فما يؤتى بإناء إلّا غمس يده فيه" للتبرك بيده الشريفة، "فربما جاءه في الغداة الباردة، فينغمس يده فيها", ولا يمتنع لأجل البرد، من مزيد لطفه، وتواضعه، "رواه مسلم، والترمذي" وأحمد من حديث أنس، وفيه بروه للناس، وقربه منهم؛ ليصل كل ذي حق لحقه، وليعلم الجاهل ويقتدي بأفعاله، وكذا ينبغي للأئمة بعده، والحديث رواه أيضًا أبو نعيم في الدلائل، عن أبي أنس كان -صلى الله عليه وسلم- أشد الناس لطفًا، والله ما كان يمتنع في غداة باردة, من عبد ولا أمة تأتيه بالماء، فيغسل وجهه وذراعيه، وما سائل قط إلّا أصغى إليه، فلا ينصرف حتى يكون هو الذي ينصرف عنه، وما تناول أحد يده قط إلا ناوله إياها، فلا ينزع حتى يكون هو الذي ينزعها منه.
"وكان -عليه الصلاة والسلام- حسن العشرة مع أزواجه" جمع زوج، أي: امرأة؛ لأن اللغة الفصحة زوج، بلا هاء، وبها جاء القرءان في نحو {وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} حتى بالغ الأصمعي، فقال: لا تكاد العرب تقول زوجه بالهاء، وهذا تفصيل، لما قدمه إجمالًا، لأنه إذا كان حسن العشرة مع غيرهن، فمعهن أولى، "وكان -عليه الصلاة والسلام ينام مع أزواجه" في فراش واحد،(6/55)
قال النووي: وهو ظاهر فعله الذي واظب عليه مع مواظبته -صلى الله عليه وسلم- على قيام الليل، فينام مع إحداهن، فإذا أراد القيام لوظيفته قام فتركها، فيجمع بين وظيفته وأداء حقها المندوب وعشرتها بالمعروف.
وقد علم من هذا أن اجتماع الزوج مع زوجته في فراش واحد أفضل، لا سيما إن عرف من حالها حرصها على هذا، ولا يلزم من نومه معها الجماع والله أعلم.
وقد كان -عليه الصلاة والسلام- يسرب إلى عائشة بنات الأنصار يلعبن معها. رواه الشيخان.
وإذا شربت من الإناء أخذه فوضع فمه على موضع فمها وشرب. رواه مسلم.
وإذا تعرقت عرقًا -وهو العظم الذي عليه اللحم- أخذه فوضع فمه على موضع فمها.................
__________
والمراد مع الواحدة منهن، ولو كانت حائضًا، كما في حديث ميمونة عن البخاري، "قال النووي: وهو ظاهر فعله الذي واظب عليه" فيه إشعار؛ بأنَّه قد يعرض له غير هذه الحالة لعذر، "مع مواظبته -صلى الله عليه وسلم- على قيام الليل، فينام مع إحداهن" التي هي صاحبة النوبة، "فإذا أراد القيام لوظيفته, قام فتركها" راقدة في الفراش, "فيجمع بين وظيفته" من قيام الليل, "وأداء حقها المندوب، وعشرتها بالمعروف" إذ هو خير من امتثل: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19] الآية، "وقد علم من هذا أن اجتماع الزوج مع زوجته في فراش واحد أفضل" من النوم كل في فراش، فتركه مكروه، لا حرام؛ إذ القصد الإنس، لا الجماع ونحوه، "لا سيما إن عرف من حالها، حرصها على هذا" فيتأكد الاستحباب، "ولا يلزم من نومه معها الجماع" فلا يؤخذ منه ندبه كل ليلة، "والله أعلم".
"وقد كان -عليه الصلاة والسلام- يسرّب" من التسريب، بالمهملة، وهو الإرسال والتسريح، أي: يرسل "إلى عائشة بنات الأنصار" واحدة بعد أخرى، "يلعبن معها"؛ لأنها كانت صغيرة، "رواه الشيخان، وإذا شربت" عائشة "من الإناء، أخذه، فوضع فمه على موضع فمها وشرب" إشارة إلى مزيد حبه لها، "رواه مسلم. وإذا تعرقت عرقًا" بفتح العين المهملة، وإسكان الراء، "وهو العظم الذي عليه اللحم، أخذه، فوضع فمه على موضع فمها" قال في النهاية: العرق، بالفتح، والسكون: العظم إذ أخذ عنه معظم اللحم، وعرقت اللحم وأعرقته إذا أخذت عنه اللحم بأسنانك، وفي المصباح: عرقت العظم عرقًا من باب قتل، أكلت ما عليه من اللحم، فجعله(6/56)
رواه مسلم أيضًا.
وكان يتكئ في حجرها، ويقبّلها وهو صائم. رواه الشيخان.
وكان يريها الحبشة وهم يلعبون في المسجد وهي متكئة على منكبة, رواه البخاري. ورواه الترمذي، بلفظ: قام -صلى الله عليه وسلم, فإذا حبشة تزفن والصبين حولها، فقال: يا عائشة تعالي فانظري، فجئت فوضعت لحيي على منكب رسول الله -صلى الله عليه وسلم, فجعلت أنظر إليها ما بين المنكب إلى رأسه، فقال لي: أما شبعت, فجعلت أقول: لا، لا. وقال: حسن صحيح غريب.
وروي أنه -صلى الله عليه وسلم- سابقها فسبقته، ثم سابقها فسبقها, فقال: "هذه بتلك".........
__________
مصدرًا، والمصنف اسما، وعليه، فهو مجاز؛ إذ المصدر، لا يتصور وضع الفم عليه، فيكون المعنى أخذ المعروق، فالضمير راجع إليه، بمعنى اسم المفعول، لكن في القاموس: العرق العظم بلحمه، فإذا أكل لحمه، فعراق كغراب، وعليه فإطلاق العرق حقيقي، "رواه مسلم أيضًا" من حديثها: "وكان يتكئ في حجرها، ويقبلها، وهو صائم. رواه الشيخان" عنها، وروى الأئمة الستة عنها، كان يُقَبِّلُ النساء وهو صائم، وبه تعلق الظاهرية، فجعلوا القبلة سنَّة للصائم، وقربة من القرب، وكرهها الجمهور، وردوا على أولئك؛ بأنه كان يملك إربه، كما صرَّحت به عائشة عند الشيخين بلفظ، وكان أملكهم لإربه، وأيما كان لا يفطر إلا بإنزال، "وكان يريها الحبشة، وهم يلعبون" بحرابهم، للتدريب على مواقع الحرب، والاستعداد، ولذا جاز "في المسجد"؛ لأنه من منافع الدين "وهي متكئة على منكبه" ولعله أراها لعبهم لتضبطه، وتعلمه، فتنقله بعد الناس، "رواه البخاري" من حديثها.
"ورواه الترمذي بلفظ: قام -صلى الله عليه وسلم- فإذا حبشة" أي: جماعة من الحبشة "تزفن" بفتح الفوقية، وسكون الزاي، وكسر الفاء، وبالنون، ترقص، "والصبيان حولها" ينظرون إليها "فقال: "يا عائشة تعالى فانظري"، فجئت، فوضعت لحيي على منكب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فجعلت أنظر إليها" أي: الحبشة: "ما بين المنكب إلى رأسه" أي: ورأسه، فإلى بمعنى الواو، أي: حالة كون لحيي موضوعًا عليه، ما بين منكبه ورأسه، "فقال لي: "أما شبعت أما شبعت؟ " من رؤيتهم، "فجعلت أقول: لا لا" بالتكرار، "وقال" الترمذي "حسن صحيح غريب" بمعنى: تفرَّد به الراوي، وهو ثقة، فيجامع الصحة والحسن، "وروي أنه -صلى الله عليه وسلم- سابقها" في سفر، "فسبقته" لخفة جسمها بقلة اللحم، "ثم سابقها" بعد ذلك في سفر آخر، وقد سمنت، "فسبقها، فقال" مطيبًا(6/57)
رواه أبو داود بلفظ: سبقتها في سفر فسبقته على رجلي، فلما حملت اللحم سابقته فسبقني قال: "هذه بتلك السبقة".
وعن أنس بن مالك: أنهم كانوا يومًا عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في بيت عائشة -رضي الله عنها، ثم أتي بصحفة من بيت أم سلمة، فوضعت بين يدي النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: ضعوا أيديكم، فوضع نبي الله -صلى الله عليه وسلم- يده ووضعنا أيدينا فأكلنا، وعائشة تصنع طعامًا عجَّلته قد رأت الصحفة التي أتي بها، فلما فرغت من طعامها جاءت به فوضعته ورفعت صفحة أم سلمة فكسرتها، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "كلوا بسم الله، غارت أمكم"، ثم أعطى صحفتها أم سلمة, فقال: "طعام مكان طعام، وإناء مكان إناء". رواه الطبراني في الصغير.
__________
لخاطرها "هذه بتلك" روى الإمام أحمد عنها: خرجت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في بعض أسفاره، وأنا جارية، لم أحمل اللحم ولم أبدن، فقال للناس: "تقدَّموا" فتقدموا، ثم قال: تعالي حتى أسابقك، فسابقته، فسبقته، فسكت عني حتى حملت اللحم، وبدنت وسمنت، خرجت معه في بعض أسفاره، فقال للناس: "تقدموا", ثم قال -صلى الله عليه وسلم: "أسابقك"، فسبقني، فجعل يضحك، ويقول: "هذه بتلك"، "رواه أبو داود بلفظ: سابقته في سفر، فسبقته على رجلي، فلما حملت اللحم" صرت سمينة، كما قالت في الرواية الأخرى: وبدنت، بضم الدال، وفتحها، وسنت، "سابقته" في سفر آخر، "فسبقني، قال: "هذه بتلك السبقة" من مزيد لطفه حتى لا تتشوش.
"وعن أنس بن مالك: إنهم كانوا يومًا عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في بيت عائشة -رضي الله عنها، ثم أتي بصحفة" إناء، كالقصعة المبسوطة، ونحوها، جمعها صحاف، "من بيت أم سلمة، فوضعت بين يدي النبي -صلى الله عليه وسلم, فقال: "ضعوا أيديكم" للأكل، فوضع نبي الله -صلى الله عليه وسلم- يده, ووضعنا أيدينا، فأكلنا، وعائشة تصنع طعامًا عجَّلته" أسرعت به، والحال أنها "قد رأت الصحفة التي أتي بها" من بيت أم سلمة، "فلمَّا فرغت من طعامها، جاءت به فوضعته، ورفعت صفحة أم سلمة، فكسرتها، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من صحفة عائشة: "غارت أمكم" هي، كأسرة الصحفة عائشة أم المؤمنين، وأبعد الداودي، فقال: هي سارة زوج الخليل، وأنه أراد، لا تعجبوا مما وقع من هذه من الغيرة، فقد غارت تلك قبلها، ورد مع بعده؛ بأن المخاطبين ليسوا من أولاد سارة؛ إذ ليسوا من بني إسرائيل، "ثم أعطى صحفتها أم سلمة، فقال: "طعام مكان طعام، وإناء مكان إناء". "رواه الطبراني في الصغير" وعزاه في الفتح، والمقدمة له في الأوسط.(6/58)
وهو عند البخاري بلفظ: كان -صلى الله عليه وسلم- عند بعض نسائه، فأرسلت إحدى أمهات المؤمنين بصحفة فيها طعام، فضربت التي النبي في بيتها يد الخادم فسقطت الصحفة فانفلقت، فجمع النبي -صلى الله عليه وسلم- فلق الصحفة ثم جعل يجمع فيها الطعام الذي كان في الصحفة, ويقول: "غارت أمكم" , ثم حبس الخادم حتى أتي بصحفة من عند التي هو في بيتها، فدفع الصحفة إلى التي كسرت صحفتها، وأمسك المكسورة في بيت التي كسرت.
وعند أحمد وأبو داود والنسائي، قالت عائشة: ما رأيت صانعة طعامًا مثل
__________
"وهو" أي: حديث أنس "عند البخاري" في المظالم، والأطعمة، "بلفظ كان -صلى الله عليه وسلم- عند بعض نسائه" هي عائشة، كما في الترمذي وغيره، ولا خلاف في ذلك، "فأرسلت إحدى أمهات المؤمنين" صفية، رواه أبو داود والنسائي، من حديث عائشة، أو حفصة، رواه الدارقطني من حديث أنس، وابن ماجه عن عائشة، أو أم سلمة.
رواه الطبراني في الأوسط عن أنس، وإسناده أصح من إسناد الدارقطني، وساقه بسند صحيح، وهو أصح ما ورد في ذلك، ويحتمل التعدد, وحكى ابن حزم في المحلَّى أن المرسلة زينب بنت جحش، ذكره الحافظ, وتبعه المصنف في جزم السيوطي بالأخير، شيء "بصحفة" لفظ البخاري في الأطعمة, ولفظه في المظالم بقصعة، بفتح القاف "فيها طعام" أي: حيس، كما في المحلَّى لابن حزم، وتأتي رواية يلتقط اللحم، فيحتمل أن اتحدت القصة، أنه كان فوق الحيس، قال الشاعر:
التمر والسمن جميعًا والأقط ... الحيس إلّا أنه لم يختلط
مع خادم، "فضربت التي النبي" صلى الله عليه وسلم "في بيتها" هي عائشة على جميع الأقوال، "يد الخادم" لم يسم، قاله الحافظ، "فسقطت الصحفة، فانفلقت، جمع -صلى الله عليه وسلم- فلق الصحفة، ثم جعل يجمع فيها الطعام، الذي كان في الصحفة، ويقول" مبديا لعذرها: "غارت أمكم" عائشة، "ثم حبس الخادم" منعه من العود إلى سيدته التي أرسلته، "حتى أتى بصحفة من عند التي هو في بيتها، فدفع الصحفة" التي، لا كسر فيها "إلى" الخادم ليوصلها إلى "التي كسرت صحفتها، وأمسك المكسورة في بيت التي كسرت" عقابًا لها، فإن قيل: القصعة متقوّمة، فكيف ضمنها بالمثل، لا بالقيمة، أجاب البيهقي؛ بأن القصعتين كانتا للنبي -صلى الله عليه وسلم- في بيت زوجيته. فعاقب الكاسرة بجعل المكسورة في بيتها، وجعل الصحيحة في بيت صاحبتها، ولم يكن هناك تضمين.
"وعند أحمد، وأبي داود، والنسائي، قالت عائشة: ما رأيت صانعة طعامًا" حسنًا، "مثل(6/59)
صفية، أهدت إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- إناء من طعام, فما ملكت نفسي أن كسرته، فقلت: يا رسول الله ما كفارته؟ قال: "إناء كإناء وطعام كطعام". وعند غيرهم: فأخذت القصعة من بين يديه فضربت بها وكسرتها، فقام النبي -صلى الله عليه وسلم- يلتقط اللحم والطعام وهو يقول: "غارت أمكم"، فلم يثرب عليها.
فوسع خلقه الشريف آثار طفحات آثار غيرتها، ولم يتأثر، وقضى عليها بحكم الله في التقاصّ. وهكذا كانت أحواله -عليه الصلاة والسلام- مع أزواجه، لا يأخذ عليهن ويعذرهن، وإن أقام عليهن قسطاس العدل إقامة من غير قلق ولا غضب، بل رءوف رحيم، حريص عليهن وعلى غيرهن، عزيز عليه ما يعنتهم.
قيل: وفي هذا الحديث إشارة إلى عدم مؤاخذة.....
__________
صفية أهدت إلى النبي -صلى الله عليه وسلم" وهو في بيتي "إناء من طعام، فما ملكت نفسي أن كسرته" أي: الإناء، ثم رجعت إلى نفسي، وندمت، "فقلت: يا رسول الله ما كفارته، قال: "إناء كإناء، وطعام كطعام" , ففي هذه الرواية أن المرسِلَة صفية، فيخالف رواية الطبراني أنها أم سلمة، إن لم تحمل على التعدد، "وعند غيرهم، فأخذت القصعة" بفتح القاف، "من بين يديه، فضربت بها، وكسرتها، فقام النبي -صلى الله عليه وسلم- يلتقط اللحم والطعام، وهو يقول: "غارت أمكم" عائشة، فلا تلوموها، "فلم يثرب" بضم التحتية، وفتح المثلثة، وكسر الراء ثقيلة، أو بفتح، فسكون، فكسر، "عليها" أي: لم يلمها، ولم يعبها، "فوسع خلقه الشريف" وفي نسخة: الكريم، "آثار" أي: شدائد، "طفحات آثار" حرارة "غيرتها" بفتح الغين المعجمة، فأطلق الطفح لذي هو امتلاء الإناء حتى يفيض على شدة الغيرة مجازًا، "ولم يتأثر" من فعلها ذلك بحضوره، وحضور أصحابه، لمزيد حلمه، وعلمه بما تؤدي إليه الغيرة، "وقضى عليها بحكم الله في التقاص" أي: العقاب، بجعل المكسورة عندها، ودفع الصحيحة لضرتها، فكأنه قاصصها، فأطلق التقاص مجازًا عن ذلك، وإلا فكلاهما له، كما مرَّ عن البيهي.
"وهكذا كانت أحواله -عليه الصلاة والسلام- مع أزواجه، لا يأخذ عليهنَّ، ويعذرهن" بكسر الذال، برفع عنهن اللوم،، "وإن اقام عليهن قسطاس" ميزان "العدل" مبالغة، أي: يفعل ذلك مع العدل بينهن، "إقامة" مصدر مؤكَّد "من غير قلق، ولا غضب" كما هو الواقع من غيره كثيرًا، وهذا أولى من جعل أن شرطًا جوابها إقامة، لما لا يخفى، "بل" هو "رءوف" شديد الرحم "رحيم" يريد الخير، "حريص عليهن، وعلى غيرهن" أن يهتدوا، "عزيز" شديد "عليه ما يعنتهم" بكسر النون، أي: عنتهم، أي: مشقتهم، ولقاؤهم المكروه، "قيل: وفي هذا الحديث(6/60)
الغَيْرَى فيما يصدر منها؛ لأنها في تلك الحالة يكون عقلها محجوبًا بشدة الغضب الذي أثارته الغيرة. وقد أخرج أبو يعلى بسند لا بأس به عن عائشة مرفوعًا: إن الغيرى لا تبصر أسفل الوادي من أعلاه. انتهى.
وعن عائشة -رضي الله عنها: أتيت النبي -صلى الله عليه وسلم- بخزيرة طبختها له، وقلت لسودة -والنبي -صلى الله عليه وسلم- بيني وبينها: كلي، فأبت، فقلت لها؛ كلي، فأبت، فقلت لها: لتأكلين أو لألطِّخن بها وجهك، فأبت فوضعت يدي في الخزيرة فلطخت بها وجهها, فضحك رسول الله -صلى الله عليه وسلم, فوضع فخذه لها وقال لسودة: لطِّخي وجهها، فلطَّخت بها وجهي, فضحك -صلى الله عليه وسلم. الحديث رواه ابن غيرن من حديث الهاشمي, وأخرجه الملاء في سيرته.
__________
إشارة إلى عدم مؤاخذة الغيرى، فيما يصدر" يقع "منها؛ لأنها في تلك الحالة يكون عقلها محجوبًا، بشدة الغضب الذي أثارته" حركته، "الغيرة" -بفتح المعجمة وسكون التحتية وراء- مصدر غار، مشتقة من تغيِّر القلب، وهيجان الغضب بسبب المشاركة فيما به الاختصاص، وأشد ما يكون بين الزوجين، "وقد أخرج أبو يعلى بسند لا بأس به، عن عائشة مرفوعًا أن" المرأة "الغيرى" يقال: امرأة غيور، وغيرى، "لا تبصر أسفل الوادي من أعلاه" فقد تهلك بسبب ذلك، وقد كتب الله ذلك عليهن. روى البزار، والطبراني عن ابن مسعود: كنت جالسًا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- ومعه أصحابه؛ إذ أقبلت امرأة عريانة، فقام إليا رجل، فألقى عليها ثوبًا، وضمَّها إليه، فتغيِّر وجهه -صلى الله عليه وسلم، فقال بعض جلسائه: حسبها امرأته، فقال -صلى الله عليه وسلم: "أحسبها غيرى، إن الله كتب الغيرة على النساء، والجهاد على الرجال، فمن صبر منهن كان له أجر شهيد" انتهى.
"وعن عائشة -رضي الله عنها: أتيت النبي -صلى الله عليه وسلم بخزيرة" بخاء، وزاي معجمتين، فياء، فراء، فتاء تأنيث "طبختها له، وقلت لسودة" أم المؤمنين، "والنبي -صلى الله عليه وسلم- بيني وبينها: كلي، فأبت، فقلت لها: كلي، فأبت، فقلت لها: لتأكلين، أو لألطخنَّ بها وجهك، فأبت، فوضعت يدي في الخزيرة، فلطخت بها وجهها" بالتخفيف، وتشديد مبالغة، "فضحك رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فوضع فخذه لها، وقال لسودة: لطِّخي وجهها" قصاصًا، "فلطَّخت بها وجهي، فضحك رسول الله -صلى الله عليه وسلم. الحديث، رواه ابن غيلان من حديث الهاشمي، وأخرجه الملاء" بفتح الميم، وشد اللام، والإمام الزاهد عمر الموصلي "في سيرته" كان إمامًا عظيمًا ناسكًا، يملأ من بئر بجامع الموصل احتسابًا، وكان السلطان نور الدين الشهيد يعتمد قوله، ويقبل شهادته، ذكره الشامي في فضائل آل البيت من سيرته، "والخزيرة: اللحم يقطع صغارًا، ويصب عليه ماء كثير، فإذا نضج ذر(6/61)
والخزيرة: اللحم يقطع صغارًا ويصب عليه ماء كثير فإذا نضج ذر عليه الدقيق.
وبالجملة؛ فمن تأمَّل سيرته -عليه الصلاة والسلام- مع أهله وأصحابه وغيرهم من الفقراء والأيتام والأرامل والأضياف والمساكين، علم أنه قد بلغ من رقة القلب ولينه الغاية التي لا مرمى وراءها لمخلوق. وإن كان يشتد في حدود الله وحقوقه ودينه، حتى قطع يد السارق، إلى غير ذلك.
وقد كان -صلى الله عليه وسلم- يباسط أصحابه بما يولج حبه في القلوب، كان له رجل من البادية يسمى زهيرًا، وكان يهادي النبي -صلى الله عليه وسلم- بموجود البادية، بما يستطرف منها، وكان -صلى الله عليه وسلم- يهاديه ويكافئه بموجود الحاضرة وبما يستطرف منها،..................................
__________
عليه الدقيق،" ويأتي فيه للمصنف كلام طويل في الأكل النبوي، "وبالجملة، فمن تأمَّل سيرته -عليه الصلاة والسلام- مع أهله، وأصحابه، وغيرهم من الفقراء، والأيتام، والأرامل والأضياف، والمساكين، عَلِمَ أنه قد بلغ من رقة القلب ولينه، الغاية التي لا مرمى وراءها لمخلوق" أي: لا يصل أحد بعده إليها، "وإن كان يشتد في حدود الله، وحقوقه، ودينه، حتى قطع يد السارق إلى غير ذلك" كحد الزاني، "وقد" للتحقيق, "كان -صلى الله عليه وسلم- يباسط" يلاطف "أصحابه" بالقول والفعل، "بما يولج" يدخل "حبه في القلوب" تطمينًا لهم، وتقوية لإيمانهم، وتعليمًا لهم أن يباسطوا بعضهم بعضًا؛ لأنهم إذا رأوا ذلك من أكمل الخلق، وأفضلهم، وقد علموا قوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21] الآية، اطمأنَّت قلوبهم على فعل ذلك مع بعضهم.
"كان له رجل من البادية يسمى زهيرًا" الذي في الشمائل، وغيرها زاهرًا، وكذا بخط ابن الجوزي، والشامي، وفي الإصابة زاهر بن حرام الأشجعي، قال ابن عبد البر: شهد بدرًا، ولم يوافق عليه، وقيل: إنه تصحف عليه؛ لأنه وصف بكونه بدويًّا حرام والده، يقال: بالفتح، والراء، ويقال: بالكسر والزاي، ووقع في رواية عبد الرزاق بالشك، انتهى.
فإن صحَّت رواية بتصغيره، أمكن أنه خوطب تحببًا، وملاطفة، واسمه الأصلي زاهر، وفي رواية أحمد، وغيره، وتصغيره على أزيهر، "وكان يهادي النبي -صلى الله عليه وسلم" أي: يهدي، فالمفاعلة مستعملة في أصل الفعل، لأنه علق مهاداته "بموجود البادية"، أي: ما يوجد حسنًا، من ثمارها، وزهورها، "بما يستطرف" بالطاء المهملة، يستملح "منها" بدل مما قبله؛ لأن موجودها حسن، وغيره، "وكان -صلى الله عليه وسلم- يهاديه، ويكافئه" عطف علة على معلول، أي: يهاديه مكافأة له على هديته، "بموجود الحاضرة، وبما يستطرف منها" كذا في نسخ، بواو عطف التفسير، وفي نسخة بلا واو(6/62)
وكان -صلى الله عليه وسلم- يقول: "زهير باديتنا، ونحن حاضرته"، وكان -صلى الله عليه وسلم- يحبه، فمشى -صلى الله عليه وسلم- يومًا إلى السوق فوجده قائمًا، فجاء من قبل ظهره وضمَّه بيده إلى صدره, فأحس زهير بأنه رسول الله -صلى الله عليه وسلم، قال: فجعلت أمسح ظهري في صدره رجاء بركته.
وفي رواية الترمذي في الشمائل: فاحتضنه من خلفه ولا يبصره، فقال أرسلني، من هذا؟ فالتفت فعرف النبي صلى الله عليه وسلم, فجعل لا يألوا ما ألصق ظهره بصدر النبي -صلى الله عليه وسلم- حين عرفه، فجعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "من يشتري..............
__________
على البدل، "وكان -صلى الله عليه وسلم- يقول: "زهير باديتنا" أي: ساكنها، وإذا تذكرناها سكن قلبنا برؤيته، أو نستفيد منه ما يستفيده الرجل من باديته من أنواع الثمار، وصنوف النبات، فكأنه صار باديتنا، وإذا احتجنا متاع البادية جاء به لنا، فأغنانا عن السفر إليها، فالتاء على هذه الوجوه للتأنيث؛ لأنه الأصل، ويحتمل أن التاء للمبالغة، أي: بادينا، كما ورد، كذلك، قيل، وهو أظهر، أو المراد حقيقتها التي هي خلاف الحاضرة، ويحتمل أنه من إطلاق اسم المحل، وهو البادية على الحال، وهو ساكنها، "ونحن حاضرته" أي: يصل إليه منا ما يحتاج إليه، مما في الحاضرة، أو لا يقصد بمجيئه إلى الحضر إلا مخالطتنا، وتوقّف بعض في الأول؛ بأن المنعم لا يليق به ذكر إنعامه، منع؛ بأنه ليس من ذكر المنّ بالأنعام في شيء، بل إرشاد إلى مقابلة الهدية بمثلها، أو أفضل.
"وكان -صلى الله عليه وسلم- يحبه، فمشى -صلى الله عليه وسلم- يومًا إلى السوق" لحاجته، لا لمحبته، فهو توطئة لقوله: "فوجده قائمًا" يبيع متاعه، "فجاءه من قِبَل" بكسر ففتح، جهة "ظهره" تفريع على قوله يحبه، "وضمَّه بيده إلى صدره، فأحسَّ زهير بأنه رسول الله -صلى الله عليه وسلم" أي: أدرك ذلك بطريق من الطرق، "قال: فجعلت أمسح ظهري في صدره رجاء"، حصول "بركته، وفي رواية الترمذي في الشمائل" من طريق ثابت عن أنس؛ أن رجلًا من أهل البادية كان اسمه زاهرًا، وكان يهدي إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- هدية من البادية، فيجهزه النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا أراد أن يخرج، فقال -صلى الله عليه وسلم: "إن زاهرًا باديتنا، ونحن حاضروه"؛ وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يحبه، وكان رجلًا دميمًا، فأتاه النبي -صلى الله عليه وسلم، وهو يبيع متاعه، "فاحتضنه" أي: أدخله في حضنه، وهو ما دون الإبط إلى الكشح بزنة فِلس، ما بين الحاضرة إلى الضلع "من خلفه" أي: جاء من ورائه، وأدخل يده تحت إبطي زاهر، فاعتنقه، "ولا يبصره" جملة حالية، "فقال: أرسلني من هذا" أي: خلني، وأطلقني، "فالتفتّ" سقط من بعض نسخ الشمائل، "فعرف النبي" القياس، فعرف أنه النبي "صلى الله عليه وسلم، فجعل، لا يألوا" لا يترك، ولا يقصر، "ما" مصدرية، "ألصق ظهره" أي: لا يقصر في إلصاق ظهره، "بصدر النبي -صلى الله عليه وسلم" تبركًا، وتلذذًا، وتحصيلًا لثمرات ذلك الإلصاق، من الكمالات الناشئة عنه "حين عرفه" كرره اهتمامًا بشأنه، وإيماء إلى أن منشأ هذا الإلصاق ليس إلا معرفته، "فجعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول:(6/63)
العبد"، فقال له زهير: يا رسول الله، إذن تجدني كاسدًا، فقال له -صلى الله عليه وسلم: "أنت عند الله غالٍ"، وفي رواية الترمذي أيضًا: "لكن عند الله لست بكاسد، أو قال: أنت عند الله غال".
وأخرج أبو يعلى عن زيد بن أسلم أن رجلًا كان يهدي للنبي -صلى الله عليه وسلم- العكة من السمن والعسل، فإذا جاء صاحبه يتقاضاه جاء به إلى النبي -صلى الله عليه وسلم, فقال: أعط هذا متاعه، فما يزيد النبي -صلى الله عليه وسلم- على أن يتبسم، ويأمر به فيعطى.
ووقع في حديث محمد بن عمرو بن حزم: وكان لا يدخل إلى المدينة طرفة إلا...........
__________
"من يشتري العبد" أي: من يشتري مثله في الدمامة، أو يستبدله مني؛ بأن يأتي بمثله، فلما فعل ذلك معه ملاطفة، نزله منزلة العبد، أو من يقابل هذا العبد، الذي هو عبد الله بالإكرام، والتعظيم، أو أراد التعريض له؛ بأنه ينبغي أن يشتري نفسه من الله، ببذلها فيما يرضيه، وفيها تكلف.
"فقال له زهير: يا رسول الله إذن" أي: إذا بعتني "تجدني كاسدًا" رخيصًا، لا يرغب فيَّ أحد لدمامتي، وقبح منظري، فأذن جواب شرط محذوف، ويجوز أن أذن للظرفية، والتنوين عوض عن الجملة المحذوفة، أي: إذا كنت عبدًا تبيعني، لكن هذا قليل، فلذا اقتصر الشراح على ما قبله، "فقال له -صلى الله عليه وسلم: "أنت عند الله غال" بغين معجمة، رفيع القدر عنده، وإن كسد في الدنيا لقبح منظره، ومن أول قوله، فقال له زهير: أتى به من الرواية الأولى التي لم يعزها، ثم عاد لرواية الشمائل، فقال: "وفي رواية الترمذي أيضًا" بقية الرواية السابقة، فقال: يا رسول الله إذن، والله تجدني كاسدًا، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم: "لكن عند الله لست بكاسد، أو" شك من الراوي، "قال: "أنت عند الله غال" ببركة محبته -صلى الله عليه وسلم، فالصورة، لا يلتفت إليها؛ "إن الله لا ينظر إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم" "وأخرج أبو يعلى عن زيد بن أسلم" العدوي، مولى عمر المدني، ثقة، عالم، من رجال الجميع، كان يرسل "أن رجلًا" هو عبد الله، الملقَّب بحمار، بلفظ الحيوان المعروف، كما في الإصابة عن أبي يعلى نفسه، "كان يهدي للنبي -صلى الله عليه وسلم- العكة من السمن" تارة، "والعسل" أخرى، ويحتمل أنهما مخلوطين، كما هو شأن العرب كثيرًا، "فإذا جاء صاحبه يتقاضاه" أي: يطلبه، "جاء به إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "أعط هذا متاعه" أي: ثمنه، كما في الرواية اللاحقة، "فما يزيد النبي -صلى الله عليه وسلم- على أن يتبسم" تعجبًا، "ويأمر به، فيعطى" لثمن.
"ووقع في حديث محمد بن عمرو بن حزم" الأنصاري، المدني له رؤية، وليس له سماع إلّا من الصحابة، قتل يوم الحرة، سنة ثلاث وستين، "وكان لا يدخل إلى المدينة طرفة إلا(6/64)
اشترى منها، ثم جاء فقال: يا رسول الله، هذا أهديته لك، فإذا جاء صاحبه يطلب ثمنه جاء به فقال: أعط هذا الثمن، فيقول: "ألم تهده لي" , فيقول: ليس عندي، فيضحك ويأمر لصاحبه بثمنه.
وكان -صلى الله عليه وسلم- يمزح..........
__________
اشترى منها" فليست هديته قاصرة على السمن والعسل، "ثم جاء، فقال: يا رسول الله هذا أهديته لك" أي: حملته لك، كما تحمل الهدية، فلا يرد كيف يطلب ثمنه بعد قوله ذلك، "فإذا جاء صاحبه يطلب ثمنه، جاء به، فيقول: أعط هذا الثمن، فيقول" صلى الله عليه وسلم: "ألم تهده لي؟ " استفهام تقرير، "فيقول: ليس عندي" ما أهديه، وإنما أتيت به، أريد ثمنه لمالكه، "فيضحك، ويأمر لصاحبه بثمنه" هكذا مشاه شيخنا، وهو خلاف الظاهر، ولذا قال بعض المحققين من شراح الشمايل: كان هذا الصحابي -رضي الله عنه، من كمال محبته للنبي -صلى الله عليه وسلم، كلما رأى طرف أعجبته اشتراها، وآثره بها، وأهداها إليه على نية أداء ثمنها، إذا حصل لديه، فلما عجز صار، كالمكاتب، فرجع إلى مولاه، وأبدى إليه جميع ما أولاه، فالمكاتب عبد ما بقي عليه درهم، فرجع بالمطالبة إلى سيده، ففعله هذا جد حق ممزوج بمزاح صدق، انتهى.
وقع نحو ذلك للنعيمان بالتصغير، ابن عمرو بن رفاعة الأنصاري، ذكر الزبير بن بكار في كتاب الفكاهة، والمزاج، كان لا يدخل المدينة طرفة إلا اشترى منها، ثم جاء به إلى النبي -صلى الله عليه وسلم، فيقول: هذا أهديته لك، فإذا جاء صاحبه يطلب نعيمان بثمنه، أحضره إلى النبي، فيقول: أعط هذا ثمن متاعه، فيقول: "أولم تهده لي؟ "، فيقول: أنا والله لم يكن عندي ثمنه، ولقد أحببت أن تأكله، فيضحك، ويأمر لصاحبه بثمنه، "وكان -صلى الله عليه وسلم- يمزح" لأن الناس مأمورون بالتأسي به، والاقتداء بهديه، فلو ترك الطلاقة والبشاشة ولزم العبوس؛ لأخذ الناس أنفسهم بذلك على ما في مخالفة الغريزة، من المشقة والعناء، فمزح ليمزحوا، قاله ابن قتيبة، وقال الخطاب: سئل بعض السلف عن مزاحه -صلى الله عليه وسلم- فقال: كانت له مهابة، فلذا كان ينبسط للناس بالدعابة، قال: وأنشد ابن الأعرابي في نحو هذا يمدح رجلًا:
يتلقَّى الندى بوجه صبيح ... وصدور القنا بوجه وقاح
فبهذا وزاد تتم المعاني ... طرق الجد غير طرق المزاح
ولا يخالف هذا قوله -صلى الله عليه وسلم: "ليست من دَدِ، ولا الدد مني" أخرجه البخاري في الأدب المفرد، والبيهقي عن أنس، والطبراني في الكبير عن معاوية، ودد -بفتح الدال الأولى، وكسر الثانية- أي: لست من أهل اللعب واللهو، ولا هما مني، وقد رواه الطبراني أيضًا، والبزار، وابن عساكر، عن أنس بزيادة: "ولست من الباطل، ولا الباطل مني"، لأن المنفي ما كان بباطل،(6/65)
ولا يقول إلا حقًّا. كما روى أبو هريرة، وقد قال له رجل كان فيه بله: يا رسول الله احملني، فباسطه -عليه الصلاة والسلام- من القول بما عساه أن يكون شفاءً لبلهه بعد ذلك، فقال: "أحملك على ابن الناقة". فسبق لخاطره استصغار ما تصدق عليه البنوة, فقال: يا رسول الله، ما عسى أن يغني عني ابن الناقة، فقال -صلى الله عليه وسلم: "ويحك, وهل يلد الجمل إلا الناقة"، روى الحديث الترمذي وأبو داود.
وباسط عمته صفية..........
__________
ومجرد لهو ولعب مجرد، وهو في مزاحه صادق، كما قال: "ولا يقول إلّا حقًّا" فلا ينافي الكمال حينئذ، بل هو من توابعه وتتماته، لجريه على القانون الشرعي، فمن زعم تناقض الحديثين من الفرق الزائغة فقد ضلَّ، "كما روى أبو هريرة" قال: قالوا يا رسول الله: إنك تداعبنا، قال: "إني لا أقول إلا حقًّا" أخرجه الترمذي وغيره. "وقد قال له رجل كان فيه بله" أي: عدم اهتمام بأمر الدنيا، وتأمَّل في معاني الألفاظ، حتى حمل الكلام على المتبادر، من أن المراد بالبنوة الصغير، فليس صفة ذم هن، فهو كقوله في الحديث: "أكثر أهل الجنة البلة" أي: في أمر الدنيا لقلة اهتمامهم بها، وهم أكياس في أمر الآخرة، وللبلة إطلاقات، منها هذا، وعدم التمييز، وضعف العقل، والحمق؛ وسلامة الصدر، ولكل مقام مقال، "يا رسول الله احملني" على دابة، "فباسطه -عليه الصلاة والسلام- من القول: بما" أي: شيء "عساه أن يكون شفاء لبلهه بعد ذلك" والظن، بل الجزم أنه حصل له الشفاء بتلك المداعبة، "فقال: "أحملك" خبر مبتدأ محذوف، أي أنا أحملك، بدليل رواية الترمذي، وأبي داود: إني حاملك "على ابن الناقة، فسبق لخاطره استصغار ما تصدق عليه، البنوة، فقال: يا رسول الله ما عسى أن يغنى عني ابن الناقة" أنثى الإبل، ولا تسمَّى ناقة حتى تجزع, "فقال -صلى الله عليه وسلم: "ويحك، وهل يلد الجمل إلا الناقة؟ " فلو تدبرت، وتأملت اللفظ، لم تقل ذلك، ففيه مع المباسطة، الإيماء إلى إرشاده وإرشاد غيره؛ أنه إذا سمع قولًا يتأمله، ولا يبادر برده، إلّا بعد أن يدرك غوره، ولا يسارع إلى ما تقتضيه الصورة.
"روى حديثه الترمذي" وصححه، "وأبو داود" وأحمد، والبخاري في الأدب، عن أنس: أن رجلًا أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- يستحمله، فقال: "إني حاملك على ولد الناقة" , فقال: يا رسول الله ما أصنع بولد الناقة؟ فقال: "وهل يلد الإبل إلا النوق؟ " وجاءته امرأة، فقالت: يا رسول الله احملني على بعير، فقال: "احملوها على ابن بعير" فقالت: ما أصنع به, وما يحملني يا رسول الله؟ فقال: "هل تجيء بعير إلّا ابن بعير؟ " فتعددت الواقعة بالنسبة للرجل والمرأة، وأما الخطاب بقوله: "أحملك على ابن الناقة"، وأنا أحملك وفي رواية: أنا حاملوك، فلرجل واحد، والخلف اللفظي من الرواة، فبعضهم باللفظ، وبعضهم بالمعنى، لا لتعدد الواقعة، لاتحاد المخرج، "وباسط عمته(6/66)
وهي عجوز فقال لها: "إن الجنة لا يدخلها عجوز"، فلما جزعت فقال لها: "إنك تعودين إلى صورة الشباب في الجنة"، وفي رواية الترمذي عن الحسن. أتته -صلى الله عليه وسلم- عجوز فقالت: يا رسول الله، ادع الله لي أن يدخلني الجنة، فقال: "يا أم فلان, إن الجنة لا يدخلها عجوز"، قال: فولت تبكي فقال: "أخبروها أنها لا تدخلها وهي عجوز، إن الله تعالى يقول: {إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً، فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا} [الواقعة: 35، 36] " وذكره رزين.
__________
صفية" بنت عبد المطلب، أم الزبير، مما نقله صاحب المورد عن خط بعض المحدثين.
وقال غيره: إنه سمعه من مشايخ الحديث، وتوقَّف فيه بعضهم، فقال: الله أعلم بصحته، ففي حديث عائشة عند البيهقي، أتت خالتي، "وهي عجوز" وصفية ليست خالة عائشة, قلت: إن صح ما قالوه، فسمتها خالتها إكرامًا وتعظيمًا لسنها، على العادة في تسمية المسنَّة خالة، لا لكونها أخت أمها حقيقة, "فقال لها: "إن الجنة لا يدخلها عجوز" فلما جزعت" بكسر الزاي، "قال لها: "إنك تعودين إلى صورة الشباب في الجنة" فلا تجزعي، فإنما هذا مباسطة، وهي حق، "وفي رواية الترمذي عن الحسن" أي: البصري؛ لأنه المراد عند الإطلاق، وبه صرح شراح الشمايل، ولم يقع في متنها نعته بالبصري، حتى ظنَّ بعض من كتب عليها؛ أنه ابن علي، وليس، كما ظن.
"أتته -صلى الله عليه وسلم- عجوز، فقالت: يا رسول الله, ادع الله لي أن يدخلني الجنة، فقال: "يا أم فلان" نسي الراوي اسمها، وما أضيف إليه، فكنَّى عنه بما يكنَّى به الأعلام، "إن الجنة لا يدخلها عجوز" كأنه فهم من حالها، إنها تريد دخولها على صفتها، حالة السؤال، فمازحها مريدًا إرشادها إلى خلاف ما في وهمها، الذي لا يطابق ما سيقع، "قال: فولت" ذهبت أو أعرضت "تبكي" حال من فاعل ولت، أي: ذهبت حال كونها باكية، فقال: "أخبروها" أعلموها "أنها لا تدخلها" جملة سدت مسد ثاني وثالث مفعول أخبر، وضمير لا تدخلها، وما بعد أما إليها، أو إلى العجوز المطلقة، والأول أقرب، "وهي عجوز" مسنة، ولا تؤنث بالهاء، قاله ابن السكيت، وقال ابن الأنباري: سمع تأنيثه، أي: لا تدخلها، والحا أنها موصوفة بهذه الصفة، واستشهد على ذلك تطييبًا لخاطرها، فقال: "إن الله تعالى يقول: {إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ} [الواقعة: 35] الآية" أي: النسوة، أي: أعدنا إنشاءهن {إِنْشَاءً} خاصًّا، وخلقناهن خلقًا غير خلقهن، وتفسير الآية بالجور، وإن كان مقتضى سياق القرآن يرده هذا الحديث, {فَجَعَلْنَاهُنَّ} بعد كونهن عجائز شمطاء مصافي الدنيا، {أَبْكَارًا} عذارى، وإن وطئت كثيرًا، فكلما أتاها الرجل وجدها بكرًا، كما ورد في الأثر، ولكن لا دلالة للفظ عليه، "وذكره رزين" بن معاوية، العبدري،(6/67)
وكان -عليه الصلاة والسلام- يمازح أصحابه ويخالطهم ويحادثهم ويؤنسهم.
ويأخذ معهم في تدبير أمورهم، ويداعب صبيانهم ويجلسهم في حجره، وهو مع ذلك سره في الملكوت يجول حيث أراد الله به.
والدعابة -بضم الدال وتخفيف العين المهملتين وبعد الألف موحدة: هي الملاطفة في القول بالمزاح وغيره.
وقد أخرج الترمذي وحسنه من حديث أبي هريرة؛ قالوا: إنك تداعبنا، قال: إني لا أقول إلَّا حقًّا.
__________
السرقسطي، ورواه الترمذي، أيضًا، وابن الجوزي، موصولًا عن أنس: إن عجوزًا دخلت على النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال لها ومازحها به: "لا يدخل الجنة عجوز"، وحضرت الصلاة، فخرج -صلى الله عليه وسلم- إلى الصلاة، فبكت بكاء شديدًا، حتى رجع، فقالت عائشة: يا رسول الله إن هذه المرأة تبكي لما قلت لها، لا يدخل الجنة عجوز، فضحك، وقال: "أجل لا يدخل الجنة عجوز، ولكن الله تعالى قال: {إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً، فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا، عُرُبًا أَتْرَابًا} [الواقعة: 35] الآية "، وهن العجائز الرمص، ولا تنافي بين روايتي وصله وإرساله؛ لأن الحسن حدَّث به مرسلًا تارة بإسقاط أنس، وتارة وصله بذكر أنس، وقد رواه الطبراني في الأوسط من وجه آخر، من حديث عائشة: "وكان -عليه الصلاة والسلام- يمازح أصحابه" بالقول والفعل، للملاطفة، "ويخالطهم، ويحادثهم" تأنيسًا لهم، وجبرًا لقلوبهم، ولا ينفرهم، "ويأخذ معهم" أي: يشاركهم "في تدبير أمورهم، ويداعب" بدال مهملة، "صبيانهم، ويجلسهم في حجره" بكسر الحاء، وفتحها، كما فعل مع أم قيس؛ إذ أتته بابن لها صغير لم يأكل الطعام، فأجلسه في حجره، فبال على ثوبه، فدعا بماء، فنضحه، "وهو مع ذلك سره في الملكوت، يجول" بالجيم، "حيث أراد الله، والدعابة -بضم الدال، وتخفيف العين المهملتين، وبعد الألف موحدة: هي الملاطفة في القول بالمزاح -بضم الميم، وبالزاي: اسم مصدر من مزح مزحا، ومزاحة، وبكسر الميم مصدر مازح، كما في المصباح "وغيره" كالمداعبة الفعلية، كمجه في وجه محمود، واحتضانه زاهرًا، "وقد أخرج الترمذي، وحسنه من حديث أبي هريرة" قال: "قالوا:" أي: الصحابة مستفهمين، "إنك تداعبنا" -بدال وعين، تمازحنا بما يستملح، وقد نهيت عن المزاح، فهل المداعبة خاصة بك؟ "قال: "إني لا أقول إلا حقًّا" فمن حافظ على قول الحق، وتجنب الكذب، وأبقى المهابة والوقار فله، ومن داوم عليها، أو أكثر منها، أو اشتمل مزحه على كذب، أو أسقطت مهابته، فلا".(6/68)
وما ورد عنه -عليه الصلاة والسلام- في النهي عن المداعبة محمول على الإفراط، لما فيه من الشغل عن ذكر الله والتفكر في مهمات الدين وغير ذلك.
والذي يسلم من ذلك هو المباح، فإن صادف مصلحة مثل تطييب نفس المخاطب -كما كان هو فعله عليه الصلاة والسلام- فهو مستحب.
وقال أنس: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحسن الناس خلقًا، وكان لي أخ يقال له: أبو عمير، وكان له نغر يلعب به فمات، فدخل على النبي -صلى الله عليه وسلم- ذات يوم حزينًا فقال: ما شأنه؟ قالوا: مات نغره، فقال......................................................
__________
"وما ورد عنه -عليه الصلاة والسلام- في النهي عن المداعبة" كقوله: "لا تمار أخاك، ولا تمازحه، ولا تعده موعدًا فتخلفه" رواه الترمذي "محمول على الإفراط، لما فيه من الشغل عن ذكر الله وعن التفكر في مهمات الدين، وغير ذلك"، كقسوة القلب؛ وكثرة الضحك، وذهاب ماء الوجه، بل كثيرًا ما يورث الإيذاء، والحقد، والعداوة، وجراءة الصغير على الكبير؛ وقد قال عمر: من كثر ضحكه قلت هيبته, ومن مزح استخف به. أسنده العسكري، ولذا، قيل:
فإياك إياك المزاح فإنه ... يجري عليك الطفل والرجل الذلا
ويذهب ماء الوجه من كل سيد ... ويورثه من بعد عزته ذلا
"والذي يسلم من ذلك" بأن لا يؤدي إلى حرام، ولا مكروه، "هو المباح" المستوي الطرفين على الأصح، "فإن صادف" المباح "مصلحة؛ مثل تطييب نفس المخاطب، كما كان هو فعله -عليه الصلاة والسلام، فهو مستحب" وقضيته أنه لا يقترن به ما يصيره واجبًا، ولو قيل: إن تعيِّنَ طريقًا لدفع حرام لم يبعد وجوبه، ذكره شيخنا، وقال غيره: ما سلم من المحذور فهو بشرطه مندوب لا مباح؛ إذ الأصل في أفعاله وأقواله وجوب أو ندب الاقتداء به فيها إلا لمانع، ولا مانع هنا.
"وقال أنس: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحسن الناس خلقًا" -بضم الخاء المعجمة، أتى به توطئة لقوله: "وكان لي أخ" من أمِّه، أم سليم، "يقال له أبو عمير" بضم العين، وفتح الميم، ابن أبي طلحة زيد بن سهل الأنصاري، وكان اسمه عبد الله، فيما جزم به أبو أحمد الحاكم، أو حفص، كما عند ابن الجوزي، ومات في حياة النبي -صلى الله عليه وسلم، ففي مسلم عن أنس أن ابنًا لأبي طلحة مات، فذكر قصة موته، وأنها قالت لأبي طلحة هو أسكن مما كان: وبات معها، فبلغ ذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "بارك الله لكما في ليلتكما"، فأتت بعبد الله ابن أبي طلحة، فبورك فيه، وهو والد إسحاق بن عبد الله الفقيه، وأخوته كانوا عشرة، كلهم حمل عنه العلم؛ "وكان له نغر يلعب" يتلهى "به، فمات، فدخل على النبي -صلى الله عليه وسلم- ذات يوم حزينًا، فقال: "ما شأنه"، قالوا:(6/69)
له: "يا أبا عمير ما فعل النغير"، رواه البخاري ومسلم. وفي رواية الترمذي قال أنس: إن كان النبي -صلى الله عليه وسلم- ليخالطنا حتى يقول لأخ لي: "يا أبا عمير ما فعل النغير".
قال الجوهري: النغير: تصغير نغر، والنغر جمع النغرة وهو طائر صغير كالعصفور، والجمع نغران مثل صرد وصردان.
وقد كان ألقى عليه مع الدعابة والمهابة،........
__________
مات نغرة، فقال له: "يا أبا عمير ما فعل النغير؟ " ملاطفة وتأنيسًا له وتسلية، وفيه جواز تكنية من لم يلد له، وتكنية الطفل، وأنه ليس كذبًا، وجواز المزح فيما ليس بإثم، وجواز السجع في الكلام الحسن بلا كلفة، وملاطفة الصبيان وتأنيسهم، وبيان ما كان عليه المصطفى من حسن الخلق، وكرم الشمائل والتواضع.
"رواه البخاري" في الأدب وغيره، "ومسلم" في الصلاة والاستئذان، وفضائل النبي، والترمذي في الصلاة، وابن ماجه في الأدب، "وفي رواية الترمذي" وكذا البخاري في الأدب، بهذا اللفظ أيضًا، ومسلم، فما أدري لم هذا التوهُّم من المصنّف، "قال أنس: إن" مخففة من الثقيلة, بدليل دخول اللام في خبرها، أي: إنه "كان النبي -صلى الله عليه وسلم- ليخالطنا" بالملاطفة، وطلاقة الوجه، والمزاح، قاله المصنف، وقال غيره: ليخالطنا يمازحنا، ففي القاموس: خالطه مازحه، والمراد أنس، وأهل بيته، "حتى" انتهت مخالطته لأهلنا كلهم حتى الصبي، والمداعبة معه، والسؤال عن طيره، "يقول لأخ لي" من أمي: "يا أبا عمير ما فعل النغير؟ " أي: ما شأنه وحاله، فباسطه بذلك ليسليه حزنه عليه، كما وشأن الصغير إذا فقد لعبته، فيفرح بمكالمة المصطفى ويرتاح بها ويفتخر؛ ويقول لأهله: كلمني وسألني، فيشتغل باغتباطه بذلك عن حزنه، فيسلي ما كان، وقد أكثر الناس من استنباط الأحكام من ذا الحديث، وزاد أبو العباس بن القاص من الشافعية، على مائة أفردها في جزء.
"قال الجوهري: النغير تصغير نغر" بزنة رطب، "والنغر جمع النغرة، وهو طائر صغير، كالعصفور" وقيل فراخ العصافير، قال عياض: والراجح أنه طائر أحمر المنقار، وأهل المدينة يسمونه البلبل، وفي رواية قالت أم سليم: ماتت صعوته التي كان يلعب بها، فقال: "يا أبا عمير ما فعل النغير؟ " "والجمع نغران مثل صرد" ميزان النغر، "وصردان" ميزان نغران، وقضية هذا، أنه بصيغة كونه جمعًا يطلق على الطائر، وفيه خلاف، فعلى عدم إطلاقه، فضمير وهو طائر للنغير المصغَّر، "وقد كان ألقي عليه مع الدعابة المهابة" العظمة في النفوس والإجلال، والمخافة على خلاف مقتضى حال المداعب، فإن المداعبة قد تكون سببًا لسقوطه من العيون.(6/70)
ولقد جاء إليه -صلى الله عليه وسلم- رجل فقام بين يديه, فأخذته رعدة شديدة ومهابة، فقال له: "هوّن عليك، فإني لست بملك ولا جبار, إنما أنا ابن امرأة من قريش تأكل القديد بمكة"، فنطق الرجل بحاجته، فقام -صلى الله عليه وسلم- فقال: "يا أيها الناس, إني أوحي إلى أن تواضعوا، ألا فتواضعوا حتى لا يبغي أحد على أحد, ولا يفخر أحد على أحد، وكونوا عباد الله إخوانًا".
__________
"ولقد جاء إليه -صلى الله عليه وسلم- رجل" لحاجة يذكرها له لقوله الآتي، فنطق بحاجته، "فقام بين يديه، فأخذته رعدة شديدة" -بفتح الراء، وكسرها- كما في القاموس، واقتصر المصباح على الكسر، وهي اضطراب قوي، "ومهابة" أي: مخافة، عطف سبب على مسبب، والمهابة تكون بمعنى العظمة والخوف، وهو المراد هنا، "فقال له: "هوّن عليك" خَفِّف عن نفسك هذا الخوف، وأزله منك، ولا تجزع مني، "فإني لست بملك" أي: متصور بصورة الملوك، بل أنا عبد الله، "ولا جبار" أخبر الناس على ما أردته منهم؛ من فعل، أو ترك عطف لازم على ملزوم، "إنما أنا ابن امرأة من قريش تأكل القديد" اللحم المقدد "بمكة"، فنطق الرجل بحاجته؛ فقام -صلى الله عليه وسلم- لما رأى تواضعه مع الرجل، سكن روعه، حتى تمكن من عرض حاجته عليه، أمرهم بالتواضع، وبين أنه بالوحي، فقال: "يا أيها الناس إني أوحي إلي" وحي، إرسال، لا إلهام، كما زعم، لأنه خلاف الأصل والظاهر، بلا دليل "أن تواضعوا" أي: تواضعكم أي: أمركم به، "ألا فتواضعوا" بخفض الجناح ولين الجانب، "حتى لا يبغي" لا يجوز، ولا يتعدى "أحد" منكم "على أحد" ولو ذميًّا، أو معاهدًا، أو مؤمنًا؛ وحتى هنا بمعنى كي، كما قال الطيبي: فهو علة للتواضع، فيكون طريقًا لترك البغي والعدي، "ولا يفخر" بمعجمة، لا يتعاظم، "أحد على أحد" بتعداد محاسنه كبرًا، ورفع قدره على الناس تيهأ وعجبًا.
قال ابن القيم: والتواضع انكسار القلب لله، وخفض جناح الذل والرحمة للخلق، حتى لا يرى له على أحد فضلًا، ولا يرى له عند أحد حقًّا، بل، ويرى الحق لذلك الأحد؛ "وكونوا" يا "عباد الله" فهو منادى، يحذف الأداة والخبر "إخوانًا" لا عبادًا لله؛ إذ هم عباده، فالقصد كونهم إخوانًا، قال المجد بن تيمية: نهى الله على لسان رسوله عن نوعي الاستطالة على الخلق، وهما البغي والفخر؛ لأن المستطيل إن استطال بحق فقد افتخر، أو بغير حق، فقد بغى، فلا يحل هذا ولا هذا، فإن كان إنسان من طائفة فاضلة، كبني هاشم، فلا يكن حظه استشعار فضل نفسه والنظر إليها، فإنه مخطئ؛ إذ فضل الجنس لا يستلزم فضل الشخص، قرب حبشي أفضل عند الله من جمهور قريش، ثم هذا النظر يوجب بغضه وخروجه عن الفضل؛ فضلًا عن استعلائه واستطالته بهذا.(6/71)
فسكَّن -عليه الصلاة والسلام- روعه شفقة، لأنه بالمؤمنين رءوف رحيم، وسلب عنه وصف الملوكية بقوله: "فإني لست بملك"، لما يلزمها من الجبروتية، وقال: "أنا ابن امرأة تأكل القديد"، تواضعًا، لأن القديد مفضول، وهو مأكول المتمسكنة.
ولما رأته -عليه الصلاة والسلام- قبلة بنت مخرمة في المسجد، وهو قاعد القرفصي, أرعدت من الفرق. رواه أبو داود.
__________
وهذا الحديث أخرجه ابن ماجه، والحاكم من حديث أبي مسعود البدري، والحاكم أيضًا من حديث جرير، "فسكن -عليه الصلاة والسلام- روعه" بالفتح، خوفه وفزعه، "شفقة؛ لأنه بالمؤمنين رءوف رحيم، وسلب عنه وصف الملوكية" أي: الوصف بكونه من الملوك، "بقوله: "فإني لست بملك"، لما يلزمها من الجبروتية" التكبر والافتخار، ولم يقل والجبرية، للإشارة إلى أنه من عطف اللازم على الملزوم، كما مَرَّ، "وقال: "أنا ابن امرأة" فنسب نفسه إليها، ولم يقل رجل، زيادة في شدة التواضع، وتسكين الروع، لما علم من ضعف النساء، ووصفها بأنها "تأكل القديد"، تواضعًا، لأنَّ القديد مفضول، وهو مأكول المتمسكنة" فكأنه قال: إنما أنا ابن امرأة مسكينة، تأكل مفضول الأكل، فكيف تخاف مني؟ "ولما رأته -عليه الصلاة والسلام- قبلة" بفتح القاف، وسكون التحتية، ولام، "بنت مخرمة" بفتح الميم، وإسكان المعجمة، التميمية، ثم من بني العنبر، هاجرت إلى النبي -صلى الله عليه وسلم، ولها حديث طويل فصيح، شرحه أهل الغريب, وقصة طويلة "في المسجد" بعد صلاة الصبح، "وهو قاعد القرفصي" مثلثة القاف، والفاء مقصورة، والقرفصاء بضم القاف، والراء على الاتباع أن يجلس على البنية، ويلصق خذيه ببطنه، ويحتبي بيديه؛ يضعهما على ساقيه، أو يجلس على ركبتيه منكبًّا، ويلصق بطنه بفخذيه، ويتأبط كفيه، قاله القاموس: "أرعدت من الفرق" -بفاء وراء مفتوحين وقاف: الخوف والفزع.
"رواه أبو داود" والترمذي، والبخاري في التاريخ، عنها في حديثها الطويل، وروى ابن سعد، وابن جرير، والطبراني، وابن منده، عنها: لما رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- متخشعًا في الجلسة، وهو قاعد القرفصاء، أرعدت من الفرق، فقال جليسه: يا رسول الله أرعدت المسكينة، فقال -صلى الله عليه وسلم: ولم ينظر إليّ، وأنا عند ظهره: "يا مسكينة عليك السكينة" , فلما قالها أذهب الله ما كان دخل قلبي من الرعب، ومتخشعًا، بضم الميم، وفوقية، فمعجمة مفتوحتين، فمعجمة، فمهملة من الخشوع، وهو الانقياد، والطاعة.(6/72)
وروى مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: صحبت رسول الله -صلى الله عليه وسلم، ما ملأت عيني منه قط حياء منه وتعظيمًا له، ولو قيل لي صفة لما قدرت، أو كما قال.
وإذا كان هذا قوله وهو من جملة أصحابه، ولولا أنه -عليه الصلاة والسلام- كان يباسطهم ويتواضع لهم ويؤنسهم, لما قدر أحد منهم أن يقعد معه, ولا أن يسمع كلامه, لما رزقه الله تعالى من المهابة والجلالة. يبين ذلك ويوضحه ما روي أنه -عليه الصلاة والسلام- كان إذا فرغ من ركوع الفجر حدث عائشة إن كانت مستيقظة، وإلّا اضطجع بالأرض ثم خرج بعد ذلك للصلاة، وما ذاك إلّا أنه -عليه الصلاة والسلام- لو خرج على تلك الحالة التي كان عليها، وما حصل له من القرب والتداني.............................................
__________
"وروى مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص" القرشي، السهمي، الصحابي، ابن الصحابي، "قال: صحبت رسول الله -صلى الله عليه وسلم" صحبة طويلة، وسمعت منه أحاديث كثيرة، وحفظت عنه ألف مثل، ومع ذلك "ما ملأت عيني منه قط، حياء منه، وتعظيمًا له، ولو قيل لي صفه" بجميع أوصافه، "لما قدرت", فلا ينافي أنه وصفه ببعضها، "أو كما قال" عبد الله، شك الراوي، هل قال هذا اللفظ، أو معناه، "وإذا كان هذا قوله، وهو من جلة أصحابه" -بكسر الجيم، وشد اللام- جمع جليل، ويجمع أيضًا على أجلاء، قال المجد: قوم جلة بالكسر، عظماء سادة ذوو أخطار، وجواب إذا، محذوف، أي: فما بال بغيره، "ولولا أنه -عليه الصلاة والسلام- كان يباسطهم، ويتواضع لهم، ويؤنسهم، لما قدر أحد منهم أن يقعد معه، ولا أن يسمع كلامه، لما رزقه الله تعالى من المهابة، والجلالة" عطف تفسير "يبين" يظهر "ذلك ويوضحه" بعد ظهوره، أي: يكشف حقيقة أمره، "ما روي أنه -عليه الصلاة والسلام، كان إذا فرغ من ركوع الفجر" أي: صلاة ركعتيه قبل الصبح، "حدَّث عائشة إن كانت مسيقظة، وإلا اضطجع بالأرض", وهذا إذا كان ببيتها، لأنه كان يقسم، وحجر نسائه متصلة بالمسجد، فلا يأتي له مع القسم أن يتحدث معها بعد كل فجر، ثم يحتمل أنه كان يحدث من هو عندها، ولم ينقل، لأنهن لم يحدثن به، ويحتمل أن لا يحدث، ويقتصر على الاضطجاع، وفي الصحيحين عن عائشة: كان إذا صلى ركعتي الفجر، اضطجع على شقه الأيمن، "ثم خرج بعد ذلك للصلاة، وما ذاك إلّا أنه -عليه الصلاة والسلام- كان يتهجد ليلًا ويشتغل بما يقربه من الله، فيظهر عليه حاله حتى يظن أنه ليس من البشر، "فلو خرج على تلك الحالة التي كان عليها، وما حصل له من(6/73)
في مناجاته وسماع كلام ربه وغير ذلك من الأحوال التي يكل اللسان عن وصف بعضها، لما استطاع بشر أن يلقاه ولا يباشره، فكان -عليه الصلاة والسلام- يتحدث مع عائشة أو يضطجع بالأرض حتى يحصل التأنيس بجنسهم، وهو التأنيس مع عائشة أو من جنس أصل الخلقة التي هي الأرض. ثم يخرج إليهم، وما كان إلا رفقًا بهم، {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} . قال ابن الحاج في المدخل.
وقد جاء في الحديث أنه لما خُيِّرَ بين أن يكون نبيًّا ملكًا، أو نبيًّا عبدًا, فنظر -عليه الصلاة والسلام- إلى جبريل كالمستشير له، فنظر جبريل إلى الأرض يشير إلى التواضع، فاختار -عليه الصلاة والسلام- العبودية، فلما كان تواضعه إلى الأرض؛ حيث أشار جبريل أورثه الله تعالى رفعته إلى السماء، ثم إلى الرفيق الأعلى، إلى حضرة قاب قوسين أو أدنى،........................................
__________
القرب، والتداني، في مناجاته وسماع كلام ربه، وغير ذلك من الأحوال، التي يكل" بكسر الكاف، "اللسان عن وصف بعضها، لما استطاع بشر أن يلقاه، ولا يباشره، فكان -عليه الصلاة والسلام- يتحدث مع عائشة، أو يضطجع بالأرض" للتنويع، كما علم، "حتى يحصل التأنيس بجنسهم، وهو التأنيس مع عائشة" التي هي بشر، "أو من جنس أصل الخلقة، التي هي الأرض، ثم يخرج إليهم" ليتمكن الناس من مخالطته، والتكلُّم معه، "وما كان" يفعل ذلك "إلا رفقًا بهم {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب: 43] الآية. كما قال تعالى وصفًا لذاته العليا في سورة الأحاب، وهو من صفات المصطفى أيضًا، كما قال تعالى: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128] الآية.
"قال ابن الحاج في المدخل" كتاب نفيس، "وقد جاء في الحديث أنه لما خُيِّر" على لسان إسرافيل، "بين أن يكون نبيًّا ملكًا، أو نبيًّا عبدًا، فنظر" جواب، لما أدخل المصنّف عليه الفاء على عادته، وهو قليل "-عليه الصلاة والسلام- إلى جبريل، كالمستشير له" لأنه يجب الاستشارة، "فنظر جبريل إلى الأرض، يشير إلى التواضع" لأن تركه طلب للرفعة المنهي عنها، وفي التواضع يعظم غيره، حتى كأنه نزل نفسه منزلة الملصق بالأرض، ثم الإشارة ليست بمجرد نظر الأرض، بل مع الإشارة باليد، ففي رواية، فأشار إلى جبريل بيده أن تواضع، فقلت: نبيًّا عبدًا.
"فاختار -عليه الصلاة والسلام- العبودية، فلمَّا كان تواضعه إلى الأرض؛ حيث أشار جبريل، أورثه الله تعالى رفعته إلى السماء، ثم إلى الرفيق الأعلى، إلى حضرة قاب" قدر "قوسين، أو أدنى" أقرب من ذلك قرب مكانة لإمكان، لتنزهه سبحانه عنه، وخص القوسين؛ لأنهم كانوا إذا(6/74)
وقف بين يديه محمود بن الربيع، وهو صغير ابن خمس سنين، فمج -عليه الصلاة والسلام- في وجهه مجَّة من ماء من دلو يمازحه بها، فكان في ذلك من البركة أنه لما كبر لم يبق في ذهنه من ذكر رؤية النبي -صلى الله عليه وسلم- إلا تلك المجة، فعد بها من الصحابة, وحديثه مذكور في البخاري من طريق الزهري عنه.
ودخلت عليه ربيبته زينب بنت أم سلمة وهو في مغتسله، فنضح الماء في وجهها، فكان في ذلك من البركة في وجهها أنه لم يتغير، فكان ماء الشباب ثابتًا في وجهها ظاهرًا في رونقها وهي..............
__________
أرادوا إيقاع صلح، أو عهد بينهم، يقف أحد المتصالحين تجاه الآخر، وفي يد كل منهما قوس يمده إلى صاحبه، بحيث يتلاقيان، "ووقف بين يديه محمود بن الربيع"، بن سراقة بن عمرو بن زيد الأنصاري الخزرجي، وزيادة ابن عبد البر من بني عبد الأشهل، ذهول؛ لأنهم من الأوس، وهذا من الخزرج، قيل: من بني الحارث بن الخزرج، وقيل: من بني سالم بن عوف، "وهو صغير ابن خمس سنين" كما في البخاري عنه، قال في الفتح: وذكر عياض في الألماع وغيره: إن في بعض الروايات أنه كان ابن أربع، ولم أقف على هذا صريحًا في شيء من الروايات بعد التتبع التام، إلّا إن كان ذلك مأخوذًا من قول صاحب الاستيعاب، أنه عقل المجة، وهو ابن أربع، أو خمس، وكان الحامل له التردد، قول الواقدي أنه مات ابن ثلاث وتسعين، والأول أولى بالاعتماد لصحة سنده، على أن قول الواقدي: يمكن حمله إن صح على أنه ألقي الكسر، وجبره غيره، وقال في الإصابة: أكثر روايته عن الصحابة، وأمه جميلة بنت أبي صعصعة، ومات سنة تسع وتسعين، وكأنه مأخوذ من رواية الطبراني عنه، توفي النبي -صلى الله عليه وسلم- وأنا ابن خمس سنين.
"فمجَّ -عليه الصلاة والسلام- في وجهه مجة من ماء" من بئر "من دلو" في رداهم "يمازحه بها، فكان في ذلك" المجّ "من البركة، أنه لما كبر لم يبق في ذهنه من ذكر رؤية النبي -صلى الله عليه وسلم- إلّا تلك المجة، فعدّ بها" بسبب تذكرها، وروايتها "من الصحابة" الراوين عن النبي -صلى الله عليه وسلم، لا من الصحابة الذين رأوه، بلا رواية، "وحديثه مذكور" أي: مروي "في البخاري، من طريق الزهري، عنه" إلّا: عقلت من النبي -صلى الله عليه وسلم مجة مجها في وجهي، وأنا ابن خمس سنين من دلو، "ودخلت عليه ربيبته زينب بنت أم سلمة" من أبي سلمة بن عبد الأسد، المخزومية، حفظت عن النبي -صلى الله عليه وسلم، وروت عنه، وعن أزواجه، أمها وعائشة، وأم حبيبة، وغيرهن، وعنها جماعة، وكانت فقيهة عالمة، "وهو في مغتسلة، فنضح الماء في وجهها، فكان" حصل "في ذلك من البركة في وجهها، أنه لم يتغيّر، فكان ماء الشباب ثابتًا في وجهها، ظاهرًا في(6/75)
عجوز كبيرة. وحديثها مذكور في البخاري.
فقد علمت أنه -عليه الصلاة والسلام- كان مع أصحابه وأهله، ومع القريب والغريب من سعة الصدر ودوام البشر وحسن الخلق والسلام على من لقيه، والوقوف مع من استوقفه, والمزح مع الصغير والكبير أحيانًا، وإجابة الداعي, ولين الجانب, حتى يظن كل واحد من أصحابه أنه أحبهم إليه.
وهذا الميدان لا تجد فيه إلا واجبًا أو مستحبًّا أو مباحًا، فكان يباسط الخلق ويلابسهم ليستضيئوا بنور هدايته من ظلمات دياجي الجهل، ويقتدوا بهديه -صلى الله عليه وسلم.
__________
رونقها" أي: حسنها وبهجتها، "وهي عجوز كبيرة" ولدت بالحبشة، وماتت سنة ثلاث وسبعين، وكان دخولها عليه بإشارة أمها، قال في الإصابة: روينا في الخلعيات، عن عطاف بن خالد، عن أمه، عن زينب بنت أبي سلمة، قالت: كان -صلى الله عليه وسلم- إذا دخل يغتسل، تقول أمي: أدخلي عليه، فإذا دخلت نضح في وجهي، ويقول: "ارجعي"، قالت أم عطاف: فرأيت زينب، وهي عجوز كبيرة، ما نقص من وجهها شيء، وفي رواية، ذكرها أبو عمر: فلم يزل ماء الشباب في وجهها، حتى كبرت وعمرت، "وحديثها مذكور في البخاري".
"فقد علمت أنه -عليه الصلاة والسلام- كان مع أصحابه، وأهله، ومع القريب والغريب،" على غاية "من سعة الصدر" يفتح السين على الأشهر، وحكى كسرها، "ودوام البشر" بكسر، فسكون، "وحسن الخلق" بالضم "والسلام على من لقيه، والوقوف مع من استوقفه، والمزح مع الصغير والكبير أحيانًا" إذا اقتضاه المقام، "وإجابة الداعي" ولو عبدًا، "ولين الجانب، حتى يظن كل واحد من أصحابه أنه أحبهم إليه" وقد وقع ذلك لعمرو بن العاص، "وهذا الميدان" بفتح الميم، وكسرها، محل تسابق الفرسان، والمراد هنا الحالة التي اتصف بها -صلى الله عليه وسلم- مع الخلق، شبهها بالميدان، لشدة اتساعها وسهولتها، واستعار لها لفظه، "لا تجد فيه لّا واجبًا، أو مستحبًّا، أو مباحًا، فكان يباسط الخلق، ويلابسهم ليستضيئوا بنور هدايته، من ظلمات دياجي الجهل" أي: من ظلم ليالي الجهل، أو من ظلمات هي دياجي الجهل، ففي القاموس: دياجي الليل حنادسه، والحندس، بالكسر: الليل المظلم، فيمكن أن إضافة دياجي إلى الجهل من إضافة الموصوف إلى صفته، أي: الجهل الذي هو كالليل المظلم، "ويقتدوا بهديه -صلى الله عليه وسلم" هكذا في النسخ الصحيحة، ليستيضيئوا ويقتدوا، وفي نسخة، بالنون فيهما، والصواب حذفها، وادَّعى البعض أنها لغة قليلة.(6/76)
وكانت مجالسته -صلى الله عليه وسلم- مع أصحابه -رضي الله عنهم عامَّتها مجالس تذكير بالله، وترغيب وترهيب، إما بتلاوة القرآن، أو بما آتاه الله من الحكمة والمواعظ الحسنة، وتعليم ما ينفع في الدِّين، كما أمره الله تعالى أن يذكِّر ويعظ ويقص، وأن يدعو إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة، وأن يبشِّر وينذر، فلذلك كانت تلك المجالس توجب لأصحابه رقَّة القلوب، والزهد في الدنيا, والرغبة في الآخرة، كما ذكره أبو هريرة مما رواه أحمد والترمذي وابن حبان في صحيحه قال: قلنا يا رسول الله: ما لنا إذا كنَّا عندك رقَّت قلوبنا وزهدنا في الدنيا, وكنا من أهل الآخرة، فإذا خرجنا من عندك عافسنا أهلنا وشممنا أولادنا وأنكرنا أنفسنا.
فقال -صلى الله عليه وسلم: "لو أنكم إذا خرجتم من عندي كنتم على حالكم ذلك لزارتكم الملائكة في........................................................
__________
"وكانت مجالسته -صلى الله عليه وسلم- مع أصحابه -رضي الله عنهم- عامَّتها مجالس تذكير بالله، وترغيب وترهيب، إما بتلاوة القرآن" وهو مشتمل على الثلاثة، "أو بما آتاه الله تعالى من الحكمة، والمواعظ الحسنة، وتعليم ما ينفع في الدين، كما أمره الله تعالى أن يذكر" في نحو: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات: 55] الآية. "ويعظ" في نحو قوله: {وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا} الآية. "ويقص" {فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الأعراف: 176] الآية. "وأن يدعو إلى سبيل الله" ربه، دينه بقوله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ} [النحل: 125] الآية. القرآن "والموعظة الحسنة" مواعظ القرآن، أو القول الرقيق، "وأن يبشر" في نحو: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا} الآية. "وينذر" نحو: {قُمْ فَأَنْذِرْ} الآية، "فلذلك كانت تلك المجالس توجب لأصحابه رقَّة القلوب، والزهد في الدنيا، والرغبة في الآخرة" حتى قال ابن مسعود: ما كنت أظن أحدًا من الصحابة يريد الدنيا، حتى نزل منكم من يريد الدنيا، ومنكم من يريد الآخرة، "كما ذكره أبو هريرة مما رواه أحمد، والترمذي، وابن حبان في صحيحه، قال: قالنا يا رسول الله، ما لنا إذا كنا عندك، رقت" لانت "قلوبنا، وزهدنا في الدنيا، وكنا من أهل الآخرة، فإذا خرجنا من عندك، عافسنا أهلنا، وشممنا" بكسر الميم، والفتح لغة، كما مرّ "أولادنا" بالإقبال عليها بالملاطفة والرفق، وتقبيل صغارهم، والشفقة عليهم، فأطلق الشم على ذلك مجازًا بتشبيه ما أدركوه من أولادهم بالرائحة الطيبة، ومخالطتهم لهم على هذا الوجه بالشم.
كذا حمله شيخنا، والأولى بقاؤه على حقيقته، "وأنكرنا أنفسنا، فقال -صلى الله عليه وسلم: "لو أنكم إذا خرجتم من عندي، كنتم على حالكم ذلك" الذي تكونون عليه عندي، إشارة إلى أن الدوام عليها عزيز، وإن عدمه لا يوجب معتبة لما طبع عليه البشر من المعتبة، "لزارتكم الملائكة في(6/77)
بيوتكم. الحديث.
وقوله: عافسنا: بالعين المهملة وبعد الألف فاء فسين مهملة ساكنة -أي: عالجنا أهلنا ولاعبناهم.
ومن تواضعه -صلى الله عليه وسلم- أنه ما عاب ذواقًا قط، ولا عاب طعامًا قط، إن اشتهاه أكله وإلا تركه رواه الشيخان.
__________
بيوتكم" لفظ أحمد، والترمذي: "لصافحتكم الملائكة بأكفهم، ولزارتكم في بيوتكم" , قال بعض العلماء: معناه، لو أنكم في معاشكم، وأحوالكم، كحالتكم عندي، لأظلتكم الملائكة، لأن حال كونكم عندي حال مواجيد، والذي يجدونه معه خلاف المعهود، إذا رأوا الأموال والأولاد، ومعه يرون سلطان الحق، ويشاهدونه، وترق أنفسهم لزوال سلطان الشهوة، ولم تصافحهم عنده؛ لأنها لم تكن حالتهم، بل حالة الحق، ولو كان ما يجدونه عنده حالهم، لكانت حالة ثابتة لهم هبة من الله، والله لا يرجع في هبة، ولا يسلب كرامته إلّا بالتقصير في واجباته، "الحديث" بقيته، "ولو لم تذنبوا لجاء الله بقوم يذنبون، كي يغفر لهم"، وأخرجه أبو يعلى والبزار، برجال ثقات من حديث أنس بلفظ: "لو أنكم إذا خرجتم من عندي، تكونون على الحال الذي تكونون عليها، لصافحتكم الملائكة بطرق المدينة"، وأخرج مسلم، والترمذي، وابن ماجه، والإمام أحمد، عن حنظلة الأسيدي، أنه سأل نحو سؤال أبي هريرة، فقال -صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده، لو كنتم تكونون في بيوتكم، على الحالة التي تكونون عليها عندي، لصافحتكم الملائكة، ولأظلتكم بأجنحتها، ولكن يا حنظلة ساعة وساعة" , وقوله: "عافسنا، بالعين المهملة، وبعد الألف فاء، فسين مهملة ساكنة، أي: يعالجنا أهلنا ولاعبناهم" نحوه قول النهاية المعافسة، المعالجة، الممارسة، والملاعبة، "ومن تواضعه -صلى الله عليه وسلم- أنه ما عاب ذواقًا" أي مذوقًا "قط", من إطلاق المصدر على اسم المفعول، قال في الدرر: الذواق المأكول والمشروب، فعال بمعنى مفعول من الذوق، "ولا عاب طعامًا قط" سواء كان من صنع الآدمي أم لا، فلا يقول مالح نيء، ونحو ذلك، "إن اشتهاه أكله، وإلّا تركه" واعتذر بأنه لم يكن بأرض قومه، كالضب، وهذا، كما قال ابن بطال من حسن الأدب، لأن المرء قد لا يشتهي الشيء ويشتهيه غيره، وكل مأذون فيه من جهة الشرع لا عيب فيه. انتهى.
ثم هو بمعنى ما قبله، ففي المصباح: الطعام يقع على كل ما يساغ حتى الماء، وذوق الشيء، "رواه الشيخان" البخاري في الصفة النبوية، والأطعمة، ومسلم في الأطعمة من حديث أبي هريرة، قال: ما عاب النبي -صلى الله عليه وسلم- طعامًا قط، إن اشتهاه أكله، وإن كرهه تركه، وفي رواية وإلا(6/78)
وهذا إذا كان الطعام مباحًا، أمَّا الحرام فكان يعيبه ويذمّه وينهي عنه، وذهب بعضهم إلى أن العيب إذا كان من جهة الخلقة كره، وإن كان من جهة الصنعة لم يكره، قال: لأنَّ صنعة الله تعالى لا تعاب، وصنعة الآدميين تعاب. قال في فتح الباري: والذي يظهر: التعميم، فإن فيه كسر قلب الصانع.
قال النووي: ومن آداب الطعام المتأكد أن لا يعاب، كقوله: مالح، حامض، قليل الملح، غليظ، رقيق، غير ناضج ونحو ذلك.
ومن تواضعه: إن هذه الدنيا شاع سبها في العالمين، فقال -صلى الله عليه وسلم: "لا تسبوا الدنيا"، ثم مدحها فقال: "نعمت مطية المؤمن، عليها يبلغ الخير، وبها ينجو من الشر"............
__________
تركه، ولم يقع فيهما ما عاب ذواقًا قط، "وهذا إذا كان الطعام مباحًا، أما الحرام فكان يعيبه ويذمه وينهى عنه" للمنع عنه شرعًا، لا من حيث ذاته، فقد يكون حسن المذاق والصنعة، "وذهب بعضهم إلى أن العيب إن كان من جهة الخلقة كره، وإن كان من جهة الصنعة لم يكره، قال: لأن صنعة الله تعالى لا تعاب" فلذاكره ذمه، "وصنعة الآدميين تعاب" فلا يكره عيبه، "قال في فتح الباري: والذي يظهر التعميم، فإن فيه كسر قلب الصانع" بالنسبة للشق الثاني، الذي قال البعض بعدم كراهة ذمه، وأما الأول، فقد سلم كراهته، وعلَّله بأن صنعة الله لا تعاب، فالمعنى: أن للتعميم علتين، ذكر إحداهما هذا البعض، وفاتته الأخرى مع ظهورها بكسر قلب الصانع، وبهذا ظهر تعسف من قال: لا يصلح هذا دليلًا على التعميم، وإنما يناسب ما صنعه الآدميون، إلّا أن يقال ما لا صنع فيه للآدمي، كالفواك، يمكن عيبه من حيث زراعته، وخدمته، وقطعه قبل كمال نضجه، ونحو ذلك، فهو وإن كان إيجاده، إنما أيضًا فلله، لكن تدبيره وتهيئته للانتفاع به، يضاف للآدمي عادة، فذمه يكسر قلبه من هذه الجهة.
"قال النووي: ومن آداب الطعام المتأكدة" أي: الأمور المستحسنة المتعلقة به، "أن لا يعاب"؛ لأن المصطفى ما عاب طعامًا قط، ومعلوم الاقتداء به في أقواله، وأفعاله وغيرهما، فذكر هذا ليبين بعض أنواع العيب، "كقوله: مالح، حامض، قليل الملح، غليظ" أي: ثخين "رقيق غير ناضج" أي: نيء، "ونحو ذلك" بالجر عطف على مدخول الكاف، فذكره إيضاح، "ومن تواضعه إن هذه الدنيا" ما بين السماء والأرض، "شاع سبها في العالمين" قديمًا وحديثًا، فنهى عن ذلك، "فقال -صلى الله عليه وسلم: "لا تسبوا الدنيا"، ثم مدحها فقال: "نعمت مطية المؤمن عليها يبلغ الخير، وبها ينجو من الشر" , فإن قيل ما وجه كون هذا من التواضع، مع أنه هضم النفس من(6/79)
وقال: "لا تسبوا الدهر" رواه البخاري من حديث أبي هريرة بلفظ: "ولا تقولوا خيبة الدهر، فإن الله هو الدهر" , وفي لفظ له: "يسب بنو آدم الدهر وأنا الدهر,...................
__________
الملكات، تتصاغر تواضعًا، وفي القاموس: تواضع لله ذلَّ وخشع، قلنا: لعل وجهه من جهة أن الذين يسبونها يظهرون الاستغناء عنها، وعدم الاعتبار بها، مع أنه خلاف الواقع, فمدحه -صلى الله عليه وسلم- لها, ونهيه عن سبها، فيه إظهار للمحقق من احتياج في فيها إليها، وقال: "لا تسبوا الدهر".
رواه مسلم بهذا اللفظ من حديث أبي هريرة، وزاد: "فإن الله هو الدهر"، وفي رواية: "فإن الدهو هو الله"، قال ابن الأثير: كان من شأن العرب أن تذم الدهر وتسبه عند النوازل والحوادث، ويقولون: أبادهم الدهر، وأصابتهم قوارع الدهر وحوادثه، ويكثرون ذكره بذلك في أشعارهم، وذكره الله عنهم، فقال: {وَقَالُوا مَا هِيَ إلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا} [الجاثية: 24] الآية، نموت ونحيى، وما يهلكنا إلا الدهر، والدهر اسم للزمان الطويل، وهذه الحياة الدنيا، فنهاهم -صلى الله عليه وسلم- عن ذم الدهر وسبه، أي: لا تسبّوا فاعل هذه الأشياء، فإنكم إذا سببتموه وقع السب على الله؛ لأنه الفعال لما يريد، لا الدهر، فتقدير رواية: "فإن الدهر هو الله"، فإن جالب الحوادث ومتوليها هو الله لا غيره، فوضع الدهر موضع جالب الحوادث، لاشتهار الدهر عندهم بذلك، وتقدير رواية: "فإن الله هو الدهر"، فإن الله هو الجالب للحوادث، لا غيره الجالب، ردًّا لاعتقادهم أن جالبها الدهر. انتهى.
"رواه" الحديث لا بهذا اللفظ، فإنه رواية مسلم، كما علمت لا البخاري، نعم ترجم به "البخاري" وكذا مسلم أيضًا، كلاهما في كتاب الأدب "من حديث أبي هريرة، بلفظ "لا تسموا العنب الكرم، ولا تقولوا خيبة الدهر" بالخاء المعجمة، والموحدة المفتوحتين، بينهما تحتية ساكنة، نصب على الندبة، كأنه فقد الدهر، لما يصدر عنه مما يكرهه، فندبه متفجعًا عليه، أو متوجعًا منه، وقال الداودي: هو دعاء عليه بالخيبة، كقولهم: قحَّط الله نواها، يدعون على الأرض بالقحط، وهي كلمة هذا أصلها، ثم صارت تقال لكل مذموم، وفي رواية لمسلم: وادهراه وادهراه، والخيبة الحرمان والخسران، قاله الحافظ وتبعه المصنف، وزاد: وهو من إضافة المصدر إلى الفاعل. انتهى.
وقال الكرماني: خيبة بالنصب، مفعول مطلق، أي: لا تقولوا هذه الكلمة، أو لا تقولوا ما يتعلق بخيبة الدهر ونحوها، ولا تسبوه، "فإن الله هو الدهر" أي الفاعل، ما يحدث فيه، قال القاضي عياض: زعم بعض من لا تحقيق عنده، أن الدهر من أسماء الله، وهو غلط، فإن الدهر مدة زمان الدنيا، "وفي لفظ له" للبخاري، وكذا مسلم أيضا، كلاهما في أدب، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: "يسب بنو آدم الدهر"، وفي رواية "يؤذيني(6/80)
بيدي الليل والنهار". وعند مسلم في حديث: "لا يسب أحدكم الدهر".
__________
ابن آدم يسب الدهر"، قال القرطبي: معناه: يخاطبني من القول بما يتأذّى به من يجوز في حقه التأذي, والله منَزَّه عن أن يصل إليه الأذى، وإنما هذا التوسع في الكلام والمعنى، أن من وقع ذلك منه تعرض لسخط الله، قال الحافظ: وهذا السياق مختصر، وقد رواه الطبري.
عن أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "كان أهل الجاهلية يقولون: إنما يهلكنا الليل والنهار، هو الذي يميتنا ويحيينا، فقال الله تعالى في كتابه: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا} [الجاثية: 24] الآية، قال: فيسبون الدهر، قال الله تعالى: "يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر". قال الخطابي: معناه: أنا صاحب الدهر، ومدبر الأمور التي تنسبونها إلى الدهر، فمن سبَّ الدهر من أجل أنه فاعل هذه الأمور، عاد سبه إلى ربه الذي هو فاعلها، وإنما الدهر زمان جعل ظرفًا لمواقع الأمور، وكانت عادتهم إذا أصابهم مكروه أضافوه إلى الدهر، فقالوا: بؤسًا للدهر، وتبًّا للدهر، وقال النووي: أنا الدهر، بالرفع في ضبط الأكثرين والمحققين، ويقال بالنصب على الظرف, أي: أنا باق أبدًا، والموافق لقوله: "فإن الله هو الدهر" الرفع، هو مجاز، وذلك لأنَّ العرب كانت تسب الدهر عند الحوادث، فقال: لا تسبوه فإن فاعلها هو الله، فإن سببتموه سببتموني، أو الدهر هنا بمعنى الداهر، فقد حكى الراغب أن الدهر في يسب بنو آدم الدهر، هو الزمان، وفي، فإن الله هو الدهر, المدبر المصرف لما يحدث، ثم استضعفه لعدم الدليل على، وبأنه لو كان كذلك لعد من أسماء الله، وكذا قال محمد بن داود الظاهري محتجًّا لروايته، بفتح الراء، بأنه لو كان بضمها لكان من أسماء الله، وتعقَّب بأن ذلك ليس بلازم، ولا سيما مع رواية، فإن الله هو الدهر.
قال ابن الجوزي: يصوّب ضم الراء من أوجه، أحدها: إن الضم رواية المحدثين، ثانيها: لو نصب صار، التقدير، فإنا لدهر أقلبه، فلا تكون على النهي عن سبه مذكورة؛ لأنه تعالى يقلّب الخير والشر، فلا يستلزم ذلك منع الذم، ثالثها: رواية: "فإن الله هو الدهر" انتهى.
وهذه الأخيرة لا تعين الرفع، لأن للمخالف أن يقول التقدير: فإن الله هو الدهر يقلبه لترجع للرواية الأخرى، وكذا ترك علة النهي لا يعين، لأنها تعرف من السياق، أي: لا ذنب له، فلا تسبوه. انتهى.
"بيدي الليل والنهار" وفي رواية أحمد "ولا تسبوا الدهر، فإن الله تعالى"، قال: أنا الدهر، الأيام والليالي لي، أحددها، وأبليها، وآتي بملوك بعد ملوك، "وعند مسلم في حديث: "لا يسب أحدكم الدهر".
قال في الفتح: ومعنى النهي عن سبه: إن من اعتقد أنه فاعل للمكروه فسبَّه أخطأ، فإن(6/81)
ومحصل ما قيل في تأويله، ثلاثة أوجه:
أحدها: إن المراد بقوله: "إن الله هو الدهر"، أي: المدبر للأمور.
ثانيها: إنه على حذف مضاف. أي: صاحب الدهر.
ثالثها: التقدير: مقلب الدهر. ولذلك عقَّب في رواية البخاري: "بيدي الليل والنهار".
وقال المحققون: من نسب شيئًا من الأفعال إلى الدهر حقيقة كفر، ومن جرى على لسانه غير معتقد لذلك فليس بكافر، لكن يكره له ذلك لتشبهه بأهل الكفر في الإطلاق.
__________
الله هو الفاعل، فإذا سبه رجع إلى الله، قال: "ومحصل ما قيل في تأويله" لعدم جواز بقائه على ظاهره، "ثلاثة أوجه، أحدها: إن المراد بقوله: "إن الله هو الدهر"، أي: المدبر للأمور" ومنها جلب الحوادث ودفعها، "ثانيها: إنه على حذف مضاف, أي: صاحب الدهر" أي الخالق له؛ إذ هو مده زمان الدنيا كما قال القاضي عياض, "ثالثها": إنه أيضًا لكن "التقدير مقلب الدهر" بالإضافة، وعدمها "ولذلك عقب في رواية البخاري" المذكورة "بيدي الليل والنهار" أقلبهما كيف شئت، وأجددهما وأبليهما،"وقال المحققون: من نسب شيئًا من الأفعال إلى الدهر حقيقة كفر"؛ لأنه ذهب مذهب الدهرية من الكفار المنكرين للصنع، زاعمين أن مرور الأيام والليالي هو المؤثر في هلاك النفوس، منكرين ملك الموت، وقبضه للأرواح بأمر الله، ويضيفون كل حادثة تحدث إلى الدهر والزمان، وأشعارهم ناطقة بشكواه، ويعتقدون أن في كل ثلاثين ألف سنة يعود كل شيء إلى ما كان عليه، وزعموا أن هذا، قد تكرر مرات لا تتناهى، فكابروا القول، وكذبوا النقول، ووافقهم مشركوا العرب، وذهب إليه آخرون، لكنهم اعترفوا بوجود الصانع، الإله الحق -عز وجل، إلا أنهم نزهوه أن تنسب إليه المكاره، فأضافوها إلى الدهر فنسبوه.
"ومن جرى على لسانه" بأن قصد النطق حالة كونه "غير معتقد، لذلك فليس بكافر، لكن يكره له ذلك، لتشبهه بأهل الكفر في الإطلاق" زاد في الفتح، وهذا نحو التفصيل في قولهم: مطرنا بنوء كذا, وقال عياض: زعم بعض من لا تحقيق له أن الدهر من أسماء الله، وهو غلط، فإن الدهر مدة زمان لدنيا، وعرفه بعضهم؛ بأنه أمد مفعولات الله في الدنيا، أو فعله، لما قبل الموت، وقد تمسك الجهلة من الدهرية والمعطلة بظاهر هذا الحديث، واحتجوا به على من لا رسوخ له في العلم، وهو بنفسه حجة عليهم؛ لأن الدهر عندهم حركات الفلك وأمد العالم، ولا شيء عندهم، ولا صانع سواه، وكفى في الرد عليهم قوله في بقية الحديث: "أنا الدهر أقلبه ليله ونهاره"، فكيف يقلب الشيء نفسه, تعالى الله عن قولهم علوًّا كبيرًا، وقال ابن أبي جمرة:(6/82)
وما خيِّر -صلى الله عليه وسلم- بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثمًا، فإن كان إثمًا كان أبعد الناس منه. رواه البخاري.
أي بين أمرين من أمور الدنيا لا إثم فيهما، وأبهم "فاعل" خُيِّرَ ليكون أعمّ, من قِبَلِ الله أو من قِبَلِ المخلوقين. وقوله: إلّا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما: أي ما لم يكن الأسهل مقتضيًا للإثم, فإنه حينئذ يختار.............
__________
لا يخفى أن من سب الصنعة، فقد سبَّ صانعها، فمن سب الليل والنهار، أقدم على أمر عظيم بغير معنى، ومن سب ما يجري فيهما من الحوادث، وذلك هو أغلب ما يقع من الناس، وهو الذي يعطيه سياق الحديث؛ حيث نفى عنهما التأثير، فكأنه قال: لا ذنب لهما في ذلك.
وأما الحوادث، فمنها ما يجري بواسطة العاقل المكلَّف، فهذا يضاف شرعًا ولغة إلى الذي أجري على يديه، ويضاف إلى الله، لكونه بتقديره، فأفعال العباد من اكتسابهم، ولذا تترتَّب عليها الأحكام، وهي في الابتداء خلق الله، ومنها ما يجري بلا واسطة، فهو منسوب إلى قدرة القادر، وليس لليل والنهار فعل ولا تأثير، لا لغة ولا عقلًا ولا شرعًا، وهو المعنى في هذا الحديث، ويلتحق بذلك ما يجري من الحيوان غير العاقل، ثم النهي عن سب الدهر تنبيه بالأعلى الأدنى، فلا يسب شيء مطلقًا، إلا ما أذن الشرع فيه؛ لأن العلة واحدة، واستنبط منه أيضًا منع الحيلة في البيوع، مثل العينة؛ لأنه نهى عن سب الدهر، لما يئول إليه من حيث المعنى، وجعله سبًّا لخالقه. انتهى.
"وما خُيِّرَ -صلى الله عليه وسلم- بين أمرين إلّا اختار" وفي رواة: إلا أخذ "أيسرهما" أسهلهما، "ما لم يكن إثمًا، فإن كان" الأيسر "إثما كان أبعد الناس منه".
"رواه البخاري" في الصفة النبوية والأدب، ومسلم في الفضائل، وأبو داود في الأدب، كلهم من حديث عائشة، وتمامه "وما انتقم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لنفسه، إلّا أن تنتهك حرمة الله، فينتقم لله بها". "أي بين أمرين من أمور الدنيا" يدل عليه قوله: ما لم يكن إثمًا؛ لأن أمور الدين لا إثم فيها، هكذا شرحه الحافظ بإفراده ضمير فيها، فسقط من قلم المصنف بعض الكلام، فأتى بقوله: "لا إثم فيهما" مثنى عائدًا على الأمرين، فضاع قوله ما لم يكن إثمًا، فاللائق بقاء الأمرين على عمومهما، اللهمَّ إلّا أن يكون قيد بذلك، نظرًا لكونه -صلى الله عليه وسلم- لا يخيِّر بين حرامين، ولا حرام وغيره، "وأبهم" الشخص الراوي عائشة، "فاعل خير" بمعنى بناء للمجهول، "ليكون أعم" من أن يكون التخيير "من قِبَلِ الله تعالى، أو من قِبَلِ المخلوقين" أي جهتهم، "وقوله: إلّا اختار، أيسرهما" وقوله، أي: مع قوله: "ما لم يكن إثمًا، أي: ما لم يكن الأسهل مقتضيًا للإثم، فإنه(6/83)
الأشد.
وفي حديث أنس عند الطبراني في الأوسط: إلا اختار أيسرهما ما لم يكن لله فيه سخط. ووقوع التخيير بين ما فيه إثم وما لا إثم فيه من قِبَلِ المخلوقين واضح.
ومن تواضعه -عليه الصلاة والسلام- أنه لم يكن له بوّاب راتب، كما جاء عن أنس أنه قال: مرَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- بامرأة وهي تبكي عند قبر، فقال: "اتقي الله واصبري"، فقالت: إليك عني فإنك خلو من مصيبتي، قال فجاوزها ومضى. فمر بها رجل فقال لها: ما قال لك رسول الله -صلى الله عليه وسلم؟ قالت: ما عرفته، قال: إنه لرسول الله -صلى الله عليه وسلم.
__________
حينئذ يختار الأشد" على النفس، لما فيه من عدم الجر إلى الإثم، "وفي حديث أنس عند الطبراني في الأوسط: إلا أختار أيسرهما ما لم يكن لله فيه سخط، ووقوع التخيير بين ما فيه إثم، وما لا إثم فيه من قِبَلِ المخلوقين واضح" زاد الحافظ، وأما من قِبَلِ الله ففيه إشكال؛ لأن التخيير إنما يكون بين جائزين، لكن إذا حملناه على ما يفضي إلى الإثم أمكن ذلك، بأن يخيِّره بين أن يفتح عليه من كنوز الأرض ما يخشى من الاشتغال به، أن لا يتفرغ لعبادة مثلًا، وبين أن لا يؤتيه من الدنيا إلا الكفر، فيختار الكفاف، وإن كانت السعة أسهل منه، والإثم على هذا أمر نسبي لا يراد منه معنى الخطيئة؛ لثبوت العصمة له. انتهى.
"ومن تواضعه -عليه الصلاة والسلام- أنه لم يكن له بوَّاب راتب" فلا ينافي وجود بواب أحيانًا، لأمر ما، "كما جاء عن أنس، أنه قال: مرَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- بامرأة" لم يعرف الحافظ اسمها، "وهي تبكي عند قبر" زاد في رواية بد الرزاق مرسلًا: فسمع منها ما يكره، أي: من نَوْحٍ، أو غيره، ولم يعرف الحافظ أيضًا اسم المقبور، قال: لكن في رواية مسلم إشعار بأنه ولدها، ولفظه تبكي على صبي لها، وصرَّح به عبد الرزاق في مرسل يحيى بن أبي كثير، ولفظه: قد أصيبت بولدها، "فقال" لها: "يا أمة الله اتقي الله" خافي غضبه "واصبري" لا تجزعي ليحصل لك الثواب، "فقالت: إليك" اسم فعل، بمعنى تنح وابعد، "عني فإنك خلو" بكسر المعجمة، وسكون اللام، وبالواو، فارغ خالي البال "من مصيبتي" وفي رواية، فإنك لم تصب بمصيبتي، ولم تعرفه، "قال: فجاوزها ومضى، فمرَّ بها رجل" هو الفضل بن عباس، كما عند الطبراني في الأوسط، "فقال لها: ما قال لك رسول الله -صلى الله عليه وسلم؟، قال: ما عرفته"؛ لأنه من تواضعه لم يكن يستتبع الناس وراءه إذا مشى كعادة الملوك والكبراء، مع ما كانت فيه من شدة الوجد والبكاء، "قال: إنه لرسول الله -صلى الله عليه وسلم" زاد مسلم في رواية، فأخذها مثل الموت من شدة الكرب الذي(6/84)
قال: فجاءت إلى بابه فلم تجد عليه بوابًا. الحديث رواه البخاري.
لكن في حديث أبي موسى الأشعري: أنه كان بوابًا للنبي -صلى الله عليه وسلم- لما جلس على القف.
وجمع بينهما: بأنه كان -عليه الصلاة والسلام- إذا لم يكن في شغل من أهله ولا انفراد من أمره أنه كان يرفع حجابه بينه وبين الناس ويبرز لطالب الحاجة إليه.
__________
أصابها، لما عرفت أنه رسول الله، "قال: فجاءت إلى بابه فلم تجد عليه بوابًا"، بالإفراد عند البخاري في الأحكام، وله في الجنائز: فلم تجد عنده بوابين -بالجمع، وفائدة هذه الجملة: إنه لما قيل لها إنه لرسول الله، استشعرت خوفًا وهيبة في نفسها، فتصورت أنه كالملوك له حاجب وبواب، يمنع الناس من الوصول إليه، فوجدت الأمر بخلاف ما تصورته، كذا قال الطيب: "الحديث" بقيته، فقالت: لم أعرفك، فقال: "إنما الصبر عند الصدمة الأولى".
"رواه البخاري" في الجنائز والأحكام، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي في الجنائز، وهو صريح، في أنه لم يكن له بواب، "لكن في حديث أبي موسى الأشعري؛ أنه كان بوابًا للنبي -صلى الله عليه وسلم، لما جلس على القف" بضم القاف، وبالفاء: الدكة تجعل حول البئر، أو حافة البئر، روى البخاري، ومسلم أن أبا موسى توضأ في بيته، ثم خرج، فقلت: لألزمنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم، ولأكوننَّ معه يومي هذا، فجاء المسجد فسأل عنه، فقالوا: خرج ووجه ههنا، فخرجت أثره أسأل عنه، حتى وجدته دخل بئر أريس، فجعلت عند الباب، وبابها من جريد، حتى قضى -صلى الله عليه وسلم حاجته وتوضأ، فقمت إليه، فإذا هو جالس على بئر أريس، وتوسَّط قفها، وكشف عن ساقيه، ودلاهما في البئر، فسلَّمت عليه، ثم انصرفت، فجلس عند الباب، فقلت: لأكونن بوَّاب رسول الله اليوم، زاد البخاري في الأدب: ولم يأمرني الحديث في مجيء أبي بكر، ثم عمر، ثم عثمان، واستئذانه لهم، وقوله -عليه السلام- في كلٍّ: "افتح له وبَشِّره بالجنة"، وفي رواية أبي عوانة، فقال لي: "أملك على الباب، فلا يدخل علي أحد" وجمع النووي باحتمال أنه أمره بحفظ الباب، حتى يقضي حاجته ويتوضأ، لأنها حالة تستر، ثم حفظه أبو موسى من تلقاء نفسه، وادَّعى الشارح أن عبارة المصنف تشعر بأنه اتخذه بوابًا، وهو خلاف الحديث, إلّا أن يكون لما أقره نسب إليه، وليت شعري من أين الإشعار مع أن لفظه أنه كان بوابًا، ولم يقل اتخذه بوابًا, إلا أن ادعى أن الإشعار من الجمع المذكور بقوله: "وجمع بينهما؛ بأنه كان -عليه الصلاة والسلام- إذا لم يكن في شغل من أهله، ولا انفراد من أمره، أنه" الأولى، حذفها وكأنه أتى بها مذكرة للسابقة، "كان يرفع حجابه بينه وبين الناس، ويبرز لطالب الحاجة إليه" أي:(6/85)
وفي حديث عمر -رضي الله عنه- حين استأذن له الأسود في قصة حلفه -صلى الله عليه وسلم- أن لا يدخل على نسائه شهرًا، ففيه: أنه كان في وقت خلوته يتَّخذ البواب، ولولا ذلك لاستأذن عمر بنفسه ولم يحتج إلى قوله: يا رباح استأذن لي. ولكن يحتمل أن يكون سبب استئذان عمر أنه خشي أن يكون وجد عليه بسبب ابنته، فأراد أن يختبر ذلك باستئذائه عليه، فلما أذن له اطمأن.
وقد اختلف في مشروعية الحجاب للحاكم.
فقال الشافعي وجماعة: ينبغي للحاكم أن لا يتخذ حاجبًا.
وذهب آخرون إلى جوازه.
وحمل الأوّل على زمن سكون الناس واجتماعهم على الخير وطواعيتهم للحاكم، وقال آخرون: بل يستحبّ ذلك ليرتب الخصوم ويمنع المستطيل، ويدفع الشرير، والله تعالى أعلم.
__________
وإذا اشتغل بأمر نفسه اتخذ بوابًا.
"وفي حديث عمر -رضي الله عنه، حين استأذن له" العبد "الأسود" رباح، الآتي "في قصة حلفه -صلى الله عليه وسلم- أن لا يدخل على نسائه شهرًا، ففيه أنَّه كان في وقت خلوته" وهو يتَّخذ البواب وقتها، "ولولا ذلك لاستأذن عمر بنفسه، ولم يحتج إلى قوله: يا رباح استأذن لي، ولكن"، لا دليل فيه، إذ "يحتمل أن يكون سبب استئذان عمر أنه خشي أن يكون" المصطفى "وجد" غضب "عليه، بسبب ابنته" حفصة أم المومنين؛ إذ كانت من جملة سبب الحلف، كما تقدَّم في القصة "فأراد أن يختبر ذلك باستئذانه عليه، فلمّا أذن له اطمأنَّ" سكن ودخل عليه، "وقد اختلف في مشروعية الحجَّاب للحاكم، فقال الشافعي، وجماعة: ينبغي للحاكم أن لا يتخذ حاجبًا" لأنه المعروف من حال المصطفى، وقد روى أحمد في الزهد، وغيره، عن الحسن: والله ما كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تغلق دونه الأبواب، ولا تقوم دونه الحُجَّاب، ولا يغدي عليه بالجفان، ولا يراح بها عليه، ولكنه كان بارزًا, من أراد أن يلقى نبي الله لقيه، كان يجلس على الأرض ويطعم الطعام بالأرض، ويلبس الغليظ، ويركب الحمار، ويردف خلفه، ويلعق يده، "وذهب آخرون إلى جوازه، وحمل الأول على زمن سكون الناس، واجتماعهم على الخير، وطواعتهم للحاكم، وقال آخرون: بل يستحب ذلك ليرتب الخصوم، ويمنع المستطيل ويدفع الشرير، والله تعالى أعلم" بالحق من ذلك.(6/86)
وأمَّا ما روي من حيائه -صلى الله عليه وسلم، فحسبك ما في البخاري من حديث سعيد: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أشد حياءً من العذراء في خدرها.
والعذراء هي البكر.
والخدر: بكسر الخاء المعجمة -أي في سترها.
وهو من باب التتميم، لأنَّ العذراء في الخدر يشتد حياؤها أكثر مما تكون خارجها، لكون الخلوة مظنَّة وقوع الفعل بها. فالظاهر: أن المراد تقييده بما إذا دخل عليها.................
__________
"وأما ما روي من حيائه -صلى الله عليه وسلم" لم يقل: وأما حياؤه على منوال سابقه ولاحقه؛ إذ الفصل معقود لبيان الصفات، لا المروي كأنه، لأن حياءه وقوته علم من مواضع، كالصريحة في كلامه، ولأن اتصافه به ثابت مشهور عند الناس، خاصتهم وعامتهم، لا يحتاج لبيان، فلم يجعله مقصودًا، وإنما القصد بيان الروايات الواردة فيه، وجواب أمَّا محذوف، أي: ففيه أحاديث كثيرة، "فحسبك" أي: يكفيك عن طلب حقيقة حيائه،؛لأنك إذا علمت وصفه بما ذكر، علمت أنه لا يساويه فيه أحد، "ما في البخاري" في الصفة النبوية، والأدب، ومسلم في الفضائل، وابن ماجه في الزهد، "من حديث أبي سعيد" الخدري، قال: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أشد حياء" نصب على التمييز، وهو تغير وانكسار عند خوف ما يعاب أو يذم، "من العذراء" بالذال المعجمة، البكر، لأنَّ عذرتها وهي جلدة البكارة باقية، "في خدرها" وأخرجه البخاري من وجه آخر، عن أبي سعيد بزيادة: وإذا كره شيئًا عُرِفَ في وجهه، وهو إشارة إلى أنَّه لم يكن يواجه أحد إنما يكرهه بل يتغير وجهه، فيفهم أصحابه كراهته لذلك، كما في الفتح: "والعذراء" بالمد، "هي البكر" ذات العذرة، وجمعها عذارى، بفتح الراء، وكسرها، فهما مترادفان لغة، وأما شرعًا: فالعذراء أخص من البكر، لأنها من لم تزل عذرتها بشيء، والبكر من لم تزل بكارتها بوطء، ولو أزيلت بسقطة وحدة حيض، ونحوهما، "والخدر، بكسر الخاء المعجمة وإسكان الدال المهملة مبتدأ وخبر، وقوله: "أي: في سترها" تفسير لقوله في خدرها، والإضافة عهدية, أي: في الستر المعهود اتخاذه لها، قال المجد: الخدر: ستر يمد للجارية، أي: البنت في ناحية البيت، كالأخدور، وكل ما واراك من بيت ونحوه، جمعه خدور وأخدار.
"وهو من باب التتميم؛ لأن العذراء في الخلوة يشتد حياؤها أكثر مما تكون خارجها، لكون الخلوة مظنة وقوع الفعل" الوطء "بها، فالظاهر أن المراد تقييده" أي: قوة حيائها في خدرها، "بما إذا دخل عليها" بالبناء للفاعل، أي: من تحتشمه أخذًا من قوله: أولًا، لكون الخلوة(6/87)
في خدرها لا حيث تكون منفردة فيه.
والحياء -بالمد- وهو من الحياة، ومنه: الحيا للمطر، لكن هو مقصور، وعلى حسب حياة القلب تكون فيه قوة خلق الحياء، وقلة الحياء من موت القلب والروح، وكلما كان القلب حيًّا كان الحياء أتم.
وهو في اللغة: تغيّر وانكسار يعتري الإنسان من خوف ما يعاب به، وقد يطلق على مجرَّد ترك الشيء بسبب. والترك إنما هو من لوازمه.
وفي الشرع: خلق يبعث على اجتناب القبيح ويمنع من التقصير من حق ذي الحق.
__________
إلخ....، أو المفعول، أي: دخل أحد، ولو امرأة "في خدرها" فحينئذ يشتد حياؤها، "لا حيث تكون منفردة فيه" فقد لا يحصل لها حياء، أو لا يشتد لعدم مقتضيه.
زاد الحافظ: ومحل وجود الحياء منه -صلى الله عليه وسلم- في غير حدود الله، ولهذا قال للذي اعترف بالزنا: "أنكتها لا يكنى"، كما في الصحيح في كتاب الحدود، وأخرج البزار هذا الحديث، عن أنس، وزاد في آخره، وكان يقول الحياء خير كله، وأخرج عن ابن عباس: كان -صلى الله عليه وسلم- يغتسل من وراء الحجرات، وما رأى أحد عورته قط، وإسناده حسن. انتهى.
وروى أحمد، وأبو داود والبخاري في الأدب المفرد، والنسائي، والترمذي في الشمائل، عن أنس: كان -صلى الله عليه وسلم- لا يواجه أحد في وجهه بشيء يكرهه، فدخل عليه يومًا رجل وعليه أثر صفرة، فلما قام قال لأصحابه: لو غير، أو نزع هذه الصفة، وفي رواية: لو أمرتم هذا أن يغسل هذه الصفرة، "والحياء، بالمد" مبتدأ وخبر، "وهو" مأخوذ "من الحياة"؛ لأنه ينشأ عن تمييز الحسن من القبيح، ومنشأ ذلك وجود الحياة التي هي صفة تصبر ذا الروح حيًّا، "ومنه" أي: المعنى المأخوذ منه الحياء الممدود، "الحيا للمطر، لكن هو مقصور" على المشور، ويمد كما في القاموس، "وعلى حسب حياة القلب" يقظته، ومعرفته، لما يضره وينفعه في الدارين، "تكون فيه قوة خلق الحياء، وقلة الحياء من موت القلب والروح" أي: فقد صفاتها المقتضية للكمال لا الجسم اللطيف، "وكلما كان القلب حيًّا كان الحياء أتمّ" ولذا كان تمام الحياء في المصطفى؛ إذ لا قلب أحيى من قلبه، "وهو في اللغة تغير وانكسار يعتري الإنسان من خوف ما يعاب به، وقد يطلق على مجرد ترك الشيء بسبب، والترك إنما هو من لوازمه" فتسميته حياء مجاز من تسمية اللازم باسم ملزومه، "وفي الشرع: خلق يبعث" يحمل من قام به "على اجتناب القبيح، ويمنع من التقصير في حق ذي الحق" وهو الله تعالى في حق عباده، والصديق في حق صديقه، والسيد في حق عبده, إلى غير ذلك، ولذا جاء في الحديث: "الحياء من الإيمان، والحياء(6/88)
وقال ذو النون: الحياء وجود الهيبة في الخلق، مع وحشة ما يسبق منك إلى ربك، والحب ينطق والحياء............
__________
خبر كله، والحياء لا يأتي إلا بخير"، وهذا التعريف الذي ذكره المصنف لغة، وشرعًا لفظ الفتح في باب أمور الإيمان، ثم قال فيه: في باب الحياء من الإيمان، ما لفظه، قال الراغب: الحياء انقباض النفس عن القبيح، وهو من خصائص الإنسان؛ ليرتدع عن ارتكاب كل ما يشتهي، فلا يكون كالبهيمة، وهو مركَّب من خير وعفة، فلذا لا يكون المستحي فاسقًا، وقلَّما يكون الشجاع مستحيًا، وقد يكون لمطلق الانقباض، كما في بعض الصبيان. انتهى ملخصًا.
وقال غيره: هو انقباض النفس خشية ارتكاب ما يكره، أعم من أن يكون شرعيًّا، أو عقليًّا، أو عرفيًّا، ومقابل الأول فاسق، والثاني مجنون، والثالث أبله.
وقال الحليمي: حقيقة الحياء خوف الذم بنسبة الشر إليه، وقال غيره: إن كان في محرم، فهو واجب، وإن كان في مكروه، فهو مندوب، وإن كان في مباح، فهو العرفي، وهو المراد بقوله: "الحياء لا يأتي إلا بخير"، ويجمع كل ذلك؛ أنَّ المباح إنما هو ما يقع على نهي الشرع إثباتًا ونفيًا، وجاء عن بعض السلف: رأيت المعاصي نذالة، فتركتها مروءة، فصارت ديانة، وقد يتولد الحياء من الله تعالى، من التقلب في نعمة، فيستحي العاقل أن يستعين بها على معصيته، وقد قال بعض السلف: خف الله على قدر قدرته عليك، واستحِ منه على قدر قربه منك، انتهى كلام الفتح رحمه الله.
"وقال ذو النون" المصري، ثوبان بن إبراهيم، أبو الفيض، أحد المشايخ المذكورين في رسالة القشيري، ولد بأخميم، وحدَّث عن مالك، والليث، وابن لهيعة، وعنه الجنيد، وغيره، وكان أوحد وقته علمًا، وأدبًا، وورعًا، وهو أول من عَبَّر عن علوم المنازلات، وأنكر عليه أهل مصر، وقالوا: أحدث علمًا لم يتكلّم فيه الصحابة، وسعوا به إلى الخليفة المتوكّل، ورده مكر ما، مات في ذي القعدة سنة خمس وأربعين ومائتين، وقد قارب السبعين، فأظلت الطير الخضر جنازته ترفرف عليه حتى وصل إلى قبره، فلمَّا دفن غابت، فاحترم أهل مصر قبره، وكانوا يسمونه الزنديق، "الحياء وجود الهيبة في الخلق" بفتح، فسكون، أي: النوع الإنساني، احترازًا عن البهائم، وفي نسخ في القلب بدل في الخلق، "مع وحشة" أي: خوف "ما" شيء "يسبق" يصدر "منك، إلى ربك" مما يخالف أمره، أو نهيه، أو أصل الوحشة بين الناس، الانقطاع، وبعد القلوب من المودات، "والحب ينطق" يحمل المحب على التكلم بما في ضميره، مما يريد إخفاءه قهرًا عليه، "والحياء يُسْكِتُ" عن التكلم بما يريده، إخفاءه قهرًا عليه، "والحياء يسكت" عن التكلّم بما يريده، "والخوف يقلق" يزعج، يعني أن خوف العبد(6/89)
يسكت، والخوف يقلق.
وقال يحيى بن معاذ: من استحى من الله مطيعًا استحى الله منه وهو مذنب، وهذا الكلام يحتاج إلى شرح, ومعناه: إن من غلب عليه خلق الحياء من الله حتى في حال طاعته فقلبه مطرق بين يديه إطراق مستحي خجل، فإنه إذا وقع منه ذنب استحى الله من نظره إليه في تلك الحالة لكرامته عليه، فيستحي أن يرى من وليه لما يشينه عنده. وفي الشاهد شاهد لذلك، فإن الرجل إذا اطلع على أخص الناس به وأحبهم إليه وأقربهم منه، من صاحب أو ولد أو من يحبه، وهو يخونه، فإنه يلحقه من ذلك الاطلاع عليه حياءً عجيب حتى كأنه هو الجاني, وهذا غاية الكرم.
وللحياء أقسام ثمانية يطول استقصاؤها.
منها: حياء الكرم، كحيائه -صلى الله عليه وسلم- من القوم الذين دعاهم إلى وليمة زينب، وطولوا عنده المقام، واستحيا أن..................
__________
يزعجه مخافة أن يصيبه ما يخاف منه، "وقال يحيى بن معاذ" الرازي، أحد الأولياء الكبار المشهورين، الآمر بالمعروف، الناهي عن المنكر، المتوفَّى بنيسابور، سنة ثمان وخمسين ومائتين، "من استحى من الله مطيعًا استحى الله منه وهو مذنب" أي: عامله معاملة المستحي منه إذًا لتغير إلخ ...
محال على الله، "وهذا الكلام يحتاج إلى شرح، ومعناه: إن من غلب عليه خلق الحياء من الله، حتى في حال طاعته" إذ لا يقدر على الإتيان بها، كما أمر، "فقلبه مطرق" ساكن في مقام الخوف، "بين يديه إطراق مستحي خجل، فإنه إذا وقع منه ذنب استحى الله من نظره إليه" أي: ترك نظره إليه نظر انتقام "في تلك الحالة لكرامته عليه، فيستحي أن يرى من وليه" رؤية غضب وعقاب، "ما يشينه" بفتح أوله، وكسر الشين، يعيبه، "عنده، وفي الشاهد" أي: المشاهد المرئي، "شاهد" دليل "لذلك" ظاهر، "فإن الرجل إذا اطَّلع على أخصّ الناس به، وأحبهم إليه، وأقربهم منه، من صاحب، أو ولد، أو من يحبه، وهو يخونه فإنه يلحقه" أي: المطلع "من ذلك الاطلاع حياء عجيب، حتى كأنه هو الجاني، وهذا غاية الكرم" أي: النفاسة والعزة فيمن قام، يقال: كرم الشيء كرمًا نفس وعزَّ، فهو كريم، والجمع كرام، وكرماء، كما في المصباح، "وللحياء أقسام ثمانية، يطول استقصاؤها".
"منها حياء الكرم، كحيائه -صلى الله عليه وسلم- من القوم الذين دعاهم إلى وليمة زينب" بنت جحش لما تزوجها، وكانت خبزًا ولحمًا، أشبع المسلمين، "وطولوا عنده المقام" بعد الأكل، "واستحيا(6/90)
يقول لهم انصرفوا.
ومنها: حياء العبودية، وهو حياء يمتزج بين محبة وخوف ومشاهدة عدم صلاحية عبوديته لمعبوده، وأن قدره أعلى وأجلّ منها، فعبوديته له توجب استحياء منه لا محالة.
ومنها: حياء المرء من نفسه، وهو حياء النفوس الشريفة الرفيعة من رضاها لنفسها بالنقص، وقنعها بالدون، فيجد نفسه مستحييًا من نفسه، حتى كأنَّ له نفسين، يستحي بإحداهما من الأخرى، وهذا أكمل ما يكون من الحياء، فإن العبد إذا استحيا من نفسه فهو بأن يستحي من غيره أجدر.
والحياء -كما قال عليه الصلاة والسلام- لا يأتي إلا بخير، وهو من الإيمان.
__________
أن يقول لهم انصرفوا" فقام فقاموا" إلّا ثلاثة، أو اثنين، فمكثوا حتى انطلق إلى أزواجه، فسلَّم عليهن، ثم قاموا، فأخبره أنس، فجاء، فدخل على زينب.
ومنها حياء المحبّ من محبوبه، حتى إنه إذا خطر على قلبه في حال غيبته، هاج تحرك الحياء من قلبه، وأحسّ به في وجهه، فلا يدري هو، أي: المحب ما سببه.
"ومنها حياء العبودية، وهو حياء يمتزج" يختلط "بين محبة وخوف، ومشاهدة عدم صلاحية، عبودية لمعبوده، وإن قدره أعلى وأجلّ منها؛ فعبوديته له توجب استحياء منه، لا محالة" بفتح الميم.
"ومنها حياء المرء من نفسه، وهو حياء النفوس الشريفة الرفيعة، من رضاها لنفسها بالنقص، وقنعها بالدون" في المطلوب دنيويًّا، أو أخرويًّا؛ "فيجد نفسه مستحييا من نفسه، حتى كأن له نفسين يستحيي بإحداهما من الأخرى، وهذا أكمل ما يكون من الحياء، فإن العبد إذا استحيا من نفسه، فهو بأن يستحيي من غيره أجدر" أحق، وهذه أربعة من الثمانية.
"والحياء كما قال -عليه الصلاة والسلام- لا يأتي إلا بخير؛ لأن من استحيا أن يراه الناس يأتي بقبيح، دعاه ذلك إلى أن يكون حياؤه من ربه أشد، فلا يضيِّع فريضة، ولا يرتكب خطيئة، "وهو من الإيمان" لأنه يمنع صاحبه من ارتكاب المعاصي، كما يمنع الإيمان، فسمي إيمانًا، كما يسمَّى الشيء باسم ما قام مقامه، قاله ابن قتيبة, ومن للتبعيض، فهو كرواية: "الحياء شعبة من الإيمان"، ولا يرد إذا كان بعضه ينتفي الإيمان بانتفائه؛ لأن الحياء من مكملات الإيمان، ونفي الكمال لا يستلزم نفي الحقيقة، فأول الحياء وأولاه الحياء من الله، وهو أن لا يراك حيث نهاك،(6/91)
كما رواهما البخاري.
قال القاضي عياض وغيره: وإنما جعل الحياء من الإيمان -وإن كان غريزة؛ لأن استعماله على قانون الشرع يحتاج إلى قصد واكتساب وعلم.
وقال القرطبي: الحياء المكتسب هو الذي جعله الشارع من الإيمان، وهو المكلَّف به دون الغريزي، غير أنَّ من كان فيه غريزة منه فإنها تعينه على المكتسب، حتى يكاد يكون غريزة، قال: وكان -صلى الله عليه وسلم- قد جمع له النوعان، فكان في الغريزي أشد حياء من العذراء في خدرها.
وقال القاضي عياض: وروي عنه -صلى الله عليه وسلم: أنه كان من حيائه لا يثبت بصره في وجه أحد.
وأما خوفه -صلى الله عليه وسلم- ربه جلَّ وعلا،............
__________
ولا يفقدك حيث أمرك، وكماله إنما ينشأ عن المعرفة ودوام المراقبة، "كما رواهما" الحديثين "البخاري" ومسلم، فحديث "الحياء لا يأتي إلا بخير"، روياه عن عمران بن حصين، وحديث "الحياء من الإيمان" أخرجاه عن ابن عمر، "قال القاضي عياض وغيره: وإنما جعل الحياء من الإيمان، وإن كان غريزة" جبلة، "لأن استعماله على قانون الشرع يحتاج إلى قصده" أراده، "واكتساب، وعلم" فهو غريزي أصلًا؛ واكتسابي كمالًا، "وقال القرطبي" وأبو العباس في شرح مسلم: "الحياء المكتسب هو الذي جعله الشارع من الإيمان، وهو المكلّف به دون الغريزي، غير أن من كان فيه غريزة منه، فإنها تعينه على المكتسب؛ حتى يكاد يكون" المكتسب "غريزة".
"قال: وكان -صلى الله عليه وسلم- قد جمع له النوعان: فكان في الغريزي أشد حياءً من العذراء في خدرها" وسئل بعضهم: هل الحياء من الإيمان مقيدٌ ومطلق؟ فقال: مقيد بترك الحياء في المذموم شرعًا، فعدمه مطلوب في النصح والأمر والنهي الشرعي، أن الله لا يستحيي أن يضرب مثلًا، والله لا يستحيي من الحق، "وقال القاضي عياض" في الشفاء: "وروي عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه كان من حيائه لا يُثَبِّتُ" بضم أوله رباعي، لا بفتحها ثلاثي، لإيهامه العجز "بصره" أي: لا يديم نظره "في وجه أحد" ولا يتأمله، فإثبات البصر بمعنى إطالة النظر، من غير تخلل إغماض الجفن ونحوه، حتى كان بصره صار قارًّا في المرئي، كما قال المتنبي:
وخصر تثبت الأبصار فيه ... كأن عليه من حدق نطاقا
قال السيوطي: هذا الحديث ذكره صاحب الأحياء، ولم يجده العراقي.
"وأما خوفه -صلى الله عليه وسلم- ربه جلَّ وعلا" فكان على غاية لا يساويه أحد فيه، فالجواب محذوف،(6/92)
فاعلم أن الخوف والوجل والهيبة والرهبة ألفاظ متقاربة غير مرادفة.
قال الجنيد: الخوف توقّع العقوبة على مجاري الأنفاس.
وقيل: الخوف اضطراب القلب وحركته من تذكر المخوف.
وقيل: الخوف قوة العلم بمجاري الأحكام، وهذا سبب الخوف، لا أنه نفسه.
وقيل: الخوف هرب القلب من حلول المكروه عند استشعاره.
والخشية أخص من الخوف، فإن الخشية للعلماء بالله تعالى: قال الله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 38] فهو خوف مقرون بمعرفة. وقال -صلى الله عليه وسلم: "أنا أتقاكم لله وأشدكم له خشية"،........
__________
دلت عليه الأحاديث الآتية: وإذا أردت بيان معنى الخوف، "فاعلم أن الخوف والوجل والهيبة والرهبة ألفاظ متقاربة غير مرادفة" لأن المترادفين: كل لفظين اتحدا في المفهوم وإلى ما صدق، وهذه الألفاظ ليست متحدة في المفهوم، كما علم من تعاريفها.
"قال الجنيد: الخوف توقع العقوبة على مجاري الأنفاس" بأن يتصوَّر أن كل نفس يقوم به، يخشى أن تحل به عقوبة عنده، وهو من إضافة الصفة للموصوف، أي: الأنفاس الجارية، أي: عقب كل نفس جار، والمجاري: جمع مجرى مصدر جرى، ويطلق أيضًا على أواخر الكَلِم، فإن فسرت به المجاري، حملت على الأثر الحاصل عقب كل نفس، "وقيل: الخوف اضطراب القلب وحركته من تذكر المخوف" أي: الأمر الذي يخاف وقوعه به، "وقيل: الخوف قوة العلم" ثبوته وتحققه "بمجاري الأحكام" من إضافة الصفة للموصوف، أي: بالأحكام الجارية, "وهذا" التعريف "سبب الخوف"؛ لأن مَنْ تحقَّقَ عواقب الأمور وراقبها خاف وقوعها، فالعقوبات موفة، وقوة العلم سبب لخوف وقوعها، "لا أنه نفسه" أي الخوف، "وقيل: الخوف هرب القلب" نفرته وجزعه "من حلول المكروه عند استشعاره، والخشية أخص من الخوف، فإن الخشية للعلماء بالله تعالى، قال الله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} " لا الجهال [فاطر: 28] الآية. "فهو خوف مقرون بمعرفة" أي: فخشية الله هي خوف عقابه، مع تعظيمه بأنه غير ظالم في فعله، بخلاف مطلق الخوف، فإنه يتحقق عند تهديد الظالم له.
"وقال -صلى الله عليه وسلم: "أنا أتقاكم لله" لأني أعلمكم به، وكلما زاد العلم زادت التقوى والخوف، ولذا قال: "وأشدكم له خشية" , فلا ينبغي لكم التنزة عن مباح فعلته، وفي الصحيحين عن عائشة، صنع النبي -صلى الله عليه وسلم- شيئًا ترخص فيه، وتنزه عنه قوم، فبلغ ذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "ما بال أقوام(6/93)
فالخوف حركة والخشية انجماع وانقباض وسكون، فإن الذي يرى العدو والسيل ونحوهما له حالتان: إحداهما حركته للهرب منه وهي حالة الخوف، والثانية سكونه وقراره في مكان لا يصل إليه وهي الخشية.
وأما الرهبة: فهي الإمعان في الهرب من المكروه، وهي ضد الرغبة التي هي سفر القلب في طلب المرغوب فيه.
__________
يتنزهون عن الشيء أصعنه، فوالله إني لأعلمهم بالله وأشدهم له خشية"، قال الداودي: التنزه عمَّا رخص فيه من أعظم الذنوب، لأنه يرى نفسه أتقى لله من رسوله، وهذا إلحاد، قال في فتح الباري: لا شك في إلحاد من اعتقد ذلك، لكن في حديث أنس عند البخاري, جاء ثلاثة إلى أزواجه -صلى الله عليه وسلم- يسألون عن عبادته، فلمَّا أخبروا بها كأنهم تقالّوها، فقالوا: أين نحن منه، وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟ فقال أحدهم: أما أنا فأصلي الليل أبدًا، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدًا، فجاء -صلى الله عليه وسلم- إليهم فقال: أنتم الذين قلتم، كذا وكذا، "أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له"، ولعبد الرزاق من مرسل سعيد بن المسيب: أن الثلاثة علي، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وعثمان بن مظعون.
قال الحافظ: ومرادهم أن بيننا وبينه بونًا بعيدًا، فأنا على حذر التفريط وسوء العاقبة، وهو معصوم، مأمون العاقبة، وأعمالنا جة من العقاب، وأعماله مجلبة للثواب، فردَّ -صلى الله عليه وسلم- ما اختاروا لأنفسهم بأن ما استأثرتم به من الإفراط في الرياضة، لو كان أحسن من العدل الذي أنا عليه، لكنت أنا أولى بذلك، ففيه الحث على الاقتداء به؛ والنهي عن التعمق، وذم التنزه عن المباح، شكا في إباحته، وأن العلم بالله يوجب اشتداد الخشية.
وقال الحافظ: في محل آخر فيه رد ما بنوا عليه أمرهم، من أنَّ المغفور له لا يحتاج إلى مزيد في العبادة، بخلاف غيره، فأعلمهم أنَّه مع كونه لم يبالغ في التشديد، أخشى الله وأتقى من الذين يشددون، وإنما كان كذلك؛ لأن المشدد لا يأمن من الملل، بخلاف المقتصد، فإنه أمكن لاستمراره، وخير العمل ما دوام عليه صاحبه، "فالخوف حركة" على أن الخوف اضطراب القلب؛ أما على بقية الأقوال السابقة، فلعل المراد أنه ينشأ عنه ما يرى في الخارج.
"والخشية: انجماع، وانقباض، وسكون" وأشار إلى الفرق بينهما بالمحسوس، "فإن الذي يرى العدو والسيل، ونحوهما له حالتان: إحداهما حركته للهرب منه، وهي حالة الخوف، والثانية سكونه وقراره" ثباته، "في مكان لا يصل إليه، وهي الخشية، وأما الرهبة" بالفتح، اسم من رهب من باب تعب، "فهي الإمعان في العرب من المكروه، وهي ضد الرغبة التي هي سفر القلب في طلب المرغوب فيه" أي: طلبه له، فسمي الطلب سفرًا لمشابهته له في قطع(6/94)
وأما الوجل: فرجفان القلب وانصداعه لذكر من يخاف سلطانه وعقوبته.
وأما الهيبة: فخوف مقارن للتعظيم والإجلال، وأكثر ما يكون مع المعرفة والمحبة.
والإجلال: تعظيم مقرون بالحب.
فالخوف لعامَّة المؤمنين، والخشية للعلماء العارفين، والهيبة للمحبين، والإجلال للمقربين. وعلى قدر العلم والمعرفة يكون الخوف والخشية، كما قال -صلى الله عليه وسلم: "إني لأعلمكم بالله وأشدكم له خشية"، رواه البخاري، وقال -عليه الصلاة والسلام: "لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلًا ولبكيتم كثيرًا،..............
__________
المسافة، لتحصيل المطلوب، أو لأن الطلب لازم للسفر، "وأما الوجل: فرجفان القلب وانصداعه لذكر من يخاف سلطانه وعقوبته".
"وأما الهيبة: فخوف مقارن للتعظيم والإجلال، وأكثر ما يكون مع المعرفة، والمحبة، والإجلال، تعظيم مقرون بالحب" وهذا الاستطرادي ذكر لتمام الصفات التي عند الصوفية؟ كالخشية؛ إذ المذكور في قوله أولًا: فاعلم ليس فيه واحد من الثلاثة، "فالخوف لعامة المؤمنين، والخشية للعلماء العارفين" وفي نسخة العاملين، "والهيبة للمحبين، والإجلال للمقربين، وعلى قدرالعلم والمعرفة يكون الخوف والخشية، كما قال -صلى الله عليه وسلم: "إني لأعلمكم بالله، وأشدكم له خشية" قال العز بن عبد السلام: فيه إشكال؛ لأن الخوف والخشية حالة تنشأ عن ملاحظة شدة النقمة الممكن وقوعها بالخائف، وقد دلت القواطع على أنه -صلى الله عليه وسلم- غير معذب، وقال تعالى: {يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ} الآية، فكيف يتصور منه الخوف؟، فكيف أشد الخوف؟، قال: والجواب أن الذهول جائز عليه، فإذا ذهل عن موجبات نفي العقاب، حدث له الخوف، "رواه البخاري" ومسلم من حديث عائشة.
"وقال -عليه الصلاة والسلام: "لو تعلمون ما أعلم" من عظمة الله وانتقامه ممن يعصيه، والأهوال التي تقع عند النزع والموت، وفي القبر ويوم القيامة، "لضحكتم قليلًا" أي: لما ضحكتم أصلًا؛ إذ القليل، بمعنى العديم؛ لأن لو حرف امتناع لامتناع، وقيل معناه: لو تعلمون ما أعلم مما أعد في الجنة من النعيم، وما حفّت عليه من الحجب، لسهل عليكم ما كلفتم به، ثم إذا تأملتم ما وراء ذلك من الأمور الخطرة، وانكشاف الغطاء يوم العرض على الله، لا شتد خوفكم، فلم تضحكوا، "ولبكيتم كثيرًا" لغلبة الحزن واستيلاء الخوف؛ واستحكام الوجل.
قال الكرماني: فيه من البديع مقابلة الضحك بالبكاء، والقلة بالكثرة، ومطابقة كل منهما،(6/95)
رواه البخاري من حديث أبي هريرة، وفيه دلالة على اختصاصه -صلى الله عليه وسلم- بمعارف بصرية وقلبية، وقد يطلع الله عليها غيره من المخلصين من أمته, لكن بطريق الإجمال، وأما تفاصيلها فاختص بها -صلى الله عليه وسلم.
وفي صحيح مسلم من حديث أنس أنه -عليه الصلاة والسلام قال: "والذي نفس محمد بيده، لو رأيتم ما رأيت لضحكتم قليلًا ولبكيتم كثيرًا، قالوا: وما رأيت يا رسول الله؟ قال: رأيت الجنة والنار".
فقد جمع الله له بين علم اليقين.................
__________
"رواه البخاري من حديث أبي هريرة" في حديث طويل.
قال في الفتح: ومناسبة كثرة البكاء، وقلة الضحك في هذا المقام واضحة، والمراد به التخويف، وقد جاء لهذا الحديث سبب، أخرجه سنيد في تفسيره بسند رواه الطبراني عن ابن عمر: خرج -صلى الله عليه وسلم- إلى المسجد، فإذا بقوم يتحدثون ويضحكون، فقال: "والذي نفسي بيده، لو تعلمون"، فذكره، انتهى.
"وفيه دلالة على اختصاصه -صلى الله عليه وسلم- بمعارف بصرية" كرؤية الجنة والنار وأهوالها، "وقلبية" كالأحكام التي لم يطَّلع عليها غيره، "وقد يطلع الله عليها غيره من المخلصين من أمته، لكن بطريق الإجمال، وأما تفاصيلها فاختص بها -صلى الله عليه وسلم- زيادة في كرامته، ولأنه هو الذي يحتملها.
"وفي صحيح مسلم، من حديث أنس؛ أنه -عليه الصلاة والسلام- قال: "والذي نفس محمد بيده لو رأيتم ما رأيت" أي: لو علمتم ما علمته من الأمور ومنه رؤية بصري وعلمي بإلهام ووحي أحوال البعث والنشور، وعذاب القبر وغير ذلك، مما لم يقع ولا يدرك بالبصر؛ "لضحكتم قليلًا ولبكيتم كثيرًا" فرأى علمية، والمتبادر أنها بصرية، لأنهم "قالوا: وما رأيت يا رسول الله؟، قا: "رأيت الجنة والنار"؛ إذ هو رآهما رؤية بصرية ليلة المعراج، وفي صلاة الكسوف.
وروى ابن أبي شيبة برجال ثقات، والطبراني عن أبي سعيد, كنَّا يومًا عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فرأيناه كئيبًا، فقال بعضنا: بأبي أنت وأمي ما سبب هذا؟ فقال: "سمعت هدة لم أسمع مثلها، فأتاني جبريل، فسألته عنها، فقال: هذه صخرة هوت من شفير جهنم منذ سبعين خريفًا، فهذا حين بلغت قعرها، فأحب أن يسمعك صوتها، فما رؤي ضاحكا بعد حتى قبضه الله تعالى"، ورواه ابن أبي الدنيا عن أنس؛ وهذا مما يؤيد حملها على العلمية، وهو أولى لشمولها للبصرية، "فقد جمع الله له بين علم اليقين" وهو قبول ما ظهر من الحق وما غاب، ويجري فيه النقل(6/96)
وعين اليقين مع الخشية القلبية، واستحضار العظمة الإلهية على وجه لم يجتمع لغيره، ولذا قال: "إن أتقاكم وأعلمكم بالله أنا"، وهو في الصحيح من حديث عائشة.
وكان -صلى الله عليه وسلم- يصلي ولجوفه أزيز كأزيز المرجل من البكاء، رواه النسائي وابن خزيمة وابن حبان في صحيحة بلفظ: كأنين الرحى، أي: خنين من الخوف -بالخاء المعجمة- وهو صوت البكاء. وقيل: هو أن يجيش جوف ويغلي بالبكاء.
وأمَّا ما روي من شجاعته.....................
__________
والاستدلال.
"وعين اليقين" وهو شهود الأشياء، كما هي كشفًا عيانًا، "مع الخشية القلبية، واستحضار العظمة الإلهية، على وجه لم يجتمع لغيره، ولذا قال: "إن أتقاكم" اسم أن "وأعلمكم بالله" عطف عليه "أنا" خبرها.
قال الحافظ: وفيه إقامة الضمير المنفصل مقام المتصل، ومنعه أكثر النحاة إلّا لضرورة، وأوَّلوا قوله، وإنما يدافع عن إحسابهم أنا أو مثلي، بأن الاستثناء مقدَّر، أي: وما يدافع إلّا أنا.
قال بعض الشراح: والحديث يشهد للجواز بلا ضرورة، "وهو في الصحيح" للبخاري "من حديث عائشة" قالت: كان -صلى الله عليه وسلم- إذا أمرهم أمرهم من الأعمال بما يطيقون، قالوا: إنا لسنا كهيئتك يا رسول الله، قد غُفِرَ لك ما تقدَّم من ذنبك وما تأخَّر، فغضب حتى عُرِفَ الغضب في وجهه، ثم يقول: "إن أتقاكم وأعلمكم بالله أنا" "وكان -صلى الله عليه وسلم- يصلي ولجوفه أزيز" بزاءين منقوطتين: صوت "كأزيز المرجل" بكسر الميم، وسكون الراء، وفتح الجيم، ولام، قِدْر من نحاس "من البكاء" لغلبة الخشية عليه، يسيل دمعه، فيسمع لجوفه ذلك، ولا يرد إن شدة البكاء في الصلاة تبطلها، لأن بكاءه لم يكن بصوت، بل تدمع عيناه حتى تهملا، كما قدمه المصنف في مبحث ضحكه.
"رواه النسائي" وأبو اود, "وابن خزيمة، وابن حبان" كلٌّ منهما "في صحيحه، بلفظ كأنين الرحى" أي: صوت كصوتها، يقال: أزَّت الرحى إذا صوتت، كما في الترغيب، "أي: خنين" بفتح الخاء المعجمة، وكسر النون، ضرب من البكاء، دون الانتحاب، كما في النهاية، "من الخوف" من الله، وقوله: "بالخاء المعجمة، وهو صوت البكاء" ضبط بقوله خنين، "وقيل: هو أن يجيش" بجيم، ومعجمة، "ويغلي بالبكاء" عطف تفسير، ففي المصباح: جاشت القدر، يجيش جيشًا، غَلَت، وقوله: بالخاء إلى هنا لفظ النهاية.
"وأمَّا ما روي من شجاعته" مثلث الشين، مصدر شجع بالضم، شجاعة، فهو شجيع،(6/97)
-عليه الصلاة والسلام, وقوته في الله وشدته، فعن أنس، قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحسن الناس وأجود الناس وأشجع الناس، لقد فزع أهل المدينة ذات ليلة فانطلق ناس قِبَلَ الصوت فتلقَّاهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- راجعًا قد سبقهم إلى الصوت واستبرأ الخبر...............
__________
وشجاع، بضم الشين، وبنو عقيل، بفتحها، حملًا على نقيضه، وهو جبان، وبعضهم كسرها للتخفيف، فرارًا من توالى حركات متوالية من جنس واحد، وهو الشديد القلب عند البأس المستهين بالحروب، "-عليه الصلاة والسلام, وقوته" يعني: كما أنه تام لقوة في أعضائه، فهو تامها في حقوق الله بامتثال أوامره، واجتناب نواهيه، مراقب لحدوده، حافظ لها، لا يخاف "في الله" لومة لائم، "وشدته" وظاهر المصنف تغاير هذا الألفاظ، والمفهوم من كلام غيره ترادفها، وأنها وإن اختلفت مفهومًا متحدة ما صدقًا.
قال الشامي: الشجاعة انقياد النفس مع قوة غضبية وملكة يصدر عنها انقيادها في أقدامها، متدربة على ما ينبغي في زمن ينبغي، وحال ينبغي، ومن في المصنف بيانية بتقدير مضاف، أي: من دال شجاعته؛ إذ الشجاعة ليست مروية، ولما كانت شجاعته معلومة لكل الناس لم يحتج إلى بيانها، بل بَيِّنَ المروي، فقال: "فعن أنس قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحسن الناس" صورة وسيرة؛ لأن الله أعطاه كل الحسن، "وجود الناس" لتحليه بصفات الله التي منها الجود والكرم، أي: بكل ما ينفع، فحذف للتعميم، أو لفوت إحصائه كثرة؛ لأن من كان أعظمهم شرفًا، وأيقظهم قلبًا؛ وألطفهم طبعًا، وأعدلهم مزاجًا, جدير بأن يكون أسمحهم صورة، وأنداهم يدًا؛ ولأنه مستغن عن الفانيات بالباقيات الصالحات.
"وأشجع الناس:" أقواهم قلبًا في حال البأس، فكان الشجاع منهم الذي يلوذ بجانبه عند التحام الحرب، وما ولَّى قط ولا تحدَّث أحد بفراره؛ وقد ثبتت أشجعيته بالتواتر النقلي، بل أخذه بعضهم من النص القرآني لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ} الآية، فكلفه وهو فرد جهاد الكل، ولا يكلّف الله نفسًا إلا وسعها، ولا ضير في كون المراد هو ومن معه؛ إذ غايته أنه قوبل بالجميع، وذلك مفيد للمقصود، وهذه الثلاث أمهات الأخلاق الفاضلة، فلذا اقتصر عليها، كما يأتي للمصنف بيانه، "لقد فزع" بكسر الزاي، خاف "أهل المدينة ذات ليلة" من صوت سمعوه، كما أفاده بقوله: "فانطلق الناس قِبَل" بكسر، ففتح، جهة "الصوت" ليعرفوا خبره، لظنهم أنه عدو، "فتلقَّاهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- راجعًا" حال كونه "قد سبقهم إلى الصوت" وحده, وذلك دليل على كمال شجاعته، لمبادرته منفردًا للخروج، "واستبرأ الخبر" بمهملة، وفوقية، وموحدة، وهمزة، وقد تبدَّل ألفًا، أي: كشفه، ووقف على حقيقته.(6/98)
على فرس لأبي طلحة عري والسيف في عنقه وهو يقول: لن تراعوا.
وفي رواية: كان فزع بالمدينة فاستعار النبي -صلى الله عليه وسلم- فرسًا من أبي طلحة يقال له المندوب، فركبه -عليه الصلاة والسلام, فلما رجع قال: "ما رأينا من شيء، وإن وجدناه لبحرًا، أو إنه لبحر". قال: وكان فرسًا يبطؤ. رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي.
وللبخاري: إن أهل المدينة فزعوا مرة، فركب -صلى الله عليه وسلم- فرسًا لأبي طلحة كان يقطف،..................
__________
قال في الأساس: استبرأت الشيء، طلبت آخره لأقطع الشبهة عني، "على فرس لأبي طلحة" زيد بن سهل، زوج أم أنس، استعاره منه،"عري" بضم المهملة، وسكون الراء، ليس عليه سرج، ولا أداة، ولا يقال في الآدميين، إنما يقال: عريان "والسيف في عنقه" أي: حمائله معلقة في عنقه الشريف، متقلدًا به، وهذا هو السنة في حمل السيف، كما قاله ابن الجوزي: لأشده في وسطه، كما هو العرف الآن، "وهو يقول لن تراعوا" لن هنا، بمعنى لم، بدليل الرواية الآتية، والمراد نفي سبب الروع، أي: الخوف، أي: ليس هناك شيء تخافونه، وهذا أخرجه البخاري في باب مدح الشجاعة في الحرب من كتاب الجهاد، وفي الأدب ومسلم في فضائل النبي -صلى الله عليه وسلم- واللفظ له، "وفي رواية" عن أنس: "كان فزع" بفتح الفاء، والزاي، أي خوف من عدو "بالمدينة، فاستعار النبي -صلى الله عليه وسلم- فرسًا من أبي طلحة، يقال له المندوب، قيل: سمي بذلك من الندب وهو الرهن عند السباق، وقيل: لندب كان في جسمه، وهو أثر الجح، وقال عياض: يحتمل أنه لقب أو اسم لغير معنى كسائر الأسماء.
"فركبه -عليه الصلاة والسلام، فلمَّا رجع قال: "ما رأينا من شيء" يوجب الفزع، "وإن وجدناه" أي: الفرس "لبحرًا" أي: واسع الجري، ومنه سمي البحر بحرًا لسعته، وتبحَّر فلان في العلم إذا اتسع فيه، وقيل: شبهه بالبحر، لأن جريه لا ينفذ، كما لا ينفذ ماء البحر، "أو أنه لبحر" بالشك، وفي رواية المستملي، وإن وجدنا بحذف الضمير.
قال الخطابي: إن هي النافية، واللام في لبحرًا، بمعنى إلّا، أي: ما وجدناه إلا بحرًا.
قال ابن التين: هذا مذهب الكوفيين، وعند البصريين؛ أن إن مخففة من الثقيلة، واللام زائدة، وكذا قال الأصمعي: وزيدت للفرق بين أن المخففة والنافية، "قال: وكان فرسًا يبطؤ" بفتح الياء، وسكون الموحدة، وضم الطاء، مخففًا، وبالهز، أي: لا يسرع في مشيه، رواه البخاري، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، وللبخاري" في الجهاد، عن أنس: "إن أهل المدينة فزعوا مرة" ليلًا، "فركب -صلى الله عليه وسلم- فرسًا لأبي طلحة، كان يقطف" بكسر الطاء، وتضم، قاله المصنف، "أو فيه(6/99)
أو فيه قطافًا، فلما رجع قال: "وجدنا فرسكم هذا بحرًا"، فكان بعد لا يجاري.
وفي أخرى له: ثم خرج يركض الفرس وحده فركب الناس يركضون خلفه فقال: "لن تراعوا، إنه لبحر"، فما سبق بعد ذلك اليوم.
وقوله: لن تراعوا: أي روعًا مستقرًا، أو روعًا يضركم.
وفي هذا الحديث بيان شجاعته -صلى الله عليه وسلم- من شدة عجلته في الخروج إلى العدو قبل الناس كلهم، بحيث كشف الحال ورجع قبل وصول الناس.
وفيه: بيان عظيم بركته ومعجزته في انقلاب الفرس سريعا بعد أن كان بطيئا وهو معنى قوله عليه..............
__________
قطافًا" بكسر القاف، والشك من الراوي، والمراد أنه كان بطيء المشي، وعند البخاري في باب آخر، فركب فرسًا لأبي طلحة بطيئًا، "فلمَّا رجع" بعد أن استبرأ الخبر، "قال: "وجدنا فرسكم هذا بحرًا" لسرعة جريه "فكان بعد لا يجاري" بضم أوله، وفتح الراء، مبني للمجهول، أي: لا يسابق في الجري، ولا يطيق فرس الجري معه ببركته -صلى الله عليه وسلم، قاله المصنف وغيره، وقال شيخنا: أي لا يسابق لعلمهم؛ بأنه لا يسبقه فرس غيره، "وفي أخرى له" للبخاري في باب السرعة والركض، في الفزع من كتاب الجهاد، عن أنس قال: فزع الناس، فركب -صلى الله عليه وسلم- فرسًا لأبي طلحة بطيئًا، "ثم خرج يركض الفرس وحده" من غير رفيق، "فركب الناس، يركضون خلفه، فقال:" حين رجع: "لن تراعوا" كذا في النسخ لن، والذي في البخاري في الباب المذكور: "لم تراعوا" بالميم.
قال المصنف: ولم، بمعنى، لا مجزوم بحذف النون "إنه" أي: الفرس "لبحر" أي: كالبحر في سرعة سيره، "فما سبق" بضم السين، مبني للمفعول، "بعد ذلك اليوم، وقوله: لن تراعوا، أي: روعًا مستقرًا، أو روعًا يضركم" فلا ينافي وقوع الفزع لهم، وحاصل الجواب أن فزعهم زال سريعًا، فكأنه لم يقع، لكن هذا التأويل ظاهر على ما في البخاري بالميم، أما على ما في نسخ المتن لن بالنون، فلا يظهر، لأن لن لنفي المستقبل، ولم يعلم حاله، ولذا احتاجوا إلى تأويل رواية لن في الحديث الأول، بأنها بمعنى لم إلا أن يقال: إنه بشارة منه لأهل المدينة، علمها بالوحي، والمراد في حياته، فلا يرد روعهم بعده في وقعة الحرة وغيره، "وفي هذا الحديث بيان شجاعته -صلى الله عليه وسلم- من شدة عجلته" من تعليلية "في الخروج إلى العدو قبل الناس كلهم" أي: قبل كل واحد من الناس، فأل للعموم، "بحيث كشف الحال، ورجع قبل وصول الناس، وفيه بيان عظيم بركته، ومعجزته في انقلاب الفرس سريعًا، بعد أن كان بطيئًا، وهو معنى(6/100)
الصلاة والسلام: "وجدناه بحرًا"، أي واسع الجري.
وفيه قطاف: يقال: قطف الفرس في مشية إذا تضايق خطوه وأسرع مشيه.
قال القاضي عياض: وقد كان في أفراسه -صلى الله عليه وسلم- فرس مندوب، فلعله صار إليه بعد أبي طلحة. وقال النووي: يحتمل أنهما فرسان اتفقا في الاسم.
وقال ابن عمر: ما رأيت أشجع ولا أنجد من رسول الله -صلى الله عليه وسلم.
وذكر ابن إسحاق في كتابه وغيره: أنه كان بمكة رجل شديد القوة يحسن الصراع, وكان الناس يأتونه من البلاد للمصارعة فيصرعهم. فبينما هو ذات يوم في شعب من شعاب مكة؛ إذ لقيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال له: "يا ركانة ألا تتقي الله وتقبل ما
__________
قوله -عليه الصلاة والسلام: "وجدناه بحرًا" أي: واسع الجري" ففيه إشارة إلى أنه لم يكن كذلك، "و" قوله في الحديث: "فيه قطاف" معناه أنَّ في مشيه ضيق خطا، ودليله أنه "يقال قطف الفرس في مشيه، إذا تضايق خطوه، وأسرع مشيه" بالنصب مفعول، أسرع على التوسع، أي: في مشيه بناء على قول القاموس، الأصل إن أسرع متعد، وبالرفع على أنه لازم، والإسناد مجازي، ومقتضى المصباح أنه أشهر وفي التوضيح القطوف المتقارب الخطور، وقيل: الضيق المشي، يقال: قطفت الدابة تقطف، بكسر الطاء، وضمها، قطافًا.
"قال القاضي عياض: وقد كان في أفراسه -صلى الله عليه وسلم- فرس" اسمه "مدوب"، وصرح الحديث، بأنه لأبي طلحة، "فلعله صار إليه بعد أبي طلحة" بهبة أو بيع منه له، لا بعد موته، لأنه عاش بعد النبي -صلى الله عليه وسلم.
"وقال النووي: يحتمل أنهما فرسان اتفقا في الاسم" وهذا أولى، "وقال ابن عمر: ما رأيت أشجع ولا أنجد" أكثر نجدة "من رسول الله -صلى الله عليه وسلم" والنجدة والشجاعة والشدة، فالعطف مساو، ولعله مأخوذ من نجد الرجل فهو نجيد، كقرب فهو قريب، إذا كان ذا نجدة أو من نجدة، كنصر إذا أعانه؛ لأن اسم التفضيل يكون من اللازم والمتعدى، وهذا الحديث رواه أحمد، والنسائي، وغيرهما، بزيادة، ولا أجود، ولا أرضى من رسول الله -صلى الله عليه وسلم، وعطف أجود على أنجد للمناسبة بينهما؛ إذ الجواد لا يخاف الفقر، والشجاع لا يخاف الموت، ولأن الأول بذل النفس، والثاني بذل المال، والجود بالنفس أقصى غاية الجود، و"ذكر" محمد "بن إسحاق" ابن يسار المطلبي، مولاهم، المدني، نزيل العراق "في كتابه" السيرة، "و" ذكر "غيره؛ أنه كان بمكة رجل شديد القوة، يحسن الصراع" بكسر الصاد، مصدر صارع مصارعة وصراعا، "وكان الناس يأتونه من البلاد للمصارعة، فيصرعهم" بابه نفع، "فبينما هو ذات يوم في شعب" بالكسر، الطريق، أو في الجبل، "من شعاب مكة، إذ لقيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فقال له: "يا ركانة ألا تتقي الله، وتقبل ما(6/101)
أدعوك إليه" -أو كما قال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال له ركانة: يا محمد، هل لك من شاهد يدل على صدقك؟ فقال: "أرأيت إن صرعتك أتؤمن بالله ورسوله؟ " قال: نعم يا محمد، فقال له: "تهيأ للمصارعة"، قال: تهيأت، فدنا منه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأخذه ثم صرعه، قال: فتعجب من ذلك ركانة، ثم سأله الإقالة والعودة، ففعل به ذلك ثانيًا وثالثًا. فوقف ركانة متعجبًا وقال: إن شأنك لعجيب. رواه الحاكم في مستدركه عن أبي جعفر محمد بن ركانة المصارع،............
__________
أدعوك إليه؟ " فتؤمن بالله ورسوله، "أو كما قال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم" شك الراوي "فقال له ركانة: يا محمد, هل لك من شاهد يدل على صدقك" فيما تقوله؟ "فقال: "أرأيت" أي: أخبرني "إن صرعتك أتؤمن بالله ورسوله؟ " بهمزة الاستفهام، "قال: نعم يا محمد" وصريح هذا أن السائل له في المصارعة المصطفى، وفي رواية البلاذري: أن السائل ركانة، فيحتمل أن كلًّا منهما توارد مع الآخر في السؤال، "فقال له: "تهيأ للمصارعة"، فقال: تهيأت، فدنا منه رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فأخذه، ثم صرعه قال: فتعجب من ذلك ركانة"؛ لأنه كان مستحيلًا عنده أن أحدًا يصرعه، "ثم سأله الإقالة" مما توافقا عليه، وهو الإيمان إن صرعه لا على قطيع من الغنم، لأن المعاقدة على الغنم إنما كانت مع ابنه يزيد، كما في الإصابة، "والعودة" إلى المصارعة، "ففعل به ذلك ثانيًا وثالثًا، فوقف ركانة متعجبًا، وقال: إن شأنك لعجيب" وأسلم عقبها في قول، والآخر في فتح مكة، قال في الإصابة: ركانة بن عبد يزيد، بن هاشم، بن المطلب، بن عبد مناف، المطلبي. روى البلاذري أنه قدم من سفر، فأخبر خَبَرَ النبي -صلى الله عليه وسلم- بمكة قبل الإسلام, وكان أشد الناس، فقال: يا محمد إن صرعتني آمنت بك، فصرعه، فقال: أشهد أنك ساحر، ثم أسلم بعد، وأطعمه النبي -صلى الله عليه وسلم- خمسين وسقًا، وقيل: لقيه في بضع جبال مكة، فقال: يا ابن أخي بلغني عنك شيء، فإن صرعتني علمت أنك صادق، فصارعه، فصرعه، وأسلم ركانة في فتح مكة، وقيل عقب مصارعته، ومات في خلافة معاوية، قال الزبير، وقال أبو نعيم، في خلافة عثمان، وقيل: عاش إلى سنة إحدى وأربعين. انتهى.
باختصار "رواه الحاكم في مستدركه عن أبي جعفر، محمد بن ركانة المصارع" كذا وقع للمصنف، وصوابه عن أبي جعفر، عن أبيه محمد إلخ.....، قال في التقريب أبو جعفر بن محمد بن ركانة، مجهول من السادسة، وفيه أيضًا محمد بن ركانة مجهول من الثالثة، ووهم من ذكره في الصحابة، وقال في الإصابة محمد بن ركانة، القرشي، المطلبي، لأبيه صحبة، وأمَّا هو، فأرسل شيئًا، فذكره البغوي في الصحابة، فقال: حدثنا داود بن رشيد، حدثنا محمد بن ربيعة، عن أبي جعفر، بن محمد بن ركانة، عن أبيه أنه صارع النبي -صلى الله عليه وسلم، فصرعه النبي، قال:(6/102)
ورواه أبو داود والترمذي, وكذا البيهقي من رواية سعيد بن جبير.
وقد صارع -عليه الصلاة والسلام- جماعة غير ركانة، منهم أبو الأسود الجمحي، كما قاله السهيلي. ورواه البيهقي، وكان شديدًا بلغ من...............
__________
وسمعت النبي -صلى الله عليه وسلم، يقول: "فرق ما بيننا وبين أهل الكتاب العمائم على القلانس".
قال ابن منده: ذكره البغوي في الصحابة، وهو تابعي، وقال ابن فتحون: حديث المصارعة مشهور عن ركانة، وكذا حديث العمائم، كان محمدًا أرسله، أو سقط من السند عن أبيه، قلت: الاحتمال الثاني أقرب، وهو موجود في رواية أبي داود عن قتيبة، عن محمد بن ربيعة بهذا الإسناد, لكن قال بعد المصارعة: قال: سمعت رسول الله، فظهر أن محمدًا أرسل حديث المصارعة، وأسند حديث العمامة، فسقط من رواية داود بن رشيد، قال ركانة: وسمعت، فصار ظاهره أن قائل سمعت محمد، فلو كان كذلك، لكان صحابيًّا بلا ريب، لكن جزم ابن حبان في الثقات بأنه تابعي، "ورواه أبو داود والترمذي" من رواية أبي الحسن العسقلاني، عن أبي جعفر بن محمد بن ركانة، عن أبيه, أن ركانة صارع النبي -صلى الله عليه وسلم. الحديث.
قال الترمذي: قريب، وليس إسناده بالقائم، وقال ابن حبان في إسناد خبره: قاله الإصابة، "وكذا" أخرجه "البيهقي، من رواية سعيد بن جبير" التابعي المشهور، "وقد صارع -عليه الصلاة واللام- جماعة غير ركانة، منهم" ابنه يزيد بن ركانة.
قال أبو عمر: له ولأبيه صحبة ورواية, روى عنه ابناه علي وعبد الرحمن، وأبو جعفر الباقر، وأخرج ابن قانع من طريق يزيد ابن أبي صالح، عن علي بن يزيد بن ركانة، أن أباه أخبره أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دعا ركانة بأعلى مكة، فقال: "يا ركانة أسلم" فأبى، فقال: "أرأيت إن دعوت هذه الشجرة لشجرة قائمة؟ فأجابتني تجيبني إلى الإسلام"، قال: نعم، فذكر الحديث، وقصة الصراع مشهورة لركانة، لكن جاء من وجه آخر أنه يزيد بن ركانة، فأخرج الخطيب في المؤتلف عن ابن عباس، قال: جاء يزيد بن ركانة إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- ومعه ثلثمائة من الغنم، فقال: يا محمد هل لك أن تصارعني، قال: "وما تجعل لي إن صرعتك؟ " قال: مائة من الغنم، فصارعه، فصرعه، ثم قال: هل لك في العود؟، قال: "وما تجعل لي؟ " قال: مائة أخرى، فصارعه فصرعه، وذكر الثالثة، فقال: يا محمد ما وضع جنبي في الأرض أحد قبلك، وما كان أحد أبغض إليى منك، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، فقام عنه، وردَّ عليه غنمه، ذكره في الإصابة، فقد صارع ركانة، وابنه جميعًا، ومنهم "أبو الأسود الجمحي" بضم الجيم، وفتح الميم، ومهملة، إلى جمع بطن قريش، كما قاله السهيلي، ورواه البيهقي، وكان شديدًا، بلغ من(6/103)
شدته أنه كان يقف على جلد البقرة، ويتجاذب أطرافه عشرة لينزعوه من تحت قدميه، فيتفرى الجلد ولم يتزحزح عنه، فدعا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى المصارعة, وقال: إن صرعتني آمنت بك، فصرعه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلم يؤمن. وفي قصته طول.
وفي البخاري من حديث البراء، وسأله رجل من قيس: أفررتم عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم حنين؟ فقال: لكن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يفر. كانت هوازن رماة وإنا لما حملنا عليهم انكشفوا, فأكببنا على الغنائم فاستقبلنا بالسهام...................................
__________
شدته؛ أنه كان يقف على جلد البقرة، ويتجاذب أطرافه عشرة لينزعوه من تحت قدميه، فيتفرى الجلد" ينشق، وينقطع، "ولم يتزحزح عنه، فدعا" هو "رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى المصارعة، وقال: إن صرعتني آمنت بك، فصرعه رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فلم يؤمن، وفي قصته طول، وفي البخاري من حديث البراء" بن عازب، و"سأله رجل من قيس".
قال الحافظ: لم أقف على اسمه، "أفررتم عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم حنين؟ " وفي رواية للبخاري أيضًا: أفررتم مع النبي، وجمع بينهما بحمل المعية على ما قبل الهزيمة، فبادر إلى إخراجه "فقال: لكن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يفر" فهو استدراك على ما قد يتوهم من فراره حين فروا عنه، الواقع عند السائل أخذًا من عموم، ثم وليتم مدبرين، فبيِّن له أنه من العموم الذي أريد به الخصوص والتقدر فررنا، ولكنه ثبت وثبت معه علي، والعباس، وأبو سفيان بن الحارث، وابن مسعود.
رواه ابن أبي شيبة مرسلًا، وللترمذي بإسناد حسن، عن ابن عمر: لقد رأيتنا يوم حنين، وإن الناس لمولون، وما مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مائة رجل. ولأحمد والحاكم عن ابن مسعود: فولَّى الناس عنه، وبقي معه ثمانون رجلًا من المهاجرين والأنصار، وفي شعر العباس: أن الذين ثبتوا عشرة فقط، قال الحافظ: ولعله الثبت، ومن زاد عليهم عجل الرجوع، فعد فيمن لم يفر، ثم بَيِّنَ سبب التولي بقوله: "كانت هوازن رماة، وإنا لما حملنا عليهم انكشفوا" انهزموا، كما في لفظ رواية البخاري في الجهاد، "فأكببنا" بفتح الموحدة الأولى، وإسكان الثانية، ونون، أي: وقعنا "على الغنائم" وفي الجهاد، " فأقبل الناس على الغنائم، "فاستُقبلنا" بضم التاء، وكسر الموحدة، أي: استقبلتهم هوازن، وفي الجهاد، فاستقبلونا "بالسهام" أي: فولينا، وفي مسلم، فرموهم برشق من نبل، كأنهم رجل جراد، وفيه أيضًا عن أنس جاء المشركون بأحسن صفوف، رأيت صف الخيل ثم المقاتلة، ثم النساء من وراء ذلك، ثم الغنم، ثم النعم، ونحن بشر كثير، وعلى خيلنا خالد بن الوليد، فجعلت خيلنا تلوذ خلف ظهورنا، فلم نلبث أن انكشفت خيلنا، وفرت الأعراب، ومن(6/104)
ولقد رأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- على بغلته البيضاء، وإن أبا سفيان بن الحارث آخذ بزمامها وهو يقول: أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب.
وهذا في غاية ما يكون من الشجاعة التامة، لأنه في مثل هذا اليوم في حومة الوغى وقد انكشف عنه جيشه، وهو مع هذا على بغلة ليست بسريعة الجري، ولا تصلح لكرٍّ ولا فر ولا هرب, وهو مع ذلك يركضها إلى وجوههم، وينوه........................
__________
تعلم من الناس.
قال ابن جرير: الانهزام المنهي عنه هو ما يقع على غير نية العود، وأمَّا الاستطراد للكثرة، فهو كالمتحيز إلى فئة، "ولقد رأيت النبي" وفي رواية رسول الله "صلى الله عليه وسلم، على بغلته البيضاء" التي أهداها له فروة، كما في مسلم عن العباس، وعن ابن سعد وأتباعه، على بغلته دلدل.
قال الحافظ: وفيه نظر، لأن دلدل أهداها له المقوقس، قال القطب الحلبي، فيحتمل أنه ركب يومئذ كلا من البغلتين، إن ثبت أن دلدل كانت معه، وإلّا فما في الصحيح أصح، "وإن أبا سفيان بن الحارث" بن عبد المطلب "آخذ بزمامها"، أولًا، فلمَّا ركضها -صلى الله عليه وسلم- إلى جهة المشركين خشي عليه العباس، فأخذ زمامها، وأخذ أبو سفيان بالركاب، فلا يخالف هذا ما في مسلم؛ أن العباس كان آخذ بزمامها، وللبخاري في الجهاد، فنزل، أي: عن البغلة، فاستنصر، وفي مسلم، فقال: "اللهم أنزل نصرك"، "وهو يقول "أنا النبي" حقًّا، "لا كذب" في ذلك، أو والنبي لا يكذب، فست بكاذب، حتى انهزم، "أنا ابن عبد المطلب".
قال الخطابي: خصَّه بالذكر، تثبيتًا لنبوته، وإزالة للشك، لما اشتُهر من رؤيا عبد المطلب المبشرة به -صلى الله عليه وسلم، ولما أنبأت به الأحبار والكهان، فكأنه يقول: أنا ذاك، فلا بُدَّ مما وعدت به لئلَّا ينهزموا عنه، أو يظنوا أنه مغلوب أو مقتول، فليس من الفخر بالآباء في شيء، وليس بشعر وإن كان موزونًا؛ لأنه لم يقصده ولا أراده، وهما من شرط كونه شعرًا، وهذا أعدل الأجوبة، ولا يجوز فتح الباء الأولى، وكسر الثانية ليخرج عن الوزن؛ لأنه تغيير للرواية بمجرد خيال يقوم في النفس، ولأنه وقع في إشكال أصعب مما فرَّ منه؛ لأن فيه نسبة اللحن إلى أفصح الفصحاء، فالعرب لا تقف على متحرك، "وهذا" يعد "في غاية ما يكون من الشجاعة التامة؛ لأنه مثل هذا اليوم في حومة الوغى" بالقصر، والمعجمة، الحرب أي: في أشد موضع في القتال، "وقد انكشف عنه جيشه، وهو مع هذا على بغلة، ليست" من مراكب الحرب، بل الطمأنينة؛ إذ ليست بسريعة، ولا تصلح لكر، ولا فر، ولا هرب"فركوبها دليل النهاية في الشجاعة، والثبات، وإن الحرب عنده كالسلم، "وهو مع ذلك يركضها إلى وجههم، وينوه" يرفع نفسه من بينهم(6/105)
باسمه ليعرفه من ليس يعرفه -صلوات الله وسلامه عليه.
وفي حديث البراء: كنا إذا احمرَّ البأس اتقينا برسول الله -صلى الله عليه وسلم, أي: جعلناه قدامنا واستقبلنا العدو به، وقمنا خلفه.
وأمَّا ما ذكر من سخائه وجوده وكرمه، فاعلم أن السخاء صفة غريزية، وفي مقابلته الشح، والشح من لوازم صفة النفس، قال الله تعالى: {وَمَنْ........................
__________
"باسمه، ليعرفه من ليس يعرفه -صلوات الله وسلامه عليه" مبالغة في الشجاعة وعدم المبالاة بالعدو.
"وفي حديث" رواه مسلم عن "البراء: كنا إذا أحمر اللباس" أي: اشتد، "اتقينا برسول الله -صلى الله عليه وسلم" وإن الشجاع منا الذي يحاذيه، "أي: جعلناه قدامنا، واستقبلنا العدو به، وقمنا خلفه" وروى أحمد، والنسائي، وغيرهما، عن علي: كنا إذا حمي البأس، وفي رواية إذا اشتدَّ البأس، واحمرَّت الحِدَق، اتقينا برسول الله، فما يكون أحد أقرب إلى العدو منه، ولقد رأيتني يوم بدر، ونحن نلوذ بالنبي -صلى الله عليه وسلم، وهو أقربنا إلى العدو، وكان من أشد الناس بأسًا، وتقدَّم للمصنف في حنين، وقبله في أحد، أن من زعم أنه هزم يستتاب، فإن تاب، وإلا قتل عند الشافعية، ووافقهم ابن المرابط من المالكية، وإن مذهب مالك يقتل بلا استتابة، وفرقوا بينه وبين من قال: جرح، أو أوذي؛ بأن الأخبار عن الأذى نقص في المؤذي لا عليه، والأخبار بالانهزام نقص له -صلى الله عليه وسلم؛ لأنه فعله لو وقع، كما أنَّ الأذى فع المؤذي، قال ابن دحية: وأما تغيبه في الغار، فكان قبل الإذن بالقتال، وأما مظاهرته بين درعين يوم أحد، فهو من الاستعداد للإقدام، وليقتدي به أصحابه، والمنهزم خارج عن الإقدام جملة، بخلاف المستعد له. انتهى.
"وأما" معنى "ما ذكر" أو الصفة المرادة "من سخائه، وجوده، وكرمه" والأوّل أولى لاطِّراده في جميع ما يأتي، والجواب محذوف، أي: ففيه خلاف، وإذا أردت معرفته، "فاعلم أن السخاء صفة غريزية" طبيعة قائمة بالموصوف، كقيام الأوصاف الحسية بمحالها، قال بعض: وهي سهولة الانفاق، وتجنب اكتساب، ما لا يحمد من الصنائع المذمومة، كالحجامة، وأكل ما لا يحل مأخوذ من الأرض السخاوية، وهي الرخوة اللينة، ولذا وصف الله تعالى بجواد دون سخيّ، لأنه أوسع في معنى العطاء، وأدخل في صفة العلاء، فعلى هذا هو أخص منه، وقيل هما مترادفان لقول الشاعر:
وما الجود من يعطي إذا ما سألته ... ولكن من يعطي بغير سؤال
"وفي مقابلته الشح" أشد البخل، "والشح من لوازم صفة النفس، قال الله تعالى: {وَمَنْ(6/106)
يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9] ، فحكم بالفلاح لمن وقي الشح، وحكم بالفلاح أيضا لمن أنفق وبذل فقال: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} ، {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة: 3، 5] والفلاح أجمع اسم لسعادة الدارين.
وليس الشح من الآدمي بعجيب؛ لأنه جبلي فيه، وإنما العجب وجود السخاء في الغريزة.
والسخاء أتمَّ وأكمل من الجود، وفي مقابلته البخل, وفي مقابلة السخاء الشح، والجود والبخل يتطرق إليهما الاكتساب بطريق العادة، بخلاف الشح والسخاء؛ إذ كان ذلك من ضرورة الغريزة، فكل سخي جواد................
__________
يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ} حرصها على المال، {فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9] الآية، "فحكم بالفلاح لمن وقي الشح، وحكم بالفلاح أيضًا لمن أنفق، وبذل، فقال: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ} أعطيناهم {يُنْفِقُونَ} ، [البقرة: 3] في طاعة الله، {َأُولَئِكَ} الموصوفون بما ذكر {عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة: 5] الفائزون بالجنة الناجون من النار، "والفلاح أجمع اسم لسعادة الدارين، وليس الشح من الآدمي بعجيب، لأنه جبلي فيه، وإنما العجب وجود السخاء في الغريزة" مقتضاه تغاير الغريزة والجبلة، وفي المصباح: الجِبِلّة، بكسرتين، وتثقيل اللام، والطبيعة، والخلقة، والغريزة، بمعنى واحد، "والسخاء أتمّ، وأكمل من الجود" بناء على تغايرهما، والأصح: إن السخاء أدنى منه، ولذا لم يوصف الله به، كما مَرَّ، "وفي مقابلته" أي: الجود "البخل، وفي مقابلة السخاء الشح" ويأتي أن الجود إعطاء ما ينبغي لمن ينبغي، فذكر تعريفه، كالسخاء، ولم يذكر الكرم مع أنه ترجم به، كأنه لأنه مأخوذ عنده في معنى الجود، وفي الشامي الكرم، بفتحتين، الإنفاق بطيب نفس فيما يعظم خطره، وفي نسخة قدره.
وفي القاموس الكرم محركة ضد اللؤم، كرم، بضم الراء، كرامة كرامًا، فهو كريم، وفيه اللؤم ضد الكرم، "والجود، والبخل يتطرَّق إليهما الاكتساب بطريق العادة", وذلك أن الجواد إذا رأى من أنفق ماله، فصار فقيرًا غلب عليه الحرص، فمنع نفسه من الجود، حتى لا يصير كذلك, والبخيل يعلم خسة الدنيا، وما يؤل إليه، وإن ذا المال يموت، فيأخذ غيره ماله، فيعالج نفسه على إعطاء ما ينبغي، فيصير له طبيعة "بخلاف الشح، والسخاء؛ إذ كان" تعليلية، أي: لكون "ذلك من ضرورة الغريزة" فلا يمكن اكتسابهما، وهذه التفرقة بناء على أن الشحَّ أشد من البخل، وأنَّ السخاء أتم من الجود, أمَّا على ترادفهما، وأن الجود أعلى فلا، "فكل سخي جواد"(6/107)
وليس كل جواد سخيًّا، والجود يتطرَّق إليه الرياء، ويأتي به الإنسان متطلعا إلى غرض من الخلق أو الحق بمقابلة من الثناء أو غيره من الخلق والثواب من الله تعالى، ولا يتطرق الرياء إلى السخاء؛ لأنه ينبع من النفس الزكية المرتفعة عن الأغراض. أشار إليه في عوارف المعارف.
وقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحسن الناس وأشجع الناس وأجود الناس، رواه البخاري ومسلم من حديث أنس.
وأجود: أفعل تفضيل، من الجود وهو إعطاء ما ينبغي لمن ينبغي، ومعناه: هو أسخى الناس، ولما كانت نفسه أشرف النفوس ومزاجه أعدل الأمزجة, لا بُدَّ أن يكون فعله أحسن الأفعال،.................
__________
لأن السخاء إعطاء ما ينبغي بحسب الطبيعة، "وليس كل جواد سخيًّا"؛ لأن الجود إعطاء ما ينبغي أيضًا، لكن قد يكون بمعالجة النفس على اكتسابه.
"والجود يتطرَّق إليه الرياء، ويأتي به الإنسان متطلعًا إلى غرض من الخلق أو الحق" سبحانه, وبَيِّنَ الغرض بقوله: "بمقابلة من الثناء، أو غيره من الخلق، والثواب من الله تعالى", كمن جاد بالمال لذلك، "ولا يتطرق الرياء إلى السخاء، لأنه" غريزة، لا صنع فيه، فلا يقصد به غرضًا؛ إذ هو "ينبع" يتفجر "من النفس الزكية، المرتفعة عن الأغراض، أشار إليه" العارف العلامة السهروردي، بمعنى ذكره "في" كتابه "عوارف المعارف" بلفظه من أول قوله: فاعلم إلى هنا، "وقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحسن الناس"؛ لأن الله تعالى أعطاه كل الحسن، "وأشجع الناس" أقواهم قلبًا في حالة البأس؛ "وأجود الناس" لتخلقه بصفات الله، التي منها الجود والكرم، "رواه البخاري، ومسلم من حديث أنس" بزيادة تقدَّمت قريبًا في قوله: لقد فزع أهل المدينة إلخ.......، وإنه لفظ مسلم، ولفظ البخاري، ولقد فزع أهل المدينة ليلًا، فكان النبي -صلى الله عليه وسلم- سبقهم على فرس، وقال: "وجدناه بحرًا"، "وأجود أفعل تفضيل من الجود" بضم الجيم، مصدر جاد، "وهو إعطاء ما ينبغي" شرعًا "لمن ينبغي أن يعطى" لاستحقاقه للصفة القائمة به، كالفقر، فلا حاجة لزيادة بعض لا لغرض لدخوله فيما ينبغي، وقيل: الجود تجنب اكتساب ما لا يحمد، وهو ضد التقتير، والجواد الذي يتفضل على من يستحق، ويعطي من لا يسأل، ويعطي الكثير ولا يخاف الفقر، والسخي الليِّن عند الحاجة.
قال الأستاذ القشيري: قال القوم: من أعطى البعض فهو سخي، ومن أعطى الأكثر وأبقى لنفسه شيئًا فهو جواد، ومن قاسى الضر وآثر غيره بالبلغة فهو مؤثر، "ومعناه هو أسخى الناس، لما كانت نفسه أشرف النفوس، ومزاجه أعدل الأمزجة، لا بُدَّ أن يكون فعله أحسن الأفعال"(6/108)
وشكله أملح الأشكال، وخلقه أحسن الأخلاق، فلا شكَّ يكون أجود الناس، وكيف لا وهو مستغنٍ عن الفانيات بالباقيات الصالحات.
واقتصار أنس على هذه الأوصاف الثلاثة من جوامع الكلم، فإنها أمهات الأخلاق، فإن في كل إنسان ثلاث قوى: أحدها الغضبية، وكمالها الشجاعة، ثانيها: الشهوانية وكمالها الجود، وثالثها: العقلية وكمالها النطق بالحكمة.
وفي رواية لمسلم عنه: ما سُئِلَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شيئًا إلّا أعطاه، فجاءه رجل فأعطاه غنمًا بين جبلين، فرجع إلى قومه فقال: يا قوم أسلموا, فإن محمدًا يعطي عطاء من لا يخاف الفقر.
وعنده أيضًا عن صفوان بن أمية....................
__________
وهو كونه أسخى الناس، "وشكله أملح الأشكال" من الملاحة، "وخلقه أحسن الأخلاق، فلا شَكَّ يكون أجود الناس" وأنداهم يدًا، "وكيف لا" يكون كذلك؟ "وهو مستغنٍ عن الفانيات" من متاع الدنيا، "بالباقيات الصالحات" لعله أراد بها هنا الطاعات التي ثوابها عظيم عند الله، لا خصوص سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر.
"واقتصار أنس على هذه الأوصاف الثلاثة من جوامع الكَلِم، فإنها أمهات" أصول "الأخلاق، فإن في كل إنسان ثلاث قوى: أحدها: الغضبية، وكمالها الشجاعة، ثانيها: الشهوانية" بفتح، فسكون، ففتح، نسبة إلى الشهوة على خلاف القياس، والقياس الشهوية، وهو كذلك في نسخة، وهي اشتياق النفس إلى الشيء، وجمعها شهوات، "وكمالها الجود، ثالثها العقلية، وكمالها النطق بالحكمة" وفي الفتح جمع أنس صفات القوى الثلاثة، العقلية، والغضبية، والشهوانية، فالشجاعة، تدل على الغضبية، والجود يدل على الشهوة، والحسن تابع لاعتدال المزاج المتتبع لصفاء النفس، الذي به جودة القريحة، الدال على العقل، فوصف بالأحسنية في الجميع. انتهى.
"وفي رواية لمسلم عنه" عن أنس "ما سُئِلَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شيئًا إلّا أعطاه" لما جبل عليه من الجود والحياء، "فجاءه رجل" هو صفوان بن أمية، كما قال: غير واحد: "فأعطاه غنمًا بين جبلين" مبالغة في الكثرة، أي: إنها لكثرتها سدَّت ما بينهما، "فرجع إلى قومه" وهم قريش، "فقال: يا قوم أسلموا، فإن محمدًا يعطي عطاء من لا يخاف الفقر", وذلك آية لنبوته، وفي رواية: من لا يخشى الفاقة وهي الفقر، أو الشدة، "وعنده" أي: مسلم "أيضًا", والترمذي من طريق سعيد بن المسيب، "عن صفوان بن أمية" بن خلف بن وهب، بن قدامة بن جمح القرشي،(6/109)
قال: لقد أعطاني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما أعطاني وإنه لأبغض الناس إلي، فما برح يعطيني حتى إنه لأحب الناس إلي.
قال ابن شهاب: أعطاه يوم حنين مائة من الغنم، ثم مائة، ثم مائة.
وفي مغازي الواقدي: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- أعطى صفوان يومئذ واديًا مملوءًا إبلًا ونعمًا، قال صفوان: أشهد ما طابت بهذا إلا نفس نبي.
ويرحم الله جابر حيث قال:
هذا الذي لا يتقي فقرًا إذا ... أعطى ولو كثر الأنام وداموا
وادٍ من الأنعام أعطى آملًا ... فتحيِّرت لعطائه الأوهام
وإنما................................
__________
الجمحي، المكي، صحابي من المؤلَّفة، مات أيام قتل عثمان، وقيل: سنة إحدة أو اثنتين وأربعين، روى له مسلم، وأصحاب السنن، وعلق له البخاري، "قال: لقد أعطاني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما أعطاني، وأنه لأبغض الناس إليّ، فما برح يعطيني حتى إنه لأحب الناس إلي. قال ابن شهاب" الزهري، بيانًا لمبهم قوله: أعطاني ما أعطاني، "أعطاه يوم حنين مائة من الغنم، ثم مائة، ثم مائة", والحكمة في كونه لم يعطها دفعة واحدة أن هذا العطاء دواء لدائه، والحكيم لا يعطي الدواء دفعة واحدة؛ لأنه أقرب للشفاء. "وفي مغازي الواقدي: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- أعطى صفوان يومئذ" أي: يوم حنين، وكان حضرها مشركًا "واديًا مملوءًا إبلًا ونعمًا" عطف تفسير؛ إذ النعم اسم للإبل خاصة, قاله أبو عبيد, لكن قيل: تطلق النعم على الإبل والغنم، وعليه هو عطف عام على خاص، وفي نسخة: ونمًا. "قال صفوان: أشهد ما طابت بهذا إلّا نفس نبي" ولفظ الواقدي، يقال: إن صفوان طاف معه -صلى الله عليه وسلم- يتصفح الغنائم؛ إذ مَرَّ بشعب مملوء إبلًا وغنمًا فأعجبه، وجعل ينظر إليه، فقال -صلى الله عليه وسلم: "أعجبك هذا الشعب يا أبا وهب"؟، قال: نعم. قال: "هو لك بما فيه" فقال صفوان: أشهد أنك رسول الله، ما طابت بهذا نفس أحد قط إلا نفس نبي.
"ويرحم الله" أبا عبد الله محمد "بن جابر حيث قال: هذا الذي لا يتقي" لا يتلبَّس بما يدفع "فقرًا إذا".
"أعطى", بل يعطي لقوة يقينه ورجائه في الله، "ولو كثر الأنام وداموا" استمروا على الطلب منه، فيستمر على الإعطاء، ولا يترك خوف الفقر، "وادٍ" بدال مهمل على حذف مضاف، أي: ملء واد "من الأنعام" بفتح الهمزة، وسكون النون: الإبل إشار لقصة صفوان "أعطي" حذف مفعوله الثاني، أي: أعطاه "آملًا" راجيًا، "فتحيرت لعطائه" لأجله "الأوهام"(6/110)
أعطاه ذلك لأنه -عليه الصلاة والسلام- علم أن داءه لا يزول إلا بهذا الدواء وهو الإحسان, فعالجه به حتى برئ من داء الكفر وأسلم، وهذا من كمال شفقته ورحمته ورأفته -عليه الصلاة والسلام؛ إذ عامله بكمال الإحسان، وأنقذه من حَرِّ النيران إلى برد لطف الجنان.
وكان علي إذا وصفه -صلى الله عليه وسلم- قال: كان أجود الناس كفًّا، وأصدق الناس لهجة.
وخرج ابن عدي -بإسناد فيه ضعف- من حديث أنس مرفوعًا: أنا أجود بني آدم.
فهو -صلى الله عليه وسلم- بلا ريب أجود بني آدم على الإطلاق، كما أنه أفضلهم وأعلمهم
__________
العقول، لأنه خارق للعادة، "وإنما أعطاه ذلك؛ لأنه -عليه الصلاة والسلام- علم أن داءه" مرضه، وهو الكفر، "لا يزول إلّا بهذا الدواء، وهو الإحسان؛ فعالجه به حتى برئ" بكسر الراء، وفتحها، "من داء الكفر" مرضه، "وأسلم" رضي الله عنه، "وهذا من كمال شفقته ورحمته ورأفته -عليه الصلاة والسلام؛ إذ عامله بكمال الإحسان، وأنقذه من حر النيران" لو مات على الكفر، "إلى برد لطف الجنان" فجَرَّه إليها، ولم يتركه يقع في النار، كما قال -صلى الله عليه وسلم: "إني لأعطي الرجل وغيره أحب إلي منه مخافة أن يكبه الله في النار على وجهه" رواه البخاري.
"وكان علي" كما رواه الترمذي في حديث "إذا وصفه -صلى الله عليه وسلم، قال: كان أجود الناس" أكثرهم عطاءً، "كفًّا" تمييز عن نسبة أجود إلى ضميره -صلى الله عليه وسلم، وكذا كان قلبه أجود القلوب، وأسخاها بالمال والمعارف، لا يبخل بشيء منها على مستحقه، وفي رواية: أجود الناس صدرًا، وأخرى: أوسع الناس صدرًا. "وأصدق الناس لهجة" بسكون الهاء، وفتح الجيم، أي: لسانًا، يعني كلامًا، وإطلاقه على آله الكلام الذي هو اللسان مبالغة، والمعنى: كلامه أصدق الكلام، لا مجال لجريان صورة الكذب عليه، فوضع المظهر موضع المضمر، فلم يقل أصدقهم لزيادة التمكّن، كما في: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ} [الإخلاص: 1، 2] الآية؛ حيث لم يقل: هو الصمد، {وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ} [الإسراء: 105] الآية. فما قال: وبه نزل, وهاتان من صفاته من قبل أن يبعث، قالت خديجة: إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف؛ وتعين على نوائب الحق.
زاد في رواية: وتصدق الحديث، وتؤدي الأمانة، "وخرَّج ابن عدي بإسناد فيه ضعف من حديث أنس مرفوعًا" "أنا أجود بني آدم" ورواه أبو يعلى وبقي بن مخلد في مسنديهما، عن أنس رفعه: ألا أخبركم عن الأجود لله الأجود، وأنا أجود ولد آدم، وأجودهم من بعدي رجل تعلم علمًا فنشر علمه، يبعث يوم القيامة أمة واحدة، ورجل جاهد في سبيل الله حتى يقتل، "فهو -صلى الله عليه وسلم- بلا ريب" شك، "أجود بني آدم على الإطلاق، كما أنه أفضلهم؛ وأعلمهم، وأشجعهم،(6/111)
وأشجعهم وأكملهم في جميع الأوصاف الحميدة، وكان جوده بجميع أنواع الجود، من بذل العلم والمال، وبذل نفسه لله في إظهار دينه وهدايته عباده وإيصال النفع إليهم بكل طريق، من إطعام جائعهم, ووعظ جاهلهم، وقضاء حوائجهم، وتحمّل أثقالهم، ولقد أحسن ابن جابر حيث قال:
يروى حديث الندى والبشر عن يده ... ووجهه بين منهل ومنسجم
من وجه أحمد لي بدر ومن يده ... بحر ومن فمه در لمنتظم
يمم نبيًّا يباري الريح أنمله ... والمزن في كل هامي الودق مرتكم
لو عامت الفلك فيما فاض من يده ... لم تلق أعظم بحر منه إن تعم
__________
وأكملهم في جميع الأوصاف الحميدة، وكان جوده بجميع أنواع الجود من بذل العلم والمال, وبذل نفسه لله في إظهار دينه" كما ظهر يوم حنين وأُحُد؛ إذ بقى بين العدو وحده، "وهدايته عباده, وإيصال النفع إليهم بكل طريق، من" بيان الجملة الطرق التي بان فيها جوده؛ "إطعام جائعهم، ووعظ جاهلهم، وقضاء حوائجهم، وتحمل أثقالهم. ولقد أحسن ابن جابر، حيث قال، يروي حديث الندى" كثرة الإعطاء، "والبشر" بكسر الموحدة، وسون المعجمة، طلاقة الوجه, "عن يده" عائد للندى، "و" عن "وجهه" عائد للبشر، فهو لف ونشر مرتب، وهذا خير من رفع وجهه، على أنه جملة حالية، لأن البشر لا تعلق له باليد، "بين منهل" بضم الميم، وفتح الهاء، وشد اللام، أي: مطر كثير، "ومنسجم" بضم الميم وسكون النون، وفتح السين، وكسر الجيم، متوسط, يريد أن عطاياه وطلاقة وجهه لازمان له، لا ينفكان عنه, غايته أنهما دائران بين الكثرة والتوسط، والجملة صلة يروي، أو حال من الندى والبشر، "من وجه أحمد" ولاح "لي بدر" نور كنوره, "ومن يده بحر" عطاء كالبحر، "ومن فمه در" كبار اللؤلؤ، أي: ثنايا كدُرٍّ، "لمنتظم" في سلكه، فهو تشبيه بليغ في الثلاثة، أو استعارة تصريحية؛ "يمم" اقصد في مهماتك "نبيًّا" كثير الخير والرحمة؛ بحيث "يباري" بضم الفوقية، أو التحتية، والأكثر تأنيث الريح، -فألف فموحدة فراء فتحتية- يغالب ويعارض "الريح", فعل "أنمله" فتريد الريح فعل مثلها في سرعة الحصول، والوصول إلى المحتاج، فلا تقدر على ذلك، وإن لم تنفك عن الهبوب, "والمزن" جمع مزنة سحابة بيضاء، عطف على الريح، حال كون المزن، "من كل هامي" سائل "الودق" المطر "مرتكم" مجتمع ماؤه لكثرته، أي: من كل سحاب كثير المطر، احترازًا عن سحاب لا مطر فيه، والمعنى أن ما سأل منه شابه أنمله في الإعطاء، وإن افترقا في أن عطاءه أتمَّ وأرجح، "لو عامت الفلك فيما فاض" أي: في البحار التي فاضت "من يده، لم تلق أعظم بحر منه أن تعم" فلا تعوم إلا فيه:(6/112)
يحيط كفاه بالبحر المحيط فلذ ... به ودع كل طامي الموج ملتطم
لو لم تحط كفه بالبحر ما شملت ... كل الأنام وروت قلب كل ظمي
فسبحان من أطلع أنوار الجمال من أفق جبينه، وأنشأ أمطار السحائب من غمائم يمينه.
وروى البخاري من حديث جابر: ما سئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن شيء قط فقال: لا، وكذا عند مسلم، أي: ما طلب منه شيء من أمر الدنيا فمنعه.
قال الفرزدق:
ما قال لا قط إلا في تشهده ... لولا التشهد كانت لاؤه نعم
__________
يحيط كفاه بالبحر المحيط فلذ ... به ودَعْ كل طامي الموج ملتطم
أي: اترك الأمواج الكثيرة التي دخل بعضها في بعض، لكثرتها والجأ إلى ما فاض من يده، فما عداه بالنسبة له كالعدم، والمعنى: إن عطاء غيره بالنسبة له لا يعد شيئًا.
لو لم تحط كفه بالبحر ما شملت ... كل الأنام وروت قلب كل ظمي
ظمآن لكنها شاملة كل العالم، فهو استدلال على دعواه إحاطة كفيه بالبحر، وذلك لأن هدايته وإنقاذه من الضلال وشفقته شاملة لجميع العالم، قال تعالى {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} ، فهو قياس استثنائي، فاستثناء نقيض التالي ينتج نقيض المقدم، "فسبحان من أطلع أنوار الجمال من أفق جبينه، وأنشأ أمطار السحائب من غمائم يمينه" ثم استدل على دعواه كثرة إنعامه، فقال: "روى البخاري، من حديث جابر" بن عبد الله، قال: "ما سئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن شيء قط"، يقدر عليه من الخير، "فقال: لا" بل يعطيه إن كان عنده، أو يعده بميسور من القول إن ساغ وإلا سكت أو دعا، "وكذا عند مسلم" عن جابر، ولو قال: أولًا: روى البخاري، ومسلم لا غناه عن هذا "أي: ما طلب منه شيء من أمر الدنيا، فمنعه، قال الفرزدق" همام بن غالب بن صعصعة، بن ناجية التميمي، قال المرزباني: كان سيدًا جوادًا، فاضلًا وجيهًا عند الأمراء والخلفاء، وأكثر العلماء يقدمونه على جرير، مات سنة عشر ومائة، وقد قارب المائة، وقيل: بلغ مائة وثلاثين سنة، والأول أثبت، وصحَّ أنه قال الشعر أربعًا وسبعين سنة، لأن أباه أتى إلى علي في سنة ست وثلاثين، فقال: إن ابني شاعر، فقال علي: علّمه القرآن، فإنه خير له من الشعر، فكان ذلك في نفس الفرزدق، فقيِّد نفسه، وآلى أن لا يحل نفسه حتى يحفظ القرآن، ووهم من زعم أنه صحابي، كما بينه في الإصابة. "ما قال لا قط إلّا في تشهده" أي نطقه بكلمة التوحيد، سواء كان في صلاة أم لا، "لولا التشهد كانت لاؤه نعم" مرفوع، على الحكاية، أي: هذا اللفظ، أي: لولا أنه ينطق بلا في التشهد لم ينطق إلّا بنعم، وظاهر(6/113)
لكن قال شيخ مشايخنا الحافظ أبو الفضل بن حجر: ليس المراد أنه يعطي ما يطلب منه جزمًا، بل المراد: إنه لا ينطق بالرد، بل إن كان عنده شيء أعطاه إن كان الإعطاء سائغًا وإلّا سكت. قال: وقد ورد بيان ذلك في حديث مرسل لابن الحنفية عند ابن سعد ولفظه: كان إذا سئل فأراد أن يفعل قال: نعم،
__________
سوق المصنف هذا البيت، وتبعه تلميذه الشامي أنه في مدح النبي -صلى الله عليه وسلم، والذي في القصيدة أنه في زين العابدين علي بن الحسين، قال في حياة الحيوان: ينسب إلى الفرزدق، مكرمة يرجى له بها الجنة، وهي أن هشام بن عبد الملك لما حجَّ أيام أبيه طاف بالبيت، وجهد أن يصل إلى الحجر الأسود، فلم يقدر لكثرة الزحام، فجلس على كرسي ينظر الناس، ومعه جماعة من أعيان الشام، فأقبل زين العابدين علي بن الحسين فطاف، فلما انتهى إلى الحجر تنحّى له الناس حتى استلمه، فقال شامي لهشام: من ذا الذي هابه الناس هذه الهيبة؟ فقال هشام: ما أعرفه مافة أن يرغب فيه أهل الشام، فقال الفرزدق: أنا أعرفه، فقال الشامي: من هو؟ فقال:
هذا ابن خير عباد الله كلهم ... هذا التقي النقي الطاهر العلم
إلى أن قال:
وليس قولك من هذا يضائره ... العرب تعرف من أنكرت والعجم
كلتا يديه غياث عم نفعهما ... يستوكفان ولا يعروهما عدم
سهل الخليقة لا تخشى بوادره ... يزينه اثنان حسن الخلق والكرم
حمال أثقال أقوام إذا فدجوا ... حلو الشمائل تحدو عنده نعم
وبعد ما قال لا البيت، وبعده:
عم البرية بالإحسان فانقشعت ... عنها الغياهب والأملاق والعدم
من معشر حبهم دين وبغضهم ... كفر وقربهم منجا ومعتصم
وهي خمسة وعشرون بيتًا، فغضب هشام وحبس الفرزدق، فأنفذ له زين العابدين اثنتي عشر ألف درهم، فردها وقال: مدحته لله لا للعطاء، فأرسل يقول له: إنَّا أهل بيت إذا وهبنا شيئًا لا نستعيده، والله يعلم نيتك ويثيبك عليها، فقبلها، "لكن قال شيخ مشايخنا الحافظ أبو الفضل بن حجر" في فتح الباري "ليس المراد" يقول جابر, فقال: لا "إنه يعطي ما يطلب منه جزمًا" لأنه خلاف الواقع، "بل المراد أنه لا ينطق بالرد، بل إن كان عنده شيء" المطلوب، أو غيره "أعطاه إن كان الإعطاء سائغًا"، كالمباح، "وإلّا سكت" أو اعتذر، كما يأتي، أو دعا، كما قال بعض "قال: وقد ورد بيان ذلك في حديث مرسل لابن الحنفية" محمد بن علي بن أبي طالب اشتهر بأمه، "عند ابن سعد، ولفظه كان" صلى الله عليه وسلم "إذا سئل، فأراد أن يفعل، قال: "نعم"،(6/114)
وإن لم يرد أن يفعل سكت. وهو قريب من حديث أبي هريرة: ما عاب طعامًا قط، إن اشتهاه أكله وإلّا تركه.
وقال الشيخ عز الدين بن عبد السلام معناه: لم يقع, لا منعًا للعطاء، ولا يلزم من ذلك أن لا يقولها اعتذارًا كما في قوله تعالى: {قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ} [التوبة: 92] ، ولا يخفى الفرق بين قوله: لا أجد ما أحملكم, وبين: لا أحملكم. انتهى.
وهو نظير ما في حديث أبي موسى الأشعري: لما سأله الأشعريون الحملان فقال -صلى الله عليه وسلم: "ما عندي ما أحملكم عليه".
لكن يشكل عليه أنه صلى الله عليه وسلم حلف لا يحملهم فقال: "والله لا أحملكم على شيء" فيمكن أن يخص من عموم حديث جابر ما إذا سئل ما ليس عنده, والسائل يتحقق أنه ليس عنده ذلك، أو حيث كان المقام لا يقتضي الاقتصار على السكوت من الحالة الواقعة، أو من حال السائل، كأن لم يكن يعرف العادة، فلو
__________
وإن لم يرد أن يفعل سكت، وهو قريب من حديث أبي هريرة" السابق "ما عاب طعامًا قط، إن اشتهاه أكله، وإلّا تركه" كالضب، وبهذا لا يخالف ما ورد أن من سأله حاجة لم يرده إلا بها، أو بميسور من القول، "وقال الشيخ عز الدين بن عبد السلام معناه" أي: قول جابر، "لم يقع لا منعًا للعطاء، ولا يلزم من ذلك أن لا يقولها اعتذارًا" كذا في النسخ الصحيحة، بلا بعد أن، وفي نسخة حذفها، وهي خطأ، "كما في قوله تعالى: {قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ} الآية. ولا يخفي الفرق بين قوله: لا أجد ما أحملكم" لأن فيه الاعتذار بعدم الوجدان، "وبين لا أحملكم" لأنه منع بلا اعتذار. انتهى كلام العز، "وهو نظير ما في حديث أبي موسى"، عبد الله بن قيس "الأشعري، لما سأله الأشعريون الحملان" بضم، المهملة، وسكون الميم، أي: الشيء الذي يركبون عليه، ويحملهم في غزوة تبوك، "فقال -صلى الله عليه وسلم: "ما عندي ما أحملكم عليه" كما في رواية للشيخين، "لكن يشكل عليه أنه -صلى الله عليه وسلم- حلف لا يحملهم، فقال كما في رواية لهما أيضًا: "والله لا أحملكم على شيء" ووافقته وهو غضبان، ولا أشعر، "فيمكن أن يخص من عموم حديث جابر، ما إذا سئل ما ليس عنده، والسائل يتحقق أنه ليس عنده ذلك" فلا تنافي بينه وبين حديث أبي موسى، "أو" يقال: يخص منه "حيث كان المقام لا يقتضي الاقتصار على السكوت من الحالة الواقعة، أو من حال السائل، كأن لم يكن يعرف العادة" من أنه إذا لم يرد الإعطاء سكت، "فلو اقتصر(6/115)
اقتصر في جوابه على السكون مع حاجة السائل لتمادى على السؤال مثلًا، ويكون القسم على ذلك تأكيدًا لقطع طمع السائل، والسر في الجمع بين قوله: "لا أجد ما أحملكم" وقوله: "والله لا أحملكم" إن الأول لبيان أن الذي سأله لم يكن موجودًا عنده، والثاني أنه لا يتكلف الإجابة إلى ما سئل بالفرض مثلًا أو بالاستيهاب؛ إذ لا اضطرار حينئذ.
وروى الترمذي أنه حمل إليه تسعون ألف درهم فوضعت على حصير، ثم قام إليها يقسمها، فما ردَّ سائلًا حتى فرغ منها.
قال: وجاءه رجل.....................
__________
في جوابه على السكوت، مع حاجة السائل لتمادى على السؤال مثلًا، ويكون القسم على ذلك تأكيدًا لقطع طمع السائل" عن السؤال، "والسر" الحكمة "في الجمع بين قوله: "لا أجد ما أحملكم" وقوله: "والله لا أحملكم": إن الأول لبيان أن الذي سأله لم يكن موجودًا عنده" فاعتذر بعدمه "والثاني أنه لا يتكلّف الإجابة إلى ما سئل بالفرض" السلف "مثلًا، أو بالاستيهاب" أي: طلب الهبة من أحد "إذ لا اضطرار حينئذ" لذلك، وفي الحديث أنه -صلى الله عليه وسلم- ابتاع ستة أبعرة بعد سويعة، وحملهم عليها.
"وروى الترمذي أنه حمل إليه تسعون" بفوقية قبل السين، وفي رواية ابن أبي الحسن بن الضحاك، في شمائله مرسلًا، ثمانون "ألف درهم" بغلية، أو طبرية، أو منهما، لا بقيد النصف من كل، والدراهم التي في عهده منهما، ووزن أحدهما ثمانية دوانق، والأخرى أربعة، هذا والمبتادر من صنيع المصنف، إن هذه الدراهم غير الدراهم الآتية من البحرين، فإنه أول مال حمل إليه، فيكون هذا المجيء متأخرًا عن مال البحرين، وانظر أي زمان تأخَّر عنه، ومن أين قدومه، وما سببه، كذا قال شيخنا: وفي بعض الهوامش الجزم بأن هذه الدراهم هي التي حملت إليه من البحرين، اختلف في عدتها؛ وأن الحديثين واحد، وهذا هو الأصل والمتبادر، "فوضعت على حصير، ثم قام إليها" لعلَّ المراد شرع "يقسمها" أو أخذ يقسمها؛ بأن أمر به، وإن لم يقم بالفعل، ولا باشر القسم بيده، "فما ردَّ سائلًا" لا يؤخذ منه أنه لم يعط إلا من سأله، بل يصدق بذلك، وبإعطاء من علم حاجته، فيدفع له إن كان عنده بلا سؤال، أو يبعث إليه "حتى فرغ منها" غاية لقوله: قسمها، أو لقوله: فما رَدَّ سائلًا، وليس المراد أنه يرد بعد الفراغ، فهو ونحو حديث: "إن الله لا يمل حتى تملوا"، "قال" أي: روى الترمذي في الشمائل بتصرف قليل لا يغير المعنى، "وجاءه رجل" لفظ الشمائل، عن عمر بن الخطاب أن رجلًا جاء إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-(6/116)
فقال: "ما عندي شيء ولكن ابتع علي، فإذا جاءنا شيء قضيناه"، فقال له عمر: ما كلفك الله ما لا تقدر، فكره النبي -صلى الله عليه وسلم، فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله، أنفق ولا تخف من ذي العرش إقلالًا،..................
__________
يسأله أن يعطيه، "فقال: "ما عندي شيء، ولكن ابتع علي" روي بموحدة ساكنة بعد همزة الوصل، ففوقية، أي: اشتر واعدد، أو احسب علي، قال الزمخشري: البيع هنا الاشتراء، قال طرفة:
ويأتيك بالأخبار من لا تبع له ... بتاتًا ولم تضرب له وقت موعد
وروي بتقديم التاء الفوقية على الموحدة، أي: أحل علي، قال الزمخشري: اتبعت فلانًا على فلان أحلته، ومنه خبر إذا اتبع أحدكم علي ملئ فليتبع، انتهى.
وفي رواية البزار عن عمر، فقال: "ما عندي شيء أعطيك، ولكن استقرض حتى يأتينا شيء فنعطيك"، فلا مانع من تفسير ابتع، أو اتبع باستقرض، تجوز الرواية البزار إذ الحديث واحد، وليس بضمان، بل وعد منه، ووعده ملتزم الوفاء؛ إذ وعد الكريم دَيْن، ولذا صحَّ أنه لما توفي نادى لصديق لما جاءه مال البحرين من كان له عند رسول الله عدة أو دين فليأتنا، فجاء جابر وقال: إنه وعدني كذا، فأعطاه له الحديث في الصحيح، "فإذا جاءنا شيء" من غنائم، أو غيرها "قضيناه" أي: أدَّيناه، وعبَّر بالجمع للتعظيم، أي: فضيته قضاء أنال به التعظيم من الله، ولذا لم يقل: جاءني، وقضيته مع قوله: عليَّ، والقضاء يشعر بأنه لزم زمته, كذا وجهه بعض شراح الشفاء؛ لأنه وقع فيها بالجمع كما هنا، لكن لفظ الشمائل: "فإذا جاء شيء قضيته"، "فقال له عمر" القياس، فقلت له: فهو التفات عند بعض، أو رواية بالمعنى، قال المصنف: وهو بعيد، "ما كلفك الله ما لا تقدر" أي: ما ليس حاصلًا عندك، "فكره النبي -صلى الله عليه وسلم" قول عمر، كما هو لفظ الترمذي، أي: من حيث استلزامه قنوط السائل وحرمانه؛ ولأن مثله ما لا يعد تكليفًا لما لا يقدر عليه، لما عوَّده الله من فيض نعمه عليه، "فقال رجل من الأنصار"؛ حيث رأى كراهة المصطفى لذلك: "يا رسول الله أنفق" بفتح الهمزة، أمر من الإنفاق، "ولا تخف" قال بعض: كذا في غالب النسخ، ولعل الصواب، ولا تخش، فإنه يصير نصف بيت موزون، وليس هذا الترجي بشيء "من ذي العرش" قيد للمنفي، لا للنفي "إقلالًا" فقرأ من قلَّ بمعنى افتقر، وهو في الأصل بمعنى صار ذا قلة، وما أحسن من ذي العرش هنا، أي: لا تخف أن يضيِّع مثلك من هو مدبر الأمر من السماء إلى الأرض، قال البرهان في المقتفى: هذا الرجل لا أعرفه، وفي حفظي أنه بلال, لكنه مهاجري لا أنصاري، فيكون قد قال ذلك بلال والأنصاري، أو أن الذي فيه ذكر بلال قصة أخرى، المأمور فيها بالإنفاق بلال. روى الطبراني، والبزار عن ابن مسعود(6/117)
فتبسم -صلى الله عليه وسلم- وعرف البشر في وجهه. وقال: "بهذا أمرت".
وإنما فعل ذلك للمصلحة الداعية لذلك كالاستيلاف ونحوه.
وذكر ابن فارس في كتابه "أسماء النبي -صلى الله عليه وسلم" أنه في يوم حنين جاءت امرأة فأنشدت شعرًا تذكره أيام رضاعته في هوازن, فردَّ عليهم ما أخذه, وأعطاهم عطاءً كثيرًا, حتى قوِّم ما أعطاهم ذلك اليوم فكان خمسمائة ألف ألف.......................................
__________
دخل النبي -صلى الله عليه وسلم- على بلال وعنده صبرة من تمر، فقال: "ما هذا يا بلال"؟، قال: يا رسول الله دخرته لك ولضيفانك، قال: "ألا تخشى أن يفور لها بخار من جهنم؟، أنفق يا بلال، ولا تخش من ذي العرش إقلالًا" انتهى.
فما في حفظه، إنما هو في هذه القصة، فلا يصح تفسير المبهم ببلال لوجهين، "فتبسم -صلى الله عليه وسلم" فرحًا بقول الأنصاري، "وعرف البشر في وجهه" بانبساطه وتهلله، "وقال بهذا" أي: الإنفاق من غير مخافة فقر، "أمرت" بنحو: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} ، لا بما قال عمر, فقدَّم الظر ليفيد قصر القلب رد اعتقاد عمر، "وإنما فعل ذلك للمصلحة الداعية لذلك، كالاستيلاف" بسكون الياء، وأصله الهمزة، "ونحوه" كدفع الضرر، واستشكل الحديث؛ بأن الله قال: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ} [إسراء: 29] الآية, وأجاب القاضي أبو يعلى، بأن المراد بهذا الخطاب غيره -صلى الله عليه وسلم، وغير خُلَّص المؤمنين الذين كانوا ينفقون جميع ما عندهم عن طيب قلب لتوكلهم وثقتهم بما عند الله، أما من كان ليس كذلك يتحسَّر على ما ذهب منه، فهم المحمود منهم التوسط {الَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا} [الفرقان: 67] الآية؛ لأنهم لا صبر لهم على الفاقة، ولذا صعب عليه -صلى الله عليه وسلم- كلام عمر، لما راعى ظاهر الحال, وأمره بصيانة المال، شفقة عليه لعلمه بكثرة السائلين له، وتهافتهم عليه، والأنصاري راعى حاله -صلى الله عليه وسلم، فلذا سره كلامه، فقوله: "بهذا أمرت" إشارة إلى أنه أمر خاص به، وبمن يمشي على قدمه، "وذكر ابن فارس في كتابه أسماء النبي" وفي نسخة في أسماء، أي: المؤلف في أسماء النبي -صلى الله عليه وسلم، أنه في يوم حنين جاءت" وفي نسخة جاءته "امرأة، فأنشدت شعرًا تذكره أيام رضاعته في هوازن، فردّ عليهم ما أخذه" من النساء، والبنين، ونسب إليه لأنه الأمير، وفي نسخة بحذف الهاء مبني للفاعل، أي: ما أخذ مما نابه من الخمس، أو المفعول: أي: المسملون، "وأعطاهم" عطف تفسير، أي: كان المردود "عطاء كثيرًا"؛ لأنه لم يكن معه مال غير المأخوذ من الغنيمة، وسمي المردود عطاء الملك الغانمين له "حتى قوّم ما أعطاهم ذلك اليوم فكان خمسمائة ألف ألف" من السبايا، وأما أموالهم فلم يردها عليهم؛ لأنه كان قسم الجميع، فلما جاءوه مسلمين(6/118)
ألف. قال ابن دحية: وهذا نهاية الجود الذي لم يسمع بمثله في الوجود.
وفي البخاري من حديث أنس: إنه -صلى الله عليه وسلم- أتي بمال البحرين فقال: "انثروه" -يعني صبوه- في المسجد، وكان أكثر مال أتي به -صلى الله عليه وسلم، فخرج إلى المسجد ولم يلتفت إليه، فلمَّا قضى الصلاة جاء فجلس إليه، فما كان يرى أحدًا إلا أعطاه؛ إذ جاء العباس فقال: يا رسول الله أعطني، فإني فاديت نفسي وفاديت عقيلًا،..................
__________
خَيَّرَهم بين رد المال أو السبايا، فاختاروا السبايا فردهم، كما مَرَّ مفصلًا. "قال ابن دحية، وهذا نهاية الجود، الذي لم يسمع بمثله في الوجود" وقال ابن إسحاق: حدثني عبد الله بن أبي بكر، عن رجل من العرب, مشيت خلف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم حنين، وفي رجلي نعل كثيفة، فوطئت بها على رجله، فنفحني نفحة بسوط في يده، وقال: "بسم الله أوجعتني"، فبت لنفسي لائمًا أقول: أوجعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فبت بليلة كما يعلم الله، فلما أصبحنا إذا رجل يقول: ابن فلان، فقلت: هذا الذي، والله كان مني بالأمس، فانطلقت وأنا متخوّف، فقال لي -صلى الله عليه وسلم: "إنك وطئت رجلي بالأمس فأوجعتني فنفحتك بسوط، فهذه ثمانون نعجة فخذها"، ونفحني -بنون ففاء فمهملة- دفعني، ولعله أتى بالتسمية مع نفحة، إرادة أن لا يؤلمه الدفع، "وفي البخاري" في مواضع "من حديث أنس أنه -صلى الله عليه وسلم- أتي" بضم الهمزة، مبني للمفعول، "بمال من" خراج "البحرين" لفظ تثنية بحر بلدة بين بصرة، وعمان، "فقال: "انثروه" بمثلثة "يعني صبوه" فسره به لدفع توهم أنه أمر بنثره مفرقًا "في المسجد" النبوي، وفيه جواز وضع ما يشترك المسلمون فيه من صدقة ونحوها في المسجد، ومحله ما لم يمنع مما وضع المسجد له من صلاة وغيرها مما بني المسجد لأجله، ونحو هذا الوضع وضع زكاة الفطر، ويستفاد منه جواز وضع ما يعم نفعه في المسجد، كالماء لشرب من عطش، ويحتمل التفرقة بين ما وضع للخزن للتفرقة وبين ما يوضع للخزن، فيمنع الثاني دون الأول، قاله الحافظ: "وكان أكثر مالٍ أتي به -صلى الله عليه وسلم" من الدراهم، أو من الخراج، فلا ينافي أنه غنم في حنين ما هو أكثر منه وقسمه، "فخرج إلى المسجد، ولم يلتفت إليه" أي: المال، أي: لم يتعلّق نظره بأخذ شيء منه لنفسه، ولا لأحد من أصحابه به بعينه، ففيه غاية كرمه، وأنه لا يلتفت إلى المال قلَّ أو كَثُر.
"فلمَّا قضى الصلاة جاء، فجلس إليه" أي: عنده، "فما كان يرى أحدًا إلّا أعطاه" منه "إذ جاء العباس" عمه، من غير موعد سابق، قال في المصابيح: المعنى، فبينما هو على ذلك إذ جاءه العباس، "فقال: يا رسول الله أعطني" منه، "فإني فاديت" أي: أعطيت فداء "نفسي" يوم بدر، "فاديت عقيلًا" بفتح العين، وكسر القاف- ابن أبي طالب، وكان أسر مع عمه في غزوة(6/119)
فقال له: "خذ"، فحثى في ثوبه ثم ذهب يقله فلم يستطع، فقال: يا رسول الله، مر بعضهم يرفعه عليّ، قال: "لا"، قال: فأرفعه أنت عليّ، فقال: "لا"، فنثر منه ثم ذهب يقله فلم يستطع, فقال: يا رسول الله, مر بعضهم يرفعه عليّ، قال: "لا"، قال: فارفعه أنت عليّ، قال: "لا"، فنثر منه ثم احتمله, فألقاه على كاهله فانطلق، فما زال -صلى الله عليه وسلم- يتبعه بصره حتى خفي علينا عجبًا من حرصه، فما قام -عليه الصلاة والسلام- وثَمَّ منها درهم.
وفي رواية ابن أبي شيبة...................
__________
بدر، "فقال له: خذ فحثى" بمهملة، ومثلثة، من الحثية، وهي ملء اليد "في ثوبه" أي: حثى العباس في ثوب نفسه، "ثم ذهب يقله" بضم أوله، من الإقلال، وهو الرفع والحمل، أي: يرفعه، "فلم يستطع" حمله، "فقال: يا رسول الله مر بعضهم" بضم الميم، وسكون الراء، وفي رواية: أؤمر بالهمز "يرفعه علي" بالجزم لأنه جواب الأمر, ويجوز الرفع, أي: فهو يدفعه, قاله الحافظ, وقال المصنف: أؤمر بهمزة مضمومة، فأخرى ساكنة، وبحذف الأولى، وتصير الثانية ساكنة، وهذا جار على الأصل، وللأصيلي مُرْ على وزن على، حذف منه فاء الفعل لاجتماع المثلين في أول كلمة، وهو مؤد إلى الاستثقال، فصار أمر، فاستغني عن همزة الوصل المتحرك ما بعدها فحذفت، ولأبي ذر في نسخة: برفعه بموحدة مكسورة، وسكون الفاء، "قال: "لا" آمر أحدًا برفعه" "قال: فأرفعه أنت عليّ، فقال: "لا" أرفعه، وإنما فعل ذلك تنبيهًا له على الاقتصاد، وترك الاستكثار من المال، "فنثر" العباس "منه، ثم ذهب يقله فلم يستطع، فقال: يا رسول الله مر بعضهم يرفعه عليّ، قال: "لا" , قال: فارفعه أنت عليّ، قال: "لا" أرفعه، وكأن العباس فهم أنه لا يكلف بعض أصحابه برفعه، فسأله أن يرفعه هو إدلالًا عليه، "فنثر منه، ثم احتمله، فألقاه على كاهله" أي: بين كتفيه.
قال الحافظ وغيره، قال ابن كثير: كان العباس شديدًا طويلًا نبيلًا، قلَّما احتمل شيئًا يقارب أربعين ألفًا، "فانطلق" وفي رواية، ثم انطلق، وهو يقول: إنما أخذت ما وعد الله، فقد أنجز يشير إلى قوله تعالى: {إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ} [الأنفال: 70] الآية، "فما زال -صلى الله عليه وسلم- يتبعه" بضم أوله، وسكون ثانية، وكسر ثالثه، أي: يتبع العباس، "بصره حتى خفي علينا" غاب شخصه عنا؛ بحيث لا نراه "عجبًا" بالنصب مفعول مطلق، من حرصه، فما قام -عليه الصلاة والسلام" من ذلك المجلس، "وثَمَّ" بفتح المثلثة، أي: هناك "منها" أي: الدراهم "درهم" جملة حالية من مبتدأ مؤخر وهو درهم، وخبره منها، ومراده: نفي أن يكون هناك درهم, فالحال قيد للمنفي لا للنفي، فالمجموع منتفٍ بانتفاء القيد لانتفاء المقيد، وإن كان ظاهره نفي القيام حالة ثبوت الدراهم، قاله البرماوي، والعيني، "وفي رواية ابن أبي شيبة،(6/120)
من طريق حميد بن هلال مرسلًا: كان مائة ألف، وأنه أرسل به العلاء بن الحضرمي من خراج البحرين، قال: وهو أول مال حمل إليه -صلى الله عليه وسلم.
وسايره جابر على حمل له، فقال -عليه الصلاة والسلام: "بعني جملك"، فقال: هو لك يا رسول الله، بأبي أنت وأمي، فقال: "بل بعنيه"، فباعه إياه وأمر بلالًا أن ينقده ثمنه فنقده، ثم قال له -صلى الله عليه وسلم: "اذهب بالثمن والجمل بارك الله لك فيهما" مكافأة لقوله: هو لك، فأعطاه الثمن...........
__________
من طريق حميد بن هلال" العدوي، أبي نصر البصري التابعي الثقة العالم، روى له الستة "مرسلًا، كان" المال "مائة ألف" من الدراهم، "وأنه أرسل به العلاء بن الحضرمي من خراج البحرين، قال: وهو أول مالٍ حُمِلَ إليه -صلى الله عليه وسلم". زاد في الفتح، وعند البخاري في المغازي من حديث عمرو بن عوف، أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صالح أهل البحرين، وأمَّرَ عليهم العلاء بن الحضرمي، وبعث أبا عبيدة بن الجراح إليهم، فقدم أبو عبيدة بمالٍ، فسمعت الأنصار بقدومه. الحديث. فيستفاد منه تعيين الآتي المال، لكن في الردَّة للواقدي أن رسول العلاء ابن الحضرمي بالمال هو العلاء بن جارية الثقف، فلعله كان رفيق أبي عبيدة.
وأما حديث جابر، ففي الصحيح أنه -صلى الله عليه وسلم- قال له: "لو جاء مال البحرين أعطيتك"، وفيه، فلم يقدم مال البحرين حتى مات -صلى الله عليه وسلم، فلا يعارض ما تقدَّم، بل المراد أنه قدم في السنة التي مات فيها؛ لأنه كان مال خراج أو جزية، فكان يقدم من سنة إلى سنة، "وسايره جابر" بن عبد الله في انصرافه من غزوة ذات الرقاع، كما رواه ابن إسحاق عن جابر، وفي البخاري أن ذلك كان في غزوة تبوك، وفي مسلم في غزوة الفتح، "على حمل له" كان قد أبطأ، فلا يكاد يسير، فأمره بإناخته، ونخسه نخسات بعصا، وضربه برجله، ودعا فوثب الجمل، فقال -صلى الله عليه وسلم: "اركب"، فقال جابر: إني أرضى أن يساق معنا، قال: "اركب" فركب، فوالذي نفسي بيده لقد رأيتني وأنا أكنه عنه -صلى الله عليه وسلم- إرادة أن لا يسبقه، "فقال -عليه الصلاة والسلام: "بعني جملك" فقال: هو هبة "لك يا رسول الله" بلا ثمن, فديتك "بأبي أنت، وأمي", أي: لو كان لي إلى الفداء سبيل لفديتك بهما, "فقال: "بل بعنيه" فلا أقبله هبة، "فباعه إياه" بأوقية، أو أربع، أو خمس، أو خمسة دنانير، أو أربعة دنانير، أو دينارين ودرهمين, روايات ذكرها البخاري، "وأمر بلالًا" بعدما رجع إلى المدينة "أن ينقده" -بفتح الياء، وضم القاف على الأكثر، ويجوز ضمَّ الياء وكسر القاف- ثمنه، "فنقده" ثمنه، وزاده عليه شيئًا يسيرًا، كما عند ابن إسحاق، "ثم قال له -صلى الله عليه وسلم: "اذهب بالثمن والجمل، بارك الله لك فيهما" قال ذلك "مكافأة لقوله هو لك، فأعطاه الثمن،(6/121)
ورَدَّ عليه الجمل وزاده الدعاء بالبركة فيهما. وحديثه في البخاري ومسلم.
وقد كان جوده -عليه الصلاة والسلام- كله لله وفي ابتغاء مرضاته، فإنه كان يبذل المال تارة لفقير أو لمحتاج, وتارة ينفقه في سبيل الله، وتارة يتألف به على الإسلام من يقوى الإسلام بإسلامه.
وكان يؤثر على نفسه وأولاده، فيعطي عطاء يعجز عند الملوك مثل كسرى وقيصر، ويعيش في نفسه عيش الفقراء، فيأتي عليه الشهر والشهران لا يوقد في بيته نار، وربما ربط الحجر على بطنه الشريفة من الجوع.
وكان -صلى الله عليه وسلم- قد أتاه سبي، فشكت إليه فاطمة ما تلقى من خدمة البيت, وطلبت منه خادمًا يكفيها مؤنة بيتها، فأمرها أن تستعين بالتسبيح والتكبير والتحميد،.....................
__________
ورَدَّ عليه الجمل، وزاده الدعاء بالبركة فيهما، وحديثه في البخاري" في عشرين موضعًا "ومسلم" وفي ذكره مع التكلّم عليه طول يخرج عن المقصود، وقد تقدَّم إلمامٌ ببعضه في ذات الرقاع.
"وقد كان جوده -عليه الصلاة والسلام- كله لله، وفي ابتغاء مرضاته" عطف تفسير، وعلله بقوله: "فإنه كان يبذل المال تارة لفقير أو لمحتاج، وتارة ينفقه في سبيل الله" الجهاد ونحوه، "وتارة يتألّف به" أي: يطلب به الألفة "على الإسلام من يقوى الإسلام بإسلامه" بأن يطلب دخوله فيه، ومحبته له، وتارة لإنقاذ المتألف من النار وإن لم يقو الإسلام به، "وكان يؤثر" يقدم "على نفسه، وأولاده" فيعطي ما بيده للمحتاج، ويتحمل المشقة هو وعياله، "فيعطي عطاء يعجز" بكسر الجيم، أفصح من فتحها، "عند الملوك" العظام، "مثل كسرى" بكسر الكاف، وقد تفتح، "وقيصر" ملك الروم "ويعيش في نفسه عيش الفقراء, فيأتي عليه الشهر والشهران لا يوقد في بيته نار" كما ورد في الحديث "وربما ربط الحجر على بطنه خلاف الظهر مذكر، وتأنيثه لغة حكاها أبو عبيدة، وعليها جرى قوله "الشريفة من الجوع".
"وكان -صلى الله عليه وسلم- قد أتاه" قوم "سبى" وصف بالمصدر، "فشكت إليه" ابنته "فاطمة" رضي الله عنها "ما تلقى" أي: المشقة التي تلقاها، "من خدمة البيت، طلبت منه خادمًا" يقع على الأنثى، والذكر "يكفيها مؤنة بيتها" من السبي، "فأمرها أن تستعين بالتسبيح" أي: قول سبحان الله عند النوم ثلاثًا وثلاثين، "والتكبير" أي قول: الله أكبر كذلك، "والتحميد" قول: الحمد لله(6/122)
وقال: "لا أعطيك وأدع أهل الصفة تطوى بطونهم من الجوع".
وأتته امرأة ببردة.........................
__________
كذلك، "وقال: "لا أعطيك" خادمًا من السبي، "وأدع أهل الصفة" الفقراء "تطوى بطونهم من الجوع" , فمنع أحب أهله إليه شفقة على الفقراء، وهذا الحديث رواه أحمد، عن علي أنه قال لفاطمة: لقد سنوت حتى اشتكيت صدري، وقد جاء الله أباك بسبي، فاذهبي فاستخدميه، فقالت: وأنا والله لقد طحنت حتى مجلت يداي، فأتت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "ما جاء بك أي بنية؟ " قالت: جئت لأسلِّم عليك، واستحيت أن تسأله، ورجعت فقال: "ما فعلت"؟، قالت: استحييت أن أسأله، فأتيا جميعًا النبي -صلى الله عليه وسلم، فقال علي: يا رسول الله، لقد سنوت حتى اشتكيت صدري, وقالت فاطمة: لقد طحنت حتى مجلت يداي، وقد جاء الله بسبي وسعة، فأخدمنا، فقال: "والله لا أعطيكم، وأدع أهل الصفة تطوى بطونهم من الجوع، لا أجد ما أنفق عليهم، ولكن أبيعهم، وأنفق عليهم أثمانهم" فرجعا، فأتاهما النبي -صلى الله عليه وسلم، وقد دخلا في قطيفتهما، إذا غطت رءوسهما كشفت أقدامها، وإذا غطت أقدامهما كشفت رءوسهما، فثارا، فقال: مكانكما, ثم قال: "ألا أخبركما بخير مما سألتماني"؟، قالا: بلى. قال: "كلمات علمنيهنَّ جبريل: تسبحان في دبر كل صلاة عشرًا، وتحمدان عشرًا وتكبران عشرًا، فإذا أويتما إلى فراشكما، فسبحا ثلاثًا وثلاثين، واحمدا ثلاثًا وثلاثين، وكبرا أربعًا وثلاثين".
ومجلت، بفتح الجيم، وكسرها، انقطعت من كثرة الطحن، والحديث في البخاري ومسلم عن علي، إن فاطمة شكت ما تلقى من أثر الرحى، فأتى النبي -صلى الله عليه وسلم- سبي، فانطلقت فلم تجده، فوجدت عائشة فأخبرتها، فلما جاء النبي -صلى الله عليه وسلم- أخبرته عائشة بمجيء فاطمة، فجاء النبي -صلى الله عليه وسلم- إلينا، وقد أخذنا مضاجعنا، فذهبت لأقوم، فقال: "على مكانكما" فقعد بيننا حتى وجدت برد قدميه على صدري، وقال: "ألا أعلمكما خيرًا مما سألتماني، إذا أخذتما مضاجعكما من الليل، تكبران ثلاثًا وثلاثين، وتسبحان ثلاثًا وثلاثين، وتحمدان ثلاثا وثلاثين، فهو خير لكما من خادم".
قال القاضي عياض: معنى الخيرية أنَّ عمل الآخرة أفضل من أمور الدنيا، وقال ابن تيمية: فيه أن من واظب على هذا الذكر عند النوم لم يصبه إعياء؛ لأن فاطمة شكت التعب من العمل، فأحالها عليه، "وأتته امرأة".
قال الحافظ: لم أقف على اسمها "ببردة" منسوجة فيها حاشيتها، كما في البخاري، مرفوع بمنسوجة؛ لأن اسم المفعول يعمل عمل فعله، كاسم الفاعل، قال الداودي: يعني أنها لم(6/123)
فقالت: يا رسول الله أكسوك هذه، فأخذها النبي -صلى الله عليه وسلم- محتاجًا إليه فلبسها، فرآها عليه رجل من الصحابة فقال: يا رسول الله, ما أحسن هذه فاكسنيها, فقال صلى الله عليه وسلم: "نعم"، فلما قدم -صلى الله عليه وسلم- لامه............
__________
تقطع من ثوب، فتكون بلا حاشية، وقال غيره: حاشية الثوب هديه، وكأنه أراد أنها جديدة لم يقطع هدبها، ولم تلبس، قال القزاز: حاشيتا الثوب ناحيتاه اللتان في طرفيهما الهدب، ولفظ البخاري في الأدب: جاءت امرأة ببردة، فقال سهل للقوم: أتدون ما البردة، قالوا: الشملة, قال سهل: هي شملة منسوجة فيها حاشيتها، "فقالت: يا رسول الله أكسوك هذه؟ " وفي رواية الجنائز، قال: "نعم" قالت: قد نسجتها بيدي، فجئت لأكسوكها.
قال الحافظ: وتفسير البردة بالشملة تجوز؛ لأن البردة كساء, والشملة ما اشتمل به فهي أعمّ، لكن لما أكثر اشتمالهم بها أطلقوا عليها اسمها، "فأخذها النبي -صلى الله عليه وسلم- محتاجًا إليها" كأنهم عرفوا ذلك بقرينة حال، أو تقدّم قول صريح، "فلبسها" لفظ الأدب، وفي رواية الجنائز، فخرج إلينا، وأنها إزاره، ولابن ماجه: فخرج إلينا فيها. وللطبراني: فأتزر بها ثم خرج، "فرآها عليه رجل من الصحابة" أفاد المحب الطبري في الأحكام أنه عبد الرحمن بن عوف، وعزاه للطبراني، ولم أره في المعجم الكبير، ولا في مسند سهل، ولا في مسند عبد الرحمن، وقد أخرج الطبراني الحديث.
وقال في آخره: قال قتيبة: هو سعد بن أبي وقاص، وأخرجه البخاري في اللباس، والنسائي في الزينة عن قتيبة، ولم يذكرا عنه ذلك، ورواه ابن ماجه.
وقال فيه: فجاء رجل سماه يومئذ، وهو دال على أن الراوي ربما سماه في رواية أخرى للطبراني، من طريق زمعة بن صالح عن أبي حازم عن سهل، أن السائل المذكور أعرابي، فلو لم يكن زمعة ضعيفًا لانتفى أن يكون هو عبد الرحمن بن عوف، أو سعد بن أبي وقاص، أو يقال: تعددت القصة على ما فيه من بعد، وقول شيخنا ابن الملقن: إنه سهل ابن سعد غَلَطٌ التبس عليه اسم القائل باسم الراوي، قاله الحافظ: "فقال: يا رسول الله ما أحسن" بنصبه تعجبًا، "هذه" البردة "فاكسنيها" لفظ الأدب, ولفظ الجنائز عقب أنها إزاره فحسنها فلان، فقال: اكسنيها ما أحسنها.
قال الحافظ: فحسنها كذا، في جميع الروايات هنا، أي: في الجنائز -بمهملتين- من التحسين، وللبخاري، وفي اللباس، فجسَّها -بجيم، بلا نون، وكذا للطبراني، والإسماعيلي من طريق أخر، "فقال -صلى الله عليه وسلم: "نعم" اكسوكها، وللبخاري في اللباس، فجلس ما شاء الله في المجلس، ثم رجع، فطواها، فأرسل بها إليه، "فلما قال -صلى الله عليه وسلم- لامه" أي: السائل، "أصحابه،(6/124)
أصحابه، وقالوا: ما أحسنت حين رأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- أخذها محتاجًا إليها ثم سألته إياها، وقد عرفت أنه لا يسأل شيئًا فيمنعه. رواه البخاري من حديث سهل بن سعد.
وفي رواية ابن ماجه والطبراني قال: "نعم" , فلما دخل طواها وأرسل بها إليه.
وأفاد الطبراني في رواية زمعة بن صالح أنه -صلى الله عليه وسلم- أمر أن يصنع له غيرها, فمات قبل أن يفرغ منها.
وفي هذا الحديث من الفوائد: حسن خلقه -صلى الله عليه وسلم- وسعة جوده.
واستنبط منه السادة الصوفية: جواز استدعاء المريد خرقة التصوّف من
__________
وقالوا: ما" نافية "أحسنت حين رأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- أخذها".
وفي رواية: لبسها "محتاجًا إليها، ثم سألته إياها، وقد عرفت أنه لا يسأل شيئًا فيمنعه" وفي رواية: لا يرد سائلًا, بقيته في البخاري فقال: رجوت بركتها حين لبسها النبي -صلى الله عليه وسلم، لعلي أكفَّن فيها. وفي رواية للبخاري أيضًا، فقال الرجل: والله ما سألتها إلّا لتكون كفني يوم أموت. قال سهل: فكانت كفنه، وبَيِّنَ في رواية الطبراني المعاتب له من الصحابة، ولفظه: قال سهل: فقلت للرجل: لِمَ سألته وقد رأيت حاجته إليها، فقال: رأيت ما رأيتم، ولكني أردت أن أخبأها حتى أكفَّن فيها. وفي رواية فتح الباري في الجنائز، قال: والله إني ما سألته لألبسها، إنما سألته لتكون كفني، قال سهل: فكانت كفنه، "رواه البخاري" في الجنائز، والبيوع، والأدب، واللباس، "من حديث سهل بن سعد" الساعدي.
"وفي رواية ابن ماجه، والطبراني، قال: "نعم" أكسوكها، "فلما دخل طواها، وأرسل بها إليه", وكذا البخاري في اللباس، بعد قوله قال: "نعم"، وقيل: قوله، فلمَّا قام، وإنما أوقع المصنف أنه نقل هذا من الفتح، في الجنائز مع أنه إنما صدَّر بعزوه لهما لقوله من هذا الوجه، أي: الذي أخرجه منه البخاري في الجنائز، وقال عقبة: وهو للمصنف، أي: البخاري في اللباس، من طريق يعقوب بن عبد الرحمن، بلفظ، فقال: "نعم"، فجلس ما شاء الله في المجلس، ثم رجع فطواها، ثم أرسل بها إليه، "وأفاد الطبراني في رواية زمعة" بسكون الميم، "ابن صالح" الجندي -بضم الجيم, والنون- اليماني, نزيل مكة, ضعيف من السادسة، أي: في روايته، من طريق زمعة، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد، "أنه -صلى الله عليه وسلم أمر أن يصنع له غيرها" يحتمل بناؤه للفاعل، فالمأمور بالصنع من دفعت إليه البردة، أو للمفعول، فالصانع المرأة، أو غيرها، "فمات قبل أن يفرغ منها" صلى الله عليه وسلم, "وفي هذا الحديث من الفوائد حسن خلقه -صلى الله عليه وسلم- وسعة جودة", وقبوله الهدية، وغير ذلك، "واستنبط منه السادة الصوفية، جواز استدعاء المريد خرقة التصوف، من المشايخ تبركًا بهم،(6/125)
المشايخ تبركًا بهم وبلباسهم، كما استدلوا لإلباس الشيخ للمريد بحديث أنه -صلى الله عليه وسلم- ألبس أم خالد خميصة سوداء ذات علم. رواه البخاري.
لكن قال شيخنا: ما يذكرونه من أن الحسن البصري لبسها من علي بن أبي طالب، فقال ابن دحية وابن الصلاح: إنه باطل، وقال شيخ الإسلام الحافظ بن حجر: ليس في شيء من طرقها ما يثبت، ولم يرد في خبر صحيح ولا حسن ولا ضعيف أنه -صلى الله عليه وسلم- ألبس الخرقة على الصورة المتعارفة بين الصوفية لأحد من أصحابه، ولا أمر أحدًا من أصحابه بفعلها، وكل ما يروى صريحًا في ذلك فباطل, قال: ثم إنَّ من الكذب................
__________
وبلباسهم، كما استدلّوا لإلباس الشيخ للمريد بحديث أنه -صلى الله عليه وسلم- ألبس أم خالد" أمة، بفتح الهمزة، والميم، بنت خالد بن سعيد بن العاصي، القرشية الأموية، ولأبويها صحبة، وكانا ممن هاجر إلى الحبشة وولدت بها، وقدما بها وهي صغيرة، وتزوجها الزبير بن العوام، فولدت منه خالدًا، وبه تكنَّى، وعمرت لحقها موسى بن عقبة "خميصة سوداء" -بفتح الخاء المعجمة، وكسرت الميم، وسكون التحتية، فصاد مهملة- ثوب من حرير، أو ثوب معلم، أو كساء مربع له علمًا، أو كساء رقيق من أي لون كان، أو لا يكون خميصة إلا إذا كانت سوداء معلمة.
ذكره المصنف "ذات علم، رواه البخاري" في مواضع عن أم خالد, أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- بثياب فيها خميصة وداء صغيرة، فقال: من ترون نكسو الخميصة؟، فسكت القوم، قال: "ائتوني بأم خالد" فأتي بها تحمل، فأخذ الخميصة بيده فألبسها، وقال: "أبلي وأخلقي"، وكان فيها علم أخضر، أو أصفر، فقال: "أم خالد هذا سناه, وسناه بالحبشة حسن" -وهو بفتح السين المهملة، والنون، فألف، فهاء ساكنة- فكلمها -عليه السلام- بلغة الحبشة لولادتها بها، وفي رواية له عنها: أتيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مع أبي، وعليَّ قميص أصفر، قال -صلى الله عليه وسلم: "سنه سنه"، فذهبت ألعب بخاتم النبوة، فزبرني أبي، فقال -صلى الله عليه وسلم: "دعها أبلى، وأخلقي أبلى، وأخلقي، أبلي، وأخلقي"، قال ابن المبارك: فبقيت حتى ذكر، أي: الراوي زمنًا طويلًا، أي: طال عمرها بدعائه -صلى الله عليه وسلم، "لكن قال شيخنا" السخاوي: "ما يذكرونه" أي: الصوفية، "من أن الحسن البصري لبسها من علي بن أبي طالب، فقال ابن دحية، وابن الصلاح: إنه باطل، وقال شيخ الإسلام الحافظ بن حجر: ليس في شيء من طرقها ما يثبت، ولم يرد في خبر صحيح ولا حسن ولا ضعيف أنه -صلى الله عليه وسلم- ألبس الخرقة على الصورة المتعارفة بين الصوفية لأحد من أصحابه، ولا أمر أحدًا من أصحابه بفعلها، وكل ما يروى صريحًا في ذلك فباطل، قال:" أي: الحافظ: "ثم إن من الكذب المفترى(6/126)
المفترى قول من قال: إن عليًّا ألبس الخرقة الحسن البصري، فإن أئمة الحديث لم يثبتوا للحسن من علي سماعًا فضلًا عن أن يلبسه الخرقة.
وكذا قال الدمياطي والذهبي والعلائي ومغلطاي والعراقي والأبناسي والحلبي وغيرهم, من كون جماعة منهم لبسوها وألبسوها تشبها بالقوم،..................
__________
قول من قال: إن عليًّا ألبس الخرقة الحسن البصري، فإن أئمة الحديث" أي: جمهورهم، "لم يثبتوا للحسن من علي سماعًا, فضلًا عن أن يلبسه الخرقة.
قال السخاوي: ولم ينفرد شيخنا يعني: الحافظ بذلك، بل سبقه إليه جماعة حتى ممن لبسها وألبسها، كالدمياطي، والذهبي إلخ..... فاختصره المصنف، فقال: "وكذا قال الدمياطي، والذهبي، والعلائي، ومغلطاي، والعراقي، والأبناسي" بفتح الهمزة، وسكون الموحدة، بعدها نون، ثم سين مهملة، نسبة إلى أبناس، قرية صغيرة بالوجه البحري من أرض مصر، منها العلامة البرهان إبراهيم بن موسى بن موسى، بن أيوب الشافعي الورع الزاهد المحقق، شيخ الشيوخ بمصر, ولد سنة خمس وعشرين وسبعمائة، وصنَّف وأخذ عن الأسنوي وغيره، وولي مشيخة سعيد السعداء، وعُيِّنَ لقضاء الشافعية فاحتفى، وكان مشهورًا بالصلاح, تقرأ عليه الجن، مات سنة اثنتين وثمانمائة راجعًا من الحج، ودفن بعيون القصب، وليس ضبطه في الأنساب للسيوطي، كما زعم، "والحلبي" الحافظ برهان الدين صاحب النور، والمقتفي، وشرح البخاري، وغير ذلك، "وغيرهم" كالهكاري، وابن الملقن، وابن ناصر الدين، وتكلم عليها في جزء مفرد، "مع كون جماعة منهم لبسوها وألبوها تشبهًا بالقوم" إلى هنا كلام شيخه السخاوي، وللحافظ السيوطي مؤلَّف سماه: إتحاف الفرقة برفو الخرقة، ذكر فيه أن جمعًا من الحفاظ أثبتوا سماع الحسن من علي، والحافظ ضياء الدين في المختارة رجَّحه، وتعبه الحافظ في أطرافها، وهو الراجح عندي لقاعدة الأصول أنَّ المثبت مقدَّم على النافي؛ لأن معه زيادة علم؛ ولأن الحسن ولد اتفاقًا لسنتين بقيتا من خلافة عمر، وكانت أمه خيرة مولاة أم سلمة، فكانت أم سلمة تخرجه إلى الصحابة، فيباركون عليه، وأخرجته إلى عمر، فدعا له فقال له: اللهم فقهه في الدين، وحببه إلى الناس، أخرجه العسكري بسنده، وذكر المزي أنه حضر يوم الدار وله أربع عشرة سنة، ومعلوم أنه من حين بلغ سبع سنين أمر بالصلاة، فكان يحضر الجماعة ويصلي خلف عثمان حتى قتل، ولم يخرج علي للكوفة إلّا بعد قتله، فكيف ينكر سماع الحسن منه وهو كل يوم يجتمع به خمس مرات، من حين مَيِّز إلى أن بلغ أربع عشرة سنة، وقد كان علي يزور أمهات المؤمنين، ومنهم أم سلمة، والحسن في بيتها هو وأمه، وقد ورد عن الحسن ما يدل على سماعه منه، روى المزي(6/127)
نعم ورد لبسهم لها مع الصحبة المتصلة إلى كهيل بن زياد، وهو صحب علي بن أبي طالب من غير خلف في صحبته له بين أئمة الجرح والتعديل.
وفي بعض الطرق اتصالها بأويس القرني، وهو اجتمع بعمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب, وهذه صحبة لا مطعن فيها، وكثير من السادة يكتفي بمجرد الصحبة................
__________
من طريق أبي نعيم أن يونس بن عبيد قال للحسن: إنك تقول: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم، ولم تذكره, قال: يا ابن أخي, لقد سألتني عن شيء ما سألني عنه أحد قبلك، ولولا منزلتك مني ما أخبرتك، أني في زمان كما ترى، وكان في عمل الحجاج كل شيء، سمعتني أقول, قال رسول -الله صلى الله عليه وسلم، فهو عن عليّ, غير أني لا أستطيع أن أذكر عليًّا.
ثم ذكر ما أخرجه الحفاظ من رواية الحسن عن علي، فبلغ عشرة أحاديث ساقها، وذكر في خلالها قول ابن المديني، الحسن رأى عليًّا بالمدينة وهو غلام، وقال أبو زرعة: كان الحسن البصري يوم بويع عليّ ابن أربع عشرة سنة، ورأى عليًّا بالمدينة، وقال: رأيت الزبير [بايع] عليًّا، ثم خرج إلى الكوفة والبصرة، ولم يلقه الحسن بعد ذلك، ففي هذا القدر كفاية، ويحمل قول النافي على ما بعد خروج علي من المدينة، وروى أبو يعلى, حدثنا جويرية بن أشرس، قال: أخبرنا عقبة بن أبي الصهباء الباهلي، قال: سمعت الحسن يقول: سمعت عليُّا يقول: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "مثل أمتي مثل المطر" الحديث. قال الحافظ في تهذيب التهذيب: قال محمد بن الحسن الصيرفي شيخ شيوخنا: هذا نص في سماع الحسن من عي، ورجاله ثقات، انتهى ملخصًا.
وليس في [ذاك الرفع] كله إثبات الدعوى، أن عليًّا ألبس الحسن الخرقة على متعارف الصوفية، وكذا قول المصنف "نعم ورد لبسهم لها، مع الصحبة المتصلة إلى كهيل" بضم الكاف، وفتح الهاء، "ابن زياد" النخيع، ثقة رمي بالتشيع، وكان شريفًا مطاعًا في قومه.
قال خليفة: قتله الحجاج سنة اثنتي وثمانين، وحكى ابن أبي خيثمة عن يحيى بن معين مات كهيل سنة ثمان وثمانين، وهو ابن سبعين سنة، روى له النسائي، "وهو صحب علي بن أبي طالب" وروى عنه وعن عمر وعثمان وابن مسعود وأبي مسعود وأبي هريرة, وروى عنه الأعمش وأبو إسحاق السبيعي، وغيرهما "من غير خلف في صحبته له بين أئمة الجرح والتعديل" لا دلالة فيه على الدعوى، وهو أن عليًّا ألبسها كهيلًا، إنما هو احتمال، ولا تقوم به حجة، "وفي بعض الطرق" للخرقة، "اتصالها بأويس" بن عامر "القرني" بفتحتين، خير التابعين، "وهو اجتمع بعمر بن الخطاب، وعلي ابن أبي طالب، وهذه صحبة لا مطعن فيها" لكن لا تدل على الدعوى نصًّا, إنما هو احتمال، "وكثير من السادة" الصوفية "يكتفي بمجرد الصحبة،(6/128)
كالشاذلي وشيخنا أبي إسحاق المتبولي.
وكان يوسف العجمي يجمع بين تلقين الذكر وأخذ العهود واللبس وله في ذلك رسالته ريحان القلوب، قرأتها على ولد ولده العارف بالله تعالى المسلك سيدي علي، مع إلباسه لي الخرقة والتلقين والعهد.
وللشيخ قطب الدين القسطلاني "ارتقاء الرتبة في اللباس والصحبة" والله تعالى يهدينا إلى سواء السبيل.
__________
كالشاذلي"، إمام الطريقة، "وشيخنا أبي إسحاق" إبراهيم بن علي بن عمر الأنصاري "المتبولي" الأحمدي الصوفي، كان ذا عقل راجح، وتمكُّن قوي من نفسه، فلا تحكم عليه الأعراض النفسانية، وله معرفة تامة بالتربية، مع كون أميامات ذاهبًا إلى القدس بسدوس، وبها دفن سنة نيف وثمانين وثمانمائة، "وكان يوسف" بن عبد الله بن عمر "العجمي" أبو المحاسن الكرواني، ثم المصري، المتجرِّد من الدنيا لا يبيت على معلوم، عرضت عليه الإقطاعات فأباها، وكان أعجوبة زمانه في التسليك، وله أتباع ومريدون كثير.
"يجمع بين تلقين الذكر، وأخذ العهود، واللبس، وله في ذلك رسالته ريحان القلوب، قرأتها على ولد ولده, العارف بالله تعالى المسلك سيدي علي, مع إلباسه لي الخرقة، والتلقين والعهد" على طريق جده، "وللشيخ قطب الدين القسطلاني" كتاب "ارتقاء الرتبة في اللباس والصحبه، والله تعالى يهدينا إلى سواء السبيل" الطريق السوي.(6/129)
الفصل الثالث: فيما تدعو ضرورته إليه من غذائه وملبسه ومنكحه وما يلحق بذلك
وفيه أربع أنواع:
__________
الفصل الثالث:
من المقصد الثالث: "فيما،" أي: أشياء "تدعو ضرورته" حاجته الشديدة "إليه،" أي: الأشياء، وأفرد الضمير رعاية للفظ ما، ويجوز تفسيره بشيء، فالإفراد في محله، ولم يقل حاجته، للإشارة إلى أنه لا يلتفت لدفع الحاجة إلّا إذا اشتدت، فإن خفَّت لم يلتفت لدفعها إلّا بالنسبة ولا لأهله، ومقتضى القاموس أن الحاجة أعم من الضرورة، "من غذائه" بكسر الغين، والدال المعجمتين، والمد، ما به نماء الجسم، وقوامه من طعام وشراب، "وملبسه" بوزن مذهب ما يلبسه، "ومنكحه" ما ينكحه من زوجة أو أمة، "وما يلحق بذلك" من كل هو محتاج إليه، كزيت وطيب، وفرش ومركوب، ووجه إلحاقها شدة الاحتياج لها، كالغداء وتابعيه؛ "وفيه أربعة أنواع" من ظرفية الكل إلى إجرائه.(6/129)
المقصد الرابع: في معجزاته -صلى الله عليه وسلم- الدالة على ثبوت نبوته
مدخل
...
المقصد الرابع: في معجزاته -صلى الله عليه وسلم- الدالة على ثبوت نبوته
كتاب في المعجزات والخصائص:
وصدق رسالته, وما خص به من خصائص آياته, وبدائع كراماته, وفيه فصلان:
الأول: في معجزاته.
اعلم أيها المحب لهذا النبي الكريم، والرسول العظيم -سلك الله بي وبك
__________
المقصد الرابع في معجزاته صلى الله عليه وسلم الدالة على ثبوت نبوته
كتاب في المعجزات والخصائص:
صفة لازمة لا مخصصة؛ إذ كلها دال على ذلك، "وصدق رسالته" شدتها وقوتها لدلالة معجزاته على تحقق رسالته تحققًا لا مرية فيه, وذلك مستلزم لشدتها.
وفي القاموس: الصدق بالكسر: الشدة، والرسالة بالكسر والفتح اسم مصدر من أرسل رسولًا: بعثه برسالة يؤديها، فيجوز حملها على ما بُعِثَ به من الأحكام ليؤديها، وعلى بعثه بما جاءه من الوحي، لكن وصفها بالصدق على هذين مجاز, بناءً على ما شاع من استعمال الصدق في الأقوال خاصة، فالأوَّل أولى "وما خص به" أي: ثبت له من الأمور الفاضلة دون غيره، إما من الأنبياء أو الأمم، وهو عطف على معجزاته عام على خاص، أو من عطف ما بينه وبين المعطوف عموم وخصوص وجهي، "من خصائص آياته" من إضافة الصفة للموصوف، أي: آياته الخاصة, أي: الفاضلة في الشرف على غيرها، وبهذا لا يرد أنه عين قوله، وما خص به وشرط المبين بالكسر زيادته على المبين بالفتح، "وبدائع كراماته" جمع كرامة أمر خارق للعادة غير مقرون بدعوى النبوة، ولا هو مقدمة لها تظهر على يد عبد ظاهر الصلاح ملتزم لمتابعة نبي كلف بشريعته, مصحوب بصحيح الاعتقاد والعمل الصالح، علم بها أو لم يعلم, فدخل في أمر خارق جنس الخوارق، وخرج بغير مقرون بدعوى النبوة المعجزة، وبنفي مقدمتها الإرهاص، وبظهور الصلاح ما يسمَّى معونة مما يظهر على يد بعض العوام، وبالتزام متابعة نبي ما يسمَّى إهانة كالخوارق المؤكدة لكذب الكذابين، كبصق مسيلمة في البئر، وبالمصحوب بصحيح الاعتقاد الاستدراج, كما خرج السحر من جهات عدَّة، كما قال السبكي.
قال ابن أبي شريف: والذي يتلخَّص من كلام من تكلَّم في الخوارق أنها ستة أنواع إرهاص، وهو ما أكرم به النبي -صلى الله عليه وسلم- قبل النبوة، ومعزة وهو ما ظهر بعد دعوى النبوة وكرامة للولي، ومعونة واستدراج وإهانة، "وفيه فصلان":
"الأول: في معجزاته" أي: بعضها؛ إذ هو لم يستوفها.
"اعلم أيها المحب لهذا النبي الكريم والرسول العظيم، سلك" ذهب الله بي وبك"(6/405)
مناهج سنته، وأماتنا على محبته بمنه ورحمته- أنَّ المعجزة هي الأمر الخارق للعادة المقرون بالتحدي الدال على صدق الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام.
وسميت معجزة لعجز البشر عن الإتيان بمثلها، فعلم أن لها شروطًا.
أحدها: أن تكون خارقة للعادة، كانشقاق القمر، وانفجار الماء من بين أصابعه، وقلب العصا حية،....
__________
قال في المختار: السلك بالفتح مصدر سلك الشيء في الشيء فانسلك، أي: أدخله فيه فدخل, وبابه نصر، قال تعالى: {كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ} وأسلكه فيه لغة، ولم يذكر في الأصل, يعني: الجوهري, سلك الطريق إذا ذهب، وبأنه دخل، وأظنَّه سها عن ذكره؛ لأنه مما لا يترك قصدًا "مناهج سنته،" أي: الطرق الموصلة إلى سيرته الحميدة -جمع منهج كمذهب, ويجمع أيضًا على منهاج، "وأماتنا على محبته" المراد سؤال الإخلاص في حبه ودوام ذلك للموت، فلا يزول عنه ما دام حيًّا لا سؤال الموت، ولا أنَّه مع المحبة، وإن سبقه انتفاؤها "بمنِّه" إنعامه لا تعداد النعم, بقرينة أن المطلوب أصل النعم، ورحمته إنعامه أو إرادته, فعطفها على مَنِّه مراد على الأول, ومن عطف السبب على المسبب على الثاني, أي: إرادته الرحمة؛ إذ الإرادة سبب للمنِّ، "أن المعجزة هي الأمر الخارق للعادة" وجوديًّا، كنبع الماء من الأصابع أو عدميًّا كنجاة إبراهيم من النار، المقرون بالتحدي الدال على صدق الأنبياء" صفة لازمة؛ إذ كل خارق مقرون بدعوى الرسالة دالّ على صدقهم "عليهم الصلاة والسلام، وسميت معجزة لعجز البشر عن الإتيان بمثلها"؛ إذ لا ينسب شيء منها لكسبهم لخرقها للعادة، "فعلم" من هذا التعريف "أن لها شروطًا" أركانًا أربعة لابُدَّ منها, لا ما كان خارج الماهية؛ إذ الخارق للعادة المقرون بالتحدي مفهوم المعجزة لا خارج عنها, وما كان كذلك ركن لا شرط.
"أحدها: أن تكون خارقة للعادة: بأن ينقطع أثر على سبب جرت العادة الإلهية بترتُّبه عليه، كانقطاع الإحراق عن نار نمروذ في حق إبراهيم، وبأن يترتَّب أثر على سبب لم تجر العادة الإلهية بترتُّبه عليه، كانشقاق القمر" للمصطفى، وانفجار الماء من بين أصابعه" صلى الله عليه وسلم، "وقلب العصا حية" لموسى -عليه الصلاة والسلام.
وروي عن ابن عباس والسدي: أنه لما ألقى عصاه صارت حية عظيمة، صفراء، شعراء فاغرة، أي: فاتحة فاها بين لحييها ثمانون ذراعًا، وارتفعت عن الأرض بقدر ميل، وقامت على ذنبها ووضعت لحيها الأسفل على الأرض، والآخر على سور القصر، ثم توجهت نحو فرعون، روي أنها أخذت قبته بين نابيها، فهرب وأحدث، قيل: أخذه البطن في ذلك اليوم أربعمائة مرة(6/406)
وإخراج ناقة من صخرة،.......................................
__________
وانهزم الناس مزدحمين، فمات منهم خمسة وعشرون ألفًا، قتل بعضهم بعضًا، فأخذها فعادت عصاه. ذكره البغوي، وفي التنزيل: {فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ} ، وفيه {فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى} .
قال البغوي: الثعبان الذكر العظيم من الحيات، ولا ينافيه قوله: {كَأَنَّهَا جَانٌّ} ، والجان الحية الصغيرة؛ لأنها كانت كالجانّ في الخفة والحركة، وهي في جثتها حية عظيمة.
"وإخراجه ناقة من صخرة" لصالح -عليه السلام، كما ذكر ابن إسحاق وغيره: أن عادًا لما هلكت عمَّرت ثمود بعدها وكثروا، وعمروا إعمارًا طوالًا حتى جعل أحدهم يبني المسكن من المدر فينهدم والرجل حي, فنحتوا البيوت من الجبال، وكانوا في سعة، فعتوا وأفسدوا وعبدوا الأصنام، فبعث الله إليهم صالحًا من أوسطهم نسبًا وأفضلهم حسبًا وموضعًا، وهو شاب، فدعاهم إلى الله حتى شمط وكبر، لا يتبعه إلّا قليل مستضعفون، فألحَّ عليهم بالدعاء، وأكثر لهم التخويف، فسألوه آية تصدقه، فقال: أية آية تريدون, قالوا: تخرج معنا غدًا إلى عيدنا، وكان لهم عيد يخرجون فيه بأصنامهم في يوم معلوم من السنة، فتدعوا إلاهك وندعو آلهتنا، فإن استجيبت لك اتبعناك، وإن استجبت لنا اتبعتنا، فقال صالح: نعم، فخرج معهم، وخرجوا بأوثانهم إلى عيدهم، فسألوها أن لا يستجاب لصالح في شيء من دعائه، فلم تجبهم، فقال سيدهم جندع بن مرو: يا صالح، أخرج لنا من هذه الصخرة لصخرة منفردة في ناحية من الحجر، يقال لها الكاثبة: ناقة مخترجة، جوفاء، وبراء، عشراء، والمخترجة ما شاكل البخث من الإبل، فإن فعلت صدقناك وآمنَّا بك، فأخذ صالح مواثيقهم بذلك، فقالوا: نعم، فصلى ركعتين ودعا ربه، فتمخَّضت الصخرة تمخّض النتوج بولدها، ثم تحركت الهضبة فانصدعت عن ناقة، كما وصفوا لا يعلم ما بين جنبيها إلّا الله عظمًا, وهم ينظرون, ثم نتجت سبقًا، بمهملة مفتوحة، وقاف ساكنة وموحدة، أي ولدًا، وهم ينظرون مثلها في العظم، فآمن به جندع ورهط من قومه، وأراد أشرافهم الإيمان، فنهاهم دواب ابن عمرو بن لبيد، والحباب صاحبا أوثانهم، ورباب بن صمعر كاهنهم, فقال صالح: هذه ناقة الله لها شرب ولكم شرب يوم معلوم، فمكثت الناقة وسقبها ترعى الشجرة وتشرب الماء غبًّا، فما ترفع رأسها حتى تشرب كل ما في البئر، فلا تدع قطرة، ثم ترفع رأسها فتتفحج فيحلبون ما شاءوا، فيشربون ويدخرون حتى يملؤوا أوانيهم كلها، ثم تصدر من غير الفج الذي منه وردت، لا تقدر أن تصدر من حيث ترد، يضيق عنها حتى إذا كان الغد يومهم، فيشربون ما شاءوا من الماء ويدَّخرون ليوم الناقة، فهم من ذلك في سعة ودعة، وكانت تصيف بظهر الوادي مواشيهم إلى ظهره، فأضرَّ ذلك مواشيهم للبلاء والاختبار, وكبر ذلك عليهم, فأجمعوا(6/407)
وإعدام جبل.
فخرج غير الخارق للعادة كطلوع الشمس كل يوم.
الثاني: أن تكون مقرونة بالتحدي، وهو طلب المعارضة والمقابلة.
قال الجوهري: يقال: تحديت فلانًا، إذا باريته في فعل ونازعته......... ..........
__________
على عقرها، وكانت عنيزة أم غنم لها بنات حسان، وإبل، وبقر، وغنم، وصدوف بنت المحيا، وكانت جميلة، وكانتا من أشد الناس عداوة لصالح, وتحبان عقرها لما أضرَّ بمواشيهما، فدعت صدوف ابن عمها مصدع بن مهرج بن المحيا، وجعلت له نفسها على عقر الناقة فأجابها، ودعت عنيزة قدار بن سالف، رجلًا أحمر أزرق قصيرًا عزيزًا، متبعًا في قومه، فقال: أعطيك أي بناتي شئت على أن تعقر الناقة, فانطق هو ومصدع فاستغويا غواة ثمود، فاتبعهم سبعة، فانطلقوا فرصدوها حين صدرت عن الماء، وكمن لها قدار في أصل صخرة على طريقها، وكَمُنَ مصدع في أخرى، فمرّت عليه، فرمى بسهم، فانتظم به عضلة ساقها، فشد قدار عليها بالسيف، فكشف عرقوبها، فخرت ورغت، ثم نحرها في لبتها، فخرج أهل البلد، فاقتسموا لحمها وطبخوه، فانطلق سقبها حتى أتى جبلًا منيعًا يقال له: صنو، وقيل: فاره وأتى صالح، فقيل له: عقرت الناقة، فأقبل وخرجوا يعتذرون، إنما عقرها فلان ولا ذنب لنا, فقال صالح أدركوا الفصل، فعسى أن يرفع عنكم العذاب، فلمَّا رأوه على الجبل ذهبوا ليأخذوه، فأوحى الله إلى الجبل فتطاول حتى ما ناله الطير، وجاء صالح فلمَّا رآه الفصيل بكى حتى سالت دموعه, ثم رغا ثلاثًا وانفجرت الصخرة فدخلها, فقال صالح: لكل رغوة أجل يوم, {تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ} ، وقيل: اتبع السق أربعة من التسعة الذين عقروا الناقة, منهم: مصدع رماه بسهم فانتظم قلبه، ثم جَرَّ برجله، فأنزله فألقوا لحمه مع لحم أمه، فقال صالح: انتهكتم حرمة الله، فأبشروا بعذابه ونقمته, تصبحون غدًا -وكان يوم الخميس- وجوهكم مصفرة، ثم تصبحون يوم العروبة وجوهكم محمرة, ثم تصبحون وجوهكم مسودة، ثم يصبحكم العذاب, فلمَّا رأوا العلامات طلبوا قتله، فأنجاه الله، فلمَّا كان ليلة الأحد خرج هو ومن أسلم معه إلى الشام، فنزل رملة فلسطين، فلما كانت ضحوة اليوم الرابع تحنَّطوا، وتكفَّنوا وألقوا أنفسهم إلى الأرض، يقلبون أبصارهم إليها مرة وإلى السماء مرة، فلمَّا اشتد الضحاء أتتهم صيحة من السماء، فقطَّعت قلوبهم، فهلكوا كبيرهم وصغيرهم، وقدار -بضم القاف، وفتح الدال المهملة الخفيفة فألف فراء- "وإعدام جبل" فخرج غير الخارق للعادة، كطلوع الشمس كل يوم" والقمر كل ليلة.
"الثاني: أن تكون مقرونة بالتحدي، وهو طلب المعارضة والمقابلة".
"قال الجوهري: يقال تحديث فلانًا إذا باريته" أي: عارضته "في فعل ونازعته"(6/408)
للغلبة.
وفي القاموس: نحوه.
وفي الأساس: حد يحدو، وهو حادي الإبل، واحتدى حداء إذا غنَّى، ومن المجاز: تحدَّى أقرانه إذا باراهم ونازعهم للغلبة. وأصله: الحداء، يتبارى فيه الحاديان ويتعارضان، فيتحدَّى كل واحد منهما صاحبه، أي: يطلب حداءه. كما يقال: توفَّاه بمعنى استوفاه، وفي بعض الحواشي الموثوق بها، كانوا عند الحدو يقوم حاد عن يمين القطار وحاد عن يساره، يتحدَّى كل واحد منهما صاحبه، بمعنى يستحديه، أي يطلب منه حداءه، ثم اتسع فيه استعمل في كل مباراة. انتهى من حاشية الطيبي على الكشاف.
__________
عطف تفسير "للغلبة" أي: لأجل أن يغلبه، "وفي القاموس نحوه، وفي الأساس" للزمخشري "حدا يحدو،" فهو واوي، "وهو حادي الإبل، واحتدى حداء" بضم المهملة والمد، "إذا غنَّى" للإبل يحثها على السير، "ومن المجاز: تحدَّى أقرانه إذا باراهم ونازعهم" تفسيري "للغلبة", فقول الجوهري: يقال، أي مجازًا، "وأصله الحداء الغناء "يتبارى فيه الحاديان، ويتعارضان فيتحدَّى كل واحد منهما صاحبه، أي يطلب حداءه، كما يقال: توفاه بمعنى استوفاه، وفي بعض الحواشي الموثوق بها، كانوا عند الحدو،" بفتح، فسكون، وبضمتين، وشد الواو، ففي المختار: حدا الإبل من باب عدا، وحداء أيضًا بالضم والمد، انتهى، فله مصدران، "يقوم حاد عن يمين القطار" بالكسر: عدد من الإبل على نسق واحد، "وحاد عن يساره، يتحدَّى كل واحد منهما صاحبه، بمعنى يستحديه، أي: يطلب منه حداءه، ثم اتسع فيه حتى استعمل في كل مباراة" مغالبة.
"انتهى من حاشية" العلامة شرف الدين الحسن بن محمد بن عبد الله، "الطيبي" -بكسر الطاء، وسكون الياء- نسبة إلى الطيب، بلد بين واسط وكور الأهواز، "على الكشاف" تفسير الزمخشري.
قال السيوطي: وهو أجَلّ حواشيه في ست مجلدات ضخمات، قال: وله إلمام الحديث، لكنه لم يبلغ فيه درجة الحفاظ، ومنتهى نظره الكتب الستة ومسند أحمد، والدارمي لا يخرج من غيرها، وكثيرًا ما يورد صاحب الكشاف الحديث المعروف، فلا يحسن الطيبي تخريجه، ويعدل إلى ذكر ما هو في معناه مما في هذه الكتب، وهو قصور في التخريج، انتهى.(6/409)
وقال المحققون: التحدي، الدعوى للرسالة.
والشرط الثالث من شروط المعجزة: أن لا يأتي أحد بمثل ما أتى به المتحدي على وجه المعارضة.
وعبَّر عنه بعضهم بقوله: دعوى الرسالة مع أمن المعارضة.
وهو أحسن من التعبير: بعدم المعارضة؛ لأنه لا يلزم من عدم المعارضة امتناعها, والشرط إنما هو عدم إمكانها.
وقد خرج بقيد "التحدي" الخارق من غير تحد، وهوالكرامة للولي.
وبـ "المقارنة" الخارق المتقدم على التحدي، كإظلال الغمام، وشق الصدر، الواقعين لنبينا -صلى الله عليه وسلم- قبل دعوى الرسالة, فإنها ليست معجزات، إنما هي كرامات لظهورها على الأولياء جائز، والأنبياء قبل نبوتهم لا يقصرون عن درجة الأولياء،
__________
وقال المحققون: التحدي الدعوى للرسالة،" فما جاء به بعدها من الخوارق فهو معجزة، وإن لم يطلب الإتيان بالمثل الذي هو المعنى الحقيقي للتحدي.
"والشرط الثالث من شروط المعجزة: أن لا يأتي أحد بمثل ما أتى به المتحدي،" الطالب للمعارضة، وهو مدعي الرسالة "على وجه المعارضة" له، "وعبَّر عنه بعضهم بقوله: دعوى الرسالة مع أمن المعارضة" له، وهو أحسن من التعبير بعدم المعارضة؛ لأنه لا يلزم من عدم المعارضة امتناعها، والشرط إنما هو عدم إمكانها" لا عدمها، "وقد خرج بقيد التحدي الخارق من غير تحدٍ وهو الكرامة للولي" وهي وإن لم تكن معجزة له، لكنَّها كرامة لنبيه، كذا قيل، ونظر فيه ابن أبي شريف، بأن المعروف أن المعجزة هي الخارق الذي يظهر على يد مدعي النبوة بعد دعواها، ومن عَدَّ الإرهاصات والكرامات معجزات، فسبيله التغليب والتشبيه، وليست معجزات حقيقة.
قال التفتازاني: والولي هو العارف بالله وصفاته حسبما يمكن المواظب على الطاعات، المتجنب عن المعاصي، المعرض عن الانهماك في اللذات والشهوات.
قال شارح الهمزية: ويتجه أن هذا ضابط الولي الكامل، وأن أصل الولاية يحصل لمن وجدت فيه صفات العدالة الباطنة بالشروط المذكورة عند الفقهاء، "وبالمقارنة الخارق المتقدم على التحدي، "كإظلال الغمام وشق الصدر، الواقعين لنبينا -صلى الله عليه وسلم- قبل دعوى الرسالة، فإنها ليست معجزات, إنما هي كرامات لظهورها على الأولياء جائز، والأنبياء قبل نبوتهم لا يقصرون عن درجة الأولياء، فيجوز ظهورها" تأسيسًا لنبوتهم التي ستحصل, "وكلام عيسى في المهد، وما شابه ذلك مما وقع من الخوارق قبل دعوى الرسالة عليه أيضًا، وحينئذ(6/410)
فيجوز ظهورها, وكلام عيسى في المهد، وما شابه ذلك مما وقع من الخوارق قبل دعوى الرسالة عليهم أيضًا، وحينئذ تسمَّى "إرهاصا" أي: تأسيًا للنبوة كما صرَّح به العلامة السيد الجرجاني في شرح المواقف وغيره، وهو مذهب جمهور أئمة الأصول وغيرهم.
وخرج أيضًا بقيد "المقارنة" المتأخِّر عن التحدي، بما يخرجه عن المقارنة العرفية، نحو ما روي بعد وفاته -صلى الله عليه وسلم- من نطق الموتى بالشهادتين وشبهه، مما تواترت به الأخبار.
وخرج أيضًا بـ "أمن المعارضة" السحر المقرون بالتحدي، فإنه يمكن معارضته بالإتيان بمثله من المرسل إليهم.
واختلف: هل السحر قلب الأعيان وإحالة الطبائع أم لا؟
فقال بالأول قائلون، حتَّى جوَّزوا للساحر أن يقلب الإنسان حمارًا.
وذهب آخرون: إلى أن أحدًا لا يقدر على قلب عين ولا إحالة طبيعة إلا الله
__________
تسمَّى إرهاصًا، أي: تأسيسًا للنبوة، كما صرَّح به العلامة السيد" الشريف علي "الجرجاني في شرح المواقف، و" صرح به "غيره وهو مذهب جمهور أئمة الأصول وغيرهم، خلافًا للرازي في تسميتها معجزة، "وخرج أيضًا بقيد المقارنة" الأمر "المتأخِّر عن التحدي بما يخرجه عن المقارنة العرفية، نحو ما روي بعد وفاته -صلى الله عليه وسلم- من نطق بعض الموتى بالشهادتين، وشبهه مما تواترت به الأخبار" المفيد للعلم، "وخرج أيضًا بأمن المعارضة السحر المقرون بالتحدي، فإنه يمكن معارضته بالإتيان بمثله من المرسل إليهم" بناءً على دخول السحر في الخارق للعادة، وهو ممنوع.
قال السنوسي: ومن المعتاد السحر ونحوه، وإن كان سببه العادي نادرًا، خلافًا لمن جعل السحر خارقًا، وقال ابن أبي شريف: الحق أن السحر ليس من الخوارق، وإن أطبق القوم على عدة منها؛ لأنه يترتب على أسباب كلما باشرها أحد حلقه الله تعالى عقب ذلك، فهو ترتيب مسبب على سبب جرت العادة الإلهية بترتبه عليه، كترتب الإسهال على شرب السقمونيا، وشفاء المريض على تناول الأدوية الطبية، فإن كلّا منهما غير خارق.
واختلف: هل السحر قلب الأعيان وإحالة الطبائع" كحال الطبيعة السوداوية صفراوية، "أم لا؟ فقال بالأول قائلون، حتَّى جوزوا للساحر أن يقلب الإنسان حمارًا" وحجرًا، "وذهب آخرون إلى أن أحدًا لا يقدر على قلب عين ولا إحالة" تغيير "طبيعة إلّا الله" صفة لا حدًّا، أي:(6/411)
تعالى لأنبيائه، وأن الساحر والصالح لا يقلبان عينًا. قالوا: ولو جوَّزنا للساحر ما جاز للنبي, فأي فرق عندكم بينهما؟ فإن لجأتم إلى ما ذكره القاضي العلامة أبو بكر الباقلاني من الفرق بالتحدي فقط, قيل لكم: هذا باطل من وجوه:
أحدها: إن اشتراط التحدي قول لا دليل عليه، لا من كتاب ولا من سنة، ولا من قول صاحب ولا إجماع, وما تعرَّى من البرهان فهو باطل.
الثاني: إن أكثر آياته -صلى الله عليه وسلم- وأعمها وأبلغها كانت بلا تحدٍّ، كنطق الحصى، ونبع الماء، ونطق الجذع، وإطعامه المئين من صاع، وتفله في العين، وتكليم الذراع، وشكوى البعير، وكذا سائر معجزاته العظام، ولعله لم يتحد بغير القرآن، وتمني الموت.
__________
غير الله "تعالى لأنبيائه، وأن الساحر والصالح لا يقلبان عينًا، قالوا: ولو جوَّزنا للساحر ما جاز للنبي، فأي فرق عندكم بينهما، فإن لجأتم" اعتصمتم أي: تمسكتم، وذهبتم "إلى ما ذكره القاضي العلامة أبو بكر الباقلاني من الفرق" بين النبي وبين الساحر، "بالتحدي فقط، قيل لكم، هذا باطل من وجوه".
"أحدها: إن اشتراط التحدي قول لا دليل عليه، لا من كتاب، ولا من سنة، ولا من قول صاحب" للنبي -صلى الله عليه وسلم, "ولا إجماع وما تعرَّى, أي: خلا "من البرهان: " الدليل "فهو باطل،" فيبطل ما بني عليه.
"الثاني: إن أكثر آياته -صلى الله عليه وسلم- وأعمَّها وأبلغها بلا تحدٍّ، كنطق الحصا ونبع الماء، ونطق الجذع، وإطعامه المئين من صاع، وتفله في العين، وتكليم الذراع" المسمومة له إذا أخبرته بذلك، "وشكوى البعير" له أنّ صاحبه يجيعه, ويأتي تفاصيل هذا كله، "وكذا سائر" باقي معجزاته العظام" وقعت بلا تحدٍّ، ويأتي الجواب قريبًا، ومرَّت الإشارة إليه، "ولعله" صلى الله عليه وسلم "لم يتحد بغير القرآن" في نو: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ} ، "وتمني الموت" تحدَّى به اليهود بقوله: {فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 94] الآية، فلم يفعلوا، كما قال تعالى: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} [البقرة: 95] الآية، من كفرهم بالنبي المستلزم لكذبهم.
وفي البيضاوي: من موجبات النار، كالكفر بمحمد والقرآن، وتحريف التوراة.
أخرج البخاري والترمذي عن ابن عباس، عن النبي -صلى الله عليه وسلم: "لو تمنوا الموت لشرق أحدهم بريقة" , ولابن جرير من وجه آخر عن ابن عباس، موقوفًا: لو تمنوه يوم قال لهم ذلك ما بقي على وجه الأرض يهودي إلّا مات، وللبيهقي عنه، رفعه: "لا يقولها رجل منهم إلّا غص بريقه"، وأورده(6/412)
قالوا: فأف لقول لا يبقي من الآيات ما يسمى معجزة إلا هذين الشيئين، ويلقي معجزات كالبحر المتقاذف بالأموج، ومن قال: إن هذه ليست معجزات ولا آيات فهو إلى الكفر أقرب منه إلى البدعة.
قالوا: وقد كان -عليه الصلاة والسلام- يقول عند ورود آية من هذه الآيات: "أشهد أني رسول الله"، كما قال ذلك عند تحققهم مصداق قوله في الإخبار عن الذي أنكأ في المشركين قتلًا في المعركة: إنه من أهل النار،.................................................
__________
البيضاوي مرفوعًا، بلفظ: "لو تمنَّوا الموت لغص كل إنسان بريقه، فمات مكانه، وما بقي يهودي على وجه الأرض" , وأشار محشيه إلى أنه لم يرد بهذا اللفظ. "قالوا: فأف" بفتح الفاء وكسرها منونًا وغير منون، بمعنى: تبًّا وقبحًا "لقول لا يبقي من الآيات ما يسمَّى معجزة إلّا هذين الشيئين، ويلقي" بالق: يطرح، "معجزات كالبحر المتقاذف بالأمواج، ومن قال: إن هذه ليست معجزات ولا آيات، فهو إلى الكفر أقرب منه إلى البدعة", لكن لم يقل بذلك أحد، وإنما سرى له ذلك من حمل التحدي على المعنى الحقيقي له، "قالوا: وقد كان -عليه الصلاة والسلام- يقول عند ورود آية من هذه الآيات: "أشهد أني رسول الله"، كما في البخاري عن سلمة: حين خفت أزواد القوم, فذكر الحديث في دعائه -صلى الله عليه وسلم، ثم قال: "أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله" , وله شاهد في مسلم عن أبي هريرة، وللبيهقي: لما قدم وفد ثقيف، قالوا: يأمرنا أن نشهد أنه رسول الله، ولا يشهد به في خطبته، فلمَّا بلغه قولهم، قال: "فإني أول من شهد بأني رسول الله".
وفي البخاري في قصة جداد نخل جابر واستيفاء غرمائه, بل وفضل له تمر، فقال -صلى الله عليه وسلم- لما بشره جابر بذلك: "أشهد أني رسول الله" , كما قال ذلك عند تحققهم مصداق" أي صدق "قوله في الإخبار عن الذي أنكأ في المشركين قتلًا في المعركة" يوم خيبر، كما في البخاري، أو يوم أحد، كما لأبي يعلى، بإسناد فيه مقال، وهو قزمان -بضم القاف وسكون الزاي- كما قال جماعة, وتوقف فيه الحافظ، بأن الواقدي ذكر أنه قتل بأُحْد، قال: لكن الواقدي لا يحتجّ به إذ انفرد، فكيف إذا خالف "إنه من أهل النار، فلمَّا حضر القتال قاتل الرجال أشد القتال حتى كثرت به الجراح، فكاد بعض الناس يرتاب، رواه البخاري عن أبي هريرة، وفي حديثه عن سهل، فقالوا: أينا من أهل الجنة، إن كان هذا من أهل النار.
وللطبراني عن أكتم، قلنا: يا رسول الله! إذا كان فلان في عبادته واجتهاده ولين جانبه في النار، فأين نحن؟ قال: "ذلك إخبات النفاق" فكنَّا نتحفظ عليه في القتال.(6/413)
فقتل نفسه بمحضر ذلك الذي اتبعه من المسلمين, قالوا:
والوجه الثالث: وهو الدامغ لهذا القول، قوله تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ} [الأنعام: 109] وقال تعالى: {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ} [الإسراء: 59] فسمَّى الله تعالى تلك المعجزات المطلوبة من الأنبياء آيات، ولم يشترط تحديًا من غيره.
فصحَّ أن اشتراط التحدي باطل محض. انتهى ملخصًا من تفسير الشيخ أبي
__________
وفي البخاري عن سهل: فقال رجل من القوم: أنا صاحبه، فخرج معه كلما وقف وقف معه، "فقتل نفسه بمحضر ذلك" الرجل "الذي اتبعه من المسلمين،" قال الحافظ -وهو أكتم الخزاعي، كما في الطبراني: فقول الشارح، أي: الجمع الذي اتبعه من المسلمين خلافه، ومرت القصة في غزاة خيبر، "قالوا: والوجه الثالث وهو الدامغ" بميم ومعجمة المبطل "لهذا القول" بحيث لا يبقي للمتمسك به شبهة، قال تعالى: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ} الآية.
وقال البيضاوي: أي: فيمحقه، وإنما استعار لذلك القذف، وهو الرمي البعيد المستلزم لصلابة المرمي، والدمغ الذي هو كسر الدماغ؛ بحيث تشق غشاءه الذي يؤدي إلى زهوق الروح تصويرًا لإبطاله، ومبالغة فيه "قوله تعالى: {وَأَقْسَمُوا} الآية، أي كفار مكة، {بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} الآية: أي غاية اجتهادهم فيها، {لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ} الآية، مما اقترحوا، {لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ} الآية، ينزله كيف يشاء، {وَمَا يُشْعِرُكُمْ} الآية، يدريكم بإيمانهم، أي: أنتم لا تدرون {أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ} الآية، لما سبق في علمي، وفي قراءة بالتاء خطابًا للكفار، وفي أخرى، بفتح أن، بمعنى: لعل، أو معمولة لما قبلها.
وقال تعالى: {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ} الآية، التي اقترحها أهل مكة {إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ} الآية، لما أرسلناهم فأهلكناهم, ولو أرسلناها إلى هؤلاء لكذبوا بها واستحقوا الإهلاك، وقد حكمنا بإمهالهم لإتمام أمر محمد -صلى الله عليه وسلم، والمنع هنا مجاز عن الترك، أي: وما سبب ترك الإرسال إلا تكذيب الأولين، وإلّا فالله تعالى لا يمنعه عن مراده مانع، "فسمَّى الله تلك المعجزات المطلوبة من الأنبياء آيات، ولم يشترط تحديًا من غيره، فصحَّ أن اشتراط التحدي باطل محض" خالص، "انتهى ملخصًا من تفسير الشيخ أبي أمامة بن النقاش،(6/414)
أمامة بن النقاش.
وأجيب: بأنه ليس الشرط الاقتران بالتحدي بمعنى طلب الإتيان بالمثل الذي هو المعنى الحقيقي للتحدي، بل يكفي للتحدي دعوى الرسالة, والله أعلم.
الرابع من شروط المعجزة: أن تقع على وفق دعوى المتحدي بها، فلو قال مدعي الرسالة: آية نبوتي أن تنطق يدي، أو هذه الدابة، فنطقت يده أو الدابة بكذبه فقالت: كذب وليس هو بنبي، فإن الكلام الذي خلقه الله تعالى دال على كذب ذلك المدعي؛ لأن ما فعله الله تعالى لم يقع على وفق دعواه. كما يروى أن مسيلمة الكذاب -لعنه الله تعالى - تَفَل في بئر ليكثر ماؤها فغارت وذهب ما..................
__________
وأجيب بأنه ليس الشرط الاقتران بالتحدي، بمعنى طلب الإتيان بالمثل، الذي هو المعنى الحقيقي" اللغوي "للتحدي" حتى يرد عليه ما ذكروه، "بل يكفي للتحدي دعوى الرسالة" فكل ما وقع بعدها من الخوارق آيات، سواء كانت بطلب المثل أم لا، فلا يرد على هذا الشرط شيء مما ذكروه، "والله أعلم" بأنه شرط في نفس الأمر أم لا.
"الرابع من شروط المعجزة" أي: الوصف الخارق المسمَّى معجزة، "أن تقع على وفق دعوى المتحدي بها." فليس فيه سلب شيء عن نفسه؛ إذ تقدير كلامه لو لم تقع المعجزة على وفق دعواه لم تكن معجزة، فيلزم سلب الإعجاز عنها بعد ثبوته لها، وهو باطل، وبعبارة: لا يخفى أن وقوعها على وفق دعوى المتحدي يفيد أن مفهومه: لو لم تقع على وفقه لم تكن معجزة، وهذا تناقض بحسب الظاهر، والجواب: إن فيه تجريدًا، كأنه قيل من شرط المعجزة، بمعنى مطلب الخارق لا ما يسمَّى معجزة بخصوصه, "فلو قال مدعي الرسالة: آية نبوتي أن تنطلق يدي أو هذه الدابة" بما يوافق دعواي، بدليل أن مقسم الشرط لذلك، فلا ينافي قوله: "فنطقت يده أو الدابة بكذبه، فقالت: كذب وليس هو بنبي" بيان للكذب، فإن الكلام الذي خلقه الله تعالى دالٌّ على كذب ذلك المدعي؛ لأن ما فعله الله تعالى" من خلق نطقها بتكذيبه، "لم يقع على وفق دعواه", بل وقع مخالفًا لها، فلو نطقت بما لا تكذيب فيه له، كان يقول الله واحد، فمعجزة على ما يفهمه قوله بكذبه، مع أنها لم تنطق بموافقة دعواه، إلّا أن يراد بالموافق ما لا يناقضها، ومفاد قوله: أو الدابّة، أنه لا يعتبر في المكذب كونه ممن يعتبر تكذيبه، ووقع لبعض من حشى العقائد أنه لا بُدَّ من كونه ممن يعتبر، كما يروى أن مسيلمة" بكسر اللام، واخطأ من فتحها "الكذاب -لعنه الله تعالى- تفل في بئر ليكثر ماؤها، فغارت وذهب ما(6/415)
فيها من الماء.
فمتى اختلَّ شرط من هذه لم تكن معجزة.
ولا يقال: قضية ما قلتم: أن ما توفرت فيه الشروط الأربعة من المعجزات لا يظهر إلّا على أيدي الصادقين، وليس كذلك، لأنَّ المسيح الدجال يظهر على يديه من الآيات العظام ما هو مشهور، كما وردت به الأخبار الصحَّاح،..........................
__________
فيها من الماء، فمتى اختلَّ شرط من هذه" الحالة التي أريد تسميتها معجزة "لم تكن معجزة", بل تارة كرامة، وتارة إهانة, وغير ذلك، "ولا يقال: قضية، ما قلتم: أن ما توفرت فيه الشروط الأربعة من المعجزات لا يظهر إلّا على أيدي الصادقين، وهم النبيون، "وليس كذلك؛ لأن المسيح" بفتح الميم، وكسر المهملة الخفيفة، آخره حاء مهملة يطلق على الدجال، وعلى عيسى -عليه السلام, لكن إذا أريد الدجال قيد، كما قال "الدجال", وقيل: هو بالتخفيف عيسى، والتشديد الدجال، وقيل: هو بالتشديد لهما، وعلى الأول: يسمَّى الدجال لمسحه الأرض، أو لأنه ممسوح العين، أو لأنَّ أحد شقي وجهه خلق ممسوحًا لا عين فيه ولا حاجب، وسمي به عيسى لمسحه الأرض بالسياحة، أو لأنَّ رجله كانت لا أخمص لها، أو لأنه خرج من بطن أمه ممسوحًا بالدهن، أو لأنه كان لا يمسح ذا عاهة إلا برئ، أو هو بالعبرانية: الصديق. أقوال مبسوطة في شروح البخاري وغيره.
"يظهر على يديه من الآيات العظام ما هو مشهور، كما وردت به الأخبار الصحاح" كما قال -صلى الله عليه وسلم: "إن من فتنته أنَّ معه جنة ونارًا، فناره جنة وجنته نار، فمن ابتلي بناره، فليستغث بالله وليقرأ فواتح الكهف، فتكون بردًا وسلامًا، كما كانت على إبراهيم، وإنَّ من فتنته أن يقول للأعرابي: أرأيت إن بعثت لك أباك وأمك، فتشهد أني ربك، فيقول: نعم، فيتمثّل له شيطان صورة أبيه وأمه فيقولان: يا بني اتبعه، فإنه ربك، وإن من فتنته أن يسلط على نفس واحدة، فيقتلها، ينشرها بالمنشار حتى تلقى شقين، ثم يقول: انظروا إلى عبدي هذا فإني أبعثه، ثم يزعم أن له ربًا غيري، فيبعثه الله، ويقول له الخبيث: من ربك، فيقول: ربي الله، وأنت عدو الله, أنت الدجال, والله ما كنت قط أشد بصيرة بك مني اليوم، وإن من فتنته أن يأمر السماء فتمطر، ويأمر الأرض أن تنبت فتنبت، وإن من فتنته أن يمر بالحيّ فيكذبونه، فلا يبقي لهم سائمة إلا ملكت، وإن من فتنته أن يمر بالحيّ فيصدقونه فيأمر السماء أن تمطر، ويأمر الأرض أن تنبت، فتنبت حتى تروح مواشيهم من يومهم ذلك أسمن ما كانت، وأعظمه وأمده خواصر، وأدره ضروعا". رواه ابن ماجه، وابن خزيمة، والحاكم في حديث طويل.(6/416)
لأن ما ذكر فيمن يدعي الرسالة, وهذا يدعي الربوبية.
وقد قام الدليل العقلي على أن بعثة بعض الخلق غير مستحيلة، فلم يبعد أن يقيم الله الأدلة على صدق مخلوق أتى عنه بالشرع والملة، ودلت القواطع على كذب المسيح الدجال فيما يدَّعيه للتغير من حال إلى حال، وغير ذلك من الأوصاف التي تليق بالمحدثات ويتعالى عنها رب البريات {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] .
فإن قلت: أي الاسمين أحق وأولى بما أتت به الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام، هل لفظ "المعجزة" أو لفظ "الآية" أو "الدليل"؟
فالجواب: إن كبار الأئمة يسمون معجزات الأنبياء: دلائل النبوة، وآيات النبوة، ولم يرد أيضًا في القرآن لفظ "المعجزة", بل ولا في السنة أيضًا، وإنما فيهما لفظ
__________
لأن ما ذكر فيمن يدَّعي الرسالة، وهذا" الدجال "يدَّعي الربوبية، وقد قام الدليل العقلي على أن بعثة بعض الخلق غير مستحيلة" كما قام على استحالة إله غير الله، "فلم يبعد أن يقيم الله الأدلة على صدق مخلوق أتى عنه بالشرع والملة، ودلَّت القواطع على كذب المسيح الدجال فيما يدَّعيه للتغير من حال إلى حال، وغير ذلك من الأوصاف التي تليق بالمحدثات ويتعالى عنها رب البريات.
وقد قال -صلى الله عليه وسلم: "إني سأصفه لكم صفة لم يصفها إياه نبي قبلي، إنه يبدأ، فيقول: أنا نبي ولا نبي بعدي، ثم يثني، فيقول: أنا ربكم ولا ترون ربكم حتى تموتوا، وإنه أعور، وإن ربكم ليس بأعور، وإنه مكتوب بين عينيه كافر، يقرأه كل مؤمن كاتب أو غير كاتب".
{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} الكاف زائدة، لأنه تعالى لا مثل له {وَهُوَ السَّمِيعُ} لما يقال، {الْبَصِيرُ} ، بما يفعل، "فإن قلت: أي: الإسمين أحق وأَوْلَى" عطف علة على معلول، أي: أحق لأولويته أو تفسيري، "بما أتت به الأنبياء -عليهم الصلاة والسلا، هل لفظ المعجزة، أو لفظ الآية، أو الدليل" بدل مفصل من مجمل، فالسؤال عن أمرين فقط معجزة, ومقابلها من الآية أو الدليل، بدليل ذكره لفظ مرة ثانية فقط، فالثاني أحد دائر بين اثنين، وبدليل: إن الجواب باختيار الشق الثاني بفرديه، فلا يرد عليه أن تعبيره بالاسمين لا يصح، لأن المذكور ثلاثة.
"فالجواب: إن كبار الأئمة يسمون المعجزات الأنبياء دلائل النبوة وآيات النبوة, ولم يرد أيضًا في القرآن لفظ المعجزة، بل ولا في السنة أيضًا، وإنما فيهما لفظ(6/417)
"الآية" والبينة و"البرهان" كما في قصة موسى -عليه السلام: {فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ} [القصص: 32] أي: العصا واليد، وفي حق نبينا -عليه الصلاة والسلام {قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ} [النساء: 174] .
وأما لفظ الآيات فكثير, بل هو أكثر من أن نسرده هنا، كقوله تعالى: {وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ} [الأنعام: 124] و {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ} [الرعد: 3] .
وأمَّا لفظة المعجزة إذا أطلق فإنه لا يدل على كون ذلك آية إلّا إذا فسر المراد به، وذكرت شرائطه، وقد كان كثير من أهل الكلام لا يسمي معجزة إلّا ما كان للأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- فقط، ومن أثبت للأولياء خوارق عادات سماها: كرامات،
__________
الآية والبينة والبرهان،" فالتعبير بمعجزة خلاف الأولى لعدم وروده, والأولى الآية أو الدليل ونحوهما، لموافقة الوارد، وفي الشامي: لفظ المعجزة وضعه المتكلمون على ما اشتُمل على الشروط الأربعة السابقة من آيات الأنبياء، ولا ضَيْر في ذلك خلافًا لمن زعمه، والتعبير بالآية والبرهان والبينة لا ينافي ذلك، وكل معجزة آية وبرهان وبينة، ولا عكس، كما يظهر بتأمُّل حد المعجزة، والظاهر أن الآية والدليل متساويان، انته، وفيه: أن مدعي الأولويّة لم يمنع إطلاق المعجزة، بل ذكر أولويّة الآية، والدليل عليها، ولم يدع ضيرًا ولا منافاة، كما ترى.
"كما في قصة موسى -عليه السلام، {فَذَانِكَ} بالتشديد والتخفيف، {بُرْهَانَانِ} مرسلان {مِنْ رَبِّكَ} إلى فرعون وملائه، "أي: العصا واليد" وهما مؤنثان، ذكر المشار به إليهما المبتدأ لتذكير خبره برهانان، "وفي حق نبينا -عليه الصلاة والسلام: {قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ} الآية، كما فسره به سفيان بن عيينة عند ابن أبي حاتم، وجزم به ابن عطية والنسفي، ولم يحكيا غيره، وهو لغةً: الحجة النيرة الواضحة التي تعطي اليقين التام، وهو -صلى الله عليه وسلم- برهان بالمعنيين؛ لأنه حجة الله على خلقه، وحجة نيرة واضحة لما معه من الآيات الدالة على صدقه، وهذا مما سماه الله به من أسمائه تعالى فإنه منها، كما جاء في ابن ماجه.
"وأما لفظ الآيات فكثير، بل هو أكثر من أن نسرده هنا،" لو سردناه من الكتاب والسنة، "كقوله تعالى: {وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ} الآية، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ} [الرعد: 3] . "وأمَّا لفظ المعجزة إذا أطلق، فإنه لا يدل على كون ذلك آية، إلّا إذا فسر المراد به، وذكرت شرائطه" الأربعة المتقدمة، وهذا أيضًا يفيد أولوية غيرها عليها، كقوله: "وقد كان كثير من أهل الكلام لا يسمّي" الخارق "معجزة، إلا ما كان للأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- فقط، ومن أثبت للأولياء خوارق: عادات" وهم الجمهور، "سماها كرامات،(6/418)
والسلف كانوا يسمون هذا وهذا معجزة؛ كالإمام أحمد وغيره، بخلاف ما كان آية وبرهانًا على نبوة النبي, فإن هذا يجب اختصاصه به. وقد يسمون الكرامات آيات لكونها تدل على نبوة من اتبعه ذلك الولي، فإن الدليل مستلزم للمدلول، يمتنع ثبوته بدون ثبوت المدلول، فكذلك ما كان آية وبرهانًا، انتهى.
وإذا علمت هذا، فاعلم أن دلائل نبوة نبينا -صلى الله عليه وسلم- كثيرة، والأخبار بظهور معجزاته شهيرة.
__________
والسلف كانوا يسمون هذا" مع وقع للأنبياء "وهذا" ما وقع للأنبياء "معجزة، كالإمام أحمد وغيره، بخلاف ما كان آية وبرهانًا على نبوة النبي، فإن هذا يجب اختصاصه به،" فيه تأمّل؛ إذ الكلام في الخارق الواقع لولي هل يسمَّى معجزة، كما يسمَّى كرامة، أم لا؟ وكذا ما وقع لنبي هل يسمَّى كرامة، كما يسمَّى معجزة، أم لا؟ لا في ثبوت الصفة نفسها، فلو قال بخلاف الآية، والدليل: فإنهما مختصَّان بما ثبت للأنبياء لاستقام، ويدل له قوله: "وقد يسمون الكرامات آيات لكونها تدل على نبوة من اتبعه ذلك الولي، فإن الدليل مستلزم للمدلول، يمتنع ثبوته بدون ثبوت المدلول، فكذلك ما كان آية وبرهانًا، انتهى".
"وإذا علمت هذا، فاعلم أن دلائل:" جمع دلالة قياسًا، ودليل على غير قياس، والمراد الثاني؛ إذ الأول صفة الدليل، ويصح إرادة الأول أيضًا؛ لأن وصف الدلالة بالوضوح يستلزم وضوح الدليل، أو أطلق الدلالة، وأراد الدليل مجازًا من باب تسمية الموصوف باسم صفته، ثم جمعت قياسًا؛ لأن الجمع يتعلق باللفظ، سواء استعملت الكلمة في حقيقتها أو مجازها، "نبوة نبينا -صلى الله عليه وسلم- كثيرة" عبر بنبوة دون رسالة؛ لأنهم كانوا ينكرون نبوته من أصلها لا رسالته فقط، ولأنَّ الدلائل إذا كانت للنبوة، فللرسالة أولى؛ لأنه من إثبات الشيء بدليله، أي: آثبات الرسالة بإثبات النبوة؛ لأن النبي لا يكذب، والأخبار بظهور معجزاته شهيرة" لكنها كما قال في الشقاء ثلاثة أقسام:
الأول: ما علم قطعًا ونقل إلينا متواترًا، كالقرآن فلا مرية ولا خلاف في مجيء النبي -صلى الله عليه وسلم- به, وظهوره من قِبَله، واستدلاله به على ثبوت نبوته، وكونه رسولًا إلى الناس كافَّة, ونحو ذلك، وإن أنكر مجيئه به، وظهوره من قبله أحد، فهو معاند جاحد، وإنكاره كإنكار وجود محمد -صلى الله عليه وسلم- في الدنيا.
الثاني: ما اشتهر وانتشر، ورواه العدد الكثير، وشاع الخبر به عند المحدثين والرواة، ونقله السير والأخبار، كنبع الماء من بين أصابعه وتكثير الطعام(6/419)
فمن ذلك: ما وجد في التوراة والإنجيل وسائر كتب الله تعالى المنزلة من ذكره ونعته، وخروجه بأرض العرب، وما خرج بين يدي أيام مولده ومبعثه من الأمور الغريبة العجيبة القادحة في سلطان الكفر، الموهنة لكلمتهم المؤيدة لشأن العرب المنوهة بذكرهم، كقصة الفيل، وما أحلّ الله بأصحابه العقوبة والنكال، وخمود نار فارس, وسقوط شرفات إيوان كسرى، وغيض ماء بحيرة ساوه، ورؤيا المؤبذان،...........................
__________
الثالث: ما لم يشتهر، ولا انتشر واختص به الواحد والاثنان، ورواه العدد اليسير، ولم يشتهر اشتهار غيره، لكنه إذا جمع إلى مثله اتفقا في المعنى المقصود به الإعجاز، واتفقا على الإتيان بالمعجز، كما قدمناه أنه لا مرية في جريان معانيها على يديه، وإذا انضمَّ بعضها إلى بعض أفادت القطع، انتهى ملخصًا، "فمن ذلك ما وجد في التوراة والإنجيل، وسائر" باقي "كتب الله تعالى، المنزلة من ذكره ونعته" وصفة بالصفات المميزة له، حتى كأنهم شاهدوا أن الذي ذكر اسمه "وخروجه بأرض العرب وما خرج بين يدي ايام مولده" أي: أمامه بقربه، "ومبعثه من الأمور الغريبة، العجيبة، القادحة في سلطان الكفر" وحججه وبرهانه، أي: الشبه الباطلة التي يقيمها أهله على صحته زاعمين حقيتها عَبَّر عنها بالحجج، نظرًا لزعمهم "الموهنة لكلمتهم" أي: كلمة أهل الكفر، أي: أقاويلهم الباطلة التي رفعوها، عَبَّر عنها بكلمة؛ لأنهم لما اتفقوا كانت كأنها واحدة، "المؤيدة لشأن العرب، المنوّهة بذكرهم، كقصة الفيل وما أحلَّ الله بأصحابه من العقوبة والنكال" كما مَرَّ بسطه, "وخمود نار فارس" التي كانوا يعبدونها، وكان لها ألف عام لم تخمد، "وسقوط أربع عشرة شرفة من شرفات" -بضم الشين، وإسكان الراء، وفتحها وضمها- جمع شرفة تحقيرًا لها، أو لأن جمع القلة قد يقع موضع جمع الكثرة، "إيوان" كديوان ويقال فيه أوان بوزن كتاب، بناء أزج غير مسدود الوجه، "كسرى" بكسر الكاف وفتحها: ملك الفرس، وكانت شرفات إيوانه اثنتين وعشرين، "وغيض ماء بحيرة" تصغير بحرة لا بحر؛ لأن تصغيره بحير، "ساوه" -بمهملة فألف، فواو مفتوحة، فهاء ساكنة- مدينة بين الري وهمذان، وبحيرتها متسعة جدًّا، كانت أكثر من ستة فراسخ يركب فيها السفن، ويسافر فيها إلى ما حولها من البلاد والمدن، فأصبحت ليلة المولد ناشفة؛ كأن لم يكن بها شيء من الماء، ورؤيا الموبذان" بضم الميم، وسكون الواو، وفتح الموحدة، كما قال ابن الأثير وغيره.
وحكى ابن ناصر كسرها أيضًا، وبذال معجمة: اسم لحاكم المجوس، كقاضي القضاة للمسلمين, رأى ليلة مولده -صلى الله عليه وسلم- إبلًا صعابًا تقود خيلًا عرابًا، قد قطعت دجلة، وانتشرت في بلادها، فقال له كسرى: أي شيء يكون هذا يا موبذان؟ قال: حدث يكون من ناحية العرب،(6/420)
وما سمع من الهواتف الصارخة بنعوته وأوصافه، وانتكاس الأصنام المعبودة وخرورها لوجهها من غير دافع لها من أمكنتها، إلى سائر ما روي ونقل في الأخبار المشهورة من ظهور العجائب في ولادته وأيام حضانته وبعدها إلى أن بعثه الله نبيًّا.
ولم يكن له -صلى الله عليه وسلم- ما يستميل به القلوب من مال فيطمع فيه، ولا قوة فيقهر بها الرجال، ولا أعوان على الرأي الذي أظهره، والدِّين الذي دعا إليه، وكانوا يجتمعون على عبادة الأصنام، وتعظيم الأزلام، مقيمين على عادة الجاهلية في العصبة والحمية، والتعادي والتباغي وسفك الدماء، وشنّ الغارات, ولا تجمعهم ألفة دين، ولا يمنعهم من سوء أفعالهم نظر في عاقبة، ولا خوف عقوبة ولا لائمة، فألَّف -صلى الله عليه وسلم- بين قلوبهم, وجمع كلمتهم، حتى اتفقت الآراء وتناصرت القلوب، وترادفت الأيدي، فصاروا إلبًا واحدًا في نصرته، وعنقًا واحدًا إلى.................
__________
"وما سمع من الهواتف:" جمع هاتف من الهتف، وهو الصوت العالي مطلقًا، ثم خُصَّ بصوت يسمع ممن لا يرى شخصه، ولذا خص عند العرب بالجنّ الصارخة بنعوته وأوصافه" عطف تفسير، وكثر ذلك عند مبعثه -صلى الله عليه وسلم.
وللخرائطي كتاب الهواتف جمع فيه ذلك، "وانتكاس الأصنام المعبودة وخرورها:" سقوطها لوجهها من غير دافع لها من أمكنتها إلى سائر" باقي "ما روي ونقل في الأخبار المشهورة من ظهور العجائب في ولادته وأيام حضانته، مما تقدَّم بعضه، "وبعدها إلى أن بعثه الله نبيًّا، وبسط ذلك بطول، "و" الحال أنه لم يكن له -صلى الله عليه وسلم- ما يستميل به القلوب من مال" بيان لما، "فيطمع فيه، ولا قوة فيقهر بها الرجال ولا أعوان على الرأي الذي أظهره, والدين الذي دعا إليه" بل دعاهم وحده إلى ذلك، "وكانوا يجتمعون على عبادة الأصنام، وتعظيم الأزلام" الأقداح التي كانوا يعملون بما تخرجه، "مقيمين على عادة الجاهلية في العصبة والحمية، والتعادي والتباغي، وسفك الدماء وشنّ الغارات" بحيث لا يقع بينهم اختلاف ولا حروب، "ولا يمنعهم من سوء أفعالهم نظر في عاقبة، ولا خوف عقوبة، ولا لائمة" بالمد والهمز، ملائمة، أي: حالة يلامون بها، "فألف -صلى الله عليه وسلم- بين قلوبهم وجمع كلمتهم حتى اتفقت الأراء وتناصرت القلوب" عاون بعضها بعضًا وقواه، والمراد أصحابها ونسبه إليها؛ لأنه سبب لمعاونة صاحبه، وترادفت الأيدي، تتابعت في التعاون والتناصر على إظهار الحق، "فصاروا إلبًا" بكسر الهمزة، وفتحها لغة، وموحدة جمعًا "واحدًا في نصرته، وعنقًا" بضمة وبضمتين جمعًا، "واحدًا" فهو كالرديف لما قبله، والمعنى: إنهم صاروا ناظرين متلفتين "إلى(6/421)
طلعته، وهجروا بلادهم وأوطانهم، وجفوا قومهم وعشائرهم في محبته، وبذلوا مهجهم وأرواحهم في نصرته، ونصبوا وجوههم لوقع السيوف في إعزاز كلمته، بلا دنيا بسطها لهم، ولا أموال أفاضها عليهم، ولا غرض في العاجل أطمعهم في نيله يحوونه، أو ملك أو شرف في الدنيا يحوزونه، بل كان من شأنه -صلى الله عليه وسلم- أن يجعل الغني فقيرًا، والشريف أسوة الوضيع، فهل يلتئم مثل هذه الأمور، أو يتفق مجموعها لأحد هذا سبيله، من قِبَل الاختيار العقلي والتدبير الفكري، لا والذي بعثه بالحق، وسخر له هذه الأمور، ما يرتاب عاقل في شيء من ذلك، وإنما هو أمر إلهي، وشيء غالب سماوي، ناقض للعادات، يعجز عن بلوغه قوى البشر، ولا يقدر عليه إلا من له الخلق والأمر، تبارك الله رب العالمين.
__________
طلعته،" ليذبّوا عنه ما يكره ويعاونوه على ما يريد، "وهجروا بلادهم وأوطانهم، وجفوا قومهم وعشائرهم في محبته، وبذلوا مهجهم:" جمع مهجة: الدم أو دم القلب والروح، كما في القاموس، فقوله: "وأرواحهم" تفسيريّ على الثالث "في نصرته ونصبوا وجوههم" جعلوها كالهدف الذي ينصب لوقع السيوف", والسهام والرماح، حيث نصحوا في محاربة أعدائه، ووطَّنوا أنفسهم على إصابة ذلك لوجوههم وصدورهم "في" لأجل "إعزاز كلمته"، إعلاء دينه وإظهاره، "بلا دنيا بسطها لهم، ولا أموال أفاضها عليهم، ولا غرض في العاجل" أي: أمر في الزمن الحاضر، "أطمعهم في نيله، يحوونه" فيرغبون بسببه، "أو ملك، أو شرف في الدنيا يحوزونه،" بل ليس ثَمَّ ما يحملهم على الجهاد معه، وإنما محض غرضهم إظهار الحق وإخماد الباطل، وخص العاجل؛ لأنه أدعى للرغبة في معالجة النفس لحصوله، "بل كان من شأنه -صلى الله عليه وسلم- أن يجعل الغني فقيرًا" يحمله على صرف أمواله في الجهاد ونحوه من أنواع اقُرَب، كأبي بكر، أو بأن يصيِّره كالفقراء في تهذيب النفس، وعدم الفخر، والإعراض عن الأسباب المشعرة بنحو الكبر، "والشريف أسوة الوضيع، فهل يلتئم مثل هذه الأمور أو يتفق مجموعها لأحد، هذا سبيله من قبيل الاختيار العقلي والتدبير الفكري، لا والذي بعثه بالحق" جواب الاستفهام، "وسخر له هذه الأمور، ما يرتاب" يشك "عاقل في شيء من ذلك، وإنما هو أمر إلهي، وشيء غالب سماوي ناقض للعادات، يعجز عن بلوغه قوى البشر، ولا يقدر عليه إلّا من له الخلق" جميعًا "والأمر" كله، "تبارك" تعاظم "الله رب" مالك "العالمين".
وبهذه الآية استدلّ سفيان بن عيينه على أن القرآن غير مخلوق، أخرجه ابن أبي حاتم؛ لأن الأمر هو الكلام، وقد عطفه على الخلق, فاقتضى أن يكون غيره؛ لأن العطف يقتضي المغايرة، وسبقه إلى هذا الاستنباط محمد بن كعب القرظي، ذكره في الإكليل.(6/422)
ومن دلائل نبوته -عليه الصلاة والسلام- أنه كان أميًّا، لا يخط كتابًا بيده ولا يقرؤه، ولد في قوم أميين، ونشأ بين أظهرهم في بلد ليس بها عالم يعرف أخبار الماضيين، ولم يخرج في سفر ضاربًا إلى عالم فيعكف عليه، فجاءهم بأخبار التوراة والإنجيل والأمم الماضية، وقد كان ذهبت معالم تلك الكتب، ودرست وحُرّفت عن مواضعها، ولم يبق من المتمسكين بها وأهل المعرفة بصحيحها إلّا القليل, ثم حاج كان فريق من أهل الملل المخالفة له بما لو احتشد
__________
وقال في فتح الباري: قوله تعالى: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} الآية، يخص به قوله تعالى الله:" {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} الآية، ولذا أعقبه البخاري بقوله: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} الآية، وهذا الأثر وصله ابن أبي حاتم في كتاب الرد على الجهمية، فقال: الخلق هو المخلوق، والأمر هو الكلام، وسئل مرة عن القرآن: أهو مخلوق؟ فقرأ الآية وقال: ألا ترى كيف فرَّق بين الخلق والأمر، فالأمر كلامه، فلو كان مخلوقًا لم يفرق، وسبق ابن عيينة، إلى ذلك محمد بن كعب القرظي، وأحمد بن حنبل وعبد السلام بن عاصم وطائفة، أخرجه ابن أبي حاتم، انتهى.
"ومن دلائل نبوته" المستلزمة لرسالته؛ لاستحالة الكذب على النبي، وقد قال: "أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعًا" "عليه الصلاة والسلام أنه كان أميًّا لا يخط كتابًا بيده" صفة لازمة, فالأمي من لا يكتب نسبة إلى الأم، لبقائه على الحالة التي لد عليها؛ إذ الكتابة مكتسبة، أو إلى أمة العرب؛ لأن أكثرهم أميون. وقد قال -صلى الله عليه وسلم: "إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب" رواه الشيخان وغيرهما، عن ابن عمر، "ولا يقرؤه"؛ لأن عادة من لا يحسن الكتابة لا يحسن القراءة، "ولد في قوم أميين، ونشأ بين أظهرهم" أي: بينهم، وأظهر زائد "في بلد ليس بها عالم يعرف أخبار الماضيين، ولم يخرج في سفر ضاربًا" بموحدة: قاصدًا "إلى عالم، فيعكف" بكسر الكاف وضمها عليه" ليتعلم منه، "فجاءهم بأخبار التوراة والإنجيل والأمم الماضية" أي: ذكر لهم ذلك وعَبَّر عنه بجاء، أي: كأنه؛ لأنه هو الذي جاءهم إلى منازلهم حرصًا على تبليغ الرسالة ما أمكنه، "وقد كان ذهبت معالم، أي: آثار "تلك الكتب" التي تخبر بما دلت عليه واستعمال معالم جمع معلم، هو الأثر يستدل به على الطريق في آثار الكتب مجاز، "ودرست وحُرِّفت" أي: بذلت "عن مواضعها" التي وضعها الله عليه، "ولم يبق من المستمسكين بها وأهل المعرفة بصحيحها إلّا القليل،" ولقلتهم لم يجمع -صلى الله عليه وسلم- بأحد منهم حتى يظن أنه أخذ عنهم، "ثم حاجَّ" جادل "كل فريق من أهل الملل المخالفة له بما،" أي شيء، أي: ببراهين، "لو احتشد" بهمزة وصل، وسكون المهملة، وفوقية معجمة مفتوحتين،(6/423)
له حذاق المتكلمين وجهابذة النقاد المتفننين لم يتهيأ له نقض ذلك. وهذا أدلّ شيء على أنه أمر جاءه من عند الله تعالى.
ومن ذلك القرآن العظيم، فقد تحدَّى بها فيه من الإعجاز، ودعاهم إلى معارضته, والإتيان بسورة من مثله، فنكلوا عنه وعجزوا عن الإتيان بشيء منه.
قال بعض العلماء: إن الذي أورده -عليه الصلاة والسلام- على العرب من الكلام الذي أعجزهم عن الإتيان بمثله أعجب في الآية، وأوضح في الدلالة من إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص،............
__________
فمهملة: اجتمع له " اي: لردّه "حذاق المتكلمين" جمع حاذق، وهو العارف بغوامض صناعته ودقائقها، "وجهابذة النقاد" أي: خبراؤهم جمع جهبذ بالكسر، الناقد الخبير، كما في القاموس فجرَّده المصنف عن بعض معناه، لإضافته إلى النقَّاد؛ إذ لا يضاف اسم لما به، اتحد معنى المتفننين" المتنوعين في المعارف، يقال: رجل متفنن، أي: ذو فنون، أي: أنواع "لم يتهيأ" يتيسر له نقض إبطال "ذلك"، ولم يقل لهم مطابقة للجمع، نظرًا إلى تنزيلهم منزلة الشخص الواحد، فأفرد، فإن قيل: ما السر في نسبة المحاجة للنبي -صلى الله عليه وسلم، ونسبة الله تعالى لقوم إبراهيم في قوله: {وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ} الآية، فالجواب: إن إبراهيم لما كسَّر أصنامهم نصبوا أنفسهم لمحاجته، والمصطفى أتاهم بالحجج، فهو المحاجج لهم، وكل منهما حج المخالفين له، وهذا أدل شيء على أنه أمر جاءه من عند الله تعالى" لا صنع، لا حد فيه.
"ومن ذلك, أي: دلائل نبوته" القرآن العظيم،" أو من الذي حاجّهم به، وعجزوا عنه وهو أظهر لقوله: "فقد تحدَّى" بحذف المفعول، أي: تحداهم به، والباء في "بما فيه من الإعجاز" سببية لا صلة تحدى؛ لأنه ما تحداهم بالإعجاز، بل طلب منهم المعارضة فقط، بدليل تفسيره التحدي بقوله: "ودعاهم إلى معارضته" أي: طلبًا منهم، "والإتيان بورة" وجعل الباء صلة يوهم أنه قال: ائتوا، بالإعجاز الذي فيه، مع أنه لم يقله، إنما قال: فأئتوا بسورة "من مثله" من للبيان, أي هي مثله في البلاغة، وحسن النظم، والإخبار عن الغيب، والسورة قطعة لها أول وآخر, أقلها ثلاث آيات فنكلوا عنه" أي: امتنعوا عن الإتيان بمثله، بمعنى: لم يحاولوا أن يأتوا بشيء يماثله، لعلمهم أنهم لا يقدرون، "وعجزوا عن الإتيان بشيء منه" عطف علة على معلول.
"قال بعض العلماء: الذي أورده -عليه الصلاة والسلام- على العرب من الكلام الذي أعجزهم عن الإتيان بمثله، أعجب في الآية" العلامة، "وأوضح في الدلالة على ما ادعاه من الرسالة "من إحياء الموتى" لعيسى وإبراء الأكمه" الذي ولد ممسوح العين، "والأبرص" من(6/424)
لأنه أتى أهل البلاغة وأرباب الفصاحة ورؤساء البيان والمتقدمين في اللسن بكلامٍ مفهوم المعنى عندهم، وكان عجزهم عنه أعجب من عجز من شاهد المسيح عند إحياء الموتى؛ لأنهم لم يكونوا يطمعون فيه، ولا في إبراء الأكمه والأبرص, ولا يتعاطون علمه، وقريش كانت تتعاطى الكلام الفصيح والبلاغة والخطابة،...................................
__________
به بياض في ظاهر البدن بفساد مزاج، كما في القاموس، فقول من قال: هو الذي بيده بياض، مثال لا قيد، وخُصَّا لأنهما داء إعياء، وكان بعث عيسى في زمن الطب، فأبرأ في يوم خمسين ألفًا بالدعاء بشرط الإيمان.
روى ابن عساكر عن وهب: كان دعاء عيسى الذي يدعو به للمرضى والزمنى والعميان، والمجاني وغيرهم: اللهمَّ أنت إله من في السماء، وإله من في الأرض، لا إله فيهما غيرك، وأنت جبار من في السماء، وجبار من في الأرض, لا جبار فيهما غيرك، وأنت ملك من في السماء، وملك من في الأرض، لا ملك فيهما غيرك، قدرتك في الأرض كقدرتك في السماء، وسلطانك في الأرض كسلطانك في السماء، أسألك باسمك الكريم، ووجهك المنير، وملكك القديم، إنك على كل شيء قدير.
قال وهب: هذا للفزع والمجنون يكتب ويسقى ماءه يبرأ إن شاء الله تعالى؛ "لأنه أتى أهل البلاغة" وهي ملكة يبلغ بها المتكلم في تأدية المعاني حدًّا يؤذن بتوفية خاصة كل تركيب حقها, وبقية علوم العرب الشعر، وهو كلام موزون مقفَّى، مراد به به الوزن والخبر، وهو معرفة الأسماء، والإنساب، والأيام؛ إذ كانوا بمكان من ذلك, والكهانة وهي معاناة الجنّ وادعاء معرفة الأسرار، فأنزل الله القرآن الخارق لهذه الأربعة فصول، من أجل الفصاحة والإيجاز، والبلاغة الخارجة عن نوعه.
"وأرباب الفصاحة ورؤساء" جمع رئيس، كشريف وشرفاء، وزنًا ومعنًى. "البيان" الإفصاح مع ذكاء "والمتقدمين في اللسن" بفتح اللام والمهملة ونون: الفصاحة، "بكلام" متعلق بقوله: أتى "مفهوم المعنى عندهم، وكان عجزهم عنه أعجب من عجز من شاهد المسيح عند إحياء الموتى؛ لأنهم كان لم يكونوا يطمعون فيه" هذا واضح.
وأما قوله: "ولا في إبراء الأكمه والأبرص ولا يتعاطون علمه"، ففيه نظر، فقد ذكر أهل التفسير أن عيسى بُعِثَ في زمن الطب، ومن جملته تعاطي علم إبراء الأكمه والأبرص، وقريش كانت تتعاطى الكلام الفصيح، والبلاغة والخطابة،" بفتح الخاء المعجمة: إنشاء الكلام في المحافل، جعل الله لهم ذلك طبعًا وخلقةً، فيأتون منه على البديهة بالعجب، ويدلون به إلى كل سبب، فيخطبون بديها في المقامات إلى آخر ما طول به في الشفاء في صفة(6/425)
فدلَّ على أن العجز عنه إنما كان ليصير علمًا على رسالته وصحة نبوته, وهذه حجة قاطعة وبرهان واضح.
وقال أبو سليمان الخطابي: وقد كان -صلى الله عليه وسلم- من عقلاء الرجال عند أهل زمانه، بل هو أعقل خلق الله على الإطلاق، وقد قطع القول فيما أخبر به عن ربه تعالى, بأنهم لا يأتون بمثل ما تحداهم به فقال: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا} [البقرة: 24] فلولا علمه بأن ذلك من عند الله علَّام الغيوب، وأنه لا يقع فيما أخبر عنه خلف، وإلا لم يأذن له عقله أن يقطع القول في شيء بأنه لا يكون وهو يكون. انتهى.
وهذا من أحسن ما يكون في هذا المجال وأبدعه وأكمله وأبينه، فإنه نادى عليهم بالعجز قبل المعارضة، وبالتقصير عن بلوغ الغرض في المناقضة،..........
__________
بلاغتهم وفصاحتهم، "فدلَّ على أنَّ العجز عنه إنما كان ليصير علمًا على رسالته وصحة نبوته، وهذه حجة قاطعة وبرهان واضح، وهو باقٍ دون غيره من المعجزات: ومنه تستنبط الأحكام الشرعية والعلوم العقلية، ولم تستنبط من معجز سواه، ولذا قيل: معجزات الأنبياء انقرضت بانقراض أعصارهم فلم يشاهدها إلّا من حضرها، ومعجزة القرآن باقية إلى يوم القيامة.
"وقال أبو سليمان الخطابي" نسبة إلى جده؛ إذ هو حمد -بفتح المهملة، وإسكان الميم ومهملة- ابن محمد بن إبراهيم بن الخطاب، الحافظ الفقيه المشهور: "وقد كان -صلى الله عليه وسلم- من عقلاء الرجال، عند أهل زمانه، بل هو أعقل خلق الله على الإطلاق" تعليل مقدَّم لقوله: "وقد قطع القول" أي: إنه لكمال عقله لم يرتّب "فيما أخبر به عن ربه تعالى، بأنهم لا يأتون بمثل ما تحداهم به، فقال: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا} ما ذكر لعجزكم، {وَلَنْ تَفْعَلُوا} ذلك أبدًا لظهور إعجازه، ولم يقل: ولن تأتوا بسورة من مثله، لما فيه من الكناية والإيجاز، "فلولا علمه بأن ذلك من عند الله علّام الغيوب، وأنه لا يقع فيما أخبر عنه خلف، وإلّا" صوابه إسقاطه؛ إذ جواب لولا قوله: "لم يأذن له عقله أن يقطع القول في شيء بأنه لا يكون وهو يكون" يوجد, ولا يصح أن جواب لولا محذوف، أي: لم يقطع القول؛ لأنه يناكده ما بعد وإلّا، "انتهى".
"وهذا من أحسن ما يكون في هذا المجال -بالجيم- وأبدعه وأكمله وأبينه، فإنه نادى عليهم بالعجز قبل المعارضة" حيث قال: {وَلَنْ تَفْعَلُوا} ، فنفى قدرتهم في المستقبل, فلو قدروا لحميتهم فعلوا، "وبالتقصير" منهم "عن بلوغ الغرض لهم في المناقضة", هي لغة التكلم بما يتناقض معناه، والمعنى: إنه أخبر بعجزهم قبل ظهور المناقضة منهم في أقوالهم الدالة(6/426)
صارخًا بهم على رءوس الأشهاد "فلم يستطع أحد منهم الإلمام به مع توفر الدواعي وتظاهر الاجتهاد، فقال -وكان بما ألقى عليهم خبيرًا: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء: 88] فرضيت هممهم السرية وأنفسهم الشريفة الأبية بسفك الدماء وهتك الحرم.
وقد ورد من الأخبار في قراءة النبي -صلى الله عليه وسلم- بعض ما نزل عليه على المشركين الذين
__________
على ذلك "صارخًا بهم" صائحًا عليهم بعجزهم عن ذلك، "على رءوس الأشهاد، فلم يستطع أحد منهم الإلمام به" أي: القرب منه، "مع توفّر الدواعي، وتظاهر الاجتهاد" وهم في كل هذا ناكصون عن معارضته، محجمون عن مماثلته، يخادعون أنفسهم بالتشغيب والتكذيب والافتراء، يقولون: إن هذا إلا سحر يؤثر، وسحر مستمر، وإفك افتراه، وأساطير الأولين، والمباهتة، والرضا بالدنية كقولهم: قلوبنا غلف, وفي أكنة مما تدعونا إليه، وفي آذاننا وقر، أي: صمم، ومن بيننا وبينك حجاب، ولا تسمعوا لهذا القرءان، والغوا فيه لعلكم تغلبون، والادعاء مع العجز، لو نشاء لقلنا مثل هذا، وهذه وقاحة لفرط عنادهم ومكابرة، فلو استطاعوه ما منعهم أن يشاءوا، وقد تحدَّاهم وقرعهم بالعجز بضعًا وعشرين سنة، ثم قارعهم بالسيوف، فلم يقدروا مع استنكافهم أن يغلبوا خصوصًا في الفصاحة.
"فقال:" أي: أيضًا إذا ما قبله في: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ} الآية، {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا} ، وكان بما ألقى عليهم خبيرًا, {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} في الفصاحة والبلاغة، {لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} جواب لقدر، ولذا لم يجزم {وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} معينًا، نزل ردًّا لقولهم: لو نشاء لقلنا مثل هذا، قال بعضهم: التحدي إنما وقع للإنس دون الجن؛ لأنهم ليسوا من أهل اللسان العربي الذي جاء القرآن على أساليبه، وإنما ذكروا في هذه الآية تعظيمًا لإعجازه؛ لأن للهيئة الاجتماعية من القوة ما ليس للأفراد، وإذا فرض اجتماع الثقلين فيه وظاهر بعضهم بعضًا، وعجزوا عن المعارضة، كان الفريق الواحد أعجز، وقال غيره: بل وقع للجن أيضًا، والملائكة منويّون في الآية؛ لأنهم لا يقدرون أيضًا على الإتيان بمثله.
وقال الكرماني في غرائب التفسير: إنما اقتصر على الإنسان والجن؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- مبعوث إلى الثقلين دون الملائكة، ذكره في الإتقان، "فرضيت هممهم السرية،" الشريفة، "وأنفسهم الشريفة الأبية" الممتنعة "بسفك الدماء وهتك الحرم،" عجزًا عن الإتيان بمثله، وعنادًا بعدم الإيمان.
"وقد ورد من الأخبار في قراءة النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- ما نزل على المشركين الذين(6/427)
كانوا من أهل الفصاحة والبلاغة، وإقرارهم بإعجازه جمل كثيرة: فمن ذلك ما ورد عن محمد بن كعب قال: حدّثت أن عتبة بن ربيعة قال ذات يوم -وهو جالس في نادي قريش، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- جالس وحده في المسجد: يا معشر قريش، ألا أقوم إلى هذا فأعرض عليه أمورًا لعله يقبل منا بعضها ويكفّ عنا. قالوا: بلى يا أبا الوليد، فقام عتبة حتى جلس إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم, فذكر الحديث فيما قاله عتبة, وفيما عرض عليه من المال وغير ذلك, فلما فرغ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "أفرغت يا أبا الوليد؟ " قال: نعم، قال: "فاسمع مني"، قال: فافعل،.................
__________
كانوا من أهل الفصاحة والبلاغة، وإقرارهم" بالجرِّ عطف على قوله: الأخبار "بإعجازه جمل كثيرة.
فاعل ورد "فمن ذلك ما ورد عن محمد بن كعب" بن سليم بن أسد القرظي المدني، ثقة عالم, روى له الستة.
قال الحافظ: ولد سنة أربعين على الصحيح، ووهِمَ من قال: ولد في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فقد قال البخاري: إن أباه كان ممن لم يثبت من سبي قريظة، مات محمد سنة عشرين ومائة، وقيل: قبلها، "قال: حدثت" بالبناء للمجهول، قال في النور: لا أعرف مَنْ حدَّثه "أن عتبة بن ربيعة" الكافر المقتول ببدر، "قال ذات يوم، وهو جالس في نادي" مجلس قريش، الذي يجلسون فيه يتحدثون، "ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- جالس وحده في المسجد: يا معشر قريش! ألا أقوم إلى هذا" وفي رواية: إلى محمد، "فأعرض عليه أمورًا لعله أن يقبل منا بعضها،" فنعطيه أيها شاء، "ويكف عنا؟ قالوا: بلى يا أبا الوليد، فقام عتبة حتى جلس إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فذكر الحديث فيما قاله عتبة، وفيما عرض عليه من المال وغير ذلك" ولفظه فقال -أي تبة: يا ابن أخي! إنك منا حيث قد علمت من السبطة في العشيرة، والمكان في النسب، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم، فرقت به جماعتهم، وسفَّهت به أحلامهم، وعِبت به آلهتهم ودينهم، وكفَّرت من مضى من آبائهم، فاسمع مني أعرض عليك أمورًا تنظر فيها، لعلك تقبل منا بعضها، فقال -صلى الله عليه وسلم: "قل يا أبواليد، أسمع" قال: يا ابن أخي, إن كنت إنما جئت بهذا تطلب مالًا، جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالًا، وإن كنت تطلب الشرف فينا, فنحن نسودك علينا حتى لا نقطع أمرًا دونك, وإن كنت تريد ملكًا ملكناك علينا، وإن كان هذا الأمر الذي يأتيك ريًا قد غلب عليك بذلنا أموالنا في طلب الطب حتى نبرئك أو نعذر، "فلمَّا فرغ" من كلامه هذا، "قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "أفرغت يا أبا الوليد" , قال: نعم، قال: "فاسمع مني" , قال: فافعل,(6/428)
فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "بسم الله الرحمن الرحيم {حم, تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [فصلت: 1] {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ} " فمضى رسول الله -صلى الله عليه وسلم يقرؤها عليه، فلما سمعها عتبة أنصت لها، وألقى يديه خلف ظهره معتمدًا عليهما يستمع منه، حتى انتهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى السجدة فسجد فيها, ثم قال: "سمعت يا أبا الوليد؟ " قال: سمعت, قال: "فأنت وذاك" فقام عتبة إلى أصحابه، فقال بعضهم لبعض: نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به، فلمَّا جلس إليهم قالوا: ما وراءك يا أبا الوليد؟ قال: والله قد سمعت قولًا ما سمعت بمثله قط، والله ما هو بالشعر ولا بالسحر ولا الكهانة، يا معشر قريش، أطيعوني، وخَلُّوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه، فوالله ليكونَنَّ لقوله الذي سمعت نبأ. قال: فأجابني بشيء, والله ما هو بسحر ولا شعر ولا كهانة: قرأ: بسم الله الرحمن الرحيم....................
__________
فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "بسم الله الرحمن الرحيم {حم, تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} الآية، مبتدأ خبره {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ} الآية. بَيَّنت الأحكام والقصص والمواعظ والأمثال وأساليب البلاغة، "فمضى رسول الله يقرؤها عليه،" أي: يقرأ بقية السورة، "فلما سمعها عتبة أنصت لها، وألقى يديه خلف ظهره معتمدًا عليهما يستمع منه، حتى انتهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى السجدة، فسجد فيها، ثم قال: "سمعت يا أبا الوليد؟ " قال: سمعت، قال: "فأنت وذاك" مرفوع وجوبًا عند الجمهور، نحو قولهم: أنت ورأيك، والنصب على أنه مفعول معه، أو على أن ما قبل الواو جملة حذف ثاني جزأيها، "فقام عتبة إلى أصحابه، فقال بعضهم لبعض: نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به" لشدة تغيره مما سمع، فلمَّا جلس إليهم قالوا: ما وراءك يا أبا الوليد؟ قال: ورائي أني "والله قد سمعت قولًا ما سمعت بمثله قط، والله ما هو بالشعر" وكان بعضهم قال: هو شعر لحسن نظمه وفصاحته، ولا بالسحر، وكان قال بعضهم، هو سحر للطافته، "ولا الكهانة" وكان بعضهم قال ذلك فيه لتحيرهم فيه، كل ذلك من التحيز والانقطاع، "يا معشر قريش! أطيعوني" واجعلوها في "خلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه" فاعتزلوه، "فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت نبأ" فإن تصبه العرب فقد كفيتموه، وإن يظهر على العرب، فملكه ملككم، وعزه عزكم، وكنتم أسعد الناس به، قالوا: سحرك يا أبا الوليد بلسانه، قال: هذا رأيي فيه, فاصنعوا ما بدا لكم، هذا بقية حديث محمد بن كعب عند ابن إسحاق.
وزاد في رواية غيره: "قال" عتبة معللًا لقوله: ليكونن لقوله نبأ: "فأجابني بشيء، والله ما هو بسحر، ولا شعر، ولا كهانة" كما تزعمون "قرأ: "بسم الله الرحمن الرحيم, لا دلالة(6/429)
{حم, تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} حتى بلغ: {فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} [فصلت: 13] فأمسكت فمه وناشدته الرحم أن يكف، وقد علمتم أنَّ محمدًا إذا قال شيئًا لم يكذب, فخفت أن ينزل بكم العذاب. رواه البيهقي وغيره.
وفي حديث إسلام أبي ذر، ووصف أخاه أنيسًا فقال: والله ما سمعت بأشعر من أخي أنيس، وقد ناقض اثنى عشر شاعرًا في الجاهلية أنا أحدهم، وجاء إلى مكة, وجاء إليّ أبو ذر بخبر النبي -صلى الله عليه وسلم، قلت: فما يقول الناس؟ قال: يقولون شاعر، كاهن، ساحر، لقد سمعت قول الكهنة، فما هو بقولهم، ولقد وضعته على أقراء الشعر........................
__________
فيه على أنها من السورة، للإجماع على ندب استفتاح القراءة في غير الصلاة بالبسملة، {حم, تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} الآية "حتى بلغ: {فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} الآية، أي: خوفتكم عذابًا يهلككم مثل الذي أهلكم، "فأمسكت فمه، وناشدته الرحم أن يكف، وقد علمتم أن محمدًا إذا قال شيئًا لم يكذب" فكيف يكذب على الله، "فخفت أن ينزل بكم العذاب، رواه البيهقي وغيره" كابن إسحاق: حدَّثني زيد بن زياد، عن محمد بن كعب القرظي، فذكره.
وفي رواية: أن عتبة لم يرجع إليهم، وظنّوا إسلامه، فذهبوا له، فغضب وحلف لا يكلم محمدًا أبدًا، وقال: قد علمتم أنه لا يكذب..... إلى آخره، فإن صحّا أمكن الجمع بينهما.
"وفي حديث إسلام أبي ذر" الغفاري، "ووصف أخاه أنيسًا،" بالتصغير ابن جنادة، بن سفيان بن عبيد، بن حرام، بن غفار الغفاري، أسَنّ من أبي ذر، وأسلم على يده، وهاجرا معًا، "فقال: والله ما سمعت بأشعر من أخي أنيس، قد ناقض اثني عشر شاعرًا في الجاهلية أنا أحدهم" أي: عارضهم في قصائدهم، فأتى بمثلها، وهذا يدل على فصاحته ومعرفته بالشعر وقدرته عليه.
قال الجوهري: النقيضة في الشعر ما ينقض به، وقال المجد: أن يقول شاعر شعرًا، فينقض عليه شاعر حتى يجيء بغير ما قاله. "وإنه انطلق إلى مكة" لحاجة له، وجاء إلي أبو ذر بخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: رأيت رجلًا بمكة يزعم أن الله أرسله، قلت: فما يقول الناس" فيه؟ " قال" أنيس: "يقول: شاعر، كاهن، ساحر،" أي: بعضهم يقول هذا وبعض هذا، وأبطله، فقال: "لقد سمعت قول الكهنة، فما هو" أي: النبي أو كلامه ملتبس "بقولهم، ولقد وضعته".
أي: قوله, كما هو لفظه في مسلم، "على أقراء" بفتح الهمزة والمد "الشعر،" أي:(6/430)
فلم يلتئم ولا يلتئم على لسان أحد بعدي أنه شعر، وإنه لصادق وإنهم لكاذبون. رواه مسلم والبيهقي.
وعن عكرمة في قصة الوليد بن المغيرة، وكان زعيم قريش في الفصاحة: أنه قال للنبي -صلى الله عليه وسلم: اقرأ علي، فقرأ عليه: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى} [النحل: 90] إلى آخر الآية. قال: أعد، فأعاد -صلى الله عليه وسلم، فقال: والله إن له لحلاوة, وإن عليه لطلاوة, وإن أعلاه لمثمر, وإن أسفله لمغدق.....................
__________
أنواعه وأنحائه.
وقال الزمخشري: إقراؤه قوافيه التي يختم بها كإقراء الطهر التي ينقطع الدم عندها، واحدها قرء مثلث القاف، "فلم يلتئم" بالهمز من الملاءمة، أي: لم أره مناسبًا ولا موافقًا لها لفظا ولا معنًى، وأين الثريا من الثرى؟ "ولا يلتئم" لا يتفق على لسان أحد بعدي، أنه" بفتح الهمزة "شعر"؛ إذ ليس أحد أعلم به، ولا أقدر عليه مني, فلو أمكن فعلت، فحيث لم يتفق لي لا يتفق لغيري، والمراد: إبطال كونه شعرًا بعدما أبطل كونه سحرًا وكهانة، ولذا عقبه بقوله: "وإنه" أي: النبي -صلى الله عليه وسلم- "لصادق" في قوله: "إنه من عند الله "وإنهم" أي: الكفار لكاذبون" في جميع ما قالوه، "رواه مسلم" في الفضائل مطولًا جدًّا، "والبيهقي في الدلائل كذلك.
"وعن عكرمة" مولى ابن عباس فيما رواه البيهقي مرسلًا، "في قصة الوليد بن المغيرة،" بضم الميم، وكسر المعجمة، ابن عبد الله المخزومي، مات كافرًا، وكان زعيم" سيد "قريش في الفصاحة، أنه قال للنبي -صلى الله عليه وسلم: اقرأ علي" شيئًا من القرآن لينظر فيه، "فقرأ عليه: " {إَِّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ} التوحيد أو الإنصاف {وَالْأِحْسَانِ} الآية، أداء الفرائض أو أن تعبد الله كأنك تراه، كما في الحديث. {وَإِيتَاءِ} إعطاء {ذِي الْقُرْبَى} القرابة, خصَّه بالذكر اهتمامًا به "إلى آخر الآية" وخص هذه الآية لمناسبتها للطالب من أقاربه، وفيها عظة له وتنبيه، وهو من رؤساء عقلانهم، فرجا -صلى الله عليه وسلم- بذلك لكمال رأفته ورحمته أن يهدي للإسلام.
"قال" الوليد: أعد قراءتك، "فأعاد -صلى الله عليه وسلم: فقال: والله إن له لحلاوة" أي: عذوبة فصاحة، استعارة لما يستلذه السمع، وإن عليه لطلاوة" مثلث الطاء، حسنًا وبهجة وقبولًا، وأكدهما بالقسم، وإن والجملة الاسمية وقدَّم الخبر للحصر، إشارة إلى أنه لا يشبه غيره من الكلام. "وإن أعلاه لمثمر" أي: له طيب كثير، استعارة تمثيلية، والمراد: أن أصله قوي ليس من جنس كلام البشر، ومعانيه مفيدة مرشدة لسعادة الدارين وحسن العاقبة، "وإن أسفله الغدق"، وهو كثرة(6/431)
وما يقول هذا بشر، ثم قال لقومه: والله ما فيكم رجل أعلم بالأشعار مني، ولا أعلم برجزه ولا بأشعار الجن، والله ما يشبه الذي يقول شيئًا من هذا، والله إن لقوله الذي يقول لحلاوة, وإن عليه لطلاوة, وإنه لمثمر أعلاه, مغدق أسفله, وإنه ليعلو ولا يُعْلَى عليه.
وفي خبره الآخر: حين جمع قريشًا عند حضور الموسم وقال: إن وفود العرب تردنا، فأجمعوا فيه رأيًا، لا يكذب بعضكم بعضًا،.......................................
__________
الماء، وأراد بأسفله ما تضمنه من المعاني، فهو تمثيلية أيضًا، شبهه لفصاحته وبلاغته بشجرة شربت عروقها ماء غزيرًا، فاهتزت وربت، وأينعت ثمرتها وكثرت، ويجوز كونها مكنية وتخييلية.
وفي رواية ابن إسحاق: وإن أصله لعذق -بفتح المعجمة، وكسر المهملة، قال في الروض: رواية ابن إسحاق أفصح؛ لأنها استعارة تامة، آخر الكلام فيها يشبه أوله، وجناه -بفتح الجيم والنون- الثمرة، "وما يقول هذا بشر"؛ لأنه لا يشبه كلامهم بوجه من الوجوه، لحلاوة نظمه، وبديع أسلوبه، وبلاغة معانيه، وجزالة مبانيه، يعني: إنه ليس مفترى مختلفًا، وخصَّ البشر؛ لأنهم المعروفون بالبلاغة، وإلا فهو معجز للجن أيضًا، على أنه صرح بذلك في قوله: "ثم قال لقومه: والله ما فيكم رجل أعلم بالأشعار مني، ولا أعلم برجزه" نوع من الشعر معروف، فهو خاص على عام، ففيه حجة لقول الجمهور: الرجز شعر, "ولا بأشعار الجن" مني، "والله ما يشبه الذي يقول شيئًا من هذا" المذكور، "والله إن لقوله الذي يقول لحلاوة، وإن عليه لطلاوة, وإنه لمثمر، أعلاه مغدق أسفله", وأعاد ذلك للتأكيد ولشدة اللذَّة الحاصلة له بسماعه، "وإنه ليعلو" يرتفع على ما سواه، "ولا يُعْلَى عليه", وبقية هذا عند البيهقي: "وإنه ليحطم ما تحته، وفي خبره" أي: الوليد: "الآخر حين جمع قريشًا" يعني أشرافهم ورؤساهم، "عند حضور الموسم" للحج، "وقال: إن وفود العرب تردنا" أي: تقدم عليكم، وقد سمعوا بأمر صاحبكم، "فأجمعوا" -بقطع الهمزة، وإسكان الجيم، وكسر الميم- "فيه رأيًا" أي: اعزموا وصمموا عليه من أجمع المختص بالمعالي دون الأعيان، لا من جمع؛ لأنه مشترك بينهما.
قال تعالى: {فَجَمَعَ كَيْدَهُ} الآية، ثم أتى الذي جمع مالًا وعدَّده، وأمَّا قوله تعالى: {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ} الآية. فوقع الفعل على وشركاءكم" بطريق العطف، ويغتفر في التابع ما لا يغتفر في المتبوع أو تقديره، كما قيل: وأحضروا شركاءكم. لا يكذب -بضم الياء، وسكون الكاف، وخفة الذال، أو بفتح الكاف وشد الذال المكسورة- من(6/432)
فقالوا: نقول إنه كاهن، قال: والله ما هو بكاهن, ما هو بزمزمته ولا سجعه، قالوا: مجنون. قال: ما هو بمجنون ولا بخنقه ولا بوسوسته، قالوا: فنقول شاعر، قال: وما هو بشاعر، قد عرفنا الشعر كله. رجزه وهزجه وقريضه ومبسوطه ومقبوضه، ما هو بشاعر. قالوا: فنقول ساحر، قال: ما هو بساحر، ولا نفثه ولا عقده، قالوا: فما نقول: قال: فما أنتم قائلون من هذا شيئًا إلّا وأنا أعرف أنه باطل،.............
__________
أكدب وكذب، "بعضكم بعضًا" إذا اختلفتم، قالوا: فأنت أقم لنا رأيًا نقوله فيه، قال: بل أنتم، فقولوا أسمع, "فقالوا: نقول إنه كاهن" يخبر عن المغيبات، ويدَّعي معرفة الأسرار، وكانوا في العرب كثيرًا، كشق وسطيح، وكان لهم كلام مشجع, فمنهم من له جني يخبره بالأخبار، ومنهم من يدَّعي معرفة ذلك بأسباب وأمور يأخذها من كلام سائله وفعله وحاله، ويقال له: عرَّاف، "قال: والله ما هو بكاهن", لقد رأينا الكهَّان، "ما هو بزمزمته" أي: صوته الذي لا يفهم، كصوت الرعد، وذلك أصوات الكهنة، "ولا سجعه" الذي يسجعه وقت كهانته، "قالوا: مجنون" اختلَّ عقله، فاختل كلامه وفعله" قال:" والله "ما هو بمجنون" لقد رأينا المجنون وعرفناه، ولا" هو "بخنقه" بفتح النون، وكسرها، وإسكانها ثلاث لغات، ذكره المصنف، "ولا بوسوسته" بفتح الواو: مصدر شيء يلقى في القلب وفي السمت بصوت خفي يحدث به المرء نفسه, ولذا سمي حديث النفس، أي: لا يشبه حاله، "قالوا: فنقول شاعر، قال: وما هو بشاعر, قد عرفنا الشعر كله رجزه وهزجه" بفتح الهاء والزاي والجيم: أحد بحور الشعر، لكن المنقول أن أسماءها منقولات للخليل بن أحمد، فهي منقولة من الهزج نوع مطرب من الأغاني، ولو قيل: إنه اسم لضرب من الشعر كانت العرب تتغنى به كان أقرب وانسب بقوله: "وقريضه"؛ لأنه ليس اسم بحر من بحور العروض، وهو لغة الشعر مطلقًا من قرض بمعنى قطع, أي: مطولات قصائده المقابلة لما قبله فيتناول الطويل والبسيط وغيرهما، ومقبوضه" مختصرًا وزانه المسمَّى في العروض بالمنهوك والمجزور, وتكلف من فسَّر مبسوطه ببحر البسيط، وإن زيادة الميم لمشاكلة مقبوضة، "ما هو بشاعر" أعاده تأكيدًا، "قالوا: فنقول ساحر، قال: وما هو بساحر", لقد رأينا السحار وسحرهم, فما هو بساحر، "ولا نفثه ولا عقده" بفتح فسكون أو بضم ففتح: جمع عقدة التي يعقدها في الخيط ينفخ فيها بشيء يقوله بلا ريق أو معه، "قالوا: فما نقول" بالنون نحن، أو الفوقية: أي: أنت "قال:" والله إن لقوله لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أصله لعذق، وإن فرعه لجناه، فما أنتم قائلون من هذا شيئًا إلا وأنا أعرف أنه باطل، ليس بمقبول عندي ولا عند أحد من العقلاء الذين يعرفونه, وقدَّم الضمير لتقوية الحكم؛ لأنه يقدم لذلك أو(6/433)
رواه ابن إسحاق والبيهقي.
وأخرج أبو نعيم من طريق ابن إسحاق بن يسار قال: حدثني إسحاق بن يسار عن رجل من بني سلمة قال فتيان بني سلمة: قال عمرو بن الجموح لابنه: أخبرني ما سمعت من كلام هذا الرجل، فقرأ عليه {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} إلى قوله: {الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} فقال: وما أحسن هذا وأجمله، أَوَكل كلامه مثل هذا؟ قال: يا أبت وأحسن من هذا.
وقال بعضهم -بعض العلماء:.........................................................
__________
للحصر في نفسه بادّعاء أن غيره يجهل ذلك، وفيه بعده، وبقية خبره: وإن أقرب القول فيه أن تقولوا ساحر جاء بقول هو سحر، يفرِّق بين المرء وأبيه، وبين المرء وأخيه، وبين المرء وزوجه، وبين المرء وعشيرته, فتفرقوا عنه بذلك, فجعلوا يجلسون لسبل الناس حين قدموا الموسم، لا يمر بهم أحد إلا حذروه إياه، وذكروا لهم أمره, فصدرت العرب من ذلك الموسم بأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فانتشر ذكره في بلاد العرب كلها، "رواه" بتمامه هذا "ابن إسحاق والبيهقي" بإسناد جيد عن ابن عباس.
"وأخرج أبو نعيم من طريق" محمد بن إسحاق بن يسار" إمام المغازي، صدوق، مدلس، قال: حدثني" أبو "إسحاق بن يسار، المدني، ثقة من التابعين، عن رجل من بني سلمة، بكسر اللام، بطن من الأنصار قال: لما أسلم فتيان بني سلمة، قال عمرو،" بفتح العين، ابن الجموح -بفتح الجيم، وخفة الميم- ابن زيد بن حرام بن كعب الأنصاري السلمي، من سادات الأنصار، استشهد بأحد، "لابنه" معاذ، شهد العقبة وبدرًا، وشارك في قتل أبي جهل: "أخبرني ما سمعت من كلام هذا الرجل " وكان أسلم قبل أبيه، "فقرأ عليه" {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} الآية. "إلى قوله: {الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} الآية. "فقال" عمرو لابنه: "ما أحسن هذا وأجمله، أوكل كلامه مثل هذا؟ قال: يا أبت وأحسن من هذا" قال ابن إسحاق: كان عمرو بن الجموح سيدًا من سادات بني سلمة، وشريفًا من أشرافهم، وكان قد اتخذ في داره صنمًا من خشب يعظمه، فلمَّا أسلم فتيان بني سلمة منهم ابنه معاذ، ومعاذ بن جبل كانوا يدخلون على صنمه فيطرحونه في بعض حصر بني سلمة، فيغدو عمرو، فيجده منكبًا لوجهه في العذرة، فيأخذه ويغسله ويطيبه ويقول: لو أعلم من صنع بك هذا لأضربنَّه، ففعلوا ذلك مرارًا, ثم جاء بسيفه فعلقه عليه، وقال: إن فيك خير فامتنع، فلمَّا أمسى أخذوا كلبًا ميتًا، فربطوه في عنقه، وأخذوا السيف، فأصبح، فوجده كذلك، فأبصر رشده وأسلم.
وقال ابن الكلبي: كان آخر الأنصار إسلامًا، "وقال بعضهم" وفي نسخة "بعض العلماء،(6/434)
إن هذا القراءن لو وجد مكتوبًا في مصحف في فلاة من أرض, ولم يعلم من وضعه هناك لشهدت العقول السليمة أنه منَزَّل من عند الله، وأن البشر لا قدرة لهم على تأليف مثل ذلك, فيكف إذا جاء على يد أصدق الخلق وأبرهم وأتقاهم, وقال: إنه كلام الله، وتحدَّى الخلق كلهم أن يأتوا بسورة من مثله فعجزوا، فكيف يبقى مع هذا شك. انتهى.
واعلم أن وجوه إعجاز القرآن لا تنحصر, لكن قال بعضهم: إنه قد اختلف العلماء في إعجازه على ستة أوجه.
أحدها: إن وجه إعجازه هو الإيجاز والبلاغة،...................................
__________
"إن هذا القرآن لو وجد مكتوبًا في مصحف في فلاة من الأرض، ولم يعلم من وضعه هناك، لشهدت العقول السليمة أنه منَزَّل من عند الله، وأنَّ البشر" وأولي الجن" لا قدرة لهم على تأليف ذلك، فكيف إذا جاء على يد أصدق الخلق، وأبرهم، وأتقاهم، و"قد قال: إنه كلام الله وتحدَّى الخلق كلهم أن يأتوا بسورة من مثله فعجزوا, فكيف يبقى مع هذا شك؟ انتهى" كلام البعض.
"واعلم أنَّ وجوه" أي: أنواع "إعجاز القرآن" التي يعلم بها إعجازه، وأنه لا يقدر عليه بشر، "لا تنحصر" بعدد, وإن أفردها خلائق بالتصنيف، وقد قال في الشفاء، بعدما قال: إن تحصيلها من جهة ضبط أنواعها أربعة، وبسطها، ثم زاد عليها جملة، قال: وإذا عرفت ما ذكره من وجوه إعجاز القرآن، عرفت أنه لا يحصى عدد معجزات بألفٍ ولا ألفين، ولا أكثر؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- قد تحدَّى بسورة منه، فعجزوا عنها.
قال أهل العلم: وأقصر السور {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} الآية. فكل آية أو أيات منه بعددها منه معجزة، ثم فيها نفسها معجزات على ما سبق.
"لكن قال بعضهم: إنه قد اختلف العلماء في" وجه "إعجازه على ستة أوجه" أي: إنها جملة الوجوه التي حصل بها الإعجاز, وليس المراد أن من قال بواحد نفى غيره.
"أحدها: إن وجه إعجازه" أي: جعل غيره عاجزًا عن معارضته والإتيان بمثله، هو الإيجاز:" قلة اللفظ وكثرة المعاني، "والبلاغة الخارقة عادة العرب بأن يكون في الحد الأعلى، أو ما يقرب الإعجاز فيه من جهة البلاغة، لكن صعب عليهم تفصيلها, فصغوا فيه إلى حكم الذوق، وقال: والتحقيق أن أجناس الكلام مختلفة، ومراتبا في درجات البيان متفاوتة، فمنها: البليغ الوصيف الجزل، ومنها الفصيح القريب السهل، ومنها الجائز الطلق الرسل، وهي أقسام(6/435)
مثل قوله: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179] فجمع في كلمتين عدد حروفهما عشرة أحرف معاني كلام كثير.
وحكى أبو عبيد: أن أعرابيًّا سمع رجلًا يقرأ: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} [الحجر: 94] فسجد وقال: سجدت لفصاحة هذا الكلام...............................................
__________
الكلام الفاضل فالأول أعلاها، والثاني أوسطها, والثالث أدناها وأقربها, فجاءت بلاغة القرآن من كل قسم من هذه الثلاثة, فانتظم لها بذلك نمط يجمع صفة الفخامة والعذوبة، وأطال في بيان ذلك نقله في الإتقان, ثم قال: اختلف في تفاوت القرآن في مراتب الفصاحة بعد اتفاقهم على أنه في أعلى مراتب البلاغة، بحيث لا يوجد في التراكيب ما هو أشد تناسبًا، ولا اعتدالًا في إفادة المعنى منه، فاختار القاضي المنع، وإن كان كلمة فيه موصوفة بالذروة العليا، وإن كان بعض الناس أحسن إحساسًا له من بعض. واختار أبو نصر القشيري وغيره التفاوت، وأن فيه الأفصح والفصيح, وإليه نحا العز بن عبد السلام وأورد: لِمَ لم يأت القرآن جميعه بالأفصح، وأجاب غيره، بأنه لو جاء على ذلك لكان على غير النمط المعتاد في كلام العرب من الجمع بين الأفصح والفصيح، فلا تتمّ الحجة في الإعجاز, فجاء على نمطهم المعتاد ليتمَّ ظهور العجز عن معارضته، ولا يقولوا مثلًا: أتيتنا بما لا قدرة لنا على جنسه، كما لا يصح للبصير أن يقول للأعمى: غلبتك بنظري؛ لأنه يول له: إنما تتم لك الغلبة لو كنت قادرًا على النظر, وكان نظرك أقوى من نظري، فأمَّا إذا فقد أصل النظر، فكيف يصح معنى المعارضة، انتهى، والرصيف بفتح الراء وكسر المهملة وبالفاء، الشديد المضموم، والجزل، بفتح الجيم، وسكون الزاي، فلام القوي الشديد الرونق، "مثل قوله: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} الآية، أي: بقاء عظيم، "فجمع في كلمتين" هما المبتدأ والخبر؛ لأنهم لا يعتبرون جزء الكلمة، وأما قوله: {وَلَكُمْ} فخبر آخر لحياة، أو أحدهما خبرًا، والآخر صلة له "عدد حروفهما عشرة أحرف" بحذف ألف أل والياء في قوله, في، لأنهم إنما يعدون ما ينطقون به لا ما يكتب، والعرب لم تكن تعرف الكتابة "معاني كلام كثير".
"وحكى أبو عبيد" القاسم بن سلام البغدادي أحد الأعلام، مَرَّ بعض ترجمته، "أن أعرابيًّا سمع رجلًا يقرأ: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} الآية. جهر به من صدع بالحجة إذا تكلم جهارًا، أو افرق به بين الحق والباطل، وأصله: الإبانة والتمييز، وما مصدرية أو موصولة, والعائد محذوف, أي: بما تؤمر به من الشرائع، كما في البيضاوي "فسجد" الأعرابي لما أدهشه من بلاغته، "وقال: سجدت لفصاحة هذا الكلام"؛ إذ ليست آية سجدة، وإنما هزَّه العجب لفصاحته، حتى ذلَّ ومرَّغ وجهه في التراب، وكان هذا معروفًا في مثله، حتى قال بعضهم للشعر، سجدات وليس المعنى:(6/436)
وسمع آخر رجلًا يقرأ: {فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا} [يوسف: 80] فقال: أشهد أن مخلوقًا لا يقدر على مثل هذا الكلام.
وحكى الأصمعي: أنه رأى جارية خماسية أو سداسية وهي تقول: استغفر الله من ذنوبي كلها، فقلت لها: ممن تستغفرين ولم يجر عليك قلم؟ فقالت:
استغفر الله لذنبي كله ... قتلت إنسانًا بغير حله
مثل غزال ناعم في دله ... انتصف الليل ولم أصله
فقلت لها: قاتلك الله ما أفصحك،................... ......................
__________
سجدت لله لأجل فصاحته، كما وهم وسمع أعرابي "آخر رجلًا يقرأ {فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ} الآية، يئسوا من يوسف، وزيدت السين والتاء للمبالغة في اليأس، {خَلَصُوا} ، اعتزلوا {نَجِيًّا} الآية، مصدر يصلح للواحد وغيره، أي: يناجي بعضهم بعضًا، "فقال: أشهد أن مخلوقًا لا يقدر على مثل هذا الكلام"؛ لإعجاز بلاغته وخروجها عن طوق البشر، فإنك لو وزنت قولك، لما لم يطعم يوسف، ولم يجبهم، ذهبوا وتشاوروا فيما بينهم فيما يقولون بعد هذا، وكيف يرجعون لأبيهم، عرفت بالذوق أن لا مناسبة بينهما.
"وحكى الأصمعي" بفتح الهمزة، والميم، بينهما مهملة ساكنة، ثم مهملة، نسبة إلى جده، فإنه عبد الملك بن قريب بالتصغير، ابن عبد الملك بن علي بن أصمع, أبو سعيد الباهلي، البصري، صدوق سني، روى له أبو داود والترمذي، مات سنة ست عشرة، وقيل: سنة عشر ومائتين وقد قارب تسعين "أنه رأى جارية" أي: صغيرة السن، "خماسية، أو سداسية" بلغت خمسًا أو ستًا" "وهي تقول: أستغفر الله من ذنوبي كلها،" قال الأصمعي: "فقلت لها مِمَّ تستغفرين ولم يجر عليك قلم؟ إذ لم تبلغي الحلم، فقالت:"
أستغفر الله لذنبي كله ... قتلت إنسانًا بغير حله
بالكسر، أي: لا بسبب يبيح قتله، "مثل غزال " صفة إنسانًا "ناعم في دله" أي: تُدَلِّلُه وتكسره في مشيته، "انتصف الليل ولم أصله، إخبار عن ذنب آخر أي: لم أتهجد فيه ثم يحتمل أن المراد بإنسانًا نفسها، أي: قتلت نفسي بعدم فعل الطاعات لانتصاف الليل وما صليت، ويحتمل غيرها، والقتل له حقيقي أو مجازي عن هجرها له ونحوه، أي: كدت أقتله، وهذا أظهر؛ إذ قتلها الحقيقي أو بالعشق بعيد لصغرها جدًّا، "فقلت لها: قاتلك الله ما أفصحك, تعجب من فصاحتها مبالغًا في تعجبه, فإنها تقال لمن أتى بأمر بديع غريب، وليس المراد حقيقة لدعاء, بل شدة الاستحسان كأنه ممن يستحق أن يحسد ويدعى عليه، "فقالت: أو تعد" بالفوقية للمعلوم".(6/437)
فقالت: أَوَتَعُدّ هذا فصاحة بعد قوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [القصص: 7] فجمع في آية واحدة بين أمرين ونهيين وخبرين وبشارتين.
وحكي أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- كان يومًا نائمًا في المسجد، فإذا برجل على رأسه، يتشهد شهادة الحق، فأعلمه أنه من بطارقة الروم،................
__________
والتحتية للمجهول، وفتح همزة الاستهام والواو العاطفة، والهمزة مقدمة من تأخير، أو داخلة على مقدر معطوف عليه على الخلاف الشهير، أي: أتعجب وتعد هذا" الكلام "فصاحة؟ أي: فصيحًا، "بعد قوله تعالى" أي: مع فصاحة القرآن، لا يعد غيره فصيحًا لسامعه، فإنه أزرى بكل فصاحة فصيرها كالعدم، "وأوحينا" الآية، وحي إلهام أو منام {إِلَى أُمِّ مُوسَى} الآية. ولم يشعر بولادته عن أخته {أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ} الآية. البحر، أي: النيل {وَلا تَخَافِي} الآية. "غرقه" {وَلا تَحْزَنِي} الآية، لفراقه، {إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} ، الآية فأرضعته ثلاثة أشهر، لا يبكي، وخافت عليه، فوضعته في تابوت مطلي بالقار من داخل، ممهد له, وألقته في بحر النيل ليلًا، "فجمع في آية واحدة بين أمرين:" أرضعيه وألقيه، "ونهيين" ولا تخافي ولا تحزني, و"خبرين" {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ} , {إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ} "وبشارتين" {إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} الآية. وهذا أولى من جعل الخبرين: أوحينا وخفت؛ لأنَّ أوحينا وحده ليس هو المقصود بالإخبارية، وخفت، وإن كان خبرًا في الأصل لكنه باقترانه بأداة الشرط خرج عن كونه خبرًا، ولا يضر كون {إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ} خبرًا وبشارة، لاختلاف الجهة فيهما، ثم المراد بالفصاحة هنا البلاغة؛ لأنها تطلق عليها، كما قال عبد القاهر.
قال في الشفاء: فهذا، أي: الجمع بين ما ذكر في آية واحدة نوع من إعجازه، منفرد بذاته، غير مضاف لغيره على التحقيق والصحيح.
"وحكي أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- كان يومًا نائمًا في المسجد" النبوي, فإذا -فجائية- برجل" بباء الملابسة على رأسه" أي: منتصف القامة بجانب رأس عمر، وهو حقيقة عرفية في مثله "يتشهد شهادة الحق" أي: ينطق بالشهادة, فاستخبره، فأعلمه، كما في الشفاء فسقط من الناسخ لفظ: فاستخبره, وفي نسخة: خبَّره، أنَّه من بطارقة الروم -جمع بطريق، ككبريت- القائد من قواد الروم، تحت يده عشرة آلاف رجل، كما في القاموس.(6/438)
ممن يحسن كلام العرب وغيرها, وأنه سمع رجلًا من أسرى المسلمين يقرأ آية من كتابكم, فتأملتها فإذا قد جمع الله فيها ما أنزل الله على عيسى ابن مريم من أحوال الدنيا والآخرة, وهي قوله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ} [النور: 52] الآية.
وقد رام فوق من أهل الزيغ والإلحاد، أوتوا طرفًا من البلاغة، وحظًّا من البيان، أن يضعوا شيئًا يلبسون به، فلمَّا وجده مكان النجم من يد المتناول، مالوا إلى السور القصار، كسورة الكوثر والنصر وأشباههما لوقوع الشبهة على الجهال فيما قلَّ عدد....................
__________
وقال الجواليقي: لما سمعت العرب أن البطارقة أهل رئاسة، وصفوا الرئيس به يريدون المدح، قال أبو ذؤيب:
هم رجعوا بالعرج والقوم شهد ... هوازم يخدوها حماة بطارق
"ممن يحسن كلام العرب وغيرها" من عبرانية وسريانية ورومية، وهذا توطئة؛ لأنه يفهم القرآن والإنجيل ويقدر على النظر في معانيهما، ولذا قال: وإنه سمع رجلًا من أسرى المسلمين يقرأ آية من كتابكم" أيها المسلمون، يعني القرآن، "فتأملتها" نظرت بفكري في معناها، "فإذا هي قد جمع فيها ما أنزل الله على عيسى ابن مريم من أحوال الدنيا والآخرة" بان لما, أي: من الأحوال التي تلزم العبد في الدنيا التي هو سبب النجاة والفوز في الآخرة وهي قوله تعالى {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} الآية، فيما يأمرانه أو في الفرائض والسنن {وَيَخْشَ اللَّهَ} ألآية" يخفه فيما صدر عنه من الذنوب، {وَيَتَّقْهِ} الآية، يجتنب ما يوجب عقوبته، فيما بقي من عمره الآية، أي: {فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} الآية، بالنعيم المقيم أو سعادة الدارين, وذلك لأنها آمرة بجميع الطاعات, وباجتناب جميع المعاصي, والمبادر إلى التوبة والفوز بالمطلوب"وقد رام قوم من أهل الزيغ" الميل عن الحق إلى الباطل، التوبة والفوز بالمطلوب, وقد رام قوم من أهل الزيغ: الميل عن الحق إلى الباطل، والإلحاد: الطعن في الدين "أوتوا طرفًا من البلاغة وحظًّا" نصيبًا "من البيان أن يضعوا شيئًا يلبسون -بفتح أوله، وسكون اللام وفتح الباء وكسرها، وبضم أوله، وفتح اللام وشد الباء- مكسوة من التلبيس شدد مبالغة يخلطون به, فلما وجده مكان النجم من يد المتناول, أي: بعيدًا لا يتخيل الوصول إليه، كما لا يتخيل أحد أن يتناول نجمًا بيده من محله، "مالوا إلى السور القصار، كسورة الكوثر والنصر وأشباههما لوقوع" أي: دخول الشبهة على الجهال" القاصرة عقولهم عن تمييز الحسن من القبيح، ولو قال: لإيقاع كان أَوْلَى؛ لأن الغرض منه فعله وتزويجه ما يقول: "فيما قلَّ عدد حروفه؛ لأن العجز إنما يقع في التأليف والاتصال،(6/439)
حروفه؛ لأن العجز إنما يقع في التأليف والاتصال.
وممن رام ذلك من العرب بالتشبث بالسور القصار، مسيلمة الكذَّاب فقال: يا ضفدع نقي كم تنقين، أعلاك في الماء وأسفلك في الطين، لا الماء تكدرين، ولا الشراب تمنعين. فلما سمع أبو بكر -رضي الله عنه- هذا قال: إنه لكلام لم يخرج من إل.
قال ابن الأثير: أي من ربوبية، و"الإل" بالكسر هو الله تعالى. وقيل: الإل هو الأصل الجيد، أي: لم يجئ من الأصل الذي جاء منه القرآن.
ولما سمع مسيلمة الكذاب -لعنه الله- و"النازعات" قال: والزارعات زرعًا والحاصدات حصدًا والذاريات قمحًا، والطاحنات طحنًا، والحافرات حفرًا، والثاردات ثردًا, واللاقمات لقمًا، لقد فضلتم على أهل الوبر, وما سبقكم أهل المدر. إلى غير ذلك من الهذيان، مما ذكرت في الوفود من المقصد الثاني بعضه والله أعلم.
__________
وممن رام ذلك من العرب بالتشبث: " التعلق "بالسور القصار: مسيلمة" بضم الميم، وكسر اللام، تصغير مسيلمة، ففتح لامه خطأ من بني حنيفة "الكذاب، فقال: يا ضفدع نقي كم تنقين،" أي: تصوتين "أعلاك في الماء، وأسفلك في الطين، لا الماء تكدرين، ولا الشراب تمنعين، فلما سمع أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- هذا" الكلام "قال: إنه لكلام لم يخرج من "إل" بكسر الهمزة، وتثقيل اللام.
"قال ابن الأثير" في النهاية: "أي: من ربوبية، والإلّ، بالكسر هو الله تعالى، وقيل: الإلّ هو الأصل الجيد، أي: لم يجئ من الأصل الذي جاء منه القرآن، ولما سمع مسيلمة الكذاب -لعنه الله- {وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا} الآية. "قال: والزارعات" بذال معجمة من ذروت الشيء طيرته وأذهبته، "قمحًا، والطاحنات طحنًا، والحافرات حفرًا، والثاردات ثردًا" بمثلثة، "واللاقمات لقمًا، لقد فضلتم على أهل الوبر" بفتحتين، صوف الإبل والأرانب ونحوها، جمعه: أوبار، "وما سبقكم أهل المدر" بفتحتين: قطع الطين اليابس، أو العلك الذي لا رمل فيه، والمدن والحضر، كما في القاموس، "إلى غير ذلك من الهذيان،" التكلم بغير معقول، "مما ذكرت في الوفود من المقصد الثاني بعضه والله أعلم".
"وقال آخر: ألم تر كيف فعل ربك بالحبلى، أخرج من بطنها نسمة تسعى من بين(6/440)
وقال آخر: ألم تر كيف فعل ربك بالحبلى, أخرج من بطنها نسمة تسعى، من بين شراسيف وأحشى.
وقال آخر: الفيل ما الفيل، وما أدراك ما الفيل، له ذنب وثيل، ومشفر طويل، وإن ذلك من خلق ربنا لقليل.
ففي هذا الكلام مع قلة حروفه من السخافة ما لا خفاء فيه على من لا يعلم، فضلًا عمَّن يعلم.
والثاني: إن إعجازه هو الوصف الذي صار به خارجًا عن جنس كلام العرب من النظم والنثر والخطب والشعر والرجز والسجع،.....................................
__________
شراسيف" بشين معجمة، وراء وسين مهملة، جمع شرسوف، كعصفور، غضروف معلق بكل ضلع أو مقسط الضلع، وهو الطرف المشرف على البطن، "وأحشى:" جمع حشى.
"وقال آخر: الفيل ما الفيل، وما أدراك ما الفيل، له ذنب وثيل" -بمثلثة- طويل، يشبه الحبل في امتداده، "ومشفر،" بكسر الميم، وسكون المعجمة، وفتح الفاء، "طويل، وإن ذلك من خلق ربنا لقليل، ففي هذا الكلام مع قلة" وفي نسخة: قلت بالفاء، "حروفه من السخافة، قلة العمل، "ما لا خفاء فيه على من لا يعلم فضلًا عمَّن يعلم؛" إذ كل من سمعه يمجّه، ويعلم ضرورة هجنته ولكنته.
"و" الوجه "الثاني: إن إعجازه هو الوصف،" بالغ في العلة حتى جعلها محمولة على المبتدأ، كزيد عدل فلا يرد أن الوصف علة للإعجاز الذي هو تصبير الغير عاجزًا، لأجل الوصف الذي صار به خارجًا عن جنس كلام العرب" من حسن تأليفه، والتئام كلمة وفصاحته، ووجوه إيجازه من قصر وحذف جزء جملة مضاف، أو موصوف، أو صفة في نحو: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} ، أي: أهلها ومنادون ذلك، أي: رجال, و {يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا} ، أي: سفينة صالحة، وغير ذلك مما استدلَّ عليه من وجوه الإعجاز وبلاغته الخارقة عادة العرب في عجائب تراكيبهم وغرائب أساليبهم، وبدائع إنشاءاتهم، وروائع إشاراتهم الذين هم فرسان الكلام، ومن صورة نظمه العجيب، وأسلوبه الغريب، المخالف لأساليب العرب، ومناهج نظمها، ونثرها الذي جاء به القرآن، ووقفت عليه تقاطع آياته، أي: أواخر وقوفها، كالتامّ والكافي، وانتهت إليه فواصل كلماته، ولم يوجد قبله ولا بعده نظير له. انتهى ملخصًا من الشفاء.
"من النظم" بيان لكلام العرب, "والنثر" بمعنى المنظوم والمنثور، "والخطب والشعر والرجز" عطف أخص على أعمّ إذا الراجح أنه شعر، "والسجع" بمهملة: كلام له فواصل بمعنى المسجوع.(6/441)
فلا يدخل في شيء منها, ولا يختلط بها, مع كون ألفاظه وحروفه من جنس كلامهم، ومستعملة في نثرهم ونظمهم، ولذلك تحيَّرت عقولهم، وتدلهت أحلامهم, ولم يهتدوا إلى مثله في حسن كلامهم، فلا ريب أنه في فصاحته قد قرع القلوب..........................
__________
قال المجد: السجع: الكلام المقفَّى، أو موالاة الكلام على رويّ, جمعه أسجاع وسجوع وسجع كمنع, نطق بكلام له فواصل، وسجعت الحمامة: رددت صوتها.
وفي المصباح: إن تسمية مثل هذا سجعًا لتشبيهه بهدر الحمامة، والفرق بينه وبين الشعر أنه يعتبر فيه الوزن قصدًا بخلاف السجع, فلا يعتبر فيه الوزن هذا، ومغايرة الثاني للأول من حيث أنه لوحظ فيه جانب المعنى، ككون الكلام مطابقًا لمقتضى الحال من التأكيد وغيره، والثاني: لوحظ فيه جانب اللفظ المتعلق بكيفية التأليف من الحذف لبعض الأجزاء وغيره، بدليل قوله: من النظم........... إلخ، وبه يصرّح كلام القاضي المتقدم.
"فلا يدخل في شيء منها" حتى يتَّصف بشيء من الأوصاف التي بني عليها كلام العرب، بل هو أعلى منها وأغلى، وإن شاركها في أنه مؤلف من كلماتهم، ونزل على أساليب كلامهم، نظرًا لأصل اشتماله على تراكيب من نوع تراكيبهم، لكن تراكيب القرآن في أعلى طبقات الفصاحة، فلم يعد شيء منه داخلًا في جنس كلامهم, ولا يختلط" أي: يشتبه بها", بحيث لو جمع شيء منه مع كلامهم تميز عنه تميزًا، لا يخفى على أحد، ومثل ذلك لا يكون من الخلط في شيء، "مع كون ألفاظه وحروفه من جنس كلامهم، ومستعملة" بالنصب عطفًا على محل ما قبله؛ لأنه خبر كون "في نثرهم ونظمهم، ولذلك تحيَّرت عقولهم" وقعت في الحيرة، فالعناد يمنعهم من الاعتراف أنه من عند الله، وظهور إعجازه في قولهم: مفترى وسحر ونحو ذلك، "وتدلهت،" -بفتح أوله، والمهملة واللام الثقيلة- دهشت وتحيِّرت في شأنه، "أحلامهم" عقولهم، فهو قريب مما قبله.
وفي نسخة: تولهت بواو، وبدل الدال من الوله، وهو الحيرة أيضًا، قال بعض: والأحسن تفسير التدله بذهاب العقل من الهوى, فيكون ترقى من خيرته إلى ذهابه، "ولم يهتدوا إلى مثله، "أي: ألم يقدروا على الإتيان بما يماثله أو يقرب منه، ولا سمعوه من فصائحهم، "في حسن كلامهم" الذي يقدرون عليه، ونفى به قواهم البشرية من نظر، أو نظم، أو رجز، أو شعر، "فلا ريب،" لا شكَّ في "أنه في فصاحته قد قرع القلوب" أثَّر فيها، إذا ورد عليها أثرًا، كتأثير من(6/442)
ببديع نظمه, وفي بلاغته قد أصاب المعاني بصائب سهمه، فإنه حجة الله الواضحة، ومحجته اللائحة، ودليله القاهر، وبرهانه الباهر، ما رام معارضته شقي إلّا تهافت تهافت الفراش في الشهاب، ودلَّ ذل النقد حول الليوث الغضاب.
وقد حكى عن غير واحد ممن عارضه أنه اعترته روعة وهيبة كفته عن ذلك، كما حكي عن يحيى بن حكيم الغزل -بتخفيف الزاي وقد تشدد, وكان بليغ الأندلس في زمانه........
__________
قرع الباب "ببديع نظمه" أي: بسبب تأليفه البديع, فهو من إضافة الصفة للموصوف، "و" ريب أنه "في بلاغته قد أصاب المعاني" أدركها؛ بحيث أخذ منها أوفرها وأعذبها، "بصائب سهمه" من إضافة الصفة للموصوف أيضًا، فإن قيل: الباء سببية أو آلية، وذلك يقتضي مغايرة السبب والآلة للمسبب، وللمجعول له الآلة والقرآن واحد، فالجواب: إنه يجعل صائب السهم وصفًا زائدًا على بلاغته، ولفظه: "فإنه حجة الله" برهانه "الواضحة ومحجته" -بفتح الميم- طريقه "اللائحة" الظاهرة، "ودليله القاهر" الغالب، فإن الدليل إذا قوي وظهر قهر الخصم وقطعه، "وبرهانه الباهر" الغالب الظاهر، ما رام قصد معارضته شقي إلّا تهافت، تساقط وذلَّ وانخفض عن نوع العقلاء، حتى كأنه رمى نفسه في المهالك، كما أفاده بقوله: "تهافت الفراش" -بالفتح- جمع فراشة, طائر معروف يتساقط في الشهاب، ككتاب شعلة من نار ساطعة، "ودلَّ, ذلَّ النقد" -بفتح النون والقاف، والذال المهملة- نوع من الغنم قبيح الشكل, "حول الليوث" جمع ليث الأسود، "الغضاب" جمع غضبان، كعطاش وعطشان.
"وقد حكي عن غير واحد ممن عارضه" أي: قصد معارضته بكلام يماثله، "أنه اعترته:" حدثت له وأصابته "روعة" -بفتح الراء وسكون الواو: فزعة, "وهيبة" أي: مخافة "كفته" منعته "عن ذلك" الذي أراده من المعارضة، "كما حكى عن يحيى بن حكيم" بزنة طبيب، قال في التبصير: شاعر أندلسي بديع القول، مات سنة خمس وخمسين ومائتين في عشر المائة، انتهى. وسمي في الشفاء والده الحكم بفتحتين، "الغزال، تخفيف الزاي" كما جزم به الذهبي في المشتبه، والحافظ في تبصيره: علم منقول من اسم الحيوان، لقَّبه به هشام بن الحكم الجياني في صغره لحسنه، "وقد تشدَّد" فهو وصف منسوب لصنعة الغزال، "وكان بليغ الأندلس" -بفتح الهمزة، وضم الدال، وفتحها، وضم اللام فقط- "في زمانه" أي: معروفًا بالبلاغة وفصاحة النظم والنثر في عصره، وهو بكري قرطبي الدار، وله شعر في غاية الحسن، وارتحل إلى مصر، ثم عاد للأندلس، ويقال: إنه بلغ من العمر مائة وثلاثين سنة، وأرسل رسولًا لبلاد الفرنج، فأعجب ملكها ونادمه، وسألته زوجته عن سنِّه، فقال: عشرين، فقالت: فما هذا الشيب؟ فقال: أمَا رأيت(6/443)
أنه قد رام شيئًا من هذا، فنظر في سورة الإخلاص ليحذو على مثالها، وينسج على منوالها، فاعترته خشية ورِقَّة، حملته على التوبة والإنابة.
ويحكى أن ابن المقفع -وكان أفصح أهل وقته- طلب ذلك ورامه, ونظم كلامًا وجعله مفصلًا وسماه سورًا, فاجتاز يومًا بصبي يقرأ في مكتب قوله تعالى: {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ..........} [هود: 44] الآية فرجع ومحى ما عمله....................
__________
مهرًا ولد أشهب، فضحكت، "أنه قد رام" قصد "شيئًا من هذا" أي: معارضة القرآن "فنظر في سورة الإخلاص ليحذو على مثالها" من حدوته بمهملة ومعجمة، إذا قمت بحذائه، أي: مقابله، فالمعنى: ليقول مثلها بزعمه، "وينسج" بكسر السين "على منوالها، بكسر الميم: خشبة ينسج عليها الثياب، وهو بمعنى ما قبله "فاعترته" أي: عرض له في حال النظر "خشية" خوف أو ضعف ولين "حملته على التوبة" عمَّا كان راحه والنوم عليه, "والإنابة" الرجوع عنه لعلَّة أنه أمر وتعظيم "ورقة" في قلبه وخشوع لا يقدر عليه البشر.
"ويحكى أن ابن المقفع" بضم الميم، وفتح القاف، والفاء المشددة قبل العين المهملة، كما ضبطه في المقتفي، وفي القاموس، رجل مقفَّع اليدين، كعظم متشنجهما، وموان بن المقفع تابعي، وأبو محمد عبد الله بن المقفع، فصيح بليغ، كان اسمه روزيه أو داذية بن داذ جشنش قبل إسلامه، وكنيته أبو عمرو، لقِّب أبوه بالمقفع؛ لأن الحجاج ضربه فتقفعت يده، وتقفع تقبض، انتهى.
وقال ابن مكي في تثقيف اللسان: الصواب فيه المقفع -بكسر الفاء؛ لأنه كان يعمل القفاع: جمع قفعة وهي شيء يشبه الزنبيل بلا عروة من خصوص، ويقال: إنه كاتب المنصور، قتله سفيان المهلبي لما ولي البصرة، وحضره أهلها، وفيهم ابن المقفع، فذكر عنده الوطيس، فلم يعرفه، وسأل الحاضرين عنه، فضحك ابن المقفع، فلمَّا انصرفوا أمر ابن المقفع بالجلوس حتى خلا المجلس، فأمر بتنور عظيم، فأسجر، وأمر بطرحه فيها، فاحترق، وكان من جملة قوم زنادقة يجتمعون على الطعن في القرآن، وصياغة هذيان يعارضون بها، "وكان أفصح أهل وقته" زمانه وعصره الموجود فيه، "طلب ذلك ورامه، ونظم كلامًا، وجعله مفصلًا وسماه سورًا، فاجتاز يومًا بصبي يقرأ في مكتب قوله تعالى: {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ} الآية. الذي نبع منك, فشربته دون ما نزل من السماء، فصار أنهارًا وبحارًا {وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي} الآية، أمسكي عن المطر، فأمسكت {وَغِيضَ} نقص {الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ} "الآية" ثم هلاك قوم نوح, {وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} ، الجودي، جبل بالجزيرة بقرب الموصل، "فرجع ومحا" جميع ما عمله" أي: غسله، وأبطل ما في صحفه لما رآها لا مناسبة بينها وبين شيء(6/444)
وقال: أشهد أن هذا لا يعارض أبدًا، وما هو من كلام البشر.
ولله در العارف سيدي محمد وفا حيث قال، يعني النبي -صلى الله عليه وسلم- والقرآن المعظم:
له آية الفرقان في عين جمعه ... جوامع آيات بها اتضح الرشد
حديث نزيه عن حدوث منزه ... قديم صفات الذات ليس له ضد
بلاغ بليغ للبلاغة معجز ... له معجزات لا يعد لها عد
__________
من الكتاب العزيز، "وقال: أشهد أن هذا لا يعارض أبدًا، وما هو من كلام البشر" لظهور إعجازه؛ إذ في هذه الآية من البلاغة المعجزة، مع الإيجاز أنه ناداهما كما ينادى العقلاء، وأمرهما بما به يؤمرون، تمثيلًا لباهر قدرته وعظمته، لانقيادهما لما أراد، كالمأمور المطيع، المبادر للامتثال حذرًا من سطوة أمره، والبلع استعارة للجفاف، والإقلاع للإمساك، وفيها لطائف آخر مبينة في علوم البلاغة.
"ولله در العارف سيدي محمد وفا؛ حيث قال: يعني" يريد بما قاله "النبي -صلى الله عليه وسلم والقرآن العظيم, له آية الفرقان " بإضافة البيان، أي: آية هي القرآن، وفي نسخة الفرقان، "في عين جمعه" يطلق الجمع عندهم على معانٍ، منها: الاشتغال بشهود الله عمَّا سواه، بحيث يجتمع الهمّ، ويتفرغ الخاطر إلى حضرة قدسه تعالى، وعلى شهود ما سوى الله قائمًا بالله، وعلى غير ذلك مما هو معلوم لأهله، "جوامع آيات" خبر محذوف من إضافة الصفة للموصوف، أي: هو آيات جوامع، "بها اتضح الرشد،" هو "حديث" أي: محدث الألفاظ؛ كقوله: ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث، نزيه" منَزَّه "عن حدوث" إذ العاني القائمة بالذات قديمة، فأشار إلى أن القرآن يطلق بالاشتراك على المعنيين، "منَزَّه" عن كل ما لا كمال فيه، يعني أن القرآن مع كونه ألفاظًا مؤلَّفة متَّصف بغاية الكمال، منَزَّه عن سائر صفات النقص، "قديم" خبر ثان للمبتدأ المقدَّر، ووصفه بالقدم؛ لأنه كلامه تعالى النفسي، القائم بذاته تعالى، "صفات" أي: وهو من صفات "الذات ليس له ضد" أمر وجودي يضاده؛ لأن الضدين تناسبًا ما وصفاته تعالى وكمالًا؛ لأنه ليس لها في الوجود ما يناسبها حتى يحكم بالتضاد بينهما، "بلاغ" كسحاب، أي: فيه الكفاية عن جميع الكتب السابقة لجمعه معانيها، وزيادة أو هو اسم من الإبلاغ، أي: الإيصال، أي: إنه واصل لنا بالتواتر.
قال الجوهري: الإبلاغ الإيصال، وكذلك التبليغ والاسم منه البلاغ، والبلاغ أيضًا الكفاية، ومنه قول الراجز:(6/445)
تحلت بروح الوحي حلة نسجه ... عقود اعتقاد لا يحل لها عقد
وغاية أرباب البلاغة عجزهم ... لديه وإن كانوا هم الألسن اللد
فأفاكهم بالإفك أعياه غيه ... تصدى وللأسماع عن غيه صد
قلى الله أقوالًا بهاجر هجرها ... هوانًا بها الورهاء والبهم البلد
تلاها قتل الفحش في القبح وجهها ... وعن ريبها الألباب نزهها الزهد
لقد فرَّق الفرقان شمل فريقه ... بجمع رسول الله واستعلن الرشد
أتى بالهدى صلى عليه إلهه ... ولم يله بالأهواء إذ جاءه الجد
__________
نزج من دنياك بالبلاغ
"بليغ" في أعلى الطبقات، "للبلاغة" قال الجوهري: البلاغة الفصاحة، معجز" أصحاب البلاغة، "له معجزات لا يعدّ لها عد، لعدم إمكان عدها؛ إذ لا تحصر، تحلت" بحاء مهملة، "بروح الوحي حلة نسجه" فاعل تحلّت ومفعوله، عقود، اعتقاد لا يحل لها عقد" لعدم إمكانه؛ إذ هو تنزيل من حكيم حميد، وغاية أرباب البلاغة عجزهم لديه" عنده، "وإن كانوا هم الألسن اللد،" القوية، البالغة في الفصاحة: جمع ألدّ من لَدَّ من باب تعب: اشتدت خصومته، فأفَّاكهم" كذَّابهم "بالإفك" أسوأ الكذب، "أعياه غيه:" ضلاله، حيث تصدى: تعرض لمعارضته.
قال في القاموس: والتصدد: التعرض وتبدل الدال ياء، فيقال: التصدي والتصدية، وللإسماع عن غيه صدَّ" إعراض لفرط نفارها منه، "قلى" أبغض "الله أقوالًا بهاجر" يترك هجرها -بالضم- فحشها وقبحها المشتملة عليه، "هوانًا بها الورهاء" الحمقاء، "والبهم،" بفتحتين جمع بهمه: أولاد الضأن والبقر والمعز، "البلد" جمع بليد، "تلاها فتل،" بفوقية، ألقى "الفحش" المشتملة عليه تلك الهذيانات "في القبح" متعلق بقوله: "وجهها" ما ظهر منها مفعول الفحش، "وعن ريبها كذبتها؛ إذ هو أحد معانيه في القاموس، "الألباب" العقول، "نزهها الزهد، عدم الرغبة فيها عند سماعها واحتقارها، لخروجها عن باب الفصاحة مطلقًا فضلًا عن فصاحة القرآن، "لقد فرَّق الفرقان" القرآن فرقه بين الحق والباطل، "شمل فريقه" أي: أصحاب هاتيك الأقوال الموصوفة بما ذكر، ويحتمل أن فرق، بمعنى ميّزَ، وضمير فريقه للقرآن، أي: مَيِّزَ شمل فريقه القائمين به عن غيرهم، "بجمع رسول الله، واستعلن الرشد" اتضح وضوحًا لا يخفى على أحد، وفيه تلميح بمقام الجمع والفرق عندهم، "أتى بالهدى" البيِّن، فلا يضرنا انتحال المبطلين، "صلى عليه إلهه ولم يله بالاهواء؛ إذ جاءه الجد"، بالكسر ضد الهزل، كما قال: {إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ, وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ} ، ويطلق الجد أيضًا على الاجتهاد ويصح إرادته هنا.(6/446)
والثالث: أن وجه إعجازه هو أن قارئه لا يمله, وسامعه لا يمجه، بل الإكباب على تلاوته يزيده حلاوة، وترديده يوجب له محبة وطلاوة، ولا يزال غضًّا طريًّا، وغيره من الكلام ولو بلغ في الحسن والبلاغة مبلغه يمل مع الترديد، ويعادى إذا أعيد، وكتابنا يستلذ به في الخلوات،.....................
__________
"والثالث: إن وجه إعجازه" فيما قاله جماعة من الأئمة، كما في الشفاء، "هو أن قارئه لا يمله" لا يضجر ولا يسأم منه، ولو أعاده مرارًا، مع أن الطباع جبلت على معاداة المعادات، "وسامعه لا يمجه" بضم الميم: لا يعرض عنه ولا يكره تكراره على سمعه, فحقيقة المج: طرح المائع من الفم، فإن كان غير مائع، قيل: لفَظ, وعبَّر في الأول بالملل تشبيهًا للقارئ بصانع يتعاطى الصناعة، والغالب حصول الملل، وفي الثاني بالمج تشبيهًا للسامع بواضع المائع في فمه، وتشبيه المسموعات بالمذوقات استعارة لطيفة؛ إذ أقام الإذن مقام الفم، واللفظ مقام المائع لرقته، كما قيل:
وتغير المعتاد يحسن بعضه ... للورد خد بالأنوف يقبل
فاستعير لتركه، فكأنه كالنفس لا يمل منه مع تكرره؛ لأنه مادة الحياة. كم قيل:
ورى حديثك ما أمللت مستمعًا ... ومن يمل من الأنفاس ترديدًا
"بل الإكباب" الملازمة "على تلاوته يزيده حلاوة" ترقى من عدم الملل إلى زيادة الحلاوة، وأصاب المحزلان ما يمجّ مرّ أو مالح، يكره طبعًا، والحلاوة في المذوقات، وهي أجسام، حلاوة الكلام مجاز، ومعناه تميل القلوب إليه وتقبله، فيصير بذلك كالحلو المستلذ من المذوقات، "وترديده" إعادته وتكريره مرة بعد أخرى، "يوجب له محبة" لزيادة حلاوته وحسنه، "وطلاوة:" حسنًا وبهجة وقبولًا، مثلث الطاء، كما مَرَّ قريبًا، "ولا يزال" كلما كرر "غضًّا" بمعجمتين، أي: جديجًا مجاز من غض الصوت والطرف، "طريًّا" أي: رطبًا ناعمًا، فلا تتغير بهجته ونضارته, فكأنه في كل مرة قريب العهد بالنزول، وقال التلمساني: عمَّا بمعنى ولا يبعد أن معنى غضًّا، رطبًا وطريًّا ناعمًا، فكأنه قال: لا يزال طريًّا ناعمًا غير يابس، وذلك كناية عن حلاوة ما يجده الإنسان من النشاط عند تلاوته، فأشبه النبت الذي تميل النفس إليه وتلتذّ به، "وغيره من الكلام، ولو" فرض أنه "بلغ في الحسن والبلاغة مبلغه" أي: غايته في حسنه، "يمل" بالبناء للمجهول، أي: يملّه قارئه وسامعه "مع الترديد" أي: التكرير مرارًا، "ويعادى إذا أعيد" أي: يكره ويثقل، وتنفر منه النفس، كنفرتها ممن يعاديها، وهذا على فرض المحال لما مر أنه لا يوجد مثله، ولا ما يقرب منه، كذا قال شارح بناء على عود، ضمير مبلغه للقرآن، فلو أعيد للكلام لم يحج لذلك، وكتابنا" معاشر الأمة المحمدية، النازل إلينا بواسطة نبينا -صلى الله عليه وسلم "يستلذ به في الخلوات" أي: يجد قارئه لذة إذا اختلى بقراءته،(6/447)
ويؤنس بوجد بتلاوته في الأزمات، وسواه من الكتب لا يوجد فيها ذلك، حتى أحدث وألف أصحابها لها لحونًا وطرقًا، يستجلبون بتلك اللحون تنشيطهم على قراءتها، ولهذا وصف -صلى الله عليه وسلم- القرآن................................................
__________
وخَصَّ الخلوة لأنها محل اجتماع الحواس واطمئنان القلوب بذكر الله، فهو فيها أعظم لذة، وإن كان له لذة أيضًا بقراءته بين الناس، "ويؤنس" بضم الياء وإسكان الهمزة، وفتح النون مبني للمجهول، أي: "يوجد بتلاوته" أنس، يدفع الوحشة "في الأزمات" بفتح الهمزة، وسكون الزاي: جمع أزمة، وهي الشدة، وقياس ما كان من الصفات على فعله -بفتح، فسكون- أن يجمع على فعلات، بسكون العين نحو ضخمات، ويفتح في الاسم كسجدات وركعات، هذا إن كانت سالمة، فإن اعتلت عينها بالواو والياء، فالسكون على الأشهر، كما في المصباح كغيره، فانقلب على من قال: تسكن في الأسماء، وتحرك في الصفات، "وسواه" بضم السين وكسرها، مقصور على الرواية، أي: غيره وتفنن، فعبَّر أولًا بغير، وهنا بسوى، بمعناها "من الكتب" المنزَّلة قبله، كذا استظهر بعض "لا يوجد فيها ذلك" المذكور من اللذة والأنس "حتى أحدث" وألف أصحابها من يقرؤها لها" للكتب، "لحونًا" جمع لحن واحد، ألحان الأغاني والنغمات التي تزين بها الأصوات، وتوزن بضروب الموسيقى, والمراد هنا: ترجيع الأصوات للتطريب، تحسينًا للقراءة والشعر، "وطرقًا" جمع طريق، وهي: ما يجري على قانون الموسيقى ضروبها الموزونة، كذا في النسيم.
وقال شيخنا: وطرقًا عطف تفسير، والمراد: إن غير القرآن يخترعون له أسبابًا تحمل الناس على الرغبة فيه والإقبال عليه، فالمصنفون للكتب يذكرون فيها اصطلاحات وأشياء تميزها عن غيرها، مما هو مؤلف في فنها، ليحملوا الناس على قراءتها "يستجلبون" أي: يطلبون وجودها, أو يجلبون لهم ولمن يسمعهم "بتلك اللحون" والنغمات "تنشيطهم" أي: وجود نشاطهم وطربهم "على قراءتها", أي: على تطويل قراءتها وزيادتها، أو على أن يقرأها غيرهم، كقراءتهم إن أريد باللحون تغني القارئ نفسه، ويحتمل أن يريد بما أحدثوه ما يكون مع القارئ من آلات الطرب كالمزامير، كذا قال شارح "ولهذا" أي: ما اختص به القرآن من عدم ملل قارئه، وما بعده "وصفه -صلى الله عليه وسلم- القرآن" في حديث رواه الترمذي عن على: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إنها ستكون فتنة" قيل: فما المخرج؟ قال: "كتاب الله, فيه نبأ من قبلكم، وخبر من بعدكم، وحكم ما بينكم، هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قسمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، وهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، هو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تشبع منه العلماء، ولا تلتبس به الألسن، ولا يخلق عن الرد، ولا تنقضي عجائبه، هو الذي لم تنته الجن؛ إذ سمعته أن قالوا: إنا سمعنا قرءانًا عجبًا، يهدي إلى(6/448)
بأنه: "لا يخلق على كثرة الرد، ولا تنقضي عبره، ولا تفنى عجائبه، هو الفصل ليس بالهزل، لا تشبع منه العلماء ولا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، هو الذي لم تنته الجن حين سمعته أن قالوا:......
__________
الرشد، من قال به صدق، ومن حكم به عدل، ومن عمل به أُجِر، ومن دعى إليه هدى إلى صراط مستقيم". هذا لفظه في الترمذي، فاقتصر المصنف على حاجته منه، وقدَّم فيه وأخَّر، فقال بأنه: "لا يخلق" بفتح الياء، وضمَّ اللام وتفتتح، أي: لا يبلى ويتغير حاله، وبضم أوله، وكسر اللام من أخلق بمعنى خلق؛ لأنه جاء متعديًا ولازمًا، فلامه مثلثة بمعنى واحد، "على" بمعنى مع "كثرة الرد" بمعنى الترديد، أي: كثرة تكرار قراءته، والعادة أنها تؤثر وتفني ما كرر؛ كالثوب إذا كرر لبسه، ففيه استعارة مكنية وتخييلية، لتشبيهه بثوب رقيق، يلبس ليتجمل به، والمراد: أمَّا الملل منه، فهو دليل ما قدمه، أن قارئه لا يمله، وأما التصرف فيه بنحو تحريف، "ولا تنقضي عبره" بكسر المهملة، وفتح الموحدة، جمع عبرة بسكونها، أي: موعظة التي يعتبر بها، الحاملة على كمال الإيمان، الصارفة عن العصيان، عبارة عن كثرتها وبقائها، "ولا تفنى عجائبه" أي: لكثرتها لا تنفد، وتنتهي, جمع عجيبة، وهي كل ما يتعجب منه، فكلما أعيد النظر فيها ظهر ما هو أغرب وأعجب من الأول، "هو الفصل" أي: الحد الفاصل بين الحق والباطل، أو المفصول المتميز عن غيره، فعل، بمعنى فاعل أو مفعول، "ليس بالهزل" اللعب، أي: لا لعب فيه ولا كلام سخيف، وهو في الأصل من الهزل ضد السمن، فهو كله سمين لا غثّ فيه، لما فيه من الأوامر والنواهي التي يهابها سامعها، "لا تشبع منه العلماء" أي: لا تستغنى عنه، ولا تزال تستنبط منه معاني وفوائد في كل حين، وفي الحديث: "منهومان لا يشبعان، طالب علم وطالب دنيا" فشبهه بمأكول بأقوام الحياة، إلّا أن كل مأكول يشبع آكله إذا امتلأ جوفه منه، وهذا بخلاف ذلك, موائد فوائده ممدودة، وألوان لذائذه غير مقطوعة ولا ممنوعة، "ولا تزيغ"، بفتح الفوقية، وكسر الزاي، وتحتية معجمة، تميل "به الأهواء" بالمد: جمع هوى، وهو ما تهواه وتشتهيه الأنفس من الضلال، أي: لا يصل من اتبعه، ويميل إلى هوى نفسه الأمَّارة، "ولا تلتبس به الألسنة" جمع لسان: وهو الجارحة, شاع في اللغات، فالمعنى لا يشبه غيره من الكلام، فلا يمكن اختلاطه به وإدخاله فيه؛ لأن أسلوبه ونظمه لا يشبه غيره، فالمراد: أنه لا يمكن أن يدس فيه دسيسة، "هو الذي لم تنته" لم تنكف وتترك "الجن حين سمعته أن قالوا" بفتح الهمزة، ومحله نصب أو جر، بتقدير عن {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا} الآية، في بلاغته، وعلوّ رتبته، وبركته وعزته {يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ} الآية، يدل على الصواب من الإيمان والتوحيد، وهو تبكيت لقريش؛ إذ مكثوا سنين مع فصاحتهم لم يهتدوا، والجن بمجرد سماعه آمنوا بلا توقف، وتقدمت(6/449)
{إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا, يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ} " أشار إليه القاضي عياض.
والرابع: إن وجه إعجازه هو ما فيه من الأخبار بما كان، مما علموه وما لم يعلموه، فإذا سألوه عنه فبينه لهم عرفوا صحته وتحققوا صدقه كالذي حكاه من قصة أهل الكهف وشأن موسى...............
__________
قصتهم في المقصد الأول، "أشار إليه" بمعنى: ذكره بلفظه "القاضي عياض" في الشفاء، من أول قوله: هو أن قارئه إلى هنا.
"والرابع: إن وجه إعجازه هو ما فيه من الأخبار بما كان" وجد، كأخبار القرون الماضي والأمم الهالكة، والشرائع الدائرة، "مما علموه، وفي الشفاء مما كان لا يعلم القصة الواحدة منه إلا الفذ من الأحبار، الذي قطع عمره في تعلم ذلك، فيورده النبي -صلى الله عليه وسلم- على وجهه، فيعترف العالم بذلك بصدقه، وإن مثله لم ينله بتعليم، "وما لم يعلموه، فإذا سألوا" بالبناء للفاعل "عنه" عمَّا لم يعلموه، "فبينه لهم، عرفوا صحته" لموافقته لما بلغهم إجمالًا، "وتحققوا صدقه", وقد كان أهل الكتاب كثيرًا ما يسألونه -صلى الله عليه وسلم- عن هذا فينزل عليه ما يتلو عليهم منه ذكرًا، "كالذي حكاه من قصة أهل الكهف،" الغار الواسع في الجبل، واختلف في أنه بعربسوس في بلاد الروم، وكما تظافرت به الأخبار، أو قرب أيلة، أو طرسوس، أو غرناطة، أو قرب زيرا، أو بين أيلة وفلسطين، سألته اليهود عنها لما قدم المدينة، كما في الصحيح، عن ابن مسعود.
وفي الترمذي: وغيره، عن ابن عباس, قالت قريش ليهود: أعطونا شيئًا نسأل عنه هذا الرجل، وملخصها: أنهم كانوا في مملكة جبار، يعبد الأوثان، فخرجوا، فجمعهم الله على غير ميعاد، فأخذ بعضهم على بعض العهود, ففقدهم أهلهم، فأخبروا الملك، فأمروا بكتابة أسمائهم في لوح من رصاص وجعله في خزانته، ودخل الفتية الكهف، فضرب الله على آذانهم يقلبون لأكلتهم الأرض، ثم ذهب ذلك الملك، وجاء آخر فكسَّر الأوثان، وعبد الله وعدل، فبعث الله أصحاب الكهف، فبعثوا أحدهم يأتيهم بما يأكلون, فدخل المدينة مستخفيًا، فدفع درهمًا لخباز، فاستنكر ضربه، وهمَّ برفعه إلى الملك، فقال: أتخوفني بالملك وإني دهقانه؟ قال: من أبوك؟ قال: فلان، فلم يعرفه، فرفعوه إلى الملك، فسأله، فقال: علي باللوح، وكان قد سمع به، فسمَّى أصحابه، فعرفهم من اللوح, فكثر الناس وانطلقوا إلى الكهف، وسبق الفتى لئلَّا يخافوا من الجيش، فلمَّا دخل عليهم عمَّى الله على الملك ومن معه، فلم يدر أين ذهب الفتى، فاتفقوا على أن يبنوا عليهم مسجدًا، فجعلوا يستغفرون لهم ويدعون.
"وشأن موسى" بن عمران كليم الله لا موسى غيره، كما زعم أهل الكتاب وبعض من(6/450)
والخضر -عليهما السلام، وحال ذي القرنين،.........................................
__________
تلقى عنهم، وفي البخاري عن ابن عباس: تكذيب قائل ذلك. "والخضر -عليهما السلام" بفتح الخاء، وكسر الضاد المعجمتين، وبسكون ثانية، مع فتح أوله وكسره- لقب، واسمه بليا بن ملكان، على أصح الأقوال، وهو بفتح الموحدة، وسكون اللام، وتحتية، فألف وأبوه، بفتح الميم وسكون اللام وفي الصحيح مرفوعًا: "إنما سمي الخضر، لأنه جلس على فروة، فإذا هي تهتز من تحته خضراء" والفروة: الأرض اليابسة.
وقال الخطابي: الفروة وجه الأرض، أنبتت واخضرت بعد أن كانت جرداء، وهو نبي عند الجمهور.
قال القرطبي: والآية تشهد بذلك؛ لأن النبي لا يتعلم ممن هو دونه؛ ولأن الحكم بالباطن إنما يطلع عليه الأنبياء، ثم اختلفوا: هل هو رسول أم لا؟ وقيل: إنه وليّ.
قال الثعلبي: وهو معمّر على جميع الأقوال، محجوب عن الأبصار، وقيل: لا يموت إلا في آخر الزمان، حين يرفع القرآن، وقال ابن الصلاح: هو حي عند جمهور العلماء والعامة معهم، وشذَّ بإنكاره بعض المحدثين.
قال النووي: وذلك متفق عليه بين الصوفية وأهل الصلاح، وحكاياتهم في رؤيته والاجتماع به أكثر من أن تحصر، وجزم البخاري وإبراهيم الحربي، وابن العربي وطائفة بموته، وأنه غير موجود الآن، للحديث المشهور، أنه -صلى الله عليه وسلم- قال في آخر حياته: "لا يبقى على الأرض بعد مائة سنة ممن هو عليها اليوم أحد".
قال ابن عمر: أراد بذلك انخرام قرنه, وأجاب من أثبت حياته: بأنه كان حينئذ على وجه البحر، أو هو مخصوص من الحديث، كما خصّ منه إبليس باتفاق، وجاء في اجتماعه بالنبي -صلى الله عليه وسلم- حديث ضعيف، رواه ابن عدي، وبسط الكلام عليه في الإصابة والفتح وغيرهما.
"وحال ذي القرنين" الأكبر، الحميري، المختلف في نبوته، والأكثر، وصحَّح أنه كان من الملوك الصالحين، وذكر الأزرقي وغيره: أنه حج وطاف مع إبراهيم وآمن به واتبعه، وكان الخضر وزيره، وعن علي: لا نبيًّا كان ولا ملكًا, ولكن كان عبدًا صالحًا.
وحكى الثعلبي: أنه كان من الملائكة, وقيل: أمه من بنات آدم، وأبوه من الملائكة، لقب بذي القرنين, واسمه الصعب على الراجح، كما في الفتح, أو هرمس، أو هرديس، أو عبد الله. وفي اسم أبيه أيضًا خلف لطوافه قرني الدنيا، شرقها وغربها، أو لانقراض قرنين من الناس في أيامه، أو لأنه كان له ضفيرتان من شعر، والعرب تسمي الخصلة من الشعر قرنًا، أو لأن لتاجه قرنين أو على رأسه ما يشبه القرنين، أو لكرم طرفيه أمًا وأبًا، أو لغير ذلك أقوال.(6/451)
وقصص الأنبياء وأممهم، والقرون الماضية في دهرها.
والخامس: إن وجه إعجازه هو ما فيه من علم الغيب، والإخبار بما يملكون، فيوجد على صدقه وصحته،..............................................
__________
وفي مرآة الزمان: إن ذا القرنين مات ببابل، وجعل في تابوت، وطلي بالصبر والكافور، وحمل إلى الإسكندرية، فخرجت أمه في نساء الاسكندرية حتى وقفت على تابوته, وأمرت به فدفن، قيل: عاش ألف سنة، وقيل: ألفًا وستمائة، وقيل: ثلاثة آلاف سنة. انتهى.
وأما ذو القرنين الأصغر، فهو الإسكندري اليوناني، قتل دارًا، وسلبه ملكه، وتزوج بنته، واجتمع له الروم وفارس، فلقب بذي القرنين.
قال السهيلي: ويحتمل أنه لُقِّبَ به تشبيهًا بالأول، لملكه ما بين المشرق والمغرب، فيما قيل أيضًا، واستظهره الحافظ، وضعَّف قول أن زعم أن الثاني هو المذكور في القرآن، كما أشار إليه البخاري بذكره قبل إبراهيم؛ لأن الإسكندر كان قريبًا من زمن عيسى، وبَيْنَه وبين إبراهيم أكثر من ألفي سنة، والحق أن الذي في القرآن هو المتقدّم؛ لأنه آمن بإبراهيم، وصافحه وسلم عليه وسأله أن يدعو له، وتحاكم إليه إبراهيم في بئر، فحكم له، واستفهمه عن بناء الكعبة حين كان يبنيها هو وإسماعيل، فقالا: نحن عبدان مأموران فقال: من يشهد لكما، فشهدت خمسة أكبش، فقال: صدقتما، كما ورد في آثار يشد بعضها بعضًا؛ ولأن الرازي جزم أن ذا القرنين نبي، والإسكندر كافر؛ ولأنه من اليونان، وذو القرنين من العرب، وقد قدمت ذلك بأبسط من هذا في المقصد الأول.
"وقصص" بالفتح مصدر وبالكسر جمع قصة، أي: سير "الأنبياء وأممهم" مفصلًا بأبلغ عبارة وألطف إشارة، "والقرون الماضية في دهرها" وشبه ذلك من بد الخلق، وما في التوراة، والإنجيل، والزبور، وصحف إبراهيم وموسى، ومما صدقه فيه العلماء بها، ولم يقدروا على تكذيبه، بل أذعنوا له، فمن وفق آمن، ومن شقي معاند حاسد، ومع هذا لم يقدر واحد من النصارى واليهود، مع شدة عدواتهم للنبي -صلى الله عليه وسلم- على تكذيبه في شيء بما في كتبهم، كما بسطه في الشفاء.
"والخامس: إن وجه إعجازه هو ما فيه من علم الغيب", وهو شامل لما سبق مما لم يدركه هو ولا أهل عصره، وما يقع بعد ذلك مما لا يعلمه إلّا الله، كما قال: "والإخبار بما يكون فيوجد، أي: يقع بعد ذلك، دالًّا "على صدقه" لمطابقته لما أخبر به، "وصحته" كقوله: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} , {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} , {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ} ، {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ} الآية، إلى آخرها، فوجد جميع هذا، كما قال في آيات(6/452)
مثل قوله تعالى لليهود: {قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} ثم قال: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} [البقرة: 94, 95] فما تمناه أحد منهم.
ومثل لقوله لقريش: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} [البقرة:
__________
كثيرة بَيَّنَها عياض "مثل قوله تعالى لليهود" لما ادعوا دعاوي باطلة، كقولهم: {لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ} , فكذبهم وألزمهم الحجة، فقال مخاطبًا لرسوله -صلى الله عليه وسلم: {قُلْ} الآية، لهم {إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ} الآية. الجنة {عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً} خاصَّة {مِنْ دُونِ النَّاسِ} الآية، كما زعمتم، أي: من باقيهم من المؤمنين غيرهم، {فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} الآية، في زعمكم أن الجنة مخصوصة بكم؛ لأن من تيقن دخولها اشتقاق لها، وأحب التخلص من الدنيا وأكدارها، وتعلق بتمني الموت، الشرطان على أن الأوّل قيد في الثاني، أي: إن صدقتم في زعمكم أنها لكم ومن كانت له يؤثرها، والموصل إليها الموت فتمنوه، "ثم قال" تلو الآية، والأولى إسقاطه {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} "الآية" من كفرهم بالنبي المستلزم لكذبهم، وتحريفهم التوراة، فنفى عنهم التمني في جميع الأزمنة المستقبلة بقوله: لن وأبدًا، "فما تمنَّاه أحد منهم، فهو أعظم حجة، وأظهر دلالة على صحة الرسالة، وقد قال -صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده، لا يقولها رجل منهم إلا غُصّ بريقة" يعني: يموت مكانه, فصرفهم الله عن تمنيه ليظهر صدق رسوله، وصحة ما أوحي إليه، ذكره عياض.
وفي الكشاف: فإن قلت: التمني من أعمال القلوب، وهو سر لا يطَّلع عليه أحد، فمن أين علم أنهم لن يتمنوه؟ قلت: ليس التمني من أعمال القلوب، وإنما هو قول الإنسان بلسانه: ليت لي كذا، وليت كلمة تمنّ، ومحال أن يقع التحدي بما في الضمائر والقلوب، ولو كان بالقلوب، لقالوا: قد تمنيناه بقلوبنا، ولم ينقل أنهم قالوه.
قال القطي في حواشيه: استدلَّ على أن التمني ليس من أفعال القلوب؛ لأن التحدي إنما يكون بأمر ظاهر، وفيه: إن التحدي إنما يكون بإظهار المعجز، لإلزام من لم يقبل الدعوى, والتمني ليس بمعجز، فهو كقول الخصم: احلف لي إن كنت صادقًا، ويمكن أن يقال: التحدي هنا لطلب دفع المعجزة، فإن إخباره بأنهم لن يتمنوه أبدًا معجزة, طلب دفعها بتمنيهم, والدفع إنما يكون بأمر ظاهر.
"ومثل لقوله لقريش" {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} الآية، {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا(6/453)
23] {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا} [البقرة: 24] فقطع بأنهم لا يفعلون فلم يفعلوا. وتعقَّب بأن الغيوب التي اشتمل عليها القرآن بعضها وقع في زمنه -صلى الله عليه وسلم، كقوله: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} [الفتح: 1] وبعضها بعده كقوله: {الم, غُلِبَتِ الرُّومُ} [الروم: 1, 2] فلو كما قالوا لنازعوا وقع المتوقع، وبأن الإخبار عن الغيب جاء في بعض سور القرآن, واكتفى منهم بمعارضة سورة غير معينة، فلو كان كذلك لعارضوه بقدر أقصر سورة لا غيب فيها.
__________
النَّارَ} الآية، "فقطع بأنهم لا يفعلون" بإثبات النون على الصواب؛ لأن المراد الإخبار لا النهي، وفي نسخة بحذفها على الحكاية "فلم يفعلوا", وهذه الآية أبلغ في الإعجاز من التي قبلها؛ لأنه أمر معجز في نفسه في سائر الأزمنة، وإن كان الخطاب لقريش بخلاف التي قبلها، فإعجازه إنما هو بمجرد الإخبار عن عدم وقوعه منهم، وإن كان قول الإنسان: ليتني أموت ونحوه ممكنًا لهم ولغيرهم، ولذا فرق بينهما عياض، وإن ساوى بينهما المصنف تبعًا للكشاف.
"وتعقَّب" عدّ الخامس وجهًا للإعجاز، "بأن الغيوب التي اشتمل عليها القرآن بعضها وقع في زمنه -صلى الله عليه وسلم، كقوله: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} الآية، هو فتح مكة، ونزلت مرجعه من الحديبية عدة له بفتحها، وأتى به ماضيًا لتحقق وقوعه، وفيه من الفخامة والدلالة لى علوِّ شأن المخبر به ما لا يخفى.
وقال جماعة: المراد فتح الحديبية ووقوع الصلح، فالفتح لغة فتح المغلق، والصلح كان مغلقًا حتى فتح الله، وعلى هذا القول ليست الآية من الإخبار بالغيب المستقبل، "وبعضها بعده، كقوله: " {الم, غُلِبَتِ الرُّومُ} على قراءة غلبت بالفتح، وسيغلبون بالضم، أي: إن الروم غلبت على الشام، وسيغلبهم المسلمون عليها وينزعونها منهم، فكان ذلك بعده -صلى الله عليه وسلم, فأمَّا على القراءة المشهورة بضم الغين، وسيغلبون بفتحها، فوقع ذلك في عهده -صلى الله عليه وسلم، كما هو مبيَّن في التفاسير والأخبار بما في جلبه طول، "فلو كان كما قالوا" أي: الذين عدوا وجه إعجازه الإخبار بما يكون، "لنازعوا" أي: الكفار، أي: لخاصموا وطلبوا "وقع المتوقع، "أي: حصول الأمور المتأخر حصولها عن زمن المصطفى، مع أنهم لم يطلبوا ذلك، "وبأن الإخبار عن الغيب جاء في بعض سور القرآن" لا في كلها، فلو كان معجز الطلب منهم أن يأتوا بما يشتمل على الإخبار بالغيب ليصلح معارضة، "و" الحال أنه لم يطلب ذلك، بل "اكتفى منهم بمعارضة سورة غير معينة" بل أيّ سورة، "فلو كان كذلك لعارضوه بقدر أقصر سورة لا غيب فيها" ولم يقع ذلك, فلا يصح جعل إخباره بالغيوب وجه إعجازه.(6/454)
السادس: إن وجه إعجازه هو كونه جامعًا لعلوم كثيرة، لم تتعاط العرب الكلام فيها، ولا يحيط بها من علماء الأمم واحد منهم، ولا يشتمل عليها كتاب، بَيِّنَ الله فيه خبر الأولين والآخرين وحكم المتخلفين وثواب المطيعين وعقاب العاصين.
فهذه ستة أوجه يصح أن يكون كل واحد منها إعجازًا, فإذا جمعها القرآن فليس اختصاص أحدها بأن يكون معجزًا بأولى من غيره، فيكون الإعجاز بجميعها. وقد قال تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} [الإسراء: 88] فلم يقدر أحد أن يأتي بمثل القرآن.....
__________
"والسادس: إن وجه إعجازه هو كونه جامعًا لعلوم كثيرة" كبيان علوم الشرائع، والتنبيه على الحجج والعقليات، والرد على الفرق الضالة ببراهين قوية بينة، سهلة الألفاظ، موجزة، كقوله: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} الآية، {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} [يس: 79] {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] الآية. إلى ما حواه من علوم السير والحكم وأخبار الآخرة ومحاسن الآداب، قال تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38] ومنها علم النجوم، لقوله تعالى: {لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ} [يس: 40] .
والطب: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا} [الأعراف: 31] الآية. والمعارف الجزئية، والمعارف الجزئية، كقصة يوسف؛ إذ لا يعرفها إلّا من شاهدها، وغير ذلك.
"لم تتعاط العرب الكلام فيها" عامَّة, زاد القاضي: ولا محمد -صلى الله عليه وسلم- قبل نبوته، "ولا يحيط بها من علماء الأمم" السالفة، كالحكماء والأحبار، "واحد منهم، ولا يشتمل عليها كتاب" من كتبهم، أي: لم يدوّن قبله، حتى يقال: أخذ علمه منها، {بَيِّنَ الله فيه} أي: القرآن "خبر الأولين، والآخرين وحكم المتخلفين" عن أمره ونهيه، والذين تخلفوا عن الجهاد مع نبيه، أو عن الإيمان، وتعللوا بعلل باطلة، فبيِّن لهم بطلان عللهم، وفضحهم بإظهاره، "وثواب المطيعين وعقاب العاصين، فهذه ستة أوجه يصح أن يكون كل واحد منها إعجازًا، لا أن الإعجاز إنما حصل بجملتها، بل كل واحد حصل به إعجازهم عن معارضته، "فإذا" فحيث جمعها القرآن, فليس اختصاص أحدها بأن يكون معجزًا بأولى من غيره، فيكون الإعجاز بجميعها", وإن كان بعضها أقوى من غيره في الإعجاز، وقد قال تعالى" دليل سمعي على عجزهم عن معارضته: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} ، "فلم يقدر أحد أن يأتي بمثل القرآن في(6/455)
في زمن رسول الله -صلى الله عليه وسلم, ولا بعده على نظمه وتأليفه وعذوبة منطقه وصحة معانيه، وما فيه من الأمثال والأشياء التي دلّت على البعث وآياته، والأنباء بما كان يكون, وما فيه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والامتناع من إراقة الدماء، وصلة الأرحام, إلى غير ذلك، فكيف يقدر على ذلك أحد وقد عجزت عنه العرب الفصحاء, والخطباء والبلغاء، والشعراء, والفهماء من قريش وغيرها، وهو -صلى الله عليه وسلم- في مدة ما عرفوه قبل نبوته وأداء رسالته أربعين سنة ولا يحسن نظم كتاب، ولا عقد حساب،.......
__________
زمن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولا بعده" إلى يومنا هذا، بل إلى يوم الدين، مع أنه لا يكاد يعدّ من سعى في تغييره من الملحدة والمعطلة، فأجمعوا كيدهم وحولهم وقوتهم فما قدروا على إطفاء شيء من نوره، ولا تغيير كلمة منه، ولا تشكيك المسلمين في حروف من حروفه، ولله الحمد على نظمه، أي: نظامه البديع المعجز, "وتأليفه" كما يؤلف البناء شيئًا بعد شيء حتى يتمَّ ويكمل في غاية الإحكام، وعذوبة منطقه، وصحة معانيه، وما فيه من الأمثال" الكثيرة المقررة لما مثل له التنزيل المعقول منزلة المحسوس.
فقال البيضاوي: ولأمرٍ ما أكثر لله تعالى والأنبياء والحكماء في كلامهم من الأمثال، ولكثرة اشتماله على الأمثال جعله -صلى الله عليه وسلم- عين المثل المبالغة، فقال: "إن الله أنزل القرآن آمرًا وزاجرًا، وسنة خالية ومثلًا مضروبًا، فيه نبؤكم, وخبر ما كان قبلكم، ونبأ ما بعدكم" الحديث، رواه الترمذي.
"والأشياء التي دلّت على البعث وآياته، والأنباء" الأخبار "بما كان ويكون, وما فيه من الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والامتناع من إراقة الدماء، وما فيه من "صلة الأرحام إلى غير ذلك، فكيف يقدر على ذلك أحد، وقد عجزت عنه العرب الفصحاء" فعجز غيرهم أولى؛ إذ عجز أمراء الكلام مع توفر الأسباب فيهم يفيد أن من انتفت عنه تلك الأسباب أولى، والخطباء والبلغاء" هو أعمّ مما قبله؛ إذ قد يكون بليغًا عارفًا بمواقع الكلام، لكنه ليس معتنيًا بتأليف الخطب والمراسلات، ونحوهما.
والشعراء والفهماء" هو قريب مما قبله، "من قريش وغيرها" من المتصفين بذلك، "وهو -صلى الله عليه وسلم- في مدة ما عرفوه قبل نبوته وأداء رسالته أربعين سنة، لا يحسن نظم كتاب" أي: تأليفه متناسب الكلمات لفظًا ومعنًى, ولا عقد حساب، أي: ولا أصلًا مما تستعمله الناس في معرفة الأمور التي يدبرونها في أنفسهم، ويعرفون بها أصول ما يرد عليهم من الوقائع، كذا قال(6/456)
ولا يتعلم سحرًا، ولا ينشد شعرًا، ولا يحفظ خبرًا، ولا يروي أثرًا، حتى أكرمه الله بالوحي المنزل، والكتاب المفصَّل، فدعاهم إليه وحاجَّهم به، قال الله تعالى: {قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [يونس: 16] ، وشهد له في كتابه بذلك فقال تعالى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} [العنكبوت: 48] .
وأمَّا ما عدا القرآن من معجزاته -عليه السلام؛ كنبع الماء من بين أصابعه، وتكثير الطعام ببركته، وانشقاق القمر، ونطق الجماد، فمنه ما وقع التحدي به، ومنه ما وقع دالًّا على صدقه من غير سبق تحدّ، ومجموع ذلك يفيد القطع بأنه ظهر على يديه -صلى الله عليه وسلم- من خوارق العادات شيء كثير -..............
__________
شيخنا، "ولا يتعلم سحرًا، ولا ينشد:" يقرأ "شعرًا" لغيره، فضلًا عن إنشائه، "ولا يحفظ خبرًا، ولا يروي أثرًا حتى أكرمه الله بالوحي المنزَّل، والكتاب المفصَّل، المبيّن ما فيه من الفوائد الجليلة، كالعقائد الحقة والأحكام الشرعية، والمواعظ، والأمثال، والأخبار الصادقة أو المجعول سورًا، أو المنزَّل نجمًا نجمًا، أو المفرّق بين الحق والباطل، "فدعاهم إليه وحاجَّهم به, قال الله تعالى: {قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْرَاكُمْ} الآية، أعلمكم {بِهِ} الآية. ولا نافية عطف على ما قبله، وفي قراءة: بلام جواب لو، أي: لأعلمكم به على لسان غيري، {فَقَدْ لَبِثْتُ} الآية، مكثت {فِيكُمْ عُمُرًا} الآية، سنينًا أربعين {مِنْ قَبْلِهِ} الآية، أحدثكم بشيء {أَفَلا تَعْقِلُونَ} الآية. إنه ليس من قبلي. "وشهد له في كتابه بذلك، فقال تعالى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ} الآية، أي: القرآن {مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا} الآية، أي: لو كنت قارئًا كاتبًا، {لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} الآية، أي اليهود فيك، وقالوا: الذي في التوراة أنه أمي لا يقرأ ولا يكتب، ثم ذكر قسيم ما مَرَّ أن القرآن معجز بلا شك، فقال: "وأمَّا ما عدا القرآن" بالنصب؛ لأنه تقدَّمه ما "من معجزاته -عليه السلام" بيان لما "كنبع الماء من بين أصابعه، وتكثير الطعام ببركته، وانشقاق القمر، ونطق الجماد", ويأتي تفصيلها، ففيه تفصيل، "فمنه ما وقع التحدي به، ومنه ما وقع دالًّا على صدقه، من غير سبق تحدّ" بناء على أن المراد بالتحدي طلب المعارضة، أمَّا إن أريد مجرد الاقتران بدعوى النبوة، فكلها مسبوقة بالتحدي. وأمَّا ما قبل البعثة فهو إرهاص لا معجزة على المعتمد، كما مَرَّ.
"ومجموع" أي: جملة "ذلك" المذكور مما وقع التحدي به، وما لم يقع "يفيد القطع" الجزم، أي: العلم الضروري، "بأنَّه ظهر على يديه -صلى الله عليه وسلم- من خوارق العادات شيء كثير"(6/457)
كما يقطع بوجود جود حاتم، شجاعة علي، وإن كانت أفراد ذلك ظنية وردت موارد الآحاد، مع أن كثيرًا من المعجزات النبوية قد اشتهر, ورواه العدد الكثير، والجمّ الغفير، وأفاد الكثير منه القطع عند أهل العلم بالآثار والعناية بالسير والأخبار، وإن لم يصل عند غيرهم إلى هذه المرتبة لعدم عنايتهم بذلك.
__________
ويسمَّى ذلك التواتر المعنوي، "كما يقطع بوجود جود حاتم" بن عبد الله بن سعد الطائي، المشهورة أخباره في الجود، أسلم ابنه عدي سنة تسع، وقيل: سنة عشر، وكان جوادًا كأبيه، وسأل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن أمور تتعلق بالصيد، كما في الصحيحين.
وأخرج أحمد عن عدي بن حاتم، قال: قلت: يا رسول الله! إن أبي كان يصل الرحم، ويفعل كذا وكذا، فقال: "إن أباك أراد أمرًا فأدركه" يعني الذكر.
وروى وكيع في الغرر، عن محرز، مولى أبي هريرة، قال: مرَّ نفر بقبر حاتم، فركض بعضهم قبره برجله، وقال: اقرنا وجنهم الليل فناموا، فقام صاحب القول فزعًا، فقال: إن حاتمًا أتاني في النوم وأنشدني شعرًا حفظته، يقول فيه:
أتيت بصحبك تبغي القرى ... لدى حفرة لجب هامها
وتبغي لي الذم عند المبيت ... وحولك طيّ وأنعامها
فإنا سنشبع أضيافنا ... وتأتي المطي فتعاتمها
فقاموا، فإذا ناقة صاحب القول عقير فنحروها وباتوا يأكلون, وقالوا: قرانا حاتم حيًّا وميتًا، وأردفوا صاحبهم، فلمَّا نبع النهار إذا رجل راكب بعيرًا يقود آخر، فقال: أنا عدي بن حاتم، إن حاتمًا أتاني في النوم، فزعم أنه قراكم ناقة أحدكم، وأمرني أن أحمله، فشأنكم البعير، فدفعه إليهم وانصرف.
"وشجاعة علي" أمير المؤمنين، وزهد الحسن البصري، وحلم أحنف لاتفاق الأخبار الواردة عنهم على كرم هذا وشجاعة هذا، وزهد هذا، وحلم هذا، وإن كانت أفراد ذلك ظنية، أي: كل واحد منهم ظني لا يوجب العلم، ولا يقطع بصحته، لكونها "وردت موارد الآحاد", لكنها تفيد التواتر المعنوي الحاصل من مجموعها؛ كالكرم والشجاعة لاتفاقها على معنى واحد مع كثرتها، وإن كان كل واحد يصف جزئية، "مع أن كثيرًا من المعجزات النبوية قد اشتهر"؛ بحيث صار يفيد القطع بانفراده، ويسميه المحدثون مشهورًا ومستفيضًا" ورواه العدد الكثير والجمّ الغفير، وأفاد الكثير منه القطع عند أهل العلم بالآثار،" الأحادي والعناية" الاهتمام "بالسيد جمع سيدة, وهي أخبار المغازي" والأخبار" كنبع الماء من بين الأصابع، وتكثير الطعام "وإن لم يصل عند غيرهم إلى هذه المرتبة لعدم عنايتهم اهتمامهم بذلك, فبالنسبة لهم لا يفيد القطع بخلاف أولئك.(6/458)
فلو ادَّعى مدَّعٍ أن غالب هذه الوقائع مفيد للقطع النظري لما كان مستبعدًا، وذلك أنه لا مرية أن رواة الأخبار في كل طبقة قد حدثوا بهذه الأخبار في الجملة، ولا يحفظ عن أحد من أصحابه مخالفة الراوي فيما حكاه من ذلك, ولا الإنكار عليه فيما هنالك، فيكون الساكت منهم كالناطق؛ لأن مجموعهم محفوظ عن الإغضاء عن الباطل، وعلى تقدير أن يوجد من بعضهم إنكار أو طعن على بعض من روى شيئًا من ذلك, فإنما هو من جهة توقف في صدق الراوي أو تهمته بكذب، أو توقف في ضبطه أو نسبته إلى سوء الحفظ، أو جواز الغلط، ولا يوجد أحد منهم طعن في المروي، كما وجد منهم في غير هذا الفن من الأحكام............................
__________
قال عياض: ولا بعد أن يحصل العلم بالتواتر عند واحد، ولا يحصل عند غيره، فإن أكثر الناس يعلمون بالخبر وجود بغداد، وأنها مدينة عظيمة دار الإمامة والخلافة، وآحاد لا يعلمون اسمًا فضلًا عن وصفها، وهكذا تعلّم الفقهاء من أصحاب مالك بالضرورة أن مذهبه إيجاب أم القرآن في الصلاة للمنفرد والإمام، وإجزاء النية أول ليلة من رمضان عمَّا سواه، وأنَّ الشافعي يرى تجديدها كل ليلة، والاقتصار على مسح بعض الرأس، وأن مذهبهما القصاص في القتل بالمحدد وغيره، وإيجاب النية في الوضوء، واشتراط الولي في النكاح، وأن أبا حنيفة يخالفهما في هذه المسائل, وغيرهم ممن لا يشتغل بمذاهبهم لا يعرف هذا فضلًا عمَّا سواه، "فلو ادَّعى مدَّعٍ أن غالب هذه الوقائع مفيد للقطع النظري، المحصل للعلم الضروري، "لما كان مستبعدًا،" تفريع على قوله: "وأفاد الكثير منه، إلى آخره، "وذلك" أي: وجه عدم الاستبعاد، "أنه" بالفتح، أي: لأنه "لا مرية أن رواة الأخبار في كل طبقة قد حدثوا بهذه الأخبار في الجملة، ولا يحفظ عن أحد من أصحابه مخالفة الراوي فيما حكاه من ذلك" من الآيات، "ولا إنكار عليه فيما هنالك، فيكون الساكت منهم كالناطق؛ لأن السكوت في محله إقرار؛ لأن مجموعهم محفوظ عن الإغضاء" بغين وضاد معجمتين، التغافل عن وفي نسخة: على، بمعنى: عن؛ إذ إنما تعدَّى بعن "الباطل" سمعوه ولم ينكروه؛ إذ ليس هناك رغبة ولا رهبة تمنعهم من الإنكار، "وعلى تقدير أن يود من بعضهم إنكار أو طعن على بعض من روى شيئًا من ذلك, فإنما هو من جهة توقف في صدق الراوي،" لا في المروي نفسه، "أو تهمته بكذب، أو توقف في ضبطه، أو نسبته إلى سوء الحفظ أو جواز الغلط" عليه لعدم اتقانه، ولا يلزم من ضعف السند ضعف المتن، ولذا قال: "ولا يوجد أحد منهم طعن في المروي" نفسه، كما وجد منهم في غير هذا الفن من الأحكام" كما وقع بين عمر وابن عباس في إنكاره عليه(6/459)
وحروف القرآن ونحو ذلك والله أعلم.
وأنت إذا تأمَّلت معجزاته وباهر آياته وكراماته -عليه السلام, وجدتها شاملة للعلوي والسفلي، والصامت والناطق، والساكن والمتحرك، والمائع والجامد، والسابق واللاحق، والغائب والحاضر، والباطن والظاهر، والعاجل والآجل, إلى غير ذلك مما لو أعيد لطال، كالرمي بالشهب الثواقب، ومنع الشياطين من استراق السمع في الغياهب، وتسليم الحجر والشجر عليه، وشهادتها له بالرسالة بين يديه, ومخاطبتها له بالسيادة، وحنين الجذع، ونبع الماء من كفِّه في الميضأة والتور والمزادة, وانشقاق القمر، ورد العين من العور، ونطق البعير والذئب..........................................
__________
نكاح المتعة، "وحروف القرآن" أي: قراءته المتعددة؛ إذ كل وجه من القراءة يطلق عليه حرف، كما صحَّ أن عمر أنكر على هشام بن حكيم قراءة قرأ بها في سورة الفرقان لم يسمعها, فجاء به إلى النبي -صلى الله عليه وسلم، وقال: سمعته يقرأ بغير ما أقرأتينه، فقال: "اقرأ يا هشام" فقال: "هكذا أنزلت" ثم قال: اقرأ يا عمر، فقرأ فقال: "هكذا أنزلت، إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف، فاقرءوا ما تيسر منه" , وهذا كثير، "ونحو ذلك" مما يتوقف على النقل ولا يقال بالرأي، والله أعلم".
"وأنت إذا تأمَّلت معجزاته، وباهر:" غالب "آياته" من إضافة الصفة للموصوف، "وكراماته -عليه السلام, وجدتها شاملة للعلوي والسفلي، والصامت والناطق، والساكن والمتحرك، والمانع والجامد، والسابق" على وجوده إكرامًا له، ويسمَّى إرهاصًا، "واللاحق، والغائب والحاضر، والباطن والظاهر، والعاجل والآجل، إلى غير ذلك مما لو أعيد" كذا في النسخ، والأولى: مما لو عدّ "لطال"؛ إذ الإعادة ذكر الشيء مرة بعد أخرى، وليس المراد هنا، بل المراد: لو شرع في عدِّها لعجز عن استيعاب إفرادها وضبطها، "كالرمي بالشهب" جمع شهاب: الكواكب المضيئة" الثواقب" التي تثقب مسترق السمع، أو تحرقه أو تخبله" "ومنع الشياطين من استراق السمع في الغياهب، جمع غيهب، وهو الظلمة، وتسليم الحجر والشجر عليه, وشهادتها له بالرسالة بين يديه, ومخاطبتها له بالسيادة، وحنين الجذع" لفراقه، "ونبع الماء من كفه في الميضأة" بكسر الميم والقصر، وقد تمد المطهرة، وزنها مفعلة ومفعال، وميمها زائدة ليست منها، "والتور" بفوقية، مجرور بالعطف: إناء معروف، "والمزادة" بفتح الميم، شطر الرواية، والقياس كسرها؛ لأنها آلة يستقي بها الماء وجمعها مزايد، وربما قيل: مزاد بغيرها وكما في المصباح.
"وانشقاق القمر، وردّ العين من العور" بل وبعد السقوط، "ونطق البعير والذئب(6/460)
والجمل، والنور المتوارث من آدم إلى جبهة أبيه عبد الله من الأزل، وما سوى ذلك من المعجزات التي تداولتها الحملة، ونقلتها عن ألسنة الأول النقلة، مما لو أعملنا أنفسنا في حصرها لفني المدى في ذكرها. ولو بالغ الأولون والآخرون في إحصاء مناقبه لعجزوا عن استقصاء ما حباه الكريم به من مواهبه، ولكن الملمَّ بساحل بحرها مقصرًا عن حصر بعض فخرها، ولقد صحَّ لمحبيه أن ينشدوا فيه:
وعلى تفنن واصفيه لنعته ... يفنى الزمان وفيه ما لم يوصف
وإنه لخليق بمن ينشد فيه قول الخنساء التي شهد لها النابغة الذبياني بأنها أشعر الناس, وقد أسلمت وصحبت:
فما بلغت كف امرئ متناولًا ... من المجد إلّا والذي نال أطول
ولا بلغ المهدون في القول مدحه ... ولو حذقوا إلّا الذي فيه أفضل
__________
والجمل", ويأتي بيان ذلك كله، "والنور المتوارث من آدم إلى جبهة أبيه عبد الله من الأزل، وما سوى ذلك من المعجزات التي تداولتها الحملة" للأخبار، "ونقلتها عن ألسنة الأُوَل" أي: المقدمين "النقلة" المتأخرون في تصانيفهم، "مما لو أعملنا أنفسنا في حصرها لفني المدى،" أي: الغاية "في ذكرها" أي: لانتهى العمر وفرغ في عدتها ولم يحط بها "ولو بلغ الأولون والآخرون في إحصاء" أي: عدّ "مناقبه، لعجزوا عن استقصاء ما حباه" بموحدة: أعطاه بلا عوض، "الكريم" سبحانه "به من مواهبه، ولكان الملمّ" النازل "بساحل بحرها مقصرًا" أي: عاجزًا "عن حصر بعض فخرها" مباهاتها، وقد صحَّ لمحبيه" أمكنهم "أن" يقولوا قولًا يقبل منهم ولا يكذبون فيه، كأن ينشدوا فيه" قول ابن الفارض، "وعلى تفنن" تنوع "واصفيه" أي: إتيانهم بأنواع كثيرة "لنعته يفنى" ينقضي "الزمان, وفيه ما لم يوصف" أوصاف كثيرة، ما عثروا على شيء منها حتى يذكروه, "وإنه لخليق" جدير وحقيق "بمن ينشد فيه قول الخنساء التي شهد لها النابغة الذبياني، بأنها أشعر الناس، وقد أسلمت وصحبت":
فما بلغت كف امرئ متناولًا ... من المجد والذي نال أطول
أجل وأعظم، "ولا بلغ المهدون في القول مدحه، ولو حذقوا، بفتح الذال وكسرها من بابي ضرب وتعب مهروا، وعلموا غوامض المدح ودقائقه، "إلّا" الوصف "الذي" هو "فيه أفضل" أتمّ وأكمل من أوصافهم التي ذكروها.
ذكر عبد العظيم ابن أبي الأصبع في كتابه الأشعار الرائقة: إن الأخطل وفد على معاوية يمتدحه، فقال له: إن كنت شبَّهتني بالحية والأسد والصقر فلا حاجة لي به، وإن كنت قلت كما قالت الخنساء، فهات، قال: وما قالت؟ فأنشد هذين البيتين، فقال الأخطل: والله لقد(6/461)
ولله در إمام العارفين سيدي محمد وفي, فلقد كفى وشفى بقوله:
ما شئت قل فيه فأنت مصدق ... فالحب يقضي والمحاسن تشهد
ولقد أبدع الإمام الأديب شرف الدين الأبوصيري حيث قال:
دع ما ادعته النصارى في نبيهم ... واحكم بما شئت مدحًا فيه واحتكم
وانسب إلى ذاته ما شئت من شرف ... وانسب إلى قدره ما شئت من عظم
فإن فضل رسول الله ليس له ... حد فيعرب عنه ناطق بفم
يعني: إن المداح وإن انتهوا إلى أقصى الغايات والنهايات لا يصلون إلى شأوه،....... ......
__________
أحسنت ولقد قلت فيك بيتين، ما هما بدون ما سمعت، وأنشد:
إذا متَّ مات الجود وانقطع الغنى ... فلم يبق إلّا من قليل مصرد
وردت أكفّ الراغبين وأمسكوا ... عن الدين والدنيا بحلف مجرد
فقال: لحاك الله, ما زدت على أن نعيت إلي نفسي، ولم تتعلق للمرأة بغبار.
"ولله در إمام العارفين سيدي محمد وفي، فلقد كفى وشفى بقوله: ما شئت" من الصفات المتناهية في الكمال، "قل فيه" صفة بها، ولا تخش من ذكرها، "فأنت مصدق" في كل ما تقوله فيه، "فالحب" الذي أودعه الله في قلوب العارفين يقضي" يحكم بذلك, والمحاسن الظاهرة التي لا تخفى على أحد "تشهد" بحقيقة ما وصفته به, "ولقد أبدع: أني بأمر بديع لم يسبق إليه، "الإمام الأديب شرف الدين الأبوصيري" صوابه البوصيري؛ لأنه منسوب إلى بوصير، كما مَرَّ كثيرًا، "حيث قال: دع:" اترك ما ادَّعته النصارى" جمع نصران، كسكارى جمع سكران، أو نسبة إلى قرية تسمَّى ناصرة، وقيل: إنها قرية المسيح، أو الياء في نصرانيّ للمبالغة، سمّوا نصارى لنصرهم عيسى في "نبيهم" كقولهم: ابن الله وثالث ثلاثة، لنهي نبينا -صلى الله عليه وسلم- عن مثل ذلك بقوله: "لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى، وإنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله" , و "بعد ذلك "احكم" اقصد بما شئت مدحًا" ثنا: حسنًا "فيه واحتكم: اختصم، أي: خاصم في إثبات فضائله من شئت من الخصماء، وانسب:" أعز "إلى ذاته" حقيقة "ما شئت من شرف" عز، "وانسب إلى قدره: " مبلغه "ما شئت من عظم" تعظيم ورفعة، فقد وجدت للقول سعة، فإن فضل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليس له حَدّ:" غاية يوقف عندها، "فيعرب" يبين منصوب بأن مضمرة، وجوبًا بعد فاء السبية في جواب النفي، "عنه" متعلق بيعرب, "ناطق" فاعل" بفم" متعلق بناطق على تقدير مضاف، أي: بلسان فم؛ إذ أوصافه لا تحصى، وفضائله لا تستقصى "يعني: إن المدَّاح وإن انتهوا إلى أقصى الغايات والنهايات لا يصلون إلى شأوه" بفتح الشين المعجمة، وسكون الهمزة، وبالواو(6/462)
إذ لا حدَّ له، ويحكى أنه رؤي الشيخ عمر بن الفارض السعدي في النوم فقيل له: لم لا مدحت النبي -صلى الله عليه وسلم, فقال:
أرى كل مدح في النبي مقصرًا ... وإن بالغ المثني عليه وأكثروا
إذ الله أثنى بالذي هو أهله ... عليه فما مقدار ما يمدح الورى
قال الشيخ بدر الدين الزركشي: ولهذا لم يتعاط فحول الشعراء المتقدمين كأبي تمام والبحتري وابن الرومي مدحه -صلى الله عليه وسلم، وكان مدحه عندهم من أصعب ما يحاولونه،...................
__________
والهاء: غايته وأمده، "إذ لا حدَّ له" حتى يصلوا إليه.
"ويحكى أنه رؤي الشيخ" شرف الدين، أبو القاسم "عمر بن" علي "الفارض" -كان يكتب فروض النساء- ابن مرشد "السعدي،" نسبة إلى بني سعد: قبيلة حليمة، الحموي الأصل، المصري، ولد بالقاهرة في ذي القعدة سنة ست وسبعين وخمسمائة، وترجمه الرشد العطار في معجمه، فقال: الشيخ الفاضل، الأديب، حسن النظم، متوقد الخاطر، كان يسلك طريق التصوف، وينتحل مذهب الشافعي، وأقام بمكة مدة، وصحب جماعة من المشائخ. وترجمه أيضًا المنذري وغيره، مات في ثالث جمادي الأولى، سنة اثنتين وثلاثين وستمائة. "في النوم فقيل له: لم لا مدحت النبي -صلى الله عليه وسلم؟ " على سبيل الصراحة، وإلّا فباطن كلامه مدح له، كذا قال بعض.
وقال آخر: يعتقد بعض العوام أن باطن كلامه مدح للنبي -صلى الله عليه وسلم, وغالب كلام لا يصح أن يراد به ذلك، "فقال: أرى كل مدح" أي: مادح "في النبي" أو هو باقٍ على مصدريته، وتجوز في إسناده "مقصرًا" إليه، "وإن بالغ المثني عليه، وأكثروا" بألف الإطلاق في المبالغة في الثناء عليه، "إذ الله أثنى بالذي هو أهله عليه،" بنحو قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} ، الآية، "فما مقدار ما يمدح الورى؟ الخلق. قال الشيخ بدر الدين الزركشي: ولهذا لم يتعاط فحول الشعراء المتقدمين" نعت للشعراء، "كأبي تمام" حبيب بن أوس الطائي، المشهور، صاحب الحماسة, قال ابن خلكان: أصله من قرية جاسم قرب طبرية، وكان بجامع دمشق يسقي الماء، ثم جالس الأدباء وأخذ عنهم، حتى قال الشعر، فأجاد وشاع ذكره، وسار شعره، وبلغ المعتصم خبره، فحمله إليه، فقدم بغداد فجالس الأدباء وعاشر العلماء، وتقدَّم على شعراء وقته، مات بالموصل سنة ثمان وعشرين ومائتين، وقيل بعد ذلك.
"والبحتري" بضم الموحدة، وسكون الحال المهملة، وضم الفوقية- أبو عبادة، الوليد بن عبيد، الشاعر المشهور، نسبة إلى بحتر بن عقود الطائي، كما في التبصير.
و"أبي العباس علي بن الرومي, مدحه -صلى الله عليه وسلم، وكان مدحه عندهم من أصعب ما(6/463)
فإن المعاني دون مرتبته، والأوصاف دون وصفه، وكل غلوٍّ في حقه تقصير، فيضيق على البليغ مجال النظم، وعند التحقيق إذا اعتبرت جميع الأمداح التي فيها غلوّ بالنسبة إلى من فرضت له وجدتها صادقة في حق النبي -صلى الله عليه وسلم، حتى كان الشعراء على صفاته يعتمدون, وإلى مدحه كانوا يقصدون، وقد أشار الأبوصيري بقوله: "دع ما ادعته النصاري في نبيهم" إلى ما أظرت النصارى به عيسى بن مريم من اتخاذه إليها.
قال النيسابوري: إنهم صحَّفوا في الإنجيل "عيسى نبي وأنا ولدته" فحرفوا الأول بتقديم الباء وخففوا اللام في الثاني، فلعنة الله على الكافرين.
فإن قلت: هل ادَّعى أحد في نبينا -عليه السلام- ما ادعى في عيسى؟
أجيب بأنهم قد كادوا أن يفعلوا نحو ذلك حين قالوا له -عليه السلام: أفلا
__________
يحاولونه، فإن المعاني" التي يتصورونها مادحة له "دون مرتبته", أي: حقيقة صفاته الحميدة، فإن وصفوه، بها قصروا في حقه، "والأوصاف دون وصفه، وكل غلوّ" بمعجمة، أي: كل وصف تجاوز قائله فيه الحد المتعارف بين الناس، أو بمهملة، أي: ارتفاع في الوصف زائد على العادة، في حقه تقصير" قليل بالنسبة لمقامه، "فيضيق على البليغ مجال النظم" بميم وجيم، أي: العمل الذي يجول فكره فيه ليأخذ المعاني التي يستحسنها وتليق عنده، "وعند التحقيق إذا اعتبرت جميع الأمداح التي فيها غلوا -بمعجمة ومهملة- بالنسبة إلى مَنْ فرضت له، وجدتها صادقة في حق النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى كان الشعراء" إذا حاولوا الثناء على أحد بأكمل الصفات، وصفوه ببعض أوصاف، صفات المصطفى الممكن ثبوتها للمدوح, وكأنَّهم على صفات يعتمدون؛ لأنه غاية طاقتهم، "وإلى مدحه كانوا يقصدون، وقد أشار الأبوصيري بقوله: دع ما ادعته النصارى في نبيهم، ومنه أخذ الحلي قوله في بديعيته:
دع ما تقول النصارى في نبيهم ... من التغالي وقل ما شئت واحتكم
"إلى ما أطرت النصارى به عيسى بن مريم من اتخاذه إلهًا" كما قال تعالى: {أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ} الآية. قال النيسابوري: إنهم صحَّفوا في الإنجيل عيسى نبي" -بنون تليها موحدة, وأنا ولدته -بالتثقيل- خلقت ولادته من مريم بلا أب، فحرَّفوا الأول بتقديم الباء، على النون, وخففوا اللام في الثاني, فلعنة الله على الكافرين المحرفين للكلم عن مواضعه, "فإن قلت: هل ادعى أحد في نبينا -عليه السلام- ما ادعي في عيسى؟ أجيب بأنهم قد كادوا" قاربوا "أن يفعلوا نحو ذلك" وما فعلوا "حين قالوا له -عليه السلام" في قصة سجود الأشجار له والجمل والغنم: "أفلا" الهمزة داخلة على محذوف،(6/464)
نسجد لك؟ فقال: "لو كنت آمرًا أحدًا أن يسجد لبشر لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها" فنهاهم عمَّا عساه يبلغ بهم من العبادة.
وقد جاء في صفته في حديث ابن أبي هالة: ولا يقبل الثناء إلّا من مكافيء، أي: مقارب في مدحه غير مفرِّط فيه، وقال ابن قتيبة: معناه: إلّا أن يكون ممن له عليه مِنَّة، فيكافئه الآخر، وغلَّطه ابن الأنباري، بأنه لا ينفك أحد من إنعام رسول الله -صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله بعثه رحمة للعالمين، فالثناء عليه فرض عليهم، لا يتمّ الإسلام إلا به. قال: وإنما المعنى: لا يقبل الثناء إلّا من رجل عرف حقيقة إسلامه. ثم حاصل.............................
__________
أي: أنترك تعظيمك، فلا "نسجد لك" أم نعظمك, فنحن أحق بالسجود من الغنم وغيرها, "فقال: "لو كنت آمرًا أحدًا أن يسجد لبشر لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها" لما له عليها من الحق، "فنهاهم عمَّا" أي: أمر، "عساه يبلغ" يصل بهم من العبادة" التي يتجاوز بها الحد، حتى يصيروا كفرة أو فسقة، معتقدين أنه حق وهو باطل، على نحو قوله تعالى: {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} الآية.
نعم، روى ابن حبان عن ابن أبي أوفى، قال: لما قدم معاذ بن جبل من الشام، سجد للنبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "ما هذا؟ " قال: يا رسول الله! قدمت الشام، فرأيتهم يسجدون لبطارقته وأساقفتهم، فأردت أن أفعل ذلك بك، قال: "لا تفعل، فإني لو أمرت شيئًا أن يسجد لشيء، لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها، والذي نفسي بيده لا تؤدي المرأة حق ربها حتى تؤدي حق زوجها، ولو سألها نفسها وهي على قتب لم تمنعه".
"وقد جاء في صفته" -صلى الله عليه وسلم- في حديث" هند بن أبي هالة" وصَّافه "ولا يقبل الثناء إلا من مكافيء" بالهمز، "أي: من مقارب في مدحه غير مفرط فيه، وقال" عبد الله بن مسلم بن قتيبة" الدينوري: "معناه: ألّا يكون ممن له" عليه الصلاة والسلام عليه منَّة" سبقت له، فيكافئه الآخر،" فيقبله لسبق منته عليه، "وغلَّطه ابن الأنباري" بالفتح نسبة إلى الأنبار بالعراق، "بأنه لا ينفك أحد من إنعام رسول الله -صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله بعثه رحمة للعالمين، فما من أحد إلّا وله عليه منة" "فالثناء عليه فرض عليهم، لا يتمّ الإسلام إلا به؛ لوجوب شكر النِّعَم، "قال: وإنما المعنى لا يقبل الثناء إلا من رجل" وصف طردي، والمراد إنسان "عُرِفَ حقيقة إسلامه", وأجيب عن هذا التغليط، بأن القرينة قائمة على أن المراد نعم حادثة خاصة، وقد صرَّح في بعض الروايات بقوله: إلّا عن يد، ثم للترتيب في الذكر أو للتراخي، "حاصل(6/465)
معجزاته وباهر آياته وكراماته كما نَبَّه عليه القطب القسطلاني يرجع إلى ثلاثة أقسام:
ماض: وجد قل كونه، فقضى بمجده.
ومستقبل: وقع بعد مواراته في لحده.
وكائن معه من حين حمله ووضعه إلى أن نقله الله إلى محل فضله وموطن جمعه.
فأما القسم الماضي: وهو ما كان قبل ظهوره إلى هذا الوجود، فقد ذكرت منه جملة في المقصد الأول، كقصة الفيل وغير ذلك، مما هو تأسيس لنبوته وإرهاص لرسالته،.........
__________
معجزاته، و" حاصل "باهر" غالب "آياته" من إضافة الصفة للموصوف، "و" حاصل "كراماته" فهما بالجر عطف على معجزاته، "كما نَبَّه عليه القطب" قطب الدين أبو بكر محمد بن أحمد بن علي "القسطلاني" المصري المولود بها سنة أربع عشرة وستمائة، وجمع بين العلم والعمل, وألّف في الحديث والتصوّف والتاريخ بمصر، ومات في محرم سنة ست وثمانين وستمائة, نسبة إلى قسطلينة من إقليم أفريقية، كما قاله هو رحمه الله في تاريخ مصر، ولم يضبطه.
وقال القطب الحلبي: كأنه منسوب إلى قسطلينة، بضم القاف من أعمال أفريقية بالمغرب، وقال غيره بفتح القاف وشد اللام، ويرجع إلى ثلاثة أقسام، ماض وُجِدَ قبل كونه" أي: وجوده، "فقضى بمجده" حكم بشرفه وسيادته وعزه، بمعنى: إنهم اعتقدوا ذلك حتى سمَّى جماعة أبناءهم محمدًا رجاء أن يكون هو، والله أعلم حيث يجعل رسالاته.
"ومستقبل وقع بعد مواراته في لحده" أي: بعد موته، "وكائن معه من حين حملة ووضعه إلى أن نقله الله إلى فضله وموطن جمعه: المكان الذي تجتمع فيه الخلائق, ولكن عدّه ما تقدم وجوده من المعجزة، وكذا ما قارن حمله إلى نبوته، مبنيّ على أن المعجزة لا يشترط اقترانها بالتحدي، والراجح كما مرَّ ويأتي خلافه إلى أن ذلك لا يرد عليه؛ لأنه جعل مجموع الآيات والمعجزات والكرامات منقسمًا إلى ثلاثة أقسام، ولا يلزم من انقسام المجموع وجود كل فرد منه في الأقسام الثلاثة.
"فأمَّا القسم الماضي، وهو ما كان قبل ظهوره إلى هذا الوجود، فقد ذكرت منه جملة في المقصد الأول، كقصة الفيل وغير ذلك مما هو تأسيس، أي: اتخاذ أصل "لنبوته" يدل عليها إذا ادعاها، "وإرهاص لرسالته" من أرهص الحائط، جعل لها أصلًا، فهما متحدان، والمراد:(6/466)
قال الإمام فخر الدين الرازي: ومذهبنا أنه يجوز تقديم المعجزة تأسيسًا وإرهاصًا، قال: ولذلك قالوا: كانت الغمامة تظله، يعني في سفره قبل النبوة، خلافًا للمعتزلة القائلين بأنه لا يجوز أن تكون المعجزة قبل الإرسال، انتهى.
وقد تقدَّم أول هذا المقصد: إن الذي عليه جمهور أئمة الأصول وغيرهم أن هذا ونحوه مما هو متقدّم على الدعوى لا يسمَّى معجزة، بل تأسيسًا للرسالة وكرامة للرسول -عليه السلام.
وأما القسم الثاني: وهو ما وقع بعد وفاته -صلى الله عليه وسلم- فكثير جدًّا؛ إذ في كل حين يقع لخواص أمته من خوارق العادات بسببه مما يدل على تعظيم قدره الكريم ما لا يحصى, كالاستغاثة به, وغير ذلك مما يأتي في المقصد الأخير، في أثناء الكلام على زيارة قبره المنير.
__________
إن الخوارق التي ظهرت قبل وجوده أو في زمنه قبل بعثته مقدِّمات لتصديقه في دعوى النبوة؛ لأنها حقَّقت عنده شرفه وأمانته.
"قال الإمام فخر الدين الرازي: ومذهبنا" معاشر أهل السنة "إنه يجوز تقديم المعجزة تأسيسًا وإرهاصًا، قال: ولذلك قالوا" أي: رووا أنه "كانت الغمامة" السحابة "تظله، يعني: في سفره قبل النبوة" كما ورد في أخبار صحاح، وزعم أنها لم تصح عند المحدثين باطل، كما قاله الزركشي. "خلافًا للمعتزلة القائلين، بأنه لا يجوز أن تكون المعجزة قبل الإرسال، انتهى", وقد تقدَّم أول هذا المقصد، وقبله في المقصد الأول، أن الذي عليه جمهور أئمة الأصول وغيرهم، أن هذا ونحوه مما هو متقدم على الدعوى" للنبوة، "لا يسمَّى معجزة" لفقد شرط التحدي الذي هو دعوى الرسالة, بل تأسيسًا للرسالة، وكرامة للرسول -عليه السلام،" والأنبياء قبل النبوة لا يقصرون عن درجة الولاية.
"وأما القسم الثاني: وهو ما وقع بعد وفاته -صلى الله عليه وسلم، فكثير جدًّا إذا في كل حين يقع لخواص أمته من خوارق العادات بسببه، مما يدل على تعظيم قدره الكريم ما لا يحصى، كالاستغاثة به" في الملمّات، "وغير ذلك" كالتوسُّل به في نيل المرامات, والإقسام به على رب البريات، "مما يأتي في المقصد الأخير في أثناء الكلام على زيارة قبره المنير، فكرامات الأولياء، كما نقل اليافعي من تتمة معجزات النبي -صلى الله عليه وسلم؛ لأنها تشهد للولي بالصدق المستلزم لكمال دينه، المستلزم لحقيِّته، المستلزم لصدق نبيه فيما أخبر به من الرسالة، فكانت الكرامة من جملة المعجزات بهذا الاعتبار.(6/467)
وأما القسم الثالث: وهو ما كان معه من حين ولادته إلى وفاته, فكالنور الذي خرج معه حتى استضاء له قصور الشام وأسواقها، حتى ريئت له أعناق الإبل ببصرى, ومسح الطائر على فؤاد أمه حتى لم تجد ألمًا لولادته، والطواف به في الآفاق، إلى غير ذلك, وكانشقاق القمر عند اقتراحه عليه، وانضمام الشجرتين لما دعاهما إليه، وكإطعام الجيش الكثير من النزر اليسير، في عدة من المواضع واستيلاء الفجائع، غير ذلك مما أمدَّه الله به من المعجزات, وأكرمه به من خوراق العادات، تأييدًا..............
__________
وأما القسم الثالث: وهو ما كان معه من حيث ولادته إلى وفاته فكالنور، أي: مثل النور، وقولهم: مثل كذا, كنايةً عن كذا ومثله, فكأنه قال: فهو النور، وما أشبهه من الخوارق, "الذي خرج معه حتى استضاء" أي: أضاء "له قصور الشام وأسواقها" من إضاءة ذلك النور وانتشاره حتى ريئت له أعناق الإبل ببصرى" بضم الموحدة وسكون المهملة، وراء، فألف مقصورة: مدينة بين المدينة ودمشق، وهي حوران.
وروى ابن سعد مرفوعًا: "رأت أمي حين وضعتني سطع منها نور أضاء له قصور بصرى" , وحكمته الإشارة إلى ما يجيء به من النور الذي اهتدى به الخلق, وتخصيص الشام إشارة إلى ما خصها من نوره، لأنه أسري بها إليها وخصت بصرى؛ لأنها أول ما دخل ذلك النور المحمدي، إذ كانت أول ما فتح من الشام, أو إشارة إلى أنه ينور البصائر، ويحيي القلوب الميتة, على أن ابن سعد قد روى عن ابن عباس وغيره: أن آمنة قالت: لما فصل مني، تعني: النبي -صلى الله عليه وسلم, خرج معه نور أضاء له ما بين المشرق والمغرب, "ومسح الطائر على فؤاد أمه حتى لم تجد ألمًا" وجعًا "لولادته" وعه في هذا القسم مع أنه قل الولادة؛ لأنه أراد بحينها أعمّ منهم نفسها" أو ما قاربها، فدخل ما وجد زمن الحمل به "والطواف به في الآفاق" مارق الأرض ومغاربها وبحارها، ليعرفوه باسمه ونعته وصورته في جميع الأرض، كما في حديث رواه الخطيب "إلى غير ذلك" مما مَرَّ بعضه في المقصد الأول, وكانشقاق القمر عند اقتراحه" أي: طلبهم منه تعنتًا "عليه، وتحكمًا، واختيارًا" وانضمام الشجرتين لما دعاهما إليه" ليستتر بها حين قضى حاجته، "وكإطعام الجيش الكثير من النزر،" بنون وزاي، "اليسير" صفة كاشفة؛ إذ النزر القليل في عدة من المواضع يأتي بيان بعضها "و" في أوقات استيلاء غلبة وتتابع الفجائع, أي: الشدائد جمع فجيعة، حتى كأنها أحاطت بجميع أجساد الصحابة -رضي الله عنهم، وغير ذلك مما أمَّده الله به من المعجزات، وأكرمه به من خوارق العادات، تأييدًا" تقوية "لإقامة حجته، وتمهيدًا لهداية محجته": طريقه الواضحة وتأبيدًا" بموحدة(6/468)
لإقامة حجته، وتمهيدًا لهداية محجته، وتأبيدًا لسيادته في كل أمة، وتسديدًا لمن ادَّكر بعد أمة، مما تتبعه يخرج عن مقصود الاختصار؛ إذ هو باب فسيح المجال منيع المنال، لكنِّي أنبِّه من ذلك على نبذة يسيرة، وأنوه في أثنائها بجملة خطيرة. فأقول وما توفيقي إلّا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب.
أمَّا معجزة انشقاق القمر، فقد قال تعالى في كتابه العزيز: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر: 1] ................................................................
__________
"لسيادته في كل أمة" جماعة من الناس، سواء كانت من أتباعه، أم لا؛ لأن غير أتباعه وإن أنكروا رسالته، فذلك عناد واستكبار؛ لأن براهين رسالته قطيعة لا تنكر فهم، وإن أنكروها بألسنتهم، فقلوبهم تعترف لها قهرًا عليهم، كما قال تعالى: {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} الآية. "وتسديدًا" بسين مهملة، تقوية وتنبيهًا "لمن ادَّكر بعد أمَّة:" جماعة من الزمان، أي: مدة طويلة، أي: لمن تذكَّر بعد غفلته عن اتباع الحق مدة طويلة، لاستغراقه في شهوات نفسه، "مما تتَّبعه، يخرج" هذا الكتاب، "عن مقصود الاختصار؛ إذ هو باب فسيح" واسع "المجال" بجيم, "منيع" ممتنع, "المنال" بالنون، أي: ما يراد حصوله منه على الوجه التام، ممنوع لا يمكن الوصول إليه، "لكني أنبِّه من ذلك على نبذة" بضم النون "يسيرة: وأنوّه" أعظم "في أثنائها بجملة خطيرة" -بمعجمة فمهملة- متفعة القدر والمنزلة، "فأقول، وما توفيقي" قدرتي على ذلك وغيره من الطاعات, "إلّا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب" أرجع, اقتباس لطيف.
"وأما معجزة انشقاق القمر،" أي: أما الدليل على ثبوت المعجزة التي هي انشقاق القمر، "فقد قال الله تعالى في كتابه العزيز" {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ} الآية، قربت ودنت القيامة، {وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} الآية. بالفعل آية المصطفى، وقدم اقتراب الساعة عليها تخويفًا لمنكري ذلك، وإثباتًا له، وتقريرًا في نفوس المؤمنين لها؛ إذ فيها تشقق السموات، فالقادر على ذلك الفعَّال لما يريد، كيف لا يقدر على شق القمر.
وقد روى ابن مردويه عن ابن مسعود: قال الله تعالى: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} الآية. يقول: كما شققت القمر، كذلك أقيم الساعة، وقيل: اقتربت أخص من قربت، فيدل على المبالغة في القرب؛ لأن افتعل يدل على اعتمال ومشقة في تحصيل الفعل، فهو أخص مما يدل على القرب بلا قيد، والمعنى: صارت قريبة من بعثته -صلى الله عليه وسلم، كما في حديث: "بعثت أنا والساعة كهاتين" وأشار بأصبعين الوسطى والسباب؛ لأن التفاوت بينهما مقدار سبع، وبعثه -صلى الله عليه وسلم- في الألف(6/469)
والمراد: وقوع انشقاقه بالفعل، ويؤيد قوله تعالى بعد ذلك: {وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ} [القمر: 2] فإن ذلك ظاهر في أن المراد بقوله: {انْشَقَّ} , وقوع انشقاقه؛ لأن الكفار لا يقولون ذلك يوم القيامة, فإذا تبيِّن أن قولهم ذلك إنما هو في الدنيا تبين وقوع الانشقاق, وأنه المراد بالآية التي زعموا أنها سحر، وسيأتي ذلك صريحًا في حديث ابن مسعود وغيره.
__________
السابعة على المشهور عند المحدثين وغيرهم، وإنما كانت الساعة قريبة؛ لأن عمر الدنيا سبعة آلاف سنة، وكسور على المشهور، وقيل: أكثر من ذلك.
وروى البيهقي في شعبة والديلمي، عن ابن عباس رفعه، قال: "اقتربت تدعى في التوراة المبيضة، تبيّض وجه صاحبها يوم تسود الوجوه".
"والمراد: وقوع انشقاقه بالفعل" عند الجمهور فلقتين في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم، كما يأتي في الأحاديث لا الوعد به يوم القيامة، كما قال بعض أهل العلم من القدماء، وأنه من التعبير بالماضي عن المستقبل، كما قال تعالى: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} الآية. أي: سيأتي. ونكتة ذلك إرادة المبالغة في تحقيق وقوع ذلك، فنزل الواقع، وما ذهب إليه الجمهور أصح، كما قال الحافظ وغيره، "ويؤيده قوله تعالى بعد ذلك" يتلوه: {وَإِنْ يَرَوْا} الآية. أي: كفار قريش، {آيَةً} الآية. أي: معجزة له -صلى الله عليه وسلم {يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا} الآية، هذا {سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ} قويّ من المرَّة، وهي القوة، أو دائم مطَّرد، فيدل على أنهم رأوا قبله آيات أخرى مترادفة، ومعجزات متتابعة حتى قالوا ذلك، أو مستبشع من استمرَّ، إذا اشتدت مرارته، أو مارّ: ذاهب لا يبقى، "فإن ذلك ظاهر في أن المراد بقوله: {انْشَقَّ} الآية. "وقوع انشقاقه؛ لأن الكفَّار لا يقولون ذلك"، أي: سحر مستمر فيما ظهر على يد النبي من الآيات "يوم القيامة" لظهور الأمر واتضاحه، "فإذا تبيِّن أن قولهم ذلك إنما هو في الدنيا، تبيِّن وقوع الانشقاق" بالفعل، "وأنه المراد بالآية التي زعموا أنها سحر، وسيأتي ذلك صريحًا في حديث ابن مسعود وغيره،" كحذيفة، وجبير بن مطعم، وابن عباس.
وفي الدلائل لأبي نعيم، عن ابن عباس: انشقَّ القمر ليلة أربع عشرة نصفًا على الصفا، ونصفًا على المروة، قدر ما بين العصر إلى الليل، ويؤيده أيضًا، كما في البيضاوي: أنه قرئ: وقد انشقَّ القمر، أي: وقد حصل من آيات اقتراب الساعة انشقاق القمر.
وقال الحليمي: من الناس من يقول: المراد سينشق، فإن كان كذلك فقد وقع في عصرنا، فشاهدت الهلال ببخارى في الليلة الثانية منشقًّا نصفين، عرض كل واحد منهما، كعرض القمر(6/470)
واعلم أن القمر لم ينشقّ لغير نبينا -صلى الله عليه وسلم, وهو من أمهات معجزاته -عليه السلام, وقد أجمع المفسرون وأهل السنة على وقوعه لأجله -صلى الله عليه وسلم، فإن كفَّار قريش لما كذبوه ولم يصدقوه, طلبوا منه أيةً تدل على صدقه في دعواه، فأعطاه الله هذه الآية العظيمة، التي لا قدرة للبشر على إيجادها، دلالة على صدقه -عليه السلام- في دعواه الوحدانية لله تعالى، وأنَّه منفرد بالربوبية، وأن هذه الآلهة التي يعبدونها باطلة لا تنفع ولا تضر، وأن العبادة إنما تكون لله وحده لا شريك له.
__________
ليلة أربع أو خمس، ثم اتَّصلا فصار في شكل أترجّة إلى أن غاب، وأخبرني بعض من أثق به، أنه شاهد ذلك ليلة أخرى، نقله البيهقي.
قال الحافظ: ولقد عجبت من البيهقي كيف أقرّ هذا مع إيراده حديث ابن مسعود، المصرح بأن المراد بقوله تعالى: {وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} الآية. أن ذلك وقع في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم, فإنه ساقه هكذا عن ابن مسعود في هذه الآية، قال: انشقَّ على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم، ثم ساق حديث ابن مسعود: لقد مضت آية الدخان والروم، والبطش، وانشقاق القمر، انتهى.
"واعلم: أن القمر لم ينشق لغير نبينا -صلى الله عليه وسلم" لما طلب الكفار آية. وأخرج عبد بن حميد, وابن مردويه، والحاكم، وصحَّحه البيهقي في الدلائل، عن ابن مسعود، قال: رأيت القمر منشقًّا بشفتين مرتين بمكة قبل مخرج النبي -صلى الله عليه وسلم, شقة على أبي قبيش، وشقة على السويداء، والمراد بمخرجه: هجرته إلى المدينة، كما في رواية عبد الرزاق، لا بعثته "وهو من أمهات معجزاته -عليه السلام،" أي: معجزاته التي هي كالأمهات لغيرها مما دونها، "وقد أجمع المفسرون وأهل السنة على وقوعه لأجله -صلى الله عليه وسلم" حكاه القاضي عياض مؤيدًا له بأن الله أخبر بوقوعه بلفظ الماضي، وإعراض الكفرة عن آياته، واعترض بأن الحسن البصري قال: المراد سينشق، نقله عنه النسفي وأبو الليث، ولعله لم يصحّ عنه، أو شذَّ به على تكذيبه، فلا يعتد به في خرق إجماعهم، "فإن كفار قريش لما كذبوه ولم يصدقوه" أي: واستمروا على تكذيبه، فلم يرجعوا عمَّا هم فيه من الغي والضلال، بل زادوا طغيانًا، "طلبوا منه آية"، هي انشقاق القمر، كما يأتي أنَّ الوليد ومن معه قالوا للنبي -صلى الله عليه وسلم: إن كنت صادقًا فشق لنا القمر، والأحاديث تفسّر ببعضها، وخير ما فسَّرته بالوارد، فليس المراد مطلق آية "تدل على صدقه في دعواه" جواب لما، "فأعطاه اله تعالى هذه الآية العظيمة التي لا قدرة للبشر على إيجادها, دلالة على صدقه -عليه السلام- في دعواه الوحدانية لله تعالى، وأنه منفرد بالربوبية، وأن هذه الآلهة" بزعمهم "التي يعبدونها باطلة لا تنفع ولا تضر" نفسها، فضلًا عن غيرها، "وأن العبادة إنما تكون لله وحده لا شريك له.(6/471)
قال الخطابي: انشقاق القمر آية عظيمة، لا يكاد يعدلها شيء من آيات الأنبياء، وذلك أنه ظهر في ملكوت السماوات خارجًا عن جملة طباع ما في هذا العالم المركّب من الطبائع، فليس مما يطمع في الوصول إليه بحيلة، فلذلك صار البرهان به أظهر. انتهى.
وقال ابن عبد البر: قد روى هذا الحديث -يعني حديث انشقاق القمر- جماعة كثيرة من الصحابة، وروى ذلك عنهم أمثالهم من التابعين، ثم نقله عنهم الجمّ الغفير إلى أن انتهى إلينا. وتأيد بالآية الكريمة. انتهى.
وقال العلامة بن السبكي في شرحه لمختصر ابن الحاجب: والصحيح عندي أنَّ انشقاق القمر متواتر، منصوص عليه في القرآن، مروي في الصحيحين وغيرهما من طرقٍ من حديث شعبة عن سليمان بن مهران...........................................
__________
"قال الخطَّابي: انشقاق القمر آية عظيمة، لا يكاد يعدلها شيء من آيات الأنبياء" ولذا اختص بها سيدهم، "وذلك أنه ظهر في ملكوت السماوات، خارجًا عن جملة طباع ما في هذا العالم المركب من الطبائع، فليس مما يطمع في الوصول إليه بحيلة، فلذلك صار البرهان: " الدليل الواضح "به أظهر" من غيره، "انتهى".
"وقال ابن عبد البر" أبو عمر الذي ساد أهل الزمان في الحفظ والإتقان: "قد روى هذا الحديث -يعني حديث انشقاق القمر- جماعة كثيرة من الصحابة، وروى ذلك عنهم أمثالهم من التابعين، ثم نقله عنهم الجمّ الغفير" المفيد للعلم "إلى أن انتهى" وصل "إلينا، وتأيد بالآية الكريمة" فلم يبق لاستبعاد من استبعد وقوعه عذر، "انتهى ما أراده من كلام ابن عبد البر.
وقال العلامة" قاضي القضاة أبو بكر عبد الوهاب، "ابن" الإمام علي بن عبد الكافي بن تمام الأنصاري "السبكي", ولد بمصر سنة تسع وعشرين وسبعمائة، ولازم الاشتغال بالفنون على أبيه وغيره، حتى مهر وهو شاب، وصف كتبًا نفيسة اشتهرت في حياته، وألَّف وهو في حدود العشرين، ومات سابع الحجة، سنة إحدى وسبعين وسبعمائة، "في شرحه لمختصر ابن الحاجب" في الأصول، "والصحيح عندي: أن انشقاق القمر متواتر، منصوص عليه في القرءان مروي في الصحيحين وغيرهما، من طرق، من حديث شعبة" بن الحجاج بن الوالد العتكي، مولاهم الواسطي ثم البصري، ثقة، حافظ، متقن، كان الثوري يقول: هو أمير المؤمنين في الحديث، وكان عابدًا, مات سنة ستين ومائة، "عن سليمان بن مهران" الأسدي، الكاهلي، الكوفي، الأعمش, ثقة حافظ ورع، مات سنة سبع أو ثمان وأربعين, وهي تصحيف، فليس في(6/472)
عن إبراهيم عن أبي معمر عن ابن مسعود، ثم قال: وله طرق أخرى شتَّى، بحيث لا يمترى في تواتره. انتهى.
وقد جاءت أحاديث الانشقاق في روايات صحيحة عن جماعة من الصحابة منهم: أنس، وابن مسعود، وابن عباس، وعلي، وحذيفة، وجبير بن مطعم، وابن عمر، وغيرهم. فأمَّا أنس وابن عباس فلم يحضرا ذلك؛ لأنه كان بمكة قبل الهجرة بنحو خمس سنين، وكان ابن عباس إذ ذاك لم يولد، وأمَّا أنس فكان ابن أربع أو خمس سنين بالمدينة، وأمَّا غيرهما فيمكن أن يكون شاهد ذلك.
ففي الصحيحين: من حديث أنس -رضي الله عنه: إن أهل مكة سألوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يريهم آية،.....................................................
__________
رجال الكتب الستة شعبة بن سليمان، فصحَّف النساخ عن بابن، والحديث في الصحيحين عن شعبة وسفيان، أي: ابن عيينة عن الأعمش، وهو سليمان بن مهران، بكسر الميم، "عن إبراهيم" بن سويد النخعي -ثقة، "عن أبي معمر" -بفتح الميم وسكون العين- عبد الله بن سخبرة -بفتح المهملة وسكون المعجمة وفتح الموحدة- الأزدي، الكوفي، ثقة من كبار التابعين، مات في إمارة عبيد الله بن زياد.
قال الحافظ: هذا هو المحفوظ، ووقع عند ابن مردويه، وأبي نعيم، عن إبراهيم عن علقمة: والمحفوظ المشهور عن أبي معمر، "عن ابن مسعود،" وأخرجه مسلم من طريق أخرى عن شعبة، عن الأعمش، عن مجاهد، عن ابن عمر، وقد علَّقه البخاري عن مجاهد، عن أبي معمر، عن ابن مسعود، فالله أعلم هل عند مجاهد فيه إسنادان، أو قول من قال ابن عمر، وهم من أبي معمر، "ثم قال: وله طرق أخرى شتى بحيث لا يمترى في تواتره، انتهى. وقد جاءت أحاديث الانشقاق في روايات صحيحة، عن جماعة من الصحابة، منهم: أنس بن مالك "وابن مسعود" عبد الله، وابن عباس، وعلي" بن أبي طالب، "وحذيفة" بن اليمان، وجبير بن مطعم النوفلي، "وابن عمر" بن الخطاب, "وغيرهم، فأمَّا أنس وابن عباس فلم يحضرا ذلك؛ لأنه -أي: الانشقاق- كان بمكة قبل الهجرة بنحو خمس سنين، وكان ابن عباس إذا ذاك لم يولد؛ إذ ولادته قبلها بثلاث سنين بالشعب، على الصحيح المحفوظ.
"وأما أنس، فكان ابن أربع أو خمس سنين بالمدينة،" فحديثها مرسل صحابي، "وأمَّا غيرهما، فيمكن أن يكون شاهد ذلك" فحدَّث عمَّا شاهد، ويمكن أن يكون حمله عن غيره، والأظهر الأول، "ففي الصحيحين من حديث أنس -رضي الله عنه: إن أهل مكة" -أي: كفار قريش, وتأتي رواية تسميتهم، "سألوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يريهم آية" معجزة تشهدة لما ادعاه من(6/473)
فأراهم انشقاق القمر شقتين، حتى رأوا حراء بينهما, وقوله: شقتين -بكسر الشين المعجمة, أي: نصفين.
ومن حديث ابن مسعود قال: انشقّ القمر على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فرقتين، فرقة فوقه الجبل، وفرقة دونه, فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "اشهدوا".
وفي الترمذي من حديث ابن عمر، في قوله تعالى: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ
__________
نبوّته، "فأراهم انشقاق القمر شقتين، حتى رأوا حراء،" بكسر المهملة، وراء خفيفة، مذكر مصروف على الصحيح، وحكي فتح حائه، والقصر، وتأنيثه على إرادة البقعة، فيمنع صرفه, جبل بينه وبين مكة ثلاثة أميال على يسار الذاهب إلى مِنَى، "بينهما،" أي: بين الشقتين، "وقوله: شقتين -بكسر الشين المعجمة، أي: نصفين" كما ضبطه في الفتح والمصابيح، واليونينية والناصرية، وضبطه في الفرع -بفتح الشين- مصححا عليه، ذكر المصنف.
"و" في الصحيحين "من حديث ابن مسعود، قال: انشقَّ القمر على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم" أي: في زمنه وأيامه، "فرقتين" -بكسر الفاء وسكون الراء- بمعنى: قطعتين، والمراد: نصفين، وانتصابه على المصدر من معنى انشقَّ، كقعد جلوسًا أو بتقدير: وافترق فرقتين، "فرقة" بالنصب يدل "فوق الجبل، وفرقة دونه،" أي: في مقابلته، منفصلًا عنه، لا تحته، كما قيل: فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "اشهدوا". قال الحافظ: أي: اضبطوا هذا القدر بالمشاهدة، والجبل: حراء، كما في الحديث قبله، لكن روى عبد الرزاق والبيهقي من طريقه، عن ابن مسعود: رأيت القمر منشقًّا شقتين، شقة على أبي قبيس، وشقة على السويداء، والسويداء -بالمد والتصغير: ناحية خارج مكة عندها جبل، وقوله: على أبي قبيس، يحتمل أنه رآه كذلك، وهو بمنَى، كأن يكون على مكان مرتفع؛ بحيث رأى طرف جبل أبي قبيس، ويحتمل أن القمر استمرَّ منشقًّا حتى رجع ابن مسعود من منَى إلى مكة فرآه كذلك، وفيه بعده, والذي يقتضيه غالب الروايات أن الانشقاق كان قرب غروبه، ويؤيد إسنادهم الرؤية إلى جهة الجبل، ويحتمل أن الانشقاق وقع أول طلوع، فإن في بعض الروايات أن ذلك كان ليلة البدر، والتعبير بأبي قبيس من تغيير بعض الرواة؛ لأن الغرض ثبوت رؤيته منشقًّا إحدى الشقتين على جبل، والأخرى على جبل أخر، ولا يغاير ذلك قول الراوي الآخر: رأيت الجبل بينهما، أي: بين الفرقتين؛ لأنه إذا ذهبت فرقة عن يمين الجبل، وفرقة عن يساره مثلًا, صدق أنه بينهما، وأي جبل آخر كان من جهة يمينه أو يساره صدق أنها عليه أيضًا، انتهى.
"وفي الترمذي من حديث ابن عمر" بن الخطاب، "في قوله تعالى: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ(6/474)
وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} قال: قد كان ذلك على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم، انشق فلقتين: فلقة دون الجبل، وفلقة خلف الجبل، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "اشهدوا".
وعند الإمام أحمد، من حديث جبير بن مطعم قال: انشقَّ القمر على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فصار فرقتين، فرقة على هذا الجبل، وفرقة على هذا الجبل، فقالوا: سحرنا محمد، فقالوا: إن كان سحرنا فإنه لا يستطيع أن يسحر الناس.
وعن عبد الله بن مسعود قال: انشقَّ القمر على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فقال كفار قريش: هذا سحر ابن أبي كبشة،..............................................
__________
وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} الآية، "قال: قد كان ذلك على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم" أي: زمنه ردًّا على من يقول: سيكون يوم القيامة، "انشقَّ فلقتين" باللام: فلقة دون الجبل" أي: في مقابلته، "وفلقة خلف الجبل،" أي: فوقه: كما في الحديث قبله, "فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "اشهدوا" على نبوّتي ومعجزتي، وقوع ما طلبوه؛ لأنهم أهل بهتان وجحد، هذا ظاهر السياق، ويحتمل: اشهدوا على ذلك لتخبروا؛ لأنها آية ليلية أتت وقت غفلة.
"وعند الإمام أحمد من حديث جبير" بضم الجيم، مصغر، "ابن مطعم، قال: انشقَّ القمر على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فصار فرقتين" بالراء، أي: نصفين، وصرح في هذا بناصب فرقتين، "فرقة على هذا الجبل، وفرقة على هذا الجبل، فيه ما سبق قريبًا عن الحافظ، "فقالوا" أي: الكفار: "سحرنا محمد، فقالوا" وفي بعض طرق حديث ابن مسعود: فقال رجل منهم، ويقال أنه أبو جهل، فلموافقتهم له عبَّر جبير، بقالوا, "إن كان سحرنا" محمد، "فإنه لا يستطيع أن يسحر الناس".
وفي رواية مسروق عن ابن مسعود، فقال كفار قريش: سحركم ابن أبي كبشة، فقال رجل منهم: إن محمدًا إن كان سحر القمر، فإنه لا يبلغ سحره أن يسحر الأرض كلها، فسلوا من يأتيكم من بلد آخر هل رأوه، فأتوا، فسألوا، فأخبروهم أنهم رأوا مثل ذلك. رواه البيهقي في الدلائل.
"وعن عبد الله بن مسعود، قال: انشقَّ القمر على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فقال كفار قريش: هذا سحر ابن أبي كبشة" بفتح الكاف، وإسكان الموحدة، ومعجمة مفتوحة، قيل: أحد أجداده لأمه، قالوه عداوة وتحقيرًا بنسبته إلى غير نسبه المشهور؛ لأن عادة العرب إذا انتقصت، نسبت إلى جد غامض، وقيل: غير ذلك، كما مرّ في جدته.(6/475)
قال: فقالوا: انظروا ما يأتيكم به السفار، فإن محمدًا لا يستطيع أن يسحر الناس كلهم. قال: فجاء السفار فأخبروهم بذلك. رواه أبو داود الطيالسي.
ورواه البيهقي بلفظ: انشقَّ القمر بمكة فقالوا: سحركم ابن أبي كبشة، فسلوا السفار، فإن كانوا رأوا ما رأيتم فقد صدق, فإنه لا يستطيع أن يسحر الناس كلها, وإن لم يكونوا رأوا ما رأيتم فهو سحر، فسألوا السفار وقد قدموا من كل وجه فقالوا: رأيناه.
وعند أبي نعيم في الدلائل من وجه ضعيف عن ابن عباس قال: اجتمع المشركون إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم, منهم الوليد بن المغيرة، وأبو جهل, والعاص بن وائل، والأسود بن المطلب، والنضر بن الحارث ونظراؤهم, فقالوا للنبي -صلى الله عليه وسلم: إن كنت صادقًا فشق لنا القمر فرقتين، فسأل ربه فانشق.
__________
"قال" ابن مسعود: "فقالوا" كفار قريش: "انظروا ما يأتيكم بن السفار، فإن محمدًا لا يستطيع أن يسحر الناس كلهم، قال: فجاء السفار، فأخبروهم بذلك، أي: رؤية القمر منشقًّا، "رواه أبو داود" سليمان بن داود بن الجارود، "الطيالسي" البصري، الثقة، الحافظ، مات سنة أربع ومائتين.
"ورواه البيهقي" عن ابن مسعود، بلفظ: انشق القمر بمكة، فقالوا: سحركم ابن أبي كبشة، فسلموا السفر، فإن كانوا رأوا ما رأيتم فقد صدق، فإنه لا يستطيع أن يسحر الناس كلهم، وإن لم يكونوا رأوا ما رأيتم، فهو سحر، فسألوا السفار، وقد قدموا من كل وجه، فقالوا: رأيناه" زاد في رواية: فقال الكفار: هذا سحر مستمر.
"وعند أبي نعيم" أحمد بن عبد الله، الأصبهاني، الحافظ، "في الدلائل" للنبوة "من وجه" إسناد "ضعيف، عن ابن عباس قال: اجتمع المشركون إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم، منهم الوليد بن المغيرة" المخزومي، الكافر، الميت على كفره الذي أنزل الله تعالى في ذمه: {وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ} الآية، و {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا} الآية، "وأبو جهل" فرعون هذه الأمة المقتول ببدر، "والعاص بن وائل" السهمي، أحد المستهزئين، "والأسود بن المطلب" أحدهم، والنضر بن الحارث" المقتول عقب بدر، "ونظراؤهم" أشباههم في التوغّل في الكفر والعناد, "فقالوا للنبي -صلى الله عليه وسلم: إن كنت صادقًا" في أنك رسول الله، "فشق لنا القمر فرقتين" نصفين، "فسأل ربه فانشقَّ", وفي رواية ابن الجوزي في الوفاء: فقال لهم: "إن فعلت تؤمنوا؟ "، قالوا: نعم، فسأل ربه أن يعطيه ما قالوا، فانشقَّ القمر فرقتين، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- ينادي: "يا فلان, يا فلان، اشهدوا".(6/476)
وعند البخاري مختصرًا من حديث ابن عباس بلفظ: إن القمر انشقَّ على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم، وابن عباس, وإن كان لم يشاهد القصة كما قدمته، ففي بعض طرقه أنه حمل الحديث عن ابن مسعود.
وعند مسلم من حديث سعيد عن قتادة بلفظ فأراهم انشقاق القمر مرتين. وكذا في مصنف عبد الرزاق عن معمر بلفظ مرتين أيضًا.
واتَّفق الشيخان عليه من رواية شعبة عن قتادة بلفظ: فرقتين، كما في حديث جبير عند أحمد.
__________
"وعند البخاري مختصرًا من حديث ابن عباس، بلفظ: إن القمر انشقَّ على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم" ورواه عنه أبو نعيم، وزاد: فلقتين.
قال ابن مسعود: لقد رأيت جبل حراء من بين فلقتي القمر، وهذا يوافق الرواية الأولى في ذكر حراء.
"وابن عباس وإن لم يشاهد القصة، كما قدمته"؛ لأنها كانت قبل ولادته "ففي بعض طرقه أنه حمل الحديث عن ابن مسعود" أي: ما يشعر بذلك، ما عبَّر به الحافظ، وهي رواية أبي نعيم المذكورة من قول ابن عباس، قال ابن مسعود: لقد..... إلخ.
"وعند مسلم من حديث سعيد" -بفتح المهملة، وكسر العين، فياء، فدال مهملة آخره: ابن أبي عروبة مهران اليشكري، مولاهم، أحد الأعلام، وما يوجد في غالب نسخ المصنف شعبة مخالف للواقع، فرواية شعبة لفظها فرقتين، لم يختلف عليه رواته فيها، ولما في مسلم فالذي فيه عن سعيد، "عن قتادة" بن دعامة، عن أنس "بلفظ: "إن أهل مكة سألوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يريهم آية، "فأراهم انشقاق القمر مرتين", بدل قوله في الرواية الأولى: شقتين، "وكذا في مصنف عبد الرزاق عن معمر" عن قتادة، عن أنس "بلفظ: مرتين أيضًا" وكذا أخرجه الإمامان أحمد وإسحاق عن عبد الرزاق، وكذا ورد من حديث شيبان عن قتادة، أشار له مسلم في الصحيح.
"واتفق الشيخان" البخاري ومسلم، "عليه من رواية شعبة، عن قتادة،" عن أنس "بلفظ: فرقتين".
قال البيهقي: قد حفظ ثلاث من أصحاب قتادة عنه مرتين, يعني: سعيدًا، وشيبان, ومعمرًا.
قال الحافظ: لكن اختلف عن كل منهم في هذه اللفظة، ولم يختلف على شعبة وهو أحفظهم، ولم يقع في شيء من طرق حديث ابن مسعود، بلفظ: مرتين, إنما فيه فرقتين أو فلقتين، بالراء أو باللام، "كما في حديث جبير" بن مطعم: فرقتين، بالراء "عند أحمد،(6/477)
وفي حديث ابن عمر فلقتين -باللام- كما قدمته، وفي لفظ في حديث جبير: فانشق باثنتين، وفي رواية عن ابن عباس عند أبي نعيم في الدلائل: فصار قمرين. ووقع في نظم السيرة للحافظ أبي الفضل العراقي: وانشقَّ القمر مرتين بالإجماع.
قال الحافظ بن حجر: وأظن قوله: "بالإجماع" يتعلق بـ "انشقّ" لا بـ "مرتين"، فإني لا أعلم من جزم من علماء الحديث بتعدد الانشقاق في زمنه -صلى الله عليه وسلم.
__________
وفي حديث ابن عمر: فلقتين باللام، كما قدمته" من رواية الترمذي.
"وفي لفظ في حديث جبير" بن مطعم: "فانشق" القمر باثنتين" أي: بصيرورته ثنتين من الشق أو الباء زائدة، "وفي رواية عن ابن عباس، عند أبي نعيم في الدلائل، فصار قمرين، وفي لفظ: شفتين، وعند الطبري من حديثه: حتى رأوا شقتيه.
"ووقع في نظم السيرة للحافظ أبي الفضل العراقي: وانشقَّ القمر مرَّتين بالإجماع", فظاهره تعلق بالإجماع، بقوله: مرَّتين، على ظاهر رواية مسلم وغيره، لكن "قال الحافظ ابن حجر" في الفتح، ما ملخصه: "وأظن قوله بالإجماع يتعلّق بانشقَّ لا بمرتين، فإني لا أعلم من جزم من علماء الحديث بتعدد الانشقاق في زمنه -صلى الله عليه وسلم", وعبارة الحافظ في الفتح.
ووقع في نظم السيرة لشيخنا الحافظ أبي الفضل: وانشقَّ مرتين بالإجماع، ولا أعرف من جزم من علماء الحديث بتعدد الانشقاق في زمنه -صلى الله عليه وسلم، ولم يتعرّض لذلك أحد من شراح الصحيحين، وتكلّم ابن القيم على هذه الرواية، فقال: المرات يراد بها الأفعال تارة، ويراد بها الأعيان أخرى، والأول أكثر.
ومن الثاني: انشقَّ القمر مرتين، وقد خفي هذا على بعض الناس، فادَّعى أن انشقاق القمر وقع مرتين، وهذا مما يعلم أهل الحديث والسير أنه غلط، فإنه لم يقع إلّا مرة واحدة، وقد وقع لعماد بن كثير في الرواية التي فيها مرتين نظير، ولعل قائلها أراد فرقتين، قلت: وهذا الذي لا يتجه غيره جمعًا بين الروايات، ثم راجعت نظم شيخنا فوجدته يحتمل التأويل المذكور، ولفظه:
فصار فرقتين فرقة علت ... وفرقة للطود منه نزلت
وذاك مرتين بالإجماع ... والنص والتواتر السماعي
فجمع بين فرقتين ومرَّتين, فيمكن أن يتعلق قوله بالإجماع بأصل الانشقاق لا بالتعدد، مع أن في نقل الإجماع في نفس الانشقاق نظرًا يأتي بيانه، انتهى.
فعن النظم جوابان، أولهما: تأويل مرة بفرقتين، ولا ينافيه الجمع بينهما؛ لأنه إشارة للروايتين، أي: إنه رواية مرتين محمولة على رواية فرقتين، كما أشار إليه ابن كثير، ومراده: بما(6/478)
ولعل قائل "مرتين" أراد فرقتين, وهذا الذي لا يتجه غيره جمعًا بين الروايات.
وقد وقع في رواية البخاري من حديث ابن مسعود: ونحن بمنَى، وهذا لا يعارض قول أنس: إن ذلك كان بمكة؛ لأنه لم يصرّح بأنه -صلى الله عليه وسلم- كان ليلتئذ بمكة. فالمراد أن الانشقاق كان وهُمْ بمكة قبل أن يهاجروا إلى المدينة. والله أعلم.
__________
يأتي ما جلبه المصنف بقوله: وقد أنكر........... إلخ.
الجواب: إنه أراد إجماع من يعتدّ به، أمَّا هؤلاء فلا عبرة بخلافهم، وذكر الحافظ برهان الدين الحلبي في النور: إنه كاتب شيخه العراقي بكلام ابن القيم، فلم يرد له جوابًا بالكلية.
"ولعل قائل مرتين أراد به فرقتين" كما قال ابن كثير، "وهذا" كما قال الحافظ: "الذي لا يتجه غيره جمعًا بين الروايات", فإنها إذا كثرت ودلَّت على شيء وخالفها رواية أخرى ترد إليها إذا أمكن دفعًا للتعارض على القاعدة, " وقد وقع في رواية البخاري من حديث ابن مسعود:" انشقَّ القمر، ونحن مع النبي -صلى الله عليه وسلم- بمنَى. وفي رواية مسلم: بينما نحن مع النبي -صلى الله عليه وسلم- بمنَى إذا انفلق القمر، "وهذا لا يعارض قول أنس: إن ذلك كان بمكة؛ لأنه" أي: أنسًا، "لم يصرح بأنه -عليه السلام- كان ليلتئذ بمكة، فالمراد: إن الانشقاق كان وهُمْ بمكة قبل أن يهاجروا إلى المدينة، والله أعلم".
زاد الحافظ: وعلى تقدير تصريحه فمِنَى من جملة مكة، فلا تعارض، وقد وقع عند ابن مردويه بيان المراد، فأخرج من وجه آخر عن ابن مسعود، قال: انشق القمر على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ونحن بمكة قبل أن يصير إلى المدينة، فوضح أن مراده بذكر مكة، الإشارة إلى أن ذلك وقع قبل الهجرة، ويجوز أن يقع وهُمْ ليلتئذ بمِنَى، ثم قال: والجمع بين قول ابن مسعود تارة بمِنَى، وتارة بمكة، إم باعتبار التعدد إن ثبت، وإما بالحمل على أنه كان بمِنَى, ومن بها لا ينافي أنه بمكة؛ لأن من كان بمِنَى كان بمكة من غير عكس، ويؤيده أن الرواية التي فيها بمِنَى قال فيها: ونحن بمِنَى، والتي فيها بمكة لم يقل فيها، ونحن إنما, قال: انشقَّ بمكة، أي: إنه كان وهم بمكة قبل أن يهاجروا إلى المدينة، وبهذا يندفع دعوى الداودي أن بين الخبرين تضادًّا، انتهى.
وقال بعضهم: الذي تحرَّر في الجمع بين روايات مِنَى ومكة، وأنَّ حراء كان بين الفلقتين، وإن إحداهما كانت فوق الجبل والأخرى دونه، أن يقال: إنه تباعد ما بين الفلقتين جدًّا، ليكون أظهر في دفع الإنكار، فإنه لو تقارب لقالوا: إنه من غلط الحس، فلمَّا أشهدهم -صلى الله عليه وسلم- على ذلك، أشار مرة إلى فلقة منه، وقال: "اشهد يا فلان ويا فلان" ثم أراهم مرة أخرى فلقة أخرى.(6/479)
وقد أنكر هذه المعجزة جماعة من المبتدعة، كجمهور الفلاسفة، متمسكين بأن الأجرام العلوية لملاستها لا يتهيأ فيها الانخراق والالتئام، وكذا قالوه في فتح أبواب السماء ليلة الإسراء إلى غير ذلك.
وجواب هؤلاء إن كانوا كفارًا أن يناظروا أولًا على ثبوت دين الإسلام، فإذا تمت اشتركوا مع غيرهم ممن أنكر ذلك من المسلمين، ومتى سلم المسلم بعض ذلك دون بعض لزم التناقض، لا سبيل له إلى إنكار ما ثبت في القرآن من الانخراق والالتئام في يوم القيامة، وإذا ثبت هذا استلزم أيضًا وقوع ذلك معجزة لنبي الله -صلى الله عليه وسلم.
__________
وقال: "اشهدوا"، وكذا هذا كان ليلًا بمكة، والقمر في وسط السماء بحذاء حراء، وبحذاء غيره من الجبال والأماكن البعيدة, فلا تعدد في الشق، ولا تدافع بين الروايات، ولا يطعن في شيء منها. وهذا إن شاء الله مما لا ينبغي العدول عنه، فإن القول بأن المرات في الأعيان لا صحة له لغةً ولا استعمالًا, فلو قطع إنسان بطيخة قطعتين دفعة واحدة، وقال: قطعتها مرتين، كذَّبه من سمعه واستهزأ به, فعليك بالنظر الحديد، وأن تطرح من جُبِلَ فكره على التقليد.
"وقد أنكر هذه المعجزة جماعة من المبتدعة، كجمهور الفلاسفة، متمسكين بأن الأجرام العلوية لملاستها، لا يتهيأ" لا يمكن "فيها الانخراق والالتئام, وكذا قالوه في فتح أبواب السماء ليلة الإسراء إلى" أي: مع "غير ذلك" من إنكارهم ما يكون يوم القيامة من تكوين الشمس، وغير ذلك، "وجواب هؤلاء إن كانوا كفارًا أن يناظروا أولًا على ثبوت دين الإسلام، فإذا تمت" المناظرة، وثبت عندهم دين الإسلام، "اشتركوا مع غيرهم ممن أنكر ذلك من المسلمين", فيناظروا ثانيًا بإقامة الحجة على إثبات الانشقاق، كما حكي أنَّ أبا بكر بن الطيب لما أرسله صاحب الدولة لملك الروم بقسطنطينية، وإن أجَلّ علماء الإسلام، أحضر بعض بطارقته، فقال له: تزعمون أن القمر انشقَّ لنبيكم، فهل للقمر قرابة منكم حتى ترونه دون غيركم؟ فقال: وهل بينكم وبين المائدة إخوة ونسب إذ رأيتموها، ولم ترها اليهود، ويونان، والمجوس الذين أنكروها، وهم في جواركم؟ فأفحم ولم يحر جوابًا، والقصة طويلة في الشرح، "ومتى سلم المسلم بعض ذلك دون بعض لزم التناقض، ولا سبيل له إلى إنكار ما ثبت في القرآن من الانخراق والالتئام في يوم القيامة"؛ لأنه كفر، "وإذا ثبت هذا استلزم أيضًا وقوع ذلك معجزة لنبي الله -صلى الله عليه وسلم, يرد عليه أن مجرد ثبوت ذلك في القيامة إنما يستلزم جواز وقوعه، والجواز لا يستلزم الوقوع، فالمناسب أن يقول: استلزم جواز وقوع ذلك معجزة، كما عبَّر به الحافظ في الفتح.(6/480)
وقد أجاب عن ذلك القدماء من العلماء، فقال الزجاج في "معاني القرآن": أنكر بعض المبتدعة الموافقين لمخالفي الملة انشقاق القمر، ولا إنكار للعقل فيه؛ لأن القمر مخلوق, لله أن يفعل فيه ما يشاء، كما يكوره يوم القيامة ويفنيه. انتهى.
وأما قول بعض الملاحدة: لو وقع هذا النقل متواترًا واشترك أهل الأرض كلهم في معرفته، ولم يختص بها أهل مكة؛ لأنه أمر صدر عن حس ومشاهدة، فالناس فيه شركاء، والدواعي متوفرة على رواية كل غريب، ونقل ما لم يعهد، ولو كان لذلك أصل لخلّد في كتاب التسيير والتنجيم؛ إذ يجوز إطباقهم على تركه وإغفاله, مع جلالة شأنه ووضوح أمره.
فأجاب عنه الخطاب وغيره: بأنَّ هذه القصة خرجت عن الأمور التي ذكروها؛ لأنه شيء طلبه خاص من الناس، فوقع ليلًا؛ لأن القمر لا سلطان له بالنهار، ومن شأن الليل أن يكون الناس فيه نيامًا ومستكنين في الأبنية،................................................
__________
وفي نسخة: استلزم الجواز وقوع ذلك معجزة، فيمكن أن يجاب على ثبوت الواو بأن وقوع بالرفع مبتدأ خبره محذوف، أي: وقوعه معجزة ثبتت بالقرآن فيجب قبوله.
"وقد أجاب عن ذلك القدماء من العلماء، فقال الزجاج" بفتح الزاي والتشديد نسبة إلى خرط الزجاج، أبو إسحاق إبراهيم بن السري "الإمام، العلامة، المتوفَّى سنة إحدى عشرة وثلاثمائة، وهو شيخ الزجاجي، صاحب الحمل "في معاني القرآن: أنكر بعض المبتدعة الموافقين لمخالفي الملة،" الكفار "انشقاق القمر،" لاستحالته بزعم الكاذب, ولا إنكار للعقل فيه؛ لأن القمر هو مخلوق, لله أن يفعل فيه ما يشاء، كما يكوره, أي: يلففه ويذهب نوره "يوم القيامة ويفنيه، انتهى".
وأما قول بعض الملاحدة: لو وقع هذا النقل متواترًا، اشترك أهل الأرض كلهم في معرفته، ولم يختص به أهل مكة؛ لأنه أمر صدر عن حس أمر محسوس بحاسة البصر، "ومشاهدة" يشبه عطف التفسير، "فالناس فيه شركاء، والدواعي متوفرة على رواية" نقل "كل غريب، ونقل ما لم يعهد، ولو كان لذلك أصل لخلد في كتب التيسير -بفوقية، فسين مهملة، فتحتيتين، فراء- أي: الهيئة, "والتتنجيم؛ إذ لا يجوز" عقلًا وعادة "إطباقهم على تركه، وإغفاله مع جلالة شأنه ووضوح أمره، فأجاب عنه الخطابي وغيره: بأن هذه القصة خرجت عن بقية "الأمور التي ذكروها؛ لأنه شيء طلبه خاص من الناس، فوقع ليلًا؛ لأن القمر لا سلطان له بالنهار، ومن شأن الليل أن يكون الناس فيه نيامًا ومستكنين في الأبنية،"(6/481)
والبارز منهم بالصحراء إذا كان يقظانًا يحتمل أن يتفق أنه كان مشغولًا في ذلك الوقت بما يلهيه من سمر وغيره. ومن المستبعد ان يقصدوا إلى مراكز القمر ناظرين إليه لا يغفلون عنه، فقد يجوز أنه وقع ولم يشعر به أكثر الناس، وإنما تصدَّى لرؤيته من اقترح وقوعه، ولعل ذلك إنما كان في قدر اللحظة التي هي مدرك البصر، وقد يكون القمر حينئذ في بعض المنازل التي تظهر لبعض الآفاق دون بعض، كما يكون ظاهر القوم غائبًا عن قوم، وكما يجد الكسوف أهل بلد دون بلد أخرى.
وقد أبدى الخطابي حكمة بالغة في كون المعجزات المحمدية لم يبلغ منها شيء مبلغ التواتر الذي لا نزاع فيه كالقرءان بما حاصله: إن معجزة كل نبي كانت إذا وقعت عامَّة أعقبت هلاك من كذَّب به من....
__________
لا يرون القمر، بل ولا السماء "والبارز منهم بالصحراء إذا كان يقظانًا يحتمل أن يتَّفق أنه كان مشغولًا في ذلك الوقت بما يلهيه من سمر" حديث الليل "وغيره, ومن المستبعد" عقلًا وعادةً "أن يقصدوا إلى مراكز القمر، ناظرين إليه لا يغفلون عنه، فقد يجوز أنه وقع ولم يشعر به أكثر الناس، وإنما تصدَّى لرؤيته من اقترح وقوعه", وقد يقع بالمشاهدة في العادة أن ينكسف القمر، وتبدو الكواكب العظام، وغير ذلك في الليل، ولا يشاهدها إلا الآحاد، وكذلك الانشقاق آية وقعت في الليل لقوم سألوا واقترحوا، فلم يتأهب لها غيرهم، كما في الفتح، تبعًا لما بسطه في الشفاء.
ولعل ذلك إنما كان في قدر اللحظة التي هي مدرك البصر، "يرد على ترجية قول ابن عباس: قدر ما بين العصر إلى الليل، كما مَرَّ، إلّا أن يحمل على أنّ الانشقاق الواقع في الابتداء كان بقدر إدراك البصر، ثم أخذ في الالتئام، فلم يتمّ، وبقي خلاء بين الفلقتين، دام قدر ما بين العصر إلى الليل، "وقد يكون القمر حينئذ في بعض المنازل التي تظهر لبعض الآفاق" النواحي "دون البعض، كما يكون ظاهر القوم غائبًا عن قوم" فقد يكون ليلة انشقاقه طالعًا بمكة دون غيرها، فلو قال غيرهم: لم نر انشقاقه تلك الليلة لم يكذبوا، "وكما يج الكسوف أهل بلد دون أهل بلد أخرى" وفي بعضها كلية، وفي بعضها جزئية، وفي بعضها لا يعرفها إلّا المدعون علمها، ذلك تقدير العزيز العليم.
"وقد أبدى الخطابي حكمة بالغة في كون المعجزات المحمدية لم يبلغ منها شيء مبلغ التواتر الذي لا نزاع فيه، كالقرآن" أي: كبلوغ القرآن. ولفظ الفتح: إلا القرآن، وكل صحيح، "بما حاصله" أن معجزة كل نبي كانت إذا وقعت عامّة أعقبت هلاك من كذب به من(6/482)
قومه، والنبي -صلى الله عليه وسلم- بعث رحمة للعاملين، فكانت معجزته التي تحدى بها عقلية، فاختص بها القوم الذي بعث منهم، لما أوتوه من فضل العقول وزيادة الإفهام، ولو كان إدراكها عامًّا لعوجل من كذب به كما عوجل من قبلهم. انتهى. وكذا أجاب ابن عبد البر بنحوه.
__________
قومه، والنبي -صلى الله عليه وسلم- بعث رحمة للعالمين" ولو كفّارًا، "فكانت معجزته التي تحدى بها عقلية، فاختص بها القوم الذين بعث منهم لما أوتوه من فضل العقول وزيادة الإفهام، ولو كان إدراكها عامًّا لعوجل من كذب به، كما عوجل من قبلهم، انتهى.
زاد الحافظ: وذكر أبو نعيم في الدلائل نحو ما ذكره الخطابي، وزاد: ولا سيما إذا وقعت الآية في كل بلدة كان عامة أهلها يومئذ الكفار، الذين يعتقدون أنها سحر، ويجتهدون في إطفاء نور الله.
قلت: وهو جيد بالنسبة إلى من سأل عن الحكمة في قلة من نقل ذلك من الصحابة، وأمَّا من سأل عن السبب في كون أهل التنجيم لم يذكروه فجوابه: إنه لم ينقل عن أحد منهم أنه نفاه، وهذا كافٍ، فإن الحجة فيمن أثبتت لا فيمن لم يوجد عنه صريح النفي، حتى إن كل مَنْ وُجِدَ منه صريح النفي يقدم عليه من وُجِدَ منه صريح الإثبات، انتهى.
"وكذا أجاب ابن عبد البر بنحوه" أي: بنحو جواب الخطابي، وقال: قد يطلع على قوم قبل طلوعه على أخرين, وأيضًا فإن زمن الانشقاق لم يطل، ولم تتوافر الدواعي على الاعتناء بالنظر إليه، ومع ذلك فقد بعث أهل مكة إلى آفاق مكة يسألون عن ذلك، فجاءت السفار، وأخبروا بأنهم عاينوا ذلك، وذلك لأن المسافرين في الليل غالبًا يكونون في ضوء القمر، ولا يخفى عليهم ذلك.
وقال القرطبي: الموانع من مشاهدة ذلك إذا لم يحصل القصد إليه غير منحصرة، ويحتمل أن الله صرف جميع أهل الأرض، غير أهل مكة وما حولها، عن الالتفات إلى القمر في تلك الساعة، ليختص بمشاهدته أهل مكة، كما اختصوا بمشاهدة أكثر الآيات، ونقلوها إلى غيرهم.
قال الحافظ: وفيه نظر؛ لأن أحدًا لم ينقل أن أحدًا من أهل الآفاق غير أهل مكة ذكروا أنهم رصدوا القمر تلك الليلة المعينة، فلم يشاهدوا انشقاقه، فلو نقل ذلك لكان الجواب الذي أبداه القرطبي جيدًا، ولكن لم ينقل عن أحد من أهل الأرض شيء من ذلك، فالاقتصار حينئذ على جواب الخطابي، ومن وافقه أوضح.(6/483)
تنبيه: ما يذكره بعض القصاص: أن القمر دخل في جيب النبي -صلى الله عليه وسلم, وخرج من كمه، فليس له أصل، كما حكاه الشيخ بدر الدين الزركشي عن شيخه العماد بن كثير.
__________
تنبيه:
"ما يذكره بعض القصاص أن القمر دخل في جيب النبي -صلى الله عليه وسلم, وخرج من كمه، فليس له أصل، كما حكاه الشيخ بدر الدين الزركشي، عن شيخه العماد بن كثير", وسبقهما لذلك النووي في الفتاوي، فإن سئل عن رجلين تنازعا في انشقاق القمر على عهده -صلى الله عليه وسلم، فقال أحدهما: انشقّ فرقتين دخلت إحداهما في كمه، وخرجت من الكم الآخر، وقال الآخر: بل نزل إلى بين يديه فرقتان، ولم يدخل في كمه، فأجاب: الاثنان مخطئان، بل الصواب، إنه انشق وهو في موضعه من السماء، وظهرت منه إحدى الشقتين فوق الشقتين فوق الجبل، والأخرى دونه، وهكذا ثبت في الصحيحين من رواية ابن مسعود -رضي الله عنه، انتهى.(6/484)
ردّ الشمس له "صلى الله عليه وسلم":
وأما رد الشمس له -صلى الله عليه وسلم, فروي عن أسماء بنت عميس أن النبي -صلى الله عليه وسلم كان يوحى إليه ورأسه في حجر علي -رضي الله عنه،.......................
__________
ردّ الشمس له -صلى الله عليه وسلم:
"وأما ردّ الشمس له -صلى الله عليه وسلم" قسيم قوله: أمّا معجزة القمر.... إلخ، تفصيلًا لقوله أولًا: وجدتها شاملة للعلوي والسفلي..... إلخ، ومن جملته القمر والشمس, "فروي عن أسماء بنت عميس، بمهملتين مصغر، الخثعمية، تزوجها جعفر بن أبي طالب، ثم أبو بكر، ثم علي، وولدت لهم، وماتت بعد علي، وهي أخت ميمونة بنت الحارث، أم المؤمنين لأمها، ووزن أسماء فعلاء عند سيبويه، وأصله، وسماء من الوسامة، أي: الحسن، فأبدلت الواو همزة، وقيل: أفعال جمع اسم.
قال التلمساني: والأوّل أولى، أي؛ لأن المسموع منع الصرف، وإن جعله كذلك يفيد أن سبب الآخذ حسنها، وأعلَّ ابن تيمية حديث أسماء هذا، بأنها كانت مع زوجها بالحبشة.
قال الشامي: وهو وهم بلا شك؛ إذ لا خلاف أن جعفرًا قدم من الحبشة هو وامرأته على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو بخيبر بعد فتحها، وقسم لهما ولأصحاب سفينتهما، "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يوحى إليه" مرة بالصهباء" "ورأسه في حجر علي -رضي الله عنه" جملة خالية وحجر مثلث(6/484)
فلم يصل العصر حتى غربت الشمس، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: أصليت يا علي؟ فقال: لا، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "اللهم إنه كان في طاعتك وطاعة رسولك، فاردد عليه الشمس"، قالت أسماء: فرأيتها غربت ثم رأيتها طلعت بعد ما غربت, ووقعت على الجبال والأرض، وذلك بالصهباء في خيبر، رواه الطحاوي في مشكل الحديث، كما حكاه القاضي عياض في.........
__________
بالحاء، بمعنى: الحضن، والأظهر: أنَّ الرأس كان على ركبته وهو نائم، فاستعمل في المفيدة للظرفية ويجعل الحضن محلًّا للرأس، تجوزًا من إطلاق اسم الشيء وهو الحجر على ما يقرب منه وهو الفخذ، وبالغ في تمكّن رأسه من فخذه، فشبَّه ذلك التمكن بالظرفية، واستعمل فيه ما يستعمل فيها استعارة تبعية، "فلم يصل" عليّ "العصر حتى غربت الشمس".
وأما المصطفى فكان قد صلاها، كما يأتي في الرواية الأخرى، "فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "أصليت يا علي؟ " استفهام تقريري ليرتب عليه الدعاء له، وإظهار المعجزة أو حقيقي، ولا يشكل بأن قلبه لا ينام لاشتغال قلبه حينئذ بالوحي، فاستغرق فيه، "قال: لا،" لأنهم كانوا لا يوقظونه، كما في الصحيح، وقد وضع رأسه في حجره, فهو عذر في إخراج الصلاة عن وقتها، ولم يصلها بنحو الإيماء، لجواز أنه لم يكن شرع حينئذ، "فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "اللهم إنه كان في طاعتك وطاعة رسولك"؛ لأنه لم يزعجه من منامه، وانتظر يقظته, وذلك تعظيم لله برعاية نبيه ولرسوله بترك ما يؤذيه، "فأردد" بفك الإدغام على إحدى اللغتين الفصيحتين, ويأتي رواية الطبراني فرد بالإدغام, وقد قرئ من يريد بالإدغام والفكّ. "عليه الشمس" أي: أعدها لمكانها الذي غربت منه ليصلي العصر في وقتها، "قالت أسماء" بنت عميس: "فرأيتها غربت، ثم رأيتها طلعت، بدعاء المحتبي "بعدما غربت ووقعت" أي: نزلت على الجبال والأرض, وذلك بالصهباء في خيبر" بعد مفارقتها لهما، فوقعت بعين مهملة، وقول الدلجي بالفاء من الوقوف، أي: لم تسر وتبيّن رجوعها إن ثبت رواية، وإلّا فالعين أوفق، لقولها: بعدما غربت، "رواه" العلامة الإمام الحافظ أحمد بن محمد، بن سالم، بن سلمة الأزدي، أبو جعفر "الطحاوي" بفتح المهملتين نسبةً لطحا قرية بصعيد مصر، على ما قاله ابن الأثير.
وردَّه السيوطي بأنه ليس منها، بل من طحطوط بقربها، فكره أن يقال الطحطوطي المصري، ابن أخت المزني، سمع يونس بن عبد الأعلى، وهارون بن سعيد، وعنه الطبراني، وغيره، وكان ثقة، ثبتًا، فقيهًا، حنفيًّا، لا مالكيًّا، كما زعم بعض، انتهت إليه رئاسة أصحاب أبي حنيفة، وله مؤلفات, ولد سنة تسع وثلاثين ومائتين، ومات سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة، "في مشكل الحديث" كتاب جليل اشتهر بالآثار من طريقين عن أسماء، "كما حكاه القاضي عياض في(6/485)
الشفاء وقال: قال الطحاوي: إن أحمد بن صالح المصري كان يقول: لا ينبغي لمن سبيله العلم التخلف عن حفظ حديث أسماء؛ لأنه من علامات النبوة. انتهى.
قال بعضهم: هذا الحديث ليس بصحيح، وإن أوهم تخريج القاضي عياض له في الشفاء عن الطحاوي من طريقين, فقد ذكره ابن الجوزي في الموضوعات وقال: إنه موضوع بلا شك, وفي سنده أحمد بن داود وهو متروك الحديث كذّاب، كما قاله الدارقطني. وقال ابن حبان: كان يضع الحديث.
قال ابن الجوزي: وقد روى هذا الحديث ابن شاهين, فذكره ثم قال: وهذا حديث باطل،............
__________
الشفاء، وقال: قال الطحاوي: إن أحمد بن صالح المصري،" أبو جعفر بن الطبري، ثقة حافظ، روى عنه البخاري وأبو داود، تكلّم فيه النسائي، بسبب أوهام له قليلة، ونقل عن ابن معين تكذيبه، وجزم ابن حبّان، بأنه إنما كذب أحمد بن صالح الشمومي، فظنَّ النسائي أنه عني ابن الطبري، مات سنة ثمان وأربعين ومائتين، وله ثمان وسبعون سنة، "كان يقول: لا ينبغي لمن سبيله" طريقه السالك فيه "العلم" أي: طلبه والاشتغال به، ومعرفة الحديث، فجعل نفس العلم طريقًا، لأنه يصل به صاحبه إلى سعادة الدارين، "التخلف عن حفظ حديث أسماء" بنت عميس، هذا الذي روته في ردّ الشمس، "لأنه من علامات النبوة" آياتها الدالة عليها؛ إذ هو معجزة عظيمة، وهذا مؤيد لصحته، فإن أحمد هذا من كبار أئمة الحديث الثقات، وحسبه أن البخاري روى عنه في صحيحه, فلا يلتفت إلى من ضعَّفه، وفي الألفية، قال:
وربما كان بغير قادح ... كالنسائي في أحمد بن صالح
"انتهى" كلام عياض.
"قال بعضهم" تعقبًا عليه: "هذا الحديث ليس بصحيح، وإن أوهم تخريج" أي: نقل "القاضي عياض له في الشفاء، عن الطحاوي من طريقين" صحته، فالمفعول محذوف، أي: بقوله: قال: وهذان الحديثان ثابتان، رواتهما ثقات، "فقد ذكره ابن الجوزي في الموضوعات، وقال: إنه موضوع بلا شك، وفي سنده أحمد بن داود، وهو متروك الحديث كذّاب، كما قاله الدارقطني، وقال ابن حبان: كان يضع الحديث.
"قال ابن الجوزي: ولقد روى هذا الحديث ابن شاهين فذكره، ثم قال" ابن الجوزي: "وهذا حديث باطل،" وليس فاعل.
قال ابن شاهين: لأن إسناده حسن، ولذا قال السيوطي تبعًا للحافظ: أخطأ ابن الجوزي،(6/486)
قال: ومن تغفَّل واضعه أنه نظر إلى صورة فضيلة، ولم يلمح عدم الفائدة فيها، وإن صلاة العصر بغيبوبة الشمس تصير قضاء، ورجوع الشمس لا يعيدها أداء. انتهى.
وقد أفرد ابن تيمية تصنيفًا مفردًا في الرد على الروافض, ذكر فيه الحديث بطرقه ورجاله وأنه موضوع، والعجب من القاضي عياض مع جلاله قدره وعلوّ خطره...................
__________
وقد نصَّ ابن الصلاح وسائر من تبعه على تساهل ابن الجوزي في كتاب الموضوعات؛ بحيث خرج عن موضوعه، لمطلق الضعف.
قال العراقي:
وأكثر الجامع فيه إذ خرج ... لمطلق الضعف عني أبا الفرج
فهذه غفلة شديدة منه، يحكم بوضع حديث في أحد الصحيحين.
"قال" ابن الجوزي: "ومن تغفَّل واضعه، أنه نظر إلى صورة فضيلة" هي رد الشمس حتى صلى عليّ العصر, "ولم يلمح عدم الفائدة فيها، وإن صلاة العصر بغيبوبة الشمس تصير قضاء، ورجوع الشمس لا يعيدها أداء، انتهى", وتعقب بأنه لا وجه له؛ لأنها فاتته بعذر مانع من الأداء، وهو عدم تشويشه على النبي، وهذه فضيلة، ودلَّ ثبوت الحديث على أنَّ الصلاة وقعت أداء. وبذلك صرَّح القرطبي في التذكرة، قال: فلو لم يكن رجوع الشمس نافعًا، وإنه يتجدد الوقت لما ردها عليه، ووجهه: إن الشمس لما عادت كأنها لم تغب، وفي الإسعاد لو غربت الشمس ثم عادت عاد الوقت أيضًا، لهذا الحديث، وتجويز حمل الغروب في كلام أسماء على الشروع فيه أو مقارنته، فيكون عودها قبل غروب الشمس، فيحصل به بقاء الوقت، فمعنى: عادت عاد ظهورها كاملة, فالوقت باقٍ حقيقة فيه، أنه لا قرينة هنا على هذا الاحتمال الصارف للفظ عن المتبادر منه, الذي حمله عليه الحفاظ المثبتون للحديث, والذين زعموا وضعه أو ضعفه، ولا دلالة في حديث جابر الآتي: أمر الشمس فتأخَّرت ساعة من نهار على أن قبل الغروب، بل الظاهر أنه بعد الغروب، بدليل قوله بعده: فزيد له في النهار ساعة، على أن حديث جابر قصة أخرى غير هذه، كما نبينه.
"وقد أفرد ابن تيمية" الحافظ أبو العباس أحمد الشهير "تصنيفًا مفردًا في الرد على الروافض، ذكر فيه هذا الحديث بطرقه ورجاله، وإنه موضوع، والعجب من القاضي عياض مع جلالة قدره" عظمته" "وعلو خطره" بفتح الخاء والطاء: علوّ قدره ومنزلته على ما في المصباح، ففيه تجريد باستعمال الخطر في مجرد القدر، أو أنه قصد المبالغة، وإن المعنى: علوّ(6/487)
في علوم الحديث كيف سكت عنه موهمًا صحته، وناقلًا ثبوته، موثقًا رجاله. انتهى.
وقال شيخنا: قال الإمام أحمد: لا أصل له، وتبعه ابن الجوزي فأورده في الموضوعات.
ولكن قد صحَّحه الطحاوي والقاضي عياض، وأخرجه ابن منده وابن شاهين من حديث أسماء بنت عميس، وابن....................................................
__________
قدره، على أن في القاموس: الخطر قدر الرجل "في علوم الحديث"؛ إذ هو من الحفَّاظ النقاد، "كيف سكت عنه موهمًا صحته، وناقلًا ثبوته، موثقًا رجاله، انتهى" ولا عجب أصلًا؛ لأن إسناد حديث أسماء حسن، وكذا إسناد حديث أبي هريرة الآتي، كما صرَّح به السيوطي قائلًا: ومن ثَمَّ صححه الطحاوي والقاضي عياض، وذكره ابن الجوزي في الموضوعات فأخطأ، كما بينته في مختصر الموضوعات، وفي النكت البديعات، انتهى. يعني: لما تقرر في علوم الحديث: أنَّ الحسن إذا اجتمع مع حسن آخر، أو تعددت طرقه ارتقى للصحة، فالعجب العجاب إنما هو من كلام ابن تيمية هذا، لا من عياض؛ لأنه الجاري على القواعد المعلومة في الألفية وغيرها، لصغار الطلبة.
ولذا قال الحافظ في فتح الباري: أخطأ ابن الجوزي بذكره في الموضوعات، وكذا ابن تيمية في كتاب الرد على الروافض في زعم وضعه، انتهى.
"وقال شيخنا" السخاوي في المقاصد: "قال الإمام أحمد: لا أصل له، وتبعه ابن الجوزي، فأورده في الموضوعات", وكذا نقل ابن كثير عن أحمد وجماعة من الحفاظ: أنهم صرّحوا بوضعه.
قال الشامي: والظاهر أنه وقع لهم من طريق بعض الكذابين، ولم يقع لهم من الطرق السابقة، وإلّا فهي يتعذّر معها الحكم عليه بالضعف، فضلًا عن الوضع، ولو عرضت عليهم أسانيدها لاعترفوا بأن للحديث أصلًا وليس بموضوع، وقال: وما مهَّدوه من القواعد، وذكر جماعة من الحفاظ له في كتبهم المعتمدة، وتقوية من قواه يرد على من حكم عليه بالوضع، انتهى.
ولذا استدرك السخاوي، زعم وضعه، فقال: "ولكن قد صححه الطحاوي، والقاضي عياض" وناهيك بهما.
"وأخرجه ابن منده، وابن شاهين من حديث أسماء بنت عميس،" بإسناد حسن، "وابن(6/488)
مردويه من حديث أبي هريرة. انتهى.
ورواه الطبراني في معجمه الكبير بإسناد حسن, كما حكاه شيخ الإسلام ابن العراقي في شرح التقريب عن أسماء بنت عميس ولفظه: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صلى الظهر بالصهباء ثم أرسل عليًّا في حاجة, فرجع وقد صلَّى النبي -صلى الله عليه وسلم- العصر، فوضع -صلى الله عليه وسلم- رأسه في حجر علي فنام، فلم يحركه حتى غابت الشمس، فقال -عليه الصلاة والسلام: "اللهم إن عبدك عليًّا احتبس بنفسه على نبيه فرد عليه الشمس"، قالت أسماء: فطلعت عليه الشمس حتى وقعت على الجبال وعلى الأرض، وقام علي فتوضأ وصلَّى العصر ثم غابت, وذلك بالصهباء.
وفي لفظ آخر: كان -عليه الصلاة والسلام- إذا نزل عليه الوحي يغشى عليه، فأنزل عليه يومًا وهو في حجر علي،
__________
مردويه من حديث أبي هريرة" بإسناد حسن أيضًا، "انتهى، ورواه الطبراني في معجمه الكبير، بإسناد حسن، كما حكاه شيخ الإسلام" قاضي القضاة "ابن العراقي" الحافظ ولي الدين "في شرح التقريب عن أسماء بنت عميس، ولفظه: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صلَّى الظهر بالصهباء، ثم أرسل عليًّا في حاجة" هي قسم غنائم خيبر، كما في رواية الطبراني أيضًا، "فرجع وقد صلَّى النبي -صلى الله عليه وسلم- العصر، فوضع -صلى الله عليه وسلم- رأسه في حجر علي، فنام فلم يحركه حتى غابت الشمس، فاستيقظ فسأله، "أصليت"؟ قال: لا: "فقال -عليه الصلاة والسلام": "اللهم إن عبدك عليًّا احتبس نفسه" امتنع من الحركة، قاصرًا نفسه "على" حفظ نبيه" وخدمته، "فردَّ عليه الشمس" كي يصلي العصر أداء، "قالت أسماء: فطلعت عليه الشمس حتى وقعت عى الجبال وعلى الأرض, وقام عليّ فتوضأ وصلَّى العصر، ثم غابت، وذلك بالصهباء.
وعند الطبراني أيضًا عن أسماء قالت: اشتغل علي مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في قسمة الغنائم يوم خيبر حتى غابت الشمس، فقال -صلى الله عليه وسلم: "يا علي أصليت العصر؟ " قال: لا يا رسول الله، فتوضأ -صلى الله عليه وسلم- في المجلس، فتكلّم بكلمتين أو ثلاثة، كأنها من كلام الحبشة، فارتجعت الشمس كهيئتها في العصر، فقام علي فتوضأ وصلَّى العصر، ثم تكلّم -صلى الله عليه وسلم- بمثل ما تكلم به قبل ذلك، فرجعت الشمس إلى مغربها، فسمعت لها صريرًا كالمنشار في الخشبة، وطلعت الكواكب، وبهذا الحديث أيضًا بان أنَّ الصلاة ليست قضاء، بل يتعين الأداء, وإلا لم يكن للدعاء فائدة.
"وفي لفظ آخر" عند الطبراني أيضًا في الكبير: "كان -عليه الصلاة السلام- إذا نزل عليه الوحي يغشى عليه", ويعرف ذلك حاضروه، "فأنزل عليه يومًا، وهو في حجر علي،(6/489)
فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم: "صليت العصر؟ " قال: لا، يا رسول الله, فدعا الله فرد عليه الشمس حتَّى صلى العصر، قالت أسماء: فرأيت الشمس طلعت بعد ما غابت حين ردت حتى صلى العصر علي.
قال: وروى الطبراني أيضًا في معجمه الأوسط بإسناد حسن عن جابر، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمر الشمس فتأخَّرت ساعة من نهار.
وروى يونس بن بكير في زيادات المغازي عن ابن إسحاق، مما ذكره القاضي عياض: لما أسري بالنبي -صلى الله عليه وسلم, وأخبر قومه بالرفقة والعلامة التي في العير، قالوا: متى تجيء؟ قال: "يوم الأربعاء"................................................
__________
فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم" لما سرَّي: "صليت العصر" قال: لا" أي: لم أصله، "يا رسول الله، فدعا الله" بكلمتين أو ثلاثة، "فردَّ عليه الشمس حتى صلى العصر، قالت أسماء: فرأيت الشمس طعلت بعد ما غابت، حين ردت، حتى صلى العصر علي", ومن القواعد أن تعدّد الطرق يفيد أن للحديث أصلًا، ومن لطائف الاتفاقات الحسنة أن أبا المظفر الواعظ ذكر يومًا قريب الغروب فضائل علي, ورد الشمس له، والسماء مغيمة غيمًا مطبقًا، فظنّوا أنها غربت, وهموا بالانصراف، فأصحت السماء ولاحت الشمس صافية الإشراق، فأشار إليهم بالجلوس، وقال ارتجالًا:
لا تغربي يا شمس حتى ينتهي ... مدحي لآل المصطفى ولنجله
واثني عنانك إذا أردت ثناءهم ... أنسيت إذ كان الوقوف لأجله
إن كان للمولى وقوفك فليكن ... هذا الوقوف لخيله ولرجله
"قال" ابن العراقي: "وروى الطبراني أيضًا في معجمه الأوسط، بإسناد حسن، عن جابر" بن عبد الله: "أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمر الشمس" أن لا تغرب حتى تقدم عير قريش التي رآها ليلة الإسراء، وأخبرهم بأنها تقدم يوم كذا، وولّى النهار ولم تجئ، "فتأخَّرت ساعة من نهار" إلى أن قدمت, فهذه قصة أخرى كانت وهو بمكة قبل الهجرة، كما حمله الحافظ ابن حجر مؤيدًا به الحديث المنقطع المذكور، بقوله: "وروى يونس بن بكير" بن واصل الشيباني، أبو بكر الكوفي، صدوق، روى له مسلم، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه، والبخاري تعليقًا، مات سنة تسع وتسعين ومائة، "في زيادات المغازي، عن" شيخة محمد "بن إسحاق" بن يسار، إمام المغازي، "مما ذكره القاضي عياض" في الشفاء: "لما أسري بالنبي -صلى الله عليه وسلم, وأخبر قومه بالرفقة" -مثلث الراء: الجماعة المترافقين في السفر, ولا يذهب اسم الرفيق إلّا بالتعرف والعلامة التي في العير" هي أن يتقدَّمها جمل أو رق، "قالوا: متى تجيء؟ قال: "يوم الأربعاء" بتثليث(6/490)
فلمَّا كان ذلك اليوم أشرفت قريش ينتظرون، وقد ولَّى النهار ولم تجئ، فدعا رسول الله -صلى الله عليه وسلم, فزيد له في النهار ساعة, وحبست عليه الشمس.
وهذا يعارضه ما في الحديث الصحيح: لم تحبس الشمس على أحد إلّا ليوشع بن نون،.......
__________
الباء والكسر أَوْلَى، كما في المحكم وغيره -ممدود والهمزة مفتوحة على الثلاث، وحكى ابن هشام، فتح الهمزة، وكسر الهمزة، وفتح الباء، وقال: هذه أفصح اللغات، فلمَّا كان ذلك اليوم" بالرفع والنصب، والأول أولى؛ لأنه نعت فاعل كان التامة بمعنى وجد، "أشرقت" بمعجمة، وراء مهملة وراء مهملة وفاء, "قريش" أي: قامت على شرف, وهو المكان المرتفع لتنظر العير قادمة أم لا، "ينتظرون" حال أو مستأنف, أي: يترقَّبون قدوم عيرهم في اليوم الموعود، وقد ولَّى النهار،" قارب ذلك اليوم أن يتم ويدخل الليل بغروب الشمس، "ولم تجئ" العير "فدعا رسول الله -صلى الله عليه وسلم" سأله ربه أن يمد له ذلك اليوم حتى تجيء العير قبل انقضائه، "فزيد له في النهار ساعة، "ذلك أنه "حُبِسَت عليه الشمس" أمسكها الله بقدرته وعوَّقها عن سيرها المعتاد حتى قدمت العير قبل غروبها، وعورض هذا بما ورد، واقتصر عليه البيضاوي والزمخشري أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "يقدمها جمل أورق عليه غرارتان مخططتان، تطلع عليكم عند طلوع الشمس"، فخرجوا ينتظرون طلوعها، فقال قائل منهم: هذه الشمس قد طلعت, فقال آخر: وهذه الإبل قد طلعت يقدمها.... إلخ، فقالوا: إن هذا إلّا سحر مبين.
وعند ابن أبي حاتم: فلمَّا كان ذلك اليوم، أي: الذي قال إنهم يأتون فيها أشرف الناس ينتظرون، حتى إذا كان قرب نصف النهار أقبلت لعير يقدمهم ذلك الجمل، كما وصف -صلى الله عليه وسلم، ولا معارضة؛ لأنه مرَّ بعيرين، بل بثلاثة، وكان إحداها تأخرت.
روى ابن مردويه والطبراني، عن أم هانيء, قالوا: أخبرنا عن عيرنا، قال: "أتيت على عير بني فلان بالروحاء قد أضلّوا ناقة لهم، فانطلقوا في طلبها، فانتهيت إلى رحالهم، فليس بها منهم أحد، وإذا قدح ماء فشربت منه, ثم انتهيت إلى عير بني فلان بمكان كذا وكذا، فيها جمل عليه غرارتان، غرارة سوداء وغرارة بيضاء، فلا حاذيت العير نفرت، وصرع ذلك البعير وانكسر، ثم انتهيت إلى عير بني فلان بالتنعيم، يقدمهم حمل أورق عليه مسح أسود وغرارتان سوداوان" الحديث.
"وهذا يعارضه ما في الحديث الصحيح" الذي أخرجه أحمد برجال الصحيح: "لم تحبس الشمس على أحد" لفظ أحمد عن أبي هريرة، قال -صلى الله عليه وسلم: "إن الشمس لم تحبس لبشر إلا ليوشع" بالشين المعجمة، ومهملة "ابن نون" مجرور بالإضافة منصرف على الأصح, وإن(6/491)
يعني: حين قاتل الجبارين يوم الجمعة, فلمَّا أدبرت الشمس خاف أن تغيب قبل أن يفرغ منهم, ويدخل السبت فلا يحلّ لهم قتالهم فيه، فدعا فردّ عليه الشمس حتى فرغ من قتالهم.
قال الحافظ بن كثير فيه: إن هذا كان من خصائص يوشع، فيدل على ضعف الحديث الذي رويناه أن الشمس رجعت حتى صلَّى علي بن أبي طالب العصر، وقد صحَّحه أحمد بن صالح المصري، ولكنه منكر، ليس في شيء من الصحاح والحسان، وهو مما تتوفر الدواعي على نقله، وتفرَّدت بنقله امرأة من أهل البيت مجهولة لا يعرف حالها. انتهى.
__________
كان أعجميًّا لسكون وسطه، كنوح ولوط ونون ابن افرايم بن يوسف، كان يوشع يخدم موسى ويتبعه، ولذا سمَّاه الله فتاه، وبقية رواية أحمد: ليالي سار إلى بيت المقدس. وأخرجه الخطيب في تاريخه من حديث أبي هريرة، بلفظ: "ما حبست الشمس على بشر قطّ إلا على يوشع، ليالي سار إلى بيت المقدس" ,"يعني: حين قاتل الجبارين يوم الجمعة" بعد موت موسى وهارون في التيه، وكان رحمة لهما، وعذابًا لأولئك، وسأل موسى ربه أن يدنيه من الأرض المقدَّسة رمية حجر، فأدناه، كما في الحديث، ونبيء يوشع عند الأربعين، وأمر بقتال الجبارين، فسار بمن بقي معه وقاتلهم يوم الجمعة، "فلمَّا أدبرت الشمس،" قاربت الغروب, "خاف أن تغيب قبل أن يفرغ منهم ويدخل السبت فلا يحل لهم قتالهم فيه، فدعا الله، فردّ عليه الشمس" ساعة "حتى فرغ من قتالهم", ويقال: كان علم النجم صحيحًا قبل، فلمّا وقفت ليوشع بطل أكثره، ولما ردت لعلي بطل جميعه.
"قال الحافظ ابن كثير فيه: إن هذا كان من خصائص يوشع" وبه اشتُهر، حتى قال أبو تمام في قصيدة:
فو الله ما أدري أأحلام نائم ... ألمت بنا أم كان في الركب يوشع
"فيدل على ضعف الحديث الذي رويناه، أنَّ الشمس رجعت حتى صلى علي بن أبي طالب العصر، وقد صححه أحمد بن الح المصري، ولكنه منكر" أي: ضعيف؛ إذ المنكر من أقسامه، "ليس في شيء من الصحاح والحسان" ممنوع لوروده من طرق ثلاثة حسان، كما مَرَّ، وتقرَّر أنه يرتقي بذلك للصحة، وهو مما تتوفر الدواعي على نقله" لغرابته، "وتفرَّدت بنقله امرأة من أهل البيت، مجهولة لا يعرف حالها" فيه نظر أيضًا، فقد رواه جماعة وتعددت طرقه، كما بينه في النكت، وتلخيص الموضوع، وسبل الهدى وغيرهم، "انتهى" كلام ابن كثير، ولم يثبت في كل النسخ، بل بعضها.(6/492)
ويحتمل الجمع بأن المعنى: لم تحبس على أحد من الأنبياء غيري إلّا ليوشع بن نون.
وكذا روى حبس الشمس لنبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- أيضًا يوم الخندق، حين شغل عن صلاة العصر، فيكون حبس الشمس مخصوصًا بنبينا وبيوشع، كما ذكره القاضي عياض في الإكمال، وعزاه لمشكل الآثار، ونقله النووي في شرح مسلم في باب حلّ الغنائم عن عياض، وكذا نقله الحافظ بن حجر في باب الأذان من تخريج أحاديث الرافعي, ومغلطاي في الزهر الباسم، وأقروه.
وتعقب: بأن الثابت في الصحيح وغيره: أنه -صلى الله عليه وسلم- صلى العصر في وقعة الخندق بعد ما غربت الشمس. كما سبق في غزوتها.
وذكر البغوي في تفسيره:.................................................
__________
ويحتمل الجمع، بأن المعنى: لم تحبس على أحد من الأنبياء غيري، إلّا ليوشع بن نون،" نحوه قال الحافظ: الحصر محمول على الماضي للأنبياء قبل نبينا، وليس فيه أنها لا تحبس بعد الماضي، انتهى. وهو متعين لدفع التعارض بين الحديثين، ومثله كثير في الأحاديث، كقوله: "لم يتكلم في المهد إلّا ثلاثة"، فالحصر إضافي، وجمع أيضًا بأن خبر يوشع في حبسها قبل الغروب، وخبر عليّ في ردها بعده، وبأنه قال قبل قصة خيبر.
"وكذا روي حبس الشمس لنبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- أيضًا يوم الخندق حين شغل عن صلاة العصر، فيكون على هذا "حبس الشمس مخصوصًا بنبينا وبيوشع", بناء على أنها لم تحبس لغيرهما، لصحة خبريهما، دون غيرهما مما يأتي، "كما ذكره" أي: حبسها يوم الخندق "القاضي عياض في الإكمال" شرح مسلم له، "وعزاه لمشكل الآثار" للطحاوي، "ونقله النووي في شرح مسلم في باب حل الغنائم عن عياض" وأقرَّه "وكذا نقله الحافظ ابن حجر في باب الأذان من" كتابه "تخريج أحاديث الرافعي، ومغلطاي في الزهر الباسم، في سيرة المصطفى أبي القاسم، وأقرّوه", لكنه في فتح الباري قال: لم أقف عليه في مشكل الآثار، إنما فيه حديث أسماء المار" فإن قلت: فهي قصة أخرى ثالثة.
"وتعقّب بأن الثابت في الصحيح وغيره, أنه -صلى الله عليه وسلم- صلى العصر في وقعة الخندق بعدما غربت الشمس، كما سبق في غزوتها" وأجيب، بأنه كان في يوم آخر؛ إذ وقعة الخندق كانت أيامًا، "وذكر البغوي في تفسيره" بلفظ: حكي عن علي، أن معنى ردوها علي، يقول سليمان يأمر الله الملائكة الموكلين بالشمس يردها، فردوها حتى صلّى العصر وقتها، وذلك أنه(6/493)
إنها حبست لسليمان -عليه السلام؛ لقوله: {رُدُّوهَا عَلَيَّ} [ص: 33] . ونوزع فيه بعدم ذكر الشمس في الآية، فالمراد: الصافنات الجياد والله أعلم.
قال القاضي عياض: واختلف في حبس الشمس المذكور هنا، فقيل: ردت على أدراجها, وقيل: وقفت ولم ترد، وقيل: بطء حركتها. قال: وكل ذلك من معجزات النبوة. انتهى.
__________
كان يعرض عليه الخيل الجياد غدوة حتى توارت بالحجاب, فاختصره المصنف، فقال: "إنها حبست لسليمان -عليه السلام- أيضًا؛ لقوله: {رُدُّوهَا عَلَيَّ} ونوزع فيه بعدم ذكر الشمس في الآية, فالمراد الصافنات:" الخيل الجياد, وأجيب بأنه لو ثبت، عاد الضمير للشمس لعلمها، وإن لم يجر لها ذكر، كقوله تعالى: {حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} الآية.
قال الحافظ: لكنه غير ثابت, وجاء أيضًا أنها حبست عن الطلوع لموسى، ففي المبتدأ لابن إسحاق عن عروة: أنه تعالى أمر موسى أن يحمل تابوت يوسف، فلم يدلّ عليه حتى كاد الفجر يطلع، وكان وعدهم بالسير عند طلوع الفجر، فدعا ربه أن يؤخّر الفجر حتى يفرغ ففعله.
قال الحافظ: وتأخير طلوع الفجر يستلزم تأخير طلوع الشمس؛ لأنه ناشئ عنها، فلا يقال: الحصر إنما وقع في يوشع بطلوع الشمس، فلا يمنع حبس الفجر لغيره، قال: وأخرج الخطيب في كتاب ذم النجوم عن عليّ قال: سأل قوم يوشع أن يطلعهم على بدء الخلق وآجالهم، فأراهم ذلك في ماء من غمامة أمطرها الله عليهم، فكان أحدهم يعلم متى يموت, فبقوا على ذلك إلى أن قاتلهم داود على الكفر، فأخرجوا إلى داود من لم يحضر أجله، فكان يقتل من أصحاب داود ولا يقتل منهم, فشكا إلى الله ودعاه، فحبست عليه الشمس، فزيد في النهار، فاختلطت الزيادة الليل والنهار، فاختلط عليهم حسابهم، وإسناده ضعيف جدًّا، انتهى، والله أعلم" بصحة ذلك كله في نفس الأمر وضعفه.
"قال القاضي عياض: واختلف في حبس الشمس المذكور هنا، فقيل: ردت على أدراجها" أي: أحوالها التي كانت تسير عليها نهارًا، "وقيل: وقفت ولم ترد", قال البرهان: وه ظاهر قوله: فحبست, "وقيل" بطء حركتها" قال ابن بطال: وهو أَوْلَى الأقوال، قال" عياض: وكل ذلك من معجزات النبوة. انتهى".
قال بعض شراح مسلم: والشمس أحد الكواكب السيارة، وحركتها مترتبة على حركة الفلك بها، فحبسها على التفاسير المذكورة إنما هو لحبس الفلك لا حبسها في نفسها، انتهى.(6/494)
تسبيح الطعام والحصى في كفِّه الشريف "صلى الله عليه وسلم":
وأمَّا ما روي من طاعات الجمادات وتكليمها له بالتسبيح والسلام ونحو ذلك مما وردت به الأخبار، فمنها تسبيح الطعام والحصا في كفة الشريف -صلى الله عليه وسلم.
فخرج محمد بن يحيى الذهلي في الزهريات قال: أخبرنا أبو اليمان قال: أنبأنا شعيب عن الزهري قال: ذكر الوليد بن سويد أن رجلًا من بني سليم كبير السن كان ممن أدرك أبا ذر بالربذة: عن أبي ذر قال: هجرت.............................................
__________
تسبيح الطعام والحصى في كفِّه الشريف "صلى الله عليه وسلم":
"وأمَّا ما روي من طاعات" أي: انقياد "الجمادات" جمع جماد، وهو ما لا روح له؛ كالحجر والشجر، والمراد: جنسها لا جميعها، "وتكليمها" خطابها "له بالتسبيح والسلام، ونحو ذلك" كمجيء الشجر له، "مما وردت به الأخبار".
"فمنها" أي: مما روي من الطاعات، "تسبيح الطعام والحصا" لف ونشر غير مرتب وهو أَوْلَى، وفي نسخة: تقديم الحصا على الطعام، "في كفّه الشريف -صلى الله عليه وسلم " أي: قول سبحانه الله، "فخرَّج محمد بن يحيى بن عبد الله الذهلي -بضم الذال المعجمة وإسكان الهاء وباللام- النيسابوري الحافظ، روى عن أحمد، وإسحاق، وابن المديني وخلق، وعنه البخاري.
قال أبو بكر بن أبي داود: كان أمير المؤمنين في الحديث.
وقال الخطيب: كان أحد الأئمة العارفين والحفاظ المتقنين، والثقات المأمونين، مات سنة ثمان وخمسين ومائتين، "في الزهريات" -بزاي وراء- كتاب.
قال الخطيب: جمع فيه حديث الزهري وجوده، وكان ابن حنبل يثني عليه، ويشكر فضله.
"قال: أخبرنا أبو اليمان" الحكم -بفتحتين- ابن نافع البهراني -بفتح الموحدة- الحمصي، مشهور بكنيته، ثقة، ثبت من رجال الجميع, يقال: إنَّ أكثر حديثه عن شعيب مناولة، مات سنة اثنتين وعشرين ومائتين، "قال: أنبأنا شعيب" بن أبي حمزة، دينار الأموي، مولاهم الحمصي، ثقة عابد، روى له الجماعة.
قال ابن معين: من أثبت في الزهري، مات سنة اثنتين وستين ومائة أو بعدها، "عن الزهري" محمد بن شهاب، العلم المنشور، "قال: ذكر الوليد بن سويدان أن رجلًا من بني سليم -بضم السين- "كبير السن كان ممن أدرك أبا ذر بالربذة -بفتح الراء والموحدة، والذال المعجمة- قرية قرب المدينة، كانت عامرة أول الإسلام، ذكر له "عن أبي ذر" الغفاري، "قال: هجرت" -بفتح الهاء وشد الجيم- سرت وقت الهاجرة, وهي اشتداد الحر نصف النهار،(6/495)
يومًا من الأيام, فإذا النبي -صلى الله عليه وسلم- قد خرج من بيته, فسألته عنه الخادم, فأخبرني أنه ببيت عائشة، فأتيته وهو جالس ليس عنده أحد من الناس، وكأنِّي حينئذ أرى أنه في وحي، فسلمت عليه فردَّ السلام، ثم قال: "ما جاء بك" , قلت: جاءني الله ورسوله، فأمرني أن أجلس, فجلست إلى جنبه، لا أسأله عن شيء ولا يذكره لي، فمكثت غير كثير، فجاء أبو بكر يمشي مسرعًا فسلّم عليه، فردَّ عليه السلام، ثم قال: "ما جاء بك؟ " قال: قلت: جاء بي الله ورسوله، فأشار بيده أن أجلس، فجلس إلى ربوة مقابل النبي -صلى الله عليه وسلم, ثم جاء عمر ففعل مثل ذلك، وقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مثل ذلك، وجلس إلى جنب أبي بكر, ثم جاء عثمان كذلك, وجلس إلى جنب عمر، ثم قبض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على حصيات سبع أو تسع أو ما قرب من ذلك، فسبحن في يده، حتى سمع لهنّ حنين كحنين النحل....................................
__________
"يومًا من الأيام، فإذا النبي -صلى الله عليه وسلم- قد خرج من بيته" الذي كنت أعهد جلوسه فيه، لا ينافي قوله: "فسألت عنه الخادم، فأخبرني أنه ببيت عائشة" إذ بيتها بيته, وهو لم يعين بيته الأول الذي خرج منه.
وفي رواية البيهقي وابن عساكر عن أبي ذكر, كنت أتتبع خلواته -صلى الله عليه وسلم, فرأيته يومًا خاليًا فاغتنمت خلوته "فأتيته وهو جالس عنده أحد من الناس، وكأني حينئذ أرى" بالضم أظن "أنه في وحي" أي: استماعه، وفي نسخة: إنه وحي, ومعناها: وأرى أن ما هو مشغول به وحي, "فسلمت عليه، فردَّ السلام، ثم قال: "ما جاء بك؟ " قلت: جاءني الله ورسوله" أي: حبهما، "فأمرني أن أجلس، فجلست إلى جنبه لا أساله عن شيء، ولا يذكره لي, فمكثت غير كثير, فجاء أبو بكر يمشي مسرعًا، فسلَّم عليه فردَّ عليه السلام, ثم قال: "ما جاء بك" قال: قلت: جائني الله ورسوله، فأشار بيده أن اجلس" بفتح الهمزة، وكسر النون، ووصل همزة اجلس، وهي أن المفسرة؛ لأنها سبقت بجملة فيها معنى القول دون حروفه، وبعدها جملة "فجلس إلى ربوة" بتثليث الراء: ما ارتفع من الأرض، كما في القاموس وغيره، "مقابل النبي -صلى الله عليه وسلم, ثم جاء عمر ففعل مثل ذلك، وقال له: يا رسول الله مثل ذلك، وجلس إلى جنب أبي بكر، وفي رواية البيهقي وابن عساكر، وجلس عن يمين أبي بكر، "ثم جاء عثمان كذلك، وجلس إلى جنب عمر" أي: عن يمينه، كما في رواية، ثم قبض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على حصيات" جمع حصاة، "سبع أو تسع أو ما قرب من ذلك،" بالشك من الراوي، ويأتي الجزم بسبع في رواية البزار ومن معه, فالشك ممن دون أبي ذر، "فسبَّحن في يده" بأن قلن: سبحان الله، حتى سمع لهنَّ حنين" تصويت "كحنين" تصويت "النحل" بالمهملة، وهو(6/496)
في كف رسول الله -صلى الله عليه وسلم, ثم وضعهنَّ وناولهنَّ أبا بكر، وجاوزني، فسبَّحن في كف أبي بكر، ثم أخذهن منه فوضعهن في الأرض, فخرسن وصرن حصى، ثم ناولهنَّ عمر، فسبحن في كفه، كما سبَّحن في كف أبي بكر", وناولهن عثمان فسبحن في كفه، كنحو ما سبَّحن في كف أبي بكر وعمر، ثم أخذهنَّ فوضعهن في الأرض فخرسن.
وقال الحافظ بن حجر: قد اشتهر على الألسنة تسبيح الحصى. ففي حديث أبي ذر: تناول النبي -صلى الله عليه وسلم- سبع حصيات فسبحن في يده حتى سمعت لهن حنينًا، ثم وضعهن في يد أبي بكر فسبحن، ثم وضعهن في يد عمر فسبحن، ثم وضعهن في يد عثمان فسبحن. أخرجه البزار، والطبراني في الأوسط.
__________
تشبيه في علوّ الصوت فقط، فلا يردّ أن دون النحل ليس بألفاظ مفهومة، وتسبيح الحصى بألفاظ علم الحاضرون أنها تسبيح، ويأتي كلّ منها متكلم باعتبار خلق الكلام فيها حقيقة، خرقًا للعادة، "في كف رسول الله -صلى الله عليه وسلم, ثم وضعهنّ" بالأرض فخرسن، ثم أخذهن، "وناولهن أبا بكر" كما في رواية البيهقي وغيره، والمخرج متّحد، ففيه هنا اختصار، "وجاوزني، فسبَّحن في كف أبي بكر" حتى سمعت لهن حنينًا كحنين النحل، كما عند البيهقي وغيره "ثم أخذن منه، فوضعهن في الأرض، فخرسن وصرن حصى" لا تسبيح فيه "ثم" تناولهن، أي: من الأرض، وناولهن عمر، فسبّحن في كفه، كما سبحن في كَفِّ أبي بكر", وللطبراني والبيهقي: حتى سمعت لهن حنينًا كحنين النحل، "وناولهن عثمان فسبَّحن في كفه كنحو ما سبَّحن في كف أبي بكر وعمر" وللطبراني والبيهقي: حتى سمعت لهن حنينًا كحنين النحل، "ثم أخذهن، فوضعن في الأرض فخرسن", فقال -صلى الله عليه وسلم: "هذه خلافة النبوة" كما في رواية البيهقي والطبراني وغيرهما، وبه يعلم وجه مجاوزته -صلى الله عليه وسلم- لأبي ذر، مع أنه كان أقرب إليه منهم في المجلس؛ لأنه ليس من الخلفاء.
وقال الحافظ ابن حجر" في فتح الباري في شرح حديث: كنا نسمع تسبيح الطعام "قد اشتهر على الألسنة تسبيح الحصى، ففي حديث أبي ذر: تناول النبي -صلى الله عليه وسلم- سبع حصيات" بسين قبل الموحدة، "فسبَّحن في يده حتى سمعت لهن حنينًا، ثم وضعهنَّ في يد أبي بكر، بعد وضعهن في الأرض "فسبحنَّ، ثم وضعهنَّ في يد عمر فسبّحن، ثم وضعهن في يد عثمان فسبَّحن. أخرجه البزار والطبراني في الأوسط، والبيهقي في الدلائل، وابن عساكر في التاريخ، وعندهم أنه سمع لهن حنينًا كحنين النحل، وقت كونهن مع الخلفاء الثلاثة، كالنبي -صلى الله عليه وسلم, فالحافظ اختصره.(6/497)
وفي رواية الطبراني: فسمع تسبيحهنَّ من في الحلقة، ثم دفعهنَّ إلينا فلم يسبحن مع أحد منَّا، قال البيهقي في "الدلائل": كذا رواه صالح بن أبي الأخضر, ولم يكن بالحافظ, عن الزهري عن سويد بن يزيد السلمي عن أبي ذر.
والمحفوظ ما رواه شعيب بن أبي حمزة عن الزهري قال: ذكر الوليد بن سويد أن رجلًا من بني سليم كان كبير السن. انتهى.
__________
وفي رواية الطبراني: فسمع تسبيحهنَّ من في الحلقة" بسكون اللام وفتحها لغة، "ثم دفعهنَّ إلينا فلم يسبحن مع واحد منَّا", ولم يذكر عليًّا, فإن كان تسبيحها مع غيره -صلى الله عليه وسلم- مخصوصًا بالخلفاء فهو خليفة، كابنه الحسن أيضًا، فيحتمل أنه لم يكن حاضرًا، أو لأنَّ خلافته أدركت الفتنة, على أن مثله لا يشين مقامه مع ما له من المناقب، كما قاله بعض شراح الشفاء، واستظهر بعضهم تعدد الواقعة؛ لأن الرواية الأولى تقتضي أنه لم يكن ثَمَّة غير أبي ذر، والثانية تقتضي أنه حضرها جماعة من الصحابة؛ لقوله في رواية ابن عساكر، من حديث أنس بعد عثمان, ثم وضعهنَّ في أيدينا رجلًا رجلًا فما سبحت حصاة منهنّ. وعلى كليهما لم يحضر علي معهم, فقيه إشارة إلى عدم امتداد خلافته استقلالًا -رضي الله عنه, وفيه: إن الأصل عدم التعدد، لا سيما مع المخرج الذي هو أبو ذر، عن أنس لا يقتضي تعدد القصة؛ إذ هي قصة واحدة رواها اثنان، وكون متقضى حديث أبي ذر أنه لم يكن غيره ثمة، ومقتضى حديث أنس: أن حضرها جمع لا يقتضي التعدد أيضًا؛ لأنه من اختلاف الرواية بالزيادة والنقص، وقد صرَّح الحافظ وغيره بأنَّ تسبيح الحصى إنما له هذه الطريق الواحدة، مع ضعفها.
"قال البيهقي في الدلائل" النبوية: "كذا رواه صالح بن أبي الأخضر" اليمامي، مولى هشام بن عبد الملك نزل البصرة, ضعيف يعتبر به، مات بعد الأربعين ومائة، روى له الأربعة، كما في التقريب, وسقط في نسخ المصنف لفظ أبي قبل الأخضر، مع أنه في الفتح عن البيهقي، بلفظ: أداة الكنية، وهو الصواب، ولم يكن بالحافظ، وإن روى "عن الزهري عن سويد بن يزيد السلمي عن أبي ذر. والمحفوظ ما رواه شعيب بن أبي حمزة" نافع، وروى عنه ابن مهدي ومسلم، وكان يخدم الزهري، فقد لينه البخاري واسمه دينار، عن الزهري، قال: ذكر الوليد بن سويد، أن رجلًا من بني سليم كان كبير السن" ممن أدرك أبا ذر بالربذة، ذكر له عن أبي ذرك، "انتهى".
وذكر ابن الحاجب عن بعض الشيعة: إنه انشقاق القمر، وتسبيح الحصى، وحنين الجذع، وتسليم الغزالة، مما نقل آحادًا مع توفر الدواعي على نقله، ومع ذلك لم تكذب رواتها, وأجاب بأنه استغنى عن نقلها تواترًا بالقرآن، وأجاب غيره: بمنع نقلها آحادًا، وعلى تسليمه، فمجموعها(6/498)
وليس لحديث تسبح الحصى إلّا هذه الطريق مع ضعفها، لكنه مشهور عند الناس.
وما أحسن قول سيدي محمد وفي:
لسبحة ذاك الوجه قد سبح الحصا ... ومن سخ سحب الكف قد سبح الرعد
وقول الآخر:
يا حبدا لو لثمت كفًّا ... قد سبحت وسطها الحصاء
وقد أخرج البخاري من حديث ابن مسعود:....................
__________
يفيد القطع، والذي أقول: إنها كلها مشتهرة عند الناس.
أما من حيث الرواية، فليست على حد سواء، فحنين الجذع وانشقاق القمر، نقل كلٌّ منهما نقلًا مستفيضًا يفيد القطع عند من يطّلع على طرق ذلك من أئمة الحديث دون غيرهم, ممن لا ممارسة له في ذلك.
وأما تسبيح الحصى فليس له إلّا هذا الطريق الواحدة مع ضعفها.
وأما تسليم الغزالة، فلم أجد له إسنادًا لا من وجه قوي، ولا من وجه ضعيف، ذكره الحافظ عقب كلام البيهقي، بلفظ:
فائدة: فاقتصر منه المصنف على قوله: "وليس لحديث تسبيح الحصى إلّا هذه الطريق الواحدة، وكأنه لم يعتبر طريق صالح لقول البيهقي: إنها غير محفوظة وإلا فهما طريقان, طريق صالح وطريق شعيب, وإن اتحد المخرج, لكن يرد عليه أنَّ ابن عساكر أخرجه عن أنس فهي طريق ثانٍ، لاختلاف المخرج، وإن اتحدت القصة, "مع ضعفها, لكنه مشهور عند الناس", وذلك يجبر ضعف الطريق، وما أحسن قول سيدي محمد وفي: لسبحة "بضم السين: بهاء ونور, "ذاك الوجه" النبوي "قد سبح الحصى" دلالة على صدقه, "ومن سخ" بفتح السين وشد الخاء المهملتين: صب وسيلان, "سحب" جمع سحاب, "الكف" أي: ومن أجل عطاياه المشبه للماء الكثير الذي يصبّه السحاب, "قد سبّح الرعد" دلالة على كماله -صلى الله عليه وسلم, "وقول الآخر: يا حبذا لو لثمت كفًّا قد سبحت وسطها" بالسكون "الحصاء" بالمد للضروة على أحد القولين في جواز مد المقصور, وفي نسخة الحصاة أي: جنسها, وفي نسخة الحصباء بزيادة باء, وهي تحريف, ينزحف به البيت.
وقد أخرج البخاري في علامات النبوة, والترمذي في المناقب, من حديث ابن مسعود قال: كنا نعد الآيات بركة، وأنتم تعدونها تخويفًا, كنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في سفر, فقلَّ الماء، فقال: "اطلبوا فضلة من ماء" فجاؤا بإناء فيه ماء قليل, فأدخل يده في الإناء ثم قال:(6/499)
كنَّا نأكل مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الطعام، ونحن نسمع تسبيح الطعام.
وعن جعفر بن محمد عن أبيه قال: مرض النبي -صلى الله عليه وسلم, فأتاه جبريل بطبق فيه رمان وعنب فأكل منه النبي -صلى الله عليه وسلم- فسبح. رواه القاضي عياض في "الشفاء"............
__________
"حيّ على الطهور المبارك، والبركة من الله"، فلقد رأيت الماء ينبع من بين أصابعه -صلى الله عليه وسلم، ولقد كنَّا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل. هذا لفظ البخاري.
وأما قوله: "كنَّا نأكل مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الطعام ونحن نسمع تسبيح الطعام"، فهو لفظ الترمذي، فتسامح المؤلف بعزوه للبخاري وإتيانه بلفظ الترمذي، فلو عزاه لهما لسهل ذلك، وقد قال الحافظ وتبعه المصنف، قوله: كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل، أي: في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- غالبًا، ووقع ذلك عند الإسماعيلي صريحًا من الوجه الذي أخرجه من البخاري، بلفظ: كنا نأكل مع النبي -صلى الله عليه وسلم- الطعام، ونن نسمع تسبيح الطعام، زاد الحافظ: وله شاهد عند البيهقي، كان أبو الدرداء وسلمان إذا كتب أحدهما إلى الآخر، قال: بآية الصحفة، وذلك أنهما بينا هما يأكلان في صحفة إذ سبحت وما فيها. انتهى. ولأبي الشيخ عن أنس: أتى -صلى الله عليه وسلم- بطعام ثريد، فقال: "إن هذا الطعام يسبح" قالوا: أوتفقه تسبيحه؟ قال: "نعم"، ثم قال لرجل: "أدن هذه القطعة من هذا الرجل" فأدناها، فقال: نعم يا رسول الله، هذا الطعام يسبّح، ثم قال: "ردها" فردها. وظاهر هذين الحديثين أنه كان يسبح وهو في الإناء، وظاهر حديث البخاري أنه كان يسبح بعد وضعه في الفم، ولا مانع منهم، ثم هذا كله مما يستأنس به؛ لأن معنى قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} الآية. تسبيح حقيقي بلسان المقال لا بلسان الحال, ويشهد له قوله: {وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} الآية. إذ لو كان بلسان الحال لفهمناه, وفي قوله: كنَّا دليل على تكرّره، وأنه وقع مرارًا عديدة، وهو آية للنبي -صلى الله عليه وسلم- أعظم من تسبيح الجبال مع داود، وفهم نطق الطير لسليمان.
"وعن جعفر" الصادق "بن محمد، عن أبيه" محمد الباقر بن علي، زين العابدين بن الحسين، بن علي بن أبي طالب، "قال" محمّد: "مرض النبي -صلى الله عليه وسلم، فأتاه جبريل بطبق،" أي: وعاء مجازًا، وإن كان الطبق لغة الغطاء؛ لأنه على هيئته، "فيه رمّان وعنب" من الجنة على الظاهر، وزعم أنهما من الدنيا، إذ لو كانا من الجنة لم يفنيا، لقوله: {أُكُلُهَا دَائِمٌ} لا يسمع، الآية؛ لأن ذاك في يوم القيامة، "فأكل منه النبي -صلى الله عليه وسلم, أي: فأراد الأكل منه؛ إذ تناوله بيده لا بعد الأكل؛ كقوله: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا} [المائدة: 6] كذا لبعض, "رواه" أي: ذكره القاضي عياض في الشفاء" بلا إسناد تعليقًا.
قال السيوطي: ولم أجده في كتب الحديث، يعني: المشهورة، فلا ينافي اطّلاع عياض(6/500)
ونقله عنه الحافظ أبو الفضل في فتح الباري.
واعلم أن التسبيح من قبيل الألفاظ الدالة على معنى التنزيه, واللفظ يوجد حقيقة ممن قام به اللفظ، فيكون في غير من قام به مجازًا، فالطعام والحصا والشجر ونحو ذلك، كلّ منهما متكلم باعتبار خلق الكلام فيها حقيقة، وهذا من قبيل خرق العادة.
وفي قوله: "ونحن نسمع تسبيحة" تصريح بكرامة الصحابة بسماع هذا التسبيح وفهمه, وذلك ببركته -صلى الله عليه وسلم.
ومن ذلك تسليم الحجر عليه -صلى الله عليه وسلم:.....................................
__________
عليه، "و" من ثَمَّ "نقله عنه الحافظ أبو الفضل في فتح الباري" في شرح حديث ابن مسعود.
"واعلم: أن التسبيح من قبيل الألفاظ الدالة على معنى التنزيه، واللفظ يوجد حقيقة ممن قام به اللفظ،" وهو الحيوان الناطق، "فيكون في غير من قام به مجازًا" علاقته المشابهة في النطق، "فالطعام والحصى والشجر ونحو ذلك، كل منهما متكلم باعتبار خلق الكلام", وهذا من قبيل خرق العادة"؛ إذ خلق الله فيها النطق بما تنزهه به، لا أنه عبارة عن أحد كان يسبح حين أحضر الطعام أو الحصيات ونحوهما؛ لأنه خروج عن الظاهر بلا دليل، وخوارق العادات لا تقاس بالمعهودات.
"وفي قوله: ونحن نسمع تسبيحه، تصريح بكرامة الصحابة بسماع هذه التسبيح وفهمه،" مع أنه ليس بمعهود"وذلك ببركته -صلى الله عليه وسلم"؛ حيث سرَّى سرَّه إليهم، وهي أعظم من معجزة داود -عليه السلام- في تسبيح الجبال معه؛ لأنها لم تسبح بيده، بخلاف نبينا، فسبَّحت بيده, ويد من أراده من أمته، وتسبيح الطعام أعظم منهما؛ إذ لم يعهد مثله، والجبال قد وصفت بالخضوع والخشوع، ومن فهم سليمان منطق الطير؛ لأنه ناطق في الجملة بخلاف الطعام، والله أعلم.
"ومن ذلك تسليم الحجر عليه -صلى الله عليه وسلم" قال ابن سيد الناس: يحتمل أن يكون هذا التسليم حقيقة، ويكون الله أنطقه بذلك، كما خلق الحنين في الجذع، ويحتمل أن يكون مضافًا إلى ملائكة يسكنون هناك من باب: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} الآية. فيكون من مجاز الحذف، وهو علم ظاهر من أعلام نبوّته على كلا التقريرين، انتهى، وبالأوّل جزم النووي، فقال في شرح مسلم: سلامه حقيقة، وقيل في قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} الآية. أنه(6/501)
خرج مسلم من حديث جابر بن سمرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "إني لأعرف حجرًا بمكة كان يسلّم علي قبل أن أبعث، إني لأعرفه الآن".
وقد اختلف في هذا الحجر، فقيل: هو في الحجر الأسود، وقيل: هو حجر غيره بزقاق يعرف به بمكة، والناس يتبركون بلمسه، ويقولون: إنه هو الذي كان يسلّم على النبي -صلى الله عليه وسلم- متى اجتاز به.
وقد ذكر الإمام أبو عبد الله، محمد بن رشيد -بضم الراء- في رحلته..................
__________
حقيقة بتمييز يخلقه الله تعالى، ونقله الأبي وأقرّه.
"خرَّج مسلم من حديث جابر بن سمرة" صحابي بن صحابي، نزل الكوفة ومات بها بعد سنة سبعين، "قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "إني لأعرف حجرًا بمكة كان يسلّم عليّ" أي: يقول: السلام عليك يا رسول الله، "قبل أن أبعث، إني لأعرفه الآن" , استحضار لمشاهدته حتى كأنه يسمع سلامه الآن. قاله عياض، وتأكيده بأن، وتنكيره إشارة إلى أن له شأنًا خاصًّا به، وأنه حجر ليس كسائر الحجارة، ولذا روي أنه الحجر الأسود، فلا يقال: لا فائدة في ذكر حجر واحد، مع أنه كان لا يمر بحجر ولا شجر إلّا سلم عليه.
"وقد اختُلِفَ في هذا الحجر، فقيل: هو في الحجر الأسود", كما روي في بعض المسندات، قاله في الروض والعيون، وقال في الإكمال، وفي غير مسلم: كانوا يرونه الحجر الأسود، انتهى. فصرَّحوا بأنه رواية، ولا ينافيه قوله: "إني لأعرفه الآن"؛ إذ الحجر الأسود يشاركه في معرفته جميع الناس؛ لأن المراد: إني لأستحضر ذلك ولم أنسه، حتى كأني أسمع سلامه الآن، كما ذكره عياض.
"وقيل: هو حجر غيره بزقاق يعرف به" أي: بزقاق الحجر "بمكة" وزقاق المرفق، والناس يتبركون بلمسه، ويقولون: إنه هو الذي كان يسلم على النبي -صلى الله عليه وسلم- متى اجتاز به", ولكن الأول أصح؛ لأنه رواية، "وقد ذكر الإمام عبد الله محمد بن رشيد -بضم الراء،" مصغر رشد، نسبة لجده الأعلى؛ إذ ومحمد بن عمر بن محمد بن عمر بن محمد بن إدريس بن سعيد بن مسعود بن حسن بن محمد بن عمر بن رشيد الفهري، السبتي، ولد بها سنة سبع وخمسين وستمائة، وكان إمامًا حافظًا متضلعًا من العلوم، عالي الإسناد، صحيح النقل، أخذ عن خلق بالمغرب، والشام، والحجاز, ضمنهم رحلته، وعاد إلى غرناطة فنشر بها العلم، ومات بفاس سنة إحدى وثلاثين وسبعمائة، "في رحلته" التي سماها: ملء العيبة، وهي ست مجلدات.(6/502)
مما ذكره في "شفاء الغرام" عن علم الدين أحمد بن أبي بكر بن خليل قال: أخبرني عمّي سليمان قال: أخبرني محمد بن إسماعيل بن أبي الصيف، قال: أخبرني أبو حفص الميانشي قال: أخبرني كلّ من لقيته بمكة أن هذا الحجر -يعني المذكور- هو الذي كلّم النبي -صلى الله عليه وسلم.
وروى الترمذي والدارمي والحاكم وصحّحه، عن علي بن أبي طالب قال: كنت أمشي مع النبي -صلى الله عليه وسلم- بمكة, فخرجنا في بعض نواحيها، فما استقبله شجر ولا حجر إلّا قال: السلام عليك يا رسول الله.
__________
مما ذكره في شفاء الغرام" في تاريخ البلد الحرام، للحافظ تقي الدين محمد بن أحمد الشريف الفاسي، "عن علم الدين أحمد بن أبي بكر بن خليل" العسقلاني، "قال: "أخبرني عمي سليمان قال: أخبرني محمد بن إسماعيل" بن عبد الله، بن أبي الصيف -بصاد مهملة- اليمنى، سمع بمكة أبا نصر عبد الرحمن اليوسفي، والمبارك بن الطباخ وطبقتهما.
قال الذهبي: كان عارفًا بالمذهب, وحصل كثيرًا من الكتب، وله نكت على التنبيه، مشتملة على فوائد، وجمع أربعين حديثًا عن أربعين شيخًا، من أربعين مدينة، سمع الكل بمكة، وكان على طريقة حسنه، وسيرة جميلة وخير، مات بمكة في ذي الحجة سنة سبع، وقيل: ست وستمائة.
"قال: أخبرني أبو حفص الميانشي" نسبة إلى ميانش، قال في المراصد -بالفتح وتشديد الثاني- أي: التحتانية، فألف، فنون مكسورة، وشين معجمة، قرية من قرى المهدية فيها ماء عذب، إذا قصر الماء بالمهدية، استجلب منها.
"قال: أخبرني كلّ من لقيته بمكة أن هذا الحجر، يعني المذكور" في كلام ابن رشيد من أنه الحجر المبني في الجدار، المقابل لدار أبي بكر، المشهورة بسوق الليل، "هو الذي كلّم النبي -صلى الله عليه وسلم", لكنه وإن اشتهر لا يعادل الأول لأنه رواية.
"وروى الترمذي" وقال: حسن غريب، والدارميّ والحاكم، وصحّحه عن علي بن أبي طالب، قال: كنت أمشي مع النبي -صلى الله عليه وسلم- بمكة، فخرجنا في بعض نواحيها، وفي الشفاء عن علي: فخرج إلى بعض نواحيها، فما استقبله شجر ولا حجر، إلّا قال" له كلّ منهما: "السلام عليك يا رسول الله! " بأن خلق الله فيه نطقًا، وإن لم يكن معه حياة؛ لأنه لا تلازم بينهما كما سبق، لكن قال بعض الظاهر: إنه كان فيه حياة أيضًا، وهذا كما قاله ابن إسحاق: كان في بدء النبوة تطمينًا لقلبه، وتبشيرًا له، بانقياد الخلق له بعد ذلك، وإجابتهم لدعوته.(6/503)
وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "لما استقبلني جبريل بالرسالة جعلت لا أمرُّ بحجر ولا شجر إلا قال: السلام عليك يا رسول الله ". رواه البزار وأبو نعيم.
وعن جابر بن عبد الله قال: لم يكن النبي -صلى الله عليه وسلم- يمر بحجر ولا شجر إلّا سجد له. رواه.
ومن ذلك: تأمين أسكفة الباب وحوائط البيت على دعائه -عليه الصلاة والسلام، عن أبي أسيد الساعدي قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للعباس بن عبد المطلب: "يا أبا الفضل،......
__________
"وعن عائشة -رضي الله تعالى عنها- قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "لما استقبلني جبريل" أي: نزل عليّ وأتاني "بالرسالة، جعلت" , أي: صرت "لا أمر بحجر ولا شجر، إلا قال: السلام عليك يا رسول الله" , وأمر بقربه الحجر كيف ينكره البشر، "رواه البزار وأبو نعيم،" وثبت حديث عائشة هنا في نسخ، وسقط في أخرى، ويأتي للمصنف قريبًا إعادته مع حديث عليّ قبله في قوله: ومن ذلك كلام الشجر ولا تكرار، لأنه ساقهما هنا استدلالًا على تسليم الحجر، وثَمَّة على كلام الشجر.
"وعن جابر بن عبد الله" رضي الله عنهما، "قال: لم يكن النبي -صلى الله عليه وسلم" في ابتداء بعثته "يمر بحجر ولا شجر إلّا سجد له", أي: انخفض حتى مسَّ الأرض على هيئة السجود، تواضعًا له تعظيمًا وتكريمًا، كما سجدت الملائكة لآدم، والسجود لغير الله إنما يمتنع من البشر، "رواه" بيض بعده، وقد رواه البيهقي في الدلائل عن جابر بلفظه، ومثله لا يقال رأيًا، فيحتمل أنه سمعه من النبي -صلى الله عليه وسلم، كحديث عائشة قبله، ويحتمل من غيره ممن شاهد ذلك، لا أنَّه من باب الكشف، كما زعم بعض؛ إذ لا دخل له في الأحاديث، ولا أنه شاهد ذلك؛ لأنه في ابتدا بعثته ولم يكن جابر حينئذ معه، "ومن ذلك تأمين أسكفة" بضم الهمزة والكاف، بينهما مهملة ساكنة، ثم فاء ثقيلة مفتوحة، فهاء: عتبة "الباب" العليا، وقد تستعمل في السفلى، والجمع: إسكفات، "وحوائط البيت:" جمع حائط، أي: جدرانه المحيطة بجوانبه ونواحيه، "على دعائه -عليه الصلاة والسلام، عن أبي أسيد" بضم الهمزة وفتح المهملة، مالك بن ربيعة "الساعدي" مشهور بكنيته، شهد بدرًا وغيرها، ومات سنة ثلاثين، وقيل بعد ذلك، حتى قال المدائني: مات سنة ستين، قال: وهو آخر من مات من البدريين.
"قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للعباس بن عبد المطلب: "يا أبا الفضل" كنيته باسم أكبر(6/504)
لا ترم منزلك أنت وبنوك غدًا حتى آتيكم، فإن لي فيكم حاجة" , فانتظروه حتى جاء بعد ما أضحى، فدخل عليهم فقال: "السلام عليكم"، فقالوا: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته، قال: "كيف أصبحتم؟ " قالوا: أصبحنا بخير بحمد الله تعالى، فقال لهم: "تقاربوا"، فتقاربوا يزحف بعضهم إلى بعض حتى إذا أمكنوه اشتمل عليهم بملاءته, فقال: "يارب هذا عمي وصنو أبي، وهؤلاء أهل بيتي فاسترهم من النار كستري إياهم بملاءتي هذه"، قال: فأمَّنت أسكفة الباب وحوائط البيت فقالت: آمين آمين آمين. رواه البيهقي في الدلائل وابن ماجه مختصرًا.
ومن ذلك كلامه....................................................................
__________
أولاده، "لا ترم" بفتح القوفية وكسر الراء، قال ابن الأثير, أي: لا تبرح، يقال: رام يريم إذا برح، أي: زال من مكانه، وأكثر ما تستعمل في النفي, "منزلك" , وأورده في النهاية: لا ترم من منزلك، بزيادة من "أنت وبنوك غدًا" وهم الفضل، وعبد الله، وعبيد الله، وقتم، ومعبد، وعبد الرحمن، كما بينه ابن السري في روايته، ذكره المصنف في المقصد السابع، فإسقاط بعضهم معبدًا وعبد الرحمن تقصير، والاعتذار عنه بأنه لعله بيان للحاضرين حينئذ، لا يصح المخالفة المروي أن الحاضرين الستة المذكورين، وهم من أم الفضل، "حتى آتيكم فإن لي فيكم حاجة"، منفعة أوصلها لكم، وجعلها له لشدة رأفته بهم، أو أوحي إليك بذلك، فهي له، "فانتظروه حتى جاء بعدما أضحى، فدخل عليهم، فقال: "السلام عليكم"، فقالوا: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته، قال: "كيف أصبحتم؟ " قالوا: أصبحنا بخير بحمد الله تعالى، فقال لهم: "تقاربوا" فتقاربوا، يزحف بعضهم إلى بعض، حتى إذا أمكنوه" من أنفسهم، بحيث اتصلوا به، "اشتمل" استولى "عليهم", وأحاط بهم وضمهم "بملاءته" بضم الميم، ولام، وهمزة والمدء, وهي: الإزار والملحفة، وقيل: الملاءة الإزار له شقتان، فإن كان له شقة واحدة فريطة -براء وطاء مهملتين، فقال: "يارب هذ عمي وصنوا أبي" بكسر المهملة، أي: قرينه، ومثله في الشفقة علي، "وهؤلاء أهل بيتي" أي: منهم, "فاسترهم من النار" امنعهم من دخولها وارتكاب ما يوجب عذابها، فهو مجاز عن ذلك؛ إذ الستر ما يمنع المستور ويحجبه، وشبه بعد التجوز، قوله: "كستري إياهم بملاءتي هذه" , قال: فأمَّنت -بفتح الهمزة، والميم الشديدة, "أسكفه الباب وحوائط البيت، فقالت: آمين آمين آمين،" ثلاثًا في نسخ, ومثله في ابن كثير والشامي.
وفي نسخ مرتين، ومثله في الشفاء، وهو إمَّا على التوزيع، أي: قالت الأسكفة: آمين، والحوائط آمين، وإمَّا أن كل واحد منهما كرَّر آمين، تأكيدًا وتحقيقًا للمقال؛ إذ قد يغفل عن مثله.
"رواه البيهقي في الدلائل" النبوية مطولًا، "وابن ماجه مختصرًا، ومن ذلك كلامه(6/505)
للجبل وكلام الجبل له -صلى الله عليه وسلم، عن أنس قال: صعد النبي -صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر وعمر وعثمان أحدًا، فرجف بهم، فضربه النبي -صلى الله عليه وسلم- برجله وقال: "اثبت أحد، فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان". رواه أحمد والبخاري والترمذي وأبو حاتم.
قال ابن المنير: قيل: الحكمة في ذلك أنه لما رجف أراد الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن يبين أن هذه الرجفة ليست من جنس رجفة الجبل بقوم موسى..........................
__________
للجبل" بقوله: "اثبت" اسكن ونحوهما،" وكلاهما الجبل" بقوله: "اهبط" إلخ ... ، "له -صلى الله عليه وسلم", وعد هذا من طاعات الجمادات له، من حيث أنه -صلى الله عليه وسلم- لما خاطبه انقاد له حتى علم ما قال واستقرَّ بأمره، وبهذا يطابق الترجمة, "عن أنس" بن مالك "قال: صعد" بكسر العين: علا "النبي -صلى الله عليه وسلم- أحدًا" بضمتين، وقد يسكن ثانية، وقيل: إنه ضرورة جبل بالمدينة، مرَّ الكلام عليه في المغازي، هكذا عدى، صعد بنفسه في رواية البخاري في مناقب أبي بكر وعثمان، وله في فضل عمر: صعد النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى أحد، فعدَّاه بإلى، وكلاهما جائر، ويعدَّى أيضًا بفي، كما في اللغة، "وأبو بكر" وفي مناقب عثمان وعمر: ومعه أبو بكر وعمر وعثمان", هكذا الرواية في البخاري في المواضع الثلاثة، وفي غيره أيضًا، بتقديم أحدًا على قوله: وأبو بكر، فما في كثير من نسخ المصنف من تأخير قوله: أحدًا عن عثمان، خلاف الرواية، "فرجف" بفتح الراء والجيم، تحرك واضطرب "بهم" أحد، "فضربه -صلى الله عليه وسلم- برجله،" تسميته ضربًا حقيقة؛ إذ الضرب إمساس جسم جسمًا بعنف، وبعضهم قيِّدَ الممسوس بكونه حيوانًا، فيكون مجازًا تنزيل للجبل منزلة الحيوان؛ لكون صار يحس ويفهم ما يقوله المصطفى له، "وقال: "اثبت" أمر من الثبات، لفظ البخاري في مناقب الشيخين، ولفظه في مناقب عثمان: "اسكن أحد"، منادى حذفت أداته، أي: يا أحد، ونداؤه وخطابه يحتمل المجاز والحقيقة، لكن الظاهر الحقيقة، فحمله عليها أولى، كقوله: "أُحد جبل يحبنا ونحبه" , ويؤيده ضربه برجله، قاله الحافظ والمصنّف، "فإنما عليك نبي وصديق"، أبو بكر، "وشهيدان" عمر وعثمان، وللبخاري في مناقب عمر: "فما عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد"، وأو للتنويع، فقيل: أو بمعنى الواو، وقيل: تغيير الأسلوب للإشعار بمغايرة الحال؛ لأن صفتي النبوة والصديقية كانتا حاصلتين بخلاف صفة الشهادة، فإنها لم تكن وقعت حينئذ، قاله الحافظ، "رواه أحمد" في المسند، "والبخاري، والترمذي" كلاهما في المناقب، وكذا النسائي، "وأبو حاتم" وأبو داود في السنة.
"قال ابن المنير: قيل الحكمة في" قوله -صلى الله عليه وسلم "ذلك القول: "أنه لما رجف" بابه قتل، "أراد الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن يبين أن هذه الرجفة ليست من جنس رجفة الجبل بقوم موسى" لما أمره أن يأتيه بسبعين من بني إسرائيل، فاختار من كل سبطة ستة، فزاد اثنان، فقال: ليتخلف(6/506)
لما حرَّفوا الكلم، وإن تلك رجفة الغضب، وهذه هزة الطرب، ولهذا نص على مقام النبوة والصديقية والشهادة التي توجب سرور ما اتصلت به لا رجفانه، فأقرَّ الجبل بذلك فاستقرَّ، انتهى.
وأحد: جبل بالمدينة، وهو الذي قال فيه: "أحد جبل يحبنا ونحبه"، رواه البخاري ومسلم.
واختلف في المراد بذلك، فقيل: أراد به أهل المدينة..............................
__________
منكم رجلان فتشاجروا، فقال: إن لمن قعد أجر من خرج، فقعد كالب ويوشع، وذهب مع الباقين، فلما دنوا من الجبل غشيه غمام، فدخله موسى بهم، وخروا سجدًا، فسمعوه يكلم موسى، يأمره وينهاه، ثم انكشف الغمام، فقالوا: {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} ، فأخذتهم الرجفة، أي: الصاعقة، أو رجفة الجبل، فصعقوا منها، أي: ماتوا.
"لما حرفوا الكلم، وإن تلك" الواقعة لقوم موسى، "رجفة الغضب" عليهم، "وهذه هزة" بكسر الهاء وشد الزاي، نشاط وارتياح "الطرب:" الفرح والخفة اللاحقة من السرور، "ولهذا نصَّ على مقام النبوة، والصديقية، والشهادة التي توجب سرور ما اتصلت به لا رجفانة،" بفتحتين: اضطرابه الشديد، "فأقَرَّ" أي: أثبت النبي -صلى الله عليه وسلم "الجبل بذلك" القول، "فاستقرَّ:" ثبت، انتهى" كلام ابن المنير.
ويرد عليه أن كونه أراد بيان ذلك لا يظهر مع قوله: فإنما عليك؛ لأنه نهي عن تلك الحالة، فلو كانت فرحًا لأقرَّه وما نهاه، بل قد يقتضي ذلك زيادة فرحه، فتزداد هزته.
والجواب: إنه أراد تسكينه خشية الضرر لأصحابه، لئلّا يتولد منه ضرر، والذي يظهر لي أنه أراد لومه على فعله؛ لأنه وإن كان فرحًا، لكن فيه ترك الأدب مع من عليه، ويدل لذلك التعليل بقوله: "فإنما عليك.... " إلخ. وقد قيل: سبب تحركه مهابته -صلى الله عليه وسلم، أو خوف الجبل من الله، أو أنه لزللة اتفقت عند صعودهم عليه.
"وأحد جبل بالمدينة" على أقل من فرسخ منها؛ لأنَّ بين أوله وبين بابها المعروف بباب البقيع ميلين وأربعة أسباع ميل، تزيد قليلًا، كما حرره السمهودي، "وهو الذي قال فيه: "أحد جبل" خبر موطيء لقوله: "يحبنا ونحبه" حقيقة؛ لأن جزاء من يحب أن يحب، وزاد في رواية أحمد: "وهو من جبال الجنة"، "رواه البخاري ومسلم" عن أنس، والبخاري أيضًا عن سهل، وفي رواية لهما أيضًا: أن أحدًا، "واختلف في المراد بذلك، فقيل: أراد به أهل المدينة".(6/507)
كما قال تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} أي: أهلها، قاله الخطابي، وقال البغوي فيما حكاه الحافظ المنذري: الأولى إجراؤه على ظاهره، ولا ينكر وصف الجمادات بحب الأنبياء والأولياء، وأهل الطاعة، كما حنت الأسطوانة على مفارقته -صلى الله عليه وسلم- حتى سمع الناس حنينها إلى أن سكنها، وكما أخبر أن حجرًا كان يسلم عليه قبل الوحي، فلا ينكر أن يكون جبل أحد وجميع أجزاء المدينة تحبه وتحن إلى لقائه حال مفارقته أيها. انتهى.
وقال الحافظ المنذري: هذا الذي قاله البغوي جيد.
وعن ثمامة....................................
__________
الأنصار؛ لأنهم جيران أحد، فهو من مجاز الحذف، "كما قال تعالى"، {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} الآية، "أي: أهلها، قاله الخطابي".
قال الشاعر:
وما حب الديار شغفن قلبي ... ولكن حب من سكن الديارا
"وقال البغوي: فيما حكاه الحافظ المنذري: الأولى إجراؤه على ظاهره، من أنه حب حقيقي من الجبل، ورجَّحه النووي وغيره، "ولا ينكر وصف الجمادات" التي هي سبب دعوى المجاز، لعدم عقلها "بحب، الأنبياء والأولياء وأهل الطاعة" عطف عام على خاص، "كما حنت الأسطوانة" بضم الهمزة، والطاء والنون، أصلية عند الخليل، فوزنها أفعواله، وزائدة عند بعضهم، والواو أصل، فوزنها: افعلانة، والمراد بها: الجذع الذي حن له، كما يأتي على مفارقته صلى الله عليه وسلم" لما تركها وخطب على المنبر، فخار كما يخور الثور، "حتى سمع الناس حنينها إلى أن سكنها،" كما يأتي تفصيله، "وكما أخبر أن حجرا كان يسلم عليه، بمكة "قبل الوحي" كما مر قريبا، فلا ينكر أن يكون جبل أحد وجميع أجزاء المدينة تحبه" قيقة، "وتحن إلى لقائه حال مفارقته إياها، انتهى".
"وقال الحافظ المنذري: وهذا الذي قاله البغوي جيد"؛ لأن فيه إبقاء اللفظ على حقيقته الذي هو الأصل، ورفع توهم بقائه على حقيقته، وقد صحَّحه النووي وغيره، فوضع الله الحب في الجبل، كما وضع التسبيح في الجبال مع داود، والخشية في الحجارة، حيث قال: {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [البقرة: 74] ، وقمت لذلك مزيدًا في غزوة أحد.
"وعن ثمامة" بمثلثة مضمومة، وميمين خفيفتين، ابن شراحيل اليماني، مقبول، من أواسط التابعين، روى له أبو داود والترمذي والنسائي، وروايته له في الكبرى، كما في التقريب وغيره،(6/508)
عن عثمان بن عفان أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان على ثبير مكة، ومعه أبو بكر وعمر وأنا, فتحرك الجبل حتى تساقطت حجارته بالحضيض، فركضه برجله وقال: "اسكن ثبير, فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان" خرَّجه النسائي والترمذي والدارقطني.
والحضيض: القرار من الأرض عند منقطع الجبل.
وركضه برجله: أي: ضربه بها.
وعن أبي هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان على حراء هو وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير، فتحركت الصخرة، فقال -صلى الله عليه وسلم: "اسكن حراء، فما عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد".
__________
ووهم من زعم أنه ثمامة بن أثال الصحابي؛ لأنه لا حديث له في الكتب الستة.
"عن عثمان بن عفان, أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان على ثبير" بمثلثة مفتوحة، وموحدة مكسورة، وتحتية ساكنة وراء مهملة: جبل بالمزدلفة على يسار الذاهب إلى مِنَى "مكة" احترز عن غيره، فإن ثبير متعدد، "ومعه أبو بكر، وعمر، وأنا،" أي: عثمان الراوي، "فتحرَّك الجبل" تحركًا قويًّا "حتى تساقطت حجارته بالحضيض -بمهملة وضادين معجمتين بينهما تحتية ساكنة، "فركضه" ضربه -صلى الله عليه وسلم "برجله، وقال: "اسكن ثبير" منادى بحذف الأداة، "فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان" خرجه النسائي والترمذي والدارقطني.
والحضيض: القرار من الأرض عند منقطع الجبل." كما قيد ب الصحاح ومختاره، وأسقط القاموس عند منقطع الجبل، وهو بفتح الطاء؛ حيث ينتهي إليه، طرفه اسم معنى، أي: مصدر ميميى، أما بكسر الطاء فالشيء نفسه اسم عين، وركضه برجله، أي: ضربه بها، يقال: ركض البعير إذا ضربه برجله، وأصل الركض تحريك الرجل، ومنه: {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ} ، كما في الصحاح.
"وعن أبي هريرة: "أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان على حراء هو وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير، فتحرَّكت الصخرة" التي هي موضع وقوفهم، أو سمي الجبل بتمامه صخرة، "فقال -صلى الله عليه وسلم: "اسكن حراء" منادى بحذف الأداة "فما عليك إلا نبي، أو صديق، أو شهيد" وهم من بعد الصديق، فإن كلا قتل شهيدًا، كما مَرَّ مفصَّلًا في الكتاب، وعبَّر بأو، بتقدير: فما كل أحد ممن عليك، وإلّا حد الدائر لا يخرج عن الثلاثة، ولا يقتضي وصف كل واحد بالثلاثة؛ إذ وصف النبوة قاصر على المصطفى، ولعلَّ حكمة أو هنا الإشارة إلى أن الأمر بالسكون يكفي فيه كل واحد بانفراده لشرف كل، وجمع فيما مر بالواو، لبيان الواقع.
وركضه برجله أي ضربه بها.
وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان على حراء هو وأبو بكر وعمر وعثمان وعلى وطلحة والزبير، فتحركت الصخرة، فقال صلى الله عليه وسلم: اسكن حراء، فما عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد.(6/509)
وفي رواية: وسعد بن أبي وقاص، ولم يذكر عليًّا. خرجهما مسلم وانفرد بذلك.
وخرّجه الترمذي في مناقب عثمان، ولم يذكر "سعدًا", وقال: "اهدأ" مكان "اسكن" وقال: حديث صحيح.
وخرجه الترمذي أيضًا عن سعيد بن زيد, وذكر أنه كان عليه العشرة إلّا أبا عبيدة، وقال: اثبت حراء.
وكذا رواه الخلعي عنه بنحوه، ولم يذكر أبا عبيدة بن الجراح. ورواه أيضًا إسحاق البغدادي في ما رواه الكبار عن الصغار، والآباء عن الأبناء، ولله در..........................
__________
وفي رواية: وسعد بن أبي وقاص" مالك الزهري، وسعد لم يستشهد بل مات بقصره بالعقيق قرب المدينة، فحمل على رقاب الرجال، ودفن بالبقيع، فلا يبعد أنه استشهد بسبب غير القتل، "ولم يذكر عليًّا معهم في هذه الرواية، وإن كان شهيدًا، فالمتحصّل من الروايتين ذكر سعد وعلي معًا، "خرجهما" أي: الروايتين عن أبي هريرة "مسلم، وانفرد بذلك" المذكور منهما عن البخاري.
"وخرجه الترمذي في مناقب عثمان، ولم يذكر سعدًا" بل عليًّا، فرجحت رواية مسلم الأولى على الثانية، "وقال: "اهدأ حراء" بالهمزة والجزم بالأمر، "مكان "اسكن" وهو بمعناه، قال الجوهري: هدأ: سكن، "وقال: حديث صحيح، وخرَّجه الترمذي أيضًا عن سعيد بن زيد، وذكر أنه كان عليه العشرة، فعدَّ نفسه فيهم ولم يقتل، فيحمل على أنه استشهد بغير القتل، "إلّا أبا عبيدة" بن الجراح، "وقال: أثبت حراء" أمكان اسكن أو اهدأ.
"وكذا رواه الخلعي" بكسر ففتح, نسبة إلى الخِلَع؛ لأنه كان يبيعها لملوك مصر, أبو الحسن علي بن الحسين، الموصلي الأصل، المصري, المولود بها في محرم سنة خمس وأربعمائة, الفقيه الصالح، له كرامات وتصانيف، أعلى أهل مصر إسنادًا، جمع له أحمد بن الحسين الشيرازي عشرين جزأ خرجها عنه، وسماها الخلعيات، ومات في سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة، وتقدم ذلك أيضًا عنه" عن سعيد بن زيد "بنحوه" بنحو رواية الترمذي، "ولم يذكر أبا عبيدة بن الجراح" أيضًا، كما لم يذكره الترمذي، "ورواه أيضًا إسحاق" بن إبراهيم بن يونس المنجنيقي، أبو يعقوب الوراق "البغدادي", نزيل مصر، ثقة حافظ، مات سنة أربع وثاثمائة، وعنه النسائي "في" كتاب "ما رواه الكبار عن الصغار" والأصل فيه رواية النبي -صلى الله عليه وسلم- عن تميم خبر الجساسة، "والآباء عن الأبناء" وهو نوع مهم من فوائده، أمن انقلاب السند، "ولله در(6/510)
القائل:
ومال حراء تحته فرحًا به ... فلولا مقال "اسكن" تضعضع وانقضى
وحراء وثبير: جبلان متقابلان معروفان بمكة.
واختلاف الروايات يحمل على أنها قضايا تكررت. قاله الطبري وغيره.
لكن صحح الحافظ ابن حجر: أنه "أحد" قال: ولولا اتحاد المخرج لجوزت تعدد القصة، ثم ظهر لي أن الاختلاف فيه من سعيد، فإني وجدته في مسند الحارث بن أبي أسامة عن روح بن عبادة فقال فيه: "أحد" بالشك. وقد أخرجه أحمد من حديث بريدة بلفظ: حراء, وإسناده صحيح. وأخرجه أبو يعلى من حديث سهل بن سعد بلفظ "أحد", وإسناده صحيح, فقوي احتمال تعدد القصة.
__________
القائل: ومال حراء تحته" بالمد، وفي نسخة: ومال حراء من تحته، فحراء بالقصر وبالصرف عليهما، وتقدَّم أن لغاته جمعت في بيت:
حرا وقبا ذكر وأنثهما معًا ... ومد أو اقصر واصرفنّ وامنع الصرف
"فرحًا به، فلولا مقال" أي: قول النبي -صلى الله عليه وسلم- له: "اسكن"، تصحيح:" انهدم حتى الأرض، "وانقضى" ذهبت آثاره فلم يبق منه شيء".
"وحراء وثبير جبلان متقابلان" أي: أحدهما مقابل الآخر في الجملة، لا بقيد التحاذي، وهو الاستواء في المقابلة، فلا ينافي أن حراء أقرب إلى مكة من ثبير، "معروفان بمكة، واختلاف الروايات يحمل على أنها قضايا" وقائع "تكررت، قاله الطبري وغيره" فيكون وقف على كل من أحد وحراء وثبير، وتحرك كل وخاطبهم بذلك جمعًا بين الروايات لصحة جميعها.
"لكن صحح الحافظ ابن حجر" في أول كلامه، ثم رجع عنه في آخره، "أنه أحد" حيث قال:" صعد أحدًا، ولمسلم وأبي يعلي من وجه آخر: حراء، والأول أصح، "ولولا اتحاد المخرج" وهو أنس "لجوَّزت تعدد القصة, ثم ظهر لي أن الاختلاف فيه من سعيد" بن أبي عروبة، راوي الحديث عن قتادة، عن أنس, "فإني وجدته في مسند الحارث بن أبي أسامة عن روح بن عبادة" بن العلاء بن حسان البصري، ثقة من رجالهم، عن سعيد بن أبي عروبة، "فقال فيه: أحد وحراء بالشك، وقد أخرجه أحمد من حديث بريدة"، بن الخصيب الصحابي، "بلفظ حراء، وإسناده صحيح، وأخرجه أبو يعلى من حديث سهل بن سعد بلفظ أحمد, وإسناده صحيح، فقوى احتمال تعدد القصة"؛ إذ لا وجه لإعمال بعض الروايات، وطرح بعضها مع صحة جمعيها.(6/511)
وأخرج مسلم من حديث أبي هريرة ما يؤيد تعدد القصة، فذكر أنه كان على حراء, ومعه الجماعة المذكورون هنا, وزاد معهم غيرهم.
ولما طلبته -عليه الصلاة والسلام- قريش, قال له ثيبر: اهبط يا رسول الله إني أخاف أن يقتلوك على ظهري فيعذبني الله تعالى، فقال له حراء: إليَّ يا رسول الله. رواه في "الشفاء" وهو حديث مروي في الهجرة من السير.
وحراء مقابل لثبير، والوادي بينهما، وهو على يسار السالك إلى مني، وحراء قبلي قبير مما يلي شمال الشمس.
وهذه الواقعة غير واقعة ثور في خبر الهجرة. هذا هو الظاهر والله أعلم.
__________
"وأخرج مسلم من حديث أبي هريرة ما يؤيده تعدد القصة، فذكر أنه كان على حراء، ومعه الجماعة المذكورون هنا" في حديث أنس، وهم العمران وعثمان، "وزاد معهم غيرهم", وهم عليّ وطلحة والزبير، وقد سبق لفظه قريبًا.
ولما ذكر أحاديث تكليم المصطفى -صلى الله عليه وسلم- للجبال ذكر حديث تكليم الجبل له، فقال: "ولما طلبته -عليه الصلاة والسلام- قريش" حين خرج مهاجرًا، وأرسلوا خلفه من يطلبه، وقد صعد ثبيرًا "قال له ثبير: اهبط يا رسول الله" انزل من فوقي، واذهب إلى مكان آخر تختفي به عنهم، "إني أخاف أن يقتلوك على ظهري، فيعذبني الله تعالى" بالنصب عطفًا على يقتلوك، فإنما خاف العذاب بسبب قتله؛ لأنه لو قتل على ظهره غضب الله على المكان الذي يقع فيه مثل هذا الأمر العظيم، كما غضب على أرض ثمود، فلا يرد كيف يعذب بذنب غيره، ولا تزر وازرة وزر أخرى، وتوجيهه بأنه خوف بمعنى حزنه وتأسفه عليه، نحو ذلك مما لا وجه له، "فقال له حراء: إليّ" بشد الياء المفتوحة، أي: ائت، أو هو اسم فعل بمعنى أقبل "يا رسول الله", ألهمه الله تعالى أن يقدره على أن ينشق ويستتر في جوفه، ونحو ذلك مما تقع به سلامته، فلم يذهب إليه لسبق تعبده به، فخاف أن يطلبوه فيه، "رواه" أي: ذكره "في الشفاء" بلا إسناد بلفظ وقد روى أنه حين طلبته قريش فذكره, "وهو حديث مروي في الهجرة من السير" بلا إسناد، ولم يخرجه في مناهل الصفاء، "وحراء قابل" مواجه "لثبير، والوادي بينهما وهو على يسار السالك إلى منى، وحراء قبلي ثبير، مما يلي شمال الشمس، وهذه الواقعة غير واقعة ثور في خبر الهجرة", فكأنها كانت قبل توجهه إلى غار ثور الذي اختفى فيه، "هذا هو الظاهر، والله أعلم،" لكن مقتضى قوله في حديث الصحيح: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- والصديق, وعدا الدليل غار ثور،(6/512)
قال السهيلي في حديث الهجرة: وأحسب في الحديث أن ثورًا ناداه أيضًا: إليَّ يا رسول الله، لما قال له ثبير: اهبط عني.
__________
أنهما لم يخرجا من مكة قاصدين سواه.
"قال السهيلي في حديث الهجرة، وأحسب: "أظن" في الحديث أن ثورًا ناداه أيضًا: إلي يا رسول الله، لما قال له ثبير: اهبط عني" فيكون ناداه كلّ من ثور وحراء، والله أعلم بصحته، "ومن ذلك كلام الشجر له" وهو ما قام على ساق وما عداه نبات، وقد يطلق على بعضه شجر، كاليقطين والحنطة، "وسلامها عليه،" أي: الشجر، وهو اسم جنس، يذكر ضمير، ويؤنث عطف خاص على عام، "وطواعيتها:" انقيادها له بغير الكلام؛ لأن مجيئها بشقها للأرض ليس من الكلام، فهو مباين، وإن حمل على الطواعية بالكلام وغيره، كان عطف عام، والأولى أَوْلَى. "وشهادتها له بالرسالة" خاص على عام -صلى الله عليه وسلم", وهذا كتسليم الحجر، وحنين الجذع، ونبع الماء, من خصائصه على الأنبياء والمرسلين، كما في الأنموذج.(6/513)
كلام الشجر له وسلامها عليه وطواعيتها له, وشهادتها له بالرسالة "صلى الله عليه وسلم":
ومن ذلك كلام الشجر له وسلامها عليه وطواعيتها له، وشهادتها له بالرسالة -صلى الله عليه وسلم.
أخرج البزار وأبو نعيم من حديث عائشة قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "لما أوحى إلي جعلت لا أمرّ بحجر ولا شجر إلّا قال: السلام عليك يا رسول الله".
__________
"أخرج البزار وأبو نعيم من حديث عائشة، قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "لما أوحى إليّ" وفي رواية: "لما استقبلني جبريل بالرسالة"، "جعلت" بفتح الجيم مبني للفاعل، أي: صرت، ويحتمل ضمها مبني للمفعول، أي: جعلني الله، "لا أمُرُّ بحجر ولا شجر إلا قال: السلام عليك يا رسول الله"، ففيه كلامها له وشهادتها له بالرسالة.
وروى أبو نعيم في الدلائل عن برة، قالت: لما أراد كرامة نبيه كان يمضي إلى الشعاب وبطون الأودية، فلا يمر بشجر ولا حجر إلا قال: السلام عليك يا رسول الله، وكان يرد عليهم وعليكم السلام.
قال الدلجي: لعله رد عليها السلام مكافأة لا وجوبًا؛ إذ ليست مكلفة، انتهى. والتوقف فيه باحتياجه لنقل قصور، فقد علمته رواية، وردّه بأن السلام شرع تحية موجبة للرد في حق البشر؛ لأنه أمان وليست من أهله ساقط، فالمكافأة لغير الأهل.(6/513)
وخرَّج الإمام أحمد عن أبي سفيان طلحة بن نافع عن جابر، قال: جاء جبريل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذات يوم وهو جالس حزين، قد خضّب بالدماء، ضربه بعض أهل مكة، فقال له: ما لك؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "فعل بي هؤلاء وفعلوا"، فقال له جبريل: اتحب أن أريك آية، فقال: "نعم". فنظر إلى شجرة من وراء الوادي فقال: ادع تلك الشجرة فدعاها، قال: فجاءت تمشي حتى قامت بين يديه، فقال: مرها..................
__________
"وخرج الإمام أحمد عن أبي سفيان طلحة بن نافع" الواسطي، أبي سفيان الإسكاف، نزل مكة، صدوق من التابعين، "عن جابر" بن عبد الله" قال: جاء جبريل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذات يوم" أي: في ساعة من يوم، "وهو جالس حزين" مغموم على قومه، أن يحلَّ بهم العذاب إذ كذبوه، لا لحَظِّ نفسه؛ لأنه كان لا يغضب لها، بل إذا انتهكت حرمات الله، وإلى هذا أشار القاضي عياض بقوله في الشفاء: وحزنه لتكذيب قومه، وطلبه الآية لهم لا له، أي: لأنه على يقين من أمره، عالم بقدرة ربه، ثم هذا لفظ جابر عند أحمد.
وفي حديث أنس عند الدارمي وغيره: إن جبريل قال للنبي، وآره حزينًا، وهو ما أورده في الشفاء، وهو جملة حالية، أي: وقد رآه محزونًا لعدم طاعة قومه في أول البعثة؛ إذ عرض نفسه على القبائل، "قد خضب بالدماء" لأنه "ضرَّ به بعض أهل مكة" لما صدع بأمر الله، فاجتمعوا عليه وأخذوه، وقالوا: أنت جعلت الآلهة إلهًا واحدًا، فما دنا منهم أحد إلّا وأبو بكر يدفعهم عنه، وهو يقول: أتقتلون رجلًا أن يقول ربي الله، كما مَرَّ في المقصد الأول، "فقال له مالك: " أي: شيء عرض لك حتى جلست حزينًا؟ "فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "فعل بي هؤلاء" الكفار، "وفعلوا" بتكرير الفعل، إشارة إلى تكرر أذاهم، وكثرة أنواعه من غير حصر، لا أنه مرتين فقط، فهو على حد كرتين، ورب ارجعون، ولا يقال حذف المفعول يؤذن بالعموم؛ لأنا نقول العموم ولو في نوع فقط، بخلاف تكرار الفعل، وفي حديث علي عند البزار: أخذته قريش، فهذا يجؤّه، وهذا يتلبَّبه.
وفي حديث عمرو بن العاص: ما رأيت قريشًا أرادوا قتل النبي -صلى الله عليه وسلم- إلا يوم أغروا به، وهم في ظل الكعبة، وهو يصلي عند المقام، "فقال له جبريل: أتحب أن أريك آية؟ " معجزة تزيل حزنك، لأن الجماد إذا أطاع دعوته دلَّ ذلك على أن الناس تطيعه بعد، لكنَّ تأخير ذلك لحكم خفية، أو آية تدل من نظر إليها، أو علمها على صدقك، ويزول بها حزنك، "فقال: "نعم" أحب ذلك ليزول حزني، وأعلم أن الله سينصرني، ويلين قلوب قومي لإجابة دعوتي، "فنظر إلى شجرة من وراء الوادي" الذي كان فيه مع جبريل، "فقال" جبريل: "ادع تلك الشجرة" أي: مرها أن تأتي إليك، ولم يأمرها هو، إشارة إلى أن المعجزة له لا لجبريل، "فدعاها, قال: فجاءت تمشي حتى قامت بين يديه, فقال" جبريل: "مرها(6/514)
فلترجع إلى مكانها, فأمرها فرجعت إلى مكانها، فقال -صلى الله عليه وسلم: "حسبي حسبي"، ورواه الدارمي من حديث أنس.
وعن عليّ قال: كنت مع النبي -صلى الله عليه وسلم- بمكة، فخرجنا في بعض نواحيها, فما استقبله جبل ولا شجر إلّا وهو يقول: السلام عليك يا رسول الله. رواه الترمذي وقال حديث حسن غريب.
وخرج الحاكم في مستدركه بإسناد جيد عن ابن عمر قال: كنا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- في سفر فأقبل أعرابي، فلمَّا دنا منه, قال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "أين تريد؟ " قال: إلى أهلي،...................................................................
__________
فلترجع إلى مكانها، الذي كانت فيه، "فأمرها، فرجعت إلى مكانها" كما كانت, "فقال -صلى الله عليه وسلم: "حسبي حسبي" ذلك دليلًا على تصديقهم لي، وإن أنكروا عنادًا فلا أحزن".
وفي حديث عمر عند البيهقي، فقال: "لا أبالي من كذبني بعد هذا من قومي" , ولعله ظهر ذلك لقومه، بحيث رأوه فلا عذر لهم في عدم تصديقه؛ لأنه بعد ما رؤية الآيات البيات عناد محض، "ورواه الدارمي من حديث أنس" بنحوه، وأخرجه البيهقي من حديث عمر بنحوه أيضًا وهي قصة واحدة، اختلفت الطرق فيها ببعض التغيير والزيادة, هذا هو الأصل, وتجويز التعدد بعيد.
"وعن عليٍّ قال: كنت" "مع النبي -صلى الله عليه وسلم- بمكة" في ابتداء النبوة، "فخرجنا في بعض نواحيها, فما استقبله" أي: لم يقع في مقابلته "جبل ولا شجر", فنسب الاستقبال لهما، إشارة إلى إدراكهما، حتى كأنهما توجَّها لمقابلته، وإلّا فكان الظاهر: فما استقبل جبلًا ولا شجرًا "إلا وهو يقول: السلام عليك يا رسول الله" لما في المصباح، كل شيء جعلته تلقاء وجهك، فقد استقبلته, واستقبلت الشيء واجهته، فهو مستقبل بالفتح اسم مفعول، "رواه الترمذ: وقال: حديث حسن غريب" من جهة تفرد راويه، فلا ينافي قوله حسن.
ورواه أيضًا الدارمي والحاكم وصححه، كما قدَّمه المصنف في ترجمة تسليم الحجر، وأعاده هنا في ترجمة تسليم الشجر، فلا تكرار لاختلاف المراد من سوقه، وكذا كرر حديث عائشة المذكور أول هذه الترجمة في المحلين لذلك، فلا تكرار.
"وخرج الحاكم في مستدركه" على الصحيحين "بإسناد جيد،" أي: مقبول، "عن ابن عمر" بن الخطاب" قال: كنا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- في سفر, فأقبل أعرابي، فلما دنا:" قرب "منه، قال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "أين تريد؟ " أي: تقصد بمسيرك، قال: إلى أهلي، أي:(6/515)
قال: "هل لك إلى خير"، قال: وما هو؟ قال: "تشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله"، قال: هل لك من شاهد على ما تقول؟ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "هذه الشجرة" , فدعاها رسول الله -صلى الله عليه وسلم, وهي على شاطيء الوادي, فأقبلت تخدّ الأرض خدًّا، فقامت بين يديه فاستشهدها ثلاثًا فشهدت، ثم رجعت إلى منبتها. الحديث رواه الدارمي........
__________
إلى المكان الذي فيه أهلي، ليطابق الجواب السؤال، وحذف المكان للعلم به؛ إذ لا بد لأهله من مكان، أو لعدم تعلق غرضه بخصوص المكان؛ إذ مراده الذهاب إلى أهله في أيِّ مكان كانوا، أو لأنهم كانوا نزالة رحالة لا مكان لهم، وعدَّاه بإلى، والإرادة متعدية بنفسه لتضمنه معنى التوجه، وقدم سؤاله تأنيسًا له، وإزالة لما في نفسه من مهابته؛ لأنه كان مهيبًا لمن رآه، توطئة لقوله: قال: "هل لك" غرض في الوصول "إلى خير" مما أنت فيه أدلك عليه, فلك خبر مبتدأ محذوف، "قال: وما هو" الخير الذي دعوتني له؟ قال: "تشهد أن لا إله إلا الله وحده" حال لازمة، أي: متوحدًا، منزهًا عن شريك في ذاته وصفاته، وفي كونه معبودًا بحق، "لا شريك له" تأكيدًا لوحدانيته بعد تأكيد، "وأن محمد عبده ورسوله" قدَّم العبودية تنزيهًا لنفسه عن الإطراء في مدحه، ولم يقل وأني عبده ورسوله؛ لاحتمال أن الأعرابي كان يعرف شهرته بذلك، ولا يعرف عينه، "قال: هل لك من شاهد" آية ومعجزة. لا أحد الشهود، "على ما تقول" من الرسالة؟ " قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "هذه الشجرة" شاهدي, وفي رواية قال: "هذا السمرة" بفتح المهملة وضم الميم وراء مفتوحة: شجرة عظيمة ذات شوك من الطلح، وأشار إليها لقربها منه, وجمعها سمر -بفتح السين وضم الميم، وسكونها- كما في اللغة لا بفتح الميم، كما وقع لبعض "فدعاها رسول الله -صلى الله عليه وسلم" وهي على شاطيء" بمعجمة وألف، ومهملة وهمزة: جانب "الوادي" الأرض المتسعة المستوية، من ودى بمعنى سال، لما فيها من المياه السائلة، "فأقبلت تخد الأرض" جملة حالية أو مستأنفة "خدًّا، فقامت بين يديه" محاذية له قريبًا منه، فاستشهدها ثلاثًا،" أي: قال لها ثلاث مرات، وطلب منها أن تشهد له، بأنه رسول الله، والتثليث للتأكيد، ليقوى ذلك في قلب الأعرابي، "فشهدت" له بأنه رسول الله ثلاثًا، وتركه لعلمه من السياق، "ثم رجعت إلى منبتها" بفتح الموحدة قياسًا، وكسرها سماعًا.
قال المجد: المنبت كمجلس: موضع النبات شاذ، والقياس كمقعد؛ لأن قياس اسم المكان من يفعل، أن يكون على مفعل بالفتح، كمدخل ومخرج ومقعد، " الحديث" بقيته، ورجع الأعرابي إلى قومه، وقال: يا رسول الله, إن يتبعوني آتك بهم، وإلّا رجعت إليك وكنت معك، "ورواه الدارمي" والبزار، والبيهقي وأبو القاسم البغوي، ومن طريقه المتقدم أخرجه في(6/516)
أيضا بنحوه.
وقوله: تخد الأرض -بضم الخاء المعجمة وتشديد الدال المهملة- أي: تشق الأرض.
وعن بريدة: سأل أعرابي النبي -صلى الله عليه وسلم- آية، فقال له: "قل لتلك الشجرة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يدعوك"، قال: فمالت الشجرة عن يمينها وشمالها، وبين يديها وخلفها، فتقطعت عروقها.........................................................
__________
الشفاء، "أيضًا بنحوه" وفيه معجزات خلق الله في الجماد إدراكًا، ونطقًا وحركة إرادية تجيء بها وتذهب، وقد وقعت على سبيل التحدي، فحد المعجزة منطبق على كل واحدة منبها" وقوله: تخد الأرض -بضم الخاء المعجمة، وتشديد الدال المهملة, أي: تشق الأرض لتسعى بعروقها التي في جوف الأرض، ولولا ذلك لم تتحرم.
"وعن بريدة" علم منقول من تصغير بردة, قال أبو علي الطوسي: اسمه عامر وبريدة، لقب ابن الحصيب، بمهملتين مصغر، وصحّف من قال بخاء معجمة, الأسلمي.
قال ابن السكن: أسلم حين مرَّ به -صلى الله عليه وسلم- مهاجرًا بالغميم، وأقام موضوعه حتى مضت بدر وأحد، وقيل: أسلم بعد بدر، وسكن البصرة لما فتحت، وفي الصحيحين عنه أنه غزا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- ست عشرة غزوة، ومناقبه مشهورة، وأخبار كثيرة, وكان غزا خراسان زمن عثمان، ثم تحوَّل إلى مرو، فسكنها إلى أن مات سنة ثلاث وستين، كما في الإصابة، وتقدَّم بعض ترجمته في الهجرة وغيرها.
"سأل أعرابي" بعد أن أسلم، كما في نفس رواية البزار وأبي نعيم "النبي -صلى الله عليه وسلم- آية" علامة ومعجزة تقوي إسلامه" "فقال له: "قل لتلك الشجرة" مشير السمرة، كانت ثمة يحتمل أنها المذكورة في الحديث قبله وأنها غيرها، "رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يدعوك" بكسر الكاف، يطلب منك المجيء إليه والحركة نحوه، "قال" بريدة: فدعاها "فمالت" فالفاء فصيحة، ويحتمل أنها بمجرد سماعها قول المصطفى -صلى الله عليه وسلم، جاءت لتحصيل قصده بدون دعاء الأعرابي لها، وهذا أبلغ في المعجزة، لكن المتبادر الأول.
"الشجرة عن يمينها وشمالها، وبين يديها وخلفها" أي: مالت ميلًا شديدًا، وتحركت في جهاتها الأربع لتخلص عروقها من الأرض وتتمكّن من الحركة نحو المصطفى، ولعل حكمة ذلك إظهار أنه خلق فيها قوة وإدراك لفعل ذلك، وإن أمكن وصولها إليه بتعلق الإرادة بذلك بلا سبب يحال عليه، "فتقطعت عروقها" على ظاهره أو معناه: تخلّصت وتعلقت، وهذا(6/517)
ثم جاءت تخد الأرض, تجر عروقها مغيرة حتى وقفت بين يدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالت: السلام عليك يا رسول الله، فقال الأعرابي: مرها فلترجع إلى منبتها، فرجعت, فدلت عرقوها في ذلك الموضع فاستقرّت, فقال الأعرابي: ائذن لي أن أسجد لك، قال: "لو أمرت أحدًا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها". رواه البزار في الشفاء.
وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: جاء أعرابي إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: بم أعرف
__________
هو الظاهر لقوله: "ثم جاءت تَخُدُّ الأرض، تجرّ عروقها،" ولو تقطعت حقيقة، فسدت ولم تبق ثابتة بحالها، وقيل: هي معجزة أخرى، مخالفة للعادة ببقائها بعد تقطع عروقها التي هي سبب حياتها، والجملتان حالان مترادفتان أو متداخلتان، والثانية مؤكدة للأولى، ولذا لم تعطف عليها، "مغيرة" بضم الميم وكسر المعجمة وسكون التحتية، أي: مسرعة في مشيها، قال تعالى: {فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا} الآية، فهو اسم فاعل من أغار، وروي بياء موحَّدة، مشددة مكسورة، وراء خفيفة، اسم فاعل، يقال غير: أثار الغبار، وروي مغبَّرة بضم فسكون ففتح الموحدة الخفيفة، والراء الثقيلة اسم فاعل أيضًا؛ لأنه ازم, أي: اشتد غبارها أو علاها الغبار، وهو حال إمَّا من ضمير تجر, أي: تجر العروق في حال غبرة، أو من العروق، أي: في حال كون العروق مغبرة، "حتى وقفت بين يدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم" قريبة منه، مواجهة له، "فقالت: السلام عليك يا رسول الله" فجمعت الطاعة والشهادة بالرسالة والتوقير، "قال الأعربي: مرها" بضم الميم، مخفف أؤمرها، "فلترجع إلى منبتها،" بكسر الموحدة وفتحها، كما مَرَّ فأمرها.
"فرجعت" لمحلها، "فدلَّت عروقها،" أدخلتها في ذلك الموضع" الذي هو أصلها، "فاستقرَّت" فيه، وفي الشفاء: فاستوت، أي: انتصبت قائمة من غير ميل، "فقال الأعرابي: ائذن،" بكسر الهمزة، وسكون التحتية، وأصله ائذن بهمزتين، والأولى وصل، والثانية فاء الكلمة، فلما اجتمع همزتان ثانيتهما ساكنة، وجب إبدالها ياء على القاعدة في ذلك، كما في الألفية وغيرها، خلاف قول البعض بكسر الهمزة الأولى وسكون الثانية، ويجوز إبدالها ياء، "لي أن أسجد لك", فأبى -صلى الله عليه وسلم، و"قال: "لو أمرت أحدًا أن يسجد لأحد" أي: لو جاز أمر مخلوق بالسجود، لمثله، "لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها" لوجوب طاعته عليها، وحقوقه الموجبة للتعظيم والخضوع، وفي شرعنا يمتنع السجود والركوع لغير الله تعالى، قيل: وكان جائزًا في الشرائع السابقة بقصد التعظيم لا العبادة، كما قال تعالى: {وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا} الآية. إن كان الضمير ليوسف، وسجدت الملائكة لآدم، وكان ذلك تحية ملوكهم، ولذا طلبه الأعرابي، فنهاه، وعوضنا عن تلك التحية بالسلام والمصافحة، "رواه البزار" في مسنده، وأبو نعيم في الدلائل،(6/518)
أنك رسول الله؟ قال: إن دعوت هذا العذق من هذه النخلة، أتشهد أني رسول الله؟ قال: نعم فجعل ينزل من النخلة حتى سقط إلى النبي -صلى الله عليه وسلم، ثم قال: ارجع فعاد، فأسلم الأعرابي، رواه الترمذي وصحَّحه.
وفي حديث يعلى ابن مره الثقفي: ثم سرنا نزلنا منزلنا، فنام النبي -صلى الله عليه وسلم- فجاءت شجرة تشق الأرض حتى غشيته. ..........................................
__________
ونقله "في الشفاء" بلا عزو بزيادة، وقال: ائذن لي أقبِّل يديك ورجليك، فأذن.
"وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: جاء أعرابي" من بني عامر، كما في رواية البيهقي، "إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: بم أعرف أنك رسول الله"؟ كأنَّه لما علم بدعائه الناس للتصديق برسالته، ولاحت عليه علامات السعادة، قصد استكشاف أمره بعلامه يستدل بها، ليتيقَّنَ صدقه -صلى الله عليه وسلم، وتكون تلك العلامة حجة له على غيره، ولعلها تكون سببًا لهداية غيره، بها "قال: "إن دعوت" أمرت، وفي رواية: أرأيت: أرايت إن دعوت، "هذا الغدق" بمهملة مكسورة فمعجمة ساكنة، فقاف:: العرجون جامع الشماريخ، "من هذه النخلة" لنخلة كانت عنده، وأما العذق بفتح العين، فالنخلة نفسها، وقيل: تطلق بكسرها على النخلة أيضًا، لكنه لا يفسر به هنا، لقوله: من هذه، وفي الكلام حذف، فأجابني: "أتشهد أني رسول الله -صلى الله عليه وسلم؟ " أي: أتؤمن بي بما أرسلت به وتقر بذلك، "قال: نعم"، كما في الرواية, فسقط من قلم المصنف أو نساخه، "فجعل، أي: شرع، وصار العذق "ينزل من النخلة" شيئًا فشيئًا "حتى سقط" على الأرض بقعر النخلة، فأقبل وهو يسجد ويرفع، حتى انتهى "إلى النبي -صلى الله عليه وسلم، ثم قال" له: "ارجع" فعاد إلى مكانه الذي كان فيه، "فأسلم الأعرابي" زاد في رواية، وقال: والله لا أكذبك بشيء تقوله بعدها أبدًا، أشهد أنك رسول الله، وآمن، "رواه الترمذي وصحَّحه" فقال: هذا حديث صحيح، وكذا رواه البخاري في التاريخ، وأبو يعلى وابن حبان، والبيهقي.
"وفي حديث يعلى" بزنة يرضى -علم منقول من المضارع، "ابن مرة" بن وهب بن جابر "الثقفي", وأمه سيابة -بكسر السين المهملة، كما في التقريب، وقال التلمساني: بفتحها وتخفيف التحتانية، روى عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يقطع أعناب ثقيف، فقطعها, وهو غير يعلى العامري، وقيل: هما واحد، اختلف في نسبه، فقيل: الثقفي، وقيل: العامري، قال يعلى: كنت مع النبي -صلى الله عليه وسلم- في مسير، فذكر الحديث إلى أن قال: "ثم سرنا حتى نزلنا منزلًا، فنام النبي -صلى الله عليه وسلم، فجاءت شجرة" في رواية طلحة أو سمرة بالشك من الرازي في الشجرة، وهما نوعان من شجر البرية ذات شوك يسمَّى العضاه،(6/519)
ثم رجعت إلى مكانها، فلمَّا استيقظ رسول الله -صلى الله عليه وسلم, ذكرت له، فقال: "شجرة استأذنت ربها في أن تسلم علي فأذن لها". الحديث رواه البغوي في شرح السنة.
وفي حديث جابر بن عبد الله الأنصاري: سرنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى نزلنا واديًا أفيح، فذهب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقضي حاجته، فاتبعته بإداوة من ماء، فنظر رسول الله -صلى الله عليه وسلم, فلم ير شيئًا يستتر به، فإذا شجرتان في شاطيء الوادي, فانطلق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى إحداهما, فأخذ بغصنٍ من أغصانها فقال: "انقادي عليّ بإذن الله تعالى" فانقادت معه كالعبير المخشوش...........................
__________
"تشق الأرض حتى غشيته،" وفي رواية: طافت به، أي دارت حوله، "ثم رجعت إلى مكانها" موضعها الذي هي نابتة فيه، "فلمَّا استيقظ انتبه "رسول الله -صلى الله عليه وسلم، ذكرت له" ذلك، "فقال: "شجرة استأذنت ربها في أن تسلم علي فأذن لها" , فيه إشعار بعلمه، مجيئها قبل إخبار يعلى له به، ولعله علم ذلك في نومه؛ لأنه كان يوحى إليه فيه فتكون الشجرة حين زارته سلمت عليه، وعلم بها، فحصلت مقصودها، "الحديث رواه البغوي" الإمام الفقيه، الحافظ أبو محمد، الحسين بن مسعود بن محمد، صاحب المصنفات، المبارك له فيها القصد الصالح، فإنه كان من العلماء الربانيين، ذا تعبد ونسك وقناعة باليسير، مات بمرو سنة ستة عشرة وخمسمائة عن ثمانين سنة، "في شرح السنة" أحد تصانيفه، وهو حديث طويل، رواه الإمام أحمد، والطبراني، والبيهقي.
"وفي حديث جابر بن عبد الله الأنصاري: سرنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم" في غزاة حتى نزلنا واديًا أفيح،" بفتح الهمزة، وسكون الفاء، وفتح التحتية، وبالحاء المهملة، أي: واسعًا، فذهب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقضي حاجته" كناية عن التغوّط، اي: لأجل ذلك، "فاتبعته بإداوة" بالكسر مطهرة، جمعها إداوي -بفتح الواو "من ماء, فنظر رسول الله -صلى الله عليه وسلم" فلم ير شيئًا يستتر به" من الناس, "فإذا شجرتان" فاجأتاه بلا ترقب، وفي رواية: بشجرتين، بزيادة الباء "في شاطيء الوادي،" بالهمز: جانبه، "فانطق" توجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى أحداهما" حتى قرب منها "فأخذ بغصن من أغصائها"، أي: أمسكه بيده، "فقال: "انقادي" طاوعيني، أو ميلي "علي" لتكوني ساترة لي "بإذن الله تعالى" تيسيره وتسهيله لا بقوة جذبي، "فانقادت معه:" طاوعته ومالت حتى سترته، كما أراد، وإنما أمسك غصنها, ولم يكتف بمجرد دعوتها، كما في الحديث قبله؛ لأن ذلك كان الإظهار معجزة، حتى يسلم الإعرابي، وهنا لم يقصد ذلك، "كالبعير المخشوش" بمعجمات اسم مفعول، أي: الذي وضع في أنفه خشاش بالكسر، أي: عود من خشب لينقاد بسهولة، فإن كان مفتولًا من وبر ونحوه فخزام، ومن نحاس فبرّة. قاله الخطابي وبه علم موقع المخشوش دون المخزوم؛ لأن الغصن من جنس العود، وهو تشبيه في السرعة(6/520)
الذي يصانع قائدة، ثم فعل بالأخرى كذلك، حتى إذا كان بالمصنف بينهما قال: "التئما علي بإذن الله" فالتأمتا. الحديث رواه مسلم.
والمنصف -بفتح الميم: الموضع الوسط بين الموضعين.
والتلاؤم: الاجتماع.
ولله در الأبو صيري حيث قال:
جاءت لدعوته الأشجار ساجدة ... تمشي إليه على ساق بلا قدم
كأنما سطرًا لما كتبت ... فروعها من بديع الخط في اللقم
__________
والسهولة، "الذي يصانع" يلاين "قائده" بسهولة الانقياد له، مستعار من المصانع وهي المدارة والإعطاء، ولذا قيل للرشوة مصانعه، قاله الراغب، "ثم فعل بالأخرى كذلك" بأن أمسك غصنًا منها إلى آخره"حتى إذا كان بالمصنف بينهما،" أي: الشجرتين، قال: "التئما" بفتح الفوقية، وكسر الهمزة: انضمَّا واجتمعا "علي بإذن الله" بتيسيره، وإرادته، لا بفعلي، "فالتأمتا" اجتمعتا "الحديث. رواه مسلم" في الصحيح، "والمصنف -بفتح الميم، وإسكان النون وفتح الصاد المهملة الخفيفة، وبالفاء: "الموضع الوسط بين الموضعين والتلاؤم -بالهمز والالتئام: "الاجتماع", ومنه التئام الجرح، وفي رواية أخرى عند مسلم: فقال -صلى اله عليه وسلم: "يا جابر، قل لهذه الشجرة: يقول لك رسول الله: الحقي بصاحبتها حتى أجلس خلفكما" فزحفت حتى لحقت بصاحبتها فجلس خلفهما، فرجعت أحضر، وجلست أحدث نفسي، فالتفَّت، فإذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والشجرتان قد افترقا، فقامت كل واحدة منهما على ساق، فوقف -صلى الله عليه وسلم- وقفة، فقال برأسه هكذا يمينًا وشمالًا، وهو حديث واحد طوَّله بعض الرواة وبعضهم اختصره، فكأنه لما أخذ بغصن إحداهما، قال لجابر: "قل لهذه الشجرة" إلخ.... فلمَّا جاءت فعل بها مثل ما فعل بالأخرى, وبقي أحاديث أخر في طاعة الأشجار وانقيادها, أورد منها في الشفاء جملة، ثم قال: فهذا ابن عمر، وبريدة، وجابر وابن مسعود، ويعلى بن مرة، وأسامة، وأنس، وعلي، وابن عباس وغيرهم، قد اتفقوا على هذه القصة نفسها أو معناها، ورواه عنهم من التابعين أضعافهم, فصارت في انتشارها من القوة حيث هي، "ولله در الأبوصيري" صوابه البوصيري، كما تقدَّم كثيرًا، "حيث قال: جاءت لدعوته" ندائه "الأشجار، ساجدة" خاضعة، "تمشي إليه على ساق بلا قدم" يعينها على المشي، قال تعالى: {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ} الآية، والشجر ما له ساق، والنجم ما لا ساق له، وبلا قدم، متعلق بتمشي، أو صفة لساق، وباؤه للمصاحبة "كأنما" حال من فاعل تمشي، وما كافَّة, "سطرت" خَطَّت الأشجار "سطرًا لما" للذي "كتبت فروعها" أي: عروقها مجازًا من(6/521)
فشبَّه آثار مشي الشجرة لما جاءت إليه -صلى الله عليه وسلم- بكتابة كاتب أوقعها على نسبة معلومة في أسطر منظومة.
وإذا كانت الأشجار تبادر لامتثال أمره -صلى الله عليه وسلم- حتى تخر ساجدة بين يديه، فنحن أَوْلَى بالمبادرة لامتثال ما دعا إليه, زاده الله شرفًا وكرمًا لديه.
وتأمَّل قول الأعرابي: "ائذن لي أن أسجد لك" لما رأى من سجود الشجرة، فرأى أنه أحرى بذلك، حتى أعلمه -عليه الصلاة والسلام- أن ذلك لا يكون إلّا لله، فحق على كل مؤمن أن يلازم السجود المعبود، ويقوم على ساق العبودية، وإن لم يكن له قدم كما قامت شجرة.
__________
إطلاق اسم أحد الضدين على الآخر؛ ليناسب قوله في الحديث المارّ. فتقطعت عروقها، وإن كان الفرع لغة من كل شيء أعلاه، "من بديع الخط" بيان لما، والإضافة بيانية، أو هي من إضافة الصفة للموصوف، أي: الخط المبتدع؛ لأنه لم يعهد مثله للأشجار "في اللقم،" بفتح اللام والقاف، وبضم اللام وفتح القاف: الطريق أو وسطه، كما في القاموس، "فشبَّه آثار مشي الشجر لما جاءت إليه -صلى الله عليه وسلم" المفيدة للخيرات، "بكتابة كاتب، أوقعها على نسبة معلومة في أسطر منظومة" منشقَّة، ووجه التشبيه أن الخط دالٌّ على اللفظ المفيد للمعاني، وآثار مشي فروع الشجرة في الأرض مفيد للخيرات، فالتشبيه من حيث الفائدة، "وإذا كانت الأشجار تبادر لامتثال أمره -صلى الله عليه وسلم- حتى تخر ساجدة بين يديه، فنحن أَوْلَى" أحق "بالمبادة لامتثال ما دعا إليه" لأنَّا عقلاء، مكلفون، وهي جماد غير مكلف، "زاده الله شرفًا وكرمًا لديه" عنده.
"وتأمَّل قول الأعرابي: ائذن لي أن أسجد لك" بكسر اللام وخفة الميم، أي: للأمر العظيم الذي "رأى من سجود الشجرة" بيان لما، "فرأى أنه أحرى" أولى بذلك منها، "حتى أعلمه -عليه الصلاة والسلام- أن ذلك" أي: السجود، لا يكون إلّا لله, فحق على كل مؤمن أن يلازم السجود للرب المعبود، ويقوم على ساق العبودية، وإن لم يكن له قدم" يقوم عليه، بأن كان كسيحًا، أو قدم معنوي، كما قامت الشجرة" على ساقها، طاعة للمصطفى، وهي عبودية لله تعالى.(6/522)
حنين الجذع شوقًا إليه "صلى الله عليه وسلم":
ومن ذلك: حنين الجذع شوقًا إليه -صلى الله عليه وسلم:
اعلم أن "الحنين" مصدر مضاف إلى الفاعل، والمراد: شوقه وانعطافه إلى النبي -صلى الله عليه وسلم، والذي في الأحاديث المسوقة هنا أنه صوت، ولعلّ المراد منه الدلالة على الشوق، أي: الصوت الدال على شوقه إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم.
والجذع: واحد جذوع النخل، وهو بالذال المعجمة.
وقد روي حديث حنين الجذع عن جماعة من الصحابة من طرق كثيرة تفيد القطع بوقوع ذلك.
__________
حنين الجذع شوقًا إليه "صلى الله عليه وسلم":
"ومن ذلك حنين الجذع" المعهود الذي كان يخطب عليه، "شوقًا إليه -صلى الله عليه وسلم" لما فارقه وخطب على المنبر. "اعلم أن الحنين،" بفتح المهملة ونونين، بينهما تحتية، ساكنة، صوت كالأنين يكون عند الشوق لمن يهواه إذا فارقه, وتوصّ به الإبل كثيرًا، "مصدر مضاف إلى الفاعل" أي: إن الجزع حنَّ، "والمراد" بحنينه: "شوقه وانعطافه إلى النبي -صلى الله عليه وسلم"؛ لأن الحنين اشتياق المرأة إلى ولدها، فشبَّه سوق الجذع بالمرأة على ما يفهم من قصر المصباح، الحنين على ذلك، والحنان على غيرها، لكن قال الجوهري: الحنين: الشوق وتوقان النفس، تقول: حنّ إليه يحنُّ حنينًا.
وفي القاموس: الحنين: الشوق وشدة البكاء، والطرب أو هو صوت الطرب عن حزن أو فرح، وعليه فه بيان للمعنى المقصود بالحنين هنا، من جملة المعاني المذكورة، والذي في الأحاديث المسوقة هنا أنه صوت" فتفسيره بالشوق لا تعرض له في الأحاديث, "و" لكن "لعل المراد منه" أي: الصوت: "الدلالة على الشوق" للمصطفى، أي: الصوت الدال على شوقه إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المتبادر أنه بالخفض تفسير للشوق، فيصير المعنى، ولعلَّ المراد من الصوت الدلالة على الصوت؛ لأنَّه جعل تفسيرًا للشوق، وهذا لا معنى له، اللهمَّ إلّا أن يقرأ الصوت بالرفع خبر مبتدأ محذوف، أي: فالمراد من الحنين الصوت الدال على شوقه, ويكون بيانه لحاصل المعنى، "والجذع" بكسر الجم" "واحد جذوع النخل" وهو ساق النخلة، كما في القاموس وغيره، "وهو بالذال المعجمة", وظاهره كان أخضر أو يابسًا، وقيل: يختص باليابس, ولا دلالة في {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ} على الإطلاق؛ لأن كونه يابسًا يدل للتقييد على أنه لا دلالة فيه لواحد من القولين؛ لأن الواقع أنه كان يابسًا.
قال البيضاوي: الجذع ما بين العرق والغصن، وكانت نخلة يابسة لا رأس لها ولا خضرة.
"وقد روي حديث حنين الجذع عن جماعة من الصحابة من طرق كثيرة، تفيد القطع بوقوع ذلك" فهو متواتر، فلا يليق تعبيره بروي ممرضًا؛ لأنه إنما يستعمل فيما يشك فيه، لا في الصحيح، فضلًا عن المتواتر، ولو أسقط عن، وجعل جماعة فاعل روى ببنائه للفاعل لم يرد عليها هذا.(6/523)
قال العلامة التاج بن السبكي في شرحه لمختصر ابن الحاجب: والصحيح عندي أن حنين الجذع متواتر:
رواه البخاري عن نافع عن ابن عمر.
ورواه أحمد من رواية أبي جناب عن أبيه عن ابن عمر.
ورواه ابن ماجه وأبو يعلى الموصلي وغيرهما من رواية حمَّاد بن سلمة، عن ثابت عن أنس، وإسناده على شرط مسلم.
ورواه الترمذي وصحَّحه أبو يعلى وابن خزيمة والطبراني والحاكم وصحَّحه وقال: على شرط مسلم، يلزمه إخراجه من رواية إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة
__________
"قال العلامة التاج بن السبكي في شرحه لمختصر ابن الحاجب" في الأصول، والصحيح عندي، أن حنين الجذع متواتر، وسبقه إلى ذلك عياض وغيره، كما يأتي".
رواه البخاري" في علامات النبوة، والترمذي في الصلاة، "عن نافع عن ابن عمر" كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يخطب إلى جذع، فلمَّا اتخذ المنبر تحوَّل إليه، فحنَّ الجذع فأتاه، فمسح يده عليه، زاد الإسماعيلي، فسكن، وقال صلى الله عليه وسلم: "لو لم أفعل لما سكن".
"ورواه أحمد من رواية أبي جناب" بجيم ونون خفيفة، فألف، فموحدة, الكلبي، مشهور بكنيته، واسمه يحيى ابن أبي حيّة الكلبي، ضعَّفوه لكثرة تدليسه، مات سنة خمسين ومائة أو قبلها، روى له أبو داود، والترمذي، وابن ماجه، "عن أبيه" أبي حيّة -بفتح الحاء المهملة، والتحتية الثقيلة, واسمه حيّ -بفتح الحاء المهملة، وشد التحتية, الكلبي، الكوفي, روى عن سعد، وابن عمر، وعنه ابنته، قال أبو زرعة: محله الصدق.
وفي التقريب: مقبول من الثالثة، روى له ابن ماجه فقط، والمراد من سوقه أن أبا حيّة تابع نافعًا في روايته، "عن ابن عمر" فيغتفر ضعف أبي جناب؛ لأن القصد المتابعة لا الاحتجاج.
"ورواه ابن ماجه" وأبو يعلى الموصلي، وغيرهما من رواية حمَّاد، بن سلمة" ابن دينار البصري، ثقة، عابد، أثبت الناس في ثابت، روى له مسلم والأربعة، "عن ثابت" بن أسلم البناني، عابد، ثقة، روى له الستة، "عن أنس، وإسناده على شرط مسلم", فهو من الطبقة السادسة من مراتب الصحيح، "ورواه الترمذي وصححه أبو يعلى، وابن خزيمة والطبراني، والحاكم وصحَّحه، وقال: على شرط مسلم، يلزمه إخراجه من رواية إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة" الأنصاري، المدني، ثقة، حجة من رجال الجميع، مات سنة اثنتين وثلاثين ومائة،(6/524)
عن أنس.
ورواه الطبراني من رواية الحسن عن أنس.
ورواه أحمد بن منيع والطبراني وغيرهما، من رواية حمَّاد بن سلمة عن عمَّار بن أبي عامر عن ابن عباس.
ورواه أحمد والدارمي وأبو يعلى وابن ماجه وغيرهم من رواية الطفيل بن أبي كعب عن أبيه.
ورواه الدارمي من رواية أبي حازم عن سهل بن سعد.
ورواه أبو محمد الجوهري من رواية عبد العزيز أبي رواد عن نافع تميم الدارمي.
ثم قال: ولست أدعى أن التواتر حاصل بما عددت من الطرق، بل من طرق أخرى كثيرة يجدها المحدث.......................................................
__________
وقيل: سنة أربع وثلاثين، وكان مالك لا يقدم عليه أحدًا في الحديث فيما قال الواقدي، "عن أنس" بن مالك. "ورواه الطبراني، من رواية الحسن" البصري, فهؤلاء ثلاثة رووه" "عن أنس, ورواه أحمد بن منيع البصري" بفتح الميم وكسر النون ابن عبد الرحمن أبو جعفر البغوي، نزيل بغداد، ثقة حافظ، مات سنة أربع وأربعين ومائتين وله أربع وثمانون.
"والطبراني وغيرهما من رواية حمَّاد بن سلمة، عن عمار بن أبي عامر، مولى بني هاشم أبو عمر، ويقال: "أبو عبد الله، صدوق، روى له مسلم والأربعة، مات بعد العشرين ومائة، "عن ابن عباس" عبد الله، "ورواه أحمد، والدارمي، وأبو يعلى، وابن ماجه وغيرهم من رواية الطفيل بن أبيّ بن كعب،" الأنصاري، الخزرجي، ثقة، من كبار التابعين، يقال: وُلِدَ في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم، وكان يقال له أبو بطن لعِظَمِ بطنه، روى له البخاري في الأدب المفرد، "عن أبيه" أبي بن كعب، بن قيس، بن زيد، بن معاوية، بن عمرو، بن مالك، بن النجار، سيد القراءة، من فضلاء الصحابة، يكنَّى أبا المنذر، ويكنَّى أبا الفيل أيضًا.
"ورواه الدارمي من رواية أبي حازم" بمهملة وزاي، سلمة بن دينار المدني، عابد، ثقة من رجال الجميع، "عن سهيل بن سعد الساعدي.
"ورواه أبو محمد" الحسن بن علي "الجوهري" من رواية عبد العزيز أبي رواد،" بفتح الراء، وشد الواو، صدوق، عابد، ربما وهم ورمي بالإرجاء، روى له الأربعة, وعلق له البخاري، مات سنة تسع وخمسين ومائة" عن نافع عن تميم، بن أوس بن خارجة "الدارمي" الصحابي المشهور، مات سنة أربعين، فعدَّ ستة من الصحابة الذين رووه، "ثم قال" ابن السبكي: "ولست أدعى أن التواتر حاصل بما عددت من الطرق، بل من طرق أخرى كثيرة، يجدها المحدث(6/525)
ضمن المسانيد والأجزاء وغيرهما، وإنما ذكرت في المشاهد منها أو في بعضها، وربَّ متواتر عن قوم غير عند آخرين. انتهى.
وقال الحافظ بن حجر في فتح الباري: حنين الجذع وانشقاق القمر نقل كلّ منهما نقلًا مستفيضًا يفيد القطع عند من يطّلع على طرق الحديث دون غيرهم ممن لا ممارسة له في ذلك، والله أعلم، انتهى.
وقال البيهقي: قصه حنين الجذع من الأمور الظاهرة التي حملها الخلف عن السلف، انتهى.
وهذه الآية من أكبر الآيات والمعجزات الدالة على نبوة نبينا -صلى الله عليه وسلم.
قال الشافعي -فيما نقله ابن أبي حاتم عنه، في مناقبه: ما أعطى الله نبيًّا ما أعطى نبينا محمدًا، فقيل له: أعطى عيسى إحياء الموتي، قال: أعطى محمدًا حنين الجذع حتى سمع صوته، فهو أكبر من ذلك.
__________
ضمن المسانيد والأجزاء وغيرهما" كالمشيخات والمعاجم، أي: غير القسمين، وفي نسخة وغيرها، بالتأنيث نظرًا للمعني، أي: وغير الإفراد، المذكورة, "وإنما ذكرت" بالبناء للفاعل، مسند إلى ضمير المتكلم، وحذف المفعول، أي: ما وجدته "في الشاهدة منها، أو في بعضها، وربَّ متواتر عند قوم" لكثرة اطِّلَاعهم، "غير متواتر عند آخرين" لقِلَّته، "انتهى" كلام ابن السبكي.
"وقال الحافظ ابن حجر في فتح الباري" في حديث تسبيح الطعام: "حنين الجذع وانشقاق القمر، نقل كلٌّ منهما نقلًا مستفيضًا، يفيد القطع عن من يطَّلع على طرق الحديث، دون غيرهم، ممن لا ممارسة له في ذلك، والله أعلم. انتهى".
"وقال" هنا "قال البيهقي: قصة حنين الجذع من الأمور الظاهرة التي حملها الخلف" ورووها "عن السلف" رواية الإخبار الخاصة كالتكليف، هذا بقية كلام البيهقي، "انتهى. وهذه الآية من أكبر الآيات والمعجزات الدالة على نبوة نبينا -صلى الله عليه وسلم".
"قال الشافعي فيما نقله ابن أبي حاتم" عن أبيه، عن عمرو بن سواد، "عنه" أي: الشافعي "في" كتاب "مناقبه" التي ألفها ابن أبي حاتم، "ما أعطى الله نبيًّا" مثل "ما أعطى نبينا محمدًا،، فقيل له" القائل عمرو بن سواد، بلفظ قلت: "أعطى عيسى إحياء الموتى، قال: أعطى محمدًا حنين الجذع حتى سمع صوته، فهي أكبر من ذلك".(6/526)
وقال القاضي عياض: حديث حنين الجذع مشهور منتشر، والخبر به متواتر، أخرجه أهل الصحيح، ورواه من الصحابة بضعة عشر، منهم: أُبَيّ بن كعب، وجابر بن عبد الله، وأنس بن مالك، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس، وسهل بن سعد، وأبو سعيد الخدري, وبريدة، وأم سلمة، والمطلب بن أبي وداعة, انتهى.
فأمَّا حديث أُبَيّ بن كعب فرواه الشافعي، في مسنده وابن ماجه والدارمي وأحمد وأبو يعلى كما سبق قريبًا، والبيهقي كلهم من حديث الطفيل بن أبي بن كعب عن أبيه، قال: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- مستندًا إلى جذع إذ كان المسجد عريشًا، وكان يخطب إلى ذلك الجذع، فقال رجل من أصحابه:.......................
__________
وقال القاضي عياض: في الشفاء: "حديث حنين الجذع مشهور منتشر،" أي: شائع بين الخلق، والخبر به متواتر، لكثرة طرقه الصحيحة، ونقل جماعة له عن جماعة يستحيل تواطؤهم على الكذب، "أخرجه أهل الصحيح" أي: الذين التزموا إخراج الأحاديث الصحيحة في كتبهم، كالبخاري، ومسلم، وابن خزيمة، وابن حبان.
"ورواه من الصحابة بضعة عشر" بكسر الباء وفتحها من ثلاثة إلى تسعة، "منهم: أُبَيّ بن كعب وجابر بن عبد الله، وأنس بن مالك، وعبد الله بن عمر" بن الخطاب، "وعبد الله بن عباس، "وسهل بن سعد، وأبو سعيد" سعد بن مالك "الخدري" بالدال المهملة، "وبريدة وأم سلمة" أم المؤمنين هند بنت أبي أمية، "والمطلب بن أبي وداعة" بفتح الواو وخفة الدال- الحارث بن صبيرة -بمهملة، ثم موحدة- ابن سعيد، بالتصغير، السهمي، أبو عبد الله، صحابي أسلم يوم الفتح، وأمه أروى بنت الحارث بن عبد المطلب، بنت عم النبي -صلى الله عليه وسلم، نزل المدينة، ومات بها، وله أحاديث في مسلم والسنن، "انتهى" ما نقله من كلام عياض، ومنه كلهم يحدث بمعنى الحديث، أي: فروايتهم متفقة بحسب المعنى، وكأنه يشير إلى أن تواتره معنوي لا اصطلاحي، كقول ابن صلاح: إن التواتر لا يكاد يوجد، لكن تعقب بأنه حقيقي لإجماع من بعدهم على صحتها، ثم نسب المصنف ما ذكره عياض من أحاديث هؤلاء إلى مخرجها إلّا أخيرها, وهو المطلب, وقد أخرجه أحمد والزبير بن بكار، فقال: "فأما حديث أُبَيّ بن كعب" "فرواه الشافعي" "في مسنده" وابن ماجه" والدارمي، وأحمد، وأبو يعلى، كما سبق قريبًا والبيهقي، كلهم من حديث الطفيل بن أُبَيّ بن كعب، عن أبيه، قال: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يصلي مستندًا إلى جذع، إذ كان المسجد عريشًا" أي: مسقَّفًَا بالجريد، وكانت الجذوع له كالأعمدة، "وكان يخطب إلى ذلك الجذع، فقال رجل من أصحابه" هو تميم الداري، ففي(6/527)
هل لك أن نجعل لك منبرًا تقوم عليه يوم الجمعة، ويسمع الناس خطبتك؟ قال: "نعم"، فصنع له ثلاث درجات، هي التي على المنبر،.........................................
__________
أبي داود وغيره بإسناد جيد، أن تميمًا قال له -صلى الله عليه وسلم- لما كثر لحمه، ألا نتخذ لك منبرًا يحمل عظامك, قال: "بلى" فاتخذ منبرًا، الحديث. ولا تصريح فيه بأن صانع المنبر تميم، بل روى ابن سعد، أن تميمًا لم يعمله، وأشبه الأقوال بالصواب أن صانعه ميمون؛ لكونه من رواية سهل بن سعد، أخرجه قاسم بن أصبغ، وأبو سعد في الشرف، وهو مولى امرأة من الأنصار، كما في الصحيح، وقيل: مولى سعد بن عبادة، فكأنه في الأصل مولى امرأته، ونسب إليه مجازًا، واسمها فكيهة بنت عمة عبيد بن دليم، أسلمت وبايعت، وأمَّا الأقوال الأخرى أن صانعه تميم، أو بأقوال باللام أخره، أو الميم الرومي، أو صباح -بضم المهملة، وخفة الموحدة، أو قبيضة، أو مينا -بكسر الميم, أو صالح مولى العباس، أو إبراهيم أو كلاب مولى العباس، فلا اعتداد بها لوهائها، ويبعد جدًّا الجمع بينها، بأنَّ النجار كانت له أسماء متعددة، واحتمال كون الجميع اشتركوا في عمله يمنع منه قوله في كثير من الروايات: لم يكن بالمدينة إلا نجار واحد يقال له ميمون، إلّا أن يحمل على أن المراد واحد في صناعته، والبقية أعوانه، فيمكن كما بسطه في فتح الباري، وقدمته في المقصد الأول مبسوطًا.
"هل لك أن نجعل منبرًا تقوم عليه يوم الجمعة", فتستريح من القيام على الجذع، ويسمع الناس خطبتك" أقوى من سماعهم وأنت على الأرض، "قال: "نعم" , فصنع له ثلاث درجات هـ التي على المنبر، أي: فوقه؛ لأنه كان ثلاثة درجات إلى أن زاده مروان بن الحكم في خلافة معاوية ست درجات, وسبب ذلك أن معاوية كتب إليه أن يحمل المنبر إليه من المدينة إلى الشام، فأمر به، فقلع فأظلمت المدينة، وانكسفت الشمس حتى رأو النجوم, فخرج مروان فخطب فقال: إنما أمرني أمير المؤمنين أن أرفعه، فدعا نجارًا، فزاد فيه ست درجات، وقال: إنما زدت فيه حين كثر الناس، أخرجه الزبير بن بكار في أخبار المدينة من طرق.
قال ابن النجار: واستمرَّ على ذلك إلى أن احترق مسجد المدينة، سنة أربع وخمسين وستمائة فاحترق.
قال السيوطي: وكان ذلك إشارة إلى زوال دولة آل البيت النبوي بني العباس، فإنها انقرضت عقب ذلك بقليل في فتنة التتار.
قال ابن النجار: ثم جدَّد المظفر صاحب اليمن سنة ست وخمسين وستمائة منبرًا، ثم أرسل الظاهر بيبرس بعد عشر سنين منبرًا، فأزيل منبر المظفر فلم يزل منبر بيبرس إلى سنة عشرين وثمانمائة، فأرسل المؤيد شيخ منبرًا، فلم يزل إلى سنة وستين وثمانمائة، فأرسل الظاهر(6/528)
فلمَّا صنع وضعه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- موضعه الذي هو فيه، فكان إذا بدا لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يخطب عليه، تجاوز الجذع الذي كان يخطب عليه خار حتى تصدّع وانشقّ، فنزل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما سمع صوت الجذع, فمسحه بيده ثم رجع إلى المنبر، الحديث.
وأما حديث جابر فرواه البخاري من طرق، وفي لفظ له: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يقوم يوم الجمعة إلى شجرة أو نخلة، فقالت امرأة من الأنصار، أو رجل من الأنصار: ألا نجعل لك منبرًا؟ قال: "إن شئتم" , فجعلوا له منبرًا, كان يوم الجمعة
__________
خشقدم منبرًا، انتهى.
"فلمَّا صنع" من أثل الغابة، كما في الصحيح، "وضعه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- موضعه الذي هو فيه، فكان إذا بدا لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يخطب تجاوز الجذع الذي كان يخطب عليه، خار،" بخاء معجمة: صوت، وهو في الأصل يختص بصياح البقر، ثم توسعوا فيه في أصوات جميع البهائم، ثم قاله الراغب، فإطلاقه على صوت الجذع مجاز، "حتى تصدَّع وانشقَّ،" عطف تفسير؛ إذ حقيقة الصدع شق الأجسام الصلبة، كالزجاج والحديد، ثم استعير منه صدع الأمر بينه كأصدح بما تؤمر، وهو مبالغة في شدة صياحه، كما يقال: صاح حتى انفلق، ويجوز بقاؤه على ظاهره، ولكن يؤيد الأول قوله: "فنزل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما سمع صوت الجذع، فمسحه بيده،" فسكت، كما في رواية لزوال ألمه بقربه منه ومشيه له، ثم رجع إلى المنبر. الحديث.
"وأما حديث جابر، فرواه البخاري من طيق" في مواضع, "وفي لفظ له" في علامات النبوة وغيرها، عن شيخه أبي نعيم، عن عبد الواحد بن أيمن، عن أبيه، عن جابر: "أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يقوم يوم الجمعة" يخطب "إلى شجرة، أو" قال: إلى نخلة بالشكِّ من الراوي، وقد أخرجه الإسماعيلي من طريق وكيع، عن عبد الواحد، فقال: إلى نخلة، أي: إلى جذع نخلة، "فقالت امرأة من الأنصار" لم تسم, أو هي فكيهة بنت عبيد بن دليم زوجة سعد بن عبادة، وقول المستغفري: اسمها علاثة، تصحيف، وللطبراني اسمها عائشة، وإسناده ضعيف، "أو رجل" شكّ من الراوي، والمعتمد الأول، وقد تقدَّم بيانه في الجمعة، والخلاف في اسمها قاله في الفتح, وقال في مقدمته: في رواية البيهقي أنه تميم الداري, وقدّمنا الخلاف في اسم صانع المنبر، ورجَّحنا أن تميمًا هو المشير به، وأن صانعه الذي قطعه من طرفاء الغابة هو المختلف في اسمه، انتهى. ويقع في نسخ المصنف: أو رجل "من الأنصار" وليس في البخاري من الأنصار، ولا يصحّ لرواية البيهقي، فقال تميم: وليس من الأنصار، "ألا" بالتحفيف "نجعل لك منبرًا؟ قال: "إن شئتم" جعله فاجعلوا، "فجعلوا له منبرًا, فلمَّا كان يوم الجمعة"(6/529)
رفع إلى المنبر، فصاحت النخلة, فنزل رسول الله -صلى الله عليه وسلم, فضمَّها إليه, فجعلت تئن أنين الصبي الذي يسكن، قال: "كانت تبكي على ما كانت تسمع من الذكر عندها".
وفي لفظ: قال جابر بن عبد الله: كان المسجد مسقوفًا على جذوع نخل، فكان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا خطب يقوم إلى جذع منها، فلمَّا صنع له المنبر سمعنا لذلك الجذع صوتًا كصوت العشار - وهو بكسر العين المهملة: النوق الحوامل.
وفي حديث أبي الزبير....................................
__________
برفع يوم، اسم كان، ونصبه على الظرفية "رفع" بالراء، وفي رواية بالدال بدلها، وكسر الفاء، أي: النبي -صلى الله عليه وسلم "إلى المنبر" ليخطب عليه، "فصاحت النخلة" التي كان يخطب عندها، أسقط من لفظ البخاري في العلامات صياح الصبي، وزاد في البيع: حتى كادت أن تنشق، "فنزل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فضمها" أي: النخلة، وفي رواية: فضمَّه، أي: الجذع "إليه، فجعلت تئن أنين الصبي الذي يسكن" بضم التحتية، آخره نون، مبني للمفعول من التسكين، قاله المصنف.
"قال" عليه الصلاة والسلام: "كانت تبكي على ما كانت تسمع من الذكر عندها"، أي: ذكر الله، أو المواعظ، أو القرآن، أو نفس المصطفى؛ لأنه أطلق عليه الذكر أيضًا، لكن يبعده تسمع، وهو جواب سؤال نشأ من الكلام السابق، تقديره: لم كانت تبكي.
"وفي لفظ" للبخاري أيضًا في العلامات والجمعة، "قال جابر بن عبد الله: كان المسجد" النبوي "مسقوفًا على جذوع نخل" أي: كانت له كالأعمدة، "فكان" بالفاء، وفي رواية: بالواو، "النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا خطب، يقوم" مستندًا "إلى جذع منها" حين يخطب، وصرَّح به في رواية الإسماعيلي: "فلمَّا صنع بالبناء للمفعول "له المنبر" وخطب عليه، مفارقًا للجذع "سمعنا لذلك الجذع صوتًا كصوت العشار", وبقية هذا الحديث في البخاري، حتى جاء النبي -صلى الله عليه وسلم- فوضع يده عليها، فسكنت. قال المصنف: بالنون "وهو بكسر العين المهملة" بعدها معجمة خفيفة، "النوق الحوال التي انتهت في حملها إلى عشرة أشهر, جمع عشراء -بضم، ففتح. وقال الخطابي: هي التي قاربت الولادة، وفي القاموس: العشراء من النوق التي مضى لحملها عشرة أشهر وثمانية، أو هي كالنفساء من النساء، وتقدَّم في الطريق الأخرى، فصاحت صياح الصبي، حتى كادت أن تنشق.
"وفي حديث أبي الزبير"، محمَّد بن مسلم المكي، صدوق، روى له الجميع، مات(6/530)
عن جابر -عند النسائي في الكبرى: اضَّطربت تلك السارية كحنين الناقة الخلوج. انتهى.
والخلوج -بفتح الخاء المعجمة، وضم اللام الخفيفة وآخره جيم: الناقة التي انتزع منها ولدها.
والحنين: هو صوت المتألم المشتاق عند الفراق.
وإنما يشتاق إلى بركة رسول الله, ويأسف على مفارقته أعقل العقلاء. والعقل والحنين بهذا الاعتبار يستدعي الحياة، وهذا يدل على أن الله -عز وجل- خلق فيه الحياة والعقل والشوق, ولهذا حنَّ وأنَّ.
فإن قلت: مذهب الشيخ أبي الحسن الأشعري:...................................
__________
سنة ست وعشرين ومائة، "عن جابر عند النسائي في" السنن "الكبرى" إحدى تصانيفه، والصغرى هي أحد الكتب الستة: "اضَّطربت" تحرَّكت "تلك السارية" وصوَّتت تصويتًا، "كحنين الناقة الخلوج، انتهى. والخلوج -بفتح الخاء المعجمة، وضمّ اللام الخفيفة، وآخره جيم: الناقة التي انتزع منها ولدها".
زاد الفتح: وفي حديث أنس عند ابن خزيمة: فحنَّت الخشبة حنين الواله، وفي روايته الأخرى عند الدارمي: خار ذلك الجذع كخوار الثور.
وفي حديث أُبَيّ بن كعب عند أحمد، والدارمي، وابن ماجه: فلما جاوزه خار الجذع حتى تصدع وانشقّ، فأخذ أُبَيّ ذلك الجذع لما هُدِمَ المسجد، فلم يزل عنده حتى بلي وصار رفاتًا، وهذا لا ينافي أنه دفن، لاحتمال أنه ظهر بعد الهدم عند التنظيف، فأخذه أُبَيّ بن كعب، انتهى.
"والحنين: هو صوت المتألم المشتاق عند الفراق" لمن يهواه، "وإنما يشتاق إلى بركة رسول الله، ويأسف على مفارقته أعقل العقلاء، والعقل والحنين بهذا الاعتبار يستدعي الحياة، وهذا يدل على أن الله -عز وجل- خلق فيه" أي: الجذع "الحياة والعقل والشوق، ولهذا حنَّ وأنَّ" والأنين صوت المريض، وهما متقاربان، وقيل في الأنين زيادة امتداد الصوت، وعبَّر به إيماءً إلى أنه لحقه ألم كالمريض، وهو عطف خاص على عام؛ لأن الحنين في الإبل إذا فارقت أولادها، ثم شاع في مطلق الشوق ولو بالكلام، وأمَّا الأنين فيما لا يفهم كالتأوّه، ففيه إشارة إلى أنه كان بصوت يفهم منه الحزن بدلالة طبيعة، كأنين المريض.
"فإن قلت: مذهب الشيخ الحسن الأشعري" من ذرية أبي موسى الأشعري الصحابي،(6/531)
إن الأصوات لا يستلزم خلقها في المحل خلق الحياة ولا العقل.
أجيب: بأنه كذلك، ونحن لم نجعل الحياة لازمة، إلّا أنَّ الشوق إلى الحق شوقًا معنويًّا عقليًّا لا طبيعيًّا بهيميًّا. ومذهب الشيخ أبي الحسن أن الذكر المعنوي والكلام النفسي يستلزمان الحياة استلزام العلم لها. وقد بينَّا أن هذه المعاني وجدت في الجذع، وأطلق الحاضرون على صوته أنه حنين، وفهموا أنه شوق إلى الذكر وإلى مقام الحبيب عنده، وقد عامله النبي -صلى الله عليه وسلم- هذه المعاملة، فالتزمه كما يلتزم الغائب أهله وأعزته يبرد غليل شوقهم إليه وأسفهم عليه، ولله در القائل:
وحنَّ إليه الجذع شوقًا ورِقَّةً ... ورجع صوتًا كالعشار مرددا
فبادره ضمًّا فقَرَّ لوقته ... لكل امرئ من دهره ما تعوّدا
__________
"إن الأصوات لا يستلزم خلقها في المحل خلق الحياة ولا العقل"؛ إذ الأصوات من العرض عند الأكثرين، ولم يخالف فيه إلّا النظام، وجعل الأشعري الأصوات اصطكاك الجواهر بعضها ببعض، وذلك لا يستلزم الحياة والإرادة. "أجيب: بأنه كذلك، ونحن لم نجعل الحياة لازمة" للصوت حى يلزمنا مخالفة الأشعري، "إلّا أن الشوق إلى الحق" إنما يكون "شوقًا معنويًّا", فهو خبر محذوف، أَوْلَى من تخريجه على نصب أنَّ الجزأين "عقليًّا لا طبيعيًّا بهيميًّا، ومذهب الشيخ أبي الحسن" الأشعري، "أن الذكر المعنوي والكلام النفسي يستلزمان الحياة استلزام العلم لها، وقد بينَّا أن هذه المعاني وجدت في الجذع، وأطلق الحاضرون على صوته أنه حنين، وفهموا أنه شوق إلى الذكر، وإلى مقام الحبيب عنده، وفي رواية سهل: وكثر بكاء الناس لما رأوا به، "وقد عامله النبي -صلى الله عليه وسلم- هذه المعاملة" معاملة الحي العاقل، "فالتزمه" اعتنقه وضمَّه، "كما يلتزم الغائب أهله وأعزته، يبرد غليل:" حرارة "شوقهم إليه، وأسفهم:" حزنهم "عليه", ففيه دلالة على أن الجمادات قد يخلق الله لها إدراكًا كالحيوان، بل كأشرف الحيوان، وفيه تأييد لمن حمل قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء: 44] الآية، على ظاهر، كما في الفتح, "ولله در القائل" وهو صالح بن الحسين الشاعر، في قصيدة طويلة: "وحنَّ" صوت "إليه الجذع شوقًا" أي: لأجل شوقًا، أو هو مفعول مطلق، أي: اشتاق إليه شوقًا عظيمًا، فالتنوين للتعظيم، "ورقة ورجّع صوتًا كالعشار" بكسر العين وخفة الشين، "مرددًا،" بفتح الدال، صفة صوتًا، وكسرها حال من فاعل رجع: أي: ورجع الجذع حال كونه مرددًا الترجيح صوتًا كصوت العشار، "فبادره ضمًّا" اعتناقًا، "فَقَرَّ" سكن "لوقته لكل امرئ من دهره ما تعوّدا", يعني: إنه أمر مطَّرد في كل من اعتاد أمرًا وانقطع عنه، فإنه يتألم(6/532)
وأما حديث أنس، فرواه أبو يعلى الموصلي بلفظ: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يوم الجمعة يسند ظهره إلى جذع منصوب في المسجد يخطب الناس، فجاءه رومي فقال: ألا أصنع لك شيئًا تقعد عليه كأنك قائم؟ فصنع منبرًا له درجتان, ويقعد على الثالثة، فلمَّا قعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على المنبر جأر الجذع كجؤار الثور، وارتجَّ المسجد لجؤاره حزنًا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم, فنزل إليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على المنبر فالتزمه وهو يخور، فلمَّا التزمه.....
__________
لذلك ويحزن, فإذا رجع إليه فرح واطمأنَّ، وهذا الجذع لما ألف مقامه -صلى الله عليه وسلم- اعتاد ذلك، فصار يتألَّم لفراقه تألُّم من فارقته أحبته، فلمَّا ضمه، سكن وفرح كمقيم ورد عليه أحبته المسافرون سفرًا طويلًا، لا سيما إذا ظنّ المقيم أن لا يرجع المسافر إليه.
"وأما حديث أنس فرواه أبو يعلى الموصلي،" الحافظ، الثقة، أحمد بن علي بن المثني، التميم، المتوفَّى سنة سبع وثلاثمائة، وقد زاد على مائة وعمَّر، وتفرَّد ورحل الناس إليه "بلفظ: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يوم الجمعة يسند ظهره إلى جذع منصوب في المسجد" النبوي، كالعمود "يخطب الناس، فجاءه روميّ" باقوم، بموحدة، فألف، فقاف مضمومة، آخره ميم، أو لام، أو مينًا أو غيرهما، والأصح والأشهر أنه ميمون، كما مَرَّ عن الحافظ، ووقع للمصنف أن الأشهر باقوم، وفيه نظر، "فقال: ألا أصنع لك شيئًا تقعد عليه كأنك قائم، فصنع منبرًا" بكسر الميم من نبره، رفعه، ورقاه؛ لأن القائم عليه يرتفع عن غيره، "له درجتان، ويقعد على الثالثة، فلمَّا قعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على المنبر، جأر" بجيم، فهمزة مفتوحة، والجؤار معروف، ولذا قال: "كجؤار الثور،" وهو مثل الخوار بالخاء، يقال: جار الثور يجار، أي: صاع، وقرأ بعضهم: {عجلًا جسدًا له جؤار} [طه: 88] الآية، بالجيم، حكاه الأخفش، كذا في نور النبراس.
وقال التلمساني: بضم الخاء المعجمة، يهمز ويسهل، وهو أولى، وبالجيم، وهو رفع صوته مع تضرع، واستغاثة, فصدر بالخاء، وذكر الحجازي على الشفاء، أن الرواية بالجيم، وأنه لم بالخاء فيما علم وارتج" بهمزة وصل، "وراء ساكنة، وفوقية مفتوحة، وجيم ثقيلة: تحرَّك واضَّطرب اضطرابًا شديدًا، "المسجد"أي: أهله "لجؤاره" لعظيم هذه الآية، وكثر فيه الكلام، أو هو على ظاهره بأن تحرَّكت حيطانه وجدارنه لشدة صوته، إمَّا حقيقة، أو لظنّ ذلك ممن هو فيه، "حزنًا", وفي رواية" تحزنًا", أي: إظهار حزن، وهو خلاف السرور "على رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فنزل إليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من المنبر، فالتزمه" ضمَّه "وهو يخور:" يصوت، "فلمَّا التزمه(6/533)
سكت, ثم قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "والذي نفس محمد بيده، لو لم ألتزمه لما زال هكذا حتى تقوم الساعة حزنًا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم "، فأمر به -صلى الله عليه وسلم- فدفن. ورواه الترمذي وقال: صحيح غريب.
وكذا رواه ابن ماجه والإمام أحمد من طريق الحسن عن أنس ولفظه: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا خطب يوم الجمعة يسند ظهره إلى خشبة، فلمَّا كثر الناس قال: "ابنوا لي منبرًا"، أراد أن يسمعهم،......................................................
__________
سكت" عن ذلك، "ثم قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "والذي نفس" روح "محمد بيده" قدرته وتصرفه، وحياته ومماته، متى أراد "لو لم ألتزمه" اعتنقه وأضمه، افتعال من اللزوم، وهو عدم الفراق، ثم استعير للعناق، كما في الأساس، "لما زال هكذا" أي: له صياح وجؤار "حتى تقوم الساعة" , وفي رواية: "إلى يوم القيامة"، "حزنًا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم " , قيل: وهذا على طريق المبالغة، كقوله: {حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} ، وإن لم يقع، فلا يشكل بقوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} , {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} الآية. ولا حاجة إليه، فلا مانع من بقائه على ظاهره؛ لأنه علّق بقاءه على عدم التزامه، فإذا التزمه تغير وفني، وقد علَّم الله ذلك، "فأمر به -صلى الله عليه وسلم" بعض صحبه بأخذه ودفنه، "فدفن" تحت المنبر، كما في رواية.
وفي بعض الروايات: فدفنت تحت منبره، أو جعلت في السقف، كذا في بعض نسخ الشفاء، فيحتمل أنه دفن تحت المنبر أولًا، ثم رفع في السقف، لئلَّا يداس بالأرجل، تكريمًا لأثره -صلى الله عليه وسلم، فلما هُدِمَ المسجد أخذه أُبَيّ، فكان عنده إلى أن بلي وصار رفاتًا.
قال البرقي: وإنما دفنه وهو جماد؛ لأنه صار حكمه حكم المؤمن لحبه وحنينه إلى النبي -صلى الله عليه وسلم، وقال غيره: لئلّا تشتغل به الناس، وربما افتتن به بعد العصر الأول، وفيه إشارة إلى أنه سينبت في الجنة، كما يأتي، "ورواه" أي: حديث أنس المذكور "الترمذي، وقال: صحيح غريب" لتفرد راويه، فيجامع الصحة، فلا تنافي، ونصَّ على صحته لبيان حاله، لا لنفي صحة غيره، وكذا رواه ابن ماجه والإمام أحمد من طريق الحسن البصري، "عن أنس، ولفظه: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا خطب يوم الجمعة يسند ظهره إلى خشبة، هي جذع نخلة، وفيه تكرر ذلك منه؛ لأن خبر كان إذا كان مضارعًا يفيد ذلك استعمالًا، كقولهم: كان حاتم يقري الضيف.
وفي التنزيل: وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة، "فلا كثر الناس، قال: "ابنوا لي منبرًا" أراد أن يسمعهم، فأرسل لامرأة من الأنصار أن مري غلامك النجار، كما في حديث سهل، ولا(6/534)
فبنوا له عتبتين، فتحوّل من الخشبة إلى المنبر، قال: فأخبر أنس بن مالك أنه سمع الخشبة تحنّ كحنين الواله، قال: فما زالت تحنّ حتى نزل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن المنبر فمشي إليها, فاحتضنها فسكتت.
ورواه أبو القاسم البغوي وزاد فيه: فكان الحسن إذا حدَّث بهذا الحديث بكى ثم قال: يا عباد الله, الخشبة تحنّ إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شوقًا إليه لمكانه من الله، فأنتم أحق أن تشتاقوا إلى لقائه.
__________
ينافي ذلك أن المشير بن تميم، وأن الرومي قال: ألا أصنع لك شيئًا، كما في الرواية قبله عن أنس؛ لأنه لما شقَّ عليه القيام على الجذع، وأراد إسماع الناس، أشار تميم بذلك، وقال له الرومي ما قال، فقال: "ابنو لي منبرًا" ثم أرسل المرأة، "فبنوا له عتبتين"، أي: درجتين، والثالثة هي التي يجلس عليها، كما في الرواية قبله، ولا يفهم من قوله: "ابنوا" وقوله: فبنوا أنه من طين؛ لأنه لم يثبت، كما قدَّمه المصنف في المقصد الأول، والذي في الصحيحين، أنه من أثقل الغابة، وهو بمثلثة شجر، كالطرفاء والغابة، بمعجمة موضع بالمدينة, "فتحوّل من الخشبة" أي: الجذع "إلى المنبر, قال" الحسن: "فأخبر أنس بن مالك، أنه سمع الخشبة تحنّ كحنين الواله، قال: فما زالت تحنّ حتى نزل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن المنبر، فمشى إليها فاحتضنها، فسكنت، تركت صياحها لزوال همّها وحزنها بمشيه لها وضمها، "ورواه أبو القاسم" الحافظ الكبير، مسند العالم عبد الله بن محمد بن عبد العزيز، "البغوي" الأصل، البغدادي، الإمام الجليل، المصنف العارف، طال عمره وتفرّد في الدنيا، ومات سنة سبع عشرة وثلاثمائة عن مائة وثلاث سنين، وهو متقدِّم على محيي السنة البغوي بزمان، "وزاد فيه: فكان الحسن" البصري، "إذا حدَّث بهذا الحديث بكى، ثم قال: يا عباد الل! الخشبة" أي: الجذع, "تحنَّ إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شوقًا إليه" مفعول مطلق لتحنّ، كجلست قعودًا، أو مفعول له الأوّل أَوْلَى، لقوله: "لمكانه من الله، بلام التعليل، إن لم يكن بدلًا من قوله إليه، أو علة متداخلة، فشوقًا علة لتحنّ، ولمكانه علة لشوقًا، أي: إن الخشبة اشتاقت لعلوّ مقامه وجلالة قدره، وهي جماد، "فأنتم أحق" من الجماد "أن تشتاقوا إلى لقائه", وذكر ابن عطية عن أبيه: سمعت أبا الفضل الجوهري في جامع مصر يقول على سرير وعظه، سنة تسع وستين وأربعمائة: من أحبَّ أهل الخير نال من بركتهم، كلب أحب أهل الكهف وصحبهم، فذكره الله في محكم تنزيله، فالخشبة تحنّ, والكلب يحب، فهذه عبرة لأولي الألباب.(6/535)
ولله در القائل:
وألقى حتى في الجمادات حبه ... فكانت لإهداء السلام له تهدى
وفارق جذعا كان يخطب عنده ... فأن أنين الأم إذا تجد الفقدا
يحن إليه الجذع يا قوم هكذا ... أما نحن أولى أن نحن له وجدا
إذا كان جذع لم يطق بعد ساعة ... فليس وفاء أن نطيق له بعدا
وأما حديث سهل بن سعد، ففي الصحيحين من طرق.
وأما حديث ابن عباس فعند الإمام أحمد بإسناد على شرط مسلم، ورواه ابن ماجه.
وأما حديث ابن عمر، ففي البخاري.
وأما حديث أبي سعيد الخدري، فعند عبد بن حميد.
__________
"ولله در القائل: وألقى حتى في الجمادات حبه" عليه السلام، "فكانت لإهداء السلام له تهدى،" أي: تدل لذلك، بأن يخلق الله فيها هداية للسلام عليه.
فارق جذعا كان يخطب عنده ... فأن أنين الأم إذا تجد الفقدا
بألف الإطلاق، وهو إشباع حركة الروى، فيتولد منها حرف مجانس لها، "يحن إليه الجذع يا قوم هكذا،" أي: الحنين الزائد المشبه بحنين الأم.
أما نحن أولى أن نحن له وجدا ... إذا كان جذع لم يطق بعد
بضم، فسكون "ساعة، فليس وفاء" منا، خبر ليس قدم على اسمها، وهو "أن نطيق له بعدا" وهو معرفة بل من أعرف المعارف، لأن المصدر المنسبك من أن، والفعل في رتبة الضمير، كما في المغني.
"وأما حديث سهل بن سعد، ففي الصحيحين" في الصلاة وغيرها "من طرق" عن سهل، قال: بعث صلى الله عليه وسلم إلى امرأة: "أن مري غلامك النجار يعمل لي أعوادا أجلس عليهن".
"وأما حديث ابن عباس، فعند الإمام أحمد، بإسناد على شرط مسلم،" ولا يلزم أنه كصحة ما رواه نفس مسلم، كما نبه عليه ابن الصلاح وغيره، ولذا كان من الرتبة السادسة من مراتب الصحيح، "ورواه ابن ماجه" وابن منيع والطبراني، كما مر،
"وأما حديث ابن عمر، ففي البخاري" مختصرا، وقدمت لفظه، "وأما حديث أبي سعيد الخدري، فعند عبد" بلا إضافة "ابن حميد" بن نصر الكسبي، بمهملة أبي محمد، قيل: اسمه(6/536)
وأمَّا حديث عائشة، فعند البيهقي وفي آخره: أنه -صلى الله عليه وسلم- خَيّرَ الجذع بين الدنيا والآخرة فاختار الآخرة.
وأما حديث بريدة، فعند الدارمي وفيه: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال له حين حَنَّ: "إن شئت أن أردَّك إلى الحائط الذي كنت فيه تنبت لك عروقك ويكمل خلقك، ويجدد لك خوص وثمرة، وإن شئت أغرسك في الجنة فيأكل أولياء الله من ثمرك؟ " ثم أصغى له النبي -صلى الله عليه وسلم- يستمع ما يقول، فقال: بل تغرسني في الجنة فيأكل مني أولياء الله, وأكون في مكان لا أبلى فيه، فسمعه من يليه، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم: "قد فعلت"، ثم قال: اختار دار البقاء على دار الفناء.
__________
عبد الحميد، وبذلك جزم ابن حبان وغير واحد، ثقة، حافظ، روى عن مسلم والترمذي، مات سنة تسع وأربعين ومائتين، وكذا رواه عنه الدارمي.
"وأمَّا حديث عائشة، فعند البيهقي" في الدلائل، ولم يذكرها أولًا فيمن أجمله من الصحابة، "وفي آخره: أنه -صلى الله عليه وسلم- خَيِّرَ الجذع بين الدنيا والآخرة، فاختار الآخرة" وفيه نوع إجمال بيته قوله.
"وأمَّا حديث بريدة، فعند الدارمي وفيه: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قاله حين حن: "إن شئت" بتاء الخطاب؛ لأنَّ الله خلق فيه إدراكًا "أن أردك إلى الحائط" أي: البستان، "الذي كنت فيه تنبت لك عروقك" بدل من أردك، أو مستأنف لبيان علة الرد إلى مكانه الذي نبت فيه، "ويكمل خلقك ويجدد ذلك خوص" بضم الخاء ورق النخل، "وثمرة" أي: يعود لك خلقتك بتمامها ونضارتها، "وإن شئت" غرسك، بالمفعول مقدر، "أغرسك في الجنة" بالجزم جواب الشرط، "فيأكل أولياء الله من ثمرك" , عطف على الجواب، فخيره بين الحياة الدنيوية والأخروية، "ثم أصغى" بمهملة فمعجمة: أمال رأسه" وقرَّبه له النبي -صلى الله عليه وسلم- يستمع ما يقول" أي: ليستمع قوله وجوابه: "فقال" الجذع: بل تغرسني في الجنة, أي: تصيرني من غراسها، فيأكل مني" أي: من ثمري "أولياء الله" المؤمنون، "وأكون في مكان لا أبلى -بفتح الهمزة: أفني وضمها خطأ "فيه" وهو الجنة كسائر أهلها وأشجارها، "فسمعه" أي: لام الجذع "من يليه" أي: الجذع أو النبي، أي: يقرب منه فسماعه لم يختص به النبي -صلى الله عليه وسلم, فقال النبي -صلى الله عليه وسلم: "قد فعلت" بضم التاء للمتكلم، أي: جعلتك من غراس الجنة، "ثم قال" صلى الله عليه وسلم: "اختار دار البقاء" الجنة "على دار الفناء" الدنيا، بفتح الفاء والمد: الذهاب والزوال.(6/537)
وأما حديث أم سلمة، فعند أبي نعيم في الدلائل.
والقصة واحدة، وما في ألفاظها مما ظاهره التغاير هو من الرواة. وعند التحقيق يرجع إلى معنى واحد، فلا نطيل بذكر ذلك, والله أعلم.
__________
"وأمَّا حديث أم سلمة، فعند أبي نعيم في الدلائل" النبوية، "والقصة واحدة، وما في ألفاظها مما هو ظاهره التغاير" الذي قد يأخذ منه من لا يعلم تعدد القصة، "هو من الرواة، وعند التحقيق" بالجمع بين المتغاير، "يرجع إلى معنى واحد، فلا نطيل بذكر ذلك" لأن غرضنا الاختصار، "والله أعلم", وقد قال بعض علماء الحديث: من جعل كل رواية غايرت الأخرى مرة على حدة، فقد أبعد وأغرب وهرب إلى غير مهرب.(6/538)
سجود الجمل وشكواه إليه "صلى الله عليه وسلم":
وأما كلام الحيوانات وطاعتها له -صلى الله عليه وسلم.
فمنها: سجود الجمل وشكواه إليه -صلى الله عليه وسلم. عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: كان أهل بيت من الأنصار لهم جمل يسنون عليه، وأنه استصعب عليهم فمنعهم ظهره،..............
__________
سجود الجمل وشكواه إليه "صلى الله عليه وسلم":
"وأمَّا كلام الحيوانات" أي: جنسها لا جميعها؛ إذ لم يرد كلام جميعها له، وإن انقادت له، وفرق بين الكلام اللفظي والانقياد بمعنى علمها به، وفي حديث: "ما بين السماء والأرض شيء إلا ويعلم أني رسول الله، إلا عاصي الجن والإنس"، رواه البيهقي وغيره، "وطاعتها له -صلى الله عليه وسلم" عطفها على الكلام، إشارة إلى أن الانقياد يكون بلفظ وبدونه، وجعل المصنف القصد هنا نفس الكلام، والانقياد والأحاديث دالة على ذلك، وفيما سبق من قوله.
وأمَّا ما روى من طاعات الجمادات، وتكليمها له، بيان الأحاديث المروية في ذلك، ولعل نكتته زيادة على التفنن، الإشارة إلى أن القصد بهما واحد يحصل بكل من العبارتين.
"فمنها" أي: هذه المعجزة المعبَّر عنها بمجموع الكلام والطاعة، وإلّا فالظاهر منهما بالتثنية؛ لأن كل واحد معجز بانفراده، ولعلَّ وجه العدول للإفراد النظر للمعنى، وهو أن كل واحد من الجزئيات مقصود بالإخبار به، وأنه معجز، "سجود الجمل وشكواه إليه -صلى الله عليه وسلم" كثرة العمل وقلة علف.
"عن أنس بن مالك -رضي الله عنه، كان أهل بيت من الأنصار لهم جمل يسنون" يسقون عليه، "وإنه استصعب عليهم فمنعهم ظهره،" أي: الانتفاع به، كنَّى عن ذلك بالظهر؛ لأن الانتفاع بالإبل، بالجمل على ظهورها غالبًا، وأن الأنصار" أصحاب هذا(6/538)
وأن الأنصار جاءوا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالوا: إنه كان لنا جمل نسني عليه، وإنه استصعب علينا ومنعنا ظهره، وقد عطش النخل والزرع، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه: "قوموا"، فقاموا فدخل الحائط، والجمل في ناحية فمشى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نحوه، فقالت الأنصار: يا رسول الله، قد صار مثل الكلب الكَلِب، وإنا نخاف عليك صولته، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "ليس علي منه بأس"، فلما نظر الجمل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أقبل نحوه حتى خَرَّ ساجدًا بين يديه، فأخذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بناصيته أذل ما كان قط،......................................
__________
الجمل "جاءوا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فقالوا: إنه كان لنا جمل" يحتمل إن كان للدوام، وأنها للانقطاع باعتبار استصعابه وقت الشكية منه، فكأن السقاية منه انقطعت، "نسني عليه" ظاهر هذا أنه يأتي، وفي الصحاح وغيره، سننت الناقة تسنو، إذا سقت الأرض، والقوم يسنون لأنفسهم إذا سقوا، وهذا ظاهر في أنه واوي، وهو صريح قوله قبل: يسنون عليه، وهو محذوف الواو، وأصله يسنون بواوين، حذفت أولاهما لثقل الضمّة عليها، فالتقى ساكنان، فحذفت لام الكلمة، ويحتمل أن نسني واوي وأصله نسنوي، قلبت الواو ياء، ثم حذفت، لالتقاء الساكنين، "وأنه استصعب علينا ومنعنا ظهره" عطف علة على معلول، "وقد عطش النخل والزرع، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه: "قوموا" معي، تأنسًا وضبطًا لما يفعله في سيره، فيقوي يقينهم بمشاهدة المعجزات، ويخبرون من وراءهم بها، "فقاموا، فدخل الحائط" البستان، "والجمل في ناحية" جانب منه، "فمشى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نحوه، فقالت الأنصار: يا رسول الله! قد صار مثل الكلب، بفتح، فسكون: الحيوان المعروف, "الكَلِب" بفتح، فكسر، أي: العقور الذي أصابه داء، كالجنون من أكل لحم الإنسان ونحوه، "وإنا نخاف عليك صولته" سطوته ووثوبه، "فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "ليس علي منه بأس" شدة وضرر لمنع الله له ذلك، "فلمَّا نظر الجمل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أقبل نحوه حتى خَرّ ساجدًا", أي: واضعًا مشفره بالأرض، باركًا "بين يديه" كما في رواية, وهي مبينة لسجوده؛ إذ السجود الحقيقي لا يتأتَّى من الجمل، "فأخذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بناصيته، أذلَّ" حال من الضمير المضاف لناصيته، مأخوذ من الذل -بالكسر، الانقياد لا بضمها الذي هو ضد العز، "ما كان قط" أي: حالة كونه منقادًا انقيادًا لم يسبق له مثله في زمن من الأزمنة الماضية، واستعمال قط غير مسبوقة بنفي أثبتها ابن مالك في الشواهد، قال: وهي مما خفي على كثير من النحاة لمجيئها بعد المثبت في مواضع من البخاري، منها: في الكسوف أطول صلاة صليتها قط، وفي أبي داود: توضأ ثلاثًا قط، وفي حديث حارثة بن وهب: صلَّى بنا النبي -صلى الله عليه وسلم(6/539)
حتى أدخله في العمل، فقال له أصحابه: يا رسول الله، هذه بهيمة لا تعقل تسجد لك, ونحن نعقل فنحن أحق بالسجود لك، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "لا يصلح لبشر أن يسجد لبشر، لو صلح لبشر أن يسجد لبشر لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها من عظيم حقه عليها"، رواه أحمد والنسائي بإسناد جيد.
والحائط: هو البستان.
وقوله: نسني -بالنون والسين المهملة- أي: نسقي عليه.
__________
ونحن أكثر ما كنَّا قط، وفي حديث جابر: "ما من صاحب إبل لا يفعل فيها حقها إلّا جاءت يوم القيامة أكبر ما كانت قط" , وفي حديث سمرة في صلاة الكسوف: فقام بنا كأطول ما قام بنا في صلاة، ثم ركع كأطول ما ركع بنا في صلاة قط، ثم سجد بنا كأطول ما سجد بنا في صلاة قط. ففي هذه الأحاديث استعمال قط غير مسبوقة بنفي، "حتى أدخله في العمل، فقال له أصحابه: يا رسول الله! هذه" أنت والجمل مذكر، مراعاة للخبر، وهو "بهيمة لا تعقل" صفة كاشفة، ففي القاموس: البهيمة كل ذات أربع قوائم ولو في الماء، أو كل حي لا يميز، والمراد الثاني، "تسجد لك، ونحن نعقل، فنحن أحق بالسجود لك" منها، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "لا يصلح لبشر أن يسجد لبشر" إنما يسجد لله، "لو صلح لبشر أن يسجد لبشر، لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها من عظم حقه عليها".
قال ابن العربي: فيه تعظيم وهو جائز، فقد سجدت الملائكة لآدم، وأخبر المصطفى أنه لا يكون، ولو كان لجعل للمرأة في آداب حق الزوج، وقال غيره فيه: إن السجود لمخلوق لا يجوز، وسجود الملائكة خضوع وتواضع له من أجل علم الأسماء التي علمها الله له وإنبائهم بها، فسجودهم إنما هو ائتمام به، لأنه خليفة الله، لا سجود عبادة, إن الله لا يأمر بالفحشاء.
"رواه أحمد والنسائي، بإسناد جيد"، رواته ثقات مشهورون، كما قاله المنذري وبقيته عندهما: "والذي نفسي بيده, لو كان من قدمه إلى مفرق رأسه يتبجّس بالقيح والصديد، ثم استقبلته تلحسه, ما أدت حقه" , ويتبجس -بفتح التحتية، والفوقية، والموحدة، والجيم الثقيلة، فسين مهملة: يتفجر، وفيه تأكيد حق الزوج، وحث على ما يجب من بره، ووفاء عهده، والقيام بحقه، "ولهن على الأزواج ما للرجال عليهن"، قاله بعض، "والحائط هو البستان" أي: المراد به ذلك تجوز، أو أصله اسم فاعل من حاطه، إذا أحاط به ودار عليه، ثم نقل للبستان نفسه الذي فيه الشجر والنخل، "وقوله: نسني بالنون والسين المهملة، أي: نسقي عليه" بيان المراد من هذه الصيغة، وقضيته أن ألفه منقلبة عن ياء، ومقتضى الصحاح، والنهاية والقاموس أنه واوي، كما مَرَّ، فقياسه نسنو، أو هما لغتان، حكاهما ابن مالك.(6/540)
وفي حديث يعلي بن مرة الثقفي: بينما نحن نسير مع النبي -صلى الله عليه وسلم؛ إذ مررنا ببعير يسنى عليه، فلمَّا رآه البعير جرجر، فوضع جرانه، فوقف عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: أين صاحب هذا البعير، فجاءه، فقال: "بعنيه"، فقال: بل نهبه لك يا رسول الله، وإنه لأهل بيت ما لهم معيشة غيره، فقال: "أما إذ ذكرت هذا من أمره، فإنه شكا كثرة العمل، وقلة العلف، فأحسنوا إليه"، رواه البغوي في شرح السنة.
والجران -بكسر الجيم، قال ابن فارس: مقدم عنق البعير من مذبحه إلى منحره.
وروى الإمام أحمد قصة أخرى نحو ما تقدَّم من حديث جابر ضعيفة السند، والبيهقي بإسناد جيد.
__________
"وفي حديث يعلى بن مرة الثقفي" تقدَّم التعريف به قريبًا: "بينما نحن نسير مع النبي -صلى الله عليه وسلم" في سفر، "إذ مررنا ببعير يسنى" بضم أوله، مبني للمجهول يسقى "عليه، فلمَّا رآه البعير جرجر"، بجيمين وراءين بلا نقط، أي: صوّت كثيرًا بشدة، وردَّد ذلك، لكن بالصوت المعتاد للإبل على المتبادر، ويكون وجه المعجزة قوله: "فوضع جرانه" بالكسرة مقدم عنقه، كما يأتي عند رؤيته -صلى الله عليه وسلم، فهذا من طاعة الحيوان مع فهمه -عليه السلام- من جرجرته شكواه، "فوقف عليه النبي -صلى الله عليه وسلم" من مزيد لطفه وشفقته على خلق الله، "فقال: "أين صاحب هذا البعير؟ " فجاءه، فقال: "بعنيه" فقال: بل نهبه لك يا رسول الله -صلى الله عليه وسلم" بلا عوض، "وإنه لأهل بيت ما لهم معيشة غيره، فقال: "أما إذا ذكرت هذا من أمره" فلا أقبله بشراء ولا هبة، فحذف جواب.
أما وقوله: "فإنه" ليس جوابها لعدم ترتبه عليه، فهو علة لمقدر رأى وطلبت شراءه، فإنه "شكا" بجرجرته فهم ذلك منها، أمر خارق أظهره الله له تعظيمًا وإجلالًا، قاله شيخنا.
وقال غيره: الظاهر أن شكايته بنطق فهي معجزة، "كثرة العمل وقلة العلف" بفتحتين، بمعنى المعلوف من قوت الدواب من حبوب وغيرها، "فأحسنوا إليه" بقلة العمل وكثرة العلف، "رواه البغوي" المتأخر "في شرح السنة" وتقدَّم بعض ترجمته، وقد روى حديث يعلى أحمد، والحاكم، والبيهقي بسند صحيح، والجران -بكسر الجيم، بعدها راء، فألف، فنون: "قال ابن فارس: مقدم عنق البعير من مذبحه" أي: محله لو ذبح, وهو ما تحت الحنك من الحلق, "إلى منحره" أي: لبته، وهي أصل العنق، "وروى الإمام أحمد قصة أخرى نحو ما تقدَّم" عن يعلى "من حديث ضعيفة السند، و" لكن رواها "البيهقي" في الدلائل"بإسناد جيد"؛ لأن(6/541)
وكذا روى الطبراني قصة أخرى عن عكرمة عن ابن عباس: لكن بإسناد ضعيف، والإمام أحمد أيضًا من حديث يعلى بن مرة.
__________
رجاله ثقات، وكذا رواها الدارمي، والبزار، واللفظ للبيهقي عن جابر: أن جملًا جاء إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فلما كان قريبًا منه، خَرَّ الجمل ساجدًا, فقال -صلى الله عليه وسلم: "يا أيها الناس! من صاحب هذا الجمل؟ " فقال فتية من الأنصار: هو لنا، قال: "فما شأنه؟ " قالوا: سنونا عليه عشرين سنة، فلمَّا كبر سِنّه أردنا نحره، فقال -صلى الله عليه وسلم: "تبيعونه؟ " قالوا: هو لك يا رسول الله، فقال: "أحسنوا إليه حتى يأتي أجله" فقالوا: يا رسول الله! نحن أحق أن نسجد لك من البهائم، فقال: "لا ينبغي لبشر أن يسجد لبشر، ولو كان النساء لأزواجهن".
وقد روى ذلك أيضًا أحمد في حديث طويل عن يعلى بن مرة، قال فيه: وكنت معه، يعني: النبي -صلى الله عليه وسلم، جالسًا ذات يوم؛ إذ جاء جمل حتى ضرب بجرانه بين يديه، ثم ذرفت عيناه، فقال: "ويحك أنظر لمن هذا الجمل, إن له لشأنًا" فخرجت ألتمس صاحبه، فوجدته لرجل من الأنصار، فدعوته إليه، فقال: "ما شأن جملك هذا؟ " , قال: لا أدري والله ما شأنه، عملنا عليه، ونضحنا عليه حتى عجز عن السقاية، فأتمرنا البارحة أن ننحره ونقسم لحمه، قال: "لا تفعل هبه لي أو بعنيه" قال: بل هو لك يا رسول الله، فوسمه بميسم الصدقة، ثم بعث به، قال المنذري: وإسناده جيد.
قال: وفي رواية لأحمد أيضًا نحوه, لكنه قال فيه: إنه قال لصاحب البعير: "ما لبعيرك يشكوك، زعم أنك شنأته حين كبر، تريد أن تنحره" , قال: صدقت والذي بعثك بالحق لا أفعل.
"وكذا روى الطبراني قصة أخرى عن عكرمة عن ابن عباس، لكن بإسناد ضعيف:" أن رجلًا من الأنصار كان له فحلان، فاغتلما، فأدخلهما حائط، فسد عليهما الباب، ثم جاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فأراد أن يدعو له, والنبي -صلى الله عليه وسلم- قاعد معه نفر من الأنصار، فقال: يا رسول الله! إني جئت في حاجة، وإنه كان فحلان لي اغتلما، وإني أدخلتهما حائطًا، وسددت عليهما الباب، فأحب أن تدعو لي أن يسخرهما الله -عز وجل، فقال -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه: "قوموا معنا"، ذهب حتى أتى الباب، فقال: "افتح" , فشفق الرجل على رسول الله، فقال: "افتح" ففتح، فإذا أحد الفحلين قريبًا من الباب، فلمَّا رأى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سجد له، فقال -صلى الله عليه وسلم: "ائتني بشيء أشد به رأسه وأمكنك به" فجاء بخطام فشد رأسه وأمكنه منه، ثم مشى إلى أقصى الحائط إلى الفحل الآخر، فلمَّا رآه وقع له ساجدًا، فقال للرجل: "ائتني بشيء أشد به رأسه"، فشد رأسه وأمكنه منه، وقال: "اذهب فإنهما لا يعصيانك" , ورواها "الإمام أحمد أيضًا من حديث يعلى بن مرة" الثقفي.(6/542)
وأخرج ابن شاهين في الدلائل عن عبد الله بن جعفر -رضي الله عنهما- قال: أردفني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذات يوم خلفه, فأسَرَّ إليَّ حديثًا لا أحدّث به أحدًا من الناس، قال: وكان أحب ما استتر به النبي -صلى الله عليه وسلم- لحاجته هدف أو حائش نخل، فدخل حائط رجل من الأنصار، فإذا جمل, فلمَّا رأى الجمل النبي -صلى الله عليه وسلم- حنَّ فذرفت عيناه، فأتاه النبي -صلى الله عليه وسلم- فمسح ذفراه، وفي رواية فسكن، ثم قال: "مَنْ رَبُّ هذا الجمل؟ لمن هذا الجمل؟ " فجاء فتى من الأنصار فقال: هو لي يا رسول الله، فقال: "ألا تتقي الله في هذه البهيمة التي ملكك الله إياها، فإنه شكا إلي أنك تجيعه وتدئبه"، قال في المصابيح: وهو حديث صحيح، قال: ورواه أبو داود عن موسى بن إسماعيل......................
__________
وأخرج ابن شاهين في الدلائل" ومن قبله الإمام أحمد، "عن عبد الله بن جعفر" الصحابي، ابن الصحابي "رضي الله عنهما، قال: "أردفني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذات يوم خلفه، فأسرَّ إليَّ حديثًا لا أحدث به أحدًا من الناس"؛ لكونه أسرَّه إليه، ففهم نهيه عن إفشائه، "قال: وكان أحبَّ ما استتر به النبي -صلى الله عليه وسلم- لحاجته" عند قضائها "هدف" بفتحتين كل شيء عظيم مرتفع على الأرض من بناء ونحوه، "أو حائش نخل،" بمهملة وهمزة وشين معجمة، "فدخل حائط رجل من الأنصار" لحاجته، ولا يرد كيف فعل ذلك بغير إذنه، وهو أيضًا قد نهى عن البول تحت الشجرة التي من شأنها أن تثمر، لأنه علم من الرجل السرور بذلك، فضلًا عن الرضا، ومحل النهي ما لم يغلب على الظنّ حصول ما يزيل أثر الحاجة على أنّ فضلاته ظاهرة، وكانت الأرض تبتلع ما يخرج منه، كما مَرَّ، "فإذا جمل، فلمَّا رأى الجمل النبي -صلى الله عليه وسلم- حنَّ، فذرفت، بفتحات من باب ضرب "عيناه" أي: سال دمعهما، "فأتاه النبي -صلى الله عليه وسلم- فمسح ذفراه" بالألف مقصور.
"وفي رواية: فسكن" ما به، "ثم قال: "من رَبُّ هذا الجمل، لمن هذا الجمل"؟ أعاده بمعناه للتأكيد، "فجاء فتًى من الأنصار، فقال: هو لي يا رسول الله، فقال: "ألا" بالفتح والتخفيف "تتقي الله في هذه البهيمة التي ملكك الله إياها، فإنه شكا إلي" بالنطق، أو بفهمه من فعله المذكور، وكل معجزة "أنك تجيعه وتدئبه" بضم التاء، وسكون الدال، وكسر الهمزة، وموحدة: تتعبه بكثرة العمل.
"قال" البغوي "في المصابيح: وهو حديث صحيح، قال: ورواه أبو داود عن" شيخه "موسى بن إسماعيل" المنقري -بكسر الميم، وسكون النون، وفتح القاف- التبوذكي، بفتح(6/543)
عن مهدي بن ميمون.
والحائش -بالحاء المهملة والشين المعجمة ممدودًا: هو جماعة النخل، لا واحد له من لفظه.
وقوله: ذفراه تأنيث ذفر، بكسر الذال المعجمة مقصور، وهو الموضع الذي يعرق من قفا البعير عند أذنه.
ومنها: سجود الغنم له -صلى الله عليه وسلم، عن أنس بن مالك قال: دخل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حائطًا لأنصاري ومعه أبو بكر وعمر ورجل من الأنصار، وفي الحائط غنم فسجدت له، فقال أبو بكر: يا رسول الله، نحن أحقّ بالسجود لك من الغنم، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا ينبغي لأحد بأن يسجد لأحد. ...............................
__________
الفوقية, وضمّ الموحدة، وسكون الواو، وفتح المعجمة، ثقة، ثبت، مات سنة ثلاث وعشرين ومائتين، "عن مهدي بن ميمون" الأزدي البصري، ثقة، روى له الجميع، مات سنة اثنتين وسبعين ومائة، "والحائش -بالحاء المهملة، والشين المعجمة، ممدودًا: هو جماعة النخل، أي: النخل المجتمع، لا واحد له من لفظه، وقوله: ذفراه تأنيث ذفر -بكسر الدال المعجمة, مقصور، هكذا في نسخ وهي ظاهرة.
وفي النهاية: الفذري مؤنثة، وألفها للتأنيث أو للإلحاق، وفي نسخة: تثنية ذفري، وفيه: إن ذفرى لايصح جعلها مفردًا مثنى، لاتحاد صورة المثنى والمفرد، فإنما تثنيته ذفريان بالألف رفعًا، وذفريين بالياء نصبًا وجرًّا، والحديث بلفظ ذفراه بالألف, إلّا على لغة من يلزم المثنى الألف في أحواله، وفي نسخة تثنية ذفر بلا ألف، ويصح مع قوله مقصور، وآن: رجع لقوله ذفراه، أشكل يجعل مفرده مذكرًا, وبما في القاموس والنهاية إنه مؤنف، "وهو الموضع الذي يعرق من قفا البعير عند أذنه", وفي القاموس: الذفري، بالكسر من جميع الحيوانات، من لدن القدم إلى نصف القذال، أو العظم الشاخص خلف الأذن، جمعه ذفريات وذفاري، "ومنها سجود الغنم له -صلى الله عليه وسلم، عن أنس بن مالك، قال: دخل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حائطًا" بستانًا "لأنصاري" لم يسمّ، ومعه أبو بكر، وعمر، ورجل من الأنصار" لم يسمّ, ويحتمل أنه أنس، أَبْهَمَ نفسه لغرض صحيح، وفي الحائط غنم، فسجدت له" تعظيمًا لما شاهدت نور نبوته، وألهمها الله معرفته، "فقال أبو بكر: يا رسول الله! نحن أحق بالسجود لك من الغنم، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "لا ينبغي" لا يجوز "لأحد أن يسجد لأحد" عبَّر به المخصوص بالنفي، ليشمل الواد وغيره، ويختص(6/544)
رواه أبو محمد عبد الله بن حامد الفقيه في كتاب دلائل النبوة له بإسناد ضعيف. وذكره القاضي عياض في الشفاء, وذكر أيضًا عن جابر بن عبد الله عن رجل أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- وآمن به وهو على بعض حصون خيبر، وكان في غنم يرعاها لهم، فقال: يا رسول الله، كيف لي بالغنم، قال: "احصب وجوهها, فإن الله سيؤدي عنك أمانتك, ويردها إلى أهلها"، ففعل فسارت كل شاة حتى دخلت إلى أهلها.
__________
بالعقلاء، فيه إشارة إلى أنَّ الغنم ونحوها لا يمتنع سجودها تعظيمًا، "رواه أبو محمد، عبد الله بن حامد الفقيه في كتاب دلائل النبوة له، بإسناد ضعيف", وأبعده المصنف النجعة, فقد رواه أحمد والبزار "وذكره القاضي عياض في الشفاء" بدون عزو, بل قال: وعن أنس فذكره، "وذكر بالبناء للفاعل، أي: عياض "أيضًا" بلا إسناد، وقد رواه البيهقي "عن جابر بن عبد الله، عن" قصة "رجل" وليس المراد أنه يروي عنه، وهو أسلم الحبشي، كذا سماه ابن عبد البر، واعترضه ابن الأثير، بأنه ليس في شيء من السياقات أن اسمه أسلم، قال في الإصابة: وهو اعتراض متجه، وقد سماه أبو نعيم يسارًا -بتحتية وسين مهملة- الحبشي.
وقال الرشاطي في الأنساب: أسلم الحبشي يوم خيبر، وقاتل، وقتل، وما صلى لله صلاة، فقال -صلى الله عليه وسلم: "إن معه الآن زوجة من الحور العين" انتهى، "أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- وآمن به، "وهو" أي: النبي لا الرجل، كما زعم "على بعض حصون خيبر" جمع حصن: القلعة التي يتحَصَّن بها لا القصر، كما زعم، "وكان" الرجل في غنمٍ يرعاها لهم" أي: لأهل خيبر, ولظرفية بمعنى المعية، أو مجازية، نحو: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ} فقال: يا رسول الله! كيف لي بالغنم، أي: ما أفعل بها إذا أسلمت، وهي في ملك غيري، وأنا أجيز، فإن رددتها خشيت على نفسي لإسلامي، وإن مكثت معك ضاعت، فأرشده إلى ما يدفع خوفه؛ إذ "قال: "أحصب وجوهها" بمهملتين: ارمها بالحصباء، وهي صغار الحصا، والصاد مكسورة من باب ضرب، وضمّها من باب قتل، "فإن الله سيؤدي عنك أمانتك" يوصلها "ويردها إلى أهلها" أصحابها المالكين لها, فتخرج أنت عن عهدي ضمانها "ففعل" ما أمره به "فسارت كل شاة حتى دخلت إلى أهلها", معجزة له -صلى الله عليه وسلم، فهذا من طاعة الحيوان له، وإنما فعل هذا؛ لأنه كان مستأمنًا بيده أمانة لأهل خيبر، فلذا ردَّها -صلى الله عليه وسلم- لأصحابها مع ما فيه من تطمين قلبه بخروجه عن عهدتها، ولذا لم يجعلها فيئًا، مع علمه أنها تكون كذلك بعد الفتح، وبقية هذا الحديث عند البيهقي، أنه شهد القتال فقتل، أصابه حجر، أو سهم، ولم يصل صلاة قط، فأخبر -صلى الله عليه وسلم- أنه رأى عنده حوريتين.(6/545)
كلام الذئب وشهادته له "صلى الله عليه وسلم" بالرسالة:
ومنها: قصة كلام الذئب وشهادته له -صلى الله عليه وسلم- بالرسالة.
اعلم أنه قد جاء حديث قصة كلام الذئب في عدة طرق من حديث أبي هريرة وأنس وابن عمر وأبي سعيد الخدري.
فأما حديث أبي سعيد، فرواه الإمام أحمد بإسناد جيد, ولفظه قال: عدا الذئب على شاة فأخذها، فطلبه الراعي فانتزعها منه, فأقعى الذئب على ذنب وقال: ألا تتقي الله؟ تنزع مني رزقًا ساقه الله إلي، فقال الراعي: يا عجبًا، ذئب مقع على ذنبه يكلمني بكلام الإنس، فقال الذئب: ألا أخبرك بأعجب من ذلك: محمد.......................................
__________
كلام الذئب وشهادته له "صلى الله عليه وسلم" بالرسالة:
"ومنها: قصة كلام الذئب" إضافة بيانية؛ إذ المراد معجزة الكلام، لا القصة، وعبَّر بقصة دون سابقة، نظرًا لقولهم قصة الجمل مثلًا، وأل في الذئب جنسية لتعدد القصة، بدليل روايتي أبي هريرة وكلامه، وإن كان لغيره، لكن إقراره به معجزة، "وشهادته" بالجر، عطف على كلام "له -صلى الله عليه وسلم- بالرسالة".
"اعلم: إنه قد جاء حديث قصة كلام الذئب في عدة طرق من حديث أبي هريرة، وأنس، وابن عمر" بن الخطاب "وأبي سعيد الخدري" المتبادر تعدد الطرق عن كل واحد من الأربعة، وليس بمراد، "فأمَّا حديث أبي سعيد، فرواه الإمام أحمد بإسناد جيد،" أي: مقبول، وكذا رواه الترمذي، والحكم، وصححاه.
"ولفظه: قال" أبو سعيد, لما ثبت ذلك عنده، وتحققه، وإن لم يحضره، فكان كالمشاهد له: عدا" هجم "الذئب على شاة، فأخذها" بغير اختيار صاحبها", فشابه الظالم المتجاوز الحد فعبَّر بعدا", وفي لفظ: عرض الذئب لشاة، "فطلبه الراعي" سعى خلفه حتى أدركه، وفي القاموس: طلبه طلبًا محركة، حاول وجوده وأخذه, فكأنه استعمل الطلب في محاولة الوجود، ومع ذلك فيه حذف، والتقدير: حاول وجوده حتى أدركه، "فانتزعها منه، فأقعى الذئب" ألصق ألييه بالأرض، ونصب ساقية, وتساند إلى ظهره، كما في الصحاح وغيره، فقوله: "على ذنبه" ليس صلة أقعى؛ لأن ليس من مسماه، فهو متعلق بمقدَّر، أي: واعتمد على ذنبه، أي: جعله بين رجليه، كما يفعل الكلب، ويفيد هذا ما يأتي في تفسير الاستنفار.
"وقال" للراعي: "ألا" حرف استفتاح "تتقي الله" تخافه وتحذره، "تنزع مني رزقًا" وفي رواية: حلت بيني وبين رزق "ساقه الله إلي", سخَّره لي بأن مكَّنَني منه، "فقال الراعي: يا عجبًا! ذئب مقع على ذنبه، يكلمني بكلام الإنسان، وفي رواية: البشر، وهما بمعنى, تعجب منه؛ إذ ليس شأنه، "فقال الذئب" مجيبًا له، زاد في رواية: أتعجب مني؟ قال: كيف لا أعجب من ذئب مستوفز ذنبه يتكلم، فقال الذئب: والله إنك لتترك أعجب من هذا، "ألا أخبرك بأعجب(6/546)
بيثرب يخبر الناس بأنباء ما قد سبق. قال: فأقبل الراعي يسوق غنمه حتى دخل المدينة، فزواها إلى زاوية من زواياها، ثم أتى -صلى الله عليه وسلم- فأخبره، فأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم, فنودي بالصلاة جامعة، ثم خرج فقال للأعرابي: "أخبرهم" فأخبرهم.
__________
من ذلك" وفي رواية: أنا أخبرك بأعجب من كلامي، قال: وماذا أعجب؟ قال: "محمد بيثرب" اسم المدينة المنورة قديمًا، وصحَّ النهي عن تسميتها به، "يخبر الناس بأنباء ما قد سبق" من الأمم السابقة وأحوالهم, وعَبَّر عن الأمم بما ليشمل ما وقع لغير العقلاء، كانفلاق البحر، وناقة صالحة، وإنما كان أعجب؛ لأن الإخبار بالغيب معجز، فهو أعجب من نطق حيوان، أنطقه من أنطق كل شيء، لكن ليس العجب واقعًا على مجرَّد إخباره بذلك، بل على جحدهم وتكذيبهم له, مع ظهور الآيات البينات على يديه، كما جاء في بعض طرق الحديث، مما ساقه في الشفاء وغيره، فقال: ألا أخبرك بأعجب من كلامي, رسول الله في النخلات بين الحجرتين يحدّث الناس عن نبأ سبق وما يكون بعد ذلك؟ وفي لفظ: يدعو الناس إلى الهدى وإلى الحق وهم يكذبونه، "قال" أبو سعيد: "فأقبل الراعي يسوق غنمه" المملوكة، ففي رواية: كان يرعى غنمًا له، "حتى دخل المدينة فزواها،" براي منقوطة "إلى زاوية من زواياها" أي: المدينة، "ثم أتى -صلى الله عليه وسلم، فأخبره", وقد اختلف في اسم مكلِّم الذئب المذكور، فقيل: أهبان بن أوس، وقيل: سلمة بن الأكوع، وأنه صاحب هذه القصة، وكانت سبب إسلامه، وقيل: أهبان بن الأكوع عن سلمة، وقيل: أهبان بن الأكوع بن عبّاد الخزاعي، وقيل: رافع بن ربيعة، وقيل: أهبان بن صيفي، وقيل: رافع بن عميرة الطائي، فإن كانت القصة تعدَّدت، فلا خلف، قال ابن عبد البر وغيره: كلّم الذئب ثلاثة من الصحابة: رافع بن عميرة، وسلمة بن الأكوع، وأهبان بن أوس، وروى البخاري في تاريخه، وأبو نعيم في الدلائل، عن أهبان بن أوس قال: كنت في غنم لي، فشدَّ الذئب على شاة منها، فصحت عليه، فأقعى الذئب على ذنبه يخاطبني، وقال: من لها يوم تشتغل عنها، تمنعني رزقًا رزقنيه الله تعالى، فصفقت بيدي وقلت: والله ما رأيت شيئًا أعجب من هذا، فقال: أعجب من هذا رسول الله بين هذه الخلات، يدعو إلى الله، فأتيت إليه وأخبرته وأسلمت، قال البخاري: إسناده ليس بالقوي، قال الحافظ: لأن فيه عبد الله بن عامر الأسلمي، وهو ضعيف.
"فأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم, فنودي بالصلاة جامعة،" بنصبهما على الحكاية، والأول إغراء، والثاني حال، ويجوز رفعهما على الابتداء والخبر، ونصب الأول، ورفع الثاني, وعكسه, قاله السيوطي وغيره في قول البخاري: باب النداء بالصلاة جامعة، ثم خرج من المحل الذي كان فيه حين أخبره الراعي، "فقال للأعرابي: "أخبرهم" بما شاهدته ليسرّوا ويزداد إيمانهم "فأخبرهم", وقضية سياقه أن الأمر بذلك كان عقب إخباره وليس بمراد، فالفاء للتعقيب مع التراخي كتزوج،(6/547)
وأما حديث ابن عمر فأخرجه أبو سعد الماليني والبيهقي, وأما حديث أنس فأخرجه أبو نعيم في الدلائل، وأما حديث أبي هريرة فرواه سعيد بن منصور في سننه قال: جاء الذئب فأقعى بين يدي النبي -صلى الله عليه وسلم, وجعل يبصبص بذنبه، فقال -صلى الله عليه وسلم: "هذا وافد الذئاب جاء يسألكم أن تجعلوا له من أموالكم شيئًا" , قالوا: والله لا نفعل، وأخذ رجل من القوم حجرًا ورماه به، فأدبر الذئب وله عواء، فقال -صلى الله عليه وسلم: "الذئب وما الذئب".
__________
فولد له، ففي حديث أبي هريرة عند أحمد، فقال له -صلى الله عليه وسلم: "إذا صليت الصبح معنا، فأخبر الناس بما رأيت" , فلما أصبح الرجل وصلى الصبح، أمر -صلى الله عليه وسلم- فنودي بالصلاة جامعة، ثم خرج، فقال للأعرابي: "أخبرهم" فأخبرهم، فقال -صلى الله عليه وسلم: "صدق، والذي نفسي بيده, لا تقوم الساعة حتى يخرج، أي: الرجل من أهله فيخبره نعله، أو سوطه، أو عصاه بما أحدث أهله من بعده".
"وأمَّا حديث ابن عمر، فأخرجه أبو سعد" بفتح، فسكون، الحافظ، العالم الزاهد, أحمد بن محمد بن أحمد بن عبد الل بن حفص الأنصاري الهروي، "الماليني" -بفتح الميم وكسر اللام وسكون التحتية، ونون- نسبة إلى مالين من أعمال هراة، سمع ابن عدي، والإسماعيلي، وابن نجيد، وأبا الشيخ وغيرهم، وعن الخطيب، والبيهقي وخلق، وكان ثقة متقنًا، من كبار الصوفية، مات بمصر يوم الثلاثاء، سابع عشر شوال، سنة اثنتي عشرة وأربعمائة، "والبيهقي" في الدلائل بنحوه.
"وأمَّا حديث أنس، فأخرجه أبو نعيم في الدلائل" النبوية بنحوه، "وأمَّا حديث أبي هريرة" وهو مروي على وجهين، أحدهما موافق لحديث أبي سعيد، وهو ما ذكره المصنف بعد بقوله: وروى البغوي...... إلخ، والثاني: قصة أخرى وقعت للذئب مع النبي -صلى الله عليه وسلم، وهو ما ذكره بقوله: "فرواه سعيد بن منصور" بن شعبة، أبو عثمان الخراساني، نزيل مكة، مصنف حافظ، مات سنة سبع وعشرين ومائتين، وقيل بعدها "في سننه".
"قال" أبو هريرة: "جاء الذئب، فأقعى بين يدي النبي -صلى الله عليه وسلم، وجعل يبصبص بذنبه،" أي: يحركه، يقال: بصبص الكلب بذنبه إذا حركه، كما في القاموس، "فقال -صلى الله عليه وسلم: "هذا وافد الذئاب، جاء يسألكم أن تجعلوا له من أموالكم شيئًا" لعله خاطبه بذلك أو أوحى إليه بالمعنى الذي جاء له الذئب أو أعلمه الله، بأنه يريد بتحريك ذنبه ذلك، "قالوا: والله لا نفعل، وأخذ رجل من القوم حجرًا ورماه به" خشية الحاجة، فيضَّجر المصطفى فبادر إلى صرفه عنه، أو خشي أن يأمرهم بشيء للذئاب، فلا يستطيعون "فأدبر الذئب وله عواء" بالضمِّ والمد، أي: صياح، "فقال -صلى الله عليه وسلم: "الذئب" خبر مبتدأ محذوف، أي: هذا الذئب قد رأيتموه, "وما الذئب" استفهام تفخيم لأمره، وأصله وما حاله، فوضع الظاهر موضع المضمر؛ لأنه أقوى في التفخيم على نحو: {الْحَاقَّةُ, مَا الْحَاقَّةُ} .(6/548)
وروى البغوي في شرح السنَّة وأحمد وأبو نعيم بسند صحيح عن أبي هريرة أيضًا قال: جاء ذئب إلى راعي غنم فأخذ منه شاة، فطلبه الراعي حتى انتزعها منه، قال: فصعد الذئب على تلٍّ واستثفر, وقال: عمدت إلى رزق رزقنيه الله أخذته انتزعته مني, فقال الرجل: تالله إن رأيت كاليوم ذئب يتكلم، فقال الذئب: أعجب من هذا رجل في النخلات بين الحرتين يخبركم بما مضى وما هو كائن بعدكم، ولا تتبعونه، قال: وكان الرجل يهوديًّا، فجاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم, فأخبره وأسلم, فصدَّقه النبي ثم قال -صلى الله عليه وسلم: "إنها أمارات بيني يدي الساعة، قد أوشك الرجل أن يخرج فلا يرجع حتى يحدثه نعلاه وسوطه بما أحدث أهله بعد".
قال القاضي عياض في الشفاء وفي بعض الطرق عن أبي هريرة: قال الذئب: أنت أعجب مني ,واقفًا على غنمك وتركت نبيًّا................................................
__________
"وروى البغوي في شرح السنة، وأحمد، والبزار، والبيهقي، "وأبو نعيم، بسند صحيح، عن أبي هريرة أيضًا، قال: جاء ذئب إلى راعي الغنم، فأخذ منها شاة، فطلبه الراعي حتى انتزعها منه، قال: فصعد الذئب على تلٍّ -بفوقية، ولام ثقيلة، معروف يجمع على تلال مثل سهم وسهام، "واستثفر" بإسكان المهملة والمثلثة بينهما فوقية مفتوحة ثم فاء، "وقال: عمدت" تصدت وزنًا ومعنًى، "إلى رزق رزقنيه الله" مكَّنَني منه، "أخذته" أنا، "انتزعته" أنت "مني", فقال الرجل: تالله" قسم "إن" نافية، أي: ما "رأيت كاليوم" الكاف بمعنى مثل, أي: ما رأيت هذا اليوم "ذئب" بالرفع جواب سؤال مقدر، كأنه قيل له: وما رأيت؟ فقال: الذي رأيت ذئب، وفي نسخ بالنصب، أي فقال: رأيت ذئبًا يتكلم" بكلام الإنس، "فقال الذئب: أعجب من هذا" أي: كلامي، "رجل في النخلات بين الحرتين" بفتح المهملة وشد الراء وتاء التأنيث- حرة وهي ثنية مرتفعة ذات حجارة سود، كأنها أحرقت بالنار، "يخبركم بما مضى" من أخبار الأمم، "وما هو كائن بعدكم ولا تتبعونه، قال: وكان الرجل يهوديًّا، فجاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فأخبره، وأسلم، فصدقه النبي -صلى الله عليه وسلم، ثم قال -صلى الله عليه وسلم- مشيرًا إلى ترك استغراب مثل ذلك: "إنها أمارات بين يدي الساعة، قد أوشك الرجل أن يخرج" من أهله "فلا يرجع حتى يحدثه نعلاه وسوطه بما أحدث أهله بعد" بالضم، أي: بعد خروجه.
"قال القاضي عياض في الشفاء: وفي بعض الطرق" بضمتين جمع طريق، مجاز عن الروايات "عن أبي هريرة" قال الذئب" للراعي: أنت" أي: حالك "أعجب مني" من حالي في حال كونك "واقفًا على غنمك" أي: راعيًا وحافظًا لها، وقد تركت نبيًّا، فالجملة حالية(6/549)
لم يبعث الله قط أعظم منه عنده قدرًا، وقد فتحت له أبواب الجنة وأشرف على أصحابه ينظرون قتالهم, وما بينك وبينه إلّا هذا الشِّعْب، فتصير في جنود الله. قال الراعي: من لي بغنمي؟ قال الذئب: أنا أرعاها حتى ترجع، فأسلم الرجل إليه غنمه ومضى، فذكر قصته وإسلامه ووجوده النبي -صلى الله عليه وسلم يقاتل، فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم: "عد إلى غنمك تجدها بوفرها، فوجدها كذلك، وذبح للذئب شاة منها".
واستنفر -بالسين والمثناة ثم المثلثة فاء وآخره راء- كاستفعل، أي: جعل ذنبه بين رجليه كما يفعل الكلب.
وقد روى ابن وهب مثل.......................................................
__________
بتقدير قد، "لم يبعث الله" نبيًّا "قط" من أنبيائه السابقة "أعظم، أجَلّ منه عنده قدرًا" منزلة، تمييز نسبة، "وقد فتحت" بالتخفيف والتشديد "له أبواب الجنة" جملة حالية أيضًا، "وأشرف على أصحابه، ينظرون قتالهم" وهم واقفون فيه صفوفًا كصفوف الملائكة، وفيه أنَّ الفتح حقيقي لا مجاز عن التهيئة، والإعداد كما زعم، "وما بينك وبينه إلّا هذا الشِّعْب" بكسر المعجمة، وسكون المهملة وموحدة، وهو: ما انفرج بين جبلين، يعني أنه قريب منك، لا عذر لك في التخلف عنه، فيجب عليك الذهاب إليه، "فتصير" معدودًا "في جنود الله،" حزبه المفلحين، فتخلفك مع هذا أعجب من نطقي الذي تعجبت منه.
"قال الراعي: من" يتكفَّل لي بغنمي" يحفظها أو من يرعاها لي، فمن استفهامية, حتى أذهب إليه وأجيء" قال الذئب: أنا أرعاها حتى ترجع" إليها من عنده, "فأسلم الرجل" الراعي إليه إلى الذئب غنمه، ومضى إليه -صلى الله عليه وسلم, فذكر له قصته مع الذئب وما كلَّمه به، "وإسلامه" الغنم له، "ووجوده النبي -صلى الله عليه وسلم- يقاتل" كما قاله الذئب، "فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم" بعدما قصَّ عليه وأسلم: "عد إلى غنمك تجدها بوفرها" -بفتح الواو وسكون الفاء- بتمامها وكمالها لم ينقص منها شيء من قولهم، أرض وافرة لم يرع نباتها, كذا فسروه وكأنه مراد, وإلا فالوفر الإتمام لا الالتمام، والذي بمعناه الوفور، كما في المصباح وغيره، فعاد إليها، فوجدها كذلك" تامَّة لم ينقص منها شيء وذبح للذئب شاة منها" جزاءً له على صنيعه وإرشاده للهدى.
واستثفر بالسين" المهملة" والمثناة الفوقية، "ثم المثلثة" تليها "فاء وآخره راء كاستفعل، أي: بزنته أي جعل ذنبه بين رجليه، كما يفعل الكلب" بيان للمراد باستثفار الذئب، وإن أطلق الاستثفار على معان آخر في اللغة، ثم قال عياض: "وقد روى ابن وهب مثل(6/550)
هذا أنه جرى لأبي سفيان بن حرب وصفوان بن أمية مع ذئب وجداه أخذ ظبيًا، فدخل الظبي الحرم, فانصرف الذئب عنه, فعجبا من ذلك, فقال الذئب: أعجب من ذلك محمد بن عبد الله بالمدينة يدعوكم إلى الجنة وتدعونه إلى النار، فقال أبو سفيان: واللات والعزّى، لئن ذكرت هذا بمكة لتتركنّها خلوفًا - بضم الخاء المعجمة, أي: فاسدة متغيّرة، يعني: يقع الفساد والتغيّر في أهلها.
__________
هذا" المذكور من كلام الذئب، "أنه جرى لأبي سفيان بن حرب" بدل من مثل هذا، "وصفوان بن أمية" قبل إسلامهما "مع ذئب وجداه أخذ ظبيًا" أي: أراد أخذه، فجرى خلفه من الحل ليأخذه, بقرينة قوله: "فدخل الظبي الحرم، فانصرف الذئب عنه؛ لأنه في الحرم المحرم صيده، أو أنه انفلت منه بعد أخذه، "فعجبا من ذلك" أي: من كون الذئب عرف حرمة الحرم، وكفَّ عن صيد أمكنه، وليس من العقلاء، "فقال الذئب" لما سمع تعجبهما، أو علمه من حالهما، "أعجب من ذلك" الفعل الواقع مني، "محمد بن عبد الله" كائن "بالمدينة يدعوكم إلى الجنة" بدعائه إلى الإسلام المقتضي لدخولها، "وتدعونه إلى النار" بقولكم: لم لا توافقنا وتعبد آلهتنا, مما هو سبب للخلود فيها، وكان هذا أعجب لمخالفته لما يقتضيه العقل، ونطق حيوان أعجم بقدرة الله وإقداره ليس بعجيب في النظر السديد والعقل السليم، وليس بأعجب من عبادة الحجارة، فقال أبو سفيان: واللات والعزَّى لئن ذكرت" بضم التاء، أي: أنا، وبفتحها، أي: أنت يا صفوان "هذا" الذي قاله الذئب في شأن محمد بمكة لأهلها لتتركنَّها خلوفًا -بضم الخاء المعجمة واللام، وإسكان الواو وفاء، "أي: فاسدة متغيرة، يعني: يقع الفساد والتغيّر في أهلها" بإسلامهم, فيغير دينهم الذي يزعمون أنه حق، وهو ضلال باطل من خلف، بمعنى تغيّر، كقوله -صلى الله عليه وسلم: "لخلوف فم الصائم" أي: تغيّر ريحه، وقيل معناه: خالية من أهلها، بأن يسلموا ويهاجروا؛ إذ من سمع ذلك لا يتردد في صحة رسالته وسعادة متبعه، من قولهم: أتيت الحي فوجدته خلوفًا، أي: ليس فيه أحد من الرجال بل النساء، ويقال لهن الخوالف كما في التنزيل؛ لأنهن يخلفن الرجال، وما اقتصر عليه المصنف أظهر؛ لأن الفساد الذي زعموه لا يختص بالرجال، بل عندهم كل م أسلم فسد دينه، رجلًا كان أو امرأة.(6/551)
حديث الحمار:
ومن ذلك حديث الحمار: أخرج ابن عساكر عن أبي منظور، قال: لما فتح رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خيبر, أصاب حمارًا أسود، فكلّم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الحمار، فكلمه الحمار، فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "ما اسمك؟ " قال: يزيد بن شهاب، أخرج الله من نسل جدي ستين حمارًا كلهم لا يركبه إلّا نبي، وقد كنت أتوقعك أن تركبني، لم يبق من نسل جدي غيري, ولا من الأنبياء غيرك, وقد كنت قبلك لرجل يهودي, وكنت أتعثّر به عمدًا، وكان يجيع بطني ويضرب ظهري، فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم: "فأنت يعفور،..............................................
__________
حديث الحمار:
"ومن ذلك", أي: كلام الحيوانات وطاعتها له "حديث الحمار" إضافة لأدنى ملابسة، أي: الخبر المتعلق بشأنه "إخراج ابن عساكر عن أبي منظور،" بفتح الميم، وسكون النون، وضم الظاء المعجمة، قال في الإصابة في الكنى: غير منسوب ذكره في خبر واهٍ، "قال: لما فتح رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خيبر أصاب حمارًا أسود، فكلّم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الحمار، فكلَّمه الحمار،" لعله علم بحاله، فابتدأه بالكلام ليظهر ما أخبره به، أو أوحي إليه بتكليمه، لظهور هذه المعجزة, "فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "ما اسمك؟ " من عطف المفصل على المجمل، بيان لما كلمه به على نحو: توضأ فغسل وجهه، "قال: يزيد بن شهاب" اسم أبيه دنية على الظاهر، ويحتمل أنه جده الذي قال فيه: "أخرج الله من نسل جدي ستين حمارًا" يحتمل أنه اقتصر على الستين، لوصفهم بقوله: "كلهم لا يركبه إلّا نبي" فلا ينافي أن فيهم إناثًا لم يركبها نبي، ويؤيده أن في لفظ: كان في آبائي ستون، وكأنه ألهم ذلك، فنطق به على حد: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ} ، وقد زاد في الجواب على السؤال التذاذًا بخطاب الرسول نظير قوله: {هِيَ عَصَايَ} الآية. فإنه يطال الكلا م مع الأحبة تلذّذًا، أو ليرغب فيه، خوفًا أن يدفعه لغيره، ففيه حضّه على أخذه واختصاصه به، ولا يجعله غنيمة أو في الغنيمة، وعبَّر بكلهم -بميم الجمع الموضوعة للعقلاء- تشبيهًا لأصوله بالعقلاء، لشرفهم بركوب الأنبياء لهم، "وقد كنت أتوقعك أن تركبني" بدل اشتمال من الكاف في أتوقعك؛ لأنه لم يبق من نسل جدي غيري،" قد يشعر بأنه من جملة الستين، "ولا من الأنبياء غيرك،" فلذا كنت أتوقع ركوبك، وظاهرًا، وصريح قوله: لا يركبه إلّا نبي، الحضر فينا في قوله: "وقد كنت قبلك" أي: قبل وجودك بخيبر، أو قبل اختصاصي بك، رجاء أن لا يأخذه إلّا هو، فلا يرد أنه لم يذكر أنه اختص به حتى يقول قبلك، "لرجل يهودي" يركبني، بناء على أنه من الستين، إلّا أن يكون الحصر بناء على الغالب، أو المعنى لا يعده لركوبه ويقتصر عليه إلّا نبي دون غيره، أو أنه سلب الحكم عن الجملة، فهو من سلب العموم، لا عموم السلب، "وكنت أتعثّر به عمدًا،" أي: أتكلف العثار، كراهة لركوبه علي، "وكان يجيع بطني ويضرب ظهري" كناية عن أذاه أعمّ من كونه يضرب ظهره، أو بالنخس أو بغيرهما، "فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم: "فأنت" اسمك "يعفور" مفرع على عثارة؛ لأنه يثير الغبار، أو لأنه أسود فشبهه، بالتراب، فسماه يعفورًا، كذا تكلف، وقد قدّم في دوابه -عليه السلام- قول(6/552)
فكان -صلى الله عليه وسلم- يبعثه إلى باب الرجل فيأتي الباب فيقرعه برأسه, فإذا خرج إليه صاحب الدار أومأ إليه أن أجب رسول الله، فلمَّا قُبِضَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم, جاء إلى بئر كانت لأبي الهيثم بن التيهان فتردَّى فيها جزعًا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم. ورواه أبو نعيم بنحوه من حديث معاذ بن جبل، لكن الحديث مطعون فيه، وذكره ابن الجوزي في الموضوعات.
وفي معجزاته -عليه الصلاة والسلام- ما هو أعظم من كلام الحمار وغيره.
__________
الحافظ وغيره يعفور بالصَّرف، اسم ولد الظبي، كأنه سمي بذلك لسرعته، وقيل: تشبيهًا في عدوه باليعفور، وهو الخشف، أي: ولد الظبي وولد البقر الوحشية. انتهى.
وفي التلمساني: منوّن مصروف، وروي بمنع الصرف للعلمية ووزن الفعل؛ كيعقوب, وتعقب بأن زيادة الواو أخرجته عن شبه الفعل، فالظاهر صرفه، ويعقوب إنما منع للعلمية والعجمة، لا لوزن الفعل, ألا ترى أن يعفر -بضم الياء- يصرف؛ لأنه قد زال عنه شبه الفعل، كما في الصحاح، وليس في أوزان الفعل يفعول، "فكان -صلى الله عليه وسلم- يبعثه إلى باب الرجل" من أصحابه، "فيأتي الباب فيقرعه" يضربه "برأسه، فإذا خرج إليه صاحب الدار أومأ إليه" برأسه "أن أجب رسول الله", وفهم مراد المصطفى -صلى الله عليه وسلم، بإلهام من الله، فهو معجزة؛ إذ سخره له وفهم مراده، "فلمَّا قبض رسول الله -صلى الله عليه وسلم, جاء إلى بئر كانت لأبي الهيثم بن التيهان -بفتح الفوقية وكسر التحتية المشددة، وهاء فألف فنون- الصحابي الجليل المشهور، "فتردّى" ألقى نفسه وطرحها "فيها جزعًا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم", فمات وكانت قبره، كما عند ابن حبان في الضعفاء.
وقال الواقدي: مات يعفور منصرف النبي -صلى الله عليه وسلم- من حجة الوداع، وبه جزم الثوري عن ابن الصلاح، "ورواه أبو نعم بنحوه من حديث معاذ بن جبل؛ لكن الحديث مطعون فيه،" أخرجه ابن حبان في الضعفاء، وقال: لا أصل له، وليس سنده بشيء، وأبو موسى المديني في الصحابة، قال: وهذا حديث منكر جدًّا إسنادًا ومتنًا, لا أحلّ لأحد أن يرويه عنِّي إلا مع كلامي عليه، وهو في كتاب بركة النبي -صلى الله عليه وسلم، تخريج أبي طاهر المخلص.
"وذكره ابن الجوزي في الموضوعات", وتعقب بأنه شديد الضعف فقط، كما قال في الإصابة إسناده واهٍ لا موضوع، "وفي معجزاته -عليه الصلاة والسلام- ما هو أعظم من كلام الحمار وغيره", وليس فيه ما ينكر شرعًا، فلا بدع في وقوعه له، فنهايته الضعف لا الوقع على قياس قول المصنف بعد في الضب.
وقال شيخنا، أي: فبتقدير كون كلام الحمار لا أصل له، لا ينقص ذلك من مقامه شيئًا،(6/553)
ومن ذلك: من حديث الضب، وهو مشهور على الألسنة، ورواه البيهقي في أحاديث كثيرة، لكنه حديث غريب ضعيف. قال المزي: لا يصح إسنادًا ولا متنًا، وذكره القاضي عياض في الشفاء، وقد روي من حديث ابن عمر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان في محفل من أصحابه؛ إذ جاءه أعرابي من بني سليم قد صاد ضبًّا جعله في كمّه؛ ليذهب به إلى رحله فيشويه ويأكله، فلمَّا رأى الجماعة قال: من هذا؟ قالوا: نبي الله،
__________
لكثرة معجزاته وعظمتها، وفيه: إن مسلمًا لا يتوهّم نقصًا حتى ينصّ على نفيه، "ومن ذلك حديث الضب" -بفتح المعجمة وموحدة ثقيلة- حيوان بري يشبه الورل, قال ابن خالويه: لا يشرب الماء ويعيش سبعمائة سنة فصاعدًا، ويقال: إنه يبول في كل أربعين يومًا قطرة, ولا يسقط له سن, ويقال: إن أسنانه قطعة واحدة ليست متفرقة, ويرجع في قيئه كالكلب, ويأكل رجيعه, وهو طويل الدماء بعد الذبح وهشم الرأس, يمكث ليلة ويلقى في النار فيتحرك كما في حياة الحيوان "وهو مشهور على الألسنة, ورواه البيهقي في أحاديث كثيرة, لكنه حديث غريب ضعيف".
"قال الحافظ أبو الحجاج جمال الدين، يوسف بن الذكي، عبد الرحمن الحلبي الأصل، الدمشقي الدار والمنشأ, "المزي" بكسر الميم، وتشديد الزاي المكسورة، نسبة إلى المزة، قرية بدمشق, ولد بحلب سنة أربع وخمسين وستمائة، ونشأ بالمزة، وتفقه قليلًا، ثم أقبل على الحديث، ورحل، وسمع الكثير، ونظر اللغة ومهر فيها، وفي التصريف، وقرأ العربية.
وأمَّا معرفة الرجال: فهو حامل لوائها, والقائم بأعبائها، لم تر العيون مثله, صنَّف تهذب الكمال والأطراف، وأملى مجالس، وأوضح مشكلات ومعضلات ما سبق إليها من علم الحديث ورجاله، وولي مشيخة دار الحديث الأشرفية, مات يوم السبت، ثاني عشر صفر، سنة اثنتين وأربعين وسبعمائة، "لا يصح إسنادًا" لضعف رواته, "ولا متنًا" وهو لفظ الحديث، "وذكره القاضي عياض في الشفاء" فقال: "وقد روي" عند الطبراني، والبيهقي، وشيخه الأكم وشيخه ابن عديّ، كلهم "من حديث ابن عمر، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان في محفل" بفتح الميم، وسكون المهملة، وكسر الفاء: جمع كثير، "من أصحابه؛ إذ جاءه أعرابي" أي: دخل عليهم بغتة رجل من البادية لا يعرف "من بني سليم" بضم ففتح "قد صاد ضبًّا" جملة حالية، "جعله في كمه ليذهب به إلى رحله فيشويه ويأكله" على عادة الأعراب، فلمَّا رأى الجماعة" الصحابة، "قال" لهم: "من هذا"؛ لأنه ينكره أو لم يعرفه، "قالوا: نبي الله" ولفظ الدارقطني ومن بعده، فقال: على من هؤلاء الجماعة، فقالوا: على هذا الذي يزعم أنه نبي، فأتاه فقال: يا محمد! ما اشتملت النساء على ذي لهجة أكذب منك، فلولا أنَّ تسمين العرب عجولًا، لقتلتك ولسررت الناس بقتلك أجمعين، فقال عمر: يا رسول الله! دعني أقتله، فقال -صلى الله عليه وسلم: "أما علمت أن(6/554)
فأخرج الضب من كمه وقال: واللات والعزى لا آمن بك أو يؤمن هذا الضب. وطرحه بين يدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم: "يا ضب"، فأجابه بلسان مبين يسمعه القوم جميعًا: لبيك وسعديك يا زين من وافى القيامة، قال: "من تعبد؟ " قال: الذي في السماء عرشه, وفي الأرض سلطانه, وفي البحر سبيله, وفي الجنة رحمته, وفي النار عقابه. قال: "فمن أنا؟ قال: رسول رب العالمين وخاتم النبيين، وقد أفلح من صدَّقك وخاب من كذَّبك,
__________
الحليم كاد أن يكون نبيًّا"، ثم أقبل الأعرابي على رسول الله، "فأخرج الضب من كمه، وقال: واللات والعزى"صنمان عُبِدَا في الجاهلية، "لا آمنت بك،" أي: بأنك رسول الله، "أو يؤمن" بالنصب، أي إلى، أو إلّا، وفي رواية: حتى يؤمن "هذا الضب", فأؤمن أنا بك أيضًا لمشاهدة المعجزة، "وطرحه بين يدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم", أي: في مقابلته قريبًا منه، "فقال النبي -صلى الله عليه وسلم: "يا ضب" بالضم -منادى مفرد، "فأجابه بلسان مبين كلامه, أو بكلام ظاهر مفهوم.
وفي رواية الداقطني ومن معه: فكلَّمه الضب بلسان طلق فصيح، عربي مبين" يسمعه, وفي رواية يفهمه القوم الذين عنده جميعًا: "لبيك" مثنى منصوب على المصدرية، أي: إجابة لك بعد إجابة, "وسعديك" أي: مساعدة وطاعة لك بعد الطاعة, "يا زين" أي: من يزين ويحسن كل "من وافى" حضر القيامة، جعله مزينًا لأهلها ومن بها؛ لأنه سيدهم وقائدهم، والشفيع فيهم، وهذه العبارة شائعة في لسان عامة العرب، يقولون: يا زين القوم لأشرفهم وأحسنهم، "قال -صلى الله عليه وسلم: "من تعبد" سأله ليقر بعبودية الله، فوصفه بما يعرفه كل أحد؛ إذ "قال: "أعبد الذي في السماء عرشه" المراد السماء: ما قابل الأرض أو جهة العلوّ، فلا ينافي أن العرش فوق السماوات، كما قال: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} الآية. "وفي الأرض سلطانه" أي: يظهر عدله وحكمه وقهره لمن فيها من الثقلين, وسلطانه، وإن كان على كل موجود, لكن ظهوره فيمن قد يخالف ظاهر فيها، "وفي البحر سبيله:" طريقه التي جعلها مسلوكة لعباده، بتسخير الرِّيح ونحوه، مما لا يقدر عليه غيره، كما قال تعالى: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} الآية. ولذا كان الكفار لا يدعون فيه سواه، كما قال: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [العنكبوت: 56] الآية.
وقال التلمساني: معناه واضح قدرته، أي: ما يدل على كمال قدرته وباهر آياته, أو معناه: سبيل عباده الذين يستدلون بصنعه عليه سبحانه، "وفي الجنة رحمته" المختصة العظيمة الباقية, وإن كان رحيم الدنيا والآخرة، وفي النار عقابه، وفي رواية: عذابه, فلإيمانه بالله وصفه بما هو مختص به، دالّ على عظمته، "قال" ليكمل إيمانه: "فمن أنا؟ " قال: رسول الله رب العالمين" إشارةً إلى عموم رسالته لكل موجود حتى الحيوان والجماد، "وخاتم النبيين" فلا نبي بعدك، "وقد(6/555)
فأسلم الأعربي. الحديث بطوله, وهو مطعون فيه, وقيل: إنه موضوع. لكن معجزاته -عليه
__________
أفلح فاز بسعادة الدارين "مَنْ صدقك:" أقرَّ برسالتك، "وخاب:" لم ينجح، ولم يظفر بالمأمول "من كذبك" بإنكار رسالتك، وعدم إجابة دعوتك، "فأسلم الأعرابي" لما رأى المعجزة البينة, وعلم علمًا ضروريًّا بتوحيد الله، وأنه رسوله، "الحديث بطوله" تتمته عند الدارقطني وابن عدي، ومن بينهما, فقال الأعرابي: أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله حقًّا، ولقد أتيتك وما على وجه الأرض أحد هو أبغض إلي منك، والله لأنت الساعة أحب إلي من نفسي، وولدي، وشعري، فقد آمن بك شعري وبشري، داخلي وخارجي، وسري وعلانيتي، فقال -صلى الله عليه وسلم: "الحمد لله الذي هداك إلى هذا الدين الذي يعلو ولا يعلى عليه، ولا يقبله الله إلا بصلاة، ولا يقبل الصلاة إلّا بقرآن" , قال: فعلمني، فعلمه -صلى الله عليه وسلم- الفاتحة والإخلاص، فقال: يا رسول الله, ما سمعت في البسط ولا في الوجيز أحسن من هذا، فقال -صلى الله عليه وسلم: "هذا كلام رب العالمين وليس بشعر، إذا قرأت {قُلْ ُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} الآية. مرة، فكأنما قرأت ثلث القرآن، وإن قرأتها مرتين، فكأنما قرأت ثلثي القرآن، وإن قرأتها ثلاثًا، فكأنما قرأت القرآن كله", فقال الأعرابي: نِعْمَ الإله إلاهنا, يقبل اليسير ويعطي الكثير، ثم قال -صلى الله عليه وسلم: "ألك مال" , فقال: ما في سليم قاطبة أفقر مني، فقال لأصحابه: "أعطوه" , فأعطوه حتى أثروه، فقال عبد الرحمن بن عوف: إني أعطيه يا رسول الله ناقة عشراء، أهديت إلي يوم تبوك، تلحق ولا تلحق، أتقرَّب بها إلى الله دون البختي وفوق العرابي، فقال -صلى الله عليه وسلم: "قد وصفت ما تعطي، فأصف لك ما يعطيك الله" , قال: نعم، قال: "لك ناقة من درة جوفاء، قوائمها من زمرد أخضر، وعنقها من زبرجد أصفر، عليها هودج، وعلى الهودج السندس والإستبرق، تمر بك على الصراط كالبرق الخاطف"، فخرج الأعرابي من عند رسول الله، فتلقَّاه ألف أعرابي من بني سليم، على ألف دابّة، بألف رمح وألف سيف، فقال لهم: أين تريدون، فقالوا: نريد هذا الذي يكذب، ويزعم أنه نبي، فقال الأعرابي: إني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، فقالوا: صبوت, فحدَّثت بحديثه، فقالوا كلهم: لا إله إلا الله محمد رسول الله, ثم أتوا النبي -صلى الله عليه وسلم, فتلقاهم بلا رداء, فنزلوا عن ركائبهم يقبّلون ما ولوا منه، وهم يقولون: لا إله إلا الله محمد رسول الله، وقالوا: يا رسول الله, مرنا بأمرك، قال: "كونوا تحت راية خالد بن الوليد"، قال ابن عمر: فلم يؤمن في أيامه -صلى الله عليه وسلم- من العرب، ولا من غيرهم ألف غيرهم، "وهو مطعون فيه" بالضعف.
"وقيل: إنه موضوع" زعم ذلك ابن دحية، وليس كما زعم، قال القطب الخضيري: رجال أسانيده، وطرقه ليس فيهم من يتهم بالوضع، وأما الضعف، ففيهم, ومثل ذلك لا يتجاسر على دعوى الوضع فيه، "لكن معجزاته -عليه الصلاة والسلام- فيها ما هو أبلغ من هذا،" فلا(6/556)
الصلاة والسلام- فيها ما هو أبلغ من هذا, وليس فيه ما ينكر شرعًا, خصوصًا وقد رواه الأئمة, فنهايته الضعف لا الوضع، والله أعلم.
__________
بدع في كون هذا منها، "وليس فيه ما ينكر شرعًا، خصوصًا وقد رواه الأئمة" الحفاظ الكبار، كابن عدي وتلميذه الحاكم، وتلميذه البيهقي، وهو لا يروي موضوعًا, والدارقطني وناهيك به، "فنهايته الضعف لا الوضع" كما زعم كيف، ولحديث ابن عمر طريق آخر، ليس فيه السلمي، رواه أبو نعيم، وورد مثله من حديث علي عند ابن عساكر، وابن عباس، رواه ابن الجوزي، ومن حديث عائشة وأبي هريرة عند غيرهما، "والله أعلم" بما في نفس الأمر.(6/557)
حديث الغزالة:
ومن ذلك: حديث الغزالة: روى حديثها البيهقي من طرق، وضعَّفه جماعة من الأئمة، لكن له طرق يقوي بعضها بعضًا، وذكره القاضي عياض في الشفاء، ورواه أبو نعيم في الدلائل بإسناد فيه مجاهيل، عن حبيب بن محصن عن أم سلمة -رضي الله عنها- قالت: بينما رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في صحراء من الأرض إذا هاتف يهتف:
__________
حديث الغزالة:
"ومن ذلك حديث الغزالة" أي: كلامها له، وأمَّا تسليمها المشهور على الألسنة وفي المدائح, فقال السخاوي: ليس له -كما قال ابن كثير- أصل، ومن نسبه إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقد كذب، ولكن ورد الكلام في الجملة، وفي فتح الباري، وأمَّا تسليم الغزالة، فلم أجد له إسناد إلّا من وجه قوي، ولا من وجه ضعيف.
"روى حديثها البيهقي من طريق" من حديث أبي سعيد، "وضعَّفه جماعة من الأئمة" حفاظ الحديث ونقاده، "لكن له طرق يقوي بعضها بعضًا"؛ لأن الطرق إذا تعددت وتباينت مخارجها، دلَّ ذلك على أن للحديث أصلًا، فيكون حسنًا لغيره لا لذاته، "وذكره القاضي عياض في الشفاء" بلا سند، عن أم سلمة بدون تمريض, فيدل على قوته، "ورواه أبو نعيم في الدلائل" النبوية، "بإسناد فيه مجاهيل، عن حبيب بن محصن، عن أم سلمة" هند بنت أبي أمية، أم المؤمنين، "رضي الله عنها- قالت: بينما رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في صحراء من الأرض", وفي حديث أنس عند أبي نعيم: كنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في بعض سكك المدينة، فمررنا بخباء، وإذا بظبية مشدودة إلى الخباء، فكأنَّ السكة التي مَرَّ بها كانت واسعة, فسماها صحراء مجازًا، ومرورهم بالخباء بعد سماع الهاتف، فلا يخالف قوله: "إذا هاتف يهتف" صائح يصيح بالنطق:(6/557)
يا رسول الله, ثلاث مرات, فالتفت فإذا ظبية مشدودة في وثاق، وأعرابي منجدل في شملة نائم في الشمس، فقال: "ما حاجتك؟ " قالت: صادني هذا الأعرابي، ولي خشفان في ذلك الجبل فأطلقني حتى أذهب فأرضعهما وأرجع، قال: "وتفعلين؟ " قالت: عذبني الله عذاب العشار إن لم أعد, فأطلقها فذهبت ورجعت, فأوثقها النبي -صلى الله عليه وسلم, فانتبه الأعرابي وقال: يا رسول الله, ألك حاجة؟ قال: "تطلق هذه الظبية،
__________
يا رسول الله -ثلاث مرات، فالتفت فإذا ظبية مشدودة في وثاق، وأعرابي منجدل" مطروح على الجدالة: الأرض, في شملة نائم في الشمس، فقال: "ما حاجتك؟ " حتى ناديتني، "قالت: صادني هذا الأعرابي", وفي حديث أبي سعيد عند البيهقي، مَرَّ -صلى الله عليه وسلم- على قوم قد صادوا ظبية وشدوها إلى عمود فسطاط، فقالت: يا رسول الله! إني وضعت، ولي خشفان، فاستأذن لي أن أرضعهما، ثم أعود إليهم، فقال: "خلوا عنها حتى تأتي خشفيها فترضعهما، وتأتي إليكم" , قالوا: ومن لنا بذلك يا رسول الله؟ قال: "أنا" فأطلقوها، فذهب فأرضعتهما، ثم عادت إليهم، فأوثقوها، فإن كانت القصة تعدّدت، وإلّا فيمكن أن صائدها واحد من القوم له ولهم، فنسب إليهم في رواية أبي سعيد ذلك، واختبرته نفس الظبية خصوص من صادها، ولا تنافي بين قوله: فأطلقوها, وبين كون المصطفى هو الذي أطلقها في حديث أم سلمة؛ لجواز أن نسبته إليهم مجازية؛ لكونه عن إذنهم، وكأنه لما استأذنهم وضمن لهم عودها، طلبوا منه أن يطلقها بنفسه لتطئمنَّ قلوبهم، وكذا قوله: فأوثقوها لا ينافي حديث أم سلمة فأوثقها النبي؛ لجواز أنه أمرهم بإيثاقها، فنسب إليه، "ولي خشفان" بكسر الخاء، وسكون الشين المعجمتين: ظبيان صغيران قرب ولادتهما, "في ذلك الجبل" تشير لجبل بتلك الصحراء "فأطلقني حتى أذهب فأرضعهما وأرجع" بنصب الأفعال الثلاثة، "قال: "وتفعلين" بتقدير الهمزة، أي: ترجعين إن أطلقتك", "قالت: عذَّبني الله عذاب العشار" المكاس، "إن لم أعد، وفي حديث أنس عند أبي نعيم، فقالت: يا رسول الله, أخذت ولي خشفان في البرية، وقد انعقد اللبن في أخلافي، فلا هو يذبحني فأستريح, ولا يدعني فأرجع إلى خشفي في البرية، فقال لها: "إن تركتك ترجعين؟ " قالت: نعم، وإلا عذبني الله عذابًا أليمًا، "فأطلقها، فذهبت" فأرضعتهما ورجعت" عن قرب, "فأوثقها النبي -صلى الله عليه وسلم" كما كانت, "فانتبه الأعرابي" من نومه، وقال: يا رسول الله! ألك حاجة؟ قال: "تطلق هذه الظبية" , فأطلقها" من وثاقها.
وفي حديث أبي سعيد عند البيهقي في السنن بعد قوله: فأوثقوها, فمَرَّ بهم رسول الله، فقال: "أين أصحاب هذه" , قالوا: نحن يا رسول الله، فقال: "أتبيعونها" , قالوا: هل لك، قال: "خلو عنها" فأطلقوها، "فخرجت تعدوا في الصحراء" تجري جريًا شديدًا "فرحًا وهي تضرب(6/558)
فأطلقها, فخرجت تعدو في الصحراء فرحًا وهي تضرب برجليها الأرض وتقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله.
وكذا رواه الطبراني بنحوه، وساق الحافظ المنذري حديثه في الترغيب والترهيب من باب الزكاة. ونقل شيخنا الحافظ أبو الخير السخاوي عن ابن كثير: أنه لا أصل له، وأن من نسبه إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقد كذب، ثم قال شيخنا: لكنه في الجملة وارد في عدة أحاديث يتقوى بعضها ببعض, أوردها شيخنا شيخ الإسلام ابن حجر الحافظ في المجلس الحادي والستين من تخريج أحاديث المختصر, والله أعلم. انتهى.
__________
برجليها الأرض، وتقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله", وقال زيد بن أرقم: فأنا والله رأيتها تسبح في البرية، وهي تقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله، "وكذا رواه الطبراني بنحوه" من حديث أم سلمة، "وساق الحافظ المنذري حديثه" أي: لفظ الطبراني "في الترغيب والترهيب من باب الزكاة", ولا يخفاك ما في حديثها وحديث أبي سعيد من التغاير العديد المقتضي، لأنهما قصتان، وقد بينَّا لك بعضها مع تعسّف الجمع.
وروى البيهقي في الدلائل: مَرَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- بظبية مربوطة إلى خباء، فقالت: يا رسول الله! حلني حتى أذهب إلى خشفي ثم أرجع فتربطني، فقال -صلى الله عليه وسلم: "صيد قوم وربطه قوم" فأخذ عليها، فحلفت له، فحلّها، فما مكثت إلّا قليلًا حتى جاءت، وقد نقصت ما في ضرعها, فربطها -صلى الله عليه وسلم, ثم أتى خباء أصحابها، فاستوهبها منهم، فوهبوها له, فحلها، ثم قال: "لو علمت البهائم من الموت ما تعلمون ما أكلتم منها سمينًا أبدًا".
"ونقل شيخنا الحافظ أبو الخير" محمد بن عبد الرحمن "السخاوي" في كتاب المقاصد الحسنة، "عن ابن كثير، أنه لا أصل له، وإن من نسبه إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقد كذب، لفظ السخاوي، حديث تسليم الغزالة اشتهر على الألسنة وفي المدائح النبوية، وليس له -كما قال ابن كثير- أصل، ومن نسبه إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقد كذب، "ثم قال شيخنا" تلو هذا: "لكنه" أي الكلام في الجملة وارد في عدة أحاديث يتقوّى بعضها ببعض، أوردها شيخنا شيخ الإسلام ابن حجر، الحافظ في المجلس الحادي والستين من تخريج أحاديث المختصر" الكبير في الأصول لابن الحاجب، "والله أعلم، انتهى" فهما أمران كلاهما له، وهذا مفرداته ضعيفة، فيجير بعضها بعضًا، وتسليمها عليه، أي: قولها السلام عليك يا رسول الله مثلًا، وهذا لم يرد، كما قال ابن كثير خلاف ما يعطيه تصرف المصنف أنه قاله في الكلام.(6/559)
وفي شرح مختصر ابن الحاجب للعلامة ابن السبكي، وتسبيح الحصى، رواه الطبراني وابن أبي عاصم من حديث أبي ذر، وتسليم الغزالة رواه الحافظ أبو نعيم الأصبهاني والبيهقي، في دلائل النبوة، ونحن نقول فيهما: إنهما لم يكونا متواترين, فلعلهما استغنا بنقل غيرهما، أو لعلهما تواترا إذ ذاك، انتهى.
__________
"وفي شرح مختصر ابن الحاجب، للعلامة ابن السبكي: وتسبيح الحصى, رواه الطبراني، وابن أبي عاصم من حديث أبي ذر" الغفاري", وقد تقدَّم" وتسليم الغزالة، مجاز عن الكلام؛ إذ هو الذي رواه الحافظ أبو نعيم الأصبهاني" وكذا الطبراني عن أم سلمة, "والبيهقي" عن أبي سعيد الخدري "في دلائل النبوة" لهما، وكذا رواه البيهقي في السنن عن أبي سعيد, "ونحن نقول فيهما: إنهما وإن لم يكونا اليوم متواترين فلعلهما استغنا بنقل غيرهما" عنهما، وهو القرآن متواترًا، كما قاله ابن الحاجب جوابًا لقول الشيعة: كيف ينقل آحادًا مع توفر الدواعي على نقله، ومع ذلك لم تكذب رواته, "أو لعلهما تواترا إذ ذاك", ثم انقطع التواتر بعد، "انتهى".
قال الحافظ: والذي أقوله: إنها كلها مشتهرة عند الناس، وأمَّا من حيث الرواية، فليست على حد سواء, وقد مرت عبارته بتمامها في تسبيح الحصى.(6/560)
طاعة داجن البيوت له "صلى الله عليه وسلم":
من ذلك، داجن البيوت، وهو ما ألفها من الحيوان، كالطير والشاة وغيرهما، روى قاسم بن ثابت عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: كان عندنا داجن, فإذا كان عندنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قَرَّ وثبت مكانه، فلم يجئ ولم يذهب, وإذا خرج
__________
طاعة داجن البيوت له "صلى الله عليه وسلم":
"ومن ذلك" أي: طاعات الحيوانات "داجن" بدال مهملة، ثم جيم "البيوت" من دجن، إذا أقام بموضع تربَّى فيه ليسمن، ويقال: رجن -بالراء بدل الدال- إذا أقام، "وهو ما ألفها من الحيوان، كالطير والشاة وغيرهما، كالناقة، روى قاسم بن ثابت السرقطي الأندلسي، الفقيه المالكي، المحدث المشارك لأبيه، الحافظ، ثابت بن حزم في رحلته وشيوخه، الورع الناسك، مجاب الدعوة، مات سنة اثنتين وثلاثمائة.
"عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: كان عندنا" بمنزلنا الذي نسكنه "داجن, فإذا كان عندنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قَرَّ" بالقاف المفتوحة، والراء الثقيلة، أي: سكن وثبت مكانه، أي: وقف أو ربض فيه، لا يتحرك أدبًا معه، "فلم يجئ ولم يذهب, وإذا خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جاء وذهب" أي:(6/560)
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جاء وذهب. وذكره القاضي عياض بسنده.
__________
مشى في البيت وتردَّد فيه؛ لأنه ليس ثمة من يهابه, وقيل: معناه من لم يقر لعدم رؤيته -صلى الله عليه وسلم- شوقًا له، وكلاهما آية لألف الحيوان الذي لا يعقل له ومهابته، عنده، "وذكره القاضي عياض بسنده" من طريق قسم, وأخرجه أحمد والبزار وغيرهما.(6/561)
الفهرس:
الصفحة الموضوع
3 الفصل الثاني: فيما أكرمه الله تعالى به من الأخلاق الزكية وشرَّفه به من الأوصاف المرضية
129 الفصل الثالث: فيما تدعو ضرورته إليه من غذائه وملبسه ومنكحه, وما يحلق بذلك
254 النوع الثاني: في لباسه وفراشه
301 صفة إزاره -صلى الله عليه وسلم
305 لطيفة
312 فص خاتمه -صلى الله عليه وسلم
330 نقش خاتمه -عليه الصلاة والسلام
340 السراويل
346 الخف
346 نعله -صلى الله عليه وسلم
359 فراشه
366 النوع الثالث: في سيرته -صلى الله عليه وسلم- في نكاحه
390 النوع الرابع: في نومه -عليه الصلاة والسلام
405 المقصد الرابع: في معجزاته -صلى الله عليه وسلم- الدالة على ثبوت نبوته
484 رد الشمس له -صلى الله عليه وسلم
495 تسبيح الطعام والحصى في كفه الشريف -صلى الله عليه وسلم
513 كلام الشجر له وسلامها عليه وطواعيتها له, وشهادتها له بالرسالة -صلى الله عليه وسلم
522 حنين الجذع شوقًا إليه -صلى الله عليه وسلم
538 سجود الجمل وشكواه إليه -صلى الله عليه وسلم(6/565)
الصفحة الموضوع
545 كلام الذئب وشهادته له -صلى الله عليه وسلم- بالرسالة
551 حديث الحمار
557 حديث الغزالة
560 طاعة داجن البيوت له -صلى الله عليه وسلم(6/566)
المجلد السابع
تابع المقصد الرابع: في معجزاته صلى الله عليه وسلم الدالة على ثبوت نبوته
معجزة نبع الماء الطهور من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم
...
تابع المقصد الرابع: في معجزاته صلى الله عليه وسلم الدالة على ثبوت نبوته
بسم الله الرحمن الرحيم
"معجزة نبع الماء الطهور من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم":
وأما نبع الماء الطهور من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم، وهو أشرف المياه، فقال القرطبي: قصة نبع الماء من بين أصابعه قد تكررت منه صلى الله عليه وسلم في عدة مواطن في مشاهد عظيمة، ووردت من طرق كثيرة، يفيد مجموعها العلم القطعي المستفاد من التواتر المعنوي
__________
نبع الماء الطهور من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم:
"وأما نبع الماء" قسيم قوله: أما معجزة انشقاق القمر، بيانًا لتفصيل القسم الثالث، وهو ما كان معه من حين ولادته إلى وفاته، "الطهور" صفة لازمة، وقال شيخنا: مخصصة "من بين أصابعه" أي أصابع يديه "صلى الله عليه وسلم" كما هو ظاهر الروايات الآتية، واقتصر على بين الأصابع بالنسبة لأغلب الوقائع، أو تجوز بالبينية عما يشمل رءوس الأصابع، "وهو أشرف المياه" على الإطلاق؛ كما قاله البلقيني وغيره. قال السيوطي:
وأفضل المياه ماء قد نبع ... من بين أصابع النبي المتبع
يليه ماء زمزم فبالكوثر ... فنيل مصر ثم باقي الأنهر
"فقال القرطبي" صاحب المفهم فيه: "قصة نبع الماء" إضافة بيانية، أي القصة التي هي نبع الماء "من بين أصابعه، ق تكررت منه صلى الله عليه وسلم في عدة مواطن" جمع موطن، المشهد من مشاهد الحرب ومكان الإنسان، "في مشاهد عظيمة، ووردت من طرق كثيرة، يفيد مجموعها العلم القطعي، المستفاد من التواتر المعنوي.
وقال عياض: هذه القصة رواها الثقات من العدد الكثير والجم الغفير، عن الكافة متصلة بالصحابة، وكان ذلك في مواطن اجتماع الكثير منهم في المحافل، ومجامع العساكر، ولم يرد عن أحد منهم إنكار على راوي ذلك، فهذا النوع ملحق بالقطعي في معجزاته.
قال في فتح الباري: فأخذ القرطبي كلام عياض وتصرف فيه، وحديث نبع الماء جاء من رواية أنس عند الشيخين، وأحمد، وغيرهم من خمسة طرق، وعن جابر عندهم من أربعة طرق، وعن ابن مسعود عند البخاري والترمذي، وعن ابن عباس عند أحمد والطبراني من طريقين، وعن أبي ليلى، والد عبد الرحمن عند الطبراني، فعدد هؤلاء الصحابة، ليس كما يفهم من إطلاقهما.
وأما تكثير الماء بأن لمسه بيده، أو تفل فيه، أو أمر بوضع شيء فيه، كسهم من كنانته، فجاء من حديث عمران بن حصين في الصحيحين، وعن البراء بن عازب عند البخاري وأحمد من طريقين، وعن أبي قتادة عند مسلم، وعن أنس عند البيهقي في الدلائل، وعن زياد بن الحارث،(7/3)
ولم يسمع بهذه المعجزة عن غير نبينا صلى الله عليه وسلم، حيث نبع الماء من بين عظمه وعصبه ولحمه ودمه، وقد نقل ابن عبد البر عن المزني أنه قال: نبع الماء من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم أبلغ في المعجزة من نبع الماء من الحجر حيث ضربه موسى بالعصا فتفجرت منه المياه، لأن خروج الماء من الحجارة معهود بخلاف خروج الماء من بين اللحم والدم. انتهى.
__________
الصدائي عنده، وعن بريح، بضم الموحدة، وتشديد المهملة الصدائي أيضًا، فإذا ضم هذا إلى هذا بلغ الكثرة المذكورة أو قاربها.
وأما من رواها من أهل القرن الثاني، فهم أكثر عددًا، وإن كان شطر طرقه أفرادًا، وفي الجملة يستفاد منها الرد على ابن بطال، حيث قال: هذا الحديث شهده جماعة من الصحابة إلا أنه لم يرو إلا من طريق أنس، وذلك لطول عمره، وتطلب الناس العلو في السند، انتهى، وهذا ينادي عليه بقلة الاطلاع والاستحضار لأحاديث الكتاب الذي شرحه، انتهى. "ولم يسمع بهذه المعجزة عن غير نبينا صلى الله عليه وسلم، حيث نبع الماء من بين عظمه وعصبه ولحمه ودمه، وقد نقل ابن عبد البر عن المزني" إسماعيل بن يحيى، بن إسماعيل، بن عمرو، بن إسحاق، الإمام الجليل، صاحب التصانيف، الزاهد، المتقلل من الدنيا، مجاب الدعوة، قال الشافعي: لو ناظر الشيطان لغلبه، مات لست بقين من رمضان، سنة أربع وستين ومائتين، ودفن قريبًا من الشافعي، وولد سنة خمس وسبعين ومائة، "أنه قال: نبع الماء من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم، أبلغ في المعجزة من نبع الماء من الحجر، حيث ضربه موسى بالعصا فتفجرت" جرت وسالت "منه المياه؛ لأن خروج الماء من الحجارة معهود" كما قال تعالى: {وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ} الآية، "بخلاف خروج الماء من بين اللحم والدم" ليس بمعهود؛ كما قال الشاعر:
إن كان موسى سقى الأسباط من حجر ... فإن في الكف معنى ليس في الحجر
ولله در البوصيري حيث قال في اللامية:
ومنبع الماء عذبًا من أصابعه ... وذي أياد عليها قد جرى النيل
"انتهى" كلام القرطبي.
قال الحافظ: وظاهر كلامه أن الماء نبع من بين اللحم الكائن في الأصابع، ويؤيد قوله في حديث ابن عباس عند الطبراني: فجاءوا بشيء، فوضع صلى الله عليه وسلم يده عليه، ثم فرق بين أصابعه، فنبع الماء من أصابع رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل عصا موسى، فإن الماء تفجر من نفس العصا، فتمسكه به يقتضي أن الماء تفجر من بين أصابعه، ويحتمل أن المراد أن الماء نبع من بين أصابعه بالنسبة إلى(7/4)
وقد روى حديث نبع الماء جماعة من الصحابة، منهم: أنس وجابر وابن مسعود.
فأما حديث أنس ففي الصحيحين قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وحانت صلاة العصر، فالتمس الناس الوضوء فلم يجدوه، فأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بوضوء.
__________
رؤية الرائي وهو في نفس الأمر للبركة الحاصلة فيه، يفور ويكثر وكفه صلى الله عليه وسلم في الماء، فيراه الرائي، نابعًا منه، والأول أبلغ في المعجزة، وليس في الإخبار ما يرده، انتهى، ويأتي نحوه في المتن.
"وقد روى حديث نبع الماء جماعة من الصحابة" خمسة، كما علمت، "منهم: أنس وجابر، وابن مسعود" وابن عباس، وأبو يعلى، "فأما حديث أنس، ففي الصحيحين" البخاري في الوضوء وعلامات النبوة، ومسلم في الفضائل، ورواه الترمذي في المناقب، والنسائي في الطهارة، كلهم من طريق مالك، الإمام، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس، أنه "قال: رأيت" أي أبصرت "رسول الله" وفي رواية: النبي صلى الله عليه وسلم، والحال أنه قد "حانت" بالمهملة، أي قربت "صلاة العصر" زاد في رواية للشيخين من حديث سعيد، عن قتادة، عن أنس، وهو بالزوراء، بفتح الزاي، وسكون الواو، بعدها راء: موضع بسوق المدينة، وتفسير حانت: بقربت، هو ما صدر به الكرماني، واقتصر عليه المصنف والحافظ أنسب بقوله: صلاة العصر، وإن كان يطلق لغة أيضًا على دخول الوقت.
قال الحافظ: وزعم الداودي أن الزوراء: مكان مرتفع، كالمنارة، وكأنه أخذه من أمر عثمان بالتأذين على الزوراء، وليس بلازم، بل الواقع أن المكان الذي أمر بالتأذين فيه كان الزوراء، لا أنه الزوراء نفسها.
وفي رواية همام عن قتادة عن أنس: شهدت النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه عند الزوراء، أو عند بيوت المدينة، أخرجه أبو نعيم، "فالتمس" أي طلب، "الناس الوضوء" بفتح الواو: الماء الذي يتوضأ به، وفي رواية: فالتمس الوضوء بالبناء للمفعول، "فلم يجدوه" وفي رواية بغير الضمير للمنصوب، أي فلم يصيبوا الماء، "فأتي" بضم الهمزة مبني للمفعول، "رسول الله صلى الله عليه وسلم" بالرفع نائب الفاعل، "بوضوء" بفتح الواو، أي بإناء فيه ماء ليتوضأ به، وفي رواية: فجاء رجل بقدح فيه ماء يسير، وروى المهلب أنه كان مقدار وضوء رجل واحد، وعند أبي نعيم والحارث بن أبي أسامة، من رواية شريك بن أبي نمر، عن أنس، أنه هو الذي أحضر الماء، ولفظه: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "انطلق إلى بيت أم سلمة"، فأتيته بقدح ماء، إما ثلثه وإما نصفه. الحديث،(7/5)
فوضع يده في ذلك الإناء، فأمر الناس أن يتوضئوا منه، فرأيت الماء ينبع من بين أصابعه، فتوضأ الناس حتى توضئوا من عند آخرهم، وفي لفظ البخاري: كانوا ثمانين رجلا، وفي لفظ له: فجعل الماء ينبع من بين أصابعه وأطراف أصابعه حتى توضأ القوم، قال: فقلنا لأنس كم كنتم قال: كنا ثلاثمائة.
قوله: "حتى توضئوا من عند آخرهم" قال الكرماني: حتى للتدريج، ومن للبيان، أي: توضأ الناس حتى توضأ الذين هم عند آخرهم، وهو كناية عن جميعهم، و"عند" بمعنى "في" لأن "عند" وإن كانت للظرفية الخاصة لكن المبالغة تقتضي أن تكون لمطلق الظرفية، فكأنه قال: الذين هم في آخرهم. وقال التيمي: المعنى.
__________
وفيه: أنه رده بعد فراغهم إليها، وفيه قدر ما كان فيه أولا، "فوضع يده في ذلك الإناء" قال شيخ الإسلام: الظاهر أنها اليد اليمنى، "فأمر" بالفاء "الناس أن يتوضئوا منه" أي: بالتوضؤ من ذلك الإناء، قال أنس: "فرأيت الماء ينبع" بتثليث الموحدة: يخرج "من بين أصابعه، فتوضأ الناس حتى توضئوا من عند آخرهم، وفي لفظ للبخاري" من رواية حميد عن أنس: "كانوا ثمانين رجلا". في لفظ للبخاري أيضًا من رواية الحسن عن أنس: كانوا سبعين أو نحوه، وفي مسلم: سبعين أو ثمانين، "وفي لفظ له" أي البخاري في العلامات، وكذا مسلم في الفضائل من طريق سعيد عن قتادة عن أنس: أتي النبي صلى الله عليه وسلم بإناء وهو بالزوراء فوضع يده في الإناء، "فجعل الماء ينبع من بين أصابعه وأطراف أصابعه حتى توضأ القوم، قال" قتادة: "فقلنا لأنس: كم كنتم؟، قال: كنا ثلاثمائة" لفظه، أو زهاء ثلاثمائة بالشك.
قال الحافظ: بضم الزاي والمد، أي قدر ثلاثمائة من زهوت الشيء إذا حصرته، وللإسماعيلي من طريق خالد بن الحارث، عن سعيد ثلاثمائة، بالجزم دون قوله أو زهاء، انتهى وبه تعلم ما في المؤلف من المؤاخذة، بالجزم بثلاثمائة مع العزو للبخاري، وقد ظهر من السياق تعدد القصة إذ كانوا مرة ثمانين أو سبعين، ومرة ثلاثمائة أو ما قاربهما، فهما كما قال النووي قضيتان جرتا في وقتين حضرهما جميعًا أنس، "قوله: حتى توضئوا من عند آخرهم".
"قال الكرماني: حتى للتدريج، ومن للبيان، أي توضأ الناس حتى توضأ الناس الذين هم عند آخرهم، وهو كناية عن جميعهم، وعند بمعنى في؛ لأن عند وإن كانت للظرفية الخاصة، لكن المبالغة تقتضي أن تكون" لمطلق الظرفية؛ لأن السياق يقتضي العموم والمبالغة، "فكأنه قال: الذين هم في آخرهم".
"وقال التيمي" أحمد بن محمد بن عمر، شارح البخاري شرحًا واسعًا جدًا: "المعنى(7/6)
توضأ القوم حتى وصلت النوبة إلى الآخر، وقال النووي: "من" هنا بمعنى "إلى" وهي لغة، وتعقبه الكرماني بأنها شاذة، قال: ثم إن "إلى" لا يجوز أن تدخل على "عند" ويلزم عليه وعلى ما قاله التيمي أن لا يدخل الأخير، لكن ما قاله الكرماني من أن "إلى" لا تدخل على عند لا يلزم مثله في "من" إذا وقعت بمعنى "إلى" وعلى توجيه النووي يمكن أن يقال عند زائدة. قاله في فتح الباري.
وروى هذا الحديث أيضًا عن أنس بن شاهين، ولفظه: قال أنس كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، فقال المسلمون: يا رسول الله، عطشت دوابنا وإبلنا،
__________
توضأ القوم حتى وصلت النوبة إلى الآخر".
وقال النووي: من هنا بمعنى إلى، وهي لغة" والكوفيون يجوزون مطلقًا وضع حروف الجر بعضها مقام بعض، "وتعقبه الكرماني بأنها شاذة" فلا يخرج عليها الفصيح مع إمكان غيره، "قال: ثم إن إلى لا يجوز أن تدخل على عند" فهو اعتراض ثان على النووي، "ويلزم عليه" أي جعل النووي من بمعنى إلى، "وعلى ما قاله التيمي" من قوله إلى آخرهم، فأشار أيضًا إلى أنها بمعنى إلى "أن لا يدخل الأخير" من القوم؛ لأن المغيابالي خارج على المشهور، وإلا فيدخل على قول؛ "لكن ما قاله الكرماني من أن إلى لا تدخل على عند، لا يلزم مثله في من إذا وقعت بمعنى إلى" لأن كون كلمة بمعنى أخرى لا يلزم أن تكون مثلها استعمالا، فلا مانع من دخول من التي بمعنى إلى على عند، وامتناع دخول إلى عليها، "وعلى توجيه النووي" يمكن أن يقال عند زائدة، قاله في فتح الباري" في كتاب الطهارة.
وقال المصنف: أي توضأ الناس ابتداء من أولهم حتى انتهوا إلى آخرهم، ولم يبق منهم أحد، والشخص الذي هو آخرهم داخل في هذا الحكم، لأن السياق يقتضي العموم والمبالغة، لأن عند هنا تجعل لمطلق الظرفية حتى تكون بمعنى في، كأنه قال: حتى توضأ الذين هم آخرهم، وأنس داخل فيهم، إذ قلنا يدخل المخاطب، بكسر الطاء في عموم خطابه أمرًا أو نهيًا أو خبرًا، وهو مذهب الجمهور، وقال بعضهم: حتى حرف ابتداء مستأنف، جملة اسمية وفعلية فعلها ماض، نحو: حتى عفوا وحتى توضئوا، ومضارع نحو: "حتى يقول الرسول" في قراءة نافع، ومن للغاية لا للبيان، خلافًا للكرماني، لأنها لا تكون للبيان إلا إذا كان فيما قبلها إبهام، ولا إبهام هنا.
"وروى هذا الحديث أيضًا" أي حديث نبع الماء لا بقيد المتقدم عن الصحيحين؛ لأنه في سوق المدينة، وهذا في تبوك "عن أنس بن شاهين" فاعل روى "ولفظه، قال أنس: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، فقال المسلمون: يا رسول الله! عطشت دوابنا وإبلنا،" عطف(7/7)
فقال: "هل من فضلة ماء". فجاء رجل في شن بشيء، فقال: "هاتوا صحفة". فصب الماء ثم وضع راحته في الماء، قال: فرأيتها تخلل عيونًا بين أصابعه، قال: فسقينا إبلنا ودوابنا وتزودنا، فقال: "أكفيتم"؟. قلنا: نعم يا رسول الله، فرفع يده فارتفع الماء.
وأخرج البيهقي عن أنس أيضًا، قال: خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى قباء فأتى من بعض بيوتهم بقدح صغير، فأدخل يده فلم يسعه القدح، فأدخل أصابعه الأربعة ولم يستطع أن يدخل إبهامه، ثم قال للقوم: "هلموا إلى الشراب". قال أنس: بصر عيني ينبع الماء من بين أصابعه فلم يزل القوم يردون القدح حتى رووا منه جميعًا.
وأما حديث جابر: ففي الصحيحين، قال: عطش الناس يوم الحديبية، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بين
__________
خاص على عام، فقال: "هل من فضلة ماء"؟. إنما طلبها لئلا يظن أنه صلى الله عليه وسلم موجد للماء والإيجاد إنما هو لله لا لغيره، "فجاء رجل في شن" بفتح المعجمة ونون ثقيلة: قربة بالية "بشيء" من ماء فقال: "هاتوا صحفة" إناء كالقصعة، وقال الزمخشري: قصعة مستطيلة، "فصب الماء" "ثم وضع راحته" كفه مع أصابعه "في الماء قال" أنس "فرأيتها" أي الصحفة "تخلل"، بفتح التاء، مضارع بحذف إحدى التاءين، أي تنفذ "عيونًا بين أصابعه" تمييز محول عن الفاعل، والأصل تتخلل عيونها بين أصابعه.
"قال" أنس: "فسقينا إبلنا وداوبنا، وتزودنا" حملنا الماء معنا، "فقل" صلى الله عليه وسلم: "أكفيتم"؟. قلنا: نعم يا رسول الله، فرفع يده" من الصحفة، "فارتفع الماء" برفع يده.
"وأخرج البيهقي عن أنس أيضًا، قال: خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى قباء" موضع معروف بالمدينة، كان صلى الله عليه وسلم يأتيه كل سبت راكبًا أو ماشيًا، "فأتي" بالبناء للمفعول "من بعض بيوتهم" أي بيوت أهل قباء، "بقدح صغير، فأدخل يده، فلم يسعه" أي إدخال يده، وإلا فالظاهر لم يسعها، أي اليد "القدح" لصغره، "فأدخل أصابعه الأربعة ولم يستطع أن يدخل إبهامه، ثم قال للقوم: "هلموا إلى الشراب"، قال أنس: بصر" بضم الصاد وكسرها، قال المجد: ككرم وفرح، أي نظر "عيني ينبع الماء" أي نبعه "من بين أصابعه" وتعديه بصر بنفسه لغة، والأفصح تعديته بالباء، نحو بصرت بما لم يبصروا به، "فلم يزل القوم يردون القدح حتى رووا" بفتح الراء وضم الواو، "منه جميعًا" أي زال ظمؤهم، وأصله رويوا، حذفت الياء لثقل الضمة عليها، وضمت الواو الأولى لمناسبة الثانية.
"وأما حديث جابر، ففي الصحيحين" في المغازي والبخاري أيضًا في علامات النبوة، وأخرجه النسائي في الطهارة والتفسير، كلهم من رواية سالم بن أبي الجعد عن جابر، "قال:(7/8)
يديه ركوة يتوضأ منها، وجهش الناس نحوه، فقال: ما لكم؟ قالوا يا رسول الله ليس عندنا ماء نتوضأ به ولا ماء نشربه إلا ما بين يديك، فوضع يده في الركوة، فجعل الماء يثور من بين أصابعه، كأمثال العيون، فشربنا وتوضأنا، قلت: كم كنتم قال: لو كنا مائة ألف لكفانا، كنا خمس عشرة مائة.
وقوله: "يثور"
__________
عطش" بكسر الطاء "الناس يوم الحديبية" بالتخفيف والتشديد، "وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بين يديه ركوة" مثلث الراء: إناء صغير من جلد يشرب فيه، لفظ البخاري في الموضعين فتوضأ "منها" قال الحافظ: كذا وقع في هذه الرواية، ووقع في الأشربة من طريق الأعمش عن سالم؛ أن ذلك لما حضرت صلاة العصر، "جهش"، بفتح الجيم والهاء، بعدها معجمة "الناس" أي: أسرعوا لأخذ الماء، وللكشميهني: فجهش بزيادة فاء في أوله، "نحوه" عليه السلام، وقال المصنف: بفتح الجيم، والهاء والشين المعجمة، أي: أسرعوا إلى الماء منتهين لأخذه، ولأبي ذر بكسر الهاء، وللحموي والمستملي جهش بإسقاط الفاء وفتح الهاء انتهى، فما يوجد في كثير من نسخ المتن، وجهش بواو، بل الجيم مخالف للروايتين، "فقال" وفي رواية: قال بلا فاء، "ما لكم" أي: أي شيء عرض لكم حتى جهشتم إلى "قالوا: يا رسول الله! ليس عندنا ماء نتوضأ به، ولا ماء نشربه" وماء بالهمز في اليونينية، وفي بعض النسخ لم يضبطها "إلا ما بين يديك" ومعلوم أنه لا يكفي، وجعلوا ما بين يديه عندهم، لعلمهم أنه لا يمنعهم منه، فالاستثناء متصل، "فوضع" صلى الله عليه وسلم "يده في الركوة، فجعل الماء يثور" بالمثلثة للأكثر، وللكشميهني بالفاء، وهما بمعنى، أي: ينبع الماء ويرتفع لزيادته "من بين أصابعه، كأمال العيون" أي: مائها الذي يخرج منها، والغرض وصف الماء الخارج من أصابعه بالكثرة.
وقال بعض: أي: كان بين كل أصبعين من أصابعه عين ماء نابعة، "فشربنا وتوضأنا، قلت" هو مقول سالم بن أبي الجهد راويه عن جابر، أي: قلت له "كم كنتم؟ قال: لو كنا مائة ألف لكفانا" ذلك الماء لما شاهد من ثورانه الدال على عدم انقطاعه، "كنا خمس عشرة مائة" يعني: ألفًا وخمسمائة.
قال الطيبي: عدل عن الظاهر لاحتمال التجوز في الكثرة والقلة، وهذا يدل على أنه اجتهد فيه، وغلب على ظنه المقدار، لكن يخالفه قول البراء عند البخاري: كنا يوم الحديبية أربع عشرة مائة، ورجح البيهقي هذه الرواية على الأولى، بل قيل: إنها وهم، وجمع بأنهم كانوا أكثر من ألف وأربعمائة، فمن قال: وخمسمائة جبر الكسر، ومن قال: وأربعمائة ألغاه، ويؤيده رواية البخاري من وجه آخر عن البراء: كنا ألفًا وأربعمائة أو أكثر، فأو بمعنى بل تفيد ذلك، واعتمد(7/9)
أي يغلي ويظهر متدفقًا.
وفي رواية الوليد بن عبادة بن الصامت عنه في حديث مسلم الطويل في ذكره غزوة بواط، قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ناد: الوضوء". وذكر الحديث بطوله، أنه لم يجد إلا قطرة في عزلاء شجب
__________
النووي هذا الجمع لصحة الروايات كلها، كما تقدم بسط ذلك في الحديبية، "وقوله: يثور" بالمثلثة أو الفاء، لأنهما بمعنى؛ كما قال الحافظ، "أي: يغلي ويظهر متدفقًا" عطف تفسير, يقال للشيء إذا زاد وارتفع قد غلى؛ كما في المصباح، وبه تعلم أنه لا يشترط في الغليان حصوله بحرارة النار.
"وفي رواية الوليد بن عبادة بن الصامت" الأنصاري، المدني، أبي عبادة، ثقة، من كبار التابعين، ولد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ومات بعد السبعين، روى له الشيخان والترمذي والنسائي، "عنه" أي: عن جابر "في حديث مسلم الطويل" صفة لحديث في آواخر صحيحه، نحو ورقتين في باب سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، "في ذكر غزوة بواط" بضم الباء وفتحها، وخفة الواو مفتوحة، وألف، ومهملة جبال جهينة على أبراد من المدينة بقرب ينبع ثاني غزواته صلى الله عليه وسلم، قال: "قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ناد" أمر من النداء محذوف الآخر المعتل، أي: ناد الناس، فقال لهم: أعطوا أو ناولوا "الوضوء" بفتح الواو: الماء الذي يتوضأ به، فنصب بمقدر، "وذكر الحديث بطوله" وهو: فقلت: ألا وضوء، ألا وضوء، ألا وضوء، قال: قلت: يا رسول الله! ما وجدت في الركب من قطر، وكان رجل من الأنصار يبرد لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحاب له ماء في أشجاب على حمارة، فلم أجد إلا قطرة وعزلاء شجب، منها لو أني أفرغه لشربه، يابس الإناء، قال: "اذهب فائت به"، فأتيته به، فأخذه بيده، فجعل يتكلم بشيء لا أدري ما هو، ويغمز بيده، ثم أعطانيه، فقال: "يا جابر ناد بجفنة" فقلت: يا جفنة الركب، فأتى بها تحمل، فوضعها بين يديه، فقال صلى الله عليه وسلم: بيده هكذا، فبسطها وفرق بين أصابعه، ثم وضعها في قعر الجفنة، وقال: "خذ يا جابر، فصب علي وقل: بسم الله". فصببت عليه وقلت بسم الله، فرأيت الماء يفور من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم، ثم فارت الجفنة ودارت حتى امتلأت، فقال: "يا جابر ناد من كانت له حاجة بماء"، قال: فأتى الناس، فاستقوا حتى رووا وبقي، فقلت: هل بقي أحد له حاجة، فرفع صلى الله عليه وسلم يده من الجفنة وهي ملأى، الحديث.
قال الحافظ: وهذه القصة أبلغ من جميع ما تقدم لاشتمالها على قلة الماء، وعلى كثرة من استقى منه، فذكر المصنف معناه تبعًا للشفاء بقوله: "وإنه" أي: جابرًا "لم يجد" عند الأنصاري "إلا قطرة" أي: ماء قليلا جدًا، "في عزلاء" بفتح المهملة، وسكون الزاي، ولام، بعدها مدة(7/10)
فأتى به النبي صلى الله عليه وسلم فغمزه وتكلم بشيء لا أدري ما هو، وقال: "ناد بجفنة الركب". فأتيت بها فوضعتها بين يديه، وذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم بسط يده في الجفنة وفرق أصابعه وصب عليه جابر، وقال: بسم الله، قال فرأيت الماء يفور من بين أصابعه، ثم فارت الجفنة واستدارت حتى امتلأت وأمر الناس بالاستقاء فاستقوا حتى رووا، فقلت: هل
__________
وهمزة: فم القربة الأسفل أو مصب الماء من الراوية، مضاف إلى "شجب" بفتح المعجمة، وحكي كسرها، ولا يصح سكون الجيم وموحدة، أي: فم قربة معلقة بعود أو بالية، فالشجب عود يعلق عليه القرب والثياب والأواني بالماء على الصحيح، وقيل: ما قدم من القرب، "فأتي" بالبناء للمفعول، والفاعل "به النبي صلى الله عليه وسلم، فغمزه" بفتح، المعجمة والميم، والزاي: عصره وحركه، أو وضع يده عليه وكبسه بها، "وتكلم بشيء لا أدري ما هو" كأنه سر من أسرار الله، تكلم به بالسريانية ونحوها ليخفى على غيره، كذا قال بعض أو بالعربية، وأسره فلم يدره جابر، "وقال: "ناد بجفنة" كقصعة لفظًا ومعنى: إناء يشبع عشرة فأكثر، ودونها الصحفة تشبع خمسة، ثم الماكلة تشبع الرجلين والثلاثة، ثم الصحيفة مصغر تشبع الواحد، وقيل: الجفنة كالصحفة، وقيل: أعظم منها، "الركب" بزيادة الباء أو بتضمين ناد معنى صح أو ائت، بدليل قوله: "فأتيت بها فوضعتها بين يديه" بالبناء للمفعول؛ كما قاله البرهان وغيره، وقيل: مفعول ناد محذوف، أي: ناد القوم يؤتوا بجفنة أو نزلها منزلة العاقل؛ لأن الله خلق فيها إدراكًا حتى تنادي هي، ثم ظاهره أن الركب كان لهم جفنة معينة يستعملونها في حوائجهم، أو يضعون فيها الطعام، ويجتمعون عليها عند الأكل مثلا، وهذا مقتضى الإضافة.
وقد علمت أن لفظ مسلم: "ناد بجفنة". فقلت: يا جفنة الركب، ولا منافاة لجواز أن المراد بها الجفنة المخصوصة، فالتنوين عوض عن المضاف إليه، أو على حقيقته؛ لأنه جوز أن يكون معهم غيرها، فأراد، أي: جفنة كانت.
"وذكر" جابر: "أن النبي صلى الله عليه وسلم بسط" بالسين والصاد، وبهما قرئ، أي: وضع "يده في الجفنة" مبسوطة، ليكون أبرك، "وفرق أصابعه، وصب عليه جابر، وقال" جابر: "بسم الله" كما أمره بها، وزعم أن فاعل قال النبي صلى الله عليه وسلم بعيد، بل يخالفه لفظ مسلم المار. "قال" جابر: "فرأيت الماء يفور" يزيد ويرتفع حتى يتدفق، "من بين أصابعه" عليه الصلاة والسلام، "ثم فارت الجفنة" أي: ارتفع ماؤها، فالمضاف مقدر، وإسناد مجازي للمبالغة في فورانه، "واستدارت" أي: دارت، كما هو لفظ مسلم، أي: دار الماء فيها من تسمية الحال باسم المحل؛ لأن الماء إذا زاد بسرعة يرى كأنه يدور، وقيل: الجفنة نفسها دارت لعظم الأمر وشرف الموضع، فاهتزت واضطربت، وتتابعت حركاتها، "حتى امتلأت" قال بعض: ولا(7/11)
بقي من أحد له حاجة؟ فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده من الجفنة وهي ملأى.
وروى حديث جابر أيضًا الإمام أحمد في مسنده بلفظ: اشتكى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم العطش، فدعا بعس فصب فيه شيئًا من الماء، ووضع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه يده، وقال: "استقوا". فاستقى الناس، فكنت أرى العيون تنبع من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم.
وفي لفظ من حديثه له أيضًا: قال فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم كفه في الإناء ثم قال: "بسم الله". ثم قال: "أسبغوا الوضوء". قال جابر: فوالذي ابتلاني ببصري، لقد رأيت العيون، عيون الماء يومئذ تخرج من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم فما رفعها حتى توضئوا أجمعون.
ورواه أيضًا عنه البيهقي في الدلائل قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فأصابنا عطش فجهشنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فوضع يده في تور
__________
محصل لهذا القيل، وفيه نظر، "وأمر الناس بالاستقاء، فاستقوا حتى رووا فقلت" مقول جابر، "هل" نافية، أي: ما "بقي من" زائدة "أحد له حاجة" كقوله: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ} ، و"هل ترك لنا عقيل من رباع"، بدليل زيادة من، وقوله: "فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده من الجفنة" ويجوز أنها استفهامية، ومن زائدة والفاء في فرفع فصيحة، أي: فقالوا: لا، فرفع والأولى أَوْلى؛ لأن الأصل عدم التقدير، "وهي ملأى" أي: مملوأة بالماء لم تنقص شيئًا بما أخذوه.
"وروى حديث جابر أيضًا الإمام أحمد في مسنده، بلفظ: اشتكى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم العطش، فدعا بعس" بضم العين، وشد السين المهملتين: قدح كبير، "فصب فيه شيئًا من الماء" قليلا، "ووضع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه يده، وقال: "استقوا" فاستقى الناس، فكنت أرى العيون أي: عيون الماء "تنبع" تخرج "من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم، وفي لفظ من حديثه" أي: جابر، "له" أي: لأحمد "أيضًا، قال: فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم كفه في الإناء، ثم قال: "بسم الله" أتبرك وأطلب نبع الماء، ويحتمل القسم لصحة نيته بذلك، واقتصر عليه، لأنه المأثور في سائر الأفعال، لا لبيان جوازه بدون الرحمن الرحيم؛ كما زعم، ثم قال: "أسبغوا الوضوء" قال جابر: فوالذي ابتلاني ببصري أي: بفقده وذهابه؛ لأنه عمي في آخر عمره، "لقد رأيت العيون عيون الماء يومئذ تخرج من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم فما رفعها" أي: يده "حتى توضئوا أجمعون، ورواه أيضًا عند البيهقي في الدلائل" النبوية، "قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر" هو الحديبية، "فأصابنا عطش، فجهشنا" بفتح الجيم، والهاء، وتكسر: أسرعنا، "إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال" جابر: "فوضع يده في تور" بفتح الفوقية: شبه الطست، وقيل: هو الطست، ووقع في حديث شريك عن أنس في المعراج: أتي بطست من ذهب فيه تور، وظاهره(7/12)
من ماء بين يديه، قال: فجعل الماء ينبع من بين أصابعه كأنه العيون قال: خذوا بسم الله، فشربنا، فوسعنا وكفانا، ولو كنا مائة ألف لكفانا، قلت لجابر: كم كنتم؟ قال: ألفًا وخمسمائة.
وأخرجه ابن شاهين من حديث جابر أيضًا، وقال: أصابنا عطش بالحديبية فجهشنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، الحديث.
وأخرجه أيضًا -عن جابر- أحمد من طريق نبيح العنزي عنه، وفيه: فجاء رجل بإداوة فيها شيء من الماء ليس في القوم ماء غيره، فصبه رسول الله صلى الله عليه وسلم في قدح ثم توضأ فأحسن الوضوء، ثم.
__________
المغايرة بينهما، ويحتمل الترادف، فكان الطست أكبر من التور، قاله الحافظ: وقوله: فكان لا يلائم احتمال الترادف إلا أن يكون مراده الترادف اللغوي، وقال المصنف: التور إناء من صفرا وحجارة.
وفي القاموس: إناء يشرب فيه مذكر، "من ماء بين يديه، قال: فجعل الماء ينبع من بين أصابعه كأنه العيون" لكثرة نبعه، "قال: "خذوا بسم الله" فشربنا، فوسعنا" عمنا "وكفانا" حتى روينا، ولا يلزم من الوسع الكفاية في الري، فلذا جمع بينهما، "ولو كنا مائة ألف لكفانا" لأنه مدد غير منقطع، قال سالم بن أبي الجعد: "قلت لجابر: كم كنتم؟ قال" كنا "ألفًا وخمسمائة".
"وأخرجه ابن شاهين" الحافظ، أبو حفص، عمر بن أحمد البغدادي، تقدمت ترجمته، وإن له المنتهى في التصنيف، له ثلاثمائة وثلاثون تصنيفًا، منها المسند ألف وستمائة مجلد، والتفسير ألف مجلد ضخم، وحاسب الحبار على ثمانية عشر قنطارًا من الحبر استجرها منه وجمع براية أقلامه عنده، وأوصى أن يسخن له ماء غسله، فكفت تسخينه.
قال ابن ماكولا وغيره: ثقة مأمون صنف ما لم يصنفه أحد، إلا أنه لحان ولا يعرف الفقه، مات سنة خمس وثمانين وثلاثمائة، "من حديث جابر أيضًا، وقال" في سياقه: "أصابنا عطش بالحديبية، فجهشنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، الحديث.
"وأخرجه أيضًا عن جابر أحمد" الإمام في المسند، "من طريق نبيح" بضم النون ومهملة، مصغر ابن عبد الله "العنزي" بفتح المهملة والنون، ثم زاي، أبي عمرو الكوفي مقبول "عنه" أي: جابر، قال: سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحضرت الصلاة، فقال صلى الله عليه وسلم: "أما في القوم طهور"؟. "وفيه" تلو هذا: "فجاء رجل بإداوة فيها شيء" قليل "من الماء، ليس في القوم ماء غيره، فصبه رسول الله صلى الله عليه وسلم في قدح، ثم توضأ فأحسن الوضوء" أتم فرائضه ونوافله، "ثم(7/13)
انصرف وترك القدح، قال: فتزاحم الناس على القدح فقال: على رسلكم، فوضع كفه في القدح ثم قال: أسبغوا الوضوء قال: فلقد رأيت العيون عيون الماء تخرج من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم.
وأما حديث ابن مسعود، ففي الصحيح من رواية علقمة: بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس معنا ماء، فقال لنا: "اطلبوا من معه فضل ماء". فأتي بماء فصبه في إناء، ثم وضع كفه فيه، فجعل الماء ينبع من بين أصابع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
__________
انصرف وترك القدح، قال" جابر: "فتزاحم الناس على القدح" أسقط من هذه الرواية، فقال: تمسحوا تمسحوا، فسمع صلى الله عليه وسلم، فقال: "على رسلكم" بكسر الراء: هينتكم، "فوضع كفه في القدح"، وفي رواية: فضرب يده في القدح في جوف الماء، ثم قال: "أسبغوا الوضوء"، أتموه بفرضه، ونقله ولا تمسحوا، "قال" جابر: "فلقد رأيت العيون عيون الماء تخرج من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم" حتى توضئوا أجمعون، قال: حسبته قال: كنا مائتين وزيادة هذا بقية رواية نبيح؛ كما في الفتح.
"وأما حديث ابن مسعود، ففي الصحيح" أي الحديث الصحيح أو صحيح البخاري، "من رواية علقمة" بن قيس بن عبد الله النخعي، الكوفي، التابعي، الكبير، ثقة، ثبت، فقيه عابد، مات بعد الستين، وقيل: بعد السبعين عن عبد الله، يعني ابن مسعود، قال: "بينما" بالميم، وفي رواية: بينا بلا ميم، "نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم" أي: في سفر؛ كما في البخاري، وجزم البيهقي في الدلائل؛ بأنه الحديبية، لكن لم يخرج ما يصرح به، وقد روى أبو نعيم في الدلائل أن ذلك في غزوة خيبر، فهذا أولى؛ كما في الفتح، "وليس معنا ماء" جملة حالية، فقال لنا: "اطلبوا من معه فضل ماء" أي: بقية ماء كان أو زيادة منه على حاجته، "فأتى بماء" بالبناء للمفعول، والفاء فصيحة، أي: فطلبوا الماء، فوجده بعضهم، فأتى به، وفي البخاري: فجاءوا بإناء فيه ماء قليل، ولأبي نعيم عن ابن عباس: دعا صلى الله عليه وسلم بلالا بماء فطلبه فلم يجده، "فصبه في إناء" آخر مكشوف ليدخل يده فيه "ثم وضع كفه فيه" أي: في الإناء الثاني، والعطف بثم، لما بينهما من تراخ قليل، "فجعل" أي: صار "الماء ينبع من بين أصابع رسول الله صلى الله عليه وسلم" وفي رواية ابن عباس: فبسط كفه فيه، فنبعت تحت يده عين، فجعل ابن مسعود يشرب ويكثر.
وفي رواية عن ابن مسعود: فجعلت أبادرهم إلى الماء، أدخله في جوفي؛ لقوله: "البركة من الله" ثم ما ذكره المصنف من لفظ الحديث، وعزاه للصحيح مثله في الشفاء، ولفظ البخاري في علامات النبوة من رواية علقمة عن عبد الله، قال: كنا نعد الآيات بركة، وأنتم(7/14)
وظاهر هذا أن الماء كان ينبع من بين أصابعه بالنسبة إلى رؤية الرائي، وهو في نفس الأمر -للبركة الحاصلة فيه- يفور ويكثر، وكفه صلى الله عليه وسلم في الإناء، فيراه الرائي نابعًا من بين أصابعه.
وظاهر كلام القرطبي: أنه نبع من نفس اللحم الكائن في الأصابع، وبه صرح النووي في شرح مسلم، ويؤيده قول جابر: فرأيت الماء يخرج من بين أصابعه، وفي رواية: فرأيت الماء ينبع من بين أصابعه، وهذا هو الصحيح، وكلاهما معجزة له صلى الله عليه وسلم.
__________
تعدونها تخويفًا، كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فقل الماء، فقال: "اطلبوا فضلة من ماء"، فجاءوا بإناء فيه ماء قليل، فأدخل يده في الإناء، ثم قال: "حي على الطهور المبارك والبركة من الله" فلقد رأيت الماء ينبع من بين أصابع النبي صلى الله عليه وسلم، ولقد كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل.
"وظاهر هذا أن الماء كان ينبع من بين أصابعه" لا حقيقة، بل "بالنسبة إلى رؤية الرائي، وهو في نفس الأمر للبركة الحاصلة فيه" متعلق بقوله: "يفور ويكثر" في نفسه من غير خروجه من أصابعه، الشريفة، "وكفه صلى الله عليه وسلم في الإناء، فيراه الرائي نابعًا من بين أصابعه" وليس بنابع حقيقة.
"وظاهر كلام القرطبي" المتقدم أول هذا المبحث: "أنه نبع من نفس اللحم الكائن في الأصابع" لقوله: نبع الماء من عظمه ولحمه ودمه، وقدمت أن الحافظ أبدى فيه احتمال كونه بالنسبة للرؤية، وأن ظاهره أبلغ، وليس في الأخبار ما يرده.
"وبه صرح النووي في شرح مسلم" فقال: وفي كيفية هذا النبع، قولان، حكاهما عياض وغيره، أحدهما وهو قول أكثر العلماء والمزني: أن الماء كان يخرج من ذات أصابعه، والثاني: أن الماء كثر في ذاته، فصار يفور من بين أصابعه، انتهى.
ودعوى المصنف أن حديث ابن مسعود ظاهر في الثاني، فيها نظرًا؛ إذ هو محتمل، بل الظاهر منه الأول كبقية الأحاديث، "ويؤيده قول جابر: فرأيت الماء يخرج من بين أصابعه، وفي رواية: فرأيت الماء ينبع من بين أصابعه" فقوله: يخرج وينبع ظاهر في أنه من ذاتها، "وهذا هو الصحيح، وكلاهما" أي: الأمرين كثرته في نفسه ببركته، وخروجه من ذات أصابعه "معجزة له صلى الله عليه وسلم" وقول الأكثر أبلغ في المعجزة، وأفرد معجزة نظرًا للفظ كلا، فيجوز مراعاة لفظها ومعناها، واجتمعا في قوله:
كلاهما حين جد الجري بينهما ... قد أقلع وكلا أنفيهما رابي(7/15)
وإنما فعل ذلك ولم يخرجه من غير ملابسة ماء ولا وضع إناء تأدبًا مع الله تعالى، إذ هو المنفرد بابتداع المعدومات وإيجادها من غير أصل.
وروى ابن عباس قال: دعا النبي صلى الله عليه وسلم بلالا فطلب الماء، فقال: لا والله ما وجدت الماء، قال: "فهل من شن"؟. فأتي بشن فبسط كفه فيه فانبعثت تحت يده عين، فكان ابن مسعود يشرب وغيره يتوضأ، رواه الدارمي وأبو نعيم، وكذا رواه الطبراني وأبو نعيم من حديث أبي ليلى الأنصاري وأبو نعيم من طريق القاسم بن عبد الله بن أبي رافع عن أبيه عن جده.
__________
"وإنما فعل ذلك ولم يخرجه من غير ملابسة ماء، ولا وضع إناء تأدبًا مع الله تعالى، إذ هو المنفرد بابتداع المعدومات" إيجادها على غير مثال سابق، "وإيجادها من غير أصل" تتولد منه.
وفي فتح الباري: الحكمة في طلبه صلى الله عليه وسلم في هذه المواطن فضلة الماء، لئلا يظن أنه الموجد للماء، ويحتمل أنه إشارة إلى أن الله أجرى العادة في الدنيا غالبًا بالتوالد، وأن بعض الأشياء يقع بثها بالتوالد، وبعضها لا يقع، ومن جملة ذلك ما يشاهد من فوران بعض المائعات إذا خمرت وتركت زمانًا، ولم تجر العادة في الماء الصرف بذلك، فكانت المعجزة بذلك ظاهرة جدًا، انتهى.
"وروى ابن عباس، قال: دعا" نادى "النبي صلى الله عليه وسلم بلالا" بماء؛ كما في الرواية، "فطلب" بلال "الماء، فقال" بلال: "لا والله ما وجدت الماء"، قال: "فهل من شن"؟. بفتح المعجمة وبالنون، إداوة يابسة، "فأتي بشن، فبسط كفه" اليمنى على الظاهر "فيه، فانبعثت" انفرجت "تحت يده عين، فكان ابن مسعود يشرب" ويكثر؛ كما في الرواية، وكان "غيره يتوضأ، رواه الدارمي" عبد الله بن عبد الرحمن، "وأبو نعيم" في الدلائل، قال الحافظ: وهذا يشعر بأن ابن عباس حمل الحديث عن ابن مسعود، فإن القصة واحدة، ويحتمل أن يكون كل من بلال وابن مسعود أحضر الإداوة، فإن الشن الإداوة اليابسة، انتهى.
"وكذا رواه الطبراني وأبو نعيم من حديث أبي ليلى الأنصاري" والد عبد الرحمن، قيل: اسمه بلال، وقيل: بليل بالتصغير، وقيل: داود بن بلال، وقيل: أوس، وقيل: يسار، وقيل: اليسر، وقيل: اسمه وكنيته.
وقال ابن الكلبي: أبو ليلى بن بلال بن بليل بن أحيحة، وتميم نسبة إلى مالك بن الأوس، وقال غيره: شهد أحدًا وما بعدها، ثم سكن الكوفة، وكان مع علي في حروبه، وقيل: إنه قتل بصفين، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعنه ولده عبد الرحمن وجده.
وقال الدولابي: روى عنه أيضا عامر بن كدين، قاضي دمشق، وليس كما قال: فشيخ عامر هو أبو ليلى الأشعري؛ كما في الإصابة، وله أحاديث في السنن.
"وأبو نعيم من طريق القاسم بن عبد الله بن أبي رافع، عن أبيه، عن جده" أبي رافع، واسمه أسلم، على أشهر أقوال عشرة تقدمت غير مرة، مولى النبي صلى الله عليه وسلم، فقد ذكر المصنف ستة صحابة رووا حديث نبع الماء، فزاد أبا رافع على الحافظ.(7/16)
"تفجر الماء ببركته وابتعاثه بمسه ودعوته صلى الله عليه وسلم":
ومن ذلك تفجر الماء ببركته، وابتعاثه بمسه ودعوته.
روى مسلم في صحيحه عن معاذ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنكم ستأتون غدًا إن شاء الله عين تبوك، وإنكم لن تأتوها حتى يضحى النهار، فمن جاءها فلا يمس من مائها شيئًا حتى آتي". قال: فجئناها، وقد سبق إليها رجلان، والعين مثل الشراك تبض
__________
تفجر الماء ببركته وابتعاثه بمسه ودعوته صلى الله عليه وسلم:
"ومن ذلك تفجر الماء" وفي نسخة: تفجير، فأطلق المصدر وأراد أثره وهو التفجر مجازًا إذ التفجير من فعل الله لا من الماء، فالمراد منه التفجر أو المراد بتفجيره شق محله الذي يخرج منه، أو المصدر مضاف لمفعوله بعد حذف الفاعل، أي: تفجير الله الماء بمعنى إخراجه، "ببركته" أي: يمنه ووجوده في مكان أخرج منه الماء، "وابتعاثه" افتعال من البعث، وهو الإثارة والإخراج للماء حتى يجري، وفي نسخة: انبعاثه بالنون انفعال، وهما بمعنى واحد، يقال: بعثه، فابتعث، وانبعث "بمسه" لمحله "ودعوته" دعائه لله تعالى، وآخر هذا عن نبعه من أصابعه لقوة ذاك في المعجزة على هذا الاحتمال كونه اتفاقيًا.
"روى مسلم في صحيحه" في فضائل النبي من طريق مالك، عن أبي الزبير، عن عامر بن واثلة، "عن معاذ" بن جبل: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنكم ستأتون غدًا إن شاء الله عين تبوك" التي بها لا ينصرف على المشهور لوزن الفعل كتقول، وقد يصرف على إرادة الموضع مكان بين المدينة والشام، "وإنكم لن تأتوها حتى يضحي النهار، فمن جاءها" أي: قبلي، بدليل قوله: "فلا يمس من مائها شيئًا حتى آتي" بالمد: أجيء، "فجئناها وقد سبق إليها رجلان، والعين مثل الشراك" بكسر المعجمة، وفتح الراء، وألف، وكاف: سير النعل الذي على وجهه، شبهه به لضعفه وقلة جريه، وليس بمعنى أخدود في الأرض؛ كما توهم، "تبض" بفتح التاء وكسر الموحدة، وتشديد الضاد المعجمة، أي: تقطر وتسيل؛ كما رواه ابن مسلمة، وابن القاسم في الموطأ، ورواه يحيى وطائفة، بصاد مهملة، أي: تبرق، قاله الباجي، وبهما روى(7/17)
بشيء من ماء، فسألهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هل مسستما من مائها شيئًا"؟. قالا: نعم، فسبهما وقال لهما ما شاء الله أن يقول: ثم غرفوا من العين قليلا قليلا حتى اجتمع في شيء، ثم غسل عليه السلام وجهه ويديه به ثم أعاده فيها، فجرت العين بماء كثير فاستقى الناس ثم قال عليه الصلاة والسلام: "يا معاذ، يوشك إن طالت بك حياة أن ترى ما هاهنا قد ملئ جنانًا"، أي بساتين وعمرانًا، وهذا أيضًا من معجزاته عليه الصلاة والسلام.
ورواه القاضي عياض في الشفاء بنحوه من طريق مالك في.
__________
أيضًا في مسلم، "بشيء من ماء" يشير إلى تقليله، فسألهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هل مسستما" بكسر السين الأولى على الأفصح، وتفتح "من مائها شيئًا"؟. "قالا: نعم" لأنهما لم يعلما نهيه أو حملاه على الكراهة أو نسياه إن كان مؤمنين، وقد روى أبو بشر الدولابي، أنهما كانا من المنافقين، "فسبهما" لمخالفتهما أمره ونفاقهما، أو حملهما النهي على الكراهة إن كانا مؤمنين، فإن كان لم يعلما أو نسيا فسبهما لكونهما تسببًا في فوات ما أراده من إظهار المعجزة، كما يسب الناسي والساعي، ويلامان إذا كان سببًا في فوات محروس عليه، قاله الباجي في شرح الموطأ.
"وقال لهما ما شاء الله أن يقول: ثم غرفوا من العين" بأيديهم "قليلا قليلا" بالتكرار، "حتى اجتمع" الماء الذي غرفوه "في شيء" من الأواني التي كانت معهم ولا قلب فيه، وإن أصله غرفوا في شيء حتى اجتمع ماء كثير؛ كما توهم، "ثم غسل عليه السلام وجهه ويديه" للبركة "به" أي: الماء، والذي في مسلم، وفي الموطأ فيه بدل به، وضميره قيل عائد على الشيء، أي: الإناء، والظاهر أنه للماء أيضًا، وعبر بفي لمشاكلة قوله: "ثم أعاده فيها، فجرت العين بماء كثير" نقل بالمعنى، ولفظ مسلم: فجرت العين بماء منهمر، وقال غزير: شك أبو علي، أي: راويه عن مالك. نعم لفظ الموطأ بماء كثير، كلفظ المصنف، لكنه لم يعزه له، "فاستقى الناس" شربوا وسقوا دوابهم، "ثم قال عليه الصلاة والسلام: "يا معاذ، يوشك" يقرب ويسرع من غير بطء "إن طالت بك حياة" أي: إن أطال الله عمرك، ورأيت هذا المكان، "أن ترى" بعينك فاعل يوشك، وإن بالفتح مصدرية، "ما" موصول، أي: الذي "هاهنا" هو إشارة للمكان، "قد ملئ" بالبناء للمفعول "جنانًا" نصب على التمييز، بكسر الجيم جمع بفتحها، "أي: بساتين وعمرانًا"، أي: يكثر ماؤه ويخصب أرضه، فيكون بساتين ذات ثمار وشجر كثيرة، "وهذا أيضًا من معجزاته عليه الصلاة والسلام" لأنه إخبار بغيب وقع، "ورواه" بمعنى: ذكره "القاضي عياض في الشفاء بنحوه من طريق مالك" أي: ناسبًا له بلفظ: روى مالك "في(7/18)
الموطأ، وزاد فقال: قال في حديث ابن إسحاق: فانخرق من الماء ماء له حس كحس الصواعق.
وفي البخاري، في غزوة الحديبية، من حديث المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم: أنهم نزلوا بأقصى الحديبية على ثمد قليل الماء يتبرضه الناس تبرضًا.
__________
الموطأ" عن معاذ، "وزاد" بعده، "فقال" عياض: "قال" معاذ "في حديث ابن إسحاق" في السيرة: "فانخرق" انفجر انفجارًا بشدة "من الماء، ماء له حس" صوت، "كحس الصواعق" جمع صاعقة: الصيحة، فهو تشبيه محسوس بمحسوس، قال التلمساني: وهي والصعقة: النار تسقط من السماء إلى الأرض في رعد شديد، وصيحة العذاب، وقطعة من النار تسقط إلى الأرض، انتهى، لكن هذا إنما ذكره ابن إسحاق في قصة أخرى بعد ارتحاله من تبوك، فقال: فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بضع عشرة ليلة لم يجاوزها، أي: تبوك، ثم انصرف قافلا إلى المدينة، وكان في الطريق ماء يروي الراكب والراكبين والثلاثة بواد يقال له وادي المشقق، فقال صلى الله عليه وسلم: "من سبقنا إلى ذلك الماء، فلا يستقي منه شيئًا حتى نأتيه"، فسبق إليه نفر من المنافقين، فاستقوا، فلما أتاه صلى الله عليه وسلم وقف عليه، فلم ير فيه شيئًا، فقال: "من سبقنا إلى هذا الماء"؟. فقيل: فلان وفلان، فقال: "أو لم أنههم أن يستقوا منه شيئًا حتى آتيه" ثم لعنهم ودعا عليهم، ثم نزل فوضع يده تحت الرسل، فجعل يصب في يده ما شاء الله أن يصب، ثم نضحه به ومسحه بيده، ودعا بما شاء أن يدعو، فانخرق من الماء ماء له حس، كحس الصواعق، فشرب الناس وأسقوا حاجتهم منه، فقال صلى الل عليه وسلم: "لئن بقيتم أو من بقي منكم، ليسمعن بهذا الوادي وهو أخصب ما بين يديه وما خلفه" انتهى.
"وفي البخاري في غزوة الحديبية من حديث المسور"، بكسر الميم، وسكون المهملة، وفتح الواو، وبالراء، "ابن مخرمة" بفتح الميم، وسكون المعجمة، بن نوفل، بن أهيب، بن عبد مناف، بن زهرة القرشي، الزهري، له ولأبيه صحبة، مات سنة أربع وستين، "ومروان بن الحكم" بن أبي العاصي، بن أمية، بن عبد شمس، بن عبد مناف القرشي، الأموي، لم تثبت له صحبة.
قال الحافظ: وهذا الحديث مرسل، فمروان لا صحبة له، والمسور لم يحضر القصة، وقد رواه البخاري في أول كتاب الشروط عن المسور ومروان أخبرا عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد سمعا جميعًا، صحابة شهدوا هذه القصة، كعمر، وعثمان، وعلي، والمغيرة، وأم سلمة، وسهل بن حنيف، "أنهم"، أي: النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، "نزلوا بأقصى الحديبية على ثمد" بفتحتين: "قليل الماء يتبرضه"، بتحتية، ففوقية، فموحدة، فراء ثقيلة، فضاد معجمة: يأخذه "الناس تبرضًا"(7/19)
فلم يلبثه الناس حتى نزحوه وشكي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العطش، فانتزع سهمًا من كنانته ثم أمرهم أن يجعلوه فيه، فوالله ما زال يجيش لهم بالري حتى صدروا عنه.
والثمد -بالمثلثة والتحريك- الماء القليل.
__________
نصب على أنه مفعول مطلق من باب النقل للتكلف، "فلم يلبثه الناس".
قال الحافظ: بضم أوله، وسكون اللام من الألبان، وقال ابن التيمي: بفتح أوله، وكسر الموحدة المنقلة، أي: لم يتركوه يلبث، أي: يقيم، انتهى.
وقال المصنف: بضم أوله، وفتح اللام، وشد الموحدة، وسكون المثلثة في الفرع، وأصله مصححًا عليه، "حتى نزحوه" بنون، فزاي، فحاء مهملة، أي: لم يبقوا منه شيئًا.
قال الحافظ: ووقع في شرح ابن التين، بفاء بدل الحاء، ومعناهما واحد، وهو أخذ الماء شيئًا بعد شيء حتى لا يبقى منه شيء، "وشكى" بالبناء للمفعول "إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العطش" بالرفع نائب الفاعل، "فانتزع سهمًا من كنانته" بكسر الكاف: جعبته التي فيها النبل، "ثم أمرهم أن يجعلوه فيه" أي: الثمد.
روى ابن سعد من طريق أبي مروان، قال: حدثني أربعة عشر رجلا من الصحابة: أن الذي نزل البئر ناجية بن الأعجم، وقيل: هو ناجية بن جندب، وقيل: البراء بن عازب، وقيل: عباد بن خالد، حكاه الواقدي، ووقع في الاستيعاب: خالد بن عبادة.
قال في الفتح: ويمكن الجمع بأنهم تعاونوا على ذلك بالحفر وغيره، "فوالله ما زال يجيش" بفتح أوله، وكسر الجيم، وسكون التحتية ومعجمة، "لهم بالري" بكسر الراء، ويجوز فتحها "حتى صدروا عنه" أي: رجعوا بعد ورودهم.
زاد ابن سعد: حتى اغترفوا بآنيتهم جلوسًا على شفير البئر.
وعند ابن إسحاق: فجاش بالرواء حتى ضرب الناس عنه بعطن، "والثمد بالمثلثة" المفتوحة "والتحريك" أي: "فتح الميم "الماء القليل".
وقال في الفتح أي: حفرة فيها ماء قليل، يقال: ماء مثمود، أي: قليل؛ فقوله: قليل الماء تأكيدًا لدفع توهم أن يراد لغة من يقول الثمد الماء الكثير، وقيل: الثمد ما يظهر من الماء في الشتاء ويذهب في الصيف، انتهى، وهذا أولى من تفسير المصنف بالماء القليل؛ لأنه يصير في قوله قليل الماء خزازة، لرجوع معناه إلى أنهم نزلوا على ماء قليل، أي: قليل الماء لكن تعقب بعض كلام الحافظ؛ بأنه إنما يتم إن ثبت لغة أن الثمد الماء الكثير، واعترض الدماميني قوله تأكيد؛ بأنه لو اقتصر على قليل أمكن، أما مع إضافة إلى الماء فيشكل؛ كقولنا: هذا ماء قليل الماء نعم، قال الرازي: الثمد العين، وقال غيره: حفرة فيها ماء؛ فإن صح فلا إشكال.(7/20)
وقوله: "يتبرضه الناس تبرضًا" -بالضاد المعجمة- أي يأخذونه قليلا قليلا، والبرض: الشيء القليل.
وقوله: "ما زال يجيش" -بفتح المثناة التحتية، وبالجيم، آخره شين معجمة- أي: يفور ماؤه ويرتفع.
وفي رواية: أنه صلى الله عليه وسلم توضأ فتمضمض ودعا ومج في بئر الحديبية منه، فجاشت بالماء كذلك.
وفي مغازي أبي الأسود عن عروة: أنه توضأ في الدلو، ومضمض فاه ثم مج فيه، وأمر أن يصب في البئر، ونزع سهمًا من كنانته وألقاه في البئر ودعا الله تعالى، ففارت بالماء حتى جعلوا يغترفون بأيديهم منها وهم جلوس على شفيرها، فجمع بين الأمرين.
وكذا رواه الواقدي من طريق أوس بن خولى.
__________
"وقوله: يتبرضه الناس تبرضا، بالضاد المعجمة، أي: يأخذونه قليلا قليلا، والبرض: الشيء القليل" قال الحافظ: البرض، بالفتح والسكون: اليسير من العطاء.
وقال صاحب العين: هو جمع الماء بالكفين، "وقوله: فما زال" أي: استمر "يجيش، بفتح المثناة التحتية، وبالجيم، آخره شين معجمة، أي: يفور ماؤه ويرتفع".
"وفي رواية" للبخاري عن البراء: "أنه صلى الله عليه وسلم توضأ، فتمضمض، ودعا، ومج في بئر الحديبية منه، فجاشت بالماء كذلك" ولم يذكر إلقاء السهم.
"وفي مغازي أبي الأسود" محمد بن عبد الرحمن الأسدي، المدني، يتيم عروة بن الثقات، "عن عروة" بن الزبير، أحد الفقهاء مرسلا: "أنه" صلى الله عليه وسلم "توضأ في الدلو، ومضمض فاه، ثم مج فيه" في الدلو، "وأمر أن يصب في البئر، ونزع سهمًا من كنانته" جعبته، "وألقاه في البئر" أي: أمرهم بإلقائه؛ لرواية البخاري قبل. "ودعا الله تعالى، ففارت" بفاءين من الفوران: ارتفعت "حتى جعلوا يغترفون بأيديهم منها، وهم جلوس على شفيرها" بالمعجمة والفاء: حافتها، "فجمع" في هذه الرواية "بين الأمرين" التوضؤ والمج منه، وإلقاء سهم من كنانته، ففي رواية البخاري اختصار، وفيه معجزات ظاهرة وبركة سلاحه، وما ينسب إليه صلى الله عليه وسلم، "وكذا رواه الواقدي" محمد بن عمر بن واقد الأسلمي، الحافظ، المتروك مع سعة علمه، "من طريق أوس بن خولى" بفتح الخاء المعجمة، وفتح الواو، ضبطه العسكري في كتاب التصحيف؛ كما في التبصير الأنصاري الخزرجي، صحابي شهير.(7/21)
وهذه القصة غير القصة السابقة في ذكر نبع الماء من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم مما رواه البخاري في المغازي من حديث جابر: عطش الناس بالحديبية وبين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ركوة فجعل الماء يفور من بين أصابعه. الحديث.
فبين القصتين مغايرة، وجمع ابن حبان بينهما: بأن ذلك وقع في وقتين، انتهى.
فحديث جابر في نبع الماء كان حين حضرت صلاة العصر عند إرادة الوضوء، وحديث البراء كان لإرادة ما هو أعم من ذلك. ويحتمل أن يكون الماء لما تفجر من بين أصابعه ويده في الركوة، وتوضئوا كلهم وشربوا أمر حينئذ بصب الماء الذي بقي في الركوة في البئر فتكاثر الماء فيها. انتهى.
وفي حديث البراء وسلمة بن الأكوع مما رواه البخاري في قصة الحديبية وهم أربع عشرة مائة، وبئرها لا تروي خمسين شاة، فنزحناها.
__________
قال ابن سعد: مات قبل حصر عثمان، "وهذه القصة غير القصة السابقة" قريبًا "في ذكر نبع الماء من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم مما رواه البخاري" ومسلم، كلاهما "في المغازي من حديث جابر" قال: "عطش الناس بالحديبية وبين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ركوة" فذكر الحديث، وفيه: "فجعل الماء يفور من بين أصابعه، الحديث" المتقدم قريبًا؛ "فبين القصتين مغايرة" ظاهرة؛ لأنه قال في حديث جابر: فجعل الماء يفور من بين أصابعه، وفي حديث البراء: أنه صب ماء وضوئه في البئر، "وجمع ابن حبان بينهما بأن ذلك وقع في وقتين، انتهى" فالقصة متعددة؛ "فحديث جابر في نبع الماء كان حين حضرت صلاة العصر عند إرادة الوضوء" له، "وحديث البراء كان لإرادة ما هو أعم من ذلك" كشرب وسقي دواب، "ويحتمل أن يكون الماء لما تفجر من بين أصابعه ويده في الركوة، وتوضئوا كلهم وشربوا، أمر حينئذ بصب الماء الذي بقي في الركوة في البئر" ظرف لصب، "فتكاثر الماء فيها" فتكون قصة واحدة، "انتهى" من فتح الباري وزاد: وفي حديث زيد بن خالد أنهم أصابهم مطر بالحديبية، فكان ذلك وقع بعد القصتين المذكورتين، والله أعلم.
"وفي حديث البراء" بن عازب، "وسلمة بن الأكوع مما رواه البخاري" لو زاد مسلم لاستقام على التوزيع، فالبخاري روى حديث البراء، ومسلم حديث سلمة، "في قصة الحديبية، وهم أربعة عشر مائة، وبئرها لا تروى" بضم الفوقية "خمسين شاة" الشاة المعروفة، وروى إشاءة، بكسر الهمزة الأولى، وفتح الأخيرة، وهي السخلة الصغيرة، "فنزحناها" أخرجنا جميع(7/22)
فلم نترك فيها قطرة، فقعد رسول الله صلى الله عليه وسلم على جباها، قال البراء: وأتي بدلو منها فبصق فدعا، وقال سلمة: فإما دعا وإما بصق فيها، فجاشت فأرووا أنفسهم وركابهم، وقال في رواية البراء: ثم مضمض ودعا ثم صبه فيها ثم قال: "دعوها ساعة".
قوله: "على جباها" -بفتح الجيم والموحدة والقصر- ما حول البئر، وبالكسر: ما جمعت فيه من الماء.
وقوله:
__________
مائها، "فلم نترك فيها قطرة، رسول الله صلى الله عليه وسلم على جباها، قال البراء: وأتى" بالبناء للمفعول "بدلو منها" أي: بماء مما نزحوه، "فبصق" بالصاد، وفي رواية بالسين وهما لغتان، أي: ألقى ريقه، "فدعا" الله سرًا بعد بصاقه، فجمع بينهما على رواية البراء، وليس هنا أداة شك، فلا يصح احتمال أنه شك من الراوي هل بصق أو دعا؛ لقوله: "وقال سلمة: فإما دعا وإما بصق" بكسر الهمزتين، بيان للشك في الرواية؛ لأنه لا يلزم من وقوع الشك في رواية سلمة منه، أو ممن بعده وقوعه في رواية البراء، كما هو ظاهر "فيها" أي: البئر لا الدلو، كذا قيل، "فجاشت" البئر، أي: فار ماؤها وارتفع لفمها، "فأرووا أنفسهم" بشربهم "وركابهم" إبلهم لسقيهم منها، "وقال في رواية البراء: ثم مضمض ودعا" الله سرًا، "ثم صبه" الماء الذي توضأ وتمضمض به "فيها" أي: البئر، "ثم قال: "دعوها ساعة" مقدارا من الزمان، وفي رواية للبراء: فتركناها غير بعيد، ثم إنها أصدرتنا، ولفظ البخاري من طريق إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن البراء، قال: تعدون أنتم الفتح فتح مكة، وقد كان فتح مكة فتحًا، ونحن نعد الفتح بيعة الرضوان يوم الحديبية، كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم أربع عشرة مائة، والحديبية بئر، فنزحناها فلم نترك فيها قطرة، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فأتاها، فجلس على شفيرها، ثم دعا بإناء من ماء فتوضأ، وتمضمض، ودعا ثم صبه فيها فتركناها غير بعيد، ثم إنها أصدرتنا ما شئنا ونحن وركابنا، ولفظه من طريق زهير: حدثنا أبو إسحاق: أنبأنا البراء أنهم كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، يوم الحديبية ألفًا وأربعمائة أو أكثر، فنزلوا على بئر فنزحوها، فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فأتى البئر وقعد على شفيرها، ثم قال: "ائتوني بدلو من مائها"، فأتي به، فبصق، ثم قال: "دعوها ساعة"، فأرووا أنفسهم وركابهم، حتى ارتحلوا، ولفظ مسلم عن سلمة: قدمنا الحديبية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن أربع عشر مائة، وعليها خمسون شاة لا ترويها، فقعد صلى الله عليه وسلم على جبا الركية، فإما دعا وإما بصق فيها، فجاشت فسقينا واستقينا.
"قوله: على جباها، بفتح الجيم والموحدة والقصر: ما حول البئر، وبالكسر: ما جمعت فيها" عبارة غيره: ما جمع فيها "من الماء" وروى شفاها بمعجمة وهما بمعنى، "وقوله:(7/23)
"وركابهم" أي الإبل التي يسار عليها.
وفي الصحيحين عن عمران بن الحصين قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فاشتكى إليه الناس من العطش، فنزل فدعا فلانا -كان يسميه أبو رجاء.
__________
وركابهم، أي: الإبل التي يسار عليها. وفي الصحيحين" البخاري في التيمم وعلامات النبوة، ومسلم في الصلاة من حديث عوف: حدثنا أبو رجاء، "عن عمران بن حصين" بن عبيد، بن خلف الخزاعي، أسلم عام خيبر، وكان من فضلاء الصحابة وفقهائهم، يقول أهل البصرة عنه: كان يرى الحفظة، وتكلمه حتى اكتوى، روي له مائة وثمانون حديثًا في البخاري اثنا عشر، مات بالبصرة سنة اثنتين وخمسين، "قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر" اختلف في أنه الحديبية، ففي مسلم عن ابن مسعود: أقبل صلى الله عليه وسلم من الحديبية ليلا، فنزل، فقال: "من يكلؤنا"؟، فقال بلال: أنا ... الحديث، أو بطريق مكة؛ كما في الموطأ عن زيد بن أسلم مرسلا، أو بطريق تبوك؛ كما رواه عبد الرزاق عن عطاء بن يسار مرسلا، والبيهقي عن عقبة بن عامر، أو في جيش الأمراء؛ كما في أبي داود، وتعقبه أبو عمر؛ بأنها مؤتة، ولم يشهدها النبي صلى الله عليه وسلم، وهو كما قال؛ لكن يحتمل أن المراد بها غيرها، ذكره الحافظ، وقول المصنف: أو عند رجوعهم من خيبر، كما في مسلم، لا وجه له؛ إذ في قصة عمران قال: أول من استيقظ أبو بكر، ورواية مسلم: أول من استيقظ النبي صلى الله عليه وسلم، فلا يصح تفسير السفر المبهم هنا بما في مسلم، ولذا لم يذكر الحافظ هنا، وإنما ذكره استدلالا على تعدد الواقعة، أي: نومهم عن صلاة الصبح، كما مر بيانه في آخر المقصد الثالث، "فاشتكى" حذف من الحديث ما لم يتعلق به غرضه هنا، وهو: وإنا أسرينا حتى كنا في آخر الليل، وقعنا وقعة، ولا وقعة أحلى عند المسافر منها، فما أيقظنا إلا حر الشمس، فكان أول من استيقظ من منامه أبو بكر، ثم فلان، ثم فلان، يسميهم أبو رجاء، فنسي عوف، ثم عمر بن الخطاب الرابع، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا نام لم يوقظ حتى يكون هو يستيقظ؛ لأنا لا ندري ما يحدث له في نومه، فلما استيقظ عمر، ورأى ما أصاب الناس، وكان رجلا جليدًا، فكبر ورفع صوته بالتكبير حتى استيقظ بصوته النبي صلى الله عليه وسلم، فلما استيقظ شكوا إليه الذي أصابهم، فقال: "لا ضير أو لا تضير ارتحلوا" فارتحل، فسار غير بعيد، ثم نزل فدعا بالوضوء، فتوضأ، ونودي بالصلاة، فصلى بالناس، فلما انتقل من صلاته إذا هو برجل لم يصل، فقال: "ما منعك أن تصلي"؟ قال: أصابتني جنابة ولا ماء، قال: "عليك بالصعيد، فإنه يكفيك"، ثم سار فاشتكى "إليه الناس من العطش" أي: ما أصابهم من الشدة الحاصلة بسببه، "فنزل عليه السلام، فدعا فلانًا كان يسميه أبو رجاء" بفتح الراء، وخفة الجيم والمد، عمران بن ملحان، بكسر الميم، وسكون اللام، وبالحاء المهملة العطاري، ويقال: اسم أبيه تيم، وقيل غير ذلك في اسم أبيه مخضرم، أدرك النبي صلى الله عليه وسلم ولم يره، وأسلم بعد الفتح، وهو ثقة معمر،(7/24)
ونسيه عوف -ودعا عليا، وقال: "اذهبا فابتغيا الماء". فانطلقنا فتلقينا امرأة بين مزادتين أو سطيحتين من ماء، فجاءوا بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فاستنزلوها عن بعيرها
__________
مات سنة خمسمائة وله مائة وعشرون سنة، روى له الستة، "ونسيه عوف" بالفاء الأعرابي، العبدي، البصري، ثقة، رمي بالقدر وبالتشيع، مات سنة ست أو سبع وأربعين ومائة، وله ست وثمانون.
قال الحافظ: وفلان الذي نسيه هو عمران بن حصين، بدليل قوله عند مسلم: ثم عجلني النبي صلى الله عليه وسلم في ركب بين يديه نطلب الماء، ودلت هذه الرواية على أنه كان هو وعلي فقط؛ لأنهما خوطبا بلفظ التثنية، ويحتمل أنه كان معهما غيرهما على سبيل التبعية لهما، فيتجه إطلاق لفظ ركب وخصا بالخطاب؛ لأنهما المقصودان بالإرسال. "ودعا عليا" هو ابن أبي طالب، وقال: "اذهبا فابتغيا" بموحدة، ففوقية من الابتغاء، وللأصيلي: فابغيا من الثلاثي وهمزته للوصل، ولأحمد فابغيانا، "الماء" والمراد: الطلب، يقال: ابتغا الشيء طلبه، وابغ الشيء، أي: تطلبه لي، وفيه الجري على العادة في طلب الماء وغيره، وأن التسبب في ذلك لا يقدح في التوكل، "فانطلقنا، فتلقينا امرأة", وفي علامات النبوة من رواية سلم، بفتح فسكون عن أبي رجاء عن عمران فبينما نحن نسير إذا نحن بامرأة سادلة رجليها "بين مزادتين" بفتح الميم والزاي: قرية كبيرة فيها جلد من غيرها، وتسمى أيضًا السطيحة، "أو سطيحتين" بفتح السين، وكسر الطاء المهملتين، تثنية سطيحة بمعنى المزادة، أو وعاء من جلدين، سطح أحدهما على الآخر، قال الحافظ: وأو هنا شك من عوف لخلو رواية سلم عن أبي رجاء عنها، أي: حيث جزم بقوله بين مزادتين، قال: والمراد بهما الرواية، زاد المصنف: أو القربة الكبيرة سميت بذلك، لأنه يزاد فيها جلد آخر من غيرها، انتهى.
وظاهر حديث الصحيحين هذا؛ أنهما يجدان امرأة بمكان كذا، معها بعير عليه مزادتان الحديث، فوجداها وأتيا بها، قال شارحه: ولم يسم أحد هذه المرأة إلا أنها أسلمت، ولا المكان "من ماء" على بعير لها، فقالا لها: أين الماء؟ فقالت: عهدي بالماء أمس هذه الساعة، ونفرنا خلوف، فقالا لها: انطلقي إذن، قالت: إلى أين؟ قالا: إلى رسول الله، قالت: الذي يقال الصابئ، قالا: هو الذي تعنين فانطلقي، هكذا في الصحيح قبل قوله: "فجاءا بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم" وحدثاه الحديث؛ كما في الرواية، أي: الذي كان بينهما وبينها، "فاستنزلوها عن بعيرها" أي: طلبوا منها النزول عنه، وجمع باعتبار من تبع عليًا وعمران ممن يعينهما، قال بعض الشراح المتقدمين: إنما أخذوها واستجازوا أخذ مائها، لأنها كانت حربية، وعلى فرض أن يكون لها عهد، فضرورة العطش تبيح للمسلم الماء المملوك لغيره على عوض وإلا فنفس الشارع(7/25)
ودعا النبي صلى الله عليه وسلم بإناء ففرغ فيه من أفواه المزادتين أو السطيحتين، وأوكأ أفواهمما، وأطلق العزالى، ونودي في الناس: اسقوا واستقوا، فسقى من سقى، واستقى من شاء، وهي قائمة تنظر إلى ما يفعل بمائها، وأيم الله لقد أقلع عنها وإنه ليخيل إلينا أنها أشد ملئة.
__________
تفدي بكل شيء، نقله الحافظ، "ودعا النبي صلى الله عليه وسلم بإناء ففرغ" من التفريغ، وفي رواية: فافرغ من الأفراغ، "فيه من أفواه المزادتين أو السطيحتين" أي: أفرغ الماء من أفواههما، وجمع موضع التثنية على حد، فقد صغت قلوبكما إذ ليس لكل مزادة سوى فم واحد، زاد الطبراني: فمضمض في الماء وأعاده في أفواه المزادتين.
قال الحافظ: وبهذه الزيادة تتضح الحكمة في ربط الأفواه بعد فتحها، وإن البركة إنما حصلت بمشاركة ريقه الطاهر المبارك للماء، وفي الشفاء: فجعل في إناء من مزادتيها، وقال فيه ما شاء الله أن يقول، "وأوكأ"، أي: ربط "أفواههما وأطلق" أي: فتح "العزالي" بفتح المهملة والزاي، وكسر اللام، ويجوز فتحها: جمع عزلى، بإسكان الزاي، قال الخليل: هي مصب الماء من الرواية، ولكل مزادة عزلا، وإن من أسفلها، قال الحافظ؛ فالجمع في العزالي على بابه، لأنهما مزادتان، فلهما أربع عزالى.
وقال بعض: جمع، وليس للقربة إلا فهم واحد، قيل: لأنها كانت تتعدد في قربهم عزلا، وإن من أسفل وعزلا، وإن من فوق وما كان من أسفل يخص باسم العزلى، والأحسن أن الجمع قد يطلق على ما فوق الواحد وليس على حد، فقد صغت قلوبكما لاختصاصه بما إذا كان المضاف مثنى "ونودي في الناس أسقوا" بهمزة قطع مفتوحة من أسق، أو بهمزة وصل مكسورة من سقى؛ كما في الفتح وغيره، أي: اسقوا غيركم، كالدواب، "واستقوا" أنتم، "فسقى من سقى" ولابن عساكر: فسقى من شاء، "واستقى من شاء" فرق بينه وبين سقى؛ أنه لنفسه، وسقى لغيره من ماشية ودواب واستقى، قيل: بمعنى سقي، وقيل: إنما يقال سقيته لنفسه وأسقيته لماشيته، ذكره المصنف، وكان آخر ذلك أن أعطى الذي أصابته الجنابة إناء من ماء، قال: "اذهب فأفرغه عليك"، هكذا في الصحيح قبل قوله: "وهي" أي: والحال أن المرأة "قائمة تنظر إلى ما يفعل" بالبناء للمجهول "بمائها، وايم الله" قال الحافظ: بفتح الهمزة وكسرها، والميم مفتوحة، ولم يجئ كذلك غيرها، وهو مرفوع بالابتداء وخبره محذوف، والتقدير: ايم الله قسمي، وفيها لغات جمع منها النووي في تهذيبه سبع عشرة، وبلغ بها غيره عشرين، وسيكون لنا عودة لبيانها في كتاب الإيمان، ويستفاد منه جواز التوكيد باليمين، وإن لم يتعين، "لقد أقلع" بضم الهمزة، أي: "عنها"، "وأنه ليخيل إلينا أنها أشد ملئة" بكسر الميم،(7/26)
منها حين ابتدأ فيها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اجمعوا لها". فجمعوا لها من بين عجوة ودقيقة وسويقة حتى جمعوا لها طعامًا، فجعلوه في ثوب وحملوها على بعيرها، ووضعوا الثوب بين يديها قال لها: تعلمين ما رزئنا من مائك شيئًا.
__________
وسكون اللام، بعدها همزة مفتوحة، ثم تاء تأنيث، أي: امتلأ.
وفي رواية البيهقي: أنها أملأ "منها حين ابتدأ فيها" والمراد أنهم يظنون أن الباقي فيها من الماء أكثر مما كان أولا، وهذا من عظيم آياته وباهر دلائل نبوته، حيث توضؤوا واستقوا، واغتسل الجنب، بل في علامات النبوة من طريق سلم، بفتح المهملة أوله، تليها لام ساكنة، فميم، ابن زرير، بفتح الزاي المنقوطة أوله، وراءين بلا نقط، بينهما تحتية ساكنة؛ كما ضبطه النووي، والحافظ، والمصنف وغيرهم؛ أنهم ملئوا كل قربة وإداوة كانتا معهم بما سقط من العزالى، وبقيت المزادتان مملوءتين، بل ظن الصحابة أنه كان أكثر مما كان أولا، "فقال النبي صلى الله عليه وسلم" لأصحابه: "اجمعوا لها" تطييبًا لخاطرها في مقابلة حبسها في ذلك الوقت عن السير إلى قومها وما نالها من خوف أخذ مائها، لا أنه عوض عما أخذ من الماء، قاله المصنف، وقال الحافظ: وفيه جواز أخذ المحتاج برضا المطلوب منه أو بغير رضاه إن تعين، وفيه جواز المعاطاة في مثل هذه من الهبات والإباحات من غير لفظ من المعطى والآخذ، "فجمعوا لها من بين عجوة" تمر، أجود تمر المدينة، وفي رواية: ما بين، كما في المصنف، واقتصر الحافظ على من بين، فلا معنى لترجي زيادة بين من المصنف بعد ثوبتها رواية، "ودقيقة وسويقة" بفتح أولهما، وفي رواية: كريمة بضمهما مصغرًا مثقلا؛ كما قال الحافظ وغيره، وعطف سويقة على دقيقة خاص على عام، "حتى جمعوا لها طعامًا" كثيرًا؛ كما عند أحمد، وفيه إطلاق لفظ الطعام على غير الحنطة والذرة، خلافًا لمن أبى ذلك، ويحتمل أن يكون المعنى طعامًا غير العجوة وما بعدها، قال الحافظ، أي: ما يعد طعامًا عرفا بحيث ينتفع به ويدخر ليؤكل في أوقات متفرقة، وهو كناية عن كثرة ما جمعوه لها، بدليل زيادة أحمد: كثيرًا، "فجعلوه" أي: ما جمعوه، ولأبي ذر: فجعلوها، أي: الأنواع المجموعة "في ثوب" من عندهم على ظاهره، لكن في الشفاء، ثم أمر فجمع للمرأة من الأزواد حتى ملئوا ثوبها، فظاهره: أن المراد في ثوبها "وحملوها على بعيرها" الذي كانت راكبة عليه، "ووضعوا الثوب" بما فيه "بين يديها" أي: قدامها على البعير، "قال لها" صلى الله عليه وسلم؛ كما في رواية الإسماعيلي، وللأصيلي: قالوا لها، أي: الصحابة بأمره صلى الله عليه وسلم "تعلمين" قال الحافظ: بفتح أوله وثانيه، وتشديد اللام، أي: اعلمي، وقال المصنف: بفتح التاء، وسكون العين، وتخفيف اللام، أي: اعلمي "ما رزئنا" بفتح الراء، وكسر الزاي، ويجوز فتحها، وبعدها همزة ساكنة، أي: نقصنا "من مالك شيئًا" قال الحافظ: ظاهره أن جميع(7/27)
ولكن الله هو الذي أسقانا، فأتت أهلها فقالت: العجب، لقيني رجلان فذهبا بي إلى هذا الرجل الذي يقال له الصابئ ففعل كذا وكذا، فوالله إنه لأسحر الناس كلهم أو إنه لرسول الله حقًا، فقالت يومًا لقومها: ما أرى أن هؤلاء يدعونكم عمدًا فهل لكم في الإسلام. الحديث.
وعن أبي قتادة.
__________
ما أخذوه مما زاده الله وأوجده وأنه لم يختلط فيه شيء من مائها في الحقيقة، وإن كان في الظاهر مختلطًا، وهنا أبدع وأغرب في المعجزة، وهو ظاهر قوله: "ولكن الله هو الذي أسقانا" بالهمز، ولابن عساكر: سقانا، ويحتمل أن المعنى: ما نقصنا من مقدار مائك شيئًا، وفيه إشارة إلى أن الذي أعطاها ليس على سبيل العوض من مائها, بل على سبيل التكرم والتفضل، وجواز استعمال أواني المشركين ما لم تتيقن فيها النجاسة، "فأتت أهلها" وقد احتبست عنهم، فقالوا: ما حبسك يا فلانة؟ هذا أسقطه من الحديث قبل قوله: "فقالت" حبسني "العجب، لقيني رجلان، فذهبا بي إلى هذا الرجل الذي يقال له الصابئ، ففعل كذا وكذا" حكت لهم ما فعل، "فوالله إنه لأسحر الناس كلهم" لفظ البخاري: إنه لأسحر الناس من بين هذه وهذه، وقالت بإصبعيها الوسطى والسبابة، فرفعتهما إلى السماء، تعني: السماء والأرض، "أو إنه لرسول الله حقًا" هذا منها ليس بإيمان الشك، لكنها أخذت في النظر، فأعقبها الحق فآمنت بعد ذلك، وأسقط من الحديث: فكان المسلمون بعد ذلك يغيرون على من حولها من المشركين، ولا يصيبوا الصرم الذي هي منه، "فقالت" المرأة "يومًا لقومها: ما" موصول "أرى" بفتح الهمزة، بمعنى: أعلم، أي: الذي اعتقد "أن" بالفتح مثقلا، "هؤلاء يدعونكم" من الإغارة "عمدًا" لا جهلا، ولا نسيانًا، ولا خوفًا نكم، بل مراعاة لما سبق بيني وبينهم، وهذه الغاية في مراعاة الصحبة القليلة، فكان هذا القول سبب رغبتهم في الإسلام؛ كذا رواه أبو ذر بلفظ أن الثقيلة، ورواه الأكثرون: ما أرى هؤلاء القوم يدعونكم عمدًا، بفتح همزة أرى وإسقاط أن، ووجهها بما ذكر ابن مالك، ولابن عساكر: ما أرى، بضم الهمزة، أي: أظن أن بكسر الهمزة، وللأصيلي وابن عساكر: ما أدري بدال بعد الألف أن بالفتح والتشديد في موضع المفعول، والمعنى: ما أدري ترك هؤلاء إياكم عمدًا لماذا هو، "فهل لكم" رغبة "في الإسلام الحديث" بقيته في الصحيحين: فأطاعوها، فدخلوا في الإسلام، وما كان يزيد الكتاب بهذة البقية، وللناس فيما يعشقون، والله أعلم.
"وعن أبي قتادة" الحارث، أو عمرو، أو النعمان بن ربعي، بكسر الراء، وسكون الموحدة الأنصاري، السلمي، بفتحتين المدهني، شهد أحدًا وما بعدها، ولم يصح شهوده بدرًا، ومات سنة(7/28)
يقال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "إنكم تسيرون عشيتكم وليلتكم وتأتون الماء غدًا إن شاء الله". فانطلق الناس لا يلوي أحد على أحد، فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير حتى ابهارّ الليل -أي ابيض- فمال عن الطريق فوضع رأسه ثم قال: "احفظوا علينا صلاتنا".
__________
أربع وخمسين على الأصح الأشهر، "قال: خطبنا" وعظنا "رسول الله صلى الله عليه وسلم" في سفر؛ كما دل عليه السياق، وفي حديث أبي هريرة عند مسلم: أن ذلك كان حين قفل من غزوة خيبر، "فقال" في خطبته: "إنكم تسيرون عشيتكم" أي: بقية يومكم، فالعشية كالعشي: آخر النهار؛ كما في القاموس، وفي المصباح: ما بين الزوال إلى الغروب، "وليلتكم" التي تلبه "وتأتون الماء غدًا إن شاء الله تعالى" تبركًا، وامتثالا للآية، "فانطلق الناس لا يلوي" لا يعطف "أحد على أحد" لاشتغال كل منهم بنفسه، "فبينا" بلا ميم "رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير حتى ابهار" بالموحدة، وتشديد الراء "الليل، أي: ابيض" كذا فسره المصنف، والذي للسيوطي، أي: انتصف، وفي مقدمة الفتح، قيل: انتصف أو ذهب معظمه، إذ بهرة كل شيء أكثره وفي القاموس: ابهار الليل: انتصف، أو تراكمت ظلمته، أو ذهبت عامته، أو بقي نحو ثلثه، فلم يذكروا تفسيره بالبياض؛ كما فعل المصنف، بل في الصحاح والقاموس؛ إنما ذكرا البياض صفة للقمر لا لليل، ولفظ القاموس: بهر القمر، كمنع غلب ضوءه ضوء الكواكب.
ولفظ مسلم: فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير حتى ابهار الليل، وأنا إلى جنبه، فنعس، فمال على راحلته، فأتيته فدعمته من غير أن أوقظه حتى اعتدل على راحلته، ثم سار حتى ابهار الليل مال عن راحلته، فدعمته من غير أن أوقظه، حتى اعتدل على راحلته، ثم سار حتى إذا كان من آخر السحر مال ميلة هي أشد من الميلتين الأوليين حتى كاد ينحفل، فأتيته فدعمته، فرفع رأسه، فقال: "من هذا"؟، قلت: أبو قتادة، قال: "متى كان هذا مسيرك مني"؟ قلت: ما زال هذا مسيري منذ الليلة، قال: "حفظك الله بما حفظت به نبيه"، ثم قال: "هل ترانا نخفي على الناس"، ثم قال: "هل ترى من أحد"؟. قلت: هذا راكب، ثم قلت: هذا راكب آخر حتى اجتمعنا، فكنا سبعة ركب، قال: "فمال" رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي: عدل "عن الطريق" فحذف المصنف هذا من الحديث لعدم غرضه فيه، إذ غرضه منه إنما هو تكثير الماء، لكن صار سياقه يقتضي أن عدوله ونومه كان عند انتصاف الليل، مع أنه إنما كان عند السحر، "فوضع رأسه" أي: نام، ثم قال: "احفظوا علينا صلاتنا" بأن تنبهونا قبل خروج وقتها، وفي البخاري عن أبي قتادة ذكر سبب نزوله سؤال بعض القوم ذلك، فقال صلى الله عليه وسلم: "أخاف أن تناموا عن الصلاة" فقال بلال: أنا أوقظكم.
وفي حديث أبي هريرة عند مسلم، وقال لبلال: "اكلأنا الليل"، فصلى بلال ما قدر له ونام صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه، فلما قارب الفجر استند بلال إلى راحلته، مواجه الفجر، فغلبت بلالا(7/29)
فكان أول من استيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم والشمس في ظهره، ثم قال: "اركبوا". فركبنا فسرنا، حتى إذا ارتفعت الشمس نزل، ثم دعا بميضأة كانت معي فيها شيء من ماء فتوضأ منها وضوءًا
__________
عيناه وهو مستند إلى راحلته فلم يستيقظ صلى الله عليه وسلم، ولا أحد من أصحابه حتى ضربتهم الشمس، "فكان أول من استيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم" مثله عن أبي هريرة عند مسلم أيضًا، وفي حديث عمر: أن أول من استيقظ أبو بكر، ولم يستيقظ النبي صلى الله عليه وسلم حتى أيقظه عمر بالتكبير، ولذا رجح القاضي عياض أن نومهم عن صلاة الصبح وقع مرتين لما في الحديثين من المغايرات التي يتعسر معها الجمع، خلافًا للأصيلي في أن القصة واحدة، وأيضًا في حديث أبي قتادة أن العمرين لم يكونا مع المصطفى، وفي حديث عمران: أنهما معه، وأيضًا فالذي كلأ الفجر، في قصة أبي قتادة بلال، وأما في قصة عمران، فروى الطبراني شبيهًا بقصته، وفيه: أن الذي كلأ لهم الفجر ذو مخبر، بكسر الميم، وسكون المعجمة، وفتح الموحدة.
وفي ابن حبان عن ابن مسعود أنه كلأ لهم الفجر، وأيضًا مما يدل على التعدد اختلاف مواطنها؛ كما قدمنا، "والشمس في ظهره" كناية عن كمال ظهورها، وأسقط من الحديث عند مسلم، قال: فقمنا فزعين، قال أبو عمر: يحتمل أن يكون تأسفًا على ما فاتهم من وقت الصلاة، ففيه أن ذلك لم يكن من عادته منذ بعث، قال: ولا معنى لقول الأصيلي فزعين، خوفًا أن يكون اتبعهم عدو، فيجدهم بتلك الحال من النوم؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يتبعه عدو في انصرافه من خيبر، بل انصرف ظافرًا غانمًا، "ثم قال: "اركبوا" زاد في رواية أبي هريرة: "فإن هذا منزل حضرنا فيه الشيطان".
قال عياض: وهذا أظهر الأقوال في تعليله، أو لاشتغالهم بأحوال الصلاة، أو تحرزًا من العدو، أو ليستيقظ النائم وينشط الكسلان.
قال ابن رشيق: وقد علله صلى الله عليه وسلم بهذا ولا يعلمه إلا هو، أي: فهو خاص به سواء كان في ذلك الوادي، أو في غيره "فركبنا فسرنا" غير بعيد، "حتى إذا ارتفعت الشمس نزل" أي: علت في الارتفاع وزاد ارتفاعها، وإلا فقوله: والشمس في ظهره دليل ارتفاعها، إذ لا تكون كذلك حتى ترتفع، وفي حديث أبي هريرة، حتى ضربتهم الشمس، وذلك لا يكون إلا بعد أن يذهب وقت الكراهة، ففيه رد على من زعم أن علة تأخيره كون ذلك كان وقت كراهة؛ كما في الفتح، "ثم دعا بميضأة" بكسر الميم، وهمزة بعد الضاد: إناء يتوضأ به كالركوة؛ كذا في الديباج.
وقال غيره: بكسر الميم والقصر، وياؤها منقلبة عن واو، لأنها آلة الوضوء، فوزنها مفعلة، وقد تمد، فوزنها مفعالة، "كانت معي فيها شيء من ماء" قال: "فتوضأ منها وضوءًا" دون(7/30)
قال: وبقي شيء من ماء، ثم قال: "احفظ علينا ميضأتك"، فسيكون لها نبأ، ثم أذن بلال بالصلاة، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين ثم صلى الغداة، وركب وركبنا معه، فانتهينا إلى الناس حين اشتد النهار وحمي كل شيء، وهم يقولون: يا رسول الله هلكنا عطشنا، فقال: "لا هلك عليكم"
__________
وضوء؛ كما هو لفظ الحديث، ومعناه: وضوءًا كامل الفروض دون وضوء تام بالفرائض والسنن، كاقتصاره على الوضوء مرة، ونحو ذلك.
"قال: وبقي شيء من ماء" وظاهره: أنه لم يتوضأ منها أحد غيره، وفي رواية عن أنس: كان صلى الله عليه وسلم في سفر، فقال لأبي قتادة: "أمعكم ماء"؟، قلت: نعم في ميضاءة فيها شيء من ماء، قال: "ائت بها" فأتيته بها، فقال لأصحابه: "تعالوا مسوا منها"، فتوضئوا، وجعل يصب عليهم وبقيت جرعة، "ثم قال" صلى الله عليه وسلم لأبي قتادة: "احفظ علينا ميضأتك، فسيكون لها نبأ" خبر عظيم في أمر مائها وكفايته القوم وما يظهر بها من المعجزة العظيمة، "ثم أذن بلال بالصلاة" ولأحمد من حديث ذي مخبر: فأمر بلالًا فأذن، واستدل به على مشروعية الأذان للفوائت، "فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين" هما ركعتا الفجر، "ثم صلى الغداة" الصبح، ولأحمد: فصلى الركعتين قبل الصبح، وهو غير عجل، ثم أمره فأقام الصلاة، فصلى الصبح.
زاد الطبراني من حديث عمران، فقلنا: يا رسول الله! أنعيدها من الغدو لوقتها؟، قال: "نهانا الله عن الرياء، ويقبله منا" وفي رواية ابن عبد البر: "لا ينهاكم الله عن الرياء ويقبله منكم"، واختصر المصنف سياق أبي قتادة، ولفظه في مسلم: ثم صلى الغداة، فصنع ما كان يصنع كل يوم، قال: "وركب" رسول الله صلى الله عليه وسلم "وركبنا معه" فجعل بعضنا يهمس إلى بعض ما كفارة ما صنعنا بتفريطنا في صلاتنا، ثم قال: "أما لكم فيّ أسوة"، ثم قال: "إنه ليس في النوم تفريط، إنما التفريط على من لم يصل الصلاة حتى يجيء وقت الصلاة الأخرى، فمن فعل ذلك فليصلها حين ينتبه لها، فإذا كان الغد فليصلها عند وقتها". ثم قال: "ما ترون الناس صنعوا"؟، قال: ثم أصبح الناس فقدوا نبيهم، فقال أبو بكر وعمر: رسول الله لم يكن ليخلفكم، وقال الناس: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أيديكم، فإن تطيعوا أبا بكر وعمر ترشدوا، قال: "فانتهينا إلى الناس" لأنه صلى الله عليه وسلم لما عدل عن الطريق مع طائفة نام وسار بقية الجيش، ولم يعملوا بنومه، وفيهم الشيخان، كما رأيت، "حين اشتد" بمعجمة قبل الفوقية، "النهار، وحمي كل شيء وهم يقولون: يا رسول الله، هلكنا عطشنا" هكذا في مسلم بلا واو، بيان لهلاكهم، ويقع في نسخ المصنف: وعطشنا بالواو، فإن ثبت رواية، فهي عطف علة على معلول، فقال: "لا هلك عليكم" بضم الهاء، وسكون اللام: اسم من هلك وحذف من الحديث، ثم قال: "أطلقوا إليّ غمري"، وهو بضم(7/31)
ودعا بالميضأة فجعل يصب وأبو قتادة يسقيهم فلم يعد أن رأى الناس ماء في الميضأة فتكابوا عليها، فقال رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم: "أحسنوا الملء كلكم سيروى"، قال: ففعلوا، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يصب وأسقيهم، حتى ما بقي غيري وغير رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم صب فقال لي: "اشرب"، فقلت: لا أشرب حتى تشرب يا رسول الله، فقال: "إن ساقي القوم آخرهم"، قال: فشربت وشرب، الحديث رواه مسلم.
__________
المعجمة: وفتح الميم وبالراء، يعني: قدحي، فحللته فأتيته به، قال: "ودعا بالميضأة فجعل" صلى الله عليه وسلم "يصب" في قدحه، "وأبو قتادة يسقيهم، فلم يعد" بفتح الياء، وإسكان العين "أن رأي الناس" أي: لم يتأخروا زمنًا عن رويتهم "ماء" بالتنويم "في الميضأة، فتكابوا" أي: ازدحموا، وفي رواية أحمد: فازدحم الناس "عليها" بمجرد رؤية الماء لشدة عطشهم، "فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أحسنوا الملء" بفتح الميم وكسرها، وسكون اللام والهمز، أي: لأوانيكم، فلا تزدحموا على الأخذ "كلكم سيروى" ولأحمد: كلكم سيصدر عن ري، "قال: ففعلوا" أي: تركوا الازدحام، "فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يصب" في قدحه "وأسقيهم" ولأحمد: فشرب القوم، وسقوا دوابهم وركابهم، وملئوا ما كان معهم من إداوة وقربة ومزادة، "حتى ما بقي غيري وغير رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم صب، فقال لي: "اشرب"، فقلت: لا أشرب حتى تشرب يا رسول الله، قال: "إن ساقي القوم آخرهم". "قال: فشربت وشرب" رسول الله صلى الله عليه وسلم، "الحديث"، بقيته: وأتى الناس الماء جامين رواء، قال: فقال عبد الله بن رباح: إني لأحدث هذا الحديث في مسجد الجامع، إذ قال عمران: انظر أيها الفتى كيف تحدث، فإني أحد الركب تلك الليلة، قال: قلت: فأنت أعلم بالحديث، قال: ممن أنت؟ قلت: من الأنصار، قال: حدث، فأنت أعلم بحديثكم، قال: فحدثت القوم، فقال عمران: لقد شهدت تلك الليلة وما شعرت أن أحدًا حفظه كما حفظته، "رواه مسلم" في الصلاة من حديث ثابت، عن عبد الله بن رباح، عن أبي قتادة، وحذف المصنف منه كثيرًا، كما رأيت واحتج بآخره من قال باتحاده مع قصة عمران؛ لأنه صدق عبد الله في تحديثه، وأجيب: بأن عمران حضر القصتين، فحدث بإحداهما، وصدق عبد الله لما حدث عن أبي قتادة بالأخرى.
قال في الشفاء: وذكر الطبري، يعني ابن جرير، حديث أبي قتادة على غير ما ذكره أهل الصحيح، وأن النبي صلى الله عليه وسلم خرج ممدًا لأهل مؤتة عندما بلغه قتل الأمراء، وذكر حديثًا طويلا فيه معجزات وآيات وفيه إعلامهم أنهم يفقدون الماء غدًا، وذكر حديث الميضأة، قال: والقوم زهاء ثلاثمائة، انتهى.(7/32)
وعن أنس قال: أصابت الناس سنة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبينما النبي صلى الله عليه وسلم يخطب في يوم الجمعة، قام أعرابي فقال: يا رسول الله، هلك المال وجاع العيال، فادع الله لنا، فرفع يديه وما نرى في السماء قزعة، فوالذي نفسي بيده ما وضعها حتى ثار السحاب أمثال الجبال، ثم لم ينزل عن منبره حتى رأيت المطر يتحادر على لحيته، فمطرنا يومنا ذلك ومن الغد ومن بعد الغد، حتى الجمعة الأخرى
__________
"وعن أنس، قال: أصابت الناس سنة" بفتح السين المهملة، أي: شدة وجهد من الجدب "على عهد" أي: زمن "رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبينما النبي صلى الله عليه وسلم يخطب في يوم الجمعة" خطبة الجمعة على المنبر، "قام أعرابي" من سكان البادية لا يعرف اسمه، قال المصنف.
وقال الحافظ: لم أقف على تسميته في حديث أنس، وروى أحمد عن كعب بن مرة ما يمكن أن يفسر المبهم بأنه كعب.
وروى البيهقي ما يمكن أن يفسر بأنه خارجة بن حصن الفزاري، ولكن رواه ابن ماجه من طريق شرحبيل بن السمط، أنه قال لكعب بن مرة: يا كعب حدثنا عن رسول الله، قال: جاء رجل، فقال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم استسق، فرفع يديه، ففي هذا أنه غير كعب، "فقال: يا رسول الله" فيه أنه كان مسلمًا، فانتفى زعم أنه أبو سفيان بن حرب؛ لأنه حين سؤاله لذلك لم يكن أسلم، فهي واقعة أخرى؛ كما في الفتح. "هلك المال" الحيوانات لفقد ما ترعاه، فليس المراد الصامت.
وفي رواية: هلكت المواشي، وأخرى: الكراع، بضم الكاف، يطلق على الخيل وغيرها، "وجاع العيال" لعدم وجود ما يعيشون به من الأقوات المفقودة بحبس المطر، "فادع الله لنا" أن يغيثنا، "فرفع يديه" زاد في رواية: حذاء وجهه، ولابن خزيمة عن أنس: حتى رأيت بياض إبطيه.
وزاد النسائي: ورفع الناس أيديهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعون، "وما نرى في السماء قزعة" بقاف وزاي، وعين مهملة مفتوحات: قطعة من سحاب متفرق، أو رقيقه الذي إذا مر تحت السحب الكثيرة كان كأنه ظل، قال ابن سيده: القزع قطع من السحاب رقاق.
زاد أبو عبيد: وأكثر ما يجيء في الخريف، قال أنس: "فوالذي نفسي بيده ما وضعها" أي: يديه، وللكشميهني: ما وضعهما، أي: يديه "حتى ثار" بمثلثة، أي: هاج وانتشر "السحاب أمثال الجبال" لكثرته، "ثم لم ينزل عن منبره حتى رأيت المطر يتحادر" ينحدر، أي: ينزل ويقطر "على لحيته" الشريفة، "فمطرنا" بضم الميم وكسر الطاء، أي: حصل لنا المطر "يومنا" نصب على الظرفية، أي: في يومنا "ذلك، ومن الغد" من للتبعيض، أو بمعنى في، "ومن بعد الغد" والذي يليه "حتى الجمعة الأخرى" بالجر في الفرع، وأصله: على أن حتى جارة، ويجوز النصب عطفًا(7/33)
وقام ذلك الأعرابي أو غيره فقال: يا رسول الله، تهدم البناء وغرق المال، فادع الله لنا فرفع يديه فقال: "اللهم حوالينا ولا علينا"
__________
على سابقه المنصوب، والرفع على أن مدخولها مبتدأ خبر محذوف، قاله المصنف.
وفي رواية: فمطرنا من جمعة إلى جمعة، وفي أخرى: فدامت جمعة، وفي أخرى: فخرجنا نخوض الماء حتى أتينا منازلنا، وأخرى فما كدنا أن نصل إلى منازلنا، أي: من كثرة المطر وأخرى حتى سالت مثاعب المدينة، بمثلثة، وآخره موحدة جمع مثعب مسيل الماء، وفي مسلم: فأمطرنا حتى رأيت الرجل تهمه نفسه أن يأتي أهله، ولابن خزيمة: حتى أهم الشاب القريب الدار: الرجوع إلى أهله، "وقام" بالواو، ولأبي ذر، والأصيلي، وابن عساكر، فقام بالفاء، "ذلك الأعرابي" الذي طلب الدعاء "أو غيره" وفي رواية: ثم دخل رجل في الجمعة المقبلة، فظاهره أنه غير الأول؛ لأن النكرة إذا تكررت دلت على التعدد، وقد قال شريك: سألت أنسا أهو الرجل الأول؟ قال: لا أدري، وهذا يقتضي أنه لم يجزم بالتغاير، فالقاعدة أغلبية؛ لأن أنسا من أهل اللسان قد تردد، ومقتضى رواية أو غيره أنه كان يشك فيه.
وفي رواية للبخاري: فأتى الرجل، فقال. وفي أبي عوانة: فما زلنا نمطر حتى جاء ذلك الأعرابي في الجمعة الأخرى، وهذا يقتضي الجزم بكونه واحدًا، قاله الحافظ، "فقال: يا رسول الله، تهدم البناء" وفي رواية: البيوت، "وغرق المال" وفي رواية: هلكت الأموال، وانقطعت السبل، واحتبس الركبان، "فادع الله لنا" وفي رواية: فادع الله يمسكها، أي: الأمطار، أو السحابة، أو السماء، والعرب تطلق على المطر سماء، وفي رواية: ن يمسك الماء عنًا، ولأحمد: أن يرفعها عنًا.
وفي رواية للبخاري: فادع ربك أن يحسبها عنا، فضحك. وفي رواية: فتبسم لسرعة ملال ابن آدم، "فرفع يديه" بالتثنية، وفي رواية: يده على إرادة الجنس، فقال: "اللهم حوالينا" بفتح اللام، أي: أنزل أو أمطر حوالينا، والمراد: أصرف المطر عن الأبنية والدور، "ولا" تنزله "علينا" قال الحافظ: فيه بيان المراد بقوله: حوالينا؛ لأنها تشمل الطرق التي حولهم، فأخرجه بقوله: "ولا علينا".
قال الطيبي: في إدخال الواو هنا معنى لطيف، وذلك أنه لو أسقطها لكان مستقيًا للآكام وما معها فقط، ودخول الواو يقتضي أن طلب المطر على المذكورات ليس مقصودًا لعينه، ولكن ليكون وقاية من أذى المطر، فليس الواو مخلصة للعطف، ولكنها للتعليل، وهو كقولهم: تجوع الحرة، ولا تأكل بثدييها، فإن الجوع ليس مقصودًا لعينه، لكونه مانعًا عن الرضاع بأجرة، إذا كانوا يكرهون ذلك آنفًا، انتهى.(7/34)
فما يشير ئإلى ناحية من السحاب إلا انفرجت، وصارت المدينة مثل الجوبة، وسال الوادي قناة شهرًا، ولم يجئ أحد من ناحية إلا حدث بالجود. وفي رواية قال: "اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الإكام والظراب وبطون الأودية,
__________
"فما يشير" بيده "إلى ناحية من السحاب إلا انفرجت" انكشفت أو تدورت، كما يدور جيب القميص، وهذا لفظ البخاري في الجمعة، وشرحه المصنف بما ذكرت، ورواه في الاستسقاء، بلفظ: إلا تفرجت.
قال المصنف بفتح الفوقية، والفاء، وتشديد الراء، وبالجيم، أي: تقطع السحاب، وزال عنها امتثالا لأمره، "وصارت المدينة مثل الجوبة، وسال الوادي قناة" بقاف مفتوحة، فنون، فألف، فتاء تأنيث، مرفوع على البدل من الوادي غير منصرف للتأنيث والعلمية، إذ هو اسم لواد معين من أودية المدينة بناحية أحد به مزارع، ولعله من تسمية الشيء باسم ما جاوره، وقرأت بخط الرضى الشاطبي الفقهاء يقرءونه بالنصب والتنوين يتوهمونه قناة من القنوات وليس كذلك، انتهى.
وهذا ذكره بعض الشراح، وقال: هو على التشبيه، أي: سال مثل القناة، قال الحافظ: أي: جرى فيه المطر "شهرًا ولم يجئ أحد من ناحية إلا حدث بالجود، وفي رواية" للشيخين من وجه آخر عن أنس، "قال" صلى الله عليه وسلم: "اللهم حوالينا ولا علينا" وفي بعض الروايات: حولينا بلا ألف، وهما بمعنى، وهو في موضع نصب على الظرف أو مفعول به، والمراد بحوالي المدينة: مواضع النبات والزرع، لا نفس المدينة وبيوتها، ولا ما حواليها من الطرق، وإلا لم يزل شكواهم بذلك ولم يطلب رفع المطر من أصله، بل سأل رفع ضرورة وكشفه عن البيوت والمرافق والطرق، بحيث لا يتضرر به ساكن ولا ابن سبيل، بل سأل إبقاءه في موضع الحاجة؛ لأن الجبال والصحاري ما دام المطر فيها كثرت فائدتها في المستقبل من كثرة المرعى والمياه، وغير ذلك من المصالح، وفيه قوة إدراكه صلى الله عليه وسلم للخير عن سرعة البديهة، ولذا بين المراد بحوالينا بقوله: "اللهم على الإكام" بكسر الهمزة، وقد تفتح وتمد: جمع أكمة بفتحات.
قال ابن البرقي: هو التراب المجتمع، وقال الخطابي: هي الهضبة الضخمة، وقيل: الجبل الصغير، وقيل: ما ارتفع من الأرض، وقال الثعلبي: الأكمة أعلى من الرابية، "والظراب" بكسر المعجمة، وآخره موحدة: جمع ظرب، بكسر الراء، وقد تسكن.
قال القزاز: الجبل المنبسط ليس بالعالي، وقال الجوهري: للرابية الصغيرة، "وبطون الأودية" والمراد بها ما يتحصل فيه الماء لينتفع به، قالوا: ولم يسمع أفعله جمع فاعل إلا أودية: جمع واد، وفيه نظر.(7/35)
ومنابت الشجر". فأقلعت وخرجنا نمشي في الشمس. رواه البخاري ومسلم.
و"الجوبة" -بفتح الجيم والموحدة بينهما واو ساكنة- الحفرة المستديرة الواسعة، وكل منفتق بلا بناء جوبة، أي حتى صار الغيم والسحاب محيطًا بآفاق المدينة.
و"الجود" -بفتح الجيم وإسكان الواو -المطر الواسع الغزير.
وعن عبد الله بن عباس، أنه قيل لعمر بن الخطاب رضي الله عنه حدثنا عن ساعة العسرة فقال عمر: خرجنا إلى تبوك في قيظ شديد، فنزلنا منزلا.
__________
وزاد مالك في روايته: ورءوس الجبال: ذكره الحافظ، "ومنابت الشجر"، "فأقلعت" بفتح الهمزة من الإقلاع، أي: كفت وأمسكت السحابة الماطرة عن المدينة، وفي رواية: فما هو إلا أن تكلم صلى الله عليه وسلم بذلك تمزق السحاب حتى ما يرى منه شيئًا في المدينة، "وخرجنا نمشي في الشمس، رواه" أي: المذكور من الروايتين "البخاري ومسلم" في مواضع من كتاب الصلاة وغيرها.
"والجوبة، بفتح الجيم والموحدة، بينهما واو ساكنة: الحفرة المستديرة الواسعة، وكل منفتق بلا بناء جوبة، أي: حتى صار الغيم والسحاب محيطًا بآفاق المدينة" قال الحافظ: والمراد به هنا الفرجة في السحاب، وقال الخطابي: المراد بالجوبة هنا الترس، وضبطها الزين بن المنير تبعًا لغيره، بنون بدل الموحدة، ثم فسره بالشمس إذ ظهرت في خلل السحاب، لكن جزم عياض بأن من قاله بالنون فقد صحف. "والجود بفتح الجيم وإسكان الواو: المطر الواسع الغزير", وزاد الحافظ: وهذا يدل على أن المطر استمر فيما سوى المدينة، فيشكل بأنه يستلزم أن قول السائل: هلكت الأموال وانقطعت السبل لم يرتفع الإهلاك ولا القطع، وهو خلاف مطلوب، ويمكن الجواب؛ بأن المراد أن المطر استمر حول المدينة من الإكام والظراب وبطون الأودية، لا في الطريق المسلوكة ووقع المطر في بقعة دون بقعة كثير، ولو كانت تجاورها، إذا جاز ذلك جاز أن يوجد للماشية أماكن تسكنها وترعى فيها بحيث لا يضرها ذلك المطر، فيول الإشكال، انتهى.
"وعن عبد الله بن عباس؛ أنه قيل لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: حدثنا عن ساعة العسرة" غزوة تبوك، سميت بذلك لوقوعها مع عسر شديد؛ كما أفاده عمر، "فقال عمر: خرجنا إلى تبوك في قيظ" حر "شديد، فنزلنا منزلا" لما ارتحل من الحجر، كما رواه ابن أبي حاتم، ولا ينافيه قول ابن إسحاق بعد ذكر نزوله بالحجر: فلما أصبح الناس شكوا له صلى الله عليه وسلم فقد الماء(7/36)
أصابنا عطش، حتى ظننا أن رقابنا ستنقطع، حتى إن كان الرجل ليذهب يلتمس الرجل فلا يرجع حتى يظن أن رقبته ستنقطع، حتى إن كان الرجل لينحر بعيره فيعصر فرثه فيشربه ويجعل ما بقي على كبده. فقال أبو بكر: يا رسول الله، إن الله قد عودك في الدعاء خيرًا، فادع الله لنا، قال: "أتحبون ذلك"؟. قال: نعم، فرفع يديه فلم يرجعهما حتى قالت السماء فانسكبت، فملئوا ما معهم من آنية، ثم ذهبنا ننظر فلم نجدها تجاوز العسكر، قال الحافظ المنذري: أخرجه البيهقي في الدلائل، وشيخه ابن بشران ثقة، ودعلج ثقة
__________
فدعا، فأرسل الله سحابة حتى ارتووا وحملوا حاجتهم؛ لحمل قوله: فلما أصبح، أي: بعد أن سار منزلا بعد الحجر، كما جمعت بينهما في الغزوة بذلك، "أصابنا عطش" لفقد الماء، "حتى ظننا أن رقابنا ستنقطع" من العطش "حتى إن كان الرجل لينحر بعيره، فيعصره فرثه" ما في كرشه "فيشربه" أي: ما ينزل منه مع تغيره وقلته، وكانوا يفعلون ذلك في ضرورتهم، "ويجعل ما بقي" مما عصره "على كبده ليخف عنه بعض الحرارة ببردة ما يمس كبده من الماء، "فقال أبو بكر" الصديق؛ "يا رسول الله! إن الله قد عودك في الدعاء خيرًا" بالإجابة السريعة، "فادع الله لنا" أن يسقينا، قال: "أتحبون ذلك" , "قال: نعم، فرفع يديه" نحو السماء؛ كما في الرواية، "فلم يرجعهما" بفتح الياء من رجع المتعدي، نحو: فلا ترجعون إلى الكفار لا من رجع اللازم، أي: فلم يرد يديه بعد رفعهما في دعائه من الرفع المذكور، "حتى قالت اسماء" أي: غيمت وظهر فيها سحاب من قولهم، قال كذا إذا تهيأ له واستعد؛ كما في القاموس أي: امتلأت سحابًا، أو رعدت، فسمع دوي رعدها، أو رن سحابها وحن رعدها، وروي: قامت بالميم، أي: اعتدلت واستوت بالسحاب، أو توجهت بالخير، أو انتصب سحابها وارتفع، أو حان وقت مطرها وحضر، "فانسكبت" أي: انسكب ماؤها، فالإسناد مجازي، وتفسيبر بعض قالت: باللام بأمطرت لا يناسب ما بعده، وكون السماء بمعنى المطر بعيد هنا، وكذا كونه استخدامًا، "فملئوا ما معهم من آنية: "ثم ذهبنا ننظر، فلم نجدها تجاوز العسكر، وهذه معجزة أخرى.
"قال الحافظ المنذري: أخرجه البيهقي في الدلائل" النبوية، وكذا الإمام أحمد، وابن خزيمة، والحاكم، والبزار، "وشيخه، أي: البيهقي فيه "ابن بشران" الحافظ، أبو حفص، عمر بن بشران، بن محمد، بن بشران السكري، "ثقة قال الخطيب: حدثنا عنه البرقاني، قال: كان ثقة، حافظًا، عارفًا، كثير الحديث، بقي إلى سنة سبع وستين وثلاثمائة، "ودعلج" كجعفر, ابن أحمد بن دعلج، الإمام الحافظ، الفقيه، محدث بغداد، أبو محمد، السجزي، "ثقة"، سمع البغوي وغيره، وعنه الدارقطني والحاكم، وكان من أوعية العلم وبحور الرواية، صنف المسند الكبير،(7/37)
وابن خزيمة أحد الأئمة، ويونس احتج به مسلم في صحيحه وابن وهب وعمرو بن الحارث ونافع بن جبير احتج بهم البخاري ومسلم، وعتبة فيه مقال، انتهى.
وقد رواه القاضي عياض في الشفاء مختصرًا وروى ابن إسحاق في مغازيه نحوه.
وروى صاحب كتاب "مصباح الظلام" عن عمرو بن شعيب: أن أبا طالب قال: كنت مع ابن أخي -يعني النبي صلى الله عليه وسلم- بذي المجاز، فأدركني العطش، فشكوت إليه فقلت: يابن أخي عطشت، وما قلت له ذلك وأنا لا أرى عنده شيئًا إلا الجزع، فثنى وركه ثم نزل
__________
ومات سنة إحدى وخمسين وثلاثمائة، وخلف ثلاثمائة ألف دينار، "وابن خزيمة" محمد بن إسحاق بن خزيمة بن المغيرة النيسابوري، "أحد الأئمة" المعروف عند أهل الحديث بإمام الأئمة حدث عنه الشيخان خارج صحيحيهما، "ويونس" بن يزيد الأعلى، "احتج به مسلم في صحيحه، وابن وهب" عبد الله المصري، الفقيه، الحافظ العابد، المتوفى سنة سبع وتسعين ومائة، "وعمرو بن الحارث" ابن يعقوب الأنصاري، مولاهم المصري، ثقة، فقيه حافظ مات قبل الخمسين ومائة ونافع بن جبير" بن مطعم القرشي النوفلي التابعي فاضل، مات سنة تسع وتسعين، "احتج بهم، أي: بكل واحد من الثلاثة "البخاري ومسلم" وباقي الأئمة الستة، "وعتبة بن حميد الضبي أبو معاذ، أبو معاوية البصري، "فيه مقال" فقال أحمد: ضعيف ليس بالقوي، وقال أبو حاتم: صالح الحديث، وثقه ابن حبان وغيره، وفي التقريب: صدوق له أوهام، "انتهى، وقد رواه" أي: ذكره بلا إسناد "القاضي عياض في الشفاء مختصرًا، وروى ابن إسحاق في مغازيه نحوه، وروى صاحب كتاب مصباح الظلام" في المستغيثين الأنام.
"عن عمرو بن شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاصي، صدوق، مات سنة ثماني عشرة ومائة، روى له أصحاب السنن، "أن أبا طالب، قال: كنت مع ابن أخي، يعني النبي صلى الله عليه وسلم بذي المجاز" بفتح الميم والجيم، وألف، وزاي معجمة: اسم سوق كان بقرب عرفة، كانوا يجتمعون فيه في الجاهلية، "فأدركني العطش، فشكوت إليه، فقلت: يابن أخي، عطشت وما قلت له ذلك، وأنا لا أرى عنده شيئًا إلا الجزع" بكسر الجيم، وقال أبو عبيدة: اللائق فتحها منعطف الوادي ووسطه، أو منقطعه أو منحناه، أو لا يسمى جزعًا حتى تكون له سعة تنبت الشجر، أو هو مكان بالوادي لا شجر فيه، وربما كان رملا، قاله في القاموس؛ فالمعنى هنا: لا أرى عنده الأوسط الوادي، أو منقطعه دون ماء فيه، ويصح تفسيره بباقي المعاني المذكورة، وأبعد من قال: إلا الجزع تأسفًا على حال الناس، "فثنى وركه ثم نزل" عن الدابة التي كانا(7/38)
وقال: "يا عم، أعطشت"؟. فقلت: نعم، فأهوى بعقبه إلى الأرض فإذا بالماء، فقال: "اشرب يا عم فشربت". وكذا رواه ابن سعد وابن عساكر.
__________
راكبين عليها، فإن في نفي الحديث، وهو رديفه، أي: النبي صلى الله عليه وسلم رديف أبي طالب، أي: راكب خلفه، "وقال: "يا عم! أعطشت"؟، كأنه سأله بعد شكواه إليه العطش لينبهه على رؤية الآية، "فقلت: نعم، فأهوى بعقبه إلى الأرض" وضرب الأرض بقدمه، "فإذا بالماء، فقال: "اشرب يا عم"، فشربت، وكذا رواه ابن سعد وابن عساكر" من رواية إسحاق بن الأزرق، عن عبد الله بن عون، عن عمرو بن شعيب، وهذا أحد ثلاثة أحاديث رواها أبو طالب عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وعن علي، سمعت أبا طالب يقول: حدثني محمد بن أخي، وكان والله صدوقًا، قال: قلت له: بم بعثت؟ قال: "بصلة الأرحام، وإقام الصلاة, وإيتاء الزكاة".
وعن أبي رافع: سمعت أبا طالب يقول: حدثني محمد أن الله أمره بصلة الأرحام، وأن يعبد الله وحده ولا يعبد معه أحدًا، ومحمد عندي الصدوق الأمين، رواهما الخطيب وضعفهما؛ كما في الإصابة وعبر السيوطي بأن أبا طالب روى عن المصطفى حديثين وهو أدق، إذ الثاني والثالث واحد، رواه عنه علي أبو رافع والخطب سهل.(7/39)
"تكثير الطعام القليل ببركته ودعائه صلى الله عليه وسلم":
ومن ذلك: تكثير الطعام القليل ببركته ودعائه.
عن جابر، في غزوة الخندق، قال: فانكفيت إلى امرأتي، فقلت هل عندك شيء، فإني رأيت بالنبي صلى الله عليه وسلم خمصًا شديدًا، فأخرجت جرابًا
__________
تكثير الطعام القليل ببركته ودعائه صلى الله عليه وسلم:
"ومن ذلك تكثير الطعام" ما قابل الماء لتقدمه، "القليل ببركته ودعائه" والطعام لغة ما يطعم، وهو المراد هنا بسائر أنواعه، "عن جابر بن عبد الله في غزوة الخندق" وهي الأحزاب، "قال": لما حفر الخندق، رأيت بالنبي صلى الله عليه وسلم خمصًا شديدًا، "فانكفيت"، قال الحافظ: بفاء مفتوحة، بعدها تحتية ساكنة، أي انقلبت، وأصله انكفأت بالهمز، وقال في التنقيح: أصله الهمزة من كفأت الإناء، وتسهل.
قال في المصابيح: ليس القياس في تسهيل مثله إبدال الهمزة، أي: انقلبت "إلى امرأتي" سهيلة، "فقلت" لها: "هل عندك شيء، فإني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم خمصًا"، بمعجمة وميم مفتوحتين، وصاد مهملة، وقد تسكن الميم، ضمور البطن من الجوع, "شديدًا، فأخرجت جرابًا" بكسر(7/39)
فيه صاع من شعير، ولنا بهيمة داجن فذبحتها وطحنت الشعير حتى جعلنا اللحم في البرمة ثم جئت النبي صلى الله عليه وسلم فساررته فقلت: يا رسول الله ذبحنا بهيمة لنا وطحنت صاعًا من شعير. فتعال أنت ونفر معك. فصاح النبي صلى الله عليه وسلم: "يا أهل الخندق، إن جابرًا صنع سؤرًا، فحي هلا بكم".
__________
الجيم، "فيه صاع من شعير، ولنا بهيمة" بضم الموحدة، وفتح الهاء، مصغر بهمة، وهي الصغيرة من أولاد الغنم، وفي رواية: عناق، وهي الأنثى من المعز، "داجن" بكسر الجيم: التي تترك في البيت، ولا تخرج إلى المرعى، ومن شأنها أن تسمن، وقد زاد في رواية: أحمد: سمينة، "فذبحتها" بسكون الحاء، وضم التاء، فالذابح جابر، "وطحنت" بفتح المهملة والنون، امرأتي "الشعير" وفي رواية أحمد: فأمرت امرأتي، فطحنت لنا الشعير، وصنعت لنا منه خبزًا.
وفي رواية في الصحيح من طريق آخر عن جابر: إنا يوم الخندق نحفر، فعرضت كدية شديدة، فجاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: هذه كدية عرضت في الخندق، فقال: "أنا نازل" ثم قام وبطنه معصور بحجر، ولبثنا ثلاثة أيام لا نذوق ذواقًا، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم المعول، فضرب، فعاد كثيبًا أهيل، أو أهيم، فقلت: يا رسول الله! ئذن لي إلى البيت، فقلت لامرأتي: رأيت بالنبي صلى الله عليه وسلم شيئًا ما كان في ذلك صبر، فعندك شيء؟ قالت: عندي شعير وعناق، فذبحت العناق وطحنت الشعير، "حتى جعلنا"، أي: وشرعنا في تهيئته حتى جعلنا، وللكشميهني: جعلت، أي: المرأة "اللحم في البرمة"، بضم الموحدة، وسكون الراء: القدر مطلقًا أو من حجارة.
وفي رواية: ففرغت إلى فراغي، أي: معه وقطعتها في برمتها، "ثم جئت النبي صلى الله عليه وسلم"، زاد في رواية في الصحيح: والعجين قد انكسر، أي: اختمر، والبرمة بين الأثافي قد كادت أن تنضج، فقالت: لا تفضحني برسول الله وبمن معه، فجئته "فساررته فقلت" له سرًا "يا رسول الله ذبحنا بهيمة لنا، وطحنت" المرأة رواية أبي ذر وابن عساكر ولغيرهما: وطحنا، وعلى الأولى هو من الإضمار، أي: إرجاع الضمير لما علم من السياق، وهو أنه لما أسند الفعل إلى مؤنث، علم النبي صلى الله عليه وسلم أنها الطاحنة، إذ ليس عنده غيرها، ولعله نسب الذبح إليهما لمعاونتها له فيه، والطحن لها لاستقلالها به دونه، "صاعًا من شعير كان عندنا، "فتعال أنت ونفر معك" دون العشرة من الرجال، وفي رواية: فقلت: طعيم لي صنعته، فقم أنت يا رسول الله ورجل أو رجلان، ولأحمد: وكنت أريد أن ينصرف صلى الله عليه وسلم وحده، قال: "كم هو"؟، فذكرت له، فقال: "كثير طيب، قل لها: لا تنزع البرمة، ولا الخبز من التنور حتى آتي"، "فصاح النبي صلى الله عليه وسلم": "يا أهل الخندق، إن جابرًا صنع سؤرًا فحي" بحاء مهملة، وشد التحتية، "هلا بكم" بفتح الهاء واللام المنونة مخففة، أي، هلموا مسرعين.(7/40)
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تنزلن برمتكم ولا تخبزن عجينكم حتى أجيء". ثم قال فأخرجت له عجينًا فبصق فيه وبارك ثم عمد إلى برمتنا فبصق وبارك ثم قال: "ادع خابزة فلتخبز معك
__________
وفي رواية في الصحيح، فقال: "قوموا". فقام المهاجرون والأنصار، فلما دخل على امرأته قال: ويحك جاء النبي صلى الله عليه وسلم بالمهاجرين والأنصار ومن معهم، قالت: هل سألك؟، قلت: نعم، وفي سياقه اختصار، وبيانه في رواية يونس بن بكير في زيادات المغازي، قال: فلقيت من الحياء ما لا يعلمه إلا الله، وقلت: جاء الخلق على صاع من شعير وعناق، فدخلت على امرأتي أقول: افتضحت، جاءك رسول الله بالجند أجمعين، فقالت: هل كان سألك: كم طعامك؟ فقلت: نعم، فقالت: الله ورسوله أعلم، نحن أخبرناه بما عندنا، فكشفت عني غما شديدًا، وفي رواية الصحيح: فجئت امرأتي، فقالت: بك وبك، فقلت: قد فعلت الذي قلت، ويجمع بينهما بأنها أولا أمرته أن يعلمه بالصورة، فلما قال لها: إنه جاء بالجميع، ظنت أنه لم يعلم فخاصمته، فلما أعلمها أنه أعلمه، سكن ما عنده، لعلمها بإمكان خرق العادة، ودل ذلك على وفور عقلها وكمال فضلها، وقد وقع لها في قصة التمر أن جابرًا أوصاها لما زارهم النبي صلى الله عليه وسلم أن لا تكمله، فلما أراد صلى الله عليه وسلم الانصراف نادته: يا رسول الله! صل عليّ وعلى زوجي، فقال صلى الله عليه وسلم: "صلى الله عليك وعلى زوجك" فعاتبها جابر، فقالت له: أكنت تظن أن الله يورد رسوله بيتي، ثم يخرج ولا أسأله الدعاء، أخرجه أحمد بإسناد حسن، ذكره الحافظ.
"قال النبي صلى الله عليه وسلم" لجابر: "لا تنزلن"، بضم الفوقية، وكسر الزاي، وضم اللام، "برمتكم" نصب على المفعولية ولأبي ذر: لا تنزل بفتح الزاي واللام مبني للمفعول، برمتكم بالرفع نائب الفاعل، "ولا تخبزن" بفتح الفوقية، وكسر الموحدة، وضم الزاي، وشد النون "عجينكم" بالنصب، ولأبي ذر، بضم التحتية، وفتح الموحدة، والزاي، ورفع عجينكم، "حتى أجيء" إلى منزلكم، "ثم جاء" لفظ البخاري: فجئت وجاء صلى الله عليه وسلم يقدم الناس حتى جئت إلى امرأتي، فقالت: بك وبك، فقلت الذي قلت، "فأخرجت" المرأة "له عجينًا، فبصق فيه" بالصاد، ولأبي ذر، والوقت، وابن عساكر: فبسق بالسين، ويقال بالزاي أيضًا، لكن قال النووي: بالصاد في أكثر الأصول وفي بعضها بالسين، وهي لغة قليلة، "وبارك" في العجين، أي: دعا فيه بالبركة، "ثم عمد" بفتح الميم: قصد "إلى برمتنا، فبصق" زاد الكشميني: فيها، أي: البرمة "وبارك" في الطعام، "ثم قال" صلى الله عليه وسلم لجابر: "ادع خابزة فلتخبز"، بسكون اللام "معك" بكسر الكاف، خطابًا لزوجة جابر، فخصه بالأمر بالدعاء؛ لأنه صاحب المنزل المشار بإذنه لمن شاء في دخوله منزله، وخاطب زوجته، بأنه إذا أحضرها يأمرها بالخبز معها، أي: مساعدتها فيه، ثم تباشر(7/41)
واقدحي من برمتكم ولا تنزلوها". وهم ألف. فأقسم بالله لقد أكلوا حتى تركوه وانحرفوا، وإن برمتنا لتغط كما هي، وإن عجيننا ليخبز كما هو، رواه البخاري ومسلم.
وقوله: "فانكفأت" أي: انقلبت.
__________
هي غرف الطعام، ولا ينافيه أن لفظ البخاري: فلتخبزي معي؛ لأن المراد وقولي لها لتخبزي معي، أي: تعاونيني فيه، كذا أملانيه شيخنا قائلا، ويدل عليه قوله: "واقدحي" بسكون القاف، وفتح الدال، وكسر الحال المهملتين، أي: اغرفي "من برمتكم" والمغرفة تسمى المقدمة، وقدحه من المرق غرفه منه، "ولا تنزلوها" بضم الفوقية، وكسر الزاي، أي: البرمة من فوق الأثافي، بفتح الهمزة والمثلثة فألف، ففاء مكسورة، فتحتية مشددة: حجارة ثلاثة يوضع عليها القدر، "وهم" أي: القوم الذين أكلوا "ألف" وفي مستخرج أبي نعيم، وهو سبعمائة أو ثمانمائة، وللإسماعيلي ثمانمائة أو ثلاثمائة، وفي مسلم: ثلاثمائة.
قال الحافظ والحكم: لزائد لمزيد علمه، ولأن القصة متحدة.
وفي رواية أبي الزبير عن جابر وأقعدهم عشرة عشرة يأكلون، "فأقسم بالله لقد أكلوا حتى تركوه وانحرفوا"، أي: مالوا عن الطعام، "وإن برمتنا لتغط" بكسر الغين المعجمة، وشد الطاء المهملة، أي: تغلي وتفور بحيث يسمع لها غطيط، "كما هي، وإن عجيننا ليخبز كما هو" لم ينقص من ذلك شيء، وما في, كما كافة، وهي مقمحة لدخول الكاف على الجملة، وهي مبتدأ، والخبر محذوف، أي: كما هي قبل ذلك.
"رواه البخاري ومسلم" في المغازي من حديث سعيد بن مينا عن جابر، وأخرجه البخاري وحده من رواية أيمن عن جابر نحوه، وفي آخره: فقال صلى الله عليه وسلم ادخلوا ولا تضاغطو، فجعل يكسر الخبز ويجعل عليه اللحم، ويخمر البرم والتنوم إذا أخذ منه، ويقرب إلى أصحابه، ثم ينزع، فلم يزل يكسر الخبز ويغرف حتى شبعوا أو بقي بقية، قال: "كلي هذا وأهدي، فإن الناس أصابتهم مجاعة" وفي رواية يونس بن بكر: فما يزال يقرب إلى الناس حتى شبعوا أجمعين، ويعود التنور والقدر أملأ ما كانا، فقال: "كلي وأهدي" فلم نزل نأكل ونهدي يومنا أجمع، وفي رواية أبي الزبير عن جابر: فأكلنا نحن وأهدينا لجيراننا، فلما خرج صلى الله عليه وسلم ذهب ذلك، انتهى.
وصريح هذا أن الذي باشر الغرف النبي صلى الله عليه وسلم، فيخالف ظاهر قوله: "واقدحي من برمتكم ولا تنزلوها". أي: اغرفي من أن مباشرة المرأة، ويمكن الجمع بينهما؛ بأنها كانت تساعد في الغرف، ولم يتعرض الحافظ ولا المصنف لهذا.
"وقوله: فانكفأت، أي: انقلبت" بالهمز وتركه، وهو الرواية على ظاهر كلام الحافظ بن(7/42)
وقوله: "داجن" يعني سمينة.
وقوله: "فذبحتها" بسكون الحاء، و"طحنت" بسكون التاء، يعني إن الذي ذبح هو جابر، والتي طحنت هي امرأته سهيلة بنت معوذ الأنصارية.
وقوله: "سورا" بضم المهملة وسكون الواو بغير همز: قال ابن الأثير: أي طعامًا يدعو الناس إليه. قال: واللفظة فارسية.
وقوله: "فحي هلا بكم" كلمة استدعاء فيه حث، أي هلموا مسرعين.
وقوله: "واقدحي" أي: اغرفي.
وقوله: "إن برمتنا لتغط" بالغين المعجمة والطاء
__________
حجر، وظاهر تصويب الحافظ أبي ذر له بالهمز؛ كما مر، "وقوله: داجن، يعني: سمينة" كما ورد صريحًا في رواية أحمد، قال الحافظ: الداجن التي تترك في البيت ولا تفلت للرعي، ومن شأنها أن تسمن.
وفي رواية أحمد: سمينة، "وقوله: فذبحتها، بسكون الحاء" وضم التاء، "وطحنت، بسكون التاء" الفوقية، قبلها نون، فحاء فطاء مفتوحات، "يعني: أن الذي ذبح هو جابر، والتي طحنت هي امرأته سهيلة" بلفظ التصغير، "بنت معوذ" صوابه كما في الفتح وغيره: بنت مسعود بن أوس بن مالك، بن سواد "الأنصارية" الظفرية، زوجة جابر وأم ولده عبد الله، ذكرها ابن حبيب في المبايعات؛ كما في الإصابة.
وقوله: "سورا" بضم المهملة وسكون الواو بغير همز, قال الحافظ: هو هنا الصنيع بالحبش، وقيل العرس بالفارسية، ويطلق أيضًا على البناء الذي يحيط بالمدينة، وأما الذي بالهمز، فهو البقية، "قال ابن الأثير، أي: طعامًا يدعو الناس إليه" زاد المصنف: أو الطعام مطلقًا، "قال: واللفظة فارسية" قال الطيبي: تظاهرت أحاديث صحيحة؛ أنه صلى الله عليه وسلم تكلم بالألفاظ الفارسية، أي: كقوله للحسن: "كخ" ولعبد الرحمن: "مهيم"، أي: ما هذا، ولأم خالد: "سنا سنا"، يعني: حسنة، وهو يدل على جوازه، ذكره المصنف، ولعله صلى الله عليه وسلم عبر بها دون طعام، لعمومه في كل مأكول، بخلاف الطعام، فيخص بالحنطة عند أهل مكة، فقد يفهم بعض السامعين غير المراد، أو لبيان الجواز.
وقوله: "فحي" بالفتح مثقلا "هلا" بفتح الهاء، واللام مخففًا "بكم". وفي رواية: "أهلا بكم" بزيادة ألف، والصواب حذفها، قاله الحافظ. "كلمة استدعاء فيه"، أي: الاستدعاء، ولفظ الحافظ فيها: أي الكلمة والأمر سهل، "حث" على الإجابة، "أي: هلموا مسرعين، وقوله: "واقدحي"، أي: اغرفي" والمقدحة: المغرفة، "وقوله: وإن برمتنا لتغط بالغين المعجمة" المكسورة، "والطاء(7/43)
المهملة، أي: تغلي ويسمع غطيطها.
وعن أنس قال: قال أبو طلحة لأم سليم، لقد سمعت صوت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضعيفًا، أعرف فيه الجوع، فهل عندك من شيء، فقالت: نعم، فأخرجت أقراصًا من شعير، ثم أخرجت خمارًا، فلفت الخبز ببعضه ثم دسته تحت يدي ولاثتني ببعضه -أي أدارت بعض الخمار على رأسي مرتين كالعمائم- ثم أرسلتني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذهبت به فوجدت
__________
المهملة" المشددة، "أي: تغلي ويسمع غطيطها" صوتها بالغليان، كغطيط النائم.
"وعن أنس" بن مالك "قال: قال أبو طلحة" زيد بن سهل الأنصاري، زوج أم سليم، والدة أنس "لأم سليم" قال الحافظ: اتفقت الطرق على أن الحديث المذكور من مسند أنس، وقد وافقه على ذلك أخوه لأمه عبد الله بن أبي طلحة، فرواه مطولا عن أبيه، قال: دخلت المسجد، فعرفت، في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم الجوع ... الحديث، أخرجه أبو يعلى بإسناد حسن، "لقد سمعت صوت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضعيفًا؛ أعرف فيه الجوع" فيه العمل بالقرائن، وكأنه لم يسمع من صوته حين تكلم الفخامة المألوفة منه، فحمله على الجوع، ولأحمد عن أنس، أن أبا طلحة رآه طاويًا، وفي مسلم جئت وقد عصب بطنه بعصابة، فسألت، فقالوا: من الجوع، فأخبرت أبا طلحة، فدخل على أم سليم، قال: "فهل عندك من شيء" يأكله النبي صلى الله عليه وسلم؟، "فقالت: نعم، فأخرجت أقراصًا" جمع قرص، بالضم: قطعة عجين مقطوع منه "من شعير" ولأحمد: عمدت أم سليم إلى نصف مد من شعير فطحنته. وللبخاري: عمدت إلى مد من شعير جشته، ثم عملته عصيدة، وفي لفظ خطيفة، وهي العصيدة وزنًا ومعنى، وفي مسلم وأحمد: أتي أبو طلحة بمدين من شعير، فأمر، فصنع طعامًا، قال الحافظ: ولا منافاة لاحتمال تعدد القصة، او أن بعض الرواة حفظ ما لم يحفظ الآخر، ويمكن الجمع بأن يكون الشعير في الأصل كان صاعًا، فردت بعضه لعيالهم وبعضه للنبي صلى الله عليه وسلم، ويدل على التعدد ما بين العصيدة والخبز المفتوت، الملتوت بالسمن من المغايرة، "ثم أخرجت خمارًا" بكسر الخاء المعجمة، أي: نصيفًا لها، "فلفت الخبز ببعضه، ثم دسته" أي: أخفته "تحت يدي" بكسر الدال، أي: إبطي "ولاثتني بمثلثة، ففوقية ساكنة، فنون مكسورة: لفتني، "ببعضه" ببعض الخمار، "أي: أدارت بعض الخمار على رأسي مرتين، كالعمائم" وفي الفتح، أي: لفتني به يقال: لاث العمامة على رأسه، أي: عصبها، والمراد أنها لفت بعضه على بعض رأسه، وبعضه على إبطه، وللبخاري في الأطعمة، فلفت الخبز ببعضه، ودست الخبز تحت ثوبي وردتني ببعضه، يقال: دس الشيء يدسه دسًا، إذا أدخله في الشيء بقهر وقوة، "ثم أرسلتني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذهبت به، فوجدت(7/44)
رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد ومعه الناس، فسلمت عليه، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "آرسلك أبو طلحة"؟ قلت: نعم، قال: "لطعام"؟ قلت: نعم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن معه: "قوموا"، فانطلق وانطلقت بين أيديهم، حتى جئت أبا طلحة فأخبرته، فقال أبو طلحة: يا أم سليم قد جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس، وليس عندنا ما نطعمهم، فقالت: الله ورسوله أعلم، فانطلق أبو طلحة حتى لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو طلحة معه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هلمي يا أم سليم ما عندك"، فأتت بذلك الخبز، فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم ففت، وعصرت أم سليم عكة
__________
رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد ومعه الناس، فسلمت عليه" لفظ البخاري: فقمت عليهم، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "آرسلك" بهمزة ممدودة للاستفهام، كذا في الفتح "أبو طلحة"؟، قلت: نعم، قال: "لطعام"؟، أي: لأجله، "قلت: نعم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن معه" من صحبه: "قوموا" , يأتي الجواب عما فيه من شبه التنافي، "فانطلق" وأصحابه, ولأبي نعيم، فقال للقوم: "انطلقوا" وهم ثمانون رجلا، "وانطلقت بين أيديهم" ولأبي نعيم: أخذ صلى الله عليه وسلم بيدي، فشده، ثم أقبل بأصحابه حتى إذا دنوا، أرسل يدي، فدخلت وأنا حزين لكثرة من جاء معه، "حتى جئت أبا طلحة، فأخبرته" بمجيئهم.
وفي رواية: قال يا أنس فضحتنا، وللطبراني: فجعل يرميني بالحجارة، "فقال أبو طلحة: يا أم سليم، قد جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس، وليس عندنا ما نطعمهم" أي: قدر ما يكفيهم، "فقالت: الله ورسوله أعلم" كأنها عرفت أنه فعل ذلك عمدًا ليظهر الكرامة في تكثير الطعام، ودل ذلك على فضل أم سليم، ورجحان عقلها، "فانطلق أبو طلحة حتى لقي رسول" صلى الله عليه وسلم، وقال: إنما أرسلت أنسا يدعوك وحدك، ولم يكن عندنا ما يشبع من أرى إنما هو قرص، فقال: "إن الله سيبارك فيه"؛ كما في روايات تأتي، "فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو طلحة معه" حتى دخل على أم سليم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هلمي" كذا لأبي ذر عن الكشميهني، بالتحتية؛ وهي لغة تميم، وللأكثر: هلم، بفتح الميم مشددة مع خطاب المؤنثة، وهي لغة حجازية لا يؤنث ولا يجمع، ومنه: {وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا} ، والمراد: الطلب، أي: هات "يا أم سليم ما عندك" , "فأتت بذلك الخبز" الذي كانت أرسلته مع أنس، ويحتمل أنه لما أخبره أخذته منه؛ وأنه كان باقيًا معه، وخاطبها لأنها هي المتصرفة، "فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم ففت" بضم الفاء، وشد الفوقية، أي: كسر، "وعصرت أم سليم عكة" بضم المهملة، وشد الكاف إناء من جلد مستدير، يجعل فيه السمن غالبًا والعسل، وفي رواية: فقال: "هل من سمن"؟، فقال أبو طلحة: قد كان في العكة شيء، فجعلا يعصرانها حتى خرج، ثم مسح صلى الله عليه وسلم به سبابته، ثم مسح القرص فانتفخ، وقال:(7/45)
فأدمته، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه ما شاء الله أن يقول، ثم قال: "ائذن لعشرة، ثم لعشرة"، فأذن لهم فأكلوا حتى شبعوا والقوم سبعون أو ثمانون رجلا. رواه البخاري ومسلم.
والمراد بالمسجد -هنا- الموضع الذي أعده النبي صلى الله عليه وسلم للصلاة فيه حين حاصره الأحزاب بالمدينة في غزوة الخندق.
وفي رواية: لمسلم أنه قال: ائذن لعشرة، بالدخول فدخلوا فقال: كلوا وسموا الله، فأكلوا حتى فعل ذلك بثمانين رجلا، ثم أكل النبي صلى الله عليه وسلم وأهل البيت وتركوا سؤرًا. أي بقية وهي بالهمزة.
وفي رواية للبخاري:
__________
"بسم الله"، فلم يزل يصنع ذلك القرص والقرص ينتفخ حتى رأيت القرص في الجفنة يتسع، "فأدمته" أي: صيرت ما خرج من العكة إدامًا له، "ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه ما شاء الله أن يقول" في رواية أحمد: فقال "بسم الله"، وفي مسلم: فمسحها ودعا فيها بالبركة، ولأحمد: فجئت بها، ففتح رباطها، ثم قال: "بسم الله اللهم أعظم فيها البركة"، ثم قال: "ائذن لعشرة" بالدخول؛ لأنه أرفق، "ثم لعشرة" ثانية، "فأذن لهم فأكلوا حتى شبعوا، والقوم سبعون أو ثمانون رجلا" بالشك من الراوي، وعند أحمد ومسلم وغيرهما، حتى فعل ذلك بثمانين رجلا بالجزم، ولأحمد أيضًا: كانوا نيفًا وثمانين ولا منافاة، لأنه ألغى الكسر، وفي مسلم وفضلت فضلة، فأهدينا لجيراننا، ولأبي نعيم: حتى أهديت أم سليم لجيرانها، "رواه البخاري ومسلم" كلاهما في الأطعمة من رواية إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن أنس والبخاري أيضًا في علامات النبوة، وروى بعضه في الصلاة، وأخرجه الترمذي في المناقب والنسائي في الوليمة، "والمراد بالمسجد هنا: الموضع الذي أعده النبي صلى الله عليه وسلم للصلاة فيه حين حاصره الأحزاب بالمدينة في غزوة الخندق" لا المسجد النبوي.
وفي رواية لمسلم، أنه قال: "ائذن لعشرة" بالدخول، فأذن لهم, "فدخلوا، فقال: "كلوا وسموا الله" فأكلوا" وفي رواية أحمد: فوضع يده وبسط القرص، وقال: "كلوا بسم الله" فأكلوا من حوالي القصعة حتى شبعوا، ثم قال لهم: "قوموا وليدخل عشرة مكانكم"، "حتى فعل ذلك بثمانين رجلا" فجزم بثمانين، "ثم أكل النبي صلى الله عليه وسلم" بعد ذلك "وأهل البيت، وتركوا سؤرًا، أي: بقية، وهو بالهمزة" الفضلة والبقية.
"وفي رواية للبخاري" في الأطعمة عن أنس: أن أمه عمدت إلى مد شعير جشته، منه خطيفة، وعصرت، عكة عندها، ثم بعثتني إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأتيته وهو في أصحابه، فدعوته، قال:(7/46)
وقال: "أدخل عليّ عشرة"، حتى عد أربعين، ثم أكل النبي صلى الله عليه وسلم ثم قام، فجعلت أنظر هل نقص منها شيء.
وفي رواية يعقوب: "أدخل عليّ ثمانية ثمانية"، فما زال حتى دخل عليه ثمانون، ثم دعاني ودعا أمي وأبا طلحة فأكلنا حتى شبعنا. انتهى.
وهذا يدل على تعدد القصة، فإن أكثر الروايات فيها أنه أدخلهم عشرة عشرة سوى هذه، قال الحافظ ابن حجر، قال: وظاهره أنه عليه الصلاة والسلام دخل لمنزل أبي طلحة وحده، وصرح بذلك في رواية عبد الرحمن بن أبي ليلى ولفظه: فلما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الباب قال لهم: "اقعدوا" , ودخل. وفي رواية يعقوب عن أنس:
__________
ومن معي، فقلت: أنه يقول ومن معي، فخرج إليه أبو طلحة، فقال: يا رسول الله! إنما هو شيء صنعته أم سليم، فدخل وجيء به، "وقال: "أدخل" بفتح الهمزة، وكسر الخاء "عليّ عشرة" من الذين حضروا معه، فدخلوا معه، فأكلوا حتى شبعوا، ثم قال: "أدخل عليّ عشرة"، فدخلوا، فأكلوا حتى شبعوا، ثم قال: "أدخل علي عشرة"، "حتى عد أربعين" رجلا، "ثم أكل النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قام" قال أنس: "فجعلت أنظر" إلى القصعة "هل نقص منها شيء" من الطعام، إشارة إلى أنه لم ينقص شيء منها.
وفي رواية أحمد: حتى أكل منها أربعون رجلا، وبقيت كما هي، قال الحافظ: وهذا يدل على تعدد القصة.
"وفي رواية يعقوب بن عبد الله، بن أبي طلحة، عن أنس عند مسلم: "أدخل عليّ ثمانية ثمانية" بالتكرير، أي: ثمانية بعد ثمانية، "فما زال حتى دخل عليه ثمانون، ثم دعاني ودعا أمي" أم سليم، "وأبا طلحة" زوجها، "فأكلنا حتى شبعنا، انتهى، وهذا يدل على تعدد القصة، فإن أكثر الروايات فيها، أنه أدخلهم عشرة عشرة سوى هذه" فقال: "أدخلهم ثمانية ثمانية".
"قال الحافظ ابن حجر" في الفتح، "قال" فيه أيضًا: "وظاهره" أي: قوله: ائذن لعشرة فأذن لهم؛ "أنه عليه الصلاة والسلام دخل لمنزل أبي طلحة وحده، وصرح بذلك في رواية عبد الرحمن بن أبي ليلى" عن أنس عند أحمد ومسلم، "ولفظه: فلما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الباب قال لهم: "اقعدوا" ودخل.
"وفي رواية يعقوب" بن عبد الله بن أبي طلحة، ثقة، من صغار التابعين، "عن أنس" عند(7/47)
فقال أبو طلحة: يا رسول الله إنما أرسلت أنسًا يدعوك وحدك، ولم يكن عندنا ما يشبع من أرى، وفي رواية عمرو بن عبد الله عن أنس، فقال أبو طلحة: إنما هو قرص، فقال: "إن الله سيبارك فيه".
قال العلماء: وإنما أدخلهم عشرة عشرة -والله أعلم- لأنها كانت قصعة واحدة، لا يمكن الجماعة الكثيرة أن يقدروا على التناول منها مع قلة الطعام، فجعلوا عشرة عشرة لينالوا من الأكل ولا يزدحموا،
وأما قوله عليه الصلاة والسلام: "أرسلك أبو طلحة"؟ قلت: نعم، قال: "لطعام"؟ قلت: نعم، فقال لمن معه: قوموا: فظاهره: أن النبي صلى الله عليه وسلم فهم أن أبا طلحة استدعاه إلى منزله، فلذلك قال لمن عنده قوموا، وأول الكلام يقتضي أن أم سليم وأبا طلحة أرسلا الخبز مع أنس؟!
فيجمع: بأنهما أرادا بإرسال الخبز مع أنس لأن يأخذه النبي صلى الله عليه وسلم فيأكله، فلما وصل به أنس
__________
مسلم، "فقال أبو طلحة: يا رسول الله! إنما أرسلت أنسًا يدعوك وحدك، ولم يكن عندنا ما يشبع من أرى" فقال: "أدخل، فإن الله سيبارك فيما عندك".
"وفي رواية عمرو" بفتح العين، "بن عبد الله" بن أبي طلحة الأنصاري، التابعي، الصغير، ثقة، عابد، "عن أنس" عند مسلم، "فقال أبو طلحة: إنما هو قرص" تقدم التعبير بأقراص، فنزلها لقلتها منزلة القرص الواحد، فقال: "إن الله سيبارك فيه".
"قال العلماء: وإنما أدخلهم عشرة عشرة، والله أعلم" بالحكمة في ذلك؛ لأنها كانت قصعة واحدة لا يمكن الجماعة الكثيرة أن يقدروا على التناول منها مع قلة الطعام، فجعلوا عشرة عشرة لينالوا من الأكل ولا يزدحموا" فهو أرفق بهم أو لضيق البيت؛ كما قال السيوطي، أو لهما معًا.
"وأما قوله عليه الصلاة والسلام: "أرسلك أبو طلحة"؟ قلت: نعم، قال: "لطعام"؟، قلت: نعم، فقال لمن معه: "قوموا"، فظاهره أن النبي صلى الله عليه وسلم فهم أن أبا طلحة استدعاه" طلب حضوره "إلى منزله، فلذلك قال لمن عنده: "قوموا"، وأول الكلام يقتضي" اقتضاء صريحًا "أن أم سليم وأبا طلحة أرسلا الخبز مع أنس" وقوله: "فيجمع بأنهما أرادا بإرسال الخبز مع أنس" سقطت هذه الجملة من غالب نسخ المصنف سهوًا منه أو نساخه، وهي ثابتة في الفتح الذي هو ناقل عنه، وبها يستقيم الكلام؛ "لأن يأخذه النبي صلى الله عليه وسلم فيأكله، فلما وصل به أنس،(7/48)
ورأى كثرة الناس حول النبي صلى الله عليه وسلم استحيى، وظهر له أن يدعو النبي صلى الله عليه وسلم ليقوم معه وحده إلى المنزل فيحصل مقصودهم من طعامه.
ويحتمل أن يكون ذلك عن رأي من أرسله، عهد إليه أنه إذا رأى كثرة الناس أن يستدعي النبي صلى الله عليه وسلم وحده، خشية أن ذلك لا يكفي النبي صلى الله عليه وسلم هو ومن معه، وقد عرفوا إيثاره عليه الصلاة والسلام، وأنه لا يأكل وحده.
ووقع في رواية يعقوب بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس -عند أبي نعيم وأصله عند مسلم- قال لي أبو طلحة: يا أنس اذهب فقم قريبًا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا قام فدعه حتى تتفرق عنه أصحابه، ثم اتبعه حتى إذا قام على عتبة بابه فقل له: إن أبي يدعوك، وفيه: فقال أبو طلحة: يا رسول الله إنما أرسلت أنسًا
__________
ورأى كثرة الناس حول النبي صلى الله عليه وسلم استحيى، وظهر له أن يدعو النبي صلى الله عليه وسلم ليقوم معه وحده إلى المنزل، فيحصل مقصودهم من طعامه" وذلك من مزيد فطنته على صغر سنه، "ويحتمل أن يكون ذلك عن رأي من أرسله, عهد إليه" أي: أوصاه، "إذا رأى كثرة الناس أن يستدعي النبي صلى الله عليه وسلم وحده، خشية أن ذلك لا يكفي النبي صلى الله عليه وسلم هو ومن معه، وقد عرفوا إيثاره عليه الصلاة والسلام" على نفسه "وأنه لا يأكل وحده" زاد الحافظ عقب هذا: وجدت أكثر الروايات يقتضي أن أبا طلحة استدعى النبي صلى الله عليه وسلم أدعوه، وقد جعل طعامًا.
وفي رواية عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن أنس: أمر أبو طلحة أم سليم أن تصنع للنبي صلى الله عليه وسلم لنفسه خاصة، ثم أرسلني إليه.
وفي رواية يعقوب: فدخل أبو طلحة على أمي، فقال: هل من شيء؟ فقالت: عندي كسر من خبز، فإن جاءنا صلى الله عليه وسلم وحده أشبعناه، وإن جاء أحد معه قل عنهم، وجميع ذلك عند مسلم، وفي رواية أحمد: أن أبا طلحة قال: أعجنيه وأصلحيه عسى أن ندعو رسول الله.
"ووقع في رواية يعقوب بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس عند أبي نعيم، وأصله عند مسلم، قال لي أبو طلحة: يا أنس! اذهب، فقم قريبًا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا قام، فدعه حتى تتفرق عنه أصحابه، ثم اتبعه حتى قام على عتبة بابه" الذي يأوي إليه، "فقل له: إن أبي" فيه تجوز لأنه ربيبه، "يدعوك" ورواية يعقوب هذه ذكرها الحافظ، استدلالا على أن طلحة استدعاه مسقطًا لفظ وقع، بل قال عقب ما ذكرته عنه.
وفي رواية يعقوب، فذكرها، "وفيه: فقال أبو طلحة: يا رسول الله! إنما أرسلت أنسًا(7/49)
يدعوك وحدك، ولم يكن عندي ما يشبع من أرى، فقال: "أدخل, فإن الله يبارك فيما عندك".
وإليك النظر، فقال: "هل من سمن"؟ فقال أبو طلحة: قد كان في العكة شيء فجاء بها، فجعلا يعصرانها حتى خرج.
__________
يدعوك وحدك"، وهذا صريح أيضًا في أنه استدعاه لمنزله، "ولم يكن عندنا ما يشبع من أرى" معك، فقال: "أدخل، فإن الله يبارك فيما عندك" وبقية الروايات التي استدل بها الحافظ هي.
وفي رواية عمرو بن عبد الله بن أبي طلحة، عند أبي يعلى عن أنس، قال لي أبو طلحة: اذهب فادع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وعند البخاري من رواية ابن سيرين في الأطعمة عن أنس: ثم بعثني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتيته، وهو في أصحابه، فدعوته.
وعند أحمد من رواية النضر بن أنس عن أبيه، قالت لي أم سليم: اذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقل له: إن رأيت أن تغدى عندنا، فافعل.
وفي رواية، عمرو بن يحيى المازني، عن أبيه، عن أنس عند البغوي، فقال أبو طلحة: اذهب يا بني إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فادعه، فجئته، إن أبي يدعوك.
وفي رواية محمد بن كعب عند أبي نعيم، فقال: يا بني اذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فادعه، ولا تدع معه غيره، ولا تفضحني، انتهى. ولم يتنزل الحافظ للجمع بين هذه الروايات وبين مقتضى أول الصحيحين لسهولته، وهو أنه أرسله يدعوه وحده، وأرسل معه الخبز، فإن جاء قدموه له، وإن شق عليه المجيء لمحاصرة الأحزاب، أعطاه الخبز سرًا.
وأما اختلاف الروايات في أنه أقراص، أو كسر من خبز، فكانت أقراصًا مكسورة، وقوله: اعجنيه وأصلحيه يحمل على تليينه بنحو ماء أو سمن ليسهل تناوله، كأنه كان يابسًا، كما هو شأن الكسر غالبًا، هذا ما ظهر لي، "وإليك النظر".
وفي رواية مبارك بن فضالة، بفتح الفاء، وتخفيف المعجمة، البصري، صدوق يدلس ويسوي، مات سنة ست وستين ومائة على الصحيح، روى له أبو داود، والترمي، وابن ماجه، أي: روايته عن بكر بن عبد الله، وثابت، عن أنس عند الإمام أحمد، "فقال صلى الله عليه وسلم" لما دخل وأتته أم سليم بذلك الخبز: "هل من سمن"؟، نأدم به الخير، "فقال أبو طلحة: قد كان في العكة شيء" قليل من السمن، "فجاء بها، فجعلا يعصرانها حتى خرج" لا ينافيه رواية الصحيحين السابقة بلفظ: وعصرت أم سليم عكة، فأدمته؛ لاحتمال أنها حين أتت بها عصرتها، ثم أخذاها(7/50)
ثم مسح رسول الله صلى الله عليه وسلم القرص فانتفخ، وقال: "بسم الله" , فلم يزل يصنع ذلك والقرص ينتفخ حتى رأيت القرص في الجفنة يتسع.
وفي رواية النضر بن أنس: فجئت بها ففتح رباطها ثم قال: "بسم الله، اللهم أعظم فيها البركة"، وعرف بهذا المراد بقوله في رواية الصحيحين: "قال ما شاء الله أن يقول".
وفي رواية عن أنس عند أحمد: أن أبا طلحة رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم طاويًا.
وعند أبي يعلى من طريق محمد بن سيرين عن أنس: أن أبا طلحة بلغه أنه ليس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم طعام فآجر نفسه بصاع من شعير فعمل بقية يومه ذلك ثم جاء به ... الحديث.
__________
منها وعصراها، استفراغًا لما بقي فيها، أو أنهما ابتدءا عصرها، ثم حاولت بعد عصرهما إخراج شيء منها، "ثم" بعد فراغ العصر ووصول السمن إلى الخبز، "مسح رسول الله صلى الله عليه وسلم القرص" لا ينافيه أن الخبز فت وجعل عليه السمن، كما مر؛ لأن السمن لما وضع على الفت اجتمع؛ فصار كالقرص الواحد، فلذا عبر به، وتقدم أن أبا طلحة عبر عنها بقرص قبل فتها لقلتها، وهذا غير ذاك، "فانتفخ، وقال" "بسم الله"، "فلم يزل يصنع ذلك" المسح والتسمية، "والقرص ينتفخ، حتى رأيت القرص في الجفنة يتسع، وفي رواية النضر بن أنس" بن مالك الأنصاري، البصري، التابعي، الوسط، ثقة، روى له الجماعة، مات سنة بضع ومائة، أي: عن أبيه أنس في مسند أحمد، "فجئت بها" أي: العكة، "ففتح صلى الله عليه وسلم رباطها" بيده الميمونة، "ثم قال": "بسم الله، اللهم أعظم فيها البركة"، وعرف بهذا المراد بقوله في رواية الصحيحين" المتقدمة، ثم "قال ما شاء الله أن يقول" فالروايات تفسر بعضها.
"وفي رواية" بكر وثابت، "عن أنس، عند أحمد؛ أن أبا طلحة رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم طاويًا، فلذا قال: أعرف فيه الجوع.
"وعند أبي يعلى من طريق محمد بن سيرين، عن أنس: أنا طلحة بلغه؛ أنه ليس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم طعام، فآجر نفسه" في عمل "بصاع من شعير، فعمل بقية يومه ذلك، ثم جاء به ... الحديث" وهو مخالف للروايات السابقة واللاحقة؛ أنه سأل أم سليم، أعندها شيء؟، فأخبرته بالخبز، وأنه فت وجعل عليه سمن، والجمع بينهما؛ أنه تعدد مرتين، مرة سألها، فوجد الخبز، ففعل ما ذكر، وبعثه مع أنس قبل ذلك؛ لاحتمال أن لا يجيء فيعطيه له فجاء ومعه ثمانون أو أزيد، وأدخلهم عشرة عشرة، ومرة لم يسألها، بل آجر نفسه بالصاع، وأتى به إليها وقال:(7/51)
وفي رواية عمرو بن عبد الله بن أبي طلحة عند مسلم وأبي يعلى قال: رأى أبو طلحة رسول الله صلى الله عليه وسلم يتقلب ظهر البطن. وفي رواية يعقوب بن عبد الله بن أبي طلحة عند مسلم أيضًا عن أنس قال: جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجدته جالسًا مع أصحابه يحدثهم وقد عصب بطنه بعصابة، فسألت بعض أصحابه فقال من الجوع، فذهبت إلى أبي طلحة فأخبرته، فدخل على أم سليم فقال: هل من شيء ... الحديث.
وفي رواية محمد بن كعب عن أنس عند أبي نعيم قال: جاء أبو طلحة إلى أم سليم فقال: أعندك شيء؟ فإني مررت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرئ أصحاب الصفة سورة النساء وقد ربط على بطنه حجرًا.
__________
أعجنيه وأصلحيه، فجعلته عصيدة، ودعاه فجاء ومعه أربعون، وأدخله ثمانية، وبهذا تتضح الروايات، وإليه أومأ الحافظ وإن لم يفصح به، فقال في رواية ابن سيرين عن أنس غير القصة التي رواها غيره، وقال قبل ذلك، كما قدمته عنه، يدل على التعدد ما بين العصيدة والخبز المفتوت، بالسمن من المغايرة انتهى. والله أعلم.
"وفي رواية عمرو بن عبد الله بن أبي طلحة" وهو أخو إسحاق، روي حديث الباب "عند مسلم وأبي يعلى" عن أنس، "قال: رأى أبو طلحة رسول الله صلى الله عليه وسلم يتقلب ظهر البطن" من الجوع، "وفي رواية يعقوب بن عبد الله بن أبي طلحة عند مسلم أيضًا، عن أنس، قال: جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجدته جالسًا مع أصحابه يحدثهم. وقد عصب بطنه بعصابة، فسألت بعض أصحابه" لم عصب بطنه؟ "فقال: من الجوع، فذهبت إلى أبي طلحة، فأخبرته، فدخل على أم سليم، فقال: هل من شيء ... الحديث".
"وفي رواية محمد بن كعب" بن مالك الأنصاري، السلمي، بالفتح المدني، التابعي، الوسط، ثقة، روى له مسلم وابن ماجه، "عن أنس عند أبي نعيم، قال: جاء أبو طلحة إلى أم سليم" بنت ملحان الأنصاري، اسمها سهلة، أو رملية، أو مليكة، أو أنيفة، اشتهرت بكنيتها، وكانت من الصحابيات الفاضلات، ماتت في خلافة عثمان، "فقال: أعندك شيء؟ فإني مررت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرئ أصحاب الصفة سورة النساء، وقد ربط على بطنه حجرًا" من الجوع، وفيه رد على دعوى ابن حبان؛ أنه لم يكن يجوع؛ لحديث: "أبيت يطعمني ربي ويسقيني"، وأجيب بحمله على تعدد الحال، فكان أحيانًا يجوع إذا لم يواصل ليتأسى به أصحابه، ولا سيما من لا يجد مردًا، فيصبر على الجوع فيتضاعف أجره، كما مر مفصلا.(7/52)
وعن أبي هريرة أنه قال: لما كان غزوة تبوك أصاب الناس مجاعة، فقال عمر: يا رسول الله ادعهم بفضل أزوادهم، ثم ادع الله لهم عليها بالبركة، فقال: نعم، فدعا بنطع فبسط، ثم دعا بفضل أزوادهم فجعل الرجل يجيء بكف ذرة، ويجيء الآخر بكسرة، حتى اجتمع على النطع شيء يسير، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبركة ثم قال: "خذوا في أوعيتكم"، فأخذوا في أوعيتهم، حتى ما تركوا في العسكر وعاء إلا ملئوه. قال: فأكلوا حتى شبعوا وفضلت فضلة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله
__________
"وعن أبي هريرة، أنه قال: لما كان" تامة، أي: وجد "غزوة تبوك أصاب الناس مجاعة" وفي رواية: مخمصة، فاستأذن الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم في نحر ظهورهم، قالوا: يبلغنا الله عز وجل، فأذن، فعلم عمر، فجاء فقال: يا نبي الله! ماذا صنعت، أمرت الناس أن ينحروا الظهر، فعلى ماذا يركبون؟ قال: "فما ترى يابن الخطاب"؟ , "فقال عمر: يا رسول الله! ادعهم" ألزمهم، وفي لفظ: أرى أن تأمرهم أن يأتوا "بفضل أزوادهم" أي: بقيتها، أو ما فضل منه أزوادهم التي لا تكفيهم في الأكلة الثانية والألم يستأذنوه في نحر الظهر، "ثم ادع الله لهم عليها بالبركة" النمو والزيادة فيها، فإن الله عودك في الدعاء خيرًا، "فقال: "نعم". فدعا بنطع" بكسر النون، وفتح الطاء، على أفصح لغاته، وفتح النون والطاء، وفتح النون، وإسكان الطاء: ما يتخذ من الأدم، وتقدم مرارًا، "فبسط، ثم دعا بفضل أزوادهم، فجعل الرجل يجيء بكف رة ويجيء الآخر بكسرة" وفي رواية: فجعل الناس يأتون بالحثية من الطعام، وفوق ذلك، أعلام من جاء بالصاع من التمر، فجعلها صلى الله عليه وسلم في ثوب، أي: فوق النطع، "حتى اجتمع على النطع شيء يسير" قال سلمة بن الأكوع: فحزرته، كربضة العنز، براء، موحدة، ومعجمة، أي: مقدار جثة عنز باركة على الأرض، أو هو تقدير لموضع من النطع بموضع ربوضها، "فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبركة"، ثم قال: "خذوا في أوعيتكم" , "فأخذوا في أوعيتهم حتى ما تركوا في العسكر وعاء إلا ملئوه" مما اجتمع عنده.
وفي رواية لمسلم: حتى ملئوا.
"قال: فأكلوا حتى شبعوا، وفضلت فضلة" منه وفي رواية: فملأ كل إنسان وعاءه، ولم يبق في الجيش وعاء إلا ملئوه، حتى إن الرجل ليعقد قميصه، فيأخذ فيه، وبقي منه، فضحك صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله"، مناسبتها لما قبلها من إظهار المعجزة، إعلامهم أن القصد منهم الثبوت عليها من غير(7/53)
لا يلقى الله بهما عبد غير شاك فيحجز عن الجنة". رواه مسلم.
وعن أنس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عروسًا بزينب، فعمدت أمي أم سليم إلى تمر وسمن وأقط فصنعت حيسًا، فجعلته في تور، فقالت: يا أنس اذهب بهذا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقل: بعثت بهذا إليك أمي، وهي تقرئك السلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ضعه"، ثم قال: "اذهب فادع لي -فلانًا وفلانًا، رجالا سماهم- وادع لي من لقيت"، فدعوت من سمى ومن لقيت، فرجعت فإذا البيت غاص
__________
شك؛ كما أفاد بقوله: "لا يلقى الله بهما عبد غير شاك، فيحجز" بالنصب، أي: يمنع "عن الجنة" حجز تأييد، وكذا رواية: "إلا حجبت عنه النار"، أي: حجب تأييد، فلا ينافي دخولها لبعض لتطهيره، ويحتمل أن عدم شكه قبل لقاء الله، ملاحظًا التوبة إلى الله والتمحيص من الذنوب، فلا يحجب عن الجنة ابتداء، بل يكون مع السابقين، وتحجب عنه النار من أول الأمر، "رواه مسلم" وأحمد، وأخرجه البخاري عن سلمة بن الأكوع بنحوه.
"وعن أنس، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عروسًا بزينب" بنت جحش الأسدية، فقالت لي أم سليم: لو أهدينا إلى رسول الله هدية، فقلت لها: افعلي، "فعمدت" بفتح الميم "أمي أم سليم إلى تمر وسمن وأقط، فصنعت حيسًا" بفتح الحاء المهملة وإسكان الياء، وبالسين المهملة، وهو خلط المذكور، قال:
التمر والسمن جميعًا والإقط ... الحيس إلا أنه لم يختلط
أي: لم يختلط فيما حضر الشاعر فيما عناه، فهو حيس بالقوة لا بالفعل، وقيل: الحيس تمر ينزع نواه، ويخلط بالسويق.
قال ابن قرقول: والأول أعرف، "فجعلته في تور" بفتح الفوقية، وإسكان الواو: إناء من صفر، أو حجارة.
وفي رواية البخاري: في برمة، أي: قدر، أو من حجر، "فقالت: يا أنس اذهب بهذا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقل: بعثت بهذا إليك أمي، وهي تقرئك السلام".
وفي رواية البخاري: فأرسلت بها معي إليه، فانطلقت بها إليه، فقال صلى الله عليه وسلم: "ضعه" أي: التور، وفي رواية البخاري: "ضعها"، أي: البرمة، ثم قال: "اذهب فادع لي فلانًا وفلانًا"، "رجالا سماهم" أي: عينهم بأسمائهم، "وادع لي من لقيت" بتاء الخطاب، تعميم بعد تخصيص، "فدعوت من سمى ومن لقيت".
وفي رواية البخاري: ففعلت الذي أمرني، "فرجعت، فإذا البيت غاص" بغين معجمة،(7/54)
بأهله، قيل لأنس: عددكم كانوا؟ قال: زهاء ثلاثمائة، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم وضع يده على تلك الحيسة وتكلم بما شاء الله، ثم جعل يدعو عشرة عشرة يأكلون منه، ويقول لهم: "اذكروا اسم الله، وليأكل كل رجل مما يليه"، قال: فأكلوا حتى شبعوا، فخرجت طائفة حتى أكلوا كلهم، قال لي: "يا أنس ارفع" فرفعت، فما أدري حين وضعت كان أكثر أم حين رفعت. رواه البخاري ومسلم.
__________
وصاد مهملة مشددة، بينهما ألف، أي: ممتلئ "بأهله، قيل لأنس: عددكم" معمول مقدم؛ لقوله: "كانوا" أي: عدد أي قدر كانوا، "قال: زهاء ثلاثمائة" أي: مقدارها، "فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم وضع يده" كذا بالإفراد، وفي البخاري: يديه، قال المصنف بالتثنية، "على تلك الحيسة" التي أرسلتها أم سليم لتحصل البركة، "وتكلم بما شاء الله" أن يتكلم، وفي رواية: فوضعه قدامه، وغمس ث. لاث أصابع، ولا منافاة، فإنه وضع يديه جميعًا عليها حين الدعاء قبل الأكل، ثم لما أطعم القوم أكل معهم بأصابعه الثلاث على سنته، فلا ترد الرواية التي في المصنف إلى الأخرى، فيقال: أي بعض يده، كما توهم، "ثم جعل يدعو عشرة عشرة" من القوم الذين اجتمعوا "يأكلون منه" أي: الطعام المسمى حيسة، أو الضمير للتور، ويقول لهم: "اذكروا اسم الله" بأن تقولوا: بسم الله قبل الأكل، "وليأكل كل رجل مما يليه"، قال أنس "فأكلوا حتى شبعوا، فخرجت طائفة حتى أكلوا كلهم، قال لي: "يا أنس ارفع" الإناء، وفي رواية: "لترفع" بلام الأمر والخطاب، والرواية الأولى أفصح، "فرفعت، فما أدري حين وضعت" بضم التاء للمتكلم، أي: حين وضعته، أو بتاء تأنيث ساكنة، "كان" الطعام أو التور، وفي رواية: كانت بالتأنيث، أي: الآنية "أكثر أم حين رفعت" بضم التاء وإسكانها، "رواه البخاري ومسلم" واللفظ لهما كلاهما في النكاح، وبقيته عندهما: فخرج من خرج، وبقي نفر يتحدثون، وجعلت أغتم، ثم خرج النبي صلى الله عليه وسلم نحو الحجرات، وخرجت في أثره، فقلت: إنهم قد ذهبوا، فرجع، فدخل البيت وأرخى الستر، وإني لفي الحجرة، وهو يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ} الآية، إلى قوله: {وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ} [الأحزاب: 35] الآية.
قال في الفتح: استشكل عياض ما وقع هنا؛ أن الوليمة بزينب كانت من الحيس الذي أهدته أم سليم، فالمشهور في الروايات أنه أولم عليها بالخبز واللحم، ولم يقع في القصة تكثير ذلك الطعام، وإنما فيها أنه أشبع المسلمين خبزًا ولحمًا، فهذا وهم من راويه، وتركيب قصة على أخرى، وأجاب: بأن حضور الحيسة صادف حضور الخبز واللحم، فاكلوا كلهم من ذلك.
وقال القرطبي: لعل الذين دعوا إلى الخبز واللحم أكلوا حتى شبعوا، وذهبوا ولم يرجعوا وبقي النفر الذين كانوا يتحدثون عنده حتى جاء أنس بالحيسة، فأمره أن يدعو ناسًا آخرين ومن(7/55)
وعن جابر قال: إن أم مالك كانت تهدي إلى النبي صلى الله عليه وسلم في عكة لها سمنًا، فيأتيها بنوها فيسألون الأدم، وليس عندهم شيء، فتعمد إلى الذي كانت تهدي فيه للنبي صلى الله عليه وسلم فتجد فيه سمنًا، فما زال يقيم لها أدم بيتها حتى عصرته، فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "أعصرتيها"؟ قالت: نعم، قال: "لو تركتيها ما زل قائمًا". رواه مسلم.
__________
لقي، فدخلوا فأكلوا أيضًا حتى شبعوا، واستمر أولئك النفر يتحدثون، انتهى، ولعل جواب عياض أقرب.
"وعن جابر، قال: إن أم مالك" الأنصارية، أوردها في الإصابة في الكنى ولم يسمها، بل ذكر هذا الحديث، "كانت تهدي إلى النبي صلى الله عليه وسلم في عكة لها سمنًا، فيأتيها بنوها، فيسألون الأدم"، أي: ما يأتدمون، به وفي رواية: فيسألون السمن، "وليس عندهم شيء فتعمد" بكسر الميم: تقصد "إلى الذي كانت تهدي فيه" ذكره، باعتبار الوعاء "للنبي صلى الله عليه وسلم، فتجد فيه سمنًا، فما زال" استمر السمن الذي تجده "يقيم لها أدم بيتها" واحد البيوت، وفي نسخة: بنيها جمع ابن، والأولى أبلغ في المعجزة، "حتى عصرته" أي: الظرف أو الإناء المعبر عنه بعكة، أو المير للسمن باعتبار محله لكن في مسلم حتى عصرتها بالتأنيث، "فأتت النبي صلى الله عليه وسلم" فذكرت ذلك له؛ كما في مسلم. فقال: "أعصرتيها" استفهام إنكاري، ولا يخفى أن التاء فاعل، والياء للإشباع لا لغة، قال شيخنا في التقرير: وفي ظني أن في الرضى ما يفيد جواز دخولها على ضمير الغيبة المؤنث أو المذكر، كأخذتيه، قالت: نعم، فقال: "لو تركتيها ما زال" السمن "قائمًا"، "رواه مسلم" من طريق أبي الزبير عن جابر، وروى ابن أبي عاصم، وابن أبي خيثمة، عن أم مالك الأنصاري: أنها جاءت بعكة سمن إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأمر بلالا بعصرها، ثم دفعها إليها، فإذا هي مملوءة، فجاءت، فقالت: أنزل في شيء؟، قال: "وما ذاك"؟ قالت: رددت علي هديتي، فدعا بلالا فسأله، فقال: والذي بعثك بالحق لقد عصرتها حتى استحييت، فقال: "هنيئًا لك هذه بركة يا أم مالك، هذه بركة عجل الله لك ثوابها"، ثم علمها أن تقول دبر كل صلاة: سبحان الله عشرًا، والحمد لله عشرًا، والله أكبر عشرًا، وترجم في الإصابة أم مالك، وساق حديث مسلم، ثم ترجم ثانيًا وذكر هذا الحديث، ثم قال: وكلام ابن منده ظاهر في أنهما واحدة، ووقع لأم سليم قصة شبيهة بهذه.
أخرج الطبراني عن أنس عن أمه: كانت لي شاة، فجعلت من سمنها في عكة، فبعثت بها مع زينب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "افرغوا لها عكتها" ففرغت وجاءت بها، فجاءت أم سليم فرأت العكة ممتلئة تقطر سمنًا، فقالت: يا زينب ألست أمرتك أن تبلغي هذه العكة لرسول الله صلى الله عليه وسلم يأتدم بها؟ قالت: قد فعلت، فإن لم تصدقيني فتعالي معي، فذهبت معها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته،(7/56)
وعنه أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم يستطعمه، فأطعمه شطر وسق من شعير، فما زال يأكل منه وامرأته وضيفه حتى كاله، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال: "لو لم تكله لأكلتم منه ولقام بكم"، رواه مسلم أيضًا.
والحكمة في ذهاب بركة السمن حين عصرت العكة، وإعدام الشعير حين كاله، أن عصرها وكيله مضاد للتسليم والتوكل على رزق الله تعالى، ويتضمن التدبير والأخذ بالحول والقوة، وتكلف الإحاطة بأسرار حكم الله وفضله، فعوقب فاعله بزواله، قاله النووي.
__________
فقال: "قد جاءت بها" فقلت: والذي بعث بالهدى ودين الحق إنها ممتلئة سمنًا تقطر، فقال: "أتعجبين يا أم سليم، إن الله أطعمك".
"وعنه" أي: جابر "أن رجلا" من أهل البادية لم يسم، "أتى النبي صلى الله عليه وسلم يستطعمه" يطلب منه طعامًا له ولأهله لشدة حاجته، "فأطعمه" أي: أعطاه؛ لأن الإطعام يكون بمعنى الإعطاء كثيرًا، حتى إنه لكثرته يستعمل فيما لا يؤكل، كأطعمة السلطان بلدة، وهو مجاز مرسل، أو استعارة. "شطر" بفتح أوله، ولا يصح الكسر، أي: نصف "وسق" بفتح الواو وكسرها "من شعير" وقال النووي: الشطر هنا معناه شيء، كذا فسره الترمذي، "فما زال يأكل منه وامرأته" بالرفع، عطف على الضمير المستتر في يأكل بلا فصل بمؤكد، بل بقوله: منه، وهو فصيح، والأفصح الفصل؛ كقوله: {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} ، وقد يعطف بلا فاصل، وهو قليل؛ كقول علي: لو كنت، وأبو بكر، وعمر، "وضيفه" أي: من ينزل عليه يطلق على الواحد وغيره، "حتى كاله" غاية، أي: استمر أكلهم منه بلا نقص شيء منه إلى أن كاله فظهر نقصه بعد الكيل بما يأخذه منه، قال بعض: وهذا الرجل جد سعيد بن الحارث استعان بالنبي صلى الله عليه وسلم في إنكاحه فأنكحه امرأة، فالتمس صلى الله عليه وسلم ما سأله، فلم يجد، فبعث أبا رافع وأبا أيوب بدرعه فرهنها عند يهودي في شطر وسق من شعير، فدفعه صلى الله عليه وسلم إليه، قال: "فأطعمنا منه"، وأكلنا منه سنة، ثم كلناه، فوجدناه كما أدخلناه، "فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال: "لو لم تكله لأكلتم منه" دائمًا ما يكفيكم "ولقام بكم" مدة حياتكم من غير نقص، "رواه مسلم أيضًا" من طريق أبي الزبير عن جابر.
"والحكمة في ذهاب السمن حين عصرت" أم مالك "العكة وإعدام الشعير حين كاله" الرجل "أن عصرها، وكيله مضاد" كل منهما "للتسليم والتوكل على رزق الله تعالى، ويتضمن التدبير والأخذ بالحول والقوة، وتكلف الإحاطة بأسرار حكم" جمع حكمة "الله وفضله، فعوقب فاعله بزواله، قاله النووي" على مسلم.(7/57)
وعن أبي العلاء سمرة بن جندب قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم نتداول من قصعة من غدوة حتى الليل، يقوم عشرة ويقعد عشرة، قلنا: فما كانت تمد؟ قال: من أي شيء تعجب ما كانت تمد إلا من هاهنا، وأشار بيده إلى السماء، رواه الترمذي والدارمي.
وعنه: أتي النبي صلى الله عليه وسلم بقصعة فيها لحم، فتعاقبوها من غدوة حتى الليل، يقوم قوم ويقعد آخرون، فقال رجل لسمرة: هل كانت تمد؟ قال: ما كانت تمد إلا هاهنا، وأشار بيده إلى السماء، رواه الدارمي وابن أبي شيبة والترمذي والحاكم والبيهقي وصححوه، وأبو نعيم.
__________
وقيل: إنما كان كذلك لإفشائه سرًا من أسرار الله ينبغي كتمه، وتقدم أن هذا ونحوه لا يعارض قوله صلى الله عليه وسلم: "كيلوا طعامكم يبارك لكم فيه"؛ لأنه فيمن يخشى الخيانة، أو كيلوا ما تخرجوه للنفقة منه لئلا يخرج أكثر من الحاجة، أو أقل، بشرط بقاء الباقي مجهولا، أو كيلوه عند الشراء، أو إدخاله المنزل.
"وعن أبي العلاء سمرة بن جندب" بضم الدال وفتحها ابن هلال الفزاري، حليف الأنصار، الصحابي المشهور، مات بالبصرة، سنة ثمان وخمسين، وقيل: سنة تسع، وقيل: سنة ستين.
قال في الإصابة: يكنى أبا سليمان. "قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم نتداول من قصعة" بفتح القاف فيها لحم، "من غدوة حتى الليل" بالجر، ويجوز رفعه ونصبه، "يقوم عشرة ويقعد عشرة" تفسير للتداول، قيل: المعروف من حديث سمرة من غدوة إلى الظهر يقوم قوم ويقعد آخرون، "قلنا: فما كانت" أي: أي شيء كانت "تمد" أي: تزاد به، "قال: من أي شيء تعجب؟ ما كانت تمد إلا من هاهنا، وأشار بيده إلى السماء" والمراد من إحسان الله معجزة له صلى الله عليه وسلم؛ كما يدل عليه السياق، لا أن الزيادة تنزل من السماء حقيقة، كنزول مائدة بني إسرائيل بدعاء عيسى، "رواه الترمذي" وشيخه "الدارمي" عبد الله بن عبد الرحمن، "وعنه" أي: سمرة من وجه آخر، والحديث واحد. "أتى" بالبناء للمفعول، إذ لا يتعلق غرض ببيان الآتي. "النبي صلى الله عليه وسلم بقصعة فيها لحم" مطبوخ، "فتعاقبوها"، أي: قعد عليها عشرة بعد عشرة؛ كما في رواية قبل، لأن كلا منهم أتى عقب سابقة بلا فاصل، "من غدوة حتى الليل" بالأوجه الثلاث، "يقوم قوم ويقعد آخرون تفسير للتعاقب وبين عدة القوم من الرواية قبله "فقال رجل لسمرة: هل كانت تمد؟ " حتى كفت تلك المدة الطويلة، "فقال: ما كانت تمد إلا من هاهنا، وأشار بيده إلى السماء، رواه الدارمي" أيضًا، "وابن أبي شيبة، والترمذي، والحاكم، والبيهقي،(7/58)
وفي حديث عبد الرحمن بن أبي بكر قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثين ومائة، وذكر الحديث أنه عجن صاع، وصنعت شاة فشوي سواد بطنها، قال: وايم الله، ما من الثلاثين ومائة إلا وقد حز له حزة من سواد بطنها، ثم جعل منها قصعتين فأكلنا
__________
وصححوه، وأبو نعيم" في الدلائل، وفي فتح الباري، روى أحمد، والترمذي، والنسائي عن سمرة، قال: أتي النبي صلى الله عليه وسلم بقصعة فيها ثريد، فأكل وأكل القوم، فلم يزالوا يتداولونها إلى قريب الظهر، يأكل قوم، ثم يقومون ويجيء قوم فيتعاقبونه، فقال رجل: هل كانت تمد بطعام؟ قال: أما من الأرض فلا، إلا أن تكون كانت تمد من السماء، قال بعض شيوخنا: يحتمل أن تكون هذه القصعة هي التي وقع فيها ما وقع في بيت أبي بكر، انتهى.
"وفي حديث عبد الرحمن بن أبي بكر" الصديق، شقيق عائشة تأخر إسلامه إلى قبيل الفتح، وشهد اليمامة والفتوح، ومات سنة ثلاث وخمسين في طريق مكة فجأة، وقيل: بعد ذلك: "قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم" حال من اسم كان، والخبر "ثلاثين ومائة" أو هما خبران، أي: خبر بعد خبر، "وذكر الحديث" وهو: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "هل مع أحد منكم طعام"؟. فإذا مع رجل صاع من طعام أو نحوه، فعجن، ثم جاء رجل مشرك مشعان، طويل جدًا بغنم يسوقها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "بيعًا أم عطية"؟، أو قال: "أم هبة"؟ قال: لا بل بيع، فاشترى شاة، فصنعت وأمر النبي صلى الله عليه وسلم، بسواد البطن أن يشوى، وايم الله ما في الثلاثين ومائة إلا وقد حز له النبي صلى الله عليه وسلم حزة من سواد بطنها، إن كان شاهدًا أعطاه إياه، وإن كان غائبًا خبأ له، فجعل منها قصعتين، فأكلوا أجمعون، وشبعنا، ففاضت القصعتان، فحملنا على بعير، وكما قال: هذا لفظ البخاري في الهبة، ومشعان، بضم الميم، وسكون الشين المعجمة، فعين مهملة، فألف، فنون مشددة، وقوله: طويل جدًا، أي: فوق الطوال، ويحتمل أنه تفسير للمشعان.
وقال القزاز: المشعان: الجافي الثائر الرأس، وقال غيره: طويل شعر الرأس جدًا، البعيد العهد بالدهن أشعث، وقال عياض: ثائر الرأس متفرقه.
قال الحافظ: ولم أقف على اسمه، ولا على اسم صاحب الصاع، فقوله: "أنه" أي: وفيه أنه، "عجن صاع وصنعت" أي: ذبحت "شاة، فشوى سواد بطنها" كبدها خاصة أو حشوها، والأول أظهر، وخص لأنه أصل الحياة، "قال" عبد الرحمن: "وايم الله" بوصل الهمزة، قسم، "ما من الثلاثين ومائة" الذين كانوا معه عليه الصلاة والسلام "إلا وقد حز" بفتح الحاء المهملة، "له حزة" بفتح المهملة قطعة؛ كما ضبطه المصنف في الهبة.
وقال في الأطعمة: بضم الحاء قطعة "من سواد بطنها، ثم جعل منها قصعتين فأكلنا" لفظ البخاري في الأطعمة، ولفظه في الهبة: فأكلوا "أجمعون" تأكيدًا للضمير الذي في أكلوا.(7/59)
أجمعون وفضل في القصعتين فحملته على بعير. رواه البخاري.
وعن أبي هريرة قال: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أدعو أهل الصفة، فتتبعتهم حتى جمعتهم، فوضعت بين أيدينا صحفة فأكلنا ما شئنا وفرغنا، وهي مثلها حين وضعت إلا أن فيها أثر الأصابع. رواه ابن أبي شيبة والطبراني وأبو نعيم.
وعن علي بن أبي طالب: قال جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بني عبد المطلب وكانوا أربعين، منهم قوم يأكلون الجذعة ويشربون الفرق، فصنع لهم مدًا من طعام، فأكلوا حتى شبعوا، وبقي كما هو، ثم دعا بعس.
فشربوا حتى رووا، وبقي كأنه لم يشرب منه، رواه في الشفاء.
__________
قال الحافظ: يحتمل أنهم اجتمعوا على القصعتين، فيكون فيه معجزة أخرى لكونهما وسعتا أيدي القوم، ويحتمل أنهم أكلوا كلهم في الجملة أعم من الاجتماع والافتراق، "وفضل في القصعتين فحملته" أي: ما فضل لفظ الأطعمة، وفي الهبة: فحملناها بضمير ودونه "على بعير" أو كما قال بالشك من الراوي، كما وقع في المحلين، "رواه البخاري" في الهبة والأطعمة تامًا، وفي البيوع مختصرًا، وكذا رواه مسلم في الأطعمة تامًا، قال الحافظ: وفيه معجزة ظاهرة، وآية باهرة من تكثير القدر اليسير من الصاع، ومن اللحم، حتى وسع الجمع المذكور وفضل منه، قال: ولم أر هذه القة إلا من حديث عبد الرحمن، وقد ورد تكثير الطعام في الجملة من أحاديث جماعة من الصحابة.
"وعن أبي هريرة، قال: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أدعو أهل الصفة" لطعام يأكلونه عنده، "فتتبعتهم حتى جمعتهم" لأنهم كان منهم من يذهب لنحو الاحتطاب، "فوضعت بين أيدينا صحفة" فيها طعام" فأكلنا ما شئنا وفرغنا، وهي مثلها حين وضعت" لم تنقص شيئًا، "إلا أن فيها أثر الأصابع، رواه ابن أبي شيبة والطبراني وأبو نعيم" الأصبهاني.
"وعن علي بن أبي طالب، قال: جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بني عبد المطلب" بمكة في ابتداء البعثة، "وكانوا أربعين" رجلا، "منهم قوم" اسم جمع للرجال، خاصة لقيامهم بالأمور، "يأكلون الجذعة" بفتح الجيم، والمعجمة، والمهملة من الإبل، كما ورد في أحاديث، وهي ما دخل في الخامسة، وقيل: الرابعة، ومن المعز ما تم له سنة، ومن الضأن ما أتى عليه ثمانية أشهر أو تسعة، والمراد: أقل ما يكفيهم الجذعة، كما يقال لمن دونهم أكلة رأس، "ويشربون الفرق" بفتح الفاء، وإسكان الراء، وبفتحهما: إناء يسع اثني عشر صاعًا بصاعه صلى الله عليه وسلم، وهو ستة عشر رطلا، وهو معروف بالمدينة، "فصنع لهم مدًا من طعام" أي: طبخه وسواه، "فأكلوا حتى شبعوا، وبقي كما هو" قبل الأكل، أي: لم ينقص؛ كأنه لم يؤكل منه شيء، "ثم دعا بعس"
بضم المهملة الأولى: قدح من خشب يروي الثلاثة والأربعة، أي: من لبن طلبه من أهله لهم، "فشربوا" منه "حتى رووا، وبقي كأنه لم يشرب منه" شيء، "رواه" أي: ذكره بلا إسناد "في الشفاء" وقد أخرجه أحمد والبيهقي بسند جيد مطولا عن علي(7/60)
"إبراء ذوي العاهات وإحياء الموتى وكلام الصبيان وشهادتهم له بالنبوة":
ومن ذلك: إبراء ذوي العاهات، وإحياء الموتى، وكلامهم له، وكلام الصبيان وشهادتهم له بالنبوة.
روى البيهقي في الدلائل: أنه صلى الله عليه وسلم دعا رجلا إلى الإسلام، فقال: لا أومن بك حتى يحيي لي ابنتي، فقال صلى الله عليه وسلم: "أرني قبرها"، فأراه إياها، فقال صلى الله عليه وسلم: "يا فلانة"،
__________
إبراء ذوي العاهات وإحياء الموتى وكلامهم له وكلام الصبيان وشهادتهم له بالنبوة:
"ومن ذلك إبراء ذوي العاهات" أي: الآفات: جمع عاهة، وهي في تقدير فعلة، بفتح العين، "وإحياء الموتى" مصدر مضاف لمفعوله، والفاعل الله، أو النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه سببه، وإن كان الفاعل الحقيقي هو الله، وهو من أعظم معجزاته صلى الله عليه وسلم، ولذا قال في البردة:
لو ناسبت قدره آياته عظمًا ... أحيا اسمه حين يدعى دارس الرمم
ومعناه: أنه لا يعد شيء من معجزاته عظيمًا بالنسبة إليه، إلا أن يكون كل أحد لو دعا باسمه وتوسل في إحياء الموتى، وقع له ذلك واستشكل، بأن منها القرآن، وفي حديث: آية من كتاب الله خير من محمد وآله، فكيف لا يكون فيها ما يناسب قدره شرفًا، وأجيب: بأن المراد ما أحدثه الله على يديه والقرآن صفة قديمة لله، لكن الحديث المذكور، قال الحافظ وغيره: لم أقف عليه، "وكلامهم له" بدون إحياء، فالعطف مغاير لا خاص على عام؛ كما توهم، "وكلام الصبيان" الذين لم يصلوا لسن التكلم، ولذا عطف على كلام الموتى؛ لأنه ليس من شأنهم الكلام، وأخره لأنهم أحياء، شأنهم الكلام في الجملة، فهو دونه مرتبة، "وشهادتهم له بالنبوة" أي: قول من في المهد أنك نبي الله ورسوله، وعطفه على ما قبله خاص على عام، وخصهم بالذكر؛ لأن نطقهم نفسه معجزة، وإيمان الموتى به بعد إحيائهم ليس مقصودًا بكونه معجزة، بل المقصود من حيث كونه معجزة نفس الإحياء، وإزالة المرض عن ذوي العاهات.
"روى البيهقي في الدلائل" النبوية عن "أنه صلى الله عليه وسلم دعا رجلا إلى الإسلام، فقال: لا أؤمن بك حتى يحيي لي ابنتي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أرني قبرها" فأراه إياها، فقال صلى الله عليه وسلم: "يا فلانة" أي: ناداها باسمها الخاص كما في رواية، فنسي الراوي اسمها، فكنى بفلانة،(7/61)
فقالت: لبيك وسعديك. فقال صلى الله عليه وسلم: أتحبين أن ترجعي؟ فقالت: لا والله يا رسول الله، إني وجدت الله خيرًا لي من أبوي، ووجدت الآخرة خيرًا لي من الدنيا.
وروى الطبري عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم نزل الحجون كئيبًا حزينًا، فأقام به ما شاء الله ثم رجع مسرورًا قال: "سألت ربي عز وجل فأحيا لي أمي فآمنت بي ثم ردها".
وكذا روي من حديث عائشة أيضًا إحياء أبويه صلى الله عليه وسلم حتى آمنا به، أورده السهيلي في الروض، وكذا الخطيب في السابق واللاحق
__________
"فقالت" وقد خرجت من قبرها، "لبيك" إجابة لك بعد إجابة، "وسعديك" إسعادًا، لك بعد إسعاد، ومعناه سرعة الإجابة والانقياد، فقال صلى الله عليه وسلم: "أتحبين أن ترجعي"؟ كذا في نسخ وهي ظاهرة، وفي بعضها: أن ترجعين بالنون، وهي لغة؛ كقوله:
إن تقرآن على أسماء ويحكما ... مني السلام وأن لا تشعرا أحدا
"فقالت: لا والله يا رسول الله" لا أحب ذلك، "إني وجدت الله" حين انتقلت إلى دار كرامته "خيرًا لي من أبوي" وما عندهما "ووجدت الآخرة خيرًا لي في الدنيا" لما فيها من التعب، وفيه إن صح: أن أطفال الكفار غير معذبين، وهو الأصح، وهذه القصة أوردها في الشفاء، بلفظ: وعن الحسن، أي: البصري: أتى رجل النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر أنه طرح بنية له في وادي كذا، فانطلق معه إلى الوادي، وناداها باسمها: "يا فلانة أحيي بإذن الله تعالى"، فخرجت وهي تقول: لبيك وسعديك، فقال لها: "إن أبوك قد أسلما، فإن أحببت أن أردك عليها"؟، قالت: لا حاجة لي فيهما، وجدت الله خيرًا لي منهما، ولم يذكر مخرجه السيوطي من رواه.
"وروى الطبري" الحافظ، محب الدين، أحمد بن عبد الله، بن محمد المكي، فقيه الحرم ومحدثه، "عن عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم نزل الحجون" في حجة الوداع "كئيبًا حزينًا" صفة لازمة لكئيبًا، "فأقام به ما شاء الله" أن يقوم "ثم رجع مسرورًا، قال" يخاطب عائشة لا قالت له: نزلت من عندي وأنت باك، حزين، مغتم، فبكيت لبكائك، ثم إنك عدت إلي وأنت فرح متبسم، فمم ذاك يا رسول الله؟ قال: "سألت ربي عز وجل فأحيا لي أمي فآمنت بي، ثم ردها" إلى الموت، "وكذا روي من حديث عائشة أيضًا إحياء أبويه صلى الله عليه وسلم حتى آمنا به" جميعًا، "أورده السهيلي في الروض، وكذا الخطيب في" كتاب "السابق واللاحق" أي: المتقدم والمتأخر، أي: المنسوخ والناسخ.(7/62)
قال السهيلي: إن في إسناده مجاهيل، وقال ابن كثير: إنه منكر جدًا، وتقدم البحث في ذلك في أوائل المقصد الأول.
وعن أنس أن شابًا من الأنصار توفي وله أم عجوز عمياء، فسجيناه وعزيناها، فقالت: مات ابني؟ قلنا: نعم، فقالت: اللهم إن كنت تعلم أني هاجرت إليك وإلى نبيك رجاء أن تعينني على كل شدة فلا تحملن علي هذه المصيبة، فما برحنا....
__________
"قال السهيلي: إن في إسناده مجاهيل" ومع ذلك قد قواه بقوله بعد: والله قادر على كل شيء وليس تعجز رحمته وقدرته عن شيء ونبيه أهل أن يختصه بما شاء من فضله، وينعم عليه بما شاء من كرامته.
"وقال ابن كثير: إنه منكر" أي: ضعيف "جدًا" لا موضوع، فالمنكر من أقسام الضعيف، "وتقدم البحث في ذلك في أوائل المقصد الأول" وقدمت ثمة فوائد، وأن الصواب؛ أن الحديث ضعيف، فقد تجوز روايته في الفضائل والمناقب، كما عليه الخطيب، وابن عساكر، وابن شاهين، والسهيلي، والمحب الطبري، وابن المنير، وابن سيد الناس وغيرهم، لا موضوع كما زعم جماعة من الحفاظ، ولا صحيح كما جازف بعض.
"وعن أنس: أن شابًا من الأنصار" لم يسم "توفي وله أم عجوز عمياء" إشارة إلى شدة حزنها لكبرها وعجزها المحوج لولدها، "فسجيناه" بمهملة وجيم: غطيناه أو كفناه، "وعزيناها" أي: صبرناها وسليناها بذكر ما لها من الأجر ونحوه، ولعل وجه المبادرة بتعزيتها وقت الموت، أنهم رأوا عندها جزعًا قويًا، "فقالت: مات" أي: أمات "ابني" فهمزة الاستفهام مقدرة، وقالت ذلك لأنها لم تعلم، أو لذهولها بالمصيبة، أو لذكر ما بعده، "قلنا: نعم، فقالت: اللهم إن كنت تعلم أني هاجرت إليك" لا ينافي أنه أنصاري؛ لأنه لا مانع أن أمه مهاجرة، أو الهجرة الانتقال من بلد إلى آخر، وقد تكون سكنت في مكان بعيد، فهاجرت منه، وإن كانت أنصارية نسبًا، "وإلى نبيك" الهجرة إلى الله بالهجرة إلى نبيه، وإلا فالله معها أينما كانت، "رجاء" بالنصب مفعول له، "أن تعينني" بالفوقية: خطابًا لله؛ لأنه هو المعين "على كل شدة" صعوبة، أي: على كل أمر شاق، وعلقته بأن المشعرة بعدم الجزم، باعتبار أن خلوصها في هجرتها مما يخفى على غيرها، ومن شأنه أن يشك فيه؛ لأنه لا يعلم ذلك، أو باعتبار القبول، أو تجاهلا رجاء للإجابة، "فلا تحملن" بمهملة، وشد الميم، ونون التأكيد، بمعنى: لا تكلفني، لأن التكليف كالحمل الثقيل، فاستعير له؛ كقوله: {وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} ، أو المعنى: لا تنزلن "علي هذه المصيبة" بدوام موت ولدها، فأسألك رفعها عني بإحيائه، "فما برحنا" بكسر الراء، أي: ما ذهبنا من مكاننا(7/63)
أن كشف الثوب عن وجهه فطعم وطعمنا. رواه ابن عدي وابن أبي الدنيا والبيهقي وأبو نعيم.
وعن النعمان بن بشير قال: كان زيد بن خارجة من سراة الأنصار، فبينما هو يمشي في طريق من طرق المدينة بين الظهر والعصر إذ خر فتوفي، فأعلمت به الأنصار، فأتوه فاحتملوه إلى بيته، وسجوه كساء وبردين، وفي البيت نساء من نساء الأنصار يبكين عليه، ورجال من رجالهم، فمكث على حاله
__________
الذي كنا فيه، "أن كشف" ولدها "الثوب عن وجهه" بعدما غطى به، "فطعم" أكل "وطعمنا" أكلنا معه من طعام قدم لنا، وعاش إلى وفاة النبي صلى الله عليه وسلم.
وروي: أنه بقي بعده وهلكت أمه في حياته، ووجه ذكره في المعجزات؛ أنه أحيي بالدعاء باسمه صلى الله عليه وسلم وحضوره، فلا يقال: هذه كرامة لأم الشاب، "رواه ابن عدي، وابن أبي الدنيا، والبيهقي، وأبو نعيم" بهذا اللفظ، ورووه أيضًا عن أنس، بلفظ: كنا في الصفة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأتته عجوز عمياء مهاجرة، معها ابن لها، قد بلغ فلم يلبث أن أصابه وباء بالمدينة، فمرض أيامًا، ثم قبض، فغمضه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمره، أي: أنسًا بجهازه، فلما أردنا أن نغسله، قال: "يا أنس! ائت أمه فأعلمها"، فأعلمها، فجاءت حتى جلست عند قدميه، فأخذت بهما، ثم قالت: إني أسلمت إليك طوعًا، وخلعت الأوثان زهدًا، وهاجرت إليك رغبة، اللهم لا تشمت بي عبدة الأوثان، ولا تحملني في هذه المصيبة ما لا طاقة لي بحمله، فوالله ما انقضى كلامها حتى حرك قميه، وألقى الثوب عن وجهه، وطعم وطعمنا معه، وعاش حتى قبض النبي صلى الله عليه وسلم، وهلكت أمه.
"وعن النعمان بن بشير" بن سعد، بن ثعلبة الأنصاري، الخزرجي، له ولأبيه صحبة، سكن الشام، ثم ولي إمرة الكوفة، ثم قتل بحمص سنة خمس وستين، وله أربع وستون سنة، قال: كان زيد بن خارجة" بالخاء المعجمة والجيم، ابن زيد الأنصاري الخزرجي، شهد أبوه أحدًا، وقتل بها هو وابنه سعيد بن خارجة، وشهد زيد بدرًا، ومات في خلافة عثمان، ذكر البخاري وغيره أنه الذي تكلم بعد الموت، وقيل: أبوه، وهو وهم؛ لأنه قتل بأحد، "من سراة" بفتح السين وفي نسخة: سروات، وكلاهما صحيح. قال المجد: السراة اسم جمع جمعه سروات، أي: أشراف "الأنصار" زاد ابن منده في روايته: وخيارهم، "فبينما هو يمشي في طريق من طرق المدينة" وفي رواية: في بعض أزقة المدينة، فالمراد: الطرق التي يسلك منها في المدينة، "بين الظهر والعصر، إذ خر" سقط من قيام، "فتوفى" مات، "فأعلمت به الأنصار، فأتوه فاحتملوه" من المكان الذي سقط فيه، وذهبوا به "إلى بيته، وسجوه كساء وبردين، وفي البيت نساء من نساء الأنصار يبكين عليه، ورجال من رجالهم، فمكث على حاله" مسجى كأنهم شكوا في(7/64)
حتى إذا كان بين المغرب والعشاء إذ سمعوا صوت قائل يقول: أنصتوا أنصتوا، فنظروا فإذا الصوت من تحت الثياب، فحسروا عن وجهه وصدره، فإذا القائل يقول على لسانه: محمد رسول الله النبي الأمي خاتم النبيين، لا نبي بعده، كان ذلك في الكتاب الأول، ثم قال: صدق صدق، ثم قال: هذا رسول الله، السلام عليك يا رسول الله ورحمته وبركاته. رواه أبو بكر بن أبي الدنيا في كتاب من عاش بعد الموت.
وعن سعيد بن المسيب أن رجلا من الأنصار توفي، فلما كفن أتاه القوم يحملونه
__________
موته؛ لكونه فجأة، فأخروا تجهيزه ودفنه، "حتى إذا كان بين المغرب والعشاء، إذ سمعوا صوت قائل يقول: أنصتوا أنصتوا" بالتكرير للتأكيد، أي: استمعوا، "فنظروا" تأملوا، "فإذا الصوت من تحت الثياب" المسجى بها، "فحسروا" كشفوا "عن وجهه" الغطاء، "وصدره فإذا القائل يقول على لسانه" مقتضى هذا أنه لم يتكلم، بل ملك مثلا، وليس بمراد إذا الكلام في كلام الموتى، وكأنه نسبه لقائل، وإن كان هو المتكلم لموته، ولذا تصرف فيه في الشفاء، فأتى بمعناه المراد، فقال: فرفع وسجى، إذ سمعوه بين العشاءين والنساء يصرخن، يقول: أنصتوا أنصتوا، فقال: "محمد رسول الله، النبي الأمي، خاتم النبيين" أي: آخرهم بعثًا؛ كما مر "لا نبي بعده، كان ذلك" المذكور "في الكتاب الأول" أي: جنسه من الكتب المتقدمة، كالتوراة، أو اللوح المحفوظ، المكتوب فيه كل ما قدره الله، "ثم قال" زيد مخاطبًا من عنده، أو من يصح توجه الخطاب إليه، أو مجردًا من نفسه، مخاطبًا مأمورًا، إن كان قوله: "صدق صدق" أمرًا؛ كما قاله بعض شراح الشفاء، فإن كان ماضيًا، كما اعتمده آخر، فهو ظاهر، أي: صدق محمد صلى الله عليه وسلم فيما بلغ به عن الله، والتكرير للتأكيد، "ثم قال: هذا رسول الله" فيه أنه حضر عنده وشاهده، فأشار إليه، "السلام عليك يا رسول الله" خص وصف الرسالة بالذكر؛ لانتفاع الأمة بها الذي هو من جملتهم، "ورحمته" إنعامه وإحسانه، أو إرادتهما، "وبركاته" جمع بركة، وهو الخير الإلهي.
وفي الشفاء: وذكر أبا بكر، وعمر، وعثمان، ثم عاد ميتًا، أي: ذكرهم بالثناء عليهم بما فعلوه في خلافتهم، ولذا لم يذكر عليًا؛ لأنه لم يدرك خلافته، إذ موته في زمان عثمان، "رواه أبو بكر" عبد الله "بن أبي الدنيا" القرشي، "في كتاب من عاش بعد الموت" وكذا رواه ابن منده وغيره، وأورد أن الترجمة في معجزته بإحياء الموتى، وكلامهم له عليه الصلاة والسلام بعد الموت، وهذا الحديث ليس من ذلك، إذ هو بعد وفاة المصطفى بدهر، وأجيب بأنه من صحبة وكرامات الأمة، فضلا عن الصحب من جملة كراماته.
"وعن سعيد بن المسيب: أن رجلا من الأنصار توفي، فلما كفن أتاه القوم يحملونه،(7/65)
تكلم فقال: محمد رسول الله، أخرجه أبو بكر بن الضحاك.
وأخرج أبو نعيم: أن جابرًا ذبح شاة وطبخها، وثرد في جفنة، وأتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكل القوم، وكان صلى الله عليه وسلم يقول لهم: "كلوا ولا تكسروا عظمًا"، ثم إنه عليه الصلاة والسلام جمع العظام ووضع يده عليها ثم تكلم بكلام فإذا بالشاة قد قامت تنفض أذنيها، كذا رواه والله أعلم؟!
وعن معرض بن معيقيب اليماني قال: حججت حجة الوداع، فدخلت دارًا بمكة، فرأيت فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورأيت منه عجبًا، جاءه رجل من أهل اليمامة بغلام يوم ولد، فقال له.
__________
تكلم، فقال: محمد رسول الله" يحتمل أنه زيد المذكور، وأنه تكلم مرتين، فبذلك قبل التكفين، وبلفظ: محمد رسول الله بعده، ويحتمل أنه غيره، لكن الأصل عدم التعدد، "أخرجه أبو بكر بن الضحاك".
"وأخرج أبو نعيم: أن جابرًا" هو ابن عبد الله، "ذبح شاة وطبخها، وثرد" فت الخبز "في جفنة" ووضع عليه الشاة، "وأتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأكل القوم" الذين عنده معه، وكان صلى الله عليه وسلم يقول لهم: "كلوا ولا تكسروا عظمًا"، ثم إنه عليه الصلاة والسلام جمع العظام في وسط الجفنة، "ووضع يده عليها، ثم تكلم بكلام" قال جابر: لم أسمعه، "فإذا الشاة قد قامت تنفض أذنيها" فقال: "خذ شاتك يا جابر، بارك الله لك فيها"، فأخذتها ومضيت، وإنها لتنازعني أذنها حتى أتيت بها المنزل، فقالت المرأة: ما هذا يا جابر؟ قلت: والله هذه شاتنا التي ذبحناها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأحياها، فقالت: أشهد أنه رسول الله، "كذا رواه" أبو نعيم، "فالله أعلم" بصحته، وكذا رواه الحافظ محمد بن المنذر، والمعروف بشكر في كتاب العجائب والغرائب.
"و" روى "عن معرض" بضم الميم، وفتح المهملة، وكسر الراء الثقيلة، ثم ضاد معجمة؛ كما في الإصابة وفي التلمساني وغيره اسم فاعل من أعرض، وروي بكسر أوله كأنه آلة، "ابن معيقيب" بيان آخره، وقيل: لام، "اليماني" صحابي جاء عنه هذا الحديث، تفرد به عنه ولده عبد الله، "قال: حججت حجة الوداع، فدخلت دارًا بمكة، فرأيت فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم" ووجهه مثل دارة البدر؛ كما في رواية الخطيب.
وفي رواية ابن قانع: كأن وجهه القمر، "ورأيت منه عجبًا" أمرًا عجيبًا وقع عنده، "جاءه رجل من أهل اليمامة بغلام يوم ولد" وقد لفه في خرقة؛ كما في الرواية، فقال له(7/66)
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا غلام، من أنا"؟ قال: أنت رسول الله، قال: "صدقت بارك الله فيك"، ثم إن الغلام لم يتكلم بعد ذلك حتى شب، فكنا نسميه مبارك اليمامة. رواه البيهقي.
__________
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا غلام، من أنا "؟، قال: أنت رسول الله، قال: "صدقت بارك الله فيك"، ثم إن الغلام لم يتكلم بعد ذلك حتى شب، فكنا نسميه مبارك اليمامة" لقول المصطفى له: "بارك الله فيك"، "رواه البيهقي"، وابن قانع، والخطيب من طريق محمد بن يونس الكديمي، قال: حدثنا شاصونة بن عبيد، قال: أخبرنا معرض بن عبد الله، بن معرض، بن معيقيب، عن أبيه، عن جده معرض بن معيقيب، قال: حججت، فذكره.
قال الدارقطني: الكديمي متهم بوضع الحديث، ومما تكلم به فيه حديث شاصونة، فقيل: إنه حدث عمن لم يخلق، ولذا قال ابن دحية وغيره: إنه موضوع، لكنه ورد من غير طريق الكديمي.
قال في الإصابة: معرض وشيخه مجهولان، وكذلك شاصونة، واستنكروه على الكديمي، لكن ذكر أبو الحسن العتقي في فوائده، قال: سمعت أبا عبد الله البجلي، مستملي ابن شاهين، يقول: سمعت بعض شيوخنا يقول: لما أملى الكديمي هذا الحديث استعظمه الناس، وقالوا: هذا كذب من هو شاصونة، فلما كان بعد مدة، جاء قوم ممن جاء من عدن، فقالوا: دخلنا قرية يقال لها الحردة، فلقينا بها شيخًا، فسألناه: هل عندك شيء من الحديث؟ قال: نعم، فقلنا: ما اسمك؟ قال: محمد بن شاصونة، وأملى علينا هذا الحديث فيما أملى عن أبيه، وأخرجه أبو الحسن بن جميع في معجمه، عن العباس بن محمد بن شاصونة بن عبيد عن معرض بن عبد الله بن معرض عن أبيه عن جده، وأخرجه الخطيب عن الصوري عن ابن جميع، وكذا أخرجه البيهقي من طريقه، وأخرجه الحاكم في الإكليل من وجه آخر عن العباس بن محمد بن شاصونة، انتهى.
وذكر نحوه السيوطي في خصائصه الكبرى، وقال: فقد وقعت روايته من طرق، فهو حديث حسن، قال: وسبب إنكاره أنه من الأمور الخارقة للعادة، وقد وقع في حجة الوداع مع كثرة الناس، فكان حقه أن يشتهر، انتهى، لكن تحسينه لا يظهر، إذ مداره على شاصونة، وهو مجهول كشيخه وشيخ شيخه؛ كما في الإصابة، فغاية ما يفيده تعدد طرقه عن شاصونة، أنه ضعيف لزوال ما كان يخشى أنه من وضع الكديمي, أما الحسن، فمن أين، ومداره على مجاهيل ثلاثة، وقد قال الشفاء: يعرف ذلك بحديث شاصونة اسم راويه، وهو بشين معجمة، وألف، وصاد مهملة، وواو ساكنة، ونون، وهاء.(7/67)
وعن فهد بن عطية، أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بصبي قد شب لم يتكلم قط فقال له: "من أنا"؟ قال: أنت رسول الله، رواه البيهقي.
وعن ابن عباس قال: إن امرأة جاءت بابن لها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، إن ابني به جنون، وإنه ليأخذ عند غدائنا وعشائنا، فمسح رسول الله صلى الله عليه وسلم صدره فثع ثعة وخرج من جوفه مثل الجرو الأسود يسعى. رواه الدارمي.
وقوله: "ثع" يعني قاء.
__________
"وعن فهد بن عطية" بفاء مفتوحة، وهاء ساكنة، ودال مهملة، وفي نسخة: وراء مهملة، قال في المقتفى: لا أعرفه بدال، ولا براء، والذي في البيهقي؛ أنه عن شمر بن عطية عن بعض أشياخه، فيحتمل أن تحرف على الناسخ، انتهى، وهو كما قال: فليس في الصحابة من يسمى بذلك، بدال، ولا براء، إذ لم يذكر ذلك في الإصابة مع استيعابه، ولا في القسم الرابع، فإنما هو عن شمر، بكسر الشين المعجمة، وسكون الميم، وراء بلا نقط، ابن عطية الأسدي، الكاهلي، الكوفي صدوق، من أتباع التابعين عن بعض أشياخه، فهو مرسل، "أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بصبي قد شب" كبر وصار شابًا، وهو "لم يتكلم قط" من طفولته لشبابه؛ لأنه خلق أخرس، "فقال له: "من أنا" قال: أنت رسول الله". فأنطقه الله، معجزة بعدما كان أبكم، فهو بمنزلة الميت والجماد، لعدم القدرة على النطق، "رواه البيهقي" مرسلا؛ كما علم، فعجب للمصنف، يعزوه له، ويتبع عياضًا في قوله: فهد أو فهر، مع أنه لم يعزه لأحد.
"وعن ابن عباس" مما رواه أحمد، وابن أبي شيبة، والبيهقي، "قال: إن امرأة جاءت بابن لها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله! إن ابني به جنون، وإنه ليأخذه عند غدائنا" بدال مهملة "وعشائنا، فمسح رسول الله صلى الله عليه وسلم صدره" بيده الميمونة، "فثع ثعة" بفتح المثلثة، وروي بفوقية بدلها، وشد العين المهملة، "وخرج من جوفه" بطنه "مثل الجرو" بجيم مثلثة: الصغير من أولاد الكلاب والسباع، "الأسود" ويطلق الجر، وأيضًا على صغار الحنظل والقثاء، وهو محتمل هنا؛ كما قال بعض. "ويسعى" أي: يمشي، والذي في الشفاء، فشفي، بالبناء للمفعول، أي: شفاه الله، "رواه الدارمي" كذا في بعض النسخ، "وقوله: ثع، يعني: قاء" مرة واحدة؛ كما قاله جمهور أهل اللغة.
وقال بعضهم: يعني سعل، وفي القاموس في المثلثة ثع يثع: قاء، وفيه في الفوقية الثع والثعة، التقيؤ.(7/68)
وأصيبت يوم أحد عين قتادة بن النعمان حتى وقعت على وجنته، فأتى بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إن لي امرأة أحبها وأخشى إن رأتني تقذرني فأخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده وردها إلى موضعها، وقال: "اللهم اكسه جمالا"، فكانت أحسن عينيه وأحدهما نظرًا، وكانت لا ترمد إذا رمدت الأخرى.
وقد وفد على عمر بن عبد العزيز رجل من ذريته فسأل عمر: من أنت؟ فقال:
أبونا الذي سالت على الخد عينه ... فردت بكف المصطفى أيما رد
__________
وروى ابن أبي شيبة عن أم جندب، أنه صلى الله عليه وسلم أتته امرأة من خثعم، معها صبي به بلاء لا يتكلم، فأتى بماء فمضمض فاه، وغسل يديه، وأعطاه إياه، وأمرها بسقيه، ومسحه به، فبرأ الغلام، وعقل عقلا يفضل عقول الناس، والمتبادر أن هذه قصة أخرى غير التي ذكرها المصنف لما بينهما من الخلاف، فلا وجه لجعلهما واحدة، "وأصيبت" بالتأنيث بسهم، ويقال: برمح، وفي نسخ: أصيب بالتذكير للتأويل بالعضو، أو للفصل بينهما بقوله: "يوم أحد" وهو مسوغ؛ كقوله: لا يقبل منها شفاعة في قراءة التحتية، "عين قتادة بن النعمان" بن زيد الأوسي، المدني، أخي أبي سعيد لأمه، شهد بدرًا وغيرها، ومات سنة ثلاث وعشرين على الصحيح، وصلى عليه عمر، ونزل في قبره، وما رواه أبو يعلى أن أبا ذر أصيبت عينه يوم أحد، فأعله ابن عبد البر؛ بأن فيه عبد العزيز بن عمران متروك، وبأن أبا ذر لم يحضر بدرًا، ولا أحدًا، ولا الخندق، "حتى وقعت على وجنته" أعلى خده وما يلي العين من الوجه، وتطلق على الوجه كله، وفي رواية: فسالت حدقته على وجنته، وأخرى صارت في يده، "فأتى بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال": $"إن شئت صبرت ولك الجنة، وإن شئت رددتها ودعوت الله لك، فلم تفقد منها شيئًا" فقال: "يا رسول الله! " إن الجنة لجزاء جميل، وعطاء جليل، ولكني رجل مبتلي بحب النساء، "وإن لي امرأة أحبها، وأخشى إن رأتني تقذرني" أي: تكرهني ولكن تردها، وتسأل الله لي الجنة، قال: "أفعل يا قتادة" "فأخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، وردها إلى موضعها، وقال: "اللهم اكسه جمالا". "فكانت أحسن عينيه" أجملهما وأقواهما حسنًا، أي: أحسن عينيه قبل ما أصيبت وردت، فلا يرد أن الشيء لا يكون أحسن من نفسه، "وأحدهما" أقواهما "نظرًا، وكانت لا ترمد إذا رمدت الأخرى".
وفي رواية: وكان لا يدري أي عينيه أصيبت، "وقد وفد على عمر بن عبد العزيز" الإمام العادل في خلافته، "رجل من ذريته" هو حفيده عاصم بن عمر بن قتادة، "فسأله عمر: من أنت؟ فقال" على البديهة: "أبونا" رواية الأصمعي وغيره:(7/69)
فعادت كما كانت لأول أمرها ... فيا حسن ما عين ويا حسن ما خد
فوصله عمر وأحسن جائزته.
قال السهيلي: ورواه محمد بن أبي عثمان الأموي عن عمار بن نصر عن مالك بن أنس عن محمد بن عبد الله بن أبي صعصعة عن أبيه عن أبي سعيد الخدري عن أخيه قتادة بن النعمان قال: أصيبت عيناي يوم أحد فسقطتا على وجنتي، فأتيت بهما النبي صلى الله عليه وسلم فأعادهما مكانهما وبصق فيهما فعادتا تبرقان، قال الدارقطني: هذا حديث عن مالك تفرد به عمار بن نصر عن مالك وهو ثقة
__________
أنا ابن "الذي سالت على الخد عينه ... فردت بكف المصطفى أيما رد"
الذي رواه الأصمعي وغيره: أحسن الرد.
"فعادت كما كانت لأول أمرها ... فيا حسن ما عين"............
بزيادة ما "ويا حسن ما خد".
هكذا رواه الأصمعي، وبه تعقب البرهان إنشاده اليعمري، ويا حسن ما رد، وعلى تقدير صحته، فلا إبطاء؛ لأن الأول معرف، والثاني منكر، "فوصله عمر وأحسن جائزته" وأنشد:
تلك المكارم لا قعبان من لبن ... شيبا بماء فعادا بعد أبوالا
وقال: بمثل هذا فليتوسل المتوسلون.
"قال السهيلي: ورواه محمد بن أبي عثمان الأموي" أبو مروان العثماني، المدني، نزيل مكة، صدوق، روى له النسائي، وابن ماجه، مات سنة إحدى وأربعين ومائتين، "عن عمار بن نصر" السعدي، المروزي، نزيل بغداد، صدوق، مات سنة تسع وعشرين ومائتين، "عن مالك بن أنس، عن محمد بن عبد الله بن أبي صعصعة" المدني، ثقة، روى له البخاري، والنسائي، وابن ماجه، مات سنة تسع وثلاثين ومائة، "عن أبيه" عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة الأنصاري، المدني، الثقة، التابعي الوسط، "عن أبي سعيد الخدري" سعد بن مالك، له ولأبيه صحبة، واستصغر يوم أحد، وشهد ما بعدها، وروى الكثير، "عن أخيه" لأمه "قتادة بن النعمان، قال: أصيبت عيناي يوم أحد" ويروى يوم بدر، ويروى الخندق، والصحيح الأول، قاله أبو عمر: "فسقطتا على وجنتي" بالتثنية، "فأتيت بهما النبي صلى الله عليه وسلم، فأعادهما مكانهما وبصق فيهما، فعادتا تبرقان" تلمعان.
"قال الدارقطني: هذا حديث عن مالك تفرد بن عمار بن نصر" أي: لم يروه غيره، "عن مالك، وهو ثقة" فتقبل زيادته، لكن قال النووي: قال أبو نعيم: سالت عيناه وغلطوه انتهى،(7/70)
رواه الدارقطني عن إبراهيم الحربي عن عمار بن نصر.
وأخرج الطبراني وأبو نعيم عن قتادة قال: كنت يوم أحد أتقي السهام بوجهي دون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان أخرها سهمًا نذرت منه حدقتي فأخذتها بيدي وسعيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رآها في كفي دمعت عيناه فقال: "اللهم قِ قتادة كما وقى وجه نبيك بوجهه، فاجعلها أحسن عينيه وأحدهما نظرًا".
وفي البخاري في غزوة خيبر أنه صلى الله عليه وسلم قال: أين علي بن أبي طالب فقالوا: يا رسول الله هو يشتكي عينيه، قال:
__________
وقد جمع بأن رواية الإفراد من التعبير عن العضوين المتفقين ذاتًا وصفة واسمًا بأحدهما، وهو فصيح مشهور، كما يقال: نظر بعينه، ومشى بقدمه، وبأن إحداهما سقطت حدقتها، وخرجت عن محلها بالكلية والأخرى خرج بعضها ولم ينفصل، فصدق أن كلا منهما أصيب، وخرجت حدقتهما، ويرده قوله: فسقطتا على وجنتي.
"ورواه الدارقطني عن إبراهيم الحربي" الحافظ المشهور، فحصل لمحمد بن أبي عثمان، متابع في روايته، "عن عمار بن نصر" لكن لم يحصل متابع لعمار في روايته عن مالك.
"وأخرج الطبراني وأبو نعيم عن قتادة، قال: كنت يوم أحد أتقي السهام بوجهي دون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان آخرها سهمًا نذرت" بالنون؛ سقطت "منه حدقتي" بالإفراد، "فأخذتها بيدي وسعيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رآها في كفي دمعت" -بفتح الميم- عيناه، فقال: "اللهم قِ" فعل أمر، أي: احفظ "قتادة، كما وقى وجه نبيك بوجهه، فاجعلها أحسن عينيه وأحدهما نظرًا" فكان كذلك.
وأخرج البغوي، وأبو يعلى من طريق عاصم بن عمر بن قتادة، عن جده؛ أنه أصيبت عينه يوم بدر، فسالت حدقته على وجنته، فأرادوا أن يقطعوها، فالوا: لا حتى نستأمر رسول الله فاستأمروه، فقال: "لا"، ثم دعاه فوضع راحته على حدقته، ثم غمرها، فكان لا يدري، أي: عينيه أصيب، كذا في الرواية يوم بدر، وقد علمت أن الصحيح يوم أحد، "وفي البخاري في غزوة خيبر" وفي غيرها من صحيحه، عن سهل بن سعد؛ "أنه صلى الله عليه وسلم، قال" "لأعطين الراية غدًا رجلا يفتح الله على يديه، يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله" فلما أصبح الناس غدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم يرجون أن يعطاها، فقال:
"أين علي بن أبي طالب"؟ فقالوا: يا رسول الله! هو يشتكي عينيه" وفي حديث سلمة عند البخاري: وكان رمدًا وللطبراني: أرمد شديد الرمد، ولأبي نعيم: أرمد لا يبصر، قال:(7/71)
فأرسلوا إليه، فأتى به، فبصق رسول الله صلى الله عليه وسلم في عينيه ودعا له فبرأ حتى كأن لم يكن به وجع.
وعند الطبراني من حديث علي قال: فما رمدت ولا صدعت منذ دفع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الراية يوم خيبر.
وفي رواية مسلم من طريق إياس بن سلمة عن أبيه قال: فأرسلني النبي صلى الله عليه وسلم إلى علي فجئت به أقوده أرمد، فبصق في عينيه فبرأ.
وعند الحاكم من حديث علي قال: فوضع صلى الله عليه وسلم رأسي في حجره ثم بصق في راحته فدلك بها عيني. وعند الطبراني: فما اشتكيتهما حتى الساعة، قال: ودعا لي صلى الله عليه وسلم فقال: "اللهم أذهب عنه الحر والقر
__________
فأرسلوا إليه" قال المصنف: بكسر السين، أمر من الإرسال، وبفتحها، أي: قال سهل: فأرسلوا، أي: الصحابة إلى علي، وهو بخيبر لم يقدر على مباشرة القتال لرمده، "فأتى به" الآتي به سلمة بن الأكوع، "فبصق رسول الله صلى الله عليه وسلم في عينيه" فيه تجوز بينته رواية علي عند الحاكم الآتية، "ودعا له" فقال: "اللهم أذهب عنه الحر والقر" كما يأتي، "فبرأ" بفتح الراء والهمزة، بوزن ضرب ويجوز كسر الراء بوزن علم، كما في الفتح "حتى كأن لم يكن به وجع" وتتمة ذا الحديث مرت في خيبر، "وعند الطبراني من حديث علي، قال: فما رمدت ولا صدعت منذ دفع إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم الراية يوم خيبر".
"وفي رواية مسلم من طريق إياس بن سلمة" بن الأكوع، التابعي، الثقة، مات سنة تسع عشرة ومائة، وهو ابن سبع وسبعين سنة، "عن أبيه قال: فأرسلني النبي صلى الله عليه وسلم إلى علي، فجئت به أقوده أرمد، فبصق في عينيه فبرأ.
قال الحافظ: فظهر من هذا؛ أنه الذي أحضره، ولعل عليًا حضر إليهم، ولم يقدر على مباشرة القتال لرمده، فأرسل إليه النبي صلى الله عليه وسلم، فضر من المكان الذي نزل به، أو بعث إليه إلى المدينة، فصادف حضوره، فلا ينافي رواية البخاري عن سلمة: كان علي تخلف عن النبي، وكان رمدًا، فقال: أنا أتخلف عن النبي صلى الله عليه وسلم، فلحق به. "وعند الحاكم من حديث علي، قال: فوضع صلى الله عليه وسلم رأسي في حجره، ثم بصق في راحته" لفظه في ألية راحته، والألية: اللحمة التي تحت الإبهام، أو باطن الكف، "فدلك بها عيني" بالتثنية.
"وعند الطبراني" عن علي: "فما اشتكيتهما حتى الساعة، قال: ودعا لي صلى الله عليه وسلم، فقال: "اللهم أذهب عنه الحر والقر". بضم القاف البرد، وحكى ابن قتيبة تثليثه، وإنما دعا له بذلك،(7/72)
قال: فما اشتكيتهما حتى يومي هذا.
وأصيب سلمة يوم خيبر أيضًا بضربة في ساقه، فنفث فيها صلى الله عليه وسلم ثلاث نفثات فما اشتكاها قط. رواه البخاري.
ونفث في عيني فديك وكانتا مبيضتين لا يبصر بهما شيئًا، وكان وقع على بيض حية، فكان يدخل الخيط في الإبرة وإنه لابن ثمانين سنة وإن عينيه لمبيضتان، رواه بن أبي شيبة والبغوي والبيهقي والطبراني وأبو نعيم.
__________
مع أن تألمه كان من الرمد، لأنه علم أن رمده من زيادة الدم الحاصل من الحر، فدعا له بإذهابه عنه، وزاد عليه القر، لأنه ضده، فربما أذاه لقوته بعدم ضده، "قال: فما اشتكيتهما حتى يومي هذا".
وفي رواية: وكان علي يلبس القباء المحشو الثخين في شدة الحر، فلا يبالي الحر، ويلبس الثوب الخفيف في شدة البرد، فلا يبالي البرد فسئل فأجاب: إن ذلك بدعائه صلى الله عليه وسلم يوم خيبر، "وأصيب سلمة" بن الأكوع "يوم خيبر أيضًا بضربة في ساقه، فنفث فيها" لفظ الحديث فيه، قال الحافظ وغيره: أي موضع الضربة "ثلاث نفثات" بمثلثة بعد الفاء المفتوحة فيهما جمع نفثة، وهي فوق النفخ ودون التفل وقد يكون بلا ريق بخلاف التفل، وقد يكون بريق خفيف بخلاف النفخ، انتهى، "فما اشتكاها قط، رواه" بمعناه "البخاري" ثلاثيًا، فقال: حدثني المكي بن إبراهيم، قال: حدثنا يزيد بن أبي عبيد، قال: رأيت أثر ضربة بساق سلمة، فقلت: يا أبا مسلم! ما هذه الضربة؟ قال: هذه ضربة أصابتها يوم خيبر، فقال الناس: أصيب سلمة، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فنفث فيها ثلاث نفثات، فما اشتكيتها حتى الساعة، "ونفث في عيني فديك" بن عمرو السلاماني، وقيل: فريك، بالراء بدل الدال، قاله الطبراني، وقيل: فويك بالواو، قاله البغوي والأزدي، وابن شاهين، والمستغفري، وابن عبد البر وغيرهم، وقال ابن فتحون: رأيته في كتب ابن أبي حاتم وابن السكن، بالواو، كما في الإصابة، "وكانتا مبيضتين" لغشاوة غطتهما، أو هو عبارة عن العمى، "لا يبصر بهما شيئًا، وكان" سبب ذلك، أنه "وقع على بيض حية، فكان يدخل الخيط في الإبرة" لقوة بصره وصحته، "وإنه لابن ثمانين سنة" وهو سن يضعف فيه البصر، وإن لم يعرض له عارض، "وإن عينيه لمبيضتان" وفيه أن البياض لم يزل بهما مع شدة نظرهما، وهذا أعظم في المعجزة، ولا ينافيه قوله في الحديث: فأبصر، "رواه ابن أبي شيبة والبغوي" الكبير في معجم الصحابة، "والبيهقي، والطبراني، وأبو نعيم" كلهم من طريق عبد العزيز بن عمران، عن رجل من بني سلامان، عن أمه، أن خالها حبيب بن فديك حدثها: أن أباه خرج به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وعيناه مبيضتان، لا يبصر بهما شيئًا، فسأله، فقال: كنت أروم جملا لي، فوقعت رجلي على بيض حية، فأصيب بصري، فنفث في عينيه، فأبصر، قال: فرأيته يدخل في الإبرة، وإنه لابن ثمانين، وإن عينيه لمبيضتان.(7/73)
الفصل الثاني: فيما خصه الله تعالى به من المعجزات وشرفه به على سائر الأنبياء من الكرامات والآيات البينات
اعلم, نور الله قلبي وقلبك، وقدس سري وسرك، أن الله قد خص نبينا صلى الله عليه وسلم بأشياء لم يعطها لنبي قبله، وما خص نبي بشيء إلا وقد كان لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم مثله، فإنه أوتي جوامع الكلم، وكان نبيًا ودام بين الروح والجسد، وغيره من الأنبياء لم يكن نبيًا إلا في حال نبوته وزمان رسالته.
ولما أعطي هذه المنزلة علمنا أنه صلى الله عليه وسلم الممد
__________
الفصل الثاني: فيما خصه الله تعالى به من المعجزات وشرفه به على سائر الأنبياء من الكرامات والآيات البينات
"الفصل الثاني فيما خصه الله تعالى به من المعجزات، وشرفه به على سائر" باقي "الأنبياء من الكرامات"، أي: الأمور الخارقة للعادة "والآيات البينات" والأول في معجزاته، كما قدم، أي: التي وقع نظير بعضها لغيره في الجملة، وأما هذا الثاني، فالقصد به ما زاد به على غيره.
"اعلم، نور الله قلبي وقلبك" جملة دعائية: صدر بها تنبيهًا على شرف ما هو شارع فيه، "وقدس" طهر "سري وسرك"، أي: طهر أفعالنا عما ينقصها، وهو عطف مباين، "إن الله قد خص نبينا صلى الله عليه وسلم بأشياء لم يعطها لنبي قبله"، أي: ولا رسول، ولا ملك، "وما خص نبي بشيء"، أي: ما أعطي نبي شيئًا لم يعطه أحد من أمته، أو من الأنبياء السابقين عليه، "إلا وقد كان لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم مثله" فلا يقال متى أعطي مثله لا يكون خصوصية، فجمع له كل ما أوتيه الأنبياء من معجزات وفضائل، ولم يجمع ذلك لغيره، بل اختص كل بنوع؛ "فإنه أوتي جوامع الكلم" كما قال ويأتي معناه، "وكان نبيًا وآدم بين الروح والجسد" كما مر، مشروحًا أوائل الكتاب، "وغيره من الأنبياء لم يكن نبيًا"، أي: موصوفًا بالنبوة "إلا في حال نبوته"، أي: بعد بعثته، "وزمان رسالته" بخلاف نبينا، فقد أفرغت عليه النبوة قبل خلق آدم، "ولما أعطي هذه المنزلة" التي لم يبلغها غيره، "علمنا أنه صلى الله عليه وسلم الممد" اسم فاعل من أمد،(7/74)
لكل إنسان كامل مبعوث ويرحم الله الأديب شرف الدين الأبوصيري فلقد أحسن حيث قال:
وكل آي أتى الرسل الكرام بها ... فإنما اتصلت من نوره بهم
فإنه شمس فضل هم كواكبها ... يظهرن أنوارها للناس في الظلم
قال العلامة ابن مرزوق: يعني أن كل معجزة أتى بها كل واحد من الرسل فإنما اتصلت بكل واحد منهم من نور محمد صلى الله عليه وسلم وما أحسن قوله: "فإنما اتصلت من نوره بهم" فإنه يعطي أن نوره صلى الله عليه وسلم لم يزل قائمًا به ولم ينقص منه شيء، ولو قال: فإنما هي من نوره لتوهم أنه وزع عليهم وقد لا يبقى له منه شيء, وإنما كانت آيات كل واحد من نوره صلى الله عليه وسلم لأنه شمس فضل هم كواكب تلك الشمس يظهرن -أي تلك الكواكب- أنوار تلك الشمس للناس في الظلم. فالكواكب ليست مضيئة بالذات وإنما هي مستمدة من الشمس فهي عند غيبة الشمس تظهر نور الشمس، فكذلك الأنبياء قبل وجوده عليه الصلاة والسلام كانوا يظهرون فضله.
__________
بمعنى زاد "لكل إنسان كامل مبعوث" يعني أنه صلى الله عليه وسلم أفاض على جميع من تقدمه من الأنبياء والرسل أحوالا كثيرة، زيادة على ما عندهم من الفضائل، "ويرحم الله الأديب شرف الدين الأبوصيري، فلقد أحسن، حيث قال" في الميمية المشهورة: "وكل آي" جمع آية "أتى الرسل الكرام بها" دالة على نبوتهم، "فإنما اتصلت من نوره" الكائن قبل ظهوره إلى الوجود الخارجي "بهم، فإنه شمس فضل هم كواكبها، يظهرن أنوارها للناس في الظلم".
"قال العلامة" محمد بن محمد "بن مرزوق" في شرحها: "يعني أن كل معجزة أتى بها كل واحد من الرسل، فإنما اتصلت بكل واحد منهم من نور محمد صلى الله عليه وسلم" الذي أوجده الله قبل وجوده في هذا العالم، "وما أحسن قوله: "فإنما اتصلت من نوره بهم، فإنه يعطي أن نوره صلى الله عليه وسلم لم يزل قائما به، ولم ينقص منه شيء، ولو قال: فإنما هي من نوره لتوهم أنه وزع عليهم، وقد لا يبقى له منه شيء، وإنما كانت آيات كل واحد من نوره صلى الله عليه وسلم، لأنه شمس فضل هم كواكب تلك الشمس يظهرن، أي: تلك الكواكب أنوار تلك الشمس للناس في الظلم، فالكواكب ليست مضيئة بالذات، وإنما هي مستمدة من الشمس، فهي عند غيبة الشمس تظهر نور الشمس" ومستند هذا الحدس والتخمين، كما هو معلوم في محل، "فكذلك الأنبياء قبل وجوده عليه الصلاة والسلام كانوا يظهرون فضله" بالصفات التي اشتملوا عليها، وأوصلوها إلى أممهم، فإنها وصلت إليهم من نوره عليه الصلاة والسلام، ومن ذلك إخبارهم عنه بما اشتملت(7/75)
فجميع ما ظهر على الرسل عليهم الصلاة والسلام سواه من الأنوار فإنما هو من نوره الفائض ومدده الواسع من غير أن ينقص منه شيء.
وأول ما ظهر ذلك في آدم عليه السلام، حيث جعله الله تعالى خليفة وأمده بالأسماء كلها من مقام جوامع الكلم التي لمحمد صلى الله عليه وسلم فظهر بعلم الأسماء كلها على الملائكة القائلين: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} [البقرة: 30] ، ثم توالت الخلائف في الأرض
__________
عليه كتبهم من كمالاته وفضائله، "فجميع ما ظهر على يد الرسل عليهم الصلاة والسلام سواه من الأنوار، فإنما هو من نوره الفائض الكثير الذي عم المشارق والمغارب، "ومدده الواسع من غير أن ينقص منه شيء" فيكون ذلك كنور السراج إذا أوقد من نحو شمعة فنورها لم ينقص منه شيء، ونور السراج نشأ عن نورها مع بقاء نورها بمحله، لكن قد يشكل ما قدمه المصنف أول الكتاب، أن نوره صلى الله عليه وسلم قسم أجزاء، وأنه قسم الجزء الرابع إلى كذا وكذا، إلا أن يكون المراد بقوله: قسم زاد فيه، لا أنه قسم نفس النور الذي هو محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأن الظاهر أنه حيث صور نوره بصورة روحانية مماثلة لصورته التي يصير عليها بعد لا يقسمه إليه وإلى غيره.
"وأول ما ظهر ذلك في آدم عليه السلام، حيث جعله الله تعالى خليفة" عنه في تنفيذ أوامره ونواهيه في الأرض، لا لحاجة به تعالى إلى من ينوب، بل لقصور المستخلف عليه عن قبول فيضه وتلقي أمر بلا واسطة، "وأمده بالأسماء"، أي: أسماء المسميات "كلها" حتى القصعة والمغرفة؛ بأن ألقى علمها فيقلبه "من مقام جوامع الكلم التي لمحمد صلى الله عليه وسلم، فظهر بعلم الأسماء كلها على الملائكة القائلين: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا} بالمعاصي {وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} يريقها بالقتل، كما فعل بنو الجان وكانوا فيها، فلما أفسدوا، أرسل الله إليهم الملائكة فطردوهم إلى الجزائر والجبال، "ثم توالت الخلائف في الأرض" أي: تتابعت الرسل بعد آدم وجعل الكلا خلائف، لأن استخلفهم كلهم في عمارة الأرض، والمشهور أن خليفة الله إنما يطلق على آدم وداود لنص القرآن: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} الآية، {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ} الآية، فأما غيرهما فلا, فقد قال رجل لأبي بكر الصديق: يا خليفة الله، فقال: أنا خليفة محمد صلى الله عليه وسلم، وأنا راض بذلك، وقال رجل لعمر: يا خليفة الله! فقال: ويلك، وزجره، وقيل: يجوز إطلاق ذلك على غيرهما أيضًا لقيامه بحقوقه في خلقه، ولقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ} الآية، ولأن الله جعل كلا خليفة، كما جعله سلطانًا، فقد سمع سلطان الله، وجنود الله، وحزب الله، لكن قال الماوردي: امتنع جمهور العلماء من ذلك، ونسبوا قائله إلى الفجور، وفي المصباح:(7/76)
إلى أن وصل إلى زمان وجود صورة جسم نبينا صلى الله عليه وسلم الشريف لأظهار حكم منزلته، فلما برز كان اندرج في نوره كل نور، وانطوى تحت منشور آياته كل آية لغيره من الأنبياء، ودخلت الرسالات كلها في صلب نبوته، والنبوات كلها تحت لواء رسالته، فلم يعط أحد منهم كرامة أو فضيلة إلا وقد أعطي صلى الله عليه وسلم مثلها.
فآدم عليه الصلاة والسلام أعطي أن الله خلقه بيده، فأعطي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم شرح صدره، تولى الله شرح صدره بنفسه، وخلق فيه الإيمان والحكمة، وهو الخلق النبوي، فتولى من آدم الخلق الوجودي ومن سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم الخلق النبوي، مع أن المقصود -كما مر- من خلق آدم خلق نبينا في صلبه، فسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم المقصود وآدم الوسيلة، والمقصود سابق على الوسيلة.
__________
والخليفة بمعنى السلطان الأعظم، يجوز أن يكون فاعلا، لأنه خلف من قبله، أي: جاء بعده، ويجوز أن يكون مفعولا، لأن الله جعله خليفة، أو لأنه جاء بعد غيره "إلى أن وصل" حال الخلائف، وهو ما جاءوا به من الأحكام والشرائع، "إلى زمان وجود صورة: جسم نبينا صلى الله عليه وسلم الشريف" صفة لجسم أو نبينا، "لإظهار حكم منزلته" أي: مقدارها وشرفها عند الله، "فلما برز" ظهر "اندرج في نوره كل نور" لغلبته عليه، "وانطوى تحت منشور آياته كل آية لغيره من الأنبياء، ودخلت الرسالات كلها في صلب نبوته، والنبوات كلها تحت لواء" علم "رسالته، فلم يعط أحد منهم كرامة أو فضيلة إلا وقد أعطي صلى الله عليه وسلم مثلها" فجمع فيه ما فرق فيهم، وهذه خصوصية مع زيادته عليهم، ولما ذكر أن الله جمع له عليه السلام خصائص الأنبياء وزاده عليهم فضل بعض ذلك، وهو في غالبه تابع، لأن المنير في معراجه، فقال: "فآدم عليه الصلاة والسلام أعطي أن الله خلقه بيده" من أديم الأرض، أي: وجهها بأن قبض منها قبضة من جميع ألوانها، وعجنت بالمياه المختلفة وسواه، ونفخ فيه الروح، فصار حيوانًا حساسًا بعد أن كان جمادًا، "فأعطي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم شرح صدره، تولى الله شرح صدره بنفسه" أي: ذاته، وفي إطلاق النفس على الله خلاف والأصح الجواز، "وخلق فيه الإيمان والحكمة، وهو الخلق النبوي، فتولى من آدم الخلق الوجودي، ومن سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم الخلق النبوي.
زاد ابن المنير: وهو بالحقيقة متولي كل خلق، لكن المراد تخصيص التشريف وهو أعلى، "مع أن المقصود، كما مر" من قوله تعالى لآدم: "لولاه ما خلقتك"، "من خلق آدم خلق نبينا في صلبه فسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم المقصود وآدم الوسيلة، والمقصود سابق على الوسيلة" فلا شك في أنه أجل.(7/77)
وأما سجود الملائكة لآدم، فقال الإمام فخر الدين الرازي في تفسيره: إن الملائكة أمروا بالسجود لآدم لأجل نور نبينا محمد صلى الله عليه وسلم كان في جبهته، ولله در القائل:
تجليت جل الله في وجه آدم ... فصلى له الأملاك حين توسل
وعن أبي عثمان الواعظ، فيما حكاه الفاكهاني قال: سمعت الإمام سهل بن محمد يقول: هذا التشريف الذي شرف الله به محمدًا صلى الله عليه وسلم بقوله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} [الأحزاب: 56] ، أجمع من تشريف آدم عليه الصلاة والسلام بأمر الملائكة له بالسجود، لأنه لا يجوز أن يكون الله مع الملائكة في ذلك التشريف، فتشريف يصدر عنه تعالى وعن الملائكة والمؤمنين أبلغ من تشريف تختص به الملائكة، انتهى.
قال بعضهم: وأما تعليم آدم أسماء كل شيء، فروى الديلمي في مسند الفردوس من حديث أبي رافع
__________
"وأما سجود الملائكة لآدم فقال الإمام فخر الدين الرازي في تفسيره: إن الملائكة أمروا بالسجود لآدم، لأجل نور نبينا محمد صلى الله عليه وسلم كان في جبهته" ظاهرًا، "ولله در القائل: تجليت جل الله" جملة معترضة "في وجه، آدم، فصلى" سجد "له الأملاك حين توصل" وقال ابن المنير: نظيره إنجاد الملائكة للمصطفى، فإنه أنزلهم له جندًا وأعوانًا تحت لوائه، وأنصارًا في طاعته، والأسجاد والأنجاد متقاربان، وورد أنه صلى الله عليه وسلم صلى بالملائكة، بل ورد أن الملائكة تصلي بصلاة آحاد أمته، ائتمامًا بهم، وسجودًا خلفهم، وهذا غاية الكرامة في هذا المعنى.
"وعن أبي عثمان الوعظ فيما حكاه الفاكهاني، قال" أبو عثمان "سمعت الإمام سهل بن محمد يقول: هذا التشريف الذي شرف الله به محمدًا صلى الله عليه وسلم بقوله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} الآية، أتم وأجمع من تشريف آدم عليه الصلاة والسلام، بأمر الملائكة بالسجود له، لأنه لا يجوز أن يكون الله مع الملائكة في ذلك التشريف" لاستحالته في حقه سبحانه، إذ السجود من صفات الأجسام، "فتشريف يصدر عنه تعالى وعن الملائكة والمؤمنين أبلغ مع تشريف تختص به الملائكة" وهو السجود، "انتهى".
"قال بعضهم" وهو الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني: "وأما تعليم آدم أسماء كل شيء، فروى الديلمي في مسند الفردوس من حديث أبي رافع" والحاكم، والديلمي أيضًا من(7/78)
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مثلت لي أمتي في الماء والطين، وعلمت الأسماء كلها كما علم آدم الأسماء كلها" فكما أن آدم عليه الصلاة والسلام علم أسماء العلوم كلها كذلك نبينا صلى الله عليه وسلم، وزاد عليه -واصل الله صلاته وسلامه عليه- بعلم ذواتها. ولله در الأبوصيري حيث قال:
لك ذات العلوم من عالم الغيـ ... ـب ومنها لآدم الأسماء
ولا ريب أن المسميات أعلى رتبة من الأسماء لأن الأسماء يؤتى بها لتبين المسميات، فهي المقصودة بالذات وإليه الإيماء بقوله: ذات العلوم، والأسماء مقصودة لغيرها فهي دونها، ففضل العلم بحسب فضل معلومه.
وأما إدريس عليه الصلاة والسلام.
__________
حديث أم حبيبة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مثلت لي أمتي" وفي رواية: الدنيا بدل أمتي، "في الماء والطين وعلمت الأسماء كلها كما علم آدم الأسماء كلها".
وروى الطبراني والضياء المقدسي، عن حذيفة بن أسيد بن خالد الغفاري، قال: قال صلى الله عليه وسلم: "عرضت علي أمتي البارحة لدى هذه الحجرة" بالضم أي: عندها، "أولها وآخرها"، فقيل: يا رسول الله عرض عليك من خلق، فكيف من لم يخلق؟ فقال: "صوروا لي في الطين، حتى أني لأعرف بالإنسان منهم من أحدكم بصاحبه"، "فكما أن آدم عليه الصلاة والسلام علم أسماء العلوم كلها، كذلك نبينا صلى الله عليه وسلم، وزاد عليه: واصل الله صلاته وسلامه عليه بعلم ذواتها" متعلق بزاد، "ولله در الأبوصيري حيث قال" في الهمزية: "لك" لا لغيرك "ذات" نفس وحقيقة "العلوم" جمع علم، وهو هنا صفة ينجلي بها المذكور لمن قامت به انجلاء تامًا، والإدراك الجازم الذي لا يحتمل النقيض "من" فيض "عالم الغيب" الغائب، وهو ما لم يشاهد بالنسبة إلينا، وأما بالنسبة إليه تعالى، فالكل من عالم الشهادة، "ومنها" أي: العلوم بمعنى المعلومات "لآدم" أبي البشر "الأسماء" مبتدأ مؤخر خبره منها، جمع اسم، وهو هنا ما دل على معنى فيشمل الفعل والحروف أيضًا، "لا ريب أن المسميات أعلى رتبة من الأسماء، لأن الأسماء يؤتى بها لتبين المسميات، فهي المقصودة بالذات، وإليه الإيماء بقوله: ذات العلوم والأسماء مقصودة لغيرها" وهي المسميات، "فهي دونها، ففضل العالم بحسب فضل معلومه" فهو أفضل من آدم.
"وأما إدريس عليه الصلاة والسلام" قيل: سرياني، وقيل: عربي مشتق لكثرة درسه الصحف، واسمه خنوخ، بخاءين معجمتين بينهما نون، فواو، ويقال: أخنوخ، بألف أوله، ابن(7/79)
فرفعه الله مكانًا عليًا، فأعطي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم المعراج، ورفع إلى مكان لم يرفع إليه غيره.
وأما نوح عليه الصلاة والسلام فنجاه الله تعالى ومن آمن معه من الغرق ونجاه من الخسف، فأعطي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم أنه لم تهلك أمته بعذاب من السماء. قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} [الأنفال: 33] .
وأما قول الفخر الرازي في تفسيره: "أكرم الله تعالى نوحًا بأن أمسك سفينته على الماء وفضل محمد صلى الله عليه وسلم أعظم منه. روي أنه صلى الله عليه وسلم كان على شط ماء وقعد عكرمة بن أبي
__________
يارد بن مهلائيل، بن قينان، بن أنوش، بن شيث، بن آدم، وهو أبو جد نوح، كذا ذكر المؤرخون، قال المازري: فإن قام دليل على أنه أرسل، لم يصح قولهم لحديث الصحيحين: "ائتوا نوحًا، فإنه أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض"، وإن لم يقم جازمًا، قالوا: وحمل على أنه كان نبيًا ولم يرسل، وأجيب بأن حديث أبي ذر عند ابن حبان يدل على أن آدم وإدريس رسولان، فالمراد أول رسول بعثه الله بالإهلاك وإنذار قومه، فأما رسالة آدم وشيث وإدريس، فإنما هي رسالة تبليغ الإيمان وطاعة الله، لأنهم لم يكونوا كفارًا "فرفعه الله مكانًا عليًا" قيل: هو الجنة، وقيل: السماء الرابعة، كما ورد في حديث المعراج، وقيل: السادسة، واختلف في أنه في السماء ميت أو حي، وقيل: المراد شرف النبوة والزلفى عند الله، "فأعطي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم المعراج، ورفع إلى مكان لم يرفع إليه غيره" لا رسول ولا ملك.
"وأما نوح عليه الصلاة والسلام" ابن لمك، بفتح اللام، وسكون الميم، وكاف، ابن متوشلخ، بفتح الميم، وضم الفوقية الثقيلة، وسكون الواو، وفتح الشين المعجمة، وإسكان اللام، وآخره خاء معجمة، "فنجاه الله تعالى ومن آمن معه" وما آمن معه إلا قليل، قيل: كانوا ستة رجال ونساءهم، وقيل: كانوا ثمانين، نصفهم رجال، ونصفهم نساء، وهم أصحاب السفينة، "من الغرق، ونجاه من الخسف، فأعطي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم أنه لم تهلك أمته بعذاب من السماء" لأنه رحمة، "قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} الآية، لأن العذاب إذا نزل عم، ولم نعذب أمة إلا بعد خروج نبيها والمؤمنين منها، هكذا في التفسير، ولا يلائمه سياق المصنف.
"وأما قول الفخر الرازي في تفسيره: أكرم الله تعالى نوحًا؛ بأن أمسك سفينته على الماء، وفضل محمد صلى الله عليه وسلم أعظم منه، روي أنه صلى الله عليه وسلم كان على شط ماء، وقعد عكرمة بن أبي(7/80)
جهل فقال: إن كنت صادقًا فادع ذلك الحجر الذي في الجانب الآخر فليسبح ولا يغرق، فأشار إليه صلى الله عليه وسلم فانقلع الحجر من مكانه وسبح حتى صار بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم وشهد له بالرسالة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "يكفيك هذا"؟ , فقال: حتى يرجع إلى مكانه. فلم أره لغيره والله أعلم بحاله.
وأما إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام فكانت عليه نار نمرود بردًا وسلامًا، فأعطي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم نظير ذلك، إطفاء نار الحرب عنه عليه الصلاة والسلام وناهيك بنار حطبها السيوف ووهجها الحتوف وموقدها الجسد ومطلبها الروح والجسد.
__________
جهل" المسلم في فتح مكة، "فقال: إن كنت صادقًا فادع ذلك الحجر الذي في الجانب الآخر، فليسبح" يعوم على الماء، "ولا يغرق، فأشار إليه عليه الصلاة والسلام، فانقلع الحجر من مكانه، وسبح حتى صار بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم، وشهد له بالرسالة فقال النبي صلى الله عليه وسلم" لعكرمة: "يكفيك هذا"؟ , "فقال: حتى يرجع إلى مكانه، فلم آره لغيره، والله أعلم بحاله" أي: الحديث هل هو وارد، أم لا؟
"وأما إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام، فكانت عليه نار نمرود" بالدال مهملة، ومعجمة، وهو أصح لموافقته للقاعدة المنظومة في نحو قوله:
إن تلت الدال صحيحًا ساكنا ... أهملها الفرس وإلا أعجموا
"بردًا وسلامًا" أي: ذات برد وسلام، فحذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه، أي: ابردي بردًا غير ضار، ولو لم يقل سلامًا لمات من بردها، فذهبت حرارتها، وبقيت إضاءتها، ولم يحترق غير وثاقه، والقصة طويلة في التفاسير والتواريخ، "فأعطي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم نظير ذلك إطفاء نار الحرب عنه عليه الصلاة والسلام"، أي: إبطال مكائدهم التي كانوا يديرونها لحربه بأن يوقع بينهم منازعة يكفون بها عنه شرهم، "وناهيك" أنهاك "بنار حطبها" أي: المستعان به فيها، بحيث يؤثر هلاك الأعداء، وهو "السيوف" فهي مستعملة في حقيقته والحطب مجاز عن الأسباب المؤثرة فيها، "ووهجها" بفتحتين حرها "الحتوف" جمع حتف وهو الهلاك، والمعنى: أن الأسباب المؤثرة هي السيوف والآثار المترتبة عليها، المشبهة لحرارة النار في التأثير هي الهلاك، "وموقدها" أي: السبب في وجودها "الحسد ومطلبها" مصدر ميمي بمعنى اسم المفعول، أي: الأمر الذي أريد بتلك الحروب وبآثارها هو "الروح والجسد" والمعنى: أنهاك بنار موصوفة بما ذكر عن تطلب معجزة تقاوم نار الخليل غير هذه، أي: إنها(7/81)
قال تعالى: {كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ} [المائدة: 64] فكم أرادوا أن يطفئوا النور بالنار، وأبى الجبار إلا أن يتم نوره وأن يخمد شرورهم ويحمد لمحمد صلى الله عليه وسلم سروره وظهوره.
ويذكر أنه عليه الصلاة والسلام ليلة المعراج مر على بحر النار الذي دون سماء الدنيا مع سلامته منه، كما روي مما رأيته في بعض الكتب.
وروى النسائي أن محمد بن حاطب
__________
غاية تنهاك عن تطلب غيرها.
"قال تعالى: {كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ} الآية، قال البيضاوي: كلما أرادوا حرب الرسول وإثارة شر عليه، ردهم الله، بأن أوقع بينهم منازعة، كف بها عنه شرهم، أو كلما أرادوا حرب أحد غلبوا، فإنهم لما خالفوا حكم التوراة سلط الله عليهم بختنصر، ثم أفسدوا، فسلط عليهم قطرس الرومي، ثم أفسدوا، فسلط عليهم المجوس، ثم أفسدوا، فسلط عليهم المسلمين، وللحرب صلة أوقدوا أو صفة نارًا، انتهى. "فكم" للتكثير، أي: فكثيرًا "أرادوا أن يطفئوا النور"، وهو حجته الدالة على وحدانيته وتقدسه عن الولد أن القرآن، أو نبوة محمد صلى الله عليه وسلم "بالنار" أي: محاربتهم ومعاداتهم له صلى الله عليه وسلم، "وأبى الجبار إلا أن يتم نوره" يظهر شرعه وبراهين نبيه وإعلاء دينه، "وأن يخمد" بضم الياء من أخمد، أي: يسكن "شرورهم" ويبطلها، شبه إبطال شرورهم بإطفاء النار، واستعار له الإخماد ثم اشتق منه الفعل، وهو يخمد، فهو استعارة تبعية، أو شبه الشرور بعد إبطالها بنار أطفئ لهبها، ثم أثبت له الإخماد، فهو استعارة بالكناية وتخييلية، "ويحمد لمحمد صلى الله عليه وسلم سروره وظهروه، بالثناء على ما جاء به، وعلى ما حصل له من النصر على أعدائه، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة: 33] الآية، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على حقية ما جاء به، وهذا النظير والسجع بعده جلبه المصنف من معراج ابن المنير، كغالب هذا المبحث، "ويذكر أنه عليه السلام ليلة المعراج مر على بحر النار" بأن سار مستعليًا عليه، حتى جاوزه "الذي دون سماء الدنيا مع سلامته منه، كما روي مما رأيته في بعض الكتب" والله أعلم بصحته.
"وروى النسائي أن محمد بن حاطب" بن الحارث بن معمر بن حبيب الجمحي، الكوفي، صحابي صغير، ولد بالسفينة قبل أن يصلوا إلى الحبشة، وهو أول من سمي محمدًا في الإسلام، واختلف في أن كنيته أبو القاسم أو أبو إبراهيم، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن علي وعن(7/82)
قال: كنت طفلا فانصب القدر علي واحترق جلدي كله، فحملني أبي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فتفل عليه الصلاة والسلام في جلدي ومسح بيده على المحترق وقال: "أذهب البأس رب الناس"، فصرت صحيحًا لا بأس بي.
__________
أمه أم جميل، وعنه أولاده إبراهيم، وعمر، والحارث، وغيرهم ومات سنة أربع وسبعين، وقيل: سنة ست وثمانين، "قال: كنت طفلا، فانصبت القدر" التي كانت أمه تطبخ فيها "على" أي: على ذراعي، "واحترق جلدي كله، فحملني أبي" فيه، إن أباه مات بأرض الحبشة، وقدمت بها جميل القرشية، العامرية، من السابقات المهاجرات إلى المدينة مع أهل السفينة، كما في الإصابة وغيرها، والذي في الروايات أن الآتي به "إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم" أمه، فإن كان لفظ أبي محفوظًا فلعله أراد به أباه من الرضاعة جعفر بن أبي طالب، فقد ذكر ابن أبي خيثمة، كما في الإصابة، أن أسماء بنت عميس أرضعت محمد بن حاطب مع ابنها عبد الله بن جعفر، وأرضعت أم محمد عبد الله بن جعفر، فنسب القدوم إليه تارة، وإلى أمه أخرى، "فتفل عليه الصلاة والسلام في جلدي، ومسح بيده على المحترق" أي: المواضع التي مستها النار، فأثرت فيها، ولا ينافيه قوله قبل: احترق جلدي كله، لجواز أن ما جاور ما مسته النار من جلده، صار إليه ألم مما مسته النار، فسماه محروقًا كله لوصول الألم إليه، وال: "أذهب البأس" بالموحدة، أي: الشدة، أي ما أصاب جلده من أثر النار عن هذا يا "رب الناس" والجملة دعائية، "فصرت صحيحًا لا بأس بي".
وأخرج الإمام أحمد والبخاري في التاريخ، والنسائي وغيرهم، عن محمد، بن حاطب عن أمه أم جميل، قالت: أقبلت بك من أرض الحبشة حتى إذا كنت من المدينة على ليلة أو ليلتين طبخت لك طبيخًا، ففي الحطب، فخرجت أطلب الحطب، فتناولت القدرة، فانكفأت على ذراعك، فأتيت بك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله! هذا ابن أخيك، وقد أصابه هذا الحرق من النار، فادع له، وفي رواية: فقلت: هذا محمد بن حاطب، وهو أول من سمي بك، قالت: فمسح على رأسك، ودعا لك بالبركة، وجعل يتفل على يدك، وهو يقول: "أذهب البأس رب الناس، اشف أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك شفاء لا يغادر سقما"، قالت: فما قمت بك من عنده حتى برأت يدك، وقد خمدت نار فارس لنبينا، وكان لها ألف عام لم تخمد.
وروى ابن سعد عن عمرو بن ميمون، قال: أحرق المشركون عمار بن ياسر بالنار، فكان صلى الله عليه وسلم يمر به، ويمر يده على رأسه، فيقول: "يا نار كوني بردًا وسلامًا على عمار، كما كنت على إبراهيم، تقتلك الفئة الباغية".
وروى أبو نعيم عن عباد بن عبد الصمد: أتينا أنس بن مالك، قال: يا جارية هلمي المائدة(7/83)
وأما ما أعطيه إبراهيم عليه الصلاة والسلام من مقام الخلة فقد أعطيه نبينا صلى الله عليه وسلم، وزاد بمقام المحبة، وقد روي في حديث الشفاعة أن الخليل إبراهيم عليه الصلاة والسلام إذ قيل له: اتخذك الله خليلا فاشفع لنا
__________
نتغدى، فأتت بها، ثم قال: هلمي المنديل، فأتت بمنديل وسخ، فقال: اسجري التنور، فأوقدته فأمر بالمنديل، فطرح فيه، فخرج أبيض كأنه اللبن، فقلنا: ما هذا؟، قال: هذا منديل كان صلى الله عليه وسلم يمسح به وجهه، فإذا اتسخ صنعنا به هكذا، لأن النار لا تأكل شيئًا مر على وجوه الأنبياء، وألقى غير واحد من أمته في النار، فلم تؤثر فيه.
روى ابن وهب عن ابن لهيعة؛ أن الأسود العنسي لما ادعى النبوة، غلب على صنعاء، أخذ ذؤيب بن كليب بتصغيرها، فألقاه في النار لتصديقه بالنبي صلى الله عليه وسلم، فلم تضره النار، فذكر ذلك النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه، فقال عمر: الحمد لله الذي جعل في أمتنا مثل إبراهيم الخليل، وسماه ابن الكلبي ذؤيب بن وهب، وقال في سياقه: طرحه في النار، فوجده حيًا، ولم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم، وهو مخضرم، أسلم في العهد النبوي، قال عبدان: إنه أول من أسلم من أهل اليمن، ولا أعلم له صحبة.
وروى ابن عساكر: أن الأسود بن قيس، بعث إلى أبي مسلم الخولاني، فأتاه، فقال: "أتشهد أني رسول الله؟ "، قال: ما أسمع، قال: "أتشهد أن محمدًا رسول الله؟ "، قال: نعم فأتى بنار عظيمة، فألقاه فيها، فلم تضره، فقيل للأسود إن لم تنف هذا عنك أفسد عليك من اتبعك، فأمر بالرحيل، فقدم المدينة، وقد قبض النبي صلى اله عليه وسلم، واستخلف أبو بكر، فقال أبو بكر: الحمد لله الذي ألبثني حتى أراني في أمة محمد من صنع به، كما صنع بإبراهيم.
"وأما ما أعطيه إبراهيم عليه الصلاة والسلام من مقام الخلة" بفتح الخاء وضمها: الصداقة، "فقد أعطيه نبينا صلى الله عليه وسلم، وزاد بمقام المحبة" فجمع له بينهما، روى أبو يعلى في حديث المعراج، فقال له ربه: اتخذتك خليلا وحبيبًا، وفي التوراة: محمد حبيب الله، وروى ابن ماجه وأبو نعيم مرفوعًا: "أن الله اتخذني خليلا، كما اتخذ إبراهيم خليلا، فمنزلي ومنزل إبراهيم في الجنة تجاهين، والعباس بيننا، مؤمن بين خليلين".
وروى أبو نعيم عن كعب بن مالك: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول قبل وفاته بخمس: "إن الله اتخذ صاحبكم خليلا".
"وقد روي في حديث الشفاعة؛ أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام إذا قيل له: اتخذك الله خليلا" أي: اصطفاك وخصك بكرامة تشبه كرامة الخليل عند خليله، "فاشفع لنا" في(7/84)
قال: "إنما كنت خليلا من وراء وراء" اذهبوا إلى غيري إلى أن تنتهي الشفاعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: "أنا لها، أنا لها"، وهذا يدل على أن نبينا عليه الصلاة والسلام كان خليلا مع رفع الحجاب وكشف الغطاء ولو كان خليلا من وراء لاعتذر كما اعتذر إبراهيم عليه الصلاة والسلام, وفيه تنبيه ظاهر على أنه عليه الصلاة والسلام فاز برؤية الحق سبحانه وتعالى وكشف له الغطاء حتى رأى الحق بعيني رأسه، كما سيأتي البحث في ذلك إن شاء الله تعالى في المقصد الخامس.
والملخص من هذا: أن النبي صلى الله عليه وسلم نال درجة الخلة التي اشتهرت لإبراهيم عليه الصلاة والسلام على وجه نطق إبراهيم بأن نصيب سيدنا محمد عليه الصلاة
__________
فصل القضاء، "قال: إنما كنت خليلا من وراء وراء" ضبط بفتح الهمزة وضمها بلا تنوين، فيهما بناء، قال النووي: الفتح أشهر، ومعناه: لم أكن في التقرب والإدلال بمنزلة الحبيب، وقال صاحب التحرير: هذه كلمة تقال على وجه التواضع، قاله في البدور، وقيل: مراده أن الفضل الذي أعطيه كان بسفارة جبريل، ولكن ائتوا موسى الذي كلمه الله بلا واسطة، وكرر وراء إشارة إلى نبينا صلى الله عليه وسلم؛ لأنه حصلت له الرؤية والسماع بلا واسطة، فكأنه قال: أنا من وراء موسى الذي هو من وراء محمد، حكاه المصنف فيما يأتي قائلا: وراء بفتح الهمزة بلا تنوين، ويجوز البناء على الضم للقطع عن الإضافة نحو من قبل ومن بعد، واختاره أبو البقاء.
قال الأخفش: يقال لقيته من وراء بالضم، ثم قال: ويجوز فيها النصب والتنوين جوازًا جيدًا، قاله أبو عبد الله الأبي. "اذهبوا إلى غيري" فيذهبون إلى موسى وعيسى إلى أن تنتهي الشفاعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فيقول: "أنا لها أنا لها" بالتكرير، وصرفوا عن الإتيان له ابتداء، مع أنه صاحبها إذاعة لفضله على رءوس الخلائق، "وهذا يدل على أن نبينا عليه الصلاة والسلام كان خليلا مع رفع الحجاب" عنه، "وكشف الغطاء" له، "ولو كان خليلا من وراء وراء لاعتذر، كما اعتذر إبراهيم عليه الصلاة والسلام وفيه تنبيه ظاهر على أنه عليه الصلاة والسلام فاز برؤية الحق سبحانه وتعالى، وكشف له الغطاء" ليلة الإسراء، "حتى رأى الحق" رؤية بصرية "بعيني رأسه"على المذهب المشهور، وقال به ابن عباس نفيا لمن قال بعيني قلبه، وإذا جوزه العقل، وشهد به النقل لم يبق للاستبعاد موقع ولا للإنكار موضع، "كما سيأتي البحث في ذلك إن شاء الله تعالى في المقصد الخامس، والملخص من هذا؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم نال درجة الخلة التي اشتهرت لإبراهيم عليه الصلاة والسلام" بقوله تعالى: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} الآية، "على وجه نطق إبراهيم؛ بأن نصيب سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام منه الأعلى، بمفهوم قوله عن نفسه: إنما كنت خليلا من وراء وراء، فلم يشفع وفيه دليل على(7/85)
والسلام منه الأعلى، بمفهوم قوله عن نفسه: "إنما كنت خليلا من وراء وراء، فلم يشفع وفيه دليل على أنه إنما يشفع من كان خليلا لا من وراء وراء، بل مع الكشف والعيان وقرب المكانة من حظيرة القدس، لا المكان، وذلك مقام محمد صلى الله عليه وسلم بالدليل والبرهان.
ومما أعطيه إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وانفراده في الأرض بعبادة الله وتوحيده، والانتصاب للأصنام بالكسر والقسر، أعطي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم كسرها بمحضر من أولي نصرها بقضيب ليس مما يكسر إلا بقوة ربانية ومادة إلهية، اجتراء فيها بالأنفاس من الفاس، وما عول على المعول، لا عرض في القول ولا تمرض من الصول بل قال جهرًا بغير سر: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء: 81] .
ومما أعطيه الخليل عليه الصلاة والسلام بناء البيت الحرام، ولا خفاء أن البيت
__________
أنه إنما يشفع من كان خليلا لا من وراء وراء، بل مع الكشف والعيان وقرب المكانة من حظيرة القدس لا المكان" لاستحالته عليه تعالى: "وذلك مقام محمد صلى الله عليه وسلم بالدليل والبرهان" وهذا ساقه كله ابن المنير في المعراج، والله المستعان.
"ومما أعطيه إبراهيم عليه الصلاة والسلام انفراده في الأرض بعبادة الله، وتوحيده، والانتصاب للأصنام بالكسر والقسر" بفتح القاف، وسكون السين، وبالراء: القهر والغلبة، "أعطي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم كسرها بمحضر من أولي نصرها" وهم أذلاء لا يستطيعون نصرها "بقضيب ليس مما يكسر إلا" بمعنى، لكن "بقوة ربانية ومادة إلهية، اجتراء" أي: اكتفاء "فيها بالأنفاس من الفاس وما عول على المعول" كما فعل إبراهيم حيث علقه في عنق كبيرهم الذي تركه لعلهم إليه يرجعون، "ولا عرض في القول" كتعريض إبراهيم بقوله: بل فعله كبيرهم هذا، "ولا تمرض من الصول" أي: لم يظهر مرضًا لأجل الصول على تلك الأصنام، كما فعل إبراهيم، حيث قال: إني سقيم، اعتذارًا عن عدم خروجه معهم إلى عيدهم، وجعل ذلك، وسيلة إلى كسر الأصنام في غيبتهم، "بل قال جهرًا بغير سر" زيادة إطناب، {َقُلْ} عند دخول مكة {جَاءَ الْحَقُّ} الإسلام، {وَزَهَقَ الْبَاطِلُ} بطل الكفر، {إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} مضمحلا زائدًا، وقد دخلها صلى الله عليه وسلم وحول البيت ثلاثمائة وستون صنمًا، فجعل يطعنها بعود في يده ويقول ذلك حتى سقطت، رواه الشيخان، وتقدم بسطه في فتح مكة.
"ومما أعطيه الخليل عليه الصلاة والسلام بناء البيت الحرام" الذي بوأه الله له، "ولا خفاء أن البيت جسد" تشبيه بليغ، "وروحه الحجر الأسود، بل هو سويداء القلب، بل(7/86)
جسد وروحه الحجر الأسود بل هو سويداء القلب، بل جاء "أنه يمين الرب" كناية عن استلامه كما تستلم الأيمان عند عقد العهود والأيمان، وقد أعطي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم أن قريشًا لما بنت البيت بعد تهدمه ولم يبق إلا وضع الحجر تنافسوا على الفخر الفخم والمجد الضخم، ثم اتفقوا على أن يحكموا أول داخل، فاتفق دخول سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام فقالوا: هذا الأمين، فحكموه في ذلك فأمر ببسط ثوب ووضع الحجر فيه ثم قال: يرفع كل بطن بطرف، فرفعوه جميعًا، ثم أخذه سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم فوضعه في موضعه، فادخر الله له ذلك المقام ليكون منقبة له على مدى الأيام.
وأما ما أعطيه موسى عليه الصلاة والسلام من قلب العصا حية غير ناطقة، فأعطي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم حنين الجذع، وقد.
__________
جاء أنه يمين الرب", كما روى الديلمي عن أنس مرفوعًا: "الحجر يمين الله، فمن مسحه فقد بايع الله" "كناية عن استلامه، كما تستلم الأيمان" الأيمان، بالفتح: جمع يمين العضو المخصوص، "عند عقد العهود، والأيمان" بالفتح أيضًا بمعنى القسم، والمعنى: أنه يستلم باليد من أراد عهدًا أو يمينًا يمين صاحبه عند معاهدة غيره، واللف كما كان عادتهم، "وقد أعطي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم أن قريشًا لما بنت البيت بعد تهدمه" بسيل أو غيره، "ولم يبق إلا وضع الحجر" في محله، "تنافسوا على الفخر الفخم" العظيم القدر، "والمجد" العز والشرف "الضخم" العظيم فالفخم والضخم مختلفان مفهومًا: متحدان ما صدقا، "ثم اتفقوا على أن يحكموا أول داخل" من باب بني شيبة، "فاتفق دخول سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام، فقالوا: هذا الأمين" رضينا بحكمه، "فحكموه في ذلك، فأمر ببسط ثوب، ووضع" النبي صلى الله عليه وسلم "الحجر فيه" أي: الثوب بيده الكريمة، فعند ابن إسحاق فقالوا: هذا الأمين رضينا، وأخبروه الخبر، فقال: "هلم إلي ثوبًا" فأتى به، فأخذ الركن، فوضعه فيه بيده، ثم قال: "يرفع" وفي نسخة: ليرفع، أي: ليأخذ "كل بطن" من بطون قريش، "بطرف" في رواية: "لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب"، فرفعوه جميعًا، ثم لما بلغوا به موضعه، "أخذه سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، فوضعه في موضعه، فادخر الله له ذلك المقام ليكون منقبة له على مدى الأيام" وكان سنه خمسًا وثلاثين سنة على الأشهر، وهذا الذي ذكره المصنف أيضًا لفظ ابن المنير.
وأما ما أعطيه موسى عليه الصلاة والسلام منقلب العصا حية" وتقدم ذكر ذلك قريبًا أول المعجزات وأعاد الشارح نقله هنا "غير ناطقة" لعل ذكره مع أنه لازم للحية، لبيان التفاضل بين المعجزتين، وهو أن العصا لم تنطق لموسى، بخلاف الجذع، فنطق للمصطفى بكلام حتى سمعه من يليه زيادة على الحنين، كما مر، "فأعطي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم حنين الجذع، وقد(7/87)
مرت قصته.
وحكى الإمام الرازي -في تفسيره- وغيره: أنه لما أراد أبو جهل أن يرميه عليه الصلاة والسلام بالحجر رأى على كتفيه ثعابين فانصرف مرعوبًا.
وأما ما أعطيه موسى عليه الصلاة والسلام أيضًا من اليد البيضاء، وكان بياضها يغشى البصر، فأعطي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم أنه لم يزل نورًا ينتقل في أصلاب الآباء وبطون الأمهات من لدن آدم إلى أن انتقل إلى عبد الله أبيه. وأعطى صلى الله عليه وسلم قتادة بن النعمان وقد صلى العشاء في ليلة مظلمة مطيرة عرجونًا وقال: "انطلق به فإنه سيضيء لك من بين يديك عشرًا، ومن خلفك عشرًا
__________
مرت قصته" قريبًا.
"وحكى الإمام الرازي في تفسيره وغيره: أنه لما أراد أبو جهل أن يرميه عليه الصلاة والسلام بالحجر رأى على كتفيه" بالتثنية، أي: النبي عليه السلام، وفي نسخة: كتفه بالإفراد على إرادة الجنس "ثعابين، فانصرف مرعوبًا" كما انصرف فرعون مرعوبًا من العصا، ولما كان أشد الفراعنة رأى ثعبانين.
"وأما ما أعطي موسى عليه الصلاة والسلام أيضًا من اليد البيضاء" اليمنى، بمعنى الكف، كما قال تعالى: {وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} [طه: 22] الآية، فأدخلها تحت جناحه، أي: جنبه الأيسر تحت الإبط، أو في جيبه، ثم نزعها، فإذا هي بيضاء نورانية من غير سوء، أي: برص، "وكان بياضها يغشى البصر" وغلب شعاعها شعاع الشمس، وكان موسى آدم شديد الأدمة، أي: السمرة: "فأعطي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم؛ أنه لم يزل نورًا ينتقل في أصلاب الآباء، وبطون الأمهات، من لدن آدم إلى أن انتقل إلى عبد الله أبيه" ثم منه إلى آمنة أمه، وكان بينا ظاهرًا في جباههم، "وأعطى صلى الله عليه وسلم قتادة بن النعان" الأوسي، البدري، "والحال أنه "قد صلى العشاء في ليلة مظلمة مطيرة" فعيلة بمعنى فاعلة، وإسناد المطر إليها مجاز، ولا يقال إنها بمعنى مفعولة، أي: ممطور فيها، لوجود الهاء، إذ لا يقال ممطورة فيها، قال الكرماني. "عرجونًا" أصل العذق الذي يعوج، وتقطع منه الشماريخ، فيبقى على النخل يابسًا، سمي بذلك لانعراجه وانعطافه، ونونه زائدة، وقال: "انطلق به، فإنه سيضيء لك من بين يديك عشرًا" من الأذرع، "ومن خلفك عشرًا" من الأذرع، هذا هو المتبادر، ومثله لا ينظر فيه، وذلك أعظم من اليد، فإن خلق الضوء في العرجون(7/88)
فإذا دخلت بيتك فسترى سوادًا فاضربه عشرًا، حتى يخرج فإنه الشيطان"، فانطلق فأضاء له العرجون حتى دخل بيته ووجد السواد وضربه حتى خرج. رواه أبو نعيم.
وأخرج البيهقي، وصححه الحاكم عن أنس: كان عباد بن بشر وأسيد بن حضير عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في حاجة: حتى ذهب من الليل ساعة، وهي ليلة شديدة الظلمة، ثم خرجا وبيد كل واحد منهما عصا, فأضاءت لهما عصا أحدهما، فمشيا في ضوئها
__________
على هذا الوجه أعظم من البياض الذي في اليد، "فإذا دخلت بيتك فسترى سوادًا، فاضربه حتى يخرج، فإنه الشيطان" على غير صورته الأصلية، فلا ينافيه قوله تعالى: {مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ} الآية، قال البيضاوي: ورؤيتهم إيانا من حيث لا نراهم في الجملة، لا تقتضي امتناع رؤيتهم وتمثلهم لنا، "فانطلق، فأضاء له العرجون حتى دخل بيته، ووجد السواد، وضربه حتى خرج، رواه أبو نعيم".
وأخرج أحمد عن أبي سعيد، قال: هاجت السماء، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم لصلاة العشاء، فبرقت فرأى قتادة بن النعمان، فقال: "ما السري يا قتادة"؟ قال: يا رسول الله! إن شاهد العشاء قليل، فأحببت أن أشهدها، قال: "فإذا صليت فأت" فلما انصرف أعطاه عرجونًا، فقال: "خذ هذا، فسيضيء لك، فإذا دخلت البيت ورأيت سوادًا في زاوية البيت فاضربه قبل أن تتكلم، فإنه شيطان" وأخرج هذه القصة الطبراني، وقال: إنه كان في صورة قنفذ.
"وأخرج البيهقي، وصححه الحاكم عن أنس، قال: كان عباد" بفتح العين، وشد الموحدة "ابن بشر" بكسر الموحدة، وسكون المعجمة، ووقع للقابسي بشير، بفتح أوله، وكسر ثانيه، وزيادة تحتية، وهو غلط نبه عليه في الفتح ابن وقش، بفتح الواو، والقاف، ومعجمة الأنصاري من قدماء الصحابة، أسلم قبل الهجرة، وشهد بدرًا، وأبلى يوم اليمامة بلاء حسنًا، فاستشهد بها، "وأسيد" بضم الهمزة، وفتح السين، "ابن حضير" بضم المهملة، وفتح الضاد المعجمة، ابن سماك الأنصاري، الأشهلي، صحابي جليل، مات سنة عشرين أو إحدى وعشرين، روى البخاري في تاريخه، وأبو يعلى، وصححه الحاكم عن عائشة، قالت: ثلاثة من الأنصار لم يكن أحد يعقد عليهم فضلا، كلهم من بني عبد الأشهل: سعد بن معاذ، وأسيد بن حضر، وعباد بن بشر. "عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في حاجة" ولعبد الرزاق، تحدثا عنده "حتى ذهب من الليل ساعة، وهي ليلة شديدة الظلمة، ثم خرجا وبيد كل واحد منهما عصا، فأضاءت لهما عصا أحدهما، فمشيا في ضوئها" إكرامًا لهما ببركة نبيهما، آية له صلى لله عليه وسلم، إذ خص بعض أتباعه(7/89)
حتى إذا افترقت بهما الطريق أضاءت للآخر عصاه، فمشي كل واحد منهما في ضوء عصاه حتى بلغ هديه، ورواه البخاري بنحوه في الصحيح.
وأخرج البخاري في تاريخه والبيهقي وأبو نعيم عن حمزة الأسلمي قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فتفرقنا في ليلة ظلماء، فأضاءت أصابعي حتى جمعوا عليها ظهرهم وما هلك منهم وإن أصابعي لتنير.
__________
بهذه الكرامة عند الاحتياج إلى النور وإظهار السر، قوله صلى الله عليه وسلم: "بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة". رواه أبو داود وغيره وادخر لهما يوم القيامة ما هو أعظم وأتم من ذلك، "حتى إذا افترقت بهما الطريق أضاءت للآخر عصاه، فمشى كل واحد منهما في ضوء عصاه حتى بلغ هديه" أي: مقصده الذي لا يحتاج بعد الوصول إلى ما يرشده، لكن الذي في فتح الباري والمصنف وغيرهما أهله بدل هديه، "ورواه البخاري بنحوه في الصحيح" من رواية قتادة عن أنس: أن رجلين خرجا من عند النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا نور بين أيديهما يضيء حتى تفرقا، فتفرق النور معهما لفظ المناقب، ولفظه في الصلاة وعلامات النبوة: ومعها مثل المصباحين يضيئان بين أيديهما فلما افترقا صار مع كل واحد منهما واحد حتى أتى أهله، قال البخاري في المناقب: وقال معمر عن ثابت عن أنس، أن أسيد بن حضير، ورجلا من الأنصار. وقال حماد: أخبرنا ثابت عن أنس، قال: كان أسيد بن حضير وعباد بن بشر عند الني صلى الله عليه وسلم.
قال الحافظ: رواية معمر، وصلها عبد الرزاق عنه ومن طريقه الإسماعيلي بلفظ فذكره أعني الحافظ مثل سياق المصنف، قال: ورواية حماد وصلها أحمد والحاكم بلفظ: إن أسيد بن حضير، وعبادًا كانا عند النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة ظلماء حندس، فلما خرجا أضاءت عصا أحدهما، فمشيا في ضوئها، فلما افترقت بهما الطرق، أضاءت عصا الآخر.
"وأخرج البخاري في تاريخه، والبيهقي وأبو نعيم عن حمزة" بحاء مهملة، ابن عمرو بن عويمر بن الحارث بن سعد "الأسلمي" المدني، كنيته أبو صالح، وقيل: أبو محمد، صحابي جليل، سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الصوم في السفر، وكان يسرد الصوم، روى عنه أبو مراوح، مات سنة إحدى وستين، وله إحدى وسبعون، وقيل: ثمانون له في مسلم، والترمذي، والنسائي، وعلق له البخاري، "قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، فتفرقنا في ليلة ظلماء، فأضاءت أصابعي حتى جمعوا عليها ظهرهم" أي: ركابهم، "وما هلك" أي: أشرف على الهلاك "منهم" بسبب تفرقهم لما أصابهم من شدة الظلمة، وقد ساقه الشامي بلفظ: وما سقط من متاعهم، وعزاه لمن عزاه له المصنف، فلعلهما روايتان، "وإن أصابعي لتنير" بضم التاء من أنار، أي: تضيء.(7/90)
ومما أعطيه موسى عليه السلام أيضًا انفراق البحر له، أعطي نبينا محمد صلى الله عليه وسلم انشقاق القمر -كما مر- فموسى تصرف في عالم الأرض وسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم تصرف في عالم السماء، والفرق بينهما واضح، وقال ابن المنير: وذكر ابن حبيب أن بين السماء والأرض بحرا يسمى المكفوف، تكون بحار الأرض بالنسبة إليه كالقطرة من البحر المحيط، قال: فعلى هذا يكون ذلك البحر انفلق لنبينا صلى الله عليه وسلم حتى جاوزه -يعني ليلة الإسراء- قال وهو أعظم من انفلاق البحر لموسى عليه الصلاة والسلام.
ومما أعطيه موسى عليه الصلاة والسلام إجابة دعائه، أعطي نبينا صلى الله عليه وسلم من ذلك ما لا يحصى.
__________
"ومما أعطيه موسى عليه السلام أيضًا انفراق البحر له، أعطي نبينا صلى الله عليه وسلم انشقاق القمر، كما مر" فهو نظيره، بل أعظم، "فموسى تصرف في عالم الأرض" بضربه البحر بالعصا، كما أمره الله فانفلق، "وسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم تصرف في عالم السماء" لما سأل الله انشقاق القمر حين طلبوه منه تعنتًا، "والفرق بينهما واضح".
قال ابن المنير: فإذا عرضت الآيتين على العقول حق العرض، سمت آية السماء على آية الأرض، "وقال ابن المنير" في معراجه: "وذكر ابن حبيب" محمد الأخباري: "أن بين السماء والأرض بحرًا يسمى المكفوف، تكون بحار الأرض بالنسبة إليه كالقطرة من البحر المحيط" بالدنيا، وهو الملح.
"قال" ابن المنير: "فعلى هذا" الذي ذكره ابن حبيب، إن صح "يكون ذلك البحر انفلق لنبينا صلى الله عليه وسلم حتى جاوزه" أي: قطعه وفارقه، "يعني: ليلة الإسراء" ومقتضى انفلق؛ أنه صار فرقتين، كما افترق لموسى فرقًا بينهما مسالك، "قال: وهو أعظم من انفلاق البحر لموسى عليه الصلاة والسلام" لأن بحار الأرض قد يقع فيها زوال الماء في مواضع منها، بحيث تصير فرقًا يمشي في الأرض التي بينها والبحر بين السماء والأرض، لا مقر له من الأرض حتى يسلك فيه، بل هو على صفة الله أعلم بها.
"ومما أعطيه موسى عليه الصلاة والسلام إجابة دعائه" في نحو قوله: {رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي، وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي، وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي، يَفْقَهُوا قَوْلِي} الآية، قال الله تعالى: {قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى} , {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ} الآية، "أعطي نبينا صلى الله عليه وسلم من ذلك" إجابة دعائه "ما لا يحصى، ومما أعطيه موسى عليه(7/91)
ومما أعطيه موسى عليه الصلاة والسلام تفجير الماء له من الحجارة، أعطي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم أن الماء تفجر من بين أصابعه، وهذا أبلغ لأن الحجر من جنس الأرض التي ينبع الماء منها، ولم تجر العادة بنبع الماء من اللحم، ويرحم الله القائل:
وكل معجزة للرسل قد سلفت ... وافى بأعجب منها عند إظهار
فما العصا حية تسعى بأعجب من ... شكوى البعير ولا من مشي أشجار
ولا انفجار معين الماء من حجر ... أشد من سلسل من كفه جار
ومما أعطيه موسى عليه الصلاة والسلام الكلام، أعطي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم مثله ليلة الإسراء وزيادة الدنو والتدلي، وأيضًا كان مقام المناجاة في حق نبينا صلى الله عليه وسلم فوق السماوات العلى وفوق سدرة المنتهى، والمستوى، وحجب النور والرفوف، ومقام
__________
الصلاة والسلام تفجير الماء له من الحجارة" كما قال تعالى: {وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا} الآية، "أعطي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم أن الماء تفجر من بين أصابعه، وهذا أبلغ" في المعجزة؛ "لأن الحجر من جنس الأرض التي ينبع الماء منها" بل قال تعالى: {وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ} الآية، "ولم تجر العادة بنبع الماء من اللحم" بل لم يقع لغير المصطفى، كما مر، "ويرحم الله القائل: وكل معجزة للرسل قد سلفت، وافى" أتى "بأعجب منها عند إظهار" الله تعالى له، وتأييده بالمعجزات، "فما العصا حية" حال موطئة، "تسعى" صفتها "بأعجب" خبر ما، "من شكوى البعير، ولا من مشي أشجار"، بل هما أعجب، "ولا انفجار معين الماء من حجر" من إضافة الصفة للموصوف "أشد" أقوى في المعجزة "من سلسل من كفه" متعلق بقوله: "جار" بل هو أشد.
"ومما أعطيه موسى عليه الصلاة والسلام الكلام أعطي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم مثله ليلة الإسراء، وزيادة الدنو" مجاز عن القرب المعنوي لإظهار منزلته عند ربه، "والتدلي" طلب زيادة القرب؛ كما قال بعضهم: فليس عطف تفسير، والمقصود كما في البيضاوي تمثيل ملكة الاتصال، وتحقيق استماعه لما أوحي إليه بنفي البعد الملبس، "وأيضًا كان مقام المناجاة في حق نبينا صلى الله عليه وسلم فوق السماوات العلا وفوق سدرة المنتهى والمستوى" الذي سمع فيه صريف الأقلام، "وحجب النور" بالنسبة للمخلوق "والرفرف" أي: البساط، قاله المصنف، "ومقام(7/92)
المناجاة لموسى عليه الصلاة والسلام بطور سيناء.
وأما ما أعطيه هارون عليه الصلاة والسلام من فصاحة اللسان، فقد كان نبينا صلى الله عليه وسلم من الفصاحة والبلاغة بالمحل الأفضل والموضع الذي لا يجهل. ولقد قال له بعض أصحابه: ما رأينا الذي هو أفصح منك فقال: "وما يمنعني وإنما أنزل القرآن بلساني، لسان عربي مبين".
وقد كانت فصاحه هارون غايتها في العبرانية، والعربية أفصح منها. وهل كانت فصاحة هارون معجزة أم لا؟ قال ابن المنير: الظاهر أنها لم تكن معجزة، ولكن فضيلة
__________
المناجاة لموسى عليه الصلاة والسلام بطور سيناء" جبل موسى بين مصر وأيلة، وقيل: بفلسطين، ولا يخلو من أن يكون الطور اسمًا للجبل، وسيناء: اسم بقعة أضيف إليها، أو المركب منهما علم له كامرئ القيس، كما في البيضاوي.
"وأما ما أعطيه هارون عليه الصلاة والسلام من فصاحة اللسان" أي: القدرة على النطق بلا ركة، ولا تلعثم، ومن بلاغة الألفاظ التي يؤدي بها، لأنها التي تحسن المقابلة بينها وبين فصاحة المصطفى، فالمراد باللسان الجارحة واللغة معًا، لا الجارحة فقط بدليل قوله الآتي: فصاحة هارون غايتها في العبرانية، إذ العبرانية لغة لا آلة، "فقد كان نبينا صلى الله عليه وسلم من الفصاحة والبلاغة بالمحل الأفضل، والموضع الذي لا يجهل" بل يعلمه كل أحد لما فيه من البلاغة المشاهدة لكل من سمعه، وبالجملة فلا يحتاج العلم بفصاحته إلى شاهد، ولا ينكرها موافق ولا معاند، "ولقد قال له بعض أصحابه: ما رأينا الذي هو أفصح منك؟ " أي: ما رأينا أحدًا هو أفصح منك، بل أنت أفصح من رأيناه على مفاد النفي عرفًا، وإن صدق لغة بالتساوي، وأما إشعاره بأن ثم أفصح منه، لكنهم لم يروه، فليس بمراد إذ يأباه سياقه في مقام المدح، "فقال: وما يمنعني" أي: شيء يمنعني من بلوغ الغاية القصوى في الفصاحة والتميز فيها عن سائر الخلق، بحيث لا يساويني، بل ولا يقاربني فيها أحد، "وإنما أنزل القرآن بلساني" أي: لغتي جملة حالية، قصد بها تحقيق ما انتهى إليه من الفصاحة "لسان" بدل مما قبله "عربي مبين" نعت له، وذكر السان نظرًا لكون اللغة لفظًا، "وقد كانت فصاحة هارون غايتها في" لغته "العبرانية" بكسر العين "والعربية أفصح منها" ومن غيرها، "وهل كانت فصاحة هارون معجزة أم لا؟ ".
"قال ابن المنير" في المعراج: "الظاهر أنها لم تكن معجزة، ولكن فضيلة" لأن حكم الفصاحة مطلقًا الظفر، وإقامة الحجة، وكبت الخصوم، وإفهامهم، وإفحامهم، وإظهار نقائص(7/93)
ولم يتحد نبي من الأنبياء بالفصاحة إلا نبينا صلى الله عليه وسلم، لأن هذه الخصوصية لا تكون لغير الكتاب العزيز، وهل فصاحته صلى الله عليه وسلم في جوامع الكلم التي ليست من التلاوة ولكنها معدودة من السنة، هل تحدى بها أم لا؟ وظاهر قوله عليه الصلاة والسلام: "أوتيت جوامع الكلم" أنه من التحدث بنعمة الله تعالى عليه وخصائصه، ولا خلاف أنها باعتبار ما اشتملت عليه من الإخبار بالمغيبات ونحوها معجزة.
وأما ما أعطيه يوسف عليه الصلاة والسلام من شطر الحسن، فأعطي نبينا صلى الله عليه وسلم الحسن كله، وستأتي الإشارة إلى ذلك إن شاء الله
__________
المتبوعين عند الاتباع، ودرء الشبهة، ودفع الشكوك، كما بسطه ابن المنير، قائلا: "ولم يتحد نبي من الأنبياء بالفصاحة إلا نبينا صلى الله عليه وسلم، لأن هذه الخصوصية لا تكون لغير الكتاب العزيز" لأن غيره لا يقاربه في الفصاحة، ولم يقصد به الإعجاز، وهذا مستأنف لبيان الواقع، ويحتمل أنه عطف علة على معلول، يعني أن فصاحته ليست معجزة، لأنها ما تحدى بها، ولم يثبت أن غير نبينا تحدى بذلك، لكن إنما يتم هذا لو كان التحدي شرطًا، مع أنه ليس بشرط، بل يكفي وقوعها بعد دعوى النبوة، سواء طلب المعارضة به أم لا، وإلا لزم أن أكثر الخوارق ليست معجزة، إذ لم يتحد بغير القرآن، كما مر، "وهل فصاحته" أي: نبينا "عليه السلام" ولفظ ابن المنير: واختلف الناس في فصاحته "في جوامع الكلم التي ليست من التلاوة" أي: القرآن، "ولكنها معدودة من السنة، هل تحدى بها أم لا؟ " كذا في النسخ الصحيحة: هل بلا واو، بدل مفصل من مجمل قوله: أو لا، وهل فصاحته، فهو مساو لجعل ابن المنير قوله: هل بيانًا لقوله: اختلف، فما يوجد في بعض نسخ المصنف، وهل تحدى بزيادة واو فيه شيء، ويحتاج إلى تقدير خبر لقوله: أو لا هل فصاحته، أي: معجزة أم لا؟
"وظاهر قوله عليه الصلاة والسلام: "أوتيت جوامع الكلم" أنه من التحدث بنعمة الله تعالى عليه" ومزاياه، عنده "وخصائصه" فهو دليل القول؛ بأنه لم يتحد بها، "ولا خلاف أنها باعتبار ما اشتملت عليه من الأخبار بالمغيبات ونحوها معجزة" كالقرآن، ولا يضر اشتماله على بلاغات تزيد عليها؛ لأن الكلام، وإن بلغ أعلى طبقات البلاغة، أو قارب تتفاوت مراتبه.
"وأما ما أعطيه يوسف عليه الصلاة والسلام من شطر الحسن" أي: نصفه، "فأعطي نبينا صلى الله عليه وسلم الحسن كله" لكن مهابته منعت رؤيته على وجهه، ولذا قال القرطبي: لم يظهر لنا تمام حسنه، لأنه لو ظهر ما أطاقت الأعين رؤيته صلى الله عليه وسلم، "وستأتي الإشارة إلى ذلك إن شاء الله(7/94)
في مقصد الإسراء، ومن تأمل ما نقلته من صفته عليه الصلاة والسلام تبين له من ذلك التفضيل لنبينا على كل مشهور بالحسن في كل جيل.
وأما ما أعطيه يوسف عليه الصلاة والسلام أيضًا من تعبيره الرؤيا، فالذي نقل عنه من ذلك ثلاثة منامات، إحداها: حين رأى أحد عشر كوكبًا والشمس والقمر، والثاني: منام صاحبي السجن، والثالث: منام الملك، وقد أعطي نبينا صلى الله عليه وسلم من ذلك ما لا يدخله الحصر، ومن تصفح الأخبار وتتبع الآثار وجد من ذلك العجب العجاب، وستأتي
__________
تعالى في مقصد الإسراء، ومن تأمل ما نقلته في صفته عليه الصلاة والسلام" فيما مر أول المقصد الثالث، "تبين له من ذلك التفصيل" بصاد مهملة التبيين "التفضيل" بمعجمة: فاعل تبين "لنبينا على كل مشهور بالحسن في كل جيل" بالجيم.
"وأما ما أعطيه يوسف عليه الصلاة والسلام أيضًا من تعبيره الرؤيا، فالذي نقل عنه من ذلك" في القرآن "ثلاثة منامات، إحداها: حين رأى أحد عشر كوكبًا" هي الجريان، وطارق، والذيال، وذو الكتفين، وقابس، ورثاب، وعمودان, والفيلق، والمصبح، والضروح، وذو الفرع، أخرجه الحاكم في مستدركه مرفوعًا، كما في المبهمات، "والشمس والقمر" فعبرهم بأبويه وإخوته.
"والثاني: منام صاحبي السجن" وهما غلامان للملك، أحدهما ساقيه، والآخر صاحب طعامه، رأياه يعبر الرؤيا، فقالا: لنختبرنه، قال الساقي: إني أراني أعصر خمرًا، وقال صاحب الطعام: إني أراني أحمل فوق رأسي خبزًا تأكل الطير منه، فأوله بأن الساقي يخرج بعد ثلاث، فيسقي سيده خمرًا على عادته، وأما الآخر فيخرج بعد ثلاث، فيصلب، فتأكل الطير من رأسه، فقالا: ما رأينا شيئًا، قال قضي الأمر الذي فيه تستفتيان.
"والثالث: منام الملك" ملك مصر الريان بن الوليد: إني أرى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر، أي: سبع سنبلات يابسات، قال: تزرعون سبع سنين دأبًا، أي: متتابعة، وهذا تأويل السبع السمان، والسنبلات الخضر، ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد، أي: مجدبات، وهي تأويل السبع العجاف واليابسات.
"وقد أعطي نبينا صلى الله عليه وسلم من ذلك ما لا يدخله الحصر" أي: يضبطه، هذا هو المراد لا الدخول الذي هو الظرف، "ومن تصفح الأخبار وتتبع الآثار، وجد من ذلك العجب العجاب" وإنما لم يوصف بعلم التعبير لاشتغاله بما هو أهم منه من بيان الشرع والجهاد وغير ذلك، ويوسف عليه السلام عبر للملك وقت الحاجة، ولصاحبي السجن، فوصف به "وستأتي(7/95)
نبذة من ذلك إن شاء الله تعالى.
وأما ما أعطيه داود عليه الصلاة والسلام من تليين الحديد له، فكان إذا مسح الحديد لان، فأعطي نبينا صلى الله عليه وسلم أن العود اليابس أخضر في يده وأورق، ومسح صلى الله عليه وسلم شاة أم معبدة الجرباء، فدرت.
وأما ما أعطيه سليمان عليه الصلاة والسلام من كلام الطير وتسخير الشياطين والريح، والملك الذي لم يعطه أحد من بعده، فقد أعطي
__________
نبذة" بضم النون "من ذلك إن شاء الله تعالى" في الفصل الثاني من المقصد الثامن.
"وأما ما أعطيه داود عليه الصلاة والسلام من تليين الحديد له" كما قال تعالى: {وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ} الآية، "فكان إذا مسح الحديد لان", الله جعله في يده، كالعجين والشمع يمزقه كيف شاء من غير إحماء، ولا طرق بآلة أو بقوة، "فأعطي نبينا محمد صلى الله عليه وسلم؛ أن العود اليابس اخضر في يده وأورق، ومسح صلى الله عليه وسلم شاة أم معبدة الجرباء": صفة شاة "فدرت"، وقصتها في الهجرة مرت.
"وأما ما أعطيه سليمان عليه الصلاة والسلام من كلام الطير" أي: نطقه مصدر مضاف لفاعله، أي: أن سليمان علم منطق الطير المعتاد له، لا أن الطير نفسه خرج عن عادته، فنطق بالعربية، كما وقع لنبينا في الظبية والذئب، بل وفي الجماد وغيره، فإنه لم يرد نطق الطير لسليمان وإنما فهم سليمان من تصويته معنى، كما أشار إليه البيضاوي في قوله تعالى: {عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ} الآية، إذ قال: ولعل سليمان مهما سمع صوته علم بقوته القدسية النخيل الذي صوته، والغرض الذي توخاه به، ومن ذلك ما حكي؛ أنه مر ببلبل يصوت ويرقص، فقال: يقول إذا أكلت نصف تمرة فعلى الدنيا العفاء، وصاحت فاختة، فقال: إنها تقول ليت الخلق لم يخلقوا، فلعل صوت البلبل كان عن شبع وفراغ بال، وصياح الفاختة عن مقاساة: شدة وتألم قلب، "وتسخير الشياطين"، كما قال: {وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ} الآية، أي: من أن يفسدوا ما عملوا، لأنهم إذا فرغوا من العمل قبل الليل أفسدوه، إن لم يشتغلوا بغيره، وكما قال: والشياطين كل بناء وغواص وآخذت مقرنين في الأصفاد، أي: يبني الأبنية العجيبة، وغواص في البحر يستخرج اللؤلؤ، ومقرنين مشدودين في الأصفاد: القيود بجمع أيديهم إلى أعناقهم ليكفوا عن الشر "والريح" كما قال: {فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً} الآية، أي: لينه حيث أصاب، أي: أراد {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ} ، "والملك الذي لم يعطه أحد من بعده، فقد أعطي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم مثل ذلك وزيادة"(7/96)
سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم مثل ذلك وزيادة.
أما كلام الطير والوحش فنبينا صلى الله عليه وسلم كلمه الحجر، وسبح في كفه الحصى، وهو جماد، وكلمه ذراع الشاة المسمومة -كما تقدم في غزوة خيبر- وكذلك كلمه الظبي وشكا إليه البعير -كما مر- وروي أن طيرًا أفجع بولده فجعل يرفرف على رأسه ويكلمه فيقول: "أيكم فجع هذا بولده"، فقال رجل أنا, فقال: "اردد ولده". ذكره الرازي ورواه أبو داود بلفظ: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فانطلق لحاجته، فرأينا حمرة معها فرخان، فأخذنا فرخيها، فجاءت الحمرة فجعلت تفرش -أي تدنو- من الأرض، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "من فجع هذه بولدها؟ ردوا ولدها إليها"، الحديث
__________
وبينه بقوله: "أما كلام الطير والوحش، فنبينا صلى الله عليه وسلم كلمه الحجر" بكلام فهمه المصطفى وغيره، "وسبح في كفه الحصى" حتى سمعه الحاضرون، "وهو جماد" فهو أبلغ إعجازًا، "وكلمة ذراع الشاة المسمومة، كما تقدم في غزوة خيبر" وهو قوي في الإعجاز، أبلغ من إحياء الإنسان الميت، لأنه جزء حيوان دون بقيته، فهو معجزة لو كان متصلا بالبدن، فكيف وقد أحياه وحده منفصلا عن بقيته مع موت البقية، وأيضًا فقد أعاد عليه الحياة مع الإدراك والعقل، ولم يكن يعقل في حياته، فصار جزؤه حيًا عاقلا، وأقدره الله على النطق والكلام، ولم يكن حيوانه يتكلم، وهذا أبلغ من إحياء الموتى لعيسى، وإحياء الطيور لإبرهيم، "وكذلك كلمه الظبي" والضب، وسمعه حاضروه، "وشكا إليه البعير، كما مر" قريبًا.
"وروي؛ أن طيرًا أفجع" أصيب "بولده، فجعل يرفرف" يبسط جناحيه، يريد أن يقع "على رأسه" صلى الله عليه وسلم بدليل قوله: ويكلمه، فيقول: "أيكم، فجع هذا بولده"؟، فقال رجل: أنا، فقال: "اردد ولده"، ذكره الرازي" الإمام فخر الدين، "ورواه أبو داود" والحاكم، وصححه عن ابن مسعود، "بلفظ: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، فانطلق لحاجته، فرأينا حمرة" بضم الحاء المهملة، وشد الميم المفتوحة، وقد تخفف، وبالراء ضرب من الطير، كالعصفور، "معها فرخان فأخذنا فرخيها، فجاءت الحمرة، فجعلت تفرش" بضم الراء وكسرها، "أي: تدنو من الأرض، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم" وفي رواية الطيالسي والحاكم: فجاءت الحمرة ترف على رسول الله وأصحابه، فقال: "من فجع هذا بولدها؟ ردوا ولدها إليها" الحديث تتمته: ورأى قرية نمل قد حرقناها، فقال: "من حرق هذه"؟ قلنا: نحن، قال: "إنه لا ينبغي أن يعذب بالنار إلا رب النار" , وقرية النمل موضعه.(7/97)
وقصة كلام الذئب مشهورة.
وأما الريح التي كانت غدوها شهر ورواحها شهر، تحمله أين أراد من أقطار الأرض، فد أعطي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم البراق الذي هو أسرع من الريح، بل أسرع من البرق الخاطف، فحمله من الفرش إلى العرش في ساعة زمانية، وأقل مسافة في ذلك سبعة آلاف سنة، وتلك مسافة السماوات، وأما إلى المستوى وإلى الرفرف فذلك ما لا يعلمه إلا الله.
__________
وروى الطيالسي، والحاكم، وصححه عن ابن مسعود: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم، فدخل رجل غيضة، فأخرج منها بيض حمرة، فجاءت الحمرة ترف على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فقال صلى الله عليه وسلم: "أيكم فجع هذه"؟.
فقال رجل: أنا يا رسول الله، أخذت بيضها، وفي رواية الحاكم: أخذت فرخيها، فقال: "رده رحمة لها".
وروى الترمذي، وابن ماجه، عن عامر الرام: أن جماعة من الصحابة دخلوا غيضة، فأخذوا فرخ طائر، فجاء الطير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يرف، فقال: "أيكم أخذ فرخ هذا؟ "، فأمره أن يرده فرده، وحكمة الأمر بالرد؛ أنها لما استجارت به أجارها، فوجب ردها، واحتمال كونهم محرمين بعيد مع قوله: رحمة لها، "وقصة كلام الذئب" بكلام الإنس العربي "مشهورة" وتقدمت قريبًا.
"وأما الريح التي كانت غدوها" سيرها من الغدوة بمعنى الصباح إلى الزوال "شهر" أي: مسيرته، ورواحها" أي سيرها من الزوال إلى الغروب "شهر تحمله أين أراد من أقطار الأرض" قال الحسن: كان يغدو من دمشق، ويقيل باصطخر، وبينهما شهر للراكب المسرع، ثم يروح من اصطخر، فيبيت بكابل، وبينهما مسيرة شهر، "فقد أعطي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم البراق" بضم الموحدة "الذي هو أسرع من الريح، بل أسرع من البرق الخاطف، فحمله من افرش إلى العرش" عرش الرحمن "في ساعة زمانية، وأقل مسافة في ذلك سبعة آلاف سنة، وتلك مسافة السماوات" لأن بين كل سماء وسماء خمسمائة عام، وسمك كل سماء خمسمائة، فهي سبعة آلاف.
"وأما إلى المستوى وإلى الرفرف، فذلك ما لا يعلمه إلا الله" وفي الشامية أعطي البراق سارية، مسيرة خمسين ألف سنة في أقل من ثلث ليلة، انتهى، وهذا كله على أحد القولين: أن العروج إلى السماوات كان على البراق، والصحيح الذي تقرر من الأحاديث الصحيحة؛ كما قال السيوطي وغيره: إنه كان على المعراج الذي تعرج عليه أرواح بني آدم، ولذا قال ابن كثير: لما فرغ من أمر بيت المقدس، نصب له المعراج، وهو السلم، فصعد فيه إلى السماء، ولم يكن(7/98)
وأيضًا: فالريح سخرت لسليمان لتحمله إلى نواحي الأرض، ونبينا صلى الله عليه وسلم زويت له الأرض -أي جمعت- حتى رأى مشارقها ومغاربها، وفرق بين من يسعى إلى الأرض, وبين من تسعى له الأرض.
وأما ما أعطيه من تسخير الشياطين فقد روي أن أبا الشياطين إبليس اعترض سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وهو في الصلاة، فأمكنه الله منه وربطه بسارية من سواري المسجد. وخير مما أوتيه سليمان من ذلك إيمان الجن بمحمد صلى الله عليه وسلم، فسليمان استخدمهم ومحمد استسلمهم.
__________
الصعود على البراق، كما قد يتوهم بعض الناس بل كان البراق مربوطًا على باب مسجد بيت المقدس ليرجع عليه إلى مكة، "وأيضًا فالريح سخرت لسليمان لتحمله إلى نواحي الأرض، ونبنيا صلى الله عليه وسلم" لا يحتاج إلى ذلك؛ لأنه "زويت له الأرض" بالزاي المنقوطة، أي: جمعت "حتى رأى مشارقها ومغاربها" وما يبلغه ملك أمته منها، "وفرق بين من يسعى إلى الأرض، وبين من تسعى له الأرض" وهو المصطفى.
"وأما ما أعطيه من تسخير الشياطين" في الأعمال الشاقة، كالبناء والغوص يعملون له ما يشاء من محاريب، وهي أبنية مرتفعة، يصعد إليها بدرج وتماثيل: جمع تمثال وهو كل شيء مثلته بشيء، أي: صورًا من نحاس وزجاج، ورخام ولم يكن اتخاذ الصور حرامًا في شريعته، وجفان: جمع جفنة، كالجوابي: جمع جابية، وهي حوض كبير يجتمع على الجفنة ألف رجل يأكلون منها، وقدور راسيات ثابتات، لها قوائم لا تحرك عن أماكنها، تتخذ من الجبال باليمن، يصعد إليها بسلالم.
"فقد روي أن أبا الشياطين إبليس اعترض سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وهو في الصلاة، فأمكنه الله منه، وربطه بسارية من سواري المسجد" النبوي، لكن الذي روى البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "إن الشيطان عرض لي، فشد عليّ ليقطع الصلاة عليّ، فأمكنني الله منه فذعته، ولقد هممت أن أوثقه إلى سارية حتى تصبحوا فتنظروا إليه، فذكرت قول سليمان: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} الآية، فرده الله خاسئًا"، وأخرجه مسلم والبخاري أيضًا بلفظ: "إن عفريتا من الجن تفلَّت عليّ البارحة ليقطع عليّ الصلاة"، فذكره، وهذا ظاهر في أن المراد غير إبليس، كما قال الحافظ: وهو نص في أنه تمكن منه، لكنه لم يربطه مراعاة لسليمان, وذعته بذال معجمة، وعين مهملة خفيفة، وفوقية ثقيلة: خنقته خنقًا شديدًا، "وخير مما أوتيه سليمان من ذلك" التسخير "إيمان الجن بمحمد صلى الله عليه وسلم، فسليمان استخدمه" ولم يؤمنوا به، "والنبي صلى الله عليه وسلم استسلمهم" ولا شيء أعلى من الإسلام.(7/99)
وأما عد الجن من جنود سليمان في قوله تعالى: {وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ} [النمل: 17] ، فخير منه عد الملائكة، جبريل ومن معه من جملة أجناده عليه الصلاة والسلام باعتبار الجهاد وباعتبار تكثير السواد على طريقة الأجناد.
وأما عد الطير من جملة أجناده، فأعجب منه حمامة الغار وتوكيرها في الساعة الواحدة، وحمايتها له من عدوه، والغرض من استكثار الجند إنما هو الحماية، وقد حصلت من أعظم شيء بأيسر شيء.
وأما ما أعطيه من الملك، فنبينا صلى الله عليه وسلم خير بين أن يكون نبيًا ملكًا أو نبيًا عبدًا، فاختار صلى الله عليه وسلم أن يكون نبيًا عبدًا، ولله در القائل:
يا خير عبد على كل الملوك ولي
وأما ما أعطيه عيسى عليه الصلاة والسلام من إبراء الأكمة والأبرص وإحياء
__________
"وأما عد الجن من جنود سليمان في قوله تعالى: {وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ} [النمل: 17] الآية والطير في مسير له فهم له يوزعون، أي: يجمعون، ثم يساقون، "فخير منه عد الملائكة جبريل ومن معه من جملة أجناده عليه السلام، باعتبار الجهاد" وفي بدر العظمى، "وباعتبار تكثير السواد" في غيرها لإرهاب العدو "على طريقة الأجناد"، كما وقع في أحد والخندق وحنين؛ كما مر بيانه في محله.
"وأما عد الطير من جملة أجناده" في الآية الكريمة، "فأعجب منه حمامة الغار" أي: جنسها، فلا ينافي كونهما حمامتين، كما مر في الهجرة "وتوكيرها" أي: اتخاذها الوكر "في الساعة الواحدة، وحمايتها له من عدوه، والغرض من استكثار الجند إنما هو الحماية" من الأعداء، "وقد حصلت من أعظم شيء" وهم كفار قريش الذين خرجوا في طلبه، وجعلوا مائة ناقة لمن رده أو قتله "بأيسر شيء" وهو تعشيش الحمامة، "وأما ما أعطيه من الملك" بطلبه، "فنبينا صلى الله عليه وسلم خير" بلا طلب "بين أن يكون نبيًا ملكًا، أو نبيًا عبدًا" أو بمعنى الواو؛ كقوله:
قوم إذا سمعوا الصريخ رأيتهم ... ما بين ملجم مهره أو سافع
لأن بين ظرف مبهم لا يبين معناه إلا بإضافته إلى اثنين فصاعدًا، أو ما يقوم مقام ذلك؛ كقوله: عوان بين ذلك، كما بين في موضعه"، "فاختار صلى الله عليه وسلم أن يكون نبيًا عبدًا، ولله در القائل: يا خير عبد على كل الملوك ولي" أي: جعلت له الولاية عليهم، وكفى بذلك شرفًا.
وأما ما أعطيه عيسى عليه الصلاة والسلام من إبراء الأكمه" الذي ولد أعمي،(7/100)
الموتى، فأعطي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم أنه رد العين إلى مكانها بعدما سقطت فعادت أحسن ما كانت، وفي دلائل النبوة للبيهقي قصة الرجل الذي قال للنبي صلى الله عليه وسلم لا أؤمن بك حتى تحيي لي ابنتي وفيه أنه صلى الله عليه وسلم أتى قبرها فقال: "يا فلانة"، فقالت: لبيك وسعديك يا رسول الله، الحديث، وقد مر. وروي أن امرأة معاذ بن عفراء -كانت برصاء- فشكت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فمسح عليها بعصا فأذهب الله البرص منها، ذكره الرازي، وأيضًا قد سبح الحصى في كفه، وسلم عليه الحجر، وحن لفراقه الجذع، وذلك أبلغ من تكليم الموتى لأن هذا من جنس ما لا يتكلم.
__________
"والأبرص" وخصا؛ لأنهما مرضا إعياء، وكان بعثه في زمن الطب، فأبرأ في يوم خمسين ألفًا بالدعاء، بشرط الإيمان، وقدمت ما كان يدعو به، "وإحياء الموتى" بإذن الله، فأحيا عازر صديقًا له، وابن العجوز، وابنه العاشر، فعاشوا، وولد لهم وسام بن نوح، ومات في الحال، وكان المصنف اقتصر على هذه الثلاثة لاشتهارها دون بقية معجزاته وإلا فصدر الآية: {أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ} ، وآخرها تأتي الإشارة إليه ومن معجزاته، المائدة وغير ذلك، "فأعطي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم أنه رد العين" لقتادة "إلى مكانها بعدما سقطت" على وجنته، "فعادت أحسن ما كانت" فهذا أبلغ من إبراء الأكمه، لأن عينيه في مكانهما.
"وروي أن امرأة معاذ بن عفراء، وكانت برصاء، فشكت" الفاء زائدة في خبر أن عند من يجيزه، "ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمسح عليها بعصا" ولم يمسها بيده، لأنها أجنبية، ولم يمس أجنبية أبدًا، وإشارة لغيره؛ وإن كان هو سيد أهل اليقين إلى أنه لا ينبغي مس محل البرص ونحوه، مخافة أن يصاب به الماس، فيتوهم أنه أعداه، "فأذهب الله البرص منها، ذكره الرازي، وأيضًا فقد سبح الحصى في كفه، وسلم عليه الحجر، وحن لفراقه الجذع، وذلك أبلغ من تكليم الموتى؛ لأن هذا من جنس ما لا يتكلم" لم يقل من جنس ما لم تحله الحياة للخلاف في أن نطق الجماد هل هو بعد تصييره حيًا، أو مع بقائه على كونه جمادًا وإحياء الجماد أبلغ من إحياء الموتى.
قال ابن كثير: حلول الحياة والإدراك والعقل في الحجر الذي كان يخاطبه صلى الله عليه وسلم أبلغ من حياة الحيوان في الجملة؛ لأنه كان محلا للحياة في وقت، بخلاف هذا لا حياة فيه بالكلية قبل ذلك، وكذلك تسليم الأحجار، والمدر، والشجر، وحنين الجذع، وجعل أبو نعيم نظير خلق الطين طيرًا، جعل العسيب سيفًا، كما تقدم.(7/101)
وفي دلائل النبوة للبيهقي قصة الرجل الذي قال للنبي صلى الله عليه وسلم: لا أومن بك حتى تحيي لي ابنتي، وفيه: أنه صلى الله عليه وسلم قال: "أرني قبرها" وأتى قبرها فقال: "يا فلانة" فقالت: لبيك وسعديك ... الحديث، وقد مر.
وأما ما أعطيه عيسى أيضًا من أنه كان يعرف ما تخفيه الناس في بيوتهم،
__________
"وفي دلائل النبوة للبيهقي قصة الرجل الذي قال للنبي صلى الله عليه وسلم: لا أومن بك حتى تحيي لي ابنتي، وفيه: أنه صلى الله عليه وسلم" قال: "أرني قبرها"، وأتى قبرها فقال: "يا فلانة" باسمها الخاص فكنى عنه الراوي بفلانة لنحو نسيان، "فقالت: لبيك وسعديك ... الحديث، وقد مر" جميع ذلك الذي من جملته بقية الحديث قريبًا، وحاصل ما ذكره أن المصطفى شارك عيسى في إبراء الأكمه والأبرص، وإحياء الموتى، وزاد بتكليم الجماد له، وإياء الجزء من الحي بعد انفصاله، كرد العين والذراع المسمومة، ولم يعهد مثله، وترك المصنف من آيات عيسى عليه الصلاة والسلام المائدة؛ لقول ابن المنير: لا يلزمنا إثبات نظيرها لنبينا، لأنها كانت محنة لبني إسرائيل، لا نعمة، لأنهم لعنوا بسببها، كما جاء في تفسير قوله تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ} الآية، على لسان داود وعيسى ابن مريم؛ إنهم أصحاب المائدة، كفروا بعدها فلعنوا، ولم تقبل منهم توبة أبدًا، قال: وعلى تقدير شائبة الكرامة في إجابة دعوة عيسى، فنظير ذلك لنبينا إجابته حين خفت أزواد القوم، فجمعها فكانت كربضة العنز، ولا جفاء أنه طعام أقل من عشرة، فدعا بالبركة، فملأ الناس، وهم زهاء ألف ونيف أوعيتهم، والطعام بحاله، فهذه مائدة نزلت من السماء وطعام مبارك، قال الله: {كُنْ} الآية، فكان بدون تهديد، ولا وعيد، ولا تشديد، ولا محنة، ولا فتنة، ولا سد باب التوبة، بتقدير كفران النعمة، بل كانت نعمة محض، انتهى.
وفي الشامية تقدم نظير ذلك لنبينا؛ أنه أتي بطعام من السماء في عدة أحاديث تقدمت، وروى البيهقي عن أبي هريرة، قال: أتى رجل أهله، فرأى ما بهم من الحاجة، فخرج إلى البرية، فقالت امرأته: اللهم ارزقنا ما نعجن ونخبز، فإذا الجفنة ملأى خميرًا، والرحى تطحن، والتنور ملأى خنوب شواء، فجاء زوجها وسمع الرحى، فقامت إليه لتفتح له الباب، قال: ماذا كنت تطحنين؟ فأخبرته وإن رحاهما لتدور وتصب دقيقًا، فلم يبق في البيت وعاء إلا ملئ، فرفع الرحى، وكنس ما حولها، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "ما فعلت بالرحى"؟ قال: رفعتها ونفضتها، فقال صلى الله عليه وسلم: "لو تركتموها ما زالت كما هي لكم حياتكم" وفي رواية: "لو تركتموها لدارت إلى يوم القيامة".
"وأما ما أعطيه عيسى أيضًا من أنه كان يعرف ما تخفيه الناس في بيوتهم" كما قال تعالى: {وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ} الآية، أي: بالمغيبات من(7/102)
فقد أعطي نبينا صلى الله عليه وسلم من ذلك ما لا يحصى، وسيأتي إن شاء الله تعالى ما يكفي ويشفي.
وأما ما أعطيه عيسى أيضًا من رفعه إلى السماء، فقد أعطي نبينا صلى الله عليه وسلم ذلك ليلة المعراج، وزاد في الترقي لمزيد الدرجات وسماع المناجاة والحظوة في الحضرة المقدسة بالمشاهدات.
وبالجملة: فقد خص الله تعالى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم من خصائص التكريم بما لم يعطه أحدًا من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والتسليم.
وقد روى جابر عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:
__________
أحوالكم التي لا تشكون فيها، فكان يخبر الشخص بما أكل وبما يأكل بعد، "فقد أعطي نبينا صلى الله عليه وسلم من ذلك ما لا يحصى، ويأتي إن شاء الله تعالى ما يكفي ويشفي" في المقصد الثامن.
"وأما ما أعطيه عيسى أيضًا من رفعه إلى السماء" حيًا، أو بعد أن مات قولان أصحهما الأول، وعليه فقال بعضهم: صار كالملائكة في زوال الشهوة، ونقل البغوي وغيره عن قتادة: أن عيسى قال لأصحابه: أيكم يقذف عليه شبهي فإنه مقتول، فقال رجل: أنا، فقتل، ومنع الله عيسى، ورفعه إليه، وكساه الريش، وألبسه النور، وقطع عنه لذة المطعم والمشرب، فطار مع الملائكة، فهو معهم حول العرش، فكان إنسيًّا، ملكيًّا، سماويًّا، أرضيًّا، ولذا قلت في جواب سؤال:
وقد صار عيسى بعد رفع إلى السما ... كالأملاك لا يشرب ولا هو يأكل
كما قاله الحبر الإمام قتادة ... فتنظير بعض فيه تقصير يجعل
"فقد أعطي نبينا صلى الله عليه وسلم ذلك ليلة المعراج، وزاد في" الأول حذفها لظهور أن المراد، أنه شارك عيسى في العروج، وزاد علي "الترقي لمزيد الدرجات" التي ما وصل إليها نبي ولا ملك، ولفظة في تقتضي مشاركته في الترقي "وسماع المناجاة" كلام الله تعالى، "والحظوة" بضم الحاء وكسرها: المحبة ورفعة المنزلة "في الحضرة المقدسة بالمشاهدات" وهذا تفصيل بعض ما أوتيه في نظير ما أوتيه الأنبياء الذين ذكرهم، "وبالجملة فقد خص الله تعالى سيدنا محمدًا صلى الله عليه وسلم من خصائص التكريم بما لم يعطه أحدًا من الأنبياء عليهم الصلاة والتسليم" وتفصيل ذلك متعسر أو متعذر.
"وقد روى جابر" بن عبد الله، "عنه صلى الله عليه وسلم، أنه قال" في غزوة تبوك، كما في حديث(7/103)
"أعطيت خمسًا لم يعطهن أحد قبلي، كان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى كل أحمر وأسود، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا
__________
عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده عند الإمام أحمد: "أعطيت" بضم الهمزة "خمسًا" أي: خمس خصال، "لم يعطهن أحد" من الأنبياء "قبلي" قال الحافظ: ظاهر الحديث أن كل واحدة من الخمس المذكورات لم تكن لأحد قبله، وهو كذلك، ولا يعترض بأن نوحًا كان مبعوثًا إلى أهل الأرض بعد الطوفان؛ لأنه لم يبق إلا من آمن معه، وقد كان مرسلا إليهم؛ لأن هذا العموم لم يكن في أصل بعثته، وإنما اتفق بالحادث، وهو انحصار الخلق في الموجودين بعد هلاك سائر الناس، وأما نبينا صلى الله عليه وسلم، فعموم رسالته من أصل بعثته، فثبت اختصاصه بذلك، وفيه أجوبة أخرى تأتي قريبًا، "كان كل نبي يبعث إلى قومه" المبعوث إليهم "خاصة، وبعثت إلى كل أحمر وأسود" قال الحافظ: المراد بالأحمر العجم، وبالأسود العرب، وقيل: الأحمر الإنس، والأسود الجن، وعلى الأول التنصيص على الإنس من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى؛ لأنه مرسل إلى الجميع، انتهى، أي: بالأقرب، وهم الإنس عجمًا وعربًا على الأبعد وهم الجن، وهذا لفظ مسلم ولفظ البخاري في التيمم: "وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة"، وكذا لفظه في الصلاة، لكنه قال: كافة بدل عامة، ولمسلم من حديث أبي هريرة: "وأرسلت إلى الخلق كافة"، وهي أصرح الروايات وأشملها، فهي حجة لمن ذهب إلى إرساله إلى الملائكة لظاهر قوله: {لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} الآية، ويأتي بسطه، "وأحلت لي الغنائم" وللكشميهني: المغانم، بميم قبل الغين، وهي رواية مسلم، "ولم تحل لأحد قبلي".
قال الخطابي: كان من تقدم على ضربين منهم من لم يؤذن له في الجهاد، فلم يكن لهم مغانم، ومنهم من أذن لهم فيه، لكن كانوا إذا غنموا شيئًا لم يحل لهم أن يأكلوه، وجاءت نار فأحرقته، وقيل: المراد أنه خاص بالتصرف في الغنيمة، يصرفها حيث شاء والأول أصوب، وهو أن من مضى لم تحل لهم الغنائم أصلا، ذكره الحافظ، "وجعلت لي الأرض مسجدًا" أي موضع سجود، لا يختص السجود منها بموضع دون غيره، ويمكن أن يكون مجازًا عن المكان المبني للصلاة، وهو من مجاز التشبيه، لأنه لما جازت الصلاة في جميعها كانت كالمسجد في ذلك، وفي رواية أحمد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: وكان من قبلي، إنما يصلون في كنائسهم، وللبزار من حديث ابن عباس: ولم يكن من الأنبياء أحد يصلي حتى يبلغ محرابه، "وطهورًا" بفتح الطاء على المشهور، واحتج به أبو حنيفة ومالك على جواز التيمم بجميع أجزاء الأرض، وخصه الشافعي وأحمد بالتراب، لما في مسلم من حديث حذيفة: "وجعلت لنا الأرض(7/104)
فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل حيث كان ونصرت بالرعب مسيرة شهر
__________
كلها مسجدًا، وجعلت تربتها طهورًا" وتعقب بأن تربة كل مكان ما فيه من تراب أو غيره.
وأما رواية ابن خزيمة وغيره الحديث بلفظ: "وجعل ترابها"، وقوله في حديث علي: "وجعل التراب لي طهورًا" , رواه أحمد والبيهقي بإسناد حسن، فالنص على التراب في هاتين الروايتين لبيان أفضليته لا لأنه لا يجزئ غيره، وليس مخصصًا لعموم قوله: "وطهورًا"؛ لأن شرطه أن يكون منافيًا، ولذا قال القرطبي هو من باب النص على بعض أشخاص العموم؛ كقوله تعالى: {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} [الرحمن: 68] الآية، انتهى.
واستدل به على أن الطهور هو المطهر لغيره، إذ لو كان المراد الطاهر لم تثبت الخصوصية، والحديث إنما سبق لإثباتها، وقد روى ابن المنذر، وابن الجارود، بإسناد صحيح، عن أنس مرفوعًا: "جعلت لي كل أرض طيبة مسجدًا وطهورًا"، ومعنى طيبة طاهرة، فلو كان معنى طهورًا طاهرًا للزم تحصيل الحاصل، "فأيما رجل" كائن "من أمتي أدركته الصلاة" جملة في موضع جر، صفة لرجل، وأي مبتدأ فيه معنى الشرط، وما زائدة للتعميم، ورجل مضاف إليه، وفي رواية أبي أمامة عند البيهقي: "فأيما رجل من أمتي أتى الصلاة، فلم يجد ماء، وجد من الأرض طهورًا ومسجدًا".
وعند أحمد: فعنده طهوره ومسجده، "فليصل حيث كان" خبر المبتدأ، أي: بعد أن يتيمم، أو حيث أدركته الصلاة، ولأحمد عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: فأينما أدركتني الصلاة تمسحت وصليت.
قال ابن التين: قيل: المراد جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا، وجعلت لغيري مسجدًا لا طهورًا؛ لأن عيسى كان يسبح في الأرض ويصلي حيث أدركته في أماكن مخصوصة، كالبيع والصوامع، ويؤيده رواية عمرو بن شعيب بلفظ: "وكان من قبلي إنما يصلون في كنائسهم"، وهذا نص في موضع النزاع، فثبتت الخصوصية، وللبزار، ولم يكن من الأنبياء أحد يصلي حتى يبلغ محرابه، قاله الحافظ، وتبرعنا به هنا تبعًا للشيخ، مع أن المصنف ذكره قريبًا بعد ذلك، وعلى ظاهر ما رجحه يسقط عنهم وجوب الأداء، ويقضون إذا رجعوا، وبه جزم بعض شراح الرسالة القيروانية، ويؤيده ظاهر قوله: "حتى يبلغ محرابه"، فما قيل هل يسقط عنهم مطلقًا أو محل الحصر في الكنائس ونحوها في الحضر لا في السفر، ويكون محل خصوصيتنا الصلاة بأي محل، ولو بجوار المسجد مع سهولة الصلاة فيه، انظره فيه قصور، ويمنع الثاني أن القيد لا بد له من دليل، مع أن ظاهر قوله: حتى يبلغ محرابه خلافه، " ونصرت بالرعب" بضم الراء: الخوف، زاد أحمد عن أبي أمامة: يقذف في قلوب أعداي "مسيرة شهر" غيابه، لأنه لم يكن بين بلده(7/105)
وأعطيت الشفاعة"، رواه البخاري. وفي رواية: "وبعثت إلى الناس كافة".
وزاد البخاري في روايته -في الصلاة- عن محمد بن سنان: من الأنبياء.
وعند الإمام أحمد: "أعطيت خمسًا لم يعطهن نبي قبلي، ولا أقوله فخرًا".
__________
وبين أعدائه أكثر منه في ذلك الوقت، وهذه الخصوصية حاصلة له مطلقًا حتى لو كان وحده بلا عسكر، وفي حصولها لأمته بعده احتمال أصله خبر أحمد الرعب يسعى بين يدي أمتي شهرًا.
وعن ابن عباس: مسيرة شهرين، وعن السائب بن يزيد: "ونصرت بالرعب شهرًا أمامي وشهرًا خلفي"، رواهما الطبراني، ورواية السائب مبينة لمعنى رواية ابن عباس. "وأعطيت الشفاعة" العظمى في إراحة الناس من هول الموقف، كما جزم به النووي وغيره، قال للعهد، كما قال ابن دقيق العيد: إنه الأقرب، ويأتي بسطه، "رواه البخاري" ومسلم واللفظ له، فلو عزاه لهما لاستقام، ولفظ البخاري في التيمم عن شيخه سعيد بن النضر: أنا هشيم, أنا سيار, حدثنا يزيد, أنا جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أعطيت خمسًا لم يعطهن أحد قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة"، ومعلوم أن أل في النفي للاستغراق، فيساوي رواية كل نبي، لكن قد رأيت ما فيه من التقديم والتأخير، فما الحامل على العز, وللبخاري: والإتيان بلفظ مسلم وإن اتحد المعنى.
"وفي رواية" هي رواية البخاري في الصلاة: "وبعث إلى الناس كافة" بدل عامة، وهما بمعنى، "وزاد البخاري في روايته" هذا الحديث "في" باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا" من كتاب "الصلاة عن" شيخه "محمد بن سنان" بكسر المهملة، وخفة النون الباهلي، البصري، العوقي، بفتح المهملة والواو بعدها قاف ثقة ثبت مات سنة ثلاث وعشرين ومائتين، أي: عن هشيم بهذا الإسناد بعد قوله: "لم يعطهن أحد "من الأنبياء" قبلي"، وساقه بلفظ التيمم لكنه عبر بكافة بدل عامة، وجعل وأعطيت الشفاعة ختام الحديث، قال الحافظ رحمه الله: مدار حديث جابر هذا على هشيم بهذا الإسناد، وله شاهد من حديث ابن عباس، وأبي موسى وأبي ذر، ومن رواية عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، رواها كلها أحمد بأسانيد حسان، انتهى.
"وعند الإمام أحمد: "أعطيت خمسًا لم يعطهن نبي قبلي" أي: من اتصف بالنبوة، فدخل في ذلك الرسل، إذ لا يوجد رسول إلا وهو نبي، ويدل على المراد قوله: "وأحلت لي الغنائم، إذ الأنبياء لم يكن لهم غنائم"، "ولا أقوله فخرًا" بل تحدثا بالنعمة لقوله: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ(7/106)
وفيه: "وأعطيت الشفاعة فاخترتها لأمتي، فهي لمن لا يشرك بالله شيئًا". وإسناده كما قال ابن كثير جيد.
وليس المراد حصر خصائصه عليه الصلاة والسلام في هذه الخمس المذكورة. فقد روى مسلم من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "فضلت على الأنبياء بست، أعطيت جوامع الكلم، ونصرت بالرعب وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا، وأرسلت إلى الخلق كافة
__________
رَبِّكَ فَحَدِّثْ} الآية، وفيه: "وأعطيت الشفاعة فاخترتها لأمتي، فهي لمن لا يشرك بالله شيئًا" وإن فعل المعاصي، وفي رواية عمرو بن شعيب: "فهي لكم ولمن يشهد أن لا إله إلا الله".
قال الحافظ: فالظاهر أن المراد بالشفاعة المختصة به في هذا الحديث إخراج من ليس له عمل إلا التوحيد، وهو مختص أيضًا بالشفاعة الأولى، أي في فصل القضاء، لكن جاء التنويه بذكر هذه، لأنها غاية المطلوب عن تلك، لاقتضائها الراحة المستمرة، وقد ثبتت هذه في رواية البخاري في التوحيد: "ثم أرجع إلى ربي في الرابعة، فأقول: يا رب ائذن لي فيمن قال: لا إله إلا الله، فيقول: وعزتي وجلالي لأخرجن منها من قال: لا إله إلا الله"، ولا تعكر عليه رواية مسلم، فيقول: "وعزتي ليس ذاك لك وعزتي" ... إلخ؛ لأن المراد أن لا يباشر الإخراج، كما في المرات الماضية، بل كانت شفاعته سببًا في ذلك في الجملة، "وإسناده كما قال ابن كثر جيد" أي: مقبول، "وليس المراد حصر خصائصه عليه الصلاة والسلام في هذه الخمس المذكورة" كما يعطيه المفهوم، "فقد روى مسلم من حديث أبي هريرة مرفوعًا" أي أنه قال عن النبي صلى الله عليه وسلم: "فضلت على الأنبياء بست: أعطيت جوامع الكلم" أي: جمع المعاني الكثيرة في ألفاظ يسيرة، وقيل: إيجاز الكلام في اتساع من المعنى، فالكلمة القليلة الحروف تتضمن كثيرًا من المعاني وأنواعًا من الكلام، "ونصرت بالرعب" يقذف في قلوب أعدائي مسيرة شهر، وللطبراني عن السائب بن يزيد: "ونصرت بالرعب شهرًا أمامي وشهرًا خلفي"، "وجعلت لي الأرض مسجدًا" وطهورًا، بفتح الطاء، وفيه أن الأصل في الأرض الطهارة وأن صحة الصلاة لا تختص بالمسجد المبني لذلك، وأما حديث: "لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد" فضعيف، أخرجه الدارقطني من حديث جابر، واستدل به صاحب المبسوط من الحنفية على إظهار كرامة الآدمي، قال: لأن الآدمي خلق من ماء وتراب، وقد ثبت أن كلا منهما طهور، ففي ذلك بيان كرامته، قال في الفتح، "وأرسلت إلى الخلق كافة" إرسالة عامة محيطة بهم، لأنها(7/107)
وختم بي النبيون" فذكر الخمسة المذكورة في حديث جابر إلا الشفاعة، وزاد خصلتين وهما: وأعطيت جوامع الكلم وختم بي النبيون، فتحصل منه ومن حديث جابر سبع خصال.
ولمسلم أيضًا من حديث حذيفة مرفوعًا: "فضلنا على الناس بثلاث: جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة" وذكر خصلة الأرض كما تقدم، قال: وذكر خصلة أخرى. وهذه الخصلة المبهمة قد بينها ابن خزيمة والنسائي، وهي: "وأعطيت هذه الآيات من آخر سورة البقرة من كنز تحت العرش"، يشير إلى ما حطه الله تعالى عن أمته من الإصر.
__________
إذا شملتهم فقد كفتهم أن يخرج منها أحد منهم، وهذا أصرح الروايات وأشملها، فهي مؤيدة لمن ذهب إلى إرساله إلى الملائكة؛ كقوله تعالى: {لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} الآية، ويأتي بسطه في كلام المصنف، "وختم بي النبيون" أي: أغلق باب الوحي والرسالة، وسد لكمال الدين، وتصحيح الحجة، فلا نبي بعده، وعيسى إنما ينزل بتقرير شرعه.
قال الحافظ العراقي: وكذا الخضر وإلياس بناء على نبوة الخضر وبقائهما إلى الآن، فكل تابع لأحكام هذه الملة، "فذكر" أبو هريرة في حديثه "الخمسة المذكورة في حديث جابر إلا الشفاعة، وزاد خصلتين وهما: "وأعطيت" الأولى حذف الواو، لأنها ليست في الحديث "جوامع الكلم وختم بي النبيون" فتحصل منه، ومن حديث جابر سبع خصال، ولمسلم أيضًا من حديث حذيفة" بن اليمان مرفوعًا: "فضلنا على الناس بثلاث" من الخصال "جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة" قال الزين العراقي: المراد به التراص وإتمام الصوف الأول، فالأول في الصلاة، فهو من خصائص هذه الأمة، وكانت الأمم السابقة يصلون منفردين، وكل واحد على حدة، "وذكر خصلة الأرض، كما تقدم", "وجعلت لنا الأرض مسجدًا وتربتها طهورًا"، "قال: وذكر خصلة أخرى" أبهمها نسيانًا أو نحوه، "وهذه الخصلة المبهمة بينها ابن خزيمة، والنسائي" والإمام أحمد، وهي: "وأعطيت هذه الآيات في آخر سورة البقرة" {آَمَنَ الرَّسُولُ} الآية، "من كنز تحت العرش" قال العراقي: معناه أنها ادخرت له، وكنزت، فلم يؤتها أحد قبله، وكثير من آي القرآن منزل في الكتب السابقة باللفظ أو المعنى، وهذه لم يؤتها أحد، وإن كان فيه أيضًا ما لم يؤت غيره لكن في هذه خصوصية لهذه الأمة، وهي وضع الإصر الذي على من قبل، ولذا قال في بقية الرواية: "لم يعطها نبي قبلي" انتهى، وإليه يومئ قوله: "يشير إلى ما حطه الله تعالى عن أمته من(7/108)
وتحميل ما لا طاقة لهم به، ورفع الخطأ والنسيان، فصارت الخصال تسعًا.
ولأحمد من حديث عليّ: "أعطيت أربعًا لم يعطهن أحد من أنبياء الله تعالى قبلي أعطيت مفاتيح الأرض، وسميت أحمد، وجعلت أمتي خير الأمم"، وذكر خصلة التراب، فصارت الخصال ثنتي عشرة خصلة.
وعند البزار من وجه آخر عن أبي هريرة رفعه: "فضلت على الأنبياء، غفر لي ما تقدم من ذنبي وما تأخر، وجعلت أمتي خير الأمم، وأعطيت الكوثر، وإن صاحبكم لصاحب لواء الحمد يوم القيامة، تحته آدم فمن دونه".
__________
الإصر" الأمر الذي يثقل حمله، كقتل النفس في التوبة، وإخراج ربع المال في الزكاة، وفرض موضع النجاسة، "وتحميل ما لا طاقة" قوة "لهم به" من التكاليف والبلاء، "ورفع الخطأ" ترك الصواب لا عن عمد، "والنسيان، فصارت الخصال تسعًا، ولأحمد من حديث عليّ" مرفوعًا: "وأعطيت أربعًا لم يعطهن أحد من أنبياء الله تعالى قبلي: أعطيت مفاتيح" جمع مفتاح بالكسر: اسم للآلة التي يفتح بها، وهو في الأصل كل ما يتوصل به إلى استخراج المغلقات التي يتعذر الوصول إليها، قاله ابن الأثير، "الأرض" وفي رواية: خزائن الأرض، استعارة لوعد الله تعالى بفتح البلاد: جمع خزانة، ما يخزن فيه الأموال، وهي مخزونة عند أهل البلاد قبل فتحها، أو المراد خزائن العلم بأسره، ليخرج لهم بقدر ما يستحقونه فكل ما ظهر في العالم، فإنما يعطيه الذي بيده المفتاح، بإذن المفتاح كذا أوله بعضهم، وإجراؤه على ظاهره أولى؛ لحديث جابر عند أحمد برجال الصحيح، وصححه ابن حبان وغيره مرفوعًا، "أتيت بمقاليد الدنيا على فرس أبلق، جاءني به جبريل، عليه قطيفة من سندس"، "وسميت أحمد" فلم يسم به أحد قبله، حماية من الله لئلا يدخل لبس على ضعيف اليقين، أو شك في أنه هو المنعوت بأحمد في الكتب السالفة، "وجعلت أمتي خير الأمم" بنص: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} الآية، وشرفها من شرفه، "وذكر خصلة التراب" فقال: "وجعل لي التراب طهورًا"، "فصارت الخصال ثنتي عشرة خصلة".
"وعند البزار من وجه آخر عن أبي هريرة رفعه: "فضلت على الأنبياء" بست، وبين ما فضل به بقوله: "غفر لي ما تقدم من ذنبي وما تأخر" أي: حيل بيني وبين الذنوب، فسترت عني، فلم آتها على أوجه محامله، ويأتي بسطه، "وجعلت أمتي خير الأمم، وأعطيت الكوثر" نهر في الجنة؛ كما صح عن مسلم، "وإن صاحبكم لصاحب لواء الحمد يوم القيامة، تحته آدم فمن دونه" وفي أنه حقيقي، وعند الله علم حقيقته، أو تصوير لعظمته وانفراده بالمقام(7/109)
وذكر ثنتين مما تقدم.
وله من حديث ابن عباس رفعه: "فضلت على الأنبياء بخصلتين: كان شيطاني كافرًا فأعانني الله عليه فأسلم". قال: ونسيت الأخرى.
فينتظم بها سبع عشرة خصلة، ويمكن أن يوجد أكثر من ذلك لمن أمعن التتبع.
وقد ذكر أبو سعيد النيسابوري في كتاب "شرف المصطفى" أن عدد الذي خص به صلى الله عليه وسلم ستون خصلة. وطريق الجمع أن يقال: لعله صلى الله عليه وسلم اطلع أولا على بعض ما اختص به، ثم اطلع على الباقي ومن لا يرى مفهوم العدد حجة يدفع هذا الإشكال من أصله
__________
الذي تحمده الخلائق قولان ويأتي، "وذكر ثنتين مما تقدم" من الخصال تمام الست، "وله" أي: البزار من حديث ابن عباس رفعه: "فضلت على الأنبياء بخصلتين: كان شيطاني كافرًا، فأعانني الله عليه فأسلم" بفتح الميم، أي: آمن بي قطعًا، إذ هذا اللفظ لا يحتمل غير هذا، فأما الذي حكى فيه النووي وغيره روايتين الفتح والضم، فإنما هو حديث مسلم عن ابن مسعود مرفوعًا: "ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن" , قالوا: وإياك؟ قال: "وإياي إلا أن الله أعانني عليه، فأسلم، فلا يأمرني إلا بخير" روي هذا بفتح الميم وضمها، وصحح الخطابي الرفع، ورجح القاضي عياض والنووي الفتح، وهو المختار.
"قال" الراوي ابن عباس أو من دونه: "ونسيت الأخرى" وهي مبينة في رواية البيهقي في الدلائل عن ابن عمر مرفوعًا: "فضلت على آدم بخصلتين: كان شيطاني كافرًا فأعانني الله عليه حتى أسلم، وكن أزواجي عونًا لي وكان شيطان آدم كافرًا، وكانت زوجته عونًا عليه"، "فينتظم" يجتمع "بها" بهذه الأحاديث "سبع عشرة خصلة، ويمكن أن يوجد أكثر من ذلك لمن أمعن التتبع" للأحاديث.
"وقد ذكر أبو سعيد النيسابوري في كتاب شرف المصطفى؛ أن عدد الذي خص به صلى الله عليه وسلم" على الأنبياء "ستون خصلة، وطريق الجمع" بين مختلف هذه الأحاديث من ست، وخمس، وثلاث، وأربع، وثنتين، "أن يقال: لعله عليه السلام اطلع أولا على بعض ما اختص به" فأخبر به، "ثم اطلع على الباقي" فحدث به، إذ لا ينطق عن الهوى، وهذا عند من يحتج بمفهوم العدد، "ومن لا يرى مفهوم العدد حجة" وإن كان نصًا في مدلوله "يدفع هذا الإشكال من أصله" إذ الإخبار بعدد لا يخفي غيره، وهذا الذي ساقه المصنف بعد حديث جابر إلى هنا من فتح الباري.(7/110)
وقد ذكر بعض العلماء أنه صلى الله عليه وسلم أوتي ثلاثة آلاف معجزة وخصيصية.
وقد اختلف في العلم بخصائصه عليه السلام، فقال الصيمري من الشافعية: منع أبو علي بن خيران الكلام فيها، لأنه أمر انقضى فلا معنى للكلام فيه.
وقال إمام الحرمين: قال المحققون ذكر الاختلاف في مسائل الخصائص خبط غير مفيد، فإنه لا يتعلق به حكم ناجز تمس إليه الحاجة، وإنما يجري الخلاف فيما لا يوجد بد من إثبات حكم فيه، فإن الأقيسة لا مجال لها، والأحكام الخاصة تتبع فيها النصوص، وما لا نص فيه فالخلاف فيه هجوم على الغيب من غير فائدة.
وقال النووي في الروضة والتهذيب بعد نقله هذين الكلامين: وقال
__________
"وقد ذكر بعض العلماء، أنه صلى الله عليه وسلم أوتي ثلاثة آلاف معجزة وخصيصية" وذكر النووي في مقدمة شرح مسلم؛ أن معجزاته تزيد على ألف ومائتين، وقال البيهقي في المدخل: بلغت ألفًا، وقال الزاهدي من الحنفية: ظهر على يديه ألف معجزة، وقيل: ثلاثة آلاف هذا لفظ الفتح، وفي الأنموذج: وخص بأنه أكثر الأنبياء معجزات، فقد قيل: إنها تبلغ ألفًا، وقيل: ثلاثة آلاف سوى القرآن فإن فيه ستين ألف معجزة تقريبًا، قال الحليمي: وفيها مع كثرتها معنى آخر، وهو أنه ليس في شيء من معجزات غيره ما ينحو نحو اختراع الأجسام، وإنما ذلك في معجزات نبينا خاصة، انتهى، أي: كتكثير الطعام واللحم والتمر والماء، ونحو ذلك.
"وقد اختلف في العلم بخصائصه عليه السلام، فقال الصيمري" بفتح الصاد المهملة وسكون التحتية، وفتح الميم، وراء نسبة إلى صيمر: نهر بالبصرة عليه عدة قرى، وبلد بخوزستان، كما في اللب "من الشافعية: منع أبو علي بن خيران الكلام فيها، لأنه أمر انقضى، فلا معنى للكلام فيه" لضياع الزمن بلا فائدة.
"وقال إمام الحرمين: قال المحققون: ذكر الاختلاف في مسائل الخصائص خبط" سير على غير هدى "غير مفيد" بل قد يؤدي إلى ضرر شديد، "فإنه لا يتعلق به حكم ناجز، تمس إليه الحاجة، وإنما يجري الخلاف فيما لا يوجد بد من إثبات حكم في، فإن الأقيسة لا مجال لها، والأحكام الخاصة تتبع فيها النصوص، وما لا نص فيه، فالخلاف فيه هجوم على الغيب من غير فائدة".
"وقال النووي في الروضة والتهذيب" للأسماء واللغات "بعد نقله هذين الكلامين، وقال(7/111)
سائر الأصحاب لا بأس به، وهو الصحيح، لما فيه من زيادة العلم، فهذا كلام الأصحاب، والصواب الجزم بجواز ذلك، بل استحبابه، ولو قيل: وجوبه لم يكن بعيدًا، لأنه ربما رأى جاهل بعض الخصائص ثابتًا في الحديث الصحيح فعمل به أخذًا بأصل التأسي، فوجب بيانها لتعرف، فلا يعمل بها، فأي فائدة أهم من هذه الفائدة، وأما ما يقع في ضمن الخصائص مما لا فائدة فيه اليوم فقليل لا تخلو أبواب الفقه عن مثله للتدريب ومعرفة الأدلة، وتحقيق الشيء على ما هو عليه. انتهى كلام النووي وقد تتبعت ما شرف الله به نبينا صلى الله عليه وسلم من الخصائص والآيات، وأكرمه به من
__________
سائر" أي: باقي "الأصحاب" أي: المقلدين لمذهب الشافعي، لا خصوص من صحبه، "لا بأس به" أي يجوز الكلام في الخصائص والبحث عنها، "وهو الصحيح لما فيه من زيادة العلم" وبيان شرف المصطفى ورفيع منزلته عند ربه، "فهذا كلام الأصحاب والصواب الجزم بجواز ذلك" كما قالوا: "بل باستحبابه" لما فيه من بيان شرفه صلى الله عليه وسلم، وكرامته على ربه، حيث أباح له ما لم يوجبه على غيره، كالأمر بالمعروف بلا شرط، وجعل له كرامات وفضائل لم يؤتها غيره، "ولو قيل بوجوبه لم يكن بعيدًا، لأنه ربما رأى جاهل بعض الخصائص ثابتًا في الحديث الصحيح، فعمل به أخذًا بأصل التأسي" لأنا مأمورون باتباعه، "فوجب بيانها لتعرف، فلا يعمل بها، فأي فائدة أهم من هذه الفائدة" وهي معرفة الخصائص، ولذا قال الشمس الحطاب المالكي: ذكرها إما مستحب أو واجب، وهو الظاهر.
"وأما ما يقع في ضمن الخصائص مما لا فائدة فيه اليوم" كتكليم الجماد، وسعي الشجر مما وجد لإظهار عظمته، وإثبات نبوته في زمنه، وقد ثبت ذلك في الأمة وتحقق، فلا فائدة تترتب عليها من اجتناب محرم ونحوه، "فقيل لا تخلو أبواب الفقه عن مثله" حيث يذكر فيها، الأدلة لهم ولمخالفيهم والجواب عن أدلة المخالفين "للتدريب ومعرفة الأدلة وتحقيق الشيء على ما هو عليه" وإلا فلا فائدة فيها إذ لا يبطل المذاهب المقررة، "انتهى كلام النووي" وهو وجيه. وقد تتبعت" طلبت شيئًا بعد شيء بلا عجلة، يقال: تتبع فلان أحوال فلان، أي: تطلبها شيئًا بعد شيء في مهلة "ما شرف الله به نبينا" أي: أعطاه شرفًا وتمييزًا "من الخصائص" على الأنبياء، كانشقاق القمر أو على الأمم، وإن شاركه الأنبياء "والآيات" عطف مرادف أو أعم؛ بأن يراد بها العلامات الدالة على نبوته، وإن شاركه فيها غيره في الجملة لما مر أنه لم يعط نبي معجزة، إلا وأعطي نبينا ما يوازيها ويزيد عليها. "وأكرمه به من(7/112)
الفضائل والكرامات من كتب العلماء، كالخصائص لابن سبع، وخصائص الروضة للنووي، ومختصرها للحجازي، وشرح الحاوي لابن الملقن، وشرح البهجة لشيخ الإسلام زكريا بن أحمد الأنصاري، واللفظ المكرم في خصائص النبي صلى الله عليه وسلم للشيخ قطب الدين الخيضري، واستفدت منه كثيرًا في فصل المعجزات، مع ما رأيته أثناء مطالعتي لفتح الباري، وشرح مسلم للنووي، وشرح تقريب الأسانيد للعراقي وغير ذلك مما يطول ذكره، فتحصل لي من ذلك جملة.
وقد قسمها غير واحد من الأئمة أربعة أقسام:
الأول: ما اختص به صلى الله عليه وسلم من الواجبات، والحكمة في ذلك.
__________
الفضائل" جمع فضيلة، وهي الفضل الخير، وهو خلاف النقص والنقيصة، كما في المصباح، وهذا شامل للمزايا القاصرة والمتعدية، فقول بعض الفضائل المزايا القاصرة، كقيام الليل والفواضل: جمع فاضلة وهي المزايا المتعدية، كالكرم مجرد اصطلاح، وإلا فاللغة تشمل الأمرين، "والكرامات" التي أكرم بها خارقه للعادة بخلاف الفضائل، فلا يلحظ فيها كونها خوارق: عادات "من كتب العلماء" صلة تتبعت "كالخصائص لابن سبع" بإسكان الباء، وقد تضم، "وخصائص الروضة للنووي، ومختصرها للحجازي، وشرح الحاوي لابن الملقن" العلامة سراج الدين، عمر أبو حفص، "وشرح البهجة" لابن الوردي، "لشيخ الإسلام زكريا بن أحمد الأنصاري، واللفظ المكرم في خصائص النبي صلى الله عليه وسلم للشيخ قطب الدين الخيضري، واستفدت منه كثيرًا" من الخصائص "في فصل المعجزات" إضافة بيانية أو من إضافة الصفة للموصوف، وحمله على مغايرة المضاف للمضاف إليه بعيد، كذا قرر شيخنا بناء على قراءة فضل، بضاد معجمة مع أنه بمهملة؛ لأن الخيضري عقد فصلا للمعجزات غير الخصائص، "مع ما رأيته" حال من المجرور بالحرف، وهو كتب العلماء، أي مصحوبًا بما رأيته "أثناء مطالعتي لفتح الباري، وشرح مسلم للنووي، وشرح تقريب الأسانيد" للنووي، "للعراقي" الشيخ ولي الدين، "وغير ذلك" عطف على فتح الباري "مما يطول ذكره، فتحصل لي من ذلك جملة" ذكرتها كلها، لكن في ضمن تقسيم غير واحد لأربعة أقسام، إذ كل كتاب من كتبهم وإن ذكر الأربعة، لكنه لم يستوعبها، كما استوعبتها مما تحصل لي، "وقد قسمها" أي الخصائص "غير واحد من الأئمة أربعة أقسام، الأول: ما اختص به صلى الله عليه وسلم من الواجبات" الثاني: ما اختص به من المحرمات، الثالث: المباحات، الرابع: الفضائل والكرامات، كما يأتي له، وختمها بخصائص أمته، وقد زاد عليه غيره في كل قسم كثيرًا، {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} ، "والحكمة في ذلك"(7/113)
زيادة الزلفى والدرجات، فإنه لن يتقرب المتقربون إلى الله تعالى بمثل أداء ما افترض عليهم. قال بعضهم: خص الله تعالى نبيه بواجبات عليه لعلمه بأنه أقوم بها منهم، وقيل ليجعل أجره بها أعظم.
__________
الاختصاص بالوجوب "زيادة الزلفى" القرب المعنوي، "والدرجات" العلى، أي: الثمرات المترتبة، كالوسيلة، ثم لا ينافي ترتب ذلك على الواجبات؛ أنه أفرغ عليه جميع الكمالات من الأزل؛ لأنه لا يخالف توقفه على فعل واجب، علم الله أنه سيفعله، "فإنه لن يتقرب المتقربون إلى الله تعالى بمثل أداء" أي فعل "ما افترض" أي أوجب الله "عليهم" لعدم وجود مثل الفرض لا مع وجوده، كما يفهمه الكلام بحسب الظاهر، لكنه من إثبات الشيء بدليله على نحو: مثلك لا يبخل وليس كمثله شيء، وحاصل المعنى: أن أعظم شيء يتقرب به فعل الفرض، فالمراد بالأداء اللغوي، وهو فعل الشيء مطلقًا، فشمل الواجب الذي لا وقت له محدود، لا الاصطلاحي، وهو فعل العبادة قبل خروج وقتها، وهو الزمن المعين لها شرعًا، ثم هذا تلميح بخبر البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "إن الله تعالى قال: من عادى وليًا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه". الحديث، قال إمام الحرمين في النهاية: قال بعض علمائنا: الفريضة يزيد ثوابها على ثواب النفل، أي: المماثل لها بسبعين ضعفًا لحديث سلمان مرفوعًا: "في شهر رمضان من تقرب فيه بخصلة من خصال الخير، كان كمن أدى فريضة فيما سواه، ومن أدى فريضة فيه كان من أدى سبعين فريضة في غيره"، فقابل النفل فيه بالفرض في غيره، وقابل الفرض فيه بسبعين فرضًا في غيره، فأشعر بأن الفرض يزيد على النفل بسبعين درجة من طريق الفحوى، انتهى، وتعقب بأن الحديث ضعيف، أخرجه ابن خزيمة، وعلق القول به على صحته، والظاهر أن ذلك من خصائص رمضان، ولذا قال النووي: استأنسوا له بحديث في شهر رمضان.
"قال بعضهم: خص الله تعالى نبيه بواجبات عليه، لعلمه بأنه أقوم بها منهم" أي: أقدر على القيام بها من جميع الأمة.
قال ابن الجوزي: لما كانت الحمامة تزق فراخها لم تحضن غير بيضتين، لأنها لا تقوى على أكثر منها، ولما كانت الدجاجة لا تزق فراخها، كانت تحضن عشرين فأكثر، ولما كان صلى الله عليه وسلم أقوى الحاملين خص بواجبات لم تجب على غيره، انتهى.
"وقيل: ليجعل أجره بها" أي بفعلها "أعظم" ثوابًا من ثواب فعل نفسه، ولو كانت مندوبة له، فالمفضل عليه فعله لا بصفة الوجود، كما قرر شيخنا أو فعل أمته لا فعله لها بغير صفة الوجوب، كما جزم به في الشرح وفي الشامية، وقيل: ليجعل أجره بها أعظم من أجرهم، وقربه(7/114)
فاختص صلى الله عليه وسلم بوجوب الضحى على المذهب، لكن قول عائشة في الصحيح: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسبح سبحة الضحى، يدل على ضعف أنها كانت واجبة عليه. قال الحافظ ابن حجر: ولم يثبت ذلك في خبر صحيح. انتهى، وسيأتي مزيد لذلك إن شاء الله تعالى في ذكر صلاة الضحى من مقصد عبادته عليه السلام.
وهل كان الواجب عليه أقل الضحى أو أكثرها، أو أدنى الكمال؟ قال الحجازي؛ لا تقل فيه، لكن في مسند أحمد: "أمرت بركعتي الضحى ولم تؤمروا بهما".
ومنها الوتر وركعتا الفجر، كما رواه الحاكم في المستدرك وغيره، ولفظ أحمد والطبراني
__________
بها أزيد من قربهم، انتهى، ثم هذا علم من قوله: "لن يتقرب ... " إلخ, "فاختص صلى الله عليه وسلم بوجوب الضحى على المذهب" أي الراجح عند الشافعي، وجزم به صاحب المختصر من المالكية لكنه شاذ؛ كما قال ابن شاس في الجواهر، "لكن قول عائشة في الصحيح: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسبح" يصلي "سبحة الضحى" صلاته، سميت الصلاة تسبيحًا لاشتمالها عليه من تسمية الكل باسم البعض، "يدل على ضعف أنها كانت واجبة عليه" ومن ثم قال في الجواهر: إنما قال بوجوبها بعض من شذ.
"قال الحافظ ابن حجر: لم يثبت ذلك" أي وجوبها عليه "في خبر صحيح" قال: وخبر أحمد: "أمرت بصلاة الضحى ولم تؤمروا بها" ضعيف، وصححه الحاكم فذهل، "انتهى" كلام الحافظ بما زدته، "وسيأتي مزيد لذلك إن شاء الله تعالى في ذكر صلاة الضحى من مقصد عبادته عليه السلام" وهو التاسع، "وهل كان الواجب عليه أقل الضحى" وهو ركعتان "أو أكثرها" وهو ثمان، "أو أدنى الكمال" وهو أربعة.
"قال الحجازي: لا نقل فيه" أي لم يتعرضوا له، كما في الخادم، "لكن في مسند أحمد" عن ابن عباس مرفوعًا: "أمرت بركعتي الضحى" أمر إيجاب بدليل قوله: "ولم تؤمروا بهما" ففيه أن الواجب عليه أقل الضحى، لكنه حديث ضعيف، ود عارضه ما أخرجه أحمد أيضًا من حديث ابن عباس "أمرت بالوتر وركعتي الضحى ولم يكتب" وقد جمع العلماء بين نفي عائشة رؤيته؛ يصليها، وأثبات غيرها صلاتها؛ بأنه كان لا يداوم عليها، مخافة أن تفرض على أمته، فيعجزوا عنها، فلو كانت واجبة لداوم عليها، "ومنها الوتر وركعتا الفجر، كما رواه الحاكم في المستدرك، ورواه "غيره" من حديث ابن عباس، "ولفظ أحمد والطبراني" عن(7/115)
"ثلاث عليّ فريضة وهن لكم تطوع، الوتر وركعتا الفجر وركعتا الضحى".
قال بعضهم: وقد ثبت أنه عليه الصلاة والسلام صلى الوتر على الراحلة. قال: ولو كان واجبًا لما جاز فعله على الراحلة.
وتعقب: بأن فعله على الراحلة من الخصائص أيضًا كما سيأتي فيما اختص به عليه السلام من المباحات، إن شاء الله تعالى. وأجيب بأنه يحتاج إلى دليل.
وهل كان الواجب عليه أقل الوتر أم أكثره؟ أم أدنى الكمال؟ قال الحجازي: لم أر فيه نقلا.
ومنها صلاة الليل
__________
ابن عباس رفعه: "ثلاث" هن "علي فريضة" لازمة، ولفظ الحاكم فرائض، "وهن لكم تطوع، الوتر، وركعتا الفجر، وركعتا الضحى".
قال الحافظ: يلزم من قال به بوجوب ركعتي الفجر عليه: ولم يقولوا به، وإن وقع في كلام بعض السلف والآدمي وابن الحاجب، فقد ورد ما يعارضه، وهذا الحديث ضعيف من جميع طرقه، وإن استدركه الحاكم، وقد أطلق الأئمة عليه الضعف، كأحمد، والبيهقي، وابن الصلاح، وابن الجوزي، والنووي وغيرهم، انتهى.
ولذا "قال بعضهم" معارضًا له: "وقد ثبت أنه عليه الصلاة والسلام صلى الوتر، على الراحلة قال: ولو كان واجبًا لما جاز فعله على الراحلة وتعقب بأن فعله على الراحلة من الخائص أيضًا كما سيأتي فيما اختص به عليه السلام من المباحات إن شاء الله تعالى، وأجيب بأنه" أي: جعل فعله على الراحلة من الخصائص، وإن جزم به النووي على مسلم "يحتاج إلى دليل" ولم يوجد، فهو في حقه سنة، ولذا ادعى البلقيني أنه لم يكن واجبًا عليه، خلافًا لما صححوه، ولا دليل لمن قال: كان واجبًا عليه في الحضر دون السفر، كذا قال "وهل كان الواجب عليه أقل الوتر" ركعة، "أم أكثره، أم أدنى الكمال" وهو ثلاثة.
"قال الحجازي: لم أر فيه نقلا" وقال الزركشي: الظاهر أن مرادهم الجنس، وقياسًا على الضحى، ونازعه شيخنا بالفرق بينهما، لأن الاقتصار على ركعة في الوتر خلا الأولى، أو مكروه، ولا كذلك الضحى، فيكون الواجب عليه في الوتر أدنى الكمال، "ومنها صلاة الليل" أي: التهجد، وعطفها على الوتر، للإشارة إلى مغايرتها له، وهو ما رجحه الرافعي والنووي هنا، ورجحا في صلاة التطوع اتحادهما، ونقله في المجموع عن الأم والمختصر، ورجح ما هنا بما ذكره الرافعي هناك من اعتبار وقوع التهجد بعد النوم، بخلاف الوتر، ومنع القمولي هذا الاعتبار، رده الزركشي بمنع كون المصلي قبل نومه متهجدًا.(7/116)
قال تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ} [الإسراء: 79] أي فريضة زائدة لك على الصلوات المفروضة، أو فضيلة لك لاختصاص وجوبه بك، وهذا ما صححه الرافعي ونقله النووي عن الجمهور، ثم قال: وحكى الشيخ أبو حامد أن الشافعي نص على أنه نسخ وجوبه في حقه، كما نسخ في حق غيره.
ومنها السواك، واستدلوا له بما رواه أبو داود من حديث عبد الله بن أبي حنظلة بن أبي عامر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بالوضوء عند كل صلاة طاهرًا أو غير طاهر، فلما شق عليه ذلك أمر بالسواك لكل صلاة. وفي إسناده محمد بن إسحاق، وقد رواه بالعنعنة وهو مدلس.
وحجة من لم يجعله واجبًا عليه، ما رواه ابن ماجه في سننه من حديث أبي أمامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما جاءني جبريل إلا أوصاني
__________
"قال تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ} [الإسراء: 79] الآية، أي: فريضة زائدة لك على الصلوات المفروضة" فالمراد بالنافلة المعنى اللغوي، فلا ينافي الوجوب لا مقابله، "أو فضيلة" إكرامًا "لك لاختصاص وجوبه بك، وهذا": أي وجوب التهجد "ما صححه الرافعي، ونقله النووي عن الجمهور، ثم قال: وحكى الشيخ أبو حامد أن الشافعي نص على أنه نسخ وجوبه في حقه، كما نسخ في حق غيره" قال في شرح البهجة: وهو الأصح، أو الصحيح، وفي مسلم عن عائشة ما يدل عليه، "ومنها: السواك، واستدلوا له" أي لوجوبه "بما رواه أبو داود من حديث عبد الله بن أبي" صوابه إسقاطه، فهو ابن "حنظلة بن أبي عامر" الراهب، الأنصاري، له رؤية، وأبوه غسيل الملائكة، قتل يوم أحد وأم عبد الله جميلة بنت عبد الله بن أبي، استشهد عبد الله يوم الحرة في ذي الحجة، سنة ثلاث وستين، وكان أمير الأنصار بها، "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بالوضوء عند كل صلاة طاهرًا" أي متوضئًا، "أو غير طاهر" وطاهره ولو نفلا، ورجحه الشيخ ولي الدين، لكن قال الحافظ: سياق الحديث يخصصه بالمفروضة، وكذا قال الزركشي ولا يخالفه، "فلما شق ذلك عليه، أمر بالسواك لكل صلاة" فرضًا، أو نفلا حضرًا، أو سفرًا، وهذا الحديث صححه ابن خزيمة وغيره، "ولكن "في إسناده محمد بن إسحاق" بن يسار، "وقد رواه بالعنعنة وهو مدلس" وإن كان صدوقًا وعنعنة المدلس ليست مقبولة، ما لم يصرح بالسماع ونحوه، كما في الألفية وغيرها، فقال الشامي: إسناده، جيد وفيه اختلاف لا يضر فيه نظر، لأنه وإن لم يضر الاختلاف فيه على بعض رواته، فقد ضر تدليس ابن إسحاق فلا يكون إسناده جيدًا، "وحجة من لم يجعله واجبًا عليه، ما رواه ابن ماجه في سننه من حديث أبي أمامة" الباهلي: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما جاءني جبريل إلا أوصاني(7/117)
بالسواك حتى خشيت أن يفرض علي وعلى أمتي". وإسناده ضعيف، وروى أحمد في مسنده من حديث واثلة ابن الأسقع قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمرت بالسواك حتى خشيت أن يكتب عليّ"، وإسناده حسن، والخصائص لا تثبت إلا بدليل صحيح، قاله في شرح تقريب الأسانيد.
ومنها الأضحية، قال الله تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: 2] ، وروى الدارقطني والحاكم عن ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاث هن عليّ فرائض، وهن لكم تطوع: النحر والوتر وركعتا الفجر".
ومنها المشاورة، قال الله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [عمران: 159] ، فظاهره الإيجاب
__________
بالسواك" وصية استحباب وترغيب فيه، "حتى خشيت أن يفرض عليّ وعلى أمتي" وهذا لو صح كان ظاهرًا في عدم الوجوب، "ولكن إسناده ضعيف" وقد رواه أحمد والطبراني، بإسناد صحيح عن أبي أمامة بلفظ: "إلا أمرني بالسواك حتى لقد خشيت أن أخفي مقدم فمي".
"وروى أحمد في مسنده من حديث واثلة"، بمثلثة، "ابن الأسقع" بالقاف، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمرت" على لسان جبريل، أو بالإلهام، أو بالرؤيا "بالسواك" أمر ندب "حتى خشيت أن يكتب علي" أي: يفرض وإسناده حسن، وقال المنذري وغيره: فيه ليث بن أبي سليم، وهو ثقة مدلس، وقد عنعنه، "والخصائص لا تثبت إلا بدليل صحيح، قاله في شرح تقريب الأسانيد" للحافظ ولي الدين العراقي، لكن المعتمد عند المالكية والشافعية وجوبه عليه.
"ومنها: الأضحية" بضم الهمزة وكسرها، وشد الياء وخفتها، أي: التضحية، "قال الله تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} الآية، أضحيتك، والأمر للوجوب، ولخبر الطبراني بسند صحيح عن ابن عباس، رفعه: "الأضحى عليّ فريضة وعليكم سنة" أي التضحية علي واجبة، سميت باسم الوقت الذي تشرع ذكاتها فيه، وهو ارتفاع النهار.
"وروى الدارقطني والحاكم عن ابن عباس، أنه صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاث هن عليّ فرائض" وفي رواية: فريضة "وهن لكم تطوع: النحر والوتر وركعتا الفجر" مر هذا الحديث قريبًا، وإنه ضعيف من جميع طرقه خلافًا لاستدراك الحاكم.
"ومنها: المشاورة" لذوي الأحلام في غير الشرائع والأحكام، "قال الله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [عمران: 159] الآية، فظاهره الإيجاب" وهو المعتمد عند الشافعية.(7/118)
ويقال إنه استحباب، استمالة للقلوب، ومعناه: استخراج آرائهم، ونقل البيهقي في "معرفة السنن والآثار" عن النص: أن المشورة غير واجبة عليه، كما نبه عليه الحجازي وغيره.
واختلف في المعنى الذي أمر الله نبيه عليه السلام بالمشاورة مع كمال عقله وجزالة رأيه وتتابع الوحي عليه، ووجوب طاعته على أمته.
فقال بعضهم: هو خاص في المعنى، وإن كان عامًا في اللفظ، أي: وشاورهم فيما ليس عندك فيه من الله عهد، يدل عليه قراءة ابن عباس: "وشاورهم في بعض الأمر".
وقال الكلبي: يعني ناظرهم في لقاء العدو، ومكائد الحرب عند الغزو.
وقال قتادة ومقاتل: كانت سادات العرب إذا لم تشاور في الأمر شق
__________
والمالكية، "ويقال: إنه استحباب" وكان وجه صرف الأمر إليه غناه عنها، فإنما هي تطييب لقلوبهم ونحو ذلك "استمالة للقلوب" راجع للقولين، "ومعناه: استخراج آرائهم، ونقل البيهقي في" كتاب "معرفة السنن والآثار عن النص" أي: نص الشافعي: "أن المشورة غير واجبة عليه" فقال: وصرف الشافعي الأمر إلى الندب، فقال: هو كقوله: "البكر تستأمر"، فإنه تطييب لخاطرها لا واجب، فالمشاورة لاستمالة قلوبهم واستخراج آرائهم واستعطافهم، انتهى، "كما نبه عليه الحجازي وغيره" ولكن المعتمد الوجوب، وهو ما صححه الرافعي والنووي.
"واختلف في المعنى الذي أمر الله نبيه عليه السلام بالمشاورة مع كمال عقله" إذ لم يخلق أعقل منه ولا مثله، كما مر. "وجزالة" بفتح الجيم والزاي "رأيه، وتتابع الوحي عليه، ووجوب طاعته على أمته، فقال بعضهم: هو خاص في المعنى، وإن كان عامًا في اللفظ، أي: وشاورهم فيما ليس عندك فيه من الله عهد يدل عليه قراءة ابن عباس: "وشاورهم في بعض الأمر"", وهذا وإن عزاه لبعضهم لا يخالف فيه أحد، إذ ما فيه عهد من الله لا يشاور فيه.
"وقال الكلبي: يعني ناظرهم في لقاء العدو ومكائد الحرب عند الغزو" بأن يذكر لهم ما يتعلق به، فإن ذكروا خلافه، كالخروج له أو عدمه، وكان الصواب خلافه، بيته لهم وأرشدهم إليه، فإن عارضوه برأيهم أظهر لهم ما يترتب عليه حتى تستقر نفوسهم على حسن ما يختاره.
"وقال قتادة ومقاتل: كانت سادات العرب" رؤساؤهم، "إذا لم تشاور في الأمر شق(7/119)
عليهم، فأمر الله تعالى نبيه عليه السلام أن يشاورهم، فإن ذلك أعطف لهم وأذهب لأضغانهم، وأطيب لنفوسهم.
وقال الحسن: قد علم الله أن ما به إليهم حاجة، ولكن أراد أن يستن به من بعده.
وحكى القاضي أبو يعلى، في الذي أمر بالمشاورة فيه قولين: أحدهما: في أمر الدنيا خاصة، والثاني: في أمر الدين والدنيا وهو الأصح، قاله المعافي بن زكريا في تفسيره.
والحكمة في المشاورة في الدين التنبيه لهم على علل الأحكام، وطريق الاجتهاد.
وأخرج ابن عدي والبيهقي في الشعب عن ابن عباس قال: لما نزلت: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما إن الله ورسوله لغنيان عنها ولكن الله جعلها رحمة لأمتي".
__________
عليهم، فأمر الله تعالى نبيه عليه السلام أن يشاورهم، فإن ذلك أعطف لهم" أي: أشد عطفًا، أي: إمالة لقلوبهم إلى رأيه صلى الله عليه وسلم "وأذهب لأضغانهم" أي: حقدهم، أي ما يقوم في نفوس القاصرين من عدم الميل إلى ما يشير عليهم به من أمر الحرب ونحوه، "وأطيب لنفوسهم".
"وقال الحسن" البصري: "قد علم الله أن ما به إليهم حاجة، ولكن أراد أن يستن" أي يقتدي "به ومن بعده".
"وحكى القاضي أبو يعلى في الذي أمر بالمشاورة فيه قولين، أحدهما: في أمر الدنيا خاصة، والثاني: في أمر الدين والدنيا وهو الأصح".
وقد كان صلى الله عليه وسلم كثير المشاورة، "قال المعافى بن زكريا" بن يحيى بن حميد الحافظ، العلامة المفسر، الثقة، النهرواني، كان على مذهب ابن جرير، ولذا يقال له الجريري "في تفسيره، والحكمة في المشاورة في الدين التنبيه لهم على علل الأحكام، وطريق الاجتهاد" فلا يرد أنه لا معنى للقول الأصح؛ لأنه لا يرجع إلى مشورتهم لو أشاروا بخلافه.
"وأخرج ابن عدي والبيهقي في الشعب، عن ابن عباس قال: لما نزلت {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما" بتخفيف الميم، "إن الله ورسوله لغنيان عنها" قال ابن مالك في شرح كافيته: يجوز كسر إن بعد أما، مقصودًا بها معنى ألا الاستفتاحية، فإن قصد بها معنى حقًا فتحت، "ولكن الله جعلها رحمة لأمتي" تطييبًا لنفوسهم وتسهيلا لاعتياد ذلك واتباعه.(7/120)
وعند الترمذي الحكيم من حديث عائشة، رفعته: "إن الله أمرني بمداراة الناس، كما أمرني بإقامة الفرائض".
ومنها مصابرة العدو وإن كثر عددهم.
ومنها تغيير المنكر إذا رآه، لكن قد يقال: كل مكلف تمكن من تغييره يلزمه تغيير، فيقال: المراد أنه لا يسقط عنه صلى الله عليه وسلم بالخوف بخلاف غيره.
__________
"وعند الترمذي الحكيم" محمد بن علي، وكذا عند الديلمي بسند ضعيف "من حديث عائشة، رفعته: "إن الله أمرني بمداراة الناس" أي: بملاطفتهم وملاينتهم، ومن ذلك المشاورة والأمر للوجوب، "كما أمرني بإقامة الفرائض" وفي رواية بدله القرآن، أي أمرني بملاطفتهم قولا وفعلا والرفق بهم وتألفهم ليدخل من يدخل في الدين، وبقي المسلمون شر من قدر عليه الشقاء، ولذا قال حكيم: هذا أمر لا يصلحه إلا لين من غير ضعف، وشدة بلا عنف، وهذه هي المداراة.
أما المداهنة، وهي بدل الدين لصلاح الدنيا، فمحرمة، وأمره بالمداراة لا يعارض أمره بالإغلاظ على الكفار وبعثه بالسيف، لأن المداراة تكون أولا، فإن لم تفد، فالإغلاظ، فإن لم يفد فالسيف.
"ومنها: مصابرة العدو" أي قتال الكفار "وإن كثر عددهم" جدًا، قال بعض أصحابنا: ولو أهل الأرض، لأن الله وعده بالعصمة من الناس، ولأنه كما قال الرازي من العلم بأعلى مكان، كبقية الرسل، فيعلمون أنه لا يتعجل شيء عن وقته، ولا يتأخر شيء عن وقته بخلاف غيرهم من المكلفين، فليس لهم مثل هذا الإيمان، ولا مثل هذا اليقين.
قال الجلال البلقيني: وهو حسن إقناعي، زاد الأنموذج: وإذا بارز رجلا في الحرب لم يول عنه قبل قتله.
"ومنها: تغيير المنكر" وهو ما قبحه الشرع قولا أو فعلا ولو صغيرة، "إذا رآه" مطلقًا، ووجه الخصوصية أنه فرض عين عليه بخلاف غيره، فكفاية الجرجاني وغيره، ففي قوله: "لكن قد يقال كل مكلف تمكن من تغييره يلزمه تغييره" شيء، لأنه كفائي، "فيقال" في دفع هذا الاستدراك: "المراد أنه لا يسقط عنه صلى الله عليه وسلم بالخوف" على نفسه أو عضوه أو ماله، فإن الله وعده بالعصمة، أي: يحفظ روحه، فلا يرد نحو شج رأسه على أنه قبل نزول الآية فالعصمة محققة له، {إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} ، "بخلاف غيره" من الأمة، فيسقط عنه إظهار الإنكار للخوف على ما ذكر، زاد الأنموذج: ولا يسقط إذا كان المرتكب يزيده الإنكار إغراء، لئلا يتوهم(7/121)
ومنها قضاء دين من مات مسلمًا معسرًا، روى مسلم حديث: "أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فمن توفي وعليه دين فعلي قضاؤه، ومن ترك مالًا فلورثته".
قال النووي: كان هذا القضاء واجبًا عليه صلى الله عليه وسلم.
__________
إباحته بخلاف سائر الأمم، ذكره السمعاني في القواطع، انتهى، وهذا هو المعتمد خلافًا للغزالي، فالحاصل أنه واجب عليه عينًا بلا شرط.
"ومنها: قضاء دين من مات مسلمًا معسرًا" لم يترك ما يوفي منه دينه، "روى مسلم" لا وجه لتخصيصه، بل البخاري، وأحمد، والنسائي، وابن ماجه "حديث" أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يؤتى بالرجل المتوفى الذي عليه دين، فيسأل: "هل ترك لدينه قضاء"، فإن حدث أنه ترك قضاء صلى عليه، وإلا قال: "صلوا على صاحبكم" فلما فتح الله عليه الفتح، قال: "أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم" في كل شيء من أمر الدارين، لأنه الخليفة الأكبر الممد لكل موجب، فيجب أن يكون أحب من أنفسهم، وإن حكمه أنفذ عليهم من حكمها.
قال بعض الصوفية: وإنما كان كذلك، لأن أنفسهم تدعوهم إلى الهلاك، وهو يدعوهم إلى النجاة، فيجب عليهم إيثار الطاعة على شهوات نفوسهم، وإن شق عليهم، وأن يحيوه بأكثر من تحيتهم لأنفسهم، ومن محاسن أخلاقه السنية أنه لم يذكر ماله في ذلك من الحقوق، بل اقتصر على ما هو عليه، فقال: "فمن توفي" بالبناء للمجهول، أي: توفاه، الله، أي: مات من المؤمنين، "وعليه دين" بفتح الدال وفي رواية: فترك دينا "فعلي قضاؤه".
قال ابن بطال: هذا ناسخ لتركه الصلاة على من مات وعليه دين، "ومن ترك مالا" أي: حقًّا، فالمال أغلبي إذ الحق يورث كالمال، "فلورثته" وفي رواية البخاري: فلترثه عصبته من كانوا، وهذا تفريع على الأولوية العامة له وعليه، لا تخصيص لها، كما فهمه القرطبي، فاعترض التعميم، بأنه النبي صلى الله عليه وسلم قد تولى تفسيرها، ولا عطر بعد عروس، بل أفاد فائدة حسنة، وهو أن مقتضى الأولوية مرعى في جانبه أيضًا، لكنه ترك ذكر ذلك تكرمًا، قال الداودي: المراد بالعصبة هنا الورثة لا من يرث بالتعصيب، وقيل: المراد قرابة الرجل، وهم من يلتقي مع الميت في أب ولو علا، وقال الكرماني: المراد العصبة بعد أصحاب الفروض، ويؤخذ حكمهم من ذكر العصبة بطريق الأولى، ويشير إلى ذلك قوله: من كانوا؛ فإنه يتناول أنواع المنتسبين إليه بالنفس أو بالغير، قال: ويحتمل أن تكون من شرطية.
"قال النووي: كان هذا القضاء واجبًا عليه صلى الله عليه وسلم".
قال ابن بطال: أي: مما يفيء الله عليه من المغانم والصدقات، قال: وهكذا يلزم المتولي لأمر المسلمين أن يفعله بمن مات وعليه دين، انتهى، وهذا هو الراجع عند الشافعية، فإن لم(7/122)
قيل: تبرع منه، والخلاف وجهان لأصحابنا وغيرهم، قال: ومعنى الحديث: أنه عليه الصلاة والسلام قال: أنا قائم بمصالحكم في حياة أحدكم أو موته، أنا وليه في الحالين، فإن كان عليه دين قضيته من عندي إن لم يخلف وفاء، وإن كان له مال فلورثته، لا آخذ منه شيئًا، وإن خلف عيالا محتاجين ضائعين فليأتوا إلي فعلي نفقتهم ومؤنتهم، انتهى.
__________
يفعل، فالإثم عليه إن كان حق الميت في بيت المال يفي بقدر ما عليه من الدين، وإلا فبقسطه، والمرجح عند المالكية؛ أنه من ماله الخاص به عليه السلام، إذ حمله على مال المصالح لا تحصل به خصوصية.
قال ابن بطال: فإن لم يعط الإمام عنه من بيت المال لم يحبس عن دخول الجنة، لأنه يستحق القدر الذي عليه في بيت المال، إلا إذا كان دينه أكثر من القدر الذي له في بيت المال مثلا.
قال الحافظ: والذي يظهر أن ذلك يدخل في المقاصصة وهو كمن له حق، وعليه حق وذلك أنهم إذا خلصوا من الصراط حبسوا عند قنطرة بين الجنة والنار يتقاصون المظالم، حتى إذا هذبوا ونفوا أذن لهم في دخول الجنة، فيحمل قوله: لا يحبس، أي: معذبًا مثلا، انتهى، "وقيل" لم يكن واجبًا، بل هو "تبرع منه والخلاف" المذكور "وجهان لأصحابنا وغيرهم" والأرجح الوجوب، "قال" أي النووي: "ومعنى الحديث أنه عليه الصلاة والسلام، قال: أنا قائم بمصالحكم في حياة أحدكم أو موته، أنا وليه في الحالين فإن كان عليه دين قضيته من عندي" مالي الخاص بي. أو مال المصالح، القولان "إن لم يخلف وفاء، وإن كان له مال فلورثته، لا آخذ منه شيئًا، وإن خلف عيالا محتاجين ضائعين، فليأتوا إليّ، فعليّ نفقتهم ومؤنتهم" هذا زائد على معنى الحديث أتى به من الحديث الآخر، "انتهى" كلام النووي.
قال الحافظ: قال العلماء: كان الذي فعله صلى الله عليه وسلم من ترك الصلاة على من عليه دين ليحرض الناس على قضاء الديون في حياتهم والتوصل إلى البراءة منها، لئلا تفوتهم صلاتهم عليهم، وهل صلاته على المدين محرمة عليه أو جائزة وجهان.
قال النووي: الصواب الجزم بالجواز مع وجود الضامن؛ كما في حديث مسلم، وحكى القرطبي؛ أنه ربما كان يمتنع من الصلاة على من أدان دينًا غير جائز، وأما من استدان لأمر جائز، فلا يمتنع، وفيه نظر إذ الحديث دال على التعميم، حيث قال: "من توفي وعليه دين" ولو كان الحال مختلفًا لبينه، نعم جاء عن ابن عباس؛ أنه صلى الله عليه وسلم لما امتنع من الصلاة على من عليه دين جاء جبريل، فقال: "إنما المظالم في الديون التي حملت في البغي والإسراف، فأما المتعفف ذو(7/123)
وفي وجوب قضائه على الإمام من مال المصالح وجهان، لكن قال الإمام: من استدان وبقي معسرًا إلى أن مات لم يقض دينه من بيت المال، فإن كان ظلم بالمطل ففيه احتمال، والأولى: لا، والله أعلم.
ومنها تخيير نسائه صلى الله عليه وسلم في فراقه، وإمساكهن بعد أن اخترنه في أحد الوجهين، ووجوب ترك التزوج عليهن والتبدل بهن مكافأة لهن، ثم نسخ ذلك، لتكون المنة له عليه السلام عليهن، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا} [الأحزاب: 28] الآية.
__________
العيال، فأنا ضامن له أؤدي عنه" فصلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وقال بعد ذلك: "من ترك ضياعًا" الحديث، وهو ضعيف، وليس فيه أن التفصيل المذكور كان مستمرًا، وإنما فيه أنه طرأ بعد ذلك، وأنه السبب في قوله: "من ترك دينًا فعليّ".
"وفي وجوب قضائه على الإمام من مال المصالح" أي: مال بيت المال "وجهان" المعتمد عدم الوجوب مطلقًا عندهم، والراجح عند المالكية وجوبه من بيت المال على الأئمة إذا عجز عن الوفاء قبل الموت، وتداينه في غير معصية أو فيها وتاب منها.
قال الشهاب القرافي: وأحاديث الجنس عن الجنة منسوخة بما جعله الله على الأئمة من وجوب وفاء دين المسلم الميت بالقيد من بيت المال، قال: وإنما كانت قبل الفتوحات، "لكن قال الإمام: من استدان وبقي معسرًا إلى أن مات لم يقض دينه من بيت المال، فإن كان ظلم بالمطل، ففيه احتمال، والأولى لا" يقضي، "والله أعلم" بالحكم.
"ومنها: تخيير نسائه" مصدر مضاف لمفعوله، أي: أن المصطفى يخير نساءه "في فراقه" وفي بقائهن معه، "ومنها: إمساكهن" فرفع عطفًا على تخيير لا بالجر لفساده، إذ يصير المعنى يجب عليه التخيير في الفراق وفي الإمساك، "بعد أن اخترنه" مكافأة لهن، وهذا "في أحد الوجهين" والثاني: لم يحرم عليه الطلاق أصلا، بل له الفراق بعد اختيارهن البقاء وهو الأصح، كما قاله شيخ الإسلام وغيره، "ووجوب ترك التزوج عليهن" بعد أن اخترنه، "وترك التبدل" فهو بالخفض عطف على التزوج "بهن مكافأة لهن" قال تعالى: {لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ} الآية، "ثم نسخ ذلك" بقوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ} الآية، "لتكون المنة له عليه السلام عليهن" بإمساكهن، وترك التزوج عليهن، "قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ} أي: إن كان أعظم همكن وأقصى طلبكن {الدُّنْيَا} ، أي: التمتع بها والنيل من نعيمها "وزينتها" الآية، المال والبنين "الآية" أي: جنسها، فيشملها والتي بعدها، إذ(7/124)
واختلف في تخييره لهن على قولين، أحدهما: أنه خيرهن بين اختيار الدنيا فيفارقهن، واختيار الآخرة فيمسكهن، ولم يخيرهن في الطلاق، وهذا هو قول الحسن وقتادة، والثاني: أنه خيرهن بين الطلاق والمقام معه، وهذا قول عائشة ومجاهد والشعبي ومقاتل.
واختلفوا في السبب الذي لأجله خير صلى الله عليه وسلم نساءه على أقوال:
أحدها: أن الله تعالى خيره بين ملك الدنيا ونعيم الآخرة على الدنيا، فاختار الآخرة وقال: "اللهم أحيني مسكينًا وأمتني مسكينًا واحشرني في زمرة المساكين". فلما اختار ذلك أمره الله تعالى بتخيير نسائه ليكن على مثل.
__________
كلاهما مراد ولما نزلت بدأ بعائشة، وقال: "إني ذاكر لك أمرًا، فلا تبادريني بالجواب حتى تستأمري أبويك"، فاختارته وقالت: يا رسول الله! لا تقل إني اخترتك، فقال: "إن الله لم يبعثني معنتًا ولا متعنتًا، وإنما بعثني معلمًا ميسرًا" رواه الشيخان عن عائشة، ومعنتا، بكسر النون، أي: مشقًا على عباده ومتعنتًا، أي: طالبًا للعنت، وهو العسر والمشقة.
"واختلف في" صفة "تخييره لهن على قولين، أحدهما: أنه خيرهن بين اختيار الدنيا فيفارقهن، وبين "اختيار الآخرة فيمسكهن ولم يخبرهن في الطلاق، وهذا قول الحسن" البصري، وقتادة بن دعامة، وأكثر أهل العلم، كما قال البغوي وهو ظاهر القرآن، قال غير واحد: وهو الصحيح لقوله تعالى: {فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ} [الأحزاب: 28] الآية، فلو اخترن الدنيا لم يقع عليه طلاق حتى يوقعه هو، "والثاني: أنه خيرهن بين الطلاق" بأن فوضه إليهن، فلو أوقعنه لوقع، "وبين المقام معه" فلا يقع عليه، "وهذا قول عائشة، ومجاهد، والشعبي" عامر بن شراحبيل، "ومقاتل".
"واختلفوا في السبب الذي لأجله خير صلى الله عليه وسلم نساءه على أقوال: أحدها: أن الله تعالى خيره بين ملك الدنيا ونعيم الآخرة" فيقدمه "على" نعيم "الدنيا، فاختار الآخرة، وقال" فيما رواه ابن ماجه وغيره: "اللهم أحيني مسكينًا، وأمتي مسكينًا واحشرني" اجمعني "في زمرة" بضم الزاي: جماعة "المساكين" أي: اجعلني منهم قال اليافعي: وناهيك بهذا شرفًا، ولو قال: واحشر المساكين في زمرتي لكفاهم شرفًا، قال البيهقي: ولم يسأل مسكنة ترجع إلى القلة، بل إلى الإخبات والتواضع، ولذا قال شيخ الإسلام زكريا: معناه طلب التواضع والخضوع، وأن لا يكون من الجبابرة المتكبرين والأغنياء المترفين، وتقدم مزيد لهذا الفصل الثالث من المقصد الثالث، "فلما اختار ذلك أمره الله تعالى بتخيير نسائه ليكن على مثل(7/125)
اختياره. حكاه أبو القاسم النميري.
والثاني: لأنهن تغايرن عليه.
والثالث: لأن أزواجه طالبنه وكان غير مستطيع، فكان أولهن أم سلمة سألته سترًا معلمًا، وسألته ميمونة حلة يمانية، وسألته زينب ثوبًا مخططًا وهو البرد اليماني، وسألته أم حبيبة ثوبًا سحوليًا، وسألته كل واحدة شيئًا إلا عائشة. حكاه النقاش.
والرابع: أن أزواجه عليه السلام اجتمعن يومًا فقلن: نريد ما تريد النساء من الحلي فأنزل الله آية التخيير، حكاه النقاش أيضًا، وذلك أنه لما نصر الله تعالى رسوله.
__________
اختياره" فليس أمره بذلك بمعنى قام بهن من طلب شيء ونحوه، بل لئلا يكون مكرها لهن على ما اختاره لنفسه، "حكاه أبو القاسم النميري" بضم النون، وفتح الميم، وسكون التحتية، وراء نسبة إلى نمير بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن، كما في اللباب.
"والثاني: لأنهم تغايرن عليه" قال قتادة: سبب الآية غيرة غارتها عائشة، وقال ابن زيد: وقع بين أزواجه تغاير ونحوه مما يتغير به مزاجه، فنزلت، حكاهما ابن عطية.
"والثالث: لأن أزواجه" الأولى حذف اللام فيه وفيما قبله "طالبنه" بالنفقة وشططن عليه في تكليفه منها فوق سعته، "وكان غير مستطيع، فكان أولهن أم سلمة سألته سترًا معلمًا" بضم الميم، وسكون المهملة، وفتح اللام اسم مفعول من أعلمت الثواب، أي: جعلت له علمًا من طراز ونحوه، "وسألته ميمونة" بنت الحارث الهلالية "حلة يمانية، وسألته زينب" ابنة جحش الأسدية، لما تقدم في الزوجات، أن آية التخيير إنما نزلت وفي عصمته التسع التي توفي عنهن، فليس المراد زينب ابنة خزيمة لموتها عنده صلى الله عليه وسلم قبل نزول الآية، "ثوبًا مخططًا، وهو البرد اليماني، وسألته أم حبيبة" بنت أبي سفيان الأموية "ثوبًا سحوليًا" بسين وحاء مهملتين.
قال في المصباح: مثل رسول بلدة باليمن يجلب منها الثياب، وينسب إليها على لفظها، فيقال: أثواب سحولية، وبعضهم يقول: سحولية، بالضم نسبة إلى الجمع، وهو غلط؛ لأن النسبة إلى الجمع، أي وهو سحل بضمتين إذا لم يكن علمًا، وكان له واحد من لفظه ترد إلى الواحد بالاتفاق، "وسألته كل واحدة" من باقي التسع "شيئًا إلا عائشة، حكاه النقاش" في تفسيره.
"والرابع: أن أزواجه عليه السلام اجتمعن يومًا، فقلن: نريد ما تريد النساء من الحلي؟ فأنزل الله آية التخيير، حكاه النقاش أيضًا، وذلك أنه لما نصر الله تعالى رسوله،(7/126)
وفتح عليه قريظة والنضير، ظن أزواجه أنه اختص بنفائس اليهود وذخائرهم، فقعدن حوله وقلن يا رسول الله، بنات كسرى وقيصر في الحلي والحلل، ونحن على ما تراه من الفاقة والضيق، وآلمن قلبه لمطالبتهن له بتوسعة الحال، وأن يعاملن بما يعامل به الملوك والأكابر أزواجهم، فأمره الله تعالى أن يتلو عليهن ما نزل في أمرهن لئلا يكون لأحد منهن عليه منة في الصبر على ما اختاره من خشونة العيش.
__________
وفتح عليه قريظة" بالظاء المشالة، "والنضير ظن أزواجه أنه اختص بنفائس اليهود وذخائرهم" بذال وخاء معجمتين: أموالهم المعدة لوقت الحاجة: جمع ذخيرة، "قعدن حوله، وقلن: يا رسول الله! بنات كسرى وقيصر في الحلي والحلل، ونحن على ما تراه من الفاقة" أي: الحاجة "والضيق، وآلمن قلبه لمطالبتهن له بتوسعة الحال" مع أنه خلاف مراده، "وأن يعاملن بما تعامل به الملوك والأكابر أزواجهم" من الحلى والحلل وتوسيع العيش، "فأمره الله تعالى أن يتلو عليهن ما نزل في أمرهن، لئلا يكون لأحد منهن عليه منة في الصبر على ما اختاره من خشونة العيش".
وأخرج مسلم، وأحمد، والنسائي عن جابر: أقبل أبو بكر يستأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يؤذن له، ثم أقبل عمر، فاستأذن، فلم يؤذن له، ثم أذن لهما فدخلا، والنبي صلى الله عليه وسلم جالس وحوله نساؤه، وهو ساكت، فقال عمر: لأكلمن النبي صلى الله عليه وسلم لعله يضحك، فقال عمر: يا رسول الله! لو رأيت ابنة زيد امراة عمر سألتني النفقة آنفًا، فوجأت عنقها، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدا ناجذه، وقال: "هن حولي يسألنني النفقة"، فقام أبو بكر إلى عائشة يضربها، وقام عمر إلى حفصة كلاهما يقول: تسألان النبي صلى الله عليه وسلم ما ليس عنده!! فنهاهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال نساؤه: والله لا نسأله بعد هذا المجلس ما ليس عنده ثم اعتزلهن شهرًا، ثم نزلت عليه هذه الآية: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ} إلى قوله: {عَظِيمًا} ، الآية، فبدأ بعائشة، فقال: "إني ذاكر لك أمرا ما أحب أن تعجليني فيه حتى تستأمري أبويك". قالت: ما هو؟ فتلا عليها: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ} الآية، قالت: أفيك أستأمر أبوي، بل أختار الله ورسوله.
وفي البخاري وغيره عن عمر في قصة المرأتين اللتين تظاهرتا، فذكر الحديث بطوله، وفيه: فاعتزل النبي صلى الله عليه وسلم نساءه من أجل ذلك الحديث حين أفشته حفصة إلى عائشة، وكان قد قال: "ما أنا بداخل عليهن شهرًا" من شدة توجده حين عاتبه الله، فلما مضت تسع وعشرون(7/127)
فلما اخترنه وصبرن معه عوضهن الله على صبرهن بأمرين: أحدهما أن جعلهن أمهات المؤمنين تعظيمًا لحقهن وتأكيدًا لحرمتهن، وتفضيلهن على سائر النساء بقوله: {لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ} [الأحزاب: 32] ، والثاني: أن حرم الله عليه طلاقهن والاستبدال بهن فقال تعالى: {لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ} [الأحزاب: 52] الآية، فكان تحريم طلاقهن مستدامًا.
__________
دخل على عائشة، قالت: فأنزلت آية التخيير، فبدأ بي أول امرأة في فتح الباري، فاتفق الحديثان على أن آية التخيير نزلت عقب فراغ الشهر الذي اعتزلهن فيه، لكن اختلفا في سبب الاعتزال، ويمكن الجمع بأن يكونا جميعًا سبب الاعتزال، فإن قصة المتظاهرتين خاصة بهما، وقصة سؤال النفقة عامة في جميع النسوة، ومناسبة آية التخيير لقصة سؤال النفقة أليق منها بقصة المتظاهرتين، انتهى، "فلما اخترنه" كلهن على الصحيح الثابت في البخاري ومسلم وغيرهما، وما يروى عند ابن إسحاق أن فاطمة بنت الضحاك الكلابية اختارت الدنيا، فكانت تلقط البعر، وتقول هي الشقية.
وعند ابن سعيد: أن العامرية اختارت قومها، فكانت تقول: هي الشقية، فضعفه ابن عبد البر، وتبعه بأن الآية إنما نزلت وفي عصمته التسع اللاتي توفى عنهن، وقد صرحت عائشة في الصحيحين بأنهن كلهن اخترن الله ورسوله والدار الآخرة، وقد تقدم بسط ذلك في الزوجات، "وصبرن معه عوضهن" أي: قابلهن "الله على صبرهن بأمرين" الباء للمقابلة، وهي الداخلة على الأعواض أثمانًا أو غير أثمان نحو: اشتريته بألف وكافأت إحسانه بضعف، فالمعنى جعل لهن عوضًا عن صبرهن أمرين، "أحدهما: أن جعلهن أمهات المؤمنين" في الاحترام والتعظيم لا في الخلوة بهن ومنه نكاح بناتهن وأخواتهن، كما أفاده قوله: "تعظيمًا لحقهن، وتأكيدًا لحرمتهن، وتفضيلهن على سائر النساء" وهذا يصلح جعله أمرًا مستقلا، وإن أدمجه المصنف فيما قبله، "بقوله: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ} [الأحزاب: 32] ".
قال السبكي: ظاهر الآية أن أزواجه صلى الله عليه وسلم أفضل النساء مطلقًا حتى مريم، وظاهرها أيضًا تفضيلهن على بناته إلا أن يقال بدخولهن في اللفظ، لأنهن من نساء النبي، نقله عنه السيوطي في الإكليل وأقره، "والثاني، أن حرم عليه طلاقهن والاستبدل بهن، فقال تعالى: {لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ} [الأحزاب: 25] ، فكان تحريم طلاقهن مستدامًا" في أحد الوجهين، والآخر أن له الفراق بعد اختيارهن البقاء معه، وهو الأصح، كما مر، وأما قوله تعالى: {مِنْ بَعْدُ} ، أي: من بعد التسع، ففيه خلاف، فقيل: إنها حظرت عليه النساء إلا التسع اللواتي كن عنده.(7/128)
وأما تحريم التزويج عليهن فنسخ، قالت عائشة: ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحل الله له النساء، يعني اللاتي حرمن عليه، وقيل: الناسخ لتحريمهن عليه قوله تعالى: {إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ} [الأحزاب: 50] الآية.
وقال النووي في الروضة: لما خيرهن فاخترنه كافأهن على حسن صنيعهن بالجنة فقال: {فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا} . انتهى.
وإنما اختص صلى الله عليه وسلم بوجوب التخيير لنسائه بين التسريح والإمساك، لأن الجمع بين عدد منهن يوغر صدورهن بالغيرة التي هي أعظم الآلام، وهو إيذاء يكاد ينفر القلب ويوهن الاعتقاد، وكذا إلزامهن على الصبر والفقر يؤذيهن، ومهما ألقى زمام الأمر إليهن خرج عن أن يكون ضررًا.
__________
قال ابن عطية: وكأن الآية ليست متصلة بما قبلها، وقال أبي بن كعب وعكرمة، أي: من الأصناف التي سميت، ومن قال الإباحة كانت مطلقة، قال هنا معناه لا تحل لك اليهوديات، ولا النصرانيات، وهذا تأويل في بعد، وإن روي عن مجاهد، انتهى.
"وأما تحريم التزويج عليهن فنسخ، قالت عائشة: ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحل الله له النساء، يعني اللاتي حرمن عليه" ولذا تزوج، كما مر تفصيله في الزوجات، "وقيل: الناسخ لتحريمهن عليه قوله تعالى: {إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ} [الأحزاب: 50] ، وإن تقدم عليه التلاوة، وفي ابن عطية ذهب هبة الله إلى أن قوله تعالى: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ} الآية، ناسخ لقوله {لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ} الآية، وقال: ليس في كتاب الله ناسخ تقدم المنسوخ إلا هذا، قال: وكلامه مضعف من جهات، انتهى.
"وقال النووي في الروضة: لما خيرهن فاخترنه، كافأهن الله عز وجل على حسن صنيعهن بالجنة، فقال: {إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ} يسر وهيأ {لِلْمُحْسِنَاتِ} المطيعات {مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا} الآية، أي الجنة؛ كما قال، "انتهى، وإنما اختص صلى الله عليه وسلم بوجوب التخيير لنسائه بين التسريح والإمساك لأن الجمع بين عدد منهن يوغر" بضم التحتية، وكسر المعجمة وبالراء، أي: يهيج "صدورهن" بالغيظ والضغن والعداوة "بالغيرة" أي: بسببها "التي هي أعظم الآلام، وهو" أي: الألم "إيذاء يكاد ينفر القلب ويوهن الاعتقاد، وكذا إلزامهن على الصبر والفقر يؤذيهن، ومهما ألقى زمام الأمر إليهن" بالتخيير "خرج عن أن يكون" ما هن عليه "ضررًا" فلا يرد أن الأولى أن(7/129)
فنزه عن ذلك منصبه العالي. وقيل له: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ} .
ومنها: إتمام كل تطوع شرع فيه، حكاه في الروضة وأصلها، قال النووي: وهو ضعيف. وفرعه بعض الأصحاب: على أنه كان يحرم عليه صلى الله عليه وسلم إذا لبس لأمته أن ينزعها حتى يلقى العدو ويقاتل, ذكره في تهذيب الأسماء واللغات.
ومنها: أنه كان يلزمه أداء فرض الصلاة بلا خلل. قال الماوردي: قال العراقي في شرح المهذب: إنه كان معصومًا عن نقص الفرض، والمراد خلل لا يبطل الصلاة.
وقال بعضهم: كان يجب عليه صلى الله عليه وسلم إذا رأى ما يعجبه أن يقول: "لبيك إن العيش عيش الآخرة"، ثم قال: هذه كلمة صدرت منه صلى الله عليه وسلم في أنعم حالة يسر بها،
__________
يكون ضارًا لهن، "فنزه عن ذلك منصبه العالي" على كل منصب، "وقيل له: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ} ، "ومنها إتمام كل تطوع شرع فيه، حكاه في الروضة وأصلها".
"قال النووي: وهو ضعيف" لخبر مسلم؛ أنه قال لعائشة ذات يوم: "هل عندكم شيء"؟. قالت: أهدي لنا حيس، قال: "هاتيه"، فأكله، ثم قال: "لقد كنت أصبحت صائمًا" فلو وجب عليه لم يفطر بعد الشروع في الصوم، "وفرعه بعض الأصحاب على أنه كان يحرم عليه صلى الل علي وسلم إذا لبس لأمته" أي: درعه, تجمع على لأم مثل تمرة وتمر، وعلى لؤم كنقر على غير قياس، كأنه جمع لؤمة، قاله الجوهري. "أن ينزعها حتى يلقى العدو ويقاتل، ذكره في تهذيب الأسماء واللغات" الواقعين في الشرح الكبير للرافعي على وجيز الغزالي، "ومنها: أنه كان لزمه أداء فرض الصلاة بلا خلل" يفسد كمالها، "قاله الماوردي" وإيضاحه ما "قال العراقي" أبو إسحاق إبراهيم بن منصور المصري، ولد بمصر سنة عشر وخمسمائة، وقيل له العراقي، لأنه سافر إلى بغداد، وأقام بها مدة يشتغل، ثم عاد إلى مصر، وتولى خطابة الجامع العتيق، مات سنة ست وتسعين "في شرح المهذب" وهو شرح حسن، قاله السيوطي؛ "إنه كان معصومًا عن نقص الفرض، انتهى، والمراد خلل لا يبطل الصلاة" كترك خشوع، فأما المبطل، فلا يتوهم وقوعه منه، وألحق بالصلاة غيرها من عباداته، كالصوم.
"وقال بعضهم" من خصائصه؛ أنه كان يجب عليه صلى الله عليه وسلم إذا رأى ما يعجبه أن يقول: "لبيك إن العيش" المعتر الدائم "عيش الآخرة" لا عيش الدنيا لكدره، وكونه مع المنغصات الكثيرة، ثم هو فانٍ، وإن طال, {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ} ، "ثم قال" هذا البعض: "هذه الكلمة صدرت منه صلى الله عليه وسلم في أنعم حالة يسر بها" ويحتمل أن الهاء ضمير عائد له عليه السلام، وهذا أنسب(7/130)
وهو يوم حجه بعرفة، وفي أشد حالة وهو يوم الخندق، انتهى.
ومنها: أنه كان يؤخذ عن الدنيا حالة الوحي، ولا يسقط عنه الصوم والصلاة وسائر الأحكام، كما ذكره في زوائد الروضة عن ابن القاص والقفال، وكذا ذكره ابن سبع.
ومنها: أنه كان يغان
__________
بقوله: "وهو يوم حجه بعرفة، وفي أشد حالة، وهو يوم الخندق، انتهى" ما قاله بعضهم، وهو وجه حكاه في الروضة، وأصلها كما في الأنموذج.
قال شارحه: والثاني لا يجب، وهو الأصح، لأنه رأى ما يعجبه يوم وقعة بدر التي أعز الله فيها الإسلام وأهله، والفتح الأعظم الذي هو فتح مكة، ولم ينقل أنه قاله مع توفر الدواعي على نقله، فلو وقع لنقل، انتهى.
"ومنها: أنه كان يؤخذ عن الدنيا حالة الوحي" أي: عند تلقيه، "ولا يسقط عنه الصوم والصلاة وسائر الأحكام" التي كلف بها، بل هو مخاطب بها في تلك الحالة، وهو آية كمال عقله فيها، وإن أخذه إنما هو بحسب الظاهر، لا الحقيقة، "كما ذكره" النووي "في زوائد الروضة عن ابن القاص والقفال، وكذا ذكره ابن سبع" والبيهقي وغيرهم، وحديث شأن الوحي في الصحيحين صريح في أنه صلى الله عليه وسلم كان يتنقل من حالته المعروفة إلى حالة تستلزم الاستغراق والغيبة عن الحالة الدنيوية حتى ينتهي الوحي ويفارقه الملك.
قال السراج البلقيني: وهي حالة يؤخذ فيها عن حال الدنيا من غير موت، فهو مقام برزخي يحصل له عند تلقي الوحي، ولما كان البرزخ العام ينكشف فيه للميت كثير من الأحوال، خص الله نبيه ببرزخ في الحياة يلقى الله فيه، وهو مشتمل على كثير من الأسرار، وقد وقع لكثير من الصلحاء عند الغيبة بالنوم أو غيره اطلاع على كثير من الأسرار، وذلك مستمد من المقام النبوي، ويشهد لذلك حديث: "رؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة" انتهى.
وتوقف شيخنا في عد هذا خصوصية، حيث كان عقله في تلك الحالة حاضرًا، لأنه لو حصل مثله لآحاد البشر، خرقًا للعادة، فاستغرق في مشاهدة الله مع حضور قلبه ومعرفة ما يرد عليه من نفع أو ضر لكان مكلفًا، اللهم إلا أن يقال عد خصوصية لكمال استغراقه حتى أن ما يدركه في تلك الحالة، كإدراكه في حالة نومه للمعاني والأحكام، لأنه لا ينام قلبه، وذلك بحسب ظاهر الحال يقتضي عدم التكليف، انتهى. فليتأمل.
"ومنها: أنه كان يغان" بغين معجمة من الغين، وهو الغطاء، قال النووي: بالنون والميم،(7/131)
على قلبه فيستغفر الله سبعين مرة. ذكره ابن القاص ونقله عنه ابن الملقن في كتاب الخصائص، ورواه مسلم وأبو داود من حديث الأغر المزني بلفظ: "إنه ليغان على قلبي وإني لأستغفر الله
__________
بمعنى، والمراد هنا ما يغشى "على قلبه، فيستغفر الله سبعين مرة" رواه الترمذي عن أبي هريرة رفعه: "إني لأستغفر الله في اليوم سبعين مرة" ورواه النسائي وابن حبان من حديث أنس بلفظ: "إني لأتوب إلى الله في اليوم سبعين مرة"، وروى البخاري عن أبي هريرة رفعه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة".
قال السيوطي رحمه الله: المختار أن هذا من المتشابه الذي لا يخاض في معناه، وقد سئل عنه الأصمعي، فقال: لو كان قلب غير النبي صلى الله عليه وسلم لتكلمت عليه، ولكن العرب تزعم أن الغين الغيم الرقيق، انتهى.
"ذكره ابن القاص، ونقله عنه ابن الملقن في كتاب الخصائص" وأقره، ولا يخفى أن ضمير منها لما وجب، عليه لكن في الجزم بعزوه لابني القاص والملقن نظر، إذ لم يصرحا بالوجوب، إنما قالا: وكان يغان على قلبه فيستغفر الله سبعين مرة، ولذا أشار السيوطي إلى التوقف من مراد ابن القاص، وتابعه، فقال بعد نقله: وعبارة أبي سعد في شرف المصطفى، ويستغفر الله في كل يوم سبعين مرة، ولا يدرى، وعبارة رزين وما وجب عليه أن يستغفر الله في كل يوم سبعين مرة، "ورواه مسلم" في الدعوات، "وأبو داود" في الصلاة "من حديث الأغر" بفتح الهمزة والغين المعجمة، وبالراء ابن عبد الله، ويقال ابن يسار "المزني" ويقال: الجهني من المهاجرين، ومال ابن الأثير إلى التفرقة بين المزني والجهني، وليس بشيء، لأن مخرج الحديث واحد، وقد أوضح البخاري العلة فيها، وأن مسعرًا تفرد بقوله الجهني، فأزال الإشكال.
قال ابن السكن: حدثنا محمد بن الحسن عن البخاري قال: كان مسعر يقول في روايته عن الأغر الجهني والمزني أصح، وجزم أبو نعيم وابن عبد البر؛ بأن المزني والجهني واحد كما بينه في الإصابة، فقوله في التقريب: ومنهم من فرق بينهما هو بفاء أوله، وقاف آخره، أي: جعلهما اثنين، إشارة لابن الأثير، وتصحفت في عبارة، بقاف أوله، ونون آخره من النساخ، فأحوجت الشارح إلى قوله: ولعل وجه من قرن بينهما، أنه كان من إحدى القبيلتين نسبًا، وحليفًا للأخرى، أو نحو ذلك، "بلفظ: أنه" أي: الشأن "ليغان على قلبي" نائب فاعل يغان، أي: ليغشى على قلبي، وقال الطيبي: اسم أن ضمير الشأن، والجملة بعده خبر له، ومفسرة والفعل مسند إلى الظرف، ومحله رفع بالفاعلية، أي: المجازية، وهي النيابة، "وإني لأستغفر الله" أي أطلب منه الغفر، أي: الستر، هذا ظاهره، قال الحافظ: ويحتمل أن المراد هذا اللفظ بعينه،(7/132)
في اليوم مائة مرة", وهذا لفظ مسلم، وقال أبو داود "في كل يوم" قال الشيخ ولي الدين العراقي: والظاهر أن الجملة الثانية مرتبة على الأولى، وأن سبب الاستغفار: الغين، ويدل لذلك قوله في رواية النسائي في عمل اليوم والليلة: "إنه ليغان على قلبي حتى أستغفر الله كل يوم مائة مرة"، وفي رواية له أيضًا: "فأستغفر الله". وألفاظ الحديث يفسر بعضها بعضًا. ويحتمل من حيث اللفظ أن تكون الجملة الثانية كلامًا برأسه غير متعلقة بما قبله، فيكون عليه السلام أخبر بأنه يغان على قلبه، وبأنه يستغفر الله في اليوم مائة مرة. انتهى.
__________
ويرجحه ما أخرجه النسائي بسند جيد، عن ابن عمر؛ أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه". في المجلس قبل أن يقوم مائة مرة، وله عن نافع، عن ابن عمران: كنا لنعد لرسول الله صلى الله عليه وسلم في المجلس رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الغفور مائة مرة "في اليوم" الواحد من الأيام، ولم يرد يومًا معينًا "مائة مرة" لا يعارض رواية سبعين، لأن المراد الكثرة لا التحديد، ولا الغاية، فالمراد: أستغفره دائمًا أبدًا، وخص المائة لكمالها في العدد المركب من الآحاد والعشرات، حتى إن ما زاد عليها، كالتكرير لذلك، كما أشار إليه الحرالي؛ لكن قال في الفتح: والمطالع كل ما جاء في الحديث من التعبير بالسبعين، قيل هو على ظاهره وحصر عدده، وقيل المراد التكثير، والعرب تضع السبع والسبعين والسبعمائة موضع الكثرة، قال في الفتح: وقوله في رواية البخاري: أكثر من سبعين، يحتمل أن يفسر برواية مائة، ووقع عند النسائي من رواية معمر عن الزهري بلفظ: "إني لأستغفر الله في اليوم خمسمائة مرة". لكن خالف معمر أصحاب الزهري في ذلك، "هذا لفظ مسلم".
"وقال أبو داود: في كل يوم" بدل قوله في اليوم، ولا منافاة بينهما؛ لأن المراد باليوم ما صدقه، وهو يتحقق مع ذلك، كما يتحقق في بعض الأيام.
"قال الشيخ ولي الدين العراقي: والظاهر أن الجملة الثانية" أي قوله: وإني لأستغفر الله ... إلخ، "مرتبة على الأولى" التي هي أنه ليغان على قلبي، وأن سبب الاستغفار الغين ويدل لذلك قوله في رواية النسائي في عمل اليوم والليلة: "إنه ليغان على قلبي" أي: ويدوم أثر ذلك "حتى أستغفر الله كل يوم مائة مرة" فيزول، وفي رواية له أيضًا: "فأستغفر الله" فصرح بفاء السببية، "وألفاظ الحديث المختلفة يفسر بعضها بعضًا" فتحمل الجملة الثانية على أنها مسببة عن الأولى، فتوافق الروايتين، "ويحتمل من حيث اللفظ" بقطع النظر عن الروايتين "أن تكون الجملة الثانية كلامًا برأسه، غير متعلقة بما قبله، فيكون عليه السلام أخبر بأنه يغان على قلبه، وأخبر "بأنه يستغفر الله في اليوم مائة مرة" وليس الاستغفار مسببًا عن الغين، فأخبر(7/133)
وقال أبو عبيد: أصل الغين في هذا، ما يغشى القلب ويغطيه، وأصله: من غين السماء، وهو إطباق الغيم عليها.
وقال غيره: الغين شيء يغشى القلب ولا يغطيه كل التغطية، كالغيم الرقيق الذي يعرض في الهواء فلا يمنع ضوء الشمس.
قال القاضي عياض -بعد حكايته لذلك: فيكون المراد بهذا الغين إشارة إلى غفلات قلبه وفترات نفسه وسهواها عن مداومة الذكر ومشاهدة الحق بما كان صلى الله عليه وسلم دفع إليه من مقاساة البشر وسياسة الأمة.
__________
بحصول الغين مع كثرة الاستغفار، فما الظن بمن ليس كذلك، والجملة حال مقدرة، "انتهى"، لكن الوجه الأول لقاعدة المحدثين أن خير ما فسرته بالوارد.
"وقال أبو عبيد" القاسم بن سلام بالتشديد البغدادي، الإمام المشهور، المصنف، الثقة، الفاضل، المتوفى سنة أربع وعشرين ومائتين في غريب الحديث، "أصل الغين" أي: ما وضع له أولا "في هذا ما يغشى" بفتح الياء والشين الخفيفة، أو بضمها وكسر الشين مشددة والأول أظهر "القلب" أي: يعرض له أو يستره "ويغطيه" عطف تفسير، وهو استعارة لما يشغله، "وأصله" أي: ما وضع له أولا مأخوذ "من غين السماء، وهو إطباق الغيم عليها" فأطلق على ما يغشى لاشتراكهما في مجرد التغطية.
"وقال غيره: الغين شيء يغشى القلب ولا يغطيه كل التغطية" أي لا يغطيه كله، "كالغيم الرقيق الذي يعرض في الهواء" أي: في الجو "فلا يمنع ضوء الشمس" لرقته.
"قال القاضي عياض" في الشفاء: "بعد حكايته لذلك" المذكور عن أبي عبيدة وغيره، "فيكون المراد بهذا الغين إشارة إلى غفلات قلبه وفترات نفسه" أي: فتورها "وسهوها" أي: زوال صورتها عن الفكر، وبين ما غفل عنه من فتور وسهو، فقال "عن مداومة الذكر" أي ذكره الله بلسانه وقلبه، "ومشاهدة الحق" إن أريد به الله تعالى، فالمراد مشاهدته في مزايا مصنوعاته حتى كأنه يراه عيانًا، وإن أريد الحق الثابت المتيقن من العلوم الحقة والأمور اليقينية اللدنية، فهو واضح، ولما كان هذا لا يناسب مقامه صلى الله عليه وسلم، أشار إلى دفعه بما لم يتنبه له المعترض بالتعقب الآتي، فقال: "بما": أي بسبب ما "كان صلى الله عليه وسلم دفع إليه" بالبناء للمجهول، أي: فوض إليه وأعطيه "من مقاساة البشر" أي مكابدتهم، وتحمل مشاقهم "وسياسة الأمة" تدبيرهم وأمرهم بما يصلح شأنهم من ساسه يسوسه إذا قام عليه لإصلاح أموره، وهو لفظ عربي لا معرب،(7/134)
ومعاناة الأهل، ومقاومة الولي والعدو، ومصلحة النفس، وكلفه من أعباء أداء الرسالة وحمل الأمانة، وهو في كل هذا في طاعة ربه، وعبادة خالقه، لكن لما كان صلى الله عليه وسلم أرفع الخلق عند الله مكانة وأعلاهم درجة، وأتمهم به معرفة، وكانت حالته عند خلوص قلبه وخلو همته، وتفرده بربه وإقباله بكليته عليه، ومقامه هنالك أرفع حاليه، رأى عليه السلام حال فترته عنها، وشغله بسواها غضًا.
__________
كما توهم، وهي حكم مخصوص بما يكون بطريق القهر والضبط، "ومعاناة الأهل" أي: تحمل المشاق من جهتهم، أي: الاعتناء بأمورهم والتقييد بما فيه معاشرهم, "ومقاومة الولي" من يواليه ويتبعه، أي: القيام معه بالمناصرة والحفظ "والعدو" بدفع شره وحمله على الإسلام والتمسك بالحق "ومصلحة النفس" أي: نفسه في أمور معاشه، "وكلفه" بالبناء للمفعول، معطوف على دفع إليه "من أعباء" بفتح وإسكان، آخره همز: جمع عبء، بالكسر ويفتح، أي: أثقال حاصله في "أداء الرسالة" وهو ما يكون له في تبليغها ودعوة الخلق، "وحمل" بفتح أوله "الأمانة" أي: ما استودعه الله تعالى من أسراره وإعطاء كل ذي حق حقه، وليس المراد بها طاعة الله التي أوجبها عليه، كما قيل: كذا في النسيم، وحمل شيخنا على ما نفاه، فقال: أي ما كلفه من الأحكام الشرعية، سميت أمانة لوجوب أدائها، كما يجب أاء الوديعة مثلا لمالكها، انتهى، والمثبت أوجه، "وهو" صلى الله عليه وسلم "في كل هذا" المذكور "في طاعة ربه وعبادة خالقه" عطف أخص على أعم، وهذا دفع لتوهم أنه كان اللائق أن لا يشغله شيء عن ذكر ربه ومشاهدته؛ بأنه لم يشغله به لحظوظ نفسانية، ولا لأمور رئاسية، وإنما الله شغله بذلك، فما حصل ذلك إلا لخدمته التي أمره الله بها، ولما ورد عليه إن كان هذا طاعة وعبادة، فلم استغفر منه وجهه على طريق الاستدراك بقوله: "ولكن لما كان صلى الله عليه وسلم أرفع" أعلى "الخلق عند الله مكانة" أي: رتبة ومنزلة، "وأعلاهم درجة" تمييز "وأتمهم" أكملهم "به" أي: الله "معرفة" فهو أعرف بالله ممن سواه، وآخر هذا، لأنه مرتب على ما قبله في المعقول والمحسوس، "وكانت حالته" أمره وشأنه "عند خلوص قلبه" لله، بحيث لا يمر به سواه، "وخلو همته وتفرده بربه" أي: جعل أمره منفردًا بالتوجه لجانبه الأعلى، فيكون قلبه معه وحده في خلوته، فإن ذاكر الله جليس الرحمن، كما ورد عنه صلى الله عليه وسلم "وإقباله بكليته" أي: ذاته كلها قلبًا وقالبًا "عليه، ومقامه هنالك" أي: إقامته مع الله وحده في حظيرة قدس قربه، وأشار بالبعد لعلو مقامه ثمة "أرفع" أي: أعلى "حاليه" أي حال اشتغاله بالظاهر، وحال كونه مع الله، وكل منهما رفيعة، لكن هذه أرفع، "رأى عليه السلام" شاهدًا، وعلم "حال فترته عنها وشغله بسواها" أي: اشتغاله بغيرها "غضًا بمعجمتين،(7/135)
من عُليِّ حاله، وخفضا من رفيع مقامه، فاستغفر الله من ذلك، قال: وهذا أولى وجوه الحديث وأشهرها، وإلى معنى ما أشرنا إليه مال كثير من الناس، وحام حوله فقارب ولم يرد، وقد قربنا غامض معناه، وكشفنا للمستفيد محياه، وهو مبني على جواز الفترات والغفلات والسهو في غير طريق البلاغ، انتهى.
وتعقب: بأنه لا ترضى نسبته صلى الله عليه وسلم إلى ذلك، لما يلزم عليه من تفضيل الملائكة عليه بعدم الفترة عن التسبيح والمشاهدة، ولقوله عليه السلام: "لست أنسى ولكن أنسي لأسن".
__________
أي: نقصًا كناية عن التنزيل "من عُليِّ حاله" أي: حالة العلا، "وخفضًا": أي حطا وتنزيلا "من رفيع مقامه" بالنسبة للحالة الأخرى، وإن لم يكن كذلك في نفسه، لأنه في عبادة "فاستغفر الله من ذلك" لعده بالنسبة لمقامه الآخر كالذنب.
"قال" عياض: "وهذا" التفسير "أولى وجوه الحديث" التي ذكرت في توجيهه "وأشهرها: وإلى معنى ما أشرنا إليه، مال كثير من الناس، وحام حوله، فقارب ولم يرد" أي: لم يصل إليه استعارة من ورد الماء إذا أتاه ليستقي منه، وفيه إشارة إلى أن فيه شفاء العليل وثلج الصدور، وأن للنفس ظمأ إليه، وفيه بلاغة ظاهرة، "وقد قربنا غامض" أي أدنينا لمن قاربه خفي "معناه" الذي لم يتضح، "وكشفنا للمستفيد" طالب الفائدة العلمية من تجارته الرابحة "محياه" بضم الميم، وفتح الحاء، وشد الياء: وجهه الحسن شبهه بحسان مخدرة "وهو"، أي: هذا التفسير "مبني" أي: متفرع "على جواز الفترات والغفلات والسهو" على جمي الأنبياء عليهم السلام "في غير طريق البلاغ" فلا يجوز ذلك فيه لمنافاته له، وقد انتقد عليه بناؤه على هذا بأنه جعل أولا الثلاثة عبارة عن اشتغاله بأمر أمته وأهله ولا غفلة ولا فترة ولا سهو حقيقة، فكيف بناه على غير أساه، فهو كالغفلة عما قاله، "انتهى" كلام عياض. "وتعقب؛ بأنه لا ترضى نسبته صلى الله عليه وسلم إلى ذلك" حتى قيل: لا ينبغي ذكره "لما يلزم عليه من تفضيل الملائكة عليه بعدم الفترة عن التسبيح والمشاهدة" وهو خلاف الإجماع من تفضيله عليهم، وقدمنا الجواب عنه؛ بأن هذا غفلة من المتعقب؛ لأنه أشار إلى دفع هذا الاعتراض بقوله: بما كان دفع إليه ... إلخ، فلم يشتغل عن ذلك إلا لأمر الله له بهذا لما ترتب عليه من حكم وأحكام شرعية.
ولقوله عليه السلام: "لست أنسى" تعليل ثان لكونه لا ترضى نسبته إلى ذلك، لأنه نفى عنه النسيان هذا ظاهره، لكن يرد عليه قوله: "ولكن أُنسَّى" بالتشديد مبني للمجهول "لأسن" فإنه ظاهر في أن ذلك لم ينشأ عن غفلة، فالأولى جعله جوابًا عن التعقب، وكأنه قال: ورد لقوله(7/136)
فهذه ليست فترة وإنما هي لحكمة مقصودة يثبت بها حكم شرعي، فالأولى أن يحمل على ما جعله علة فيه، وهو ما دفع إليه من مقاساة البشر وسياسة الأمة، ومعاناة الأهل، وحمل كل أعباء النبوة وحمل أثقالها، انتهى.
وقيل: الغين شيء يعتري القلب مما يقع من حديث النفس، قال الحافظ شيخ الإسلام ابن حجر: وهذا أشار إليه الرافعي في أماليه، وقال: إن والده كان يقرره.
وقيل: كانت حالة يطلع فيها على أحوال أمته فيستغفر الله لهم.
وقيل: هو السكينة التي تغشى قلبه، والاستغفار لإظهار العبودية لله تعالى، والشكر.
__________
عليه السلام بدليل قوله: "فهذه ليست فترة" وإنما هي لحكمة مقصودة يثبت بها حكم شرعي" كما أشار إليه عياض، "فالأولى أن يحمل" الحديث "على ما جعله" عياض "علة فيه، وهو ما دفع" أي أوصل وفوض "إليه من مقاساة البشر وسياسة الأمة ومعاناة الأهل، وحمل كل" بفتح الكاف، وشد اللام "أعباء النبوة، وحمل أثقالها" عطف تفسير، "انتهى".
وحاصله: إن ترك التسبيح ونحوه إنما هو لحكم وترتيب أحكام شرعية عليها، وقد صرح في الشفاء بعد هذا المبحث بكثير لما ذكر سهوه في الصلاة بقوله: والسهو هنا في حقه سبب إفادة علم وتقرير شرع، كما قال: "إني لأنسى أو أُنسَّى لأسن". بل قد روي: "لست أنسى، ولكن أنسى لأسن"، وهذه الحالة زيادة له في التبليغ، وتمام النعمة عليه بعيدة عن سمات النقص وأغراض الطعن، انتهى.
"وقيل: الغين شيء يعتري القلب" الصافي "مما يقع من حديث النفس" لا بالمعنى الأول، فهو من جملة الأجوبة، وقال شيخنا: ليس مقابلا للخلاف السابق في معناه، بل هو سبب لما يحصل للقلب مما يغشاه، وفيه أن المتبادر خلافه، وقد جعله النووي من جملة الأجوبة، ويدل على ذلك ما "قال الحافظ شيخ الإسلام ابن حجر" في فتح الباري في كتاب الدعوات: "وهذا أشار إليه الرافعي في أماليه، وقال: إن والده كان يقرره" جوابًا عن الحديث، "وقيل: كانت" الهيئة التي تعتري القلب "حالة يطلع فيها على أحوال أمته، فيستغفر الله لهم" أي يدعو بالمغفرة لما صدر منهم، أو سيصدر، فالغين خواطره فيما يتعلق بهم لاهتمامه بهم وكثرة شفقته عليهم واستغفاره، وإنما هو لهم، فلا إشكال أصلا.
"وقيل: هو" أي: الغين "السكينة" الوقار والتأني والطمأنينة في الأمور "التي تغشى قلبه" أي: تعرض له، "والاستغفار" عندها "لإظهار العبودية لله تعالى" والافتقار إليه، "والشكر(7/137)
لما أولاه.
وقال شيخ الإسلام ابن العراقي أيضًا: هذه الجملة حالية، أخبر عليه السلام أنه يغان على قلبه من أن حالة الاستغفار في اليوم مائة مرة، وهي حال مقدرة، لأن الغين ليس موجودًا في حال الاستغفار، بل إذا جاء الاستغفار أذهب ذلك الغين. قال: وعلى تقدير تعلق إحدى الجملتين بالأخرى، وأن الثانية مسببة عن الأولى، فيحتمل أن يكون هذا الغين تغطية للقلب عن أمور الدنيا، وحجابًا بينه وبينها، فيجتمع القلب حينئذ على الله تعالى ويتفرغ للاستغفار شكرًا وملازمة للعبودية، قال: وهذا معنى ما قاله القاضي عياض، انتهى ومراده قوله في "الشفاء": وقد يحتمل أن تكون هذه الإغانة حالة خشية وإعظام تغشى قلبه فيستغفر حينئذ شكرًا لله تعالى، وملازمة لعبوديته.
__________
لما أولاه" فالغين ليس نقصًا، بل صفة كمال، إذ هو خضوع وخشوع، والاستغفار عنه شكرًا لتلك النعمة.
"وقال شيخ الإسلام" الحافظ ولي الدين أحمد "بن" الحافظ عبد الرحيم "العراقي أيضًا: هذه الجملة حالية أخبر عليه السلام؛ أنه يغان على قلبه مع أن حالة الاستغفار في اليوم مائة مرة، وهي حال مقدرة؛ لأن الغين ليس موجودًا في حال الاستغفار، بل إذا جاء الاستغفار أذهب ذلك الغين" فليست الجملة الثانية مسببة عن الأولى.
"قال" ابن العراقي: "وعلى تقدير تعلق إحدى الجملتين بالأخرى، وأن الثانية مسببة عن الأولى" كما هو الظاهر المؤيد بروايتي النسائي: فاستغفر وحتى أستغفر؛ كما مر، "فيحتمل أن يكون هذا الغين تغطية للقلب عن أمور الدنيا وحجابًا بينه وبينها، فيجتمع القلب حينئذ" أي حين يحصل له ذلك "على الله تعالى ويتفرغ للاستغفار شكرًا وملازمة للعبودية" وهذا قريب أو مساوٍ للسكينة التي حكاها أولا بقوله: وقيل هو السكينة ... إلخ، كذا قيل قطعًا، وقد ذكر الأمرين في الشفاء؛ كما "قال: وهذا معنى ما قاله القاضي عياض، انتهى" كلام الولي.
"ومراده قوله في الشفاء: وقد يحتمل الحديث أن تكون هذه الإغانة حالة خشية وإعظام" لله، ومنه "تغشى قلبه" أي: تعرض له من تصور ذلك "فيستغفر حينئذ" أي حين غشيته هذه الحالة "شكرًا لله تعالى" على نعمة جليلة؛ أن عرفه عظمته وخشيته، وهو أعظم المعلومات، "وملازمة" مداومة "لعبوديته" إذ مقتضاها عده نفسه مقصرًا لا يفي بأداء خدمته فذلك يستغفره، وبقية قول الشفاء: كما قال صلى الله عليه وسلم من ملازمة العبادة: "أفلا أكون عبدًا شكورًا".(7/138)
قال الشيخ ابن العراقي: وهو عندي كلام حسن جدًا، وتكون الجملة الثانية مسببة عن الأولى، لا بمعنى أنه يسعى بالاستغفار في إزالة الغين، بل بمعنى أن الغين أصل محمود، وهو الذي تسبب عنه الاستغفار، وترتب عليه، وهذا أنزه الأقوال وأحسنها لأن الغين حينئذ وصف محمود وهو الذي نشأ عنه الاستغفار، وعلى الأول يكون "الغين" مما يسعى في إزالته بالاستغفار، وما ترتب الإشكال وجاء السؤال إلا على تفسير الغين بذلك، وأهل اللغة إنما فسروا الغين بالغشاء، فنحمله على غشاء يليق بحاله صلى الله عليه وسلم، وهو الغشاء الذي يصرف القلب ويحجبه عن أمور الدنيا، لا سيما وقد رتب على أمر الغشاء أمرًا محمودًا وهو الاستغفار، فما نشأ هذا الأمر الحسن إلا عن أمر حسن، وانتهى.
وذكر الشيخ تاج الدين بن عطاء الله في كتابه "لطائف المتن" أن الشيخ أبا الحسن الشاذلي قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم فسألته عن هذا الحديث "إنه ليغان على قلبي" فقال
__________
"قال الشيخ ابن العراقي: وهو عندي كلام حسن جدًا" بالغ في الحسن، "وتكون الجملة الثانية مسببة عن الأولى لا بمعنى أنه يسعى بالاستغفار في إزالة الغين" لأنه كمال، "بل بمعنى أن الغين أصل محمود" أي: أمر يحمد عليه، "وهو الذي تسبب عنه الاستغفار، وترتب عليه، وهذا أنزه الأقوال" أبعدها عن الاعتراض والتكلفات "وأحسنها؛ لأن الغين حينئذ وصف محمود، وهو الذي نشأ عنه الاستغفار" فنشأ محمود عن محمود، "وعلى الأول" الذي هو الغفلات والفترات بالمعنى المتقدم "يكون الغين مما يسعى في إزالته بالاستغفار، وما ترتب الإشكال وجاء السؤال إلا على تفسير الغين بذلك" أي: الغفلة والسهو بالمعنى المار، "وأهل اللغة إنما فسروا الغين بالغشاء" وهو في كل محل بما يناسبه، "فنحمله على غشاء يليق بحاله صلى الله عليه وسلم، وهو الغشاء الذي يصرف القلب ويحجبه عن أمور الدنيا، لا سيما وقد رتب على أمر الغشاء" إضافة بيانية "أمرًا محمودًا، وهو الاستغفار، فما نشأ هذا الأمر الحسن إلا عن أمر حسن، انتهى" كلام ابن العراقي.
"وذكر الشيخ تاج الدين بن عطاء الله" ما يقوي هذا "في كتابه لطائف المتن" في مناقب الشيخ أبي العباس والشيخ أبي الحسن؛ "أن الشيخ أبا الحسن" علي بن عبد الله المغربي "الشاذلي" الشريف الهاشمي، من ذرية محمد بن الحنفية، مر بعض ترجمته شيخ الشاذلية، "قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم، فسألته عن هذا الحديث: "أنه ليغان على قلبي"، فقال(7/139)
لي: يا مبارك: ذلك غين الأنوار، لا غين الأغيار.
__________
لي: يا مبارك ذلك غين الأنوار" الواردة عليه، "لا غين الأغيار" إذ لا يعتريه، ولذا قال المحاسبي: خوف المقربين من الأنبياء والملائكة خوف إجلال وإعظام، وإن كانوا آمنين عذاب الله.
وقال السهروردي: لا تعتقد أن الغين حالة نقص، بل هو كمال، أو تتمة كمال ثم مثل ذلك بجفن العين، حين يسيل ليدفع القذى عن العين، مثلا فإنه يمنعها من الرؤية، فهو صورة نقص من هذه الحيثية، وفي الحقيقة هو كمال هذا محصل كلامه بعبارة طويلة، قال: فهكذا بصيرة النبي صلى الله عليه وسلم متعرضة للأغيرة الثائرة من أنفاس الأغيار، فدعت الحاجة إلى الستر على حدقة بصيرته صيانة لها ووقاية عن ذلك، انتهى.
وقد استشكل وقوع الاستغفار من النبي صلى الله عليه وسلم وهو معصوم، والاستغفار يستدعي وقوع معصية، وأجيب بأجوبة منها ما تقدم في تفسير الغين، ومنها قول ابن الجوزي: هفوات الطباع البشري لا يسلم منها أحد، والأنبياء وإن عصموا من الكبائر لم يعصموا من الصغائر، كذا قال وهو مفرع على خلاف المختار، والراجح من عصمتهم من الصغائر أيضًا، ومنها قول ابن بطال: الأنبياء أشد الناس اجتهادًا في العبادة لما أعطاهم الله من المعرفة، فهم دائبون في شكره، معترفون له بالتقصير، انتهى.
ومحصل جوابه؛ أن الاستغفار من التقصير في أداء الحق الواجب له تعالى، ويحتمل أن يكون لاشتغاله بالأمور المباحة من أكل، أو شرب، أو جماع، أو نوم، أو راحة، أو مخاطبة الناس والنظر في مصالحهم، ومحاربة عدوهم تارة ومداراته أخرى، وتأليف المؤلفة، وغير ذلك مما يحجبه عن الاشتغال بذكر الله والتضرع إليه، ومشاهدته ومراقبته، فيرى ذلك ذنبًا بالنسبة إلى المقام العلي، وهو الحضور في حظيرة القدس، ومنها أن استغفاره تشريع لأمته أو من ذنوبهم، فهو كالشفاعة لهم، وقال الغزالي: كان صلى الله عليه وسلم دائم الترقي، فإذا ارتقى إلى حال رأى ما قبلها ذنبًا، فاستغفر من احال السابق، وهذا مفرع على أن العدد المذكور في استغفاره كان مفرقًا بحسب تعدد الأحوال، وظاهر ألفاظ الحديث يخالف ذلك، إذ ليس فيها ما يدل على افتراق واجتماع. ا. هـ. وقد اقتصر المصنف في هذا القسم على ما ذكره وزاد عليه غيره فيه أكثر مما ذكر.(7/140)
القسم الثاني: ما اختص به صلى الله عليه وسلم
مما حرم عليه:
فمنها: تحريم الزكاة عليه، وكذا الصدقة على الصحيح المشهور المنصوص، قال عليه الصلاة والسلام: "إنا لا نأكل الصدقة" رواه مسلم، ومن قال بإباحتها له ويقول: لا يلزم من امتناعه من أكلها تحريمها، فلعله ترك ذلك تنزهًا مع إباحتها له، وهذا خلاف ظاهر الحديث. قال شيخ الإسلام ابن العراقي، في شرح التقريب: وعلى كل حال ففيه أن من خصائصه عليه الصلاة والسلام الامتناع من أكل الصدقة إما وجوبًا وإما تنزهًا، انتهى.
والحكمة في ذلك: صيانة منصبه الشريف عن أوساخ أموال الناس.
ومنها: تحريم الزكاة على آله صلى الله عليه وسلم
__________
القسم الثاني: ما اختص به صلى الله عليه وسلم مما حرم عليه:
"القسم الثاني: ما" أي: أشياء "اختص به صلى الله عليه وسلم" عن الأمة، فلا ينافي مشاركة الأنبياء له
في بعضها "مما حرم عليه" دون أمته، ليكثر ثوابه في اجتنابه، وخص بها تكرمة له، لأن أجر ترك المحرم أكثر من أجر ترك المكروه، وفعل المندوب، "فمنها" أي: المحرمات عليه وعلى آله لأجله: "تحريم الزكاة عليه" أي: أخذها وعدم سقوطها عن مالكها لو وقع، "وكذا الصدقة" والكفارة والنذور "على الصحيح المشهور المنصوص، قال عليه الصلاة والسلام: "إنا لا نأكل الصدقة" وهي تشمل الفرض والنفل "رواه مسلم".
قال البلقيني: وخرجت على ذلك؛ أنه يحرم أن يوقف عليه معينًا؛ لأن الوقف صدقة تطوع، قال: وفي الجواهر له يؤيده، فإنه قال: صدقة التطوع كانت حرامًا عليه. وعن أبي هريرة، أن صدقات الأعيان كانت حرامًا عليه دون العامة، كالمساجد ومياه الآبار، قاله في الأنموذج.
"ومن قال بإباحتها له ويقول: لا يلزم من امتناعه من أكلها تحريمها، فلعله ترك ذلك تنزهًا مع إباحتها له، وهذا خلاف ظاهر الحديث" بل يرده قوله صلى الله عليه وسلم: "إنا آل محمد لا تحل لنا الصدقة" رواه أحمد بإسناد قوي، كما في الفتح، وجزم الحسن البصري؛ بأن الأنبياء مثله، لأنها أوساخ، وقال ابن عيينة: تحل لهم بدليل: وتصدق علينا.
"قال شيخ الإسلام ابن العراقي في شرح التقريب: وعلى كل حال ففيه أن من خصائصه عليه الصلاة والسلام الامتناع من أكل الصدقة، إما وجوبًا وإما تنزهًا، انتهى" لأن القائل بالتنزه لم يقل بأكلها، "والحكمة في ذلك صيانة منصبه الشريف عن أوساخ أموال الناس" لأن الصدقة تطهر المال واجبة، كالزكاة، أو مندوبة كالتطوع، ولأنها تنبئ عن ذل الآخذ وعز المأخوذ منه، وأبدل بها الفيء المأخوذ بالقهر والغلبة لأنبائه بعز الآخذ وذل المأخوذ منه.
"ومنها: تحريم الزكاة على آله" وهم مؤمنو بني هاشم وبني المطلب عند الشافعية(7/141)
وتحريم كون آله عمالا على الزكاة في الأصح، كذا يحرم صرف النذر والكفارة إليهم، وأما صدقة التطوع فتحل لهم في الأصح خلافًا للمالكية وهو وجه عندنا.
ومنها: أنه يحرم عليه صلى الله عليه وسلم كل ما له رائحة كريهة، كثوم وبصل، لتوقع مجيء الملائكة والوحي كل ساعة.
__________
وبعض المالكية، والمشهور عندهم بنو هاشم فقط؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "إن هذه الصدقات إنما هي أوساخ الناس، وإنها لا تحل لمحمد، ولا لآل محمد" رواه مسلم، ولقوله: "إن الله حرم عليّ الصدقة وعلى أهل بيتي"، رواه ابن سعد وغيره.
قال الطيبي: وقد اجتمع في الحديث مبالغات شتى، حيث جعل المشبه به أوساخ الناس للتهجين والتقبيح، تنفيرًا واستقذارًا، وأجل حضرة الرسالة ومنبع الطهارة أن ينسب إلى ذلك، فجرد عن نفسه الطاهرة من يسمى محمدًا؛ كأنه غيره وهو هو، فإن الطيبات للطيبين، لا يقال كيف أباحها لبعض أمته، ومن كمال إيمان المرء أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه، لأنا نقول: ما أباحها لهم عزيمة، بل اضطرارًا، وكم من حدث تراه ناهيًا عن السؤال، فعلى الحازم أن يراها كالميتة، فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه، انتهى.
"وتحريم كون آله عمالا" ولو من بعضهم لبعض "على الزكاة في الأصح" لخبر الحاكم عن علي، قلت للعباس: سل رسول الله أن يستعملك على الصدقة، فسأله، فقال: "ما كنت لأستعملك على غسالة الأيدي"، "وكذا يحرم النذر والكفارة إليهم" ولكون تحريم ذلك على آله بسبب انتسابهم إليه عد ذلك من خصائصه.
"وأما صدقة التطوع، فتحل لهم في الأصح" عند الشافعية والحنابلة وأكثر الحنفية، وهو الصحيح المشهور عند المالكية، وص عليه مالك وابن القاسم، وأما قوله: "خلافًا للمالكية" فضعيف غره فيه، كالسيوطي اقتصار العلامة خليل عليه وما علما أنه متعقب، "وهو وجه عندنا" واستدل للحل بما رواه الشافعي عن إبراهيم بن محمد، عن جعفر بن محمد، عن أبيه؛ أنه كان يشرب من سقايات بين مكة والمدينة، فقيل له: أتشرب من الصدقات؟ فقال: إنما حرم علينا الصدقة المفروضة.
وأخرجه البيهقي من طريق الشافعي، فثبت ذلك في حق القرابة، وقيس بها مواليها، زاد في الأنموذج: وعلى موالي وآله، أي خص بتحريم الزكاة عليهم في الأصح؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "إن الصدقة لا تحل لنا"، وإن مولى القوم من أنفسهم وعلى زوجته بالإجماع، حكاه ابن عبد البر.
"ومنها: أنه يحرم عليه صلى الله عليه وسلم كل ما له رائحة كريهة كثوم" بضم المثلثة، "وبصل" وكراث إذا كان ذلك نبأ؛ "لتوقع مجيء الملائكة والوحي له كل ساعة" فيتأذون بريحه(7/142)
والأكل متكئًا في أحد الوجهين فيهما، والأصح في الروضة كراهتهما، وتعقب السهيلي الاتكاء فقال: قد يكره لغيره أيضًا لأنه من فعل المتعظمين، وقد تقدم مزيد لذلك.
ومنها تحريم الكتابة والشعر، وإنما يتجه القول لتحريمهما ممن يقول إنه صلى الله عليه وسلم كان يحسنهما، والأصح أنه كان لا يحسنهما، قال تعالى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ} [العنكبوت: 48] ، وقال تعالى: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} [يس: 69] ، أي: ما هو في طبعه، ولا يحسنه ولا تقتضيه جبلته ولا يصلح له.
وأجيب: بأن المراد تحريم التوصل إليهما.
__________
لا مطبوخًا، فكان يأكله، كما رواه أبو داود والترمذي لانتفاء العلة.
وروى أبو داود عن عائشة: آخر طعام أكله في بيتي فيه بصل، زاد البيهقي: كان مشويًا في قدر، "والأكل متكئًا" أي: مائلا على أحد شقيه، أو معتمدًا على وطاء تحته، أو على يده اليسرى، أقوال مرت رجح بعضهم أوسطها وبعض أولها، وهذا "في أحد الوجهين فيهما" وهو مذهب مالك.
"والأصح في الروضة كراهتهما" لما في مسلم: أن أبا أيوب صنع للنبي صلى الله عليه وسلم طعامًا فيه بصل، وفي رواية: أرسل إليه بطعام فيه بصل أو كراث، فرده، فقال: أحرام هو؟ قال: "لا ولكني أكرهه"، "وتعقب السهيلي: الاتكاء" أي القول بتخصيصه بكراهته، "فقال: قد يكره لغيره أيضًا؛ لأنه من فعل المتعظمين، وقد تقدم مزيد لذلك" في الأطعمة.
"ومنها: تحريم الكتابة والشعر" بجميع أنواعه، ومنه الرجز عند الجمهور خلافًا للأخفش، "وإنما يتجه" كما قال الرافعي "القول بتحريمهما" عليه "ممن يقول: إنه صلى الله عليه وسلم كان يحسنهما" ولكن لا يكتب ولا يقول الشعر، "والأصح أنه كان لا يحسنهما" لأن الله "قال تعالى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ} ، أي: من القرآن {مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينَكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} [العنكبوت: 48] ، أي: اليهود، وقالوا: الذي في التوراة إنه أمي. "وقال تعالى: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} [يس: 69] ، أي ما هو في طبعه، ولا يحسنه ولا تقتضيه جبلته" سجيته وطبيعته، "ولا يصلح له" تفسير لما ينبغي، "وأجيب" عن عدهما من الخصائص، كما أجاب به النووي في الروضة، فقال: "بأن" لا يمتنع تحريمها، وإن كان لا يحسنهما، فإن "المراد تحريم التوصل إليهما" بأن يريد تعلم ذلك، قال شيخنا: ولعل القائل بعدم حرمته يرى أن هذ(7/143)
وهل منع الشعر خاص به عليه السلام أو بنوع الأنبياء؟ قال بعضهم: هو عام لقوله تعالى: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} ، لأنه لا يظهر فيه للخصوص نكتة. وتقدم في قصة الحديبية البحث في كونه عليه السلام كان يحسن الكتابة أم لا.
ومنها: نزع لأمته إذا لبسها، حتى يقاتل أو يحكم الله بينه وبين عدوه.
ومنها: المن ليستكثر، ذكره الرافعي، قال الله تعالى: {وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرْ} [المدثر: 6] .
__________
لما لم يكن في طبيعته كان كالمحال عليه، فلا يخطر في نفسه حتى يمنع من التعلم له، "وهل منع الشعر خاص به عليه السلام" لما رواه الطبراني عن علي لما قتل ابن آدم أخاه بكى آدم، وقال:
تغيرت البلاد ومن عليها ... فوجه الأرض مغبر قبيح
تغير كل ذي طعم ولون ... وغيب ذلك الوجه المليح
"أو" خاص "بنوع الأنبياء" لما رواه الثعلبي عن ابن عباس، قال: إن محمدًا والأنبياء كلهم في النهي عن الشعر سواء، "قال بعضهم: هو عام؛ لقوله تعالى: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} ؛ لأنه لا يظهر فيه للخصوص نكتة" لأن الشعر مبني على تخيلات مرغبة ومنفرة ونحوهما مما لا يليق بمقامه صلى الله عليه عليه وسلم، فصرفت طبيعته عن ذلك لعده نقصًا بالنسبة له، وهذا المعنى موجود في حق جميع الأنبياء؛ لأن الحكم يدور مع العلة وجودًا وعدمًا، "وتقدم في قصة الحديبية البحث في كوه عليه السلام كان يحسن الكتابة، أم لا؟ " وأن الصحيح لا.
"ومنها": تحريم "نزع لأمته" هي الدرع والسلاح، بهمزة ساكنة بعد ألف، وقد تخفف، "إذا لبسها حتى يقاتل" إن احتيج له، فلو هرب عدوه، أو حصل بينهم صلح، أو نحو ذلك جاز نزعها، وقد يشعر به قوله: "أو يحكم الله بينه وبين عدوه" لما رواه أحمد، وحسنه البيهقي، وعلقه البخاري عن جابر: أنه صلى الله عليه وسلم قال: "ليس لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يقاتل" ولأحمد أيضًا والطبراني والبيهقي عن ابن عباس مرفوعًا: "ما ينبغي لنبي أن يضع أداته بعد أن لبسها حتى يحكم الله بينه وبين عدوه" فذكر في كل حديث غاية، فجمع المصنف بينهما، زاد في الأنموذج: وكذلك الأنبياء.
قال أبو سعيد وابن سراقة: وكان لا يرجع إذا خرج إلى الحرب، ولا ينهزم إذا لقي العدو.
"ومنها: المن، ليستكثر ذكره الرافعي" وغيره، قال الله تعالى: {وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرْ} [المدثر: 6] ،(7/144)
أي: لا تعط شيئًا لتطلب أكثر منه، بل أعط لربك واقصد به وجهه، فأدبه بأشرف الآداب، قاله أكثر المفسرين، وقال الضحاك ومجاهد: هذا كان للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة، وليس على أحد من أمته، وقال قتادة: لا تعط شيئًا لمجازاة الدنيا، أي أعط لربك، وعن الحسن: لا تمنن على الله بعملك فتستكثره، وقيل: لا تمنن على الناس بالنبوة فتأخذ عليها أجرًا وعوضًا من الدنيا.
ومنها: مد العين إلى ما متع به الناس، قال الله تعالى: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ} ، أي: استحسانًا له وتمنيًا أن يكون لك مثله {أَزْوَاجًا مِنْهُمْ} [الحجر: 88] .
__________
"أي: لا تعط شيئًا لتطلب أكثر منه" لأنه طمع لا يليق به، "بل أعط لربك واقصد به وجهه، فأدبه بأشرف الآداب" وأجل الأخلاق؛ فإن من أعطي ليثاب أكثر لم يكن له أجر لقصده الاستكثار، "قاله أكثر المفسرين" ومنهم ابن عباس، قال ابن عطية: فكأنه من قولهم من إذا أعطى.
"وقال الضحاك ومجاهد: هذا كان للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة" لما ثبت عندهما بذلك، وإلا فالآية بمجردها لا تفيد الخصوصية، "وليس" يحرم "على أحد من أمته" ذلك، بل هو مباح لهم، لكن لا أجر لهم فيه، قال مكي: وهذا معنى قوله تعالى: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ} الآية، "وقال قتادة: لا تعط شيئًا لمجازاة الدنيا، أي: أعط لربك" هو مثل قول الأكثر، والذي في ابن عطية عن قتادة: أن المعنى لا تدل بعلمك، ففي هذا التأويل تحريض على الجد وتخويف.
"وعن الحسن" البصري: "لا تمنن على الله بعملك فتستكثره" وتعجب به، "وقيل" أي: قال ابن زيد: "لا تمنن على الناس بالنبوة فتأخذ عليها أجرًا وعوضًا من الدنيا.
وحكى النقاش عن ابن عباس أنه قال: لا تمنن تستكثر، دعوت فلم أجب، قال ابن عطية: فهذه الأقوال كلها من المن الذي هو تعديد اليد، وذكرها.
وقال مجاهد: معناه لا تضعف فتستكثر ما حملناك من أعباء الرسالة، فهذا من قولهم حبل متين، أي ضعيف، انتهى.
"ومنها: مد الأعين إلى ما متع" بضم الميم، وكسر الفوقية مشددة "به الناس" من زهرة الحياة الدنيا، "قال الله تعالى: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ} لا تنظر بهما "إلى ما متعنا به" الآية، أي: استحسانًا له وتمنيًا أن يكون لك مثله {أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الحجر: 88] ،(7/145)
أشكالا وأشباها من الكفار، وهي المزاوجة بين الأشياء، وهي المشاكلة.
وعن ابن عباس: أصنافًا منهم، فإنه مستحقر بالإضافة إلى ما أوتيته فإنه كمال مطلوب بالذات مفض إلى دوام اللذات.
ومنها: خائنة الأعين، وهي الإيماء إلى مباح من قتل أو ضرب على خلاف ما يشعر به الحال، كما قيل له عليه الصلاة والسلام في قصة رجل أراد قتله: هلا أومأت إلينا بقتله، فقال: "ما كان ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين".
__________
زينتها وبهجتها لنفتنهم فيه "أشكالا وأشباها من الكفار، وهي المزاوجة بين الأشياء، وهي المشاكلة".
"وعن ابن عباس" في تفسير أزواجًا، قال: "أصنافًا منهم؛ فإنه مستحقر بالإضافة إلى ما أوتيته؛ فإنه كمال مطلوب بالذات مفض إلى دوام اللذات" كما قال: {وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه: 131] الآية، أخرج ابن أبي شيبة، وابن مردويه، والبزار، وأبو يعلى عن أبي رافع، قال: أضاف النبي صلى الله عليه وسلم ضيفًا، فأرسلني إلى رجل من اليهود أن أسلفني دقيقًا إلى هلال رجب، فقال: لا إلا برهن، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فقال: "أما والله إني لأمين في السماء أمين في الأرض"، فلم أخرج من عنده حتى نزلت هذه الآية: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ} . "ومنها: خائنة الأعين وهي الإيماء" الإشارة بالعين، أو الحاجب، أو غيرهما خفية "إلى مباح من قتل أو ضرب" أو حبس "على خلاف ما يشعر به الحال" أي: ما يظهره المومئ، سمي خائنة لشبهه بالخانة من حيث خفاؤه، "كما قيل له عليه الصلاة والسلام في قصة رجل" هو عبد الله بن أبي سعد بن أبي سرح "أراد قتله" لأنه كان يكتب له بمكة، فأزله الشيطان، فكفر فأهدر دمه فيمن أهدر يوم فتح مكة، فاختبأ عند عثمان فلما دعا النبي صلى الهل عليه وسلم الناس إلى البيعة جاء به عثمان، فقال: يا رسول الله! بايع عبد الله، فرفع رأسه، فنظر إليه ثلاثًا، كل ذلك يأبى، فبايعه بعد ثلاث، ثم أقبل على أصحابه، فقال: "أما كان فيكم رجل رشيد يقوم إلى هذا حين كففت يدي عن مبايعته فيقتله"؟ فقال رجل: هلا أومأت إلينا بقتله؟ فقال: "ما كان ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين" رواه أبو داود، والنسائي، وصححه الحاكم.
وأفاد سبط ابن الجوزي: أن الرجل عباد بن بشر الأنصاري، وقيل: عمر بن الخطاب، فأسلم عبد الله وحسن إسلامه، وعرف فضله وجهاده، وكانت له المواقف المحمودة في الفتوح، وولاه عمر صعيد مصر ثم ضم إليه عثمان مصر كلها، وكان محمودًا في ولايته، واعتزل الفتنة(7/146)
ولا يحرم ذلك على غيره إلا في محظور، قاله الرافعي فيما نقله الحجازي في مختصر الروضة.
ومنها: نكاح من لم تهاجر، في أحد الوجهين: قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ} أي: مهورهن، سمي المهر أجرًا لأن المهر أجر على البضع وتقييد الإحلال بإعطائها معجلة لا يتوقف الحل عليه، بل لإيثار الأفضل، كتقييد إحلال المملوكة بكونها مسببة في قوله: {وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ} يعني من نساء بني زهرة {اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ} [الأحزاب: 50] قالوا: المراد هاجرن كما هاجرت، وإن لم تكن هجرتها في حال هجرته.
__________
حتى مات سنة سبع أو تسع وخمسين، فقال: اللهم اجعل آخر عملي الصبح فتوضأ وصلى، فسلم عن يمينه، ثم ذهب يسلم عن يساره، فقبضت روحه رضي الله عنه؛ كما تقدم مبسوطًا في الفتح، "ولا يحرم ذلك على غيره إلا في محظور" أي: ممنوع، "قاله الرافعي فيما نقله الحجازي في مختصر الروضة" قال بعض: بل إذا كان الإيمان في محظور، فليس من خائنة الأعين في شيء.
"ومنها: نكاح من لم تهاجر" إلى المدينة "في أحد الوجهين، قال الله تعالى" {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ} الآية، "أي: مهورهن، سمي المهر أجرًا، لأن المهر أجر على البضع" بضم فسكون، أي: الفرج، "وتقييد الإحلال بإعطائها معجلة، لا يتوقف الحل عليه، بل لإيثار الأفضل" مثله في البيضاوي، ولا يتعين الحمل عليه، إذ يمكن أن معنى آتيت أجورهن التزمته في ذمته: ثم أديته بعد؛ "كتقييد إحلال المملوكة بكونها مسببة في قوله: {وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ} من الغنائم، فإن مثله الشراء والهبة والهدية ونحو ذلك.
قال ابن عطية: يريد أو على أمتك، لأنه في عليه وملك اليمين أصله الفيء من المغنم أو ممن تناسل ممن سبى، والشراء من الحربيين كالسباء، ومباح النساء هو من الحربيين ولا يجوز سبي من له عهد ولا تملكه، ويسمى سبي الخبثة، {وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ} ، يعني: من نساء بني زهرة {اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ} الآية أي إلى المدينة"؛ لأنها حقيقة الهجرة الشرعية.
"قالوا: والمراد هاجرن كما هاجرت، وإن لم تكن هجرتها في حال هجرته"، إذ لم(7/147)
وظاهره يدل على أن الهجرة شرط في التحليل، وأن من لم تهاجر من النساء لم يحل له نكاحها. وقالت أم هانئ: خطبني النبي صلى الله عليه وسلم فاعتذرت إليه بعذر فعذرني، فأنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ} إلى قوله: {اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ} الآية فلم أكن لأحل له، فإني لم أهاجر معه، كنت من الطلقاء.
وعن بعض المفسرين: أن شرط الهجرة في التحليل منسوخ، ولم يذكر ناسخه.
وعن الماوردي قولان: أحدهما أن الهجرة شرط في.
__________
يهاجر معه أحد، "وظاهره يدل على أن الهجرة شرط في التحليل، وأن من لم تهاجر من النساء لم يحل له نكاحها" لأنه قيد حل المذكورات بالهجرة، "ويؤيد هذا ما رواه الترمذي، وحسنه الحاكم، وصححه عن ابن عباس، قال: قالت أم هانئ: خطبني النبي صلى الله عليه وسلم، فاعتذرت إليه بعذر" فقلت: ما لي عنك رغبة يا رسول الله، ولكن لا أحب أن أتزوج وبني صغار، فقال صلى الله عليه وسلم: "خير نساء ركبن الإبل نساء قريش، أحناه على طفل في صغره، وأرعاه على بعل في ذات يده", رواه الطبراني عنها برجال ثقات.
وروى ابن سعد بسند صحيح عن الشعبي، فقالت: يا رسول الله! لأنت أحب إليّ من سمعي وبصري وحق الزوج عظيم، فأخشي أن أضيع حق الزوج "فعذرني" أي: قبل عذري، "فأنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ} "، إلى قوله: {اللَّاتِي} بالتاء في قراءة الجمهور وقراءة الأعمش بالياء {هَاجَرْنَ مَعَكَ} الآية، "فلم أكن لأحل له، فإني لم أهاجر معه، كنت من الطلقاء، وعن بعض المفسرين: أن شرط الهجرة في التحليل منسوخ" وبه جزم البغوي، "ولم يذكر ناسخه" على أنه لا حاجة لدعوى النسخ، فقد ذهب الضحاك، وابن زيد إلى أن معنى الآية أن الله أباح له كل امرأة يؤتيها مهرها وملك اليمين، وأباح له قرابته وخصصهن بالذكر، ووصفهن بالهجرة تشريفًا لهن، وأباح له الواهبات خاصة، فهي إباحة مطلقة في جميع النساء حاشى المحارم، لا سيما على ما ذكره الضحاك؛ أن من مصحف ابن مسعود: "واللاتي هاجرن" بالواو، ثم قال: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ} ... إلخ. أي: من هذه الأصناف كلها، فيجري الضمير بعد ذلك على العموم إلى قوله: ولا أن تبدل بهن من أزواج، فيعود على التسع فقط على الخلاف في ذلك، ذكره ابن عطية.
"وعن الماوردي قولان" ذكرهما في معنى الآية، "أحدهما: أن الهجرة شرط في(7/148)
إحلال كل النساء له عليه السلام من غريبة وقريبة، والثاني: أنها شرط في إحلال بنات عمه وعماته المذكورات في الآية وليس شرطًا في إحلال الأجنبيات، وعنه أيضًا: أن المراد بالمهاجرات المسلمات.
ومنها: تحريم إمساك من كرهته، قاله الحجازي وغيره.
ومنها: نكاح الكتابية، لأن أزواجه أمهات المؤمنين وزوجات له في الآخرة، ومعه في درجته في الجنة، ولأنه أشرف من أن يضع ماءه في رحم كافرة، قالوا: ولو نكح كتابية لهديت إلى الإسلام كرامة له.
ومنها: نكاح الأمة المسلمة.
__________
إحلال كل النساء له عليه السلام من غريبة وقريبة" من جهة أبيه أو أمه، "والثاني: أنها شرط في إحلال بنات عمه وعماته المذكورات في الآية، وليس شرطًا في الأجنبيات" وقد يؤيده حديث أم هانئ، "وعنه أيضًا" حكاية قول ثالث: "أن المراد بالمهاجرات المسلمات" فيحل له جميع النساء مهاجرات، أم لا من أقرابه أو غيرهن، وهذا هو الأصح في الحكم دون التحريم، ولكن أدق من كون المراد المسلمات ما نقله ابن عطية، كما رأيت.
"ومنها: تحريم إمساك من كرهته، قاله، الحجازي، وغيره" كما هو قضية تخيير نسائه، ولما رواه البخاري عن عائشة: أن ابنة الجون لما أدخلت عليه صلى الله عليه وسلم ودنا منها، قالت: أعوذ بالله منك، فقال لها: "لقد عذت بعظيم، الحقي بأهلك" وفي رواية له: "عذت بمعاذ" بفتح الميم، أي: بالذي يستعاذ به وهو الله. قال ابن الملقن: يفهم منه أنه يحرم عليه نكاح كل امرأة كرهت صحبته، وبحث فيه شيخنا بجواز أنه لما فهم كراهتها له لم يرد إبقاءها، وإن جاز، وفيه نظر وقد زاد في الأنموذج، وتحرم عليه مؤبدًا في أحد الوجهين.
"ومنها: نكاح الكتابية" ولو ذمية؛ "لأن أزواجه أمهات المؤمنين" ولا يجوز أن تكون الكافرة أمهم، "وزوجات له في الآخرة" لحديث: "زوجاتي في الدنيا زوجاتي في الجنة"، "ومعه في درجته ف الجنة" لقوله: "سألت ربي أن لا أتزوج إلا من كان معي في الجنة، فأعطاني" رواه الحاكم، وصححه والجنة حرام على الكافرين؛ "ولأنه أشرف من أن يضع ماءه في رحم كافرة، قالوا: ولو نكح كتابية لهديت إلى الإسلام كرامة له" أي: لو فرض ذلك وإلا فلم يتفق له صلى الله عليه وسلم نكاح كتابية.
"ومنها: نكاح الأمة المسلمة" لأنه مقيد بخوف العنت، وهو معصوم، وبفقد مهر الحرة، ونكاحه غني عن المهر ابتداء وانتهاء، وفيه رق الولد ومنصبه منزه عنه، وقال البلقيني:(7/149)
ولو قدر نكاحه أمة كان ولده منها حرًا، ولا تلزمه قيمته لتعذر الرق. قال القاضي حسين، وقال أبو عاصم: تلزم نقله الحجازي، ولا يشترط في حقه حينئذ خوف العنت ولا فقد الطول.
وأما التسري بالأمة فالأصح الحل، لأنه صلى الله عليه وسلم استمتع بأمته ريحانة قبل أن تسلم، وعلى هذا، فهل عليه تخييرها بين أن تسلم فيمسكها أو تقيم على دينها فيفارقها؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم لتكون من زوجاته في الآخرة والثاني: لا، لأنه لما عرض على ريحانة الإسلام فأبت لم يزلها عن ملكه وأقام على الاستمتاع، وقد أسلمت بعد.
__________
ولا يتصور في حقه قط اضطرار إلى نكاحها، بل لو أعجبته أمة، وجب على مالكها بذلها إليه هبة، قياسًا على الطعام، "ولو قدر نكاحه أمة كان ولده منها حرًا" على الصحيح، وإن قلنا بالمشهور من جري الرق على العرب، "ولا تلزمه قيمته لتعذر الرق، قاله القاضي حسين" بخلاف ولد المغرور بحرية أمة لفوات الرق بظنه، وهنا يتعذر الرق؛ كما قاله القاضي حسين. "وقال أبو عاصم: تلزم، نقله البخاري" وأيد الرافعي الأول بقول إمام الحرمين: لو قدر نكاح غرور في حقه، لم تلزمه قيمة الولد؛ لأنه مع العلم بالحال لم ينعقد رقيقًا، فمع الجهل به أولى.
قال ابن الرفعة: وفي تصوير ذلك في حقه نظر، "ولا يشترط في حقه حينئذ" أي: حين قدرنا نكاحه أمة "خوف العنت" إذ لا يتصور فيه لعصمته، "ولا فقد الطول" زواد الأنموذج: وله الزيادة على واحدة، أي: بخلاف أمته، فلا يزيدون على أمة واحدة، إذا خيف العنت وفقد الطول.
"وأما التسري بالأمة" الكتابية، "فالأصح الحل؛ لأنه صلى الله عليه وسلم استمتع بأمته ريحانة" القرظية على الأكثر، وقيل: النظرية "قبل أن تسلم" لا يرد أنه أشرف من أن يضع ماءه في رحم كافرة؛ لأنه جزء علة، والحكم ينتفي بانتفائه، بخلاف المعلل بعلتين، فيبقى ما بقيت إحداهما، والسرية ليست أم المؤمنين، وقال بعض: لأن القصد بالنكاح أصالة التوالد، فاحتيط له وبأنه يلزم فيه أن تكون الزوجة أم المؤمنين، بخلاف الملك فيهما، "وعلى هذا فهل" يجب "عليه تخييرها بين أن تسلم فيمسكها، أو تقيم على دينها فيفارقها، فيه وجهان، أحدهما: نعم، لتكون من زوجاته في الآخرة، والثاني: لا؛ لأنه لما عرض على ريحانة الإسلام، فأبت" إلا اليهودية، "لم يزلها عن ملكه، وأقام على الاستمتاع" بها، ولعله علم بأنها ستسلم بعد، أو إن تمتعه بها يكون سببًا لإسلامها، فسهل ذلك له، "وقد أسلمت بعد" وكان يطؤها بالملك.
جزم به ابن إسحاق، وقيل: أعتقها وتزوجها، ورجحه الواقدي، وماتت سنة عشر، مرجعه(7/150)
ومنها: تحريم الإغارة إذا سمع التكبير، كما ذكره ابن سبع في الخصائص.
__________
من حجة الوداع، ودفنت بالبقيع هذا، وما جزموا من استمتاعه بها قبل أن تسلم، مخالف لقول ابن إسحاق: سباها صلى الله عليه وسلم، فأبت إلا اليهودية، فعزلها، ووجد في نفسه، فبينما هو مع أصحابه إذ سمع وقع نعلين خلفه، فقال: "إن هذا الثعلبة بن سعية يبشرني بإسلام ريحانة"، فبشره، فسره ذلك، فعرض عليها أن يعتقها ويتزوجها، ويضرب عليها الحجاب، فقالت: يا رسول الله!، بل تتركني في ملكك فهو أخف علي وعليك، فتركها واصطفاها لنفسه، وكذا ذكر الواقدي وابن سعد؛ أنه صلى الله عليه وسلم عزلها ثم أرسلها إلى بيت أم المنذر بنت قيس، فدخل عليها، قالت: فاختبأت منه حياء، فدعاني فأجلسني بين يديه، وخيرني، فاخترت الله ورسوله.
قال في الأنموذج: وكان إذا خطب امرأة فرد لم يعد؛ كما في حديث مرسل، فيحتمل التحريم، والكراهة ياسًا على إمساك كارهته، ولم أر من تعرض له وشنع عليه شارحه، فقال: هذا لا دلالة فيه على الخصوصية بوجه، وإثباتها من قبيل الرجم بالغيب، وهذا على عادته في تحامله عليه، إذ لم يثبت له خصوصية، وإنما أبدى احتمالا في المروي مع القياس، كما ترى، فإذا لم يفهم على أحد الاحتمالين فماذا يكون معناه.
"ومنها: تحريم الإغارة" على قول يريد غزوهم "إذا سمع التكبير" أي: الأذان لخبر الصحيحين عن أنس: كان صلى الله عليه وسلم إذا غزا قومًا لم يغر حتى يصبح وينظر، فإن سمع أذانًا كف عنهم، وإن لم يسمع أذانًا أغار عليهم؛ "كما ذكره ابن سبع في الخصائص" وتعقب بأنه ليس في الحديث ما يصرح، بل ولا ما يلوح بأنه من خصائصه، وزاد في الأنموذج: وأن يخدع في الحرب فيما ذكر ابن القاص، وخالف فيه الجمهور، وعد القضاعي وغيره أنه لا يقبل هدية مشرك، ولا يستعين به، ولا يشهد على جور، وحرم عليه الخمر من أول بعثته قبل أن تحرم على الناس بنحو عشرين سنة، فلم تبح له قط.
وفي الحديث: "أول ما نهاني عنه ربي بعد عبادة الأوثان شرب الخمر وملاحاة الرجال"، ونهي عن التعري وكشف العورة من قبل أن يبعث بخمس سنين، وقالت عائشة: ما رأيت منه، ولا رأى مني، ونهى عليًا عن إنزاء الخمر على الخيل نهيًا خاصًا عد هذه رزين، وكان لا يصلي على من غل، ولا على من قتل نفسه، وفي المستدرك عن أبي قتادة: كان صلى الله عليه وسلم إذا دعي إلى جنازة سأل عنها فإن أثني عليها خيرًا صلى عليها، وإن أثني عليها غير ذلك قال لأهلها، "شأنكم بها" ولم يصل عليها.
وفي سنن أبي داود حديث: "ما أبالي ما أتيت إن أنا شربت ترياقًا، أو تعلقت تميمة، أو قلت شعرًا من قبل نفسي"، قال أبو داود: هذا كان له خاصة، وقد رخص في الترياق لغيره، انتهى.
وقد رخص أيضًا في تعليق التمائم إذا كان بعد نزول البلاء، انتهى.
وقوله: إن أنا شربت شرط حذف جوابه لدلالة الحال عليه، أي: إن فعلت هذا لا أبالي كل شيء أتيت به، لكني أبالي من إتيان بعض الأشياء وإدخال الشارح هنا ما حرم على غيره له، كرفع الصوت عليه لا ينبغي؛ لأن القسم فيما حرم عليه هو صلى الله عليه وسلم، مع أن غالب ما ذكره أدمجه المصنف في القسم الرابع.(7/151)
القسم الثالث: فيما اختص به صلى الله عليه وسلم من المباحات
اختص عليه الصلاة والسلام بإباحة المكث في المسجد جنبًا، قال صاحب التلخيص, ومنعه القفال، قال النووي: وما قاله في التلخيص قد يحتج له بقوله عليه الصلاة والسلام في حديث أبي سعيد الخدري: "يا علي لا يحل لأحد أن يجنب في هذا المسجد غيري وغيرك". قال الترمذي حسن غريب.
وقد يعترض على هذا الحديث بأن عطية بن سعد.
__________
القسم الثالث: ما اختص به صلى الله عليه وسلم من المباحات
والتخفيفات له دون غيره توسعة عليه، وتنبيهًا على أن ما خص به منها لا يلهيه عن طاعته، وإن ألهى غيره، وليس المراد بالمباح هنا ما استوى طرفاه، بل ما لا حرج في فعله، ولا في تركه.
قال في المطلب: المباح في عرف الفقهاء ما استوى طرفاه، وقد يطلق على ما لا إثم فيه، وهو المراد فيما نحن فيه؛ لأن الطرفين لم يستويا في كل الصور، فإنه يثاب على الوصال، وصفى المغنم قد يكون الراجح فعله أيضًا؛ لأنه يصرفه في أهم المهمات، وقد يكون الراجح تركه، وكذا دخول مكة بلا إحرام؛ فإنه في حال يكون راجحًا كما وجد في حال يكون الفعل أرجح لفقد ما لأجله يرجح الترك، وكذا إباحة التصدق بجميع ما يخلفه والزيادة على أربع لا تساوي فيه فإن أفعاله وأقواله كلها راجحة، فيثاب عليها، انتهى.
"اختص عليه الصلاة والسلام بإباحة المكث في المسجد جنبًا، قاله صاحب التلخيص" هو ابن القاص "ومنعه القفال" وهو المعتمد.
قال النووي: وما قاله في التلخيص قد يحتج له بقوله عليه الصلاة والسلام في حديث أبي سعيد الخدري: "يا علي لا يحل لأحد أن يجنب في هذا المسجد" أي: يمكث فيه جنبًا "غيري وغيرك"، "قال الترمذي: حسن غريب، وقد يعترض على هذا الحديث" أي: الاحتجاج "بأن" راويه عن أبي سعيد "عطية بن سعد" العوفي، الكوفي، المتوفى سنة إحدى(7/152)
ضعيف عند الجمهور.
ويجاب بأن الترمذي حكم بأنه حسن فلعله اعتضد بما اقتضى حسنه، لكن إذا شاركه عليه السلام علي في ذلك لم يكن من الخصائص.
وقد غلط إمام الحرمين وغيره صاحب التلخيص في الإباحة.
واعلم أن معظم المباحات لم يفعلها صلى الله عليه وسلم وإن جازت له.
ومما اختص به أيضًا أنه لا ينتقض وضوؤه بالنوم مضطجعًا، وفي اللمس وجهان.
__________
عشرة ومائة، "ضعيف عند الجمهور" وفي التقريب: صدوق يخطئ كثيرًا، وكان شيعيًا مدلسًا، روى له أبو داود، والنسائي، والترمذي، "ويجاب بأن الترمذي حكم بأنه حسن، فلعله اعتضد" تقوى "بما اقتضى حسنه" فإن له شواهد كحديث أم سلمة، رفعته: إلا أن مسجدي حرام على حائض من النساء، وكل جنب من الرجال إلا محمدًا وأهل بيتي علي وفاطمة والحسن والحسين، رواه البيهقي، وحديث عائشة مرفوعًا: "لا يحل المسجد لحائض ولا جنب إلا لمحمد وآل محمد" رواه البخاري في تاريخه والبيهقي، وروى ابن عساكر عن جابر نحوه، "لكن إذا شاركه عليه السلام علي في ذلك لم يكن من الخصائص" ويجاب بأن له أن يخص من شاء بما شاء، كما يأتي، فتخصيص علي ببعض خصائصه لا يمنع كونه منها، "وقد غلط إمام الحرمين وغيره صاحب التلخيص في الإباحة" لكن لا ينهض التغليط مع وجود حديث حكم مثل الترمذي بحسنه، واختلف المحدثون في تضعيف راويه عطية وتوثيقه، ووجود شواهد له كثيرة، زاد في الأنموذج، وبالعبور فيه عند المالكية، أي: لا الشافعية، لأنهم جوزوا عبور الجنب في المسجد.
"واعلم، أن معظم المباحات لم يفعلها صلى الله عليه وسلم وإن جازت له" ولعل غرضه من هذا دفع ما قد يقال لو كان مباحًا له لنقل، ولم ينقل.
"ومما اختص به أيضًا، أنه لا ينتقض وضوءه بالنوم مضطجعًا" لما في الصحيحين، أنه صلى الله عليه وسلم اضطجع ونام حتى نفخ، ثم قال فصلى ولم يتوضأ، أي: لأنه لا ينام قلبه، والأنبياء مثله في ذلك؛ لأن قلوبهم لا تنام، فهو خصوصية له على الأمم لا الأنبياء، ومر الجواب عن نومه في الوادي في آخر المقصد الثالث في نفس المتن بأجوبة عديدة، فعجيب تسويد الكاغد هنا بذكر بعضه من كلام غير المصنف، الموهم أنه ليس فيه، مع أن ما بالعهد من قدم، ولكن آفة العلم النسيان، "وفي اللمس وجهان" أحدهما: لا ينتقض قال السيوطي: وهو الأصح، والثاني:(7/153)
قال النووي: المذهب الجزم بانتقاضه به.
واستدل القائلون بالأول بنحو حديث عائشة، عند أبي داود، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل بعض أزواجه ثم يصلي ولا يتوضأ. ورواه النسائي أيضًا، وقال أبو داود: وهو مرسل، إبراهيم التيمي لم يسمع من عائشة، وقال النسائي: ليس في هذا الباب حديث أحسن من هذا الحديث وإن كان مرسلا.
واختص أيضًا بإباحة الصلاة بعد العصر، فقد فاتته ركعتان بعد الظهر فقضاهما بعد العصر, ثم واظب عليهما،
__________
النقض، وهو المعتمد عند الشافعية، كما "قال النووي: المذهب الجزم بانتقاضه به، واستدل القائلون بالأول بنحو حديث عائشة عند أبي داود" في الطهارة وأحمد؛ "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل بعض أزواجه" وفي رواية: بعض نسائه، "ثم يصلي ولا يتوضأ، ورواه النسائي أيضًا" في الطهارة.
"وقال أبو داود: هو مرسل إبراهيم التيمي، لم يسمع من عائشة" لكن قال الحافظ: روى عنها من عشرة أوجه فهذا يجبر إرساله، ولذا قال في تخريج الرافعي: إسناد جيد قوي، وقال عبد الحق: لا أعلم له علة توجب تركه.
"وقال النسائي: ليس في هذا الباب حديث أحسن من هذا الحديث، وإن كان مرسلا" بناء على أن المرسل ما سقط منه راوٍ، أنه ما رفعه التابعي، فيقال، في هذا منقطع، وبه أخذ أبو حنيفة، فقال: لا وضوء من المس، ولا من المباشرة، إلا أن فحشت بأن يوجدا متعانقين متماسي الفرج، وذهب الشافعي إلى النقض مطلقًا، وأجاب بعض أتباعه بأن خصوصية أو منسوخ، لأنه قبل نزول قوله: {أَوْ لَامَسْتُمُ} ، ولأبي حنيفة أن يقول الأصل عدم الخصوصية وعدم النسخ حتى يثبت، والحديث صالح للحجية، وقد روى النسائي أيضًا بإسناد صحيح عن القاسم عن عائشة، قالت: إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي، وإني لمعترضة بين يديه اعتراض الجنازة، حتى إذا أراد أن يوتر مسني برجله، وفصل مالك بين الالتذاذ أو قصده، فالنقض وبين انتفائهما فلا نقض إلا القبلة بفم مطلقًا.
"واختص أيضًا بإباحة الصلاة" أي: جنسها "بعد العصر" أي: الركعتين بعد الظهر، خاصة على ما قال: "فقد فاتته ركعتان بعد الظهر، فقضاهما بعد العصر" كما في الصحيحين عن أم سلمة أنه صلى الله عليه وسلم نهى عنهما، ثم رأيته يصليهما، فسألته، فقال: "أتاني ناس من عبد القيس، فشغلوني عن الركعتين اللتين بعد الظهر، فهما هاتان"، "ثم واظب عليهما" ولم يتركهما حتى(7/154)
ذكره الحجازي، وبجواز صلاة الوتر على الراحلة مع وجوبه عليه، كما ذكره في شرح المهذب وعبارته: كان من خصائصه صلى الله عليه وسلم جواز فعل هذا الواجب الخاص به على الراحلة. وبالصلاة على الغائب عند أبي حنيفة ومالك.
وبالقبلة في الصوم، مع قوة الشهوة، روى البخاري من حديث عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل بعض أزواجه وهو صائم، وكان أملككم لإربه.
__________
لقي الله، رواه البخاري عن عائشة، "ذكره الحجازي" فجعلهما خصوصية واحدة، والسيوطي جعلهما خصوصيتين، فقال: وبإباحة الصلاة بعد العصر، وبقضاء الراتبة بعد العصر عند قوم، قال شارحه عقب الأولى لخبر أبي داود: كان يصلي وينهى عنها، ويواصل وينهى عنه، ثم شرح الثانية بخبر أم سلمة، "وبجواز صلاة الوتر على الراحلة" أي: البعير "مع وجوبه عليه، كما ذكره" النووي "في شرح المهذب" وهو ضعيف، كما مر، "وعبارته: كان من خصائصه صلى الله عليه وسلم جواز فعل هذا الواجب الخاص به" أي الوتر "على الراحلة" لما في الصحيحين عن جابر: كان يصلي في السفر على راحلته حيثما توجهت به، فإذا أراد أن يصلي المكتوبة نزل فاستقبل القبلة.
"وبالصلاة على" الميت "الغائب عند أبي حنيفة ومالك" وحملا صلاته على النجاشي على ذلك، وخالف الشافعي وأحمد، فأجازاها لغيره، زاد السيوطي وعلى القبر عند المالكية، "وبالقبلة" بالضم "في الصوم مع قوة الشهوة" بخلاف غيره، فيحرم إن خاف الإنزال وإلا كره، "روى البخاري" ومسلم، وأصحاب السنن "من حديث عائشة، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل بعض أزواجه" هي عائشة، كما في مسلم، أو أم سلمة، كما في البخاري، لكن الظاهر أن كلا إنما أخبرت عن فعله معها لرواية البخري أيضًا عن عائشة، إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقبل بعض أزواجه "وهو صائم" ثم ضحكت، زاد ابن أبي شيبة عن عروة: فظننا أنها هي، وإنما ضحكت تنبيهًا على أنها صاحبة القصة، لتكون أبلغ في الثقة بها، أو تعجبًا من نفسها إذ حدثت بمثل هذا مما يستحيي النساء من ذكره للرجال، لكن ضرورة تبليغ العلم ألجأتها لذلك.
وروى البيهقي عن عائشة: أنه صلى الله عليه وسلم كان يقبلها وهو صائم، ويمص لسانها، "وكان أملككم لإربه" بكسر الهمزة، وإسكان الراء في الفرع وغيره، أي: عضوه، وبفتح الهمزة والراء، وقدمه في فتح الباري، وقال: إنه أشهر، وإلى ترجيحه أشار البخاري، أي: أغلبكم لهواه وحاجته.
وقال التوربشتي: حمل الإرب ساكنة الراء على العضو في هذا الحديث غير سديد، لا يغتر به إلا جاهل بوجوه حسن الخطاب، مائل عن سنن الأدب ونهج الصواب.(7/155)
قال الحافظ ابن حجر: فأشارت بذلك إلى أن الإباحة لمن يكون مالكًا لنفسه دون من لا يأمن الوقوع فيما يحرم. وفي رواية حماد -عند النسائي- قال الأسود: قلت لعائشة: أيباشر الصائم؟ قالت: لا، قلت: أليس كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يباشر وهو صائم؟ قالت: إنه كان أملككم لإربه. قال وظاهر هذا أيضًا أنها اعتقدت خصوصية النبي صلى الله عليه وسلم بذلك. قاله القرطبي، قال: وهو اجتهاد منها. ويدل على أنها لا ترى بتحريمها ولا بكونها من الخصائص: ما رواه مالك في الموطأ أن عائشة بنت طلحة كانت عند عائشة فدخل عليها زوجها وهو عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر فقالت عائشة: ما يمنعك أن تدنو من أهلك فتلاعبها وتقبلها؟ قال: أقبلها وأنا صائم؟ قالت: نعم.
__________
وأجاب الطيبي: بأنها ذكرت أنواع الشهوة مرتقية من الأدنى إلى الأعلى، فبدأت بمقدمتها التي هي القبلة، ثم ثنت بالمباشرة بنحو المداعبة والمعانقة، وأرادت أن تعبر عن المجامعة، فكنت عنها بالأرب، وأي عبارة أحسن من هذا. انتهى. وفي الموطأ: أيكم أملك لنفسه، وبهذا فسره الترمذي، فقال: ومعنى لإربه لنفسه، قال الحافظ العراقي: وهو أولى بالصواب لأن أولى ما فسر به الغريب ما ورد في بعض طرق الحديث.
"قال الحافظ ابن حجر: فأشارت بذلك" أي قولها: وكان أملككم لإربه "إلى أن الإباحة لمن يكون مالكًا لنفسه دون من لا يأمن الوقوع فيما يحرم" من الإنزال أو الجماع، "وفي رواية حماد عند النسائي، قال الأسود" بن يزيد النخعي: "قلت لعائشة: أيباشر الصائم" حليلته بما دون الجماع، "قالت: لا، قلت: أليس كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبار وهو صائم؟ قالت: إنه كان أملككم لإربه، قال" الحافظ: "وظاهر هذا أيضًا أنها اعتقدت خصوصية النبي صلى الله عليه وسلم بذلك" لأنه لا يخاف ما يخاف غيره، "قال القرطبي، قال: وهو" أي اعتقادها الخصوصية "اجتهاد منها" لا أنها رفعته، "ولكن يدل على أنها لا ترى بتحريمها، ولا بكونها من الخصائص، ما رواه مالك في الموطأ: أن عائشة بنت طلحة" بن عبيد الله القرشية التيمية أم عمر، إن كانت فائقة الجمال، وهي ثقة، روى له الستة "كانت عند عائشة" أم المؤمنين، "فدخل عليها زوجها، وهو عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر" الصديق، التيمي، التابعي، روى له الشيخان وغيرهما، "فقالت عائشة: ما يمنعك أن تدنو من أهلك" زوجك، "فتلاعبها وتقبلها؟ قال: أقبلها وأنا صائم؟ قالت: نعم" فدل ذلك، على أن قولها للأسود لا محمول على تحرك شهوته، كما أشعر به جوابها؛ بأنه كان أملككم، وقد حكى الإجماع على أن من كره القبلة لم يكرهها لنفسه، وإنما كرهها خشية ما تئول إليه من الإنزال، ومن بديع ذلك قول(7/156)
واختص أيضًا بإباحة الوصال في الصوم: كما سيأتي، وقال إمام الحرمين، وهو قربة في حقه عليه السلام.
وأن يأخذ الطعام والشراب من مالكهما المحتاج إليهما إذا احتاج، ويجب على صاحبهما البذل. ويفدي بمهجته مهجة رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال الله تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب: 6] ، ولو قصده ظالم وجب على كل من حضره أن يبذل نفسه دونه صلى الله عليه وسلم.
__________
عمر بن الخطاب: هششت، فقبلت وأنا صائم، فقلت: يا رسول الله صنعت اليوم أمرًا عظيمًا، قبلت وأنا صائم، قال: "أرأيت لو مضمضت من الماء وأنت صائم"، قلت: لا بأس به، قال: "فمه"، رواه أبو داود والنسائي، وقال: منكر، وصححه ابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم، قال المازري: فأشار إلى فقه بديع وذلك أن المضمضة لا تنقض الصوم، وهو أول، الشرب ومفتاحه، كما أن القبلة من دواعي الجماع ومفتاحه، والشرب يفسد الصوم، كما يفسد الجماع، فكما ثبت أن أوائل الشرب لا تفسد الصيام، فكذلك أوائل الجماع، وأخذ الظاهرية بظاهر الحديث، فجعلوا القبلة للصائم سنة، وقربة من القرب اقتداء بفعله صلى الله عليه وسلم، ورد بأنه كان يملك إربه، فليس كغيره، وكيفما كان لا يفطر إلا بإنزال، فلو أمذى فلا شيء عليه عند الشافعي وأبي حنيفة، وعليه القضاء عند مالك، "واختص أيضا بإباحة الوصال" كما قال الشافعي والجمهور "في الصوم، كما سيأتي" في المقصد التاسع مع بسط الخلاف في معنى: "يطعمني ربي ويسقيني" وفي حكم الوصال لنا بما يغني عن جلب بعض كلام غيره هنا.
"وقال إمام الحرمين: هو قربة في حقه عليه السلام" أي مستحب لا مباح؛ كما قال الجمهور، "و" اختص بإباحة "أن يأخذ الطعام والشراب" والثياب "من مالكهما المحتاج إليهما إذا احتاج" بلا ثمن، بخلاف غيره، فلا يجوز له إلا أن يضطر، فيجب على مالكه غير المضطر بذله بالثمن إن وجد على ما بسط في الفروع، "ويجب على صاحبهما البذل" ولو هلك جوعًا وعطشًا وعريًا، "ويفدي بمهجته مهجة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} ، وقال صلى الله عليه وسلم: "أنا أولى بكل مؤمن من نفسه"، لكن لم ينقل أنه فعل هذا المباح، بل كان يؤثر على نفسه، قال الشيخان: بل ولا معظم المباحات، "ولو قصده ظالم وجب على كل من حضره أن يبذل" بضم الذال "نفسه" يجود بها ويعطيها "دونه صلى الله عليه وسلم" وإن خشي الدافع على نفسه بخلاف غيره، فلا يجب الدفع مع الخوف، كما قال الرافعي والنووي؛ لأن من قصد غير النبي مسلمًا لا يكفر، وقاصده عليه السلام يكفر(7/157)
كما وقاه طلحة بنفسه يوم أحد.
وبإباحة النظر إلى الأجنبيات لعصمته، وسيأتي إن شاء الله تعالى في القسم الرابع حكم غيره عليه السلام. وبجواز الخلوة بهن. قال في فتح الباري: الذي وضح لنا بالأدلة القوية أن من خصائصه صلى الله عليه وسلم جواز الخلوة بالأجنبية والنظر إليها، ويدل له قصة أم حرام بنت ملحان في دخوله صلى الله عليه وسلم عليها ونومه عندها وتفليتها رأسه، ولم يكن بينهما محرمية ولا زوجية، انتهى.
__________
بذلك، قاله الخيضري "كما وقاه طلحة" بن عبيد الله، أحد العشرة "بنفسه يوم أحد" وكان أبو طلحة الأنصاري يتقي بترسه دونه، ونحو ذلك من الأحاديث، كما قاله الحافظ بعد قوله: لم أر وقوع ذلك في شيء من الأحاديث صريحًا، ويمكن أن يستأنس له بأن طلحة ... إلخ، "وبإباحة النظر إلى الأجنبيات لعصمته، وسيأتي إن شاء الله تعالى في القسم الرابع" التالي لهذا "حكم غيره عليه السلام" من اختلاف العلماء في جواز النظر إلى الوجه والكفين ومنعه، "وبجواز الخلوة بهن" لعصمته.
"قال في فتح الباري: الذي وضح لنا بالأدلة القوية أن من خصائصه صلى الله عليه وسلم جواز الخلوة بالأجنبية، والنظر إليها" لمكان عصمته، وإن نازع في ذلك القاضي عياض؛ بأن الخصائص لا تثبت بالاحتمال، قال: وثبوت العصمة مسلم لكن الأصل عدم الخصوصية، "ويدل له قصة أم حرام بنت ملحان" بكسر الميم، وسكون اللام، ومهملة، ونون، واسمه مالك بن خالد بن زيد بن حرام، بمهملتين، الأنصارية، خالة أنس، قال أبو عمر: لم أقف لها على اسم صحيح، قال في الإصابة: ويقال إنها الرميصاء، بالراء، وبالغين المعجمة، ولا يصح بل الصحيح أن ذلك وصف لأم سليم، ثبت ذلك في حديثين لأنس وجابر عند النسائي، روى عن أم حرام زوجها عبادة بن الصامت، وابن أخيها أنس، وعمير بن الأسود، وعطاء بن يسار، وعلى بن شداد بن أوس، "في دخوله عليها" بيتها "ونومه عندها" فيه، "وتفليتها رأسه، ولم يكن بينهما محرمية ولا زوجية" وزعم أنها كانت محرمة من الرضاع؛ بأن أرضعته هي أو أختها أم سليم لم يثبت؛ كما قاله الدمياطي وغيره، "انتهى".
روى البخاري وغيره من طريق الموطأ لمالك، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا ذهب إلى قباء يدخل على أم حرام بنت ملحان فتطعمه، وكانت تحت عبادة بن الصامت، فدخل عليها، فأطعمته، وجعلت تفلي رأسه فنام، ثم استيقظ وهو يضحك، قالت: فقلت: وما يضحكك يا رسول الله؟ قال: "ناس من أمتي عرضوا علي غزاة في(7/158)
ومنها نكاح أكثر من أربع نسوة، وكذلك الأنبياء، وفي الزيادة لنبينا صلى الله عليه وسلم على التسع خلاف.
__________
سبيل الله يركبون ثيج هذا البحر ملوكًا على الأسرة، أو مثل الملوك على الأسرة" قالت: فقلت: يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم، فدعا لها، ثم وضع رأسه فنام، ثم استيقظ وهو يضحك، فقلت: وما يضحكك يا رسول الله؟ قال: "ناس من أمتي عرضوا علي غزاة في سبيل الله"، كما قال الأول، فقلت: يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم، قال: "أنت من الأولين" قال: فركبت أم حرام البحر في زمن معاوية، فصرعت عن دابتها حين خرجت من البحر فماتت، وفي بعض طرقه عند البخاري، عن أنس، عن أم حرام بنت ملحان، وكانت خالته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في بيتها، فاستيقظ وهو يضحك، وقال: "عرض علي ناس من أمتي يركبون ظهر البحر الأخضر، كالملوك على الأسرة". قالت: يا رسول الله! ادع الله أن يجعلني منهم، قال: "إنك منهم" ثم نام فاستيقظ وهو يضحك، فقلت: يا رسول الله! ما يضحكك؟ قال: "عرض علي ناس من أمتي يركبون ظهر البحر الأخضر، كالملوك على الأسرة"، قلت: يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم، قال: "أنت من الأولين" قال: فتزوجها عبادة بن الصامت، فأخرجها معه، فلما جاز البحر ركبت دابة، فصرعتها فقتلتها، قال ابن الأثير: وكانت تلك الغزوة غزوة قبرص، فدفنت فيها، وكان أمير ذلك الجيش معاوية، في خلافة عثمان، ومعه أبو ذر، وأبو الدرداء وغيرهما من الصحابة، وذلك في سنة سبع وعشرين، وقيل: ثمان وعشرين، فقوله في الحديث: زمن معاوية، أي: زمان غزوه في البحر، لا زمان خلافته، وهذا قول أكثر أهل السير.
وقال البخاري ومسلم: في زمن معاوية نفسه. ثم لا يخالف بين قوله في الرواية الأولى: وكانت زوج عبادة، الظاهر في أنها كانت زوجه في الزمن النبوي، وبين قوله في الرواية الثانية: فتزوجها عبادة الظاهر في أنه تزوجها بعد لأنها كانت إذ ذاك زوجته ثم طلقها ثم راجعها بعد ذلك، قاله ابن التين وقيل: إنما تزوجها بعد.
قال الحافظ: وهو أولى لاتفاق عبد الله بن عبد الرحمن الأنصاري، ومحمد بن يحيى بن حبان، عن أنس كلاهما عند البخاري أن عبادة إنما تزوجها بعد، ويحمل قوله في رواية ابن إسحاق: وكانت تحت عبادة بن الصامت على أنها جملة معترضة، أراد الراوي وصفها به غير مقيد بحال من الأحوال، ظهر من رواية غيره؛ أنه إنما تزوجها بعد.
"ومنها: نكاح أكثر من أربع نسوة" إلى تسع اتفاقًا وقد مات عنهن، "وكذلك الأنبياء" لهم الزيادة، فهو خصوصية له على أمته، "وفي" جواز "الزيادة لنبينا صلى الله عليه وسلم على التسع خلاف" أصحه الجواز؛ لأنه مأمون الجور، ولأن غرضه نشر باطن الشريعة وظاهرها، وكان أشد حياء،(7/159)
ويجوز له النكاح بلفظ الهبة من جهة المرأة، قال الله تعالى: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} [الأحزاب: 5] ، وأما من جهته عليه الصلاة والسلام فلا بد من لفظ النكاح أو التزويج على الأصح في أصل الروضة، وحكاه الرافعي عن ترجيح الشيخ أبي حامد لظاهر قوله تعالى: {إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ} [الأحزاب: 5] .
قال البيضاوي: في قوله تعالى: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً} الآية، أي: أعلمناك حل امرأة تهب كل نفسها ولا تطلب مهرًا إن اتفق، ولذلك نكرها.
واختلف في ذلك، والقائل به ذكر أنها.
__________
فأبيح له تكثير النساء بلا حصر عدد، لنقل ما يرينه من أفعاله ويسمعنه من أقواله الذي قد يستحيي من الإفصاح بها، "ويجوز له النكاح بلفظ الهبة من جهة المرأة، قال الله تعالى: وأحللنا لك {امْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} الآية، وأما من جهته عليه الصلاة والسلام فلا بد من لفظ النكاح أو التزويج" بأن يقول: نكحتك أو تزوجتك، "على الأصح في أصل الروضة وحكاه الرافعي عن ترجيح الشيخ أبي حامد لظاهر قوله تعالى: {إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ} ، لكن المعتمد جوازه بلفظ الهبة إيجابًا وقبولا إن أراده.
"قال البيضاوي في" تفسير "قوله تعالى": {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً} الآية، ما نصه: نصب بفعل يفسره ما قبله، أو عطف على ما سبق، ولا يدفعه التقييد بأن التي للاستقبال، فإن المعنى بالإحلال الإعلام بالحل، "أي: علمناك حل امرأة مؤمنة" وهذا مأخوذ من كلام أبي البقاء، قال ناصب: وامرأة أحللنا في أول الآية، وقد ورد هذا قوم، وقالوا: أحللنا ماض، وإن وهبت، وهو صفة المرأة مستقبل، وأحللنا في موضع جوابه وجواب الشرط لا يكون ماضيًا في المعنى، وهذا ليس بصحيح؛ لأن معنى الإحلال هنا الإعلام بالحل إذا وقع الفعل على ذلك؛ كما تقول: أبحث لك إن تكلم فلانًا، إذا سلم عليك "تهب لك نفسها ولا تطلب مهرًا، إن اتفق" وقوع ذلك لك، "ولذلك نكرها".
قال ابن عطية: وهو يقتضي الاستئناف: أي: إن وقع فهو حلال له، "و" قد "اختلف في ذلك" فروي عن ابن عباس: لم يكن عند النبي صلى الله عليه وسلم امرأة إلا بعقد نكاح أو ملك يمين، أما الهبة فلم يكن عنده منهن أحد.
وقيل: وقع ذلك، كان عنده منهن، "والقائل به ذكر أنها" لفظ البيضاوي أربعًا.(7/160)
ميمونة بنت الحارث، وزينب بنت خزيمة الأنصارية، وأم شريك بنت جابر بن عوف القرشية العامرية، وخولة بنت جابر وخولة بنت حكيم، قال: وقرئ "أن" بالفتح، أي لأن وهبت، أو مدة أن وهبت.
__________
"ميمونة بنت الحارث" الهلالية أم المؤمنين، قال ابن إسحاق: يقال إنها وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم، وذلك أن خطبته، انتهت إليها وهي على بعيرها، فقالت: البعير وما عليه لله ولرسوله، وأخرجه ابن أبي خيثمة عن الزهري وقتادة، وابن سعد عن عكرمة، وقالوا: ففيها نزلت الآية.
"وزينب بنت خزيمة الأنصارية" وكذا وقع في البيضاوي، والذي في ابن عطية، وقال الشعبي وعروة، هي زينب ابنة خزيمة أم المساكين، انتهى، ومثله في فتح الباري، وهذه هلالية، قرينة ميمونة، تزوجها، فمكثت قليلا، وماتت عنده، فلعله سماها أنصارية بالمعنى الأعم، ويدل له أن البغوي قال: الأنصارية أم المساكين، وإلا فلم يذكر في الإصابة من تسمى زينب بنت خزيمة الأنصارية، وعجبت من السيوطي، وشيخ الإسلام حيث لم ينبها على هذا في حواشيهما على البيضاوي، وكأنه لظهوره.
"وأم شريك" اسمها غزيلة بضم المعجمة، وفتح الزاي، وشد التحتية، وقيل: بفتح أولها، وقيل: اسمها غزيلة بلام بعد الياء، "بنت جابر بن عوف، القرشية، العامرية" وقيل: الأزدية الدوسية، وقيل: الأنصارية النجارية، قال في الإصابة: والذي يظهر في الجمع؛ أنها واحدة، اختلف في نسبها أقرشية، عامرية، أو أنصارية، أو أزدية من دوس، واجتماع الثلاثة ممكن بأن تكون قرشية تزوجت في دوس، فنسبت إليهم، ثم تزوجت في الأنصار، فنسبت إليهم، أو لم تتروج، بل نسب أنصاري بالمعنى الأعم، وطلقها النبي صلى الله عليه وسلم، واختلف في دخوله بها، قاله المصنف في الزوجات، ففي رواية ابن عباس: دخل بها، وفي رواية غيره: لم يدخل بها، ويحتمل الجمع بأن المنفي الجماع، والمثبت مجرد الدخول إن صحا.
"وخولة بنت جابر" كذا في بعض النسخ، ولم يذكرها البيضاوي الذي هو نافل عنه، ولا ذكر لها في الإصابة، فالصواب حذفها، كما في النسخ الصحيحة، "وخولة" ويقال: خويلة بالتصغير"بنت حكيم" بن أمية السلمي، بضم السين إلى جده سليم، صحابية، فاضلة، لها أحاديث، يقال كنيتها أم شريك، قاله أبو عمر، وهي زوجة عثمان بن مظعون، واختلف في أن هبتها لنفسها قبل أن يتزوجها عثمان أو بعد موته عنها، فأرجأها النبي ولم يتزوجها.
"قال" البيضاوي: "وقرئ" شاذا "أن بالفتح" وهي قراءة أبي بن كعب، والحسن البصري، والشعبي وغيرهم، إشارة إلى ما وقع من الواهبات قبل نزول الآية، وفي مصحف ابن مسعود، مؤمنة وهبت بدون أن، قاله ابن عطية، أي: لأجل "أن وهبت أو مدة أن وهبت؛(7/161)
كقولك: اجلس ما دام زيد جالسًا، قال: وقوله: {إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا} شرط للشرط الأول في استيجاب الحل، فإن هبتها نفسها منه لا توجب له إلا بإرادته نكاحها، فإنها جارية مجرى القبول، قال: والعدول عن الخطاب إلى الغيبة بلفظ "النبي" مكررًا. ثم الرجوع إليه في قوله: {خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب: 50] إيذان بأنه مما خص به لشرف نبوته وتقرير لاستحقاقه الكرامة لأجله، انتهى.
وقال المعافى: وفي معنى "خالصة" ثلاثة أقوال: أحدها: أن المرأة إذا وهبت نفسها له لم يلزمه صداقها دون غيره من المؤمنين. قاله أنس بن مالك وابن المسيب. والثاني: أنه له أن ينكحها بلا ولي ولا شهود دون غيره. قاله قتادة، والثالث: خالصة لك أن تملك عقد نكاحها بلفظ الهبة دون المؤمنين، قال: وهذا قول الشافعي وأحمد.
__________
كقولك: اجلس ما دام زيد جالسًا" فإن على هذا مصدرية، وليست اللام مقدرة معها، "قال: وقوله: {إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا} شرط للشرط الأول" على قراءة الجمهور "في استيجاب الحل، فإن هبتها نفسها منه لا توجب له إلا بإرادته نكاحها" بأن يأتي بلفظ يدل على القبول، كما أشعر به يستنكحها، فلا بد من لفظ الإنكاح، أو التزويج، أو يكفي لفظ الهبة في القبول أيضًا خلاف كما مر، "فإنها" أي: إرادتها "جارية مجرى القبول" فلا يجب عليه قبولها، بل يوكل الأمر إلى إرادته، "قال: والعدول عن الخطاب إلى الغيبة بلفظ النبي مكررًا، ثم الرجوع إليه في قوله: {خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} الآية إيذان بأنه، أي: انعقاد النكاح بلفظ الهبة "مما خص به لشرف نبوته، وتقرير لاستحقاقه الكرامة لأجله، انتهى" كلام البيضاوي.
"وقال المعافى" بن زكريا بن يحيى بن حميد الحافظ المفسر، الثقة، الجريري، كان مقلدًا لابن جرير، مات سنة تسع وثلاثمائة، "وفي معنى خالصة ثلاثة أقوال، أحدها: أن المرأة إذا وهبت نفسها له لم يلزمه صداقها دون غيره من المؤمنين" فيلزمه الصداق، وليس المعنى أنها تحل له بلفظ الهبة، "قاله أنس بن مالك وابن المسيب".
قال البغوي: فالخصوصية له في ترك الصداق لا في جوازه بلفظ الهبة، "والثاني: أنه له أن ينكحها بلا ولي ولا شهود دون غيره" فإنما تحل له بهما، "قاله قتادة" قالخصوصية له في تركهما لا في جوازه بلفظ الهبة، "والثالث: خالصة لك أن تملك عقد نكاحها بلفظ الهبة دون المؤمنين، قال: وهذا قول الشافعي، وأحمد" ومالك والأكثر.
"وعن أبي حنيفة: ينعقد النكاح بلفظ الهبة لغيره صلى الله عليه وسلم أيضًا" وفي تفسير ابن عطية:(7/162)
وعن أبي حنيفة ينعقد النكاح بلفظ الهبة لغيره صلى الله عليه وسلم أيضًا.
وكذا يجوز له عليه الصلاة والسلام النكاح بلا مهر ابتداء وانتهاء، كما تقدم أن المرأة إذا وهبت نفسها له عليه الصلاة والسلام لا يلزمه صداقها. قال النووي: إذا وهبت امرأة نفسها له عليه الصلاة والسلام فتزوجها بلا مهر حل له ذلك، ولا يجب عليه مهرها بالدخول، ولا بغير ذلك، بخلاف غيره فإنه لا يخلو نكاحه من وجوب مهر، إما مسمى وإما مهر والله أعلم.
وكذا يجوز له النكاح في حال الإحرام، قال النووي في شرح مسلم: قال جماعة من أصحابنا أنه صلى الله عليه وسلم كان له أن يتزوج في حال الإحرام، وهو مما خص به دون الأمة، قال: وهذا أصح الوجهين عند أصحابنا، انتهى.
__________
أجمع الناس على أن ذلك لا يجوز لغيره إلا ما ورد عن أبي حنيفة ومحمد بن الحسن وأبي يوسف، إذا وهبت، فأشد على نفسه هو بمهر جاز، فليس في قولهم: إلا تجويز العبارة بلفظ الهبة، وإلا فالأفعال التي اشترطوها هي أفعال النكاح بعينه، انتهى، فأوله على موافقة مذهب مالك أنه يجوز مع الصداق العقد بلفظ الهبة، "وكذا يجوز له عليه الصلاة والسلام النكاح بلا مهر ابتداء وانتهاء" أي: قبل الدخول وبعده، "كما تقدم أن المرأة إذا وهبت نفسها له عليه الصلاة والسلام، لا يلزمه صداقها".
"قال النووي: إذا وهبت امرأة نفسها له عليه الصلاة والسلام فتزوجها بلا مهر حل له ذلك، ولا يجب عليه مهرها بالدخول، ولا بغير ذلك" من فرض أو موت "بخلاف غيره، فإنه لا يخلو نكاحه من وجوب مهر، إما مسمى، وإما مهر المثل" بالوطء في التفويض، "والله أعلم" وكذا له النكاح بصداق مجهول، كما في الأنموذج، "وكذا يجوز له النكاح في حال الإحرام" منه أو من المرأة أو منهما.
"قال النووي في شرح مسلم: قال جماعة من أصحابنا" الشافعية وغيرهم "أنه صلى الله عليه وسلم كان له أن يتزوج في حال الإحرام، وهو مما خص به دون الأمة" قضيته مشاركة الأنبياء له في هذه الخصوصية.
قال أبو حامد: وإنما منع غيره من ذلك، لأن فيه دواعي الجماع، فربما يفضي إليه فيفسد حجه به، وهذا مأمون من جهته، سواء اختص بالإحرام أو المرأة لعصمته وقدرته على الامتناع منه، "قال: وهذا أصح الوجهين عند أصحابنا، انتهى" واحتجوا له بما رواه مالك والأئمة الستة عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة، وهو محرم، زاد في رواية للبخاري: في عمرة القضاء(7/163)
وكذا يجوز له النكاح بغير رضا المرأة، فلو رغب في نكاح امرأة خلية لزمها الإجابة، وحرم على غيره خطبتها، أو متزوجة وجب على زوجها طلاقها.
__________
مع قوله: "لا ينكح المحرم ولا يُنكح" فدل على أن فعله خصوصية له جمعًا بين الخيرين، لكن قال سعيد بن المسيب: وهل ابن عباس، وإن كانت خالته ما تزوجها صلى الله عليه وسلم إلا بعدما حل، رواه البخاري، ووهل، بكسر الهاء، أي: غلط لمخالفته لما صح عنها نفسها، قالت: تزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحن حلالان بسرف، رواه مسلم من رواية يزيد بن الأصم عنها، قال: وكانت خالتي وخالة ابن عباس.
وأخرج الترمذي وحسنه، وصححه ابن خزيمة، وابن حبان، عن أبي رافع، أنه صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة، وهو حلال، وبنى بها وهو حلال، وكنت أنا السفير بينهما، وكذا رواه مالك عن سليمان بن يسار، قال البيهقي في المعرفة: وبهذا رد الشافعي رواية ابن عباس التي احتج بها الحنفية وأهل العراق على جواز نكاح المحرم وإنكاحه، وخالفه الجمهور وأهل الحجاز محتجين بحديث مسلم عن عثمان رفعه: "المحرم لا ينكح ولا يُنكح" وأما خبر ابن عباس وإن صح إسناده إليه فوهم، كما قال سعيد.
قال الشافعي: لأن ابن أختها يزيد يقول: نكحها حلالا، ومعه سليمان بن يسار عتيقها، أو ابن عتيقها، وخبر اثنين أكثر من خبر واحد مع رواية عثمان التي هي أثبت من هذا كله، انتهى.
ولذا قال الزركشي في جعل ذلك من الخصائص نظر إذ لم يثبت الشافعي وقوع العقد حال إحرامه والتجويز يحتاج إلى دليل.
وقال السهيلي: تأول بعض شيوخنا قول ابن عباس وهو محرم بمعنى في الشهر الحرام والبلد الحرام لأنه عربي فصيح، يتكلم بكلام العرب، ولم يرد الإحرام بالحج ولا العمرة، فالله أعلم، أراد لك ابن عباس أم لا؟ قال: ومن الغريب ما رواه الدارقطني عن أبي الأسود ومطر الوراق، عن عكرمة، عن ابن عباس أنه تزوجها وهو حلال، انتهى، فإن ثبت ذلك عنه؛ فكأنه رجع، وإلا فالمعروف عنه وهو محرم، وإن كان وهمًا أو مؤولا، وتقدم مزيد لهذا في الزوجات، وقبله في عمرة القضية.
"وكذا يجوز له النكاح بغير رضا المرأة" لأنه أولى بالمؤمنين من أنفسهم، كما مر، "فلو رغب في نكاح امرأة خلية" عن زوج أو عدة "لزمها الإجابة" إليه على الصحيح وتجبر عليه "وحرم على غيره خطبتها" بكسر الخاء بمجرد الرغبة، "أو متزوجة وجب على زوجها طلاقها" ليتزوجها، وقياسه لو رغب في نكاح سرية وجب على سيدها إعتاقها وتركها ليتزوج بها، كذا قال شيخنا.(7/164)
قال الغزالي: ولعل السر فيه من جانب الزوج امتحان إيمانه بتكليف النزول عن أهله، فإنه صلى الله عليه وسلم قال: لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وأهله وولده والناس أجمعين.
ويدل لهذه الخصيصة قصة زينب بنت جحش، بنت عمته صلى الله عليه وسلم أميمة بنت عبد المطلب.
__________
"قال الغزالي: ولعل السر" النكتة والحكمة "فيه" أي: وجوب التطليق على الزوج "من جانب الزوج امتحان إيمانه بتكليف النزول عن أهله، فإنه صلى الله عليه وسلم قال: $"لا يؤمن أحدكم" إيمانًا كاملا, ونفي اسم الشيء بمعنى الكمال عنه مستفيض في كلامهم، وخصوا بالخطاب، لأنهم الموجودون حينئذ، والحكم عام.
وفي رواية ابن ماجه: أحد "حتى أكون أحب إليه من نفسه وأهله وولده والناس أجمعين" عطف عام على خاص، وهو كثير، والحديث في الصحيحين وغيرهما، عن أنس بلفظ: "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين".
وفي صحيح ابن خزيمة: "من أهله وماله" بدل من والده وولده، وكذا في مسلم من وجه آخر.
وفي رواية للبخاري: "لن يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه"، ويأتي إن شاء الله تعالى كلام عليه في مقصد المحبة وبقية كلام الغزالي: ومن جانب النبي صلى الله عليه وسلم ابتلاؤه ببلية البشرية ومنعه من خائنة الأعين، ولذا قال تعالى: {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} الآية، ولا شيء أدعى إلى حفظ البصر من هذا التكليف، قال: وهذه يوردها الفقهاء في نوع التخفيفات، وعندي أنه في حقه في غاية التشديد، إذ لو كلف به آحاد الناس لما فتحوا أعينهم في الشوارع والطرقات خوفًا من ذلك، ولذا قالت عائشة: لو كان يخفي آية لأخفى هذه، كذا قال وتعقب بأن الآحاد غير معصومين، فيثقل عليهم ذلك بخلافه.
"ويدل لهذه الخصيصية قصة زينب بنت جحش" الأسدية "بنت عمته صلى الله عليه وسلم أميمة" بالتصغير "بنت عبد المطلب" مختلف في إسلامها وأثبته ابن سعد، وفي هذا الدليل نظر لابتنائه على أنه صلى الله عليه وسلم رغب في نكاحها لما رآها، وقال: "سبحان الله مقلب القلوب"، ففهمت زينب ذلك منه، وأخبرت زيدًا ففارقها وهذا منكر، وعلى تقدير تسليمه لا يدل على الوجوب، إذ قوله: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ} صورة واقعة حال، والصواب أن إطلاق زيد لها لتعظمها عليه، ولذا قال ابن الرفعة: قصة زيد لا تدل على ذلك، بل تدل على عكسه، وبسط القول فيه بما يطول ذكره،(7/165)
المنصوص عليها بقوله تعالى: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ} أي: بنعمة الإسلام وهي أجل النعم {وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ} ، أي: بالإعتاق بتوفيق الله لك، وهو زيد بن حارثة الكلبي، وكان من سبي الجاهلية، فملكه رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل البعثة وأعتقه وتبناه وخطب له زينب فأبت هي وأخوها عبد الله، ثم رضيا لما نزل قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ} [الأحزاب: 36] الآية.
__________
وكذا فعل ابن الصلاح في كلامه على بسيط الغزالي "المنصوص عليها بقوله تعالى: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ} أي: بنعمة الإسلام وهي أجل النعم" زاد ابن عطية: وبغير ذلك "وأنعمت عليه، أي: بالإعتاق بتوفيق الله لك، وهو زيد بن حارثة الكلبي، وكان من سبي الجاهلية" وذلك أن أمه سعدى بنت ثعلبة من بني معن من طيئ، خرجت به لتزيره أهلها، فأصابته خيل بني القين لما أغارت على بني معن، فأتوا به سوق عكاظ، فعرضوه للبيع، وهو غلام ابن ثمانية أعوام، فاشتراه حكيم بن حزام بأربعمائة درهم لعمته خديجة بنت خويلد، فاستوهبه النبي صلى الله عليه وسلم منها، فوهبته له، "فملكه رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل البعثة، وأعتقه وتبناه" لما قدم حارثة وأخوه كعب مكة، فقالا: يابن عبد المطلب، يابن سيد قومه؛ أنتم أهل حرم الله، تفكون العاني، وتطعمون الأسير جئنا في ولدنا عبدك، فامنن علينا وأحسن في فدائه، فقال: "أو غير ذلك أدعوه، فخيروه، فإن اختاركم، فهو لكم بغير فداء، وإن اختارني، فوالله ما أنا بالذي أختار على من اختارني فداء". قالوا: زدتنا على النصف، فدعاه فخيره، فقال: ما أنا بالذي أختار عليك أحدًا، أنت مني بمكان الأب والعم، فقالا: ويحك يا زيد أتختار العبودية على الحرية، وعلى أبيك، وعمك، وأهل بيتك؟ قال: نعم، إني قد رأيت من هذا الرجل شيئًا ما أنا بالذي أختار عليه أحدًا، فلما رأى صلى الله عليه وسلم ذلك قام إلى الحجر، فقال: "اشهدوا أن زيدًا ابني، أرثه ويرثني"، فطابت نفس أبيه وعمه وانصرفا، فدعي زيد بن محمد حتى جاء الإسلام، فأسلم بحيث قيل: إنه أول من أسلم مطلقًا، ومر هذا مبسوطًا في الموالي.
وروى ابن الكلبي عن ابن عباس: لما تبنى صلى الله عليه وسلم زيدًا زوجه أم أيمن، ثم زوجه زينب، فلما طلقها زوجه أم كلثوم بنت عقبة، وولدت بركة أسامة له بمكة بعد البعثة، بثلاث أو خمس، "وخطب له زينب" بعد البعثة "فأبت هي وأخوها عبد الله" المستشهد بأحد، "ثم رضيا لما نزل قوله تعالى: {وَمَا كَانَ} ما صح {لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ} الآية.
قال ابن عطية: عبر بلفظ النفي، ومعناه المنع من فعل هذا، وتجيء ما كان، وما ينبغي ونحوهما لحظر الشيء، والحكم بأنه لا يكون، وربما كان امتناع ذلك الشيء عقلا كقوله: {مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا} الآية، وربما كان للعلم بامتناعه شرعًا كقوله: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ(7/166)
وكان الرجل في الجاهلية وصدر الإسلام إذا تبنى ولد غيره يدعوه الناس به ويرث ميراثه وتحرم عليه زوجته، فنسخ الله التبني بقوله: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} وبهذه القصة يثبت الحكم بالقول والفعل، فأوحى الله تعالى إليه أن زيدًا سيطلقها، وأنه صلى الله عليه وسلم يتزوجها، وألقى في قلب زيد كراهتها، فأراد فراقها فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني أريد أن أفارق صاحبتي قال: "ما لك؟ أرابك منها شيء"؟. قال: لا والله يا رسول الله! ما رأيت منها إلا خيرًا، ولكنها تتعظم عليّ بشرفها وتؤذيني.
__________
أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا} الآية، وربما كان حظره بحكم شرعي، كهذه الآية، وربما كان في المندوبات، كما تقول: ما كان لك أن تترك النوافل ونحوها.
وأخرج الطبراني بسند صحيح عن قتادة، وابن جرير عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب زينب، وهو يريدها لزيد، فظنت أنه يريدها لنفسه، فلما علمت أنه يريدها لزيد أبت واستنكفت، وقالت: أنا خير منه حسبًا، فأنزل الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ} الآية كلها، فرضيت وسلمت، وما ذكر من أن النسخة لما نزل صواب واضح، وفي نسخ: ثم رضيا، فنزل وهي توهم أن رضاهما قبل نزول الآية، وليس كذلك.
"وكا الرجل في الجاهلية وصدر الإسلام إذا تبنى ولد غيره، يدعوه الناس به، ويرث ميراثه" بأن يرث كل منهما الآخر، "وتحرم عليه زوجته، فنسخ الله التبني بقوله: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} الآية، قال ابن عمر: ما كنا ندعو زيد بن حارثة إلا زيد بن محمد حتى نزل القرآن {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} الآية، رواه البخاري، "وبهذه القصة يثبت الحكم بالقول" من الله تعالى، "وبالفعل" من النبي صلى الله عليه وسلم، وهو تزوجه زوجة من تبناه، "فأوحى الله تعالى إليه" بعد رضاها، وتزوجها بزيد "أن زيدًا سيطلقها، وأنه صلى الله عليه وسلم يتزوجها، وألقى في قلب زيد كراهتها" أي: كراهة بقائها في نكاحه، ولا يلزم منه كراهة ذاتها،"فأراد فراقها" بعد مكثها عنده مدة، "فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إني أريد أن أفارق صاحبتي" أي: زوجتي قال: "ما لك" أي: شيء حصل لك منها حتى أردت فراقها، "أرابك منها شيء"؟ أي: هل استيقنت منها شيئًا يوجب لك الشك في أمرها، فالهمزة للاستفهام، ويحتمل أنها جزء الكلمة، أي: أحصل شيء يسيء ظنك بها، فهمزة الاستفهام، مقدرة؛ لأنه متى أبدل مما تضمن معنى الاستفهام وجب ذكر همزته في البدل، "قال: لا والله يا رسول الله ما رأيت منها إلا خيرًا، ولكنها تتعظم عليّ بشرفها" عليّ لأنها عربية وأنا مولى، "وتؤذيني بلسانها، فقال(7/167)
بلسانها، فقال له صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ} [الأحزاب: 37] ، أي: في أمرها، فلا تطلقها ضرارًا وتعللا {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا} ولم يبق له فيها حاجة، وطلقها وانقضت عدتها زوجها الله تعالى له، كما قال تعالى: {زَوَّجْنَاكَهَا} والمعنى أنه أمره بتزويجها منه، أو جعلها زوجته بلا واسطة عقد, ويؤيده أنها كانت تقول لسائر نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله تولى نكاحي، وأنتن زوجكن أولياؤكن.
وقيل: إن زيدًا كان السفير للتزويج بينهما.
__________
له صلى الله عليه وسلم: {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ} أي: لا تفارقها {وَاتَّقِ اللَّهَ} في أمرها، أي: فلا تطلقها ضرارًا" مفعول له "ولا تعللا" وعبر البيضاوي بأو بدل الواو، {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا} ولم يبق له فيها حاجة" تفسير لوطرًا، "وطلقها وانقضت عدتها، زوجها الله تعالى" لنبيه سنة خمس أو ثلاث أو أربع من الهجرة، وبالثاني صدر في الإصابة، وبالثابت في العيون، وبالأولى المصنف؛ "كما قال تعالى" {زَوَّجْنَاكَهَا} الآية، "والمعنى أنه أمره بتزويجها منه" أي: بأن يتخذها زوجة، والأوضح بتزوجها، لأنه من النفس، والتزويج يكون من الغير، ولعله عبر به إشارة إلى أنه أمر بجعلها زوجة له أعم من كون ذلك بطلبه من الولي، أو بتزويجها له من نفسه؛ بأن يتولى الطرفين، "أو جعلها زوجته بلا واسطة عقد" وهذا هو الصواب الذي لا يصح غيره، كما قال بعض الحفاظ لأنه الثابت في مسلم وغيره، كما يأتي.
"ويؤيده أنها كانت تقول لسائر" أي باقي "نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله تولى نكاحي وأنتن زوجكن أولياؤكن" أخرجه الترمذي، وصححه عن أنس، قال: كانت زينب تفخر على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم تقول: زوجكن آباؤكن وزوجني الله من فوق سبع سماوات، وليس هذا من الفخر المنهي عنه، بل من التحدث بالنعمة، وقد سمعها النبي صلى الله عليه وسلم وأقرها.
روى ابن سعد، قالت زينب: يا رسول الله! إني والله ما أنا كأحد من نسائك، ليست امرأة من نسائك إلا زوجها أبوها أو أخوها أو أهلها غيري زوجنيك الله من السماء، ويؤيده أيضًا ما رواه ابن سعد: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحدث عند عائشة إذ أخذته غشية فسري عنه وهو يتبسم ويقول: "من يذهب إلى زينب فيبشرها" وتلا: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ} الآية، قالت عائشة: فأخذني ما قرب وما بعد لما يبلغنا من جمالها وأخرى هي أعظم وأشرف ما صنع لها زوجها الله من السماء، وعن الشعبي: كانت زينب تقول لرسول الله: "أنكحك إياي من السماء، وإن الساعي في ذلك جبريل، وهي أولى من رواية من روى، وإن السفير بيني وبينك جبريل، لما لا يخفى.
"وقيل: إن زيدًا كان السفير للتزويج بينهما" كما أخرجه أحمد ومسلم والنسائي عن(7/168)
وفي ذلك ابتلاء عظيم لزيد، وشاهد بين على قوة إيمانه.
وقد علل الله تعالى تزويجه إياها بقوله: {لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ} ، أي في أن يتزوجوا زوجات من كانوا يتبنونه إذا فارقوهن، وأن هؤلاء الزوجات ليست داخلات فيما حرم في قوله: {وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمْ} .
وأما قوله: {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ} ، فمعناه: علمك أنه سيطلقها وتتزوجها، فعاتبه الله تعالى عن هذا القدر في شيء أباحه له، بأن قال: {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ} مع علمه أنه سيطلق، وهذا مروي عن علي بن الحسين
__________
أنس، قال: لما انقضت عدة زينب، قال صلى الله عليه وسلم لزيد بن حارثة: "اذهب فاذكرني لها"، قال: فذهبت إليها، فجعلت ظهري إلى الباب، فقلت: يا زينب بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرك، فقالت: ما كنت لأحدث شيئًا حتى أؤامر ربي عز وجل، فقامت إلى مسجد لها فأنزل الله: {فَلَمَا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا} الآية، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدخل عليها بغير إذن.
"وفي ذلك ابتلاء عظيم لزيد وشاهد بين على قوة إيمانه" حيث اطمأنت نفسه إلى خطبة من فارقها إلى سيده وسيد غيره، مع أن شأن النفوس الغض من أن يتزوج مطلقتها أعلى منها أو مساوٍ لها فضلا عن توليها الخطبة، ويروى أنه قال له: ما أجد في نفسي أوثق منك فاخطب زينب عليّ.
"وقد علل الله تعالى تزويجه إياها بقوله: {لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ} الآية، جمع دعي، وهو المتبنى، "أي: في أن يتزوجوا زوجات من كانوا يتبنونه إذا فارقوهن، وأن هؤلاء الزوجات" عطف على أن يتزوجوا "ليست داخلات فيما حرم في قوله: {وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ} ، الآية، إذ المراد الصلبية.
"وأما قوله: {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ} الآية، قال الزمخشري: الواو للحال، قال أبو حيان: لا يكون حالا إلا على إضمار مبتدأ، أي: وأنت تخفي، لأنه مضارع مثبت، فلا تدخل عليه الواو إلا على ذلك الإضمار، وهو مع ذلك قليل نادر لا تنبني على مثله القواعد، وقال الطيبي: الجمل الثلاث الواو فيها للحال على سبيل التداخل، فقوله: {وَتُخْفِي} حال من المستتر في {تَقُولُ} و {وَتَخْشَى النَّاسَ} حال من فاعل تخفي، {وَاللَّهُ أَحَقُّ} حال من فاعل تخشى، "فمعناه" تخفي "علمك" فنصب بمقدر "أنه سيطلقها وتتزوجها، فعاتبه الله تعالى على هذا القدر في شيء أباحه له؛ بأن قال: {أَمْسَكْ} [الأحزاب: 37] الآية، مع علمه أنه سيطلق" وليس بكبير عتب، "وهذا مروي عن علي" زين العابدين، "ابن الحسين" بن علي بن أبي طالب(7/169)
وعليه أهل التحقيق من المفسرين، كالزهري، وبكر بن العلاء، والقاضي أبي بكر بن العربي وغيرهم.
والمراد بقوله: {وَتَخْشَى النَّاسَ} إنما هو في إرجاف المنافقين في تزويج نساء الأبناء، والنبي صلى الله عليه وسلم معصوم في الحركات والسكنات، ولبعض المفسرين هنا كلام لا يليق بمنصب النبوة.
__________
الهاشمي عليهم السلام، ثقة، ثبت من رجال الجميع، عابد، فقيه، فاضل، مشهور، قال الزهري: ما رأيت قرشيًا أفضل منه، "وعليه أهل التحقيق من المفسرين، كالزهري" محمد بن شهاب التابعي، الشهير، "وبكر بن العلاء" بن زياد القشيري، البصري، ثم المصري، وبها مات سنة أربع وأربعين وثلاثمائة، وكان أحد كبار الفقهاء المالكية وعلماء الحديث، "والقاضي أبي بكر" محمد "بن العربي" الحافظ، الفقيه، المشهور "وغيرهم، والمراد بقوله" {وَتَخْشَى النَّاسَ} الآية، "إنما هو في إرجاف المنافقين في تزويج نساء الأبناء"، أي: في إكثارهم من الأخبار السيئة، واختلاف الأقوال الكاذبة حتى يضرب الناس منها؛ كما في المصباح، "والنبي صلى الله عليه وسلم معصوم في الحركات والسكنات" وفي البيضاوي: وتخشى الناس تعبيرهم إياك والله أحق أن تخشاه إن كان فيه ما يخشى، "ولبعض المفسرين هنا كلام لا يليق بمنصب النبوة" وهو أنه عليه الصلاة والسلام طلب زيدًا في داره، فرأى زينب حاسرة، فأعجبته، فقال: "سبحان الله مقلب القلوب" قال السبكي: وهو منكر من القول، ولم يكن صلى الله عليه وسلم تعجبه امرأة أحد من الناس، وقصة زينب إنما جعلها الله تعالى، كما في سورة الأحزاب قطعًا لقول الناس: إن زيدًا بن محمد، وإبطالا للتبني، قال: وبالجملة فهذا الموضع من منكرات كلامهم في الخصائص، وقد بالغوا في هذا الباب في مواضع، واقتحموا فيها عظائم لقد كانوا في غنية عنها، انتهى.
وفي البغوي في توجيه القول المنصور: فعاتبه الله، وقال له: قلت أمسك عليك زوجك، وقد أعلمتك أنها ستكون من أزواجك، وهذا هو الأولى واللائق بحال الأنبياء، فهو مطابق للتلاوة؛ لأن الله أعلمه أن يبدي ويظهر ما أخفاه ولم يظهر غير تزويجها منه، فقال: {زَوَّجْنَاكَهَا} الآية، فلو كان الذي أضمره محبتها وإرادة طلاقها لكان يظهر ذلك؛ لأنه لا يجوز أن يخبر أنه يظهره، ثم يكتمه فلا يظهر، فدل على أنه إنما عوتب على إخفاء ما أعلمه أنها تكون زوجًا له وإنما أخفاه استحياء أن يقول لزيد: إن امرأتك ستكون امرأتي، وهذا قول حسن مرضي، وإن كان القول الآخر، وهو أنه أخفى محبتها أو نكاحها، لو طلقها لا يقدح في حال الأنبياء، لأن العبد غير ملوم على ما يقع في قلبه من ثمل هذه الأشياء ما لم يقصد فيه المأثم، لأن الود وميل النفس من طبع البشر، انتهى.(7/170)
وقيل قوله: {وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ} خطاب من الله تعالى، أو من الرسول عليه الصلاة والسلام لزيد، فإنه أخفى الميل إليها وأظهر الرغبة عنها لما توهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد أن تكون من نسائه.
قال جار الله: وكم من شيء مباح يتحفظ الإنسان منه ويستحيي من إطلاع الناس عليه، فطموح قلب الإنسان إلى بعض مشتهياته من امرأة وغيرها غير موصوف بالقبح في العقل ولا في الشرع، وتناول المباح بالطريق الشرعي ليس بقبيح أيضًا، وهي خطبة زينب ونكاحها من غير استنزال زيد عنها ولا طلب إليه، ولم يكن مستكرهًا عندهم أن ينزل الرجل منهم عن امرأته لصديقه ولا مستهجنًا إذا نزل عنها أن ينكحها آخر، فإن المهاجرين حين دخلوا المدينة واستهم الأنصار بكل شيء، حتى إن الرجل منهم إذا كانت له امرأتان نزل عن إحداهما وأنكحها المهاجري.
__________
"وقيل: قوله: {وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ} الآية، مظهره "خطاب من الله تعالى، أو من الرسول عليه الصلاة والسلام لزيد" فهو على هذا عطف على أمسك من جملة مقبولة لزيد، "فإنه أخفى الميل إليها وأظهر الرغبة عنها لما" حين "توهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد أن تكون من نسائه"، وكأنه قيل: وتقول لزيد: تخفي يا يزيد في نفسك ما الله مبديه، وتقول له: تخشى الناس ... إلخ، وهذا خلاف الظاهر المتبادر، أي: شيء أبداه عن زيد فهذا من غريب التفسير، "قال: جار الله" العلامة محمود الزمخشري، وصف بذلك لسكناه مكة: "وكم من شيء مباح يتحفظ الإنسان منه ويستحيي من إطلاع الناس عليه، فطموح" أي: استشراف "قلب الإنسان إلى بعض مشتهياته" وبين ذلك بقوله: "من امرأة وغيرها غير موصوف بالقبح في العقل، ولا في الشرع، وتناول المباح بالطريق الشرعي ليس بقبيح أيضًا" عقلا وشرعًا، "وهي خطبة زينب" وفي نسخة: وهو التأنيث أولى؛ لأن الضمير إذا وقع بين مذكر ومؤنث، فالأولى مراعاة الخبر، لأنه عين المبتدأ، ومبين لحاله فهو المقصود، "ونكاحها من غير استنزال زيد عنها ولا طلب إليه، ولم يكن مستكرهًا عندهم أن ينزل الرجل منهم عن امرأته لصديقه" بل كانوا يعدونه كرمًا، "ولا مستهجنًا إذ نزل عنها أن ينكحها آخر، فإن المهاجرين حين دخلوا المدينة" وآخى النبي صلى الله عليه وسلم بينهم وبين الأنصار، "واستهم الأنصار بكل شيء حتى إن الرجل منهم إذا كانت له امرأتان نزل عن إحداهما وأنكحها المهاجري" أي: تسبب في تزويجها له بطريقه الشرعي بعد خروجها من العدة بسؤال(7/171)
فإذا كان الأمر مباحًا من جميع جهاته لم يكن فيه وجه من وجوه القبح، انتهى.
وكذا يجوز له عليه الصلاة والسلام النكاح بلا ولي وبلا شهود. قال النووي: الصحيح المشهور عند أصحابنا صحة نكاحه عليه الصلاة والسلام بلا ولي وبلا شهود لعدم الحاجة إلى ذلك في حقه عليه الصلاة والسلام، وهذا الخلاف في غير زينب أما زينب فمنصوص عليها والله أعلم.
قال العلماء: إنما اعتبر الولي للمحافظة على الكفاءة، وهو صلى الله عليه وسلم فوق الأكفاء، وإنما اعتبر الشهود لأمن الجحود، وهو عليه الصلاة والسلام لا يجحد ولو جحدت هي لم يرجع إلى قولها، بل قال العراقي في شرح المهذب: تكون كافرة بتكذيبه.
وكان له عليه الصلاة والسلام تزويج المرأة ممن شاء بغير إذنها وإذن وليها، وله إجبار الصغيرة من غير بناته، وزوج ابنة حمزة مع وجود عمها العباس.
__________
وليها في ذلك، "فإذا كان الأمر مباحًا من جميع جهاته لم يكن فيه وجه من وجوه القبح، انتهى" كلام جار الله في كشافه.
"وكذا يجوز له عليه الصلاة والسلام النكاح بلا ولي" مع شهود، "وبلا شهود" مع ولي وبلا ولي وشهود معًا، "قال النووي: المشهور الصحيح عند أصحابنا" وعند غيرهم: "صحة نكاحه عليه الصلاة والسلام بلا ولي وبلا شهود، لعدم الحاجة إلى ذلك في حقه عليه الصلاة والسلام، وهذا الخلاف في غير زينب، أما زينب فمنصوص عليها" فلا يأتي فيها خلاف للنص، "والله أعلم".
"قال العلماء: وإنما اعتبر الولي" في حق غير المصطفى "للمحافظة على الكفاءة، وهو صلى الله عليه وسلم فوق الأكفاء، وإنما اعتبر الشهود لأمن الجحود، وهو عليه الصلاة والسلام لا يجحد" إذ لا يجوز عليه ذلك، "ولو جحدت هي" أي: المرأة، "لم يرجع إلى قولها، بل قول العراقي في شرح المهذب: تكون كافرة بتكذيبه" أي: مرتدة، قال المالكية: تقتل ولو عادت إلى الإسلام، "وكان له عليه الصلاة والسلام تزويج المرأة" ولو صغيرة وبكرًا "ممن شاء" من غيره ومن نفسه؛ "بغير إذنها وإذن وليها" وبغير إذن الزوج أيضًا، فيتولى الطرفين؛ لأنه أولى بالمؤمنين من أنفسهم، "وله إجبار الصغيرة من غير بناته" قيد لمحل الخصوصية، "وزوج ابنة حمزة" بن عبد المطلب أمامة أو عمارة أو فاطمة أو سلمى أو عائشة أو يعلى أو أمة الله أقوال سبعة في اسمها، أشهرها الأول، كما في الفتح لربيبه سلمة ابن أم سلمة "مع وجود عمها العباس" كما رواه البيهقي فقدم على الأقرب بخلاف غيره، فيقدم الأقرب فالأقرب على ما بين(7/172)
فيقدم على الأب.
وزوجه الله تعالى بزينب، فدخل عليها بتزويج الله بغير عقد من نفسه. وعبر في الروضة عن هذا بقوله: وكانت المرأة تحل له بتحليل الله تعالى بغير عقد.
وأعتق أمته صفية وجعل عتقها صداقها، كما أخرجه البخاري عن أنس في الصلاة والمغازي والنكاح مطولا ومختصرًا وبظاهره تمسك أحمد والحسن وطائفة لقولهم بجواز ذلك لغيره حتى لو طلقها قبل الدخول وجب له عليها نصف قيمتها، وقد اختلف في معناه، فقيل إنه أعتقها بشرط أن يتزوجها، فوجب له عليها قيمتها وكانت معلومة، فتزوجها بها، ويؤيده قوله في رواية عبد العزيز بن صهيب: سمعت أنسًا قال: سبى رسول الله صلى الله عليه وسلم صفية فأعتقها وتزوجها، فقال ثابت.
__________
في الفروع، "فيقدم على الأب" تفريع على قوله: وله إجبار الصغير، "وزوجه الله تعالى بزينب" ابنة جحش، "فدخل عليها بتزويج الله بغير عقد" أي: بغير تلفظ بعقد "من نفسه" وهذا وإن علم من قوله سابقًا: والمعنى أنه أمره ... إلخ، لكنه ثمة حكاه عن غيره على وجه الترديد، وهنا جزم بأحد القولين اختيارًا له، "وعبر في الروضة عن هذا بقوله: وكانت المرأة تحل له بتحليل الله تعالى بغير عقد" إشارة إلى أن ذلك ليس خاصًا بزينب، لكنه لم يقع إلا فيها، "وأعتق أمته صفية" بنت حيي، سيدة قريظة والنضير، من ذرية هارون أخي موسى رضي الله عنها، "وجعل عتقها صداقها؛ كما أخرجه البخاري عن أنس في الصلاة والمغازي والنكاح مطولا ومختصرًا، وبظاهره تمسك أحمد والحسن وطائفة؛ لقولهم بجواز ذلك لغيره حتى لو طلقها قبل الدخول، وجب له عليها نصف قيمتها، وقد اختلف في معناه، فقيل: إنه أعتقها بشرط أن يتزوجها، فوجب" ثبت "له عليها قيمتها" لأنه لم يعتقها مجانًا، بل بعوض، لكن لا يلزم الوفاء به في حق غيره، وإنما تعتق إن قبلت فورًا، كأن طلبته ابتداء لذلك، فأجابها، فيشترط الفور أيضًا، كما في البهجة، "وكانت معلومة فتزوجها بها" فإن جهلت لهما أو لأحدهما صح النكاح، ولزم مهر المثل للجهل بالعوض، كما هو مقرر عند الشافعية ومذهب مالك منع ذلك ابتداء، فإن وقع مضى العتق، وفسد النكاح، فيفسخ قبل الدخول، ويثبت بعده بصداق المثل، فوجه الخصوصية عدم لزوم المهر له صلى الله عليه وسلم لا حالا ولا مالا، وصحة نكاحه اتفاقًا.
"ويؤيده قوله في رواية عبد العزيز بن صهيب" بضم المهملة البصري، ثقة، من رجال الجميع، مات سنة ثلاثين ومائة، "سمعت أنسًا قال: سبى رسول الله صلى الله عليه وسلم صفية، فأعتقها وتزوجها، فقال ثابت" بن أسلم البناني، بضم الموحدة ونونين، أبو محمد البصري، العابد، الثقة،(7/173)
لأنس: ما أصدقها؟ قال: أصدقها نفسها، هكذا أخرجه البخاري في المغازي. وفي رواية حماد عن ثابت وعبد العزيز عن أنس في حديث قال: وصارت صفية لرسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تزوجها وجعل عتقها صداقها. قال عبد العزيز لثابت: يا أبا محمد أنت سألك أنسًا ما أمهرها؟ قال: أمهرها نفسها، فتبسم. فهو ظاهر جدًا في أن المجعول مهرًا هو نفس العتق. والتأويل الأول لا بأس به، فإنه لا منافاة بينه وبين القواعد حتى لو كانت القيمة.
__________
روى له الجميع، مات سنة بضع وعشرين ومائة، وله ست وثمانون سنة، "لأنس: ما أصدقها؟ قال: أصدقها نفسها، هكذا أخرجه البخاري في المغازي" في غزوة خيبر، وقد يمنع دعوى التأييد به لجواز أنه أعتقها بلا شرط، بل هو ظاهر في تأييد القول الثاني.
"وفي رواية" البخاري في الصلاة والمغازي، عن "حماد" بن زيد بن درهم الأزدي، البصري، ثقة، ثبت، فقيه، روى له الستة، "عن ثابت وعبد العزيز" بن صهيب، كلاهما "عن أنس في حديث" لفظه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الصبح بغلس، ثم ركب، فقال: "الله أكبر خربت، خيبر؛ إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين". فخرجوا يسعون في السكك ويقولون: محمد والخميس، فظهر عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقتل المقاتلة، وسبى الذراري، "قال" فصارت صفية لدحية الكلبي، "وصارت صفية لرسول الله صلى الله عليه وسلم" كذا وقع في الصلاة بالواو، فظاهره أنها صارت لهما وليس كذلك؛ لأنها صارت لدحية أولا، ثم صارت للمصطفى لما قيل له: أعطيت دحية صفية سيدة قريظة والنضير، لا تصلح إلا لك، فقال عليه الصلاة والسلام لدحية: "خذ جارية غيرها"، فردها، فاصطفاها لنفسه؛ كما رواه البخاري أيضًا وغيره، قالوا: وهنا بمعنى ثم لأن البخاري رواه في المغازي بلفظ: ثم صارت لرسول الله، "ثم تزوجها، وجعل عتقها صداقها، قال عبد العزيز لثابت: يا أبا محمد! " كنيته "أنت سألك" بحذف همزة الاستفهام في الفرع وأصله، وفي بعض الأصول: أأنت بإثباتها "أنسًا ما أمهرها؟ " أي: ما أصدقها، ولأبوي ذر، والوقت، والأصيلي ما مهرها، بحذف الألف، وصوبه القطب الحلبي، وهما لغتان.
"قال" أنس: "أمهرها نفسها" إلى هنا كله مقول عبد العزيز لثابت وجوابه: قوله، "فتبسم" ثابت، وفي رواية المغازي: فحرك ثابت رأسه تصديقًا له، ولا منافاة، فجمع بينهما، وبهذا تعلم أنه ليس فيه حذف تقديره، قال: نعم سألته؛ لأنه يضيع قوله: فتبسم، وقوله: فحرك ... إلخ، "فهو ظاهر جدًا في أن المجعول مهرًا هو نفس العتق" لا شيء معه، "والتأويل الأول" أنه أعتقها بشرط أن يتزوجها، "لا بأس به، فإنه لا منافاة بينه وبين القواعد حتى لو كانت القيمة(7/174)
مجهولة، فإن في صحة العقد بالشرط المذكور وجهًا عند الشافعية.
وقال آخرون: بل جعل نفس العتق المهر، لكنه من خصائصه، وممن جزم بذلك الماوردي.
وقال آخرون: قوله: "أعتقها وتزوجها" معناه: ثم تزوجها، فلما لم يكن يعلم أساق لها صداقًا، قال: أصدقها نفسها، أي: لم يصدقها شيئًا فيما أعلم، ولم ينف أصل الصداق، ومن ثم قال أبو الطيب الطبري من الشافعية، وابن المرابط من المالكية ومن تبعهم: إنه قول أنس قاله ظنًا من قبل نفسه ولم يرفعه. ويعارضه ما أخرجه الطبراني وأبو الشيخ من حديث صفية نفسها قالت: أعتقني النبي صلى الله عليه وسلم وجعل عتقي صداقي. وهذا موافق لحديث أنس، وفيه رد على من قال: إن أنسًا قال ذلك بناء على ظنه.
__________
مجهولة، فإن في صحة العقد بالشرط المذكور وجهًا عند الشافعية" وهو المعتمد، وإن أشعر سياقه بضعفه، ويجب مع ذلك مهر المثل، الفساد المسمى، ووجه الخصوصية على هذا التأويل عدم لزوم المهر له، كما مر.
"وقال آخرون: بل جعل نفس العتق المهر" بأن أعتقها، ثم قال: جعلت عتقك صداقك، "ولكنه من خصائصه، وممن جزم بذلك الماوردي" بخلاف غيره، فيجب مهر المثل لفساد الصداق.
"وقال آخرون: قوله: أعتقها وتزوجها، معناه: ثم تزوجها" فالواو بمعنى ثم "فلما لم يكن يعلم" أنس "أساق لها صداقًا" أم لا؟ "قال: أصدقها نفسها، أي: لم يصدقها شيئًا فيما أعلم" فإنما نفى علمه، "ولم ينف أصل الصداق" وهذا من بعيد التأويل الذي لم يقم عليه دليل، "ومن ثم" أي: هنا، أي من أجل ذلك التأويل المذكور.
"قال أبو الطيب الطبري من الشافعية، وابن المرابط" محمد بن خلف الأفريقي "من المالكية، ومن تبعهم: أنه قول أنس، قال ظنًا من قبل نفسه، ولم يرفعه" وهذا لا يليق إذ هو سوء ظن بالصحابي، "ويعارضه ما أخرجه الطبراني، وأبو الشيخ من حديث صفية نفسها، قالت: أعتقني النبي صلى الله عليه وسلم، وجعل عتقي صداقي، وهذا موافق لحديث أنس" والمتبادر منهما أنه لا شيء غيره، "وفيه رد على من قال إن أنسًا قال ذلك بناء على ظنه؛ لأن صفية أدرى بما وقع لها، ولذا قال الحافظ الهيثمي: ما روي عن رزينة أنه أمهرها رزينة، مخالف لما في الصحيح، انتهى، وهي بفتح الراء، وكسر الزاي، وقيل: بالتصغير؛ وروى أبو يعلى: أنه صلى الله عليه وسلم لما(7/175)
ويحتمل أن يكون أعتقها بشرط أن ينكحها من غير مهر، فلزمها الوفاء بذلك، وهذا خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم دون غيره.
ويحتمل: أنه أعتقها بغير عوض، وتزوجها بغير مهر في الحال، ولا في المآل، قال ابن الصلاح: معناه أن العتق حل محل الصداق وإن لم يكن صداقًا، قال: وهذا كقولهم الجوع زاد من لا زاد له، قال: وهذا أصح الأوجه وأقربها إلى لفظ الحديث، وتبعه النووي في "الروضة".
وممن جزم أن ذلك من الخصائص يحيى بن أكثم فيما أخرجه البيهقي، وكذا نقله المزني عن الشافعي قال: وموضع الخصوصية، أنه أعتقها مطلقًا وتزوجها بغير مهر ولا شهود، وهذا بخلاف غيره، انتهى.
__________
تزوج صفية أمر بشراء خادم لها وهي رزينة، فيحتمل أنه لما أخدمها إياها ظنت أنه جعلها مهرها، وإلا فالمروي عن صفية وأنس أنه جعل عتقها صداقها، بل وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما تقولون في هذه الجارية"؟ قالوا: إنك أولى الناس بها وأحقهم، قال: "فإني أعتقتها، واستنكحتها، وجعلت عتقها مهرها" رواه الطبراني بسند جيد.
"ويحتمل أن يكون أعتقها بشرط أن ينكحها من غير مهر، فلزمها الوفاء بذلك، وهذا خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم دون غيره" فلا يلزمها الوفاء ونفذ العتق، "ويحتمل أنه أعتقها بغير عوض وتزوجها، بغير مهر في الحال ولا في المآل" خصوصية له أيضًا.
"قال ابن الصلاح: معناه أن العتق حل محل الصداق، وإن لم يكن صداقًا" في نفس الأمر، "قال: وهذا كقولهم الجوع، زاد من لا زاد له" فعد عدم الزاد زادًا لتعذره عليه، وليس بزاد، "وهذا أصح الأوجه وأقربها إلى لفظ الحديث، وتبعه" أي: ابن الصلاح في ترجيح هذا الوجه "النووي في الروضة، وممن جزم أن ذلك من الخصائص يحيى بن أكثم" بالمثلثة، كما ضبطه النووي، وغيره ابن محمد بن قطن التميمي، المروزي أبو محمد القاضي المشهور، فقيه، صديق، روى عنه الترمذي، إلا أنه رمي بسرقة الحديث، قال الحافظ: ولم يقع ذلك له، وإنما كان يرى الرواية بالإجار والوجادة، مات في آخر سنة اثنتين وأربعين ومائتين، وله ثلاث وثمانون سنة، "فيما أخرجه البيهقي" عنه، "وكذا نقله المزني" إسماعيل الإمام المشهور، "عن" شيخه "الشافعي" الإمام، "قال: وموضع الخصوصية أنه أعتقها مطلقًا" عن قيد اشتراط التزويج، "وتزوجها بغير مهر ولا شهود، وهذا بخلاف غيره" فإنما يجوز له ذلك في عتيقته بمهر وشهود، "انتهى.(7/176)
وقال النووي في شرح مسلم: الصحيح الذي اختاره المحققون، أنه أعتقها تبرعًا بلا عوض، ولا شرط، ثم تزوجها برضاها من غير صداق، والله أعلم. قال شيخ الحفاظ ابن حجر.
واختلف في انحصار طلاقه صلى الله عليه وسلم في الثلاث، وعلى الحصر، قيل: تحل له من غير محلل، وقيل لا تحل له أبدًا.
وكان له نكاح المعتدة في أحد الوجهين. قال النووي: الصواب القطع بامتناع نكاح المعتدة من غيره والله أعلم.
وفي وجوب نفقة زوجاته عليه الصلاة والسلام وجهان، قال النووي: الصحيح: الوجوب، انتهى.
__________
"وقال النووي في شرح مسلم: الصحيح الذي اختاره المحققون؛ أنه أعتقها تبرعا بلا عوض ولا شرط" أنه ينكحها، "ثم تزوجها برضاها" بيان للواقع "من غير صداق" لا لأن رضاها شرط لأن جائز له بدون رضا المرأة، كما مر، "والله أعلم" بما وقع.
"قال شيخ الحافظ ابن حجر" في الفتح في النكاح: "واختلف في انحصار طلاقه صلى الله عليه وسلم في الثلاث" وهو الصحيح، وعدم انحصاره، كما لا ينحصر عدد زوجاته، "وعلى الحصر، قيل: تحل له" بالعقد عليها، فيباح الوطء لا بدونه، لحصول البينونة الكبرى "من غير محلل" قال السيوطي: على الأصح، "وقيل: لا تحل له أبدًا" لعدم إمكان التحليل، لأن من خصائصه حرمة من دخل بها على غيره، لقوله: {وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا} {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} الآية، "وكان له نكاح المعتدة في أحد الوجهين" قال في الصلاح: وهو منكر، بل غلط، "قال النووي: الصواب القطع" الجزم "بامتناع نكاح المعتدة من غيره" إذ لا دليل على الخصوصية، "والله أعلم".
"وفي وجوب نفقة زوجاته عليه الصلاة والسلام وجهان، قال النووي: الصحيح الوجوب، انتهى" لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تقتسم ورثتي دينارًا ما تركت بعد نفقة نسائي ومؤنة عيالي، فهو صدقة"، رواه البخاري، ومسلم، وأبو داود، عن أبي هريرة، فإذا كان يجب أن ينفق من ماله على زوجاته بعد وفاته، فكيف لا تجب النفقة لهن حال حياته.
قال الجلال البلقيني: فهذا الخلاف باطل، ووقع الحديث مصحفًا في عبارة، بحذف بعد، فأحوج من لم يقف على غيرها إلى تعسف تصحيحها بقوله، أي: هو نفقة نسائي، لكن(7/177)
ولا يجب عليه القسم فيما قاله طوائف من أهل العلم، وبه جزم الاصطخري من الشافعية، والمشهور عندهم وعند الأكثرين الوجوب.
وفي حل الجمع له بين المرأة وعمتها وخالتها وجهان، لا أختها وبنتها وأمها، قالوا: ومرجع غالب هذه الخصائص إلى أن النكاح في حقه كالتسري في حقنا.
__________
يضيع قوله: فهو صدقة، وبعد ذلك ليس رواية، "ولا يجب عليه القسم فيما قاله طوائف من أهل العلم" كمالك، "وبه جزم الاصطخري من الشافعية" وصححه الغزالي في الخلاصة، واقتصر عليه في الوجيز.
قال البلقيني والسيوطي: وهو المختار للأدلة الصريحة الصحيحة؛ كحديث الشيخين: كان يدور على نسائه في الساعة الواحدة من الليل والنهار، وهن تسع نسوة؛ ولقوله تعالى: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ} الآية، أي: تبعد من تشاء، فلا تقسم لها، وتقرب من تشاء، فتقسم لها على أحد التفاسير، ولأن في وجوبه عليه شغلا عن لوازم الرسالة، "والمشهور عندهم، وعند الأكثرين الوجوب" وتعسفوا الجواب عن هذا الحديث باحتمالات لينة تقدمت، واحتجوا للوجوب بقوله: "اللهم هذا قسمي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك"، رواه ابن حبان وغيره.
وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم، وقال الترمذي: روى مسلم وهو أصح، انتهى، ولا دلالة فيه على الوجوب، كما هو ظاهر، إنما هو احتمال، "وفي حل الجمع له بين المرأة وعمتها وخالتها وجهان" مبنيان على أن المتكلم يدخل في الخطاب، ومقتضى البناء ترجيح المنع، وهو الأصح، "لا أختها وبنتها" فلا يحل له الجمع اتفاقًا، وما حكاه الرافعي، وتبعه في الروضة من جوازه له، جزموا بأنه غلط فاحش، لا تحل حكايته إلا لبيان فساده؛ لأن صرح بتحريمها عليه، روى الشيخان، أن أم حبيبة قالت: قلت: يا رسول الله! انكح أختي؟ فقال: "أو تحبين ذلك"؟ فقلت: نعم لست لك بمخلية، وأحب من شاركني في خير أختي، فقال صلى الله عليه وسلم: "إن ذلك لا يحلي لي"، قلت: فإنا نحدث أنك تريد أن تنكح بنت أبي سلمة، فقال: "إنها لو لم تكن ربيبتي في حجري ما حلت لي، إنها لابنة أخي من الرضاعة، أرضعتني وأبا سلمة ثويبة، فلا تعرضن علي بناتكن ولا أخواتكن"، "وأمها" مستدرك، إذ هو قوله: وبنتها، "قالوا: ومرجع غالب هذه الخصائص إلى أن النكاح في حقه، كالتسري في حقنا" فإن قلنا بحرمة التسري بأمتين، بينهما محرمية، حرم عليه صلى الله عليه وسلم جمع امرأتين بينهما ذلك، وإن قلنا بإباحة التسري لنا، كما يقوله(7/178)
وكان له عليه الصلاة والسلام أن يصطفي ما شاء من المغنم قبل القسمة من جارية وغيرها.
وأبيح له القتال بمكة والقتل بها، وجواز دخول مكة من غير إحرام مطلقًا. ذكره ابن القاص، واستدلوا له بحديث أنس عند الستة: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة عام الفتح وعلى رأسه المغفر وذلك من كونه عليه الصلاة والسلام كان مستور الرأس بالمغفر، والمحرم يجب عليه كشف رأسه. ومن تصريح جابر ومالك والزهري بأنه لم يكن محرمًا، انتهى.
وأبدى ابن دقيق العيد لستر الرأس احتمالا فقال: يحتمل أن يكون لعذر، انتهى.
__________
بعض الحنفية، جاز له ذلك، "وكان له عليه الصلاة والسلام أن يصطفي" يختار "ما شاء من المغنم قبل القسمة من جارية" كما اصطفى ريحانة من سبي بني قريظة وصفية من خيبر، قيل: ولذا سميت صفية؛ لأنها من الصفي، وكان اسمها زينب "وغيرها" كما اصطفى سيفه ذا الفقار، ولا يختص الاصطفاء بالمغنم كما اقتضاه كلام جمع، بل يكون من الفيء أيضا؛ كما ذكره الزركشي وغيره تبعًا لابن كج، "وأبيح له القتال بمكة" ساعة من نهار، كما في الصحيح، وهي من طلوع الشمس إلى العصر؛ كما في مسند أحمد، "والقتل بها" انظر ما المراد به، فإن لغيره صلى الله عليه وسلم قتل من يستحق القتل بها، قاله شيخنا.
"وجواز دخول مكة من غير إحرام مطلقًا" دخل لحاجة، أم لا؟، والمراد أحل له دخولها بلا خلاف على، أي صفة كان الدخول بخلاف غيره، ففيه خلف بينه بعد "ذكره ابن القاص، واستدلوا له بحديث أنس عند" الأئمة "الستة" كلهم من طريق مالك عن الزهري، عن أنس، قال: "دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة عام الفتح، وعلى رأسه المغفر" بكسر الميم، وسكون الغين المعجمة، وفتح الفاء، وبالراء زرد ينسج من الدروع المتصل بها، يجعل على الرأس، أو رفرف البيضة، أو ما غطى الرأس من السلاح كالبيضة، وفي رواية عن مالك خارج الموطأ مغفر من حديد، رواه الدارقطني، "وذلك" أي: وجه الاستدلال "من كونه عليه الصلاة والسلام كان مستور الرأس بالمغفر والمحرم، يجب عليه كشف رأسه، ومن تصريح جابر" عند مسلم" ومالك" عند البخاري وغيره، "والزهري" عند "....."1 "بأنه لم يكن محرمًا" وكذا صرح به طاوس عند ابن أبي شيبة بإسناد صحيح، "وأبدى ابن دقيق العيد لستر الرأس احتمالا، فقال: يحتمل أن يكون لعذر" فلا ينافي أنه محرم، "انتهى".
__________
1 بياض بالأصل.(7/179)
وتعقبه الشيخ ولي الدين بن العراقي، فقال: هذا يرد تصريح جابر وغيره: قال: وهذا الاستدلال في غير موضع الخلاف المشهور، لأنه عليه الصلاة والسلام كان خائفًا من القتال متأهبًا، ومن كان كذلك فله الدخول عندنا بلا إحرام بلا خلاف عندنا، ولا عند أحد نعلمه.
وقد استشكل النووي في شرح المهذب ذلك، لأن مذهب الشافعي أن مكة فتحت صلحًا خلافًا لأبي حنيفة في قوله: إنها فتحت عنوة، وحينئذ فلا خوف.
ثم أجاب عنه: بأنه عليه الصلاة والسلام صالح أبا سفيان، وكان لا يأمن غدر أهل مكة، فدخلها صلحًا وهو متأهب للقتال إن غدروا. انتهى.
وقد ذكرت ما في فتح مكة من المباحث في قصة فتحها من المقصد الأول.
ثم إن غيره صلى الله عليه وسلم إذا لم يكن خائفًا، فقال أصحابنا: إن لم يكن ممن يتكرر دخوله، ففي وجوب الإحرام عليه قولان: أصحهما عند أكثرهم: أنه
__________
"وتعقبه الشيخ ولي الدين بن العراقي، فقال: هذا يرد تصريح جابر" بقوله: دخل صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة وعليه عمامة سوداء بغير إحرام، أخرجه مسلم، وأحمد، وأصحاب السنن "وغيره" كالزهري ومالك بقوله: ولم يكن صلى الله عليه وسلم فيما نرى، والله أعلم يومئذ محرمًا، أخرجه البخاري، ورواه الدارقطني جزمًا عنه، فأسقط فيما نرى، والله أعلم.
"قال" ابن العراقي: "وهذا الاستدلال" منهم على الخصوصية "في غير موضع الخلاف المشهور لأنه عليه الصلاة والسلام كان خائفًا من القتال متأهبًا له، ومن كان كذلك، فله الدخول عندنا بلا إحرام، بلا خلاف عندنا، ولا عند أحد نعلمه" فلا يصح الاستدلال بذلك.
"وقد استشكل النووي في شرح المهذب ذلك" أي: دخوله خائفًا من القتال متأهبًا له؛ "لأن مذهب الشافعي أن مكة فتحت صلحًا، خلافًا لأبي حنيفة" ومالك والأكثرين، "في قوله: إنها فتحت عنوة، وحينئذ فلا خوف، ثم أجاب عنه بأنه عليه الصلاة والسلام صالح أبا سفيان وكان لا يأمن غدر أهل مكة، فدخلها صلحًا، وهو متأهب للقتال إن غدروا" أي: أهل مكة بالبناء للفاعل، "انتهى" وعلى قول الأكثرين لا يتوجه هذا السؤال أصلا.
"وقد ذكرت ما في فتح مكة من المباحث في قصة فتحها من المقصد الأول" ومنه ترجيح فتحها عنوة من حيث الأدلة، "ثم إن غيره صلى الله عليه وسلم إذا لم يكن خائفًا، فقال أصحابنا: إن لم يكن ممن يتكرر دخوله، ففي وجوب الإحرام عليه قولان، أصحهما عند أكثرهم أنه(7/180)
لا يجب، وقطع به بعضهم، فإن تكرر دخوله كالحطابين ونحوهم ففيه خلاف مرتب وهو أولى بعدم الوجوب وهو المذهب.
وقال بعض الحنابلة بوجوب الإحرام إلا على الخائف وأصحاب الحاجات، وأوجبه المالكية في المشهور عندهم على غير ذوي الحاجات، وأوجبه الحنفية مطلقًا إلا من كان داخل الميقات.
وقد تحرر أن المشهور من مذهب الشافعي: عدم الوجوب مطلقًا. ومن مذاهب الأئمة الثلاثة الوجوب إلا فيما استثنى.
ومن خصائصه صلى الله عليه وسلم أنه كان يقضي بعلمه من غير خلاف.
وأن يقضي لنفسه ولولده، وأن يشهد لنفسه ولولده.
ولا تكره له الفتوى ولا القضاء في حال.
__________
لا يجب" إن لم يرد نسكًا، بل يستحب، "وقع به بعضهم، فإن تكرر دخوله كالحطابين ونحوهم، ففيه خلاف مرتب" مفرع على الخلاف المذكور، فإن قلنا: لا يجب على من لم يتكرر، قلنا بعدمه على من تكرر قطعًا، وإن قلنا: يجب به على من لم يتكرر، ففي وجوبه على من تكرر خلاف أصحه لا يجب؛ كما قال: "وهو أولى بعدم الوجوب، وهو المذهب" أي: المعتمد من التعبير بالكل عن الجزء؛ لأنه الأهم عند الفقيه المقلد.
"وقال بعض الحنابلة بوجوب الإحرام إلا على الخائف وأصحاب الحاجات المتكررة، وأوجبه المالكية في المشهور عندهم على غير ذوي الحاجات، وأوجبه الحنفية مطلقًا إلا من كان داخل الميقات، وقد تحرر" من هذا؛ "أن المشهور من مذهب الشافعي عدم الوجوب مطلقًا، ومن مذاهب الأئمة الثلاثة الوجوب إلا فيما استثنى" وفي رواية عن كل منهم: لا يجب، وقدم هذا في فتح مكة بنحوه، والله أعلم.
"ومن خصائصه صلى الله عليه وسلم أنه كان يقضي بعلمه" لنفسه ولغيره، زاد الأنموذج، ولو في الحديد "من غير خلاف" وفي غيره خلاف أصحه عند الشافعية: إن القاضي المجتهد له الحكم بعلمه إلا في الحدود، بخلاف غير المجتهد والحدود فلا يقضي بعلمه للريبة، والراجح عند المالكية منعه في الحدود وغيرها إلا في التعديل والتجريح، "وأن يقضي لنفسه ولولده" أي: فروعه، لأن المنع في حق غيره للريبة، وهي منتفية عنه قطعًا، "وأن يشهد لنفسه ولولده" لانتفاء الريبة، زاد الأنموذج: وأن يقبل شهادة من شهد له ولولده، "ولا تكره له الفتوى، ولا القضاء في حال(7/181)
الغضب، كما ذكره النووي في شرح مسلم، وقد قضى للزبير بشراج الحرة بعد أن أغضبه خصم الزبير. لعصمته صلى الله عليه وسلم، فلا يقول في الغضب إلا كما يقول في الرضى.
__________
الغضب" لأنه لا يخاف عليه من الغضب ما يخاف على غيره إذ غضبه لله لا لحظ نفسه، "كما ذكره النووي في شرح مسلم" عند حديث اللقطة، فإنه صلى الله عليه وسلم أفتى فيه وقد غضب حتى احمرت وجنتاه؛ كما في الصحيحين: أن النبي صلى الله عليه وسلم سأله رجل عن اللقطة، فقال: "أعرف وكاءها وعفاصها ثم عرفها سنة، ثم استمتع بها، فإن جاء ربها فأدها إليه"، قال: فضالة الإبل؛ فغضب حتى احمرت وجنتاه، فقال: "ما لك ولها، معها سقاؤها وحذاؤها ترد الماء وترعى الشجر، فذرها حتى يلقاها ربها"، قال: فضالة الغنم؟ قال: "لك أو لأخيك أو للذئب".
"وقضى للزبير" بن العوام، أحد العشرة، "بشراج" بكسر الشين المعجمة، آخره جيم، جمع شرج، بفتح، فسكون، بزنة بحر وبحار، ويجمع على شروج، وأضيف إلى "الحرة" بفتح الحاء والراء المشددة المهملتين، موضع معروف بالمدينة لكونه فيه، والمراد؛ مجاري الماء الذي يسيل منها "بعد أن أغضبه خصم الزبير" هو حميد، رواه أبو موسى المديني في الذيل بسند جيد.
قال الحافظ: ولم أرَ تسميته إلا في هذا الطريق، وهو مردود بما في بعض طرق الحديث، أي عند البخاري في الصلح أنه شهد بدرا وليس في البدريين أحد اسمه حميد، وقيل: هو ثابت بن قيس بن شماس، حكاه ابن بشكوال واستبعد، وقيل: حاطب بن أبي بلتعة، حكاه ابن باطيش، ولا يصح، لأن حاطبًا ليس أنصاريًا، وأجيب، بحمله على المعنى اللغوي، أي: من كان ينصر النبي صلى الله عليه وسلم لا أنه من الأنصار المشهورين، ورد بأن في رواية الطبراني أنه من بني أمية بن زيد، وهم بطن من الأوس، ودفع باحتمال أن مسكنه كان في بني أمية، لا أنهم منهم، وقد روى ابن أبي حاتم عن سعيد بن المسيب في قوله: {فَلا وَرَبِّكَ} الآية، قال: أنزلت في الزبير بن العوام وحاطب بن أبي بلتعة، اختصامًا في ماء، فقضى النبي صلى الله عليه وسلم، أن يسقي الأعلى، ثم الأسفل، وهذا مرسل، ولكن فيه فائدة تسمية الأنصاري "لعصمته صلى الله عليه وسلم، فلا يقول في الغضب إلا كما يقول في الرضى" إذ كل من غضبه ورضاه لله، أخرج الأئمة الستة عن عبد الله بن الزبير، قال: خاصم الزبير رجلا من الأنصار في شراج الحرة التي يسقون بها النخل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اسق يا زبير، ثم أرسل الماء إلى جارك"، فقال الأنصاري: يا رسول الله! إن كان ابن عمتك، فتلون وجه رسول الله، ثم قال: "اسق يا زبير، ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر، ثم أرسل الماء إلى جارك"، واستوعى للزبير حقه، وكان أشار عليهما بأمر لهما فيه سعة، قال الزبير: فما أحسب هذه الآية إلا نزلت في ذلك: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} الآية،(7/182)
وكان له أن يدعو لمن شاء بلفظ الصلاة، وليس لنا أن نصلي إلا على نبي أو ملك.
وكان له أن يقتل بعد الأمان، وأن يلعن من شاء بغير سبب: واستبعد ذلك.
وجعل الله تعالى شتمه ولعنه قربة للمشتوم والملعون لدعائه عليه.
__________
وأن بفتح الهمزة للتعليل مقدرة باللام، أي: حكمت له بالتقديم لأجل أنه ابن عمتك، وادعى الكرماني إن في بعضها أن بكسر الهمزة.
قال الحافظ: على أنها شرطية، والجواب محذوف، ولا أعرف هذه الرواية، وحكى القرطبي فتح الهمزة والمد على أنه استفهام إنكاري، ولم يقع لنا في الرواية.
قال المصنف: لكن رأيته في الأصل المقروء، وعلى الميدومي وغيره، وفي الفرع مصحح عليه بالمد والجذر، بفتح الجيم، وسكون المهملة: ما وضع بين شربات النخل، كالجدار أو الحواجز التي تحبس الماء، وقال القرطبي: هو أن يصل الماء إلى أصول النخل، قال: ويروى بكسر الجيم، وهو الجدار، والمراد جدران الشربات، وهي الحفر التي تحفر في أصول النخل، انتهى.
"وكان له أن يدعو لمن شاء بلفظ الصلاة" استقلالا بلا كراهة لحديث الصحيحين وغيرهما، عن عبد الله بن أبي أوفى علقمة رضي الله عنهما: قال: كان إذا أتاه قوم بصدقتهم، قال: "اللهم صل على آل فلان" فأتاه أبي بصدقته، فقال: "اللهم صل على آل أبي أوفى"، "وليس" أي: يكره تنزيهًا على الأصح "لنا أن نصلي إلا على نبي، أو ملك" استقلالا، لأنه صار شعارًا لهم، إذا ذكروا فلا يقال لغيرهم، وإن كان معناه صحيحًا إلا تبعًا فيجوز، "وكان له أن يقتل بعد الأمان" كذا نقله إمام الحرمين والرافعي، وغيرهما عن ابن القاص، وخطؤه فيه، وتعقبهم ابن الرفعة، بأن لفظه في تلخيصه لا يعطي ذلك، فإنه قال: يجوز له القتل في الحرم بعد إعطاء الأمان، وهذا معناه إذا قال: من دخل الحرم فهو آمن، فدخله شخص، وثم سبب يقتضي قتله أبيح، فهو إشارة لقصة عبد الله بن خطل في الصحيحيين عن أنس أنه صلى الله عليه وسلم دخل مكة يوم الفتح وعلى رأسه المغفر، فلما نزعه جاء رجل، فقال: ابن خطل متعلق بأستار الكعبة، فقال: "اقتلوه" وابن القاص معذور، لأنه رأى حديث الأمان في دخول المسجد، ورأى في هذا الأمر بقتله فاستنبط هذه الخصوصية، وهذا نهاية أمر الفقيه جمعًا بين الأحاديث، لكن النبي صلى الله عليه وسلم لما أمن الناس استثنى ابن خطل وغيره، كما سبق في الفتح.
"وأن يلعن من شاء بغير سبب" يقتضيه، "واستبعد ذلك" أي وقوعه منه، "وجعل الله تعالى شتمه" سبه "ولعنه قربة للمشتوم والملعون" تقربه إلى الله يوم القيامة، "لدعائه عليه(7/183)
السلام بذلك. قاله ابن القاص، وردوه عليه، حكاه الحجازي في مختصر الروضة عن نقل الرافعي.
__________
السلام بذلك" بقوله: "اللهم إني أتخذ عندك عهدًا لن تخلفنيه إنما أنا بشر، فأيما مؤمن أذيته أو شتمته، أو جلدته أو لعنته، فاجعلها صلاة وزكاة وقربة تقربه بها إليك يوم القيامة". رواه الشيخان من حديث أبي هريرة واللفظ لمسلم، وفي لفظ له: "اللهم إني بشر، أرضى كما يرضى البشر وأغضب كما يغضب البشر، فأيما أحد دعوت عليه من أمتي بدعوة ليس هو لها بأهل أن تجعلها له طهورًا وزكاة وقربة تقربه بها إليك يوم القيامة". وفيه روايات آخر متقاربة.
وفي مسلم أيضًا عن عائشة: دخل على النبي صلى الله عليه وسلم رجلان، فكلماه بشيء لا أدري ما هو، فأغضباه، فسبهما ولعنهما، فلما خرجا قلت له، فقال: "أو ما علمت ما شارطت عليه ربي، قلت: اللهم إنما أنا بشر فأيما". الحديث، قال في الفتح: قال المازري: إن قيل كيف يدعو بدعوة على من ليس لها بأهل، قيل: المراد ليس بأهل لذلك عند الله في باطن الأمر، لا على ما يظهر مما يقتضيه حاله وجنايته حين دعا عليه، فكأنه يقول: من كان في باطن أمره عندك ممن ترضى عنه، فاجعل دعوتي عليه التي اقتضاها ما ظهر لي من مقتضى حاله حينئذ طهورًا وزكاة، قال: وهذا معنى صحيح لا استحالة فيه؛ لأنه صلى الله عليه وسلم متعبد بالظواهر، وحساب الناس في البواطن على الله، انتهى. لكنه مبني على أنه كان يجتهد في الأحكام ويحكم بما أدى إليه اجتهاده.
أما على أنه لا يحكم إلا بالوحي، فلا يتأتى فيه هذا، وأجاب المازري أيضًا بأن ما وقع من سبه ودعائه ونحوه ليس بمقصود بل هو مما جرت به عادة العرب في كلامها بلا نية؛ كقوله لغير واحد، "تربت يمينك" , و "عقري حلقي" , ومثل: "لا كبرت سنك ولا أشبع الله بطنك"، ونحو ذلك مما لا يقصد منه حقيقة الدعاء، فخاف صلى الله عليه وسلم أن يصادف شيئًا من ذلك، فسأل الله، ورغب إليه أن يجعل ذلك رحمة، وكفارة، وقربة، وطهورًا، وأجرًا، وهذا إنما يقع منه في النادر الشاذ من الزمان، ولم يكن صلى الله عليه وسلم فاحشًا، ولا متفحشًا، ولا لعانًا، ولا منتقمًا لنفسه، وقيل له: ادع على دوس، فقال: "اللهم اهد دوسًا"، وقال: "اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون"، وأشار عياض إلى ترجيح هذا الجواب.
قال الحافظ: وهو حسن إلا أنه يرد عليه قوله في إحدى الروايات: "أو جلدته"، إذ لا يقع الجلد بلا قصد، وقد ساق الجميع مساقًا واحدًا، إلا أن يحمل على الجلدة الواحدة فيتجه، "قاله ابن القاص وردوه عليه، حكاه الحجازي في مختصر الروضة عن الرافعي" ولعل وجه رده لشمول كلامه لمن دعا عليه بسبب يقتضي الدعاء، وإلا فالحديث كما رأيت مصرح بما قاله.
وفي الشامية: وبأن له تعزير من شاء، أي: باللعن وغيره بغير سبب يقتضيه، ويكون له(7/184)
وكان يقطع الأراضي قبل فتحها، لأن الله ملكه الأرض كلها. وأفتى الغزالي بكفر من عارض أولاد تميم الداري فيما أقطعهم النبي صلى الله عليه وسلم وقال: إنه صلى الله عليه وسلم كان يقطع أرض الجنة فأرض الدنيا أولى.
__________
رحمة، ذكره ابن القاص، وتبعه الإمام والبيهقي، ولا يلتفت لقول من أنكره، "وكان يقطع الأراضي قبل فتحها" بخلاف غيره من الأئمة، فإنما يقطع بعد فتحها؛ "لأن الله ملكه الأرض كلها"، ولا ينقض شيء مما أقطعه بعده بحال، "و" لذا "أفتى الغزالي بكفر من عارض أولاد تميم الداري فيما أقطعهم النبي صلى الله عليه وسلم" من الأرض بالشام، "وقال: إنه صلى الله عليه وسلم كان يقطع أرض الجنة" ما شاء منها لمن شاء، "فأرض الدنيا أولى" ونقله عن الغزالي ابن العربي في القانون، وأقره، وأفتى به السبكي أيضًا، روى الشافعي والبيهقي عن طاوس مرسلا عن النبي صلى الله عليه وسلم: "عادي الأرض لله ولرسوله، ثم لكم من بعد" قال الرافعي: يقال: للشيء القديم عادي نسبة إلى عاد الأولى، والمراد هنا الأرض غير المملوكة الآن، وإن تقدم ملكها ومضت عليه الأزمان، فلا يختص ذلك بقوم عاد، فالنسبة إليهم للتمثيل لما لم يعلم مالكه، وقوله: "لله ولرسوله" أي: مختص بهما، فهو فيء يتصرف فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، انتهى.(7/185)
الفصل الرابع: ما اختص به صلى الله عليه وسلم من الفضائل والكرامات:
__________
الفصل الرابع: ما اختص به صلى الله عليه وسلم من الفضائل والكرامات:
"الفصل الرابع" وفي بعض نسخ: القسم الرابع، "ما"، أي: شيء "اختص به" على الأمة، وإن شاركه الأنبياء في بعضها "صلى الله عليه وسلم" وتفسير ما بشيء لا يقتضي حصرًا ولا استيعابًا، ولا يفسر بالذي لأنه يصير معرفة، فيقتضي الحصر، والواقع أنه لم يستوعب جميع ما اختص به "من الفضائل" جمع فضيلة، وهي الفضل والخير، وهو خلاف النقيصة والنقص؛ كما في المصباح، وقضيته إنما لا نقص فيه ولا كمال، يسمى فضيلة وفضلا؛ لأنه خلاف النقص، والظاهر كما قال شيخنا أنه غير مراد، وأن الفضيلة ما فيه مزية لصاحبها على غيره، فما لا كمال فيه، ولا نقص، واسطة بين الفضيلة والنقيصة، انتهى.
وقد قال القرطبي في المفهم: الفضائل جمع فضيلة، وهي الخصال الجميلة التي يحصل لصاحبها بسببها شرف وعلو منزلة، إما عند الحق، وإما عند الخلق، والثاني لا عبرة به إلا إن أوصل إلى الأول، انتهى. "والكرامات" عطف خاص على عام: جمع كرامة أمر خارق للعادة غير مقرون بالتحدي، فيظهر على يد أولياء الله، ودرجة الأنبياء قبل النبوة لا تقصر عن الولاية، فيجوز(7/185)
منها: أنه أول النبيين خلقًا، كما تقرر في أول هذا الكتاب، وأنه كان نبيًا وآدم بين الروح والجسد، رواه الترمذي من حديث أبي هريرة.
ومنها: أنه أول من أخذ عليه الميثاق كما مر.
ومنها: أنه أول من قال: "بلى" يوم "ألست بربكم" رواه أبو سهل القطان في جزء من أماليه.
ومنها: أن آدم وجميع المخلوقات خلقوا لأجله، رواه البيهقي وغيره.
ومنها: أن الله كتب اسمه الشريف على العرش.
__________
ظهورها على يدهم.
"منها: أنه أول النبيين خلقًا" وآخرهم بعثًا، رواه ابن أبي حاتم وغيره عن أبي هريرة، مرفوعًا بلفظ: "كنت أول" ... إلخ، ورواه هو والديلمي، وأبو نعيم، وغيرهم عن أبي هريرة، مرفوعًا بلفظ: "كنت أول النبيين في الخلق وآخرهم في البعث"؛ "كما تقرر في أول هذا الكتاب" بأدلته وتفسير معناه، "وأنه كان نبيًا وآدم بين الروح والجسد" ظرف زمان، بمعنى أنه محكوم بها ظاهرة بين خلق روح آدم وجسده، حيث نبأه في عالم الأرواح، وأمرها بمعرفة نبوته والإقرار بها، "رواه الترمذي" وقال: حديث حسن "من حديث أبي هريرة" أنهم قالوا: يا رسول الله! متى وجبت لك النبوة؟ قال: "وآدم بين الروح والجسد".
"ومنها: أنه أول من أخذ عليه الميثاق" يوم ألست بربكم؛ "كما مر" أول الكتاب.
"ومنها: أنه أول من قال: بلى" أنت ربنا "يوم ألست بربكم، رواه أبو سهل القطان في جزء من أماليه" عن علي بإسناد ضعيف.
"ومنها: أن آدم وجميع المخلوقات خلقوا لأجله رواه البيهقي وغيره"، كشيخه الحاكم، وصححه عن ابن عباس: "أوحى الله إلى عيسى أن آمن بمحمد وأمر أمتك أن يؤمنوا به، فلولا محمد ما خلقت آدم ولولا محمد ما خلقت الجنة والنار" الحديث، وهو لا يقال رأيًا، فحكمه الرفع.
وروى ابن عساكر: "لقد خلقت الدنيا وأهلها، أعرفهم كرامتك ومنزلتك عندي ولولاك ما خلقت الدنيا".
"ومنها: أن الله كتب اسمه الشريف على العرش" لفظ الرواية عن كعب على ساق العرش كما مر في الأسماء، أي: قوائمه.
وروى ابن عدي: "لما عرج بي، رأيت مكتوبًا على ساق العرش لا إله إلا الله محمد(7/186)
وعلى كل سماء، وعلى الجنان وما فيها. رواه ابن عساكر عن كعب الأحبار.
ومنها: أن الله تعالى أخذ الميثاق على النبيين، آدم فمن بعده، أن يؤمنوا به وينصروه، قال الله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ} [آل عمران: 81] قال علي بن أبي طالب: لم يبعث الله نبيًا من آدم فمن بعده إلا أخذ عليه العهد في محمد صلى الله عليه وسلم لئن بعث وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه ويأخذ العهد بذلك على قومه.
__________
رسول الله أيدته بعلي، "وعلى كل سماء" من السموات السبع، "وعلى الجنان وما فيها" من قصور وغرف، وعلى نحور الحور العين، وورق شجرة طوبى، وسدرة المنتهى، وأطراف الحجب، وبين أعين الملائكة، "رواه ابن عساكر عن كعب الأحبار" قال: "أنزل الله على آدم عصيًا بعدد الأنبياء والمرسلين، ثم أقبل على ابنه شيث، فقال: أي بني أنت خليفتي من بعدي، فخذها بعمارة التقوى والعروة الوثقى، فكلما ذكرت الله، فاذكر اسم محمد، فإني أيت اسمه مكتوبًا على ساق العرش" الحديث بطوله، قدمه المصنف في الأسماء، وهو من الإسرائيليات، وحكم بعض الحفاظ بوضعه.
وأجاب شيخنا بأن الحكم بوضع جملة ألفاظه، لا يستلزم عدم ثبوت معانيها، إذ يجوز ثبوت معاني بعضها في أحاديث، فنظروا إليها من حيث وجودها في غير حديث كعب، كذا قال، وهو تجويز عقلي لا يلتفت إليه المحدثون، إذ كلامهم إنما هو في الإسناد الذي هو المرقاة وثبوت معنى الموضوع، ولو في القرآن فضلا عن تجويز ثبوته بأحاديث لا يؤيد الموضوع، فينفي عنه الوضع، كما هو مقرر عند أدنى من له إلمام بالفن.
"ومنها: أن الله تعالى أخذ الميثاق على النبيين آدم، فمن بعده" حتى عيسى إن قلنا بالمشهور، أنه ليس بينه وبين المصطفى نبي، أو من بعده أيضًا، كخالد بن سنان "أن يؤمنوا به وينصروه، قال الله تعالى: {وَ} اذكر {إِذْ} حين {أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ} عهدهم {لَمَا} بفتح اللام للابتداء، وتوكيد معنى القسم الذي في أخذ الميثاق، وكسرها متعلق بأخذ، وما موصولة على الوجهين، أي: للذي {آتَيْتُكُمْ} إياه، وقرئ: "آتيناكم", {مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ} من الكتاب والحكمة، وهو محمد صلى الله عليه وسلم، {لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ} الآية، جواب القسم وأممهم تبع لهم في ذلك. "قال علي بن أبي طالب" في تفسير هذه الآية فيما رواه ابن جرير: "لم يبعث الله نبيًا من آدم، فمن بعده إلا أخذ عليه العهد في محمد صلى الله عليه وسلم لئن بعث، وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه ويأخذ العهد بذلك على(7/187)
ومنها: أنه وقع التبشير به في الكتب السالفة كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
ومنها: أنه لم يقع في نسبه من لدن آدم سفاح. رواه البيهقي والطبراني في الأوسط وأبو نعيم في الدلائل.
ومنها: أنه نكست الأصنام لمولده رواه الخرائطي -في الهواتف- وغيره.
__________
قومه" الرواية بنصب يأخذ؛ كما أفاده عياض بالعطف على تؤمنن، بتقدير نون التوكيد الخفيفة، كذا وجهها الشمني والمصنف، ورد بأنه حينئذ يكون من جزاء الشرط، فيلزم أن الأخذ من الأمة بعد بعث المصطفى، وليس المقصود، فالعطف على جملة: لئن بعث ... إلخ على أنها في موضع مفرد، والوجه أن التقدير، وأمر أن يأخذ على حد:
وزججن الحواجب والعيونا
وفي البغوي: اختلف في معنى الآية، فقيل: أخذ ميثاق النبيين أن يصدق بعضهم، وأخذ العهد على كل نبي أن يؤمن بمن يأتي بعده، وينصره إن أدركه، وأن يأمر قومه بنصره، فأخذ الميثاق من موسى أن يؤمن بعيسى، ومن عيسى أن يؤمن بمحمد، وقيل: إنما أخذ عليهم الميثاق في محمد صلى الله عليه وسلم.
واختلف على هذا، فقيل: الأخذ على النبيين وأممهم، واكتفى بذكر الأنبياء؛ لأن العهد على المتبوع عهد على التابع، وقيل: المراد أن الله أخذ عهد النبيين، أن يأخذوا الميثاق على أممهم بذلك، انتهى بحروفه، وقد مر بسط ذلك في أول هذا الكتاب.
"ومنها: أنه وقع التبشير به في الكتب السالفة" كالتوراة والإنجيل، ونعته فيها، ونعت أصحابه وخلفائه؛ "كما سيأتي إن شاء الله تعالى" في النوع الرابع من المقصد السادس.
"ومنها: أنه لم يقع في نسبه من لدن آدم" أي: زمنه؛ لأن لدن وإن كان الأصل أنها ظرف مكان بمعنى عند، لكنها قد تستعمل للزمان، كما هنا، "سفاح" أي: زنا، بكسر السين المهملة من سفح الماء أو الدم أو الدمع إذا انصب؛ لأن الزاني يصب المني في غير حقه لعدم ثبوت النسب والتوارث فيه، ولكونه من الكليات الخمس التي لم تبح في ملة من الملل. قال بعض المحققين: والمراد بالسفاح ما لم يوافق شريعة، "رواه البيهقي والطبراني في الأوسط، وأبو نعيم في الدلائل" بإسناد حسن عن علي مرفوعًا: "خرجت من نكاح ولم أخرج من سفاح من لدن آدم إلى أن ولدني أبي وأمي، ولم يصبني من سفاح الجاهلية شيء".
"ومنها: أنه نكست الأصنام لمولده، رواه الخرائطي في الهواتف وغيره" كابن عساكر، عن عروة، أن نفرًا من قريش منهم ورقة بن نوفل، كانوا في صنم لهم يجتمعون إليه، فدخلوا عليه ليلة، فرأوه مكبوبًا على وجهه، فأخذوه، وردوه إلى حاله، فلم يلبث حتى انقلب(7/188)
ومنها: أنه ولد مختونًا مقطوع السرة، رواه الطبراني وغيره، وتقدم ما فيه من البحث أول الكتاب.
ومنها: أنه خرج نظيفًا، ما به من قذر، رواه ابن سعد.
ومنها: أنه وقع ساجدًا رافعًا إصبعيه كالمتضرع المبتهل. رواه أبو نعيم من
__________
انقلابًا عنيفًا، فردوه إلى حاله، فانقلب الثالثة، فقالوا: إن هذا لأمر حدث، فكان ذلك ليلة ولد صلى الله عليه وسلم، وشاركه في هذه الخصوصية عيسى عليه الصلاة والسلام، روى عبد الرزاق عن وهب: لما ولد عيسى أتت الشياطين إبليس، فقالوا: أصبحت الأصنام منكوسة، فقال: هذا حادث حدث، فطاف خافقي الأرض، فلم ير شيئًا، ثم البحار فلم يقف على شيء، ثم طاف أيضًا، فوجد عيسى عليه السلام قد ولد، والملائكة قد حفت حوله فرجع إليهم، فقال: إن نبيًا ولد البارحة.
"ومنها: أنه ولد مختونًا" أي: على صورة المختون، إذ الختن القطع، ولا قطع هنا. "مقطوع السرة" الأولى، حذف التاء؛ لأن السر، بالضم ما تقطعه القابلة من سرة الصبي، كما في النهاية وغيرها، إلا أن يكون سمي السرسرة مجاز العلاقة المجاورة، أو فيه حذف، أي: مقطوع منه ما يتصل بالسرة.
"رواه الطبراني وغيره" وفي عده من الخصائص نظر إذ ولد سبعة عشر نبيًا مختونين؛ كما مر نظمًا، وجماعة من هذه الأمة ولدوا مختونين، ولذا قال ابن القيم: ليس هذا من خصائصه، فإن كثير من الناس ولد مختونًا، قال الشامي: حتى في عصرنا أخبر بعضهم أنه ولد مختونًا، انتهى، ويمكن أن الخصوصية مجموع الختن وقطع السرة، وقيل: ختنه جده يوم سابعه، وصنع له مأدبة، وقيل: ختنه جبريل عند حليمة، والأرجح الأول، فقد قال الحاكم: به تواترت الأخبار، وابن الجوزي: لا شك أنه ولد مختونًا.
قال الخيضري: وأدلته مع ضعفها أمثل من أدلة غيره، انتهى، بل له طريق جيدة، صححها الضياء المقدسي وحسنها مغلطاي، وهي ما رواه الطبراني، وأبو نعيم، وابن عساكر، عن أنس، رفعه: "من كرامتي على ربي أني ولدت مختونًا، ولم ير أحد سوأتي". "وتقدم ما فيه من البحث أول الكتاب" مع فوائد جليلة.
"ومنها: أنه خرج نظيفًا ما به قذر" مما جرت العادة به في المولود عقب ولادته، وهي صفة موضحة للمبالغة في نظافته، إذ القذر ضد النظافة، "رواه ابن سعد" من طريق همام بن يحيى، عن إسحاق بن عبد الله، عن آمنة.
"ومنها: أنه وقع" خرج من بطن أمه "ساجدًا" حقيقة، "رافعًا إصبعيه" أي: سبابتيه إلى السماء، قابضًا بقية أصابعه، "كالمتضرع، المتذلل، المبتهل، رواه أبو نعيم" في خبر طويل "من(7/189)
حديث ابن عباس. ورأت أمه عند ولادته نورًا خرج منها أضاء له قصور الشام، وكذلك ترى أمهات الأنبياء. رواه أحمد، وكان مهده صلى الله عليه وسلم يتحرك بتحريك الملائكة، كما ذكره ابن سبع في الخصائص، وكان القمر يحدثه وهو في مهده، ويميل إليه حيث أشار إليه، رواه ابن طغر بك في "النطق المفهوم" وغيره. وتكلم في المهد، رواه الواقدي وابن سبع.
__________
حديث ابن عباس" عن آمنة بلفظ: فوضعت محمدًا، فنظرت إليه، فإذا هو ساجد قد رفع أصبعيه إلى السماء، كالمتضرع المبتهل، وللطبراني: لما وقع إلى الأرض وقع مقبوضة أصابع يده، مشيرًا بالسبابة، كالمسبح بها، "ورأت أمه" رؤية عين بصرية، لا منامية، كما زعم، "عند ولادته نورًا خرج منها، أضاء له قصور الشام" أي: أضاء النور وانتشر حتى رأت قصور الشام، وأضاءت تلك القصور من ذلك النور، "وكذلك ترى أمهات الأنبياء" نورًا يخرج منهن عند الولادة، وإن لم يكن كالذي رأته آمنة من كل وجه، بحيث أن كل واحدة تضيء منها قصور الشام، هكذا ترجاه شيخنا، "رواه أحمد" والبزار، والطبراني، وصححه ابن حبان، والحاكم من حديث العرباض مرفوعًا، وأحمد أيضًا من حديث أبي أمامة وابن إسحاق عن خالد بن معدان، عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: وفيه أضاءت له قصور بصري من أرض الشام، "وكان مهده" أي: ما هيئ له لينام فيه، "يتحرك بتحريك الملائكة" له، قال بعض: ولم ينقل مثله لأحد من الأنبياء؛ "كما ذكره ابن سبع" بإسكان الموحدة، وقد تضم؛ كما في التبصير "في الخصائص" له، "كان القمر يحدثه، وهو في مهده، ويميل إليه حيث" أي: في أي وقت "أشار إليه" بأصبعه، فحيث هنا للزمان، "رواه ابن طغربك" بضم الطاء المهملة، وإسكان الغين المعجمة، وضم الراء، وفتح الموحدة، "في" كتاب "النطق المفهوم وغيره" كالبيهقي، والصابوني، والخطيب، وابن عساكر، عن العباس بن عبد المطلب، قلت: يا رسول الله! دعاني إلى الدخول في دينك إمارة لنبوتك، رأيتك في المهد تناغي القمر، وتشير إليه بأصبعك، فحيث أشرت إليه مال، قال: "إني كنت أحدثه ويحدثني، ويلهيني عن البكاء، وأسمع وجبته حين يسجد تحت العرش"، "وتكلم في المهد، رواه الواقدي" إن أول ما تكلم به لما ولد جلال ربي الرفيع، وروي أنه لما وقع على الأرض رفع رأسه، وقال بلسان فصيح: "لا إله إلا الله، وإني رسول الله"، وعند ابن عائذ: أول ما تكلم به حين خرج من بطن أمه: "الله أكبر كبيرًا، والحمد لله كثيرًا، وسبحان الله بكرة وأصيلا" وطريق الجمع؛ أنه قال ذلك كله، "وابن سبع" لكن عده من الخصائص فيه نظر، إذ ليس من خصائصه، ولا من خصائص الأنبياء، فقد تكلم فيه ابن ماشطة بنت فرعون، وشاهد يوسف، وصاحب جريج، رواه أحمد، والحاكم مرفوعًا: "وابن المرأة من(7/190)
وظللته الغمامة في الحر، رواه أبو نعيم والبيهقي، ومال إليه فيء الشجرة إذا سبق إليه، رواه البيهقي.
ومنها: شق صدره الشريف. رواه مسلم وغيره.
وغطه جبريل عند ابتداء الوحي ثلاث غلطات. عد هذه بعضهم من خصائصه كما نقله الحافظ ابن حجر، قال: ولم ينقل عن أحد من.
__________
أصحاب الأخدود"، رواه مسلم ومبارك اليمامة، رواه البيهقي، وكذا الطفل الذي مرت عليه أمة تنسب إلى الزنا، فقالت أمه: اللهم لا تجعل ولدي مثلها، فقال: اللهم اجعلني مثلها، فهؤلاء ستة تكلموا في المهد، وليسوا بأنبياء، وللسيوطي نظم شهير في جملة من تكلم، "وظللته الغمامة" السحابة "في الحر، رواه أبو نعيم والبيهقي" عن ابن عباس: كانت حليمة لا تدعه يذهب مكانًا بعيدًا، فغفلت عنه، فخرج مع أخته في الظهيرة، فخرجت حليمة تطلبه حتى تجده مع أخته، قالت: في هذا الحر، قالت: ما وجد أخي حرًا، رأيت غمامة تظل عليه إذا وقف وقفت، وإذا سار سارت، حتى انتهى إلى هذا الموضع ... الحديث، وهذا كان قبل النبوة، فهو من الكرامات.
وفي الصحيح: فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، ولذا قال ابن جماعة: من زعم أن حديث إظلال الغمامة لم يصح، فهو باطل، نعم قال السخاوي وغيره: لم يكن دائمًا لما في حديث الهجرة: أن الشمس أصابته، وظلله أبو بكر بردائه، وثبت أنه كان بالجعرانة ومعه ثوب قد أظل عليه، وإنهم كانوا إذا أتوا على شجرة ظليلة تركوها له عليه الصلاة والسلام وغير ذلك، "ومال إليه فيء" ظل "الشجرة إذ سبق إليه" إكرامًا له، "رواه البيهقي" والترمذي، وحسنه، والحاكم، وصححه، وغيرهم عن أبي موسى الأشعري، قال: خرج أبو طالب إلى الشام ومعه النبي صلى الله عليه وسلم في أشياخ من قريش الحديث، وفيه: أن بحيرا الراهب صنع لهم طعاًا، وأتاهم به، وكان صلى الله عليه وسلم في رعية الإبل، فقال بحيرا: أرسلوا إليه، فأقبل وعليه غمامة تظله، فلما دنا من القوم وجدهم قد سبقوه إلى فيء الشجرة، فلما جلس مال فيء الشجرة عليه، فقال: انظرا إلى فيء الشجرة مال عليه.
"ومنها: شق صدره الشريف" أربع مرات ولم تثبت الخامسة، "رواه مسلم وغيره" وتقدم بسطه كجميع ما ذكره المصنف من أول هذا الفصل إلى هنا في المقصد الأول إلا كتابة اسمه على العرش وغيره، ففي المقصد الثاني، "وغطه" بغين معجمة، فطاء مهملة مشددة: ضمه وعصره "جبريل عند ابتداء الوحي ثلاث غطات" ليشغله عن الالتفات لشيء آخر، ولإظهار الشدة والجد في الأمر وأن يأخذ الكتاب بقوة، وقيل غير ذلك، كما مر، "عد هذه بعضهم من خصائصه؛ كما نقله الحافظ ابن حجر، قال: ولم ينقل عن أحد من(7/191)
الأنبياء أنه جرى له عند ابتداء الوحي.
ومنها: أن الله ذكره في القرآن عضوًا عضوًا، فقلبه بقوله: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم: 11] ، وقوله: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ، عَلَى قَلْبِكَ} [الشعراء: 194] ، ولسانه بقوله: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم: 3] ، وقوله: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ} [مريم: 97] ، وبصره بقوله: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} [النجم: 17] ، ووجه بقوله: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} [البقرة: 144] . يده وعنقه بقوله: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ} [الإسراء: 29] ، وظهره وصدره بقوله: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ، وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ، الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ} [الشرح: 1-3] ، أخرجه البخاري في تاريخه الصغير من طريق علي بن زيد قال: كان أبو طالب يقول:
__________
الأنبياء؛ أنه جرى له عند ابتداء الوحي" لا مرة ولا أكثر.
"ومنها: أن الله ذكره في القرآن" أي: ذكر أعضاءه التي أريد الإخبار عنها بصفة تعلقت بها فيها، ثناء عليه، مبينة، "عضوًا عضوًا" وهو بهذا المعنى لا يستلزم ذكره الجميع، فلا يرد أن بقي من أعضائه الفخذان والرجلان وغيرهما، "فقلبه" أي: فذكر قلبه "بقوله: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} الآية، أي: ما رآه بقلبه، أي: ما أنكر قلبه ما رآه، ببصره من صورة جبريل، أو الله تعالى؛ فإن الأمور القدسية تدرك أولا بالقلب، ثم تنتقل منه إلى البصر أو ما قال فؤاده لما رآه لم أعرفك، لأنه عرفه بقلبه، كما رآه ببصره، والمعنى أنه ليس تخييلا، ويدل له أنه صلى الله عليه وسلم سئل: هل رأيت ربك؟ فقال: "رأيته بفؤادي"، رواه ابن جرير عن ابن عباس.
"وقوله: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ، عَلَى قَلْبِكَ} " وفي قراءة بتشديد نزل ونصب الروح، والفاعل الله، "وذكر لسانه بقوله: {وَمَا يَنْطِقُ} " بما يأتيكم به {عَنِ الْهَوَى} الآية، هوى نفسه، "وقوله: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاه} " سهلنا القرآن {بِلِسَانِكَ} الآية، لغتك، "وبصره بقوله: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} " الآية، أي: ما مال بصره صلى الله عليه وسلم عن مرتبة المقصود له ولا جاوزه تلك الليلة، "ووجهه بقوله: {قَدْ} للتحقيق {نَرَى تَقَلُّبَ} تصرف {وَجْهِكَ فِي} جهة {السَّمَاءِ} الآية، متطلعًا إلى الوحي، ومتشوفًا إلى الأمر باستقبال الكعبة، وكان يود ذلك، لأنها قبلة إبراهيم ولأنه أدعى لإسلام العرب، "ويده وعنقه بقوله: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ} الآية، أي: لا تمسكها عن الإنفاق كل المسك، "وظهره وصدره بقوله: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} بالنبوة وغيرها، {وَوَضَعْنَا} حططنا {عَنْكَ وِزْرَكَ، الَّذِي أَنْقَضَ} أثقل {ظَهْرَكَ} ، الآية، وهذا كقوله: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ} الآية، ويأتي(7/192)
واشتق اسمًا من اسم المحمود، ويشهد له ما أخرجه البخاري في تاريخه الصغير من طريق علي بن زيد، قال: كان أبو طالب يقول:
وشق له من اسمه ليجله ... فذو العرش محمود وهذا محمد
وهو مشهور لحسان بن ثابت.
وسمي أحمد، ولم يسم به أحد قبله. رواه مسلم. ولأحمد من حديث عليّ: "أعطيت أربعًا لم يعطهن أحد قبلي ... ". وذكر منها: "وسميت أحمد".
ومنها أنه صلى الله عليه وسلم كان يبيت جائعًا، ويصبح طاعمًا يطعمه ربه ويسقيه من الجنة، كما سيأتي البحث فيه في صيامه صلى الله عليه وسلم من مقصد عباداته.
__________
بيانه إن شاء الله تعالى.
"واشتق اسمًا من اسم المحمود" بالجر بدل والنصب، بتقدير أعني، والرفع بتقدير وهو، وقيل: من اسمه الحميد، ولكن المحمود أتم في الاشتقاق؛ لأن فيه ميمين، كمحمد بخلاف الحميد، "ويشهد له ما أخرجه البخاري في تاريخه الصغير من طريق عليّ بن زيد" بن عبد الله، بن زهير بن عبد الله، بن جدعان القرشي، التيمي، البصري، ضعيف من صغار التابعين، "قال: كان أبو طالب يقول: وشق" بالبناء للفاعل من شق الشيء، جعله قطعتين، أي: اشتق الله تعالى "له من اسمه" بقطع الهمزة للضرورة، اسمًا "ليجله" ليعظمه، "فذو العرش محمود، وهذا محمد" وقدم المصنف هذا الحديث بلفظه في أسمائه عليه السلام، "وهو مشهور لحسان بن ثابت" الأنصاري، المؤيد بروح القدس، فتوارد حسان مع أبي طالب، أو ضمنه شعره، وبه جزم بعض، "وسمي أحمد" أيس أحمد الحامدين لربه فالأنبياء حمادون وهو أحمدهم أي أكثرهن حمدًا "ولم يسم به أحد من قلبه" منذ خلقت الدنيا، حماية من الله لئلا يدخل، لبس على ضعيف القلب، أو شك في أنه المنعوت بأحمد في الكتب السابقة، هكذا قاله الأكثرون، وبه جزم عياض وغيره، وهو الصواب، والقول بأن الخضر اسمه أحمد مردود رواه، وكذا لم يتسم به أحد في حياته، وأول من سمي به بعده والد الخليل بن أحمد على المشهور؛ كما مر مفصلا.
"رواه مسلم" عن علي مرفوعًا: "أعطيت ما لم يعط أحد من الأنبياء قبلي: نصرت بالرعب، وأعطيت مفاتيح خزائن الأرض، وسميت أحمد، وجعل لي التراب طهورًا، وجعلت أمتي خير الأمم". ولأحمد من حديث علي: "أعطيت أربعًا لم يعطهن أحد قبلي" وذكر منها: "وسميت أحمد" وقدم لفظه أوائل الخصائص.
"ومنها: أنه صلى الله عليه وسلم كان يبيت جائعًا، ويصبح طاعمًا، يطعمه ربه ويسقيه من الجنة، فكان يواصل، "كما سيأتي في البحث فيه في صيامه صلى الله عليه وسلم من مقصد عبادته" التاسع، "وكان(7/193)
وكان يرى من خلفه كما يرى أمامه. رواه مسلم.
ويرى في الليل وفي الظلمة كما يرى بالنهار والضوء. رواه البيهقي.
وكان ريقه يعذب الماء الملح، رواه أبو نعيم. ويجزي الرضيع، رواه البيهقي.
ومنها: أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا مشى في الصخر غاصت قدماه فيه وأثرت فيه، كما هو مشهور قديمًا وحديثًا على الألسنة، ونطق به الشعراء في منظومهم، والبلغاء في منثورهم، مع اعتضاده بوجود أثر قدمي الخليل إبراهيم عليه أفضل الصلاة والسلام في حجر المقام المذكور في التنزيل في قوله تعالى: {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ} وهو البالغ تعيينه -وأنه أثره- مبلغ التواتر، القائل فيه أبو طالب:
وموطئ إبراهيم في الصخر رطبة ... على قدميه حافيًا غير ناعل
__________
يرى من خلفه، كما يرى من أمامه، رواه مسلم" عن أنس رفعه، وفيه: "أيها الناس إني أمامكم، لا تسبقوني بالركوع ولا بالسجود، فإني أراكم من أمامي ومن خلفي". "ويرى في الليل وفي الظلمة" بضم، فسكون وبضمتين ذهاب النور، واحترز به عما إذا كان قمر، "كما يرى بالنهار وفي الضوء، رواه البيهقي" في الدلائل عن ابن عباس به، وعنده أيضًا عن عائشة نحوه، وقدم المصنف بسط هذين في بصره من المقصد الثالث، "وكان ريقه يعذب الماء الملح، رواه أبو نعيم" وغيره، عن أنس: بزق في بئر في دار أنس، فلم يكن في المدينة بئر أعذب منها، "ويجزي" يكفي "الرضيع" عن اللبن، "رواه البيهقي" في الدلائل بلفظ: أنه كان يدعو يوم عاشوراء برضعائه ورضعاء ابنته فاطمة، فيتفل في أفواههم، ويقول للأمهات: "لا ترضعنهم إلى الليل". فكان ريقه يجزيهم، وقدم هذين في ريقه من المقصد الثالث.
ويقع في بعض النسخ هنا زيادة، وهي: "منها: أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا مشى في الصخر، غاصت قدماه فيه وأثرت فيه، كما هو مشهور قديمًا وحديثًا على الألسنة، ونطق به الشعراء في منظومهم، والبلغاء في منثورهم" وأنكره الحافظ السيوطي، وقال: لم أقف له على أصل، ولا سند، ولا رأيت من خرجه في شيء من كتب الحديث، وكذا أنكره غيره، وحاول المصنف خلافه، فقال: "مع اعتضاده" تقويته "بوجود أثر قدمي الخليل إبراهيم عليه أفضل الصلاة والسلام في حجر المقام المذكور في التنزيل في قوله تعالى: {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ} منها {مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ} ، الآية أي: الحجر الذي قام عليه عند بناء البيت، فأثر قدماه فيه، "وهو البالغ تعيينه؛ وأنه أثره" أي: إبراهيم "مبلغ التواتر القائل فيه أبو طالب" في قصيدته اللامية، "وموطئ" بالجر عطفًا على المجرور قبله من قوله: أعوذ برب الناس، أي: محل وطء "إبراهيم في الصخر" الحجر "رطبة" حتى أثر فيه "على قدميه حافيًا غير فاعل" صفة كاشفة، "وبما(7/194)
وبما في البخاري من حديث أبي هريرة مرفوعًا من معجزة تأثير ضرب موسى في الحجر ستًا أو سبعًا إذ فر بثوبه لما اغتسل. إذ ما خص نبي بشيء من المعجزات والكرامات إلا لنبينا صلى الله عليه وسلم مثله، كما نصوا عليه، مع ما يؤيد ذلك: وهو وجود أثر حافر بغلته الشريفة -على ما قيل- في مسجد بطيبة، حتى عرف المسجد بها، فيقال مسجد البغلة، وما ذاك إلا من سره الساري فيها ليكون ذلك أقوى في الآية. وأوضح في الدلالة على إيتائه عليه الصلاة والسلام هذه الآية التي أوتيها الخليل في حجر المقام على وجه أعلى منه.
بل قال الزبير بن بكار فيما نقله المجد الشيرازي في المغانم.
__________
في البخاري" ومسلم "من حديث أبي هريرة، مرفوعًا: "من معجزة تأثير ضرب موسى في الحجر" الذي كان يحمله معه في الأسفار، فيتفجر منه الماء "ستًا" من الآثار، "أو سبعًا" بالشك من الراوي، ولعله أوحي إليه أن يضربه، "إذ فر بثوبه لما اغتسل"، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كانت بنو إسرائيل يغتسلون عراة، ينظر بعضهم إلى بعض، وكان موسى يغتسل وحده، قالوا: والله ما يمنع موسى أن يغتسل، معنا إلا أنه آدر، فذهب مرة يغتسل، فوضع ثوبه على حجر، ففر الحجر بثوبه، فخرج موسى في أثره يقول: ثوبي يا حجر، ثوبي يا حجر حتى نظرت بنو إسرائيل موسى، فقالوا: والله ما بموسى من بأس، وأخذ ثوبه فطفق بالحجر ضربًا". قال أبو هريرة: والله إنه لندب بالحجر ستة أو سبعة، رواه الشيخان.
قال الحافظ: فيه معجزة ظاهرة لموسى، وأن الآدمي يغلب عليه طباع البشر؛ لأن موسى مع علمه أن الحجر ما سار بثوبه إلا بأمر الله، عامله معاملة من يعقل حتى ضربه، ويحتمل أنه أراد بيان معجزة أخرى لقومه بتأثير الضرب بالعصا في الحجر، انتهى، وذكر وجه استشهاده به بقوله: "إذ ما خص نبي بشيء من المعجزات والكرامات إلا ولنبينا صلى الله عليه وسلم مثله، كما نصوا عليه" لكن المثلية التي للمصطفى إما من جنسها، أو بغيرها أعلى أو مساوٍ؛ كما نصوا عليه، فمثل هذا لا يدفع إنكار وروده، "مع ما يؤيد ذلك، وهو وجود أثر حافر بغلته الشريفة على ما قيل في مسجد بطيبة حتى عرف المسجد بها، فيقال: مسجد البغلة" وهذا لو ثبت لا ينتج الدعوى، إذ لا يلزم من تأثير حافر بغلته، وإن كان إكرامًا له ومعجزوة، إن نفس قدميه يؤثر الذي هو المطلوب، "وما ذاك إلا من سره الساري فيها ليكون ذلك أقوى في الآية، وأوضح في الدلالة على إيتائه عليه الصلاة والسلام هذه الآية التي أوتيها الخليل في حجر المقام على وجه أعلى منه" وهذا تصريح منه، بأنه لم يؤت مثله بخصوصه، فلم يثبت المطلوب، "بل قال الزبير بن بكار فيما نقله المجد الشيرازي" صاحب القاموس "في" كتابه "المغانم(7/195)
المطابة بعد ذكره لأثر البغلة ومسجدها، وفي غربي هذا المسجد أثر كأنه أثر مرفق يذكر أن عليه الصلاة والسلام اتكأ ووضع مرفقه الشريف عليه، وعلى حجر آخر أثر الأصابع، والناس يتبركون بهما.
وقال السيد نور الدين السمهودي في كتابه "وفاء الوفا" بعد إيراد ذلك: قلت ولم أقف في ذلك على أصل إلا أن ابن النجار قال في المساجد التي أدركها خرابًا بالمدينة ما لفظه، ومسجدان قرب البقيع، أحدهما يعرف بمسجد الإجابة، والثاني يعرف بمسجد البغلة، فيه إسطوان واحد، وهو خراب، وحوله نشز من الحجارة، فيه أثر يقولون إنه أثر حافر بغلة النبي صلى الله عليه وسلم، انتهى.
وكان إبطه صلى الله عليه وسلم لا شعر عليه، قال القرطبي، وكان أبيض غير متغير اللون، كما ذكره الطبري وعده من الخصائص، وذكره بعض الشافعية، لحديث أنس -المتفق عليه- أنه صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه في الاستسقاء حتى يرى بياض إبطيه.
وقال الشيخ جمال الدين.
__________
المطابة" في فضائل طابة، "بعد ذكره لأثر حافر البغلة ومسجدها، وفي غربي هذا المسجد أثر؛ كأنه أثر مرفق".
"ويذكر أنه عليه الصلاة والسلام اتكأ عليه، ووضع مرفقه الشريف عليه، وعلى حجر آخر آثر الأصابع والناس يتبركون بهما" أي: أثر المرفق وأثر الأصابع، "وقال السيد" الشريف "نور الدين" على "السمهودي في كتابه وفاء الوفاء" تاريخ المدينة "بعد إيراد ذلك: ولم أقف في ذلك على أصل إلا أن ابن النجار" الحافظ الشهير، "قال" في تاريخ المدينة "في المساجد التي أدركها خرابًا بالمدينة ما لفظه: ومسجان قرب البقيع، أحدهما يعرف بمسجد الإجابة"؛ كأنه لإجابة الدعاء فيه، "والثاني يعرف بمسجد البغلة فيه أسطوان" عمود "واحد، وهو خراب وحوله نشز" بالزاي: مرتفع "من الحجارة فيه أثر، يقولون: إنه أثر خافر بغلة النبي صلى الله عليه وسل، انتهى" كلام السمهودي، وهذا آخر ما في بعض النسخ، وأكثرها سقوطها، ولعله أولى، "وكان إبطه عليه الصلاة والسلام لا شعر عليه، قاله القرطبي".
"وكان أبيض غير متغير اللون" قيد به دفعًا لتوهم أن خلوه من الشعر لمرض منع ظهوره، "كما ذكره الطبري" الحافظ محب الدين المكي، "وعده في الخصائص، وذكره بعض الشافعية" كالأسنوي؛ "لحديث أنس المتفق، عليه" أي: الذي رواه الشيخان؛ "أنه صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه في الاستسقاء حتى يرى بياض إبطيه" لفظ الحديث عندهما: كان لا يرفع يديه حتى يرى بياض إبطيه، فاقتصر المصنف على حاجته منه، "وقال الشيخ جمال الدين"(7/196)
الأسنوي في "المهمات" إن بياض الإبط كان من خواصه صلى الله عليه وسلم، انتهى.
قال في شرح تقريب الأسانيد: وما ادعاه من كون هذا من الخصائص فيه نظر، إذ لم يثبت ذلك بوجه من الوجوه، بل لم يرد ذلك في شيء من الكتب المعتمدة، والخصائص لا تثبت بالاحتمال، ولا يلزم من ذكر أنس وغيره، بياض إبطيه أن لا يكون له شعر، فإن الشعر إذا نتف بقي المكان أبيض، وإن بقي فيه آثار الشعر، ولذلك ورد في حديث عبد الله بن أقرم الخزاعي، أنه صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: كنت أنظر إلى عفرة إبطيه إذا سجد، خرجه الترمذي، وحسنه، والنسائي، وابن ماجه. وقد ذكر الهروي في "الغريبين"، وابن الأثير في "النهاية" أن العفرة بياض ليس بالناصع ولكن كلون عفرة الأرض، وهو وجهها، وهذا يدل على أن آثار الشعر هو الذي جعل المكان أعفر، وإلا فلو كان خاليًا من نبات الشعر جملة لم يكن أعفر.
__________
عبد الرحيم بن الحسن بن علي "الأسنوي" شيخ الشافعية وصاحب التصانيف السائرة، إمام زمانه البارع، توفي سنة سبع وسبعين وسبعمائة، وله أربع وسبعون سنة، "في" كتاب "المهمات: أن بياض الإبط كان من خواصه صلى الله عليه وسلم، انتهى".
"قال في شرح تقريب الأسانيد" الولي العراقي: "وما ادعاه من كون هذا من الخصائص فيه نظر، إذ لم يثبت ذلك بوجه من الوجوه، بل لم يرد ذلك في شيء من الكتب المعتمدة، والخصائص لا تثبت بالاحتمال" القائم من ذكر أنس وغيره بياض إبطيه، وإنما تثبت بالنص الصريح، "ولا يلزم من ذكر أنس وغيره بياض إبطيه؛ أن لا يكون له شعر" لاحتمال أنه كان يديم تعاهده، "فإن الشعر إذا نتف بقي المكان أبيض، وإن بقي فيه آثار الشعر، ولذلك ورد في حديث عبد الله بن أقرم" بفتح الهمزة والراء، بينهما قاف ساكنة، ثم ميم، ابن زيد "الخزاعي" أبي معبد المدني، صحابي، نقل له حديثان، "أنه صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: كنت أنظر إلى عفرة" بضم المهملة، وسكون الفاء "إبطيه إذا سجد، خرجه الترمذي، وحسنه النسائي، وابن ماجه، وقد ذكر الهروي" بفتح الهاء والراء أحمد بن محمد، أبو عبيد المشهور "في الغريبين" للقرآن والحديث نسبة إلى هراة مدينة بخراسان، وليس هو عليًا أبا الحسن بن إدريس، كما توهم، "وابن الأثير في النهاية، أن العفرة بياض ليس بالناصع" أي: الخالص، "ولكن" هو "كلون عفرة الأرض، وهو وجهها، وهذا يدل على أن آثار الشعر هو الذي جعل المكان أعفر، وإلا فلو كان خاليًا من نبات الشعر جملة لم يكن أعفر" وقد تمنع(7/197)