وهو سيدهم، فعرض عليهم الإسلام فأسلموا وحسن إسلامهم. وقال -عليه الصلاة والسلام: "ما ذكر لي رجل من العرب بفضل ثم جاءني إلا رأيته دون ما يقال فيه إلا زيد الخيل، فإنه لم يبلغ كل ما فيه"، ثم سمَّاه زيد الخير.
__________
إسلامه لكي يمنع هذا التاريخ السابق، "وهو سيدهم".
وقال أبو عمر: كان شجاعًا خطيبًا شاعرًا كريمًا.
قال ابن أبي حاتم: ليس يروى عنه حديث، وفي الصحيحين عن أبي سعيد، أن عليًا بعث للنبي -صلى الله عليه وسلم- بذهبية في أديم، فقسمها بين الأقرع وعيينة، وزيد الخيل، وعلقمة بن علانة، ولعل هذا شبهة من قال: إنه من المؤلفة، "فعرض عليهم الإسلام، فأسلموا، وحسن إسلامهم".
زاد في الروض: وكتب لكل واحدٍ منهم على قومه إلّا وزر بن سدوس، فقال: إني أرى رجلًا تملك رقاب العرب، والله لا يملك رقبتي عربي أبدًا، ثم لحق بالشام، وتنصَّر وحلق رأسه: "وقال -عليه الصلاة والسلام: "ما ذكر لي رجل من العرب بفضل ثم جاءني إلّا رأيته دون ما يقال فيه"،" لأن العادة جرت بالتجاوز في المدح "إلا زيد الخيل فإنه لم يبلغ" بضم أوله وفتح اللام, مبني للمجهول، ونائبه "كل ما فيه" كما في النور، أي: لم ينقل عنه جميع الفضائل التي اتصف بها، ثم يحتمل لام يبلغ التخفيف من المجرد، والتثقيل من المزيد، فإن كان رواية, وإلا فيجوز بناؤه للفاعل، أي: لم يبلغ زيد في أوصافهم كل ما فيه في نفس الأمر، بل نقصوا منها، فكل منصوب على المفعولية أو على معنى: لم يبلغنا كل ما اتصف به بل بعضه، وإيهام أن المعنى لم يصل إلى كل ما اتصف به من الكمال بعيد، بل ممنوع؛ إذ سياقه في بعضه، وإيهام أن المعنى لم يصل إلى كل ما اتصف به من الكمال بعيد، بل ممنوع؛ إذ سياقه في المدح يأبى ذلك، وقد تقدَّم قريبًا أن المصطفى شافهه بذلك، ولا مانع من التعدد، "ثم سماه زيد الخير" بالراء بدل اللام، وإنما قيل له: زيد الخيل لخمسة أفراس كانت لها أسماء أعلام يغيب عني حفظها الآن، قاله في الروض، ومعلوم أن وجه التسمية لا يطرد, وإلَّا لسمي الزبرقان بن بدر زيد الخيل، فقد روي أنه وفد على عبد الملك بن مروان، وقاد إليه خمسة وعشرين فرسًا، ونسب كل واحد منها إلى آبائها وأمهاتها، وحلف على كل فرس يمينًا غير التي حلف بها على غيرها، فقال عبد الملك، عجبي من إختلاف أيمانه، أشد من عجبي بمعرفته بأنساب الخيل.
وأخرج ابن شاهين وابن عدي، وضعَّفه من حديث سنين، مولى النبي -صلى الله عليه وسلم، قال: كنا عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فأقبل زيد الخيل راكبًا حتى أناخ راحلته، فقال: يا رسول الله, إني أتيتك من مسيرة تسع، أصهبت راحلتي، وأسهرت ليلي، وأظمأت نهاري، أسألك عن خصلتين أسهرتاني، فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم: "ما اسم"؟ قال: أنا زيد الخيل، قال: "بل أنت زيد الخير، فاسأل"، فقال: أسألك عن علامة الله تعالى فيمن يريد, وعلامته فيمن لا يريد، فقال له -صلى الله عليه وسلم: "كيف أصبحت"؟(5/158)
فخرج راجعًا إلى قومه، فقال -صلى الله عليه وسلم: "أن ينج زيد من حمى المدينة"، فلما انتهى إلى ماء من مياه نجد أصابته الحمَّى فمات.
قال ابن عبد البر: وقيل مات في آخر خلافة عمر.
وله ابنان: مكنف
__________
قال: أصبحت أحب الخير وأهله ومن يعمل به، وإن عملت به أيقنت بثوابه، وإن فاتني منه شيء حننت إليه، فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم: "هذه علامته فيمن يريد، وعلامته فيمن لا يريد ضد ذلك، ولو أرادك بالأخرى هيأك لها، ثم لم يبال من أي واد هلكت".
وفي لفظ: سلكت، وعند أهل السير: وأقطع -صلى الله عليه وسلم- زيدًا فيدًا -بفتح الفاء، وسكون التحتية، ودال مهملة- اسم مكان وأرضين معه, وكتب له بذلك.
وفي الروض: أقطعه قرى كثيرة منها فدك، كذا قال: وأظنه مصحَّفًا من قيد، "فخرج راجعًا إلى قومه" هو ومن كان معه، وقد أعطى -عليه السلام- كل واحد منهم خمس أواقٍ فضة، وأعطى زيد الخيل اثنتي عشرة أوقية ونشا، "فقال -صلى الله عليه وسلم: "إن ينج زيد من حمَّى المدينة " ببناء ينج للمفعول، وإن جازمة، أي: فإنه لا يعاب بسوء، كما قدَّره بعض أو لم يصبه ضررًا ونحو ذلك، أو نافية، أي: ما ينجو, لكن لا يساعده الرسم، "فلمَّا انتهى إلى ماء من مياه نجد" يقال له: فردة -بفتح الفاء والدال المهملة بينهما راء ساكنة ثم تاء تأنيث, "أصابته الحمَّى" فلمَّا أحسَّ بالموت قال:
أمرتحل قومي المشارق غدوة ... وأترك في بيتك بفردة منجد
ألا رب يوم لو مرضت لعادني ... عوائد من لم يبر منهن يزهد
"فمات" وذكر ابن دريد أنه أقام بمفرده ثلاثة أيام ومات، فأقام عليه قبيصة بن الأسود المناحة سنة، ثم وجه براحلته ورحله، وفيها كتاب النبي -صلى الله عليه وسلم، فلما رأت امرأته الراحلة ليس عليها زيد، ضرمتها بالنار، فاحترقت، فاحترق الكتاب.
"قال ابن عبد البر: وقيل: مات في آخر خلافة عمر" وهذا يؤيد جعل إن جازمة لا نافية، وأنشد له وثيمة في الردة قال: وبعث بهما إلى أبي بكر:
أما تخشين الله بيت أبي نصر ... فقد قام بالأمر الجلي أبو بكر
نجى رسول الله في الغار وحده ... وصاحبه الصديق في معظم الأمر
قال في الإصابة: وهذا إن ثبت يدل على تأخّر وفاته بعد النبي -صلى الله عليه وسلم، "وله ابنان مكنف" بضم الميم وإسكان الكاف وكسر النون وبالفاء.(5/159)
وحريث، أسلما وصحبَا رسول الله -صلى الله عليه وسلم, وشهدا قتال أهل الردة مع خالد.
__________
قال ابن حبان: أكبر ولد أبيه، وبه كان يكنَّى, أسلم وحسن إسلامه، وذكره الدارقطني والطبري في الصحابة، واعتمده في الإصابة، ولم يعرج على إشارة الذهبي إلى أنه تابعي.
وذكر الواقدي أنه ممن ثبت على الإسلام، وقاتل بني أسد لما ارتدوا مع طليحة، وأنشد له أبياتًا منها:
ضلوا وغرهم طليحة بالمنى ... كذبًا وداعي ربنا لا يكذب
لما رأونا بالفضاء كتائبًا ... تدعوا إلى رب الرسول ونرغب
ولو فرارًا والرماح تؤزهم ... وبكل وجه وجهوا يترقب
"وحريث" بضم الحاء وآخره مثلثة، قال ابن عبد البر: ويقال له أيضًا: الحارث, "أسلما وصحبا رسول الله -صلى الله عليه وسلم، وشهدا قتال أهل الردة مع خالد" بن الوليد في خلافة الصديق، كما قاله ابن عبد البر وابن الكلبي.
وذكر الواقدي أن حريثًا كان رسول النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى يحنة بن رذبة وأهل أيلة، وقال وهو يقاتل أهل الردة: أنشده المرزباني:
أنا حريث وابن زيد الخيل ... ولست بالنكس ولا الزميل
ويقال: إن عبيد الله الجعفي قتله مبارزة في حربٍ بينهما من جهة مصعب بن الزبير، ذكره في الإصابة.(5/160)
الوفد السابع: وفد كنده
وقدم عليه -صلى الله عليه وسلم- وفد كندة, في ثمانين أو ستين راكبًا من كندة، فدخلوا عليه مسجده،
__________
"الوفد السابع":
"وقدم عليه -صلى الله عليه وسلم- وفد كندة" بكسر الكاف وإسكان النون, قبيلة من اليمن، ينسبون إلى كندة، لقب جدهم: ثور بن عفير "في ثمانين، أو ستين راكبًا من كندة" إشارة إلى قول ابن سعد: وفد الأشعث الكندي في ستين راكبًا من كندة سنة عشر، والأوّل رواه ابن إسحاق عن الزهري، ويمكن الجمع بأن بعضهم أتباع فلم يعدّ، "فدخلوا عليه مسجده" منصوب على التوسع, نحو: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} ، أي: فيه؛ لأنَّ ظرف المكان لا يكون إلّا مبهمًا كفرسخ، ويريد وليس شيء من مسجد ودار وبيت بمبهم؛ لأنه اسم لحصة معينة من المحل بالتحديد، وإن لم يعين المسجد ونحوه؛ لأنه يكفي التحديد بقدر كل، والفرق بين إبهام فرسخ وبريد في نحو قولهم:(5/160)
قد رجلوا جممهم، ولبسوا جباب الحبرات مكففة بالحرير، فلما دخلوا, قال -صلى الله عليه وسلم: "أولم تسلموا"؟ قالوا: بلى، قال: "فما هذا الحرير في أعناقكم
__________
سرت بريدًا وفرسخًا, جاعلين ذلك ظرف مكان، وبين إبهام نحو مسجد؛ حيث جعل النصب على التوسّع، أن الفرسخ والبريد اسم آلة يكال بها، لا اسم حصة معينة بخلاف نحو: دار ومسجد، فاسم لحصة محدودة في نفس الأمر، وإن لم تكن معينة "قد رجلوا" بجيم فلام ثقيلة سرَّحوا "جممهم" بجيم مضمومة، فميمين مفتوحتين فهاء- جمع جُمَّة، وهي مجتمع شعر الناصية التي تبلغ المنكبين، زاد ابن إسحاق، وتكحَّلوا "ولبسوا جباب" جمع جبة, ثوب معروف، ويجمع أيضًا على جيب، كما في القاموس "الحبرات" -بكسر المهملة وفتح الموحدة, جمع حبرة بزنة عنبة, من البرود ما كان موشيًا مخططًا، وفي الفتح يقال: برد حبير وبرد حبرة بزنة عنبة، على الوصف والإضافة "مكففة بالحرير" أي: مجعولًا لكل منها كفة -بضم الكاف وشد الفاء وتاء تأنيث- السجاف، ويسمَّى الطرة أيضًا، وكل مستطيل كفة -بالضم، وكل مستدير كفة -بالكسر؛ ككفة الميزن، وقيل: بالوجهين فيهما.
زاد في رواية: والديباج المخوَّص بالذهب، "فلمَّا دخلوا" قالوا: أبيت اللعن وكانت تحيتهم، فقال -صلى الله عليه وسلم: "لست ملكًا، أنا محمد بن عبد الله"، قالوا: لا نسميك باسمك، قال: "أنا أبو القاسم"، فقالوا: يا أبا القاسم, إنا خبَّأنا لك خبأ، فما هو؟ وكانوا خبئوا له عين جرادة في ظرف سمن، فقال -صلى الله عليه وسلم: "سبحان الله، إنما يفعل ذلك بالكاهن، وإن الكاهن والكهانة والتكهن في النار"، فقالوا: كيف نعلم أنك رسول الله، فأخذ كفًّا من حصباء، فقال: "هذا يشهد أني رسول الله"، فسبَّح الحصا في يده، فقالوا: نشهد أنك رسول الله -صلى الله عليه وسلم، "إن الله بعثني بالحق، وأنزل عليّ كتابًا لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه"، فقالوا: أسمعنا منه, فتلا: {وَالصَّافَّاتِ صَفًّا} [الصافات: 1] ، حتى بلغ {وَرَبُّ الْمَشَارِقِ} [الصافات: 5] ، ثم سكت، وسكن -صلى الله عليه وسلم؛ بحيث لا يتحرك منه شيء، ودموعه تجري على لحيته، فقالوا: إنا نراك تبكي، أفمن مخافة من أرسلك تبكي؟ قال: "إن خشيتي أبكتني، بعثني على صراط مستقيم في مثل حدّ السيف، إن زغت عنه هلكت"، ثم تلا: {وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} [الإسراء: 86] " الآية، ثم "قال -صلى الله عليه وسلم: أتيتمونا "أولم تسلموا"،" فالمعطوف عليه مقدَّر بعد همزة الاستفهام الحقيقي؛ لأن كثيرًا وفدوا مشركين، فيعرض عليهم الإسلام، أو التقرير يرى ليرتب عليه لومهم على الحرير، "قالوا: بلى" أسلمنا، "قال: "فما" بال "هذا الحرير في أعناقكم" وهو لا يجوز لبسه للرجال، ولعله جاوز حد السجاف، فلا يرد على قول الفقهاء بجواز التسجيف بالحرير.
زاد في رواية: وكان على النبي -صلى الله عليه وسلم- حلة يمانية، يقال: إنها حلة ذي يزن, وعلى أبي بكر(5/161)
فشقوه فنزعوه وألقوه.
__________
وعمر مثلها، وكان -صلى الله عليه وسلم- إذا قدم عليه وفد لبس أحسن ثيابه، وأمر أصحابه بذلك "فشقوه" بفتح الشين ماضٍ وضمها أمر، وإن لزم عليه إتلاف مال لوجوبه تخلصًا من الحرمة، على أنه يمكن أن المراد بالشق الإزالة لا القطع، فلا إتلاف "فنزعوه وألقوه".
زاد في رواية: ثم أجاز كل أحد بعشر أواق فضة، إلّا الأشعث فأجازه باثنتي عشرة أوقية، وزاد ابن إسحاق: وقالوا يا رسول الله, نحن بنو آكل المرار، وأنت ابن آكل المرار، فتبسَّم -صلى الله عليه وسلم، وقال: $"ناسبوا بهذا النسب العباس بن عبد المطلب، وربيعة بن الحارث"، وكانا تاجرين، فإذا شاعا في العرب، فسئلا من هما قالا: نحن بنو آكل المرار, يتعززان بذلك، وذلك أن كندة كانوا ملوكًا، ثم قال -صلى الله عليه وسلم: $"لا نحن بنو النضر بن كنانة، لا نقفوا أمنا، ولا ننتفي من أبينا"، فقال الأشعث بن قيس الكندي، هل فرغتم يا معشر كندة، والله لا أسمع رجلًا يقولها إلّا ضربته ثمانين، ونقفوا -بنون مفتوحة فقاف ساكنة ففاء مضمومة، أي: لا نترك النسب إلى الآباء، وننتسب إلى الأمهات، وله -صلى الله عليه وسلم- جدة من كندة، وهي أم كلاب بن مرة، واسمها: دعد بنت سرير بن ثعلبة بن حارثة الكندي، وقيل: بل هي جدة كلاب أم أمّه هند.
قال السهيلي: ففيه أنهم أصابوا في بعض قولهم: نحن وأنت بنو آكل المرار، وهو الحارث بن عمرو الكندي، لُقِّبَ بذلك لأكله هو وأصحابه شجرًا يقال له المرار في غزوة غزاها، وقيل: لقب بذلك؛ لأن عمرو بن هند الغسَّاني أغار عليهم في غيبة الحارث فغنم وسبى، فكان في السبي امرأة الحارث، فقالت لعمرو: لكأنّي برجل أتاكم أسود، كأن مشافره مشافر بعير قد أكل المرار -تعني: زوجها، فتبعه الحارث في قومه، فقتله واستنفذ امرأته وما كان أصاب.
وروي أن المخاطب للنبي -صلى الله عليه وسلم- بهذا الأشعث بن قيس، ولا مانع أنه خاطبه، ثم خاطبوه، أو هو المخاطب، ونسب للكل في الرواية الأخرى لسكوتهم عليه؛ لأن الأشعث كان من ملوك كندة، وصاحب رباع حضرموت، وكان وجيهًا في قومه في الإسلام، وارتدَّ بعد النبي -صلى الله عليه وسلم، فأسر وأحضر إلى أبي بكر، فأسلم، فأطلقه وزوَّجه أخته أم فروة، فاخترط سيفه، ودخل إلى سوق الإبل، فجعل لا يرى جملًا، ولا ناقة إلا عرقبه، فصاح الناس: كفر الأشعث، فلمَّا فرغ طرح سيفه، وقال: والله ما كفرت، ولكن زوَّجني هذا الرجل أخته، ولو كنَّا في بلادنا كانت وليمة غير هذه، يا أهل المدينة كلوا، ويا أصحاب الإبل تعالوا خذوا أثمانها، ثم شهد اليرموك بالشام، ثم القادسية وحروب العراق مع سعد، وسكن الكوفة، وشهد صفين مع علي، ومات بعده بأربعين ليلة، وصلى عليه الحسن، وقيل: مات سنة ثنتين وأربعين.(5/162)
الوفد الثامن: وفد الأشعريين
وفد الأشعريين وأهل اليمن.
وقد عليه -زاده الله شرفًا وكرمًا لديه- الأشعريون وأهل اليمن.
قيل: هو من عطف الخاص على العام، وقال الحافظ أبو الفضل شيخ الإسلام ابن حجر: المراد بهم بعض أهل اليمن، وهم وفد حمير. قال: ووجدت في كتاب الصحابة لابن شاهين من طريق إياس بن عمرو الحميري: أنه قدم وافدًا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في نفرٍ من حمير فقالوا: أتيناك لنتفقه في الدين.. الحديث.
__________
"الوفد الثامن":
"وقدم عليه -زاده الله شرفًا وكرمًا لديه- الأشعريون" بفتح الهمزة وإسكان المعجمة فراء فتحتية فواو فنون- قبيلة كبيرة باليمن، نسبوا إلى جدهم أشعر، سمي بذلك؛ لأنه ولد والشعر على بدنه وهو نبت. بنون أوله. ابن أدد بن زيد بن يشجب بن عريب بن زيد بن كهلان بن سبا "وأهل اليمن" وهذه الترجمة وقعت في البخاري، بلفظ: باب قدوم الأشعريين وأهل اليمن، "قيل: هو من عطف الخاص على العام" ويرده أن أهل اليمن ليسوا بعضًا من الأشعريين، فالصواب العكس؛ إذ الأشعريون بعض أهل اليمن، "وقال الحافظ أبو الفضل، شيخ الإسلام ابن حجر: "كنت أظنه من عطف العام على الخاص، ثم ظهر لي أن هذا العام خصوص أيضًا، و"المراد بهم بعض أهل اليمن، وهم وفد حمير" -بكسر المهملة وسكون الميم وفتح التحتية- نسبة إلى حمير بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قطحان, من أصول القبائل باليمن، فيمنع صرفه على إرادة القبيلة، ويصرف على إرادة الحي، وعلى هذا المراد، فيكون من عطف المباين؛ لأن الأشعريين والحميريين قبيلتان مختلفتان، "قال: ووجدت في كتاب الصحابة لابن شاهين" الحافظ الإمام أبي حفص، عمر بن أحمد بن عثمان البغدادي، صاحب التصانيف، منها التفسير ألف جزء، والمسند ألف وثلثمائة جزء، والتاريخ والزهد, إلى ثلثمائة وثلاثين تصنيفًا. مات في ذي الحجة سنة خمس وثمانين وثلثمائة, "من طريق" زكريا بن يحيى الحميري، عن "إياس بن عمرو لحميري؛ أنه قدم" صوابه، كما في الإصابة من طريق إياس بن عمرو الحميري؛ أن نافع بن زيد الحميري قدم "وافدًا" أي: رسولًا من قومه "على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في نفر من حمير، فقالوا: أتيناك لنتفقه في الدين.. الحديث" بقيته: ونسأل عن أوّل هذا الأمر، قال: "كان الله ليس شيء غيره، وكان عرشه على الماء، ثم خلق القلم، فقال له: اكتب ما هو كائن، ثم خلق السموات والأرض وما فيهنّ، واستوى على عرشه".(5/163)
والحاصل: إن الترجمة مشتملة على طائفتين، وليس المراد اجتماعهما في الوفادة، فإن قدوم الأشعريين كان مع أبي موسى في سنة سبع عند فتح خيبر، وقدوم حمير كان في سنة تسع، وهي سنة الوفود، ولهذا اجتمعوا مع بني تميم.
روى يزيد بن هارون، عن حميد, عن أنس, أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "يقدم عليكم قوم هم أرقّ منكم قلوبًا". فقدم الأشعريون فجعلوا يرتجزون:
غدًا نلقى الأحبه ... محمدًا وحزبه
__________
قال في الإصابة: فيه عدة مجاهيل. انتهى، فالصحبة والقدوم إنما هو لنافع بن زيد، لا لإياس بن عمرو؛ فإنه ليس بصحابي، ولم يترجم له في الإصابة، بل هو تابعي مجهول، كما رأيت عن الإصابة، "والحاصل أن الترجمة مشتملة على طائفتين" الأشعريين والحميريين، "وليس المراد اجتماعهما في الوفادة، فإن قدوم الأشعريين كان مع أبي موسى" عبد الله بن قيس، "في سنة سبع عند فتح خيبر" وقيل: إن أبا موسى قدم قبل الهجرة، ثم كان ممن هاجر إلى الحبشة الهجرة الأولى، ثم قدم الثانية صحبة جعفر، والصحيح أنه خرج طالبًا المدينة في سفينة، فألقتهم الريح إلى الحبشة، فاجتمعوا فيها بجعفر، ثم قدموا صحبته، "وقدوم حمير كان في سنة تسع، وهي سنة الوفود، ولهذا اجتمعوا مع بني تميم", وعلى هذا: فإنما ذكر البخاري الأشعريين هنا؛ ليجمع ما وقع له من شرطه من بعوث وسرايا ووفود، وإن تباينت تواريخهم، وقد عقد ابن سعد في الطبقات للوفود بابًا، وذكر وفد حمير، ولم يقع له قصة نافع بن زيد التي ذكرتها، قاله كله الحافظ.
"وروى يزيد" بتحتية وزاي "ابن هارون" بن زاذان السلمي، مولاهم أبو خالد الواسطي، ثقة متقن، عابد، روى له الستة, ومات سنة ست ومائتين، وقد قارب التسعين, "عن حميد" الطويل البصري: اختلف في اسم أبيه على نحو عشرة أقوال، ثقة مدلس، مات سنة اثنتين، ويقال: سنة ثلاث وأربعين ومائة، وهو قائم يصلي، وله خمس وسبعون سنة، روى له الجميع، "عن أنس أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "يقدم عليكم قوم هم أرقّ منكم قلوبًا"، فقدم الأشعريون، فجعلوا يرتجزون" قائلين: "غدًا نلقى الأحبة محمدًا وحزبه،" وهذا رواه الإمام أحمد وغيره، ولا يلزم من ذلك تفضيلهم على المخاطبين؛ لأنها مزية.
عم من المشكل ما روى أحمد والبزار والطبراني، عن جبير بن مطعم مرفوعًا: "أتاكم أهل اليمن، كأنهم السحاب، وهم خيار في الأرض"، فقال رجل من الأنصار: إلّا نحن، فسكت، ثم قال: إلّا نحن، فسكت، ثم قال: إلَّا نحن يا رسول الله، قال: "إلّا أنتم كلمة ضعيفة"، قال: ولما لقوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أسلموا، وبايعوا، فقال -صلى الله عليه وسلم: "الأشعريون كصرة فيها مسك" ولا إشكال؛ لأن(5/164)
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى اله عليه وسلم- يقول: "جاء أهل اليمن، هم أرق أفئدة وأضعف قلوبًا، الإيمان يمان،
__________
المراد في أرضهم، وأما سكوته مرتين عن استثناء الأنصار مع أن فيهم من هو أفضل قطعًا؛ لأن منهم من هو أهل بدر وربيعة الرضوان، فلعله لئلّا يغتروا ويتكلموا على التفضيل، ولذا قال بعد الثالثة: "كلمة ضعيفة" , "وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "جاء أهل اليمن".
وفي رواية البخاري: "أتاكم أهل اليمن هم أرق أفئدة وأضعف" هو بمعنى رواية البخاري وألين "قلوبًا".
قال الخطابي: وصف الأفئدة بالرقة والقلوب باللين؛ لأن الفؤاد غشاء القلب، فإذا رقَّ نفذ القول وخلص إلى ما وراءه، فإذا غلظ بعد وصوله إلى داخل، فإذا صادف القلب لينًا علق به وتجمع فيه.
وقال البيضاوي: الرقة ضد الغلظ، واللين يقابل القسوة، فاستعيرت في أحوال القلب، فإذا نبا عن الحق، وأعرض عن قبوله، ولم يتأثر بالآيات والنذر، وصف بالغلظ، وكان شعاعه ضعيفًا لا ينفذ فيه الحق، وجرمه صلب لا يؤثر فيه الوعظ، وإذا كان يعكس ذلك يوصف بالرقة واللين، فكان حجابة رقيقًا، لا يأبى نفوذ الحق، وجوهره لين يؤثر فيه النصح.
وقال الطيبي: يمكن أن يراد بالفؤاد والقلب: ما عليه أهل اللغة من كونهما مترادفين، فكرَّر ليناط به معنى غير المعنى الأول، فإنَّ الرقة مقابلة للغلظ، واللين مقابل للشدة والقسوة، فوصف أولًا بالرقة ليشير إلى التخلق مع الناس، وحسن العشرة مع الأهل والإخوان.
قال تعالى: {وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159] .
وثانيًا: باللين ليأخذ بأن الآيات النازلة والدلائل المنصوبة راجعة فيها، وصاحبها يقيم على التعظيم لأمر الله تعالى. انتهى.
"الإيمان" وفي رواية: الفقه "يمان" أي: منسوب لأهل اليمن؛ لأن صفاء القلب ورقته ولين جوهره تؤدي إلى عرفان الحق والتصديق به، وهو الإيمان والانقياد.
وقال أبو عبيدة وغيره: معناه: إن مبدأ الإيمان من مكة؛ لأن مكة من تهامة، وتهامة من اليم، وقيل: المراد مكة والمدينة لصدور هذا الكلام من النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو بتبوك، فتكون المدينة حينئذ بالنسبة إلى المحل الذي هو فيه يمانية، وقيل: واختاره أبو عبيد أن المراد الأنصار؛ لأنهم يمانون في الأصل، فنسب الإيمان إليهم لكونهم أنصاره.
وقال ابن الصلاح: لو تأملوا ألفاظ الحديث، لما احتاجوا إلى هذا التأويل، لأن قوله: "أتاكم(5/165)
والحكمة يمانية, والسكينة في أهل الغنم، والفخر والخيلاء في الفدادين أهل الوبر قبل مطلع الشمس".
__________
أهل اليمن" خطاب للناس، ومنهم الأنصار، فتعيِّنَ أن الذين جاءوا غيرهم، قال: ومعنى هذا الحديث وصف الذين جاءوا بقوة الإيمان وكماله، ولا مفهوم له، ثم المراد الموجودون حينئذ منهم، لا كل أهل اليمن في زمان.
قال الحافظ: ولا مانع أن المراد ما هو أعم من قول أبي عبيد وابن الصلاح، وحاصله أنه يشمل من ينسب إلى اليمن بالسكنى وبالقبيلة، لكن كون المراد من ينسب بالسكنى أظهر، بل هو المشاهد في كل عصر من أحوال سكان اليمن وجهة الشمال، فغالب من يوجد من جهة اليمن رقاق القلوب والأبدان، وغالب من يوجد من جهة الشمال غلاظ القلوب والأبدان، "والحكمة يمانية" بخفة الياء- فقلوبهم معادن الإيمان وينابيع الحكمة، والأصل: يمني ويمنية، فحذفت الياء تخفيفًا، وعوَّض عنها بالألف، "والسكينة" بفتح السين وخفة الكاف- الطمأنينية والسكون والوقار والتواضع "في أهل الغنم" لأنهم غالبًا دون أهل الإبل في التوسّع والكثرة، وهما من سبب الفخر والخيلاء.
وعند ابن ماجه عن أم هانئ أنه -صلى الله عليه وسلم- قال لها: "اتخذي الغنم فإنها بركة"، وقيل: أراد بأهل الغنم أهل اليمن؛ لأن غالب مواشيهم الغنم, "والفخر" بفتح الفاء، وإسكان المعجمة، وبالراء- ادَّعاء العِظَمِ والكبر والشرف، ومنه الإعجاب بالنفس "والخيلاء" بضم المعجمة، وفتح التحتية والمد- الكبر واحتقار الغير "في الفدادين" بشد الدال عند الأكثر جع فدّاد، وهو من يعلو صوته في إبله وخيله وحرثه ونحو ذلك، والفديد: الصوت الشديد، وقيل: المكثرون الإبل من مائتين إلى ألف، وقيل: الجمّالون والبقارون والحمارون والرعيان، وقيل: من يسكن الفدافد جمع فدفد، وهو البراري والصحاري وهو بعيد، وحكى تخفيف الدال جمع فدان، والمراد البقر التي يحرث عليها، فهو على حذف مضاف.
قال الحافظ: ويؤيد الأول رواية في البخاري، وغلظ القلوب في الفدادين عند أصول أذناب الإبل "أهل الوبر" بفتح الواو والموحدة وبالراء. للإبل بمنزلة الشعر لغيرها, وهذا بيان للفدادين، أي: ليسوا من أهل المدن، بل من أهل البدو "قبل" بكسر القاف وفتح الموحدة- جهة "مطلع الشمس".
قال الخطابي: إنما ذمَّ هؤلاء لاشتغالهم بمعالجة ما هم فيه عن أمور دينهم، وذلك يفضي إلى قساوة القلب.
وقال البيضاوي: تخصيص الخيلاء بأصحاب الإبل، والوفاء بأهل الغنم، دليل على أن(5/166)
رواه مسلم.
وفي البخاري: إن نفرًا من بني تميم جاءوا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "أبشروا يا بني تميم"، فقالوا: بشرتنا فأعطنا، فتغيّر وجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم, وجاء نفر من أهل اليمن، فقال: "أقبلوا البشرى إذ لم يقبلها بنو تميم"، قالوا: قد قبلنا يا رسول الله, جئنا لنتفقه في الدين ونسألك عن هذا الأمر، فقال: "كان الله ولم يكن شيء غيره
__________
مخالطة الحيوان ربما تؤثر في النفس، وتعدى إليها هيئات وأخلاقًا تناسب طباعها، وتلائم أحوالها، "رواه مسلم" وكذا البخاري بنحوه.
"وفي البخاري" من حديث عمران بن حصين "أن نفرًا من بني تميم" بن مر -بضم الميم وشد الراء- ابن أد -بضم الهمزة وشد المهملة -ابن طابخة -بموحدة مكسورة ثم معجمة- ابن إلياس بن مضر بن نزار.
ذكر ابن إسحاق: إن أشرافهم قدموا على النبي -صلى الله عليه وسلم، منهم: عطارد، والأقرع، والزبرقان، وعمرو بن الأهتم، والحباب بن يزيد، ونعيم بن يزيد، وقيس بن عاصم، وعيينة بن حصن، وقد كان هو والأقرع شهدا الفتح، وحنينًا، والطائف، ثم كان مع بني تميم "جاءوا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فقال: "أبشروا" بهمزة قطع "يا بني تميم"، "بما يقتضي دخول الجنة، حيث عرفهم أصول العقائد التي هي المبدأ والمعاد وما بينهما، "فقالوا" لكون جل شأنهم الدنيا والاستعطاء "بشرتنا فأعطنا" من المال، وقائل ذلك منهم الأقرع بن حابس، ذكره ابن الجوزي, وكان فيه بعض أخلاق البادية -رضي الله عنه، "فتغيّر وجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم" أسفًا عليهم, كيف آثروا الدنيا، أو لكونه لم يحضره ما يعطيهم فيتألفهم به، أو لكلٍّ منهما، "وجاء نفر من أهل اليمن، فقال: "اقبلوا البشرى" بضم الموحدة وسكون المعجمة والقصر، أي: اقبلوا ما يقتضي أن تبشروا إذا أخذتم به بالجنة، كالتفقه في الدين والعمل به، ورواه الأصيلي اليسرى -بتحتية مهملة ومهملة.
قال عياض: والصواب الأول, "إذ لم يقبلها بنو تميم" وفي رواية: أن بدل إذ وهو -بفتح الهمزة، أي: من أجل تركهم لها، ويروى بكسرها، "قالوا: قد قبلنا" البشرى "يا رسول الله" واستشكل بأن قدوم تميم في التاسعة، والأشعريين قبلهم في السابعة، وأجيب باحتمال أن طائفة من الأشعريين قدموا بعد ذلك "جئنا لنتفقه في الدين، ونسالك عن هذا الأمر" أي: الحاضر الموجود، وكأنهم سألوه عن أحوال هذا العالم، وهو الظاهر، ويحتمل أنهم سألوا عن أول جنس المخلوقات.
وفي قصة نافع بن زيد: ونسألك عن أول هذا الأمر، "فقال: "كان الله" في الأزل منفردًا متوحدًا، "ولم يكن شيء غيره" وللبخاري في التوحيد، "ولم يكن شيء قبله ولغيره بعده"، والقصة(5/167)
وكان عرشه على الماء, وكتب في الذكر كل شيء".
وقوله: وجاء نفر من أهل اليمن، هم الأشعريون قوم أبي موسى.
__________
متحدة، فاقتضى ذلك أن الرواية وقعت بالمعنى، لكن الأوّل أصرح في القِدَم، وفيه أنه لم يكن ماء، ولا عرش، ولا غيرهما؛ لأن كل ذلك غير الله، ويكون معنى قوله: "وكان عرشه على الماء" أنه خلق الماء، ثم العرش.
قال الطيبي: هو فصل مستقل؛ لأن القديم من لم يسبقه شيء، ولم يعارضه في الأزلية، فهو إشارة إلى أن الماء والعرش كانا مبدأ هذا العالم، لخلقهما قبل السموات والأرض، فلم يكن تحت العرش إذ ذاك إلا الماء، ويحتمل أنه مطلق، وكان عرشه على الماء، مقيد بقوله: "ولم يكن شيء غيره"، والمراد بكان في الأول الأزلية، وفي الثاني الحدوث بعد العدم.
وقد روى أحمد، والترمذي وصحَّحه مرفوعًا؛ أنَّ الماء خلق قبل العرش، ووقع في بعض الكتب: كان الله ولا شيء معه، وهو الآن على ما عليه كان، وهي زيادة ليست في شيء من كتب الحديث، نبه على ذلك العلامة تقي الدين بن تيمية، وهو مسلم في قوله: "وهو الآن".. إلخ، وأما لفظ: ولا شيء معه، فرواية الباب بلفظ: "ولا شيء غيره" بمعناها.
وفي حديث نافع الحميري: "كان الله لا شيء غيره" بغير واو، "وكتب" قدر "في الذكر،" أي: محله، وهو اللوح المحفوظ "كل شيء" من الكائنات، وبقية الحديث: وخلق السموات والأرض، بالواو في بدء الخلق، وبثمّ في التوحيد، وفي الحديث جواز السؤال عن مبدأ الأشياء، والبحث عن ذلك، وجواب العالم بما يستحضره، والكفّ إن خشي على السائل مفسدة، وفيه: أن جنس الزمان ونوعه حادث، وأن الله تعالى أوجد هذه المخلوقات بعد أن لم تكن، لا عن عجز عن ذلك، بل مع القدرة، واستنبط بعضهم من سؤال الأشعريين عن هذه القصة أن الكلام في أصول الدين، وحدوث العالم مستمر لذريتهم، حتى ظهر ذلك في أبي الحسن الأشعري منهم, أشار إليه ابن عساكر, "وقوله: وجاء نفر من أهل اليمن، هم الأشعريون قوم أبي موسى" ولذلك لم يظهر لي أن المراد بأهل اليمن أهل حمير، لكنَّ لما كان زمان قدوم الطائفتين مختلفًا، ولكل منهما قصة غير قصة الأخرى، وقع العطف, انتهى كله ملخصًا من فتح الباري.
قال: وقد روى البزار عن ابن عباس: بينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالمدينة؛ إذ قال: "الله أكر إذا جاء نصر الله والفتح، وجاء أهل اليمن نقية قلوبهم، حسنة طاعتهم، الإيمان يمان، والفقه يمان, والحكمة يمانية".
وروى الطبراني: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لعيينة بن حصن: "أي الرجال خير"؟ قال: "أهل نجدة"،
قال: "كذبت، بل هم أهل اليمن الإيمان يمان ... الحديث"، انتهى، وقد أطلت، وما تركته أطول، وإن كان من النفائس خشية الملل.(5/168)
الوفد التاسع: قدوم صرد بن عبد الله الأزدي
وقدم عليه -صلوات الله وسلامه عليه- صرد بن عبد الله الأزدي، فأسلم وحسن إسلامه، في وفد من الأزد، فأمَّره -عليه السلام- على مَنْ أسلم من قومه، وأمره أن يجاهد بمن أسلم أهل الشرك.
فخرج صرد يسير بأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى نزل بجرش، وبها قبائل من قبائل العرب،
__________
"الوفد التاسع":
"وقدم عليه -صلوات الله وسلامه عليه- صرد بن عبد الله الأزدي" -بضم الصاد، وفتح الراء ثم دال مهملات, مصروف، فلا يقدر أنه معدول عن صادر؛ لأن العَلَمَ الذي بزنة فَعَلَ إن سُمِعَ مصروفًا، كأدد وصرد لا يقدَّر له العدل ليمنع، وإن سمع منعه، كعمر قدر ليكون فيه علتان، "فأسلم وحسن إسلامه في وفد من الأزد" بفتح الهمزة وبالزاي الساكنة- أي: أزد شنوأة -بفتح المعجمة، وضم النون، فواو، فهمزة بعدها، وقد تشدَّد الواو، سُمِّيَت بذلك لشنآن كان بينهم، ويقال أيضًا: بالسين بدل الزاي، وكانوا خمسة عشر، ولم يقل من قومه لئلَّا يوهم أن المراد من له اختصاص بهم، كإخوته وأقاربه، ولم يقل: قدم وفد الأزد وفيهم صرد، لجواز أنه الذي قصد الوفادة ابتداءً وتبعوه, أو لأنه أفضلهم، "فأمَّره". بشد الميم -أي: جعله "عليه السلام" أميرًا "على مَنْ أسلم من قومه" الذين أتوا معه، وغيرهم ليكن لم يفصح، كغيره بأن جميع القادمين أسلموا مع صرد، أو بعضهم أم لا، "وأمَرَه أن يجاهد بمن أسلم أهل الشرك" أي: من يليه منهم، كما هو لفظ الرواية عند ابن إسحاق وأتباعه، ويحتمل أن المصنّف حذفه؛ لأنه ليس قيدًا، بل هو الغالب، "فخرج صُرْد يسير بأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى نزل بجرش" بضم الجيم، وفتح الراء، وشين معجمة, مخلاف من مخاليف اليمن -بكسر الميم، أي: كورة، أي: ناحية, ممنوع الصرف، كما يقتضيه قول القاموس، كزفر مخلاف باليمن؛ لأن غالب الأعلام التي على وزن فعل المنع ما لم يسمع مصروفًا.
وقال في الرواية: وهي يومئذ مدينة مغلقة، "وبها قبائل من قبائل العرب" تعبيره به دون اليمن يشعر بأن فيهم غيرهم، ويصرّح به قول الرواية، وقد ضوت عليهم خثعم حين سمعوا بمسير المسلمين إليهم، وخثعم كجعفر, بن أنمار أبو قبيلة من معد، كما في القاموس، فظاهره أنها(5/169)
فحاصروهم فيها قريبًا من شهر، وامتنعوا فيها، فرجع عنهم قافلًا، حتى إذا كان في جبل لهم, وظنّوا أنه إنما ولَّى عنهم منهزمًا, خرجوا في طلبه، حتى أدركوه, عطف عليهم فقتلهم قتلًا شديدًا.
وكان أهل جرش بعثوا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رجلين منهم، فبينما هما عنده -عليه الصلاة والسلام- عشية, فقال لهما -عليه الصلاة والسلام: "إن بدن الله لتنحر عند شكر"، أي: المكان الذي وقع به قتل قومهم"، قال:
__________
ليست من اليمن، لكن الرواية: وبها قبائل من قبائل اليمن، وقد ضوت، أي: أوت إليهم خثعم، فأفاد أن القبائل التي بجرش إنما هي من اليمن، والزائد عليهم قبيلة واحدة من غيرهم هي خثعم، "فحاصروهم فيها قريبًا من شهر، وامتنعوا فيها" لكونها مدينة، "فرجع عنهم" أي: انصرف عن حصارهم "قافلًا" راجعًا إلى أرضه، فأتى به مع أن القفول الرجوع, دفعًا لإيهام أنه انصرف لقتال غيرهم, أو مكان آخر يقيم به مدة "حتى إذا كان في جبل لهم" وهو شكر، كما يأتي، "وظنّوا أنه إنما ولَّى عنهم منهزمًا، خرجوا في طلبه حتى أدركوه، عطف" رجع "عليهم، فقتلهم قتلًا شديدًا" باعتبار صفته التي وقع عليها، أو كثرته فيهم بقتل غالبهم، فلا يرد أن القتل إزهاق الروح، فلا تفاوت فيه، فهو نحو قولهم: الموت الأحمر إذا كان على حالة رديئة، "وكان أهل جرش بعثوا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رجلين منهم" يرتادان، أي: يطلبان الأخبار وينظران، "فبينما هما عنده -عليه الصلاة والسلام- عشية" بعد العصر، إذ قال -صلى الله عليه وسلم: "بأي بلاد الله شكر"، فقام الجرشيان، فقالا: يا رسول الله ببلادنا جبل، يقال له كشر، وكذلك تسميه أهل جرش، "فقال لهما -عليه الصلاة والسلام: "إنه ليس بكشر، ولكنه شكر"، قالا: فما شأنه يا رسول الله؟ قال: "إن بدن الله" بضمتين وتسكين الدال للتخفيف، كما في المصباح "لتنحر عند شكر" بفتح الشين المعجمة، وإسكان الكاف وبالراء، جبل من جبال جرش، كما اعتمده البرهان، وهو مقتضى القاموس؛ لأنه قال: الشكر الحر، أي: الفرج ولحمها، ويكسر فيهما, وجبل باليمن، وقاعدته إذا أطلق فتح الأول، يكون الثاني ساكنًا، فإن كان مفتوحًا قيده بقوله محرك، وهو صريح المصباح، ففيه شكر كفلس الحر، وضبط في العيون بالقلم -بفتح الكاف، ووهَّنَه النور، "أي: المكان الذي وقع به قتل قومهم" فإطلاق البدن عليهم استعارة، أو تشبيه بليغ، وأصله: إن قومكم الذين هم كالبدن في عدم الإدراك؛ حيث لم يؤمنوا، وحاربوا المسلمين، وإضافتهم إلى الله إشارة إلى تحقيق الاستعارة؛ حيث جعلوا كالبدن التي تنحر تقربًا, أو إشارة إلى أنهم مخلوقون لله، مغمورون بأنعامه، فأضافهم إليه توبيخًا لهم على عدم الإيمان، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] الآية، فمحاربتهم كأنها إنكار، وجحد للنعمة، "قال:(5/170)
فجلس الرجلان إلى أبي بكر وعثمان, فقالا لهما: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لينعي لكما قومكما. فخرجا إلى قومهما فوجداهم قد أصيبوا في اليوم الذي قال فيه -صلى الله عليه وسلم- ما قال، وفي الساعة التي ذكر فيها ما ذكر.
فخرج وفد جرش حتى قدموا عليه -صلوات الله وسلامه عليه, فأسلموا, وحمى لهم حمى حول قريتهم.
__________
فجلس الرجلان إلى أبي بكر وعثمان، فقالا لهما" ويحكما "إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لينعي لكما قومكما" أي: يخبركما بموتهم.
زاد في الرواية: فقوما إليه، فاسألاه أن يدعو الله يرفع عن قومكما، فسألاه ذلك، فقال: "اللهم ارفع عنهم" , "فخرجا إلى قومهما، فوجداهم، قد أصيبوا في اليوم الذي قال فيه -صلى الله عليه وسلم- ما قال، وفي الساعة التي ذكر فيها ما ذكر"؛ لأنه إما عن مشاهدة، أو وحي، ولا ينافي ذلك قوله: "اللهم ارفع عنهم"، لأنها أجيبت في الذين في القرية دون من في الجبل، لوقوعها بعد قتلهم، "فخرج وفد جرش حتى قدموا عليه -صلوات الله وسلامه عليه، فأسلموا, وحمى لهم حمًى" بكسر ففتح, مقصور منوّن "حول قريتهم" على أعلام معلومة للفرس والراحلة ولبقرة الحارث، فمن رعاها من الناس فماله سحت، فقال رجل من الأزد في تلك الغزوة، وكانت خثعم تصيب من الأزد في الجاهلية، وكانوا يعدون في الشهر الحرام:
يا غزوة ما غزونا غير خائبة ... فيها البغال وفيها الخيل والحمر
حتى أتينا جريشًا في مصانعها ... وجمع خثعم قد شاعت لها النذر
إذا وضعت خليلًا كنت أحمله ... فما أبالي جاءوا بعد أم كفروا(5/171)
الوفد العاشر: بني الحارث بن كعب
قال ابن إسحاق: بعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خالد بن الوليد في شهر ربيع الآخر، أو جمادى الأولى سنة عشر إلى بني الحارث بن كعب بنجران، وأمره أن يدعوهم إلى.
__________
"الوفد العاشر":
وقد بنى الحارث بن كعب، "قال ابن إسحاق: بعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خالد بن الوليد،" سيف الله المخزومي "في شهر ربيع الآخر، أو جمادى الأولى،" يحتمل أنه شك، أو إشارة إلى قولين، فقد حكاهما الحاكم في الإكليل قولين، مصدِّرًا بالأول "سنة عشر, إلى بني الحارث بن كعب، بنجران" ناحية بين اليمن وهجر, سُمِّيَ بنجران بن زيد بن سبأ، "وأمره أن يدعوهم إلى(5/171)
الإسلام قبل أن يقاتلهم ثلاثًا، فإن استجابوا فاقبل منهم، وإن لم يفعلوا فقاتلهم.
فخرج خالد حتى قدم عليهم، فبعث الركبان يضربون في كل وجه، ويدعون إلى الإسلام، ويقولون: أيها الناس أسلموا تسلموا، فأسلم الناس ودخلوا فيما دعوا إليه.
فأقام خالد فيهم، يعلمهم الإسلام, وكتب إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بذلك, ثم أقبل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومعه وفدهم، منهم: قيس بن الحصين، ويزيد بن المحجل، وشداد بن عبد الله.
__________
الإسلام قبل أن يقاتلهم ثلاثًا" من الأيام، متعلق بيدعوهم، "فإن استجابوا" بسين التأكيد، أي: أجابوا إليه، "فاقبل منهم، وإن لم يفعلوا، فقاتلهم، فخرج خالد حتى قدم عليهم، فبعث الركبان يضربون" يسيرون "في كل وجه، ويدعون إلى الإسلام، ويقولون: أيها الناس أسلموا تسلموا" في الدارين، "فأسلم الناس، ودخلوا فيما دعوا إليه، فأقام خالد فيهم يعلمهم الإسلام" وكتاب الله وسنة نبيه، وبذلك كان أمره -صلى الله عليه وسلم: إن هم أسلموا ولم يقاتلوا، كما عند ابن إسحاق، "وكتب إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بذلك" فكتب إليه يأمره بالقدوم، ومعه وفدهم، وقد ذكر ابن إسحاق لفظ الكتابين، "ثم أقبل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومعه وفدهم" كما أمره "منهم قيس بن الحصين" بن يزيد بن شداد الحارثي الكعبي الصحابي.
قال ابن الكلبي: رأس الحسين، والد قيس مائة سنة، وكان له أربعة أولاد، يقال لهم: فوارس الأرباع، كانوا إذا حضرت الحرب ولَّى كل واحد منهم ربغها، ويقال للحصين: ذو الغصة لغصة كانت في حلقه، لا يكاد يبين معها الكلام، وذكره عمر بن الخطاب يومًا، فقال: لا تزاد امرأة في صداقها على كذا، ولو كانت بنت ذي الغصة، كما في الروض، وربما وصف بها ابنه قيس.
قال البرهان: ويحتمل أن يقال له: ذو الغصة، وابن ذي الغصة؛ لأنه وأباه كان بهما الغصة، وفيه بعد، "ويزيد بن المحجل" بميم، فحاء، فجيم، فلام، كما هو رسمه في ابن إسحاق وأتباعه، كالإصابة، فنسخة المحمل تحريف، "وشداد بن عبد الله" الغساني، ويقال: القناني -بفتح القاف، وتخفيف النون، وهو الصواب، قاله في الإصابة.
زاد ابن إسحاق: ويزيد بن عبد المدان، وعبد الله بن قراد الزيادي، وعمرو بن عبد الله الضبابي، كذا رأيته في ابن إسحاق.
وفي نقل الإصابة، عن عبد الله بن قريظ، وعمرو بن عمرو، وقال عقبة: وزاد الواقدي عبد الله بن عبد المدان، وقال في عبد الله بن قريظ: عبد الله بن قراد، وفي عمرو بن عمرو وعمرو بن عبد الله، والباقي سواء. انتهى، فلعلَّ هذا رواية غير ابن هشام، عن البكائي، عن(5/172)
وقال لهم -عليه الصلاة والسلام: "بم كنتم تغلبون من قاتلكم"؟ , قال: كنا نجتمع ولا نتفرق، ولا نبدأ أحدًا بظلم، قال: "صدقتم".
وأمَّرَ عليهم قيس بن الحصين، فرجعوا إلى قومهم في بقية من شوال أو من ذي القعدة، فلم يمكثوا إلا أربعة أشهر حتى توفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم.
__________
ابن إسحاق؛ إذ روايته موافقة لما عند الواقدي، كما رأيت.
قال ابن إسحاق: فلمَّا رآهم النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من هؤلاء القوم الذين كأنهم رجال الهند"؟ قيل: هؤلاء بنو الحارث بن كعب، فسلَّموا عليه وقالوا: نشهد أنك لرسول الله, وأنه لا إله إلا هو، فقال: "وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله"، ثم قال: "أنتم الذين إذا زجروا استقدموا"، فسكتوا، فأعادها ثلاث مرات، فقال يزيد بن عبد المدان بعد الرابعة: نعم يا رسول الله, نحن الذين إذا زجروا استقدموا، قالها أربع مرات، فقال -صلى الله عليه وسلم: "لو أنَّ خالدًا لم يكتب إليّ أنكم أسلمتم، ولم تقاتلوا؛ لألقيت رءوسكم تحت أقدامكم"، فقال يزيد بن عبد المدان: أما والله ما حمدناك وما حمدنا خالدًا، قال: "فمن حمدتم"؟ قال: حمدنا الله الذي هدانا بك يا رسول الله، قال: "صدقتم".
"وقال لهم -عليه الصلاة والسلام: "بم كنتم تغلبون من قاتلكم" في الجاهلية؟ قال: لم نكن نغلب أحدًا، قال: "بلى قد كنتم تغلبون من قاتلكم"، "قال -أي: يزيد بن عبد المدان: كما رأيت، فتصرف المصنّف في الرواية، فلم يعلم منه فاعل، قال: وفي نسخة قالوا: وهي أظهر؛ لأنه حكاه بالمعنى، فنسبه إليهم، وأنَّ المتكلم يزيد لكونهم عليه "كنا نجتمع ولا نتفرق ولا نبدأ أحدًا بظلم، قال: "صدقتم".
وروى ابن شاهين في الصحابة أنه -صلى الله عليه وسلم- قال لهم: "ما الذي تغلبون به الناس وتقهرونهم"؟ قالوا: لم نقل فندل، ولم نكثر فنتحاسد ونتجادل، ونجتمع ولا نتفرق، ولا نبدأ أحدًا بظلم، ونصبر عند البأس، فقال: "صدقت"، "وأمَّر" بشد الميم "عليهم قيس بن الحصين، فرجعوا إلى قومهم في بقية من شوَّال، أو من ذي القعدة".
لفظ ابن إسحاق: أو في صدر ذي القعدة، "فلم يمكثوا إلّا أربة أشهر حتى توفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم".
زاد ابن إسحاق: وكان -صلى الله عليه وسلم- بعث إليهم بعد أن ولّى وفدهم عمرو بن خرم ليفقههم في الدين، ويعلمهم السنة ومعالم الإسلام، ويأخذ منهم صدقاتهم، وكتب إليه كتابًا عهد إليه فيه عنده، وأمَّره فيه أمره، وذكر لفظ الكتاب مطولًا، والله أعلم.(5/173)
الوفد الحادي عشر: وفد همدان
وقدم عليه -صلى الله عليه وسلم- وفد همدان، فيهم: مالك بن النمط، وضمام بن مالك، وعمرو بن مالك،
__________
"الوفد الحادي عشر":
"وقدم عليه -صلى الله عليه وسلم- وفد همدان" بفتح الهاء، وإسكان الميم، وبالدال المهملة- شعب عظيم من قحطان، وأمَّا بفتح الميم والذال المعجمة فمدينة بالجبال، لكن ليس منها أحد من الصحابة ولا التابعين، ولا تابعيهم, إنما هم من الأولى التي هي القبيلة، "فيهم مالك بن النمط" بن قيس بن مالك بن سعد بن مالك الهمداني، ثم الأرحبي -بفتح الهمزة، وإسكان الراء، وحاء مهملة مفتوحة وموحدة- نسبة إلى أرحب, بطن من همدان.
قال أبو عمر: يقال فيه اليامي -بالتحتية، فألف، فميم- نسبة إلى يام من همدان، قال: ويقال: الخارفي، أي: بخاء معجمة، وراء مكسورة، ثم فاء، يعني: أن منهم من ينسبه إلى جده الأعلى همدان، ومنهم من ينسبه إلى أحد آبائه يام، أو خارف، أو أرحب، وهو واحد يكنَّى أبا نور، ولقبه ذو المشغار -بميم مكسورة فشين فغين معجمتين أو مهملتين، ثم راء, كان شاعرًا محسنًا, له في النبي -صلى الله عليه وسلم- أبيات حسان هي:
ذكرت رسول الله في فحمة الدجى ... ونحن بأعلى رحرحان وصلدد
وهن بنا خوض طلائع تعتلى ... بركبانها في لاحب متمدد
على كل فتلاء الذراعين جسرة ... تمر بنا مر الهجف الحفيدد
حلفت برب الراقصات إلى منى ... صوادر بالركبان من هضب قردد
بأن رسول الله فينا مصدق ... رسول أتى من عند ذي العرش مهتد
فما حملت من ناقة فوق رحلها ... أشد على أعدائه من محمد
وأعطى إذا ما طالب العرف جاءه ... وأمضى بحد المشرفي المهند
ونمط -بنون، فميم مفتوحتين، فطاء مهملة, نوع من البُسُط، فهو علم منقول على الظاهر، أو لقب لأمر اقتضاه، "وضمام بن مالك" بكسر الضاد المعجمة، وخفة الميم الأولى- السلماني، نسبة إلى جد له اسمه سلمان، ترجم له في الإصابة وقال: قدم على النبي -صلى الله عليه وسلم- مرجعه من تبوك، ذكره أبو عمر, في ترجمة مالك بن نمط، وزعم الرشاطي أنه الذي قبله، يعني: ضمام بن زيد بن ثوابة بن الحكم بن سلمان بن عبد عمرو بن الخارف بن مالك بن عبد الله بن كبير بن مالك بن جشم بن حامد بن جشم بن خيران بن نوف الهمداني، ثم الخارفي.
قال ابن الكلبي، والطبري والهمداني: وفد على النبي -صلى الله عليه وسلم- وأسلم، "وعمرو" كذا في النسخ، والذي في ابن هشام عميرة "بن مالك" الخارفي، وهو الصواب، ففي الإصابة: عميرة -بالتصغير- ابن مالك الخارفي، ذكره أبو عمر في ترجمة مالك ابن نمط، ولم يذكره هنا، فاستدركه(5/174)
فلقوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مرجعه من تبوك، وعليهم مقطعات الحبرات والعمائم العدنية، على الرواحل المهرية والأرحبية، ومالك بن النمط يترجز بين يديه -صلى الله عليه وسلم-
__________
ابن الأثير، وأغفله ابن فتحون وهو على شرطه، انتهى. فضبط النور لعمير مكبرًا فيه نظر، وكأنه انتقال نظر، فإن عميرة المكبَّر ابن فروة الكندي, صحابي ذكره في الإصابة قبل هذا، وضبطه بزنة عظيمة، ولا يصح أن يريد المصنف عمرو بن مالك بن لاي الأرحبي؛ لأنه ليس مما جاء مع الوفد، وإنما أتى في حجة الوداع.
ففي الإصابة: عمرو بن مالك بن لاي الأرحبي، يكنَّى أبا زيد، ذكر الرشاطي أن قيس بن نمط لما وفد على النبي -صلى الله عليه وسلم, وصفه بأنه فارس مطاع، فكتب إليه النبي، ثم دخل مكة بعد الهجرة، فصادف النبي -صلى الله عليه وسلم- قد هاجر إلى المدينة، ثم وفد في حجة الوداع إلى النبي -صلى الله عليه وسلم، ذكره الهمداني في الإكليل، ولما حكى في الإصابة عن أبي عمران الوافد مالك بن نمط، قال: وسيأتي في ترجمة نمط بن قيس بن مالك أنه الوافد، وقيل: أبوه قيس، والذي يجمع الأقوال أنهم وفدوا جميعًا، فقد ذكر الحسن بن يعقوب الهمداني أنهم كانوا مائة وعشرين نفسًا، ذكره عنه الرشاطي. انتهى، وزاد ابن هشام في روايته: مالك بن أيفع, "فلقوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مرجعه" اسم لزمان الرجوع، أي: لقوه في زمن رجوعه "من تبوك", وكان في رمضان سنة تسع عند ابن إسحاق وابن سعد، وقيل: في شعبان, "وعليهم مقطعات الحبرات" بكسر المهملة، كما في النور، والقاموس وغيرهما, جمع حبرة, بزنة عنبة وعنبات، ففتحها سبق قلم -وفتح الموحدة فألف فراء- برود تصنع باليمن، والمقطعات: الثياب القصار، قاله أبو عبيد محتجًّا بحديث ابن عباس في صلاة الضحى: إذا انقطعت الظلال، أي: قصرت، وبقولهم في الأراجيز: مقطعات، وخطاه ابن قتيبة وقال: إنما هي الثياب المخيطة، كالقميص ونحوه، سُمِّيَت بذلك؛ لأنها تقطع وتفصّل ثم تخاط، والظاهر ما قاله ابن قتيبة، فلا معنى لوصفها بالقصر في هذا الموطن، قاله السهيلي، وحكى ابن الأثير القولين، فقال: المقطعات ثياب قصار؛ لأنها قطعت عن تلوث القمام. وقيل: كل ما يفصّل ويخاط من قيمص وغيره، بخلاف ما لا يقطع منها كالأزر والأردية. انتهى. "والعمائم العدنية" بعين فدال مهملتين مفتوحتين- نسبة إلى عدن, مدينة باليمن, "على الرواحل المهرية" بفتح الميم وإسكان الهاء وكسر الراء- نسبة إلى مهرة قبيلة من قضاعة "والأرحبية" بفتح الهمزة والحاء بينهما راء ساكنة ثم موحدة- نسبة إلى أرحب, بطن من همدان, كما سبق، والمعنى: إنهم قدموا متجمِّلين بالثياب والعمائم والرواحل المنسوبة لما ذكر، ولها شأن عندهم، وهذا مما يقوي تفسير ابن قتيبة للمقطعات؛ إذ القصار لا تجمل فيها غالبًا، ولذا استظهره السهيلي, "ومالك بن النمط يرتجز بين يديه -صلى الله عليه وسلم" ويقول:(5/175)
وذكروا له كلامًا كثيرًا حسنًا فصيحًا.
فكتب لهم -عليه الصلاة والسلام- كتابًا أقطعهم فيه ما سألوه، وأمَّرَ عليهم مالك بن النمط، واستعمله على من أسلم من قومه، وأمره بقتال ثقيف. وكان لا يخرج لهم سرح إلّا أغار عليه.
وروى البيهقي بإسناد صحيح عن البراء بن عازب أن النبي -صلى الله عليه وسلم- بعث خالد بن الوليد إلى أهل اليمن يدعوهم إلى الإسلام. قال البراء: فكنت فيمن خرج مع خالد بن الوليد، فأقمنا ستة أشهر ندعوهم إلى الإسلام فلم يجيبوا، ثم إن النبي -صلى الله عليه وسلم- بعث علي بن أبي طالب فأمره أن يقفل خالدًا إلا رجلًا ممن كان مع
__________
إليك جاوزن سواد الريف ... في هبوات الصيف والخريف
محظمات بحبال الليف
"وذكروا له كلامًا كثيرًا حسنًا فصيحًا، فكتب لهم -عليه الصلاة والسلام- كتابًا" من جنس كلامهم، "أقطعهم فيه ما سألوه" وذكر المصنف ذلك بتمامه في المقصد الثالث, "وأمَّرَ عليهم مالك بن النمط، واستعمله" جعله عاملًا، أي: أميرًا "على من أسلم من قومه" ولا ينافي ذلك ما رواه ابن شاهين وغيره: أن قيس بن مالك وفد على النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو بمكة فأسلم، ورجع إلى قومه، ثم رجع إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- بأنَّ قومه أسلموا، فقال -صلى الله عليه وسلم: "نعم وافد القوم قيس" وأشار بإصبعه إليه، وكتب عهده على قومه همدان: عربها ومواليها وخلائطها، أن يسمعوا له ويطيعوا، ولهم ذمة الله ما أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة، انتهى لاحتمال أنَّه شرك مع قيس بعد ذلك مالك بن نمط، أو غير ذلك، "وأمره بقتال ثقيف، وكان" في العيون، فكان بالفاء، وهي أحسن، كما لا يخفى "لا يخرج لهم سرح" بفتح السين وإسكان الراء وحاء مهملات: مال سائم، أي: راع "إلا غار عليه" أخذه، وهذا الذي ساقه المصنف وقع في سيرة ابن هشام من زيادته بإسناد ضعيف مرسل، "و" جاء ما يخالفه، فقد "روى البيهقي بإسناد صحيح، عن البراء بن عازب" الصحابي ابن الصحابي, "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- بعث خالد بن الوليد إلى" بعض "أهل اليمن" وهم همدان، كما يدل عليه بقية الحديث، "يدعوهم إلى الإسلام".
"قال البراء: فكنت فيمن خرج مع خالد بن الوليد، فأقمنا ستة أشهر ندعوهم إلى الإسلام، فلم يجيبوا، ثم إن النبي -صلى الله عليه وسلم- بعث علي بن أبي طالب، فأمره أن يقفل" بضم الياء وسكون القاف وكسر الفاء، أي: يرجع "خالدًا إلّا رجلًا،" أي: جنسه، يعني، أي: رجل "ممن كان مع خالد أن" سقط من لفظ البيهي، أراد أن "يعقب" بضم الياء، وفتح العين، وشد القاف(5/176)
خالد أن يعقب مع علي.
فلمَّا دنونا من القوم خرجوا إلينا، فصلى بنا علي، ثم صفَّنا صفًّا واحدًا، ثم تقدَّم بين أيدينا، فقرأ عليهم كتاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فأسلمت همدان جميعًا، فكتب علي إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بإسلامهم, فلما قرأ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الكتاب خَرَّ ساجدًا, ثم رفع رأسه فقال: "السلام على همدان، السلام على همدان" مرتين، وأصل الحديث في صحيح البخاري.
وهذا أصحّ مما تقدم،
__________
المكسورة، أي: يرجع "مع علي" إلى اليمن، بعد أن رجع منه، ولفظ رواية البخاري: "مر أصحاب خالد من شاء منهم أن يعقب معك فليعقب، ومن شاء فليقبل".
قال البراء: فكنت فيمن عقب معه، "فلما دنونا من القوم خرجوا إلينا" مقاتلين، فدعاهم علي إلى الإسلام، فأبوا، ورموا بالنبل والحجارة، فحمل عليهم علي بأصحابه، فقتل منهم عشرين رجلًا، فتفرقوا وانهزموا، فكفَّ عنهم قليلًا، كما عند ابن سعد وغيره، ففي الحديث اختصار. انتهى، "فصلَّى بنا علي، ثم صفَّنا صفًّا واحدًا" ليريهم قوتهم على الحرب، "ثم تقدَّم بين أيدينا" حتى لحقهم ودعاهم إلى الإسلام، "فقرأ عليهم كتاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فأسلمت همدان جميعًا".
وعند ابن سعد: فأسرعوا وأجابوا، وبايعه نفر من رؤسائهم على الإسلام، وقالوا: نحن على من وراءنا من قومنا، وهذه صدقاتنا، فخذ منها حق الله، وجمع عليُّ الغنائم، فجزأها خمسة أجزاء، فكتب في سهم منها الله، وأقرع عليها، فخرج أول السهام سهم الخمس، وقسم على أصحابه بقية المغنم، "فكتب علي إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بإسلامهم", أي: بإسلام من كان باقيًا منهم على الشرك، فلا يخالف ما تقدَّم أن القادمين في الوفد أسلموا، وأمَّرَ عليهم مالكًا، "فلمَّا قرأ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الكتاب" أي: قرئ عليه "خَرَّ ساجدًا" شكر الله على إسلامهم، "ثم رفع رأسه، فقال: "السلام عى همدان، السلام على همدان" مرتين، وأصل الحديث في صحيح البخاري", وهو من إفراده عن مسلم عن البراء: بعثنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مع خالد إلى اليمن، ثم بعث عليًّا بعد ذلك مكانه، قال: "مُرْ أصحاب خالد من شاء منهم أن يعقِّبَ فليعقب، ومن شاء فليقبل".
قال البراء: فكنت فيمن عقب، فغنمت أواقي ذات عدد.
قال الحافظ: لم أقف على تحريرها، "وهذا أصحّ مما تقدَّم" المخالف له من وجهين،(5/177)
ولم تكن همدان تقاتل ثقيفًا ولا تغير على سرحهم، فإن همدان باليمن وثقيف بالطائف. قاله ابن القيم في الهدي النبوي.
__________
أحدهما: أنهم وفدوا وأسلموا، وأمَّرَ عليهم مالكًا، وهذا الحديث الصحيح، أنه بعث إليهم خالدًا، ثم عليًّا، فلو كان كذلك ما بعثهما واحدًا بعد واحد، ويمكن الجمع بينهما بأنَّ البعث لمن لم يسلم ولم يأت، والتأمير إنما هو على القوم الذين أسلموا، وإن جمع الكل اسم همدان، فلا خلف على أنه في فتح الباري.
قال في حديث البراء: إن البعث كان بعد رجوعهم من الطائف، وقسمة الغنائم بالجعرانة. انتهى، فالوفد إنما كان بعد البعث؛ لأنه في آخر الثامنة، والوفد في التاسعة، والوجه الثاني ما ذكره بقوله: "ولم تكن همدان تقاتل ثقيفًا، ولا تُغِيرُ على سرحهم، فإن همدان باليمن، وثقيف بالطائف" وهذه علة أقوى من الأولى، ويحتمل على بعد أنه -عليه السلام- أمره إذا مَرَّ عليهم في عوده لليمين بقتالهم ففعل، وأغار على سرحهم، ولم يمكنه القتال لتحصنهم بحصنهم، ولا يخالف ذلك التعبير بكان مع المضارع، فإنه يصدق ولو بمرة، كحديث كان يبعث ابن رواحة يخرص تمر خيبر، مع أنه إنما بعثه مرة واحدة، ولأن كلًّا من وفدي ثقيف وهمدان قدم مراجعة من تبوك؛ لاحتمال أن همدان سبقوهم "قاله" أي: جميع ما ذكره في ذا الوفد "ابن القيم في الهدي النبوي" أي: كتابه: زاد المعاد في هدي خير العباد.(5/178)
الوفد الثاني عشر: وفد مزينة
روى البيهقي عن النعمان بن مقرن قال: قدمنا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أربعمائة
__________
"الوفد الثاني عشر":
وفد مزينة -بضم الميم، وفتح الزاي، وسكون التحتية- بعدها نون- اسم امرأة عمرو بن أد بن طابخة، -بموحدة ومعجمة- ابن إلياس بن مضر، وهي مزينة بنت كلب بن وبرة، وهي أمّ أوس وعثمان ابني عمر وفذرية, هذين يقال لهم: مزينة والمزنيون، ومن قدماء الصحابة منهم عبد الله بن مغفل وعمّه خزاعي، وإياس بن هلال, وابنه قُرَّة وآخرون، كما في الفتح، ولعلَّ المصنف لم يقل، وقدم عليه وفد مزينة على قياس سابقه، إشارةً إلى أنَّه لا يتعيِّن.
"روى البيهقي" ومن قبله الإمام أحمد "عن النعمان بن مقرن" بضم الميم وفتح القاف وكسر الثقيلة ونون- ابن عائذ المزني, كان معه مزينة يوم فتح مكة، وله ذكر كثير في فتوح العراق، وهو الذي فتح أصبهان وسكن البصرة، ثم تحوّل إلى الكوفة، وقدم بشيرًا بفتح القادسية على عمر، واستشهد في خلافته بنهاوند سنة إحدى وعشرين.(5/178)
رجل من مزينة، فلمَّا أردنا أن ننصرف قال: "يا عمر، زوّد القوم"، قال: ما عندي إلا شيء من تمر ما أظنه يقع من القوم موقعًا. قال: "انطلق فزودهم" , فانطلق بهم، فأدخلهم منزله, ثم أصعدهم إلى علية، فلمَّا دخلنا إذا فيها من التمر مثل الجمل الأورق، فأخذ القوم منه حاجتهم. قال النعمان: وكنت في آخر من خرج، فنظرت: وما أفقد موضع تمرة من مكانها.
__________
"قال: قدمنا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أربعمائة رجل من مزينة", وعند ابن سعد عن كثير بن عبد الله المزني عن أبيه، عن جده: أوّل من وفد على النبي -صلى الله عليه وسلم- من مضر أربعمائة من مزينة, وفي الألفية:
أوّل وفد وفدوا المدينة ... سنة خمس وفدوا مزينة
زاد في رواية: وجهينة، فلعلَّهم كانوا قليلًا، أو أتباعًا، فلم يعدهم النعمان، "فلما أردنا أن ننصرف قال:" وفي رواية: قال القوم: يا رسول الله, ما لنا من طعام نتزوده؟ فقال: "يا عمر زود القوم"، قال: ما عندي" ما أزودهم به "إلا شيء من تمر، ما أظنه يقع من القوم موقعًا" لقلته، "قال: "انطلق فزودهم"، فانطلق بهم، فأدخلهم منزله" بيته، "ثم أصعدهم إلى علية" بكسر العين وضمها- غرفة، "فلمَّا دخلنا إذا فيها من التمر مثل الجمل الأورق" بهمزة مفتوحة فواو ساكنة فراء فقاف- ما في لونه بياض إلى سواد، وهو أطيب الإبل لحمًا لا سيرًا وعملًا. قاله القاموس، وهذا معجزة له -صلى الله عليه وسلم، فإنه كان قليلًا في الواقع، فأخبر بذلك عمر على ما يعلمه منه، "فأخذ القوم منه حاجتهم".
"قال النعمان: وكنت في آخر من خرج، فنظرت وما أفقد موضع تمرة من مكانها" معجزة أخرى له -عليه السلام؛ حيث زاد القليل، وأخذوا كفايتهم منه، واستمرَّ على زيادته، وفي رواية: وقد احتمل منه أربعمائة، وكأنا لم نرزأه تمرة -بنون مفتوحة فراء ساكنة فزاي مفتوحة فهمزة فهاء, أي: ننقصه، انتهى.(5/179)
الوفد الثالث عشر: وفد دوس
وفد دَوْس: وكان قدومهم عليه -صلى الله عليه وسلم- بخيبر.
__________
"الوفد الثالث عشر":
"وفد دَوْس" بفتح المهملة وسكون الواو ومهملة- قبيلة أبي هريرة، ينسبون إلى جدِّهم دَوْس بن عدنان. -بضم المهملة فدال ساكنة فمثلثة فألف- ابن عبد الله، ينتهي نسبهم إلى الأزد، فدوس مصروف؛ لأنه في الأصل علم لمذكَّر؛ ولأن أصل الأسماء الصرف حتى يوجد(5/179)
قال ابن إسحاق:
كان الطفيل بن عمرو الدوسي يحدث أنه قدم مكة ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- بها، فمشى إليه رجال من قريش، وكان الطفيل رجلًا شريفًا شاعرًا لبيبًا، فقالوا له: إنك قدمت بلادنا، وهذا الرجل الذي بين أظهرنا فرَّق جماعتنا، وشتَّت أمرنا، وإنما قوله كالسحر، يفرِّق بين المرء وابنه, وبين المرء وأخيه، وبين الرجل وزوجه، وإنما نخشى عليك وعلى قومك ما قد دخل علينا، فلا تكلمه ولا تسمع منه.
قال: فوالله ما زالوا بي حتى عزمت أن لا أسمع منه شيئًا، ولا أكلمه، حتى حشوت في أدني حين غدوت إليه كرسفًا،
__________
مانعه، "وكان قدومهم عليه -صلى الله عليه وسلم- بخيبر" كما سيأتي في القصة، فهو سنة سبع.
"قال ابن إسحاق" في السيرة بلا إسناد في غالب النُّسَخ، وفي نسخة أسندها عن صالح بن كيسان، عن الطفيل، وكذا أخرجه ابن سعد من وجه آخر، وكذا الأموي وابن الكلبي بإسناد آخر، كما في الإصابة، "كان الطفيل بن عمرو" بن طريف بن العاص بن ثعلبة بن سليم بن فهم بن غنم بن دوس "الدوسي" لقبه ذو النور -براء آخره- لما يجيء.
قال البوي: أحسبه سكن الشام، واستُشْهِد بأجنادين في خلافة الصديق، أو باليمامة، أو باليرموك، أقوال "يحدث أنه قدم مكة ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- بها" قبل الهجرة، "فمشى إليه رجال من قريش".
قال في النور: لا أعرفهم بأعيانهم، "وكان الطفيل رجلًا شريفًا شاعرًا لبيبًا".
زاد ابن سعد: كثير الضيافة، وهذه الأوصاف جملة معترضة، ليست مما حدَّث به الطفيل، وإنما هي حدث بها عبد الواحد ابن أبي عون الدوسي، كما عند ابن سعد، "فقالوا له: إنك قدمت بلادنا، وهذا الرجل الذي بين أظهرنا فرَّق جماعتنا" أمكنة، واعتقادًا بأن أزال الألفة بينهم وفرَّقهم في البلاد، "وشتت أمرنا" أي: فرَّق ما كنَّا عليه من اعتقاد عبادة الأصنام، بعد أن كنَّا كشيء واحد، فهو عطف مباين أولى من جعله تفسيرًا؛ إذ التأسيس خير من التأكيد، "وإنما قوله كالسحر" كأنه عطف علة على معلول، أي: إنما فعل ذلك بنا لأن كلامه كالسحر يسلب العقول، "يفرّق بين المرء" مثلث الميم "وابنه" بنون أو تحتية, "وبين المرء وأخيه، وبين الرجل وزوجه" امرأته, أفصح من زوجته، وهذا بيان لجهة السحر، "وإنما نخشى عليك وعلى قومك ما قد دخل علينا" من الكلام الذي يفتن به، حتى تبعه من تبعه، "فلا تكلمه، ولا تسمع منه" لئلا تفتتن، "قال: فوالله ما زالوا بي حتى عزمت" أجمعت وصمَّمت "أن لا أسمع منه(5/180)
فرقًا من أن يبلغني شيء من قوله.
قال: فغدوت إلى المسجد, فإذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قائم يصلي عند الكعبة، فقمت قريًبا منه، فأبى الله أن يسمعني بعض قوله: فسمعت كلامًا حسنًا، فقلت: واثكل أماه، والله إني لرجل لبيب شاعر، ما يخفى علي الحسن من القبيح، فما يمنعني أن أسمع من هذا الرجل ما يقول، فإن كان ما يقول حسنًا قبلت، وإن كان قبيحًا تركت.
قال: فمكثت حتى أتى -عليه الصلاة والسلام- إلى بيته، فتبعته حتى إذا دخل بيته فقلت: يا محمد, إن قومك قد قالوا لي كذا وكذا، فوالله ما برحوا يخوّفوني أمرك حتى سددت أذني بكرسف أن لا أسمع قولك، ثم أبى الله إلا أن يسمعنيه، فسمعت قولًا حسنًا، فاعرض عليَّ أمرك.
فعرض عليَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الإسلام، وتلا عليَّ القرآن،
__________
شيئًا، ولا أكلمه، حتى حشوت في أذنيّ" تثنية أذن "حين غدوت إليه كرسفًا" بضم الكاف والسين بينهما راء ثم فاء- القطن، ويقال فيه أيضًا: كرسوف بزنة زنبور، "فرقًا" خوفًا "من أن يبلغني شيء من قوله، قال: فغدوت إلى المسجد, فإذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قائم يصلي عند الكعبة، فقمت قريبًا منه، فأبى الله إلّا أن يسمعني بعض قوله", هذا لفظ رواية ابن إسحاق، فنسخة: أن لا يسمعني، تصحيف، وإن أمكن توجيهها بأن المعنى منع على عدم السماع، "فسمعت كلامًا حسنًا، فقلت: واثكل أمياه"، أصله: أمي -بياء المتكلم، فتقلب ألفًا، وتلحقها هاء السكت، وقد يجمع بين الألف والياء، كما هنا، والذي رأيته في ابن إسحاق: أمي على الأصل، "والله إني لرجل لبيب" عاقل "شاعر, ما يخفى عليّ الحسن" أي: تمييزه "من القبيح, فما يمنعني أن أسمع من هذا الرجل ما يقول, فإن كان ما يقول"، أي: إن ظهر لي قوله "حسنًا قبلت"؛ لأنه ثمرة العقل، "وإن كان قبيحًا تركت، قال: فمكثت حتى أتى -عليه الصلاة والسلام- إلى بيته، فتبعته حتى إذا دخل بيته" دخلت عليه، "فقلت: يا محمد, إن قومك قد قالوا لي" بلام الجرِّ، وفي نسخة إليَّ، أي: أوصلوا إليَّ، "كذا وكذا، فوالله ما برحوا يخوّفوني أمرك" بنون واحدة، وأصله بنونين، حذفت إحداهما تخفيفًا، وفي أن المحذوفة الأولى والثانية خلاف "حتى سددت أذني" تثنية أذن "بكرسف"؛ لأجل "أن لا أسمع قولك، ثم أبى الله إلا أن يسمعنيه، فسمعت قولًا حسنًا" فردَّ الله كيدهم في نحورهم، وقلب مكرهم عليهم، والله متمَّ نوره، ولو كره الكافرون، "فاعرض علي أمرك" بهمزة وصل من عرض ظهر، "فعرض عليَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الإسلام، وتلا علي(5/181)
فلا والله ما سمعت قولًا قط أحسن منه، ولا أمرًا أعدل منه، فأسلمت وشهدت شهادة الحق، وقلت: يا رسول الله، إني امرؤ مطاع في قومي, وإني راجع إليهم فداعيهم إلى الإسلام، فادع الله أن يجعل لي آية.
قال: فخرجت إلى قومي حتى إذا كنت بثنية تطلعني على الحاضر، وقع نور بين عيني مثل المصباح، فقلت: اللَّهم في غير وجهي، إني أخشى أن يقولوا إنها مُثْلَة وقعت في وجهي لفراقي دينهم، قال: فتحوّل فوقع رأس سوطي كالقنديل المعلق، وأنا أهبط إليهم من الثنية، حتى جئتهم وأصبحت فيهم، فلمَّا جئت أتاني
__________
القرآن،" أي: بعضه، وهو الإخلاص والمعوّذتان، كما أفاده الإصابة عن أبي الفرج الأصبهاني، "فلا والله ما سمعت قولًا قط أحسن منه" أي: من قوله، "ولا أمرًا أعدل منه" من أمره الذي فهمته من قوله من الأحكام والمعاني التي استفدتها من كلامه، ويجوز عود ضميره للقول أيضًا، "فأسلمت" انقدت باطنًا لاستحساني قوله، "وشهدت شهادة الحق" أي: نطقت بها، فليس عطف تفسير؛ إذ الأصل خلافه، وأنشد له المرزباني يخاطب قريشًا، وكانوا هددوه لما أسلم:
ألا أبلغ لديك بني لؤي ... على الشنان والغضب المردي
بأن الله رب الناس فرد ... تعالى جده عن كل ند
وأن محمدًا عبدًا رسولًا ... دليل هدى وموضح كل رشد
وأن الله جلله بهاء ... وأعلى جده في كل جد
"وقلت: يا رسول الله, إني امرؤ مطاع في قومي، وإني راجع إليهم، فداعيهم إلى الإسلام، فادع الله أن يجعل لي آية" أي: علامة، وأسقط من رواية ابن إسحاق: تكون عونًا لي عليهم فيما أدعوهم إليه، فقال: "اللهمَّ اجعل له آية"، وعند الطبراني: "اللهم نوّر له"، وفي التقليح لابن الجوزي "اللهم اجعل له نورًا"، "قال الطفيل: "فخرجت إلى قومي، حتى إذا كنت بثنية" طريق في الجبل "تطلعني على الحاضر" هَمَّ القوم النزول على ماء يقيمون به، لا يرحلون عنه، ويقال للمناهل: المحاضر للاجتماع والحضور عليها.
قال الخطابي: ربما جعلوا الحاضر اسمًا للمكان المحضور، يقال: نزلنا حاضر بني فلان، فاعل بمعنى مفعول، "وقع نور بين عيني مثل المصباح" أي: قرب مما بين عينية، ولم يصبه, "فقلت: اللهمَّ في غير وجهي" اجعل هذه الآية, "إني أخشى أن يقولوا" لفظ ابن إسحاق: يظنوا "أنها مُثْلَة وقعت في وجهي لفراقي دينهم، قال: فتحوّل فوقع في رأس سوطي".
زاد الطبري: فكان يضيء في الليلة المظلمة، فسمِّيَ ذا النور، قال: فجعل الحاضر يتراءون ذلك النور في سوطي، "كالقنديل المعلق، وأنا أهبط إليهم من الثنية حتى جئتهم وأصبحت(5/182)
أبي -وكان شيخًا كبيرًا- فقلت: إليك عني يا أبت، فلست مني ولست منك، قال: ولم يا بني؟ قلت: قد أسلمت وتابعت دين محمد، قال: يا بني, فديني دينك، قال فقلت: فاذهب فاغتسل وطهّر ثيابك ثم تعالى أعلمك ما علمت، قال: فذهب فاغتسل وطهَّر ثيابه ثم جاء فعرضت عليه الإسلام فأسلم.
ثم أتتني صاحبتي فقلت لها: إليك عني, فلستُ منك ولستِ مني، قالت: لِمَ؟ قلت: فرَّق الإسلام بيني وبينك، أسلمت وتابعت محمدًا، فقالت: فديني دينك, فأسلمت.
ثم دعوت دَوْسًا إلى الإسلام، فأبطئوا عليَّ, فجئت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقلت:
__________
فيهم، فلمَّا جئت أتاني أبي، وكان شيخًا كبيرًا، فقلت: إليك عنِّي يا أبت، فلستَ منِّي ولستُ منك، قال: ولِمَ يا بني؟ قلت: قد أسلمت وتابعت دين محمد، قال: يا بني, فديني دينك، قال: فقلت: فاذهب فاغتسل وطهِّر ثيابك" وليس فيه رضاه ببقائه كافرًا حتى يعود؛ لأن قوله: فدينك إيمان ديني عند كثير، وإن لم ينطق بالشهادتين، "ثم تعالَ أعلمك ما علمت، قال: فذهب فاغتسل وطهَّر ثيابه، ثم جاء فعرضت عليه الإسلام فأسلم" فنطق بالشهادتين، وأظهر له ما يدخل به في الإسلام ظاهرًا، ويترتب عليه أحكامه، فلا يُرَدّ أنه أسلم أوّلًا بقوله: فديني دينك، وقد ترجم له في الإصابة في القسم الأوّل عمرو بن طريف، والد أبي الطفيل، وذكر من القصة قول الطفيل له، وإسلامه ناسبًا لابن إسحاق، ولم يذكر أنه وفد واجتمع بالنبي -صلى الله عليه وسلم، فلعله وقف عليه، وإلّا فهو مخضرم.
وعند أبي الفرج في الأغاني من طريق الكلبي: فدعا أبويه إلى الإسلام، فأسلم أبوه، ولم تسلم أمه، ودعا قومه، فأجابه أبو هريرة وحده، "ثم أتتني صاحبتي" يعني: زوجته.
قال في النور: لا أعرف اسمها، "فقلت لها: إليك عني، فلستُ منك ولستِ مني، قالت: ولِمَ؟ قلت: فرَّق الإسلام بيني وبينك، أسلمت وتابعت محمدًا، فقالت: فديني دينك" أسقط من الرواية في ابن إسحاق، فقلت: فاذهبي إلى حنى ذي الشرى.
قال اب هشام: ويقال: حمى ذي الشرى, فتطهري منه، قال: وكان ذو الشرى صنمًا لدَوْس، حموا له ماء يهبط من جبل، فقالت: بأبي أنت وأمي, أتخشى على الصبية من ذي الشرى شيئًا، قلت: لا أنا ضامن ذلك، قال: فذهبت فاغتسلت، ثم جاءت, فعرضت عليها الإسلام، "فأسلمت".
وفي الروض: حنى بالنون عند ابن إسحاق، والميم عند ابن هشام، موضع حموه لصنمهم، فإن صحة رواية النون، فالنون قد تبدل من الميم، "ثم دعوت دَوْسًا إلى الإسلام فأبطئوا عليَّ"(5/183)
يا نبي الله, إنه قد غلبني على دوس الزنا، فادع الله عليهم، فقال: "اللَّهمَّ اهد دوسًا"، ثم قال: "ارجع إلى قومك فادعهم إلى الله وارفق بهم"، فرجعت إليهم, فلم أزل بأرض دوس أدعوهم إلى الله، ثم قدمت على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بخيبر، فنزلت المدينة بسبعين أو ثمانين بيتًا من دوس.
__________
وعند الطبراني: فأجابه أبو هريرة وحده، "فجئت رسول الله -صلى الله عليه وسلم" بمكة، كما في نفس رواية ابن إسحاق، "فقلت: يا نبي الله, إنه قد غلبني على دَوْس الزنا،" أي: حبهم له، وعلمهم أنهم إن أسلموا منعوا منه، وفي البخاري عن أبي هريرة: جاء الطفيل بن عمرو إلى النبي -صلى الله عليه وسلم، فقال: إن دوسًا قد هلكت، عصت وأبت، "فادع الله عليهم، فقال: "اللهم اهد دوسًا"،" زاد البخاري: "وائت بهم".
قال الحافظ في الفتح: وقع مصداق ذلك، فذكر ابن الكلبي أن جندب بن عمرو بن جممة الدوسي كان حاكمًا على دَوْس، وكذا كان أبوه من قبله، وكان جندب يقول: إني لأعلم أن للخلق خالقًا، لكني لا أدري من هو، فلمَّا سمع بالنبي -صلى الله عليه وسلم- خرج إليه، ومعه خمسة وسبعون رجلًا من قومه، فأسلم وأسلموا. انتهى، وجندب -بجيم فنون فدال فموحدة.
ذكره في الإصابة في حرف الجيم، فال: قتل بأجنادين، ولا يعرف له حديث، وذكر فيها أيضًا عمرو بن حممة -بضم المهملة وفتح الميم الخفيفة بعدها مثلها- الدوسي.
ذكر ابن دريد: إنه وفد على النبي -صلى الله عليه وسلم, والذي ذكره غيره أنه مات في الجاهلية.
قال المرزباني: كان أحد حكام العرب في الجاهلية، وأحد المعمِّرين، يقال: إنه عاش ثلاثمائة وتسعين سنة، وهو القائل:
كبرت وطال العمر مني كأنني ... سليم أفأعي ليلة غير مودع
أخبر أخبار القرون التي مضت ... ولابُدّ يومًا أن يطار لمصرعي
وما السقم أبلاني ولكن تتابعت ... عليّ سنون من مصيف مربع
ثلاث مئين من سنين كوامل ... وها أنا هذا أرتجي مر أربع
فأصبحت بين الفخ والعش نادبًا ... إذا رام طيَّارًا يقال له: قع
"ثم قال: "ارجع إلى قومك، فادعهم إلى الله، وارفق بهم"؛ إذ الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا نزع من شيء إلا شانه، "فرجعت إليهم، فلم أزل بأرض دوس أدعوهم إلى الله" حتى هاجر النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة، ومضت بدر وأحد والخندق، كما هو قوله في ابن إسحاق، وعقَّبه بقوله: "ثم قدمت على رسول الله -صلى الله عليه وسلم" حال كونه "بخيبر" أو خبر مبتدأ، أي: وهو بخيبر، وليس ظرفًا لغوًا متعلقًا بقدمت؛ لأن قدومهم كان إلى المدينة، ظانِّين أنه بها، كما أفاده بقوله:(5/184)
ثم لحقنا برسول الله -صلى الله عليه وسلم- بخيبر, فأسهم لنا مع المسلمين.
وهذا يدل على تقدُّم إسلامه، وقد جزم ابن أبي حاتم بأنه قدم مع أبي هريرة بخيبر، وكأنها قدمته الثانية.
__________
"فنزلت المدينة بسبعين، أو ثمانين بيتًا من دَوْس" أي: جماعة يجمعهم نسب واحد، فلا ينافي أنهم أربعمائة، "ثم لحقنا برسول الله -صلى الله عليه وسلم- بخيبر", وللطبراني بسند ضعيف أنهم أربعمائة، فلمَّا رآهم النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "مرحبًا بأحسن الناس وجوهًا، وأطيبهم أفواهًا" أي: كلامًا، "وأعظمهم أمانة".
وروى البخاري في التاريخ وابن خزيمة والطحاوي والبيهقي، وعن أبي هريرة: قدمنا المدينة، ونحن ثمانون بيتًا من دَوْس، فصلينا الصبح خلف سباع بن عرفطة الغفاري، فقرأ في الركعة الأولى بسورة مريم، وفي الأخيرة بويل للمطففين، فلمّا قرأ: {إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ} [المطففين: 2] ، قلت: تركت عمي له مكيالان: إذا اكتال اكتال بالأوفى، وإذا كال كال بالناقص، فلمَّا فرغنا من صلاتنا قال قائل: رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بخيبر، وهو قادم عليكم، فقلت: لا أسمع به في مكان أبدًا إلا جئته، فزودنا سباع، وجئنا خيبر، فنجده قد فتح النطاة، وهو محاصر الكتيبة، فأقمنا حتى فتح الله علينا، "فأسهم لنا مع المسلمين".
وفي رواية من حديث أبي هريرة: قدمنا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم، وقد فتح خيبر، فكلم المسلمين، فأشركنا في سهمانهم، "وهذا" المذكور من حديث الطفيل، "يدل على تقدُّم إسلامه" بمكة قبل الهجرة دلالة صريحة، "وقد جزم ابن أبي حاتم، بأنه قدم مع أبي هريرة بخيبر، وكأنها" كما قال الحافظ "قدمته الثانية" مع الوفد، فلا يخالف صريح حديثه، والمراد بالثانية: باعتبار مكة والمدينة، فلا ينافي أنه قدم مكة مرتين، فتكون ثالثة، وقد قدم جميع الوفد مسلمين، بدليل صلاة الصبح خلف سباع، والإسهام لهم؛ إذ لو لم يسلموا ما أسهم لهم، وقد رجع شيخنا ضمير إسلامه للوفد، والإشارة بهذا للإسهام، وهو واضح في نفسه، لكنه ليس مراد المصنف، وإنما مراده كالحافظ: الاستدلال على خلاف ما جزم به ابن أبي حاتم، كما أفصح بذلك في الفتح والإصابة، وبقية حديث الطفيل عن ابن إسحاق: ثم لم يزل معه -صلى الله عليه وسلم- حتى إذا فتح الله عليه مكة، قلت: يا رسول الله, ابعثني إلى صنم عمرو بن حممة حتى أحرقه، فبعثه فأحرقه وهدمه، ثم رجع، فأوقد النار عليه، وهو يقول:
يا ذا الكفين لست من عبادكا ... ميلادنا أقدم من ميلادكا
إني حشوت النار في فؤادكا
ثم رجع، فكان مع المصطفى حتى قبض، فلمَّا ارتدت العرب، خرج مع المسلمين حتى فرغوا من طليحة ومن أرض نجد كلها، ثم سار إلى اليمامة، ومعه ابنه عمرو، فرأى رؤيا وهو(5/185)
.................................................
__________
متوجه إلى اليمامة، فقال لأصحابه: إني قد رأيت رؤيا، فاعبروها لي، إني رأيت أن رأسي قد حلق، وأنه خرج من فمي طائر، ولقيتني امرأة فأدخلتني في فرجها، وأن ابني يطلبني طلبًا حثيثًا، ثم رأيته حُبِسَ عني، قالوا: خيرًا، قال: أما أنا والله فقد أوّلتها، قالوا: بماذا؟ قال: أمَّا حلق رأسي فوضعه، وأمَّا الطائر الذي خرج من فمي فروحي، وأمَّا المرأة التي أدخلتني في فرجها فالأرض تحفر لي فأغيب فيها، وأمَّا طلب ابني إياي ثم حبسه عني، فإني أراه سيجهد أن يصيبه ما أصابني، فقُتِلَ شهيدًا باليمامة، وجُرح ابنه جراحة شديدة، ثم استفل منها، ثم استشهد عام اليرموك زمن عمر. انتهى.
وبقتل الطفيل يوم اليمامة جزم ابن سعد أيضًا، ومن قبله ابن الكلبي، وقيل: باليرموك، قاله ابن حبان، وقيل: بأجنادين، قاله موسى بن عقبة عن ابن شهاب، وأبو الأسود عن عروة، ويأتي في ترجمة عمرو بن الطفيل، أنه الذي استشهد باليرموك، قاله في الإصابة.
وعند ابن سعد: إن عمرو بن الطفيل قُطِعَت يده أيضًا، زيادةً على الجراحة الشديدة يوم اليمامة، ثم صحّ، فبينا هو مع عمر إذ أُتِيَ بطعام، فتنحَّى، فقال مالك: لعله لمكان يدك، قال: أجل، قال: والله لا أذوقه حتى تسوطه بيدك، ففعل.
قال ابن أبي حاتم: لا أعلم، روى عن الطفيل شيء, وتعقبه الحافظ بأن البغوي أخرج من حديث عبد ربه، عن الطفيل بن عمرو الدوسي، قال: أقرأني أُبَيّ بن كعب القرآن، فأهدَيْتُ له فرسًا.. الحديث، وقال غريب: وعبد ربه لم يسمع من الطفيل، والله أعلم.(5/186)
الوفد الرابع عشر: وقد نصارى نجران
...
الوفد الرابع عشر: وفد نصارى نجران
وقدم عليه -صلى الله عليه وسلم- وفد نصارى نجران، فلمَّا دخلوا المسجد النبوي بعد العصر حانتز
__________
"الوفد الرابع عشر":
"وقدم عليه -صلى الله عليه وسلم- وفد نصارى نجران" بفتح النون وسكون الجيم- بلد كبير على سبع مراحل من مكة إلى جهة اليمن، يشتمل على ثلاث وسبعين قرية، مسيرة يوم للراكب السريع، كما في الفتح، سميت بنجران بن زيد بن يشجب بن يعرب، وهو أوّل من نزلها، والأخدود المذكور في القرآن في قرية من قراها، وهي اليوم خراب، ليس فيها إلّا المسجد الذي أمر عمر بن الخطاب ببنائه، وكانت نصارى نجران غزاهم ذو نواس اليهودي من حمير، فأحرق في الأخدود من لم يرتد، ثم الإضافة في وفد نصارى لامية حقيقة، أي: طائفة هي مقدمة نصارى، أو بيانية، والمعنى: إن الوفد هم نصارى نجران، والتقييد بالنصارى يحتمل التخصيص، كأنّ(5/186)
صلاتهم، فقاموا يصلون فيه، فأراد الناس منعهم, فقال -عليه الصلاة والسلام: "دعوهم"، فاستقبلوا المشرق فصلوا صلاتهم.
وكانوا ستين راكبًا، منهم أربعة وعشرون رجلًا من أشرافهم، والأربعة والعشرون منهم ثلاثة نفر إليهم يئول أمرهم؛ العاقب أمير القوم، وذو رأيهم وصاحب مشورتهم, واسمه: عبد المسيح. والسيد: صاحب رحلهم ومجتعهم، واسمه: الأيهم -بتحتية ساكنة, ويقال: شرحبيل, وأبو حارثة بن علقمة أخو بكر بن وائل،
__________
يكون بها مشركون ويهود، وإنه لبيان الواقع، "فلما دخلوا المسجد النبوي بعد العصر حانت صلاتهم" دخل وقتها، "فقاموا يصلون فيه", لا يقال الصلاة حيثما كان الشخص من خصائص هذه الأمة لحديث الصحيحين: "أعطيت خمسًا لم يعطهنّ أحد قبلي"، وفيهن: "وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا".
قال الخطابي: وأما من قبله، فإنما أبيحت لهم الصلاة في أماكن مخصوصة، كالبيع والصوامع؛ لأنا نقول إنما ذلك في الحضر، فأمَّا السفر، فتباح لهم الصلاة في غيرها، وقد كان عيسى يسيح في الأرض، ويصلي حيث أدركته الصلاة، "فأراد الناس منعهم" لما فيه من إظهار دينهم الباطل بحضرة المصطفى، وفي مسجده، "فقال -عليه الصلاة والسلام: "دعوهم" , اتركوهم تأليفًا لهم ورجاء إسلامهم، ولدخولهم بأمان، فأقرَّهم على كفرهم، ومنع مَنْ تعرَّض لهم، فليس فيه إقرار على الباطل، "فاستقبلوا المشرق، فصلوا صلاتهم،" ومستقبل المشرق بالمدينة ليس مستقبلًا للكعبة، ولا مستدبرها، كما حملوا عليه حديث الصحيحين: "إذا أتى أحدكم بغائط فلا يستقبل القبلة ولا يولها ظهره، شرقوا أو غربوا" , بخلاف نحو مصر، فمن شَرَّق استقبلها، "وكانوا ستين راكبًا، منهم أربعة وعشرون رجلًا من إشرافهم" كما عند ابن إسحاق، وسرد أسماءهم، وفي رواية ابن سعد: أربعة عشر، ولا منافاة لاحتمال أن الأربعة عشر أعظم الأشراف، "والأربعة والعشرون، منهم ثلاثة نفر" إضافة بيانية؛ إذ النفر من الثلاثة "إليهم يئول أمرهم, العاقب أمير القوم، وذو رأيهم، وصاحب مشورتهم" يشبه عطف السبب على المسبب، "واسمه: عبد المسيح" والعاقب لقبه، "والسيد صاحب رحلهم" أي: ارتحالهم، أي: صاحب معرفة أماكنهم في الرحيل؛ لخبرته بالطرق، "ومجتمعهم" بالجر أو الرفع, عطف على صاحب، أي: مكان اجتماعهم عند آرائهم، فلا ينافي أن العاقب صاحب رأيهم، "واسمه: الأيهم -بتحتية ساكنة" ثم هاء, بزنة جعفر، "ويقال: شرحبيل" اسمه بدل الأيهم، "وأبو حارثة بن علقمة" في الفتح، وأبو الحارث علقمة، بإسقاط ابن "أخو بكر بن وائل", المراد أنه من قبيلة بكر، المذكور لا أخوه حقيقة، وهذا كثير في كلامهم كقوله:(5/187)
قد شرف فيهم ودرس كتبهم، وكانت ملوك الروم من أهل النصرانية قد شرَّفوه ومَوَّلُوه، وكان يعرف أمر النبي -صلى الله عليه وسلم, وشأنه وصفته, مما علمه من الكتب المتقدمة, ولكن حمله جَهْلُه على الاستمرار في النصرانية، لما يرى من تعظيمه ووجاهته عن أهلها.
فدعاهم النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى الإسلام، وتلا عليهم القرآن فامتنعوا، فقال: "إن أنكرتم ما أقول فهلمَّ أباهِلكم".
__________
أيا أخوينا عبد شمس ونوفلًا ... أعيذكما بالله أن تحدثا حربا
"قد شرف فيهم، ودرس كتبهم" عطف علة على معلول، "وكانت ملوك الروم من أهل النصرانية قد شرَّفوه وموَّلوه" أي: جعلوا له مالًا يتخذ قنية؛ لحبهم من تدين من العرب بدينهم، "وكان يعرف أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- وشأنه وصفته, مما علمه من الكتب المتقدمة، لكن حمله جهله على الاستمرار في النصرانية، لما يرى من تعظيمه ووجاهته عن أهلها" وسماه: جاهلًا وإن كان عالمًا، تنزيلًا له منزلة الجاهل؛ لأنه لم يعمل بعلمه، فهو والجاهل سواء، أو لأنّ عناده حمله على تأويلات باطلة لشبه واهية، فهي فاسدة، فصاحبها جاهل، والأحسن أن المراد بالجهل: السفه والخطأ، فإنه يطلق عليهما لغة، "فدعاهم النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى الإسلام، وتلا عليهم القرآن، فامتنعوا،" فلم يؤمنوا، "فقال: "إن أنكرتم ما أقول" بأن اعتقدتم بطلانه، فلا ينافي قوله: فامتنعوا، أو المعنى: إن دمتم على إنكاركم وعنادكم ظلمًا وعدوانًا، "فهلُمَّ أُبَاهِلُكم"، أي: ألاعنكم؛ بحيث يلعن كلٌّ منَّا الكاذب، كما قال تعالى: {ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} [آل عمران: 61] .
قال البيضاوي: البهلة -بالضم والفتح- اللعنة، وأصله: الترك, من قولهم: بهلت الناقة، إذا تركتها بلا صرار, وهو بصادٍ وراءين مهملات بينهما ألف.
قال الجوهري: صررت الناقة: شددت عليها الصرار، وهو خيط يشد فوق الخلف، لئلّا يرضعها ولدها.
روى البيهقي في الدلائل: إنه -صلى الله عليه وسلم- كتب إلى أهل نجران قبل أن ينزل عليه طس سليمان: "بسم إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب، من محمد النبي.." الحديث. وفيه: فأتوه، فسألهم، وسألوه، فلم تزل به وبهم المسألة حتى قالوا: ما تقول في عيسى؟ قال: " ما عندي فيه شيء يومي هذا، فأقيموا حتى أخبركم"، فأصبح الغد، وقد أنزل الله: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ} [آل عمران: 59] الآية، إلى قوله: {فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} [آل عمران: 61] .
وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس، قال: إن رهطًا من نجران قدموا على النبي، فيهم(5/188)
وفي البخاري من حديث حذيفة؛ جاء السيد والعاقب صاحبَا نجران إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم, يريدان أن يلاعناه -يعني: يباهلاه, فقال أحدهما لصاحبه: لا تفعل.
وعند أبي نعيم: إن القائل ذلك هو السيد، وعند غيره: بل الذي قال ذلك هو العاقب؛ لأنه كان صاحب رأيهم، وفي زيادات يونس بن بكير في المغازي: إن الذي قال ذلك هو شرحبيل.
فوالله لئن كان نبيًّا فلاعنَّا -يعني: باهلناه- لا نفلح نحن ولا عقبنا من بعدنا, زاد في رواية ابن مسعود عند الحاكم: أبدًا, ثم قالا: إنا نعطيك ما سألتنا،
__________
السيد والعاقب، فقالوا: ما شأنك تذكر صاحبنا؟ قال: "من هو"؟ قالوا: عيسى، تزعم أنه عبد الله، فقال: "أجل"، قالوا: فهل رأيت مثل عيسى، أو أنبئت به، ثم خرجوا من عنده، فجاءه جبريل، فقال له: قل لهم إذا أتوك {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ} [آل عمران: 59] الآية، إلى قوله: {مِنَ الْمُمْتَرِينَ} [آل عمران: 60] الآية.
"وفي البخاري من حديث حذيفة" بن اليمان: "جاء السيد والعاقب صاحبا نجران" كأنَّ السيد كان له تصرف في نجران، وإن لم يكن بالإمارة، فأطلق عليهما صاحبيهما، لاشتراكهما في مطلق التصرف، فلا ينافي ما مَرَّ أن الأمير هو العاقب، وأمَّا أبو حارثة فكأنه كان عندهم يرجع إليه في استعلام الأحكام، لا في التصرف، فلم يذكره "إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم, يريدان أن يلاعناه، يعني: يباهلاه" تفسير من المصنف لقوله: يلاعناه لا من الحديث.
قال في الفتح: وذكر ابن إسحاق بإسناد مرسل: إن ثمانين آية من أوّل سورة آل عمران نزلت في ذلك، يشير إلى قله تعالى: {فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ} الآية، "فقال أحدهما لصاحبه: لا تفعل، وعند أبي نعيم" في كتاب الصحابة: "إن القائل ذلك هو السيد، وعند غيره: بل الذي قال ذلك هو العاقب؛ لأنه كان صاحب رأيهم، وفي زيادات يونس بن بكير" الشيباني على سيرة شيخه ابن إسحاق "في المغازي: أن الذي قال ذلك شرحبيل" وهو موافق لما عند أبي نعيم، بناءً على أن السيد اسمه شرحبيل، كما مَرَّ، وفصل المصنف بين أجزاء الحديث بهذه الجملة من فتح الباري، لبيان المبهم في قوله: أحدهما، ثم عاد لتتميم حديث البخاري، "فوالله لئن كان نبيًّا" فهو مقول الأحد، "فلاعنّا" في رواية الكشميهني: فلاعننا، فإظهار النون، كما في الفتح، وليس في البخاري، فلاعنَّاه بضمير، "يعني: باهلناه" فسره بالأخفى دفعًا لتوهّم أنها غير المباهلة، "لا نفلح نحن، ولا عقبنا من بعدنا".(5/189)
وابعث معنا رجلًا أمينًا، ولا تبعث إلا أمينًا، فقال: "لأبعثن معكم رجلًا أمينًا حق أمين". فاستشرف لها أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم, فقال: "قم يا أبا عبيدة بن الجراح"، فلمَّا قام قال -صلى الله عليه وسلم: "هذا أمين هذه الأمة".
__________
"زاد في رواية ابن مسعود عند الحاكم" لفظة "أبدًا، ثم قالا: إنا نعطيك ما سألتنا", في رواية ابن مسعود، فأتيا فقالا: لا نلاعنك، ولكنَّا نعطيك ما سألت، أي: في كتابك من الجزية، إن لم يسلموا.
ففي رواية البيهقي أنه -صلى الله عليه وسلم- كتب إليهم، يدعوهم إلى الإسلام، فإن أبيتم فالجزية، فإن أبيتم، فقد آذنتكم بحرب.
وفي رواية ابن أبي شيبة، وأبي نعيم، وغيرهما؛ أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "لقد أتاني البشير بهلكة أهل نجران"، لو تمموا على الملاعنة، ولما غدا إليهم أخذ بيد حسن، وحسين، وفاطمة تمشي خلفه، وعلي خلفها، وهو يقول: "إذا أنا دعوت فأمِّنوا"، فقال أسقفهم: إني لأرى وجوهًا، لو سألوا الله أن يزيل جبلًا من جباله لأزاله، فلا تباهلوا فتهلكوا، ولا يبقى على وجه الأرض نصراني إلى يوم القيامة، والله لقد عرفتم نبوَّته، ولقد جاءكم بالفصل في أمر صاحبكم، أي: عيسى، فوالله ما باهل قوم نبيًّا إلّا هلكوا، فإن أبيتم إلا دينكم، فوادعوا الرجل وانصرفوا، فقالوا: يا أبا القاسم, لا نلاعنك، فقال: "فأسلموا يكن لكم ما للمسلمين، وعليكم ما عليهم"، فأبوا، قال: "فإني أنذركم"، قالوا: ما لنا بحرب العرب طاقة، ولكنَّا نصالحك، فصالحهم، وقال: "والذي نفسي بيده, إن العذاب تدلَّى على أهل نجران، ولو تلاعنوا لمسخوا قردة وخنازير، ولاضَّطرم عليهم الوادي نارًا، ولاستأصل الله نجران وأهله حتى الطير على الشجر"، "وابعث معنا رجلًا أمينًا" يأخذ ما تجعله علينا، "ولا تبعث معنا إلا أمينًا" ذكره بعد سابقه؛ لأنه لا حصر فيه، فيصدق بما لو بعث مع الأمين غيره، "فقال: "لأبعثنَّ معكم رجلًا أمينًا حق أمين"، أي: بالغًا في الأمانة، ففيه توكيد، والإضافة فيه نحو قولهم: إن زيد العالم، حق عالم، وجد عالم، أي: عالم حقًّا وجدًّا، يعني: عالم يبالغ في العلم جدًّا، ولا يترك في الجد المستطاع منه شيئًا، "فاستشرف لها" أي: تطلَّع "أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم" ورغبوا فيها، حرصًا على نيل صفة الأمانة البالغة، لا على الولاية من حيث هي.
وفي رواية أبي يعلى عن ابن عمر: سمعت عمر يقول: ما أحببت الإمارة إلا مرة واحدة، فذكر هذه القصة، وقال في آخرها: فتعرضت أن تصيبني، "فقال: "قم يا أبا عبيدة بن الجراح"، فلمَّا قام، قال -صلى الله عليه وسلم: "هذا أمين هذه الأمة"، والأمين هو الثقة الرضي، وهذه الصفة وإن كانت مشتركة بينه وبين غيره، لكن السياق يشعر بأنه له مزيدًا في ذلك، لكن خص النبي -صلى الله عليه وسلم- كل أحد من الكبار بفضيلة، وصفه بها، فأشعر بقدر زائد فيها على غيره، كالحياء لعثمان، والقضاء(5/190)
وفي رواية يونس بن بكير: إنه صالحهم على ألفي حلة، ألف في رجب وألف في صفر، ومع كل حلة أوقية، وساق الكتاب الذي بينهم مطولًا.
وذكر ابن سعد: إن السيد والعاقب رجعَا بعد ذلك وأسلما.
وفي ذلك مشروعية مباهلة المخالف إذا أصَرَّ بعد ظهور الحجة, ووقع ذلك لجماعة من العلماء سلفًا وخلفًا، ومما عرف بالتجربة أنَّ من باهل وكان مبطلًا لا تمضي عليه سنة من يوم المباهلة.
__________
لعلي، ونحو ذلك، قاله الحافظ.
"وفي رواية يونس بن بكير: إنه صالحهم على ألفي حلة، ألف في رجب، وألف في صفر، ومع كل حلة أوقية" من "وساق الكتاب الذي بينهم مطولًا،" وقد ذكره الشامي، وغيره.
"وذكر ابن سعد: إن السيد والعاقب رجعا بعد ذلك" إلى المدينة، "وأسلما" كما هو بقية كلام ابن سعد، كما في الفتح، وذكرهما معًا في الإصابة، فقال عن ابن سعد وابن المدائني: إنهم رجعوا إلى بلادهم، فلم يلبث السيد والعاقب إلّا يسيرًا، حتى رجعا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فأسلما، وأنزلهما دار أبي أيوب الأنصاري، "وفي ذلك مشروعية مباهلة المخالف إذا أصَرَّ بعد ظهور الحجة" على المخالفة، "ووقع ذلك لجماعة من العلماء سلفًا وخلفًا".
زاد في الفتح: وقد دعا ابن عباس إلى ذلك، ثم الأوزاعي، "ومما عرف بالتجربة أن من باهل، وكان مبطلًا، لا تمضي عليه سنة من يوم المباهلة".
قال الحافظ: وقع لي ذلك مع شخص كان يتعصب لبعض الملاحدة، فلم يقم بعدها غير شهرين.
قال: وفي القصة أيضًا -يعني: من الفوائد: أنَّ إقرار الكافر بالنبوَّة لا يدخله الإسلام حتى يلتزم أحكامه، وجواز مجادلة أهل الكتاب، ومصالحتهم على ما يراه الإمام من أصناف المال، ويجري ذلك مجرى ضرب الجزية، فإن كلًّا مال يؤخذ على وجه الصغار في كل عام، وفيها بعث الإمام الرجل، العالم، الأمين إلى أهل الهدنة في مصلحة الإسلام، ومنقبة ظاهرة لأبي عبيدة.
وذكر ابن إسحاق: أنه -صلى الله عليه وسلم- بعث عليًّا إلى أهل نجران ليأتيه بصدقاتهم وجزيتهم، وهذه غير قصة أبي عبيدة؛ لأنه توجه معهم، فقبض مال الصلح ورجع، وعلي أرسله النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد ذلك، فقبض ما استحق عليهم من الجزية، ويأخذ ممن أسلم ما وجب عليه من الصدقة، والله أعلم، انتهى.(5/191)
الوفد الخامس عشر: فروة بن عمرو الجذامي
وقدم عليه -صلى الله عليه وسلم- رسول فروة ابن عمرو الجذامي ملك الروم -وكان منزله معان- بإسلامه، وأهدى له بغلة بيضاء، ولما بلغ الروم ذلك من إسلامه طلبوه حتى أخذوه، فحبسوه ثم صلبوه على ماء بفلسطين، وضربوا عنقه على ذلك الماء.
__________
"الوفد الخامس عشر":
"وقدم عليه -صلى الله عليه وسلم- رسول فروة" بفتح الفاء "ابن عمرو" على الأشهر، وقيل: عامر "الجذامي" بضم الجيم، وبذال معجمة- نسبةً إلى جذام, قبيلة، واسم الرسول الذي أرسله مسعود بن سعد الجذامي، أسلم وصحب, "ملك الروم" فيه تحوّز، فقد قال ابن إسحاق: إنه كان عاملًا للروم على من يليه من العرب، والمصنف نفسه قدم قريبًا في المكاتبات؛ إنه كان عاملًا لقيصر، "وكان منزله معان،" وما حولها من أرض الشام، كما عند ابن إسحاق, ومعان -بفتح الميم وضمها، وصوَّب الفتح.
قال البكري: اسم جبل.
قال في الروض: والمعان أيضًا حيث تحبس الخيل والركاب، وبه جنس المعري، فقال:
معان من أحبتنا معان ... تجيب الصاهلات بها القيان
وجوَّز البرهان رفع منزل اسم كان، ونصب معان خبره وعكسه، "بإسلامه" صلة قوله: قدم ذلك لما بعث إليه النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يسلم، فأسلم، وكتب إليه بإسلامه، "وأهدى له بغلة بيضاء" هي فضة، وفرسًا يقال لها الظرب، وحمارًا يقال له يعفور، وأثوابًا، وقباء مذهبًا، فقبل هديته، وأعطى رسوله مسعودًا اثنتي عشرة أوقية فضة، كما تقدَّم، "ولما بلغ الروم" بالنصب مفعول, فاعله قوله: "ذلك من إسلامه، طلبوه حتى أخذوه، فحبسوه، ثم صلبوه على ماء" بالمد- لهم يقال له: عفراء -بفتح المهملة، وإسكان الفاء، وبالراء ممدودة, "بفلسطين" بكسر الفاء، وفتحها، فلام مفتوحة، فسين ساكنة، فطاء مكسورة مهملتين، فتحتية ساكنة، فنون، وهي الرملة وغزة وبيت المقدس، وما حولها، كما في النور، وعند ابن إسحاق، فقال في ذلك:
ألا هل أتى سلمى بأن خليلها ... على ماء عفرًا فوق إحدى الرواحل
على ناقة لم يضرب الفحل أمها ... مشذبة أطرافها بالمناجل
ولما قدموه ليقتلوه قال:
بلغ سراة المسلمين بأنني ... سلم لربي أعظمي ومقامي
وضربوا عنقه على ذلك الماء" ولم ينقل أنه اجتمع بالنبي -صلى الله عليه وسلم، كما في الإصابة.(5/192)
الوفد السادس عشر: قدوم ضمام بن ثعلبة
وقدم عليه -صلى الله عليه وسلم- ضمام بن ثعلبة، بعثه بنو سعد بن بكر.
روى البخاري من حديث أنس بن مالك قال: بينما نحن جلوس مع النبي -صلى الله عليه وسلم- في المسجد, دخل رجل على جمل فأناخه في المسجد ثم عقله،
__________
"الوفد السادس عشر":
"وقدم عليه -صلى الله عليه وسلم- ضمام" بمعجمة مكسورة وخفة الميم الأولى المفتوحة, "ابن ثعلبة" بفتح المثلثة والموحدة بينهما عين ساكنة ولام, السعدي، قال البغوي: كان يسكن الكوفة "بعثه بنو سعد بن بكر" قومه ليجيب عمَّا أرسل به المصطفى لهم، ويبصر فيما جاء به -عليه الصلاة والسلام, في سنة تسع على الصواب، وبه جزم ابن إسحاق، وأبو عبيدة وغيرهما، خلافًا لما زعم الواقدي أنه سنة خمس، كما أفاده الحافظ، ولم يقل وفد لانفراده, لا يعد وافدًا عرفًا، وإن عُدَّ لغة، بل حقه أن يقال له يريد؛ لأنه بمنزلة من يرسله الملك في مصلحة ليأتيه بالخبر، وادَّعى ابن بطال وعياض وابن العربي وغيرهم: أن ضمامًا هو المرد بقول طلحة بن عبيد الله: جاء رجل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من أهل نجد، ثائر الرأس، نسمع دوي صوته، ولا نفقه ما يقول, حتى دنا، فإذا هو يسأل عن الإسلام، فقال -صلى الله عليه وسلم: "خمس صلوات في اليوم والليلة"، فقال: هل عليَّ غيرها؟ قال: "لا، إلّا أن تطوّع"، قال: "وصيام رمضان"، قال: هل عليَّ غيره؟ قال: "لا، إلّا أن تطوَّع" وذكر له الزكاة"، فقال: هل عليَّ غيرها؟ قال: "لا, إلا أن تطوَّع"، قال: فأدبر الرجل، وهو يقول: والله لا أزيد على هذا، ولا أنقص، قال -صلى الله عليه وسلم: "أفلح إن صدق".
رواه الشيخان من طريق مالك عن عمه، عن أبيه، عن طلحة.
وقال القرطبي في المفهم: وتبعه شيخنا شيخ الإسلام سراج الدين البلقيني، الظاهر أنه غيره لاختلاف السياقين، وهو كما قال ذكره الحافظ في المقدمة.
وقال في الفتح: جزم ابن بطال وآخرون بأنه ضمام، والحامل لهم على ذلك إيراد مسلم قصته عقب حديث طلحة، وإنَّ في كلٍّ منهما أنه بدويّ، وأن كلًّا منهما قال في آخر حديثه: لا أزيد على هذا، ولا أنقص، لكن تعقَّبه القرطبي بأن سياقهما مختلف، وأسئلتهما متباينة، قال: ودعوى أنها قصة واحدة دعوى فرط، وتكلف شطط من غير ضرورة. انتهى المراد منه.
"روى البخاري"، وكذا مسلم "من حديث أنس بن مالك، قال: بينا" بلا ميم, وفي رواية بينما بالميم، "نحن جلوس مع النبي -صلى الله عليه وسلم- في المسجد" النبوي، "دخل رجل" جواب بينا, وللأصيلي: إذ دخل، لكنَّ الأصمعي لا يستفصح إذ وإذا في جواب بينا, "على جملٍ فأناخه في المسجد، ثم عقله" بتخفيف القاف, أي: شدَّ على ساقه بعد أن ثنى ركبتيه حبلًا، واستنبط منه ابن بطال وغيره، طهارة أبوال الإبل وأرواثها؛ إذ لا يؤمن منه ذلك في المسجد، ولم ينكره -صلى الله عليه وسلم.
قال الحافظ: ودلالته غير واضحة، وإنما فيه مجرد احتمال، ويدفعه رواية أبي نعيم: أقبل(5/193)
ثم قال: أيكم محمد؟ والنبي -صلى الله عليه وسلم- متكئ بين ظهرانيهم، فقلنا: هذا الرجل الأبيض المتكئ، فقال له الرجل: ابن عبد المطلب؟
__________
على بعير له حتى أتى المسجد، فأناخه، ثم عقله، فدخل المسجد، وأصرح منه روايةً ابن عباس عند أحمد والحاكم، ولفظه: فأناخ بعيره على باب المسجد, فعقله ثم دخل، فعلى هذا، ففي رواية أنس مجاز الحذف والتقدير، فأناخه في ساحة المسجد، أو نحو ذلك, انتهى، وفيه: إن ساحة المسجد رحبته، كما في اللغة، ومذهب الشافعي أن الرحبة من المسجد، وهي ما بني لأجله، فتستحب فيها التحية، ويجوز الاعتكاف، فتمَّ الاستنباط، "ثم قال: أيكم" استفهام مرفوع، مبتدأ خبره "محمد", أو أيكم خبر قُدِّمَ؛ لأن الاستفهام له الصدر، "والنبي -صلى الله عليه وسلم- متكئ" -بالهمز، مستوٍ على وطاء، والجملة اسمية وقعت حالًا، قاله المصنف، وتفسيره بهذا هو الظاهر هنا، وإن أطلق الاتكاء أيضًا على الميل على أحد الشقين، والتمكُّن من القعود بالتربُّع والاعتماد على اليد اليسرى، كما يأتي بسطه للمصنف.
قال الحافظ: فيه جواز إتكاء الإمام بين أتباعه، وفيه ما كان عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- من ترك التكبر لقوله: "بين ظهرانيهم" بفتح النون، أي: بينهم، وزيد لفظ ظهر، ليدل على أن ظهرًا منهم قدامه، وظهرًا وراءه، فهو محفوف بهم من جانبيه، والألف والنون فيه للتأكيد، قاله صاحب الفائق.
وقال الدماميني: زيدت الألف والنون على ظهر عند التثنية للتأكيد, ثم كثر حتى استعمل في الإقامة بين القوم مطلقًا.
قال المصنف: فهو مما أريد بلفظة التثنية فيه معى الجمع، واستشكل ثبوت النون مع الإضافة، وأجيب بأنه ملحق بالمثنى، لا أنه مثنى ثني، وحذفت منه نون التثنية، وصار ظهرانيهم، "فقلنا: هذا الرجل الأبيض المتكئ".
قال الحافظ: أي: المشرب بحمرة، كما في رواية الحارث بن عمير الأمغر -بالغين المعجمة. قال حمزة بن الحارث: هو الأبيض المشرب بحمرة، ويؤيده ما يأتي في صفته -صلى الله عليه وسلم- أنه لم يكن أبيض ولا أدم، أي: لم يكن أبيض صرفًا، "فقال له" للنبي -صلى الله عليه وسلم- "الرجل" الداخل "ابن عبد المطلب" بكسر الهمزة وفتح النون, كما في فرع اليونينية والذي رأيته في اليونينية بهمزة وصل.
قال شيخنا: ولا تنافي بينهما, فما في الأصل وصل كلمة بالرجل، وما في الفرع وقف على الرجل، وابتدأ بابن إشارة إلى أنه مقول القول، فالهمزة مكسورة.
وفي الفتح للحافظ: بفتح النون على النداء، وفي رواية الكشميهني: يا ابن بإثبات حرف(5/194)
فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم: "قد أجبتك".
فقال: إني سائلك فمشدد عليك في المسألة, فلا تجد علي في نفسك, فقال: "سل عمَّا بدا لك" , فقال: أسألك بربك ورب من قبلك، آلله
__________
النداء. انتهى.
وقال الزركشي: بفتح الهمزة للنداء ونصب النون؛ لأنه مضاف لا على الخبر ولا الاستفهام؛ لقوله: "قد أجبتك"، وفي رواية: يا ابن عبد المطلب، وردَّه الدماميني بأنه لا دليل في شيء مما ذكر على تعين فتح الهمزة، فإن ثبت رواية، وإلّا فلا مانع أن همزة الوصل التي في ابن سقطت للمدرج، وحرف النداء محذوف، وهو في مثله قياس مطَّرد باتفاق، "فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم: قد "أجبتك"،" أي: سمعتك، أو المراد: إنشاء الإجابة، أو نزل تقريره للصحابة في الإعلام عنه منزلة النطق، وهذا لائق بمراد البخاري، وقيل: لم يقل له نعم؛ لأنه لم يخاطبه بما يليق بمنزلته من التعظيم، لا سيما مع قوله تعالى: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً} [النور: 63] الآية، والعذر عنه إن قلنا: قدم مسلمًا أنه لم يبلغه النهي، وكانت فيه بقية من جفاء الأعراب، وقد ظهر ذلك بعد في قوله: فمشدد عليك، "فقال: إني سائلك", وللأصيلي وابن عساكر: فقال الرجل: إليَّ سائلك، "فمشدد" بكسر الدال الأولى المثقَّلة، والفاء عاطفة على سائلك, "عليك في المسألة فلا تجد" بكسر الجيم، والجزم على النهي من الموجدة، أي: لا تغضب "عليَّ في نفسك".
قال الحافظ: ومادة وجد متحدة الماضي والمضارع، مختلفة المصادر بحسب اختلاف المعاني، ففي الغضب موجدة، والمطلوب وجودًا والضالة وجدانًا، والحب وجدًا -بالفتح، والمال وجدًا -بالضم، والغني جدة -بكسر الجيم وخفة الدال مفتوحة على الأشهر في جميع ذلك، وفي المكتوب: وجادة وهي مولدة، "فقال: "سل ما بدا"، ظهر "لك"، فقال: أسألك بربك" أي: بحق ربك "ورب من قبلك" زاد مسلم: ومن رفع السماء، وبسط الأرض، وغير ذلك من المصنوعات، ثم أقسم عليه به أن يصدقه عما يسأل عنه، وكرّر القسم في كل مسألة، تأكيدًا وتقريرًا للأمر، ثم صرَّح بالتصديق، فكل ذلك دليل على حسن تصرفه، وتمكن عقله, ولهذا قال عمر: ما رأيت أحدًا أحسن مسألة، ولا أوجز من ضمام، وقد وقع عند مسلم عن أنس: كنا نهينا في القرآن أن نسأل رسول اله -صلى الله عليه وسلم- عن شيء، فكان يعجبنا أن يجيء الرجل من أهل البادية، العاقل فيسأله ونحن نسمع.
زاد أبو عوانة: وكانوا أجراء على ذلك منا، يعني: إن الصحابة واقفون عند النهي، وأولئك يعذرون بالجهل، وتمنَّوه عاقلًا ليكون عارفًا بما يسأل عنه، وظهر عقل ضمام في تقديمه الاعتذار(5/195)
أرسلك إلى الناس كلهم؟ فقال: "اللَّهمَّ نعم" , فقال: أنشدك بالله، آلله أمرك أن تصلي الصلوات الخمس في اليوم والليلة؟ قال: "اللهمَّ نعم" , فقال: أنشدك بالله، آلله أمرك أن تصوم هذا الشهر في السنة؟ قال: "اللَّهم نعم" , فقال: أنشدك بالله، آلله أمرك أن تأخذ هذه الصدقة من أغنيائنا فنقسمها على فقرائنا, فقال النبي -صلى الله عليه وسلم: "اللهم نعم".
__________
بين يدي مسألته، لظنه أنه لا يصل إلى مقصوده إلّا بتلك المخاطبة، قاله الحافظ: "آلله" بهمزة الاستفهام الممدودة في المواضع كلها مبتدأ خبره "أرسلك إلى الناس كلهم، فقال: "اللهمَّ" أي: يا الله "نعم" فالميم بدل من حرف النداء، وذكر للتبرُّك، وإلّا فالجواب حصل بنعم.
قال الحافظ: وكأنه استشهد في ذلك بالله تأكيدًا لصدقه، وفي رواية أبي عوانة، فقال: صدقت، قال: فمن خلق السماء؟ قال: "الله"، قال: فمن خلق الأرض والجبال؟ قال: "الله"، قال: فمن جعل فيها المنافع؟ قال: "الله"، قال: فبالذي خلق السماء والأرض، ونصب الجبال، وجعل فيها المنافع, الله أرسلك؟ قال: "نعم"؛ وكذا هو في رواية مسلم، "فقال: أنشدك" بفتح الهمزة وضم المعجمة: أسألك "بالله" وأصله من النشد، وهو رفع الصوت, والمعنى: سألتك رافعًا نشيدتي، قاله البغوي في شرح السنة.
وقال الجوهري: نشدتك بالله، أي: سألتك، كأنك ذكرته فنشد، أي: تذكر "آلله أمرك أن تصلي" بتاء الخطاب فيه وفيما بعده، وللأصيلي بالنون فيهما.
قال عياض: وهو أوجه, ويؤيده رواية مسلم بلفظ: إن علينا خمس صلوات في يومنا وليلتنا، وساق البقية كذلك، ووجه الأوّل أنَّ كل ما وجب عليه وجب على أمته، حتى يقوم دليل على الاختصاص "الصلوات الخمس", وللكشميهني والسرخسي: الصلاة بالإفراد على إرادة الجنس "في اليوم والليلة، قال: "اللهمَّ نعم"، قال: أنشدك بالله، آلله أمرك أن تصوم" بتاء الخطاب وبالنون "هذا الشهر في السنة؟ " أي: رمضان في كل سنة، فاللام فيهما للعهد, والإشارة لنوعه لا لعينه، "قال: "اللهمَّ نعم"، قال: أنشدك بالله، آلله أمرك أن تأخذ" بتاء الخطاب، أي: بأن تأخذ "هذه الصدقة" المعهودة، وهي الزكاة "من أغنيائنا، فتقسمها" بتاء الخطاب المفتوحة، والنصب عطفًا على تأخذ "على فقرائنا؟ " خرج مخرج الأغلب؛ لأنهم معظم أهلها، "فقال النبي -صلى الله عليه وسلم: "اللهمَّ نعم".
قال ابن التين: فيه دليل على أن المرء لا يفرق صدقته بنفسه، وفيه نظر، ولم يذكر الحج في هذه الرواية، وقد أخرج مسلم وأبو عوانة في روايتهما عن أنس بلفظ: وإن علينا حج البيت من استطاع إليه سبيلًا، قال: "صدق"، وهو في حديث أبي هريرة، وابن عباس أيضًا عند مسلم،(5/196)
فقال الرجل: آمنت بما جئت به, وأنا رسول مَنْ ورائي من قومي, وأنا ضمام بن ثعلبة أخو بني سعد بن بكر.
__________
وأغرب ابن التين، فقال: لم يذكره؛ لأنه لم يكن فرض، وكان الحامل له على ذلك ما جزم به الواقدي، ومحمد بن حبيب؛ أنَّ قدوم ضمام كان سنة خمس، فيكون قبل الحج، لكنه غلط من أوجه:
أحدها: إن في رواية مسلم: إنه كان بعد نزول النهي في القرآن عن سؤال الرسول، وآية النهي في المائدة ونزولها متأخر جدًّا.
ثانيها: إن إرسال الرسل للدعاء إلى الإسلام إنما كان ابتداؤه بعد الحديبية، ومعظمه بعد الفتح.
ثالثها: إن في القصة أنَّ قومه أوفدوه، وإنما كان معظم الوفود بعد فتح مكة.
رابعها: إن في حديث ابن عباس أن قومه أطاعوه، ودخلوا في الإسلام بعد رجوعه إليهم، ولم تدخل بنو سعد ابن بكر، وهو ابن هوازن, في الإسلام إلّا بعد وقعة حنين، وكانت في شوَّال سنة ثمان، فالصواب أن قدوم ضمام كان في سنة تسع، وبه جزم ابن إسحاق، وأبو عبيدة وغيرهما، ويدل له رواية أحمد، والحاكم عن ابن عباس: بعثت بنو سعد ضمامًا وافدًا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم، فقدم علينا؛ لأن ابن عباس إنما قدم المدينة بعد الفتح، وغفل البدر الزركشي فقال: لم يذكر الحج؛ لأنه كان معلومًا عندهم في شريعة إبراهيم، وكأنَّه لم يراجع صحيح مسلم, فضلًا عن غيره.
"فقال الرجل: آمنت بما جئت به" يحتمل أن يكون إخبارًا، وهو اختيار البخاري، ورجَّحه عياض، وأنه حضر بعد إسلامه مستثبتًا منه ما أخبر به رسول إليهم؛ لقوله عند مسلم: إن رسولك زعم، وفي حديث ابن عباس عند الطبراني: أتتنا كتبك وأتتنا رسلك، واستبط منه الحاكم أصل صلب علوّ الإسناد؛ لأنه سمع ذلك من الرسول وآمن وصدّق، ولكنَّه أراد أن يسمع ذلك من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مشافهة، ويحتمل أن قوله: آمنت, إنشاء، ورجَّحه القرطبي، قال: والزعم القول الذي لا يوثق به، قال ابن السكيت وغيره وفيه نظر؛ لأنه يطلق على القول المحقّق أيضًا، كما نقله أبو عمرو الزاهد في شرح فصيح شيخه ثعلب، وأكثر سيبويه من قوله: زعم الخليل في مقام الاحتجاج، وأما تبويب أبي داود عليه: باب المشرك يدخل المسجد، فليس مصيرًا منه إلى أنَّ ضمامًا قدم مشركًا، بل وجهه أنهم تركوا شخصًا قادمًا يدخل المسجد من غير استفسار، ومما يؤيد أنه إخبار أنه لم يسأل عن دليل التوحد، بل عن عموم الرسالة، وعن شرائع الإسلام، ولو كان إنشاءً لطلب معجزة توجب التصديق، قاله الكرماني، وعكسه القرطبي، فاستدلَّ به على صحة إيمان المقلد للرسول، ولِمَ لَمْ تظهر له معجزة، وكذا أشار إليه ابن الصلاح، "وأنا رسول" بإضافته إلى "مَنْ" بفتح الميم, موصولة "ورائي مِن" بكسر الميم "قومي", ويجوز تنوين رسول(5/197)
وزاد ابن إسحاق في مغازيه:
فقال: آلله أمرك أن نعبده ولا نشرك به شيئًا وأن نخلع هذه الأنداد التي كان آباؤنا يعبدون؟
فقال -صلى الله عليه وسلم: "اللهمَّ نعم".
قال: وكان ضمام رجلًا جلدًا ذا غديرتين، ثم أتى بعيره فأطلق عقله ثم خرج حتى أتى قومه فاجتمعوا إليه، وكان أوّل ما تكلَّم به أن قال: بئست الَّلات والعزَّى, فقالوا: مه يا ضمام, اتق البرص والجنون والجذام، قال: ويلكم، إنهما لا يضران ولا ينفعان. إن الله قد بعث رسولًا وأنزل عليه كتابًا
__________
وكسر الميم، لكن لم تأت به الرواية، "وأنا ضمام بن ثعلبة أخو بني سعد بن بكر".
زاد مسلم: والذي بعثك بالحق لا أزيد عليهنّ ولا أنقص، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم: "لئن صدق ليدخلنَّ الجنة"، وفي حديث أبي هريرة: فأمَّا هذه الهناة، يعني: الفواحش، فوالله إنا كنَّا لنتنزه عنها في الجاهلية، فلمَّا أن ولَّى، قال -صلى الله عليه وسلم: "فقه الرجل"، "وزاد ابن إسحاق في مغازيه" فإنه روى الحديث فيها عن ابن عباس "فقال" بعد قوله: الله أرسلك إلينا رسولًا، قال: "اللهمّ نعم"، قال: فأنشدك الله إلهك وإله من كان قبلك، وإله من هو كائن بعدك، "آلله أمرك" أن تأمرنا "أن نعبده" وحده "ولا نشرك به شيئًا، وأن نخلع هذه الأنداد التي كان آباؤنا يعبدون" معه، "فقال -صلى الله عليه وسلم: "اللهمَّ نعم"،" فذكر الحديث.
قال: فلما فرغ، قال: إني أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله، وسأؤدي هذه الفرائض، وأجتنب ما نهيتني عنه، ثم لا أزيد ولا أنقص، ثم انصرف، فقال -صلى الله عليه وسلم: "إن صدق دخل الجنة".
"قال" ابن عباس في صدر الحديث: "وكان ضمام رجلًا جلدًا" بجيم مفتوحة فدال مهملة- صلبًا شديدًا، "ذا غديرتين" بفتح المعجمة، وكسر المهملة، وإسكان التحتية، أي: ذؤابتين, تثنية غدير، والجمع غدائر، وقال في آخر الحديث: "ثم أتى بعيره، فأطلق عقله، ثم خرج حتى أتى قومه، فاجتمعوا إليه، وكان" كذا في النسخ بالواو، والرواية في ابن إسحاق: فكان -بالفاء، "أوَّل ما تكلم به" برفع أول اسم كان والخبر، "أن قال" أي: قوله ويجوز عكسه، "بئست اللات والعزَّى، فقالوا: مَهْ،" انكفف عن هذا القول "يا ضمام! اتق البرص والجنون والجذام،" أي: احذر سبَّهما، فإنه موجب لذلك، "قال: ويلكم, إنهما" والله، كما في الرواية "لا يضرَّان، ولا ينفعان"؛ إذ هما جماد لا يعقل، ولذا عَبَّر بويل إشارة إلى استحقاقهم الوقوع في الهلاك، إذ لو تأمَّلوا بعقولهم ما عبدوا الجماد، "إن الله قد بعث رسولًا، وأنزل عليه كتابًا استنقذكم به" مما(5/198)
استنقذكم به، وإني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وإني قد جئتكم من عنده بما أمركم به ونهاكم عنه، فوالله ما أمسى في ذلك اليوم في حاضره رجل ولا امرأة إلا مسلمًا.
قال ابن عباس: فما سمعنا بوافد قوم كان أفضل من ضمام بن ثعلبة.
__________
كنتم فيه، كما في الرواية، وضمير به يحتمل عوده لكتابًا؛ لأنه أقرب مذكور، ويحتمل للمذكور من الرسول والكتاب "وإني أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا سول الله، وإني قد جئتكم من عنده بما أمركم به،" أي: طلبه منكم من الأحكام، "ونهاكم عنه" منها، لأنكم من جملة المكلفين، "فوالله ما أمسى في ذلك اليوم في حاضره،" أي: مكان إقامته "رجل، ولا امرأة إلا مسلمًا".
"قال ابن عباس" راوي الحديث: "فما سمعنا بوافد قوم كان أفضل من ضمام بن ثعلبة" -رضي الله عنه، وتقدَّم قول عمر: ما رأيت أحسن مسألة، ولا أوجز من ضمام، وحسبه هذا الثناء من عمر، وابن عباس مع شهادة المصطفى له بالفقه، حيث قال: "فقه الرجل"، كما مَرَّ، ولم يذكروا تاريخ وفاته.(5/199)
الوفد السابع عشر: وفد طارق بن عبد الله وقومه
وفد طارق بن عبد الله وقومه, روى البيهي عن جامع بن شداد قال: حدَّثني رجل يقال له طارق بن عبد الله قال: إني لقائم بسوق ذي المجاز إذ أقبل رجل وهو يقول: أيها الناس, قولوا لا إله إلا الله تفلحوا، ورجَّع يتبعه فيرميه
__________
"الوفد السابع عشر":
"وفد طارق بن عبد الله" المحاربي، من محارب خصفة -بفتح المعجمة، والمهملة والفاء, صحابي، له حديثان، أو ثلاثة أحاديث.
روى عنه أبو الشعثاء، وربعي بن حراش، وجامع بن شداد، كما في الإصابة.
روى أصحاب السنن الأربعة والبخاري في كتاب خلق أفعال العباد، "وقومه" بني محارب، وأراد بالوفد هنا معناه اللغوي، وهو مجرّد القدوم لا الجماعة المختارة للتقدّم في لقاء العظماء؛ لأن هؤلاء إنما قدموا لأجل الميرة، فالمعنى هذا بيان قصة ورود طارق وقومه على النبي -صلى الله عليه وسلم.
"روى البيهي عن جامع بن شداد" المحاربي، أبي صخرة الكوفي، ثقة، روى له الستة، مات سنة سبع، ويقال: سنة ثمان وعشرين ومائة.
"قال: حدثني رجل يقال له: طارق بن عبد الله، قال: إني لقائم بسوق ذي المجاز" كان للعرب على فرسخ من عرفة بناحية كبكب؛ "إذ أقبل رجل" زاد في راية الحاكم: عليه(5/199)
بالحجارة يقول: يا أيها الناس, إنه كذاب فلا تصدقوه، فقلت من هذا؟ فقالوا: هذا غلام من بني هاشم يزعم أنه رسول الله. قلت: من ذا الذي يفعل هذا؟ قالوا: عمه عبد العزّى.
قال: فيما أسلم الناس وهاجروا، خرجنا من الربذة نريد المدينة نمتار من تمرها، فلمَّا دنونا من حيطانها ونخلها قلنا: لو نزلنا فلبسنا ثيابًا غير هذه، فإذا رجل في طمرين له فسلم, وقال: من أين أقبل القوم؟ قلنا: من الربذة، قال: وأين تريدون؟ قلنا: نريد المدينة، قال: ما حاجتكم فيها؟ قلنا: نمتار من تمرها، قال: ومعنا ظعينة
__________
جبة له حمراء, فسمعته "وهو يقول: "أيها الناس, قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا"، ورجل يتبعه يرميه بالحجارة" زاد في رواية الحاكم: وقد أدمى كعبيه, "يقول: يا أيها الناس إنه كذاب، فلا تصدقوه" فجمع بين الأذى فعلًا وقولًا، ولو كان من أجنبي لربما كان أخفّ، ولذا قال -صلى الله عليه وسلم: "ما أوذي أحد ما أوذيت"، وقال: "لقد أوذيت في الله وما يؤذى أحد"، "فقلت: من هذا؟ " الذي يأمر بالتوحيد، "فقالوا: هذا غلام" أي: رجل "من بني هاشم".
وفي القاموس: الغلام الطار الشارب، أو من حين يولد إلى أن يشيب، والمراد الثاني، "يزعم أنه رسول الله" أي: يذكر، وعبَّروا بالزعم؛ لأنهم كانوا في شك من رسالته، وأكثر ما يستعمل فيما يشك فيه، وإن أطلق على الحق والباطل والكذب، وقد مَرَّ قريبًا، "قلت: من ذا الذي يفعل به هذا؟ " الأذى القولي والفعلي، "قالوا: عمه عبد العزى" أبو لهب، "قال: فلمَّا أسلم الناس، وهاجروا خرجنا من الربذة" بفتح الراء والموحدة والمعجمة.
قال في المصباح: وزان قصبة، خرقة الصائغ يجلو بها الحلي، وبها سميت قرية كانت عامرة في صدر الإسلام، وبها قبر أبي ذر الغفاري وجماعة من الصحابة، وهي في وقتنا دارسة لا يعرف بها رسم، وهي عن المدينة في جهة المشرق على طريق حاجّ العراق، نحو ثلاثة أيام، هكذا أخبرني جماعة من أهل المدينة، في سنة ثلاث وعشرين وسبعمائة. انتهى.
"نريد المدينة، نمتار من تمرها" أي: نحمل منه، ففيه تحر يدلان الامتياز، حمل الميرة -بالكسر، وهي هنا التمر، ويمكن بقاء نمتار على حقيقته؛ إذ الميرة له في القاموس: حب الطعام، فالمعنى يحمل حب الطعام التمر، فالتمر مبين للمراد من حب الطعام الذي يحملونه، "فيما دنونا" قربنا "من حيطانها ونخلها قلنا: لو نزلنا، فلبسنا ثيابًا غير هذه" لكان أحسن، فلو شرطية، حذف جوابها أو للتمني، فلا جواب لها، "فإذا رجل في طمرين له" بكسر الطاء- ثوبين خلقين، أو كساءين باليين من غير الصوف، "فسلّم، وقال: من أين أقبل القوم؟ قلنا: من الربذة، قال: وأين تريدون؟ قلنا: نريد المدينة، قال: ما حاجتكم فيها؟ قلنا: نمتار من تمرها، قال" طارق: "ومعنا(5/200)
لنا، ومعنا جمل أحمر مخطوم، فقال: "أتبيعون جملكم هذا"؟ قالوا: نعم, بكذا وكذا صاعًا من تمر، فأخذ بخطام الجمل فانطلق، فلمَّا توارى عنَّا بحيطان المدينة ونخلها قلنا: ما صنعنا، والله ما بعنا جملنا ممن نعرف, ولا أخذنا له ثمنًا. قال: تقول المرأة التي معنا: والله لقد رأيت رجلًا كأنَّ وجهه قطعة القمر ليلة البدر، أنا ضامنة لثمن جملكم, وفي رواية ابن إسحاق: قالت الظعينة: فلا تلاوموا، لقد رأيت وجه رجل لا يغدر بكم، ما رأيت شيئًا أشبه بالقمر ليلة البدر من وجهه؛ إذ أقبل رجل فقال: أنا رسول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إليكم، هذا تمركم, فكلوا واشبعوا واكتالوا
__________
ظعينة لنا" امرأة في هودج سُمِّيَت بذلك، ولو كانت في بيتها؛ لأنها تصبر مظعونة، أي: يظعن بها زوجها، "ومعنا جمل أحمر مخطوم، فقال: "أتبيعوني جملكم هذا"؟ قالوا: نعم, بكذا وكذا صاعًا من تمر، فأخذ بخطام" بكسر الخاء- مفرده خطم، مثل كتاب وكتب، أي: ما يقاد به "الجمل، فانطلق" به، "فلما توارى عنا بحيطان المدينة ونخلها، قلنا: ما صنعنا" استفهام توبيخ لأنفسهم على تسليمهم الجمل لمن لا يعرفونه من غير قبض ثمنه، ويدل علي قول الظينة: فلا تلاوموا؛ لأن ضابط التوبيخي أن يكون ما بعد أداته واقعًا, وفاعله ملوم، أي: فعلنا ما لا ينبغي فعله، "والله ما بعنا جملنا ممن نعرف، ولا أخذنا له ثمنًا" فعرضناه للضياع، "قال" طارق: "تقول المرأة التي معنا" حين قلنا ذلك، وعَبَّر بالمضارع حكاية للحال الماضية: "والله لقد رأيت رجلًا كأنَّ وجهه قطعة القمر" وفي لفظ: شقة، فكان أحدهما بالمعنى، وهي بكسر الشين- القطعة "ليلة البدر", زائدة في البهاء ليلة أربعة عشر، وهو أحسن ما يكون القمر، وشبه به دون الشمس؛ لأن نوره أنفع من نورها، ولعلّ التقييد بالقطعة، مع أن البلغاء يشبهون الوجه بالقمر بلا تقييد أنه كان حينئذ متلثمًا، أو احترازًا عن السواد الذي في القمر، ويأتي بسط ذلك إن شاء الله تعالى في الصفة النبوية، وحسن الوجه دليل على الخير، فضلًا عن الأذى، كما قال -صلى الله عليه وسلم: "اطلبوا الخير عند حسان الوجوه"، ولذا قالت: "أنا ضامنة لثمن جملكم" أن يأتيكم من هذا الحسن الوجه الذي اشتراه.
"وفي رواية ابن إسحاق" عن طارق السيرة، رواية يونس عن ابن إسحاق، "قالت الظعينة: فلا تلاوموا" أي: لا يلم بعضكم بعضًا، "لقد رأيت وجه رجل لا يغدر" بكسر الدال "بكم، ما رأيت شيئًا أشبه بالقمر ليلة البدر من وجهه" ومَنْ هذه صفته لا يغدر؛ "إذ أقبل" رجل, جواب لمحذوف، أي: فبينا نحن نتكلم إذ أقبل "رجل" وفي رواية الحاكم: فما كان العشي أتانا رجل، "فقال: أنا رسول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إليكم، هذا تمركم" الذي بعتم به جملكم، وفيه تسمّح، فمقتضى السياق أنه أكثر مما جعلوه ثمنًا، فالمراد هذا تمر بعث به إليكم لتستوفوا منه، "فكلوا واشبعوا" لا مجرد أكل، "واكتالوا واستوفوا", فلا تتساهلوا في نظير أكلكم، "فأكلنا حتى شبعنا،(5/201)
واستوفوا، فأكلنا حتى شبعنا، واكتلنا واستوفينا، ثم دخلنا المدينة، فلمَّا دخلنا المسجد إذا هو قائم على المنبر يخطب الناس, فأدركنا من خطبته وهو يقول: "تصدقوا فإن الصدقة خير لكم، اليد العليا خير من اليد السفلى".
__________
واكتلنا واستوفينا" كما أمرهم، "ثم دخلنا المدينة" من الغد، كما في رواية الحاكم، "فلمَّا دخلنا المسجد، إذا هو قائم على المنبر يخطب الناس" يحتمل أن ذلك وافق يوم جمعة، وأنه عرض له أمر اقتضى الوعظ، فصعد المنبر للوعظ عليه، "فأدركنا من" أي: بعض "خطبته، وهو يقول" جملة حالية، أي: والحال أنه يقول فيما أدركناه فيه: "تصدقوا، فإن الصدقة خير لكم"؛ لأنها بعشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، والله يضاعف لمن يشاء، ولأن فيها المواساة والسماحة، ومخالفة النفس المطبوعة على حب المال، وقال -صلى الله عليه وسلم: "أفضل الصدقة أن تصدق وأنت صحيح شحيح، تأمل العيش، وتخشى الفقر".
وفي التنزيل: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ} ، أي: المال، أو الله، "اليد العليا" وهي المنفقة، "خير من اليد السفلى" الآخذة، وقيل: العليا هي المنفقة، وقيل: السائلة، لكن ورد في رواية اليد العليا المنفقة من النفقة في رواية الأكثرين.
قال القرطبي: فهذا نص يرفع الخلاف في التفسير، قال: ورواه بعضهم: المتعففة -بعين وفاءين، وقيل: إنه تصحيف.
قال الحافظ: ومحصّل ما في الآثار؛ أنَّ أعلى الأيدي المنفقة، ثم المتعفِّفة عن الأخذ، ثم الآخذة بغير سؤال، وأسفل الأيدي السائلة والمانعة، وبقية الحديث عند مخرجه: "وابدأ بمن تعول" أمك وأباك، وأختك وأخاك، وادنَّاك أدناك، وثم رجل من الأنصار، فقال: يا رسول الله, هؤلاء بنو ثعلبة بن يربوع، قتلوا فلانًا في الجاهلية، فخذ لنا بثأرنا، فرفع -صلى الله عليه وسلم- يده حتى رأيت بياض إبطيه، فقال: "لا تجني أم على ولد"، أخرجه الحاكم بطوله، وقال: صحيح الإسناد، وأخرجه النسائي وابن ماجه متختصرًا عن طارق؛ أن رجلًا، قال: يا رسول الله, هؤلاء بنو ثعلبة، الذين قتلوا فلانًا في الجاهلية، فخذ لنا بثأرنا، فرفع يده حتى رأيت بياض إبطيه، وهو يقول: "لا تجني أم على ولد مرتين".(5/202)
الوفد الثامن عشر: وفد تجيب
وقدم عليه -صلى الله عليه وسلم- وفد تجيب،
__________
"الوفد الثامن عشر":
"وقدم عليه -صلى الله عليه وسلم- وفد تجيب" بضم الفوقية وفتحها وكسر الجيم وتحتية ساكنة، وموحدة.
قال في التبصير: اختلف في أوَّله، فقيل: بالفتح، وقيل: بالضم، فسوَّى بينهما تبعًا لابن السيد، لكن القاموس قدَّم الضم، فقال: وتجيب -بالضم وتفتح- بطن من كندة.(5/202)
وهم من السكون، من ثلاثة عشر رجلًا، قد ساقوا معهم صدقات أموالهم التي فرض الله عليهم، فسُرَّ -عليه الصلاة والسلام- بهم وأكرم منزلهم، وأمر بلالًا أن يحسن ضيافتهم، ثم جاءوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يودعونه, فأمر بلالًا فأجازهم بأرفع مما كان يجيز به الوفود. قال: "هل بقي منكم أحد"؟ قالوا: غلام خلفناه على رحالنا وهو أحدثنا سنًّا، قال: "أرسلوه إلينا"، فلما أقبل الغلام على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله، إن حاجتي ليست كحاجة أصحابي، وإن كانوا راغبين في الإسلام، والله ما أخرجني من بلادي لا إلا أن تسأل الله أن يغفر لي ويرحمني وأن يجعل
__________
قال في النور: وعليه المحدثون، وكثير من الأدباء أ. هـ، ينسبون إلى جدتهم العليا تجيب, ابنة ثوبان بن سليم من مذحج، وهي أم أبذى بن عدي، قاله الواقدي، وأبذى -بفتح الألف والمعجمة، بينهما موحدة ساكنة مقصورة، "وهم من السكون" بفتح المهملة، وضم الكاف، وسكون الواو، ونون- بطن من كندة باليمن، "ثلاثة عشر رجلًا" لا أعرف أسماءهم، قاله في النور، "قد ساقوا معهم صدقات أموالهم التي فرض الله عليهم، فسُرَّ" بضم السين "عليه الصلاة والسلام بهم، وأكرم منزلهم" وقالوا: يا رسول الله, سقنا إليك حقّ الله في أموالنا، فقال -صلى الله عليه وسلم: "ردوها فاقسموها على فقرائكم"، قالوا: ما قدمنا عليك إلّا بما فضل من فقرائنا، فقال أبو بكر، يا رسول الله, ما قدم علينا وفد من العرب مثل ما وفد به هذا الحي من تجيب، فقال -صلى الله عليه وسلم: "إن الهدى بيد الله -عز وجل، فمن أراد به خيرًا شرح صدره للإيمان"، وسألوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أشياء، فكتب لهم بها، وجعلوا يسألونه عن القرآن والسنن، فازداد فيهم رغبة، "وأمر بلالًا أن يحسن ضيافتهم،" فأقاموا أيامًا، ولم يطيلوا اللبث، فقيل لهم: ما يعجلكم؟ قالوا: نرجع إلى من وراءنا، فنخبرهم برؤيتنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم، وكلامنا إياه وما رد علينا، "ثم جاءوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يودّعونه، فأمر بلالًا، فأجازهم بأرفع مما كان يجيز به الوفود، قال", استئناف, والذي في العيون، فقال: "هل بقي منكم أحد"؟ قالوا: غلام خلَّفناه على رحالنا، وهو أحدثنا سنًّا، قال: أرسلوه إلينا،" فلما رجعوا إلى رحالهم، قالوا للغلام: انطلق إلى رسول الله، فاقض حاجتك منه، فإنا قد قضينا حوائجنا منه، وودَّعناه، "فلما أقبل الغلام على رسول الله -صلى الله عليه وسلم،" قال: أنا غلام من بني أبذى، أنا من الرهط الذين أتوك، فقضيت حوائجهم، فاقض حاجتي يا رسول الله، قال: "ما حاجتك"؟ "فقال:" جواب لما دخلته الفاء من تصرّف المصنف في الرواية، "يا رسول الله, إن حاجتي ليست كحاجة أصحابي، وإن كانوا راغبين في الإسلام،" وساقوا ما ساقوا من صدقاتهم، "والله ما أخرجني" لفظه: ما أعملني، أي: ما حثَّني وساقني، فأتى المصنف بمعناه، "إلّا أن تسأل الله أن يغفر لي ويرحمني، وأن يجعل غناي" بالقصر. يساري "في قلبي", فإن(5/203)
غناي في قلبي، فقال -عليه الصلاة والسلام: "اللهم اغفر له وارحمه, واجعل غناه في قلبه"، ثم أمر له بما أمر لرجل من أصحابه, ثم انطلقوا راجعين إلى أهليهم.
ثم وافوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بِمِنَى سنة عشر، فقال: "ما فعل الغلام"؟ قالوا: يا رسول الله, ما رأينا مثله قط، ولا حدَّثنا بأقنع منه بما رزقه الله، لو أنَّ الناس اقتسموا الدنيا ما نظر نحوها ولا التفت إليها.
__________
من قنع بالكفاف استراح من طلب الزيادة، مع أنه ليس له إلّا ما قُدِّرَ له، وشهوات النفس لا تنقطع أبدًا، فهي دائمًا فقيرة لتراكم الشهوات عليها، فهي مفتونة بذلك، وتصل فتنتها إلى القلب فيفتتن، فيصم ويعمى عن الحق.
وفي الحديث: "حبك الشيء يعمي ويصم"، "فقال -عليه الصلاة والسلام: "اللهم اغفر له وارحمه، واجعل غناه في قلبه" وهذا عبد أراد الله به الخير، فوافقه لسؤال ذلك من المصطفى, فقد قال -صلى الله عليه وسلم: "إذا أراد الله بعبد خيرًا جعل غناه في نفسه، وتقواه في قلبه، وإذا أراد الله بعبد شرًّا، جعل فقره بين عينيه".
رواه الديلمي وغيره، "ثم أمر له بما"، أي: بمثل الذي "أمر" به "لرجل من أصحابه، ثم انطلقوا راجعين إلى أهليهم، ثم وافوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بِمِنَى سنة عشر" فقالوا: نحن بنو أبذى، "فقال" -صلى الله عليه وسلم: "ما فعل الغلام" الذي أتاني منكم؟ "قالوا: يا رسول الله" والله "ما رأينا مثله قط، ولا حدَّثنا بأقنع منه بما رزقه الله, لو أن الناس اقتسموا الدنيا ما نظر نحوها، ولا التفت إليها" فاستجاب الله دعاء نبيه، وبقية القصة: فقال -صلى الله عليه وسلم: "الحمد لله، إني لأرجو أن يموت جميعًا"، فقال رجل منهم: أَوَلَيْس يموت الرجال جميعًا؟ قال -صلى الله عليه وسلم: "تتشعب أهواؤه وهمومه في أودية الدنيا، فلعلَّ أجله أن يدركه في بعض لك الأودية، فلا يبالي الله -عز وجل- في أيها هلك"، قالوا: فعاش ذلك الرجل فينا على أفضل حال، وأزهده في الدنيا، وأقنعه بما رزق، فلمَّا توفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم، ورجع من رجع من أهل اليمن عن الإسلام، قام في قومه، فذكَّرهم الله والإسلام، فلم يرجع منهم أحد، وجعل الصديق يذكّره، ويسأل عنه، حتى بلغه حاله، وما قام به، فكتب إلى زياد بن الوليد يوصيه به خيرًا، ذكره اليعمري أ. هـ.(5/204)
الوفد التاسع عشر: وفد بني سعد هذيم
قدوم وفد بني سعد هذيم من قضاعة:
__________
"الوفد التاسع عشر":
"قدوم وفد بني سعد هذيم" بضم الهاء وفتح الذال المعجمة فتحتية فميم، وهو سعد بن زيد، لكن حضنه عبد أسود اسمه هذيم، فأضيف إليه، وهو أبو قبيلة "من قضاعة" شعب(5/204)
روى الواقدي عن ابن النعمان عن أبيه, من سعد هذيم قال: قدمت على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وافدًا في نفر من قومي، فنزلنا ناحية من المدينة, ثم خرجنا نؤمَّ المسجد الحرام، فقمنا ناحية ولم ندخل مع الناس في صلاتهم حتى نلقى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ونباعيه، ثم بايعنا -صلى الله عليه وسلم- على الإسلام, ثم انصرفنا إلى رحالنا.
وقد كنَّا خلفنا أصغرنا، فبعث -عليه السلام- في طلبنا, فأتي بنا إليه، فتقدَّم صاحبنا
__________
من معد، وقيل: من اليمن.
"روى الواقدي" محمد بن عمر بن واقد الأسلمي المدني، الحافظ، المتروك مع سعة علمه، "عن ابن النعمان، عن أبيه" قال في النور: لا أعرفهما أ. هـ. والنعمان صحابي، عجبت من صاحب الإصابة كيف لم يترجم له، مع أنَّ شأنه الاستيعاب لكل ما ورد، وإن ضعف إسناده، أو كان لا إسناد له، "من سعد هذيم، قال: قدمت على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وافدًا في نفر من قومي" وقد أوطأ رسول الله البلاد غلبةً, وأذاخ العرب والناس صنفان، إما داخل في الإسلام راغب فيه، وإما خائف من السيف، هذا أسقطه من رواية الواقد قبل قوله: "فنزلنا ناحية من المدينة", وأذاخ -بذال وخاء معجمتين: استولى، "ثم خرجنا نؤمّ" نقصد "المسجد الحرام" يعني: النبوي, مسجد المدينة؛ لأنه يطلق عليه الحرام أيضًا، وقد قال -صلى الله عليه وسلم: "وإني حرَّمت المدينة"، أي: جعلتها حرمًا، والقرية صارفة عن إرادة حرم مكة، لكن لم يقع في رواية الواقدي عند اليعمري لفظ الحرام، فالأَوْلَى إسقاطه، "فقمنا ناحية" تصرف في رواية الواقدي بالحفظ، ولفظه: نؤمّ المسجد حتى انتيهنا إلى بابه، فنجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصلي على جنازة في المسجد، فقمنا خلفه ناحية، "ولم ندخل مع الناس في صلاتهم" على الجنازة، وقلنا: "حتى نلقى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ونبايعه", ثم انصرف -صلى الله عليه وسلم- فنظر إلينا، فدعا بنا، فقال: "ممن أنتم"؟ فقلنا: من بني سعد هذيم، فقال: "أمسلمون أنتم"؟ قلنا: نعم، قال: "فهلّا صليتم على أخيكم"؟ قلنا: يا رسول الله, ظننَّا أن ذلك لا يجوز لنا حتى نبايعك، قال -صلى الله عليه وسلم: "أينما أسلمتم، فأنتم مسلمون"، قالوا: فأسلمنا وبايعنا, هذا أسقطه من خبر الواقدي؛ لأنه لم يتعلق غرضه به، واختصره بقوله: "ثم بايعنا -صلى الله عليه وسلم- على الإسلام" قال في النور: ما حاصله.
والظاهر أنه سهيل بن بيضًا، فلا أعلم أحدًا صلى عليه في مسجد غيره، وما في مسلم: أنه صلى على سهيل وأخيه في المسجد، ففيه أنه إن كان المراد به سهلًا بالتكبير، فلا يصح؛ لأنه مات بعد النبي -صلى الله عليه وسلم، قاله الواقدي، وإن كان صفوان فكذلك؛ لأنه قُتِلَ ببدر أ. هـ، "ثم انصرفنا إلى رحالنا، وقد كنَّا خَلَّفْنَا أصغرنا" بشد اللام، ولم يعرف البرهان اسم أصغرهم، "فبعث -عليه(5/205)
فبايعه على الإسلام، فقلنا: يا رسول الله، إنه أصغرنا وخادمنا، فقال: "أصغر القوم خادمهم، بارك الله عليك"، قال: فكان والله خيرنا وأقرأنا بدعاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم، ثم أمَّره علينا، فكان يؤمّنا, فرجعنا إلى قومنا، فرزقهم الله الإسلام.
__________
السلام- في طلبنا، فأُتِيَ" بالبناء للمجهول "بنا إليه،" وكأنه بعث يطلبهم، لأجل مبايعة أصغرهم له، وشرَّفه برؤيته، "فتقدَّم صاحبنا، فبايعه على الإسلام، فقلنا: يا رسول الله, إنه أصغرنا وخادمنا، فقال: "أصغر القوم خادمهم, بارك الله عليك"،" وفي اليعمري وغيره: عليه، وهي الموافقة لكون الخطاب معهم لا معه، ويحتمل أنه قصد خطابه؛ لأنه تقدَّم له وبايعه، فلا التفات فيه.
"قال" النعمان راوي الحديث: "فكان والله خيرنا، وأقرأنا بدعاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم، ثم أمَّرَه علينا" بشد الميم- من التأمير، "فكان يؤُمُّنا،" قال: ولما أردنا الانصراف أمر بلالًا، فأجازنا بأواقي من فضة لكل رجلٍ منا، "فرجعنا إلى قومنا، فرزقهم الله الإسلام" كذا في نسخة، فرجعنا بالفاء، وهي التي في الرواية، وفي نسخة: مرجعنا -بالميم، أي: يؤمّنا زمن رجوعنا.(5/206)
الوفد العشرون: وفد بني فزارة
وفد بني فزارة: قال أبو الربيع بن سليمان في كتاب الاكتفاء: ولما رجع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من تبوك، قدم عليه وفد بني فزارة، بضعة عشر رجلًا, منهم خارجة بن حصن،
__________
"الوفد العشرون":
"وفد بني فزارة" بفتح الفاء والزاي فألف فراء فتاء تأنيث, قبيلة من قيس عيلان، ويحتمل أنه أراد بالوفد، القدوم, من إضافة المصدر إلى فاعله، وأنَّه بمعنى الجماعة المختارة للتقدُّم في لقاء العظماء، فتكون من إضافة الأعمّ إلى الأخص، وهذا أوفق بقوله بعد قدم عليه إلخ ...
"قال" الإمام الحافظ البارع العالم، محدث الأندلس وبليغها "أبو الربيع" سليمان بن موسى "ابن سليمان،" ابن حسان الحميري، الكلاعي، البلنسي، المُعْتَنِي بالحديث أتمَّ عناية، فكان إمامًا في صناعته، بصيرًا به، عارفًا بالجرح والتعديل، ذاكرًا للمواليد والوفيات، مقدَّم أهل زمانه في ذلك، وفي حفظ أسماء الرجال، مع التبحُّر في الأدب، والاشتهار بالبلاغة، فردًا في الإنشاء، شجاعًا بطلًا، يباشر الحروب بنفسه، ويبلي فيها بلاءًَ حسنًا. ولد في مستَهَلِّ رمضان سنة خمس وستين وخمسمائة، واستُشْهِدَ ببلد العدو في العشرين من ذي الحجة، سنة أربع وثلاثين وستمائة "في كتاب الاكتفاء" بالمد, في مغازي رسول الله والثلاثة الخلفاء، أحد تصانيفه العديدة، "ولما رجع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من تبوك" في رمضان سنة تسع، "قدم عليه وفد بني فزارة بضعة عشر رجلًا، منهم خارجة" بمعجمة فراء فجيم "ابن حصن" بكسر المهملة(5/206)
والحر بن قيس، ابن أخي عيينة بن حصن، وهو أصغرهم، مقرِّين بالإسلام، وهم مسنتون، على ركاب عجاف، فسألهم -عليه الصلاة والسلام- عن بلادهم, فقال أحدهم: يا رسول الله، أسنتت بلادنا وهلكت مواشينا، وأجدب جنابنا، وغرث عيالنا،
__________
الأُولَى وإسكان الثانية, ابن حذيفة بن بدر، أخو عيينة بن حصن، وهو والد أسماء بن خارجة، الذي كان بالكوفة.
ذكر الواقدي: أنه ارتدَّ بعد المصطفى ومنع الصدقة ثم تاب، وقدم على أبي بكر, "والحر" بضم المهملة، وشد الراء "بن قيس" ابن حصن بن حذيفة بن بدر الفزاري، "ابن أخي عيينة بن حصن" نرفع ابن صفة للحر المرفوع بالعطف، ذكره ابن السكن في الصحابة، وفي البخاري عن ابن عباس: قدم عيينة بن حصن، فنزل على ابن أخيه الحر بن قيس، وكان من النفر الذين يدنيهم عمر الحديث.
وفي الصحيحين: تمارى ابن عباس، والحر بن قيس في صاحب موسى، فمرَّ بهما أُبَيّ بن كعب.. الحديث. وقال مالك في العتبية: قدم عيينة بن حصن، فنزل عند ابن أخ له أعمى، فبات يصلي، فلما أصبح غدا إلى المسجد، فقال عيينة: ما رأيت قومًا أوجه لما وجهوهم له من قريش، كان ابن أخي عندي أربعين سنة لا يطيعني، ذكره في الإصابة، "وهو أصغرهم" فنزلوا في دار رملة بنت الحارث، وجاءوا المصطفى "مقرين بالإسلام وهم مسنتون" بضم الميم، وإسكان المهملة، وكسر النون، أي: مجدبون، ويروى: مشتون -بشين معجمة فتاء، أي: داخلون في الشتاء "على ركاب" إبل يسار عليها "عجاف" بكسر المهملة، وخفة الجيم: بالغين في الهزال النهاية، جمع أعجف على غير قياس، حملًا على نظيره، وهو ضعاف أو على ضده، وهو سمان، والقياس عجف، كأحمر وحمر، "فسألهم -عليه الصلاة والسلام- عن بلادهم،" عن أحوالها، "فقال أحدهم:" قال في النور: لا أعرفه.
وفي الفتح: الظاهر أنه خارجة؛ لكونه كبير الوفد أ. هـ، ولا يلزم من كونه كبيرهم أن يكون هو القائل "يا رسول الله أسنتت" بهمزة مفتوحة، ومهملة ساكنة، وفوقية، أي: أجدبت "بلادنا" أصابتها السنة وهي الجدب، "وهلكت مواشينا" من عدم ما تأكله، "وأجدب" بدال مهملة "جنابنا" بفتح الجيم وخفة النون، فألف فموحدة: الفناء، وما قرب من محلة القوم، فعطفه بلا تاء على أسنت من عطف الجزء على الكل، إن أريد بجنابنا ما حول بيوتنا، ومباين أن أريد به ما يقرب من بلادهم، وعلى كلٍّ، فالغرض الزيادة في إظهار سبب هلاك المواشي، سيما على الوجه الثاني، وقراءته جناننا -بنونين، جمع جنة, تصحي، فأرض العرب لم يكن بها جنان "وغرث" بفتح المعجمة، وكسر الراء، ومثلثة: جاع "عيالنا" لقلة ما يأكلون، وفي نسخة: غرثت -بزيادة تاء،(5/207)
فادع لنا ربك يغيثنا، واشفع لنا إلى ربك، وليشفع لنا ربك إليك.
فقال -صلى الله عليه وسلم: "سبحان الله!! ويلك، هذا إنما شفعت عند ربي -عز وجل, فمن ذا الذي يشفع ربنا إلينا؟ لا إله إلا هو العلي العظيم، وسع كرسيه السماوات والأرض، فهي تئط من عظمته وجلاله، كما يئط الرجل الجديد".
وقال عليه الصلاة والسلام: "إن الله -عز وجل- ليضحك
__________
وتركها أظهر، لأنَّ عيال الرجل من يعول، ولو ذكورًا، فهو مذكر، "فادع لنا ربك يغيثنا" بفتح أوله. من الغيث، أي: يمطرنا، وبضم أوله من الإغاثة، وهي الإجابة، "واشفع لنا إلى ربك" أي: توسَّل لنا إليه بما بينك وبينه من السر، يقال: شفعت في الأمر شفعًا وشفاعة, طالبته بوسيلة أو ذمام، "وليشفع لنا ربك إليك، فقال -صلى الله عليه وسلم" متعجبًا: "سبحان الله، ويلك" كلمة عذاب خاطبه بها زجرًا وتنفيرًا عن العود لمثلها، وإن عذر لقرب عهده بالإسلام، "هذا إنما شفعت" بفتح الفاء- من باب منع، كما في القاموس وغيره.
قال في النور: وهو بديهي كالشمس، إلّا أني أخبرت أن بعض الأروام كسرها، وفي نسخة: أنا شفعت، وكذلك في العيون وغيرها، وهي أَوْلَى؛ لأن إنما للحصر، وإنما تستعمل للرد على معتقد الشركة أو القلب، وهؤلاء ليسوا كذلك, "عند ربي -عز وجل، فمن ذا الذي يشفع ربنا إليه، لا إله إلا هو العلي" فوق خلقه بالقهر "العظيم" الكبير، "وسع كرسيه السموات والأرض" قيل: أحاط علمه بهما، وقيل: ملكه، وقيل: الكرسي بعينه يشتمل عليهما لعظمته؛ لحديث: "ما السموات السبع في الكرسي إلّا كدراهم ألقيت في ترس"، ذكره السيوطي.
وفي النور: الصواب: أنَّ الكرسي غير العلم، خلافًا لزاعمه ولزاعم أنه القدرة، وأنه موضع قدميه، وإنما هو المحيط بالسموات والأرض، وهو دون العرش، كما جاءت به الآثار، "فهي تئط" بفتح الفوقية، وكسر الهمزة، وشد الطاء المهملة: تصوَّت "من عظمته وجلاله"، "كما يئط الرجل" بالمهملة "الجديد" بالجيم.
قال المصنف في المقصد التاسع: الأطيط صوت الأقتاب، يعني: إن الكرسي ليعجز عن حمله وعظمته؛ إذ كان معلومًا أن أطيط الرحل بالراكب، إنما يكون لقوّة ما فوقه وعجزه عن احتماله، وهذا مثل لعظمة الله وجلاله، وإن لم يكن أطيط، وإنما هو كلام تقريبي أريد به تقرير عظمته -عز وجل أ. هـ.
"وقال -عليه الصلاة والسلام: "إنَّ الله -عز وجل- ليضحك" يدر رحمته، ويجزل مثوبته، فالمراد لازمه، أو الضحك فيهنّ وما أشبهه التجلي والظهور، حتى يرى بعين البصيرة في الدنيا والآخرة بعين البصر، يقال: ضحك الشيب إذا ظهر قال:(5/208)
"من شففكم وقرب غياثكم".
فقال الأعرابي: يا رسول الله، ويضحك ربنا -عز وجل؟ فقال: "نعم".
قال الأعرابي: لن نعدمك من رب يضحك خيرًا.
فضحك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من قوله, وصعد المنبر فرفع يديه حتى رؤي بياض إبطيه
__________
لا تعجبي يا هند من رجل ... ضحك المشيب برأسه فبكى
"من شففكم" بفتح الشين المعجمة والفاء: اسم من الإشفاف، والمراد به: أقصى ما وجدوه من الضيق، كما في الشامي، ومقضتاه أنه بفاءين، ويفيده كلام القاموس والصحاح، كذا قال شيخنا هنا، وضبطه في المقصد التاسع بالفاء والقاف، فقال، أي: خوَّفكم، يقال: أشفقت من كذا حذرت، وفي الصحاح: أشفقت عليه، فأنا مشفق وشفيق، وإذا قلت: شفقة منه، فإنما تعني حذرته، وأصلهما واحد، ومثله في القاموس أ. هـ.
وقد زاد في العيوان: وأزلكم -بفتح الهمزة، وإسكان الزاي، أي: ضيقكم، وهو يؤيد الثانية قاف لا فاء؛ لأن الأصل تباين العطف، "وقرب غياثكم" بضم القاف، وسكون الراء مخفوض عطفًا على شفقكم، والمعنى: إن الله يضحك من حصول الفرج لكم متصلًا بشدة الضيق، وهذا قاله -صلى الله عليه وسلم- قبل صعود المنبر، والدعاء، فيكون علمه بالوحي، فبشرهم به، "فقال الأعرابي: يا رسول الله, ويضحك ربنا -عز وجل؟ فقال: "نعم"، قال الأعرابي: لن نعدمك" بفتح النون، وسكون العين، وفتح الدال، كما في الصحاح، والقاموس، والمختار، والمصباح: إنه من باب طرب، وبه ضبط الكرماني وغيره، وقوله -صلى الله عليه وسلم: "لا نعدمك من صاحب المسك، إما تشتريه أو تجد ريحه"، فضبط الشامي -بكسر الدال- لا يعوَّل عليه على أنه كتب بهامش نسخته بخطه يحرر، فأفاد أنه كتبه على عجل، ليراجعه بعد "من رب يضحك خيرًا" أي: لا ننفي عنك خيرًا من رب يضحك، لما جرت له العادة, إنَّ العظيم إذا سُئِلَ شيئًا فضحك، أو نظر السائل نظرة جلوة حصل له ما يؤمله منه، "فضحك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من قوله وصعد" بكسر العين مضارعة بفتحها "المنبر".
زاد في الرواية: وتكلم بكلمات "فرفع يديه حتى ريء" براء مكسورة، فهمزة مفتوحة، ممدود، أو بضم الراء، وكسر الهمزة. "بياض إبطيه" وهو من خصائصه دون غيره.
قال أبو نعيم: بياض إبطيه من علامات نبوَّته, وقد وقع في هذه الرواية، وكان لا يرفع يديه في شيء من الدعاء إلّا رفع الاستسقاء، ومثله في الصحيحين من حديث أنس.(5/209)
وكان مما حفظ دعائه: "اللهم اسق بلدك الميت، اللهم اسقنا غيثًا مغيثًا مربعًا طبقًا واسعًا عاجلًا غير آجل، نافعًا غير ضار، اللهمَّ سقيا رحمة لا سقيا عذاب ولا هدم ولا غرق ولا محق, اللهم اسقنا الغيث وانصرنا على الأعداء"، الحديث رواه ابن سعد والبيهقي، ويأتي تمامه
__________
قال الحافظ: ظاهره نفي الرفع في كل دعاء غير الاستسقاء، وهو معارض بالأحاديث الثابتة بالرفع في غير الاستسقاء، وتقدَّم أنها كثيرة، وأفردها البخاري بترجمة في كتاب الدعوات، وساق فيه عِدَّة أحاديث، فذهب بعضهم إلى أن العمل بها أَوْلَى، وحمل حديث أنس على نفي رؤيته، وذلك لا يستلزم نفي رؤية غيره، وذهب آخرون إلى تأويل حديث أنس، لأجل الجمع بحمله على نفي الرفع البالغ إلّا في الاستسقاء، يدل عليه قوله: حتى رِيء إلخ، ويؤيده أن غالب الأحاديث الواردة في رفع اليدين في الدعاء، المراد به مد اليدين، وبسطهما عند الدعاء، وكأنه عند الاستسقاء, زاد: فرفعهما إلى جهة وجهه حتى حاذاتاه، وبه حينئذ يرى بياض إبطيه، أو على صفة اليدين في ذلك، لما في مسلم عن أنس؛ أنه -صلى الله عليه وسلم- استسقى، فأشار بظهر كفيه إلى السماء، ولأبي داود عن أنس: كان يستسقي هكذا، ومد يديه وجعل طونهما مما يلي الأرض حتى رأيت بياض إبطيه.
قال النووي: قال العلماء: السُّنَّة في كل دعاء لرفع بلاء أن يرفع يديه جاعلًا ظهور كفيه إلى السماء، وإذا دعا بسؤال شيء وتحصيله أن يجعل كفيه إلى السماء أ. هـ، وتعقب الحمل الثاني بأنه يقتضي أنه يفعل ذلك، وإن كان استسقاؤه للطلب، كما هنا، مع أنه نفسه ذكر أن ما كان لطلب شيء، كان ببطون الكفَّين إلى السماء، والظاهر أنَّ مستند هذا استقراء حاله -صلى الله عليه وسلم- في دعاء الاستسقاء وغيره، "وكان مما حُفِظَ" بالبناء للمفعول من "دعائه: "اللهم اسق" بوصل الهمزة، وقطعها ثلاث ورباعي، وكذا ما بعده "بلدك" أي: أهل بلدك "الميت، اللهم اسقنا غيثنا" مطرًا "مغيثًا" من هذه الشدة, "مربعًا" بضم الميم، وإسكان الراء، وكسر الموحدة، وعين مهملة، أو بفوقية بدل الموحدة, من رتعت الدابة إذا أكلت ما شاءت، أو بفتح الميم، وكسر الراء، وسكون التحتية، ومهملة, من المراعة، وهي الخصب, "طبقًا" بفتح المهملة والموحدة وقاف، أي: مستوعبًا للأرض منطبقًا عليها "واسعًا" كالتأكيد طبقًا، "عاجلًا غير آجل، نافعًا غير ضار" بزرع، ولا مسكن، ولا حيوان وآدمي، أو بهيمة, "اللهم سقيا رحمة، لا سقيا عذاب، ولا هدم، ولا غرق، ولا محق، اللهم اسقنا الغيث وانصرنا على الأعداء"، الحديث.
"رواه ابن سعد والبيهقي" في الدلائل، "ويأتي تمامه"، وهو: فقام أبو لبابة بن عبد المنذر، فقال: يا رسول الله, إن التمر في المربد ثلاث مرات، فقال -عليه السلام: "اللهم اسقنا حتى يقوم(5/210)
إن شاء الله تعالى في الاستسقاء في مقصد عباداته -عليه الصلاة والسلام.
__________
أبو لبابة عريانًا يسد ثعلب مربده بإزار"، قال: فلا والله ما في السماء من قزعة، ولا سحاب" وما بين المسجد وسلع من بناء، ولا دار، فطلعت من وراء سلع سحابة مثل الترس، فلمَّا توسَّطت السماء انتشرت وهم ينظرون، ثم أمطرت، فوالله ما رأوا الشمس سبتًا، وقام أبو لبابة عريانًا بسد ثعلب مربده بإزاره لئلَّا يخرج التمر منه، فقال الرجل -يعني الذي سأله أن يستسقى لهم: يا رسول الله, هلكت الأموال، وانقطعت السبل، فصعد المنبر فدعا، ورفع يديه حتى رأى بياض إبطيه، ثم قال: "اللهم حوالينا ولا علينا، على الآكام والظراب، وبطون الأودية، ومنابت الشجر"، فانجابت السحابة على المدينة، كانجياب الثوب هذا آخر الآتي، "إن شاء الله تعالى في الاستسقاء من مقصد عباداته -عليه الصلاة والسلام" وهو التاسع، وفيه ثَمَّ فوائد جليلة، والله أعلم.(5/211)
الوفد الحادي والعشرين: وفد بني أسد
...
الوفد الحادي والعشرون: وفد بني أسد
وقدم عليه -صلى الله عليه وسلم- وفد بني أسد، عشرة رهط فيهم وابصة بن معبد، وطليحة بن خويلد،
__________
"الوفد الحادي والعشرون":
"وقدم عليه -صلى الله عليه وسلم- وفد بني أسد" بفتح الهمزة والسين- ابن خزيمة, في سنة تسع "عشرة رهبط فيهم وابصة بن معبد" بن عتبة بن الحارث بن مالك بن الحارث بن مالك بن قيس بن كعب بن سعد بن الحارث بن ثعلبة بن دودان بن أسد بن خزيمة الأسدي.
وقال أبو حاتم: هو وابصة بن عبيدة, ومعبد لقب أبو سالم، ويقال: أبو الشعثاء، ويقال: أبو سعد، وفد سنة تسع، وروى عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وابن مسعود وأم قيس وغيرهم، وعنه ابناه سالم وعمرو، وغيرهما, نزل الجزيرة فروى أبو علي الحراني عن أبي عبد الله الرقي، وكان من أعوان عمر بن عبد العزيز، أنه بعث معه بمال، وكتب إلى وابصة أن يبعث معه من يكف الناس عنه، وقال لي: لا تفرقه إلّا على نهر جار، فإني أخاف أن يعطشوا، قال أبو علي: وما أظن هذا إلا وهمًا؛ لأن وابصة ما عاش إلى خلافة عمر بن عبد العزيز، وهو كما ظنَّ، ولعلَّه كان في الأصل إلى ابن وابصة, قاله في الإصابة، وفي تقريبه وابصة -بكسر الموحدة ثم مهملة- ابن عتبة الأسدي، صحابي, نزل الجزيرة، وعاش إلى قرب سنة تسعين.
روى له أبو داود، والترمذي، وابن ماجه، "وطليحة بن خويلد" بتصغيرها- ابن نوفل بن نضلة الأسدي وَفَدَ وأسلم، ثم ارتدَّ بعد النبي -صلى الله عليه وسلم- وادَّعى النبوّة، فأمر أبو بكر خالد بن الوليد، وأمره أن يصير في ضاحية مضر، فيقاتل من ارتدَّ، ثم يسير إلى اليمامة، فسار فقاتل طليحة،(5/211)
ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- جالس مع أصحابه، فقال متكلمهم: يا رسول الله, إنا شهدنا أن الله وحده لا شريك له، وأنك عبده ورسوله، وجئناك ولم تبعث إلينا بعثًا.
فأنزل الله تعالى: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الحجرات: 17] .
__________
فهزمه وهرب إلى الشام، ثم أسلم إسلامًا صحيحًا، ولم يغمض عليه بعد إسلامه، وأحرم بالحج، فرآه عمر، فقال: لا أحبك بعد قتل الرجلين الصالحين عكاشة بن محصن، وثابت بن أقرم، وكانا طليعتين لخالد، فلقيهما طليحة فقتلهما، فقال طليحة: هما رجلان أكرمهما الله بيدي، ولم يهنِّي بأيديهما يا أمير المؤمنين، فمعاشرة جميلة، فإن الناس يتعاشرون مع البغضاء، وشهد القادسية ونهاوند مع المسلمين، وذكروا له مواقف عظيمة في الفتوح، ويقال: إنه استُشْهِدَ بنهاوند سنة إحدى وعشرين، ووقع في الأم للشافعي أن عمر قتل طليحة وعيينة، وراجعت في ذلك جلال الدين البلقيني فاستغربه جدًّا، ولعله قبل -بالباء الموحدة- أي: قَبِلَ منهما الإسلام، قاله في الإصابة ملخصًا، واقتصر المصنف على تسمية هذين الاثنين من العشرة، تبعًا لما في بعض الروايات، وزاد ابن سعد: ضرار بن الأزور، وحضرمي ابن عامر، وقتادة بن القائف، وسلمة بن حبيش، ومعاذ بن عبد الله بن خلف، فجملة من سمي سبعة، ولم يسم الثلاثة الباقية، فقصَّر البرهان تقصيرًا شديدًا في قوله: ما عرفت منهم إلّا وابصة وطليحة، وفي الإصابة: أبو مكعت -بضم فسكون فمهملة مكسورة ثم مثناة فوقية- الأسدي, اسمه: عرفطة ابن نضلة، وقيل: الحارث بن ثعلبة, وفد في قومه بني أسد، فلمَّا وقف بين يدي النبي -صلى الله عليه وسلم- قال:
يقول أبو مكعت صادقًا ... عليك السلام أبا القاسم
سلام الإله وريحانه ... وروح المصلين والصائم
فقال عليه السلام: "يا أبا مكعت, عليك السلام تحية الموتى" أ. هـ باختصار، فهذا ثامن، "ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- جالس" في المسجد، كما في الرواية، فكأنه أسقطه للعلم به "مع أصحابه، فقال" لفظ ابن سعد: فسلَّموا، وقال "متكلمهم" -قال في النور: لا أعرفه: "يا رسول الله، إنا شهدنا أن الله وحده" حال وخبر أن "لا شريك له، وأنك عبده ورسوله، وجئناك" لفظ الرواية.
وقال حضرمي ابن عامر، أتيناك نتدرع الليل البهيم في سنة شهباء، أي: نجعل الليل الشديد الظلمة درعًا لنا في سنة جدباء، لا مطر فيها من الشبهة البياض، "ولم تبعث إلينا بعثًا".
زاد ابن سعد: ونحن لمن وراءنا سلم، "فأنزل الله تعالى {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ} , أي: بأن {أَسْلَمُوا} من غير قتال بخلاف غيرهم ممن أسلم بعد قتال، {قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ} منصوب بنزع الخافض، وهو الباء، {بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ(5/212)
................................
__________
صَادِقِينَ} في قولكم: آمنَّا، وهذا أسنده ابن سعد من مرسل محمد بن كعب الكرظي، وله شواهد، وسألوه -صلى الله عليه وسلم- عن العيافة والكهانة وضرب الحصى، فنهاهم عن ذلك كله, العيافة -بعين مهملة مكسورة فتحتية ففاء- الطير والتفاؤل بأسمائها وأصواتها وممرها، والكهانة: تعاطي خبر الكائنات في المستقبل، فقالوا: بقيت خصلة هي الخط، قال -صلى الله عليه وسلم: "الخط علمه نبي من الأنبياء، فمن صادف مثل علمه علم".
قال ابن قرقول: الخط خط الرمل، ومعرفة ما يدل عليه.
قال البرهان: هذا النبي لا أعرف اسمه، والشامي في حفظي أنه إدريس، ولا أعلم من ذكره أ. هـ، وفي مسلم, فمن وافق فذاك، ومعناه على الصحيح: من وافق خطه فهو مباح له، ولكن لا طريق لنا إلى العلم اليقيني بالموافقة, فلا يباح، فالقصد أنه حرام؛ لأنه لا يباح إلا بتيقن الموافقة، ولا سبيل إليها، وإنما قال فذاك، ولم يقل: هو حرام بلا تعليق على الموافقة، لئلّا يتوهم دخول ذلك النبي في النهي.
وقال عياض: المختار: إن معناه من وافق خطه، فذاك الذي يجدون إصابته فيما يقول، لا أنه يباح لفاعله، قال: ويحتمل أن هذا نسخ في شرعنا، فحصل من مجموع كلام العلماء الاتفاق على النهي عنه الآن، كذا في النور، وفي الشامية: ضرب الرمل حرام, صرَّح به غير واحد من الشافعية والحنابلة وغيرهم أ. هـ، وكذا ابن رشد من المالكية، ومقتضى كلام المازري: إنه إذا اعتقد أن الله أجرى عادته بدلالته على ما يدل عليه، من غير أن يكون للخط تأثير في ذلك، فلا يكون حرامًا، والله أعلم.(5/213)
الوفد الثاني والعشرون: وفد بهراء
وقدم عليه -صلوات الله وسلامه عليه- وفد بهراء من اليمن، وكانوا ثلاثة عشر رجلًا، فلمَّا انتهوا إلى باب المقداد رحَّب بهم، وقدّم لهم جفنة من حيس،
__________
"الوفد الثاني والعشرون":
"وقدم عليه صلوات الله وسلامه عليه وفد بهراء" بفتح الموحدة، وإسكان الهاء، وبالراء ممدود- قبيلة من قضاعة، والنسبة إليها بهراني على غير قياس، وقياسه بهراوي بالواو، وذكر الواقدي عن كريمة بنت المقداد، قال: سمعت أمي ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب تقول: قدم وفد بهراء "من اليمن، وكانوا ثلاثة عشر رجلًا" فأقبلوا يقودون رواحلهم، "فلما انتهوا إلى باب المقداد" بن الأسود، ونحن في منازلنا ببني حديلة -بضم الحاء وفتح الدال المهملتين وتحتية- بطن من الأنصار، خرج إليهم المقداد فـ "رحَّب بهم، وقدَّم لهم جفنة" بفتح الجيم- قصعة "من حيس" بفتح المهملة، وإسكان التحتية، ومهملة, تمر يعجن بسمن وأقط, قال:(5/213)
فأكلوا منها حتى نهلوا, وردَّت القصعة وفيها شيء، فجمع في قصة صغيرة فأرسل بها إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في بيت أم سلمة، فأصاب منها هو ومن معه في البيت حتى نهلوا، ثم أكل منها الضيف ما أقاموا، يرددون ذلك عليهم وما تغيض، حتى جعلوا يقولون: يا أبا معبد، إنك لتنهلنا من أحبّ الطعام إلينا، وما كنا نقدر على مثل هذا إلّا في الحين، فأخبرهم أبو معبد بخبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه أكل منها وردَّها، فإن هذه بركة أصابعه -عليه الصلاة والسلام، فجعل القوم يقولون: نشهد أنه رسول الله، وازدادوا يقينًا، وتعلَّموا الفرائض, وأقاموا أيامًا، ثم ودَّعوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم, فأمر لهم بجوائز وانصرفوا إلى أهليهم.
__________
والتمر والسمن جميعًا والأقط ... الحيس إلا أنه لم يختلط
قالت ضباعة: كنا قد هيأناها قبل أن يحلوا، لنجلس عليها، فحملها أبو معبد المقداد، وكان كريمًا على الطعام، "فأكلوا منها حتى نهلوا" بفتح النون وكسر الهاء، وأصله الشرب, الأول أطلق على الأكل مجازًا علاقته أن الشرب لازم للأكل غالبًا، "وردَّت" البناء للمفعول "القصعة" بالفتح، ولا تكسر، "وفيها شيء، فجمع في قصعة صغيرة، فأرسل بها" لفظ الرواية عن ضباعة، فجمعنا ذلك في قصعة صغيرة، ثم بعثنا بها مع سدرة مولاتي "إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم" فوجدته "في بيت أم سلمة" فقال -صلى الله عليه وسلم: "ضباعة أرسلت بهذا"؟ قالت سدرة: نعم يا رسول الله، قال: "ضعي" , ثم قال: "ما فعل ضيف أبي معبد"؟ قلت: عندنا، "فأصاب منها هو ومن معه في البيت حتى نهلوا" وأكلت معهم سدرة، "ثم" قال: "اذهبي بما بقي إلى ضيفكم"، فرجعت بها، فـ "ـأكل منها الضيف ما أقاموا" مدة إقامتهم، وجمع مع أن الضيف مفردًا للفظ؛ لأن المراد هنا الثلاثة عشر "يرددون ذلك عليهم وما تغيض" بفتح الفوقية، وكسر المعجمة، ثم تحتية، فمعجمة، أي: تنقص، "حتى جعلوا يقولون: يا أبا معبد, إنك لتنهلنا" بضم أوله، وكسر الهاء- لتشبعنا حتى نحتاج إلى النهل الشرب الأول، "من أحب الطعام إلينا، وما كنَّا نقدر على مثل هذا إلا في الحين" أي: نادر من الزمن، وقد ذكر لنا أن بلادكم قليلة الطعام، إنما هو العلق، أو نحوه، ونحن عندك في الشبع، "فأخبرهم أبو معبد" كنية المداد بن الأسود من السابقين، شهد بدرًا، ولم يثبت أنه شهدها فارس غيره "بخبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم، أنه أكل منها وردَّها، فإن هذه بركة أصابعه -عليه الصلاة والسلام، فجعل القوم يقولون: نشهد أنه رسول الله، وازدادوا يقينًا" وذلك الذي أراد -صلى الله عليه وسلم، فأتوه فأسلموا، أي: أظهروه عنده بالنطق بالشهادتين، "وتعلَّموا الفرائض، وأقاموا أيامًا" لم يبين عدتها، "ثم ودَّعوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فأمر لهم بجوائز" لم يبيِّن أيضًا قدرها، "وانصرفوا إلى أهليهم" باليمن.(5/214)
الوفد الثالث والعشرون: وفد عذرة
وقدم عليه -صلى الله عليه وسلم- وفد عذرة، في صفر سنة تسع، وكانوا اثني عشر رجلًا، منهم جمرة بن النعمان، فرحَّب بهم -صلى الله عليه وسلم، فأسلموا وبشَّرَهم بفتح الشام, وهرب هرقل إلى ممتنع من بلاده،
__________
"الوفد الثالث والعشرون":
"وقدم عليه -صلى الله عليه وسلم- وفد عذرة" بمهملة مضمومة، ومعجمة ساكنة، فراء مفتوحة، فتاء تأنيث- قبيلة باليمن من قضاعة.
روى الواقدي: إنهم وفدوا "في صفر سنة تسع، وكانوا اثني عشر رجلًا، منهم جمرة بن النعمان", وسعد وسليم ابنا مالك، هكذا نقله في الإصابة عن الواقدي، فقصر البرهان في قوله: لا أعرف منهم إلا جمرة بن النعمان بن هوذة بن مالك بن سمعان العذري.
قال الكلبي: هو أوّل من قدم بصدقة قومه إلى النبي -صلى الله عليه وسلم، وقال الطبري: هو سيد بني عذرة، ووفد على النبي -صلى الله عليه وسلم- بصدقة قومه، فأقطعه -صلى الله عليه وسلم- حصر قوسه ورمية سوطه من وادي القرى، فنزلها إلى أن مات، ذكره ابن شاهين، لكنه أخرجه في الحاء المهملة، وكذا ابن بشكوال، فوهِمَا فيه، فقد ضبطه الدارقطني بالجيم والراء.
وقال الواقدي: حدثنا شعيب بن ميمون، عن أبي مرانة البلوي: سمع جمرة بن النعمان العذري، وكانت له صحبة, يقول: أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بدفن الشعر والدم، أخرجه الدارقطني من طريقه انتهى، "فرحَّب بهم -عليه الصلاة والسلام" أي: قال لهم: "مرحبًا بكم وأهلًا"، أي: لقيتم رحبًا وسعة فاستأنسوا، ولفظ الرواية، فقال -صلى الله عليه وسلم: "من القوم"؟ فقال متكلمهم: من لا تنكر, نحن بنو عذرة إخوة قصي لأمه، نحن الذين عضدوا قصيًّا، وأزاحوا من بطن مكة خزاعة وبني بكر، ولنا قرابات وأرحام.
قال -صلى الله عليه وسلم: "مرحبًا بكم وأهلًا، ما أعرفني بكم، فما يمنعكم من تحية الإسلام"، قالوا: كنا على ما كان عليه آباؤنا، وجئنا مرتادين لأنفسنا ولقومنا، فإلام تدعو؟ قال: "إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وأن تشهدوا أني رسول الله إلى الناس كافة"، فقال متكلمهم: فما وراء ذلك من الفرائض، فأخبرهم بجميعها، فقالوا: الله أكبر, نشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، قد أجبناك إلى ما دعوت إليه، ونحن أعوانك وأنصارك يا رسول الله، إن متجرنا الشام، وبه هرقل، فهل أوحي إليك في أمره بشيء؟ قال: "أبشروا، فإن الشام ستفتح عليكم، ويهرب هرقل إلى ممتنع(5/215)
ثم انصرفوا وقد أجيزوا.
__________
بلاده"، واختصر المصنف هذا، فقال: "فأسلموا، وبشَّرهم بفتح الشام وهرب" بالجر، أي: وبشرهم بهرب "هرقل إلى ممتنع بلاده" ونهاهم عن سؤال الكاهنة، وعن الذبائح التي كانوا يذبحونها، وأخبرهم أن ليس عليهم إلا الأضحية، فأقاموا أيامًا بدار رملة، أي: بنت الحارث النجارية، كانت دارها تنزل فيها الوفد، "ثم انصرفوا وقد أجيزوا" أعطاهم الجائزة، وهي العطية، والتحفة، واللطف، كما في القاموس.(5/216)
الوفد الرابع والعشرون: وفد بلي
وقدم عليه -صلى الله عليه وسلم- وفد بلي، فأسلموا، فقال -صلى الله عليه وسلم: "الحمد لله الذي هداكم للإسلام، فكل من مات على غير الإسلام فهو في النار" , ثم ودَّعوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعد أن أجازهم.
__________
"الوفد الرابع والعشرون":
"وقدم عليه -صلى الله عليه وسلم- وفد بلي" بفتح الموحدة، وكسر اللام، وشد الياء، والنسبة إليها بلوي -بفتحتين, نسبة إلى بلي بن عمرو بن الحاف بن قضاعة، ذكر الواقدي عن رويفع بن ثابت البلوي، قال: قدم وفد قومي في شهر ربيع الأول سنة تسع، فأنزلتهم عليَّ, وقدمت بهم على رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فقلت: هؤلاء قومي، فقال: "مرحبًا بك وبقومك"، "فأسلموا، فقال" لهم "صلى الله عليه وسلم: "الحمد لله الذي هداكم للإسلام، فكل من مات على غير الإسلام فهو في النار"، " وبقية حديث رويفع عند الواقدي.
وقال له أبو الضبيب شيخ الوفد: يا رسول الله, إن لي رغبة في الضيافة، فهل لي في ذلك أجر؟ قال: "نعم، وكل معروف صنعته إلى غني أو فقير فهو صدقة"، قال: يا رسول الله, ما وقت الضيافة؟ قال: "ثلاثة أيام، فما بعد ذلك فصدقة، ولا يحلّ للضيف أن يقيم عندك فيحرجك".
قال: يا رسول الله, أرأيت الضالة من الغنم أجدها في الفلاة من الأرض؟ قال: "لك ولأخيك، أو للذئب"، قال: فالبعير؟ قال: "ما لك وله، دعه حتى يجده صاحبه"، قال رويفع: ثم قاموا، فرجعوا إلى منزلي، فإذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يأتي منزلي يحمل تمرًا، فقال: "استعن بهذا التمر"، فكانوا يأكلون منه، ومن غيره فأقاموا ثلاثًا، "ثم ودَّعوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعد أن أجازهم" ورجعوا إلى بلادهم, وأبو الضبيب -بمعجمة مضمومة- بلفظ تصغير ضب، ويقال فيه أيضًا: أبو الضبيس -بسين مهملة آخره بدل الموحدة.
ذكره محمد بن الربيع الجيزي فيمن دخل مصر من الصحابة، كما في الإصابة ذاكرًا بعض حديث رويفع عازيًا للواقدي، وبالسين، ذكره الذهبي، فقال في التجريد: أبو ضبيس البلوي له صحبة، فقصر البرهان في قوله: لم أقع لأبي الضبيس على ترجمة، ولا رأيت أحدًا ذكره في الصحابة، إلّا ما هنا فليتبع. انتهى. وعذره أنه إنما رآه بسين آخره في تجريد الصحابة، وهنا رآه بموحدة، فظنَّه غيره، مع أنه هو، كما أفاده في الإصابة، ويحرجك من الحرج، أي: يضيق صدرك، وقيل: يؤثمك، أي: يعرضك للإثم، حتى تتكلم فيه بما لا يجوز، فتأثم.(5/216)
الوفد الخامس والعشرون: وفد بني مرة
وقدم عليه -صلى الله عليه وسلم- وفد بني مرة وكانوا ثلاثة عشر رجلًا، ورئيسهم: الحارث بن عوف، فقال لهم -عليه الصلاة والسلام: "كيف البلاد"؟ فقالوا: والله إنا لمسنتون، فادع الله لنا، فقال عليه الصلاة والسلام: "اللهم اسقهم الغيث" , ثم أقاموا أيامًا ورجعوا بالجائزة, فوجدوا بلادهم قد أمطرت في ذلك اليوم الذي دعا لهم فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم.
__________
"الوفد الخامس والعشرون":
"وقدم عليه -صلى الله عليه وسلم- وفد بني مرة" بضم الميم وشد الراء فتاء تأنيث- ابن كعب بن لؤي.
قال الواقدي: حدَّثني عبد الرحيم بن إبراهيم المدني، عن أشياخه، قالوا: قدم وفد بني مرة، منصرف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من تبوك سنة تسع، "وكانوا ثلاثة عشر رجلًا" فنزلوا في دار بنت الحارث، ثم جاءوا إلى النبي -عليه السلام، "ورئيسهم الحارث بن عوف،" أي: بمهملة، فواو، ففاء- المري -بالراء- من فرسان الجاهلية المشهوريين, أسلم وعليه شيء من دمائها، فأهدره النبي -صلى الله عليه وسلم، وعند الواقدي، فقال -أي الحارث: يا رسول الله, إنا قومك وعشيرتك, إنا من لؤي بن غالب، فتبسَّم رسول الله -صلى الله عليه وسلم، وقال له: "أين تركت أهلك"؟ قال: بسلاح -بكسر المهملة، ولام، وألف، ومهملة، وما والاها، "فقال لهم -عليه الصلاة والسلام: "كيف البلاد"؟ " أي: كيف أهلها، أو حالها، والأول أنسب بقوله، "فقالوا: والله إنا لمسنتون", أي: مجدبون، فأسنده لأهل البلاد، وإلّا لقال: إنها مسنتة، زاد في الرواية: وما في المال مخ، أي: المواشي, كنَّى بالمخ عن شدة هزالها، "فادع الله لنا، فقال -عليه الصلاة والسلام: "اللهم اسقهم الغيث" المطر، "ثم أقاموا أيامًا" فأرادوا الانصراف إلى بلادهم، فأتوا النبي -صلى الله عليه وسلم- مودِّعين له، فأمر بلالًا، فأجاز كل واحد بعشرة أواق فضة، وفضَّل الحارث فأعطاه اثنتي عشرة أوقية، "ورجعوا بالجائزة، فوجدوا بلادهم قد أمطرت" بالبناء للمفعول، أي: أمطرها الله "في ذلك اليوم، الذي دعا لهم فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم" وأخصبت بعد ذلك بلادهم، وقدم على المصطفى وهو يتجهز لحجة الوداع قادم منهم، فقال: يا رسول الله, رجعنا إلى بلادنا فوجدناها مصبوبة مطرًا في ذلك اليوم الذي(5/217)
....................................
__________
دعوت لنا فيه، ووصف كثرة الخصب، فقال -صلى الله عليه وسلم: "الحمد لله الذي هو صنع ذلك".
وذكر الزبير بن بكار، وابن عساكر: إن الحارث بن عوف أتى النبي -صلى الله عليه وسلم، فقال: ابعث معي من يدعو إلى دينك، وأنا له جار، فبعث معه رجلًا أنصاريًّا، فغدا به عشيرة الحارث فقتلوه، فقال حسان:
يا حار من يغدر بذمة جاره ... منكم فإن محمدًا لا يغدر
وأماته المري حيث لقيته ... مثل الزجاجة صدعها لا يجبر
إن تغدروا فالغدر منكم عادة ... والغدر ينبت في أصول السحبر
فاعتذر وودي الأنصاري، وقال: يا محمد, إني عائذ بك من لسان حسان، لو أن هذا مزج بماء البحر لمزجه.(5/218)
الوفد السادس والعشرون: وفد خولان
وقدم عليه -زاده الله شرفًا وكرمًا لديه- وفد خولان، في شعبان سنة عشر، وكانوا عشرة، فقالوا: يا رسول الله، نحن مؤمنون بالله مصدّقون برسلوه، وقد ضربنا إليك آباط الإبل، وركبنا حزون الأرض وسهولها، والمنّة لله ولرسوله، وقدمنا زائرين لك, فقال -عليه الصلاة والسلام: "أمَّا ما ذكرتم من مسيركم إلي فإنَّ لكم بكل خطوة خطاها بعير أحدكم حسنة، وأما قولكم زائرين لك، فإنه من زارني بالمدينة كان في جواري يوم القيامة" , ثم قال -صلى الله عليه وسلم: "ما فعل صنم
__________
"الوفد السادس والعشرون":
"وقدم عليه -زاده الله شرفًا وكرمًا لديه- وفد خولان" بفتح المعجمة، وسكون الواو, وابن عمر أبو قبيلة باليمن "في شعبان سنة عشر، وكانوا عشرة" قال في النور: لا أعرف منهم أحدًا، "فقالوا: يا رسول الله، نحن" على من وراءنا من قومنا، ونحن "مؤمنون بالله، مصدقون برسوله،" أي: برسالته، والمراد بكونهم على من وراءهم؛ أنهم أمناء على المؤمنين بطلب العهد له، وكافلون بطلب إيمان من لم يكن آمن، "وقد ضربنا إليك آباط الإبل" جمع إبط، أي: تحملنا مشقة السير مع طول المسافة، "وركبنا حزون الأرض" بضم المهملة والزاي, جمع حزن -بفتح فسكون- ما غلظ من الأرض، "وسهولها" جمع سهل: ما لان منها، "والمنَّة لله ولرسوله، وقدمنا زائرين لك، فقال -عليه الصلاة والسلام: "أما ما ذكرتم من مسيركم إليَّ، فإن لكم بكل خطوة" -بفتح الخاء مرة واحدة "خطاها بعير أحدكم حسنة" وبضم الخاء: ما بين القدمين"، والأنسب الأوّل؛ إذ الثواب إنما هو على الفعل، وسير بعيرهم منسوب لهم، فأثيبوا عليه، "وأما قولكم زائرين لك، فإنه من زارني بالمدينة كان في جواري يوم القيامة" بضم الجيم وكسرها.(5/218)
خولان الذي كانوا يعبدونه"؟ قالوا: بدَّلنا الله به ما جئت به، إلا أن عجوزًا وشيخًا كبيرًا يتمسكان به، وإن قدمنا عليه هدمناه إن شاء الله تعالى.
ثم علَّمهم -عليه الصلاة والسلام- فرائض الدين، وأمرهم بالوفاء بالعهد، وأداء الأمانة، وحسن الجوار، وأن لا يظلموا أحدًا، ثم أجازهم ورجعوا إلى قومهم، وهدموا الصنم.
__________
زمامي وعهدي وتأميني، فأجابوه -رضي الله عنهم، فقالوا: يا رسول الله هذا السفر الذي لا توى عليه. بفتح الفوقية والواو والقصر، أي: لا هلاك، "ثم قال -صلى الله عليه وسلم: "ما فعل" عم أنس، وهو "صنم خولان الذي كانوا يعبدونه"،" أي: ما أصابه، أهو باقٍ على حاله؟ أم لا؟ فنسبة الفعل إليه تجوز، ويدل عليه جوابهم، حيث "قالوا:" بشر "بدلنا الله به ما جئت به، إلا أن عجوزًا وشيخًا كبيرًا، يتمسكان به،" ظاهره أنهما واحد وواحدة، وليس بمراد لفظ الرواية، كما في العيون، وقد بقيت منا بعد بقايا من شيخ كبير، وعجوز كبيرة متمسكون به، فالمراد الجنس الصادق بالمتعدد، فكأنه قال بقيت شيوخ وعجائز متمسكون به، "وإن قدمنا عليه هدمناه إن شاء الله تعالى،" فقد كَّا منه في غرور وفتنة، فقال -صلى الله عليه وسلم: "وما أعظم ما رأيتم من فتنته"، قالوا: لقد أسنتنا حتى أكلنا الرمة، فجمعنا ما قدرنا عليه واتبعنا مائة ثور، ونحرناها له قربانًا في غداة واحدة، وتركناها تردها السباع، ونحن أحوج إليها من السباع، فجاءنا الغيث من ساعتنا، ولقد رأينا العشب يواري الرجل، فيقول قائلنا: أنعم علينا عم أنس، وذكروا له ما كانوا يقسمون لصنمهم من أنعامهم وحروثهم، وأنهم كانوا يجعلون من ذلك جزءًا له، وجزء لله بزعمهم، فكانوا يزرعون الزرع، فيجعلون له وسطه، ويسمَّى زرعًا آخر حجره لله، فإذا مالت الريح بالذي له، جعلناه للصنم، وبالذي له لم نجعله لله، فقال -صلى الله عليه وسلم: "إن الله، قد أنزل عليّ في ذلك {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا} [الأنعام: 136] الآية "، قالوا: وكنا نتحاكم إليه فنكلم، فقال -صلى الله عليه وسلم: "تلك الشياطين تكلمكم"، "ثم علَّمهم -عليه الصلاة والسلام- فرائض الدين" لما سألوه عنها، أي: المسائل العامة الحصول، كالصلاة والزكاة والصوم، وما يحتاجون إليه، مما يكثر وقوعه، فهو مغاير لقوله: "وأمهرم بالوفاء بالعهد، وأداء الأمانة، وحسن الجوار" بكسر الجيم فقط، أي: الملازمة، كما في النور، أي: التزام الوفاء بالعهد وحفظه.
ففي القاموس: الجوار بالكسر أن تعطي الرجل ذمة يكون بها جارك، "وأن لا يظلموا أحدًا" قال: فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، "ثم" ودعوه بعد أيام، "و"أجازهم" باثنتي عشرة أوقية ونش، "ورجعوا إلى قومهم، وهدموا الصنم،" قبل أن يفعلوا شيئًا، ثم حرموا ما حرم عليهم المصطفي، وأحلوا ما أحل لهم، أي أظهروا ذلك فيما بينهم وعملوا به.(5/219)
الوفد السايع والعشرون: وفد محارب
...
الوفد السابع والعشرون: وفد محارب
وقدم عليه -صلى الله عليه وسلم- وفد محارب عام حجة الوداع، وكانوا أغلظ العرب وأفظهم عليه أيام عرضه على القبائل يدعوهم إلى الله، فجاءه -عليه الصلاة والسلام- منهم عشرة فأسلموا، ثم انصرفوا إلى أهليهم.
__________
"الوفد السابع والعشرون":
"وقدم عليه -صلى الله عليه وسلم- وفد محارب" بضم الميم ومهملة وراء مكسورة وموحدة- ابن سعد بن قيس عيلان -بمهملة مفتوحة، وتحتية ساكنة, "عام حجة الوداع" سنة عشر، "وكانوا أغلظ" أسوأ "العرب" خلقًا"، "وأفظهم" أشدهم جفاء "عليه" بمعجمة فيهما, "أيام عرضه على القبائل، يدعوهم إلى الله" قبل الهجرة، "فجاءه -عليه الصلاة والسلام- منهم عشرة" لم يسمعهم نائبين عن قومهم، "فأسلموا،" وكان بلال يأتيهم بغداء وعشاء، إلى أن جلسوا معه -صلى الله عليه وسلم- يومًا من الظهر إلى العصر، فعرف رجلًا، فأمده النظر، فقال المحاربي: كأنك يا رسول الله توهمني، قال: "لقد رأيتك"، فقال: أي: والله لقد رأيتني وكلمتني وكلمتك بأقبح الكلام، وأقبح الرد بعكاظ، وأنت تطوف على الناس، فقال -صلى الله عليه وسلم: "نعم"، فقال: يا رسول الله, ما كان في أصحابي أشد عليك يومئذ، ولا أبعد عن الإسلام مني، فأحمد الله الذي أبقاني حتى صدقت بك، ولقد مات أولئك النفر الذين كانوا معي على دينهم، فقال -صلى الله عليه وسلم: "إن هذه القلوب بيد الله -عز وجل"، فقال: يا رسول الله, استغفر لي من مراجعتي إياك، فقال -صلى الله عليه وسلم: "إن الإسلام يَجُبُّ ما كان قبله من الكفر"، "ثم انصرفوا إلى أهليهم".(5/220)
الوفد الثامن والعشرون: وفد صداء
وقدم عليه -عليه الصلاة والسلام- وفد صداء في سنة ثمان، وذلك أنه لما انصرف من الجعرانة بعث قيس بن سعد بن عبادة في أربعمائة، وأمره أن يطأ ناحية من اليمن فيها صداء، فقدم رجل منهم علم
__________
"الوفد الثامن والعشرون":
"وقدم عليه -عليه الصلاة والسلام- وفد صداء" بضم الصاد والدال المهملتين- حي من اليمن، قاله البخاري وغيره، يقال: إن أبا هذا الحي صداء بن حرب بن علة، "في سنة ثمان، وذلك" أي: سبب قدومهم، وهذا أَوْلَى من تقدير بيان؛ لأن مجيء الوفد لأجل البعث، "أنه لما انصرف من الجعرانة" لاثنتي عشرة ليلة بقيت من ذي القعدة، "بعث" كما قال ابن سعد بعوثًا إلى اليمن، فبعث المهاجر بن أمية إلى صنعاء، وزياد بن لبيد إلى حضرموت، وهيأ بعثًا استعمل عليهم "قيس بن سعد بن عبادة" الخزرجي، الصحابي ابن الصحابي -رضي الله عنهما، وعقد له(5/220)
بالبعث على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله, أردد الجيش، وأنا لك بقومي، فرد قيسًا.
ورجع الصدائي إلى قومه فقدم على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خمسة عشر رجلًا منهم، فبايعوه على الإسلام ورجعوا إلى قومهم, ففشا فيهم الإسلام، فوافى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- منهم مائة رجل في حجة الوداع. ذكره الواقدي وذكر من حديث زياد بن الحرث الصدائي: إنه الذي قدم على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: اردد الجيش، وقال: وكان زياد هذا معه في بعض أسفاره, وأنه -عليه الصلاة والسلام- قال له: "يا أخا صداء, هل معك ماء"؟ قلت: معي شيء في إداوتي، فقال: "صبه"، فصببته في قعب ثم وضع عليه
__________
لواء أبيض، ودفع إليه راية سوداء، وعكسر بناحية قناة "في أربعمائة" فارس من المسلمين، "وأمره أن يطأ ناحية من اليمن فيها صداء، فقدم رجل منهم" هو زياد بن الحارث، كما يأتي، "علم بالبعث على رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله, اردد الجيش، وأنا" أتكفَّل "لك بقومي" أي: بإسلامهم.
ففي رواية عن زياد: جئتك وافدًا على من ورائي، وأنا لك بإسلام قومي وطاعتهم، فقال: "اذهب فردهم"، فقلت: إن راحلتي قد قلَّت, فبعث رجلًا، "فردَّ قيسًا" ومن معه من صدر قناة، "ورجع الصدائي إلى قومه" ومع كتاب من المصطفى، "فقدم على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خمسة عشر رجلًا منهم" فقال سعد بن عبادة: يا رسول الله, دعهم ينزلون عليَّ، فنزلوا عليه، فحيَّاهم وأكرمهم، وكساهم، ثم راح بهم إلى النبي -صلى الله عليه وسلم، "فبايعوه على الإسلام" وقالوا: نحن لك على من وراءنا من قومنا، فقال -صلى اله عليه وسلم- لزياد: "يا أخا صداء, إنك امرؤ مطاع في قومك"، فقلت: بل الله هداهم للإسلام.
وفي رواية قلت: بل من الله ومن رسوله، "ورجعوا إلى قومهم، ففشا" ظهر وكثر "فيهم الإسلام، فوافى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- منهم مائة رجل في حجة الوداع، ذكره الواقدي" محمد بن عمر بن واقد، عن بعض بني المصطلق، قال في النور: ولا أعرف هذا البعض، "وذكر" بالبناء للفاعل، أي: الوافدي أيضًا "من حديث زياد بن الحارث" وقيل: ابن حارثة، والأوَّل أصحّ، قاله البخاري "الصدائي" صحابي شهد فتح مصر، "أنه الذي قدم على رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فقال: اردد الجيش" وأنا لك بقومي فردّهم، "وقال" الواقدي في روايته من حديث زياد: "وكان زياد هذا معه في بعض أسفاره" قال: فسار ليلًا وسرنا معه، وكنت رجلًا قويًّا, فتفرق أصحابه، ولزمت ركابه، فلمَّا كان السحر، قال: "أذّن يا أخا صداء"، فأذَّنت على راحلتي، ثم سرنا حتى نزلنا، فذهب لحاجته ثم رجع، "وأنه -عليه الصلاة والسلام- قال له: "يا أخا صداء هل معك ماء"؟ قلت: معي شيء في إداوتي" بكسر الهمزة المطهرة، وجمعها أدوى بفتح الواو، "فقال: "صبه"،(5/221)
الصلاة والسلام- كفه فيه, فرأيت الماء ينبع من بين أصابعه عينًا تفور.
__________
فصببته في قعب" بفتح القاف، وإسكان المهملة وموحدة- القدح الضخم الحافي، أو إلى الصغر، أو يروى الرجل، قال: وجعل أصحابه يتلاحقون، "ثم وضع -عليه الصلاة والسلام- كفه، فرأيت الماء ينبع من بين أصابعه" أي: بين كل إصبعين من أصابعه، كما هو لفظه "عينًا تفور", وقد اختلف هل نبع الماء من نفس الأصابع وهو الصحيح، أومن بينها، لا من نفسها, قولان، ولا ينافيها قوله بين كل إصبعين من أصابعه، لاحتمال أن العَيْن ناشئة من الماء، خارجة من بين الأصابع، وأنها من ذات بدنه الشريف، ولذا جاء القولان، وبعضهم يقول في حكايتهما: هل هو إيجاد معدوم، أو تكثير موجود، بمعنى: أنه بورك في الماء فزاد من غير ضم ماء آخر إليه بخلاف الأول، فنبع من بين الأصابع ماء انضمَّ إلى ما في القعب، فتغايَر القولان، وبسط ذلك يأتي إن شاء الله تعالى في المعجزت، ثم قال -صلى الله عليه وسلم: "إن أخا صداء أذَّن، ومن أذَّن فهو يقيم"، فأقمت، ثم صلى بنا، فلمَّا سلَّم، وكنت سألته قبل ذلك أن يؤمرني على قومي، وأن يأمر لي بشيء من صدقاتهم، فكتب لي كتابين بذلك، قام رجل يشتكي عامله، فقال: أخذنا بظلامات كانت بيننا وبينه في الجاهلية.
وفي رواية: أخذنا بكل شيء كان بيننا وبين قومه في الجاهلية، فقال -صلى الله عليه وسلم: "أو فعل ذلك"؟ قالوا: نعم، فالتفت إلى أصحابه، وأنا منهم، فقال: "لا خير في الإمارة لرجل مؤمن".
وفي لفظ مسلم: فدخل قوله في قلبي، ثم قام آخر، فقال رسول الله: "أعطني"، فقال: "من يسأل الناس عن غني، فصداع في الرأس، وداء في البطن"، قال: "فأعطني من الصدقة"، قال: "إن الله عز وجل لم يرض بحكم نبي، ولا غيره في الصدقات، حتى حكم فيها، فجزأها بثمانية أجزاء، فإن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك، وإن كنت غنيًّا عنها، فإنما هي صداع في الرأس، وداء في البطن".
وفي رواية: "إن الله لم يكل قسمها إلى ملك مقرب، ولا نبي مرسل، حتى جزَّأها على ثمانية أجزاء" والباقي سواء.
قال زياد: فدخل في نفسي أني سألته الصدقة وأنا غني، فقلت: يا رسول الله, هذان كتاباك فاقبلهما، ثم قال: "دُلَّني على رجل من قومك أستعمله"، فدللته فاستعمله، قلت: يا رسول الله, إن لنا بئرًا إذا كان الشتاء كفانا ماؤها، وإذا كان الصيف قلَّ علينا، فتفرقنا على المياه، والإسلام اليوم فينا قليل، ونحن نخاف, فادع الله لنا في بئرنا، فقال: " ناولني سبع حصيات"، فناولته فعركَهُنَّ بيده، ثم دفعهنَّ إليَّ، وقال: "إذا انتهيت إليها، فألق فيها حصاة حصاة، وسمّ الله"، ففعلت، فما أدركنا لها قعرًا حتى الساعة، ولعلَّ حكمة ذلك دون إلقاء الجميع، دفعة إرشاد العباد إلى أنهم إذا حاولوا أمرًا، أخذوا في أسبابه بالتدريج شيئًا فشيئًا، وإن أمكنهم حصولها دفعة، وأسر علمه -عليه الصلاة والسلام، ككون الحصيات سبعًا، ولعلّه ليس المراد خصوص الصداع ووجع البطن، بل ما يشمله ويشمل كل ضرر عاجل أو آجل، وحمله على ظاهره أَوْلَى، فلا دخل للعقل في ذلك، والله أعلم.(5/222)
الوفد التاسع والعشرون: وفد عسان
...
الوفد التاسع والعشرون: وفد غسان
وقدم عليه -صلى الله عليه وسلم- وفد غسَّان، في شهر رمضان سنة عشر، وكانوا ثلاثة نفر، فأسلموا وأجازهم -عليه الصلاة والسلام- بجوائز، وانصرفوا راجعين.
__________
"الوفد التاسع والعشرون":
"وقدم عليه -صلى الله عليه وسلم- وفد غسان" بفتح الغين المعجمة وشد المهملة- اسم ماء نزل عليه قوم من الأزد، فنسبوا إليه، قال حسَّان:
أما سألت فإنا معشر نجب ... الأزد نسبتنا والماء غسان
وقيل: غسان اسم القبيلة، فنونه أصلية فيصرف، فإن كان المسموع، وإلا فسبب منعه العلمية والتأنيث، باعتبار القبيلة "في شهر رمضان سنة عشر، وكانوا ثلاثة نفر" إضافة بيانية، "فأسلموا" وقالوا: لا ندري أيتبعنا قومنا أم لا؟ وهم يحبون بقاء ملكهم وقرب قيصر، "وأجازهم -عليه الصلاة والسلام- بجوائز، وانصرفوا راجعين" إلى قومهم، فلم يستجيبوا لهم، فكتموا إسلامهم، حتى مات منهم رجلان على الإسلام، وأدرك الثالث عمر عام اليرموك، فلقي أبا عبيدة، فأخبره بإسلامه، فكان يكرمه.(5/223)
الوفد الثلاثون: وفد سليمان
وقدم عليه وفد سلامان في شوّال سنة عشر، كما قال الواقدي، وكانوا سبعة نفر، فيهم حبيب بن عمرو، فأسلموا وشكوا إليه
__________
"الوفد الثلاثون":
"وقدم عليه وفد سلامان" بفتح المهملة وخفة اللام- بطن من قضاعة, ينسبون إلى جدهم الأعلى سلامان بن سعد بن زيد بن لوث بن سود بين أسلم بن الحاف بن قضاعة، "في شوَّال، سنة عشر، كما قال الواقدي، وكانوا سبعة نفر فيهم حبيب بن عمرو" والسلاماني، كان يسكن الجبال، "فأسلموا".
روى الواقدي عنه أنه قال: قدمنا وفد سلامان ونحن سبعة نفر، فانتهينا إلى باب المسجد، فصادفنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خارجًا إلى جنازة دعي إليها، فلما رأيناه قلنا: السلام عليك يا رسول الله، فقال: $"وعليكم السلام من أنتم"؟ قلنا: من سلامان، قدمنا إليك لنبايعك على الإسلام، ونحن على من وراءنا من قومنا، فالتفت إلى مولاه ثوبان، فأمره بإنزالهم دار رملة بنت الحارث، فذكر حديثًا طويلًا فيه أنهم لما سمعوا الظهر أتوا المسجد، فصلوا معه -صلى الله عليه وسلم، وصلوا العصر.(5/223)
جدب بلادهم, فدعا لهم ثم ودعوه, وأمر لهم بالجزائز، ورجعوا إلى بلادهم فوجدوها قد أمطرت في اليوم الذي دعا لهم فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تلك الساعة.
__________
قال حبيب: فكانت أخف في القيام من الظهر، وقلت: يا رسول الله, ما أفضل الأعمال؟ قال: "الصلاة في وقتها"، وسألته عن رقية العين وذكرها له، فأذن له فيها، "و" فيه أنهم "شكوا إليه جدب بلادهم، فدعا لهم" ولفظ حديث حبيب المذكور، فقال -صلى الله عليه وسلم: "بيده اللهمَّ اسقهم الغيث في دارهم"، فقلت: يا رسول الله, ارفع يديك، فإنه أكثر وأطيب، فتبسَّم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى رأيت بياض إبطيه، ثم قام، وقمنا معه وقوله: أكثر، أي: في الأسباب المقضتية للاستعطاف, وأطيب، أي: لهيئة الداعي التي تكون سببًا لنزول الرحمة، "ثم ودَّعوه" بعد إقامتهم ثلاثًا، وضيافته تجري عليهم، "وأمر لهم بالجوائز" فأعطينا خمس أواقي فضة لكل رجل منا، واعتذر إلينا بلال، وقال: ليس عندنا اليوم مال، فقلنا: ما أكثر هذا وأطيبه، "ورجعوا إلى بلادهم، فوجدوها قد أمطرت" بالبناء للفاعل والمفعول، كما في النور "في اليوم الذي دعا لهم فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في تلك الساعة" وما ذلك بغريب في معجزاته.(5/224)
الوفد الحادي والثلاثون: وفد بني عبس
وقدم عليه وفد بني عبس، فقالوا: يا رسول الله، قدم علينا قراؤنا, فأخبرونا أنه لا إسلام لمن لا هجرة له، ولنا أموال ومواش، فإن كان لا إسلام لمن لا هجرة له بعناها وهاجرنا، فقال -عليه الصلاة والسلام: "اتقوا الله حيث كنتم, فلن يلتكم من أعمالكم شيئًا".
__________
"الوفد الحادي والثلاثون":
"وقدم عليه وفد بني عبس" بفتح المهملة، وسكون الموحدة، وسين مهملة- ذكر ابن شاهين من طريق هشام بن الكلبي أنهم تسعة، قدموا على النبي -صلى الله عليه وسلم، فدعا لهم بخير، وقال: "ابغوني لكم عاشرًا أعقد لكم لواء"، فدخل طلحة بن عبيد الله، فعقد لهم لواء، وجعل شعارهم يا عشرة، فهو إلى اليوم كذلك.
قال: وهم: بشر بن الحارث، والحارث بن الربيع بن زياد، وسباع بن زيد، وعبد الله بن مالك، وقرة بن حصن بن وقنان بن دارم، وميسرة بن مسروق، وهرم بن مسعدة، وأبو الحصين بن القيم.
وروى ابن سعد عن عروة: أن عير القريش أقبلت من الشام، فبعث بني عبس في سرية، وعقد لهم لواء, فقال: يا رسول الله, كيف نقسم غنيمة إن أصبناها ونحن تسعة؟ فقال: "أنا عاشركم".
وعند الواقدي عن أبي هريرة: قدم ثلاثة من بني عبس، "فقالوا: يا رسول الله, قدم علينا قراؤنا، فأخبرونا أنه لا إسلام لمن لا هجرة له، ولنا أموال ومواش" وهي معايشنا، "فإن كان لا إسلام لمن لا هجرة له" فلا خير في أموالنا، "بعناها وهاجرنا" من آخرنا، "فقال -عليه الصلاة(5/224)
...................................................
__________
والسلام: "اتقوا الله حيث كنتم, فلن يلتكم" بفتح التحتية وكسر اللام ففوقية- أي: ينقصكم "من أعمالكم شيئًا ولو كنتم بصمد وجاران" بصاد ودال ومهملتين بينهما ميم, وجاران -بجيم فألف فراء فألف فنون, اسما مكانين، وبقية خبر الواقدي هذا: وسألهم عن خالد بن سنان هل له عقب، فأخبروه أنه كان له ابنة فانقرضت، فأنشأ -صلى الله عليه وسلم- يحدث أصحابه عن خالد، فقال نبي: ضيعه قومه، وضعف الواقدي معلوم، لكنه لم ينفرد بذلك، فقد روى نحوه الحاكم في حديث طويل، وصحَّحَه عن ابن عباس، وتعَقَّبَه الذهبي بأنه منكر، وابن شاهين في الصحابة من حديث سباع بن زيد، وله طرق أخرى، وفي بعضها: إن خالدًا بعث مبشرًا بمحمد -عليه السلام، ولم يكن في بني إسماعيل نبي غيره قبل المصطفى، وأنه دعا على العنقاء -طائر كانت تخطف الصبيان- فانقطع نسلها، وأطفأ نار رحرة بني عبس، كان يستضاء بنورها من مسيرة ثلاث، وربما سقط منها عنق، فلا تمر بشيء إلا أهلكته، فإذا كان النهار فإنما هي دخان يفوز، فحفر لها سربًا وأدخلها فيه، والناس ينظرون، ثم اقتحم فيها حتى غيبها، فسمع بعض القوم يقول: هلك خالد، فخرج وهو يقول: كذب ابن راعية المعزى، ووردت ابنة له عجوز على النبي -صلى الله عليه وسلم، فتلقاها بخير، وأكرمها، وقال: "مرحبًا ببنت نبي ضيعه قومه"، فأسلمت، وسمعته يقرأ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌْ} [الإخلاص: 1] ، فقالت: كان أبي يقول هذا، قال في الإصابة: وأصح ما وقفت عليه من ذلك ما رواه عبد الرزاق عن سعيد بن جبير، قال: جاءت ابنة خالد بن سنان العبسي إلى النبي -صلى الله عليه وسلم، فقال: "مرحبًا بابنة نبي ضيعه قومه"، رجاله ثقات، إلّا أنه مرسل. انتهى باختصار.
وقال في الفتح في قوله -صلى الله عليه وسلم: "أنا أولى الناس بابن مريم" ليس بيني وبينه نبي، قد ضعف هذا الحديث ما قيل: إن جرجيس وخالد بن سنان كانا نبيين بعد عيسى, إلّا أن يجاب بأنهما بُعِثَا بتقرير شريعة عيسى، لا شريعة مستقلة.(5/225)
الوفد الثاني والثلاثون: وفد غامد
وقدم عليه وفد غامد سنة عشر، وكانوا عشرة، فأقروا بالإسلام, وكتب لهم كتابًا فيه شرائع الإسلام،
__________
"الوفد الثاني والثلاثون":
"وقدم عليه وفد غامد" بغين معجمة فألف فميم مكسورة فدال مهملة- بطن من الأزد باليمن، "سنة عشر، وكانوا عشرة" فنزلوا في بقيع الفرقد، وهو يومئذ أثل وطرفاء، ثم انطلقوا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم، وخلَّفوا أصغرهم في رحالهم، "فأقرّوا بالإسلام" وسلَّموا على النبي -صلى الله عليه وسلم، "وكتب لهم كتابًا فيه شرائع الإسلام" إضافة جنسية، فتصدَّق بالبعض.
ففي العيون: فيه شرائع من شرائع الإسلام، وقال: "من خلفتم في رحالكم"؟ قالوا: أحدثنا سنًّا، قال: "فإنه قد نام عن متاعكم حتى أتى آتٍ فأخذ عيبة أحدكم"، فقال أحدهم: ما لأحد(5/225)
وأمر أُبَيّ بن كعب يعلمهم قرآنًا، وأجازهم -عليه الصلاة والسلام, وانصرفوا.
__________
منهم عيبة غيري، فقال -صلى الله عليه وسلم: "قد أخذت ورُدَّتْ إلى موضعها"، فخرجوا حتى أتوا رحلهم، فسألوه، فقال: فزعت من نومي، ففقدت العيبة، فقمت في طلبها, فإذا رجل قاعدًا، فثار يعدو مني، فانتهيت إلى حيث انتهى، فإذا أثر حفر، وإذا هو قد غيب العيبة، فاستخرجتها، فقالوا: نشهد أنه رسول الله، فإنه قد أخبرنا خبرها، وأنها قد رُدَّتْ، فرجعوا، فأخبروه -صلى الله عليه وسلم، وجاء الغلام الذي خلَّفوه فأسلم، "وأمر" النبي -صلى الله عليه وسلم "أُبَيّ بن كعب يعلمهم قرآنًا، وأجازهم -عليه الصلاة والسلام" كما كان يجيز الوفود، وهو تشبيه في أصل الجائزة؛ لأنه لم يكن له جائزة مخصوصة، وإنما يدفع ما اتفق جوده، وهو يتفاوت قلة وكثرة، فقد أجاز بخمس أواق وبعشر، وباثنتي عشرة، وبأزيد، كما مر، "وانصرفوا" إلى بلادهم.(5/226)
الوفد الثالث والثلاثون: وفد الأزد
وقدم عليه وفد الأزد، ذكر أبو نعيم في كتاب معرفة الصحابة، وأبو موسى المديني، من حديث أحمد بن أبي الحواري.
__________
الوفد "الثالث والثلاثون":
"وقدم عليه وفد الأزد" بفتح الهمزة، وسكون الزاي، ودال مهملة، ويقال بالسين لقربها من الزاي، ينسبون إلى جدهم الأزد بن الغوث بن نبت بن مالك بن أدد بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان، وقيل: اسم الأزد درًا بدال قبل الراء، وإليه إجماع الأنصار، ذكره الحازمي "ذكر" أي: روى "أبو نعيم" بضم النون- الحافظ الكبير، أحمد بن عبد الله بن أحمد بن إسحاق بن موسى الأصفهاني، الصوفي، الأحول, ولد سنة ست وثلاثين وثلاثمائة، وأجاز له مشايخ الدنيا، وهو ابن ست سنين وتفرَّد بهم، ورحلت الحفاظ إلى بابه لعلمه وضبطه وعلوّ إسناده، وله عدة تصانيف. مات في المحرم سنة ثلاث وأربعمائة، "في كتاب معرفة الصحابة، وأبو موسى" محمد بن أبي بكر، عمر بن أحمد الأصفهاني "المديني" بكسر الدال، وسكون التحتية- نسبة إلى مدينة أصفهان، الحافظ الكبير شيخ الإسلام، ولد في ذي القعدة سنة إحدى وخمسمائة، وسمع الكثير، ورحل وعني بهذا الشأن، وانتهى إليه التقدم فيه مع علوّ الإسناد، وعاش حتى صار أوحد وقته، وشيخ زمانه إسنادًا وحفظًا مع التواضع، ولا يقبل من أحد شيئًا، وله معرفة الصحابة، وغيرها من التصانيف، مات في جمادى الأولى سنة إحدى وثمانين وخمسمائة، "من حديث أحمد" بن عبد الله بن ميمون بن العباس بن الحارث التغلبي -بفتح المثناة وسكون المعجمة وكسر اللام- نسبة إلى تغلب بن وائل قبيلة، يكنَّى أبا الحسن "بن أبي الحواري" بفتح المهملة والواو الخفيفة وكسر الراء وفتحها, والكسر أشهر، والفتح حُكِيَ(5/226)
قال: سمعت أبا سليمان الداراني قال: حدثني علقمة بن يزيد بن سويد الأزدي قال: حدثني أبي عن جدي قال: وفدت سابع سبعة من قومي على رسول الله -صلى الله عليه وسلم, فلما دخلنا عليه وكلَّمْنَاه أعجبه ما رأى من سمتنا وزينا.
__________
عن أهل الإتقان.
كما قاله النووي في البستان، ثقة زاهد من العاشرة، وهم كبار الآخذين عن تبع الأتباع ممن لم يلق التابعين، كأحمد بن حنبل، كما أفصح به في ديباجة التقريب.
روى له أبو داود وابن ماجه، ومات سنة ست وأربعين ومائتين، لا مائة كما زعم، لقوله في خطبة التقريب، وإن كان من التاسعة إلى آخر الطبقات، فهم بعد المائتين، وهذا من العاشرة، وقد أرَّخه ابن عساكر والذهبي وغيرهما سنة ست، وقيل: سبع وأربعين ومائتين.
"قال: سمعت أبا سليمان" عبد الرحمن بن أحمد بن عطية الزاهد، العنسي -بالنون- "الداراني" بفتح الدال فألف فراء خفيفة فألف فنون، ويقال: بهمز بدل النون، وبالنون أشهر وأكثر، كما قال ابن السمعاني، نسبة إلى داريا قرية بدمشق، على غير قياس, إمام كبير الشأن، ارتفع قدره وعلا ذكره، وأخذ الحديث عن جمع، منهم سفيان الثوري، قال في التقريب: وهو ثقة لم ير، ومسندًا إلا حديثًا واحدًا، وله حكايات في الزهد، قال النووي في بستانه, كان من كبار العارفين، أصحاب الكرامات الظاهرة، والأحوال الباهرة، والحكم المتظاهرة، وهو أحد مفاخر بلادنا دمشق وما حولها، مات سة اثنتي عشرة، أو خمس عشرة ومائتين، وقيل غير ذلك.
"قال: حدثني علقمة بن يزيد بن سويد" بضم السين وفتح الواو "الأزدي" زاد في رواية العسكري: إنه حَدَّثه بساحل دمشق، "قال: حدثني أبي" يزيد "عن جدي" سويد بن الحارث.
هكذا رواه العسكري من هذا الطريق، وكذا الرشاطي وابن عساكر من وجهين آخرين، عن ابن أبي الحواري، ورواه أبو سعد النيسابوري في شرف المصطفى من وجه آخر، عن ابن أبي الجواري، فقال علقمة بن سويد ن علقمة ابن الحارث، فذكر أبو موسى بسبب ذلك علقمة بن الحارث، والأول أشهر، قاله في الإصابة.
"قال: وفدت سابع سبعة" أي: واحدًا منهم، لا أنه زائد عليه؛ لأن اسم الفاعل إن أخذ من اثنين إلى عشرة، ثم أضيف إلى أصله، فمعناه: إنه واحد من ذلك العدد لا زائد، وإن أضيف إلى دون أصله صيَّره بانضمامه إليه زائدًا عليها, "من قومي على رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فلما دخلنا عليه وكلماه، أعجبه ما رأى من سمتنا" سكينتنا ووقارنا.
قال في المصباح: السمت السكينة والوقار، وهو حسن السمت، أي: الهيئة "وزينا" بكسر(5/227)
فقال: "ما أنتم"؟ قلنا: مؤمنون، فتبسَّم -عليه الصلاة والسلام- وقال: "إن لكل قول حقيقة, فما حقيقة قولكم وإيمانكم"؟ قلنا: خمس عشرة خصلة، خمس منها أمرتنا رسلك أن نؤمن بها، وخمس أمرتنا أن نعمل بها، وخمس تخلَّقنا بها في الجاهلية, فنحن عليها إلّا أن تكره منها شيئًا، فقال -صلى الله عليه وسلم: "ما الخمس التي أمرتكم بها رسلي"؟
قلنا: أمرتنا أن نؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت.
قال: "وما الخمس التي أمرتكم أن تعملوا بها"؟
قلنا: أمرتنا أن نقول: لا إله إلا الله, ونقيم الصلاة
__________
الزاي- الهيئة، فالعطف تفسيري، "فقال: "ما أنتم"؟ " أي: ما صفتكم, أمؤمنون أم كفار؟ ولذا أجابوا، "قلنا: مؤمنون" أي: متصفون بالإيمان، فما يسأل بها عن صفات العقلاء، كما يسأل بها عن غيرهم.
قال تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ} [النساء: 3] ، أي: الطيب، فاستعملت ما لصفة ما يعقل، أي: للوصف المشتَق الدالِّ على الحدث وصاحبه، وليس المراد بالوصف مبدأ الاشتقاق، الذي هو المعنى المصدري، ضرورة أن المعنى المصدري لا ينكح، "فتبسَّم -عليه الصلاة والسلام" فرحًا بإيمانهم "وقال: "إن لكل قول حقيقة"، " أي: علامة أو ماهية، التي هي سبب في تحققه، "فما حقيقة قولكم وإيمانكم" عطف تفسير، أو مسبب على سبب، والقول بمعنى المقول، "قلنا: خمس عشرة خصلة، خمس منها أمرتنا" بفتحات، وإسكان تاء التأنيث، ونا مفعول والفاعل, "رسلك" ففيه إفادة أنه أرسل إليهم رسلًا، وإن لم يذكرهم المصنف، ويحتمل أن مرادهم رسله الذين بعثهم إلى اليمن؛ إذ هم منه "أن نؤمن بها" أي: نصدق "وخمس أمرتنا" بفتح الهمزة، والميم، والراء وإسكان التاء- رسلك "أن نعمل بها، وخمس تخلقنا بها في الجاهلية" أي: ما قبل إيمانهم، "فنحن عليها إلّا أن تكره منها شيئًا" فنتركه، وهذا من قوة إيمانهم، ومزيد فقههم، "فقال -صلى الله عليه وسلم: "ما الخمس التي أمرتكم بها رسلي"؟ قلنا: أمرتنا أن نؤمن بالله" نصدق به وبصفاته الواجبة له, "وملائكته" جمع مَلَك، أي: نصدِّق بوجودهم، وأنهم كما وصفهم الله تعالى: عباد مكرمون، "وكتبه" نصدّق بأنها كلام الله، وأن ما اشتملت عليه حق، "ورسله" أي: نصدق بصدقهم فيما أخبروا به عن الله تعالى، وتأخيرهم في الذكر لتأخر إيجادهم، لا لأفضلية الملائكة، "والبعث بعد الموت" من القبور وما بعده من الصراط والميزان والجنة والنار، "قال: "وما الخمس التي أمرتكم" رسلي "أن تعلموا بها"؟ قلنا: أمرتنا أن نقول: لا إله إلا الله" أي: ومحمد رسول الله؛ لأنها صارت علمًا على الشهادتين، أو أنَّ رسله اقتصروا عليها تدريجًا لهم، واكتفاءً بقولهم أوَّلًا: ورسله، فحكوا له لفظ رسله، "ونقيم الصلاة" المكتوبة،(5/228)
ونؤتي الزكاة ونصوم رمضان ونحج البيت إن استطعنا إليه سبيلًا.
قال: "وما الخمس التي تخلقتم بها في الجاهلية"؟.
قلنا: الشكر عند الرخاء، والصبر عند البلاء، والرضاء بمر القضاء، والصدق في مواطن اللقاء، وترك الشماتة بالأعداء.
فقال -صلى الله عليه وسلم: "حكماء علماء، كادوا من فقههم أن يكونوا أنبياء"، ثم قال: "وأنا أزيدكم خمسًا, فتتم لكم عشرون خصلة، إن كنتم كما تقولون، فلا تجمعوا ما لا تأكلون،
__________
أي: نديمها، أو نأتي بها على ما ينبغي، "ونؤتي الزكاة" المفروضة، "ونصوم رمضان، ونحج البيت إن استطعنا إليه سبيلًا" طريقًا، "قال: "وما الخمس التي تخلَّقتم بها في الجاهلية"، قلنا: الشكر عند الرخاء" أي: الثناء على الله تعالى عند حصول النعم، وصرفها فيما يحمد، كصدقة وإغاثة ملهوف، وغير ذلك، "والصبر عند البلاء" أي: عدم الجزع والتضجر، وهذا قد يحصل وإن لم يكن رضا، ولذا قال: "والرضا" وهو الانقياد والطمأنينة باطنًا، "بِمُرِّ القضاء" أي: بالمر من المقضي، فالإضافة بمعنى من أو بالمر لمقضى من إضافة الصفة للموصوف، بحيث نراه في الباطن، كالنعم التي يستلذ بها، فجمع بينهما للتنبيه على طلبهما معًا، أي: الصبر والرضا "والصدق" أي: الثبات "في مواطن" جمع موطن كمسجد، مشاهد "اللقاء" للأعداء؛ بحيث لا نفر منهم، بل نصبر على حربهم، وإطلاق الصدق على الثبات مجاز شائ، "وترك الشماتة" أي: الفرح "بالأعداء"؛ إذا نزلت بهم مصيبة، "فقال -صلى الله عليه وسلم: "حكماء علماء" خبر مبتدأ محذوف، أي: هم، والمعنى: إنهم يفعلون أمورهم متقنة موافقة للحق، والخطاب للحاضرين غيرهم ثناء عليهم، وقدَّم الحكمة على العلم؛ لأنها الصفة القائمة بهم، الدالة على كمال عقولهم، والعلم طريق إلى معرفة الحسن من القبيح، ولكن صاحبه قد لا يعمل به، ودليل تقديرهم دون أنتم قوله: "كادوا" قاربوا "من فقههم أن يكونوا أنبياء"؛ لأن هذه الخمس التي تخلقوا بها من قِبَلِ أنفسهم في الجاهلية، بعض صفات الأنبياء، وعلى تقدير المبتدأ: أنتم, والخطاب لهم يكون كادوا التفاتًا، إلّا أن الأَوَّل أبلغ، لما فيه من الاعتناء بالإخبار عن صفاتهم الحميدة، "ثم قال: "وأنا أزيدكم خمسًا، فتتم لكم عشرون خصلة، إن كنتم كما تقولون"،" متصفين بالخمس عشرة التي ذكرتم، "فلا تجمعوا ما لا تأكلون" جواب الشرط، أي: زيادة على الحاجة، فيكون نفعه لمن بعدكم، "فلا تجمعوا ما لا تأكلون" جواب الشرط، أي: زيادة على الحاجة، فيكون نفعه لمن بعدكم، وحسابه عليكم، والإتيان بالشرط بعد قوله حكماء علماء، حثٌّ لهم على ملازمة الفعل، كأنه قيل: وصفتم أنفسكم بما يفيد حرصكم على الإيمان(5/229)
ولا تبنوا ما لا تسكنون، ولا تنافسوا في شيء أنتم عنه غدًا زائلون، واتقوا الله الذي إليه ترجعون وعليه تعرضون، وارغبوا فيما عليه تقدمون، وفيه تخلدون".
فانصرفوا وقد حفظوا وصيته -عليه الصلاة والسلام- وعملوا بها.
__________
ومكملاته، فإن كنتم كذلك، فتخلَّقوا بهذه الخمس أيضًا، فإنه أدلُّ على حسنكم، وكمال إيمانكم بما اتصفتم به، وهذا أَوْلَى من جعل أن بمعنى إذ، وليس الشرط متعلقًا بما قبله، بل جوابه، "فلا تجمعوا"، ولذا اقترن بالفاء ولا ناهية فيه، وفي الأربع بعده، ولذا حذف النون.
وفي نسخة: إثبات النون في الخمس على أنها أخبار بمعنى النهي، وهو أبلغ في المعنى من النهي الصريح؛ لأنه صورة خبر، كأنهم متصفون بذلك، "ولا تبنوا ما لا تسكنون" فلا تزيدوا على الحاجة، فإن سكناكم في البناء لا يدوم لمفارقتكم له، وانتقاله لمن يسكنه بعدكم، فاللائق الاقتصار على قدر الضرورة، "ولا تنافسوا" أي: لا تتزاحموا، وتتغالبوا، وترغبوا "في" حصول "شيء أنتم عنه غدًا زائلون" مرتحلون وتاركوه، "واتقوا الله" احذروا عذابه بفعل الطاعات واجتناب المعاصي، "الذي إليه ترجعون" تصيرون، فيجازيكم على أعمالكم حسنة أو ضدها، فتقواه تدفع عذابه عنكم، "وعليه تعرضون" والتاء أصلها الواو، فأبدلت منها ولزمت، فصارت كالأصلية.
قال البيضاوي: الوقاية فرط الصيانة، والمتقي في عرف الشرع اسم لمن يقي نفسه عمَّا يضره في الآخرة، وله ثلاث مراتب:
الأولى: التوقي من العذاب المخلّد، بالتبري عن الشرك وعليه قوله: {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التّقْوَى} .
والثانية: التجنب عن كل ما يؤثم من فعل أو ترك حتى الصغائر عند قوم، وهو المتعارف باسم التقوى في الشرع، والمعنى بقوله: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا} .
والثالثة: أن يتنزه عمَّا يشغل سره عن الحق، ويتبتل إليه بشراشره، وهو التقوى الحقيقية المطلوب بقوله: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} ، انتهى.
"وارغبوا فيما عليه تقدمون، وفيه تخلدون" وهو الجنة، فإنها التي يخلد فيها المؤمنون، والرغبة فيها بالمسارعة والمسابقة إلى الأعمال الصالحة وترك المعاصي، وفي الصحيحين: "حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات"، "فانصرفوا وقد حفظوا وصيته -عليه الصلاة والسلام وعملوا بها" توفيقًا من الله لهم ببركته -صلى الله عليه وسلم.(5/230)
الوفد الرابع والثلاثون: وفد بني المنتفق
وقدم عليه وفد بني المنتفق
__________
"الوفد الرابع والثلاثون":
"وقدم عليه وفد بني المنتفق" بضم الميم، وسكون النون، وفتح الفوقية، وكسر الفاء،(5/230)
روى عبد الله بن الإمام أحمد، في زوائد مسند أبيه عن دلهم بن الأسود عن عاصم بن لقيط، أن لقيط بن عامر بن صبرة بن عبد الله بن المنتفق بن عامر بن عقيل بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة، أبا رزين العقيلي،
__________
وبعدها قاف- علم على أبي قبيلة من عامر بن صعصعة، "روى عبد الله بن الإمام أحمد" بن محمد بن حنبل الشيباني، أبو عبد الرحمن الحافظ بن الحافظ.
روى عن أبيه وابن معين وخلق، وعنه النسائي، وابن صاعد، وأبو عوانة، والطبراني، وآخرون, قال أبوه: ابني عبد الله محظوظ من علم الحديث، لا يكاد يذاكرني إلا بما أحفظه.
قال الخطيب: كان ثقة ثبتًا فهمًا, وُلِدَ سنة ثلاث عشرة ومائتين، ومات سنة تسعين ومائتين.
"في زوائد مسند أبيه" يعني: ما رواه من غير طريق أبيه في روايته مسند أبيه، فإنه قال في هذا الحديث: كتب إليَّ إبراهيم بن حمزة بن مصعب بن الزبير، قال: حدثني عبد الرحمن بن المغيرة الخزامي، قال: حدثنا عبد الرحمن بن عياش الأنصاري، "عن دلهم" بدال مهملة مفتوحة، ولام ساكنة، وهاء مفتوحة "ابن الأسود" بن عبد الله بن حاجب العقيلي -بضم العين, حجازي مقبول، "عن عاصم بن لقيط" بن عامر العقيلي، ثقة من الطبقة الوسطى من التابعين.
روى له أصحاب السنن الأربعة، والبخاري في التاريخ، "أن" أباه "لقيط" بفتح اللام وكسر القاف "ابن عامر بن صبرة" بفتح المهملة، وكسر الموحدة، وراءٍ وهاء، "ابن عبد الله بن المنتفق بن امر بن عقيل" بضم العين, والد القبيلة "ابن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة" بصادين بعد كل عين مهملات, "أبا رزين" بفتح الراء، وكسر الزاي، وسكون الياء وبالنون، بدل من اسم إن, "العقيلي" نسبة إلى جده عقيل المذكور, وهذا السياق صريح في أن أبا رزين اسمه: لقيط بن عامر بن صبرة، وأن من قال ابن صبرة نسبة إلى جده، وبه جزم ابن معين والبخاري وابن حبان، وابن السكن، وعبد الغني، وابن عبد البر وصحَّحَاه، وعليه مشى المزي في التهذيب، وقيل: إنهما اثنان, ذهب إليه ابن المدينيّ، وخليفة، وابن أبي خيثمة، ومسلم، وابن سعد, وغيرهم، وضعَّفه ابن عبد البر، فقال: ليس بشيء, وعبد الغني بن سعيد، فقال: لا يصح، ولكن مشى عليه المزي في الأطراف، ورجَّحه في الإصابة، فترجم أولًا: لقيط بن صبرة، وساق نسبه، كما هنا قائلًا: العامري، روى عن النبي -صلى الله عليه وسلم، وعنه ابنه عاصم، ثم ترجم تلوه لقيط بن عامر بن عبد الله بن المنتفق بن عامر بن عقيل العامري, أبو رزين العقيلي، روى عنه ابن أخيه وكيع بن عدس، وعبد الله بن حاجب، وعمرو بن أوس الثقفي، ذهب علي بن المديني، وخليفة بن خياط وابن أبي خيثمة، ومحمد بن سعد ومسلم، والبغوي، والدارمي، والبارودي، وابن قانع وغيرهم، إلى أنه غير لقيط بن صبرة المذكور قبله.
وقال ابن معين: إنهما واحد، وإن من قال لقيط بن عامر نسبه لجده، وإنما هو لقيط بن(5/231)
المعروف في أهل الطائف، خرج وفدًا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم, ومعه صاحب له يقال له: نهيك بن عاصم بن مالك بن المنتفق، فوافيناه حين انصرف من صلاة الغداة، فقام في الناس خطيبًا فقال: "يا أيها الناس، ألا إني قد خبَّأت لكم صوتي منذ أربعة أيام لتسمعوا الآن، ألا فهل من امرئ بعثه قومه فقالوا له: اعلم لنا ما يقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم، ألا ثم لعله يلهيه
__________
صبرة بن عامر، وحكاه الأثرم عن أحمد، ومال إليه البخاري، وجزم به ابن حبان، وابن السكن، وعبد الغني بن سعيد في إيضاح الأشكال، وقال: قيل: إنه غيره وليس بصحيح، وكذا قال ابن عبد البر، وقال في مقابله: ليس بشيء، وتناقض فيه المزي، فجزم في الأطراف بأنهما اثنان، وفي التهذيب، بأنهما واحد، والراجح في نظري أنهما اثنان؛ لأن لقيط بن عامر معروف بكنيته، ولقيط بن صبرة لم تذكر كنيته إلّا ما شذّ به ابن شاهين.
فقال أبو رزين العقيلي أيضًا: والرواة عن أبي رزين جماعة، ولقيط بن صبرة لا يعرف له راوٍ إلا ابنه عاصم، وإنما قوي كونه واحدًا عند من جزم به؛ لأنه وقع في صفة كل واحد منها أنه وافد بني المنتفق، وليس بواضح، لاحتمال أن يكون كل واحد منهما رأسًا، انتهى.
وصواب قوله: وإن من قال: لقيط بن عامر إلخ ... أن من قال لقيط بن صبرة نسبه لجده، وإنما هو لقيط بن عامر بن صبرة، كما هو المنقول عن ابن معين في الجامع، وهو الموافق لما في سياق زوائد المسند، كما رأيت، وهو الذي في تقريبه؛ إذ قال: لقيط بن صبرة، ويقال: إنه جده، واسم أبيه عامر "المعروف في أهل الطائف، خرج وفدًا" خبران "على رسول الله -صلى الله عليه وسلم، ومعه صاحب له يقال له: نهيك" بفتح النون، وكسر الهاء، وسكون الياء وكاف, "ابن عاصم بن مالك بن المنتفق" العامري، ثم العقيلي، "فوافيناه" أي: أتيناه، وهو معمول لمحذوف، هو قال: ولفظ زوائد المسند، قال لقيط: خرجت أنا وصاحبي حتى قدمنا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لانسلاخ رجب، فوافيناه "حين انصرف من صلاة الغداة" أي: الصبح، "فقام في الناس خطيبًا، فقال: "يا أيها الناس, ألا" " بفتح الهمزة والتخفيف- أداة استفتاح نحو: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ} أتى بها للتنبيه، فيدل على تحقق ما بعدها, "إني قد خبَّأت لكم صوتي" أي: ادَّخرته وجعلته لكم عندي خبيئة, "منذ أربعة أيام"، أي: من أولها إلى آخرها؛ لأن مذ ومنذ حرفَا جر بمعنى من, إن كان الزمان ماضيًا -كما في المغني, "لتسمعوا الآن"؛ لأن الصوت قد استراح، فيقوى على التسميع، ففيه حثهم على الاستماع له، والإقبال له على ما يقوله، "ألا" أداة استفتاح أيضًا, تنبيهًا لهم على تحقق ما بعدها، وطلب إصغائهم، "فهل" تفريع على مقدر، أي: ألا تسمعون! فكأنهم، قالوا: نعم، فقال: فهل "من" زائد "امرئ بعثه قومه، فقالوا له: اعلم" فعل أمر "لنا ما يقول رسول الله" لنعمل به, "ألا" تنبيه أيضًا، "ثم" بضم الثاء- بعد إتيانه لأجل علم ذلك، "لعله يلهيه" عن السماع المحصل(5/232)
حديث نفسه أو حديث صاحبه، ألا وإني مسئول, هل بلغت؟ ألَا اسمعوا تعيشوا ... " الحديث. وفيه ذكر البعث والنشور والجنة والنار، وفيه ثَمَّ قال: قلت يا رسول الله، علام أبايعك؟ فبسط -صلى الله عليه وسلم- يده وقال: "على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة وأن لا تشرك بالله شيئًا" الحديث.
__________
للعلم أحد أمور ثلاثة، "حديث نفسه" فيغفل عن السماع، أو لا يضبطه؛ لاشتغاله بحديث نفسه، وهذا مشاهد؛ بحيث لو أراد علمه بعد لطلب إعادته من المتكلم، "أو حديث صاحبه له"، والثالث أسقطه المصنف قوله -صلى الله عليه وسلم: "أو يلهيه ضال"، هذا ثابت قبل قوله: "ألا وإني مسئول، هل بلغت" ما أوحى إليك، "ألا اسمعوا تعيشوا"، أي: تحيوا حياة أبدية سعيدة، فإنها الحياة المطلوبة، "الحديث بطوله في نحو ورقتين، وفيه عقب قوله: "تعيشوا، ألا اجسلوا"، فجلس الناس، وقمت أنا وصاحبي، حتى إذا فرع لنا فؤاده ونظره، قلت: يا رسول الله, ما عندك من علم الغيب، فضحك، وعلم أني أبتغي السقط، "وفيه ذكر البعث، والنشور، والجنة، والنار، وفيه ثَمَّ قال": لقيط "قلت: يا رسول الله علام"، أي: على أي شيء "أبايعك" بحذف ألف ما، كما قال ابن مالك، وما في الاستفهام إن جرت حذف ألفها.
قال في الهمع: إلى، وعلى، وحتى يكتبن بالياء، فإن وصلت الثلاثة بما الاستفهامية، كتبن بالألف لوقوعها وسطًا نحو: إلام، وعلام وحتّام، وإنما كتب إلى وعلى بالياء ما لم يوصلا، بما لعود ألفهما ياء في إليه وعليه، وحتى تكتب ألفا مع المضمر نحو: حتاي وحتاك، وبالياء مع الظاهر، نحو: حتى زيد. انتهى. فكتابة على في بعض النسخ بالياء، خلاف قاعدة الخط، "فبسط -صلى الله عليه وسلم- يده، وقال: "على إقام الصلاة" المفروضة "وإيتاء الزكاة" المعهودة، "وأن لا تشرك بالله شيئًا".
لفظ الزوائد: إلهًا غيره "الحديث"، وليس فيه الصوم، ولا الحج، وكأنه اختصار من الراوي، فإن لفظه عقب قوله: إلهًا غيره، قال: قلت: يا رسول الله، وإن لنا ما بين المشرق والمغرب، قبض -صلى الله عليه وسلم- يده، وظنَّ أني مشترط ما لا يعطينيه، قال: "تحل منها حيث شئت، ولا يجني عليك إلا نفسك".
قال: فانصرفنا عنه، ثم قال: "ها إن ذين، ها إن ذين" مرتين، "لمن نقر أنهم من أتقى الناس لله في الدنيا والآخرة"، فقال له كعب بن الخدارية: من هم يا رسول الله؟ قال: "بنو المنتفق"، قالها ثلاثًا، فانصرفنا، وها للتنبيه، وذين، يعني: أبا رزين وصاحبه نهيك بن عاصم، والخدارية، بضم المعجمة، وتخفيف الدال، ولولا الإطالة لسقت الحديث بتمامه.(5/233)
الوفد الخامس والثلاثون: وفد النخع
وقدم عليه -صلى الله عليه وسلم- وفد النخع، وهم آخر الوفود قدومًا عليه, وكان قدومهم في نصف المحرَّم سنة إحدى عشرة، في مائتي رجل، فنزلوا دار الأضياف، ثم جاءوا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مقرِّين بالإسلام، وقد كانوا بايعوا معاذ بن جبل.
__________
الوفد الخامس والثلاثون:
"وقدم عليه -صلى الله عليه وسلم- وفد النخع" بفتح النون، والخاء المعجمة، وبعين مهملة, قبيلة من مذحج -بفتح الميم وسكون المعجمة وكسر الحاء المهملة وجيم, قبيلة من اليمن، "وهم آخر الوفود قدومًا عليه، وكان قدومهم في نصف المحرم سنة إحدى عشرة" من الهجرة، وهذا وأمثاله مبني على أول التاريخ هل هو المقدم، أو أول سنة المقدم، أو طرح بقية سنة القدوم، والحسبان من ثاني ستة أقوال، أغربها الثالث.
وقد قال ابن عبد البر والذهبي: قدم زرارة في نصف رجب سنة تسع، فيحتمل أنه وفد فيها، ثم مع قومه سنة إحدى عشرة، كذا في النور "في مائتي رجل"، لم يعرف البرهان منهم إلّا زرارة، "فنزلوا دار الأضياف"، هي دار رملة بنت الحارث النجارية، الصحابية، زوجة معاذ بن عفراء، "ثم جاءوا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مقرِّين بالإسلام، وقد كانوا باعوا معاذ بن جبل"، لما بعثه النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى اليمن.
وقال ابن سعد في الطبقات: حدَّثنا هشام بن محمد بن السائب الكلبي، عن أبيه، عن أشياخ النخع، قال: بعث النخع رجلين منهم إلى النبي -صلى الله عليه وسلم، وافدين بإسلامهم: أرطأة بن شراحيل بن كعب، والجهيش، واسمه: الأرقم, من بني بكر بن عمرو بن النخع، فخرجا حتى قدما عليه -صلى الله عليه وسلم، فعرض عليهما الإسلام فقبلاه، فبايعاه على قومهما، وأعجبه -صلى الله عليه وسلم- شأنهما، وحسن هيئتهما، فقال: "هل خلفتما وراءكما مثلكما"؟ قالا: يا رسول الله, قد خلفنا وراءنا من قومنا سبعين رجلًا، كلهم أفضل منا، وكلهم يقطع الأمر وينفذ الأشياء، ما يشاركونا في الأمر إذا كان، فدعا لهما -صلى الله عليه وسلم- ولقومهما بخير، وقال: "اللهم بارك في النخع"، وعقد لأرطأة لواء على قومه، فكان في يده يوم الفتح، وشهد به القادسية، فقتل يومئذ، فأخذه أخوه دريد، فقتل، فأخذه سيف بن حارثة من بني حذيفة, فدخل به الكوفة، وأخرجه ابن شاهين بإسناد ضعيف عن قيس بن كعب النخعي؛ أنه وفد على النبي -صلى الله عليه وسلم، هو وأخوه أرطأة بن كعب، والأرقم، وكانا من أجَلِّ أهل زمانهما وأنظفه، فذكر الحديث، وسمى أخاه المقتول بعده يوم القادسية: زيد بن كعب, وجهيش -بضم الجيم وآخره معجمة مصغَّر، وقيل: بفتح أوله وكسر الهاء وسكون التحتية، وقيل: بفتح الجيم وسكون الهاء بعدها موحدة، وبه جزم ابن الأمين.
روى ابن منده عن أبي هريرة، قدم جهيش بن أويس النخعي في نفر من أصحابه، فقالوا: يا رسول الله أنا حي من مذحج، فذكر حديثًا طويلًا، فيه شعر منه:(5/234)
فقال رجل منهم، يقال له: زرارة بن عمرو، يا رسول الله, إني رأيت في سفري هذا عجبًا، قال: "وما رأيت"؟ قال: رأيت أتانًا تركتها كأنها ولدت جديًا أسفع أحوى، فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "هل تركت لك مصرة"؟ قال: نعم، قال: "فإنها قد ولدت غلامًا وهو ابنك"، فقال يا رسول الله: ما باله أسفع أحوى؟
__________
ألا يا رسول الله أنت مصدق ... فبوركت مهديًّا وبوركت هاديًا
شرعت لنا دين الحنيفة بعدما ... عبدنا كأمثال الحمير طواغيا
وعند أبي نعيم، عن الحارث: قدمنا من اليمن، فنزلنا المدينة، فخرج علينا عمر، فطاف في النخع، فتصفحهم، وهم ألفان وخمسمائة، وعليهم أرطأة، فقال عمر: سيروا إلى العراق، قالوا: بل نسير إلى الشام، قال: سيروا إلى العراق, فسرنا فأتينا القادسية، فقُتِلَ منَّا كثير، ومن سائر الناس قليل، فسُئِلَ عمر عن ذلك، فقال: إن النخع ولّوا أعظم الأمر وحدهم. ذكره في الإصابة في موضعين.
وعن ابن مسعود: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يدعو لهذا الحي من النخع، أو قال: يثني عليهم، حتى تمنَّيت أني رجل منهم، "فقال رجل منهم يقال له: زرارة بن عمرو" بضم الزاي، وأبوه -بفتح العين، وسماه ابن الكلبي، وتبعه ابن شاهين: زرارة بن قيس بن الحارث بن عدي.
قال أبو حاتم: قدم نصف المحرم سنة إحدى عشرة، وقال أبو عمر: بل كان قدومه في نصف رجب، سنة تسع، وبالأوّل جزم ابن سعد عن الواقدي، كذا في الإصابة، وتقدَّم جمع البرهان باحتمال قدومه أولًا وحده في التاريخ الأول، ثم مع قومه في هذا التاريخ, "يا رسول الله, إن رأيت في سفري هذا عجبًا"، وفي رواية المدائني: رأيت في طريقي رؤيا هالتني، "قال: "وما رأيت"؟ قال: رأيت أتانًا" بفتح الهمزة، وفوقية- حمارة أنثى، ولا يقال أتانة، قاله ابن السكيت، وجمع القلة آتن، كعناق، وأعنق، والكثرة أتن -بضمتين.
روى البيهقي عن أبي هريرة، رفعه: "من لبس الصوف، وحلب الشاة، وركب الأتن، فليس في جوفه من الكبر شيء" "تركتها" في الحي، كما في رواية، وللمدائني: خلَّفتها في أهلي, "كأنها ولدت جديًا"، هو الذي من أولاد المعز، "أسفع" بزنة أحمر، أسود مشرب بحمرة، "أحوى" كالتأكيد لما قبله؛ إذ الحوة -بالضم- سواد إلى خضرة، أو حمرة إلى سواد، كما في القاموس، فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "هل تركت لك مصرة"، اسم فاعل من أصر على الشيء، أقام عليه، والمراد حملها محقق ثابت.
وفي العيون والمدائني: أمة، وفي السبل: امرأة، فلعل المصنف ترك الموصوف للخلاف فيه، كذا قيل، وإنما يتحقق الخلاف لو قيل: زوجة، فيرد لفظ امرأة إلى أمة، فلا خلاف.
"قال: نعم، قال: "فإنها قد ولدت غلامًا، وهو ابنك"، دفع به ما قد يدخل عليه من الريبة؛ إذ رأى اللون الغريب، "فقال: يا رسول الله, ما باله أسفع أحوى"، أي: ما الحال الداعي إلى مجيئه(5/235)
قال: "ادن مني"، فدنا منه، قال: "هل بك من برص تكتمه"؟ قال: والذي بعثك بالحق نبيًّا ما علم به أحد، ولا اطَّلع عليه غيرك، قال: "فهو ذلك".
قال: يا رسول الله، ورأيت النعمان بن المنذر وعليه قرطان مدلجيان ومسكتان. قال: "ذلك ملك العرب رجع إلى أحسن زيه وبهجته".
قال: يا رسول الله، ورأيت عجوزًا شمطاء، خرجت من الأرض. قال: "تلك بقية الدنيا".
__________
بهذا اللون المخالف للون أبيه؟ "قال: "ادن مني"، قصدته ستره لعلمه -صلى الله عليه وسلم- أنه يخفيه، "فدنا منه، قال: "هل بك برص تكتمه" " استفهام تقريري، أريد به طلب اعترافه به، ليرتِّب عليه الجواب، فيكون ألزم للحجة، "قال: والذي بعثك بالحق نبيًّا، ما علم به أحد، ولا اطَّلَع عليه غيرك"، فكأنه قال: نعم هو بي، ولكن والذي.. إلخ، فهو معجزة، "قال: "فهو ذلك"، أي: اللون الذي في ولدك أثر ما فيك من البرص، وهذا من المعجزات، "قال: يا رسول الله, ورأيت النعمان بن المنذر وعليه قرطان" بالضم, تثنية قرط، وهو ما يعلق في شحمتي الأذن، والجمع أقراط "مدلجيان" كذا في النسخ، والمدلج: الذي يسير اليل كله، ولا معنى له هنا، والذي في العيون والإصابة وغيرهما, كالمصنف نفسه في الرؤيا: ودملجان -بضم اللام وفتحه: شيء يشبه السوار، "ومسكتان" بفتح الميم والسين المهملة: سواران من ذهب، قاله المصنف في التعبير، والذي قاله ابن سيده، والجوهري: المسك -بفتحتين: أسورة من ذبل أو عاج، والذبل -بمعجمة، وموحدة ساكنة: شيء كالعاج، وقيل: ظهر السلحلفاة البحرية، فالمعنى على هذا: سواران من ذبل، وفي الجامع لابن الأثير: المسكة -بالتحريك: أسورة من ذبل، أو عاج، فإذا كانت من غير ذلك أضيفت إلى ما هي منه، فيقال: من ذهب، أو فضة، أو غيرهما.
"قال: "ذلك ملك" بضم الميم، وإسكان اللام "العرب رجع إلى أحسن زيه" بكسر الزاي وشد الياء. وهيئته "وبهجته" حسنه؛ لأن النعمان كان ملكًا على العرب، فالمعنى: عادت العرب إلى ما كانوا عليه من العزِّ والشرف، وذهبت غلبة الفرس والعجم بظهور المصطفى.
قال المصنف في الرؤيا: تعبيره السوارين هنا يرجع إلى بشرى، وعبرهما بالكذابين فيما مَرَّ، والجواب أن النعمان كان ملكًا على العرب من جهة الأكاسرة، وكانوا يسورون الملوك ويحلونهم، فالسواران من زيهم ليسا بمنكرين في حقه، ولا بموضوعين في غير موضعهما عرفًا، وأما النبي -صلى الله عليه وسلم، فنهى عن لباس الذهب لآحاد أمته، فجدير أن يهمه ذلك؛ لأنه ليس من زيه، واستدلَّ به على أنه أمر يوضع في غير موضعه، ولكن حمدت العاقبة بذهابه، "قال: يا رسول الله, ورأيت عجوزًا شمطاء" بزنة حمراء، أي: أبيض شعر رأسها، "خرجت من الأرض، قال: "تلك بقية الدنيا"، فلم يبق منها(5/236)
قال: ورأيت نارًا خرجت من الأرض, فحالت بيني وبين ابن لي يقال له عمرو، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "تلك فتنة تكون في آخر الزمان" , قال: يا رسول الله، وما الفتنة؟ قال: "تقتل الناس إمامهم" وخالف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بين أصابعه, "يحسب المسيء فيها أنه محسن، ويكنّ دم المؤمن عند المؤمن أحلى من شرب الماء، إن مات ابنك أدركت الفتنة، وإن مت أنت أدركها ابنك".
قال: يا رسول الله, ادع الله أن لا أدركها، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "اللهم لا يدركها". فمات فبقي ابنه فكان ممن خلع عثمان بن عثمان -رضي الله عنه
انتهى ملخصًا من الهدي النبوي، والله الموفق, وسيأتي هذا إن شاء الله تعالى في تعبيره الرؤيا -صلى الله عليه وسلم, من المقصد الثاني. انتهى.
__________
إلّا القليل بالنسبة للماضي، كالباقي من عمر العجوز مما مضى، "قال: ورأيت نارًا خرجت من الأرض، فحالت بيني وبين ابن لي يقال له عمرو"، ورأيتها تقول: لظى لظى، بصير وأعمى، أطعموني، آكلكم آكلكم، أهلككم ومالك، هذا من جملة رؤياه، كما في المقصد الثامن والعيون، وكان معناه: تفترق الناس فيها فرقتين، بصير عرف الحق فاتبعه، وأعمى لم يهتد إلى طريق الحق فضلَّ، ومعنى أطعموني: افتتنوا بي، وارتكبوا الضلال، "قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "تلك فتنة تكون في آخر الزما" سماه آخرًا، مع أنها قتل عثمان -رضي الله عنه, على معنى: إنه لغلظ أمره وفحشه بمنزلة ما يكون في آخر الزمان, الذي تندرس فيه الأحكام وتزول، حتى كأنها لا أثر لها، أو أنَّ المراد: آخر زمان الخلافة الحقيقية التي جروا فيها على سنن المصطفى، وسمَّاها آخرًا مع أنه بقي منها مدة علي وابنه، لقرب قتل عثمان من آخرها، "قال: يا رسول الله, وما الفتنة؟ " لأنها تطلق لغة على معانٍ، فسأله أيها أراد، "قال: "تقتل الناس إمامهم" "، ولفظ الآتي في التعبير، قال: "يفتك الناس بإمامهم، ثم يشتجرون اشتجار أطباق الرأس"، ثم قال: "إطباق الرأس عظامه"، والاشتجار: الاشتباك والاختلاف.
"وخالف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بين أصابعه"، لم يبينوا صفة المخالفة، "يحسب المسيء فيها أنه محسن"، جملة مستأنفة للإشارة إلى غلبتها على الناس، فيظنّ المبطل أنه محق، "ويكون دم المؤمن عند المؤمن أحلى" ألذ "من شرب الماء" للظمآن.
وفي العيون وغيرها: " أحلّ من الحل"، وكأنه لغلبة اشتباه الحال فيظن أنه محق، فيراه أشد حلًّا من شرب الماء، وخصَّه لغلبة حصوله من جهة حلّ، كالأنهار والأمطار وغيرهما، "إن مات ابنك أدركت الفتنة، وإن مت أنت أدركها ابنك"، قال: يا رسول الله, ادع الله أن لا أدركها، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "اللهم لا يدركها"، فمات"، ولم يبينوا وقت موته "فبقي ابنه" عمرو بن زرارة، أورده صاحب الإصابة في القسم الأول، وقال: صحبته محتملة، "فكان ممن خلع عثمان بن عفان -رضي الله عنه".
وعند الكلبي وغيره: فكان أوّل خلق الله خلع عثمان بالكوفة، "انتهى ملخصًا من الهدي النبوي" لابن القيم، "والله الموفق، وسيأتي هذا"، أي: خبر زرارة -إن شاء الله تعالى "في تعبيره الرؤيا -صلى الله عليه وسلم, من المقصد الثاني، انتهى".(5/237)
المقصد الثالث: فيما فضله الله تعالى به
الفصل الأول: في كمال خلقته وجمال صورته صلى الله عليه وسلم
...
المقصد الثالث: فيما فضَّله الله تعالى به
من كمال خلقته وجمال صورته, وكرمه تعالى به من الأخلاق الزكية, وشَرَّفه به من الأوصاف المرضية.
وما تدعو ضرورة حياته إليه -صلى الله عليه وسلم, وفيه أربعة فصول.
الفصل الأول: في كمال خلقته وجمال صورته -صلى الله عليه وسلم:
اعلم أنَّ من تمام الإيمان به -صلى الله عليه وسلم, الإيمان بأن الله تعالى جعل خلق
__________
كتاب الشمائل النبوية:
المقصد الثالث: فيما فضله الله تعالى به:
أي: في صفاتٍ صَيِّرَه الله تعالى بها، زائدًا على غيره "من كمال"، بيان لما "خلقته" صورته التي خلق عليها, والكمال يستعمل في الذوات والصفات، فالمعنى: كماله في ذاته وصفاته، "وجمال صورته" مساوٍ لما قبله في المعنى, حسنه اختلاف اللفظ.
وفي المصباح، قال سيبويه: الجمال رقة الجسد، والأصل: جماله -بالهاء، مثل صبح صباحه، لكنهم حذفوا الهاء، تخفيفًا لكثرة الاستعمال، "وكرَّمه تعالى به"، أي: عظَّمه ومَيِّزَه على غيره أصلًَا وذاتًا وصفةً "من الأخلاق الزكية" الصالحة، الزائدة في الكمال "وشَرَّفه"، أعلاه "به" رتبةً على غيره "من الأوصاف" الذاتية القائمة به، "المرضية" عند ربه، وعند أولي الألباب، فهذه الألفاظ متقاربة المعاني، أو متحدة، "وما تدعو ضرورة حياته إليه" من غذائه ونحوه، كما يأتي له "صلى الله عليه وسلم، وفيه أربعة فصول:
الفصل الأول: في كمال خلقته وجمال صورته، وهي ما يظهر للناظرين من جسده -صلى الله عليه وسلم, "اعلم أنَّ من تمام الإيمان به -صلى الله عليه وسلم, الإيمان" التصديق "بأن الله تعالى جعل خلق"، أي:(5/238)
بدنه الشريف على وجه لم يظهر قبله ولا بعده خلق آدمي مثله، فيكون ما يشاهد من خلق بدنه آيات على ما يتضح من عظيم خلق نفسه الكريمة، وما يتضح من عظيم أخلاق نفسه آيات على ما تحقق له من سر قلبه المقدّس، ولله در الأبوصيري حيث قال:
فهو الذي تَمَّ معناه وصورته ... ثم اصطفاه حبيبًا بارئ النسم
منزه عن شريك في محاسنه ... فجوهر الحسن فيه غير منقسم
__________
تقدير "بدنه الشريف على وجه"، أي: حال وهيئة، "لم يظهر قبله، ولا بعده خلق آدمي مثله، فيكون ما يشاهد من خلق بدنه"، أي: الصفة الظاهرة، "آيات على ما يتضح"، أي: ينكشف ويظهر "من عظيم خلق نفسه الكريمة، وما يتضح من عظيم أخلاق نفسه"، بيان لما, فأشار إلى أن المراتب ثلاث: المشاهد دليل على الباطن، وذلك الباطن دليل على ما أودع في قلبه من العلوم والمعارف، كما أفاده بقوله: "آيات على ما تحقَّق" بفتح التاء: ثبت وصحَّ "له من سرّ قلبه المقدَّس"، أي: ما اشتمل عليه من المعاني البديعة، فوصف المعاني بكونها مكنونة لا يُطَّلَع عليها، ولكن يستدل عليها بما ظهر من أخلاقه وكمالاته، وهو -صلى الله عليه وسلم- وإن ظهر منه كمالات لا تحصى، فهي بالنسبة لما خفي، كنقطة من بحر، "ولله در الأبوصيري" محمد بن سعيد الصنهاجي، الدلاصي لمولد، المغربي الأصل، البوصيري المنشأ، ولد بدلاص أول شوال، سنة ثمان وستمائة، وبرع في النظم.
قال فيه الحافظ ابن سيد الناس: هو أحسن من الجزار والوراق، ومات سنة خمس، أو أربع وتسعين وستمائة، كان أحد أبويه من بوصير الصعيد، والآخر من دلاص -بفتح الدال المهملة: قرية بالبهنسا، فركبت النسبة منهما، فقيل: الدلاصيري، ثم اشتهر بالبوصيري، لنشأته بها، أو لأنها بلد أبيه، فقوله: الأبوصيري منتقد؛ لأن القرية إنما هي بوصير، والنسبة إليها البوصيري، كما في المراصد واللباب، ولبه في باب الموحدة لا الهمزة، وفي نسخة: الأبي صيري -بالياء، ولا وجه له، لا إفرادًا ولا تكريبًا، "حيث قال: فهو الذي تَمَّ" كمل "معناه" حال باطنه "وصورته"، حال ظاهره، بالرفع عطفًا على معناه، والنصب مفعول معه، "ثم اصطفاه" اختاره "حبيبًا بارئ" خالق "النسم"، جمع نسمة -بفتحتين: وهي الإنسان، وثم للترتيب في الأخبار، كما قال الأنصاري، نظرًا لما قبل وجوه، فإنه في الأزل تعلق علمه بكماله معنًى وصورته، وإنه حبيبه، فهو ترتيب في الأخبار دون الصفات؛ أو في الاصطفاء، كما قال المحلى نظرًا للوجود الخارجي، فإن اتخذه حبيبًا، ومخاطبته به بعد تمام معناه، صورته "منزه" مبعد "عن شريك في محاسنه"، جمع محسن، بمعنى: الحسن، أي: لا شريك له في حسنه، "فجوهر(5/239)
يعني: حقيقة الحسن الكامل كائنة فيه؛ لأنه الذي تَمَّ معناه دون غيره، وهي غير منقسمة بينه وبين غيره، وإلّا لما كان حسنه تامًّا؛ لأنه إذا انقسم لم ينله إلّا بعضه فلا يكون تامًّا.
وفي الأثر: إن خالد بن الوليد خرج في سرية من السرايا، فنزل ببعض الأحياء, فقال له سيد ذلك الحي: صِفْ لنا محمدًا، فقال: أما إني أفصل فلا، فقال الرجل: أجمل، فقال: الرسول على قدر المرسل،
__________
الحسن"، أصله "فيه غير منقسم"، أي: متفرق.
ومعنى البيتين: هو الذي كمل باطنه في الكمالات، وظاهره في الصفات، ثم اختاره خالق الإنسان حبيبًا، لا شريك له في الحسن، وجوهره لا يقبل القسمة بينه وبين غيره، كما أنَّ الجوهر الفرد المتوهم في الجسم، ويقول المتكلمون: الجسم مركَّب منه؛ غير منقسم بوجه، لا بالفرض، ولا بالوهم، ومن كان موصوفًا بكمال الصفات ظاهرًا وباطنًا كان محبوبًا، قاله الشيخ خالد، وإلى نحوه يومئ قول المصنف، "يعني" الناظم بقوله: جوهر الحسن، "حقيقة الحسن" لا مقابل العرض من الأشياء التي تقوم بأنفسها من الموجودات الخارجية، "الكامل"، قَيِّدَ به لإفادة أنه المختص به، فلا ينافي وجود أصله في نحو الأنبياء، "كائنة فيه؛ لأنه الذي تَمَّ معناه"، تعليل لوجود الكامل فيه "دون غيره، وهي غير منقسمة بينه وبين غيره وإلا لما كان حسنه تامًّا؛ لأنه إذا انقسم لم ينقله إلّا بعضه فلا يكون تامًّا"، فحاصله: إن الانقسام المنفي أن يعطى نوعًا من الحسن، وغيره آخر منه، فيكون منقسمًا بينهما، بل أعطي -صلى الله عليه وسلم- أعلى الصفات اللائقة بالبشر، وشاركه غيره في الاتّصاف ببعضها، فيكون ذلك البعض مشتركًا، وتميز المصطفى بالزيادة التي لم يؤتها غيره، كما قال ابن المنير وغيره في حديث: "أعطي يوسف شطر الحسن"، يتبادر إلى بعض الأفهام أنَّ الناس يشتركون في البعض الآخر، وليس كذلك، بل المراد أنه أوتي شطر الحسن الذي أوتيه نبينا -صلى الله عليه وسلم، فإنه بلغ الغاية ويوسف شطرها.
"وفي الأثر" المأثور، المنقول عن السلف؛ "أنَّ خالد بن الوليد خرج في سرية من السرايا، فنزل ببعض الأحياء، فقال له سيد ذلك الحي: صف لنا محمدًا، فقال: أما إني أفصّل فلا" لعجزي عن التفصيل؛ لأن صفاته لا يمكن الإحاطة بها، "فقال الرجل: أجمل"، أي: اذكرها مجملة، "فقال: الرسول على قدر المرسل"، أي: حالة تليق به، وهو رسول الله، بعثه لتبليغ أحكامه، فمن لازمه أنه بالغ الغاية، فكل ما تصور فيه من كمال دون ما ثبت له، فإن الملك إذا بعث رسولًا لقضاء ما يريد، إنما يرسل من يقدر على ذلك؛ بحيث يكون ذا مرتبة شريفة، وتصرُّف تام، ولا يلزم منه مساواته لبقية الرسل؛ لأن عموم رسالته ونسخها لشرائع من قبله، يقتضي رتبة(5/240)
ذكره ابن المنير في أسرار الإسراء.
فمن ذا الذي يصل قدره أن يقدر قدر الرسول، أو يبلغ من الاطلاع على مأثور أحواله المأمول والمسئول؟!.
وقد حكى القرطبي -في كتاب الصلاة- عن بعضهم أنه قال: لم يظهر لنا تمام حسنه -صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لو ظهر لنا تمام حسنه لما أطاقت أعيننا رؤيته -صلى الله عليه وسلم, ولقد أحسن
__________
زائدة عليهم، أولًَا: ضرر في المشاركة؛ لأنه من حيث الإجمال "ذكره ابن المنير" ناصر الدين أحمد بن محمد الجذامي، الإسكندراني، العلامة المتبحِّر في العلوم، صاحب التصانيف العديدة.
قال العز بن عبد السلام: ديار مصر تفتخر برجلين في طرفيها: ابن دقيق العيد بقوص، وابن المنير بالإسكندرية.
"في أسرار الإسراء" سمَّاه المقتفى, كتاب نفس فيه فوائد جليلة، واستنباطات حسنة، وجعله قسمين، الأول: في الإسراء، والثاني: في السيرة النبوية من المبعث إلى الوفاة، "فمن ذا الذي يصل قدره"، استفهام إنكاري للتوبيخ لمن توهَّم وصول قدرته إلى ما أعطي المصطفى، ومعناه النفي، أي: لا يقدر أحد "أن يقدر" بكسر الدال وضمها.
وقرأ السبعة: {يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} بالكسر، فهو أفصح، قيل: وهو الرواية في حديث: "فاقدروا له" قدر الرسول، أو يبلغ" عطف على يقدر، أي: ولا يبلغ "من الاطِّلاع على مأثور أحواله، المأمول والمسئول"، ومن لا يصل لذلك كيف يمكنه التعبير عنه، وهذا ترق في النفي؛ فإنه لما نفى القدرة على الذكر أولًا، ولا يلزم منه عدم الاطِّلاع؛ لإمكانه مع العجز عن العبارة ترقى، فنفى الاطِّلاع أيضًا، فكأنه من نفي السبب بعد نفي ما يترتب عليه من المسبب.
"وقد حكى" محمد بن أحمد بن أبي بن فرح -بإسكان الراء، وبالحاء المهملتين- أبو عبد الله، الأنصاري، الأندلسي، "القرطبي" بضم القاف، والطاء، وموحدة- نسبة إلى قرطبة, مدينة بالأندلس، المفسِّر, كان من عباد الله الصالحين، والعلماء العارفين الورعين الزاهدين، المشغولين بأمور الآخرة، أوقاته ما بين توجه وعبادة وتصنيف، وله تصانيف كثيرة.
أخذ عن أبي العباس أحمد بن عمر القرطبي، شارح مسلم، المتوفَّى بالإسكندرية سنة ست وعشرين وستمائة، وأخذ عن غيره، واستقرَّ بمنية ابن خصيب، وبها مات سنة إحدى وسبعين وستمائة.
"في كتاب الصلاة عن بعضهم؛ أنه قال: لم يظهر لنا تمام حسنه -صلى الله عليه وسلم"، رفقًا من الله بنا، "لأنه لو ظهر لنا تمام حسنه، لما أطاقت أعيننا رؤيته -صلى الله عليه وسلم"، لعجزنا عن ذلك، "ولقد أحسن(5/241)
الأبوصيري حيث قال أيضًا:
أعيا الورى فهم معناه فليس يرى ... للقرب والبعد فيه غير منفحم
كالشمس تظهر للعينين من بعد ... صغيرة وتكل الطرف من أمم
وهذا مثل قوله أيضًا:
إنما مثلوا صفاتك للنا ... س كما مثل النجوم الماء
وأشار بقوله "تظهر" إلى وجه التشبيه بالشمس لا مطلقًا، ولقد بَيِّنَ عيب التشبيه بها على الإطلاق أبو النواس -عفا الله عنه
__________
الأبوصيري؛ حيث قال أيضًا: أعيا" أعجز "الورى" الخلق "فهم" معرفة "معناه" حاله، فليس يرى"، يبصر "للقرب والبعد فيه، غير منفحم"، من نفخم إذا سكت عن الجدال، ولم يجب، "كالشمس تظهر للعينين من بعد" بضم العين- لغة، لا تبعًا لضم الباء, ضد قرب، "صغيرة" قدر المآة أو الترس "وتكل" بضم فكسر: توقف "الطرف" البصر عند رؤيتها "من أمم" بفتح الهمزة والميم الأولى، أي: قرب لو فرض ذلك لكبرها جدًّا، فتكاد تخطف الطرف وتعميه، فلا تدرك لكمالها، وكذلك المصطفى لا يدرك، معناه: في حالتي القرب والبعد، وإن شوهدت صورته، "وهذا" المعنى الذي ذكره في البردة، "مثل قوله أيضًا" في الهمزية، "إنما مثلوا" صوروا، أي: الأنبياء، أو الواصفون "صفاتك" جمع صفة، وهو ما دَلَّ على معنى زائدة على الذات "للناس" تمثيلًا، "كما مَثَّل" فهو نعت مصدر محذوف، "النجوم الماء" حيث يرى فيه دون حقيقته، يعني: إن واصفيه لم يبلغوا حقيقته -صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم لم يحيطوا بها، وإنما غاية ما وصلوا إليه تصوير صورها الحاكية لمباديها، كما أن الماء لم يحك من النجوم إلا مجرد صورها لا غير، "وأشار بقوله: تظهر إلى وجه التشبيه بالشمس" فإنه من حيث الظهور "لا مطلقًا"؛ لأنه لا يشبه بها من كل وجه لعيوب فيها، هو منَزَّه عنها، "ولقد بَيِّنَ عيب التشبيه بها على الإطلاق أبو النواس" الحسن بن هانئ بن عبد الأوّل، شاعر ماهر من شعراء الدولة العباسية، له أخبار عجيبة، ونكت غريبة، وخمريات أبدع فيها، وسئل عن نسبه، فقال: أغناني أدبي عن نسبي، مات سنة أربع وتسعين ومائة، "عفا الله عنه"، وقد رؤي بعد موته، فقيل: ما فعل الله بك، قال: غفر لي بأبيات قلتها في مرضي، وهي تحت الوسادة، فنظرت، فإذا تحتها رقعة مكتوب فيها بخطه:
يا رب إن عظمت ذنوبي كثرة ... فلقد علمت بأن عفوك أعظم
إن كان لا يرجوك إلا محسن ... فمن الذي يدعو ويرجو المجرم
أدعوك رب كما أمرت تضرعًا ... فإذا رددت يدي فمن ذا يرحم
ما لي إليك وسيلة إلا الرجا ... وجميل عفوك ثم إني مسلم(5/242)
حيث قال:
يتيه الشمس والقمر المنير ... إذا قلنا كأنهما الأمير
لأن الشمس تغرب حين تمسي ... وأن البدر ينقصه المسير
وهذه التشبيات الواردة في حقه -عليه الصلاة والسلام- إنما هي على سبيل التقريب والتمثيل، وإلا فذاته أعلى ومجده أغلى.
فأما رأسه الشريف المقدَّس فحسبك ما ذكره الترمذي في جامعه بسنده إلى هند بن أبي هالة قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عظيم الهامة.
__________
ذكره ابن خلكان "حيث قال: يتيه"، يتكبّر ويدعي ما ليس له، كما في القاموس: "الشمس والقمر المنير"، تعاظمًا وافتخارًا، "إذا قلنا" في حقهما؛ "كأنهما الأمير"؛ لأن رتبتهما دون رتبته؛ "لأن الشمس تغرب حين تمسي"، وذلك نقص، "وأنَّ البدر ينقصه المسير" بخلاف الأمير، فصفاته لا تتغير، فمن قال في مدح الكامل: كأنه الشمس والقمر عكس التشبيه، فإن حقه أن يشبه الأدنى بالأعلى؛ إذ حقيقة التشبيه إلحاق ناقص بكامل، "وهذه التشبيهات الواردة في حقه -عليه الصلاة والسلام، إنما هي على سبيل التقريب والتمثيل"، وقد قال عليّ -كرم الله وجهه: يقول ناعته: لم أر قبله ولا بعده ثله، أي: يقول ذلك عند العجز عن وصفه، "وإلّا، فذاته أعلى" بمهملة: أشد علوًّا، أي: رفعة في الأوصاف القائمة بها، مما ظهر وشوهد، "ومجده" عزّه وشرفه "أغلى" بمعجمة- أزيد مما شوهد من غلا السعر إذا زار وارتفع، وقد قال نفطوية في قوله تعالى: {يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ} [النور: 35] ، هذا مثل ضربه الله تعالى لنبيه -صلى الله عليه وسلم- يقول: يكاد نظره يدل على نبوته، وإن لم يتل قرآنًا، كما قال ابن رواحة:
لو لم يكن فيه آيات مبينة ... كانت بديهته تنبيك بالخبر
وإذا أردت بيان شيء من صفاته، "فأمَّا رأسه الشريف المقدَّس" المنزه المطهر، باعتبار أن القوى التي اشتمل عليها مقبلة على الحق، مشغولة باكتساب المعاني الدينية، منزَّهة عمَّا لا يليق، "فحسبك" اسم بمعنى: كافيك, خبر وما بعده مبتدأ، أو عكسه، أو اسم فعل بمعنى: يكفيك، فما محله رفع فاعل، أي: يكفيك في بيان صفته "ما ذكره"، أي: رواه "الترمذي في جامعه، بسنده إلى هند بن أبي هالة"، واسمه في أحد الأقوال: النباش -بنون فموحدة ثم معجمة- التميمي، ربيب النبي -صلى الله عليه وسلم، أمه خديجة، قيل: استشهد يوم الجمل مع علي، وقيل: عاش بعد ذلك.
روى عنه الحسن بن علي، وقال: كان وصَّافًا، "قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عظيم الهامة" بالتخفيف: الرأس لكل ذي روح، أو ما بين حرب الرأس، أو وسط الرأس، وعظمه ممدوح؛ لأنه(5/243)
وقال نافع بن جبير: وصف لنا علي -رضي الله عنه- رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: كان عظيم الهامة.
وأما وجهه الشريف: فحسبك ما روى الشيخان من حديث البراء قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحسن الناس وجهًا، وأحسنهم خلقًا، ليس بالطويل الذاهب، ولا بالقصير البائن.
__________
أعون على الإدراكات والكمالات؛ لدلالته على كمال القوى الدماغية، وبها يتميز الإنسان من غيره، وكماله قوة تصرفها فيما هي له، وهند عند من قال بها الحس المشترك، والخيال، والحافظة، والواهمة، والمفكرة، ثم المراد: العظم المعتدل لا الخارج، فإنه دليل على البلادة، كما أن الصغير جدًّا دليل على الخفة.
"وقال نافع بن جبير" بن مطعم النوفلي، معطوف على ما ذكره بحذف العائد، أي: وما قاله، أو مستأنف لتعدد الناعتين، "وصف لنا علي -رضي الله عنه- رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: كان عظيم الهامة"، وفي رواية: ضخم الرأس، وفي رواية: ضخم الهامة، ووصفه بذلك صيغ من طرق عن عدة من الصحب، "وأما وجهه الشريف: فحسبك ما روى الشيخان": البخاري في صفة النبي -صلى الله عليه وسلم، ومسلم في فضائل النبي -صلى الله عليه وسلم، "من حديث البراء" بن عازب -رضي الله عنهما، "قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحسن الناس وجهًا".
قال الحافظ: الأحاديث التي فيها صفته -صلى الله عليه وسلم، داخلة في قسم المرفوع باتفاق، مع أنها ليست قولًا له، ولا فعلًا، ولا تقريرًا. انتهى، ولذا قال الكرماني: موضوع علم الحديث ذاته -صلى الله عليه وسلم، من حيث إنه رسول الله وحده, يعرف به أقواله وأفعال وأحواله، وغايته الفوز بسعادة الدارين، "وأحسنهم خلقًا"، قال في الفتح: بفتح المعجمة للأكثر، قال الكرماني: إنه الأصح، وضبطه ابن التين بضمها، واستشهد بقوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4] , وللإسماعيلي خلقًا، أو خلقًا بالشك، ويؤيده قوله: أحسن الناس وجهًا، فإنه إشارة إلى الحُسْنِ الحسي، فيكون الثاني إشارة إلى الحُسْنِ المعنوي. انتهى. والخلق -بالضم- الطبع والسجية، "ليس بالطويل الذاهب"، أي: المفرط في الطول، "ولا بالقصير البائن" بموحدة- اسم فاعل من بانٍ إذا ظهر، أي: الواضح في القصر، وهذا لفظ مسلم، ولفظ البخاري ليس بالطويل البائن، ولا بالقصير، أي: البائن، فجعل البائن وصفًا لهما.
قال الحافظ: بموحدة من بان، إذا ظهر على غيره، أو فارق من سواه، انتهى، وحيث كان معناه لغة الواضح الظاهر، صحَّ وصف كل من الطول والقصر به، فإذا نفيا عنه معًا، فمعناه أنه بينهما.(5/244)
وعن أبي هريرة: ما رأيت شيئًا أحسن من رسول الله -صلى الله عليه وسلم, كأنَّ الشمس تجري في وجهه. رواه الترمذي والبيهقي وأحمد وابن حبان.
قال الطيبي: شبَّه جريان الشمس في فلكها بجريان الحسن في وجهه -صلى الله عليه وسلم. قال: ويحتمل أن يكون من تناهي التشبيه جعل وجهه مقرًّا ومكانًا للشمس
__________
وفي حديث أنس وغيره: إنه كان ربعة، لكنه إلى الطول أقرب، كما في رواية البيهقي، ثم الجمع بين النفيين، لتوجّه الأول إلى الوصف، أي: ليس طوله مفرطًا، ففيه إثبات الطول، فاحتيج للثاني، ثم الوصفان صفة ذاتية له، فلا ينافي أنه كان إذا ماشى الطويل زاد عليه، لأنه معجزة.
روى ابن أبي خيثمة عن عائشة: لم يكن أحد يماشيه من الناس، ينسب إلى الطول إلا طاله رسول الله -صلى الله عليه وسلم، وربما اكتنفه الرجلان الطويلان، فيطولهما، فإذا فارقاه نسبا إلى الطويل، ونسب -صلى الله عليه وسلم- إلى الربعة.
"وعن أبي هريرة: ما رأيت شيئًا" بصرية فما بعده صفة لشيئًا أو علمية وهو أبلغ، فقوله: "أحسن من رسول الله -صلى الله عليه وسلم" مفعول ثان، يعني: ولا مثله، كما هو مدلول العبارة عرفًا، "كأن الشمس تجري في وجهه. رواه الترمذي، والبيهقي، وأحمد، وابن حبان"، وابن سعد.
"قال الطيبي: شبَّه جريان الشمس" حركتها "في فلكها"، كما قال تعالى: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} [يس: 38] ، "بجريان الحُسْنِ في وجهه -صلى الله عليه وسلم"، وفيه عكس التشبيه للمبالغة، هذا أسقطه من كلام الطيبي، فهو من باب التشبيه المصطَلَح عليه، وهو تشبيه حالة بحالة، وهو أن شدة النور وسريانه في وجه الناظر إليه، منَزَّل منزلة الشمس التي ظهر نورها في وجهه، فشبَّه ظهور النور في وجهه بظهور الشمس في وجهه، لكنَّه عكس التشبيه، فجعل نور الشمس هو المشبّه، وجعل وجهه مقرًّا لظهور نورها، وليس استعارة تبعية على معنى: إن جريان الشمس في فلكها كجريان الحسن في وجهه، أي: شدة البريق واللمعان فيه، وعدم انحصاره في بعضٍ منه دون باقيه، يشبِّه نور الشمس في فلكها، لفقد ضابطها، وهو تشبيه مصدر بمصدر، ثم يستعار اسم المصدر المشبَّه به إلى المشبَّه، كما يستعار قتل للضرب الشديد، وهنا لفظ يجري، متحد في المشبه والمشبه به؛ لأن مفهوم الجريان واحد، إلا أن ينزل تغايرهما بالاعتبار منزلة تغايرهما بالذات، فتصح الاستعارة؛ لأن جريان الشمس في فلكها حقيقي، وجريان الحسن في وجهه مجازي.
"قال" الطيبي: "ويحتمل أن يكون من تناهي" بهاء بعد ألف "التشبيه" من إضافة الصفة إلى الموصوف، أي: من التشبيه الذي بلغ النهاية، حيث "جعل وجهه مقرًّا ومكانًا للشمس" تجري فيه، فهذا بيان لجهة التناهي، أي: إنه جعل ما حقه أن يكون مشبهًا مشبهًا به؛ إذ جريان(5/245)
ولله در القائل:
لم لا يضيء بك الوجود وليلة ... فيه صباح من جمالك مسفر
فبشمس حسنك كل يوم مشرق ... وببدر وجهك كل ليل مقمر
وفي البخاري: سئل البراء: أكان وجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مثل السيف؟ فقال: لا، بل مثل القمر.
وكأنَّ السائل أراد مثل السيف في الطول، فردَّ عليه البراء فقال: بل مثل القمر، أي في التدوير، ويحتمل أن يكون أراد مثل السيف في اللمعان والصقالة،
__________
الشمس في فلكها أمر ظاهر، وجريان الحسن في الوجه الوجيه، وإن كان أعظم، إلّا أن التشبيه به ليس متعارفًا, فجعله مشبهًا به مبالغة في التشبيه، كما يقال الأصل: زيد كأسد، وأبلغ منه: زيدًا أسد، وأبلغ منه: الأسد كزيد، فلا وجه لما قيل، لعلَّ العبارة من تناسى -بسين لا هاء، لأنَّ تناسي التشبيه استعارة، نحو: رأيت أسدًا، وما هنا ليس استعارة لجمعه بين طرفي المشبه، وبعبارة أخرى: شبَّه وجهه بالشمس في الإشراق، ثم عكس التشبيه ليكون أبلغ، فقال: كأنَّ الشمس وجهه، ثم زاد في المبالغة على طريق التجريد، فانتزع منها شمسًا، جعلها في وجهه، كقوله لهم: فيها دار الخلد، وأقحم، تجري على أنه حال، وأصله: كأنه الشمس، ثم كأنَّ الشمس وجهه، ثم كأن الشمس في وجهه، وإنما قيدها بكونها جارية، لأنَّ المراد: ظاهرة أو سائرة على وجه الأرض، أو لأنَّ تلألؤ النور في وجهه كتحركها، وهو أقوى في التشبيه، "ولله در القائل".
"لم لا يضيء بك الوجود" استفهام تعجبي أو نكاري، على من منع الإضاءة به، "وليلة فيه صباح من جمالك"، أي: لا مانع لا يضيء بك، والحال أنَّ ليله فيه نور أعظم من نور المصباح، ووصفه بقوله "مسفر"، إشارة إلى أنه ليس المراد مجرده، فإن الصباح كالصبح: الفجر, ونوره قليل، فدفع ذلك بالوصف "فبشمس حسنك كل يوم مشرق" تعليل، "وببدر وجهك" من إضافة الصفة للموصوف، أي: بوجهك الذي هو كالبدر، "كل ليل مقمر" شديد البياض.
"وفي البخاري" عن أبي إسحاق، قال: "سئل البراء" بن عازب، "أكان وجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مثل السيف، فقال: لا، بل مثل القمر".
قال في فتح الباري: "وكأنَّ السائل أراد مثل السيف في الطول، فردَّ عليه البراء" ردًّا بليغًا، "فقال: مثل القمر، أي: في التدوير"، فهو ردٌّ لما توهمه السائل، وإثبات لخلافه.
قال السيوطي: زاد مسلم مستديرًا، وهو يؤيد أن السائل أراد هذا الاحتمال، "ويحتمل أن يكون" السائل "أراد مثل السيف في اللمعان والصقالة" بكسر الصاد: الجلاء -بجيم، فهو عطف(5/246)
فقال: بل فوق ذلك، وعدل إلى القمر لجمعه الصفتين من التدوير واللمعان.
وقال الحافظ النسابة أبو الخطاب بن دحية -رحمه الله تعالى- في كتابه "التنوير" في مولد البشير النذير" عند إيراد حديث البراء المذكور ما لفظه: ففي هذا الحديث, من العلم أنَّ التشبيه ممن لا يحسنه لا يصلح الإقرار عليه؛ لأن السائل شبَّه وجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالسيف، ولو شبهه بالشمس كان أَوْلَى، فردَّ عليه البراء قوله وقال: بل مثل القمر، وأبدع في تشبيهه؛ لأن القمر يملأ الأرض بنوره، ويؤنس كل من يشاهده، ونوره من غير حَرٍّ يفزع،
__________
سبب على مسبب؛ إذ الجلاء سبب اللمعان، "فقال: بل فوق ذلك، وعدل" عن التشبيه بالشمس "إلى" التشبيه بـ "القمر؛ لجمعه الصفتين من التدوير واللمعان"، فهو رَدٌّ لتوهم السائل أن لمعانه كلمعان السيف، بأنّه وإن شاركه في اللمعان، لكن لمعانَ الوجه الشريف لا يساويه شيء، قيل: ويحتمل أن السائل سأل عنهما جميعًا، ويبعد إرادة الأَوَّل فقط, زيادة مسلم، لا بل مثل الشمس والقمر، وكانَّ مستديرًا؛ إذ لو كان السؤال عن طوله كفاه في الجواب، لا بل مثل القمر، أي: لا كان مثل السيف في الاستنارة، ولا الاستطالة، انتهى.
ويجاب بأنه تبرع بزيادة في الجواب، تعليمًا للسائل كيف يسأل، فكأنَّه قال: مفاد سؤالك أنه مثل في الطول، ولا يليق السؤال عنه.
"وقال الحافظ النسابة أبو الخطاب" عمر بن حسن بن علي بن محمد، اشهير بأنه "ابن دحية"؛ لأنه من ذرية دحية الكلبي، الصحابي، الأندلسي، كان بصيرًا بالحديث، متقنًا، معروفًا بالضبط, جال البلاد، ودخل أصبهان والعراق ومصر، وأدَّب الملك الكامل، ونال دنيا عريضة، ومات سنة ثلاث وثلاثين وستمائة "رحمه الله تعالى, في كتابه: التنوير في مولد البشير النذير" أحازه على تأليفه الملك المظفَّر، صاحب إربل -بكسر الهمزة والموحدة، ولام, بألف دينار "عند إيراد حديث البراء المذكور ما لفظه: ففي هذا الحديث من العلم أنَّ التشبيه ممن لا يحسنه لا يصلح"، أي: لا يليق "الإقرار عليه؛ لأنَّ السائل شبَّه وجَّه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالسيف، ولو شبَّهه بالشمس كان أولى" لظهورها، لكن السائل لم يتعرَّض لغير السيف، فلعلَّ المعنى: إن هذا أمر قدر على لسانه، كأنه حذف معادل مثل السيف، وهو الشمس، وإن تشبيهه بها أَوْلَى، "فَرَدَّ عليه البراء قوله وقال: بل مثل القمر، وأبدع في تشبيهه"، أتى بأمر بالغ لا يساويه غيره من أنواع التشبيه هنا؛ "لأنَّ القمر يملأ الأرض بنوره"، لا سيما ليلة كماله، وقد تكون أل في القمر للإشارة إلى أنَّ المراد ليلة تمامه بخلاف الشمس؛ فإنها تطلع وقت طلوعها مع ظلٍّ، ثم ترتفع شيئًا فشيئًا إلى أن يميل الظلّ، "ويؤنس كل من يشاهده ونوره، من غير حر يفزع" بفاء وزاي.(5/247)
ولا كلل ينزع، والناظر إلى القمر متمكِّن من النظر بخلاف الشمس التي تعشي البصر.
وفي رواية مسلم من حديث جابر بن سمرة، وقال له رجل: أكان وجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مثل السيف؟ فقال: لا، بل مثل الشمس والقمر وكان مستديرًا.
وإنما قال: مستديرًا، للتنبيه على أنه جمع الصفتين؛ لأنَّ قوله: مثل السيف, يحتمل أن يريد به الطول، ويحتمل أن يريد به اللمعان -كما تقدَّمت إليه الإشارة فيما سبق من العبارة، فردَّه المسئول ردًّا بليغًا، ولما جرى
__________
يؤلم، "ولا كلل ينزع" بفتح الياء وسكون النون، وكسر الزاي- أي: ولا ثقل في العين يضعفها، حتى كأنه يقلع البصر منها، "والناظر إلى القمر متمكِّن من النظر"، عطف مسبب على سبب، "بخلاف الشمس التي تعشي" بعين مهملة: تضعف "البصر"، ويحتمل إعجامها، أي: تحدث في البصر ما هو كالغشاوة.
"وفي رواية مسلم من حديث جابر بن سمرة" بفتح المهملة وضمّ الميم وتسكن للتخفيف- ابن جنادة بن جندب، العامري، صحابي ابن صحابي، روى له الستة. ومات سنة ثلاث أو أربع أو ست وسبعين، وصلى عليه عمرو بن حريث الصحابي، "وقال له رجل": جملة حالية بتقدير قد، ويحتمل أنه الذي سأل البراء، فيكون سؤاله لأحدهما بعد الآخر زيادةً في التثبت، ويحتمل أن يكون غيره, وقد أعلَّ النسائي هذا، فقال: إسناده إلى جابر خطأ، وإنما هو عن البراء، وتعقَّب بقول البخاري: الحديث صحيح عن جابر وعن البراء جميعًا، "أكان وجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مثل السيف، فقال: لا، بل مثل الشمس" في البهاء والإشراق، "والقمر" في الاستدارة والنور، "وكان مستديرًا" لا طويلًا كالسيف، فالمراد استدارة مع الأسالة، كما في حديث أبي هريرة: كان أسيل الخدين، والقصد تشبيهه بمحاسن كل حسن، مجردًا عمَّا في ذلك المشبَّه به من الخلل، كما قال بديع الزمان:
يكاد يحكيك صوب الغيث منسكبًا ... لو كان طلق المحيَّا يمطر الذهبا
والدهر لو لم يخن والشمس لو نطقت ... والليث لو لم يصد والبحر لو عذبا
"وإنما قال: مستديرًا"، كما قال الحافظ بعد نقله رواية مسلم في الفتح، "للتنبيه على أنه جمع الصفتين، لأنَّ قوله: مثل السيف، يحتمل أن يريد به الطول، ويحتمل أن يريد به اللمعان، كما تقدَّمت إليه الإشارة" قريبًا "فيما سبق من العبارة"، ويحتمل إرادتهما معًا، "فرده المسئول ردًّا بليغًا" بنفي قوله: مثل السيف، بقوله: لا، ثم إضرابه إلى التشبيه بالنيرين، "ولما جرى(5/248)
التعارف به أن التشبيه بالشمس إنما يراد به غالبًا الإشراق، وبالقمر إنما يراد به الملاحة دون غيرهما، فقوله: وكان مستديرًا، إشارة إلى أنه أراد به التشبيه بالصفتين معًا: الحسن والاستدارة.
وقال المحاربي عن أشعث عن أبي إسحاق عن جابر بن سمرة أنه قال: رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في ليلة إضحيان وعليه حلة حمراء،
__________
التعارف"، أي: الأمر المتعارف "به" بين الناس "أنَّ التشبيه بالشمس إنما يراد به غالبًا الإشراق" دون الضرر والإحراق، "وبالقمر إنما يراد به الملاحة دون غيرهما"، وجواب لما سقط من قلم المصنّف لما نقل من الفتح، وهو ثابت فيه بلفظ أتى بقوله: وكان مستديرًا، إشارة ... إلخ، ويحتمل أن المصنّف جعل "فقوله: وكان مستديرًا" دليلًا على جواب لما, الذي حذفه، أو أنه جواب لما, دخلته الفاء على قلة، وهو واقع في كلامه كثيرًا، أو أن لفظ لما -بكسر اللام وخفة الميم- عطف على للتنبيه، وما مصدرية، "إشارة إلى أنه أراد به التشبيه بالصفتين معًا: الحسن والاستدارة"، ولو اقتصر على هذا جاعلًا له جواب لما، وحذف لفظ فقوله: وكان مستديرًا، أو أتى بلفظ الفتح، كما هو لا غنى عن ذلك التمحل.
"وقال المحاربي عن أشعث" بفتح الهمزة، وإسكان المعجمة، فمهملة فمثلثة- هو ابن سوار، كما في الشمائل -بفتح المهملة وشد الواو.
قال في التقريب قاضي الأهواز: ضعيف. مات سنة ست وثلاثين ومائة.
روى له البخاري في تاريخه، والنسائي وابن ماجه، والترمذي في الشمائل، ولفظه: حدَّثنا هناد بن السري، قال: حدثنا عبثر، عن أشعث، يعني: ابن سوار، "عن أبي إسحاق" عمرو بن عبد الله الهمداني السبيعي -بفتح المهملة، وكسر الموحدة- ثقة مكثر عابد.
روى له الستة, من أواسط التابعين، مات سنة تسع وعشرين ومائة، وقيل: قبلها, "عن جابر بن سمرة أنه قال: رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في ليلة إضحيان" بكسر الهمزة، وسكون المعجمة، وكسر الحاء المهملة, فياء, فألف، فنون منونة- صفة لليلة، أي: مضيئة مقمرة من أولها إلى آخرها، لا ظلمة فيها ولا غيم، والألف والنون زائدتان، كما في النهاية، والقياس أضحيانة، وكأنه لتأويل ليلة بليل.
قال الزمخشري: وافعلان في كلامهم قليل جدًّا، ومنع بعضهم إضافته؛ لأنه صفة لقمر، ورد بأنه لا يمنع من الإضافة؛ لجواز أن ليلة مضافة إلى إضحيان بعد حذف موصوفه، والأصل: ليلة قمر إضحيان، فحذف الموصوف وأقيمت الصفة مقامه، "وعليه حلة حمراء" بيان لما(5/249)
فجعلت أنظر إليه وإلى القمر، فلهو في عيني أحسن من القمر، وفي رواية: بعد قوله: حمراء, فجعلت أماثل بينه وبين القمر.
وروى الترمذي والبيهقي عن علي أنه نعته -صلى الله عليه وسلم- فقال: لم يكن بالمطهم ولا بالمكلثم، وكان في وجهه تدوير قليل. والمكلثم: المدور الوجه, أي: لم يكن شديد تدوير الوجه, بل في وجهه تدوير قليل.
وأنه في حديث علي عند أبي عبيد في الغريب: وكان في وجهه تدوير قليل، قال أبو عبيد
__________
أوجب التأمّل فيه، لظهور مزيد حسنه حينئذ، "فجعلت أنظر إليه" تارة، "وإلى القمر" أخرى، "فلهو" بلام الابتداء وجواب قسم, "في عيني" قيِّد بذلك افتخارًا باعتقاده، لا لتخصيصه دون غيره، فإنه "أحسن من القمر" في عيني كل من رآه.
وفي رواية: فلهو عندي أحسن من القمر، "وفي رواية: بعد قوله: حمراء، فجعلت أماثل بينه وبين القمر"، فلهو عندي أحسن من القمر.
"وروى الترمذي والبيهقي عن علي؛ أنه نعته" وصفه "صلى الله عليه وسلم، فقال" في جملة حديث: "لم يكن بالمطهم".
قال المصنِّف في شرح الشمائل: الرواية فيه وفي قوله: "ولا بالمكلثم" بلفظ اسم المفعول فقط، والمطهم، الفاحش السمن، وهذا قريب من قول الترمذي: البادن الكثير اللحم، أو المنتفخ الوجه، الذي فيه عبوس ناشئ عن السِّمَن، أو النحيف الجسم، وهو من الأضداد، أو طهمة اللون: أن تجاوز سمرته إلى سواد، ووجه مطهم إذا كان كذلك، ولا مانع من إرادة هذا الأربع هنا، وغلط من فسَّره هنا بالبارع الجمال التام، كل شيء منه على حدته؛ لأنه مدح، وقد نفاه، "وكان في وجهه تدوير، والمكلثم: المدوّر الوجه"، نحو قوله الصحاح: الكلثمة اجتماع لحم الوجه، زاد القاموس: بلا جهومة -بالجيم، أي: غلظ فيه يوجب كراهته، فتننكير تدوير للنوعية، أي: نوع منه، أو للتقليل، أي: شيء منه، فلا ينافي نفي الكلثمة -كما توهم، وإلى هذا أشار بقوله، "أي لم يكن شديد تدوير الوجه, بل في وجهه تدوير قليل"، فهذه الجملة كالمبينة بقوله: ولا بالكلثم، إشارة إلى أنه ليس كل تدوير حسنًا، "و" يدل على إرادة علي -رضي الله عنه- ذلك، "أنه في حديث علي" نفسه، "عند أبي عبيد في" كتاب "الغريب"، أي: ما يحتاج إلى تفسيره من الحديث، "وكان في وجهه تدوير قليل"، فزاد لفظ قليل، فيحمل عليه حديثه الذي فيه إسقاطه؛ لأن الحديث يفسّر بعضه بعضًا، لا سيما مع اتحاد المخرج، ولذا "قال أبو عبيد" القاسم بن سلام -بالتشديد- البغدادي، الإمام الحافظ المشهور، له تصانيف. مات سنة أربع(5/250)
في شرحه: يريد أنه ما كان في غاية التدوير، بل كان فيه سهولة وهي أحلى عند العرب.
وفي حديث أبي هريرة عند الذهلي في الزهريات في صفته -صلى الله عليه وسلم: كان أسيل الخدين. قال ابن الأثير: الأسالة في الخد: الاستطالة, وأن لا يكون مرتفع الوجنة. وقال شيخ الإسلام الحافظ بن حجر: ولعلَّ هذا هو الحامل لمن سأل: أكان وجهه مثل السيف؟
وأخرج البخاري عن كعب بن مالك قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا سرَّ استنار وجهه كأنَّه قطعة قمر، وكنَّا نعرف ذلك منه، أي: الموضع الذي يتبين فيه السرور وهو
__________
وعشرين ومائتين.
قال في التقريب: ثقة من العاشرة, ولم أر له في الكتب، أي: الستة حديثًا مسندًا، بل من أقواله في شرح الغريب، "في شرحه, يريد أنه ما كان في غاية التدوير، بل كان فيه سهولة، وهو أحلى" بالحاء المهملة "عند العرب" وغيرهم من كل ذي دوق سليم وطبع قويم، بل قال الترمذي الحكيم: استدارته المفرطة دالة على الجهل, "وفي حديث أبي هريرة عند الذهلي" بذال معجمة وهاء تليها لام- محمد بن يحيى بن عبد الله النيسابوري الحافظ، روى عن أحمد وإسحاق وابن المديني وخلق، وعنه البخاري، وأصحاب السنن، وأمم.
قال أبو بكر بن أبي داود: كان أمير المؤمنين في الحديث، وقال الخطيب: كان أحد الأئمة العارفين، والحفَّاظ المتقنين، والثقات المأمونين، مات سنة ثمان وخمسين ومائتين على الصحيح، وله ست وثمانون سنة "في الزهريات"، كتاب جمع فيه حديث ابن شهاب الزهري وجوَّده.
قال الخطيب: كان أحمد بن حنبل يثني عليه ويشكر فضله, "في صفته -صلى الله عليه وسلم، كان أسيل" بهمزة مفتوحة، فسين مهملة مكسورة، فياء ساكنة، فلام لين, "الخدَّيْن" غير مرتفع الوجنتين، وهو بمعنى حديث هند: سهل الخدين.
"قال ابن الأثير" في النهاية: "الأسالة في الخد الاستطالة، وأن لا يكون مرتفع الوجنة"، أي: عاليها، "وقال شيخ الإسلام، الحافظ ابن حجر: ولعلَّ هذا" لفظ الفتح، وكأنَّ قوله: أسيل الخدَّين، "هو الحامل لمن سأل: أكان وجهه مثل السيف"؛ لأنَّ الأسالة الاستطالة، فيؤيد احتمال أنه سأل عن الطول، "وأخرج البخاري عن كعب بن مالك" الأنصاري الخزرجي "قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا سرَّ استنار"، أي: أضاء "وجهه" حتى "كأنَّه قطعة قمر، وكنَّا نعرف ذلك منه"، أي: استنارة وجهه إذا سرَّ، وقوله: كأنه، "أي: الموضع الذي يتبين فيه السرور، وهو جبينه"، ولذا قال: قطعة قمر، ولعلَّه كان حينئذ متلثمًا، وكان التشبيه وقع على بعض الوجه،(5/251)
جبينه.
وقالت عائشة -رضي الله عنها: دخل عليَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- يومًا مسرورًا تبرق أسارير وجهه.
ولذلك قال كعب: كأنه قطعة قمر.
وفي حديث جبير بن معطم عند الطبراني: التفت إلينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بوجهٍ مثل شقة القمر. فهذا محمول على صفته عند الالتفات.
وقد أخرج الطبراني حديث كعب بن مالك من طرق في بعضها: كأنه دارة قمر.
ويسأل عن السر في التقييد بالقطعة مع كثرة ما ورد للبلغاء من تشبيه الوجه بالقمر بغير
__________
فناسب أن يشبه ببعض القمر، قاله في الفتح، والجبين فوق الصدغ، وهو جبينان عن يمين الجبهة وشمالها، كما في المختار، وعليه: فالنور المشاهد منه ليس في الجبهة، "وقالت عائشة -رضي الله عنها: دخل عليَّ النبي -صلى الله عليه عليه وسلم- يومًا مسرورًا" فرحًا "تبرق" بضم الراء: تضيء وتسنير من الفرح "أسارير وجهه"، جمع أسرار جمع سِرّ -بكسر السين، وهو الخطوط التي في الجبهة تبرق عند الفرح، وبقية الحديث في البخاري، فقال -صلى الله عليه وسلم: ألم تسمعي ما قال المدلجي لزيد أسامة، ورأى أقدامهما أن بعض هذه الأقدام من بعض، "ولذلك قال كعب: كأنه قطعة قمر"، إشارة إلى موضع الاستنارة وهو الجبين، "وفي حديث جبير بن مطعم" القرشي، النوفلي "عند الطبراني: التفت إلينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بوجه مثل شقة" بكسر الشين- قطعة "القمر"، وأما الشقة -بضم الشين، فالقطعة من الثوب والسفر البعيد، كما في الصحاح وغيره، "فهذا محمول على صفته عند الالتفات"، كما قاله الحافظ، يدل عليه لفظ: التفت، وأمَّا قول كعب: قطعة قمر، فيحتمل أنه كان حينئذ متلثمًا، فوقع التشبيه على البعض، كما مَرَّ، ويحتمل كما قال الحافظ أيضًا: أن يريد بقطعة قمر القمر نفسه.
"وقد أخرج الطبراني حديث كعب بن مالك، من طرق في بعضها، كأنه دارة قمر"، أي: الدائرة حوله، وهي الهالة، أي: كأنه في شدة نور هالة القمر، يعني: فهذا يؤيد احتمال أنَّه أراد بالقطعة القمر نفسه من التعبير بالبعض عن الكل، "ويسأل عن السر" النكتة الخفية "في التقييد بالقطعة" في قول كعب، كأنه قطعة قمر، "مع كثرة ما ورد للبلغاء من تشبيه الوجه بالقمر بغير(5/252)
تقييد. وقد كان كعب بن مالك قائل هذا من شعراء الصحابة، فلابُدَّ للتقييد بذلك من حكمة. وما قيل في أن ذلك من الاحتراز من السواد في القمر ليس بالقوي؛ لأن المراد بتشبيهه ما في القمر من الضياء والاستنارة, وهو في تمامه لا يكون فيها أقلّ مما في القطعة المجردة، فكأنَّ التشبيه وقع على بعض الوجه فناسب أن يشبه ببعض القمر.
وعن أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- قال: كان وجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كدارة القمر، أخرجه أبو نعيم.
وروى البيهقي عن أبي إسحاق الهمداني.
__________
تقييد، وقد كان كعب بن مالك قائل هذا من شعراء الصحابة" الفصحاء البلغاء، فلا يعدل عن المتعارف بينهم إلا لسبب، "فلابُدَّ للتقييد بذلك من حكمه" لئلَّا يضيع، "وما قيل" القائل هو السراج البلقيني، كما قاله المصنف وغيره، وأبهمه هنا تبعًا للحافظ تأدبًا؛ لأنه شيخه، "في أنَّ ذلك من الاحتراز من السواد الذي في القمر" بيان لما قيل، ولفظ المصنّف في الشرح: أجاب السراج البلقيني: بأنَّ وجه العدول أن القمر فيه قطعة يظهر فيها سواد، وهو المسمَّى بالكَلَف، فلو شبّه بالمجموع لدخلت هذه القطعة في المشبه، وغرضه: إنما هو التشبيه على أكمل الوجوه، فلذا قال: كأنه قطعة قمر، يريد القطعة الساطعة الإشراق، الخالية من شوائب الكدر أ. هـ. "ليس بالقوي؛ لأن المراد بتشبيهه"، أي: الوجه, وفيه حذف هو تشبيهه "ما في القمر من الضياء والاستنارة"، لا بما فيه من النور والسواد معًا، "وهو" أي: القمر "في تمامه لا يكون فيها أقلّ مما في القطعة المجردة", بل ما فيها في غير التَّمَام يكون مساويًا لما في القمر بجملته، أو أكثر، وقد يقال: بل هو قوي؛ لأن المراد بالقطعة المشبَّه بها ما فيه من النور خاصَّة, وهو خالٍ من السواد، كبرت القطعة أو صغرت؛ والقمر أبدًا لا يخلو من سواد، سواء وقت التَّمَام وغيره، ومن قوله: ويسأل إلى هنا, ذكره الحافظ في المغازي، وقال عقبه: فيوجه بأنه إشارة إلى موضع الاستنارة، وهو الجبين، وفيه يظهر السرور، كما قالت عائشة: مسرورًا تبرق أسارير وجهه، "فكأنَّ التشبيه وقع على بعض الوجه" الذي هو الجبين، "فناسب أن يشبه ببعض القمر"، وتقدَّم له قريبًا مزيد.
"وعلى أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- قال: كان وجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كدارة القمر"، قال الجوهري: الدارة أخصّ من الدار، والدارة التي حول القمر، وهي الهالة، "أخرجه أبو نعيم، وروى البيهقي عن أبي إسحاق"، عمرو بن عبد الله "الهمداني" بفتح الهاء، وإسكان الميم، ومهملة.(5/253)
عن امرأة من همدان -سماها- قالت: حججت مع النبي -صلى الله عليه وسلم- مراتٍ, فرأيته على بعير له يطوف بالكعبة, بيده محجن, عليه بردان أحمران, يكاد يمس شعره منكبه, إذا مَرّ بالحجر استلمه بالمحجن ثم يرفعه إلى فمه فيقبّله. قال أبو إسحاق: فقلت لها شبهيه فقالت: كالقمر ليلة البدر، لم أر قبله ولا بعده مثله -صلى الله عليه وسلم.
وروى الدارمي والبيهقي وأبو نعيم والطبراني عن أبي عبيدة بن محمد بن
__________
نسبة إلى همدان, شعب من قحطان السبيعي -بفتح المهملة وكسر الموحدة- التابعي الجليل, تقدَّم قريبًا، "عن امرأة من همدان -سماها" أبو إسحاق، ونسيها الراوي، عنه "قالت: حججت مع النبي -صلى الله عليه وسلم- مرات" كذا هنا، فلعلها قبل الهجرة؛ إذ لم يحج بعدها سوى حجة الوداع، "فرأيته على بعير له" في حجة الإسلام، "يطوف بالكعبة بيده محجن" بكسر الميم، وإسكان المهملة، وفتح الجيم، ونون: عصا معوجة الرأس, "عليه بردان أحمران، يكاد" يقرب "يمس شعره منكبه, إذا مَرَّ بالحجر" الأسود "استلمه بالمحجن، ثم يرفعه إلى فيه فيقبله".
"قال أبو إسحاق: فقلت لها: شبهيه" صلى الله عليه وسلم, "فقالت: كالقمر ليلة البدر"، فاستعملت البدر في الصفة اللازمة، وهي الكمال، فكأنها قالت: كالقمر ليلة كماله، "لم أر" لم أبصر "قبله ولا بعده مثله" مَنْ يساويه خلقًا وخُلُقًا، وهذه جملة ثانية معربة عن كمال حسنه، ونهاية جماله -صلى الله عليه وسلم، وظاهره نفي رؤية مثله قبل رؤيته وبعدها، وذلك متعارف في المبالغة في نفي المثل، سواء وجد المتكلم في زمن قبل أم لا, فهو كناية عن نفي كون أحد مثله، فيدل عرفًا على أنه أحسن من كل أحد، وإذا انتفى المثل الذي هو أقرب إليه من الأحسن في مقام ذكر المحاسن، فالأحسن أنقى؛ لأنه إن وجد كان مثلًا وزيادة.
"وروى الدارمي" بفتح الدال المهملة، وكسر الراء، نسبة- إلى درام، بطن من تميم, عبد الله بن عبد الرحمن بن الفضل بن بهرام، أبو محمد السمرقندي، الحافظ، صاحب المسند، أحد الأعلام الثقات.
روى عن يزيد بن هارون، وأبي عاصم وغيرهما، وعنه مسلم وأبو داود والترمذي وخلق، سئل عنه أحمد، فقال للسائل: عليك بذاك السيد.
قال ابن حبان: كان من الحفَّاظ المتقنين، جمع وتَفَقَّه وصَنَّفَ وحَدَّثَ، وأظهر السُّنَّةَ ببلده، ودعا إليها، وذبَّ عن حريمها، وقمع من خالفها، ومات يوم التروية سنة خمس وخمسين ومائتين، وله أربع أو خمس وسبعون سنة.
"والبيهقي، وأبو نعيم" أحمد بن عبد الله الأصبهاني، "والطبراني" سليمان بن أحمد بن أيوب، تقدَّم بعض ترجمة الثلاثة، "عن أبي عبيدة" بضم العين مصغَّر "ابن محمد بن عمار بن(5/254)
عَمَّار بن ياسر قال: قلت للربيع بنت معوّذ صفي لنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم، قالت: لو رأيته لقلت: الشمس طالعة، وفي لفظ: يا بني لو رأيته لرأيت الشمس طالعة.
وروى مسلم عن أبي الطفيل أنه قيل له: صف لنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: كان أبيض مليح الوجه.
وفيما خرجه الترمذي من حديث هند بن أبي هالة:
__________
ياسر" العنسي -بالنون- المدني، أخي سلمة، وقيل: إنه هو التابعي الوسط, مقبول، روى له الأربعة "قال: قلت للربيع" بضم الراء، وفتح الموحدة، وشد التحتية مصغَّر- صحابية صغيرة، روى لها الستة "بنت معوذ" بضم الميم، وفتح المهملة، وتشديد الواو، وفتحها على الأشهر، وجزم الوقشي -بالكسر، كما في الفتح في غزوة بدر, صحابي جليل، مشهور بأنه ابن عفراء، استُشْهِدَ ببدر -رضي الله عنه: "صفي لنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم، قالت: لو رأيته لقلت: الشمس طالعة"، أي: لرأيت نورًا عظيمًا؛ بحيث تظن لما ترى من بهجة وجهه أن الشمس طالعة.
"وفي لفظ: يا بني" بالتصغير، للتحبب والشفقة، "لو رأيته لرأيت الشمس طالعة".
وقال الطيبي معناه: لرأيت شمسًا طالعة، جردت من نفسه الشريفة نفسًا، نحو قولك: لئن لقيته لتلقينَّ أسدًا، وإذا نظرت إليه لم تر إلا أسدًا.
"وروى مسلم عن أبي الطفيل" عامر بن واثلة -بمثلثة، ابن عبد الله الليثي: رأى النبي -صلى الله عليه وسلم، وروى عن أبي بكر، فمن بعده وعمر، إلى أن مات سنة مائة، على الصحيح عند الذهبي، وتبعه في التقريب، وجزم مسلم وابن عبد البر بأنَّه مات سنة مائة، واقتصر عليه العراقي، وهو آخر من مات من الصحابة، قاله مسلم وغيره.
ولد عام الهجرة، أو ثانيها، وفي روايةٍ لمسلم أيضًا، والترمذي عنه: رأيت النبي -صلى الله عليه وسلم، وما بقي على وجه الأرض أحد رآه غيري، "إنه قيل له: صف لنا رسول الله"، القائل له: سعيد الجريري -بضم الجيم وراءين- مصغَّر، فلفظ رواية مسلم عن الجريري، قلت لأبي الطفيل: رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم، قلت: كيف رأيته؟ وفي رواية الترمذي، قلت: صفه لي -صلى الله عليه وسلم، فقال: كان أبيض"، يعني: بياضًا مشربًّا بحمرة، كما يأتي إيضاحه مع زيادة "مليح الوجه"، أي: حسنه, من ملح: حسن منظره، فهو مليح، ولمسلم أيضًا، والترمذي، قال -أي: أبو الطفيل: كان أبيضًا مليحًا مقصدًا -بشد الصاد المهملة، أي: متوسطًا في جميع أوصافه، كان خلقه نحى به القصد، أي: الوسط، كما أن شَرْعه وسط بين الشرائع، وأمَّته وسط بين الأمم، فكان في لونه وهيكله وشعره، وشرعه مائلًا عن طرفي الإفراط والتفريط، وكان معتدل القوى، "وفيما"، أي: الحديث الطويل، الذي "خرجه الترمذي من حديث هند بن أبي هالة"، من رواية الحسن بن علي، قال:(5/255)
كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فخمًا مفخمًا يتلألأ وجهه تلألأ القمر ليلة البدر.
وقالت أم معبد حين وصفته لزوجها: مبلج الوجه، يعني: مشرقه مضيئه، ومنه: تبلج الصبح إذا أسفر، وما أحسن قول سيدي علي بن وفى حيث قال:
__________
سألت خالي هند بن أبي هالة، وكان وصفًا عن خلية النبي -صلى الله عليه وسلم، وأنا أشتهي أن يصف لي منها شيئًا أتعلق به، فقال: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم" من ابتداء طفوليته إلى آخر عمره كما تفيده كان التي للاستمرار عند قوم "فخمًا" بفتح الفاء، وإسكان الخاء المعجمة- على الأشهر، واقتصر عليه السيوطي، وكأنه الرواية، وإلّا فيجوز كسرها، أي: عظيمًا في نفسه "مفخمًا" بضم الميم، وفتح الفاء، والخاء المعجمة المشددة: معظمًا في صدور الصدور، وعيون العيون، لا يستطيع مكابر أن لا يعظمه، وإن حرص عليه خالف باطنه، أو فخمًا، عظيم القدر عند صحبه, مفخمًا عند من لم يره قط، فهو عظيم أبدًا، أو فخمًا عند الله مفخمًا عند الخلق، وعليها: فليست الفخامة في الجسم، وقيل: هو المراد، ففخامة الوجه امتلاؤه بالجمال والمهابة، أو كثرة لحم الوجنتين مع كمال الجمال، وبدأ الوصَّاف بالوجه دون الهامة؛ لأنه أوّل ما يتوجَّه إليه النظر، وأشرف ما في الإنسان وغيره، فقال: "يتلألأ وجهه" يشرق ويضيء, وأصل تلألأ أبيض, فأسبه بياض اللؤلؤ لضوئه, "تلألؤ القمر" مثل إشراقه واستنارته "ليلة البدر" ليلة أربعة عشر، سُمِّي بدر السبق طلوعه مغيب الشمس، وهو أحسن ما يكون، وشبهه به دون الشمس؛ لأنه ظهر في عالم مظلم بالكفر؛ ولأنَّ نور القمر أنفع من نورها، فنور وجهه أنفع من نور الشمس، وهذا أحسن من الوجه الآتي للمصنف.
"وقالت أم معبد" بفتح الميم، وإسكان المهملة، وفتح الموحدة، ومهملة- عاتكة بنت خالد الخزاعية، صحابية "حين وصفته لزوجها" أبي معبد أكثم -بفتح الهمزة والمثلثة, أو حبيش -بضم المهملة، وفتح الموحدة، وسكون التحتية، ومعجمة- أو لا يعرف اسمه, صحابي، قديم الوفاة: "مبلج الوجه" بموحدة وجيم، "يعني: مشرقه مضيئه، ومنه: تبلج الصبح إذا أسفر"، وأما الأبلج الذي وضع ما بين حاجبيه، فلم يقترنا، فهو أبلج، والاسم البلج -بفتح اللام، فلم ترده أم معبد؛ لأنها وصفته بالقرن، كما تقدَّم مبسوطًا في الهجرة، "وما أحسن قول سيدي علي"، أبي الحسن "بن" محمد, "وفى" رضي الله عنه- الشاذلي، العارف الكبير، ابن العارف الكبير, اليقظ، حادّ الذهن، المالكي، صاحب الكرامات الباهرة، والحكم المتكاثرة، المتوفَّى سنة سبع وثمانمائة، وله تسع وأربعون سنة، "حيث قال": لا حاجة له مع قوله أولًا: ما أحسن قوله، ولذا سقط من نسخ، وإن أمكن توجيهه بأنه من ظرفية الجزئي لكليه، الذي هو قول، ولا يرد أنه يوهم حصر أحسنية قوله المذكور هنا عمَّا سواه؛ لأنه بالنسبة لكونه مدحًا في المصطفى، ثم قول يجوز أنه(5/256)
ألا يا صاحب الوجه المليح ... سألتك لا تغيب عني فأنت روحي
متى ما غاب شخصك عن عياني ... رجعت فلا ترى إلّا ضريحي
بحقك جد لرقك يا حبيبي ... وداوي لوعة القلب الجريح
ورقَّ لمغرم في الحب أمسى ... وأصبح بالهوى دنفًا طريح
محب ضاق بالأشواق ذرعًا ... وآوى منك للكرم الفسيح
وفي النهاية: إنه -عليه الصلاة والسلام- كان إذا سر فكان وجهه المرآة، وكان الجدر تلاحك وجهه. قال: والملاحكة: شدة الملاءمة، أي: يرى شخص الجدر في وجهه -صلى الله عليه وسلم.
وفي حديث ابن أبي هالة: يتلألأ وجهه تلألؤ القمر
__________
مصدر، بمعنى المقول، فقوله: "ألا يا صاحب الوجه المليح" بدل منه، وأنه مصدر لا بمعناه, فهو مقول القول، "سألتك لا تغيب" عني؛ بحيث لا أراك، "فأنت روحي"، أي: كروحي التي بها حياتي، فغيبتك عني سبب هلاكي، "متى ما غاب شخصك عن عياني" بكسر العين- مشاهدتي له, هلكت، فحذف جواب الشرط، فإذا "رجعت"، فهو شرط لمقدر، بدليل الفاء في: "فلا ترى إلّا ضريحي"، أي: قبري.
قال المصباح: شقٌّ في وسط القبر، فعيل بمعنى مفعول، "بحقك" أسألك، فأقول: "جد لرقك" مرقوقك، أي: مملوكك ولامه للتعدية، أي: أوصل عطاءك لرقك, أو تعليلية، أي: جدبًا لوصل، لأجل رقك "يا حبيبي"، والمراد التوسُّل به، وهو مطلوب، "وداوى لوعة القلب" حرقته, "الجريح" المجروح، "ورقَّ لمغرم" مولع، أي: ارحم محبًّا احترق قلبه بإقبالك عليه "في الحب"، متعلق بقوله: "أمسى، وأصبح بالهوى دنفًا" مريضًا بمرض لازم لا يفارقه، "طريح" مُلْقَى لما أصابه من الحب، صفة لمغرم بلا ياء، وبياء إمَّا للإشباع ساكنة، أو ياء، نسبة للطرح، لكثرته بالغرام، "محب" نعت ثان لمغرم، "ضاق بالأشواق ذرعًا" أي: صدرًا، كناية عن شدة الانقباض لعجزه عن مدافعة الأشواق، ولم يطقها صدره، ولم يبق فيه سعة، لامتلائه بها، "وآوى منك"، أي: أقام عندك "للكرم الفسيح" الواسع.
"وفي النهاية" لابن الأثير؛ "إنه -عليه الصلاة والسلام، كان إذا سر فكان وجهه المرآة" التي ترى فيها صور الأشياء، "وكان الجدر"، جمع جدار "تلاحك وجهه، قال: والملاحكة شدة الملاءمة" أي: الموافقة، "أي: يرى شخص الجدر في وجهه -صلى الله عليه وسلم" لشدة ضيائه.
وهذا التفسير من تتمة كلام النهاية، "وفي حديث ابن أبي هالة: يتلألأ وجهه تلألؤ القمر(5/257)
ليلة البدر.
وذلك: لأنَّ القمر يملأ الأرض بنوره, ويؤنس كل من يشاهده، وهو يجمع النور من غير أذى، ويتمكَّن من النظر إليه, بخلاف الشمس التي تغشي البصر فتمنع من تمكن الرؤية، والتشبيه بالبدر أبلغ في العرف من التشبيه بالقمر؛ لأنه وقت كماله، كما قال الفاروق حين رآه أو كلما رآه:
لو كنت من شيء سوى بشر ... كنت المنور ليلة البدر
وقد صادف هذا التشبيه تحقيقًا، فمن أسمائه -صلى الله عليه وسلم: البدر:
__________
ليلة البدر"، أي: يلمع لمعانه ليلة كماله، فاستعمل البدر في صفة القمر التي هي له، وجرَّده عن معناه الذي هو الموصوف والصفة، أو هو من استعماله المطلق في القيد، أي: ليلة كونه بدرًا، فلا يرد أن المعنى تلألؤ القمر ليلة القمر الكامل، ولا معنى له، "وذلك" أي: وجه التشبيه بالقمر دون الشمس؛ "لأن القمر يملأ الأرض بنوره، ويؤنس كل من يشاهده"، أي: يسكن قلبه إليه، ولا ينفر منه، "وهو يجمع النور من غير أذى، ويتمكَّن من النظر إليه"، بل قد يستلذه، "بخلاف الشمس التي تغشي البصر" بمهملة أو بمعجمة -كما مَرَّ قريبًا، "فتمنع من تمكن الرؤية"، ولا يؤنس إليها لشدة حرها، وسبق توجيه آخر على أنه ورد تشبيهه بالشمس، كما مَرّ.
"والتشبيه بالبدر أبلغ في العرف من التشبيه بالقمر؛ لأنه"، أي: البدر هو القمر "وقت كماله، كما قال الفاروق" لقب عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- لكثرة فرقه، أي: فصله بين الحق والباطل، وفي أن الملقب له جبريل أو المصطفى، أو أهل الكتاب، روايات "حين رآه"، أي: قال: البيت مرة واحدة حين رؤيته في بعض الأزمان، "أو" كان يقوله "كلما رآه"، وكأنه شك من الراوي: "لو كنت من شيء سوى بشر كنت المنوَّر"، أي: القمر "ليلة البدر"، واستعمل سوى صفة لشيء، بناءً على خروجها عن الظرفية إلى معنى غير، وهو الأصح خلافًا، فقول سيبويه: إنها ظرف لا تتصرف إلا في الضرورة، وهذا البيت تمثل به عمر، وليس منشئه؛ إذ هو من قصيدة للمسيب بن عبس بن مالك، خال الأعشى، يمدح بها قيسًا وبعده:
ولا أنت أجود بالعطاء من ... الزمان لما جاد بالقطر
ولا أنت أشجع من أسامة إذ ... دعيت نزال ولج في الذعر
"وقد صادف هذا التشبيه" بالبدر "تحقيقًا"، أي: معناه الحقيقي، وهو ما وضع له الاسم، "فمن أسمائه -صلى الله عليه وسلم- البدر"؛ لتمام كماله وعلوّ شرفه.
وفي قصص الكسائي: إن الله قال لموسى: إن محمدًا هو البدر الباهر، والنجم الزاهر، والبحر الراجز، ولهذا أنشدوا لما قدم المدينة في الهجرة أو من غزوة تبوك:(5/258)
طلع البدر علينا ... من ثنيات الوداع
وجب الشكر علينا ... ما دعا لله داع
ولقد أحسن من قال:
كالبدر والكاف إن أنصفت زائدة ... فلا تظنَّنَّها كافًا لتشبيه
وما أحلى قول ابن الحلاوي:
يقولون: يحكي البدر في الحسن وجهه ... وبدر الدجى عن ذلك الحسن ينحط
كما شبهوا غصن النقا بقوامه ... لقد بالغوا في المدح للغصن واشتطوا
فقد حصل للبدر والغصن غاية في الفخر بهذا التشبيه، على أنَّ هذه التشبيهات الواردة في صفاته -عليه الصلاة والسلام- إنما هي على عادة الشعراء والعرب،
__________
طلع البدر علينا ... من ثنيات الوداع
وجب الشكر علينا ... ما دعا لله داع
"ولقد أحسن من قال":
كالبدر والكاف إن أنصفت زائدة ... فلا تظننها كافًا لتشبيه
يعني: إذا أتيت بالعدل في وصفه -صلى الله عليه وسلم، قلت: الكاف زائدة، فإنه البدر لا مشبَّه به، "وما أحلى قول ابن الحلاوي" بفتح الحاء وخفة اللام- نسبة إلى الحلاوة لبيعٍ أو غيره، "يقولون" في صفته -عليه السلام، "يحكي البدر" بالرفع فاعل "في الحسن وجهه" بالنصب مفعول، "وبدر الدجى عن ذلك الحسن" الذي في وجهه، "ينحط" عنه, فكيف يحكيه، فما أنصفوا في قولهم، "كما شبهوا غصن النقا" في الاعتدال "بقوامه" بفتح القاف: اعتداله، "لقد بالغوا في المدح للغصن واشتطوا"، جاروا وظلموا؛ لأن التشبيه يستدعي وجهًا جامعًا بين المشبَّه والمشبَّه به، والبدر وغصن النقا لا نسبة بينهما وبين وجهه وقوامه، "فقد حصل للبدر والغصن غاية في الفخر بهذا التشبيه، على أن هذه التشبيهات الواردة في صفاته -عليه الصلاة والسلام، إنما هي على عادة الشعراء والعرب"، ولذا لما عيب على أبي تمام تشبيه ممدوحه بمن دونه في قوله:
ما في وقوفك ساعة من بأس ... تقضي ذمام الأربع الأدراس
أقدام عمر وفي سماحة حاتم ... في حلم أحنف في ذكاء إياس
تفطن لذلك، فقال في أواخر شعره:(5/259)
وإلّا فلا شيء في هذه التشبيهات المحدثات, يعادل صفاته الخِلْقية والخُلُقية، ولله در إمام العارفين سيدي محمد وفى الشاذلي -رحمه الله تعالى؛ حيث قال:
كم فيه للأبصار حسن مدهش ... كم فيه للأرواح راح مسكر
__________
لا تنكروا ضربي له من دونه ... مثلًا شرودًا في الندى والباس
فالله قد ضرب الأقل لنوره ... مثلًا من المشكاة والنبراس
"وإلّا فلا شيء في هذه التشبيهات المحدثات يعادل صفاته الخَلْقية" بفتح فسكون، "والخُلُقية" بضمتين، كما يدل ل كلامه أوّل الفصل الثاني عن الراغب، فليس الأوّل بالكسر كما قد يتوهم من نسبته إلى الخِلْقة، "ولله در إمام العارفين، سيدي محمد" بن محمد بن محمد، ثلاثة الإسكندراني أو المغربي، ثم المصري، صاحب الموشحات التوحيدية التي لم ينسج على منوالها أحد من البرية، وشيخ الخرقة الوفائية, كان وافر الجلال، فائق الخلال، تمسك من فنون العلم بأفنان، وأفاد بنظمه ونثره عقود الجمان، وقلائد العقيان، ولم يتسم بالسادات في مصر غير ذريته الأعيان. ولد بالإسكندرية سنة اثنتين وسبعمائة، فجاء التاج بن عطاء الله، ومعه أصحابه إلى بيته، فأتى له به، فقبله، وهو في القماط، وقال لأصحابه: هذا جامع علم حقائقنا، ومات أبوه وهو صغير، فكفله جده النجم محمد، وكان من أصحاب الأحوال.
قال الشعراوي: وكان أميًّا، وله مؤلفات كثيرة ألفها وهو ابن سبع أو عشر، ولقبه "وفي" بالياء- على القياس، وإن رسم بألف في النسخ؛ إذ هو منقول عن الفعل، وهو وفى يفي إذا تَمَّ؛ لأنه وقف النيل، ولم يزد أو أن الوفاء حتى عزم أهل مصر على الرحيل، فقصدوه، وكان معروفًا بإجابة الدعوة, فجاء وتوضأ بالمقياس، وصلى ركعتين، ثم دعا الله، فصار كلما يطلع من الفسقية درجة، يطلع البحر معه، حتى وفي ذلك اليوم سبعة عشر ذراعًا، فعاد ماشيًا، وهو يقول: وفي وفي، وأخذ عن داود بن باخلا، عن ابن عطاء الله، عن أبي العباس المرسي، عن أبي الحسن، ولذا ينسب "الشاذلي" بذال معجمة، ومهملة- نسبة إلى شاذلة بلد المغرب، منها الشيخ أبو الحسن، أستاذ الشاذلية، وفيهم يقول أبو العباس بن عطاء:
تحقق بحب الشاذلية تلق ما ... تروم فحقق ذاك فيهم وحصل
ولا تعدون عيناك عنهم فإنهم ... شموس الهدى في أعين المتأمل
ومات سنة ستين، وقيل: حمس وستين وسبعمائة، "رحمه الله تعالى، حيث قال: كم" للتكثير "فيه للإبصار حسن مدهش" محير، أي: إن كثيرًا من الأبصار أدهشها حسنه، بحيث تحيّرت فيه لفرط ما أصابها من الدهش، "كم فيه للأرواح راح مسكر"، أي: وكثير من صفاته التي إدراكها والتعلق بها، يحصل حالة تشبه الخمر لمن قامت به، فيصير كالسكران، الذي(5/260)
سبحان من أنشأه من سبحاته ... بشرًا بأسرار الغيوب يبشر
قاسوه جهلًا بالغزال تغزلًا ... هيهات يشبهه الغزال الأحور
هذا وحقك ما له من مشبه ... وأرى المشبه بالغزالة يكفر
يأتي عظيم الذنب في تشبيهه ... لولا لرب جماله يستغفر
فخر الملاح بحسنهم وجمالهم ... وبحسنه كل المحاسن تفخر
فجماله مجلى لكل جميلة ... وله منار كل وجه نير
جنات عدن في جنى وجناته ... ودليله أن المراشف كوثر
__________
لا يحس بشيء مما عليه الناس، "سبحانه من أنشأه من سبحاته" بضمتين- خلقه من أنواره "بشرًا بأسرار الغيوب يبشر".
قال القاموس: سبحات وجه الله -بضمتين: أنواره، وفي الصحاح: جلالته، والأوَّل أنسب هنا، إشارة إلى النور الذي خلق منه، كما قال -صلى الله عليه وسلم: "يا جابر, إن الله تعالى قد خلق قبل الأشياء نور نبيك من نوره" رواه عبد الرزاق، كما مَرَّ أوَّل الكتاب، "قاسوه جهلًا" منهم "بالغزال"، الحيوان المعروف "تغزلًا" لتوهمهم أن بينهما مشابهة، والحال أنها منفية، كما قال: "هيهات" بعد "يشبهه الغزال الأحور" من الحور -بفتحتين: شدة بياض العين في شدة سوادها، "هذا" أي: خذ، وهي كلمة يؤتى بها للفصل والانتقال من معنى لآخر، "وحقك ما له من مشبه، وأرى المشبه بالغزالة"، الشمس التي هي أجل من الغزال، "يكفر" نعمته الواصلة إليه؛ حيث شبهه بما لا نسبة بينه وبينه، لا خلاف الإيمان، "يأتي عظيم" بالرفع فاعل، والنصب مفعول، فاعله ضمير يعود على المشبه، أي: كبير "الذنب في تشبيهه، لولا لرب جماله يستغفر" من هذا الذنب لهلك، فجواب لولا محذوف "فخرَّ" غلب هو "الملاح" بالكسر: جمع مليح, الحسان، الذين فخروا "بحسنهم وجمالهم، وبحسنه كل المحاسن تفخر" بفتح الخاء- من باب منع، كما في القاموس، فلا يقاربه شيء يجعل بينه وبين مشابهة، "فجماله مجلى" بالجيم- محل جلاء، أي: ظهور "لكل" صفة "جميلة"؛ إذ كله محاسن لا يشوبه شيء ينافي الكمال بخلاف غيره؛ إذ اشتمل على صفات جميلة، ربما سترها وصف يغايرها، فيمتنع ظهوره، "وله منار" علم الطريق، استعمل فيما يدل على كماله "كل وجه نير" دليل عليه؛ إذ جميع الأنوار مقتبسة منه "جنات عدن في جنى وَجَناته" -بفتحتين، وهي ما ارتفع من الخد، يعني: أن نعيم الجنات الذي يناله العبد في الآخرة، إنما هو مما اقتبسه من علومه ومعارفه، عبَّرَ عنه بذلك؛ لأن الوجنات أشرف دليل على المحاسن، "ودليله أن المراشف": ما يرشف بالشفتين لإزالة العطش الأكبر يوم القيامة، "كوثر" نهر في الجنة، وعده ربه به، فيه خير كثير، أحلى من العسل، وأبيض من اللبن،(5/261)
هيهات ألهو عن هواه بغيره ... والغير في حشر الأجانب يحشر
كتب الغرام علي في أسفاره ... كتبًا تئوّل بالهوى وتفسر
فدع الدعي وما ادعاه في الهوى ... فدعيه بالهجر فيه تهجر
وعليك بالعلم العليم فإنه ... لخطيبه في كل خطب منبر
وأما بصره الشريف -صلى الله عليه وسلم, فقد وصفه الله تعالى في كتابه العزيز بقوله: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} [النجم: 17] .
__________
وأبرد من الثلج، وألين من الزبد، لا يظمأ من شرب منه، "هيهات" بعد "ألهو" أشتغل "عن هواه" ميلي ومحبتي له "بغيره".
"والغير في حشر الأجانب يحشر"، وشتَّان ما بينهما، فكيف أشتغل بغيره "كتب الغرام"، الولوع والتعلق به، ومحبته "علي في أسفاره"، كتبه الكبيرة "كتبًا"، أحكامًا كثيرة كلها "تئوّل بالهوى" الميل وخلوص المحبة، "وتفسَّر" بها، "فدع" اترك "الدعيّ" المنتسب لقوم وليس منهم، "وما ادَّعاه في الهوى" من الدعاوى الكاذبة، يعد نفسه من أهل المحبَّة، وما هو منهم، "فدعيه" المنتسب إليه "بالهجر" بضم فسكون، الهذيان والتخليط "فيه تهجّر"، أمر يعود عليه بالأذى والهلاك، من هجر المريض هجرًا: خلط وهذي, وتهجّر، سار وقت الهاجرة -شدة الحر، فكأنَّه قال: مدعي المحبة بمجرد اللفظ شبيه بالسائر في شدة الحر، فأتعب نفسه وآذاها بما يلام عليه عاجلًا وآجلًا، "وعليك بالعلم العليم"، أي: الزم واتبع الرسل، الكثير العلم، الذي هو في ظهوره، كعلم الطريق الذي يهتدي به من البعد، "فإنه لخطيبه في كل خطب منبر"، أي: فإنه كالمنبر لكل خطيب في كل أمر مهم، "وأمَّا بصره الشريف -صلى الله عليه وسلم"، وهو النور الذي تدرك به الجارحة المبصرات، كما في المصباح، وهو بمعنى قول المتكلمين: قوة مودعة في العين، وهو صريح في أنه شيء مخلوق في العين زائد عليها، ومقتضى قول القاموس: البصر محركة حسن العين, إنه صفة للعين، ليست زائدة عليها، إلّا أن يكون على حذف مضاف، أي: سبب حسن العين، أي: جمالها.
واستعمل الحسن في نفس سببه مجازًا لغويًّا، فأطلق المسبب مريدًا سببه، "فقد وصفه الله تعالى في كتابه العزيز"، الغالب على الكتب التي قبله، بنسخه ما فيها، وإعجازه "بقوله: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ} ما مال بصره -صلى الله عليه وسلم- عمَّا رآه, " {وَمَا طَغَى} " ما تجاوزه، بل أثبته إثباتًا صحيحًا مستيقنًا، أو ما عدل عن رؤية العجائب التي أُمِرَ برؤيتها، وما جاوزها، كما في البيضاوي، فإن قيل: الآية لا تصلح جوابًا لما؛ لأن المراد الخلق الحسي لا الصفة، فالقياس: أنَّ الجواب، فهو في(5/262)
وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يرى بالليل في الظلمة كما يرى في النهار في الضوء. رواه البخاري.
وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يرى في الظلمات كما يرى في الضوء. رواه البيهقي.
__________
غاية الحدة والقوة المودَعة فيه، فالجواب أنَّه من التعبير باللزوم؛ لأن وصفه بما في الآية ملزوم، ويلزمه غاية قوة بصره؛ بحيث إنه لا يتخيل في شيء رآه ما يخالف الواقع فيه، بل متى تعلّق بمبصر ما أدركه على ما هو به في الواقع، وإن كان في غاية الخفاء، "وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يرى بالليل في الظلمة"، احترازًا عمَّا إذا كان مع القمر، "كما يرى بالنهار في الضوء"، متعلّق بالنهار للاحتراز عمَّا إذا كان في بيت مظلم، أو في يوم غيم، فلا يقال: لا حاجة إليه بعد ذكر النهار، فالمعنى: إن رؤيته في النهار الصافي والليل المظلم متساوية؛ لأن الله تعالى لما رزقه الاطِّلاع بالباطن، والإحاطة بإدراك مدركات القلوب، جعل له مثل ذلك في مدركات العيون، ومن ثَمَّ كان يرى المحسوس من وراء ظهره، كما يراه من أمامه، ذكره الحرالي ملخصًا، ويأتي نصه في المصنف، ولا يرد عليه حديث أنه -صلى الله عليه وسلم- قام ليلة، فوطئ على زينب أم سلمة بقدمه، وهي نائمة فبكت، فقال: "أمطيوا عنا زناياكم"؛ لأنه حجب عن ذلك حينئذ ليعلم أنه لا ينام أحد ببيت ذي الأهل"، وفي حديث: كان يرى من خلفه من الصفوف، كما يرى من بين يديه.
قال عياض: وإنما حدثت هذه الآية له بعد ليلة الإسراء، كما أنَّ موسى كان يرى النملة السوداء في الليلة الظلماء من مسيرة عشرة فراسخ بعد ليلة الطور أ. هـ.
والظاهر أنَّ مراده بالآية ما يشتمل الآيتين في الحديثين، "رواه البخاري"، كذات في النسخ، ولم أجده فيه، وإنما عزاه السيوطي وغيره للبيهقي في الدلائل، وقال: إنه حسن.
قال شارحه: ولعلَّه لاعتضاده، وإلّا فقد قال السهيلي: ليس بقوي، وضعَّفه ابن دحية، أي: نقل تضعيفه في كتاب الآيات البينات عن ابن بشكوال؛ لأن في سنده ضعفًا، فكيف يكون في البخاري، "وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يرى في الظلماء"، مرادف للظلمة.
قال في القاموس: الظلمة -بالضم وبضمتين- والظلماء والظلام ذهاب النور، "كما يرى في الضوء، رواه البيهقي" وابن عدي، وكذا بقي بن مخلد، كما في الشفاء، وضعَّفه ابن الجوزي والذهبي، لكنه يعتضد بشواهده، فهو حسن، كما قال السيوطي.(5/263)
وعن أبي هريرة أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "هل ترون قبلتي ههنا، فوالله ما يخفى عليّ ركوعكم ولا سجودكم، إني لأراكم من وراء ظهري" رواه البخاري ومسلم.
وعند مسلم من رواية أنس بن مالك أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "أيها الناس، إني إمامكم فلا تسبقوني بالركوع ولا بالسجود، فإني أراكم من أمامي ومن خلفي".
__________
"وعن أبي هريرة أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "هل ترون" بفتح التاء- والاستفهام إنكاري، أي: أتظنون "قبلتي"، أي: مقابلتي ومواجهتي "ههنا" فقط؛ لأن من استقبل شيئًا، استدبر ما وراءه، فبَيِّنَ أن رؤيته لا تختص بجهة واحدة، "فوالله ما"، وفي رواية: لا "يخفى علي ركوعكم ولا سجودكم"، هذا لفظ مسلم، ولفظ البخاري في موضع من كتاب الصلاة: "فوالله ما يخفى علي خشوعكم، ولا ركوعكم"، وفي موضع آخر: "ركوعكم ولا خشوعكم".
قال الحافظ وغيره: أي: في جميع الأركان، ويحتمل أن يريد به السجود؛ لأن فيه غاية الخشوع.
وقد صرَّح بالسجود في رواية مسلم، وإذا كان المراد به الأعمّ، فذكر الركوع بعده من الأخص بعد الأعم، إمَّا لأنَّ التقصير فيه كان أكثر، أو لأنه أعظم الأركان، من حيث إنَّ المسبوق يدرك الركعة بتمامها بإدراك الركوع، "إني لأراكم" بفح الهمزة- بدل من جواب القسم، وهو ما يخفى، أو بيان له "من وراء ظهري" رؤية حقيقية، اختُصَّ بها عليكم، وهو تنبيه لهم على الخشوع في الصلاة؛ لأنه قاله لهم لما رآهم يلتفتون، وهو منافٍ لكمال الصلاة، فيكون مستحبًّا لا واجبًا؛ إذ لم يأمرهم بالإعادة.
وقد حكى النووي الإجماع على عدم وجوبه، وتعقَّب بأنَّ في الزهد لابن المبارك عن عمّار بن ياسر: لا يكتب للرجل من صلاة ما سها عنه. وفي كلام غير واحد: ما يقتضي وجوبه، ثم الخشوع تارةً يكون من فعل القلب كالخشية، وتارةً من فعل البدن كالسكون، وقيل: لابُدَّ من اعتبارهما، حكاه الرازي في تفسيره.
وقال غيره: هو معنى: يقوم بالنفس، يظهر عنه سكون في الأطراف، يلائم مقصوده العبادة، ويدل على أنه من عمل القلب، حديث على الخشوع في القلب، أخرجه الحاكم.
وأما حديث: لو خشع هذا خشعت جوارحه، ففيه إشارة إلى أن الظاهر عنوان الباطن، "رواه البخاري، ومسلم"، كلاهما في الصلاة، "وعند مسلم من رواية أنس بن مالك أنه -صلى الله عليه وسلم، قال: "أيها الناس, إني أمامكم، فلا تسبقوني بالركوع، ولا بالسجود، فإني أراكم من أمامي"، قدامي "ومن خلفي"، تعليل للنهي عن السبق أو تحذير عنه؛ لأنهم إذا علموا أنه يراهم اجتنبوا السبق بكل اعتبار، ومن أمامي حال من المفعول، أو هو لغو متعلق بأراكم.(5/264)
وعن مجاهد: في قوله تعالى: {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ، وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} [الشعراء: 219] قال: كان -صلى الله عليه وسلم- يرى من خلفه من الصفوف، كما يرى من بين يديه. رواه الحميدي في مسنده، وابن المنذر في تفسيره.
وهذه الرؤية رؤية إدراك, والرؤية لا تتوقف على
__________
وفي البخاريّ عن أنس: صلَّى بنا النبي -صلى الله عليه وسلم- صلاة، ثم رقي المنبر، فقال في الصلاة وفي الركوع: "إني لأراكم من ورائي، كما أراكم من أمامي".
وفي مسلم: "إني لأبصر من ورائي، كما أبصر من بين يدي".
قال الحافظ: وظاهر الحديث أنّ ذلك يختص بحالة الصلاة، ويحتمل أن يكون ذلك واقعًا في جميع أحواله، وقد نقل عن ذلك عن مجاهد، وحكى بقي بن مخلد أنه -صلى الله عليه وسلم- كان يبصر في الظلمة، كما يبصر في الضوء، انتهى، وتعقَّب بأن جماعة من المتقدمين, صرَّح بالعموم، وعللوه بأنه كان يبصر من خلفه؛ لأنه كان يرى من كل جهة.
"وعن مجاهد" ابن جبير -بفتح الجيم، وسكون الموحدة- المخزومي، مولاهم المكي, ثقة، روى له الجميع, إمام في التفسير وفي العلم, تابعي وسط. مات سنة إحدى أو اثنتين أو ثلاث أو أربع ومائة، وله ثلاث وثمانون سنة، "في" تفسير "قوله تعالى: {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ، وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} [الشعراء: 219] ، أي: المصلين، "قال: كان -صلى الله عليه وسلم: رى من" -بفتح الميم- موصول. "خلفه من الصفوف، كما يرى مَنْ" -بفتح الميم- الذي "بين يديه"، ووجه إدخال ذا الحديث المرسل في تفسير الآية، أنَّ أخباره برؤيته، يتصفَّح أحوالهم، يستدعي أنه يراهم، سواه كانوا خلفه أو أمامه، قربوا منه أو بعدوه، "رواه الحميدي" عبد الله بن الزبير بن عيسى القرشي، الأسدي المكي، أبو بكر, الثقة، الحافظ، الفقيه، أجَلّ أصحاب ابن عيينة، جالسه تسع عشرة سنة، وروى عن خلق سواه، وعنه البخاري وخلائق.
قال الحاكم: كان البخاري إذا وجد الحديث عن الحميدي لا يعدوه إلى غيره. مات سنة تسع عشرة ومائتين، وقيل: بعدها.
"في مسنده" مرسلًا عن مجاهد, فليس مجرد استنباط، وفهم من الآية، كما يوهم، "وابن المنذر" الحافظ، العلامة الفقيه, محمد بن إبراهيم بن المنذر النيسابوري، شيخ الحرم، كان غاية في معرفة الخلاف، والدليل, مجتهد ألَّا يقلد أحدًا, مات بمكة سنة ثمان عشرة وثلاثمائة، "في تفسيره" أحد تصانيفه التي لم يصنف مثلها: "وهذه الرؤية" المذكورة في حديث ابن عباس, وعائشة, وأبي هريرة، وأنس، ومجاهد، "رؤية إدراك" إبصار حقيقي، خاصّ به -صلى الله عليه وسلم، انخرقت له فيه العادة، "والرؤية" من حيث هي، لا بقيد وصف المصطفى بها، "لا تتوقف على(5/265)
وجود آلتها التي هي العين عند أهل الحق, ولا شعاع ولا مقابلة، وهذا بالنسبة إلى القديم العالي، أما المخلوق: فتتوقَّف صفة الرؤية في حَقِّه على الحاسَّة والشعاع والمقابلة بالاتفاق، ولهذا كان خرق عادة في حقِّه -عليه الصلاة والسلام، وخالق البصر في العين قادر على خلقه في غيرها.
قال الحرالي: وهذه الآية قد جعلها الله تعالى دالّة على ما في حقيقة أمره في الاطّلاع الباطن لسعة علمه، ومعرفته لما بربه لا بنفسه, أطلعه على ما بين يديه مما تقدَّم من أمر الله، وعلى ما وراء الوقت
__________
وجود آلتها، التي هي العين عند أهل الحق، ولا" تتوقف على وجود "شعاع"، وهو بالجر عطف على آلتها، "ولا" على "مقابلة، وهذا" الإدراك المفسّر بذلك, إنما هو "بالنسبة إلى القديم العالي"، ولعلّ قصده الرد على من زعم أنه كان يدرك ذلك بلا رؤية أصلًا، بل بمجرد العلم، إمَّا بأن يوحى إليه كيفية فعلهم، وإمَّا بأن يلهم، كما يأتي.
قال الحافظ: وفيه نظر؛ لأن العلم لو كان مرادًا لم يقيده بقوله: من وراء ظهري، انتهى. فلا يقال لا مناسبة في إيراد ما يتعلق به تعالى في ذا المقام.
"أما المخلوق: فتتوقَّف صفة الرؤية في حقّه على الحاسَّة، والشعاع، والمقابلة بالاتفاق، ولهذا كان" ما ذكر من إبصارٍ من وراء ظهره "خرق عادة في حقِّه -عليه الصلاة والسلام، وخالق البصر في العين قادر على خلقه في غيرها"، فيجوز أنه سبحانه خلق فيه قوة البصر في غيرها، فيدرك من خلفه بآلة في، أي: محل من جسده، وهذا بناه المصنف على مجَّد الجواز، وهو لا يسلتزم الوقوع، فلا ينافي ما يأتي أن الأقعد حمله على الإدراك من غير آلة.
"قال الحرالي" -بفتح المهملة، والراء، وشد اللام- نسبة إلى قبيلة بالبربر، واسمه: علي بن أحمد بن الحسن، ذو التصانيف المشهورة: "وهذه الآية قد جعلها الله تعالى دالَّة على ما في حقيقة أمره في الاطّلاع الباطن"، أي: الخفي "لسعة علمه، ومعرفته لما" -بشد الميم- "عرَّف" الناس -بشد الراء- "بربه"، بأن بلغهم أنه إله واحد في ذاته وصفاته، مستحق لأن يُعْبَد، وغير ذلك مما يليق به، "لا بنفسه"، أي: لم يعرفهم بما اشتملت عليه ذاته من الكمالات، "أطلعه" جواب لما، أي: جوزي بأن أطلعه، ويحتمل خفة راء عرف، أي: لما عرف الأحكام الشرعية بالوحي لا بنفسه، فلم يستقل بأخذ حكم يليق بحال البشر، جوزي بأن أطلعه الله "على ما بين يديه"، أي: الأمور الحاضرة عنده، ولا ينافيه قوله: "مما تقدَّم من أمر الله"؛ لأن التعليق التنجيزي بالأمور الحاضرة عنده، حاصل قبل علمه -صلى الله عليه وسلم- بها، ويحتمل أن يريد بما بين يديه ما لم يتأخر عن الوقت الذي هو فيه، فيشمل الحاضر والماضي من الأمور التي أطلعه الله عليها، "وعلى ما وراء الوقت،(5/266)
مما تأخَّر من أمر الله، فلمَّا كان على ذلك من الإحاطة في إدراك مدركات القلوب, جعل الله تعالى له -صلى الله عليه وسلم- مثل ذلك في مدركات العيون، فكان يرى المحسوسات من وراء ظهره كما يراها من بين يديه, كما قال -صلى الله عليه وسلم. انتهى.
ومن الغريب ما ذكره الزاهدي يختيار محب بن محمود، شارح القدوري في رسالته الناصرية: أنه -صلى الله عليه وسلم- كان له بين كتفيه عينان كسَمِّ الخياط يبصر بهما، ولا تحجبهما الثياب.
وقيل: بل كانت صورهم تنطبع في حائط قبلته كما تنطبع في المرآة أمثلتهم فيها، فيشاهد أفعالهم، وهذا إن كان نقلًا عن الشارع -عليه الصلاة والسلام- بطريق صحيح فمقبول, وإلا فليس المقام مقام رأي، على أن الأقعد في إثبات كونه معجزة حملها على الإدراك من غير آلة. والله أعلم.
__________
مما تأخَّر من أمر الله"، من كلِّ ما يكون إلى يوم القيامة، "فلمَّا كان على ذلك من الإحاطة في إدراك مدركات القلوب، جعل الله تعالى له -صلى الله عليه وسلم- مثل ذلك في مدركات العيون، فكان يرى المحسوسات من وراء ظهره، كما يراها من بين يديه، كما قال -صلى الله عليه وسلم. انتهى" كلام الحرالي، وحاصله -كما قال بعضهم: إنه من قبيل الكشف له عن المرئيات، فهو من الخوارق، "ومن الغريب" الذي لا يعرف "ما ذكره الزاهدي" -بزاي ودال مهملة- "يختيار"، كذا في النسخ، وفي بعضها باختيار "محب"، وكتب عليه بهامش: بخت -بموحدة، ومعجمة- سعد ويار، صاحب على طريق العجم من تقديم المضاف إليه على المضاف، وليس بشيء، فالي في طبقات الحنفية لأبي الوفاء الغزميني في حرف الميم: مختار "بن محمود" بن محمد، أبو الرجاء الغزميني -بمعجمتين، نسبةً إلى قصبة من خوارزم، يلقّب نجم الدين، "شارح القدوري" -بضمتين، نسبةً إلى بيع القدور، شرحًا نفيسًا. مات سنة ثمان وخمسين وستمائة، "في رسالته" التي سماها: "الناصرية، أنه -صلى الله عليه وسلم- كان له بين كتفيه عينان كسَمِّ الخياط" -بفتح السين وضمها- ثقب الإبرة، "يبصر بهما، ولا تحجبهما الثياب"، ونوزع بأنه لا يصح كيف، ولو أن إنسانًا كان له عينان في قفاه، لكان أقبح شيء، وانتصر له بعضهم، بأن الظاهر أن مثله لا يقال بالرأي، "وقيل: بل" معناه أنه "كانت صورهم تنطبع في حائط قبلته، كما تنطبع في المرآة، فيرى أمثلتهم فيها، فيشاهد أفعالهم، وهذا" المذكور من القولين، "إن كان نقلًا عن الشارع -عليه الصلاة والسلام، بطريق صحيح، فمقبول"، ويكون أيضًا من الخوارق، "وإلّا" بأن كان رأيًا في فهم الحديث، "فليس المقام مقام رأي" فلا يقبل لما فيه من إثبات ما لم يرد "على أن الأقعد في إثبات كونه معجزة، حملها على الإدراك من غير آلة"؛ لأنه الظاهر من الحديث، "والله أعلم" بما في الواقع.(5/267)
وقد ذهب بعضهم إلى أن هذه الرؤية رؤية قلبه الشريف.
وعن بعضهم: المراد بها العلم, إما بأن يوحى إليه كيفية فعلهم, أو بأن يلهم، والصحيح والصواب ما تقدَّم.
وقد استشكل على قول من يقول: إن المراد بذلك العلم، ما ذكره ابن الجوزي في بعض كتبه بغير إسناد: أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "إني لا أعلم ما وراء جداري هذا" , فإن صحَّ فالمراد منه نفي العلم بالمغيبات،
__________
"وقد ذهب بعضهم"، في معنى الحديث "إلى أن هذه الرؤية رؤية قلبه الشريف"، وهو خلاف الظاهر أيضًا، "وعن بعضهم: المراد بها العلم، إمَّا بأن يوحى إليه كيفية" صفة "فعلهم، أو بأن يلهم"، وهو من الوحي أيضًا، ومَرَّ تنظير الحافظ فيه؛ بأنه لو كان مرادًا لم يقيد بقوله: "من وراء ظهري"، وفي الشفاء الظواهر تخالفه، أي: هذا التأويل، ولا إحالة في ذلك، وهي من خواص الأنبياء، كما أخبرنا عبد الله بن أحمد العدل، فذكر إسناده عن أبي هريرة، عن النبي -صلى الله عليه وسلم، قال: "لما تجلى الله لموسى، كان يبصر النملة على الصفا في الليلة الظلماء مسيرة عشرة فراسخ"، ولا يبعد أن يخص نبينا بذلك بعد الإسراء، والحظوة بما رأى من آيات ربه الكبرى. انتهى. ولذا قال: "والصحيح والصواب ما تقدَّم" من أنه الإدراك من غير آلة، وقيل: المراد أنه يرى من عن يمينه، ومن عن يساره، ممن تدركه عينه، مع التفات يسير في النادر، ويوصف من هو هناك؛ بأنه وراء ظهره.
قال الحافظ: وهذا ظاهر التكلف، وفيه عدول عن الظاهر بلا موجب، والصواب المختار: إنه حمول على ظاهره، وإن هذا الإبصار إدراك حقيقي خاص به -صلى الله عليه وسلم، انحرفت له فيه العادة، وعلى هذا عمل البخاري، فأخرج هذا الحديث، أي: حديث "هل ترون قبلتي" إلخ.... في علامات النبوة، وكذا نقل عن الإمام أحمد وغيره، ثم ذلك الإدراك يجوز أن يكون برؤية عينه، انخرقت له العادة فيه أيضًا، فكان يرى من غير مقابلة؛ لأن الحق عند أهل السنة أن الرؤية لا يشترط لها عقلًا عضو مخصوص، ولا مقابلة، ولا قرب، وإنما تلك أمور عادية يجوز حصول الإدراك مع عدمها عقلًا، ولذلك حكموا بجواز رؤية الله تعالى في الآخرة، خلافًا لأهل البدع، لوقوفهم مع العادة. انتهى.
"وقد استشكل على قول من يقول: إن المراد بذلك العلم ما ذكره" نائب فاعل استشكل، يعني: إذا بنى على أن الرؤية هي العلم بلا إبصار، يشكل ما ذكره "ابن الجوزي في بعض كتبه بغير إسناد؛ أنه -صلى الله عليه وسلم، قال: "إني لا أعلم ما وراء جداري هذا"، فإن صح، فالمراد منه نفي العلم بالمغيبات"، لا خصوص ما وراء الجدار، فهو مناقض لقوله: "إني لأراكم"، أي:(5/268)
فكيف يجتمعان؟
وأجيب بأنَّ الأحاديث الأُوَل ظاهرها ينطق باختصاص ذلك بحالة الصلاة، ويحمل المطلق منها على المقيد, وأما إذا ذهبنا إلى أن الإدراك بالبصر وهو الصواب فلا إشكال؛ لأن نفي العلم هنا عن الغيب وذاك عن مشاهدة.
وفي "المقاصد الحسنة" للحافظ شمس الدين السخاوي حديث: "ما أعلم ما خلف جداري هذا". قال شيخنا -يعني شيخ الإسلام ابن حجر: لا أصل له. قلت: ولكنه قال في تلخيص تخريج أحاديث الرافعي عند قوله في الخصائص: ويرى من وراء ظهره كما يرى من قدامه. هو في الصحيحين وغيرهما من حديث أنس وغيره، والأحاديث الواردة في ذلك
__________
أعلمكم من وراء ظهري، وهو مغيب، فيصير المعنى: أعلم المغيبات ولا أعلمها، "فكيف يجتمعان"، فمبنى التناقض على تفسيره بالعلم؛ إذ لو فُسِّرَ عدم التناقض بما وراء الجدار المشار إليه لم يتحقق تناقض، "وأجيب بأن الأحاديث الأُوَل ظاهرها ينطق باختصاص ذلك بحالة الصلاة، ويحمل المطلق منها على المقيد" بحالة الصلاة، فقوله: "لا أعلم ما وراء جداري" معناه: في غير الصلاة، فلا إشكال، "وأما إذا ذهبنا إلى أن الإدراك بالبصر، وهو الصواب، فلا إشكال؛ لأن نفي العلم هنا" في خبر الجدار "عن الغيب، وذاك" الذي هو قوله: "إني لأراكم من وراء ظهري" "عن مشاهدة"، فلم يتواردا على محل، وأيضًا، فعدم رؤية ما وراء الجدار لا ينافي الرؤية بلا حائل، وأورد على حديث الرؤية أيضًا قوله -صلى الله عليه وسلم: "أيكم الذي ركع دون الصف"، فقال أبو بكر: أنا؛ إذ لو كان يرى ما سأل، وأجاب ابن عبد البر بأنَّ قصة أبي بكر كانت قبل أن يفضله الله بهذه الفضيلة، فإن شئونه -صلى الله عليه وسلم- تتزايد دائمًا.
وفي أبي داود عن معاوية ما يدل على أن ذلك كان في آخر عمره، "وفي المقاصد الحسنة" في بيان كثير من الحاديث المشهورة على الألسنة، "للحافظ شمس الدين" محمد بن عبد الرحمن، "السخاوي"، شيخ المصنف، نسبة إلى سخا من أعمال مصر، على غير قياس، "حديث: "ما أعلم ما خلف جداري هذا".
"قال شيخنا -يعني شيخ الإسلام ابن حجر" الحافظ أبو الفضل العسقلاني: "لا أصل له، قلت: ولكنه"، أي: الحافظ نفسه، "قال في تلخيص تخريج أحاديث الرافعي"، الواقعة في شرحه على وجيز الغزالي، في الفقه، "عند قوله في الخصائص: ويرى من وراء ظهره كما يرى من قدّامه. هو" بمعناه "في الصحيحين، وغيرهما من حديث أنس وغيره، والأحاديث الواردة بذلك(5/269)
مقيدة بحالة الصلاة, وبذلك يجمع بينه وبين قوله: "لا أعلم ما رواء جداري هذا" انتهى.
قال شيخنا: وهذا مشعر بوروده، وعلى تقدير وروده لا تنافي بينهما لعدم تواردهما على محل واحد.
فإن قيل: يشكل على هذا -أيضًا- إخباره -صلى الله عليه وسلم- بكثير من المغيبات التي في زمنه وبعده، ووقعت كما أخبر -صلى الله عليه وسلم.
فالجواب: إن نفي العلم في هذا ورد على أصل الوضع، وهو أن علم الغيب مختص بالله
__________
مقيدة بحالة الصلاة"، كذا جزم به في التخريج، وجعله في فتح الباري ظاهرًا فقط، وقابله باحتمال الإطلاق، وأنه منقول عن مجاهد، "وبذلك يجمع بينه وبين قوله: "لا أعلم ما وراء جداري هذا"، انتهى" كلام الحافظ في التخريج.
"قال شيخنا" -يعني السخاوي: "وهذا مشعر بوروده"، فينافي قوله: لا أصل له، فهو تناقض منه، ويمكن أن مراده لا أصل له معتبر؛ لكونه ذكر بلا إسناد، لا أن مراده بطلانه، "وعلى تقدير وروده لا تنافي بينهما؛ لعدم تواردهما على محلّ واحد"؛ إذ الظاهر من الثاني أنَّ معناه نفي علم المغيبات، مما لم يعلم به -صلى الله عليه وسلم، قد أخبر بمغيبات كثيرة كانت وتكون، وحينئذ فهو نظير لا أعلم إلّا ما علمني الله، ولكن مشى ابن الملقن، وقلده شيخنا على أن معناه نفي رؤية مَنْ خَلْفه، ومع ذلك، فلا تنافي بينهما أيضًا إن مشينا على ظاهر الأوّل من تقييده بالصلاة لكونه فيها، لا حائل بينه وبين المأمومين، وإن كان ابن الملقن لم ينظر لهذا، بل جعل الأول مقيدًا للثاني، والظاهر ما قلته، أما على قول مجاهد: ن ذلك كان واقعًا في جميع أحواله -صلى الله عليه وسلم، فلا على أن بعضهم زعم أن المراد بالأول خلق علم ضروري له بذلك، والمختار حمله على الحقيقة، ولذا، قال ابن المنير: لا حاجة إلى التأويل، فإنه في معنى تعطيل، لفظ الشارع من غير ضرورة.
وقال القرطبي: حمله على ظاهره أَوْلَى؛ لأن فيه زيادة في كرامته -صلى الله عليه وسلم، فإن قيل: قد روي أنه -صلى الله عليه وسلم- ورد عليه وفد عبد القيس، وفيهم غلام وضيء، فأُقْعِدَ وراء ظهره، فالجواب: إنه مع كونه روي مسندًا ومرسلًا، والحكم عليه بالنكارة, فعله -صلى الله عليه وسلم، إن صح، كما قال ابن الجوزي: ليسن، أو لأجل غيره، وقد أطلت الكلام على هذا الحديث في بعض الأجوبة، انتهى كلام المقاصد، وإن تكرر فيه بعض ما تقدَّم لما فيه من الفوائد، "فإن قيل: يشكل على هذا أيضًا إخباره -صلى الله عليه وسلم- بكثير من المغيبات التي في زمنه وبعده"، كفتح الأمصار، وغير ذلك، "ووقعت كما أخبر -صلى الله عليه وسلم، فالجواب: إن نفي العلم في هذا ورد على أصل الوضع، وهو أنّ علم الغيب مختص بالله(5/270)
تعالى، وما وقع منه على لسان نبيه -صلى الله عليه وسلم- وغيره فمن الله تعالى، إمَّا بوحي أو إلهام، ويدل على ذلك الحديث الذي فيه: أنه لما ضلت ناقته -صلى الله عليه وسلم- تكلّم بعض المنافقين وقال: إن محمدًا يزعم أنه يخبركم عن خبر السماء وهو لا يدري أين ناقته؟ فقال -صلى الله عليه وسلم- لما بلغه ذلك: "والله إني لا أعلم إلّا ما علَّمني ربي، وقد دلني الله عليها, وهي في موضع كذا وكذا، حبستها شجرة بخطامها" , فذهبوا فوجدوها كما أخبر -صلى الله عليه وسلم.
فصحَّ أنه لا يعلم ما وراء جداره ولا غيره إلّا ما أعلمه ربه -تبارك وتعالى.
وذكر القاضي عياض في الشفاء أنه -صلى الله عليه وسلم- كان يرى في الثريا أحد عشر نجمًا، وعند السهيلي: اثني عشر.
__________
تعالى"، كما قال: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا, إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} ، "وما وقع منه على لسان نبيه -صلى الله عليه وسلم- وغيره، فمن الله تعالى، إمَّا بوحي" على يد ملك، أو منام "أو إلهام"، وهو من الوحي، "ويدل على ذلك الحديث الذي فيه أنّه لما ضلت ناقته"، غابت وخفيت، فلم يهتد إليها، وهي القصواء، حين كان سائر إلى غزوة تبوك "صلى الله عليه وسلم، تكلّم بعض المنافقين"، وهو زيد بن اللصيت، "وقال: إن محمدًا يزعم أنه يخبركم عن خبر السماء، وهو لا يدري أين ناقته، فقال -صلى الله عليه وسلم- لما بلغ ذلك" بإخبار الله له بوحي، أو إلهام، لا مبلغ من الناس، كما في الحديث: "والله إني لا أعلم إلّا ما علمني ربي"، فإخباري بأمر السماء إنما هو بتعليم الله، والنبي لا يعلم كل غيب.
قال: ذلك رد الزعم المنافق؛ أنه لو كان نبيًّا لعلم مكان ناقته، "وقد دَلَّني الله عليها، وهي في موضع كذا وكذا"، لشعب عينه لهم، وأشار لهم إليه, "حبستها" منعتها "شجرة بخطامها" بزنة كتاب، وفي رواية بزمامها، "فذهبوا فوجدوها كما أخبر -صلى الله عليه وسلم"، فجاءوا بها، "فصحَّ أنه لا يعلم ما وراء جداره ولا غيره، إلّا ما أعلمه ربه -تبارك وتعالى"، فإن ثبت الحديث، فلا إشكال عليه.
"وذكر القاضي عياض في الشفاء" بلفظ، وحكي عنه "أنه -صلى الله عليه وسلم- كان يرى في الثريا أحد عشر نجمًا"، أي: ليلًا أو ليلًا ونهارًا، لما مر أن رؤيته فيهما سواء.
"وعند السهيلي اثني عشر"، وجزم القرطبي بالأوَّل، وقال في مناهل الصفاء: هذا لم يوجد في شيء من كتب الحديث، ونحوه قول الحيضري, ما ذكره القرطبي والسهيلي: لم أقف له على سند، ولا أصل يرجع إليه، والناس يذكرون أنها لا تزيد على تسعة أنجم، فيما يرون. انتهى، وهذا عجيب مع قول التلمساني: جاء في حديث ثابت عن العباس، ذكره ابن أبي خيثمة(5/271)
وفي حديث أبي هالة: وإذا التفت التفت جميعًا خافض الطرف، نظره إلى الأرض أطول من نظره إلى السماء جلّ نظره الملاحظة.
وهي مفاعلة من اللحظ: وهو النظر بشق العين الذي يلي الصدغ، وأمّا الذي يلي الأنف فالمؤق والماق. وقوله: وإذا التفت التفت جميعًا, أراد أنه لا يسارق
__________
أ. هـ، والثريا مصغَّر ثروى من الثروة، وهي الكثرة.
قال في مناهج الفكر: ستة أنجم صغار طمس، يظنها من لا معرفة له سبعة مجتمعة بينها نجوم صغار، كالرشاش، وحكي أنها اثنا عشر نجمًا، لم يتحقق الناس منها غير ستة، أو سبعة، ولم ير جميعًا غير النبي -صلى الله عليه وسلم- لقوة جعلها الله في بصره، والنجم علم عليها بالغلبة، كالكوكب للزهرة.
"وفي حديث أبي هالة: وإذا التفت التفت جميعًا" جملة شرطية معطوفة على الشرطية الأولى، وهي قوله: إذا زال زال قلعًا، "خافض" من الخفض، ضد الرفع "الطرف"، أي: إذا نظر إلى شيء خفض بصره، ولا ينظر إلى الأطراف والجوانب بلا سبب، بل لم يزل مطرقًا متوجهًا إلى عالم الغيب، مشغولًا بحاله، متفكرًا في أمور الآخرة؛ لأنَّ هذا شأن المتواضع، وهو متواضع سليقة، وشأن المتأمل المتفكر المشتغل بربه، وقيل: هو كناية عن شدة حيائه، أو لين جانبه، أو عدم كثرة سؤال واستقصائه إلّا في واجب، وأردفه بما هو، كالتفسير له أو التأكيد، فقال: "نظره إلى الأرض" حال السكوت، وعدم التحدث "أطول"، أي: أكثر "من نظره إلى السماء"؛ لأنه أجمع للفكرة، وأوسع للاعتبار؛ لاشتغاله بالباطن، وإعمال جنانه فيما بع لأجله، أو لكثرة حيائه وأدبه مع ربه، أو لأنه بعث لتربية أهل الأرض لا أهل السماء، والأوَّل أحسن، والنظر -بفتحتين- تأمل الشيء بالعين، كما في الصحاح، وبالتقييد بعدم التحدث لا ينافي رواية أبي داود، كان إذا جلس يتحدث يكثر أن يرفع طرفه إلى السماء، أو يحمل الإكثار على الحقيقي، لا الإضافي، وقيل: أكثر لا ينافي الكثرة "جلّ نظره" -بضم الجيم- أي: معظمه، وأكثره "الملاحظة، وهي مفاعلة من اللحظ، وهو النظر بشق العين الذي يلي الصدغ"، وهي لحاظ العين -بالفتح، أي: مؤخره، أي: إن أكثر نظره في غير أوان الخطاب الملاحظة، فلا ينافي قوله: وإذا التفت التفت جميعًا، وتطلق الملاحظة أيضًا لغةً على المراقبة والمراعاة، وتفسيره بهذا أنسب وأكمل بمفرمه -صلى الله عليه وسلم، وقيل: المراد أنَّ نظره إلى الأشياء لم يكن كنظر أهل الحرص إلى الدنيا وزخرفها، امتثالًا لأمر ربه بقوله: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ} [الحجر: 88] الآية.
"وأما الذي يلي الأنف فالمؤق" بالهمز- "والماق" بالألف، "وقوله: وإذا التفت التفت جميعًا"، وفي رواية جمعًا كضربًا، نصب على المصدر أو الحال، "أراد أنه لا يسارق النظر،(5/272)
النظر، وقيل: لا يلوي عنقه يمنة ولا يسرة إذا نظر إلى الشيء، وإنما يفعل ذلك الطائش الخفيف, ولكن كان يقبل جميعًا ويدبر جميعًا. قاله ابن الأثير.
وعن علي قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عظيم العينين، أهدب الأشفار، مشرب العين بحمرة. رواه البيهقي.
وعن جابر بن سمرة قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ضليع الفم أشكل العينين منهوس القدمين، رواه مسلم.
والشكلة: الحمرة...................................................
__________
وقيل: لا يلوي عنقه يمنة ولا يسرة إذا نظر إلى الشيء، وإنما يفعل ذلك الطائش الخفيف" صفة كاشفة، فالطيش لغةً الخِفَّة، "ولكن كان يقبل جميعًا، ويدبر جميعًا؛ قاله ابن الأثير" في النهاية.
"وعن علي" بن أبي طالب -رضي الله عنه "قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عظيم العينين" أي: شديد اتساعهما، فهو بمعنى رواية الترمذي وغيره عن علي: أدعج العينين، قال الجوهري: الدعج محركًا: شدة سواد العين مع سعتها, "أهدب الأشفار" جمع شفر -بالضم وتفتح- وهي حروف الأجفان التي ينبت عليها الشعر، أي: الهدب، وإيهامه، أن الأشفار هي الأهداب غير مراد، فقد قال ابن قتيبة: العامّة تجعل أشفار العين الشعر وهو غلط، وفي المغرب وغيره: لم يذكر أحد من الثقات أن الأشفار الأهداب، فهو إمَّا على حذف مضاف، أي: الطويل شعر الأشفار، أو سمَّى النابت باسم المنبت للملابسة، "مشرب العين" بصيغة اسم المفعول مخففًا، ومشددًّا "بحمرة"، وهي عروق حمر رقاق, من علاماته في الكتب السابقة "رواه البيهقي".
"وعن جابر بن سمرة" -بضم الميم وإسكانها- "قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ضليع الفم" بفتح الضاد المعجمة- عظيمة أو واسعة، ولذا كان يفتتح الكلام ويختمه بأشداقه، والعرب تذم ضيقه، وتمدح سعته؛ لدلالته على قوة الفصاحة، وقيل: هو كناية عن فصاحته، وقيل: المراد ذبول شفتيه ورقتهما وحسنهما، وكما تمدح العرب بعظم الفم تتمدح بكثرة ريقه عند المقامات والخطب والحروب؛ لدلالته على ثبات الجنان، بخلاف الجبان، فيجفّ ريقه في هذه المحافل، "أشكل العينين" بالتثنية، وفي نسخة: العين بالإفراد, على إرادة الجنس, "منهوس" -بسين مهملة, وفي رواية: معجمة، والمعنى واحد، أي: قليل لحم "القدمين".
وفي رواية: العقب -بفتح، فكسر, مؤخَّر القدم، وفي القاموس: المنهوس من الرجال قليل اللحم، ومنهوس القدمين معرقهما، "رواه مسلم" والترمذي، "والشكلة" بضم الشين "الحمرة(5/273)
تكون في بياض العين وهو محمود محبوب، وأمَّا الشهلة: فإنها حمرة في سوادها, وهذا هو الصواب: لا ما فسره به بعضهم بأنه طول شق العين.
وعند الترمذي في حديث عن علي، أنه نعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: كان في وجهه تدوير أبيض مشرب بحمرة، أدعج العينين، أهدب الأشفار.
والأدعج: الشديد سواد الحداقة.
__________
تكون في بياض العين"، يقال: ماء أشكل إذا خالطه دم، "وهو محمود محبوب"، قال الشاعر:
ولا عيب فيها غير شكلة عينها ... كذاك عناق الخيل شكل عيونها
قال الحافظ العراقي: وهي إحدى علامات نبوته -صلى الله عليه وسلم، ولما سافر مع ميسرة إلى الشام سأل عنه الراهب ميسرة، فقال: في عينيه حمرة، فقال: ما تفارقه، قال الراهب: هو هو، "وأما الشهلة". بضم الشين، وإسكان الهاء "فإنها حمرة في سوادها" ولم ترد في وصفه -عليه السلام، وإنما ذكر معناها كغيره للفرق بينها وبين الشكلة الواردة، "وهذا" التفسير للشكلة "هو الصواب" المعروف في كتب اللغة، والغريب "لا ما فسر به بعضهم"، وهو سماك بن حرب، راويه عن جابر، "بأنه طول شق العين".
قال عياض: هو وهم من سماك باتفاق العلماء، وغلط ظاهر، فقد اتفق العلماء وأصحاب الغريب أن الشكلة حمرة في بياض العين، كالشهلة، في سوادها، انتهى لفظ عياض، وما في الشارح عنه مقلوب، "وعند الترمذي في حديث عن علي أنه نعت" وصف "رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: كان في وجهه تدوير"، بالتنكير للنوعية، أو التقليل، أي: شيء قليل منه، كما مَرَّ "أبيض" بالرفع، أي: هو أبيض، فهي جملة مستقلة على نمط تعديد النعت، "مشرَب بحمرة" بصيغة اسم المفعول، مخففًا ومثقلًا للتكثير، والمبالغة من الإشراب، وهو خلط لون بلون, "أدعج العينين" بمهملة وجيم، أي: شديد سواد الحدقة مع سعتها، فلا يشكل بأنه أشكل؛ لأن الشكلة في البياض لا في السواد، "أهدب الأشفار" جمع شفر -بالضم وقد تفتح، "والأدعج: الشديد سواد الحدقة" من الدعج -بفتحتين، أي: مع اتساعها، كما في الصحاح وغيره.
وفي النهاية: الدعج: السواد في العين وغيرها، وقيل: شدة بياض البياض، وسواد السواد، وكأن من عارض رواية: أدعج برواية أشكل، بناه على ذا القول، وإلّا فالشكلة في البياض، لا في السواد، فلا إشكال على التفسيرين الأولين، ودعوى أن الدعج زرقة في بياض لقوله:
يا رب العيون السود قد فتكت ... فينا وصالت بأسياف من الدعج
لأن السيوف زرق، ردت بأن المراد تشبيهها بالسيوف في فتكها لا في لونها، فإنه أبيض وزرق، إنما يقال للسهام، كما قال امرؤ القيس:(5/274)
والأهداب: الطويل الأشفار: وهي شعر العين.
وعنده -أيضًا- عن علي قال: كان أسود الحدقة أهدب الأشفار.
وعن علي: بعثني النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى اليمن لأخطب يومًا على الناس، وحبر من أحبار اليهود واقف بيده سفر ينظر فيه، فلمَّا رآني قال: صف لي أبا القاسم، فقلت: ليس بالطويل البائن ولا بالقصير. الحديث، وفيه: قال علي: ثم سكت، فقال الحبر: وماذا؟ قلت: هذا ما يحضرني، قال الحبر: في عينيه حمرة حسن اللحية، ثم قال علي: هذه والله صفته، قال الحبر: فإني أجد هذه الصفة في سفر آبائي، وإني أشهد أنه نبي وأنه رسول الله إلى الناس كافة. الحديث.
وأما سمعه الشريف فحسبك أنه قد قال:
__________
أتقتلني والمشرفي مضاجعي ... ومسنونة زرق كأنياب أغوال
"والأهدب الطويل الأشفار، وهي شعر العين"، فسَّره على ظاهره، وتقدَّم أنه ليس بمراد، وأنه إمَّا على حذف مضاف، أي: مغارز شعر العين، أو من تسمية الحال، وهو الشعر باسم المحل، وما في الشرح مقلوب، فلا ينافي قول ابن قتيبة العامَّة، تجعل أشفار العين الشعر، وهو غلظ، إنما هي حروف العين التي ينبت عليها الشعر، فكأن لسان حال المصنف يقول ما قيل في الحديث، يقال: على تفسيري، "وعن علي بعثني النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى اليمن لأخطب يومًا على الناس"، أعظهم وأذكرهم، ليتمكَّن إيمان من آمن، ويؤمن من لم يكن آمن، فخطبت "وحبر" بفتح الحاء وكسرها- لغتان مشهورتان, عالم "من أحبار يهود، واقف بيده سفر" بكسر السين- كتاب كبير "ينظر فيه، فلمَّا رآني، قال: صف لي أبا القاسم" -صلى الله عليه وسلم, "فقلت: ليس بالطويل البائن" بالهمز، وقراءته بالياء غلط.
قال في النهاية، أي: المفرط طولًا، الذي بعد عن قدر الرجال الطوال، وقال في فتح الباري: اسم فاعل من بان، أي: ظهر على غيره، أو فارق من سواه، "ولا بالقصير" أي: البائن، بل هو ربعة، ولكنه إلى الطول أقرب "الحديث، وفيه قال علي: ثم سكت، فقال الحبر: وماذا قلت, هذا ما يحضرني" من صفته الآن، "قال الحبر: في عينيه" بالتثنية "حمرة, حَسَن اللحية، ثم قال علي: هذه والله صفته، قال الحبر: فإني أجد هذه الصفة" التي وصفتها يا علي، والتي ذكرتها أنا، فتذكرتها، وحلف أنها صفته "في سفر آبائي، وإني أشهد أنه نبي، وأنه رسول الله إلى الناس كافَّة الحديث"، فذكر منه مقصوده هنا، وهو أن حمرة عينيه من آيات نبوته في الكتب السابقة، "وأمَّا سمعه الشريف، فحسبك أنه قد قال" خير حسبك، والرابط بينهما محذوف، دلَّ(5/275)
صلى الله عليه وسلم: "إني أرى ما لا ترون, وأسمع ما لا تسمعون، أطَّت السماء وحق لها أن تئط، ليس فيها موضع أربع أصابع إلّا وملك واضع جبهته ساجدًا لله تعالى" رواه الترمذي من رواية أبي ذر.
__________
عليه المقام، أي: كافيك في بيان كماله ووصوله إلى ما لم يصل إليه غيره قوله "صلى الله عليه وسلم: "إني أرى ما لا ترون" " لما أعطاه الله تعالى من قوة البصر.
قال في الشفاء: والأحاديث كثيرة صحيحة في رؤيته -صلى الله عليه وسلم- الملائكة والشياطين، ورفع النجاشي له حتى صَلَّى عليه، وبيت المقدس حتى وصفه لقريش، والكعبة حين بنى مسجده، وحكي عنه أنه كان يرى في الثريا أحد عشر نجمًا، وهذه كلها محمولة على رؤية العين، وهو قول ابن حنبل وغيره، وذهب بعضهم إلى ردّها إلى العلم، والظواهر تخالفه، ولا إحالة في ذلك، وهي من خواص الأنبياء انتهى.
ونازعه السيوطي في رفع النجاشي؛ بأنه لم يجده في كتب الحديث، وإنما الوراد فيها أنه رفع إليه معاوية المزني حتى صلى عليه، والنبي -صلى الله عليه وسلم- بتبوك، أخرجه أبو يعلى والبيهقي عن أنس. انتهى، والمصنّف ذكر هذا الحديث بتمامه، وإن كان غرضه منه قوله: "وأسمع ما لا تسمعون" فهو صريح في قوة سمعه، وقوَّى ذلك بقوله: "أطَّت السماء" بفتح الهمزة، وشد الطاء- صاحت وصوتت من ثِقَلِ ما عليها من ازدحام الملائكة، وكثرة الساجدين فيها منهم, من الأطيط، وهو صوت الرحل والإبل من حمل أثقالها, وأل للجنس، ومعنى الحديث: وأنا سمعت ذلك لقوله في الحديث التالي: "إني لأسمع أطيط السماء"، "وحق" بفتح الحاء وضمها- على ما يفيده القاموس، فالضم من حق لك فعل كذا، والفتح من وقع ووجب، "لها أن تئط" بفتح الفوقية، وكسر الهمزة، وشد الطاء- أي: تصوّت، والجملة حالية أو معترضة؛ لبيان أنه لا ينكر أطيطها ولا يستغرب، وذلك لأنه "ليس فيها موضع أربع أصابع"، وهذه الرواية مبنية، أن قوله في رواية حكيم: موضع شبر، أي: ولا أقل منه "إلا وملك واضع جبهته" استعارة، أو حقيقة في البعض، كذا، قيل "ساجدًا لله تعالى".
وفي رواية: إلّا وفيه جبهة ملك ساجد يسبح الله ويحمده، وقد ادَّعى ابن الأثير أن أطيط السماء مَثَلٌ وإيذانٌ بكثرة الملائكة، وإن لم يكن أطيط، وإنما هو كلام تقريبي، أريد به تعزيز عظمة الله تعالى، ونظر فيه الشامي بقوله: "إني لأسمع أطيط السماء"، فالظاهر حمله على الحقيقة؛ فإنه أمر ممكن، ولا يتم الدليل إلا به، وألفاظه -صلى الله عليه وسلم- يجب بقاؤها على ظاهرها إلّا لمانع، ولا مانع هنا، فكيف إذا كان الصرف على الظاهر يفوّت المقصود، "رواه الترمذي"، وأحمد، وابن ماجه، والحاكم، وصححه، كلهم "من رواية أبي ذر"، عنه -صلى الله عليه وسلم- بزيادة: "والله لو تعلمون ما أعلم(5/276)
وما رواه أبو نعيم عن حكيم بن حزام، بينما رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في أصحابه؛ إذ قال لهم: "تسمعون ما أسمع"؟ قالوا: ما نسمع من شيء، قال: "إني لأسمع أطيط السماء، وما تلازم أن تئط, وما فيها موضع شبر إلا وعليه ملك ساجد أو قائم".
__________
لضحكتم قليلًا، ولبكيتم كثيرًا، وما تلذذتم بالنساء على الفرش، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله"، "وما رواه أبو نعيم" عطف على أنه قد قال، أي: وحسبك رواية أبي نعيم، "عن حكيم" بفتح الحاء وكسر الكاف, "ابن حزام" بكسر المهملة وبالزاي- ابن خويلد بن أسد، بن عبد العزى، بن قصي القرشي، الأسدي، أبو خالد المكي، ابن أخي خديجة، أم المؤمنين، أسلم يوم الفتح، وصحب له أربع وسبعون سنة، وروى أحاديث في الكتب الستة وغيرها، وكان عالمًا بالنسب، وولد في جوف الكعبة، وعاش إلى سنة أربع وخمسين، أو بعدها، قال: "بينما رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في أصحابه إذ قال لهم: "تسمعون ما أسمع"؟ أي: أتسمعون، فهمزة الاستفهام التقديري مقدَّرة، "قالوا: ما نسمع من شيء"، زائد على ما جرت العادة بسماعه، وأما أنت, فلا نصل إلى ما تسمع، ففيه حذف الصفة، فلا يرد أن جوابهم بنكرة منفية، لا يلاقي سؤاله، فكان حقهم أن يقولوا: لم نسمع ما تسمع، وعدلوا عن هذا لئلّا يقتضي أنهم علموا ما سمع، لكن بغير السمع، وهو غير واقع، "قال: "إني لأسمع أطيط"، صوت "السماء"، أي: جنسها، فالمراد السبع، فإن قيل: كيف يكون صوتًا مسموعًا لسامع في محل لا يسمعه آخر معه، وهو مثله سليم الحاسَّة عن آفةٍ تمنع الإدراك، أجيب بأن الإدراك معنى يخلفه الله تعالى لمن يشاء، ويمنحه من يشاء، وليس بطبيعة ولا وتيرة واحدة، أي: طريقة مطَّردة، لا تختلف الناس فيها، "وما تلازم" لا يعترض عليها في "أن تئطّ"، كأن يقال في شأنها: لم أطت، "وما فيها موضع شبر"، فأقلّ لقوله في الرواية السابقة "أربع أصابع"؛ إذ هو كناية عن كثرة اشتغال أجزائها كلها، "إلا وعليه"، أي: الموضع، وفي نسخة: عليها, إما لتأويل الموضع بالبقعة، أو لعود الضمير للسماء، أي إلا وعليها في ذلك الموضع "ملك ساجد أو قائم".
فزاد في ذا الحديث القيام؛ لأن وضع الجبهة للسجود في الحديث قبله، كنايةً عن العبادة بغاية الخضوع والذلة، فلا ينافي ذا الحديث المفصّل، وقد روى ابن عساكر أن في السماء ملائكة قيام، لا يجلسون أبدًا، وسجود لا يرفعون أبدًا، وركوع لا يقومون أبدًا، يقولون: ربنا ما عبدناك حق عبادتك، ثم لا يرد أن الملائكة أجسام نورانية، لا يحصل بهم ثقل تئط به السماء؛ لأن المعنى يغلب عليها النور، لا ينافي أن كثرتهم توجب ثقلًا تئط منه على أنه حقيقي، وفي ذا الحديث ونحوه: إن الملائكة أكثر الخلق، لكن معرفة قدر كثرتهم وأصنافهم موكولة إلى الله، {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} ، ويروى في حديث مناجاة موسى، قال: يا رب من عبدك قبل آدم،(5/277)
وأما جبينه الكريم -صلى الله عليه وسلم, فقد كان واضح الجبين، مقرون الحاجبين. بهذا وصفه علي، كما عند ابن سعد وابن عساكر فقال: مقرون الحاجبين صلت الجبين. أي: واضحه، والقرن: اتصال شعر الحاجبين.
وعند البيهقي عن رجل من الصحابة قال:
__________
قال: الملائكة، قال: كم هم؟ قال: اثنا عشر ألف سبط، قال: مثل الجن والإنس والطير والبهائم اثني عشر ألف مرة، وفي رواية: كم عدد السبط؟ قال: عدد التراب, والأخبار والآثار الدالة على أكثريتهم لا تكاد تحصى، "وأمَّا جبينه الكريم"، أي: صفته، والمراد جبيناه "صلى الله عليه وسلم"، فالإضافة للاستغراق، وهما جبينان فوق الصدغين، مكتنفان الجبهة، يمينًا وشمالًا، وأفرد لوقوعه كذلك في رواية علي وغيره، ولعله أخَّره على البصر والسمع مع كونه فوقهما؛ لأن مدركاتهما لقوتهما تناسب مدركات الدماغ، وقدَّم البصر على السمع، مع أنه أفضل على ما قال بعض؛ لأنَّ مدركات البصر يستلذ بها عادة أقوى من السمع، "فقد كان واضح الجبين"، لم يقل واضحًا، محافظة على الوارد، "مقرون الحاجبين" ثنِّي فيهما؛ لأن وصفهما بالقرن يستدعي التعدد "بهذا وصفه علي، كما عند ابن سعد وابن عساكر، فقال: مقرون الحاجبين"، أي: الشعر المسمَّى بالحاجبين على أحد القولين لغة، والثاني أنهما العظمان فوق العينين بالشعر واللحم، فإن أريد هذا ففيه مضاف، أي: شعر الحاجبين، "صلت الجبين" بفتح المهملة، وإسكان اللام، وفوقية، وفي حديث ابن أبي هالة: واسع الجبين، أي: جنسه، والمراد بسعتهما امتدادهما طولًا وعرضًا، وسعتهما محمودة عند كل ذي ذوق سليم، وهو معنى رواية عليّ: صلت الجبين، "أي: واضحه"، ففي الصحاح: الصلت الجبين: الواضح، تقول منه: صلت -بالضم، أي: لللام صلوتة أ. هـ، فهو صفة ذاتية لجبين كل من وصف بذلك، لا من حيث ظهوره للرائي له -صلى الله عليه وسلم- لما قام به من النور، وذكر ابن أبي خيثمة: كان -صلى الله عليه وسلم- أجلى الجبين إذا طلع جبينه من بين الشعر، أو طلع من فلق الشعر، أو عند الليل، أو طلع بوجهه على الناس تراءى، أي: جبينه، كأنَّه هو السراج المتوقّد يتلألأ، وكانوا يقولون: هو -كما قال شاعره حسان -رضي الله عنه:
متى يبد في الليل البهيم جبينه ... بلج مثل مصباح الدجى المتوقد
فمن كان أو من قد يكون كأحمد ... نظام لحق أو نكال لملحد
فهذا هو الزائد عن مطلق وضح الجبين، المسفر بالاتساع، والامتداد "والقرن" -بفتحتين- "اتصال شعر الحاجبين"، إضافة بيانية أن فسَّر الحاجب بالشعر، ولامية من إضافة الجزء إلى كله أن فَسَّرَ بالعظم مع الشعر واللحم.
"وعند البيهقي عن رجل من الصحابة": لا ضير في إبهامه؛ لأنهم كلهم عدول، "قال:(5/278)
رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فإذا رجل حسن الجسم, عظيم الجبهة, دقيق الحاجبين. ولله در القائل:
جبينه مشرق من فوق طرته ... يتلو الضحى ليلة والليل كافره
بالمسك خطت على كافور جبهته ... من فوق نوناتها سينًا ضفائره
مكمل الخلق ما تحصى خصائصه ... منضر الحسن قد قلت نظائره
وقال ابن أبي هالة: أزجّ الحواجب -وفُسِّرَ بالمقوس الطويل الوافر الشعر,
__________
رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فإذا" هو "رجل حسن الجسم"، أي: الجسد، "عظيم الجبهة، دقيق الحاجبين" بالدال من الدقة، خلاف الغلظ، أي: رقيقهما، "ولله در القائل" هو الأستاذ العارف محمد، وفي من قصيدة أولها:
إذا أباح ذم المهجور هاجره ... باح المحب بما تخفي ضمائره
"جبينه مشرق من فوق طرته" بضم الطاء المهملة- جانب الثوب الذي لا هدب له, والناصية -كما في القاموس، فكأنَّ المعنى هنا: إن جبينه يزيد لكثرة نوره، فيجاوز ناصيته، وينتشر على جوانب ثوبه، "يتلو الضحى"، أي: نوره الذي كبياض النهار وقت الضحى, "ليله" أي: سواد شعره الذي كالليل، "والليل كافره"، ساتر لذلك النور والإشراق، رحمة من الله، ورفقًا بالناس؛ إذ للاه ما استطاع أحد نظر وجهه الشريف, "بالمسك خطت" كتبت "على كافور", قال في القاموس: نبت طيب، نوره كنور الأقحوان، وطيب معروف لونه أحمر، وإنما يبيض بالتصعيد، انتهى باختصار, "جبهته، من فوق نوناتها سينًا"، مفعول خطت، والفاعل "ضفائره" بضاد معجمة، جمع ضفيرة، والمعنى على التشبيه والاستعارة ظاهر، "مكمّل الخلق" بفتح الخاء، وإسكان اللام, "ما تحصى خصائصه"، أي: لا يمكن إحصاؤها وعدها لكثرتها, "منضر" محسن "الحسن"، فهو مبالغة في المدح، "قد قَلَّت نظائره" عدمت فلا وجود لها، فالقلة تنتهي للعدم، كقولهم: قل رجل يقول كذا، أي: ليس رجل يقوله، "وقال ابن أبي هالة: أزجّ" بفتح الهمزة، والزاي، وتشديد الجيم- صفة مشبهة, "الحواجب" جمع حاجب, من الحجب: المنع, سُمِّيَ به حواجب، كأنَّه جعل كل قصحة اسمها حاجب، فوقع الجمع على القطع المختلفة مبالغة، وهذا أدق من قول جمع؛ لأنَّ التثنية جمع، "وفسّر" عند عياض في الشفاء "بالمقوّس"، أي: الحاجب المشبه بالقوس كالمتقوس كما في القاموس, "الطويل الوافر الشعر"، أي: المتصل بعضه ببعض؛ بحيث لا يتخلله فرج، فلا ينافي دقته، أي: رقته في نفسه، المستفادة من نعته بأزج، وهو الدقة(5/279)
ثم قال: سوابغ من غير قرنٍ بينهما عرق يدره الغضب، أي: يمتلئ دمًا إذا غضب, كما يمتلئ الضرع لبنًا إذا در. قاله في النهاية.
وعن مقاتل بن حيان قال: أوحى الله تعالى إلى عيسى -عليه الصلاة والسلام: اسمع وأطع يا ابن الطاهرة البكر البتول، إني خلقتك من غير فحل، فجعلتك آية
__________
في طول وامتداد، كما قال حسان:
أزج كشق النون من يد كاتب
والزجج ما كان خلقه، والتزجيج ما صنع، كزججن الحواجب والعيونا، وتسميه العوام تخفيفًا -بمهملة، "ثم قال" ابن أبي هالة: "سوابغ" بسين وصاد، والسين أفصح- جمع سابغة، أي: كاملات.
قال الزمخشري: حال من المجرور، وهو الحواجب، وهي فاعلة في المعنى؛ إذ تقديره أزجّ حواجبه، أي: زجت حواجبه. انتهى, أو منصوب على المدح "من"، وفي رواية: في، وهي بمعنى من "غير قرن" -بفتحتين- أي: اجتماع، يعني أن طرفي حاجبيه، قد سبغا، أي: طالا حتى كادا يلتقيان ولم يلتقيا، فهو مكمل للوصف المذكور، أو هو حال أيضًا من الحواجب على الترادف، أو التداخل، ويأتي قريبًا الجمع بينه وبين وصفه بأقرن "بينهما"، أي: الحاجبين، فهو إشارة إلى أن الحواجب في معنى الحاجبين، وهو حال أيضًا من الحواجب، وترك العطف في الجملة الاسمية جائز "عرق" بكسر فسكون, "يدره" بضم أوله، وكسر ثانيه، وشَدِّ ثالثه- أي: يحركه ويظهره "الغضب", فيمتلئ ذلك العرق دمًا، فيظهر ويرتفع، وقوله: "أي: يمتلئ دمًا إذا غضب" تفسير للإدرار باللازم، وأثر له لا بيان لمعناه، يعني: إذا غضب حرك الغضب ذلك العرق، فامتلأ دمًا، "كما يمتلئ الضرع لبنًا إا در، قاله في النهاية"، فجعله من در اللبن إذا كثر ونوزع بأنه لا استقامة لهذا التجوّز، وقيل: هو من در السهم إذا دار على الظفر، وقيل: من الإدرار، وهو إخراج الريح المطر من السحاب، وجعله الزمخشري من أدرت المرأة الغزل؛ إذ فتلته شديدًا، واعترض بأنه لا قرينة لهذا المجاز.
"وعن مقاتل بن حيان" بمهملة وتحتية مشددة- النبيطي -بفتح النون والموحدة- أبي بسطام البلخي الخزاز -بمعجمة وزايين منقطوتين، صدوق فاضل، روى له مسلم وأصحاب السنن، أخطأ الأزدي في زعمه أن وكيعًا كذَّبه، وإنما كذَّب مقاتل بن سليمان، مات قبل الخمسين ومائة بأرض الهند.
ذكره الحافظ، "قال: أوحى الله تعالى إلى عيسى -عليه الصلاة والسلام: اسمع وأطع يا ابن الطاهرة البكر البتول" المنقطعة عن الرجال، "إني خلقتك من غير فحل، فجعلتك آية" علامة دالة على قدرتي "للعالمين" الإنس والجن والملائكة؛ حيث خلقتك من غير فحل،(5/280)
للعالمين، فإياي فاعبد، وعليَّ فتوكّل، فَسِّر لأهل سوران: أني أنا الله الحي القيوم، لا أزول، صدقوا النبي الأمي، صاحب الجمل والمدرعة والعمامة والنعلين والهراوة، الجعد الرأس، الصلت الجبين، المقرون الحاجبين، الأهدب الأشفار، الأدعج العينين، الأقنى الأنف، الواضح الخدين، الكث اللحية، عرقه في وجهه كاللؤلؤ، وريحه كالمسك ينفح منه، كأن عنقه إبريق فضة
__________
"فإياي فاعبد" لا غيري، "وعليّ فتوكل" لا على غيري، "فسِّر لأهل سوران: إني أنا الله الحيّ" الدائم البقاء, "القيوم" المبالغ في القيام بتدبير خلقه، "لا أزول، صدقوا النبي الأمي، صاحب الجمل والمدرعة" بكسر الميم- أي: القتال والملاحم، كما في الشامي في الأسماء، وإن كانت في الأصل كالدراعة، ثوب ولا يكون إلّا من صوف، كما في القاموس، "والعمامة والنعلين والهراوة" بكسر الهاء، ثم راء، فألف، فواو، فتاء تأنيث- العصا مطلقًا، أو الضخمة، "الجعد الرأس" بفتح الجيم، وإسكان العين- أي: جعوده متوسطة، فلا يخالف قول أنس في الصحيحين، والترمذي: ليس بالجعد القطط، ولا بالسبط القطط -بفتحتين, الشديد الجعودة كالسودان، والسبط -بفتح فكسر، أو سكون- المنبسط، المسترسل، الذي لا تكسر فيه، فهو متوسط بين الجعودة والسبوطة, "الصلت"، أي: الواضح "الجبين، المقرون الحاجبين، الأهداب الأشفار، الأدعج العينين، الأقنى الأنف، الواضح الخدين"، أي: ليس فيهما نتوء، ولا ارتفاع، فهو كقول هند: سهل الخدين، "الكث اللحية" بفتح الكاف ومثلثة- غير دقيقها، ولا طويلها، وفيها كثافة، كما في النهاية.
وفي التنقيح: كثير شعرها غير مسبلة، واللحية -بكسر اللام وفتحها- وهو لغة الحجاز، الشعر النابتت على الذقن خاصة, "عرقه" بالتحريك: ما يرشح من جلده "في وجهه كاللؤلؤ" في الصفاء والبياض.
وللبيهقي عن عائشة: كان يخصف نعله، وكنت أغزل، فنظرت إليه، فجعل جبينه يعرق، وجعل عرقه يتولد نورًا، "وريحه كالمسك ينفح" بفتح الفاء- أي: يهبّ "منه" ويظهر رائحته, "كأنَّ عنقه" بضم المهملة والنون وتسكن- "إبريق فضة"، صفاء، وطولًا متوسطًا لا مفرطًا، ففي حديث هند: معتدل الخلق، وفي حديث أبي هريرة: كان -صلى الله عليه وسلم- أبيض، كأنما صيغ من فضة، رواه الترمذي، وعنده في حديث هند: كان عنقه جيد دمية في صفاء الفضة، وجيد -بكسر الجيم وإسكان الياء- العنق, عَبَّر به تفننًا وكراهة للتكرار اللفظي، ودمية -بضم المهملة، وسكون الميم، وتحتية- الصورة، أو المنقوشة من نحو رخام أو عاج, شبَّه عنقه بعنقها؛ لأنه يتأنّق في صنعتها مبالغة في حسنها، وخصها لكونها كانت مألوفة عندهم دون غيرهم، وقوله: في صفاء الفضة حال(5/281)
الحديث.
والأنجل: الواسع شق العين.
والقرن -بالتحريك: التقاء الحاجبين.
وما وصفه به ابن أبي هالة مخالف لما في حديث مقاتل بن حيان وما في حديث أم معبد, فإنها قالت: أزجّ أقرن، أي: مقرون الحاجبين، قال ابن الأثير: والأوّل هو الصحيح في صفته، يعني: سوابغ في غير قرن.
__________
مقيدة بالتشبيه به، أي: هو حال صفائه.
قال الزمخشري: وصف عنقه بالدمية في الإشراق والاعتدال، وظرف الشكل، وحسن الهيئة والكمال، وبالفضة في اللون والإشراق والجمال، "الحديث، والأنجل: الواسع شق العين"، لم يتقدّم حتى يحتاج إلى بيانه، لكنه سقط من قلمه بعد قوله: الأدعج العينين، لفظ الأنجل العينين، وهو بنون وجيم من النجلة السعة، ومنه طعنة نجلاء "والقرن -بالتحريك"، أي: فتح الأول والثاني، "التقاء" شعر "الحاجبين"، ففيه مضاف، "وما وصفه به ابن أبي هالة" من قوله: سوابغ من غير قرن، "مخالف لما في حديث مقاتل بن حيان", من قوله: المقرون الحاجبين، "و" مخالف "ما في حديث أم معبد، فإنها قالت": أحور أكحل، "أزج" يوصف به الرجل، والحاجب في المدح "أقرن، أي: مقرون الحاجبين".
قال ثابت في كتاب خلق الإنسان: رجل أقرن، وامرأة قرناء، فإذا نسب إلى الحاجبين قالوا: مقرون الحاجبين.
"قال ابن الأثير: والأول هو الصحيح في صفته" صلى الله عليه وسلم، "يعني: سوابغ في غير قرن"، وقال غيره: إنه المشهور، وإن قول الحسن: سألت خالي هند بن أبي هالة، وكان وصَّافًا، فارد لما حاء بخلافة، وجمع على تقدير الصحة، بأنَّه يحسب ما بيده للناظرين من بعد، أو بلا تأمّل، وأما القريب المتأمل فيرى بين حاجبيه فاصلًا لطيفًا مستثنيًا، فهو أبلج في الواقع، أقرن بحسب الظاهر للناظر من بعد، أو بلا تأمل، كما في وصف أنفه، يحسه من لم يتأمّله أشمّ، ولم يكن أشمّ، وبأنَّ بينهما شعرًا خفيفًا جدًّا، يظهر إذا وقع عليه الغبار، في نحو سفر، وحديثهما سفري، وبأنّ القرن حدث له بعد، وكان أولًا بلا قرن واستبعد.
قال الأنطاكي وغيره: والقرن معدود من معايب الحواجب، والعرب تكرهه، وأهل القيافة تذمّه، ويستحبون البلج، خلاف ما عليه العجم، وإذا دقَّقت النظر علمت أن نظر العرب أدق،(5/282)
والقنى في الأنف: طوله ودقة أرنبته مع خدب في وسطه.
وقد وصفه -عليه الصلاة والسلام- غير واحد: بأنَّه كان عظيم الهامة، كما في حديث ابن أبي هالة المشهور, وقال علي بن أبي طالب -في حديث رواه الترمذي وصححه البيهقي: ضخم الرأس. وكذا قال أنس في رواية البخاري.
وكان -عليه الصلاة والسلام- أيضًا ضخم الكراديس، وهي رءوس العظام، كما وصفه به علي في حديث الترمذي, وقال أيضًا في رواية: جليل المشاش والكتد, وفُسِّرَ برءوس العظام كالركبتين والمرفقين والمنكبين، أي: عظيمهما.
والكتد -بفتحتين ويجوز كسر التاء: مجتمع الكتفين.
وكان -عليه الصلاة والسلام- دقيق العرنين،
__________
وطبعهم أرقّ، "والقنى في الأنف طوله، ودقة أرنبته مع خدب" -بمهملتين- "في وسطه"، وهو معنى قول ابن الأثير: وهو السائل الأنف، المرتفع وسطه، وقيل: هو نتوء في وسط القصبة، والأوّل أَوْلَى بالمدح، "وقد وصفه -عليه الصلاة والسلام- غير واحد" من الصحابة؛ "بأنَّه كان عظيم الهامة" -بالتخفيف- الرأس عظمًا متوسطًا لا خارجًا؛ لأنه آية البلادة، "كما في حديث ابن أبي هالة المشهور" في الترمذي، "وقال علي بن أبي طالب في حديثٍ رواه الترمذي وصحَّحَه"، رواه "البيهقي" في الدلائل، "ضخم الرأس", أي: عظيمه، وهو محبوب ممدوح؛ لأنه أعون على الإدراكات، ونيل الكمالات، "وكذا قال أنس في رواية البخاري" بلفظ: كان ضخم الرأس واليدين والقدمين، "وكان -عليه الصلاة والسلام- أيضًا ضخم الكراديس"، جمع كردوس -بالضم "وهي رءوس العظام"، كما قاله عياض وغيره، وقيل: هي كل عظمين التقيا في مفصل نحو الركبتين، والمنكبين، والوركين، وكيفما كان يدل على وفور المادة، وقوة الحواس، وكثرة الحرارة، وكمال القوى الدماغاية، "كما وصفه به عليّ في حديث الترمذي، وقال" الترمذي "أيضًا في رواية" عن علي أيضًا: "جليل"، أي: عظيم "المشاش" -بضم الميم، ومعجمتين- جمع مشاشة -بالضم والتخفيف، "والكتد"، وذلك علامة النجابة ونهاية القوة، "وفسر برءوس العظام؛ كالركبتين، والمرفقين، والمنكبين، أي: عظيمهما" تفسير لجليل، أي: المشاس والكتد، فهو مثل قوله في الرواية الأولى: وضخم الكراديس.
وفي الصحاح: المشاشة رءوس الأصابع، والعظام اللينة التي يمكن مضغها، "والكتد -بفتحتين" للكاف والفوقية، "ويجوز كسر التاء، مجتمع الكتفين"، كما قاله عياض وغيره، "وكان -عليه الصلاة والسلام- دقيق العرنين" -بكسر المهملة، وإسكان الراء، وكسر النون الأُولَى،(5/283)
أي: أعلى الأنف، كما وصفه به علي في رواية ابن سعد وابن عساكر، وفي روايته أيضًا عن ابن عمر من وصف علي له أيضًا: أقنى الأنف، وفسر بالسائل المرتفع وسطه، وقال ابن أبي هالة: أقنى العرنين له نور يعلوه، يحسبه من لم يتأمله أشم، والأشم: الطويل قصبة الأنف.
وأما فمه الشريف -صلى الله عليه وسلم: ففي مسلم من حديث جابر أنه -صلى الله عليه وسلم- كان ضليع الفم،
__________
"أي: أعلى الأنف"، أي: أوّله؛ حيث يكون فيه الشمم، وهو ما تحت مجتمع الحاجبين، أو ما صلب من عظم الأنف، أو كله، ويجمع على عرانين، ويوصف به أشراف الناس لشموخ أنفهم، وارتفاعهم على أقرانهم، ويكنَّى به عن العزيز المحسود في قومه لعزِّه, ومنه:
إن العرانين تلقاها محسدة ... وما ترى للئام الناس حسادا
"كما وصفه به علي في رواية ابن سعد وابن عساكر، وفي روايته أيضًا، عن ابن عمر" ابن الخطاب "من وصف علي له أيضًا"، فهو في رواية صحابي، عن صحابي، "أقنى الأنف" -بقاف فنون مخففًا- من القنى، "وفسر" في النهاية "بالسائل" الأنف، "المرتفع وسطه" مع إحديدابه، وارتفاع أعلاه، كما مَرَّ قريبًا.
"وقال ابن أبي هالة: أقنى العرنين، له نور"، أي: للعرنين؛ لأنه أقرب، وقيل: للنبي؛ لأنه الأصل، فلامه بمعنى على "يعلوه"، يغلبه من حسنه، وبها رونقه، "يحسبه" بفتح السين وكسرها، قيل: وهو أولى, يظنه "من لم يتأمله" يُمْعِن النظر فيه "أشم" مفعول ثانٍ ليحسبه، أي: وليس بأشمّ، "والأشم: الطويل قصبة الأنف"، مع استواء أعلاه وانفراق الأرنبة، وقيل: الشمم: طول الأنف مع سيلانه ودقته، والأول أصح، وقد يعبر به عن عزة النفس، وعدم التنزل للأمور، ومما يمدح به، كما قال كعب:
شم العرانين إبطال لبوسهم ... من نسج داود في الهيجا سرابيل
"وأما فمه الشريف -صلى الله عليه وسلم"، أي: صفته ظاهرة وباطنة، فدخل الأسنان والخدان، فليس المراد حقيقته التي هي الخلاء الداخل، وجواب إمَّا مقدر، أي: فكان على غاية من الرونق والكمال، "ففي مسلم": الفاء للتعليل، بمعنى اللام "من حديث جابر" بن سمرة، كما في مسلم والترمذي، فكان عليه زيادته؛ لأنه عند الإطلاق ابن عبد الله، لكنه استغنى عن التقييد، لتقدمه قريبًا "أنه -صلى الله عليه وسلم- كان ضليع الفم" -بفتح الضاد المعجمة، "يعني: واسعة" أو عظيمة.
قال الزمخشري: والضليع في الأصل الذي عظمت أضلاعه ووفرت، فاجفر جنباه، ثم(5/284)
يعني واسعة. وكذا وصفه به ابن أبي هالة، وزاد: يفتتح الكلام ويختمه بأشداقه، يعني: لسعة فمه، والعرب تمدح به وتذم بصغر القم.
وقال شمر: عظيم الأسنان.
وفي حديث عند البزار والبيهقي, قال أبو هريرة: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أسيل الخدين واسع الفم.
ووصفه -صلى الله عليه وسلم- ابن أبي هالة فقال: أشنب مفلج الأسنان. والشنب: رونق الأسنان
__________
استعمل في موضع العظيم، وإن لم يكن، ثم أضلاع، وقيل: ضليعه: مهزوله وذابله، والمراد: ذبول شفتيه، ورقتهما، وحسنهما، وقيل: هو كناية عن قوة فصاحته، وكونه يفتتح الكلام، يختمه بأشداقه، والأول قول الأكثر.
قال النووي: وهو الأظهر، "وكذا وصفه به ابن أبي هالة، وزاد" في بعض طرق حديثه: "يفتتح الكلام ويختمه بأشداقه" جمع شدق -بكسر الشين وفتحها وسكون الهملة- جوانب فمه، "يعني: لسعة فمه، والعرب تمدح به وتذم بصغر الفم"؛ لدلالة السعة على الفصاحة والصغر على ضدها، والمولدون من الشعراء يمدحون صغره، وهو خطأ منهم، أو لمعنى لا يلتفت إليه لقبحه، "وقال شمر" -بكسر الشين المعجمة وسكون الميم- ابن عطية الأسدي، الكاهلي، الكوفي: معنى ضليع الفم، "عظيم الأسنان"، وتعقّب بأن المقام مقام مدح، وعظمهما مذموم بخلاف الفم، وأجيب بأن مراده بعظمها: شدتها وقوتها وتمامها، ولا يتوهم في سياق المدح غير هذا، وتعقب تفسيره أيضًا؛ بأن المتباردان ذلك إنما هو من معاني الضليع من غير إضافة إلى الفم، فلمَّا إضيف إليه استبان أن المراد عظمه لا عظم الأسنان، إلّا أن ثبت نقل عن أئمة هذا الشأن، وأجاب شيخنا: إملاء بأنه لا يلزم من استعماله مضافًا إلى معنى تخصيصه بما أضيف إليه، ومن تتبَّع ما ورد من استعمالات اللغة لا يتوقف فيه، فضلاعة الفم لا تتقيد بكونها في خصوص الفم، بل يجوز أن تكون صفة له باعتبار ما وجد فيه.
"وفي حديث عند البزار والبيهقي، قال أبو هريرة: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أسيل الخدين" بزنة أمير: لينهما، غير مرتفع الجنتين، فهو كقول هند: سهل الخدين، "واسع الفم"، فهذا يؤيد تفسير الأكثر ضليع بواسع؛ لأن الأحاديث يفسر بعضها بعضًا، "ووصفه -صلى الله عليه وسلم- ابن أبي هالة، فقال" عقب ضليع الفم: "أشنب" -بفتح الهمزة، وإسكان المعجمة، وفتح النون، وموحدة- أي: ذو شنب، "مفلج الأسنان" -بضم الميم، وشد اللام- "والشنب رونق"، أي: حسن "الأسنان(5/285)
وماؤها. وقيل: رقتها وتحديدها. وأفلج الأسنان أي: متفرقها.
وقال علي: مبلج الثنايا -بالموحدة، أخرجه ابن سعد من حديث أبي هريرة.
وعند ابن عساكر عن علي: براق الثنايا.
وعن ابن عباس قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أفلج الثنتين, إذا تكلم ريء
__________
وماؤها".
قال المجد: رونق السيف والضحى ماؤه وحسنه، "وقيل: رقتها وتحديدها" -بحاء ودالين مهملات- أي: الأسنان على ظاهر المتن، وبه فسره الجوهري، وقصره المجد على الأنياب، فيحتمل الموافقة والمخالفة، وفي نسخة: وتحزيزها -بزاءين منقوطتين, وهو قول في معنى الشنب أيضًا؛ إذ قيل: إنه نقط بيض، وتحزيز في الأسنان، وسئل رؤبة عن قول ذي الرمة:
لمياء في شفتيها حوة لعس ... وفي اللثات وفي أنيابها شنب
فأخذ حبة رمان، وقال: هذا هو الشنب، أي: إن صفاء ما فيها كهذا، وقيل: هو برد وعذوبة فيها، وقيل: بياض وبريق وصفاء وتحديد في الأسنان، "وأفلج الأسنان، أي: متفرقها"، وهو أنقى للفم، وأطيب، وأبلغ في الفصاحة؛ لأن اللسان يتَّسع فيها، والمراد: الثنايا؛ لحديث ابن عباس: أفلج الثنيتين، والمراد: الثنايا والرباعيات؛ لأن تباعد الأسنان كلها عيب، وفي القاموس: مفلج الثنايا منفرجها، "وقال علي: مبلج" -بضم الميم، وإسكان الموحدة- من أبلج, "الثنايا" أي: مشرقها ومضيئها، صفة مستقلة لا تفسير للفلج "بالموحدة" الساكنة من أبلج، كما في القاموس وغيره، ويحتمل فتحها، وشد اللام من بلج مثقلًا، لكن لم يذكروه.
"أخرجه ابن سعد من حديث أبي هريرة" عن علي، ففيه من اللطائف, صحابي عن صحابي، "وعند ابن عساكر عن علي: براق الثنايا" أي: مضيئها، فهو مساوٍ للرواية الأولى عنه: أبلج، وكلاهما يرجع لمعنى الشنب.
"وعن ابن عباس قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أفلج الثنيتين" من الفلج، أي: بعيد ما بين الثنايا والرباعيات، والفرق فرجة ما بين الثنايا، فاستعمل الفلج مكان الفرق بقرينة نسبته إلى الثنايا فقط، ذكره ابن الأثير، لكن ذكره الجوهري أنه مشترك بينهما، فلا حاجة إلى أنه استعمل في محله، إلا أن يكون إطلاق الفلج على تفريج الثنايا مجازًا لغويًّا، قيل: أكثر الفلج في العليا، وهي صفة جميلة، لكن مع القلة؛ لأنه أتمّ في الفصاحة، لاتساع الأسنان "إذا تكلم" خبر ثانٍ لكان "ريء" بكسر الراء, بزنة قيل على الأفصح، ويقال: بضم الراء وكسر الهمزة، وبني للمجهول إشارة إلى أن الرؤية لا تختص بأحد دون أحدٍ، ولذا لم يقل إذا تكلّم يخرج "كالنور"، أي: شعاع(5/286)
كالنور يخرج من بين ثناياه, رواه الترمذي في الشمائل، والدارمي، والطبراني في الأوسط.
وكان -عليه الصلاة والسلام- أحسن عباد الله شفتين, وألطفهم ختم فم.
بحر من الشهد في فيه مراشفه ... ياقوته صدف فيه جواهره
وعن أبي قرصافة قال: بايعنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنا وأمي وخالتي، فلمَّا رجعنا قالت لي أمي وخالتي: يا بني، ما رأينا مثل هذا الرجل أحسن وجهًا, ولا أنقى ثوبًا, ولا ألين كلامًا، ورأينا كالنور يخرج من فيه.
وأما ريقه الشريف:
__________
مثله، فالكاف بمعنى مثل، فلا حاجة لتقدير شيء "يخرج من بين ثناياه"، إمَّا من الثنايا نفسها، أو من داخل الفم، وطريقه من بينها معجزة له، وهو نور حسي، ووهم من قال معنوي، والمراد: ألفاظه بالقرآن أو السنة؛ لأنه خلاف الظاهر المتبادر من قوله: ريء، والثنايا جمع ثنية، وهي أربع في مقدم الفم، ثنتان من فوق، وثنتان من تحت، "رواه الترمذي في الشمائل" النبوية، "و" رواه أيضًا شيخ الترمذي، فيه عبد الله بن عبد الرحمن الحافظ "الدارمي" في مسنده، "والطبراني في" معجمه "الأوسط"، وكذا في الكبير، وفيه عند الجميع: عبد العزيز أبي ثابت، وهو ضعيف جدًّا، كما قاله الحافظ نور الدين الهيثمي، "وكان -عليه الصلاة والسلام- أحسن عباد الله شفتين، وألطفهم ختم فم"، وأنشد قول العارف الرباني سيدي محمد وفى:
بحر من الشهد في فيه مراشفه ... ياقوته صدف فيه جواهره
"وعن أبي قرصافة" -بكسر القاف وسكون الراء بعدها مهملة وفاء- اسمه: جندرة -بفتح الجيم، ثم نون ساكنة، ثم مهملة مفتوحة، ثم راء فهاء- ابن خيشة -بمعجمة، ثم تحتية، ثم نون- الكناني، الليثي، الصحابي، المشهور بكنيته، ذكره الحافظ، "قال: بايعنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنا وأمي"، ذكرها في الإصابة في الكنى، ولم يسمِّها، فقال: أم جندرة, والدة أبي قرصافة. وقع ذكرها عند الطبراني في مسند ولدها، "وخالتي، فلمَّا رجعنا، قالت لي أمي وخالتي": مفعول معه، أي: مع مصاحبتها لخالتي، فقوله: "يا بني" مقول أمه خاصّة، أو معطوف، يعني: إن كلًّا منهما وصفه بالبنوة، فهو حقيقي بالنسبة لأمّه, مجازي لخالته "ما رأينا مثل هذا الرجل" خَلْقًا وخُلُقًا "أحسن"، الرواية لا أحسن "وجهًا"، بل هو أحسن وجهًا من جميع الناس، "ولا أنقى -بنون وقاف- أنظف "ثوبًا"، بل ثوبه أنظف من جميع الثياب، "ولا ألين كلامًا، ورأينا كالنور يخرج من فيه"، هذا محل شاهده من هذا الحديث، "وأمَّا ريقه الشريف"، أي: وصفه، فكان(5/287)
ففي الصحيحين، عن سهل بن سعد, أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال يوم خيبر: "لأعطينَّ الراية غدًا رجلًا يفتح الله على يديه، يحب الله رسوله، ويحبه الله ورسوله"، فلمَّا أصبح الناس غدوا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كلهم يرجو أن يعطاها، قال: "أين علي بن أبي طالب"؟ فقالوا: هو يا رسول الله يشتكي عينيه، قال: "فأرسلوا إليه"، فأتي به، فبصق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في عينيه فبرأ كأن لم يكن به وجع.
__________
يشفي الداء الحسي والمعنوي، كإزالة ملوحة الماء، فالجواب محذوف اكتفاءً بما دَلَّ عليه، وهو قوله: "ففي" التي بمعنى اللام، أي: لما في "الصحيحين" للبخاري ولمسلم، "عن سهل بن سعد" بن مالك بن خالد الأنصاري، الخزرجي، الساعدي، صحابي ابن صحابي. مات سنة ثمان وثمانين أو بعدها، وقد جاوز مائة، "أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم، قال يوم خيبر": بعدما أرسل أبا بكر بالراية، فقاتل شديدًا، ولم يكن فتح، ثم أرسل عمر من الغد، فقاتل أشد من الأوّل, ثم رجع ولم يكن فتح، كما عند أحمد والنسائي وغيرهما، ففي هذه الراية اختصار، فقال -صلى الله عليه وسلم: "لأعطينّ الراية غدًا رجلًا يفتح الله على يديه، يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله".
قال الحافظ: أراد وجود حقيقة المحبة، وإلّا فكل مسلم يشترك مع علي في مطلق هذه الصفة، وفيه تلميح بقوله: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} ، فكأنه إشارة إلى أن عليًّا تام الاتباع، حتى وصفه بصفة محبة الله، ولذا كان حبّه علامة الإيمان، وبغضه علامة النفاق، كما في مسلم وغيره، "فلمَّا أصبح الناس غَدَوْا" -بمعجمة- أتوا صباحًا "على رسول الله -صلى الله عليه وسلم، كلهم يرجو" بلا نون، دون ناصب وجازم، وهو لغة، كما قال المصنف.
وفي رواية: يرجون "أن يعطاها"، أي: الراية، قال عمر: ما أحببت الإمارة إلّا يومئذ، رواه مسلم, وفي حديث بريدة: فما منَّا رجل له منزلة عنده -صلى الله عليه وسلم- إلّا وهو يرجو أن يكون ذلك الرجل، حتى تطاولت أنا لها.
"قال: "أين علي بن أبي طالب"؟ فقالوا: هو يا رسول الله يشتكي عينيه"، مثنَّى "قال: "فأرسلوا إليه" -بكسر السين- أمر من الإرسال وفتحها، أي: قال سهل: فأرسلوا إليه، أي: الصحابة إلى علي، وهو بخيبر لم يقدر على مباشرة القتال لرمده، قاله المصنّف، "فأتي به"، وفي مسلم عن سلمة: فأرسلني إلى علي، فجئت به أقوده أرمد، "فبصق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في عينيه فبرأ" -بفتح الراء والهمزة- بوزن ضرب، ويجوز كسر الراء بوزن علم، قاله الحافظ، فأفاد أن الرواية بالأول، أي: شُفِيَ "كأن لم يكن به وجع"، مع أنه كان أرمد، شديد الرمد، قاله جابر في الطبراني، وقال ابن عمر: أرمد لا يبصر، رواه أبو نعيم.
قال علي: فما رمدت، ولا صدعت مذ دفع إليّ النبي -صلى الله عليه وسلم- الراية يوم خيبر، وفي رواية:(5/288)
الحديث متفق عليه.
وأتي بدلو من ماء فشرب من الدلو، ثم صب في البئر، أو قال: مجَّ في البئر ففاح منها مثل رائحة المسك. رواه أحمد من حديث وائل بن حجر.
وبزق في بئر في دار أنس، فلم يكن في المدينة بئر أعذب منها، رواه أبو نعيم.
وكان -عليه الصلاة والسلام- يوم عاشوراء, يدعو برضعائه وبرضعاء ابنته فاطمة, فيتفل في أفواهم ويقول للأمهات: "لا ترضعنهم إلى الليل"، فكان ريقه يجزيهم.
__________
فما اشتكيتهما حتى يومي هذا، رواهما الطبراني "الحديث" بقيته: فأعطاه الراية، فقال علي: يا رسول الله أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا؟ فقال: "انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله فيه، فوالله لأن يهدي الله بك رجلًا واحدًا خير من أن يكون لك حمر النعم"، "متفق عليه" بمعنى. أخرجه الشيخان.
"وأتي بدلو من ماء، فشرب من الدلو"، لم يقل منه، لئلَّا يوهم أنه شرب من الماء في غير الدلو، بأن صبَّه في إناء غيره من الدلو، "ثم صبَّ" باقي شربه "في البئر"، قصدًا لإظهار المعجزة المصدقة له، "أو قال": شك الراوي "مجَّ في البئر، ففاح منها مثل رائحة المسك" معجزة له، ويحتمل قصره على ما عند الصب وبقاؤه مدة.
"رواه أحمد من حديث وائل بن حجر" -بضم المهملة، وسكون الجيم- ابن مسروق الحضرمي، صحابي جليل، كان من ملوك اليمن، ثم سكن الكوفة، وروى عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أحاديث، وعنه جماعة. مات أوائل خلافة معاوية، "وبزق" -بالزاي وبالصاد- وفي لغة: بالسين، خلافًا لمن أنكرها "في بئر في دار أنس" بن مالك، "فلم يكن في المدينة بئر أعذب" أحلى "منها"، ببركة بزاقه، "رواه أبو نعيم" وغيره عن أنس، "وكان -عليه الصلاة والسلام- يومًا عاشوراء يدعو برضعائه"، أي: صبيانه الذين ينسبون إليه، "وبرضعاء ابنته فاطمة"، أي: أولادها، ورضيع الشخص أخوه رضاعة، وليس مرادًا هنا، كما هو ظاهر، "فيتفل" -بكسر الفاء وضمها- يبصق "في أفواههم، ويقول للأمهات: "لا ترضعنهم إلى الليل"، لعله أراد مشاركتهم للصائمين في عدم تناول شيء، لتعود عليهم بركة تصورهم بهم، ولا مانع أن يكتب لهم ثواب من صامه، إكرامًا له، "فكان ريقه يجزيهم" -بفتح الياء- يكفيهم إلى الليل، ويجوز ضم الياء مع سكون الجيم، آخره همزة، أي: يقضيهم عن اللبن، "رواه البيهقي" في الدلائل.(5/289)
رواه البيهقي.
ودخلت عليه عميرة بنت مسعود هي وأخواتها يبايعنه وهنَّ خمس, فوجدنه يأكل قديدًا, فمضغ لهنَّ قديدة فمضغنها, كل واحدة بينهنَّ قطعة, فلقين الله وما وجد لأفواههنّ خلوف، رواه الطبراني.
ومسح -صلى الله عليه وسلم- بيده الشريفة بعد أن نفث فيها من ريقه على ظهر عتبة وبطنه, وكان به شرى، فما كان يشم أطيب رائحة منه. رواه الطبراني.
وأعطى الحسن لسانه -وكان قد اشتد ظمؤه- فمصَّه حتى روي. رواه ابن عساكر, ولله در إمام العارفين سيدي محمد وفى الشاذلي المالكي -رضي الله عنه
__________
"ودخلت عليه عميرة بنت مسعود" الأنصارية، "هي وأخواتها يبايعنه، وهن خمس، فوجدنه يأكل قديدًا" لحمًا مقددًا، أي: مجفَّفًا في الشمس، "فمضغ لهنَّ قديدة، فمضغنها, كل واحدة"، بدل من الفاعل في مضغتها، وذلك بعد أخذ عميرة لها من المصطفى، ففي رواية عنها: فمضغ لهن قديدة، ثم ناولني القديدة فقسمتها "بينهنَّ"، فمضغت كل واحدة "قطعة, فلقين الله"، أي: مِتْنَ، "وما وجد لأفواههن خلوف" -بضم الخاء- تغيُّر ريح، "رواه الطبراني"، وأبو نعيم، وأبو موسى في الصحابة، وفي روايتها: فلقين الله ما وجدن في أفواههن خلوفًا، ولا اشتكين من أفواههن شيئًا، "ومسح -صلى الله عليه وسلم- بيده الشريفة بعد أن نفث" تفل "فيها من ريقه، على ظهر عتبة" بن فرقد بن يربوع السلمي، صحابي, نزل الكوفة ومات بها، وهو الذي فتح الموصل زمن عمر، "وبطنه، وكان به شرى" خراج صغار، لها لذع شديد، كما في المختار، "فما كان يشمّ أطيب رائحة منه، رواه الطبراني" في الكبير والصغير، من طريق أم عاصم زوجة عتبة بن فرقد، عنه قال: أخذني الشرى على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فأمرني فتجردت، فوضع يده على بطني وظهري، فعبق الطيب من يومئذ، قالت أم عاصم: كنا عنده أربع نسوة، فكنا نجتهد في الطيب، وما كان هو يمس الطيب، وأنه لأطيب ريحًا منَّا، "وأعطى الحسن" ابنه "لسانه، وكان قد اشتد ظمؤه، فمصَّه حتى روي" -بفتح الراء، وكسر الواو- زال ظمؤه، "رواه ابن عساكر"، وروى الطبراني: أنَّ امرأة بذيئة اللسان جاءته -صلى الله عليه وسلم، وهو يأكل قديدًا، فقالت: ألا تطعمني، فناولها من بين يديه، فقالت: لا، إلا الذي في فيك، فأخرجه، فأعطاه لها فأكلته، فلم يعلم منها بعدما كانت عليه من البذاءة، "ولله در إمام العارفين سيدي محمد وفى الشاذلي المالكي -رضي الله عنه؛ حيث يقول: جنى النحل"، أي: مجنيه؛ كقوله تعالى: {وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ} [الرحمن: 54] "في فيه"، أي: في فمه، أي: كلامه في(5/290)
حيث يقول:
جنى النحل في فيه وفيه حياتنا ... ولكنه من لي بلثم لثامه
رحيق الثنايا والمثاني تنفست ... إذا قال في فيح بطيب ختامه
وأمّا فصاحة لسانه، وجوامع كلمه، وبديع بيانه وحكمه، فكان -صلى الله عليه وسلم- أفصح خلق الله،
__________
الحلاوة، كالشهد المجني من النحل، "وفيه"، أي: ما يُجْنَى منه "حياتنا"؛ لأنه يأتي بما تحيا به القلوب، ويقرب إلى علام الغيوب، فنحيا في الدنيا بالعبادة والإيمان، وفي الأخرى الحياة الأبدية في رياض الجنان، "ولكنه من" يتكفل "لي بلثم لثامه" حتى أجني منه ذلك الجني، تمنَّى رؤيته يقضة ليسمع منه، ويأخذ عنه، وما ذلك عليه بعزيز، "رحيق الثنايا" خمرها، شبَّه ما يخرج من بينها بالخمر الخالص من الدنس، في أنه يستلذ به، كالرحيق الممتنّ به على المتقين في الجنة، {يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ} ، "والمثاني" القرآن، أو ما ثنى منه مرة بعد مرة، أو الحمد، أو البقرة إلى براءة، أو غير ذلك مما قيل في تفسير المثاني، أو المراد المزامير، وهو أظهر تشبيهًا لصوته الخارج من فيه، لشدة حسنه بنغمتها، "تنفست": خرج منها نفس طيب، "إذا قال"، أي: تكلم "في فيح" -بفاء، فتحتية، فمهمل- ظرف لتنفست، تلميح بقوله: {خِتَامُهُ مِسْكٌ} "وأما فصاحة" أي: طلاقة وجودة "لسانه"، الجارحة المخصوصة، بحيث ينطق بالكلام البليغ بلا تكلف، فالمراد الفصحة اللغوية، يقال: لسان فصيح، أي: طلق، فلا يرد أن الفصاحة لا توصف بها الجارحة، بل اللفظ والمتكلم به؛ لأن تخصيصها ألفاظ أمر اصطلاحي، ولا يرد حصرهم لها في الكلام والكلمة والمتكلم؛ لأن الحصر إضافي بالنسبة للبلاغة التي يوصف بها الأخيران فقط، واللسان العضو يذكر، فيجمع على ألسنة، ويؤنّث، فيجمع على ألسن.
قال أبو حاتم: والتذكير أكثر، وهو في القرآن كله مذكر، "وجوامع كلمه" من إضافة الصفة للموصوف، أي: كلمة "الجوامع" للمعاني الكثيرة في ألفاظ قليلة، كما قال -صلى الله عليه وسلم: "أعطيت جوامع الكلم"، واختصر لي الكلام اختصارًا، رواه أبو يعلى والبيهقي عن ابن عمر، والدارقطني عن ابن عباس.
"وبديع بيانه وحكمه" -بكسر ففتح- جمع حكمة، أي: بيانه البديع، وحكمه البديعة، فهما أيضًا من إضافة الصفة للموصوف، "فكان -صلى الله عليه وسلم- أفصح خلق الله"، أي: مخلوقه الذي يوصف بالفصاحة، وهو نوع الإنسان، أي: أقدرهم على المجيء بالكلام الفصيح، أي: البليغ،(5/291)
وأعذبهم كلامًا، وأسرعهم أداءً، وأحلاهم منطقًا، حتى كان كلامه يأخذ بمجامع القلوب ويسلب الأرواح, شعر:
ينظم در الثغر نثر مقوله ... فيا حسنه ونثره ونظامه
يناجي فينجي من يناجي من الجوى ... فكل كليم برؤه في كلامه
ففصاحة لسانه -عليه الصلاة والسلام- غاية لا يدرك مداها،
__________
فالفصاحة قد تطلق ويراد بها البلاغة، "وأعذبهم كلامًا"، فيتكلم بألفاظ حلوة لطيفة لا يلتوي الذهن في فهمها، فما من لفظة يسبق فهمها للذهن، إلّا ومعناها أسبق إليه، "وأسرعهم أداء" اسم مصدر من أدَّى، أي: تأدية للمعاني التي يريد إيرادها، فينطبق بغاية من الله السرعة بلا تلعثم ولا تأنٍّ، "وأحلاهم منطقًا" مصدر ميمي، أي: نطقًا، وعذوبة الكلام وحلاوته، المراد بهما: حسنه؛ بحيث يستلذ بسماعه، كما يستلذ بتناول الشيء الحلو، كما قيل:
يكاد من عذوبة الألفاظ ... تشربه مسامع الحفاظ
"حتى كان" بالتشديد "كلامه يأخذ بمجامع"، أي: جميع، واحده مجمع -بفتح الميم وكسرها, "القلوب": بأن يستولي عليها؛ بحيث تصير كأنها في يده، يقلِّبها كيف شاء، "و" كأنه "يسلب الأرواح" جمع روح، "شعر" للأستاذ محمد، وفي جملة القصيدة التي قدَّم بيتين منها قريبًا، فقال عقبهما: "ينظم در" -بضم الدال- جمع درة: اللؤلؤة العظيمة، "الثغر" المبسم، ثم أطلق على الثنايا, "نثر" بالرفع "مقوله"، أي: قوله، يعني: إذا تكلم بنَثْرٍ أشبه اللآلئ الكبار في حسنها، وقبول النفوس لها، "فيا حسنه ونثره ونظامه"، إتيانه بكلامه المنثور والمنظوم.
وليس المراد الشعر، فنادى حسنه ليتعجب منه، "يناجي" يسارر، والمراد: مطلق الكلام، "فينجي من يناجي من الجوى" -بالقصر: الحرقة وشدة الوجد من عشق أو حزن، أي: يخاطب من كرب، فيزول بخطابه، "فكل كليم" جريح "برؤه" شفاؤه حاصل "في كلامه" -صلى الله عليه وسلم- له، والمراد: إن كلامه يداوي المرضى، ويزيل عللهم، "ففصاحة لسانه -عليه الصلاة والسلام- غاية" مدى "لا يدرك مداها" -بفتحتين- غايتها، كما في اللغة، فكأنه قيل: نهاية لا تدرك نهايتها، فيشكل بأن نهاية الشيء آخره، ووجه بأنه من نفي القيد والمقيد جميعًا، أي: لا لها غاية، ولا منتهى حتى تدرك كقوله:
على لا حب ... لا يهتدي لمثاره
أو قصد المبالغة، حتى إنه جعل النهاية بمنزلة شيء ممتد لا تدرك نهايته، أو الغاية هنا بمنزلة المرتبة، أو الحالة، وهي لا تدرك نهايتها، على نحو قول الرضي قولهم: من لابتداء الغاية، معناه:(5/292)
ومنزلة لا يداني منتهاها، وكيف لا يكون ذلك وقد جعل الله تعالى لسانه سيفًا من سيوفه، يبين عنه مراده, ويدعو إليه عباده، فهو ينطق بحكمه عن أمره، ويبين عن مراده بحقيقة ذكره.
أفصح خلق الله إذا لفظ، وأنصحهم إذا وعظ, لا يقول هجرًا، ولا ينطق هذرًا، كلامه كله يثمر علمًا،
__________
لابتداء المسافة، فلا منافاة بين الحكم بأنها للابتداء، وأن ذلك الابتداء للغاية، "ومنزلة" رتبة عليه، "لا يداني" يقارب "منتهاها" غايتها, لما خصَّه الله به من القوة النطقية التي اختص بها الإنسان على غيره الحيوان؛ إذ علاه من يقدر على ضبط سائر المعاني، والتعبير عنها إلى أقصى الغايات، وهذه القدرة هي فصل الخطاب، فهو القدرة على كل ما يخطر بالبال، ويحضر في الخيال، بتفصيل كل فرد منه, والتعبير عنه بما يطابقه من أمور الدنيا والدين، وغاية ذلك التي لم يصل إليها مخلوق مختصة بنبينا -صلى الله عليه وسلم، ولذا قيل: كلامه معجز كالقرآن، ولم يقل في غيره ذلك؛ لأن كتبهم ليست معجزة، فكذا كلامهم بخلاف كتابه، وكلامه مثل، وهذا وإن كان ضعيفًا، لكنه من حيث الكل، أمَّا الأكثر سيما جوامع كلمه، فلا شَكَّ في إعجازها، كما بينه في الاستيعاب، "وكيف لا يكون ذلك" استفهام تعجبي، والواو للاستئناف، "وقد جعل الله تعالى لسانه سيفًا"، أي: كسيف "من سيوفه" في شدة تأثير ما يقوله في النفوس، وأنه لا يرد "يبين عنه مراده"، أي: الله، "ودعو إليه عباده"، كما قال: {وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ} ، "فهو ينطق بحكمه -بضم فسكون- الذي شرعه "عن أمره"، امتثالًا لنحو قوله: {بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} ، أو بكسر، ففتح جمع: حِكَمه، أي: كلماته الحق المطابقة للواقع، نطقًا ناشئًا عن أمر الله تعالى له بذلك، {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} ، "ويبين" -بضم فكسر فسكون، أو بضم، ففتح، فكسر وشدّ. من أبان وبَيِّنَ، أي: يكشف "عن مراده بحقيقة ذكره"، أي: ذكر الحق الذي لا ريب فيه، "أفصح" بالفاء "خلق الله"، الذين يوصفون بالفصاحة، فلا يرد الحيوانات والجمادات، فإنها لا توصف بها، وأفعل التفضيل يقتضي المشاركة، وأورد بالخلق المجموع، فلا يستلزم الحكم على كل فرد فرد، "إذ لفظ" تكلم، "وأنصحهم" -بالنون- أشدهم نصحًا، "إذا وعظ" ذكر وخوف العواقب، "لا يقول هجرًا" -بضم الهاء، وإسكان الجيم- فحشًا، "ولا ينطق هذرًا" -بفتح الهاء، وذال معجمة ساكنة- أي: لا يخلط في كلامه، ولا ينطق بما لا ينبغي، بل كان أشد حياء من العذراء في خدرها، "كلامه كله يثمر علمًا"، فهو شجرة طيبة يجتني منها الثمار المشتهاة، ولذا كان طالب العلم لا يشبع منه، "ويمتثل" -بضم التحتية، وإسكان الميم، وفتح الفوقية، ومثلثة- أي: يمتثل ما جاءته حال كونه(5/293)
ويمتثل شرعًا وحكمًا، لا يتفوه بَشَرٌ بكلام أحكم منه في مقالته، ولا أجزل منه في عذوبته.
وخليق بمن عبَّر عن مراد الله بلسانه، وأقام به الحجة على عباده ببيانه، وبَيِّنَ مواضع فروضه وأوامره ونواهيه وزواجره, ووعده ووعيده وإرشاده, أن يكون أحكم الخلق جنانًا وأفصحهم لسانًا، وأوضحهم بيانًا.
وقد كان -عليه الصلاة والسلام- إذا تكلم تكلم بكلام مفصَّل مبيّن، يعده العادّ، ليس بهذر مسرع لا يحفظ،
__________
"شرعًا" أي: مشروعًا، "وحكمًا" أمورًا محققة متقنة.
وفي البيضاوي: الحكمة تحقيق العلم، وإتقان العمل، "لا يتفوّه" ينطق "بَشَر بكلام أحكم منه في مقالته"، بل لا يقدر على مساواة مقالته، "ولا أجزل" -بجيم وزاي- أحسن وأسلس "منه في عذوبته"، قبول النفوس له، كالحلو، "وخليق" جدير وحقيق "بمن عَبَّر عن مراد الله بلسانه، وأقام" الله "به الحجة"، البرهان والدليل الواضح "على عباده ببيانه، وبَيِّنَ مواضع فروضه، وأوامره، ونواهيه، وزواجره، ووعده" بالخير لمن أطاع، "ووعيده" بالشر لمن عصى، "وإرشاده أن يكون أحكم الخلق جنانًا" -بفتح الجيم- قلبًا, فاعل سد مسد الخبر؛ لقوله: وخليق, بناء على قول الأخفش، الذي لا يشترط اعتماد الوصف في أعماله، أو هو مبتدأ، وخليق في خبره، وقد جوَّزوا الوجهين في قوله:
خبير بنو لهب فلا تك ملغيًا ... مقالة لهبي إذا الطير مرت
فخبير مبتدأ، وبنو فاعله، أو مبتدأ خبره خبير، ولا يجوز أن خليق مبتدأ، والخبر أن يكون؛ لأن المنسبك من أن والفعل بمنزلة المضاف للضمير، فيكون أعرف، والخبر لا يكون أرف، ومن ثَمَّ قال ابن هشام: اتفقوا على نصف حجتهم في قوله تعالى: {مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ} [الجاثية: 25] ، إلّا أن قالوا، وهو متعين، "و" أن يكون "أفصحهم لسانًا، وأوضحهم بيانًا" لأجل ذلك الذي أريد منه، "وقد كان -عليه الصلاة والسلام- إذا تكلّم"، أي: إذا أراد أن يتكلم، "تكلّم بكلام مفصَّل مبيّن"، صفة كاشفة؛ بحيث يمتاز بعضه عن بعض فلا يلتبس، "يعده العادّ" لمبالغته في الترتيل والتفهيم؛ بحيث لو أراد مستمعه عد كلماته أو حروفه لأمكنه ذلك؛ لوضوحه وبيانه, "ليس بهذر" -بفتحتين- اسم من هذر، وأما بالسكون، فالمصدر, والأوّل أنسب هنا، وفي نسخة بهذ -بحذف الراء، وهو السرعة، فقوله: "مسرع" صفة كاشفة، "لا يحفظ"، وهذا ورد بمعناه عن عائشة عند الترمذي، "وقالت عائشة -رضي الله تعالى عنها": فيما رواه مسلم، والبخاري،(5/294)
وقالت عائشة -رضي الله تعالى عنها: ما كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يسرد سردكم هذا، كان يحدِّث حديثًا لو عده العاد لأحصاه, وكان يعيد الكلمة ثلاثًا حتى تعقل عنه.
__________
وأبو داود، "ما كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يسرد" -بضم الراء- الحديث "سردكم"، وفي رواية: كسردكم، والمعنى واحد "هذا"، أي: ما كان يتابع الحديث استعجالًا بعضه إثر بعض، لئلَّا يلتبس على المستمع.
زاد الإسماعيلي في روايته: إنما كان حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فهمًا تفهمه القلوب، "كان يحدث حديثًا لو عدَّه العاد لأحصاه"، أي: لو عدَّ كلماته، أو مفرداته، أو حروفه، لأطاق ذلك وبلغ آخرها، والمراد بذلك المبالغة في الترتيل والتفهم، قاله الحافظ, وفيه إشارة إلى أن الشرط والجزاء مختلفان، وأوضحه المصنف بقوله: لا يقال فيه اتحاد الشرط والجزاء؛ لأنه كقوله تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} [إبراهيم: 34] ، وقد فُسِّرَ بلا تطيقوا عدَّها وآخرها، وهذا أتت به عائشة، تعرض بأبي هريرة، فصدر الحديث عن عروة، عنها أنها قالت: ألا يعجبك أبو فلان؟ ولفظ مسلم: أبو هريرة جاء، فجلس إلى جانب حجرتي، يحدّث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يسرد يسمعني ذلك، وفي رواية، فقال: ألا تسمعي يا ربة الحجرة، وكنت أسبّح، فقام قبل أن أقضي سبحتي، ولو أدركته لرددت عليه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان، فذكرته.
قال الحافظ: وأعتذر عن أبي هريرة، بأنه كان واسع الرواية، كثير المحفوظ، فكان لا يتمكّن من الترتيب عند إرادة التحديث، كما قال بعض البلغاء: أريد أن أقتصر فتتزاحم عليّ القوافي.
"و" روى الترمذي، والحاكم، عن أنس "كان" -صلى الله عليه وسلم- "يعيد الكلمة" الصادقة بالجملة، أو الجمل, نحو أنها كلمة، والمراد بها: ما لا يتبين مبناها أو معناها إلا بالإعادة "ثلاثًا"، أي: ثلاث مرات، معمول لمحذوف، أي: فقالها ثلاثًا، أو ضُمِّنَ عاد قال، فلم تقع الإعادة إلا مرتين، ولا يصح بقاؤه على ظاهره لاستلزامه قول الكلمة أربع مرات؛ إذ الأولى لا إعادة فيها.
قاله البدر الدماميني وغيره، وبَيِّنَ المراد بذلك بقوله: "حتى تعقل عنه"، وفي رواية البخاري: حتى تفهم عنه، والمعنى واحد، أي: ليتدبرها السامعون، ويرسخ معناها في القوة العاقلة، وحكمته: أن الأولى للإسماع، والثانية للوعي، والثالثة للفكرة، أو الأولى إسماع، والثانية تنبيه، والثالثة أمر.
وفيه كما قال ابن التين: إن الثلاثة غاية الإعذار والبيان، فمن لم يفهم بما لا يفهم بها زيد عليها، ولو مرات عديدة، وقد ورد أنه -صلى الله عليه وسلم- كان لا يراجع بعد ثلاث، وفيه رد على من كراه إعادة الحديث، وأنكر على الطالب الاستعادة، وعدّه من البلادة.(5/295)
وكان يقول: "أنا أفصح العرب".
وقد قال له عمر بن الخطاب: يا رسول الله، ما لك أفصحنا ولم تخرج من بين أظهرنا؟ فقال: كانت لغة إسماعيل قد درست, فجاءني بها جبريل فحفظتها. رواه أبو نعيم.
__________
قال ابن المنير: والحق أنه يختلف باختلاف القرائح، فلا عيب على المستفيد، الذي لا يحفظ من مرة إذا استعاد، ولا عذر للمفيد إذ لم يعد، بل الإعادة عليه آكد من الابتداء؛ لأن الشروع ملزم، وقد علمت أن قوله: وكان يعيد، ليس من بقية كلام عائشة، بل هو حديث أنس، أخرجه الترمذي، والحاكم بهذا اللفظ، إلّا أن الحاكم، وهو في استدراكه ودعواه أن البخاري لم يخرجه، فقد رواه في كتاب العلم، عن أنس من طريقين، لفظ أولهما، كان إذا سَلَّمَ سَلَّمَ ثلاثًا، وإذا تكلَّم بكلمة أعادها ثلاثًا، ولفظ ثانيهما: كان إذا تكلَّم بكلمة أعادها ثلاثًا حتى تفهم عنه، وإذا أتى على قوم فسلم عليهم، سلم عليهم ثلاثًا، "وكان يقول: "أنا أفصح العرب" وهو أفصح الناس، فهو أفصح الفصحاء، وهذا اللفظ ذكره أصحاب الغريب.
قال ابن كثير والسيوطي: لم نقف على سنده، "وقد قال له عمر بن الخطاب: يا رسول الله, ما لك أفصحنا؟ "، حال من الكاف، وما مبتدأ خبره لك، "و" الحال أنك "لم تخرج من بين أظهرنا"، حتى تزيد علينا بالفصاحة؛ لأنك لو خرجت من بيننا لقلنا: تعلم من لغات من عاشرهم غيرنا، ومراده الاستفهام، ولذا أجابه، "فقال: كانت لغة إسماعيل" بن إبراهيم جده -عليهم الصلاة والسلام، التي هي أفصح اللغات "قد درست"، عفت وخفيت آثارها، فلم يبق من ينطق بها على وجهها، "فجاني بها جبريل، فحفظتها"، وفي رواية ابن عساكر: فحفظنيها، أي: جبريل، فلذا كنت أفصح العرب، ينطق بأفصح اللغات، وأتمّ البلاغات، وأفحم بلغاء العرب قاطبة، فلم يدع منهم أحدًا إلا أعجزه، وأدله وحيره في أمره وأعله.
قال العلامة المحدث أحمد المتبولي: دلّت الأحاديث عن أن لسان آدم الذي علمه الله له، وتكلم به عربي، وعلمه اثنين وسبعين، أو ثمانين لسانًا، لكنه لم يتكلّم إلا بالعربية، فلمَّا أكل من الشجرة تكلم بالسريانية، ثم رد الله إليه العربية لما تاب الله عليه واجتباه، واستمرَّ الناس عليها إلى أن تبلبلت ألسنتهم بعد الطوفان، وقول بعض المفسرين: إن الله علّم آدم سبعمائة ألف، غريب لم أقف له على أصل، والمعوّل عليه ما قررناه.
وذكر في الإتقان: إن القرآن فيه خمسون لغة، سردها في النوع السابع والثلاثين، وذكرها هنا يخرج عن المقصود، "رواه أبو نعيم" في تاريخ أصبهان بإسناد ضعيف، وكذا ابن عساكر، وأبو أحمد الغطريف، بلفظ: إن لغة إسماعيل كانت درست، فأتاني بها جبريل، فحفَّظنيها، "وروى(5/296)
وروى العسكري في الأمثال من حديث علي بسند ضعيف جدًّا قال: قدم بنو نهد على النبي -صلى الله عليه وسلم: الحديث وفيه: ذكر خطبتهم وما أجابهم به النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: فقلنا: يا نبي الله، نحن بنو أب واحد، ونشأنا في بلد واحد، وإنك لتكلم العرب بلسان ما نعرف أكثره، قال: "إن الله -عز وجل- أدَّبني فأحسن تأديبي، ونشأت في بني سعد بن بكر".
__________
العسكري" -بفتح العين المهملة، والكاف، وبالراء- نسبة إلى عسكر مكرم, مدينة بالأهواز، الحافظ، الإمام أبو الحسن علي بن عبد الله، نزيل الري، صنَّف وجمع، ومات سنة خمس وثلاثمائة، "في الأمثال"، كتاب جمع فيه ألف مَثَل عن النبي -صلى الله عليه وسلم، "من حديث علي، بسند ضعيف جدًّا، قال: قدم بنو نهد" -بفتح النون وإسكان الهاء- ابن زيد "على النبي -صلى الله عليه وسلم، الحديث. وفيه ذكر خطبتهم، وما أجابهم به النبي -صلى الله عليه وسلم"، وسيذكر المصنّف ذلك كله مع كتاب المصطفى، لهم أواخر هذا المبحث.
"قال" علي: "فقلنا: يا نبي الله, نحن بنو أب واحد، ونشأنا في بلد واحد" وهي مكة، "وإنك لتكلم العرب بلسان ما نعرف أكثره"، فلم ذلك، "قال: "إن الله -عز وجل- أدبني" "، أي: علمني رياضة النفس، ومحاسن الأخلاق، الظاهرة والباطنة، "فأحسن تأديبي"، بإفضاله علي بالعلوم الوهيبة، مما لم يقع نظيره لأحد من البرية.
قال بعضهم: أدبه بآداب العبودية، وهذَّبَه بمكارم الأخلاق الربوبية، لما أراد إرساله؛ ليكون ظاهر عبوديته، مرآة للعالم؛ كقوله: "صلوا كما رأيتموني أصلي"، وباطن أحواله مرآة للصادقين في متابعته، وللصديقين في السير إليه "و {اتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} ".
وقال القرطبي: حفظه الله من صغره، وتولّى تأديبه بنفسه، ولم يكله في شيء من ذلك لغيره، ولم يزل الله يفعل ذلك به حتى كره إليه أحوال الجاهلية، وحماه منها، فلم يجر عليه شيء منها، كل ذلك لطف به، وعطف عليه، وجمع للمحاسن لديه، وقال بعضهم: أدَّب الله روح رسوله، وربَّاها في محل القرب، قبل اتصالها ببدنه، باللطف والهيبة، فتكامل له الأنس باللطف، والأدب والهيبة، واتصلت بعد ذلك بالبدن، ليخرج من اتصالها كمالات أخرى من القوة إلى الفعل، وينال كل من الروح والبدن بواسطة الآخر من الكمال ما يليق بالحال، ويصير قدوة لأهل الكمال والأدب، استعمال ما يحمد قولًا وفعلًا، أو الأخذ بمكارم الأخلاق، أو الوقوف المستحسنات، أو تعظيم من فوقه مع الرفق بمن دونه، وقيل غير ذلك، "ونشأت في بني سعد بن بكر"، فجمع له بذلك قوة عارضة البادية وجزالتها، وخلوص ألفاظ الحاضرة، ورونق كلامها.
قال السخاوي: وسند هذا الحديث ضعيف جدًّا، وإن اقتصر شيخنا -يعني الحافظ- على(5/297)
وعن محمد بن عبد الرحمن الزهري عن أبيه عن جده قال: قال رجل: يا رسول الله، أيدالك الرجل امرأته؟ قال: "نعم, إذا كان ملفجًا". فقال له أبو بكر: يا رسول الله، ما قال لك، وما قلت له؟ قال: "قال: أيماطل الرجل أهله؟ قلت له: نعم, إذا كان مفلسًا" , قال أبو بكر: يا رسول الله، لقد طفت في العرب وسمعت فصحاءهم, فما سمعت أفصح منك، قال: "أدبني ربي ونشأت في بني سعد"، رواه السرقسطي في الدلائل.
__________
الحكم عليه بالغرابة في بعض فتاويه، ولكن معناه صحيح، ولذا جزم بحكايته ابن الأثير في خطبة النهاية وغيرها، وقد أخرج أبو سعد السمعاني في أدب الإملاء بسند منقطع فيه من لم أعرفه عن عبد الله، أظنه ابن مسعود، قال: قال -صلى الله عليه وسلم: "إن الله أدبني فأحسن تأديبي، ثم أمرني بمكارم الأخلاق"، فقال: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} [الأعراف: 199] الآية.
وذكر حديث عمر السابق في المصنف، وحديث الصديق الآتي شاهدين له، ثم قال: وبالجملة، فهو كما قال ابن تيمية: لا يعرف له إسناد ثابت أ. هـ، وجزم السيوطي في الدرر وغيرها بأنه ابن مسعود قائلًا، وضعَّفه ابن السمعاني، وابن الجوزي، وصحَّحه أبو الفضل بن ناصر.
"وعن محمد بن عبد الرحمن الزهري، عن أبيه، عن جده، قال: قال رجل" من بني سليم "يا رسول الله أيدالك الرجل امرأته؟ قال: "نعم، إذا كان ملفجًا"، فقال له أبو بكر" مستفهمًا عَمَّا لم يفهمه على عادة الصحابة: "يا رسول الله, ما قال لك، وما قلت له؟ قال" -صلى الله عليه وسلم: "قال الرجل: أيماطل الرجل أهه؟ قلت له: نعم، إذا كان مفلسًا"، قال أبو بكر" الصديق: يا رسول الله، لقد طفت"، سعيت "في العرب، وسمعت فصحاءهم، فما سمعت أفصح منك"، فمن أدبك؟ هذا أسقطه من الرواية، "قال: "أدبني ربي، ونشأت في بني سعد"، فجمع له قوة الحاضرة والبادية، بخلاف غالبهم، فإنما نشأ في مكة فقط, أو البادية فقط. "رواه" ثابت بن حزم بن عبد الرحمن بن مطرف، العوفي، "السرقطي" بفتح المهملة، والراء، وضم القاف، وسكون المهملة- نسبة إلى سرقسطة, مدينة بالأندلس، العلامة الحافظ، أبو القاسم، سمع ابن وضاح والنسائي، وكان عالمًا متقنًا، بصيرًا بالحديث والنحو واللغة والغريب والشعر, ولي قضاء سرقسطة، وبها مات في رمضان سنة ثلاث عشرة، وقيل: أربع عشرة وثلاثمائة، وهو ابن خمس وتسعين سنة. "في الدلائل" في شرح ما أغفل أبو عبيد، وابن قتيبة من غريب الحديث، وناهيك به إتقانًا.
قال أبو علي القالي: ما أعلم به، وضع بالأندلس، مثل كتاب الدلائل.(5/298)
بسند واهٍ. وكذا أخرجه ابن عساكر.
قال في القاموس: ودالكه أي: ماطله. انتهى.
وقوله: "ملفجًا" بضم الميم وفتح الفاء- اسم فاعل من "ألفج الرجل" فهو ملفج، إذا كان فقيرًا، وهو غير مقيس, ومثله: أحصن فهو محصن، وأسهب فهو مسهب، في ألفاظ شدت، والقياس الكسر، قاله ابن مرزوق, لكن ابن الأثير: لم يجئ إلا في ثلاثة أحرف: أسهب وأحصن وألفج.
وقال غيره: معناه: أيداعب الرجل امرأته، يعني قبل الجماع؟ وسمَّاه مطلًا لكون غرضها الأعظم الجماع. قال: إذا كان عاجزًا؛ ليكون ذلك محركًا لشهوته، ولعجزه سمي مفلسًا.
__________
قال ابن الفرضي: ولو قال ما وضع بالمشرق مثله ما أبعد "بسند واهٍ"، أي: شديد الضعف، من وهي الحائط إذا مال للسقوط، "وكذا أخرجه ابن عساكر، قال في القاموس: ودالكه، أي: ماطله، انتهى، وقوله: ملفجًا -بضم الميم، وإسكان اللام، وفتح الفاء، وبالجيم- "اسم فاعل من ألفج الرجل، فهو ملفج إذا كان فقيرًا، وهو غير مقيس، ومثله" في الخروج عن القياس "أحصن، فهو محصن" -بفتح الصاد- على غير قياس، حكاه ابن القطاع، "وأسهب" -بسين مهملة- الفرس، اتَّسع في الجري وسبق, وأسهب الرجل إذا أكثر الكلام، "فهو مسهب" -بفتح الهاء, ولا يقال بكسرها، وهو نادر، قاله الجوهري "في"، أي: مع "الألفاظ شذت، والقياس الكسر، قاله ابن مرزوق"، شارح البردة، "لكن قال ابن الأثير: لم يجئ إلا في ثلاثة أحرف: أسهب، وأحصن، وألفج"، فقوله في ألفاظ مستدرك، إلّا أن يقال من حفظ حجة، ولفظ الجوهري لا حصر فيه، قال: ألفج الرجل، أي: أفلس، وقال رؤبة:
أحسابكم في العسر والإلفاج ... شيت بعذب طيب المزاج
فهو مفلج -بفتح الفاء، مثل: أحصن، فهو محصن، وأسهب، فو مسهب، فهذه الثلاثة جاءت بالفتح نوادر، وقال:
جارية شبت شبابًا عسلجًا ... في حجر من لم يك عنها ملفجًا
"وقال غيره: معناه"، أي: أيدالك، "أيداعب الرجل امرأته، يعني: قبل الجماع، وسمَّاه مطلًا، لكون غرضها الأعظم الجماع؟ قال -صلى الله عليه وسلم: "إذا كان ملفجًا"، أي: "إذا كان عاجزًا، ليكون ذلك محركًا لشهوته ولعجزه، سُمِّيَ مفلسًا تشبيهًا بمن لا يملك ما لا يجامع العجز.
"وقال ابن الأثير": معناه "يماطلها بمهرها إذا كان فقيرًا" لعجزه عن دفعه، فحمله على(5/299)
وقال ابن الأثير: يماطلها بمهرها إذا كان فقيرًا.
وأمَّا ما يروى: أنا أفصح مَنْ نطق بالضاد. فقال ابن كثير: لا أصل له. انتهى, لكن معناه صحيح والله أعلم.
وقد حَدُّوا الفصاحة بخلوص الكلام من التنافر والغرابة ومخالفة القياس.
والمراد بالتنافر: تقارب مخارج الحروف كقوله:
غدائره مستشزرات إلى العلا
فإن السين والشين والتاء والزاي كلها متقاربة المخارج.
__________
الحقيقة، "وأمَّا ما يروى: أنا أفصح من نطق بالضاد"، أي: المعجمة، "فقال ابن كثير: لا أصل له، انتهى، لكن معناه" وهو: أنا أفصح العرب؛ لأنهم هم الذين ينطقون بالضاد، وليست في لغة غيرهم "صحيح"؛ إذ لا شك في أنه أفصح العرب، وإن لم يعلم لهذا اللفظ سند، كما قاله ابن كثير أيضًا، وتقدم "والله أعلم"، بما في نفس الأمر، وقد زاد بعضهم: بيد أني من قريش، أي: من أجل أني منهم، "وقد حدوا"، أي: علماء البيان، "الفصاحة" التي هي في الأصل تنبئ عن الظهور والإبانة، "بخلوص الكلام من التنافر"، وهي صفة توجب ثقله على اللسان، وعسر النطق به "والغرابة، ومخالفة القياس" اللغوي، أي: المستنبط من استقراء اللغة، "والمراد بالتنافر تقارب مخارج الحروف، كقوله"، أي: امرئ القيس:
وفرع يزين المتن أسود فاحم ... أثيت كقنو النخلة المتعثكل
غدائره مستشزرات إلى العلا ... تضل العقاص في مثنى ومرسل
غدائره، أي: ذوائبه، جمع غديرة، وضميره للفرع في البيت قبله، ومستشزرات مرتفعات, إن قرئ بكسر الزاي، أو مرفوعات إن قرئ بفتحها، وتضل تغيب العقاص، جمع عقيصة، وهي الخصلة المجموعة من الشعر، والمثنى المفتول، يعني أن ذوائبه مفتولة على الرأس بخيوط، وإن شعره ينقسم إلى عقاص، ومثنى، ومرسل، والأول يغيب في الأخيرين، والغرض بيان كثرة شعره، "فإن السين، والشين، والتاء، والزاي، كلها متقاربة المخارج"، وذلك سبب للثقل المخل بالفصاحة، وقد رد هذا السعد، وارتضى أن الضابط هنا أن كل ما يعده الذوق الصحيح ثقيلًا متعسرًا لنطق فهو متنافر، سواء كان من قرب المخارج، أو بعدها، أو غير ذلك، على ما صرَّح به ابن الأثير في المثل السائر، "والغرابة كون الكلمة"، وخشية غير ظاهرة المعنى، ولا مأنوسة(5/300)
والغرابة: كون الكلمة لا تدل على المراد من أوّل وهلة لاحتمال معنى آخر.
ومخالفة القياس: استعمال الكلمة على غير قياس، كإبقاء وجود المثلين من كلمة واحدة من غير إدغام. كقوله:
الحمد لله العلي الأجلل
والفصاحة: يوصف بها الكلام والكلمة والمتكلم.
والبلاغة: أن يطابق الكلام مقتضى الحال مع فصاحته، والجزالة خلاف الركاكة.
ففصاحته -صلى الله عليه وسلم- إلى الحد الخارق للعادة، البالغ نهاية المزية.
__________
الاستعمال، "لا تدل على المراد من أول وهلة؛ لاحتمال معنى آخر"، كقوله:
وفاحمًا ومرسنًا مسرجًا
فمسرج، يحتمل أنه كالسيف السر، يجيء في الدقة والاستواء، وسريج اسم حداد تنسب إليه السيوف، ويحتمل كالسراج في البريق واللمعان، والفاحم بالفاء شعر أسود كالفحم، والمرسن الأنف، "ومخالفة القياس استعمال الكلمة على غير قياس"، مستنبط من تتبع لغة العرب، أعني: مفردات ألفاظهم الموضوعة، أو ما هو في حكمها؛ كوجوب الإعلال في قام، والإدغام وغير ذلك، فمخالفه ليس بفصيح، "كإبقاء وجود المثلين من كلمة واحدة من غير إدغام، كقوله: الحمد لله العلي الأجلل" بفك الإدغام، والقياس الأجلّ بالإدغام، وأمَّا نحو أبي، يأبى، وعور، واستحوذ، وقطط شعره، وآل، وما أشبه ذلك من الشواذ الثابتة في اللغة، فليست من المخالفة في شيء؛ لأنها كذلك ثبتت عن الواضع، فهي في حكم المسثناة، كما قاله السعد: "والفصاحة يوصف بها الكلام"، فيقال: كلام فصيح، وقصيدة فصيحة، "والكلمة" من كلمة فصيحة، "والمتكلم"، فيقال: كاتب فصيح، وشاعر فصيح، "والبلاغة"، ويوصف الكلام والمتكلم لا الكلمة؛ إذ لم يسمع كلمة بليغة، وهي لغة تنبئ عن الوصول والانتهاء، واصطلاحًا "أن يطابق الكلام مقتضى الحال مع فصاحته"، أي: الكلام, والحال هو الأمر الداعي إلى أن يعتبر مع الكلام، الذي يؤدي به أصل المراد خصوصية ما، وهو مقتضى الحال, مثلًا كون المخاطب منكرًا للحكم، حال يقتضي تأكيد الحكم، والتأكيد مقتضى الحال، فقولك: إن زيدًا في الدار، مؤكدًا بأن مطابق لمقتضى الحال.
"والجزالة" -بجيم وزاي، "خلاف الركاكة"، وبسط ذلك معلوم في فننه، وإنما سقط بعضه ضرورة ذكر المصنف له، "ففصاحته -صلى الله عليه وسلم- إلى الحد الخارق للعادة، البالغ نهاية المزية"، فعيلة، وهي التمام والفضيلة، ولفلان مزية، أي: فضيلة يمتاز بها عن غيره، قالوا: ولا يبنى منه فعل، وهو(5/301)
والزيادة التي تصدع القلوب قبل الأذهان، وتقرع الجوانح قبل الآذان، مما يروق ويفوق، ويثبت له على سائر البشر الحقوق التي لا تقابل بالعقوق، فهو صاحب جوامع الكلم وبدائع الحكم، وقوارع الزجر وقواطع الأمر، والأمثال السائرة، والغرر السائلة، والدرر المنثورة، والدراري المأثورة, والقضايا المحكمة، والوصايا المبرمة، والمواعظ التي هي على القلوب محكمة، والحجج التي هي للد الخصماء.
__________
ذو مزية في الحسب والشرف، أي: ذو فضيلة، والجمع مزايا, مثل: عطية وعطايا، ذكره في المصباح، "والزيادة" مصدر زاد "التي تصدع" تشق "القلوب قبل الأذهان" جمع ذهن، وهو الذكاء والفطنة، "وتقرع" -بفتح الراء- من باب نفع، تطرق "الجوانح": الأضلاع التي تحت الترائب، وهي مما يلي الصدر، كالضلوع مما يلي الظهر, الواحدة جانحة.
قاله الجوهري: "قبل الآذان" جمع أُذُن "مما يروق" يصفو من راق الماء صفًّا، "ويفوق" يفضل ويرجح ويغلب على غيره "ويثبت له على سائر"، أي: جميع "البشر الحقوق" جمع حق، والتقييد بالبشر؛ لأنهم المنازعون، فلا ينافي أن حقوقه ثابتة أيضًا، على الجن والملائكة "التي لا تقابل بالعقوق": العصيان، "فهو صاحب جوامع الكلم"، أي: إيجاز اللفظ مع سعة المعنى, بنظم لطيف لا يعثر الفكر في طلبه، ولا يلتوي الذهن في فهمه، فما من لفظة يسبق فهمها إلى الذهن إلّا معناها إليه أسبق، وقيل: المراد القرآن، وقيل: الأمور الكثيرة التي كانت في الأمم المتقدمة، جمعت له في الأمر الواحد أو الأمرين، "وبدائع الحكم" جمع حكمة، وهي تحقيق العلم، وإتقان العمل من إضافة الصفة للموصوف، أي: الحكم البديعة من أبدع، إذا أتى بشيء بديع غير مسبوق بمثله، "وقوارع الزجر"، المنع من المعاصي، "وقواطع الأمر والأمثال"، جمع مثل -بفتحتين- بمعنى الوصف، ضرب الله مثلًا، أي: وصفًا "السائرة والغرر" جمع غرر -بالضم- "السائلة والدرر" جمع درة -بالضم- اللؤلؤة العظيمة الكبيرة، كغرفة وغرف، ويجمع أيضًا على در بحذف الهاء "المنثورة والدراري": الكواكب المضيئة, جمع دريّ -بكسر الدال وضمها- من الدر، بمعنى الدفع لدفعه الظلام "المأثورة"، أي: المنقولة المروية من الأثر، وهو ما يدل على الشيء من آثاره وعلاماته "والقضايا"، أي: الأحكام جمع قضية، مصدر قضى يقضي قضاء وقضية، وهي الاسم أيضًا، أي: حكم، كما في القاموس.
"المحكمة" المتقنة، "والوصايا المبرمة" المحكمة, من أبرم الأمر, كبرمه أحكمه، كما في القاموس، "والمواعظ التي هي على القلوب محكمة، والحجج التي هي لدّ" -بضم اللام- جمع ألد، مثل أحمر، وحمر "الخصماء" من إضافة الصفة للموصوف، أي: الخصماء، اللد، أي: الذين اشتدت خصومتهم، "مفخمة"، مسكنة، "ملجمة"، فجعل حجتهم دابة تلجم باللجام وتقاد،(5/302)
مفحمة ملجمة.
وقليل هذا الوصف في حقه -صلى الله عليه وسلم- وزاده فضلًا وشرفًا لديه، وقد روى الحاكم في مستدركه وصحَّحه من حديث ابن عباس: إن أهل الجنة يتكلمون بلغة محمد -صلى الله عليه وسلم. وبالجملة فلا يحتاج العلم بفصاحته إلى شاهد، ولا ينكرها موافق ولا معاند، وقد جمع الناس من كلامه الفرد الموجز البديع الذي لم يسبق إليه دواوين، وفي كتاب الشفاء للقاضي عياض من ذلك ما يشفي العليل.
__________
"وقليل هذا الوصف في حقه -صلى الله عليه وسلم، وزاده فضلًا وشرفًا لديه، وقد روى الحاكم في مستدركه" على الصحيحين، "وصحَّحه من حديث ابن عباس: إن أهل الجنة يتكلمون بلغة محمد -صلى الله عليه وسلم"، وهذا حكمه الرفع؛ إذ هو لا يقال رأيًا، وفيه من تشريف المصطفى ما لا يخفى، "وبالجملة: فلا يحتاج العلم بفصاحته إلى شاهد" لقوة ظهورها، "ولا ينكرها مواقف، ولا معاند"، يشبه عطف العلة على المعلول، "وقد جمع الناس" العلماء الكبار؛ كابن السني، والقضاعي، وابن الصلاح في آخرين "من كلامه الفرد"، الذي لا نظير له، وفي نسخة المفرد، أي: المتميز عن غيره لا مقابل المركب، والمثنى والنسخة الأولى أحسن. "الموجز" -بفتح الجيم- أي: القليل الألفاظ الكثير المعاني، وبكسر الجيم من أوجز، فإسناده للكلام مجاز، كعيشة راضية، أي: موجز صاحبه؛ إذ الكلام لا يوصف بأنه موجز، اسم فاعل، أو حقيقي من أوجز اللازم، ففي القاموس: أوجز الكلام قلَّ، وأوجز كلامه اختصره, "البديع" الذي لا مثال له، فقوله "الذي لم يسبق إليه" صفة كاشفة، أي: إلى جملته, فلا ينافي أن منه ما سبق إليه، أو لم يسبق إلى شيء منه بالترتيب الخاص الذي اشتمل عليه، ولذا قال في الشفاء: وأما كلامه المعتاد، وصاحته المعلومة، وجوامع كلمه، وحكمه المأثورة، فقد ألف الناس فيها "دواوين"، أي: كتبًا مستقلّة، جمع ديوان -بكسر الدال والفتح لغة، وقال أبو عمر: إنه خطأ؛ لأنه كان يجمع على دياوين ولم يسمع، قاله الجواليقي.
قال عياض: وجمعت في ألفاظها ومعانيها الكتب، ومنها ما لا يواري فصاحة، ولا يباري بلاغة، وذكر عدة أحاديث، ثم قال: وقد جمعت من كلماته التي لم يسبق إليها، ولا قدر أحد أن يفرغ في قالب عليها، كقوله: حمي الوطيس، ومات حتف أنفه، ولا يلدغ المؤمن من جحر مرتين، والسعيد من وعظ بغيره، في إخواتها ما يدرك الناظر العجب في مضمنها، وتذهب به الفكر في أدنى حكمها.
"وفي كتاب الشفاء للقاضي عياض من ذلك ما يشفي العليل" -بعين مهملة- المريض، "كقوله -صلى الله عليه وسلم", فيما رواه الشيخان وغيرهما عن أنس، وأبي موسى، وابن مسعود، قيل:(5/303)
كقوله -صلى الله عليه وسلم: "المرء مع من أحب".
وقوله: "أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين".
__________
يا رسول الله, الرجل يحب القوم ولما يلحق بهم، "قال: "المرء مع من أحب" في الجنة، بحسن نيته من غير زيادة عمل"؛ لأنّ محبته لهم لطاعتهم، والمحبة من أفعال القلوب، فأنيب على ما اعتقده؛ لأن الأصل النية، والعمل تابع لها، ولا يلزم من المعية استواء الدرجات، بل ترفع الحجب حتى تحصل الرؤية والمشاهدة، وكلٌّ في درجته، قاله المصنف.
وقال السخاوي: قال بعض العلماء: ومعنى الحديث: إنه إذا أحبَّهم عمل بمثل أعمالهم، قال الحسن البصري: من أحبَّ قومًا اتبع آثارهم، واعلم أنك لن تلحق بالأخيار حتى تتبع آثارهم، فتأخذ بهديهم، وتقتدي بسنتهم، وتصبح وتمسي على مناهجهم، حرصًا أن تكون منهم، أسنده العسكري، ولذا قيل:
تعصى الإله وأنت تظهر حبه ... هذا لعمري في القياس بديع
لو كان حبك صادقًا لأطعته ... إن المحب لمن يحب مطيع
وسأل رجل أبا عثمان الواعظ: متى يكون الرجل صادقًا في حب مولاه؟ قال: إذا خلا من خلافه كان صادقًا في حبه، فوضع الرجل التراب على رأسه، وصاح: كيف أدَّعي حبه ولم أخل طرفة عين من خلافه، فبكى أبو عثمان وأهل المجلس، وصار أبو عثمان يقول في بكائه: صادق في حبه، مقصر في حقه، أورده البيهقي قائلًا: يشهد لقوله صادق إلخ، هذا الحديث انتهى وهذا الحديث متواتر.
قال في الفتح: جمع أبو نعيم الحافظ طرقه في كتاب المحبين مع المحبوبين، وبلغ عدد الصحابة فيه نحو العشرين، وفي رواية أكثرهم: "المرء مع من أحب"، وفي بعضها بلفظ حديث أنس: "أنت مع من أحببت" انتهى.
قال ابن العربي: يريد في الدنيا والآخرة، في الدنيا بالطاعة والأدب الشرعي، وفي الآخرة بالمعاينة والقرب الشهودي، فمن لم يتحقق بهذا, وادعى المحبة، فدعواه كاذبة.
ولفظ حديث أنس: إنَّ رجلًا سأل النبي -صلى الله عليه وسلم: متى الساعة يا رسول الله؟ قال: "ما أعددت لها"، قال: ما أعددت لها من كثير صلاة، ولا صوم، ولا صدقة، ولكني أحب الله ورسوله، قال: "أنت مع من أحببت"، فقلنا: ونحن كذلك؟ قال: "نعم"، ففرحنا يومئذ فرحًا شديدًا. "وقوله" -صلى الله عليه وسلم- في كتابه لهرقل والمقوقس: "أسلم" -بكسر اللام, "تسلم" -بفتحها, "يؤتك الله أجرك مرتين"، لإيمانه بنبيه، ثم بالمصطفى.(5/304)
وقوله: السعيد من وعظ بغيره.
ومما لم يذكره القاضي عياض -رحمه الله:
قوله -عليه الصلاة والسلام: "إنما الأعمال بالنيات
__________
قال تعالى: {أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ} [القصص: 54] ، أو لأنَّ إسلامه سبب لإسلام أتباعه، ويؤتك بالجزم جواب ثانٍ للأمر، أو بدل اشتمال منه، أو عطف عليه بحذف العاطف، فلا يردان جواب الأمر حصل بتسلم، أو هو جواب لأمر محذوف، هو وأسلم يؤتك، كما هو رواية البخاري في الجهاد بتكرير الأمر تأكيدًا، أو الأوّل: الدخول في الإسلام، والثاني: مداوم عليه، وتقدَّم بسط هذا في المكاتبات، "وقوله" -صلى الله عليه وسلم: "السعيد" المبارك المرضي عند الله"، وعند الناس "من وعظ بغيره"، أي: تأمّل عواقب الأمور، فلم يفعل ما يضره، لما رأى ما أصاب غيره من فعلها، ومفهومه، والشقي من وعظ به غيره، وهذا الحديث رواه الديلمي عن عقبة بن عامر، والعسكري عن زيد بن خالد بهذا اللفظ مختصرًا، وصحَّحه الحافظ، وشيخه العراقي، خلافًا لقول ابن الجوزي في أمثاله لا يثبت، وأخرجه العسكري، والقضاعي، والبيهقي في المدخل عن ابن مسعود، رفعه بزيادة: "والشقي من شقي في بطن أمه"، ورواه مسلم موقوفًا بالزيادة، وللبزار بسند صحيح عن أبي هريرة، رفعه: "السعيد من سعد في بطن أمه، والشقي من شقي في بطن أمه"، "ومما لم يذكره القاضي عياض -رحمه الله"، كذا في نسخ، وفي بعضها اقتصر على قوله: ومما لم يذكره، اكتفاءً بعود الضمير له، "قوله -عليه الصلاة والسلام: "إنما الأعمال" البدنية: أقوالها وأفعالها، فرضها ونفلها, قليلها وكثيرها، الصادرة من المكلفين المؤمنين، صحيحة أو مجزئة، أو كاملة"، "بالنيات" من مقابلة الجمع بالجمع، أي: كل عمل بنيته.
وقال الحربي: كأنه أشار إلى تنويع النية كالأعمال، كمن قصد بعمله وجه الله، أو تحصيل وعده، أو اتقاء وعيده، وفي معظم الروايات: بالنية بالإفراد؛ لأن محلها القلب، وهو متحد، فناسب إفرادها بخلاف الأعمال، فإنها متعلقة بالظواهر، وهي متعددة، فناسب جمعها، أو لأنَّ النية ترجع إلى الإخلاص، وهو واحد للواحد الذي لا شريك له.
وفي صحيح ابن حبان: الأعمال بالنيات، بحذف إنما وجمعهما، وللبخاري في الإيمان، والعتق، والهجرة: الأعمال بالنية، بجمع الأعمال، وإفراد النية، وله في النكاح: العمل بالنية -بإفرادهما، والنية -بكسر النون وشد التحتية- على المشهور، وفي لغة تخفيفها، وهذا التركيب يفيد الحصر عند المحققين؛ لأن أل في الأعمال للاستغراق، وهو مستلزم للحصر؛ لأن معناه(5/305)
.................................................................................................
__________
كل عمل بنية، فلا عمل إلا بنية، أو لأن إنما للحصر، وهل إفادتها له بالمنطوق، أو بالمفهوم، أو تفيد الحصر بالوضع، أو بالعرف، أو تفيده بالحقيقة، أو بالمجاز، ومقتضى كلام الإمام وأتباعه أنها تفيده بالمنطوق وضعًا حقيقيًّا، بل نقله شيخ الإسلام البليقيني، عن جميع أهل الأصول من المذاهب الأربعة، إلا اليسير كالآمدي، وعلى العكس من ذلك أهل العربية، واستدلَّ على إفادة إنما للحصر بأنَّ ابن عباس، استدلَّ على أن الربا لا يكون إلا في النسيئة بحديث: "إنما في الربا النسيئة"، وعارضه جماعة من الصحابة في الحكم، ولم يخالفوه في فهمه، فكان كالاتفاق منهم على إفادتها الحصر، وتعقّب باحتمال أنهم تركوا المعارضة تنزلًا، وأوضح من ذلك الحديث: "إنما الماء من الماء"، فإن الصحابة الذين ذهبوا إليه، لم يعارضهم الجمهور في فهم الحصر منه، وإنما عارضوهم في الحكم من أدلة أخرى، كحديث: "إذا التقى الختانان".
وقال ابن عطية: إنما لفظ لا تفارقه المبالغة والتأكيد؛ حيث وقع، ويصلح مع ذلك للحصر، إن دخل في قضية ساعدت عليه، فجعل ورودها للحصر مجازًا يحتاج إلى قرينة، وعكسه غيره، فقال: أصل ورودها للحصر، لكن قد يكون في شيء مخصوص؛ كقوله تعالى: {إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [النساء: 171] فكأنه سيق باعتباره منكري الوحدانية، وإلّا فلله سبحانه صفات أخرى، كالعلم والقدرة، وكقوله: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ} [الرعد: 7] [النازعات: 45] ، فإنه سبق باعتبار منكري الرسالة، وإلّا فله -صلى الله عليه وسلم- صفات أخرى كالبشارة، والأعمال تقتضي عاملين، فالتقدير الصادرة من المكلفين.
قال الحافظ: فالظاهر إخراج أعمال الكفار؛ لأنَّ المراد أعمال العبادة، وهي لا تصح من الكافر، وإن كان مخاطبًا بها، معاقبًا على تركها، ولا يرد العتق والصدق؛ لأنها بدليل آخر. انتهى، وعَبَّر بالأعمال دون الأفعال؛ لأن الفعل قد يكون زمانه يسيرًا، ولا يتكرر.
قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} [الفيل: 1] ، وتبين لكم كيف فعلنا بهم؛ حيث كان إهلاكهم في زمان يسير، ولم يتكرر بخلاف العمل، فإنه الذي يوجد من الفاعل في زمان مديد، بالاستمرار والتكرار الذين آمنوا وعملوا الصالحات، طلب منهم العمل الدائم المتجدد لأنفس الفعل، قال تعالى: {فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ} ، ولم يقل: الفاعلون, والنيات جمع نية.
قال البيضاوي: وهي انبعاث القلب نحو ما يراه موافقًا لغرض من جلب نفع، أو دفع ضر، حالًا أو مالًا، والشرح خصَّه بالإرادة المتوجِّهة نحو الفعل، لابتغاء رضا الله وامتثال حكمه، وهي محمولة على المعنى اللغوي، ليحسن تطبيقه على ما بعده، وتقسيمه أحوال المهاجر، فإنه تفصيل(5/306)
رواه الشيخان وغيرهما.
وقوله: ليس للعامل من عمله إلا ما نواه.
وتحت هاتين الكلمتين كنوز من العلم.
__________
لما أجمل، والحديث متروك الظاهر؛ لأن الذوات غير منفية؛ إذ التقدير لا عمل إلا بنية، فليس المراد نفي ذات العمل؛ لأنه قد يوجد بلا نية، بل المراد نفي أحكامها، كالصحة والكمال، لكن الحمل على نفي الصحة أَوْلى؛ لأنه أشبه بنفي الشيء نفسه؛ ولأن اللفظ دلَّ على نفي الذات بالتصريح، وعلى نفي الصفات بالتبع، فلمَّا منع الدليل نفيَ الذات، بقيت دلالته على نفي الصفات مستمرة. انتهى، والباء سببية بمعنى: إنها مقوية للعمل, فكأنها سبب في إيجاده، أو للمصاحبة، فهي من نفس العمل، فيشترط أن لا تتخلف عن أوله، ولابُدَّ من محذوف يتعلق به الجار والمجرور، فلذا احتيج للتقدير.
وقال ابن القيم: هذا كلام مستقلّ بنفسه، لا يحتاج لإضمار صحة، ولا إجزاء، ولا قبول، إنما دلَّ على أن وقوع الأعمال بالنيات، وأن النية هي الباعثة على العمل، المثيرة له، وهي أصله وهو فرعها، ولما تكلف الناس بعض هذه التقديرات المستغنى عنها، وقعوا في الإشكال والاضِّطراب، فبعضهم قدر متعلق الظرف الصحة، وبعضهم الكمال، وعليه فالأوَّل هو اللائق؛ لأن الصحة أكثر لزومًا للحقيقة، فلا يصح عمل كتيمم, خلافًا للأوزاعي، وكوضوء عند الأئمة الثلاثة، إلّا بنية, خلافًا للحنفية، ولا نسلم أن الماء يطهر بطبعه، والخلاف في الوسائل.
أما المقاصد، فلا خلاف في اشتراط النية، وإنما لم تشترط في إزالة الخبث؛ لأنها من قبيل التروك، وشرعت تمييزًا للعبادة عن العادة، أو لتمييز مراتب العبادة بعضها عن بعض، "رواه الشيخان" البخاري في سبعة مواضع، ومسلم "وغيرهما" كالإمام أحمد، وأصحاب السنن، كلهم من حديث عمر، ولم يخرجه في الموطأ، رواية الأكثرين، وخرجه في رواية محمد بن الحسن عنه.
قال السيوطي: وبه يتبيّن صحة قول من عزا روايته للموطأ، وهم من خطأه في ذلك. انتهى، وفيه تعريض، يقول الحافظ: هذا الحديث متفق على صحته، أخرجه الأئمة المشهورون، إلا الموطأ، وهم من زعم أنه في الموطأ مغترًا بتخريج الشيخين له، والنسائي من طريق مالك. انتهى، وهذا من كثر، "وقوله: ليس للعامل من عمله إلّا ما نواه، وتحت هاتين الكلمتين كنوز" أبواب كثيرة "من العلم"، عبَّر عنها بالكنوز للمشابهة.
قال ابن مهدي: يدخل في ثلاثين بابًا من العلم، وقال الشافعي: يدخل في سبعين، ويحتمل أن مراده المبالغة، "ولهذا قال" الإمام "الشافعي -رحمه الله تعالى" في إحدى الروايتين،(5/307)
ولهذا قال الشافعي -رحمه الله تعالى: حديث الأعمال بالنيات يدخل فيه نصف العلم، وذلك أن للدين ظاهرًا وباطنًا، والنية متعلقة بالباطن، والعمل هو الظاهر، وأيضًا فالنية عبودية القلب، والعمل عبودية الجوارح.
وقال بعض الأئمة: حديث الأعمال بالنيات ثلث الدين، ووجهه أن الدين: قوله وعمل ونية.
__________
عنه "حديث: الأعمال بالنيات يدخل فيه نصف العلم، و" وجه "ذلك أن للدين ظاهرًا وباطنًا، والنية متعلقة بالباطن"، فهي نصف، "والعمل هو الظاهر"، فهو النصف الآخر، "وأيضًا" توجيه ثانٍ، "فالنية عبودية القلب"، أي: عبادته، وهي انقياده وخضوعه، "والعمل عبودية الجوارح".
قال الراغب: العبودية إظهار التذلل، والعبادة أبلغ منها؛ لأنها غاية التذلل، ولا يستحقها إلّا الله، والذي في الرسالة القشيرية، وشرحها أن العبودية، وهي تذلل وتبرٍّ من الحول والقوة في العبادة أتمّ من العبادة، وأعلى منها العبودية، فالعبادة لعوام المؤمنين؛ لأن غايتهم علم ما أمروا به، ونهوا عنه، والقيام بمقتضاهما، والعبودية للخواصّ لزيادة التذلل والتبري من الحول والقوة، والعبودية لخواص الخواص، لكمال معرفته بربه؛ حيث أتى بما طلب منه، ورأى نفسه محلًّا لجريان قضاء لله فيه، ولتوفيقه له في فعل ما طلب منه أقرب إلى مقام الجمع، وهو إفراد الحق بالفعل من الثاني؛ لأنه يشاهد كسبًا واختيارًا، وإن كان مفتقرًا لعون ربه فيما يختاره، والأوّل أقرب إلى مقام التفرقة؛ لأنه يرى نفسه عابدًا، محسنًا، مطيعًا، ويطلب الجزاء على عمله، وحاصله: إن العابد واقف مع الأعمال، والثاني: مستغرق في الجلال والجمال، والثالث: وهو ذو العبودة، متبر مما فيه نظر العون المتعال، والتفرقة اصطلاح للقوم للفرق بين المقامات، وإن كان الأصل العبادة.
"وقال بعض الأئمة" كأحمد، وابن مهدي، وابن المديني، وأبي داود، والدارقطني، وحمزة الكناني، والشافعي، في نقل البويطي عنه: "حديث الأعمال بالنيات ثلث الدين"، ومنهم من قال: ربعه، واختلفوا في تعيين الباقي، "ووجهه أن الدين قول، وعمل، ونية".
وفي الفتح: وجه البيهقي، كونه ثلث العلم؛ بأن كسب العبد يقع بقلبه ولسانه وجوارحه، فالنية أحد الثلاثة وأرجحها؛ لأنها قد تكون عبادة مستقلة، وغيرها يحتاج إليها، ومن ثَمَّ ورد: "نية المؤمن خير من عمله"، وكلام أحمد يدل على أنه أراد بكونه ثلث العلم؛ أنه أحد القواعد الثلاث التي يردَّ إليها جميع الأحكام عنده، وهي هذا، و "من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد"، و "الحلال بَيِّنٌ والحرام بَيِّنٌ"، وقوله: "نية المؤمن خير من عمله"، رواه الطبراني" في الكبير، عن(5/308)
وقوله: "نية المرء خير من عمله" رواه الطبراني, لكن قال بعضهم: لا يصح رفعه, قال: ورواه القضاعي عن إسماعيل بن عبد الله الصفار، أخبرنا علي بن عبد الله بن الفضل, حدثنا محمد بن الحنفية الواسطي، أخبرنا محمد بن عبد الله الحلبي، حدثنا يوسف بن عطية, عن ثابت عن أنس: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يقول: "نية المؤمن أبلغ من عمله". قال: وهذا الإسناد لا ضوء عليه، ويوسف بن عطية أحد رجاله متروك الحديث.
ورواه عثمان بن عبد الله الشامي من حديث النواس بن سمعان وقال: "نية المؤمن خير من عمله"،
__________
سهيل بن سعد مرفوعًا بزيادة: "وعمل المنافق خير من نيته، وكلٌّ يعمل على نيته، فإذا عمل المؤمن عملًا صالحًا نار في قلبه نور"، "لكن قال بعضهم: لا يصح رفعه"، إنما هو موقوف عن سهل، وأطلق الحافظ العراقي أنه ضعيف، لكن قال رفيقه الحافظ نور الدين الهيتمي: رجاله موثوقون إلّا حاتم بن عباد، لم أر من ذكر له ترجمة.
"قال: ورواه القضاعي" أبو عبد الله محمد بن سلامة المصري، "عن إسماعيل بن عبد الله الصفار"، نسبة إلى بيع النحاس، "أخبرنا علي بن عبد الله بن الفضل، حدثنا محمد بن الحنفية الواسطي، أخبرنا محمد بن عبد الله الحلبي، حدّثنا يوسف بن عطية" بن ثابت الصفار البصري، أبو سهل، متروك, من الطبقة الوسطى, من أتباع التابعين.
"عن ثابت" بن أسلم البناني -بضم الموحدة، ونونين- أبي محمد البصري، عابد ثقة، من رجال الجميع، "عن أنس؛ أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم، كان يقول: "نية المؤمن أبلغ"، هو مساو لقوله: خير "من عمله"، قال: وهذا الإسناد لا ضوء عليه"، كناية عن ضعفه، "ويوسف بن عطية أحد رجاله متروك الديث، ورواه عثمان بن عبد الله، الشامي من حديث النواس" -بفتح النون، وشد الواو، ثم مهملة- "ابن سمعان"، الكلابي، أو الأنصاري، صحابي مشهور، سكن الشام.
روى له مسلم، وأصحاب السنن، والبخاري في التاريخ، كذا في التقريب، ونسبه في الإصابة كلابيًّا، وقال: له ولأبيه صحبة، ولم أجد في التقريب أن سمعان -بفتح السين، ويجوز كسرها، "وقال" في سياق لفظه: "نية المؤمن خير من عمله، ونية الفاجر شر من عمله".
"وقال ابن عدي" عثمان بن عبد الله الشامي، له أحاديث موضوعات، هذا من جملتها، وقال: من الجوزي، لا يصح رفعه"، وتعقب ادعاء الوضع؛ بأن مفرداته ضعيفة فقط، لكن بانضمامها يقوى، كما أشار إليه السخاوي، فقال ما حاصله، أخرجه الطبراني، عن سهل،(5/309)
ونية الفاجر شر من عمله" , وقال ابن عدي: عثمان بن عبد الله الشامي له أحاديث موضوعات، هذا من جملتها، وقال: من الجوزي, لا يصح رفعه، ومعناه: إن النية سر، والعمل ظاهر، والعمل السر أفضل، وهو يقتضي أنه لو نوى أن يذكر الله أو يتفكر، تكون نية الذكر خيرًا منه، وليس بصحيح.
وقيل: معناه: إن النية بمجردها خير من العمل بمجرده دون النية، وهذا بعيد؛ لأن العمل إذا خلا عن النية لم يكن فيه خير أصلًا.
وقيل: النية عمل القلب، والفعل عمل الجوارح، وعمل القلب خير من عمل الجوارح، فإن القلب أمير الجوارح، وبينه وبينها علاقة، فإذا تأمّلت تألم القلب، وإذا تألم القلب تألمت, فارتعدت الفرائص وتغير اللون، فإن القلب الملك الراعي, والجوارح خدمه ورعيته، وعمل الملك أبلغ من عمل رعيته.
__________
والعسكري، عن النوَّاس، وهو البيهقي، وضعَّفه عن أنس، والديلمي، عن أبي موسى، وهي وإن كانت ضعيفة، فبمجموعها يتقوى الحديث, انتهى.
فمن حكم بحسنه، أراد أنه حسن لغيره لا لذاته، "ومعناه: إن النية سر، والعمل ظاهر، والعمل السر أفضل"، لما فيه من السلامة من الوقوع في الرياء، وسائر حظوظ النفس، ومن ثَمَّ ورد في بعض الآثار: عمل السر يفضل عمل العلانية بسبعين ضعفًا، وللديلمي مرفوعًا: السر أفضل من العلانية، والعلانية لمن أراد الاقتداء، "وهو يقتضي أنه لو نوى أن يذكر الله أو يتفكَّر، تكون نية الذكر ونية التفكر خيرًا منه"، أي: من نفس الذكر، "وليس بصحيح"، فيصرف عن هذا الظاهر، "وقيل: معناه: إن النية بمجردها خير من العمل بمجرده دون النية، وهذا بعيد؛ لأن العمل إذا خلا عن النية لم يكن فيه خير أصلًا"، فيبطل أفعل التفضيل، فلا ينبغي حمل الحديث عليه، "وقيل" في معناه: "النية عمل القلب، والفعل عمل الجوارح، وعمل القلب خير من عمل الجوارح، فإن القلب أمير الجوارح، وبينه وبينها علاقة" -بفتح العين- ارتباط واتصال، "فإذا تألمت تألَّمَ القلب، وإذا تألم القلب تألمت، فارتعدت الفرائص"، جمع فريصة -بمهملة- وهي اللحمة بين الجنب والكتف لا تزال ترعد، كما في القاموس، فالمراد هنا: زادت رعدتها، وتغيّر اللون، فإنَّ القلب الملك الراعي، والجوارج خدمه ورعيته، وعمل الملك أبلغ من عمل رعيته"، فلذا كانت النية التي القلب محلها أبلغ وخيرًا من العمل، وحاصله أنها فعل القلب، وهو أشرف، ففعل الأشرف أشرف، وزاد غيره: لأن القصد من الطاعة تنوير القلب، وتنويره بالنية أكثر،(5/310)
وقيل: لما كانت النية أصل الأعمال كلها وروحها ولبها، والأعمال تابعة لها تصح بصحتها وتفسد بفسادها، وهي التي تقلب العمل الصالح فتجعله فاسدًا، وغير الصالح تجعله صالحًا مثابًا عليه، ويثاب عليها أضعاف ما يثاب على العمل، فلذا كانت نية المؤمن خيرًا من عمله. وقال أبو بكر بن دريد في محتباه: المعنى -والله أعلم- أنَّ المؤمن ينوي الأشياء من أنواع البر نحو الصدقة والصوم وغير ذلك, فلعله يعجز عن بعض ذلك وهو معقود النية عليه، فنيته خير من عمله.
__________
لأنها صفته.
"وقيل: لما كانت النية أصل الأعمال كلها"؛ إذ لا توجد شرعًا إلا بها، "وروحها ولبها" خالصها، "والأعمال تابعة لها، تصح بصحتها، وتفسد بفسادها، وهي التي تقلب العمل الصالح" كالصلاة "فتجعله فاسدًا" بقصد الرياء، وظاهره قلبها نفس العمل، وفي التحفة: إنه لا ينقلب، إنما المنقلب ثوابه وإثمه، "وغير" العمل "الصالح، تجعله صالحًا مثابًا عليه، ويثاب عليها أضعاف ما يثاب على العمل، فلذا كانت نية المؤمن خيرًا من عمله"، جواب لما دخلته الفاء، ولذا قيل: إذا فسدت النية وقعت البلية، ومن الناس من يكون همه ونيته أجل من الدنيا وما عليها, فتبلغ النية بصاحبها في الخير والشر ما لا يبلغه عمله، فأين نية من طلب العلم لوجه الله، والنظر إليه وسماع كلامه، وتسليمه عليه في الجنة، وليصلي الله عليه وملائكته، وتستغفر له حيتان البحر، ودوابّه في الدنيا من نية من طلبه، لا كل أو وظيفة، كتدريس ونحوه من الغرض الفاني.
"وقال أبو بكر"، محمد بن الحسن "بن دريد" الأرموي، البصري, انتهى إليه علم لغة البصرة، وكان أحفظ الناس، وأوسعهم علمًا، وأقدرهم على الشعر، تصدَّر للعلم ستين سنة. ولد سنة ثلاث وعشرين ومائتين، ومات بعمان في رمضان، سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة، "في محتباه: المعنى" في الحديث: "والله أعلم- أن المؤمن ينوي الأشياء من أنواع البر نحو: الصدقة والصوم وغير ذلك، فلعله يعجز عن بعض ذلك، وهو معقود النية"، عازم، ومصمم "عليه"، أي: البعض المعجوز عنه، والجملة حالية، "فنيته خير من عمله"، لذلك العقد، وقيل: لأنَّ تخليد العبد في الجنة إنما هو بنيته لا بعمله، "فنيته خير من عمله"، لذلك العقد، وقيل: لأنَّ تخليد العبد في الجنة إنما هو بنيته لا بعمله، إذ لو كان الأقام فيها بقدره، أو إضعافه، لكن لما نوى الطاعة أبدًا، وأتته المنية جازاه الله بالنية، وكذا الكافر؛ إذ لو جوزي بعمله لم يخلد في النار إلّا بقدر مدة كفره، لكنَّه نوى الكفر أبدًا، فجوزي بها.
وقال الكرماني: المراد أنَّ النية خير من عمل بلا نية؛ إذ لو كان المراد من عمل مع نية، لزم كون الشيء خيرًا من نفسه مع غيره، أو المراد أن الجزء الذي هو النية خير من الجزء الذي(5/311)
وقوله -صلى الله عليه وسلم: "يا خيل الله اركبي".
رواه أبو الشيخ في الناسخ والمنسوخ عن سعيد بن جبير، والعسكري عن أنس، وابن عائذ في المغازي عن قتادة, ولفظه عن ابن عائذ قال: بعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يومئذ -يعني يوم الأحزاب- مناديًا ينادي: "يا خيل الله اركبي". قال العسكري وابن دريد في مجتباه: وهذا على المجاز والتوسع، أراد: يا فرسان خيل الله اركبي، فاختصره.
__________
هو العمل، لاستحالة دخول الرياء فيها، أو أن النية خير من جملة الخيرات الواقعة بعمله، وقيل: معناه إنَّ جنس النية راجح على جنس العمل، بدليل أن كلًّا من الجنسين إذا انفرد عن الآخر يثاب على الآخر دون الثاني، وهذا لا يتمشَّى في حق الكافر، ولذا قال: نية المؤمن.
وأفاد أنَّ الثواب المرتَّب على الصلاة مثلًا أكثره للنية، وباقيه لغيرها من قيام وغيره، وقيل: معناه: إن المؤمن كلما عمل خيرًا نوى أن يعمل ما هو خير منه، فليس لنيته في الخير منتهى، والفاجر كلما عمل شرًّا نوى أن يعمل ما هو شر منه، فليس لنيته في الشر منتهى، "وقوله -صلى الله عليه وسلم: "يا خيل الله اركبي"، رواه أبو الشيخ" عبد الله بن محمد بن جعفر بن حيان -بفتح المهملة وتحتانية- الأصبهاني، الحافظ، الإمام، المصنف، الخير، الصالح، القانت، الصدوق، المأمون، الثقة، المتقن، مات في محرم سنة تسع وستين وثلاثمائة "في" كتاب "الناسخ والمنسوخ، عن سعيد بن جبير" في قصة المحاربين، قال: كان ناس أتوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فقالوا: نبايعك على الإسلام، فذكر القصة وفيها: فأمر -صلى الله عليه وسلم، فنودي في الناس: "يا خيل الله اركبي"، فركبوا لا ينتظر فارس فارسًا.
"والعسكري عن أنس"، أنه -صلى الله عليه وسلم- قال لحارثة بن النعمان: "كيف أصبحت.." الحديث، وفيه أنه قال: يا نبي الله, ادع الله لي بالشهادة، فدعا له، قال: فنودي يومًا: "يا خيل الله اركبي"، فكان أوَّل فارس ركب، وأوَّل فارس استشهد.
"وابن عائذ في المغازي عن قتادة" بن دعامة, "ولفظه عند أبي عائذ" مستغنى عنه, "قال: بعث رسول الله يومئذ -يعني- يوم الأحزاب", أي: يوم انصرافه من غزوهم, ومسيره إلى بني قريظة " مناديًا ينادي: "يا خيل الله اركبي" وللعسكري مرفوعًا: "الأناة في كل شيء إلا في ثلاث: إذا صيح في خيل الله, فكونوا أول من يشخص", "قال العسكري, وابن دريد في مجتباه: وهذا على المجاز" بالحذف "والتوسع, أراد يا فرسان خيل الله اركبي, فاختصره" لعلم المخاطب بما أرده, لكن لا يناسبه قوله: اركبي؛ إذ لو أراده لقال: اركبوا, إلا أن يقال: نسب(5/312)
وقوله: "الولد للفراش وللعاهر الحجر".
رواه الشيخان وغيرهما، والله أعلم- أنَّ حظ العاهر الحجر ولا شيء له في الولد، وقيل: أراد أن حظه الغلظة والخشونة من إقامة الحد التي نهايتها رميه بالحجر, وقيل: أراد بالحجر هنا الكناية عن رجوعه بالخيبة على الولد إذا لم تكن المرأة زوجًا له، والله أعلم.
__________
ما لهم من الركوب للخيل؛ لأنها آلة القتال وبها الاستعداد، والأولى على جعله مجازًا بالنقص أن يقدّر: يا جماعة خيل الله، ويمكن جعله مجازًا في الإسناد، استعمل الخيل في نفس الفرسان لملازمتها لها، "وقوله" -صلى الله عليه وسلم: "الولد" ذكر وأنثى, مفرد ومتعدد، تابع أو محكوم به "للفراش"، أي: صاحبه زوجًا كان أو سيدًا؛ لأنهما يفترشان المرأة بالاستحقاق، ومحله ما لم ينقه بلعان في الزوجة، وليس لزانٍ نصيب في النصب، إنما حظه الحَدّ، كما قال, "وللعاهر" الزاني، يقال: عهر إلى المرأة إذا أتاها ليلًا للفجور بها، والعهر -بفتحتين- الزنا، "الحجر"، الخيبة والحرمان، "رواه الشيخان، وغيرهما" من حديث عائشة وأبي هريرة، وهو متواتر، وفيه قصة "والله أعلم، أن حظ"، أي: نصيب "العاهر"، الزاني "الحجر"، أي: من الخيبة والحرمان، كقولهم: بفيه الحجر، "ولا شيء له في الولد"، لعدم اعتبار دعواه مع وجود الفراش للآخر، فأبطل بذلك إثبات بعض العرب النسب بالزنا، "وقيل: أراد أن حظه الغلظة والخشونة من إقامة الحد، التي نهايتها رميه بالحجر"، إذا كان محصنًا.
قال الطيبي تبعًا للنووي: أخطأ من زعم أن المراد الرجم بالحجر؛ لأنه خاصّ بالمحصن؛ ولأنه لا يلزم من الرجم نفي الولد الذي الكلام فيه.
قال السبكي: المعول على الأوّل لتعم الخيبة كل زانٍ، ودليل الرجم مأخوذ من أدلة أخرى، فلا حاجة للتخصيص بلا دليل، "وقيل: أراد بالحجر هنا: الكناية عن رجوعه بالخيبة على الولد، إذا لم تكن المرأة زوجًا له"، أي: الزاني، فيخيب الولد بكونه لا أب له شرعًا، فلا يثيب نسب بوطء زنا، وأول من استلحق في الإسلام ولد الزنا معاوية، استلحق في خلافته زياد بن سمية أخًا؛ لأن أباه كان زنى بها زمن كفره، فجاءت به، وفيه يقول أبو سفيان، ولم يستلحقه، يخاطب عليًّا -رضي الله عنهما:
أما والله لولا خوف واش ... يراني يا علي من الأعادي
لأظهر أمره صخر بن حرب ... ولم تكن المقالة عن زياد
لقد علمت معاشرتي ثقيفا ... وتركني فيهم ثمر الفؤاد
قال البارزي: واستلحاقه خلاف إجماع المسلمين، "والله أعلم" بمراد رسوله، "وقوله"(5/313)
وقوله: كل الصيد في جوف الفرا.
وهو بفتح الفاء: حمار الوحش، رواه الرامهرمزي في الأمثال، وسنده جيد، ولكنه مرسل، ونحوه عند العسكري وقال: جوف أو جنب.
وهذا خاطب به النبي -صلى الله عليه وسلم- أبا سفيان بن الحارث بن عبد المطلب حين جاءه مسلمًا بعد أن كان عدوًّا له, وهجَّاء كثير الهجاء مقذعًا فيه، فكأنه يقول -صلى الله عليه وسلم- إن الحمار الوحشي من أعظم ما يصاد، وكل صيد دونه، كما أنك أعظم أهلي
__________
-صلى الله عليه وسلم: ""كل الصيد في جوف الفراء"، وهو بفتح الفاء" مقصور مهموز، كما في النهاية "حمار الوحش"، وفي القاموس: الفرأ، كجبل، وسحاب حمار الوحش أو فنيه، أي: صغيرة الجمع أفراء، وفراء انتهى، فقراءته بالألف خلاف الرواية واللغة، وإن أمكن توجيهه، بأن الهمزة قلبت ألفًا على غير قياس، أو سكنت للوصل بنية الوقف، ثم أبدلت، "رواه الرام هرمزي" بفتح الراء، والميم الأولى، وضم الهاء، والميم الثانية، وإسكان الراء بينهما وزاي منقوطة، نسبة إلى رام هرمزة بالأهواز، الحافظ، الإمام البارع، أبو محمد، الحسن بن عبد الرحمن، الفارسي، كان من أئمة هذا الشأن. عاش إلى قريب الستين وثلاثمائة, "في" كتاب "الأمثال"، من طريق ابن عيينة، عن وائل بن مازن، عن نصر بن عاصم الليثي، قال: أذن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لقريش وآخر أبا سفيان، ثم أذن له، فقال: ما كدت أن تأذن لي، حتى كدت أن تأذن الحجارة الجلهمتين، وبكى، فقال: "وما أنت وذاك يا أبا سفيان، إنما أنت كما قال الأول: كل الصيد في جوف الفرا"، "وسنده جيد"، أي: مقبول، "ولكنَّه مرسل"؛ لأن نصر بن عام تابعي وسط، "ونحوه عند العسكري، و" لكنه "قال": كل الصيد في "جوف، أو جنب" الفراء بالشك، "وهذا خاطب به النبي -صلى الله عليه وسلم- أبا سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، حين جاءه مسلمًا" بالإبواء بين مكة والمدينة، والنبي -صلى الله عليه وسلم- سائر إلى فتح مكة، "بعد أن كان عدوًّا له, هجَّاء كثير الهجاء" بعد البعثة، وكان يألفه قبلها، "مقذعًا فيه" بضم الميم، وإسكان القاف، وذال معجمة، وعين مهملة, من أقذع، أي: مبالغًا في الهجو والفحش.
قال في القاموس: قذعه، كمنعه، رماه بالفحش وسوء القول كأقذعه، فلمَّا أسلم كان لا يرفع رأسه إلى المصطفى حياءً منه، وكان -صلى الله عليه وسلم- يحبه ويشهد له بالجنة، ويقول: "أرجو أن يكون خلفا من حمزة"، "فكأنه يقول -صلى الله عليه وسلم: إن الحمار الوحشي من أعظم ما يصاد، وكل صيد دونه"، أي: أقل منه، "كما أنك أعظم أهلي وأمسّهم رحمًا بي، ومن أكرم من يأتيني كل دونك انتهى"، فقال ذلك ملاطفة له؛ لأنه استأذن فلم يأذن له، وقال: إنه هتك عرضي، كما تقدَّم بسطه(5/314)
وأمسّهم رحمًا بي، ومن أكرم من يأتيني, وكل دونك. انتهى.
وقوله: "الحرب خدعة".
رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: سمى النبي -صلى الله عليه وسلم- الحرب خدعة, وليس عند مسلم "سمى"، وقوله: "خدعة" مثلث الخاء- أشهرها: فتح الخاء وإسكان الدال، قال ثعلب وغيره: وهي لغة النبي -صلى الله عليه وسلم، والثانية، ضمّ الخاء وإسكان الدال, والثلاثة: ضمّ الخاء وفتح الدال.
__________
في الفتح.
"وقوله" -صلى الله عليه وسلم: "الحرب خدعة"، رواه البخاري، ومسلم، عن أبي هريرة قال: سمى النبي -صلى الله عليه وسلم- الحرب خدعة"، مبالغة؛ لكونها أعظم نافع فيه حتى من الشجاعة لخطرها وسلامة هذه، فهو كقوله: "الحج عرفة"، "وليس عند مسلم سمَّى، وقوله: خدعة -مثلث الخاء" ظاهره أنه روي بالكسر مع إسكان الدال، وبه صرّح في التوضيح والقاموس، إلّا أن المصنّف صرّح في شرحه للبخاري، تبعًا للحافظ، بأنها لغة حكاها مكي وغيره، وأن الرواية إنما هي بالثلاث التي أفادها بقوله، "أشهرها فتح الخاء، وإسكان الدال".
قال النووي: اتفقوا على أنها أفصح حتى "قال ثعلب وغيره"، كأبي ذر الهروي والقزاز: "وهي لغة النبي -صلى الله عليه وسلم".
قال أبو بكر بن طلحة: أراد ثعلبة أن النبي كان يستعملها، كثير الوجازة، لفظها وكونها تعطي معنى الآخرين، أي: الضم مع الإسكان، أو الفتح.
قال: ويعطي معناها أيضًا الأمر باستعمال الحيلة، مهما أمكن ولو مرَّة، فكانت مع اختصارها كثيرة المعنى، ومعناها أنها تخدع أهلها من وصف الفاعل باسم المصدر، وأنها وصف للمفعول، كهذا الدرهم ضرب الأمير، أي: مضروبه.
وقال الخطابي: إنها المرة الواحدة، يعني: إنه إذا خدع مرة واحدة لم تقل عثرته، "والثانية -ضم الخاء وإسكان الدال"، وهي رواية الأصيلي، ومعناها: إنها تخدع الرجال، أي: هي محلّ الخداع وموضعه، "والثلاثة -ضم الخاء وفتح الدال"، صيغة مبالغة كهمزة لمزن، المعنى: إنها تخدع الرجال، أي: تمنيهم الظفر، ولا تفي لهم، كالضحكة إذا كان يضحك بالناس، وقيل: حكمة الإتيان بالتاء الدلالة على الوحدة، فإن الخداع إذا كان من المسلمين، فكأنه حضهم عليه ولو مرَّة واحدة، وإن كان من الكفار، فكأنَّه حذَّرهم مكرهم ولو وقع مرة واحدة فلا ينبغي التهاون(5/315)
وقد قال ذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم الأحزاب، لما بعث نعيم بن مسعود, وأمره أن يخذل بين قريش وغطفان واليهود، وأشار بذلك إلى المماكرة أنفع من المكاثرة.
قال النووي: اتفق العلماء على جواز خداع الكفار في الحرب كيف أمكن إلا أن
__________
بهم، لما ينشأ عنه من المفسدة، ولو قال، وحكى المنذري لغة رابعة بالفتح فيهما، قال: وهو جمع خادع، أي: إن أهلها بهذه الصفة، فكأنه قال: أهل الحرب خدعة، وحكى مكي، ومحمد بن عبد الواحد لغة خامسة، كسر أوله مع الإسكان، ذكره الحافظ في قوله: لغة رابعة لغة خامسة، أفاد أن الرواية لم تأت بهما، وتبعه المصنّف فيتوقف في قول القاموس، والحرب خدعة -مثلثة كهمزة، وروي بهنَّ جميعًا، لكن يوافقه قول السيوطي: بفتح الخاء، وضمها، وكسرها سكون الدال، أمر باستعمال الحيلة فيه ما أمكن.
"وقد قال ذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم الأحزاب، لما بعث بن مسعود"، الأشجعي، الصحابي المشهور، المتوفَّى أول خلافة علي، حين جاء له مسلمًا، وقال: إن قومي لم يعلموا بإسلامي، فمرني بما شئت، فقال: " إنما أنت فينا رجل واحد، فخذّل عنَّا إذا استطعت، فإن الحرب خدعة"، "وأمره أن يخذل بين قريش وغطفان" وبين "اليهود"، فأتى بني قريظة، وكان نديمًا لهم، فقال: قد عرفتم ودي لكم، قال: صدقت، قال: إن قريشًا وغطفان ليسوا كأنتم إن رأوا نهزة أصابوها، وإلا لحقوا ببلادهم، وخلوا بينكم وبين محمد، ولا طاقة لكم به وحدكم، فلا تقاتلوا حتى تأخذوا رهنًا من أشرافهم، فقالوا: أشرت بالرأي، ثم أتى قريشًا، فقال: قد عرفتم ودي، وفراقي محمدًا، وقد بلغني أمر رأيت حقًّا علي أن أبلغكموه صحًا لكم، إن يهود ندموا على ما صنعوا، وأرسلوا بذلك إلى محمد, وقالوا: أيرضيك أن نأخذ لك من أشراف قريش وغطفان رجالًا تضرب أعناقهم، ثم نكون معك حتى نستأصل باقيهم، ثم أتى غطفان فقال لهم مثل ذلك، فأرسلوا إلى بني قريظة عكرمة في نفر من القبيلتين، فقالوا: لا نقاتل معكم حتى تعطونا رهنًا، فقالت القبيلتان: إن الذي حدَّثكم نعيم لحق، وأرسلوا إليهم لا ندفع لكم رجلًا واحدًا، فقالت قريظة: إن الذي ذكر لكم نعيم لحق, "وأشار بذلك إلى أن المماكرة" الاحتيال في بلوغ الغرض، "أنفع من المكاثرة"، المغالبة بالكثرة، ولذا قال ابن المنير: معناه: الحرب الكاملة في مقصودها البالغة إنما هي المخادعة لا المواجهة، وذلك لخطر المواجهة، وحصول الظفر بالمخادعة بلا مواجهة.
"قال النووي: اتفق العلماء على جواز خداع الكفار في الحرب كيف أمكن، إلّا أن يكون فيه نقض عهد وأمان، فلا يحل" ذلك.(5/316)
يكون فيه نقض عهد أو أمان فلا يحل.
وقوله: "إياكم وخضراء الدِّمَن".
رواه الرامهرمزي والعسكري في الأمثال، وابن عدي في الكامل، وأبو بكر بن دريد في المجتبى, والقضاعي في مسند الشهاب, والديلمي من حديث الواقدي, قال: حدثنا محمد بن سعيد بن دينار, عن أبي وجزة يزيد بن عبيد, عن عطاء بن يزيد الليثي, عن أبي سعيد مرفوعًا: قيل: يا رسول الله وما زاد؟ قال: "المرأة الحسناء في المنبت السوء" قال ابن عدي: تفرَّد به الواقدي.
ومعناه: إنه كره نكاح الفاسدة، وقال: إن أعراق السوء تنزع
__________
قال ابن العربي: ويقع الخداع بالتعريض وبالكمين ونحوهما، "وقوله" صلى الله عليه وسلم: "إياكم وخضراء الدمن" بكسر الدال وفتح الميم، "رواه الرامهرمزي والعسكري"، كلاهما "في" كتاب "الأمثال وابن عدي في الكامل، وأبو بكر بن دريد في المجتبى، والقضاعي في مسند الشهاب، والديلمي" في الفردوس، والدارقطني في الإفراد، والخطيب في إيضاح الملتبس، كلهم "من حديث الواقدي قال: حدثنا محمد"، صوابه كما في المقاصد ناسبا للمذكورين يحيى "بن سعيد بن دينار، عن أبي وجزة" بفتح الواو، سكون الجيم، بعدها زاي, "يزيد" بتحتية وزاي "ابن عبيد"، بضم العين- السعدي، الشاعر المدني، الثقة، التابعي، الصغير, مات سنة ثلاثين ومائة, روى له أبو داود والنسائي، "عن عطاء بن يزيد الليثي"، المدني، نزيل الشام، ثقة، من رجال الجميع، مات سنة خمس أو سبع ومائة، وقد جاوز الثمانين.
"عن أبي سعيد" سعد بن مالك الخدري، "مرفوعًا" باللفظ المزبور، "قيل: يا رسول الله وما زاد؟ " المراد بخضرة الدمن "قال: "المرأة الحسناء" الجميلة، "في المنبت السوء" , وفي نسخة: في البيت، والذي في المقاصد: المنبت -بالميم، "قال ابن عدي: تفرَّد به الواقدي"، وهو متروك متَّهم، زاد السخاوي، وذكره أبو عبيد في الغرائب فقال: يروي عن يحيى بن سعيد بن دينار.
قال ابن الصلاح: وابن طاهر يُعَدّ في أفراد الواقدي، وقال الدارقطني: لا يصح من وجه، "ومعناه: إن كره نكاح الفاسدة، وقال: "إن أعراق" جمع عرق "السوء تنزع" تميل وتشبه "أولادها" بها، "وتفسير حقيقته: إن الريح تجمع الدمن، وهي البعر في البقعة من الأرض، ثم(5/317)
أولادها، وتفسير حقيقته: إن الريح تجمع الدمن، وهي البعر، في البقعة من الأرض، ثم يركبه الساقي، فإذا أصابه المطر أنبت نباتًا غضًّا ناعمًا يهتز, وتحته الأصل الخبيث، فيكون ظاهره حسنًا وباطنه قبيحًا فاسدًا, والدمن جمع دمنة, وأنشد زفر بن الحارث:
وقد ينبت المرعى على دمن الثرى ... وتبقى حزازات النفوس كما هيا
ومعنى البيت: إن الرجلين قد يظهران الصلح والمودة، وينطويان على البغضاء والعداوة، كما ينبت المرعى على الدمن، وهذا أكثري أو كلي في زمنًا، أشار إليه شيخنا.
وقوله: الأنصار كرشي وعيبتي.
رواه البخاري، أي: إنهم بطانته وموضع سره،
__________
يركبه الساقي، فإذا أصابه المطر أنبت نباتًا غضًّا" بمعجمتين- طريًّا "ناعمًا يهتز" يتمايل، "وتحته الأصل الخبيث"، وهو البعر، "فيكون ظاهره حسنًا وباطنه قبيحًا فاسدًا، والدمن جمع دمنة"، بزنة سدر وسدرة، وهو البعر، أي: نفسه، هذا ظاهره، وفي المصباح: الدِّمن من وزان حمل، ما يتلبَّد من البعر، والدمنة موضعه، والجمع دمن، "وأنشد زفر بن الحارث" بضم الزاي، وفتح الفاء:
وقد ينبت المرعى على دمن الثرى ... وتبقى حزازات النفوس كما هيا
"ومعنى البيت: إن الرجلين قد يظهران الصلح والمودة، وينطويان على البغضاء" شدة البغض وأقواه، "والعداوة" كما ينبت المرعى على الدمن، وهذا أكثريّ أو كليّ في زمننا، أشار إليه" بمعنى ذكره "شيخنا"، يعني: السخاوي في المقاصد الحسنة.
"وقوله" -صلى الله عليه وسلم: "الأنصار كرشي" بفتح الكاف وكسر الراء والشين المعجمة, "وعيبتي" بفتح المهملة والموحدة، بينهما تحتية ساكنة، ثم تاء تأنيث، "رواه البخاري" ومسلم، والترمذي، والنسائي، عن أنس بزيادة: "والناس سيكثرون ويقلون، فاقبلوا من محسنهم، وتجاوزا عن مسيئهم"، أي: إنهم بطانته وموضع سره"؛ إذ البطانة -بالكسر: الوليجة -بالجيم، وهو الذي يكون محلًّا لسر صاحبه، فالمعنى: إنهم كالبطانة يسر لهم أموره، فيكتمونها ولا يظهرونها، فكانوا كالكرش.
قال القزاز: ضرب المثل بالكرش؛ لأنه مستقَرّ غذاء الحيوان الذي يكون فيه نماؤه، ويقال(5/318)
والعيبة كذلك؛ لأن المجتر يجمع علفه في كرشه، والرجل يجمع ثيابه في عيبته. وقيل: أي هم الذين اعتمد عليهم وأفزع إليهم وأقوى بهمن وقيل أراد بالكرش الجماعة، أي: جماعتي وصحابتي، ويقال: عليه كرش من الناس, أي: جماعة، ووقع في رواية الترمذي: ألّا إن عيبتي التي آوي
__________
فلان كرش منثورة، أي: عيال كثيرة, "والعيبة كذلك"؛ إذ هي ما يجعل الرجل نفيس ما عنده، يريد أنهم موضع سرّه وأمانته، "لأنَّ المجتر" من ذي الخف، والظلف، ويربوع، وأرنب، "يجمع علفه في كرشه"؛ لأنه له بمنزلة المعدة للإنسان، "والرجل يجمع ثيابه في عيبته"، تعليل لوجه التشبيه، "وقيل" في بيانه أيضًا "أي: هم الذين اعتمد عليهم، وأفزع" بالفاء والزاي- ألجأ "إليهم وأقوي بهم"، كما يقوى الحيوان بما في كرشه، ويلجأ الرجل إلى ما في عيبته، "وقيل: أراد بالكرش الجماعة"، وهو أحد إطلاقاته لغة، "أي: جماعتي وصحابتي" عطف تفسير، "ويقال": عطف علة على معلول، أي: لأنه يقال لغة "عليه كرش من الناس، أي: جماعة"، وقيل: أي: إنهم مني في المحبة والرأفة بمنزلة الأولاد الصغار؛ لأن الإنسان مجبول على محبَّة ولده الصغير، ذكره المصباح، ولكنه لا يناسب سياقه في الثناء عليهم، كما قال شيخنا في التقرير: ففي بعض طرق الحديث في الصحيح، مَرَّ أبو بكر والعباس بمجلس من مجالس الأنصار وهم يبكون فقال: ما يبكيكم؟ قالوا: ذكرنا مجلس النبي -صلى الله عليه وسلم- منَّا، فدخل فأخبره، فخرج -صلى الله عليه وسلم، وقد عصب على رأسه حاشية برد، فصعد المنبر ولم يصعده بعد ذلك اليوم، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: "أوصيكم بالأنصار، فإنهم كرشي وعيبتي، وقد قضوا الذي عليهم، وبقي الذي لهم، فاقبلوا من محسنهم، وتجاوزوا عن مسيئهم"، وفي الفتح: أي: "بطانتي وخاصتي".
قال القزاز: ضرب المثل بالكرش؛ لأنه مستقر غذاء الحيوان الذي يكون فيه نماؤه، ويقال لفلان: كرش منثورة، أي: عيال كثيرة، والعيبة ما يحرزه فيه الرجل نفيس ما عنده، يريد أنهم موضع سره وأمانته.
قال ابن دريد: هذا من كلامه -صلى الله عليه وسلم- الموجز الذي لم يسبق إليه، وقال غيره: الكرش بمنزلة المعدة للإنسان، والعيبة مستودع الثياب، والأول أمر باطن، والثاني أمر ظاهر، فكأنه ضرب المثل بهما في إرادة اختصاصهم بأموره الظاهرة والباطنة، والأَوَّل أوْلَى، وكل من الأمرين مستودع لما يخفي فيه. انتهى.
"ووقع في رواية الترمذي: ألا إن عيبتي التي آوى" بفتح الهمزة الممدودة، أي: جماعتي التي أرجع "إليها"، وأقيم عندها، حتى كأنها حافظة لي "أهل بيتي، وإن كرشي(5/319)
إليها أهل بيتي وإن كرشي الأنصار.
وقوله: "ولا يجني على المرء إلا يده".
رواه الشيخان، ولأحمد وابن ماجه من حديث عمرو بن الأحوص: "لا يجني جانٍ إلا على نفسه" , وقد أراد -صلى الله عليه وسلم- بهذا: إنه لا يؤخذ إنسان بجناية غيره، إن قتل أو جرح أو زنى، وإنما يؤخذ بما جنته يده، فيده هي التي أدته لذلك.
وقوله: "ليس الشديد من غلب الناس, إنما الشديد من غلب نفسه" رواه ابن حبان في صحيحه، ورواه الشيخان.
__________
الأنصار"، ضبطه المصنّف بزنة كتف، فإن كان الرواية، وإلّا ففيه الكسر مع الإسكان أيضًا، كما في القاموس، "وقوله" صلى الله عليه وسلم: "ولا يجني على المرء"، أي: الرجل، والمراد الإنسان، فيشمل المرأة، أي: لا يوصل إليه مكروهًا، "إلا يده"؛ لأنه يذنب فيعاقب من الله، أو الحاكم, فكأنه المعاقب لنفسه لتسببه في إيصال العقاب لها، وخصّ اليد لمباشرتها غالبًا الجنايات، "رواه الشيخان" في حديث، "ولأحمد وابن ماجه من حديث عمر بن الأحوص" الجشمي -بضم الجيم، وفتح المعجمة, صحابي له حديث في السنن الأربعة أنه شهد حجة الوداع فيه، "لا يجني جانٍ إلا على نفسه"، أي: لا يؤخذ أحد بجناية أحد، {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} ، فهو خبر بمعنى النهي، وفيه مزيد تأكيد كأنَّه نهاه, فقصد أن ينتهي، فأخبر عنه، ولذا عدل عن النهي إلى الخبر، ولمزيد من التأكيد والحث على الانتهاء، أضاف الجناية إلى نفسه، والمراد الغير؛ لأنها كانت سببًا للجناية عليه، قصاصًا ومجازاة، فأبرزها على ذلك ليكون أدعى إلى الكفِّ، وأمكن في النفس لتضمُّنِه الدلالة على المعنى الموج للنهي، كما أشار إليه البيضاوي، وإلى حاصله يومئ قول المصنف.
"وقد أراد -صلى الله عليه وسلم- بهذا، أنَّه لا يؤخذ إنسان بجناية غيره إن قتل، أو جرح، أو زنى، وإنما يؤخذ بما جنته يده، فيده هي التي أدَّته لذلك"، فهو إبطال لأمر الجاهلية، كانوا يقودون بالجناية من يجدونه من الجاني وأقاربه، الأقرب فالأقرب، وعليه الآن أهل الجفاء من سكان البوادي والجبال، "وقوله" -صلى الله عليه وسلم: "ليس الشديد"، أي: القوي "من غلب الناس"، بل هو ضعيف، فإن الظفر بالغير ينشأ غالبًا عن تعدٍّ في القول، أو الفعل، فيذمّ فاعله عند الله وعند الخلق، فهو نفي للمتعارف عندهم، "إنما الشديد من غلب نفسه"، بأن منعها من مطلوباتها المخالفة للشرع، لأنه يجازى على منعها من الله الثواب الجزيل، "رواه ابن حبان في صحيحه، ورواه" بمعناه "الشيخان في الأدب، عن أبي هريرة بلفظ: "ليس الشديد بالصرعة" بضم الصاد المهملة، وفتح الراء،(5/320)
بلفظ: "ليس الشديد بالصرعة, إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب" يعني: إنه إذا ملكها كان قد قهر أكبر أعدائه وشر خصومه. ولذلك قال: أعدى عدو لك نفسك التي بين جنبيك. وهذا من باب المجاز، ومن فصيح الكلام؛ لأنه لما كان الغضبان بحالة شديدة من الغيظ وقد ثارت عليه شدة من الغضب وقهرها بحلمه، وصرعها بثباته كان كالصرعة الذي يصر.
__________
الذي يصرع الناس كثيرًا بقوته، والهاء للمبالغة في الصفة، والصرعة -بسكون الراء- بالعكس، وهو من يصرعه غيره كثيرًا، وكل ما جاء بهذا الوزن -بالضم والسكون- فهو كذلك, كهمزة ولمزة وحفظة وخدعة، ووقع بيان ذلك في حديث ابن مسعود عند مسلم أوله: "ما تعدون الصرعة فيكم"، قالوا: الذي لا تصرعه الرجال.
قال ابن التين: ضبطناه -بفتح الراء، وقرأة بعضهم بسكونها وليس بشيء؛ لأنه عكس المطلوب، قال: وضبط أيضًا في بعض الكتب بفتح الصاد، وليس بشيء، ذكره الحافظ والنفي للمبالغة، أي: ليس القوي من يقدر على صرع أبطال الرجال وإلقائهم إلى الأرض بقوة، "إنما الشديد" على الحقيقة "الذي يملك نفسه عند الغضب"، أي: إنما القوي من كظم غيظه عند فوران الغضب وقهر نفسه وغلب عليها، فحوّل المعنى فيه من القوة الظاهرة إلى القوة الباطنة، "يعني: إنه إذا ملكها كان" هو الشديد، لأنه "قد قهر أكبر أعدائه"؛ إذ من عداها أذاه دونها؛ لأنها موجبة لعقوبة الله، وأقلها أشد من عقوبات الدنيا "و" قهر "شر" بالنصب، "خصومه"، جمع خصم على لغة المطابقة في التثنية والجمع، والمشهور وقوع خصم على الذكر والأنثى والمفرد، والجمع, فآثر الجمع وإن كان لغة قليلة؛ لأنه أبلغ في إفادة المراد "ولذلك" المذكور من الأمرين. "قال" عليه الصلاة والسلام، فيما ذكره في النهاية بلا إسناد: "أعدى عدو لك"، أي: أشد عداوة لك من بين أعدائك، "نفسك التي بين جنبيك"، والعدو خلاف الصديق الموالي، وليس المراد البغض لاستحالته, بل فعلها معه فعل العدو، ولحملها له على اكتساب المال من غير حله، وانفاقه في اللذات والشهوات، وصدّها عن العلم والجهاد، وميلها للكسل وما يفوت الكمالات، {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي} "وهذا من باب المجاز ومن فصيح الكلام"، أي: بليغه إلى الغاية؛ بحيث اشتمل على أعلى البلاغة التي هي مطابقة الكلام لمقتضى الحال، فليس المراد الفصاحة الاصطلاحية التي هي خلوصه من ضعف التأليف، وتنافر الكلمات والتعقيد مع فصاحتها؛ "لأنه لما كان الغضبان بحالة شديدة من الغيظ، وقد ثارت عليه شدة من الغضب، وقهرها بحلمه، وصرعها بثباته" وعدم عمله بمقتضى الغضب، "كان كالصرعة الذي يصرع الرجال ولا يصرعونه"، فهو تشبيه بليغ بحذف الأداة أو استعارة، "وقوله" صلى الله عليه وسلم: "ليس الخبر(5/321)
الرجال ولا يصرعونه.
وقوله: "ليس الخبر كالمعاينة". رواه أحمد وابن منيع والطبراني والعسكري.
__________
كالمعاينة"، وفي رواية: كالعيان -بكسر العين, ومعناهما واحد، أي: المشاهدة؛ لأنها تحصل العلم القطعي، وقد جعل الله لعباده آذانًا واعية، وأبصارًا ناظرة، ولم يجعل الخبر في القوة كالنظر بالعيان، وكما جعل في الرأس سمعًا وبصرًا جعل في القلب ذلك، فما رآه الإنسان ببصره قويّ علمه به، وما أدركه يبصر قلبه كان أقوى عنده.
وقال الكلاباذي: الخبر خبر إن صادق، لا يجوز عليه الخطأ وهو خبر الله ورسوله، ومحتمله، وهو ما عداه، فإن حمل الخبر على الأوّل، فمعناه ليس المعاينة كالخبر في القوة، بل الخبر أقوى وأبعد عن الشكوك، إذا كان خبر الصادق والمعاينة قد تخطئ، فقد يرى الإنسان الشيء على خلاف ما هو عليه، كما في قصة موسى والسحرة، وإن حمل على الثاني، فمعناه أنها أقوى؛ لأن المخبَر لا يطمئن قلبه، وتزول عنه الشكوك في خبر من يجوز عليه السهو والغلط، وحاصله: إن الخبر إذا كان خبر الصادق، فهو أقوى من المعاينة، أو غيره فعكسه. انتهى، وهذا الفهم يشكل عليه بقية الحديث الآتية، "رواه أحمد" بن حنبل الإمام، "و" أحمد "ابن منيع" بفتح الميم، وكسر النون، وإسكان التحتية ومهملة- ابن عبد الرحمن أبو جعفر البغوي، نزيل بغداد، ثقة حافظ, مات سنة أربع وأربعين ومائتين، وله أربع وثمانون سنة.
روى عنه مسلم والأربعة وغيرهم، "والطبراني والعسكري" من حديث ابن عباس بزيادة: إن الله تعالى أخبر موسى بما صنع قومه في العجل، فلم يلق الألواح، فلمَّا عاين ما صنعوا، ألقى الألواح فانكسرت، ورواه أحمد، وابن طاهر، والبغوي، والدارقطني، والطبراني في الأوسط، وابن حبان والعسكري أيضًا، عن ابن عباس مختصرًا بدون الزيادة، وصحَّح الحديث ابن حبان والحاكم والضياء.
قال العسكري: أراد -صلى الله عليه وسلم- أنه لا يهجم على قلب المخبر من الهلع، بالأمر والاستفظاع له, مثل ما يهجم على قلب المعاين، قال: وظنَّ بعض الملحدين في حديث موسى، أنه لم يصدق بما أخبره ربه، ولا دلالة فيه على ذلك، ولكن للعيان روعة هي أنكأ للقلب، وأبعث لهلعه من المسموع، قال: ومن هذا قول إبراهيم: {وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} ، أي: بيقين النظر؛ لأن للمشاهدة والمعاينة حالًا ليست لغيره، وقال غيره: كان خبر الله ثابتًا عند موسى, وخبره كلامه، وكلامه صفته، فعرف فتنة قومه بصفة الله، لكن صفة البشرية لا تظهر عند صفة الله، لعجز البشرية وضعفها، فتمسك موسى بما في يديه ولم يلقه، فلمَّا عاين قومه عاكفين على العجل عابدين له، عاتبهم بصفة نفسه التي هي نظره ببصره ورؤيته بعينه، فلم يتمالك أن طرح الألواح من شدة(5/322)
وقوله: "المجالس بالأمانة". رواه العقيلي في ترجمة حسين بن عبد الله بن ضمرة عن أبيه عن جده عن علي.
__________
الغضب، وفرط الضجر حمية للدين.
روي أنَّها كانت سبعة، فانكسر ستة كان فيها تفصيل كل شيء، وبقي السابع فيه المواعظ والأحكام، "وقوله" صلى الله عليه وسلم: "المجالس"، أي: ما يقع فيها قولًا وفعلًا ملحق "بالأمانة"، فيجب حفظها، فلا يشيع أحد حديث جليسه إلّا فيما يحرم ستره ولا يبطن، خلاف ما يظهر، وفيه إشارة إلى مجلسه أهل الأمانة وتجنب أهل الخيانة، ذكره العامري في شرح القضاعي، وقال العسكري: أراد -صلى الله عليه وسلم- أن الرجل يجلس إلى القوم، فيخوضون في الحديث، ولعلَّ فيه ما إن نمى كان فيه ما يكرهون، فيأمنونه على أسرارهم، فيريد أنَّ الأحاديث التي تجري بينهم كالأمانة التي لا يجب أن يطَّلِع عليها، فمن أظهرها فهو قتاب، وفي التنزيل: {هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ} ، وقال -صلى الله عليه وسلم: "لا يدخل الجنة قتات"، أي: نَمَّام.
وروي مرفوعًا: "إلا أنَّ من الخيانة أن يحدِّث الرجل أخاه بالحديث فيفشيه"، انتهى. ولعبد الرزاق مرفوعًا: "إنما يتجالس المتجالسون بأمنة الله، فلا يحلّ لأحد أن يفشي عن صاحبه ما يكره"، وقال ابن الأثير: هذا ندب إلى ترك إعادة ما يجري في المجلس من قول أو فعل، فكان ذلك أمانة عند من سمعه أو رآه، والأمانة تقع على الطاعة والعبادة، والوديعة، والثقة، والأمان، وقد جاء كل منها حديث، انتهى.
"رواه" الديلمي" والعسكري، والقضاعي، و"القيلي" الإمام، الحافظ أبو جعفر محمد بن عمرو بن موسى بن حماد، كثير التصانيف، مقدم في الحفظ، ثقة عالم بالحديث، مات سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة.
"في ترجمة حسين بن عبد الله بن ضمرة، عن أبيه، عن جده، عن علي" بن أبي طالب، "رفعه" بلفظ الترجمة فقط، لكن قصر المصنّف في عزوه، فقد رواه ابن ماجه عن جابر بهذا اللفظ فقط، ورواه أبو داود والعسكري عن جابر بن عبد الله مرفوعًا بزيادة: إلا ثلاثة مجالس سفك دم حرام، أو فرج حرامن أو اقتطاع مال بغير حق.
قال البيضاوي: يريد أن المؤمن إذا حضر مجلسًا، ووجد أهله على منكرات يستر عوراتهم، ولا يشيع ما رأى منهم إلّا أن يكون أحد هذه الثلاثة، فإنه فساد كبير, وإخفاؤه إضرار عظيم، وقال غيره، أي: من قال في مجلس أريد قتل فلان، أو الزنا بفلانة، أو أخذ مال فلان ظلمًا، فلا يجوز لسامعه حفظ سره، بل يجب عليه إفشاؤه دفعًا للمفسدة، "و" جاء "عن جابر بن(5/323)
رفعه، وعن جابر بن عتيك: إذا حدَّث الرجل ثم التفت فهي أمانة، ورواه أبو داود في سننه, والترمذي في جامعه, وابن أبي الدنيا في الصمت. وغيرهم.
ففي هاتين الكلمتين من الحمل على آداب العشرة وآداب الصحبة وكتم السر، وحفظ الود وحفظ العهد، وإصلاح ذات البين, والتحذير من النميمة بين الإخوان، الموقعة للشنآن ما لا يكاد يخفى على مبادئ الأذهان.
__________
عتيك" بن قيس الأنصاري، صحابي جليل، اختلف في شهوده بدرًا، مات سنة إحدى وستين، وهو ابن إحدى وتسعين، له في أبي داود والنسائي: "إذا حدَّث الرجل"، أي: الإنسان، فذكر الرجل غالبي, ومفعول حدث محذوف في رواية ابن عتيك، وقد ثبت في رواية ابن عبد الله بلفظ: إذا حدث الرجل.. الحديث، "ثم التفت"، أي: غاب عن المجلس، كما قال المظهري، أو يمينًا وشمالًا، كما قال الطيبي، فثَمَّ الحقيقة الترتيب على الأوّل لا الثاني، "فهي"، أي: الكلمة التي حدَّث بها قبل التفاته "أمانة" عند المحدَّث أودعه إياها، فإن حدَّث بها غيره فقد خالف أمر الله بتأدية الأمانة إلى غير أهلها، فيكون من الظالمين، فيجب عليه كتمها؛ إذ التفاته بمنزلة استكتامه بالنطق؛ لأن التفاته إعلام لمن يحدّثه أنه يخاف أن يسمع حديثه أحد، وأنه قد خصَّه بسره، فكأن التفاته قائم مقام قوله: أكتم هذا عني، وهو عندك أمانة، "ورواه"، أي: حديث: إذا التفت لا بقيد كونه من حديث ابن عتيك، "أبو داود في سننه، والترمذي في جامعه"، وقال: حديث حسن، "وابن أبي الدنيا في" كتاب "الصمت وغيرهم"، كالإمام أحمد، والطيالسي، وأبي يعلى، كلهم من حديث جابر بن عبد الله مرفوعًا، بلفظ: إذا حدَّث الرجل.. الحديث، ثم التفت فهي أمانة، وفيه عبد الرحمن بن عطاء، وثَّقه جماعة، وليِّنَه آخرون، فتحسين الترمذي اعتماد لتوثيقه، أو لشاهده عند أبي يعلى، عن أنس به مرفوعًا، كما أفاده السخاوي.
"ففي هاتين الكلمتين" هذا الحديث والمجالس بالأمانة، سمَّاهما كلمتين لقلة حروفهما، وفي نسخة: الخصلتين، أي: المستفادتين من الخبرين، وكلاهما من جوامع الكلم "من الحمل على آداب العشرة، وآداب الصحبة، وكتم السر، وحفظ الود، وحفظ العهد، وإصلاح ذات البين"، أي: الحالة التي تكون بين الناس من التعارف والمخالطة، "والتحذير من النميمة"، هي نقل الكلام إشاعةً له وإفسادًا وتزيين الكلام بالكذب، كما في القاموس، "بين الإخوان الموقعة للشنآن"، أي: البغضاء، "ما لا يكاد يخفى"، لشدة ظهوره "على مبادى الأذهان"، أي: أوائلها، أي: إنها تدرك بأدنى التفات، فلا تحتاج لإمعان نظر وتأمّل، وإفشاء السر حرام إن أضر.
قال الماوردي: إظهار الرجل سِرَّ غيره أقبح من إظهار سِرِّ نفسه؛ لأنه يبوء بإحدى(5/324)
وقوله: "البلاء موكل بالمنطق". رواه ابن أبي شيبة، والبخاري في الأدب المفرد، من رواية إبراهيم عن ابن مسعود، ورواه الديلمي عن أبي الدرداء مرفوعًا: "البلاء موكل بالمنطق" , وأورده ابن الجوزي في الموضوعات من حديث أبي الدرداء وابن مسعود. قال شيخنا في المقاصد الحسنة: ولا يحسن من مجموع ما ذكرناه
__________
وصمتين؛ الخيانة إن كان مؤتمنًا، والنميمة إن كان مستخبرًا، وأمَّا الضرورة فيما استويا فيه، أو تفاضلا، فكلاهما مذموم، وهو فيهما ملوم.
وقال الراغب: السِّرُّ ضربان، أحدهما ما يلقى إلى الإنسان من حديث يستكتم، وذلك إمّا لفظًا، كقولك لغيرك: اكتم ما أقول لك؛ وإمَّا حالًا وهو أن يتحرَّى القائل حال انفراده فيما يورده، أو خفض صوته، أو بخفيه عن مجالسه، وهو المراد في هذا الحديث، انتهى. "وقوله" -صلى الله عليه وسلم: "البلاء موكل بالمنطق".
قال الديلمي: البلاء الامتحان والاختيار، ويكون حسنًا ويكون سيئًا, والله يبلو عبده بالصنع الجميل؛ ليمتحن شكره، ويبلوه بما يكره؛ ليمتحن صبره، ومعنى الحديث: إن العبد في سلامة ما سكت، فإذا تكلَّم عرف ما عنده بمحنة النطق، فيتعرَّض للخطر، أو للظفر، ولذا قال -صلى الله عليه وسلم- لمعاذ: "أنت في سلامة ما سكت, فإذا تكلمت فلك أو عليك"، ويحتمل أن يريد التحذير من سرعة النطق با تثبت خوف بلاء لا يطيق دفعه، وقد قيل: اللسان ذنب الإنسان، وما شيء أحق بسجن من اللسان، "رواه ابن أبي شيبة، والبخاري في الأدب المفرد من رواية إبراهيم" النخعي، "عن ابن مسعود" مرفوعًا بهذا اللفظ وزيادة: "لو سخرت من كلب لخشيت أن أحول كلبًا"، رواه الخطيب والديلمي، وأبو نعيم والعسكري مرفوعًا: "البلاء موكل بالمنطق"، فلوّ أنَّ رجلًا عَيِّرَ رجلًا برضاع كلبة لرضعها، وسنده ضعيف، وهو عند أحمد في الزهد موقوفًا على ابن مسعود، قاله السخاوي، "ورواه الديلمي عن أبي الدرداء مرفوعًا: "البلاء موكل بالمنطق"، وزاد: "ما قال عبد لشيء: والله لا أفعله, إلا ترك الشيطان كل شيء، وولع به حتى يؤثمه"، ولا حاجة إلى ذكر المصنف لفظ الحديث؛ إذ هو مساو لترجمته، وقد رواه القضاعي وابن السمعاني عن علي، والديلمي عن ابن مسعود، والعسكري عن أبي الدرداء رفعوه، وابن لال في المكارم عن ابن عباس، عن الصديق موقوفًا، وابن أبي الدنيا من مرسل الحسن، خمستهم بلفظ: "البلاء موكل بالقول" , "وأورده ابن الجوزي في الموضوعات من حديث أبي الدرداء وابن مسعود, قال شيخنا" السخاوي "في المقاصد الحسنة: ولا يحسن مع مجموع ما ذكرناه"، وهو هذه الطرق التي لخصتها من كلامه "الحكم عليه بالوضع"؛ لأن تعدد الطرق، وتباين مخارجها دليل على(5/325)
الحكم عليه بالوضع، ويشهد لمعناه قوله -صلى الله عليه وسلم- للأعرابي الذي دخل عليه يعوده, وقال -عليه الصلاة والسلام: "لا بأس هو طهور"، فقال الأعرابي: بل هي حمَّى تفور على شيخ كبير تزيره القبور، فقال -عليه الصلاة والسلام: "فنعم إذًا".
وأنشد في معناه:
لا تنطقنَّ بما كرهت فربما ... نطق اللسان بحادث فيكون
__________
أن للحدث أصلًا، وورد أيضًا من حديث أنس، أشار إليه الديلمي، "ويشهد لمعناه قوله -صلى الله عليه وسلم" عند البخاري وغيره، عن ابن عباس "للأعرابي الذي دخل عليه" المصطفى "يعوده"، أي: الأعرابي، "وقال" عليه الصلاة: "لا بأس" عليك "هو طهور" لك من الذنوب، أي: مطهر.
قال ابن عباس في البخاري: وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا دخل على مريض يعوده قال: "لا بأس طهور"، "فقال الأعرابي": مستبعد الحصول الشفاء، "بل لفظ البخاري: قلت طهور كلابل، "هي حمى تفور"، بالفاء، أي: يظهر حرها ووهجها وغليانها، ولفظ البخاري: تفور، أو قال: تثور، أي: بالشك من الراوي, هل قاله بفاء أو مثلثة، ومعناهما واحد. "على شيخ كبير تزيره" بضم الفوقية، وكسر الزاي- من أزاره حمله على الزيارة، والمعنى: إنها سبب في إدخاله "القبور، فقال -عليه الصلاة والسلام: "فنعم إذًا" بالتنوين.
قال الطيبي: الفاء مرتبة على محذوف، تقديره: أرشدتك بقولي لا بأس طهور إلى أن تحمي تطهرك وتنقي ذنوبك، فاصبر واشكر الله عليها، فأبيت إلّا اليأس والكفران، فكان كما زعمت، وما اكتفيت بذلك، بل رددت نعمة الله، قاله غضبًا عليه. انتهى.
عند الطبراني وغيره، فقال -صلى الله عليه وسلم: "أما إذا أبيت فهي كما تقول وقضاء الله كائن"، فما أمسى الأعرابي من الغد إلا ميتًا، وعند الدولابي، فقال -صلى الله عليه وسلم: "ما قضى الله فهو كائن"، فأصبح الأعرابي ميتًا.
قال الحافظ: وقع في ربيع الأبرار، أن اسم هذا الأعرابي قيس بن أبي حازم، ولم أر تسميته لغيره، فإن كان محفوظًا فهو غير قيس بن أبي حازم، أحد المخضرمين؛ لأنَّ هذا مات في حياة النبي -صلى الله عليه وسلم، والمخَضْرَم لا صحبة له، وإن أسلم في حياته، وعاش بعده دهرًا طويلًا ولأبيه صحبة، "وأنشد" بالبناء للمجهول، وفي المقاصد أنشد القاضي البهلول "في معناه:
لا تنطقنَّ بما كرهت فربما ... نطق اللسان بحادث فيكون
وقال الخرائطي: أنشدونا:
لا تعبثنَّ بحادث فلربما ... عبث اللسان بحادث فيكون(5/326)
وقوله -عليه الصلاة والسلام: "ترك الشر صدقة".
رواه بعضهم: ومعنى ذلك: إن من ترك الشر وأذى الناس فكأنه تصدّق عليهم، وعلم من ذلك أن فضل ترك الشر كفضل الصدقة.
وقوله: "وأي داء أدوى من البخل" رواه البخاري،
__________
وأنشد غيره:
لا تمزحن بما كرهت فربما ... ضرب المزاح عليك بالتحقيق
وفي تاريخ الخطيب: اجتمع الكسائي واليزيدي عند الرشيد، فقدَّموا الكسائي يصلي جهرية، فأرتجّ عليه في قراءة الكافرون، فقال اليزيدي: قارئ الكوفة يرتجّ عليه في هذه، فحضرت جهرية أخرى، فقام اليزيدي فارتجَّ عليه في الفاتحة، فقال الكسائي:
احفظ لسانك لا تقول فتبتلى ... إن البلاء موكل بالمنطق
وقال النخعي: تحدثني نفسه بالشيء فلا أتكلم به مخافة أن أُبْتَلِيَ به، "وقوله -عليه الصلاة والسلام: "ترك الشر" السوء والفساد والظلم، وجمعه شرور، وهذا شَرٌّ من ذاك، أصله أشر بالألف على أفعل، واستعمال الأصل لغة لبني عامر، وقرئ شاذًّا من الكذب الأشر على هذه اللغة "صدقة" رواه بعضهم، كذا زاده في بعض النسخ، ولا كبير فائدة فيه، ومعنى ذلك أن من ترك الشر، و" ترك "أذى الناس"، وهو إيصال المكروه إليهم، "فكأنَّه تصدَّق عليهم, وعلم من ذلك أنَّ فضل ترك الشر كفضل الصدقة"، أي: ثوابها في الجملة، "وقوله" صلى الله عليه وسلم: "وأي داء أدوى من البخل"، أي: أي عيب أقبح، وأيُّ مرض أعظم منه، أي: لا شيء أعظم منه؛ لأن من ترك الإنفاق خشية الإملاق لم يصدق بوعد الرزاق، {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} .
قال عياض: هكذا يرويه المحدثون أدوى غير مهموز من دوى، أي: بكسر الواو، وإذا كان به مرض في جوفه، والصواب أدوأ بالهمز؛ لأنه من الداء، فيحمل على أنهم سهَّلوا لهمزة، أي: قلبوها ألفًا، قاله الحافظ.
"رواه البخاري"، ومسلم، والإمام أحمد عن جابر، وله سبب، أخرجه البخاري في الأدب المفرد والسراج، وأبو الشيخ، وأبو نعيم، والبيهقي عن جابر قال: قال لنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "مَنْ سيدكم يا بني سلمة"؟، قالوا: الجد بن قيس على أنّا نبخله، فقال: "بيده هكذا، ومد يده، وأي داء أدوى من البخل، بل سيدكم عمرو بن الجموح"، وكان عمرو يولم على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا تزوج، وفي بعض طرقه عند أبي نعيم: "بل سيدكم الأبيض، الجعد عمرو بن الجموح"، ورواه(5/327)
والبخل قد جعله -صلى الله عليه وسلم- داء، وليس بداء مؤلم لصاحبه، وإنما شبهه بالداء إذ كان مفسدًا للرجل مورثًا له سوء الثناء، كما أن الداء المرض المشي يئول إلى طول الضنا وشدة العنا، والمقصد من هذا النهي عن البخل أعاذنا الله منه.
__________
الحاكم في المستدرك، وأبو الشيخ بإسناد غريب عن أبي هريرة، وفي رواية ابن جرير عن أبي هريرة: "بل سيدكم وابن سيدكم بشر بن البراء بن معرور"، وكذا في بعض طرقه عن جابر عن أبي نعيم.
وروى ابن منده وأبو الشيخ في الأمثال، والولي بن إبان في كتاب الجود عن كعب بن مالك: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من سيدكم"؟ قال: جد بن بشير، فقال: "سيدكم بشر بن البراء بن معرور"، وسنده جيد.
قال الحافظ: ويمكن حمل قصة بشر على أنها كانت بعد قتل عمرو بأحد جمعًا بين الحديثين، وروى الحديث الأول ابن عائشة في نوادره عن الشعبي مرسلًا، وزاد: فقال في ذلك بعض الأنصار:
وقال رسول الله والحق قوله ... لمن قال منا من تسمون سيدا
فقالوا له جد بن قيس على التي ... نبخله منها وإن كان أسودا
فسوَّدَ عمرو بن الجموح لجوده ... وحق لعمرو بالندى أن يسودا
فلو كنت يا جد بن قيس على التي ... على مثله عمرو لكنت المسوَّدا
"والبخل" بضم الباء، وسكون الخاء، وبفتح الباء والخاء، كذا ضبطه الزركشي، "قد جعله -صلى الله عليه وسلم- داء": مرضًا مؤلمًا لصاحبه في العقبى، "وليس بداء" حسي، "مؤلم لصاحبه" حقيقة، كالأمراض الحسية، فهو تشبيه، "وإنما شبهه بالداء إذ" تعليلية، "كان مفسدًا للرجل" أكثري، فالمراد الإنسان، "مورثًا له سوء الثناء، كما أن الداء المرض الحسي، يئول إلى طول الضنا" شدة المرض، "وشدة العنا" التعب، "والمقصد" مصدر ميمي بمعنى القصد، "من هذا النهي عن البخل، أعاذنا الله منه"، ولذا عد من جوامع الكلم، وكما نطق بهذا اللفظ النبي -صلى الله عليه وسلم، في ذا الحديث الصحيح، قاله خليفته أبو بكر بعده لما أتاه بعده مال البحرين، ونادى: من كان له عند النبي -صلى الله عليه وسلم- عدة، أو دين فليأتني، فجاءه جابر، فأخبره أن المصطفى قال له: لو جاء مال البحرين أعطيتك هكذا وهكذا، ثلاثًا، فلم يعطه, ثم أتاه ثانيًا وثالثًا، فلم يعطه، فقال له: إما أن تعطيني، وإمّا أن تبخل عني، فقال: "أقلت تبخل عني، وأي أداء أدوى من البخل"؟ قالها ثلاثا، ما منعتك من مرة إلّا وأنا أريد أن أعطيك، رواه البخاري ومسلم، وفي بعض طرقه عند البخاري.(5/328)
وقوله: "لا ينتطح فيها عنزان".
أي: لا يجري فيها خلف ولا نزاع.
وقوله: "الحياء خير كله". متفق عليه.
وقوله: "اليمين الفاجرة تدع الديار بلاقع".
__________
وقال ابن المنكدر: وأيّ داء أدوى من البخل، وهو يوهم أنه لم يقله أبو بكر وليس بمراد؛ لأن معناه وقال ابن المنكدر في حديثه، كما رواه مسدد، أي: في حديثه عن جابر، عن الصديق، كما بينه الحافظ والله أعلم.
"وقوله" صلى الله عليه وسلم: "لا ينتطح فيها"، أي: في عصماء بنت مروان, اليهودية التي قتلها عمير بن عدي، وكان أعمى- في بيتها ليلًا، ثم رجع وصلى الصبح مع المصطفى، فقال له: أقتلت ابنة مروان؟ قال: نعم, فهل علي في ذلك من شيء؟ فقال: "لا ينتطع فيها عنزان"، وكانت هذه الكلمة أول ما سمعت من النبي -صلى الله عليه وسلم، رواه ابن سعد وغيره. "أي: لا جري فيها خلف ولا نزاع"، بل هي هدر لا يسأل عنها، ولا يؤخذ لها بثأر، ومر بسط القصة في محلها.
"وقوله" صلى الله عليه وسلم: "الحياء" بالمد، وهو تغير وانكسار عند خوف ما يعاب أو يذم.
قال الراغب: وهو من خصائص الإنسان ليرتدع عن ارتكاب كل ما يشتهي، فلا يكون كالبهيمة، "خير كله"؛ لأن مبدأه انكسار يلحق الإنسان مخافة نسبته إلى القبيح، ونهايته ترك القبيح، وكلاهما خير، ومن علم أنه مشهد النعمة والإحسان، وأن الكريم لا يقابل بالإساءة من أحسن إليه، وإنما يفعله اللئيم منعه مشهد إحسانه إليه ونعمته عليه، من عصيانه حياء منه أن يكون خيره وإنعامه نازلًا عليه، ومخالفته صاعدة إليه، فملك ينزل بهذا، وملك يعرج بهذا، ولذا قال -صلى الله عليه وسلم- في الصحيحين: "الحياء لا يأتي إلا بخير"، أي: لأن من استحيا من الناس أن يروه يأتي بقبيح، دعاه ذلك إلى أن يكون حياؤه من الله أشد، فلا يضيع فريضة، ولا يرتكب خطيئة.
وقال -عليه الصلاة والسلام: "الحياء من الإيمان، والإيمان في الجنة"، وقال: "الحياء زينة" "متفق عليه" عن عمران بن حصين، "وقوله" صلى الله عليه وسلم: "اليمين الفاجرة" "، أي: الكاذبة، "تدع الديار بلاقع"، جمع بلقع، وبلقعة الأرض القفراء التي لا شيء بها، يريد أن الحالف كاذبًا يفتقر، ويذهب ما في بيته من الرزق، وقيل: هو أن يفرق الله شمله، ويغير عليه ما أولاه من نعمه، كما في النهاية.
"رواه الديلمي في مسند الفردوس"، لأبي شجاع الديلمي، ألفه محذوف الأسانيد،(5/329)
رواه الديلمي في مسند الفردوس من حديث أبي هريرة.
وقوله: سيد القوم خادمهم.
رواه أبو عبد الرحمن السلمي في كتاب "آداب الصحبة" له عن عقبة بن عامر رفعه، وفي سنده ضعف أو انقطاع. ورواه غيره أيضًا.
وقوله: "فضل العلم خير من فضل العبادة".
__________
ومسنده لولده أبي منصور شيرويه بن شهردار بن شيرويه الحافظ، خرج سند كل حديث تحته "من حديث أبي هريرة" مرفوعًا.
"وقوله: "سيد القوم خادمهم"؛ إذ السيد من يفزع إليه في النوائب فيحمل الأثقال، فلمَّا تحمَّل الخادم الأمور، وكفى المؤنة، وما لا يطيقونه كان سيدهم، فخادم مبتدأ مؤخر، وأصله خادم القوم كسيدهم، فبُولِغَ فيه بالقلب المكاني حتى جعل السيد خادمًا.
"رواه أبو عبد الرحمن" محمد بن الحسين بن موسى النيسابوري "السلمي" بضم السين- إلى جَدٍّ له اسمه سليم، كان وافر الجلالة، وحدَّث أكثر من أربعين سنة.
قال في اللسان: كأصله وليس بعمدة. وقال الخطيب: ثقة صاحب علم وحال.
قال السبكي: وهو الصحيح ولا عبرة بالطعن فيه، "في كتاب آداب الصحبة له"، أحد تصانيفه التي بلغت مائة أو ألفًا، "عن عقبة بن عامر رفعه، وفي سنده ضعيف، أو انقطاع، ورواه غيره أيضًا" كابن عساكر من حديث ابن عباس، عن جرير مرفوعًا، وأبو نعيم في الحلية بسند ضعيف جدًّا مع انقطاعه، عن أنس رفعه بلفظ: "رب الخادم في الدنيا سيد القوم في السفر خادمهم، فمن سبقهم لخدمة لم يسبقوه بعمل إلا الشهادة"، وعزاه الديلمي للترمذي وابن ماجه عن أبي قتادة فوهم، أفاده السخاوي.
"وقوله" صلى الله عليه وسلم: "فضل العلم خير"، هذا لفظ الطبراني، ولفظ البزار: "أحب إلي من فضل العبادة"، أي: إن زيادة العلم خير من زيادتها، فنفله أفضل من نفلها، كما أن فرضه أفضل من فرض العمل، ونفله ما زاد على الواجب، وظاهره يشمل العلوم بجميع أنواعها، كتوحيد وتفسير، وحديث، وفقه، ونحو وغير ذلك.
وقال السهرودي: ليس المراد علم البيع والشراء ونحوهما، بل العلم بالله واليقين، وقد يكون العبد عالمًا بالله، وليس عنده شيء من فروض الكفايات، وقد كان الصحابة أعلم من(5/330)
رواه الطبراني والبزَّار.
وقوله: "الخيل في نواصيها الخير".
__________
علماء التابعين بحقائق اليقين ودقائق المعرفة، وفي علماء التابعين من هو أقوم بعلم الفتوى من بعض الصحابة، وفيه حَثٌّ على العلم، لكن لا مع ترك العبادة، بل هو إشارة إلى أنَّ العبادة إنما يعتدَّ بها من العالم؛ إذ العلم يحكمها ويصححها ويخلصها ويصفيها، ولذا قال -صلى الله عليه وسلم: "لفقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد"، رواه البيهقي وغيره.
وقال الغزالي: العلم أشرف جوهرًا من العبادة, لكن لابُدَّ منها مع العلم، وإلّا كان هباء منثورًا؛ إذ العلم بمنزلة الشجر، والعبادة بمنزلة الثمر، فالشرف للشجرة، لكونها الأصل، لكن الانتفاع بثمرتها أشرف، فلابُدَّ من الأمرين، ولذا قال الحسن: اطلبوا العلم طلبًا لا يضر بالعبادة، واطلبوا العبادة طلبًا لا يضر بالعلم.
"رواه الطبراني" في الأوسط بلفظه، "والبزار" بلفظ: "أحبّ إلي" كلاهما عن حذيفة رفعه بزيادة: "وخير دينكم الورع"، وصحَّحَه الحاكم، وحسَّنه المنذري، وشواهده كثيرة.
"وقوله" -صلى الله عليه وسلم: "الخيل" اسم جمع لهذا الجنس المجبول على الاختيال، لما خلق له من الاعتزاز به وقوة المنة في الافتراس عليه، ومنه سمي واحده فرسًا, "في نواصيها الخير".
قال الطيبي: يحتمل أن الخير المفسَّر بالأجر والمغنم, استعارة لظهوره وملازمته، وخص الناصية لرفعة قدره، فكأنه شبهه لظهور بشيء محسوس معقود على مكان مرتفع، فنسب الخير إلا لازم المشبه به، وذكر الناصية تجريد للاستعارة، والمراد بالناصية هنا الشعر المسترسل على الجبهة.
قال الخطابي وغيره قالوا: ويحتمل أنه كني بالناصية عن جميع ذات الفرس، كما يقال: فلان مبارك الناصية، ويبعد لفظ الحديث الثالث، أي: في البخاري، وهو البركة في نواصي الخيل، وفي مسلم عن جرير: رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يلوي ناصية فرسه بأصبعه، ويقول.. فذكر الحديث، فيحتمل أنها خصت بذلك لكونها المقدم منها، إشارة إلى الفضل في الإقدام بها على العدو، دون المؤخر لما فيه من الإشارة إلى الإدبار، قاله في فتح الباري، وسبقه شيخه الحافظ العراقي، فقال: إنه خاص بناصيتها، بدليل النهي عن قصها، وقول البيضاوي: أي ملازم لها كأنه معقود فيها، فهو استعارة مكنية، قال الشاعر:
ويصعد حتى يظن الجهول ... بأن له حاجة في السماء
ردَّه شيخنا بأن ضابط المكنية أن لا يذكر من أركان التشبيه سوى المشبه، ويرمز إلى(5/331)
متفق عليه من حديث مالك عن نافع عن ابن عمر رفعه: "الخيل في نواصيها الخير إلى يوم القيامة،
__________
التشبيه بشيء من خواص المشبه به، وما ذكره لا يصلح أنه مشبه. نعم يمكن أن تجعل الملازمة للنواصي كالاستقرار فيها، فيتجوّز بالظرفية للملازمة، ويستعمل فيها ما يستعمل للظرفية، وهي في نفيه استعارة تبعية في الحرف، "متفق عليه"، أي: رواه البخاري ومسلم "من حديث مالك" الإمام "عن نافع، عن ابن عمر رفعه"، أي قال: قال -صلى الله عليه وسلم: "الخيل" أي: ما تتخذ للغزو بأن يقاتل عليها، أو تربط لأجل ذلك، لقوله في حديث مالك والشيخين أيضًا، عن أبي هريرة: "الخيل لثلاثة، لرجل أجر، ولرجل ستره, وعلى رجل وزر.. " الحديث، وفيه: " ورجل ربطها فخرًا ورياءً ونواء لأهل الإسلام، فهي له وزر"، "في نواصيها الخير إلى يوم القيامة"، أي: إلى قربه أعلم به، أن الجهاد قائم إلى ذلك الوقت، زاد في حديث عروة البارقي عند مسلم والبخاري: الأجر والمغنم، وهو بدل من قوله: الخير، أو خبر مبتدأ محذوف، أي: هو الأجر، وفي مسلم، قالوا: بم ذاك يا رسول الله؟، قال: "الأجر والمغنم".
قال عياض في هذا الحديث مع وجيز لفظه من البلاغة: والعذوبة ما لا مزيد عليه في الحسن، مع الجناس السهل الذي بين الخيل والخير.
قال الخطابي: وفيه إشارة إلى أنّ المال المكتسب باتخاذ الخيل من خير وجوه الأموال وأطيبها، والعرب تسمي المال خيرًا، كما في قوله: {إِنْ تَرَكَ خَيْرًا} .
وقال ابن عبد البر: فيه إشارة إلى تفضيل الخيل على غيرها من الدوابّ؛ لأنه لم يأت عنه -صلى الله عليه وسلم- في شيء غيرها مثل هذا القول، وفي النسائي عن أنس: لم يكن شيء أحب إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعد النساء من الخيل، واستدلَّ به على أن قوله -صلى الله عليه وسلم: " إنما الشؤم في ثلاث: الفرس والمرأة والدار" أخرجه الشيخان وغيرهما على غير ظاهره؛ لأنه أثبت لها الخير.
قال عياض: فيبعد أن يكون فيها شؤم، فيحتمل أنّ الشؤم في غير التي ربطت للجهاد، والتي أعدت له هي المخصوصة بالخير والبركة، أو يقال: الخير والشرك ممكن اجتماعهما في ذات واحدة، فإنه فسره بالأجر والمغنم، ولا يمنع ذلك أن يكون الفرس مما يتشاءم به، أو المراد جنس الخيل، أي: إنها بصدد أن فيها الخير، فلا ينافي حصول غيره لأمر عارض.
وقد روى أبو داود عن ابن القاسم، عن مالك أنَّه سُئِلَ عن حديث الشؤم، فقال: كم من دار سكنها ناس فهلكوا، قال المازري: فحمله مالك على ظاهره، والمعنى: إن قدر الله بما وافق ما يكره عند سكنى الدار، فيصير كالسبب فيتشاءم في إضافة الشؤم إليها اتساعًا.
وقال ابن العربي: لم يرد مالك إضافة الشؤم إلى الدار، وإنما هو عبارة عن جري العادة فيها،(5/332)
وفي لفظ لغيرهما: "معقود بنواصيها الخير".
وقوله: "أعجل الأشياء عقوبة البغي".
__________
فأشار إلى أنه ينبغي الخروج عنها، صيانةً لاعتقاده عن التعلق بالباطل، وقيل: معنى الحديث: إن هذه الأشياء يطول تعذيب القلب بها مع كراهة أمرها، لملازمتها بالسكنى والصحبة، ولو لم يعتقد الإنسان الشؤم فيها، فأشار إلى الأمر بفراقها ليزول التعذيب، وقيل: شؤم الفرس عدم الغزو عليه، والمرأة عدم ولادتها، والدار الجار السوء، وقيل: إنه سيق لبيان اعتقاد الناس ذلك، لا إخبار بثبوته، وسياق الأحاديث الصحيحة يبعد هذا التأويل، بل قال ابن العربي: هو جواب ساقط؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- لم يبعث ليخبر الناس عن معتقداتهم الماضية، أو الحاصلة، إنما بعث ليعلمهم ما يلزمهم أن يعتقدوه، وما رواه الترمذي مرفوعًا لا شؤم، وقد يكون اليمن في المرأة والدار والفرس، ففي إسناده ضعف مع مخالفته للأحاديث الصحيحة.
وروى الطيالسي عن مكحول، قيل لعائشة: إنَّ أبا هريرة، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "الشؤم في ثلاثة"، فقالت: لم يحفظ أنه دخل، وهو يقول: قاتل الله اليهود يقولون: الشؤم في ثلاثة، فسمع آخر الحديث، ولم يسمع أوله، وهو منقطع، فمكحول لم يسمع من عائشة، لكن روى أحمد وابن خزيمة والحاكم: أن رجلين من بني عامر دخلا عليها، فأخبراها بذلك، فغضبت غضبًا شديدًا، وقالت ما قاله، إنما قال: إن أهل الجاهلية كانوا يتطيرون من ذلك، إلّا أنه لا معنى لإنكار ذلك على أبي هريرة، مع موافقة جماعة من الصحابة له في ذلك، انتهى ملخصًا من فتح الباري، قال: وقوله "في نواصيها الخير"، كذا في الموطَّأ ليس فيه معقود، "وفي لفظ لغيرهما"، غير البخاري ومسلم، اللذين عبَّر عنهما بقوله متفق عليه، "معقود بنواصيها الخير"، ومن الغير الإسماعيلي، من رواية عبد الله بن نافع عن مالك به، ورواه البخاري في علامات النبوة، من طريق عبيد الله بن عمر، عن نافع شيخ مالك فيه بإثباتها، وذلك في رواية أبي ذر عن الكشميهني وحده، والنزاع إنما هو في إثباتها في حديث ابن عمر، فمالك في الموطأ، وفي الصحيحين عنه بدونها، والإسماعيلي عنه بإثباتها، وإلّا فهي ثابتة في حديث عروة الباقي عند الشيخين، وجابر عند أحمد، وجرير عنده، وعند مسلم وأبي هريرة، عند أبي يعلى والطبراني، "وقوله: "أعجل" أسرع "الأشياء"، أي: الذنوب "عقوبة البغي"، مجاوزة الحد والتعدي بلا حق، وعقوبة تمييز محوّل عن المضاف، والبغي حذف منه المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه، أي: أسرع عقوبات الأشياء عقوبة البغي، والمعنى لكل ذنب عقوبة، لكنها قد تتأخَّر إلّا البغي، فينجز للباغي في الدنيا، إن لم يعف الله تعالى.
وقد روى الطبراني في الكبير، والبخاري في التاريخ، عن أبي بكرة مرفوعًا: "اثنان يعجلهما(5/333)
وقوله: "وإن من الشعر حكمًا".
رواه أبو داود من رواية صخر بن عبد الله بن بريدة عن أبيه عن جده, سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إن من البيان لسحرًا،
__________
الله تعالى في الدنيا، البغي وعقوق الوالدين"، قال في الفائق: وأصل التعجيل إيقاع الشيء قبل أوانه، {أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ} سبقتموه، "وقوله: "وإن من الشعر حكمًا" جمع حكمة, قولًا صادقًا، "رواه أبو داود" في الأدب، "من رواية صخر بن عبد الله بن بريدة" بن الحصيب -بمهملتين- مصغَّر وصحف. من أعجم الحاء الأسلمي، "عن أبيه" عبد الله الأسلمي، أبي سهل المروزي، قاضيها, ثقة، روى له الجميع، مات سنة خمسة ومائة، وقيل: بل سنة خمس عشرة، وله مائة سنة، "عن جده" بريدة بن الحصيب بن عبد الله الحارث الأسلمي، أسلم حين مَرَّ به النبي -صلى الله عليه وسلم- مهاجرًا بالغميم، وأقام بموضعه حتى مضت بدر وأُحد، ثم قدم، وقيل: أسلم بعد انصرافه -عليه الصلاة والسلام- من بدر، وفي الصحيحين عنه: أنه غزا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- ست عشرة غزوة، ويقال: اسمه عامر، وبريدة لقب, سكن البصرة، ثم تحوَّل إلى مرو، فسكنها حتى مات سنة ثلاث وستين. "سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إن من البيان لسحرًا".
قال البيضاوي: البيان جمع الفصاحة في اللفظ والبلاغة باعتبار المعنى، والسحر في الأصل الصرف، قال تعالى: {فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} [المؤمنون: 89] ، وسمي السحر سحرًا؛ لأنه منصرف عن جهته، وقال الخطابي وابن التين: البيان نوعان: أحدهما ما يقع به الإبانة عن المراد بأي وجه كان، والآخر ما دخلته صنعته، تحسين اللفظ بحيث يروق للسامعين، ويستميل قلوبهم، وهذا هو الذي يشبه بالسحر؛ لأن السحر صرف الشيء عن حقيقته، يعني: إن منه لنوعًا يحل من العقول والقلوب في التمويه محل السحر، فإن الساحر بسحره يزيّن الباطل في عين المسحور حتى يراه حقًّا، فكذا المتكلّم بمهارته في البيان، وتقلبه في البلاغة، وترصيف النظم يسلب عقل السامع، ويشغله عن التفكير فيه والتدبر له، حتى يخيل إليه الباطل حقًّا والحق باطلًا، فتستمال به القلوب، كما تستمال بالسحر، فشبَّه به تشبيهًا بليغًا بحذف الأداة.
قال التوربشتي: وأصله أن بعض البيان كالسحر، لكنه جعل الخبر مبتدأ مبالغة في جعل الأصل فرعًا، والفرع أصلًا.
قال الباجي: قال قوم: وهذا خرج مخرج الذم؛ لأنه أطلق عليه سحرًا، والسحر مذموم؛ ولأن مالكًا أدخله في باب ما يكره من الكلام بغير ذكر الله، وقال قوم: خرج مخرج المدح؛ لأن الله أمتنَّ به على عباده، {خَلَقَ الْإِنْسَانَ, عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} ، وكان -صلى الله عليه وسلم- أبلغ الناس، وأفصحهم بيانًا، قال: "هؤلاء، وإنما جعله سحرًا لتعلقه بالنفس وميلها إليه".(5/334)
وإن من العلم جهلًا، وإن من الشعر حكمًا،
__________
قال ابن العربي وغيره: حمله على الأول صحيح، لكن لا يمنع حمله على المعنى الثاني، إذا كان في تزيين الحق، وقال ابن بطال: أكثر ما يقال هذا الحديث، ليس ذمًّا للبيان كله، ولا مدحا لقوله من البيان، فأتى بمن التي للتبعيض، قال: وكيف يذمّه وقد امتنَّ الله به؟ فقال: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ, عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} .
قال الحافظ: والذي يظهر أنَّ المراد به في الآية، ما يقع به الإبانة عن المراد بأيّ وجه كان لا خصوص ما نحن فيه، وقد اتفق العلماء على مدح الإيجاز بالمعاني الكثيرة بالألفاظ القليلة، وعلى مدح الإطناب في مقام الخطابة بحسب المقام، هذا كله من البيان بالمعنى الثاني.
نعم الإفراط في كل شيء مذموم، وخير الأمور أوسطها، وهذه الجملة رواها مالك في الموطأ، وأحمد والبخاري، والترمذي، وأبو داود أيضًا من حديث ابن عمر، قال: جاء رجلان من المشرق فخطبا، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم: "إن من البيان لسحرًا"، قال الحافظ: لم أقف على تسمية الرجلين صريحًا، وزعم جماعة أنهما لزبرقان -بكسر الزاي والراء بينهما موحدة ساكنة ثم قاف, وعمرو بن اأهتم، لما رواه البيهقي وغيره عن ابن عباس، قال: جلس إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الزبرقان بن بدر وعمرو بن الأهتم، أي: حين قدما في وفد تميم، ففخر الزبرقان فقال: يا رسول الله, أنا سيد بني تميم، والمطاع فيهم، والمجاب لديهم، أمنعهم من الظلم، وآخذ لهم حقوقهم، وهذا، أي: عمرو يعلم ذلك، فقال عمرو: إنه لشديد العارضة، مانع لجانبه، مطاع في أذنيه، فقال الزبرقان: والله لقد علم مني أكثر مما قال، ما منعه إلّا الحسد، فقال عمرو: أنا أحسدك، والله إنك لئيم الخال، حديث المثال، أحمق الوالد، مضيع في العشيرة، والله يا رسول الله لقد صدقت في الأولى، وما كذبت في الأخرى، لكني رجل إذا رضيت قلت أحسن ما علمت، وإذا غضبت قلت أقبح ما وجدت، ولقد صدقت في الأولى والأخرى جميعًا، فقال -صلى الله عليه وسلم: "إن من البيان لسحرًا"، وأخرجه الطبراني عن أبي بكرة.
كنا عند النبي -صلى الله عليه وسلم، فقدم علينا وفد تميم، فذكر نحوه، وهذا لا يلزم منه أن يكونا هما المراد بحديث ابن عمر، فإن المتكلم إنما هو عمرو وحده، وكان كلامه في مراجعة الزبرقان، فلا يصح نسبة الخطبة إليهما إلّا على طريق التجوّز، "وإن من العلم جهلًا"، لكونه علمًا مذمومًا، فالجهل به خير من علمه، كعلوم الفلسفة، وعلم أيام الجاهلية ووقائعهم, ونحو ذلك، أو المراد أن يتعلّم ما لا يحتمل عليه، كالنجوم، وعلوم الأوائل، فيشتغل به عن تعلم ما يحتاجه في دينه من علم القرآن والسنة، فيصير علمه بما لا يعنيه جهلًا بما يعنيه، "وإن من الشعر حكمًا" بكسر الحاء وفتح الكاف- جمع حكمة، أي: قولًا صادقًا مطابقًا للحق، موافقًا للواقع، كذا ضبطه(5/335)
فقال صعصعة بن صوحان: صدق رسول الله -صلى الله عليه وسلم
__________
بعضهم: فإن كان رواية فصحيح ظاهر، وإلّا فقد ضبطه ابن رسلان بضم الحاء وسكون الكاف، قال في النهاية: أي: كلامًا نافعًا يمنع من الجهل والسَّفَه وينهي عنهما، قيل: أراد بها المواعظ والأمثال التي ينتفع بها الناس والحكم العلم والفقه، والقضاء بالعدل، وهو مصدر حكم يحكم، وهذا قد رواه أبو داود أيضًا، وأحمد من حديث ابن عباس بلفظه، وفي رواية البخاري: الحكمة، وهي بمعنى الحكم، وأسقط المصنف من رواية أبي داود عقب هذا ما لفظه، وإن من القول عيالًا.
قال الراغب: جمع عيل لما فيه من الثقل، فكأنه أراد به الملال، فالسامع إمَّا عالم فيمل، أو جاهل فلا يفهم فيسأم، وفي النهاية هو عرض الحديث على من لا يريده، وليس من شأنه، كأنه لم يهتدي لمن يطلب علمه، فعرضه على من لا يريده.
قال الخطابي: هكذا رواه أبو داود عيالًا، ورواه غيره عيلًا. قال الأزهري: من قولك: علت الضلالة أعيل عيلًا, وعيلًا إذا لم تدر أي جهة تبغيها. قال أبو زيد: كأنَّه لم يهتد إلى من يطلب علمه، فعرضه على من لا يريده. انتهى. فبيِّن -صلى الله عليه وسلم- أنَّ البيان الحسن، وإن كان محمودًا، ففيه ما يذم لكونه معربًا عن باطل، وأن العلم كذلك لما سبق، وأن الشعر وإن ذمَّ في الجملة، لكنَّه قد يكون فيه ما يحمد، لاشتماله على الحِكَم ومنه ما يعذب، يقضي له بالعجب، وتقصر عنه العامة، كالسحر الذي لا يقدر عليه كل أحد، ويسمَّى السحر الحلال، "فقال" ليس قوله حين سمع صخرًا يرويه، بل عند تحديث بريدة، فلفظ أبي داود عن صخر، عن أبيه عبد الله، قال: بينما بريدة جالس مع أصحابه، قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فذكره، فقال "صعصعة بن صوحان" بضم الصاد، وبالحاء المهملتين- العبدي، نزيل الكوفة، تابعيّ كبير، مخضرم، ثقة، فصيح، قال في الإصابة: ذكر الإمام أبو بكر الطرطوشي أنه صحابي، ولم يذكر مستنده، وما أظن ذكره لذلك إلا بالتوهم لشهرته في عصر كبار الصحابة، فله ذكر في السنن مع عمر، وقد جزم ابن عبد البر بخلاف قوله، فقال: كان مسلمًا في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم، ولم يره، قلت: وله رواية عن عثمان وعلي، وشهد معه صفين، وكان خطيبًا فصيحًا، وله مع معاوية مواقف، وقال الشعبي: كنت أتعلّم منه الخطب، وروى عنه أيضًا أبو إسحاق السبيعي، والمنهال بن عمرو، وعبد الله بن بريدة، وغيرهم. مات بالكوفة في خلافة معاوية، وقيل: بعدها، وذكر العلائي: إن معاوية نفاه من الكوفة إلى جزيرة بالبحرين، وقيل: إلى جزيرة ابن كافان، فمات بها. "صدق رسول الله -صلى الله عليه وسلم"، لفظ أبي داود، فقال صعصعة -وهو أحدث القوم سنًّا: صدق الله ورسوله، ولو لم يقلها كان كذلك، فتوسمه رجل من الحلقة، فقال له بعدما تفرق القوم: ما حملك على أن قلت, ولو لم يقلها كان(5/336)
أما قوله: "إن من البيان سحرًا" , فالرجل يكون عليه الحق، وهو ألحن بالحجج من صاحب الحق, فيسحر القوم ببيانه فيذهب بالحق، وأما قوله: "إن من العلم جهلًا"، فتكلُّف العالم إلى علمه ما لا يعلم بجهله، وأمَّا قوله: "إن من الشعر حِكَمًا"، فهي هذه المواعظ والأمثال التي يتَّعظ بها الناس. ومفهومه: إن بعض الشعر ليس كذلك؛ لأن من تبعيضية, وفي البخاري:
__________
كذلك؟ قال: "أما قوله: "إن من البيان سحرًا"، فالرجل يكون عليه الحق، وهو ألحن بالحجج"، أي: أقوى إقامة البراهين "من صاحب الحق"، إما لجودة كلامه واقتداره على تأليفه، وإما لشدة فطنته وفهمه، بحيث يتمكَّن من إقامة مدعاه، "فيسحر القوم ببيانه"، أي: يخدعهم حتى يأخذ بعقولهم بسبب ما ألفاه عليهم من الكلام المشتمل على ما يخيّل لسامعه أنه الحق لدقته، "فيذهب بالحق"، فيحل به الوعيد.
فقد روى مالك، وأحمد، والستة عن أم سلمة عنه -صلى الله عليه وسلم: "إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إليّ، فلعلَّ بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له على نحو ما أسمع، فمن قضيت له بحق مسلم، فإنما هي قطعة من النار فليأخذها، أو ليتركها"، "وأما قوله: "إن من العلم جهلًا"، فتكلف العالم إلى علمه ما لا يعلم بجهله"، أي: معه: فهو صلة تكلف، أي: إن العالم إذا سُِلَ عن شيء لا يعلمه، فتحمَّل الشقة في تحصيل الجواب عنه بلا استناد إلى حجة تهديه، ولا بناء على القواعد كان عين الجهل في الواقع، وإن كان علمًا عند الناس لحصول الجواب به صورة، وهذا جعله ابن الأثير أحد قولين في معناه، ثانيهما: أن يتعلم ما لا يحتاج إليه كالنجوم وعلوم الأوائل، ويدع ما يحتاج إليه في دينه من علم القرآن والسنة، وتقدم ثالث هو حمله على العلم المذموم، "وأما قوله: "إن من الشعر حكمًا" فهي"، أي: الحِكَم، "هذه المواعظ والأمثال التي يتَّعظ بها الناس"، ومقتضى هذا قراءته -بكسر، ففتح- ومَرَّ أن ابن رسلان ضبطه بضم، فسكون محتجًّا بتفسير النهاية، وهو أيضًا صريح قول العسكري، والمعنى: إن من الشعر ما يحثُّ على الحسن، ويمنع من القبيح؛ لأن أصل الحكم في اللغة المنع، ومنه حكمة الدابة؛ لأنها تمنعها أن تنصرف كيف شاءت، قال: وفي بعض كتب المتقدمين أحكموا سفهاءكم، أي: امنعوهم عن القبيح، انتهى.
وفي المصباح: حكمة وزان قصبة، وبقيته في أبي داود، وأما قوله: "إن من القول عيالًا، فعرضك كلامك على من ليس من شأنه ولا يريده"، ومفهومه أن بعض الشعر ليس كذلك؛ لأن من تبعيضية"، فقوله من الشعر، أي: بعضه، وكذا في باقيها كما مَرَّ، "وفي البخاري" من حديث أُبَيّ بن كعب، وكذا الترمذي من حديث ابن مسعود مرفوعًا: "إن من الشعر حكمة"، أي: قولًا(5/337)
"إن من الشعر حكمة" أي: قولًا صادقًا مطابقًا للحق.
قال الطبري: وفي هذا رَدٌّ على من كره الشعر مطلقًا، واحتجَّ بقول ابن مسعود: الشعر مزامير الشيطان. وعن أبي أمامة -رفعه- أنَّ إبليس لما هبط إلى الأرض قال: رب اجعل لي قرآنًا، قال: قرآنك الشعر.
ثم أجاب عن ذلك: بأنها أحاديث واهية, وهو كذلك. فحديث أبي أمامة فيه: علي بن زيد الألهاني، وهو ضعيف. وعلى تقدير قوتها فهو محمول على الإفراد فيه والإكثار منه.
__________
صادقًا، مطابقًا للحق"، موافقًا للواقع، والمراد جنس حكمة، فلا ينافي رواية حكمًا على أنه جمع، وأولى على أنه مصدر.
"قال الطبري" الإمام ابن جرير: "وفي هذا رَدٌّ على من كره الشعر مطلقًا"، سواء كان ثناء على الله ورسوله، وذبًّا عنهما، أم لا؟ سواء كان في المسجد، أم لا؟ وثالثها، وهو الأَوْلَى التفصيل، فما اقتضى الثناء على الله ورسوله، أو الذَّبِّ عنهما، كشعر حسان، أو تضمَّن الحث على الخير، فحسن في المساجد وغيرها، وما لم يكن كذلك لم يجز؛ لأن الشعر لا يخلو غالبًا عن الكذب والفواحش، والتزين بالباطل، ولو سلم, فأقل ما فيه اللغو والهذر, والمساجد منزهة عن ذلك، والحجَّة لهذا قوله -صلى الله عليه وسلم: "الشعر بمنزلة الكلام، فحسنه كحسن الكلام، وقبيحه كقبيح الكلام".
رواه البخاري في الأدب المفرد، وأبو يعلى والطبراني بإسناد حسن، كما قال النووي: وقصر ابن بطال في جعله من كلام الشافعي، وقد عاب القرطبي المفسّر ذلك على جماعة من الشافعة، وثَمَّ أدلة سواء، "واحتجَّ" المانع مطلقًا "بقول ابن مسعود: الشعر مزامير الشيطان، و" بما جاء "عن أبي أمامة" صدي بن عجلان "رفعه, أنّ إبليس لما هبط إلى الأرض، قال: رب اجعل لي قرآنًا، قال: قرآنك الشعر، ثم أجاب" الطبري "عن ذلك بأنها أحاديث واهية"، ضعيفة جدًّا، فلا حجَّة فيها، "وهو كذلك" في جميعها، وبَيِّنَ سبب ضعف بعضها بقوله: "فحديث أبي أمامة فيه عليّ بن زيد الألهاني" بزنة الأنصاري، نسبة إلى ألهان بن مالك أخي همدان، "وهو ضعيف، وعلى تقدير قوتها"، أي: الأحاديث الواردة في ذمِّ الشعر، "فهو محمول على الإفراد فيه، والإكثار منه"، لما يئول إليه أمره من تشاغله به عن العبادة، وأما قوله -صلى الله عليه وسلم: "لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحًا حتى يريه خير له من أن يمتلئ شعرًا"، رواه أحمد والستة، فالمراد به ما تضمَّن تشبيبًا، أو هجاء، أو مفاخرة، كما هو الغالب في أشعار الجاهلين، أو هو مخصوص بما لم يشتمل على الذكر، والزهد، والمواعظ والرقائق، مما لا إفراط فيه، وقال النووي: هو محمول على التجرُّد للشعر؛ بحيث يغلب عليه، فيشغله عن القرآن والذكر، وقال القرطبي: من غلب عليه(5/338)
ويدل على الجواز أحاديث كثيرة، منها: ما أخرجه البخاري في الأدب المفرد، عن عمرو بن الشريد عن أبيه، استنشدني النبي -صلى الله عليه وسلم- من شعر أمية بن أبي الصلت فأنشدته مائة قافية.
وقوله: "الصحة والفراغ نعمتان" رواه البخاري.
__________
الشعر لزمه بحكم العادة الأدبية الأوصاف المذمومة، وعليه يحمل الحديث.
وقول بعضهم: عني به الشعر الذي هجي به أو غيره، ردَّه ابن بطال بأن هجوه كفر, كثر أو قلّ، وهجو غيره حرام وإن قلَّ، فلا يكون لتخصيص الذمّ بالكثير معنى، "ويدل على الجواز أحاديث كثيرة، منها ما أخرجه البخاري في الأدب المفرد"، وكذا مسلم في الصحيح، فالعزو له أَوْلَى، ولا يصح الاعتذار عن المصنّف، بتجويز أنه في مسلم عن الشريد بغير تعيين الواسطة، وفي الأدب بتعيين أنه عن أبيه، فإن هذا من تجويز العقل المخالف للنقل، المؤدي لضعف الإسناد، فينافي كونه في الصحيح، فإن مسلمًا والبخاري في الأدب روياه معًا "عن عمرو بن الشريد" بفتح المعجمة- الثقفي أبي الوليد الطائفي، التابعي، الثقة، "عن أبيه" الشريد بوزن الطويل، الثقفي، الصحابي, شهد بيعة الرضوان، قيل: كان اسمه مالكًا، "استنشدني النبي -صلى الله عليه وسلم- من شع أمية بن أبي الصلت"، الذي قال فيه المصطفى: "آمن شعره وكفر قلبه"، واسم أبي الصلت: عبد الله, كان يتعبَّد في الجاهلية، ويؤمن بالبعث، وأدرك الإسلام ولم يسلم، "فأنشدته مائة قافية"، أي: بيت لما في مسلم أيضًا من حديث عمرو بن الشريد، عن أبيه, ردفت النبي -صلى الله عليه وسلم- يومًا، فقال: "هل معك من شعر أمية"؟ قلت: نعم، قال: "هيه" فأنشدته بيتًا فقال: "هيه"، ثم أنشدته بيتًا، فقال: "هيه"، حتى أنشدته مائة بيت، فقال: "إن كاد ليسلم".
قال القرطبي: فيه دليل على حفظ الأشعار والاعتناء بها، إذا تضمَّنت الحكم والمعاني المستحسنة شرعًا وطبعًا، وقد أنشد كعب بن زهير للنبي -صلى الله عليه وسلم: بانت سعاد، وأتى فيها من الاستعارات والتشبيهات بكل بديع، وتشبيه ريقها بالراح، ولم ينكر عليه.
"وقوله: "الصحة والفراغ نعمتان"، قال العسكري: الصحة عند بعضهم الشباب، والعرب تجعل مكان الصحّة الشباب، كما قالوا بالقلب الفارغ، والشباب المقبل تكسب الآثام، إن يكن الشغل محمده، فالفراغ مفسدة، ولا تفرغ قلبك من فكر، ولا ولدك من تأديب، ولا عبدك عن مصلحة، فإن القلب الفارغ يحث على السوء، واليد الفارغة تنازع إلى الآثام، وقال ابن دريد: أفضل النعم العافية والكفاية؛ لأن الإنسان لا يكون فارغًا حتى يكون مكفيًا، والعافية هي الصحة، ومن عوفي وكفي فقد عظمت عليه النعمة، "رواه البخاري" تسمح في غزوه بهذا اللفظ له، فلفظه في كتاب الرقائق عن ابن عباس، قال -صلى الله عليه وسلم: "نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة(5/339)
.................................
__________
والفراغ".
قال في فتح الباري: كذا لسائر الرواة، لكن عند أحمد: "الفراغ والصحة"، أخرجه أبو نعيم في المستخرج بلفظ: "الصحة والفراغ نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس"، وأخرجه الدارمي عن مكي بن إبراهيم، شيخ البخاري، فيه بلفظ: "إن الصحة والفراغ نعمتان من نعم الله"، والباقي سواء انتهى فما عزاه المصنف للبخاري، إنما هو لفظ أبي نعيم في مستخرجه ونقض باقيه.
قال الحافظ: والغَبْن بالسكون والتحريك، وقال الجوهري: هو في البيع بالسكون، في الرأي بالتحريك، وعلى هذا، فيصح كل منهما في هذا الخبر، فإن من لا يستعملهما فيما ينبغي، فقد غبن لكونه باعهما ببخس، ولم يجد رأيه في ذلك.
قال ابن بطال: معنى الحديث: إن المرء لا يكون فارغًا حتى يكون مكفيًا صحيح البدن، فمن حصل له ذلك، فليحرص على أن لا يغبن بأن يترك شكر الله على ما أنعم به عليه، ومِنْ شكره امتثال أوامره واجتناب نواهيه، فمن فرَّط في ذلك فهو المغبون، وأشار بقوله: "كثير من الناس" إلى أن الذي يوفق لذلك قليل.
وقال ابن الجوزي: قد يكون الإنسان صحيحًا، ولا يكون متفرغًا لشغله بالمعاش، وقد يكو غنيًّا، ولا يكون صحيحًا، فإذا اجتمعتا، فغلب عليه الكسل من الطاعة، فهو المغبون، وتمام ذلك أن الدنيا مزرعة للآخرة، وفيها التجارة التي يظهر ربحها في الآخرة، فمن استعمل فراغه وصحته في طاعة الله، فهو المغبوط، ومن استعملها في معصية الله، فهو المغبون؛ لأن الفراغ يعقبه الشغل، والصحة يعقبها السقم، ولو لم يكن إلّا الهرم، كما قيل:
يسر الفتى طول السلامة والبقا ... فكيف ترى طول السلامة تفعل
ترد الفتى بعد اعتدال وصحة ... ينوء إذا رام القيام ويحمل
وقال الطيبي: ضرب -صلى الله عليه وسلم- للمكلف مثلًا بالتاجر الذي له رأس مال، فهو يبغي الربح مع سلامة رأس المال، فطريقه أن يتحرَّى فيمن يعامله، ويلزم الصدق والحذق لئلَّا يغبن، فالصحة والفراغ رأس المال، فينبغي له أن يعامل الله بالإيمان، ومجاهدة النفس، وعدو الدين ليربح خيري الدنيا والآخرة، وقريب منه قوله تعالى: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الصف: 10] الآيات، وعليه أن يجتنب مطاوعة النفس، ومعاملة الشيطان؛ لئلَّا يضيّع رأس ماله مع الربح، وقوله: "مغبون فيهما كثير من الناس"، كقوله تعالى: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ: 13] ، فالكثير في الحديث في مقابلة القليل في الآية.
وقال القاضي أبو بكر بن العربي: اختلف في أول نعمة الله على العبد، فقيل: الإيمان، قيل:(5/340)
وقوله -صلى الله عليه وسلم: "استعينوا على الحاجات بالكتمان, فإن كل ذي نعمة محسود".
رواه الطبراني في معاجيمه الثلاثة عن معاذ بن جبل رفعه،
__________
الحياة، وقيل: الصحة. والأَوَّل أَوْلَى؛ فإنه نعمة مطلقة، وأمَّا الحياة والصحة، فإنهما نعمة دنيوية، ولا تكون نعمة حقيقية إلّا إذا صاحبها الإيمان، وحينئذ يغبن فيهما كثير من الناس، أي: يذهب ربحهم، أو ينقص، فمن استرسل مع نفسه الأمَّارة بالسوء، الخالدة إلى الراحة، فترك المحافظة على الحدود، والمواظبة على الطاعة، فقد غبن، وكذلك إذا كان فارغًا، فإنَّ المشغول قد يكون له معذرة، بخلاف الفارغ، فإنه يرتفع عند المعذرة، وتقوم عليه الحجة، انتهى.
"وقوله" صلى الله عليه وسلم: "استعينوا على" قضاء "الحاجات بالكتمان". بالكسر، أي: إخفائها عن الغير، مستعينين بالله على الظفر بها، فالكتمان وإن كان سببًا عاديًا لقضائها، لكنَّه في الحقيقة لله، وعلل ذلك بقوله: "فإن كل ذي نعمة محسود"، فإن أظهرتم حوائجكم للناس حسدوكم، فعارضوكم في أمركم.
قال السخاوي وغيره: والأحاديث الواردة في التحدّث بالنعم محمولة على ما بعد وقوها، فلا تعارض هذا، نعم إن ترتَّب على التحدث بها حسد، فالكتمان أَوْلَى. انتهى.
قال الراغب: وإذاعة السر من قلة الصبر وضيق الصدر، ويوصف به ضعفة الرجال والنساء والصبيان، وسبب صعوبة كتمان السر أن للإنسان قوتين: آخذة ومعطية، وكلتاهما متسوفة إلى الفعل المختص به، ولولا أنَّ الله وكَّل المعطية بإظهار ما عندها، لما أتاك بالأخبار من لم تزوده، فصارت هذه القوة تتشوف إلى فعلها الخاص بها، فعلى الإنسان أن يمسكها، ولا يطلقها إلا حيث يجب إطلاقها، "رواه الطبراني في معاجيمه الثلاثة عن معاذ بن جبل رفعه"، لكن بلفظ: "استعينوا على إنجاح حوائجكم بالكتمان"، والباقي سواء، كما عزاه السخاوي للمعاجيم الثلاثة، ومثله للسيوطي، وفي شرحه: إن لفظ الطبراني "استعينوا على قضاء حوائجكم"، فلعل في الطبراني روايات، وكذا أخرج الحديث البيهقي في الشعب، وأبو نعيم، وابن أبي الدنيا، والعسكري، والقضاعي، وابن عدي, كلهم عن معاذ، وفيه عند الجميع سعيد بن سلام العطار، كذَّبه أحمد وغيره، وقال فيه العجلي: لا بأس به، ولكن أخرجه العسكري أيضًا من غير طريقه، بسند ضعيف مع انقطاعه بلفظ: "استعينوا على طلب حوائجكم بالكتمان لها، فإن لكل نعمة حسدة، ولو أنَّ أمرأ كان أقوم من قدح، لكان له من الناس غامزًا"، ويستأنس له بما أخرجه الطبراني في الأوسط، عن ابن عباس، مرفوعًا: "إن لأهل النعم حسادًا فاحذروهم" في الباب عن جماعة منهم: عمر عند الخرائطي، وابن عباس عند الخطيب، فلا يسوغ دعوى وضعه، كما صنع ابن الجوزي، وقد جزم الحافظ العراقي، بأنه ضعيف فقط، ومنهم: علي، كما أفاده بقوله، "وأخرجه الخلعي". بكسر(5/341)
وأخرجه الخلعي عن علي مرفوعًا: "استعينوا على قضاء الحوائج بالكتمان لها".
وقوله: "المكر والخديعة في النار".
رواه الديلمي عن أبي هريرة، ومعناه: إن ذا المكر والخداع لا يكون تقيًّا ولا خائفًا لله؛ لأنه إذا مكر غدر، وإذا غدر خدع، وإذا فعلهما أوبق, وهذا لا يكون في تقيّ، فكلُّ خِلَّة جانبت التقى فهي في النار.
__________
الخاء، وفتح اللام، نسبة إلى بيع الخلع, أبو الحسن بن الحسن بن الحسين، له الخلعيات في عشرين جزء، "عن علي مرفوعًا: "استعينوا على قضاء الحوائج بالكتمان لها"، فمن كتم سره ملك أمره، كما قيل، وليس بحديث.
وقال الشافعي: من كتم سِرَّه كانت الخيرة في يده، قال: وروي لنا عن عمرو بن العاص أنه قال: ما أفشيت إلى أحد سرًّا، فأفشاه, فلمته؛ لأني كنت أضيق منه سرًّا، وأخذ من الحديث أن على العقلاء إذا أرادوا التشاور في أمر إخفاء التحاور فيه, والاجتهاد في طي سرهم.
قال حكيم: من كتم سِرَّه كان الخيار إليه، ومن أفشاه كان الخيار عليه، وكم من إظهار سِرٍّ أراق دم صاحبه، ومنع من بلوغ مآربه، ولو كتمه كان من سطواته آمنًا, ومن عواقبه سالمًا، وبنجاح حوائجه فائزًا. وقال بعضهم: سرك من دمك، فإذا تكلمت به فقد أرقتهنّ. وقال أنوشروان: من حصَّن سره فله بتحصينه خصلتان: الظفر بحاجته، والسلامة من السطوات.
وفي منثور الحكم: انفرد بسرِّك، ولا تودعه حازمًا فيزول، ولا جاهلًا فيحول، لكن من الأسرار ما لا يُسْتَغْنَى فيه عن مطالعة صديق، ومشورة ناصح, فيتحرى له من يأتمنه عليه، ويستودعه إياه، فما كل من كان أمينًا على الأموال أمينًا على الأسرار، والعِفَّة عن المال أيسر من العفة عن السر.
"وقوله" صلى الله عيه وسلم: "المكر والخديعة في النار"، رواه الديلمي عن أبي هريرة"، والقضاعي عن ابن مسعود به, زاد الثاني: "ومن غشنا فليس منَّا"، وفي الباب غيرهما، ونحوه: "ليس منَّا من ضارَّ مسلمًا، أو ماكره" رواه الترمذي، "ومعناه" كما قال العسكري: "إن ذا"، صاحب "المكر والخداع لا يكون تقيًّا، ولا خائفًا لله؛ لأنه إذا مكر" أضمر السوء لغيره، "غدر" به، فنقض عهده ولم يف به، "وإذا غدر خدع" أوصل المكروه للغير من حيث لا يعلم، "وإذا فعلهما أوبق" نفسه، أي: أهلكها، "وهذا" الفعل لا يكون في تقيٍّ, فكل خلة" بالفتح- خصلة "جانبت التقى، فهي في النار"، أي: صاحبها، ومقتضى هذا تغاير المكر للخديعة؛ لأنه جعل المكر سبب الغدر، وهو سبب الخديعة والسبب مغاير للمسبب.(5/342)
وقوله: "من غَشَّنَا فليس منا". رواه مسلم في صحيحه عن حديث أبي هريرة.
وقوله: "المستشار مؤتمن".
__________
وفي القاموس: وغيره المكر الخديعة، والجواب: إنه جَرَّدَ المكر عن معناه، كما ذكرنا، فلا يخالف ترادفهما.
وقال الراغب: المكر والخديعة متقاربان، وهما اسمان لكل فعل يَقْصِدُ فاعله في باطنه خلاف ما يقتضيه ظاهره، ويكون سيئًا, كقصد إنزال مكروه بالمخدوع، وإياه قصد -صلى الله عليه وسلم- بهذا الحديث، ومعناه: يؤديان بقاصدهما إلى النار ويكون حسنًا، وهو أن يقصد فاعلهما مصلحة بالمخدوع والممكور به، كما يفعل بالصبي إذا امتنع من فعل خير، ولكونهما ضربين, قال تعالى: {الَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} [فاطر: 10] ، {وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ} ، {وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} ، ووصف نفسه بالمكر الحسن، فقال: {وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [آل عمران: 54] ، [الأنفال: 30] .
"وقوله" صلى الله عليه وسلم: "من غشنا"، أي: لم ينصحنا، وزَيِّن لنا غير المصلحة, "فليس منَّا"، أي: ليس على طريقنا ومنهاجنا؛ لأنَّ طريقتنا الزهد في الدنيا، والرغبة عنها، وعدم الرغبة والطمع، الباعثين على الغش.
قال الطيبي: لم يرد به نفيه عن الإسلام، بل نفي خلقه عن أخلاق المسلمين، أي: ليس هو على سنتنا وطريقتنا من مناصحة الإخوان، كما يقول الإنسان لصاحبه: أنا منك، يريد الموافقة والمتابعة، قال تعالى عن إبراهيم -عليه السلام: {فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي} [إبراهيم: 36] ، وهذا قاله -صلى الله عليه وسلم- لما مَرَّ على صبرة طعام، فأدخل يده فيها، فابتليت أصابعه، فقال: "ما هذا"؟ قال: أصابته السماء، قال: "أفلا جففته فوق الطعام ليراه الناس"، ثم ذكر الحديث.
"رواه مسلم في صحيحه عن حديث أبي هريرة" بزيادة: "ومن حمل علينا السلاح فليس منَّا"، وفي رواية له أيضًا: "من غش فليس مني"، وأخرجه العسكري بلفظ الترجمة، وزاد: قيل: يا رسول الله, ما معنى ليس منَّا، فقال: "ليس مثلنا".
وعند أبي نعيم والطبراني في الكبير والصغير برجال ثقات عن ابن مسعود رفعه: "من غشنا فليس منا، والمكر والخداع في النار"، أي: صاحبهما يستحق دخولها إن لم يعف الله؛ لأن الداعي إلى ذلك الحرص والشح والرغبة في الدنيا، وذلك يجر إلى النار، وأخذ الذهبي أن الثلاثة من الكبائر، فعدَّها منها، وللدارقطني بسند ضعيف عن أنس: "من غش أمتي فعليه لعنة الله".
"وقوله" صلى الله عليه وسلم: "المستشار مؤتَمَن"، أي: أمين على ما استشير فيه، ولذا احتاج كالناصح إلى كونه أمينًا مجربًا حازمًا ناصحًا، ثابت الجأش، غير معجب بنفسه، ولا متلوّن في رأيه،(5/343)
رواه أحمد وغيره. ومعناه: إن من أفضى إليك بسرِّه وآمنك على ذات نفسه, فقد جعلك بموضع نفسه، فيجب عليك أن لا تشير عليه إلّا بما تراه صوابًا،
__________
ولا كاذب في مقاله، فارغ البال وقت الاستشارة، ولذا قيل: إنهما يحتاجان إلى علم كبير كثير، فيحتاج أولًا إلى علم الشريعة، وهو العلم المتضمِّن لأحوال الناس، وعلم الزمان والمكان، وعلم الترجيح إذا تقابلت هذه الأمور، فقد يكون ما يصلح الزمان يفسد الحال أو المكان، وهكذا، فينظر إلى الترجيح، فيفعل بحسب الأرجح عنده، مثاله: أن يضيق الزمن عن فعل أمرين اقتضاهما الحال، فيشير بأهمها، وإذا عرف من حال إنسان المخالفة، وأنه إذا أرشده لشيء فعل ضده، أشار عليه بما لا ينبغي ليفعل ما ينبغي، وهذا يسمَّى علم السياسة، فإنه يسوس بذلك النفوس الجموحة، الشاردة عن طريق مصالحها، فلذا يحتاج المشير والناصح إلى علم وعقل، وفكر صحيح وروية حسنة، واعتدال مزاج، وتؤدة وتأنٍّ، فإن لم يجمع هذه الخصال فخطؤه أسرع من إصابته، فلا يشير ولا ينصح، قالوا: وما في مكارم الأخلاق أدق ولا أخفى ولا أعظم من النصيحة.
قال الراغب: والاستشارة استنباط الرأي من غيره، فيما يعرض من المشكلات، ويكون في الأمور الجزئية التي يتردَّد فيها بين فعل وترك ونعمت العدة هي.
قال علي: المشاورة حصن من الندامة، وأمن من الملامة، ويقال: الأحمق من قطعه العجب ع الاستشارة، والاستبداد عن الاستخارة، "رواه أحمد" من حديث ابن مسعود بزيادة: وهو بالخيار إن شاء تكلّم، وإن شاء سكت، فإن تكلَّم فليجتهد رأيه، "وغيره" كأصحاب السنن الأربعة عن أبي هريرة، والترمذي عن أم سلمة، والطبراني عن سمرة بزيادة: إن شاء أشار، وإن شاء لم يشر، والقضاعي عنه بلفظ: "المستشار مؤتمن، فإن شاء أشار، وإن شاء سكت، فإن أشار فليشر بما لو نزل به لفعله، والطبراني عن عليٍّ وزاد: فإذا استشير فليشر بما هو صانع لنفسه، وللعسكري عن عائشة: المستشير معان، والمستشار مؤتمن، فإذا استشير أحدكم فليشر بما هو صالح لنفسه، وفي الباب جابر بن سمرة، وأبو الهيثم، وابن عباس، وآخرون.
قال السيوطي: وهو متواتر، "ومعناه"، كما قال العسكري: "إن من أفضى إليك بسرِّه، وآمنك على ذات نفسه"، إضافة بيانية إن أريد بالذات النفس، ومن إضافة المحل للحال حقيقة، أو اعتبارًا على أن النفس الروح، أو جوهر مجرَّد خارج عن البدن، متعلق به تعلق التدبير، "فقد جعلك بموضع نفسه، فيجب عليك أن لا تشير عليه إلا بما تراه صوابًا"، وهذا صادق بالترك مع العلم بالصواب؛ إذ المعنى: إذا أشرت فلا تشر إلا بالصواب، وهو مدلول سين الطلب في المستشار، وأصرح منه قوله: وهو بالخيار.. إلخ، فإنه صريح في أنه لا يجب؛ لأنه لم يتعين عليه ما لم يتحقق بالترك ضرر المحترم من نفس، أو مال، أو عرض، وإلّا تعيِّنَ نصحه، بل لو علمه(5/344)
فإنه كالأمانة للرجل الذي لا يأمن على إيداع ماله إلّا الثقة في نفسه، والسر الذي ربما كان في إذاعته تلف النفس أَوْلَى بأن لا يجعل إلّا عند الموثوق به.
وقوله -صلى الله عليه وسلم: "الندم توبة" رواه الطبراني في الكبير.
__________
وجب، وإن لم يستشره، كما تفيده أدلة أخرى: كـ "الدين النصيحة"، و "لا ضرر ولا ضرار"، بل وأدلة خاصة كقوله: فليشر، بلام الأمر، وهو للوجوب.
وقد روى ابن ماجه والخرائطي، وغيرهما عن جابر مرفوعًا: "إذا استشار أحدكم أخاه فليشر عليه بما هو الأصلح، وإلا فقد خانه"، فقوله: وإلا صادق بما إذا ترك مع علم الأصلح، وما إذا أشار بغيره على أن حديث الخيار يمكن تأويله بأن معناه: فعل ما ظهر له أنه الخيار من السكوت والنصح، لا أنه يخير بينهما، وإن ظهر له الأصلح، "فإنه كالأمانة للرجل الذي لا يأمن على إيداع ماله إلّا الثقة في نفسه، والسر الذي ربما كان في إذاعته" إفشائه "تلف النفس أَوْلَى بأن لا يجعل إلّا عند الموثوق به"، فيجب عليه بذل النصح إن تعيِّن، فيذكر الأخف من عيوب المستشار فيه إن لم يكتف، وإلّا استوعب مراعيًا في بيانها الأخفّ، فالأخف فإن لم يكتف إلّا بأعظمها ذكره.
"وقوله" صلى الله عليه وسلم: "الندم توبة"، أي: الحزن على ما فعله، أو كراهته له بعد فعله من حيث كونه تارًا فيه لإجلال الله، ومخالفًا أمره أو نهيه، إمَّا لافتضاح، أو مرض، أو عقاب, ونحو ذلك، فليس توبة، بل قد يكون معصية؛ لأنه لولا مراقبة الناس لم يكن عنده حرج من فعل المعصية، ثم المعنى: إنه معظم أركانها؛ لأنه شيء يتعلق بالقلب والجوارح تبع له، فإذا ندم القلب انقطع عن المعاصي، فرجعت برجوعه، وليس المراد أنَّ الندم وحده كافٍ فيها، فهو نحو: "الحج عرفة".
قال الغزالي: إنما نَصَّ على أنه توبة، ولم يذكر جميع شروطها ومقدماتها؛ لأن الندم غير مقدور للعبد؛ لأنه قد يندم على أمر وهو يريد أن لا يكون، والتوبة مدورة له، مأمور بها، فعلم أن في الحديث معنًى لا يفهم من ظاهره، وهو أنَّ الندم لتعظيم حقوق الله وخوف عقابه مما يبعث على التوبة النصوح، فإذا ذكر مقدماتها الثلاث، وهي ذكر غاية قبح الذنب، وذكر شدة عقوبة الله وأليم غضبه، وذكر ضعف العبد وقلة حيلته يندم, ويحمله الندم على ترك اختيار الذنب، وتبقى ندامته بقلبه في المستقبل، فيحمله على الابتهال والتضرُّع، ويجزم بعدم العود، وبذلك تتمّ شروط التوبة الأربعة، فلمَّا كان من أسبابها سماه باسمها، "رواه الطبراني في الكبير"، وأبو نعيم في الحلية عن أبي سعيد الأنصاري بزيادة: "والتائب من الذنب كمن لا ذنب له"، وسنده ضعيف، وأخرجه ابن ماجه، والطيالسي عن ابن مسعود بلفظ الترجمة فقط، ورجاله ثقات، بل قال الحافظ(5/345)
وقوله: "الدالّ على الخير كفاعله".
رواه العسكري وابن جميع، ومن طريقه المنذري عن ابن عباس في حديث مرفوع بلفظ: "كل معروف صدقة
__________
في الفتح: سنده حسن.
قال السخاوي: يعني لشواهده، وإلّا فأبو عبيدة لم يسمع من ابن مسعود، انتهى، وقد رواه أحمد، والترمذي، وابن ماجه، والحاكم، والبيهقي عن أنس بلفظ الترجمة فقط، وفي الباب ابن عباس، وأبو هريرة، وغيرهما.
"وقوله" صلى الله عليه وسلم: "الدالّ على الخير"، شامل لجميع أنواع الخصال الحميدة، "كفاعله"، فإن حصل ذلك الخير فله مثل ثوابه، وإلا فله أجر دلالته، وقد ذهب جمع منهم: عياض، وتبعه النووي إلى أنّ المثل بلا تضعيف؛ لأن الدالّ لم يفعله.
قال في المفهم: وليس كما قال، بل ظاهر اللفظ المساواة، ووجهه أنَّ أجر الأعمال إنما هو بفضل الله، يهبه لمن يشاء، على أنَّ فعل شاء, وجاء في الشرع في ذلك كثير، وقال الأبي: ظاهر الحديث المساواة، وقاعدة: إن الثواب على قدر المشقة تقتضي خلافه؛ إذ من أنفق عشرة دراهم ليس كمن دَلَّ، ويدل عليه أن من دَلَّ إنسانًا على قتل آخر يعزّر، ولا يقتص منه.
قال شيخنا: وقد يقال: التشبيه في أصل الثواب، ولا يلزم منه التساوي في مقداره، وقد يقترن به ما يربو بسببه ثواب الدالّ على الفاعل، كما لو ترتَّبَ على دلالته خير لغير من دله، كأمره -صلى الله عليه وسلم- بالإيمان والطاعة امتثالًا لقوله: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [المائدة: 67] ، فإن ترتَّبَ على تبليغه ما لا يعلم قَدْرَه إلا الله، مع مخالفة كثير من المأمورين فيما أمر به، "رواه العسكري" والبيهقي في الشعب "وابن جميع، ومن طريقه المنذري عن ابن عباس في حديث مرفوع بلفظ: "كل معروف صدقة"، أي: كل ما يفعل من البر فثوابه كثواب المتصدق بالمال، والمعروف لغة: ما عرف, وشرعًا: قال ابن عرفة: الطاعة, ولما تكرر الأمر في الكتاب والسنة بالصدقة مالت إليها القلوب، فأخبرهم بأنَّ كل طاعة من قول، أو فعل أو بذل صدقة، يشترك فيها المتصدقون، حثًّا منه للكافّة على المبادرة إلى فعل المرء طاقته، وسميت صدقة؛ لأنها من تصديق الوعد بنفع الطاعة عاجلًا وثوابها آجلًا.
وقال البيضاوي: المعروف في اصطلاح الشرع: ما عرف فيه حسنه، وبإزائه المنكر: وهو ما أنكره وحرمه.(5/346)
والدالُّ على الخير كفاعله, والله يحب إغاثه اللهفان". والمعنى: إن من دلَّك على خير وأرشدك إليه فنلته بإرشاده فكأنه فعل ذلك الخير.
وقوله: "حبك للشيء يعمي ويصم" رواه أبو داود والعسكري من حديث بقية
__________
وقال الراغب: المعروف اسم لكل ما عرف حسنه في الشرع والعقل معًا، ويطلق على الاقتصاد لثبوت النهي عن السرف.
وقال ابن أبي جمرة: يطلق المعروف على ما عرف بأدلة الشَّرع أنه من عمل البرِّ، جرت به العادة أم لا. وقال الماوردي: المعروف نوعان: قول وعمل، فالقول طيب الكلام وحسن البر والتودد بجميل القول، والباعث عليه حسن الخلق ورِقَّة الطبع، لكن لا يسرف فيه، فيكون ملقًا مذمومًا، وإن توسَّط واقتصد، فهو بر محمود، والعمل بذل المال والإسعاف بالنفس، والمعونة بالنائبة, والباعث عليه حب الخير للناس, وإيثارًا لصلاح لهم, وليس في هذه الأمور سرف, ولا لغايتها حد، بخلاف الأولى، فإنها وإن كثرت أفعال تعود بنفعين، نفع يعود على فاعلها باكتساب الأجر، وجميل الذكر، ونفع المعان بها في التخفيف والمساعدة، فذلك سمَّاه صدقة، "والدال على الخير كفاعله، والله يحب إغاثة اللهفان"، المكروب المتحيِّر في أمره، وأخرج ذا الحديث بتمامه الدارقطني عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، والعسكري، وأحمد، وأبو يعلى عن بريدة بلفظ الترجمة، وزيادة: "والله يحب إغاثة اللهفان"، والبزار عن أنس بلفظ: "الدال على الخير كفاعله، والدال على الشر كفاعله"، أي: لإعانته عليه، فعليه كفل من الإثم، وإن لم يحل بمباشرته، وعزوه للبزار عن ابن مسعود سهو، إنما هو عن أنس، ورواه مسلم بمعناه عن ابن مسعود بلفظ: "مَنْ دلَّ على خير فله مثل أجر فاعله".
وقال أبو الدرداء: الدال على الخير وفاعله شريكان، أخرجه ابن عبد البر، "والمعنى: إن من دلك على خير وأرشدك إليه فنلته بإشادة، فكأنَّه فعل ذلك الخير"، فيثاب كثواب الفاعل، أو أقلّ، أو أزيد على ما سبق، ومقتضى قوله: فنلته لو لم تنله لمانع، أو عدم إرادة الفعل، لا يكون له مثل ثواب الفعل، ومقتضى الحديث الإطلاق، ولا مانع منه.
"وقوله" صلى الله عليه وسلم: "حبك للشيء" بلام ودونها روايتان "يعمي" عن عيوب المحبوب، "ويصم" عن سماعها، فلا تبصر قبيح فعله، ولا تسمع فيه نهي ناصح، بل ترى قبيحه حسنًا، وتسمع منه الجفاء قولًا جميلًا، أو المعنى: يعمي ويصم عن طريق الآخرة، أو عن طريق الهدى، وفائدته: النهي عن حب ما لا ينبغي الإغراق في حبه، "رواه أبو داود والعسكري من حديث بقية" بموحدة فقاف "ابن الوليد" بن صائد بن كعب الكلاعي، صدوق، كثير التدليس عن الضعفاء، مات سنة(5/347)
ابن الوليد، عن أبي بكر بن عبد الله بن أبي مريم عن خالد بن محمد الثقفي عن بلال بن أبي الدرداء عن أبيه مرفوعًا، ولم ينفرد به بقية, بل توبع عليه. وابن أبي مريم ضعيف. وقد حكم الصغاني عليه بالوضع. وتعقَّبه العراقي وقال: ابن أبي مريم لم يتهمه أحد بكذب، ويكفينا سكوت أبي داود عليه، فليس بموضوع، بل ولا شديد الضعف، فهو حسن.
وقال العسكري: أراد النبي -صلى الله عليه وسلم- أنَّ من الحب ما يعميك عن طريق الرشد، ويصمك عن استماع الحق، وأن الرجل إذا غلب الحب على قلبه ولم يكن له رادع من عقل أو دين أصمَّه حبه عن العدل وأعماه عن الرشد فلا، ولذا قال بعض الشعراء:
__________
سبع وتسعين ومائة، وله سبع وثمانون سنة، "عن أبي بكر بن عبد الله بن أبي مريم" الغسَّاني الشامي، وقد ينسب إلى جده، قيل: اسمه بكير، وقيل: عبد السلام, ضعيف، وكان قد سُرِقَ بيته فاختلط، مات سنة ست وخمسين ومائة.
روى له أبو داود، والترمذي، والنسائي، "عن خالد بن محمد الثقفي"، الدمشقي، نزيل حمص، ثقة، "عن بلال بن أبي الدرداء" الأنصاري، قاضي دمشق، ثقة, مات سنة اثنتين، وقيل: سنة ثلاث وتسعين، "عن أبيه" الصحابي الجليل المشتهر بكنيته، وفي اسمه خلف "مرفوعًا" إليه -عليه الصلاة والسلام، "ولم ينفرد به بقية، بل توبع عليه"، فتابعه شريح بن يزيد، ومحمد بن حرب عند العسكري، ويحيى البابلي عند القضاعي، وعصام بن خالد ومحمد بن مصعب عند أحمد في مسنده، "وابن أبي مريم ضعيف، وقد حكم الصغاني عليه بالوضع، وتعقَّبه العراقي، وقال ابن أبي مريم: لم يتهمه أحد بكذب"، إنما سُرِقَ له حلي، فأنكر عقله, وضعفه غير واحد، "ويكفينا سكوت أبي داود عليه، فليس بموضوع، بل ولا شديد الضعف، فهو حسن" على رأي ابن الصلاح، فيما سكت عليه أبو داود.
"وقال العسكري: أراد النبي -صلى الله عليه وسلم- أنَّ من الحب ما يعميك" أيها المحب "عن طريق الرشد، ويصمّك عن استماع الحق، وإن الرجل إذا غلب الحب على قلبه، ولم يكن له رادع" مانع "من عقل، أو دين أصمَّه حبه"، أي: جعله كالأصم "عن العدل"، اللوم لا يسمعه فيه، "وأعماه عن الرشد، فلا" يبصر فيه عيبًا، بل يرى مساويه، وما يسمعه فيه محاسن، والحب لذة يعمي عن رؤية غير المحبوب، ويصم عن سماع العدل فيه، وإذا استولت على القلب سلبته عن صفاته، "ولذا قال بعض الشعراء:
وعين الرضا عن كل عيب كليلة ... ولكن عين السخط تبدي المساويا(5/348)
وعين الرضا عن كل عيب كليلة ... ولكن عين السخط تبدي المساويا
أشار إليه شيخنا السخاوي في المقاصد الحسنة.
وقوله -عليه الصلاة والسلام: "العارية مؤادَّة والمنحة مردودة, والدَّيْن مقضي والزعيم غارم" رواه الترمذي وأبو داود.
وقوله: "سبقك بها عكاشة
__________
لكن هنا بمعنى الواو لا للاستدراك؛ إذ لا يتوهم من كون عين الرضا كليلة، أن تكون عين السخط كذلك حتى يستدل، وأنشده غيره، كما أنَّ وهو واضح، "أشار إليه شيخنا السخاوي في المقاصد الحسنة"، وزاد على ما هنا، وعن ثعلب، قال: تعمي العين عن النظر إلى مساويه، وتصمّ الأذن عن استماع العذل فيه، وأنشأ يقول:
وكذبت طرفي في فيك والطرف صادق ... وأسمعت أذني فيك ما ليس يسمع
وقيل: تعمى وتصم عن الآخرة، وفائدته: النهي عن حب ما لا ينبغي الإغراق في حبه، انتهى.
"وقوله -عليه الصلاة والسلام: "العارية مؤادة"، أي: واجبة الرد على مالكها عينًا حال الوجود، وقيمة عند التلف عند الشافعي وأحمد، وقال أبو حنيفة: هي أمانة في يده لا تضمَّن إلا بالتعدي، وقال مالك، إن خفي تلفها ضمن، وإلا فلا، "والمنحة" بالكسر: شاة أو ناقة- يعطيها صاحبها رجلًا يشرب لبنها، ثم يردها إذا انقطع اللبن "مردودة" إلى مالكها؛ لأنه لم يعطه عينها بل لبنها، فإذا مضت أيامه ردّها، "والدَّيْن" بفتح الدال "مقضيّ" إلى صاحبه، أي: صفته اللازمة هي القضاء وجوبًا، وعَبَّر فيه بالقضاء، وفيما قبله بالرد؛ لأن المردود بدل الدَّيْن لا نفسه، "والزعيم"، أي: الكفيل، يعني الضمين، "غارم" لما ضمنه بمطالبة المضمون له، سواء كان عن ميت لترك وفاء أم لا، عند الشافعي ومالك، خلافًا لأبي حنيفة؛ لأنه قول عام على تأسيس القواعد، فحمل على عمومه، فإن كانت الكفالة بالبدن فلا غرم عند الشافعي مطلقًا، كمالك إن أحضره وإلا غرم، وهل لو أثبت عدمه تردد، "رواه الترمذي" وابن ماجه في الوصايا، "وأبو داود" في البيع، وأحمد، كلهم عن أبي أمامة، ورجاله ثقات، وأورده الضياء في المختارة، وضعَّفه ابن خرم، فلم يصب، قاله الحافظ في تخريج الرافعي، وهو يرد جزمه في تخريج الهداية بضعفه.
"وقوله" صلى الله عليه وسلم: "سبقك بها" أي: الفضيلة التي هي دخول الجنة بغير حساب "عكاشة" بشد الكاف في الأَشْهَر.
قال القرطبي: لم يره أهلًا لذلك، فأجابه بهذا الجواب، وقد ضرب المثل به، فيقال لمن(5/349)
رواه البخاري.
وقوله: "عجب ربك من كذا".
روي من عدة روايات عند البخاري وغيره, ومعناه كما قال ابن الأثير: عظم ذلك عنده وكبر لديه، أَعْلَمَ الله أنه إنما يتعجّب الآدمي من الشيء إذا عظم موقعه عنده وخفي عليه سببه، فأخبرهم بما يعرفون ليعلموا موقع هذه الأشياء عنده.
وقيل: معنى "عجب ربك" أي: رضي وأثاب، فسمَّاه عجبًا مجازًا وليس بعجب في الحقيقة, والأول الوجه.
وقوله: "قُتِلَ صبرًا"
__________
سبق في الأمر "سبقك بها عكاشة"، "رواه البخاري" ومسلم، كلاهما عن ابن عباس، في السبعين ألفًا الذين يدخلون الجنة بغير حساب، فقال عكاشة: ادع الله أن يجعلني منهم، فقال: "أنت منهم"، فقام آخر فذكره.
"وقوله: "عجب ربك من كذا"، روي من عدة روايات عند البخاري، وغيره، ومعناه كما قال ابن الأثير: عظم ذلك عنده وكبر" بضم الباء "لديه" عطف تفسير، "أَعْلَمَ الله" عباده على لسان رسوله؛ "أنه" أي: الشأن والحال "إنما يتعجَّب الآدمي من الشيء إذا عظم موقعه عنده" مصدر ميمي، أي: وقوعه، أو اسم مكان، أي: محل وقوعه، ومنه موقع الغيث: موضعه الذي يقع فيه، "وخفي عليه سببه"، وذلك محال على الله، "فأخبرهم بما يعرفون، ليعلموا موقع هذه الأشياء عنده"، أي: مقدارها شرفًا ومكانة، فيسارعوا إليها، "وقيل: معنى "عجب ربك" أي: رضي وأثاب، فسمَّاه عجبًا مجازًا"؛ لأن صفات العباد إذا أطلقت على الله أريد بها غاياتها، فغاية التعجّب من الشيء الرضى به، واستعظام شأنه، "وليس بعجب في الحقيقة"؛ لأنه أمر جائز, وواقع القدرة صالحة التعلق بأعظم منه، "والأول الوجه"؛ لأن التعجب من الشيء إنما يستلزم استعظامه عند المتعجّب، ولكنه قد يصرف للمخاطب إذا منع نسبته للمتكلم به مانع، كنسبته إلى الله تعالى؛ إذ التعجب انفعال النفس، لزيادة وصف في المتعجب منه، نحو: ما أشجعه، ونحو: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ} ، إنما هو بالنظر للسامع، نقله المصباح عن بعض النحاة، وقال: التعجب يستعمل على وجهين: أحدهما: ما يحمده الفاعل، ومعناه: الاستحسان والإخبار عن رضاه به، والثاني: ما يكرهه، ومعناه: الإنكار والذمّ له، ففي الاستحسان يقال: أعجبني بالألف، وفي الذمِّ والإنكار: عجبت, وزن تعبت.
"وقوله: "قُتِلَ صبرًا"، هو أن يمسك، ثم يرمي بشيء حتى يموت، وكل من قتل في غير معركة، ولا حرب، ولا خطأ، فإنه مقتول صبرًا، كما في النهاية "رواه غير واحد"، وروى البزار(5/350)
رواه غير واحد.
وقوله: "ليس المسئول بأعلم من السائل" رواه مسلم وغيره.
وقوله: "ولا ترفع عصاك عن أهلك أدبًا" رواه أحمد، أي: لا تدع تأديبهم وجمعهم على طاعة الله تعالى، يقال: شق العصا، أي: فارق الجماعة، وليس المراد: الضرب العصا، ولكنَّه جعله مثلًا، وقيل معناه: لا تغفل عن أدبهم ومنعهم من الفساد، قاله ابن الأثير.
__________
عن أبي هريرة رفعه: "قُتِلَ الرجل صبرًا كفارة لما قبله من الذنوب"، وعنده أيضًا بسند رجاله ثقات عن عائشة مرفوعًا: "قتل الصبر لا يمر بذنب إلا محاه".
"وقوله" -صلى الله عليه وسلم- جوابًا لقول جبريل: ما الساعة؟ فقال -صلى الله عليه وسلم: "ليس المسئول"، زاد في رواية عنها "بأعلم من السائل"، زيدت الباء في أعلم لتأكيد معنى النفي، والمراد: نفي علم وقتها؛ لأن علم مجيئها مقطوع به، فهو علم مشترك، وهذا وإن أشعر بالتساوي في العلم؛ إلّا أنَّ المراد التساوي في العلم بأن الله استأثر بعلم وقت مجيئها، وليس السؤال عنها ليعلم الحاضرين، كالأسئلة السابقة، بل لينزجروا عن السؤال عنها، كما قال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ} [الأعراف: 187] ، فلما وقع الجواب كفوا، وهذا السؤال والجواب وقعا بين عيسى وجبريل أيضًا، لكن عيسى هو السائل.
روى الحميدي في نوادره عن الشعبي، قال: سأل عيسى بن مريم جبريل عن الساعة، فانتقض بأجنحته، وقال: ما المسئول عنها بأعلم من السائل، "رواه مسلم" من حديث عمر "وغيره"، كالبخاري ومسلم من حديث أبي هريرة، ولم يخرج البخاري حديث عمر لاختلاف فيه على بعض رواته.
"وقوله" -صلى الله عليه ولم: "لا ترفع عصاك عن أهلك أدبًا" رواه أحمد، أي: لا تدع تأديبهم وجمعهم على طاعة الله تعالى" بأيِّ وجه كان، فمن يتأدَّب ويطيع بنحو التقريع، أو مجرد الأمر بذلك لم يحتج لضربه، وذلك من مشمول الحديث؛ لأنه "يقال" لغة "شقَّ العصا، أي: فارق الجماعة، وليس المراد الضرب بالعصا، ولكنه جعله مثلًا، وقيل معناه: لا تغفل عن أدبهم ومنعهم من الفساد، قال ابن الأثير"، ومن تأديبهم تعليق السوط.
روى البخاري في الأدب المفرد، عن ابن عباس رفعه: "علق سوطك حيث يراه أهلك"، وروى أبو نعيم عن ابن عمر، والطبراني عن ابن عباس مرفوعًا: "علقوا السوط حيث يراه أهل البيت، فإنه آَدِبٌ لهم"، وعن جابر رفعه: "رحم الله رجلًا علَّق في بيته سوطًا يؤدّب به أهله"، وفي(5/351)
وقوله: "إنما مما ينبت الربيع ما يقتل حبطًا أو يلم" رواه البخاري،
__________
سنده عباد بن كثير وهو ضعيف، ذكره السخاوي.
"وقوله" -صلى الله عليه وسلم: "إن مما ينب" بضم التحتية- من الإنبات "الربيع" فاعل "ما"، أي شيئًا، أو إنباتًا "يقتل" قتلًا "حبطًا" بمهملتين بينهما موحدة مفتوحات- نصبه على التمييز، أو مفعول مطلق، "أو يلم" بضم التحتية وكسر اللام، وشد الميم- يقرب من الهلاك، والمعنى: يقتل في الآخرة بدخول النار، وفي الدنيا بأذى الناس وحسدهم له، وغير ذلك من أنواع الأذى، "رواه البخاري" ومسلم في الزكاة، والبخاري أيضًا، والنسائي في الرقاق، كلهم عن أبي سعيد الخدري مطولًا في حديث، ولفظ البخاري في الرقاق: حدثنا إسماعيل، حدثني مالك عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "إن أكثر ما أخاف عليكم ما يخرج الله لكم من بركات الأرض"، قيل: وما بركات الأرض؟ فقال: "زهرة الدنيا"، فقال له رجل: هل يأتي الخير بالشر، فصمت النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى ظنَنَّا أنه لن ينزل عليه، ثم جعل يمسح جبينه، فقال: "أين السائل"؟ قال: أنا، قال بو سعيد: لقد حمدناه حين طلع ذلك، قال: "لا يأتي الخير إلا بالخير، إن هذا المال خضرة حلوة، وإن كل ما أنبت الربيع، ويقتل حبطًا، أو يلم إلّا أكلة الخضرة، أكلت حتى إذا امتدت خاصرتاه استقبلت الشمس، وثلطت وبالت، ثم عادت فأكلت, وإن هذا المال خضرة حلوة، من أخذه بحقّه وضعه في حقه، فنعم المعونة هو، ومن أخذه بغير حقه كان كالذي يأكل، ولا يشبع"، وأخرجه في الزكاة من طريق آخر عن عطاء، عن أبي سعيد: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- جلس ذات يوم على المنبر، وجلسنا حوله، فقال: "إن مما أخاف عليكم من بعدي ما يفتح عليكم من زهرة الدنيا زينتها"، فقال رجل: أَوَيأتي الخير بالشر؟ فسكت، فذكر الحديث.
وقال في آخره: "وإن هذا المال خضرة حلوة، فنعم صاحبه المسلم ما أعطى منه المسكين، واليتيم، وابن السبيل"، أو كما قال -صلى الله عليه وسلم: "وإنه من يأخذه بغير حقه، كالذي يأكل ولا يشبع، ويكون شهيدًا عليه يوم القيامة"، وقوله: "هل يأتي الخير بالشر"؟ أي: هل تصير النعمة عقوبة؛ لأن زهرة الدنيا نعمة من الله، فقال: "لا يأتي الخير إلا بالخير"، أي: وإنما يعرض له الشر لعارض البخل به عن مستحقه، والإسراف في إنفاقه فيما لم يشرع، وخضرة -بفتح الخاء وكسر الضاد المعجمتين- أي: الحياة بالمال، أو المعيشة به خضرة في المنظر، حلوة في الذوق، أو المراد التشبيه، أي: الحال، كالبقلة الخضرة الحلوة، أو أنَّث باعتبار ما يشتمل عليه المال من زهرة(5/352)
وذكره ابن دريد وقال: إنه من الكلام المفرد الوجيز الذي لم يسبق -صلى الله عليه وسلم- إلى معناه.
__________
الدنيا، أو المراد بالمال: الدنيا؛ لأنه من زينتها، كما قال تعالى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف: 46] ، وقوله: "إلا آكلة الخضرة" -بكسر الهمزة، وشدة اللام استثناء، وآكلة -بمد الهمزة، وكسر الكاف، والخضرة -بفتح الخاء، وكسر الضاد المعجمتين، وفي رواية: الخضرة بلا هاء، وفي رواية: الخضرة -بضم الخاء، وإسكان الضاد- ضرب من الكلأ، شبه بها؛ لأن المخاطبين ألفوا أحوالها، في سومها ورعيها، وما يعرض لها من بشم وغيره، والاستثناء منقطع لوقوعه في الكلام المثبت؛ أي: لكن آكلة الخضرة لا يقتلها آكلها، ولا يلم بقتلها، ويجوز اتصاله بتأويل في المستثنى، والمعنى من جملة ما يثبت الربيع شيء يقتل آكله إلا آكلة الخضرة، وفي رواية: ألا -بفتح الهمزة وخفة اللام- استفتاح، كأنَّه قيل: ألا انظروا آكلة الخضرة، واعتبروا شأنها, و "خاصرتاها" بالتثنية- جنباها، أي: امتلأت شبعًا، وعظم جبناها، وفي رواية: بالإفراد، فاجترت -بجيم ساكنة، وفتح الفوقية، والراء المشددة- استرجعت ما أدخلته في كرشها من العلف، فمضغته ثانيًا ليزداد نعومة وسهولة لإخراجه، و "ثلطت" بمثلثة، ولام، وطاء مهملة مفتوحات، وضبطه ابن التين بكسر اللام، ألقت ما في بطنها رقيقًا، بخلاف من لم يتمكن من ذلك، فيقتلها الانتفاخ سريعًا، وإن هذا المال في الرغبة والميل إليه بحرص النفوس عليه، كالفاكهة خضرة في المنظر، حلوة في الذوق، كالذي يأكل ولا يشبع، أي: كذي الجوع الكذب بسبب السقم، كلما ازداد أكلًا ازداد جوعًا.
قال ابن المنير: في هذا الحديث وجوه من التشبيهات البديعة، تشبيه المال ونموه بالنبات وظهوره، وتشبيه المنهمك في الاكتساب والأسباب بالبهائم المنهمكة في الأعشاب، وتشبيه الاستكثار منه والادخار له بالشره في الأكل والامتلاء منه، وتشبيه المال مع عظمه في النفوس، حتى أدى إلى المبالغة في البخل به بما تطرحه البهيمة من السلح، ففيه إشارة بديعة إلى استقذاره شرعًا، وتشبيه التقاعد عن جمعه وضمه بالشاة إذا استراحت وحطَّت جانبيها مستقبلة الشمس، فإنها من أحسن حالاتها سكونًا وسكينة، وفيه إشارة إلى إدراكها لمصالحها، وتشبيه موت الجامع المانع بموت البهيمة الغافلة عن دفع ما يضرها، وتشبيه المال بالصاحب الذي لا يؤمن أن ينقلب عدوًّا، فإن المال من شأنه أن يرحز ويشد وثاقه، وذلك يقتضي منعه من مستحقه، فيكون سببًا لعقاب مقتنيه، وتشبيه آخذه بغير حق بالذي يأكل ولا يشبع، فهي ثمانية انتهى، وهذا، كما قال ابن الأثير: حديث يحتاج إلى شرح ألفاظه مجتمعة، فإنه إذا فرق لا يكاد يفهم الغرض منه.
"وذكره ابن دريد، وقال: إنه من الكلام المفرد الوجيز الذي لم يسبق -صلى الله عليه وسلم- إلى معناه، أي: كل ما أنبت الجدول"، فسره المصنف كغيره بالنهر الصغير.(5/353)
أي: كل ما أنبت الجدول، وإسناد الإنبات إليه مجاز، والمنبت في الحقيقة هو الله تعالى، وليست "من" للتبعيض، وحبطًا -بفتح المهملة والموحدة والطاء المهملة أيضًا- وهو انتفاخ البطن من كثرة الأكل حتى تنتفخ فتموت، ويلم -بضم الياء- أي: يقرب من الهلاك، وهو مَثَلٌ للمنهمك في جمع الدنيا، المانع من إخراجها في وجهها.
__________
قال شيخنا: وليس معنى الربيع إنما هو الزمن المسمَّى فصل الربيع، وهو أحد الفصول عند العرب؛ لأن فيه الخصب والمياه والزرع، ولعله فُسِّرَ بذلك؛ لأنه السبب المترتب عليه الإنبات ظاهرًا؛ ولأن ترتبه عليه لا يختص بزمن؛ إذ يسقي به الأرض، فتحيا وتصلح للإنبات، "وإسناد الإنبات إليه مجاز" على رأي الشيخ عبد القاهر الجرجاني؛ إذ المسند إليه ملابس الفعل، وليس فاعلًا حقيقيًّا له، "والمنبت في الحقيقة هو الله تعالى"، والسكاكي يرى أن الإسناد ليس مجازيًّا، وأن المجاز في الربيع، فجعله استعارة بالكناية, على أن المراد به الفاعل الحقيقي بقرينة نسبة الإسناد إليه، "وليست من للتبعيض"، بل للابتداء، أو زائدة في الإثبات، على قلة لرواية البخاري في الرقاق، وإنَّ كل ما أنبت، والمعنى: إنه لا ينبغي الاغترار بشيء من زهرة الدنيا وزينتها؛ لأن جميعها مضر، ويجوز جعلها تبعيضية؛ وبه جزم الدماميني على معنى أن بعض النبات مهلك، أو مقرب منه، وبعضه ليس كذلك، وهو ما سد الرمق، وأعان على العبادة؛ لأنه سبب لإقامة هذا العالم، لكن الأوّل أبلغ في ذم الدنيا، وكأنه نزل الأمر الضروري منزلة العدم، لقلته بالنسبة لغيره، "وحبطًا -بفتح" الحاء "المهملة، و" فتح "الموحدة، و" فتح "الطاء المهملة أيضًا" منونة، يقال: حبطت الدابة تحبط حبطًا، "وهو انتفاخ البطن من كثرة الأكل، حتى تنتفخ فتموت, ويلم -بضم الياء، أي: يقرب من الهلاك"، فالمعنى يقتل أو يقارب القتل، هكذا فسَّره به شراح الحديث، ومثله في القاموس.
وجوّز شيخنا أن معنى يلم: الجنون، لقول المصباح: اللمم -بفتحتين- مقارفة الذنب، وطرف من الجنون، "وهو مثل للمنهمك في جمع الدنيا، المانع من إخراجها في وجهها" وذلك أن الربيع ينبت أحرار البقول، فتستكثر منه الماشية لاستطابتها إياه حتى تنتفخ بطونها عند مجاوزتها حد الاحتمال؛ فتنشق أمعاؤها من ذلك فتهلك، أو تقارب الهلاك، وكذلك الذي يجمع الدنيا من غير حلها، ويمنعها مستحقها، قد تعرض للهلاك في الآخرة بدخول النار، وفي الدنيا بأذى الناس وحسدهم إياه، وغير ذلك من أنواع الأذى، وأما قوله: "إلا آكلة الخضرة"، فإنه مَثَل للمقتصد، وذلك أنّ الخضرة ليس من جيد البقول التي ينبتها الربيع بتوالي أمطاره، فتحسن وتنعم، ولكنه من البقول التي ترعاها المواشي بعد يبس البقول؛ حيث لا تحبسوها، فلا ترى(5/354)
وقوله -عليه الصلاة والسلام: "خير المال عين ساهرة لعين نائمة".
ومعناه: عين ماء تجري ليلًا ونهارًا وصاحبها نائم، فجعل دوام جريانها: سهرًا لها.
وقوله: "خير مال المرء مهرة مأمورة أو سكة مأبورة".
رواه الإمام أحمد
__________
الماشية تكثر من أكلها، ولا تستمر بها، فضربها مثلًا للمقتصد في أخذ الدنيا وجمعها، ولا يحمله الحرص على أخذها بغير حقها، فهو ينجو من وبالها، كما نجت آكلة الخضرة، ألا تراه قال: أكلت حتى.. إلخ ذكره في النهاية.
زاد المصنف: وقيل: الربيع قد ينبت أحرار العشب والكلأ، فهي كلها خبر في نفسها، وإنما يأتي الشر من قبل آكل مستلذ مفرط منهمك فيها؛ بحيث تنتفخ أضلاعه منه، وتمتلئ خاصرتاه، ولا يقلع منه, فيهلكه سريعا، فهذا مثل الكافر؛ ولذا أكَّد القتل بالحبط، أي: يقتل قتلًا حبطًا، والكافر هو الذي تحبط أعماله، أو من قبل آكل، كذلك فيقربه إلى الهلاك، وهذا مثال للمؤمن الظالم لنفسه، المنهمك في المعاصي، أو من آكل مسرف حتى تنتفخ خاصرتاه، ولكنه يتوخَّى إزالة ذلك، ويتحيِّل في دفع مضرته، حتى يهضم ما أكل، وهذا مثال المقتصد، وآكل غير مفرط ولا مسرف، يأكل منها ما يسد جوعه ولا يسرف فيه حتى يحتاج إلى دفعه، وهذا مثال الزاهد في الدنيا، الراغب في الآخرة، لكن ليس هذا صريحًا في الحديث، لكنه ربما يفهم منه, انتهى.
"وقوله -عليه الصلاة والسلام: "خير المال عين ساهرة لعين"، متعلِّق بساهرة، والأَوْلَى أنه صفة ثانية لعين، أي: مملوكة، أو مستحقة لعين "نائمة"، أي: تاركة للتعب في تحصيلها، فهو تشبيه بليغ، أو مجاز مرسل، باستعمال النائمة في لازمها من الراحة، وترك السعي في أسباب التحصيل، من إطلاق الملزوم، وإرادة لازمة، "ومعناه: عين ماء تجري ليلًا ونهارًا وصاحبها نائم"، فقوله: "نائمة" مجاز عقلي، أي: نائم صحبها، "فجعل دوام جريانها سهرًا لها"، فشَبَّه جريان الماء وعدم انقطاعه بسهر المشغول بأسباب مقتضية لملازمة السهر، فاستعاره لدوام جريانه، واشتقّ منه ساهرة، فهو استعارة تصريحية تبعية لجريانها في المشتق بعد جريانها في المصدر، ولم يذكر المصنف مخرج الحديث.
"وقوله" -صلى الله عليه وسلم: "خير مال المرء مهرة مأمورة، أو سكة مأبورة" رواه الإمام أحمد" برجالٍ ثقات، "والطبراني" في الكبير، كلاهما من طريق روح بن عبادة، عن أبي نعامة، عن مسلم بن(5/355)
والطبراني عن سويد بن هبيرة. ومعنى "مأمورة": أي: كثيرة النتاج، و "سكة مأبورة" , أي: طريقة مصطفة من النخل، ومنه قيل للأزقة: سكة، والتأبير تلقيح النخل. انتهى.
وقوله -عليه الصلاة والسلام: "من أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه"، رواه مسلم من حديث أبي هريرة.
__________
بديل، عن إياس بن زهير، "عن سويد بن هبيرة" بن عبد الحارث الديلي ابن عمر, بطن من عبد القيس.
وقال أبو أحمد: هو عدوى من عدي بن عبد مناف، وكذا نسبه ابن قانع، وقال أبو عمر: سكن البصرة، قال سويد: سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول، فذكره.
قال ابن منده: لم يقل: سمعت إلا روح بن عبادة، وقد رواه عمرو بن عيسى عن أبي نعامة، فقال: يرفع الحديث.
قال الحافظ: وأخرجه الطبراني من طريق عبد الوارث عن أبي نعامة كذلك، ورواه معاذ بن معاذ عن أبي نعامة، فقال فيه: إلى سويد بلغني عن النبي -صلى الله عليه وسلم، ذكره البخاري في تاريخه.
وقال ابن أبي حاتم عن أبيه: غلط فيه روح، وإنما هو تابعي، وقال ابن حبان: في ثقات التابعين, يروي المراسيل، انتهى.
"ومعنى: "مأمورة"، أي": الأَوْلَى إسقاط، أي: "كثيرة النتاج"، يقال: أمرهم الله فأمروا -بكسر الميم، أي: كثرهم فكثروا، فيه لغتان: مأمورة ومؤمرة، كما في النهاية، وهو من باب تعب، كما في المصباح، فوصفها بمأمورة مع وحدتها إسناد مجازي، أي: مأمور نتاجها، أو باعتبار ما ينشأ عنها منه، كما قال كثيرة النتاج، "وسكة مأبورة" بموحدة، "أي: طريقة مصطفّة من النخل، ومنه قيل للأزقة سكة" لاصطفافها زاد النهاية، وقيل: هي سكة الحارث ومأبورة، أي: مصلحة له، أراد خير المال نتائج أو زرع، "والتأبير تلقيح النخل، انتهى"، والمناسب للفظ الحديث والإبر؛ لأنه من أبرت النخل من بابي ضرب وقتل، لقحته وأبرته تأبيرًا مبالغة وتكثيرًا، كما في المصباح، فلعله عَبَّرَ بالتأبير لشهرته في الاستعمال.
"وقوله -عليه الصلاة والسلام: "من أبطأ" بألف ودونها" روايتان، وهما بمعنًى, إلّا أن السخاوي ادعى أن لفظ مسلم بلا ألف، وأن رواية القضاعي أبطأ بألف, "به عمله" أي: أخَّرَه عمله السيء، أو تفريطه في العمل الصالح، بأن لم يأت به على الوجه الأكمل، "لم يسرع به نسبه"، أي: لا ينفعه في الآخرة شرف النسب، فلا يعجل به إلى منازل السعداء، "رواه مسلم"، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه، وأحمد، والعسكري، والقضاعي، كلهم "من حديث أبي هريرة" في آخر حديث لفظه: "من نَفَّسَ عن مؤمن كربة من كُرَبِ الدنيا، نَفَّسَ الله عنه كربة من كُرَبِ(5/356)
وقوله: "زر غبًّا تزدد حبًّا".
رواه البزار، والحارث بن أبي أسامة عن أبي هريرة مرفوعًا، وفي بعض أحاديث الباب أنه قيل: يا أبا هريرة, أين كنت أمس؟ قال: زرت ناسًا من أهلي، فقال: "يا أبا هريرة, زر غبًّا تزد حبًّا".
__________
يوم القيامة، ومن يَسَّرَ على معسر يَسَّرَ الله عليه في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه؛ ومن سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سَهَّلَ الله له طريقًا إلى الجنة، وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله, يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلّا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحَفَّتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده، ومن أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه" انتهى.
"وقوله" -صلى الله عليه وسلم: "زر" أخاك "غبًّا" وقتًا بعد وقت، ولا تلازم زيارته بحيث يملك، "تزدد" عنده "حبًّا"، وبقدر الملازمة تهون عليه"، ونصب غبًّا على الظرف، وحبًّا على التمييز المحول عن الفاعل، فالمدار على عدم ملازمة الزائر للمزور حتى يسأم منه، وذلك يختلف باختلاف أحوالها.
قال في الدرر: كأصله الغب من أوراد الإبل أن ترد الماء يومًا وتدعه يومًا، فنقل إلى الزيارة بعد أيام، وإلى عيادة المريض. انتهى. وقول القاموس: الغِبّ -بالكسر- في الزيارة أن تكون كل أسبوع، إمّا من مجاز اللغة الواقعة فيه، أو جري على عرف اللغة، وذاك على أصلها، وبينهما فرق، "رواه البزار" والبيهقي وضعَّفاه، "والحارث بن أبي أسامة"، ومن طريقه أبو نعيم في الحلية، "عن أبي هريرة مرفوعًا"، رواه عنه ابن عدي في أربعة عشر موضعًا من كامله، وضعّفَها كلها، لكنه ورد من طرق كثيرة، يتقوّى بممجموعها، كما قال السخاوي؛ فروي عن ابن عمر، وابن عمرو، وابن عباس، وجابر، وأنس، وعائشة، وأبي الدرداء، وأبي ذر، ومعاوية بن حيدة وآخرين.
"وفي بعض أحاديث الباب"، أي: باب إغباب الزيارة، جرت عادتهم بتسمية ما أفاده الحديث بابًا، "أنه قيل" لفظ الرواية، قال لي النبي -صلى الله عليه وسلم: "يا أبا هريرة, أين كنت أمس"؟ قال: زرت ناسًا من أهلي، فقال: "يا أبا هريرة زر غبًّا تزدد حبًّا"، وأنشد ابن دريد في معناه:
عليك بإغباب الزيارة إنها ... إذا كثرت كانت إلى الهجر مسلكًا
فإني رأيت الغيث يسأم دائمًا ... ويسئل باليدي إذا هو أمسكا
وقال غيره:
قلل زيارتك الصديق تكـ ... ـن كالثوب استجدَّه
وأملّ شيء لامريء ... أن لا يزال يراك عنده
"وقوله" -صلى الله عليه وسلم: "إنكم لن تسعوا" -بفتح السين- وفي رواية: "لا تسعون" بالفتح أيضًا، أي:(5/357)
وقوله: "إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم فسعوهم بأخلاقكم".
رواه أبو يعلى والبزار من طرق، أحدها حسن بلفظ: "إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم ولكن ليسعهم منكم بسط الوجه وحسن الخلق".
وقوله: "الخلق الحسن يذيب الخطايا كما يذيب الماء الجليد، والخلق السيء يفسد العمل كما يفسد الخل العسل". رواه الطبراني في الكبير والأوسط والبيهقيّ.
__________
لا تطيقون أن تعموا "الناس بأموالكم"، لعزة المال وكثرة الناس، فلا يمكنكم ذلك، "فسعوهم بأخلاقكم"؛ بحيث تقبلون على كلٍّ منهم بالبشاشة وإظهار المودة, وكأنَّه جعل المال محلًّا لطالبيه، لاستراحة من حصل له منك مال، فاطمأنَّ به، كما يطمئن من هبيء له منزل يدفع عنه الضرر، "رواه أبو يعلى والبزار من طرقٍ أحدها حسن" عن أبي هريرة رفعه "بلفظ: "إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم، ولكن ليسعهم منكم بسط الوجه وحسن الخلق"، أي: لا تتسع أموالكم لعطائهم، فوسعوا أخلاقكم لصحبتهم، والوسع والسعة: الجدة والطاقة، وذلك لأنَّ استيعاب عامتهم بالإحسان بالفعل لا يمكن، فأمر بجعل ذلك بالقول، كما قال تعالى: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة: 83] .
وروى العسكري عن الصولي: لو وزنت كلمة النبي -صلى الله عليه وسلم- بأحسن كلام الناس كلهم، لرجحت على ذلك، وهي قوله: "إنّكم.. " إلخ، قال: وقد كان ابن عباد كريم الوعد، كثير البذل، سريعًا إلى فعل الخير، فطمس ذلك سوء خلقه، فما ترى له أمدًا، وقال إبراهيم بن آدم: إن الرجل ليدرك بحسن خلقه ما لا يدركه بماله؛ لأن المال عليه فيه زكاة، وصلة أرحام وأشياء أخر، وخلقه ليس عليه فيه شيء، وقال -صلى الله عليه وسلم: "إن الرجل ليدرك بحسن خلقه درجة القائم بالليل الظامي بالهواجر"، رواه الطبراني.
"وقوله" -صلى الله عليه وسلم: "الخلق الحسن يذيب الخطايا، كما يذيب الماء الجليد، والخلق السيء يفسد العمل"، أي: يفوت المقصود منه، فربما فعل جميلًا يستحق به الثناء العاجل والثواب الآجل، فيقترن به ما يتولّد منه ضرر لمن فعل معه الجميل، فينقلب الثناء ذمًّا، ويترتَّب عليه استحقاق العقاب، "كما يفسد الخلّ العسل"، بتفويت الحلاوة واللذة الحاصلة به، فلا ينافي حصول منافع طيبة بخلطهما، وفيه إشارة إلى أنَّ الإنسان إنما يحوز جميع الخيرات، ويبلغ أقصى المنازل، وأنهى الغايات بحسن الخلق، وهو -بضمتين، وضم، فسكون- الطبع والسجيّة، "رواه" تامًّا، كما ذكرته "الطبراني في الكبير، والأوسط، والبيهقي" في الشعب، كلاهما عن ابن عباس، وضعَّفه المنذري وغيره؛ لأن في إسناد عيسى بن ميمون المديني، وهو ضعيف، لكن(5/358)
وقوله: "إنَّ هذا الدين متين فأوغل فيه برفق، ولا تبغّض إلى نفسك عبادة الله، فإن المنبت لا أرضًا قطع ولا ظهرًا أبقى" رواه البزار والحاكم في علومه، والبيهقي في سننه،
__________
له شواهد كثيرة، كقوله: "وخالق الناس بخلق حسن"، وقوله: "الخلق وعاء الدين"، وقوله: "الخلق الحسن زمام من رحمة الله في أنف صاحبه، والزمام بيد الملك, والملك يجره إلى الخير, والخير يجره إلى الجنة، وأن الخلق السيء زمام من عذاب الله في أنف صاحبه، والزمام بيد الشيطان، والشيطان يجره إلى الشر، والشر يجره إلى النار"؛ رواه أبو الشيخ.
"وقوله" -صلى الله عليه وسلم: "إن هذا الدين"، أي: دين الإسلام "متين" صلب شديد، أي: كثير النفع عديم النظير، منيع لا يتأتَّى إبطاله وتحريفه، "فأوغل"، أي: سِرْ أمر لغير معيّن، فهو كرواية أحمد أوغلوا بالجمع "فيه برفق" من غير تكلُّف، ولا تحمل نفسك ما لا تطيق فتعجز وتترك العمل، "ولا تبغّض" -بضم الفوقية، وفتح الموحدة، وشد المعجمة، وآخره معجمة ساكنة- وفي نسخة بزيادة نون ثقيلة تأكيدًا للنفي، فالضاد مفتوحة، لكن الذي في المقاصد بلا نون، "إلى نفسك عبادة الله" بأن تأتي بكثير تملّه النفس، وتنفر منه، فيحملك على الترك.
قال الغزالي: أراد بهذا الحديث أن يكلف نفسه أعمال الدين بتلطُّف وتدريج، فلا ينتقل دفعة واحدة إلى أقصاها؛ إذ الطبع نفور, لا يمكن نقله عن أخلاقه الرديئة إلّا شيئًا فشيئًا، فمن لم يراع التدريج، وتوغّل دفعة واحدة، ترقَّى إلى حالة تشق عليه، فتنعكس أموره، فيصير ما كان محبوبًا عنده ممقوتًا، وما كان مكروهًا عنده مشربًا هنيًا، لا ينفر عنه، وهذا لا يعرف إلّا بالتجربة والذوق، ونظيره في العادات: الصبي يحمل على التعلُّم ابتداء قهرًا، فيشق عليه الصبر على اللعب والصبر مع المعلم، حتى إذا انفتحت بصيرته، وأنِسَ بالعلم، انقلب الأمر، فصار يشق عليه الصبر عن العلم، وعلّل النهي عن ذلك بقوله: "فإن المنبت" -بضم الميم، وسكون النون، وفتح الموحدة، وشد الفوقية- المنقطع في السفر عن رفقته من البت، القطع مطاوع بت، يقال بته وأبته "لا أرضًا قَطَع"، أي: لم يقطع الأرض التي قصدها، "ولا ظهرًا أبقى"، أي: ولم يبق ظهره، أي: دابَّته تنفعه، فكذا من تكلّف من العبادة ما لا يطيق، فيكره التشديد فيها، واستعمل الظهر في الراحلة مجازًا، لكن في القاموس: الظهر خلاف البطن، مذكَّر, والركاب, وعليه فهو حقيقي، إلّا أنَّ المراد هنا مطلق المركوب إلّا الإبل فقط، "رواه البزار والحاكم في علومه"، أي: في كتابه المسمَّى علوم الحديث، وهو ما يعبِّر عنه المتأخرون بمصطلح الحديث.
"والبيهقي في سننه" من طريق شيخه الحاكم، وكذا ابن طاهر من طريقه، وأبو نعيم، والقضاعي، والعسكري، والخطَّابي في العزلة، "كلهم من طريق محمد بن سوقة" -بضم السين(5/359)
كلهم من طريق محمد بن سوقة عن محمد بن المنكدر عن جابر به مرفوعًا.
وهو مما اختلف فيه على ابن سوقة في إرساله ووصله، وفي رفعه ووقفه، ثم في الصحابي، أهو جابر أو عائشة أو عمر. ورجَّح البخاري في تاريخه من حديث ابن المنكدر الإرسال،
__________
المهملة- الغنوي -بفتح المعجمة، والنون الخفيفة- أبي بكر الكوفي، العابد، ثقة، مرضي من الخامسة، روى له الستة، كما في التقريب، "عن محمد بن المنكدر" بن عبد الله التيميّ المدني، التابعي، الثقة, من رجال الجميع. مات سنة ثلاثين ومائة، أو بعدهما "عن جابر" بن عبد الله "به"، أي: اللفظ الذي ذكره "مرفوعًا" بمعنًى قال: قال -صلى الله عليه وسلم" وهذا صريح في أن الجميع رووا جميع اللفظ المذكور، ومثله في المقاصد، ووقع في الجامع عزوه للبزار وحده، مسقطًا قوله: "ولا تبغّض إلى نفسك عبادة الله"، فلعلهما روايتان في مسند البزار، وفيه يحيى بن المتوكِّل أبو عقيل، وهو كذّاب، وفيه أيضًا اضطراب بَيِّنَه بقوله: "وهو مما اختلف فيه على ابن سوقة" في أمور "في إرساله"، فرواه بعضهم عنه عن ابن المنكدر مرسلًا مرفوعًا، "ووصله"، فروى عنه عن ابن المنكدر، عن جابر والمرسل ما رفعه التابعي، وتسمَّح من قال: ما سقط منه الصحابي؛ لأنه لو تحقَّق أن الساقط صحابي لم يتوقف أحد في الاحتجاج بالمرسل، لعدالة الصحابة كلهم، كما بَيِّنَ ذلك في علوم الحديث، "وفي رفعه"، فروي عنه مرفوعًا مرسلًا، أو موصولًا، فهو شامل للأمرين قبله, "ووقفه"، فروي عنه موقوفًا على الصحابي، "ثم" اختلف عليه أيضًا، "في الصحابي أهو جابر"، كما رواه الجماعة المتقدمون، "أو عائشة، أو عمر"، كما عند غيرهما.
قال الدارقطني: ليس فيها حديث ثابت، "ورجَّح البخاري في تاريخه من حديث ابن المنكدر الإرسال"، أي: روايته عنه مرسلًا مرفوعًا على روايتي الوصل والوقف.
زاد السخاوي، وأخرجه البيهقي من حديث ابن عمرو بن العاص بلفظ: "فإن المنبت لا سفرًا قطع، ولا ظهرًا أبقى، فاعمل عمل امرئ يظنّ أن لن يموت أبدًا، واحذر حذر امرئ يخشى أن يموت غدًا"، وسنده ضعيف أيضًا، مع كون صحابيه عند العسكري عمر, إلّا ولده، لكن الظاهر أنه من الناسخ، فطريقهما متحد، ورواه ابن المبارك في الزهد عن ابن عمر، موقوفًا بلفظ: "إن هذا الدين متين، فأوغلوا فيه برفق، ولا تبغّضوا إلى أنفسكم عبادة الله، فإن المنبت ... " إلخ، وله شاهد عند العسكري، عن علي رفعه: "إن دينكم متين، فأوغلوا فيه برفق، فإن المنبت لا ظهرًا أبقى، ولا أرضًا قطع".
وعند أحمد عن أنس رفعه: "إن هذا الدين متين، فأوغلوا فيه برفق"، وهو مع اختصاره أجود مما قبله، "ومعناه: إنه بقي في طريقه عاجزًا عن مقصده لم يقض وطره وقد أعطب" -بفتح(5/360)
ومعناه: إنه بقي في طريقه عاجزًا عن مقصده، لم يقض وطره، وقد أعطب ظهره.
والوغول: الدخول، فكأنه قال: إن هذا الدين -مع كونه يسيرًا سهلًا- شديدًا، فبالغوا فيه بالعبادة، لكن اجعلوا تلك المبالغة مع رفق، فإن من بالغ بغير رفق وتكلّف من العبادة فوق طاقته يوشك أن يملّ حتى ينقطع عن الواجبات، فيكون مثله كمثل الذي يعسف الركاب, ويحملها من السير على ما لا تطيق رجاء الإسراع، فينقطع ظهره، فلا هو قطع الأرض التي أراد، ولا هو أبقى ظهره سالمًا ينتفع به بعد ذلك.
وقوله -عليه الصلاة والسلام: "من شادّ هذا الدين غلبه".
__________
الهمزة، وإسكان العين، وفتح الطاء المهملتين، وموحدة. "ظهره"، أي: مركوبة مجازًا أو حقيقة على ما في القاموس، كما مَرَّ، والإيغال -كما في النهاية: السير الشديد، "والوغول: الدخول" في الشيء، والظاهر -كما قال بعض: إن المراد في الحديث السير لا بقيد الشدة؛ إذ لا يلائم قوله: "برفق" انتهى، ولذا عدل المصنف عن الإيغال الموافق لقول الحديث: فأوغل، إشارة إلى أنه مستعمل فيه في غير مدلوله اللغوي، بل بمعنى الدخول الذي هو من وَغَلَ بوزن وَعَدَ، إذا توارى بشجرة ونحوها، ووغل في الشيء دخل فيه مطلقًا، "فكأنَّه قال: "إن هذا الدين مع كونه يسيرًا"، أي: مع كون تكاليفه قليلة "سهلًا" لانتقاء الأصر الذي كان على من قبلنا، "شديد" خبران، أي: شديد القيام به، فلا ينبغي المبالغة في القيام بحقوقه، خارجًا عن الحد، ولا التهاون في ترك شيء منه، "فبالغوا فيه بالعبادة، لكن اجعلوا تلك المبالغة مع رفق"، فإن "الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا نزع من شيء إلا شانه"، "فإن من بالغ بغير رفق، وتكلّف من العبادة فوق طاقته، يوشك أن يملّ" -بفتح الياء والميم- يسأم "حتى ينقطع عن الواجبات، فيكون مَثَلُه" -بفتحتين- صفته وحاله، "كمثل الذي يعسف" -بكسر السين- من باب ضرب يأخذ بقوة "الركاب" بكسر الراء- المطي الواحد، راحلة من غير لفظها، أو المعنى يظلمها.
ففي القاموس: عسف السلطان ظلم، فقوله: "ويحملها من السير"، أي: يغريها "على ما لا تطيق"، عطف علة على معلول، والمعنى: ألجأها إلى ما لا تقدر عليه "رجاء الإسراق فينقطع ظهره" دابته، "فلا هو قطع الأرض التي أراد، ولا هو أبقى ظهره سالمًا ينتفع به بعد ذلك"؛ وهذه كلها عبارة شيخه السخاوي، ثم هذا الحديث، وإن كان ضعيفًا لاضطرابه وضعف راويه، لكنَّه تقوى بشواهده التي منها قوله: "وقوله -عليه الصلاة والسلام: "من شادَّ هذا الدين"، أي: غالبه، فزاد فيه على طاقته، "غلبه" الدين وقهره بحيث ينقطع عن مطلوبه، "رواه العسكري"، كذا(5/361)
رواه العسكري عن بريدة، وللبخاري من حديث معن بن محمد عن سعيد المقبري عن أبي هريرة مرفوعًا: "إن الدين يسر، ولن يشادّ الدين أحد إلا غلبه،
__________
أورده المصنف: شادَّ وغلب فعلًا ماضيًا، والذي عزاه السخاوي للعسكري "عن بريدة" بن الحصيب: "من يشاد هذا الدين يغلبه" بالمضارع فيهما، قال: وأوَّله عند العسكري: عليكم هديًا قاصدًا، فإنه من، فذكره، وذكره بهذا اللفظ أيضًا في النهاية، وقال: أي: من يقاومه، ويكلف نفسه من العبادة فيه فوق طاقته، والمشادَّة المغالبة، وهو مثل الحديث الآخران: "هذا الدين متين فأوغل فيه برفق" اهـ، ورواه القضاعي بدون أوله, وفي لفظ آخر عند العسكري: "فإنه من يغالب...." إلخ
"وللبخاري" في كتاب الإيمان "من حديث" عمر بن عطاء، عن "معن" -بفتح الميم، وسكون العين المهملة- "ابن محمد" بن معن الغفاري -بكسر الغين المعجمة- الحجازي، المدني، ثقة، قليل الحديث، "عن سعيد" ابن أبي سعيد كيسان "المقبري" -بضم الموحدة- نسبة إلى مقبرة بالمدينة، كان مجاورًا بها المدني. مات سنة خمس وعشرين ومائة، "عن أبي هريرة مرفوعًا"، بمعنى: إنه قال عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "وإن الدين"، أي: دين الإسلا "يسر"، أي: ذو يسر؛ لأن التوافق بين المبتدأ والخبر شرط ولا يكون بالتأويل، أو هو الخبر نفسه، بوضعه موضع اسم المفعول، مبالغةً لشهرة اليسر وكثرته، كأنَّه اليسر نفسه، والتأكيد بأنَّ ردَّ على منكر يسره، إمَّا لأنَّ المخاطب منكر، أو لتنزيله منزلته، أو على تقدير المنكر غيره، أو لأنَّ القصة مما يهتم به، "ولن يشادَّ الدين" بنصبه مفعول فاعله، "أحد" الثابت في رواية ابن السَّكَن، وفي بعض الروايات عن الأصيلي، وكذا هو في طرق هذا الحديث عند الإسماعيلي، وأبي نعيم، وابن حِبَّان وغيرهم، وأكثر رواة البخاري بإسقاط لفظ: أحد, على إضمار الفاعل للعلم به، فالدين نُصِبَ على المفعولية أيضًا، وحكى صاحب المطالع، أن أكثر الروايات برفع الدين على أن يشادّ مبني لما لم يسم فاعله، وعارضه النووي بأن أكثر الروايات بالنصب.
قال الحافظ: ويجمع بينهما بأنَّه بالنسبة إلى روايات المغاربة والمشارقة، ويؤيد النصب لفظ حديث بريدة عند أحمد، أنَّه من يشاد هذا الدين يغلبه، ذكره في حديث آخر، يصلح أن يكون هو سبب حديث الباب، "إلّا غلبه" الدين، والمشادَّة -بالتشديد- المغالبة، يقال: شادَّه يشادّه إذا قاواه، والمعنى: لا يتعمَّق أحد في الأعمال الدينية، ويترك الرفق إلّا عجز وانقطع، فيغلب.
وقال الطيبي: بناء المفاعلة في يشاد ليس للمبالغة، بل للمغالبة نحو: طارقت النعل، وهو من جانب المكلف، ويحتمل أن يكون للمبالغة في سبيل الاستعارة، والمستثنى منه أعم، عام الأوصاف، أي: لم يحصل، ويستقرّ ذلك الشادّ على وصف من الأوصاف، إلّا على وصف(5/362)
فسدِّدوا وقاربوا وأبشروا واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة".
__________
المغلوبية.
قال ابن المنير في هذا الحديث: علم من أعلام النبوة, فقد رأينا ورأى الناس قبلنا أنَّ كل متنطع في الدين ينقطع، وليس المراد منع طلب الأكمل في العبادة، فإنه من الأمور المحمودة، بل منع الإفراد المؤدي إلى الملال، أو المبالغة في التطوع المفضي إلى ترك الأفضل، أو إخراج الفرض عن وقته, كمن بات يصلي الليل كله ويغالب النوم، إلى أن غلبته عيناه في آخر الليل، فنام عن صلاة الصلاة في الجماعة، أو إلى أن خرج الوقت المختار، أو إلى أن طلعت الشمس، فخرج وقت الفريضة، وفي حديث محجن بن الأدرع عند أحمد: لن تنالوا هذا الأمر بالمبالغة، وخير دينكم أيسره، وقد يستفاد من هذا الإشارة إلى الأخذ بالرخصة الشرعية، فإن الأخذ بالعزيمة في موضع الرخصة تنطُّع، كمن يترك التيمّم عند العجز عن استعمال الماء، فيفضي استعماله إلى حصول الضرر. انتهى، "فسدِّدوا" بمهملة، أي: الزموا بالسداد، هو الصواب من غير إفراط ولا تفريط.
قال أهل اللغة: السداد التوسُّط في العمل.
قال الطيبي: والفاء جواب شرط محذوف، أي: إذا بينت لكم ما في المشادَّة من الوهن، فسدّدوا "وقاربوا" بموحدة في العبادة، أي: إن لم يستطيعوا الأخذ بالأكمل، فاعملوا بما يقرب من الطيبي، وهو تأكيد للتسديد من حيث المعنى، "وأبشروا" بقطع الهمزة، وكسر الشين، من الإبشار، وفي لغة: بضم الشين من البشر، أي: بالثواب على العمل الدائم، وإن قلَّ، أو المراد: تبشير من عجز عن العمل بالأكمل، بأن العجز إذا لم يكن من صنعه لا يستلزم نقص أجره، وأبهم المبشّر به تعظيمًا له وتفخيمًا، "واستعينوا بالغدوة" بالفتح سير أوّل النهار.
وقال الجوهري: ما بين صلاة الغداء إلى طلوع الشمس، كذا ضبطه الحافظ، كالكرماني والزركشي، وتوقَّف فيه المصنف بأن في النهاية الغدوة بالضمِّ ما بين صلاة الغداة وطلوع الشمس، وتبعه العيني فضبطه -بالضم, "والروحة" بالفتح- السير بعد الزوال، "وشيء"، أي: واستيعنوا بشيء "من الدلجة" -بضم أوله، وفتحه، وإسكان اللام- سير آخر الليل، وقيل: سير الليل كله, ولهذا عَبَّر فيه بالتبعيض؛ ولأنَّ عمل الليل أشقّ من عمل النهار، قال الحافظ: وظاهره أنَّ الرواية بضم الدال وفتحها معًا، وذكر الكرماني، وتبعه الزركشي أنَّ الرواية بالضم والفتح لغة.
قال الحافظ: أي: استعينوا على مداومة العبادة بإيقاعها في الأوقات النشيطة، أي: كأوّل النهار، وبعد الزوال، وبالليل, قال: فهذه الأوقات أطيب أوقات المسافر، فكأنَّه -صلى الله عليه وسلم- خاطب مسافرًا إلى مقصده، فنبَّهه على أوقات نشاطه؛ لأن المسافر إذا سافر الليل والنهار جميعًا عجز وانقطع،(5/363)
وقوله: "الكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت
__________
وإذا تحرَّى السير في هذه الأوقات النشيطة أمكنته المداومة من غير مشقَّة، وحسن هذه الاستعارة أنَّ الدنيا في الحقيقة دار نقلة إلى الآخرة، وأن هذه الأوقات بخصوصها أرْوَح ما يكون فيها البدن للعبادة انتهى، ونحوه للكرماني قائلًا: فنبَّه الأمة على اغتنام أوقات فرصتهم، وقال البيضاوي: الغَدْوَة والروحة والدلجة استعير بها عن الصلاة في هذه الأوقات؛ لأنها سلوك وانتقال من العادة إلى العبادة، ومن الطبيعة إلى الشريعة، ومن الغيبة إلى الحضور.
قال الحافظ: وهذا الحديث من إفراد البخاري عن مسلم وصحَّحه، وإن كان من رواية مدلس بالعنعنة، وهو عمر بن علي المقدمي -بضم الميم، وفتح القاف، والدال المشددة- البصري؛ لتصريحه بالسماع عند ابن حبان من طريق أحمد بن المقدام، أحد شيوخ البخاري, عن عمر بن علي المذكور قال: سمعت معن بن محمد، فذكره، وهو من إفراد معن، وهو ثقة، قليل الحديث، لكن تابعه على شقه الثاني ابن أبي ذئب عن سعيد، أخرجه البخاري في كتاب الرقاق بمعناه، ولفظه: "سددوا وقاربوا"، وزاد في آخره: "والقصد القصد، تبلغوا"، ولم يذكر شقه الأوّل، ومن شواهده حديث عروة الفقيمي -بضم الفاء، وفتح القاف- عن النبي -صلى الله عليه وسلم، قال: "إن دين الله يسر"، وحديث بريدة، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "عليكم هديًا قاصدًا، فإنه من يشادّ هذا الدين يغلبه"، رواهما أحمد، وإسناد كلّ منهما ثقات، انتهى.
"وقوله" صلى الله عليه وسلم: "الكيس"، أي: العاقل -بشد الياء مكسورة- مأخوذة من الكيس -بفتح فسكون.
قال الزمخشري: حُسْن التأنِّي في الأمور، وقال ابن الأثير: الرفق في الأمور، وقال الراغب: القدرة على استنباط ما هو أصلح في بلوغ الخير, "من دان نفسه"، أي: أذلّها واستعبدها، وقيل: حاسبها، يعني جعل نفسه مطيعة منقادة لأوامر ربها, مجتنبة لنواهيه، فلازم الطاعة، وتجنّب المعصية.
قال أبو عبيد الدين: الدَّأب، وهو أن يداوم على الطاعة, والدين الحساب، "وعمل لما بعد الموت" قبل نزوله؛ ليصير على نور من ربه، فالموت عاقبة أمور الدنيا، فالعاقل من أبصر العاقبة، والأحمق من عمي عنها، وحجبته الشهوات والغفلات، وعاجل الحاصل يشترك في درك ضره ونفعه جميع الحيوانات بالطبع، وإنما الشأن في العمل للآجل، فجدير بِمَنِ الموت مصرعه، والتراب مضجعه، ومنكر ونكير جليسه، والدود أنيسه، والقبر مقرّه، وبطن الأرض مستقره، والقيامة موعده، والجنة والنار مورده، أن لا يكون له فكر إلا في الموت وما بعده، ولا ذكر الإله، ولا استعداد إلا لأجله، ولا تدبير إلا فيه، ولا اهتمام إلّا به، ولا انتظار إلّا له، وحقيق أن يعد نفسه(5/364)
والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنَّى على الله الأماني".
رواه الحاكم عن شدَّاد بن أوس، وقال: صحيح على شرط البخاري، وتعقَّبه الذهبي بأن فيه ابن أبي مريم وهو واهٍ. وكذا رواه العسكري والقضاعي والترمذي وابن ماجه.
__________
من الموتى، ويراها في أهل القبور، فكل ما هو آتٍ قريب، والبعيد ما ليس بآت، "والعاجز" بمهملة، وجيم، وزاي- من العجز، أي: المقصِّر في الأمور، ورواه العسكري: الفاجر -بالفاء والراء- من الفجور، "من أتبع نفسه هواها"، فلم يكفَّها عن الشهوات، ولم يمنعها عن المحرمات واللذات.
قال الطيبي: العاجز الذي غلبت عليه نفسه وقهرته، فأعطاها ما تشتهيه، قوبل الكيّس بالعاجز، والمقابل الحقيقي السفيه، إيذانًا بأن الكيّس هو القادر، والعاجز هو السفيه، "وتمنَّى على الله الأماني" -بشد الياء- جمع أمنية، فهو مع تقصيره في طاعة ربه، واتباع شهوات نفسه، لا يستعدّ ولا يعتذر ولا يرجع، بل يتمنَّى على الله العفو والجنة، وسقط في رواية لفظ الأماني, وأصل الأمنية ما يقدِّره الإنسان في نفسه من مني إذا قدر، ولذا يطلق على الكذب وعلى ما يتمنَّى.
قال الحسن: إن قومًا ألَّهتهم الأماني حتى خرجوا من الدنيا وما لهم حسنة، ويقول أحدهم: إني أحسن الظنَّ بربي، وكذب, لو أحسن الظنَّ أحسن العمل، {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} ، وقال سعيد بن جبير: الغرة بالله أن يتمادى الرجل على المعصية، ويتمنَّى على الله المغفرة.
قال العسكري: وفيه رد على المرجئة، وإثبات الوعيد، وفيه ذم التمني، وأما الرجاء فمحمود؛ لأنَّ التمني يصاحب الكسل، خلاف الرجاء، فتعليق القلب بمحبوب يحصل حالًا، "رواه الحاكم" في المستدرك في كتاب الإيمان، من حديث أبي بكر بن أبي مريم الغسَّاني، عن ضمرة بن حبيب، "عن شداد بن أوس، وقال" الحاكم: "صحيح على شرط البخاري، وتعقَّبه الذهبي بأن فيه ابن أبي مريم، وهو واهٍ" ضعيف جدًّا، فكيف يكون على شرط البخاري، "وكذا رواه العسكري، والقضاعي، والترمذي، وابن ماجه" كلاهما في الزهد؛ والإمام أحمد، وفيه عند الجميع ابن أبي مريم.
قال ابن طاهر: مدار الحديث عليه، وهو ضعيف جدًّا. انتهى، لكن له شاهد أخرجه البيهقي بإسناد فيه ضعف، عن أنس، رفعه: "الكيّس من عمل لما بعد الموت، والعاري العاري من الدين، اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة".(5/365)
وقوله: "ما حاك في صدرك فدعه" رواه الطبراني في الكبير من حديث أبي أمامة.
وقوله -صلى الله عليه وسلم: "تنكح المرأة لجمالها ومالها ودينها وحسبها
__________
"وقوله" -صلى الله عليه وسلم: "ما حاك"، قال في النهاية، أي: أثَّرَ ورسَخَ، يقال: ما يحيك كلامك في فلان، أي: ما يؤثِّر فيه، وقال غيره: أي: تردَّد, من حاك يحيك إذا تردَّد، "في صدرك"، أي: قلبك, من المجاز اللغوي, استعمل الصدور وأراد القلب, والعلاقة إما المجاورة إن لم يكن القلب في الصدر، وإما الحالية والمحلية إن كان فيه, وهذا أقرب من قول بعضهم: أي: قلبك الذي في صدرك؛ لأن فيه حذف الموصول الاسمي وموصوفه، "فدعه"، أي: اتركه؛ لأنَّ نفس المؤمن الكامل ترتاب من الإثم والكذب، فتردده في شيء أمارة كونه حرامًا، فالمتعيِّن أنَّ الذي يعمل بذا الحديث مثل المخاطب به كراويه، "رواه الطبراني في الكبير" برجال الصحيح، "من حديث أبي أمامة"، قال: قال رجل: ما الإثم.. فذكره.
وقوله -صلى الله عليه وسلم: "تنكح" -بضم التاء وفتح الكاف- "المرأة"، أي: يقصد عادةً نكاحها "لجمالها"، أي: حسنها، ويقع على الصور والمعاني، فشمل حسن الصفات أيضًا، والجمال مطلوب في كل شيء، لا سيما المرأة التي تكون قرينة وضجيعة، وعند الحاكم حديث: "خير النساء من تسر إذا نظرت، وتطيع إذا أمرت، ولا تخالف في نفسها ومالها".
قال الماوردي: لكنهم كرهوا ذات الجمال البارع؛ لكونها تزهو بجمالها، "ومالها"؛ لأن ذات المال قد لا تكلفه في النفقة وغيرها فوق طاقته.
قال المهلب: وفيه أنَّ للزوج الاستمتاع بمال زوجته، فإن طابت نفسها بذلك حلّ له, وإلا فله من ذلك قدر ما بذل لها من الصداق، وتعقّب بأن هذا التفصيل ليس في الحديث، ولم ينحصر قصد نكاح ذات المال في الاستمتاع بمالها، بل قد يقصد حصول ولد منها، فيعود إليه مالها بالإرث، أو لكونها تستغني بمالها عن مطالبته بما تحتاج إليه النساء، واحتجّ به بعض المالكية على أن للرجل الحجر على امرأته في ماله؛ لأنَّه إنما تزوَّجها لمالها فليس لها تفويته، وفيه نظر لا يخفى، "ودينها"، أي: صاينتها في نفسها ومالها مجرّد الإسلام, "وحسبها" -بفتحتين وموحدة- شرفها، وهو في الأصل: الشرف بالآباء والأقارب، مأخوذ من الحساب؛ لأنهم كانوا إذا تفاخروا عدوا مناقبهم ومآثر آبائهم وقومهم، وحسبوها، فيحكم لمن زاد عدده على غيره.
قال أكثم بن صيفي: يا بني تميم, لا يغلبنَّكم جمال النساء على صراحة الحسب، فإنَّ المناكح الكريمة مدرجة للشرف، وقيل:
وأول خبث المرء خبث ترابه ... وأول لؤم المرء لؤم المناكح(5/366)
فعليك بذات الدين ترتبت يداك" متَّفَق عليه من حديث أبي هريرة.
__________
وقيل: المراد بالحسَب الفعال الحسنة، قال: شمر الحسب، الفعل الجميل للشخص وآبائه، وقيل: المراد به المال، ورد بذكره قبله، وعطفه عليه, وللنسائي، وصحَّحه ابن حبان والحاكم مرفوعًا: "إن أحساب أهل الدنيا الذي يذهبون إليه المال"، وللترمذي والحاكم مرفوعًا: "الحسب المال، والكرم، والتقوى" وحمل على أنَّ المراد أنَّ المال حسب من لا حسب له.
وروى الحاكم حديث: "تخيروا لنطفكم"، "فعليك بذات الدين"، إنما هذا لفظ جابر عند مسلم "تربت يداك" لصقتا بالتراب وافتقرتا إن خالفت ما أمرتك به، وهي كلمة جارية على ألسنة العرب، لا يريدون بها حقيقتها.
وروى ابن ماجه مرفوعًا: "لا تزوجوا النساء لحسنِّهن، فعسى حسنهن أن يرديهن"، أي: يهلكن، "ولا تزوجوهنّ لأموالهن، فعسى أموالهن أن يطغيهن، ولكن تزوجوهن على الدين" "متفق عليه من حديث أبي هريرة"، لكن ليس بهذا اللفظ، بل بلفظ: "تنكح المرأة لأربع: لمالها، ولحسبها، ولجمالها، ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك"، وذكر اللام، وفي الأربع رواية مسل، وأسقطها البخاري من وجمالها فقط، ولفظ: "فعليك بذات الدين"، ليس مما اتفقا عليه، ولا هو من حديث أبي هريرة، إنما انفرد به مسلم من حديث جابر، فتسمح المصنف تسمحًا شديدًا سامحه الله.
قال النووي: الصحيح في معنى هذا الحديث، أنه -صلى الله عليه وسلم- أخبر بما يفعله الناس عادة، وآخرها عندهم ذات الدين، فاظفر أنت أيها المسترشد بذات الدين؛ لأنه أمر بذلك.
وقال البيضاوي: المعنى: إن اللائق بذوي المروآت وأرباب الديانات، أن يكون الدِّين مطمح نظرهم في كل شيء، لا سيما فيما يدوم أمره ويعظم خطره، فلذا اختاره -صلى الله عليه وسلم- بآكد وجه وأبلغه، فأمر بالظفر الذي هو غاية البغية ومنتهى الاختيار والطلب، الدالّ على تضمّن المطلوب لنعمة عظيمة وفائدة جليلة.
وقال الطيبي: قوله: فاظفر جزاء مشرط محذوف، أي: إذا تحققت ما فصلته لك تفصيلًا بينًا، فاظفر أيها المسترشد بذات الدِّين، فإنها تكسبك منافع الدارين.
قال: واللامات المكررة مؤذنة بأن كلًّا منها مستقلة في الغرض، و "تربت يداك" ليس دعاء عليه، وذلك أنهم كانوا إذا رأوا مقدامًا في الحرب أبلى فيه بلاء حسنًا يقولون: قاتله الله, ما أشجعه، يريدون به ما يزيد قوته وشجاعته، وكذلك هنا، فالرجل إمَّا يؤثر الثلاثة على ذات الدِّين لإعدامها الثلاثة، فينبغي أن يحمل الدعاء على ما يجب عليه من الفقر، أي: عليك بذات الدين يغنك الله، فيوافق معنى الحديث النص التنزيلي: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ(5/367)
وقوله: "الشتاء ربيع المؤمن، قصر نهاره فصامه, وطال ليلة فقامه". رواه البيهقي وأحمد وأبو نعيم مختصرًا، والعسكري بتمامه، كلهم من حديث درَّاج عن أبي الهيثم
__________
عِبَادِكُمْ} [النور: 32] ، {وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} ، والصالح هو صاحب الدين، انتهى.
قال النووي: وفي الحديث الحثّ على مصاحبة أهل الصلاح في كل شيء؛ لأن من صاحبهم استفاد من أخلاقهم وبركتهم وحسن طرائقهم، ويأمن المفسدة من جهتهم، وحكي أن رجلًا قال للحسن: إن لي بنتًا أحبها، وقد خطبها غير واحد، فمن ترى أن أزوجها؟ قال: زوّجها رجلًا يتقي الله، فإنه إن أحبها أكرمها، وإن أبغضها لم يظلمها.
وقال الغزالي: ليس أمره -صلى الله عليه وسلم- بمراعاة الدِّين نهيًا عن مراعاة الجمال، ولا أمرًا بالإضراب عنه، وإنما هو نهي عن مراعاته مجردًا عن الدِّين، فإن الجمال في الغالب يرغب الجاهل في النكاح دون التفات إلى الدِّين، ولا نظر إليه، فوقع النهي عن هذا، فقال: وأمره -صلى الله عليه وسلم- مريدًا التزوّج بالنظر إلى المخطوبة يدل على مراعاة الجمال؛ إذ النظر لا يفيد معرفة الدِّين، وإنما يعرف به الجمال، أو القبح.
"وقوله" -صلى الله عليه وسلم: "الشتاء ربيع المؤمن" تشبيه بليغ، أي: إنه له لسهولة العبادة فيه، ولذته بها، والقيام بها بلا مشقّة، كفصل الربيع للماشية الذي يكثر فيه الخصب والماء، فترتفع فيه وتنمو.
قال العسكري: إنما قال ذلك؛ لأنَّ أحد الفصول عند العرب فصل الربيع، فيه الخصب ووجود المياه والزرع، ولذا كانوا يقولون للرجل الجواد: هو ربيع اليتامى، فيقيمونه مقام الخصب في الخير الكثير، كوجوه في الربيع، "قصر نهاره فصامه، وطال ليله فقامه"، وفي رواية: فصام، فقام, بحذف المفعول؛ لأنه لطوله تأخذ النفس حظها من النوم، ثم تقوم للتهجّد والأوراد بنشاط، فيجتمع له فيه نومه المحتاج إليه، مع إدراكه وظائف العبادات، فيكمل له فيه مصلحة دينه وراحة بدنه، بخلاف ليل الصيف، لقصره وحره يغلب فيه النوم، فلا يتوفر فيه ذلك، "رواه البيهقي، وأحمد"، وأبو يعلى، "وأبو نعيم، مختصرًا" بلفظ: "الشتاء ربيع المؤمن"، "والعسكري"، وكذا أبو يعلى، والبيهقي في السنن أيضًا، والقضاعي "بتمامه" المذكور، "كلهم من حديث درَّاج" -بفتح الدال المهملة، وتثقيل الراء فألف، فجيم- ابن سمعان أبي السمع -بفتح المهملة، وسكون الميم، ومهملة, قيل: اسمه عبد الرحمن، ودرّاج لقب السهمي، مولاهم المصري، القاص، روى له الأربعة, والبخاري في التاريخ، ومات سنة ست وعشرين ومائة. "عن أبي الهيثم" سليمان بن عمرو الليثي، المصري، الثقة.(5/368)
عن أبي سعيد، وله شواهد.
وإنما كان الشتاء ربيع المؤمن؛ لأنه يرتع فيه في بساتين الطاعات، ويشرح في ميادين العبادات، وينزه قلبه في رياض الأعمال الميسرة فيه من الطاعات، فإن المؤمن يقدر على صيام نهاره من غير مشقة ولا كلفة, ولا يحصل له جوع ولا عطش، فإن نهاره قصير بارد, فلا يحصل فيه مشقّة الصيام.
__________
روى له البخاري في التاريخ، وأصحاب السنن، "عن أبي سعيد" الخدري، قال الحافظ -النور الهيثمي: إسناده حسن، وقال السخاوي: ودرَّاج ممن ضعَّفه جماعة، وعُدَّ هذا الحديث فيما أنكر عليه، لكن وثَّقه ابن معين وابن حبّان.
وقال ابن شاهين في ثقاته: ما كان من حديثه عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد، فلا بأس به، ومشى عليه شيخنا، يعني: الحافظ في تقريبه، فقال: صدوق في حديثه عن أبي الهيثم، ضعيف في غيره، وعكسه أبو داود، فقال: أحاديثه مستقيمة، إلّا ما كان عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد، "و" لكن "له شواهد"، منها ما رواه الطبراني، وابن أبي عاصم، وغيرهما, من طريق سعيد بن بشير، عن قتادة، عن أنس مرفوعًا: "الصوم في الشتاء الغنيمة الباردة"، وسعيد ضعيف عند أكثرهم، وقد رواه همّام عن قتادة، عن أنس، عن أبي هريرة موقوفًا، أخرجه البيهقي، وأبو نعيم، وعبد الله بن أحمد، وهو أصحّ، ومنها ما رواه أحمد، والترمذي، وابن خزيمة، والطبراني، والقضاعي عن ابن مسعود، رفعه بلفظ حديث أنس، وللديلمي عن ابن مسعود مرفوعًا: "مرحبًا بالشتاء، تنزل فيه الرحمة، أما ليله فطويل للقيام، وأمّا نهاره فقصير للصيام"، وفي الجالسة عن قتادة: لم ينزل عذاب قط من السماء على قوم، إلا عند انسلاخ الشتاء، "وإنما كان الشتاء ربيع المؤمن؛ لأنه يرتع فيه في بساتين الطاعات"، أي: يجتهد في أنواعها قراءة، وصلاة، وذكر وغيرها، فشبّه اجتهاده برتوع الماشية، أي: رعيها، كيف شاءت لتيسر الخصب وكثرته، وعدم مانع يمنعها من الرعي، وأطلق عليها بساتين؛ لأنها باعتبار ما يحصل للنفس الكاملة من اللذات المختلفة بتلك الأنواع، أشبهت البساتين المشتملة على أنواع الفواكه الكثيرة، "ويشرح في ميادين العبادات" جمع ميدان -بفتح الميم وتكسر- محل تسابق الفرسان، أي: يتقلّب في محلات العبادات، فهو مساوٍ لسابقه، فالسروخ هو رعي الماشية بنفسها، "وينزه قلبه في رياض الأعمال" جمع روضة، وهو الموضع المعجب بالزهور وهو بمعنى ما قبله أيضًا، من حيث المراد "الميسّرة فيه من الطاعات، فإن المؤمن يقدر على صيام نهاره من غير مشقة، ولا كلفة" عطف تفسير، "ولا يحصل له جوع ولا عطش، فإن نهاره قصير بارد، فلا يحصل فيه مشقة الصيام"، أي: وليله طويل لا يحصل فيه مشقة القيام، وتركه اكتفاء.(5/369)
وقوله -عليه الصلاة والسلام: "القناعة مال لا ينفد وكنز لا يفنى".
رواه الطبراني في الأوسط من حديث المنكدر بن محمد بن المنكدر عن أبيه عن جابر، والقضاعي بدون: وكنز لا يفنى, عن أنس.
وفي القناعة أحاديث كثيرة، ولو لم يكن في القناعة إلّا التمتع بالعزِّ لكفى صاحبه، وكان من
__________
"وقوله -عليه الصلاة والسلام: "القناعة" الرضا بالمقسوم "مال"، أي: كمالٍ بجامع أنها تغني صاحبها عن الناس، كما يغنيه مال "لا ينفد" -بفتح الفاء- أي: لا يفنى, "وكنز لا يفنى" أي: مال مدفون، فهو أخصّ من الأوّل، وإن ساواه في المعنى، وذلك؛ لأنَّ ذا المال ينفق منه متى شاء كيف شاء، والقانع متى تعذَّر عليه شيء رضي بما دونه؛ إذ القناعة تنشأ عن غنى القلب ومزيد الإيقان، ومن قنع أخذ بالبركة ظاهرًا وباطنًا؛ لأن الإنفاق منها لا ينقطع؛ إذ صاحبها كلما تعذَّر عليه شيء قنع بما دونه، فلا يزال غنيًّا عن الناس، ولذا كان ما يقنع به خير الرزق، كما قال -صلى الله عليه وسلم: "خير الذكر الخفيّ, وخير الرزق ما يكفي"، رواه أحمد والبيهقي وابن حبان، وقال -صلى الله عليه وسلم: " خير الرزق ما كان يومًا بيوم كفافًا"، رواه ابن عدي والديلمي، أي: ما يقنع به، ويرضى على الوجه المطلوب شرعًا، ومن قنع بالمقسوم كانت ثقته بالله التي شأنها أن لا تنقطع كنزًا له لا ينفد إمداده، وأشعر تشبيه القناعة بالمال أنها إنما تطلب في أمور الدنيا؛ ليُسْتَغْنَى بها عن الناس، ولئلَّا يشتغل بكثرتها عن الآخرة؛ لكونه مجبولًا على الشحِّ، كما أجاب به بعض الصوفية قائلًا: أما القناعة من المعرفة بالقليل فمذمومة بنص قوله: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 114] ، أي: بك وبأسرار أحكامك لا زيادة التكاليف، فإنه كان يكره السؤال في الأحكام.
"رواه الطبراني في الأوسط من حديث المنكدر بن محمد بن المنكدر" القرشي، التيمي، المدني، ليِّن الحديث، روى له الترمذي والبخاري في التاريخ، مات سنة ثمانين ومائة، "عن أبيه، عن جابر" بن عبد الله.
قال الذهبي: وإسناده واهٍ، "والقضاعي بدون: وكنز لا يفنى، عن أنس" رفعه، وكذا رواه بدونها العسكري من الطريق الأولى عن جابر، "وفي القناعة أحاديث كثيرة"، منها: حديث عمرو مرفوعًا: "قد أفلح من أسلم ورزق كفافًا، وقنَّعه الله بما آتاه"، وعن علي في قوله تعالى: {فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل: 97] ، قال: القناعة، وكذا قال الأسود: إنها القناعة والرضا، وعن سعيد بن جبير، قال: لا يحوجنَّه إلى أحد، "ولو لم يكن" كما قال بشر بن الحارث: "في القناعة إلّا التمتع بالعزِّ"، أي: شرف النفس وقوتها بالصبر على ما أعطته، "لكفى صاحبه، وكان من دعائه -عليه الصلاة والسلام: "اللهمَّ قنِّعني بما رزقتني"، وأنشد بعضهم"، وهو ابن دريد:(5/370)
دعائه -عليه الصلاة والسلام: "اللهم قَنِّعني بما رزقتني" , وأنشد بعضهم:
ما ذاق طعم الغنى من لا قنوع له ... ولن ترى قانعًا ما عاش مفتقرًا
وقوله -صلى الله عليه وسلم: "ما خاب من استحار, ولا ندم من استشار،
__________
ما ذاق طعم الغنى من لا قنوع له ... ولن ترى قانعًا ما عاش مفتقرا
والعرف من يأته يحمد مغبَّته ... ما ضاع عرف وإن أوليته حجرا
قنوع -بضم القاف- المراد: الرضا، ويروى: ما ذاق روح الغني، قال المجد: القنوع -بالضم- السؤال والتذلل، والرضا بالقسم ضد, والفعل كمنع، ومن دعائهم: نسأل الله القناعة، ونعوذ به من القنوع، وفي المثل: خير الغنى القنوع، وشر الفقر الخضوع، ومقتضاه: اتحاد الماضي والمضارع معنًى، وفي المصباح: قنع يقنع -بفتحتين- قنوعًا سأل، وقنعت به قنعًا من باب تعب، وقناعة رضيت، وهو قنع وقنوع انتهى، وعلى هذا قول القائل:
العبد حران قنع ... والحر عبدان قنع
فاقنع ولا تقنع فما ... شيء يشين سوى الطمع
فقوله: إن قنع -بكسر النون- أي: رضي، وثانيًا -بفتحها- أي: سأل، وفاقنع فارض، ولا تقنع ولا تسأل، وقال أبو العتاهية:
تسربلت أخلاقي قنوعًا وعفة ... فعندي بأخلاقي كنوز من الذهب
فلم أر خصبًا كالقنوع لأهله ... وإن يحمل الإنسان ما عض في الطلب
"وقوله -صلى الله عليه وسلم: $"ما خاب من استخار" الله تعالى، أي: طلب الخيرة في الأمور منه تعالى، وحقيقتها تفويض الاختيار إليه تعالى، فإنه الأعلم بخيرها للعبد، والقادر على ما هو خير لمستخيره إذا دعاه بخير له، فلا يخيب أمله، والخائب من لم يظفر بمقصوده، وكان -صلى الله عليه وسلم- كثيرًا ما يقول: "اللهم خر لي واختر لي".
قال ابن أبي جمرة: هذا الحديث عام أريد به الخصوص، فالواجب والمستحب لا يستخار في فعلهما، والحرام، والمكروه لا يستخار في تركهما، فانحصر الأمر في المباح، وفي المستَحَبِّ إذا تعارض فيه أمران أيهما يبتدئ به، أو يقتصر عليه.
قال الحافظ: ويدخل في الواجب والمستَحَبّ المخير، وفيما كان منه موسعًا، وشمل العموم العظيم والحقير، فربّ حقير يترتَّب عليه أمر عظيم، "ولا ندم من استشار " غيره ممن له تبصر ونصيحة.
قال الحراني: والمشورة أن تستخلص حلاوة الرأي وخالصه من خبايا الصدر، كما يشور(5/371)
ولا عال من اقتصد". رواه الطبراني في معجمه الأوسط من حديث أنس.
وقوله -عليه الصلاة والسلام: "الاقتصاد في النفقة نصف المعيشة،
__________
العسل جانيه، وفي بعض الآثار: نقِّحوا عقولكم بالمذاكرة، واستعينوا على أموركم بالمشاورة، وقال الحكماء: من كمال عقلك استظهارك عليه، وإذا أشكلت عليك الأمور، وتغيّر لك الجمهور، فارجع إلى رأي العقلاء، وافزع إلى استشارة الفضلاء، ولا تأنف من الاسترشاد، ولا الاستمداد.
وقال بعض العارفين: الاستشارة بمنزلة تنبيه النائم أو الغافل، فإنه يكون جازمًا بشيء يعتقد أنه صواب، وهو بخلافه، ولا يشاور إلّا أمينًا مجربًا، حازمًا ناصحًا، ثابت الجأش, غير معجَبٍ بنفسه، ولا متلوّن في رأيه، ولا كاذب في مقاله. زاد بعضهم: وليس محبًّا لغلبة هوى محبوبه عليه، ولا امرأة، ولا متجردًا عن الدنيا لعدم معرفته، ولا منهمكًا في حبها؛ لأن استيلائها عليه يظلم قلبه، فيفسد رأيه، ولا بخيلًا.
قال ابن عباس: لما نزل وشاورهم في الأمر قال -صلى الله عليه وسلم: "أما أن الله ورسوله لغنيان عنها، لكن جعلها الله رحمة لأمتي، فمن استشار منهم لم يعدم رشدًا، ومن تركها لم يعدم غيًّا"، رواه البيهقي بإسناد غريب.
وقال أبو هريرة: ما رأيت أحدًا أكثر مشاورة لأصحابه من النبي -صلى الله عليه وسلم, رواه الشافعي، ويستحبّ تقديمها على الاستخارة، كما في المدخل، "ولا عال من اقتصد"، أي: ما افتقر من توسط في النفقة على عياله، "رواه اطبراني في معجمه الأوسط"، وكذا في الصغير، كما قال النور الهيثمي "من حديث أنس" بإسناد ضعيف جدًّا. انتهى، فمن عزاه للصغير فقط، كالفتح والمقاصد، أو للأوسط فقط، كالمصنّف والجامع، فقد قصروا وهم، وكذا جزم الحافظ بأنّ إسناده واهٍ جدًّا، لكن له شواهد كثيرة.
"وقوله -عليه الصلاة والسلام: "الاقتصاد"، أي: التوسُّط "في النفقة"، وتجنّب الإفراط والتفريط فيها "نصف المعيشة".
قال الطيبي: وذلك لأنَّ كِلَا طرفي التبذير والتقتير ينغِّص المعيشة، والتوسّط فيه هو العيش، والعيش نوعان: عيش الدنيا وعيش الآخرة، كما أنَّ العقل نصفان: مطبوع ومسموع، والمسموع صنفان: معاملة مع الله، ومعاملة مع الخلق، وقال غيره: التوسّط في النفقة يحصل به راحة للعبد, وحسن حال، وذلك نصف ما به الحياة، فقد قيل: كمال العيش شيئان: مدة الأجل وحسن الحال، فمدة الأجل لا دخل للعبد فيها بوجه، وحسن الحال, وإن كان من الله، لكنَّه جعل للعبد مدخلًا فيه، بالسعي في أسبابه المحصّلة له عادة، "والتودد"، أي: التحبب "إلى(5/372)
والتودد إلى الناس نصف العقل، وحسن السؤال نصف العلم".
رواه البيهقي في الشعب، والعسكري في الأمثال، وابن السني والديلمي من طريقه, والقضاعي, كلهم من حديث نافع عن ابن عمر مرفوعًا. وضعَّفه البيهقي، لكن له شاهد عن العسكري من حديث خلّاد بن عيسى, عن ثابت عن أنس رفعه: "الاقتصاد نصف العيش، وحسن الخلق نصف الدين". وكذا أخرجه الطبراني وابن لال
__________
الناس"، بالأخذ في أسباب المحبَّة، كملاقاتهم بالبشر، وطلاقة الوجه، وحسن الخلق، والرفق وغير ذلك، "نصف العقل"؛ لأنه يبعث على السلامة من شرّهم ومحبتهم، أي: نصف ما يرشد إليه العقل، ويحصله جعله نصفان مبالغة، حتَّى كأنَّ ما يرشد إليه من المحاسن هو نفسه، وقال بعضهم: ما يرشد إليه العقل صنفان: معاملة مع الله، ومعاملة مع الخلق، كما قيل: العقل العبودية لله، وحسن المعاملة مع خلقه، "وحسن السؤال نصف العلم"، فإن السائل الفطن يسأل عمَّا يهمه وما هو بشأنه أعنى، وهذا يحتاج إلى فضل تمييز بين مسئول ومسئول، فإذا ظفر بمبتغاه وفاز به كمل علمه، وعليه يحمل قوله: لا أدري نصف العلم، ذكره الطيبي، وقال غيره: إذا أحسن سؤال شيخه أقبل عليه بقلبه وقالبه، وأوضح له ما أشكل، وأبان له ما أعضل، لكونه وجد استعدادًا وقابلًا، وإذا لم يحسن السؤال أعرض عنه، وضنَّ بإلقاء النفائس إليه، وقنع من الجواب يئزر يسير مما يورده عليه، "رواه البيهقي في الشعب"، والطبراني في مكارم الأخلاق، "والعسكري في الأمثال، وابن السُّنِّي" -بضم المهملة، وشد النون- نسبة إلى السنة، ضد البدعة, الحافظ أبو بكر أحمد بن محمد بن إسحاق بن إبراهيم الدينوري.
روى عن جماعة منهم النسائي، واختصر سننه الكبرى، وسمَّاه المجتبى، وله عمل يوم وليلة، وغير ذلك، وتوفي سنة ثلاث وستين وثلاثمائة، "والديلمي من طريقه، والقضاعي, كلهم من طريق نافع، عن ابن عمر مرفوعًا، وضعَّفه البيهقي، لكن له شاهد عن العسكري من حديث خلّاد بن عيسى" الصفَّار، أبي مسلم الكوفي, لا بأس به، روى له الترمذي، وابن ماجه "عن ثابت" البناني، "عن أنس رفعه "الاقتصاد نصف العيش"، أي: المعيشة, "وحسن الخلق" -بالضم- "نصف الدِّين"؛ لأنه يكسب صاحبه ملكة تامَّة، يقتدر بها على تجنُّب ما يخلّ بمروآته ودينه، فمن حازه توفَّر عليه نصف الدِّين، فليتَّقِ الله في النصف الثاني، بخلاف سوء الخلق، فيوقع صاحبه في رقَّة الديانة، وقلة الأمانة، ويورِّطه في القبائح كرهًا عليه، فإنه عند ثوران الغضب لا يدري ما يقول، ولا ما يفعل، "وكذا أخرجه الطبراني"، والخطيب، "وابن لال" أحمد بن علي، ولال أخرس، "ومن شواهده أيضًا للعسكري عن أنس، رفعه: "السؤال نصف العلم"، أي: حسنه(5/373)
ومن شواهده أيضًا: ما للعسكري عن أنس رفعه: "السؤال نصف العلم، والرفق نصف المعيشة، وما عال امرؤ في اقتصاد". وللديلمي من حديث أبي أمامة رفعه: "السؤال نصف العلم, والرفق نصف المعيشة".
وفي صحيح ابن حِبَّان من حديث طويل عن أبي ذر, أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال له: "يا أبا ذر، لا عقل كالتدبير، ولا ورع كالكف، ولا حسب كحسن الخلق". وهذا
__________
بدليل اللفظ السابق "والرفق"، أي: الاقتصاد في النفقة بقدر ذات "نصف المعيشة"، وهي ما يعاش به من أسباب العيش، "وما عال امرؤ"، أي: افتقر، "في اقتصاد"، وورد: الرفق في المعيشة خير من بعض التجارة، ورواه الدارقطني والطبراني وغيرهما، ويروى كما في الفردوس: خير من كثير من التجارة، "وللديلمي من حديث أبي أمامة رفعه: "السؤال"، أي: حسنه، "نصف العلم، والرفق نصف المعيشة"، وجاء في خبر: من فقه الرجل رفقه في معيشته.
قال مجاهد: ليرفق أحدكم بما في يده، ولا يتأوّل قوله: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} ، فإن الرزق مقسوم، فلعلَّ رزقه قليل، فينفق نفقة الموسع، ويبقى فقيرًا حتى يموت، بل معنى الآية: إن ما كان من خلف فمنه سبحانه، فلعله إذا أنفق بلا إسراف ولا إقتار كان خيرًا من معاناة بعض التجار.
"وفي صيح ابن حبان من حديث طويل عن أبي ذر, أن النبي -صلى الله عليه وسلم، قال له: "يا أبا ذر, لا عقل"، أي: لا شيء مما يؤدي إليه العقل من المحاسن، "كالتدبير"، وهو النظر في العواقب لأمن صاحبه الغوائل والوقوع فيما يضره.
قال الطيبي: أراد بالتدبير العقل المطبوع، وقال القيصري: هو خاطر الروح العقلي، وهو خاطر التدبير لأمر المملكة الإنسانية، والنظر في جميع الخواطر الواردة عليه من جميع الجهات، ومنه يؤخذ الفهوم والعلوم الربانية، "ولا ورع"، أي: لا شيء من أسبابٍ تؤدي إلى الورع، وهو اجتناب الشبهات، خوفًا من الوقوع في الحرام، "كالكف" أي: منع النفس عن الحرام والمكروه، فمن فعله بَعُدَ عن الشبهات، والورع في الأصل الكَفّ، ثم استُعِيرَ للكفّ عن المحارم، فإن قيل: يلزم اتحاد المشبّه والمشبَّه به، أجيب بأنه إذا أطلق فهم منه كف الأذى، أو كف اللسان، فكأنه قيل: لا ورع كالصمت، أو كفّ الأذى عن الناس، أو عن المحارم، "ولا حسب"، أي: لا شيء يفتخر به من الصفات الحميدة، "كحسن الخلق" مع الخلق، فالأوَّل عام والثاني خاص، و"هذا اللفظ عند البيهقي في الشعب"، وقد أبعد شيخه السخاوي النجعة في الغزو، فإنه في سنن(5/374)
اللفظ عند البيهقي في الشعب. وله أيضًا وللعسكري عن علي مرفوعًا: "التودد نصف الدِّين، وما عال امرؤ قط على اقتصاد"، أي: ما افتقر من أنفق قصدًا, ولم يجاوزه إلى الإسراف.
وقوله -عليه الصلاة والسلام: "المؤمن من أمنه الناس" رواه الترمذي.
وقوله: "المسلم من سَلِمَ المسلمون من لسانه ويده،
__________
ابن ماجه عن أبي ذر بلفظه، "وله أيضًا وللعسكري عن علي مرفوعًا: "التودد نصف الدِّين، وما عال امرؤ قط على اقتصاد"، صلة لمحذوف، أي: اشتمل على اقتصاد، وتتمة ذا الحديث: "واستنزلوا الرزق بالصدقة، وأبى الله أن يجعل رزق عباده المؤمنين من حيث يحتسبون"، "أي: ما افتقر من أنفق قصدًا"، توسطًا بقدر ذات اليد، "ولم يجاوزه إلى الإسراف"، وفي التنزيل: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا} [الفرقان: 67] الآية، وللديلمي عن أنس رفعه: "إن أحدكم يأتيه الله -عز وجل- برزق عشرة أيام في يوم واحد، فإن هو حبس عاش تسعة أيام بخير، وإن هو وسّع وأسرف قُتِّر عليه تسعة أيام".
"وقوله -عليه الصلاة والسلام: "المؤمن من أمنه الناس"، أي: من حقه أن يكون موصوفًا بذلك، أو المراد: المؤمن الكامل، "رواه الترمذي"، وحسَّنه ابن ماجه، كلاهما من حديث فضالة بن عبيد بزيادة: "من أموالهم وأنفسهم، والمهاجرة من هجر الخطايا والذنوب"، وهو عطف تفسير، أو عام على خاص.
"وقوله" صلى الله عليه وسلم: "المسلم" الكامل، فأل لكمال نحو: زيد الرجل"، أي: الكامل في الرجولية، وإثبات اسم الشيء على معنى إثبات الكمال له مستفيض، أو المراد: علامة المسلم الذي يستدل بها على إسلامه، "من سَلِمَ المسلمون" والمسلمات وأهل الذمة، فخرج مخرج الغالب؛ لأن محافظة المسلم على كفِّ الأذى عن أخيه أشد تأكيدًا؛ ولأن الكفار بصدد أن يقاتلوا، وإن كان فيهم من يحب الكفّ عنه "من لسانه ويده"، إلّا في حَدٍّ، أو تعزيز، أو تأديب، وخَصَّ اللسان بالذكر؛ لأنه المعبر عمَّا في النفس واليد؛ لأن أكثر الأفعال بها، واستشكل تقدير الكامل باستلزامه أنَّ المتَّصف بهذا فقط يكون كاملًا، وأجيب بأن المراد مع مراعاة باقي الصفات التي هي أركان الإسلام.
قال الخطابي: أفضل المسلمين من جمع أداء حقوق الله وأداء حقوق المسلمين.
قال الحافظ: ويحتمل أن يكون المراد بذلك الإشارة إلى الحثِّ على حسن معاملة العبد مع ربه؛ لأنه إذا أحسن معاملة إخوانه، فأَوْلَى أن يحسن معاملة ربه, من باب التنبيه بالأدنى على(5/375)
والمهاجر مَنْ هجر ما حرَّم الله عليه"، متفق عليه عن ابن عمرو، به مرفوعًا، وعن أبي موسى، ومسلم عن جابر.
وقوله: "قلة العيال أحد اليسارين".
__________
الأعلى.
قال: والحديث عام بالنسبة إلى اللسان دون اليد؛ لأن اللسان يمكنه القول في الماضين والموجودين والجائين بخلاف اليد، نعم يمكن أن تشارك اللسان في ذلك بالكتابة، وإنّ أثرها في ذلك لعظيم، ونكتة التعبير باللسان دون القول شموله من أخرج لسانه استهزاء، وذكر اليد دون غيرها من الجوارح؛ ليدخل اليد المتعدية على حق الغير بلا حق، وفيه من أنواع البديع تجنيس الاشتقاق، وهو كثير، "والمهاجر" حقيقة بمعنى الهاجر، وإن اقتضى المفاعل وقوع فعل بين اثنين، لكنَّه هنا للواحد كالمسافر، ويحتمل أنه على بابه؛ إذ من لازم كونه هاجرًا وطنه، مثلًا أنه مهجور منه، "من هجر ما حرَّم الله عليه"، هذا لفظ رواية النسائي وأبي داود، ولفظ البخاري: "من هجر ما نهى الله عنه".
قال الحافظ: والهجرة ضربان: ظاهرة، وهي الفرار بالدِّين من الفتن، وباطنة، وهي ترك ما تدعو إليه النفس الأمَّارة بالسوء والشيطان، وكأنَّ المهاجرين خوطبوا بذلك، لئلّا يتَّكِلُوا على مجرَّد التحوّل من دارهم، حتى يمتثلوا أوامر الشرع ونواهيه، ويحتمل أن يكون ذلك قبل انقطاع الهجرة، فلمَّا فتحت مكة تطييبًا لقلوب من لم يدرك ذلك، بأن حقيقة الهجرة تحصل لمن هجر ما نُهِيَ عنه، فاشتملت هاتان الجملتان على جوامع من معاني الحكم والأحكام، "متفق عليه، عن ابن عمرو" بن العاص "به مرفوعًا وعن أبي موسى"، كذا وقع المصنف تبعًا لشيخه في المقاصد بالحرف، وهو منابذ لقول الحافظ في الفتح، هذا الحديث من إفراد البخاري عن مسلم، أخرج مسلم معناه من وجه آخر، وزاد ابن حبان، والحاكم في المستدرك من حديث أنس صحيحًا: "والمؤمن من أَمِنَه الناس" وكأنَّه اختصره هنا لتضمنه لمعناه انتهى، "ومسلم" وحده "عن جابر" بلفظ: "المسلم من سَلِمَ المسلمون من لسانه ويده" دون بقيته، فإيذاء المسلم من نقصان الإيمان، والإيذاء ضربان: ضَرْبٌ ظاهر بالجوارح، كأخذ المال بنحو سرقة، أو نهب، وضرب باطن كالحسد، والغل، والبغض، والحقد، والكبر، وسوء الظن، والقسوة, ونحو ذلك، فلذلك كله مضربًا لمسلم مؤذ له، وقد أمر الشرع بكفّ النوعين من الإيذاء، وهلك بذلك خلق كثير.
"وقوله" صلى الله عليه وسلم: "قلة العيال أحد اليسارين"؛ لأن الغنى نوعان: غنى بالشيء والمال، وغنى عن الشيء لعدم الحاجة إليه، وهذا هو الحقيقي، فقِلَّة العيال لا حاجة معها إلى كثرة المؤن، وقيل: اليسار خفض العيش، أي: سعته والراحة فيه، وزيادة الداخل على الخرج، أو وفاء الدخل(5/376)
رواه صاحب مسند الفردوس ولفظه: "التدبير نصف المعيشة، والتودد نصف العقل, والهم نصف الهرم، وقلة العيال أحد اليسارين".
وقوله -عليه الصلاة والسلام: "أدّ الأمانة إلى من ائتمنك
__________
بالخرج، فمن كثر عياله ودخله، وفضل له من دخله، أو وفَّى دخله بخرجه، أو قَلَّ عياله ودخله وفضل، أو وفَّى، فهو في يسر، ومن قَلَّ دخله وكَثُرَ عياله في عسر، "رواه صاحب مسند الفردوس" الديلمي عن أنس، وكذا القضاعي عن علي، "ولفظه: "التدبير"، أي: النظر في عواقب الأمور, "نصف المعيشة"، إذ به يحترز عن الإسراف والتقتير، وكمال العيش شيئان: مدة الأجل وحسن الحال فيها، ولا يعارض هذا قول الصوفية: أرح نفسك من التدبير، فما قام به غيرك عنك لا تقم به لنفسك؛ لأن الحديث في تدبير صحبة تفويض، وكلامهم فيما لم يصحبه، "والتودد" التحبب إلى الناس "نصف العقل، والهم نصف الهرم"، وهو ضعف ليس وراءه قوة، فإن لم يصل إلى الهرم؛ وزال الهمّ عادت القوة، فالْهَمّ إذًا نصف الضعف، "وقلة العيال أحد اليسارين".
وفي المقاصد: حديث قلة العيال اليسارين، وكثرته أحد الفقرين. القضاعي عن علي، والديلمي عن غيره بالشطر الأول، مرفوعًا بسندين ضعيفين، وذكره في الإحياء بتمامه.
"وقوله -عليه الصلاة والسلام: "أدّ" -بفتح الهمزة وكسر الدال، وجوبًا في الواجب، وندبًا فيما تطلب يه المعاونة من الأداء.
قال الراغب: وهو دفع ما يجب دفعه وتوفيته، أي: أوصل "الأمانة"، وهي كل حقٍّ لزمك أداؤه، أو حفظه، ومن قصرها على حق الحق، أو حق الخلق، فقد قصر.
قال القرطبي: الأمانة تشمل أعدادًا كثيرة، لكنَّ أمهاتها الوديعة، واللقطة، والرهن، والعارية، "إلى من ائتمنك" عليها، ولا مفهوم له، بل غالبي، فإن حفظها أثر كمال الإيمان، فإذا نقص نقصت الأمانة في الناس، وإذا زاد زادت، والمراد: من جعل لك شرعًا على ما لديه يدًا، فشمل ما إذا ألقت الريح ثوبًا ببيتك، أو دخل فيه جائع، والمراد بأدائها: إيصالها إليه بالتخلية بينه وبينه، فليست الأمانة بالمعنى المصطلح عليه عند الفقهاء، من أنها ما لم يضمّنه ذو اليدين إذا لم يقصر.
وقال النووي: الظاهر أنَّ المراد بالأمانة التكليف الذي كلف الله به عباده، والعهد الذي أخذه الله عليهم، وهي التي في قوله تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ} [الأحزاب: 72] الآية، وفي النهاية: الأمانة تقع على الطاعة، والعبادة، والوديعة، والثقة، والأمان.
وقال الفخر الرازي: قيل: هي التكاليف, سُمِّيَتْ أمانة؛ لأن من قصر فعليه الغرامة، ومن وفَّى(5/377)
ولا تخن من خانك".
رواه أبو داود والترمذي من رواية شريك وقيس بن الربيع،
__________
فله الكرامة، وقيل: هي لا إله إلا الله، وهو بعيد، فالأكوان ناطقة بأن الله واحد، وقيل: هي الأعضاء، فالعين أمانة ينبغي حفظها، والأذن كذلك، وبقية الأعضاء، وقيل: هي معرفة الله، ولما كانت النفوس نزاعة إلى الخيانة، رواغة عنه مضايق الأمانة، وربما تأوّلت جوازها مع من لم يلتزمها، أعقبه بقوله: "ولا تخن من خانك" أو لأنَّ الأول عام، والثاني في شيء خاص، فلا يقال: يستغني بالأول عن الثاني، أي: لا تعامله بمعاملته، ولا تقابل خيانته بخيانتك فتكون مثله، وليس منها ما يأخذه الإنسان من مال من جحد حقه؛ إذ لا تعدي فيه، أو المراد: إذا خانك صاحبك فلا تقابله بجزاء خيانته وإن كان حسنًا، أي: جائزًا، بل قابله بالأحسن الذي هو العفو، وادفع بالتي هي أحسن.
قال الطيبي: وهذا أحسن، وهذه مسألة خلافية، "لا تخن من خانك مطلقًا"، وهذا ظاهر الحديث: خن من خانك، قاله الشافعي، وهو مشهور. ومذهب مالك، وأجابوا عن ذا الحديث: بأنه لم يثبت أولًا، أتأخذ منه أزيد من حقك، أو هو إرشاد إلى الأكمل، كما مَرَّ، واحتجوا بقوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] ، وبحديث هند، وهو قوله -صلى الله عليه وسلم: "خذي من ماله ما يكفيك وولدك بالمعروف".
ثالثها: إن كان من ائتمنك عليه، من خانك فلا تخنه، وإن كان ليس في يدك، فخذ حقك منه، قاله مالك.
رابعها: إن كان من جنس حقك فخذ، وإلّا فلا، قاله أبو حنيفة.
قال ابن العربي: والصحيح جواز الاعتداء بأن تأخذ مثل مالك من جنسه، أو غير جنسه إذا عدلت؛ لأن ما للحاكم فعله إذا قدرت تفعله إذا اطررت انتهى. وسبب الحديث، كما رواه إسحاق بن راهويه في مسنده أن رجلًا زنى بامرأة آخر، ثم تمكَّن الآخر من زوجة الزاني، بأن تركها عنده وسافر، فاستشار النبي -صلى الله عليه وسلم- في الأمر، فقال له، فذكره.
"رواه" البخاري في التاريخ، "وأبو داود، والترمذي" في البيوع، "من رواية شريك" بن عبد الله النخعي، الكوفي، قاضيها, صدوق, يخطئ كثيرًا، تغيّر حفظه منذ ولي القضاء، وكان عادلًا فاضلًا شديدًا على أهل البدع، مات سنة سبع، أو ثمان وسبعين ومائة، "وقيس بن الربيع" الأسدي الكوفي، ضعيف, تغيِّر لما كبر، وأدخل عليه ابنه ما ليس من حديثه فحدَّث به، مات سنة بضع وستين ومائة، "كلاهما عن أبي صالح"، ذكوان السمان الزيات المدني، ثقة ثبت،(5/378)
كلاهما عن أبي صالح والحارث من رواية الحسن، كلاهما عن أبي هريرة. وقال الترمذي: حديث حسن غريب، وأخرجه الدارمي في مسنده، والحاكم وقال: إنه صحيح على شرط مسلم، ولكن أعلّه ابن حزم وكذا ابن القطان والبيهقي. وقال أبو حاتم: إنه منكر، وقال الشافعي: إنه لي بثابت عند أهله. وقال أحمد: هذا حديث باطل لا أعرفه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- من وجه صحيح. قال شيخنا: لكن بانضمامها يقوى الحديث. انتهى.
وقوله: "الرضاع يغيّر الطباع،
__________
كان يجلب الزيت إلى الكوفة، مات سنة إحدى ومائة، "و" رواه "الحارث" بن أبي أسامة "من رواية الحسن" البصري، "كلاهما" يعني: أبا صالح والحسن، "عن أبي هريرة".
"وقال الترمذي: حديث حسن غريب، وأخرج الدارميّ في مسنده، والحاكم، وقال: إنه صحيح على شرط مسلم"؛ لأنه روى لشريك، "ولكن أعلّه ابن حزم، وكذا ابن القطان والبيهقي".
"وقال أبو حاتم: إنه منكر"، أي: ضعيف، "وقال الشافعي" الإمام: "إنه ليس بثابت"، أي: ضعيف "عند أهله"، أي: الحديث.
"وقال أحمد" الإمام: "هذا حديث باطل"، ولعله باعتبار ما وقف عليه، وإلّا فليس في رواته وضَّاع ولا كذَّاب, أو ليس مراده حقيقة البطلان، بل الضعف، بدليل قوله: "لا أعرفه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- من وجه صحيح"، وقال ابن ماجه: له طرق ستة كلها ضعيفة.
"قال شيخنا"، أي: السخاوي في المقاصد: "لكن بانضمامها يقوى الحديث، انتهى"؛ لأن تباين الطرق وكثرتها يفيد قوة، وأنّ للحديث أصلًا، وقد رواه الدارقطني والطبراني في الكبير والصغير، من حديث أنس ورجاله ثقات، وصحَّحه الضياء في المختارة، ورواه الطبراني في الكبير، وابن عساكر والبيهقي من حديث أبي أمامة بإسنادٍ ضعيف، والدارقطني عن أُبَيّ بن كعب بإسناد ضعيف، والطبراني أيضًا عن رجل من الصحابة، فحديث أبي هريرة لا يقصر عن درجة الحسن، وقد صحَّحَه ابن السكن.
"وقوله" صلى الله عليه وسلم: "الرضاع"، أي: اللبن الذي يشربه الطفل من غير أمه، وحقيقته مَصّ الثدي، استُعْمِلَ في اللبن مجازًا، "يغيِّر الطباع"، أي: طبع الصبي عن لحوقه بطبع والديه إلى طبع مرضعته، لصغره ولطف مزاجه، فمراد الحديث: حث الوالدين على توخي مرضعة ظاهرة العنصر، زكية الأصل، ذات عقل ودين وخلق حسن، والطباع ما تركَّب في الإنسان من جميع(5/379)
رواه أبو الشيخ من حديث ابن عمر.
وقوله -عليه الصلاة والسلام: "لا إيمان لمن لا أمانة له, ولا دين لمن لا عهد
__________
الأخلاق التي لا يكاد يزاولها من خير وشر، كذا في النهاية.
وفي المصباح: الطبع -بالسكون: الجبلة التي خلق الإنسان عليها.
قال الديريني: والعادة جارية بأنَّ من ارتضع امرأة غلب عليه أخلاقها من خير وشر، ومن ثَمَّ لما دخل الشيخ أبو محمد الجويني بيته، ووجد ابنه الإمام أبا المعالي يرضع ثدي غير أمه اختطفه منها، ثم نكس رأسه ومسح بطنه، وأدخل أصبعه في فيه، ولم يزل يفعل كذلك حتى خرد ذلك اللبن, قائلًا: يسهل علي موته، ولا تفسد طباعه بشرب لبن غير أمه، ثم لما كبر الإمام كان إذا حصلت له كبوة في المناظر، يقول: هذه من بقايا تلك الرضعة، "رواه أبو الشيخ من حديث ابن عمر" بن الخطاب، والقضاعي، والديلمي، وابن لال عن ابن عباس، وادَّعى بعضهم أنه حديث حسن، وتعقَّب بأن فيه صالح بن عبد الجبار.
قال في الميزان: أتى بخبر متكبر جدًّا، وساق هذا الحديث، وفيه أيضًا عبد الملك بن مسلمة, مدني ضعيف.
"وقوله -عليه الصلاة والسلام: "لا إيمان" كامل "لمن لا أمانة له" "، فالأمانة لب الإيمان، وهي منه بمنزلة القلب من البدن، وهي في العين، والسمع، واللسان، واليد، والرجل، والبطن، والفرج، فمتى ضيع جزء منها ضعف إيمانه بقدره، "ولا دين"، أي: لا خضوع، ولا انقياد لأوامر اله ونواهيه وأمانته، والعهد الذي وضعه الله بينه وبين عباده يوم إقرارهم بالربوبية في حمل أعباء الوفاء في جميع جوارحه، فمن استكمل الدين استوفى الجزاء، {وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ} ، "لمن لا عهد له"؛ لأنَّ الله إنما جعل المؤمن مؤمنًا ليأمن الخلق جَوْرَه، والله عدل لا يجور، وإنما عهد إليه؛ ليخضع له بذلك العهد فيأتمر بأموره، ذكره الحكيم والترمذي.
قال البيضاوي: هذا وأمثاله وعيد لا يراد به الوقوع، وإنما يقصد به الزجر والردع، ونفي الفضيلة والكمال دون الحقيقة في رفع الإيمان وإبطاله.
وقال المظهري: معنى: "لا دين لمن لا عهد له"، أنَّ من جرى بينه وبين أحد عهد، ثم غدر بلا غدر شرعي، فدينه ناقص, إما لعذر، كنقض الإمام المعاهدة مع الحربي لمصلحة, فجائز.
قال الطيبي: وفي الحديث إشكال؛ لأنَّ الدين والإيمان والإسلام أسماء مترادفة موضوعة، لمفهوم واحد في عرف الشرع، فلِمَ فرَّق بينها، وخص كل واحد منها بمعنى، وجوابه أنهما وإن اتفقا لفظًا، فقد اختلفا هنا معنًى؛ لأن الأمانة ومراعاتها إمَّا مع الله، فهي ما كُلِّفَ به من الطاعة، وتسمَّى أمانة؛ لأنه لازم الوجود، كما أنَّ الأمانة لازمة الأداء، وأمَّا مع الخلق فظاهر، وأن العهد(5/380)
له". رواه أحمد وأبو يعلى في مسنديهما، والبيهقي في الشعب عن أنس.
وقوله: "النساء حبائل الشيطان". رواه في مسند الفردوس عن عقبة بن عامر.
وقوله -عليه الصلاة والسلام: "حسن العهد من الإيمان" رواه الحاكم في مستدركه
__________
توثيقه، أما مع الله فاثنان: الأوَّل: ما أخذه على ذرية آدم في الأزل، وهو الإقرار بروبيته قبل خلق الأجساد، والثاني: ما أخذه عند هبوط آدم إلى الدنيا من متابعة هدى الله من الاعتصام بكتاب ينزله ورسول يرسله، وأما مع الخلق فظاهر أيضًا، فحينئذ ترجع الأمانة والعهد إلى طاعته تعالى بأداء حقوقه وحقوق عباده، كأنه: لا إيمان ولا دين لمن لا يفي بعهد الله بعد ميثاقه، ولا يؤدي أمانته بعد حملها، وهي التكاليف من أمر ونهي، "رواه أحمد، وأبو يعلى في مسنديهما والبيهقي في الشعب، عن أنس" قال الذهبي: وسنده قوي، وصحَّحه ابن حبان.
"وقوله" صلى الله عليه وسلم: "الشباب شعبة من الجنون، و "النساء حبائل الشيطان"، أي: مصايده جمع حبالة -بالكسر، ما يصاد به من أيّ شيء كان, ويروى بهما، والرواية بالجمع أكثر، قاله السخاوي، والمراد: إن النساء آلات للشيطان يتوصَّل بهنَّ إلى إغواء الفسقة، فإنهم إذا رأوا النساء مالت قلوبهم إليهنَّ سيما المتبرجات، فالنساء له كالشبكة التي تصاد بها الوحوش النافرة، فأرشد -صلى الله عليه وسلم- لكمال شفقته على أمته إلى الحذر من النظر إليهنّ، والقرب منهنّ، وكفَّ الخاطر عن الالتفات إليهنَّ باطنًا ما أمكن.
وقال في حديث: "اتقوا الدنيا والنساء"، فخصَّهنَّ لكونهن أعظم أسباب الهوى، وأشدّ آفات الدنيا، "رواه" الديلمي بتمامه "في مسند الفردوس" وكذا القضاعي، "عن عقبة بن عامر" الجهني، ورواه الديلمي أيضًا عن عبد الله بن عامر، وأبو نعيم عن عبد الرحمن بن عابس، وابن لال عن ابن مسعود، والخرائطي والتيمي عن زيد بن خالد، وهو حديث حسن، ولا ينافي قوله: "الشباب شبعة من الجنون" قول سفيان الثوري: يا معشر الشباب عليكم بقيام الليل، فإنما الخير في الشباب؛ لكونه محلًّا للقوة والنشاط غالبًا.
"وقوله -عليه الصلاة والسلام: "حسن العهد"، قال السخاوي: ينصرف لغةً إلى وجوه؛ أحدها: الحفظ والمراعاة، وهو المراد هنا, "من الإيمان"، أي: من أخلاق أهله وخصائلهم، أو من شعب الإيمان، أو كماله، وأمَّا عهد الدخول في الإيمان فذاك الإيمان، وظاهر أيضًا أنه يسمَّى وفاء بالإيمان، ويكفيه مشرفًا ومدحًا، {وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا} ، "رواه الحاكم في مستدركه" في كتاب الإيمان، ومن طريقه الديلمي من حديث الصغاني، عن أبي عاصم قال: حدَّثنا صالح بن رستم عن ابن أبي مليكة، "عن عائشة، قالت: جاءت عجوز إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو عندي، فقال(5/381)
عن عائشة قالت: جاءت عجوز إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو عندي فقال لها: "من أنت"؟ فقالت: جثامة المزينة, قال: "أنت حسانة، كيف أنتم، كيف حالكم، كيف كنتم بعدنا"؟ قالت: بخير بأبي أنت وأمي، فلمَّا خرجت قلت: يا رسول الله، تقبل على هذه العجوز هذا الاقبال؟ قال: "إنها كانت تأتينا زمن خديجة، وإن حسن العهد من الإيمان"، وقال: إنه صحيح على شرط الشيخين وليس له علة.
وقوله -عليه الصلاة والسلام: "الخمر جماع الإثم".
__________
لها: "من أنت"؟ فقالت: جثامة المزنية"، قال في الإصابة: بجيم ومثلثة ثقيلة، أي: فألف، فميم, غَيِّر النبي -صلى الله عليه وسلم- اسمها، و"قال: "أنت حسانة" "، بحاء وسين مهملتين، أي: وبعد الألف نون أ. هـ، فلم يصب من قال: هو من تمام إظهار الميل إليها والشفقة عليها، لا للشك في أنها هي أو غيرها؛ لأنه مبني على تصحيف أخبارها باسمها بالاسم الذي غَيِّرَه المصطفى دون مراجعة المنقول, "كيف أنتم؟ كيف حالكم؟ كيف كنتم بعدنا"؟ قالت: بخير بأبي أنت وأمي" يا رسول الله، "فلما خرجت قلت: يا رسول الله تقبل" بحذف همزة الاستفهام التقريري، أي: أتقبل "على هذه العجوز هذا الإقبال" الزائد، "قال: "إنها كانت تأتينا زمن خديجة"، فلنا بها معرفة قديمة، "وإن حسن العهد" الوفاء والحفظ، ورعاية الحرمة "من الإيمان" وقال" الحاكم: "إنه صحيح على شرط الشيخين، وليس له علة"، وأقرَّه الذهبي، وأخرجه ابن عبد البر من الطريق التي أخرجه الحاكم، وقال: هذا أصح من رواية من روى ذلك في ترجمة الحولاء بنت تويت، ثم رواه من طريق الكديمي، عن أبي عاصم، عن صالح بن رستم، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة، قالت: استأذنت الحولاء على رسول الله.. فذكره.
وقال: هكذا رواه الكديمي، والصواب: إن هذه القصة لحسَّانة المزنية كما تقدَّم، وتعقَّبه في الإصابة؛ بأنه لا يمتنع احتمال التعدد، كما لا يمتنع احتمال أنَّ حسَّانة اسمها, والحولاء وصفها، أو لقب لها، وقد اعترف أبو عمر؛ بأن الكديمي لم يقل: بنت تويت، فلم يصب في إيراده في ترجمة بنت تويت، ثم اعتراضه، وإنما هي أخرى أن ثبت السند, والعلم عند الله أ. هـ. وقول السخاوي يحتمل التعدد مع بعده لاتحاد الطريق فيه نظر, فليست متحدة؛ لأن طريق الحاكم وأبي عمر في أنها حسانة، ليس فيها الكديمي الذي سماها الحولاء، وإن توافقًا فيما فوقه، ولذا يستبعد شيخه في الإصابة احتمال التعدد.
"وقوله -عليه الصلاة والسلام" فيما رواه الديلمي في حديثه عن عقبة: "الخمر جماع الإثم" بكسر الجيم والتخفيف، أي: مجمعه ومظنَّته، كما في النهاية، أي: شربها سبب لكل إثم؛ لحملها الشارب على مجاوزة الحدود، كما قال -صلى الله عليه وسلم: "الخمر أمّ الفواحش وأكبر الكبائر،(5/382)
وقوله -صلى الله عليه وسلم: "جمال الرجل فصاحة لسانه".
رواه القضاعي من حديث الأوزاعي, والعسكري من حديث المنكدر بن محمد بن المنكدر، كلاهما عن محمد بن المنكدر، عن جابر مرفوعًا.
وأخرجه أيضًا الخطيب وابن طاهر، وفي إسناده أحمد بن عبد الرحمن بن الجارود الرقي, والديلمي من حديث جابر رفعه: "الجمال صواب المقال،
__________
من شربها ترك الصلاة، ووقع على أمه وخالته وعمته" رواه الطبراني، وقال: "الخمر أم الخبائث" رواه القضاعي.
"وقوله -صلى الله عليه وسلم: "جمال الرجل فصاحة لسانه"، أي: قدرته على التكلُّم ببلاغة وفصاحة، بلا تلعثم ولا لكنة؛ لأنه يظهره ويميزه على غيره، فأطلق الجمال على الكمال مجازًا؛ إذ الجمال الحسن، والمراد هنا كونه من فصحاء المصاقع، الذين أوتوا سلاطة الألسن وبسطة المقال من غير تصنّع ولا ارتحال، فلا يناقضه خبر: إن الله يبغض البليغ من الرجال؛ لأنه فيما فيه تيه ومبالغة في التشدق والتفصح، وذا في خلقي صحبة اقتصاد وساسه العقل، ولم يرد به الاقتدار على القول إلى أن يصغِّر عظيمًا، أو يعظِّم صغيرًا، أو ينض الشيء، أي: يظهره وضده، كما يفعله أهل زماننا، ذكره ابن قتيبة، "رواه القضاعي من حديث الأوزاعي" عبد الرحمن بن عمر، والأوزاعي الفقيه الثقة الجليل, من رجال الستة، مات سنة سبع وخمسين ومائة، "والعسكري من حديث المنكدر بن محمد بن المنكدر" التيمي، "كلاهما" أي: الأوزاعي والمنكدر، "عن محمد بن المنكدر" بن عبد الله التيمي المدني، الثقة، أحد رجال الجميع، مات سنة ثلاثين ومائة، أو بعدها، "عن جابر" بن عبد الله "مرفوعًا، وأخرجه أيضًا الخطيب، وابن طاهر" محمد أبو الفضل بن طاهر بن علي المقدسي، الشيباني، الحافظ الكبير، الجوّال، روى عن خلائق بأربعين بلدًا أو أكثر، وعنه الديلمي وغيره.
قال ابن منده: كان أحد الحفّاظ، حسن الاعتقاد، جميل الطريقة، صدوقًا عالمًا بالصحيح والسقيم، كثير التصانيف، لازمًا للأثر، وقال غيره: ما كان له نظير، وكان ظاهريًّا يرى إباحة السماع، ونظر المرد، ولحنة, لا يحسن النحو، مات سنة ثمان وخمسمائة وله ستون سنة.
"وفي إسناده أحمد بن عبد الرحمن بن الجارود الرقي"، وهو كذّاب، ومن بلاياه هذا الخبر، قاله الخطيب، وقال ابن طاهر: كان يضع الحديث، "وللديلمي من حديث جابر، رفعه: "الجمال صواب المقال" من إضافة الصفة للموصوف، أي: القول الصواب، وكذا يقال في قوله: "والكمال حسن الفعال"، أي: الفعال الحسنة، "بالصدق"، أي: معه، وخصّ الجمال(5/383)
والكمال حسن الفعال بالصدق".
وعند العسكري من حديث العباس, قلت: يا نبي الله, ما الجمال في الرجل؟ قال: "فصاحة لسانه".
وقوله -عليه الصلاة والسلام: "منهومان لا يشبعان: طالب علم, وطالب دنيا".
__________
بالمقال لظهوره ظهورًا تامًّا للناس, بخلاف الكمال فأمر باطني، غالبًا لا يظهر إلا بالفعال، وفي رواية الحكيم الترمذي: "الجمال صواب القول بالحق"، وباقيه سواء، "وعند العسكري من حديث العباس قلت: يا نبي الله, ما الجمال في الرجل؟ قال: "فصاحة لسانه" الخلقية بلا تكلف"، وفي إسناده محمد بن زكريا الغلابي، وهو ضعيف جدًّا.
وروى الحاكم في المستدرك، عن علي بن الحسين، قال: أقبل العباس إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعليه حلتان، وله ضفيرتان، وهو أبيض، فلمَّا رآه تبسَّم، فقال: يا رسول الله, ما أضحكك أضحك الله سنك، فقال: "أعجبني جمال عم النبي -صلى الله عليه وسلم"، قال العباس: ما الجمال؟ قال: "اللسان"، وهو مرسل.
قال ابن طاهر: وإسناده مجهول، وروى العسكري عن ابن عمر: مَرَّ عمر بقوم يرمون، فقال: بئسما رميتم، فقالوا: إنا متعلمين، فقال عمر: لذنبكم في لحنكم أشد علي من ذنبكم في رميكم، سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "رحم الله أمرأ أصلح من لسانه".
"قوله -عليه الصلاة والسلام: "منهومان" " تثنية منهوم، ومن نهم بالبناء للمفعول إذا أولع بالشيء واشتدَّ حرصه عليه، أي: اثنان مولعان لا يكتفيان بما يصل إليهما، فشبَّه عدم اكتفائهما بالجوع، فقال: "لا يشبعان: طالب علم، وطالب دنا"، بخلاف المنهوم في شهوة الطعام، وهو المعروف بهذا الوصف، فإنه قد يشبع.
قال في النهاية: النهمة شدة الحرص على الشيء، ومنه النهم من الجوع.
قال الطيبي: إن ذهب في الحديث إلى الأصل كان لا يشبعان استعارة، لعدم انتهاء حرصهما، وإن ذهب إلى الفرع كان تشبيهًا، جعل إفراد المنهوم ثلاثة: أحدها المعروف، وهو المنهوم من الجوع، والآخرين العلم والدنيا، وجعلهما أبلغ من المتعارف، ولعمري أنه كذلك، وإن كان المحمود منهما هو العلم، ومن ثَمَّ أمر الله رسوله بقوله: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} ، ويعضده قول ابن مسعود: ولا يستويان إلخ ...
وقال الراغب: النهم بالعلم استعارة، وهو أن يحمل على نفسه ما تقصر قواها عنه فينبت، والمنبت لا أرضًا قطع، ولا ظهرًا أبقى، "رواه الطبراني في الكبير، والقضاعي عن ابن مسعود،(5/384)
رواه الطبراني في الكبير, والقضاعي عن ابن مسعود رفعه، وهو عند البيهقي في المدخل, عن القاسم قال: قال ابن مسعود: منهومان لا يشبعان: طالب العلم وصاحب الدنيا. ولا يستويان، أمَّا صاحب الدنيا فيتمادى في الطغيان، وأمَّا صاحب العلم فيزداد من رضا الرحمن. وقال: إنه موقوف منقطع. وكذا رواه البزار والعسكري
__________
رفعه" بهذا اللفظ، "وهو عند البيهقي في المدخل عن القاسم" بن محمد موقوفًا، فإنه "قال: قال ابن مسعود: منهومان لا يشبعان، طالب العلم وصاحب الدنيا"، عبَّر بصاحب إشارة إلى شدة رغبته فيها.
قال الماوردي: وفيه تنبيه على أنَّ العلم يقتضي ما بقي منه، ويستدعي ما تأخَّر عنه، وليس للراغب فيه قناعة ببعضه، "ولا يستويان، أمّا صاحب الدنيا" الراغب فيها، المبالغ في الانهماك عليها، "فيتمادى في الطغيان، وأما صاحب العلم: فيزداد من رضا الرحمن"، والمعنى: إن من شأن صاحب الدنيا الازدياد فيما يبعده عن القرب من الله، ويوجب سخطه عليه، ومن شأن طالب العلم السعي فيما يقربه من رضا الله بالطاعة والإخلاص.
قال الغزالي: اجتمع في الإنسان أربعة أوصاف، سبعية وبهيمية وشيطانية وربانية، فهو من حيث سلط عليه الغضب يتعاطي أفعال السباع, بنحو: ضرب وشتم وبغضاء، ومن حيث الشهوة: يتعاطى أفعال البهائم كشره وحرص وشبق، من حيث سلط عليه السعي من الفتن، وأسباب الفساد يتعاطى أفعال الشيطان، ومن حيث إنه في نفسه أمر رباني، كما قال تعالى: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء: 85] ، يدعي لنفسه الربوبية, ويحب الاستيلاء والاستعلاء، والتخصيص، والاستبداد بالأمور، والتفرد بالربانية، والانسلال عن ربقة العبودية، ويشتهي الاطلاع على العلوم كلها، ويدَّعي لنفسه العلم والمعرفة والإحاطة بحقائق الأمور، ويفرح إذا نسب إلى العلم، وهو حريص على ذلك لا يشبع.
"وقال" البيهقي: "إنه موقوف منقطع"، ويمكن أنّ ابن مسعود كان يحدث به مرفوعًا، إذا لم يزد عليه شيئًا، وإذا زاد عليه قوله: ولا يستويان إلخ ... حدَّث به موقوفًا عليه، "وكذا رواه" أي: الحديث، لا بقيد صحابيه، "البزار" من حديث ليث، عن طاوس أو مجاهد، عن ابن عباس رفعه بلفظ: "منهومان لا يشبعان: طالب عالم وطالب دنيا".
قال البزار: لا أعلمه، يروى من وجه أحسن من هذا، "والعسكري" من حديث ليث عن طاوس، ولم يشك في مجاهد، عن ابن عباس، أحسبه مرفوعًا: "منهومان لا يقضي واحد منهما نهمته: منهوم في طلب العلم، ومنهوم في طلب الدنيا"، وللعسكري عن أبي سعيد رفعه: "لن يشبع(5/385)
وغيرهما وبمجموعها يتقوَّى، وإن كانت مفراداته ضعيفة فيكون حسنًا، والله أعلم.
وقوله -عليه الصلاة والسلام: "لا فقر أشدَّ من الجهل، ولا مال أعزَّ من العقل، ولا وحشة أشد من العجب". رواه ابن ماجه.
وقوله -عليه الصلاة والسلام: "الذنب لا ينسى، والبر لا يبلى،
__________
المؤمن خير يسمعه حتى يكون منتهاه الجنة"، "وغيرهما" كابن عدي، والقضاعي، والبيهقي عن أنس بلفظ الترجمة، وفي الباب ابن عمر، وأبو هريرة، "وبمجموعها يتقوّى" الحديث، "وإن كانت مفرداته ضعيفة، فيكون حسنًا" لغيره، "والله أعلم" بالواقع.
"وقوله -عليه الصلاة والسلام: "لا فقر"، أي: لا احتياج في شيء يهتم بدفعه، والتخلّص منه "أشد من الجهل"؛ لأنه المواقع في مهالك الدنيا، والأخرى، فهو أقوى شيء يتخلص منه، فاستعمل الفقر الذي هو قلة المال في لازم معناه وهو الاحتياج؛ لاحتياجه للناس في كل مسألة, وللتخلص منه، "ولا مال"، أي: لا غنى عن الناس، "أعز من العقل"؛ لأنه المرشد إلى كل كمال، والموصِّل إلى كل خير ونول؛ إذ به يدبِّر صاحبه ما لا يدبّر ذو المال، فاستعمل في لازم معناه أيضًا، "ولا وحشة"، أي: لا انقطاع، ولا بعد للقلوب من المودة "أشد من العجب"؛، لحمله صاحبه على احتقار الغير، والتلبُّس بكل خطر وضير، فلا يألف أحدًا يستأنس به؛ لأنه يراهم أقلّ منه، فهو دائمًا في وحشة وحرمان، وإن كان في غاية القرب والمخالطة بمن يتصوّرهم ظاهرًا بصورة الإخوان، "رواه ابن ماجه".
"وقوله -عليه الصلاة والسلام: "الذنب"، أي: الإثم، بمعنى المؤثم، أي: ما يحصل به لوم، أو إثم على فاعله "لا ينسى"، بل هو محفوظ في صحف الملائكة، ولابُدَّ أن يجازي عليه، إن لم يحصل عفو، {لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى} ، ونَبَّه به على شيء دقيق، يغلط الناس فيه كثيرًا، وهو أنهم لا يرون تأثير الذنب، فينساه الواحد منهم، ويظنّ أنه لا يضره ذلك، وأنه كما قال:
إذا لم يغبر حائط في وقوعه ... فليس له بعد الوقوع غبار
قال ابن القيم: وسبحان الله! ما أهلكت هذه البلية من الخلق، وكم أزالت من نعمة، وكم جلبت من نقمة، وما أكثر المغترِّين بها من العلماء، فضلًا عن الجهّال، ولم يعلم المغترّ أن الذنب ينقض ولو بعد حين، كما ينقض السم والجرح المندمل على دغل.
"والبر" بالكسر- الخير والفضل "لا يبلى"، أي: لا ينقطع ثوابه ولا يضيع، بل هو باقٍ عند الله تعالى، وقيل: أراد الإحسان, وفعل الخير لا يبلى ثناؤه، وذكره في الدنيا والآخرة، فهو بمنزلة الثوب الجديد، الذي لا يفنى ولا يتغير، "والدَّيَّان لا يموت"، بل هو سبحانه حي باقٍ، عالم(5/386)
والديان لا يموت، فكن كما شئت". رواه في مسند الفردوس عن ابن عمر.
وقوله -عليه الصلاة والسلام: "ما جمع شيء إلى شيء أحسن من حلم إلى علم".
رواه العسكري في الأمثال من حديث جعفر بن محمد عن أبيه عن علي بن الحسين عن أبيه عن علي زين العابدين مرفوعًا بزيادة: "وأفضل الإيمان التحبُّب إلى الناس، ثلاث من لم تكن فيه فليس مني ولا من الله، حلم يرد به جهل الجاهل،
__________
بأحوال عباده، فيجازيهم عليها، وإذا علمت هذا، "فكن كما شئت"، من أحوال وأفعال خير أو شر، فإن الديَّان يجازيك عليه، ففيه وعيد وتهديد شديد، وفيه جواز إطلاق الديَّان على الله لو صحَّ الخبر، وفي رواية عبد الرزاق وغيره: "اعمل ما شئت، كما تدين تدان"، أي: كما تجازي تجازى، يقال: دنته بما صنع، أي: جزيته، ذكره الديلمي، ومن مواعظ الحكماء: عباد الله الحذر الحذر، فوالله لقد ستر حتى كأنه غفر، ولقد أمهل حتى كأنه أهمل، "رواه" الديلمي "في مسند الفردوس"، وأبو نعيم "عن ابن عمر" بن الخطاب، وفيه محمد بن عبد الملك الأنصاري, ضعيف، وقد رواه عبد الرزاق في جامعه، والبيهقي في الزهد, وفي الأسماء والصفات له عن أبي قلابة، رفعه مرسلًا: "البر لا يبلى ... " إلخ، ووصله أحمد في الزهد، فرواه عن أبي قلابة، عن أبي الدرداء من قوله، لكنه منقطع مع وقفه، وللديلمي عن أنس رفعه: "الذنب شؤم على غير فاعله, إن عيره ابتلي، وإن اغتابه أثم، وإن رضي به شاركه".
"وقوله -عليه الصلاة والسلام: "ما جمع شيء إلى شيء أحسن"، وفي رواية: أفضل "من حلم إلى علم"؛ إذ باجتماعهما تحصل الكمالات والنجاة من الوقوع في المهلكات، "رواه العسكري في الأمثال، من حديث جعفر بن محمد"، أبي عبد الله، المعروف بالصادق، فقيه صدوق، إمام، روى له مسلم، وأصحاب السنن، والبخاري في التاريخ، مات سنة ثمان وأربعين ومائة، "عن أبيه" محمد بن علي أبي جعفر الباقر، ثقة فاضل، مات سنة بضع عشرة ومائة، "عن" أبيه "علي بن الحسين" بن علي بن أبي طالب الهاشمي، ثقة ثبت، عابد فقيه، فاضل مشهور.
قال الزهري: ما رأيت قرشيًّا أفضل منه، مات سنة ثلاث وتسعين، وقيل: غير ذلك، "عن أبيه" الحسين، سبط المصطفى، "عن" أبيه "علي زين العابدين" أمير المؤمنين، "مرفوعًا بزيادة: "وأفضل الإيمان التحبب إلى الناس" بالبشر وطلاقة الوجه، والإحسان والتجاوز، ونحو ذلك، "ثلاث من لم تكن فيه فليس مني"، أي: متصلًا بي، "ولا من الله, حلم يَرُدّ به جهل الجاهل، وحسن خلق" -بالضم- "يعيش به في الناس، وورع يحجزه" -بضم الجيم- يكفه ويمنعه "عن(5/387)
وحسن خلق يعيش به في الناس، وورع يحجزه عن معاصي الله".
وعنده أيضًا من حديث جابر مرفوعًا: "ما أوى شيء إلى شيء أحسن من حلم إلى علم، وصاحب العلم غرثان إلى الحلم".
وقوله -عليه الصلاة والسلام: "التمسوا الرزق في خبايا الأرض".
رواه في جزء ب ي ب ي عن ابن أبي شريح
__________
معاصي الله"، وقد أخرج الحديث مختصرًا بدون الزيادة الطبرانيُّ في الأوسط, عن علي من الطريق المذكورة.
قال الحافظ الهيثمي: وهو من رواية حفص بن بشر عن حسن بن حسين بن زيد العلوي، عن أبيه، ولم أر أحدًا ذكر أحدًا منهم، أي: بتعديل ولا تجريح، "وعنده"، أي: العسكري "أيضًا من حديث جابر مرفوعًا: "ما أوى"، أي: قام "شيء إلى شيء أحسن"، لفظ المقاصد عن رواية العسكري، هذه أفضل "من حلم إلى علم، وصاحب العلم غرثان" -بفتح المعجمة، وسكون الراء، ومثلثة- جائع، أي: محتاج "إلى الحلم"؛ إذ به يقام العلم، ولأبي الشيخ عن أبي أمامة مرفوعًا: "ما أضيف شيء إلى شيء أفضل من حلم إلى علم".
"وقوله -عليه الصلاة والسلام: "التمسوا"، أي: اطلبوا، "الرزق في خبايا الأرض"، جمع خبية، كخطية وخطايا، أي: اطلبوه في الحرث بنحو زرع وغرس، فإن الأرض تخرج ما فيها مخبًا من النبات، الذي به قوام الحيوان، فأرشد إلى طلب الرزق فيها؛ لأنه أقرب شيء إلى التوكّل وأبعده من الحول والقوة، فإن الزارع إذا أثار الأرض وتقاها، وقام عليها، ودفن فيها الحَبّ، تبرَّأ من حوله وقوته، ونفذت حيلته، فلا يرى لنفسه حيلة في إنباته وخروجه، بل ينظر إلى القضاء والقدر، ويرجو ربَّه دون غيره في إرسال السماء، ورفع الآفة مما لا حيلة لمخلوق فيه، ولا يقدر عليه إلّا الله، "رواه في جزء ب ي ب ي"، كذا بخط المصنف، مقطّع الحروف -بموحدة مكسورة، بعدها تحتانية ساكنة- ثم مثلهما، وهي بنت عبد الصمد بن علي بن محمد الهرثمية، وجزؤها من عوالي الأجراء، "عن ابن أبي شريح"، كذا وقع للمصنف، ولا ذكر له في الجزء المذكور، فلفظها.
حدَّثنا عبد الرحمن بن أحمد الأنصاري، أخبرنا عبد الله بن محمد البغوي، حدَّثنا مصعب بن ثابت، حدَّثني هشام بن عبد الله المخزومي، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة: أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم، قال: "التمسوا الرزق في خبايا الأرض"، وقد أبعد المصنف النجعة، وأغرب بالعز، ولغير الحفّاظ المشاهير، فهذا الحديث أخرجه أبو يعلى، والطبراني، والبيهقي، كلّهم من طريق هشام المخزومي، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة بلفظ: "اطلبوا الرزق في خبايا(5/388)
والمراد الزرع، وأنشدوا:
تنبع خبايا الأرض وادع مليكها ... لعلك يومًا أن تجاب فترزقا
وقوله -عليه الصلاة والسلام: "كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل, وعدّ نفسك من أهل القبور"
__________
الأرض"، وضعَّفه البيهقي وغيره، "والمراد: الزرع"، كما قاله عروة بن الزبير وغيره، وقيل: المراد استخراج الجواهر والمعادن من الأرض، "وأنشدوا" استشهادًا على أن المراد الزرع.
قال السخاوي: قال عروة بن الزبير: عليكم بالزرع، وكان يتمثّل بهذه الأبيات:
لعل الذي أعطى العزيز بقدرة ... وذا حسب أعطى وقد كان زردقا
سيؤتيك ماء واسعًا ذا قرارة ... إذا ما مياه الناس غاضت تدفقا
تنبع خبايا الأرض وادع مليكها ... لعلك يومًا أن تجاب فترزقا
"وقوله -عليه الصلاة والسلام: "كن في الدنيا كأنك غريب"، قدم بلدًا لا مسكن له فيها يأويه، ولا سكن يسكنه، خالٍ من الأهل والعيال، والعلائق التي هي سبب الاشتغال عن الخالق، "أو عابر سبيل".
قال الطيبي: ليست أو للشك للتخيير والإباحة، والأحسن أن تكون بمعنى بل، فشبَّه الناسك السالك بالغريب الذي لا مسكن له يأويه، ثم ترقى، وأضرب عنه إلى عابر السبيل؛ لأن الغريب قد يسكن في بلد الغربة، بخلاف عابر البيل القاصد لبلد شائع، وبينهما أودية مردوية، ومفاوز مهلكة، وقطاع طريق، فإن من شأنه أن لا يقيم لحظة، ولا يسكن لمحة، ومن ثَمَّ عقبة بقوله: "وعد نفسك من أهل القبور"، أي: استمرّ سائرًا ولا تفتر، فإنك إن فترت انقطعت وهلكت في تلك الأودية.
وقال ابن بطال: لما كان الغريب قليل الانبساط إلى الناس، بل هو مستوحش منهم؛ إذ لا يكاد يمر بمن يعرفه يتأنس به، فهو ذليل في نفسه خائف، وكذلك عابر السبيل، لا ينفذ في سفره إلّا بقوة عليه، وتخفيفه من الأثقال، غير متشبث بما يمنعه من قطعه سفره, معه زاده وراحلته يبلغانه إلى بغيته, من قصده شبهه بهما، وفيه إشارة إلى الزهد في الدنيا, وأخذ البلغة منها والكفاف، فكما لا يحتاج المسافر إلى أكثر مما يبلغه إلى غاية سفره، فكذلك لا يحتاج المؤمن في الدنيا أكثر مما يبلغه المحل.
وقال غيره: هذا الحديث أصل في الحث على الفراغ عن الدنيا، والزهد فيها، والاحتقار لها، والقناعة فيها بالبلغة.(5/389)
رواه البيهقي في الشعب, والعسكري من حديث ابن عمر مرفوعًا في حديث. وأخرجه البخاري والترمذي وغيرهم.
وقوله -عليه الصلاة والسلام: "صنائع المعروف تقي مصارع السوء،
__________
وقال النووي: معنى الحديث: لا تركن إلى الدنيا، ولا تتخذها وطنًا، ولا تحدّث نفسك بالبقاء فيها, ولا تتعلق منها بما لا يتعلق الغريب به في غير وطنه. وقال غيره: عابر السبيل هو المارّ على الطريق طالبًا وطنه، والمرء في الدنيا كعبد أرسله سيده في حاجته إلى غير بلده، فشأنه أن يبادر بفعل ما أُرْسِلَ فيه، ثم يعود، ولا يتعلّق بشيء غير ما هو فيه، وقال غيره: المراد أن يُنْزِلَ المؤمن نفسه في الدنيا منزلة الغريب، فلا يعلق قلبه بشيء من بلد الغربة، بل قلبه متعلق بوطنه الذي يرجع إليه، ويجعل إقامته في الدنيا ليقضي حاجته, وجهازه للرجوع إلى وطنه، وهذا شأن الغريب، أو يكون كالمسافر لا يستقر في مكان بعينه، بل هو دائم السير إلى بلد الإقامة، واستشكل عطف عابر السبيل على الغريب، وتقدَّم جواب الطيبي، وأجاب الكرماني: بأنه من عطف العام على الخاص، وفيه نوع من الترقي؛ لأن تعلقاته أقل من تعلقات الغريب المقيم، "رواه البيهقي في الشعب، والعسكري من حديث ابن عمر مرفوعًا في" جملة "حديث، وأخرجه البخاري" في كتاب الرقاق عن ابن عمر، قال: أخذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بمنكبي، فقال: "كن في الدنيا كأنَّك غريب أو عابر سبيل"، وكان ابن عمر يقول: إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك، "والترمذي" بمثل رواية البخاري، إلّا أنه قدَّم جملة: وإذا أصبحت، وقال: ومن حياتك قبل موتك، فإنك لا تدري يا عبد الله ما اسمك غدًا، أي: هل يقال لك شقي أو سعيد، ولم يرد اسمه الخاص به؛ لأنه لا يتغير، وقيل: المراد هل يقال حي أو ميت، "وغيرهم"، كأبي داود، وابن ماجه وأحمد.
"وقوله -عليه الصلاة والسلام: "صنائع"، جمع صنيعة، وهي العطية، والكرامة، والإحسان، "المعروف" اسم جامع لكل ما عرف من طاعة الله، والتقرب إليه، والإحسان إلى الناس، وكل ما ندب إليه الشرع، ونهى عنه من المحسنات والمقبحات، أي: والحسنات والسيئات، وهو من الصفات الغالبة، أي: أمر معروف بين الناس؛ إذ رأوه لا ينكروه، والمعروف النصفة، وحسن الصحبة مع الأهل وغيرهم، والمنكر ضد ذلك جميعه، قاله في النهاية، فالإضافة بيانية، أي: العطايا التي هي مطلوبة شرعًا، معروفة بين الناس، "تقي مصارع السوء"، أي: تكون سببًا لوقايته، فالإسناد مجازي، والصرع في الأصل الطرح على الأرض، لكنه استعمل هذا في مطلق الوصول تجريدًا، وهذا تنويه عظيم بفضل المعروف وأهله.(5/390)
وصدقة السر تطفئ غضب الرب، وصلة الرحم تزيد في العمر"، أخرجه الطبراني في الكبير بسند حسن.
__________
قال علي -رضي الله عنه: لا يزهدنَّك في المعروف كفر من كفر، فقد يشكر الشاكر إضعاف جحود الكافر.
قال الماوردي: فينبغي لمن أراد إسداء المعروف أن يجعله حذرًا من فوته، ويبادر به خيفة عجزه، ويعتقد أنه من فرص زمانه وغنائم إمكانه، ولا يمهله ثقة بالقدرة عليه، فكم من واثق بقدرة فاتت، فأعقبت ندمًا، ومعوّل على مكنة زالت، فأورثت خجلًا، ولو فطن لنوائب دهره، وتحفَّظ من عواقب فكره، لكانت مغارمه مدحورة، ومغانمه محبورة. وقيل: من أضاع الفرصة عن وقتها فليكن على ثقة من فوتها، "وصدقة السر"، أي: فيه، وهو ما لم يطَّلع عليه إلا الله، وفي رواية: والصدقة خفيًا "تطفئ غضب الرب".
قال الطيبي: يمكن حمله على المنع من إنزال المكروه في الدنيا، ووخامة العاقبة في العقبى من إطلاق السبب على المسبب، فإنه نفى الغضب، وأراده الحياة الطيبة في الدنيا، والجزاء الحسن في العقبى.
قال ابن العربي: وهو الموفِّق عبدَه لما تصدَّق به، فهو المطفئ غضبه بما وفق عبده، وقال بعضهم: معنى الحديث: الحث على إخفاء الصدقة؛ لأنه دليل على إخلاصه لمشاهدته ربه، وهي درجة الإحسان، وفي القرآن: {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف: 56] ، فبنور الإخلاص، ورحمة الإحسان إطفاء نار الغضب، وفي رواية: "وصدقة العلانية تقي ميتة السوء"، وفي الترمذي، وقال: حسن غريب, من حديث أنس: "إن الصدقة لتطفئ غضب الرب، وتدفع ميتة السوء"، "وصلة الرحم" القرابة، بالتعهد والمراعاة والمواساة، ونحو ذلك "تزيد في العمر" بالبركة فيه، حتى يحصل منه في الزمن اليسير طاعات لا تحصل من غيره في الزمن الكثير، أو حقيقة بأن يزاد فيه على ما كتب في صحف الملائكة، والأُول أَوْلَى؛ إذ هذا ليس زيادة حقيقة؛ إذ علم الله يتعلق بكونه يصل ويمد له عمره، "أخرجه الطبراني في الكبير بسند حسن" عن أبي أمامة، ورواه في الأوسط عن أم سلمة بزيادة: "وكل معروف صدقة، وأهل المعروف في الدنيا أهل المعروف في الآخرة، وأهل المنكر في الدنيا أهل المنكر في الآخرة، وأول من يدخل الجنة أهل المعروف"، قال السخاوي: وسنده ضعيف، قال الماوردي: وللمعروف شروط لا يتم إلّا بها، ولا يكمل إلّا معها، فمنها: ستره عن إذاعته، وإخفاؤه عن إشاعته.
قال بعض الحكماء: إذا اصطنعت المعروف فاستره، وإذا صنع معك فانشره، لما جبلت عليه النفس من إظهار ما أخفي، وإعلان ما كتم، ومنها تصغيره بالنسبة لنعم الله عليه، وإن كان(5/391)
وقوله -عليه الصلاة والسلام: "العفو لا يزيد العبد إلا عزًّا، والتواضع لا يزيده إلا رفعه, وما نقص مال من صدقة".
وروى مسلم: "ما نقضت صدقة من مال، وما زاد الله عبدًا بعفوٍ إلا عزًّا،
__________
عظيمًا.
قال العباس: لا يتمّ المعروف إلّا بتعجيله وتصغيره وستره، ومنها: ترك الامتنان به, والإعجاب بفعله، لما فيهما من إسقاط الشكر وإحباط الأجر، ومنها: أن لا يحتقر منه شيئًا وإن قلَّ إذا عجز عن الكثير.
"وقوله -عليه الصلاة والسلام: " العفو": التجاوز من الشخص عن عقوبة ثبتت له على غيره، وقدر على مؤاخذته، وتركها لله سبحانه، لا لغرض آخر "لا يزيد العبد إلّا عزًّا"، أي: رفعة عند الله في الدنيا، فإن من عُرِفَ بالعفو والصفح عَظُمَ في القلوب، أو في الآخرة، بأن يعظم ثوابه، أو فيهما، ثم محل حمد العفو إن لم يطغ الجاني، وإلّا فالأولى عدمه زجرًا، "والتواضع" خفض الجناح والخشوع والذلة، "لا يزيده" عند الله وعند خلقه "إلا رفعة" إذا كان حقيقيًّا، أما من أظهر صورته، معتقدًا عظمة نفسه، فهو بالتكبر أشبه، "وما نقص مال" نقصًا يعود على صاحبه منه ضرر، "من" أجل "صدقة" بل قد يبارك له فيه بسببها، فيربح، فيزيد ماله حسًّا، أو يحصل له رفق، فيسد القليل مسد الكثير.
قال القرطبي: فيه وجهان: أحدهما: إنه بقدر ما ينقص منه يزيد الله فيه وينميه ويكثره، والثاني: إنه وإن نقص في نفسه، ففي الأجر والثواب ما يجبر ذلك النقص بإضعافه، "وروى مسلم"، والترمذي، وأحمد عن أبي هريرة رفعه: "ما نقصت صدقة من مال".
قال الطيبي: يحتمل أنَّ من زائدة، أي: ما نقصت صدقة مالًا، وأنها صلة لنقصت، والمفعول الأول محذوف، أي: ما نقصت شيئًا من مال في الدنيا بالبركة فيه، ودفع المفسدات عنه, والإخلاف عليه بما هو أجدى وأنفع، وأكثر وأطيب، {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} ، أو في الآخرة بإجزال الأجر، وتضعيفه أو فيهما، وذلك جابر لإضعاف ذلك النقص، بل وقع لبعض الكمّل أنه تصدَّق من ماله، فلم يجد فيه نقصًا.
قال الفاكهاني: أخبرني من أثق به أنَّه تصدق من عشرين درهمًا بدرهم، فوزنها، فلم تنقص، قال: وأنَّا لي. وقول الكلاباذي: يراد بالصدقة الفرض، وبإخراجها ما لم ينقص ماله بعده لا يخفى، "وما زاد الله عبدًا بعفوٍ"، أي: بسبب عفوه، أي: تجاوزه "إلا عزًّا" في الدنيا، بعظمته في القلوب، وفي الآخرة تعظم ثوابه، "وما تواضع أحد لله"، من المؤمنين رقًّا وعبودية،(5/392)
وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله".
وروى القضاعي عن أبي سلمة عن أم سلمة مرفوعًا: "ما نقص مال من صدقة, ولا عفا رجل عن مظلمة إلّا زاده الله تعالى بها عزًّا".
وروى الديلمي من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "والذي نفس محمد بيده, لا ينقص مال من صدقة". ورواه الترمذي وقال: حسن صحيح.
__________
في الائتمار بأمره، والانتهاء عن نهيه, ومشاهدته لحقارة نفسه، ونفي العجب عنها "إلا رفعه الله" في الدنيا؛ بأن يثبت له في القلوب بتواضعه منزلة عند الناس، ويُجِلّ مكانه، وكذا في الآخرة على سرير خلد لا يفنى، ومنبر ملك لا يبلى، ومن تواضع لله في تحمُّل مؤن خلقه، كفاه الله مؤنة ما يرفعه إلى هذا المقام، ومن تواضع في قبول الحق مِمَّن دونه، قبل الله منه مدحور طاعته، وقليل حسناته، وزاد في رفعة درجاته، وحفظه بمعقبات رحمته من بين يديه ومن خلفه.
قال القرطبي: التواضع: الانكسار والتذلل، ونقيضه الكبر والترفّع، والتواضع يقتضي متواضعًا له، وهو الله، أو من أمر بالتواضع له، كالرسول، والإمام، والحاكم، والعالم، والوالد، فهو التواضع الواجب المحدود، الذي يرفع الله به صاحبه في الدنيا والآخرة، وأمَّا التواضع لسائر الخلق فالأصل أنه محمود، ومندوب إليه, ومرغَّب فيه، إذا قُصِدَ به وجه الله، ومن كان كذلك رفع الله قدره في القلوب، وطيِّبَ ذكره في الأفواه، ورفع درجته في الآخرة، وأمَّا التواضع لأهل الدنيا، ولأهل الظلم، فذلك هو الذل الذي لا عِزَّ معه، والخِسَّة التي لا رفعة معها، بل يترتب عليها ذلّ الآخرة، وكل صفقة خاسرة. وقال غيره: من جبلة الإنسان الشح بالمال، ومتابعة السبعية من إيثار الغضب والانتقام، والاسترسال في الكبر، الذي هو من نتائج الشيطنة، فأراد -صلى الله عليه وسلم- أن يقلعها من شحها، فحثَّ أولًا: على الصدقة؛ ليتحلَّى بالسخاء والكرم، وثانيًا: على العفو؛ ليعزز بعز الحلم والوقار، وثالثًا: على التواضع؛ ليرفع درجاته في الدارين.
"وروى القضاعي عن أبي سلمة" بن عبد الرحمن بن عوف الزهري المدني، قيل: اسمه عبد الله، وقيل: إسماعيل، وقيل: اسمه كنيته, عن أبيه, وعثمان وأم سلمة وغيرهم، ثقة مكثر, من رجال الجميع، وُلِدَ سنة بضع وعشرين، ومات سنة أربع وتسعين، أو أربع ومائة، "عن أم سلمة" هند بنت أبي أمية القرشية، المخزومية، أم المؤمنين "مرفوعًا: "ما نقص مال من صدقة"، بل يزد دنيا وأخرى، "ولا عفا رجل"، وصف طردي لقوله: قبل عبد "عن مظلمة إلّا زاده الله تعالى بها عزًّا" في الدارين، "وروى الديلمي من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "والذي نفس محمد بيده"، أقسم تقويةً وتأكيدًا "لا ينقص مال من صدقة"، ورواه الترمذي، وقال: حسن صحيح، وقوله -عليه الصلاة والسلام: "اللهم" -بالميم بدل ياء النداء- ولذا لا يجمعان إلّا شذوذًا، قيل:(5/393)
وقوله -عليه الصلاة والسلام: "اللهم إني أعوذ بك من شَرِّ سمعي، ومن شَرِّ بصري، ومن شَرِّ لساني، ومن شَرِّ قلبي ومن شَرِّ مَنِيّي". أخرجه أبو داود في جامعه, والحاكم في مستدركه عن شكل.
وقوله -صلى الله عليه وسلم: "اللهم إني أعوذ بك من شر فتنة الغنى
__________
وهذه الميم، كالواو في الدلالة على الجمع, كأنه قيل: يا من اجتمعت له الأسماء الحسنى. قال الحسن البصري: اللهمَّ مجتمع الدعاء. وقال النضر بن شميل: من قال: اللهم، فقد سأل الله بجميع أسمائه، "إني أعوذ بك من شر سمعي، ومن شر بصري" فلا أسمع، ولا أبصر بهما ما يسخطك علي، "ومن شر لساني"، أي: نطقي، فإن أكثر الخطايا منه، وهو الذي يورد المرء في المهالك، وخصَّ الثلاثة؛ لأنها مناط الشهوة، ومثار اللذة، "ومن شر قلبي"، أي: نفسي، فإنها مجمع الشهوات والمفاسد لحبِّ الدنيا، والرهبة من الخلق، وخوف فوت الرزق، والأمراض القلبية من نحو: حسد وحقد وطلب رفعة، وغير ذلك، "ومن شر منيي"، أي: شدة الغلمة، وسطوة الشهوة إلى الجماع الذي إذا أفرط ربما أوقع في الزنا، أو مقدماته لا محالة، فهو حقيق بالاستعاذة من شرِّه، وخَصَّ هذه الأشياء بالاستعاذة؛ لأنها أصل كل شر وقاعدته ومنبعه، "أخرجه أبو داود في جامعه"، أي: سننه، وكذا الترمذي والنسائي خلافًا لإيهام المصنف، "والحاكم في مستدركه عن شكل" -بفتح المعجمة، والكاف- ابن حميد العبسي -بالموحدة- صحابي، نزل الكوفة, حديثه في الكوفيين، روى أصحاب السنن من طريق بلال بن يحيى العبسي، عن شتير -بمعجمة وفوقية- مصغر, عن أبيه، شكل ابن حميد قال: قلت: يا رسول الله, علمني دعاء، وفي رواية الترمذي: تعوذًا أتعوَّذ به، فأخذ بكفِّي، فقال: قل ... ، فذكره.
قال البغوي: ولا أعلم له غير هذا الحديث، ولم يرو عنه إلّا ابنه.
قال الترمذي: حسن غريب, قال في الإصابة: وأشكل له رواية عن علي.
"وقوله -صلى الله عليه وسلم: "اللهم"، الميم عوض عن الياء، ولذا لا يجتمعان، وقيل: أصله: يا الله أمنَّا بخير, فخفف بحذف حرف النداء والميم، دلّت على الجملة المحذوفة.
قال ابن الأثير: وهي ثلاثة أنحاء: النداء المحض، والثاني يذكره المجيب، تمكينًا للجواب في نفس السائل، يقول لك القائل: أزيد قائم، فتقول: اللهمَّ نعم أولًا، والثالث: يستعمل دليلًا على الندوة، وقلة وقوع المذكور، كقولك: أنا لا أزورك، اللهمَّ إذا لم تدعني, "إني أعوذ بك من شر فتنة الغنى"، أي: الفتنة التي تحصل بسببه من البطر والطغيان والتفاخر، وصرف المال في المعاصي.
وقال الغزالي: هي الحرص على جمع المال وحبه، حتى تكتسبه من غير حِلّه، وتمنعه من(5/394)
رواه الترمذي والنسائي وأبو داود وابن ماجه.
وقوله -عليه الصلاة والسلام: "إن الدنيا عرض حاضر, يأكل منه البر والفاجر، وإن الآخرة وعد صادق, يحكم فيها ملك عادل قادر، يحق فيها الحق ويبطل الباطل، فكونوا أبناء الآخرة ولا تكونوا أبناء الدنيا، فإن كل أمّ يتبعها ولدها". رواه أبو نعيم في الحلية من حديث شداد.
__________
واجبات إنفاقه.
قال الطيبي: استعاذ مما عصم منه، ليلتزم خوف الله وإعظامه، والافتقار إليه، وليُقْتَدَى به، وليبين صفة الدعاء, والباء للإلصاق المعنوي التخصيصي، كله خص الرب بالاستعاذة، وقد جاء في الكتاب والسنة: أعوذ بالله، ولم يسمع بالله أعوذ؛ لأن تقديم المعمول تفنن وانبساط، والاستعاذة حالة خوف، وقبض بخلاف الحمد لله، ولله الحمد؛ لأنه حال شكر، وتذكّر إحسان ونعم.
"رواه الترمذي، والنسائي، وأبو داود، وابن ماجه"، عن عائشة مرفوعًا في حديث، وهو في الصحيحين من جملة حديث طويل.
"وقوله -عليه الصلاة والسلام: "إن الدنيا عرض" -بفتحتين- متاع "حاضر" موجود، أي: هي مع دناءتها إلى فناء، فالمتاع ما لا بقاء له، فإنما خلق ما فيها؛ لأن يستمتع به مع حقارته أمدًا قليلًا، ثم ينقضي، ولذا "يأكل منه البر والفاجر" كل بحسب ما قُدِّرَ له، بل قد يكون متاع الفاجر فيها أوسع، كما قال -صلى الله عليه وسلم: "إذا أحبَّ الله عبدًا حماه الدنيا، كما يظل أحدكم يحمي سقيمه الماء"، رواه الترمذي، وصحَّحه الحاكم، أي: حال بينه وبين التوسّع في اللذات والشهوات، بأن يعسِّر عليه حصول ذلك، وقال -صلى الله عليه وسلم: "الدنيا لا تصفو لمؤمن، كيف وهي سجنه وبلاؤه"، رواه ابن لال والديلمي، "وإن الآخرة وعد صادق" لا شَكَّ في وقوعه، ويحتمل التنوين والإضافة، فالصادق من أسماء الله، "يحكم فيها ملك" -بكسر اللام، "عادل" لا يجور، " قادر" على ما يشاء، وهو الله سبحانه، "يحق فيها الحق" يظهره ويحكم به، "ويبطل الباطل"، يمحقه ويذهبه، "فكونوا أبناء الآخرة"، بالأعمال الصالحة النافعة فيها، "ولا تكونوا أبناء الدنيا" بالرضا بها والطمأنينة إليها، " فإن كل أمّ يتبعها ولدها"، فمن تبع الدنيا خاب وخسر، ومن تبع الآخرة حيي الحياة الطيبة في روضات الجنات، "رواه أبو نعيم في الحلية من حديث شداد" بن أَوْس بن ثابت الأنصاري، أبي يعلى الخزرجي، صحابي، مات بالشام قبل الستين، أو بعدها، وهو ابن أخي حسان بن ثابت.(5/395)
وقوله -عليه الصلاة والسلام: "أخسر الناس صفقةً من أذهب آخرته بدنيا غيره".
وعند ابن النجار من حديث عبد الله بن عامر بن ربيعة عن أبيه, وهو مما بيض له الديلمي: "أخسر الناس صفقة رجل أخلق يديه في آماله, ولم تساعده الأيام على أمنيته،
__________
"وقوله -عليه الصلاة والسلام: "أخسر الناس صفقة" "، أي: من أشدهم خسرانًا لعظيم الثواب، وأعظمهم حسرة يوم المآب، "من أذهب آخرته" بترك الواجب أو المندوب "بدنيا غيره"، أي: بسبب اشتغاله بجلب دنيا غيره، كخدّام العظماء يشتغلون بنفع مخاديمهم، والقيام بمصالحهم، ويتركون الصلوات، ويحلفون الإيمان الفاجرة، ويأخذون أموال الناس لاسترضاء مخاديمهم، "وعند ابن النجار" في تاريخ بغداد "من حديث عبد الله بن عامر بن ربيعة" العنزي، حليف بني عدي أبي محمد المدني، وُلِدَ على عهد النبي -صلى الله عليه وسلم، ووثَّقه العجلي، وورى له الستة، مات سنة بضع وثمانين، "عن أبيه" عامر بن ربيعة بن كعب بن مالك العنزي -بسكون النون- حليف الخطاب, صحابي مشهور، أسلم قديمًا وهاجر، وشهد بدرًا وما بعدها، ومات ليالي قتل عثمان، "وهو مما بيض له الديلمي" لعدم وقوفه له على سند.
قال عامر: قال -صلى الله عليه وسلم: "أخسر الناس"، أي: من أخسرهم، كما علم "صفقة" هي في الأصل ضرب اليد على اليد في البيع والبيعة، والخسر في الأصل: نقص رأس المال، ثم استعمل في المعينات الخارجة كالمال والجاه، وأكثر استعماله في النفيس منها؛ كصحة وسلامة، وعقل، وإيمان، وثواب، وهو المراد هنا ذكره، الراغب "رجل" وصف طردي، والمراد مكلف "أخلق" أتعب "يديه" وأفقرهما بالكد والجهد، وتجوّز بهما عن النفس؛ لأن المزاولة بهما غالبًا "في" بلوغ "آماله" جمع أمل، وهو الرجاء، وأكثر استعماله في مستبعد الحصول "ولم تساعده"، أي: تعاونه "الأيام على أمنيته"، أي: بلوغها في تحصيل مطلوبه من مالٍ ومناصب وجاه ونحوها، بل عاكسته وغدرته، فلا يزال يتشبث بالطمع الفارغ، والرجاء الكاذب، ويتمنَّى على الله ما لا تقتضيه حكمته، ولم تسبق به كلمته.
قال بعض العارفين: أماني النفس حديثها بما ليس عندها، ولها حلاوة إذا استصحبها عبد لا يفلح أبدًا، وأهل الدنيا فريقان، فريق يتمنَّون ما يتمنعون، ولا يعطون إلّا بعضًا منه، وكثير منهم يتمنون ذلك البعض وقد حرموه، فاجتمع عليهم فقر الدنيا وفقر الآخرة، فصاروا أخسر الناس صفقة، وأمَّا المؤمن المتقي، فقد حاز مراده، وهي غنى القلب المؤدي لغنى الآخرة، فما يبالي أوتي حظًّا من الدنيا أو لا، فإن أوتي منها، وإلّا فربما كان الفقر خيرًا له وأعون على مراده، فهو أربح الناس صفقة، واشتقاق الأمنية من منى قدر؛ لأن المتمني يقدّر في نفسه، ويحرز(5/396)
فخرج من الدنيا بغير زاد, وقدم على الله بغير حجة".
وقوله -عليه الصلاة والسلام: "إن من كنوز البر كتمان المصائب".
__________
ما يتمنَّاه "فخرج من الدنيا" بالموت "بغير زاد" يوصّله إلى دار المعاد، وينفعه يوم تقوم الأشهاد، ويفصل بين العباد؛ لأن خير الزاد إلى الآخرة اتقاء القبائح، وقد تلطَّخ بأقذارها الخبيثة الروائح، فهو مهلك لنفسه باسترساله مع الأمل، وهجره للعمل, حتى تتابعت على قلبه ظلمات الغفلة، وغلب عليه رين الشهوة، ولم يسعفه المقدور بنيل مرامه من ذلك الحطام الفاني، فلم يزل مغمومًا مقهورًا إلى أن فرق الموت بينه وبين آماله، وكل جارحة منه متعلقة بالدنيا التي فاتته، فهي تجاذبه إلى الدنيا، والموت يجاذبه إلى الآخرة التي لا يريدها، "وقدم على الله بغير حجة" معذرة يعتذر بها، وبرهان يتمسّك به على تفريطه، بتضييعه عمره النفيس في طلب شيء خبيث خسيس، وإعراضه عن عبادة ربه التي إنما خُلِقَ لأجلها {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] .
قال الغزالي: ومَنْ هذا حاله فهو كالأنعام، بل أضلّ؛ إذ البهيمة لم يخلق لها المعرفة التي بها تجاهد مقتضى الشهوات، وهذا قد خُلِقَ له وعطَّله، فهو الناقص عقلًا، والمدبر يقينًا، ولذا قيل:
ولم أر في عيوب الناس عيبًا ... كنقص القادرين على التمام
وفي الحديث إلزام للحجة، ومبالغة في الإنذار، وإعذار فيه، وتنبيه على أن إيثار التلذّذ والتنعم، مما يؤد إلى طول الأمل، ويعطّل العمل، وهذه هجيرًا أكثر الناس ليس من أخلاق المؤمنين، ومن ثَمَّ قيل: التمرغ في الدنيا من أخلاق الكافرين. ذكره الزمخشري، هكذا حمل بعض الشراح الحديث على أمنية الدنيا، وحمله بعض آخر على أمنية الأعمال الصالحة، فقال: المعنى ضلَّ وهلك رجل قَدِرَ أن يعمل في المستقبل أعمالًا صالحة، ولم تعاونه الأوقات على ذلك، فخرج بلا زاد، أي: عمل وقدم على الله بغير حجة؛ لأنه في وقت التقدير كان فارغًا صحيحًا. انتهى، وكلاهما حسن.
"وقوله -عليه الصلاة والسلام: "إن من كنوز البر"، أي: من نفس ما يتوصل به العبد إلى مقصده، "كتمان المصائب"، أي: عدم التحدث بها إلا لمصلحة, كإخبار طبيب، أو مشير ناصح، فإظهارها، والتحدث بها قادح في الصبر، مفوت للأجر، وكتمانها رأس الصبر، وقد شكا الأحنف إلى عمه وجع ضرسه، وكرره، فقال: لقد ذهبت عيني منذ أربعين سنة، فما شكوتها لأحد، وهذا بعض حديث، رواه البيهقي، وأبو نعيم بسند ضعيف عن ابن عمر رفعه بلفظ: "من كنوز البر كتمان المصائب والأمراض والصدقة"، أخبر عليه الصلاة أن كتم هذه الثلاثة يدخر(5/397)
وقوله -عليه الصلاة والسلام: "اليمين حنث أو ندم".
رواه أبو يعلى وابن ماجه إلّا أنه قال: إنما الحلف.
وقوله -عليه الصلاة والسلام: "لا تظهر الشماتة بأخيك فيعافيه الله ويبتليك".
رواه الترمذي من حديث مكحول عن واثلة،
__________
لصاحبه يوم فاقته، لا يطّلع على ثوابه ملك، ولا يدفع إلى خصمائه، بل يعوضهم الله من باقي أعماله، وخزائن فضله ليبقى له كنزه، وذلك؛ لأن لصفاء توحيده كتم مصائبه وأمراضه ومهماته عن الخلق صبرًا من رضا عن ربه، وحياء منه، أن يشكو ويستعين بأحد من خلقه.
"وقوله -عليه الصلاة والسلام: "اليمين حنث أو ندم"، قال العسكري: معناه: إنك إذا حلفت حنثت، أو فعلت ما لا تشتهي كراهة الحنث فندمت، وقال الميداني في الأمثال: معناه: إن كانت صادقة ندم، وإن كانت كاذبة حنث, يضرب للمكروه من وجهين.
قال الغزالي: والندم توجُّه القلب عند شعوره بفوت محبوبه، وعلامته: طول الحسرة والحزن. انتهى، والقصد بذا الحديث وأمثاله: التنفير عن اليمين؛ لأنه يغلب على الحالف أن يجعلها عرضة للوقوع في منهي عنه؛ إذ كثرة الحلف لابُدَّ لها من سقطة، فلا ينافي حلف النبي -صلى الله عليه وسلم- عن ابن عمر "إلّا أنه"، أي: ابن ماجه، "قال: إنما الحلف" بدل اليمين، وبلفظ: إنما أوَّله، كما في المقاصد والجامع، وبَيِّنَ السخاوي: أن أبا يعلى رواه بلفظ: إنما اليمين، وبلفظ الحلف بدون إنما، فتسمَّح المصنّف في العزو له أيضًا، نعم أخرجه الطبراني، والعسكري بلفظ: "اليمين حنث أو ندم"، فكان اللائق عزوه لهما، ثم بيان لفظ من خالفهما، ثم فيه عند الجميع بشَّار بن كدام -بكسر الكاف- الكوفي, ضعيف.
"وقوله -عليه الصلاة والسلام: "لا تظهر الشماتة بأخيك" -بباء موحَّدة، وفي رواية: لأخيك باللام، في الدِّين، وهي لفرح ببلية من يعاديك أو تعاديه، "فيعافيه الله" رغمًا لأنفك، "ويبتليك"؛ حيث زكَّيت نفسك، ورفعت منزلتك.
قال الطيبي: بالنصب جوابًا للنهي، ويبتليك عطف عليه، "رواه الترمذي من حديث مكحول" الشامي, ثقة، فقيه, كثير الإرسال, مشهور، وروى له مسلم والأربعة، مات سنة بضع عشرة ومائة، "عن واثلة" -بمثلثة- ابن الأسقع -بالقاف- ابن كعب الليثي، صحابي نزل الشام، وعاش إلى سنة خمس وثمانين، ومات وله مائة وخمس سنين.
"وقال" الترمذي: "حسن غريب، وهو عند الطبراني أيضًا"، وزعم ابن الجوزي أنه(5/398)
وقال: حسن غريب، وهو عند الطبراني أيضًا، وفي رواية لابن أبي الدنيا: "فيرحمه الله "، بدل: "فيعافبه الله".
وروى الترمذي مرفوعًا: "مَنْ عَيِّرَ أخاه بذنب لم يمت حتى يعمله".
وقوله -عليه الصلاة والسلام- لأبي هريرة: "جف القلم بما أنت لاق".
__________
موضوع، ولذا انتقده الحافظ سراج الدين القزويني على المصابيح زاعمًا وضعه، وتعقَّبه العلامة الحافظ العراقي، وصوَّب كلام الترمذي، "وفي رواية لابن أبي الدنيا: "فيرحمه الله" بدل "فيعافيه الله"، الواقعة في رواية الترمذي، ومثل ما ذكر المصنّف لشيخه السخاوي بالحرف، وساقه في الجامع، ناسيًا للترمذي بلفظ: فيرحمه الله، وأخذ جماعة من ذا الخبر أن في الشماتة بالعدو غاية الضرر، فالحذر الحذر، نعم أفتى ابن عبد السلام؛ بأنَّه لا ملام في الفرح بموت العدو؛ من حيث انقطاع شرّه عنه وكفاية ضرره.
"وروى الترمذي" عن معاذ بن جبل "مرفوعًا: "من عَيِّر أخاه بذنب"، أي: وصف مذموم انتقاصًا له، وإن لم يحرم، "لم يمت حتى يعمله".
قال الترمذي: حسن غريب، وليس إسناده بمتَّصل، قال: وقال أحمد بن منيع، يعني: شيخه، قالوا: من ذنب قد تاب منه.
قال السخاوي ونحوه: فليجلدها الحد، ولا يثرِّب، أي: لا يوبِّخ ولا يقرع بالزنا بعد الجلد، ولعله كما قال شيخنا: احترز به عَمَّن تلبَّس بقبيح شرعًا، وإن لم يحرم، واسترسل فيه فغيِّره غيره، لينزجر عنه لقبحه شرعًا، لا لحظ نفس المعير، فلا يعاقب على تعييره؛ لأنه إنما قصد به الحث على المطلوب، وترك النهي عنه.
"وقوله -عليه الصلاة والسلام- لأبي هريرة"، فيما أخرجه البخاري والنسائي وغيرهما، عنه قال: قلت: يا رسول الله, إني رجل شاب، وأنا أخاف على نفسي العَنَت، ولا أجد ما أتزوّج به النساء، فائذن لي أختصي، فسكت عني، ثم قلت مثل ذلك، فسكت، ثم قلت مثل ذلك، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم: "يا أبا هريرة جَفَّ القلم بما أنت لاق"، أي: نفذ المقدور بما كُتِبَ في اللوح المحفوظ، فبقي القلم الذي كتب به جافَّا لا مداد فيه، لفراغ ما كتب به.
قال عياض: كتاب الله ولوحه وقلمه من غيب علمه الذي نؤمن به، ونكل علمه إليه، وبقية الحديث: "فاختص على ذلك أو ذر" بكسر الصاد المهملة، أمر من الاختصاء، أي: اختص حال استعلائك على العلم بأنَّ كل شيء بقضاء الله وقدره، أو أترك، وفي رواية: فاختصر -براء بعد الصاد- أي: اقتصر على ما أمرتك به أو أتركه، وافعل ما ذكرت من الخصاء، وعلى كل من(5/399)
قال صاحب فتح المنَّة بشرح الأخبار لمحيي السنة: هو كناية عن جريان القلم بالمقادير وإمضائها والفراغ منها، فإن الفراغ بعد الشروع يستلزم جفاف القلم عن مداده، فهو من إطلاق اللازم على الملزوم، وهذا اللفظ لم يوجد في كلام العرب، بل هو من الألفاظ التي لم يهتد إليها البلغاء، بل اقتضتها الفصاحة النبوية.
وقوله -عليه الصلاة والسلام: "اليوم الرهان وغدًا السباق, والغاية الجنة, والهالك من دخل النار".
__________
الروايتين: الأمر ليس لطلب الفعل، بل للتهديد، كقوله تعالى: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29] .
"قال صاحب فتح المنَّة بشرح الأخبار لمحيي السُّنَّة: هو كناية عن جريان القلم بالمقادير وإمضائها والفراغ منها، فإن الفراغ بعد الشروع يستلزم جفاف القلم عن مداده"، لفراغ ما كُتِبَ به، "فهو من إطلاق اللازم على الملزوم"، وفي النهاية: إنه تمثيل بفراغ الكاتب من كتابته ويبس قلمه، "وهذا اللفظ لم يوجد في كلام العرب، بل هو من الألفاظ التي لم يهتد إليها البلغاء، بل اقتضتها الفصاحة النبوية" التي لا تنطق عن الهوى.
"وقوله -عليه الصلاة والسلام: "اليوم"، أي: الدنيا، "الرهان" -بكسر الراء، قال المجد: المخاطرة والمسابقة على الخيل، انتهى، استعير للمسابقة على الأعمال في الدنيا، كما قال تعالى: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [الحديد: 21] .
قال البيضاوي: سابقوا: سارعوا مسارعة المتسابقين في المضمار، "وغدًا"، أي: يوم القيامة، "السباق" -بالكسر- مصدر سابق مسابقة، وسباقًا بمعنى السبق -بفتحتين، وهو ما يجعل من المال رهنًا على المسابقة، استُعِير للأعمال التي تلقَّاها العاملون يوم القيامة، وفي القاموس: السبق -محركة، والسبقة -بالضم- الخطر، يوضع بين أهل السباق، وفيه كالصحاح الخطر محركة: السبق الذي يتراهن عليه، وقد أخطر المال، أي: جعله خطرًا بين المتراهنين. انتهى، وفي الحديث: "لا سبق إلّا في خف أو حافر".
قال الخطَّابي: الرواية الصحيحة بفتح الباء، وهو ما يجعل من المال رهنًا على المسابقة، وبالسكون مصدر سبقت أسبق، "والغاية" التي يقع عليها الرهان "الجنة"، فيه حذف دلَّ عليه المذكور، أي: أو النار، فالفائز من دخل الجنة، "والهالك من دخل النار"، والمعنى: الفائز من عمل الأعمال الصالحة، وفعل المأمورات، واجتنب المنهيات، فدخل الجنة، فرفعت له فيها الدرجات، والهالك من فعل المعاصي، فآل إلى استحقاق دخول النار، وحاصل معنى الحديث: إن الدنيا بتمامها للناس، كيومٍ يتسابق المتسابقون فيه على خيلهم إلى غاية معلومة لهم، وقد(5/400)
وقوله -عليه الصلاة والسلام: "من ضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه ضمنت له على الله الجنة".
رواه جماعة، منهم العسكري عن جابر به، وفي البخاري والترمذي عن سهل بن سعد بلفظ: "من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة".
__________
جعلوا ما لا يأخذه السابق غدًا، فمن عمل الصالحات فاز بذلك الجعل، الذي هو الجنة بمقتضى الوعد الصادق، ومن عمل السيئات حرم الجعل، واستحقَّ النار بمقتضى الوعيد, ما لم يعف عنه إن كان مسلمًا، هذا ما ظهر لي، ولم أر أحدًا شرحه، وبقية الحديث: "أنا الأول، وأبو بكر الثاني، وعمر الثالث، والناس بعد علي السبق الأول"، فالأوّل رواه الطبراني، وابن عدي، والخطيب، عن ابن عباس بتمامه مرفوعًا، وفيه أصرم بن حوشب، منكر الحديث.
"وقوله -عليه الصلاة والسلام: "من ضمن" في رواية: من حفظ، "لي ما بين لحييه" بفتح اللام، وسكون المهملة، والتثنية- هما العظمان في جانب الفم، "وما بين رجليه" فرجه، ترك التصريح به استهجانًا له واستحياءً؛ لأنه كان أشدَّ حياء من البكر في خدرها، "ضمنت له على الله الجنة"، رواه جماعة منهم: العسكري عن جابر به"، أي: بهذا اللفظ مرفوعًا.
"وفي البخاري" في الرقاق والمحاربين، "والترمذي" في الزهد، وقال: حسن صحيح غريب، "عن سهل بن سعد" -بسكون الهاء والعين- الساعدي، عن النبي -صلى الله عليه وسلم: "بلفظ: "من يضمن".
قال الحافظ: بفتح أوّله وسكون المعجمة، والجزم من الضمان، بمعنى الوفاء بترك المعصية، "لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن" بالجزم جواب الشرط "له الجنة" أي: على الله، كما في الرواية السابقة، ولم تقع في البخاري والترمذي، فزيادتها في بعض نسخ المصنف هنا لا تنبغي، والمراد بالضمان لازمه، وهو أداء الحق الذي عليه، فالمعنى: من أدَّى الحق الذي على لسانه من النطق بما يجب عليه، أو الصمت عمَّا لا يعنيه، وأدَّى الحق الذي على فرجه من وضعه في الحلال، وكَفِّه عن الحرام، قاله الحافظ وغيره.
وقال الطيبي: أصل الكلام من يحفظ ما بين لحييه من اللسان والفم، فيما لا يعنيه من الكلام والطعام يدخل الجنة، فأراد أن يؤكِّد الوعد تأكيدًا بليغًا، فأبرزه في صورة التمثيل، ليشير بأنه واجب الأداء، فشبَّه صورة حفظ المؤمن نفسه، مما وجب عليه من أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- ونهيه، وشبَّه ما يترتَّب عليه من الفوز الجنة، وأنه واجب على الله تعالى بحسب الوعد أداؤه، وأنه -صلى الله عليه وسلم- هو الواسطة والشفيع بينه وبين الله تعالى بصورة شخص له حقّ واجب الأداء على الآخر، فيقوم به ضامنًا من يتكفَّل له بأداء حقه، وأدخل المشبّه في جنس صورة المشبَّه به، وجعله فردًا من أفراده، ثم ترك المشبه به، وجعل القرينة الدالة عليه ما يستعمل فيه من الضمان ونحوه في(5/401)
والمراد بما بين لحييه: اللسان وما يتأتَّى به النطق، وما بين رجليه: الفرج، وقال الداودي: المراد بما بين اللحيين: الفم، فيتناول الأقوال والأكل والشرب وسائر ما يتأتَّى بالفم.
وفي لفظ: "من توكَّل لي ما بين فقيمه ورجليه أتوكل له بالجنة"، والفقم -بالضم والفتح: اللحى.
وفي لفظ آخر: "من تكفَّل لي تكفلت له".
وللديلمي -بسند ضعيف- عن أنس رفعه: "من وقي شر قبقبه وذبذبه ولقلقه وجبت له الجنة"، ولفظ الإحياء: من وقي, يعني: البطن
__________
التمثيل؛ {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} انتهى، "والمراد بما بين لحييه اللسان، وما يتأتَّى به النطق، وما بين رجليه الفرج، وقال الداودي" أحمد بن نصر، المالكي، شارح البخاري: "المراد بما بين اللحيين: الفم" بتمامه، "فيتناول الأقوال" كلها، "والأكل، والشرب، وسائر ما يتأتَّى بالفم"، من النطق، والفعل، كتقبيل، وعض، وشتم.
قال -أعني: الداودي: ومن يحفظ من ذلك أمن من الشر كله؛ لأنه لم يبق إلّا السمع والبصر.
قال الحافظ: وخفي عليه أنَّه بقي البطش باليدين، وإنما محمل الحديث على أن النطق باللسان أصل في حصول كل مطلوب، فإذا لم ينطق به إلّا في خير سلم.
وقال ابن بطال: دَلَّ الحديث على أن أعظم البلايا على المرء في الدنيا لسانه وفرجه, فمن وقي شرهما وقي أعظم الشر. انتهى، يعني: فخصَّهما بالذكر لذلك، "وفي لفظ" عند الطبراني بسند جيد، عن أبي رافع: "من توكَّل"، أي: التزم "لي" حفظ "ما بين فقيمه ورجليه أتوكّل له بالجنة"، أي: بدخوله إياها، "والفقم -بالضم والفتح" للفاء، وأمَّا القاف فساكنة فيهما "اللحى"، واقتصر الجوهري على الضم، وظاهر القاموس أنّ الفتح أفصح، وعبارته: والفقم -ويضم: اللحى، أو إحدى اللحيين، والفقم -بضمتين: الفم، "وفي لفظ آخر: "من تكفَّل لي تكفَّلت له"، أي: من ضمن ضمنت له، "وللديلمي" والبيهقي "بسند ضعيف، عن أنس رفعه: "من وقي شر فبقبه"، أي: بطنه "وذبذبه" بمعجمتين بعد كل موحدة بزنة مذهب، أي: ذكره, سُمِّيَ بذلك لتذبذبه، أي: تحركه، "ولقلقه" بلامين وقافين، أي: لسانه، "وجبت له الجنة"، أي: استحقَّ دخولها مع السابقين، أو بغير عذاب، "ولفظ الإحياء: "من وقي" يعني: البطن" بيان لمفعوله وقى، فيصير اللفظ: من وقي البطن "من القبقبة، وهو صوت يسمع في البطن، وكأنَّها حكاية ذلك الصوت،(5/402)
من القبقبة، وهو صوت يسمع في البطن، وكأنَّه حكاية ذلك الصوت، ويجوز أن يكون كناية عن أكل الحرام وشبهه، والذكر واللسان.
فهذا وأشباهه مما يعسر استقصاؤه, يدلك على ذلك أنه -صلى الله عليه وسلم- قد رقي في الفصاحة وجوامع الكلم درجةً لا يقاس بها غيره، وحاز مرتبة لا يقدر فيها قدره -صلى الله عليه وسلم.
ومما عدّ من وجوه بلاغته: ما ذكر أنه جمع متفرقات الشرائع وقواعد الإسلام في أربعة أحاديث وهي:
حديث "إنما الأعمال بالنيات ... "
وحديث "الحلال بَيِّن والحرام بَيِّن ... "
__________
ويجوز أن يكون كنايةً عن أكل الحرام وشبهه, والذكر واللسان"، بالنصب عطفًا على البطن.
وروى الترمذي، وابن حبان، والحاكم عن أبي هريرة رفعه: " من وقاه الله شر ما بين لحييه، وشر ما بين رجليه دخل الجنة"، وفي هذا كله تحذير عظيم من شهوتي البطن والفرج، وأنهما مهلكة، ولا يقدر على كسر شهوتهما إلّا الصدّيقون، "فهذا"، أي: المذكور من جوامع الكلم "وأشباهه، مما يعسر استقصاؤه، يدلُّك على ذلك، أنه -صلى الله عليه وسلم، قد رقي" بكسر القاف، من باب تعب، كما في المصباح، "في الفصاحة وجوامع الكلم درجة لا يقاس بها غيره، وحاز مرتبة لا يقدر فيها قدره -صلى الله عليه وسلم، ومما عدّ من وجوه" جمع وجه، أي: طرق وأدلة "بلاغته ما ذُكِرَ" بالبناء للمفعول، أي: ما ذكره الأئمة، "أنه جمع متفرقات الشرائع" القديمة، "و" جمع "قواعد الإسلام في أربعة أحاديث"، فجعل المصنّف جمعهم دليلًا على البلاغة، لا أنه نفسه من البلاغة؛ إذ ليس منها على أن هذا إنما يجيء إن فسّر وجوه بصفات، إمّا بطرق بمعنى أدلة فلا، "وهي حديث: "إنما الأعمال بالنية"، أي: الحديث الذي منه هذه الجملة، وكذا، يقال في الباقي، وتقدَّم في أوائل هذا المبحث شرح هذا اللفظ بما يغني عن إعادته حن ذكره المصنف، "وحديث: "الحلال" ضد الحرام لغةً وشرعًا، "بَيِّنٌ" ظاهر بالنظر إلى ما دلَّ عليه بلا شبهة، وهو ما نَصَّ الله ورسوله، أو أجمع المسلمون على حله بعينه، أو جنسه، ومنه ما لم يرد فيه منع في أظهر الأقوال، أمَّا المختلف فيه، فليس من البَيِّن الخفاء، الحل عن القائل بالحرمة وعكسه، "والحرام بَيِّنٌ"، أي: ظاهر بالنظر إلى ما دلَّ عليه بلا شبهة.
قال الحافظ: أي: في عينهما ووصفهما بأدلتهما الظاهرة. انتهى، أي: فإنما هما بالنص، أو(5/403)
رواه مسلم.
وحديث "البينة على المدعي واليمين على من أنكر".
وحديث "لا يكمل إيمان المرء....."
__________
الإجماع على تحريمه بعينه، أو جنسه، أو بورود عقوبة أو وعيد عليه لا بنفسهما، فلا حجة فيه للمعتزلة في قولهم: العقل يميز الحسن من القبيح، حتى لو لم تبعث الرسل لعُلِمَ ذلك، وإنما بعثت لاختلاف العقول، بل الحسن ما حسَّنه الشرع، وكذلك القبيح، ثم التحريم إمَّا لمفسدة، أو مضَرَّة خفية، كالزنا، ومذكَّى المجوس، وإمَّا المفسدة، أو مضرة واضحة، كالسم والخمر، وتفصيله يطول, هذا والظاهر من مقابلة الحلال بالحرام شموله الواجب والمندوب والمباح والمكروه، وخلاف الأولى، كذا قيل، لكن وصفه ببَيِّن، بمعنى: ظاهر, يبعد ذلك؛ إذ لو بان ما كره، أو كان خلاف الأولى، "رواه مسلم" في البيوع، وكذا البخاري فيه، وفي كتاب الإيمان، وأبو داود، والترمذي، والنسائي في البيوع، وابن ماجه في الفتن، فما هذا التقصير للمصنف في العزو، فلا أقلَّ من رواه الشيخان كلهم من حديث النعمان بن بشير، سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول ... فذكره مطولًا.
"وحديث: "البينة على المدعي"، وفي رواية: "على مَنْ ادَّعى"، وهو من يخالف قوله الظاهر، أو من لو سكت خلى، "واليمين على من أنكر" المدعَّى عليه به؛ لأن جانب المدعي ضعيف، فكلف حجة قوية هي البينة، وجانب المدعَّى عليه قوي، فقنع بحجة ضعيفة هي اليمين.
قال ابن العربي: وهذا الحديث من قواعد الشريعة التي ليس فيها خلاف، وإنما اختلف في تفاصيل الوقائع.
قال البيضاوي: والبينة في الأصل: الدلالة الواضحة التي تفصل الحق من الباطل، وقال غيره: هي ما ظهر برهانه في الطبع والعلم والعقل؛ بحيث لا مندوحة عن شهود وجوده، ثم هذا الحديث رواه عبد الرزاق، والبيهقي، وابن عساكر، والدارقطني عن ابن عمرو بن العاص بزيادة: "إلا في القسامة".
قال الحافظ: وهو حديث غريب معلول، وأخرجه الترمذي من حديث ابن عمر، وأيضًا بلفظ: "البينة على المدَّعى عليه"، وله شاهد عن ابن عباس، وابن عمر، وغيرهما. "وحديث: "لا يكمل إيمان المرء" نقل بالمعنى لبيان المراد، وإلّا فرواية الصحيحين، وغيرهما: "لا يؤمن أحدكم"، وفي رواية: أحد، وفي رواية: عبد، وزاد مسلم أوله: "والذي نفسي بيده"، وقال الشراح: معناه: إيمانًا كاملًا، فالمراد بنفيه هنا نفي بلوغ حقيقته ونهايته, كخبر: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن"، ونفى اسم الشيء على معنى نفي الكمال مستفيض في كلامهم؛ كقولهم: فلان ليس بإنسان، ولا(5/404)
حتى يحبَّ لأخيه ما يحب لنفسه" رواه الشيخان.
__________
يرد استلزامه أنَّ فاعل ذلك يكمل إيمانه، وإن ترك بقية الأركان؛ لأن هذا ورد مورد المبالغة، ويستفاد من قوله لأخيه المسلم ملاحظة بقية صفات المسلم، وصرَّح في رواية ابن حبان بالمراد ولفظه: "لا يبلغ عبد حقيقة الإيمان"؛ إذ معنى الحقيقة: الكمال ضرورة أنَّ من لم يتَّصف بهذه الصفة لا يكون كافرًا، "حتى يحب" بالنصب؛ لأن حتى جارَّة، وإن بعدها مضمرة، ولا يجوز الرفع، فتكون عاطفة لفساد المعنى؛ إذ عدم الإيمان ليس سببًا للمحبَّة، قاله الكرماني, "لأخيه" المسلم، كما زاده في رواية الإسماعيلي، ولعله غالبي، فالمسلم ينبغي حبه للكافر الإسلام وما يترتَّب عليه من خير وأجر، "ما يحب لنفسه" من الخير، كما في رواية النسائي، وابن منده، والإسماعيلي والقضاعي، فلا حاجة لقوله: بعضهم، وهو عام مخصوص؛ إذ الرجل يحب لنفسه وطء حليلته لا لغيره، والخير كلمة جامعة تعمّ الطاعات والمباحات الدينية أو الدنيوية، وتخرج المنهيات؛ لأن اسم الخير لا يتناولها، والمحبَّة إرادة ما يعتقده خيرًا.
قال النووي: المحبَّة الميل إلى ما يوافق المًحِب، وقد يكون بحواسِّه؛ كحسن الصورة، أو بعقله، إمَّا لذاته كالفضل والكمال، أو لإحسانه كجلب نفع ودفع ضر. انتهى.
والمراد هنا: الميل الاختياري دون الطبيعي والقسري، والمراد أيضًا نظير ما حصل له، لا عينه سواء، كان ذلك في الأمور المحسوسة والمعنوية، وليس المراد أن يحصل لأخيه ما حصل له، مع سلبه عنه، ولا مع بقائه بعينه له؛ إذ قيام الجوهر أو العرض بمحلين محال، قيل: وظاهر الحديث طلب المساواة، وحقيقته تستلزم التفضيل؛ لأن كل أحد يجب أن يكون أفضل من غيره، فإذا أحب لأخيه مثاله، فقد دخل في جملة المفضولين.
قال الحافظ: أقرَّ عياض هذا وفيه نظر؛ إذ المراد الزجر عن هذه الإرادة؛ لأن المقصود الحث على التواضع، فلا يكون أفضل من غيره، فهو مستلزم للمساواة، ويستفاد ذلك من قوله تعالى: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا} [القصص: 83] ، ولا يتمّ ذلك إلا بترك الحسد والغل والحق والغش، وكلها خصال مذمومة.
قال الكرماني: ومن الإيمان أيضًا أن يبغض لأخيه ما يبغض لنفسه من الشر، ولم يذكره؛ لأن حب الشيء مستلزم لبعض نقيضه، فترك النص عليه اكتفاءً. انتهى، وذلك ليكون المؤمنون كنفس واحدة، ومن زعم كابن الصلاح أنَّ هذا من الصعب الممتنع، فقد غفل عن المعنى المراد، وهو أن يحب له حصول مثل ذلك من جهة لا يزاحمه فيها، كما علم، وبه دفع زعم أنَّ هذه محبة عقلية لا تكليفية؛ لأن الإنسان جُبِلَ على حبّ الاستئثار، فتكليفه بأنه يحب له ما يحب لنفسه مفض لأن لا يكمل إيمان أحد إلّا نادرًا، ثم مقصود الحديث انتظام أحوال(5/405)
فالحديث الأول: يشتمل على ربع العبادات.
والثاني: على ربع المعاملات.
والثالث: على ربع الحكومات وفصل الخصومات.
والرابع: على ربع الآداب والمناصفات, ويدخل تحته التحذير من الجنايات.
__________
المعاش، والمعاد، والجري على قانون السداد {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103] ، وعماد ذلك كله وأساسه السلامة من الأمراض القلبية، فالحاسد يكره أن يفوقه أحد، أو يساويه في شيء، والإيمان يقتضي المشاركة في كلّ خير من غير أن ينقص على أحد من نصيب أحد شيء، نعم، ومن كمال الإيمان تمنّي مثل فضائله الأخروية التي فارق عليها غيره، وقوله: {لا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ} نهي عن الحسد المذموم، فإذا فارقه أحد في فضل ديني اجتهد في لحاقه، وحزن على تقصيره, لا حسدًا بل منافسة في الخير وغبطة، "رواه الشيخان"، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه عن أنس، لكن لفظ رواية مسلم: "حتى يحب لأخيه"، أو قال: جاره، ورواية البخاري وغيره: "لأخيه" بلا شَكٍّ.
"فالحديث الأوّل": "إنما الأعمال بالنية"، "يشتمل على ربع العبادات" عند بعضهم، ومنهم من قال -كالشافعي في إحدى الروايتين عنه: يدخل فيه نصف العلم، ووجَّهه المصنف فيما مَرَّ تبعًا لغيره، بأن للدين ظاهرًا وباطنًا، فالنية متعلقة بالباطن، والعمل هو الظاهر، وبأنَّ النية عبودية القلب، والعمل عبودية الجوارح، ومنهم من قال: ثلثه، كأحمد وابن مهدي، والشافعي في الرواية الثانية، ووجهه: أن الدين قول وعمل ونية.
"والثاني": "الحلال بَيِّنٌ والحرام بَيِّنٌ " على ربع المعاملات"، كما نقل عن أبي داود.
وقال ابن العربي: جعلوا هذا الحديث ثلث الإسلام وربعه، وأكثروا في التقسيمات، وكلها تحكمات، تحتمل الزيادة والنقص، وبالجملة, فالمعاني مشتركة، ولو قيل: إنه نصف الإسلام لكان له وجه، ولو قيل: إنه جملة الدين لما عُدِمَ وجهًا.
قال القرطبي: لأنه اشتمل على التفصيل بين الحلال وغيره، وعلى تعلُّق جميع الأعمال بالقلب، فمن هنا، يمكن أن ترد جميع الأحكام إليه.
"والثالث" حديث البينة "على ربع الحكومات، وفصل الخصومات".
"والرابع: على ربع الآداب والمناصفات"، جمع مناصفة بمعنى إنصاف، أي: العدل في معاملة الإخوان بعضهم مع بعض، "ويدخل تحته التحذير من الجنايات"؛ لأنه إذا جنى على أخيه لم يحب له ما يحب لنفسه؛ إذ هو لا يحب أن أحدًا يجني عليه، ومنهم من عَدَّ حديث:(5/406)
قال ابن المنير.
ومما عُدَّ أيضًا من أنواع بلاغته, كلامه -عليه الصلاة والسلام- مع كل ذي لغة بليغة بلغته اتساعًا في الفصاحة، واستحداثًا للألفة، فكان -صلى الله عليه وسلم- يخاطب أهل الحضر بكلام ألْيَن من الدهن وأرقّ من المزن، ويخاطب أهل البدو بكلام أرسى من الهضب وأرهف من العضب.
فانظر إلى دعائه لأهل المدينة حين سألوه ذلك فقال: "اللهمَّ بارك لهم في مكيالهم, وبارك لهم في صاعهم ومُدِّهم،
__________
"ازهد في الدنيا يحبك الله" رُبْعًا وأسقط البينة، وعدَّ حديث "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه"، وأسقط حديث: "لا يؤمن...."، وفي ذلك البيتان المشهوران:
عمدة الدين عندنا كلمات ... مسندات من قول خير البرية
اتركنّ الشبهات وازهد ودع ما ... ليس يعنيك واعملنّ بنية
"قال ابن المنير" في المقتفى: "ومما عُدَّ أيضًا من أنواع بلاغته, كلامه -عليه الصلاة والسلام- مع كل ذي لغة بليغة بلغته اتساعًا"، أي: زيادة "في الفصاحة، واستحداثًا للألفة" -بضم الهمزة وكسرها- كما يفيده المصباح، وهي الأنس والمحبَّة، "فكان -صلى الله عليه وسلم- يخاطب أهل الحَضَر بكلام أَلْيَنَ من الدهن، وأرق من المزن"، السحاب الأبيض، جمع مزنة، "ويخاطب أهل البدو" الملازمين للبادية، ولم يخالطوا أهل الحاضرة، حتى تفسد لغتهم، وليس المراد بهم الأخلاط الذين لا يحسنون اللغات "بكلام أرسى"، أثبت "من الهضب" جمع هضبة، وتُجْمَع أيضًا على هِضَاب، وجمع الجمع أهاضيب، كما في القاموس قائلًا، وهي: الجبل المنبسط على الأرض، أو جبل خلق من صخرة واحدة، والطويل الممتنع المنفرد، ولا يكون إلا في حُمُر الجبال، والمعنى: إنه يخاطبهم بكلام أثبت من الجبال الراسية في تمكُّنِه من اللغة لشدة فصاحته، "وأرهف من العضب" -بمهملة ومعجمة ساكنة- السيف القاطع، "فانظر إلى دعائه لأهل المدينة"، الذين هم أهل حضر، "حين سألوه ذلك"، أي: الدعاء، "فقال: "اللهمَّ بارك لهم في مكيالهم، وبارك لهم في صاعهم ومُدِّهم"، أي: فيما يكال بذلك.
قال الراغب: أصل البرك صدر البعير، وإن استُعْمِل في غيره, وبَرَك البعير ألقى بركه، واعتبر فيه معنى اللزوم، ومنه بركاء الحرب، لمكان تلزمه الأبطال، والبِرْكَة لمحبس الماء، والبَرَكَة ثبوت الخير الإلهي في الشيء، قال تعالى: {لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ} [الأعراف: 96](5/407)
وفي حديث آخر: "اللهمَّ بارك لنا في تمرنا وبارك لنا في مدينتنا، وبارك لنا في صاعنا، وبارك لنا في مُدِّنَا, اللهمَّ إني أدعوك للمدينة بمثل ما دعاك إبراهيم لمكَّة ومثله معه".
ثم انظر دعاءه لبني نهد وقد وفدوا عليه في جملة الوفود، فقام طهفة بن رهم
__________
لثبوت خيرها ثبوت الماء في البِرْكَة، والمبارك ما فيه ذلك الخير، ولما كان الخير الإلهي يصدر من حيث لا يحسّ على وجه لا يحصى ولا يحصر، قيل: لكل ما يشاهد منه زيادة غير محسوسة مبارك فيه بركة، وإلى هذه الزيادة أشير بحديث: "لا ينقص مال من صدقة"، لا إلى النقصان المحسوس، كما قال بعض الخاسرين، حين قيل له: ذلك بيني وبينك الميزان، وقوله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا} [الفرقان: 61] ، تنبيه على ما يفيض علينا بواسطة هذه البروج والنيرين المذكورة، وكل موضع ذكر فيه تبارك، فهو تنبيه على اختصاصه تعالى بالخيرات المذكورة، مع ذكر تبارك. انتهى، وهو تحقيق نفيس لا مزيد عليه.
"وفي حديث آخر" عند مسلم بمعناه: "اللهم بارك لنا في تمرنا، وبارك لنا في مدينتنا"، أي: كَثِّر خيرها، "وبارك لنا في صاعنا"، أي: فيما يكال بصاع مدينتنا، "وبارك لنا في مُدِّنَا"، أي: وفيما يكال به، ثم يحتمل كون البركة دينية، وتكون بمعنى الثبات، أي: ثَبِّتنا في أداء حقوق الحق المتعلقة بهذه المقادير، وكونها دنيوية، وتكون بمعنى الزيادة؛ بحيث يكفي المد فيها ما لا يكفي في غيرها، ويحتمل الأمرين معًا، "اللهمَّ إني أدعوك للمدينة" طيبة، "بمثل ما دعاك إبراهيم لمكة" بقوله: {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ} [إبراهيم: 37] الآية، "ومثله معه"، وفي رواية مسلم: "اللهم اجعل مع البركة بركتين"، وعند الترمذي: "أدعوك لأهل المدينة أن تبارك لهم في مُدِّهِم وصاعهم مثل ما باركته لأهل مكة مع البركة بركتين، وتمسك بهذا من فضلها على مكة"؛ لأن التضعيف شامل للأمور الدينية أيضًا، "ثم انظر دعاءه لبني نهد" -بفتح النون، وسكون الهاء، ودال مهملة- قبيلة باليمن, الذين هم أهل بدو، أي: تأمَّل الفرق بينه وبين دعائه لأهل المدينة، حيث دعا لنهد بنوع ما جاءوا به، "وقد وفدوا عليه في جملة الوفود، فقام طهفة" -بكسر الطاء المهملة، وفتحها، وهاء ساكنة تليها فاء- كما قال ابن عبد البر، وضبطه غيره بالتحتية بدل الفاء، ويقال: بخاء معجمة بدل الهاء وبالفاء، ثم هاء تأنيف، ويقال: طغية بغين معجمة وياء، وقيل: طقفة بقاف، ثم فاء، ويقال: اسمه يعيش أو قيس "ابن رهم"، كذا في النسخ، والذي في الإصابة: طهفة بن أبي زهير، وقال أبو عمر: طهفة بن زهير. انتهى، فإن ثبت ما للمصنِّف، فيجوز أن أبا زهير اسمه "النهدي"، روى قصته هذه بطولها ابن الأعرابي في(5/408)
النهدي يشكو الجدب إليه, فقال: يا رسول الله, أتيناك من غورى تهامة، بأكوار الميس، نرتمي بنا العيس، نستخلب الصبير، ونستخلب الخبير، ونستعضد البرير، ونستحيل الرهام، ونستحيل الجهام، من أرض غائلة النطاء، غليظة الوطاء، قد نشف المدهن، ويبس الجعثن، وسقط الأملوج، ومات العسلوج، وهلك الهدي، ومات الودي، برئنا إليك يا رسول الله من الوثن والعنن وما يحدث من الزمن، لنا دعوة الإسلام وشرائع الإسلام ما طما البحر وقام تعار، ولنا نعم همل، أغفال ما تبل ببلال، ووقير كثير الرسل قليل الرسل، أصابتها سنية حمراء مؤزلة، لي لها علل ولا نهل.
__________
معجمه، وأبو نعيم في الصحابة عن عمران بن حصين، وابن الجوزي في العلل من وجه ضعيف جدًّا، عن علي بن أبي طالب قالا: قدم وفد بني نهد على النبي -صلى الله عليه وسلم، فقام طهفة, لفظ عمران، ولفظ علي: طخفة -بالخاء المعجمة- ابن أبي زهير، "يشكو الجدب إليه" -بدال مهملة- ضد الخصب، "فقال: يا رسول الله أتيناك من غورى" -بفتح المعجمة، والراء، وإسكان الواو بينهما- "تهامة" أي: ما انحدر مغربًا عنها، كما في القاموس "بأكوار"، أي: رحال، "الميس" -بفتح الميم، وإسكان التحتية، ومهملة, "نرتمي" نقصد "بنا العيس"، أي: الإبل مطلقًا، وإن كانت في اللغة: الإبل البيض إلى صفر، "نستخلب الصبير، ونستخلب الخبير" -بمعجمة فيهما- و"نستعضد البرير، ونستخيل" بمعجمة "الرهام" -بكسر الراء: الأمطار الضعيفة الدائمة، و"نستحيل" -بحاء مهملة- على الأشهر، وروي بجيم وخاء معجمة, "الجهام" -بفتح الجيم- السحاب لا ماء فيه، أو انقطع ماؤه, "من أرض غائلة النطاء" -بكسر النون، مهلكة لبعدها, "غليظة الوطاء، قد نشف المدهن" -بضم الميم، والهاء- من النوادر التي جاءت على خلاف القياس، والقياس الكسر، كما في المصباح، "ويبس الجعثن" -بكسر الجيم، وسكون المهملة، وكسر المثلثة، "وسقط الأملوج، ومات العسلوج، وهلك الهدي، ومات الودي، برئنا إليك يا رسول الله من الوثن والعنن، وما يحدث من الزمن, لنا دعوة الإسلام وشرائع الإسلام ما طما البحر، وقام تعار ولنا نعم همل" -بفتحتين وبضم أوله وفتح ثانيه- ثقيلًا "أغفال" بمعجمة- وفاء "ما تبل ببلال ووقير" -بقاف وتحتية وراء- قطيع من الغنم، "كثير الرسل" -بفتح الراء- أي: شديد التفرق في طلب المرعى، "قليل الرسل" -بكسر فسكون- اللبن، كما في النهاية، "أصابتها سنية حمراء" أي: جدب شديد، تصغير تعظيم، قاله في النهاية، "مؤزلة".
قال ابن الأثير: الأزل الضيق والشدة، وسنة مؤزلة: آتية بالأزل والقحط، "ليس لها علل، ولا نهل"، أي: شرب ثانٍ بعد شرب أوّل لشدة القحط، "فقال لهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "اللهم بارك(5/409)
فقال لهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "اللهم بارك لهم في محضها ومخضها ومذقها، وابعث راعيها في الدثر بيانع الثمر، وافجر له الثمد، وبارك له في المال والولد، من أقام الصلاة كان مسلمًا، ومن آتى الزكاة كان محسنًا، ومن شهد أن لا إله إلا الله كان مخلصًا، لكم يا بني نهد ودائع الشرك، ووضائع الملك، لا تلطط في الزكاة، ولا تلحد في الحياة،
__________
لهم في محضها ومخضها ومذقها"، متعلق ببارك، أي: اجعل البركة وزيادة الرزق وثباته مقسومًا وأصلًا لهم، "وابعث" أرسل "راعيها في الدثر" -بفتح المهملة وإسكان الثلثة وتفتح- المال الكثير، "بيانع الثمر" من إضافة الصفة للموصوف، أي: بالثمر اليانع، "وأفجر" -بضم الجيم "له" للراعي "الثمد" -بمثلثة مفتوحة وميم ساكنة وتفتح- الماء القليل، أي: كثره للراعي، وإذا كثر له كثر لغيره، فافجر مجاز عن معنى التكثير للزومه له غالبًا، "وبارك له في المال والولد"، عطف على ما قبله، أو على بارك الأوّل، والمال كل ما يتموّل ويُمْلَك، وهو في كلام العرب في الأكثر يُخْتَصُّ بالإبل، ويجوز إرادة كلٍّ منهما هنا, "من أقام الصلاة كان مسلمًا"، أي: كاملًا، كقوله: "المسلم من سَلِمَ المسلمون من يده ولسانه"، أو المراد: يحكم بإسلامه الظاهر، أو المراد: الحث على إقامة الصلاة، أي: المداومة والمحافظة عليها، أو هو على ظاهره؛ لأنَّ مَنْ تَرَكَها مستحلًّا لتركها كَفَر، أو لأنَّ تاركها كافر في قول كثيرين منهم أحمد، وهو في حكم الكافر؛ لأنه يقتل، "ومن آتى" بالمد، أعطى وأدَّى "الزكاة كان محسنًا"، منعمًا متفضِّلًا على الفقراء، أو إتيانًا بأمر حسن، مطلوب في الدين، "ومن شهد أن لا إله إلا الله"، أي: أتى بكلمة التوحيد وأعلن بها، "كان مخلصًا" في إيمانه؛ لأن الظاهر مطابقة قوله لما في قلبه حملًا لأحوال المؤمن على الصلاح, والمراد بالإخلاص عدم النفاق.
وقيل: المراد من قال كلمة الشهادة، وهي لا إله إلا الله محمد رسول الله، كما يقال: قرأت {حم ?, وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ} ، أي: السورة بتمامها, "لكم يا بني نهد ودائع الشرك" لكم خير مقدَّم للاهتمام، لا للحصر القلبي، بناءً على ما يأتي من تفسيره، وجملة النداء معترضة لبيان المخاطب, "ووضائع الملك"، بكسر الميم، على تفسيره الآتي: ما يلزم الناس في أموالهم من زكاة وصدقة، أي: يلزمكم من غير زيادة ولا نقص، أو بضم الميم، أي: ما كان ملوك الجاهلية يوظّفونه على الرعايا، ويستأثرون به من غنائم الحروب, لا يؤخذ منكم، فهو لكم "لا تلطط" -بضم الفوقية، وإسكان اللام، وكسر الطاء الأولى- مجزوم على النهي، "في الزكاة" متعلّق به، أي: لا تمنعها، "ولا تلحد" -بضم التاء والجزم، "في الحياة" , من أَلْحَدَ إذا جارَ وعدل عن الحق، أي: لا تملْ عن الحق ما دمت حيًّا، "ولا تتثاقل" بالجزم أيضًا، أي: لا تتوان وتتكاسل، "عن الصلاة" , كناية(5/410)
ولا تتثاقل عن الصلاة".
ثم كتب معه كتابًا إلى بني نهد: "بسم الله الرحمن الرحيم, من محمد رسول الله إلى بني نهد بن زيد، السلام على من آمن بالله -عز وجل- ورسوله، لكم يا بني نهد في الوظيفة الفريضة، ولكم الفارض والفريش، وذو العنان الركوب، والفلو الضبيس، لا يمنع سرحكم، ولا يعضد طلحكم، ولا يحبس دركم ما لم تضمروا الإماق، وتأكلوا الرباق، من أقرَّ بما في هذا الكتاب فله من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الوفاء بالعهد
__________
عن تركها، كأنَّ عليه ثقلًا يمنعه عن الحركة إليها، والخطاب في الثلاثة لطهفة، فأفرده بعد خطاب الجماعة بقوله: "يا بني نهد" لجواز أنه ذكَّرهم به حال خطابه لطهفة، ويدل عليه قوله: "ثم كتب معه كتابًا إلى بني نهد: "بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى بني نهد بن زيد، السلام على من آمن بالله -عز وجل- ورسوله, لكم يا بني نهد في الوظيفة" -بظاء معجمة وفاء- بزنة سفينة، وجمعها وظائف، ووظف كسفن, "الفريضة ولكم الفارض" -بالفاء والعين المهملة، "والفريش" -بالفاء المعجمة، "وذو العنان" -بالكسر، "الركوب" -بفتح الراء والرفع- صفة، ذو روي بالجر صفة العنان، "والفلوّ" -بفتح الفاء وضم اللام، وشد الواو- المهر الصغير, سُمِّيَ فلوًّا؛ لأنه يفلي عن أمه، أي: يقطع بالفطام عنها.
قال الجوهري: يقال: فلوته إذا قطعته، وعن أبي زيد: إذا افتحت الفاء شدَّدت الواو، وإذا كسرتها خفَّفت، فقلت: فلو كجرو، وفي القاموس: الفلو -بالكسر- وكعدو وسموا الجحش والمهر طمًا، أو بلغا السنة, "الضبيس" -بمعجمة، وإهمالها وهم "لا يمنع سرحكم، ولا يعضد طلحكم" -بفتح المهملة، وسكون اللام ومهملة- شجر عظيم يقال له: العضاء، وأم غيلان، وكل شجر له شوك، والمراد: لا يقطع لكم شجر طلحًا، أو غيره، وخصَّه؛ لأنه لا ثمر له، فإذا منع من قطعه علم عدم قطع غيره بالأَوْلَى، "ولا يحبس دركم" -بفتح الدال، وشد الراء المهملتين- أصل, معناه: اللبن، والمراد به هنا: الأنعام ذوات الدر، أي: لا تمنع عن المرعى "ما لم تضمروا" تخفوا، أو تكتموا "الإماق" -بهمزة مكسورة وميم ساكنة، وهمزة ممدودة تليها قاف- بزنة الإكرام، أي: الغدر والبغض، وقد تخفف همزته، كما في التلمساني، ويأتي للمصنف أن في رواية الرماق -بكسر الراء والميم، قيل: وهي التي اتفق عليها شرَّاح الشفاء، ومحشوها، "وتأكلوا الرباق" -براء وموحدة خفيفة وقاف، جمع ربقة، "من أقَرَّ بما في هذا الكتاب فله من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الوفاء بالعهد"، أل عهدية، أي: ما عاهدهم عليه في كتابه هذا، أو ما علم من عهود الإسلام، "والذمَّة" بمعنى: العهد(5/411)
والذمّة، ومن أبى فعليه الربوة".
وتحتاج هذه الألفاظ البالغة أعلى أنواع البلاغة إلى التفسير:
فالميس: شجر صلب تعمل منه أكوار الإبل ورحالها.
ونستحلب -بالحاء المهملة- الصبير: بفتح الصاد المهملة وكسر الموحَّدة، وهو سحاب أبيض متراكب متكاثف, أي: نستدرّ السحاب.
ونستحلب -بالخاء المعجمة، الخبير -بالخاء المعجمة- أيضًا ثم الموحدة: النبات والعشب، شبه بخبير الإبل وهو وبرها، واستخلابه: احتشاشه بالمخلب، وهو المنجل، والخبير: يقع على الوبر والزرع والأكار, قاله ابن الأثير.
__________
والأمان والضَّمان والحرمة والحق، والمراد: الأوَّلان, سُمِّيَت ذمَّة؛ لأن تركها يوجب الذمّ، ثم سُمِّيَ محل الالتزام بها في قول الفقهاء ثبت في ذمّته، كذا قال القرافي في قواعده: لم يعرف أكثر الفقهاء معناها، وحقيقتها حتى ظنَّوا أنها أهلية المعاملة، أو صحّة التصرف، وليس كذلك؛ لأن كلًّا يوجد بدون الآخر، وهي عبارة عن معنى مقدّر في المكلف، قابل للالتزام واللزوم، مسبّب عن أشياء خاصة في الشرع، وهي البلوغ والرشد وعدم الحجر، وهي من خطاب الوضع، "ومن أبى" امتنع من قبول العهد، أو نقضه بعد قبوله ودخوله فيه من منع الزكاة، "فعليه الربوة" -مثلث الراء ساكن الموحدة.
"وتحتاج هذه الألفاظ البالغة أعلى أنواع البلاغة إلى التفسير، فالميس -بفتح الميم، وسكون التحتية، "شجر صلب يعمل منه أكوار الإبل ورحالها" عطف تفسير، ففي القاموس: الكور -بالضم- الرحل، أو بأدواته، "ونستحلب -بالحاء المهملة- الصبير -فتح الصاد المهملة، وكسر الموحدة- وهو سحاب أبيض متراكب، متكاثف"، كأنَّ بعضه صبر على بعض، أي: حبس، "أي: نستدر السحاب"، أي: نطلب نزول دره، وهو المطر، "ونستخلب -بالخاء المعجمة- الخبير -بالخاء المعجمة- أيضًا، ثم الموحدة: النبات والعشب"، خاص على عام، "شبّه بخبير الإبل، وهو وبرها"، فهو مجاز، "واستخلابه احتشاشه بالمخلب، وهو المنجل" بكسر الميم- الآلة المعروفة، "والخبير يقع على الوبر والزرع، والأكار" الزراع، ومنه المخابرة، وهي المزارعة ببعض ما يخرج من الأرض، "قاله ابن الأثير" في النهاية، والمراد هنا الزرع، أي: النبات.
قال الجوهري: وفي الحديث: "نستخلب الخبير"، أي: نقطع النبات ونأكله. انتهى، ثم ظاهر قوله يقع أنه حقيقة لغوية في كلّ، وهو ظاهر إطلاق القاموس والصحاح، فيخالف قوله شبه(5/412)
ونستعضد البرير: أي: نقطعه ونجنيه من ثمره للأكل، وهو بموحَّدة وراءين بينهما مثناة تحتية: ثمر الأراك إذا اسودَّ وبلغ, وقيل: هو اسم له في كل حال، وكانوا يأكلونه في الجدب.
ونستخيل -بالخاء المعجمة- الرهام -بكسر الراء: وهي الأمطار الضعيفة، واحدتها رهمة، أي: نتخيّل الماء في السحاب القليل، وقيل: الرَّهْمَة أشدّ وقعًا من الديمة.
ونستجيل -بالجيم- أي: نراه جائلًا يذهب به الريح ههنا وههنا.
والجهام -بالجيم- أي: السحاب الذي فرغ ماؤه.
ومن روى نستخيل -بالخاء المعجمة بدل الجيم- فهو نستغفل من "خلت، أخال" إذا ظننت، أراد لا نتخيّل في السحاب حالًا إلّا المطر, وإن كان جهامًا لشدة حاجتنا إليه، ومن رواه بالحاء المهملة -وهو الأشهر- أراد: لا ننظر من السحاب في حال إلّا إلى جهام من قلة المطر.
__________
بخبير الإبل، اللهمَّ إلّا أن يريد يقع مجازًا فلا تخالف، "ونستعضد البرير" أي: نقطعه"، فالسين للتأكيد، "ونجنيه من ثمره للأكل، وهو بموحَّدة وراءين، بينهما مثناة تحتية، ثمر الأراك إذا اسودَّ وبلغ، وقيل: هو اسم له في كل حال"، وإن لم يسود ويبلغ، "وكانوا يأكلونه في الجدب" لقلة الزاد، "ونستخيل"، بالخاء المعجمة: الرِّهام -بكسر الراء، وهي الأمطار الضعيفة" الدائمة، كما في القاموس، "واحدتها رهمة" بكسر الراء، وتجمع أيضًا على رهم كعنب، كما في القاموس "أي: نتخيّل الماء في السحاب القليل، وقيل: الرهمة أشدّ وقعًا من الديمة" المطر، "ونستجيل" بالجيم، أي: نراه جائلًا يذهب به الريح ههنا وههنا، والجهام بالجيم" المفتوحة، "أي: السحاب الذي فرغ ماؤه"، كذا فسره ابن الأثير، وهو أحد قولين حكاهما المجد، فقال: الجهام السحاب لا ماء فيه، أو قد هرق ماءه، وجزم الجوهري بأوّلهما، وقد يكون أنسب هنا، "ومن روى: نستخيل -بالخاء المعجمة- بدل الجيم، فهو نستفعل"، ذكره لبيان مأخذه، وإلا فوزنه كذلك على الرايات الثلاث، "من خِلْتُ أخال إذا ظننت, أراد: لا نتخيل في السحاب حالًا إلّا المطر، وإن كان جهامًا لشدة حاجتنا إليه"، فنظنّ ما لا وجود له موجودًا، "ومن رواه بالحاء المهملة، لا بمعجمة، ولا جيم، "وهو الأشهر، أراد: لا ننظر من السحاب في حال إلّا إلى جهام من قلة المطر"، فقده بعد وجوده، أو عدم وجوده أصلًا، وهذا كله لفظ النهاية، "وأرض(5/413)
وأرض غائله -بالغين المعجمة- والنطاء -بكسر النون- أي: مهلكة للبعد، يقال: بلد نطي، أي: بعيد، ويروى المنطأ وهو مفعل منه.
والمدهن: نقرة في الجبل.
والجعثن: بالجيم والمثلثة، أصل النبات، ويقال: أصل الصليان خاصّة, وهو نبت معروف.
والعسلوج: بضم العين وبالسين المهملتين، آخره جيم، وهو الغصن إذا يَبِسَ وذهبت طراوته، وقيل: هو القضيب الحديث الطلوع، يريد أن الأغصان يبسن وهلكت من الجدب، وجمعه، عساليج.
والأملوج: بالضم والجيم، وَرَق شجر يشبه الطرفاء والسرو، وقيل: هو ضرب من النبات ورقه كالعيدان، وقيل: هو نوى المقل. وفي رواية: وسقط الأملوج من البكارة -بالكسر- جمع البكرة -بالفتح, يريد أن السمن الذي قد علا بكارة الإبل بما رعت
__________
غائلة -بالغين المعجمة، والنطاء -بكسر النون- أي: مهلكة" بيان لغائلة، "للبعد، يقال: بلد نطي، أي: بعيد، ويروى: المنطأ، وهو مفعل منه".
فالروايتان بمعنًى، "والمدهن نقرة في الجبل"، كما قال ابن الأثير، ويخالفه قول القاموس: المدهن -بالضم- آلة الدهن، وقارورته, شاذّ ومستنقع الماء، أو كل موضع حفره سيل، ومنه حديث طهفة: نشف المدهن، اللهمَّ إلا أن يريد بنقرة الجبل ما حفره السيل مما اعتيد حفره فيه، وهو كناية عن جفاف الماء في جميع نواحيهم، "والجعثن -بالجيم والمثلثة" المكسورتين -بينهما مهملة ساكنة آخره نون، "أصل النبات" مطلقًا، "ويقال: أصل الصليان" -بكسرتين مشدَّدة اللام، واحدته بهاء، ذكره القاموس في باب اللام، "خاصَّة, وهو نبت معروف، والعسلوج -بضم العين وبالسين المهملتين، آخره جيم- وهو الغصن إذا يبس وذهبت طراوته، وقيل: هو القضيب الحديث" الجديد "الطلوع، يريد أن الأغصان يبسن وهلكت من الجدب، وجمعه: عساليج، والأملوج -بالضم" بالألف واللام "والجيم" آخره: "ورق شجر يشبه الطرفاء والسرو، وقيل: هو ضرب من النبات ورقه كالعيدان، وقيل: هو نوى المقل".
قال في القاموس: بالضم، إلى أن قال: ثمر الدوم، "وفي رواية: وسقط الأملوج من البكارة -بالكسر- جمع البكرة -بالفتح" للباء", يريد أن السمن الذي قد علا بكارة الإبل بما رعت(5/414)
من هذه الشجرة قد سقطت عنها، فسمَّاه باسم المرعى؛ إذ كان سببًا له.
وهلك الهدي -بفتح الهاء وكسر الدال المهملة والتشديد- كالهدي بالتخفيف، وهو ما يهدى إلى البيت الحرام من النعم لينحر، فأطلق على جميع الإبل وإن لم تكن هديًا، تسمية للشيء ببعضه، يقال: كم هدي بني فلان؟ أي: كم إبلهم.
ومات الوديّ: بالتشديد، فسيل النخل، يريد: هلكت الإبل ويبست النخل.
وبرئنا إليك من الوثن والعنن، الوثن: الصنم، والعنن: الاعتراض، يقال: عنَّ لي شيء, أي: اعتراض، كأنه قال: برئنا إليك عن الشرك والظلم، وقيل: أراد به الخلاف والباطل.
وما طمي البحر: أي: ارتفع بأمواجه.
وتعار -بكسر التاء المثناة الفوقية- يصرف ولا يصرف، اسم جبل.
ولنا نعم همل: أي: مهملة لا رعاء لها، ولا فيها ما يصلحها ويهديها، فهي كالضالة.
والإبل الأغفال: لا لبن فيها
__________
من هذه الشجرة، قد سقط عنها، فسمَّاه باسم المرعى؛ إذ كان سببًا له"، فهو مجاز، "وهلك الهدي -بفتح الهاء، وكسر الدال المهملة، والتشديد- كالهدي بالتخفيف، وهو ما يهدى إلى البيت الحرام من النعم لينحر، فأطلق على جميع الإبل، وإن لم تكن هديًا" لصلوحها له، "تسمية للشيء ببعضه، يقال: كم هدي بني فلان، أي: كم إبلهم، ومات الوديّ -بالتشديد" للياء- "فسيل النخل, يريد: هلكت الإبل، ويبست النخل، وبرئنا إليك من الوثن والعنن، الوثن: الصنم، والعنن: الاعتراض، يقال: عنَّ لي شيء، أي: اعتراض، كأنَّه قال: برئنا إليك من الشرك والظلم، وقيل: أراد به الخلاف والباطل، وما طمي البحر" -بالطاء المهملة "أي: ارتفع بأمواجه, وتعارّ -بكسر المثناة الفوقية" بعدها عين مهملة، فألف، فراء- بزنة كتاب "يصرف، ولا يصرف"، بالاعتبارين, البقعة والمكان "اسم جبل" ببلاد قيس، كما في القاموس، "ولنا نعم همل" -بفتحتين وبضم أوله، وشد الميم مفتوحة- جمع هامل مثل: راكع وركع، كما في المصباح والقاموس، "أي: مهملة لا رعاء لها، ولا فيها ما يصلحها ويهديها، فهي كالضالة، والإبل الأغفال لا لبن فيها"، جمع غفل -بالمعجمة والفاء.(5/415)
وقوله -عليه الصلاة والسلام: "اللهمَّ بارك لهم في محضها" -بالحاء المهملة والضاد المعجمة- أي: خالص لبنها.
"ومخضها" -بالمعجمتين: ما مخض من اللبن وأخذ زبده.
"ومذقها" -بفتح الميم وسكون المعجمة وبالقاف- أي: ممزوج بالماء.
"وابعث راعيها في الدثر" -بالمهملة المفتوحة ثم المثلثة الساكنة ثم الراء: المال الكثير، وقيل: الخصب والنبات الكثير.
"وافجر له الثمد" -بفتح المثلثة: الماء القليل، أي: صيّره كثيرًا.
"وودائع الشرك" , قيل: المراد بها العهود والمواثيق، يقال: توادع الفريقان إذا أعطى كل واحد.
__________
"وقوله -عليه الصلاة والسلام: "اللهمَّ بارك لهم في محضها" -بالحاء المهملة، والضاد المعجمة- أي: خالص لبنها، ومادَّته كلها تدل على الخلوص والصفاء، ومنه: محض الإيمان، ومحض الود، وعربي محض، ونحو ذلك، "ومخضها" -بالمعجمتين- ما مخض من اللبن وأخذ زبده"، وأصله تحريك السقاء الذي فيه اللبن حتى يتميّز زبده فيؤخذ منه، ويسمَّى ذلك اللبن المأخوذ زبده: مخيضًا، وهو صفة لا مصدر ميمي، "ومذقها" بفتح الميم، وسكون المعجمة، وبالقاف- أي": لبنها، وهو "ممزوج بالماء"، وأصل معناه الخلط والمزج، ثم استعمل في اللبن المخلوط بالماء، قال: جاءوا بمذاق هل رأيت الذئب قط، والضمائر راجعة لأرضهم أو لأنعامهم المذكورة في كلام طهفة، فدعا المصطفى لهم بالبركة في ألبانهم بأقسامها، ما كان خالصًا لم يتميز زبده، وما خرج بالماء، ومجموعه كناية عن خصب أرضهم وسقيها، فإن الألبان إنما تكثر بنبات المرعى، وهو إنما يكون بالمطر المخلوط، فكأنه قال: "اللهم اسق بلادهم، واجعلها مخصبة ملبنة"، ويدل عليه قوله: "وابعث راعيها في الدثر -بالمهملة المفتوحة، ثم المثلثة الساكنة"، ويجوز فتحها، "ثم الراء: المال الكثير"، وقيل: الخصب والنبات الكثير"؛ لأنه من الدثار وهو الغطاء؛ لأنها تغطي وجه الأرض، "وافجر" بضم الجيم، "له الثمد -بفتح المثلثة"، وإسكان الميم، وتفتح- كما في القاموس، "الماء القليل" لا مادَّة له، أو ما يبقى في الجلد، أو ما يظهر في الشتاء، ويذهب في الصيف، كما في القاموس، "أي: صيره كثيرًا"، فافجر مجاز عن التكثير للزومه له غالبًا، "وودائع الشرك"، قيل: المراد بها: العهود والمواثيق"، التي كانت بينهم وبين من جاورهم من الكفَّار في المهادنة، "يقال: توادع الفريقان إذا أعطى كل واحد(5/416)
منهم عهده للآخر لا يغزوه، وقيل: المراد ما كانوا استودعوه من أموال الكفَّار الذين لم يدخلوا في دين الإسلام، أراد إحلالها لهم؛ لأنها مال كافر قدر عليه من غير عهد ولا شرط.
"ووضائع الملك" جمع وضيعة، وهي الوظيفة التي تكون على الملك، وهو ما يلزم الناس في أموالهم من الزكاة والصدقة، أي: لكم الوظائف التي تلزم المسلمين لا تتجاوز عنكم ولا نريد عليكم فيها شيئًا.
"ولا تلطط" بضم المثناة الفوقية، ثم اللام الساكنة ثم طاءان، الأولى مكسورة والثانية مجزومة على النهي، أي: لا
__________
منهم عهده للآخر لا يغزوه"، ويسمَّى ذلك العهد وديعًا بلا هاء، فيقال: أعطيته وديعًا، أي: عهدًا، قيل: والظاهر أن المراد عهودهم الواقعة بينهم بعد الحروب، بعدم المؤاخذة بما قتلوا، وإن ما أراقوا من الدماء هدر، كما في الحديث الآخر: "كل دم في الجاهلية تحت قدمي هذه"، أي: متروك هدرًا، "وقيل: المراد ما كانوا استودعوه من أموال الكفَّار الذين لم يدخلوا في دين الإسلام، أراد إحلالها لهم؛ لأنها مال كافر قدر عليه من غير عهد ولا شرط"، فهو فيء لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب، فهو على هذا جمع وديعة بالهاء، ولا ينافيه أنه -صلى الله عليه وسلم، لما هاجر خلَّف عليًّا لردِّ الوداع والأمانات التي كانت عنده؛ لأنه كان قبل حل الغنائم له، أو لأنَّه -صلى الله عليه وسلم- فَرَّ من نسبته للخيانة، وذهاب شهامته وأمانته، فيطعنوا في الإسلام، ويبعدوا من الإيمان.
"ووضائع الملك" جمع وضيعة، بمعنى: موضوعة، "وهي الوظيفة التي تكون على الملك" بكسر الميم- ما يملك، "وهو ما يلزم الناس في أموالهم من الزكاة والصدقة، أي: لكم الوظائف التي تلزم المسلمين لا تتجاوز عنكم، ولا نريد عليكم فيها شيئا"، بل هم فيها، كسائر المسلمين، وقيل: الملك -بضم الميم، والمعنى: أن ما كان ملوك الجاهلية يوظفونه على الرعايا، ويستأثرون به من غنائم الحروب لا يؤخذ منكم، فهو لكم، فلام لكم على ظاهرها على التفسيرين الأخيرين للودائع، والوضائع، وعلى الأوَّلين بمعنى: علي كقوله: "وإن أسأتم فلها"، واعترض بأنَّ العهد إذا لزم الوفاء به يكون على المعاهد؛ لأنه فرض مطلوب منه، وعهود مهادنتهم قبل الإسلام لا يجب الوفاء بها بعده، والقائل: ظنَّ وجوب الوفاء، فجعل اللام بمعنى على، وليس كذلك؛ لأن عهد الكافر لا يُعْتَدُّ به، وإنما الوضائع بمعنى تكاليف الزكاة، فهي وإن ثقلت على بعضهم, لهم باعتبار الأجر عليها، لكنَّ هذا مبني على تفسيره، وليس بمتعَيِّن، كما علم، "ولا تلطط" بضم المثناة الفوقية ثم اللام الساكنة ثم طاءان" بعدها الأولى، ثم طاءين "الأولى مكسورة، والثانية مجزومة"، فيه مسامحة؛ إذ الجزم صفة للفعل بتمامه، فالمراد: ساكنة "على النهي، أي: لا(5/417)
تمنعها.
"ولا تلحد في الحياة" بضم المثناة الفوقية وإسكان اللام وكسر الحاء المهملة وآخره دال مهملة، أي: لا تمل عن الحق ما دمت حيًّا. قال بعضهم: كذا رواه القتيبي: لا وتلطط ولا تلحد على النهي للواحد، ولا وجه له؛ لأنه خطاب الجماعة، ورواه غيره: ما لم يكن عهد ولا موعد ولا تثاقل عن الصلاة، ولا تلطط في الزكاة وتلحد في الحياة. قال الحافظ أبو السعادات الجزري، وهو الوجه؛ لأنه خطاب للجماعة واقع على ما قبله.
__________
تمنعها".
قال ابن الأعرابي: لط الغريم إذا منعه حقَّه، وأصله من لطت الناقة فرجها بذنبها, إذا ضمته عليه، وقد أرادها الفحل، وفي شعر الأعشى في امرأته حين نشزت:
أخلفت الوعد ولطت بالذنب ... وهنّ شر غالب لمن غلب
"ولا تلحد في الحياة" بضم المثناة الفوقية، وإسكان اللام، وكسر الحاء المهملة، آخره دال مهملة" مجزوم، "أي: لا تمل عن الحق ما دمت حيًّا"، من ألحد إلحادًا، إذا جار وعدل عن الحق، وأصله مطلق العدول، ويقال: لحد قليلًا، "قال بعضهم: كذا رواه القتيبي" بضم القاف، وفتح الفوقية، وإسكان التحتية، وبالموحدة- عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري نسب إلى جده، "ولا تلطط، ولا تلحد" على النهي للواحد، ولا وجه له؛ لأنه خطاب الجماعة" المذكورين في قوله: "لكم يا بني نهد"، "ورواه غيره" عقب قوله: "وضائع الملك" , "ما لم يكن عهد ولا موعد، ولا تثاقل عن الصلاة، ولا تلطط"، بزنة تفعل، "في الزكاة، وتلحد في الحياة"، باسم المصدر، وشَدّ العين في الثلاث.
"قال الحافظ أبو السعادات الجزري"، وهو ابن الأثير في النهاية: "وهو" أي: المروي عن غير القتيبي، "الوجه" الواضح؛ "لأنه خطاب للجماعة واقع على ما قبله"، وتلك الرواية جاءت على غير أسلوبه، لتوجّه الخطاب الواحد من بينهم، فقياسه: ولا تلططوا ولا تلحدوا، ولذا ضبطه ابن رسلان: لا نلطط، ولا نلحد -بالنون فيهما, من باب: نهى الإنسان نفسه لينتهي غيره، ولكن قد أجيب رواية القتيبي؛ بأن الخطاب لمن تلقَّى الكلام من النبي -صلى الله عليه وسلم- من بين جميع المخاطبين ابتداءً، ونظيره: {ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} ، حيث خوطب المتلقي بلفظ ذلك، ولم يقل: ذلكم، وتخصيص واحد من الحاضرين بخطاب النهي للتعريض بالباقين، والصَّوْن لهم عن توجه صيغة النهي إليهم، رجاء الانقياد للامتثال بألطف وجه، أو الخطاب لهم برمتهم(5/418)
وقوله: "ولا تتثاقل عن الصلاة" أي: لا تتخلف.
"والوظيفة" الحق الواجب.
"والفريضة" أي: الهرمة المسنة، أي: لا تأخذ في الصدقات هذا الصنف, كما أنا لا نأخذ خيار المال.
"والفارض" -بالفاء والضاد المعجمة: المريضة.
"والفريش" -بفتح الفاء آخره شين معجمة- وهي من الإبل, كالنفساء من بنات آدم، أي: لكم خيار المال وشراره، ولنا وسطه.
__________
أولًا، ثم توجَّه لواحد في المجلس، فنهاه تعريضًا بهم، أو نهاهم نهي غيبة تنزيلًا لهم منزلة الغائبين، أي: لا تلطط ولا تلحد هي، والضمير لبني نهد، وبنون، وإن كان جمع مذكر سالم، لا يعود له ضمير المؤنث، ولا تلحقه التاء، فلا يقال: الزيدون قامت، ولا قامت الزيدون، إلّا أنه لما غُيِّرَ مفرده عند جمعه أشبه التكسير، فأُعْطِيَ حكمه، فجاز إلحاق التاء بفعله نحو: قامت البنون، ومنه: {إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ} ، فيجوز البنون قامت، وتقوم بتاء التأنيث، "وقوله: "لا تتثاقل"، بالجزم نهي للواحد، وفيه ما مَرَّ, "عن الصلاة"، أي: لا تتخلَّف" عنها وتتركها بجعل التناقل كناية عن ذلك، كأنَّ عليه ثقلًا يمنعه عن الحركة إليها، "والوظيفة" الحق الواجب، "والفريضة" أي: الهرمة المسنة لفرضها سنها، أي: قطعها له، أو لانقطاعها عن العمل، والانتفاع بها، "أي: لا تأخذ في الصدقات هذا الصنف، كما أنَّا لا نأخذ خيار المال والفارض -بالفاء والضاد المعجمة- المريضة" فهي لكم، لا نأخذها في الزكاة أيضًا، هكذا ضبطه البرهان الحلبي وغيره بالفاء، وضبطه التحاني بالعين مهملة بدل الفاء، وذكره الشمني أيضًا، وفسروه بالناقة التي يصيبها كسر ومرض، فهي باقية لأصحابها لا تؤخذ في الزكاة، وفي الغريبين: الفارض بالفاء، وقيل: بالعين, التي أصابها كسر، يقال: عرضت الناقة إذا أصابها آفة أو كسر، وبنو فلان أكالون للعوارض إذا لم ينحروا إلا ما أصابه مرض أو كسر، خوفًا أن يموت فلا ينتفعون به.
والعرب تعيِّر بأكله، "والفريش" -بفتح الفاء، وكسر الراء، وتحتية ساكنة، "آخره شين معجمة، وهي من الإبل" الحديثة العهد بالنتاج، "كالنفساء من بنات آدم، أي: لكم خيار المال"، كالفريش، لأنها لبون نفيسة، "و" لكم، "شراره"، كالفريضة والفارض، "ولنا وسطه" رفقًا بالفريقين، وقيل: الفريش ما لا يطيق حمل الأثقال من الإبل لصغره، يقال: فرش وفريش بمعنًى، وإن كان المشهور فرش، قال تعالى: {وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا} [الأنعام: 142] ، وعلى هذا،(5/419)
"وذو العنان" بكسر العين- سير اللجام.
"والركوب" بفتح الراء- أي: الفرس الذلول.
"والضبيس" بفتح المعجمة وكسر الموحدة آخره مهملة- المهر العسر الصعب.
امتنَّ عليهم بترك الصدقة في الخيل جيدها ورديئها.
"ولا يمنع" بضم المثناة التحتية وفتح النون- سرحكم -بفتح السين المهملة وسكون الراء وبالحاء المهملة- ما سرح من المواشي، أي: لا يدخل عليكم أحد في مراعيكم.
"ولا يعضد طلحكم" أي: لا يقطع.
"ولا بحبس دركم" أي: لا تحبس ذوات الدر عن المرعى إلى أن تجتمع
__________
فالمعنى لا تؤخذ لحسنها، "وذو العنان" بكسر العين"، ونونين، بينهما ألف "سير اللجام، "والركوب" بفتح الراء، أي: الفرس الذلول"، أي: المذلَّل المركوب، قال تعالى: {فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ} [يس: 72] ، ووصفه بذي العنان في محله، أي: لا تؤخذ الزكاة من الفرس المعَدّ لركوب صاحبه، "و" الفلوّ: "الضبيس" بفتح المعجمة، وكسر الموحدة، وسكون التحتية، "آخره" سين "مهملة: المهر العسر" الركوب، "الصعب" وهو من رجال كذلك، كأنه كنَّى به عن صغره، ولو عطف كان المراد به الحرون إلّا أنه وقع بلا عطف، "امتَنَّ عليهم بترك الصدقة في الخيل جيدها"، وهو ذو العنان الركوب "ورديئها"، وهو الغلوّ الضبيس، أي: أظهر المنَّة عليهم بذلك، وإلا فعدم زكاة الخيل إنما يقوله المصطفى بالوحي، " "ولا يمنع" -بضم المثناة التحتية، وفتح النون- "سركم" بفتح السين المهملة، وسكون الراء، وبالحاء المهملة، ما سرح من المواشي، أي: لا يدخل عليكم أحد في مراعيكم"، وأصل السرح: الماشية التي تسرح بالغداة للمرعى، والمراد: إن مطلق الماشية لا تمنع عن مرعاها، يقال: سرحت تسرح، إذا خرجت للمراعى، وفعله يتعدَّى ولا يتعدّى، فإذا رجعت، قيل: أراحت، قال تعالى: {حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ} [النحل: 6] ، وهذا كقوله في كتابه للكندي: لا تعدل سارحتكم وفاردتكم من مرعى، إلا أن عبَّر فيه بالساحة لمشاكلة الفاردة، كما عَبَّر هنا بالسرح لمشاكلة قوله: "ولا يعضد طلحكم"، أي: لا يقطع" من عضده إذا قطعه، والمعنى: لا يقطع شجركم طلحًا أو غيره؛ لأنه إذا نهى عن قطع الطلح الذي لا ثمر له، فغيره أولى، وقد تقدَّم، "ولا يحبس دركم، أي: لا تحبس ذوات الدر عن المرعى إلى أن تجتمع الماشية، ثم تعد"، أي:(5/420)
الماشية ثم تعد، أو أنَّ معناه أن لا نأخذها لما في ذلك من الأضرار.
"والإماق" -بالميم- أي: ما لم تضمروا الغيظ، والبكاء، مما يلزمكم من الصدقة، قاله في القاموس. وقال الزمخشري: المراد إضمار الكفر والعمل على ترك الاستبصار في دين الله، وفي رواية: الرماق -بالراء والميم- أي: النفاق، يقال: رامقته رماقًا، وهو أن تنظر إليه شزرًا نظر العداوة، يعني: ما لم تضق قلوبكم عن الحق، يقال: عيش رماق، أي: ضيق، وعيش رمق، ومرفق: أي ممسك الروح، والرمق: بقية الروح وآخر النفس.
"وتأكلوا الرباق" -بكسر الراء وبالموحدة المخففة- أي: إلا أن تنقضوا العهد، واستعار الأكل لنقض العهد؛ لأن البهيمة إذا أكلت الربق -وهو الحبل, يجعل فيه عرى وتشد به- خلصت من الرباط.
__________
بعدها الساعي، لما فيه من ضرر صاحبها بعدم رعيها ومنع درها عنه، والقصد: الرفق بمن تؤخذ منهم الزكاة بعدم حبسها، وروي: لا تحشر، أي: لا تجمع في مكان عند الساعي، لما فيه ضرر ربها, فهما بمعنًى، "أو أنَّ معناه: أن لا نأخذها لما في ذلك من الإضرار"، بأخذ الكرائم، "والإماق" بالميم الساكنة، بين همزتين، أولاهما مكسورة، والثانية ممدودة تليها قاف، وقد تخفف همزته- "أي: ما لم تضمروا الغيظ، والبكاء مما يلزمكم من الصدقة، قاله في القاموس"، وقال غيره: معناه الغدر والبغض.
"وقال الزمخشري" في الفائق: "المراد إضمار الكفر، والعمل على ترك الاستبصار في دين الله"، مع إظهار خلافه، فهو نفاق، "وفي رواية: الرماق -بالراء" المكسورة، "والميم"، وهي التي وجدت بخط عياض، واتفق عليها شراحه محشوه، أي: النفاق، "يقال: رامقته رماقًا، وهو أن تنظر إليه شزرًا" بمعجمتين، ثم راء، "نظر العداوة، يعني: ما لم تضق قلوبكم عن الحق، يقال: عيش رماق، أي: ضيق" عن مسك الرمق: بقية الروح، "وعيش رمق، ومرفق، أي: مسك الروح، والرمق بقية الروح وآخر النفس، "وتاكلوا الرباق" بكسر الراء، وبالموحدة المخففة، أي: إلّا أن تنقضوا العهد، واستعار الأكل لنقض العهد"، استعارة تصريحية أو تمثيلية، شبَّه ما يلزم من العهد بالرباق، واستعار الأكل لنقضه؛ "لأن البهيمة إذا أكلت الربق، وهو الحبل يجعل فيه عرى، وتشد به"، جملة معترضة، لبيان معنى الربق "خلصت من الرباط"، وما مصدرية ظرفية قيد لما قبله، أو الجميع ما تقدَّم، والمعنى: هذا أمر مقدَّم عليكم منا، ما لم تنقضوا العهد، وترجعوا عن الإسلام،(5/421)
"والربوة" -بكسر الراء وفتحها وضمها- أي: الزيادة. يعني: من تقاعد عن إعطاء الزكاة فعليه الزيادة في الفريضة عقوبة له.
فانظر إلى هذا الدعاء والكتاب الذي انطبق على لغتهم، وجاد وزاد عليها في الجزالة والبداوة, أين هذا من كتابه -صلى الله عليه وسلم- لأنس في الصدقة،
__________
فإن فعلتم، فعليكم ما على الكفرة، وهذا معنى حسن في ضمنه الترتيب؛ إذ المعنى ما لم تضمروا النفاق، ثم تظهروا نقض العهد، وقريب منه تفسيره بالغدر والعداوة؛ إذ إضمار ذلك نفاق، وأمَّا تفسير إضمار الرماق بإخفاء قطيع من الغنم عن الساعي، وذلك جناية تقتضي التضييق على ذي المواشي بحبسها عنهم، فهو متعلق على هذا بقوله: "لا حبس دركم"، وهو معنى صحيح لغة؛ إذ الرمق: القطيع من الغنم, فارسيّ معرَّب، قاله الجوهري, واعترض البرهان عليه, بأنه لم يره لغير الصحاح, وأخشى أن لا يكون أحد قاله قبله لا يليق، نعم المشهور في تفسيره ما مَرَّ.
"والربوة" بكسر الراء وفتحها وضمها" فهي مثلثة, والاقتصار على عضها تقصير، "أي: الزيادة، يعني: من تقاعد عن إعطاء الزكاة فعليه الزيادة في الفريضة عقوبةً له"، قاله ابن الأثير، وهو صادق، بأي: زيادة كانت.
وقال التجاني: معناه: يؤخذ منه الفرض، ويزاد مثله، كما في الصحيحين، بعث -صلى الله عليه وسلم- عمر على الصدقة، فقيل: منع ابن جميل، وخالد بن الوليد، والعباس، فقال -صلى الله عليه وسلم: "ما ينقم ابن جميل إلّا أنه كان فقيرًا فأغناه الله، وأما خالد فإنكم تظلمونه، وقد احتبس أدراعه في سبيل الله, وأما العباس فهي عليه ومثلها معها"، وفي رواية البخاري: "فهي عليه صدقة، ومثلها معها"، أي: عليه صدقة واجبة تؤخذ منه, لا أنه يعطاها؛ لأنه لا يحل له الصدقة, انتهى باختصار, وفي ذا الحديث كلام يخرج عن المقصود، "فانظر" أي: أعرف وقف، بأيّ طريق كان "إلى هذا الدعاء" الذي دعا به لبني نهد، "والكتاب" الذي كتبه لهم، "الذي انطبق" اشتمل "على" موافقة "لغتهم"، من حيث المماثلة لها في غرابة الألفاظ، لا من حيث اشتماله على جميع الألفاظ التي يعرفونها لاستحالة ذلك، وأفرد ضمير انطبق كاللذين بعده، وهما جاد وزاد، والقياس التثنية باعتبار النوع؛ إذ هما نوع واحد وهو لغتهم، أو المراد: انطبق جاد وزاد كل من الدعاء والكتاب، "وجاد" أي: حسن في سبكه، وترتيب ألفاظه، وعدم الصعوبة في فهمه من حيث الأسلوب، فلم يخل بالفصاحة، "وزاد" فاق "عليها في الجزالة"، أي: حسن النظم والتأليف، وهي لغة، خلاف الركاكة "والبداوة"، أي: الوضوح، والظهور، فالعطف مغاير، ويحتمل أنه عطف علة على معلول، أي: جاد؛ لأنه زاد، والجاران والمجروران متعلقان بزاد، "أين هذا من كتابه -صلى الله عليه وسلم- لأنس في الصدقة"، أي: شأنها، أي: الزكاة، وقد تقدَّم، وهو استفهام تعجبي، ولم يقل أين هو، إشارة إلى(5/422)
وأين ذلك من كتابه بين قريش والأنصار, إنهم أمّة واحدة دون الناس من قريش على رباعتهم، يتعاقلون بينهم معاقلهم الأولى، ويفكون عافيهم بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وأن المؤمنين المتقين أيديهم على من بقى عليهم، أو ابتغى دسيعة ظلم، وأن سلم المؤمنين واحد على سواء وعدل بينهم، وأن كل غازية غزت يعقب بعضهم
__________
ظهوره، حتى صار كالمحسوس الذي استحقَّ أن يشار إليه إشارة حسية، "وأين ذلك من كتابه بين قريش والأنصار, إنهم"، بكسر الهمزة، أي: الأنصار "أمّة واحدة دون الناس" حال من اسم إنّ "من قريش"، صفة لأمّة بعد صفة، أي: جزء منهم، كأبنائهم وإخوانهم على نحو: "أنت مني بمنزلة هارون من موسى"، يعني: إن الأنصار دون غيرهم من الناس طائفة من قريش، فهو مبالغة في اتحادهم معهم، حتى كأنهم من نسلهم، "على رباعتهم" بكسر الراء- أي: على استقامتهم، يريد أنَّهم على أمرهم الذي كانوا عليه، ورباعة الرجل شأنه وحاله التي هو رابع عليها، أي: ثابت مقيم، قاله في النهاية، وهو خبر ثانٍ لأن, يعني: إن الأنصار مع قريش باقون على حالهم التي كانوا عليها من الإنجاد والمودَّة، "يتعاقلون بينهم معاقلهم الأولى"، يأتي بيانه، "ويفكون عافيهم" أي: أسيرهم؛ بأن يسعوا في خلاصه بمال، أو غيره، وكذا يخلصون من أصابه تعب، أو مشقَّة بحسب الطاقة "بالمعروف"؛ بحيث لا يرتكبون في ذلك محرمًا، بل يحافظون على إزالة تعب من أصابه مصيبة, مع رعاية قوانين الشرع.
"والقسط" بكسر القاف، اسم مصدر م أقسط إذا عدل، لا من قسط؛ لأن مصدره بالفتح, مشترك بين العدل والجور، والمراد هنا: العدل "بين المؤمنين، وأن المؤمنين المتقين أيديهم" قوتهم وسلطانهم بالقهر والغلبة، "على من بغى" تعدَّى "عليهم" وظلمهم، وقيد بالمتقين إشارةً إلى أن هذه حالة الكاملين، فمن اتصف بأصل الإيمان قد يرتكب الحرام، فيبغي ويخالف الحدود، فيمنع من ذلك، "أو ابتغى" طلب "دسيعة ظلم" بفتح الدال، وكسر السين المهملتين، فتحتية، فمهملة، ثم تاء التأنيث، أي: عظيمة من الظلم، فأضافه إليه على معنى من، ويجوز أن يراد بالدسيعة العطية، أي: ابتغى أن يدفع إليه عطية على وجه الظلم، أو أضافها للظلم؛ لأنها سبب الدفع، وقال أبو ذر: الدسيعة العطية، وهي ما يخرج من حلق البعير إذا رغا، فاستعاره هنا للعطية، وأراد به ما ينال من الظلم. ذكره في النور، "وإن سلم" بفتح السين وكسرها، يذكَّر ويؤنَّث- صلح "المؤمنين واحد على سواء، وعدل بينهم"، والمراد أن حالهم، وصفتهم حالة واحدة لا تختلف، بل هي على استقامة وعدل؛ بحيث لا يطلب أحد أن يتميز على غيره، "وإن كل" طائفة "غازية" اسم فاعل كراضية من غزا يغزو، وقصد العدوّ في بلاده، "غزت يعقب بعضهم(5/423)
بعضًا، ومن اعتبط مؤمنًا قتلًا فهو قَوْد إلّا أن يرضى ولي المقتول، ومن ظلم وأَثِمَ فإنه لا يوتغ إلا نفسه، وأولاهم بهذه الصحيفة البر المحسن".
كذا روي مختصرًا من حديث ابن شهاب.
وقوله: "دسيعة ظلم": أي عظيمة من الظلم.
"ورباعتهم" أمرهم القديم الذي كانوا عليه.
"ويتعاقلون بينهم معاقلهم الأولى" أي:
__________
"بعضًا"، أي: يكون الغزو بينهم نوبًا، كما يأتي، "ومن اعتبط" -بعين مهملة- أي: ذبح "مؤمنًا" بلا جناية "قتلًا" مفعول مطلق؛ لأنه نوع منه، "فهو قَوْدٌ" جواب الشرط، وكان الظاهر أن يقال: يقتص منه، فأقيم السبب وهو القود، أي: الانقياد مقام السبب، أي: القصاص، قاله الطيبي، وفي النهاية، أي: قتله بلا جناية كانت منه ولا جريرة توجب قتله، فإن القاتل يُقَادُ به ويقتل، وكلُّ من مات بغير علة فقد اعتبط، ومات فلان عبطه أي: شابًّا صحيحًا.
وحديث أبي داود: "من قتل مؤمنًا فاعتبط بقتله, لم يقبل الله منه صرفًا ولا عدلًا" جعله الخطَّابي من ذلك، فقال: أي: قتله ظلمًا لا عن قصاص، ومقتضى تفسير غيره؛ أنه من الغبطة -بالغين المعجمة- وهي الفرح والسرور وحسن الحال؛ لأن القاتل يفرح بقتل خصمه، فإذا كان المقتول مؤمنًا وفرح بقتله, دخل في هذا الوعيد. انتهى ملخصًا، وهما روايتان في حديث أبي داود، كما في المنضدة، قائلًا: ورواية الإهمال أولى؛ لأنَّ القاتل ظلمًا عليه القَوْد هبه فرح بقتله أو لا. انتهى، فأمَّا حديثنا هذا فبالمهملة لا غير، "إلّا أن يرضى" بضم أوله, رباعي, فاعله هو, أي: القاتل، ومفعوله "ولي المقتول" بالعفو مجانًا، أو على مال، فلا قود على القاتل، ويجوز أن يرضى -بفتح أوله- ثلاثي، وفاعله ولي، كذا ذكر الضبطين في النور.
قال الطيبي: وهذا استثناء في الحقيقة من المسبب، "ومن ظلم وأثم فإنه لا يوتغ" بضم التحتية، وكسر الفوقية، وغين معجمة- أي: يهلك "إلا نفسه، وأَوْلَاهم بهذه الصحيفة البَرّ" التقيّ الصادق المطيع، "المحسن، كذا روي مختصرًا من حديث ابن شهاب" محمد الظهري، وذكره ابن إسحاق مطولًا في نحو ورقتين في مبحث الهجرة.
قال ابن سيد الناس: وأسنده ابن أبي خيثمة عن عمرو المزني، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كتب كتابًا بين المهاجرين والأنصار، فذكره مطولًا بنحوه، "وقوله: "دسيعة ظلم"، أي: عظيمة من الظلم"، فالإضافة على معنى مِن، ومَرَّ قريبًا بسطه، "ورباعتهم" أمرهم القديم الذي كانوا عليه"، يقال القوم على رباعهم ورباعتهم، أي: استقامتهم، "ويتعاقلون بينهم معاقلهم الأولى" أي:(5/424)
يكونون على ما كانوا عليه من أخذ الديات وإعطائها، وهو تفاعل من العقل، والمعاقل: الديّات، جمع معقلة، يقال: بنو فلان على معاقلهم التي كانوا عليها، أي: على مراتبهم وحالاتهم.
"ولا يوتغ" أي: لا يهلك.
"ويعقب بعضهم بعضًا" أي: يكون الغزو بينهم نوبًا, فإذا خرجت طائفة ثم عادت لم تكلف أن تعود ثانية حتى يعقبها غيرها.
وأين هذا اللين في القول، وقرب المأخذ في اللفظ على طريق الحاضرة وعرف الجمهور المشهور أيضًا من كتابه لذي المشعار الهمداني، لما لقيه وفد همدان مقدمه من تبوك، فقال له مالك بن نمط: يا رسول الله، نصية.
__________
يكونون على ما كانوا عليه من أخذ الديّات وإعطائها، وهو تفاعل من العقل، والمعاقل: الديات, جمع معقلة" بضم القاف: الدية، كما في المختار، "يقال: بنو فلان على معاقلهم التي كانوا عليها، أي: على مراتبهم، وحالاتهم"، وهذا كله لفظ النهاية، "ولا يوتغ" أي: لا يهلك، يقال: وتغ وتغاو أوتغه غيره أهلكه، قاله أبو عبيد، "ويعقب بعضهم بعضًا"، أي: يكون الغزو بينهم نوبًا، فإذا خرجت طائفة ثم عادت، لم تكلف أن تعود ثانية حتى يعقبها غيرها"، بضم القاف، من باب: قتل، كما في المصباح، "وأين هذا اللين في القول، وقرب المأخذ في اللفظ على طريق الحاضرة، وعرف الجمهور المشهور"، استفهام تعجبي، "أيضًا من كتابه لذي المشعار" بكسر الميم، وإسكان الشين المعجمة، وعين مهملة، فألف فراء- كما صحَّحه الصغاني في الذيل قائلًا: لُقِّبَ بذلك لأنَّ المشعار موضع باليمن ينسب إليه، وتبعه في القاموس، فذكره في شعر -بالمعجمة بعدها مهملة.
وقال التلمساني: إنه بشين معجمة ومهملة وغين معجمة ومهملة، وهو أبو ثور مالك بن نمط، بفتحتين، "الهمداني" بفتح الهاء، وإسكان الميم، ودال مهملة- نسبة إلى شعب عظيم من قحطان، ثم الأرحبي -بفتح الهمزة، والحاء المهملة، بينهما راء ساكنة، ثم موحدة- إلى أرحب, بطن من همدان، ويقال له: اليامي -بتحتية، فألف، فميم، والخارقي، بمعجمة، وراء مكسورة- كان شاعرًا محسنًا، له في النبي -صلى الله عليه وسلم- أبيات حسان، تقدَّمت في الوفود، وَهِمَ ابن إسحاق في قوله: مالك بن نمط، وأبو ثور، إلّا أن يكون من عطف الكنية على الاسم، "لما لقيه وفد همدان مقدمه من تبوك، فقال له مالك بن نمط"، من إقامة الظاهر مقام المضمر لبيان اسم ذي المشعار، والنمط في الأصل نوع من البسط، فهو علم منقول منه: "يا رسول الله نصية" بنون مفتوحة،(5/425)
من همدان من كل حاضر وباد، أتوك على قلص نواج، متصلة بحبائل الإسلام، لا تأخذهم في الله لومة لائم، من مخلاف خارف, ويام لا ينقض عهدهم عن سنة ماحل، ولا سوداء عنقفير، ما قام لعلع، وما جرى اليعفور بصلع.
فكتب لهم النبي -صلى الله عليه وسلم: "هذا كتاب من محمد رسول الله لمخلاف خارف وأهل جناب الهضب وحفاف الرمل، مع وافدها ذي المشعار مالك بن النمط ومن أسلم من قومه، على أنّ لهم فراعها ووهاطها وعزازها، ما أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة، يأكلون علافها، ويرعون عفاها، لنا من دفئهم وصرامهم ما سلموا بالميثاق والأمانة،
__________
وصاد مهملة مكسورة، وتحتية ثقيلة مفتوحة- أشراف "من همدان, من كل حاضر وباد"، صفة ثانية لنصية، أو حال، فيفيد أنَّ همدان متفرقة في محلات، ويدل على هذا قوله الآتي: نصية من كل حاضر وباد؛ حيث جمع بين نصية، وقوله: من إلخ ... ، فهو أظهر من جعله متعلقًا بقوله: "أتوك على قلص" بضمتين- نوق "نواج" بجيم- سراع, "متصلة بحبائل الإسلام, لا تأخذهم في الله لومة لائم، من مخلاف خارف، ويام لا ينقض عهدهم عن سنة" طريقة "ما حل" ساع بالنميمة والإفساد.
وفي رواية: شية -بمعجمة، وتحتية- أي: وشاية، ويأتي بسطه، "ولا سوداء عنقفير" براء آخره- أي: داهية شديدة, من إضافة الصفة للموصوف, "ما قام لعلع" جبل, "وما جرى اليعفور بصلع" بضم الفتح، مثقلًا، "فكتب لهم النبي -صلى الله عليه وسلم" أمر يكتب ما صورته: بسم الله الرحمن الرحيم، "هذا كتاب من محمد رسول الله لمخلاف" بخاء معجمة.
قال في الفائق: هو لليمن كالرستاق لغيرهم، وفي المصباح: الرستاق معرب، ويستعمل في الناحية التي هي طرف الإقليم, والرزداق -بزاي ودال مهملة- "خارف وأهل جناب" بكسر الجيم، "الهضب" بفتح الهاء، وسكون المعجمة، وموحدة- جمع هضبة، مركَّب تركيب مزج، "وحفاف الرمل" بحاء مهملة مكسورة ففاءين بينهما ألف- أسماء بلادهم، كما ضبطه الشامي، "مع وافدها ذي المشعار مالك بن النمط"، بدل من وافدها، أي: مخلاف خارف، وما عطف عليه, "ومن أسلم من قومه على أن لهم فراعها" بالكسر "ووهاطها" بالكسر أيضًا, "وعزازها" بالفتح- كما يأتي، يعني: إنه -صلى الله عليه وسلم- أقطعتهم ذلك "ما أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة"، أي: مدة إقامتهم على ذلك، "يأكلون علافها" بالكسر، "ويرعون عفاها" بالفتح، "لنا من دفئهم" بكسر فسكون وهمز، "وصرامهم" بالكسر، "وما سلموا" بشدِّ اللام، والعائد محذوف، أي: سلموه، أي: أعطوه من الزكاة المفروضة, "بالميثاق" العهد الذي أخذ عليهم، أو الإسلام, "والأمانة"، أي: كونهم(5/426)
ولهم من الصدقة الثلب والناب والفصيل والفارض الداجن والكبش الحوري، وعليهم فيها الصالغ والقارح".
وقوله: نصية من كل حاضر وباد، قال ابن الأثير: النصية من ينتصي من القوم, أي: يختار من نواصيهم، وهم الرءوس والأشراف، ويقال للأشراف: نواص، كما يقال للأتباع أذناب.
وأتوك على قلص: بضم القاف واللام- جمع قلوص، وهي الناقة الشابّة. قال: ولا تزال قلوصًا حتى تصير نازلًا.
والنواج: السراع.
__________
مؤتمنين على أموالهم؛ لأن رب المال يصدق في الزكاة، فما موصول مبتدأ, خبره قوله: لنا, مقدَّم عليه، والباء في "بالميثاق" سببية, أي: لنا عليهم ما يعطونه من زكاة مواشيهم، ونمارهم بسبب الميثاق، ولا يبحث عن أموالهم، لأنّهم مؤتمنون، "ولهم من الصدقة الثلب" بكسر فسكون- الهرم, "والناب" الهرمة، "والفصيل" الصغير، "والفارض" بالفاء- المسن، "الداجن" التي تألف البيوت.
وفي رواية: والدواجن، بالعطف، يعني: إن هذه لا تؤخذ في الزكاة لكونها من شرارها، فتترك لهم، "والكبش الحوري"؛ لأنه من الخيار، فلا يؤخذ في الصدقة, "وعليهم فيها"، أي: الزكاة "الصالغ" بصاد ولام ومعجمة، ويقال: بسين؛ لأن كل صاد تبدل سينًا مع الغين، "والقارح" بقاف وراء ومهملة- من الخيل، يعني: إذا وجد عندهم هذا النوع يؤخذ منه مما ليس هرمًا، ولا معيبًا، ففيه حجة لمن قال بالزكاة في الخيل السائمة، وحمله المانعون على ما إذا كانت معدَّة للتجارة، جمعًا بينه وبين قوله -صلى الله عليه وسلم: "ليس على المسلم في عبده ولا في فرسه صدقة"، رواه الشيخان.
"وقوله: "نصية من كل حاضر وباد"، قال ابن الأثير" في النهاية: "النصية: من ينتصي من القوم، أي: يختار من نواصيهم، وهم الرءوس والأشراف، ويقال للأشراف: نواصٍ"؛ لعلوّهم على غيرهم، كالناصية، "كما يقال للأتباع: أذناب"، قال في الفائق ومثله في الوزن: السرية لمن يستري من العسكر، أي: يختار من سراتهم، "وأتوك على قلص -بضم القاف واللام" بعدها صاد مهملة، "جمع قلوص" بفتح القاف، "وهي الناقة الشابّة، قال: ولا تزال قلوصًا حتى تصير نازلًا" بموحدة وزاي- وهو ما تَمَّ له ثمان سنين ودخل في التاسعة من الإبل، وحينئذ يطلع نابه، وتكمل قوته، ثم يقال له بعد ذلك: بازل عام، وبازل عامين، "والنواج: السراع" جمع ناجية.(5/427)
وقوله: متصلة بحبائل الإسلام, أي: عهوده وأسبابه.
وخارف: بالخاء المعجمة.
ويام -بالمثناة التحتية: قبيلتان.
ولا ينقض عهدهم عن سنة ماحل: أي: لا ينقض بسعي ساعٍ بالنميمة والإفساد، كما يقال: لا أفسد ما بيني وبينك بمذاهب الأشرار وطرقهم في الفساد.
والسنة: الطريقة، والسنن أيضًا.
والعنقفير -بفتح العين المهملة وسكون النون وتقديم القاف- الداهية, أي: لا ينقض عهدهم بسعي الواشي ولا بداهية تنزل.
ولعلع: جبل.
وما جرى اليعفور -بفتح التحتية،
__________
"وقوله: متصلة بحبائل الإسلام، أي: عهوده" مواثيقه "وأسبابه" طرقه الموصلة إليه، فهو عطف مغاير، "وخارف -بالخاء المعجمة" المفتوحة، والراء المكسورة، وفاء، "ويام -بالمثناة التحتية" فألف فميم، ويقال: أيام بهمزة "قبيلتان" من همدان، "ولا ينقض عهدهم عن سنة ماحل، أي: لا ينقض بسعي ساع بالنميمة والإفساد، كما يقال، لا أفسد ما بيني، وبينك بمذاهب الأشرار، وطرقهم في الفساد" عطف تفسير، "والسنة: الطريقة، والسنن أيضًا"، فقوله عن سنة -بالسين المهملة، بعدها نون- أي: طريقته، وهو إحدى روايتين.
قال في الفائق: وهي أشبه، وفي رواية: عن شية ماحل -بشين معجمة وتحتية- وهي الوشاية.
قال في النهاية: أي: من أجل وشى واشٍ, حذفت الواو وعوّضت الهاء كزنة. انتهى, "والعنقفير -بفتح العين المهملة، وسكون النون، وتقدّم القاف" على الفاء، بعدها تحتية، فراء: "الداهية، أي: لا ينقض عهدهم بسعي الواشي، ولا بداهية تنزل"، وإضافة السوداء إليها من إضافة الصفة للموصوف، أي: ولا ينقض عن داهية شديدة، "ولعلع" بلامين وعينين "جبل"، كانت به وقعة قال الشاعر:
لقد ذاق متاعًا يوم لعلع ... حسامًا إذا ما هَزَّ بالكف صمما
ذكره الجوهري، "وما جرى اليعفور -بفتح التحتية" وإسكان المهملة، وضم الفاء، فواو،(5/428)
الخشف، وولد البقرة الوحشية، وقيل: هو تيس الظباء، والجمع: اليعافير، والياء زائدة.
ويصلح -بضم الصاد المهملة وتشديد اللام- الأرض التي لا نبات فيها.
وقوله -عليه الصلاة والسلام:
"وأهل جناب الهضب" بكسر الجيم- اسم موضع.
"وحفاف الرمل" أسماء بلادهم.
"وفراعها" بكسر الفاء وبراء وعين مهملة- أي: ما علا من الجبال أو الأرض.
"ووهاطها" بكسر الواو، وبطاء مهملة- المواضع المطمئنة، واحدها وهط، وبه سمي الوهط، مال كان لعمرو بن العاص بالطائف. وقيل: الوهط: قرية بالطائف كان الكرم المذكور بها.
"وعزازها" بفتح العين المهملة.
__________
فراء، "الخشف" مثلث الخاء المعجمة، وسكون الشين المعجمة وبالفاء- ولد الظبي أوَّل ما يُولَد، أو أول سنة، أو الذي يقرب من ولادها، كما في القاموس، "وولد البقرة الوحشية"، واقتصر ابن سبع عليه، "وقيل: هو تيس الظباء، والجمع: اليعافير، والياء زائدة، وكذا الواو، إنما نَبَّه على الياء لئلَّا يتوهَّم وزنه فعلول، فأشار إلى أن وزنه يفعول، فالياء زائدة كالواو؛ لأن أصل الماء عفر فقط، "ويصلح -بضم الصاد المهملة" قبلها ياء خفض "وتشديد اللام- الأرض التي لا نبات فيها"، فالمراد أن عهدًا لم لا ينقض أصلًا، لأنَّ لعلعًا مقيم, واليعفور لا ينفك عن جريه بالأرض القفراء.
"وقوله -عليه الصلاة والسلام: "وأهل جناب الهضب" بكسر الجيم- اسم موضع، "وحفاف الرمل" أسماء بلادهم، "وفراعها" بكسر الفاء وبراء وعين مهملة" جمع فرعة -بفتح، فسكون- "أي: ما علا من الجبال أو الأرض، "ووهاطها" بكسر الواو، وبطاء مهملة- المواضع المطمئنة، واحدها وهط" كسهم، وسهام، ومثله لابن سبع، وفي الصحاح.
قال الأصمعي: يقال لما اطمأنَّ من الأرض وهطة، وهي لغة في وهدة، والجمع وهط، ووهاط، "وبه سُمِّي الوهط مال" أي: أعناب، "كان لعمرو بن العاص" الصحابي "بالطائف" على ثلاثة أميال من وج، كان يعرشه على ألف ألف خشبة شراء، كل خشبة درهم، ذكره القاموس، "وقيل: الوهط قرية بالطائف كان الكرم المذكور بها، وعزازها -بفتح العين امهملة،(5/429)
ثم زاءين مخفَّفَتين- ما صلب من الأرض واشتدَّ وخشن، وإنما يكون في أطرافها.
"وتأكلون علافها" بكسر العين المهملة وتخفيف اللام وبالفاء- جمع علف، وهو ما تأكله الماشية.
"وعفاءها" بفتح المهملة وتخفيف الفاء وبالمد- أي: المباح.
"ومن دفئهم" بكسر الدال المهملة وسكون الفاء وبالهمز- قال في المجمل: نتاج الإبل وألبانها والانتفاع بها.
"وصرامهم" بكسر الصاد المهملة وتخفيف الراء- أي: من نخلهم.
"والثلث" بكسر المثلثة واللام الساكنة وبباء موحدة- ما هرم.
__________
ثم زاءين مخففين- ما صلب من الأرض واشتدَّ وخشن"، مما لا ملك لأحد عليه، فيوطأ ويحرث، فيصير رخوًا، وإليه أشار بقوله: "وإنما يكون في أطرافها"، ومنه العز لصلابة جانبه، "وتأكلون علافها -بكسر العين المهملة، وتخفيف اللام، وبالفاء- جمع علف، وهو ما تأكله الماشية"، مثل: جمل وجمال، كما في النهاية، ففي قوله: تأكلون, مجاز الحذف، أي: تأكل ماشيتكم، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه الذي هو الكاف، وعَبَّرَ عنها مع الميم بواو الضمير، أو مجاز لغوي بجعل تأكلون، بمعنى: تملكون، "وعفاءها" بفتح المهملة، وتخفيف الفاء، وبالمد- أي: المباح" الذي ليس لأحد فيه ملك، ولا أثر من عفا الشيء إذا اندرس، أو من عفا يعفو إذا خلص، ومنه الحديث: "أقطعهم ما كان عفا"، وقوله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْف} [الأعراف: 199] ، أو المراد به: الكلأ، سُمِّيَ بالعفا الذي هو المطر، كما يسمَّى بالسماء، وقال التجاني: روي عفاء -بكسر العين- جمع عفو، كجبل وجبال، وهو بمعنى الأوّل, والرعي للبهائم، ففيه ما مَرَّ، ولذا قال جاهل لأديب، أنت عندي كالأب -بشد الباء، فقال: فلذا تأكلني، ولو قال: ترعاني, كان ألطف للتورية من الرعي أو الرعية، كالأب بمعنى الولد والتبن، فعني أنه لجهله كالأنعام.
"ومن دفئهم" بكسر الدال المهملة وسكون الفاء، وبالهمز- قال في المحجل: نتاج الإبل وألبانها، والانتفاع بها"، وسماها دفئًا؛ لأنها يتخذ من أصوافها وأوبارها ما يستدفأ به، وفصله عمَّا قبله ملتفتًا من الخطاب إلى التكلم لشبه انقطاع بينهما؛ إذ ذاك فيما خصهم به من أرضهم، وما يخرج منها، وهذا مما خص به نفسه، ومن معه من مواشيهم, "وصرامهم" بكسر الصاد المهملة، وجوّز فتحها، "وتخفيف الراء- أي: من نخلهم"، أي: ما يصرم، أي: يقطع، وما يخرج منه، وهو التمر, "والثلث -بكسر المثلثة، واللام الساكنة، وبباء موحدة- ما هرم" بكسر(5/430)
من ذكور الإبل وتكسَّرت أسنانه.
"والناب" بالنون والموحدة- الناقة الهرمة التي طال نابها.
"والفصيل" بالمهملة- الذي انفصل عن أمه.
"والفارض" بالفاء- المسنّ من الإبل.
"والداجن" بالمهملة والجيم- الدابّة التي تألف البيوت.
"والكبش الحوري" بالحاء المهملة ثم واو مفتوحتين فراء مكسورة- الذي في صوفه حمرة.
"والصالغ" بالصاد المهملة والغين المعجمة،
__________
الراء، "من ذكور الإبل، وتكسَّرت أسنانه"، فهو مخصوص بالذكور، والأنثى ثلبة، قاله الهروي، "والناب" بالنون والموحَّدة- الناقة الهرمة التي طال نابها"، فهو مثلث الثلب معنًى, إلا أنه مختَصّ بالنوق الإناث، فلا يقال للجمل ناب، بل أسنّ، وسميت نابًا؛ لأنها إذا هرمت طال نابها، "والفصيل -بالمهملة- الذي انفصل عن أمه" من أولاد النوق، وأنثاه فصيلة، والجمع فصال، وفصلان، وقيل: هو من أولاد البقر، والمعروف لغة الأوَّل، $"والفارض" بالفاء، والراء- المسنّ من الإبل"؛ لعله من البقرة، قال تعالى: {لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ} [البقرة: 68] .
قال الراغب: الفارض: المسنُّ من البقر، قيل: سُمِّيَ به لكونه فارضًا للأرض، أي: قاطعًا، أو فارضًا لما يحمل من الأحمال الشاقّة من الفرض، وهو القطع، وقيل: لأنَّ فريضة البقرة تبيع ومسنة، فالتبيع يجوز في حال دون حال، والمسنة يجوز بدلها في كل حال، فسميت المسنة فارضًا، فعلى هذا يكون اسمها إسلاميًّا انتهى، "والداجن" بالمهملة، والجيم- الدابة التي تألف البيوت"، ولا ترسل للمرعى، وكذا الراجن بالراء- كما في الصحاح، وعلى هذا، فالداجن غير الفارض، فينبغي عطفها كغيرها، وهو في غالب النسخ بلا عطف، اللهمَّ إلا أن يقال ما ذكر معناه الحقيقي، وهي هنا صفة مجرَّدة عن كونها شاة جعلت وصفًا للفارض، "والكبش الحوري" -بالحاء المهملة، ثم واو مفتوحتين، وقد تسكن الواو، "فراء مكسورة- الذي في صوفه حمرة"، منسوب إلى الحورة، وهي جلود تتخذ من الضأن، وقيل: ما دُبِغَ من الجلود بغير القرظ، وهو مما جاء على أصله، ولم يعل إعلال ناب، قاله ابن الأثير، وروي: الحواري بزيادة ألف، وكلاهما بمعنًى، وهو كبير الغنم، فلا يؤخذ في الزكاة؛ لأنه أنفسها، ويحتاج إليه للضراب.
"والصالغ" بالصاد المهملة، والغين المعجمة، وزعم أنه، بضاد معجمة، وعين مهملة،(5/431)
من صلغت الشاة ونحوها: إذا تمت أسنانها.
"والقارح" بالقاف والراء والحاء المهملة- وهو من الخيل الذي دخل في السنة الخامسة.
وهذا من جنس كتابه لقطن ابن حارثة العليمي من كلب:
"هذا كتاب من محمد لعمائر كلب وأحلافها، ومن ظأره الإسلام من غيرهم من قطن بن حارثة العليمي، بإقام الصلاة لوقتها،
__________
وعزوه للنهاية غلط "من صلغت الشاة ونحوها، إذا تَمَّت أسنانها، "وذلك إذا دخلت في السادسة، وقيل: الخامسة، وقيل: السابعة، "والقارح" بالقاف، والراء، والحاء المهملة- وهو من الخيل الذي دخل في السنة الخامسة"، الذي في الفائق في السنة، وفي النهاية: الصالغ والقارح من البقر والغنم الذي كمل وانتهى سنه، وذلك في السنة السادسة، "وهذا من جنس كتابه لقطن" بفتح القاف، والطاء المهملة، ونون، "ابن حارثة" بحاء وراء مهملتين، "العليمي" بمهملة مصغَّر, نسبةً لبني عليم، "من كلب" هو عليم بن جناب بن كلب.
قال المررزباني في معجم الشعراء: وفد مع قومه على النبي -صلى الله عليه وسلم- فأسلم، وأنشد النبي -صلى الله عليه وسلم- من قوله:
رأيتك يا خير البرية كلها ... نبت نضارًا في الأرومة من كعب
أغر كان البدر سنة وجهه ... إذا ما بدا للناس في خلل العضب
أقمت سبيل الحق بعد اعوجاجها ... ونت اليتامى في السقاية والجدب
قال: فروي أنه -صلى الله عليه وسلم- ردَّ عليه خبرًا، وكتب له كتابًا، قال أبو عمر: حديثه كثير الغريب, من رواية ابن شهاب، عن عروة، قال: وابن سعد يقول: حارثة بن قطن بدل قطن بن حارثة، ذكره في الإصابة، "هذا كتاب من محمد لعمائر كلب" جمع عمارة -بالفتح والكسر- أصغر من القبيلة، يقال للحيّ العظيم شعب -بفتح فسكون، ولما دونه قبيلة، ولما دونها عمارة -بالفتح؛ لاجتماعهم على بعضهم والتفافهم كالتفاف العمامة على الرأس، وبالكسر؛ لأن بهم عمارة الأرض، وما دون العمارة بطن، وما دونه فخذ، وما دونه فصيلة، "وأحلافها" بحاء مهملة- جمع حليف، كأشراف وشريف، أو جمع حلف بمعنى صديق، قال المجد: الحلف بالكسر: العهد بين القوم، والصداقة، والصديق يحلف لصاحبه، أن لا يعذر به، جمعه أحلاف، "ومن ظأره الإسلام" بظاء معجمة- كما يأتي "من غيرهم من قطن بن حارثة العليمي" حال من كتاب، أي: إن حامله قطن, "بإقام" أي: بطلب إقام "الصلاة لوقتها"، فالباء للملابسة، أو متعلق بمحذوف،(5/432)
وإيتاء الزكاة بحقها في شدة عقدها ووفاء عهدها بمحضر من شهود المسلمين" وسمى جماعة منهم دحية بن خليفة الكلبي، "عليهم من الهمولة الراعية البساط الظئار في كل خمسين ناقة غير ذات عوار، والحمولة المائرة لهم لاغية، وفي الشوي الوري مسنة حامل أو حائل، وفيما سقى الجدول من العين المعين العشر،
__________
أي: أمر، "وإيتاء الزكاة بحقها" بأن يخرجها سالمة مما يخلّ بأدائها، بأن تشمل على الحقوق المطلوبة فيها، التي عوهد المسلمون عليها، فيوفوا بتلك العهود "في شدة عقدها" الذي عقده الله عليها، "ووفاء عهدها" يشبه عطف التفسير.
وفي القاموس: العقد الضمان والعهد, وفيه العهد الوصية، والتقدّم إلى المرء في الشيء، والوثق، واليمين، والحرمة، والأمان، والذمة، فيمكن أن يراد بالعقد العهد، وبالعهد الوصية، أي: على أدائها بطيب نفس، فهو مغاير، وخصَّ الزكاة بهذه الأوصاف المقتضية للتأكيد دون الصلاة، لما جُبِلَت النفوس عليه من عزة المال، والرغبة فيه "بمحضر" مصدر ميمي، أي: حضور، أو بمعنى القوم الحضور، "من شهود المسلمين، وسَمَّى" النبي -صلى الله عليه وسلم "جماعة منهم: دحية بن خليفة الكلبي"، وسعد بن عبادة، وعبد الله بن أنيس، كما عند ابن قتيبة وغيره، "عليهم" متعلق بمحذوف، أي: يجب عليهم "من الهمولة الراعية"، بالجر نعت, "البساط" بكسر الباء وضمها روايتان, جمع بسط بالكسر والضم وبضمتين، كما في القاموس، أي: التي معها أولادها، وهو بالخفض أيضًا على الصفة، ويروى بفتح الباء، أي: الأرض الواسعة، فهو منصوب بالراعية، أي: الهمولة التي ترعى الأرض الواسعة، أي: نباتها, "الظئار" بالظاء المعجمة: جمع ظئر، وهي المرضعة, بجره أيضًا على الصفة, "في كل خمسين ناقة"، بالرفع فاعل يجب المقدَّر، "غير ذات عوار" بفتح العين وضمها لغةً، أي: عيب، والمراد: بالناقة الحقة، ثم النعت بالهمولة الموصوفة بما ذكر ليس للتخصيص، لما علم في غير هذا الحديث من عموم الحكم لجميع أصناف الإبل، حتى لو تمحَّضت من بنات المخاض لوجبت فيها الزكاة، "والحمولة المائرة لهم لاغية، وفي الشوي الوري مسنة: حامل أو حائل"، هذا بظاهره يخالف ما في الفروع، إن الواجب في الغنم جذعة ضأن لها سنة، أو أجذعت مقدم أسنانها، أو ثنية معزلها سنتان، ويمكن حمل ما هنا عليه، ولعلَّ حكمة اقتصاره على زكاة الإبل والغنم أنها غالب أموالهم، وإلا فوجوب الزكاة في غيرها ثابت في غير هذا الحديث.
"وفيما سقى الجدول" بفتح الجيم وسكون الدال- النهر الصغير "من العين المعين" الظاهر الجاري على وجه الأرض بلا تعب، "العشر" مبتدأ خبره ما قبله، أو فاعل يجب, مقدار زاد(5/433)
وفي العثري شطره بقيمة الأمين, لا يزاد عليهم وظيفة ولا يفرق. عهد على ذلك الله ورسوله، وكتب ثابت بن قيس بن شماس".
وتفسير غريبه أن قوله:
"من ظأره الإسلام" بالظاء المعجمة والهمزة آخره هاء- أي: عطفه عليه وعليهم.
"في الهمولة" بفتح الهاء- هي التي ترعى بأنفسها, ولا تستعمل فعولة بمعنى مفعولة.
"والبساط" التي معها أولادها.
__________
في الفائق من ثمرها، ومما أخرجت أرضها، "وفي العثري" بفتح المهملة، والمثلثة- وقيل: بإسكانها"فسَّرها الجوهري بالزرع لا يسقيه إلا ماء المطر، وغيره مما سقى من النخل سيحًا، وهذا الواجب فيه العُشْر لا نصفه، فتعيِّن أن المراد به هنا نوع آخر لم يعرفه هؤلاء، يسقَى بنحو النضح لقوله: الواجب فيه، "شطره بقيمة الأمين" أي: الخراص، وفي لفظ الأوسط، أي: العدل, بأن يخرج من كل بقسطه، فإن عسر فالوسط، ولا يخرج رديء عن جيد، "لا يزاد عليهم" قدر غير ما بين في نصب الزكاة، فيصير "وظيفة" حقًّا لازمًا، "ولا يفرق" الحق الواجب، كأن يدفع المالك أجزاء من شياه لا تنقص جملتها عن مقدر الواجب، "عهد على ذلك الله ورسوله، وكتب ثابت بن قيس بن شماس" بالتشديد، الأنصاري، "وتفسير غريبه أن قوله: "من ظأره الإسلام" بالظاء المعجمة والهمزة" المفتوحة، يقال: ظأره كمنعه "آخره هاء، أي: عطفه عليه"، فالمعنى: هذا الكتاب لعمائر كلب، ومن جمعه الإسلام عليهم من غيرهم، " وعليهم في الهمولة -بفتح الهاء: هي التي ترعى بأنفسها"، بأن تكون سائمة في كلأٍ مباحٍ, عَبَّر عنه بذلك؛ لأنه لا مالك له يصدها عنه، "ولا تستعمل" في حرث، أو نضج، فإن استعملت، فلا زكاة فيها، وبه أخذ قوم "فعولة"، خبر مبتدأ محذوف، وهو وزن همولة فعولة، "بمعنى مفعولة"، أي: متروكة للرعي، لا تستعمل في نحو حرث، أي: لا بمعنى فاعلة.
"والبساط" التي معها أولادها، قال في النهاية: يروى -بفتح الباء، وكسرها، وضمها- قال الأزهري: هو بالكسر جمع بسط، وهي الناقة التي تركت، وولدها لا يمنع منها، ولا تنعطف على غيره، وبسط بمعنى مبسوطة، كالطحن والقطن، أي: بسطت على أولادها.
وقال القتيبي، والجوهري: هو بالضم جمع بسط أيضًا، كظئر وظؤار، فأمَّا بالفتح: فالأرض الواسعة، فإن صحّت به الرواية، فيكون المعنى في الهمولة التي ترعى الأرض الواسعة،(5/434)
"والظئار" أن تعطف الناقة على غير ولدها.
"والحمولة المائرة لهم لاغية" يعني: إن الإبل التي تحمل عليها الميرة -وهي الطعام ونحوه مما يجلب للبيع- لا تؤخذ منها زكاة؛ لأنها عوامل.
"وفي الشوي" بفتح الشين المعجمة وكسر الواو والياء المشددة- اسم جمع للشاة.
"والوري" السمينة.
ومن هذا النمط كتابه -صلى الله عليه وسلم- لوائل بن حجر -بتقديم الحاء المضمومة على الجيم الساكنة.
__________
وحينئذ تكون الظاء منصوبة انتهى، "والظئار" أن تعطف الناقة على غير ولدها"، فهو اسم جمع ظئر بمعنى مرضعة، وهو بكسر الظاء وضمها، كما في المصباح، "والحمولة" بفتح المهملة، "المائرة لهم لاغية" يعني: إن الإبل التي تحمل عليها الميرة" بكسر الميم، "وهي الطعام ونحوه، مما يجلب للبيع، لا تؤخذ منها زكاة؛ لأنها عوامل"، وبه قال قوم, "وفي الشوي" الأولى حذف في؛ لأن المفسّر ما بعده "بفتح الشين المعجمة، وكسر الواو، والياء المشددة- اسم جمع للشاة، "والوري" السمينة -بفتح الواو وكسر الراء وشد الياء.
"ومن هذا النمط كتابه -صلى الله عليه وسلم- لوائل بن حجر، بتقديم الحاء المهملة المضمومة على الجيم الساكنة"، ابن ربيعة بن وائل بن يعمر، ويقال: ابن حجر بن سعد بن مسروق بن وائل بن النعمان بن ربيعة بن الحارث بن عوف بن عدي بن مالك بن شرحبيل بن مالك بن مرة بن حمير بن زيد الحضرمي، كانّ أبوه من أقيال اليمن، ووفد هو على النبي -صلى الله عليه وسلم، واستقطعه أرضًا، فأقطعه إياها، وبعث معه معاوية ليسلمها له، فقال له: أردفني، فقال: لست من أرداف الملوك، فلمَّا استخلف معاوية قصده، فتلقاه وأكرمه. قال وائل: فوددت لو كنت حملته بين يدي.
قال ابن سعد: نزل الكوفة، وروى عن النبي -صلى الله عليه وسلم، وعنه ابناه علقمة وعبد الجبار، وزوجته أم يحيى، ومولى لهم، وكليب بن شهاب، وآخرون، ومات في أوائل خلافة معاوية، وقال أبو نعيم: أصعده النبي -صلى الله عليه وسلم- إليه على المنبر، وأقطعه، وكتب له عهدًا، وقال: "هذا وائل سيد الأقيال"، ثم نزل الكوفة وعقبه بها، وذكر ابن ظفر أنه كان له صنم من عقيق يعبده ويسجد له، فنام عنده في الظهيرة، فسمع صوتًا هائلًا، فأتاه فسجد له، فسمع هاتفًا يقول:
واعجبًا لوائل بن حجر ... يخال يدري، وهو ليس يدري
ماذا ترجى من نحيت صخر ... ليس بذي عرف ولا ذي نكر(5/435)
إلى الأقيال العباهلة والأرواع المشابيب"، وذكر الفرائض فقال:
"في التبعة شاة لا مفوّرة الألياط ولا ضناك، وأنطوا الثبجة وفي السيوب الخمس، ومن زنى مم بكر فاصقعوه مائة واستوفضوه عامًا، ومن زنى مم ثيب فرجوه بالأضاميم، ولا توصيم في الدين، ولا غمة في فرائض الله تعالى، وكل مسكر حرام،
__________
ولا بذي نفع ولا ذي ضر ... لو كان ذا حجر أطاع أمري
فرفع رأسه، وقال: بماذا تأمرني؟ فقال:
ارحل إلى يثرب ذات النخل ... وسر إليها سير مستقل
فدن بدين الصائم المصلي ... محمد الرسول خير الرسل
ثم خَرَّ الصنم لوجهه، فقام إليه فجعله رفاتًا، ثم سار حتى أتى المدينة ودخل المسجد، فناداه النبي -صلى الله عليه وسلم، وبسط له رداءه، وأجلسه معه، ثم صعد المنبر، وقال: "يا أيها الناس, هذا وائل بن حجر، أتاكم من أرض بعيدة، راغبًا في الإسلام"، فقال: يا رسول الله, بلغني ظهورك وأنا في ملك عظيم, فتركته واخترت دين الله، فقال: "صدقت, اللهم بارك في وائل وولده وولد ولده"، وقع في الشفاء: نعته بالكندي، فقيل: غلط؛ إذ هو حضرمي، ورَدَّ بأنَّ ابن الجوزي، قال الحضرمي، أو الكندي انتهى، فلا مانع من كونه حضرميًّا كنديًّا "إلى الأقيال العباهلة"، أي: الملوك القار ملكهم، "والأرواع": الحسان الوجوه، وقيل: إنه جمع رائع، وهم الذين يروّعون الناس، أي: يخوفونهم بمنظرهم لجماله وهيآتهم، قاله ابن الأثير، قيل: الأوَّل أَوْلَى، وجمع فاعل على أفعال نادر جدًّا، ولكن ارتضى المبرد في الكامل الثاني، لما فيه من البلاغة، فإن زائد الحسن إذا رآه من له إدراك أدهشه وحيره، فيشبه الخائف الفزع.
"المشابيب": السادة الرؤساء، وروي: الأشباء جمع شبيب, كأخلاء وخليل، أو هم الرجال الذين وجوهم بيض وشعورهم سود، كما يقال في الحسناء: ذات الذوائب السود, شعرها يشب لونها، أي: يظهره ويحسنه، وقيل: المراد الأذكياء، "وذكر" -صلى الله عليه وسلم- في هذا الكتاب "الفرائض، فقال": المشابيب من أهل حضرموت بإقام الصلاة المفروضة، وأداء الزكاة المعلومة عند محلها، أي: وقت وجوبها، "في التبعة شاة لا مفورة الألياط ولا ضناك" بالكسر.
وهذا بيان لبعض أنواع الزكاة المذكورة في قوله: وأداء الزكاة، "وأنطوا الثبجة، وفي السيوب الخمس، ومن زنى مم بكر فاصعقوه مائة" بالقاف وبالفاء، "واستوفضوه عامًا، ومن زنى مم ثيب، فضرجوه بالأضاميم، ولا توصيم في الدين ولا غمة في فرائض الله تعالى، وكل مسكر حرام"، أي: ما شأنه الإسكار ولو قطرةى، وإنما ذكر هذا؛ لأنهم سألوه، فقالوا: يا رسول الله(5/436)
ووائل بن حجر يترفَّل على الأقيال".
وفسَّر الأقيال -وهو بالقاف والمثناة التحتية -بالرؤساء الذين دون الملوك.
"والعباهلة" بالمهملة المفتوحة والموحدة- الذين أقروا على ملكهم لا يزالون.
"الأرواح" بفتح الهمزة وسكون الراء آخرة عين مهملة- جمع رائع، وهم ذوو الهيئات الحسان الوجوه.
"والمشابيب" بفتح الميم والشين والمعجمة
__________
إن شرابًا يصنع بأرضنا، يقال له: المزر والبتع، وأهل تلك الديار لهم به ولع، "ووائل بن حجر يترفّل على الأقيال"، يتأمَّر ويترأس، وهذا كقوله في كتاب آخر له، وقد وجَّهه إلى المهاجر: "من محمد رسول الله إلى المهاجرين أبو أمية: إن وائلا يستعير ويترفَّل على الأقيال؛ حيث كان من حضرموت" أي: هو مستعمل على الصدقات، وأمير على الأقيال، قال الشاعر:
إذا نحن رفلنا أمرأ ساد قومه ... وإن لم يكن من قبل ذلك يذكر
وقوله: ابن أبو أمية، كذا الرواية بحكاية أوّل أحواله وأشرافها، كما يقال: علي بن أبي طالب: وقريش، لا تغير الأب في الكنية، بل تجعله بالواو في أحواله الثلاثة، حكاه أبو زيد عن الأصمعي، "وفسَّر الأقيال، وهو بالقاف، والمثناة التحتية" جمع: قيل -بفتح القاف وشد الياء, أو فتح فسكون "بالرؤساء الذين دون الملوك" كالوزراء، وهو أحد أقوال, الثاني: إنهم الملوك مطلقًا, الثالث: ملوك حمير واليمن، سمي به؛ لأنه يقول ما يشاء فينفد، وفي النهاية: روي أنه كتب لوائل إليّ الأقوال، وفي رواية: الأقيال، فقيل: إنه من القيالة، وهي الأمارة، وقيل: من القول لنفوذ قوله وأمره، فأصله على هذا، قيل: بتشديد الياء على إعلال ميت، ولولاه لم يكن لقلب الواو ياء وجه، وأقوال على الأصل، وأقيال على لفظ، قيل: كما قيل: ريح وأرياح، والقياس أرواح، لكنه لم يرجع لأصله فرقًا بينه وبين جمع روح، "والعباهلة" بالمهملة المفتوحة، والموحدة- الذين أقروا على ملكهم لا يزالون" من عبهلت الإبل إذا تركتها ترعى متى شاءت, واحده عبهل، فالتاء لتأكيد الجمعية، كقشعم، وقشاعمة، أو جمع عبهول، وأصله عباهيل، حذفت الياء، وعوّض منها التاء، كما في فرازنة، وفرازين.
وفي كتاب تثقيف اللسان: العباهلة بموحَّدة- الذين لا يد لأحد عليهم، وبتحتية: السنان، وكلاهما مدح, "والأرواع" بفتح الهمزة، وسكون الراء، فواو، فألف، آخره عين مهملة- جمع رائع، وهم ذوو الهيئات: الحسان الوجوه، "والمشابيب" بفتح الميم، والشين المعجمة، وباءين(5/437)
وباءين موحَّدتين بينهما مثناة تحتية ساكنة -السادة الرءوس، الحسان الوجوه.
"وفي التيعة" بكسر المثناة الفوقية وسكون المثناة التحتية وبالعين المهملة- أربعون من الغنم, وفي القاموس والنهاية: أدنى ما تجب فيه الصدقة من الحيوان.
"ولا مقورة" بضم الميم وفتح القاف وتشديد الواو.
"والألياط" بفتح الهمزة وسكون اللام آخرها طاء مهملة- أي: لا مسترخية الجلود لكونها هزيلة.
"ولا ضناك" بكسر المعجمة وتخفيف النون- ضدها, وهي الكثيرة اللحم.
"وأنطوا" بقطع الهمزة
__________
موحدتين، بينهما مثناة تحتية ساكنة: السادة الرءوس الحسان الوجوه"، فهم مع اتصافهم بالحسن متصفون بأنهم رؤساء، فلا يرد أنه مساو لمفهوم الأرواع، وقال غيره: المشابيب جمع مشبوب، وهو الأزهر الحسن اللون، قال ذو الرمة:
أنا الأروع المشبوب أضحى كأنه ... على الرحل مما منه السير أحمق
والمراد: السيد الطاهر الأزهر اللون المنير؛ كأنه وقد في وجهه سراج منير، وهو يجمع من الأروع، كما في البيت، فإن النار مما يروع ناظره، "وفي التيعة" بكسر المثناة الفوقية، وسكون المثناة التحتية، وبالعين المهملة- أربعون من الغنم" تفسير للتيعة، فالأولى إسقاط في، "وفي القاموس والنهاية": التيعة "أدنى ما تجب فيه الصدقة من الحيوان"، أي: غير البقر، فلا يرد اقتضاء هذا جزاء شاة عن ثلاثين من البقر، وليس كذلك، كما في أحاديث آخر، وقيل: التيعة الخمس من الإبل، وقيل: ما يأخذه الساعي من الزكاة، ولا يناسب هنا، "ولا مقوّرة" بضم الميم وفتح القاف، وتشديد الواو"، كذا ضبطه المصنف هنا، وشراح الشفاء إنما ضبطوه -بإسكان القاف، وفتح الواو الخفيفة، وراء مهملة ثقيلة- من الإقورار، كحمرة من الاحمرار، "والألياط" بفتح الهمزة، وسكون اللام"، بعدها تحتية، فألف، و"آخره طاء مهملة، أي: لا مسترخية الجلود لكونها هزيلة"، جمع ليط -بكسر اللام، وهو قشر العود, فاستعير للجلد, من لاطه يلوطه إذا ألصقه، وقيل: المقوَّرة المقطوعة، والمعني بها: الناقصة، فالتفاسير متقاربة، "ولا ضناك" بكسر المعجمة"، وفتحها، قاله الفارابي.
قال الصغاني: والصواب الكسر، "وتخفيف النون ضدها، وهي الكثيرة اللحم" السمينة، فلا نؤخذ لجودتها، وفي نسخة: المكتنزة اللحم -وهي بضم الميم، وسكون الكاف، وفتح الفوقية، وكسر النون، وفتح الزاي، وبالهاء- أي: الكثيرة اللحم، "وأنطوا" بقطع الهمزة، بعدها(5/438)
أي: أعطوا.
"والثبجة" بالمثلثة ثم موحَّدة ثم جيم مفتوحات، وقد تكسر الموحدة، أي: أعطوا الوسط في الصدقة لا من خيار المال ولا من رذالته.
"وفي السيوب" بضم المهملة والمثناة التحتية وواو وآخره موحدة- أي: الركاز، قاله الهروي، وقيل: المال المدفون في الجاهلية والمعدن.
"ومن زنى مم بكر" بكسر الراء بلا تنوين؛ لأن أصله من البكر، لكن أهل اليمن يبدلون لام التعريف ميما، وهي ساكنة فأدغمت النون فيها، والمراد بالبكر الجنس،
__________
نون، "أي: أعطوا" بلغة اليمن، أو بني سعد، وقرئ شاذًّا: إنا أنطيناك، وروي في الدعاء: لا مانع لما أنطيت، "والثبجة" بالمثلثة، ثم الموحدة، ثم جيم مفتوحات" آخرها- للنقل من الاسمية للوصفية، "وقد تكسر الموحدة" مع خفة الجيم، كما أفاده التجاني، أما مع شدِّها ففيه نظر، كما قال البرهان، "أي: أعطوا الوسط في الصدقة، لا من خيار المال، ولا من رذالته" بفتح الراء، على تقدير مضاف، أي: من ذي رذالته، وبضمها بلا تقدير، فالرذالة بالضم ما انتُقِيَ جيده، كما في القاموس، "وفي السيوب" بضم المهملة، والمثناة التحتية، وواو، وآخره موحدة"، جمع سيب، "أي: الركاز، قاله الهروي"، بمهملة وكاف وزاي, بزِنَة كتاب، بمعنى: مركوز، وهو المال المدفون الجاهلي، من ركز الرمح إذا غرزه في الأرض وأقَرَّه، أو من الركز وهو الإخفاء، قال تعالى: {أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا} [مريم: 98] ، أي: صوتًا خفيفًا، وسُمِّيَ سيبًا؛ لأنه عطية من الله تعالى؛ إذ السيب لغة العطاء، وقيل: هو الذهب والفضة المدني من تسيب، بمعنى: تكون من غير صاحب له، فكأنه مسيب، فأطلق على كل جزء منه سبب، فجمع، ثم أطلق عليه الركاز.
"وقيل": السيوب "المال المدفون في الجاهلية، والمعدن"، فهو على هذا أعمّ من الركاز؛ لإطلاقه على المعدن، فيشترك القولان في إطلاقه على المال المدفون في الجاهلية، ويختص الثاني بإطلاقه على المعدن، "ومن زنى مم بكر" بكسر الراء بلا تنوين؛ لأن أصله من البكر، لكنَّ أهل اليمن يبدلون لام التعريف ميمًا، وهي ساكنة، فأدغمت النون فيها"، وفي جواز الإدغام نظر، فإنه إذا كان الأصل أل، فهمزته همزة وصل، تثبت في الابتداء والخط، وتسقط في الدرج لفظًا، وثبوتها خطًّا فاصلًا بين النون واللام، فيمنع الإدغام، ويمكن الجواب بأن الألف حذفت تخفيفًا، كحذفها في بسم الله، فاتصلت النون، بالميم خطًّا ولفظًا فأدغمت؛ إذ لم يبق مانع من الإدغام، "والمراد بالبكر الجنس"؛ لأن بكر نكرة عامَّة لوقوعها في سياق(5/439)
وقال ابن الأثير: أي: من بكر ومن ثيب، فقلبت النون الساكنة ميمًا، أمَّا مع بكر فلأنَّ النون إذا سكنت قبل الباء فإنها تقلب ميمًا في النطق، نحو: عنبر وشنباء، وأمَّا مع غير الباء فإنها لغة يمانية، كما يبدلون الميم من لام التعريف. انتهى.
و"فاصقعوه" بهمزة وصل وإسكان الصاد المهملة، وفتح القاف وضم العين المهملة- أي: اضربوه.
"واستوفضوه" بهمزة وصل وكسر
__________
الشرط.
"وقال ابن الأثير: أي من بكر ومن ثيب، فقلبت النون الساكنة ميمًا، أمَّا مع بكر فلأنَّ النون إذا سكنت قبل الباء فإنها تقلب ميمًا في النطق"، سواء كان من كلمة "نحو عنبر وشنباء"، كحمراء، وهي المرأة التي كثر ماء أسنانها ورقيه وعذوبته، أو من كلمتين، نحو: من بكر، "وأمَّا مع غير الباء فإنها لغة يمانية، كما يبدلون الميم من لام التعريف"، نحو: ليس من أميرًا مصيام في امسفر، قال -أعني ابن الأثير: فإمَّا أن يكون ما نحن فيه من الثاني، وأصله من البكر، فحذفت نون من, فبكر غير منوّن، واستعمل البكر موضع الإبكار، والأشبه أن يكون نكرة منونة وأبدل نون من ميمًا. "انتهى" كلام ابن الأثير، واعترض بأن كون بكر بمعنى إبكار؛ لأجل مِن التبعيضية، فتقديره: من زنى من الإبكار، ويجوز: إنها لبيان الجنس، فبكر على أصلها، ومع هذا يحتمل أنه بمعنى الإبكار أيضًا؛ لأن في معنى العموم، ثم قلبت النون ميمًا على نهج الإقلاب التجريدي، لا يتأتَّى في قوله: "مم ثيب" فلذا قال الشمني أنه من باب الازدواج، والمشاكلة، كقولهم: ما قدم وحدث -بضمهما- مع أن حدث بالفتح.
وقال التجاني: قلبت النون ميمًا؛ لأنها تعاقبها كثيرًا، كقولهم: بنان وبنام، وقال الدلجى: بكر نكرة عامَّة، لوقوعها في سياق الشرط، فراؤها منونة، وأبدلت فيه نون من ميمًا، لكثرة استعمالها ذلك لفظًا، نحو: {مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ} أنزلناه، من ماء كان فيه، سيما إذا كان بعدها باء، كما هنا، ولو كان معرفة، لقال بلغتهم: ومن زنى من امبكر، كما قال: ليس من امبر مصيام في امسفر، ومن الجارّة تبعيضية، أو بيانية، مفسّرة للاسم المبهم الشرطي، أي: ومن زنى من الإبكار، "وفاصقعوه -بهمزة وصل، وإسكان الصاد المهملة، وفتح القاف، وضم العين المهملة- أي: اضربوه"، ويقال: بالسين أيضًا من الصقع، وهو الضرب، وأصله على الرأس، وقيل: الضرب ببطن الكف، ونقل التلمساني أن بعض الشراح ضبطه، بالفاء بدل القاف، يقال: صفعت فلانًا أصفعه إذا ضربت قفاه، ورجل مصيفعاني يفعل به ذلك، "و "استوفضوه" بهمزة وصل، وكسر(5/440)
الفاء وضمَّ الضاد المعجمة، أي: غربوه وانفوه.
و"فضرجوه" بالضاد المعجمة وتشديد الراء وبالجيم.
و"بالأضاميم" بفتح الهمزة والضاد المعجمة- أي: أدموه بالضرب بجماهير الحجارة.
و"لا توصيم" بصاد مهملة مكسورة- أي: لا كسل عن إقامة الحدود.
"ولا غمة" بضم الغين المعجمة وتشديد الميم- أي: لا تستر ولا تُخْفَى.
"ويترفّل" بتشديد الفاء المفتوحة- يتسوّد ويترأس، استعارة من ترفيل الثوب, وهو إسباغه وإسباله.
__________
الفاء، وضم الضاد المعجمة"، ثم واو ساكنة، بعدها الضمير، "أي: غربوه وانفوه، و "فضرجوه" بالضاد المعجمة" المفتوحة "وتشديد الراء" المكسورة، "وبالجيم" المضمومة- من التضريح، وهو القدمية، أي: ارجموه حتى يسيل دمه ويموت، قال:
إن بني ضرَّجوني بالدم
"وبالأضاميم" بفتح الهمزة، والضاد المعجمة" وميمين أولهما مكسورة، بينهما تحتية ساكنة، "أي: أدموه"، تفسير لضرّجوه "بالضرب بجماهير الحجارة"، تفسير للأضاميم, جمع إضمامة -بكسر الهمزة، أو أضموم بضمها، سميت به؛ لأنه يضمّ بعضها البعض، "ولا توصيم" في الدين "بصاد مهملة مكسورة"، تفعيل من الوصم، وهو العيب والعار، "أي": لا عار، و"لا كسل عن إقامة الحدود"، فلا تحابوا فيها أحدًا، وهذا بمعنى قوله تعالى: {وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَهِ} [النور: 2] .
"ولا غمّة" في فرائض الله، "بضم الغين المعجمة، وتشديد الميم- أي: لا تستر ولا تخفى" بل تظهر، ويجهر بها إقامة، وإظهارًا لشعائر الدين، ففيه أن إظهار الفرائض أفضل، فإظهار الزكاة أفضل من إخفائها، وقوله تعالى: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 271] ، محمول على صدقة التطوّع، فإخفاؤها أفضل، وقيل: شامل للزكاة، وقيل: يستحب إخفاؤها إذا خاف الرياء ونحوه، وقيل: يختلف باختلاف الأحوال والزمان، وفي رواية: لا عمه -بفتح العين المهملة، والميم المخففة، والهاء- أي: لا حيرة ولا تردد فيها، وروي: ولا غمد -بكسر المعجمة، وسكون الميم، ودال مهملة- أي: لا ستر ولا خفاء, كتغمدنا لله برحمته، أي: سترنا بها، "ويترفَّل" بتشديد الفاء المفتوحة- يتسوّد، ويترأس استعارة من ترفيل الثوب، وهو إسباغه" تطويله، "وإسباله"، للفخر، والعظمة.(5/441)
وقريب من هذا، كتابه -صلى الله عليه وسلم- لأكيدر وأهل دومة الجندل، كما قدمته في مكاتبته -عليه الصلاة والسلام.
وقال -عليه الصلاة والسلام- في حديث عطية السعدي: "فإن اليد العليا هي المنطية والسفلى هي المنطاة" قال: فكلمنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بلغتنا.
__________
فاستعير أو جعل كناية، وهو أظهر لجعله رئيسًا عليهم محكمًا فيهم، وفي أخذ صدقاتهم؛ لأن الترفُّل للتعظيم, والرئيس والحاكم معظَّم، فجعل عبارة عن أنه -صلى الله عليه وسلم- جعله واليًا على أمورهم، وقبض صدقاتهم، "وقريب من هذا كتابه -صلى الله عليه وسلم- لأكيدر، وأهل دومة الجندل، كما قدمته في مكاتباته -عليه الصلاة والسلام".
"وقال -عليه الصلاة والسلام- في حديث عطية" ابن عروة، وقيل: ابن عمرو، وقيل: ابن سعد، وقيل: ابن قيس "السعدي"، قيل: هو من بني سعد بن بكر، وقيل: من بني جشم بن سعد، صحابي معروف، له أحاديث، نزل الشام، وجزم ابن حبان بأنه عطية بن عروة بن سعد. ووقع عند الطبراني والحاكم عطية بن سعد، وذكر المدائني عنه أنه كان ممن كلم النبي -صلى الله عليه وسلم- في سبي هوازن، قاله في الإصابة وفي التقريب, له ثلاثة أحاديث، روى له أبو داود، والترمذي وابن ماجه، وأخرج ابن عبد البر، والحاكم من طريق عروة بن محمد بن عطية، قال: حدثني أبي أنَّ أباه حدَّثه أنه قدم على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في ناس من بني سعد، قال: وأنا أصغرهم، فخلَّفوني في رحالهم، ثم أتوه -صلى الله عليه وسلم، فقضى حوائجهم، ثم قال: "هل بقي منكم أحد"؟، قالوا: يا رسول الله, غلامًا خلفناه في رحالنا، فأمرهم أن يبعثوني إليه، فأتوا إلي، وقالوا: أجب رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فأتيته، فلمَّا رآني، قال: "ما الله مسئول ومنطي".
"قال: فكلمنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بلغتنا"، أي: بني سعد، وهي إبدال العين نونًا، ولا ينافيه القول، بأنها لغة يمانية؛ لجواز أنها لغة لهما، وفي رواية: فكلمني بلغتنا، ولا خلف؛ لأنه وجه إليه الكلام لنجابته، وقومه يسمعون، فيصح أن يقال: كلمنا وكلمني، أو النون للعظمة، إظهارًا لإنعام الله عليه بخطابه -صلى الله عليه وسلم- له، ثم اليد العليا المعطية، والسفلى يد السائل الآخذة، وهي المعطاة، وقد فُسِّرَ بذلك في حديث آخر أنه -صلى الله عليه وسلم، قال على المنبر، وهو يذكر الصدقة، والتعفّف عن المسألة: "اليد العليا خير من اليد السفلى، واليد العليا المنفقة، والسفلى السائلة"، رواه الشيخان، والمنفقة -بنون وفاء وقاف، ويروى المتعففة -بعين وفاءين- التي لا تسأل أحدًا، وقيل: إنه تصحيف، ويروى: المنفعة -بشد الفاء، وقيل: "اليد العليا المعطية، والسائلة المانعة"، وقيل:(5/442)
وقد كان هذا من خصائصه -صلوات الله وسلامه عليه, أن يكلِّم كل ذي لغة بليغة بلغته, على اختلاف لغة العرب وتركيب ألفاظها وأساليب كلمها، كان أحدهم لا يتجاوّز لغته، وإن سمع لغة غيره فكالعجمية يسمعها العربي، وما ذلك منه -صلى الله عليه وسلم- إلّا بقوة إلهية وموهبة ربانية؛ لأنه بُعِثَ إلى الكافَّة طرًا، وإلى الناس سودًا وحمرًا، والكلام باللسان يقع في غاية البيان، ولا يوجد غالبًا متكلم بغير لغته إلا قاصرًا في الترجمة نازلًا عن صاحب الأصالة في تلك اللغة، إلّا نبينا وسيدنا محمدًا -صلى الله عليه وسلم- كما تقدَّم، فإنه زاده الله تكريمًا وشرفًا, تكلم في كل لغة من لغة العرب أفصح وأنصع بلغاتها منها بلغة نفسها،
__________
العليا يد الفقير، لتحصيلها الثواب لصاحب المال، ودفع البلاء عنه، واختار بعض الصوفية، قال ابن قتيبة: وما أرى هذا إلّا كلام قوم استحبوا السؤال وحسَّنوه، وكله مضمحِّل بعد التصريح بتفسيره في الصحيح، وإن قيل: إنه مدرج، "وقد كان هذا من خصائصه -صلوات الله وسلامه عليه"، وأبدل من اسم الإشارة قوله: "أن يكلّم كل ذي لغة بليغة بلغته على اختلاف لغة العرب"، فكان يعلمها كلها، "وتركيب ألفاظها وأساليب كلمها"، فلمَّا كان كلام من تقدَّم على هذا الحد، وبلاغتهم على هذا النمط، وأكثر استعمالهم هذه الألفاظ استعملها معهم، فاستعمالها مع من هي لغتهم لا يخلّ بالفصاحة، بل هو من أعلى طبقاتها، وإن كان فيها ما هو غريب وحشي بالنسبة لغيرهم.
وقد نَصَّ الجاحظ في كتاب البيان على أنَّ كلام البادية الوحشي فصيح بالنسبة لهم، وإن أوهم كلام أهل المعاني خلافه، وأنه يحل بالفصاحة، "كان أحدهم لا يتجاوز لغته، وإن سمعت لغة غيره، فكالعجمية يسمعها العربي، وما ذلك منه -صلى الله عليه وسلم- إلّا بقوة إلهية وموهبة ربانية؛ لأنه بعث إلى الكافَّة طرًا، وإلى الناس سودًا وحمرًا"، فعَلَّمه الله جميع اللغات، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} [إبراهيم: 4] ، أي: لغتهم، فلمَّا بعثه للجميع علمه الجميع، "والكلام باللسان"، اللغة، "يقع في غاية البيان"، وقد قال تعالى: {لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} [إبراهيم: 4] فلو كان بغيرها احتاج إلى ترجمان، فقد لا يقع به البيان، "ولا يوجد غالبًا متكلم بغير لغته، إلًا قاصرًا في الترجمة، نازلًا عن صاحب الأصالة في تلك اللغة، إلّا نبينا وسيدنا محمدًا -صلى الله عليه وسلم، كما تقدَّم، فإنه زاده الله تكريمًا وشرفًا، تكلم في كل لغة من لغة العرب"، بكلام "أفصح" حال، "وأنصع" بنون، وصاد، وعين مهملتين- أخلص "بلغاتها منها بلغة نفسها"، يعني: إنه أعرف بلغة العرب وأقدر عليها من أهلها، "وجدير" حقيق "به ذلك، فقد أوتي في سائر القوى" بالضم(5/443)
وجدير به ذلك، فقد أوتي في سائر القوى البشرية المحمودية زيادة ومزية على الناس، مع اختلاف الأصناف والأجناس ما لا يضبطه قياس, ولا يدخل في تحقيقه إلباس.
وأما صوته الشريف، فعن أنس قال: ما بعث الله نبيًّا قط إلّا بعثه حسن الوجه حسن الصوت، حتى بعث الله نبيكم, فبعثه حسن الوجه حسن الصوت، رواه ابن عساكر.
وروي نحوه عن حديث علي بن أبي طالب -رضي الله عنه.
__________
"البشرية المحمودة، زيادةً ومزيّة على الناس مع اختلاف الأصناف والأجناس، ما لا يضبطه قياس، ولا يدخل في تحقيقه إلباس" بموحدة وإشكال، "وأما صوته الشريف".
أي: صفته، فكان على غاية من الحسن والسعة، كما صرَّحت به الأحاديث لا حقيقته التي هي غرض يخرج من داخل الرئة؛ لأن الكلام في شمائله، ولذا أولنا في المبتدأ لا الخبر، ولا يردَّان كل حكم ورد على اسم، فهو على مدلوله إلّا لقرينة؛ لأن القرينة هنا صارفة عن إرادة الحقيقة، "فعن أنس قال": ظاهره أنه موقوف عليه؛ لكنه مرفوع حكمًا؛ إذ لا دخل فيه للرأي، "ما بعث الله نبيًّا قط إلا بعثه"، انظر ما نكتته، مع أنه يكفي إلّا "حسن الوجه، حسن الصوت"، ونبيًّا نكرة في سياق النفي، فعمومها شمولي، فوجه الإغياء في قوله: واستمرَّ ذلك في جميع الأنبياء "حتى بعث الله نبيكم"، إنه لما احتمل النفي العموم احتمالًا ظاهرًا، وعدمه مرجوحًا, قصد رفع الاحتمال المرجوح، واحتاج لقوله: "فبعثه حسن الوجه، حسن الصوت"؛ لأنه قد يتوهّم من عدم ظهور تمام حسنه، لحجبه بالجلال أنه دونهم، ولم ينبه في هذا الحديث على أنه أحسن منهم في الأمرين، مع أنه لواقع الجوار أن المقام مقام إثبات المساواة، ردًّا على زاعم أنه دونهم، وهذا من البلاغة التي هي مطابقة الكلام لمقتضى الحال، واكتفاءً بما علم أنه إذا شارك غيره في شيء فاق عليه فيه، وهذا أحسن، وهذا كله بالنظر لهذا اللفظ الذي "رواه ابن عساكر"، وإلا فقد رواه الرمذي من حديث أنس نفسه بلفظ: ما بعث الله نبيًّا إلا حسن الوجه، حسن الصوت، وكان نبيكم أحسنهم وجهًا، وأحسنهم صوتًا، فعلى المؤلف المؤاخذة في ترك الترمذي من وجهين: أحدهما: إن الحديث إذا كان في أحد الستة لا يعزى لغيرها، كما قال مغلطاي. ثانيهما: إن لفظه أصرح في الدلالة على المراد من لفظ ابن عساكر، "وروي نحوه من حديث علي بن أبي طالب -رضي الله عنه".
قال الحافظ: وأمَّا قوله في حديث المعراج في يوسف: "فإذا أنا برجل حسن ما خلق الله،(5/444)
وروي أنه كان إذا تكلَّم ريء كالنور يخرج من ثناياه.
وقد كان صوته -عليه الصلاة والسلام- يبلغ حيث لا يبلغه صوت غيره. فعن البراء قال: خطبنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى أسمع العواتق في خدورهنّ. رواه البيهقي.
وقالت عائشة -رضي الله عنها: جلس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم الجمعة على المنبر فقال للناس: اجلسوا، فسمعه عبد الله بن رواحة وهو في بني غنم, فجلس في مكانه، رواه أبو نعيم.
وقال عبد الرحمن بن معاذ
__________
قد فضل الناس بالحسن، كالقمر ليلة البدر على سائر الكواكب، رواه البيهقي والطبري وابن عائذ؛ ليحمل على أنَّ المراد غير النبي -صلى الله عليه وسلم، ويؤيده القول بأنَّ المتكلم لا يدخل في عموم خطابه، وقوله في رواية مسلم: "فإذا هو قد أعطي شطر الحسن" حمله ابن المنبر على أنَّ المراد أعطي شطر الحسن الذي أوتيه نبينا -صلى الله عليه وسلم.
"وروي" عند الترمذي، والدارمي، والطبراني عن ابن عباس "أنه" -صلى الله عليه وسلم- "كان" أفلج الثنيتين "إذا تكلّم" خبر ثانٍ لكان "ريء" بكسر الراء، بزنة قيل على الأفصح، ويقال: بضم الراء، وكسر الهمزة، وبني للمجهول إيماءً إلى أنَّ الرواية لا تختص بأحد دون أحد، ولذا لم يقل: إذا تكلَّم يخرج "كالنور"، أي: شعاع مثله، فالكاف، بمعنى مثل، فلا حاجة لتقدير شيء "يخرج من" بين "ثناياه"، إما من الثنايا نفسها، أو من داخل الفم، وطريقه من بينهما لمعجزة له، وهو نور حسيّ لا معنوي، والمراد: لفاظه بالقرآن أو السنة، كما زعم؛ لأنه خلاف المتبادر من قوله: ريء، وهو زائد على حسن الصوت، "وقد كان صوته -عليه الصلاة والسلام- يبلغ حيث" أي: مكانًا "لا يبلغه صوت غيره"، فحيث هنا، بمعنى المكان مجرَّدة عن الظرفية.
"فعن البراء قال: خطبنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم" فعلا صوته "حتى أسمع العواتق" جمع عاتق، وهي الشابّة أوّل ما تدرك، وقيل: التي لم تبن من والديها، ولم تتزوج، وقد أدركت وشبّت, وتجمع أيضًا على عتق، كما في النهاية "في خدورهنَّ" جمع خدر، أي: ستر، ويطلق على البيت إن كان فيه امرأة، وإلّا فلا، "رواه البيهقي"، وخصَّهن بالذكر لبعدهنَّ واحتجابهنَّ في البيوت، فسماعهنَّ آية علوّ صوته زيادة على غيره، "وقالت عائشة -رضي الله عنها: جلس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم الجمعة على المنبر، فقال للناس: "اجلسوا" فسمعه عبد الله بن رواحة" الأنصاري "وهو في بني غنم" بمعجمة مفتوحة، فنون ساكنة، فميم- بطن من الخزرج بالمدينة، ونسخة تميم تحريف، "فجلس في مكانه" مبالغةً في امتثال أمره -صلى الله عليه وسلم، مع أنه ليس مأمور بذلك؛ إذ قصده أمره الحاضرين للخطبة بالجلوس، "رواه أبو نعيم، وقال عبد الرحمن بن معاذ" بن عثمان بن(5/445)
التيمي: خطبنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بمنى، ففتحت أسماعنا -وفي لفظ: ففتح الله أسماعنا- حتى إن كنَّا لنسمع ما يقول ونحن في منازلنا. رواه ابن سعد.
وعن أم هانيء قالت: كنَّا نسمع قراءة النبي -صلى الله عليه وسلم- في جوف الليل عند الكعبة، وأنا على عريشي، رواه ابن ماجه.
وأما ضحكه -عليه الصلاة والسلام، ففي البخاري عن عائشة: ما رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مستجمعًا قط ضاحكًا حتى أرى منه لهواته، إنما كان يبتسم،
__________
عمرو بن كعب بن سعد بن تميم بن مُرَّة بن كعب بن لؤيّ القرشي "التيمي" بن عم طلحة بن عبد الله, قال البخاري وغيره: له صحبة، وعدَّه ابن سعد من مسلمة الفتح، "خطبنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بمنى، ففتحت" أي: فتح الله -كما في الرواية التالية "أسماعنا" حتى كنَّا نسمع ما يقول ونحن في منازلنا. الحديث، أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي، وأخرج البخاري عنه، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "بمثل حصى الخذف فارموا"، "وفي لفظ: ففتح الله أسماعنا"، بأن خلق فيها قوة سمع زيادة على معتادها، فكأنها كانت مغلقة ففتحت، فشبَّه الأسماع بأبواب مغلقة، وأثبت لها الفتح تخييلًا، فهو استعارة بالكناية تخييلية، "حتى" غاية, لقد رأى، فقويت حتى, "إن كنَّا" مخفَّفة من الثقيلة، بدليل اللام في "لنسمع ما يقول ونحن في منازلنا، رواه ابن سعد" بهذا اللفظ، وإلّا فقد رواه بلفظ: ففتحت، بالبناء للمجهول, الأئمة لذين رأيت.
"وعن أم هانيء، قالت: كنا نسمع قراءة النبي -صلى الله عليه وسلم- في جوف الليل عند الكعبة"، متعلق بقراءة: "وأنا على عريشي" أي: سريري، وحمله عليه أبلغ من سقف بيتي، كما هو أحد معاني العريش، كالعرش في القاموس أيضًا، فسماعها له، وهي على سريرها، داخل بيتها البعيد عن محل القراءة، دليل على قوته، "رواه ابن ماجه"، وفي الصحيحين عن البراء: قرأ -صلى الله عليه وسلم- في العشاء: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ} [التين: 1] ، فلم أسمع صوتًا أحسن منه، وروى أبو الحسن بن الضحاك عن جبير بن مطعم: كان -صلى الله عليه وسلم- حسن النغمة، وفي حديث أم معبد: كان في صوته صحل. رواه ابن عساكر وغيره بفتح المهملتين، ولام- شبه البحة، وهي غلظ الصوت.
قال ابن الأثير: بالتحريك كالبحَّة، وأن لا يكون حادّ الصوت، وفي رواية: صهل -بهاء بدل الحاء- وهو قريب منه؛ لأنه صوت الفرس وهو يصهل بشدة وقوة، "وأمَّا ضحكه -عليه الصلاة والسلام"، قال في القاموس: ضحك ضحكًا -بالفتح، وبالكسر، وبكسرتين- ككتف, "ففي البخاري عن عائشة: ما رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مستجمعًا قط ضاحكًا" ضحكًا تامًّا؛ بحيث ينفتح فمه، "حتى أرى منه لهواته" غاية لضاحكًا، "إنما كان يتبسَّم".(5/446)
أي: ما رأيته مستجمعًا من جهة الضحك؛ بحيث يضحك ضحكًا تامًّا مقبلًا بكليته على الضحك.
واللهوات -بفتح اللام- جمع لهاة، وهي اللحمة التي بأعلى الحنجرة من أقصى الفم.
وهذا لا ينافي ما في حديث أبي هريرة في قصة المواقِعِ أهلَه في رمضان، فضحك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى بدت نواجذه. رواه البخاري
__________
قال المجد: بسم يبسم بسمًا، وابتسم، وتبسَّم، وهو أقل الضحك وأحسنه.
قال الكشَّاف: وكذلك ضحك الأنبياء لم يكن إلا تبسمًا. انتهى، وعليه، فهو من خواصِّه على الأمم دون الأنبياء، "أي: ما رأيته مستعجمًا من جهة الضحك"، أي: مطمئنًّا قاصدًا للضحك الذي يغلب وقوعه للناس؛ "بحيث يضحك ضحكًا تامًّا مقبلًا بكليته على الضحك، واللهوات -بفتح اللام" والهاء، والواو- "جمع لهاة" على الأصل.
وتجمع أيضًا على لهيات ولهى, مثل: حصاة وحصى وحصيات، كما في المصباح، "وهي اللحمة التي بأعلى الحنجرة" أي: الحلق، "من أقصى الفم، وهذا لا ينافي ما في حديث أبي هريرة، في قصة المواقع"، المجامع "أهله في" نهار "رمضان"، قيل: إنه سلمة بن صخر، رواه ابن أبي شيبة وابن الجارود، وجزم به عبد الغني، وانتُقِدَ بأنَّ هذا هو المظاهِر في رمضان، أتى أهله ليلًا, رأى خلخالها في القمر، وفي رواية ابن عبد البَرِّ: تسميته سلمان بن صخر البياضي، قال ابن عبد البر: وأظنّه وهمًا؛ لأن ذلك إنما هو المظاهر، أمَّا المجامع فأعرابي، فهما واقعتان، ففي قصة المجامع: أنه كان صائمًا، وقصة سلمان أنه كان ليلًا، كما عند الترمذي فافترقا، نعم اشتركا في قدر الكفّارة، وفي الإتيان بالتمر، وفي قول كلٍّ منهما أعل أفقر منَّا، وسبب ظنّ من قال: إن المحترق سلمان أو سلمة، أن ظهاره من امرأته كان في رمضان، وجامع ليلًا، ولفظ الصحيح عن أبي هريرة: جاء رجل فقال: يا رسول الله, هلكت، قال: "ما لك"؟ قال: وقعت على امرأتي وأنا صائم، فقال -صلى الله عليه وسلم: "هل تجد رقبة تعتقها"؟ قال: لا، قال: "فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين"؟، قال: لا، قال: "فهل تجد إطعام ستين مسكينًا"؟، قال: لا، فأتى -صلى الله عليه وسلم- بتمر، فقال: "خذ هذا فتصدق به"، فقال: على أفقر مني يا رسول الله، فوالله ما بين لابتيها أهل بيت أفقر من أهل بيتي، "فضحك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى بدت نواجذه"، وفي رواية: أنيابه، ثم قال: "أطعمه أهلك"، رواه البخاري" في الصوم غيره، ومسلم وأصحاب السنن في الصوم: وإنما ضحك كذلك -صلى الله عليه وسلم- تعجبًا من حال الرجل في كونه جاء أولًا هالكًَا محترقًا،(5/447)
وهو بالجيم والذال المعجمة- أي: أضراسه, ولا تكاد تظهر إلّا عند المبالغة في الضحك، ولا منافاة لأنَّ عائشة إنما نفت رؤيتها، وأبو هريرة أخبر عمَّا شاهد، والمثبت مقدَّم على النافي.
وقد قال أهل اللغة: التبسُّم مبادي الضحك، والضحك: انبساط الوجه حتى تظهر الأسنان من السرور، فإن كان بصوت وكان بحيث يسمع من بعيد فهو القهقهة، وإلّا فالضحك.
وقال ابن أبي هالة: جلّ ضحكه التبسم، ويفتر
__________
كما في رواية: احترقت خائفًا على نفسه، راغبًا في فدائها مهما أمكنه، فلمّا وجد الرخصة طمع في أكل الكفَّارة، "وهو بالجيم، والذال المعجمة- أي: أضراسه" ظاهره حقيقة.
وقال السيوطي تبعًا للزمخشري: الوجه حمله على مبالغة مثله في الضحك من غير ظهورها حقيقةً، وهو أقيس، وقال ثعلب: المراد أنيابه, للتصريح في الرواية الأخرى، ورجَّحه السيوطي وغيره؛ بأنَّه لم يبلغ به الضحك إلى بدوِّ أضراسه، وقيل: النواجذ الأسنان بين الضرس والناب، وقيل: أربع من "الأضراس"، آخرها يسمَّى ضرس العقل؛ لأنه لا ينبت إلا بعد الحلم، "ولا تكاد تظهر إلا عند المبالغة في الضحك"، فينافي قول عائشة: إنما كان يبتسم، "ولا منافاة؛ لأنَّ عائشة إنما نفت رؤيتها, وأبو هريرة أخبر عمَّا شاهد، والمثبت مقدَّم على النافي"؛ لأن معه زيادة علم, خصوصًا والنافي هنا إنما نفى رؤيته لها مطلقًا، "وقد قال أهل اللغة: التبسُّم مبادي الضحك"، أي: مقدماته، "والضحك انبساط الوجه" تهلله وتلألؤه، "حتى تظهر الأسنان من السرور" متعلق بانبساط، وكأنَّ المعنى: إذا تهلَّلَ وجهه لسرور قام به، انفتح فمه على الهيئة المعروفة، "فإن كان بصوت وكان بحيث يسمع من بعيد فهو القهقهة، وإلّا" يسمع من بعد، وهو بصوت "فالضحك"، فالفارق بين الثلاثة: أنَّ التبسم انفتاح الفم بلا صوت، والضحك انفتاحه مع صوت قليل، والقهقهة انفتاحه بصوت قوي.
"وقال ابن أبي هالة: جلّ ضحكه"، أي: أكثره "التبسّم"، وقد يزيد عليه أحيانًا "ويفتر" بفتح الياء وسكون الفاء وفتح الفوقية وتشديد الراء- كما ضبطه شرَّاح الشفاء، وفي القاموس: افترَّ ضحك ضحكًا حسنًا، قال الحريري:
يفتر عن لؤلؤ رطب وعن برد ... وعن أقاح وعن طلع وعن حبب
قال في النهاية: أي: يبتسم، ويكشر حتى تبدو أسنانه من غير قهقهة، وهو من فررت الدابة(5/448)
عن مثل حب الغمام، أي: يبدي أسنانه ضاحكًا، وحب الغمام: البرد.
وقال الحافظ بن حجر: والذي يظهر من مجموع الأحاديث: أنه -صلى الله عليه وسلم- كان في معظم أحواله لا يزيد على التبسّم، وربما زاد على ذلك فضحك. قال: والمكروه من ذلك إنما هو إكثار منه, أو الإفراط فيه؛ لأنه يذهب الوقار.
وقال ابن بطال: والذي ينبغي أن يقتدى به من أفعاله ما واظب عليه من ذلك.
وقد روى البخاري في الأدب المفرد وابن ماجه عن أبي هريرة رفعه: "لا تكثر الضحك فإن كثرة الضحك تميت القلب".
__________
أفرها فرًا، إذا كشفت شفتها لتعرف سنها، وافتر يفتر افتعل منه, انتهى. فقول الشامي -بضم الفوقية- سبق قلم أو من النساخ، "عن مثل حب الغمام" متعلق بيفتر، "أي: يبدي أسنانه ضاحكًا، وحب الغمام" السحاب واحده غمامة، كسحابة "البرد" بفتحتين- الجامد المعروف، لا قطر الماء كما توهّم؛ لأنه مع عدم مناسبته لا يسمّى حبًّا؛ إذ الحب الجامد لا السائل, شبَّه به أسنانه في صفاته وبياضه، ولمعانه، ورطوبته، دون جريه, حتى يقال: إنه كنوع منه.
"وقال الحافظ بن حجر: والذي يظهر من مجموع الأحاديث، أنه -صلى الله عليه وسلم- كان في معظم أحواله لا يزيد على التبسم, ربما زاد على ذلك فضحك"، وظاهره أنه لم يقهقه البتة.
"قال: والمكروه من ذلك إنما هو إكثار منه، أو الإفراد فيه؛ لأنه يذهب الوقار" الحلم والرزانة والعظمة، وهذا جواب عمَّا يقال: صرَّح الفقهاء بكراهة الضحك، وقد فعله -صلى الله عليه وسلم.
"وقال ابن بطال: والذي ينبغي أن يقتدى به من أفعاله ما واظب عليه من ذلك" وهو التبسم، فيقتصر عليه، وضحكه لبيان أنه ليس بحرام "وقد روى البخاري في" كتاب "الأدب المفرد" الذي أفرده بالتأليف، احترازًا عن كتاب الأدب من صحيحه، "وابن ماجه عن أبي هريرة رفعه: "لا تكثر الضحك، فإن كثرة الضحك تميت القلب"؛ إذ هي تورّث قسوته، وهي مقضية إلى الغفلة، وليس موته إلّا لغفلة، قاله الطيبي.
وقال الغزالي: كثرة الضحك والفرح بالدنيا سمّ قاتل يسري إلى العروق، فيُخْرِج من القلب الخوف والحزن وذكر الموت وأهوال القيامة، هذا هو موت القلب، وزاد الطبراني من حديث أبي ذر: وتذهب بنور الوجه، أي: إشراقه وضيائه، وقال الماوردي: اعتياد الضحك شاغل عن النظر في الأمور المهمة، مذهل عن الفكر في النوائب الملمّة، وليس لمن أكثر منه هيبة ولا وقار، ولا لمن وسم به خطر ولا مقدار.(5/449)
وقال أبو هريرة: وإذا ضحك -صلى الله عليه وسلم- يتلألأ في الجدر. رواه البزار والبيهقي، أي: يضيء في الجدر -بضم الجيم والدال- جمع جدار وهو الحائط, أي: يشرق نوره عليها إشراقًا كإشراق الشمس عليها.
وكان -صلى الله عليه وسلم- إذا كان حديث عهد بجبريل لم يبتسم ضاحكًا حتى يرتفع عنه، بل كان إذا خطب أو ذكر الساعة اشتدَّ غضبه, وعلا صوته, كأنَّه منذر جيش, يقول: "صبحكم ومساكم" رواه مسلم.
وكان بكاؤه -عليه الصلاة والسلام- من جنس ضحكه، لم يكن بشهيق ورفع صوت، كما لم يكن ضحكه بقهقهة, ولكن تدمع عيناه حتى ...
__________
"وقال أبو هريرة" في حديث: "وإذا ضحك -صلى الله عليه وسلم- يتلألأ في الجدر. رواه البزار والبيهقي، أي: يضيء" تفسير يتلألأ "في الجدر -بضم الجيم والدال- جمع جدار، وهو الحائط، أي: يشرق نوره عليها إشراقًا كإشراق الشمس عليها، وكان -صلى الله عليه وسلم- إذا كان حديث" قريب "عهد بجبريل لم يبتسم ضاحكًا، حتى يرتفع عنه" بحيث لا يراه إعظامًا له بترك الاشتغال بشيء يشغله عنه، أو اعتبارًا، وتفكر فيما فيما أتاه به، "بل" انتقالية، "كان إذا خطب" وعظ "أو ذكر الساعة" القيامة "اشتدَّ غضبه" لله -سبحانه وتعالى- على من خالف زواجره.
قال القاضي عياض: يغني بشدته أن صفته صفة الغضبان، وهذا شأن المنذر المخوف، ويحتمل أنه نهي خولف فيه شرعه، وهكذا تكون صفة الواعظ مطابقة لما يتكلم به. قال النووي: أو كان عند إنذاره أمرًا عظيمًا. زاد في رواية: واحمرَّت عيناه، "وعلا صوته"، أي: رفعه ليؤثِّر وعظه في خواطر الحاضرين حتى "كأنه منذر" محذر "جيش" أي: كمن ينذر قومًا ن جيش عظيم قصدوا الإغارة عليهم، فإن المنذر المعلم يعرف القوم بما يدهمهم من عدو أو غيره، وهو المخوف حال كونه "يقول: "صبَّحكم" بفتح الصاد، والباء المشدَّدة- أي: أتاكم الجيش وقت الصباح، "ومسَّاكم" بالفتح مثقلًا- أتاكم وقت المساء.
قال الطيبي: شبَّه حاله في إنذاره وخطبته بقرب يوم القيامة، وتهالك الناس فيما يرد بهم بحال من ينذر قومه عند غفلتهم بجيش قريب منهم، ويقصد الإحاطة بهم بغتة؛ بحيث لا يفوته منهم أحد، فكما أن المنذر يرفع صوته، وتحمرّ عيناه، ويشتدّ غضبه على تغافلهم؛ فكذا حاله -صلى الله عليه وسلم- عند الإنذار، وفيه أنّه يسنّ للخطيب تفخيم أمر الخطبة، ورفع صوته، وتحرك كلامه، ويكون مطابقًا لما يتكلم به من ترغيب وترهيب، "رواه مسلم" من حديث جابر بن سمرة"؛ "وكان بكاؤه -عليه الصلاة والسلام" وقياس ما مَرَّ أن يقول: وأما بكاؤه فكان "من جنس ضحكه, لم يكن بشهيق ورفع صوت، كما لم يكن ضحكه بقهقهة، ولكن تدمع عيناه حتى(5/450)
تهملان، ويسمع لصدره أزيز، يبكي رحمة لميّت, وخوفًا على أمته وشفقة، ومن خشية الله، وعند سماع القرآن، وأحيانًا في صلاة الليل. قاله في الهدي النبوي.
وقد حفظه الله تعالى من التثاؤب، ففي تاريخ البخاري ومصنَّف ابن أبي شيبة, عن يزيد بن الأصم: ما تثاءب النبي قط. لكن في رواية عند ابن أبي شيبة: ما تثاءب نبي قط.
وأمَّا يده الشريفة -صلى الله عليه وسلم- فقد وصفه غير واحد بأنَّه كان شثن الكفين كما سيأتي، أي غليظ أصابعهما،
__________
تهملان" بضم الميم- يسيل دمعهما، وإثبات النون مع حتى قليل، نحو: أن تقرآن على أسماء، أو على حذف المبتدأ، أي: إنهما تهملان، أو هما تهملان، فحتَّى ابتدائية, نحو: حتى ماء دجلة، أشكل "ويسمع لصدره أزيز" بزاءين منقوطتين- أي: صوت، وأصله غليان القدر "يبكي رحمةً لميت" استئناف بياني، كأنه قيل: لم كان يبكي، فأجيب بأنَّه رحمة لميت، "وخوفًا على أمته وشفقة" عليهم, "ومن خشية الله، وعند سماع القرآن، وأحيانًا في صلاة الليل. قاله في الهدي النبوي، وقد حفظه الله تعالى من التثاؤب"، لأنه يكره، وذِكْرُه لأن كلامه في شمائله، ومنها عدم التثاؤب بخلاف غيره، فليس ذكره استطرادًا لمضادته للضحك، وفي المصباح: تثاءب -بالهمز- تثاؤبًا، وزان تقاتل تقاتلًا، قيل: هي فترة تعتري الشخص، فيفتح عندها فمه، وتثاوب -بالواو- عامّي، "ففي تاريخ البخاري، ومصنَّف ابن أبي شيبة عن يزيد" بتحتية وزاي "ابن الأصمّ"، واسمه: عمرو بن عبيد البكائي -بفتح الموحدة والتديد- الكوفيّ, ابن أخت ميمونة أم المؤمنين، ثقة، مات سنة ثلاث ومائة، "ما تثاءب النبي قط"؛ لأنه من الشيطان، وفي البخاري مرفوعًا: "إن الله يحب العطاس، ويكره التثاؤب"، ثم أل في النبي عهدية، أي: نبينا -صلى الله عليه وسلم، فيفيد اختصاصه, "لكن في رواية" من مرسل يزيد المذكور، "عند ابن أبي شيبة: ما تثاءب نبي قط"، وهذا يعمّ الجميع، فهو من خصائصه على الأمم، لا على الأنبياء.
"وأمَّا يده الشريفة -صلى الله عليه وسلم" أي: صفة يديه معًا؛ لأن إضافة المفرد إلى المعرفة تفيد العموم، وهي من المنكب إلى أطراف الأصابع، واليد والكف أيضًا، والظاهر إرادة الإطلاقين هنا معًا، لما يأتي من رؤية بياض إبطيه، "فقد وصفه" أي: النبي -صلى الله عليه وسلم، لا اليد؛ لأنها مؤنثة، "غير واحد، بأنه كان شثن الكفين" بفتح الشين المعجمة، وإسكان المثلثة- كما ضبطه جمع منهم المصنف، ووقع للسيوطي في زهر الخمائل -بمثناة فوقية- ولعله سهو، فإن اللغويين وأصحاب الغريب إنما ذكروه في الشين مع المثلثة, من أصرحهم الهروي؛ حيث قال: باب الشين مع الثاء, وذكر فيه الحديث، وذكر قبله الشين مع التأويل، ولم يذكر فيه، "كما سيأتي، أي: غليظ أصابعهما"،(5/451)
وبأنه عَبْل الذراعين رحب الكفَّين.
وقد مسح -صلى الله عليه وسلم- خد جابر بن سمرة قال: فوجدت ليده بردًا وريحًا كأنما أخرجها من جؤنة عطار، رواه مسلم.
وفي حديث وائل بن حجر عند الطبراني والبيهقي: لقد
__________
وذلك جمال في الرجال؛ لأنه أشد لقبضهم، ويذمّ في النساء، وفُسِّرَ أيضًا في النهاية وغيرها بغلظ الأنامل بلا قصر، والأنامل عقد الأصابع، فلا منافاة، نعم على تخصيص الأنامل برءوس الأصابع يتنافيان، "وبأنه عبل" بفتح العين وسكون الموحدة تليها للام- أي: قويّ "الذراعين" ضخمهما, تثنية ذراع، وهو ما بين مفصل الكف والمرفق، أو من المرفق إلى أطراف الأصابع، كذا ضبطه بعضهم، بإسكان الباء، فإن كان الرواية، وإلّا، ففيه أيضًا كسر الباء بزنة فرخ "رحب" بفتح فسكون، "الكفين"، أي: واسعهما.
قال ابن الأثير: يكنّون بذلك عن السخاء والكرم. وقال التجاني، أي: كبيرهما، وهو على ظاهره من كبر الجوارح؛ لدلالته على كمال الخلق, بخلاف صغرهما.
قال: والحق أنَّه إن كان في بيان الخلق -بالفتح- فلا مناسبة للكناية، أو الخللق -بالضم- فله مناسبة، وقال غيره: رحبهما حسًّا ومعنًى، وقصره على الحقيقة، أو جعله كناية فقط تقصيرًا، لكن هذا وإن كان حسنًا لا يناسب المقام؛ لأن الكلام مسوق لبيان صفاته الصورية، إلّا أن يقال: الكناية لا تنافي إرادة المعنى، "وقد مسح -صلى الله عليه وسلم- خَدَّ جابر بن سمرة" تأنيسًا وشفقة وتبريكًا، قال جابر: صليت مع النبي -صلى الله عليه وسلم، وأنا معه، فاستقبله ولدان، فجعل يمسح خدَّيْ أحدهم واحدًا واحدًا، "قال": وأمَّا أنا فمسح خدي، "فوجدت"، أي: أحسست "ليده"، أي: كفّه وما قاربها "بردًا" حقيقيًّا؛ لرواية: أبرد من الثلج، لا لعارض مَسّ ماء، وهذا ممدوح عند العرب، لا سما في الزمن الحار، ولا بعد في أنه خاص به مع كمال حرارته الغريزية، وقيل: هو عبارة عن لين كفة ورطوبته، والأقرب أنه بمعنى الراحة واللذة والطيب.
قال في النهاية: كل محبوب عندهم بارد، وبرد الظل طيب العيش، والغنيمة الباردة الهنية، "وريحًا, كأنما أخرجها" أي: اليد؛ لأنها مؤنثة "من جؤنة عطار" بضم الجيم، وسكون الهمزة- ويقال: بواو ساكنة، تليها نون، وهاء تأنيث- شبه صندوق صغير مغشَّى بجلد، وزند مستدير يضع العطار فيها عطره، وهو كل ما طابت رائحته، أي: كان ريحها ريح ما أخرج من جؤنة العطار مضمخًا بالعطر، والجملة صفة ريحًا أو مستأنفة، "رواه مسلم" في الصحيح، "وفي حديث وائل بن حجر" بمهملة مضمومة فجيم ساكنة- الحضرمي "عند الطبراني، والبيهقي: لقد(5/452)
كنت أصافح رسول الله -صلى الله عليه وسلم, أو يمسّ جلدي جلده، فأتعرَّفه بعد في يدي، وإنه لأطيب رائحة من المسك.
وقال يزيد بن الأسود: ناولني رسول الله عليه وسلم- يده, فإذا هي أبرد من الثلج وأطيب ريحًا من المسك. رواه البيهقي.
وعن المستورد بن شداد عن أبيه قال: أتيت النبي -صلى الله عليه وسلم- فأخذت بيده, فإذا هي ألين من الحرير وأبرد من الثلج. رواه الطبراني.
ودخل -صلى الله عليه وسلم- على سعد بن أبي وقاص يعوده بمكة وقد اشتكى، قال: فوضع يده على جبهتي فسمح وجهي وصدري وبطني، فما زلت يخيل إلي
__________
كنت أصافح رسول الله -صلى الله عليه وسلم، أو يمسّ جلدي جلده" أو للتنويع لا للشك، فهو إخبار عن حالتين، "فأتعرَّفه بعد في يدي"، أي: فأعرف أثره بعد مفارقته لي، "وأنه لأطيب رائحة من المسك".
قال القاموس: تعرَّفت ما عندك، تطلَّبته حتى عرفته، "وقال يزيد": بتحتية وزاي، "ابن الأسود" بن سلمة بن حجر بن وهب الكندي، صحابي ابن صحابي، قال ابن الكلبي: وفد به أبوه على النبي -صلى الله عليه وسلم, وهو غلام، فدعا له. استدركه ابن فتحون، ذكره في الإصابة، "ناولني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يده، فإذا هي أبرد من الثلج، وأطيب ريحًا من المسك، رواه البيهقي"، وفيه كسابقه ولاحقه, إشارة إلى كمال الأعضاء النبوية حسًّا ومعنًى، "وعن المستورد" بضم الميم، وسكون السين المهملة وفتح الفوقية وكسر الراء وبالدال المهملتين- "ابن شداد" بن عمر القرشي الفهري، صاحبيّ حجازي، نزل الكوفة، ثم مصر، وشهد فتحها، واختط بها، وتوفي بالإسكندرية سنة خمس وأربعين، ويقال: اسم أبيه سلامة، وهو تغيير، والصواب شدَّاد، كما في كتاب ابن يونس, أفاده الإصابة "عن أبيه" شدَّاد بن عمرو بن حسل بن لاحب بن حبيب بن عمرو بن شيبان بن محار بن فهر القرشي، الفهري الصحابي، "قال: أتيت النبي -صلى الله عليه وسلم، فأخذت بيده، فإذا هي ألين من الحرير، وأبرد من الثلج، رواه الطبراني" بإسناد على شرط الصحيح، قاله الحافظ: "ودخل -صلى الله عليه وسلم- على سعد بن أبي وقاص" مالك القرشي الزهري، أحد العشرة، "يعوده بمكة" في حجة الوداع، "وقد اشتكى" من مرض، أشرف معه على الموت، فاستأذنه في التصدّق بثلثي ماله أو بشطره فأبى، فقال: فالثلث، قال: "الثلث، والثلث كثير"، الحديث في الصحيح.
"قال: فوضع يده على جبهتي، فمسح وجهي وصدري وبطني، فما زلت يخيل إليّ"،(5/453)
أني أجد برد يده على كبدي حتى الساعة، رواه.
في البخاري من حديث أنس قال: ما مَسَسْتُ حريرًا ولا ديباجًا ألين من كَفِّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم. وهو من باب عطف الخاص على العام؛ لأن الديباج نوع من الحرير.
قيل: وهذا الوصف في هذا الحديث يخالف ما وقع في حديث هند بن أبي هالة عند الترمذي في صفته -صلى الله عليه وسلم، فإنَّ فيه -كما تقدَّم: كان شثن الكفين والقدمين، أي: غليظهما في خشونة، وهكذا وصفه عليُّ من عدة طرق عند الترمذي
__________
أي: يقع في وهمي "أني أجد" أي: وجود "برد يده على كبدي حتى الساعة، رواه" كذا في نسخة، وبعدها بياض، وفي الشامي: وقد رواه الإمام أحمد من حديث سعد، ويقع في نسخة: رواه البخاري، وهي خطأ؛ إذ البخاري إنما روى في الجنائز والوصايا وحجة الوداع أصل الحديث بدون تلك الزيادة التي هي: فوضع يده إلى آخره، والله أعلم.
"وفي البخاري" في صفة النبي -صلى الله عليه وسلم "من حديث أنس قال: ما مسست"، قال الحافظ وغيره: بمهملتين: الأولى مكسورة ويجوز فتحها، والثانية ساكنة، "حريرًا، ولا ديباجًا" بكسر المهملة، وحُكِيَ فتحها، وقال أبو عبيد: الفتح مولّد، أي: ليس بعربي، "ألْيَن من كفِّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم"، ولا شممت ريحًا قط، أو عرفًا قط أطيب من ريح أو عرف النبي -صلى الله عليه وسلم. هذا بقية الحديث عند البخاري، وأخرجه مسلم بنحوه, وشممت -بكسر الميم الأولى وتفتح، وإسكان الثانية، وعرف -بفتح المهملة، وسكون الراء، بعدها فاء- وهو شكّ من الراوي يدل عليه قوله: أطيب من ريح أو عرف، وهو الريح الطيب، ووقع في بعض الروايات -بفتح الراء، وبالقاف- وأو على هذا للتنويع الأوّل هو المعروف، فقد رواه البخاري في الصوم عن أنس: ما شممت مسكة ولا عنبرة أطيب رائحة من ريح رسول الله -صلى الله عليه وسلم، "وهو" أي: قوله: ولا ديباجًا "من باب عطف الخاصّ على العام؛ لأن الديباج نوع من" ثياب "الحرير"، أي: كله حرير على ظاهره، كظاهر قول النهاية: الديباج -بكسر الدال- الثياب المتَّخذة من الإبريسم، فارسي معرّب، وقد تفتح داله، ويجمع على ديابيج -بالياء- أي: التحتية، ودبابيج -بالباء، أي: الموحدة، وفي المصباح: الديباج: ثوب سداه، ولحمته إبريسم، "قيل: وهذا الوصف"، أي: كونه ألين من الحرير "في هذا الحديث، يخالف ما وقع في حديث هند بن أبي هالة عند الترمذي في صفته -صلى الله عليه وسلم، فإن فيه -كما تقدم: كان شثن الكفين والقدمين، أي: غليظهما في خشونة، وهكذا وصفه علي"، كما ورد عنه "من عدة طرق"، فهو صلة محذوف "عند الترمذي والحاكم وغيرهما" كابن أبي خيثمة، "وكذا وصف عائشة له عند ابن أبي خيثمة" زهير بن حرب،(5/454)
والحاكم وغيرهما، وكذا وصف عائشة له عند ابن أبي خيثمة.
والجمع بينهما: إن المراد اللّين في الجلد, والغلظ في العظام، فتجتمع له نعومة البدن وقوته.
وقال ابن بطال: كانت كفّه -صلى الله عليه وسلم- ممتلئة لحمًا، غير أنها مع ضخامتها كانت لينة، كما في حديث أنس، قال وأمَّا قول الأصمعي: الشثن: غلظ الكف في خشونة، فلم يوافق على تفسيره بالخشونة، والذي فسَّره به الخليل أَوْلَى، قال: وعلى تسليم ما فسَّر به الأصمعي الشثن, يحتمل أن يكون أنس وصف حالتي كف النبي -صلى الله عليه وسلم, فكان إذا عمل بكفه في الجهاد أو في مهنة أهله، صار كفّه خشنًا للعارض المذكور، وإذا ترك ذلك رجع كفه إلى أصل جبلته من النعومة.
__________
"والجمع بينهما" كما في الفتح، أي: بين اللين المصرِّح به أنس، والغلظ الذي تضمَّنه شثن في حديث الجماعة على ما فسَّره به، "أن المراد: اللين في الجلد، والغلظ في العظام"، فلا تنافي، وكلاهما متعلق بمحذوف، أي: المراد باللين: اللين في الجلد، وبالغلظ في العظام، "فتجتمع له نعمة البدن وقوته"، لكن هذا الجمع لا يدفع التعارض بين وصف جلده باللين والخشونة، وإنما يدفع التعارض بين اللين والغلظ مع أنه لا يرد؛ إذ مفهوم اللين لا يعارض مفهوم الغلظ.
"وقال ابن بطال: كانت كفّه -صلى الله عليه وسلم- ممتلئة لحمًا، غير إنها مع ضخامتها" الذي هو معنى الشثن "كانت لينة، كما في حديث أنس" المذكور، "قال: وأما قول" أبي سعيد عبد الملك بن قريب بن عبد الملك بن علي بن الأصمع "الأصمعي" بفتح الهمزة، وسكون الصاد المهملة، وفتح الميم وعين مهملة- نسبة إلى جدّه أصمع المذكور الباهلي، ثم البصري، إمام ثقة, صدوق سني، روى له أبو داود والترمذي، مات سنة خمس أو ست أو سبع عشرة ومائتين بالبصرة، عن ثمان وثمانين سنة، "الشثن: غلظ الكف في خشونة، فلم يوافق على تفسيره بالخشونة"، وإن تبعه عليه الجوهري والمجد وغيرهما؛ لأنه لا يليق هنا لمنابذته، لما صحَّ من لين كفِّه -صلى الله عليه وسلم، "والذي فسَّره به الخليل"، من أنه غلظ الأصابع، وأنه جمال في الرجال؛ لدلالته على الشدة "أَوْلَى" بالقبول؛ لأن الغلظ لا ينافي النعومة.
"قال" ابن بطال: "وعلى تسليم ما فسَّر به الأصمعي الشثن، يحتمل أن يكون أنس وصف حالتي كَفّ النبي -صلى الله عليه وسلم، فكان إذا عمل بكفِّه في الجهاد، أو في مهنة أهله صار كفّه خشنًا للعارض المذكور"، فيحمل عليه قول أنس في الصحيح: كان شثن القدمين والكفين بناءً(5/455)
وقال القاضي عياض: فسَّر أبو عبيدة الشثن بالغلظ مع القصر, وتعقّب بأنه ثبت في صفته -عليه الصلاة والسلام- أنه كان سائل الأطراف. انتهى.
ويؤيد كونها كانت لينةً قوله في رواية النعمان: كان سبط الكفين -بتقديم المهملة على الموحدة، فإنه موافق لوصفها باللين.
والتحقيق في الشثن أنه الغلظ من غير قصر ولا خشونة. وقد نقل ابن خالويه: إن الأصمعي لما فسر الشثن بما مضى قيل له: إنه ورد في صفة النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه لَيِّن الكفَّين، فآلى
__________
على تفسيره بالخشونة، و"إذا ترك ذلك رجع كفّه إلى أصل جبلته" طبيعته التي خُلِقَ عليها، وفي نسخة: خلقته، "من النعومة"، وعليه يحمل قول أنس: إنها أَلْيَن من الحرير، فلا تخالف بين حديثيه.
"وقال القاضي عياض: فسَّر أبو عبيدة الشثن بالغلظ مع القصر، وتعقّب بأنه ثبت في صفته -عليه الصلاة والسلام" عند الترمذي وغيره، من حديث هند بن أبي هالة، "أنه كان سائل الأطراف" بسين مهملة ولام- ممتد الأصابع، طويلها طولًا معتدلًا بين الإفراط والتفريط، من غير تكسّر جلد ولا تشنج، بل كانت مستوية مستقيمة، وذلك مما يتمدح به، قال النابغة:
يهزون أرماحًا طوالًا متونها ... بأيد طوال عاريات الأشادح
وقد وقع حديث هند بالشك، هل قاله بالسين المهملة، أو شائل بالمعجمة، أي: مرتفعها، وهو قريب من سائل, من قولهم: شالت الميزان: ارتفعت إحدى كفتيه، والمعنى: كان مرتفع الأصابع بلا احديداب ولا انقباض، وقال ابن الأنباري: روي سائل، وسائن -بالنون، وهما بمعنى, تبدَّل اللام من النون، ولم يتعرض أصحاب الغريب لشائل -بمعجمة، لكنه مستقيم على قانون العربية -كا عُلِمَ، ومقصود الكلمة كما قال الزمخشري: إنها ليست معتقدة "انتهى" كلام عياض، "ويؤكد كونها كانت لينةً قوله في رواية النعمان: كان سبط الكفين -بتقديم المهملة" المفتوحة "على الموحدة" الساكنة، وحكي كسرها وفتحها وطاء مهملة- أي: ممتدهما بلا تعقيد ولا نتوّ، لكن هذه اللغات في الوصف، أما المصدر فبالفتح لا غير، "فإنه موافق لوصفها باللين" في المعنى، "والتحقيق في الشثن أنَّه الغلظ من غير قصر ولا خشونة"، كما فسَّره به الخليل ومن تبعه.
"وقد نقل ابن خالويه: إن الأصمعي لما فسَّر الشثن بما مضى" من الغلظ مع الخشونة، "قيل له: إنه ورد في صفة النبي -صلى الله عليه وسلم، أنه لَيِّنُ الكف"، فلا يصح تفسيرك بالخشونة، "فآلى":(5/456)
على نفسه أن لا يفسِّر شيئًا في الحديث. انتهى.
وفي حديث معاذ عند الطبراني والبزار: أردفني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خلفه في سفر، فما مسَسَت شيئًَا قط ألين من جلده -صلى الله عليه وسلم.
وأصيب عائذ بن عمرو في وجهه يوم حنين، فسال الدم على وجهه وصدره، فسلت النبي -صلى الله عليه وسلم- الدم بيده عن وجهه وصدره، ثم دعا له، فكان أثر يده -عليه الصلاة والسلام- إلى منتهى ما مسح من صدره غُرَّة سائلة كغرة الفرس. رواه الحاكم وأبو نعيم وابن عساكر.
وأخرج البخاري في تاريخه والبغويّ وابن منده في الصحابة من طريق صاعد بن العلاء بن بشر عن أبيه عن جدّه بشر بن معاوية: أنه قدم مع أبيه معاوية بن ثور على رسول الله -صلى الله عليه وسلم, فمسح رأسه ودعا له بالبركة
__________
حلف "على نفسه أن لا يفسر شيئًا في الحديث" خوفًا من أن يفسره بخلاف معناه في الواقع "انتهى"، وهذا من قوة دينه -رحمه الله.
"وفي حديث معاذ" بن جبل "عند الطبراني والبزار: أردفني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خلفه في سفر، فمَا مسست شيئًا قط أَلْيَن من جلده -صلى الله عليه وسلم"، وهذا شامل للكفَّين وغيرهما، "وأصيب عائذ" بتحتية وذال معجمة "ابن عمرو" بن هلال بن عبيد بن يزيد المزني, صحابي بايع تحت الشجرة, ابن صحابي، وسكن البصرة، وبها مات سنة إحدى وستين "في وجهه يوم حنين، فسال الدم على وجهه وصدره، فسلت النبي -صلى الله عليه وسلم- الدم"، أي: أزاله "بيده عن وجهه وصدره، ثم دعا له، فكان أثر يده -عليه الصلاة والسلام- إلى منتهى ما مسح من صدره غرَّة" بياضًا "سائلة كغرة الفرس، رواه الحاكم وأبو نعيم وابن عساكر، وأخرج البخاري في تاريخه، والبغوي" أبو القاسم من طريق عمران بن ماعز.
قال البغوي: وهو مجهول، "وابن منده" كلاهما "في" معرفة "الصحابة، من طريق صاعد بن العلاء بن بشر"، كما بَيِّنَه الإصابة، خلاف ما أوهمه المصنف؛ أنَّ الكل من طريق صاعد، "عن أبيه، عن جده بشر" بكسر الموحدة ومعجمة- صحابي، عداده في أهل الحجاز، "ابن معاوية؛ أنه قدم مع أيه معاوية بن ثور" بن معاوية بن عبادة -بكسر العين- ابن البكاء، واسمه: ربيعة بن عامر بن صعصعة العامري البكائي، "على رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فمسح رأسه"، لفظ رواية المذكورين، كما في الإصابة، فمسح رأس بشر، "ودعا له بالبركة"، وذلك بطلب أبيه، فروى(5/457)
فكانت في وجهه مسحة النبي -صلى الله عليه وسلم- كالغرَّة, وكان لا يمسح شيئًا إلا برئ.
ومسح -صلى الله عليه وسلم- رأس مدلوك أبي سفيان, فكان ما مرت عليه يده أسود، وشاب ما سوى ذلك. رواه البخاري في تاريخه والبيهقي.
وكذا وقع له -عليه الصلاة والسلام- في رأس السائب
__________
ابن شاهين، وثابت في الدلائل: قدم معاوية بن ثور على النبي -صلى الله عليه وسلم، وهو شيخ كبير، ومعه ابن له يقال له بشرًا، فقال: يا رسول الله, امسح وجه ابني هذا، ففعل، فذكر الحديث، وفيه، فقال محمد بن بشر بن معاوية:
وأبي الذي مسح النبي بوجهه ... ودعا له بالخير والبركات
فأفادت الروايتان أنَّ المسح وقع في الرأس والوجه معًا، فلا غبار على قوله: "فكانت في وجهه مسحة النبي"، أي: أثر مسحته "صلى الله عليه وسلم- كالغرَّة" البياض، "وكان لا يمسح شيئًا إلّا بَرِئَ ببركة اليد الميمونة، قال ابن منده: لا نعرفه إلّا من هذا الوجه، وانتقده الإصابة؛ بأن له طريقًا أخرى عند أبي نعيم بإسناد مجهول، وأخرى عند ابن شاهين بإسناد منقطع، وذكر ابن منده بهذا السند قال: وكتب النبي -صلى الله عليه وسلم- لمعاوية كتابا، ووهب له من صدقة عامة، فلمَّا رجع معاوية إلى منزله، قال: إنما أنا هامة اليوم أو غد، ولي مال كثير، وإنما لي ابنان، فرجع فقال: يا رسول الله خذها مني، فضعها حيث ترى من مكابدة العدو، فإني موسِرٌ، فقال: "أصبت يا معاوية"، فقلبها منه، "ومسح -صلى الله عليه وسلم- رأس مدلولك" بميم فدال مهملة فلام فواو فكاف- علم "أبي سفيان"، كنيته: الفزاري، مولاهم، صحابي، نزل الشام، وذكره البرديجي في الأسماء المفرَدة من الصحابة، "فكان ما مرت عليه يده أسود، وشاب ما سوى ذلك، رواه البخاري في تاريخه، والبيهقي"، وابن سعد، والبغوي، والطبراني من طريق مطر بن العلاء الفزاري، حدثتني عمَّتي آمنة أو أميَّة بنت أبي الشعثاء، وقطبة مولاهم، قالا: سمعنا أبا سفيان مدلوكًا يقول: ذهبت مع مولاي إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فأسلمت، فدعا بالبركة، ومسح رأسي بيده، قالت: فكان مقدم رأس أبي سفيان أسود، ما مسَّته يد النبي -صلى الله عليه وسلم، وسائره أبيض. وأخرجه ابن منده، وأبو نعيم من وجه آخر عن مطر، فقال: عن مدلوك أبي سفيان، وقال: عن آمنة -بالنون، ولم يشك، كما في الإصابة.
"وكذا وقع له -عليه الصلاة والسلام- في رأس السائب" بن يزيد بن سعيد بن ثمامة الكندي، أو الأزدي، وقيل: في نسبه غير ذلك, له ولأبيه صحبة، وفي البخاري عنه: حجَّ أبي مع النبي -صلى الله عليه وسلم، وأنا ابن ست سنين. وهو عند ابن شاهين بلفظ: حج بي أبي، روى عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أحاديث، وعن أبيه، وعمر، وعثمان، وجماعة من الصحابة، وعنه الزهري، وآخرون، واستعمله عمر(5/458)
رواه البغوي والبيهقي وابن منده.
وأخرج البيهقي وصحَّحه، والترمذي وحسَّنه، عن أبي زيد الأنصاري قال: مسح -عليه الصلاة والسلام- بيده على رأسي ولحيتي ثم قال: "اللهم جمّله"، قال: فبلغ بضعًا ومائة سنة وما في لحيته بياض. لقد كان منبسط الوجه ولم ينقبض وجهه حتى مات.
ومسح -عليه الصلاة والسلام- رأس حنظلة بن حذيم بيده وقال له: "بورك فيك،
__________
على سوق المدينة، ومات سنة اثنتين وثمانين، وقيل: بعد التسعين, سنة إحدى أو أربع، وهو آخر من مات بالمدينة من الصحابة في قول, "رواه البغوي والبيهقي وابن منده" عنه: أنَّ المصطفى مسح رأسه، فما مسَّته يده لم يشب, وشاب ما عداه، وأصله في الصحيحين عنه, أنَّ خالته ذهبت به وهو وَجِعٌ، فمسح النبي -صلى الله عليه وسلم- رأسه، ودعا له وتوضأ، وشرب من وضوئه، ونظر إلى خاتم النبوة، "وأخرج البيهقي وصحَّحه، والترمذي وحسَّنه" من طريق علياء بن أحمر، "عن أبي زيد الأنصاري".
الخزرجي, اسمه: عمرو بن أخطب بن رفاعة، مشهور بكنيته، غزا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- ثلاث عشرة غزوة، ونزل البصرة, له في مسلم والسنن، "قال: مسح -عليه الصلاة والسلام- بيده على رأسي ولحيتي، ثم قال: "اللهمَّ جَمِّله"، قال" الراوي عنه وهو علباء -بكسر المهملة، وسكون اللام، بعدها موحدة: "فبلغ بضعًا ومائة سنة، وما في لحيته بياض" ببركة اليد الميمونة، "ولقد كان منبسط الوجه، ولم ينقبض وجهه حتى مات" ببركة الدعوة المجابة.
وفي رواية لأحمد، عن أبي نهيك، حدثني أبو زيد قال: استسقى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ماء، فأتيته بقدح فيه ماء، فكانت فيه شعرة، فأخذتها، فقال: "اللهمَّ جمِّله"، قال: فرأيته ابن أربع وتسعين سنة، ليس في لحيته شعرة بيضاء. صحَّحَه الحاكم وابن حبان، "ومسح -عليه الصلاة والسلام- رأس حنظلة بن حذيم" بكسر الحاء المهملة وسكون المعجمة وفتح التحتية وميم- ابن حنيفة -بفتح المهملة- ابن جبير بن بكر بن حجر بن معد بن ثعلبة بن زيد مناة بن تميم التميمي، ويقال: الأسدي أسد خزيمة، ويقال له: المالكي، ومالك بطن من أسد بن خزيمة، له ولأبيه وجَدّه صحبة، "بيده، قال له: "بورك فيك" لفظ رواية أحمد: "بارك الله فيك"، أو قال: بورك فيك -بالشك، ولفظ الحديث من أوله، قال الإما أحمد: حدَّثنا أبو سعيد مولى بني هاشم، حدَّثنا الذيال بن عبيد، سمعت جدي حنظلة بن حذيم، حدثني أبي أنَّ جدي حنيفة، قال لحذيم: اجمع لي بنيّ، فأوصاهم فقال: إن ليتيمي الذي في حجري مائة من الإبل، فقال حميد: يا أبت!(5/459)
فكان يؤتى بالشاة الوارم ضرعها, والبعير والإنسان به الورم، فيتفل في يده ويمسح بصلعته ويقول: بسم الله, على أثر يد رسول الله -صلى عليه وسلم- فيمسحه, ثم يمسح موضع الورم, فيذهب الورم. رواه أحمد والبخاري في التاريخ, وأبو يعلى وغيرهم.
وقد جاء في عدة أحاديث عن جماعة من الصحابة بياض إبطيه.
فعن أنس قال: رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يرفع يديه في الدعاء حتى رأيت بياض إبطيه.
__________
سمعت بنيك يقولون: إنما تقر بهذا لتقر عين أبينا، فإذا مات رجعنا، فجاء حنيفة، وحذيم، ومعهما، ومعهم حنظلة، وهو غلام رديف أبيه، فقص على النبي -صلى الله عليه وسلم- قصته، فغضب -صلى الله عليه وسلم، فجثا على ركبتيه، وقال له: "لا لا, الصدقة خمس"، وإلّا فعشر، وإلّا فعشرون، وإلّا، فثلاثون، فإن كثرت فأربعون.
قال: فودعوه، ومع اليتيم هراوة، فقال -صلى الله عليه وسلم: "عظمت هذه هراوة يتيم"، فقال حذيم: إن لي بنين ذوي لحاء، وإن هذا أصغرهم -يعني حنظلة- فادع لله له، فمسح رأسه، وقال: "بارك الله فيك"، أو قال: "بورك فيك"، قال الذيال: "فكان يؤتى بالشاة الوارم ضرعها، والبعير والإنسان به الورم، فيتفل" بضم الفاء وكسرها "في يده"، أي: يد نفسه، "ويمسح بصلعته" بفتح اللام، وإسكانها لغة, أباها الحداق موضع الصلع، وهو انحسار الشعر على مقدم الرأس، أو يضع يده على رأس موضع كفه -صلى الله عليه وسلم، "ويقول: "بسم الله، على أثر يد رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فيمسحه، ثم يمسح موضع الورم، فيذهب الورم. رواه أحمد, والبخاري في التاريخ، وأبو يعلى، وغيرهم"، كالطبراني، ويعقوب بن سفيان.
ورواه الحسن بن سفيان من وجه آخر عن الذيّال، وزاد أنَّ اسم اليتيم: ضرار بن قطبة، وأنه كان شبه المحتلم، وأخرج هو والباوردي وابن السكن عن الذيال: سمعت جدي حنظلة, سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "لا يتم بعد احتلام، ولا تصلي جارية إذا هي حاضت"، والذيال -بذال معجمة وتحتية فألف فلام- ابن عبيد بن حنظلة، تفرَّد بالرواية عن جده، "وقد جاء في عدة أحاديث عن جماعة من الصحابة، بياض إبطيه"، قال الحافظ: واختُلِفَ في المراد بذلك، فقيل: لم يكن تحتها شعر، فكانا كَلَوْنِ جسده، ثم قيل: لم يكن تحت إبطيه شعر البتة، وقيل: كان لدوام تعاهده له لا يبقى فيه شعر، وعند مسلم في حديث: حتى رأينا عفرة إبطيه، ولا تنافي بينهما؛ لأن الأعفر ما بياضه ليس بالناصع، وهذا شأن المغابن، يكون لها في البياض دون بقية الجسد. انتهى، "فعن أنس قال: رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يرفع يديه في الدعاء"، أي: في الاستسقاء، "حتى رأيت بياض إبطيه"، فلا ينافي قول أنس: كان لا يرفع يديه في شيء من(5/460)
وقال الطبري: ومن خصائصه -صلى الله عليه وسلم- أنَّ الإبط من جميع الناس متغيّر اللون غيره, إلا هو -عليه الصلاة والسلام. ومثله للقرطبي وزاد: وإنه لا شعر عليه، لكن نازع فيه صاحب شرح تقريب الأسانيد، وقال: إنَّه لم يثبت ذلك بوجه من الوجوه، قال: والخصائص لا تثبت بالاحتمال، ولا يلزم من ذكر أنس وغيره بياض إبطيه أن لا يكون له شعر. قال عبد الله بن أقرم -وقد صلى معه -صلى الله عليه وسلم: كنت أنظر إلى عفرة إبطيه. حسَّنه الترمذي. والعفرة: بياض ليس بالناصع كما قاله الهروي وغيره، وسيأتي مزيد لذلك في الخصائص إن شاء الله تعالى.
وعن رجل من بني حريش قال: ضمَّني رسول الله -صلى الله عليه وسلم, فسال عليَّ من عرق إبطيه مثل ريح المسك. رواه البزار.
__________
دعائه، إلّا في الاستسقاء، فإنه كان يرفع يديه حتى يرى بياض إبطيه، متفق عليه.
"وقال الطبري: ومن خصائصه -صلى الله عليه وسلم- أنّ الإبط من جميع الناس متغيّر اللون غيره" بالجر نعت للناس، "إلّا هو -عليه الصلاة والسلام، ومثله للقرطبي، وزاد: وإنه لا شعر عليه، لكن نازع فيه صاحب شرح تقريب الأسانيد" للنووي، وهو العلامة ولي الدين القراتي, الحافظ ابن الحافظ، "وقال: إنه لم يثبت ذلك"، أي: إنه لا شعر عليه "بوجهٍ من الوجوه، قال: والخصائص لا تثبت بالاحتمال"، وإنما تثبت بالنص الصحيح الصريح، "ولا يلزم من ذكر أنس وغيره"، كعبد الله بن مالك بن بجينة، "بياض إبطيه, أن لا يكون له شعر"؛ لاحتمال أنه كان يديم تعاهده، وقد علَّله ابن العراقي نفسه بقوله: فإن الشعر إذا نتف بقي المكان بيض، وإن بقي فيه آثار الشعر، "وقال عبد الله بن أقرم" بفتح الهمزة والراء بينهما قاف ساكنة آخر ميم- ابن زيد الخزاعي، أبي معبد، صحابي، مقلّ، له حديثان، "وقد صلى معه -صلى الله عليه وسلم: كنت أنظر إلى عفرة إبطيه. حسَّنه الترمذي، والعفرة" بضم المهملة، وإسكان الفاء "بياض ليس بالناصع، كما قاله الهروي وغيره" كابن الأثير، "وسيأتي مزيد" قليل "لذلك في الخصائص -إن شاء الله تعالى"، وهو نقل قول العراقي: وهذا -أي: حديث ابن أقرم- يدل على أن أثر الشعر هو الذي جعل المكان أعفر، وإلّا فلو كان خاليًا عن نبات الشعر جملةً لم يكن أعفر، نعم الذي نعتقده أنّه لم يكن لإبطه رائحة كريهة. انتهى.
وقد يمنع دلالته على ما قال بما تقدَّم عن الحافظ، أنَّ شأن المغابن كونها أقلّ بياضًا من باقي الجسد، "وعن رجل" لم يسمّ "من بني حريش" بفتح المهملة وكسر الراء وإسكان التحتية وشين معجمة- بطن من الأنصار "قال: ضمَّني رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فسال عليَّ من عرق إبطيه مثل ريح المسك، رواه البزار"، وهو صريح في اختصاصه، بطيب رائحة إبطيه دون الناس،(5/461)
ووصفه علي فقال: ذو مسربة، وفسِّر بخيط الشعر بين الصدر والسرة.
وقال ابن أبي هالة: دقيق المسربة.
وعند ابن سعد عن علي: طويل المسربة.
وعند البيهقي: له شعرات من لبته إلى سرته تجري كالقضيب, ليس على صدره ولا بطنه غيره.
ووصفت بطنه أم هانئ فقالت: ما رأيت بطن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلّا ذكرت القراطيس المثْنَى بعضها على بعض. رواه الطيالسي والطبراني.
وقال أبو هريرة: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أبيض كأنما صيغ من فضة،
__________
"ووصفه عليّ" عند الترمذي، "فقال: ذو مسربة" بفتح الميم، وإسكان السين، وضم الراء، وفتحها، وموحدة، وهاء، والتنوين للتعظيم، فهو كقوله الآتي: طويل المسربة، "وفسِّر بخيط الشعر بين الصدر والسرة"، وفي المصباح: شعر الصدر يأخذ إلى العانة، وفي القاموس: شعر وسط الصدر إلى البطن، "وقال ابن أبي هالة: دقيق" بالدال، وفي رواية بالراء: "المسربة"، ووصفها بالدقة للمبالغة؛ إذ هي الشعر الدقيق، "وعند ابن سعد"، وكذا الترمذي في الشمائل، "عن علي: طويل المسربة"، فأفاد الحديثان أنها دقيقة طويلة، "وعند البيهقي له شعرات من لبته" بفتح اللام "إلى سرَّته, تجري كالقضيب" الغصن أو العود، أو السيف اللطيف الرقيق، "ليس على صدره ولا بطنه غيره"، الضمير للشعرات، ذكره لقوله: كالقضيب، "ووصفت بطنه أم هانئ فقالت: ما رأيت بطن رسول الله -صلى الله عليه وسلم، إلّا ذكرت القراطيس المثْنَى بعضها على بعض"، ولعلَّ رؤيتها بطنه قبل تحريم رؤية الأجنبية للأجنبي؛ إذ هو -صلى الله عليه وسلم- ابن عمها، أو قبل البعثة، فلا يشكل على قول مالك: ترى الأجنبية من الأجنبي ما يراه من محرمة، وهو الوجه والأطراف، ولا على قول الشافعي: لا ترى منه شيئًا، ولا الوجه والأطراف، "رواه الطيالسي" أبو داود سليمان بن داود بن الجارود, الحافظ المشهور، "والطبراني" سليمان بن أحمد بن أيوب, "وقال أبو هريرة: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أبيض كأنما صيغ" من الصوغ بمعنى الإيجاد، أي: خُلِقَ "من فضة"، قال الجوهري والمجد: صاغ الله فلانًا صيغة حسنة خَلَقَه، وقال الزمخشري: من المجاز: فلان حسن الصيغة وهي الخلقة، وصاغه الله صيغة حسنة، وفلان من صيغة كريمة: من أصل كريم، انتهى.
وهذا باعتبار ما كان يعلو بياضه من الإضاءة ولمعان الأنوار والبريق الساطع، فلا ينافي ما ورد أنه كان مشربًّا بحمرة، وآثره لتضمنه نعته بتناسب التركيب وتماسك الأجزاء، فلا اتجاه(5/462)
رجل الشعر، مفاض البطن، عظيم مشاش المنكبين.
وتقدَّم أن المشاش هي: رءوس العظام كالركبتين، ومفاض: أي: واسع البطن، وقيل: مستوي البطن مع الصدر.
وخرَّج الإمام أحمد عن محرش الكعبي قال: اعتمر النبي -صلى الله عليه وسلم- من الجعرانة ليلًا، فنظرت إلى ظهره كأنَّه سبيكة فضة.
وكان -صلى الله عليه وسلم- بعيد ما بين المنكبين. رواه البخاري. أي: عريض الصدر، ووقع عند ابن سعد من حديث أبي هريرة: رحب الصدر.
وأمَّا قلبه الشريف -صلى الله عليه وسلم،
__________
لجعله من الصوغ، بمعنى: سبك الفضة, "رجل الشعر" بفتح الراء وكسر الجيم وفتحها وسكونها- كما في المفهم، أي: مسرح الشعر، أو ما فيه تثن قليل، أو لم يكن شديد الجعود ولا السبوطة، بل بينهما، قال القرطبي: كان شعره مثل خلقته مسرجًا، وهذا الحديث إلى هنا رواه الترمذي في الشمائل عنه، وزاد في رواية غيره: "مفاض البطن" بالفاء والضاد المعجمة- كما قاله الهروي وغيره، "عظيم مشاش المنكبين، وتقدَّم أن المشاش" بضم الميم، ومعجمتين "هي رءوس العظام؛ كالركبتين، ومفاض، أي: واسع البطن، وقيل" معناه "مستوي البطن مع الصدر"، وجزم به الهروي، وحكى ابن الأثير القولين، "وخرَّج الإمام أحمد عن مُحَرّش" بضم الميم، وفتح المهملة، وكسر الراء الثقيلة، ومعجمة- ضبطه ابن ماكولا تبعًا لهشام بن يوسف، ويحيى بن معين، ويقال: بسكون الحاء المهملة وفتح الراء، وصوَّبه ابن السكن تبعًا لابن المديني، كما في الإصابة، وزاد في التبصير: وقال ابن سعد: مخرّش -بالخاء المعجمة، وقال بعضهم: مهملة، وقال الزمخشري: الصواب بالخاء المعجمة، انتهى.
وفي الجامع لابن الأثير، ويقال: محرش -بكسر الميم وسكون الحاء وفتح الراء مخففة وشين معجمة- قال في الإصابة، وهو ابن سويد بن عبد الله بن مرة الخزاعي، "الكعبي"، عداده في أهل مكة وقيل: إنه ابن عبد الله، انتهى.
"قال: اعتمر النبي -صلى الله عليه وسلم- من الجعرانة ليلًا، فنظرت إلى ظهره كأنَّه سبيكة فضة"، فاعتمر وأصبح بها كبائت، هذا بقية الحديث، وأخرجه أبو داود والنسائي، والترمذي بإسناد حسن، قال الترمذي: ولا يعرف له غيره، "وكان -صلى الله عليه وسلم- بعيد ما بين المنكبين. رواه البخاري" عن البراء بن عازب في حديث، "أي: عريض الصدر" لفظ الفتح، وتبعه المصنف في شرحه، أي: عريض أعلى الظهر، "ووقع عند ابن سعد من حديث أبي هريرة: رحب الصدر"، أي واسعه، "وأما قلبه الشريف"، أي: صفته -صلى الله عليه وسلم، فقد ثبت له من الكمال، كالشق وشرح الصدر. وغير ذلك, ما لم(5/463)
فاعلم أنَّ القلب مضغة في الفؤاد معلَّقة بالنباط، فهو أخصّ من الفؤاد. قاله الواحدي، وسُمِّيَ به لتقلبه بالخواطر والعزوم، قال الشاعر:
وما سمي الإنسان إلا لنسيه ... ولا القلب إلا أنه يتقلب
وقال الزمخشري: مشتق من التقلُّب الذي هو المصدر لفرط تقلبه،
__________
يثبت لغيره، فجواب أمَّا محذوف، وإذا أردت معرفة القلب من حيث هو، وموضعه، "فاعلم"، فالفاء فصيحة في جواب شرط مقدّر، وصدَّر هذا المبحث بمقدمة كلية عنونها بالأمر بالعلم، تنبيهًا على جلالة ما فيه من الأبحاث دون بقية الجوارح، "إن القلب مضغة" بميم، ومعجمة- وفي نسخة: بضعة -بموحدة مثلثة، ومعجمة، ومهملة- وهما بمعنى قطعة, "في الفؤاد، معلقة بالنباط" بكسر النون- عرق متصل بالقلب، كما في المصباح، "فهو أخصّ من الفؤاد"، أي: أشرف منه؛ لأنه قصد به حفظ القلب، فالقلب المقصود، وليس المراد الأخصّ المقابل للأعمّ؛ لأنه بعض أفراد العام، ولا يستقيم على ما ذكره المقتضي تباينهما ضرورة تباين الظرف لمظروفه في متعددات، لا في شيء واحد، "قاله الواحدي، وسمي به لتقلبه بالخواطر"، أي: ما يعرض له من أوّل أحواله قبل التصميم عليه، فشمل الأربع التي قبل العزم، الخاطر والهاجس وحديث النفس والهمّ، بدليل مقابلته بقوله: "والعزوم" بالجمع على أمر واحد؛ لأدلة مختلفة كان يتردَّد في أمر، ويظهر له صواب فيصمم عليه، ثم يظهر له خلافه فيعزم عليه، ويعرض عن الأوَّل، وهكذا، كما يقع للمجتهدين، أو المراد: العزم على أمور متباينة يتعلّق بها نظره؛ ليفعلها في أوقات مختلفة، فالجمع باعتبار أفراد العزوم في متعددات، لا في شيء واحد، "قال الشاعر:
وما سمي الإنسان إلا لنسيه
بكسر النون- كما في القاموس، بناءً على قول الكوفيين، مشتَقّ من النسيان, فالهمزة زائدة، فوزنه: أفعان على النقص، وفي نسخة: لأنسه على قول البصريين، من الأنس، فالهمزة أصل، ووزنه فعلان، واتفقوا على زيادة النون الأخيرة، "ولا القلب، إلّا أنه" بفتح الهمزة- بتقدير اللام، أي: لأنه "يتقلّب"، فهذا سبب التسمية دون ملاحظة اشتقاق من شيء؛ إذ لا يلزم من حكمة التسمية اشتقاقه من مصدرها، كتسمية الوالد الذي فيه حمرة أحمر، فلذا عقبه بالنص عليه بقوله.
"وقال الزمخشري: مشتَقٌّ من التقلُّب الذي هو المصدر"، فرُوعِيَ فيه أخذه منه للمناسبة بينهما، أي: إنه اعتبر لتسمية المضغة قلبًا، ووجود التقلّب في مسمّاه، لا أنه جزء من مدلوله؛ بحيث ينتفي بانتفائه، ولا يلزم منه تسمية كل متقلب قلبًا؛ لأن الاشتقاق قد يختص ببعض الأشياء كالقارورة، وقد يطَّرِد, كاسم الفاعل "لفرط تقلبه"، أي: تنقّله مع حركته نفسه، أي: اضطرابه عند رجفه مثلًا، أو المراد تنقله من خاطر لآخر مع بقاء ذاته, والأوّل أظهر لمخالفته لما قلبه في(5/464)
ألا ترى إلى ما روى أبو موسى عن النبي -صلى الله عليه وسلم: "ومثل هذا القلب كمثل ريشة معلقة بفلاة يقلبها الريح بطنًا لظهر".
قال: والفرق بينه وبين الفؤاد، أنَّ الفؤاد وسط القلب، سُمِّيَ به لتفؤده، أي: توفده.
وفسَّر الجوهري القلب بالفؤاد, ثم فسَّر الفؤاد بالقلب.
قال الزركشي: والأحسن قول غيره: الفؤاد غشاء القلب، والقلب حبَّته وسويداؤه، ويؤيد الفرق قوله -صلى الله عليه وسلم: "ألين قلوبًا وأرقّ أفئدة"، وهو أَوْلَى من قول بعضهم: إنه كرّر لاختلاف اللفظ.
وقال الراغب: يعبَّر بالقلب عن المعاني التي تختص به كالعلم والشجاعة.
وقيل: حيثما ذكر الله القلب فإشارة إلى العقل والعلم؛ كقوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} [ق: 37] ، وحيثما ذكر الصدر فإشارة إلى ذلك, وإلى سائر القوى من الشهوة والغضب ونحوهما. انتهى.
__________
أمرين، وهو ظاهر الحديث أيضًا، بخلاف الثاني, فمغاير لما قبله في واحد وهو الاشتقاق، "ألا ترى إلى ما روى أبو موسى"، عبد الله بن قيس الأشعري، "عن النبي -صلى الله عليه وسلم: "ومثل هذا القلب كمثل ريشة معلقة بفلاة، يقلبها الريح بطنًا لظهر"، قال: والفرق بينه وبين الفؤاد أنَّ الفؤاد وسط القلب, سُمِّيَ به لتفؤده" بالهمز- كما في القاموس، "أي: توفده"، زاد القاموس: وتحركه، "وفسر الجوهري القلب بالفؤاد، ثم فسَّر الفؤاد بالقلب" فجعلهما مترادفين.
"قال الزركشي: والأحسن قول غيره: الفؤاد غشاء القلب، والقلب حبَّته وسويداؤه" عطف تفسير, الجوهري: سواد القلب حبته، وكذا أسوده، وسويداؤه، وفي كفاية المتحّفظ: سويداء القلب علقة سوداء في وسط القلب، يقال للرجل: اجعل ذلك في سويداء قلبك، "ويؤيّد الفرق قوله -صلى الله عليه وسلم: "أتاكم أهل اليمن أَلْيَن قلوبًا وأرق أفئدة"، حيث وصف القلوب باللين، والأفئدة بالرِّقَّة، ومرت فيه مباحث نفيسة، "وهو أوْلَى من قول بعضهم: إنه كرَّر" في الحديث "لاختلاف اللفظ"، وإن كانا بمعنى واحد، "وقال الراغب: يعبَّر بالقلب عن المعاني التي تختص به؛ كالعلم والشجاعة، وقيل" مما نقل عن بعض الحكماء، "حيثما ذكر الله القلب فإشارة إلى العقل والعلم؛ كقوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى} " عظة " {لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} " عقل وعلم، "وحيثما ذكر الصدر، فإشارة إلى ذلك" المذكور من العقل والعلم، "وإلى سائر القوى" التي في الصدر، من الشهوة والغضب، ونحوهما، انتهى".(5/465)
قال بعض العلماء: ولقد خلق الله تعالى الإنسان، وجعل له قلبًا يعقل عنه، وهو أصل وجوده، إذا صلح قلبه صلح سائره، وإذا فسد قلبه فسد سائره، وجعل سبحانه القلوب محل السر والإخلاص الذي هو سر الله يودعه قلب من شاء من عباده، فأوّل قلب أودعه إليه قلب محمد -صلى الله عليه وسلم؛ لأنه أوّل خلق, وصورته -صلى الله عليه وسلم- آخر صورة ظهرت من صور الأنبياء، فهو أولهم وآخرهم.
وقد جعل -سبحانه وتعالى- أخلاق القلوب للنفوس أعلامًا على أسرار القلوب، فمن تحقَّق قلبه بسر الله اتسعت أخلاقه لجميع خلق الله، ولذلك جعل الله تعالى لمحمد -صلى الله عليه وسلم- جثمانية
__________
وفي تمريضه عدم ارتضائه، وفي البيضاوي: {لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} ، أي: قلب واعٍ يتفكَّر في حقائقه، "قال بعض العلماء: ولقد خلق الله تعالى الإنسان، وجعل له قلبًا يعقل عنه"، أي: يدرك الإنسان إدراكًا ناشئًا عن تصرّف القلب، ففاعل يعقل الإنسان, وعنه متعلّق بمقدر فسَقَط، ما عساه يقال: الأَوْلَى أن يقول به لا عنه؛ لأنه مبني على أن فاعل يعقل القلب، "وهو أصل" أي: سبب وجوده" على الحالة المأمور بها، "إذا صلح" بضم اللام، وفتحها "قلبه صلح سائره"، وحسنت حاله، واعتدَّ بوجوده، فكأنه أحياه من العدم، "وإذا فسد قلبه فسد سائره"، وفسدت أحواله، وكأنه مات، وإليه أشار في حديث: "ألا وأن في لجسد مضغة؛ إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجد كله, ألا وهي القلب"، "وجعل سبحانه القلوب محل السر والإخلاص الذي هو سِرّ الله يودعه قلب من شاء من عباده، فأوّل قلب أودعه إليه قلب محمد -صلى الله عليه وسلم؛ لأنه أول خلق"، أي: مخلوق، "وصورته -صلى الله عليه وسلم- آخر صورة ظهرت من صور الأنبياء، فهو أوّلهم"، أي: المتقدِّم عليهم بوجود صورته النورية قبل خلق الأشياء كلها، "وآخرهم" ظهورًا لهذا العالم؛ إذ لا نبي بعده، "وقد جعل الله -سبحانه وتعالى- أخلاق القلوب للنفوس أعلامًا على أسرار القلوب، فمن تحقَّق قلبه بسر الله"، أي: من أودع الله تعالى سره في قلبه، بحيث يكون منقادًا، باطنًا لأوامره، متباعدًا عن نواهيه، "اتسعت أخلاقه لجميع خلق الله"، فيعاملهم برفق ولينٍ على مقتضى الحال، فيعامل كل إنسان بما يليق بحاله بغاية الرفق، حتى العصاة ينهاهم عن معصيتهم ببيان ما يضرهم وما ينفعهم، كما قال تعالى: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ} [آل عمران: 159] الآية، فإذا لم يفد في كفهم عن المعاصي إلّا الزجر الشديد، عاملهم به، وأقام عليهم الحدود ليكفهم عن العود إلى ما صدر منهم، وذلك من سعة الخلق؛ لأنه نفع لهم، بل قتال الكفار والبغاة من سعة الخلق.
"ولذلك جعل الله تعالى لمحمد -صلى الله عليه وسلم- جثمانية" بضم الجيم، وإسكان المثلثة- أي:(5/466)
اختص بها من بين سائر العالمين، فتكون علامات اختصاص جثمانيته آيات دالة على أحوال نفسه الشريفة وعظيم خلقه، وتكون علامات عظيم أخلاقه آيات على سِرِّ قلبه المقدَّس. ولما كان قلبه -صلى الله عليه وسلم- أوسع قلب اطَّلع الله عليه -كما ورد في الخبر, كان هو الأَوْلَى أن يكون هو قلب العبد الذي يقول فيه تعالى: "ما وسعني أرضي ولا سمائي ووسعني قلب عبدي المؤمن".
ولما كان كماله قبل الإسراء بمنزلة سائر النبيين كان صدره يضيق، فاتسع قلبه لما انشرح صدره ووضع عنه وزره.
__________
جسمًا، على تفسير أبي زيد، وقال الأصمعي: الجثمان هو الشخص، كما في المصباح، "اختُصّ بها من بين سائر العالمين"، فلا يكون لغيره جثمانية تماثل جثمانيته في شيء من الصفات المختصة بها، والياء في جثمانية للمبالغة لا النسبة؛ إذ المنسوب غير المنسوب إليه، ولا يظهر التغاير هنا بينهما، "فتكون علامات اختصاص جثمانيته" جسمه أو شخصه، "آيات دالة على أحوال نفسه الشريفة وعظيم خلقه" بالضم، "وتكون علامات عظيم أخلاقه آيات على سِرّ قلبه المقدَّس" المطهر، "ولما كان قلبه -صلى الله عليه وسلم- أوسع قلب, اطَّلع الله عليه -كما ورد في الخبر، كان هو الأَوْلَى أن يكون هو قلب العبد الذي يقول فيه تعالى: "ما وسعني أرضي ولا سمائي، ووسعني قلب عبدي المؤمن".
ذكره الغزالي في الإحياء بزيادة: اللين، الوادع، قال الحافظ العراقي في تخريجه: لم أر له أصلًا، وقال ابن تيمية: هو مذكور في الإسرئيليات، وليس له إسناد معروف عن النبي -صلى الله عليه وسلم، ومعناه: وسع قلبه الإيمان بي، ومحبتي ومعرفتي، وإلّا فمن قال: إن الله يحلّ في قلوب الناس فهو أكفر من النصارى الذين خصوا ذلك بالمسيح وحده، قال السخاوي: وكأنَّه أشار بما في الإسرائيليات إلى ما أخرجه أحمد في الزهد، عن وهب بن منبه، قال: إن الله فتح السماوات لحزقيل حتى نظر إلى العرش، فقال حزقيل: سبحانك ما أعظمك يا رب، فقال الله: إن السماوات والأرض ضعفن عن أن يسعنني، ووسعني قلب المؤمن الوادع اللين، ورأيت بخط ابن الزركشي: سمعت بعض العلماء يقول: حديث ما وسعني.. إلخ، باطل, من وضع الملاحدة، قلت: وقد روى الطبراني عن أبي عتبة الخولاني رفعه: "إن لله آنية من أهل الأرض، وآنية ربكم قلوب عباده الصالحين، وأحبها إليه ألينها وأرقّها"، وفيه بقية بن الوليد, مدلِّس, لكنه صرَّح بالتحديث أ. هـ، "ولما كان كماله قبل الإسراء بمنزلة سائر النبيين، كان صدره يضيق"، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ} من الشرك والطعن في القرآن، والاستهزاء بك، "فاتسع قلبه، لما انشرح صدره، ووضع" حَطّ "عنه وزره" إن كان له وزر، وقيل غير ذلك،(5/467)
ورفع له ذكره.
وقد صحَّ أن جبريل -عليه السلام- شقَّه واستخرج منه علقة, فقال له: هذا حظ الشيطان منك، ثم غسله في طست من ذهب بماء زمزم، ثم لأمه فأعاده في مكانه. قال أنس: فلقد كنت أرى أثر المخيط في صدره. رواه مسلم.
وإنما خلقت هذه العلقة في ذاته الكريمة ثم استخرجت منه؛ لأنها من جملة الأجزاء الإنسانية، فخلقها تكملة للخلق الإنساني فلابُدَّ منها، ونزعها أمر رباني طرأ بعد ذلك، قاله السبكي.
__________
كما يأتي للمصنف، "ورفع له ذكره"، فلا يذكر الله ألا ويذكر معه، وهذا صريح في أنَّ هذه الأحوال؛ إنما حصلت له بعد الإسراء، وإن نزل: {أَلَمْ نَشْرَحْ} بعده، وقد نَصَّ المفسِّرون على أنها مكية، وهو محتمل لنزولها بعد الإسراء وقبله، "وقد صحَّ أن جبريل -عليه السلام- شَقَّه"، أي: قلبه، "واستخرج منه علقة"، وفي رواية: مضغة سوداء فرمي بها، ولا تنافي، فقد تكون العلقة لكبرها تشبه المضغة، "فقال له: هذا حَظّ الشيطان منك"، أي: هذا هو الموضع الذي يتوصّل الشيطان منه إلى وسوسة الناس، ولا ينافيه قوله: منك؛ لجواز تقدير مضاف، أي: من مثلك من بني آدم، كذلك تكلفه شيخنا، ولا حاجة له مع التصريح بنزعها منه؛ وأنه في حالة الطفولية، وهو يلعب مع الغلمان، كما في مسلم، "ثم غسله في طست من ذهب بماء زمزم، ثم لأمه، فأعاده في مكانه، قال أنس" راوي الحديث: "فلقد كنت أرى أثر المخيط" بكسر الميم- ما يخاط به "في صدره"، وظاهره أنه بآلة، وإنَّ الشق كذلك بآلة، ويدل له قول الملك في حديث أبي ذر: خَطّ بطنه فخاطه، وفي حديث عتبة: حصه فحاصه، وقد وقع السؤال عن ذلك، ولم يجب عنه أحد، ولم أر من تعرّض له بعد التتبع، وأمَّا قوله: فأتيت بالسكينة فوضعت في صدري، فالصواب كما قال ابن دحية: تخفيف السكينة، لذكرها بعد شق البطن خلافًا للخطابي، ذكره الشامي "رواه مسلم".
وكذا الإمام أحمد عن أنس، "وإنما خلقت هذه العلقة في ذاته الكريمة، ثم استخرجت منه؛ لأنها من جملة الأجزاء الإنسانية" التي اقتضت الحكمة وجودها في الإنسان، وإن لم يحصل بعدمها نقص في صورته ظاهرًا، "فخلقها تكملة للخلق الإنساني فلابُدَّ منها، ونزعها أمر رباني طرأ بعد ذلك" الخلق، فإخراجها بعد خلقها دَلَّ على مزيد الرفعة وعظيم الاعتناء والرعاية من خلقه بدونها، "قاله السبكي" جوابًا لمن سأله عن حكمة ذلك، وقال غيره: لو خلق سليمًا منها لم يكن للآدميين اطِّلاع على حقيقته، فأظهره الله على يد جبريل ليتحقَّقوا كمال(5/468)
وعند أحمد وصححه الحاكم: "ثم استخرجا قلبي فشقَّاه, فأخرجا منه علقتين سوداوين, فقال أحدهما لصاحبه: ائتني بماء وثلج, فغسلا به جوفي, ثم قال: ائتني بماء برد, فغسلا قلبي, ثم قال: ائتني بالسكينة فذراها في قلبي, ثم قال أحدهما لصاحبه: حصه فحاصه, وختم عليه بخاتم النبوة".
__________
باطنه، كما برز لهم مكمل الظاهر، "وعند أحمد، وصحَّحه الحاكم" من حديث عتبة بن عبد، عن النبي -صلى الله عليه وسلم، قال: "كانت حاضنتي من بني سعد بن بكر، فانطلقت أنا وابنٍ لها في بهم لنا، ولم نأخذ معنا زادًا، فقلت: يا أخي, اذهب فأتنا بزاد من عند أمِّنا، فانطلق أخي ومكثت عند البهم، فأقبل إلي طيران كأنهما نسران، فقال أحدهما لصاحبه: أهو هو، قال: نعم، فأقبلا يبتدراني، فأخذاني، فبطحاني للقفا، فشقا بطني، ثم استخرجا قلبي فشقاه، فأخرجا منه علقتين سوداوين"!.
قال الشامي: إحداهما محلّ غمز الشيطان، والأخرى منشأ الدم الذي قد يحصل منه أضرار في البدن، وعلى هذا، فلا حاجة لما أجيب به عن حديث العلقتين، باحتمال أنها علقة واحدة انقسمت عند خروجها قسمين، فسمِّي كل جزء منهما علقة مجازًا، "فقال أحدهما لصاحبه: "ائتني بماء وثلج، فغسلا به جوفي، ثم قال: ائتني بماء برد" بفتحتين- أي: مطر، وهو حب الغمام، "فغسلا قلبي"، قال السهيلي: حكمة ذلك ما يشعر به من ثلج اليقين وبرده على الفؤاد، ولذا حصل له اليقين بالأمر الذي يراد به بواحدنية ره، "ثم قال: ائتني بالسكينة" بالتخفيف, "فذراها" بذال معجمة- بثَّاها "في قلبي"، وفي حديث أبي ذر عند البزار، وغيره، وصحَّحه الضياء: "ثم دعا بسكينة، كأنها برهرهة بيضاء، فأدخلت قلبي"، قال السهيلي: البرهرهة بصيص البشرة، وزعم الخطابي أنه أراد بها سكينة بيضاء صافية، الحديد متمسكًا بأنه عثر على رواية فيها: "فدعا بسكينة كأنها درهمة بيضاء"، قال ابن الأنباري: هي السكينة المعوجّة الرأس التي تسميها العامّة المنجل -بالجيم, قال ابن دحية.
والصواب: السكينة بالتخفيف؛ لذكرها بعد شق البطن، فإنما عني بها فعيلة، من السكون والطمأنينة، وهي أكثر ما تأتي في القرآن، "ثم قال أحدهما لصاحبه: حصه" بحاء مهملة مضمومة، بعدها صاد مهملة- أي: خطه, "فحاصه"، أي: خاطه, يقال: حاص الثوب يحوصه حوصًا إذا خاطه، وهذا لفظ رواية عتبة بن عبد، وفي رواية أبي ذر: "خطه فخاطه" بالخاء المعجمة- نقل فيهما، فما في نسخ هنا، بالخاء المعجمة، نقل بالمعنى، "وختم عليه بخاتم النبوة"، وتقدَّم الكلام فيه مستوفي بالمقصد الأول.(5/469)
وفي رواية البيهقي: "إن ملكين جاءاني في صورة كركيين معهما ثلج وبرد وماء بارد, فشرح أحدهما صدري، ومجّ الآخر بمنقاره فيه".
وعن أبي هريرة أنه قال: يا رسول الله، ما أوّل ما ابتدئت به من أمر النبوة؟ قال: "إني لفي صحراء أمشي ابن عشر حجج, إذا أنا برجلين فوق رأسي, يقول أحدهما لصاحبه: أهو هو؟ قال: نعم، فأخذاني فألصقاني لحلاوة القفا, ثم شقَّا بطني، وكان أحدهما يختلف بالماء في طست من ذهب, والآخر يغسل جوفي، فقال أحدهما لصاحبه: افلق صدره، فإذا صدري -فيما أرى- مفلوقًا لا أجد له وجعًا، ثم قال: اشقق قلبه, فشقَّ قلبي، فقال: أخرج الغل والحسد، فأخرج شبه العلقة, فنبذ به, ثم قال: أدخل الرأفة والرحمة قلبه، فأدخل شيئًا كهيئة الفضة، ثم أخرج
__________
"وفي رواية البيهقي"، عن يحيى بن جعدة مرسلًا يرفعه "إن ملكين" هما: جبريل وميكائيل, "جاءاني في صورة كركيين"، وسبق في حديث عتبة: كأنهما نسران، وهو أصحّ, "معهما ثلج وبرد " بفتحتين، "وماء بارد، فشرح أحدهما" , لفظ رواية البيهقي: فشق أحدهما بمنقاره "صدري، ومجَّ الآخر بمنقاره فيه"، فغسله، فإن صحت هذه الرواية، أفادت آلة الشق في هذه المرة، لكن قال السهيلي: هي رواية غريبة ذكرها يونس عن ابن إسحاق، "وعن أبي هريرة أنه قال: يا رسول الله, ما أوّل ما ابتدئت به من أمر النبوة؟ قال: "إني لي صحراء أمشي" حال كوني، "ابن" فهو بالنصب, وبالرفع خبر مبتدأ، أي: وأنا ابن "عشر حجج"، أي: سنين, "إذا أنا برجلين" أي: ملكين في صفة رجلين، وهما: جبريل وميكائيل, "فوق رأسي، يقول أحدهما لصاحبه: أهو هو؟ قال: نعم، فأخذاني، فألصقاني"، بالهمز، وفي نسخة: لصقاني بدونه، لكنه إنما يتعدَّى بالهمزة، قال المصباح: لصق الشيء من باب تعب، مثل لزق, يتعدَّى بالهمز فيقال: ألصقته، وفي نسخة: فألقياني "لحلاوة القفا" مثلث الحاء، وهو وسطه، "ثم شقَّا بطني، وكان أحدهما يختلف بالماء في طست من ذهب، والآخر يغسل جوفي، فقال أحدهما لصاحبه: افلق صدره"، بكسر الهمزة واللام، من باب ضرب، "فإذا صدري فيما أرى" نظر، "مفلوقًا لا أجد له وجعًا".
زاد في رواية: ولا دمًا، "ثم قال: اشقق قلبه، فشقَّ قلبي، فقال: أخرج الغلَّ" بالكسر، الحقد "والحسد" منه، "فأخرج شبه العلقة، فنبذ به، ثم قال: أدخل الرأفة"، أرق الرحمة، قاله الهروي وغيره، "والرحمة" رقة القلب، وعطفه "قلبه، فأدخل شيئًا كهيئة الفضة، ثم أخرج(5/470)
ذرورًا كان معه فذر عليه، ثم نقر إبهامي، ثم قال: اغد, فرجعت بما لم أغد به من رحمتي للصغير ورأفتي على الكبير". رواه عبد الله الإمام أحمد في زوائد المسند, وأبو نعيم وقال: تفرَّد به معاذ عن أبيه، وتفرَّد بذكر السن.
وعند أبي نعيم في حديث يونس بن ميسرة: "فاستخرج حشوة جوفي فغسلها ثم ذرَّ عليه ذرورًا, ثم قال: قلب وكيع يعي ما وقع فيه، عينان تبصران, وأذنان تسمعان, وأنت محمد رسول الله المقفَّى الحاشر
__________
ذرورًا" بمعجمة- نوع من الطيب، "كان معه، فذَرَّ عليه، ثم نقر إبهامي، ثم قال: اغد"، وأسلم، كما في الرواية، "فرجعت لما لم أغد به من رحمتي للصغير، ورأفتي على الكبير"، والحكمة في هذا الشق أن العشر قريب من سن التكليف، فشق قلبه وقدّس حتى لا يتلبس بشيء مما يعاب على الرجال، لكن هل كان في هذه المرة بختم لم أقف عليه في شيء من الأحاديث، وأمَّا المرات الثلاث، ففي كل مرة منها بختم، كما هو مقتضى الأحاديث، قاله الشامي: "رواه عبد الله، الإمام أحمد في زوائد المسند" لأبيه، أي: الأحاديث التي رواها من غير أبيه في مسنده، "وأبو نعيم، وقال: تفرَّد به معاذ" بن هشام الدستوائي، البصري، صدوق، مات سنة مائتين "عن أبيه" هشام بن أبي عبد الله الدستوائي -بفتح الدال، وسكون السين المهملتين، وفتح الفوقية، والمد- ثبت من رجال الجميع، مات سنة أربع وخمسين ومائة، "وتفرَّد بذكر السن"، أي: قوله: "ابن عشر حجج"، ولكن تفرَّده لا يضر؛ لأنه ثقة كبقية رجاله، وقد صحَّحه ابن حبان والحاكم، والضياء في المختارة، فإن ورد كيف يجعل -صلى الله عليه وسلم- النبوة ما وقع له في هذا السن، وإنما كانت بعد الأربعين، أجيب باحتمال أنَّه لما رأى هذه الحالة العجيبة في صغره، علم أنه يكون له شأن، واطمأنَّ بما يرد عليه، فلمَّا جاءه الوحي علم أن ذلك كان من الله، لا سبيل للشيطان فيه.
"وعند أبي نعيم في حديث يونس بن ميسرة" بن حلبس -بمهملتين في طرفيه، وموحدة- وزن جعفر، وقد ينسب لجده, ثقة عابد معمر, من الثالثة، أي: الوسطى من التابعين، مات سنة اثنتين وثلاثين ومائة، كما في التقريب، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "أتاني ملك بطست من ذهب، فشقَّ بطني, فاستخرج حشوة" بضم الحاء وكسرها- أمعاء "جوفي، فغلسها، ثم ذَرَّ عليها ذرورًا، ثم قال: قلب وكيع" واعٍ، أي: متين محكم، ومنه قولهم: سقاء وكيع, إذا كان محكم الخرز، قاله في النهاية، "يعي ما وقع فيه"، متعلّق بوقع، و "عينان" مبتدأ حذف خبره، أي: له أو فيه، خبر مقدَّم مبتدؤه عينان "تبصران، وأذنان تسمعان"، والجملة صفة ثانية لقوله: قلب؛ كالسبب للأولى التي هي كونه يحفظ ما وقع فيه، "وأنت محمد رسول الله المقفَّى الحاشر"، تقدَّما في(5/471)
قلبك سليم, ولسانك صادق, ونفسك مطمئنة, وخلقك قيم, وأنت قثم".
وهذا الشق روي أنه وقع له -عليه الصلاة والسلام- مرات في حال طفولته إرهاصًا. وتقديم المعجزة على زمان البعثة جائز للإرهاص، ومثل في حق الرسول -عليه الصلاة والسلام- كثير, وبه يجاب عن استشكال وقوع ذلك في حال طفولته؛ لأنه من العجزات، ولا يجوز أن تتقدم على النبوة، قاله الرازي.
والذي عليه أكثر أهل الأصول: اشتراط اقتران المعجزة بالدعوة, كما نبَّهت عليه في أوائل الكتاب، ويأتي تحقيقه إن شاء الله تعالى في المقصد الرابع.
وهو المراد بقوله: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح: 1] ، وقد قيل: المراد
__________
أسمائه الشريفة، "قلبك سليم، ولسانك صادق، ونفسك مطمئنة، وخلقك قيم، وأنت قثم" بضم القاف، وفتح المثلثة- ومنع الصرف للعلمية والعدل التقديري عن قاثم، ومَرَّ في الأسماء، "وهذا الشق روي أنه وقع له -عليه الصلاة والسلام- مرات" أربعًا، الأُولَى: في بني سعد بن بكر، وهو ابن أربع سنين عند حليمة، والثانية: وهو ابن عشر، والثالثة: عند البعثة، والرابعة: عند المعراج، وروي خامسة ولا تثبت، كما ذكره المصنف في المقصد الأول كغيره، فقوله: "في حال طفوليته" ظرف لمقدر، لا لمرات، أي: بعضها في حال طفوليته، وهو الأولى والثانية، "إرهاصًا" تقوية، وتأسيسًا للنبوة، "وتقديم المعجزة"، أي: الأمر الخارق للعادة.
"على زمان البعثة جائز للإرهاص"، كذا أوّله شيخنا قائلًا: لما يأتي أن الراجح اشتراط اقتران المعجزة بالدعوى، وفيه أنَّ هذا كلام الرازي، وهو ماشٍ على غير الراجح، فلا معنى لردِّه إليه، "ومثل هذا في حق الرسول -عليه الصلاة والسلام- كثير، وبه يجاب عن استشكال وقوع ذلك في حال طفوليته؛ لأنه من المعجزات، ولا يجوز أن تتقدم على النبوة، قاله الرازي": الإمام فخر الدين، "والذي عليه أكثر أهل الأصول, اشتراط اقتران المعجزة بالدعوى"، اعتراض على قوله من المعجزات، فالخوارق الواقعة قبل الرسالة إنما هي كرامات، والأنبياء قبل النبوة لا يقصرون عن درجة الأولياء، فيجوز ظهورها عليهم، وتسمَّى إرهاصًا، وبقي عليه كيف يجمع بين إرهاص ومعجزة، مع تغاير الموضوعين؛ لأن مذهبه تسمية الكل معجزة، وإن ما قبل النبوة يسمَّى إرهاصًا أيضًا، كما يسمَّى معجزة، "كما نبَّهت عليه في أوائل الكتاب" في قصة الفيل، "ويأتي تحقيقه إن شاء الله تعالى في المقصد الرابع، وهو"، أي: شق صدره الشريف، "المراد بقوله" تعالى: " {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} " [الإنشراح: 1] ، وقد قيل: المراد بالشرح(5/472)
بالشرح في الآية: ما يرجع إلى المعرفة والطاعة, ثم ذكروا في ذلك وجوهًا منها: أنه لما بعث الأحمر والأسود من جني وإنسي, أخرج تعالى عن قلبه جميع الهموم، وانفتح صدره حتى اتسع لجميع المهمات، فلا يقلق ولا يضجر, بل هو في حالتي البؤس والفرح منشرح الصدر, مشتغل بإداء ما كُلِّف.
فإن قلت: لم قال: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} ولم يقل: قلبك.
وأجيب: بأنّ محل الوسوسة الصدر، كما قال تعالى: {يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ} [الناس: 5] فإزالة تلك الوسوسة وإبدالها بدواعي الخير هي الشرح، لا جرم خصَّ ذلك الشرح بالصدر دون القلب.
وقد قال محمد بن علي الترمذي: القلب محل العقل والمعرفة، وهو الذي يقصده الشيطان، يجيء إلى الصدر الذي هو حصن القلب, فإذا دخل مسلكًا أغار فيه, وأنزل جنده فيه, وبث فيه الهموم والغموم والحرص, فيضيق القلب حينئذ، ولا يجد للطاعة لذة، ولا للإسلام حلاوة، وإذا طرد العدو في الابتداء حصل الأمن
__________
في الآية: ما يرجع إلى المعرفة والطاعة"، فكأنه قيل: ألم نفتح ونوسع ونليّن قلبك بالإيمان والنبوة والعلم، والحكمة، وبهذا جزم البغوي.
"ثم ذكروا في ذلك وجوهًا منها: أنه لما بعث الأحمر والأسود"، كما في الحديث، فقيل: المراد العرب والعجم، وقيل: الإنس والجن، وعليه جرى في قوله: "من جنىّ وإنسي, أخرج تعالى عن قلبه جميع الهموم، وانفتح صدره حتى اتَّسع جميع المهمات، فلا يقلق ولا يضجر، بل هو في حالتي البؤس والفرح منشرح الصدر، مشتغل بأداء ما كُلِّف، فإن قلت: لم قال: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} ، ولم يقل: قلبك" مع إن الشرح، أي: الشق وقع فيه، "أجيب بأن محلّ الوسوسة الصدر، كما قال تعالى: {يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ} [الناس: 5] فإزالة تلك الوسوسة وإبدالها بدواعي الخير هي الشرح" الحقيقي، "لا جرم" حقًّا، "خص ذلك الشرح بالصدر دون القلب، وقد قال محمد بن علي" الحكيم، "الترمذي"، الحافظ، الزاهد، الواعظ، صاحب التصانيف: "القلب محل العقل والمعرفة"، كما عليه جماهير العلماء والأئمة، خلافًا لمن قال: محله الرأس، كالفلاسفة وبعض الأئمة، "وهو الذي يقصده الشيطان، يجيء إلى الصدر الذي هو حصن القلب، فإذا دخل مسلكًا أغار فيه، وأنزل جنده فيه، وبثَّ فيه الهموم والغموم والحرص، فيضيق القلب حينئذ، ولا يجد للطاعة لذة" إذا أتى بها، "ولا للإسلام حلاوة"، كما يجد ذلك الصديقون المتمكنون، "وإذا طرد العدو في الابتداء حصل الأمن، وزال(5/473)
وزال الضيق وانشرح الصدر وتيسَّر له القيام بأداء العبودية.
وههنا دقيقة:
قال تعالى حكاية عن موسى -عليه السلام: {قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي} [طه: 25] وقال لنبينا محمد -صلى الله عليه وسلم: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} أعطي بلا سؤال، ثم إنه تعالى نعته -عليه الصلاة والسلام- فقال: {وَسِرَاجًا مُنِيرًا} فانظر إلى التفاوت، فإن شرح الصدر هو أن يصير قابلًا للنور، والسراج المنير هو الذي يقتَبَس منه النور فالفرق بينهما واضح.
قال الدقاق: كان موسى -عليه السلام- مريدًا؛ إذ قال: {رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي} ونبينا -صلى الله عليه وسلم- مراد؛ إذ قال الله له: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} والله أعلم.
وأما جماعه -صلى الله عليه وسلم, فقد كان يدور
__________
الضيق، وانشرح الصدر"، اتسع، "وتيسَّر له القيام بأداء العبودية"، ووجد لذَّة الطاعة وحلاوة الإيمان، "وههنا دقيقة" نكتة لطيفة من الدقة، خلاف الغلظ، قال تعالى حكاية عن موسى -عليه السلام: {رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي} ، وقال لنبينا محمد -صلى الله عليه وسلم: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} أعطي بلا سؤال".
قال الزمخشري: استفهم عن انتفاء الشرح على وجه الإنكار مبالغةً في إثبات الشرح وإيجابه، فكأنه قيل: شرحنا لك صدرك، ولذا عطف عليه، ووضعنا اعتبارًا للمعنى، قال الطيبي: أي: أنكر عدم الشرح، فإذا أنكر ذلك ثبت الشرح؛ لأن الهمز للإنكار، والإنكار نفي، والنفي إذا دخل على النفي عادا ثباتًا، ولا يجوز جعل الهمزة للتقرير. انتهى، أي: لأنَّ التقرير سؤال مجرد؛ إذ هو حمل المخاطب على الاعتراف بأمر استقرَّ عنده ثبوته أو نفيه، فلا يحسن عطف: ووضعنا عليه، "ثم إنه تعالى نعته -عليه الصلاة والسلام- فقال: {وَسِرَاجًا مُنِيرًا} [الأحزاب: 46] ، فانظر إلى التفاوت" بين مقامي موسى ومحمد -صلى الله وسلم عليهما، "فإن شرح الصدر هو أن يصير قابلًا للنور، والسراج المنير هو الذي يقتَبَس منه النور"، فهو أعلى، "فالفرق بينهما واضح".
"قال الدقاق" أبو علي: "كان موسى -عليه السلام- مريدًا؛ إذ قال: {رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي} ، ونبينا -صلى الله عليه وسلم- مرادًا؛ إذ قال الله له: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} ، وفرق بين المراد والمريد، "والله أعلم، وأما جماعه -صلى الله عليه وسلم"، أي: قدرته عليه، فكانت إلى الغاية، ودليله قوله: "فقد كان يدور" فالجواب محذوف، والفاء للتعليل، أو إنه نفس الجواب، باعتبار ما دلَّ عليه من ثبوت غاية القوة له.(5/474)
على نسائه في الساعة الواحدة من الليل والنهار, وهن إحدى عشرة،
__________
وقد ذكروا الوجهين في نحو قوله تعالى: {أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنعام: 54] ، ويدور كناية عن الجماع، من دار على كذا وطاف به, إذا مشى حوله، وفي رواية: يطوف "على نسائه"، أي: يجامعهنّ في غسل واحد، كما أخرجه الترمذي وقال: حسن صحيح، وروى أبو داود والنسائي، عن أبي رافع، أنه -صلى الله عليه وسلم- طاف ذات يوم على نسائه، يغتسل عند هذه، وعند هذه، فقلت: يا رسول الله, ألا تجعله غسلًا واحدًا؟ فقال: "هذا أزكى، وأطيب وأطهر"، وأجمعوا على أنَّ الغسل بينهما لا يجب، وفي استحباب الوضوء وعدمه ووجوبه أقوال, الجمهور على الاستحباب؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم: "إذا أتى أحدكم أهله، ثم أراد أن يعود، فليتوضأ بينهما وضوءًا" رواه مسلم. زاد ابن خزيمة: "فإنه أنشط للعود"، ففه أنَّ الأمر ندب، ويدل له أيضًا قول عائشة: كان -صلى الله عليه وسلم- يجامع، ثم يعود، ولا يتوضأ. رواه الطحاوي، ثم اختلفوا هل المراد الوضوء اللغوي، وهو غسل الفرج؟، لأنَّ في رواية: "فليغسل فرجه"، أو الحقيقي لما عند ابن خزيمة: "فليتوأ وضوءًا للصلاة" , "في الساعة الواحدة" المراد بها: قدر من الزمان، لا ما اصطلح عليه أصحاب الهيئة، قاله الحافظ، وتبعه العيني، وهو الظاهر: كما في ساعة الجمعة؛ لأن ذلك غير متعارف عندهم، ويحتمل أن يراد بها ما يتعارفه الناس، قاله بعض الشراح، وكأنَّه أراد بالناس العامَّة في تقليل الساعة، كقولهم: جاء وراح في ساعة، ومغايرته لما قبله, تقليلها عن قدر من الزمان "من الليل والنهار"، الواو بمعنى أو, جزم به الكرماني، ويحتمل أنها على بابها، بأن تكون تلك الساعة جزأ من آخر أحدهما، وجزأ من أول الآخر، قاله الحافظ، قال بعضهم: نعم, يحتمل ذلك، لكنَّه تكلف بعيد جدًّا، انتهى.
"وهنَّ إحدى عشرة" كذا في رواية هشام الدستوائي عن قتادة، عن أنس، وفي رواية سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن أنس في البخاري أيضًا: تسع نسوة، وجمع ابن حبَّان، فحمل ذلك على حالتين، لكنه وَهِمَ في قوله: كانت الأولى أوّل قدومه المدينة؛ حيث كان تحته تسع نسوة، والحالة الثانية في آخر الأمر؛ حيث اجتمع عنده إحدى عشرة امرأة، وموضع الوهم أنه لما قدم المدينة لم يكن تحته سوى سودة، ثم دخل على عائشة، ثم تزوّج أم سلمة، وحفصة، وزينب بنت خزيمة في الثالثة والرابعة، ثم زينب بنت جحش في الخامسة، ثم جويرية في السادسة، ثم صفية وأم حبيبة وميمونة في السابعة، واختلف في أنّ ريحانة زوجة، أو أمة وماتت قبله سنة عشر عند الأكثر، وزينب بنت خزيمة مكثت عنده شهرين أو ثلاثة وماتت, قاله ابن عبد البر، فلم يجتمع عنده أكثر من تسع زوجات، مع أنَّ سودة كانت وهبت يومها لعائشة، فرجحت رواية سعيد، لكن تحمل رواية هشام على أنه ضمّ مارية وريحانة إليهنَّ، وأطلق عليهن(5/475)
قال الراوي: قلت لأنس: أوَكَان يطيقه؟ قال: كنَّا نتحدث أنه أعطي قوة ثلاثين. رواه البخاري.
وعند الإسماعيلي عن معاذ: قوَّة أربعين, زاد أبو نعيم عن مجاهد: كل رجل من رجال أهل الجنة.
__________
لفظ نسائه تغليبًا، وبه استدلَّ ابن التين لقول مالك بلزوم الظهار من الإماء؛ لإطلاقه على الجميع لفظ نسائه، وتعقّب بأنه تغليب، فلا حجَّة فيه للمدعي، واستدلَّ به ابن المغير على جواز وطء الحرة بعد الأمة، من غير غسل بينهما ولا غيره، والمنقول عن مالك أنَّه يتأكد الاستحباب في هذه الصورة، يمكن أن ذلك وقع لبيان الجواز، فلا يدل على عدم الاستحباب.
واستدلَّ به البخاري في كتاب النكاح على استحباب الاستكثار من النساء، وأشار فيه إلى أنَّ القسم لم يكن واجبًا عليه، وهو قول طوائف من العلماء، وقال الأكثر بوجوبه، فاحتاجوا للجواب، بأنَّه كان برضا صاحبة النوبة، كما استأذنهنَّ أن يمرَّض في بيت عائشة، وباحتمال أنَّ ذلك كان يقع عند استيفاء القسمة، ثم يستأنفها، أو عند إقباله من سفر، أو قبل وجوب القسم عليه.
وأغرب ابن العربي، قال: خص الله نبيه بأشياء منها: إنه أعطاه ساعة في كل يوم، لا يكون لأزواجه فيها حق، حتى يدخل على جميعهنّ، فيفعل ما يريد، ثم يستقر عند من لها النوبة، وكانت تلك الساعة بعد العصر، فإن اشتغل عنها كانت بعد المغرب، ويحتاج إلى ثبوت ما ذكر مفصلًا، قاله في فتح الباري.
"قال الراوي": لهذا الحديث، وهو قتادة بن دعامة الأكمة المفسر: "قلت لأنس، أوَكَان يطيقه" بفتح الواو، وهو مقول قتادة، والهمزة للاستفهام، قاله الحافظ, والواو عاطفة على مقدَّر، أي: أكان يفعل ذلك، ويطيق الدوران، "قال" أنس: "كنا" معشر الصحابة "نتحدث أنه" صلى الله عليه وسلم "أعطي"، بضم الهمزة وكسر الطاء، وفتح الياء "قوة ثلاثين" رجلًا، فمميز ثلاثين محذوف، ولعلَّ تحدثهم بذلك الخبر بلغهم عنه "رواه البخاري" في الغسل, حدَّثنا محمد بن بشار، حدثنا معاذ بن هشام، حدثني أبي، عن قتادة، قال: حدثنا أنس، قال: كان النبي يدور، فذكره "وعند الإسماعيلي" في مستخرجه، "عن معاذ" هشام الدستوائي، عن أبيه، عن قتادة عن أنس: "قوة أربعين" بدل ثلاثين.
قال الحافظ: وهي شاذَّة من هذا الوجه، لكن في مراسيل طاوس مثل ذلك، وزاد في الجماع، وفي صفة الجنة، لأبي نعيم من طريق مجاهد مثله، و"زاد أبو نعيم عن مجاهد: كل رجل من رجال أهل الجنة"، وعنده أيضًا من حديث عبد الله بن عمرو، رفعه: "أعطيت قوة أربعين(5/476)
وعن أنس مرفوعًا: "يعطي المؤمن في الجنة قوة كذا وكذا في الجماع"، قلت: يا رسول الله، أويطيق ذلك؟ قال: "يعطى قوَّة مائة". قال الترمذي: صحيح غريب, لا نعرفه من حديث قتادة إلّا من حديث عمران القطان.
فإذا ضربنا أربعين في مائة بلغت أربعة آلاف، وبهذا يندفع ما استشكل من كونه -صلى الله عليه وسلم- أوتي قوة أربعين فقط, وسليمان -عليه السلام- قوة مائة رجل أو ألف على ما ورد.
وذكر ابن العربي: إنه كان له -صلى الله عليه وسلم- القوة الظاهرة على الخلق في الوطء، وكان له في الأكل القناعة، ليجمع الله له الفضيلتين في الأمور الاعتبارية, كما جمع له الفضيلتين في الأمور الشرعية،
__________
في البطش والجماع"، وعن أنس مرفوعًا: "يعطى المؤمن في الجنة قوة كذا وكذا في الجماع"، قلت: يا رسول الله، أويطيق ذلك؟ " استفهام تعجبي, استعظم ذلك عليهم، أو حقيقي بتقدير، بلا كلفة أم يتكلفه، "قال: "يعطى" كل واحد من أهل الجنة "قوة مائة" رجل من أهل الدنيا، وهو ظاهر في استوائهم في ذلك، وعند أحمد، والنسائي وصحَّحه الحاكم عن زيد بن أرقم، رفعه: "إن الرجل من أهل الجنة ليعطى قوة مائة في الأكل، والشرب، والجماع، والشهوة".
"قال الترمذي: صحيح غريب"، لا ينافي الصحة؛ لأن الغرابة من حيث تفرّد راويه، كما أفاده بقوله: "لا نعرفه من حديث قتادة" ابن دعامة بن قتادة اسدوسي البصري، ثقة ثبت, من رجال الجميع، يقال: ولد أكمه, مات سنة بضع عشرة ومائة، "إلا من حديث عمران القطان"، البصري، صدوق، يهم، روى له أصحاب السنن، ومات بين الستين والسبعين بعد المائة، "فإذا ضربنا أربعين في مائة بلغت أربعة آلاف، وبهذا يندفع ما استشكل من كونه -صلى الله عليه وسلم- أوتي قوة أربعين فقط، وسليمان -عليه السلام- قوة مائة رجل، أو ألف على ما ورد"، فإن مثال الإشكال حملهما على رجال الدنيا، وليس كذلك، بل ما ورد في سليمان محمول على رجال الجنة، كما ورد، وذلك بأربعة آلاف، فقد زاد على سليمان بكثير، فطاخ الإشكال.
"وذكر ابن العربي، أنَّه كان له -صلى الله عليه وسلم- القوة الظاهرة على الخلق في الوطء، وكان له في الأكل القناعة"، فأكثر أكله بلغة؛ "ليجمع الله له الفضيلتين في الأمور الاعتبارية"، أي: التي تعتبرها العامة، ويعتنون بشأنها، وتعدّها صفة كمال، وليس المراد الاعتبار اللغوي وهو الاختيار والامتحان، والاتعاظ، والتذكر، والاعتداد بالشيء في ترتب الحكم عليه، وتطلق عند النحاة على خلاف الحقيقة، كالجنس، والفصل، والنوع، فلا معنى لشيء من ذلك هنا، وفي نسخة: الاعتيادية -بتحتية ودال مهملة، أي: المعتادة، "كما جمع له الفضيلتين في الأمور الشرعية"،(5/477)
حتى يكون حاله كاملًا في الدارين. انتهى.
وطاف -عليه الصلاة والسلام- على نسائه التسع ليلة. رواه ابن سعد.
وروي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "أتاني جبريل بقدر فأكلت منها, فأعطيت قوة أربعين رجلًا في الجماع" رواه ابن سعد. حدثنا عبيد الله بن موسى عن أسامة بن زيد عن صفوان بن سليم مرسلًا, وروي من حديث أبي هريرة: شكا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى جبريل قلة الجماع فتبسَّم
__________
وهما ما شارك أمته فيه، وما خُصَّ به من الأحكام، وكل ما يقربه إلى الله، مما لم يطلع عليه أحد من الخلق، "حتى يكون حاله كاملًا في الدارين، انتهى".
كلام ابن العربي: "وطاف -عليه الصلاة والسلام- على نسائه التسع ليلة"، وفي نسخة: في ليلة، "رواه ابن سعد"، وهي من جملة ما شمله حديث أنس، "وروي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "أتاني جبريل بقدر" بكسر فسكون- إناء يطبخ فيه، وهي مؤنَّثة، وتصغيرها قدير بلا هاء، على غير قياس، قاله الجوهري. "فأكلت منها" بإذن؛ إذ وضع الطعام إذن، وظاهره أنه من الجنة، ولا مانع أن طعامها يخرج إلى الدنيا، لكنَّه يسلب الخصوصية في حق غير نبينا، "فأعطيت قوة" أي: قدرة "أربعين" , فهي صفة الاقتدار على الشيء، وهي من أعلى صفات الكمال، قال تعالى في جبريل: {ذِي قُوَّةٍ} "رجلًا"، تمييز أربعين، وفي رواية: حذفه، أي: من رجال الجنة، كما مَرًَّ, "في الجماع" قيد به؛ ليدل على أولوية القوة في غيره؛ إذ هو محل العجز غالبًا، وخصوصًا عند الكبر، ولم يتعرّض في هذا الحديث لجنس المأكول الذي في القدر، وهو هريسة إن سلم الآتي من الوضع، وإلا، فلا يعلم ما في القدر، "رواه ابن سعد" في طبقاته، فقال: "حدثنا عبيد الله" بضم العين، "ابن موسى"، بن باذام العبسي -بموحدة- أبو محمد، ثقة، كان يتشيع، روى له الستة, "عن أسامة بن زيد" الليثي، مولاهم، المدني، صدوق, يهم, روي له مسلم والأربعة، مات سنة ثلاث وخمسين ومائة، وهو ابن بضع وسبعين سنة، "عن صفوان بن سليم" بضم السين، المدني، أبي عبد الله الزهري، مولاهم التابعي الصغير، ثقة، مفت عابد، رمي بالقدر روى له الأئمة الستة، مات سنة اثنتين وثلاثين ومائة، وله اثنتان وسبعون سنة، قيل: لم يضع جنبه الأرض أربعين سنة حتى نقبت جبهته من السجود، "مرسلًا"، ووصله أبو نعيم، والديلمي، عن صفوان، هذا, عن عطاء بن يسار، عن أبي هريرة رفعه، لكن فيه سفيان بن وكيع، قال أبو زرعة الرازي: كان يُتَّهم بالكذب، وأورده ابن الجوزي في الموضوع، ونوزع بأن له شواهد، فلهذا اقتصر المصنف على رواية إرساله لصحة سنده.
"وروي من حديث أبي هريرة، شكا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى جبريل قلة الجماع، فتبسَّم(5/478)
جبريل حتى تلألأ مجلس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من بريق ثنايا جبريل, فقال له: أين أنت من أكل الهريسة, فإن فيه قوة أربعين رجلًا.
ومن حديث حذيفة بلفظ: "أطعمني جبريل الهريسة أَشُدُّ بها ظهري وأتقوَّى بها على الصلاة". رواه الدارقطني.
وروي من حديث جابر بن سمرة وابن عباس وغيرهم.
وكلها أحاديث واهية. بل صرَّح الحافظ بن ناصر الدين في جزء له سماه: رفع الدسيسة بوضع حديث الهريسة, بأنه موضوع.
وروي أنه -عليه الصلاة والسلام- أعطي قوة بضع وأربعين رجلًا من أهل الجنة،
__________
جبريل حتى تلألأ"، أي: امتلأ بالنور "مجلس رسول الله -صلى الله عليه وسلم، من بريق"، أي: لمعان "ثنايا جبريل، فقال له: أين أنت من أكل الهريسة، فإن فيه"، أي: الأكل بمعنى المأكول، والهريسة بدل منه، وفي نسخة: فإن فيها، أي: الهريسة "قوة أربعين رجلًا"، وأخذ من هذا وما أشبهه أنه يستحب للرجل تناول ما يقوي شهوته لاستكثار الوقاع، كالأدوية المقوية للمعدة لتعظم شهوتها للطعام، وكالأدوية المثيرة للشهوة، وردَّه الغزالي؛ بأنه -صلى الله عليه وسلم- إنما فعله؛ لأنه كان عنده من النساء عدد كثير، ويحرم على غيره نكاحهنّ إن طلقهنّ، أو مات عنهنّ، فكان طلبه القوة لهذا المعنى، لا للتنعم والتلذذ، مع أنه لا يشغل قلبه عن ربه شيء، فلا تقاس الملائكة بالحدادين، قال: وما مثال من يفعل ما يعظم شهوته إلا كمن بلي بسباع ضارية، وبهائم عادية، فتنام عنه أحيانًا، فيحتال لإثارتها، وتهييجها، ثم يشتعل بعلاجها وإصلاحها، فإن شهوة الطعام والوقاع على التحقيق آلام يراد التخلص منها أ. هـ.
"ومن حديث حذيفة بلفظ: "أطعمني جبريل الهريسة"، وهي ما يجعل من قمح ولحم يطبخان معًا، "أشد بها ظهري"، زاد الطبراني: لقيام الليل, ""وأتقوَّى بها على الصلاة"، رواه الدارقطني"، والطبراني، وفيه محمد بن الحجاج اللخمي، هو الذي وضع هذا الحديث، ذكره المصنف في الفصل الثالث من ذا المقصد، "وروي من حديث جابر بن سمرة، وابن عباس، وغيرهم" بالجمع، على أن أقلَّه اثنان، أو بالنظر لعوده للمذكورين قبل ذين، أعني: أبا هريرة وحذيفة، "وكلها أحاديث واهية"، ولذا أوردها ابن الجوزي في الموضوعات، "بل صرَّح الحافظ بن ناصر الدين في جزء له سماه: رفع الدسيسة بوضع حديث الهريسة، بأنه موضوع"، متعلق بصرَّح، "وروي أنه -عليه الصلاة والسلام- أعطي قوة بضع وأربعين رجلًا من أهل الجنة"، وعليه، فتزيد قوّته على أربعة آلاف ولم يبيِّن قدر الزائد؛ إذ البضع من ثلاثة لعشرة، وفيه تقوية لمذهب(5/479)
رواه الحارث بن أبي أسامة.
وقد حفظه الله تعالى من الاحتلام, ذكر هنا للمناسبة من حيث أنَّ الجماع كما يكون يقظة يكون في النوم، فعن ابن عباس قال: ما احتلم نبي قط، وإنما الاحتلام من الشيطان، رواه الطبراني.
وأمَّا قدمه الشريف -صلى الله عليه وسلم, فقد وصفه غير واحد بأنَّه كان شثن القدمين، أي: غليظ أصابعهما. رواه الترمذي وغيره.
وعن ميمونة بنت كردم قالت: رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم, فما نسيت طول أصبع قدميه السبابة على سائر أصابعه، رواه أحمد والطبراني.
وعن جابر بن سمرة قال: كانت خنصر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من رجله
__________
بعض مشايخ اللغة، في استعمال البضع فيما زاد على عشرين. "رواه الحارث بن أبي أسامة" في مسنده، "وقد حفظه الله تعالى من الاحتلام، ذكر هنا للمناسبة من حيث أن الجماع كما يكون يقظة يكون في النوم"، لكن جماع الأنبياء إنما هو يقظة، "فعن ابن عباس قال: ما احتلم نبيّ قط"؛ لأنه من تلاعب الشيطان، ولا سلطان له عليهم، ولذا قال: "وإنما الاحتلام من الشيطان, رواه الطبراني" موقوفًا، وحكمه الرفع، "وأما قدمه الشريف -صلى الله عليه وسلم"، أي: صفته، "فقد وصفه غير واحد، "كعلي، وهند، وأنس، وضمير، وصفه للنبي لقوله: "بأنه كان شثن" بفتح المعجمة، وإسكان المثلثة، ونون "القدمين، أي: غليظ أصابعهما" مع غاية النعومة، "رواه الترمذي، وغيره".
ولا يرجع ضميره للقدم؛ إذ يصير المعنى: وصفوا القدم بأنه كان شثن القدمين، وهذا باطل، وفي رواية: ضخم القدمين، وأخرى: منهوس العقب، وتقدما في كلام المصنّف، وقدمنا أنه يروى منهوس بالإهمال والإعجام، "وعن ميمونة بنت كردم" بفتح الكاف، وسكون الراء، وفتح الدال، المهملة- بزنة جعفر الثقفية، صحابية صغيرة، لها حديث, ابنة صحابيّ, حديثها عند أهل الطائف، لا عند أهل البصرة كما ادَّعى ابن عبد البر, نبه عليه في الإصاب، إلّا أن يجاب بأن مراده يزيد بن هارون، راويه عن أهل الطائف؛ لأنه بصري واسطي، كما يأتي، وأصحاب الحديث يقولون: لم يرَ، وهذا غير أهل البصرة، ويريدون واحدًا من أهلها، كما في الألفية، "قالت: رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فما نسيت طول أصبع قدميه السبابة"، بدل من أصبع، أي: ما نسيت طول كل أصبع من أصبعي قدميه السبابتين "على سائر"، أي: باقي "أصابعه، رواه أحمد والطبراني" في حديث طويل، "وعن جابر بن سمرة، قال: كانت خنصر" بالكسر "رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من رجله(5/480)
متظاهرة، رواه البيهقي.
وقد اشتُهِرَ على الألسنة أنَّ سبابة النبي -صلى الله عليه وسلم- كانت أطول من الوسطى. قال الحافظ بن حجر: وهو غلط ممن قاله، وإنما ذلك في أصابع رجليه. انتهى.
وقال شيخنا -في المقاصد الحسنة: وسلف جمهورهم الكمال الدميري. وهو خطأ نشأ عن اعتماد رواية مطلقة. وعبارته: "كذا رواه ابن هارون عن عبد الله بن مقسم, عن سارة ابنة مقسم, أنها سمعت ميمونة ابنة كردم, تخبر أنها رأت أصابع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كذلك" فضمَّ ما وقع فيها من إطلاق الأصابع إلى كَوْن الوسطى من كل أطول من
__________
متظاهرة"، أي: زائدة في الطول على الظاهر، ويحتمل في الغلظ، على ما يليها من الأصابع، فتكون مرتفعة عنها بارزة، "رواه البيهقي".
وفي سنده سلمة بن حفص السعدي، قال ابن حبان: كان يضع الحديث، لا يحلّ الاحتجاج به ولا الرواية عنه، وحديثه هذا باطل لا أصل له، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان معتدل الخلق، "وقد اشتهر على الألسنة أن سبابة النبي"، أي: سبابة اليد منه "صلى الله عليه وسلم، كانت أطول من الوسطى"، وذكره القرطبي وغيره، "قال الحافظ بن حجر" لما سُئِلَ عنه: "وهو غلط ممن قاله، وإنما ذلك في أصابع رجليه أ. هـ".
فإطلاق السبابة على الأصبع التي تلي إبهام الرجل مجاز، علاقته المجاورة لإبهام الرجل؛ لأنها لغة الإصبع التالية لإبهام اليد؛ لأنه يشار بها عند السب، "وقال شيخنا" السخاوي "في المقاصد الحسنة": حديث سبابة النبي -صلى الله عليه وسلم، وأنها كانت أطول من الوسطى، اشتُهِرَ هذا على الألسنة كثيرًا، "وسلف جمهورهم"، أي: القائلين بطول سبابة يده "الكمال الدميري، وهو خطأ نشأ عن اعتماد رواية مطلقة وعبارته" أي: الدميري.
"كذا رواه" يزيد "بن هارون" السلمي، مولاهم البصري الواسطي، ثقة متقن عابد، روى له الستة، مات سنة ست ومائتين، وقد قارب التسعين, "عن عبد الله" بن يزيد "بن مقسم"، فنُسِبَ إلى جده -بكسر الميم وسكون القاف، وفتح المهملة- ابن ضبة الثقفي، مولاهم البصري, أصله من الطائف، صدوق ثقة.
روى له أبو داود حديثًا واحدًا، قال في الإصابة: ومنهم من أسقط عبد الله، وقال عن يزيد بن مقسم، "عن" عمته "سارة ابنة مقسم" الثقفية، لا تعرف, من الرابعة، كما في التقريب "إنها سمعت ميمونة ابنة كردم، تخبر أنها رأت أصابع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كذلك"، أي: السبابة أطول من الوسطى، "فضمَّ ما وقع فيها من إطلاق الأصابع إلى كون الوسطى من كلٍّ أطول من(5/481)
السبابة، وعين اليد منه -صلى الله عليه وسلم- لذلك بناءً على أن القصد ذكر وصفٍ اختُصَّ به -صلى الله عليه وسلم- عن غيره.
ولكن الحديث في مسند الإمام أحمد من حديث يزيد بن هارون المذكور مقيّد بالرجل، ولفظه -كما قدمته: فما نسيت طول أصبع قدمه السبابة على سائر أصابعه.
وهو عند البيهقي أيضًا في الدلائل من طريق يزيد ولفظها: رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بمكَّة وهو على ناقته وأنا مع أبي، فدنا منه أبي, فأخذ بقدمه فأقَرَّ له رسول الله -صلى الله عليه وسلم, قالت: فما نسيت طول أصبع قدمه السبابة على سائر أصابعه.
__________
السبابة، وعين اليد منه -صلى الله عليه وسلم- لذلك"، فأنتج له كونه أطول من الوسطى على فهمه، "بناءً على أنَّ القصد ذكر وصف اختص به -صلى الله عليه وسلم- عن غيره"، مع أنَّه ليس بمراد، إنما المراد صفة أصابعه مطلقًا، قال شيخنا: وعلى هذا، فما حكمة تخصيصها طول سبابة رجله بالذكر؟ فإن كان المراد مساواتها لغيرها من الأصابع، فلا فائدة في ذكرها، وإن كان المراد أنها تزيد طولًا على سبابة غيره، كان ذكر طولها من الوصف المختَصِّ به -صلى الله عليه وسلم، "ولكن الحديث في مسند الإمام أحمد، من حديث يزيد بن هارون المذكور" بسنده "مقيّد بالرِّجْلِ، ولفظه كما قدمته قريبًا: فما نسيت طول أصبع قدمه السبابة على سائر أصابعه"، فيحمل المطلق على المقيد.
"وهو عند البيهقي أيضًا في الدلائل النبوية، من طريق يزيد" ابن هارون المذكور سنده عند ميمونة، "ولفظها: رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بمكة" في حجة الوداع "وهو على اقته، وأنا مع أبي"، وبيد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- درة كدرة الكتاب، "فدنا منه أبي، فأخذ بقدمه فأقرّ"، أي أثبت "له" قدمه "رسول الله -صلى الله عليه وسلم" في مكانها حتى يتمكَّن من رؤيتها، "قالت: فما نسيت طول أصبع قدمه السبابة على سائر أصابعه", إلى هنا ما نقله من المقاصد، وقال عَقِبَه: ولا يمنع ذكرها لذلك مشاركة غيره من الناس له -صلى الله عليه وسلم- في ذلك؛ إذ لا مانع أن يقال: رأيت فلانًا أبيض أو أسمر، مع العلم بمشاركة غيره له، ويجوز أن يكون التفاوت بكونه زائد الظهور؛ إذ الناس فيه متفاوتون، وكذا لا يمنع منه كون السبابة في اليد خاصة؛ لأن تسميتها فيها حقيقة، وفي القدم لاشتراكها معها في التوسُّط بين الإبهام والوسطى أ. هـ.
هذا وقد اشتُهِرَ في المدائح قديمًا وحديثًا، أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- كان إذا مشى على الصخر غاصت قدماه فيه وأثَّرت، وأنكره السيوطي وقال: لم أقف له على أصل ولا سند، ولا رأيت مَنْ خَرَّجه في شيء من كتب الحديث، وكذا أنكره غيره، لكن المصنّف ذكر في الخصائص، في(5/482)
وعن أبي هريرة أنَّه -صلى الله عليه وسلم- كان إذا وطئ بقدمه وطئ بكلها ليس له أخمص. رواه البيهقي.
وعن أبي أمامة الباهلي قال: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- لا أخمص له, يطأ على قدمه كلها. رواه ابن عساكر.
وقال ابن أبي هالة: خمصان الأخمصين، مسيح القدمين.
__________
بعض نسخه تقويته بما حاصله، أنَّه ما خص نبي بمعجزة أو كرامة، إلّا ولنبينا مثلها، وأثر قدمي إبراهيم بالمقام، بمكة متواتر، وفيه يقول أبو طالب:
وموطئ إبراهيم في الصخر رطبة ... على قدميه حافيًا غير فاعل
وفي البخاري، حديث تأثير ضرب موسى في الحجر ستًّا أو سبعًا؛ إذ فَرَّ بثوبه حين اغتسل أ. هـ، إلّا أن مثل هذا لا يدفع إنكار وروده، والمثلية التي لنبينا إمَّا من جنسها، أو بغيرها أعلى، أو مساوٍ، كما نصوا عليه، "وعن أبي هريرة أنه -صلى الله عليه وسلم: كان إذا وطئ بقدمه وطئ بكلها، ليس له أخمص"، بزنة أحمر، أي: انخفاض باطن قدم, بل كانت قدمه مستوية، فالأخمص من باطن القدم ما لم يصب الأرض عند المشي، كما يأتي "رواه البيهقي" والبزار، وعبد الرزاق، "وعن أبي أمامة الباهلي قال: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- لا أخمص له"، ولذلك "يطأ على قدمه كلها، رواه ابن عساكر، وقال ابن أبي هالة: خمصان" بضم الخاء المعجمة وفتحها وسكون الميم- كما قاله الصغاني وغيره، لا بفتح الميم، كما يوهمه القاموس، والاقتصار على ضمِّ الخاء قصور "الأخمصين" تثنية أخمص، سمي به لضموره، وخوله في الرجل، قال الزمخشري: يريد أنهما مرتفعان عن الأرض، ليس بالأرح الذي يمسها أخمصاه أ. هـ.
وهذا كما قال البرهان الحلبي في شرح الشفاء: مناف لقوله: "مسيح" بفتح الميم، وكسر المهملة، وإسكان التحتية، ومهملة, "القدمين"، أي: أمسلهما، ولذا قال: ينبو عنهما الماء، ومنابذ لقول أبي هريرة، وأبي أمامة: لا أخمص له، ويمكن الجمع باحتمال أنه في أوّل أمره كان له أخمص، لما لم يكن جسده ممتلئًا باللحم، ثم لما امتلأ باللحم استوت قدمه، فلمّ يضر بها خمص، وقد يؤيد ذلك أن الإثبات رواية ابن أبي هالة, وهو ربيبه وتربيته، فقد يكون إخباره عن أوّل أمره، والنفي رواية أبي هريرة، وهو متأخِّر؛ لأنه إنما جاء سنة سبع من الهجرة، عام خيبر، وكذا أبو أمامة، من الأنصار, أسلم بالمدينة؛ وكان المصطفى قد أسنّ، فهو إخبار عن آخر أمره، وقد جمع أيضًا بأن مرادًا لنا في سلب نفي الاعتدال فيمن أثبته، أراد أن في قدميه خمصًا يسيرًا، ومن نفاه نفى شدته، وهذا قد يؤيده جمع هند بين أخمص، ومسيح، فأتى به عقبه؛ ليبيِّنَ(5/483)
قال ابن الأثير: الأخمص من القدم: الموضع الذي لا يلصق بالأرض منها عند الوطء. والخمصان: البالغ منه، أي: إن ذلك الموضع من أسفل قدميه شديد التجافي عن الأرض.
وسُئِلَ ابن الأعرابي عنه فقال: إذا كان خمص الأخمص بقدر لم يرتفع جدًّا، ولم يستو أسفل القدم جدًّا, فهو أحسن ما يكون، وإذا استوى أو ارتفع جدًّا فهو ذم، فيكون المعنى: إن أخمصه معتدل الخمص بخلاف الأوّل.
ووقع في حديث أبي هريرة: إذا وطئ بقدمه وطئ بكلِّها ليس له أخمص.
وقوله: مسيح القدمين, أي: ملساوان لينتان ليس فيهما تكسُّر ولا شقاق،
__________
أنَّ الخمصة فيه قليلة جدًّا.
"قال ابن الأثير: الأخمص من القدم: الموضع الذي لا يلصق بالأرض منها عند الوطء"، أي: المشيء، يقال منه: خمص القدم خمصًا، من باب تعب، فالرجل أخمص، والمرأة خمصاء، والجمع خمص؛ مثل أحمر وحمراء وحمر؛ لأنه صفة، "والخمصان البالغ منه، أي: إن ذلك الموضع من أسفل قدميه شديد التجافي عن الأرض" فجعله كليل أليل، واعترض بأن ذلك لا يناسب قوله بعده: مسيح القدمين، فالأحسن أنه لم يرد المبالغة في ارتفاعه، بل أتى به لبيان أنه مرتفع فقط، وهذا معنى قوله: "وسئل ابن الأعرابي"، الإمام، الحافظ، الزاهد، أبو سعيد أحمد بن محمد بن زياد البصري، صاحب التصانيف: سمع أبا داود وخلقًا, عمل لهم معجمًا، وعنه ابن منده وغيره، وكان ثقة ثبتًا عارفًا ربانيًّا، مات سنة أربع وثلاثمائة, "عنه"، أي: عن معناه، "فقال: إذا كان خمص" بكسر الميم "الأخمص"، أي: مرتفعة "بقدر لم يرتفع جدًّا، ولم يستو أسفل القدم جدًّا، فهو أحسن ما يكون" لاعتداله، "وإذا استوى" جدًّا، "أو ارتفع جدًّا، فهو ذم، فيكون المعنى: إن أخمصه معتدل الخمص بخلاف الأوّل"، فلا يكون معتدلًا، فلا يحمل عليه الحديث، لما ورد في صفته -صلى الله عليه وسلم- أنه معتدل الخلق، "ووقع في حديث أبي هريرة: إذا وطئ" مشى بقدمه "وطئ بكلها"، ليس له أخمص"، وذلك منافٍ لحديث هند, إلا أن يحمل على نفي الاعتدال فيجتمعان، أو على وقتين كما مَرَّ.
"وقوله: مسيح القدمين، أي" هما "ملساوان ليِّنَتَان، ليس فيهما تكسُّر"، أي: انخفاض لبعض الأجزاء وارتفاع لبعضها, مأخوذ من قولهم -كما في الصحاح: أرض ذات كسور، أي: صعود وهبوط، "ولا شقاق" بضم المعجمة- كغراب، وهو لغة: داء يصيب أرساغ الدواب، وما(5/484)
فإذا أصابهما الماء نبا عنهما كما قاله ابن أبي هالة: ينبو عنهما الماء، وهو معنى حديث أبي هريرة.
وعن عبد الله بن بريدة قال: كان -صلى الله عليه وسلم- أحسن البشر قدمًا. رواه ابن سعد.
وأما طوله -صلى الله عليه وسلم, فقال علي: كان -صلى الله عليه وسلم- لا قصير ولا طويل، وهو إلى الطول أقرب. رواه البيهقي. وعنه: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليس بالذاهب طولًا، وفوق الربعة إذا جامع القوم غمرهم. رواه عبد الله بن الإمام أحمد.
وعن أبي هريرة قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ربعة
__________
بين الحافر وطرف الساق، فأطلق مجازًا على تشقق القدم، "فإذا أصابهما الماء نبا عنهما" انحدر سريعًا، ولا يقف لملاستهما، "كما قاله ابن أبي هالة" عقب مسيح القدمين: "ينبو عنهما الماء"، أي: يرتفع، والمراد به: مفارقة الماء وانصبابه مجازًا، "وهو معنى حديث أبي هريرة" المذكور؛ لأن المراد من وطئه بكلِّها استواء أجزائها بلا ارتفاع ولا انخفاض، "وعن عبد الله بن بريدة" بن الحصيب الأسلمي المروزي، قاضيها، تابعي ثقة، روى له الستة، مات سنة خمس عشرة ومائة، وله مائة سنة، "كان -صلى الله عليه وسلم- أحسن البشر قدمًا. رواه ابن سعد" في طبقاته، وهو يؤيد تفسير ابن الأعرابي، الأخمص بالمعتدل، والله أعلم.
"وأما طوله -صلى الله عليه وسلم، فقال علي" في بيانه، فهو الجواب؛ لأنه دالٌّ على نفس المراد، فلا حاجة هنا لجعله محذوفًا، أي: فكان معتدلًا؛ لقول علي: "كان -صلى الله عليه وسلم- لا" هو "قصير، ولا" هو "طويل"، فهو خبر مبتدأ محذوف، كقوله تعالى: {لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ} [البقرة: 68] ، "وهو إلى الطول أقرب" نفي به تُوهِّم أنه بينهما على السواء، أو إلى القصر أقرب، "رواه البيهقي"، ورواه الترمذي في الشمائل عن علي بلفظ: لم يكن بالطويل ولا بالقصير. وهو عنده أيضًا عن أنس، "وعنه"، أي علي: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليس بالذاهب"، أي: المفرط "طولًا، وفوق الربعة إذا جامع القوم غمرهم" بفتح المعجمة، والميم- أي: زاد عليهم في الطول، فكان فوق كل من معه من غمر الماء، إذا علا، وهل بأحداث الله له طولًا حقيقة حينئذ، ولا مانع منه، أو أن ذلك يرى في أعين الناظرين فقط، وجسده باقٍ على أصل خلقته، على حَدِّ قوله تعالى: {وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ} [الأنفال: 44] ، وهذا هو الظاهر، فهو مثل تطور الولي، وذلك كي لا يتطاول عليه أحد صورة، كما لا يتطاول معنًى، فمثل ارتفاعه المعنوي في عين الناظر، فرآه رفعة حسية، وهذا من معجزاته، "رواه عبد الله بن الإمام أحمد" بن حنبل الحافظ، ابن الحافظ.
"وعن أبي هريرة: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ربعة" بفتح فسكون وقد تحرَّك, والجمع ربعات،(5/485)
وهو إلى الطول أقرب. رواه البزار.
وقوله: ربعة, أي: مربوعًا، والتأنيث باعتبار النفس. وقد فسِّر في الحديث الآتي بأنه ليس بالطويل البائن ولا بالقصير، والمراد بالطويل البائن: المفرط في الطويل مع اضطراب القامة.
وقال ابن أبي هالة: أطول من المربوع وأقصر من المشذوب -وهو بمعجمتين مفتوحتين ثانيتهما مشددة- أي: البائن الطول في نحافة، وهو مثل قوله في الحديث الآخر:
__________
بالسكون، وتحريكه شاذ، كما في القاموس؛ لأن فعلة إذا كان صفة لا يُحَرَّك في الجمع، وإنما يُحَرَّك إذا كان اسمًا، ولم يكن موضع العين واوًا وياءً؛ كجوزة وبيضة، فيقال في الجمع: جوازات وبيضات، وربما سُمِعَ التحريك هنا، وهو لغة هذيل، "وهو إلى الطول أقرب. رواه البزار"، وكذا وصفه أنس وعلي؛ بأنه كان ربعة، رواه الترمذي وغيره، "وقوله: ربعة, أي: مربوعة"، كما عَبَّر به البراء بن عازب فقال: كان رجلًا مربوعًا. رواه الترمذي، والبخاري، ومسلم، والأحاديث يفسِّر بعضها بعضًا، فالمربوع يرادف الربعة، كالربع على مفاد القاموس وغيره، فليس مراد المصنّف أنه في الأصل بمعنى المصدر، ثم استعمل بمعنى المفعول، بل مجرَّد الإيضاح، "والتأنيث باعتبار النفس"، يقال: رجل ربعة وامرأة ربعة, كما في الفتح، أي: وإلا فالأصل تجرده من الهاء، قال بعض: ويمكن جعل التاء مما بنيت عليه الكلمة، فلا حاجة إلى تقدير نفس أو نسمة؛ إذ ليست للتأنيث، "وقد فسِّر في الحديث الآتي" قريبًا عن عائشة، "بأنه ليس بالطويل البائن" بالهمز- اسم فاعل من بان، فهو بائن, بقلب الياء همزة، لوقوعها بعد ألف زائدة، ولذا قال شرَّاح الشمائل وغيرهم: جعله بالياء، وهو لوجوب اعتلال اسم فاعل اعتلَّ فعله، "ولا بالقصير"، أي: البائن، كما في رواية، "والمراد بالطويل البائن: المفرط في الطول مع اضطراب القامة"، أي: مع رخاوة لها.
"وقال ابن أبي هالة: أطول من المربوع" عند إمعان النظر وتحقيق التأمّل، فهذا بحسب الواقع، والمراد بكونه ربعة فيما مَرَّ, كونه كذلك في مبادئ النظر، فهو بحسب الظاهر، ولا ريب أنَّ القرب من الطول في القامة أحسن وألطف، "وأقصر من المشذب -وهو بمعجمتين مفتوحتين ثانيتهما مشددة"، اسم مفعول، ثم موحَّدة، "أي: البائن الطول في نحافة"، كذا في النهاية وفي القاموس: المشذّب كمعظّم: الطويل الحسن الخلق، كالشوذب، وهذا أبلغ من قوله: لم يكن بالطويل البائن؛ لأنه ينفي الطول، ويفيد حسن الخلق، وقراءة المشذب -اسم فاعل- لا تساعده اللغة، "وهو مثل قوله" أي: علي بن أبي طالب "في الحديث الآخر" عند الترمذي، قال: كان(5/486)
لم يكن بالطويل الممغط -وهو بتشديد الميم الثانية- المتناهي في الطول. وأمغط النهار إذا امتدَّ، ومغطت الحبل إذا مددته، وأصله: منمغط, والنون للمطاوعة, فقلبت ميمًا وأدغمت في الميم، ويقال: بالعين المهملة بمعناه.
وعن عائشة قالت: لم يكن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالطويل البائن ولا بالقصير المتردد، وكان ينسب إلى الربعة إذا مشى وحده، ولم يكن على حال يماشيه أحد من الناس ينسب إلى الطول إلّا طاله -صلى الله عليه وسلم, ولربما اكتنفه الرجلان الطويلان فيطولهما، فإذا فارقاه نسب
__________
علي إذا وصف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لم يكن بالطويل الممغط" ولا بالقصير المتردد، وكان ربعة من القوم، "وهو بتشديد الميم الثانية" وكسر الغين المعجمة وطاء مهملة- اسم فاعل "المتناهي في الطول، وأمغط النهار إذا امتدَّ، ومغطت الحبل إذا مددته"، وكل ما يمتد بالمد يطول ويرق، فالمراد نفي الطول البائن وقلة اللحم، "وأصله: منمغط" بنون ساكنة فميم مفتوحة، "والنون للمطاوعة فقلبت ميمًا وأدغمت في الميم"، فصار الموجود لفظًا ميمًا مشددًا، وهذا لفظ النهاية، لكن يرد عليه أن النون الساكنة إذا اجتمعت مع ميم في كلمة لا يجوز إدغامها، كقولهم: ناقة زنماء -بالزاي بلا إدغام، أي: قطع بعض أذنها وتُرِكَ معلقًا، إشارة إلى أنها كريمة، "ويقال بالعين المهملة، بمعناه"، وعليهما: هو اسم فاعل من انمغط، وفي جامع الأصول: المحدثون يشدِّدون الغين، فعليه هو اسم مفعول من التمغيط، ولا يقدح فيه اشتهار اسم الفاعل، فقد يكون الاشتهار طارئًا.
"وعن عائشة الت: لم يكن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالطويل البائن" بالموحدة, قال في فتح الباري: اسم فاعل من بان، أي: ظهر على غيره أو فارق من سواه، وقال في النهاية: أي: المفرط طولًا الذي بعد عن قدر الرجال، وقد تقدَّم ذلك، وهو إشارة إلى احتمال أنه من بان إذا ظهر، أو بان إذا بعد وفارق، وسُمِّيَ فاحش الطول بائنًا؛ لأنَّ من رآه تصوّر أن كلًّا من أعضائه بائن عن الآخر، أو ظاهر على غيره، أو مفارقه طولًا وقامة، "ولا بالقصير المتردد": المتناهي في القصر، كأنه تردد بعض خلقه على بعض، وتداخلت أجزاؤه، كما في النهاية، "وكان ينسب إلى الربعة" بأن يوصف بها، فيقال: هو ربعة لقربه منها، "إذا مشى وحده" فهو من نسبة الجزئي إلى كلية، واستأنفت جوابًا لسؤال نشأ من مفهوم وحده, قولها: "ولم يكن على حالٍ يماشيه أحد من الناس، ينسب إلى الطول إلّا طاله"، أي: زاد في الطول "صلى الله عليه وسلم، ولربما اكتنفه الرجلان الطويلان فيطولهما" يزيد عليهما طولًا إكرامًا من الله, حتى لا يزيد أحد عليه صورة، "فإذا فارقاه نسب(5/487)
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى الربعة، رواه ابن عساكر والبيهقي.
وزاد ابن سبع في الخصائص: إنه كان إذا جلس يكون كتفه أعلى من جميع الجالسين.
ووصفه ابن أبي هالة بأنه بادن متماسك، أي: معتدل الخلق، كأن أعضاءه يمسك بعضها بعضًا.
__________
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى الربعة، رواه ابن عساكر والبيهقي"، وابن أبي خيثمة، كما مَرَّ، "وزاد ابن سبع في الخصائص"، ورزين: "إنه كان إذا جلس يكون كتفه أعلى من جميع الجالسين"، وحكمته ما رأيت، ودليله قول علي: إذا جامع القوم غمرهم؛ إذ هو شامل للمشي والجلوس، فقصر من توقّف فيه بأنه لم يره إلا في كلام رزين وكلام الناقلين عنه.
"ووصفه ابن أبي هالة بأنه" معتدل الخلق، "بادن" ضخم البدن، لا مطلقًا، بل بالنسبة لما سبق من كونه شثن الكفين والقدمين، جليل المشاش والكتد، ولما كانت البدانة, قد تكون من الأعضاء، وقد تكون من كثرة اللحم والسمن المفرط المواجب لرخاوة البدن، وهو مذموم، أردفه بما ينفي ذلك، فقال: "متماسك" صريح، تصرف المصنف أنهما بالرفع، وهو في الشمائل بلا ألف، فقال بعض شراحها: ما قبله منصوب، ومن بادن إلى آخر الحديث بالرفع خبر مبتدأ محذوف، أي: هو، والجملة مستأنفة، أو في محل نصب خبر لكان بعد خبر؛ إذ أوّل الحديث: كان فخمًا مفخمًا، لكن الظاهر من حيث العربية النصب، بل قال: بعض لا حجة في رسمه في الشمائل بلا ألف على الرفع بل هو منصوب، على طريقة جمع من أصحاب الحديث، يكتبون المنصوب بصورة المرفوع اكتفاءً بالحركة، ويقرؤنه بالنصب، وقد نقله ابن الأثير في الجامع عن الشمائل بادانًا متماسكًا، بنصبهما أ. هـ.
وكذا أخرجه عياض في الشفاء من طريق الترمذي، وكذا نقله عن الشمائل السيوطي في جامعه، بنصبهما، "أي: معتدل الخلق، كأن أعضاؤه يمسك بعضها بعضًا" من غير ترجرج، وقيل معناه: ليس بمسترخي البدن، واستشكل كونه بانًا بما في رواية البيهقي، ضرب اللحم، قال البغوي: يريد أنه ليس بناحل ومنتفخ، وفي المقتفى: شحم بين شحمين، لا ناحل ولا مطهم، والبادن: الجسيم أو كثير اللحم، وأجيب بأنه لم يرد بضرب القلة، بل الخفة لتماسكه، وبأنَّ القلة والكثرة والخفة والتوسط من الأمور النسبية المتفاوتة، فحيث قيل: بادن, أريد عدم النحول والهزال، وحيث قيل: قليل أو خفيف أو متوسط، أريد عدم السمن التامّ، فهو المنفي، والمثبت عدم النحول، وبأنه كان نحيفًا، فلمَّا أسنَّ بدن، لما في مسلم عن عائشة: فلما أسنّ،(5/488)
وأما شعره الشريف -صلى الله عليه وسلم، فعن قتادة قال: سألت أنسًا عن شعر رسول الله -صلى الله عليه وسلم, فقال: شعر بين شعرين، لا رَجِل ولا سبط ولا جعد قطط, كان بين أذنيه وعاتقه.
وفي رواية للشيخين: كان رجلًا ليس بالسبط ولا الجعد.
__________
وكثر لحمه سابقته فسبقتُه. قال بعض المحققين: والحق أنه لم يكن سمينًا قط، ولا نحيفًا قط، غير أنَّ في الآخرة كان أكثر لحمًا، فغايته أن يراد بالبدانة قدر آخر كان أزيد بالخفّة ما دون ذلك، "وأمَّا شعره"، بسكون العين: جمعه شعور، كفلس وفلوس، وبفتحها, جمعه أشعار؛ كسبب وأسباب، وجمع تشبيهًا لاسم الجنس بالمفرد وهو مذكور, واحداته شعرة, "الشريف -صلى الله عليه وسلم"، أي: صفته في الرأس وغيره، وأمَّا صفة الرأس: فهو أوّل ما بدأ به المصنف من شمائله، فلا نسوّد وجه الطرس بنقله عن غيره.
"فعن قتادة" بن دعامة -بكسر الدال- الأكمه المفسر، السدوسي التابعي الشهير، "قال: سألت أنسًا عن شعر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: شعر بين شعرين"، أي: بين نوعين من الشعر, هما: الجعد والسبط، أي: بين الجعودة والسبوطة، كما يأتي, "لا رَجِل" بفتح الراء وكسر الجيم وفتحها، وسكونها، كما في المفهم، وزاد غيره: وضمها، "ولا سبط" بفتح فكسر وسكون أو فتحتين- أي مسترسل لا يتكسّر منه شيء، كشعر الهنود، "ولا جعد" بفتح الجيم وسكون المهملة- أي: منقبض يتجعد ويتكسّر؛ كشعر الحبش والزنج، "قطط" بفتحتين- كجسد على الأشهر، ويجوز كسر ثانيه، والجعد يَرِدُ بمعنى: الجواد والكريم والبخيل واللئيم، ومقابل السبط يوصف بقطط في الكل، فهو لا يعين المراد، فلذا وقع مقابلًا لسبط، والمراد: إن شعره ليس نهاية في الجعودة، وهي تكسره الشديد، ولا في السبوطة، وهي عدم تكسره وتثنيه بالكلية، بل كان وسطًا بينهما، وخير الأمور أوساطها.
قال الزمخشري: الغالب على العرب جعودة الشعر، وعلى العجم سبوطته، فقد أحسن الله تعالى برسوله الشمائل، وجمع فيه ما تفرّق في الطوائف من الفضائل أ. هـ.
ثم المراد بقوله: لا رجل, نفي شدة استرسال الشعر، بدليل قوله: "كان بين أذنيه" بالتثنية، "وعاتقه" بالإفراد، فلا ينافي إثباته في قوله: "وفي رواية للشيخين" وغيرهما عن قتادة، سألت أنس بن مالك عن شعر رسول الله -صلى الله عليه وسلم, لفظ البخاري ولفظ مسلم: قلت لأنس بن مالك: كيف شعر رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فقال: "كان" شعر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لفظ خ، ولفظ م، فقال: كان شعرًا "رجلًا ليس بالسبط"، أي: المنبسط المسترسل، "ولا الجعد"، أي: الشديد التكسر، بل فيه تكسر يسير، فهو بينهما، قال المصنف: فقوله: ليس إلخ ... ، كالتفسير لسابقه أ. هـ.(5/489)
بين أذنيه وعاتقه.
وفي أخرى: إلى أنصاف أذنيه. رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي.
وعن عائشة قالت: كنت أغتسل أنا والنبي -صلى الله عليه وسلم- من إناء واحد، وكان له شعر فوق الجمة ودون الوفرة. رواه الترمذي وأبو داود.
__________
فهو المراد بالإثبات، فلا ينافي النفي، وكان "بين أذنيه وعاتقه" بالتثنية في الأوّل والإفراد في الثاني، أي: فليس فيه شدة ارتفاع ولا شدة استرسال، وفي رواية للشيخين عن قتادة عن أنس: كان يضرب شعره منكبيه، وللبخاري أيضًا: كان يضرب رأس النبي -صلى الله عليه وسلم- منكبيه، "وفي أخرى" من حديث حميد عن أنس قال: كان شعر رسول الله -صلى الله عليه وسلم "إلى أنصاف أذنيه" جمع نِصف، أريد به ما فوق الواحد، أو أراد بالنصف مطلق البعض، وذلك البعض متعدد أكثر من اثنين؛ لأنه تارة إلى نصف الأذن، وتارة إلى دونه، وأخرى إلى فوقه، "رواه البخاري" في كتاب اللباس والزينة، "ومسلم" في صفة النبي، "وأبو داود والنسائي"، والترمذي في الشمائل، "وعن عائشة قالت: كنت أغتسل" أفادت الحكاية الماضية بصيغة المضارع استحضارًا للصورة الماضية، وإشارة إلى تكرره واستمراره، أي: اغتسلت متكررًا "أنا والنبي -صلى الله عليه وسلم" برفع النبي عطفًا على الضمير المرفوع، ولذا أبرز, وجاز مع أن المضارع المبدوء بالهمزة لا يرفع الاسم الظاهر؛ لأنه تابع، فيغتفر فيه ما لا يغتفر في غيره، أو غلب المتكلم على الغائب، كما غلب في قوله تعالى: {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} [الأعراف: 19] ، المخاطب على الغائب؛ لأن آدم أصل, وزوجه تبع، وهنا لأنَّ النساء محل الشهوة، وحاملات على الغسل، فكأنهن أصل، أو لأنَّ الأصل إخبار الشخص عن نفسه، أو لاحتمال أنَّ الماء معدًّا لغسلها، وشاركها المصطفى، أو من عطف الجمل بتقدير عامل، أي: ويغتسل معي، كما قيل في: {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} وبالنصب على أنه مفعول معه, "من إناء واحد" زاد في رواية: من جنابة, "وكان له شعر فوق الجمة" بضم الجيم وشد الميم, "ودون الوفرة" بفتح الواو، وسكون الفاء "رواه الترمذي" في جامعه وشمائله بهذا اللفظ، "وأبو داود" في سننه، وكذا ابن ماجه بلفظ: فوق الوفرة دون الجمة، كما بَيَّنَه الحافظ العراقي في شرح الترمذي قائلًا: ورايتهما هي الموافقة لكلام أهل اللغة، إلّا أن تئول رواية الترمذي، وذلك أنه قد يراد بقوله: دون, النسبة إلى القلة والكثرة، وقد يراد بالنسبة إلى محل وصول الشعر، ورواية الترمذي محمولة على هذا التأويل، أي: إن شعره كان فوق الجمة، أي: أرفع في المحل، فعلى هذا يكون شعره لمة، وهو ما بين الوفرة والجمة، وتكون رواية أبي داود وابن ماجه معناها: كان شعره فوق الوافرة، أي: أكبر من الوفرة، ودون(5/490)
والوفرة: الشعر الواصل إلى شحمة الأذن.
وقال ابن أبي هالة أيضًا: كان رجل الشعر -وهو بفتح الراء وكسر الجيم- أي: يتكسر قليلًا، بخلاف السبط والجعد- إن انفرقت عقيقته فرقها وإلّا فلا، يجاوز شعره شحمة أذنه إذا هو وفره.
والعقيقة -بالقاف: شعر رأسه الشريف،
__________
الجمة، أي: في الكثرة، وعلى هذا، فلا تعارض بين الروايتين، فروى كلّ راوٍ ما فهمه من الفوق والدون، قال تلميذه الحافظ ابن حجر: وهو جمع جيد، لولا أنَّ مخرج الحديث متحد، وأجاب المصنف بأن إحدى الروايتين نُقِلَ بالمعنى، ولا يضره اتحاد المخرج لاحتمال أنه وقع ممن دونه أ. هـ.
ونحو قول بعضهم: مآل الروايتين على هذا التقدير متحد معنًى، والتفاوت بينهما إنما هو في العبارة، ولا يقدح فيه اتحاد المخرج، وهو عائشة؛ لأن دونها أدَّى معنى العبارتين، هذا وقد يستعمل أحد اللفظين المتقاربين مكان الآخر، كما سبق في أفلج الثنيتين؛ حيث قالوا: الفلج يستعمل مكان الفرق، فكذا يقال هنا. أ. هـ.
وبهذا علمت شدة تسمّح المصنف في العزو، "والوفرة: الشعر الواصل إلى شحمة الأذن"، ويأتي قريبًا تفسيرها بذلك أيضًا، وبيان الجمة واللمة، "وقال ابن أبي هالة أيضًا: كان رجل الشعر" لفظ. كان لم يقع في لفظه، وإنما أتى به المصنف ليبين أن رجل منصوب؛ لأنه خبر بعد خبر؛ إذ أوّل الحديث: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فخمًا مفخمًا, إلى أن قال: رجل الشعر، "وهو بفتح الراء وكسر الجيم" لعله الأشهر، أو الرواية، وإلا فقد قال القرطبي في المفهم: وفتحها وسكونها- ثلاث لغات، زاد بعضها وضمها، كما مَرَّ، ومقتضاه: إنها بمعنى واحد، وفي المصباح: رجل الشعر رجلًا، من باب تعب تعبًا، فهو رجل -بالكسر والسكون- ومفاده: إن المصدر بفتحتين، والوصف على فعل -بكسر فسكون تخفيف، "أي: يتكسّر قليلًا بخلاف السبط" الذي لا يتكسّر شيء منه، "والجعد" المتكسّر "إن انفرقت عقيقته" من جملة قول هند, فَصَّله بضبط رجل، ومعناه: "فرقها" بالتخفيف، أي: جعل شعره نصفين: نصفًا عن اليمين، ونصفًا عن اليسار، قيل: بالمشط، وقيل: بذاته، "وإلّا" تنفرق، بل كانت مختلطة متلاصقة، لا تقبل الفرق، بلا ترجيل، "فلا" يفرقها، بل يتركها على حالها معقوصة، أي: وفرة واحدة، وحينئذ فقد "يجاوز شعره شحمة أذنه إذا هو وفّره"، أي: جعله وفرة، أي: مجموعًا، وفي نسخ: وفر بلا هاء.
قال المزيّ: والمعروف رواية -بالهاء، "والعقيقة -بالقاف: شعر رأسه الشريف" من العق، وهو في الأصل، القطع والشق، ولذا سميت الذبيحة للمولود يوم سابعه عقيقة، لشقّ حلقها،(5/491)
يعني: إن انفرقت بنفسها فرقها, وإلا فتركها معقوصة، ويروى: إن انفرقت عقيصته -بالصاد المهملة- وهي الشعر المعقوص.
وعن ابن عباس, أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يسدل شعره، وكان المشركون يفرقون رءوسهم، وكان أهل الكتاب يسدلون رءوسهم، وكان يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه بشيء،
__________
والشعر الخارج على رأس المولود من بطن أمه عقيقة؛ لأنه يحلق، ثم قيل للشعر النابت بعد ذلك عقيقة، لأنه منها، ونباته من أصولها، فهو مجاز مرسل، أو لأنه شبيه بها، فاستعارة، "يعني: إن انفرقت بنفسها فرقها وإلّا، فتركها معقوصة"، قاله القاضي عياض، ونحوه قول ابن الأثير، وإلّا تركها على حالها، ولم يفرّقها، وهو بناءً على أن، وإلّا، فلا كلام تامّ، وكذلك ما بعده، وإنه متعلق بمقدّر، كما أشرنا إليه، ومنهم من جعله كله كلامًا واحدًا، وفسَّره تارة بأنه لا يجاوز شحمة أذنه إذا ترك الفرق؛ فقوله: إذا هو وفَّره بيان لقوله: وإلّا, وأخرى: بأنه إن انفرق لا يجاوز في وقت توفير الشعر، قال: وبه يجمع بين مختلف الروايات في أنَّ شعره وفرة، أو جمة، فيقال: ذلك باختلاف أزمنة عدم الفرق والفرق، "ويروى إن انفرقت عقيصته -بالصاد المهملة- وهو الشعر المعقوص"، وهو نحو من المضفور، وأصل العقص الليّ، وإدخال أطراف في أصوله, والمشهور عقيقته، أي: بالقافين؛ لأنه لم يقعص شعره، قاله في النهاية، وبه ردَّ قول بعضهم رواية الصاد أولى، وقيل العقيقة: الشعر الذي مع المولود، فإن نبت بعد حلقه لم يسمّ عقيقة، واستبعده الزمخشري باقتضائه: إن شعر المصطفى كان شعر لولادة وتركه، وعدم حلقه يوم السابع، وعدم ذبح شاة، وإطعامها عيب عند العرب وشح، وأجيب بأنه من إرهاصاته؛ حيث لم يمكِّن الله قومه أن يذبحوا له باسم اللات والعزّى، ويؤيده قول النووي في التهذيب: إنه -صلى الله عليه وسلم- عقَّ عن نفسه بعد النبوة أ. هـ.
"وعن ابن عباس أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يسدل" بفتح أوله، وسكون السين، وكسر الدال المهلمتين، ويجوز ضم الدال، قاله الحافظ وغيره، وبالضم ضبطه الدمياطي في حاشية الصحيح، والمنذري في حاشية السنن، فاستفدنا أنَّ الرواية بالوجهين، "شعره"، أي: يترك شعر ناصيته على جبهته، لما في رواية للشيخين: سدل النبي -صلى الله عليه وسلم- ناصيته، وإلّا فالسدل لغةً لا يخص الناصية، بل هو إرخاء الشعر وهو الأشهر, ومشددًا، "رءوسهم"، أي: شعر رءوسهم، "وكان أهل الكتاب يسدلون رءوسهم"، وفي رواية: أشعارهم، "وكان يحب موافقة أهل الكتاب" اليهود، حين كان عبَّاد الأوثان كثيرًا، "فيما لم يؤمر فيه بشيء"، أي: فيما لم يخالفه شرعه إيجابًا، أو ندبًا، وقصره على(5/492)
ثم فرق -صلى الله عليه وسلم- رأسه. رواه الترمذي في الشمائل. وفي صحيح مسلم نحوه.
وسدل الشعر إرساله، والمراد هنا: إرساله على الجبين واتخاذه كالقصة.
وأما الفرق: فهو فرق الشعر بعضه من بعض.
قال العلماء: والفرق سنة؛ لأنه الذي رجع إليه -صلى الله عليه وسلم، والصحيح جواز الفرق والسدل، لكن الفرق أفضل.
__________
الوجوب تقصيرًا، أو لم ينزل عليه فيه وحي، أو فيما لم يطلب منه وجوبًا أو ندبًا، "ثم فرق" بفتح الفاء، والراء- روي مخففًا ومثقلًا "صلى الله عليه وسلم- رأسه"، أي: ألقى شعره إلى جانبي رأسه، فلم ينزل منه شيئًا على جبهته، وإنما أحبَّ موافقتهم لتمسّكهم في زمانه ببقايا شرائع الرسل، والمشركون وثنيون، لا مستند لهم إلّا ما وجدوا عليه آباءهم. قال الحافظ: فكانت موافقتهم أحبّ إليه من موافقة عباد الأوثان، فلما أسلم غالبهم، أحبَّ حينئذ مخالفة أهل الكتاب. انتهى.
قال النووي وغيره: أو كان لاستئلافهم، كما تألَّفَهم باستقبال قبلتهم، وتوقَّف فيه بأن المشركين أولى بالتأليف، وردَّ بأنه قد حرص أولًا على تألُّفهم، ولم يأل جهدًا في ذلك، وكلما زاد زادوا نفورًا، فأحبَّ تأليف أهل الكتاب؛ ليجعلهم عونًا على قتال الآبين من عبدة الأوثان، وقال القرطبي: حبه لموافقتهم كان أولًا, في الوقت الذي كان يستقبل قبلتهم ليتألَّفهم، حتى يصغوا إلى ما جاء به، فلمَّا غلبت عليهم الشقوة, ولم ينفع فيهم ذلك, أمر بمخالفتهم في أمور كثيرة، كقوله: "إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالوفهم" أ. هـ.
"رواه الترمذي في الشمائل، وفي صحيح مسلم نحوه"، والبخاري في الصفة انبوية، واللباس بنحوه، ورواه في الهجرة بلفظ الشمائل، خلافًا لإيهام المصنف، وكذا رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه "وسدل" بفتح فسكون- مصدر سدل، كقتل "الشعر: إرساله"، ولا يقال: أسدل بالألف، "والمراد هنا إرساله على الجبين، واتخاذه كالقصة" بضم القاف وصاد مهملة- وهي شعر الناصية، يقص حول الجبهة، والمراد أنه كان يتركه على حاله، يشبه الشعر المقصوص، "وأمَّا الفرق: فهو فرق الشعر بعضه من بعض"، ولأبي داود، عن عائشة، قالت: أنا فرقت لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- رأسه، أي: شعر رأسه عن يافوخه.
"قال العلماء: والفرق سنة؛ لأنه الذي رجع إليه -صلى الله عليه وسلم، والصحيح جواز الفرق والسدل" معًا، "ولكن الفرق أفضل" فقط؛ لأنه الذي رجع إليه، فكأنه ظهر الشرع به، لكن لا وجوبًا؛ لأن من الصحب من سدل بعد ذلك، فلو كان الفرق واجبًا ما سدلوا، وزَعْم نسخه يحتاج لبيان ناسخه، وتأخّره عن المنسوخ على أنه لو نسخ ما صار إليه كثير من الصحابة، ولذا قال(5/493)
وعن عائشة: كان له -صلى الله عليه وسلم- شعر فوق الجمة ودون الوفرة. رواه الترمذي.
وفي حديث أنس كان إلى أذنيه، وفي حديث البراء: يضرب منكبيه. وفي حديث أبي رمثة: يبلغ إلى كتفيه أو منكبيه.
وفي رواية: ما رأيت من ذي لمة أحسن منه.
والجمة: هي الشعر الذي نزل إلى المنكبين. والوفرة: ما نزل إلى شحمة الأذنين،
__________
القرطبي: توهم النسخ لا يلتفت إليه أصلًا لإمكان الجمع، قال: وهذا على تسليم أنّ حبه موافقتهم، ومخالفتهم حكم شرعي، فإنه يحتمل كونه مصلحة، وحديث هند: إن انفرقت عقيقته فرقها، وإلا تركها، يدل على أنه غالب أحواله؛ لأنه ذكر مع أوصافه الدائمة، وحليته التي كان موصوفًا بها، فالصواب أنّ الفرق مستحب لا واجب. أهـ.
وقال الحافظ: حديث هند محمول على ما كان أولًا، لما بينه حديث ابن عباس أهـ.
قيل: ويحتمل أنَّ رجوعه للفرق باجتهاد، وحكمته أنه أنظف وأبعد عن السرف في غسله، وعن مشابهة النساء، "وعن عائشة: كان له -صلى الله عليه وسلم- شعر فوق الجمة، ودون الوفرة. رواه الترمذي"، وقد مَرَّ قريبًا تامًّا، وكأنَّه أعاد المقصود هنا لمغايرته لما بعده، وذكر الجمع بينهما، لكنه لو اقتصر على هذا كفاه عن السابق، واندفع عنه اعتراض عزوه لأبي داود، مع أنَّه ليس لفظه كما مَرَّ، "وفي حديث أنس" عند البخاري ومسلم وغيرهما؛ "كان إلى" أنصاف "أذنيه، في حديث البراء" عند الشيخين وغيرهما: "يضرب منكبيه، أي: يصل إليهما، كنِّي بالضرب عن الوصول، وكذا في حديث أنس في الصحيحين "في حديث أبي رمثة" بكسر الراء وسكون الميم، ومثلثة- البلوى، ويقال: التيمي من تيم الرباب -بفتح الراء كما في الفتح، وكسرها كما في الصحاح، ويقال: التميمي، ويقال: هما اثنان، واسمه: رفاعة بن يثربي، وبه جزم الترمذي وهما بمهملتين بينهما فاء وألف، ويقال: يثربي بن رفاعة، وبه جزم الطبراني، ويقال: عمارة بن يثربي، ويقال عكسه، وقيل: يثربي بن عوف، وجزم غير واحد بأن اسمه حيّان بمثناة تحتية، وقيل: حبيب بن حيان، وقيل: جندب، وقيل: خشخاش، صحابي شهير.
قال ابن سعد: مات بإفريقية، "يبلغ إلى كتفيه أو منكبيه" بالشك، "وفي رواية" عن البراء بن عازب عند الترمذي وغيره، "ما رأيت من ذي لمة" بزيادة من تأكيد النفي, والنص على استغراق جميع الأفراد، أو هي بيانية، أي: أحدًا من صاحب لمة -بكسر اللام وشد الميم "أحسن منه"، ولا مساوٍ له على مفاد النفي عرفًا، "والجمة" بضم الجيم وشد الميم، "هي الشعر الذي نزل إلى المنكبين، والوفرة: ما نزل إلى شحمة الأذنين"، سُمِّيَ بذلك؛ لأنه وقع(5/494)
واللمة: التي لمت بين المنكبين.
قال القاضي عياض: والجمع بين هذه الروايات: إن ما يلي الأذن هو الذي يبلغ شحمة أذنيه، وما خلفه هو الذي يضرب منكبيه. وقال: قيل: بل ذلك لاختلاف الأوقات، فإذا غفل عن تقصيرها بلغت المنكب, وإذا قصرها كانت إلى أنصاف الأذنين، فكانت تطول وتقصر بحسب ذلك.
وعن أم هانئ بنت أبي طالب قالت: قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- علينا مكة قدمة
__________
على الأذن، أي: ثم عليها واجتمع.
"واللمة التي لمت" أي: نزلت "بين المنكبين"، وأنَّث باعتبار أنها حملة من الشعر، وجمعها لمام ولمم, سميت بذلك لإلمامها بهما؛ إذ هي الشعر المتجاوز شحمة الأذن مع الوصول إلى المنكب، أو المتجاوز مطلقًا، أو المتجاوز بلا وصول إلى المنكب، فإذا وصله صار جمة، أقوال. لكن قال الحافظ العراقي: ورد في شعره -صلى الله عليه وسلم- ثلاثة أوصاف: جمة، ووفرة، ولمة، فالوفرة ما بلغ شحمة الأذن، واللمّة ما نزل عن شحمة الأذن، والجمة ما نزل عن ذلك إلى المنكبين، هذا قول جمهور أهل اللغة, وهو الذي ذكره صاحب المحكم والنهاية والمشارق وغيرهم، واختلف فيه كلام الجوهري، فذكره على الصواب في مادة لمم، فقال: واللمة -بالكسر: الشعر المتجاوز شحمة الأذن، فإذا بلغت المنكبين فهي جمة، وخالف ذلك في مادة وفر، فقال: والوفرة إلى شحمة الأذن ثم الجمة، ثم اللمة التي ألمت بالمنكبين، وما قاله في باب الميم هو الصواب الموافق لقول غيره من أهل اللغة.
"قال القاضي عياض: والجمع بين هذه الروايات أنَّ ما يلي الأذن هو الذي يبلع شحمة أذنيه، وما خلفه هو الذي يضرب" يبلغ "منكبيه"، فلا تنافي بين روايتي شحمة أذنيه ومنكبيه، "وقال" عياض أيضًا: "قيل" في الجمع "بل ذلك لاختلاف الأوقات، فإذا غفل عن تقصيرها بلغت المنكب، وإذا قصرها كانت إلى أنصاف الأذنين، فكانت تطول وتقصر بحسب ذلك" ورد الجمع الأوّل بأن من وصف شعره إنما أراد مجموعه أو معظمه، لا كل قطعة منه، لكن لا ضير فيه لحصول الجمع به، وقد مشى على نحوه الداودي، وتبعه ابن التين فقال: المراد أنَّ معظم شعره كان عند شحمة أذنه، وما استرسل منه متصل إلى المنكب، قال الحافظ: قول هند بن أبي هالة: إذا هو وفَّره، أي: جعله وفرة، فهذا القيد يؤيد هذا الجمع.
"وعن أم هانئ" بكسر النون وهمز آخره، وتسهل- فاختة، أو عاتكة، أو هند "بنت أبي طالب" شقيقة علي، وعاشت بعده، "قالت: قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- علينا مكة قدمة" بفتح القاف،(5/495)
وله أربع غدائر. رواه الترمذي في الشمائل, والغدائر -بالغين المعجمة والدال المهملة: هي الذوائب، واحدتها غديرة.
وفي مسلم عن أنس، كان في لحيته -عليه الصلاة والسلام- شعرات بيض. وفي رواية له عنده:
__________
وسكون الدال، المرة الواحدة من القدوم، أي: مرة من قدومه، وبعض الروايات يدل على أنه في فتح مكة؛ لأنه اغتسل وصلى الضحى في بيتها, وكانت له قدمات أربع بمكة بعد الهجرة، قدمة عمرة القضاء والفتح، وعمرة الجعرانة، وحجة الوداع، "وله أربع غدائر"؛ ليخرج الأذن اليمنى من بين غديرتين يكتنفانها، ويخرج الأذن اليسرى من بين غديرتين يكتنفانها، تخرج الأذنان ببياضهما من بين تلك الغدائر، كأنَّها توقد الكواكب الدرية بين سواد شعره، قاله ابن أبي خيثمة: "رواه الترمذي في الشمائل، والغدائر -بالغين المعجمة، والدال المهملة: هي الذوائب" بذال معجمة، "واحدتها غديرة" وروى الترمذي أيضًا عن أم هانئ: رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذا ضفائر أربع، جمع ضفيرة، وهي العقيصة، قاله الجوهري، فالغدائر أعمّ، كما قاله السيوطي وغيره، فيحتمل أن تكون رأته في وقت آخر، أو حين قدم عليها مكة، تكون أرادت بالضفائر المعنى الذي أرادته بالغدائر وإن اختلفا لغة، ويؤيده اتحاد طريقي الحديثين إليهما؛ إذ كلاهما من رواية ابن أبي نجيح، عن مجاهد عنها، وكلاهما يدل للجمع، ولذا قال بعض شراح المصابيح: لم يحلق -صلى الله عليه وسلم- رأسه في سني الهجرة إلا عام الحديبية، ثم عام القضاء، ثم في حجة الوداع، فليعتبر الطول والقصر منه بالمسافات الواقعة منه في تلك الأزمنة، وأقصرها ما كان في حجة الوداع، فإنه توفي بعدها بثلاثة أشهر، ثم ذكر المصنف شيبه -صلى الله عليه وسلم، ولم يترجم له؛ لأنه من جملة الشعر الذي الكلام فيه، فقال: "وفي مسلم عن أنس" من حديث ابن سيرين: سألت أنس بن مالك: هل كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يخضب؟ فقال: لم يبلغ الخضاب.
"كان في لحيته -عليه الصلاة والسلام- شعرات بيض"، مقتضاه أنها عشرة فقط أو أقل؛ إذ شعرات جمع قلة من جموع السلامة، وهي لا تزيد على عشرة، فيشكل بما يأتي عنه كان في رأسه ولحيته سبعة عشر، أو ثمانية عشر، وكون العشرة في خصوص اللحية يحتاج لدليل، فيمكن أنه استعمل جمع القلة فيما فوقها مجازًا، لكن لا دليل على ما فوقها؛ إذ الآتي في الرأس واللحية معًا، والذي يظهر لي حمل ما أفاده شعرات على ظاهره، من أنها عشرة أو أقل، ويؤيده ما عند أبي نعيم، عن عائشة: كان أكثر شيب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الرأس، "وفي رواية له" لمسلم، وفي نسخة "عنده" أي: مسلم من وجه آخر عن ابن سيرين، سألت أنسًا: أخضب -صلى الله عليه وسلم،(5/496)
لم ير من الشيب إلّا قليلًا، وفي أخرى له أيضًا: لو شئت أن أعد شمطات كنّ في رأسه ولم يخضب. وعنده أيضًا: لم يخضب -عليه الصلاة والسلام, إنما كان البياض في عنفقته وفي الصدغين وفي الرأس نبذ -بضم النون وفتح الباء الموحدة وبفتح النون وإسكان الموحدة, أي: شعرات متفرقة.
وفي رواية أخرى: ما شانه الله ببيضاء.
__________
قال: إنه "لم يرَ من الشيب إلّا قليلًا، وفي أخرى له أيضًا" عن ثابت قال: سُئِلَ أنس عن خضاب النبي -صلى الله عليه وسلم، فقال: "لو شئت أن أعدّ شمطات كنَّ في رأسه" فعلت, هكذا ثبت في مسلم جواب لو، وهو قوله: فعلت، فحذفه المصنّف اختصارًا، أو سقط من قلمه، أو نساخه ولم يره, من قال جوابه محذوف لظهوره، أي: لعددتها ولقلتها، "ولم يخضب" قاله بحسب علمه، لما يأتي، "وعنده" أي مسلم "أيضًا" عن قتادة عن أنس: "لم يخضب -عليه الصلاة والسلام, إنما كان البياض في عنفقته" بفتح العين- ما بين الشفة السفلى والذقن، سواء كان عليها شعر أم لا، فيقدر مضاف، أي: شعر، وقيل: هي الشعر النابت تحت الشفة السفلى، فلا تقدير، "وفي الصدغين" بضم الصاد، وإسكان الدال المهملتين، ومعجمة- ما بين الأذن والعين، ويقال ذلك للشعر المتدلي من الرأس في ذلك المكان، كما في الفتح وغيره، قال المصنّف: على الشمائل، والثاني: وهو المراد هنا؛ إذ هو من إطلاق المحلّ وإرادة الحال.
"وفي الرأس نبذ -بضم النون، وفتح الباء الموحدة" وذال معجمة- نبذة؛ كغرف وغرفة "وبفتح النون، وإسكان الموحدة" جمع نبذة -بفتح فسكون؛ كتمر وتمرة، "أي: شعرات متفرقة"، وبرواية مسلم هذه جمع الحافظ بين رواية البخاري، ع عبد الله بن يسر: كان في عنفقته شعرات بيض، وروايته عن قتادة: سألت أنسًا هل خضَّب النبي -صلى الله عليه وسلم؟ قال: لا, إنما كان شيء في صدغيه، قال: وعرف من مجموع ذلك أنَّ الذي شاب من عنفقته أكثر مما شاب من غيرها، قال المصنف في شرح الشمائل: ولم يظهر لي وجه الجمع بما ذكر، وروى أبو نعيم عن عائشة: كان أكثر شيب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الرأس في فودي رأسه، وكان أكثر شيبه في لحيته حول الذقن، وكان شيبه كأنه خيوط الفضة يتلألأ بين سواد الشعر، فإذا مسَّه بصفرة، وكان كثيرًا ما يفعل ذلك, صار كأنه خيوط الذهب.
"وفي رواية أخرى" عند مسلم أيضًا، من رواية أبي إياس عن أنس، إنه سُئِلَ عن شيب النبي -صلى الله عليه وسلم، قال: "ما شانه الله ببيضاء"، قال الحافظ: هذا محمول على أن تلك الشعرات البيض لم يتغيّر بها شيء من حسنه -صلى الله عليه وسلم، وقد أنكر أحمد إنكار أنس أنه خضّب، وذكر حديث ابن عمر أنه رآه يخضب بالصفرة، وهو في الصحيح، ووافق مالك أنسًا على إنكار الخضاب،(5/497)
قال الشيخ عبد الجليل في شعب الإيمان، فيما حكاه عنه الفاكهاني: إنما كان كذلك لأنَّ النساء يكرهن الشيب غالبًا، ومن كره من النبي -صلى الله عليه وسلم- شيئًا كفر.
وقال في النهاية: قد تكرَّر في الحديث جعل الشيب ههنا عيبًا وليس بعيب، فإنه قد جاء في الحديث: إنه وقار وأنه نور،
__________
وتأوَّل ما ورد في ذلك أ. هـ.
"قال الشيخ عبد الجليل" القصري "في شعب الإيمان، فيما حكاه عنه" عمر بن علي بن سالم، بن صدقة اللخمي، الشهير بتاج الدين "الفاكهاني" أبو حفص الإسكندري، الفقيه المالكي، المتفنّن في الحديث والفقه والأصول والعربية والأدب, والدين المتين, والصلاح الوافر، والتصانيف العظيمة، وحج مرارًا، وُلِدَ بالإسكندرية سنة أربع، أو ست وخمسين وستمائة، وبها مات سنة أربع وثلاثين وسبعمائة، "إنما كان" المصطفى "كذلك"، أي: قليل الشيب؛ "لأن النساء يكرهن الشيب غالبًا"، كما قيل:
رأين الغواني الشيب لاح بعارضي ... فأعرضن عني بالخدود النواضر
وقل:
فإن تسألوني بالنساء فإنني ... خبير بأدواء النساء طبيب
إذا شاب رأس المرء أو قلّ ماله ... فليس له من ودهن نصيب
وقال:
لو رأى الله أن في الشيب خيرًا ... جاورته الأبرار في الخلد شيبًا
"ومن كره من النبي -صلى الله عليه وسلم- شيئًا كفر"، وهو كان كثير النساء، فرحمهنَّ الله تعالى بعدم شيبه؛ ولأن فيه إزالة لبهجة الشباب ورونقه، وإلحاقه بالشيوخ الذين يكون الشيب فيهم عيبًا، لدلالته على الضعف، ومفارقة قوة الشباب والنشاط، "وقال في النهاية: قد تكرر في الحديث جعل الشيب ههنا عيبًا" في نحو قوله: ما شانه، "وليس بعيب" في نفس الأمر، "فإنه قد جاء في الحديث: أنه وقار، وأنه نور"، أخرج أبو داود عن ابن عمر مرفوعًا: "لا تنتفوا الشيب، لأنه نور الإسلام، ما من مسلم يشيب شيبة في الإسلام إلا كانت له نورًا يوم القيامة"، وروى الترمذي والنسائي، عن كعب ابن مرة مرفوعًا "من شاب شيبة في الإسلام كانت له نورًا يوم القيامة"، زاد الحاكم في كتاب الكنى، عن أم سليم: "ما لم يغيّرها"، وأخرج البيهقي، عن ابن عمر مرفوعًا: "الشيب نور المؤمن، لا يشيب رجل شيبة في الإسلام إلّا كانت له بكل شيبة حسنة، ورفع بها درجة"، وروى ابن عساكر عن أنس مرفوعًا: "الشيب نور, من خلع الشيب فقد خلع نور الإسلام"، وللديلمي عن أنس رفعه: "أيما رجل نتفق شعرة بيضاء متعمدًا، صارت رمحًا يوم القيامة يطعن به"،(5/498)
والشيب ممدوح، وذلك عجيب منه, لا سيما في حق النبي -صلى الله عليه وسلم.
ويمكن أن يجمع بينهما: ووجه الجمع أنه -صلى الله عليه وسلم- لما رأى أبا قحافة ورأسه كالثغامة، أمرهم بتغييره وكرهه، ولذلك قال: "غيروا الشيب"، فلما علم أنس ذلك من عادته قال: ما شانه الله ببيضاء, بناءً على هذا القول, وحملًا له على هذا الرأي. ولم يسمع الحديث الآخر، ولعلَّ أحدهما ناسخ للآخر. انتهى.
وفي رواية أبي جحيفة عنده، قال: رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهذه منه بيضاء, ووضع الراوي بعض أصابعه على عنفقته.
__________
وعند ابن سعد أن حجامًا أخذ من شاربه -صلى الله عليه وسلم، فرأى شيبة في لحيته، فأهوى إليها، فأمسك -صلى الله عليه وسلم- بيده، وقال: "من شاب شيبة في الإسلام كانت له نورًا يوم القيامة".
"والشيب ممدوح" لهذه الأحاديث وغيرها، "وذلك" أي: جعله عيبًا "عجيب منه"، أي: من أنس -رضي الله عنه، "لا سيما في حق النبي -صلى الله عليه وسلم، ويمكن أن يجمع بينهما، ووجه الجمع أنه -صلى الله عليه وسلم- لما رأى أبا قحافة" بضم القاف ومهملة وفاء- عثمان والد الصديق، "ورأسه كالثغامة"، بمثلثة ومعجمة- مفرد ثغام؛ كسحاب, نبت يكون بالجبال غالبًا, إذا يبس يشبّه به الشيب، "أمرهم بتغييره وكرهه، ولذلك قال: "غيروا الشيب"، فلمَّا علم أنس ذلك من عادته، قال: ما شانه الله ببيضاء بناءً على هذا القول، وحملًا له على هذا الرأي"، وهو كراهة الشيب وطلب تغييره، وتقدَّم عن الحافظ حمله على أنه لم يغير شيئًا من حسنه، وهو أحسن من هذا، "ولم يسمع الحديث الآخر"، أي: جنسه المادح للشيب، وفي هذا النفي نظر؛ لأن أنسًا قد روى بعد أحاديث مدحه، كما رأيت، "ولعلَّ أحدهما ناسخ للآخر أ. هـ".
كلام النهاية: وفي ترجيه شيء؛ إذ لا يثبت النسخ إلّا بمعرفة التاريخ، "وفي رواية أبي جحيفة" بجيم فحاء مهملة، ففاء مصغر- وهب بن عبد الله السوائي -بضم المهملة، وخفة الواو، والمد، والهمز- من بني سواء بن عامر بن صعصعة، الكوفي، ويقال: اسم أبيه وهب أيضًا، صحابي مشهور بكنيته، وصحب عليًّا، وكان يحبه، ويسميه: وهب الخير، وجعله على بيت المال، وفي الفتح: كان يقال له أيضًا وهب الله، ووهب الخير، مات سنة أربعين وسبعين، "عنده"، أي: عند مسلم من طريق أبي خيثمة، وهو زهير بن حرب، عن أبي إسحاق, عن أبي جحيفة "قال: رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم، وهذه منه بيضاء، ووضع الراوي" لفظ مسلم، ووضع زهير "بعض أصابعه على عنفقته"، وفي رواية الإسماعيلي، عنه: رأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- شابت عنفقته. وفي البخاري عنه: رأيت النبي، ورأيت بياضًا تحت شفته السفلى، العنفقة.(5/499)
وفي حديث أنس عند البيهقي: ما شانه الله بالشيب، ما كان في رأسه ولحيته إلّا سبع عشرة أو ثمان عشرة شعرة بيضاء.
وعن أبي جحيفة: كان أبيض قد شمط. رواه البخاري.
وفي الصحيحين: عن ابن عمر, أنه رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- يصبغ بالصفرة.
__________
"وفي حديث أنس عند البيهقي: ما شانه الله"، أي: عابه "بالشيب"، والشين ضد الزين، وبابه باع، كما في المختار: "ما كان في رأسه ولحيته"، أراد بها ما قابل الرأس، فيشمل العنفقة والصدغين، فلا ينافي ما مَرَّ عنه عند مسلم، "إلّا سبع عشرة، أو ثمان عشرة شعرة بيضاء"، وعن أنس أيضًا: ما عددت في رأس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولحيته إلّا أربع عشرة شعره بيضاء، رواه الترمذي وغيره، وجمع بينهما؛ بأن إخباره اختلف باختلاف الأزمان، وبأن هذا إخبار عن عدِّه، وذاك إخبار عن الواقع، فهو لم يعد إلا أربع عشرة، وهو في الواقع سبعة عشر، أو ثمانية عشر، وردَّ بأن ما في الواقع يتوقف على العد، فلا يصح الجمع، نعم لو وقع الظن والتخمين موضع الواقع، لكان له وقع، وحصل به الجمع، ويجاب بأن كونه الواقع من حيث ثبوته عند أنس من غير، لا بعده هو، فالجمع صحيح، وروى ابن أبي خيثمة, عن أبي بكر بن عياش، قلت لربيعة: جالست أنسًا؟ قال: نعم، وسمعته يقول: شاب -صلى الله عليه وسلم- عشرين شعرة ههنا -يعني العنفقة، والجمع بينهما ما مَرَّ عند الحافظ: أنَّ ما شاب من عنفقة أكثر مما شاب في غيرها، كما دلَّ عليه مجموع الروايات، قال: وقول أنس لما سأله قتادة: هل خضّب؟ إنما كان شيء في صدغيه، أراد أنه لم يكن في شعره ما يحتاج إلى الخضاب، كما صرَّح به في روايات مسلم السابقة.
"وعن أبي جحيفة: كان أبيض قد شمط" بفتح المعجمة، وكسر الميم- أي: خالط البياض سواد شعره، فالرجل أشمط، والمرأة شمطاء، والاسم الشمط -بفتحتين، وفي اختصاصه بالرأس وعمومه فيه، وفي اللحية قولان في اللغة، قال الحافظ: وقد بَيِّنَ في الرواية التي تلي هذه، أي: في البخاري عن أبي جحيفة: رأيت النبي -صلى الله عليه وسلم، ورأيت بياضًا من تحت شفته السفلى -العنفقة، إن موضع الشمط كان في العنفقة، ويؤيده حديث عبد الله بن بسر المذكور بعده، ولمسلم عن أبي جحيفة: رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم، وهذه منه بيضاء، وأشار إلى عنفقته أ. هـ.
"ورواه البخاري" في الصفة النبوية، "وفي الصحيحين" البخاري في الوضوء واللباس، ومسلم في الحج، "عن ابن عمر" في حديث: "أنه رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- يصبغ".
قال الحافظ: بضم الموحدة، وحكي فتحها، وكسرها، "بالصفرة" ثيابه لما في أبي داود، كان يصبغ بالورس والزغفران حتى عمامته، وقيل: شعره، لما في السنن أيضًا، أنه كان يصفّر(5/500)
وعن ابن عمر: إنما كان شيبه -صلى الله عليه وسلم- نحو من عشرين شعرة بيضاء، رواه الترمذي.
وروى أيضًا عن ابن عباس, قال أبو بكر: يا رسول الله, قد شبت
__________
بهما لحيته، ورجَّح عياض الأوَّل، وأجيب عن دليل الثاني باحتمال أنه كان مما يتطيّب به، لا أنه كان يصبغ بها، وذكر بعض أن الخضاب بالأصفر محبوب؛ لأنه مدح بقوله: {تَسُرُّ النَّاظِرِينَ} ، ونقل عن ابن عباس، من طلب حاجة بنعل أصفر قضيت؛ لأن حاجة بني إسرائيل قضيت بجلد أصفر، فينبغي جعل النعل صفراء، "وعن ابن عمر" عبد الله, هكذا في نسخ، وهو الصواب الواقع في الترمذي، فما في نسخ من حذف ابن لا يعوّل عليه، "إنما كان شيبه -صلى الله عليه وسلم- نحوًا"، أي: قريبًا "من عشرين شعرة بيضاء"، بمعنى: إنه لا يبلغ العشرين، فهو كقول أنس: سبع عشرة، أو ثمان عشرة، "رواه الترمذي"، ولا ينافيه قول أنس أيضًا: ما عددت في رأسه ولحيته إلا أربع عشرة؛ لأنها نحو العشرين، لكونها أكثر من نصفها، لكن توقف عصام فيه، بأن لا دلالة لنحو الشيء على القرب منه، ووهموه، وأجاب عنه شيخنا بأنَّ مراده: لا دلالة على القرب من الكمال جدًّا، كتسعة عشر, بالنسبة إلى العشرين؛ إذ نحو الشيء ما زاد على نصفه، فيصدق بأحد عشر، كما يصدق بما زاد عليها إلى تسعة عشر، وخصوص المراد من هذا لا دلالة عليه، ولا ينافيه أيضًا قول عبد الله بن بسر: كان في عنفقته شعرات بيض. رواه البخاري، وهو من أفراده وثلاثياته، ومقتضاه: إنه لا يزيد على عشر، لا يراده بصيغة جمع القلة؛ لأنه خص ذلك بعنفقته، فيحمل الزائد على ذلك في غيرها، كما أفاده الحافظ.
وروى الحاكم في المستدرك، من طريق عبد الله بن محمد بن عقيل، عن أنس قال: لو عددت ما أقبل من شيبة في رأسه ولحيته ما كنت أزيد على إحدى عشرة شيبة، وجمع العلَّامة البلقيني بين هذه الروايات؛ بأنها تدل على أن شعراته البيض لم تبلغ عشرين، والرواية الثانية: إن ما دونها كان سبع عشرة, فتكون العشرة على عنفقته، والزاد عليها في بقية لحيته؛ لأنه قال في الثالثة: لم يكن في لحيته عشرون شعرة بيضاء، واللحية تشمل العنفقة وغيرها، وتكون العشرة على العنفقة؛ لحديث عبد الله بن بسر، والبقية بالأحاديث الأخر في بقية لحيته، وإشارة حميد إلى أنَّ في عنفقته سبع عشرة لا تفهم من نفس الحديث، وأمَّا الرواية الرابعة: فلا تنافي كون العشرة على العنفقة، والواحد على غيرها، وهذا الموضع موضع تأمل أ. هـ.
وكيف هذا مع قوله في الرابعة: في رأسه ولحيته, "وروى" الترمذي "أيضًا" من طريق عكرمة "عن ابن عباس" قال: "قال أبو بكر" الصديق: "يا رسول الله، قد شبت"، أي: ظهر فيك(5/501)
قال: "شيبتني هود والواقعة والمرسلات، وعم يتساءلون، إذ الشمس كورت".
وفي حديث جابر
__________
أثر الشيب والضعف، مع أنَّ مزاجك اعتدلت فيه الطبائع، واعتدالها يستلزم عدم الشيب، "قال: "شيبتني هود"، روي بالصرف أي: سورة هود, وبتركه على أنه عَلَم على السورة، ولا ينافي ذلك حديث أنس: أنه لم يبلغ الشيب؛ لأن مقصوده نفي احتياجه إلى الخضاب الذي سئل عنه؛ إذ الروايات الصحيحة صريحة في أنَّ ظهور الشيب في رأسه ولحيته لم يبلغ مبلغًا يحكم عليه بالشيب، "والواقعة والمرسلات، وعم يتساءلون، وإذا الشمس كورت"، زاد الطبراني: والحاقة، وابن مردويه: وهل أتاك حديث الغاشية، وابن سعد: والقارعة، وسأل سائل، وفي رواية: واقتربت الساعة، وإسناد الشيب إلى السور، والمؤثر هو الله، إسناد إلى السبب، فهو مجاز عقلي، أو تنزيلًا للأسباب منزلة المؤثر، فالإسناد حقيقي، ولا ينافي أن التنزيل يقتضي التجوّز في المسند إليه، وروى ابن سعد أن رجلًا قال للنبي -صلى الله عليه وسلم: أنا أكبر منك مولدًا، وأنت خير مني وأفضل، فقال: " شيبتني هود وأخواتها، وما فعل بالأمم قبلي"، ووجه تشييب هود وأخواتها: اشتمالها على بيان أحوال السعداء والأشقياء، وأهوال القيامة، وما يتعسر، بل يتعذّر مراعاته على غير النفوس القدسية، كالأمر بالاستقامة، كما أمر الذي لا يمكن لأمثالنا، وغير ذلك مما يوجب استيلاء سلطان الخوف، لا سيما على أمته؛ لعظيم رأفته بهم ورحمته، ودوام الفكر فيما يصلحهم، وتتابع الغمّ فيما ينوبهم أو يصدر عنهم، واشتغال قلبه وبدنه وخاطره فيما فُعِلَ بالأمم الماضيين، وذلك كله يستلزم ضعف الحرارة الغريزية، وبها يسرع الشيب، ويظهر قبل أوانه، لكن لما كان عنده -صلى الله عليه وسلم- من شرح الصدر، وتزاحم أنوار اليقين على قلبه ما يسليه، لم يستول ذلك إلا على قدر يسير من شعره الشريف؛ ليكون فيه مظهر الجلال والجمال، ويستبين أن جماله غالب على جلاله، ووجه تقديم هود: إن كانت الواو لا ترتب، إلّا أنَّ تقديم الذكر لا يخلو عن حكمة، قوله تعالى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ} ، فأمرهم بأعلى المراتب، ولا يستطيعها إلّا النادر، ولذا لم يذكر "شورى"؛ لأنه المأمور فيها وحده، بخلاف "هود"، وقد علم أنهم، لا يقومون بهذا الأمر الخطر كما يجب, فاهتمَّ بحالهم, وملاحظة عاقبة أمرهم, أو أنه أوّل ما سمعه في هود, وقول بعضهم كان وجه تخصيص هذه الصورة بالذكر، مع أن في بعض السور غيرها ما يفي بها وزيادة, أنه -صلى الله عليه وسلم- حال إخباره بذلك لم يكن أنزل عليه مما يشتمل على ما مَرَّ غيرها فيه، أنه ليس في القرآن الأمر بالاستقامة، وهو من تاب معه، إلّا في "هود"، إلّا أن يكون مراده غيرها، فقد تسلم نكتته، "وفي حديث جابر" أي: ابن سمرة.
وكان الأولى زيادته؛ لأنه عند الإطلاق: ابن عبد الله، لكنه استغنى عن ذلك بإحالته على(5/502)
عنده: لم يكن في رأسه -صلى الله عليه وسلم- شيب إلّا شعرات في مفرق رأسه, إذا ادَّهن واراهنَّ الدهن.
وفي رواية البيهقي: كان أسود اللحية حسن الشعر.
واختلف العلماء: هل خضب -عليه الصلاة والسلام- أم لا؟
قال القاضي عياض: منعه الأكثرون, وهو مذهب مالك.
__________
الترمذي، بقوله "عنده"؛ إذ هو عنده عن سماك بن جرب، قال: قيل لجابر بن سمرة: أكان في رأس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شيب؟ قال: "لم يكن في رأسه -صلى الله عليه وسلم- شيب"، أي: بياض شعر أو شعر أبيض، "إلّا شعرات" قليلة معدودة، لا تزيد على عشر, بدليل جمع القلة "في مفرق" بفتح الراء وكسرها، "رأسه"، أي: مقدمة، لرواية مسلم: قد شمط مقدم رأسه، أو محلّ المفرق منه، وهو وسط الرأس، كما في الصحاح، "إذا ادَّهن، واراهنَّ الدهن" بالفتح والضم- أي: سترهنَّ وغيَّبَهنَّ، وجعلهنَّ مخفيات؛ بحيث لا ترى إلا بدقة نظر لجمعة الشعر، والخلطة بالطيب، وقال القرطبي: المراد أنه كان إذا تطيّب يكون فيه دهن، فيه صفرة تخفي شيبه، وهذا الحديث أخرجه مسلم، والنسائي، عن ابن سمرة، بنحوه، كما يأتي، "وفي رواية البيهقي: كان أسود اللحية حسن الشعر"، أي: ليس بجعد، ولا قطط، "واختلف العلماء" في جواب قول السائل، "هل خضب -عليه الصلاة والسلام- أم لا؟ "، ومثاره اختلاف الرواية في ذلك، فأنكره أنس، وأثبته ابن عمر، كما مَرَّ، وأبو رمثة قال: أتيت النبي -صلى الله عليه وسلم- بردان أخضران، وله شعر قد علاه الشيب، وشيبه أحمر مخضوب بالحنا. رواه الحاكم، وأصحاب السنن، وسُئِلَ أبو هريرة: هل خضب -صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم. رواه الترمذي، وغيره، وفي الباب غيرهم.
"قال القاضي عياض: منعه الأكثرون، وهو مذهب مالك"، فوافق أنسًا على الإنكار، وتأوَّل حديث ابن عمر بحمله على الثياب لا الشعر، وأحاديث غيره إن صحَّت على أن تلونه من الطيب لا من الصبغ، لما في البخاري وغيره، قال ربيعة: فرأيت شعرًا من شعره -صلى الله عليه وسلم، فإذا هو أحمر، فسألت، فقيل: أحمر من الطيب، قال الحافظ: لم أعرف المسئول المجيب بذلك، إلّا أنَّ الحاكم روى أنَّ عمر بن عبد العزيز قال لأنس: هل خضَّب النبي -صلى الله عليه وسلم؟ فإني رأيت شعرًا من شعره قد لوّن، فقال: إنما هذا الذي لون من الطيب الذي كان يطيب به شعره، فهو الذي غيِّر لونه، فيحتمل أن يكون ربيع سأل أنسًا عن ذلك، فأجابه، ووقع في رجال مالك للدارقطني، والغرائب له، عن أبي هريرة قال: لما مات رسول الله -صلى الله عليه وسلم، خضب من كان عنده شيء من شعره، ليكون أبقى لها، فإن ثبت هذا استقام إنكار أنس، ويقبل ما أثبته سواه التأويل، انتهى.(5/503)
وقال النووي: المختار أنَّه صبغ في وقت, وترك في معظم الأوقات، فأخبر كلٌّ بما رأى وهو صادق، قال: وهذا التأويل كالمتعين؛ لحديث ابن عمر في الصحيحين: ولا يمكن تركه ولا تأويل له. وأما اختلاف الرواية في قدر شيبه, فالجمع بينهما أنه رأى شيبًا يسيرًا، فمن أثبت شيبه أخبر عن ذلك اليسير, ومن نفاه أراد أنه لم يكثر فيه، كما قال في الرواية الأخرى: لم ير الشيب إلّا قليلًا، انتهى.
وعن جابر بن سمرة قال: كان -صلى الله عليه وسلم- قد شمط مقدم رأسه ولحيته،
__________
"وقال النووي: المختار أنه صبغ" شعره حقيقةً؛ لأن التأويل خلاف الأصل "في وقت، وترك في معظم الأوقات، فأخبر كلٌّ بما رأى، وهو صادق"، وغاية ما يفيده هذا عدم الحرمة؛ لأنه يفعل المكروه في حق غيره لبيان الجواز، فلا يصح استدلال الشافعية به على قولهم: الخضاب بغير سواد سنة، فيحمل حديث من أثبت الخضاب على أنه فعله لإرادة بيان الجواز، ولم يواظب عليه، ويحمل نفي أنس على غلبة الشيب، حتى يحتاج إلى خضابه، ولم يتَّفق أنه رآه وهو يخضب، كما في الفتح, وما رواه الترمذي، عن أنس: رأيت شعر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مخضوبًا، فقد حكم الحفَّاظ بأنه شاذّ، وبينوا أوجه الشذوذ، فلا يقاوم ما في الصحيحين عنه من طرق كثيرة، أنه لم يخضّب، وعلى تقدير الصحة، جمع بأن الشعر لما تغيّر بكثرة الطيب سماه مخضوبًا، وبأنه أراد بالنفي أكثر أحواله، وبالإثبات إن صحَّ عنه أقلّها، "قال: وهذا التأويل كالمتعين؛ لحديث ابن عمر في الصحيحين" السابق قريبًا, أنه رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- يصبغ بالصفرة، "ولا يمكن تركه" لصحته، "ولا تأويل له" فيه نظر؛ إذ هو في نفسه محتمل للثياب والشعر، ثم قد ورد ما يعين الأول، وهو ما في سنن أبي داود، عن ابن عمر نفسه، كان يصبغ -صلى الله عليه وسلم- بالورس والزعفران حتى عمامته، ولذا رجَّحه عياض.
"وأما اختلاف الرواية في قدر شيبه" المناسب لجمعه، أن يقول في أصل شيبه، أي: إثباته ونفيه، أمَّا لفظ قدر: فيقتضي الاتفاق على وجوده، والأمر بخلافه، إلّا أن يقال: لفظ قدر ينتهي إلى العدم، "فالجمع بينهما" أي: بين رواية الشيب وعدمه، وإن اشتمل على عدة أحاديث، "أنه"، أي: جنس الراوي، "رأى شيبًا" أي: بياضًا "يسيرًا، فمن أثبت شيبه أخبر عن ذلك اليسير، ومن نفاه" أي: الشيب "أراد أنه لم يكثر فيه، كما قال في الرواية الأخرى: لم ير من الشيب إلا قليلًا، انتهى" كلام النووي. "وعن جابر بن سمرة"، وقد سئل عن شيبه -صلى الله عليه وسلم "فقال: كان -صلى الله عليه وسلم- قد شمط" بفتح المعجمة، وكسر الميم، "مقدم رأسه ولحيته" بالجر، أي: ومقدم لحيته، أي: خالط سوادهما بياض، وإطلاق الشمط على بياض اللحية حقيقي، كما في المغرب عن الليث،(5/504)
وكان إذا ادَّهن لم يتبيّن، فإذا شعث رأسه تبيِّن, وكان كثير شعر اللحية. رواه مسلم والنسائي.
وعن أنس: كان -صلى الله عليه وسلم- يكثر دهن رأسه وتسريح لحيته. رواه البغوي في شرح السنة.
__________
وجزم به الشامي، مجاز على ما في الصحاح والقاموس من تخصيصه بالرأس، "وكان إذا ادَّهن لم يتبيّن" شيبه؛ لالتباس البياض ببريق الشعر من الدهن، وفي رواية الترمذي: كان إذا دهن رأسه لم ير منه شيب، وإذا لم يدهن ريء منه، قال المصنف: كذا وقع في أصل سماعنا: دهن من الثلاثي المجرد، وكذا لم يدهن، وفي رواية: أدهن من باب الافتعال، وكذا لم يدهن، وعلى التقديرين يكون رأسه مفعولًا، لكن في المغرب: دهن رأسه وشاربه، إذا طلاه بالدهن، وادَّهن على افتعل إذا تولى ذلك بنفسه، من غير ذلك المفعول، "فإذا شعث رأسه" بعدم الإدهان "تبيّن" شيبه؛ لتفرق شعره، فيصير شيبه مرئيًّا.
"وكان كثير شعر اللحية. رواه مسلم والنسائي"، وهو صريح في قلة شيبه أيضًا، كغيره من الأحاديث، "وعن أنس" قال: "كان -صلى الله عليه وسلم- يكثر دهن رأسه" بفتح الدال- مصدر بمعنى استعمال الدهن -بالضم- وهو ما يدهن به من زيت وغيره، وجمعه: دهان -بالكسر، وادَّهن على افتعل, تطلى بالدهن، كما في المصباح، كغيره، "وتسريح لحيته" عطف على دهن، لا على رأسه، كما وهم، "رواه البغوي في شرح السنة"، وأبعد المصنف النجعة، فقد رواه الترمذي في جامعه، وشمائله من طريق الربيع بن صبيح، عن يزيد بن أبان -هو الرقاشي، عن أنس به, بزيادة: ويكثر القناع، حتى كان ثوبه ثوب زيات، ومعناه: إنه يكثر دهن رأسه ويتقنع، فكأنَّ الموضع الذي يصيبه رأسه من ثوبه ثوب زيات.
قال الحافظ -الشمس بن الجزري: الربيع بن صبيح له مناكير، منها هذا الخبر، فإنه -صلى الله عليه وسلم- كان أنظف الناس ثوبًا، وأحسنهم هيئة، وقد قال: " أصلحوا ثيابكم حتى تكونوا كالشامة في الناس"، وأنكر على من رآه وسخ الثوب، وقال: "أما كان يجد هذا ما يغسل به ثوبه" انتهى.
وتعقّب بأن الربيع لم ينفرد به، بل تابعه عمر بن حفص العبدي، عن يزيد، عن أبان, كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يكثر التقنّع بثوبه, حتى كأنَّ ثوبه ثوب زيات أو دهان، أخرجه ابن سعد، وإصابة الدهن لحاشية ثوبه إنما كان أحيانًا، وإذا وقع غسله، وذلك لا ينافي كونه أنظف الناس ثوبًا.
وقال الحافظ العراقي في شرح الترمذي: هذا الحديث إسناده ضعيف، لكن له شواهد, منهم في الخلعيات عن سهل بن سعد، كان -صلى الله عليه وسلم- يكثر دهن رأسه، وتسريح لحيته بالماء، ومنها: في(5/505)
قد وصفه -عليه الصلاة والسلام- ابن أبي هالة بأنَّه كان موصول ما بين اللبة والسرة بشعر يجري كالخط عاري الثديين مما سوى ذلك، أشعر الذراعين والمنكبين وأعالي الصدر.
__________
سنن البيهقي، عن أبي سعيد: كان لا يفارق مصلاه سواكه ومشطه، وكان يكثر تسريح لحيته. وإسناده ضعيف، وإكثاره ذلك إنما كان في وقتٍ دون وقت؛ لنهيه عن الادّهان إلّا غبًّا في عدة أحاديث، "وقد وصفه -عليه الصلاة والسلام- ابن أبي هالة؛ بأنه كان موصول ما بين اللبة" بفتح اللام، والموحدة الثقيلة- وهي المنحر، أو النقرة التي فوق الصدر، أو موضع القلادة منه، وقال ابن قتيبة: هي التطامن الذي فوق الصدر، وأسفل الحلق بين الترقوتين، وفيها تنحر الإبل، والقول بأنها الفقرة التي في الحلق غلط، "والسرة" بضم المهملة- ما بقي بعد القطع، والمقطوع سر بلا تاء.
قال الجوهري: تقول: عرفت ذلك قبل أن يقطع سرك، ولا تقل سرتك؛ لأن السرة لا تقطع، وإنما هي الموضع الذي قُطِعَ منه السر -بالضم، وما موصول، وموصول مضاف لما بعده إضافة الصفة لمعمولها، والمعنى: وصل الذي بين لبته وسرته "بشعر" متعلق بموصول, "يجري" يمتدّ, شبِّه بجريان الماء، وهو امتداده في سيلانه، "كالخط" واحد الخطوط، وهو الطريقة المستقيمة في الشيء، والخط الطريق، وغالبه الاستقامة والاستواء، فشبِّه بالاستواء، وفي الاصطلاح: ما وصل بين نقطتين متقابلتين، أو ما وجد فيه ثلاث نقط على سمت واحد، وأقصر خط وصل بين نقطتين، فكأنه جعل اللبة نقطة، والسرة نقطة، والشعر الرقيق بينهما خطًّا لاتصاله، والأوّل أعرف وأشهر، وروي: كالخيط, والأول أبلغ في التشبيه، وهذا معنى دقيق المسرية المتقدّم في وصف هند، "عاري الثديين" بفتح أوله ويضم- بقلة, أي: لم يكن عليهما شعر، وفي رواية: الثندوتين -بمثلثة ونون- وهما بمعنًى, قال ابن الأثير: هما للرجل كالثديين للمرأة، فمن ضمَّ الثاء همز، ومن فتحها لم يهمز, انتهى. وقيل: لم يكن عليهما لحم ناتئ عن البدن، لما يأتي أنه أشعر أعالي الصدر، وفيه نظر؛ لأنه لم يذكر فيه أنّ على ثدييه شعرًا، وأيضًا هو خلاف الظاهر المتبادر، قال المصنف: وأيضًا يتعطل قوله: والبطن، "مما سوى ذلك".
وفي رواية: ما سوى ذلك, أي: ليس فيهما شعر غيره، فهو قيد للثديين والبطن، إلّا أنه بالنسبة لها للاحتراز، وللثديين ليس للتحرّز عن الخط، بل لأنه لو كان لكان سواه، ورواية: مما -بميمين- أقرب وأنسب، وما موصولة، وفي رواية: ما سوى ذين، وهي أيضًا أظهر, "أشعر"، أي: كثير شعر "الذراعين، والمنكبين، وأعالي" جمع أعلى, "الصدر"، أي: كان على هذه الثلاثة(5/506)
وعن أنس قال: رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والحلاق يحلقه, وأطاف به أصحابه, فما يريدون أن تقع شعرة إلّا في يد رجل. رواه مسلم. وستأتي إن شاء الله تعالى قصة حلق رأسه الشريف في حجة الوداع.
ولم يروَ أنه -عليه الصلاة والسلام- حلق رأسه الشريف في غير نسك حج أو عمرة فيما علمته، فتبقية الشعر في الرأس سنة, ومنكرها مع علمه يجب تأديبه، ومن لم يستطع التبقية يباح له إزالته.
وقد رأيت بمكة المشرَّفة في ذي القعدة سنة سبع وتسعين وثمانمائة شعرة عند الشيخ أبي حامد المرشدي، شاع وذاع أنها من شعره -صلى الله عليه وسلم، زرتها صحبة المقام المقري خليل العباسي, وإلى الله إحسانه عليه.
وعن محمد بن سيرين
__________
شعر غزير, هذا من تتمة الصفتين المارَّتين، وأشعر ضد أجرد، وهو أفعل صفة، لا أفعل تفضيل، "وعن أنس قال: رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم" في حجة الوداع، "والحلاق" معمر بن عبد الله، كما ذكره البخاري، وقيل: خراش بن أمية -بمعجمتين- والصحيح الأوّل، فإن خراشًا كان الحلاق بالحديبية، "يحلقه" بكسر اللام، "وأطاف به أصحابه" داروا حواله، "فما يريدون أن تقع شعرة إلّا في يد رجل" تيمنًا وتبركًا "رواه مسلم"، وفي الصحيحين عن أنس أنه -صلى الله عليه وسلم، لما حلق رأسه، كان أبو طلحة أوّل من أخذ من شعره، "وستأتي إن شاء الله تعالى قصة حلق رأسه الشريف في حجة الوداع"، من المقصد التاسع، "ولم يروَ أنه -عليه الصلاة والسلام- حلق رأسه الشريف في غير نسك حجٍ أو عمرة" بدل من نسك، "فيما علمته"، وبه جزم ابن القيم، فقال: لم يحلق رأسه إلا أربع مرات, وقال العراقي في سيرته:
يحلق رأسه لأجل النسك ... وربما قصره في نسك
وقد رووا لا توضع النواصي ... إلا لأجل النسك المحاصي
"فتبقية الشعر في الرأس سنَّة، ومنكرها مع علمه يجب تأديبه، ومن لم يستطع التبقية يباح له إزالته"، ولفقهائنا كلام طويل في ذلك، "وقد رأيت مكَّة المشرفة, في ذي القعدة، سنة سبع وتسعين وثمانمائة, شعرة عند الشيخ أبي حامد المرشدي، شاع وذاع أنها من شعره -صلى الله عليه وسلم, زرتها، صحبة المقام المقري خليل العباسي، وإلى الله إحسانه عليه"، وذكر هذا كسابقه، وإن لم يكن من شمائله، لبيان تبرك الناس قديمًا وحديثًا بأثاره، فله مناسبة ما في شمائله، وكذا قوله: "وعن محمد بن سيرين" الأنصاري مولاهم البصري، ثقة ثبت، تابعي عابد, كبير القدر،(5/507)
قال: قلت لعبيدة، عندنا من شعر النبي -صلى الله عليه وسلم، أصبناه من قِبَلِ أنس أو من قِبَلِ أهل أنس، فقال: لأن تكون عندي شعرة منه أحب إليّ من الدنيا وما فيها. رواه البخاري.
وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، أنه -صلى الله عليه وسلم- كان يأخذ من لحيته من عرضها وطولها
__________
كان لا يرى الرواية بالمعنى، مات سنة عشر ومائة، "قال: قلت لعبيدة" بفتح العين، وكسر الموحدة، آخره هاء- ابن عمرو بن قيس السلماني -بفتح، فسكون- ويقال: بفتحتين- المرادي أبي عمرو الكوفين التابعي، الكبير المخضرم، الثبت, الفقيه، أسلم قبل وفاة المصطفى ولم يره، ومات سنة اثنتين وسبعين أو بعدها، والصحيح أنَّه مات قبل سنة سبعين، "عندنا" شيء "من شعر النبي -صلى الله عليه وسلم- أصبناه" أي: حصل لنا "من قِبَلِ" بكسر القاف، وفتح الموحدة- أي: من جهة "أنس، أو من قِبَلِ أهل أنس" بن مالك، ووجه حصوله لمحمد بن سيرين والده، كان مولى أنس، وأنس ربيب أبي طلحة، وكان أوّل من أخذ من شعره، كما في الصحيح "فقال" عبيدة: "لأن تكون عندي شعرة" واحدة "منه، أحب إليّ من الدنيا وما فيها" من متاعها، وللإسماعيلي: أحبّ إلي من كل صفراء وبيضاء. ولام لأنّ لام ابتداء للتأكيد، وأنّ مصدرية، أي: كون شعرة، وأحبّ خبر، فتكون ناقصة، ويحتمل أنها تامّة "رواه البخاري" في كتاب الوضوء.
"وعن عمرو بن شعيب" ابن محمد بن عبد الله، بن عمرو بن العاص، "عن أبيه" شعيب "عن جده"، أي: شعيب، وهو عبد الله الصحابي، "أنه -صلى الله عليه وسلم- كان يأخذ من لحيته من عرضها وطولها"، بالسوية، كما في الرواية، لتقرب من التدوير من جميع الجوانب؛ لأن الاعتدال محبوب، والطول المفرط، قد يشوّه الخلق، ويطلق ألسنة المغتابين، ففعل ذلك مندوب، ما لم ينته تقصيص اللحية، وجعلها طاقات فيكره، وكان بعض السلف يقبض على لحيته، فيأخذ ما تحت القبضة، وقال النخعي: عجبت لعاقل كيف لا يأخذ من لحيته، فيجعلها بين لحيتين، فإن التوسّط في كل شيء حسن، ولذا قيل: كلما طالت اللحية تشمّر العقل، ففعل ذلك إذا لم يقصد الزينة والتحسين لنحو النساء سنّة، كما عليه جمع, منهم: عياض وغيره، واختار النووي: كونها بحالها مطلقًا، ثم لا ينافي في فعله -صلى الله عليه وسلم- قوله: "اعفوا اللحى"؛ لأنه في الأخذ منها لغير حاجة، أو لنحو تزين، وهذا فيما احتيج إليه لتشعث أو إفراط، طول يتأذَّى به، وقال الطيبي: المنهي عنه قصها كالأعاجم، أو وصلها كذنب الحمار، وقال الحافظ: المنهي عنه الاستئصال، أو ما قاربه بخلاف الأخذ المذكور.
لطيفة: قال الحسن بن المثنَّى: إذا رأيت رجلًا له لحية طويلة، ولم يتخذ لحية بين(5/508)
رواه الترمذي وقال: حديث غريب.
وأخرج الترمذي عن ابن عباس وحسَّنه قال: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقصّ شاربه.
وعنده من حديث زيد بن أرقم قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم: "من لم يأخذ من شاربه فليس منا".
وفي الصحيحين: حديث: "خالفوا المشركين, وفِّروا
__________
لحيتين، كان في عقله شيء، وجلس المأمون مع أصحابه مشرفًا على دجلة، فقال المأمون: ما طالت لحية إنسان قط إلّا ونقص من عقله بقدر ما طال منها، وما رأيت عاقلًا قط طويل اللحية، فقال بعض الجلساء: ولا يرد على أمير المؤمنين، أنه قد يكون في طولها عقل، فأقبل رجل كبير اللحية، حسن الهيئة، فأخر الثياب، فقال المأمون: ما تقولون فيه؟ فقال بعضهم: يجب كونه قاضيًا، فأمر بإحضاره، فوقف، فسلّم، فأجاد، فأجلسه المأمون واستنطقه، فأحسن، فقال المأمون: ما اسمك؟ فقال: أبو حمدويه، والكنية علوية، فضحك المأمون، وغمز جلساءه، ثم قال: ما صنعتك؟، قال: فقيه أجيد المسائل، قال: ما تقول فيمن اشترى شاة، فلمَّا تسلمها خرج من إستها بعرة، ففقأت عين رجل، فعلى من الدية؟، قال: على البائع دون المشتري؛ لأنه لما باعها لم يشترط أنَّ في إستها منجنيقًا، فضحك المأمون حتى استلقى على قفاه، وأنشد:
ما أحد طالت له لحية ... فزادت اللحية في هيئته
إلّا وما ينقص من عقله ... أكثر مما زادني لحيته
"رواه الترمذي" في الاستئذان، "وقال: حديث غريب"، وفيه عمرو بن هارون البلخي، قال الذهبي: ضعّفوه، "وأخرج الترمذي".
"عن ابن عباس، وحسَّنه" الترمذي, "قال" ابن عباس: "كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقص شاربه" في أيّ وقت احتاج إليه، من غير تقييد بيوم، كما أفاده هذا الحديث الحسن، وحديث التقييد بالجمعة ضعيف، كما يأتي "وعنده"، أي: الترمذي أيضًا في الاستئذان، وقال: حسن صحيح، والنسائي في الطهارة، والإمام أحمد "من حديث زيد بن أرقم قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم: "من لم يأخذ من شاربه" ما طال حتى تبين الشفة بيانًا ظاهرًا، "فليس منَّا"، أي: ليس على طريقتنا الإسلامية لندب ذلك مؤكدًا، فتاركه متهاون بالسنة، هذا مذهب الجمهور، وأخذ جمع بظاهره فأوجبوا قصه.
وروى أحمد عن رجل من الصحابة رفعه: "من لم يحلق عانته، ويقلّم أظفاره، ويجز شاربه، فليس منا" وحسَّنه بعض الحفاظ لشواهده، فلا يخالف قوله -العراقي: هذا لا يثبت، وفيه ابن لهيعة، "وفي الصحيحين" عن ابن عمر حديث "خالفوا المشركين" في زيهم "وفروا" بشد(5/509)
اللحى وأحفوا الشوارب".
واختلف في قص الشارب وحلقه, أيهما أفضل, ففي الموطأ: يؤخذ من الشارب حتى يبدو طرف الشفة، وعن ابن عبد الحكم عن مالك قال: ويحفى الشارب ويعفى اللحى، وليس إحفاء الشارب حلقه، وأرى تأديب من حلق شاربه.
وعن أشهب أنَّ حلقه بدعة, قال: وأرى أن يوجع ضربًا من فعله.
وقال النووي: المختار في قص الشارب أنه يقصه حتى يبدو طرف الشفة ولا يحفّه من أصله.
__________
الفاء، من التوفير, "اللحى"، أي: اتركوها وافرة لتكثر وتغزر، ولا تتعرضوا لها، وفي رواية: "أوفوا اللحى" أي: اتركوها وافية، وأخرى: أرجئوا -بالجيم والهمز، أي: أخروا، وأخرى: بالخاء المعجمة بلا همز، أي: أطيلوا.
قال النووي: وكل هذه الروايات بمعنى واحد، واللحى -بكسر اللام، وحُكِيَ ضمها، وبالقصر والمد جمع لحية بالكسر فقط، اسم لما ينبت على الخدين والذقن، "وأحفوا الشوارب"، قال النووي: بقطع الهمزة ووصلها من: أحفاه وحفاه: استأصله، وقال الزركشي: بألف قطع رباعي أشهر وأكثر، وهو المبالغة في استقصائه، ومنه أحفى في المسألة إذا أكثر، وقال القاضي عياض: من الإحفاء، وأصله الاستقصاء في أخذ الشارب، في معناه: أنهكوا الشوارب في الرواية الأخرى؛ والمراد: بالغوا في قص ما طال منها حتى تبين الشفة بيانًا ظاهرًا استحبابًا، وقيل: وجوبًا، "واختُلِفَ في قص الشارب وحلقه أيهما أفضل"، قال عياض: ذهب كثير من السلف إلى استيعاب الشارب وحلقه، لظاهر قوله -صلى الله عليه وسلم: "أحفوا وانهكوا"، وهو قول الكوفيين، وذهب كثير منهم إلى منع الحلق، قاله مالك، "ففي الموطّأ: يؤخذ من الشارب حتى يبدو طرف الشفة"، أي: يظهر ظهورًا واضحًا.
"وعن ابن عبد الحكم عن مالك، قال: ويحفى الشارب، ويعفى اللحى, وليس إحفاء الشارب حلقه"، بل أخذ ما طال عن الشفة بقصٍّ ونحوه؛ بحيث ل يؤذي الآكل، ولا يجتمع فيه الوسخ، قال القرطبي: "وأرى تأديب من حلق شاربه" لما فيه من التشبيه بالمجوس، "وعن أشهب" عن مالك، كما في التمهيد: "إن حلقه بدعة" لذلك "قال: وأرى أن يوجع ضربًا من فعله" نائب فاعل يوجع، "وقال النووي: المختار في قص الشارب أنه يقصه حتى يبدو" يظهر "طرف الشفة؛ ولا يحفّه من أصله"، قال -أعني النووي: وأما رواية: أحفوا، فمعناه: أزيلوا ما طال على الشفتين، قال ابن دقيق العيد: لا أدري هل نقله عن مذهب الشافعي، أو قاله اختيارًا منه(5/510)
وقال الطحاوي: لم نجد عن الشافعي شيئًا منصوصًا في هذا، وكان المزني خال والربيع يحفيان شاربهما.
وأمَّا أبو حنيفة وصاحباه: فمذهبهم في شعر الرأس والشارب أن الإحفاء أفضل من التقصير.
وأما أحمد: فقال الأثرم: رأيته يحفي شاربه شديدًا.
__________
لمذهب مالك أ. هـ.
لكن سبق النووي الغزالي، فقال في معنى الحديث: أي: اجعلوها حفاف الشفة، أي: حولها، وحفاف الشيء حوله ومنه، {وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ} ، "وقال الطحاوي: لم نجد عن الشافعي شيئًا منصوصًا في هذا، وكان" أصحابه الذين رأيناهم، منهم "المزني خال" الطحاوي، "والربيع, يحفيان شاربهما"، قال: وما أظنهم أخذوا ذلك إلّا عنه، "وأما أبو حنيفة وصاحباه" لفظ الطحاوي: وأصحابه"، فمذهبهم في شعر الرأس والشارب أنَّ الإحفاء"، أي: الإزالة بالكلية "أفضل من التقصير"، قال -أعني الطحاوي: وخالف مالك، "وأمَّا أحمد: فقال الأثرم" بمثلثة- أبو بكر أحمد بن محمد بن هانئ البغدادي، الفقيه، الحافظ، الثقة، المصنف، روى عنه النسائي، ومات سنة ثلاث وسبعين ومائتين: "رأيته يحفي شاربه شديدًا"، ونَصَّ على أنه أَوْلَى من القص. قال في فتح الباري: وذهب ابن جرير إلى التخيير، فإنه لما حكي قول مالك وقول الكوفيين، ونقل عن أهل اللغة أنَّ الأحفاء الاستئصال، قال: دلّت السنة على الأمرين، ولا تعارض, فالقص يدل على أخذ البعض، والإحفاء يدل على أخذ الكل، فكلاهما ثابت، فيخير فيما شاء.
قال الحافظ: فيؤخذ من قول الطبري: ثبوت الأمرين معًا في الأحاديث، فأمَّا الاقتصار على القص، ففي حديث المغيرة: ضفت النبي -صلى الله عليه وسلم، وكان شاربي وفيّ, فقصه على سواك، رواه أبو دواد، رواه البيهقي بلفظ: فوضع السواك تحت الشارب، وقص عليه، وأخرج البزار عن عائشة: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- أبصر رجلًا شاربه طويل، فقال: ائتوني بمقص وسواك، فجعل السواك على طرفه، ثم أخذ ما جاوزه. والبيهقي، والطبراني، عن شرحبيل بن مسلم الخولاني: رأيت خمسة من الصحابة يقصون شواربهم: أبو أمامة الباهلي، والمقدام بن معد يكرب، وعتبة بن عون السلمي، والحجاج بن عامر الثمالي، وعبد الله بن بسر. وأمَّا الإحفاء: فأخرج الطبراني، والبيهقي، عن عبد الله بن أبي رافع، رأيت أبا سعيد الخدري، وجابر بن عبد الله؛ وابن عمر، ورافع بن خديج، وأبا سعيد الأنصاري، وسلمة بن الأكوع، وأبا رافع، ينهكون شواربهم كالحلق. وأخرج الطبراني عن عروة وسالم والقاسم وأبا سلمة أنهم كانوا يحلقون شواربهم. انتهى.(5/511)
واختلف في كيفية قَصّ الشارب، هل يقص طرفاه أيضًا، وهما المسميان بالسبالين, أم يترك السبالان كما يفعله كثير من الناس؟
قال الغزالي في الإحياء: لا بأس بترك سباليه, وهما طرفا الشارب. فعل ذلك عمر -رضي الله عنه- وغيره؛ لأن ذلك لا يستر الفم, ولا تبقى فيه غمرة الطعام؛ إذ لا يصل إليه. انتهى.
وروى أبو داود عن جابر: كنا نحفي السبال إلّا في حجّة أو عمرة.
وكره بعضهم إبقاءهه لما فيه من الشبه بالأعاجم بل بالمجوس وأهل الكتاب، وهو أَوْلَى بالصواب لما رواه ابن حبان في صحيحه من حديث ابن عمر قال: ذكر لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- المجوس فقال: "إنهم يوفِّرون سبالهم ويحلقون لحاهم فخالفوهم"، فكان يجز سباله كما تجز الشاة أو البعير.
__________
"واختلف في كيفية قص الشارب، هل يقص طرفاه أيضًا، وهما المسميان بالسبالين، أم يترك السبالان، كما يفعله كثير من الناس؟، فقيل: بجواز إبقائهما، وقيل: بكراهته، "قال الغزالي في الإحياء: لا بأس بترك سباليه، وهما طرفا الشارب"، أي: المراد بهما هنا ذلك، وإن كان أحد أقوال حكاها المجد، فقال: السبلة -محركة- الدائرة في وسط الشفة العليا، أو ما على الشارب من الشعر، أو طرفه، أو مجتمع الشاربين، أو ما على الذقن إلى طرف اللحية، كلها أو مقدمها خاصة, جمعه سبال، انتهى.
"فعل ذلك عمر -رضي الله عنه- وغيره؛ لأن ذلك لا يستر الفم، ولا تبقى فيه غمرة" زهومة "الطعام؛ إذ لا يصل إليه. انتهى".
"وروى أبو داود عن جابر: كنَّا نحفي" نزيل "السبال"، فهو بحاء مهملة، وفي نسخة: نعفي -بعين مهملة، وهي تصحيف؛ لأن الإعفاء بالعين: الإبقاء، فلا يصحّ الاستثناء بقوله: "إلّا في حجة أو عمرة"، لوجوب ترك إزالة الشعر، "و" لذا "كره بعضهم إبقاءه، لما فيه من الشبه بالأعاجم"، وقد قال عمر: إياكم وزي الأعاجم. وقال مالك: أميتوا سنة الجم وأحيوا سنة العرب. "بل بالمجوس وأهل الكتاب، وهو أَوْلَى بالصواب"، وفعل عمر إن صح؛ لعله لم يبلغه النهي، "لما رواه ابن حبان في صحيحه"، والطبراني، والبيهقي "من حديث" ميمون بن مهران، عن "ابن عمر قال: ذُكِرَ لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- المجوس، فقال: "إنهم يوفِّرون" من التوفير وهو الترك، أي: يتركون "سبالهم"، بلا إزالة، "ويحلقون لحاهم، فخالفوهم"، قال ميمون ابن مهران: "فكان" ابن عمر "يجز" بضم الجيم، وزاي "سباله، كما تجز الشاة أو البعير"، مبالغةً في إزالته، امتثالًا(5/512)
وروى أحمد في مسنده في أثناء حديثٍ لأبي أمامة: فقلنا يا رسول الله، فإن أهل الكتاب يقصون عثانينهم ويوفِّرون سبالهم, فقال: "قصوا سبالكم ووفَِّروا عثانينكم وخالفوهم أهل الكتاب"، والعثانين -بالعين المهملة والثاء المثلثة وتكرار النون- جمع عثنون, وهو اللحية, قاله في شرح تقريب الأسانيد.
وأما العانة: ففي حديث أنس, أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان لا يتنوّر، ولكن سنده ضعيف. وروى ابن ماجه والبيهقي، ورجاله ثقات، ولكن أعلّ بالإرسال, وأنكر أحمد صحته من حديث أم سلمة أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- كان إذا طلى بدأ بعانته فطلاها بالنورة وسائر جسده
__________
لأمره -صلى الله عليه وسلم.
"وروى أحمد في مسنده في أثناء حديث لأبي أمامة"، صدي بن عجلان الباهلي، "فقلنا: يا رسول الله، فإنَّ أهل الكتاب يقصون عثانينهم، ويوفِّرون سبالهم، فقال: "قصوا سبالكم، ووفِّروا عثانينكم، وخالفوا أهل الكتاب" النصارى واليهود، "والعثانين -بالعين المهملة" المفتوحة "والثاء المثلثة، وتكرار النون"، أي: بنونين بينهما تحتية، "جمع عثنون" بضم العين، "وهو اللحية، قاله في شرح تقريب الأسانيد"، وفي القاموس: العثنون: اللحية، أو ما فضل منها بعد العارضين، ونبت على الذقن، وتحته سفلًا أو هو طولها، الجمع: عثانين، انتهى.
"وأمَّا العانة" أي: عانته -صلى الله عليه وسلم, أي: ما كان يعله فيها، فقيل: كان يحلقها، وقيل: يزيلها بالنورة، فهي اسم للشعر النابت فوق ذكر الرجل وفرج المرأة، وهو قول ابن الأعرابي؛ ويعقوب بن السكيت، وقال الأزهري وجماعة: هي منبت الشعر على الفرجين لا الشعر نفسه، واسمه: الإسب -بكسر الهمزة وسكون المهملة، وقال الجوهري: هي شعر الركب، "ففي حديث أنس: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان لا يتنوّر"، أي: لا يطلي بالنورة -بضم النون- حجر الكلس، ثم غلبت على أخلاط تضاف إلى الكلس، من زرنيخ وغيره، وتستعمل لإزالة الشعر، وتنوّر: أطلي بالنورة، ونوّرته طليته بها، قيل: عربية، وقيل: معربة، قال الشاعر:
فابعث عليهم سنة قاشوره ... تحتلق المال كحلق النورة
ذكره المصباح، "ولكن سنده ضعيف"، كما جزم به غير واحد وتتمته: وكان إذا كثر شعره حلقه، "وروى ابن ماجه والبيهقي، ورجاله ثقات، ولكن أُعِلَّ بالإرسال"، أي: الانقطاع، "وأنكر أحمد صحته من حديث أم سلمة، أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- كان إذا طلى بدأ بعانته"، أي: بطليها، وبين ما كان يصلي به فقال: "فطلاها بالنورة"؛ إذ الطلاء كل ما يطل به، "و" طلى "سائر"، أي: باقي "جسده" من كل ما فيه شعر يحتاج لإزالته، فشمل الذراعين ولا ينافيه قول هند: أشعر الذراعين،(5/513)
أهله.
وأما الحديث الذي يروى أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- دخل حمام الجحفة، فموضوع باتفاق أهل المعرفة بالحديث, كما قاله الحافظ ابن كثير، بل لم يتعرّف العرب الحمام ببلادهم إلّا بعد موته -عليه الصلاة والسلام.
وأخرج البيهقي من مرسل أبي جعفر الباقر قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يستحب أن يأخذ من أظفاره وشاربه يوم الجمعة.
__________
لأنَّ معناه أن شعرهما يكثر ويطول، فيزيله بالنورة, "أهله" نساؤه -بالرفع فاعل، وروى الخرائطي عن أمّ سلمة، أنّ النبي -صلى الله عليه وسلم- كان ينوّره الرجل، فإذا بلغ مراقه تولّى هو ذلك.
قال ابن القيم: ورد في النورة أحاديث، هذا أمثلها, وقال السيوطي: هو مثبت وأجود إسنادًا من حديث النفي، فيقدَّم عليه، واستعمالها مباح لا مكروه، إلّا أنه يتوقّف في كونه سنّة، لاحتياجه إلى ثبوت الأمر به، كحلق العانة ونتف الإبط، وفعله وإن دلّ على السنية، فقد يقال: هذا من الأمور العادية التي لا يدل فعله لها على سنيّة، وقد يقال: إنما فعله بيانًا للجواز ككل مباح، وقد يقال: إنها سُنَّة، ومحله كله ما لم يقصد اتباع النبي -صلى الله عليه وسلم- في فعله، وإلّا فهو مأجور آتٍ بالسنة, انتهى.
"وأمَّا الحديث الذي يروى أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- دخل حمام الجحفة" وتنوّر فيه, وهي بالضم، ميقات أهل الشام، وكانت قرية جامعة على اثنين وثمانين ميلًا من مكة، كما في القاموس، "فموضوع باتفاق أهل المعرفة بالحديث، كما قاله الحافظ ابن كثير: بل لم تعرف العرب الحمام ببلادهم إلا بعد موته -عليه الصلاة والسلام"، وما ذكره الديلي بلا سند عن ابن عمر، أنه -صلى الله عليه وسلم- قال لأبي بكر وعمر: "طاب حمامكما"، فمحمول إن صحّ على الماء المسخَّن خاصَّة من عين ونحوها، وكذا كل ما جاء فيه ذكر الحمّام، قاله السخاوي: وأورد عليه ما رواه الخرائطي، ويعقوب بن سفيان في تاريخه، وابن عساكر، عن محمد بن زياد الإلهاني، قال: كان ثوبان جارًا لي، وكان يدخل الحمام فقلت: وأنت صاحب رسول الله تدخل الحمام؟، فقال: كان -صلى الله عليه وسلم- يدخل الحمام, فهذا يمتنع تأويله بما قال؛ إذ لا ينكر محمد بن زياد استعمال المسخّن على ثوبان، ولكن إسناده ضعيف جدًّا، "وأخرج البيهقي من مرسل أبي جعفر" محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، "الباقر" صفة لأبيه لقب به؛ لأنه بقر العلم، أي: شقه، فعرف أصله وخفيّه، "قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يستحب أن يأخذ من أظفاره وشاربه يوم الجمعة"، قبل الرواح إلى الصلاة، كما في خبر أبي هريرة.(5/514)
وله شاهد موصول من حديث أبي هريرة, لكنَّ سنده ضعيف, أخرجه البيهقي أيضًا في الشعب.
وسُئِلَ عنه أحمد فقال: يسن يوم الجمعة قبل الزوال, وعنه: يوم الخميس، وعنه: يتخير.
قال الحافظ أبو الفضل بن حجر: هذا هو المعتمد، أنه يستحب كيفما احتاج إليه، قال: ولم يثبت في استحباب قص الظفر يوم الخميس حديث، وكذا لم يثبت في كيفيته شيء، ولا في تعيين يوم له عن النبي -صلى الله عليه وسلم.
__________
وإلى هذا ذهب الشافعية، والمالكية؛ حيث يذكرون استحباب تحسين الهيئة يوم الجمعة، كقلم ظفر، وقص شارب، واستحدادٍ إن احتاج إلى ذلك، لنحو هذا الحديث، وإن كان مرسلًا، "و" لكن "له شاهد موصول من حديث أبي هريرة؛ لكن سنده ضعيف، أخرجه البيهقي أيضًا في الشعب"، عن أبي هريرة، أنه -صلى الله عليه وسلم- كان يقلّم أظفاره، ويقصّ شاربه يوم الجمعة، قبل أن يروح إلى الصلاة؛ قال البيهقي عقبه: قال الإمام أحمد: في هذا الإسناد من يُجْهَل. انتهى، لكن يشهد له أيضًا ما رواه الطبراني في الأوسط, والبزار، عن أبي هريرة: من قَلَّمَ أظفاره يوم الجمعة وقي من السوء إلى مثلها. "وسُئِلَ عنه"، أي: عن حكم استحباب الأخذ من الظفر والشارب، أي: وقت "أحمد فقال: يسنّ يوم الجمعة قبل الزوال"؛ لهذه الأحاديث وإن كانت ضعيفة، فبعضها يقوي بعضًا، "وعنه يوم الخميس"؛ لحديث علي رفعه: "قصّ الظفر، ونتف الإبط، وحلق العانة يوم الخميس, والغسل والطيب واللباس يوم الجمعة".
رواه الطبراني، وخبر أبي هريرة مرفوعًا: "من أراد أن يأمن الفقر، وشكاية العمى، والبرص والجنون، فليقلّم أظفاره يوم الخميس بعد العصر، وليبدأ بخنصر اليسرى"، رواه الديلمي وهما واهيان، وفي مسلسلات جعفر المستغفري الحفاظ بإسناد مجهول، عن علي: رأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقلم أظفاره يوم الخميس، "وعنه يتخيّر" في فعل ذلك أيّ وقت احتاج له، ولا يتقيّد بيوم.
"قال الحافظ أبو الفضل بن حجر: هذا"، أي: التخيير بين جميع لأزمنة "هو المعتمد"، ولما أوهم ذكر اسم الإشارة, إن المراد التخيير بين الجمعة والخميس، لذكرها عقبهما دفع ذلك، بقوله: "إنه يستحب كيفما احتاج إليه"، وكان الأَوْلَى أن يقول: والمعتمد أنه يستحب, بإسقاط هذا هو.
"قال: ولم يثبت في استحباب قص الظفر يوم الخميس حديث"، أي: إنها ضعيفة جدًّا، "وكذا لم يثبت في كيفيته"، أي: صفة قصه "شيء، ولا في تعيين يوم له عن النبي -صلى الله عليه وسلم"(5/515)
وما يعزى من النظم في ذلك لعلي -رضي الله عنه, ثم لشيخ الإسلام ابن حجر, قال شيخنا: إنه باطل.
والمراد: إزالة ما يزيد على ما يلابس الأصبع من الظفر؛ لأن الوسخ يجتمع فيه فيستقذر، وقد ينتهي إلى حد يمنع من وصول
__________
شيء، قال السيوطي: وبالجملة، فأرجحها نقلًا ودليلًا يوم الجمعة، والأخبار الواردة فيه ليست بواهية جدًّا, بل فيها متمسك خصوصًا الأوّل، وقد اعتضد بشواهد، مع أنَّ الضعيف يعمل به في فضائل الأعمال؛ "وما يعزي من النظم في ذلك لعلي -رضي الله عنه"، وهو:
ابدأ بيمناك وبالخنصر ... في قص أظفارك واستبصر
وثن بالوسطى وثلث كما ... قد قيل بالإبهام والبنصر
واختمه في الكف بسبابة ... في اليد والرجل ولا تمتر
وفي اليد اليسرى بإبهامها ... والإصبع الوسطى وبالخنصر
وبعد سبابتها بنصر ... فإنها خاتمة الأيسر
قال السخاوي: وكذب القائل، أي: الناسب هذا النظم لعلي -كرَّم الله وجهه، "ثم لشيخ الإسلام ابن حجر" الحافظ، "قال شيخنا" السخاوي: إنه باطل"، قال: ونَصّ ما عزي له, وحاشاه من ذلك:
في قص فرك يوم السبت آكله ... تبدو وفيما يليه تذهب البركة
وعالم أفاضل يبدو بتلوهما ... وإن يكن في الثلاثا فاحذر الهلكة
ويورّث السوء في الأخلاق رابعها ... وفي الخميس الغنى يأتي لمن سلكه
والعمر والرزق زيدًا في عروبتها ... عن النبي روينا فاقتفي نسكه
وقال السيوطي: هذا مفترى عليه، بل في مسند الفردوس بسند واهٍ، عن أبي هريرة مرفوعًا: من قلَّم أظافره يوم السبت خرج منه الدواء، ودخل فيه الشفاء، ومن قلّم أظافره يوم الأحد خرج منه الفاقة، ودخل فيه الغنى، ومن قلَّمها يوم الاثنين خرج منه الجنون، ودخلت فيه الصحة، ويوم الثلاثاء خرج منه المرض، ودخل فيه الشفاء؛ ويوم الأربعاء خرج منه الوسواس والخوف، ودخل فيه الأمن والشفاء، ويوم الخميس خرج منه الجذام، ودخلت فيه العافية، ويوم الجمعة دخلت فيه الرحمة، وخرجت منه الذنوب. قال: وأثار البطلان لائحة عليه. انتهى.
"والمراد" مما يأخذه من الأظفار "إزالة ما يزيد على ما يلابس رأس الأصبع من الظفر"، وإنما استحبّ، "لأنَّ الوسخ يجتمع فيه فيستقذر، وقد ينتهي إلى حدٍّ يمنع من وصول(5/516)
الماء فيما يجب غسله في الطهارة. وقد حكى أصحاب الشافعي فيه وجهين: فقطع المتولي بأن الوضوء حينئذ لا يصحّ، وقطع الغزالي في الإحياء بأنه يعفى عن مثل ذلك.
وأخرج الطبراني في الأوسط عن عائشة: كان -صلى الله عليه وسلم- لا يفارق سواكه ولا مشطه, وكان ينظر في المرآة إذا سرَّح لحيته.
وعن ابن عباس أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- كانت له مكحلة يكتحل منها كل ليلة, ثلاثة في هذه, وثلاثة في هذه. رواه ابن ماجه والترمذي وأحمد ولفظه: كان يكتحل بالإثمد
__________
الماء؛ فيما يجب غسله في الطهارة، وقد حكى أصحاب الشافعي"، أي: مقلد ومذهبه "فيه وجهين: فقطع المتولي" بضم الميم، وفتح الفوقية، والواو، فلام مكسورة "بأن الوضوء حينئذ لا يصح"، وهو المعتمد "وقطع الغزالي في الإحياء بأنه يعفى عن مثل ذلك"؛ إذ أصله الندب، "وأخرج الطبراني في الأوسط عن عائشة، كان -صلى الله عليه وسلم- لا يفارق سواكه ولا مشطه، وكان ينظر في المرآة إذا سرح لحيته"، ومناسبة ذكر الحديث في مبحث الشعر ظاهرة؛ إذ المشط والمرآة كل آلة لتنظيفه، وأما السواك فوقع في الحديث، وعادة العلماء يذكرون الحديث بتمامه، وإن كان غرضهم منه لفظة واحدة، فلا تتعسف فتقول: ذكره لمناسبته له، في أنّ كلًّا آلة للتنظيف، "وعن ابن عباس: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- كانت له مكحلة" بضم أوله وثالثه- من النوادر الواردة -بالضم، وقياسها الكسر؛ لأنها اسم آلة، "يكتحل منها كل ليلة"، حكمة كونه ليلًا أنه أبقى في العين، وأمكن في السراية إلى طبقاتها.
"ثلاثة" متوالية "في هذه"، أي: اليمنى, "وثلاثة" كذلك "في هذه"، أي: اليسرى، وحكمة التثليث توسطه بين الإقلال والإكثار، وخير الأمور أوساطها، وأيضًا فإنه كان يحب الإيتار مع التعدد، وأقلّ مراتب الأعداد التي فيها الإيتار ثلاثة. قال الحافظ العراقي: ليس في الحديث تعرّض للابتداء بالعين اليمنى، وهو مستحب؛ لأنه كان يحب التيمُّن في شأنه كله، وهل تحصل سنة اليمنى باكتحاله فيها مرة، ثم اليسرى مرة، ثم يفعل ذلك ثانيًا وثالثًا، أو لا تحصل إلّا بتقديم المرات الثلاث في الأول, الظاهر الثاني, قياسًا على العضوين المتماثلين في الوضوء، ويحتمل حصولها بالأوّل كالمضمضة والاستنشاق على بعض الصور المعروفة في الجمع والتفرقة.
"رواه ابن ماجه والترمذي" بهذا اللفظ، "و" رواه "أحمد، ولفظه: كان يكتحل بالإثمد"،(5/517)
كل ليلة قبل أن ينام، وكان يكتحل في كل عين ثلاثة أميال.
وروى النسائي والبخاري في تاريخه, عن محمد بن علي قال: سألت عائشة: أكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يتطيّب؟ قالت: نعم، بذكارة الطيب، المسك والعنبر.
وأما مشيه -عليه الصلاة والسلام, فعن علي قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا مشى تكفَّا تكفيًا،
__________
بكسر الهمزة، والميم بينهما مثلثة ساكنة: حجر الكحل المعدني المعروف، قال في التهذيب وغيره: ويقال: إنه معرَّب, ومعدنه بالمشرق، وهو أسود يضرب إلى حمرة، "كل ليلة قبل أن ينام"، والظاهر كما قال المصنف أنه كان بعد العشاء، "وكان يكتحل في كل عين ثلاثة أميال" جمع ميل، وهو المرود، ويقال له: المكحل والمكحال, بزنة مفتح ومفتاح، ثم هذا الخبر يخالفه خبر ابن عمر، كان -صلى الله عليه وسلم- إذا اكتحل يجعل في اليمنى ثلاثة مراود، والأخرى مردودين، يجعل ذلك وترًا، رواه الطبراني، وخبر أنس: كان -صلى الله عليه وسلم- يكتحل في اليمنى ثنتين، وفي اليسرى ثنتين، وواحدة بينهما.
قال ابن سيرين: هكذا الحديث، وأنا أحب أن يكون في هذه ثلاثًا، وفي هذه ثلاثًا، وواحدة بينهما، رواه ابن عدي. وحديث: من اكتحل فليوتر، فيه قولان، أحدهما: كون الإيتار في كل واحدة منهما، الثاني: كونه في مجموعهما، قال الحافظ: والأرجح الأوّل "وروى النسائي، والبخاري في تاريخه, عن محمد بن علي، قال: سألت عائشة: أكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يتطيّب"؟ وجه السؤال: إن رائحته طيبة وإن لم يمسّ طيبًا، "قالت: نعم بذكارة الطيب"، بكسر الذال المعجمة- ما يصلح للرجال "المسك والعنبر" بدل، أو عطف بيان؛ إذ الذكارة -بالكسر- جمع ذكر -بفتحتين- ما يصلح للرجال، وهو ما لا لون له، كالمسك والعنبر والعود والكافور.
والذكورة مثله، ومنه الحديث: كانوا يكرهون المؤنّث من الطيب، ولا يرون بذكورته بأسًا، والمؤنث طيب النساء كالخلوط والزعفران، كما في النهاية، ووجه إدخال هذا الحديث في الشعر: أنَّ التطيب يشمل تطييب الشعر؛ "وأما مشيه -عليه الصلاة والسلام، فعن علي" هو نفس الجواب، لكن بتقدير رابط، أي: فورد، أو الجواب محذوف، أي: ففيه أخبار، وإذا أردت معرفتها، فعن علي كذا، وما بعده عطف عليه في المعنى، والأحسن الأوّل "قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا مشى تكفّا تكفيًا" بكاف وفاء، روي بهمز ودونه تخفيفًا، قاله العراقي. وقال النووي: زعم كثير أن أكثر ما يروى بلا همز، وليس كما قالوا, ومآلهما واحد، وهو يرد قول النور بشتّى الرواية المعتدّ بها بلا همز أ. هـ.(5/518)
كأنما ينحطّ من صبب. رواه الترمذي وصحَّحه البيهقي. والتكفؤ: الميل إلى سنن المشي.
وعند البزار من حديث أبي هريرة: إذا وطئ بقدمه وطئ بكلها.
وعند الترمذي في الشمائل من حديثه: وما رأيت أحدًا أسرع في مشيه من رسول الله -صلى الله عليه وسلم, كأنَّما الأرض تطوى له،
__________
قال في النهاية، أي: تمايل إلى قدّام، هكذا روي غير مهموز، والأصل الهمز، وبعضهم يرويه مهموزًا؛ لأنه مصدر تفعَّل من الصحيح، كتقدَّم تقدمًا، وتكفَّأ تكفؤًا، والهمزة حرف صحيح، فإذا اعتلّ انكسرت عين المستقبل منه، نحو: تخفى تخفيفًا، وتسمَّى تسميًا، فإذا خفِّفت الهمزة التحقت بالمعتلّ، فصار تكفيًا بالكسر, انتهى.
أي: يسرع المشي؛ كأنه يميل بين يديه من سرعة مشيه، كما تتكفأ السفينة في جريها، ويؤيده قوله: "كأنما ينحطّ" وفي رواية: كأنما يهوي "من صبب"، أي: منحدر من الأرض، أي: كأنما ينزل في موضع منحدر، وهو حال من فاعل تكفأ, مبالغة في التكفي والتثبت في مشيه، "رواه الترمذي، وصحَّحه البيهقي"، ورواه الترمذي أيضًا عن أنس في حديث، "والتكفؤ: الميل إلى سنن المشي" مثلث السين، وبضمتين- نهجه وجهته, كما في القاموس، وهذا التفسير قطع به الأزهري، مخطئًا تفسير شمر يتمايل يمينًا وشمالًا كالسفينة بأنَّه من الخيلاء، وتكفؤ السفينة تمايلها على سمتها الذي يقصد، ويرده قوله: كأنما ينحطّ إلخ، فإنه مفسّر له، وقال الكسائي: أكفأت الإناء وكفأته, إذا كبيته، وأكفأته إذا أملته، ومنه الحديث، أي: تمايل إلى قدام، كما تتكفأ السفينة في جريها. انتهى.
وأجاب القاضي عياض؛ بأنَّ التمايل يمينًا وشمالًا إنما يذمّ بالقصد، لا إن كان خلقة، كالغصن، وهو حسن صواب، وأمَّا حمله على سرعة انطواء الأرض تحت قدميه فخلاف الظاهر، "وعند البزار من حديث أبي هريرة: إذا وطئ بقدمه وطئ بكلها"؛ ليس له أخمص، ومَرَّ هذا الحديث، وأعاده هنا لبيان صفة المشي، "وعند الترمذي في الشمائل من حديثه" أي: أبي هريرة: ما رأيت أحد أحسن من رسول الله -صلى الله عليه وسلم، كأنَّ الشمس تجري في وجهه، "وما رأيت أحدًا أسرع في مشيه"، كذا في نسخ من الشمائل بصيغة المصدر، وهي أظهر؛ لأنه الذي يتَّصف بالسرعة والبطء، وفي نسخ: مشيته -بكسر فسكون- أي: كيفية مشيه، قال المصنف: ومعناهما متقارب، والمراد: مشيه المعتاد دون إسراع, "من رسول الله -صلى الله عليه وسلم, كأنما الأرض تطوى" تجمع وتجعل مطوية تحت قدميه، مع كونه على غاية من التأنِّي وعدم العجلة "له"، لا لمن يماشيه،(5/519)
إنا لنجهد أنفسنا وأنه لغير مكترث.
وعند يزيد بن مرثد قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا مشى أسرع حتى يهرول الرجل وراءه فلا يدركه: رواه ابن سعد.
وروي أنه كان إذا مشى مشى مجتمعًا, أي: قوي الأعضاء غير مسترخٍ في المشي.
وقال علي: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا مشى تقلع.
__________
وأوضحه بقوله: "إنا لنجهد" بفتح النون وضمها، من جَهد كمنع, وأجهد، أي: نتعب "أنفسنا"، ونوقعها في المشقَّة والتعب، أو نحمِّلها في السير فوق طاقتها، ولم يقل: يجهدنا؛ لأنه لم يقصده, إنما هو طبعه، "وأنه" حال من الفاعل "لغير مكترث"، أي: مبالٍ بجهدنا أو غير مسرعٍ؛ بحيث تلحقه مشقة، فكان يمشي على هينته، ويقطع ما نقطع بالجهد من غير جهد، واستعمال مكترث في النفي هو الأغلب؛ وفي الإثبات قليل شاذّ، وعن أبي هريرة: كنت معه -صلى الله عليه وسلم- في جنازة، فكنت إذا مشيت سبقني، فالتفتُّ إلى رجل بجنبي، فقلت: تطوى له الأرض وخليل إبراهيم. رواه أحمد وابن سعد، فأقسم أبو هريرة لما رآه من قطعه للمسافة مع تأنّيه في المشي، وجهد غيره فيه، "وعند يزيد" بتحتية وزاي "ابن مرثد" بفتح الميم والمثلثة, بينهما راء ساكنة ثم مهملة- أبي عثمان الهمداني الصنعاني، من صنعاء دمشق، ثقة, من أواسط التابعين، وله مراسيل.
"قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا مشى أسرع"، قال الزمخشري: أراد السرعة المرتفعة عن دبيب المتماوت، امتثالًا لقوله تعالى: {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ} [لقمان: 19] ، أي: أعدل فيه حتى يكون مشيًا بين مشيين، لا يدب دبيب المتماوتين، ولا يثب وثب الشياطين. انتهى. "حتى يهرول" أي: يسرع في المشي دون الخبب، "الرجل وراءه" قال الجوهري: الهرولة ضَرْبٌ من العَدْوِ, وهو بين المشي والعَدْوِ، "فلا يدركه" مع أنه على غاية من الهون والتأني وعدم العجلة، {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا} "رواه ابن سعد" في الطبقات، "وروي أنه كان إذا مشى مشى مجتمعًا، أي: قوي الأعضاء غير مسترخٍ في المشي"، وعند ابن عساكر: عن ابن عباس، كان يمشي مشيًا يعرف فيه أنه ليس بعاجز ولا كسلان، "وقال علي" فيما رواه الترمذي: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا مشى تقلع"، أي: رفع رجليه رفعًا بائنًا، متداركًا إحداهما بالأخرى، مشية أهل الجلادة، يريدان مشيه مثل مشي القلَعة -بفتح اللام، وهي القطعة العظيمة من السحاب، وفي حديث علي هذا أيضًا تلوه: كأنما ينحَطّ من صبب.(5/520)
وقال ابن أبي هالة: إذا زال زال تقلعًا، يخطو تكفيًا، ويمشي هونًا، ذريع المشية إذا مشى, كأنما ينحط من صبب، وفي رواية: إذا زال زال قلعًا -بالفتح والضم، ثم الفتح- هو مصدر بمعنى الفاعل, أي: لا يزول قالعًا لرجله من الأرض، وهو بالضم, إمَّا مصدر أو اسم, وهو بمعنى الفتح.
__________
"وقال ابن أبي هالة: إذا زال" أي: ذهب وفارق، يقال: زال يزول زوالًا، فارق طريقته أو مكانه جانحًا عنه، ذكره الراغب، "زال تقلعًا" بقاف ومهملة، وهو في الأصل انتزاع الشيء من أصله, أو تحويله عن محله، وكلاهما صالح هنا، أي: ينزع رجله عن الأرض، أو يحولها عن محلها بقوة, وحينئذٍ فضمير زال عائد إلى النبي -صلى الله عليه وسلم، وتعسف من رجعه للماء في قوله قبله: ينبو عنهما الماء، "يخطو" يمشي "تكفيًا" جملة مؤكدة لمعنى زال تقلعًا، "ويمشي" تفتن، فعبَّر عن المشي بعبارتين؛ كراهة تكرار لفظه، أو هو تتميم لبيان صفة مشيه، ويمشي "هونًا" حال أو صفة ليمشي, بمعنى هينًا أو مشيًا هينًا، إلا أن في وضع المصدر موضع الصفة مبالغة، والهون الرفق واللين، ومنه خبر: أحبب حبيبك هونًا، وخبر: المؤمنون هينون لينون، وفي المثل: إذا عزَّ أخوك فهن، وإذا عاسر فياسر، والمراد: برفق وسكينة وتثبت ووقار، وحلم وأناة، وعفاف وتواضع، فلا يضرب بقدمه الأرض، ولا يخفق بنعله بطرًا، ولذا كره بعض العلماء الركوب في الأسواق، قاله في الكشاف. لا يقال شأن الصفة تمييز الموصوف عن غيره، فكيف وصفه بما يشاركه فيه خواص أمته.
قال تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا} [الفرقان: 63] ؛ لأنَّ المراد أنه أثبت منهم في ذلك، وأكثر وقارًا ورفقًا، وسكينة، "ذريع المشية" بالكسر- خلقة، أي: مع كون مشيه هونًا خطاه واسعة كأنما الأرض تطوى له، "إذا مشى" ظرف لما قبل، أو لقوله: "كأنما ينحط" ينزل "من صبب"، أي: محل منحدر، "وفي رواية" في حديث ابن أبي هالة: "إذا زال زال قلعًا" بالنصب حال أو مصدر، "بالفتح" للقاف، "والضم" لها مع إسكان اللام فيهما هذا ظاهره، وفي القاموس: إن الفتح إنما هو مع فتح اللام، "ثم الفتح هو مصدر بمعنى الفاعل"، أي: قالع، "أي: لا يزول"، كذا النسخ, والصواب كما في النهاية: حذف لا؛ إذ المعنى عليه، أي: يزول "قالعًا لرجله على الأرض، وهو بالضم إما مصدر، أو اسم" لمصدر، "وهو بمعنى الفتح" وهذا كله لفظ النهاية وفي القاموس، روي هذا الحديث بالضم بالتحريك، وككتف، أي: إذا مشى يرفع رجليه رفعًا بائنًا، أي: لا يمشي اختيالًا وتنعمًا, انتهى.
والمفهوم منه: إن القلع رفعهما رفعًا ظاهرًا؛ بحيث لا يفهم منه الاختيال والتنعم، وجعله مصدرًا بمعنى الفاعل، يفيد إن كان يمشي في حالة كونه قالعًا لرجليه من الأرض؛ وكان المعنى(5/521)
وقال الهروي: قرأت هذا الحرف في كتاب غريب الحديث لابن الأنباري: قلعًا -بفتح القاف وكسر اللام، وكذلك قرأته بخط الأزهري، وهو كما جاء في حديث آخر: كأنما ينحط من صبب، والانحدار من الصبب والتقلع من الأرض قريب بعضه من بعض.
أراد: إنه كان يستعمل التثبت ولا يتبين منه استعجال ومبادرة شديدة.
وذريع المشية: أي: واسع الخطوة, قاله ابن الأثير.
وقال ابن القيم: التقلُّع الارتفاع من الأرض بجملته، كحال المنحَطّ في الصبب، وهي مشية أولي العزم والهمّة والشجاعة، وهي أعدل المشيات وأروحها للأعضاء، فكثير
__________
إنه لا يجرَّهما في حال مشيه، وهذا بمجرِّده لا يفهم منه الرفع الظاهر؛ بحيث ينفي عنه ما هو صورة اختيال وتنعُّم، إلّا أن يحمل على أنه كان يقلعهما قلعًا تامًّا؛ فيساوي كلام القاموس، قاله شيخنا إملاءً، "وقال الهروي" في كتاب غريبي القرآن والحديث: "قرأت هذا الحرف في كتاب غريب الحديث لابن الأنباري" بفتح الهمزة، وإسكان النون- نسبة إلى الأنبار بالعراق، "قلعًا -بفتح القاف وكسر اللام، وكذلك قرأته بخط الأزهري، وهو كما جاء في حديث آخر، كأنما ينحط من صبب, والانحدار من الصبب" والتكفؤ إلى قدام، "والتقلع من الأرض قريب بعضه من بعض؛ أراد" ابن أبي هالة "أنه -صلى الله عليه وسلم- كان يستعمل التثبت"، أي: يفعل ما يؤدي إليه، وهو التثبيت بوزن التفعيل؛ إذ هو الذي كان يفعله، فينشأ عن التثبت بزنة تفعُّل، وفي نسخة: التثبيت كالتفعيل وهي واضحة؛ "ولا يتبين منه استعجال ومبادرة شديدة"، ألَا تراه يقول: يمشي هونًا ويخط تكفؤًا. إلى هنا كلام الهروي.
"وذريع المشية، أي: واسع الخطوة" بضم المعجمة- ما بين القدمين، "قاله": أي: ما ذكره من أوّل قوله بالفتح إلى هنا، مفرقًا في أماكنه "ابن الأثير" في النهاية، إلّا أنه إنما عبَّر بالخطا بالجمع, ونحوه قول الراغب: الذريع الواسع، يقال: فرس ذريع، واسع الخطو، وفي المصباح: الذريع السرع وزنًا ومعنًى، ولا تدافع بين الهون الذي هو عدم العجلة، وبين الانحدار والتقلّع الذي هو السرعة؛ لأن معنى الهون أنه لا يعجل في مشيه، ولا يسعى عن قصد إلا في حادث أو مهم، والانحدار والتقلّع مشيه الخلقي، كذا قال بعضهم.
"وقال ابن القيم: التقلع: الارتفاع من الأرض بجملته، كحال المنحَطّ في الصبب، وهي مشية أولي العزم والهمة والشجاعة، وهي أعدل المشيات، وأروحها للأعضاء؛ فكثير من الناس"(5/522)
من الناس يمشي قطعة واحدة كأنَّه خشبة محمولة، فهي مشية مذمومة، وإمَّا أن يمشي بانزعاج مشي الجمل الأهوج وهي مشية مذمومة، وهي علامة خِفّة عقل صاحبها, ولا سيما إن أكثر الالتفات حال مشيه يمينًا وشمالًا.
وفي بعض المسانيد: إن المشاة شكوا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من المشي في حجة الوداع فقال: استعينوا بالنسلان, وهو العدو الخفيف الذي لا يزعج الماشي.
وأما مشيه -عليه الصلاة والسلام- مع أصحابه، فكانوا يمشون بين يديه وهو خلفهم، ويقول: "خلوا ظهري للملائكة" أمامه, وتركوا ظهره للملائكة، وهو معنى قول القائل: وكان يسوق أصحابه
__________
إمَّا "يمشي قطعة واحدة كأنه خشبة محمولة، فهي مشية مذمومة"، ودليل تقدير ما قوله, "وإمَّا أن يمشي بانزعاج مشي الجمل الأهوج" الطائش السريع في مشيه؛ "وهي مشية مذمومة، وهي علامة خِفَّة عقل صاحبها، ولا سيما إن أكثر الالتفات حال مشيه يمينًا وشمالًا" ولذا قال هند تلو قوله: كأنما ينحط من صبب، وإذا التفت التفت جميعًا، أي: لا يسارق النظر, ولا يلوي عنقه يمنة ولا يسرة. وروى الحاكم عن جابر, كان -صلى الله عليه وسلم- إذا مشى لم يلتفت. "وفي بعض المسانيد: إن المشاة شكو إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من المشي في حجة الوداع، فقال: "استعينوا بالنسلان" بفتح النون والسين المهملة واللام، "وهو العدو" الإسرا "الخفيف الذي لا يزعج الماشي"، وكأنَّه تفسير مراد وإلّا فالنسلان لغةً الإسراع بلا قيد، ومنه {إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ} [يس: 51] "وأمَّا مشيه -عليه الصلاة والسلام مع أصحابه"، أي: مع قصده مشيهم معه, فلا ينافي أنَّه قدم قوله: حتى يهرول الرجل وراءه فلا يدركه, وإنا لنجهد أنفسنا وهو غير مكترث؛ لأنه بلا قصد أو أعم، "فكانوا يمشون بين يديه، وهو خلفهم، ويقول: "خلوا ظهري للملائكة"؛ لأنهم يحرسونه من أعدائه، قاله أبو نعيم: ولا ينافيه {يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} ؛ لأنه إن كان قبل نزولها فظاهر، وإلّا فمن عصمة الله تعالى له أن يوكّل به جنده من الملأ الأعلى إظهار الشرفة، وفي المستدرك عن جابر: كان إذا مشى مشى أصحابه "أمامه, وتركوا ظهره للملائكة، وهو معنى قول القائل: وكان يسوق أصحابه" يقدمهم بين يديه ويمشي خلفهم، كأنه يسوقهم؛ لأن هذا شأن الراعي، أو لأنَّ من كمال التواضع أن لا يدع أحدًا يمشي خلفه، أو ليختبر حالهم، وينظر إليهم حال تصرفهم في معاشهم، وملاحظتهم لنظرائهم، فيربي من يستحق التربية، ويكمل من يحتاج إلى التكميل، ويعاتب من يستحق العتب، ويؤدّب من يستحقه، وهذا شأن الولي مع المولى عليه، أو ليخلي ظهره للملائكة، احتمالات لا مانع من إرادة جميعها، قال النووي: وإنما تقدمهم في قصة جابر،(5/523)
ويماشيهم فرادى وجماعة.
ومشى -عليه الصلاة والسلام- في بعض غزواته مرة, فانجرحت أصبعه وسال منها الدم, فقال: "هل أنت إلّا أصبع دميت وفي سبيل الله ما لقيت". رواه أبو داود.
ولم يكن له -صلى الله عليه وسلم- ظل في شمس ولا قمر. رواه الترمذي الحكيم عن ذكوا
__________
لأنه دعاهم إليه، فجاءوا تبعًا له، كصاحب الطعام إذا دعا طائفة يمشي أمامهما؛ وفي حديث هند: يسوق أصحابه، ويبدأ من لقيه بالسلام. وفي رواية: ينس أصحابه -بنون ومهملة- أي: يسوق كما في الفائق، "ويماشيهم فرادى وجماعة، ومشى -عليه الصلاة والسلام- في بعض غزواته"، قيل: هي غزوة أحد "مرَّة، فانجرحت أصبعه" هي مؤنثة؛ ولذا قال: انجرحت، وقد تذكّر، وفيها لغات عشرة، جمعها القائل:
وهمز أنملة ثلث وثالثه ... والتسع في أصبع واختم بأصبوع
"وسال منها الدم، فقال" منشدًا قول ابن رواحة، كما عند ابن أبي الدنيا، والوليد بن الوليد، كما عند الواقدي: "هل" أي: ما "أنت إلا أصبع دميت" بفتح فكسر- خاطبها على سبيل الاستعارة أو الحقيقة معجزة له، تسلية لها وتخفيفًا لما أصابها، أي: تثبتي وهوني عليك، فإن ما لقيتيه ليس قطعًا لا هلاكًا، "وفي سبيل الله"، أي: قتال أعدائه؛ لإعلاء كلمته ونصرة دينه "ما لقيت" فلا تحزني، بل افرحي، وما موصولٌ حذف عائده، أو استفهامية، وإن كان الاستفهام له صدر الكلام لأنَّ الأصل: وما لقيت في سبيل الله، أو نافية، أي: ما لقيت شيئًا في سبيل الله, تحقيرًا لما لقيته وتمنيًا لما زاد، "رواه أبو داود"، والترمذي من حديث جندب البجلي، وتقدَّم أن الممتنع عليه -صلى الله عليه وسلم- إنشاء الشعر لا إنشاده، فلا وجه لزعم أن هذه الرواية مع شهرتها غفلة، وأن الرواية بصيغة الغيبة، حتى لا يكون موزونًا، أو أنه جاء بلا قصد وشرط تسميته شعر، القصد إلى أنه شعر، ولذا جاء بعض الموزون في القرآن، نحو: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92] ، {وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ} [سبأ: 13] ، فليس بشعر؛ لأنه لم يقصد به الشعر، وإن كان على زنته، وغير ذلك من الأجوبة المعلوم، "ولم يكن له -صلى الله عليه وسلم- ظلّ في شمس ولا قمر"؛ لأنه كان نورًا، كما قال ابن سبع، وقال رزين: الغلبة أنواره، قيل: وحكمة ذلك صيانته عن أن يطأ كافر على ظله، وإطلاق الظل على القمر مجاز؛ لأنه إنما يقال له ظلمة القمر ونوره، وفي المختار: ظل الليل سواده، وهو استعارة؛ لأن الظل حقيقة ضوء شعاع الشمس دون السواد، فإذا لم يكن ضوء فهو ظلمة لا ظلّ، "رواه الترمذي الحكيم عن ذكوان"، أبي(5/524)
وقال ابن سبع: كان -صلى الله عليه وسلم- نورًا، فكان إذا مشى في الشمس أو القمر لا يظهر له ظل. قال غيره: ويشهد له قوله -صلى الله عليه وسلم- في دعائه: "واجعلني نورًا".
وأما لونه الشريف الأزهر -صلى الله عليه وسلم, فقد وصفه جمهور أصحابه بالبياض، منهم: أبو بكر وعمر وعلي وأبو جحيفة وابن عمر وابن عباس وابن أبي هالة والحسن بن علي وأبو الطفيل ومحرش الكعبي وابن مسعود والبراء بن عازب، وعائشة، وأنس في إحدى الروايتين عنه.
فأما أبو جحيفة فقال: كان أبيض. رواه البخاري. وأمَّا أبو الطفيل فقال: كان أبيض مليحًا. رواه الترمذي في الشمائل، وفي رواية مسلم:
__________
صالح السمان، الزيات المدني، أو أبي عمر، والمدني مولى عائشة، وكلّ منهما ثقة من التابعين، فهو مرسل, لكن روى ابن المبارك وابن الجوزي، عن ابن عباس: لم يكن للنبي -صلى الله عليه وسلم- ظل، ولم يقم مع الشمس قط إلا غلب ضوؤه ضوء الشمس، ولم يقم مع سراج قط إلا غلب ضوء السراج، "وقال ابن سبع: كان -صلى الله عليه وسلم- نورًا، فكان إذا مشى في الشمس أو القمر لا يظهر له ظل"؛ لأن النور لا ظلَّ له، "قال غيره: ويشهد له قوله -صلى الله عليه وسلم- في دعائه" لما سأل الله تعالى أن يجعل في جميع أعضائه وجهاته نورًا. ختم بقوله: "واجعلني نورًا"، أي: والنور لا ظل له، وبه يتمّ الاستشهاد.
"وأما لونه الشريف الأزهر -صلى الله عليه وسلم، فقد وصفه جمهور أصحابه" الواصفين له "بالبياض، منهم: أبو بكر" الصديق، "وعمر" الفاروق، "وعلي وأبو جحيفة" بجيم، ومهملة، وفاء- مصغرة, وهب بن بد الله، "وابن عمر" بن الخطاب، "وابن عباس، وابن أبي هالة، والحسن بن علي، وأبو الطفيل" عامر بن واثلة، "ومحرش الكعبي" بضم الميم، وفتح الحاء، وكسر الراء، الثقيلة، وشين معجمة، "وابن مسعود، والبراء بن عازب، وعائشة، وأنس في إحدى الروايتين عنه" وهي رواية أصحابه عنه، ما عدا حميدًا فقال: أسمر اللون. قال الحافظ العراقي: انفرد بها حميد عن أنس، ورواه غيره من الرواة عنه، فقال: أزهر اللون، فهؤلاء خمسة عشر صحابيًّا وصفوه بالبياض، وكذا وصفه به أبو هريرة -كما قدَّم المصنف، وسعد بن أبي وقاص، "فأمَّا أبو جحيفة فقال: كان أبيض. رواه البخاري" في الصفة النبوية.
"وأما أبو الطفيل فقال: كان أبيض مليحًا" مقصدًا. هذا بقية حديثه الذي "رواه الترمذي في الشمائل"، من طريق يزيد بن هارون، عن سعيد الجريري، عن أبي الطفيل، وبهذا اللفظ رواه مسلم في الصحيح من طريق عبد الأعلى، عن الجريري عنه, من فالعز ولمسلم أحق خصوصًا، وقد أوهم أن مسلمًا لم يروه بهذا اللفظ، بقوله: "وفي رواية مسلم" من طريق خالد بن عبد الله،(5/525)
كان أبيض مليح الوجه. وفي رواية عنه للطبراني: ما أنسى شدة بياض وجهه مع شدة سواد شعره. وفي شعر أبي طالب:
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ... ثمال اليتامى عصمة للأرامل
وقال علي: أبيض مشرب. والمشرب: هو الذي في بياضه حمرة، كما قال في الرواية الأخرى: أبيض مشرب بحمرة، وبه فسّر قول أنس في صحيح مسلم: أزهر اللون.
وفي النسائي من حديث أبي هريرة: بينا النبي -صلى الله عليه وسلم- جالس بين أصحابه جاء
__________
عن الجريري، عن أبي الطفيل: "كان أبيض مليح الوجه", أي: حسنه, من ملح فهو مليح، ومقصدًا -بشد المهملة المفتوحة- اسم المفعول، أي: متوسطًا بين الطول والقصر، أو بين الجسامة والنحافة، أو أن جميع أوصافه في نهاية من التوسط، كأنَّ خلقه نجى به القصد، "وفي رواية عنه" أي: أبي الطفيل "للطبراني: ما أنسى شدة بياض وجهه، مع شدة سواد شعره، وفي شعر أبي طالب" في قصيدته الطويلة التي قالها، لما تمالأت قريش على النبي -صلى الله عليه وسلم، وقدّم المصنف أبياتًا منها، "وأبيض" بالنصب, عطفًا على قوله في البيت قبله:
وما ترك قوم لا أبا لك سيدًا ... يحوط الذمار غير ذرب مواكل
لا مجرور بربَّ كما زعم، وفي رواية بالرفع, أي: هو أبيض "يستسقى الغمام بوجهه"، قاله ن مشاهدة لذلك مرتين، كما مَرَّ، لا لما رأى في وجهه من مخايل ذلك، وإن لم يشاهده، كما أبداه بعضهم احتمالًا، وجزم به آخر، فإنه عجب "ثمال اليتامى" بكسر المثلثة، وخفة الميم- هو العماد والملجأ، والمطعم والمغيث والمعين، والكافي, "عصمة للأرامل" أي: يمنعهم ما يضرهم, جمع أرملة، وهي الفقيرة التي لا زوج لها، "وقال: على أبيض مشرب" بصيغة اسم المفعول مخففًا ومثقلًا روايتان، "والمشرب هو الذي في بياضه حمرة"، أي: إنه المراد هنا "كما قال" علي "في الرواية الأخرى" عند الترمذي والبيهقي: "أبيض مشرب بحمرة"، والروايات يفسّر بعضها بعضًا، خصوصًا مع اتحاد المخرج، وإن كان الإشراب -كما في الصحاح وغيره: خلط لون بلون، كأنَّ أحد اللونين سقي بالآخر، يقال: مشرب -بالتخفيف، فإذا شدّد كان للتكثير والمبالغة، فهو هنا للمبالغة في البياض على رواية التشديد، "وبه فسّر قول أنس في صحيح مسلم"، وكذا البخاري في الصفة النبوية: "أزهر اللون"، أي: أبيض مشرب بحمرة، وقد وقع ذلك صريحًا في حديث أنس من وجه آخر عند مسلم، "وفي النسائي، من حديث أبي هريرة: بينا النبي -صلى الله عليه وسلم- جالس"، أي: بين أوقات جلوسه "بين أصحابه"؛ لأن بين، إنما(5/526)
رجل فقال: أيكم ابن عبد المطلب؟ فقالوا: هذا الأمغر المرتفق.
والأمغر: المشرب بحمرة, والمرتفق: المتكئ على مرفقه.
وفي البخاري من حديث أنس: ليس بأبيض أمهق.
قال الحافظ بن حجر: ووقع عند الداودي تبعًا لرواية المروزي: أمهق ليس بأبيض. وفي رواية عند ابن أبي حاتم وغيره: أسمر.
واستشكله بعضهم وقال: إن غالب هذه الروايات متدافع، وبعضها ممكن الجمع؛ كالأبيض مع رواية المشرب بالحمرة والأزهر، وبعضها غير ممكن الجمع؛ كالأبيض الشديد الوضح مع الأسمر.
واعترض الداودي رواية: أمهق ليس بأبيض, وهي التي وقعت عنده تبعًا لرواية المروزي.
__________
تضاف لمتعدد "جاء رجل" هو ضمام بن ثعلبة، "فقال: أيكم ابن عبد المطلب؟ " نسبه إلى جده لشهرته به، "فقالوا: هذا الأمغر" بميم وغين معجمة وراء, "المرتفق" وفي رواية الصحيح، فقلنا: هذا الرجل الأبيض المتكئ، "والأمغر: المشرب بحمرة، والمرتفق: المتكئ على مرفقه"، قال الليث: الأمغر الذي في وجهه حمرة في بياض صافٍ.
"وفي البخاري" ومسلم، كلاهما "من حديث" ربيعة، عن "أنس": أزهر اللون "ليس بأبيض أمهق" بفتح الهمزة والهاء بينهما ميم ساكنة- أي: شديد البياض كلون الجص، ولا آدم، كما في الصحيحين، بالمد أي: شارح البخاري "تبعًا لرواية المروزي" أبي زيد محمد بن أحمد، الفقيه، أحد رواة البخاري عن الفربري: "أمهق ليس بأبيض"، وهي مقلوبة, أولها وجه -كما يأتي، "وفي رواية عند ابن أبي حاتم، وغيره: أسمر، واستشكله بعضهم، وقال: إن غالب هذه الروايات متدافع، وبعضها ممكن الجمع، كالأبيض مع رواية المشرب بالحمرة والأزهر"، فيجمع بينها بحمل أبيض على ما خالطه حمرة، وكذا أزهر، ويبقى المشرب بحمرة على ظاهره، "وبعضها غير ممكن الجمع؛ كالأبيض الشديد الوضح" بفتحتين- أي: الخالص المنكشف البياض، "مع الأسمر"، وهذا وقع في زيادات عبد الله بن أحمد في المسند عن علي: أبيض شديد الوضح، ومخالفته لقول أنس: ليس بأبيض أمهق واضحة، قال الحافظ: ويمكن الجمع بحمل رواية علي على ما تحت الثياب مما لا يلاقي الشمس، "واعترض الداودي رواية أمهق: ليس بأبيض، وهي التي وقعت عنده" في شرحه، "تبعًا لرواية المروزي"؛ لأن المهق شدة(5/527)
وقال القاضي عياض: إنها وهم. قال: وكذلك رواية من روى أنه ليس بالأبيض ولا الآدم، ليس بصواب.
قال الحافظ بن حجر: هذا ليس بجيد؛ لأن المراد أنه ليس بالأبيض الشديد البياض, ولا بالآدم الشديد الأدمة، وإنما يخالط بياضه الحمرة، والعرب قد تطلق على كل من كان كذلك أسمر، ولهذا جاء في حديث أنس عند أحمد والبزار وابن منده بإسناد صحيح, أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان أسمر اللون، وأخرجه البيهقي في الدلائل من وجه آخر عن أنس، فذكر الصفة النبوية فقال: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- أبيض بياضه إلى السمرة.
وفي حديث ابن عباس في صفته -صلى الله عليه وسلم: رجل بين رجلين, جسمه ولحمه، أحمر إلى البياض. أخرجه أحمد.
وقد تبيّن من مجموع الروايات أن المراد بالسمرة الحمرة التي تخالط
__________
البياض؛ بحيث لا يخالطه حمرة، فيصير المعنى: أبيض ليس بأبيض، "و" لذا "قال القاضي عياض: إنها" أي: هذه الرواية "وهم" غلط؛ "قال: وكذلك رواية من روى أنه ليس بالأبيض ولا الآدم" بالمد، "ليس بصواب, قال الحافظ ابن حجر: هذا" الثاني "ليس بجيد؛ لأن المراد أنَّه ليس بالأبيض الشديد البياض"، بدليل وصفه في الرواية الثانية بأمهق، "ولا بالآدم الشديد الأدمة" بالضم- السمرة، "وإنما يخالط بياضه" مفعول "الحمرة" فاعل؛ لأن بياضه هو الأصل الكثير, والحمرة شيء قليل تخالطه، "والعرب قد تطلق على كل من كان كذلك أسمر"، هذا إنما يتم أن ثبت هذا الإطلاق بشاهد من كلامهم, وأتى به، كذا قيل، وفيه: إن من حفظ حجة، "ولهذا جاء في حديث أنس عند أحمد، والبزار، وابن منده، بإسناد صحيح، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان أسمر اللون"، لكن وإن صحَّ إسناده, فقد أعلَّه الحافظ العراقي بالشذوذ، فقال: هذه اللفظة انفرد بها حميد عن أنس، ورواه غيره من الرواة عنه بلفظ: أزهر اللون، ثم نظرنا من روى صفة لونه -صلى الله عليه وسلم- غير أنس، فكلهم وصفوه بالبياض، وهم خمسة عشر صحابيًّا، انتهى.
"وأخرجه البيهقي في الدلائل، وجه آخر عن أنس" بلفظ آخر، "فذكر الصفة النبوية، فقال: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- أبيض، بياضه إلى السمرة"، أي: يميل إليها, بمعنى: أن فيه حمرة قليلة، "وفي حديث ابن عباس في صفته -صلى الله عليه وسلم: رجل بين رجلين"، أي: ليس بالطويل ولا القصير، "جسمه, ولحمه أحمر"، أسقط من الفتح, وفي لفظ: أسمر "إلى البياض. أخرجه أحمد" وسنده حسن، كما في الفتح "وقد تبيّن من مجموع الروايات أنَّ المراد بالسمرة الحمرة التي تخالط(5/528)
البياض، وأن المراد بالبياض المثبت ما تخالطه الحمرة، والمنفي ما لا تخالطه، وهو الذي تكره العرب لونه وتسميه أمهق، وبهذا تبيّن أن رواية المروزي: بأمهق, ليس بأبيض, مقلوبة, على أنه يمكن توجيهها بأن المراد بالأمهق: الأخضر اللون الذي ليس بياضه في الغاية، ولا سمرته ولا حمرته، فقد نقل عن رؤبة: إن المهق خضرة الماء، فهذا التوجيه يتمّ على تقدير ثبوت الرواية، وقد تقدَّم في حديث أبي جحيفة إطلاق كونه كان أبيض، وكذا في حديث أبي الطفيل عند مسلم والترمذي.
وفي حديث سراقة, عند ابن إسحاق: فجعلت أنظر إلى ساقه كأنها جمارة. ولأحمد من حديث محرش الكعبي في عمرة الجعرانة قال: فنظرت إلى ظهره كأنه سبيكة فضة. وعن سعيد بن المسيب أنه سمع أبا هريرة يصف النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: كان شديد البياض. أخرجه
__________
البياض، وأنّ المراد بالبياض المثبت ما تخالطه الحمرة، والمنفي ما لا تخالطه، وهو الذي تكره العرب لونه وتسميه أمهق، وبهذا تبيّن أن رواية المروزي: ليس بأبيض, مقلوبة"، والأصل: أبيض ليس بأمهق، "على أنه يمكن توجيهها؛ بأنَّ المراد بالأمهق: الأخضر اللون الذي ليس بياضه في الغاية، ولا سمرته" في الغاية، "ولا حمرته" في الغاية، فحذفت فيهما اكتفاءً بالأول.
"فقد نقل عن رؤبة" بن العجاج, واسمه: عبد الله بن رؤبة بن لبيد التميمي، مخضرم، شاعر إسلامي هو وأبوه, له حديث واحد في الحداء، ولم يكن بروايته بأس، قاله ابن عدي: وقال النسائي: ليس بقوي في الحديث، وقال لأبيه: أنا أشعر منك، قال: وكيف؟ قال لأنّي شاعر بن شاعر، وأنت شاعر ابن مفحم، مات سنة خمس وأربعين ومائة؛ "إن المهق خضرة الماء، فهذا التوجيه يتم على تقدير ثبوت الرواية"، لكنها لم تثبت لشذوذها بمخالفتها لرواية الجماعة، فلا يتم التوجيه، "وقد تقدّم في حديث أبي جحيفة، إطلاق كونه كان أبيض؛ وكذا في حديث أبي الطفيل عد مسلم، والترمذي" وتقدَّم أيضًا في شعر أبي طالب، "وفي حديث سراقة" المدلجي، "عند ابن إسحاق: فجعلت أنظر إلى ساقه"، ما بين الركبة والقدم, مؤنَّثة، ولذا قال: "كأنها جمارة" قلب النخلة، ومنه يخرج التمر والسعف، وتموت بقطعه.
"ولأحمد من حديث محرش الكعبي في عمرة الجعرانة قال: فنظرت إلى ظهره كأنَّه سبيكة فضة، وعن سعيد بن المسيب" بكسر الياء وفتحها, "إنه سمع أبا هريرة يصف النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: كان شديد البياض" ومَرَّ قوله أيضًا: كان أبيض كأنما صيغ من فضة "أخرجه(5/529)
يعقوب بن سفيان والبزار بإسناد قوي. ويجمع بينهما بما تقدّم.
وقال البيهقي: يقال: إن المشرب منه بحمرة وإلى السمرة منه ما ضحا للشمس والريح كالوجه والعنق, وأمَّا ما تحت الثياب فهو الأزهر الأبيض. انتهى.
وهذا ذكره ابن أبي خيثمة عقب حديث عائشة في صفته -صلى الله عليه وسلم- بأبسط من هذا, وزاد: ولونه الذي لا شك فيه الأبيض الأزهر. انتهى.
وتعقّب بعضهم قول من قال: إنما وصف بالسمرة ما كانت الشمس تصيب منه، بأن أنسًا لا يخفى عليه أمره حتى يصفه بغير صفته اللازمة له لقربه منه، ولم يكن -عليه الصلاة والسلام- ملازمًا للشمس، نعم لو وصفه بذلك بعض القادمين ممن صادفه في وقت غيِّرته الشمس لأمكن، فالأَوْلَى حمل السمرة في رواية أنس على الحمرة التي تخالط البياض كما قدمته.
تنبيه: في الشفاء حكاية أحمد بن أبي سليمان صاحب عن سحنون: من قال أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان أسود يقتل. انتهى.
__________
يعقوب بن سفيان" الحافظ أبو يوسف الفسوي -بالفاء، "والبزار، بإسناد قوي، ويجمع بينهما بما تقدَّم" من قوله: المراد بالبياض المثبت: ما تخالطه الحمرة، والمنفي ما لا تخالطه، "وقال البيهقي" في الجمع بينهما "يقال: إن المشرب منه بحمرة وإلى السمرة منه ما ضحا" ظهر "للشمس والريح، كالوجه والعنق، وأمَّا ما تحت الثياب فهو الأزهر الأبيض. انتهى".
"وهذا ذكره" الحافظ أحمد "بن أبي خيثمة، عقب حديث عائشة في صفته -صلى الله عليه وسلم- بأبسط من هذا، وزاد: ولونه الذي لا شكَّ فيه الأبيض الأزهر. انتهى" كلام الحافظ في الفتح "وتعقّب"، وفي نسخة: ضعَّف "بعضهم قول من قال: إنما وصف بالسمرة ما كانت الشمس تصيب منه، بأن أنسًا لا يخفى عليه أمره" شأنه وحاله، "حتى يصفه بغير صفته اللازمة له لقربه منه، ولم يكن -عليه الصلاة والسلام- ملازمًا للشمس، نعم, لو وصفه بذلك بعض القادمين ممن صادفه في وقتٍ غيِّرته الشمس لأمكن، فالأَوْلَى حمل السمرة في رواية أنس على الحمرة التي تخالط البياض كما قدمته"، أي: وهي في جميع بدنه؛ لقول ابن عباس: جسمه ولحمه أحمر إلى البياض "تنبيه: في الشفاء حكاية أحمد بن أبي سليمان" القيرواني، والفقيه، المتوفى سنة سبع وثمانين ومائتين، "صاحب عن سحنون" وهو أحد السبعة الذين كانوا بإفريقية في وقت واحد, من رواة سحنون "من قال أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- كان أسود يقتل، انتهى".(5/530)
وهذا يقتضي أن مجرد الكذب عليه في صفة من صفاته كفر يوجب القتل. وليس كذلك، بل لا بد من ضميمة ما يشعر بنقص في ذلك. كما في مسألتنا هذه, فإن الأسود لون مفضول.
وأما طيب ريحه وعرقه وفضلاته -عليه الصلاة والسلام, فقد كانت الرائحة الطيبة صفته -صلى الله عليه وسلم- وإن لم يمس طيبًا.
وروينا عن أنس: ما شممت ريحًا قط
__________
"وهذا يقتضي أنَّ مجرد الكذب عليه في صفة من صفاته كفر يوجب القتل، وليس كذلك، بل لابُدَّ من ضميمة ما يشعر بنقص في ذلك، كما في مسألتنا هذه، فإن الأسود لون مفضول" لكن هذا اعتراض عجيب من شافعي بمذهبه على مالكي حاكٍ لمذهب مالك، فمذهبه أنَّ من غيِّر صفته، كما لو قال قصيرًا أو أسودًا يقتل، وإن ظهر أنه لم يرد ذمَّه لجهلٍ أو سكر أو تهور، كما في المختصر، "وأما طيب ريحه وعرقه"، لونًا وريحًا وكثرةً، "وفضلاته" برفعهما عطفًا على طيب، وجرهما على ريح، والأول أظهر لذكره لون العرق وكثرته، وابتلاع الأرض بوله وغائطه، وعدم اطّلاع أحدٌ عليهما؛ فلم يقتصر على طيب ريحها منه "عليه الصلاة والسلام"، وجواب أمَّا محذوف، أي: فكانت أحوالها وصفاتها خارقة للعادة، وإذا أردت معرفة ذلك، "فقد كانت الرائحة الطيبة صفته -صلى الله عليه وسلم"، ويحتمل أن هذا جواب، أمَّا لكن ليس في الخبر ضمير يربطه بالمبتدأ؛ إذ المبتدأ طيبٌ المضاف لريحٍ المضاف لضمير المصطفى، وضمير صفته لنفسه -عليه السلام، لا لطيب الواقع مبتدأ, نعم في الخبر ضمير يعود على المضاف إلى المضاف إلى المبتدأ، فإن اكتفى بذلك فلا إشكال، ولكن الأَوْلَى أن الجواب محذوف، قرره شيخنا، "وإن لم يمس طيبًا"، ومع هذا كان يستعمل الطيب في أكثر أوقاته مبالغة في طيب ريحه، لملاقاة الملائكة وأخذ الوحي ومجالسة المسلمين، قاله النووي: ولأنّه حُبِّبَ إلي، كما قال: "حُبِّبَ إليَّ من نياكم النساء والطيب".
وروى ابن مردويه عن أنس: كان -صلى الله عليه وسلم- منذ أسري به ريحه ريح عروس، وأطيب من ريح عروس، ولا دلالة فيه على أنّ مبدأ طيب ريح جسده من ليلة الإسراء -كما زعم؛ إذ ريح عروس أخص من مطلق رائحة طيبة، فلا ينافي أنه طيب الرائحة من حين وُلِدَ، كما رواه أبو نعيم والخطيب، أن أمه آمنة لما ولدته قالت: ثم نظرت إليه؛ فإذا هو كالقمر ليلة البدر، ريحه يسطع كالمسك الأذفر، "وروينا عن أنس: ما شممت ريحًا قط"، أي: لطيب أو طيبًا؛ إذ الريح المطلق من الأوصاف التي لا تقوم بذاتها، بل شمه لا يتصور، والمعنى: إنه شم روائح طيبة، وريح(5/531)
ولا مسكًا ولا عنبرًا أطيب من ريح رسول الله -صلى الله عليه وسلم. الحديث رواه الإمام أحمد.
وفي رواية البخاري: ولا شممت مسكة ولا عنبرة أطيب من رائحة النبي -صلى الله عليه وسلم.
وفي رواية الترمذي: ولا شممت مسكًا قط ولا عطرًا كان أطيب من عرق رسول الله -صلى الله عليه وسلم.
__________
المصطفى أطيب منها؛ لأن النفي إذا كان على مقيّد توجَّه النفي إلى قيده، "ولا مسكًا" بكسر الميم- والمشهور أنه دم يتجمّد في خارج سرة ظباء معينة، في أماكن مخصوصة، وينقل بحكمة الحكيم أطيب الطيب، وفي الحديث: "أطيب الطيب المسك" رواه مسلم وغيره، "ولا عنبرًا" بنون فموحدة- روث دابّة بحرية، أو نبع عين فيه, ويؤنّث، "أطيب من ريح رسول الله -صلى الله عليه وسلم"، وهما من عطف الخاص على العام؛ إذ المراد رائحة المسك والعنبر، وهي من أفراد ما قبلها لا ذاتهما، "الحديث رواه الإمام أحمد" في المسند، "وفي رواية البخاري" في كتاب الصيام، من طريق حميد، ومسلم في الصفة النبوية من طريق ثابت، كلاهما عن أنس في آخر حديث: "ولا شممت مسكة" قطعة من مسك، "ولا عنبرة" قال الحافظ: ضبط بسكون النون، بعدها موحدة، وبكسر الموحدة، بعدها تحتانية، والأوّل معروف، والثاني طيب معمول من أخلاطٍ يجمعها الزعفران، وقيل: هو الزعفران نفسه، ووقع عند البيهقي: ولا عنبرًا ولا عبيرًا، ذكرهما جميعًا أ. هـ.
وفسَّر المصنف عنبرة -بنون ساكنة، فموحدة مفتوحة: قطعة من العنبر المعروف، "أطيب من رائحة"، وللكشميهني: من ريح "النبي -صلى الله عليه وسلم"، وإذا أودع الله بعض الحيوان محاسن بعض المشمومات كالمسك من الغزال، والزباد من الهرة، فلا بدع في أن يدع في أشرف خلقه ما هو أطيب من ذلك، من نفس خلقته، "وفي رواية الترمذي" من حديث ثابت، عن أنس في حديث: "ولا شممت مسكًا قط، ولا عطرًا" بكسر العين- الطيب, جمعه عطور، فهو عطف عام على خاص، كرواية: ولا شيئًا "كان أطيب من عرق" بفتح العين والراء- رشح بدن "رسول الله -صلى الله عليه وسلم"، وفي رواية: عرف -بفتح العين، وسكون الراء، وبالفاء- وهو الريح الطيب.
قال المصنّف: على الشمائل، وكلاهما صحيح، لكنّ معظم الطرق يؤيد الأوّل، يعني: ريحه أطيب مماسة من أنواع الروائح، فلا يرد أن نفي الشم لا يدل على الأطيبية، وهو المقصود على أنّه قد يراد بنفي العلم نفي المعلوم، والمراد حال ريحه الذاتية لا المكتسبة، كما هو المتبادر من ترجيح بعض على بعض، ولو أريد المكتسبة لم يكن فيه كمال مدح، بل لا تصح(5/532)
وقوله: شممت -بكسر الميم الأولى وسكون الثانية.
وعن أم عاصم امرأة عتبة بن فرقد السلمي قالت: كنَّا عند عتبة أربع نسوة، فما منَّا امرأة إلّا وهي تجتهد في الطيب لتكون أطيب من صاحبتها، وما يمسّ عتبة الطيب إلّا أن يمس دهنًا يمسح له لحيته, ولهو أطيب ريحًا منه، وكان إذا خرج إلى الناس قالوا: ما شممنا ريحًا أطيب من ريح عتبة، فقلت له يومًا: إنا لنجتهد في الطيب، ولأنت أطيب ريحًا منَّا, فممَّ ذلك؟ قال: أخذني الشرى على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأتيته, فشكوت ذلك إليه، فأمرني أن أتجرَّد، فتجردت عن ثوبي وقعدت بين يديه، وألقيت ثوبي على فرجي، فنفث في يده ثم مسح ظهري وبطني بيده، فعبق بي هذا الطيب من يومئذ
__________
إرادته وحده، "وقوله: شممت -بكسر الميم الأولى وسكون الثانية"، وحكى الفراء فتح الأولى, وبه ردَّ زعم ابن درستويه أنها من خطأ العامة، ومضارع المكسور أشِم -بفتح الشين، والمفتوح اسم بضمها، "وعن أم عاصم امرأة عتبة" بضم المهملة، وسكون الفوقية، "ابن فرقد" بفتح الفاء، والقاف بينهما راء ساكنة- ابن يربوع بن حبيب بن مالك بن أسعد بن رفاعة، "السلمي".
وقال ابن سعد: يربوع هو فرقد، شهد خيبر، وقسم له منها، فكان يعطيه لبني أخواله عامًا، ولبني أعمامه عامًا، وغزا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- غزوتين، وولّاه عمر في الفتوح، ففتح الموصل سنة ثمان عشرة مع عياض بن غنم، ونزل بعد ذلك الكوفة، ومات بها، ذكره في الإصابة، "قالت: كنا عند عتبة" حال من "أربع نسوة"؛ لأنه في الأصل صفة لها، فلمَّا قدِّم أعرب حالًا، وأربع خبر كان، "فما منَّا امرأة إلّا وهي تجتهد في الطيب" أي: في تحصيل أحسنه واستعماله، "لتكون أطيب من صاحبتها"، كما هو شأن الضرائر، "وما يمسّ عتبة الطيب إلّا أن يمس دهنًا" مطيبًا "يمسح به لحيته، ولهو أطيب ريحًا منه، وكان إذا خرج إلى الناس قالوا: ما شممنا ريحًا أطيب من ريح عتبة، فقلت له يومًا: إنا لنجتهد في الطيب، ولأنت أطيب ريحًا منَّا، فممَّ"، أي: من أي سبب "ذلك" الوصف الذي ثبت لك، "قال: أخذني الشرى" بثور صغار حمر، حكاكة مكربة تحدث دفعة غالبًا، وتشتد ليلًا لبخارٍ حارٍّ يثور في البدن دفعة، كما في القاموس، "على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فأتيته، فشكوت ذلك إليه، فأمرني أن أتجرَّد، فتجردت عن ثوبي، وقعدت بين يديه، وألقيت ثوبي على فرجي" وما حوله, اقتصر عليه لكونه أفحش، ويحتمل خلافه، "فنفث في يده، ثم مسح ظهري وبطني بيديه فعبق" بفتح الباء- أي: لزق "بي هذا الطيب من يومئذ".(5/533)
رواه الطبراني في معجمه الصغير.
وروى أبو يعلى والطبراني قصة الذي استعان بالنبي -صلى الله عليه وسلم- على تجهيز ابنته، فلم يكن عنده شيء، فاستدعاه بقارورة, فسلت له فيها من عرقه، وقال: "مرها فلتطيب به"، فكانت إذا تطيبت به شمّ أهل المدينة ذلك الطيب فسمّوا: بيت المطيبين.
وقال جابر بن عبد الله: كان في رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خصال: لم يكن في طريق فيتبعه أحد إلّا عرف أنه سلكه من طيب عرقه وعرفه، ولم يكن يمر بحجر إلّا سجد له. رواه الدرامي والبيهقي وأبو نعيم. ولله در من قال:
__________
"رواه الطبراني في معجمه الصغير" والكبير أيضًا، كما في الإصابة، وقدَّم المصنف بعض الحديث في ريقه الشريف، "وروى أبو يعلى والطبراني" من حديث أبي هريرة "قصة" مفعول روى، وفي نسخة بزيادة في، فمفعول روى محذوف، أي: ما فيه طيب عرقه "الذي استعان بالنبي -صلى الله عليه وسلم- على تجهيز ابنته، فلم يكن عنده شيء، فاستدعاه بقارورة"، أي: طلبها من الرجل، "فسلت له فيها من عرقه" أي: بعضه، "وقال: "مرها فلتطيب به"، وهذا الحديث ذكره بالمعنى تبعًا للفتح، ولفظ أبي يعلى والطبراني عن أبي هريرة: جاء رجل فقال: يا رسول الله -صلى الله عليه وسلم, إني زوَّجت ابنتي، وأنا أحب أن تعينني بشيء، قال: "ما عندي شيء، ولكن إذا كان غدًا فأتني بقارورة واسعة الرأس، وعود شجرة، وآية ما بيني وبينك أن أجيف ناحية الباب"، فلمَّا كان من الغد أتاه بذلك؛ فجعل النبي -صلى الله عليه وسلم- يسلت العرق عن ذراعيه، حتى امتلأت القارورة، فقال: "خذها وأمر ابنتك أن تغمس هذا العود في القارورة فتطيب به"، "فكانت إذا تطيبت به شمّ أهل المدينة" كلهم "ذلك الطيب"، وإن بعدوا عن دارها، هذا ظاهره، ولا مانع؛ إذ هو أمر خارق، "فسمّوا: بيت المطيبين".
قال الذهبي: حديث منكر، أي: ضعيف، "وقال جابر بن عبد الله" رضي الله عنهما: "كان في رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خصال" خارقة للعادة، منها: إنه "لم يكن" يمر "في طريق فيتبعه" بالرفع، أي: يأتي بعد ذهابه منه، لا يمشي تابعًا له، وهو بالتخفيف والتشديد، ويجوز نصبه، أي: يمشي بعده بزمان قليل، فالفاء للتعقيب، "أحد" فاعل يتبع على حال من الأحوال، "إلّا" على حال "عرف أنه" -صلى الله عليه وسلم "سلكه"، أي: دخل الطريق ومَرَّ فيه، "من طيب عرقه" بالقاف، "وعرفه" بالفاء- ريحه الطيب، والضمير للعرق -بالقاف- فهو كالتفسير لما قبله، أو للنبي -صلى الله عليه وسلم، فيفيد طيب ريح بدنه، وإن لم يعرق، فهو دليل لقوله في الترجمة: الرائحة الطيبة صفة، وإن لم يمس طيبًا، "ولم يكن يمر بحجر إلّا سجد له"، أي: تحرك حتى كأنه سجد، "رواه الدارمي والبيهقي وأبو نعيم، ولله در(5/534)
ولو أن ركبًا يمموك لقادهم ... نسيمك حتى يستدل به الركب
وعن أنس قال: كان رسول -صلى الله عليه وسلم- إذا مَرَّ في طريق من طرق المدينة وجدوا منه رائحة الطيب وقالوا: مَرَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من هذا الطريق. رواه أبو يعلى والبزار بإسناد صحيح. وما أحسن قول من قال:
يروح على غير الطريق التي غدا ... عليها فلا ينهى علاه نهاته
تنفسه في الوقت أنفاس عطره ... فمن طيبه طالبت له طرقاته
تروح له الأرواح حيث تنسمت ... لها سحرًا من حبه نسماته
__________
من قال: ولو أن ركبًا يمَّموك" قصدوك "لقادهم" أي: دلهم "نسيمك" أي: رائحة بدنك "حتى يستدل به الركب"، فشبَّه الدلالة بأخذ قياد الدابة والمشي أمامها، فهو استعارة تبعية، "وعن أنس قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا مَرَّ في طريق من طرق المدينة وجدوا منه" أي: الطريق "رائحة الطيب" على أثره، على ظاهر قول جابر قبله، فيتبعه أحد، "وقالوا: مَرَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من هذا الطريق"؛ لأن القلب الطاهر الحي يشم منه رائحة الطيب، كما أن القلب الخبيث الميت يشم منه رائحة النتن؛ لأن نتن القلب والروح يتصل بباطن البدن أكثر من ظاهره، والعرق يفيض من الباطن، فالنفس الطيبة يقوى طيبها، ويفوح عرف عرقها، حتى يبدو على الجسد، والخبيثة بضدها، كذا قال بعضهم: "رواه أبو يعلى والبزار بإسناد صحيح، وما أحسن قول من قال" في هذا المعنى:
يروح على غير الطريق التي غدا ... عليها فلا ينهى علاه نهاته
تنفسه في الوقت أنفاس عطره ... فمن طيبه طابت له طرقاته
تروح له الأرواح حيث تنسمت ... له سحرا من حبه نسماته
عن عائشة: كنت قاعدة أغزل والنبي -صلى الله عليه وسلم- يخصف نعله، فجعل جبينه يعرق، وجعل عرقه يتولّد نورًا، فبهت, فقال: "ما لك بهتِّ"؟، قلت: جعل جبينك يعرق، وجعل عرقك يتولد نورًا، ولو رآك أبو كبير الهذلي لعلم أنك أحق بشعره؛ حيث يقول:
ومبرًا من كل غبر حيضة ... وفساد مرضعة وداء مغيل
وإذا نظرت إلى أسرة وجهه ... برقت بروق العارض المتهلل
رواه ابن عساكر، وأبو نعيم، والخطيب بسند حسن، وأبو كبير -بموحدة- عامر بن الحليس -بمهملتين- مصغَّر، وقيل: ابن جمرة, وراء, جاهلي، وغبر -بمعجمة وموحدة وراء بلا نقط، أي: بقية, وحيضة -بكسر الحاء، أي: لم تحمل به في بقية الحيض، ولا حملت عليه في حالة رضاعه، فيفسد رضاعه، والمغيل بوزن مكرم بالكسر، من الغيل، بفتح المعجمة، وسكون(5/535)
وعن عائشة قالت: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحسن الناس وجهًا وأنورهم لونًا، لم يصفه واصف قط إلا شبَّه وجهه بالقمر ليلة البدر, وكان عرقه في وجهه مثل اللؤلؤ، وأطيب من المسك الأذفر. رواه أبو نعيم.
وعن أنس قال: دخل علينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقَالَ عندنا، فعرق, وجاءت أمي بقارورة فجعلت تسلت العرق فيها، فاستيقظ -صلى الله عليه وسلم- فقال: "يا أم سليم ما هذا الذي تصنعين"؟ قالت: هذا عرقك نجعله لطيبنا، وهو أطيب الطيب. رواه مسلم.
وفي رواية كان -صلى الله عليه وسلم
__________
التحتية، وهي أن ترضعه وهي حامل، هكذا ضبطه جمع, منهم: السيوطي، "وعن عائشة قالت: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحسن الناس وجهًا، وأنورهم لونًا"؛ لأنه أبيض مشرب بحمرة، "لم يصفه واصف قط إلّا شبه وجهه بالقمر ليلة البدر، وكان عرقه في وجهه مثل اللؤلؤ" في البياض والصفاء، ففي مسلم عن أنس, كان -صلى الله عليه وسلم- أزهر اللون، كان عرقه اللؤلؤ، إذا مشى تكفأ، فليس المراد المثلية في التحدر، "وأطيب من المسك الأذفر" بذال معجمة، أي: طيب الريح، ويقع على الكريه، ويفرق بينهما بما يضاف إليه، ويوصف به, وأما بدال مهملة، فخصَّ بالنتن "رواه أبو نعيم" وغيره.
"وعن أنس قال: دخل علينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقَالَ عندنا"، أي: قام وقت القائلة، وهي نصف النهار، والغالب فيه الحر، "فعرق" بكسر الراء، "وجاءت أمي" أم سليم بنت ملحان بن خالد الأنصاري، يقال اسمها: سهلة، أو رميلة أو رميثة أو مليكة، أو أنيقة، وهي الغميصاء -بضم الغين المعجمة- أو الرميصاء -بالراء، اشتهرت بكنيتها، وكانت من الصحابيات الفاضلات، ماتت في خلافة عثمان، "بقارورة، فجعلت تسلت" بضم اللام- تمسح "العرق", وتجعله "فيها" أي: القارورة.
قال القاضي عياض: كانت مَحْرَم له من قِبَل الرضاع، ففيه جواز الخلوة مع المحارم، قال الأبي: علمت طيب نفسه بذلك، وإلا فالقرابة لا تبيح القدوم على ذلك، وقال شيخنا: يجوز أن سلتها بآلة، فلا تمس جسده الشريف، والعرق هنا اسم عين؛ لأنه الذي يؤخذ، فيكون مشتركًا بين المصدر والعين، أو أنه حقيقة في المصدر, مجاز في غيره، "فاستيقظ -صلى الله عليه وسلم- فقال: "يا أم سليم, ما هذا الذي تصنعين"؟ قالت: هذا عرقك"، خبر موطئ لقولها: "نجعله لطيبنا"، ولفظ مسلم: في طيبنا، "وهو أطيب الطيب"، قال الأبي: وكانت رائحة العرق أخص من رائحة البدن، كما يوجد في ضد طيب الرائحة، فإن ذا الرائحة الكريهة, هي منه في حالة العرق أكره منها في حالة عدم العرق، "رواه مسلم" عن ثابت عن أنس.
"وفي رواية" لمسلم من طريق إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس، "كان -صلى الله عليه وسلم-(5/536)
يدخل بيت أم سليم فينام على فراشها وليست فيه. قال فجاء ذات يوم فنام, فأتيت فقيل لها: هذا النبي -صلى الله عليه وسلم- نائم في بيتك على فراشك, قال: فجاءت وقد عرق واستنقع عرقه على قطعة أديم على الفراش، ففتحت عتيدتها فجعلت تنسف ذلك العرق فتعصره في قواريرها، ففزع -صلى الله عليه وسلم- فقال: "ما تصنعين يا أم سليم"؟ قالت: يا رسول الله, نرجو بركة لصبيانننا، قال: "أصبت".
والعتيدة: كالصندوق الصغير الذي تترك فيه المرأة ما يعز عليها من متاعها.
وأما ما روي أن الورد خلق من عرقه -صلى الله عليه وسلم- ومن عرق البراق, فقال شيخنا في الأحاديث المشتهرة: قال النووي: لا يصح. وقال شيخ الإسلام ابن حجر: إنه موضوع
__________
يدخل بيت أم سليم، فينام على فراشها وليست فيه"؛ لعلمه برضاها وفرحها به، "قال: فجاء ذات يوم، فنام" على فراشها، "فأتيت، فقيل لها", وفي نسخة: أما -بفتحتين- افتتاح كلام، "هذا النبي -صلى الله عليه وسلم- نائم في بيتك على فراشك، قال: فجاءت وقد عرق واستنقع"، أي: سال وسقط "عرقه على قطعة أديم" جلد، كان نائمًا عليها "على الفراش، ففتحت عتيدتها" بفتح المهملة، بعدها فوقية، فتحتية، فمهملة، "فجعلت تنشف ذلك العرق، فتعصره في قواريرها، ففزع -صلى الله عليه وسلم، فقال: "ما تصنعين يا أم سليم"؟، قالت: يا رسول الله, نرجو بركة لصبياننا، قال: "أصبت" والعتيدة كالصندوق" بفتح الصاد وضمها، "الصغير الذي تترك فيه المرأة ما يعز عليها من متاعها"؛ قاله النوي. وقال القاضي عياض: هي حقة للمرأة تعدها للطيب، وفي العين: العتاد ما يُعَدّ للأمر، وفرس عتيد، أي معد للركوب، ومنه عتيدة الطيب، وفي مسلم أيضًا عقب هذين الحديثين، من طريق أبي قلابة عن أنس.
عن أم سليم, أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يأتيها فيقيل عندها، فتبسط له نطعًا فيقيل عليه، وكان كثير العرق، فكانت تجمع عرقه، فتجعله في الطيب والقوارير، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم: "يا أم سليم ما هذا"؟ قالت: عرقك أذوف به طيبي.
قال القاضي عياض: ضبطناه عن الأكثر أذوف -بذال معجمة- ومعناه: أخلط، وهو للطبري -بمهملة- ومعناه أيضًا: أخلط، "وأمَّا ما روي أن الورد خلق" صنف منه وهو الأبيض، "من عرقه -صلى الله عليه وسلم"، وخلق صنف منه، وهو الأصفر "من عرق البراق" بضم الموحدة- كذا في نسخة -بالواو، وفي نسخة: أو من عرق البراق، بأو للتنويع, بدليل بقية العبارة، لا للشك "فقال شيخنا" السخاوي في المقاصد الحسنة "في الأحاديث المشهورة" على الألسنة، "قال النووي: لا يصح"، وهذا محتمل للضعف والوضع، وهو المراد "و" لذا "قال شيخ الإسلام ابن حجر" الحافظ: "إنه(5/537)
وسبقه لذلك ابن عساكر، وهو في مسند الفردوس لفظ: الورد الأبيض خلق من عرقي ليلة المعراج، والورد الأحمر خلق من عرق جبريل، والورد الأصفر خلق من عرق البراق. رواه من طريق مكي بن بندار الزنجاني. قال: حدثنا الحسين بن علي بن عبد الواحد القرشي، حدثنا هشام بن عمار عن الزهري عن أنس به مرفوعًا, ثم قال: قال أبو مسعود: حدَّث به أبو عبد الله الحاكم عن رجل عن مكي. ومكي تفرَّد به انتهى. ورواه أبو الحسين بن فارس اللغوي في كتاب "الريحان والراح" له, عن مكي به. ومكي ممن اتهمه الدارقطني بالوضع، وله طريق أخرى, رواه أبو الفرج النهرواني في الخامس والتسعين من "الجليس الصالح" له, من طريق محمد بن عنبسة بن حمّاد قال: حدثني أبي, عن جعفر بن سليمان, عن مالك بن دينار
__________
موضوع، وسبقه لذلك ابن عساكر" حافظ الشام، فقال: هذا حديث موضوع, وضعه من لا علم عنده، "وهو في مسند الفردوس لفظ: الورد الأبيض خلق من عرقي ليلة المعراج، والورد الأحمر خلق من عرق جبريل، والورد الأصفر خلق من عرق البراق. رواه من طريق مكي بن بندار"، بموحدة فنون، "الزنجاني، قال: حدثنا الحسين بن علي بن عبد الواحد القرشي" المقدسي.
قال بعضهم: هو الذي وضع هذا الحديث، قال: "حدَّثنا هشام بن عمَّار" السلمي، الدمشقي، صدوق كبر فصار يتلقّن، فحديثه القديم أصحّ، مات سنة خمس وأربعين ومائتين، وله اثنتان وتسعون سنة؛ "عن الزهري" محمد بن مسلم بن شهاب، "عن أنس به مرفوعًا، ثم قال" الديلمي صاحب مسند الفردوس: "قال أبو مسعود" الدمشقي إبراهيم بن محمد الحافظ: مات كهلًا في رجب سنة أربعمائة، "حدّث به أبو عبد الله الحاكم، عن رجل، عن مكي، ومكي تفرّد به أ. هـ".
"ورواه أبو الحسين" أحمد "ابن فارس" الرازي، الفقيه المالكي، الإمام في علوم شتَّى، خصوصًا اللغة، فإنه أتقنها فغلبت عليه، فلذا نُسِبَ "اللغوي"، صاحب المصنفات، مات في سنة تسعين وثلثمائة أو قبلها، "في كتاب الريحان والراح, له عن مكي به, ومكي ممن اتهمه الدارقطني بالوضع"، فروايته كعدمها، " وله طريق أخرى، رواه" أي: الطريق, يذكر ويؤنث "أبو الفرج النهرواني، في الخامس والتسعين من" كتاب "الجليس الصالح، له من طريق محمد بن عنبسة بن حمّاد، قال: حدثني أبي" عنبسة -بفتح المهملة، ثم نون ساكنة، ثم موحدة، ومهملة مفتوحتين، "عن جعفر بن سليمان" الضبعي -بضم الصاد المعجمة، وفتح الموحدة، أبي سليمان البصري، صدوق زاهد, لكنّه كان يتشيّع، مات سنة ثمان وسبعين ومائة، "عن مالك بن دينار"(5/538)
عن أنس رفعه: لما عُرِجَ بي إلى السماء بكت الأرض من بعدي, فنبت اللصف من نباتها، فلمّا أن رجعت قطر من عرقي على الأرض فنبت ورد أحمر، ألا من أراد أن يشمّ رائحتي فليشمّ الورد الأحمر. ثم قال أبو الفرج: اللصف: الكبر، قال: وما أتى به هذا الخبر فهو اليسير من كثير مما أكرم الله به نبيه ودل على فضله ورفيع منزلته. قال: وقد روينا معناه من طرق, لكن اختصرنا منها هذا فذكرناه, وإنما ذكرته ليعلم.
وعن جابر بن سمرة أنه -صلى الله عليه وسلم- مسح خده، قال جابر: فوجدت ليده بردًا وريحًا كأنما أخرجها من جؤنة عطار. قال غيره: مسَّها بطيب أو لم يمسها يصافح.
__________
البصري الزاهد، أبي يحيى، صدوق عابد، مات سنة ثلاثين ومائة أو نحوها، "عن أنس، رفعه: "لما عرج بي إلى السماء، بكت الأرض من بعدي، فنبت اللصف من نباتها، فلمَّا أن رجعت, قَطَر من عرقي على الأرض، فنبت ورد أحمر؛ ألا من أراد أن يشمَّ رائحتي فليشم الورد الأحمر"، ثم قال أبو الفرج: اللصف الكبر", وفي القاموس: اللصف -محركة- الإصف، أو اذن الأرنب، ورقة كورق لسان الحمل، وأدق وأحسن, زهره أزرق فيه بياض، وله أصل ذو شعب، إذا قلع وحكّ به الوجه حمَّره وحسَّنه، "قال" أبو الفرج تقوية لهذا الخبر؛ لئلّا ينكر من جهله العقل: "وما أتى به هذا الخبر فهو اليسير من كثير ما أكرم الله به نبيه، ودلَّ على فضله ورفيع منزلته، قال: وقد روينا معناه من طرق، لكن اختصرنا منها هذا، فذكرناه. انتهى" كلام شيخه السخاوي، وزاد على ما هنا ما لفظه: لأبي الحسين بن فارس أيضًا، مما عزاه لهشام بن عروة عن أبيه، عن عائشة مرفوعًا، من أراد أن يشمَّ رائحتي فليشم الورد الأحمر، "وإنما ذكرته ليعلم" أنه موضوع فيترك، ولا يذكر إلّا مع بيان أنه موضوع "و" روى مسلم "عن جابر بن سمرة" قال: صليت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صلاة الأولى، ثم خرج إلى أهله، وخرجت معه، فاستقبله ولدان، فجعل يمسح خدَّي أحدهم واحدًا واحدًا، قال: وأمَّا أنا فمسح خدي. فذكره بمعناه، فقال: "أنه -صلى الله عليه وسلم: مسح خده، قال جابر: فوجدت ليده بردًا وريحًا كأنما أخرجها من جؤنة عطار" بين صفة الريح دون البرد، وقال يزيد بن الأسد: ناولني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يده، فإذا هي أبرد من الثلج، وأطيب ريحًا من المسك.
رواه البيهقي كما قدَّمه المصنف، كحديث جابر في يده الشريفة، "قال غيره" غير ابن سمرة، وهو عائشة، فيما رواه أبو نعيم، والبيهقي بإسناد ضعيف، عنها في حديث: وكانت كفه ألين من الحرير، وكان كفه كف عطار، "مسّها بطيب أو لم يمسها"، أي: الكف، وفيه قلب؛ إذ الظاهر مسّ بها طيبًا، أم لا، وهو إشارة إلى أن طيبه ذاتي, "يصافح" أي: يمس النبي -صلى الله عليه وسلم-(5/539)
المصافح فيظل يومه يجد ريحها، ويضع يده على رأس الصبي فيعرف من بين الصبيان ريحها.
وجؤنة العطار -بضم الجيم وهمزة بعدها، ويجوز تخفيفها واوًا: سليلة مستديرة مغشاة أدمًا.
وقد ورد مما عزاه القاضي عياض للإخباريين, ومن ألف في الشمائل الكريمة, أنه -صلى الله عليه وسلم- كان إذا أراد أن يتغوَّط
__________
بصفحة يده "المصافح" بفتح الفاء والنصب- مفعول، وهو من يريد مصافحته، وفي رواية: يصافحه المصافح -بكسر الفاء والرفع- فاعل، "فيظل" بفتح الظاء المعجمة "يومه" منصوب على الظرفية، ولا توكيد فيه ولا تجريد؛ لدلالته على الاستغراق, "يجد ريحها" الطيبة طيبًا خلقيًّا خصَّه لله به معجزة وتكرمة، فالإضافة عهدية، وقدَّم المصنف أيضًا في اليد الشريفة قولَ وائل بن حجر عند الطبراني: كنت أصافح رسول الله -صلى الله عليه وسلم، أو يمس جلدي جلده، فأتعرّفه بعد في يدي، وإنه لأطيب من ريح المسك، وهذا صادق ببقائه أكثر من يوم؛ لأنه لم يقيد التعرف بزمن، وعجيب نقل ما قدمه المصنف قريبًا من كلام غيره، "ويضع يده على رأس الصبي" أيّ صبي كان، لا معين، "فيعرف من بين الصبيان بريحها"؛ لشدة فوحه، أي: برائحتها الحاصلة بمسّه، والفاء للسببية, أي: يعرف أن النبي مسَّه، فيميز من بينهم.
وفي رواية: لريحها -باللام، والتعليلية- ومعناهما واحد، وفي رواية: من ريحها، ويحتمل أن ذلك في يومه، وأنه يستمرّ مدة طويلة، ثم المصنف تابع لعياض، ولفظ عائشة: ويضعها على رأس الصبي فيعرف من بين الصبيان أنه مسح على رأسه، "وجؤنة العطار -بضم الجيم، وهمزة بعدها، ويجوز تخفيفها" بإبدالها "واوًا- سليلة مستديرة مغشاة أدمًا" جلدًا، نقله عياض عن صاحب العين، وقال قبله: إنها كالسفط يجعل فيها العطار متاعه، "وقد ورد مما عزاه القاضي عياض للإخباريين" جمع إخباري، نسبة للخبر، وهو ما ينقل ويتحدث به، وجمعه أخبار، فقياس النسبة خبريّ، برد الجمع إلى مفرده، لكنَّه لما اشتهر فصار اسمًا لكل ما ينقل ويتحدث به، التَحَقَ بالعَلَم، فنسب إلى لفظه، "ومن ألف في الشمائل الكريمة" عطف خاص على خاص، أو مباين، وهو الظاهر؛ إذ الإخباريون الناقلون للأخبار كيف اتفق، ومقصود المؤلفين في الشمائل: بيان شمائله فقط, فهم قسم مستقل، لكن لفظ الشفاء: وحكى بعض المعتنين بأخباره وشمائله "أنه -صلى الله عليه وسلم- كان إذا أراد أن يتغوَّطَ" أي: يأتي الغائط، وهو المكان المنخفض من الأرض على عادتهم في البراز؛ لأنه أستر، قال تعالى: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} [المائدة: 6](5/540)
انشقَّت الأرض وابتلعت بوله وغائطه, وفاحت لذلك رائحة طيبة. قال غيره: ولم يطَّلع على ما يخرج منه بشر قط.
وأسند محمد بن سعد كاتب الواقدي -كما هو في بعض نسخ الشفاء: وقالوا: إنه ليس من الرواية, ولا من حواشي أصل ابن جبير, بل من حواشي غيره- عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت للنبي -صلى الله عليه وسلم: إنك تأتي الخلاء فلا نرى منك شيئًا من الأذى, فقال: "يا
__________
ثم كنِّي به عمَّا يقع فيه تسمية للحال باسم المحل، تحاشيًا عن لفظ العذرة، فإن قيل: فغائط اسم عين, فلا يشتق منه فعل عند البصريين، بل من المصدر، أجيب بأنه يقدر له مصدر؛ كالغوط، أو يشتق الفعل من المزيد، كالتغوّط "انشقت الأرض وابتلعت بوله وغائطه، وفاحت لذلك رائحة طيبة"، ولما لم يلزم من الابتلاع انطباقها عليه؛ بحيث لا يرى لجواز انشقاقها دون انطباق، احتاج قوله.
"قال غيره: ولم يطلع على ما يخرج منه بشر قط" ظاهره يعم البول، ولا ينافي رؤية أم أيمن وغيرها للبول، وقول المقدسي: فقد شاهده غير واحد؛ لحمل ما هنا على البول على الأرض، والآتي على ما إذا بال في إناء، كما هو صريح الكلامين، فلا خلاف، وهذا أَوْلَى من حمله على البول مع الغائط لا وحده، ولو على الأرض؛ لاحتياجه لدليل عليه لإخراجه عن ظاهره، "وأسند محمد بن سعد" بن منيع الهاشمي، مولاهم البصري، نزيل بغداد، صدوق حافظ، مات سنة ثلاثين ومائتين، وهو ابن اثنتين وستين سنة، ويعرف بأنه "كاتب الواقدي" محمد بن عمر بن واقد الأسلمي، أبو عبد الله، المدني الحافظ، المتروك مع سعة علمه, مات كما في الديباج وغيره ليلة الاثنين لإحدى عشرة ليلة خلت من ذي الحجة، سنة سبع ومائتين، وهو ابن ثمان وسبين سنة، فسقط بعض الكلام على من قال: مات في ذي الحجة سنة إحدى عشرة؛ إذ لم يقله أحد، "كما هو في بعض نسخ الشفاء، وقالوا: إنه ليس من الرواية" عن عياض، "ولا من حواشي أصل" أي: نسخة "ابن جبير، بل من حواشي غيره"، فأدخلوها في متن الشفاء، ولكن عزوه صحيح لابن سعد، قال في طبقاته: أنبأنا إسماعيل بن أبان الوراق، أنبأنا عنبسة بن عبد الرحمن التشيري، عن محمد بن زاذان، عن أم سعد.
"عن عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت للنبي -صلى الله عليه وسلم: إنك تأتي الخلاء" بالمد، أي: المكان الخالي البعيد عن البيوت؛ لأنهم كانوا قبل وضع المراحيض فيها يأتونه لقضاء الحاجة، ثم عبَّر به بعد ذلك عن محل التغوّط مطلقًا، ثم صار عرفًا اسمًا للبناء المعد لذلك، "فلا نرى منك شيئًا من الأذى"، بالمعجمة والقصر، وأصله: الضرر، ثم أريد به ما يكره، فالمراد به هنا الغائط، "فقال:(5/541)
عائشة, وما علمت أن الأرض تبتلع ما يخرج من الأنبياء فلا يرى منه شيء". انتهى.
وفي الشفاء لابن سبع عن بعض الصحابة قال: صحبته -صلى الله عليه وسلم- في سفر, فلمَّا أراد قضاء الحاجة تأمَّلته وقد دخل مكانًا فقضى حاجته، فدخلت الموضع الذي خرج منه فلم أر له أثر غائط ولا بول، ورأيت في ذلك الموضع ثلاثة أحجار فأخذتهنَّ, فوجدت لهنَّ رائحة طيبة وعطرًا.
قلت: وقد سُئِلَ الحافظ عبد الغني المقدسي: هل روي أنه -صلى الله عليه وسلم- كان ما يخرج منه تبتلعه الأرض؟ فقال: قد روي ذلك من وجه غريب،
__________
"يا عائشة" قلت ذلك، "وما علمتِ أن الأرض تبتلع" تفتعل من البلع، وضبطه التلمساني، تبلع من بلع، كعلم يعلم، أي: يخفي "ما يخرج من الأنبياء" بحيث يغيب فيها، "فلا يرى منه شيء" تفسير للمراد من البلع وتأكيد؛ إذ هو إدخال الطعام والشراب في الحنجرة والمريء، فاستُعِيرَ لمطلق الإخفاء؛ كقوله تعالى: {يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ} [هود: 44] ، أو هو بيان لحكمته، فليس بمستدرك كما توهم، قيل: وحكمة إخفائه مع طيبه وعدم استقذاره، عدم الإذكار لمحله الخارج منه، أو لتتبرك الأرض به، وينبغي ستره؛ لأنه من المروءة؛ لأنه يخشى من أخذ الناس له، "انتهى" ما أسنده ابن سعد، ورجاله ثقات، إلّا محمد بن زاذان المدني فمتروك, كما في التقريب، لكن له شواه يأتي بعضها، "وفي الشفاء"، أي: كتاب شفاء الصدور "لابن سبع" بسكون الباء، بلفظ العدد، وقد تضم، كما في التبصير، "عن بعض الصحابة قال: صحبته -صلى الله عليه وسلم- في سفر, فلمَّا أراد قضاء الحاجة تأملته، وقد دخل مكانًا فقضى حاجته، فدخلت الموضع الذي خرج منه، فلم أر له أثر غائط ولا بول، ورأيت في ذلك الموضع ثلاثة أحجار فأخذتهنَّ، فوجدت لهنَّ رائحة طيبة وعطرًا" بكسر العين- طيبًا, معطوف على لهنّ لا على رائحة، فالمعنى: وجدتهن عطرًا، أي: كالعطر مبالغة، كأن عينهنَّ انقلبت من الحجرية إلى العطرية، ويدل لذلك أنَّ بقية ذا الخبر, كما في التلمساني: فكنت إذا جئت يوم الجمعة المسجد أخذتهنَّ في كمي، فتغلب رائحتهنّ رائحة من تطيب وتعطر, "قلت": من المصنف لا من تتمة كلام صاحب الشفاء كما زعم؛ لأن ابن سبع متقدّم على المقدسي بزمان، فلا ينقل عنه، "وقد سئل الحافظ عبد الغني" بن عبد الواحد بن سرور "المقدسي"، ثم الدمشقي، الإمام، محدث الإسلام، تقي الدين الحنبلي، صاحب التصانيف، غزير الحفظ والإتقان، قيِّم بجميع فنون الحديث، وَرِع كثير العبادة، يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر، لا تأخذه في الله لومة لائم، ونزل مصر في آخر عمره، وبها مات سنة ستمائة، وله تسع وخمسون سنة، "هل روي أنه -صلى الله عليه وسلم- كان ما يخرج منه تبتلعه الأرض؟ فقال" مجيبًا، "قد روي ذلك من وجه غريب" أي: ضعيف، "والظاهر المنقول"(5/542)
والظاهر المنقول يؤيده، فإنه لم يذكر عن أحد من الصحابة أنه رآه ولا ذكره، وأمَّا البول فقد شاهده غير واحد, وشربته أم أيمن. انتهى.
لكن قال البيهقي: وأمَّا الحديث الذي أخبرنا به أبو الحسين بن بشران, أخبرنا إسماعيل بن محمد الصفار قال: حدثنا زيد بن إسماعيل الصائغ قال: حدثنا حسين بن علوان عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا دخل الغائط دخلت في أثره فلا أرى شيئًا إلّا أني كنت أشمَّ رائحة الطيب، فذكرت ذلك له فقال: "يا عائشة, أما علمت أن أجسادنا تنبت على أرواح أهل الجنة وما خرج منها ابتلعته الأرض".
فهذا من موضوعات الحسين بن علوان، لا ينبغي ذكره إلّا لبيان أنه موضوع, ففي الأحاديث الصحيحة والمشهورة في معجزاته كفاية عن كذب ابن علوان. انتهى.
لكن للحديث طرق غير طريق ابن علوان:
__________
عن أحوال المصطفى، "يؤيده، فإنه لم يذكر عن أحد من الصحابة أنه رآه ولا ذكره"، فلو لم تبلعه الأرض لرؤي في بعض الأوقات، "وأمَّا البول فقد شاهده غير واحد، وشربته أم أيمن"، قسيم لما فهم من بلع الأرض غائطه، "انتهى".
جواب عبد الغني، "لكن قال البيهقي: وأمَّا الحديث الذي أخبرنا به أبو الحسين بن بشران" بكسر الموحدة، وإسكان المعجمة، ثقة، مشهور، من شيوخ البيهقي، "أخبرنا إسماعيل بن محمد الصفار"، قال في اللسان: ثقة مشهور، أخطأ ابن حزم حيث جهَّله، "قال: حدَّثنا زيد بن إسماعيل الصائغ، قال: حدثنا حسين بن علوان، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: كان النبي -صلى الله عليه وسلم، إذا دخل الغائط"، أي: المكان الذي يريد قضاء الحاجة فيه، "دخلت في أثره، فلا أرى شيئًا، إلّا أني كنت أشمّ رائحة الطيب، فذكرت ذلك له، فقال: "يا عائشة, أما علمت أنَّ أجسادنا" معاشر الأنبياء "تنبت" أي: تخلق وتوجد "على" صفة "أرواح أهل الجنة، وما خرج منها ابتلعته الأرض، فهذا من موضوعات الحسين بن علوان، لا ينبغي ذكره إلا لبيان أنه موضوع، ففي الأحاديث الصحيحة، والمشهورة في معجزاته، كفاية عن كذب ابن علوان، انتهى".
إذ فيها ما هو أجلّ من ذلك بكثير، "لكن للحديث طرق غير طريق ابن علوان"، فلا ينبغي(5/543)
فعند الدارقطني في الأفراد: حدثنا محمد بن سليمان الباهلي, أنبأنا محمد بن حسَّان الأموي، أنبأنا عبدة بن سلميان, عن هشام بن عروة, عن أبيه, عن عائشة قالت: يا رسول الله، إني أراك تدخل الخلاء ثم يأتي الذي بعدك فلا يرى لما يخرج منك أثرًا، فقال: "يا عائشة, أما علمت أنَّ الله أمر الأرض أن تبتلع ما يخرج من الأنبياء"، ومحمد بن حسان بغدادي ثقة، وعبدة من رجال الصحيح, وله طريق أخرى عند ابن سعد، وأخرى عند الحاكم في مستدركه.
وروي أنَّه كان يتبرك ببوله ودمه -صلى الله عليه وسلم.
__________
دعوى وضعه مع وجودها، "فعند الدارقطني في" كتاب "الأفراد" بفتح الهمزة "حدَّثنا محمد بن سليمان، الباهلي" النعماني، قال تلميذه الدارقطني: وكان من الثقات، قال: "أنبأنا محمد بن حسَّان الأموي" بفتح الهمزة وضمها، البغدادي، قال: "أنبأنا عبدة" بفتح العين، وإسكان الموحدة، فدال فهاء، "ابن سليمان" الكلابي, أبو محمد الكوفي، يقال: اسمه عبد الرحمن، ثقة ثبت، مات سنة سبع وثمانين ومائة، وقيل بعدها, روى له الأئمة الستة، "عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت: يا رسول الله, إني أراك تدخل الخلاء، ثم يأتي الذي بعدك، فلا يرى لما يخرج منك أثرًا، فقال: "يا عائشة, أما علمت أن الله أمر الأرض أن تبتلع ما يخرج من الأنبياء" بولًا أو غائطًا على ظاهر عمومه كما مَرَّ، وهو من خصائص نبينا على الأمم، "ومحمد بن حسان بغدادي ثقة" صالح، "وعبدة من رجال الصحيح"، ولذا قال السيوطي: هذا سند ثابت، وهو أقوى طرق هذا الحديث، انتهى.
فقد تابع عبدة حسين بن علوان في روايته، عن هشام، وتابعه أيضًا أرطأة بن قيس الأسدي عن هشام, أخرجه أبو بكر الشافعي، وهي متابعة تامّة، فكيف يكون موضوعًا، "وله طريق أخرى عند ابن سعد"، تقدمت قريبًا، وأنَّ رجاله ثقات، إلا ابن زاذان، "وأخرى عند الحاكم في مستدركه" قال: أخبرني مخلد بن جعفر، نبأنا محمد بن جرير, نبأنا موسى بن عبد الرحمن المسروقي، نبأنا إبراهيم بن سعد، نبأنا المنهال بن عبد الله، عمَّن ذكره عن ليلى مولاة عائشة، عنها، وله طريق أخرى عند أبي نعيم، وأخرى عند أبي بكر الشافعي، فقول البيهقي: إنه موضوع, محمول على أنه لم يطَّلع على هذه الطرق؛ إذ يتعذّر معها دعوى الوضع، أو على أنه خاص بالطريق التي ذكرها دون البقية، أو على خصوص لفظه، والأظهر بل المتعيّن الأول، "وروي أنه كان يتبرك ببوله ودمه -صلى الله عليه وسلم"، أي: بشربهما، كما هو المروي، وإن شمل لفظه هنا الإدهان ونحوه، وأتى بصيغة التمريض نظرًا إلى أن كل فرد منها مقالًا، فلا يرد عليه أن بعضها يعتضد(5/544)
فروى ابن حبان في "الضعفاء" عن ابن عباس قال: حجم النبي -صلى الله عليه وسلم- غلام لبعض قريش، فلمَّا فرغ من حجامته أخذ الدم فذهب به من وراء الحائط، فنظر يمينًا وشمالًا فلم ير أحدًا، فحسا دمه حتى فرغ, ثم أقبل فنظر في وجهه فقال: "ويحك ما صنعت"؟ فقلت: غيبته من وراء الحائط، قال ابن عيينة: قلت: يا رسول الله, نفست على دمك أن أهريقه في الأرض, فهو في بطني, فقال: "اذهب فقد أحرزت نفسك من النار".
وفي سنن أبي سعيد بن منصور من طريق عمرو بن السائب
__________
لبعض؛ لأنه بالنظر إلى المجموع، ولا يرد أن حديث شرب المرأة بوله صحيح؛ لأنَّها شربته للعطش غير عالمة أنه بوله، فلم تقصد التبرك، "فروى ابن حبان في" كتاب "الضعفاء، عن ابن عباس قال: حجم النبي -صلى الله عليه وسلم- غلام لبعض قريش، فلمَّا فرغ من حجامته أخذ الدم، فذهب به من وراء الحائط"، الظاهر أنَّ وراء هنا بمعنى قدام، كما هو أحد إطلاقها، يعني: إنه ذهب بالدم إلى جهة الحائط؛ بحيث صار قدامها لا تخطاها؛ بحيث صارت خلفه، "فنظر يمينًا وشمالًا فلم ير أحدًا، فحسا دمه"، بفاء العطف على ما قبله، وفي نسخة: تحسى، والأولى أظهر، "حتى فرغ" أي: من شربه شيئًا فشيئًا إلى فراغه، "ثم أقبل، فنظر" -صلى الله عليه وسلم- "في وجهه، فقال: "ويحك ما صنعت"؟، والظاهر أن ابن عباس حمله عن الغلام بقوله: "فقلت: غيبته" في جوفي "من وراء الحائط"، فليس كذبًا، "قال ابن عيينة" تفرَّس فيه، أو ألهم أنه شربه، فسأله ثانيًا، أو المراد: في أيّ مكان من ورء الحائط، فلا يرد أنه لا فائدة في السؤال الثاني، "قلت: يا رسول الله, نفست" بكسر الفاء- ضننت "على دمك أن أهريقه في الأرض، فهو في بطني"، قال في القاموس: نفس به كفرح ضنَّ، وعليه بخير جسده، وعليه الشيء نفاسة، لم يره أهلًا له، والظاهر صحة الثلاثة، فالأوّل تكون على بمعنى الباء، والثاني فيه حذف المفعول وهو جائز، أن نفست الأرض على دمك، أي: حسدتها، والثالث: لم أر دمك أهلًا لإراقته في الأرض لعظمته، قرَّره شيخنا، "فقال" -صلى الله عليه وسلم: "اذهب، فقد أحرزت نفسك من النار"؛ لأن دمه لا تمسه النار، وقد مازج لحمه ودمه، "وفي سنن أبي سعيد" بكسر العين "ابن منصور" بن شعبة، أبي عثمان الخراساني، نزيل مكة، حافظ ثقة مصنّف, روى عن مالك والليث وابن عيينة وخلق، وعنه: الإمام أحمد، وقال: إنه من أهل الفضل والصدق، ومسلم وأبو داود، وأبو حاتم وقال: إنه من المتقنين الأثبات، وخلق سواهم, صنَّف السنن بمكة، وبها مات سنة سبع وعشرين ومائتين "من طريق عمرو" بفتح العين.
قال الحافظ: وصوابه: عمر -بضمها "ابن السائب" ابن أبي راشد المصري، مولى بني(5/545)
أنه بلغه أن مالكًا والد أبي سعيد الخدري لما جُرِحَ النبي -صلى الله عليه وسلم- مَصَّ جرحه حتى أنقاه ولاح أبيض فقال: "مجه"، فقال: والله لا أمجه أبدًا، ثم ازدرده فقال النبي -صلى الله عليه وسلم: "من أراد أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا" فاستشهد.
وأخرج البزار والطبراني والحاكم والبيهقي وأبو نعيم في الحلية، من حديث عامر بن عبد الله بن الزبير عن أبيه قال: احتجم رسول الله -صلى الله عليه وسلم, فأعطاني الدم بعد فراغه من الحجامة، وقال: "اذهب يا عبد الله فغيبه" , وفي رواية: "اذهب بهذا الدم فواره حيث لا يراه أحد" فذهبت فشربته, ثم أتيته -صلى الله عليه وسلم, فقال: "ما صنعت"؟ قلت: غيبته، قال: "لعلك شربته" قلت: شربته، وفي رواية قلت: جعلته في أخفى مكان ظننت أنه خافٍ عن الناس، قال: "لعلك شربته"؟ قلت: شربته، فقال: "ويل لك من الناس وويل للناس منك"
__________
زهرة، أبو عمرو، صدوق، فقيه, مات سنة أربع وثلاثين ومائة، "أنه بلغه"، والبلاغ من أقسام الضعيف، "إن مالكًا" هو ابن سنان "والد أبي سعيد الخدري، لما جُرِحَ النبي -صلى الله عليه وسلم" في وجهه يوم أحد، "مَصَّ جرحه حتى أنقاه" بنون وقاف، "ولاح"، ظهر بعد المص محل الجرح "أبيض، فقال: "مجه"، فقال: والله" وفي نسخة: لا والله "لا أمجه أبدًا، ثم ازدرده" ابتلعه، "فقال النبي -صلى الله عليه وسلم: "من أراد أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا"، فاستشهد" يومئذ بأحد، فظهر صدق قوله أنه من أهل الجنة، وروى سعيد بن منصور أيضًا، أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "من سره أن ينظر إلى رجل خالط دمي دمه فلينظر إلى مالك بن سنان"، "وأخرج البزار والطبراني والحاكم والبيهقي، وأبو نعيم في الحلية, من حديث عامر بن عبد الله بن الزبير" الأسدي، أبي الحارث المدني، التابعي الثقة العابد، مات سنة إحدى وعشرين ومائة، روى له الستة، "عن أبيه، قال: احتجم رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فأعطاني الدم بعد فراغه من الحجامة، وقال: "اذهب يا عبد الله فغيبه".
"وفي رواية: "اذهب بهذا الدم فواره حيث لا يراه أحد"، فذهبت فشربته، ثم أتيته -صلى الله عليه وسلم، فقال: "ما صنعت"؟ أي: بالدم، "قلت: غيبته، قال: "لعلك شربته"، قلت: شربته، وفي رواية، قلت: جعلته في أخفى مكان ظننت أنه خافٍ عن الناس"، وفي هذا مزيد حذقه -رضي الله عنه، مع صغر سنِّه، فإنه ولد سنة الهجرة، وكان أوّل مولود للمهاجرين "قال: "لعلك شربته"، قلت: شربته قال: "ويل" للتحسّر والتألم "لك من الناس" إشارة إلى محاصرته وتعذيبه وقتله وصلبه على يد الحجَّاج، "وويل للناس منك" لما أصابهم من حربه، ومحاصرة مكة بسببه، وقتل من قتل، وما أصاب أمه وأهله من المصائب، وما لحق قاتليه من الإثم العظيم، وتخريب الكعبة، فهو(5/546)
وفي رواية: فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "فما حملك على ذلك" قال: علمت أن دمك لا تصيبه نار جهنم فشربته لذلك، فقال: "ويل لك من الناس، وويل للناس منك".
وعند الدارقطني من حديث أسماء بنت أبي بكر نحوه، وفيه: $"ولا تمسك النار".......................
__________
بيان لما تسبَّب عن شرب دمه، فإن بضعة من النبوة نورانية قوت قلبه، حتى زادت شجاعته وعلت همته عن الانقياد لغيره ممن لا يستحق إمارة فضلًا عن الخلافة، وزعم أنه إشارة إلى ما يلحقه من قدح الجهلة فيه بسبب شرب الدم، مما لا ينبغي ذكره وسقوطه مغنٍ عن رده، "وفي رواية: فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "فما حملك على ذلك"؟، قال: علمت أن دمك لا تصيبه نار جهنم، فشربته لذلك. فقال: "ويل لك من الناس، وويل للناس منك"، وقد سُئِلَ الحافظ ابن حجر عن الحكمة في تنوع القول لابن الزبير ومالك ابن سنان مع اتحاد السبب، فأجاب؛ بأنَّ ابن الزبير شرب دم الحجامة، وهو قدر كثير يحصل به الاغتذاء، وقوة جذب المحجمة تجلبه من سائر العروق، أو كثير منها.
فعلم -صلى الله عليه وسلم- أنه يسري في جميع جسده، فتكتسب جميع أعضائه منه قوى من قوى النبي -صلى الله عليه وسلم، فتورثه غاية قوة البدن والقلب، وتكسبه نهاية الشهامة والشجاعة، فلا ينقاد لمن هو دونه بعد ضعف العدل، وقلة ناصره، وتمكُّن الظلمة، وكثرة أعوانهم، فحصل له ما أشار إليه -صلى الله عليه وسلم، من تلك الحروب الهائلة التي تنتهك بها حرمته الناشئة من حرمته -صلى الله عليه وسلم، وحرمة البيت العتيق، فقيل له: ويل له؛ لقتله وانتهاك حرمته، وويل لهم؛ لظلمهم وتعديهم عليه، وتسفيههم، وأما مالك: فازدرد ما مصّه من الجرح الذي في وجهه -صلى الله عليه وسلم، وهو أقلّ من دم الحجامة، وكأنَّه علم أنه يستشهد في ذلك اليوم، فلم يبق له من أحوال الدنيا ما يخبره به، فأعلمه بالأهمّ له مما يتلقاه من أنواع مسرَّات الجنان، انتهى.
ولا عطر بعد عروس، وحاصله: إنه اقتصر لمالك على التبشير بالجنة أنه لا تصيبه النار؛ لعدم بقاء شيء له من الدنيا، بخلاف ابن الزبير، فأخبره بما يقع له في الدنيا على سبيل الإشارة، كما أشار له أيضًا بأنه من أهل الجنة بقوله: "لا تمسك النار"، فزعم أن مقتضاه أنه لم يخاطب بهذا ابن الزبير بل مالكًا, ساقط إذ محط الفرق إنما هو قوله: ويل إلخ ... ، وكيف يتوهّم أنه لم يخاطب به ابن الزبير، "و" قد ورد "عند الدارقطني، من حديث أسماء بنت أبي بكر نحوه، وفيه: "ولا تمسَّك النار"، فهل يظن بالحافظ أنه لم ير الدارقطني، وهو من جملة مروياته على شيوخ عدة، ولفظ الدارقطني في السنن عن أسماء، قالت: احتجم -صلى الله عليه وسلم، فدفع دمه لابني، فشربه، فأتاه جبريل، فأخبره، فقال: "ما صنعت"، قال: كرهت أن أصبّ دمك، فقال -صلى الله عليه وسلم: "لا تمسك النار"،(5/547)
وفي كتاب الجوهر المكنون في ذكر القبائل والبطون: إنه لما شرب دمه -صلى الله عليه وسلم- تضوّع فمه مسكًا، وبقيت رائحته موجودة في فمه إلى أن صُلِبَ -رضي الله عنه.
وأخرج الحسن بن سفيان في مسنده, والحاكم والدارقطني والطبراني وأبو نعيم من حديث أبي مالك النخعي, عن الأسود بن قيس, عن نبيح العنزي, عن أم أيمن قالت: قام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الليل إلى فخارة في جانب البيت فبال فيها، فقمت من الليل وأنا عطشانة فشربت ما فيها وأنا لا أشعر، فلمَّا أصبح النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "يا أم أيمن, قومي
__________
ومسح على رأسه، وقال: "ويل للناس منك، وويل لك من الناس" , "وفي كتاب الجوهر المكنون في ذكر القبائل والبطون: إنه"، أي: ابن الزبير، "لما شرب دمه -صلى الله عليه وسلم- تضوّع" أي: فاح "فمه مسكًا" تمييز، قال الجوهري: وضاع المسك وتضوّع وتضيّع، أي: تحرَّك فانتشرت رائحته، قال:
تضوّع مسكًا بطن نعمان إذ مشت ... به زينب في نسوة عطرات
ثم قال: وتضيع المسك لغةً في تضوّع، أي: فاح، "وبقيت رائحته موجودة في فمه إلى أن صلب" بعد قتله "رضي الله عنه" سنة ثلاث وسبعين، وكانت خلافته تسع سنين، قال الإمام مالك: وكان أحق بها من عبد الملك وأبيه مروان، "وأخرج الحسن بن سفيان" بن عامر الفسوي -بالفاء- إلى فسا من بلاد فارس، الحافظ الإمام، لقي إسحاق وابن معين، ومات سنة ثلاث ومائتين، وقد جاوز التسعين، "في مسنده" وهو كبير، "والحاكم والدارقطني والطبراني وأبو نعيم, من حديث أبي مالك النخعي" الواسطي, اسمه: عبد الملك, وقيل: عبادة بن الحسين، ويقال له: ابن ذر, متروك، من السابعة, روى له ابن ماجه، كما في التقريب، "عن الأسود بن قيس" العبدي، ويقال: العجلي، الكوفي، يكنَّى أبا قيس، تابعي صغير، ثقة، "عن نبيح" بضم النون، وموحدة، ومهملة- مصغر, ابن عبد الله، "العنزي" بفتح المهملة والنون ثم زاي- نسبة إلى عنزة بن أسد, أبي عمر، والكوفي، مقبول من الطبقة الوسطى من التابعين، "عن أم أيمن، قالت: قام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الليل" من ظرفية بمعنى في, لا زائدة، وقد عدَّه من معانيها الكوفيون وابن مالك، وأنشدوا:
غسى سائل ذو حاجة إن منعته ... من اليوم سؤلانا له بعد في غد
وقال تعالى: {نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ} [الجمعة: 9] أي: فيه, "إلى فخارة" جرة "في جانب البيت، فبال فيها، فقمت من الليل وأنا عطشانة"، قيل: المعروف لغةً عطشى، فهذا سماعي على خلاف القياس، كألفاظ جاءت على فعلان وفعلانة، فيصرف فعلان؛ لأن شرط منع صرفه وجود فعلى، أو فقد فعلانة، وفي القاموس أن عطشانة لغة في عطشى، "فشربت(5/548)
"فأهريقي ما في تلك الفخارة"، فقلت: قد والله شربت ما فيها, قالت: فضحك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى بدت نواجذه، ثم قال: "أما والله لا يبجعن بطنك أبدًا".
وعن ابن جريج قال: أخبرت أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يبول في قدحٍ من عيدان, ثم يوضع تحت سريره, فجاء فإذا القدح ليس فيه شيء, فقال لامرأة يقال لها بركة, كانت تخدم أم حبيبة, جاءت معها من أرض الحبشة: "أين البول الذي كان في القدح"؟ قالت: شربته. قال: "صحة
__________
ما فيها، وأنا لا أشعر" أنه بول لطيب رائحته، فلمَّا أصبح النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "يا أم أيمن, قومي فأهريقي" بفتح الهمزة- من أهرق، أي: صبي "ما في تلك الفخارة"، فقلت: قد والله شربت ما فيها"، أقسمت عليه تأكيدًا، "قالت: فضحك سول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى بدت نواجذه، ثم قال: "أَمَا" بالفتح وخفة الميم "والله، لا يبجعن" بالباء الموحدة، والجيم- كذا قال السيوطي في المناهل، لكنه لا يناسب قول القاموس: بجعه -بالجيم- قطعه بالسيف؛ لأن ما هنا من الوجع، أي: المرض، وصرَّح المجد بأنه يقال: يوجع -بالواو وييجع -بالياء- فهو بتحتيتين أولاهما مفتوحة ومكسورة، أي: لا يصيب "بطنك" وجع "أبدًا"، وعن" عبد الملك بن عبد العزيز "بن جريج" بجيمين أولاهما مضمومة- الأموي, مولاهم المكي، ثقة فاضل فقيه، روى له الستة، وكان يدلس ويرسل، مات سنة خمسين ومائة أو بعدها، وقد جاوز التسعين، وقيل: جاوز المائة، ولم يثبت, "قال: أُخْبِرْتُ أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يبول في قدحٍ من عيدان" بفتح المهملة وإسكان التحتية ومهملة مفتوحة- جمع عيدانة -بالهاء، وهو الطوال من النخل، كما ضبطه جمع, منهم: المجد، وجوّز التلمساني كسر العين، على أنه جمع عود، وهو مخالف لهم، قال الشاعر:
إن الرياح إذا ما أعصفت قصفت ... عيدان نجد ولم يعبأن بالريم
"ثم يوضع تحت سريره"، فإن قيل: ما الحاجة لوضعه مع أن الأرض تبتلعه فلا يُرَى له أثر، أجيب بأنه -صلى الله عليه وسلم- كان يكره الخروج ليلًا من بيته وهو مصلي نافلته، ومحلّ نزول الوحي والملائكة، فلا يليق أن يمسَّ باطنه وظاهره شيء من الفضلات، وإن ظاهره تعظيمًا لعبادة ربه وتأدبًا، لم لا ينافيه قوله -صلى الله عليه وسلم: "لا ينقع بول في طشت في البيت، فإن الملائكة لا تدخل بيتًا فيه بول مستنقع"، رواه الطبراني بسندٍ حسن عن ابن عمر، لإمكان حمله على الفعل بلا ضرورة، أو على تركه في الإناء مدة بحيث ينشر به الإناء، كما يشعر به ينقع ومستنقع, ومدة تركه -صلى الله عليه وسلم- كانت يسيرة، "فجاء، فإذا القدح ليس فيه شيء، فقال لامرأة يقال لها بركة, كانت تخدم أم حبيبة" بنت أبي سفيان، أم المؤمنين، "جاءت معها من أرض الحبشة: "أين البول الذي كان في القدح"؟ قالت: شربته، قال: "صحة" بكسر الصاد، والنصب- أي: جعله الله صحة، أو الرفع، أي:(5/549)
يا أم يوسف" فما مرضت قط حتى كان مرضها الذي ماتت فيه. رواه أبو داود عن ابن جريج عن حكيمة عن أمها أميمة بنت رقيقة.
وصحَّح ابن دحية أنهما قصتان وقعتا لامرأتين, وقد وضح أن بركة أمّ يوسف غير بركة أم أيمن،
__________
ما شربتيه صحَّة، أي: سبب لها، وفيه أن قول ذلك مستحب للشارب، ويقاس عليه الأكل، وحكمته أنه يخشى منهما السقم ونحوه، كما قيل:
فإن الداء أكثر ما تراه ... يكون من الطعام أو الشراب
"يا أم يوسف" فما مرضت قط حتى كان" أي: وجد "مرضها الذي ماتت فيه"، وهذا الحديث رواه عبد الرزاق في مصنفه عن ابن جريج، أخبرت إلخ ...
و"رواه أبو داود" متصلًا "عن ابن جريج عن حكيمة" بضم الحاء المهملة وفتح الكاف- مصغَّر، كما في التبصير، وغيره تابعية، وفي الإصابة عن أبي نعيم: لم يرو عنها إلّا ابن جريج، واسم والدها: حكيم، "عن أمها أميمة" بضم الألف، وميمين، بينهما تحتية- مصغَّر، قالت: كان للنبي -صلى الله عليه وسلم- قدح من عيدان يبول فيه، الحديث. وأبوها اسمه بجاد -بكسر الموحدة، والجيم- ابن عبد الله بن عمير بن الحارث بن جارية بن سعد، بن تيم بن مرة، القرشية التيمية، ويقال: أميمة بنت عبد الله بن بجاد، إلى آخره، صحابية من المبايعات، روت عن النبي -صلى الله عليه وسلم، وعنها محمد بن المنكدر، وبنتها حكيمة، واشتهرت بأمِّها، ولذا قال: "بنت رقيقة" بضم الراء، وقافين- مصغَّر، وهي بنت خويلد بن أسد، أخت خديجة أم المؤمنين، قال أبو عمر: كانت بنتها أميمة من المبايعات، وهي خالة فاطمة الزهراء، وردَّه ابن الأثير بأنها بنت خالتها؛ لأن خويلد والد خديجة هو والد رقيقة لا أميمة، قال في الإصابة: هذا يصح على قول من قال: إنها رقيقة بنت أسد بن عبد العزَّى، ومن ثَمَّ قال المستغفري: هي عمة خديجة بنت خويلد، وترجم في الإصابة تلو هذه: أميمة بنت رقيقة بنت أبي صيفي بن هاشم، بن عبد مناف، وهي أخت مخرمة بن نوفل لأمه، وأمها رقيقة، صاحبة الرؤيا في استقاء عبد المطلب، فرَّق أبو نعيم تبعًا للطبراني بينها وبين التي قبلها، وأخرج في ترجمة هذه حديث ابن جريج فذكره، ثم قال: وأمَّا ابن السكن فجعلهما واحدة، ثم ترجم: رقيقة بنت أبي صيفي، فنسبها كما رأيت، وقال: ذكرها الطبراني والمستغفري في الصحابة، وقال أبو نعيم: ما أراها أدركت الإسلام، انتهى.
فليتأمَّل، ثم أشار المصنف إلى الخلاف، في أن شاربة بوله -صلى الله عليه وسلم- امرأة واحدة، أو امرأتان، بقوله: "وصحح ابن دحية أنهما قصتان وقعتا لأمرأتين" إحداهما أم أيمن، والثانية بركة أم يوسف، وزعم أن أحداهما أميمة وَهْمٌ؛ لأنها رواية فقط، كما علمت، "وقد وضح" بفتح الضاد- كوعد(5/550)
وهو الذي ذهب إليه شيخ الإسلام البلقيني.
وفي هذه الأحاديث دلالة على طهارة بوله ودمه -صلى الله عليه وسلم. قال النووي في شرح المهذّب: واستدلَّ من قال بطهارتهما بالحديثين المعروفين: أنَّ أبا طيبة الحجام حجمه -صلى الله عليه وسلم- وشرب دمه ولم ينكر عليه، وأنَّ امرأة شربت بوله -صلى الله عليه وسلم- فلم ينكر عليها. وحديث أبي طيبة ضعيف، وحديث شرب المرأة البول صحيح رواه الدارقطني, قال: وهو حديث حسن صحيح،
__________
انكشف وظهر، "أنَّ بركة أم يوسف غير بركة أم أيمن"؛ لأن أم يوسف كانت تخدم أم حبيبة، وجاءت معها من الحبشة، وأم أيمن هي مولاته -صلى الله عليه وسلم، وحاضنته، وهي بركة بنت ثعلبة بن عمرو بن حصن بن مالك بن سلمة بن عمرو بن النعمان، "وهو الذي ذهب إليه شيخ الإسلام" السراج "البلقيني"، خلافًا لدعوى ابن السكن أنَّ بركة خادمة أم حبيبة كانت تكنَّى أيضًا أم أيمن، فالقصتان لها، وخلافًا لخلط أبي عمر: خادمة أم حبيبة بأم أيمن، فأخرج في ترجمتها حديث ابن جريج عن حكيمة عن أميمة، ثم قال: أظنَّ بركة هذه أم أيمن. قال في الإصابة: وحمله على ذلك ما ذكره هو في صدر ترجمة بركة أم أيمن، أنها هاجرت الهجرتين إلى الحبشة وإلى المدينة، وفي هجرتها إلى الحبشة نظر، فإنها كانت تخدم النبي -صلى الله عليه وسلم، وزوجها مولاه زيدًا، وزيد لم يهاجر إلى الحبشة، ولا أح من خدمه -صلى الله عليه وسلم؛ إذ ذاك، فظهر أن بركة الحبشية غير أم أيمن وإن وافقتها في الاسم، ثم إن بعض المغاربة جوّز أنَّ بركة الحبشية هي بركة بنت يسار، مولاة أبي سفيان بن حرب, المهاجرة إلى الحبشة مع زوجها قيس بن عبد الله الأسدي، وليس كما ظنّ، فإن بركة بنت يسار من حلفاء بني عبد الدار، وأصلها من كندة، وليست حبشية، وإن اشتركتا في كونهما كانتا في أرض الحبشة مع المهاجرين، انتهى.
"وفي هذه الأحاديث دلالة على طهارة بوله ودمه -صلى الله عليه وسلم"؛ لأنه لم يأمر واحدًا منهم يغسل فمه، ولا نهاه عن عودة، قاله عياض. "قال النووي في شرح المهذّب: واستدل من قال بطهارتهما بالحديثين المعروفين، أن أبا طيبة الحجَّام حجمه -صلى الله عليه وسلم، وشرب دمه، ولم ينكر عليه، وأن امرأة شربت بوله -صلى الله عليه وسلم، فلم ينكر عليها"، قال عياض: وشاهد هذا أنه -صلى الله عليه وسلم- لم يكن منه شيء يكره، ولا غير طيب، "وحديث أبي طيبة ضعيف" أي: شربه الدم، وإلّا فحجامته للنبي -صلى الله عليه وسلم- في الصحيحين من حديث أنس، وجابر، وغيرهما، "وحديث شرب المرأة البول صحيح"، يعني: أم أيمن؛ لأنها التي "رواه الدارقطني" أنها شربت بوله، كما مَرَّ قريبًا، "قال: وهو حديث حسن صحيح"، نحوه قول عياض في الشفاء: حديث المرأة التي شربت بوله -صلى الله عليه وسلم- صحيح, ألزم الدارقطني مسلمًا والبخاري إخراجه في الصحيح. انتهى، لكن تعقب بأن(5/551)
كافٍ في الاحتجاج لكلّ الفضلات قياسًا، ثم قال: إن القاضي حسينًا قال بطهارة الجميع. انتهى.
وبهذا قال أبو حنيفة، كما قاله العيني.
وأبو طيبة -بفتح الطاء المهملة وسكون الياء المثناة تحت وباء موحدة- نافع الحجام, مولى محيصة -بضم الميم وفتح المهملة وتشديد المثناة تحت وكسرها- هو ابن مسعود الأنصاري.
وقال شيخ الإسلام ابن حجر: قد تكاثرت الأدلة على طهارة فضلاته -صلى الله عليه وسلم, وعدَّ الأئمة ذلك من خصوصياته. انتهى.
__________
الدارقطني، قال في علله: أنه مضطرب, جاء عن أبي مالك النخعي وهو ضعيف، وذلك "كافٍ في الاحتجاج لكل الفضلات قياسًا، ثم قال" النووي: "إن القاضي حسينًا قال بطهارة الجميع، انتهى".
أي: جميع فضلاته، وبه جزم البغوي وغيره، واختاره كثير من متأخري الشافعية، وصحَّحه السبكي، والبارزي والزركشي وابن الرفعة والبلقيني والقاياتي، قال الرملي: وهو المعتمد خلافًا لما صحَّحه الرافعي، وتبعه النووي: إن حكمهما منه كغيره، وحمل الأخبار على التداوي، وردَّ بحديث: "لن يجعل الله شفاء أمتي فيما حُرِّمَ عليها"، وحمل تنزهه -صلى الله عليه وسلم- منها على الاستحباب ومزيد النظافة، "وبهذا قال أبو حنيفة كما قاله العيني"، وقطع به ابن العربي من المالكية، وعمَّمه بعض متأخريهم في جميع الأنبياء، وفي الشفاء: قال قوم بطهارة الحدثين منه -صلى الله عليه وسلم، وهو قول بعض أصحاب الشافعي، وحكى القولين عن العلماء ابن سابق المالكي "وأبو طيبة -بفتح الطاء المهملة، وسكون الياء المثناة تحت، وباء موحدة" مفتوحة "نافع الحجام"، كما ثبت في مسند أحمد وغيره، عن محيصة بن مسعود, أنه كان له غلام حجّام، يقال له: نافع أبو طيبة, فسأل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن خراجه، فقال: إعلفه الناضح الحديث، فقول العسكري: قيل: اسمه نافع ولا يصح, ولا يعرف اسمه, ساقط، ويقال: اسمه ميسرة، وذكره البغوي عن أحمد بن عبيد بن أبي طيبة، أنه سئل عن اسم جده، فقال: ميسرة. ويقال: اسمه دينار, حكاه ابن عبد البر، ولا يصح، فقد ذكر الحاكم أبو أحمد، أنَّ دينار الحجام آخر, تابعي، وأخرج ابن منده حديث لدينار الحجّام عن أبي طيبة، ذكره في الإصابة "مولى محيصة -بضم الميم، وفتح المهملة، وتشديد المثناة تحت، وكسرها- هو ابن مسعود الأنصاري"، فإذا بهذا أنَّ أبا طيبة غير الغلام المار؛ لأنه غلام لبعض قريش، "وقال شيخ الإسلام ابن حجر" الحافظ: "قد تكاثرت الأدلة على طهارة فضلاته -صلى الله عليه وسلم، وعدَّ الأئمة ذلك من خصوصياته انتهى".(5/552)
قال بعضهم: وكان السر في ذلك ما روي من صنيع الملكين حين غسلا جوفه, والله أعلم.
وأمَّا سيرته -صلى الله عليه وسلم- في البراز، ففي حديث عائشة عند أبي عوانة في صحيحه والحاكم: ما بال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قائمًا منذ أنزل عليه القرآن.
وفي حديث عبد الرحمن بن حسنة
__________
قال الزركشي: وينبغي طرد الطهارة في فضلات سائر الأنبياء، ونازعه الجوجري في ذلك، لكن يؤيده حديث: "إن الله أمر الأرض أن تبتلع ما يخرج من الأنبياء"، من حديث "إن أجسادهم ثبتت على أرواح أهل الجنة"، "قال بعضهم: وكان السر في ذلك ما روي من صنيع الملكين حين غسلا جوفه" في المرة الأولى عند مرضعته حليمة، أو وهو ابن عشر، أو حين البلوغ، أو ليلة الإسراء، فعلى الأول يكون ذلك ثبت له من ابتداء طفوليته، "والله أعلم" بالحق في ذلك، "وأما سيرته -صلى الله عليه وسلم" أي حالته وهيئته التي كان يتلبّس بها "في البراز" بفتح الموحدة- اسم للفضاء الواسع، كنّوا به عن الحاجة كما كنّوا بالخلاء؛ لأنهم كانوا يتبرَّزون في الأمكنة الخالية من الناس، قال الخطابي: وأكثر الرواة يكسرون الباء، وهو غلط؛ لأنه مصدر بارزت الرجل مبارزة وبرازًا, إلّا معنى القضاء، وردّه النووي؛ بأنَّ الظاهر بل الصواب الكسر.
قال الجوهري وغيره من أئمة اللغة: البراز -بالكسر- ثقل الغذاء وهو الغائط، وأكثر الرواة عليه، فتعيّن المصير إليه؛ ولأن المعنى عليه ظاهر, ولا يظهر معنى الفضاء الواسع هنا إلا بكلفة, انتهى. أي: بجعله مجازًا علاقته المجاورة، أو من تسمية الحال باسم المحلّ لخروجه فيه، وذكر المصباح أن كسر الباء في الفضاء لغةً قليلة، ثم جواب أما محذوف, أشير إلى بعضه بقوله: "ففي حديث عائشة" أو هو وما بعده نفس الجواب, وهو أولى "عند أبي عوانة" الحافظ، يعقوب ابن إسحاق الأسفرايني، النيسابوري, ثقة ثبت جليل، طاف الدنيا, وعني بالحديث، مات سنة ست عشرة وثلثمائة، "في صحيحه" المخرج على مسلم، وله فيه زيادات عدة، "والحاكم" محمد بن عبد الله، الحافظ المشهور، قالت: "ما بال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قائمًا منذ أنزل عليه القرآن"، يطلق على بعضه كما يطلق على كله، فشمل أوّل ما نزل، فكأنها قالت: منذ نبئ، ولا يشكل بأنها لم تولد حينئذ؛ لجواز أنه بلغها ذلك فأخبرت به، ولا يرد ما شاهده حذيفة من بوله قائما؛ لأنه في غير البيوت، أو لبيان الجواز، ولم تشاهده عائشة، فأخبرت بما شاهدت، وكأنها قاست عليه ما لم تشاهده، وقد روى الترمذي والنسائي عنها: من حدَّثكم أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم، كان يبول قائمًا فلا تصدقوه, ما كان يبول إلا قاعدًا، ولفظ النسائي: إلا جالسًا، وحمل على من اعتقد أنه عادته، "وفي حديث عبد الرحمن بن حسنة" بفتح المهملتين، ثم نون،(5/553)
عند النسائي وابن ماجه: أنه -صلى الله عليه وسلم- بال جالسًا، فقالوا: انظروا إليه يبول كما تبول المرأة.
وحكى ابن ماجه عن بعض مشايخه أنه قال: كان من شأن العرب البول قائمًا، ويؤيده ما في حديث عبد الرحمن هذا, وفيه دلالة على أنه كان يخالفهم في ذلك, فيقعد لكونه أستر وأبعد من مماسّة البول.
وقال حذيفة: أتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سباطة قوم فبال قائمًا ثم دعا بماء فجئته بماء فتوضأ
__________
وهو ابن المطاع بن عبد الله، أخو شرحبيل بن حسنة، وهي أمهما، قال الترمذي: يقال: إنهما أخوان، وأنكره العسكري تبعًا لابن أبي خيثمة.
روى عبد الرحمن عن المصطفى، وعنه زيد بن وهب، وذكر مسلم والأزدي والحاكم؛ أنه تفرَّد بالرواية عنه، ويرد عليهم أنَّ في الطبراني الكبير حديثًا من طريق أبي طارق عنه، قاله في الإصابة "عند النسائي، وابن ماجه"، وصحّحه الدارقطني وغيره؛ "أنه -صلى الله عليه وسلم- بال جالسًا" مخالفًا لعادة العرب، "فقالوا" متعجبين: "انظروا إليه يبول كما تبول المرأة"، ولعلَّ قائليه ليسوا مسلمين؛ إذ محافظة الصحابة على فعله واقتداؤهم به معلوم، "وحكى ابن ماجه عن بعض مشايخه أنه قال: كان من شأن العرب البول قائمًا"، ألا تراه يقول في حديث عبد الرحمن بن حسنة: يبول كما تبول المرأة. هذا بقية ما حكاه ابن ماجه، كما في الفتح، فما أوهمه قوله: "ويؤيده ما في حديث عبد الرحمن هذا"، من تعجبهم من بوله جالسًا؛ أنه من عنده ليس بمراد، "وفيه دلالة على أنه" -صلى الله عليه وسلم- "كان يخالفهم في ذلك، فيقعد لكونه أستر, وأبعد من مماسّة البول"؛ إذ القيام يخشى منه إصابة القدمين ونحوهما برشاش البول.
"وقال حذيفة" بن اليمان، الصحابي ابن الصحابي: "أتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سباطة قوم"، وفي رواية: بطيحة قوم، وهي المكان الواسع، "فبال قائمًا، ثم دعاء بماء فجئته بماء فتوضأ" وفي مسلم، فتنحيت، فقال: "ادن" فدنوت حتى قمت عند عقبيه. ولأحمد: أتى سباطة قوم فتباعدت، فأدناني حتى صرت قريبًا من عقيبة، فبال قائمًا، ودعا بماء فتوضأ، ومسح على خفَّيه، وكذا زاد مسلم وغيره فيه ذكر المسح على الخفين.
"رواه البخاري"، ومسلم، وأصحاب السنن وغيرهم، وفي الصحيح أيضًا عن حذيفة: رأيتني أنا والنبي -صلى الله عليه وسلم- نتماشى، فأتى سباطة قوم خلف حائط، فقام كما يقوم أحدكم فبال، فانتبذت منه، فأشار إليّ فجئت، فقمت عند عقبيه حتى فرغ. وفيه أيضًا: كان أبو موسى الأشعري يشدد(5/554)
رواه البخاري. وفي رواية غيره: بال قائمًا ففحج رجليه، أي: فرقهما وباعد ما بينهما.
والسباطة -المهملة وبعدها موحدة- هي المزبلة والكناسة, تكون بفناء الدور مرفقًا لأهلها، وتكون في الغالب سهلة لا يرتدّ منها البول على البائل، وإضافتها إلى القوم إضافة اختصاص لا ملك؛ لأنها لا تخلو عن النجاسة. وبهذا يندفع إيراد من استشكله لكون البول يوهي الجدار ففيه إضرار، أو نقول: إنما بال فوق السباطة لا في أصل الجدار، وهو صريح في رواية أبي عوانة في صحيحه
__________
في البول، ويقول: إن بني إسرائيل كان إذا أصاب البول ثوب أحدهم قرضه، فقال حذيفة: ليته أمسك, أتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سباطة قوم، فبال قائمًا، "وفي رواية غيره: بال قائمًا ففحج"، بفاءين وحاء مهملة مفتوحات، وجيم، "رجليه، أي: فرَّقهما وباعد ما بينهما"، وهذه حالته وإن بال جالسًا، قال أبو موسى: رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يبول قاعدًا، قد جافى بين فخذيه، حتى جعلت أرثي له من طول الجلوس.
رواه الطبراني، وقال ابن عباس: عدل -صلى الله عليه وسلم- إلى الشعب، فبال حتى أني أرثي له من وركيه، رواه ابن ماجه "والسباطة" بضم السين "المهملة، وبعدها موحدة"، فألف فطاء مهملة فتاء تأنيث، "هي المزبلة" بفتح الباء، والضم لغةً, موضع الزبل، كما في المصباح "والكناسة" الواو بمعنى أو وبها عبَّر المصنّف في شرح البخاري، وحكي ابن الأثير القولين فقال: السباطة الموضع الذي يرمى فيه السراب والأوساخ وما يكنس من المنازل، وقيل: هي الكناسة نفسها, انتهى.
وجزم الجوهري، والمجد بالثاني، "تكون بفناء الدور مرفقًا لأهلها"، أي: محلًّا يرتفقون به، قال في القاموس: الرفق -بالكسر- ما استعين به، واللطف رفق به، وعليه مثلثة رفقًا ومرفقًا، كمجلس ومقعد ومنبر، ثم قال: ومرافق الدار مصاب الماء ونحوها؛ ومثله في صحاح الجوهري: وصريحهما أن اللغتين في المعنيين، وفي المصباح: المرفق ما ارتفقت به -بفتح الميم، وكسر الفاء، وعكسه لغتان، وأما مرفق الدار، كالمطبخ والكنيف ونحوه, فبكسر الميم، وفتح الفاء لا غير, على التشبيه باسم الآلة، "وتكون في الغالب سهلة لا يرتدّ منها البول على البائل"، فلذا بال عليها، "وإضافتها إلى القوم إضافة اختصاص لا ملك، لأنها لا تخلو عن النجاسة"، وهي لا تملك، "وبهذا" أي: كونها سهلة, لا يرتدّ منها البول "يندفع إيراد من استشكله لكون البول يوهي الجدار، ففيه إضرار"، وهو قد قال: "لا ضرر ولا ضرار"، ووجه الدفع: إنها لسهولتها تشرب البول الحاصل بها، فلا يصل إلى الجدار، "أو نقول" في الجواب: "إنما بال فوق السباطة" بوسطها، "لا في أصل الجدار" الذي نشأ الإشكال منه، "وهو صريح في رواية أبي عوانة في(5/555)
وقيل: يحتمل أن يكون علم إذنهم في ذلك بالتصريح أو غيره, أو لكونه مما يتسامح الناس به، أو لعلمه بإيثارهم إياه بذلك، أو لكونه يجوز له التصرّف في مال أمته دون غيره؛ لأنه أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأموالهم، وهذا وإن كان صحيح المعنى, لكن لم يعهد ذلك من سيرته ومكارم أخلاقه -صلى الله عليه وسلم.
قال الحافظ ابن حجر: وأما مخالفته -صلى الله عليه وسلم- لما عرف من عادته من الإبعاد عند قضاء الحاجة عن الطرق المسلوكة وعن أعين النظار، فقد قيل فيه: إنه -صلى الله عليه وسلم- كان مشغولًا بمصالح المسلمين، ولعلّه طال عليه المجلس حتى احتاج إلى البول, فلو أبعد لتضرَّر، واستدنى حذيفة ليستره من خلفه عن رؤية من لعله يراه، أو لعله فعله
__________
صحيحه"، فيحمل عليه؛ لأن الروايات تبيّن بعضها، "وقيل: يحتمل أن يكون علم إذنهم في ذلك بالتصريح أو غيره"، كإمارة دلّت على ذلك، "أو لكونه مما يتسامح الناس به، أو لعلمه بإيثارهم إياه بذلك، أو لكونه يجوز له التصرف في مال أمته دون غيره؛ لأنه أولى بالمؤمنين من أنفسهم", فيما دعاهم إليه، ودعتهم أنفسهم إلى خلافه "وأموالهم؛ وهذا"، أي: التعليل بجواز التصرف.
"وإن كان صحيح المعنى, لكن لم يعهد ذلك من سيرته ومكارم أخلاقه -صلى الله عليه وسلم" أي: إنه عاملهم بما يتخيل أنّ فيه أذى؛ وإن جاز له ورضوا به، "قال الحافظ ابن حجر" في الفتح أيضًا: إذ الذي قبله من أوّل قوله والسباطة فيه أيضًا، ثم قال بعد قليل جواب سؤال، تقديره: لم خالف عادته من الإبعاد، وبال على السباطة القريبة من الناس، "وأما مخالفته -صلى الله عليه وسلم- لما عرف من عادته من الإبعاد عند قضاء الحاجة، عن الطرق المسلوكة وعن أعين النظار"؛ بحيث لا يراه أحد، لما روى أبو داود وابن ماجه؛ والحاكم في علومه, عن بلال بن الحارث وغيره، كان -صلى الله عليه وسلم- إذا انطلق لحاجته تباعد حتى لا يراه أحد. وروى ابن جرير وغيره بإسناد جيد عن ابن عمر قال: كان -صلى الله عليه وسلم- يذهب لحاجته إلى المغمس. قال نافع: وهو نحو ميلين من مكة، وفي القاموس: المغمس كمعظم ومحدث، وهو مبالغة في الإبعاد واستعمال الأدب، فلا ينافي في أنَّ المستحب يحصل بما دون ميلين، "فقد قيل فيه" أي: وجه مخالفته لعادته، "إنه -صلى الله عليه وسلم- كان مشغولًا بمصالح المسلمين، ولعلّه" في الفتح فلعله -بالفاء, "طال عليه المجلس حتى احتاج إلى البول، فلوّ أبعد لتضرَّر" بحبس البول إلى وصوله للمكان البعيد، "واستدنى حذيفة" أي: طلب قربه منه، "ليستره من خلفه عن رؤية من لعله يراه" أي: يرى شخصه -صلى الله عليه وسلم- مع وجود مانع رؤية عورته، ولفظ الفتح: من لعله يمر به، وكان قدّامه مستورًا بالحائط، "أو لعله فعله"، أي: الستر "لبيان(5/556)
لبيان الجواز, ثم هو في البول, وهو أخف من الغائط لاحتياجه إلى زيادة تكشّف، والغرض من الإبعاد التستر, وهو يحصل بإرخاء الذيل والدنو من الساتر.
وروى الطبراني من حديث عصمة بن مالك قال: خرج علينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في بعض سكك المدينة, فانتهى إلى سباطة قوم فقال: "يا حذيفة, استرني" فذكر الحديث. وظهر منه الحكمة في إدنائه حذيفة في تلك الحالة.
وقيل: إنما بال قائمًا لأنها حالة يؤمن معها خروج الريح بصوت، ففعل ذلك لكونه قريبًا من الديار، ويؤيده ما رواه عبد الرزاق عن عمر -رضي الله عنه- قال: البول قائمًا أحصن للدبر.
وقيل: السبب في ذلك ما روي عن الشافعي وأحمد: إن العرب
__________
الجواز، ثم هو"، أي: الستر "في البول، وهو أخفّ من الغائط؛ لاحتياجه إلى زيادة تكشّف"، أسقط من الفتح: ولما يقترن به من الرائحة, وإسقاطه حسن؛ إذ لم يكن لغائطه رائحة كريهة، كما مَرَّ، "والغرض من الإبعاد التستر، وهو يحصل بإرخاء الذيل والدنو من الساتر" إن كان طوله ثلثي ذراع؛ وقرب منه بأن كان ما بينهما ثلاثة أذرع فأقلّ، والساتر تعرض المقعدة.
"وروى الطبراني من حديث عصمة بن مالك" الخطمي، له أحاديث أخرجها الدارقطني، والطبراني وغيرهما، مدارها على الفضل بن مختار، وهو ضعيف جدًّا، قاله في الإصابة وفي التقريب، زعم عبد الحق أن النسائي أخرج له حديثًا في السرقة، وتعقّب ذلك ابن القطان، "قال: خرج علينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في بعض سكك" أي: طرق "المدينة، فانتهى إلى سباطة قوم، فقال: "يا حذيفة استرني"، فذكر الحديث"، وهو: فدنوت حتى قمت عند عقبه، فبال قائمًا، "وظهر منه الحكمة في إدنائه حذيفة في تلك الحالة"، وهي قربه من القوم، وجلوسه في مظنّة المارة عليه؛ مع أمره له بذلك، قال في الفتح: وكان حذيفة لما وقف خلفه عند عقبه استدبره, وظهر أيضًا أن ذلك كان في الحضر، لا في السفر، ويستفاد من هذا دفع أشد المفسدتين بأخفهما، والإتيان بأعظم المصلحتين إذا لم يمكنا معًا، وبيانه أنه -صلى الله عليه وسلم- كان يطيل الجلوس لمصالح الأمة، ويكثر من زيارة أصحابه وعيادتهم، فلمَّا حصره البول وهو في بعض تلك الحالات، لم يؤخره حتى يبعد كعادته، لم يترتّب على تأخيره من الضرر، فراعى أهم الأمرين، وقدَّم المصلحة في تقريب حذيفة منه ليستره من المارة، على مصلحة تأخره عنه؛ إذ لم يمكن جمعهما، "وقيل: إنما بال قائمًا؛ لأنها حالة يؤمن معها خروج الريح بصوت، ففعل ذلك لكونه قريبًا من الديار، ويؤيده ما رواه عبد الرزاق عن عمر -رضي الله عنه- قال: البول قائمًا أحصن للدبر" من خروج الريح منه، "وقيل: السبب في ذلك ما روي عن الشافعي وأحمد: إن العرب(5/557)
كانت تستشفي لوجع الصلب بذلك, فلعله كان به. وروى الحاكم والبيهقي من حديث أبي هريرة قال: إنما بال -صلى الله عليه وسلم- قائمًا لجرح كان بمأبضه.
والمأبض -بهمزة ساكنة بعدها موحدة ثم معجمة- باطن الركبة.
فكأنه لم يتمكّن لأجله من القعود، ولو صحَّ هذا الحديث لكان فيه غنى عن جميع ما تقدّم, لكن ضعَّفه الدارقطني والبيهقي.
والأظهر: إنه فعل ذلك لبيان الجواز، وكأنَّ أكثر أحواله البول عن قعود.
وقيل: إن البول عن قيام منسوخ, واستدل عليه بحديث عائشة المتقدّم. والصواب: إنه غير منسوخ، والجواب عن حديث عائشة أنه مستند على علمها, فيحمل على ما وقع منه في البيوت، وأما غير البيوت فلم تطَّلع هي عليه،
__________
كانت تستشفي لوجع الصلب بذلك، فلعله كان به" وجع صلب -بضم، فسكون، وبضمتين- عظام الظهر، وفي القاموس: عظم من لدن الكاهل إلى العجب.
"وروى الحاكم، والبيهقي من حديث أبي هريرة، قال: إنما بال -صلى الله عليه وسلم- قائمًا لجرح كان بمأبضه، والمأبض -بهمزة ساكنة بعدها موحدة" مكسورة، "ثم" ضاد "معجمة- باطن الركبة، فكأنَّه لم يتمكّن لأجله من القعود، ولو صحَّ هذا الحديث لكان فيه غنًى عن جميع ما تقدَّم"؛ لأنه نصٌّ وما تقدَّم احتمالات، "لكن ضعَّفه الدارقطني والبيهقي، والأظهر أنه فعل ذلك لبيان الجواز، وكان أكثر أحواله البول عن قعود"، وقول ابن القيم الصحيح: إنه إنما فعله تنزيهًا وبعدًا من إصابة البول, فيه نظر، بل البول قائمًا في المكان الصلب مما ينجس القدمين بالرشاش، "وقيل: إن البول عن قيام منسوخ؛ واستدلّ عليه بحديث عائشة المتقدّم": ما بال قائمًا منذ أنزل عليه القرآن. وهذا زعمه أبو عوانة وابن شاهين، واستدلا بهذا وبحديثها أيضًا: مَنْ حدَّثكم أنه كان يبول قائمًا فلا تصدقوه، ما كان يبول قاعدًا، "والصواب أنه غير منسوخ"؛ إذ لا دليل على نسخه، "والجواب عن حديث عائشة أنه مستند إلى علمها، فيحمل على ما وقع منه في البيوت، وأما غير البيوت فلم تطَّلع هي عليه".
"وقد حفظه حذيفة، وهو من كبار الصحابة، وهو جائز من غير كراهة إذا أمن الرشاش"، وقد بينا أن ذلك كان بالمدينة، فتضمَّن الرد على ما نفته عائشة؛ من أنَّ ذلك لم يقع بعد نزول القرآن، وقد ثبت عن عمر، وعلي، وزيد بن ثابت، وغيرهم؛ أنهم بالوا قيامًا، وهو دالّ على الجواز من غير كراهة إذا أُمِنَ الرشاش، ولم يثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في النهي شيء، كما بينته في(5/558)
وقد حفظه حذيفة، وهو من كبار الصحابة، وهو جائز من غير كراهة إذا أمن الرشاش.
وكان -صلى الله عليه وسلم- إذا أراد أن يدخل الخلاء قال: "اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث". رواه البخاري من حديث أنس.
والخبث -بضم المعجمة والموحدة- ومراده: ذكران الشياطين وإناثهم.
__________
أوائل شرح الترمذي، قاله في فتح الباري، "وكان -صلى الله عليه وسلم- إذا أراد أن يدخل الخلاء"، قال ابن الحاجب وغيره: منصوب على الظرف؛ لأن دخل من الأفعال اللازمة؛ بدليل أن مصدره على فعول، وما كان كذلك فهو لازم؛ ولأنه نقيض خرج وهو لازم, فيكون هو أيضًا كذلك، واختار قوم أنه مفعول به، وعن سيبويه أنه منصوب بإسقاط الخافض، وجعله الحريري من الأفعال المتعدية تارة بنفسها، وتارة بحرف الجر.
"قال: "اللهمَّ إني أعوذ"، أي: ألوذ وألتجئ "بك من الخبث"، جمع خبيث: ذكران الشياطين، "والخبائث" إناثهم, جمع خبيثة، وخصَّ بذلك حال الخلاء؛ لأن الشياطين يحضرون الأخلية، وهي مواضع يهجر فيها ذكر الله، فقدَّم لها الاستعاذة احترازًا منهم، وقال -صلى الله عليه وسلم: "إن هذه الحشوش محتضرة، فإذا أتى أحدكم الخلاء فليقل: أعوذ بالله من الخبث والخبائث".
رواه أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، وصحّحه الحاكم، وابن حبان، عن زيد بن أرقم، ومحتضرة، أي: تحضرها الشياطين، والحشوش -بضم الحاء وشينين معجمتين- المراحيض والكنف، "رواه البخاري من حديث" آدم، عن شعبة، عن عبد العزيز، عن "أنس" بلفظ: كان إذا دخل الخلاء إلخ ... ، ثم قال: وقال غندر عن شعبة: إذا أتى الخلاء، وقال سعيد بن زيد: حدَّثنا عبد العزيز: إذا أراد أن يدخل, انتهى. فبينت هذه الرواية المراد، فإذا قتصر عليها المصنف، لكنه أوهم أن البخاري رواها مسندة, مع أنه إنما رواها تعليقًا كما رأيت، نعم وصلها في كتاب الأدب المفرد له، وهذه الروايات وإن اختلف لفظها، فمعناها متقارب، يرجع إلى معنًى واحد، هو ما صرّحت به الرواية الثالثة، وهو في الأمكنة المعدَّة لذلك بقرينة الدخول، ولذا قال ابن بطال: رواية إذا أتى أعمَّ لشمولها انتهى.
"والخبث -بضم المعجمة و" ضم "الموحدة، ومرداه: ذكران الشياطين" بالخبث جمع خبيث، "وإناثهم" بالخبائث جمع خبيثة، قاله ابن حبان، والخطابي، وزاد أن عامَّة أصحاب الحديث يقولونه، ساكن الباء، وهو غلط، والصواب: ضمها, واتفق من بعد الخطابي على أنه الغلط، منهم النووي والتوربشتي؛ لأن الخبيث إذا جمع يجوز تسكين بائه للتخفيف؛ وهذا(5/559)
وقد كان -عليه الصلاة والسلام- يستعيذ إظهارًا للعبودية، ويجهر بذلك للتعليم، وهل يختص هذا الذكر بالأبنية المعدَّة لذلك؛ لكونها حضرة الشياطين، أو يعم؟ الأصح الثاني.
ويقول ذلك قبيل الدخول في الأمكنة، وأمَّا في غيرها فيقوله في أوّل الشروع؛ كتشمير ثيابه مثلًا، وهذا مذهب الجمهور، فلو نسي يستعيذ بقلبه لا بلسانه.
__________
مستفيض، لا يسع أحدًا مخالفته، إلّا أن يزعم أن ترك التخفيف أَوْلَى، لئلّا يشتبه بالمصدر، لكن صرح جماعة من أهل المعرفة بالعربية، منهم أبو عبيدة، بأن الباء هنا ساكنة.
وقال ابن دقيق العيد: لا ينبغي أن يعد هذا غلطًا؛ لأن فعلًا -بضم الفاء والعين- تخفف عينه قياسًا، قال: ولا يتعيّن أن المراد بالخبث -بالسكون- ما لا يناسب المعنى، بل بمعناه، وهو بضمّها نعم حمله، وهو ساكن على ما لا يناسب غلط في الحمل، لا في اللفظ, انتهى.
وقد أشار البخاري إلى أنه روي بالوجهين، فقال بعدما روى الحديث: ويقال الخبث، قال الحافظ: إي بإسكان الموحدة، فإن كانت مخفَّفة عن الحركة فتقدم توجيهه، وإن كانت بمعنى المفرد فمعناه كما قال ابن الأعرابي: المكروه، فإن كان من الكلام فالشتم، ومن الملل فالكفر، ومن الطعام فالحرام، ومن الشراب فالضارّ؛ وعلى هذا, فالمراد بالخبائث المعاصي، أو مطلق الأفعال المذمومة، ليحصل التناسب، ولذا وقع في رواية الترمذي وغيره، "أعوذ بالله من الخبث والخبث والخبائث" الأوّل بإسكان مع الإفراد، والثاني بالتحريك مع الجمع، أي: من الشيء المكروه، ومن الشيء الذموم، ومن ذكر أن الشياطين وإناثهم, انتهى.
وفي المصباح: "من الخبث والخبائث" بضم الباء والإسكان- جائز على لغة تميم، قيل: ذكر أن الشياطين وإناثهم، وقيل: من الكفر والمعاصي، "وقد كان -عليه الصلاة والسلام- يستعيذ إظهارًا للعبودية"، وإلّا فهو معصوم من الشيطان كسائر الأنبياء، "ويجهر بذلك للتعليم" لغيره؛ "وهل يختص هذا الذكر بالأبنية المعدَّة لذلك؛ لكونها حضرة الشياطين"، كما ورد في حديث زيد بن أرقم، في السنن، "أو يعم"، أي: يشمل ما لو بال في إناء مثلًا في جانب البيت, "الأصحّ الثاني"، ما لم يشعر في قضاء الحاجة، "ويقول ذلك قبيل الدخول في الأمكنة، وأمَّا في غيرها فيقوله في أول الشروع؛ كتشمير ثيابه مثلًا"، وكإرادة تقديم الرجل، "وهذا مذهب الجمهور" المانعين ذكر الله في تلك الحالة, قائلين: "فلو نسي يستعيذ بقلبه لا بلسانه"، ومن يجيز مطلقًا، لا يحتاج إلى تفصيل، وقد روى المعمري -بفتح الميمين بينهما مهملة ساكنة- هذا الحديث بلفظ الأمر، قال: "إذا دخلتم الخلاء فقولوا: بسم الله، أعوذ بالله من الخبث والخبائث"،(5/560)
وعن أنس: كان -صلى الله عليه وسلم- إذا أراد الحاجة لم يرفع ثوبه حتى يدنوا من الأرض. رواه الترمذي وأبو داود والدارمي.
وعن عائشة قالت: كان -صلى الله عليه وسلم- إذا خرج من الخلاء قال: "غفرانك"، رواه الترمذي وابن ماجه.
وعن أنس: كان -صلى الله عليه وسلم- إذا خرج من الخلاء قال: "الحمد لله الذي أذهب عني الأذى
__________
قال الحافظ: وإسناده على شرط مسلم، وفيه زيادة التسمية، ولم أرها في غير هذه الرواية, انتهى.
وظاهره: تأخير التعوّذ عن البسملة، وبه صرَّح جماعة؛ لأنه ليس للقراءة، قاله النووي. "وعن أنس: كان -صلى الله عليه وسلم- إذا أراد الحاجة" أي: القعود لبول أو غائط، "لم يرفع ثوبه" عن عورته، ولفظ أبي داود: حال قيامه، أي: بل يصبر "حتى يدنو" يقرب "من الأرض"؛ فإذا دنا منها رفعه شيئًا فشيئًا، وهذا أدب مستَحَب اتفاقًا، ومحله ما لم يخف تنجس ثوبه، وإلّا رفع بقدر حاجته؛ "رواه الترمذي وأبو داود" في الطهارة "و" شيخهما "الدارمي" عبد الله بن عبد الرحمن، أبو محمد السمرقندي، الحافظ، أحد الأعلام، مات سنة خمس وخمسين ومائتين، وله خمس وسبعون سنة، ثم هذا الحديث ضعيف من جميع طرقه، كما قاله الولي العراقي، وعبد الحق وغيرهما.
"وعن عائشة قالت: كان -صلى الله عليه وسلم- إذا خرج من الخلاء"، وفي رواية: من الغائط، "قال" عقبه؛ بحيث ينسب إليه عرفًا، "غفرانك"، بالنصب, تقدير: أسألك غفرانك, الذي يليق إضافته إليك لما له من الكمال والجمال، عمَّا قصرت فيه حال الخلاء من ترك الذكر، وما هو نتيجة الإسراع إلى الطعام، وقضاء الشهوات، ولا يرد أنه مأمور بترك الذكر حينئذ، فلا حاجة إلى الاستغفار؛ لأن سببه من قبله، فأمر بالاستغفار مما تسبب فيه، أو سأل مغفرة عجزه عن شكر تلك النعمة؛ حيث أطعم، ثم هضم، ثم جلب منفعته ودفع مضرته، وسهل خروجه، فرأى شكره قاصرًا عن بلوغ هذه النعم، ففزع إلى الاستغفار، والمراد بالغفران: إزالة الذنب وإسقاطه، ويستحب قول: غفرانك, لقاضي الحاجة، سواء كان في صحراء أو بنيان؛ مرة واحدة على ظاهر الحديث، وقيل: مرتين، وقيل: ثلاثًا، "رواه الترمذي، وابن ماجه" وأبو داود، والنسائي، والإمام أحمد، والبخاري في الأدب المفرد, وعنه رواه الترمذي وصحَّحه ابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم، وابن الجارود، وغيرهم، فقول الترمذي: غريب، لا نعرفه إلا من حديث عائشة، هذا مراده: لا نعرفه من وجهٍ صحيح إلّا من حديثها, وغيره من أذكار الخروج ضعيف، فهو كقول أبي حاتم: حديث عائشة أصحّ ما في الباب، والغرابة بمعنى الفردية، فتجامع الصحة، فليس مراده نفيها، كما فهمه مغلطاي واعترضه، "وعن أنس: كان -صلى الله عليه وسلم- إذا خرج من الخلاء، قال: "الحمد لله الذي أذهب عني الأذى"، بهضمه(5/561)
وعافاني". رواه ابن ماجه.
وقال -صلى الله عليه وسلم: "إذا أتى أحدكم الغائط فلا يستقبل القبلة ولا يولها ظهره، شرقوا أو غربوا"،
__________
وتسهيل خروجه، "وعافاني" منه، أي: من احتباس ما يؤذي بدني ويضعف قوتي، ولابن أبي شيبة، والدارقطني من مرسل طاوس: إذا خرج أحدكم من الخلاء، فليقل: "الحمد لله الذي أخرج عني ما يؤذنني، وأمسك علي ما ينفعني"، وفي رواية: "الحمد لله الذي أذاقني لذته، وأبقى علي قوته، وأذهب عني أذاه"، "رواه ابن ماجه" بإسناد ضعيف، كما قاله المنذري، ومغلطاي وغيرهما، ورواه النسائي من حديث أبي ذر، وقال: مضطرب غير قوي.
وقال الدارقطني حديث محفوظ.
وروى ابن السني بسند ضعيف عن أنس: كان إذا خرج من الغائط قال: "الحمد لله الذي أحسن بي في أوله وآخره"، "وقال -صلى الله عليه وسلم: "إذا أتى" أي: جاء "أحدكم الغائط، فلا يستقبل القبلة" بكسر اللام- على النهي، وبضمها، على النفي، "ولا يولها ظهره" جزم بحذف الياء على النهي، أي: لا يجعلها مقابل ظهره، قاله المصنف والكرماني وغيرهما، وهو صريح في أنَّ الرواية جاءت في يستقبل بالوجهين، وفي يولها بالجزم فقط، لكن جزم الحافظ بكسر اللام؛ لأن لا ناهية، واللام في القبلة للعهد، أي: الكعبة, انتهى.
ولذا قال شيخنا: مجزوم، بلا الناهية، حرك بالكسر لالتقاء الساكنين، وليس خبرًا بمعنى النهي لعطف، ولا يولها, عليه مجزومًا.
قال الحافظ: زاد مسلم: "ولا يستدبرها ببول أو بغائط"، والغائط الثاني غير الأول، أطلق على الخارج من الدبر مجازًا من إطلاق اسم المحلّ على الحال كراهية لذكره بصريح اسمه، وحصل من ذلك جناس تام، والظاهر من قوله: "ببول، أو غائط" اختصاص النهي بخروج الخارج من العورة، ويكون مثاره إكرام القبلة عن المواجهة بالنجاسة، ويؤيده قوله في حديث جابر: "إذا أهرقنا الماء"، وقيل مثاره كشف العورة، وعلى هذا، فيطرد في كل حالة تكشف فيها العورة، كالوطء، وقد نقله ابن شاس المالكي قولًا في مذهبه، وكان قائله تمسك برواية الموطأ: "لا تستقبلوا القبلة بفروجكم"، ولكنها محمولة على قضاء الحاجة جمعًا بين الروايتين، "شرقوا، أو غربوا"، أي: خذوا في ناحية المشرق، أو المغرب؛ وفيه التفات من الغيبة إلى الخطاب، وهو لأهل المدينة، ومن كانت قبلتهم على سمتهم، أمَّا من قبلتهم إلى المشرق أو المغرب، فينحرف إلى جهة الجنوب أو الشمال، قال الحافظ ولي الدين: ضبطناه في سنن أبي داود: وغربو -بلا ألف، وفي بقية الكتب الستة بإثبات الألف، ونقله النووي عن بعض نسخ أبي داود، وكذا رأيته في(5/562)
رواه البخاري من حديث أبي أيوب الأنصاري.
وهذا في الصحراء، أما في البنيان فلا، لما روي عن ابن عمر: ارتقيت فوق بيت حفصة لبعض حاجتي، فرأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقضي حاجته مستدبر القبلة مستقبل الشام. رواه الشيخان.
__________
مختصر السنن للمنذري بإثباتها، ولعله من الناسخ، وكلاهما صحيح.
"رواه البخاري" ومسلم، وأصحاب السنن "من حديث أبي أيوب" خالد بن زيد بن كليب "الأنصاري"، البدري، من كبار الصحابة، "وهذا" النهي محله "في الصحراء، أمَّا في البنيان فلا" يمنع الاستقبال، "لما روى" في التعبير به شيء؛ إذ هو فيما شك فيه، وهذا في الصحيحين، "عن ابن عمر" قال: "ارتقيت"، أي: صعدت "فوق بيت"، وفي رواية: فوق ظهر بيت "حفصة"، زاد مسلم: أختي، ولابن خزيمة: دخلت على حفصة بنت عمر، فصعدت ظهر البيت، وأضافه إليها؛ باعتبار أنه البيت الذي أسكنها فيه النبي -صلى الله عليه وسلم، وبقي في يدها إلى أن ماتت، فورث عنها، وفي رواية: على ظهر بيت لنا، وأخرى: على ظهر بيتنا، وإضافته إليه مجازًا؛ لأنها أخته، أو باعتبار ما آل إليه الحال؛ لأنه ورث حفصة دون أخوته؛ لأنها شقيقته، ولم تترك من يحجبه عن الاستيعاب، "لبعض حاجتي"، أي: لأمر اقتضى رقيه، ولم يبينه لعدم الاحتياج إليه في بيان المقصود هنا.
"فرأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم" حال كونه "يقضي حاجته"، وحال كونه "مستدبر القبلة، مستقبل الشام"، وفي رواية: بيت المقدس، والمعنى واحد؛ لأنهما في جهة واحدة، وسقط في رواية: مستدبر القبلة؛ لأن ذلك من لازم من مستقبل الشام بالمدينة، وذكرت في هذه الرواية للتأكيد والتصريح به، ثم لا يرد أن شرط الحال كونها نكرة، ومستدبر مضاف، فتعرف بالإضافة؛ لأنها لفظية, وهي لا تفيد التعريف، ولم يقصد ابن عمر الإشراف على النبي -صلى الله عليه وسلم- في تلك الحالة، وإنما صعد السطح لضرورة، فحانت منه التفاتة، كما في رواية البيهقي، فلمَّا رآه بلا قصد أحب أن لا يخليها من فائدة، بحفظ هذا الحكم الشرعي، وكأنَّه إنما رآه من جهة ظهره، حتى ساغ له تأمل الكيفية المذكورة، من غير محذور، ودلَّ ذلك على شدة حرصه على تتبُّع أحواله -صلى الله عليه وسلم- ليتبعها، وكذا كان -رضي الله عنه، "رواه الشيخان", إن ناسًا يقولون: إذا قعدت على حاجتك فلا تستقبل القبلة ولا بيت المقدس، فقال ابن عمر: ارتقيت، فذكره، وادَّعى الخطابي الإجماع على عدم تحريم استقبال بيت المقدس لمن استدبر في استقباله الكعبة, وفيه نظر، فقد قال قوم، منهم: النخعي، وابن سيرين، بالتحريم عملًا بحديث معقل الأسدي، قال: نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن نستقبل القبلتين ببول أو غائط. رواه أبو داود وغيره، وهو حديث ضعيف؛ لأن فيه راويًا(5/563)
وأما حديث جابر عند أحمد وأبي داود وابن خزيمة، ولفظه عند أحمد: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ينهانا أن نستدبر القبلة أو نستقبلها بفروجنا إذا أهرقنا الماء. قال جابر: ثم رأيته قبل موته بعام مستقبل القبلة، فقال في فتح الباري:
الحقّ أنه ليس بناسخ لحديث النهي خلافًا لمن زعمه، بل هو محمول على أنه رآه في بناءٍ أو نحوه؛ لأن ذلك هو المعهود من حاله -صلى الله عليه وسلم- لمبالغته في التستر. ودعوى خصوصية ذلك بالنبي -صلى الله عليه وسلم- لا دليل عليها؛ إذ الخصائص لا تثبت بالاحتمال.
ومذهب الجمهور وهو مذهب مالك والشافعي وإسحاق: التفريق بين البنيان والصحراء، وهذا أعدل الأقوال؛ لإعمال جميع الأدلة.
وقال قوم بالتحريم مطلقًا، وهو المشهور عن أبي حنيفة وأحمد،
__________
مجهول الحال، وعلى تقدير صحته، فالمراد بذلك أهل المدينة؛ ومَنْ على سمتها؛ لأن استقبالهم بيت المقدس يستلزم استدبارهم الكعبة، فالعلة استدبار الكعبة لا استبدبار بيت المقدس، قاله الحافظ.
"وأمَّا حديث جابر عند أحمد، وأبي داود، وابن خزيمة" وغيرهم، "ولفظه عند أحمد: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ينهانا أن نستدبر القبلة" أي: الكعبة، "أو نستقبلها بفروجنا، إذا أهرقنا الماء، قال جابر: ثم رأيته قبل موته بعام مستقبل القبلة، فقال في فتح الباري": في شرح حديث أبي أيوب: "الحق أنه ليس بناسخٍ لحديث النهي، خلافًا لمن زعمه"؛ إذ لا دليل على النسخ، ومجرَّد رؤيته يفعل خلاف النهي لا يدل عليه، وكان زاعمه قصد به دفع المعارضة، ولذا أضرب، فقال: "بل" الجمع بينهما ممكن، بلا دعوى نسخ؛ إذ "هو محمول على أنه رآه في بناء أو نحوه؛ لأن ذلك هو المعهود من حاله -صلى الله عليه وسلم، لمبالغته في الستر"؛ ورؤية ابن عمر له كانت عن غير قصد، وكذا رؤية جابر، هكذا في الفتح قبل قوله: "ودعوى خصوصية ذلك" أي: استقبال القبلة حال البول "بالنبي -صلى الله عليه وسلم، لا دليل عليها؛ إذ الخصائص لا تثبت بالاحتمال"، بل بالنص الصريح، وقد أمكن الجمع بدون دعوى الخصوصية، "ومذهب الجمهور وهو مذهب مالك؛ والشافعي، وإسحاق" بن راهويه، أحد الأئمة الذين دوّنت مذاهبهم: "التفريق بين البنيان"، فيجوز لحديث ابن عمر الصريح في جواز الاستدبار, وحديث جابر الدال على جواز الاستقبال، "و" بين "الصحراء"، فيمنع لحديث أبي أيوب، "وهذا أعدل الأقوال؛ لإعماله جميع الأدلة" بخلاف غيره، ففيه إلغاء أحدها، وقد تقرَّر عند الفقاء والمحدثين والأصوليين؛ أنه متى أمكن الجمع بين الدليلين جمع، "وقال قوم بالتحريم مطلقًا" في صحراء أو بنيان، "وهو المشهور عن أبي(5/564)
ورجَّحه من المالكية ابن العربي, وحجتهم أن النهي مقدَّم على الإباحة، ولم يصححوا حديث جابر المتقدّم.
وقال قوم بالجواز مطلقًا، وهو قول عائشة وعروة بن الزبير وربيعة، محتجين بأن الأحاديث تعارضت, فلنرجع إلى أصل الإباحة.
وفي البخاري عن أنس, كان -صلى الله عليه وسلم- إذا خرج لحاجته أجيء أنا وغلام،
__________
حنيفة، وأحمد"، وقال به أبو نور صاحب الشافعي، "ورجّحه من المالكية ابن العربي"، ومن الظاهرية ابن حزم، "وحجّتهم أن النهي" في حديث أبي أيوب "مقدَّم على الإباحة" التي دل عليها حديث ابن عمر، "ولم يصحّحوا حديث جابر المتقدم" الصريح في النهي، ولكن قد صححه ابن خزيمة وابن حبان.
"وقال قوم بالجواز مطلقًا، وهو قول عائشة، وعروة بن الزبير، وربيعة" بن أبي عبد الرحمن، وداود، "محتجّين بأن الأحاديث تعارضت، فلنرجع إلى أصل الإباحة"، ويردّ عليهم: إن محل ذلك ما لم يمكن الجمع، وقال قوم بجواز الاستدبار دون الاستقبال، حُكِيَ عن أبي حنيفة وأحمد, وتمسَّكوا بحديث ابن عمر، فخصَّصوا به عموم حديث أبي أيوب، ولم يصحّحوا حديث جابر، ولم يلحقوا الاستقبال بالاستدبار قياسًا؛ لأنه لا يصح، وقيل بجواز الاستدبار في البنيان فقط؛ لحديث ابن عمر، وهو قول أبي يوسف، وقيل بعموم التحريم حتى القبلة المنسوخة، وقيل: يختص التحريم بأهل المدينة ومَنْ على سمتها، أما مَنْ قبلته المشرق أو المغرب، فيجوز له الاستدبار والاستقبال مطلقًا؛ لعموم وله: "شرقوا أو غربوا"، "وفي البخاري، عن أنس, كان -صلى الله عليه وسلم- إذا خرج" من بيته، أو من بين الناس "لحاجته"، أي: البول أو الغائط، ولفظ: كان, يشعر بالتكرار والاستمرار، "أجيء أنا وغلام"، زاد في رواية للبخاري منّا، أي: من الأنصار؛ وبه صرَّح الإسماعيلي، ولمسلم: نحوي، أي: مقارب لي في السن، والغلام هو المترعرع، قاله أبو عبيد، وفي المحكم: من لدن الفطام إلى سبع سنين، وفي الأساس: الغلام الصغير إلى حد الالتحاء، فإن قيل له بعده غلام فمجاز، قيل: الغلام ابن مسعود؛ لقول أبي الدرداء، لعلقمة بن قيس: أليس فيكم صاحب النعلين والطهور والوساد -يعني: ابن مسعود- الحديث في الصحيح، فيكون أنس سماه غلامًا مجازًا، ويكون معنى قوله: منا، أي: من الصحابة، أو من خدمه -صلى الله عليه وسلم؛ وقوله في رواية الإسماعيلي: من الأنصار؛ لعلها من تصرُّف الراوي، رأى في الرواية منا، فحملها على القبيلة، فرواها بالمعنى، أو لأنَّ إطلاق الأنصار على جميع الصحابة سائغ، وإن خصه العرف بالأوس والخزرج؛ لكن يبعده رواية مسلم: غلام نحوي، فوصفه بالصغر، ويحتمل أنه أبو هريرة، فعنه, كان النبي -صلى الله عليه وسلم، إذا أتى الخلاء أتيته بماء في ركوة فاستنجى؛ ويؤيّد ما رواه البخاري في ذكر(5/565)
ومعنا إداوة من ماء -يعني: يستنجي به. وفي رواية مسلم عنه: فخرج علينا وقد استنجى بالماء.
وعن أبي هريرة قال: اتبعت النبي -صلى الله عليه وسلم, وخرج لحاجته, فقال: "ابغني أحجارًا أستنفض بها
__________
الجن عن أبي هريرة، أنَّه كان يحمل مع النبي -صلى الله عليه وسلم- الإداوة لوضوئه وحاجته، ويكون المراد بقول أنس: نحوي، أي: في الحال، لقرب عهده بالإسلام, ويحتمل أنه جابر؛ ففي مسلم أنه -صلى الله عليه وسلم- انطلق لحاجته, فاتبعه جابر بإداوة، ولا سيما وجابر أنصاري، ووقع للإسماعيلي في روايته: فاتبعته وأنا غلام -بتقديم الواو- فتكون حالية، لكن تعقَّبها الإسماعيلي بأن الصحيح: أنا وغلام بواو العطف، "ومعنا إداوة" بكسر الهمزة- إناء صغير من جلد مملوءة "من ماء"، وورد أنَّ إذا للاستقبال وخرج للمضي، فلا يصح هنا؛ إذ الخروج قد وقع؛ وأجيب بأنَّ إذا هنا لمجرد الظرفية، فالمعنى: تبعته حين خرج، أو هو حكايةً للحال الماضية، "يعني: يستنجي به".
زعم الأصيلي أنَّ قائل ذلك هشام بن عبد الملك، شيخ البخاري، فيه، وقد رواه بعده عن شيخه سليمان بن حرب، فقال: يستنجي بالماء، ورواه عن محمد بن جعفر بلفظ: إذ تبرز لحاجته أتيته بماء فيغسل به، "وفي رواية مسلم، عنه" أنس "فخرج" النبي -صلى الله عليه وسلم "علينا، وقد استنجي بالماء"، وللإسماعيلي: فأنطلق أنا وغلام من الأنصار معنا إداوة فيها ماء يستنجي منها النبي -صلى الله عليه وسلم، قال الحافظ: فبان بهذه الروايات أن حكاية الاستنجاء من قول أنس، لا من قول هشام، كما ادَّعى الأصيلي، وأنه يحتمل أن الماء لوضوئه، فقد انتفى هذا الاحتمال بهذه الروايات، وهي تَرُدّ أيضًا زعم أبي عبد الملك البوني: إن قوله: يستنجي بالماء، مدرج من قول عطاء، راويه عن أنس، "وعن أبي هريرة قال: اتبعت النبي" بتشديد المثناة، أي: سرت وراءه "صلى الله عليه وسلم, و" قد "خرج لحاجته"، جملة وقعت حالًا، فلابُدَّ فيها من قد ظاهرة أو مقدرة، قاله المصنف. فظاهره أن لفظ: قد, لم يقع في رواية، فما في نسخ هنا من زيادتها لا يعتمد، وأسقط الراوية: كان لا يلتفت وراءه، فدنوت منه. زاد الإسماعيلي: أستأنس وأتنحنح، فقال: "من هذا"؟ فقلت: أبو هريرة، "فقال: "ابغني" بهمزة وصل ثلاثي، أي: اطلب لي، يقال: بغيتك الشيء، أي: طلبته لك، وبهمزة قطع إذا كان من المزيد، أي: أعني على الطلب، يقال: أبغيك الشيء، أي: أعنتك على طلبه؛ وهما روايتان.
قال الحافظ: والوصل أليق بالسياق، ويؤيده رواية الإسماعيلي: "آتني"، وفي رواية: أبغ لي -بهمزة قطع، ولام بعد المعجمة بدل النون، "أحجارًا" مفعول ثان، لأبغني، أو آتني من آتاه بالمد أعطاه، والمعنى هنا ناولني أحجارًا "استنفض بها" بفاء مكسورة وضاد معجمة، مجزوم(5/566)
ولا تأتني بعظم ولا روث"، فأتيته بأحجار بطرف ثيابي فوضعتها إلى جنبه, فلما قضى حاجته أتبعه بهنَّ.
__________
جواب الأمر، ويجوز الرفع على الاستنئاف، قال القزاز: استفعل من النفض، وهو أن يهزَّ الشيء ليطير غبره، قال: وهذا موضع أستنظف، أي: بتقديم الظاء المشالة على الفاء، ولكن كذا روي، ورَدَّه الحافظ؛ بأن الرواية صواب، ففي القاموس استنفضه: استخرجه، وبالحجر استنجى، وهو مأخوذ من كلام الطرزي، قال: الاستنفاض الاستخراج؛ ويكنَّى به عن الاستنجاء، ومن رواه بالقاف، والصاد المهملة، فقد صحَّف، وللإسماعيلي بدل استنفض استنجى، وكأنَّها المراد بقوله في رواية البخاري، أو نحوه، ويكون التردد من بعض رواته انتهى.
وأو نحوه بالنصب مفعول، قال: أي: قال نحو هذا اللفظ، فلا يرد أنّ قال إنما تنصب الجمل ونحوه مفردًا؛ لأنه وإن كان مفردًا لكنه في معنى الجملة، كقلت قصيدة، "ولا تأتني" بالجزم، بحذف الياء على النهي، للكشميهني بإثبات الياء على النفي.
وفي رواية: لا تأتي "بعظم ولا روث"؛ لأنهما مطعومان للجن، كما في البخاري، وفي المبعث أن أبا هريرة، قال للنبي -صلى الله عليه وسلم, لما أن فرغ, ما بال العظم والروث، قال: "هما من طعام الجن"، فظاهر هذا التعليل اختصاص المنع بهما، نعم يلحق بهما جميع مطعومات الآدميين بالأَوْلَى، وكذا المحترمات، كأوراق كتب العلم, وكأنه -صلى الله عليه وسلم- خشي أن يفهم أبو هريرة له من قوله استنجى، أنّ كل ما يزيل الأثر كافٍ، ولا اختصاص لذلك بالأحجار، فنبهه باقتصاره في النهي على العظم والروث، أنَّ ما سواهما يجزئ، ولو اختص ذلك بالأحجار، كما يقول بعض الحنابلة والظاهرية: لم يكن لتخصيص هذين بالنهي معنًى، وإنما خص الأحجار بالذكر لكثرة وجودها، ومن قال: علة النهي عن الروث نجاسته, ألحق به كل نجس ومتنجس، وعن العظم كونه لزجًا، لا يزيل إزالة تامّة، الحق به كل ما في معناه، كالزجاج الأملس، ويؤيده ما رواه الدارقطني، وصحّحه عن أبي هريرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى أن نستنجي بروث، أو عظم، وقال: "أنهما لا يطهران"، "فأتيته بأحجار بطرف"، أي: في طرف "ثيابي، فوضعتها إلى جنبه"، أسقط من رواية البخاري، وأعرضت عنه, كذا في أكثر الروايات، وللكشميهني: واعترضت -بزيادة مثناة بعد العين، والمعنى متقارب، "فلمَّا قضى حاجته أتبعه" بهمزة قطع، أي: ألحقه "بهنّ"، أي: أتبع المحل بالأحجار، وكنَّى بذلك عن الاستنجاء، وقضيته أنه لم يتبعها بالماء، ولا يخالفه قول عائشة: ما رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خرج من غائط الأمس ماء. رواه ابن ماجه.
وفي رواية له أيضًا، عنها: كان يغسل مقعدته ثلاثًا؛ لأنه إخبار عمَّا رأته، فلا ينافي رؤية غيرها الاقتصار على الأحجار، ويحتمل أنه استنجى بالماء بعد الأحجار، قال الحافظ: وفي(5/567)
وعن عبد الله بن مسعود قال: أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- الغائط فأمرني أن آتيه بثلاثة أحجار، فوجدت حجرين والتمست الثالث فلم أجده, فأخذت روثة فأتيته بها، فأخذ الحجرين وألقى الروثة وقال: "هذا ركس". رواه البخاري.
وفي حديث سلمان عند مسلم مرفوعًا: "لا يستنج أحدكم بأقل من ثلاثة
__________
الحديث جواز اتباع السادات، وإن لم يأمروا بذلك، واستخدام الإمام بعض رعيته، والإعراض عن قاضي الحاجة، والإعانة على إحضار ما يستنجي، وإعداده عنده، كي لا يحتاج إلى طلبه بعد الفراغ، فلا يأمن التلويث، "وعن عبد الله بن مسعود قال: أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- الغائط"، أي: الأرض المطمئنة لقضاء الحاجة، فالمراد به معناه اللغوي، "فأمرني أن آتيته بثلاثة أحجار، فوجدت"، أي: أصبت "حجرين، والتمست"، أي: طلبت الحجر "الثالث، فلم أجده"، بالضمير المنصوب، أي: الحجر الثالث، وفي رواية: بحذف الضمير، "فأخذت روثة" زاد في رواية ابن خزيمة: وكانت روثة حمار، ونقل التيمي أن الروث مختص بما يكون من الخيل والبغال والحمير؛ "فأتيته بها, فأخذ الحجرين، وألقى الروثة، وقال: "هذا ركس" بكسر الراء، وإسكان الكاف- قيل لغة في رجس -بالجيم، ويدل عليه رواية ابن ماجه، وابن خزيمة -بالجيم, ويؤيده أيضًا رواية الترمذي: "هذا ركس" يعني: نجسًا، وقيل: الرجس: الرجع، رد من حالة الطهارة إلى حالة النجاسة، قاله الخطابي وغيره، والأَوْلَى أن يقال: رد من حالة الطعام إلى حالة الروث.
قال ابن بطال: لم أجد هذا الحرف في اللغة، يعني: الركس -بالكاف، وتعقَّبه أبو عبد الملك بأن معناه الردّ، كما قال تعالى: {أُرْكِسُوا فِيهَا} [النساء: 91] ، أي: ردوا، فكأنه قال: هذا رد عليك، انتهى.
ولو ثبت ما قاله، لكان بفتح الراء، يقال: أركسه ركسًا إذ ردَّه، وأغرب النسائي فقال عقب هذا الحديث: الركس طعام الجن، وهذا إن ثبت لغة، فهو يزيح الإشكال، قاله الحافظ، وذكر اسم الإشارة الراجع للروثة؛ باعتبار تذكير الخبر كقوله تعالى: {هَذَا رَبِّي} [الأنعام: 76، 77] ، وفي رواية: هذه ركس على الأصل، ووجه إتيانه بالروثة مع أمره بالأحجار: أنه قاسها على الحجر بجامع الجمود، فقطع -صلى الله عليه وسلم- قياسه بالفرق، أو بإبداء المانع بقوله: "هذا ركس"، وإن كان قياسه لضرورة عدم المنصوص عليه؛ "رواه"، أي: المذكور من حديثي أبي هريرة، وابن مسعود "البخاري" في الطهارة وغيرها، ويقع في كثير من نسخ المصنف سقوط: وقال: "هذا ركس" , في بعضها ثبوتها، وهو أحسن؛ إذ هي في البخاري، "وفي حديث سليمان" الفارسي، "عند مسلم مرفوعًا"، بمعنى، قال -صلى الله عليه وسلم: "لا يستنج أحدكم بأقل من ثلاثة أحجار"؛ فنهيه وافق أمره لابن(5/568)
أحجار.
وقد أخذ الشافعي وأحمد وأصحاب الحديث بهذا، فاشترطوا أن لا ينقص عن الثلاثة, مع مراعاة الإنقاء, وإذا لم يحصل بها فتزاد حتى تنقى. ويستحبّ حينئذ الإيتار؛ لقوله -عليه والصلاة والسلام: "من استجمر فليوتر". وليس بواجب لزيادة في أبي داود حسنة الإسناد، قال: "ومن لا فلا حرج"، قال الخطابي: لو كان القصد الإنقاء فقط لخلا اشتراط العدد عن الفائدة، فلمَّا اشترط العدد لفظًا وعلم الإنقاء فيه معنًى, دلَّ على إيجاب الأمرين. ونظيره: العدة بالأقراء، فإن العدد مشترط ولو تحققت براءة الرحم بقرء واحد. وقال الطحاوي: لو كان العدد مشترطًا لطلب -عليه الصلاة والسلام- حجرًا ثالثًا. وغفل -رحمه الله- عمَّا أخرجه في مسنده من طريق معمر
__________
مسعود، أن يأتيه بثلاثة، "وقد أخذ الشافعي وأحمد، وأصحاب الحديث بهذا" المذكور من النهي والأمر، "فاشترطوا أن لا ينقص عن الثلاثة، مع مراعاة الإنقاء, وإذا لم يحصل بها فتزاد حتى تنقى، ويستحبّ حينئذ الإيتار؛ لقوله -عليه الصلاة والسلام: "من استجمر فليوتر"، فالأمر للندب، "وليس بواجب لزيادة في أبي داود" وابن ماجه "حسنة الإسناد"، وصحَّحه ابن حبان، "قال" عقب قوله: "فليوتر, من فعل فقد أحسن، ومن لا فلا حرج" عليه في عدم الإيتار، وبهذا أخذ مالك، وأبو حنيفة؛ وداود، ومن وافقهم في أن الإيتار مستحب فقط، لا شرط، ولا يخالفه حديث سلمان في النهي، لحمله على الكمال، وكذا أمره لابن مسعود، لا لأنه شرط كما زعم المخالف لتصريحه في هذه الرواية: بأن الأمر ليس للوجوب، وبه حصل الجمع بين الأدلة، وحمله على الزائد على الثلاث أن لم تنق تحكم.
"قال الخطابي" منتصرًا لمذهب: "لو كان القصد الإنقاء فقط لخلا اشتراط العدد عن الفائدة"، وفيه أنه لم يخل عنها؛ إذ المستحب فائدة، "فلمَّا اشترط العدد لفظًا، وعلم الإنقاء فيه معنًى, دل على إيجاب الأمرين" العدد والإنقاء؛ فإن حصل بالثلاث والأزيد "ونظيره العدة بالأقراء، فإن العدد مشترط، ولو تحققت براءة لرحم بقرء واحد"، وهذا ممنوع، وسنده أنَّ في العدة ضربًا من التعبّد، "وقال الطحاوي" تأييدًا لمذهبه: "لو كان العدد مشترطًا لطلب -عليه الصلاة والسلام- حجرًا ثالثًا، وغفل رحمه الله" مع كونه من كبار الحفاظ، "عمَّا أخرجه أحمد في مسنده من طريق معمر" ابن راشد الأزدي، مولاهم البصري، نزيل اليمن، ثقة ثبت, من رجال الجميع، مات سنة أربع وخمسين ومائة، وهو ابن ثمان وخمسين سنة، عن أبي إسحاق، عمرو بن(5/569)
عن ابن مسعود في هذا الحديث، فإن فيه: فألقى الروثة وقال: "إنها ركس ائتني بحجر"، ورجاله ثقات أثبات. واستدلال الطحاوي فيه نظر؛ لاحتمال أن يكون اكتفى بطرف أحدهما عن الثالث؛ لأن المقصود بالثلاثة: أن يمسح بها ثلاثة مسحات، وذلك حاصل ولو بواحد. انتهى ملخصًا من فتح الباري.
__________
عبد الله السبيعي، عن علقمة؛ "عن ابن مسعود"، فسقط من المصنف راويان عند أحمد، مذكوران في الفتح، وهو من التلخيص المخلّ؛ إذ معمر لم يدرك ابن مسعود "في هذا الحديث، فإن فيه: فألقى الروثة، وقال: "إنها ركس ائتني بحجر"؛ وفي رواية: "ائتني بغيرها"، "ورجاله ثقات إثبات" روى لهم الشيخان زاد الحافظ: وقد تابع معمرًا عليه أبو شيبة الواسطي، وهو ضعيف، أخرجه الدارقطني، وتابعهما عمَّار بن زريق أحد الثقات؛ عن أبي إسحاق، وقد قيل: إن أبا إسحاق لم يسمع من علقمة، لكن أثبت سماعه منه لهذا الكرابيسي، وعلى تقدير أنه أرسله عنه، فالمرسل حجّة عند المخالفين، وعندنا أيضًا إذا اعتضد.
"واستدلال الطحاوي" على تقدير أنه لم يأخذ إلّا الحجرين، "فيه نظر؛ لاحتمال أن يكون اكتفى" بالأمر الأول، في طلب الثلاثة, فلم يجدد الأمر بطلب الثالث، كما في الفتح قائلًا: أو اكتفى "بطرف أحدهما عن الثالث؛ لأن المقصود بالثلاثة أن يمسح بها ثلاث مسحات، وذلك حاصل ولو بواحد" والدليل على صحته، أنَّه لو مسح بطرف واحد ورماه، ثم جاء آخر فمسح بطرفه الآخر؛ لأجزأهما بلا خلاف "انتهى. ملخصًا من فتح الباري" وزاد وقال أبو الحسن بن القصار المالكي: روي أنه أتاه بثالث, لكن لا يصح، ولو صحَّ فالاستدلال به لمن لا يشترط الثلاثة قائم؛ لأنه اقتصر في الموضعين على ثلاثة, فحصل لك منهما أقلّ من الثلاثة، وفيه نظر أيضًا؛ لأن الزيادة ثابتة كما قدمنا؛ وكأنه إنما وقف على الطريق التي عند الدارقطني فقط، ثم يحتمل أنه لم يخرج منه شيء إلّا من سبيل واحد، وعلى تقدير أنه خرج منهما, فيحتمل أنه اكتفى للقبل بالمسح في الأرض وللدبر بالثلاث؛ أو مسح من كلّ منهما بطرفين، وأمَّا استدلالهم على عدم اشتراط العدد بالقياس على مسح الرأس، ففاسد الاعتبار؛ لأنه في مقابلة النص الصريح، كما تقدَّم من حديث أبي هريرة وسلمان, انتهى.
ولا فساد لحمل النص على الكمال والله أعلم.(5/570)
الفهرس:
3 مكاتبة عليه الصلاة والسلام إلى الملوك وغيرهم
62 رسله -صلى الله عليه وسلم
70 الفصل السابع: في مؤذنيه وخطبائه وحدائه وشعرائه
85 الفصل الثامن: في الآت حروبه عليه الصلاة والسلام؛ كدروعه وأقواسه ومنطقته وأتراسه
93 تكميل
97 الفصل التاسع: في ذكر خيله ولقاحه ودوابه
113 الفصل العاشر: في ذكر من وفد عليه -صلى الله عليه وسلم- وزاده فضلًا وشرفًا لديه
114 الوفد الأول: وفد هوازن
120 الوفد الثاني: وفد ثقيف
129 الوفد الثالث: وفد بني عامر
133 الوفد الرابع: وفد عبد القيس
146 الوفد الخامس: وفد بني حنيفة
157 الوفد السادس: وفد طيء
160 الوفد السابع: وفد كنده
163 الوفد الثامن: وفد الأشعريين
169 الوفد التاسع: قدوم صرد بن عبد الله الأزدي
171 الوفد العاشر: بني الحارث بن كعب
173 الوفد الحادي عشر: وفد همدان
178 الوفد الثاني عشر: وفد مزينة
179 الوفد الثالث عشر: وفد دوس
186 الوفد الرابع عشر: وفد نصارى نجران
191 الوفد الخامس عشر: فروة بن عمرو الجذامي
192 الوفد السادس عشر: قدوم ضمام بن ثعلبة
199 الوفد السابع عشر: وفد طارق بن عبد الله وقومه
202 الوفد الثامن عشر: وفد تجيب
204 الوفد التاسع عشر: وفد بني سعد هذيم(5/571)
206 الوفد العشرون: وفد بني فزارة
211 الوفد الحادي والعشرون: وفد بني أسد
213 الوفد الثاني والعشرون: وفد بهراء
215 الوفد الثالث والعشرون: وفد عذرة
216 الوفد الرابع والعشرون: وفد بلي
217 الوفد الخامس والعشرون: وفد بني مرة
218 الوفد السادس والعشرون: وفد خولان
219 الوفد السابع والعشرون: وفد محارب
220 الوفد الثامن والعشرون: وفد صداء
223 الوفد التاسع والعشرون: وفد عسان
223 الوفد الثلاثون: وفد سليمان
224 الوفد الحادي والثلاثون: وفد بني عبس
225 الوفد الثاني والثلاثون: وفد غامد
226 الوفد الثالث والثلاثون: وفد الأزد
230 الوفع الرابع والثلاثون: وفد بني المنتفق
233 الوفد الخامس والثلاثون: وفد النخع
238 المقصد الثالث: فيما فضله الله تعالى به
238 الفصل الأول: في كمال خلقته وجمال صورته -صلى الله عليه وسلم(5/572)
المجلد السادس
تابع المقصد الثالث: فيما فضله الله تعالى
الفصل الثاني: فيما أكرمه الله تعالى به من الأخلاق الزكيِّة وشرَّفه به من الأوصاف المرضية
...
بسم الله الرحمن الرحيم
تابع المقصد الثالث: فيما فضله الله تعالى
الفصل الثاني: فيما أكرمه الله تعالى به من الأخلاق الزكيِّة وشرَّفه به من الأوصاف المرضية
اعلم أن الأخلاق جمع خلق -بضم الخاء واللام ويجوز إسكانها.
قال الراغب: الخلق والخُلق -بالفتح وبالضم- في الأصل بمعنى واحد، كالشَرب والشُرب, لكن خص الخلق الذي بالفتح بالهيئات والصور المدركة بالبصر، وخُصَّ الخلق الذي بالضم بالقوى والسجايا المدركة بالبصيرة. انتهى.
وقد اختلف: هل حسن الخلق غريزة أو مكتسب؟
وتمسك من قال بأنه غريزة بحديث....
__________
الفصل الثاني: فيما أكرمه الله تعالى به من الأخلاق الزكية
"الفصل الثاني": من المقصد الثالث "فيما أكرمه الله تعالى به من الأخلاق الزكية" الصالحة النامية، وجمع الأخلاق باعتبار الثمرات الناشئة عن الخلق من الأوصاف الحميدة، كبشاشة واحتمال أذى وعدم المجازاة بالسيئة، فلا يرد أن كونه جبلة في الإنسان يقتضي اتحاده أو بناء على تعدده؛ كما صار إليه كثير "وشرفه به من الأوصاف المرضية،" بمعنى الأخلاق الزكية على أن المراد بها الثمرات.
"اعلم أن الأخلاق جمع خلق -بضم الخاء واللام ويجوز إسكانها" تخفيفًا, فالضم الأصل, لكن سوَّى بينهما في النهاية "قال الراغب: الخلق والخلق بالفتح" للأول، "وبالضم" للثاني "في الأصل، بمعنى واحد كالشرب" بالفتح "والشرب" بالضم"، "لكن خصَّ" في الاستعمال وإن أطلق بالاشتراك على كلٍّ منهما؛ "الخلق الذي بالفتح بالهيئات والصور المدركة بالبصر، وخص الخلق الذي بالضم بالقوى والسجايا المدرجة بالبصيرة انتهى".
وفي النهاية: الخلق -بضم اللام وسكونها- الدين والطبع والسجية, وحقيقته أنه لصورة الإنسان الباطنة، وهي نفسه وأوصافه ومعانيها المختصة بها، بمنزلة الخلق لصورته الظاهرة وأوصافها ومعانيها؛ ولها أوصاف حسنة وقبيحة، والثواب والعقاب يتعلقان بأوصاف الصورة الباطنة، أكثر مما يتعلقان بأوصاف الصورة الظاهرة، "وقد اختلف هل حسن الخلق غريزة" بمعجمة فراء فتحتية فزاي منقوطة. أي: طبيعة؛ ", أو مكتسب، وتمسَّك من قال بأنه غريزة بحديث(6/3)
ابن مسعود: إن الله قسم بينكم أخلاقكم كما قسم أرزاقكم. الحديث رواه البخاري.
وقال القرطبي: الخلق جبلة في نوع الإنسان, وهم في ذلك متفاوتون، فمن غلب عليه شيء منها كان محمودًا, وإلّا فهو المأموم بالمجاهدة فيه حتى يصير محمودًا، وكذلك إن كان ضعيفًا فيرتاض صاحبه حتى يقوى.
وقد وقع في حديث الأشجّ..................
__________
ابن مسعود" عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الله قسم بينكم أخلاقكم" فأعطى بعضًا خلقًا حسنًا، وبعضًا خلقًا سيئًا، وفاوت في مراتبهما؛ "كما قسم" بينكم "أرزاقكم" فوسَّع على بعض، وضيِّقَ على بعض "الحديث رواه البخاري في الأدب المفرد كما عزاه له جمع، منهم المصنف على البخاري, خلافًا لما يوهمه إطلاقه هنا، أنه رواه في الصحيح, "وقال القرطبي: الخلق جبله" -بكسر الجيم والباء وشد اللام. طبيعة، وخلقة وغريزة وسجية، بمعنى واحد كما في المصباح، "في نوع الإنسان" أي أفراد النوع, " وهم في ذلك متفاوتون" إذ النوع حقيقة واحدة لا تكثر فيها ولا تعدد، واختلافهم فيها باعتبار أن منهم من جبلت طبيعته على محبَّة الأفعال الحسنة، ومنهم من طبيعته على خلاف ذلك.
وإليه أشار بقوله: "فمن غلب عليه شيء" حسن لاختلافها حسنًا وغيره؛ "منها" أي: من الصفات التي هي ثمرات الجبلة الموصوفة، بالحسن "كان محمودًا", ولا يرد عليه أن الجبلة شيء واحد فلا يتَّصف بغلبة ولا دونها، لما قلنا المراد بها الصفات لا نفس الطبيعة، "وإلّا" يغلب عليه شيء بأن غلبت عليه صفات الذم, أو استوى فيها الأمران, "فهو المأمور" بالأحاديث الدالة على طلب تحسين الخلق, وذلك "بالمجاهدة فيه، حتى يصير محمودًا" فيمكن اكتساب حسن الخلق، "وكذلك إن كان" الخلق "ضعيفًا فيرتاض صاحبه" أي: يسعى في تذليله؛ بتعويده الصفات الحميدة شيئً فشيئًا "حتى يقوى" يعني: أن الحسن مقول بالتشكيك، فمن غلب عليه الحسن الكامل لا يحتاج إلى علاج، ومن غلب عليه صفات الذم احتاج إلى علاج قوي؛ ومن كان فيه أصل الحسن احتاج إلى رياضة ليحصل له قوة في الصفة التي تلبس بها، هكذا أملاني شيخنا -رحمه الله، "وقد وقع في حديث الأشج" بمعجمة وجيم. سمي به لأثر كان في وجهه، واسمه المنذر بن عائذ -بمعجمة فتحتية فمعجمة. على الصحيح المشهور؛ الذي قاله ابن عبد البر: والأكثر وقيل اسمه المنذر بن الحرث بن زياد بن عصر -بفتح العين والصاد المهملتين ثم راء. ابن عوف، وقيل المنذر بن عامر, وقيل: ابن عبيد, وقيل: اسمه عائذ بن المنذر، وقيل: عبد الله بن(6/4)
أنه -صلى الله عليه وسلم- قال له: إن فيك لخصلتين يحبهما الله: "الحلم والأناة"، قال: يا رسول الله قديمًا كان فيَّ أو حديثًا؟ قال: "قديمًا"، قال: الحمد لله الذي جبلني على خِلَّتين يحبهما الله. رواه أحمد والنسائي وصحَّحَه ابن حبان.
فترديد السؤال وتقريره عليه يشعر بأن في الخلق ما هو جبلي وما هو مكتسب, وقد كان -صلى الله عليه وسلم- يقول: "اللهم كما حسَّنت خَلْقِي فحَسِّن خُلُقِي".......
__________
عوف. "أنه -صلى الله عليه وسلم- قال له: "إن فيك خصلتين" تثنية خصلة، وفي رواية لخلِّتين وهما بمعنى "يحبهما الله".
زاد في رواية ورسوله "الحلم" العقل أو تأخير مكافأة الظالم أو العفو عنه، أو غير ذلك "والأناة" بالقصر بزنة فتاة: التثبت وعدم العجلة، وذلك إن وفد عبد القيس بادروا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- بثياب سفرهم, وأقام الأشج في رحالهم، فجمعها وعقل ناقته, ولبس أحسن ثيابه, ثم أقبل إلى النبي، فقر به -صلى الله عليه وسلم- وأجلسه إلى جانبه, وقال: "تبايعون على أنفسكم وقومكم"؟ فقال القوم: نعم. فقال الأشج: يا رسول الله! إنك لن تزاول الرجل على شيء أشد عليه من دينه، نبايعك على أنفسنا ونرسل من يدعوهم، فمن اتبعنا كان منا، ون أبَى قاتلناه. قال: "صدقت, إن فيك" إلخ.
قال عياض: فالأناة: تربصه حتى نظر في مصالحه ولم يعجل، والحلم: هذا القول الذي قاله، الدال على صحة عقله، وجودة نظره للعواقب، "قال: يا رسول الله, قديمًا كان" المذكور من الخصلتين، هكذا في نسخ بالأفراد، ومثلها بخط الشامي، وفي بعضها كانا بالتثنية، لكن المناسب كانتا "فِيَّ، أو حديثًا، قال: قديمًا. قال: الحمد لله الذي جبلني على خلتين" تثنية خلة، وهي الخصلة، كما في النسخ الصحيحة، وخط الشامي، وهو موافق لقول المصطفى، خلتين لفظًا ومعنًى، وعلى رواية الخصلتين، يكون عدل عن لفظه إلى معناه قرارًا من توارد الألفاظ، وأن بين مخاطبين، فما في نسخ على خلقين لا يناسب قوله خصلتين، إلّا بحملهما على غير معنى الخلق. "يحبهما الله" زاد في رواية ورسوله "رواه أحمد، والنسائي، وصححه ابن حبان", وهو في مسلم، والترمذي من حديث ابن عباس, وتقدَّمت القصة مبسوطة في الوفود. "فترديد السؤال، وتقريره عليه" بقوله: قديمًا، "يشعر بأن في الخلق ما هو جبلي، وما هو مكتسب"؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- أقرَّه على سؤاله، وأجابه بقوله: قديمًا. قال ابن حجر وغيره: وهذا هو الحق، قال شيخنا: وهو جميع بين القولين لا ثالث، "وقد كان -صلى الله عليه وسلم" إذا نظر في المرآة "يقول: "اللهم كما حسَّنت" وفي رواية أحسنت، "خَلْقِي" بالفتح "فحسِّن خُلُقِي" بالضم، لأقوى على أثقال الخلق، وأتحقق بتحقق العبودية، والرضا بالعدل ومشاهدة الربوبية، قال الطيبي: يحتمل أن(6/5)
أخرجه أحمد وصححه ابن حبان، وعند مسلم في حديث دعاه الافتتاح: واهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت.
ولما اجتمع فيه -صلى الله عليه وسلم- من صفات الكمال ما لا يحيط به جدولًا يحصره عد، أثنى الله تعالى عليه في كتابه الكريم فقال: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4] ، وكلمة "على" للاستعلاء, فدلَّ اللفظ على أنه مستعلٍ على هذه الأخلاق ومستولٍ عليها.
والخلق: ملكة نفسانية يسهل على المتَّصِف بها الإتيان بالأفعال الجميلة
__________
يريد طلب الكمال، وإتمام النعمة عليه، بإكمال دينه، وأن يكون طلب المزيد والثبات على ما كان "أخرجه أحمد، وصححه ابن حبان" من حديث عبد الله بن مسعود، ورواته ثقات.
قال شيخنا: ففيه دليل على أن حسن الخلق قد يتجدَّد ويحصل، بعد أن لم يكن، وقال غيره: تمسك به من قال: حسن الخلق غريزي لا مكتسب. والمختار أن أصول الأخلاق غرائز، والتفاوت في الثمرات، وهو الذي به التكليف، "وعند مسلم في حديث: دعاء الافتتاح، واهدني لأحسن الأخلاق، لا يهدي لأحسنها إلا أنت" وهو يدل أيضًا على أنها قد تكتسب، "ولما اجتمع فيه -صلى الله عليه وسلم- من صفات الكمال ما لا يحيط به جدولًا، يحصره عدَّ أثنى الله تعالى عليه في كتابه الكريم، فقال مقسمًا: {نْ وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ، مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ، وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ، "وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4] الآية" لتحمُّلك من قومك ما لا يتحمَّله أمثالك، وقالت عائشة: ما كان أحد أحسن خلقًا من رسول الله -صلى الله عليه وسلم، ما دعاه أحد من أصحابه، ولا من أهل بيته إلّا قال: "لبيك"، فلذلك، أنزل الله تعالى {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم/ 4] الآية، رواه ابن مردويه، وأبو نعيم بسند واهٍ، "وكلمة على للاستعلاء، فدلَّ اللفظ على أنه مستعلٍ على هذه الأخلاق ومستول عليها" أي: متمكِّن من الجري على مقتضاها، ببذل المعروف، واحتمال الأذى، وعدم الانتقام، فأشبه في تمكُّنه من ذلك المستعلي على الشيء المستقر عليه, فهو استعارة تبعية لجريانها في الحرف، "والخلق ملكة نفسانية، يسهل على المتَّصف بها الإتيان بالأفعال الجميلة" كأنَّ هذا تعريف للخلق الحسن، المرضي شرعًا وعرفًا، فلا يشكل بأن الخلق قد يكون حسنًا، وقد يكون قبيحًا، ولذا جاء ذم الخلق في أحاديث كثيرة، ولذا اعترض عليه بأن هذا التعريف ليس بصواب؛ إذ الناشئ عن الجبلَّة يكون جميلًا تارة، وقبيحًا أخرى، وما ذكره إنما هو تعريف للخلق الحسن لا لمطلق الخلق، فكأنه لم يقف على قول الراغب حد الخلق حال للإنسان، داعية إلى الفعل من غير فكر ولا روية، ولا قول(6/6)
وقد وصف الله تعالى نبيه بما يرجع إلى قوته العلمية بأنه عظيم, فقال: {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} [النساء: 113] ووصفه بما يرجع إلى قوته العملية بأنه عظيم، فقال: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} . فدل مجموع هاتين الآيتين على أن روحه فيما بين الأرواح البشرية عظيمة عالية الدرجة، كأنها لقوتها وشدةكمالها من جنس أرواح الملائكة.
قال الحليمي: وإنما وصف خلقه بالعِظَم، مع أنَّ الغالب وصف الخلق بالكرم؛ لأن كرم الخلق يراد به السماحة والدماثة، ولم يكن خلقه -صلى الله عليه وسلم- مقصورًا على ذلك، بل كان رحيمًا بالمؤمنين، رفيقًا بهم، شديدًا على الكفار، غليظا عليهم، مهيبًا.........................
__________
الغزالي: هيئة للنفس تصدر عنها الأفعال بسهولة، من غير احتياج إلى فكر ورويِّة، فإن صدر عن الهيئة أفعال جميلة محمودة عقلًا وشرعًا سُمِّيَت خلقًا حسنًا، وإن صدر عنها أفعال قبيحة سُمِّيَت خلقًا سيئًا، وأجيب بأنه لم يدع حصر ما ينشأ عنها في الجميل، ورده شيخنا بأن حق التعريف أن يكون جامعًا مانعًا، والاعترا بالنظر، لهذا قال: والأحسن في الجواب؛ أنه قد يراد بالتعاريف تعريف بعض الأنواع، لتميزه عن غيره بصفة, حتى صار كأنه حقيقة في ذلك الشيء، وتنزيل غيره منزلة العدم، وهو هنا الخلق الحسن؛ إذ غيره لا اعتبار به.
"وقد وصف الله تعالى نبيه بما" أي: بكمال "يرجع إلى قوته العلمية، بأنه" أي: ذلك الكمال "عظيم" والمعنى وصفه بكمال عظيم يرجع إلى قوته العلمية، "فقال: {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ} [النساء: 113] الآية" من الأحكام والغيب، "وكان فضل الله" بذلك وبغيره "عليك عظيمًا"؛ إذ لا فضل أعظم من النبوة، "ووصفه بما يرجع إلى قوته العملية بأنه عظيم، فقال: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4] الآية، فدلَّ مجموع هاتين الآيتين على أنَّ روحه فيما بين الأرواح البشرية عظيمة عالية الدرجة، كأنها لقوتها وشدة كمالها من جنس أرواح الملائكة"؛ إذ أعطاهم الله قوة في العمل لا تصل إليها البشر، وفي العلم ما يصلون به إلى معرفة حقائق الأمور في اللوح المحفوظ، أو الإلهام والعلم الضروري بمعرفة الأمور على ما هي به في الواقع، وكذلك كان -صلى الله عليه وسلم. "قال الحليمي: وإنما وصف خلقه بالعِظَم، مع أنّ الغالب وصف الخلق بالكرم؛ لأن كرم الخلق يراد به السماحة والدماثة" -بدال مهملة مفتوحة، ومثلثة- السهولة واللين، كما في النهاية وغيرها، وهو عطف مباين؛ إذ السماحة كثرة العطاء، والدماثة أعمّ، "ولم يكن خلقه -صلى الله عليه وسلم- مقصورًا على ذلك" المذكور من السماحة والدماثة، "بل كان رحيمًا بالمؤمنين، رفيقًا بهم، شديدًا قويًّا على الكفار، غليظًا عليهم مهيبًا" بزنة مبيع، اسم مفعول(6/7)
في صدور الأعداء، منصورًا بالرعب منهم على مسيرة شهر، فكان وصفه بالعِظَم أولى ليشمل الإنعام والانتقام.
وقال الجنيد: وإنما كان خلقه -صلى الله عليه وسلم- عظيمًا؛ لأنه لم يكن له همة سوى الله تعالى.
وقيل: لأنه -عليه الصلاة والسلام- عاشر الخلق بخلقه، وباينهم بقلبه.
وقيل: لاجتماع مكارم الأخلاق فيه، قال -عليه الصلاة والسلام- فيما رواه الطبراني في الأوسط بسند فيه عمر بن إبراهيم المقدسي -وهو ضعيف- عن جابر بن عبد الله: إن.......
__________
من هاب "في صدور الأعداء، منصورًا بالرعب منهم" حال من الأعداء "على مسيرة شهر"، كما ورد في الحديث، لأنه لم يكن بينه وبين أعدائه حينئذ أكثر من شهر من كل جهة، "فكان وصفه بالعِظَم" دون الكرم "أولى؛ ليشمل الإنعام والانتقام".
"وقال الجنيد"، أبو القاسم بن محمد, النهاوندي الأصل، البغدادي المنشأ، القواريري الزجاج، نسبة لحرفة أبيه، سيد الطائفة، مرجع أهل السلوك، تفقه على أبي ثور، وكان يفتي بحضرته وهو ابن عشرين سنة، ورزق من القبول وصواب القول ما لم يقع لغيره، كان إذا مرَّ ببغدد وقف الناس له صفوفًا، وكانت الكتبة تحضر مجلسه لألفاظه، والفقهاء لتقريره، والفلاسفة لدقة نظره، والمتكلمون لتحقيقه، والصوفية لإشارته وحقائقه، مات ببغداد سنة تسع أو ثمان وتسعين ومائتين، وحزر من صلى عليه، فكانوا نحو ستين ألفًا. "وإنما كان خلقه -صلى الله عليه وسلم- عظيمًا؛ لأنه لم يكن له همة سوى الله تعالى" أي: سوى الاشتغال بامتثال أمره ونهيه، وتعظيمه, بالإقبال بجملته على عبادته، فلا يقبل على غيره طرفة عين. "وقيل: لأنه -عليه الصلاة والسلام- عاشر الخَلْقَ بخُلُقه" فكان يتكلم معهم في أمور دنياهم، من مزيد تلطفه بهم، وإن اقتضى الحال المزاح مازحهم، ولا يقول إلّا حقًّا كما قال زيد بن ثابت: كنت جار النبي -صلى الله عليه وسلم، وكنا إذ ذكرنا الدنيا ذكرها معنا، وإذا ذكرنا الآخرة ذكرها معنا، وإذا ذكرنا الطعام ذكره معنا. رواه البيهقي.
"وباينهم بقلبه"؛ إذ هو مقبل على الله، منزه عمَّا يشغل سرّه عنه، متبتل إليه بشراشره، "وقيل: لاجتماع مكارم الأخلاق فيه، قال -عليه الصلاة والسلام- فيما رواه الطبراني في الأوسط" على الصواب، وعزاه الديلمي لأحمد عن معاذ، وما رأيته فيه، إنما فيه حديث أبي هريرة الآتي, أفاده السخاوي "بسند فيه عمر بن إبراهيم المقدسي -وهو ضعيف- عن جابر بن(6/8)
الله بعثني بتمام مكارم الأخلاق وكمال محاسن الأفعال. وفي رواية مالك في الموطأ بلاغًا: "بعثت لأتمم مكارم الأخلاق".
فجميع الأخلاق الحميدة كلها كانت فيه -صلى الله عليه وسلم، فإنه أُدِّب بالقرآن، كما قالت عائشة -رضي الله عنها: كان خلقه القرآن.
قال بعض العارفين: وقد علم أن القرآن فيه المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلا الله, والراسخون في العلم يقولون آمنا به، أي: أقررناه في نصابه,..............................................
__________
عبد الله "إن الله بعثني بتمام مكارم الأخلاق، وكمال محاسن الأفعال" ولكنَّه، وإن كان ضعيفا رواية، فله شواهد، كما أفاده بقوله: "وفي رواية مالك في الموطأ بلاغًا" أي: أنه قال: بلغني أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "بعثت لأتمم مكارم الأخلاق" والبلاغ، وإن كان من أقسام الضعيف، إلّا أن بلاغات الإمام ليست منه؛ لأنها تتبعت كلها، فوجدت صحيحة أو حسنة، ولذا قال ابن عبد البر: على الموطأ: هو متَّصل من وجوه صحاحٍ عن أبي هريرة وغيره، منها ما أخرجه أحمد والخرائطي، برجال الصحيح عن أبي هريرة، رفعه بلفظ صالح، وأخرجه البزار من هذا الوجه، بلفظ الموطأ، وفي رواية "لأتمم حسن الأخلاق"، وحسن الخلق: اختيار الفضائل وترك الرذائل.
"فجميع الأخلاق الحميدة كلها كانت فيه -صلى الله عليه وسلم، فإنه أُدِّب بالقرآن، كما قالت عائشة -رضي الله عنها- فيما رواه مسلم وغيره: "كان خلقه القرآن" يغضب لغضبه، ويرضى لرضاه، ابن الأثير: أي كان متمسكا بآدابه وأوامره ونواهيه، وما يشتمل عليه من المكارم والمحاسن. وقال البيضاوي: أي جميع ما حصل في القرآن، فإن كل ما استحصنه، وأثنى عليه، ودعا إليه قد تحلَّى به، وكل ما استهجنه، ونهى عنه, تجنبه وتخلَّى عنه، فكان القرآن بيان خلقه، وفي الديباج معناه العمل به، والوقوف عند حدوده، والتأدُّب بآدابه، والاعتبار بأمثاله وقصصه, وتدبره وحسن تلاوته. انتهى.
وهي متقاربة، ثم هذا الحديث أخرجه الإمام أحمد، ومسلم، وأبو داود، عنها بهذا اللفظ، وزيادة يغضب لغضبه، ويرضى لرضاه، ورواه ابن أبي شيبة وغيره، أن عائشة سُئِلَت عن خلقه -صلى الله عليه وسلم- فقالت: كان أحسن الناس خلقًا، كان خلقه القرآن؛ يرضى لرضاه، ويغضب لغضبه، لم يكن فاحشًا ولا متفحشًا، ولا صخَّابا في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح، ثم قالت: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون: 1] الآية، إلى العشر، فقرأ السائل، فقالت: هكذا كان خلقه -صلى الله عليه وسلم. "قال بعض العارفين: وقد عُلِمَ أن القرآن فيه المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلّا الله، والراسخون في العلم" مبتدأ خبره، "يقولون آمنَّا به، أي: أقررناه في نصابه" أي: أصله،(6/9)
وأقررنا به من خلف حجابه، وتقلدنا سيف الحجة به ولكن في قرابه:
وما كونه مما تحصل مقلة ... ولا حده مما تحس الأنامل
وقال صاحب عوارف المعارف: ولا يبعد أن قول عائشة -رضي الله عنها: كان خلقه القرآن. فيه رمز غامض، وإيماء إلى الأخلاق الربانية، فاحتشمت الحضرة الإلهية أن تقول: كان متخلقًا بأخلاق الله تعالى, فعبَّرت عن المعنى بقولها: كان خلقه القرآن استحياءً من سبحات الجلال وسترًا للحال بلطيف المقال، وهذا من وفور عقلها وكمال أدبها، انتهى.
__________
بحيث لا نتكلم فيه بشيء، "وأقررنا:" اعترفنا "به من خلف حجابه" لعدم قدرتنا على كشفه، والمراد بالحجاب: ما يمنع حمل المتشابه على ظاهره، كاستحالة إطلاقه على الله، يعني: آمنا به مع اعترافنا بإشكاله علينا، "وتلقدنا سيف الحجة به ولكن في قرابه" أي: احتججنا به مع عدم العلم بالمراد منه:
وما كونه مما تحصل مقلة ... ولا حده مما تحس الأنامل
يعني: إنه لا يُدْرَكُ معناه لشدة خفائه؛ بحيث أشبه من الموجودات ما لا يدرَك بالبصر، لدقته وخفائه، ولا تدرك صفته بمس الأنامل لذلك أيضًا. "وقال صاحب عوارف المعارف" العارف، العلامة عمر شهاب الدين بن محمد بن عمر السهروردي -بضم المهملة، وسكون الهاء، وضم الراء، وفتح الواو، وسكون الراء الثانية، ودل مهملة- نسبةً إلى سهرورد بلد عند زنجان. الإمام الورع، الزهد الفقيه الشافعي، ولد سنة تسع وثلاثين وخمسمائة، وأخذ عن الكيلاني وغيره، وسمع الحديث من جماعة، وقرأ الفقه والخلاف، ثم لازم الخلوة والصوم والذكر، ثم تكلَّم على الناس لما أسنَّ، ووصل إلى الله به خلق كثير، وتاب على يديه كثير من العصاة، وكُفَّ، وأقعدَ، وما أخلَّ بذكر ولا حضور، جمع ولازم الحج، فكانت محفَّته تحمل على الأعناق من العراق إلى البيت الحرام، ومات ببغداد مستهَلّ محرم، سنة اثنتين وثلاثين وستمائة، "ولا يبعد أن قول عائشة -رضي الله عنها: كان خلقه القرآن، فيه رمز غامض" خفي "وإيماء" إشارة إلى الأخلاق الربانية، فاحتشمت" استحيت "الحضرة الإلهية، أن تقول: كان متخلقًا بأخلاق الله تعالى، فعبَّرت عن المعنى بقولها: كان خلقه القرآن، استحياء من سبحات" بضم السين "الجلال" إضافة بيانية، قال المصباح: السبحات التي في الحديث جلال الله وعظمته ونوره وبهائه، "وسترًا للحال بلطيف المقال، وهذا من وفور عقلها، وكمال أدبها، انتهى".(6/10)
فكما أن معاني القرآن لا تتناهى, فكذلك أوصافه الجميلة الدالة على خلقه العظيم لا تتناهى؛ إذ في كل حالة من أحواله يتجدَّد له من مكارم الأخلاق ومحاسن الشيم, وما يفيضه الله تعالى عليه من معارفه وعلومه ما لا يعلمه إلا الله تعالى. فإذًا التعرُّض لحصر جزئيات أخلاقه الحميدة تعرّض لما ليس من مقدور الإنسان، ولا من ممكنات عاداته.
قال الحرالي -وهو كما في القاموس -بتشديد اللام، نسبة إلى قبيلة بالبربر، واسمه: علي بن أحمد بن الحسين، ذو التصانيف المشهورة: ولما كان عرفان قلبه -عليه الصلاة والسلام- بربه -عز وجل-كما قال: بربي عرفت كل شيء، كانت أخلاقه أعظم خلق، فكذلك بعثه الله إلى الناس كلهم، ولم يقصر رسالته على الإنس حتى عمَّت الجن، ولم يقصرها على الثقلين حتى عمَّت جميع العالمين. فكل من كان الله ربه فمحمد رسوله، فكما أنَّ الربوبية نعم العالمين, فالخلق المحمدي يشمل جميع العالمين. انتهى.
__________
فكما أن معاني القرآن لا تتناهى، فكذلك أوصافه الجميلة، الدالة على خلقه العظيم لا تتناهى؛ إذ في كل حالة من أحواله يتجدد له من مكارم الأخلاق، ومحاسن الشيم" جمع شيمة -مثل سدرة وسِدَر- الغريزة، والطبيعة، والجبلة، وهي التي خلق الإنسان عليها، قاله المصباح، "وما يفيضه الله تعالى عليه من معارفه وعلومه ما لا يعلمه إلا الله تعالى، فأذن التعرض لحصر جزئيات أخلاقه الحميدة، تعرّض لما ليس من مقدور الإنسان، ولا من ممكنات عاداته، قال الحرالي، وهو كما في القاموس" في فصل الحاء المهملة من باب اللام، "بتشديد اللام، نسبة إلى قبيلة بالبربر، واسمه على" لفظ القامّوس حر، آلة مشددة اللام، بلد بالمغرب، أو قبيلة بالبربر، منه الحسن بن علي، "بن أحمد بن الحسن" الحر، إلى "ذو التصانيف المشهورة، ولما كان عرفان قلبه -عليه الصلاة والسلا- بربه -عز وجل- كما قال: "بربي عرفت كل شيء"، كانت أخلاقه أعظم خلق، فلذلك بعثه الله إلى الناس كلهم، ولم يقصر رسالته على الأنس، حتى عمت الجن" إجماعًا، "ولم يقصرها على الثقلين" الإنس والجن، "حتى عمَّت جميع العالمين" على ظاهر قوله تعالى: {لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان: 1] الآية، وقوله -صلى الله عليه وسلم: "وبعثت إلى الخلق كافَّة" رواه مسلم.
"فكل من كان الله ربه فمحمد رسوله، فكما أن الربوبية تعم العالمين، فالخلق المحمدي يشمل جميع العالمين، انتهى".(6/11)
وهذا مصير منه إلى أنه -صلى الله عليه وسلم- قد أرسل إلى الملائكة أيضًا، وسيأتي الكلام على ذلك مستوفى -إن شاء الله تعالى وهو المستعان.
وكان -صلى الله عليه وسلم- مجبولًا على الأخلاق الكريمة في أصل خلقته الزكية النقية، لم يحصل له ذلك برياضة نفس، بل بجود إلهي، ولهذا لم تزل تشرق أنوار المعارف في قلبه حتى وصل إلى الغاية القصوى والمقام الأسنى.
وأصل هذه الخصال الحميدة والمواهب المجيدة كمالُ العقل؛ لأن به تقتبس الفضائل وتجتنب الرذائل،.............................................
__________
وهذا مصير منه إلى أنه -صلى الله عليه وسلم- قد أرسل إلى الملائكة أيضًا" كما اختاره كثيرون، بل قوله، فكل من كان الله إلخ ... " يفيد أنه مرسل لسائر الحيوانات والجمادات، فإن الكل مربوب له تعالى، ويصدق عليه قوله: فمحمد رسوله؛ إذ معناه مرسل إليه، "وسيأتي الكلام على ذلك مستوفى إن شاء الله تعالى" في الخصائص، "وهو المستعان", ولما قدم أن الخلق غريزي ومكتسب، استشعر سؤال سائل عن خلق المصطفى، من أيهما، فاستأنف قاصدًا زيادة الإيضاح، وإن قدَّم ما يفيده قوله: "وكان -صلى الله عليه وسلم- مجبولًا" مطبوعًا "على الأخلاق الكريمة" الحميدة، صفة مخصصة لما عُلِمَ أنها حميدة، وضدها، ووصفها بالكريمة؛ لأنه الغالب، ولذا احتيج للجواب عن الآية، كما مرَّ "في أصل خلقته الزكية النقية"، فلا يحتاج إلى الاكتسابات المتكلفة لتحسين الخلق، ولا ينافيه طلبه تحسين خلقه؛ لأن القصد به إظهار العبودية، وتعليم الأمة، وطلب الزيادة؛ لأن الكمال يقبل الكمال "لم يحصل له ذلك برياضة" أي: تذليل وتعويد "نفس" ما فيه ليت وسهولة.
وهذه صفة كاشفة لقوله مجبولًا، "بل بجود إلهي، ولهذا" أي: كونها لم تحصل برياضة، "لم تزل تشرق" تضيء, أي: تزداد كمال "أنوار المعارف" أي: العلوم والإضافة حقيقة بحمل المعارف على العلوم، والأنوار على مآثرها، أو بيانية، أي: أنوار هي المعارف أي: العلوم، "في قلبه حتى وصل إلى الغاية" أي: المرتبة، وتكون عليا وسفلى، فلذا وصفها بقوله: "القصوى" فلا يرد أن الغاية النهاية، ولا تنقسم، فلا يصح الوصف، "والمقام الأسنى" الأرفع من كل مقام، عطف تفسير للإشارة إلى بلوغه في ذا الكمال أعلى رتبة، "وأصل هذه الخصال الحميدة، والمواهب" جمع موهبة -بكسر الهاء: العطية بلا عوض، وكان المراد من عطفها على الخصال؛ أنها حصلت بلا كسب ولا تعب، "المجيدة" أي: العزيزة الشريفة، "كمال العقل؛ لأن به" لا بغيره "تقتبس" تؤخذ، أي: تكتسب "الفضائل" فقدم به على العامل ليفيد الاختصاص،(6/12)
فالعقل لسان الروح وترجمان البصيرة، والبصيرة للروح بمثابة القلب، والعقل بمثابة اللسان. قال بعضهم: لكل شيء جوهر، وجوهر الإنسان العقل، وجوهر العقل الصبر.
وأما ما روي: إن الله لما خلق العقل قال له: أقبل فأقبل، ثم قال له: أدبر فأدبر، فقال: وعزتي وجلالي ما خلقت خلقًا أشرف منك، فبك آخذ وبك أعطي. قال ابن تيمية وتبعه غيره: إنه كذب موضوع باتفاق. انتهى.
وفي زوائد عبد الله بن الإمام أحمد على..........................................
__________
"و" كذلك به "تجتنب الرذائل"، الأمور الردية، جمع رذيلة ضد الفضيلة، "فالعقل لسان الروح"، أي: إنه لها بمنزلة اللسان للإنسان، والروح عند أهل السنة: النفس الناطقة المستعدة للبيان وفهم الخطاب، ولا تفنى بفناء الجسد، فكما أنَّ الإنسان الذي لا لسان له أصلًا لا يمكنه التكلُّم بشيء، فكذلك من لا عقل له لا يحسن شيئًا من أنواع التصرُّفات التي يريد فعلها أو تركها، ومن له عقل تمكَّن من بيان مراده، وأمكنه التأمُّل فيما يريد فعله، فيختار الحسن، ويدع القبيح.
"وترجمان البصيرة، والبصيرة للروح بمثابة القلب" فصلاح الروح بصلاح البصيرة، كما أن صلاح الجسد بصلاح القلب، كما في الحديث، "والعقل بمثابة اللسان" للروح، وصلاحها وفسادها بصلاح البصيرة، التي هي لها كالقلب، فاللسان مترجم في الحقيقة عمَّا في القلب؛ لأن إصلاح الروح وفسادها تابع للبصيرة، "قال بعضهم: لكل شيء جوهر" أي: أصل جُبِلَ عليه، "وجوهر الإنسان" الذي طُبِعَ عليه "العقل، وجوهر" أصل, "العل" الذي يتمكَّن معه من امتثال الأمر واجتناب النهي, "الصبر" على المكاره، فيخالف نفسه لما فيه صلاح يوافق الشرع، بفعل الأمر، وترك النهي، كما أشير إليه بحديث "حُفَّت الجنة بالمكاره"، ولما استدلَّ على كمال العقل بأمور عقلية، استشعر قول سائل لم لا تستدل بالحديث، فأجابه بالإشارة إلى أنه لا حجة فيه، فقال: "وأما ما روي أنَّ الله لما خلق العقل قال له: أقبل، فأقبل، ثم قال له: أدبر، فأدبر، فقال: وعزتي وجلالي ما خلقت خلقًا أشرف منك، فبك" أي: بسببك "آخذ" من جنى، "وبك أعطي" من اتَّقى؛ لأنَّك سبب للطاعة والعصيان، وإنك أشرف ما يكتسب بك الخير والشر، "فقال ابن تيمية" العلامة، الإمام، الحافظ، الناقد، الفقيه الحنبلي، أحمد أبو العباس، تقي الدين بن عبد الحليم بن مجد الدين عبد السلام بن عبد الله الحراني، أحد الأعلام الأذكياء الزهَّاد، ألَّف ثلثمائة مجلد، مات سنة ثمان وعشرين وسبعمائة، ووُلِدَ سنة إحدى وستين وستمائة، "وتبعه غيره" كالزركشي، "أنه كذب موضوع باتفاق. انتهى".
ولكن فيه نظر؛ لأن له أصلًا صالحًا، "في زوائد عبد الله بن الإمام أحمد على" كتاب(6/13)
"الزهد" لأبيه, عن علي بن مسلم, عن سيار بن حاتم -وهو ممن ضعَّفه غير واحد, وكان جمَّاعًا للرقائق، وقال القواريري: إنه لم يكن له عقل. قال: حدثنا جعفر بن سليمان الضبعي قال: حدثنا مالك بن دينار عن الحسن البصري، مرسلًا: لما خلق الله العقل قال له: أقبل فأقبل، ثم قال له: أدبر فأدبر, فقال: ما خلقت خلقًا أحب إليّ منك، بل آخذ وبك أعطي.
وأخرجه داود بن......................................................
__________
"الزهد، لأبيه، عن" شيخه "علي بن مسلم، بن سعيد الطوسي، نزيل بغداد، ثقة، روى عنه البخاري، وأبو داود، والنسائي، مات سنة ثلاث وخمسين ومائتين، "عن سيار" بفتح السين المهملة، والتحتانية المثقلة، "ابن حاتم" العنزي، بفتح المهملة، والنون، ثم زاي، أبي سلمة البصري مات سنة مائتين، أو قبلها بسنة، "وهو ممن ضعَّفه غير واحد" كالقواريري والأزدي, ولكن احتج به الترمذي والنسائي على تفنُّنه في الرجال، وابن ماجه، ووثَّقه ابن حبان.
وقال الذهبي: صالح الحديث، والحافظ، صدوق له أوهام، وقال الحاكم: كان سيار عابد عصره، وقد أكثر عند أحمد بن حنبل، "وكان جمَّاعًا" كثير الجمع "للرقائق" صحيحة أم لا، "وقال القواريري" بفتح القاف، والواو، فألف، فراءين بينهما تحتية، نسبة إلى عمل القوارير، أو بيعها عبيد الله بن عمر بن ميسرة البصري، نزيل بغداد، الحافظ، الثقة، الثبت، روى عنه البخاري ومسلم وأبو داود وغيرهم، مات سنة خمس وثلاثين ومائتين على الأصح، وله خمس وثمانون سنة؛ "إنه لم يكن له عقل" كان معي في الدكان، قيل للقواريري: أتتهمه، قال: لا. وقال الأزدي: عنده مناكير لفظ الزوائد لابن أحمد، حدثنا علي ب مسلم, حدثنا سيار بن حاتم: "قال: حدثنا جعفر بن سليمان الضبعي" بضم الضاد المعجمة، وفتح الموحدة، أبو سليمان البصري، صدوق زاهد, لكنه كان يتشيع، روى له مسلم وأصحاب السنن، والبخاري في التاريخ، مات سنة ثمان وسبعين ومائة "قال: حدثنا مالك بن دينار" البصري، الزاهد، أبو يحيى، صدوق، عابد، روى له الأربعة، وعلق له البخاري، مات سنة ثلاثين ومائة أو نحوها: "عن الحسن البصري" يرفعه "مرسلًا، لما خلق الله العقل قال له: أقبل فأقبل، ثم قال له: أدبر فأدبر، فقال: ما خلقت خلقًا أحبَّ إلي منك، بك آخذ وبك أعطي" قال السيوطي: هذا مرسل جيد الإسناد، وهو في معجم الطبراني الأوسط، موصول من حديث أبي أمامة، ومن حديث أبي هريرة بإسنادين ضعيفين. انتهى.
وهو كلام محقَّق في الفن؛ إذ سيار مختلف في توثيقه وتضعيفه، فحديثه جيد، ومنهم من يقول: حسن، فلا عبرة بقول الشامي: هذا من الأحاديث الواهية لا الضعيفة، "وأخرجه داود بن(6/14)
المحبر في كتاب العقل له، وابن المحبر كذاب.
فإن الحافظ أبو الفضل بن حجر: والوارد في أول ما خلق الله، حديث أول ما خلق الله القلم، وهو أثبت من حديث العقل.
ولأبي الشيخ عن قرة بن إياس المزني رفعه: الناس يعملون الخير وإنما يعطون أجورهم على قدر عقولهم.
وقد اختلف في ماهية العقل......................................................
__________
المحبر" بمهملة، وموحَّدة مشددة مفتوحة. ابن قَحذم -بفتح القاف، وسكون المهملة، وفتح المعجمة، الثقفي، البكراوي أبو سليمان البصري، نزيل بغداد, متروك، وأكثر كتاب العقل الذي صنفه موضوعات من التاسعة، مات سنة ست وخمسين ومائتين، روى له ابن ماجه، ذكره الحافظ في التقريب، "في كتاب العقل له" فقال: حدثنا صالح المري، عن الحسن به بزيادة، ولا أكرم علي منك، لأني بك أعرف، وبك أعبد، والباقي مثله، "وابن المحبر كذاب" ولذا تركوه، ومن العجب إيماء الشارح للاعتراض على المصنف، بأن الذي في اللب واللباب المحبري، نسبة إلى كتاب المحبر الذي جمعه محمد بن حبيب، فيقال لمصنفه المحبر. انتهى.
إذ كتاب العقل غير كتاب المحبر، والمحبر هنا علم على أبي داود، وذاك لقب لمحمد، وهما شخصان وكتابان، "فإن الحافظ أبو الفضل بن حجر، والوارد في أول ما خلق الله، حديث أول ما خلق الله القلم، وهو أثبت من حديث العقل", وهذا أيضًا يؤذن بثبوت حديث العقل، فأين الاتفاق على وضعه؟، "ولأبي الشيخ" عبد الله، بن محمد الحفظ، "عن قرة، بن إياس"، بن هلال "المزني"، أبي معاوية الصحابي، نزيل البصرة، له أحاديث في السنن وغيرها، مات سنة أربع وستين، "رفعه: الناس يعملون الخير، وإنما يعطون أجورهم على قدر عقولهم", فقد يجتهد الإنسان في الخير، ويداخله رياء أو نحوه، فينفي ثوابه، أو ينقص، وذلك ناشئ من فساد العقل، فكامله يحترز عن ذلك, ويسعى في تحصيله على أتم حال، ولو بمشقة، "وقد اختلف في ماهية العقل" من عقل البعير: منعه بالعقال عن القيام، أو من الحجر المنع؛ لأنه يعقل صاحبه ويمنعه عن الخطأ {هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ} ، وقد تظرَّف في التلميح لأصله القائل:
قد عقلنا والعقل أي وثاق ... وصبرنا والصبر مر المذاق
ومحله القلب عند جمهور أهل الشرع، كالأئمة الثلاثة، لقوله تعالى: {لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا} [الأعراف: 179] {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} الآية، وقوله -صلى الله عليه وسلم: "ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي(6/15)
اختلافًا طويلًا يطول استقصاؤه. وفي القاموس ومن خط مؤلفه نقلت: العقل العلم، أو بصفات الأشياء من حسنها وقبحها وكمالها ونقصانها، أو العلم بخير الخيرين وبشرِّ الشرين، أو يطلق لأمور لقوّة بها يكون التمييز بين القبيح والحسن، ولمعانٍ مجتمعة في الذهن تكون بمقدِّمات تثبت بها الأغراض والمصالح، ولهيئة محمودة للإنسان في حركاته وكلماته, والحق أنه روحاني به تدرك النفوس العلومَ الضرورية والنظرية، وابتداء وجوده عند اجتنان الولد، ثم لا يزال ينمو إلى أن يكمل عند البلوغ. انتهى.
وقد كان -صلى الله عليه وسلم- من كمال العقل في الغاية القصوى التي لم يبلغها بشر سواه، ولهذا............................................................
__________
القلب والدماغ"، له تابع؛ إذ هو من جملة الجسد، وقال علي: العقل في القلب، والرحمة في الكبد، والرأفة في الطحال، والنفس في الرئة، رواه البخاري في الأدب المفرد، والبيهقي، بسند جيد، وذهب الحنفية، وابن الماجشون، وأكثر الفلاسفة إلى أنه في الدماغ؛ لأنه إذا فسد فسد العقل، وأجيب، بأن الله أجرى العادة بفساده عند فساد الدماغ مع أنه ليس فيه، ولا امتناع في هذا، "اختلافًا طويلًا يطول استقصاؤه" بدليله، وتعليله، "وفي القاموس، ومن خط مؤلفه" المجد الشيرازي، "نقلت العقل العلم" مطلقًا أي: مطلق الإدراك، بلا اعتبار تعلُّقه بمعلوم دون آخر، "أو" هو العلم, "بصفات الأشياء من حسنها، وقبحها، وكمالها، ونقصانها، أو العلم بخير الخيرين، وبشرّ الشرين، أو يطلق لأمور" أو إشارة للخلاف، فكأنه قال: اختلف في العقل هل هو العلم، أو غيره، وعلى أنه العلم، فقيل مطلقًا، وقيل بصفات إلخ.....................
وعلى أنه غير العلم، فهو مشترك يطلق لأمور "لقوة بها، يكون التمييز بين القبيح والحسن، ولمعان مجتمعة في الذهن، تكون بمقدمات تثبت بها الأغراض، والمصالح، ولهيئة محمودة للإنسان في حركاته وكلماته، والحق أنه نور "روحاني" بضم الراء، ما فيه روح، وكذلك النسبة إلى الملك والجن، والجمع روحانيون، كما في القاموس، "به تدرك النفوس العلوم الضرورية والنظرية، وابتداء وجوده عند اجتنان الولد" أي: كونه جنينًا في بطن أمه، "ثمَّ لا يزال ينمو إلى أن يكمل عند البلوغ، انتهى" كلام القاموس. وليس فيه بيان أيّ وقت يخلق العقل فيه، فإنه قال في باب النون: الجنين الولد في البطن، جمعه أجنة، وفي المصباح: وصف له ما دام في بطن أمه، ومفادهما وصفه به من أول خلقه، "وقد كان -صلى الله عليه وسلم- من كمال العقل في الغاية" أي: المرتبة "القصوى" التي لا مرتبة فوقها، فلا يردان الغاية النهاية، فلا توصف بالقصوى؛ إذ لا تتصف النهاية بالبعد تارة، والقرب تارة، والقرب أخرى، "التي لم يبلغها بشر سواه، ولهذا كانت معارفه" علومه(6/16)
كانت معارفة عظيمة, وخصائصه جسيمة، حارت العقول في بعض فيض ما أفاضه من غيبة لديه، وكلَّت الأفكار في معرفة بعض ما أطلعه الله عليه، وكيف لا يعطى ذلك وقد امتلأ قلبه وباطنه وفاض على جسده المكرم ما وهبه من أسرار إلهيته ومعرفة ربوبيته وتحقق عبوديته.
قال وهب بن منبه: قرأت في أحد وسبعين كتابًا، فوجدت في جميعها أنَّ الله تعالى لم يعط جميع الناس من بدء الدنيا إلى انقضائها من العقل في جنب عقله -صلى الله عليه وسلم- إلا كحبَّة رمل بين رمل من جميع رمال الدنيا، وأن محمد -صلى الله عليه وسلم- أرجح الناس عقلًا وأفضلهم رأيًا. رواه أبو نعيم في الحلية وابن عساكر.
وعن بعضهم مما هو في عوارف المعارف: اللب والعقل مائة جزء، تسعة وتسعون في النبي -صلى الله عليه وسلم, وجزء في سائر المؤمنين، ومن تأمَّل حسن تدبيره للعرب الذين هم كالوحش الشارد،....................................................
__________
بالأشياء، "عظيمة" لمطابقتها للواقع دائمًا، بلا خلل فيها، ولا ميل عن الحق، "وخصائصه جسيمة" أي: عظيمة، فغاير كراهية لتكرر اللفظ "حارت العقول" لم تدر وجه الصواب "في بعض فيض ما أفاضه، من غيبه لديه، وكلَّت" تَعِبَت "الأفكار في معرفة بعض ما أطلعه الله عليه، وكيف لا يعطى ذلك، وقد امتلأ قلبه وباطنه إيمانًا وحكمة حين شُقَّ صدره، فأعطي ما لم يعط غيره، فالمفعول محذوف، "وفاض على جسده المكرَّم ما وهبه" مفعول لفاض لا لامتلأ، لأنه إنما يتعدَّى بحرف الجر، فمفعوله محذوف، كما قدرت، وفي نسخ، لما بلام التعليل، لامتلأ، وفاض، أي: وفاض آثار ذلك على جسده، لم وهبه الله، "من أسرار إلهيته، ومعرفة ربوبيته، وتحقق عبوديته".
"قال وهب بن منبه" -بضم الميم، وفتح النون، وكسر الموحدة- ابن كامل اليماني، التابعي، الثقة، روى له الشيخان وغيرهما: "قرأت في أحد وسبعين كتابا" من الكتب القديمة، وكان خبرها، "فوجدت في جميعها، أنَّ الله تعالى لم يعط جميع الناس من بدء الدنيا إلى انقضائها من العقل, في جنب عقله -صلى الله عليه وسلم، إلّا كحبة رمل بين رمل" كائن، أو الذي هو "من جميع رمال الدنيا" فالبينية تكون بين يسيرين، والمنسوب إليه جميع الرمال، "وأن محمدًا -صلى الله عليه وسلم- أرجح الناس عقلًا، وأفضلهم رأيًا. رواه أبو نعيم في الحلية، وابن عساكر" وقال ابن عباس: أفضل الناس، أعقل الناس، وذلك نبيكم -صلى الله عليه وسلم، رواه داود بن المحبر، وعن بعضهم مما هو في عوارف المعارف: اللب والعقل مائة جزء، تسعة وتسعون في النبي -صلى الله عليه وسلم، وجزء في سائر المؤمنين" من أمته وغيرهم، "ومن تأمَّل حسن تدبيره للعرب، الذين هم كالوحش الشارد" النافر(6/17)
والطبع المتنافر المتباعد، وكيف ساسهم واحتمل جفاهم وصبر على أذاهم إلى أن انقادوا إليه، واجتمعوا عليه، وقاتلوا دونه أهليهم وآباءهم وأبناءهم، واختاروه على أنفسهم، وهجروا في رضاه أوطانهم وأحباءهم، من غير ممارسة سبقت له، ولا مطالعة كتب يتعلم منها سير الماضين، تحقق أنه أعقل العالمين، ولما كان عقله -عليه الصلاة والسلام- أوسع العقول, لا جرم اتسعت أخلاق نفسه الكريمة اتساعًا لا يضيق على شيء.
فمن ذلك: اتساع خلقه العظيم في الحلم والعفو مع القدرة, وصبره -عليه الصلاة والسلام- على ما يكره، وحسبك صبره وعفوه على الكافرين المقاتلين المحاربين له في أشد ما نالوه به من الجراح والجهد بحيث كُسِرت رباعيته، وشُجَّ وجهه يوم أحد، حتى صار الدم يسيل على وجهه الشريف، حتى شَقَّ ذلك على أصحابه شديدًا،.........................................................
__________
الناد "والطبع المتنافر المتباعد، و" تأمل "كيف ساسهم" ملكهم بحسن تصرفه فيهم، واستجلاب قلوبهم، "واحتمل جفاهم" غلظتهم، وفظاظتهم، "وصبر على أذاهم إلى أن انقادوا إليه، واجتمعوا عليه، وقاتلوا دونه أهليهم، وآباءهم، وأبناءهم، واختاروه على أنفسهم، وهجروا في رضاه أوطائهم" جمع وطن مكانهم ومقرّهم، "وأحباءهم من غير ممارسة سبقت له، ولا مطالعة كتب يتعلم منها سير الماضين، تحقق أنه أعقل العالمين" جواب قوله: ومن تأمل إلخ ...
"ولما كان عقله -عليه الصلاة والسلام- أوسع العقول، لا جرم" أي: حقًّا "اتسعت أخلاق نفسه الكريمة، اتساعًا لا يضيق عن شيء", ولا جرم في الأصل بمعنى لا بُدَّ ولا محالة، ثم كثرت، فحولت إلى معنى القسم، وصارت بمعنى حقًّا، ولذا تجاب باللام نحو لا جرم، ولا فعلنَّ، قاله الفراء، كما في المصباح، "فمن ذلك اتساع خلقه العظيم، في الحلم والعفو مع القدرة، وصبره -عليه الصلاة والسلام- على ما يكره، وحسبك" أي: يكفيك في الدلالة على كماله في ذلك، "صبره وعفوه على الكافرين، المقاتلين، المحاربين له في أشد ما نالوه به" متعلق بقوله: صبره وعفوه، "من الجراح والجهد، بحيث كسرت رباعيته" اليمني السفلى -بفتح الراء، وخفة الموحدة- السن التي تلي التثنية، من كل جانب وللإنسان، أربع رباعيات، وكان الذي كسرها عتبة بن أبي وقاص، وجرح شفته السفلى، "وشج وجهه" شجه عبد الله بن قميئة "يوم أحد" حتى صار الدم يسيل على وجهه الشريف، فصار ينشفه، ويقول: "لو وقع شيء منه على الأرض لنزل عليهم العذاب من السماء"، "حتَّى شق ذلك على أصحابه شديدًا" غاية لقوله(6/18)
وقالوا: لو دعوت عليهم، فقال: "إني لم أبعث لعانًا، ولكني بعثت داعيًا ورحمة، فقال: اللهم اغفر لقومي، أو اهد قومي فإنهم لا يعلمون".
قال ابن حبان: أي: اللهم اغفر لهم ذنبهم في شج وجهي, لا أنه أراد الدعاء لهم بالمغفرة مطلقًا؛ إذ لو كان كذلك لأجيب، ولو أجيب لأسلموا كلهم. كذا قال رحمه الله.
وقد روي عن عمر أنه قال في بعض كلامه:........................
__________
يسيل، "وقالوا: لو دعوت عليهم" لأجبت، أو للتمني، "فقال: إني لم أبعث لعانًا" مبالغًا في اللعن، أي: الإبعاد عن الرحمة، والمراد نفي أصل الفعل، نحو {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ} ، يعني: لو دعوت عليهم لبعدوا عن رحمة الله، ولصرت قاطعًا عن الخبر، مع إني لم أبعث بهذا "ولكني بعثت داعيًا ورحمة" لمن أراد الله إخراجه من الكفر إلى الإيمان، أو لأقرِّب الناس إلى الله وإلى رحمته، لا لأُبعدهم عنها، فاللعن منافٍ لحالي، فكيف ألعن، ثم لم يكتف بذلك حتى سأل الله لهم الغفران، أو الهداية، "فقال: "اللهم اغفر لقومي" بإضافتهم إليه إظهارًا، لسبب شفقته عليهم، فإن الطبع البشري يقتضي الحنوَّ على القرابة بأي حال، ولأجل أن يبلغهم ذلك فتنشرح صدورهم للإيمان، "أو أهد قومي" ليست أو للشك، بل إشارة لتنويع الرواية، أي: إن في رواية اغفر، وأخرى اهد، ثم اعتذر عنهم بالجهل، بقوله: "فإنهم لا يعلمون" أنَّ ما جئت به هو الحق، ولم يقل: يجهلون تحسينًا للعبارة، ليجذبهم بزمام لطفه إلى الإيمان، ويدخلهم بعظيم حلمه حرم الأمان، مع أنه إنما هو جهل حكمي، وإن لم يكن بعد مشاهدة الآيات البينات عذر، لكنّه تضرع إلى الله أن يمهلهم حتى يكون منهم، أو من ذريتهم مؤمنون، وقد حقق الله رجاءه واستشكلت رواية اغفر بقوله: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} ، فإنها وإن كانت خاصة السبب، فهي عامَّة في حق كل مشرك، وأجيب بأنه أراد الدعاء لهم بالتوبة من الشرك، حتى يغفر لهم بدليل رواية اهد، وأراد مغفرةً تصرف عنهم عقوبة الدنيا من نحو: خسف ومسخ، قاله السهيلي، واستشكلت الروايتان معًا بأن دعاءه مقبول، ولم يسلم جميعهم، وجوابه قوله: "قال ابن حبان: أي: "اللهم اغفر لهم ذنبهم في شج وجهي"، لا أنه أراد الدعاء لهم بالمغفرة مطلقًا؛ إذ لو كان كذلك لأجيب، ولو أجيب لأسلموا كلهم، كذا قال رحمه الله" تبرأ منه، لاحتمال حمل دعائه لهم على المجموع، لا كل فرد، أي: اغفر لجنس، أو لبعض قومي، أو أراد غير الشرك، أو صرف عقوبة الدنيا، فنفيه، وتعليله مع هذه الاحتمالات لا ينهض, "وقد روي عن عمر" مما ساقه في الشفاء، وقال السيوطي: لا نعرف عن عمر في شيء في كتب الحديث "أنه قال في بعض كلامه" الذي بكى به النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد موته، وهو دليل على ظهور حلمه بين صحبه(6/19)
بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لقد دعا نوح على قومه فقال: {رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ} [نوح: 26] الآية. ولو دعوت علينا مثلها لهلكنا من عند آخرنا، فلقد وُطِئَ ظهرك وأُدْمِيَ وجهك وكسرت رباعيتك, فأبيت أن تقول إلّا خيرًا فقلت: "اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون".
وههنا دقيقة وهي أنه -عليه الصلاة والسلام- لما شجَّ وجهه عفا وقال: اللهم اهد قومي، وحين شغلوه عن الصلاة يوم الخندق قال: "اللهم املأ بطونهم نارًا"، فتَحَمَّل الشجَّة الحاصلة في وجهه الشريف، وما تحمَّل الشجة الحاصلة في وجه دينه، فإن وجه الدين هو الصلاة، فرجَّح حق خالقه على حقه.
واعلم أن الصبر على الأذى جهاد النفس، وقد جبل الله تعالى النفس على
__________
حتى عرفوه ووصفوه به، "بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لقد دعا نوح على قومه، فقال: {رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ} وإنما قال: هذا لأنه مشربه مشرب نوح، كما شبهه النبي -صلى الله عليه وسلم- به في أسارى بدر، "ولو دعوت علينا مثلها لهلكنا من عند آخرنا" أي: من أولنا إلى آخرنا, أي: جميعًا, وعند زائدة: ومن بمعنى إلى، أو كناية عن هلاك الجميع؛ إذ لا يكون الهلاك عند آخرهم إلّا إذا شملهم جميعًا، ولو دعوتها ما لمت، "فلقد وطئ ظهرك، وأدمي وجهك، وكُسِرَت رباعيتك، فأبيت أن تقول إلا خيرًا، فقلت: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون" إن ما جئت به هو الحق، وهم عُبَّاد أوثان، فلا يرد الذين آتيناهم الكتاب، يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، على أن المراد علماء أهل اكتاب، كما في البيضاوي.
"وههنا دقيقة هي" أنَّ حلمه وعفوه، إنما هو فيما يتعلَّق بنفسه الشريف، وذلك "أنه عليه الصلاة والسلام، لما شج وجهه عفا، وقال: "اللهم اهد قومي"، وحين شغلوه عن الصلاة يوم الخندق، قال: "اللهم املأ بطونهم نارًا" لفظ الصحيحين "ملأ الله بيوتهم وقبورهم نارًا، كما شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس"، "فتحمل الشجة الحاصلة في وجهه الشريف، وما تحمل الشجة الحاصلة في وجه دينه، فإن وجهه الدين هو الصلاة، فرجَّح حق خالقه على حقه" كما هو عادته، "واعلم أن الصبر على الأذى جهاد النفس" حصر المبتدأ في الخبر، فأفاد الحصر، في نسخة للنفس بلام، وحذفها أبلغ في الحصر، والمراد به المبالغة، كأنه جعل جهادها، إنما هو الصبر على الأذى، فغيره ليس جهادًا لها، فلا يرد عليه أنهم عدوا من جهادها أشياء كثيرة، غير الصبر، "وقد جبل الله تعالى النفس على التألم بما يفعل بها" والتألم سبب(6/20)
التألم بما يفعل بها، ولهذا شقَّ عليه -صلى الله عليه وسلم- نسبته إلى الجور في القسمة، لكنه -عليه الصلاة والسلام- حلم على القائل وصبر لِمَا علم من جزيل ثواب الصابر, وأن الله يأجره بغير حساب.
وصبره -عليه الصلاة والسلام- على الأذى إنما هو فيما كان في حق نفسه، وأما إذا كان لله فإنه يمتثل فيه أمر الله من الشدة, كما قال له تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 73] .....................................
__________
للانتقام من المؤلم، ومع ذلك، فهو -صلى الله عليه وسلم- لكمال حلمه تحمَّله من فاعله فلم ينتقم منه، "ولهذا شقَّ عليه -صلى الله عليه وسلم- نسبته إلى الجور في القسمة" يوم حنين آثر ناسًا فيها ليؤلفهم، فقال رجل: والله إن هذه لقسمة ما عدل فيها، وما أريد بها وجه الله، فأخبره ابن مسعود، فتغيِّر وجهه، ثم قال: "فمن يعدل إن لم يعدل الله ورسوله"، ثم قال: "يرحم الله موسى، قد أوذي بأكثر من هذا فصبر".
رواه مسلم والبخاري، عن ابن مسعو، وسمَّى الواقدي، الرجل القائل: معتب بن قشير المنافق، وعند أبي الشيخ وغيره، عن جابر، أنه -صلى الله عليه وسلم- جعل يقبض يوم حنين من فضة في ثوب بلال، ويفرقها، فقال له رجل: يا نبي الله, أعدل، فقال: "ويحك, من يعدل إذ أنا لم أعدل؟ قد خبت، وخسرت إن كنت لا أعدل"، فقال عمر: ألا أضرب عنقه؟، فإنه منافق, فقال: "معاذ الله أن تتحدث الناس أني أقتل أصحابي"، "لكنه -عليه الصلاة والسلام- حَلُم" -بفتح فضم- صفح وستر "على القائل، وصبر" عطف جزء على كل صرح به؛ لأنه مقصودة هنا بالثناء على النبي -صلى الله عليه وسلم، وفي الشامية الحلم حالة توقير، وثبات في الأمور، وتصبّر على الأذى، لا يستَفز صاحبه الغضب عند الأسباب المحركة له، ولا يحمله على الانتقام، وهو شعار العقلاء، "لما علم من جزيل ثواب الصابر" من إضافة الصفة للموصوف، أي: ثواب جزيل معَدٌّ للصابر، "وإن الله يأجره" بضم الجيم، وكسرها، "بغير حساب" تفسير لثواب الصابر الجزيل؛ إذ الثواب العطاء بلا حساب، "وصبره -عليه الصلاة والسلام" استئناف في جواب سؤال، أكان صبره في سائر الأحوال، أم يختلف باختلافها؟، فأجاب بأنه يختلف، فصبره "على الأذى، إنما هو فيما كان في حق نفسه، وأما إذا كان لله، فإنه يمتثل فيه أمر الله" لم يقل، فإنه لا يصبر عليه، إشارة إلى أن انتهاك حرماته تارة، كانت تفعل على وجه، لا يفيد معه الشدة، وتارة بخلاف ذلك "من الشدة" بالكسر، اسم من الاشتداد، أي: يفعل ما أمر به، وإن كان فيه تشديد على مستحقه، لكن بعد المبالغة في الرفق، كما في البيضاوي، "كما قال تعالى" مثال للأمر بالشدة، لا لنفسها {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ} بالسيف، "والمنافقين" باللسان والحجة، {وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} بالانتهار(6/21)
وقد وقع له -عليه الصلاة والسلام- أنه غضب لأسباب مختلفة مرجعها إلى أن ذلك كان في أمر الله تعالى، وأظهر الغضب فيها ليكون أوكد في الزجر، فصبره وعفوه إنما كان فيما يتعلق بنفسه الشريفة -صلى الله عليه وسلم.
وقد روى الطبراني وابن حبان والحاكم والبيهقي عن زيد بن سعنة -بالمهملة والنون المفتوحتين- كما قيده به عبد الغني وذكره الداقطني, وبالمثناة التحتية، ثبت في الشفاء وصحح عليه مؤلفه بخطه، وهو الذي ذكره ابن إسحاق، وهو كما قاله النووي: أجلّ أحبار اليهود الذين أسلموا -أنه قال:
لم يبق من علامات النبوة شيء إلّا وقد عرفته........
__________
والمقت، وفي البيضاوي واستعمل الخشونة فيما تجاهدهم، إذا بلغ الرفق مداة، أي: غايته، "وقد وقع له -عليه الصلاة والسلام- أنه غضب لأسباب مختلفة، مرجعها إلى أن ذلك كان في أمر الله تعالى، وأظهر الغضب فيها؛ ليكون أوكد في الزجر، فصبره وعفوه إنما كان فيما يتعلق بنفسه الشريفة -صلى الله عليه وسلم" أتى بهذا مع أنه قدَّمه لزيادة، وعفوه؛ إذ الصبر لا يستلزم العفو "وقد روى الطبراني، وابن حبان، والحاكم، والبيهقي، وأبو الشيخ في كتاب الأخلاق النبوية وغيرهم، برجال ثقات، عن عبد الله بن سلام "عن زيد بن سعنة، بالمهملة" أي: السين، "والنون المفتوحتين" والعين ساكنة، كما في التبصير وغيره، وصرَّح النووي بأن، السين مفتوحة، وأن بعضهم ضمها، وهو غريب، ووقع في الشامية ضبطه، بفتح العين، "كما قيَّده به عبد الغني" الحافظ، "وذكره الدارقطني، وبالمثناة التحتية" بدل النون، "ثبت في الشفاء، وصحَّح عليه مؤلفه بخطه، وهو الذي ذكره ابن إسحاق" وحكى ابن عبد البر وغيره الوجهين، قال ابن عبد البر: والنون أكثر، واقتصر الجمهور على النون، قال الذهي: وهو أصح، "وهو كما قاله النووي أجلّ" بجيم ولام، كذا في النسخ، والذي في تهذيب النووي أحد -بحاء ودال مهملتين، "أحبار اليهود الذين أسلموا" وأكثرهم علمًا، ومالًا, أسلم وحسن إسلامه، وشهد معه -صلى الله عليه وسلم- مشاهد كثيرة، وتوفي في غزوة تبوك، مقبلًا إلى المدينة. انتهى.
فكأنَّ المصنف غَيِّرَ أحدّ بأجلّ؛ لأن قوله: أكثرهم علمًا ومالًا, يفيد أنه أجلهم، ثم يرد على هذا ابن سلام؛ إذ ظاهر الأحاديث أنه أجلّ المسلمين من اليهود، إلّا أن تكون الجلالة باعتبار مجموع العلم والمال، "أنه قال: لم يبق من علامات النبوة شيء" وفي رواية عند ابن سعد: ما بقي شيء من نعت محمد في التوراة إلّا وقد عرفته" أي: شاهدته، ويروى: عرفْتُها، باعتبار أن(6/22)
في وجه محمد حين نظرت إليه إلا اثنتين لم أخبرهما منه: يسبق حلمه جهله، ولا تزيده شدة الجهل عليه إلا حلمًا. فكنت أتلطف له لأن أخالطه فأعرف حلمه وجهله، فابتعت منه تمرًا إلى أجلٍ, فأعطيته الثمن، فلمَّا كان قبل مجيء الأجل بيومين أو ثلاثة أتيته, فأخذت بمجامع قميصه وردائه على عنقه، ونظرت إليه بوجه غليظ ثم قلت: ألا تقضيني يا محمد حقي، فوالله إنكم يا بني عبد المطلب مطل، فقال عمر: أي عدو الله، أتقول لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما أسمع, فوالله لولا ما أحاذر فوته لضربت بسيفي رأسك، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- ينظر
__________
الشيء بمعنى العلامة، "في وجه محمد حين نظرت إليه إلّا اثنتين" في رواية: إلّا خصلتين، "لم أخبرهما" -بفتح الهمزة، وإسكان الخاء، وضم الباء- أي: لم أعلمهما "منه" على حقيقتهما؛ إذ علمهما لا يكون بالمشاهدة، بل بالاختيار، "يسبق حلمه جهله" مقابل الحلم من الغضب والانتقام، من آذاه، قال الشاعر:
ألا لا يجهلن أحد علينا ... فنجهل فوق جهل الجاهلينا
فالمراد أن حلمه يغلب حِدَّته، كقوله: سبقت رحمتي غبي، فليس الجهل هنا مقابل العلم، وهو عدم إدراك الشيء، أو إدراكه على خلاف ما هو عليه، كما توهَّمه من لم يعرف لغة العرب؛ حيث قال: لو كان له جهل نحو: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} الآية، وهذه إحدى الخصلتين، "و" الثانية "لا تزيده شدة الجهل"، أي: جهل غيره، أي: سفاهته "عليه" وأذيته "إلا حلمًا", فكلما زادت واشتدت، زاد حلمه -صلى الله عليه وسلم، "فكنت أتلطف" أتخشَّع، وأترفَّق "له" توصلًا "لأن أخالطه، فأعرف حلمه وجهله، فابتعت" أي: اشتريت "منه تمرًا إلى أَجَلْ" وفي رواية أبي نعيم: وأعطاه زيد بن سعنة قبل إسلامه ثمانين مثقالًا ذهبًا، في تمر معلوم إلى أجل معلوم، "فأعطيته الثمن، فلمَّا كان قبل مجيء الأجل بيومين، أو ثلاثة" وفي رواية أبي نعيم بيوم، أو يومين، "أتيته، فأخذت بمجامع" جمع مجمع، كمقعد ومنزل، موضع الاجتماع، كما في القاموس وغيره، أي: بما اجتمع من "قميصه وردائه على عنقه، ونظرت إليه بوجه غليظ" أي: عابس مقطب، "ثم قلت: ألَا تقضيني يا محمد حقي؟ فوالله أنكم يابني عبد المطلب مطل" بضم الميم، والطاء جمع ماطل، أي: تمتنعون من أداء الحق، وتسوفون بالوعد مرة بعد أخرى، "فقال عمر" في رواية أبي نعيم: فنظر إليه عمر وعيناه تدوران في وجهه، كالفلك المستدير، فقال: "أي عدو الله أتقول لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما أسمع؟ " زاد أبو نعيم، وتفعل به ما أرى، "فوالله لولا ما أحاذر" بمعنى أحذر، أي: شيء أخاف "فوته" من بقاء الصلح بين المسلمين وبين قومه.
وفي رواية أبي نعيم: لولا ما أحاذر قومك لضربت بسيفي رأسك، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- ينظر(6/23)
إلى عمر بسكون وتؤدة وتبسم ثم قال: "أنا وهو كنا أحوج إلى غير هذا منك يا عمر، أن تأمرني بحسن الأداء، وتأمره بحسن التباعة، اذهب به يا عمر فاقضه حقه وزده عشرين صاعًا مكان ما رعته"، ففعل، فقلت يا عمر: كل علامات النبوة قد عرفتها في وجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين نظرت إليه إلّا اثنتين لم أخبرهما: يسبق حلمه جهله، ولا تزيده شدة الجهل عليه إلا حلمًا، فقد اختبرتهما، فأشهد أني قد رضيت بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمد -صلى الله عليه وسلم- نبيًّا.
وعن أبي هريرة قال: حدثنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يومًا ثم قام، فقمنا حين قام, فنظرنا إلى أعرابي قد أدركه فجذبه بردائه........................................................
__________
إلى عمر، بسكون" ضد الحركة، "وتؤدة" التأنِّي فتغايرا مفهومًا لا ما صدقا، "وتبسم" من مقالهما لشدة حلمه، ولعله كوشف بمراد ابن سعنة، وأن عمر لو كشف له لم يصعب عليه ذلك، "ثم قال: "أنا وهو" أي: صاحب الحق "كنا أحوج إلى غير هذا" الذي قلته "منك يا عمر", وأبدل منه قوله: "أن تأمرني بحسن الأداء" أي: وفاء ما علي، "وتأمره بحسن التباعة" -بالكسر- المطالبة بالحق، وفي الشفاء تأمرني بحسن القضاء، وتأمره بحسن التقاضي، ثم قال: لقد بقي من أجله ثلاث أهـ.
فتكرَّم -صلى الله عليه وسلم- فعجَّلها قبل الأجل وزيادة، فقال: "اذهب به يا عمر، فاقضه حقه وزده عشرين صاعًا مكان ما رعته؟ " فزعته، وما مصدريته، أي: في مقابلة روعك له، "ففعل" ذلك عمر، قال زيد: "فقلت يا عمر، كل علامات النبوة، قد عرفتها في وجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين نظرت إليه إلا اثنتين لم أخبرهما" أي: لم أعلمهما، "يسبق حلمه" ثباته، وصفحه وصبره "جهله" حدته، فلا ينتقم، "ولا تزيده شدة الجهل عليه إلا حلمًا، فقد اختبرتهما" أي: صاحبهما؛ إذ الاختبار الامتحان، وهو لم يختبر الخصلتين، والمذكور بخط الشامي خبرتهما، بلا ألف، أي: علمتهما منه بما رأيت من فعله -صلى الله عليه وسلم, "فاشهد" يا عمر "أني، قد رضيت بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد -صلى الله عليه وسلم- نبيًّا".
وفي رواية: وما حملني على ما رأيتني صنعت يا عمر إلّا أني كنت رأيت صفاته التي في التوراة كلها، إلا الحلم، فاختبرت حلمه اليوم، فوجدته على ما وصف في التوراة، وإني أشهدك أنَّ هذا التمر، وشطر مالي في فقراء المسلمين، وأسلم أهل بيته كلهم، إلّا شيخًا غلبت عليه الشقوة، "وعن أبي هريرة قال: حدثنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يومًا، ثم قام، فقمنا حين قام، فنظرنا إلى أعرابي" لم يسم، "قد أدركه، فجذبه" وفي رواية، فجبذه، وهما لغتان صحيحتان "بردائه"(6/24)
فحمر رقبته، وكان رداء خشنًا، فالتفتّ إليه, فقال له الأعرابي: احملني على بعيري هذين، فإنك لا تحملني من مالك ولا مال أبيك، فقال له -صلى الله عليه وسلم: "لا، وأستغفر الله، لا وأستغفر الله، لا وأستغفر الله، لا أحملك حتى تقيدني من جبذتك التي جبذتني"، كل ذلك يقول له الأعرابي: والله لا أقيدها، فذكر الحديث، قال: ثم دعا رجلًا فقال له: احمل له على بعيريه هذين, على بعير تمرًا وعلى الآخر شعيرًا. رواه أبو داود.
ورواه البخاري من حديث أنس بلفظ: كنت أمشي مع النبي -صلى الله عليه وسلم- وعليه برد
__________
زاد في رواية: جبذة شديدة، "فحمَّر رقبته" براء بعد الميم، من التحمير، وفي نسخ فحمّ, بلا راء، أي: أثر فيها أثرًا غير لونها، كتأثير الحمى، وهو بالبناء للفاعل والمفعول، كما يفيده القاموس؛ وهذا إن ثبت رواية بلا راء، وإلّا فالذي في خط الشامي بالراء، "وكان رداءً خشنًا" بيان لسبب تحميره لرقبته، "فالتفت" صلى الله عليه وسلم "إليه" إلى الأعرابي، "فقال له الأعرابي: احملني" نسب الجمل إليه تنزيلًا لحمل ما يصل إليه، منزلة حمله لعود نفعه إليه، "على بعيري هذين" أي: حمّلهما إليّ طعامًا, زاد في رواية البيهقي: من مال الله الذي عندك، "فإنك لا تحملني من مالك، ولا من مال أبيك، فقال له -صلى الله عليه وسلم: "لا" أحملك من مالي، ولا مال أبي، وفي رواية البيهقي، فسكت، ثم قال: "المال مال الله، وأنا عبده"، أي: أتصرف فيه بإذنه، وأعطي من يأمرني بإعطائه، فردَّ عليه بألطف رد، "وأستغفر الله، لا وأستغفر الله، لا وأستغفر الله" ثلاث مرات، "لا أحملك حتى تقيدني من جبذتك التي جبذتني" أي: تمكنني من القود من نفسك، فأفعل معك مثل ما فعلت معي من جذب ردائي، أطلق القود، وهو القصاص مجازًا، على مطلق المجازاة، أي: حتى تجازي على ترك أدبك، أو تعزر بما يليق بك، وفي رواية البيهقي: ويقاد منك يا أعرابي ما فعلت بي، فعبَّر بإعرابي إشارة إلى عذره، لما فيه من غلظ الأعراب وجفائهم، "كل ذلك يقول له الأعرابي: والله، لا أقيدها، فذكر الحديث" وهو قال: لم قال، لأنك لا تكافئ بالسيئة السيئة، فضحك النبي -صلى الله عليه وسلم- أي: سرورًا بما رآه من حسن ظنه به، وأنه لم يفعل ذلك، تنقيصًا له، وتطمينًا لقلبه، إذا بدأ المسرة بمقالته، وهذا يقتضي أنه كان مسلمًا، غير أنه فيه جفاء البادية، "قال: ثم دعا رجلا" هو عمر، كما في رواية، "فقال له: "احمل له على بعيريه هذين، على بعير تمرًا، وعلى الآخر شعيرًا"، "رواه أبو داود" في سننه، "ورواه البخاري" في الخمس، واللباس، والأدب، ومسلم، كلاهما "من حديث أنس" بن مالك "بلفظ: كنت أمشي مع النبي -صلى الله عليه وسلم- وعليه برد" -بضم الموحدة، وسكون الراء- نوع من الثياب، وفي(6/25)
نجراني غليظ الحاشية, فأدركه أعرابي فجبذ بردائه جبذة شديدة، قال أنس: فنظرت إلى صفحة عاتقه وقد أثرت فيه حاشية البرد من شدة جبذته، ثم قال: يا محمد, مر لي من مال الله الذي عندك، فالتفت إليه فضحك ثم أمر له بعطاء.
وفي هذا بيان حلمه -عليه الصلاة والسلام, وصبره على الأذى في النفس والمال، والتجاوز عن جفاء من يريد تألفه على الإسلام.
وعن عائشة وقد سُئِلَت عن خلقه -صلى الله عليه وسلم: لم يكن النبي -صلى الله عليه وسلم- فاحشًا ولا متفحشًا..............................................................
__________
رواية مسلم، عليه رداء "نجراني" بنون مفتوحة، فجيم ساكنة، فراء مفتوحة، فألف، فنون، نسبة إلى بلدة بين الحجاز واليمن، وهي إليه أقرب، فلذا يقال: بلدة باليمن "غليظ الحاشية" أي: الجانب، فأدركه أعرابي" قال الحافظ: لم أقف على تسميته، "فجبذ" بتقديم الباء على الذال المعجمة "بردائه".
قال الزركشي: صوابه ببرده لقوله أولًا: عليه برد، وهو لا يسمَّى رداء، وردَّه الدماميني بأنه لا مانع أنه ارتدى بالبرد، فأطلق عليه رداء بهذا الاعتبار، وفي رواية مسلم رداءه، "جبذة شديدة، قال أنس: فنظرت إلى صفحة" جانب "عاتقه" ما بين العنق والكتف، أو موضع الرداء من المنكب، "وقد أثرت فيه حاشية البرد، من شدة جبذته" وفي رواية مسلم، وانشق البرد، وذهبت حاشيته في عنقه، "ثم قال: يا محمد" قبل تحريم ندائه باسمه، أو لقرب عهد الأعرابي بالإسلام، فلم يتفقَّه في الدين، وفي طبعه الغلظة والجفاء، وإلا فطلبه العطاء من مال الله، يدل على أنه مسلم "مر لي", ولمسلم: أعطني "من مال الله، الذي عندك، فالتفت إليه، فضحك، ثم أمر له بعطاء" هو تحميل بعيريه، كما في حديث أبي هريرة الذي قبله، "وفي هذا بيان حلمه -عليه الصلاة والسلام، وصبره على الأذى في النفس والمال، والتجاوز عن جفاء" بالمد خلاف البر، "من يريد تألفه على الإسلام" وسياق الحديث كما قيل يقتضي أنه من المسلمين المؤلفة قلوبهم.
"وعن عائشة، وقد سئلت عن خلقه -صلى الله عليه وسلم" قالت: "لم يكن النبي -صلى الله عليه وسلم- فاحشًا" إذا فحش في أقواله وأفعاله وصفاته، "ولا متفحشًا" متكلف الفحش في ذلك، أي: لم يقم به فحش طبعًا، ولا تكلفًا فهمًا, غير أن من هذه الجهة، إذا الصفة القائمة بالموصوف طبعًا غير القائمة به تطبعًا، ولذا سلّط النفي على كل منهما، فهو من بديع الكلام، وإن صدق أن كل متفحش فاحش، فلا يرد أن نفي الأعمّ يستلزم نفي الأخص، وأسقط من الرواية، ولا سخَّابًا في الأسواق، روي(6/26)
ولا يجزي بالسيئة، ولكن يعفو ويصفح. رواه الترمذي، أي: لم يكن الفحش له خلقًا ولا مكتسبًا.
وفي البخاري من حديث ابن عمرو: لم يكن -صلى الله عليه وسلم- فاحشًا ولا متفحشًا، وفي رواية له من حديث أنس بن مالك قال: لم يكن النبي -صلى الله عليه وسلم- سبَّابًا ولا فاحشًا ولا لعّانًا.
__________
بسين مهملة، أي: مرتفع الصوت، وروي -بصاد- وهو الضجر واضطراب الصوت للخصام، وإذا لم يكن في الأسواق كذلك, فغيرها أَوْلى، ثم لا يرد أن سخابًا، للتكثير، وهو للمبالغة، فلا يلزم منه نفي أصل الفعل، لأن هذا من المفهوم، ولا يكفي هنا لوروده في سياق المدح، ولا يكفي فيه مثل ذلك، "ولا يجزي" بزنة يرمي "بالسيئة" السيئة؛ لأن خلقه القرآن، وفيه جزاء سيئة سيئة مثلها، فمن عفا وأصلح فأجره على الله، "ولكن" استدراك على ما قد يتوهَّم أن ترك الجزاء عجز، فصرَّحت بأنه مع القدرة، فقالت: "يعفو" عن الجاني، فلا يذكر له شيئًا من جنايته، "ويصفح" يظهر له أنه لم يطَّلع عليها، أو يعفو باطنًا، ويصفح يعرض ظاهرًا، وذلك منه طبقًا وامتثالًا لقوله تعالى {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ} [المائدة: 13] الآية.
"رواه الترمذي" في جامعه وشمائله برجال ثقات، "أي: لم يكن الفحش له خلقًا" طبعًا, تفسير لقولها: فاحشًا، "ولا مكتسبًا" بيان لقولها متفحشًا، "وفي البخاري" في الصفة النبوية؛ والأدب، ومسلم في الأدب، ومسلم في الفضائل، والترمذي في البر، "من حديث ابن عمرو" -بفتح العين- ابن العاص.
وفي رواية مسلم عن مسروق: دخلنا على عبد الله بن عمرو، حين قدم مع معاوية الكوفة، فكر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "لم يكن النبي -صلى الله عليه وسلم- فاحشًا، ولا متفحشًا" فتوارد عبد الله مع عائشة على نفي الصفتين، دليل ظاهر على أن ذلك جبلته مع الأهل والأجانب؛ وبقية حديث عبد الله، وكان يقول: "إن من خياركم أحسنكم أخلاقًا"، لفظ البخاري، ولفظ مسلم، قال مسلم، قال: وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "إن من خياركم أحسنكم أخلاقًا"، "وفي رواية له" للبخاري أيضًا في الأدب، "من حديث أنس بن مالك، قال: لم يكن النبي -صلى الله عليه وسلم- سبابًا" بشد الموحَّدة، "ولا فاحشًا" رواية أبي ذر، ورواه غيره فحاشًا بالتثقيل، "ولا لعّانًا" بشد العين.
قال الكرماني: يحتمل تعلق السب بالنسب، كالقذف والفحش، بالحسب واللعن بالآخرة؛ لأنها البعد عن رحمة الله، ثم إن المراد نفي الثلاثة من أصلها؛ لأن فعالًا قد لا يراد به التكثير، بل أصل الفعل، أو المراد لم يكن بذي سب، ولا فحش، ولا لعن، ويؤيده رواية فاحشًا، فهو(6/27)
والفحش: كل ما خرج من مقداره حتى يستقبح، ويدخل في القول والفعل والصفة، لكن استعماله في القول أكثر. والمتفحّش -بالتشديد: الذي يتعمَّد ذلك ويكثر منه ويتكلفه.
وعن عائشة -رضي الله عنها- أن رجلًا استأذن على النبي -صلى الله عليه وسلم، فلما رآه قال: بئس أخو العشيرة، وبئس ابن العشيرة، فلمَّا جلس تطلق النبي -صلى الله عليه وسلم- في وجهه وانبسط إليه، فلمَّا انطلق الرجل قالت له عائشة:
__________
كقول امرئ القيس:
وليس بذي رمح فيطعنني به ... وليس بذي سيف وليس بنبال
فلا يرد أن المصطفى ليس فيه قليل ولا كثير مما ذكر, وبقية الحديث في البخاري، كان يقول: لأجدنا عند المعتبة ماله تربت جبينه -فتح الميم، وسكون المهملة، وفتح الفوقية، وكسرها، فموحدة- مصدر عتب، وهو خطاب الإدلال، ومذاكرة الموجدة، وتربت جبينه: كلمة جرت على لسان العرب، لا يريدون حقيقتها، أو دعاء له بالطاعة، أي: يصلي، فيتترب جبينه، أو عليه بأن تسقط رأسه على الأرض من جهة جبينه، "والفحش كل ما خرج عن مقداره حتى يستقبح، ويدخل فيه القول" وهو الزيادة على الحد في الكلام السيء، "والفعل والصفة" كذلك, "لكن استعماله في القول أكثر، والمتفحش -بالتشديد: الذي يتعمَّد ذلك، ويكثر منه، ويتكلفه"، فالمراد قريبًا: لم يكن الفحش خلقًا له، ولا مكتسبًا.
"وعن عائشة -رضي الله عنها- أن رجلًا استأذن على النبي -صلى الله عليه وسلم" زاد في رواية: وأنا عنده، "فلما رآه" علمه بأن أخبر أنه فلان، أو بصر به، أي: فأذن له، فلمَّا رآه حين فتح الباب، "قال": بئس أخو العشيرة" أي: الواحد منها، يقال: هو أخو تميم، أي: واحد منهم، "وبئس ابن العشيرة" بمعنى ما قبله جاء به زيادة في ذمّه, هكذا رواه البخاري، بالواو، وكذا مسلم، لكنه عبَّر بالقوم، فقال: أخو القوم, وبئس ابن القوم، قال الحافظ: وهي بالمعنى، ورواه الترمذي، والبخاري في موضع آخر: بئس ابن العشيرة، أو أخو العشيرة بالشكّ، "فلمَّا جلس تطلَّق" -بفوقية، فطاء مهملة، فلا ثقيلة، فقاف مفتوحات- قال في الفتح: أي: أبدى له طلاقة وجهه، وفي رواية: بشَّ "النبي -صلى الله عليه وسلم- في وجهه، وانبسط إليه" أظهر البشر والسرور بحضوره، وهذه صفة تقوم بالذات، لا دلالة لها لغة على أنه خاطبه، لكن في رواية للبخاري في محل ثان: فلما دخل أَلَانَ له الكلام، وفي رواية الترمذي، ثم أذن له، فأَلَانَ له القول، فهو قد فعل معه الأمرين، وهما عرفًا متلازمان.
"فلما انطلق الرجل، قالت له عائشة" مستفهمة، وفيه التفات، وفي رواية الترمذي،(6/28)
يا رسول الله، حين رأيت الرجل قلت له: كذا وكذا، ثم تطلقت في وجهه وانبسطت إليه. فقال -صلى الله عليه وسلم: "يا عائشة، متى عهدتيني فحاشًا، إن شرَّ الناس منزلة عند الله يوم القيامة من تركه الناس اتقاء شره" رواه البخاري.
قال ابن بطال: هذا الرجل هو عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر الفزاري، وكان يقال له: الأحمق المطاع. ..............
__________
والبخاري أيضًا، فلما خرج، قلت: "يا رسول الله، حين رأيت الرجل قلت له" أي: لأجله، وفي شأنه لا أنه خاطبه لفساد المعنى "كذا وكذا ثم تطلقت" سهلت، وانبسطت "في وجهه" يقال: وجه طلق وطليق، أي: مسترسل منبسط غير عبوس، فقوله: "وانبسطت إليه" عطف تفسير، أو معناه: ملت إليه، فهل تاب وصلح حاله بين ما قلت، وبين حضوره عندك، أو لمخالفتك بين الغيبة والحضور؟ حكمة، فهو استفهام، أو تعجب من عدم التسوية، لتقف على الحكمة، "فقال -صلى الله عليه وسلم: "يا عائشة متى عهدتيني؟ " كذا في النسخ بزيادة الياء للإشباع، فإن التاء فاعل، والياء الأخيرة مفعول، فزيادة الياء بين التاء والنون، لا معنى لها سوى الإشباع، والذي في البخاري عهدتني -بفوقية مكسورة، فنون، وكذا نقله عنه في جامع الأصول وغيره، فلعل زيادتها من النسَّاخ؛ إذ لم ينبه المصنف في شرحه، مع استيعابه لجميع الروايات التي روى البخاري بها غالبًا على أنه روي بثبوت الياء، وكذا الكرماني، والحافظ، وغيرهم "فحاشًا" بالتشديد، أي: ذا فحش, وما ربك بظلام، كما سبق.
الكشميهني فاحشًا، "إن شر الناس" استئنافًا، كالتعليل لترك مواجهته، بما ذكر في غيبته، وبيان لوجه الحكمة التي سألتها عائشة، قال العلائي وغيره: ويحتمل أنه علل به مداراته لعموم الناس، وهذا وغيره؛ وأنه ليس فحاشًا، بل شأنه إكرام وإحسان العشرة، وتحمُّل الأذى لما يترتب على ذلك من جموم الفوائد، وعموم العوائد، ثم المعنى على من، ففي رواية الترمذي: "إن من شر الناس منزلة عند الله يوم القيامة، من تركه الناس اتِّقاء شره" أي: قبيح كلامه، وفي رواية للبخاري وغيره "اتقاء فحشه"، أي لأجل اتقاء قبيح قوله وفعله، أو لأجل اتقاء مجاوزته الحد الشرعي، قولًا، أو فعلًا" "رواه البخاري" ومسلم، وأبو داود، ثلاثتهم في الأدب، والترمذي في البر، في جامعه وفي شمائله، "قال ابن بطال، هذا الرجل هو عيينة بن حصن" بكسر، فسكون، "ابن حذيفة بن بدر الفزاري، وكان يقال له: الأحمق" فاسد العقل، "المطاع" لأنه كان يتبعه من قومه عشرة آلاف قناة، لا يسألونه أين يريد؟ ومن حمقه أن دخل على النبي -صلى الله عليه وسلم- وعائشة عنده قبل نزول الحجاب، فقال: من هذه؟ قال: "عائشة"، قال: ألا أنزل لك عن أم البنين؟ فغضبت عائشة، وقالت: من هذا؟ , فقال -صلى الله عليه وسلم: هذا الأحمق المطاع، يعني في قومه،(6/29)
وكذا فسره به القاضي عياض والقرطبي والنووي.
وأخرج عبد الغني من طريق أبي عامر الخزاعي، عن عائشة قالت: جاء مخرمة بن نوفل يستأذن، فلما سمع النبي -صلى الله عليه وسلم- صوته قال: "بئس أخو العشيرة". الحديث.
والمراد بالعشيرة: الجماعة أو القبيلة، وإنما تطلق -صلى الله عليه وسلم- في وجهه تألفًا ليسلم قومه، لأنه كان رئيسهم.
__________
رواه سعيد بن منصور.
وروى الحارث ابن أبي أسامة هذا الحديث مرسلًا، وفيه: "أنه منافق أداريه نفاقه، وأخشى أن يفسد على غيره"، "وكذا فسَّره به القاضي عياض والقرطبي، والنووي" جازمين بذلك؛ ونقله ابن التين عن الداودي، لكن احتمالًا جزمًا، وأخرجه عبد الغني بن سعيد في المبهمات، عن مالك بلاغًا، وابن بشكوال من طريق الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير؛ أن عيينة استأذن، فذكره مرسلًا، "وأخرج عبد الغني بن سعيد "من طريق أبي عامر الخزاعي" كذا في النسخ، وصوابه الخزاز. قال في التقريب: صالح بن رستم المزني، مولاهم أبو عامر الخزاز، بمعجمات البصري، صدوق، كثير الخطأ، مات سنة اثنتين وخمسين ومائة، "عن عائشة، قالت: جاء مخرمة بن نوفل" القرشي، الزهري، صحابي شهير من مسلمة الفتح، وكان له سن عالية، وعلم بالنسب، فكان يؤخذ عنه، وعلم بأنصاب الحرم، فبعثه عمر فيمن بعثه لتحديدها، ومات سنة أربع، أو خمس وخمسين، عن مائة وخمس عشرة سنة، "يستأذن، فلما سمع النبي (ص) صوته، قال: "بئس أخو العشيرة" الحديث" السابق.
قال الحافظ: فيحمل على التعدد، وقد حكى المنذري القولين، فقال: هو عيينة، وقيل مخرمة، وهو الراجح انتهى.
وتُعقِّب بأن حديث تسميته عيينة صحيح، وإن كان مرسلًا، وخبر تسميته مخرمة، فيه أبو يزيد المدني، وفيه كلام، وأبو عامر صالح بن رستم؛ ضعَّفه ابن معين، وأبو حاتم، ولذا قال الخطيب، وعياض وغيرهما: الصحيح أنه عيينة، قالوا: ويبعد أن يقول -صلى الله عليه وسلم- في حق مخرمة ما قال؛ لأنه كان من خيار الصحابة، "والمراد العشيرة: الجماعة" من الناس، لا واحد لها من لفظها، كما في المصباح، "أو القبيلة" قاله عياض، وقال غيره: العشيرة؛ الأدنى إلى الرجل من أهله، وهم ولد أبيه وجده، انتهى.
لإطلاق العشيرة لغة على القبيلة، وعلى بني الأب الأقربين، كما في القاموس، فلها ثلاث إطلاقات، "وإنما تطلّق -صلى الله عليه وسلم- في وجهه، تألفًا ليسلم قومه؛ لأنه كان رئيسهم" فهو أصل في(6/30)
وقد جمع هذا الحديث كما قاله الخطابي علمًا وأدبًا، وليس قوله -عليه الصلاة والسلام- في أمته بالأمور التي يسمهم بها ويضيفها إليهم من المكروه غيبة، وإنما يكون ذلك من بعضهم في بعض، بل الواجب عليه -صلى الله عليه وسلم- أن يبيِّن ذلك ويفصح به، وأن يعرِّف الناس أمرهم, فإن ذلك من باب النصيحة والشفقة على الأمة, ولكنَّه لما جبل عليه من الكرم, وأعطيه من حسن الخلق, أظهر له البشاشة ولم يجبهه بالمكروه، لتقتدي به أمته في اتقاء شر من هذا سبيله, وفي مدارته ليسلموا من شره وغائلته.
__________
طلب المداراة، إذا ترتَّب عليها جلب نفع، أو دفع ضرر، وإلّا ذمَّت، فما كل جانٍ يعزر، ولا كل ذنب يغفر، قال:
ووضع الندى في موضع السيف في العدا ... مضر كوضع السيف في موضع الندى
"وقد جمع هذا الحديث، كما قاله الخطابي علمًا" ومنه الإخبار بأن من ترك لاتقاء شره من شر الناس، ولذا أخذ منه؛ أن ملازمة الشخص الشر والفحش، حتى يخشاه الناس لشره من الكبائر، "وأدبًا" وهو عدم المواجهة بالذم، وإن كان حقًّا، والداراة وغير ذلك، "وليس قوله -عليه الصلاة والسلام- في أمته بالأمور التي يسمهم" بفتح، فكشَّر، أي: يصفهم "بها" سماه وسما، وهو العلامة، باعتبار أنه يصير كالعلامة التي تميزهم عن غيرهم، "ويضيفها" ينسبها "إليهم من المكروه غيبة، وإنما يكون ذلك" غيبة "من بعضهم في بعض، بل الواجب عليه -صلى الله عليه وسلم- أن يبيِّن ذلك، ويفصح به، وأن يعرف الناس أمرهم، فإن ذلك من باب النصيحة والشفقة على الأمة", وليس ذا خاصًّا به، بل ذلك على أمته أيضًا؛ إذ هو إحدى المسائل المذكورة في قوله:
تظلم واستغث واستفت حذر ... وعرف بدعة فسق المجاهر
"ولكنه، لما جبل عليه من الكرم، وأعطيه من حسن الخلق، أظهر له البشاشة، ولم يجبهه بالمكروه، لتقتدي به أمته في اتقاء شر من هذا سبيله" وذلك عذر مسقط للوجوب عن الأمة لا عنه -صلى الله عليه وسلم، فلا يسقط وجوب أمره بالمعروف، ونهيه عن المنكر، خشية العاقبة لقوله: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67] الآية، فلعلَّ حكمة تركه هنا ما علمه أنَّ طلاقة الوجه مع هذا ونحوه سبب لإيمانه وإيمان قومه، فترك التشديد عليهم إنما هو للمصلحة العامة التي اقتضت ذلك؛ "وفي مداراته ليسلموا من شره وعائلته" عطف مرادف، فالغائلة لغةً الشر، واعترض بأن ظاهر كلامه أن هذا من الخصائص، وليس كذلك، بل كل من اطّلع من حال شخص على شيء، وخشي أن غيره يغتر؛ بجميل ظاهره، فيقع في محذورٍ ما، فعليه أن يطلعه على ما يحذر من ذلك قاصدًا نصيحته، وإنما الذي يمكن أن يختص به النبي -صلى الله عليه وسلم، أن يكشف له(6/31)
وقال القرطبي: فيه جواز غيبة المعلن بالفسق أو الفحش ونحو ذلك, مع جواز مداراتهم اتقاءً لشرهم ما لم يؤد ذلك إلى المداهنة في دين الله.
ثم قال تبعًا للقاضي حسين: والفرق بين المداراة والمداهنة، أنَّ المداراة بدل الدنيا لصلاح الدنيا أو الدين أو هما معًا, وهي مباحة وربما استحسنت، والمداهنة بذل الدين لصلاح الدنيا، والنبي -صلى الله عليه وسلم- إنما بذل له من دنياه حسن عشرته والرفق في مكالمته، ومع ذلك فلم يمدحه بقول، فلم يناقض قوله فيه فعله، فإن قوله فيه حق، وفعله معه حسن عشرة، فيزول مع هذا التقرير الإشكال ولله الحمد.
__________
عن حال من يغتر بشخص من غير أن يطَّلع المغتر على حاله، فيذم الشخص بحضرته ليجتنبه المغتر، ليكون نصيحة بخلاف غيره -صلى الله عليه وسلم، فإن جواز ذمه للشخص يتوقف على تحقق الأمر بالقول أو الفعل ممن يريد نصحه.
"وقال القرطبي: فيه جواز غيبة المعلق بالفسق، أو الفحش، ونحو ذلك" من الجور في الحكم والدعاء إلى البدعة، "مع جواز مداراتهم اتقاءً لشرهم، ما لم يؤد ذلك إلى المداهنة في دين الله", وهي معاشرة المعلن بالفسق، وإظهار الرضا بما هو فيه من غير إنكار عليه باللسان، ولا بالقلب، "ثم قال" القرطبي: "تبعًا للقاضي حسين، والفرق بين المداراة والمداهنة، أن المداراة بذل الدنيا لصلاح الدنيا، أو الدين، أو هما معا" ومن البذل لين الكلام، وترك الإغلاظ في القول، والرفق بالجاهل في التعليم، والفاسق في النهي عن فعله، وترك الإغلاظ عليه؛ حيث لم يظهر ما هو فيه، والإنكار عليه بلطف حتى يرتدع عما هو مرتكبه، "وهي مباحة، وربما استحسنت" فكانت مستحبة، أو واجبة للديلمي في الفردوس، عن عائشة مرفوعًا: "إن الله أمرني بمداراة الناس، كما أمرني بإقامة الفرائض"، ولابن عدي، والطبراني، عن جابر رفعه: "مداراة الناس صدقة"، وفي حديث أبي هريرة: "رأس العقل بعد الإيمان بالله؛ مداراة الناس، أخرجه البيهقي، بسند ضعيف، وعزاه في فتح الباري للبزار وتعقبه السخاوي؛ بأن لفظ البزار التودد إلى الناس.
"والمداهنة بذل الدين لصلاح الدنيا؛ والنبي -صلى الله عليه وسلم- إنما بذل له من دنياه حسن عشرته، والرفق في مكالمته", وليس ذلك من بذل الدين في شيء، "ومع ذلك، فلم يمدحه بقولٍ, فلم يناقض قوله فعله؛ فإن قوله فيه" بئس ابن العشيرة، "حق وفعله معه حسن، عشرة فيزول مع هذا التقرير الإشكال" الذي هو أن النصيحة فرض، وطلاقه الوجه، والأنة القول يستلزمان الترك، وحاصل جوابه أن الفرض سقط لعارض، "ولله الحمد" على فهم ما ظاهره يشكل علينا، ففهمه(6/32)
وقال القاضي عياض: لم يكن عيينة -والله أعلم- حينئذ أسلم، فلم يكن القول فيه غيبة، أو كان أسلم ولم يكن إسلامه ناصحًا، فأراد النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يبين ذلك لئلَّا يغترَّ به من لم يعرف باطنه، وقد كانت منه في حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- وبعده أمور تدل على ضعف إيمانه، فيكون ما وصفه به -عليه الصلاة والسلام- من علامات النبوة، وأما الأنة القول بعد أن دخل, فعلى سبيل الاستئلاف, وفي فتح الباري: إن عيينة ارتدَّ في زمن الصديق وحارب, ثم رجع وأسلم وحضر بعض الفتوح في عهد عمر. انتهى.
__________
من النعم، "وقال القاضي عياض: لم يكن عيينة والله أعلم حينئذ أسلم"؛ لأنه أسلم قبل فتح مكة، وشهدها وحنينًا والطائف، وكان من المؤلَّفة، ولم يصح له رواية، قال ابن السكن: وأخرج في ترجمته هو وقاسم بن ثابت في الدلائل، عن عيينة بن حصن، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "إن موسى أجَّر نفسه بعفة فرجه وشبع بطنه" الحديث.
"فلم يكن القول فيه غيبة، أو كان أسلم، ولم يكن إسلامه ناصحًا" بل كان من المؤلَّفة الذين أعطوا من غنائم حنين، "فأراد النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يبيِّنَ ذلك؛ لئلَّا يغترَّ به من لم يعرف باطنه، وقد كانت منه في حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- وبعده أمور تدل على ضعف إيمانه" كدخوله على المصطفى بلا إذن، فقال له: "اخرج فاستأذن"، فقال: إنها يمين عليَّ أن لا أستأذن على مضري، وقوله: لعمر في خلافته ما تعطي الجزل، ولا تقسم بالعدل، فغضب، فقال له الجد بن قيس: إن الله يقول: {وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199] الآية، فتركه، ودخل على عثمان، فأغلظ له، فقال عثمان: لو كان عمر ما قدمت عليه، "فيكون ما وصفه به -عليه الصلاة والسلام- من علامات النبوة، وأمَّا الأنة، القول بعد أن دخل" على المصطفى، في المحل الذي كان فيه؛ "فعلى سبيل الاستئلاف، وفي فتح الباري أن عيينة ارتدَّ في زمن الصديق، وحارب" وبايع طلحة، قال بعضهم: فجيء به إلى الصديق أسيرًا، فكان الصبيان يصيحون به في أزقَّة المدينة، هذ الذي خرج من الدين، فيقول: عمكم لم يدخل حتى خرج، "ثم رجع، وأسلم، وحضر بعض الفتوح في عهد عمر أ. هـ".
وفي الإصابة: قرأت في كتاب الأم للشافعي، في كتاب الزكاة، أنَّ عمر قتل عيينة على الردة، ولم أر من ذكر ذلك غيره، فإن كان محفوظًا، فلا يذكر عيينة في الصحابة؛ لكن يحتمل أن يكون أمر بقتله، فبادر إلى الإسلام، فعاش إلى خلافة عثمان، وفيها أيضًا ترجمة طليحة نقلًا عن الأم، أنَّ عمر قتلهما على الردة، فراجعت في ذلك جلال الدين البلقيني، فاستغربه،(6/33)
وما انتقم -صلى الله عليه وسلم- لنفسه. رواه البخاري.
فإن قلت: قد صح أنه -صلى الله عليه وسلم- أمر بقتل عقبة بن أبي معيط وعبد الله بن خطل وغيرهما ممن كان يؤذيه -صلى الله عليه وسلم, وهذا ينافي قوله: وما انتقم لنفسه.
فالجواب: إنهم كانوا مع ذلك ينتهكون حرمات الله.
وقيل: أراد أنه لا ينتقم إذا أوذي في غير السبب الذي يخرج إلى الكفر، كما عفا عن الأعرابي الذي جفا في رفع صوته عليه، وعن الآخر الذي جبذ بردائه حتى أثر في كتفه.
وحمل الداودي عدم الانتقام على ما يخص بالمال، وأما العرض فقد اقتص ممن نال منه.
وقد أخرج الحاكم هذا الحديث من طريق معمر عن..................................
__________
وقال: لعله قبلهما، بالباء الموحدة.
وقال القرطبي: في هذا الحديث إشارة، إلى أن عيينة خُتِمَ له بسوء؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- ذمَّه، وأخبر بأنَّ من كان كذلك كان شر الناس، وردَّه الحافظ بأن الحديث ورد بلفظ العموم، وشرط من اتصف بالصفة المذكورة أن يموت على ذلك، وقد ارتدَّ عيينة، ثم أسلم كما مرَّ. انتهى.
"وما انتقم -صلى الله عليه وسلم- لنفسه" خاصة، "رواه البخاري" ومسلم، وأبو داود في حديث عن عائشة، قالت: ما خُيِّرَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بين أمرين إلّا أخذ أيسرهما ما لم يكن إثمًا، فإن كان إثمًا كان أبعد الناس منه، وما انتقم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لنفسه إلّا أن تنتهك حرمة الله فينقتم لله، "فإن قلت: قد صح أنه -صلى الله عليه وسلم- أمر بقتل عقبة" بالقاف، "ابن أبي معيط" بعد أسره يوم بدر، "وعبد الله بن خطل" بمعجمه، فمهملة مفتوحتين، يوم فتح مكة "وغيرهما، ممن كان يؤذيه -صلى الله عليه وسلم, وهذا ينافي قوله" أي: الراوي، وهو عائشة، "وما انتقم لنفسه، فالجواب أنهم، كانوا مع ذلك ينتهكون حرمات الله" فقتلهم لذلك لا لنفسه، "وقيل: أراد" الشخص الراوي عائشة، "أنه لا ينتقم إذا أوذي في غير السبب الذي يخرج إلى الكفر، كما عفا عن الأعرابي الذي جفا في رفع صوته عليه؛ وعن الآخر الذي جبذ بردائه حتى أثر في كتفه" ومرَّ حديثه قريبًا، "وحمل الداودي" أحمد بن نصر، شارح البخاري، "عدم الانتقام على ما يختص بالمال، قال: وأما العرض، فقد اقتص ممن نال منه" قال: واقتص ممن لده في مرضه بعد نهيه عن ذلك، بأن أمر بلدهم، مع أنهم كانوا في ذلك، تأولوا أنه إنما نهاهم على عادة البشرية من كراهة النفس للدواء.
قال في الفتح: كذا قال: "وقد أخرج الحاكم هذا الحديث، من طريق معمر عن(6/34)
الزهري مطولًا، وأوَّله: ما لعن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مسلمًا بذكر -أي: بصريح اسمه- وما ضرب بيده شيئًا قط إلّا أن يضرب في سبيل الله، ولا سُئِلَ شيئًا قط فمنعه إلّا أن يسئل مأثمًا، ولا انتقم لنفسه من شيء إلا أن تُنْتَهَكَ حرمات الله فيكون لله ينتقم. الحديث.
ومما روي من اتساع خلقه وحلمه -صلى الله عليه وسلم، اتساع خلقه للطائفة المنافقين الذين كانوا يؤذونه إذا غاب ويتملَّقون له إذا حضر، وذلك مما تنفر منه النفوس البشرية حتى تؤيدها العناية الربانية.
وكان -صلى الله عليه وسلم- كُلَّمَا أذن له في التشديد عليهم فتح لهم بابًا من الرحمة، فكان يستغفر لهم ويدعو لهم، حتى أنزل الله عليه: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} [التوبة: 80] فقال -عليه الصلاة والسلام: "خيَّرَنِي ربي فاخترت أن أستغفر لهم"،..............................
__________
الزهري" بهذا الإسناد، كما في الفتح، أي: بإسناد الزهري، وهو عروة عن عائشة مرسل، كما يوهمه تصرف المصنف، "مطولًا، وأوَّله ما لعن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مسلمًا يذكر، أي: بصريح تفسير لذكر "اسمه، وما ضرب بيده شيئًا قط" آدميًّا، ولا غيره، كما يأتي "إلّا أن يضرب في سبيل الله" فيضرب أن احتاج، "ولا سُئِلَ شيئًا قط فمنعه" بل يعطيه إن كان عنده وإلّا وعد، "إلّا أن يسأل مأثمًا" مصدر ميمي، بمعنى إثما، أي: ما فيه إثم من قول، أو فعل، "ولا انتقم لنفسه من شيء إلَّا أن تنتهك" -بضم الفوقية، وسكون النون، وفتح الفوقية- والهاء، أي: لكن إذا انتهكت "حرمات الله، فيكون لله ينتقم" لا لنفسه، ممن ارتكب تلك الحرمة، "الحديث" زاد في الفتح، وهذا السياق.
سوى صدر الحديث عند مسلم، من طريق هشام، عن أبيه، عن عائشة، وأخرجه الطبراني في الأوسط من حديث أنس، وفيه: "ما انتقم لنفسه إلّا أن تنتهك حرمة الله، فإن انتهكت حرمة الله كان أشد الناس غضبًا لله، "ومما روي من اتساع خلقه وحلمه -صلى الله عليه وسلم، اتساع خلقه لطائفة المنافقين" قال ابن عباس: كان المنافقون من الرجال ثلاثمائة، ومن النساء مائة وسبعين، "الذين كانوا يؤذونه، إذا غاب يتملقون" ويتوددون "له إذا حضر، وذلك مما تنفر منه النفوس البشرية، حتى تؤيدها العناية الربانية؛ وكان -صلى الله عليه وسلم- كلما أذن له في التشديد عليهم، فتح لهم بابًا من الرحمة" لأنه رحمة، "فكان يستغفر لهم، ويدعو لهم، حتى أنزل الله عليه: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} [التوبة: 80] الآية، فقال -عليه الصلاة والسلام: "خَيَّرَني ربي" بين الاستغفار وتركه، "فاخترت أن أستغفر لهم" واستشكل فهم التخيير في الآية؛ لأن المراد بهذا العدد، أن(6/35)