ورجعت إلى خديجة فقلت: دثروني دثروني، فنزل جبريل وقال: يا أيها المدثر". وعن عكرمة: يا أيها المدثر بالنبوة وأثقالها قد تدثرت هذا الأمر فقم به.
وقيل: ناداه بالمزمل والمدثر في أول أمره، فلما شرع خاطبه الله تعالى بالنبوة والرسالة.
وأما "طه" فروى النقاش عنه عليه الصلاة والسلام: "لي في القرآن سبعة أسماء" فذكر.
__________
بفتح الراء وضم العين، أي نزعت.
قال الحافظ: وهذا يدل على بقية بقيت معه من الفزع الأول ثم زالت بالتدريج، "ورجعت إلى خديجة فقلت: دثروني دثروني" مرتين، هكذا في الصحيحين في التفسير وللبخاري "زملوني زملوني"، ورجحت الأولى باتفاقهما، وبأنها كما قال الزركشي أنسب بقوله، "فنزل جبريل وقال يا أيها المدثر"، إيناسا له وتلطفا والمعنى يا أيها المدثر بثيابه على الصواب الذي عليه الجمهور، كما قال النووي، وعن عكرمة يا أيها المدثر بالنبوة، وأثقالها، وقد تدثرت هذا الأمر" كالمدثر بالثياب "فقم به" مقام تصميم، فهو مجاز، وروى الطبراني بسند ضعيف عن ابن عباس، أن الوليد بن المغيرة صنع طعاما لقريش، فلما أكلوا، قال: ما تقولون في هذا الرجل، فقال بعضهم ساحر، وبعضهم كاهن، وبعضهم شاعر، وبعضهم سحر يؤثر فحزن صلى الله عليه وسلم وقنع رأسه، وتدثر، فأنزل الله {يَا أَيُّهَا الْمُدثر} إلى قوله {وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} ، "وقيل ناداه بالزمل، والمدثر في أول أمره" بالتبليغ بعد ثلاث سنين، لا في أول ما أوحى إليه كما توهمه من جعلها أول ما نزل، كما مر بسطه، "فلما شرع" في الإنذار والتبليغ "خاطبه الله تعالى بالنبوة والرسالة" أي يا أيها النبي، يا أيها الرسول، إجلالا له وتبجيلا ولم يناده باسمه في القرآن ويرحم الله القائل:
ودعا جميع الرسل كلا باسمه ... ودعاك وحدك بالرسول وبالنبي
وذكر السهيلي أيضا نحو ما مر في المزمل من أنه ملاطفة وتأنيس على عادة العرب، كقوله عليه السلام لحذيفة: "قم يا نومان"، فلو ناداه تعالى باسمه، أو بالأمر المجرد من الملاطفة وهو في تلك الحالة لهاله ذلك، فلما بدأه بالمدثر علم رضاه عليه وهو مطلوبه وبه كانت تهون عليه الشدائد، فإن قيل كيف ينتظم يا أيها المدثر مع قم فانذر، وما الرابط بينهما في البلاغة، قلنا من صفته ما قاله صلى الله عليه وسلم: "أنا النذير العريان والنذير المجد بجرد ثوبه"، والتدثر ضده، ففيه أطباق بين والتئام بديع وسمانة في المعنى، وجزالة في اللفظ انتهى.
"وأماطه فروي النقاش عنه عليه الصلاة والسلام لي في القرآن سبعة أسماء، فذكر(4/276)
منها طه: قيل: هو اسم الله تعالى، وقيل معناه: يا رجل، وقيل: يا إنسان، وقيل: يا طاهر يا هادي يعني النبي صلى الله عليه وسلم، وهو مروي عن الواسطي، وقيل معناه: يا مطمع الشفاعة للأمة، ويا هادي الخلق إلى الملة، وقيل: الطاء في الحساب بتسعة والهاء بخمسة وذلك أربعة عشر فكأنه قال: يا بدر، وهذا من محاسن التأويل، لكن المعتمد أنهما من أسماء الحروف.
وأما "يس" فحكى أبو محمد مكي.
__________
منها طه، كما تقدم لفظه قبل سرد الأسماء، "قيل هو اسم الله تعالى" حكاه عياض وغيره ونقل عن ابن عباس، فيكون ما سمي به من أسمائه تعالى، وقيل "معناه يا رجل" أي رجل وحرف النداء مقدر معه. ورواه البيهقي عن ابن عباس: وقال به جماعة وهل بالنبطية، وهي لغة سواد العراق أو السريانية أو الحبشية أو عك أو عكل خلاف بسطه المصنف في المقصد السادس، وقال فيه إن الزمخشري، قال: كان أصله يا هذا فقلبوا الياء طاء واقتصروا عليه وإن أبا حيان رده بأنه لا يوجد في لسان العرب قلب ياء النداء طاء، ولا حذف اسم الإشارة وإبقائها التنبيه "وقيل" معناه " يا إنسان نقله البغوي عن الكلبي وقال إنه لغة عك وغاير يا رجل من حيث شموله لغة للأنثى لفظا وإن كان المراد الذكر صلى الله عليه وسلم، "وقيل" معناه "يا طاهر" من كل ذنب وعيب و"يا هادي" إلى كل خير، فكل حرف منه بعض اسم فهو اسم مركب من أسمى حرفين، كما قيل في الم "يعني النبي صلى الله عليه وسلم" وهو مروي عن الواسطي" أبي بكر محمد بن موسى، الإمام العارف من كبار أتباع الجنيد له، تكلم في أصول التصوف حسن وكرامات، توفي بمرو بعد العشرين وثلاثمائة، وهذا المروي عنه نقله عياض في الباب الأول ولفظه.
قال الواسطي أراد يا طاهر يا هادي، فقول الشامي بعد أن حكاه بقيل ذكره الواسطي، أي القيل استنباطا من عند نفسه، لا حكاية عن بعضهم بلفظ، قيل، كما توهم، "وقيل معناه" يا مطمع" بضم الميم، وسكون الطاء اسم فاعل من أطمع "الشفاعة للأمة" ويا هادي الخلق إلى الملة" وهذا من نمط ما قبله من أن كل حرف بعض اسم، "وقيل الطاء في الحساب بتسعة، والهاء بخمسة وذلك أربعة عشر فكأنه، قال يا بدر"، فإن الباء باثنين والدال بأربعة، والراء بثمانية، وهذه الأقوال الثلاثة التي بعد يا إنسان "من محاسن التأويل" وصرح في المقصد السادس، وقد ذكر الأقوال الثلاثة بأن هذه الأقوال، لا يعتمد عليها؛ إذ هي كما قال المحققون من بدع التفسير، ويحتمل هنا عود اسم الإشارة، لما قبل الثلاثة أيضا لقوله "لكن المعتمد أنها من أسماء الحروف" التي رجح جماعة أنها مما استأثر الله بعلمه.
"وأما يس، فحكى أبو محمد مكي" بن أبي طالب بن محمد القيسي، الفقيه المالكي،(4/277)
أنه روى عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: "لي عند ربي عشرة أسماء" ذكر منها "يس" وقد قيل معناه" يا إنسان بلغة طيء، وقيل بالحبشية، وقيل بالسريانية، وأصله كما قاله البيضاوي، وابن الخطيب وغيرهما: يا أنيسين: فاقتصر على شطره لكثرة النداء به وقيل يس. لكن تعقب بأنه لا يعلم أن العرب قالوا في تصغيره أنيسين، وأن الذي نقل عنهم في تصغيره أنيسيان، بياء بعدها ألف،.
__________
الأديب المقرئ غلب عليه علم القرآن وكان راسخا فيه، أخذ عن ابن أبي زيد والقابسي بالقيروان ورحل وحج، فأخذ عن ابن فارس وإبراهيم المروزي وجماعة، ثم عاد إلى قرطبة فعلا ذكره، ورحل الناس إليه من كل قطر، وله تصانيف كثيرة روى عنه ابن عتاب وغيره مات سنة سبع وثلاثين وأربعمائة "أنه روى" بالبناء للمفعول "عنه عليه الصلاة والسلام أنه، قال: "لي عند ربي" أي في علمه يعني أن الذي سماه اعتناء وتكريما "عشرة أسماء" ذكر منها يس" ولفظه أنا محمد وأحمد، والفاتح والخاتم، وأبو القاسم والحاشر والعاقب والماحي ويس وطه، أخرجه ابن مردويه، وأبو نعيم عن أبي الطفيل، وضعفه ابن دحية، وتبعه السيوطي بأن فيه أبا يحيى وضاع، وسيف بن وهب ضعيف.
قال الشامي: وليس كذلك، فإن أبا يحيى التيمي اثنان إسماعيل بن يحيى الوضاع المجمع على تركه وليس هو الذي في سند هذا الحديث. وإسماعيل بن إبراهيم التيمي، كذا سمي هو، وأبوه، في رواية ابن عساكر، وهو كما قال الحافظ في التقريب ضعيف انتهى، أي لا وضاع فيكون في سنده ضعيفان، فهو ضعيف فقط، ورواه البيهقي عن محمد بن الحنفية مرسلا فيعتضد وقول السهيلي لو كان من أسمائه، لقيل يس بالضم رده تلميذه ابن دحية بأنه غير لازم مع أنه قرئ بالضم أيضا "وقد قيل معناه" يا "إنسان" بلغة طيء" قاله ابن عباس والحسن وغيرهما، "وقيل بـ" اللغة "الحبشية" قاله مقاتل، "وقيل بالسريانية" حكاه الكلبي، وقيل بلغة كلب، "وأصله، كما قال البيضاوي وابن الخطيب"، الإمام فخر الدين الرازي "وغيرهما" كالزمخشري "يا أنيسين فاقتصر على شطره" بعضه "لكثرة النداء به"، كما، قيل م الله في ايمن الله، "وقيل" حين اقتصر "يس" وهذا لفظ الزمخشري وتبعه البيضاوي بادئا له بلفظ، قيل ولفظ الرازي وتقريره أن تصغير إنسان أنيسين وكأنه أخذ الصدر وحذف العجز، وقيل يس فعلى هذا يكون الخطاب معه صلى الله عليه وسلم، ويدل عليه إنك لمن المرسلين، "لكن تعقب" المتعقب أبو حيان، "بأنه لا يعلم" بالبناء للمفعول "أن العرب، قالوا في تصغيره أنيسين" كما ادعاه الزمخشري وموافقوه "وأن الذي نقل عنهم في تصغيره أنيسيان بياء بعدها ألف" قال أعني أبا حيان، فدل على أن أصله أنسيان؛ لأن التصغير يرد الأشياء إلى أصولها ونحوه في المصباح وظاهرهما أنه لم(4/278)
وبأن التصغير من التحقير الممتنع في حق النبوة لنصهم على أن التصغير لا يدخل في الأسماء العظيمة شرعا، ويأتي مزيد لذلك إن شاء الله تعالى في الفصل الرابع من النوع الخامس من أنواع المقصد السادس. وعن ابن الحنفية: معناه يا محمد، وعن أبي العالية: يا رجل، وعن أبي بكر الوراق: يا سيد البشر، وعن جعفر الصادق: يا سيد مخاطبة له عليه الصلاة والسلام وفيه من تعظيم على تفسير أنه يا سيد ما فيه.
__________
يسمع في تصغيره إلا هذا.
لكن قال شيخنا في التقرير هو معارض بنقل الرازي والزمخشري وغيرهما؛ لأنهم مثبتون، وأبو حيان ناف فيقدم المثبت؛ لأن النافي لم يصحبه دليل نفيه، وأما قوله الذي نقل عنهم فباعتبار ما بلغه، "وبأن التصغير من التحقير الممتنع في حق النبوة لنصهم" أي العلماء، "على أن التصغير، لا يدخل في الأسماء العظيمة شرعا" كأسماء الله، وأنبيائه لإبهامه التحقير، وإن جاء للتعظيم في قوله دويهة؛ لأنه إنما جاء فيما يجوز تصغيره، فصغروه تلطفا منهم، كما قيل:
ما قلت حبيبي من التحقير ... بل يعذب اسم الشيء بالتصغير
وأجاب شيخنا في التقرير باحتمال جواز دخوله فيها، لا بقصد التحقير، لكنه مجرد احتمال صادمه النص.
قال المصنف في المقصد السادس نصوا على أن التصغير لا يدخل في الأسماء المعظمة شرعا، ولذا حكي أن ابن قتيبة، لما قال المهيمن مصغره مؤمن، وأصله مؤيمن، فأبدلت الهمزة هاء، قيل له هذا يقرب من الكفر فليتق الله قائله انتهى، وهذا صريح في صحة قوله هنا لنصهم من النص، ويقع في بعض النسخ لنصبهم بزيادة ميم وموحدة على أنه تعليل لامتناعه في حق النبوة، أي لمنصبهم العظيم، ثم ما بعده علاوة مفيدة للترقي، والمعنى فإذا كان كذلك في حق كل عظيم فالمصطفى أولى، "ويأتي مزيد لذلك إن شاء الله تعالى في الفصل الرابع من النوع الخامس من أنواع المقصد السادس، وعن ابن الحنفية" محمد بن علي بن أبي طالب الهاشمي، الثقة العالم المدني، المتوفى بعد الثمانين من رجال الستة اشتهر بأمه، "معناه يا محمد وعن أبي العالية" رفيع براء، ففاء مصغر ابن مهران بكسر الميم الرياحي، بكسر الراء، وتحتية التابعي الثقة معناه "يا رجل" والمراد به محمد صلى الله عليه وسلم، "وعن أبي بكر الوراق" معناه "يا سيد البشر" ويلزم منه سيادته على غيرهم لشرف نوع الإنسان حتى على الملك على الأصح المرتضى، وعن جعفر الصادق، لصدقه في مقاله ابن محمد الباقر بن علي بن الحسين، "يا سيد مخاطبة له عليه الصلاة والسلام" بفتح الطاء، والنصب بفعل مقدر، أي خاطبه به مخاطبة مخصوصة به، والتوجيه من جعفر، كما في الشفاء قائلا، "وفيه من تعظيمه" وتمجيده "على تفسير يا سيد ما فيه" قال(4/279)
وأما "الفجر" فقال ابن عطاء في قوله تعالى: {وَالْفَجْرِ، وَلَيَالٍ عَشْرٍ} [الفجر: 1، 2] ، الفجر محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأن منه تفجر الإيمان.
وهو تأويل غريب
__________
شارحه فيه إيجاز ومبالغة، أي فيه أمر عظيم، لا يمكن الوقوف عليه، كقوله الحاقة، ما الحاقة لوصفه بالسيادة المطلقة المفيدة للعموم في المقام الخطابي فيفيد تفوقه على من سواه؛ لأنه واسطة كل خير، وهو اكتفاء ببعض الكلمة عن باقيها، وسمع من العرب حكاه سيبويه وغيره فيقولون: ألاتا، بمعنى ألا تفعل، فيقول: بلى، فا أي أفعل وفي الحديث كفى بالسيف شا أي شاهدا وقال التجاني التحقيق إنهم يكتفون ببعض حروف الكلمة معبرين باسم بعض حروفها كقوله:
قلت لها قفي فقالت قاف
أي وقفت، فيحتمل أن يس عبر عنه باسمين من أسماء حروفه، لا بمسماه، كما، قاله الرازي، وإن كانت العرب قد تكتفي ببعض الكلمة كقوله:
كانت مناها بأرض لا يبلغها
أي منايها وقوله:
درس المنا بمتالع فابان
أي المنازل ونظائره كثيرة، وليس من ترخيم غير المنادى، بل من ذكر حرف من كلمة إشارة إلى بقيتها انتهى ملخصا.
"وأما الفجر، فقال" الإمام أبو العباس أحمد بن محمد بن سهل "بن عطاء" الزاهد البغدادي المعروف بالآدمي، قيل: كان يختم كل ليلة ختمة، وصحب الجنيد، مات سنة تسع، أو إحدى عشرة وثلاثمائة فـ "في قوله تعالى: {وَالْفَجْرِ، وَلَيَالٍ عَشْرٍ} الفجر محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنه منه تفجر الإيمان" بفتح التاء وضم الجيم الثقيلة مصدر، وبفتح الجيم فعل، فالإيمان بالجر والرفع من تفجر الصبح طلع، قاله ابن رسلان أما على تشبيه الإيمان بالنور المشرف من أفق الوحي الماحي لظلمة الكفر، أو استعارة مكنية لتشبيهه بالماء، وإثبات التفجر له تخييل، قاله الدلجي، وقال غيره الأحسن أن يشبه الصبح، وأنواره بماء تفجر، ثم يستعار ذلك لشهرته، لما ظهر منه صلى الله عليه وسلم من الدين والتوحيد كما قال ابن تميم:
انظر إلى الصبح المنير، وقد بدا ... يغشى الظلام بمائه المتدفق
غرقت به زهر النجوم، وإنما ... سلم الهلال لأنه كالزورق
"وهو تأويل غريب" لأنه خلاف الظاهر، والقرآن والأحاديث لا يعدل عن ظاهرها إلا(4/280)
لم ير لغيره، والصواب أنه الفجر المفسر بالصبح في قوله تعالى: {وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّس} [التكوير: 18] .
وأما "القوي" فقال تعالى: {ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} [التكوير: 20] قيل محمد، وقيل جبريل عليهما الصلاة والسلام، وسيأتي في المقصد الثالث ما في ذلك.
وأما ما قاله ابن عطاء في قوله تعالى: {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} [ق: 1] أقسم بقوة قلب حبيبه محمد صلى الله عليه وسلم حيث حمل الخطاب والمشاهدة ولم يؤثر ذلك فيه لعلو حاله،
__________
بدليل "لم ير لغيره" وقد اعترضوه بأنه مع غرابته بعيد مخل بالانتظام، فإن عطف ليال عشر عليه بالواو، ومن غير جهة جامعة، كقولك الشمس ومرارة الأرنب والبازنجان محدثة مخل بالبلاغة، وأجيب بأن من فسر الفجر به يفسر الليالي بعشر رمضان، وقد كان صلى الله عليه وسلم يجتهد فيها في العبادة والخيرات التي لا تحصى، فيصير المعنى على هذا أقسم بمحمد صلى الله عليه وسلم في حالته التي جد في عبادتي والتقرب إلي فيها، وأي مناسبة أتم من هذه "و" لكن "الصواب" وهو قول المحققين من المفسرين "أنه" على حقيقته، وهو الفجر المفسر بالصبح"، أو فلقه "في قوله تعالى {وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّس} امتد حتى يصير نهارا بينا، أو هو بتقدير مضاف، أي صلاة الفجر والليالي العشر عشر ذي الحجة فلا شاهد في الآية على أنه من أسمائه صلى الله عليه وسلم "وأما القوي" من الصفات المشبهة، أي الشديد المتمكن، وهو من أسمائه تعالى، ومعناه القادر، كما قال الخطابي وعياض، "فقال تعالى: {ذِي قُوَّةٍ} على تبليغ ما حمله من الوحي، أي القرآن {عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} أي مكين رفيع المحل عند ربه.
"قيل محمد، وقيل جبريل عليهما الصلاة والسلام، وسيأتي في المقصد الثالث ما في ذلك" وهو ترجيح أنه جبريل" وأما ما قاله ابن عطاء" نسبه إلى جده، كما علم في قوله تعالى: {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} ، أقسم بقوة قلب حبيبه محمد صلى الله عليه وسلم فق بمعنى قوة على نهج الأكتفاء كقوله:
قلت لها قفي، فقالت قاف
"حيث حمل" تجمل وأطاق "الخطاب" من الله، "والمشاهدة" له سبحانه ليلة الإسراء، أو مشاهدة الملكوت ومهابته مما تنهد له الجبال، أو مشاهدة التجليات القلبية، "ولم يؤثر ذلك فيه" أي لم يصعب ويشق عليه حتى يمنعه من تحمل مثله "لعلو حاله" تعليل لما قبله، أي إن(4/281)
فلا يخفى ما فيه.
وأما "النجم" فعن جعفر بن محمد بن علي بن الحسن في تفسير قوله تعالى: {وَالنَّجْمِ} [النجم: 1] أنه محمد صلى الله عليه وسلم {إِذَا هَوَى} إذا نزل من السماء ليلة المعراج، وحكى السلمي قوله تعالى: {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ، النَّجْمُ الثَّاقِبُ} [الطارق: 1-3] أن النجم هنا محمد صلى الله عليه.
__________
له حالا في ثبات الجنان ورفعة الشأن، لما رسخ في قلبه من اليقين، "فلا يخفى ما فيه" إذ لا إشعار له بذلك، بل صرح فيه أنه أقسم بالقرآن ولفظ ق يحتمل أن أقسم به أيضا، وأنه اسم للسورة، أو الجبل، أو الأمر، أو غير ذلك فاستنباط مثل ذلك من مجرد لفظ، لا يدل عليه، لا ينبغي في القرآن، وقد عورض بالمثل، فقيل: لم لا يجوز أن يكون من قدرة الله؟، "وأما النجم فعن جعفر" الصادق "بن محمد" الباقر "بن علي" زين العابدين "بن الحسين" السبط ابن علي رضي الله عنهم أن جعفرا قال "في تفسير قوله تعالى: {وَالنَّجْمِ} أنه محمد صلى الله عليه وسلم" وإن معنى قوله: " {إِذَا هَوَى} إذا نزل من السماء ليلة المعراج" من الهوى بفتح الهاء وشد الياء وهو الذهاب في انحدار، لا بضمها؛ لأنه الذهاب في ارتفاع، وقال جعفر أيضا النجم قلب محمد هوى انشرح من الأنوار.
وقال أيضا في هوى انقطع عن غير الله، كما في الشفاء.
"وحكى" أبو عبد الرحمن محمد بن الحسين الأزدي "السلمي" بضم، ففتح نسبة إلى جد له اسمه سليم النيسابوري، الحافظ، المحدث، الورع، الزاهد، الصوفي، صاحب التصانيف نحو المائة سمع الأصم وغيره، وعنه الحاكم وغيره، وهو ثقة، كما قال الخطيب.
قال السبكي، وهو الصحيح، ولا عبرة بقول القطان أنه كان يضع للصوفية، وله كرامات وتوفي سنة اثنتي عشرة وأربعمائة "في قوله تعالى: {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ} ، أعلمك "ما الطارق" مبتدأ وخبر في محل المفعول الثاني لأدري وما بعد ما الأولى خبرها، وفيه تفخيم لشأن الطارق، هو "النجم الثاقب" المضيء كأنه يثقب الظلام لشدة إضاءته أبهمة ثم فسره للتعظيم.
"إن النجم هنا محمد صلى الله عليه وسلم" فسماه النجم، وأقسم به قال النعماني في الآية الأولى: ويعجبني هذا التفسير لوجوه فإنه صلى الله عليه وسلم نجم هداية، خصوصا لما هدى إليه من فرض الصلاة تلك الليلة، وقد علمت منزلتها من الدين، ولأنه أضاء في السماء والأرض، وللتشبيه بسرعة السير، ولأنه كان ليلا، وهو وقت ظهور النجم، فلا يخفى على ذي بصر، وأما أرباب البصائر،(4/282)
والصحيح: أن المراد به النجم على ظاهره، وسمي به لأنه يهتدى به في طرق الهدى كما يهتدي بالنجم.
وأما "الشمس" فسمي بها عليه الصلاة والسلام لكثرة نفعه، وعلو رفعته، وظهور شريعته، وجلالة قدره وعظم منزلته؛ لأنه لا يحاط بكماله، حتى لا يسع الرائي له أن ينظر إليه ملء عينيه إجلالا له، كما أن الشمس في الرتبة أرفع من غالب الكواكب لأنها في السماء السادسة، والانتفاع بها أكثر من غيرها كما لا يخفى، ولا يدركها البصر لكبر جرمها،
__________
فلا يمترون كالصديق، "و" لكن "الصحيح" في الآيتين "إن المراد به النجم على ظاهره" أي الثريا، كما اختاره ابن جرير والزمخشري، وصححه السمين؛ لأنه علم لها بالغلبة، قال عمر بن أبي ربيعة:
أحسن النجم
في السماء الثريا ... والثريا في الارض زين السماء
أو الزهرة أو كل نجم، وقيل غير ذلك في الآية الأولى، وفي الثانية أيضا الثريا، أو كل نجم، أو زحل "و" إنما "سمي به" صلى الله عليه وسلم على التشبيه البليغ، أو الاستعارة من مطلق النجم، أو من نجم مخصوص "لأنه يهتدى به في طريق الهدى، كما يهتدى بالنجم" أو لأنه استنارت به ظلمات الجهل، فإن خص بزحل فوجه الشبه الإضاءة مع الرفعة، وأما الشمس، وهي في الأصل كوكب النهاري، "فسمي بها عليه الصلاة واللام" لما لم ير في الكاتب، ولا السنة تسميته بها وجه التسمية، بقوله: "لكثرة نفعه وعلو رفعته وظهور شريعته" كالشمس، فإنها ظاهرة مرتفعة كثيرة النفع، "وجلالة" قدره وعظم منزلته لأنه لا يحاط بكماله" تعليل للذين قبله، "حتى، لا يسع الرائي له أن ينظر إليه ملء عينيه إجلالا له، كما أن الشمس في الرتبة أرفع من غالب الكواكب" أتى بغالب لأن زحل أرفع منها لأنه في السابعة، وعليه قول الطغرائي:
فإن علاني من دوني، فلا أسف ... لي أسوة بانحطاط الشمس عن زحل
"لأنها في السماء السادسة" عند المحققين من متأخري أهل الهيئة، وقيل في الرابعة.
حكاه القرطبي، وجزم به ابن كثير وصحح ابن العماد أنها في السماء الدنيا، "والانتفاع بها أكثر من غيرها، كما لا يخفى" لأنها تنضج الزرع وتشد الحب وترطب البدن، ولا يدركها البصر، بل تكاد تخطفه وتعميه "لكبر جرمها" حتى قيل إنها قدر الأرض مائة وستين مرة، وقيل وخمسين، وقيل وعشرين أو لأن نور الأنبياء مستمد من نوره، كما قال البوصيري:
وكل آي آتى الرسل الكرام بها ... فإنما اتصلت من نوره بهم(4/283)
فلما كان سائر الكواكب يستمد من نورها ناسب تسميته عليه الصلاة والسلام بها. وأما "النبي" والرسول فمن خصائصه صلى الله عليه وسلم أنه خاطبه تعالى بهما من القرآن دون سائر أنبيائه.
ثم إن النبوءة بالهمزة مأخوذة من النبأ، وهو الخبر، وقد لا تهمز تسهيلا. أي أن الله أطلعه على غيبه وأعلمه أنه نبيه، فيكون نبيا منبأ، أو يكون مخبرا عما بعثه الله به ومنبأ بما أطلعه الله تعالى عليه. وبغير الهمز يكون مشتقا من النبوة
__________
كما أن سائر الكواكب مستمد من نور الشمس، وعلى هذا يتفرع قوله: "فلما كان سائر الكواكب يستمد من نورها".
قال الشامي بمعنى أن نورها، لما كان مغمرا في نور الشمس فكأنه مستمد منه، وإلا فهي جوهر شفاف، لا لون لها مضيئة بذواتها، أو بكواكب أخرى مستترة عنا، لا نشاهدها إلا القمر، فإنه كمل في نفسه انتهى.
"ناسب تسميته عليه الصلاة والسلام بها" وقال أبو بكر بن العربي في وجه الشبه بالشمس أوجه منها: "إنها لا تطلع حتى يتقدمها الفجر الأول، والثاني مبشرين بها، وكذلك لم يبعث صلى الله عليه وسلم حتى بشر به الأنبياء، والمرسلون ووصفته الكتب المنزلة، ومنها إن للشمس إحراقا وإشراقا، وكذلك كان صلى الله عليه وسلم لبعثته نور يشرق في قلوب أوليائه ولسيوفه نار تحرق قلوب أعدائه، ومنها أن فيها هداية ودلالة، وكذلك صلى الله عليه وسلم هدى من الضلالة، ودل على الرشاد، ومنها أنها سيدة الأنوار الفلكية، وهو صلى الله عليه وسلم سيد الأنبياء، "وأما النبي، والرسول فمن" أي وجه تسميته بهما.
إن من "خصائصه صلى الله عليه وسلم" كا جزم به عياض وغيره "أنه خاطبه تعالى بهما في القرآن" ولم يخاطبه فيه باسمه في النداء، وذكر في الخبر لأنه ورد مورد التعيين، كقوله محمد رسول الله، وما محمد إلا رسول؛ لأن صاحب هذا الاسم هو الرسول، ونحو قوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} لما لم يرد هذا المورد لم يذكر اسمه "دون سائر أنبيائه"، فإنه خاطبهم بأسمائهم يا آدم يا نوح يا إبراهيم يا داود يا زكريا يا عيسى يا يحيى، "ثم إن النبوءة بالهمز مأخوذة من النبأ، وهو الخبر، وقد لا تهمز تسهيلا" بإبدال الهمزة واو وإدغامها فيما بعدها، أي" سمي بالنبي المأخوذ من النبا لأجل "إن الله أطلعه على غيبه، واعلمه أنه نبيه، فيكون" معنى "نبيا منبأ" بفتح الباء، فهو فعيل بمعنى مفعول، "أو يكون" بمعنى "مخبرا عما بعثه الله به، ومنبأ بكسر الباء للناس "بما أطلعه تعالى عليه" فهو فيعل بمعنى فاعل "وبغير الهمز" وهو الأكثر قيل مخفف المهموز بقلب همزته وقيل إنه الأصل، فـ"يكون مشتقا من(4/284)
وهو ما ارتفع من الأرض، أي أنه لا له رتبة شريفة ومكانة عند الله منيفة. قال الشيخ بدر الدين الزركشي في شرح البردة: وكان نافع يقرأ، النبيء -بالهمزة- في جميع القرآن والاختيار تركه.
وهو لغة النبي صلى الله عليه وسلم وقد جاء في الحديث أن رجلا قال: يا نبيء الله -يعني بالهمزة- فقال: "لست نبيء الله، ولكني نبي الله"، فأنكر الهمز لأنه لم يكن من لغته عليه الصلاة والسلام.
وقال الجوهري والصغاني: إنما أنكره لأن الأعرابي أراد: يا من خرج من مكة إلى المدينة، يقال: نبأت من أرض إلى أرض، إذا خرجت منها إلى أخرى.
وتكلم جماعة.
__________
النبوة" بفتح النون وسكون الباء، "وهو ما ارتفع من الأرض" لأن رتبته مرفوعة على سائر الخلق، كما قال: "أي إن له رتبة شريفة ومكانة عند الله منيفة" زائدة في الارتفاع عطف تفسير لرتبة.
"قال الشيخ بدر الدين الزركشي في شرح البردة، وكان نافع" بن عبد الرحمن بن أبي نعيم، القاري، المدني، الأصبهاني الأصل، صدوق، ثبت في القراءة، توفي سنة تسع وتسعين ومائة، "يقرأ النبي بالهمزة في جمع القرآن، والاختيار" من حيث اللغة، أو العربية، لا النقل لتواتره، "تركه" للحديث الآتي، "وهو لغة" عطف علة على معلولها، أي أنه لغة النبي صلى الله عليه وسلم التي هي سجية له، فلا ينافي نطقه بغيرها لتواتر الهمز عنه أيضا "وقد جاء في الحديث أن رجلا، قال: يا نبيء الله يعني بالهمزة، فقال" صلى الله عليه وسلم "لست نبيء الله" بالهمزة، "ولكن نبي الله" بلا همز.
قال الزركشي: "فأنكر الهمز لأنه لم يكن من لغته عليه الصلاة والسلام، وقال الجوهري" الإمام المشهور أبو نصر إسماعيل بن حماد "والصغاني" الحسن بن محمد العلامة الشهير، ولد سنة سبع وسبعين وخمسمائة ومات سنة خمسين وستمائة، وفي اللب الصغاني بمهملة ومعجمة نسبة إلى الصغانيات بلاد وراء نهر جيحون، وإلى صاغان قرية بمرو "إنما أنكره لأن الأعرابي أراد يا من خرج من مكة إلى المدينة" فيحتمل إنه أراد يا طريدا من بلده إلى غيرها لأنه "يقال" كما حكاه أبو زيد عن العرب "نبأت" بالهمز "من أرض إلى أرض إذا خرجت منها إلى أخرى". فلذا نهاه، لا لكونه ليس من لغته، وهذا هو الأحسن، فإنه صلى الله صلى عليه وسلم كان يخاطب كل ذي لغة بليغة بلغته اتساعا في الفصاحة، كما يأتي للمصنف، ولم ينكر على أحد لغته، ولا نهاه عنها، فكيف ينكر الهمز الذي نزل عليه بمجرد كونه ليس لغته السجية له، "وتكلم جماعة من القراء في هذا(4/285)
من القراء في هذا الحديث: وقد رواه الحاكم في المستدرك عن أبي الأسود عن أبي ذر، وقال: صحيح على شرط الشيخين، وفيما قاله نظر، فإن فيه الحسين الجعفي، كذا قاله بعضهم وليس من شرطهما، ورواه أبو عبيد: حدثنا أبو محمد بن سعد عن حمزة الزيات عن حمران بن أعين الكوفي أن رجلا.... الحديث، وهذا منقطع، انتهى.
والرسول: إنسان بعثه الله إلى الخلق بشريعة مجددة يدعو الناس إليها.
واختلف هل هما بمعنى أو بمعنيين؟
__________
الحديث، وقد رواه الحاكم في المستدرك عن أبي الأسود، عن أبي ذر، وقال صحيح على شرط الشيخين، وفيما قاله" الحاكم "نظر، فإن فيه الحسين" بن علي بن الوليد "الجعفي، كذا قاله بعضهم" تبرأ منه لأنه ثقة عابد أخرج له الستة، كما في التقريب، فلا يصح قوله "وليس من شرطهما" ولعله تصحف عليه، فإن الإمام الذهبي، قال: إنه حديث منكر وفي سنده حمران بن أعين وليس بثقة، "ورواه أبو عبيد" القاسم بن سلام بالتشديد البغدادي، الإمام المشهور الحافظ، الثقة، الفاضل، المتوفى سنة أربع وعشرين ومائتين، فقال: "حدثنا أبو محمد بن سعد" الأنصاري، الأشهلي، أبو سعد المدني، نزيل بغداد صدوق مات على رأس المائتين.
روى له النسائي عن حمزة بن حبيب الزيات" القارئ الكوفي التميمي، مولاهم صدوق زاهد.
روى له مسلم والأربعة، ولد سنة ثمانية، ومات سنة ست، أو ثمان وخمسين ومائة، "عن حمران" بضم الحاء المهملة "ابن أعين الكوفي" مولى بين شيبان ضعيف رمي بالرفض، "أن رجلا الحديث، وهذا منقطع" وقد وصله الحاكم، عنه عن أبي الأسود عن أبي ذر "انتهى" كلام الزركشي، وعطف على قوله، ثم إن النبوءة على سبيل اللف، والنشر المرتب قوله: "والرسول إنسان" ذكر حر أكمل معاصريه إلا الأنبياء "بعثه الله إلى الخلق بشريعة مجددة يدعو الناس إليها" فخرج من دعا إلى شريعة من قبله كأنبياء بني إسرائيل، فإنهم كانوا يدعون إلى شريعة موسى، فهم أنبياء لا رسل لكن نوقض بإسماعيل فإنه أرسل بشريعة أبيه، وقد قال تعالى {وَكَانَ رَسُولًا} فإن صح إرساله بشرع أبيه، ففي الآية مجاز، "اختلف هل هما" النبي والرسول، "بمعنى، أبو بمعنيين" ذكره بعد التعيف بوهم جريانه على كل قول وليس بمراد، فالأولى(4/286)
فقال بالأول قوم مستدلين بقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِي} [الحج: 52] فأثبت لهما معا الإرسال. وعلى هذا فلا يكون النبي إلا رسولا، ولا يكون الرسول إلا نبيا.
وقال آخرون بالثاني، وأنهما يجتمعان في النبوة التي هي الاطلاع على الغيب والإعلام بخواص النبوة أو الرفعة بمعرفة ذلك وحوز درجتها، وافترقا في زيادة الإرسال. وحجتهم من الآية نفسها التفريق بين الاسمين؛ إذ لو كان شيئا واحدا لما حسن تكرارهما في الكلام البليغ، ويكون المعنى: ما أرسلنا من نبي إلى أمة، أو نبي ليس بمرسل إلى أحد.
وذهب آخرون: إلى أن الرسول: من جاء بشرع مبتدأ، ومن لم يأت به نبي غير رسول وإن أمر.
__________
تأخيره عن الأقوال، وأن يقول يعرف على الأول، "فقال بالأول قوم مستدلين، بقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ} فاثبت لهما معا الإرسال" بقوله أرسلنا، "وعلى هذا، فلا يكون النبي إلا رسولا، ولا يكون الرسول إلا نبيا"، فيشترط في النبي على هذا أن يؤمر بتبليغ ما أوحى إليه، "وقال آخرون بالثاني" وهو التغاير، وأن الرسول أخص من النبي، "وأنهما يجتمعان في النبوة التي هي الاطلاع على الغيب" بناء على أنها من النبا، فهو منبئ بالكسر "والإعلام بخواص النبوة" على أنه منبأ بالفتح على ما مر، "أو الرفعة بمعرفة ذلك" عطف على الاطلاع بناء على أن النبوة أصل مستقل، "وحوز درجتها" وفي نسخة مدحتها، "وافترقا" الأنسب بسابقة ويفترقان "في زيادة الإرسال، وحجتهم من الآية نفسها"، وهي "التفريق بين الاسمين؛ إذ لو كان شيئا واحدا" كما ادعى الأولون "لما حسن تكرارهما في الكلام البليغ" إذ التكرار، بلا فائدة مخل بالبلاغة، "ويكون المعنى" على رأي الآخرين، "وما أرسلنا من نبي إلى أمة، أو نبي ليس بمرسل إلى أحد"، لا ينافي قوله أرسلنا لجواز أنه بمعنى أوحينا أعم من كونه أمر بالتبليغ أم لا ومن رسول، ولا نبي بيان لقدر هو وما أوحينا إلى أحد، وهذا في غاية القلاقة ومثله، لا يعبأ به الخصم في المناظرة، والذي قال غيره في هذا المقام، أن في الآية اضمارا، أي ولا نبانا من نبي كقوله:
ورأيت روحك في الوغي ... متقلدا سيفا ورمحا
أي وحاملا رمحا، "وذهب أخرون إلى أن الرسول من جاء بشرع مبتدأ" بأن كان له كتاب، أو نسخ لبعض شرع من قبله، "ومن لم يأت به" بأن لم يكن له ذلك "نبي غير رسول، وإن أمر(4/287)
بالإبلاغ والإنذار.
والصحيح: أن كل رسول نبي، وليس كل نبي رسولا.
نعم نوزع في هذا بأنه كلام يطلقه، من لا تحقيق عنده، فإن جبريل عليه السلام وغيره من الملائكة المكرمين بالإرسال رسل لا أنبياء. فالانفصال عنه: بأن يقيد الفرق بين الرسول والنبي، بالرسول البشري.
ثم إن النبوة والرسالة ليستا ذاتا للنبي، ولا وصف ذات بل تخصيص الله إياه بذلك خلافا للكرامية.
__________
بالبلاغ" لشرع من قبله "والإنذار" به وقيل لرسول من يأتيه الملك بالوحي، والنبي، يقال له ولمن يوحى إليه في المنام، والنسبة بينهما على هذا كهي على الثاني، لكن اختلفا في جهة الافتراق، فهي على هذا عدم مجيء الملك وكون الوحي مناما وعلى الثاني عدم الأمر بالتبليغ، "والصحيح" القول الثاني "أن كل رسول نبي وليس كل نبي رسولا"، فهو اخص.
"نعم نوزع في هذا بأنه كلام يطلقه من لا تحقيق عنده، فإن جبريل عليه السلام وغيره من الملائكة المكرمين بالإرسال رسل" لقوله تعالى: {وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيم} {يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّك} الآية، الله يصطفي من الملائكة رسلا "لا أنبياء" لأنه لم يرد إطلاق الأنبياء عليهم فلا يصح أن الرسول أخص "فالانفصال" أي التخلص "عنه" عن هذا الذي نوزع به "بأن يقيد الفرق بين الرسول والنبي بالرسول البشري" لا الملكي إذ ليس الكلام فيه وجزم بهذا أي أنه لا يسمى الملك نبيا عياض والنووي والحافظ وغيرهم ولا يرد أنهم مخبرون عن الله، ولهم عنده رتبة فيصح تسميتهم أنبياء لأن علة التسمية، لا تطرد، والإلزام أن تسمى الصحابة أنبياء لأنهم أخبروا بالقرآن والأحكام ولهم عند الله شرف ومكانة وهذا باطل أجماعا، والعلماء إنما أخذوا وجه التسمية لوروده: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} وكان صديقا نبيا، وفي إسماعيل وموسى، وكان رسولا نبيا، ولم يرد تسمية الملائكة إلا بالرسل، فلا يقاس عليه ما لم يرد لمجرد صحة المعنى؛ إذ المسألة نقلية لا عقلية، وإما استدلال بعضهم بأن الله أوحى إليهم، لا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون، وهذه حقيقة النبوة البشرية يوحى إلى الواحد منهم بشرع يخصه، لا يتعداه إلى غيره، فمدفوع بأن النبوة ليست مجرد الوحي، كما يأتي عن القرافي، "ثم إن النبوة، والرسالة ليستا ذاتا للنبي" أي لازما لماهيته، لا ينفك عنه "ولا وصف ذات" أي، وصفا لازما للذات، لا ينفك عنها حتى كان الماهية مركبة منه ومن غيره من الذاتيات.
زاد الآمدي وليستا عرضا من الأعراض المكتسبة له، "بل" كل منهما "تخصيص الله إياه(4/288)
وقال القرافي، كما نقله عنه ابن مرزوق، يعتقد كثير أن النبوة مجرد الوحي، وهو باطل، لحصوله لمن ليس بنبي كمريم وليست نبية على الصحيح، مع أن الله تعالى يقول: {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا} الآية [مريم: 17] و {أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ} [آل عمران: 45] . وفي مسلم: بعث الله ملكا لرجل على مدرجته وكان قد خرج في زيارة أخ له في الله، وقال له: إن الله يعلمك أنه يحبك لحبك لأخيك في الله، وليست بنبوة؛ لأنها عند المحققين، إيحاء الله لبعض بحكم إنساني يخص به كقوله: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق: 1] فهذا تكليف يختص به في الوقت، فهذه نبوة لا رسالة، فلما نزل: {قُمْ فَأَنْذِر} [المدثر: 2] كانت رسالة لتعلق هذا التكليف بغيره أيضا،.
__________
بذلك" موهبة منه، وحاصلها يرجع إلى قول الله لمن اصطفاه، أرسلتك، أو بعثتك فبلغ عني، فهي من الصفات الاعتبارية، كالولاية للوالي، والإمامة للسلطان "خلافا للكرامية" إذ القول، لا يوجب لمتعلقه صفة، كما صرح به القاضي عضد الدين.
"قال القرافي" الشهاب العلامة أحمد بن داود "كما نقله عنه ابن مرزوق" محمد يعتقد كثيرا أن النبوة مجرد الوحي دون اطلاع وإعلام أنه نبي، وهو باطل لحصوله لمن ليس بنبي كمريم بنة عمران، وليبست نبية على الصحيح لاشتراط الذكورة وغيرها حتى بالغ صاحب الأنوار، فحكى الإجماع على أنه لم ينبأ أمرأة "مع أن الله تعالى يقول: {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا} جبريل "الآية" وقال تعالى: {إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ} وقبله: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ} فلو كانت النبوة مجرد الوحي ما توقف أحد من نبوتها، "وفي مسلم" عن أبي هريرة رفعه "بعث الله ملكا لرجل على مدرجته" بفتح الميم، وسكون الدال، وفتح الراء والجيم أي طريقه التي يمر عليها "وكان قد خرج في زياة أخ له في الله، وقال له إن الله يعلمك أنه يحبك لحبك لأخيك في الله" ولفظ مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم "أن رجلا زار أخا له في قرية أخرى، فأرصد الله تعالى على مدرجته ملكا، فلما أتى عليه، قال: أين تريد؟ قال: أريد أخا لي في هذه القرية، قال هل لك عليه من نعمة تربها، قال: لا غير أني أحبه في الله تعالى: قال: فإني رسول الله إليك، إن الله قد أحبك كما أحببته فيه"، وقوله تربها أي تسعى في إصلاحها فهذه المذكورات وحي مجرد وليست بنبوة لأنها عند المحققين إيحاء الله لبعض بحكم إنساني يخص به كقوله: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّك} فهذا تكليف يختص به في الوقت، أي وقت الإيحاء، "فهذه نبوة لا رسالة" لأنه لم يؤمر بتبليغ الغير حينئذ "فلما نزل {قُمْ فَأَنْذِر} كانت رسالة لتعلق هذا التلكيف بغيره أيضا" والتمثيل بنبينا صلى الله عليه وسلم(4/289)
فالنبي1 كلف بما يخصه، والرسول بذلك، وتبليغ غيره، فالرسول أخص مطلقا، انتهى. وهل نبينا صلى الله عليه وسلم رسول الآن؟
قال أبو الحسن الأشعري: هو صلى الله عليه وسلم في حكم الرسالة، وحكم الشيء يقوم مقام أصل الشيء، ألا ترى أن العدة تدل على ما كان من أحكام النكاح، ويأتي لذلك مزيد بيان إن شاء الله تعالى.
وأما "المذكر" فقال تعالى:
__________
مبني على تأخر رسالته عن نبوته، وهو ما عليه ابن عبد البر وغيره، وقيل هما متقارنان، وصحح، كما مر في الأوائل، "فالنبي كلف بما يخصه، والرسول بذلك، وبتبليغ غيره، فالرسول أخص مطلقا انتهى" كلام القرفي، وعلى هذا اختلف في أن الرسالة أفضل من النبوة، وهو رأي الأكثر لأنها تثمر هداية الأمة، والنبوة قاصرة على النبي، كالعلم، والعبادة، وقال العز بن عبد السلام النبوة أفضل لأنها الوحي بمعرفته تعالى وصفاته، فهي متعلقة به من طرفيها، والرسالة الأمر بالتبليغ، فهي متعلقة به من أحد الطرفين، وأجيب بأنها تستلزم النبوة، فهي مشتملة عليها؛ لأنها كالرسول، وأخص من النبوة التي هي أعم كالنبي "وهل نبينا صلى الله عليه وسلم رسول الآن" أي بعد وفاته.
"قال الشيخ أبو الحسن" علي بن إسماعيل بن أبي بشر بن إسحاق بن أبي سالم بن إسماعيل بن عبد الله بن موسى بن بلال بن أبي بردة بن أبي موسى "الأشعري" صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أمام أهل السنة، وكان مالكي المذهب "هو صلى الله عليه وسلم في حكم الرسالة" لأنه اتصف بها وولم تسلب عنه كبقاء وصف الإيمان للمؤمن بعد الموت، وإن لم يكن مأمورا بالبلاغة بعد موته عليه السلام، "وحكم الشيء يقوم مقام أصل الشيء، ألا ترى أن العدة تدل على ما كان من أحكام النكاح؟ ويأتي لذلك مزيد بيان إن شاء الله تعالى" في المقصد السادس، ومن جملته قول ابن فورك أنه صلى الله عليه وسلم حي في قبره، رسول الله أبد الآباد على الحقيقة، لا المجاز، وقول القشيري هو صلى الله عليه وسلم رسول قبل أن يوجد، وفي حالة وجوده وإلى الأبد لاستحالة البطلان على الإرسال الذي هو قول الله أرسلتك، أو بلغ عني، "وأما المذكر" المبلغ الواعظ اسم فاعل من التذكرة الموعظة، والتبليغ، كما في الشامي، ولم يقل من التذكير مع أنه المصدر الذي يؤخذ منه الوصف لأنها أظهر في الوعظ من التذكير، فإنه يستعمل للتنبيه، "فقال تعالى" أي فدليله ما،
__________
1 تنبيه وقع خطأ عند كثير من المؤلفين قولهم: إن النبي إنسان أوحي إليه بشرع، وإن لم يؤمر بتبليغه، فإن أمر بتليغه فرسول. والصحيح: أنه يجتمع النبي والرسول في أن كلا منهما أوحي إليه بشرع، ويفترق الرسول عن النبي بأنه أوحي إليه بشرع جديد، والنبي يتبع شرع الرسول الذي قبله وكلاهما مأموران بالتبليغ.(4/290)
{فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّر} [الغاشية: 21] .
وأما "البشير" و"المبشر" و"النذير" و"المنذر" فقال تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} [الأحزاب: 45] أي مبشرا لأهل طاعته بالثواب، وقيل بالمغفرة، ونذيرا لأهل معصيته بالعذاب، وقيل: محذرا من الضلالات.
وأما "المبلغ" فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [المائدة: 67] .
وأما "الحنيف".
__________
قال تعالى، وكذا نظائره رأي الكوفيين من إجازة حذف الموصول الاسمي، ولا يجعل مصدر العدم سابك للفعل، "فذكر" عبادي بآياتي، وعظهم بحجتي، وبلغهم رسالاتي {إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّر} [الغاشية: 21] . ليس عليهم بمصيطر} ، أي مسلط، وهذا قبل الأمر بالجهاد، كما، قال الجلال، "وأما البشر" اسم فاعل، "والمبشر" اسم فاعل من البشارة الخبر السار، و"النذير" فعيل بمعنى فاعل المخوف، "والمنذر" المبلغ مع التخويف، "فقال تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا} على من أرسلت إليهم {وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} ، أحوال مقدرة، فدل مبشرا على اسمين وكذ نذير، واقتصر المصنف المسافة، فاكتفى بهذه الآية لأنها دلت على المادة، وإلا ففي سورة البقرة وفاطر {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} [فاطر: 24] ، وقال تعالى: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ} ، "أي مبشرا لأهل طاعته بالثواب" ومنه الجنة ونعيمها، "وقيل" مبشرا "بالمغفرة" وهي عدم المؤاخذة بالذنب، ففارقت الثواب لأنه مقدار من جزاء العمل يعلمه الله، "ونذيرا لأهل معصيته بالعذاب"، ومنه النار، "وقيل محذرا من الضلالات"، جمع ضلالة وهي عدم الاهتداء أي محذرا، لما هو سبب لعدم معرفة الحق من الباطل، ففارق الأول لأنه تخويف بالعذاب المستحق على المعصية، فمعناها مختلف وإن كان مقصودهما واحدا؛ لأن قصد الثاني التباعد عن العصيان الحاصل بسبب الضلال.
"وأما المبلغ" الذي أدى الرسالة كما أمر اسم فاعل، "فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} ، ولا تكتم منه شيئا خوفا أن تنال بمكروه، والاستدلال بها من الاكتفاء بصيغة الفعل، واعرض بأن وصفه بأنه مبلغ يستدعي وقوعه لأن اسم الفاعل حقيقة في المتلبس به، والأمر لا يستدعي وقوع المأمور به، وأجيب بأنه لما علم من حال صلى الله عليه وسلم امتثال ما أمر به، وقد تحقق تبليغه على أبلغ وجه صح وصفه به، وقد ثبت قوله في آخر عمره: "ألا قد بلغت".
"وأما الحنيف" المائل إلى دين الإسلام الثابت عليه من الحنف محركا، أو المائل عما(4/291)
فقال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا} [الروم: 30] .
وأما "نبي التوبة" فإن الأمم رجعت بهدايته عليه الصلاة والسلام بعدما تفرقت بها الطرق إلى الصراط المستقيم.
وأما "رسول الرحمة" و"نبي الرحمة" و"نبي الرحمة" فقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِين} [الأنبياء: 17] .
__________
عليه العامة إلى طريق الحق والاستقامة، أو المستقيم، فقال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا} مائلا إليه، أي اخلص دينك لله.
ذكر هذه الآية لكونها نصافي المصطفى، بخلاف قم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا، فاختلف في أنه حال من إبراهيم، أو من الضمير العائد عليه صلى الله عليه وسلم، وهو الظاهر، وأظل الحنف مطلق الميل، كما في مقدمة الفتح، ومثله قول القاموس الحنف محركة الميل، ثم يطلق على الأعوجاج في الرجل وعلى غيره بحسب المقام، وفي الحديث: "بعثت بالحنيفية السمحة"، وفي النهاية حديث خلق وأما بادي حنفاء، أي طاهرين من المعاصي، لا أنهم كلهم مسلمون لقوله: فمنكم كافر ومنكم مؤمن، "وأنا نبي التوبة" الوارد في مسلم عن أبي موسى.
قال سمى لنا صلى الله عليه وسلم نفسه أسماء منها ما حفظناه، ومنها ما لم نحفظ.
قال: "أنا محمد، وأنا أحمد، والمقفى، والحاشر ونبي التوبة ونبي الملحمة"، "فإن الأمم رجعت بهدايته عليه الصلاة والسلام بعد ما تفرقت بها الطرق"، أي طرق الضلال الكثية المتنوعة "إلى الصراط المستقيم" صلة رجعت والتوبة الرجوع، والإنابة، فلكونه سببا في توبتهم أضيف إليها، وقيل لإخباره عن الله لقبول التوبة، أو لأمره بها، أو لأنه كثير التوبة، وقال سهل هي ترك التسويف وإمام الحرمين إذا أضيفت إلى العباد أريد بها الرجوع عن الزلات إلى الندم عليها، وإذا أضيفت إلى الرب أريد بها رجوع نعمه وآلائه انتهى، جمع نعمة بعين مهملة فعطف آلائه للتفسير وتصحف على من قرأه بالقاف، وتكلف توجيهها بأنها، لما لم يؤاخذ بها كأنها رجعت على المتلبس بمقتضيها.
"وأما رسول الرحمة" الوارد عند ابن عدي من حديث عائشة وغيرها، "ونبي الرحمة" المروي عند أحمد وغيره في حديث حذيفة، وأبي نعيم في حديث أبي موسى، "ونبي المرحمة" بالميم المروي في مسلم، وهي الراحة فيما، قال عياض، أي لأن من رحمة الله تعالى، فقد أراحه من العقاب، وإذا علمه بذلك أراحه من القلق والضجر، "فقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} دليل للثلاثة لأنه لما وصف بكونه رحمة وجعل عينها وعمم بها(4/292)
وقال تعالى: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيم} [التوبة: 128] فبعثه الله تعالى رحمة لأمته، ورحمة للعالمين وروى البيهقي مرفوعا: "إنما أنا رحمة مهداة" فرحم الله به الخلق مؤمنهم وكافرهم، وهذا الاسم من أخص أسمائه.
وقد كان حظ آدم من رحمته سجود الملائكة له تعظيما له إذ كان في صلبه، ونوح: خروجه من السفينة سالما، وإبراهيم: كانت النار عليه بردا وسلاما إذ
__________
العالمين صحت إضافته إلى كل من الرحمة والمرحمة سواء وصف برسول، أو نبي، "وقال تعالى: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيم} . قدم متعلقة للتخصيص، أو للاهتمام، والتشريف مع رعاية الفاصلة، وقدم الرءوف لأنه الشفقة، والتلطف بالمنعم عليه، "فبعثه الله تعالى رحمة لأمته" مفعول له، أو حال من الله، أو من ضمير النبي بمعنى راحما لهم "ورحمة للعالمين" عام على خاص، أي جعله الله عين الرحمة لإرشاده لهم ولطفه بهم، وحمله لهم على ذلك.
"وروى البيهقي" وشيخه الحاكم، وقال على شرطهما، وأقره الذهبي عن أبي هريرة "مرفوعا" بمعنى، قال صلى الله عليه وسلم: "إنما أنا رحمة" أي ذو رحمة أو بالغ في الرحمة حتى كأني عينها لأن الرحمة ما يترتب عليه النفع ونحوه وذاته، كذلك فصفاته التابعة لها كذلك "مهداة" بضم الميم وللطبراني بعثت رحمة مهداة، قال ابن دحية معناه أن الله بعثني رحمة للعباد، لا يريد لها عوضا؛ لأن المهدي إذا كانت هديته عن رحمة، لا يريد لها عوضا، وقال غيره: أي ما أنا إلا رحمة أهداها الله للعالمين، فمن قبلها أفلح ونجا، ومن أبي خاب وخسر، ولا يشكل الحصر بوقوع الغضب منه كثيرا لأنه لم يقصد من بعثته، بل المقصود بالذات الرحمة، والغضب بالتبعية، بل في حكم العدم، فالحصر فيها مبالغة، والمعنى أنه رحمة على كل فرد لأن غضبه الله كانتقامه كقوله ولكم في القصاص حياة، أو أنه رحمة في الجملة، فلا ينافي الغضب في الجملة، "فرحم الله به الخلق مؤمنهم" بالهداية، "وكافرهم" بالأمن من الخسف، والمسخ وعذاب الاستئصال، والمنافقين بالأمن من القتل، وتأخير عذابهم، "وهذا الاسم من أخص أسمائه".
قال أبو بكر بن طاهر زين الله تعالى محمدا صلى الله عليه وسلم بزينة الرحمة فكان كونه رحمة، وجميع شمائله رحمة وصفاته رحمة على الخلق، وحياته رحمة وموته رحمة، كما قال صلى الله عليه وسلم: "حياتي خير لكم ومماتي خير لكم"، وكما قال صلى الله عليه وسلم: "إذا أراد الله رحمة بأمة قبض نبيها قبلها، فجعله لها فرطا وسلفا"، "وقد كان حظ آدم من رحمته سجود الملائكة له تعظيما له إذا كان في صلبه" وقبول توبته إذ توسل به "و" حظ "نوح خروجه من السفينة سالما" إذ كان في صلب ابنه سام، "وإبراهيم كانت النار عليه بردا وسلاما؛ إذ كان في صلبه" كما أفاده العباس بقوله:(4/293)
كان في صلبه، فرحمته عليه الصلاة والسلام في البدء والختام والدوام لما أبقى الله له من دعوة الشفاعة، ولما كانت نبوته رحمة دائمة مكررة مضاعفة اشتق له من الرحمة اسم الرحمة.
وأما "نبي الملحمة والملاحم" وهي الحروب، فإشارة إلى ما بعث به من القتال والسيف، ولما يجاهد نبي قط وأمته ما جاهد صلى الله عليه وسلم وأمته، والملاحم التي وقعت وتقع بين أمته وبين الكفار لم يعهد مثلها قبله، فإن أمته يقاتلون الكفار في أقطار الأرض على تعاقب الأعصار حتى يقاتلون الأعور الدجال.
__________
وردت نار الخليل مكتتما ... في صلبه أنت كيف يحترق
"فرحمته عليه الصلاة والسلام" لا تخص بوجوده، بل عمت من قبله، فكانت "في البدء والختام والدوام، لما أبقى الله له من دعوة الشفاعة، التي ادخرها لأمته في القيامة، ومن جملة ذلك في الدنيا أن جعل أمته مرحومة، ووصفها بالرحمة، وأمرهم بالتراحم وأثني عليه فقال إن الله يحب من عباده الرحماء، وقال الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء، "ولما كانت نبوءته رحمة دائمة مكررة مضاعفة اشتق له من" لفظ "الرحمة اسم الرحمة" أي اسما دالا على معناها الذي هو الرأفة، والانقاذ من الضلال، والشفاعة، نحو بالمؤمنين رءوف رحيم، أما تسميته بنحو نبي الرحمة، فإنما فيه إضافته إليها وليست اشتقاقا، اللهم إلا أن تكفي الإضاة في صحة التسمية، وأطلق الاشتقاق على ما يشملها تسمحا.
"وأما نبي الملحمة" باللام عند مسلم عن أبي موسى، "و" نبي "الملاحم" الجمع للكثرة إشارة إلى أنه اختص بكثرتها الذي في أحمد، وشمائل الترمذي برجال ثقات في حديث حذيفة، وهي الحروب، سميت بذلك لاشتباك الناس فيها واختلاطهم، كاشتباك لحمة الثوب بالسدي، أو لكثرة لحوم القتلى فيها "فإشارة إلى ما بعث به من القتال، والسيف" فالمعنى نبي القتال كقوله في الحديث الآخر بعثت بالسيف، "ولم يجاهد نبي قط، وأمته ما جاهد صلى الله عليه وسلم وأمته" ونصر بالرعب، وأحلت له الغنائم، واستشعر نقض هذا النفي بنحو قتال يوشع الجبارين، وقتال داود جالوت وحمل الإسرائيلي السلاح ألف شهر في سبيل الله، فأشار للجواب بقوله "والملاحم التي وقعت وتقع بين أمته وبين الكفار لم يعهد مثلها قبله، فإن أمته يقاتلون الكفار في أقطار الأرض على تعاقب الأعصار حتى يقاتلون الأعور والدجال" فاستمراره منهم ودوامه لم يوجد لغيرهم، فإن قتال من قبلهم، وإن حصل فيه شدة لكنه مضى وانقطع، وفي نسخة بحذف نون يقاتلون، والذي وجه به حتى يقول الرسول بالرفع، والنصب يأتي هنا، فإن(4/294)
وأما "صاحب القضيب" فهو السيف، كما وقع مفسرا به في الإنجيل قال: معه قضيب من حديد يقاتل به، وأمته كذلك، وقد يحمل على أنه القضيب الممشوق الذي كان يمسكه.
وأما "صاحب الهراوة" فهي في اللغة: العصا، وقد كان عليه الصلاة والسلام يمسك في يده القضيب كثيرا،
__________
قتال الدجال مستقبل بالنظر لوقت كلام المصنف بذلك ونفسه الأمر بقتال وقع قبل ذكر المصنف له، وقد انتقد بأن نبي التوبة، والرحمة، والملحمة، والمرحمة في مسلم، فالأولى له ذكره، كما قال زين الحافظ:
وهو المسمى بنبي الرحمة ... في مسلم وبنبي التوبة
وفيه أيضا بنبي الملحمة ... وفي رواية نبي المرحمة
وليس بشيء فإن الدليل إنما يحتاج إليه، فيما يمكن إنكاره، وما صح لا ينكر، فبقي وجه التسمية هو الأولى بالذكر، نعم الجمع بينهما، كما فعل عياض أكثر فائدة.
"وأما صاحب القضيب، فهو" صاحب "السيف" أو التقدير القضيب الذي أضيف إليه صاحب حتى يصح الإخبار، "كما وقع مفسرا به في الإنجيل، قال" الله فيه وكون الفاعل ضمير الإنجيل تجوزا تكلف "معه قضيب من حديد".
قال القاموس القضيب السيف القاطع كالقاضب سمي به من القضب، وهو القطع؛ لأنه اقتطع من الحديد، "يقاتل به" أي كان معه معدا للقتال، فلا يرد أنه لم يقاتل بيده إن سلم، "وأمته كذلك" تقاتل بالسيف الأعداء، وهو كناية عن شجاعته وكثرة جهاده، وغزاوته، وفتوحاته هو وأمته صلى الله عليه وسلم، "وقد يحمل" كما قال عياض "على أنه القضيب الممشوق" الطويل الرقيق من المشق، وهو جذب الشيء ليطول، كما في القاموس "الذي كان يمسكه".
زاد ابن الجوزي وكان يستلم به الركن، فهو بمعنى مفعول؛ لأنه مقطوع من الشجر، فهو عبارة عن كونه من صميم العرب وخطبائهم؛ لأن عادة عظمائه وخطبائهم اتخاذ العصا، وقد للتقليل لقلة تفسيره به بالنسبة، لما قبله؛ لأنه الظاهر من نص الإنجيل وتكلف من فسره بالقضيب الذي أعطاه لبعض الصحابة، فانقلب سيفا.
"وأما صاحب الهراوة" بكسر الهاء، ثم راء، فألف، فواو فتاء تأنيث، "فهي في اللغة العصا" مطلقا، كما أطلقه جماعة، وقال الجوهري: العصا الضخمة، "وقد كان عليه الصلاة والسلام يمسك في يده القضيب كثيرا" الغصن المقطوع ووجه الدليل منه على كونه صاحب(4/295)
وقد كان يمشي بين يديه بالعصا، وتغرز له في الأرض فيصلي إليها، قال القاضي عياض: وأراها العصا المذكورة في حديث الحوض: ذود الناس عنه بعصاي لأهل اليمن. أي لأجلهم ليتقدموا، فلما كان صلى الله عليه وسلم راعيا للخلق سائقا لجميعهم إلى مواردهم كان صاحب الهراوة يرعى بها أهل الطواعية، وصاحب السيف يقد به من لا تزيده الحياة إلا شرا.
وأما "الضحاك" بالمعجمة فهو الذي يسيل دماء العدو في الحرب لشجاعته.
__________
العصا أنها العود، كما في القاموس، وهو شامل للقضيب ولغيره، "وقد كان يمشي بين يديه بالعصا وتغرز له في الأرض، فيصلي إليها، وهي العنزة فتحقق وصفه في الكتب الإلهية بأنه صاحب الهراوة.
"قال القاضي عياض، وأراها" والله أعلم بضم الهمزة أظنها، وفتحها أعتقدها "العصا المذكورة في حديث الحوض" الذي رواه مسلم في المناقب.
"ذود" بمعجمة أوله مهملة آخره طرد، وأمنع "الناس عنه بعصاي" بالإضافة إلى ياء المتكلم ولفظها مقصور مؤنث.
قال الفراء: أول لحن سمع بالعراق هذه عصاتي "لأهل اليمن، أي لأجلهم ليتقدموا" لأنهم على بعد شقتهم أجابوا دعوته صلى الله عليه وسلم، بلا تردد، ولا قتال، فأوردهم الحوض قبل غيرهم ليريحهم، كما أراحوه جزاء من جنس العمل.
قال النووي: وهذا الذي قاله القاضي ضعيف؛ لأن المراد تعريفه بصفة يراها الناس معه يستدلون بها على صدقه، وأنه المبشر به المذكور في الكتب السالفة، فلا يصح تفسيره بعصا تكون في الآخرة انتهى، وكأن المصنف لم يرتضه، فأقره وزاد عليه قوله، "فلما كان صلى الله عليه وسلم راعيا للخلق، سائقا لجميعهم" في الدنيا، والآخرة "إلى مواردهم" في الدارين.
ولعل استفادة هذا من الحديث أن ذوده مشعر بسوق الكل لكنه يقدم اليمن.
"كان صاحب الهراوة يرعى بها أهل الطواعية وصاحب السيف يقد به" بضم القاف "من لا تزيده الحياة إلا شرا" فلا ينافي كونه صاحبه كونه رحمة للعالمين، فإزالة مثل هذا من جملة الرحمة، "وأما الضحاك بالمعجمة، فهو الذي يسيل دماء العدو في الحرب لشجاعته" لأن شجاعته صلى الله عليه وسلم محققة، فقد كان كالمسلمين كلهم نصرة وشجاعة وقتل الكفار في غزواته وإن لم يكن منه لكن نسب إليه؛ لأنه الآمر به، والحامل عليه، ثم تفسيره بهذا من ضحكت المرأة، والأرنب حاضت ومنه، وامرأته قائمة، فضحكت في قول، لا من كثير الضحك؛ إذ لا يأتي هنا،(4/296)
وأما "صاحب التاج" فالمراد به العمامة، ولم تكن حينئذ إلا للعرب، والعمائم تيجانها.
وأما "صاحب المغفر" فهو بكسر الميم وسكون الغين المعجمة وفتح الفاء زرد ينسج من الدروع على قدر الرأس، كان صلى الله عليه وسلم يلبسه في حروبه.
وأما "قدم صدق" فقال قتادة والحسن وزيد بن أسلم في قوله تعالى: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [يونس: 2] هو محمد صلى الله عليه وسلم
__________
وأيضا فضحكه إنما هو التبسم، لكنه فيه مجاز بمرتبتين؛ لأنه استعمل بمعنى ظهور الدم، وهو أثر ناشئ عن الإظهار من تسمية التأثير باسم الأثر، ثم جرد عن بعض معناه، وهو كونه من الفرج وخص بإسالة دم العدو في الحرب.
"وأما صاحب التاج" الموصوف به في الإنجيل، "فالمراد به العمامة" على نهج الاستعارة شبه العمامة بالتاج الذي هو الإكليل في أن العرب تتزين بها كتزين العجم بالتاج، واستعار لها اسمه، وفيه التقدير على نحو ما مر ليصح الحمل، أما في المبتدأ، أي التاج في قولنا صاحب التاج، وأما في الخبر، أي المراد صاحب العمامة، "ولم تكن حينئذ، العمامة "إلا للعرب" دون غيرهم، فكني به عن أنه من صميمهم، وأشرفهم حسبا ونسبا، "والعمائم تيجانها" تتزين بها، كما تتزين العجم بالتيجان، كما روى مرفوعا العمائم تيجان العرب، والاحتباء حيطانها، وجلوس المؤمن في المسجد رباطه. أخرجه الديلمي عن ابن عباس، والقضاعي عن علي، وللديلمي عن بن عباس أيضا العمائم تيجان العرب، فإذا وضعوها وضعوا عزهم، وعنده أيضا العمائم وقار المؤمن وعز العرب، فإذا وضعت العرب عمائمها، فقد قلعت عزها، وأسانيدها ضعيفة.
"وأما صاحب المغفر، فهو" أي المغفر "بكسر الميم وسكون الغين المعجمة وفتح الفاء" آخره راء "زرد ينسج من الدروع على قدر الرأس" وقيل ما غطى الرأس من السلاح كالبيضة، وقيل رفرف البيضة أضيف إليه؛ لأنه "كان صلى الله عليه وسلم يلبسه في حروبه" والأساس لو قال فسمي به، لأنه إلخ، ثم يضبطه، "وأما قدم صدق، فقال قتادة" بن دعامة، "والحسن" البصري، كما نقله عياض عنهما، "وزيد بن أسلم" كما في الصحيح عنه "في" تفسير "قوله تعالى: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [يونس: 2] أي تقدم ورتبة رفيعة عبر عنها بالقدم؛ لأن السبق بها، قال ذو الرمة:
لكم قدم لا ينكر الناس أنها ... مع الحسب العالي طمت على الفجر
وأضيف إلى صدق لبيان فضله ومزيته، قال أبو عبيد: كان سابق خير قدم "هو محمد صلى الله عليه وسلم(4/297)
يشفع لهم، وعن أبي سعيد الخدري، هي شفاعة نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم هو شفيع صدق عند ربهم، قال سهل بن عبد الله: هي سابقة رحمة أودعها في محمد صلى الله عليه وسلم.
وأما "نعمة الله" فقال سهل في قوله تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} [النحل: 18] قال: نعمته محمد صلى الله عليه وسلم،.
__________
يشفع" وروى ليشفع، وروى شفيع "لهم"، فسمي قدما لتقدمه، والشفاعة طلب نفع الغير، لا توصف بالصدق، والكذب، فأما أنه تجوز بالصدق عن القبول لمشابهته لتحقق ما شفع فيه، فهو كالخبر المطابق للواقع، وأما أن المراد شفاعة يقدم صاحبها على رجائها، كما في قولهم حمل حملة صادقة، وقيل المراد أن الشفيع صادق في خبره ومن هو كذلك تقبل شفاعته، "وعن أبي سعيد الخدري، وعلي رضي الله عنهما" كما أخرجه ابن مردويه أنهما قالا في تفسير الآية "هي شفاعة نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم" جعلت قدما، أي سابقة لتقدمها، أو تقدم صاحبها، أو لقيامها به عليه السلام، فأطلق عليه اسمها "هو شفيع صدق"، بالإضافة، أي شفاعته قوية تامة مقبولة "عند ربهم" قيل هو إشارة إلى أن صدق صفة مضاف مقدر بمعنى الصاد، أو بمعناه المصدري، وقيل إشارة إلى تفسير القدم به صلى الله عليه وسلم باعتبار الشفاعة أيضا، كما مر، أو إلى المسامحة في تفسيره بالشفاعة، فيوافق الأول.
"وقال سهل بن عبد الله" الإمام الورع، الزاهد العالم، الشهير "هي سابقة رحمة"، من إضافة الصفة للموصوف، أي رحمة سابقة، وقيل الإضافة بيانية "أودعها الله في محمد صلى الله عليه وسلم" أي جعله متصفا بها لينتفع الناس بها عند الحاجة، أو عهد له بها في الأزل، فلقيامها به صح أن يطلق عليها اسمها للمناسبة، "وأما نعمة الله، فقال سهل" التستري "في قوله تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّه} أي تشرعوا في عد أفراد نعمة من نعم الله، {لا تُحْصُوهَا} ، لا تطيقوا عدها، وأتى أن عدم العد مقطوع به نظرا إلى توهم أن يطاق، وأصل معنى الإحصاء العد بالحصى، وكانت العرب تفعله، كما قال الأعشى:
ولست بالأكثر منهم حصى ... وإنما العزة للكاثر
ثم صار حقيقة في العد مطلقا أو المراد أن تريدوا عدها.
"قال" سهل إعادة تأكيدا للأول، وللفصل بين كلام الله وتفسيره "نعمته محمد صلى الله عليه وسلم" إذ هو النعمة العظمى لكونه رحمة للعالمين، وفي نسخة نعمته بمحمد بالباء السببية، أو على أن النعمة بمعنى إنعام؛ لأنها تكون بمعناه وبمعنى المنعم به، واعترض هذا التفسير بأن النعمة به من أعرف المعارف المعلومة، والإحصاء إنما يكون في المعدود، كقوله: وأحصى كل شيء عددا، وتعقب بأن فيه صلى الله عليه وسلم، فوائد ومنافع، لا تحصى، فلا منافاة بين عدم الإحصاء وكونه المنعم به، والإضافة(4/298)
وقال تعالى: {يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا} [النحل: 83] يعني يعرفون أن محمدا نبي ثم يكذبونه، وهذا مروي عن مجاهد والسدي وقال به الزجاج.
وأما "الصراط المستقيم" فقال أبو العالية والحسن البصري في تفسير سورة الفاتحة: هو رسول الله وخيار أهل بيته وأصحابه: وحكى الماوردي ذلك في تفسير: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة: 7] عن عبد الرحمن بن زيد.
__________
للعهد، أو الاستغراق؛ لأنها تأتي، لما تأتي له اللام، فعدم الإحصاء لها، أو لما يترتب عليها، "وقال تعالى: {يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا} يعني يعرفون أن محمدا نبي" بالمعجزات الظاهرات، "ثم يكذبونه" عنادا، وافتراء، "وهذا" التفسير "مروي عن مجاهد" بن جبير، "والسدي" عند ابن جرير، وابن أبي حاتم، "وقال به الزجاج" أبو إسحاق إبراهيم بن السري، الإمام الشهير، المتوفى سنة إحدى عشرة وثلاثمائة، وسبقهم إلى التفسير بهذا ابن عباس في قوله تعالى: {الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا} [إبراهيم: 28] الآية، قال: هم والله كفار قريش، ومحمد نعمة الله تعالى، أخرجه البخاري وغيره، "وأما الصراط المستقيم فقال أبو العالية" رفيع بن مهران التابعي، فيما أخرجه عبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم عنه، "والحسن البصري" فيما نقله في الشفاء، ورواه الحاكم وصححه عن ابن عباس، كلهم "في تفسير سورة الفاتحة" صرح به مع ظهوره، وكونه خلاف عادته في نقل الآيات، لما فيه من تعظيم له، واعتنائه بشأنه، حيث ذكره في أول كتابه، ومبدأ خطابه "هو رسول الله، وخيار أهل بيته، وأصحابه" بالجر عطف على أهل، كما جزم به في المقتفي، والإضافة فيهما بيانية إذ جميعهم خيار، أو لامية لتفاوت مراتبهم في الخيرية، ووجه التسمية أن كلا منهم طريق يهتدى به، فشبههم بالطريق طريقا تسمية للدال باسم المدلول، فهو مجاز مرسل، فلا يرد أنه لا معنى لقولك اهدنا النبي وصحبه إلا بتقدير طريق وركته، لا تخفى.
وحكى البغوي هذا التفسير بلفظ طريق رسول الله، فهو إما رواية، أو إشارة إلى المضاف أورد السهيل أن المراد بالطريق المستقيم ما بعده من قوله صراط الذين إلى آخره، وأجيب بأنه غير متفق عليه، "و" قد "حكى الماوردي ذلك" التفسير المذكور "في تفسير {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} فهو بدل مما قبله، أو عطف بيان، فهو عين الأول، "عن عبد الرحمن بن زيد" بن أسلم العدوي مولاهم وفي الشفاء.
وحكى السمرقندي مثله عن أبي العالية في قوله: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} فبلغ(4/299)
وأما "العروة" الوثقى" فحكى أبو عبد الرحمن السلمي عن بعضهم في تفسير قوله تعالى: {فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [البقرة: 256] أنه محمد صلى الله عليه وسلم.
وأما "ركن المتواضعين" فلأنه عمادهم، وقد ظهر عليه عليه الصلاة والسلام من التواضع ما لم يظهر على غيره، فكان يرقع القميص، ويخصف النعل، ويقم البيت.
ووقع فيما ترجموه من كتاب سعياء مما يدل صريحا في البشارة برسول الله صلى الله عليه وسلم: ولا يميل إلى الهوى، ولا يدل الصالحين، بل يقوي الصديقين الذين هم كالقصبة الضعيفة، وهو ركن المتواضعين،
__________
ذلك الحسن، فقال صدق والله ونصح، "وأما العروة الوثقى، فحكى أبو عبد الرحمن السلمي عن بعضهم في تفسير قوله تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} ، أنه محمد صلى الله عليه وسلم" لأنه العقد الوثيق المحكم في الدين، والسبب الموصل لرب العالمين، ففيه استعارة تصريحية تمثيلية؛ لأن من اتبعه، لا يقع في هوة الضلال، كما أن من مسك حبلا متينا صعد به من حضيض المهالك، والاستمساك ترشيح، "وأما ركن المتواضعين فلأنه عمادهم" الذين يعتمدون عليه في أمورهم لرجوع الأمر إليه يوم القيامة، "وقد ظهر عليه، عليه الصلاة والسلام من التواضع" إظهار أنه وضيع، وهو أشرف الخلق، "ما لم يظهر على غيره، فكان" كما في الصحيح تعليقا، وهو موصول عند ابن ماجه عن عائشة وأبي سعيد وغيرهما كان صلى الله عليه وسلم في بيته في مهنة أهله، يفلي ثوبه ويحلب شاته، و"يرقع القميص" بفتح الياء، وسكون الراء، وفتح القاف مخففة، أي يجعل فيما انخرق منه رقعة من غيره يسده بها، ويجوز الضم، والتشديد إلا أن الأول أنسب بما معه، "ويخصف النعل" أي يخرزها وفي العمدة أنه تطبيق بعض جلود النعل على بعض، ويخصفان عليهما استعارة من هذا، "ويقم" بضم القاف، بكنس "البيت" كل ذلك تواضعا لربه ورأفة على خدمه، لا عن حاجة فقد كان له نساء وخدم بكثرة، "ووقع فيما ترجموه" نقلوه من العبرانية إلى اللغة العربية "من كتاب سعياء" بسين مهملة ومعجمة ابن أمصيا نبي بشر بعيسى، كما في القاموس، أي سفره من التوراة، كما يفيده الشامي وغيره، أضيف إليه لاختصاصه به وتعلمه ما فيه "مما يدل صريحا في البشارة برسول الله صلى الله عليه وسلم" بيان، لما ترجموه، وهو قوله: "ولا يميل إلى الهوى" هو النفس، بل إنما يتبع بما يوحى إليه، "ولا يدل الصالحين" المسلمين، والأولياء، "بل يقوي الصديقين" المبالغين في الصدق "الذين هم كالقصبة الضعيفة، وهو ركن المتواضعين" هذا المقصود بذكره، فعلم أنه مما سمي به في الكتب(4/300)
وهو نور الله الذي لا يطفأ.
وأما "قثم" و"قثوم" -بالقاف والمثلثة- ففسره القاضي عياض بالجامع للخبر، وقال ابن الجوزي مشتق من القثم، وهو الإعطاء، يقال: قثم له من العطاء، يقثم، إذا أعطاه، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم الخلق ندى وأسخاهم يدا.
وأما "البارقليط" و"الفارقليط" بالوحدة، وبالفاء بدلها، وفتح الراء والقاف. وبسكون الراء مع فتح القاف. ويفتح الراء مع سكون القاف. وبكسر الراء وسكون القاف فوقع في إنجيل يوحنا،
__________
السابقة، "وهو نور الله الذي، لا يطفأ" بل يظهر وينتشر، وهذا يؤيد من قال في يريدون أن يطفئوا نور الله، إنه محمد عليه السلام، "وأما قثم" بضم القاف وفتح المثلثة، "وقثوم" المروي عند أبي نعيم، والحربي مرفوعا $"أتاني ملك، فقال: أنت قثم" "بالقاف، والمثلثة، ففسره القاضي عياض" نقلا عن الحربي "بالجامع للخير" كله في ذاته ولغيره، قال: وهذا اسم هو في أهل بيته معلوم.
قال ابن دحية: مشتق من القثم، وهو الجمع يقال للرجل الجموع للخير قثوم وقثم، وكان صلى الله عليه وسلم جامعا لخصال الخير والفضائل كلها، "وقال ابن الجوزي مشتق من القثم، وهو الإعطاء يقال قثم له من العطاء، يقثم" بضم المثلثة على مفاد القاموس "إذا أعطاه" منه قطعة جيدة، واسم الفاعل قثم، كعمر على غير قياس، وبه سمي الرجل، فهو معدول على قاثم تقديرا، فلا ينصرف للعدل، والعلمية، كما في المصباح "وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم الخلق ندى" بالنون جودا وعطاء، "وأسخاهم يدا" بالتحتية، والمراد منهما واحدا، يقال فلان ندى الكف، أي سخي.
"وأما البارقليط، والفارقليط بالموحدة، وبالفاء بدلها، وفتح الراء، والقاف" بعدها لام مكسورة، فتحتية ساكنة، فطاء مهملة، "وبسكون الراء مع فتح القاف" بعدها اللام مكسورة إلخ، "وبفتح الراء مع سكون القاف وبكسر الراء وسكون القاف".
قال في المقتفى: وهو الصحيح وحزم به الشامي، "فوقع" التسمية به "في إنجيل يوحنا" من اتباع عيسى، وليس نبيا إذ ليس بين عيسى ونبينا نبي، كما قال صلى الله عليه وسلم، وهو الصحيح، ويأتي بسطه في محله.
قال صاحب الخميس عن المنتقي إنما قال في إنجيل يوحنا؛ لأن عيسى لم تظهر دعوته في عصره، وإنما أخذ الإنجيل عنه أربعة من الحواريين متى ويوحنا وقيسر ولوقا، فتكلم كل واحد من هؤلاء(4/301)
ومعناه: روح الحق. وقال ثعلب: الذي يفرق بين الحق والباطل، وفي نهاية ابن الاثير، في صفته عليه الصلاة والسلام، أن اسمه في الكتب السالفة "بارقليط" أي يفرق بين الحق والباطل، قال: ومنه الحديث: محمد فرق بين الناس، أي يفرق بين المؤمنين والكافرين بتصديقه وتكذيبه.
وأما "حمطايا" بفتح الحاء المهملة وسكون الميم قال الهروي: أي حامي الحرم، وقال ابن الأثير في حديث كعب أنه قال في أسماء النبي صلى الله عليه وسلم في الكتب
__________
بعبارة لملاءمة الذين تبعوا دعاءهم، ولذا اختلفت الأناجيل الأربعة اختلافا شديدا، "ومعناه روح الحق"، لأنه صلى الله عليه وسلم قائم بالحق كقيام الروح بالحيوان، فإن فارقته مات، "وقال ثعلب" أحمد بن يحيى البغدادي الإمام المشهور: معناه "الذي يفرق بين الحق والباطل"، وقيل الحامل وقيل الحماد، قال التقي الشمني وأكثر أهل الإنجيل على أن معناه المخلص، وقد ذكر المصنف لفظ الإنجيل وبسط الكلام عليه في المقصد السادس، "وفي نهاية ابن الأثير" أبي السعادات، واسمه المبارك "في صفته عليه الصلاة والسلام أن اسمه في الكتب السالفة بارقليطا" بباء مشوبة، بفاء وآخره ألف مقصورة، ثم عرب بالباء، أو الفاء، وحذفت الألف من آخره، كما قال الدواني، وهو بمعنى قول أبي عبيد البكري بالباء الموحدة غير صافية، "أي يفرق بين الحق والباطل" ففسره بما قال ثعلب، قيل، وهو بيان لحاصل المعنى.
قال الدواني: والمراد مظهر الولاية التي هي باطن النبوة.
"قال" ابن الأثير "ومنه الحديث محمد فرق بين الناس، أي يفرق بين المؤمنين، والكافرين بتصديقه" من المؤمنين "وتكذيبه" من الكافرين.
"وأما حمطايا، فبفتح الحاء المهملة، وسكون الميم" وطاء مهملة خفيفة، وألفين بينهما تحتية، وضبطه الشمني بفتح الحاء، وفتح الميم المشددة.
"قال الهروي" بعد أن ضبطه بكسر الحاء وسكون الميم وتقديم الياء، وألف بعدها طاء، فهو عنده حمياطا، لا كما أوهمه المصنف، فمراده منه مجرد التفسير بقوله، "أي حامي الحرم" بفتحتين.
قال ابن دحية: ومعناه أنه حمى الحرم مما كان فيه من النصب التي تعبد من دون الله والزنا، والفجور، "وقال ابن الأثير في حديث كعب أنه قال في أسماء النبي صلى الله عليه وسلم في الكتب(4/302)
السالفة: محمد وأحمد وحمياطا. يعني بالحاء المهملة ثم ميم ساكنة فمثناة تحتية فألف فطاء. مهملة فألف. قال أبو عمرو: سألت بعض من أسلم من اليهود عنه فقال: معناه يحمي الحرم من الحرام، ويوطئ الحلال.
وأما "أحيد" وهو بهمزة مضمومة ثم حاء مهملة مكسورة فمثناة تحتية ساكنة ثم دال مهملة. كذا وجدته في بعض نسخ الشفاء المعتمدة. والمشهور ضبطه بفتح الهمزة وسكون الحاء المهملة وفتح المثناة التحتية، وفي نسخة بفتحها وكسر الحاء وسكون المثناة التحتية، فقال النووي في كتابه تهذيب الأسماء واللغات: عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اسمي في القرآن محمد، وفي الإنجيل أحمد، وفي التوراة أحيد، وإنما سميت
__________
السالفة" وقد رواه أبو نعيم عن ابن عباس، قال: "كان صلى الله عليه وسلم يسمى في الكتب القديمة "محمدا، وأحمد وحمياطا" زاد ابن عباس وفارقليطا وماذماذ "يعني بالحاء المهملة" المكسورة كما قال الهروي، "ثم ميم ساكنة، فمثناة تحتية، فألف فطاء مهملة، فألف قال أبو عمرو" بن العلاء؛ لأنه المراد عند الإطلاق اختلف في اسمه على أحد وعشرين قولا أصحها زبان بزاي معجمة ابن العلاء بن عمار، المازني، النحوي، الثقة في الحديث المتوفى سنة أربع وخمسين ومائة، وهو ابن ست وثمانين سنة، وسبب الخلاف فيه أنه كان لجلالته، لا يسأل عن اسمه، "سألت بعض من أسلم من اليهود عنه، فقال: معناه يحمي الحرم" بضم ففتح جمع حرمة، كما جزم به في شرح الشفاء، أي يمنع النساء "من" الأنكحة "الحرام" من سفاح وغيره "ويوطئ الحلال" أي يزوج النكاح الصحيح، فالوطء المترتب عليه حلال، "وأما أحيد، وهو بهمزة مضمومة، ثم حاء مهملة مكسورة فمثناة تحتية ساكنة، ثم دال مهملة، كذا وجدته في بعض نسخ الشفاء المعتمدة" ي قولها، واسمه في التوراة أحيد، والمشهور عندهم، قال الشمني، وهو المحفوظ: "ضبطه بفتح الهمزة" وسكون الحاء المهملة، وفتح المثناة التحتية" وبه ضبطه البرهان في المقتفى، قال الشمني، وهو غير عربي "وفي نسخة بفتحها" أي الهمزة "وكسر الحاء وسكون المثناة التحتية" من حاد يحيد إذا عدل ومال، فهو عربي إن لم يكن من توافق اللغات وضبطه الماوردي في تفسيره بمد الألف وكسر الحاء "فقال النووي في كتابه تهذيب الأسماء، واللغات عن ابن عباس مما أخرجه ابن عدي، وابن عساكر بسند رواه عنه "قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اسمي في القرآن محمد، وفي الإنجيل أحمد، وفي التوراة أحيد، وإنما سميت(4/303)
أحيد لأني أحيد عن أمتي نار جهنم".
وأما "المنحمنا" وهو بضم الميم وسكون النون وفتح الحاء المهملة وكسر الميم وتشديد النون الثانية المفتوحة، مقصور، وضبطه بعضهم بفتح الميمين، فمعناه بالسريانية محمد.
وأما "المشفح" وهو بضم الميم وبالشين المعجمة وبالفاء المشددة المفتوحتين ثم حاء مهملة، وروي بالقاف بدل الفاء، ففي كتاب: سعيا في البشارة به عليه الصلاة والسلام، يفتح العيون العور، والآذان الصم ويحيى القلوب.
__________
أحيد؛ لأني أحيد عن أمتي نار جهنم"، أي أدفعها عنهم بشفاعتي، أو لأنه يحيد أمته عن النار، أو لأنه حاد عن الطريق الباطل، وعدل بأمته إلى سبيل الحق، وهو غير منصرف للعجمة والعلمية، أو وزن الفعل مع العلمية، نقله الشامي عن البلقيني.
"وأما المنحمنا" اسمه في الإنجيل، كما، قال ابن إسحاق، "وهو بضم الميم وسكون النون، وفتح الحاء المهملة، وكسر الميم" الثانية، "وتشديد النون الثانية المفتوحة مقصور" كما ضبطه البرهان في المقتفى، والشمني، "وضبطه بعضهم" هو ابن دحية "بفتح الميمين".
وقال التلمساني الميم الثانية مثلثة "فمعناه" روح القدس، وهو "بالسريانية محمد".
وقال ابن سيد الناس، هو محتمل؛ لأنه اسم له ولكونه بمعناه، "وأما المشفح، فهو بضم الميم وبالشين المعجمة، وبالفاء المشددة المفتوحتين ثم حاء مهملة"، كما ضبطه ابن دحية قائلا بوزن محمد ومعناه، فإن الشفع في اللغة الحمد، "وروي بالقاف بدل الفاء" وبه ضبطه الشمني والدلجي، وزاد أن القاف مفتوحة، أو مكسورة غير منصرف للعلمية، والعجمة انتهى.
قال الحافظ: البرهان لا أعلم صحته، ولا معناه، وكأنه لم ير كلام ابن دحية، أو لم يرتضه، "ففي كتاب سعيا" بالمهملة والمعجمة على ما مر "في البشارة به عليه الصلاة والسلام" كما نقله ابن ظفر في البشر ونصه عبدي الذي سرت به نفسي أنزل عليه وحي، فيظهر في الأمم عدلي ويوصيهم الوصايا، ولا يضحك، ولا يسمع صوته في الأسواق.
"يفتح العيون العور، والآذان الصم"، بالضم وشد الميم جمع صماء، "ويحيي القلوب(4/304)
الغلف، وما أعطيه لا أعطي أحدا، مشفح يحمد الله حمدا جديدا وهو بالسريانية الحمد.
وأما "مقيم السنة" ففي كتاب الشفاء: قال داود عليه السلام: اللهم أبعث لنا محمدا يقيم السنة بعد الفترة.
وأما "المبارك".
__________
الغلف" جمع أغلف المغطاة بما كانت محجوبة به عن الهدى، فأزال حجابها وكشف غطاءها حتى اهتدت. "وما أعطيه، لا أعطي أحدا" مثله "مشفح يحمد الله حمدا جديدا" قال الشامي: راجعت عدة نسح من خير البشر لابن ظفر، فلم أره ضبطه بالفاء، وإنما فوقها نقطتان، وذلك مما يؤيد ضبط الشمني انتهى. ومثل هذا، لا تأييد فيه حتى يرجع على ضبط الحافظ ابن دحية بالفاء، وإليه يومئ قول المصنف، "وهو بالسريانية الحمد" لأنهم يقولون شفحا لها إذا أرادوا أن يقولوا الحمد لله، فإذا كان الحمد شفحا فمشفح محمد، قاله المصنف في المقصد السادس، وكان وجه الملازمة أن الحمد مصدر، واسم المفعول المأخوذ منه محمد، فمحمد مشفح، وبقية ما في الكتاب بعد قوله جديدا يأتي من أقصى المدينة يفرح البرية وسكانها، يهللون الله ويكبرونه على كل رابية، ولا يضعف، ولا يغلب، ولا يميل إلى الهوى ولا يذل الصالحين الذين هم كالقصة الضعيفة بل يقوي الصديقين، وهو ركن المتواضعين، وهو نور الله الذي لا يطفأ أثر سلطانه على كتفه انتهى.
"وأما مقيم السنة" اسمه في الزبور بلفظه، وبمعناه قول التوراة لن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء بأن يقولوا: لا إله إلا الله، كما في الحديث الصحيح، فتجوز من قاله: إنه اسمه في الكتاب "ففي كتاب الشفاء" لعياض ما نصه، ووقع في كتب الأنبياء، "قال داود عليه السلام" أي إن هذا اللفظ بخصوصه نزل في الزبور عليه حكاية لما صدر منه قبل النزول، أو بمعنى الأمر كقراءة قال ربي يعلم القول، قال: رب احكم بالحق كأنه قيل له قل يا داود "اللهم" أي يا الله أتى بالميم إيذانا بأنه يدعوه بأسمائه وصفاته كلها؛ لأنها بمنزلة واو الجمع كأنه يقال: يا الذي اجتمعت له الأسماء الحسنى، والصفات العلي، "ابعث لنا" أي للناس "محمدا يقيم السنة" الطريقة الشرعية، والدين "بعد الفترة" انقطاع الوحي، والرسل، ومعنى إقامتها إظهار الإسلام، "وأما المبارك" عظيم البركة، الجامع لأنواع الخير، النفاع للناس، قال حسان:
صلى الإله ومن يحف بعرشه ... والطيبون على المبارك أحمد
وقال عباس ابن مرداس في قصيدة:(4/305)
فمبدأ الكون ونماؤه كائن من بركته المستمدة من بركة الله، ومن كمال بركته نبع الماء من بين أصابعه، وتكثير الطعام القليل ببركته حتى أشبع الجيش الكثير وغير ذلك مما لمسه أو باشره، كما سيأتي ذلك إن شاء الله تعالى في مقصد المعجزات.
وأما "المكين" فهو صلى الله عليه وسلم المكين تعلو مكانته عند ربه تعالى، ومن ذلك أن قرن سبحانه ذكره بذكره فما أذن باسم أحد سواه، ولا قرن اسم أحد مع اسمه إلا إياه، فأعلن له في السابقة على ساق العرش وأذن به في اللاحقة على منار الإيمان. وأما "الأمي"
__________
فامنت بالله الذي أنا عبده ... وخالفت من أمسي يريد المهالكا
ووجهت وجهي نحو مكة قاصدا ... وبايعت بين الأخشبين المباركا
نبي أتانا بعد عيسى بناطق ... من الحق فيه الفضل منه كذلكا
"فمبدأ" يعني وجه تسميته به أن مبدأ "الكون وتمامه كائن من بركته المستمدة من بركة الله"، ومن كان مدده فلا يستطاع إحصاء بركته "و" لكن "من كمال بركته نبع الماء من بين أصابعه، وتكثير الطعام القليل ببركته حتى أشبع"، وأروى "الجيش الكثير، وغير ذلك مما لمسه، أو باشره، كما سيأتي ذلك إن شاء الله تعالى في مقصد المعجزات".
وقال الشامي سمي بذلك لما جعل الله في حاله من البركة، والثواب، وفي أصحابه من فضائل العمال، وفي أمته من زيادة القدر على الأمم.
"وأما المكين" فعيل من المكانة أخذه جماعة من قوله تعالى: {ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} الآية، على أحد القولين إنما المراد صلى الله عليه وسلم "فهو" أي فموجه تسميته به أنه "صلى الله عليه وسلم المكين تعلموا مكانته" العظيمة "عند ربه تعالى، ومن ذلك أن قرن" ضم وجمع "سبحانه ذكره بذكره فما أذن" بالبناء للمفعول "باسم أحد سواه" لأنه ما شرع ذكر غيره في الأذان، "ولا قرن اسم أحد مع اسمه" تعالى "إلا إياه" كما قال تعالى: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَك} الآية، أي لا أذكر إلا وتذكر معي، كما ورد مفسرا عن جبريل عن الله، "فأعلن له في السابقة على ساق العرش" حيث كتب اسمه على ساقه وعلى نحور الحور وغير ذلك مما مر "وآذن" اعلم "به في اللاحقة على منار الإيمان" حيث أمر المؤذنين بذكر اسمه في كل آذان والمراد بها الآخرة؛ لأنه أعلم به فيها بلواء الحمد، والشفاعة والمقام المحمود وغير لك مما لم يؤذن به لغيره فيها.
"وأما الأمي" الذي، لا يكتب، ولا يقرأ، كما قال صلى الله عليه وسلم: "إنا أمية لا نحسب ولا نكتب"،(4/306)
فهو من أخص أسمائه، وقال تعالى: {مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى: 52] فهو تعالى يقرئه ما كتبه بيده، وما خطته أقلامه العلمية في ألواح قدسه الأقدسية، فيغنيه بذلك عن أن يقرأ ما تكتب الخلق.
وأما "المكي" فهو صلى الله عليه وسلم قد كان بداية ظهوره في الأرض في مكة، التي هي حرم الله، وهي مدد البركة ومنشأ الهدى، فهو صلى الله عليه وسلم مكي الإقامة ومبدأ النبوة، ومكي الإعادة، وكان من آية ذلك توجهه لها حيث ما توجه فهو عليه الصلاة والسلام المكي الذي لا يبرح وجود أو قصد،
__________
وصفه تعالى به تنبيها على أن كمال علمه معها أحد معجزاته، "فهو من أخص أسمائه" أي الأسماء التي اختصاصها به أظهر من غيرها، فإن الأمية، وإن كثرت في الناس لكنها فيهم معجزة وفيه معجزة، "وقال تعالى: {مَا كُنْتَ تَدْرِي} تعرف قبل الوحي إليك "ما الكتاب" القرآن، ولا الإيمان، أي شرائعه، ومعالمه، والنفي معلق للفعل عن العمل، وما بعده وسد مسد المفعولين "ولكن جعلناه" أي الروح أو الكتاب {نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} استدل بها على أميته لاستغنائه عن الكناية، والقراءة بالوحي إذا المطلوب منهما التوصل إلى المعارف، والعلوم، كما أشار له بقوله: "فهو تعالى يقرئه ما كتبه بيده" أي أمر بكتبه، وأضافه إلى ذاته معبرا عنها شعارا بكمال حقيقته حيث أضيف إليه تعالى: "وما خطته أقلامه العلمية في ألواح قدسه الأقدسية فيغنيه بذلك عن أن يقرأ ما تكتب الخلق".
قال القاضي عياض إذ المطلوب من القراءة، والكتابة المعرفة، وإنما هما آلة وواسطة موصلة إليها، فإذا حصلت الثمرة، والمطلوب استغنى عن الواسطة.
قال ومعجزته العظمى القرآن إنما هي متعلقة بطريقة المعارف، والعلوم من ما منح وفضل به من ذلك صلى الله عليه وسلم ووجود مثل ذلك ممن لم يقرأ ولم يكتب ولم يدارس، ولا لقن مقتضى العجب، ومنتهى العبر ومعجزة البشر.
"وأما المكي فهو" أي وجه تسميته به "صلى الله عليه وسم قد كان بداية ظهوره في الأرض في مكة التي هي حرم الله، وهي مدد البركة ومنشأ الهدى" لأن أول نزول الوحي عليه في غارها، "فهو عليه الصلاة والسلام مكي الإقامة، و" مكي "مبدأ النبوة، ومكي الإعادة" فوصفه لهذه الثلاثة، لا لكون بدئه مطلقا بها؛ لأنه كان قبل خلق السماوات والأرض "وكان من آية ذلك" علامة أنه المكي "توجهه لها" أمره باستقبالها في الصلاة "حيثما توجه" أي في، أي محل كان به وتوجهه إليه "فهو عليه الصلاة والسلام المكي الذي لا يبرح وجود أو قصد"، أي إنهما لمكة وإن،(4/307)
والمرء حيث قصده لا حيث جسمه حتى كان من شرعه أن يوجه الميت إليها، ومن أومأ لشيء فهو لما أومأ ولذلك صحت الصلاة إيماء.
وأما "المدني" فلأن المدينة دار هجرته وإقامته لا رحلة له عنها، وخصت تربتها بأن ضمت أعضاءه المقدسة.
وأما "عبد الكريم" فذكر الحسين بن محمد الدامغاني في كتابه "شوق العروس وأنس النفوس" نقلا عن كعب الأحبار أنه قال: اسم النبي صلى الله عليه وسلم عند أهل الجنة عبد الكريم، وعند أهل النار عبد الجبار وعند أهل العرش عبد الحميد،
__________
كان جسده بغيرها، كما أشار إليه بقوله، "والمرء حيث قصده" أي في المكان الذي قصده، "لا حيث جسمه" أي المكان الذي هو به "حتى كان من شرعه أن يوجه الميت إليها ومن أومأ" بفتح أوله والهمز آخره أشار "لشيء" إشارة قلبية، بأن تعلق غرضه به تعلقا تاما، "فهو لما أومأ" أي ففعله، مصروف إلى ما تعلق به قلبه، فحذف المضاف من قوله، فهو فانفصل الضمير، فلم يتحد الشرط والجزاء، "ولذلك صحت الصلاة إيماء" لذي العذر، ومقصوده من هذا تأكيد كونه ما برح عنها وجود، أو للصدا، "وأما المدني، فلأن المدينة دار هجرته" أي الدار التي هاجر إليها في الله بإذنه "وإقامته" حيا، وفي البرزخ حتى يبعث منها، "لا رحلة له عنها" كما قال صلى الله عليه وسلم يوم خطب الأنصار "المحيا محياكم، والممات مماتكم"، "وخصت تربتها بأن ضمت أعضاء النبي صلى الله عليه وسلم المقدسة" فحازت ما لم تحزه بقعة، فقام الإجماع بفضلها على كل البقاع.
"وأما عبد الكريم فذكر" الإمام "الحسين بن محمد الدامغاني" بفتح الميم، والمعجمة، نسبة إلى دامغان مدينة من بلاد قومس، كما في اللب "في كتابه شوق العروس، وأنس النفوس" وكذا ذكره ابن الجوزي في التبصرة كلاهما "نقلا عن كعب الأحبار، أنه قال" مما تلقاه من الكتب السابقة؛ لأنه حبرها "اسم النبي صلى الله عليه وسلم عند أهل الجنة عبد الكريم" لأنه الذي أوصلهم إليها فتكرم الله عليهم فيها بما، لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، هو المصطفى بشفاعته، في فضل القضاء الذي تنصل منه الرؤساء، ولأنه الذي ابتدأ فتح بابها لهم، ولأن تكرم الله عليه فيها لا يضارعه شيء.
"وعند أهل النار عبد الجبار" لأنه جبرهم وقهرهم بالخلود فيها لمخالفته صلى الله عليه وسلم ومخالفة من قبله؛ لأن تكذيب واحد تكذيب للجميع كذبت قوم نوح المرسلين: "وعن أهل العرش عبد الحميد" لحمده على إسرائه إليه وحمدهم على رؤيته صلى الله عليه وسلم عنده.(4/308)
وعند سائر الملائكة عبد المجيد، وعند الأنبياء عبد الوهاب، وعند الشياطين عبد القهار، وعند الجن عبد الرحيم، وفي الجبال عبد الخالق، وفي البر عبد القادر وفي البحر عبد المهيمن، وعند الحيتان عبد القدوس، وعند الهوام عبد الغياث، وعند الوحوش عبد الرزاق، وعند السباع عبد السلام، وعند البهائم عبد المؤمن، وعند الطيور عبد الغفار، وفي التوراة موذ موذ، وفي الإنجيل طاب طاب، وفي الصحف عاقب،
__________
"وعند سائر الملائكة عبد المجيد" لأن كلا منهم يمجد الله ويعبده بنوع وجمعها الله كلها له صلى الله عليه وسلم.
"وعن الأنبياء عبد الوهاب" لأن الله وهبهم النبوة، والآيات البينات، ثم وهبه ما وهبهم ورفعه عليهم درجات "وعند الشياطين عبد القهار؛ لأنه قهرهم، وأذلهم ببعثته ومنعهم من استراق السمع وغير ذلك.
"وعند الجن عبد الرحيم" لأنه رحمهم برسالته فلم يكلفهم الأعمال الشاقة، كالمحاريب، والتماثيل وعادت بركته على كثير منهم فآمنوا به.
"وفي الجبال عبد الخالق" الذي خلقه بشرا ليس كالأبشار، كما أنه خلقها أرضا، لا كالأرض.
"وفي البرد عبد القادر" الذي من قدرته أن خلق منه سيد الأولين والآخرين.
"وفي البحر عبد المهيمن" لأنه أجل من يؤمن به بأنه لا يحصى قطراته، ولا يحفظه إلا الله، "وعند الحيتان عبد القدوس" لأنها، وإن قدست الله كثيرا حتى قيل ما صيدت سمكة حتى ينقطع تسبيحها، فهو في جنب تقديسه صلى الله عليه وسلم لا شيء.
"وعند الهوام عبد الغياث" الذي أغاث الناس من أذاها ببركته ثم أغاثها هي بأن سخر لها رزقها ببركته.
"وعند الوحوش عبد الرزاق" الذي يرزقها ببركة هذا الذي كله رحمة للعالمين، "وعند السباع عبد السلام" الذي سلم الناس من عدائها.
"وعند البهائم عبد المؤمن" لأنه أجل من يؤمن بأن تسخيرها منه تعالى: "وعند الطيور عبد الغفار" الذي يغفر الذنوب ويسترها أقوى من سترها بيضها وفراخها بجناحها "وفي التوراة موذ موذ" بالتكرير، ويوري بألف بدل الواو وبياء كما مر.
"وفي الإنجيل طاب طاب، وفي الصحف"، التي نزلت على موسى قبل التوراة وصحف إبراهيم "عاقب".(4/309)
وفي الزبور فاروق، وعند الله طه ويس، وعند المؤمنين محمد صلى الله عليه وسلم، قال وكنيته أبو القاسم لأنه يقسم الجنة بين أهلها.
وأما "عبد الله" فسماه الله تعالى به في أشرف مقاماته فقال: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} [البقرة: 23] ، وقال: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان: 1] ، وقال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ} [الكهف: 1] فذكره بالعبودية في مقام إنزال الكتاب عليه والتحدي بأن يأتوا بمثله. وقال تعالى: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ} [الجن: 19] فذكره في مقام الدعوة إليه، وقال تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} [الإسراء: 1] ، وقال: {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ} [النجم: 10] ، ولو كان له اسم أشرف منه لسماه به في تلك الحالات العلية.
__________
"وفي الزبور فاروق، وعند الله طه ويس، وعند المؤمنين محمد صلى الله عليه وسلم".
"قال" كعب "وكنيته أبو القاسم؛ لأنه يقسم الجنة بين أهلها، يوم القيامة، وهو أحمد الأقوال، وخالفه الجمهور، كما مر.
"وأما عبد الله فسماه الله تعالى به في أشرف مقاماته" صريحا في وإنه لمقام عبد الله، أو معنى كبقية الآيات لإضافة عبد إلى ضميره تعالى، فساوى في المعنى عبد الله، فلا يرد أنه لم يسمه به إلا في آية واحدة، فقال: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ} شك "مما نزلنا على عبدنا" محمد صلى الله عليه وسلم من القرآن أنه من عند الله، {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} أي المنزل ومن للبيان، أي هي مثله في البلاغة وحسن النظم، والأخبار عن الغيب.
"وقال: {تَبَارَكَ} وتكاثر خيره {الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ} محمد {لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} الأنس، والجن، واتفاقا، والملائكة على الصحيح {نَذِيرًا} مخوفا من عذاب الله، وقال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ} القرآن، "فذكره بالعبودية في مقام إنزال الكتاب عليه" في آيتي الكهف، والفرقان، "و" في مقام "التحدي بأن يأتوا بمثله وقال تعالى: {وَأَنَّهُ} " بالفتح بالكسر استئناف، والضمير للشأن، " {لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ} ، فذكره في مقام الدعوة إليه بالعبودية، وقال تعالى: {سُبْحَانَ} تنزيه {الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} " نصب على الظرف، والإسراء سير الليل نكر للإشارة بتنكيره إلى تقليل مدته.
"وقال: {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ} محمد صلى الله عليه وسلم على أحد القولين والآخر جبريل، فأفاد أن هذا الاسم أشرف أسمائه "ولو كان له اسم أشرف منه، لسماه به في تلك الحالات العلمية"،(4/310)
ولما رفعه الله تعالى إلى حضرته السنية، ورقاه إلى أعلى المعالي العلوية، ألزمه -تشريفا له- اسم العبودية، وقد كان صلى الله عليه وسلم يجلس للأكل جلوس العبد، وكان يتخلى عن وجوه الترفعات كلها في ملبسه ومأكله ومبيته ومسكنه إظهارا لظاهر العبودية فيما يناله العيان صدقا عما في باطنه من تحقق العبودية لربه تحقيقا لمعنى {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ} [الزمر: 33] .
ولما خير بين أن يكون نبيا ملكا.
__________
فهذا مبني على المقدمة المقدرة، فلا يرد أنه لم يدع أنه أشرف أسمائه حتى يحتاج لهذا "ولما رفعه الله تعالى إلى حضرته السنية، ورقاه إلى أعلى المعالي العلوية ألزمه تشريفا له اسم العبودية، وقد" جمع بين صفتها ظاهرا وباطنا، لأنه "كان صلى الله عليه وسلم يجلس للأكل جلوس العبد" فتسميته بذلك مطابقا لما كان عليه في الوجود الظاهر المدرك بالحواس، "و" لذا "كان يتخلى" بخاء معجمة "عن وجوه الترفعات كلها، في ملبسه ومأكله" فيجلس على الأرض، ولا يأكل على خوان، "ومبيته ومسكنه" كما يأتي تفصيل ذلك كله في شمائله وعلل ذلك بقوله "إظهارا لظاهر العبودية فيما يناله العيان" المشاهدة "صدقا" حال من مفعول يناله، أي دالا وكاشفا "عما في باطنه من تحقق العبودية لربه"، وإنما ظهر ذلك "تحقيقا لمعنى" قوله تعالى: " {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ} "، فإن أكثر المفسرين على أنه الذي جاء صلى الله عليه وسلم، قال بعضهم: وهو الذي صدق به، وقيل الذي صدق به المؤمنون وقيل أبو بكر وقيل علي، وقيل غير هذا كما في الشفاء.
قال شارحه، ولا يرد على هذا، ولا على ما قبله أنه يلزمه حذف الموصول بدون الصلة، أو أن يراد بموصول مع الصلة شيء ومنه مع صلة أخرى آخر؛ لأن الموصول هنا واحد لفظا جمع معنى بتقدير موصوف، كذلك كفريق ونحوه، والصلة له على التوزيع، أي جمع بعضه جاء به وبعضه صدقه، فلا محذور فيه، كما ذكر الطيبي، وهذا جار في الوجه الأخير؛ إذ لا مانع منه، فلا وجه لقوله البيضاوي ومن تبعه إذا كان الجائي النبي صلى الله عليه وسلم، المصدق أبو بكر يلزم عليه إضمار الذي وهو غير جائز مع أنه ذكر هذا في الوجه السابق، وليس بينهما فارق والفرق بأنهما فردان مشخصان، لا يجدي، ولا حاجة إلى أن الذي أصله الذين، فخفف بحذف النون لطوله بالصلة، والذي غر هؤلاء أن الذي لا يراد به متعددا إلا إذا كان غير متخصص بمعنى، قال في التسهيل يغني عن الذين في غير تخصيص كثيرا، وفيه للضرورة قليلا انتهى، "ولما خير بين أن يكون نبيا ملكا" بكسر اللام سلطانا تكون شئون كالملوك في اتخاذ الجنود، والخيول،(4/311)
أو نبيا عبدا، اختار أن يكون عبدا، فاختار ما هو الأتم، فكان صلى الله عليه وسلم يقول كما في الصحيح: "لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى، ولكن قولوا عبد الله ورسوله"، فأثبت ما هو ثابت له، وأسلم لله ما هو له لا لسواه وليس للعبد إلا اسم العبد، ولذلك كان "عبد الله" أحب الأسماء إلى الله تعالى.
__________
والخدم، والقصور، والحجاب، "أو نبيا عبدا اختار أن يكون نبيا عبدا"، تواضعا منه، وزهدا في الدنيا خضوعا لله، مع أن النبوة معطاة في الحالين، ولو كان ملكا ما صره الملك.
وفي الحديث، فقال له إسرافيل عند ذلك، فإن الله، قد أعطاك بما تواضعت له أنك سيد ولد آدم يوم القيامة، وأول من تنشق عنه الأرض، وأول شافع، "فاختار ما هو الأتم، فكان صلى الله عليه وسلم يقول، كما في الصحيح" من حديث عمر، "لا تطروني" بضم أوله وسكون الطاء، لا تتجاوزوا الحد في مدحي بأن تقولوا ما لا يليق بي، "كما أطرت النصارى عيسى" حيث كذبوا، وقالوا فيه ابن الله، وإله وغيره من إفكهم، "ولكن قولوا عبد الله ورسوله" ولا تقولوا ما قالته النصارى، "فاثبت ما هو ثبت له" من العبودية، والرسالة، "وأسلم لله ما هو له، لا لسواه" فالنهي إنما هو عن ذلك وإلا فمدحه صلى الله عليه وسلم مطلوب من كل أحد، وقد سمعه وأجاز عليه مع أن أحدا لا يبلغه كما قال:
لا يبلغ الواصف المطري مدائحه ... وإن يكن محسنا في كل ما وصفا
ويرحم الله الشرف البوصيري حيث، قا:
دع ما ادعته النصارى في نبيهم ... واحكم بما شئت مدحا فيه واحتكم
ومنه أخذ الصفي الحلى قوله في بديعته.
دع ما تقول النصارى في نبيهم ... من التغالي وقل ما شئت واحتكم
"وليس للعبد إلا اسم العبد، ولذلك كان عبد الله أحب الأسماء إلى الله"، كما قال صلى الله عليه وسلم: "أحب الأسماء إلى الله عبد الله وعبد الرحمن".
رواه مسلم وللطبراني بسند ضعيف مرفوعا أحب الأسماء إلى الله ما تعبد له وللطبراني وغيره إذا سميتم، فعبدوا.
قال السخاوي، وأما ما يذكر على الألسنة من خير الأسماء ما حمد وما عبد، فما علمته انتهى ولله الحمد على ما أنعم، والله سبحانه وتعالى أعلم.(4/312)
الفصل الثاني: في ذكر أولاده الكرام عليه وعليهم الصلاة والسلام
اعلم أن جملة ما اتفق عليه منهم ستة: القاسم وإبراهيم، وأربع بنات: زينب ورقية وأم كلثوم وفاطمة، وكلهن أدركهن الإسلام وهاجرن معه.
واختلف فيما سوى هؤلاء:
فعند ابن إسحاق: الطاهر والطيب أيضا فتكون على هذا ثمانية، أربعة ذكور وأربعة إناث.
وقال الزبير بن بكار:
__________
"الفصل الثاني: في ذكر أولاده الكرام"
صفة لازمة ولم يقل، وأولاد أولاده، وإن ذكر في ترجمة زينب ولديها، وفي فاطمة أولادها؛ لأن ذكرهم وقع تبعا، والمقصود بالترجمة الأولاد، أو استعمل الأولاد في حقيقته ومجازه، فأراد ما يشمل أولادهم، ولكن الأول أولى؛ لأنه لم يذكر ابن رقية، فيلزم أنه نقص عما ترجم له "عليه وعليهم الصلاة والسلام".
ذكرها عليهم تبعا، فلا كراهة؛ لأن محلها حيث أفردت من غير الله وملائكته ورسله عند الجمهور، ويأتي إن شاء الله تفصيل ذلك في مقصدها.
"اعلم أن جملة ما اتفق عليه منهم ستة: القاسم" أولهم "وإبراهيم" آخرهم، "وأربع بنات: زينب" أكبرهن "ورقية، وأم كلثوم وفاطمة" أصغرهن على الأصح، كما قال السهيلي.
قال أبو عمر هو الذي تركن إليه النفس "وكلهن" أي البنات الأربع "أدركن الإسلام، وهاجرن معه" بمعنى أنهن اجتمعن معه في المدينة بعد الهجرة، أو المعية مجازية لقرب زمان هجرتهن من هجرته صلى الله عليه وسلم، فلا يرد أنهن لم يخرجن معه وقت الهجرة، وإن زينب تأخرت هجرتها حتى كانت بدر، وأسر زوجها، وبعثت هي في فدائه، فمن عليه صلى الله عليه وسلم وشرط عليه، أو طاع له أن يبعث زينب، ففعل، كما قدمت ذلك.
"واختلف فيما سوى هؤلاء، فعند ابن إسحاق" من أولاده "الطاهر، والطيب أيضا فتكون" أولاده "على هذا ثمانية أربعة ذكور، وأربعة إناث" زيادة إيضاح، لما علم مما قبله، "وقال الزبير بن بكار" بن عبد الله بن مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير الأسدي المدني، قاضيها(4/313)
كان له عليه الصلاة والسلام سوى إبراهيم القاسم وعبد الله، مات صغيرا بمكة، ويقال له: الطيب والطاهر، ثلاثة أسماء.
وهو قول أكثر أهل النسب قاله أبو عمر، وقال الدارقطني: هو الأثبت.
ويسمى عبد الله بالطيب والطاهر لأنه ولد بعد النبوة، فعلى هذا تكون جملتهم سبعة، ثلاثة ذكور.
وقيل: عبد الله غير الطيب والطاهر، حكاه الدارقطني وغيره. فعلى هذا تكون جملتهم على هذا تسعة، خمسة ذكور.
وقيل: كان له الطيب والمطيب، ولدا في بطن، والطاهر والمطهر، ولدا في بطن، ذكره صاحب الصفوة،
__________
أبو عبد الله بن أبي بكر، ثقة حافظ علامة بالنسب مات سنة ست وخمسين ومائتين. "كان له عليه الصلاة والسلام سوى إبراهيم" ولدان "القاسم وعبد الله" حال كونه "مات صغيرا" لم تعلم مدة حياته لقلة الاعتناء بالتاريخ إذ ذاك "بمكة" أو هي مستأنفة، "ويقال له الطيب، والطاهر" فله "ثلاثة أسماء" فهو مبتدأ حذف خبره، "وهو" أي ما، قاله ابن بكار "قول أكثر أهل النسب، قاله أبو عمر"، بضم العين يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر، الحافظ العلامة، الإمام، الذي ساد أهل الزمان بالحفظ، والاتقان الشهير بكنيته والنسبة إلى جد أبيه.
"وقال الدارقطني: هو الأثبت"، ولذا اقتصر يزيد بن عياض عن الزهري على القاسم وعبد الله، كما أخرجه الزبير بن بكار قائلا "ويسمى عبد الله بالطيب، والطاهر" هذه أولى من نسخة حذف الواو؛ لأنه سمي بكل منهما، كما علم ولفظ الزبير حدثني عمي عن مصعب، قال ولدت خديجة للنبي صلى الله عليه وسلم القاسم والطاهر، وكان يقال له الطيب، واسمه عبد الله، "لأنه ولد بعد النبوة" فصلح له الاسمان، ونقل الزبير أيضا عن جده مصعب أنه كان للزبير بن عبد المطلب ابن يسمى الطاهر، كان من أظرف الفتيان بمكة، وبه سمى رسول الله ابنه، "فعلى هذا تكون جملتهم سبعة ثلاثة ذكور" القاسم وعبد الله وإبراهيم، والأربع بنات "وقيل: عبد الله غير الطيب وغير "الطاهر حكاه الدارقطني وغيره" كأبي بكر بن عثمان وأبي الأسود يتيم عروة قالا ولدت خديجة لرسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة ذكور القاسم، والطيب، والطاهر، وعبد الله، وأربع بنات وسماهن أخرجه الزبير، "فعلى هذا تكون جملتهم تسعة خمسة ذكور" بإبراهيم، وأربع بنات، "وقيل: كان له الطيب والمطيب"، بضم الميم، وفتح الطاء المهملة، والياء الثقيلة، وموحدة "ولدا في بطن" أي توءمين، "والطاهر والمطهر" بضم الميم اسم مفعول "ولدا في بطن ذكره صاحب الصفوة"(4/314)
فتكون على أحد عشر.
وقيل: ولد له صلى الله عليه وسلم ولد قبل المبعث يقال له عبد مناف، فتكون على هذا اثني عشر، وكلهم سوى هذا ولد في الإسلام بعد البعث. وقال ابن إسحاق: كلهم غير إبراهيم قبل الإسلام. ومات البنون قبل الإسلام وهم يرتضعون، وقد تقدم من قول غيره أن عبد الله ولد بعد النبوة ولذلك.
__________
ابن الجوزي وكذا ابن البر في تاريخه ولما عد ابن ظفر أولاده لله من خديجة ذكر المطهر، قال وبعض الناس يسميه الطاهر، وهو سهو، فإن الطاهر هو ابن أبي هالة من خديجة، قال في الإصابة ولم يذكر مستنده فيما زعم، وما المانع أن خديجة سمت أحد أولادها منه صلى الله عليه وسلم باسم ولدها من غيره، وذلك موجود في العرب كثيرا وقد سبقه إلى ذكر المطهر غيره انتهى، "فتكون" الأولاد الكرام "على هذا أحد عشر" سبعة ذكور وأربع بنات، "وقيل ولد له صلى الله عليه وسلم ولد قبل المبعث، يقال له عبد مناف".
رواه الهيثم بن عدي عن هشام عن عروة عن أبيه، قال ولدت خديجة للنبي صلى الله عليه وسلم عبد العزى، وعبد مناف، والقاسم، قال في الميزان، واللسان هذا من افتراء الهيثم على هشام، والهيثم، كذبه البخاري، وأبو داود وآخرون، وقد قال الطحاوي، والبيهقي وابن الجوزي وغيرهم لم ينقل أحد من الثقات ما نقله الهيثم عن هشام قال ابن الجوزي قال لنا شيخنا ابن ناصر لم يسم صلى الله عليه وسلم عبد مناف ولا عبد العزى قط.
وقال الحافظ قطب الدين الحلبي في المورد العذب: لا يجوز لأحد أن يقول هذه التسمية، أي بالاسمين اللذين زعمهما الهيثم وقعت من النبي صلى الله عليه وسلم ولئن قيل، أي على فرض الورود أنها وقعت فتكون من بعض أهل خديجة وغيرها النبي صلى الله عليه وسلم بعد، أو لم تبلغه لكونه كان مشغولا بعبادة ربه وعدم طول حياة من سمي بذلك، أو اختلق ذلك أحد الشياطين الأنس، أو الجن ليدخل اللبس على ضعيف الإيمان انتهى.
"فتكون على هذا اثني عشر" وعلى تمام ذلك الافتراء ثلاثة عشر وعلى المؤلف مؤاخذة، فإن مثل هذا، لا يذكر مع السكوت عليه، "وكلهم سوى هذا ولد في الإسلام بعد البعث" عند جماعة منهم الزبير بن بكار.
"وقال ابن إسحاق" في السيرة عند ذكر تزوج المصطفى خديجة: "كلهم غير إبراهيم" ولد قبل الإسلام، ومات البنون قبل الإسلام، وهم يرتضعون" ورجح السهيلي قول الجماعة بأن الزبير أعلم بهذا الشأن، "و" يؤيده أنه "قد تقدم من قول غيره أن عبد الله ولد بعد النبوة، ولذلك(4/315)
سمي بالطيب الطاهر.
فتحصل من جميع الأقوال ثمانية ذكور: اثنان متفق عليها: القاسم وإبراهيم، وستة مختلف فيهم، عبد مناف، وعبد الله، والطيب، والمطيب، والطاهر، والمطهر.
والأصح أنهم ثلاثة ذكور وأربع بنات متفق عليهن وكلهن من خديجة بنت خويلد إلا إبراهيم.
فأما القاسم فهو أول ولد ولد له عليه الصلاة والسلام قبل النبوة، وبه كان يكنى.
وعاش حتى مشى، وقيل: عاش سنتين، وقال مجاهد: مكث سبع ليال، وخطأه الغلابي في ذلك وقال: الصواب أنه عاش سبعة عشر شهرا. وقال ابن فارس: بلغ ركوب الدابة.
__________
سمي بالطيب، والطاهر" ويأتي أيضا أن القاسم مات بعد الإسلام في قول غير ابن إسحاق، "فتحصل من جميع الأقوال ثمانية ذكور اثنان متفق عليهما القاسم، وإبراهيم وستة مختلف فيهم عبد مناف وعبد الله، والطيب والمطيب والطاهر والمطهر" وسلك المصنف طريق الإيضاح، فإن هذا علم من كلامه، كما قال: "والأصح أنهم ثلاثة ذكور:" القاسم وعبد الله صاحب اللقبين وإبراهيم، "وأربع بنات متفق عليهن وكلهم" وفي نسخة كلهن تغليبا للإناث لفضلهن أو نظرا إلى أن أولاد جمع كثرة، فلا يضر عوده على الذكور نحو قامت الرجال، بمعنى الطائفة، "من خديجة بنت خويلد إلا إبراهيم" فمن مارية، كما يأتي قريبا، فهذا ذكرهم مجملا، فإن أردت تفصيله فصلناه لك على القول الأصح "فأما القاسم فهو أول ولد ولد له عليه الصلاة والسلام" على الأصح الذي جزم به الزبير بن بكار وصاحب الإصابة، فقال: هو بكره، وولد "قبل النبوة، وبه كان يكنى" في قول الجمهور "وعاش حتى مشى" كما رواه ابن بكار عن بعض المشيخة قائلا، غير إن رضاعته لم تكن كملت، أي لم يبلغ حولين على ذا القول: "وقيل عاش سنتين" رواه ابن سعد عن محمد بن جبير بن مطعام، وعن قتادة، "وقال مجاهد مكث سبع ليال" بأيامها فعند ابن سعد عنه عاش سبعة أيام، "وخطأه المفضل بن غسان "الغلابي" بغين معجمة، وتخفيف اللام، وموحدة شيخ ابن أبي الدنيا كما في التبصير نسبة إلى جده، "في ذلك، وقال الصواب أنه عاش سبعة عشر شهرا" وفي الإصابة قال المفضل الغلابي عاش سبعة أشهر بعد البعثة انتهى، ولا منافاة لأن عشرة قبلها، "وقال ابن فارس" اللغوي "بلغ ركوب الدابة" ولعله(4/316)
ومات قبل المبعث. وفي مسند الفريابي ما يدل على أنه توفي في الإسلام. وهو أول من مات من ولده عليه الصلاة والسلام.
__________
مراد من قال بلغ سن التمييز، "ومات قبل المبعث"، النبوي، "وفي مسند" العلامة الحافظ أبي بكر جعفر بن محمد "الفريابي" بكسر الفاء وسكون الراء بعدها تحتانية، فألف فموحدة نسبة إلى بلدة بيلخ التركي، قاضي الدينور، صاحب التصانيف، الثقة المأمون قال الخطيب: كان أوعية العلم، وأهل المعرفة، والفهم طوف شرقا وغربا ولد سنة سبع ومائتين، ومات في محرم سنة إحدى وثلاثمائة "ما يدل على أنه توفي في الإسلام" فإنه أخرج هو، والطيالسي والحربي وابن ماجه عن فاطمة بنت الحسين عن أبيها، لما مات القاسم، قالت خديجة: يا رسول الله درت لبينة القاسم فلو كان الله أبقاه حتى يتم رضاعه، قال: "كان تمام رضاعه في الجنة". قالت فلو أعلم ذلك يا رسول الله لهون علي أمره، فقال: "إن شئت دعوت الله، فاسمعك صوته". فقالت: بل أصدق الله ورسوله.
قال الحربي: أراد أنها حزنت عليه حتى در لبناه، قال في الإصابة وهذا ظاهر جدا في أنه مات في الإسلام، ولكن في السند ضعف انتهى, وفي الروض لبينة تصغير لبنة، وهي قطعة من اللبن كالعسيلة تصغير عسلة، قال وهذا من فقهها كرهت أن ترى هذا الأمر، فلا يكون لها أجر الإيمان بالغيب، وإنما أثنى الله على الدين يؤمنون بالغيب انتهى.
وأخرج يونس بن بكير في زيادة المغازي من طريق جابر الجعفي عن محمد بن علي بن الحسين، كان القاسم، قد بلغ أن يركب الدابة ويسير على النجيبة، فلما قبض، قال العاصي بن وائل: لقد أصبح محمد أبتر، فنزلت: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} ، عوضا عن مصيبتك بالقاسم.
قال في الإصابة: فهذا أيضا يدل على أنه مات في الإسلام، وأما قول أبي نعيم: لا أعلم أحدا من متقدمينا ذكره في الصحابة، وقد ذكر البخاري في التاريخ الأوسط من طريق سليمان بن بلال عن هشام بن عروة أن القاسم مات قبل الإسلام، فيعارضه حديث ما أعفي أحد من ضغطه القبر إلا فاطمة بنت أسد. قيل: ولا القاسم قال: ولا القاسم، ولا إبراهيم فهذا وحديث الحسين الذين قبله يدل على خلاف رواية هشام بن عروة انتهى.
"وهو أول من مات من ولده عليه الصلاة والسلام" فإن قلنا بعد البعثة ترجح القول بأن زينب قبله لولادتها قبل البعثة بعشر سنين، كما يأتي، وقد صححه ابن الكلبي، وقال إن غيره تخليط، قال ابن سعد وغيره: وكانت سلمى مولاة صفية بنت عبد المطلب قابلة خديجة في أولادها، وكانت تعق عن كل غلام بشاتين وعن الجارية بشاة، وكان بين كل ولدين لها سنة،(4/317)
وأما زينب فهي أكبر بناته فلا خلاف إلا ما لا يصح، وإنما الخلاف فيها وفي القاسم أيهما ولد أولا.
وعن ابن إسحاق أنها ولدت في سنة ثلاثين من مولده عليه الصلاة والسلام. وأدركت الإسلام وهاجرت وماتت سنة ثمان من الهجرة.
__________
وكانت تسترضع لهم، وتعد ذلك قبل ولادتها، "وأما زينب" التي من فضائلها ما خرج الطحاوي، والحاكم بسند جيد، عن عائشة أنه صلى الله عليه وسلم، قال في حق زينب ابنته، لما أوذيت عند خروجها من مكة هي أفضل بناتي أصيبت في، وهو على تقدير ما أفضل، "فهي أكبر بناته، بلا خلافا إلا ما لا يصح" قال في الإصابة: وأول من تزوج منهن "وإنما الخلاف فيها وفي القاسم أيهما ولد أولا" فقال الزبير بن بكار في طائفة ولد القاسم، ثم زينب، ثم عبد اله، وقال ابن الكلبي زينب، ثم القسم، ثم أم كلثوم، ثم فاطمة، ثم رقية، ثم عبد الله وكان، يقال له الطيب، والطاهر.
قال: وهذا هو الصحيح وغيره تخليط، "وعن ابن إسحاق أنها ولدت في سنة ثلاثين من مولده عليه الصلاة والسلام" قبل البعثة بعشر سنين، "وأدركت الإسلام" وأسلمت رضي الله عنها "وهاجرت" بعد بدر، كما رواه ابن إسحاق، عن عائشة، وعند ابن سعد بسند صحيح من مرسل الشعبي، أنها هاجرت مع أبيها، ويجمع بينهما بأن المعية مجازية، كما مر، "وماتت" أول "سنة ثمان من الهجرة"، كما رواه الواقدي عن عبد الله بن أبي بكر بن حزم، وجزم به في الإصابة والعيون وغيرهما.
وروى مسلم عن أم عطية، قالت: لما ماتت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قال: "اغسلنها وترا ثلاثا، أو خمسا واجعلن في الآخرة كافورا" الحديث، وهو في الصحيحين بدون تسمية زينب، وروى أن التي غسلتها أم أيمن وسودة بنت زمعة، وأم سلمة.
قال ابن عبد البر: والتي شهدت أم عطية غسلها وتكفينها إنما هي أم كلثوم، ورده الحافظ المحفوظ أن قصة أم عطية إنما هي زينب كما في مسلم ويحتمل أن تكون شهدتهما جميعا انتهى وصلى عليها صلى الله عليه وسلم ونزل في قبرها، ومعه أبو العاصي وجعل لها نعش قيل وكانت أول من اتخذ لها ذلك، ولا يعارضه ما يأتي أن فاطمة أول من غطى نعشها كما لا يخفى ذكر ابن إسحاق وغيره: أن أبا العاصي لما من عليه صلى الله عليه وسم حين أسر ببدر ورجع إلى مكة أمرها باللحوق بأبيها، وذلك بعد بدر بشهر أو أكثر، فتجهزت فحملها في هودج على بعير ساقه بها أخوه كنانة بن الربيع، ومعه قوسه وكنانته، فخرج رجال من قريش، فادركوها بذي طوى، فسبق إليها هبار بن الأسود، وأسلم بعد ذلك فراعها بالرمح، وكانت حاملا فوقعت وأسقطت، فقام حموها كنانة ونثر كنانته، والله لا يدنو مني رجل إلا وضعت فيه سهما فتكركر الناس(4/318)
عند زواجها -ابن خالتها- أبي العاصي لقيط وقيل مقسم بن الربيع بن عبد العزى بن عبد شمس.
__________
عنه وجاء أبو سفيان في جلة قريش كف عنا نبلك حتى نكلمك فكف فقال: قد عرفت مصيبتنا ونكبتنا من محمد فيظن الناس أنك إذا خرجت ببنته علانية أنه عن ذل من مصيبتنا وضعف وما لنا بحبسها عن أبيها حاجة لكن ارجع حتى إذا هدأت الأصوات وتحدث أن قد رددناها سلها سرا وألحقها بأبيها ففعل فأقامت ليالي حتى خرج بها ليلا حتى أسلمها إلى زبد بن حارثة وصاحبه الأنصاري، وكان بعثهما صلى الله عليه وسلم فقال كونا ببطن يأجج حتى تمر بكما زينب، فأصحباها حتى تاتياني بها، فقدما بها عليه، وللطبراني برجال الصحيح عن ابن الزبير أن رجلا أقبل بزينب فلحقه قرشيان فغلباه عليها، فدفعاها فوقعت على صخرة، فاسقطت، واهريقت دما فذهبوا بها إلى أبي سفيان فجاءته نساء بني هاشم فدفعها إليهن، ثم هاجرت فلم تزل وجعة من ذلك الوجع حتى ماتت فكانوا يرون إنها شهيدة وكأنه لما ردها حموها تلطف به أبو سفيان، فأخذها عنده ليشتهر أنه ردها، حتى جاءته نساء بني هاشم فدفعها إليهن؛ لأنه كان يحب الفخر، وقوله، فذهبوا بها إلى أبي سفيان تحديث عن منتهى ما وقع، فلا تعارض رواية ابن إسحاق "عند زوجها ابن خالتها" هالة بنت خويلد، صحابية، استأذنت عليه صلى الله عليه وسلم فعرف استئذان خديجة فارتاع وقال اللهم هالة، كما في البخاري عن عائشة "أبي العاصي لقيط" بفتح اللام وكسر القاف وسكون التحتية، وبالطاء اسمه في قول مصعب الزبيري، وعمرو بن علي، والغلابي، وأبي أحمد الحاكم، وآخرين، ورجحه البلاذري، "وقيل مقسم" بكسر الميم وسكون القاف، وفتح السين المهملة.
حكاه السهيلي وابن الأثير وجماعة وفي نسخة مهشم وهو قول في اسمه حكاه في الإصابة وغيرها وضبطوه بكسر الميم، وسكون الهاء وفتح الشين المعجمة، وقيل بضم أوله، وفتح ثانيه، وكسر الشين الثقيلة.
حكاه البغوي والزبير بن بكار وحكى أيضا عن عثمان بن الضحاك أن اسمه الزبير، وقال إنه الثبت في اسمه ويقال هشيم حكاه ابن عبد الله البر، يقال قسم حكاه السهيلي والحافظ في الفتح وغيرهما.
وحكى ابن منده وتبعه أبو نعيم أن اسمه ياسر بتحتية وسين مهملة، قال في الإصابة وأظنها محرفة من قاسم انتهى، وفيه شيء وقد حكى القولين معا في الفتح "ابن الربيع" على الصواب، ورواه يحيى بن بكير ومعن بن عيسى وأبو مصعب وغيرهم عن مالك وروى الجمهور عنه أنه ابن ربيعة وادعى الأصيلي أنه ابن الربيع بن ربيعة فنسبه مالك مرة إلى جده، ورده عياض والقرطبي وغيرهما لاطباق النسابين على خلافة "ابن عبد العزي بن عبد شمس" بن عبد مناف(4/319)
وكانت هاجرت قبله وتركته على شركه، وردها النبي صلى الله عليه وسلم إليه بالنكاح الأول بعد سنتين، وقيل بعد ست سنين وقيل بعد انقضاء العدة، فيما ذكره ابن عقبة. وفي حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ردها له بنكاح جديد سنة سبع.
__________
القرشي العبشمي، وكون الربيع بن عبد العزي هو ما أطبق عليه النسابون، ونسبه مالك إلى جده، فأسقط عبد العزى ما في الفتح، "وكانت هاجرت قبله وتركته على شركة" فاسر في سرية تقدمت، فأجارته زينب، فذهب إلى مكة ورد الأمانات إلى أهلها، ثم أسلم وهاجر، وأثنى عليه صلى الله عليه وسلم في مصاهرته، وقال: "حدثني فصدقني ووعدني فوفاني"، كما في الصحيحين.
"وردها" زينب "النبي صلى الله عليه وسلم له بالنكاح الأول" كما أخرجه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه عن ابن عباس، قال الترمذي: ليس بإسناده بأس ولكن لا يعرف وجهه "بعد سنتين" من إسلامه الواقع في السادسة، أو السابعة، "وقيل بعد ست سنين" من الهجرة، وقد علمت قول الترمذي، لا يعرف وجهه، فكذا هذان القولان المبنيان عليه وإلا، فابتداء السنتين، أو الست مشكل، كما لا يخفى، "وقيل بعد انقضاء العدة فيما ذكره" موسى "بن عقبة" وهو من المشكل أيضا الذي لا يعرف وجهه، ثم هو حاصل القولين قبله غايته أنه لم يعين قدرا، وقد ذكر المصنف هذا القول فيما مر، لكن بدون عزو بلفظ قبل، لا بعد ومر وجهه، "وفي حديث عمرو بن شعيب" بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص، الصدوق، "عن أبيه" شعيب بن محمد، صدوق، ثبت سماعه "عن جده" عبد الله بن مرو بن العاص، المروي عن الترمذي، وابن ماجه أنه صلى الله عليه وسلم "ردها له بنكاح جديد".
قال الترمذي سمعت عبد بن حميد يقول: سمعت يزيد بن عمرو، وذكر هذين الحديثين. يقول حديث ابن عباس أجود إسنادا، والعمل على حديث عمرو بن شعيب، قال السهيلي، وإن كان أصح إسنادا لم يقل به أحد من الفقهاء؛ لأن الإسلام فرق بينهما.
قال تعالى: {لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} ، قال: ومن جمع بينهما؟ قال: معنى حديث ابن عباس على مثل النكاح الأول في الصداق، والحباء لم يزد عليه شرطا، ولا غيره "سنة سبع" يفيد انقضاء العدة؛ لأن نزول آية التحريم بعد الحديبية الواقعة في سنة ست وبهذا وبما ذكرته عن ابن إسحاق في قصة هجرتها علمت أن زعم أنها لم تبن بانقضاء العدة لتأخر نزول التحريم، بل عزلت عنه إلى الهجرة، واستمرت كذلك حتى نزلت آية التحريم، فتوقف انفساخ النكاح على انقضاء العدة، فلم يلبث حتى جاء، وأسلم فردها بالنكاح الأول؛ إذ ليس بينهما إلا اليسير كله، تقول: جاءت الروايات بخلافه وليته إذ أبداه جوابا جعله احتمالا، بل جزم(4/320)
وولدت له عليًّا، مات صغيرا وقد ناهز الحلم، وكان رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم على ناقته يوم الفتح، وولدت له أيضا أمامه التي حملها صلى الله عليه وسلم في صلاة الصبح على عاتقه، وكان إذا ركع وضعها وإذا رفع رأسه من السجود أعادها، وتزوجها علي بن
__________
ونحن في غنية عنه، فقد كفانا الأئمة مئونة ذلك، فقد علمت قول الترمذي وجهه، لا يعرف، ونقله أن العمل على حديث عمرو بن شعيب، ونقل السهيلي التوفيق بما هو محتمل، "وولدت له عليًّا" الصحابي ابن الصحابي، أحد الأسباط النبوية استرضع في بني غاضرة، فافتصله صلى الله عليه وسلم منهم، وأبو العاصي مشرك بمكة، وقال: "لئن شاركني في شيء، فأنا أحق به منه".
ذكره في الإصابة. "مات صغيرا، وقد ناهز الحلم" بعد أمه في حياة أبيه، فيما رواه الزبير عن عمر بن أبي بكر الموصلي، وقال ابن عساكر ذكر بعض أهل العلم بالنسب أنه قتل يوم اليرموك، "وكان رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم على ناقته يوم الفتح" لمكة الشريفة، "وولدت له أيضا أمامه، بضم الهمزة، وتخفيف الميمين "التي حملها صلى الله عليه وسلم في صلاة الصبح على عاتقه"، كما في رواية الزبير بن بكار، وعند أبي داود عن أبي قتادة بينا نحن ننتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم في الظهر، أو العصر إذ خرج إلينا وأمامه على رقبته، فقام في الصلاة، وقمنا خلفه، والحديث في الموطأ، ومن طريقه أخرجه الشيخان عن أبي قتادة أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي، وهو حامل أمامه، فإذا سجد وضعها، وإذا قام حملها. "وكان إذا ركع وضعها" كما عند مسلم، والنسائي من غير طريق مالك، "وإذا رفع رأسه من السجود أعادها" كما لأبي داود من طريق آخر، فهذا صريح في أن فعل الحمل، والوضع كان منه صلى الله عليه وسلم، لا منها بخلاف ما أوله الخطابي في حديث مالك، حيث، قال يشبه أن الصبية كانت ألفته، فإذا سجد تعلقت بأطرافه والتزمته، فينهض من سجوده، فتبقى محمولة كذلك إلى أن يركع، فيرسلها، وبسط هذا يأتي إن شاء الله تعالى في مقصد عباداته، فإن المقصود منه هنا أنه كان يلاطفها ويحبها، وقد روى أحمد عن عائشة أن النجاشي اهدى للنبي صلى الله عليه وسلم حلة فيها خاتم من ذهب فصه حبشي، فأعطاه أمامة.
وأخرج ابن سعد، وأحمد، وأبو يعلى بسند حسن عن عائشة أهديت له هدية فيها قلادة، جزع معلمات بالذهب ونساؤه كلهن مجتمعات في بيت، وأمامة تلعب في جانب البيت بالتراب، فقال: "كيف ترين هذه"؟ فنظرنا إليها فقلنا: ما رأينا أحسن منها، ولا أعجب، فقال: "لأدفعنها إلى أحب أهلي إليَّ" فقالت النساء: ذهبت بها ابنة أبي قحافة، فدعا صلى الله عليه وسلم أمامة بنت زينب فعقدها بيده في عنقها وكان على عينها عمص، فمسحه بيده، وفي رواية، فأقبل بها حتى وضعها في رقبة أمامة، فسري عنا، ولا تعارض، فقد يكون أقبل بها، ثم دعاها "وتزوجها علي بن(4/321)
أبي طالب بعد فاطمة.
وأما رقية فولدت سنة ثلاث وثلاثين من مولده عليه الصلاة والسلام. وذكر الزبير بن بكار وغيره أنها أكبر بناته صلى الله عليه وسلم وصححه الجرجاني النسابة. والأصح الذي عليه الأكثرون كما تقدم، أن زينب أكبرهن.
وكانت رقية تحت عتبة بن أبي لهب، وأختها أم كلثوم تحت أخيه عتيبة، فلما نزلت {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد: 1] .
__________
أبي طالب" أمير المؤمنين "بعد فاطمة" خالتها بوصية من فاطمة بذلك، زوجها منه الزبير بن العوام، وكان أبوها قد أوصى بها إلى الزبير، فلما تأيمت من علي، قالت أم الهيثم النخعية:
أشاب ذوائبي وأذل ركني ... أمامة حين فارقت القرينا
تطيف به لحاجتها إليه ... فلما استيأست رفعت رنينا
وكان علي، قد أمر المغيرة بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب أن يتزوجها، فتزوجها بعده فولدت له يحيى وبه كان يكنى، وماتت عند المغيرة، وقيل لم تلد لعلي، ولا للمغيرة.
قال الزبير: ليس لزينب عقب ذكره ابن عبد البر، وقيل الذي تزوجها بعد علي أبو الهياج بن أبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، حكاه الدارقطني، "وأما رقية، فولدت سنة ثلاث وثلاثين من مولده عليه الصلاة والسلام" فيما قيل. "وذكر الزبير بن بكا وغيره أنها أكبر بناته صلى الله عليه وسلم" الذي نسبه اليعمري عن ابن عبد البر للزبير بن بكار أن زينب أكبرهن ورقية أصغرهن، "وصححه" علي بن عبد العزيز "الجرجاني النسابة" الذي في العيون والإصابة عن أبي عمر، صحح الجرجاني أن رقية أصغرهن، "والأصح الذي عليه الأكثرون، كما تقدم أن زينب أكبرهن" بل قال أبو عمر: لا أعلم فيه خلافا، واختلف في رقية، وفاطمة، وأم كلثوم، والأكثر أنهن على هذا الترتيب، وصحح الجرجاني أن رقية أصغرهن، وقيل فاطمة.
هذا ما في الإصابة وإن تكرر ونحوه في العيون، "وكانت رقية تحت عتبة" بالتكبير أسلم في الفتح هو، وأخوه معتب "بن أبي لهب" لأن النبي صلى الله عليه وسلم استوهبهما من ربه، فوهبهما له، كما مر في غزوتها، "وأختها أم كلثوم تحت أخيه عتيبة" بالتصغير الميت كافرا، كما يأتي.
قال ابن سعد: وكان تزوجها قبل النبوة، وتبعه ابن عبد البر، ونظر فيه الحافظ، بأن عبد البر نفسه، نقل الاتفاق على أن زينب أكبرهن، وقد ولدت قبل البعثة بعشر سنين، فإذا كانت أكبرهن بهذا السن، فكيف يتزوج من هي أصغر منها؟ نعم إن ثبت يكون عقد نكاح فقط حتى يحصل التأهل فوقع الفراق قبل ذلك انتهى "فلما نزلت {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} بعدما أنذر صلى الله عليه وسلم(4/322)
قال لهما أبوهما -أبو لهب- رأسي من رءوسكما حرام إن لم تفارقا ابنتي محمد، ففارقاهما ولم يكونا دخلا بهما.
فتزوج عثمان بن عفان رقية بمكة، وهاجر بها الهجرتين إلى أرض الحبشة، وكانت ذات جمال رائع
__________
عشيرته لما نزل عليه، وأنذر عشيرتك الأقربين، فقال أبو لهب تبا لك ألهذا جمعتنا؟، "قال لهما أبوهما أبو لهب: رأسي" أي قربه "من رءوسكما حرام" ممنوع لأن شأن المتحابين وضع رءوسهما على وسادة واحدة، وعبر بالجمع في موضع التثنية لقلة استعمالها في مثله لكراهتهم اجتماع تثنيتين، وفي نسخة من رأسكما بالإفراد، وهو جائز أيضا كقطعت رأس الكبشين، قال ابن مالك: والجمع أجود نحو، فقد صغت قلوبكما، وقد اجتمعت التثنية، والإفراد في قوله ظهراهما مثل ظهر الترسين، وفي نسخة بالتثنية على القليل، "إن لم تفارقا ابنتي محمد، ففارقاهما ولم يكونا دخلا بهما" تبعا لأمره المشئوم، "فتزوج عثمان بن عفان" أمير المؤمنين "رقية بمكة" وكانت بارعة الجمال، وكذا كان عثمان جميلا، فكان يقال أحسن زوجين، رآهما إنسان رقية وزوجها عثمان، وفيه تقول خالته سعدى بنت كرز الصحابية العبشمية:
هدى الله عثمان الصفي بقوله ... فارشده والله يهدي إلى الحق
فبايع بالرأي السديد محمدا ... وكان ابن أروى لا يصد عن الحق
وأنكحه المبعوث إحدى بناته ... فكان كبدر مازج الشمس في الأفق
فداؤك يابن الهاشميين مهجتي ... فأنت أمين الله أرسلت في الخلق
ذكره أبو سعد في الشرف، "وهاجر بها الهجرتين إلى أرض الحبشة،" واحتبس خبرهما عن النبي صلى الله عليه وسلم حتى أتته امرأة، فأخبرته أنها رأتهما، فقال صلى الله عليه وسلم: "صحبهما الله إن عثمان أول من هاجر بأهله بعد لوط".
رواه ابن المبارك وغيره، قال ابن هشام: فولدت له هناك عبد الله، فكان يكنى به وعاش، كما في الفتح ست سنين ومات كما قال ابن سعد سنة أربع من الهجرة نقره ديك، فتوفي بعد أمه قال: ولم تلد له غيره إلا أنها أسقطت قبله سقطا، وقال قتادة: لم تلد له، قال ابن عبد البر: وهو غلط لم يقله غيره.
وذكر البلاذري أنه، لما توفي وضعه النبي صلى الله عليه وسلم في حجر، وقال: "إنما يرحم الله من عباده الرحماء"، "وكانت ذات جمال رائع" ذكر ابن قدامة أن نفرا من الحبشة كانوا ينظرون إليها، ويعجبون من جمالها فتأذت من ذلك فدعت عليهم فهلكوا جميعا.(4/323)
عن الدولابي أن تزويجه بها كان في الجاهلية، وذكر غيره ما يدل على أنه كان بعد إسلامه.
وتوفيت والنبي صلى الله عليه وسلم ببدر. وعن ابن عباس: لما عزي صلى الله عليه وسلم برقية قال: "الحمد لله، دفن البنات من المكرمات" أخرجه الدولابي.
__________
"عن الدولابي" بفتح الدال، وضمها الحافظ أبي بشر "أن تزويجه بها كان في الجاهلية" أي قبل البعثة، "و" لكن "ذكر غيره ما يدل على أنه كان بعد إسلامه" فأخرج أبو سعد في الشرف عن عثمان كنت بفناء الكعبة، فقيل أنكح محمد عتبة رقية ابنته، فدخلتني حسرة أن لا أكون سبقت إليها، فانصرفت إلى منزلي، فوجدت خالتي، فأخبرتني بأن الله أرسل محمدا، وذكر حثها له على اتباعه، قال: وكان لي مجلس من الصديق، فأصبته فيه وحده فسألني عن تفكري، فأخبرته بما سمعت من خالتي، فذكر حثه له على الإسلام، قال فما كان بأسرع من أن مر صلى الله عليه وسلم ومعه علي يحمل له ثوبا، فقال أبو بكر فساره فقعد صلى الله عليه وسلم، ثم أقبل علي، فقال: "أجب الله إلى جنته، فإني رسول الله إليك وإلى جميع خلقه"، فوالله ما تمالكت حين سمعته أن أسلمت، ثم لم ألبث أن تزوجت رقية، "وتوفيت، والنبي صلى الله عليه وسلم ببدر" حين وصل زيد بن حارثة بالبشارة يقتل المشركين، وهي ابنة عشرين سنة، كما في الفتح، وروى ابن المبارك عن يونس عن الزهري تخلف عثمان عن بدر على امرأته رقية، وكانت قد أصابها الحصبة فماتت.
وجاء زيد بشيرا وعثمان على قبرها، وفي المستدرك وغيره أنه صلى الله عليه وسلم خلف عثمان، وأسامة على رقية في مرضها، لما خرج إلى بدر، وأخرج ابن سعد عن ابن عباس، لما ماتت رقية، قال صلى الله عليه وسلم: "الحقي بسلفنا عثمان بن مظعون"، وبكت النساء، فجاء عثمان يضربهن، فقال صلى الله عليه وسلم: "مهما يكن من العين، والقلب، فمن الله والرحمة، ومهما يكن من اليد، واللسان، فمن الشيطان "، فقعدت فاطمة على شفير القبر تبكي، فجعل يمسح عينيها بطرف ثوبه الواقدي، هذا وهم ولعلها غيرها من بناته لأن المثبت أن رقية ماتت، وهو ببدر، أو يحمل على أنه أتى قبرها بعد أن جاء من بدر.
"وعن ابن عباس، لما عزي صلى الله عليه وسلم برقية، قال: "الحمد لله دفن" ورواية البزار موت "البنات من المكرمات" آبائهن؛ لأنهن عورة ولضعفهن بالأنوثة، وعدم استقلالهن وكثرة مئونتهن، وأثقالهن.
قال بعض العلماء: هذا ورد مورد التسلية عن المصيبة وحاشاه أن يقوله كراهة للبنات، كما يظنه الجهلة. "خرجه الدولابي" الحافظ محمد بن أحمد بن حماد، وقد أبعد المصنف النجعة، فقد رواه الطبراني في الكبير، والأوسط والبزار، وابن عدي، والقضاعي كلهن بسند(4/324)
وأما أم كلثوم ولا يعرف لها اسم، إنما تعرف بكنيتها، وكانت عند عتيبة بن أبي لهب -كما قدمته- ففارقها قبل الدخول.
ويروى أن عتيبة لما فارق أم كلثوم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: كفرت بدينك، وفارقت ابنتك، لا تحبني ولا أحبك، ثم سطا عليه وشق قميصه وهو خارج نحو الشام تاجرا، فقال صلى الله عليه وسلم: "أما إني أسأل الله أن يسلط عليك كلبه" وفي رواية: "اللهم سلط عليه كلبا من كلابك" وأبو طالب حاضر فوجم لها وقال: ما كان أغناك عن دعوة ابن أخي، فخرج في تجر من قريش حتى نزلوا مكانا من الشام يقال له الزرقاء ليلا، فأطاف بهم الأسد تلك الليلة فجعل عتيبة يقول: يا ويل أمي،
__________
ضعيف، "وأما أم كلثوم، ولا يعرف لها اسم" لعدم وجوده كقوله:
ولا ترى الضب بها ينجحر
فليس المراد أن لها اسما أبهم، فلم يعرف، ففي النور، لا أعلم أحد أسماها، والظاهر أن اسمها كنيتها، ولذا قال: "إنما تعرف بكنيتها، وكانت عند عتيبة" المصغر "ابن أبي لهب" بمعنى أنه عقد عليها لقوله: "كما قدمته، ففارقها قبل الدخول" لأمر أبيه المشئوم، وقول أمهما حمالة الحطب أن رقية، وأم كلثوم صبتا، فطقاهما، "ويروى" عند ابن أبي خيثمة عن قتادة مرسلا "أن عتيبة" بالتصغير على الصواب، وبعضهم بجعله بالتكبير، وأن المصغر صحب، قال ابن سيد الناس وغيره والمشهورالأول، "لما فارق أم كلثوم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم" فقال: كفرت بدينك" أي دام على الكفر به لأنه لم يكن آمن، "وفارقت ابنتك، لا تحبني" لذلك، "ولا أحبك" كفرا وعنادا، "ثم سطا عليه وشق قميصه" أي قميص النبي صلى الله عليه وسلم، كما هو المروي عن قتادة، "وهو خارج نحو الشام تاجرا، فقال صلى الله عليه وسلم: "أما إني أسأل الله أن يسلط عليك كلبه" يقتلك".
"وفي رواية" عند الحاكم، وقال: صحيح الإسناد من حديث أبي نوفل بن أبي عقرب عن أبيه قال دعا النبي صلى الله عليه وسلم على عتيبة بن أبي لهب، فقال: "اللهم سلط عليه كلبا من كلابك" وأضاف فيهما الكلاب إلى الله لأن المقصود منها تحقير المضاف، وتعظيم الرب بأنه لكمال قدرته ينتقم من أعظم الجبابرة بأحقر خلقه، وليس هذا من وصفه بكونه خالقها الممتنع، وإن طابق الواقع؛ لأنه سوء أدب مع إمكان الوصف بغيره من الأوصاف الجليلة، "وأبو طالب حاضر، فوجم" بجيم مفتوحة اشتد حزنه "لها" للدعوة، "وقال: ما كان أغناك" يا عتيبة "عن دعوة ابن أخي" لأنها مستجابة "فخرج في تجر" بفتح فسكون من جموع تاجر "من قريش حتى نزلوا مكانا من الشام يقال له الزرقاء" بفتح الزاي، وسكون الراء، فقاف، فألف تأنيث "ليلا، فأطاف بهم الأسد تلك الليلة فجعل عتيبة يقول يا ويل أمي" من فقدي، وعبر بويل دون ويح؛ لأنها لما(4/325)
هو والله آكلي، كما دعا علي محمد، أقاتلي، ابن أبي كبشة وهو بمكة وأنا بالشام، فعدا عليه الأسد من بين القوم فأخذ برأسه ففدغه، وفي رواية فجاء الأسد فجعل يتشمم وجوههم، ثم ثنى ذنبه فوثب فضربه ضربة واحدة فخدشه، فقال: قتلني ومات. وفي رواية: أن الأسد أقبل يتخطاهم حتى أخذ برأس عتيبة ففدغه، رواه الدولابي.
ولما توفيت رقية خطب عثمان ابنة عمر حفصة فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "يا عمر، أدلك على خير لك من عثمان، وأدل عثمان على خير له منك"؟ قال: نعم يا نبي الله، قال: "تزوجني ابنتك، وأزوج عثمان ابنتي".
__________
حملته على ذلك، وأمرته به استحقت الوقوع في مهلكة فقده "هو والله آكلي، كما دعا علي محمد" وغلبت عليه الشقوة فلم يؤمن "أقاتلني ابن أبي كبشة، وهو بمكة، وأنا بالشام" استفهام تعجبي لا إنكاري لمنافاته اعتقاده أنه قاتله، ولا بد "فعدا عليه الأسد من بين القوم، فأخذ برأسه ففدغه" بفتح المهملة والغين المعجمة شدخه، أي كسره.
"وفي رواية فجاء الأسد، فجعل" الأسد "يتشمم وجوههم، ثم ثنى ذنبه" رد بعضه على بعض، "فوثب فضربه ضربة واحدة فخدشه فقال قتلني ومات" على كفره.
"وفي رواية أن الأسد أقبل يتخطاهم حتى أخذ برأس عتيبة ففدغه".
"رواه الدولابي" الحافظ أبو بشر وسمي الأسد كلبا لأنه يشبهه في رفع رجله عند البول، قاله الدميري، وروى أبو نعيم عن الأسد بن هبار، قال: تجهز أبو لهب، وابنة عتيبة نحو الشام، فخرجت معهما، فنزلت قريبا من صومعة راهب، فقال الراهب: ما أنزلكم ههنا هنا سباع، فقال أبو لهب: أنتم عرفتم سني وحقي قلنا: أجل، قال: إن محمدا دعا على ابني، فاجمعوا متاعكم على هذه الصومعة، ثم أفرشوا له عليها وناموا حوله، ففعلنا وبات عتيبة فوق المتاع، فجاء الأسد فشم وجوهنا، ثم وثب فإذا هو فوق المتاع، فقطع رأسه فمات لساعته فطلبنا الأسد، فلم نجده "ولما توفيت رقية خطب عثمان ابنة عمر حفصة، فرده" أدبا مع النبي صلى الله عليه وسلم حتى لا تكون بنته بدل بنته لما جرت به العادة من كراهة أهل الميتة لمن يأتي بعدها، لكن هذا معارض بما في البخاري، قال عمر: لقيت عثمان، فعرضت عليه حفصة، فقال: سأنظر، فلبث ليالي، فقال: قد بدا لي أن لا أتزوج يومي هذا الحديث، "فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "يا عمر أدلك على خير لك من عثمان، وأدل عثمان على خير له منك"، قال: نعم يا نبي الله قال: "تزوجني ابنتك، وأزوج عثمان ابنتي" وبه استدل على فضل بناته على زوجاته.(4/326)
أخرجه الخجندي:
وكان تزوج عثمان بأم كلثوم سنة ثلاث من الهجرة. وروي أنه عليه الصلاة والسلام قال له: "والذي نفسي بيده لو أن عندي مائة بنت يمتن واحدة بعد واحدة، زوجتك أخرى بعد أخرى" هذا جبريل أخبرني أن الله يأمرني أن أزوجكها. ورواه الفضائلي.
وماتت أم كلثوم سنة تسع من الهجرة، وصلى عليها عليه الصلاة والسلام ونزل في حفرتها علي والفضل وأسامة بن زيد. وفي البخاري، جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم على القبر وعيناه تذوقان فقال: "هل فيكم من أحد لم يفارق الليلة".
__________
"أخرجه الخجندي" بضم الخاء المعجمة، وفتح الجيم، وسكون النون، ومهملة نسبة إلى خجندة مدينة بطرف سيحون، كما في اللب، وأخرجه ابن منده بنحوه ولكن ليس فيه مخالفة، لما في الصحيح، ولفظه في بعض طرقه عرضها عمر على أبي بكر، فسكت فعرضها على عثمان حين ماتت رقية، فقال: ما أريد أن أتزوج اليوم، فذكر ذلك عمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "فتزوج حفصة من هو خير من عثمان ويتزوج عثمان ويتزوج عثمان من هي خير من حفصة"، "وكان تزوج عثمان بأم كلثوم سنة ثلاث من الهجرة" في ربيع الأول ولم تلد له.
قاله ابن سعد "وروى أنه عليه الصلاة والسلام، قال له: والذي نفسي بيده لو أن عندي مائة بنت يمتن واحدة بعد واحدة زوجتك أخرى"، وفيه منقبة جليلة لعثمان، وأكدها بقوله "هذا جبريل أخبرني أن الله يأمرني أن أزوجكها، يعني أم كلثوم "رواه الفضائلي" وعن أم عياش مولاة رقية سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما زوجت عثمان أم كلثوم إلا بوحي من السماء". وعن أبي هريرة رفعه أتاني جبريل، فقال: "إن الله يأمرك أن تزوج عثمان أم كلثوم على مثل صداق رقية وعلى مثل صحبتها" رواهما ابن منده، وقال: إنهما قريبان، "وماتت أم كلثوم"، عند عثمان "سنة تسع من الهجرة"، في شعبان، كما قال ابن سعد، "وصلى عليها عليه الصلاة والسلام".
روى الواقدي بسند له "ونزل في حفرتها علي، والفضل" بن عباس، "وأسامة بن زيد" رضي الله عنهم "وفي البخاري" عن أنس شهدنا بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، "جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم على القبر، وعيناه تذرفان" بذال معجمة، وراء مكسورة وفاء، أي يجري دمعهما، والذي في البخاري في موضعين من الجنائز فرأيت عينيه تدمعان بفتح الميم "فقال: "هل فيكم من أحد لم يفارق الليلة"؟ بقاف وفاء، أي يجامع وفي البخاري عن فليح بن سليمان أحد رواته أراه يعني الذنب، وبالأول جزم ابن حزم، وقال: معاذ الله أن يتبجح أبو طلحة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم(4/327)
فقال أبو طلحة: أنا، فقال: "انزل قبرها" فنزل.
وقد روي نحو ذلك في رقية، وهو وهم، فإنه عليه الصلاة والسلام لم يكن حال دفنها حاضرا، بل كان في غزوة بدر كما قدمته.
وغسلتها أسماء بنت عميس، وصفية بنت عبد المطلب،
__________
بأنه لم يذنب تلك الليلة وقال السهيلي: هو خطأ من فليح لأنه صلى الله عليه وسلم كان أولى بهذا.
قال الحافظ: ويقويه أن البخاري في التاريخ، والحاكم روياه بلفظ، "لا يدخل القبر أحد قارف أهله البارحة" فتنحى عثمان وزعم الطحاوي أن يقارف تصحيف، والصواب لم يقاول، أي ينازع غيره في الكلام لأنهم كانوا يكرهون الحديث بعد العشاء، وتعقب بأنه تغليط للثقة، بلا مستند، وكأنه استبعد أن يقع من عثمان ذلك لحرصه على مراعاة الخاطر الشريف، ويجاب باحتمال أن مرض المرأة طال، واحتاج إلى الوقاع ولم يظن موتها تلك الليلة، وليس في الحديث ما يقتضي أنه واقع بعد موتها، ولا حين احتضارها انتهى، "فقال أبو طلحة" زيد بن سهل الأنصاري "أنا" لم أقارف الليل "فقال" صلى الله عليه وسلم "انزل قبرها" فنزل" زاد في رواية، فقبرها، ففيه إيثار البعيد العهد عن الملاد بمواراة الميت ولو امرأة على الزوج، وعلل بأنه حينئذ يأمن أن يذكره الشيطان ما كان منه تلك الليلة.
وحكى ابن حبيب أن عثمان جامع بعض جواريه ليلتئذ فتلطف صلى الله عليه وسلم في منعه من قبرها بغير تصريح.
وفي تاريخ البخاري، فلم يدخل عثمان القبر، "وقد روى نحو ذلك في رقية" عند البخاري في التاريخ الأوسط، والحاكم في المستدرك من طريق حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس، أنه صلى الله عليه وسلم شهد دفن بنته رقية، فذكر الحديث.
قال البخاري: ما أدري ما هذا، فإن رقية ماتت والنبي ببدر لم يشهدها، "وهو وهم".
قال الحافظ: من حماد في تسميتها فقط، "فإنه عليه الصلاة والسلام لم يكن حال دفنها حاضرا، بل كان في غزوة بدر كما قدمته" قريبا مجملا وقبله مفصلا في بدر، وقد روى الطبري، والطحاوي، والواقدي، وابن سعد، والدولابي من حديث فليح عن هلال بن علي التصريح بأنها أم كلثوم، أي فوقع في روايتهم النبيين، وأن قول حماد رقية وهم، "وغسلتها" أي أم كلثوم "أسماء بنت عميس" بضم المهملة مصغر وآخره سين مهملة الخثعمية زوج جعفر بن أبي طالب، ثم أبي بكر، ثم علي وولدت لهم "وصفية بنت عبد المطلب" كما رواه ابن سعد عن أسماء المذكورة وعنده من وجه آخر غسلها نسوة منهن أم عطية ولأبي داود عن ليلى بنت قانف بقاف ونون وفاء، قالت كنت فيمن غسلها.(4/328)
وشهدت أم عطية غسلها، وروت قوله عليه الصلاة والسلام: "اغسلنها، ثلاثا أو خمسا أو سبعا، أو أكثر من ذلك إن رأيتن ذلك،
__________
وللطبراني عن أم سليم شيئا يوميء إلى أنها حضرت ذلك أيضا، "وشهدت أم عطية غسلها وروت" فيه "قوله عليه الصلاة والسلام" كما جزم به ابن عبد البر، والداودي، وأخرجه ابن ماجه عن أم عطية بسند صحيح، وابن بشكوال من طريق آخر عنها، فعزوه النووي تبعا لعياض لبعض أهل السير قصور شديد، لكن المشهور أنها زينب، كما في مسلم، فيمكن ترجيح الأول بتعدد طرقه، ويمكن الجمع بأن تكون حضرتهما معا، فقد جزم ابن عبد البر في ترجمتها بأنها كانت غاسلة الميتات، قاله الحافظ، والحديث في الموطأ، والصحيحين بإبهام الميتة عن أم عطية، قالت: دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين توفيت ابنته، فقال: "اغسلنها" زاد البخاري في رواية "وترا" "ثلاثا، أو خمسا، أو سبعا" أو للترتيب، لا للتخيير، قال النووي: المراد اغسلنها وترا، وليكن ثلاثا، فإن احتجتن إلى زيادة فخمسا، وحاصله أن الإيتار مطلوب، والثلاث مستحبة، وإن حصل الإنقاء بها لم يشرع ما فوقها وإلا زيد وترا حتى يحصل الإنقاء، وقال ابن العربي في قوله، أو خمسا، أن المشروع الإيتار؛ لأنه نقلهن من الثلاث إلى الخمس، وسكت عن الأربع، "أو أكثر من ذلك" بكسر الكاف؛ لأنه خطاب للمؤنث، ولم أر في شيء من الروايات بعد وسبعا التعبير، بأو أكثر من ذلك إلا في رواية لأبي ذر، وأما سواها، فأما، أو سبعا، وأما أو أكثر من ذلك، فيحتمل تفسيره بالسبع وبه، قال أحمد، وكره الزيادة على سبع، وقال ابن عبد البر، لا أعلم أحدا، قال: بمجاوزة السبع، وساق عن قتادة أن ابن سيرين كان يأخذ الغسل عن أم عطية ثلاثا، ولا خمسا إلا، فأكثر.
قال: فرأينا أن أكثر من ذلك سبع، "إن رأيتن ذلك" بكسر الكاف تفويض إلى اجتهادهن بحسب الحاجة، لا التشهي، وقال ابن المنذر إنما فوض إليهن بشرط الإيتار، واستدل بالأمر على وجوب الغسل، وهو ينبني على رجوع قوله أن رأيتن إلى الغسل، أو العدد، والثاني أرجح فيثبت المدعي، قاله ابن بزيزة، قال ابن دقيق العيد، لكن قوله ثلاثا ليس للوجوب على المشهور من مذاهب العلماء، فيتوقف الاستدلال به على تجويزه إرادة المعنيين المختلفين بلفظ واحد؛ لأن قوله ثلاثا غير مستقل بنفسه فلا بد أن تكون داخله تحت صيغة الأمر، فيراد به الوجوب بالنسبة إلى أصل الغسل، والسنية بالنسبة إلى الإيتار انتهى.
وقواعد الشافعية، لا تأبى، وذهب الكوفيون، وأهل الظاهر، والمزني إلى إيجاب الثلاث انتهى ملخصا من فتح الباري، والخطاب في المحلين لأم عطية ومن معها من النسوة التي علمت أسماءهن، وخصت مع الجمع قبل وبعد، فلم يقل ذلك لأنها رئيستهن وفضلها في(4/329)
بماء وسدر، واجعلن في الآخرة كافورا، فإذا فرغتن فآذنني"، فلما فرغنا آذناه فألقى علينا حقوه وقال: "أشعرنها إياه"، قالت ومشطناها ثلاثة قرون وألقيناها خلفها.
و"الحقو": الإزار، و "أشعرنها" أي اجعلنه شعارها الذي يلي جسدها، وذلك هو الشعار وما
__________
الصحابيات "بماء وسدر" متعلق بقوله: "اغسلنها" لأن السدر أمسك للبدن، "واجعلن في الآخرة كافورا"، أي شيئا منه لأنه يطيب ريح الموضع لأجل من يحضره من الملائكة وغيرهم، ولأنه فيه تجفيفا وتبريدا وقوة نفوذ وخاصية في تصليب بدن الميت، وطرد الهوام عنه، وردع ما يتجلل من الفضلات، ومنع إسراع الفساد إليه. وهذا هو سر جعله في الأخيرة إذ لو كان فيما قبلها لأذهبه الغسل، وظاهره جعله في الماء، قال الجمهور.
وقال النخعي، والكوفيون: إنما يجعل في الحنوط بعد الغسل والتجفيف، "فإذا فرغتن فآذنني" بمد الهمزة، وكسر المعجمة، وشد النون الأولى مفتوحة، وكسر الثانية، أي أعلمنني، "فلما فرغنا" كذا للأكثر بصيغة الخطاب للحاضر وللأصيلي، فلما فرغن بصيغة الغائب "آذناه" أعلمناه "فألقي علينا" وفي رواية، فأعطانا "حقوه".
قال الحافظ: بفتح المهملة، ويجوز كسرها، وهي لغة هذيل بعدها قاف ساكنة، "وقال: "أشعرنها" بقطع الهمزة "إياه" قيل حكمة تأخيره معه إلى أن يفرغن من الغسل، ولم يناولهن إياه أولا ليكون قريب العهد من جسده الكريم، حتى لا يكون بين انتقاله من جسده إلى جسدها فاصل، وهو أصل في التبرك بآثار الصالحين انتهى.
"قالت" أم عطية في رواية حفصة عنها في البخاري "ومشطناها" بالتخفيف أي سرحنا شعرنا "ثلاثة قرون" أي ضفائر بعد أن حللناه بالمشط، فضفرنا ناصيتها وقرنيها، أي جانبي رأسها لينضم ويجتمع، ولا ينتشر، "وألقيناها" أي الضفائر "خلفها" امتثالا لقوله صلى الله عليه وسلم "واجعلن لها ثلاثة قرون".
أخرجه ابن حبان عن أم عطية، ورواه سعيد بن منصور بلفظ، "واجعلن شعرها ضفائر"، فلم تفعله أم عطية من تلقاء نفسها.
"والحقو الإزار" كما وقع مفسرا في بعض روايات البخاري مجازا، وهو في الأصل معقد الإزار، وفي رواية، فنزع من حقوه إزاره، وهو في هذا حقيقة، قاله الحافظ.
فإطلاق القاموس. ومتبوعه على الحقو الإزار على عادتهم من إدخال المجازات في الحقائق اللغوية، "و" "أشعرنها"، أي" الففنها فيه، و"اجعلنه شعارها الذي يلي جسدها" تبركا بأثره الشريف، كما فسره به أيوب السختياني عند البخاري، وهو ظاهر اللفظ، "وذلك هو الشعار(4/330)
فوقه الدثار:
وأما فاطمة الزهراء البتول فولدت سنة إحدى وأربعين من مولد النبي صلى الله عليه وسلم، قاله أبو عمر، وهو مغاير لما رواه ابن إسحاق: أن أولاده عليه الصلاة والسلام كلهم ولدوا قبل النبوة إلا إبراهيم، وقال ابن الجوزي، ولدت قبل النبوة بخمس سنين، أيام بناء البيت.
__________
وما فوقه الدثار" وهو التلقف بشيء فوق ما يلي الجسد، "وأما فاطمة الزهراء البتول" خير نساء هذه الأمة ذات المناقب الجمة، وحسبك قول عائشة: ما رأيت أحدا قط أفضل من فاطمة غير أبيها.
أخرجه الطبراني في الأوسط بسند صحيح على شرط الشيخين، وأخرجه ابن أبي عاصم عن علي أنه صلى الله عليه وسلم، قال لفاطمة: "إن الله يغضب لغضبك ويرضي لرضاك"، قال في الإصابة: كانت تكنى أم أبيها بكسر الموحدة بعدها تحتية ساكنة ونقل ابن فتحون عن بعضهم سكون الموحدة بعدها نون، وهو تصحيف.
روت عن أبيها صلى الله عليه وسلم وروى عنها ابناها وأبوهما وعائشة، وأم سلمة وسلمى أم رافع، وأنس، وأرسلت عنها فاطمة بنت الحسين وغيرها، "فولدت سنة إحدى وأربعين من مولد النبي صلى الله عليه وسلم قاله أبو عمر" بن عبد البر نقلا عن عبيد الله بن محمد بن سليمان بن جعفر الهاشمي، ولم يبين في أولها، أو آخرها، "وهو" يفيد أن ولادتها بعد النبوة؛ لأنها على رأس الأربعين، فهو "مغاير، لما رواه ابن إسحاق أن أولاده عليه الصلاة والسلام كلهم ولدوا قبل النبوة إلا إبراهيم" ودفعها شيخنا باحتمال أنها ولدت في أول جزء من سنة إحدى وأربعين، والنبوة على رأس الأربعين، عرفا الصادق بتأخرها عنه قليلا، فلا تنافي بين كون الولادة قبلها، وكونها سنة إحدى وأربعين، لكنه نظر إلى مجرد هذا اللفظ، وكلام ابن إسحاق يأباه، فإنه ذكر أن خديجة ولدت له ولده كلهم إلا إبراهيم، وعدهم، ثم قال: فأما الذكور، فماتوا في الجاهلية، وأما بناته، فكلهن أدركن الإسلام، فأسلمن وهاجرن معه صلى الله عليه وسلم انتهى.
"وقال ابن الجوزي ولدت قبل النبوة بخمس سنين أيام بناء البيت" الكعبة، وهذا رواه الواقدي عن أبي جعفر الباقر، قال: قال العباس، فذكره وبه جزم المدائني، ويؤيده ما ذكره أبو عمر، قال: ذكر الزبير بن بكار أن عبد الله بن حسن دخل على هشام بن عبد الملك وعنده الكلبي، فقال هشام لعبد الله: يا أبا محمد كم بلغت فاطمة من السن قال: ثلاثين سنة، فقال الكلبي خمسا وثلاثين، فقال هشام: اسمع ما يقول، وقد عني بهذا الشأن، فقال يا أمير المؤمنين سلني عن أمي وسل الكلبي عن أمه، قال: في الإصابة، وقيل: ولدت قبل البعثة بقليل نحو سنة،(4/331)
وروي: إنما سميت فاطمة؛ لأن الله قد فطمها وذريتها عن النار يوم القيامة، أخرجه الحافظ الدمشقي، وروى الغساني والخطيب مرفوعا: لأن الله فطمها ومحبيها عن النار.
__________
أو أكثر وهي أسن من عائشة بنحو خمس سنين. "وروي" عن ابن مسعود رفعه "إنما سميت فاطمة" بإلهاء من الله لرسوله إن كانت ولادتها قبل النبوة وإن كانت بعدها فيحتمل بالوحي؛ "لأن الله قد فطمها" من الفطم، وهو المنع، ومنه فطم الصبي "وذريتها عن النار يوم القيامة"، أي منعهم منها، فأما هي، وابناها، فالمنع مطلق، وأما من عداهم، فالممنوع عنهم نار الخلود، فلا يمتنع دخول بعضهم للتطهير، ففيه بشرى لآله صلى الله عليه وسلم بالموت على الإسلام، وإنه لا يختم لأحد منهم بالكفر نظيره ما، قاله الشريف السمهودي في خبر الشفاعة لمن مات بالمدينة، مع أنه يشفع لكل من مات مسلما، أو إن الله يشاء المغفرة لمن واقع الذنوب منهم إكراما لفاطمة، وأبيها صلى الله عليه وسلم، أو يوفقهم للتوبة النصوح، ولو عند الموت ويقبلها منهم "أخرجه الحافظ الدمشقي" هو ابن عساكر، "وروى الغساني، والخطيب" وقال: فيه مجاهيل "مرفوعا" إنما سميت فاطمة، "لأنه الله فطمها ومحبيها عن النار" ففيه بشرى عميمة لكل مسلم أحبها، وفيه التأويلات المذكورة، وأما رواه أبو نعيم، والخطيب، أن عليا الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق سئل عن حديث أن فاطمة أحصنت فرجها، فحرمها الله وذريتها على النار، فقال: خاص بالحسن والحسين، وما نقله الإخباريون عنه من توبيخه لأخيه زيد حين خرج على المأمون، وقوله ما أنت قائل لرسول الله أغرك قوله أن فاطمة أحصنت الحديث، أن هذا لمن خرج من بطنها، لا لي، ولا لك، والله ما نالوا ذلك إلا بطاعة الله، فإن أردت أن تنال بمعصيته ما نالوه بطاعته إنك إذا لأكرم على الله منهم، فهذا من باب التواضع، والحث على الطاعات وعدم الاغترار بالمناقب، وإن كثرت، كما كان الصحابة المقطوع لهم بالجنة على غاية من الخوف، والمراقبة وإلا فلفظ ذرية، لا يخص بمن خرج من بطنها في لسان العرب {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ} [الأنعام: 84] وبينهم وبينه قرون كثيرة فلا يرد بذلك مثل على الرضا مع فصاحته ومعرفته لغة العرب، على أن التقييد بالطائع يبطل خصوصية ذريتها ومحبيها إلا أن يقال صلى الله عليه وسلم تعذيب الطائع، فالخصوصية أن لا يعذبه إكراما لها، والله أعلم، والحديث الذي سئل عنه أخرجه أبو يعلي، والطبراني، والحاكم، وصححه عن ابن مسعود وله شواهد، وترتيب التحريم على الإحصان، من باب إظهار مزية شأنها في ذلك الوصف مع الإلماح ببنت عمران ولمدح وصف الإحصان وإلا، فهي محرمة على النار بنص روايات آخر.(4/332)
وسميت بتولا لانقطاعها عن نساء زمانها فضلا ودينا وحسبا، وقيل: لانقطاعها عن الدنيا إلى الله تعالى، قاله ابن الأثير.
وتزوجت بعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما في السنة الثانية، وقيل بعد أحد، وقيل بعد بنائه عليه الصلاة والسلام بعائشة بأربعة أشهر ونصف، وبنى بها بعد تزويجها بسبعة أشهر ونصف، وقيل في صفر في السنة الثانية، وبنى بها في ذي الحجة على رأس اثنين وعشرين شهرا.
وكان تزويجها بأمر الله ووحيه. وتزوجت ولها خمس عشرة سنة وخمسة أشهر ونصف ولعلي إحدى وعشرون سنة وخمسة أشهر، وقيل غير ذلك. وتقدم مزيد لذلك في المغازي
__________
"وسميت بتولا، لانقطاعها" انفرادها "عن نساء زمانها فضلا ودينا وحسبا"، فبعد موت إخوتها لم تشاركها امرأة في الحسب، "وقيل لانقطاعها عن الدنيا إلى الله تعالى، قاله ابن الأثير، وتزوجت بعلي بن أبي طالب،" أي عقد له عليها "رضي الله عنهما في السنة الثانية" من الهجرة، وهل في أوائل المحرم، أو في صفر، أو رجب، أو رمضان أقوال: "وقيل" سنة ثلاث "بعد أحد" قاله ابن عبد البر، ورده في الإصابة بأن حمزة استشهد بأحد، وقد ثبت في الصحيحين قصة الشارفين، لما ذبحهما حمزة، وكان علي أراد البناء بفاطمة، "وقيل بعد بنائه عليه الصلاة والسلام بعائشة" الواقع في شوال سنة اثنتين، أو بعد سبعة أشهر من الهجرة، كما يأتي "بأربعة أشهر ونصف" فيكون العقد في نصف صفر، "وبنى" دخل علي "بها بعد تزويجها بسبعة أشهر ونصف" فيكون في شوال سنة ثلاث، "وقيل في صفر في السنة الثانية، وبنى بها في ذي الحجة على رأس اثنين وعشرين شهرا"، من الهجرة وهي أقوال متباينة، لا يتأتى الجمع بينها.
وعند ابن سعد تزوج بها في رجب سنة مقدمهم المدينة، وبنى بها بعد رجوعهم من بدر، "وكان تزويجها بأمر الله" كما قال صلى الله عليه وسلم: "إن الله أمرني أن أزوج فاطمة من علي"، رواه الطبراني برجال ثقات "ووحيه" عطف سبب على مسبب إذ الأمر مسبب عن الوحي، "وتزوجت ولها خمس عشرة سنة وخمسة أشهر ونصف" بناء على نقل أبي عمر، أنها ولدت سنة إحدى من النبوة، أما على أنها قبل النبوة بخمس سنين، فيكون لها تسع عشرة سنة وشهر ونصف، "ولعلي إحدى وعشرون سنة وخمسة أشهر" بناء على قول عروة الذي رواه أبو عمر، أنه أسلم وله ثمان سنين أما على الراجح أنه أسلم وله عشر سنين، فسنه يوم التزويج أربع وعشرون سنة وشهر ونصف، "وقيل غير ذلك وتقدم مزيد لذلك في المغازي" بعد تمام غزوة السويق، فذكر سيرتهما(4/333)
والسير من المقصد الأول.
قال أبو عمر: وفاطمة وأم كلثوم أفضل بنات النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت فاطمة أحب أهله إليه صلى الله عليه وسلم، وكان يقبلها في فيها ويمصها لسانه، وإذا أراد سفرا يكون آخر عهده بها، وإذا قدم أول ما يدخل عليها.
__________
تاريخا خطبة وخطبة، وجهازا، ودخولا ووليمة، ولذا قال: "والسير من المقصد الأول".
"قال أبو عمر" بن عبد البر، وفاطمة، وأم كلثوم أفضل بنات النبي صلى الله عليه وسلم" وليس في هذا أن فاطمة أفضل، فصرح به في قوله، "وكانت فاطمة أحب أهله إليه صلى الله عليه وسلم" كما قال: "أحب أهلي إلي فاطمة".
أخرجه الترمذي، وحسنه، الحاكم عن أسامة، فهي أفضل من أم كلثوم، قال الحافظ، وأقوى ما يستدل به على تقديمه فاطمة على غيرها قوله صلى الله عليه وسلم "إنها سيدة نساء العالمين، إلا مريم"، وإنها رزئت بالنبي صلى الله عليه وسلم دون غيرها من بناته، فإنهن متن في حياته، فكن في صحيفته، ومات هو في حياتها، فكان في صحيفتها، ولا يقدر قدره إلا الله، وكنت أقول ذلك استنباطا إلى أن وجدته مصرحا به.
روى أبو جعفر الطبري في تفسيره عن فاطمة أنه صلى الله عليه وسلم ناجاني، فبكيت، ثم ناحاني فضحكت فسألتني عائشة فقلت أأخبرك بسر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما توفي سألتني، فقالت: قال: "أحسب أني ميت في عامي هذا، وأنه لم ترزأ امرأة من نساء المسلمين مثل ما رزئت، فلا تكوني مثل امرأة منهن صبرا" فبكيت، فقال: "أنت سيدة نساء أهل الجنة إلا مريم" فضحكت، وأصل الحديث في الصحيح بدون هذه الزيادة كذا في فتح الباري، وهو تقصير شديد عجيب من مثله، ففي روض السهيلي تكلم الناس في المعنى الذي سادت به فاطمة إخوتها، فقيل؛ لأنها ولدت الحسن الذي قال فيه جده إن ابني هذا سيد، وهو خليفة، وبعلها خليفة، وأحسن من هذا قول من قال: سادت أخوتها وأمها؛ لأنهن متن في حياته صلى الله عليه وسلم، فكن في صحيفته ومات في حياتها، فكان في صحيفتها وميزانها، وقد روى البزار عن عائشة أنه عليه السلام، قال لفاطمة: "هي خير بناتي، لأنها أصيبت في"، وهذا قول حسن أنتهى، "وكان يقبلها في فيها، ويمصها" بضم الياء "لسانه" ليختلط ريقه بريقها، فيصل جوفها فتعود بركته عليها، "وإذا أراد سفرا يكون آخر عهده بها" من أهله، فلا ينافي أن آخر عهده مطلقا صلاة ركعتين وإذا قدم أول ما يدخل عليها" بعد صلاة ركعتين بالمسجد، روى أبو عمر كان صلى الله عليه وسلم إذا قدم من غزو "أو سفر بدأ بالمسجد فصلى فيه ركعتين، ثم أتى فاطمة، ثم أتى أزواجه، وروى أحمد عن ثوبان كان صلى الله عليه وسلم(4/334)
وقال عليه الصلاة والسلام: "فاطمة بضعة مني فمن أغضبها أغضبني"، رواه الشيخان. وقال لها: "أوما ترضين أن تكوني سيدة نساء
__________
إذا سافر آخر عهده إتيان فاطمة، وأول من يدخل عليه إذا قدم فاطمة، "وقال عليه الصلاة والسلام: "فاطمة بضعة".
قال الحافظ: بفتح الموحدة وحكى ضمها، وكسرها أيضا، وسكون المعجمة، أي قطعة لحم "مني" والتخصيص بذلك للمبالغة في رضاها، لما قالت له: زعم قومك أنك، لا تغضب لبناتك، وهذا على ناكح بنت أبي جهل، فقام صلى الله عليه وسلم فتشهد وقال: "إني أنكحت أبا العاصي، فحدثني فصدقني ووعدني فوفى لى وإن فاطمة بضعة مني وإني أكره أن يسوءها والله لا تجتمع بنت رسول الله وبنت عدو الله عند رجل واحد" فترك علي الخطبة، كما في بعض طرق الحديث في الصحيحين، فقد خرج على سبب فلا مفهوم له، فلا يرد أن أولاده كلهم بضعة منه، أو لأنه حينئذ لم يكن بقي منهم غيرها، كما أفاده الحافظ بقوله: "كان صلى الله عليه وسلم قل أن يواجه أحدا مما يعاب به، ولعله إنما جهر بمعاتبة علي مبالغة في رضا فاطمة، وكانت هذه الواقعة، أي خطبة علي بنت أبي جهل بعد فتح مكة ولم يكن حينئذ تأخر من بناته صلى الله عليه وسلم غيرها، وأصيبت بعد أمها بإخوتها، فإدخال الغيرة عليها مما يزيدها حزنا، "فمن أغبها أغضبني"، استدل به السهيلي على أن من سبها يكفر وتوجيهه أنها تغضب ممن سبها، وقد سوى بين غضبها وغضبه، ومن أغضبه كفر.
قال الحافظ: وفي هذا التوجيه نظر لا يخفى، "رواه الشيخان" مختصرا بهذا اللفظ البخاري في مواضع، ومسلم في الفضائل من حديث المسور بن مخرمة، ومطولا بذكر السبب المذكور من حديثه أيضا، وزعم الشريف المرتضى أنه موضوع؛ لأنه من رواية المسور وفيه انحراف على علي، وجاء من رواية ابن الزبير، وهو أشد في ذلك ورد كلامه بإطباق أصحاب الصحيح على تخريجه، وصرح الترمذي بصحة حديث ابن الزبير.
قال الحافظ: وفيه أنه أفضل بناته صلى الله عليه وسلم، وما أخرجه الطحاوي وغيره: زينب أفضل بناتي، أصيبت في، فقد أجاب عنه بعض الأئمة بتقدير ثبوته، بأن ذلك كان متقدما ثم وهب الله لفاطمة من الأحوال السنية والكمال ما لم يشركها فيه أحد من نساء هذه الأمة مطلقا انتهى، بل روى ابن عبد البر عن عمران بن حصين أنه صلى الله عليه وسلم عاد فاطمة، وهي وجعة، فقال: "كيف تجدينك يا بنية"؟ فقالت: إني لوجعة وإنه ليزيد ما بي ما لي طعام آكله، فقال: "يا بنية ألا ترضين أنك سيدة نساء العالمين" قالت: يا أبت، فأين مريم بنت عمران؟ قال: "تلك سيدة نساء عالمها"، "وقال لها" لما أخبرها، بأنه ميت في عامه، فبكت، وقال "أوما ترضين أن تكوني سيدة نساء(4/335)
المؤمنين"؟ رواه مسلم، وفي رواية أحمد: "أفضل نساء أهل الجنة".
وتوفيت بعده عليه الصلاة والسلام بستة أشهر،
__________
المؤمنين"؟، رواه مسلم" وروى هو، والبخاري عن عائشة: أقبلت فاطمة تمشي كأن مشيتها مشية رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "مرحبا يا بنتي" ثم أجلسها عن يمينه، ثم أسر إليها حديثا، فبكت، ثم أسر إليها حديثا، فضحكت، فقلت: ما رأيت كاليوم أقرب فرحا من حزن، فسألتها عما قال، فقالت: ما كنت لأفشي على رسول الله صلى الله عليه وسلم سره، فلما قبض سألتها، فأخبرتني أنه قال: "إن جبريل كان يعارضني بالقرآن في كل سنة مرة وأنه عارضني العام مرتين، وما أراه إلا قد حضر أجلي، وأنك أول أهل بيتي لحوقا بي ونعم السلف أنا لك" فبكيت، فقال: "ألا ترضين أن تكوني سيدة نساء العالمين"؟ فضحكت.
"وفي رواية أحمد أفضل نساء أهل الجنة" فصرح بأفضل الذي قد لا تستلزمه السيادة، فعرف أنه المراد بها، لكنه استثنى مريم في حديثها عند الطبري، كما مر وكذا في حديث أم سلمة عنها في هذه القصة، قالت: جاءت فاطمة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسألتها عنه فقالت: أخبرني أنه مقبوض في هذه السنة، فبكيت، فقال: "ما يسرك أن تكوني سيدة نساء أهل الجنة إلا مريم" فضحكت أخرجه أبو يعلى فلا يصح ما وقع في التقرير أنه لم يواجهها بذلك جبرا لها حال خطابها، وروى البخاري مرفوعا "فاطمة سيدة نساء أهل الجنة"، وجزم القربطي أنها تلي مريم في الفضل للاختلاف في نبوتها ولظاهر الاستثناء بقوله إلا مريم، وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 42] واختار الزركشي في الخادم والقطب الخيضري، والمقريزي في الإمتاع أن فاطمة أفضل؛ لأنه لا يعدل ببضعته صلى الله عليه وسلم أحد، وقال السيوطي: في شرح نظمه لجمع الجوامع الذي نختاره بمقتضى الأدلة تفضيل فاطمة، ففي مسند الحارث بسند صحيح، لكنه مرسل مريم خير نساء عالمها، وفاطمة، خير نساء عالمها، وأخرجه الترمذي موصولا من حديث علي بلفظ "خير نسائها مريم وخير نسائها فاطمة".
قال الحافظ ابن حجر، والمرسل يعضد المتصل، وروى النسائي والحاكم بسند جيد، عن حذيفة رفعه "هذا ملك من الملائكة استأذن ربه ليسلم عليَّ، وبشرني أن حسنا وحسينا سيدا شباب أهل الجنة، وأمهما سيدة نساء أهل الجنة"، وقال في كتابه إتمام الدراية في هذين الحديثين دلالة على تفضيلها على مريم، خصوصا إذا قلنا بالأصح أنها ليست نبية، وقد تقرر أن هذه الأمة أفضل من غيرها انتهى، والجمهور على أنها لم تكن نبية، كما قال عياض، بل حكى عليه الإجماع، وإن صحح القرطبي نبوتها، "وتوفيت بعده عليه الصلاة والسلام بستة أشهر"، كما في الصحيح عن عائشة.(4/336)
لثلاث خلون من شهر رمضان سنة إحدى عشرة وهي ابنة تسع وعشرين سنة، قاله المدائني. وقيل توفيت بعده بثمانية أشهر وقيل غير ذلك، والأول أصح كذا قالوه فيما رأيته، وهو غير منتظم مع السابق فليتأمل.
وروي أنها قالت لأسماء بنت عميس: إني قد استقبحت ما يصنع بالنساء يطرح على المرأة الثوب فيصفها، فقالت أسماء: يا بنت رسول الله ألا أريك شيئا رأيته بأرض الحبشة، فدعت بجرائد رطبة، فحنتها ثم طرحت عليها ثوبا، فقالت فاطمة: ما أحسن هذا، تعرف به المرأة من الرجل، فإذا أنا مت فاغسليني أنت وعلي، ولا يدخل علي أحد،
__________
قال الواقدي: وهو الثبت، قال: وذلك "لثلاثون خلون من شهر رمضان سنة إحدى عشرة، وهي ابنة تسع وعشرين سنة".
"قاله" أي كونها بنت هذا السن، لا ما قبله، لما علمت أن موتها بعد أبيها بستة أشهر في الصحيح، وكونه لثلاث إلخ للواقدي، فزاد قدر عمرها "المدائني" أبو الحسن علي بن محمد بن عبد الله الإخباري صاحب التصانيف وثقه ابن معين.
وقال ابن عدي ليس بالقوي مات سنة أربع وخمسين ومائتين، وقيل وهي ابنة أربع وعشرين سنة وصدر به في الفتح، وقيل إحدى، وقيل خمس وعشرين، وقيل ثلاثين، "وقيل توفيت بعده بثمانية أشهر".
قاله عبد الله بن الحارث، "وقيل غير ذلك" فروى الحميدي عن سفيان عن عمرو بن دينار أنها بقيت بعد ثلاثة أيام، وقال غيره أربعة أشهر، وقيل: شهرين، وقيل: خمسة وتسعين يوما وقيل: ثلاثة أشهر، وقيل: شهرا واحدا، "والأول أصح، كذا قالوه فيما رأيته، وهو غير منتظم مع السابق" في وقت ولادتها وذلك ظاهر على أنه سنة إحدى وأربعين، "فليتأمل" أما على أنه قبل النبوة فمنتظمة لصدق القبلية، وكذا على أنه بخمس قبل النبوة لكن على التقريب، ثم عدم انتظام الأول إنما هو على قول المدائني في سنها، أما على ما صدر به الفتح من أنه أربع وعشرون فمنتظم.
"وروي أنها قالت لأسماء بنت عميس: إني قد استقبحت ما يصنع بالنساء يطرح على المرأة الثوب" على نعشها، "فيصفها" جسمها من غلظ وضده، "فقالت أسماء: يا بنت رسول الله ألا أريك شيئا رأيته بأرض الحبشة" حين كانت مهاجرة بها مع زوجها جعفر بن أبي طالب، "فدعت بجرائد رطبة، فحنتها" بنون، ثم فوقية، أي أمالتها، "ثم طرحت عليها ثوبا، فقالت فاطمة: ما أحسن هذا تعرف به المرأة من الرجل، أي ولا يعرف للمرأة تحته حجم "فإذا أنا مت، فاغسليني أنت، وعلي" زوجي، "ولا يدخل علي أحد".(4/337)
الحديث أخرجه أبو عمر.
وفي حديث أم رافع سلمى أنها لما اشتكت اغتسلت ولبست ثيابا جددا واضطجعت في وسط البيت، ووضعت يدها اليمنى تحت خدها، ثم استقبلت القبلة وقالت: إني مقبوضة الآن فلا يكشفني أحد، ولا يغسلني، ثم قبضت مكانها، ودخل علي فأخبر بالذي قالت، فاحتملها فدفنها بغسلها ذلك، ولم يكشفها ولا غسلها أحد، رواه أحمد في المناقب والدولابي وهذا لفظه مختصرا، وهو مضاد لخبر أسماء المتقدم.
قال أبو عمر: وفاطمة أول من غطي نعشها على الصفة المذكورة في خبر أسماء
__________
"الحديث أخرجه أبو عمر" بن عبد البر، واستبعده ابن فتحون بأن أسماء كانت حينئذ زوج الصديق، فكيف تنكشف بحضرة علي في غسل فاطمة، وهو محل الاستبعاد، كذا في الإصابة، ولا يلزم من التغسيل انكشافها، فلا استبعاد، فتغسل، وهي مستورة، أو تصب وعلي يغسل، فعند ابن سعد عن محمد بن موسى أن عليًّا غسل فاطمة، "وفي حديث أم رافع سلمى" مولاة صفية، ويقال لها أيضا مولاة النبي وخادم النبي صلى الله عليه وسلم لها صحبة وأحاديث، ويقع في النسخ أم سلمى، وهو خطأ، فالذي في مسند أحمد وغيره أم رافع، واسمها سلمى، وهي مشهورة باسمها، وكنيتها، كما في الإصابة فصحف من قال أم سلمة "أنها لما اشتكت اغتسلت" ولفظ أحمد، وابن سعد عن أم رافع، قالت: مرضت فاطمة، فلما كان اليوم الذي توفيت فيه، قالت لي: يا أمه أسكبي لي غسلا، فاغتسلت كأحسن ما كانت تغتسل، "ولبست ثيابا" لها "جددا" ثم قالت: اجعلي فراشي وسط البيت، فجعلته "واضطجعت" عليه في "وسط البيت ووضعت يدها اليمنى تحت خدها، ثم استقبلت القبلة، وقالت: إني مقبوضة الآن" وفي رواية الساعة، وقد اغتسلت، "فلا يكشفني أحد، ولا يغسلني ثم قبضت مكانها، ودخل علي، فأخبر" من أم رافع، ففي رواية ابن سعد فجاء علي، فأخبرته "بالذي، قالت: فاحتملها فدفنها بغسلها ذلك، ولم يكشفها، ولا غسلها".
"رواه أحمد في المناقب" بسند ضعيف، وكذا ابن سعد، "والدولابي" بفتح الدال، وضمها، كما تقدم مرارا "وهذا لفظه مختصرا، وهو مضاد" مخالف "لخبر أسماء" بنت عميس "المتقدم" فوقه، ولا يمكن الجمع بينهما، كما تعسفه من سود به وجه الطرس، بلا فائدة، فإن وجه المخالفة كونها دفنت بتغسيل نفسها، بلا غسل بعد الموت، وكون علي وأسماء غسلاها، بعده "قاله أبو عمر" بن عبد البر "وفاطمة أول من غطى نعشها على الصفة المذكورة في خبر(4/338)
المتقدم، ثم بعدها زينب بنت جحش صنع بها ذلك أيضا.
وولدت لعلي: حسنا وحسينا ومحسنا، فمات صغيرا، وأم كلثوم وزينب.
ولم يكن لرسول الله صلى الله عليه وسلم عقب إلا من ابنته فاطمة رضي الله عنه وانتشر نسله الشريف منها من جهة السبطين الحسن والحسين فقط، ويقال للمنسوب لأولهما:
__________
أسماء المتقدم، ثم بعدها زينب بنت جحش، أم المؤمنين "صنع بها ذلك أيضا" فقول من قال إنها أول من غطي نعشها أي من أمهات المؤمنين.
وفي البخاري عن عائشة أن عليًّا صلى عليها، وكذا رواه الواقدي عن ابن عباس.
وروى ابن سعد عن عمرة، قالت: صلى العباس على فاطمة، ونزل هو وابن الفضل وعلي في حفرتها ولا خلف فكل صلى عليها، والإمام العباس، لأنه عمه فقدمه، وللواقدي عن الشعبي صلى أبو بكر على فاطمة، وهذا فيه ضعف. وانقطاع.
وروى بعض المتروكين عن مالك عن جعفر بن محمد نحوه ووهاه الدارقطني، وابن عدي، وقد روى البخاري عن عائشة لما توفيت دفنها زوجها علي ليلا، ولم يؤذن بها أبا بكر وصلى عليها، وقال الواقدي، قلت لعبد الرحمن بن أبي الموالي إن الناس يقولون قبر فاطمة بالبقيع فقال: ما دفنت إلا في زاوية في دار عقيل وبين قبرها وبين الطريق سبعة أذرع "وولدت لعلي حسنا وحسينا" ريحانتي جدهما روى ابن منده، وأبو نعيم أن فاطمة أتت بهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم في شكواه الذي قبض فيه، فقالت: يا رسول الله هذان ابناك، فورثهما، فقال: "أما حسن فإن له هيبتي وسؤددي، وأما حسين فإن له جودي وجرأتي" ومحنا" بضم الميم وفتح الحاء المهملة، وكسر السين المشددة "فمات صغيرا".
روى أحمد عن علي، لما ولد الحسن سميته حربا، فجاء صلى الله عليه وسلم، فقال: "أروني ابني ما سميتموه" قلنا، حربا، قال: "بل هو حسن" فلما ولد الحسين فذكر مثله، قال: "بل هو حسين"، فلما ولد الثالث فذكر مثله، قال: "بل هو محسن" ثم قال: "سميتهم بأسماء ولد هارون شبر وشبير ومشبر" إسناده صحيح.
"وأم كلثوم" قال ابن عبد البر ولدت قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم "وزينب" قال ابن الأثير ولدت في حياة جدها، وكانت لبيبة جزلة عاقلة لها قوة جنان، "ولم يكن لرسول الله صلى الله عليه وسلم عقب إلا من ابنته فاطمة رضي الله عنها" وذلك دال على شرف الإناث وبركتهن.
وروى مرفوعا "من يمن المرأة تبكيرها بالأنثى"، وأخرج الترمذي عن زيد بن أرقم أنه صلى الله عليه وسلم قال لعلي، وفاطمة والحسن والحسين: "أنا حرب لمن حاربتهم وسلم لمن سالمتم"، "وانتشر نسله الشريف منها من جهة السبطين الحسن والحسين فقط ويقال للمنسوب لأولهما(4/339)
حسنى ولثانيهما: حسيني.
وقد يضم للحسيني من يكون من ذرية إسحاق بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن زين العابدين بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب الإسحاقي، فيقال: الحسيني الإسحاقي.
فإسحاق هذا، هو زوج السيدة نفيسة ابنة الحسن بن زيد بن الحسين بن علي، وله منها: القاسم وأم كلثوم ولم يعقبا.
وتزوج عمر بن الخطاب أم كلثوم بنت فاطمة،
__________
حسني ولثانيهما حسيني، وقد يضم" في النسبة "للحسيني من يكون من ذرية إسحاق"، المؤتمن "بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن زين العابدين بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب" وإسحاق هذا صدوق. روى له الترمذي، وابن ماجه وينسب إلى أبيه، فيقال: الجعفري، ويقال: لمن هو من ذريته "الإسحاقي" بدل من نائب فاعل يضم، وهو من يكون "فيقال الحسيني الإسحاقي" نسبة إلى إسحاق المذكور، "فإسحاق هذا هو زوج السيدة نفسية" العابدة الزاهدة ذات الكرامات الباهرة ولدت بمكة سنة خمس وأربعين ومائة، ونشأت بالمدينة في العبادة، والزهادة تصوم النهار وتقوم الليل، ثم قدمت مصر مع زوجها فصار لها القبول التام حتى ماتت بها في رمضان سنة ثمان ومائتين فصلى عليها في مشهد لم ير مثله، بحيث امتلأت الفلوات، والقيعان، وأراد زوجها نقلها ودفنها بالبقيع، فسأله أهل مصر في تركها للتبرك، ويقال، بل رأى المصطفى في المنام، فقال له: "يا إسحاق، لا تعارض أهل مصر في نفيسة فإن الرحمة تنزل عليهم ببركتها".
"ابنة الحسن" الأنور. كان من سروات العلويين، وأشرافهم، وأجوادهم ولي أمرة المدينة للمنصور خمس سنين، ثم حبسه، حتى مات المنصور، فأخرجه المهدي، وأكرمه ولم يزل معه، وهو صدوق في الحديث فاضل روى له النسائي، توفي سنة ثمان وستين ومائة وهو ابن خمس وثمانين سنة.
"ابن زيد" المدني الثقة الجليل المتوفى سنة عشرين ومائة "ابن الحسن بن علي" بن أبي طالب، "و" ولد "له منها" لإسحاق من نفيسة "القسم وأم كلثوم" ولم يعقبا" فلا عقب لإسحاق منها، وله عقب من غيرا الذين ينسبون إليه، فيقال الإسحاقي، "وتزوج عمر بن الخطاب" في خلافته "أم كلثوم بنت فاطمة".
روى محمد بن أبي عمر العربي شيخ مسلم في مسنده، أن عمر خطب إلى علي بنته أم كلثوم، فذكر له صغرها، فقيل له، إنه ردك، فعاوده، فقال علي: أبعث بها إليك، فإن رضيت، فهي امرأتك، فارسلها إليه فكشف عن ساقها، فقالت: مه لولا أنك أمير المؤمنين للطمت عينك.(4/340)
فولدت له: زيدا ورقية، ولم يعقبا، ثم تزوجت أم كلثوم بعد موت عمر بعون بن جعفر، ثم تزوجت بعد وفاته بأخيه محمد بن جعفر ثم مات عنها فتزوجت بأخيهما عبد الله بن جعفر
__________
وذكر ابن سعد، أنه خطبها من علي، فقال: إنما حبست بناتي على بني جعفر فقال: زوجنيها، فوالله ما على ظهر الأرض رجل، يرصد من كراستها، ما أرصد، فقال: فعلت، فجاء عمر إلى المهاجرين، فقال: رفئوني، فرفأوه، وقالوا: بمن تزوجت، قال بنت علي إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كل نسب وسبب منقطع يوم القيامة إلا نسبي وسببي". وكنت قد صاهرته، فأحببت هذا أيضا وأمهرها أربعين ألفا، "فولدت له زيدا ورقية ولم يعقبا" فأصيب زيد في حرب كانت بين بني عدي فخرج ليصلح بينهم، فشجه رجل وهو لا يعرفه في الظلمة، فعاش أياما، وكانت أمه مريضة فماتا في يوم واحد. ذكره الزبير بن بكار.
وروى ابن سعد بسند صحيح، أن ابن عمر صلى عليهما، وساق بسند آخر أن سعيد بن العاصي هو الذي أمهم عليهما، "ثم تزوجت أم كلثوم بعد موت عمر".
روى الدولابي عن الحسن بن الحسن بن علي قال: لما تأيمت، دخل عليها أخواها فقالا: ها إن أردت أن تصيبي بنفسك مالا عظيما لقيتيه، فدخل علي فحمد الله وأثنى عليه، وقال: أي بنية إن الله قد جعل أمرك بيدك، فإن أحببت أن تجعليه بيدي، فقالت: يا أبت إني امرأة أرغب فيما ترغب فيه النساء، وأحب أن أصيب من الدنيا، فقال: هذا من عمل هذين، ثم قام يقول: والله لا أكلم واحدا منهما أو تفعلين، ففعلت، فزوجها "بعون بن جعفر" بن أبي طالب، ولد بأرض الحبشة، وقدم به أبواه في خيبر وكان يشبه النبي صلى الله عليه وسم، وزوجه بها بعد عمر، رواه الدولابي، ونقله الإصابة في ترجمتها عنه، وهو منابذ لقوله في ترجمة عون، استشهد بتستر في خلافة عمر ولا عقب له، "ثم تزوجت بعد وفاته بأخيه محمد بن جعفر" ولد بأرض الحبشة، وذكره البغوي وابن حبان وغيرهما في الصحابة، وقال محمد بن حبيب هو أول من سمي محمدا في الإسلام من المهاجرين.
وذكر ابن عبد البر عن الواقدي، أنه يكنى أبا القاسم. قال: واستشهد بتستر، وقيل عاش إلى أن شهد صفين مع علي فقتل بها، وذكر المرزباني أنه كان مع أخيه لأمه محمد بن الصديق بمصر، فلما قتل اختفى ابن جعفر، ثم ذهب إلى فلسطين.
قال في الإصابة: وهذا يرد قول الواقدي استشهد بتستر، "ثم مات عنها فتزوجت بأخيهما عبد الله بن جعفر" أسن من أخويه، أحد الأجواد الصحابي ابن الصحابي، ولد بأرض الحبشة، مات سنة ثمانين، وهو ابن ثمانين.
روى النسائي بإسناد صحيح عنه لما قتل جعفر قال صلى الله عليه وسلم: "ادعو إليَّ بني أخي" فجيء بنا(4/341)
ثم ماتت عنده ولم تلد لواحد من الثلاثة سوى الثاني ابنة توفيت صغيرة فليس لها عقب. ثم تزوج عبد الله بن جعفر بأختها زينب بنت فاطمة، فولدت له عدة من الأولاد، منهم، علي وأم كلثوم.
وتزوج أم كلثوم -هذه- ابن عمها القاسم بن محمد بن جعفر بن أبي طالب فولد له عدة أولاد منهم فاطمة زوج حمزة بن عبد الله بن الزبير بن العوام، وله منها عقب.
وبالجملة: فعقب عبد الله بن جعفر انتشر من علي وأخته أم كلثوم ابني زينب بنت الزهراء. ويقال لكل من ينسب لهؤلاء جعفري، ولا ريب أن لهؤلاء شرفا.
__________
كأنا أفرخ، فأمر الحلاق، فحلق رءوسنا، ثم قال: "أما محمد فيشبه عمنا أبا طالب، وأما عبد الله فيشبه خَلقي وخُلقي، وأما عون فيشبه خَلقي وخُلقي"، ثم أخذ بيدي، فأمالها وقال: "اللهم اخلف جعفرا في أهله، وبارك لعبد الله في صفقة يمينه".
قال ابن سعد: فكانت تقول: إنى لأستحي من أسماء بنت عميس، مات ولداها عندي، فتخوف على الثالث، "ثم ماتت عنده، ولم تلد لواحد من الثلاثة سوى الثاني" محمد "ابنه، توفيت صغيرة فليس لها" لأمه كلثوم بنت فاطمة "عقب، ثم تزوج عبد الله بن جعفر أختها زينب بنت فاطمة، فولدت له عدة من الأولاد" خمسة "منهم علي وأم كلثوم" وعون وعباس ومحمد، كما في العجاجة الزرنبية، "وتزوج أم كلثوم هذه ابن عمها القاسم بن محمد بن جعفر بن أبي طالب، فولدت له عدة أولاد، منهم فاطمة زوج حمزة بن عبد الله بن الزبير بن العوام، القرشي، الأسدي، يكني أبا عمار.
روى عن أبيه وعائشة وعنه جعفر بن عبد الله بن الحكم الأنصاري ذكره ابن حبان في الثقات، وقال ابن سعد: ولاه أبوه البصرة، وذكر الزبير بن بكار أن حمزة وضع الركن حين بنى أبوه الكعبة، وأبوه يصلي بالناس في المسجد، اغتنم شغل الناس عنه لما أحسن منهم التنافس، وخاف الخلاف، فأقره أبوه "وله منها عقب، وبالجملة فعقب عبد الله بن جعفر انتشر من علي وأخته أم كلثوم ابني زينب بنت الزهراء" ومن ثم اقتصر عليهما أولا، ولم يذكر باقي أولادها، "ويقال لكل من ينسب لهولاء جعفري" نسبة إلى جدهم جعفر، ولا ريب أن لهؤلاء شرفا" لكنه ليس كشرف من ينسب للحسنين، وكم أطلق الذهبي في تاريخه في كثير من التراجم قوله الشريف الزينبي، ولا ريب أنهم تحرم عليهم الصدقة إجماعا؛ لأن بني جعفر من الآل، وأنهم يستحقون سهم ذوي القربي بالإجماع، وأنهم من ذرية النبي وأولاده إجماعا، ويدخلون في وقف بركة الحبش؛ لأن واقفها وقف نصفها على أولاد الحسن والحسين، والنصف الثاني على الطالبين، وهم ذرية علي من محمد بن الحنفية وإخوته، وذرية جعفر وعقيل، كما ذكره ابن المتوج في إيقاظ(4/342)
وأما الجعافرة المنسوبون لعبد الله بن جعفر فلهم أيضا شرف، لكنه يتفاوت، فمن كان من ولده من زينب بنت الزهراء فهم أشرف من غيرهم، مع كونهم لا يوازون شرف المنسوبين للحسن والحسين لمزيد شرفهما، وكذا يوصف العباسيون بالشرف لشرف بني هاشم.
قال الحافظ ابن حجر في الألقاب: وقد لقب به -يعني
__________
المتأمل قائلا: وثبت هذا الوقف على هذا الوجه، عند قاضي القضاة بدر الدين يوسف البخاري في ثاني عشر ربيع الآخر، سنة أربعين وستمائة، ثم اتصل ثبوته على شيخ الإسلام عز الدين بن عبد السلام تاسع عشر ربيع الآخر من السنة المذكورة، ثم اتصل ثبوته على قاضي القضاة ابن جماعة ذكره في العجاجة، "وأما الجعافرة المنسوبون" لعبد الله بن جعفر" من غير زينب، "فلهم أيضا شرف" لأنهم من بني هاشم ومن أولاد عمه صلى الله عليه وسلم، وتحرم عليهم الزكاة ويستحقون في سهم ذوي القربى وبركة الحبش، "لكنه يتفاوت، فمن كان من ولده من زينب بنت الزهراء فهم أشرف من غيرهم من ولده من غيرهم، وسلك المصنف الإطناب إذ كان يكفيه أن يقول وأما ولده من غير زينب، فلهم شرف دون شرف أولادها منها، "مع كونهم لا يوازون شرف المنسوبين للحسن والحسين" نسبة حق.
قال الحافظ: ولا التفات إلى من يدعي أنه منهم بغير برهان "لمزيد شرفهما" الذي خصهما به جدهما، فينسبون إليه صلى الله عليه وسلم دون غيرهما.
قال صلى الله عليه وسلم: "لكل نبي أم عصبة إلا ابني فاطمة أنا وليهما وعصبتهما" أخرجه الحاكم عن ابر وأبو يعلى عن فاطمة فخص الانتساب والتعصيب بهما دون أختهما لأن أولاد أختهما، إنما ينسبون إلى آبائهم، ولهذا جرى السلف والخلف على أن ابن الشريفة لا يكون شريفا ولو كانت الخصوصية عامة في أولاد بناته، وإن سفلن لكان كل ابن شريفة شريفا تحرم عليه الصدقة وإن لم يكن أبوه كذلك، وليس كذلك كما هو معلوم ذكره السيوطي في السلالة الزينبية.
وهذا هو الحق وهو ما عليه ابن عرفة في قوله لابن الشريفة شرف ما ولا عليك من الهذيان في رده بما يشبه كلام العوام.
"وكذا يوصف العباسيون" والعقيليون ذرية عقيل بن أبي طالب والعلويون ذرية ابن الحنفية وغيره من أولاد علي "بالشرف لشرف بني هاشم" وقد كان اسم الشريف يطلق في الصدر الأول على من كان من آل البيت سواء كان حسنيا، أو حسينيا، أم علويا، أم عباسيا، أم جعفريا أم عقيليا، ولهذا نجد تاريخ الحافظ الذهبي مشحونا في التراجم، بذلك يقول الشريف العباسي، الشريف العقيلي، الشريف الجعفري، الشريف الزينبي، فلما ولى الفاطميون مصر قصروا اسم الشريف على ذرية الحسن والحسين فقط، فاستمر ذلك بمصر إلى الآن.
"قال الحافظ ابن حجر في" كتاب نزهة الألباب في معرفة "الألقاب: وقد لقب به، يعني(4/343)
بالشريف- كل عباسي ببغداد وعلوي بمصر. وفي شيوخ ابن الرفعة شخص يقال له الشريف العباسي.
وأما عبد الله ابن النبي صلى الله عليه وسلم فقيل مات صغيرا بمكة، فقال العاصي بن وائل: قد انقطع ولده فهو أبتر، فأنزل الله تعالى: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ} [الكوثر: 3] .
واختلف: هل ولد قبل النبوة أو بعدها؟ وهل هو الطيب والطاهر؟ والصحيح: أنهما لقبان له، كما تقدم.
__________
بالشريف كل عباسي ببغداد"؛ لأن الخلفاء به كانوا من بني العباس، "و" كل "علوي بمصر" لأن الفاطميين الذين كانوا بها من ولد علي من فاطمة بزعمهم، "وفي شيوخ ابن الرفعة شخص يقال له الشريف العباسي".
قال في العجاجة: ولا شك أن المصطلح القديم أولى وهو إطلاقه على كل علوي وجعفري وعقيلي وعباسي، كما صنعه الذهبي، وكما أشار إليه الماوردي من الشافعية والقاضي أبو يعلى من الحنابلة، ونحوه قول ابن مالك وآله المستكملين الشرفا انتهى. "وأما عبد الله ابن النبي صلى الله عليه وسلم فقيل" كما رواه ابن سعد بسند واه عن ابن عباس، "مات صغيرا بمكة"، لم تعلم مدة حياته لقلة الاعتناء بالتاريخ حينئذ، "فقال العاصي بن وائل" السهمي أبو عمرو "قد انقطع ولده فهو أبتر منقطع العقب" "فأنزل الله تعالى: {إِنَّ شَانِئَكَ} " مبغضك " {هُوَ الْأَبْتَرُ} " المنقطع عن كل خير، والمنقطع عقبه، ولا يرد أن له عقبا؛ لأن ابنيه عمرا وهشاما لما أسلما انقطع بينه وبينهما، فليسوا بأتباع له؛ لأن الإسلام حجزهم عنهم، فلا يرثهم، ولا يرثونه، وهم من أتباع النبي وأزواجه أمهاتهم.
وهذا يعارضه ما مر أن العاصي قال ذلك، فنزلت الآية لما مات ولده القاسم، كما أخرجه يونس في زيادات المغازي والبيهقي من مرسل محمد بن علي، والقاسم الأول من مات ولد، فيحتمل تعدد القول والنزول، وأخرج ابن جرير عن شمر بن عطية قال: كان عقبة بن أبي معيط يقول: لا يبقى لمحمد ولد وهو أبتر، فأنزل الله فيه: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ} وعليه فنزلت في العاصي وعقبة معا.
وروى الطبراني بسند ضعيف عن أبي أيوب قال: لما مات إبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم مشى المشركون بعضهم إلى بعض فقالوا: إن هذا الصاني قد بتر الليلة فأنزل الله: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} إلى آخر السورة. وروى ابن المنذر عن ابن جريج قال: بلغني فذكر نحوه، فإن صح فقد تعدد نزولها بمكة والمدينة، "واختلف هل ولد قبل النبوة أو بعدها، وهل هو الطيب والطاهر والصحيح أنهما لقبان له كما تقدم" لأنه ولد بعد النبوة، وجرى المصنف في ذكره بعد فاطمة على القول بأنه أصغر أولاده من خديجة الذي صححه ابن الكلبي ولم يراع موته، كما صنعه(4/344)
وأما إبراهيم فمن مارية القبطية، وسيأتي ذكرها في سراريه عليه الصلاة والسلام إن شاء الله تعالى في الفصل التالي لهذا في أمهات المؤمنين.
وولد في ذي الحجة سنة ثمان من الهجرة، وقيل ولد بالعالية، ذكره "الزبير بن بكار"، وكانت سلمى زوج أبي رافع "مولدة رسول الله صلى الله عليه وسلم قابلته فبشر أبو رافع" به النبي صلى الله عليه وسلم فوهب له عبدا، وعق عنه يوم سابعه بكبشين، وحلق رأسه أبو هند، وسماه النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ، وتصدق بزنة شعره ورقا على المساكين، ودفنوا شعره بالأرض.
__________
فيمن قبله. "وأما إبراهيم" آخر أولاده صلى الله عليه وسلم "فمن مارية" بتخفيف الياء "القبطية" وكانت بيضاء جميلة، "وسيأتي ذكرها في سراريه عليه الصلاة والسلام إن شاء الله تعالى في الفصل التالي لهذا في أمهات المؤمنين" وسرارية، كما هو في الترجمة الآتية، لكنه أسقطه هنا لئلا يتكرر مع قوله أولا في سراريه، "وولد في ذي الحجة سنة ثمان من الهجرة"، باتفاق كما في الفتح، "وقيل ولد بالعالية"، المحل الذي أنزل صلى الله عليه وسلم فيه مارية، وصار يقال لها مشرية أم إبراهيم، وهذا مستأنف لا معطوف إذ ليس مقابلا لمغايرة المكان للزمان.
"ذكره الزبير بن بكار" وفصله عما قبله إشعارا بأنه لا يساويه للاتفاق عليه، وكأنه ظفر في المكان بخلاف "وكانت سلمى" أم رافع تقدم ذكرها "زوج أبي رافع" أسلم أو إبراهيم أو ثابت أو همز أو صالح أو سنان أو يسار أو عبد الرحمن أو قزمان أو يزيد، فتلك عشرة، أشهرها كما قال أبو عمر الأول: "مولدة رسول الله صلى الله عليه وسلم" ويقال: مولاة صفية، كما في الإصابة ولا تنافي؛ لأن مولاة عمة الشخص مولاته، كما قال البرهان "قابلته" التي تلقته عند الولادة "فبشر أبو رافع" زوجها "به النبي صلى الله عليه وسلم فوهب له عبدا" إذ هو سيد الكرماء.
قال البرهان: هذا العبد لا أعرف اسمه، "وعق عنه يوم سابعه بكبشين" وفي العيون بكبش، فيحتمل أنه تعدد الذبح فأخبر من حضر التعدد به ومن لم يحضره بخلافه "وحلق رأسه أبو هند" البياضي مولى فروة بن عمرو البياضي من الأنصار قاله ابن إسحاق.
قال ابن السكين: يقال اسمه عبد الله، وقال ابن منده: يقال اسمه يسار، ويقال سالم، وفي موطأ ابن وهب حجم رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو هند يسار، وأخرج ابن السكن والطبراني عن عائشة أنه صلى الله عليه وسم قال: "من سره أن ينظر إلى من صور الله الإيمان في قلبه، فلينظر إلى أبي هند" شهد المشاهد بعد بدر.
وروى عنه ابن عباس وجابر وأبو هريرة، "وسماه النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ" أي يوم سابعه، وتصدق صلى الله عليه وسلم "بزنة شعره ورقا" فضة "على المساكين".
قال البرهان: لا أعلم زنة الشعر، "ودفنوا شعره بالأرض" بأمره عليه السلام، "وفي(4/345)
وفي البخاري: من حديث أنس بن مالك، أنه صلى الله عليه وسلم قال: "ولد لي الليلة غلام سميته باسم أبي إبراهيم، ثم دفعته إلى أم سيف امرأة قين بالمدينة يقال له أبو سيف"،لحديث، وفيه: أنه بقي عندها إلى أن مات، والقين: الحداد.
ويجمع بينهما: بأن التسمية كانت قبل السابع، كما في حديث أنس هذا ثم ظهرت فيه، وأما حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده.
__________
البخاري" ومسلم واللفظ له كما بينه في الإصابة في ترجمة أبي سيف، وكذا في الفتح في شرح هذا الحديث، فاللائق بالمصنف العز ولهما معا أو لمسلم خاصة "من حديث" ثابت عن "أنس بن مالك أنه صلى الله عليه وسلم قال": وفي رواية ابن سعد خرج علينا صلى الله عليه وسلم حين أصبح، فقال: "ولد لي الليلة غلام سميته" إبراهيم "باسم أبي إبراهيم، ثم دفعته إلى أم سيف" بفتح السين صحابية لم يذكر لها اسما في الإصابة فكأنه كنيتها "امرأة قين" بفتح القاف وسكون التحتية بعدها نون حداد "بالمدينة يقال له أبو سيف".
قال عياض: هو البراء بن أوس وزوجته أم سيف هي أم بردة واسمها خولة بنت المنذر، وتعقبه الحافظ بأنه لم يصرح أحد من الأئمة بأن البراء بن أوس يكني ابا سيف ولا أن أبا سيف يسمى البراء. انتهى. وأسقط تمام التعقب اكتفاء، أي ولا أن أم سيف تسمى خولة ولا إن خولة تكنى أم سيف إنما تكنى أم بردة "الحدث" تتمته، فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاتبعته فانتهى إلى أبي سيف وهو ينفخ بكير، وقد امتلأ البيت دخانا، فأسرعت المشي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا أبا سيف أمسك جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمسك، فذكر الحديث هذا لفظ مسلم ولفظ البخاري عن أنس دخلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي سيف القين وكان ظئرا لإبراهيم، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم إبراهيم فقبله وشمه، ثم دخلنا بعد ذلك وإبراهيم يجود بنفسه، فجعلت عينا رسول الله تذرفان، فقال له عبد الرحمن بن عوف وأنت يا رسول الله؟ فقال يابن عوف إنها رحمة، ثم اتبعها بأخرى، فقال صلى الله عليه وسلم: "إن العين تدمع والقلب يحزن ولا نقول إلا ما يرضي ربنا وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون". "وفيه أنه بقي عندها إلى أن مات"، كما ترى "والقين الحداد" ويطلق على كل صانع يقال قان الشيء إذا أصلحه كما في الفتح، ففي هذا الحديث الصحيح أنه سماه صبيحة الولادة فيعارض ما ذكره أهل السير أنه سماه يوم سابعه، "ويجمع بينهما بأن التسمية كانت قبل السابع، كما في حديث أنس هذا، ثم ظهرت فيه" في يوم السابع، "وأما حديث عمرو بن شعيب" بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاصي الصدوق، المتوفى سنة ثمان عشرة ومائة، "عن أبيه" شعيب بن محمد صدوق، ثبت سماعه "عن جده" عبد الله بن عمرو بن العاصي، فضمير جده لشعيب عند الجمهور، فالحديث موصول لا لعمرو وإلا كان مرسلا أوله(4/346)
عند الترمذي مرفوعا أنه أمر بتسمية المولود يوم سابعه، فيحمل على أنها لا تؤخر عن السابع، لا أنها لا تكون إلا فيه، بل هي مشروعة من الولادة إلى السابع.
قال الزبير بن بكار: وتنافست الأنصار فيمن ترضع إبراهيم فإنهم أحبوا أن يفرغوا مارية له عليه الصلاة والسلام فأعطاه لأم بردة بنت المنذر بن زيد الأنصاري، زوجة البراء بن أوس، فكانت ترضعه بلبن ابنها في بني مازن بن النجار وترجع به إلى أمه. وأعطى صلى الله عليه وسلم أم بردة قطعة نخل.
وقد تقدم أنه أعطاه أم سيف وبقي عندها إلى أن مات فيحتمل أن يكون أعطاه أولا أم بردة ثم أعطاه أم سيف وبقي عندها إلى أن توفي لكن قد روي أنه توفي عند أم بردة، فيرجع في الترجيح إلى الصحيح.
__________
ويحمل على الجد الأعلى كما في الألفية "عند الترمذي مرفوعا أنه" صلى الله عليه وسلم "أمر بتسمية المولود يوم سابعه، فيحمل" كما قال المحب الطبري "على أنها لا تؤخر عن السابع لا إنها لا تكون إلا فيه، بل هي مشروعة من الولادة إلى السابع"، فلا يعارض فعله، أو على من يعق ويحلق ويتصدق، وتسمية إبراهيم قبله مع أنه فعل به ذلك لبيان الجواز وأن ذلك مندوب فقط.
"قال الزبير بن بكار" فيما أخرجه هو وابن سعد من طريق شيخه الواقدي عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة قال: "و" لما ولد إبراهيم "تنافست الأنصار" رغبت "فيمن ترضع" منهن "إبراهيم" فكل واحدة منهن أرادته، ويستعمل التنافس في العرف في المشاحة؛ لأن الرغبة في الشيء تستلزمه المشاحة عليه ولو باللب "فإنهم أحبوا أن يفرغوا ماريه له"، أي يزيلوا عنها ما يشغلها عنه "عليه الصلاة والسلام" لما يعلمن من ميله إليها كما في الرواية، "فأعطاه لأم بردة" خولة "بنت المنذر بن زيد الأنصاري" من بني النجارة "زوجة البراء بن أوس" بن خالد من بني النجار أيضا، "فكانت ترضعه بلبن ابنها في بني مازن بن النجار وترجع به إلى أمه،" وفي رواية ابن سعد وكان صلى الله عليه وسلم يأتيه في بني النجار، "وأعطى صلى الله عليه وسلم أم بردة قطعة نخل" لرضاعها، "وقد تقدم" في الحديث الصحيح "أنه أعطاه أم سيف وبقي عندها إلى أن مات".
قال الحافظ: فجمع عياض بينهما، فسمي أبا سيف البراء، وزوجته أم بردة خولة أم سيف قال: وما جمع به غير مستبعد إلا إنه لم يصرح أحد من الأئمة بأن البراء يكنى أبا سيف، ولا أن أبا سيف يسمى البراء، "فيحتمل" إن ثبت ما ذكره الواقدي "أن يكون أعطاه أولا أم بردة، ثم أعطاه أم سيف وبقي عندها إلى أن توفي" فتكونان جميعا أرضعتاه، "لكن قد روى" كما ذكر ابن عبد البر وغيره "أنه توفي عند أم بردة، فيرجع في الترجيح إلى الصحيح" لصحة سنده.
وقد قال أبو موسى المديني المشهور أن التي أرضعته أم سيف، وحاصل ما ذكره هنا تبعا(4/347)
وعن أنس بن مالك قال: ما رأيت أحدا أرحم بالعيال من رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إبراهيم مسترضعا في عوالي المدينة فكان ينطلق ونحن معه، فيدخل البيت وكان ظئره قينا، فيأخذه ويقبله ثم يرجع. الحديث رواه أبو حاتم.
وفي حديث جابر: أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بيد عبد الرحمن بن عوف، فأتى به النخل فإذا ابنه إبراهيم يجود بنفسه، فأخذه صلى الله عليه وسلم فوضعه في حجره ثم ذرفت عيناه،
__________
للحافظ في الفتح والإصابة أنهما امرأتان على الصحيح المشهور، وجعلهما القاضي عياض امرأة واحدة لها كنيتان وهو متعقب كما علمت.
فحزم المصنف في شرح البخاري بما لعياض فيه نظر، وعن أنس بن مالك قال: ما رأيت أحدا أرحم بالعيال من رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه رحمة كله.
"كان إبراهيم مسترضعا" أي رضيعنا، فالسين زائدا "في عوالي المدينة، فكان ينطلق ونحن معه، فيدخل البيت" زاد مسلم وإنه ليدخل، "وكان ظئره" بكسر المعجمة وسكون التحتية المهموزة بعدها راء، أي مرضعة، وأطلق عليه ذلك لأنه زوج المرضعة، وأصل الظئر من ظأرت الناقة إذا عطفت على غير ولدها فقيل ذلك للتي ترضع غير ولدها، وأطلق على زوجها؛ لأنه لا يشاركها في تربيته، كما في الفتح "قينا" بالقاف حدادا بيان لسبب دخان البيت، وقد تسقط نقطة القاف من الكاتب، فتوهمت فاء، فجعلت نسخة، والرواية بالقاف في مسلم وغيره "فيأخذه ويقبله".
زاد البخاري وشمه، ففيه مشروعية تقبيل الولد وشمه "ثم يرجع الحديث" ذكر في بقيته قصة موته "رواه أبو حاتم" وابن حبان ومسلم في الصحيح، فالعزولة هو اصطلاح أهل الفن، "وفي حديث جابر أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بيد عبد الرحن بن عوف، فأتى به النخل فإذا ابنه إبراهيم يجود بنفسه".
قال الحافظ: أي يخرجها ويدفعها، كما يدفع الإنسان ماله يجود به.
وفي حديث أنس عند البيهقي يكيد قال صاحب العين: أي يسوق بها، وقيل معناه يقارب بها الموت، وقال أبو مروان بن سراج: قد يكون من الكيد وهو القيء يقال منه كاد يكيد شبه قلع نفسه عند الموت بذلك، "فأخذه صلى الله عليه وسلم فوضعه في حجره، ثم ذرفت عيناه" بفتح المعجمة والراء والفاء جرى دمعهما.
زاد أنس في الصحيح، فقال له عبد الرحمن بن عوف: وأنت يا رسول الله! قال الطيبي: فيه معنى التعجب والواو تستدعي معطوفا عليه، أي الناس لا يصبرون وأنت تفعل كفعلهم، كأنه تعجب منه مع عهده منه الحث على الصبر والنهي عن الجزع، فأجابه بقوله: "إنها رحمة"، أي الحالة التي شاهدتها مني هي رقة على الولد لا ما توهمت من الجزع انتهى.
وفي حديث ابن عوف نفسه عند ابن سعد والطبراني، فقلت: يا رسول الله تبكي أولم تنه عن البكار، فقال: "إنما نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين صوت عند نغمة لهو ولعب ومزامير(4/348)
ثم قال: "إنا بك يا إبراهيم لمحزونون، تبكي العين ويحزن القلب ولا تقول ما يسخط الرب". خرجه بهذا السياق أبو عمرو بن السماك، ومعناه في الصحيح.
وتوفي وله سبعون يوما -فيما ذكره أبو داود- في ربيع الأول يوم الثلاثاء لعشر خلون منه، وقيل: بلغ ستة عشر شهرا
__________
الشيطان، وصوت عند مصيبة خمش وجوه وشق جيوب ورنة شيطان، إنما هذا رحمة، ومن لا يَرحم لا يُرحم"، "ثم قال: "إنا بك" بفراقك، كما هو رواية الصحيح "يا إبراهيم لمحزونون".
قال ابن المنير عبر بصيغة المفعول لا الفاعل إشارة إلى أن الحزن ليس من فعله، بل من غيره ولا يكلف الإنسان بفعل غيره وهو العين والقلب، كما قال: "تبكي العين ويحزن القلب" لرفته، "ولا نقول ما يسخط الرب" وفي الصحيح: "ولا نقول إلا ما يرضي ربنا".
قال ابن المنير: أضاف الفعل إلى الجارحة تنبيها على أن مثل هذا لا يدخل تحت قدرة العبد، ولا يكلف الانكفاف عنه، وكأن الجارحة امتنعت فصارت هي الفاعلة لا هو، وأما نطق اللسان فيملك انتهى.
زاد في حديث عبد الرحمن بن عوف، لولا أنه أمر حق ووعد صدق وسبيل مأتية، وأن آخرنا سيلحق أولنا لحزنا عليك حزنا هو أشد من هذا، "خرجه بهذا السياق" أي اللفظ "أبو عمرو بن السماك ومعناه في الصحيح"، من حديث أنس وقد قدمنا لفظه وليس في هذه الرواية زيادة شيء عليه حتى يعدل عن الصحيح إليه.
قال ابن بطال: فسر هذا الحديث البكاء المباح والحزن الجائز، وهو ما كان بدمع العين ورقة القلب من غير سخط أمر الله، وهو أبين شيء وقع في هذا المعنى، وفيه مشروعية تقبيل الولد وشمه والرضاع وعبادة الصغير والحضور عند المحتضر ورحمة العيال وجواز الإخبار عن الحزن، وإن كان الكتمان أولى وفيه وقوع الخطاب للغير وإرادة غيره بذلك، وكلاهما مأخوذ من مخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم ولده مع أنه في تلك الحالة لم يكن يفهم الخطاب لصغره وكونه في النزع، وإنما أراد بالخطاب غيره من الحاضرين إشارة إلى أن ذلك لم يدخل في نهيه السابق، وجواز الاعتراض على من خالف فعله ظاهر قوله ليظهر الفرق، قيل وفيه تقبيل الميت وشمه، ورده ابن التين بأن القصة إنما وقعت قبل الموت، وهو كما قال انتهى من فتح الباري، "وتوفي وله سبعون يوما فيما ذكره أبو داود" وحكاه البيهقي.
قال في الإصابة فعليه يكون مات سنة تسع انتهى، وتبرأ منه لنقل صاحب النور أن رواية سبعين يوما وهم، وجزم الواقدي بأنه مات سنة عشر "في ربيع الأول يوم الثلاثاء لعشر خلون منه" فهذا إنما هو على موته سنة عشر، "وقيل بلغ ستة عشر شهرا".(4/349)
وثمانية أيام، وقيل: سنة وعشرة أشهر وستة أيام.
وحمل على سرير، صغير، وصلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم بالبقيع وقال: "ندفنه عند فرطناه عثمان بن مظعون"، وروي أن عائشة قالت: دفنه عليه الصلاة والسلام ولم يصل عليه، فيحتمل أن يكون لم يصلوا عليه بنفسه وأمر أصحابه أن يصلوا عليه، أو لم يصل عليه في جماعة.
__________
حكاه اليعمري لكن لم يقل "وثمانية أيام" نعم حكى في الإصابة وغيرها عن محمد بن المؤمل سبعة عشر شهرا وثمانية أيام، "وقيل" بلغ "سنة وعشرة أشهر وستة أيام".
وفي البخاري عن عائشة عاش سبعة عشر أو ثمانية عشر شهر على الشك، وعند أحمد بسند حسن عنها ثمانية عشر شهرا بالجزم، وكذا عنده عن جابر فهو أرجح الأقوال موافقته ما في الصحيح عنها وإن كان بالشك.
وقال ابن حزم مات قبل النبي صلى الله عليه وسلم بثلاثة أشهر، وقيل مات في رمضان وقيل في ذي الحجة.
قال في الإصابة وهو باطل على القول بأنه سنة عشر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان في حجة الوداع إلا أن كان مات في آخر ذي الحجة انتهى، "وحمل على سرير صغير" من بيت مرضعته إلى البقيع، "وصلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم بالبقيع" وكبر أربعا.
أخرجه أبو يعلى وابن سعد عن أنس والبزار عن أبي سعيد وأحمد عن البراء وابن أبي شيبة عن الشعبي مرسلا، والبيهقي في الدلائل من مرسل جعفر بن محمد وهي وإن كان في أسانيدا ضعف فبعضها يعضد بعضا، ومن ثم قال النووي، الذي ذهب إليه الجمهور أنه صلى عليه وكبر أربعا، "وقال: "ندفنه عند فرطنا" بفتحتين متقدمنا "عثمان بن مظعون" بالظاء المعجمة.
"وروي" عند أحمد والبزار وأبي يعلي، "أن عائشة قالت دفنه عليه الصلاة والسلام ولم يصل عليه" لاستغنائه بنبوة أبية عن الصلاة عليه التي هي شفاعة له، كما استغنى الشهيد بشهادته عنها أو لموته يوم كسوف الشمس، فاستغنى بصلاة الكسوف عن الصلاة عليه، أو لأنه لا يصلي على نبي، وقد جاء لو عاش كان نبيا، ورد بأنه قد صح أن الطفل يصلى عليه، وقال صلى الله عليه وسلم: "صلوا على أطفالكم فإنهم من أفراطكم" , وصح أن الصحابة صلوا عليه صلى الله عليه وسلم، ثم حديث عائشة هذا قال في الإصابة إسناده حسن وصححه ابن حزم، لكن قال أحمد في رواية حنبل عنه حديث منكر، وقال الخطابي حديث عائشة أحسن اتصالا من رواية أنه صلى الله عليه وسلم ولكن هي أولى.
وقال ابن عبد البر حديث عائشة لا يصح، ثم قال أعني ابن عبد البر "فيحتمل أن يكون" معناه "لم يصل عليه بنفسه وأمر أصحابه أن يصلوا عليه" ولم يحضرهم "أو لم يصل عليه في جماعة، بل صلى عليه منفردا" فلا يكون مخالفا لما عليه العلماء، وهو أولى ما حمل عليه حديثها، فلا يخالف ما أجمع عليه العلماء من الصلاة على الأطفال إذا استهلوا وهو عمل(4/350)
وروي أن الذي غسله أبو بردة، وروى الفضل بن العباس، ولعلهما اجتمعا عليه.
ونزل قبره الفضل وأسامة، والنبي صلى الله عليه وسلم على شفير القبر، ورش قبره وعلم بعلامة قال الزبير: وهو أول قبر رش.
وانكسفت الشمس يوم موته فقال الناس: إنما كسفت لموت إبراهيم فقال عليه الصلاة والسلام: "إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله،
__________
مستفيض في السلف والخلف ولا أعلم من جاء عنه غير هذا إلا عن سمرة بن جندب، انتهى كلام أبي عمر، "وروي أن الذي غسله أبو بردة" اسمه هانئ على الأشهر الأنصاري، "وروي" أنه "الفضل بن العباس ولعلهما اجتمعا عليه" فلا تنافي بين الروايتين.
وروى ابن ماجه عن أنس لما قبض إبراهيم قال صلى الله عليه وسلم: "لا تدرجوه في أكفانه حتى أنظر إليه" فأتاه فانكب عليه وبكى "ونزل قبره الفضل وأسامة" بن زيد "والنبي صلى الله عليه وسلم على شفير القبر" فرأى فرجة في اللحد فناول الحفار مدرة، وقال: "إنها لا تضر ولا تنفع ولكنها تقر عين الحي". رواه ابن سعد "ورش قبره" بماء عليه بعد تمام دفنه.
روى ابن سعد عن رجل من آل علي أنه صلى الله عليه وسلم حين دفن إبراهيم قال: "هل من أحد يأتي بقربة" فأتى رجل من الأنصار بقربة فقال: "رشها على قبر إبراهيم" "وعلم بعلاة" ليعرف بها "قال الزبير" بن بكار، "وهو أول قبر رش" وما روي أنه لقنه لما دفن فقال قل الله ربي، ورسول الله أبي والإسلام ديني، فبكت الصحابة وقالوا من يلقننا وبكي عمر حتى ارتفع صوته، فقال عليه السلام: ما لك، فقال: هذا ابنك وما بلغ ولا جرى عليه قلم ولقنه مثلك فما حال عمر، فبكى صلى الله عليه وسلم وبكت الصحابة معه، فنزل جبريل فسأله عن سبب بكائهم فأخبره فصعد جبريل ونزل بقوله تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا} والقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة يريد وقت الموت وعند السؤال فطابت الأنفس وسكنت القلوب فمنكر جدا. بل لا أصل له قاله الشامي، "و" عن المغيرة بن شعبة قال: "انكسفت" بوزن انفعلت، وهذا يرد على القزاز حيث أنكره، وكذا الجوهري حيث نسبه للعامة "الشمس يوم موته" أي إبراهيم كما هو الرواية فأبدلها المصنف بالضمير اختصارا "فقال الناس: إنما كسفت" بفتح الكاف والسين والفاء وحكى ضم الكاف.
قال الحافظ: وهو نادر "لموت إبراهيم" على ما كانوا يزعمون أنها لا تنكسف إلا لموت عظيم "فقال عليه الصلاة والسلام: "إن الشمس والقمر آيتان" علامتان "من آيات الله" الدالة على وحدانيته وعظيم قدرته أو على تخويف العباد من بأسه وسطوته، ويؤيده قوله تعالى: {وَمَا نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفًا} [الإسراء: 59] .
وزاد في رواية في الصحيح يخوف الله بهما عباده.(4/351)
لا ينكسفان لموت أحد" رواه الشيخان. قيل: والغالب أن الكسوف يكون يوم الثامن والعشرين أو التاسع والعشرين، فكسفت يوم موت إبراهيم في العاشر، فلذلك قالوا: كسفت لموته.
وقال عليه الصلاة والسلام: "إن له مرضعا في الجنة"، رواه ابن ماجه.
__________
ذكره الحافظ وقال المصنف: المراد كسوفهما لأن التخويف إنما هو به لا بذاتهما وإن كان كل شيء من خلقه آية من آياته "لا ينكسفان" بفتح التحتية وسكون النون وكسر السين "لموت أحد" إذ هما خلقان مسخران ليس لهما سلطان في غيرهما، ولا قدرة على الدفع عن أنفسهما، وفيه ما كان عليه من الشفقة على أمته وإبطال ذلك الاعتقاد، وبقية ذا الحديث ولا لحياته، فإذا رأيتم فصلوا وادعوا الله.
"رواه" بتمامه "الشيخان" قال الحافظ: واستشكلت زيادة ولا لحياته؛ لأن السياق إنما ورد في حق من ظن أن ذلك لموت إبراهيم، ولم يذكروا الحياة، والجواب أن فائدة ذكرها دفع توهم من يقول لا يلزم من نفي كونه سببا للفقد أن لا يكون سببا للإيجاد، فعمم الشارع لدفع هذا التوهم انتهى.
قال المصنف: أو تتميم للتقسيم، "قيل" في الاعتذار عمن قال ذلك، "والغالب أن الكسوف يكون يوم الثامن والعشرين أو التاسع والعشرين، فكسفت يوم موت إبراهيم في العاشر" من الشهر عند الأكثر، وقيل في رابعه، وقيل في رابع عشرة وفي أنه ربيع أو رمضان أو ذو الحجة أقوال، "فلذلك قالوا كسفت لموته" فبين صلى الله عليه وسلم بطلان ذلك الاعتقاد ولأحمد والنسائي وابن ماجه وصححه ابنا خزيمة وحبان أنه عليه الصلاة والسلام قال: "إن الناس يزعمون أن الشمس والقمر لا ينكسفان إلا لموت عظيم من العظماء وليس كذلك" "وقال عليه الصلاة والسلام" لما توفي إبراهيم "إن له مرضعا" قال الحافظ بضم الميم في رواية الجمهور، زاد الإسماعيلي ترضعه "في الجنة".
قال ابن التين يقال امرأة مرضع بلا هاء مثل حائض، وقد أرضعت فهي مرضعة إذا بني من الفعل، قال تعالى: {تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ} [الحج: 2] ، قال تبعا للخطابي، وروى مرضعا بفتح الميم، أي إرضاعا انتهى.
والمراد الجنس، فلا ينافي رواية مسلم وإن له ظئرين يكملان رضاعه في الجنة، وأكده بأن تنزيلا للمخاطب منزلة المنكر والشاك لمخالفة العادة وقدم الخبر إشارة إلى اختصاص هذا الحكم به لا كان، ولا يكون لغيره رضاع في الجنة بجسمه وروحه معا باثنين على صورة الآدميات من الحور العين أو غيرهن والتعدد لكمال العناية به، والأقوم أن رضاعه في النشأة الجنانية بأن أعقب موته دخوله الجنة، وزعم أنه في البرزخ وأنه أعطى هيئة يقتدر بها على الارتفاع فيه فاسد لقوله في الجنة والذي أوقعه فيه قياس الغائب على الشاهد حتى إن بعضهم جعل هذا من المتشابه الذي اختص الله بعلمه.
"رواه ابن ماجه" من حديث ابن عباس وهو بعض الحديث الآتي قريبا نعم رواه البخاري عن(4/352)
وقد روي من حديث أنس بن مالك أنه قال: لو بقي يعني إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم لكان نبيا ولكن لم يبق لأن نبيكم آخر الأنبياء. أخرجه أبو عمر.
قال الطبري: وهذا إنما يقوله أنس عن توقيف يخص إبراهيم، وإلا فلا يلزم أن يكون ابن النبي نبيا، بدليل ابن نوح عليه الصلاة والسلام.
وقال النووي في تهذيب الأسماء واللغات: وأما ما روي عن بعض المتقدمين: لو عاش إبراهيم لكان نبيا فباطل وجسارة على الكلام على المغيبات، ومجازفة وهجوم على عظيم، انتهى.
قال شيخنا في "المقاصد الحسنة": ونحوه قول ابن عبد البر في تمهيده: لا أدري ما هذا، فقد ولد نوح غير نبي، ولو لم يلد النبي إلا نبيا لكان كل أحد نبيا؛ لأنهم من ولد نوح، انتهى.
قال الحافظ ابن حجر: ولا يلزم من الحديث المذكور ما.
__________
البراء بهذا اللفظ مختصرا، فاللائق عزوه له لقاعدة المحدثين أنه إذا كان في أحد الصحيحين لا يعزى لغيرهما إلا لزيادة، كما قاله مغلطاي، ولأنه سيذكر رواة ابن ماجه بتمامها قريبا جدا، فكان يحصل تقويته بعزوه هذه القطعة منه للبخاري، "وقد روي من حديث أنس بن مالك" موقوفا عليه "أنه قال لو بقي يعني إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم لكان نبيا، ولكن لم يبق لأن نبيكم آخر الأنبياء".
"أخرجه أبو عمر" بن عبد البر. "قال الطبري" الحافظ محب الدين: "وهذا إنما يقوله أنس عن توقيف" نص من الشارع "يخص إبراهيم وإلا فلا يلزم أن يكون ابن النبي نبيا بدليل ابن نوح عليه الصلاة والسلام" وكذا أولاد آدم فإنه لم ينبأ منهم غير شيث، "وقال النووي في تهذيب الأسماء واللغات" الواقعة في الشرح الكبير للرافعي على الوجيز.
"وأما ما روي عن بعض المتقدمين" أبهمه أدبا لحكمه عليه بالبطلان "لو عاش إبراهيم لكان نبيا، فباطل وجسارة على الكلام على المغيبات، ومجازفة وهجوم على عظيم انتهى".
وإن هذا لهو المجازفة في الكلام، فالبطلان إنما يأتي ن جهة السند الذي هو المرقاة، لا من هذه العلل العقلية.
"قال شيخنا في المقاصد الحسنة ونحوه قول ابن عبد البر في تمهيده" شرح الكبير على الموطأ "لا أدري ما هذا فقد ولد نوح غير نبي ولو لم يلد النبي إلا نبيا لكان كل أحد نبيا لأنهم من ولد نوح" كما قال تعالى: {وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ} [الصافات: 77] "انتهى".
"قال الحافظ ابن حجر، ولا يلزم من الحديث المذكور" لو عاش إبراهيم لكان نبيا "ما(4/353)
ذكره لما لا يخفى، وكأنه سلف النووي، وقال أيضا عقب كلام النووي: إنه عجيب مع وروده عن ثلاثة من الصحابة، قال: وكأنه لم يظهر له وجه تأويله، فقال في إنكاره ما قال.
وجوابه: أن القضية الشرطية لا تستلزم الوقوع، ولا يظن بالصحابي الهجوم على مثل هذا بالظن.
قال شيخنا: والطرق الثلاثة.
أحدها: ما أخرجه ابن ماجه وغيره من حديث ابن عباس: لما مات إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم، صلى عليه وقال: "إن له مرضعا في الجنة، لو عاش لكان صديقا نبيا، لو عاش لأعتقت أخواله من القبط، وما
__________
ذكره" ابن عبد البر" لما لا يخفى من أن الشرطية لا تستلزم الوقوع، "وكأنه سلف النووي" مستنده فيما قال، "وقال الحافظ أيضا" في الإصابة "عقب كلام النووي إنه عجيب مع وروده عن ثلاثة من الصحابة" ابن عباس مرفوعا وأنس وأبن أبي أوفى موقوفا لفظا، وحكمه الرفع؛ لأنه لا يقال رأيا "قال وكأنه لم يظهر له وجه تأويله، فقال في إنكاره ما قال" وأطنب في المقال، "وجوابه أن القضية الشرطية" كالحديث المذكور "لا تستلزم الوقوع" ففي التنزيل {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} ، وإنما الله إله واحد، "ولا يظن بالصحابي الهجوم على مثل هذا بالظن"؛ لأنه إساءة ظن بمن عدله الله في كتابه ورسوله في أحاديثه.
"قال شيخنا" السخاوي في المقاصد تبعا لشيخه في الإصابة فإنه ذكر فيها الأحاديث الثلاثة قبل رده على ابن عبد البر والنووي.
"والطرق الثلاثة أحدها ما أخرجه ابن ماجه وغيره" كالبيهقي "من حديث ابن عباس" قال: "لما مات إبراهيم ابن النبي صى الله عليه وسلم صلى عليه، وقال: "إن له مرضعا في الجنة" اثنين على صفة الآدميات، فيرضعهما بجسده وروحه معا، بخلاف سائر أطفال المؤمنين، فيرضعون من شجرة طوبى، وحاضنهم إبراهيم، كما أخرجه ابن أبي الدنيا وابن أبي حاتم من مرسل خالد بن معدان، وعبيد بن عمير أحد كبار المتابعين، ويؤيده حديث ابن عمر رفعه "كل مولود في الإسلام فهو في الجنة شبعان ريان يقول يا رب أورد علي أبوي"، ومعلوم أن رضاعهم إنما هو بأرواحهم لا بأجسادهم. قال ابن القيم وغيره: وفيه أنه سبحانه يكمل لأهل السعادة بعد موتهم النقص الكائن في الدنيا حتى إن طالب العلم أو القارئ إذا مات كمل له حصوله بعد موته انتهى.
"ولو عاش لكان صديقا نبيا" فهذا نص من النبي صلى الله عليه وسلم يدفع إنكار من أنكره وإن كان في سنده مقال، فقد انجبر بالطريقين الآخرين "لو عاش لاعتقت أخواله من القبط" إكراما له "وما(4/354)
استرق قبطي". وفي سنده أبو شيبة إبراهيم بن عثمان الواسطي، وهو ضعيف ومن طريقه أخرجه ابن منده في المعرفة وقال: إنه غريب.
ثانيهما: ما رواه إسماعيل السدي عن أنس قال: كان إبراهيم قد ملأ المهد، ولو عاش لكان نبيا، الحديث.
ثالثها: ما عند البخاري من طريق محمد بن بشر عن إسماعيل بن أبي خالد قال: قلت لعبد الله بن أبي أوفي: "رأيت إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: مات صغيرا، ولو قضي بعد محمد نبي عاش ابنه إبراهيم، ولكن لا نبي بعده".
__________
استرق قبطي"، وفي رواية لوضعت الجزية عن كل قبطي ومارق له خال.
قال البرهان: الظاهر أن معناه لو عاش فيراه أخواله لأسلموا فرحا به وتكرمة له، فوضعت الجزية عنهم؛ لأنها لا توضع على مسلم، فإذا أسلموا وهم أحرار لم يسترقوا لأن الحر المسلم لا يجري عليه الرق، كذا قال وهو صنو ما قالاه في: لكان نبيا، فلا حاجة إلى هذا التكلف لأنه مدخول القضية الشرطية على أن من الخصائص أنه يخص عليه السلام من شاء بما شاء.
"وفي سنده أبو شيبة إبراهيم بن عثمان" العبسي بالموحدة الكوفي "الواسطي" قاضيها اشتهر بكنيته، "وهو ضعيف" مات سنة تسع وستين ومائة، "ومن طريقه أخرجه ابن منده في المعرفة" أي في كتاب معرفة الصحابة، "وقال إنه غريب" لكن له شواهد كما علمت، ومنها ما عند ابن عساكر عن جابر رفعه "لو عاش إبراهيم لكان صديقا نبيا".
"ثانيها ما رواه إسماعيل" بن عبد الرحمن "السدي" بضم السين وشد الدال المهملتين أبو محمد الكوفي صدوق يهم، روى له مسلم والأربعة "عن أنس قال: كان إبراهيم قد ملأ المهد، ولو عاش لكان نبيا الحديث" بقيته لكن لم يكن ليبقى، فإن نبيكم آخر الأنبياء.
"ثالثها ما عند البخاري من طريق" شيخه "محمد بن بشر" العبدي أبي عبد الله الكوفي، الثقة الحافظ المتوفى سنة ثلاث ومائتين، "عن إسماعيل بن أبي خالد" الأحمسي مولاهم البجلي ثقة ثبت من رجال الجميع، توفي سنة ست وأربعين ومائة، "قال: قلت لعبد الله بن أبي أوفى" بفتح الهمزة والفاء بينهما واو ساكنة، كما ضبطه الكرماني في مواضع منها في شرح هذا الحديث واسمه علقمة بن خالد بن الحارث الأسلمي الصحابي، ابن الصحابي آخر من مات بالكوفة من الصحابة سنة سبع وثمانين، "رأيت" لحذف أداة الاستفهام، وفي رواية ابن منده من طريق إبراهيم بن حميد عن إسماعيل قلت لابن أبي أوفى: هل رأيت "إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال" زاد ابن منده نعم كان أشبه الناس به "مات صغيرا، ولو قضي أن يكون بعد محمد صلى الله عليه وسلم نبي. عاش ابنه إبراهيم ولكنه لا نبي بعده" فلم(4/355)
وأخرجه أحمد عن وكيع عن إسماعيل سمعت ابن أبي أوفى يقول: لو كان بعد النبي صلى الله عليه وسلم نبي ما مات ابنه إبراهيم، انتهى.
__________
يقض ذلك، "وأخرجه أحمد عن شيخه "وكيع" بن الجراح الكوفي، الثقة، الحافظ، العابد.
قال أحمد ما رأيت أوعى للعلم منه، ولا أحفظ، ولا رأيت معه كتابا قط، ولا رقعة، مات سنة ست وتسعين ومائة، "عن إسماعيل" المذكور قال: "سمعت ابن أبي أوفى" عبد الله بن علقمة "يقول لو كان بعد النبي صلى الله عليه وسلم نبي ما مات ابنه إبراهيم انتهى" فهذا حديث صحيح تعددت طرقه، فكيف ينكر مع أن وجهه ظاهر، والله تعالى أعلم بالصواب.(4/356)
الفصل الثالث: في ذكر أزواجه الطاهرات وسراريه المطهرا
مدخل
...
الفصل الثالث: في ذكر أزواجه الطاهرات وسراريه المطهرات
قال الله تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُم} [الأحزاب: 6] أي أزواجه عليه الصلاة والسلام أمهات المؤمنين، سواء من مات عنها أو ماتت عنه وهي تحته
__________
الفصل الثالث: في ذكر أزواجه
أي أسمائهن وبعض ما تعلق بهن من فضل ونسب وغيرهما "الطاهرات" من الإثم كما قال تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب: 33] . والمراد بهن ما يشمل من خطبها أو عرضت عليه ولم ينكحها لأنه سيذكرهن في ذا الفضل، فاطلق عليهن في الترجمة أزواجه حكما أو أراد الحقيقة، وذكر غيرهن تبع، "وسراريه المطهرات" عن الابتذال بالبيع والشراء بتسريه بهن وصونه لهن، حتى يمتزن عن كثير من الحرائر وغاير لمسهن بالسبي والرق بخلاف الحرائر، فطاهرات أصالة لعراقة أنسابهن والصيانة في أهاليهن، ومنهن خديجة وكانت تدعى في الجاهلية بالطاهرة، وإن حزن به غاية الشرف والطهارة، ولا يرد أن صفية مسها السبي؛ لأنه لما أعتقها وتزوجها نزلت منزلة الحرائر الأصليات، فكأنها لم ترق لا سيما وهي من ذرية هارون، وهو شرف لها، ولما أراد بالذكر الأعم عن معناه اللغوي، وهو ذكر الاسم حسن منه تعقيب الترجمة بذكر آية في فضائلهن، فقال: "قال الله تعالى {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِم} فيما دعاهم إليه ودعتهم أنفسهم إلى خلافه {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} استدل به من قال بتحريم نكاح الكافرة عليه صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لو تزوجها كانت أما للمؤمنين، وقرئ وهو أب لهم، واستدل به من جوز أن يقال له أبو المؤمنين، "أي أزواجه عليه الصلاة والسلام أمهات المؤمنين سواء من مات عليها أو ماتت عنه، وهي تحته" إشارة لمحل الاتفاق إذ(4/356)
وذلك في تحريم نكاحهن، ووجوب احترامهن، لا في نظر وخلوة.
ولا يقال بناتهن أخوات المؤمنين، ولا آباؤهن وأمهاتهن أجداد وجدات، ولا إخوتهن ولا أخواتهن أخوال وخالات.
قال البغوي: كن أمهات المؤمنين دون النساء، روي ذلك عن عائشة رضي الله عنها ولفظها -كما في البيضاوي: لسنا أمهات النساء وهو جار على الصحيح عند أصحابنا وغيرهم من أهل الأصول: إن النساء لا يدخلن في خطاب الرجال.
__________
من فارقها أو استعاذت منه لا تحرم إن لم يدخل، فإن دخل فقولان ذكرهما المصنف في الخصائص، وفي الروضة أن الأصح الحرمة، وذلك في تحريم نكاحهن على التأييد، كما قال تعالى: {وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا} [الأحزاب: 53] ، "ووجوب احترامهن" فهن كالأمهات في ذلك "لا في نظر وخلوة" بهن، فحرام كالأجانب قال تعالى: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الأحزاب: 53] ، ولا غيرهما كعدم نقض الوضوء بمسهن وتوارث هذا ونحو أخبار بفضلهن لأجله صلى الله عليه وسلم، فلا يقال لا فائدة في ذكره بعد موتهن، "ولا يقال بناتهن أخوات المؤمنين" إذ لا يحرم نكاحهن على أحد، "ولا آباؤهن وأمهاتهن أجداد وجدات، ولا إخواتهن وأخواتهن أخوال وخالات" للمؤمنين، فقد تزوج الزبير أسماء، وهي أخت عائشة والعباس أم الفضل أخت ميمونة، ولم يقل هما خالتا المؤمنين.
"قال البغوي" محمد بن الحسين بن مسعود، الحافظ، الفقيه، الإمام محيي السنة، صاحب التصانيف، المبارك له فيها لقصده الصالح، فإنه كان من العلماء الربانيين ذا عبادة ونسك وقناعة باليسير مات في شوال سنة ستة عشر وخمسمائة عن ثمانين سنة "كن أمهات المؤمنين" الذكور "دون النساء" الممنات. "روي ذلك عن عائشة رضي الله عنها" ولفظ البغوي في معالم التنزيل، واختلفوا في أنهن كن أمهات المؤمنين فقيل كن أمهات المؤمنين والمؤمنات جميعا، وقيل كن أمهات المؤمنين دون النساء.
روي عن الشعبي عن مسروق أن أمرأة قالت لعائشة: يا أمه، فقالت: لست لك بأم إنما أنا أم رجالكم انتهى.
فحكى القولين على حد سواء خلاف إيهام المصنف أنه جزم بأحدهما "ولفظها كما في البيضاوي" ورواه البيهقي في سننه عنها "لسنا" معاشر الأزواج الطاهرات "أمهات النساء"، بل أمهات الرجال أي مشبهات بأمهات النسب في حرمة النكاح والتعظيم وذلك لا يتأتى بينهن وبين النساء، وإن وجب عليهن احترامهن، لكن مجموع الأمرين لم يثبت للنساء "وهو جار على الصحيح عند أصحابنا وغيرهم من أهل الأصول إن النساء لا يدخلن في خطاب الرجال" إلا(4/357)
قال: وكان صلى الله عليه وسلم أبا الرجال والنساء. ويجوز أن يقال أبو المؤمنين في الحرمة.
وفضلت زوجاته عليه الصلاة والسلام على النساء، وثوابهن وعقابهن مضاعفان، ولا يحل سؤالهن إلا من وراء حجاب وأفضلهن خديجة وعائشة، وفي
__________
لقرينة، كالخطاب وغيره من الأحكام التي قامت القرائن على أنها ليست خاصة بالرجال، وفي فتح الباري وإنما قيل للواحدة منهن أم المؤمنين للتغليب، ولا مانع من أن يقال لها أم المؤمنات على الراجح انتهى.
قال المصنف: وحاصله أن النساء يدخلن في جميع المذكر السالم تغليبا، لكن صح عن عائشة أنها قالت أنا أم رجالكم لا أم نسائكم.
قال ابن كثير: وهذا أصح الوجهين انتهى، فعلم من هذا إنهما قولان مرجحان.
"قال" البغوي: "وكان صلى الله عليه وسلم أبا الرجال والنساء" أي كالأب في الشفقة عليهم واحترامهم له، فلا ينافي قوله تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ} [الأحزاب: 40] ، كما بين ذلك بقوله: "ويجوز أن يقال أبو المؤمنين في الحرمة" وفي حرف أبي، وهو أب لهم، وخص المؤمنين بالذكر لئلا يرد أنه كالأب للنساء، لجواز نكاحه منهن، ولو قال أبا للرجال والنساء في الاحترام والتعظيم كان أوضح، "وفضلت زوجاته عليه الصلاة والسلام على" سائر "النساء".
قال تعالى: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ} الآية، وهذه عبارة الروضة وعبارة القاضي حسين نساؤه أفضل نساء العالمين، وعبارة المتولي خير نساء هذه الأمة وعبارة الروضة تحتملهما، ويلزم من كونهن خير نساء هذه الأمة أن يكن خير نساء الأمم؛ لأن هذه الأمة خير الأمم، والتفضيل على الأفضل تفضيل على من هو دونه إلا أنه لا يلزم من تفضيل الجملة على الجملة تفضيل كل فرد على كل فرد، وقد قيل بنبوة مريم وآسية وأم موسى، فإن ثبت خصت من العموم.
ذكره التقي السبكي في الحلبيات زاد غيره وحواء وهاجر، "وثوابهن وعقابهن مضاعفان" كما أنزل الله في القرآن، أي مثلي ثواب غيرهن من النساء ومثلي عذابه، كما جزم به البغوي وغيره، وهو ظاهر اللفظ وعمومه شامل لجميع الطاعات والمعاصي، فثوابهن على نحو الصلاة مضاعف بالنسبة لغيرهن، وعقابهن على المعاصي، وإن قلت كذلك خلافا لا يوهمه البيضاوي، "ولا يحل سؤالهن إلا من وراء حجاب،" أي ستر.
قال عياض فلا يجوز إظهار شخوصهن وإن كن مستترات، إلا ما دعت إليه ضرورة من براز، ورده الحافظ بأنهن كن بعده صلى الله عليه وسلم يحججن ويطفن، وسمع الصحابة ومن بعدهم الحديث: منهن مستترات الأبدان لا الأشخاص انتهى.
ويمكن أن ذلك من جملة الضرورة، وأن قوله من براز أي مثلا فلا يرد عليه ذلك،(4/358)
أفضلهما خلاف يأتي تحقيقه إن شاء الله تعالى قريبا.
واختلف في عدة أزواجه عليه الصلاة والسلام وترتيبهن، وعدة من مات منهن قبله، ومن مات عنهن ومن دخل بها ومن لم يدخل بها، ومن خطبها ولم ينكحها، ومن عرضت نفسها عليه.
والمتفق عليه: أنهن إحدى عشرة امرأة، ستة من قريش:
خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزي بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي.
وعائشة بنت أبي بكر بن أبي قحافة بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تميم بن مرة بن كعب بن لؤي.
وحفصة بنت عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزي بن عبد الله بن قرط.
__________
"وأفضلهن خديجة وعائشة، وفي أفضلهما خلاف يأتي تحقيقه إن شاء الله تعالى قريبا" والصواب كما قال السيوطي القطع بتفضيل فاطمة عليها، وصححه السبكي وقال: وأما بقية الأزواج فلا يبلغن هذه الرتبة وإن كن خير نساء الأمة بعد هؤلاء الثلاث، وهن متقاربان في الفضل لا يعلم حقيقة ذلك إلا الله، لكنا نعلم لحفصة بنت عمر من الفضائل كثيرا فما أشبه أن تكون هي بعد عائشة.
"واختلف في عدة أزواجه عليه الصلاة والسلام وترتيبهن" أي ترتيب تزويجهن "وعدة من مات منهن قبله، ومن مات عليهن، ومن دخل بها، ومن لم يدخل بها، ومن خطبها ولم ينكحها، ومن عرضت نفسها عليه" هذه ترجمة سيفصلها بعد ذلك "والمتفق عليه أنهن إحدى عشرة" قال الشامي لم يختلف فيهن اثنان "ستة من قريش خديجة بنت خويلد" بضم الخاء المعجمة، وفتح الواو، وسكون التحتية، وكسر اللام، وبالدال المهملة "ابن أسد بن عبد العزي بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي"، فتجتمع معه صلى الله عليه وسلم في جده قصي.
"وعائشة بنت أبي بكر بن أبي قحافة" عبد الله بن عثمان "بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تميم"، بفوقية مفتوحة، فتحتية "ابن مرة بن كعب بن لؤي"، فاجتمعت معه في جده مرة.
"وحفصة بنت عمر بن الخطاب بن نفيل" بضم النون "ابن عبد العزيز بن رباح" بكسر الراء، وفتح التحتية، فألف، فحاء مهملة، قال العسكري: ولا يعرف في العرب في الجاهلية رباح بموحدة "ابن عبد الله بن قرط" بضم القاف وفتح الراء، وبالطاء المهملتين، كما في الجامع وغيره، ويقع في بعض النسخ تأخير رباح عنه وهو غلط، فالذي عليه أهل النسب وهو الذي في الفتح، وشرح(4/359)
بن رزاح بن عدي بن كعب بن لؤي.
وأم حبيبة بنت أبي سفيان بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي.
وأم سلمة بنت أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم بن يقظة بن مرة بن كعب بن لؤي.
وسودة بنت زمعة بن قيس بن عبد شمس بن عبدودبن نصر بن مالك بن حسل بن عامر بن لؤي.
وأربع عربيات:
زينب بنت جحش
__________
المصنف والشامي وغيرهم، أن رباحا والد عبد العزي وأن أباه عبد الله بن قرط "بن رزاح" بفتح الراء والزاي، فألف، فمهملة "ابن عدي" بالدال المهملة "ابن كعب بن لؤي" فاجتمعت معه في كعب وعدد ما بينهما من الآباء متفاوت، فبينة صلى الله عليه وسلم وبين كعب سبعة آباء، وبين حفصة وبينه تسعة.
"وأم حبيبة بنت أبي سفيان" صخر "بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي" فاجتمعت معه في عبد مناف.
"وأم سلمة بنت أبي أمية" واسمه حذيفة أو زهير أو سهل ويعرف بزاد الراكب، كان إذا سافر لم يحمل أحد من رفقته، زاد بل يكفيهم، وهو أحد أجود العرب المشهورين بالكرم، "ابن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم" بفتح الميم، وسكون المعجمة، وبالزاي "ابن يقظة" بفتح التحتية والقاف والظاء المعجمة، "ابن مرة بن كعب بن لؤي" فاجتمعت معه في مرة.
"وسودة بنت زمعة،" بفتح الزاي، وسكون الميم، وتفتح على ما في القاموس، وبه يرد قول المصباح لم أظفر بسكونها في كلام لغوي، "ابن قيس" بفتح القاف، وسكون التحتية، "ابن عبد شمس بن عبدود" بفتح الواو وشد الدال، كذا اقتصر عليه الشامي لأنه الأكثر كما في القاموس، وإلا ففيه بضم الواو أيضا، وبهما قرئ "ابن نصر بن مالك بن حسل" بكسر الحاء، وسكون السين المهملتين، وباللام "ابن عامر بن لؤي" بن غالب، فاجتمعت معه في لؤي "وأربع عربيات" من غير قريش من خلفاء قريش، كما في الشامي، فأراد بعربيات المغايرات للقرشيات، وإلا فمعلوم أن قريشا صميم العرب.
"زينب بنت جحش" قال في الروض: كان اسمه بره بضم الباء، أي وشد الراء، فقالت زينب يا رسول الله لو غيرت اسم أبي فإن البرة صغيرة، فقال صلى الله عليه وسلم: "لو كان أبوه مسلما لسميته(4/360)
بن رباب بن يعمر بن صبرة بن مرة بن كبير بن غنم بن دودان بن أسد بن خزيمة.
وميمونة بنت الحارث الهلالية.
وزينب بنت خزيمة الهلالية أم المساكين.
وجويرية بنت الحارث الخزاعية المصطلقية.
وواحدة غير عربية من بني إسرائيل وهى صفية بنت حيي من بني النضير.
فمات عنده صلى الله عليه وسلم منهن اثنتان: خديجة
__________
باسم من أسمائنا أهل البيت، ولكني قد سميته جحشا، والجحش أكبر من البرة" رواه الدارقطني في كتاب المؤلف والمختلف انتهى.
"ابن رياب" بكسر الراء وخفة التحتية وتبدل همزة فألف فموحدة.
"ابن يعمر" بفتح الصاد المهملة، وكسر الموحدة.
"ابن مرة بن كبير" ضد صغير "ابن غنم" بفتح الغين المعجمة وسكون النون.
"ابن دودان" بضم الدال المهملة، وسكون الواو، فدال أخرى، فألف فنون.
"ابن أسد بن خزيمة" بن مدركة بن إلياس بن مضر، فاجتمعت معه في جده الأعلى خزيمة، فهي عربية وتلتقي معه فيما فوق قريش.
"وميمونة بنت الحارث" بن حزن بن بجير بموحدة وجيم وتحتية مصغر ابن هزم بضم الهاء، وفتح الزاي ابن رؤبة، بضم الراء بعدها همزة مفتوحة تبدل واوا ابن عبد الله بن هلال بن عامر "الهلالية" نسبة إلى جدها الأعلى هلال المذكور، فهي قريبة ميمونة وعامر هو ابن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة بفتح المعجمة والمهملة والفاء ابن قيس عيلان بفتح المهملة وسكون التحتية "أم المساكين".
"وجويرية بنت الحارث" بن أبي ضرار بن حبيب بن أبي عائذ بهمزة فذال معجمة بن مالك بن جذيمة بفتح الجيم وكسر المعجمة، وهو المصطلق بن سعد بن كعب بن عمرو، وهو خزاعة "الخزاعية نسبة إلى جدها هذا "المصطلقية" بضم الميم، وسكون الصاد، وفتح الطاء المهملتين، وكسر اللام، وبالقاف إلى جدها المذكور.
"وواحدة غير عربية من بني إسرائيل" يعقوب، فهي من بنات عمه إسحاق بن إبراهيم صلى الله عليه وسلم، "وهي صفة بنت حيي" بن أخطب "من بني النضير، فمات عنده صلى الله عليه وسلم منهن اثنتان خديجة(4/361)
وزينب أم المساكين، ومات صلى الله عليه وسلم عن تسع، ذكر أسماؤهن الحافظ أبو الحسن بن الفضل المقدسي نظما فقال:
توفي رسول الله عن تسع نسوة ... إليهن تعزى المكرمات وتنسب
فعائشة ميمونة وصفية ... وحفصة تتلوهن هند وزينب
جويرية مع رملة ثم سودة ... ثلاث وست ذكرهن مهذب
ولا خلاف في أن أول امرأة تزوج بها منهن خديجة بنت خويلد، وأنه صلى الله عليه وسلم لم يتزوج عليها حتى ماتت.
وهذا حين الشروع في ذكرهن على الترتيب:
__________
وزينب أم المساكين" احترازا عن زينب بنت جحش، "ومات صلى الله عليه وسلم عن تسع ذكر أسماءهن الحافظ أبو الحسن" علي "بن الفضل" بن علي العلامة شرف الدين بن العاصي أبا المكارم "المقدسي" ثم السكندري المالكي ولد سنة أربع وأربعين وخمسمائة، وسمع السلفي فأكثر عنه وانقطع إليه، وتخرج به وكان من أئمة المذهب العارفين به، وحفاظ الحديث مع ورع ودين وأخلاق رضية ومشاركة في الفضائل.
أخذ عنه المنذري وخلائق، وله تصانيف مفيدة، مات بالقاهرة، في مستهل شعبان سنة إحدى عشرة وستمائة "نظما، فقال:
"توفي رسول الله عن تسع نسوة ... إليهن تعزى المكرمات وتنسب"
"عطف تفسير لتعزى":
"فعائشة ميمونة وصفية ... وحفصة تتلوهن هند وزينب"
هند هي أم سلمة، وهو أحد قولين والثاني رملة كما يأتي:
"جويرية مع رملة ثم سودة ... ثلاث وست ذكرهن مهذب"
رملة هي أم حبيبة على أصح قولين والآخر هند كما يأتي، "ولا خلاف في أن أول امرأة تزوج بها منهن خديجة بنت خويلد وأنه" كما رواه مسلم من طريق الزهري، عن عروة عن عائشة قالت: أنه "صلى الله عليه وسلم لم يتزوج عليها" واستمر ذلك "حتى ماتت" بمكة رضي الله عنها "وهذا حين،" أي أوان "الشروع في ذكرهن على الترتيب" في تزوجه بهن لا باعتبار الفضل لأنه قدم سودة على عائشة وهي أفضل منها بلا خلاف. وجرى المصنف في ترتيبهن على ما رواه يونس عن الزهري أنه صلى الله عليه وسلم تزوج بعد خديجة سودة، ثم عائشة، ثم حفصة، ثم أم سلمة، ثم أم حبيبة، ثم زينب بنت جحش، ثم أم المساكين، ثم ميمونة، ثم جويرية، ثم صفية، وفي رواية عقيل عنه خديجة، ثم سودة، ثم عائشة، ثم أم حبيبة ثم حفصة، ثم أم سلمة، ثم ابنة جحش، ثم جويرية ثم ميمونة، ثم صفية، ثم أم المساكين، وقيل في ترتيبهن غير ذلك.
أخرج ابن أبي خيثمة عن هند بن أبي هالة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله أبى لي أن أزوج أو أتزوج إلا أهل الجنة" وأخرج عبد الملك بن محمد النيسابوري عن أبي سعيد الخدري قال: قال صلى الله عليه وسلم: "ما تزوجت شيئا من نسائي ولا زوجت شيئا من بناتي إلا بوحي جاءني به جبريل عن ربي عز وجل".(4/362)
"خديجة أم المؤمنين":
فأما أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها وأمها فاطمة بنت زائدة بن الأصم فكانت تدعى في الجاهلية "الطاهرة" وكانت تحت أبي هالة النباش بن زرارة، فولدت له هندا
__________
خديجة أم المؤمنين:
"فأما أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها" أول خلق الله تعالى أسلم بإجماع المسلمين، لم يتقدمها رجل ولا امرأة.
قاله الحافظ أبو الحسن عز الدين بن الأثير، وأقره الإمام الذهبي، وسبقهما لحكاية الإجماع الثعلبي، وابن عبد البر، فسنت أحسن السنن، فلها أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، "وأمها فاطمة بنت زائدة بن الأصم" لقب لجندب بن حجر بن بغيض بن عامر بن لؤي، وفي نسخة بنت زائدة، بنت أبن الأصم، وهي وصف ثان لفاطمة لا لزائدة لئلا يوهم أن زائدة اسم لأمها مع أنه أبو هالة وأمها هالة بنت عبد مناف بن الحارث بن منقذ بن بغيض بن عامر بن لؤي، وأم هالة قلابة بنت سعيد من بني كعب بن لؤي فكيفما دار نسبها دار في قريش، "فكانت تدعى" توصف أو تنادى "في الجاهلية الطاهرة" لتركها ما كانت تفعله نساء الجاهلية، "وكان تحت أبي هالة" واسمه فيما جزم به أبو عبيد، وقدمه مغلطاي "النباش"، بفتح النون، فموحدة ثقيلة، فألف فشين معجمة، وقيل مالك.
حكاه الزبير بن بكار والدارقطني وصدر به في الفتح، وقيل زرارة حكاه ابن منده والسهيلي، وقيل هند جزم به العسكري، وتبعه اليعمري "ابن زرارة" بن النباش بن عدي التميمي بميمين من بني تميم "فولدت له هندا" الصحابي، راوي حديث الصفة النبوية، البدري الفصيح البليغ الوصاف، وله ولد اسمه أيضا هند، فعلى قول العسكري أن اسم أبي هالة هند يكون ممن(4/363)
وهالة وهما ذكران.
ثم تزوجها عتيق ابن عابد المخزومي، فولدت له جارية اسمها هند، وبعضهم يقدم عتيقا على أبي هالة.
ثم تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولها يومئذ أربعون سنة وبعض أخرى، وكان سنه عليه الصلاة والسلام إحدى وعشرين سنة، وقيل خمسا وعشرين، وعليه الأكثر، وقيل ثلاثين.
وكانت قد عرضت نفسها عليه،
__________
اشترك مع أبيه وجده في الاسم، "وهالة" التميمي قال أبو عمر له صحبة.
وروى المستغفري عن عائشة قدم ابن لخديجة يقال له هالة والنبي صلى الله عليه وسلم فسمعه فقال: هالة هالة هالة، وروى الطبراني عن هالة بن أبي هالة أنه دخل على النبي صلى الله عليه وسلم، وهو راقد، فاستيقظ، فضم هالة إلى صدره، وقال هالة ثلاثة، "وهما ذكران" خلافا لمن وهم، فزعم هالة أنثى وإن مشى عليه الشامي هنا، ويرده قول عائشة ابن لخديجة، ومن ثم أورده في الإصابة في الرجال لا في النساء "ثم" بعد موت أبي هالة في الجاهلية "تزوجها عتيق بن عابد" بالموحدة والدال المهملة ابن عبد البر بن عمر بن مخزوم "المخزومي" القرشي، "فولدت له جارية اسمها هند" أسلمت وصحبت ولم ترو شيئا، قاله الدارقطني.
وقال الزهري: وهي أم محمد بن صيفي المخزومي، وهو ابن عمها.
قال ابن سعد: ويقال لولد محمد بنو الطاهرة لمكان خديجة، وقال بعضهم ولدت لعتيق عبد الله، وقيل عبد مناف وهندا، ثم كونه بعد أبي هالة هو قول الأكثر، وصححه ابن عبد البر، "وبعضهم يقدم عتيقا"، في تزويج خديجة "على أبي هالة" وهو قتادة وابن شهاب وابن إسحاق في رواية يونس قالوا: تزوجها وهي بكر عتيق، ثم هلك عنها، فتزوجها أبو هالة واقتصر عليه في معيون والفتح وحكى القولين في الإصابة "ثم" بعد موتهما معا عنها "تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولها يومئذ أربعون سنة" كما رواه ابن سعيد، واقتصر عليه اليعمري، وقدمه مغلطاي والبرهان وصحح، وقيل خمس وأربعون، وقيل ثلاثون وقيل ثمانية وعشرون.
حكاها مغلطاي وغيره: أما قوله "وبعض أخرى" فينظر قائله وبها قدر البعض، "وكان سنه عليه الصلاة والسلام إحدى وعشرين سنة" في قول الزهري، "وقيل خمسا وعشرين" سنة "وعليه الأكثر" من العلماء، "وقيل ثلاثين" حكاه ابن عبد البر، وقيل غير ذلك، "وكانت قد عرضت نفسها عليه" بلا واسطة، كما عند ابن إسحاق أو بواسطة نفيسة بنت منية، كما رواه(4/364)
فذكر ذلك لأعمامه، فخرج معه منهم حمزة،
__________
الواقدي عنها، وقد قدمت ذلك ولا تنافي فإنها أرسلت له نفيسة أولا، فلما حضر كلمته بنفسها، وسبب العرض ما حدثها به غلامها ميسرة حين سافر معه في تجارتها وما رأته هي أيضا فيه من الآيات، وما رواه المدائني، عن ابن عباس أن نساء مكة اجتمعن في عيد لهن، فجاء رجل، فنادى بأعلى صوته أنه سيكون في بلدكن نبي يقال له أحمد، فمن استطاعت منكن أن تكون زوجا له فلتفعل فحصبنه إلا خديجة فأعرضت عن قوله ولم تعرض عنه "فذكر ذلك لأعمامه" فيه أن الله جبله على الاستشارة من قبل النبوة، "فخرج معه منهم حمزة"، كما عند ابن إسحاق، ونقل السهيلي عن المبرد أن أبا طالب هو الذي نهض معه، وهو الذي خطب، وجمع بأنهما خرجا معا، والخاطب أبو طالب؛ لأنه أسن من حمزة.
وروى أحمد والطبراني برجال الصحيح عن ابن عباس والبزار والطبراني برجال ثقات عن جابر بن سمرة أو رجل من الصحابة والطبراني بسند ضعيف عن عمران، وهو والبزار بسند ضعيف عن عمار دخل حديث بعضهم في بعض أنه صلى الله عليه وسلم كان يرعى وهو شريك له إبلا لأخت خديجة مدة، فلما انقضت جعل شريكه يأتي يتقاضاها ما بقي لهما عليها فقالت له مرة أين محمد، قال قلت له فزعم أنه يستحيي، فقالت: ما رأيت رجلا أشد حياء منه، لا أعف، ولا ولا فوقع في نفس خديجة، فبعثت إليه، فقالت: ائت أبي فاخطبني، قال: "إن أباك رجل كثير المال وهو لا يفعل".
وفي حديث عمار مررت معه صلى الله عليه وسلم على أخت خديجة، فنادتني فانصرفت إليها ووقف عليه السلام، فقالت: أما لصاحبك في تزويج خديجة حاجة فأخبرته فقال: "بلى لعمري"، فرجعت إليها، فأخبرتها انتهى، فقالت له صلى الله عليه وسلم: كلم أبي وأنا أكفيك، وائت عند سكره، فأتاه صلى الله عليه وسلم، فكلمه، وكان أبوها يرغب أن يزوجه، فذبحت خديجة بقرة، وصنعت طعاما وشرابا، ودعت أباها ونفرا من قريش فطعموا وشربوا حتى ثملوا، فقالت: إن محمد بن عبد الله يخطبني، فزوجني إياه، ففعل فخلفته وألبسته حلة وضربت عليه قبة، وكذا كانوا يفعلون بالآباء، فلما سرى عنه سكره نظر ذلك، فقال ما شأني ما هذا، قالت: زوجتني محمد بن عبد الله، فلما أصبح قيل له أحسنت زوجت محمدا، قال أو قد فعلت؟ قالوا: نعم فدخل عليها، فقال: إن الناس يقولون إني زوجت محمدا وما فعلت، قالت: بلى، قال: أنا أزوج يتيم أبي طالب لا لعمري، قالت: ألا تستحيي تريد أن تسفه نفسك عند قريش، تخبر الناس أنك كنت سكران، فإن محمدا كذا وكذا، فلم تزل به حتى رضي، ثم بعثت إليه صلى الله عليه وسلم بوقيتين فضة أو ذهب، وقالت اشتر حلة واهدها لي وكساء، وكذا وكذا، ففعل، ولا تعارض بين هذه الأسباب لعرضها نفسها عليه، فإن(4/365)
حتى دخل على خويلد بن أسد فخطبها إليه فتزوجها صلى الله عليه وسلم وأصدقها عشرين بكرة. وزاد ابن إسحاق من طريق آخر: وحضر أبو طالب ورؤساء مضر: فخطب أبو طالب وقد قدمت خطبته في المقصد الأول عند ذكر تزويجها له صلى الله عليه وسلم. وذكر الدولابي وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم أصدق خديجة اثنتي عشرة أوقية ذهبا.
وكانت خديجة -كما قدمته- أول من آمن من الناس،
__________
من جملة أسبابة وصف أختها له، وهي تسمع بشدة الحياء والعفة وغيرهما، فأرسلت له أولا نفيسة لتعلم أله فيها رغبة، فلما علمت ذلك كلمته بنفسها، فكأنه أبطأ عليها بعض أيام، فذكرته لأختها فمر عليها مع عمار، فقالت لعمار ذلك، فوافق صلى الله عليه وسلم على ذلك، وكلم أعمامه، فذهب معه اثنان "حتى دخل عليه" أبيها "خويلد بن أسد، فخطبها إليه" أي من خويلد لنفسه صلى الله عليه وسلم، "فتزوجها صلى الله عليه وسلم" بعدما تحيلت على أبيها بما ذكر؛ لأنه كان يرغب عن أن يزوجه والله هداها ووفقها، وكون أبيها هو الذي زوجها هو ما جزم به ابن إسحاق أولا، ثم صدر به هنا وهو ظاهر أحاديث المذكورين، وقيل أخوها عمرو بن خويلد، وقيل مها عمرو بن أسد، ورجحه الواقدي وغلط من قال بخلافه؛ لأن أباها مات قبل ذلك.
قال السهيلي وهو الأصح وبالغ المؤملي، فحكى عليه الاتفاق "وأصدقها عشرين بكرة" كما قاله المحب الطبري قائلا ولا تخالف بينه وبين ما يقال أصدقها عنه أبو طالب، لجواز أنه صلى الله عليه وسلم زاد في صداقها فكان الكل صداقا.
"وزاد ابن إسحاق من طريق آخر، وحضر أبو طالب ورؤساء مضر، فخطب أبو طالب، وقد قدمت خطبته في المقصد الأول عند ذكر تزويجها له" مصدر مضاف لمفعوله، أي تزويج أبيها له "صلى الله عليه وسلم" فسقط زعم أن الصواب تزوجها، نعم هو أولى فقط ويكون مضافا لفاعله، "وذكر الدولابي وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم أصدق خديجة اثنتي عشرة أوقية ذهبا" ونشا، كما هو بقية كلام من نقل عنه، كما أسلفه في المقصد الأول، وقال: إن النش نصف أوقية، وكل أوقية أربعون درهما انتهى، وهو بفتح النون والشين المعجمة، وفي مسلم عن عائشة كان صداق رسول الله صلى الله عليه وسلم لأزواجه اثنتي عشرة أوقية ذهبا ونشا، أتدري ما النش؟ قلت لا، قالت: نصف أوقية، فذلك خمسمائة درهم، فذلك صداقه لأزواجه، وهذا لصحته أولى ما ذكره ابن إسحاق أن صداقه لأكثر أزواجه أربعمائة درهم، ولزيادته فإن من ذكر الزيادة معه زيادة علم، فلعل ما وقع لبعضهم أنه أصدق خديجة أربعمائة دينار أصله درهم، ويكون بناء على كلام ابن إسحاق.
"وكانت خديجة، كما قدمته أول من آمن من الناس" على الإطلاق، كما حكى عليه الثعلبي وابن عبد البر وابن الأثير الاتفاق، وإنما الخلاف في أول من آمن بعدها، وتقدم الجمع ثمة.(4/366)
وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة: "أن جبريل قال للنبي صلى الله عليه وسلم: يا محمد، هذه خديجة قد أتتك بإناء فيه طعام -أو إدام أو شراب- فإذا هي أتتك فاقرأ عليها السلام من ربها ومني،
__________
قال في الإصابة: وأصرح ما وقفت عليه في سبقها إلى الإسلام ما رواه أبو نعيم في الدلائل بسند ضعيف عن عائشة كان صلى الله عليه وسلم جالسا مع خديجة إذ رأى شخصا بين السماء والأرض فقالت له خديجة: ادن فدنا منها، فقالت: تراه قال: "نعم"، قالت: أدخل رأسك تحت درعي ففعل فقالت: تراه قال: "لا"، قالت: أبشر هذا ملك لو كان شيطانا لما استحي ثم رآه بأجياد فنزل إليه وبسط له بساطا، وبحث في الأرض، فنبع الماء، فعلمه جبريل كيف يتوضأ فتوضأ، وصلى ركعتين نحو الكعبة، وبشره بنبوته، وعلمه اقرأ باسم ربك ثم انصرف فلم يمر على شجر ولا حجر إلا قال: سلام عليك يا رسول الله، فجاء إلى خديجة فأخبرها، فقالت: أرني كيف أراك فأراها، فتوضأت كما توضأ ثم صلت معه، وقالت: أشهد أنك رسول الله انتهى.
"وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة أن جبريل قال للنبي صلى الله عليه وسلم" لفظ الرواية، وفي الصحيحين أتى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم، زاد الطبراني بحراء "يا محمد " لفظ البخاري في باب تزويجها وفضلها، فقال: يا رسول الله هذه خديجة قد أتتك هو لفظ مسلم.
قال الحافظ: أي توجهت إليك، وقوله ثانيا، فإذا هي أتتك، أي وصلت إليك، ولفظ البخاري قد أتت بلا كاف "بإناء فيه طعام" أو" قال "إدام" بكسر الهمزة "أو" قال "شراب" كذا رواية الصحيحين بالشك من الراوي ثلاثا وللإسماعيلي فيه إدام أو طعام وشراب بالشك مرتين.
وفي رواية الطبراني أنه كان حيسا، "فإذا هي أتتك" أي وصلت إليك، "فاقرأ" بهمزة وصل وفتح الراء "عليها السلام من ربها" إضافة تشريف لها "ومني".
قال المصنف، وهذه لعمر الله خاصة لم تكن لسواها، وسبقه إلى هذا ابن القيم في الهدى، فقال: وهذه فضيلة لا تعرف لامرأة سواها انتهى.
زاد الطبراني، فقالت: هو السلام ومنه السلام وعلى جبريل السلام، وللنسائي عن أنس قال: قال جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم: إن الله يقرئ خديجة السلام يعني فأخبرها، فقالت: إن الله هو السلام وعلى جبريل السلام وعليك السلام ورحمة الله وبركاته، زاد ابن السني وعلى من سمع السلام إلا الشيطان.
قال في فتح الباري: قال العلماء في هذه القصة دليل على وفور فقهها لأنها لم تقل وعليه السلام كما وقع لبعض الصحابة حيث كانوا يقولون في التشهد السلام على الله، فنهاهم صلى الله عليه وسلم وقال: "إن الله هو السلام، فقولوا التحيات لله"، فعرفت خديجة لصحة فهمها أن الله لا(4/367)
وبشرها ببيت في الجنة من قصب، لا صخب فيه ولا نصب" والقصب: اللؤلؤ المجوف.
__________
يرد عليه السلام، كما يرد على المخلوقين لأن السلام من أسمائه، وهو أيضا دعاء بالسلامة، وكلاهما لا يصلح أن يرد به على الله، فكأنها قالت: كيف أقول عليه السلام، والسلام اسمه، ومنه يطلب، ومنه يحصل فيستفاد منه أنه لا يليق بالله إلا الثناء عليه، فجعلت مكان رد السلام عليه الثناء عليه، ثم غايرت بين ما يليق بالله وما يليق بغيره فقالت: وعلى جبريل السلام ثم قالت: وعليك السلام، ويستفاد منه رد السلام على من أرسله وعلى من بلغه، والذي يظهر أن جبريل كان حاضرا عند جوابها فردت عليه وعلى النبي مرتين مرة بالتخصيص ومرة بالتعميم، ثم أخرجت الشيطان ممن سمع؛ لأنه لا يستحق الدعاء بذلك، وإنما بلغها جبريل بواسطة المصطفى، ولم يواجهها بالخطاب، كمريم قيل أنها نبية، وقيل لأنها لم يكن معها زوج محترم، فخاطبها.
"وبشرها ببيت في الجنة من قصب" بفتح القاف والصاد المهملة وبالموحدة "لا صخب فيه" بفتح المهملة والمعجمة بعدها موحدة الصياح والمنازعة برفع الصوت "ولا نصب" بفتح النون والمهملة فموحدة التعب فبشرها صلى الله عليه وسلم لأنه لا يتخلف عن امتثال ما أمر به.
وقد روى أحمد والطبراني وأبو يعلى برجال ثقات وابن حبان عن عبد الله بن جعفر رفعه أمرت أن أبشر خديجة ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب.
وروى الشيخان عن عائشة أنه صلى الله عليه وسلم بشر خديجة ببيت في الجنة الحديث.
وروى الطبراني برجال الصحيح عن جابر سئل صلى الله عليه وسلم عن خديجة، فقال: أبصرتها على نهر من أنهار الجنة في بيت قصب لا لغو فيه ولا نصب.
قال السهيلي: مناسبة نفي هاتين الصفتين أعنى المنازعة والتعب أنه صلى الله عليه وسلم لما دعا إلى الإيمان أجابت خديجة وعا فلم تحوجه إلى رفع صوت ولا منازعة ولا تعب في ذلك، بل أزالت عنه كل نصب، وآنسته من كل وحشة، وهونت عليه كل عسير، فناسب أن يكون منزلها الذي بشرها به ربها بالصفة المقابلة لفعلها، "والقصب اللؤلؤ المجوف" كما ورد مفسرا في كبير الطبراني، من حديث أبي هريرة، ولفظه بيت من لؤلؤة مجوفة، وأصله في مسلم وعنده في الأوسط، عن فاطمة قلت: يا رسول الله أين أمي خديجة؟ قال: "في بيت من قصب"، قلت: أمن هذا القصب؟ قال: "لا من القصب المنظوم بالدر واللؤلؤ والياقوت".
قال السهيلي: النكتة في قوله من قصب ولم يقل من لؤلؤ إن في لفظ القصب مناسبة لكونها أحرزت قصب السبق بمبادرتها إلى الإيمان دون غيرها، وكذا وقعت في هذه المناسبة في(4/368)
قال ابن إسحاق: كان صلى الله عليه وسلم لا يسمع شيئا يكرهه من رد عليه وتكذيب له فيحزنه ذلك إلا فرج الله عنه بخديجة إذا رجع إليها تثبته وتخفف عنه، وتصدقه وتهون عليه أمر الناس حتى ماتت رضي الله عنها.
وعن عبد الرحمن بن زيد قال: قال آدم عليه السلام: إني لسيد البشر يوم القيامة،
__________
جميع ألفاظ هذا الحديث انتهى.
قال الحافظ: وفي القصب مناسبة أخرى من جهة استواء أكثر أنابيبه وكذا كان لخديجة من الاستواء ما ليس لغيرها إذ كانت حريصة على رضاه بكل ممكن ولم تغضبه قط كما وقع لغيرها.
والمراد بالبيت، كما قال أبو بكر الإسكاف في فؤائد الأخبار بيت زائد على ما أعد الله لها من ثواب عملها، ولذا قال لا نصب، أي لم تتعب بسببه، وقال السهيلي: لذكر البيت معنى لطيف لأنها كانت ربة بيت في الإسلام منفردة به، فلم يكن على وجه الأرض في أول يوم بعث صلى الله عليه وسلم ببيت إسلام إلا بيتها، وهي فضيلة ما شاركها فيها أيضا غيرها، قال: وجزاء الفعل يذكر غالبا بلفظه وإن كان غيره أشرف منه، فلهذا جاء الحديث بلفظ بيت دون قصر انتهى.
قال الحافظ وفيه معنى آخر لأن مرجع أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم إليها لما ثبت في تفسير قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب: 33] .
قالت أم سلمة: لما نزلت دعا النبي صلى الله عليه وسلم فاطمة وعليا والحسن والحسين، فجللهم بكساء فقال: اللهم هؤلاء أهل بيتي الحديث أخرجه الترمذي وغيره، ويرجع أهل البيت هؤلاء إلى خديجة؛ لأن الحسنين من فاطمة وفاطمة بنتها، وعلى نشأ في بيتها وهو صغير، ثم تزوج بنتها بعدها، فظهر رجوع أهل البيت النبوي إلى خديجة دون غيرها انتهى
"قال ابن إسحاق" في إسلام خديجة فآمنت بما جاء به من الله ووازرته على أمره فكانت أول من آمن بالله ورسوله، فخفف الله بذلك عن رسوله، "فكان صلى الله عليه وسلم لا يسمع شيئا يكرهه من رد عليه وتكذيب له، فيحزنه ذلك إلا فرج الله عنه بخديجة، إذا رجع" إليها "تثبته وتخفف عنه وتصدقه وتهون عليه أمر الناس"، تسهل عليه أذاهم، كأن تقول هم وإن قالوا فيك ما لا يليق، فهم يعلمون أنك بريء منه، وإنما قالوه حسدا، واستمر ذلك "حتى ماتت رضي الله عنها،" ومر حديث الصحيح في تقويتها له لتلقي ما نزل عليه، وذكرها خصاله الحميدة وذهابها به إلى ورقة. "وعن عبد الرحمن بن زيد" بن أسلم العدوي، مولاهم المدني "قال: قال آدم عليه السلام إني لسيد البشر يوم القيامة" من حيث الأبوة أو السيادة، لا تقتضي الأفضلية، فقد قال(4/369)
إلا رجلا من ذريتي نبيا من الأنبياء، يقال له أحمد، فضل على باثنتين، زوجته عاونته فكانت له عونا، وكانت زوجتي على عونا، وأعانه الله على شيطانه فأسلم، وكفر شيطاني، خرجه الدولابي، كما ذكره الطبري.
وخرج الإمام أحمد من حديث ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم قال: "أفضل نساء أهل الجنة: خديجة بنت خويلد، وفاطمة بنة محمد، ومريم بنة عمران، وآسية امرأة فرعون".
__________
ابن عمر ما رأيت أسود من معاوية، وقد رأى العمرين "إلا رجلا من ذريتي، نبيا من الأنبياء، يقال له أحمد، فضل علي باثنتين، زوجته عاونته، فكانت له عونا" قبل البعثة وبعدها، "وكانت زوجتي علي عونا" حيث زينت له الأكل من الشجرة، "وأعانه الله على شيطانه" قرينه الموكل به، "فأسلم" آمن بالله ورسوله، "وكفر شيطاني" إبليس لعنه الله.
"خرجه الدولابي، كما ذكره الطبري" الحافظ محب الدين في السمط الثمين في أزواج الأمين هذا الحديث وإن كان مقطوعا فلبعضه شواهد، فعند البزار عن ابن عباس، رفعه "فضلت على الأنبياء بخصلتين: كان شيطاني كافرا فأعانني الله عليه، فأسلم"، قال: ونسيت الأخرى.
وروى مسلم مرفوعا "ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن"، قالوا: وإياك يا رسول الله، قال: "وإياي إلا أن الله أعانني عليه فأسلم فلا يأمرني إلا بخير".
روى بفتح الميم، ورجحه عياض والنووي، وهو المختار وبضمها، وصححه الخطابي، "وخرج الإمام أحمد" وأبو داود والنسائي، والحاكم، وصححاه "من حديث ابن عبس أنه صلى الله عليه وسلم قال: "أفضل نساء أهل الجنة" في ذكرها الإيذان بأنهن أفضل حتى من الحور العين، ولو قال النساء لتوهم أن المراد نساء الدنيا فقط "خديجة بنت خويلد" لسبقها إلى الإسلام ومواساتها وتعظيمها خير الأنام، وقال: "إني رزقت حبها" رواه مسلم، فتأمل قوله: "رزقت"، ولم يقل أحبها نجد فيه ما فيه من غاية التعظيم ونهاية التفخيم.
"وفاطمة بنة محمد" قال السهيلي: تكلم الناس في المعنى الذي سادت به فاطمة أخواتها فقيل لأنها ولدت الحسن الذي قال فيه جده: إن ابني هذا سيد، وهو خليفة، وبعلها خليفة، وأحسن من هذا قول من قال: سادت أخوتها وأمها؛ لأنهن متن في حياته صلى الله عليه وسلم فكن في صحيفته، ومات هو في حياتها، فكان في صحيفتها وميزاتها، وقد روى البزار عن عائشة أنه عليه السلام قال لفاطمة: "هي خير بناتي لأنها أصيبت في"، وهذا قول حسن انتهى.
"ومريم بنة عمران" لأن الله ذكرها في القرآن وشهد بصديقتيها، وأخبر أنه طهرها واصطفاها على نساء العالمين، وقيل بنبوتها.
"وآسية" بنت مزاحم "امرأة فرعون" المذكورة في القرآن، وهما من زوجاته صلى الله عليه وسلم في(4/370)
قال الشيخ ولي الدين العراقي: خديجة أفضل أمهات المؤمنين على الصحيح المختار، وقيل: عائشة، انتهى.
وقال شيخ الإسلام، زكريا الأنصاري في شرح بهجة الحاوي، عند ذكر أزواجه صلى الله عليه وسلم: وأفضلهن خديجة وعائشة وفي أفضلهما خلاف، صحح ابن العماد تفضيل خديجة لما ثبت.
__________
الجنة، كما عند ابن عساكر بسند ضعيف.
"قال الشيخ ولي الدين العراقي، خديجة أفضل أمهات المؤمنين على الصحيح المختار" عند العلماء بدليل هذا الحديث، والذي قبله من إقراء السلام عليها من الله تعالى، ولقوله صلى الله عليه وسلم: "خير نسائها مريم، وخير نسائها خديجة".
رواه البخاري، أي مريم خير نساء الأمة الماضية، وخديجة خير نساء هذه الأمة، كما قال الحافظ جاء ما يفسر المراد صريحا، فروى البزار والطبراني عن عمار رفعه: "لقد فضلت خديجة على نساء أمتي، كما فضلت مريم على نساء العالمين" إسناده حسن انتهى، وقال في الإصابة: يفسره ما أخرجه ابن عبد البر عن عمران أنه صلى الله عليه وسلم قال لفاطمة: "ألا ترضين أنك سيدة نساء العالمين" قالت: يا أبت فأين مريم، قال: "تلك سيدة نساء عالمها" انتهى، ولأنه صلى الله عليه وسلم اثنى على خديجة ما لم يثن على غيرها، قالت عائشة: كان صلى الله عليه وسلم لا يكاد يخرج من البيت حتى يذكر خديجة، فيحسن الثناء عليها.
رواه الدولابي وابن عبد البر وللطبراني، وكان إذا ذكر خديجة لم يسأم من ثناء عليها، واستغفار لها، "وقيل عائشة" وضعف بحيث بالغ ابن العربي فقال: لا خلاف أن خديجة أفضل من عائشة، قالت في الفتح: ورد بأن الخلاف ثابت قديما، وإن كان الراجح أفضلية خديجة بما تقدم "انتهى" كلام الوليد.
"وقال شيخ الإسلام زكريا" بن أحمد "الأنصاري" العلامة، المحدث، الفقيه، الإمام الصوفي، مجاب الدعوة، صاحب التصانيف شهرته تغني عن تعريفه، وعمر نحو مائة حتى انقرض جميع أقرانه، وألحق الأصاغر بالأكابر، وصار كل من بمصر من أتباعه أو أتباع أتباعه، وتوفي سنة نيف وعشرين وتسعمائة "في شرح بهجة الحاوي" الذي قرئ عليه سبعا وخمسين مرة حتى كان تلميذه الشمس الرملي يقول: هذا شرح أهل بلد لا شرح بل واحد "عند ذكر أزواجه صلى الله عليه وسلم وأفضلهن خديجة وعائشة، وفي أفضلهما خلاف" زاد في الروضة، ثالثها الوقف، "صحح ابن العماد والسبكي وغيرهما "تفضيل خديجة لما ثبت" عند الطبراني بسند جيد،(4/371)
أنه صلى الله عليه وسلم لقال لعائشة رضي الله عنها، حين قالت له: قد رزقك الله خيرا منها فقال: "لا والله ما رزقني الله خيرا منها، آمنت بي حين كفر بي الناس، وصدقتني حين كذبني الناس، وأعطتني مالها حين حرمني الناس".
وسئل ابن داود أيهما أفضل؟ فقال: عائشة أقرأها النبي صلى الله عليه وسلم السلام من جبريل، وخديجة أقرأها جبريل عليه السلام من ربها على لسان محمد، فهي أفضل قيل له: فمن أفضل خديجة أم فاطمة؟ فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "فاطمة بضعة مني" فلا أعدل ببضعة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدا.
ويشهد لهذا قوله صلى الله عليه وسلم
__________
والدولابي "أنه صلى الله عليه وسلم قال لعائشة رضي الله عنها حين قالت له" لما غارت من كثرة ثنائه عليها واستغفاره لها قالت: فاحتملتني الغيرة، فقلت: "قد رزقك الله خيرا منها" ولأحمد والطبراني، فقلت: قد أبدلك الله بكبيرة السن، حديثه السن، فغضب غضبا شديدا، وسقطت في جلدي، وقلت: اللهم أذهب غيظ رسولك لم أعد أذكرها بسوء ما بقيت، ولأحمد أيضا، فغضب حتى قلت: والذي بعثك بالحق لا أذكرها بعد هذا إلا بخير، "فقال: "لا والله ما رزقني الله خيرا منها، آمنت بي حين كفر بي الناس، وصدقتني حين كذبني الناس، وأعطتني مالها حين حرمني الناس".
زاد الطبري: "وآوتني إذ رفضني الناس، ورزقت مني الولد إذ حرمتوه"، ولأحمد " ورزقني الله أولادها إذ حرمني أولاد النساء"، وأصل الحديث في الصحيحين مختصرا، فخلفه صلى الله عليه وسلم على ذلك مع أنه صادق مصدوق بلا قسم، وتعديده مآثرها الحميدة أدل دليل على أنها أفضل من عائشة رضي الله عنهما.
"وسئل" الإمام أبو بكر "ابن" الإمام المجتهد الحافظ "داود" بن علي الظاهري: "أيهما أفضل" بالتذكير، كقوله تعالى: {بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوت} [لقمان: 34] وتؤنث أيضا وقرئ بأية أرض، "فقال: عائشة أقرأها النبي صلى الله عليه وسلم السلام من جبريل" من قبل نفسه، "وخديجة أقرأها جبريل السلام من ربها على لسان محمد، فهي" أي خديجة "أفضل، قيل له فمن أفضل خديجة أم فاطمة؟ فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "فاطمة بضعة" بفتح الموحدة، كما هو الرواية وحكى ضمها وكسرها أي قطعة لحم "مني" فلا أعدل ببضعة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدا".
قال السهيلي وهذا استقراء حسن، ويشهد له أن أبا لبابة حين ربط نفسه، وحلف أن لا يحله إلا رسول الله جاءت فاطمة لتحله فأبى لقسمه، فقال صلى الله عليه وسلم: "بضعة مني"، فحلته قال: أعني السهيلي: "ويشهد لهذا" أيضا قوله صلى الله عليه وسلم لفاطمة في مرض موته لما أخبرها أنه مقبوض،(4/372)
"أما ترضين أن تكوني سيدة نساء أهل الجنة إلا مريم".
واحتج من فضل عائشة رضي الله عنها بما احتجت به من أنها في الآخرة مع النبي صلى الله عليه وسلم وفاطمة رضي الله عنها مع علي.
وسئل السبكي فقال: والذي نختاره وندين الله به، أن فاطمة بنت محمد أفضل، ثم أمها خديجة ثم عائشة،
__________
فبكت فقال: "أما ترضين أن تكوني سيدة نساء أهل الجنة إلا مريم"، فضحكت، فهذا دليل على فضلها على أمها، وبهذا استدل السبكي.
قال في الفتح والذي يظهر أن الجمع بين الحديثين أولى، وأن لا نفضل إحداهما على الآخرى انتهى، يعني هذا الحديث وحديث أفضل نساء.
أهل الجنة خديجة وفاطمة، وقال في الإصابة وقد ذكر حديث خير نسائها خديجة، وقوله لفاطمة: "ألا ترضين أنك سيدة نساء العالمين"، يحمل على التفرقة بين السيادة والخيرية، أو على أن ذلك بالنسبة إلى من وجد من النساء حين قاله لفاطمة انتهى، وفيه نظر فإن المراد بالسيادة الخيرية، وهي الفضل كما صرح به في رواية أحمد وغيره وحمله على الموجودات حين الخطاب يأباه قوله: "نساء العالمين"، وهو في الصحيح، كما مر في ترجمتها؛ لأنه تخصيص للعام بلا مخصص، فقد ساوت أمها، وزادت عليها، كونها بضعة المختار، فهي أفضل منها، وقد صرح هو في الفتح في المناقب بما لفظه، قيل انعقد على الإجماع أفضلية فاطمة، وبقي الخلاف بين عائشة وخديجة انتهى، بل توسع بعض المتأخرين، فقال: فاطمة وأخوها إبراهيم أفضل من سائر الصحابة حتى من الخلفاء الأربعة، فإن أراد من حيث المبضعة، فمحتمل وإن كان الخلفاء أفضل من حيث العلوم الجمة، وكثرة المعارف ونصر الدين والأمة، "واحتج من فضل عائشة ضي الله عنها" على فاطمة، وهو أبو محمد بن حزم "بما احتجت" هي "به من أنها في الأخرة" في الجنة "مع النبي صلى الله عليه وسلم" التي هي أعلى الدرجات، "وفاطمة رضي الله عنها مع علي" ولا حجة في هذا وإلا لزم أنها وبقية أزواجه أفضل من سائر الأنبياء والمرسلين؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أعلى درجة في الجنة من الجميع، وهو خلاف المعلوم من الدين بالضرورة، ومن ثم قال في الفتح وفساده ظاهر، "و" قد "سئل السبكي" الكبير، والسائل له الإمام الأذرعي نزيل حلب ومفتيها عن جملة مسائل منها، هل قال أحد أن أحدا من نسائه صلى الله عليه وسلم غير خديجة وعائشة أفضل من فاطمة؟ "فقال" في الجواب قاله من لا يعتد بقوله، وهو من فضل نسائه على جميع الصحابة؛ لأنهن في درجته في الجنة، وهو قول ساقط مردود ضعيف لا مستند له من نظر ولا نقل، "والذي نختاره وندين الله به أن فاطمة بنت محمد أفضل، ثم أمها خديجة، ثم عائشة".(4/373)
ثم استدل لذلك بما تقدم بعضه.
وأما خبر الطبراني: "خير نساء العالمين مريم بنت عمران ثم خديجة بنت خويلد، ثم فاطمة بنت محمد، ثم آسية امرأة فرعون". فأجاب عنه ابن العماد: بأن خديجة إنما فضلت فاطمة باعتبار الأمومة، لا باعتبار السيادة.
واختار السبكي: أن مريم أفضل من خديجة لهذا الخبر، وللاختلاف في نبوتها، انتهى.
وقال أبو أمامة بن النقاش: إن سبق خديجة، وتأثيرها في أول الإسلام ومؤازرتها
__________
قال: والخلاف شهير ولكن الحق أحق أن يتبع، "ثم استدل لذلك بما تقدم بعضه" فقال والحجة في ذلك حديث الصحيح: أما ترضين، فذكره وما رواه النسائي مرفوعا "أفضل نساء أهل الجنة خديجة وفاطمة".
"وأما خبر الطبراني" عن ابن عباس رفعه: "خبر نساء العالمين مريم بنت عمران، ثم خديجة بنت خويلد، ثم فاطمة بنت محمد، ثم آسية امرأة فرعون"، فأتى بثم المرتبة، فقدم خديجة المقتضى لفضلها على ابنتها، "فأجاب عنه ابن العماد، بأن خديجة إنما فضلت فاطمة باعتبار الأمومة، لا باعتبار السيادة" فلا شاهد فيه على أنها أفضل منها، على أن ابن عبد البر قد روى هذا الحديث عن ابن عباس سيدة نساء العالمين مريم، ثم فاطمة، ثم خديجة ثم آسية.
قال ابن عبد البر: وهذا حديث حسن يرفع الإشكال، ونقله الفتح، وأقره، فقدم فاطمة، "واختار السبكي" أن مريم أفضل من خديجة لهذا الخبر وللاختلاف في نبوتها انتهى" ولم يتعرض للتفضيل بين مريم وفاطمة، واختار السيوطي تفضيل فاطمة على مريم بمقتضى الأدلة ففي مسند الحارث بسند صحيح لكنه مرسل مريم خير نساء عالمها، وفاطمة خير نساء عالمها، وأخرجه الترمذي موصولا من حديث علي بلفظ خير نسائها مريم وخير نسائها فاطمة.
قال الحافظ بن حجر والمرسل يعتضد بالمتصل، وسبقه إلى اختيار ذلك الزركشي والخيضري والمقريزي كما مر، لكن يرد عليهم هذا الحديث المرتب بثم، وقوله في حديث الصحيح لفاطمة في مرض وفاته: "أما ترضين أن تكوني سيدة نساء أهل الجنة إلا مريم"، نعم يعارضه حديث عمران أنه صلى الله عليه وسلم قال لفاطمة: "ألا ترضين أنك سيدة نساء العالمين"، قالت: يا أبت فأين مريم، قال: "تلك سيدة نساء عالمها"، أخرجه ابن عبد البر، ولم ينقدح لي وجه الجمع.
"وقاله أبو أمامة بن النقاش أن سبق خديجة وتأثيرها في أول الإسلام وموازرتها" مستعار(4/374)
ونصرها وقيامها في الدين بنفسها ومالها لم يشركها فيه أحد، لا عائشة ولا غيرها من أمهات المؤمنين. وتأثيرها عائشة رضي الله عنها في آخر الإسلام، وحمل الدين وتبليغه إلى الأمة وإدراكها من الأحاديث ما لم تشركها فيه خديجة ولا غيرها، مما تميزت به عن غيرها، انتهى.
__________
من الجبل واشتقاقه من الوزر وهو الثقل، "ونصرها" عطف تفسير، "وقيامها في الدين بنفسها ومالها، لم يشركها فيه أحد، لا عائشة، ولا غيرها من أمهات المؤمنين" فقد تكون أفضل من هذه الحيثية، "وتأثير عائشة رضي الله عنها في آخر الإسلام وحمل الدين وتبليغه إلى الأمة وإدراكها من الأحاديث" وفي نسخة من الأدلة "ما لم تشركها فيه خديجة، ولا غيرها مما تميزت به عن غيرها" فقد تكون أفضل منها بهذا الاعتبار "انتهى" كلام أبي أمامة، وكأنه أشار إلى أن جهات الفضل بينهما متفاوتة، كما قاله ابن تيمية.
قال في الفتح: وكأنه رأى التوقف، وقال ابن القيم: إن أريد بالفضل كثرة الثواب عند الله، فذلك أمر لا يطلع عليه، فإن عمل القلوب أفضل من عمل الجوارح، وإن أريد كثرة العلم، فعائشة لا محالة أو شرف الأصل، ففاطمة لا محالة، وهي فضيلة لا يشاركها فيها غير أخواتها أو شرف السيادة، فقد ثبت النص لفاطمة وحدها، قلت: أمتازت فاطمة عن أخواتها، بأنه متن في حياته صلى الله عليه وسلم، ومات هو في حياتها، وأما ما امتازت به عائشة من فضل العلم، فإن لخديجة ما يقابله، وهي أنها أول من أجاب إلى الإسلام، ودعا إليه، وأعان على ثبوته بالنفس والمال والتوجه التام، فلها مثل أجر من جاء بعدها، ولا يقدر قدر ذلك إلا الله تعالى انتهى.
وقال في الإصابة: ومن طواعيتها له قبل البعثة، أنها رأت ميله إلى زيد بن حارثة بعد أن صار في ملكها فوهبته له صلى الله عليه وسلم فكانت هي السبب فيما امتاز به زيد من السبق إلى الإسلام حتى قيل إنه أول من أسلم مطلقا انتهى.
وفي الصحيح عن عائشة كان صلى الله عليه وسلم إذ ذبح الشاة يقول: أرسلوا إلى اصدقاء خديجة، قالت عائشة: فأغضبته يوما، فقلت: خديجة، فقال إني رزقت حبها.
وروى الشيخان عن عائشة ما غرت على أحد ما غرت على خديجة، وما رأيتها، ولكن كان صلى الله عليه وسلم يكثر ذكرها، وربما ذبح الشاة، فيقطعها أعضاء، ثم يبعثها في صدائق خديجة، فربما قلت له، كأنه لم يكن في الدنيا إلا خديجة، فيقول: إنها كانت، وكانت، وكان لي منها ولد.
وروى ابن حبان عن أنس كان صلى الله عليه وسلم إذا أتى بالشيء يقول اذهبوا به إلى بيت فلانة، فإنها كانت صديقة لخديجة، ولنمسك عنان القلم رغبة عن التطويل.(4/375)
وماتت خديجة رضي الله عنها بمكة قبل الهجرة بثلاث سنين، وقيل بأربع، وقيل خمس، ودفنت بالحجون، وهي ابنة خمس وستين سنة، ولم يكن يومئذ يصلي على الجنازة، وكانت مدة مقامها مع النبي صلى الله عليه وسلم خمسا وعشرين سنة، وقيل أربعا وعشرين سنة.
__________
"وماتت خديجة رضي الله عنها بمكة قبل الهجرة بثلاث سنين" على الصحيح، كما في الفتح والإصابة، زاد عن الواقدي لعشر خلون من شهر رمضان. "وقيل" قبلها "بأربع" سنين، "وقيل خمس" حكاهما في الإصابة، وقيل بست سنين.
حكاه في الفتح، وروى ابن عساكر بسند ضعيف عن ابن عباس، أنه صلى الله عليه وسلم دخل على خديجة وهي في الموت، فقال: يا خديجة إذا لقيت ضرائرك فاقرئيهن، مني السلام، فقالت: يا رسول الله وهل تزوجت قبلي؟ قال لا ولكن الله زوجني مريم بنت عمران، وآسية امرأة فرعون، وكلثم أخت موسى، ورواه الزبير بن بكار بلفظ أنه دخل على خديجة وهي في الموت، فقال: تكرهين ما أرى منك يا خديجة، وقد يجعل الله في الكره خيرا، أشعرت أن الله أعلمني أنه سيزوجني معك في الجنة مريم وآسية وكلثم، فقالت: الله أعلمك بهذا يا رسول الله؟ قال: نعم. وروى هو والطبراني بسند فيه من لا يعرف عن عائشة، أنه صلى الله عليه وسلم أطعم خديجة من عنب الجنة.
أورده السهيلي بعد حديث الأخبار بالضرائر، فظاهره أنه أطعمها حينئذ، فكأنه لما أخبرها بهن والمقصود منها إخبارها في هذه الحالة بأنها زوجته في الجنة من جملة الزوجات الفاضلات، أكد الله إخباره، الصادق، وآتاه من عنب الجنة، فأطعمها إكراما لها وله صلى الله عليه وسلم.
"ودفنت" كما أسنده الواقدي عن حكيم بن حزام "بالحجون" قال: ونزل صلى الله عليه وسلم في حفرتها، "وهي ابنة خمس وستين سنة" كما في رواية الواقدي هذه وفي السمط أربع وستين وستة أشهر "ولم يكن يومئذ يصلي على الجنازة" لأنها لم تكن شرعت، "وكانت مدة مقامها مع النبي صلى الله عليه وسلم خمسا وعشرين سنة" على الصحيح، كما في الفتح، وهو المطابق الصحيح، وقول الأكثر أنه تزوجها، وهو ابن خمس وعشرين سنة، "وقيل أربعا وعشرين سنة" وأربعة أشهر قاله ابن عبد البر، وهو مطابق له أيضا بإلغاء الكسر في عامي الزواج والوفاة.
أما على أن سنة إحدى وعشرون، أو ثلاثون فلا يتأتى أن قالا إن موتها سنة عشر من البعثة، وفي مسلم عن عائشة إنه صلى الله عليه وسلم لم يتزوج على خديجة حتى ماتت.
قال الحافظ: ولا خلاف فيه بين أهل الأخبار، وفيه دليل على عظيم قدرها عنده، وعلى مزيد من فضلها؛ لأنها أغنته عن غيره، واختصت به بقدر ما اشتراك فيه غيرها مرتين؛ لأنه صلى الله عليه وسلم عاش(4/376)
...............................
__________
بعد أن تزوجها ثمانية وثلاثين عاما، انفردت منها خديجة بخمسة وعشرين وهي نحو الثلاثين ومع طول المدة، فصان الله قلبها فيها من الغيرة، ومن نكد الضرائر الذي ربما حصل منه ما يشوش عليه بذلك، وهو فضيلة لم يشركها فيها غيرها.
وروى ابن سعد بسند قوي مرسل جاءت خولة بنت حكيم، فقالت: يا رسول الله كأني أراك قد دخلتك خلة لفقد خديجة، قال: "أجل كانت أم العيال وربة البيت" وعنده أيضا من مرسل عبيد بن عمير قال: وجد صلى الله عليه وسلم على خديجة حتى خشي عليه حتى زوج عائشة.
قال ابن إسحاق: وكانت خديجة له وزيرة صدق، وكان يسكن إليها، وماتت هي وأبو طالب في عام واحد، قيل فسماه عام الحزن والله أعلم.(4/377)
[سودة أم المؤمنين] :
وأما أم المؤمنين سودة بنت زمعة -وأمها الشموس بنت قيس- فأسلمت قديما وبايعت، وكانت تحت ابن عم يقال له السكران بن عمرو، أخو سهيل بن عمرو، أسلم معها قديما، وهاجرا جميعا إلى أرض الحبشة الهجرة الثانية، فلما قدما مكة مات زوجها،
__________
سودة أم المؤمنين:
"وأما أم المؤمنين سودة" بفتح السين المهملة، علم منقول من صفة دالة على المدح، وهو السفح المستقيم تفاؤلا أن تكون بعد كبرها بهذه الصفة وقد كانت رضي الله عنها طويلة جسيمة، "بنت زمعة" بزاي، فميم، فمهملة مفتوحات قال ابن الأثير: وأكثر ما سمعنا أهل الحديث والفقهاء يقولونه بسكون الميم، وقول المصباح لم أظفر بالسكون في كتب اللغة قصور، فقد قدمه القاموس، ثم حكى الفتح، فظاهره أن السكون أكثر لغة، وتقدم إنهاء نسبها إلى عامر بن لؤي بن غالب، "وأمها الشمول" بشين معجمة، وميم، فواو، فمهملة "بنت قيس" بن عمرو بن زيد الأنصارية من بني عدي بن النجار بنت أخي سلمي بنت عمرو بن زيد أم عبد المطلب، "فأسلمت قديما، وبايعت" على الإسلام قديما، "وكانت تحت ابن عم" لأبيها "يقال له السكران بن عمرو" بن عبد شمس بن عبدود وأبوها زمعة بن قيس بن عبد شمس المذكور، فعمرو وقيس أخوان، فالسكران ابن عم أبيها، "أخو سهيل" بالتصغير "ابن عمرو" وسهيل بالتكبير، وسليط، وحاطب بنو عمرو، وكلهم صحابة رضي الله عنهم، وإنما اقتصر تبعا للإصابة على سهيل لشهرته "أسلم معها قديما، وهاجرا جميعا إلى أرض الحبشة الهجرة الثانية، فلما قدما مكة مات زوجها" وولدت له ابنا اسمه عبد الرحمن، قتل في حرب جلولاء قرية من(4/377)
وقيل إنه مات بالحبشة.
وتزوجها صلى الله عليه وسلم بمكة بعد موت خديجة قبل أن يعقد على عائشة، هذا قول قتادة وأبي عبيدة، ولم يذكر ابن قتيبة غيره، ويقال تزوجها بعد عائشة، ويجمع بين القولين: بأنه صلى الله عليه وسلم على عائشة قبل سودة، ودخل بسودة قبل عائشة، والتزويج يطلق على كل منهما، وإن كان المتبادر إلى الفهم العقد دون الدخول.
__________
قرى فارس، "وقيل إنه مات بالحبشة"، وعن ابن عباس أنها رأت في المنام كأن النبي صلى الله عليه وسلم أقبل يمشي حتى وطئ عنقها فأخبرت زوجها بذلك فقال: إن صدقت رؤياك لأموتن وليتزوجنك، ثم رأت في المنام ليلة أخرى إن قمرا انقض عليها، وهي مضطجعة، فأخبرت زوجها، فقال: لئن صدقت رؤياك لم ألبث إلا يسيرا حتى أموت وتتزوجين من بعدي، فاشتكى السكران من يومه ذلك، فلم يلبث إلا قليلا حتى مات، "وتزوجها صلى الله عليه وسلم" عقد، ودخل عليها "بمكة" ويروى بالمدينة.
قال الشامي: وهي رواية شاذة وقع فيها، وهم "بعد موت خديجة" سنة عشر من النبوة، وقيل سنة ثمان بناء على المشهور، ومقابلة في وفاة خديجة "قبل أن يعقد على عائشة" على الصحيح، وأصدقها أربعمائة درهم في قول ابن إسحاق.
وأخرج ابن سعد برجال ثقات وابن أبي عاصم وغيرهما، أن خولة بنت حكيم قالت: ألا أخطب عليك؟ قال: بلى، فإنكن معشر النساء أرفق بذلك، فخطبت عليه سودة وعائشة، فتزوجهما، فبنى بسودة بمكة وعائشة بعد الهجرة.
"هذا قول قتادة وأبي عبيدة" معمر بن المثنى، "ولم يذكر ابن قتيبة غيره" وبه جزم الجمهور.
قال في الإصابة: ورواه ابن إسحاق، فقال: كانت سودة أول امرأة تزوجها بعد خديجة.
قال اليعمري وهو الصحيح، "ويقال تزوجها بعد عائشة".
قال عبد الله بن محمد بن عقيل "ويجمع بين القولين" كما نقله في الفتح عن المارودي، "بأنه صلى الله عليه وسلم عقد على عائشة قبل سودة، أي قبل الدخول بسودة لا قبل العقد عليها، كما توهمه من استشكله، بدليل بقية كلام المصنف، فلا ينافي أنه عقد عليها قبل عائشة، ودخل بسودة قبل عائشة" بعد عقده على عائشة، "والتزويج يطلق على كل منهما" من العقد والدخول فيحمل الأول على العقد، والثاني على الدخول، لكونه سببا فيه، فيتفق القولان "وإن كان المتبادر للفهم العقد دون الدخول" وهو الذي جاء منه تباين القولين، وبهذا الجمع سقط قول الخيضري كيف يكون الأول أصح، ومقابله في مسلم، فهو من باب صحيح وأصح، وكلاهما صحيح، فتقدم رواية الأكثر انتهى؛ لأنه بناه على العقد فيهما، وأما ابن كثير، فقال:(4/378)
ولما كبرت سودة أراد النبي صلى الله عليه وسلم طلاقها، فسألته أن لا يفعل وجعلت يومها لعائشة فأمسكها.
__________
الصحيح أنه عقد على عائشة قبل سودة، ولم يدخل بها إلا في ثانية الهجرة، ودخل بسودة بمكة وسقه إلى ذلك أبو نعيم، وفيه نظر، فإن جزمه بدخوله في الثانية يخالف ما ثبت أنه دخل بعائشة بعد خديجة بثلاث سنين، كما في فتح الباري، وتصحيحه أنه عقد عليها قبل سودة معارض بتصحيح اليعمري، وجزم الدمياطي أنه عقد على عائشة بعد عقده على سودة.
روى الإمام أحمد بسند جيد والطبراني برجال ثقات، عن عائشة وابن سعد والبيهقي بسند حسن من مرسل أبي سلمة بن عبد الرحمن بن حاطب، ووصله ابن أبي عاصم أن خولة بنت حكيم امرأة عثمان بن مظعون جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: ألا تتزوج؟ قال: "من"؟، قالت: إن شئت بكرا، وإن شئت ثيبا، أما البكر فابنة أحب الخلق إليك عائشة وأما الثيب فسودة بنت زمعة قد آمنت بك واتبعتك، قال: "اذهبي فاذكريهما علي" الحديث، وفيه فذهبت إلى سودة، فقلت: ماذا أدخل الله عليكم من الخير والبركة؟ قالت: وما ذاك؟ قلت: "إن رسول الله أرسلني إليك لأخطبك عليه"، قالت: وددت ذلك لكن ادخلي على أبي فاذكري له ذلك، وكان شيخا كبيرا قد جلس على المواسم، فحييه بتحية الجاهلية، فقلت: أنعم صباحا، فقال: ومن أنت؟ فقلت: خولة، فرحب بي، وقال ما شاء أن يقول: فقلت: إن محمد بن عبد الله بن عبد المطلب يذكر ابنتك، قال: هو كفء كريم، فما تقول صاحبتك؟ قلت: تحب ذلك، قال: فقولي له فليأت، فجاء صلى الله عليه وسلم فملكها وقدم عبد الله بن زمعة، فوجد أخته قد تزوجها رسول الله فحثا التراب على رأسه، فلما أسلم كان يجد في نفسه من ذلك شيئا ويقول: إني لسفيه يوم أحثوا التراب على رأسي أن تزوج صلى الله عليه وسلم أختي، وأفاد الحديث أن أباها هو الذي زوجها للمصطفى، وقال ابن إسحاق: زوجه إياها سليط بن عمرو، ويقال أبو حاطب بن عمرو، وتعقبه ابن هشام، بأن ابن إسحاق نفسه يخالف هذا؛ لأنه ذكر أنهما كانا غائبين بالحبشة في هذا الوقت، "ولما كبرت سودة" بكسر الباء مضارعه بالفتح لا غير، أي أسنت وبضمها فيهما في الأجسام والمعاني، وكلاهما في القرآن أنشدنا شيخنا بالمجلس عن شيخه العلامة عبد الله الدنوشري لنفسه:
كبرت بكسر الباء في السن وارد ... مضارعه بالفتح لا غير يا صاح
وفي الجسم والمعنى كبرت بضمها ... مضارعه بالضم جاء بإيضاح
قال: وقوله وارد هو المناسب لقوله جاء بإيضاح، وهو الذي سمعته من لفظه "أراد النبي صلى الله عليه وسلم طلاقها، فسألته أن لا يفعل، وجعلت يومها لعائشة فأمسكها" كما رواه ابن عبد البر(4/379)
وتوفيت بالمدينة في شوال سنة أربع وخمسين. وروى البخاري في تاريخه بإسناد صحيح إلى سعيد بن أبي هلال.
__________
عن عائشة لما أسنت سودة هم صلى الله عليه وسلم بطلاقها، فقالت: لا تطلقني وأنت في حل مني، فأنا أريد أن أحشر في أزواجك، وإني قد وهبت يومي لعائشة، وإني لا أريد ما تريد النساء، فأمسكها حتى توفي.
وأخرج الترمذي بسند حسن عن ابن عباس، وأبو داود والحاكم عن عائشة أن سودة خشيت أن يطلقها صلى الله عليه وسلم، فقالت: لا تطلقني وأمسكني، واجعل يومي لعائشة، ففعل، ففعلت، فأنزل الله: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا} [النساء: 128] .
قال في الإصابة: وأخرجه ابن سعد عن عائشة من طرق في بعضها، أنه بعث إليها بطلاقها، وفي بعضها أنه قال لها: "اعتدي" والطريقان مرسلان، وفيهما أنها قعدت له على طريقه، فناشدته أن يراجعها، وجعلت يومها وليلتها لعائشة، ففعل، ومن طريق معمر بلغي أنها قالت ما بي على الأزواج من حرص ولكني أحب أن يبعثني الله يوم القيامة زوجا لك انتهى.
ولو صحا لأمكن الجمع لكن صحح الدمياطي وتلميذه اليعمري، أنه لم يطلقها، وكانت شديدة الإتباع لأمره صلى الله عليه وسلم.
روى أحمد عن أبي هريرة صلى الله عليه وسلم قال لنسائه عام حجة الوداع هذا ثم ظهور الحصر، قال: فكن كلهن يحججن إلا زينب وسودة، فقالتا: والله لا تحركنا دابة بعد أن سمعنا ذلك منه صلى الله عليه وسلم، وصح عن عائشة عند أبي يعلى وغيره، أنها قالت: ما من الناس أحد أحب إلي أن أكون في مسلاخه من سودة بها الأحدة فيها كانت تسرع منها الفيئة، مسلاخ بكسر الميم، وسكون المهملة، وخفة اللام والخاء المعجمة هديها وطريقتها.
وفي الصحيح عن عائشة: استأذنت سودة رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة المزدلفة أن تدفع قبل الناس، وكانت امرأة بطيئة يعني ثقيلة، فأذن لها، ولأن أكون استأذنته أحب إلي من مفروح به,
وعن إبراهيم النخعي قال: قالت سودة لرسول الله صلى الله عليه وسلم صليت خلفك الليل، فركعت بي حتى أمسكن ما بقي مخافة أن يقطر الدم فضحك وكانت تضحكه بالشيء أحيانا.
رواه ابن سعد برجال الصحيح وعنده أيضا عن محمد بن سيرين أن عمر بعث إلى سودة بغرارة من دراهم، فقالت: ما هذه؟ قالوا: دراهم، قالت: في غرارة مثل التمر ففرقتها، "وتوفيت بالمدينة في شوال سنة أربع وخمسين" في خلافة معاوية، كما رجحه الواقدي.
وقال الحافظ في تقريبه سنة خمس وخمسين على الصحيح.
"وروى البخاري في تاريخه بإسناد صحيح إلى سعيد بن أبي هلال" الليثي، مولاهم(4/380)
أنها ماتت في خلافة عمر، وجزم الذهبي في التاريخ الكبير بأنها ماتت في آخر خلافة عمر، وقال ابن سيد الناس: إنه المشهور.
__________
أبي العلاء المصري صدوق.
روى له الجماعة "إنها ماتت في خلافة عمر" بن الخطاب "و" لذا "جزم الذهبي في التاريخ الكبير، بأنها ماتت في آخر خلافة عمر" وهو قد توفي في آخر ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين "وقال ابن سيد الناس أنه المشهور" وتبعه الشامي، وقال الخميس أنه الأصح فهذا تباين كبير، وروى عنها ابن عباس، ويحيى بن عبد الرحمن بن أسعد بن زرارة وروت عنه صلى الله عليه وسلم في الكتب المتداولة خمس أحاديث للبخاري منها حديث واحد والله أعلم.(4/381)
[عائشة أم المؤمنين] :
وأما أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها -وأمها أم رومان ابنة عامر بن عويمر بن عبد شمس، من بني مالك بن كنانة- فكانت مسماة على جبير بن مطعم، فخطبها النبي صلى الله عليه وسلم
__________
عائشة أم المؤمنين:
"وأما أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها" قال المصنف: بالهمز وعوام المحدثين يبدلونها ياء وقال البرهان في لغة عيشة، حكاها علي بن حمزة وغيره وهي فصيحة، وعائشة أفصح، وكانت بيضاء وزاعم أنها سوداء كذبه ابن معين وغيره، "وأمها أم رومان" بضم الراء وفتحها، واسمها زينب، وقيل دعد "ابنة عامر بن عويمر" بالتصغير "ابن عبد شمس".
هكذا نسبها مصعب قال في الإصابة، وخالفه غيره، فذكر ابن إسحاق أنها بنت عبد بن دهمان أحد بني فراس، والخلاف في نسبها من عامر إلى كنانة لكن اتفقوا على أنها "من بني غنم بن "مالك بن كنانة" أسلمت، وبايعت وهاجرت، ماتت في حياته صلى الله عليه وسلم.
روى ابن سعد والبخاري في تاريخه، وابن منده، وأبو نعيم، عن القاسم بن محمد، قال: لما دليت أم رومان في قبرها، قال صلى الله عليه وسلم: "من سره أن ينظر إلى امرأة من الحور العين، فلينظر إلى أم رومان" ولكن في موتها في حياته صلى الله عليه وسلم نزاع طويل ليس هذا موضعه، "فكانت مسماة على جبير" الصحابي "ابن مطعم" أي أنه كان خطبها لأبنه من أبيها، "فخطبها النبي صلى الله عليه وسلم" لأنه لم يعلم بالخطبة أو كان قبل النهي.
روى أحمد بن أبي عاصم، والطبراني وغيرهم عن عائشة لما ماتت خديجة، جاءت خولة بنت حكيم، فقالت: يا رسول الله ألا تتزوج، قال: "من"؟ قالت: إن شئت بكرا وإن شئت ثيبا، فأما(4/381)
وأصدقها فيما قاله ابن إسحاق أربعمائة درهم، وتزوجها بمكة في شوال سنة عشر من النبوة، قبل الهجرة بثلاث سنين، ولها ست سنين، وأعرس بها بالمدينة في شوال سنة اثنتين من الهجرة على رأس ثمانية عشر شهرا، ولها تسع سنين. وقيل بعد سبعة أشهر من مقدمه عليه الصلاة والسلام.
__________
البكر فابنه أحب خلق الله إليك عائشة بنت أبي بكر وأما الثيب فسودة بنت زمعة، قد آمنت بك، قال: "فاذكريهما علي" فأتيت أم رومان، فقلت: ماذا أدخل الله عليكم من الخير والبركة، قالت: وما ذلك؟ قلت: رسول الله يذكر عائشة، قالت: وددت انتظري أبا بكر، فجاء فذكرت ذلك له، فقال: أوتصلح له، وهي ابنة أخيه، فرجعت، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "قولي له أنت أخي، وأنا أخوك في الإسلام، وابنتك تصلح لي"، فرجعت وأخبرته بذلك، فقال أبو بكر لأم رومان: إن المطعم بن عدي قد كان ذكرها على ابنه والله ما أخلف أبو بكر وعدا قط، فأتى لمطعم وعنده امرأته أم الفتى، فقال: ما تقول في أمر هذه الجارية، فأقبل على امرأته فقال: ما تقولين: فأقبلت على أبي بكر فقالت: لعلنا إن أنكحنا هذا الصبي إليك تصبئه وتدخله في دينك والذي أنت عليه فقال أبو بكر: ما تقول أنت؟ فقال: إنها تقول ما تسمع فقام أبو بكر ليس في نفسه شيء من الموعد، فقال لخولة: قولي لرسول الله فليأت، فدعته فجاء، فملكها، أي تزوجها "وأصدقها فيما قاله ابن إسحاق أربعمائة درهم" تبرأ منه؛ لأنه خلاف ما في مسلم عنها أن صداقه صلى الله عليه وسلم لأزواجه كان خمسمائة درهم، وهي زيادة صحيحة، فيجب قبولها وتزوجها بمكة في شوال سنة عشر من النبوة قبل الهجرة بثلاث سنين" زيادة إيضاح لسنة عشر، "ولها ست سنين" لأنها ولدت في الإسلام سنة أربع من النبوة، كما في العيون والإصابة، "وأعرس بها بالمدينة في شوال سنة اثنتين من الهجرة على رأس ثمانية عشر شهرا" فيما قاله بعضهم، وآخره في الإصابة والفتح، وصدر بأنه بني بها في السنة الأولى، وهو الذي يأتي عليه قوله، "ولها تسع سنين" كما ثبت في الصحيحين وغيرهما عنها.
أما على هذا القول الضعيف الذي قدمه المصنف وما كان ينبغي تقديمه فيكون لها عشر سنين ونصف سنة والظاهر أنه مقدم عن محله وأنه بعد قوله، "وقيل بعد سبعة أشهر من مقدمه، عليه الصلاة والسلام".
وروى ابن سعد وغيره، عنها قالت: أعرس بي على رأس ثمانية أشهر، وبهذا صدر في الإصابة، والعيون وفي مسلم، عنها تزوجني صلى الله عليه وسلم في شوال وبني بي في شوال.
قال في الفتح: وإذا ثبت أنه بنى بها في شوال من السنة الأولى قوى قول من قال: دخل(4/382)
وخرج الشيخان عن عائشة أنها قالت: تزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا ابنة ست سنين فقدمنا المدينة، فنزلنا في بني الحارث بن الخزرج، فوعكت فتمزق شعري، فأتتني أمي -أم رومان- وإني لفي أرجوحة مع صواحب لي فصرخت بي فأتيتها ما أدري ما تريد مني، فأخذت بيدي فأوقفتني على باب الدار، وأنا أنهج،
__________
بها بعد الهجرة بسبعة أشهر، وقد وهاه النووي في تهذيبه، وليس بواه إذا عددنا من ربيع وجزمه بأن دخوله بها كان في الثانية يخالف ما ثبت أنه دخل بها بعد خديجة بثلاث سنين، وقال الدمياطي في سيرته، ماتت خديجة في رمضان، وعقد على سودة في شوال ثم على عائشة، ودخل بسودة قبل عائشة انتهى.
وكان المصنف قلد النووي دون مراجعة الفتح وهو عجيب مع كثرة اعترافه في ذا الكتاب منه بعزو ودونه، "وخرج الشيخان" عن عروة، "عن عائشة" الصديقة صاحبة الترجمة بنت الصديق، "إنها قالت تزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا ابنة ست سنين" وفي رواية الأسود عنها: وأنا بنت سبع سنين، رواه مسلم والنسائي، وجمع الإصابة بأنها أكملت السادسة، ودخلت في السابعة، "فقدمنا المدينة"، وذلك كما رواه الطبراني من وجه آخر عنها بعد استقر بها النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر، وبعث عبد الله بن أريقط، وكتب إلى عبد الله بن أبي بكر أن يحمل معه أم رومان، وأم أبي بكر، وأنا وأسماء، وبعث صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة، وأبا رافع، فخرجا بفاطمة وأم كلثوم وسودة وأما أيمن وأسامة وأيمن، فاصطحبنا حتى قدمنا المدينة، فنزل آل النبي عنده وهو يومئذ يبني مسجده وبيوته، فادخل سودة أحد تلك البيوت، وكان يكون عندها، ونزلنا في عيال أبي بكر "فنزلنا في بني الحارث بن الخزرج فوعكت" بضم الواو، وسكون الكاف، أحممت "فتمزق" بزاي مشددة تقطع شعري، للكشميهني فتمرق بالراء أي انتتف وأسقط المصنف من الحديث قولها: فوفى جميمه بتخفيف الفاء كثر وفيه حذف تقديره ثم نصلت من الوعك فتربى شعري فكثرت جميمه بالجيم مصغر جمة بالضم مجمع شعر الناصية، كما في الفتح وللطبراني فقال أبو بكر: يا رسول الله ما يمنعك أن تبني بأهلك؟ وعند أحمد: فجاء صلى الله عليه وسلم فدخل بيتنا "فأنتتني أمي أم رومان، وإني لفي أرجوحة".
قال المصنف: بضم الهمزة وسكون الراء وضم الجيم فواو فمهملة، حبل يشد في كل من طرفيه خشبه فيجلس واحد على طرف وآخر على آخر ويحركان، فيميل أحدهما بالآخر نوع من لعب الصغار "مع صواحب لي" بغير تنوين "فصرخت بي" نادتني، "فأتيتها ما" وفي رواية لا "أدري ما تريد مني، فأخذت بيدي، فاوقفتني على باب الدار وأنا أنهج: بالنون، أي النفس نفسا عاليا، كما في الفتح.(4/383)
حتى سكن بعض نفسي ثم أخذت شيئا من ماء فمسحت به وجهي ورأسي ثم أدخلتني الدار فإذا نسوة من الأنصار في البيت فقلت على الخير والبركة، فأسلمتني إليها فأصلحن من شأني فلم يرعني إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحى، فأسلمتني إليه، وأنا يومئذ بنت تسع سنين.
__________
وقال المصنف بالنون والجيم مع فتح الهمزة، والهاء بضم الهمزة وكسر الهاء، أي أتنفس نفسا عليا من الإعياء "حتى سكن بعض نفسي" بفتح الفاء، "ثم أخذت شيئا من ماء، فمسحت به وجهي ورأسي".
زادت في رواية أحمد وفرقت جميمتي، "ثم أدخلتني الدار، فإذا نسوة من الأنصار في البيت".
قال المصنف: لم أعرف أسماءهن، "فقلت على الخير والبركة" وعلى خير طائر، هذا أسقطه من رواية الشيخين.
قال الحافظ وغيره، أي على خير حظ ونصيب، "فأسلمتني إليهن، فأصلحن من شأني، فلم يرعني" بضم الراء وسكون العين، أي لم يفزعني شيء "إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم" قد دخل علي "ضحى" وكنت بذلك عن المفاجأة بالدخول على غير علم، فإنه يفزع غالبا.
قال الحافظ: وتبعه المصنف وهو صريح في أنه ضحى بالضم منونا اسم للوقت، لا بالفتح فعل ماض بمعنى ظهر؛ لأنه خلاف الرواية، وقد ترجم البخاري في النكاح باب البناء في النهار، ثم روى الحديث مختصرا عن عائشة بلفظ تزوجني صلى الله عليه وسلم فأتتني أمي، فأدخلتني الدار، فلم يرعني إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحى.
قال المصنف: كغيره أي وقت الضحى، ففيه ما ترجم له أن دخوله كان نهارا انتهى.
فليت من لم يقف على شيء لا يتجاسر على ضبط الحديث برأيه، "فأسلمتني" أمي "إليه وأنا يومئذ بنت تسع سنين".
زاد في رواية لمسلم ولعبتها معها، وروى أحمد من وجه آخر هذه القصة مطولة، وفيها بعد مجيء المصطفى ودخوله بيتهم، وصراخ أمها بها ومسحها بالماء، ثم أقبلت بي تقودني، ثم دخلت بي على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس على سرير عنده رجال ونساء من الأنصار، فأجلستني في حجره، ثم قالت: هؤلاء أهلك يا رسول الله، بارك الله لك فيهن، وبارك لهن فيك، فوثب الرجال والنساء وبنى بي صلى الله عليه وسلم.
ذكره في الفتح، ولم ينزل للجمع بينه وبين حديث الشيخين الصريح في أنه لم يرعها إلا دخوله عليها، وحديث أحمد المصرح بأن أمها أدخلتها، عليه فاجلستها في حجره فوق السرير،(4/384)
وأخرجه أبو حاتم بتغيير بعض ألفاظه.
قال ابو عمر: كان نكاحه عليه الصلاة والسلام في شوال، وابتنى بها في شوال، وكانت تحب أن تدخل النساء من أهلها وأحبتها في شوال على أزواجهن، وكانت أحب نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه،
__________
فيحتمل أنه صلى الله عليه وسلم استبطأهن لاشتغالهن بتسكين نفسها وإصلاح شأنها فجاء من البيت الذي كان جالسا فيه مع الأنصار، فدخل عليها جبرا لهن، فأعظمن مجيئه صلى الله عليه وسلم، وقلن هي تأتي إليك، فعاد إلى مجلسه، فأتت بها أمها في النسوة وأسلمتها من بينهن إليه، ودعت لهما، وأما كون قضيته أنه كان الرجال والنساء، في البيت مع النبي حين دخلت بها أمها، وقضية رواية الصحيحين خلافه، فهذا سهل، فغايته أن في الرواية اختصارا، وحاصله أنه لما جاء صلى الله عليه وسلم حين قال له أبو بكر: ألا تبني بأهلك؟ كانت عائشة تلعب، فنادتها أمها ثم أصلحت من شأنها، ثم أسلمتها للنسوة، كذلك هو صلى الله عليه وسلم في بيت آخر على سرير في جماعة من الأنصار رجال ونساء، "وأخرجه أبو حاتم" بن حبان "بتغيير بعض ألفاظه".
وفي رواية أحمد وبنى بي رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتنا، ولا والله ما نحرت علي جزور ولا ذبحت من شاة، ولكن جفنه كان يبعث بها سعد بن عبادة إليه صلى الله عليه وسلم وعنده عن أسماء بنت يزيد بن السكن كانت صاحبة عائشة التي هيأتها وأدخلتها عليه صلى الله عليه وسلم، ومعي نسوة فوالله ما وجدنا عنده قرى إلا قدحا من لبن، فشرب منه ثم ناوله عائشة، فاستحيت، فقلت: لا تردي يد رسول الله خذي منه، فأخذته على حياء، فشربت، ثم قال: "ناولي صواحبك" فقلن: لا نشتهيه، فقال: "لا تجمعن جوعا وكذبا"، فقلت: يا رسول الله إنا إذا قلنا لشيء نشتهيه لا نشتهيه يعد ذلك كذبا، قال: "إن الكذب يكتب كذبا حتى تكتب الكذيبة كذبة".
قال أبو عمر كان نكاحه عليه الصلاة والسلام لها "في شوال وابنتى بها في شوال" كما في مسلم وغيره.
عنها قال الجوهري: تقول العامة بنى بأهله وهو خطأ، وإنما يقال بنى على أهله والأصل فيه أن الداخل على أهله يضرب عليه قبة ليلة الدخول ثم قيل لكل داخل بأهله بأن قال الحافظ: ولا معنى لهذا التغليط لكثرة استعمال الفصحاء له وحسبك بقول عائشة: بنى بي وبقول عروة بنى بها، "وكانت تحب أن تدخل النساء من أهلها وأحبتها في شوال على أزواجهن"، لذلك قال أبو عاصم: إنما كره الناس الدخول في شوال لطاعون وقع فيه قديما، "وكانت أحب نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم" اللاتي أجتمعن معها "إليه" كما قال صلى الله عليه وسلم حين سأله عمرو بن العاص أي الناس أحب إليك؟، قال: "عائشة"، قال: من الرجال، قال: "أبوها"، وقال عمر لحفصة: لا يغرنك(4/385)
وكانت إذا هويت الشيء تابعها عليه، وفقدها في بعض أسفاره فقال: "واعروساه" خرجه أحمد.
وقال لها عليه الصلاة والسلام -كما في الصحيحين: "رأيتك في المنام ثلاث ليال جاءني بك الملك في سرقة من حرير، فيقول: هذه
__________
هذه التي أعجبها حسنها وحب رسول الله صلى الله عليه وسلم إياها، وقص ذلك عمر عليه، فتبسم صلى الله عليه وسلم، ومن حبه لها إنه كان يدور على نسائه ويختم بها وأمر السيدة فاطمة بحبها، ولما نزلت عليه آية التخيير بدأ بها، واختياره الإقامة عندها أيام مرضه، وكلها في الصحيح، وقام لها ووضعت خدها على منكبه حتى تنظر إلى لعب الحبشة بحرابهم في المسجد.
رواه الترمذي وغيره، وأصله في الصحيح وأنه كان يقبلها وهو صائم ويمص لسانها.
رواه ابن عدي وقوله لها: "إني لأعلم إذا كنت عليَّ راضية، وإذا كنت عليَّ غضبى"، قالت: بم؟ قال: "إذا كنت راضية، قلت: لا ورب محمد، وإذا كنت غضبى، قلت: لا ورب إبراهيم" قال: صدقت ما أهجر إلا اسمك.
رواه البخاري ومسلم والنسائي ومسابقته لها في سفر فسبقته، فلما حصلت من اللحم سابقته، فسبقها، فقال: "يا عائشة هذه بتلك"، رواه أبو داود والنسائي، ودعاه جار له فارسي لطعام، فقال: "وهذا معي لعائشة" فقال الرجل: لا وأشار له، فقال: "وهذه معي"، فقال: لا، فأشار إليه الثالثة، فقال: "وهذه معيط"، قال: نعم، رواه مسلم، ومن حبه لها أن الله أنزل في براءتها وحيا يتلى في محاريب المسلمين إلى يوم الدين وإنه كان يعذرها ويبدي عذرها كقوله لما كسرت الصحف: "غارت أمكم" إلى غير ذلك مما يطول ذكره، وأخرجه الترمذي وصححه وابن سعد أن رجلا نال من عائشة عند عمار بن ياسر، فقال: غرب مقبوحا منبوحا أنؤذي حبيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وروى ابن سعد أن عمر زادها على الأزواج ألفين، وقال: إنها حبيبة رسول الله، "و" من حبه لها أنها "كانت إذا هويت الشيء" بفتح الهاء وكسر الواو أحببته، "تابعها عليه" وافقها "وفقدها في بعض أسفاره، فقال: "واعروساه".
"خرجه أحمد" عن النعمان بن بشير، "وقال لها عليه الصلاة والسلام، كما في الصحيحين"، من حديثها "رأيتك".
وفي رواية "أريتك" بضم الهمزة مقدمة على الراء "في المنام ثلاث ليال جاءني بك" أي بصورتك "الملك" جبريل "في سرقه" بفتح المهملة والراء، والقاف قطعة "من حرير يقول هذه(4/386)
امرأتك فأكشف عن وجهك فأقول: إن بك من عند الله يمضه والسرقة شقة الحرير البيضاء".
وفي الترمذي أن جبريل جاءه عليه الصلاة والسلام بصورتها في خرقة حرير خضراء وقال هذه زوجتك في الدنيا والآخرة وفي رواية عنده. قال جبريل إن الله قد زوجك بابنة أبي بكر، ومعه صورتها.
__________
امرأتك، فأكشف عن وجهك".
زاد في رواية "فإذا هي أنت" وفي لفظ، "فإذا أنت هي"، "فأقول إن بك" هذا "من عند الله يمضه" بضم أوله.
قال الطيبي: هذا الشرط مما يقوله المتحقق لثبوت الأمر، المدلى بصحته تقريرا لوقوع الجزاء وتحققه قول السلطان لمن يجب قهره، إن كنت سلطانا انتقمت منك، أي أن السلطنة مقتضية للانتقام.
وقال القاضي عياض: يحتمل أن يكون قال ذلك قبل البعثة، فلا إشكال فيه، وإن كان بعدها، ففيه احتمالات التردد هل هي زوجته في الدنيا والآخرة أو في الآخرة فقط، أو أنه لفظ شك لا يراد به ظاهره، وهو نوع من البديع عند أهل البلاغة يسمونه تجاهل العارف، وسماه بعضهم مزج الشك باليقين، أو وجه التردد هل هي رؤيا وحي على ظاهرها وحقيقتها، أو رؤيا وحي لها تعبير، كلا الأمرين جائز في حق الأنبياء انتهى.
قال الحافظ: الأخير هو المعتمد، وبه جزم السهيلي عن ابن العربي، قال: وتعبيره باحتمال غيره لا أرضاه والأول يرده أن السياق يقتضي أنها كانت قد وجدت، فإن ظاهر قوله فإذا هي أنت يشعر بأنه كان قد رآها وعرفها قبل ذلك، والواقع أنها ولدت بعد البعثة، ويرد الاحتمالات رواية ابن حبان، في آخر الحديث هي زوجتك في الدنيا والآخرة، والثاني بعيد.
"والسرقة" بفتحات "شقة الحرير البيضاء" في أحد القولين لغة، والآخر أنه الحرير عامة والجمع سرق بفتحات، كما في القاموس، والمراد هنا الثاني؛ لأنها خضراء، ومن ثم لم يقيدها المصنف في الشرح تبعا للفتح بالبيضاء، "وفي الترمذي" وحسنه من حديثها "إن جبريل جاءه عليه الصلاة والسلام بصورتها في خرقة حرير خضراء، وقال هذه زوجتك في الدنيا والآخرة"، فبينت هذه الرواية لون الشقة، وأن الزوجية في الدارين.
"وفي رواية عنده" عن ابن عمر قال: "قال" رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاني "جبريل" فقال: "إن الله" عز وجل "قد زوجك بابن أبي بكر ومعه صورتها" لفظ الرواية صورة عائشة وعند ابن حبان أنه(4/387)
وكانت مدة مقامه معها عليه الصلاة والسلام تسع سنين، ومات عنها ولها ثماني عشرة سنة، ولم يتزوج بكرا غيرها،
__________
لما سار فاطمة في مرضه تكلمت عائشة، فقال صلى الله عليه وسلم: "أما ترضين أن تكوني زوجتي في الدنيا والآخرة"، وأنها قالت: من أزواجك في الجنة، قال: "أما إنك منهن".
وروى أبو الحسن الخلعي منها رفعته: "يا عائشة إنه ليهون علي الموت، أني قد رأيتك زوجتي في الجنة".
ورواه ابن عساكر بلفظ "ما أبالي بالموت مذ علمت أنك زوجتي في الجنة"، والسلفي بلفظ "هون علي الموت أني رأيت عائشة في الجنة".
وروى أحمد عنها رفعته "لقد رأيت عائشة في الجنة، كأني أنظر إلى بياض كفيها ليهون بذلك علي عند موتي"، ومن ثم خطب عمار بن ياسر، فقال: والله إني لأعلم أنها زوجته في الدنيا والآخرة، رواه البخاري.
وروى ابن سعد عنها فضلت على نساء النبي صلى الله عليه وسلم بعشر لم ينكح بكرا قط غيري، ولا امرأة أبواها مهاجران غيري، وأنزل الله براءتي من السماء، وجاء جبريل بصورتي من السماء في حريرة، وكنت أغتسل أنا، وهو في إناء واحد، ولم يكن يصنع ذلك بأحد من نسائه غيري، وكان يصلي وأنا معترضه بين يديه دون غيري، وكان ينزل عليه الوحي، وهو معي، ولم ينزل وهو مع غيري، وقبض وهو بين نحري وسحري، وفي الليلة التي كان يدور علي فيها، ودفن في بيتي وفيه عيسى بن ميمون واهي الحديث، كما في الإصابة، لكن شواهده كثيرة، وقد رواه ابن سعد أيضا والطبراني، برجال الصحيح، وابن أبي شيبة أنها قالت أعطيت تسع خلال ما أعطيتها امرأة، ولله ما أقول هذا فخر، أنزل الملك بصورتي، وتزوجني لسبع واهديت إليه لتسع، وتزوجني بكرا، وكان الوحي يأتيه، وأنا هو في لحاف واحد، وكنت أحب الناس إليه، وبنت أحب الناس إليه، ولقد نزلت في آيات من القرآن، وقد كادت الأمة تهلك في، ورأيت جبريل ولم يره أحد من نسائه غيري، وقبض في بيتي، لم يله أحد غيره وغير الملك.
وفي رواية أبي يعلى، لقد اعطيت تسعا ما أعطيتهن امرأة إلا مريم. نزل جبريل بصورتي في راحته، وتزوجني بكرا، وقبض ورأسه في حجري، وقبرته في بيتي، وحفت الملائكة بيتي، ونزل عليه الوحي في لحافي، وأنا ابنة خليفته وصديقه، ونزل عذري من السماء، وخلقت طيبة، وعند طيب ولقد وعدت مغفرة ورزقا كريما، ومن مجموع هذا ينتظم أكثر من عشر خلال، "وكانت مدة مقامه معها عليه الصلاة والسلام تسع سنين، ومات عنها ولها ثماني عشرة سنة" كما في مسلم وغيره عنها، "ولم يتزوج بكرا غيرها" كما في الصحيح.(4/388)
وكانت فقيهة عالمة فصيحة، كثيرة الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، عارفة بأيام العرب وأشعارها،
__________
قال الحافظ: وهو متفق عليه بين أهل النقل، "وكانت فقيهة" جدا حتى قيل إن ربع الأحكام الشرعية منقول عنها كما في الفتح، وأما حديث خذوا شطر دينكم عن الحميراء المذكور في النهاية بلا عزو، وحديث خذوا ثلث دينكم من بين الحميراء المذكور في الفردوس بلا إسناد وبيض ولده لسنده، فذكر الحافظ ابن كثير أنه سأل عنه المزي والذهبي، فلا يعرفاه، وكذا قال الحافظ في تخريج ابن الحاجب: لا أعرف له سندا "عالمة" بكل العلوم.
قال أبو موسى الأشعري: ما أشكل علينا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث قط، فسألنا عنه عائشة إلا وجدنا عندها منه علما رواه الترمذي وصححه، وقال عروة: ما رأيت أحدا أعلم بالقرآن ولا بفريضة، ولا بحرام، ولا بحلال، ولا بفقه، ولا بشعر، ولا بطب، ولا بحديث العرب، ولا نسب من عائشة، رواه الحاكم والطبراني وغيرهما بسند حسن.
وقال مسروق: والله لقد رأيت الأكابر من الصحابة، وفي لفظ مشيخة أصحاب رسول الله: الأكابر يسألون عائشة عن الفرائض، رواه الطبراني والحاكم، وقال عطاء بن أبي رباح: كانت عائشة أفقه الناس، وأعلم الناس وأحسن الناس رأيا في العامة رواه الحاكم وغيره، "فصيحة" قال معاوية: والله ما رأيت خطيبا قط أبلغ، ولا أفصح، ولا أفطن من عائشة.
رواه الطبراني وعنده برجال الصحيح عن موسى بن طلحة: ما رأيت أحدا كان أفصح من عائشة.
وروى أحمد في الزهد والحاكم عن الأحنف بن قيس قال: سمعت خطبة أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي والخلفاء هلم جرا، فما سمعت من فم أحد منهم كلاما أفخم، ولا أحسن منه من في عائشة.
"كثيرة الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم" روي لها ألفان بالتثنية، ومائتا حديث وعشرة، اتفق الشيخان على مائة وأربعة وسبعين، وانفرد البخاري بأربعة وخمسين ومسلم بثماني وستين.
"عارفة بأيام العرب" وقائعها "وأشعارها" فما كان ينزل بها شيء إلا أنشدت فيه شعرا، أسند الزبير بن بكار عن أبي الزناد قال: ما رأيت أحدا أروى لشعر من عروة، فقلت له: ما أرواك؟ فقال: ما روايتي في رواية عائشة، ما كان ينزل بها شيء إلا أنشدت فيه شعرا.
وروى أحمد عن عروة أنه قال لها: يا أمتاه لا أعجب من فقهك، أقول زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم وابنة أبي بكر، ولا أعجب من علمك بالشعر، وأيام الناس أقول ابنة أبي بكر، وكان أعلم أو من أعلم الناس به، ولكن أعجب من علمك بالطب كيف هو، وأين هو فضربت(4/389)
روى عنها جماعة كثيرة من الصحابة والتابعين، وكان صلى الله عليه وسلم يقسم لها ليلتين، ليلتها وليلة سودة بنت زمعة؛ لأنها وهبت ليلتها لما كبرت لها -كما تقدم- ولنسائه ليلة ليلة، وكان يدور على كل نسائه ويختم بعائشة.
__________
على منكبه، وقالت أي عرية إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسقم، وفي لفظ كثرت أسقامه عند آخر عمره، فكانت تقدم عليه وفود العرب، من كل وجه، فتنعت له الأنعات، وفي لفظ: وكانت أطباء العرب والعجم ينعتونه، وكنت أعالجها، فمن ثم وروى أنها مدحت النبي صلى الله عليه وسلم بقولها:
فلو سمعوا في مصر أوصاف خده ... لما بذلوا في سوم يوسف من نقد
لواحي زليخا لو رأين جبينه ... لآثرن بالقطع القلوب على الأيدي
وكانت زاهدة، كثيرة الكرم والصدقة.
روى ابن سعد عن أم درة قالت: أتيت عائشة بمائة ألف ففرقتها، وهي يومئذ صائمة، فقلت لها: أما استطعت فيما أنفقت أن تشتري بدرهم لحما تفطرين عليه؟ فقالت: لو أدركتيني لفعلت.
روت عائشة عنه صلى الله عليه وسلم الكثير الطيب، وروت أيضا عن أبيها، وعن عمر وفاطمة، وسعد بن أبي وقاص، وأسيد بن حضير وحذامة بن وهب وضمرة بن عمرو.
و"روى عنها جماعة كثيرة من الصحابة" كعمر وابنة عبد الله وأبي هريرة وأبي موسى، وزيد بن خالد وابن عباس، وربيعة بن عمرو، والسائب بن يزيد، وصفية بنت شيبة، وعبد الله بن عامر بن ربيعة بن الحارث بن نوفل، "والتابعين"، فمن كبارهم ابن المسيب، وعمرو بن ميمون، وعلقمة بن قيس، ومسروق وعبد الله بن عليم، والأسود بن يزيد، وأبو سلمة بن عبد الرحمن وأبو وائل، ومن آل بيتها أختها أم كلثوم، وبنتها عائشة بنت طلحة، وأخوها من الرضاعة عوف بن الحارث وابنا أخيها محمد القاسم، وعبد الله وبنتا آخيها الآخر عبد الرحمن حفصة، وأسماء، وحفيده عبد الله بن أبي عتيق محمد بن عبد الرحمن، وابنا أختها أسماء عبد الله، وعروة، وحفيد عبد الله عباد بن حمزة وآخرون كثيرون.
"وكان صلى الله عليه وسلم يقسم لها ليلتين ليلتها وليلة سودة بنت زمعة؛ لأنها وهبت ليلتها لما كبرت" وأرد المصطفى طلاقها "لها، كما تقدم" وهو في الصحيحين عن عائشة: أن سودة بنت زمعة وهبت يومها لعائشة، وكان صلى الله عليه وسلم يقسم لعائشة يومها ويوم سودة، فالتي كان لا يقسم لها سودة على الصواب، وفي مسلم عن ابن جريج قال عطاء: التي لا يقسم لها صفية بنت حيي بن أخطب.
قال الطحاوي وعياض وغيرهما وهو غلط من ابن جريج، وهو أن سودة إذ وهبت يومها لعائشة "ولنسائه ليلة ليلة" أي كل واحدة ليلة واحدة، "وكان يدور على كل نسائه، ويختم بعائشة" احتج(4/390)
...........................................
__________
به من قال لم يكن القسم واجبا عليه، وإنما كان يفعله تفضلا، والأكثر وجوبه عليه، وأجابوا باحتمال أنه قبل وجوب القسم عليه، أو كان يرضى صابحة النوبة، كما استأذنهن أن يمرض في بيت عائشة، أو كان يقع ذلك عند استيفاء القسمة، ثم يستأنفها، أو عند إقباله من سفر، أو بغير ذلك مما فيه لين.
قال الحافظ: وأغرب ابن العربي، فقال: خص الله نبيه فأعطاه ساعة في كل يوم لا يكون لإزواجه فيها حق يدخل فيها على جميعهن، فيفعل ما يريد، ثم يستقر عند من لها النوبة، وكانت تلك الساعة بعد العصر، فإن اشتغل عنها كانت بعد المغرب. قال أعني الحافظ: ويحتاج إلى ثبوت ما ذكر مفصلا انتهى.
ففي ختمه بها مزيد حبه لها، لجعلها المنتهى فلا تتأذى بأنه يذهب لغيرها بعدها، وليكون آخر عهده بها، ولا سيما إن كانت الليلة لها، فلا يكون بينها وبين ساعة الدوران فاصل بأحد من النساء، وكفى بذلك حبا وحسبها فضلا قول صلى الله عليه وسلم: "فضل عائشة على النساء، كفضل الثريد على الطعام"، وقوله صلى الله عليه وسلم: "يا عائشة هذا جبريل يقرئك السلام"، فقلت: عليه السلام ورحمة الله وبركاته، وقوله: "لله يا أم سلمة لا تؤذيني في عائشة، فإنه والله ما نزل عليَّ الوحي، وأنا في لحاف امرأة منكن غيرها"، وكلها في الصحيح قال في الفتح: مما يسأل عنه اختصاصها بذلك فقيل لمكان أبيها، وأنه لم يكن يفارقه صلى الله عليه وسلم في أغلب أحواله فسرى سره لابنته مع ما كان لها من مزيد حبه صلى الله عليه وسلم، وقيل كانت تبالغ في تنظيف ثيابها التي تنام فيها معه صلى الله عليه وسلم، واستدل به على فضلها على خديجة، وليس ذلك بلازم لاحتمال أن لا يكون أراد إدخال خديجة في ذلك، والمراد بقوله "منكن" المخاطبة، وهي أم سلمة ومن أرسلها، أو من كان موجودا حينئذ من النساء، وعلى تقدير إرادة الدخول، فلا يلزم من ثبوت خصوصية شيء من الفضائل ثبوت الفضل المطلق، كحديث أقرأكم أبي وأفرضكم زيد، ونحوهما، كما أن قوله "فضل عائشة على النساء" لا يستلزم ثبوت الأفضلية المطلقة، وقد أشار ابن حبان إلى أن فضلها الذي دل عليه هذا الحديث وغيره مقيد بنسائه حتى لا يدخل مثل فاطمة جمعا بينه وبين حديث "أفضل نساء أهل الجنة خديجة وفاطمة" انتهى.
وروى الطبراني والبزار برجال ثقات وابن حبان عنها: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم طيب النفس، فقلت: يا رسول الله ادع لي، قال: "اللهم اغفر لعائشة ما تقدم من ذنبها وما تأخر، وما أسرت، وما أعلنت" فضحكت عائشة حتى سقط رأسها في حجرها من الضحك، فقال صلى الله عليه وسلم: "أسرك دعائي"، فقالت: ما لي لا يسرني دعاؤك، قال: "فوالله إنها لدعوتي لأمتي في كل صلاة".(4/391)
وماتت بالمدينة سنة سبع وخمسين. وقال الواقدي: ليلة الثلاثاء لسبع عشرة خلت من رمضان سنة ثمان وخمسين، وهي ابنة ست وستين سنة، وأوصت أن تدفن بالبقيع ليلا، وصلى عليها أبو هريرة رضي الله عنها، وكان يومئذ خليفة مروان على المدينة في أيام معاوية بن أبي سفيان.
وكانت عائشة تكنى أم عبد الله، يروى أنها أسقطت من النبي صلى الله عليه وسلم سقطا، ولم يثبت والصحيح أنها كانت تكنى بعبد الله بن الزبير، ابن أختها، فإنه عليه الصلاة والسلام تفل في فيه لما ولد،
__________
وفي الصحيح عن القاسم بن محمد، أن عائشة مرضت، فعادها ابن عباس، فقال: يا أم المؤمنين تقدمين على فرط صدق على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى أبي بكر، "وماتت بالمدينة سنة سبع وخمسين" فيما ذكره علي بن المديني عن سفيان عن هشام بن عروة، قال في التقريب وهو الصحيح، "وقال الواقدي ليلة الثلاثاء لسبع عشرة خلت من رمضان سنة ثمان وخمسين، وعليه اقتصر المصنف في الشرح، وصدر به في الفتح كالإصابة وعزاه فيها للأكثرين وتبعه الشامي، وزاد أنه الصحيح، وقيل سنة ست وخمسين، حكاه في العيون، وقيل تسع وخمسين، حكاه في الفتح "وهي ابنة ست وستين سنة" على القول الأول؛ لأنها ولدت سنة أربع من النبوة، فتضم تسع لسبع وخمسين تبلغ ذلك، وعلى الثاني بإسقاط عام الولادة أو الموت، وعلى الثالث بإسقاطهما معا فعاشت بعده صلى الله عليه وسلم، كما في فتح الباري قريبا من خمسين سنة انتهى؛ لأنه توفي ولها ثمان عشرة، فنفع الله بها الأمة في نشر العلوم وقد روى البلاذري عن القاسم بن محمد قال: استفعلت عائشة بالفتوى زمن أبي بكر، وعمر، وعثمان، وهلم جرا إلى أن ماتت, "وأوصت" ابن أختها عروة "أن تدفن بالبقيع"، فقال له: إذا أنا مت فادفني مع صواحبي بالبقيع رواه ابن أبي خيثمة، فدفنت به "ليلا" ونزل في قبرها القاسم بن محمد وابن عمه عبد الله بن عبد الرحمن، وعبد الله بن أبي عتيق، وعروة، وعبد الله بن الزبير، كما في العيون، وحضر جنازتها أكثر أهل المدنية، "وصلى عليها أبو هريرة رضي الله عنه، وكان يومئذ خليفة مروان" بن الحكم أمير المدينة حينئذ من جهة معاوية "على المدينة" لأنه حج، فاستخلف أبو هريرة كذا في الشامية "في أيام معاوية بن أبي سفيان" رضي الله عنهما "وكانت عائشة تكنى أم عبد الله"، فقيل إن ذلك لما يروى عند ابن الأعرابي في معجمه "أنها أسقطت من النبي صلى الله عليه وسلم سقطا فسماه عبد الله ولم يثبت ذلك.
قال السهيلي لأنه يدور على داود بن المحبر، وهو ضعيف "والصحيح أنها كانت تكنى بعبد الله بن الزبير ابن أختها" أسماء، "فإنه عليه الصلاة والسلام تفل في فيه لما ولد" وأتته(4/392)
وقال لعائشة: هو عبد الله وأنت أم عبد الله، قالت: فما زلت أكنى بها وما ولدت قط. خرجه أبو حاتم.
__________
به، قالت عائشة: فكان أول شيء دخل جوفة، "وقال لعائشة: هو عبد الله وأنت أم عبد الله، قالت: فما زلت أكنى بها وما ولدت قط".
"خرجه أبو حاتم" بن حبان في صحيحه وابن سعد، وله طرق كثيرة عنها، وروى ابن أبي خيثمة عنها، قلت: يا رسول الله ألا تكنيني إن لكل صواحبي كنى، فلو كنيتني، قال: "اكتني بابنك عبد الله بن الزبير"، فكانت تكنى بأم عبد الله حتى ماتت فكأنه لما قال لها أنت أم عبد الله لما حنك ابن الزبير، احتمل عندها أنه أراد أنه من المؤمنين التي هي من أمهاتهم، فسألته أن يكنيها، فقال لها ذلك، وفي الروض بعد تضعيف حديث السقط، وأصح منه حديث أبي داود أنه صلى الله عليه وسلم قال لها: "تكني بابن أختك عبد الله بن الزبير"، ويروى "بابنك عبد الله"، لأنها كانت قد استوهبته من أبويه، فكان في حجرها يدعوها، أما ذكره ابن إسحاق وغيره انتهى. والله تعالى أعلم.(4/393)
[حفصة أم المؤمنين] :
أما أم المؤمنين حفصة بنت عمر بن الخطاب رضي الله عنهما -وأمها زينب بنت مظعون- فأسلمت وهاجرت. وكانت قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت خنيس -بضم المعجمة وفتح النون وبالسين المهملة- ابن حذافة السهي، هاجرت معه، ومات عنها بعد غزوة بدر.
__________
حفصة أم المؤمنين:
"وأما أم المؤمنين حفصة بنت عمر بن الخطاب رضي الله عنهما" التالية لعائشة في الفضل على ما استقر به الإمام السبكي، الكبير، المولودة قبل البعثة بخمس سنين، وقريش تبني الكعبة، وأمها زينب بنت مظعون، بالظاء المعجمة، وهذا ظاهر عند أهله، لكني سمعت بعض طلبة الفقه يهملها، فقلت له ذلك.
قاله البرهان الجمحية، الصحابية، أم عبد الله أيضا من المهاجرات، كما ذكر الزبير، والقول بموتها قبل الهجرة، وهم لما في البخاري أن عمر قال في ولده عبد الله، هاجر به أبواه، وقول العيون، وأمها قدامة بنت مظعون وهم؛ لأن قدامة خالها لا أمها، نبه عليه البرهان، "فأسلمت وهاجرت، وكانت قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت" الصحابي، الجليل، البدري، "خنيس بضم" الخاء "المعجمة، وفتح النون" وسكون التحتية، "وبالسين المهملة ابن حذافة" بضم المهملة، وبالذال المعجمة، فألف ففاء القرشي "السهمي هاجرت معه ومات عنها بعد غزوة بدر"(4/393)
فلما تأيمت ذكرها عمر على أبي بكر وعثمان فلم يجبه واحد منهما إلى زواجها، فخطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنكحه إياها في سنة ثلاث من الهجرة،
__________
من جراحات أصابته ببدر، وقيل بأحد.
قال اليعمري والأول أشهر، وفي الإصابة، الراجح أنه قتل بأحد سنة ثلاث، وفي الشامية رجح كلام جحون، والأول أشهر، "فلما تأيمت" تعزبت، والأيم يقال للعزب ذكرا كان أو أنثى، بكرا أو ثيبا قال الشاعر:
فإن تنكحي انكح وإن تتايمي ... وإن كنت أفتى منكم أتايم
"ذكرها" عرضها "عمر على أبي بكر" الصديق وعثمان" بن عفان قبله "فلم يحبه واحد منهما إلى زواجها"، وهذا أصح مما قدمه المصنف في ترجمة السيدة رقية، أن عثمان خطب ابنة عمر، فرده، فبلغ النبي، فذكر الحديث، وعزاه لتخريج الخجندي؛ لأن ما هنا رواه الشيخان وغيرهما عن ابن عمر قال: تأيمت حفصة بنت عمر من خنيس بن حذافة، السهمي وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد شهد بدرا وتوفي بالمدينة.
قال عمر: فلقيت عثمان، فقلت: إن شئت أنكحتك حفصة، قال: سأنظر في أمري فلبث ليالي، ثم لقيني، فقال: قد بدا لي أن لا أتزوج في يومي هذا، قال عمر: فلقيت أبا بكر فقلت: إن شئت أنكحتك حفصة، فصمت، فلم يرجع إلي شيئا فكنت عليه أوجد مني على عثمان، فلبثت ليالي، ثم خطبها صلى الله عليه وسلم فانكحتها إياه، فلقيني أبو بكر، فقال: لعلك وجدت علي حين عرضت علي حفة، فلم أرجع إليك شيئا فقلت نعم، قال: فإنه لم يمنعني أن أرجع إليك فيما عرضت علي إلا أني قد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ذكرها فلم أكن لأفشي سره ولو تركها لقبلتها، وهذا أيضا أصح مما في العيون أنه عرضها على الصديق قبل عثمان لكونه في أرفع الصحيح، ولأبي يعلى أن عمر قال: يا رسول الله ألا تعجب من عثمان، عرضت عليه حفصة فاعرض عني، فقال صلى الله عليه وسلم: "قد زوج الله عثمان خيرا، من حفصة، وزوج حفصة خيرا من عثمان"، "فخطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم فانكحه" عمر "إياها في سنة ثلاث من الهجرة" كما رواه ابن أبي خيثمة، عن الزهري، عن رجل من بني سهم، وعنده أيضا عن أبي عبيدة أنه تزوجها سنة اثنتين من الهجرة، وبه جزم ابن عبد البر قال في الإصابة، والراجح الأول لأن زوجها قتل بأحد سنة ثلاث، لكن قال في الفتح: الثاني أولى لأنهم قالوا تزوجها صلى الله عليه وسلم بعد خمسة وعشرين شهرا من الهجرة، وفي رواية بعد ثلاثين، وفي أخرى بعد عشرين، وكانت أحد بعد الهجرة بأكثر من ثلاثين شهرا، أو قد جزم ابن سعد بأن زوجها مات بعد قدومه صلى الله عليه وسلم من بدر انتهى.
وقال ابن سيد الناس تزوجها في شعبان على رأس ثلاثين شهرا من مهاجره على القول(4/394)
وطلقها تطليقة واحدة، ثم راجعها، نزل عليه الوحي: راجع حفصة فإنها صوامة قوامة وإنها زوجتك في الجنة.
وروى عنها جماعة من الصحابة والتابعين. وماتت في شعبان سنة خمس وأربعين في خلافة معاوية، وقيل.
__________
الأول، أي موت زوجها بعد بدر وبعد أحد على الثاني، "وطلقها تطليقة واحدة، ثم راجعها" رحمة لأبيها، ولأنه "نزل" جبريل "عليه" فقال له: "راجع حفصة فإنها صوامة قوامة، وأنها زوجتك في الجنة".
أخرجه ابن سعد والطبراني برجال الصحيح من مرسل قيس بن سعد، أنه صلى الله عليه وسلم طلق حفصة، فدخل عليها خالاها قدامة، وعثمان ابنا مظعون، فبكت وقالت: والله ما طلقني عن شيء فجاء صلى الله عليه وسلم، فتخليت فقال: قال لي: جبريل راجع حفصة فذكره.
وروى ابن أبي خيثمة عن أنس أنه صلى الله عليه وسلم طلق حفصة تطليقة، فأتاه جبريل، فقال: طلقت حفصة وهي صوامة قوامة وهي زوجتك في الجنة.
وعن عقبة بن عامر أنه صلى الله عليه وسلم طلق حفصة، فبلغ ذلك عمر، فحثا على رأسه التراب، وقال: ما يعبأ الله بعمر وابنته بعدها، فنزل جبريل من الغد، وقال: إن الله يأمرك أن تراجع حفصة رحمة لعمر، ثم أراد أن يطلقها ثانية، فقال له جبريل: لا تطلقها فإنها صوامة قوامة، أخرجه.
وروى أبو يعلى عن ابن عمر قال: دخل عمر على حفصة، وهي تبكي: فقال: لعل رسول الله صلى الله عليه وسلم قد طلقك أنه كان قد طلقك، ثم راجعك من أجلي، فإن كان طلقك مرة أخرى لا أكلمك أبدا، وفي هذه الأحاديث تنبيه من الله على فضلها، والثناء عليها بكثرة الصيام والقيام، والإخبار بأنها زوجة في الجنة للمختار، وقالت عائشة في حقها: إنها ابنت أبيها تنبيها على فضلها، رواه أبو داود عن الزهري، واسترضاها صلى الله عليه وسلم لما عتبت عليه بوطء مارية في بيتها، فحرمها وشهد بدرا من أهلها سبعة: أبوها، وعمها زيد، وزوجها وأخوالها: عثمان، وعبد الله، وقدامة، والسائب بن عثمان خالها، وروى لها عنه صلى الله عليه وسلم ستون حديثا في البخاري منها خمسة.
و"روى عنها جماعة من الصحابة والتابعين" كأخيها عبد الله، وابنه حمزة، وزوجته صفية بنت أبي عبيد، وحارثة بن وهب، والمطلب بن أبي وادعة، وأم مبشر الأنصارية، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وعبد الله بن صفوان بن أمية وغيرهم "وماتت في شعبان سنة خمسة وأربعين" بالمدينة "في خلافة معاوية" وبه جزم في التقريب، وصلى عليها مروان بن الحكم أمير المدينة وحمل سريرها بعض الطريق، ثم حمله أبو هريرة إلى قبرها، ونزل فيها أخوها عبد الله، وعاصم، وسالم، وعبد الله، وحمزة بنو عبد الله بن عمر، كما ذكر ابن سعد، "وقيل" ماتت في جمادى(4/395)
سنة إحدى وأربعين وهي ابنة ستين سنة، وقيل إنها ماتت في خلافة عثمان.
__________
الأولى "سنة إحدى وأربعين"، حين بايع الحسن معاوية، "وهي ابنة ستين سنة"، على القول الثاني؛ لأنها ولدت قبل النبوة بخمس سنين، فتضم إلى ثلاث عشرة قبل الهجرة، ثم إلى إحدى وأربعين بعدها تبلغ ذلك، أما على الأول فتكون ابنة ثلاث وستين، وقد أحسن اليعمري حيث قال بعد الأول، وقد بلغت ثلاثا وستين سنة، "وقيل إنها ماتت في خلافة عثمان" سنة سبع وعشرين، قال في الإصابة حكاه الدولابي، وهو غلط، وكان قائله استند إلى ما رواه ابن وهب عن مالك أنه قال: ماتت حفصة عام فتحت أفريقية، ومراده فتحها الثاني الذي كان على يد معاوية بن خديج، وهو في سنة خمسين، وأما الأول الذي كان في عهد عثمان سنة سبع وعشرين فلا، انتهى، وقيل ماتت سنة خمسين، وقيل سنة سبع وأربعين، حكاها البرهان، وأوصت إلى أخيها عبد الله بما أوصى إليها عمرو بصدقة تصدقت بها، بمال وقفته بالغاية، ذكره أبو عمر والله أعلم.(4/396)
[أم سلمة أم المؤمنين] :
أما أم المؤمنين أم سلمة هند، وقيل رملة الأول أصح -وأمها عاتكة بنت عامر بن ربيعة، وليست عاتكة بنت عبد المطلب- فكانت قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت أبي سلمة بن عبد الأسد، وكانت هي وزوجها أول من هاجر إلى أرض الحبشة، فولدت له بها زينب،
__________
أم سلمة أم المؤمنين:
"وأما المؤمنين أم سلمة" الموصوفة بالجمال البارع، والعقل البالغ والرأي الصائب، وإشارتها عليه صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية تدل على وفور عقلها وصواب رأيها، حتى قال إمام الحرمين لا نعلم امرأة أشارت برأي فأصابت إلا أم سلمة "هند، وقيل رملة الأول أصح" بل قال أبو عمرو: يقال رملة وليس بشيء وتقدم اسم أبيها ونسبه، "وأمها عاتكة بنت عامر بن ربيعة" بن مالك، لكنانية، وليست عاتكة بنت عبد المطلب" خلافا لمن أخطأ فظنها بنت عمته صلى الله عليه وسلم وإنما هي بنت زوجها، وأخواها عبد الله وزهير ابنا عمته عليه السلام، "فكانت قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت" ابن عمها عبد الله "أبي سلمة بن عبد الأسد" بن المغيرة المخزومي "وكانت هي وزوجها" ممن أسلم قديما، و"أول من هاجر إلى أرض الحبشة"، في أحد الأقوال، وقيل عثمان، وقيل سليط وقيل حاطب كما مر "فولدت له بها زينب" فيما يقال، لكن في مسند البزار ما يدل على أنها وضعتها بعد موت أبي سلمة، فحلت، فخطبها صلى الله فتزوجها، وكان اسمها برة، فغيره صلى الله عليه وسلم زينب.(4/396)
وولدت له بعد ذلك سلمة وعمر ودرة وقيل هي أولى ظعينة دخلت المدينة مهاجرة،
__________
أسنده ابن أبي خيثمة عنها، حفظت عنه صلى الله عليه وسلم، وروت عنه وعن أزواجه، ذكره في الإصابة في ترجمة زينب، "وولدت له بعد ذلك سلمة" الذي زوجه صلى الله عليه وسلم أمامه بنت حمزة عمه، وعاش إلى خلافة عبد الملك ولم يحفظ له رواية.
"وعمر" الصحابي الصغير، وله رواية في الكتب الستة، واستعمله على فارس والبحرين، ومات بالمدينة سنة ثلاث وثمانين على الصحيح، "ودرة" التي قالت أم حبيبة: يا رسول الله إنا قد تحدثنا أنك ناكح درة بنت أبي سلمة، فقال: إنها لو لم تكن ربيبة في حجري ما حلت لي إنها لابنة أخي من الرضاعة رواه البخاري، وقد علمت أن كون زينب أكبر أولادها إنما هو قول ضعيف، ولذا جزم في الإصابة في ترجمة أم سلمة بقوله، فولدت له سلمة بالحبشة، ثم قدما مكة، وهاجر إلى المدينة، فولدت له عمر ودرة وزينب، وأما الشامي، فتناقض كلامه، فقال: أولا سلمة أكبرهم، وعمر، وزينب أصغرهم، ثم بعده بقليل جزم بأن عمر ولد بالحبشة في السنة الثمانية من الهجرة ولدت زينب بأرض الحبشة، وتركة ذكرة درة رأسا، وكأنه أراد أن يحكي ذلك قولا مقابلا لما صدر به فنسي، لكن الشفاء في الإصابة، فإنه قال في زينب ما علمت، وفي عمر ولد في الحبشة في السنة الثانية، وقيل قبل ذلك وقبل الهجرة، ويدل عليه قول ابن الزبير كان أكبر مني بسنتين، "وقيل هي أول ظعينة دخلت المدينة مهاجرة" كما رواه البغوي عن قبيصة بن ذؤيب.
وروى ابن إسحاق عنها: لما أجمع أبو سلمة الخروج إلى المدينة رحل بعيرا له، وحملني، وحمل معي ابن سلمة، ثم خرج يقود بعيره، فلما رآه بنو المغيرة قالوا: هذه نفسك غلبتنا عليها، أرأيت صاحبتنا هذه علام نتركك تسير بها في البلاد، ونزعوا خطام البعير ن يدي وأخذوني، فغضب عند ذلك بنو عبد الأسد، وأهووا إلى سلمة، وقالوا: والله لا نترك ابنتنا عندها إذ نزعتموها من صاحبنا، فتجاذبوا سلمة حتى خلعوا يده، وانطلق به عبد الأسد ورهط أبي سلمة، وحبسني بنو المغيرة عندهم، فكنت أنطلق غداة، وأجلس أبكي بالأبطح فما أزال أبكي حتى أمسي سبعا، أو قربها حتى مر بي رجل من بني عمي، فقال لبني المغيرة: ألا تخرجون هذه المسكينة، فرقتم بينها وبين زوجها وابنها فقالوا: الحقي بزوجك إن شئت.
ورد على عبد الأسد عند ذلك ابني، فرحلت بعيري، ووضعت ابني في حجري، ثم خرجت أريد المدينة وما معي أحد من خلق الله حتى إذا كنت بالتنعيم لقيت عثمان بن طلحة، فقال: أين يا بنت أبي أمية، قلت: أريد زوجي بالمدينة، فقال: هل معك أحد، قلت: لا والله(4/397)
وقيل غيرها، ومات أبو سلمة سنة أربع وقيل سنة ثلاث من الهجرة.
وكانت أم سلمة سمعته عليه الصلاة والسلام يقول: "ما من مسلم تصيبه مصيبة فيقول: اللهم أجرني في مصيبتي وأخلفني خيرا منها إلا أخلف الله له خيرا منها" قالت: فلما مات أبو سلمة
__________
إلا الله وبني هذا، فقال: والله ما مثلك يترك فأخذ بخطام البعير، فانطلق معي يقودني، فوالله ما صحبت رجلا من العرب كان أكرم منه، إذا نزل المنزل أناخ بي، ثم تنحى إلى شجرة، فاضطجع تحتها، فإذا دنا الرواح، قام إلى بعيري، فقدمه ورحله، ثم تأخر عني وقال: اركبي فإذا استويت أتى فأخذ بخطامه فقادني، فلم يزل يصنع ذلك حتى قدم بي المدينة، فلما نظر إلى قباء قال: زوجك في هذه القرية، وكان أبو سلمة بها، "وقيل غيرها" قال في الإصابة، ويقال: إن ليلى امراة عامر بن ربيعة شاركتها في هذه الأولية، وقال الشامي: ويقال بل ليلى، "ومات أبو سلمة" البدري المسلم بعد عشرة أنفس، كما قال ابن إسحاق: بجرح أصابه بأحد، فعالجه شهرا حتى برئ، ثم بعثه صلى الله عليه وسلم في سرية، فغاب شهرا ثم عاد فانتقض جرحه، فمات لثمان خلون من جمادى الآخرة "سنة أربع" عند الجمهور، منهم ابن جرير، ويعقوب بن سفيان، وابن البرقي، وابن أبي خيثمة، "وقيل" في جمادى الآخرة أيضا، لكن "سنة ثلاث من الهجرة" قاله ابن عبد البر، قال في الإصابة، والراجح الأول انتهى، "وكانت أم سلمة سمعته عليه الصلاة والسلام" وفي رواية أن زوجها حدثها عنه بذلك ولا منافاة فحدثها أولا، ثم سمعته صلى الله عليه وسلم "يقول" كما في أبي داود والنسائي عن أم سلمة، ولم يذكوا عن أبي سلمة "ما من مسلم تصيبه مصيبة، فيقول: اللهم أجرني".
قال السيوطي: بهمزة قطع ممدودة، وكسر الجيم بوزن أكرمني، وبسكون الهمزة، وضم الجيم بوزن انصرني، أي أثبني وأعطني "في مصيبتي وأخلفني" بضم اللام "خيرا منها إلا أخلف الله له خيرا منها" ولمسلم والنسائي، وغيرهما أن أبا سلمة جاء إلى أم سلمة، فقال: سمعت من رسول الله صلى الله حديثا هو أعجب إلي من كذا، وكذا، ما أدري ما أعدل به، سمعته يقول: "لا تصيب أحدا مصيبة، فيسترجع عند ذلك ثم يقول: اللهم عندك احتسب مصيبتي هذه، اللهم اخلفني فيها بخير منها إلا أعطاه الله ذلك" والترمذي.
وقال حسن غريب، والنسائي، وابن ماجه، عن أم سلمة، عن أبي سلمة مرفوعا "إذا أصاب أحدكم مصيبة فليقل: إنا لله وإنا إليه راجعون اللهم عندك احتسب مصيبتي" الحديث.
"قالت: فلما مات أبو سلمة" استرجعت، وقلت: اللهم عندك احتسب مصيبتي، هذه كما في رواية الجماعة عنها زاد في رواية البغوي وغيره ولم تطب نفسي أن أقول اللهم اخلفني(4/398)
قلت أي المسلمين خير من أبي سلمة، ثم إني قلتها، فأخلف الله لي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسل إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم حاطب بن أبي بلتعة يخطبني له.
وفي رواية: فخطبها أبو بكر فأبت، وخطبها عمر فأبت، ثم أرسل إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: مرحبا برسول الله، إن فيَّ خلالا ثلاثا: أنا امرأة شديدة الغيرة، وأنا امرأة مصبية وأنا امرأة ليس لي هنا أحد من أوليائي فيزوجني. فغضب عمر رضي الله عنه أشد مما غضب لنفسه حين ردته، فأتاها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لها: "أما ما ذكرت
__________
خيرا منها و"قلت أي المسلمين خير من أبي سلمة" في قيامه بأمري على الوجه الذي أريده وبعيد أن يكون غيره مثله في حقي، فلم ترد إنكار خيرية أحد من المسلمين على الإطلاق، وهذا أولى من قول صاحب فتح الإله، كأنها أرادت غير نحو العشرة ممن لم تعرف لهم أفضلية على غيرهم حينئذ، وظنها أفضلية أبي سلمة على الكل بعيد من كمال عقلها وفقهها انتهى.
وفي رواية فكنت إذا أردت أن أقول وأبدلني خيرا منها، أقول ومن خير من أي سلمة، وفي رواية لابن ماجه، فلما أردت أن أقول: اللهم عضني خيرا منها، قلت في نفسي: أعاض خيرا من أبي سلمة، "ثم إني قلتها" أي المقالة التي هي "اللهم ... إلخ" "فاخلف الله لي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسل إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم" بعد انقضاء عدتها بوضع زينب، كما في رواية النسائي "حاطب بن أبي بلتعة يخطبني" بضم الطاء "له" كما في مسلم وغيره، والنسائي وغيره أنه أرسل عمر بن الخطاب يخطبها له، وللطبراني برجل الصحيح والنسائي أيضا من وجه آخر، والدارقطني أنه صلى الله عليه وسلم خطبها بنفسه، وجمع بأنه بعثهما أولا، ثم خطب بنفسه ثانيا، "وفي رواية عند النسائي وغيره بسند صحيح من حديثهما "فخطبها أبو بكر" وفي رواية، فلما انقضت عدتها، أرسل أبو بكر يخطبها، "فأبت وخطبها عمر" وفي رواية فأرسل إليها عمر يخطبها "فأبت ثم أرسل إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطبها فقالت: مرحبا برسول الله، إن فيَّ خلالا ثلاثا" أخافهن على رسول الله صلى الله عليه وسلم، "أنا امرأة شديدة الغيرة، وأنا امرأة مصبية"، بضم الميم، وسكون المهملة، وكسر الموحدة، وخفة التحتية، أي ذات صبية ذكور وأناث "وأنا امرأة ليس لي هنا أحد من أوليائي فيزوجني" وللنسائي فقالت: ما مثلي ينكح أنا لا يولد لي وغيور، وذات عيال، "فغضب عمر رضي الله عنه أشد مما غضب لنفسه حين ردته".
زاد في رواية، فقال: أنت التي تردين رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يابن الخطاب إن في كذا وكذا، "فأتاها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لها" زاد في رواية النسائي أنا أكبر منك و "أما ما ذكرت"(4/399)
من غيرتك فإني أرجو الله أن يذهبها عنك، وأما ما ذكرت من صبيتك فإن الله سيكفيهم، وأما ما ذكرت من أوليائك فليس أحد من أوليائك يكرهني". فقالت لابنها: زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم فزوجه. قال صاحب "السمط الثمين" رواه بهذا السياق هدبة بن خالد و"صاحب الصفوة" وخرج أحمد والنسائي طرفا منه، ومعناه في الصحيح.
ومنه دلالة على أن الابن يلي العقد على أمه، وعندنا أنه إنما زوجها بالعصوبة لأنه ابن عمها؛ لأن أبا سلمة عبد الله بن عبد الأسد بن هلال بن عبد الله، وأم سلمة هند بنت سهيل بن المغيرة بن عبد الله، ولم يكن من عصبتها
__________
من غيرتك فإني أرجو الله أن يذهبها عنك".
وفي رواية "فسأدعو الله، فيذهب غيرتك"، فدعا صلى الله عليه وسلم فكانت في النساء كأنها ليست منهن، لا تجد من الغيرة شيئا، "وأما ما ذكرت من صبيتك فإن الله سيكفيهم".
وفي رواية النسائي: "وأما العيال فإلى الله ورسوله"، "وأما ما ذكرت من أوليائك فليس أحد من أوليائك يكرهني".
وفي رواية "شاهد ولا غائب إلا سيرضاني" "فقالت لابنها" عمر، كما في رواية أحمد والنسائي.
وروى ابن إسحاق أنه سلمة أخوه، وعليه الأكثر، قال البلاذري، وهو أثبت، وأقره في الإصابة "زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم" أمك، "فزوجه" إياها.
"قال" المحب الطبري "صاحب السمط" بكسر السين العقد "الثمين" أي الغالي في أزواج الأمين "رواه بهذا السياق هدبة" بضم الهاء، وسكون الدال، بعدها موحدة "ابن خالد" بن الأسود العنسي أبو خالد البصري، ويقال له هداب، بفتح الهاء والتثقيل، ثقة عابد، لقيه البخاري، ومسلم، وأبو داود، ورووا عنه، ومات سنة بضع وثلاثين ومائتين، "وصاحب الصفوة" ابن الجوزي، "وخرج أحمد والنسائي طرفا منه، ومعناه في الصحيح" لمسلم، "وفيه دلالة على أن الابن يلي العقد على أمه"، كما ذهب إليه أبو حنيفة، ومالك، وجماعة، "وعندنا" يعني الشافعية "أن إنما زوجها بالعصوبة لأنه اب عمها؛ لأن أبا سلمة عبد الله بن عبد الأسد" بسين ودال مهملتين "ابن هلال بن عبد الله" بن عمر بن مخزوم القرشي المخزومي.
"وأم سلمة هند بنت" أبي أمية، واسمه "سهيل" في أحد الأقوال، وقيل هشام وقيل حذافة، وصدوا في الإصابة "ابن المغيرة بن عبد الله" بن عمر بن مخزوم المذكور، "ولم يكن من عصبتها(4/400)
أحد حاضرا غيره.
وكانت أم سلمة من
__________
أحد حاضرا غيره" من المستوين في الدرجة، لا إنه إذا غاب أقرب العصبة زوج الأبعد؛ لأنه إنما يزوجها حينئذ القاضي، كما هو مذهب الشافعية، ثم استشكل استدلال كل من الفريقين بصغر سن ابنيها سلمة وعمر عن أن يتولى واحد منهما النكاح؛ إذ لم يبلغ واحد منهما حتى أقدم بعضهم على الرواية، فقال: هي وهم أو هو عمر بن الخطاب، وقالت له زوج أمك مجازا باعتبار الأول؛ لأنها تصير أم المؤمنين وبعض أقدم بالظن، وتكلم بلا علم، فظن الأنثى ذكرا، فقال قد كان لها ابن سلمة ودرة ولم ينقل أن واحدا منهما زوجها وقد علمت أن درة أنثى، وإن قول الأكثر أن المزوج لها سلمة، وأنه أثبت والحق أنه صلى الله عليه وسلم تزوجها من نفسه بلا ولي، كما هو من خصوصياته، وقبله من ابنها صورة تطييبا لخاطرهما، وبذلك جزم السيوطي في خصائصه، فقال: وقال لأم سلمة "مري ابنك أن يزوجك"، فزوجها وهو يومئذ صغير لم يبلغ انتهى.
وروى الطبراني برجال الصحيح عنها: أنه صلى الله عليه وسلم أتاها فلف رداءه، ووضعه على أسكفة الباب، واتكأ عليه، وقال: "هل لك يا أم سلمة"؟ قلت: إني امرأة شديدة الغيرة، وأخاف أن يبدو للنبي صلى الله عليه وسلم ما يكره، فانصرف، ثم عاد، فقال: "هل لك يا أم سلمة؟ إن كان لزيادة في صداقك زدنا"، فعادت لقولهها، فقالت أم عبد: يا أم سلمة تدرين ما يتحدث به نساء قريش، يقلن إنما ردت محمدا لأنها تريد من قريش أحدث منه وأكثر مالا، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فتزوجها.
وروى ابن سعد عنها قالت: قلت لأبي سلمة بلغني أنه ليس امرأة يموت زوها، وهما من أهل الجنة، ثم لم تتزوج بعده إلا جمع الله بينهما في الجنة، وكذلك إذا ماتت المرأة وبقي الرجل بعدها فتعال أعاهدك أن لا تتزوج بعد، ولا أتزوج بعدك، قال: أتعطيني؟ قالت: ما سألتك إلا لأعطيك، قال: فإذا أنا مت فتزوجي، ثم قال: "اللهم ارزق أم سلمة بعدي رجلا خيرا مني، لا يحزنها ولا يؤذيها" فلما مات قلت: من هذا الذي هو خير لي من أبي سلمة؟ فلبثت ما لبثت، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوقف على الباب، فذكر نحو ما سبق.
قال ابن إسحاق: وأصدقها فراشا حشوة ليف، وقدحا، وصحفة ومجشة انتهى.
قال في الروض: وهي الرحى، ومنه سمي الحشيش، وذكر معها أشياء لا تعرف قيمتها، منها جفنة وفراش.
وفي مسند البزار قال أنس: أصدقها متاعا قيمته عشرة دراهم قال البزار، ويروى أربعون درهما انتهى.
وفي الحديث أنه بنى بها، فبات، فلما أصبح قال: "إن لك على أهلك كرامة، فإن شئت سبعت لك وسبعت لنسائي، وإن شئت ثلثت ودرت"، فقالت: بل ثلث، "وكانت أم سلمة من(4/401)
أجمل الناس، وتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليال بقين من شوال من السنة التي مات فيها أبو سلمة.
وماتت سنة تسع وخمسين وقيل سنة اثنتين وستين، والأول أصح،
__________
أجمل الناس" قالت عائشة: لما تزوجها حزنت حزنا شديدا لما ذكر لنا من جمالها، فذكرت ذلك لحفصة، فقالت: ما هي، كما يقال، فتلطفت حتى رأيتها، فرأيت والله أضعاف ما وصفت، فذكرت لحفصة، فقالت: نعم ولكني كنت غيرى.
رواه ابن سعد وروى أحمد أنه صلى الله عليه وسلم لما تزوجها قال: "يا أم سلمة إني أهديت إلى النجاشي حلة، وأواقي مسك، ولا أراه إلا قد مات، ولا أرى هديتي إلا مردودة فهي لك فكان كما" قال، فأعطى كل واحدة من نسائه أوقية، وأعطى أم سلمة المسك والحلة.
وروى أبو الحسن الخلعي عن زينب بنت أبي سلمة أنه صلى الله عليه وسلم كان عند أمها، فجعل حسنا في شق، وحسينا في شق وفاطمة في حجره، وقال: "رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد"، فبكت أم سلمة، فقال: "ما يبكيك"؟ قالت: يا رسول الله خصصتهم، وتركتني وابنتي، فقال: "إنك من أهل البيت".
وروى عمر الملاء عن عائشة، كان صلى الله عليه وسلم إذا صلى العصر، دخل على نسائه واحدة واحدة، يبدأ بأم سلمة؛ لأنها أكبرهن ويختم بي.
وروى الشيخان عن أم سلمة قلت: يا رسول الله هل لي أجر في بني أبي سلمة، أنفق عليه، ولست بتاركتهم هكذا وهكذا إنما همي بني؟ فقال: "نعم لك أجر ما أنفقت عليه"، "وتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليال بقين من شوال من السنة التي مات فيها أبو سلمة" وهي الرابعة على الصحيح أو الثالثة، وأما قول أبي عبيدة وابن عبد البر تزوجها بعد وقعة بدر في شوال سنة اثنتين، فقال اليعمري، ليس بشيء؛ لأن أبا عمر قال في وفاة أبي سلمة، أنها في جمادى الآخرة سنة ثلاث، وهو لم يتزوجها لا بعد انقضاء عدتها من وفاته انتهى، "وماتت سنة تسع وخمسين، في شوال، قاله الواقدي وتبعه ابن عساكر، وقيل سنة اثنتين وستين، قاله إبراهيم الحربي، قال في التقريب وهو الأصح.
وقال البخاري في التاريخ الكبير سنة ثمان وخمسين، وقيل سنة إحدى وستين بعدما جاءها خبر قتل الحسين.
قال ابن عبد البر هذا هو الصحيح، وقيل سنة ستين، قال اليعمري وهو الصحيح، فقول المصنف، "والأول أصح" فيما قاله بعضهم معارض بهذه التصحيحات، قال في الإصابة: وهي آخر أمهات المؤمنين موتا، فقد ثبت في مسلم أن الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة، وعبد الله بن(4/402)
ودفنت بالبقيع وصلى عليها أبو هريرة، وقيل سعيد بن زيد، وكان عمرها أربعا وثمانين سنة
__________
صفوان دخلا على أم سلمة في خلافة يزيد بن معاوية، فسألاها عن الجيش، وكان ذلك حين جهز يزيد مسلم بن عقبة بعسكر الشام إلى المدينة، فكانت وقعة الحرة سنة ثلاث وستين، وهذا كله يدفع قول الواقدي.
وحكاه ابن عبد البر: أن أم سلمة أوصت أن يصلي عليها سعيد بن زيد فإن سعيدا مات سنة خمسة أو إحدى أو اثنتين وخمسين، فيلزم منه أن تكون ماتت قبل ذلك، "ودفنت بالبقيع" وليس كذلك اتفاقا، ويمكن تأويله بأنها مرضت، فأوصت بذلك، ثم عوفيت، فمات سعيد قبلها انتهى، وهو تأويل حسن، ويؤيده أن الواقدي نفسه قال: "وصلى عليها أبو هريرة" إذ لو كان من أوصت له حيا ما صلى أبو هريرة، وقيل سعيد بن زيد، حكاه عبد الغني في الكمال وابن الأثير، وهو مشكل؛ لأنه مات قبلها باتفاق كما ترى، "وكان عمرها أربعا وثمانين سنة" على الصواب، وروت عنه صلى الله عليه وسلم وعن أبي سلمة، وفاطمة الزهراء، وعنها ابناها عمر وزينب وابن أخيها مصعب بن عبد الله، ومكاتبها نبهان ومواليها عبد الله بن رافع، ونافع وشعبة، وابنه، وأبو بكير، وخيرة والدة الحسن وممن يعد في الصحابة صفية بنت شيبة، وهند بنت الحارث الفراسية، وقبيصة بن ذؤيب، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام، ومن كبار التابعين أبو عثمان النهدي، وأبو وائل، وابن المسيب وأبو سلمة، وحميد، ولدا عبد الرحمن بن عوف، وعروة، وأبو بكر بن عبد الرحمن، وسليمان بن يسار، وآخرون كما في الإصابة.(4/403)
[أم حبيبة أم المؤمنين] :
وأما أم المؤمنين أم حبيبة رضي الله عنها، رملة بنت أبي سفيان صخر بن حرب، وقيل اسمها هند، والأول أصح -وأمها صفية بنت أبي العاصي بن أمية عمة عثمان بن عفان-
__________
أم حبيبة أم المؤمنين:
"وأما أم المؤمنين أم حبيبة" بفتح الحاء المهملة "رضي الله عنها رملة" بفتح الراء "بنت أبي سفيان صخر بن حرب، وقيل اسمها هند والأول أصح" وبه جزم الزهري وابن إسحاق وخلق. اشتهرت بكنيتها بابنتها من عبيد الله حبيبة ولدت بمكة وهاجرت معها إلى الحبشة، ورجعت معها إلى المدينة، قاله ابن إسحاق، وابن عقبة، وحكى ابن إسحاق قولا أنها ولدت بالحبشة صحابية ربيبة المصطفى، وأمها صفية بنت أبي العاصي بن أمية عمة عثمان بن عفان،(4/403)
فكانت تحت عبيد الله بن جحش، وهاجر بها إلى أرض الحبشة الهجرة الثانية، ثم تنصر وارتد عن الإسلام ومات هناك، وثبتت أم حبيبة على الإسلام.
واختلف في وقت نكاح رسول الله صلى الله عليه وسلم إياها، وموضع العقد، فقيل: إنه عقد عليها بأرض الحبشة سنة ست، فروي أنه صلى الله عليه وسلم بعث عمرو بن أمية الضمري إلى النجاشي ليخطبها عليه، فزوجها إياه، وأصدقها عنه أربعمائة دينار، وبعث بها إليه مع.
__________
فكانت تحت عبيد الله" بتصغير العبد "ابن جحش" فأما أخوه عبد الله بالتكبير، فاستشهد بأحد، ووهم، زاعم أنه زوجها؛ لأنه لم يتنصر، "وهاجر بها إلى أرض الحبشة الهجرة الثانية، ثم تنصر وارتد عن الإسلام" عطف تفسير؛ إذ التنصر بعد الإسلام ردة، "ومات هناك وثبتت أم حبيبة على الإسلام" فأتم لها الله الإسلام والهجرة.
وروى ابن سعد عنها، رأيت في المنام كأن زوجي عبيد الله بأسوأ صورة، ففزعت، فأصبحت، فإذا به قد تنصر، فأخبرته بالمنام، فلم يحفل به، وأكب على الخمر حتى مات، فأتاني آت في نومي، فقال: يا أم المؤمنين، ففزعت، فما هو إلا أن انقضت عدتي، فما شعرت إلا برسول النجاشي يستأذن، فإذا هي جارية يقال لها أبرهة، فقالت: إن الملك يقول لك وكلي من يزوجك الحديث.
"واختلف في وقت نكاح رسول الله صلى الله عليه وسلم إياها، وموضع العقد" وفي العاقد، "فقيل إنه عقد عليها بأرض الحبشة سنة ست".
قال أبو عبيدة، قال اليعمري: وليس بشيء.
وفي الإصابة روى ابن سعد أنه سنة سبع، وقيل ست والأول أشهر، "فروي أنه صلى الله عليه وسلم بعث عمرو بن أمية الضمري" بفتح، فسكون الصحابي المشهور، المتوفى في خلافة معاوية نسبة إلى ضمرة بن بكر بن عبد مناة بن كنانة "إلى النجاشي ليخطبها" النجاشي لا عمر، ولأنه رسول فقط، وضمنه معنى حبس ومنع، فقال "عليه" دون إليه أوله المتبادر من تعدية خطب، أي ليلتمس له نكاحها ويقبله له، "فزوجها إياه" النجاشي، أي تول عقدها على ظاهر هذه الرواية، وهو أحد الأقوال المحكية، في العيون وغيرها، "وأصدقها عنه أربعمائة دينار" كما في المستدرك وغيره.
قال في العيون وهو أثبت، وفي نسخة من العيون تسعمائة دينار، قال في النور وهو غلط، وفي المستدرك أيضا وأمهرها عنه أربعة آلاف دينار، وسكت عليه الذهبي في تلخيصه.
وفي أبي داود أربعة آلاف درهم، وعند ابن أبي خيثمة عن الزهري، زعموا أنه ساق عنه أربعين أوقية، فإن كانت من الفضة، فيكون ألفا وستمائة درهم، "وبعث بها إليه" صلى الله عليه وسلم "مع(4/404)
شرحيبل بن حسنة.
وروي أن النجاشي أرسل إليها جاريته "أبرهة" فقالت: إن الملك يقول لك إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلي أن أزوجك منه، وأنها أرسلت إلى خالد بن سعيد بن العاصي فوكلته وأعطت أبرهة سوارين خواتم من فضة سرورا بما بشرتها بها، فلما كان العشي أمر النجاشي جعفر بن أبي طالب ومن هناك من المسلمين فحضروا فخطب النجاشي فقال: الحمد لله الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار، أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، أما بعد: فإني أجبت إلى ما دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أصدقتها عنه أربعمائة دينار ذهبا،
__________
شرحبيل" بضم المعجمة، وفتح الراء وسكون المهملة، "ابن حسنة" هي أمه التي ربته، وأبوه عبد الله بن المطاع الكندي كان أميرا في فتح الشام، وبها مات سنة ثماني عشرة.
"وروي" عن ابن سعيد من طريق إسماعيل بن عمرو بن سعيد الأموي، عن أم حبيبة رأيت في النوم، فذكرت الحديث، كما مر، وفيه "أن النجاشي أرسل إليها جاريته أبرهة" التي قدمت معها وصحبت، "فقالت: إن الملك يقول لك إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلي أن أزوجك منه" فوكلي من يزوجك "وإنها أرسلت إلى خالد بن سعيد بن العاصي" بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف من السابقين الأولين، قيل كان رابعا أو خامسا استشهد بمرج الصفراء أو بأجنادين "فوكلته وأعطت أبرهة سوارين وخواتم من فضة سرورا بما بشرتها به، فلما كان العشي أمر النجاشي جعفر بن أبي طالب"، الأمير المستشهد بمؤتة، "ومن هناك من المسلمين فحضروا، فخطب النجاشي فقال: الحمد لله الملك القدوس" الطاهر عما لا يليق به "السلام" ذي السلامة من النقائص، "المؤمن" المصدق رسله بخلق المعجزة لهم "المهيمن" الشهيد على عباده بأعمالهم، "العزيز" القوي "الجبار" الذي جبر خلقه على ما أراد "أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره" يعليه "على الدين كله"، جميع الأديان المالفة له، "ولو كره المشركون" ذلك، "أما بعد، فإني أجبت إلى ما دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم".
وفي رواية ابن سعد، فإن رسول الله كتب إلى أن أزوجه أم حبيبة، فأجبت، "وقد أصدقتها عنه أربعمائة دينار ذهبا".
قال الحاكم: إنما أصدقها ذلك استعمالا لأخلاق الملوك في المبالغة في الصنائع، لاستعانة(4/405)
ثم سكب الدنانير بين يدي القوم. فتكلم خالد بن سعيد فقال: الحمد لله أحمده، وأستعينه واستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، أما بعد: فقد أجبت إلى ما دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وزوجته أم حبيبة بنت أبي سفيان، فبارك الله لرسوله صلى الله عليه وسلم فيها. ودفع الدنانير إلى خالد بن سعيد بن العاص فقبضها، ثم أرادوا أن يقوموا فقال: "اجلسوا فإن سنة الأنبياء إذا تزوجوا أن يؤكل طعام على التزويج"، فدعا بطعام فأكلوا ثم تفرقوا. خرجه صاحب الصفوة كما قاله الطبري. وكان ذلك سنة سبع من الهجرة.
قال أبو عمر: واختلف فيمن زوجها فروي أنه سعيد بن العاصي،
__________
النبي صلى الله عليه وسلم به في ذلك انتهى، وعند ابن أبي خيثمة عن أم حبيبة وما بعث إليه صلى الله عليه وسلم بشيء، "ثم سكب الدنانير بين يدي القوم، فتكلم خالد بن سعيد، فقال: الحمد لله، أحمده وأستعينه، واستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، ولو كره المشركون أما بعد فقد أجبت إلى ما دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وزوجته أم حبيبة بنت أبي سفيان فبارك الله لرسول الله صل الله عليه وسلم فيها، ودفع" النجاشي "الدنانير إلى خالد بن سعيد بن العاصي فقبضها ثم أرادوا أن يقوموا".
وفي رواية أراد بالإفراد، أي هو ومن معه، وخصه بالإرادة لأنه لما كان أمر العقد منوطا به، وثم أراد الانصراف لانتهاء الحاجة، "فقال: "اجلسوا فإن سنة الأنبياء"، طريقتهم وسيرتهم الحميدة، "إذا تزوجوا أن يؤكل طعام على التزويج، فدعا بطعام، فأكلوا ثم تفرقوا".
زاد ابن سعد قالت أم حبيبة: فلما وصل إلى المال أعطيت أبرهة منه خمسين دينارا، فردتها علي، وردت على ما كنت أعطيتها أولا، وقالت: إن الملك عزم على بذلك، ثم جاءتني من العد بعود، وورس، وعنبر وزباد كثير، فقدمت به معي على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
"خرجه صاحب الصفوة" ابن جوزي "كما قاله الطبري" الحافظ محب الدين وأخرجه ابن سعد بأبسط منه، كما علم، "وكان ذلك في سنة سبع من الهجرة" كما رواه ابن سعد، وقيل سنة ست، والأول أشهر، كما في الإصابة، بل في العيون أن الثاني ليس بشيء كما مر، وعلى فرض ثبوته يحتمل أن البعث سنة ست, والعقد سنة سبع، فلا منافاة بينهما.
"قال أبو عمر" بن عبد البر، "واختلف فيمن زوجها، فروي أنه سعيد بن العاصي" أخو خالد، كما في الإصابة، فنسب لجده، وفيه نظر، فقد ذكر ابن شاهين أن إسلامه كان قبل الفتح.(4/406)
وروي عثمان بن عفان وهي ابن عمته. وذكره البيهقي أن الذي زوجها خالد بن سعيد بن العاصي وهو ابن عم أبيها، لكن إن صح التاريخ المذكور فلا يصح أن يكون عثمان هو الذي زوجها، فإنه كان مقدمه من الحبشة قبل وقعة بدر في السنة الثانية من الهجرة.
وكان أبو سفيان أبوها حال نكاحها بمكة مشركا محاربا لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
__________
بيسير، كما نقله في الإصابة فلم يكن من مهاجرة الحبشة.
"وروي" عن الطبراني عن الزهري: "عثمان بن عفان، وهي ابنة عمته" لأن أمها صفية أخت عفان لأمه وأبيه، وذكر البيهقي" وهو الذي رواه ابن سعد عنها، "إن الذي زوجها خالد بن سعد بن العاصي" وبه جزم ابن القيم.
قال اليعمري: وهو أثبت انتهى، "وهو ابن عم أبيها" لأن العاصي ابن أمية وأبو سفيان بن حرب ابن أمية، وقيل عقد عليها النجاشي، وكان قد أسلم، حكاه اليعمري وغيره وفيه نظر؛ لأنه وكيل عنه صلى الله عليه وسلم فهو الذي قبل له.
قال الشامي: ويحتمل أن يكون النجاشي هو الخاطب والعاقد أما عثمان أو خالد على ما تضمنه الحديث، "لكن إن صاح التاريخ المذكور" من القولين في وقته، "فلا يصح أن يكون عثمان هو الذي زوجها فإنه كان مقدمه من الحبشة قبل وقعدة بدر في السنة الثانية من الهجرة" وأما سعيد أو خالد، فكلاهما محتمل على ما يعطيه ظاهر المصنف، وقد علمت ما في سعيد من نظر، "وكان أبو سفيان أبوها حال نكاحها بمكة، مشركا، محاربا لرسول الله صلى الله عليه وسلم"، فقيل له: إن محمدا قد نكح ابنتك فقال: هو الفحل لا يقدع أنفه.
رواه أبو سعد وغيره وهو بضم التحتية، وسكون القاف، وفتح الدال وبالعين المهملتين، قال الجوهري: أي لا يضرب أنفه، وذلك إذا كان كريما، وليس ذكره مجرد فائدة لا تعلق لها بالتزويج، بل لرد القول بأن أباها هو الذي زوجها عملا بما في مسلم من طريق عكرمة بن عمار، عن أبي زميل عن ابن عباس: أن أبا سفيان قال للنبي صلى لله عليه وسلم: أسألك ثلاثا، فأعطاه إياهن الحديث، وفيه عندي أجمل العرب أم حبيبة، أزوجك إياها، فقيل: الصحيح أنه تزوجها بعد الفتح لهذا الحديث، ولا يرد بنقل المؤرخين، وهذه طريقة باطلة عند أدنى من لم علم بالسير والتواريخ، وما قد كان وقيل هو غلط لا خفاء به.
قال ابن حزم: هو موضوع بلا شك كذبه عكرمة بن عمار، وقال ابن الجوزي: فيه وهم من بعض الرواة لا شك فيه ولا تردد، اتهموا به عكرمة للإجماع على أنه صلى الله عليه وسلم تزوجها وهي(4/407)
وقد قيل إن عقد النكاح عليها كان بالمدينة بعد رجوعها من أرض الحبشة
__________
بالحبشة وإن أباها جاء زمن الهدنة، فدخل عليها فثنت فراشه صلى الله عليه وسلم حتى لا يجلس عليه، وتبعه على ذلك جماعة آخرهم أبو الحسن بن الأثير في أسد الغابة، وتعقب بالقول بأنه تزوجها بالمدينة، كما يأتي نعم لا خلاف أنه دخل عليها قبل إسلام أبي سفيان، وأنكر ابن الصلاح هذا على ابن حزم، وبالغ في الشناعة عليه، وقال: لا نعلم أحدا من أئمة الحديث نسب عكرمة إلى الوضع، وقد وثقه وكيع وابن معين وغيرهما، وقالت طائفة: بل سأله أن يجدد العقد تطييبا لقلبه، فإنه كان تزوجها بغير اختياره، وخفي علية صحح العقد بغير رضاه في تلك الحالة.
قال بعض الحفاظ: وهذا أيضا باطل لا يظن به صلى الله عليه وسلم ولا يعقل أبي سفيان، ولم يكن شيء من ذلك، وقالت طائفة، منهم البيهقي والمنذر، يحتمل أن هذه المسألة وقعت من أبي سفيان في بعض خرجاته إلى المدينة، وهو كافر حين سمع نعي زوج بنته بالحبشة والتعسف والتكلف الذي في هذا الكلام يغني عنه رده، وقالت طائفة، للحديث محمل صحيح، وهو أن المعنى أرضى الآن أن تكون زوجك، فإني لم أكن قبل ذلك راضيا به، وهذا من زبد الصدور، لا من زبدها، وقيل لما سمعه أبو سفيان أنه صلى الله عليه وسلم طلق نساءه حين حلف لا يدخل عليهن شهرا قدم المدينة، وقال ذلك ظنا منها أنه طلقها وهذا من جنس ما قبله، وقالت طائفة: الحديث صحيح، لكن الغلط والوهم من أحد رواته في تسمية أم حبيبة، وإنما سأله أن يزوجه أختها عزة وخفاءالتحريم عليه غير مستبعد، فقد حفي على ابنته وهي أفقه منه، واعلم حيث قالت له صلى الله عليه وسلم هل لك في أختي فهذه التي عرضها أبو سفيان، فسماها الراوي من عنده أم حبيبة وهما، وقيل كانت كنيتها أيضا أم حبيبة، وهذا جواب حسن لولا قوله، فأعطاه ما سأل فيقال حينئذ هذه اللفظة من الراوي، وإنما أعطاه بعض ما سأل أو أطلق اتكالا على فهم المخاطب أنه أعطاه ما يجوز إعطاؤه مما سأل.
وقال المنذري أيضا ظن أبو سفيان بإسلامة تجدد ولايته عليها، فأراد تجديد العقد يوم ذلك لا غير، قال اليعمري: وهذا جواب يتساوك هزلا انتهى، بضم الهاء مفعول له، أي يتمايل لأجل الضعف والهزل، وقد ظهر لي الجواب، بأن المعنى يديم التزويج ولا يطلق كما فعل بغيرها، ولا ينافيه قوله عندي؛ لأن الإضافة لأدنى ملابسة، ولا بأس به فإنه قريب.
"وقد قيل إن عقد النكاح عليها كان بالمدينة بعد رجوعها من أرض الحبشة"، وعمل له عثمان وليمة لحم.
روي ذلك عن قتادة والزهري، وهو يرد دعوى ابن حزم وغيره الإجماع على أنه إنما تزوجها(4/408)
والمشهور الأول:
وماتت بالمدينة سنة أربع وقيل: سنة اثنتين وأربعين.
__________
وهي بالحبشة، ويحمل على أن عثمان جدد له العقد بعد قدومها، كذا في الإصابة "والمشهور الأول" ولشهرته حكى عليه غير واحد الإجماع، وقضوا بالوهم على ما في الصحيح كما رأيت، وفي الإصابة قيل نزل في ذلك عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة، وهذا بعيد انتهى.
وفي الروض قال مجاهد في الآية: هي مصاهرة النبي صلى الله عليه وسلم لأبي سفيان، وروى ابن أبي خيثمة، والزبير بن بكار بإسناد يرفعه إلى من سمع النبي صلى الله عليه وسلم يمازح أبا سفيان في بيت أم حبيبة، وأبو سفيان يقول له: تركتك فتركتك العرب، ولم ينتطح بعدها جماء، ولا قرناء، وهو صلى الله عليه وسلم يضحك ويقول: "أنت تقول هذا يا أبا حنظلة"؟ وماتت بالمدينة سنة أربع وأربعين، جزم به ابن سعد وأبو عبيد، ورجحه البلاذري، وقيل سنة اثنتين وأربعين، قال ابن حبان، وابن قانع، وابن منده.
وقال ابن أبي خيثمة، سنة تسع وخمسين قال في الإصابة، وهو بعيد وقال في النور: هو غريب ضعيف، قيل قبرت بدمشق والصحيح بالمدينة انتهى، وقيل مات سنة خمسين، وقيل سنة خمس وخمسين، وأخرج ابن سعد، عن عائشة: دعتني أم حبيبة عند موتها، فقالت، قد كان يكون بيننا ما يكون بين الضرائر، فحلليني من ذلك فحللتها، واستغفرت لي، واستغفرت لها، فقالت لي: سررتني سرك الله، وأرسلت إلى أم سلمة بمثل ذلك، روت أم حبيبة عنه صلى الله عليه وسلم عدة أحاديث في الكتب الستة، وعن ضرتها زينب بنت جحش، وعنها بنتها حبيبة وأخواها معاوية، وعتبة وابن عبد الله، وأبو سفيان بن سعيد بن المغيرة الثقفي، وهو ابن أختها ومولياها سالم، وأبو الجراح، وصفية بنت شيبة، وزينب بنت أم سلمة، وعروة بن الزبير، وأبو صالح السمان، وآخرون والله أعلم.(4/409)
[زينب بنت جحش أم المؤمنين] :
وأما أم المؤمنين زينبت بنت جحش -وأمها أميمة بنت عبد المطلب بن هاشم-
__________
زينب بنت جحش أم المؤمنين:
"وأما أم المؤمنين زينب بنت جحش" الأسدية، تقدم نسب أبيها "وأمها أميمة" بالتصغير "بنت عبد المطلب بن هاشم" عمته صلى الله عليه وسلم، المختلف في إسلامها، واثبته ابن سعد، وقال:(4/409)
فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم زوجها من زيد بن حارثة، فمكثت عنده مدة ثم طلقها -كما سيأتي إن شاء الله تعالى في الخصائص- فلما انقضت عدتها منه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لزيد بن حارثة: "اذهب فاذكرني لها"، قال: فذهبت إليها، فجعلت ظهري إلى الباب فقلت يا زينب بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرك فقالت: ما كنت لأحدث شيئا حتى أوامر ربي عز وجل، فقامت إلى مسجد لها، فأنزل الله تعالى: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا} [الأحزاب: 37] .
__________
أطعمها صلى الله عليه وسلم أربعين وسقا من خيبر، فعليه، كانت موجودة لما تزوج بنتها، "فكان رسول الله صلى الله عليه زوجها من" حبه، ومولاه "زيد بن حارثة"، باشر تزويجها له لأن من خصائصه أن يزوج من شاء ممن شاء، أو سعى له في ذلك.
وقد روى الطبراني بسند صحيح، عن قتادة وابن جرير، عن ابن عباس، قالا: خطب النبي صلى الله عليه وسلم زينب، وهو يريدها لزيد، فظنت أنه يريدها لنفسه، فلما علمت أنه يريدها لزيد أبت واستنكفت، وقالت: أنا خير منه حسبا، فأنزل الله {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ} كلها، فرضيت، وسلمت "فمكثت عنده مدة" ألقى الله في قلبه كراهتها، فجاء يشكوها إليه صلى الله عليه وسلم، فقال له: "أمسك عليك زوجك، واتق الله"، فنزلت {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ} [الأحزاب: 37] ، أي علمك بالوحي بأنه سيطلقها وأنك تتزوجها، كما قاله علي بن الحسين والزهري وغيرهما، وعليه أهل التحقيق، "ثم طلقها، كما سيأتي إن شاء الله تعالى في الخصائص" لكراهته لها، لتعاظمها عليه بشرفها، لا لرغبة المصطفى في نكاحها، كما زعمه من وهم، "فلما انقضت عدتها منه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لزيد بن حارثة" إظهارا لمزيد حبه له وقوة إيمانه، حيث اطمأنت نفسه إلى خطبة من فارقها عليه السلام.
قال البيضاوي: وذلك ابتلاء عظيم، وشاهد بين على قوة إيمانه، "اذهب فاذكرني لها" ويروى أنه قال له: "ما أجد في نفسي أوثق منك، فاخطب زينب عليَّ".
"قال: فذهبت إليها، فجعلت ظهري إلى الباب" من مزيد ورعه حتى لا يراها، وإلا فهو كان قبل زوال الحجاب "فقلت: يا زينب بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرك" يخطبك "فقالت: ما كنت لأحدث شيئا حتى أوامر"، بضم الهمزة وفتح الواو أو بهمزتين مضارع آمر، أي استخير "ربي عز وجل فقامت إلى مسجد لها فأنزل الله" تعالى على رسوله " {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا} "، أي جعلناها لك زوجة بلا واسطة، عقد على الصواب الذي لا يجوز غيره، فإنها كانت تفخر بأن الله هو الذي زوجها، وقال ابن إسحاق زوجها أخوها أبو أحمد يمكن تأويله، بأنه لما رآه أتى في منزلها، رضيه وفرح به؛ إذ لا كلام له ولا لغيره مع الله،(4/410)
فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل عليها بغير إذن. أخرجه مسلم.
وقال المنافقون: حرم محمد نساء الولد، وقد تزوج امرأة ابنه، فأنزل الله تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ} [الأحزاب: 40] الآية.
وكانت زينب تفخر على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم تقول: زوجكن آباؤكن، وزوجني الله من فوق سبع سماوات،
__________
"فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدخل عليها بغير إذن".
"أخرجه مسلم" وأحمد، والنسائي من حديث أنس قال: لما انقضت عدة زينب، فذكره، وعند ابن سعد بسند مرسل بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحدث عند عائشة إذ أخذته عشبة فسري عنه.
وهو يتبسم ويقول: "من يذهب إلى زينب فيبشرها" وتلا {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ} [الأحزاب: 37] قالت عائشة: فأخذني ما قرب وما بعد لها يبلغنا من جمالها، وأخرى هي أعظم وأشرف ما صنع لها زوجها الله من السماء، وعنده بسند ضعيف، عن ابن عباس لما أخبرت زينب بتزويج رسول الله صلى الله عليه وسلم لها سجدت، "وقال المنافقون: حرم محمد نساء الولد، وقد تزوج امرأة ابنه" لأنه كان تبناه، "فأنزل الله تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ} [الأحزاب: 40] الآية".
قال ابن عطية اذهب الله سبحانه بهذه الآية ما وقع في نفوس منافقين وغيرهم من تزوجه زوجة دعيه فنفى تلك البنوة، واعلم أنه في حقيقة أمره لم يكن أبا أحد من المعاصرين له، ولم يقصد بالآي أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن له ولد، فيحتاج في أمر بنيه، أنهم كانوا ماتوا، ولا في أمر الحسن والحسين، بأنهما ابنا بنته، ومن قال ذلك تأول معنى البنوة على غير ما قصد بها انتهى، وهو حسن نفيس، وقد صرح بأن القول ليس من المنافقين فقط، وأخرج الترمذي عن عائشة لما تزوج صلى الله عليه وسلم زينب، قالوا: تزوج حليلة ابنه فنزل {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ} الآية، "وكانت زينب تفخر" بفتح المعجمة، وفي نسخة تفتخر "على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم تقول: زوجكن آباؤكن، وزوجني الله من فوق سبع سماوات".
"رواه الترمذي وصححه" من حديث أنس، وفي رواية غيره أنها كانت تقول: إن آباءكن أنكحوكن، وإن الله أنكحني إياه من فوق إلخ..... وليس هذا من الفخر المنهي عنه، بل من التحدث بالنعمة، وقد سمعها صلى الله عليه وسلم وأقرها، فروى ابن سعد عن عبد الواحد بن أبي عون، قالت زينب: يا رسول الله إني والله ما أنا كأحد من نسائك ليس امرأة من نسائك إلا زوجها أبوها، أو أخوها أو أهلها غيري زوجنيك الله من السماء، وعن الشعبي كانت زينب تقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم:(4/411)
رواه الترمذي وصححه.
وكان اسمها "برة" فسماها النبي صلى الله عليه وسلم زينب.
وعن أنس: لما تزوج صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش دعا القوم فطعموا ثم جلسوا يتحدثون فإذا هو صلى الله عليه كأنه يتهيأ للقيام فلم يقوموا فلما رأى ذلك قام وقام من قام، وقعد ثلاثة نفر، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم ليدخل فإذا القوم جلوس،
__________
لأني لأدل عليك بثلاث، ما من نسائك امرأة تدل بهن، إن جدي وجدك واحد، وإن الله أنكحك إياي من السماء، وإن الساعي في ذلك جبريل تريد عبد المطلب؛ لأنه أبو أمها فهو نحو رواية أنا بنت عمتك: "وكان اسمها برة" بفتح الموحدة، والراء المشددة كما في النور أما أبوها جحش، فكان اسمه برة بضم الموحدة كما في التبصير والروض "فسماها النبي صلى الله عليه وسلم زينب" لما دخلت عليه.
ذكره ابن عبد البر، أي كراهة أن يقال خرج من عند برة، أو ما هنا برة مثلا لحبه الفال الحسن، لا لأنها كانت تزكي نفسها، كما زعم لأنه سوء ظن.
"و" روى البخاري ومسلم "عن أنس لما تزوج صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش دعا القوم، فطعموا" الخبز واللحم، كما في الرواية وفي الصحيح أيضا ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم أولم على أحد من نسائه ما أولم على زينب بنت جحش. أولم عليها بشاة، أي شكر الله حيث زوجه إياها بالوحي، كما قال الكرماني أو وقع اتفاقا لا قصدا، كما قال ابن بطال أو لبيان الجواز، كما قال غيرهما، وفي الصحيح أيضا بنى بزينب بنت جحش بخبز ولحم، فأرسلت داعيا، فيجيء قوم، فيأكلون ويخرجون، ثم قوم فيأكلون ويخرجون فدعوت حتى ما أجد أحدا، قلت يا نبي الله ما أجد أحدا أدعوه، قال: "ارفعوا طعامكم" "ثم جلسوا يتحدثون" فأطالوا الجلوس، "فإذا هو صلى الله علي وسلم كأنه يتهيأ للقيام" ليتفطنوا لمراده فيقوموا لقيامه، "فلم يقوموا" وكان يستحيي أن يقول لهم قوموا "فلما رأى ذلك قام"، لكن يقوموا ويخرجوا، "وقام من قام، وقعد ثلاثة نفر" لم يسموا، والإضافة بيانية، أي ثلاثة هم نفر لا حقيقة، وإلا لكان المعنى أنهم تسعة، أو أكثر إذ أقل النفر ثلاثة وليس بمراد وفي رواية للبخاري رجلان وأجاب الكرماني بأن مفهوم العدد لا اعتبار له، أو المحادثة كانت بينهما، والثالث ساكت، وقال الحافظ: كأن أحد الثلاثة فطن لمراد الرسول، فخرج وبقي الاثنان "فجاء النبي صلى الله عليه وسلم ليدخل" على زينب، "فإذا القوم جلوس" في بيتها فرجع زاد في رواية أخرى في الصحيح، فانطلق إلى حجرة عائشة، فقال: "السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله"، فقالت: وعليك السلام ورحمة الله، كيف وجدت أهلك يا رسول الله وبعض حجر(4/412)
ثم إنهم قاموا، فانطلقت فجئت فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم أنهم قد انطلقوا فجاء صلى الله عليه وسلم حتى دخل فذهبت أدخل فألقى الحجاب بيني وبينه، فأنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ} [الأحزاب: 53] الآية.
وكان تزويجها له صلى الله عليه وسلم في سنة خمس من الهجرة، وقيل سنة ثلاث.
__________
نسائه يقول لهن، كما يقول لعائشة ويقلن له كما قالت: "ثم إنهم قاموا، فخرجوا، فانطلقت فجئت فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم أنهم قد انطلقوا فجاء" صلى الله عليه وسلم "حتى دخل فذهبت أدخل فألقى الحجاب"، أي الستر "بيني وبينه، فأنزل الله تعالى" بعد خروج القوم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ} الآية، إلى قوله: {عَظِيمًا} .
وفي البخاري عن أنس أيضا، أنا أعلم الناس بآية الحجاب لما أهديت زينب بنت جحش إلى رسول الله كانت معه في البيت فدعا القوم فذكر نحوه، وروى البخاري أيضا عن أنس قال عمر: قلت: يا رسول الله يدخل عليك البر والفاجر، فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب، فأنزل الله آية الحجاب.
وأخرج الطبراني بسند صحيح عن عائشة: كنت آكل مع النبي صلى الله عليه وسلم في قعب، فمر عمر، فدعاه، فأكل، فأصاب أصبعه، فقال: أوه لو أطاع فيكن ما رأتكن عين، فنزلت آية الحجاب.
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس: دخل رجل على النبي صلى الله عليه وسلم فأطال الجلوس، فخرج صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات ليخرج فلم يفعل، فدخل عمر فرأى الكراهية في وجهه، فقال عمر: لعلك آذيت النبي صلى الله عليه وسلم فقال صلى الله عليه وسلم: "لقد قمت ثلاثا لكي يتبعني، فلم يفعل"، فقال عمر: يا رسول الله لو اتخذت حجابا فإن نساءك لسن كسائر النساء وذلك أطهر لقولهم، فنزلت آية الحجاب.
قال الحافظ يمكن الجمع بأن ذلك وقع قبيل قصة زينب فلقربه منها أطلق نزول آية الحجاب بهذا السبب ولا مانع من تعدد الأسباب انتهى. "وكان تزويجها له صلى الله عليه وسلم في سنة خمس من الهجرة" كلامه صريح في ترجيحه ولم أجده، "وقيل سنة ثلاث" ذكره ابن أبي خيثمة عن أبي عبيدة، وصدر به في الإصابة والسبل وقيل سنة أربع وقدمه في العيون، قالت أم سلمة كانت زينب معجبة لرسول الله، وكان يستكثر منها، وكانت صالحة صوامة قوامه صنعاء تصدق بذلك كله على المساكين، رواه ابن سعد، وقالت عائشة، وهي التي كانت تساميني من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، كما في الصحيح، أي تضاهيني وتفاخرني بجمالها ومكانتها عنده عليه السلام.
وعن راشد بن سعد قال: دخل صلى الله عليه وسلم منزله ومعه عمر، فإذا هو بزينب تصلي، وهي تدعو في صلاتها، فقال صلى الله عليه وسلم: "إنها لأواهة"، رواه الطبراني، وعن ميمونة كان صلى الله عليه وسلم يقسم ما أفاء الله على رهط من المهاجرين، فتكلمت زينب بنت جحش، فانتهرها عمر، فقال صلى الله عليه وسلم: "خل عنها يا عمر(4/413)
وهي أول من مات من أزواجه بعده. وقالت عائشة في شأنها: ولم تكن امرأة خيرا منها في الدين، وأتقى لله وأصدق حديثا، وأوصل للرحم، وأعظم صدقة.
__________
فإنها أواهة"، فقال رجل: يا رسول الله ما الأواه، قال: الخاشع المتضرع، وإن إبراهيم لحليم أواه، منيب، رواه ابن عبد البر وغيره، وتفسيرة صلى الله عليه وسلم لا معدل عنه، فمن فسره بكثير التأوه والتأسف على الناس من ذنوبهم فقد فسره باللازم، وفي حديث الإفك قالت عائشة: وكان صلى الله عليه وسلم يسأل زينب عن أمري، فقال: "ماذا علمت أو رأيت"، فقالت: يا رسول الله أحمي سمعي وبصري، والله ما علمت إلا خيرا، قالت عائشة: وهي التي كانت تساميني من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فعصمها الله بالورع، "وهي أول من مات من أزواجه بعده".
روى الشيخان واللفظ لمسلم عن عائشة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أسرعكن لحاقا بي، أطولكن يدا، فكن يتطاولن أيهن أطول يدا، قالت: وكانت أطولنا يدا زينب؛ لأنها كانت تعمل بيديها وتتصدق.
وفي رواية قالت عائشة، فكنا إذا اجتمعنا في بيت إحدانا بعد وفاته صلى الله عليه وسلم نمد أيدينا في الجدار، نتطاول فلم نزل نفعل ذلك حتى توفيت زينب بنت جحش، وكانت امرأة قصيرة ولم تكن بأطولنا، فعرفنا حينئذ أنه صلى الله عليه وسلم إنما أراد طول اليد بالصدقة، وكانت زينب صناع اليدين، فكانت تدبع وتخرز وتتصدق به في سبل الله، وصناع بفتح الصاد المهملة، أي لها صنعة تعملها بيديها، "وقالت عائشة في شأنها" كانت زينب هي التي تساميني من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في المنزلة عنده، "ولم تكن امرأة" وفي رواية وما رأيت امرأة قط "خيرا منها في الدين" فعلى الرواية الثانية تحمل الأولى، فلا ترد خديجة، لأنها لم ترها، وعائشة؛ لأنها لا تزكي نفسها في مقام الثناء على غيرها وإن ذكرت فضائلها تحدثا بالنعمة كما مر في ترجمتها ثم المراد من أمهات المؤمنين فلا ترد السيدة فاطمة فإن عائشة نفسها صح عنها قولها: ما رأيت أحدا قط أفضل من فاطمة غير أبيها، كما مر "وأتقى الله وأصدق حديثا" ومن ذلك حلفها في حديث الإفك بأنها ما علمت إلا خيرا مع كونها ضرتها وعلمها بأنها أحب إليه منها، فلم تأخذها الغيرة على السكوت وعلى الإخبار بنفي العلم فقط، بل حصرت العلم في الخيرة ثم لم تكتف بذلك حتى أقسمت عليه قبل ذكره "وأوصل للرحم وأعظم صدقه".
روى ابن سعد وابن الجوزي عن برزة بنت رافع قالت: لما خرج العطاء أرسل عمر إلى زينب بنت جحش بالذي لها فلما أدخل عليها، قالت: غفر الله لعمر غيري من إخواني كان أقوى على قسم هذا مني قالوا: هذا كله لك، قالت: سبحان الله، واستترت منه بثوب، وقالت: صبوه واطرحوه عليه ثوبا، ثم قالت: أدخلي يدك وأقبضي منه قبضة فاذهبي بها إلى بني فلان،(4/414)
وأشد ابتذالا لنفسها في العمل الذي تتصدق به يقرب إلى الله، رواه مسلم وماتت بالمدينة سنة عشرين وقيل إحدى وعشرين ولها ثلاث وخمسون سنة، وصلى عليها عمر بن الخطاب، وهي أول من جعل على جنازتها نعش.
__________
وبني فلان من أهل رحمها، وأيتامها ففرقته حتى بقيت منه بقية تحت الثوب، فقالت لها برزة غفر الله لك يا أم المؤمنين، والله لقد كان لنا في هذا حق، قالت: فلكم ما تحت الثوب، فوجدنا تحته خمسة وثمانين درهما ثم رفعت يدها إلى السماء فقالت: اللهم لا يدركني عطاء عمر بعد عامي هذا، فماتت وأخرج ابن سعد عن محمد بن كعب، كان عطاء زينب اثني عشر ألفا، لم تأخذه إلا عاما واحدا، فجعلت تقول: اللهم لا يدركني هذا المال قابل، فإنه فتنة، ثم قسمته في أهل رحمها في أهل الحاجة، فبلغ عمر فقال: هذه امرأة يراد بها خير، فوقف عليها وأرسل بالسلام، وقال: بلغني ما فرقت فأرسل بألف درهم تستبقيها فسلكت به ذلك المسلك, "وأشد ابتذالا لنفسها في العمل الذي تتصدق به ويقرب إلى الله"، ومر قريبا قول عائشة في الصحيح: كانت تدبغ وتخرز وتتصدق به في سبيل الله، "ورواه مسلم" وأوله فيه:كانت زينب، كما ذكرته وروى ابن سعد عن القاسم بن محمد، قالت زينب: حين حضرتها الوفاة أني قد أعددت كفني وإن عمر سيبعث إلي بكفن، فتصدقوا بأحدهما، وإن استطعتم أن تتصدقوا بحقوي فافعلوا وماتت بالمدينة سنة عشرين، جزم به الواقدي، وابن إسحاق "وقيل سنة إحدى وعشرين" حكاه اليعمري وغيره، "ولها ثلاث وخمسون سنة".
وفي الإصابة قال الواقدي: تزوجها صلى الله عليه وسلم وهي بنت خمس وثلاثين سنة، واتت سنة عشرين، وهي بنت خمسين، ونقل عن عمر بن عثمان الحجبي، أنها عاشت ثلاثا وخمسين انتهى.
وروى ابن سعد عن عمرة أن عمر بعث بخمسة أثواب، فكفنت فيها، وتصدقت عنها أختها حمنة بكفنها الذي كانت أعدته، قال عمرة: فسمعت عائشة تقول: لقد ذهبت حميدة سعيدة مفزع اليتامي والأرامل "وصلى عليها عمر بن الخطاب" روى البزار برجال ثقات، عن الشعبي، عن عبد الرحمن بن أبزي، أنه صلى مع عمر على زينب، فكبر أربع تكبيرات، وكانت أول نساء النبي صلى الله عليه وسلم موتا، وكان يعجب عمر أن يدخلها قبرها فأرسل إلى أزواجه صلى الله عليه وسلم من يدخل هذه قبرها، فقلن من كان يدخل عليها في حياتها، "وهي أول من جعل على جنازتها نعش"، أي من الأزواج وأما الأولية الحقيقية، فالسيدة فاطمة، كما قدمه عن ابن عبد البر، حيث قال: فاطمة أول من غطى نعشها، ثم زينب بعدها.
روت زينب عنه صلى الله عليه وسلم في الكتاب السنة أحاديث وعنها ابن أخيها محمد بن عبد الله بن جحش، وأم حبيبة بنت أبي سفيان، وزينب بنت أبي سلمة، وهي صحابة، وكلثوم بن المصطلق، ومذكور مولاها وغيرهم والله أعلم.(4/415)
[زينب أم المساكين والمؤمنين] :
وأما أم المؤمنين زينب بنت خزيمة بن الحارث الهلالية، وكانت تدعى في الجاهلية أم المساكين لإطعامها إياهم فكانت تحت عبد الله بن جحش في قول ابن شهاب، قتل عنها يوم أحد فتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة ثلاث، ولم تلبث عنده إلا شهرين، أو ثلاثة وتوفيت في حياته صلى الله عليه وسلم وقيل مكثت عنده ثمانية أشهر، ذكره الفضائلي.
وقيل
__________
زينب أم المساكين والمؤمنين:
"وأما أم المؤمنين زينب بنت خزيمة بن الحارث" بن عبد الله بن عمرو بن عبد مناف بن هلال بن عامر بن صعصعة بن بكر بن هوازن "الهلالية" نسبة إلى جدها هلال المذكور، فهي قريبة ميمونة، تجتمع معها في هلال، ولم يذكروا أمها إلا أن علي بن عبد العزيز الجرجاني النسابة ذكر أنها أخت ميمونة لأمها، فتكون أمها هند بنت عوف.
لكن قال ابن عبد البر: لم أر ذلك لغيره، وأقره اليعمري هنا، وحكاه في ميمونة عن بعضهم، ولم يتعقبهم اتكالا على ما قدمه، "وكانت تدعى في الجاهلية أم المساكين لإطعامها إياهم".
قال الزهري: سميت بذلك لكثرة إطعامها المساكين رواه الطبراني، وقال ابن إسحاق لرحمتها إياهم ورقتها عليهم، ولم يقيداه بالجاهلية، وكذا في الإصابة والعيون لكن ذكره ابن أبي خيثمة أي وأولى في الإسلام "فكانت تحت عبد الله بن جحش في قول ابن شهاب قتل عنها يوم أحد فتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة ثلاث" كذا حكاه أبو عمر عن الزهري، ورواه عنه ابن أبي خيثمة، ولعلها كانت حاملا منه، فأسقطت بعد موته، فانقضت عدتها في السنة المذكورة، وهذا متعين، وإن لم يذكروه؛ إذ وقعة أحد كانت في شوال سنة ثلاث باتفاق، فلا يمكن انقضاء عدتها بالأشهر في السنة المذكورة "ولم تلبث عنده إلا شهرين أو ثلاثة، وتوفيت في حياته صلى الله عليه وسلم وقيل مكثت عنده ثمانية أشهر، ذكره الفضائلي" "وقيل" قائله قتادة بن دعامة رواه ابن أبي خيثمة.(4/416)
كانت قبله عليه الصلاة والسلام تحت الطفيل بن الحارث، ثم خلف عليها أخواه عبيدة بن الحارث وقتل عنها يوم أحد شهيدا فخلف عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم والأول أصح.
وتوفيت في ربيع الآخر سنة أربع ودفنت بالبقيع، على الطريق، قال الطبري: كذا ذكره الفضائلي، وإنما يكون هذا على ما حكاه من أنها مكثت عنده، عليه الصلاة والسلام ثمانية أشهر،
__________
"كانت قبله عليه الصلاة والسلام تحت الطفيل بن الحارث" بن المطلب بن عبد مناف القرشي، المطلبي.
ذكره ابن عقبة وابن إسحاق في البدريين، وقال أبو عمر: شهد أحدا وما بعدها، ومات سنة إحدى أو اثنتين أو ثلاث وثلاثين انتهى، وبهذا جزم ابن الكلبي، وزاد فطلقها، "ثم خلف عليها أخوه عبيدة بن الحارث" المطلبي، "وقتل عنها يوم أحد" سبق قلم صوابه بدر "شهيدا" في المبارزة، كما مر تفصيله، وقال ابن إسحاق: كانت أولا عند ابن عمها جهنم بن عمرو بن الحارث، ثم بعده عند عبيدة، فاستشهد، "فخلف عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم" في شهر رمضان سنة ثلاث.
هذا بقية قول ابن الكلبي، "والأول أصح" وهو كونها كانت تحت عبد الله بن جحش.
قال إبن إسحاق: زوجه إياها قبيصة بن عمر والهلالي، وأصدقها أربعمائة درهم وفي العيون اثنتي عشرة أوقية ونشا أي نصف أوقية. وقال ابن الكلبي خطبها صلى الله عليه وسلم إلى نفسها، فجعلت أمرها إليه فتزوجها، وهذا ذكره ابن سعد بسند منقطع عن أم سلمة، وأخرج ابن سعد في ترجمة زينب هذه عن عطاء بن يسار عن الهلالية التي كانت عند النبي صلى الله عليه وسلم أنها كانت لها خادمة سوداء، فقالت: يا رسول الله أردت أن أعتق هذه، فقال لها: "ألا تفيدين بها بني أخيك أو بني أختك من رعاية الغنم" قال في الإصابة: وهذا خطأ، فإن صاحبة هذه القصة هي ميمونة بنت الحارث، وهي هلالية، وفي الصحيح نحو هذا من حديثها، وقد ذكر ابن سعد نحوه في ترجمة ميمونة من وجه آخر، وأورد ابن منده في ترجمتها حديث "أولكن لحوقا بي أطولكن يدا"، وتعقبه ابن الأثير وغيره، بأن المراد بها زينب بنت جحش؛ لأن المراد بلحوقهن به موتهن بعده، وهذه ماتت في حياته، وهو تعقب قوي انتهى، "وتوفيت" وهي ابنة ثلاثين سنة، كما ذكره الواقدي "في ربيع الآخر سنة أربع ودفنت" وفي العيون، وصلى عليها صلى الله عليه وسلم، ودفنها "بالبقيع على الطريق".
"قال" المحب "الطبري، كذا ذكره الفضائلي: وإنما يكون هذا على ما حكاه"، هو "من أنها مكثت عنده عليه الصلاة والسلام ثمانية أشهر" وأنه تزوجها في رمضان.(4/417)
أما على ما حكاه أبو عمر فلا يصح؛ إذ العقد كان في سنة ثلاث، ومدتها عنده صلى الله عليه وسلم شهران أو ثلاثة فلا يصح أن تكون وفاتها في ربيع الآخر، انتهى، فليتأمل.
__________
"أما على ما حكاه أبو عمر" بن عبد البر، "فلا يصح إذ العقد كان في سنة ثلاث" بعد شوال، "ومدتها عنده صلى الله عليه وسلم شهران، أو ثلاثة، فلا يصح أن تكون وفاتها في ربيع الآخر، والذي أوقعه في ذلك التلفيق بين القولين وعدم حكايتهما على وجههما، وإلا فالمحكي عند ابن عبد البر أنها لم تقم عنده إلا شهرين أو ثلاثة بدون ذكر شهر الوفاة، وقول ابن الكلبي: تزوجها في رمضان سنة ثلاث، فأقامت عنده ثمانية أشهر، وماتت في ربيع الآخر سنة أربع "انتهى" كلام الطبري، "فليتأمل" كان وجه أنه يمكن إجراؤه على قول أبي عمر أيضا بأن يكون التزوج في آخر سنة ثلاث، ومكثت ثلاثة أشهر وماتت في أول ربيع الآخر، فلم يحسب شهر النكاح والوفاة، وهذا تعسفه لا يخفى، وفي الشامية مكثت عنده ثمانية أشهر، وقيل شهرين، وقيل ثلاثة، والصحيح أنها ماتت في ربيع الأول، وقيل الآخر سنة أربع، وقد بلغت ثلاثين سنة أو نحوها انتهى، ولم يمت عنده إلا هي وخديجة على القول بأن ريحانة كانت سرية ولا زوجة والله أعلم.(4/418)
[ميمونة أم المؤمنين] :
وأما أم المؤمنين ميمونة رضي الله عنها بنت الحارث الهلالية -وأمها هند بنت عوف بن زهير بن الحارث بن حماطة بن حمير- فتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم لما كان بمكة معتمرا سنة سبع بعد غزوة خيبر،
__________
ميمونة أم المؤمنين:
"وأما أم المؤمنين ميمونة رضي الله عنها، بنت الحارث" بن حزن، بفتح المهملة، وإسكان الزاي، ونون ابن بجير بموحدة، وجيم وراء مصغر ابن هزم، بضم الهاء، وفتح الزاي، وميم ابن رؤبة، بضم الراء، وفتح الهمزة، وتبدل واوا ابن عبد الله بن هلال بن عامر بن صعصعة "الهلالية" نسبة إلى جدها هلال المذكور، "وأمها هند".
قال البرهان: لا أعلم لها إسلاما، وفي الإصابة أمها خولة، ووقع عند أبي عمر هند بدل خولة "بنت عوف بن زهير بن الحارث بن حماطة بن حمير" الحميرية، "فتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم لما كان بمكة معتمرا" عمرة القضية في ذي القعدة "سنة سبع بعد غزوة خيبر" فيقال أرسل جعفر بن أبي طالب يخطبها، فأذنت للعباس فزوجها منه، ويقال إن العباس وصفها له، وقال: قد تأيمت من أبي رهم، فتزوجها وعند ابن سعد بسند له أنه تزوجها في شوال سنة سبع، فإن ثبت صح أنه تزوجها وهو حلال؛ لأنه إنما أحرم في ذي القعدة.(4/418)
وكانت أختها أم الفضل لبابة الكبرى تحت العباس بن عبد المطلب، وأختها لأمها أسماء بنت عميس تحت جعفر، وسلمى بنت عميس تحت حمزة، وكانت جعلت أمرها إلى العباس.
__________
ذكره في الإصابة ولا منافاة بحمله شوال على الخطبة والقعدة على العقد.
وقد روى مالك في الموطأ، عن ربيعة، عن سليمان بن يسار، أنه صلى الله عليه وسلم بعث أبا رافع مولاه ورجلا من الأنصار، فزوجاه ميمونة بنت الحارث ورسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة قبل أن يخرج مرسل، وصله الترمذي وحسنه، والنسائي عن سليمان عن أبي رافع، ورواه ابن سعد بسند الواقدي، وسمي الأنصاري أوس بن خولى، وعلى هذا، فيكون وكلهما في قبول النكاح له على ظاهر قوله فزوجاه، وحكى أنه وكل عمرو بن أمية الضمري، لكن سيأتي التصريح بأن العباس زوجها له بمكة بعدما حل، فيحمل قوله فزوجاه على معنى خطباها له فقط مجازا، "وكانت أختها أم الفضل لبابة" بضم اللام، وخفة الموحدتين "الكبرى" من السابقين الأولين حتى قال ابن سعد، إنها أول من أسلم بعد خديجة، لكن تعقب بأنه سبقتها سمية أم عمار وغيرها.
كان صلى الله عليه وسلم يزورها وماتت في خلافة عثمان "تحت العباس بن عبد المطلب" وأنجبت له الستة النجباء، وهم: الفضل، وعبد الله، وعبيد الله، ومعبد، وقثم وعبد الرحمن، وأختها لبابة الصغرى أم خالد بن الوليد، تلقب عصماء صحابية، كما في الإصابة وعزة صحابية أيضا، وهزيلة بزاي مصغرة أم حفيد بالفاء مصغر صحابية أيضا، كا في الإصابة، وذكر اليعمري: أن عصماء غير لبابة الصغرى، وتبعه الشامي وزاد أنها كانت تحت أبي بن خلف وجرى عليه البرهان، فقال: لم يعرف لعصماء إسلام، لكن جزم في الإصابة بأنها لبابة الصغرى، ونقله في حرف العين عن ابن الكلبي، وهو مقدم على غيره في علم النسب، كما أن غيره مقدم عليه في الحديث، وكونها زوجة أبي بن خلف لا يمنع كونها كانت تحت الوليد، وأنجبت منه سيف الله، فما المانع من أنه طلقها، فنكحها أبي، وهؤلاء إخوة ميمونة لأبويها "وأختها لأمها أسماء بنت عميس تحت جعفر" فولدت له عبد الله ومحمدا وعونا، ثم مات فخلف عليها الصديق، فولدت له محمدا، ثم مات فخلف عليها علي، فولدت له يحيى وعونا، "و" أختها لأمها أيضا "سلمى بنت عميس" الصحابية "تحت حمزة" سيد الشهداء، فولدت له أمة الله، ثم خلف عليها شداد بن الهاد الليثي، فولدت له عبد الله وعبد الرحمن، ومن أخواتها لأمها سلامة بالتخفيف بنت عميس، ولم يعرف لها إسلام كما قال البرهان: ومر أن الجرجاني النسابة حكى أن أم المساكين أختها لأمها أيضا، ولذا كان يقال أكرم عجوز في الأرض أصهارا ابنة عوف، أصهارها: رسول الله، والصديق، وحمزة، والعباس، وعلي، وجعفر وشداد بن الهاد، "وكانت" كما رواه أحمد والنسائي عن ابن عباس لما خطبها صلى الله عليه وسلم "جعلت أمرها إلى العباس".(4/419)
فأنكحها النبي صلى الله عليه وسلم وهو محرم، فلما رجع بنى بها بسرف، ذكره أبو عمر.
وفي الصحيح من أفراد مسلم، عنها
__________
وفي رواية ابن أبي خيثمة عن ابن عباس أنها جعلته إلى أم الفضل، فردته أم الفضل إلى العباس، "فأنكحها النبي صلى الله عليه وسلم" واقتصر ابن إسحاق على الرواية الأولى، ولم يحفظها ابن هشام، وحفظ الثانية، فتعقبه بها، مع أنهما روايتان مسندتان عن ابن عباس، كما رأيت ولا معارضة بينهما؛ لأنها جعلته لأختها، لتفوضه لزوجها، فنسبه ابن عباس لأمه، باعتبار الابتداء، ولأبيه لانتهاء الأمر إليه، ويقربه أن المخدرات يستحين من ذكر النكاح، ففوضته لأختها، لتفوضه لزوجها، "وهو محرم" جزم به ابن عباس في هذه الرواية، وقد رواه عنه مالك والأئمة الستة أيضا، وزاد في رواية للبخاري في عمرة القضاء، وبه احتج الحنفية وموافقوهم على جواز نكاح المحرم، وإنكاحه غيره، وأجاب الجمهور بأن قول ابن عباس وهم وإن كانت خالته، كما قاله ابن المسيب.
قال ابن عبد البر: الرواية أنه تزوجها وهو حلال، متواترة عن ميمونة نفسها، وعن أبي رافع وسليمان بن يسار مولاها، ويزيد بن الأصم ابن أختها، وهو قول جمهور علماء المدينة، وما أعلم أحدا من الصحابة، روى أنه تزوجها وهو محرم سوى ابن عباس، والقلب إلى رواية الجماعة أميل؛ لأن الواحد إلى الغلط أقرب انتهى، وسبقه إلى نحوه الإمام الشافعي، كما سلف ي عمرة القضية لكن في دعوى انفراد ابن عباس به تقصير، فقد روى البزار عن عائشة نحوه، وكذا الدارقطني بسند ضعيف عن أبي هريرة: اللهم إلا أن يكون نفي العلم بقيد الصحة، وعلى أنه ليس بوهم، فمن خصائصه عند الجمهور النكاح حال الإحرام، فلا يعارض قوله صلى الله عليه وسلم المحرم: "لا يَنْكِح ولا يُنْكَح"، رواه مسلم، وقيل هو مؤول كما يأتي، "فلما رجع بنى بها بسرف" بفتح المهملة، وكسر الراء، وبالفاء بعد ما أقام بمكة ثلاثا، فأتاه حويطب بن عبد العزى، وسهيل بن عمرو، وأسلما بعد في نفر من قريش في اليوم الثالث، فقالوا له: قد انقضى أجلك فاخرج عنا، فقال: وما عليكم لو تركتموني فاعرست بين أظهركم، وصنعت لكم طعاما، فحضرتموه، فقالوا: لا حاجة لنا بك ولا بطعامك، فغضب سعد بن عبادة، وقال لسهيل: كذبت لا أم لك، ليست بأرضك، ولا أرض أبيك، والله لا يبرح إلا طائعا راضيا، فتبسم صلى الله عليه وسلم، وقال: "يا سعد لا تؤذ قومنا، زارونا في رحالنا" فخرج وخلف أبا رافع على ميمونة، فأقام حتى أمسى، فخرج بها، فلقيت من سفهاء مكة عناء، فأتاه بها بسرف، كما أورده ابن إسحاق والواقدي.
وروى بعضه ابن أبي خيثمة عن ابن عباس، "ذكره أبو عمر" بن عبد البر، الحافظ الشهير تلخيصا للمروي عن ابن عباس، وإن لم يقل أبو عمر به كما رأيت.
"وفي" الحديث "الصحيح من أفراد مسلم" أي مما انفرد به عن البخاري "عنها" أي(4/420)
أنه صلى الله عليه وسلم تزوجها وهو حلال، زاد البرقاني بعد قوله تزوجها حلالا: وبنى بها حلالا وماتت بسرف.
فيحمل قوله: وهو محرم، أي داخل الحرم،
__________
ميمونة صاحبة الترجمة "أنه صلى الله عليه وسلم تزوجها وهو حلال" ولفظ مسلم من طريق يزيد بن الأصم عن ميمونة: تزوجني صلى الله عليه وسلم ونحن حلالان بسرف.
قال يزيد: وكانت خالتي وخالة ابن عباس، "زاد" الحافظ أبو بكر أحمد بن محمد بن غالب، "البرقاني" بفتح الموحدة، نسبة إلى برقان من قرى خوارزم، سمع الإسماعيلي وغيره، وصنف، وخرج على الصحيحين، وروى عنه البيهقي والخطيب، وقال: كان ثقة ثبتا ورعا لم نر في شيوخنا أثبت منه عارفا بالفقه، كثير الحديث، حريصا على العلم، له حظ من العربية، ولد سنة ست وثلاثين وثلاثمائة، ومات في رجب سنة خمس وعشرين وأربعمائة "بعد قوله تزوجها حلالا وبنى بها حلالا، فأفادت هذه الزيادة، أنه عقد عليها حلالا أيضا فسقط جمع بعضهم، بأنه لا تنافي بين رواية ابن عباس، لحملها على العقد، وبين روايتها لحملها على البناء، "وماتت بسرف" من قول يزيد لا من قولها، كما هو واضح، وقد رجحت روايتها على رواية ابن عباس، بأنها أعلم بنفسها وامرأة كاملة، وهو ابن عشر سنين وأشهر، فبين الضبطين فرق لا يخفى، وقد تواتر عن أبي رافع موافقتها، وكان السفير بينهما وبأن رواية من باشر الوقعة أرجح ممن لم يباشرها، وقد أخرج الترمذي، وابن خزيمة، وابن حبان عن أبي رافع قال: تزوج صلى الله عليه وسلم ميمونة، وهو حلال، وبنى بها، وهو حلال، وكنت أنا الرسول بينهما.
وأخرج ابن سعد عن ميمون بن مهران: دخلت على صفية بنت شيبة، وهي عجوز كبيرة، فسألتها أتزوج صلى الله عليه وسلم ميمونة وهو محرم، فقالت: لا والله لقد تزوجها وإنهما لحلالان.
وروى يونس بن بكير وغيره عن يزيد بن الأصم: تزوج رسول الله ميمونة، وهو حلال، وبنى بها بسرف في قبة لها، وماتت بعد ذلك فيها.
وروى ابن سعد عن ابن المسيب: أنه صلى الله عليه وسلم قدم وهو محرم، فلما دخل تزوجها، وعلى هذا، "فيحمل قوله،" أي ابن عباس "وهو محرم، أي داخل الحرم" أو في الشهر الحرام؛ لأنه عربي فصيح يتكلم بكلام العرب، وهم يقولون: أحرم إذا دخل الحرم، وأنجد إذا دخل نجدا كما قال الشاعر:
قتلوا ابن عفان الخليفة محرما ... قدعا فلم أر مثله مجدولا
وهذا ذكره الباجي في شرح الموطأ، ونقله السهيلي عن بعض شيوخه، وقال: فالله أعلم(4/421)
ويكون العقد وقع بعد انقضاء العمرة، ثم خرج بها إلى سرف وابتنى بها فيه، وهو على عشرة أميال من مكة، كذا قاله الطبري. وسيأتي إن شاء الله تعالى، في مقصد المعجزات في ذكر الخصائص مزيد بيان لذلك.
وكانت ميمونة قبل عند أبي رهم بن عبد العزيز، ويقال: بل عبد الله بن أبي رهم، وقيل: بل عند حويطب بن عبد العزي، وقيل: عند فروة بن عبد العزى.
__________
أراد ذلك ابن عباس أم لا، "ويكون العقد وقع" في الحرم "بعد انقضاء العمرة. ثم خرج منه" أي الحرم "إلى سرف وابتنى بها فيه، وهو على عشرة أميال من مكة،" وقيل ستة أو سبعة أو تسعة أو اثني عشر، وهو ما بين التنعيم وبطن مرو، وإلى التنعيم أقرب، "كذا قاله" المحب "الطبري" تبرأ منه لأنه خلاف المتبادر، ومن ثم توقف الإمام السهيلي، في كونه مراد لابن عباس قال: الباجي أيضا: ويحتمل أن ابن عباس أخذ في ذلك بمذهبه، أن من قلد هديه فقد صار محرما بالتقليد، فلعله علم بنكاحه بعد أن قلده، "وسيأتي إن شاء الله تعالى في مقصد المعجزات في ذكر الخصائص مزيد بيان" قليل "لذلك".
وقد أسلف في عمرة القضية من ذلك شيئا، وفي الإصابة قيل عقد له عليها قبل أن يحرم، وانتشر أمر تزويجها بعد أن أحرم، واشتبه الأمر.
قال ابن سعد: كانت آخر امرأة تزوجها يعني ممن دخل بها، "وكانت ميمونة قبل" أي قبله صلى الله عليه وسلم بلا واسطة "عند أبي رهم" بضم الراء، وسكون الهاء "ابن عبد العزى" بن أبي قيس بن عبدود من بني عامر بن لؤي.
قال البرهان: لا أعلم له إسلاما فمات عنها، وكانت قبل أبي رهم عند مسعود بن عمرو بن عمير الثقفي، ففارقها.
قال البرهان: لا أعرف له إسلاما، وفي الصحابة من هو مسمى بهذا الاسم، قلت: ما هذا التشكيك، وفي الإصابة مسعود بن عمرو بن عمير الثقفي.
ذكر الثعلبي عن مقاتل أنه نزل فيه {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا} [البقرة: 278] ، "ويقال: بل عبد الله" الذي في النور والإصابة، وقيل عند سخبرة "ابن أبي رهم" المذكور، وضبطه في التبصير، بفتح السين المهملة، وسكون الخاء المعجمة، وفتح الموحدة والراء، ولم يذكره في الإصابة، فليس بصحابي، "وقيل: بل عند" أخي أبي رهم، كما قال ابن حزم: "حويطب بن عبد العزى" الصحابي، القرشي، العامري أسلم يوم الفتح، وعاش مائة وعشرين سنة، ومات سنة أربع وخمسين، "وقيل عند فروة بن عبد العزى" أخي حويطب، كما في الإصابة ولم يترجم له فيها، فليس بصحابي.(4/422)
قال ابن إسحاق: ويقال: إنها وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم وذلك أن خطبته عليه الصلاة والسلام انتهت إليها وهي على بعيرها وقالت: البعير وما عليه لله ولرسوله. وقيل: الواهبة نفسها غيرها.
وتوفيت ميمونة بسرف في الموضع الذي بنى بها فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك سنة إحدى وخمسين،
__________
وذكر ابن أبي خيثمة عن قتادة أنها كانت عند فروة بن عبد العزى بن أسد بن غثم بن دودان، وهذا ليس بأخ لحويطب.
"قال ابن إسحاق" بعد قوله تزوج صلى الله عليه وسلم ميمونة، زوجه إياها العباس، وأصدقها عنه أربعمائة درهم، "ويقال إنها وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم" وقد رواه ابن أبي خيثمة عن الزهري وقتادة فنزلت فيها الآية.
ورواه ابن سعد عن عكرمة، "وذلك أن خطبته عليه الصلاة والسلام انتهت" وصلت "إليها وهي على بعيرها" لم يبين ذلك المحل الذي بلغتها فيه الخطبة.
وذكر السهيلي أنها رمت بنفسها من على البعير، "وقالت: البعير وما عليه لله ولرسوله"، ذكرت الله تبركا، والمراد أن البعير، وما عليه هبة لله صلى الله عليه وسلم، "وقيل: الواهبة نفسها غيرها" فقيل: زينب بنت جحش، وقيل أم شريك، وقيل امرأة من بني أسامة بن لؤي، حكاها ابن إسحاق هنا، ويأتي بسطه للمصنف قريبا، وقيل إنهن تعددن.
قال في الإصابة وهو الأقرب: روى ابن سعد عن عمرة، أنه قيل لها، أن ميمونة وهبت نفسها، فقالت: تزوجها صلى الله عليه وسلم على مهر خمسمائة درهم وأنكحه إياها العباس، وعنده أيضا عن علي بن عبد الله بن عباس لما أراد صلى الله عليه وسلم الخروج إلى مكة للعمرة، بعث أوس بن خولي، وأبا رافع إلى العباس، ليزوجه ميمونة فاضلا بعيريهما، فأقاما أياما ببطن رابغ إلى أن قدم صلى الله عليه وسلم، فوجدا بعيريهما فسارا معه حتى قدم مكة، فأرسل إلى العباس يذكر ذلك له، فجعلت أمرها إليه، فجاء صلى الله عليه وسلم إلى منزل العباس فخطها إلى العباس، فزوجه إياها، ويقال: إن الذي زوجها عبد الله بن عباس، حكاه في النور، وهو غريب ضعيف، فعبد الله يومئذ غلام ابن عشر وأشهر، كما مر.
"وتوفيت ميمونة بسرف في الموضع الذي بنى بها فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم" باتفاق، ودفنت في موضع قبتها، "وذلك سنة إحدى وخمسين" على الصحيح، كما في التقريب، وقال في الإصابة: إنه الأثبت، ونقل ابن سعد عن الواقدي أنها ماتت سنة إحدى وستين، قال: وهي آخر من مات من أزواجه صلى الله عليه وسلم، ولولا كلامه الأخير لاحتمل أن قوله وستين، وهم من بعض الرواة، وقد(4/423)
وقيل ست وستين وقيل ثلاث وستين، وصلى عليها ابن عباس ودخل قبرها.
__________
أخرج ابن سعد عن يزيد بن الأصم، قال: تلقيت عائشة من مكة أنا وابن لطلحة من أختها، وقد كنا وقعنا في حائط من حيطان المدينة، فأصبنا منه، فبلغها ذلك فلامت ابن أختها، ثم وعظتني موعظة بليغة، ثم قالت: أما علمت أن الله ساقك حتى جعلك في بيت من بيوت نبيه. ذهبت والله ميمونة، ورمى بحبلك على غاربك، أما أنها كانت من أتقانا لله، وأوصلنا للرحم فدل هذا الأثر أن عائشة عاشت بعدها، وعائشة ماتت قبل الستين، بلا خلاف، وسنده صحيح، فهو أولى من قول الواقدي وقد جزم يعقوب بن سفيان، بأنها ماتت سنة تسع وأربعين انتهى، "وقيل" ماتت سنة "ست وستين" حكاه السهيلي وغيره، قال في الإصابة: وليس بثابت، وقال البرهان: هو شاذ باطل، "وقيل ثلاث وستين".
قاله ابن إسحاق فيما أسنده عنه الطبراني في الأوسط برجال ثقات، قال في الإصابة: ولا يثبت، أي لما صح أنها ماتت في حياة عائشة، وقول بعضهم للاتفاق على أنها ماتت قبلها فاسد؛ إذ أصحاب هذه الأقوال لا يقولون بذلك، فأين الاتفاق. "وصلى عليها ابن عباس ودخل قبرها".
وروى الشيخان عن عطاء قال: حضرنا مع ابن عباس جنازة ميمونة بسرف، فقال ابن عباس: هذه زوجة النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا رفعتم نعشها فلا تزعزعوها، ولا تزلزلوها وارفقوا.
وروى ابن سعد عن يزيد الأصم، قال: دفنا ميمونة بسرف في الظلة التي بنى فيها صلى الله عليه وسلم.(4/424)
[جويرية أم المؤمنين] :
وأما أم المؤمنين جويرية رضي الله عنها بنت الحارث بن أبي ضرار -بكسر الضاد المعجمة وتخفيف الراء- فكانت تحت مسافع -بالسين المهملة والفاء- ابن صفوان المصطلقى، وكانت قد وقعت في سهم ثابت بن قيس بن شماس
__________
جويرية أم المؤمنين:
"وأما أم المؤمنين جويرية" بضم الجيم مصغر "رضي الله عنها بنت الحارث بن أبي ضرار، بكسر الضاد المعجمة، وتخفيف الراء" فألف، فراء ابن حبيب بن عائذ بن مالك بن جذيمة، بجيم ومعجمة، مصغر، وهو المصطلق بطن من خزاعة الخزاعية، ثم المصطلقية، "فكانت تحت مسافع" بضم الميم، و"بالسين المهملة، والفاء" المكسورة "ابن صفوان المصطلقي"، المقتول كافرا يوم المريسيع، كما جزم به ابن أبي خيثمة والواقدي، فقصر البرهان في قوله لا أعلم له إسلاما، والظاهر هلاكه على شركه، "وكانت" كما أخرجه ابن إسحاق عن عائشة "قد وقعت في سهم ثابت بن قيس بن شماس" بمعجمة مفتوحة وميم مشددة، فألف فمهملة(4/424)
الأنصاري، في سنة خمس وقيل سنة ست، فكاتبته على نفسها، ثم جاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله، أنا جويرية بنت الحارث وكان من أمري ما لا يخفى عليك، ووقعت في سهم ثابت بن قيس بن شماس وإني كاتبت نفسي، وجئت أسألك في كتابتي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فهل لك إلى ما هو خير"؟ فقالت: وما هو يا رسول الله؟ قال: "أؤدي عنك كتابتك وأتزوجك". قالت: قد فعلت
__________
"الأنصاري" الخزرجي خطيب الأنصار، من كبار الصحابة، بشره صلى الله عليه وسلم بالجنة، واستشهد باليمامة، فنفذت وصيته بمنام رآه خالد بن الوليد.
قالت عائشة في حديثها، أو لابن عم له بأو التي للشك، وذكره الواقدي بالواو المشركة وأنه خلصها من ابن عمه بنخلات له بالمدينة، زاد المصنف على الحديث، أن ذلك "في سنة خمس" على الراجح، "وقيل سنة ست" ومر الكلام فيه في غزوتها لبيان سنة الترويج، "فكاتبته على نفسها"، بتسع أواق من ذهب، كما ذكره الواقدي في الغزوة.
قالت عائشة: وكانت امرأة حلوة ملاحة، لا يراها أحد إلا أخذت بنفسه وملاحة، بفتح الميم، مصدر ملح، بضم اللام، أي ذات بهجة وحسن منظر، "ثم جاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم" تستفتيه في كتابتها.
قال عائشة: فوالله ما هو إلا أن رأيتها على باب حجرتي، فكرهتها، وعرفت أنه سيري منها ما رأيت، فدخلت عليه، "فقالت: يا رسول الله" زاد الواقدي أني امرأة مسلمة، أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، و"أنا جويرية بنت الحارث" سيد قومه، "وكان من أمري ما لا يخفى عليك"، وفي رواية قد أصابني من البلاء ما لم يخف عليك، "ووقعت في سهم ثابت بن قيس بن شماس" أو لابن عم له، كما في الرواية، "وإني كاتبت نفسي" والواقدي، ووقعت في سهم ثابت وابن عم له، فخلصني منه بنخلات له بالمدينة، فكاتبني على ما لا طاقة لي به، ولا يدان لي، ولا قدرة عليه، وهو تسع أواق من الذهب، وما أكرهني على ذلك إلا أني رجوتك صلى الله عليك، "وجئت أسألك في كتابتي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فهل لك" ميل "إلى ما هو خير" ولا يقدر رغبة؛ لأن تعديتها بفي، "فقالت: وما هو يا رسول الله؟ قال: "أؤدي عنك كتابتك وأتزوجك".
قال الشامي: نظرها صلى الله عليه وسلم حتي عرف حسنها؛ لأنها كانت أمه، ولو كانت حرة ما ملأ عينه منها؛ لأنه لا يكره النظر إلى الإماء، أو لأن مراده نكاحها، أو قبل نزول الحجاب عليه انتهى، وفي الثالث نظر لنزوله سنة ثلاث أو أربع كما مر. "قالت" نعم يا رسول الله "قد فعلت" زاد الواقدي: فأرسل إلى ثابت بن قيس، فطلبها منه، فقال ثابت: هي لك يا رسول الله، بأبي وأمي(4/425)
فتسامع الناس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تزوج جويرية فأرسلوا ما في أيديهم من السبي وقالوا أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قالت عائشة: فما رأينا امرأة كانت أعظم بركة على قومها منها، أعتق في سببها مائة أهل بيت من بني المصطلق، خرجه أبو داود من حديث عائشة.
وقال ابن هشام ويقال اشتراها صلى الله عليه وسلم من ثابت بن قيس وأعتقها وأصدقها أربعمائة درهم.
__________
فادى صلى الله عليه وسلم ما كان من كتابتها وأعتقها وتزوجها، "فتسامع الناس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تزوج جويرية، فأرسلوا ما في أيديهم من السبي" الباقي بأيديهم فداء على ما ذكره الواقدي، أنهم فدوهم ورجعوا بهم إلى بلادهم، فيكون معناه فدوا جملة منهم، وأعتق المسلمون الباقي لما تزوج جويرية، "وقالوا" هم "أصهار" أو بالنصب بتقدير أرسلوا أو أعتقوا أصهار "رسول الله صلى الله عليه وسلم".
وروي أنها طلبتهم منه ليلة دخوله بها، فوهبهم لها، فإن صح فطلبها، وكونه وهبهم لا ينافي أن المسلمين أطلقوهم، بل ذلك زيادة إكرام من الله لرسوله حتى لا يسأل أحدا منهم بشيء أو مجانا.
"قالت عائشة" رضي الله عنها: "فما رأينا امرأة كانت أعظم بركة على قومها منها أعتق في سببها" أي بسببها، وفي رواية فلقد أعتق الله تعالى بها "مائة أهل بيت" بالإضافة أي مائة طائفة كل واحدة منهن أهل بيت من بني المصطلق، ولم تقل مائة هم أهل بيت لإبهام أنهم مائة نفس كلهم أهل بيت وليس مرادا وقد روى أنهم كانوا أكثر من سبعمائة.
"خرجه أبو داود" وأحمد "من حديث" ابن إسحاق حدثني محمد بن جعفر بن الزبير، عن عمه عروة، عن خالته "عائشة" جزاها الله خيرا ما أنصفها، تذكر فضائل ضراتها، وما هو منها بعجيب، فهي الصديقة ابنة الصديق.
وروى البيهقي عن جويرية قالت: رأيت قبل قدوم النبي صلى الله عليه وسلم بثلاث ليال كأن القمر يسير من يثرب حتى وقع في حجري، فكرهت أن أخبر أحدا، فلما سبينا رجوت الرؤيا، فأعتقني وتزوجني، وظاهرا هذا أو صريحة أنه جعل نفس اعتق صداقا، وبه جزم الشعبي التابعي المشهور، فقال: كانت جويرية ملكه صلى الله عليه وسلم، فأعتقها وجعل عتقها صداقها، وأعتق كل أسير من بني المصطلق.
"وقال ابن هشام: ويقال اشتراها صلى الله عليه وسلم من ثابت بن قيس، وأعتقها، وأصدقها أربعمائة "درهم"، وقال: جاء أبوها بفدائها بإبل، فرغب في بعيرين منها، فغيبهما بالعقيق، ثم أتاه، فقال: يا(4/426)
وعن ابن شهاب: سبى صلى الله عليه وسلم جويرية بنت الحارث يوم المريسيع فحجبها وقسم لها، وكانت ابنة عشرين سنة، وكان اسمها "برة" فحوله النبي صلى الله عليه وسلم وسماها جويرية. وقد تقدم مثل ذلك في زينب بنت جحش.
__________
محمد هذا فداء ابنتي فقال صلى الله عليه وسلم: "فأين البعيران اللذان غيبتهما في العقيق في شعب كذا وكذا"، فقال الحارث: أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، فوالله، ما اطلع على ذلك إلا الله، فأسلم الحارث، وأسلم معه ابنان له، وناس من قومه، وأرسل إلى البعيرين، فجاء بهما، ودفع الإبل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ودفع إليه ابنته جويرية، وأسلمت، وحسن إسلامهم، وخطبها صلى الله عليه وسلم إلى أبيها، فزوجه إياها، وأصدقها أربعمائة درهم، حكاهن ابن هشام أيضا.
"و" روى الطبراني بسند حسن "عن ابن شهاب" الزهري، قال: "سبى صلى الله عليه وسلم جويرية بنت الحارث" رضي الله عنهما "يوم المريسيع" بضم الميم، وفتح الراء، وسكون التحتيتين، بينهما مهملة مكسورة، آخره عين مهملة ماء لبني خزاعة كانت به الغزوة "فحجبها" ضرب عليها الحجاب، "وقسم لها" مع زوجاته فدل ذلك على أنها زوجة، ومراد ابن شهاب رد القول بأنه كان يطأها بملك اليمين والراجح الأول.
وقد روى الطبراني برجال الصحيح من مرسل مجاهد قال: قالت جويرية يا رسول الله إن أزواجك يفخرن علي، ويقلن لم يتزوجك رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "أولم أعظم صداقك، ألم أعتق أربعين من قومك"؟.
وروى ابن سعد من مرسل أبي قلابة قال: سبى صلى الله عليه وسلم جويرية، يعني وتزوجها، فجاء أبوها، فقال: إن ابنتي لا يسبى مثلها، فخل سبيلها، فقال: "رأيت إن خيرتها أليس قد أحسنت"؟ قال: بلى، فأتاها أبوها، فقال: إن هذا الرجل قد خيرك، فلا تفضحينا، قالت: فإني أختار الله ورسوله، وسنده صحيح، "وكانت ابنة عشرين سنة" فهداها الله مع صغر السن، وشرفها بصحبة رسوله في الدارين.
"و" روى ابن سعد، وابن أبي خيثمة، وأبو عمر عن ابن عباس قال: "كان اسمها برة، فحوله النبي صلى الله عليه وسلم وسماها جويرية" كره أن يقال خرج من عند برة، ولا يشكل بقولها السابق أنا جويرية لاحتمال أنها لم ترد العلم، بل تحقير نفسها، بأنها جويرية، أي امرأة حقيرة في نفسها، وأرادت بذكر الحارث، وقوله سيد قومه بيان نسبها وشرفها فيهم ليرق لها صلى الله عليه وسلم "وقد تقدم مثل ذلك في زينب بنت جحش" فعلم أنه غير اسمهما معا، وأخرج الترمذي بسند صحيح، عن ابن عباس، عن جويرية، أن النبي صلى الله عليه وسلم مر عليها، وهي في مسجدها أول النهار، ثم مر عليها قريبا من نصف النهار، فقال: "ما زلت على حالك"، قالت: نعم، قال: "ألا أعلمك كلمات تقوليهن،(4/427)
وتوفيت وعمرها خمس وستون سنة في ربيع الأول سنة خمسين، وقيل سنة ست وخمسين.
[صفية أم المؤمنين:]
وأما أم المؤمنين صفية رضي الله عنها بنت حيي بن أخطب بن سعد -بفتح السين وسكون العين المهملتين وبالياء المثناة التحتية- ابن ثعلبة بن عبيد من بني إسرائيل من سبط هارون بن عمران عليه السلام
__________
سبحان الله عدد خلقه ثلاث مرات، سبحان الله رضا نفسه ثلاث مرات، سبحان الله زنة عرشه ثلاث مرات، سبحان الله مداد كلماته ثلاث مرات".
وروى مسلم وأبو داود، عنها: أتى على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "لقد قلت بعدك أربع كلمات ثلاث مرات، لو وزنت بما قلت منذ اليوم لوزنتهن سبحان الله وبحمده عدد خلقه ورضا نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته".
"وتوفيت وعمرها خمس وستون سنة" لأن تزوجها سنة خمس وهي ابنة عشرين، وقد ماتت في ربيع الأول سنة خمسين" على الصحيح، كما في التقريب، وتبعه في السبل، "وقيل ماتت في ربيع الأول أيضا "سنة ست وخمسين" من الهجرة وقد بلغت سبعين سنة، والقولان حكاهما الواقدي قال: وصلى عليها مروان بن الحكم، وهو أمير المدينة، وتبعه في الإصابة بلا ترجيح، وكذا في العيون إلا أنه قدم الثاني، ومن هذا علم أنها دفنت بالمدينة، ومعلوم أن مقبرتها البقيع.
روت جويرية عنه صلى الله عليه وسلم أحاديث، وعنها ابن عباس، وجابر، وابن عمرو عبيد بن السباق، والطفيل ابن أخيها وغيرهم انتهى.
صفية أم المؤمنين:
"وأما المؤمنين صفية رضي الله عنها" اسمها الأصلي، وقيل كل اسمها قبل السبي زينب، فلما صارت من الصفي سميت صفية "بنت حيي" بضم الحاء، وتكسر، وتحتيتين الأولى مخففة، والثانية مشددة، "ابن أخطب" بفتح الهمزة، وسكون المعجمة، وفتح المهملة، وموحدة "ابن سعد، وفتح السين، وسكون العين المهملتين، وبالياء المثناة التحتية ابن ثعلبة بن عبيد، من بني إسرائيل، من سبط" لاوى بن يعقوب، ثم من سبط "هارون بن عمران عليه السلام" أخي موسى صلى الله عليه وسلم.
قال الجاحظ: ولد صفية مائة نبي ومائة ملك ثم صيرها الله أمة لنبيه صلى الله عليه وسلم، وكان أبوها(4/428)
[صفية أم المؤمنين] :
وأما أم المؤمنين صفية رضي الله عنها بنت حيي بن أخطب بن سعد -بفتح السين وسكون العين المهملتين وبالياء المثناة التحتية- ابن ثعلبة بن عبيد من بني إسرائيل من سبط هارون بن عمران عليه السلام.
__________
صفية أم المؤمنين:
"وأما المؤمنين صفية رضي الله عنها" اسمها الأصلي، وقيل كل اسمها قبل السبي زينب، فلما صارت من الصفي سميت صفية "بنت حيي" بضم الحاء، وتكسر، وتحتيتين الأولى مخففة، والثانية مشددة، "ابن أخطب" بفتح الهمزة، وسكون المعجمة، وفتح المهملة، وموحدة "ابن سعد، وفتح السين، وسكون العين المهملتين، وبالياء المثناة التحتية ابن ثعلبة بن عبيد، من بني إسرائيل، من سبط" لاوى بن يعقوب، ثم من سبط "هارون بن عمران عليه السلام" أخي موسى صلى الله عليه وسلم.
قال الجاحظ: ولد صفية مائة نبي ومائة ملك ثم صيرها الله أمة لنبيه صلى الله عليه وسلم، وكان أبوها(4/428)
وأمها ضرة -بفتح الضاد المعجمة وتشديد الراء- بنت سموءل -بفتح السين المهملة والميم وسكون الواو وفتح الهمزة وباللام- فكانت تحت كنانة بن أبي الحقيق -بضم الحاء المهملة وفتح القاف الأولى وسكون المثناة التحتية- فقتل يوم خيبر في المحرم سنة سبع من الهجرة.
قال أنس: لما افتتح صلى الله عليه وسلم خيبر وجمع السبي، جاءه دحية فقال: يا رسول الله أعطني جارية من السبي، فقال: "اذهب فخذ جارية"، فأخذ صفية بنت حيي فجاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أعطيت دحية صفية بنت حيي سيدة قريظة والنضير، ما تصلح إلا لك، قال: "ادعوه بها"، فجاء بها، قال: فلما نظر.
__________
سيد بني النضير، قتل مع بني قريظة, "وأمها ضرة، بفتح الضاد المعجمة، وتشديد الراء" فتاء تأنيث، "بنت سموءل، بفتح السين المهملة والميم، وسكون الواو، وفتح الهمزة، وباللام".
قال البرهان: لا أعلم لها إسلاما، والظاهر هلاكها على كفرها، نعم أخوها رفاعة صحابي، "فكانت" أولا كما ذكر ابن سعد، وأسند بعضه من وجه مرسل تحت سلام بن مشكم القرظي، ثم فارقها، فكانت "تحت كنانة" بكسر الكاف ونونين "ابن أبي الحقيق، بضم الحاء المهملة، وفتح القاف الأولى، وسكون المثناة التحتية، فقتل" عنها وهو عروس "يوم خيبر في المحرم سنة سبع من الهجرة" كما مر.
"قال أنس" بن مالك "لما افتتح صلى الله عليه وسلم خيبر وجمع السبي، جاء دحية" بن خليفة الكلبي، بكسر الدال، وفتحها ومعناه بلغة اليمن الشريف أو رئيس الجند، "فقال: يا رسول الله أعطني جارية من السبي، فقال: "اذهب فخذ جارية" منه فذهب، "فأخذ صفية بنت حيي فجاء رجل".
قال الحافظ: لم أقف على اسمه، ونحوه قول البرهان: لا أعرفه "إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله أعطيت دحية صفية بنت حيي سيدة قريظة" بضم القاف، وفتح الراء، والظاء المعجمة؛ لأن أمها كانت بنت سيدهم، "والنضير" لأن أباها كان له فيهم سيادة وعظمة "ما تصلح إلا لك" لأنها من بيت رياسة ومن بيت النبوة من ولد هارون مع الجمال العظيم، فإنها كانت من أضوأ ما يكون من النساء، وأنت صلى عليك الله أكمل الخلق في هذه الأوصاف، بل في كل خلق حميد، "قال: "ادعوه بها" أي دحية بصفية، فدعوه "فجاء بها" وعند أبي يعلى بسند جيد عنها قالت: انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما من الناس أحد أكره إليَّ منه، "فقال": "إن قومك صنعوا كذا وكذا" قالت: فما قمت من مقعدي، وما من الناس أحد أحب إليَّ منه، "فلما نظر(4/429)
إليها النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خذ جارية من السبي غيرها"، قال: وأعتقها وتزوجها. فقال له ثابت: يا أبا حمزة ما أصدقها؟ قال: نفسها، أعتقها وتزوجها. حتى إذا كان بالطريق
__________
إليها النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خذ جارية من السبي غيرها" لأنه إنما أذن له في جارية من حشو السبي لا من أفضلهن، فلما رآه أخذ أنفسهن نسبا وشرفا وجمالا استرجعها لئلا يتميز دحية بها على سائر الجيش مع أن فيهم من هو أفضل منه، وأيضا لما فيه من انتهاكها مع علو قدرها، وربما ترتب عليه شقاق وغيره مما لا يخفى فكان صفاؤه صلى الله عليه وسلم لها قاطعا لهذه المفسدة.
ونقل الإمام الشافعي في الأم عن سير الواقدي أنه أعطى دحية أخت كنانة بن الربيع زوج صفية تطييبا لخاطره، وعند ابن إسحاق أعطاه بنت عمها.
وفي الروض أعطاه ابنتي عمها، ولا تنافي فأعطاه الجميع، ففي مسلم أنه صلى الله عليه وسلم اشترى صفية منه بسبعة أرؤس، وسماه شراء مجازا، وليس في قوله سبعة منافاة لقوله هنا "خذ جارية" إذ لا دلالة فيه على نفي الزيادة، كما مر مبسوطا في الغزوة، "قال" أنس: "وأعتقها وتزوجها، فقال له ثابت" البناني: "يا أبا حمزة" بمهملة وزاي كنية أنس "ما أصدقها؟، قال: نفسها أعتقها وتزوجها" بأن جعل نفس العتق صداقا، ففي الصحيح أيضا أن ثابتا، قال لأنس: ما أمهرها؟ قال: أمهرها نفسها، وللطبراني وأبي الشيخ عن صفية أعتقني صلى الله عليه وسلم، وجعل عتقي صداقي، أو أعتقها لا عوض، وتزوجها بلا مهر لا حالا ولا مالا، فحل العتق محل الصداق، كقولهم الجوع زاد من لا زاد له، أو أعتقها بشرط أن ينكحها بلا مهر، فلزمها الوفاء أو أعتقها بلا عوض ولا شرط، ثم تزوجها برضاها بلا صداق، وكلها من خصائصه عند الأكثر.
وذهب أحمد والحسن وابن المسيب وغيرهم إلى جوازه لغيره، وروى أبو يعلى عن رزينة أنه صلى الله عليه وسلم أمهر صفية رزينة.
قال الحافظ الهيثمي: وهو مخالف لما في الصحيح انتهى، وهي بفتح الراء، وكسر الزاي، وقيل بالتصغير.
وروى أبو يعلى أيضا أنه صلى الله عليه وسلم لما تزوج صفية أمر بشراء خادم لها وهي رزينة، كما في الإصابة، فيحتمل أنه لما أخدمها إياها توهمت أنه جعلها مهرها، وإلا فالمروي عن صفية نفسها، كما رأيت بل وعنه صلى الله عليه وسلم كما يأتي جعل عتقها صداقها، وبه رد الحافظ وغيره على ابن المرابط المالكي، والطبري، والشافعي ومن وافقهما زعمهم أن أنشأ قاله ظنا من قبل نفسه، ولم يرفعه "حتى إذا كان بالطريق"، بسند الصهباء، كما في رواية في الصحيح، فخرج بها حتى بلغ سد الصهباء حلت له بفتح السين، وضمها والصهباء، بفتح الصاد المهملة، وسكون الهاء، وبالموحدة، ومد، وفي رواية سد الروحاء بالمهملة، قال الحافظ: والصواب ما اتفق عليه الجماعة(4/430)
جهزتها له أم سليم فأهدتها له من الليل، فأصبح صلى الله عليه وسلم عروسا، فقال له: "من كان عنده شيء فليجئ به"، قال: فبسط نطعا، قال: فجعل الرجل يجيء بالأقط، وجعل الرجل يجيء بالتمر، وجعل الرجل يجيء بالسمن، فحاسوا حيسا فكانت وليمة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
__________
أنها الصهباء، وهي على بريد من خيبر، قاله ابن سعد وغيره "جهزتها له أم سليم" بضم السين، والدة أنس، راوي الحديث، وعند ابن سعد وأصله في مسلم، ودفعها إلى أمي أم سليم حتى تهيئها وتصنعها، فمشطتها أم سليم وعطرتها، "فأهدتها" زفتها "له من الليل".
قال الكرماني: وفي بعضها، أي النسخ أو الروايات، فهدتها بغير همز، وصوب لقول الجوهري: هديت أنا المرأة إلى زوجها.
قال الحافظ: لكن تواردت النسخ على إثباتها، ولا مانع من استعمال الهدية في هذا استعارة "فأصبح صلى الله عليه وسلم عروسا" بوزن فعول نعت يستوي فيه الرجل والمرأة ما دام في تعريسهما أياما، وجمعه عرس بضمتين، وجمعها عرائس، كما قاله الخليل وغيره.
قال العيني: وقول العوام للذكر عريس، والأنثى عروسة لا أصل له لغة، "فقال له": لأنس "من كان عنده شيء"، وفي رواية "من كان عنده فضلة"، زاد "فليجئ به"، أمر بتقدير أنه للوجوب فهو يدفع ما عندهم للمولم عليه السلام فجعله يقتضي وجوب الوليمة غفلة.
"قال أنس: "فبسط" بفتحات "نطعا" بكسر النون، وفتح المهملة على الرواية، واقتصر عليها ثعلب في الفصيح، وفيها لغات مرت في خيبر، "قال: فجعل الرجل يجيء بالأقط" بفتح الهمزة وكسر القاف.
قال عياض: هو جبن اللبن المستخرج زبده، وقيل لبن مجفف مستحجر يطبخ به، "وجعل الرجل يجيء بالتمر، وجعل الرجل يجيء بالسمن" وفي رواية وجعل الرجل يجيء بالسويق، "فحاسوا" بمهملتين، أخلطوا أو اتخذوا "حيسا" بفتح فسكون، وهو خلط السمن والتمر والأقط قال الشاعر:
التمر والسمن جميعا والأقط ... الحيس إلا أنه لم يختلط
وقد يختلط مع الثلاثة غيرها، كالسويق قاله في الفتح ونحوه في القاموس وقول الشاعر لم يختلط يريد فيما حصره من الثلاثة فهي حيس بالقوة لوجود مادته، وإن لم يحصل خلط فيما عناه، "فكانت" قال الكرماني، أي الصلاة المصنوعة أو أنث باعتبار الخبر كما ذكر باعتباره في قوله تعالى: {قَالَ هَذَا رَبِّي} "وليمة رسول الله صلى الله عليه وسلم" على صفية أي طعام عرسه من الولم،(4/431)
وفي رواية: قال الناس لا ندري أتزوجها أم جعلها أم ولد، قالوا: إن حجبها فهي امرأته وإن لم يحجبها فهي أم ولد، فلما أراد أن يركب حجبها.
وفي رواية: فانطلقنا حتى إذا رأينا جدار المدينة هششنا إليها، فدفعنا مطايانا، ودفع رسول الله صلى الله عليه وسلم مطيته، قال: وصفية خلفه قد أردفها، قال: فعثرت مطية رسول الله صلى الله عليه وسلم فصرع وصرعت،
__________
وهو الجمع، سمي به لاجتماع الزوجين.
وفي رواية للشيخين أيضا عن أنس: أقام صلى الله عليه وسلم بين خيبر والمدينة ثلاثا، يبني عليه بصفية، فدعوت المسلمين إلى وليمته فما كان فيها من خبز ولا لحم أمر بالأنطاع، فألقي فيها من التمر والأقط والسمن، فكانت وليمته، ولأبي يعلى عن أنس، أنه جعل الوليمة ثلاثة أيام، وللطبراني بسند جيد عن حسن بن حرب، أنه صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: "ما تقولون في هذه الجارية"؟ قالوا: نقول إنك أولى الناس بها، وأحقهم قال: "فإني أعتقها واستنكحها، وجعلت عتقها مهرها"، فقال رجل: الوليمة يا رسول الله، فقال صلى الله عليه وسلم: "الوليمة أول يوم حق، والثانية معروف، والثالثة فخر"، وأحمد برجال الصحيح، وأبو يعلى برجال ثقات عن جابر لما دخلت صفية على رسول الله فسطاطة حضر ناس وحضرت معهم ليكون فيها قسم، فخرج صلى الله عليه وسلم، فقال: "قوموا عن أمكم"، فلما كان العشي خرج إلينا في طرف ردائه بنحو مد ونصف من تمر عجوة، فقال: "كلوا من وليمة أمكم".
"وفي رواية" عن أنس أيضا، "قال الناس: لا ندري أتزوجها أم جعلها أم ولد" أي سرية، وفي رواية فقال المسلمون: إحدى أمهات المؤمنين أو ما ملكت يمينه، "قالوا إن حجبها فهي امرأته"، وفي رواية فهي إحدى أمهات المؤمنين، "وإن لم يحجبها فهي أم ولد" سرية.
وفي رواية فهي مما ملكت يمينه، أي لأن ضرب الحجاب إنما هو على الحرائر لا على الإماء، "فلما أراد أن يركب حجبها" سترها، وفي رواية وطأ لها ومد الحجاب بينها وبين الناس.
وفي رواية فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم يحوي لها وراءه بعباءة، ثم يجلس عند بعيره، فيضع ركبته، وتضع صفية رجلها على ركبته حتى تركب وكلها في الصحيح.
وفي مغازي أبي الأسود عن عروة، فوضع صلى الله عليه وسلم لها فخذه لتركب فأجلته أن تضع رجلها على فخذه فوضعت ركبتها على فخذه وركبت.
"وفي رواية" عن أنس أيضا "فانطلقنا حتى إذا رأينا جدار المدينة هششنا" ارتحنا "إليها، فدفعنا مطايانا" أي أسرعنا بها، "ودفع رسول الله صلى الله عليه وسلم مطيته، قال وصفية خلفه قد أردفها، قال" أنس: "فعثرت مطية رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصرع" بالبناء للمفعول، "وصرعت،" أي(4/432)
فليس أحد من الناس ينظر إليه ولا إليها حتى قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فسترها. قال: فدخلنا المدينة، فخرج جواري نسائه يتراءينها ويشمتن بصرعها رواه الشيخان وهذا لفظ مسلم.
وروي عن جابر أنه صلى الله عليه وسلم أتي بصفية يوم خيبر، وأنه قتل أباها وأخاها، وأن بلالا مر بها بين المقتولين، وأنه صلى الله عليه وسلم خيرها بين أن يعتقها فترجع إلى من بقي من أهلها، أو تسلم فيتخذها لنفسه، فقالت: أختار الله ورسوله، خرجه في الصفوة.
وأخرج تمام في فوائده من حديث أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها: "هل لك فيَّ"؟ قالت: يا رسول الله لقد كنت أتمنى ذلك في الشرك، فكيف إذ أمكنني الله منه في الإسلام.
__________
وقعت، "فليس أحد من الناس ينظر إليه ولا إليها" إجلالا واحتراما، "حتى قام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسترها" قال أنس: فأتيناه، فقال: "لم نضر"، "قال: فدخلنا المدينة، فخرج جواري نسائه يتراءينها"، ينظرن إليها، "ويشمتن" بفتح الميم يفرحن "بصرعها" سقوطها.
"رواه" أي المذكور من الروايات الثلاث "الشيخان، وهذا لفظ مسلم" عن أنس "وروي عن جابر أنه صلى الله عليه وسلم أتى بصفية" بالبناء للمفعول، والآتي دحية، كما مر، وعند ابن إسحاق: أن الآتي بلال ولا منافاة لاحتمال أنه أرسل بلالا إلى دحية ليأتي بصفية فجاءا بها معا "يوم خيبر، وأنه قتل أباها وأخاها، وأن بلالا مر بها بين المقتولين".
وعند ابن إسحاق، ومعها بنت عمها، فصاحت ابنة عمها، وصكت وجهها، وحثت التراب على رأها، فقال صلى الله عليه وسلم: "أعزبوا هذه الشيطانة عني"، وقال لبلال: "أنزعت الرحمة من قلبك حين تمر بالمرأتين عن قتلاهما"، "وأنه صلى الله عليه وسلم خيرها بين أن يعتقها، فترجع إلى من بقي من أهلها، أو تسلم" قسيم قوله يعتقها، وبين لا تقع إلا على متعدد فكان المتعين الواو، وكأنه نظر في أو إلى جانب المعنى، وهو أن القصد ابتداء أحد الأمرين، لا الأمران معا، "فيتخذها لنفسه".
وعند الطبراني عن ابن عمر أنها قالت: وما كان أبغض إلي من رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل أبي وزوجي، فما زال يعتذر إلي وقال: "يا صفية إن أباك ألب العرب، وفعل وفعل حتى ذهب ذلك من نفسي" "فقالت: أختار الله ورسوله" فاصطفاها الله.
"خرجه" ابن الجوزي "في الصفوة" كتاب له، "وأخرج تمام" الإمام الحافظ محمد بن عبد الله بن جعفر المروزي، ثم الدمشقي الثقة، المتوفى ثالث محرم سنة ست عشرة وأربعمائة "في فوائده من حديث أنس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها: "هل لك" رغبة "في"، قالت: يا رسول الله لقد كنت أتمنى ذلك في الشرك فكيف إذا أمكنني الله منه في الإسلام" ولعل سبب(4/433)
وأخرج أبو حاتم في حديث ابن عمر: رأى صلى الله عليه وسلم بعين صفية خضرة فقال: "ما هذه الخضرة"؟ فقالت: كان رأسي في حجر ابن أبي الحقيق وأنا نائمة، فرأيت قمرا وقع في حجري فأخبرته بذلك فلطمني وقال: تمنين ملك يثرب. وبنى بها صلى الله عليه وسلم بالصهباء.
__________
تمنيها ذلك رؤيتها منام دل عليه، ولذا حسن من المصنف تعقيب هذا الحديث، به فقال: "وأخرج أبو حاتم" بن حبان في صحيح والطبراني برجال كلاهما "من حديث ابن عمر" قال: "رأى صلى الله عليه وسلم بعين صفية خضرة، فقال: "ما هذه الخضرة"؟ فقالت: كان رأسي في حجر ابن أبي الحقيق وأنا نائمة، فرأيت قمرا وقع في حجري، فأخبرته بذلك، فلطمني وقال: تمنين" بحذف إحدى التاءين "ملك يثرب" أوله بخصوصه، وهو النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه الظاهر عندهم ظهور القمر الباهر، وإن جحدوه في الظاهر ظلما وعلوا؛ لأنهم مستبقون نبوته، وعند ابن إسحاق: وكانت صفية رأت قبل ذلك أن القمر وقع في حجرها، فذكرت ذلك لأبيها، فلطم وجهها وقال: إنك لتمدين عنقك إلى أن تكوني عند ملك العرب، فلم يزل الأثر في وجهها حتى سألها صلى الله عليه وسم، فأخبرته.
قال البرهان: فلعلهما فعلا بها ذلك، وأخرج ابن أبي عاصم والطبراني عن أبي برزة لما نزل صلى الله عليه وسلم خيبر كانت صفية عروسا، فرأت في المنام أن الشمس وقعت على صدرها فقصتها على زوجها، فقال: والله ما تمنين إلا هذا الملك الذي نزل بنا، الحديث.
قال الشامي: ولا مخالفة بينهما باعتبار التعدد، فقصت ذلك على أبيها أولا، ثم على زوجها ثانيا، ولهذا اختلف العبارة في التعيين انتهى، وانت خبير بأن لا يتخيل تعارض، فإن رؤيتها وقوع الشمس على صدرها غير رؤيتها وقوع القمر في حجرها وقصتهما معا على زوجها، فلطمها في قصة القمر على عينها فاخضرت ووبخها في الشمس، ورأت قبل ذلك القمر وقصته على أبيها فالأثر الذي في وجهها من لطم أبيها غير خضرة عينها من لطم زوجها، "وبنى بها صلى الله عليه وسلم بالصهباء" بفتح الصاد المهملة، وسكون الهاء وبموحدة، ومد موضع أسفل خيبر.
وفي رواية بالروحاء بالمهملة، مكان قرب بالمدينة، بينهما نيف وثلاثون ميلا من جهة مكة، وقيل بقرب المدينة مكانا آخر يقال له الروحاء، وعلى التقديرين، فليست قرب خيبر، فالصواب ما اتفق عليه الجماعة إنها الصهباء، وهي على بريد من خيبر، قاله ابن سعد وغيره، كما في الفتح، وأخرج ابن سعد بأسانيده، قال: لم يخرج من خيبر حتى طهرت صفية من حيضها، فحملها وراءه، فلما صار إلى منزل على ستة أميال من خيبر مال يريد أن يعرس بها، فأبت عليه، فوجد في نفسه، فلما كان بالصهباء، وهي على بريد من خيبر، نزل بها هناك فمشطتها أم سليم(4/434)
...................................
__________
وعطرتها.
قالت أم سنان الأسلمية: وكانت من أضوأ ما يكون من النساء، فدخل بأهله، فلما أصبح سألتها عما قال لها، فقالت: قال لي ما حملك على الامتناع من النزول أولا قلت: خشيت عليك من قرب اليهود فزادها ذلك عنده، وذكرت أنه سر بها، ولم ينم تلك الليلة، لم يزل يتحدث معها، وعن عطاء بن يسار لما قدمت صفية من خيبر أنزلت في بيت لحارثة بن النعمان، فسمع نساء الأنصار، فجئن ينظرن إلى جمالها، وجاءت عائشة متنقبة فلما خرجت خرج صلى الله عليه وسلم على أثرها، فقال: "كيف رأيت يا عائشة"، قالت: رأيت يهودية قال: "لا تقولي ذلك، فإنها أسلمت وحسن إسلامها" وبسند صحيح عن ابن المسيب قدمت صفية وفي أذنها خوصة من ذهب، فوهبت منه لفاطمة ولنساء معها، وعن عائشة أنه صلى الله عليه وسلم كان في سفر فاعتل بعير صفية، وفي إبل زينب بنت جحش فضل، فقال لها: "إن بعير صفية اعتل، فلو أعطيتها بعيرا"، فقالت: أنا أعطي تلك اليهودية، فتركها صلى الله عليه وسلم ذا الحجة، والمحرم شهرين أو ثلاثة لا يأتيها، قالت زينب: حتى يئست منه.
رواها كلها ابن سعد، وأخرج الترمذي عن صفية، قالت: دخل عليَّ صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي، وقد بغلني أن عائشة وحفصة قالتا: نحن أكرم على رسول الله منها، نحن أزواجه وبنات عمه، فقال: "ما يبكيك"؟ فذكرت له ذلك، فقال: "ألا قلت وكيف تكونان خيرا مني وأبي هارون وعمي موسى، وزوجي محمد صلى الله عليه وسلم".
وروى عمر الملاء عن صفية حج صلى الله عليه وسلم بنسائه، فلما كان ببعض الطريق برك جملي، وكنت من آخرهم ظهرا فبكيت فجاء صلى الله عليه وسلم وجعل يمسح دموعي بردائه وبيده، وجعلت لا أزداد إلا بكاء وهو ينهاني فلما أكثرت زبرني، قال أبو عمر: كانت صفية عاقلة حليمة فاضلة، روينا أن جارية لها أتت عمر، فقالت: إن صفية تحب السبت، وتصل اليهود فبعث عمر فسألها، فقالت: أما السبت فإني لم أحبه منذ أبدلني الله به الجمعة، وأما اليهود فإن لي فيهم رحما، فأنا أصلهم، ثم قالت للجارية، ما حملك على هذا، قالت: الشيطان، قالت: اذهبي فأنت حرة.
وأخرج ابن سعد بسند حسن عن زيد بن أسلم قال: اجتمع نساء النبي صلى الله عليه وسلم عنده في مرضه الذي توفي فيه، فقالت صفية: إني والله يا نبي الله لوددت أن الذي بك بي، فغمز بها أزواجه، فبصربهن، فقال: "مضمضن"، قلن: من أي شيء؟ قال: "من تغامزكن بها والله إنها لصادقة"، وروى أبو داود والترمذي عن عائشة قالت: قلت للنبي صلى الله عليه وسلم: حسبك من صفية كذا وكذا، تعني قصيرة، قال: "قد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته"، روت صفية عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعنها(4/435)
وماتت في رمضان سنة خمسين في زمن معاوية، وقيل غير ذلك.
فهؤلاء أزواجه اللاتي دخل بهن لا خلاف في ذلك بين أهل السير والعلم بالأثر.
وقد ذكر أنه صلى الله عليه وسلم تزوج نسوة غير من ذكر، وجملتهن اثنتا عشرة امرأة.
الأولى: الواهبة نفسها له صلى الله عليه وسلم،
__________
ابن أخيها ومولياها كنانة، ويزيد بن معتب، وزين العابدين بن الحسين وإسحاق بن عبد الله بن الحارث، ومسلم بن صفوان، "وماتت في رمضان سنة خمسين".
قاله الواقدي وصححه في التقريب، وقال في الإصابة أنه أقرب، وقال ابن سعد: سنة اثنتين وخمسين، وهو على كلا القولين "في زمن معاوية".
قال ابن أبي خيثمة: وورثت مائة ألف درهم بقيمة أرض وعرض، وأوصت لابن أختها بالثلث، وكان يهوديا، "وقيل غير ذلك" فقيل سنة ست وثلاثين.
حكاه ابن حبان، وجزم به ابن منده قال في الإصابة: وهو غلط فإن علي بن الحسين لم يكن ولد، وقد ثبت سماعه منها في الصحيحين، ودفنت بالبقيع وسنها نحو ستين؛ لأنها قالت: ما بلغت سبع عشرة سنة يوم دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، رواه ابن سعد "فهؤلاء أزواجه اللاتي دخل بهن لا خلاف في ذلك" أي دخوله بهن وإن اختلف في أن جويرية سرية، والراجح أنها زوجة كما مر "بين أهل السير والعلم بالأثر"، ولا شك أنهن زوجاته في الآخرة بنصه صلى الله عليه وسلم، كما مر، وهو أحد التعاليل في حرمتهن على غيره، وأما اللاتي فارقهن في الحياة دخل بهن أم لا، ففي فتاوى النجم يحتمل أنهم كذلك، ويؤيده أن الراجح حرمتهن على غيره المعلل بما ذكر، ويحتمل خلافة خصوصا في المستعيذة ومن لم يردها أو اختارت الحياة الدنيا، ويؤيده ما روي أن المستعيذة تزوجت بعده لكنه ضعيف، وأما نساء غيره من الأنبياء، فيحتمل أن يكن كذلك، لكن قال القضاعي: إن حرمة زوجاته صلى الله عليه وسلم بعده مما خص به دون الأنبياء، وكذا السيوطي في الأنموذج، ثم توقف النجم في ذلك، وأنه لم يقف على نقل فيه بخصوصه، ولعله أراد أثرا أو حديثا، وإلا فالسيوطي، والقضاعي نل، "وقد ذكر أنه صلى الله عليه وسلم تزوج نسوة غير من ذكر، وجملتهن اثنتا عشرة امرأة" على ما ارتضاه المصنف، وإلا فقد قال الدمياطي: وأما من لم يدخل بها ومن وهبت نفسها له ومن خطبها ولم يتفق تزويجها له، فثلاثون امرأة على خلاف في بعضهن، "الأولى الواهبة نفسها له صلى الله عليه وسلم" أي التي اشتهرت بذلك، فلا ينافي ما يأتي له من ذكر قول في بعضهن أنها وهبت نفسها.(4/436)
واختلف من هي، فقيل أم شريك القرشية العامرية، واسمها: غزية -بضم الغين المعجمة وفتح الزاي وتشديد المثناة التحتية- بنت جابر بن عوف، من بني عامر بن لؤي وقيل بنت دودان بن عوف وطلقها النبي واختلف في دخوله بها.
وقيل هي أم شريك غزية الأنصارية من بني النجار، وفي الصفوة، هي أم شريك غزية بنت جابر الدوسية، قال: والأكثرون على أنها وهبت
__________
"واختلف" في جواب قول السائل "من هي" فلا ينافي أن الاستفهام لا يسأل عنه، "فقيل" هي "أم شريك القرشية العامرية" نسبة إلى عامر بن لؤي، "واسمها غزية بضم الغين المعجمة، وفتح الزاي، وتشديد المثناة التحتية".
زاد في الإصابة: وقيل بفتح أولها، وقيل اسمها غزيلة بالتصغير، ولام بعد الياء "بنت جابر بن عوف من بني عامر بن لؤي" بن غالب، "وقيل" غزية بنت دودان" بدالين مهملتين مكررتين، الأولى مضمومة وبعد الثانية ألف، ثم نون، كما ضبطه البرهان، فما يقع في النسخ داود من تحريف النساخ، لشهرة هذا دون ذاك "ابن عوف" بن عمرو بن خالد بن ضباب بن حجير بن بغيض بن عامر بن لؤي، هكذا نسبها ابن الكلبي.
روى أبو نعيم وأبو موسى بسند ضعيف عن ابن عباس قال: وقع في قلب أم شريك الإسلام وهي بمكة، فأسلمت، ثم جعلت تدخل على نساء قريش سرا، فتدعوهن إلى الإسلام حتى ظهر أمرها بمكة، فقالوا: لولا قومك لفعلنا بك، وفعلنا لكن سنردك إليهم، فحملوها على بعير عرى، وتركوها ثلاثا بلا أكل ولا شرب، ثم نزلوا منزلا وأوقفوها في الشمس، واستظلوا وحبسوا عنها الطعام والشراب، فدلي لها من السماء دلو من ماء فشربت حتى رويت، ثم صبته على جسدها وثيابها، فلما استيقظوا رأوا أثر الماء وحسن الهيئة، فسألوها فأخبرتهم فنظروا إلى الأسقية فوجدوها كما تركوها، فأسلموا بعد ذلك، وأقبلت هي إلى النبي صلى الله عليه وسلم ووهبت نفسها له بغير مهر، قبلها، ودخل عليها، "وطلقها النبي صلى الله عليه وسلم" لأنه رآها كبيرة، "واختلف في دخوله بها" فقال ابن عباس: كما ترى أنه دخل، وقال غيره: لم يدخل، ويحتمل الجمع بأن المنفي الجماع، والمثبت مجرد الدخول إن صحا، "وقيل" إن الواهبة ليست القرشية، بل "هي أم شريك غزية الأنصارية من بني النجار" فوافقتها في الكنية والاسم، واختلفا في النسبة.
روى ابن سعد برجال ثقات عن الشعبي، قال: المرأة التي عزل صلى الله عليه وسلم أم شريك الأنصارية، وروى ابن أبي خيثمة عن قتادة قال: تزوج صلى الله عليه وسلم أم شريك الأنصارية النجارية، وقال: إني أحب أن أتزوج في الأنصار، ثم قال: إني أكره غيرة الأنصار، فلم يدخل بها، "وفي الصفوة" لابن الجوزي "هي أم شريك غزية بنت جابر الدوسية" الأزدية "قال: والأكثرون على أنها التي وهبت(4/437)
نفسها له صلى الله عليه وسلم فلم يقبلها فلم تتزوج حتى ماتت.
وذكر ابن قتيبة في المعارف عن أبي اليقظان، أن الواهبة نفسها خولة بنت حكيم السلمي، ويجوز أن يكونا وهبتا أنفسهما من غير تضاد.
وقال عروة بن الزبير: كانت خولة بنت حكيم، من اللائي وهبن أنفسهن للنبي صلى الله عليه وسلم، فقالت عائشة:
__________
نفسها له صلى الله عليه وسلم، فلم يقبلها" لكبر سنها، "فلم تتزوج حتى ماتت" ورجحه الواقدي، ورواه ابن سعد عن عكرمة وعلي بن الحسين، وأخرج ابن سعد أيضا عن منير بن عبد الله الدوسي: أن أم شريك غزية بن جابر بن حكيم الدوسية عرضت نفسها على النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت جميلة، فقبلها، فقالت عائشة: ما في المرأة حين تهب نفسها لرجل خير، فقالت أم شريك: فأنا تلك فسماها الله مؤمنة، فقال: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا} [الأحزاب: 50] ، فلما نزلت هذه الآية قالت عائشة إن الله ليسرع لك في هواك، ويمكن الجمع بين القبول ونفيه، بأنه عقد عليها ولم يدخل.
قال في الإصابة: والذي ظهر في الجمع أن أم شريك واحدة اختلف في نسبها أنصارية أو عامرية من قريش، أو أزدية من دوس، واجتماع هذه النسب الثلاثة ممكن، كأن تكون قرشية تزوجت في دوس، فنسبت إليهم، ثم تزوجت في الأنصار، فنسبت إليهم أو لم تتزوج، بل نسبت أنصارية بالمعنى الأعم انتهى منه في ترجمة العامرية، وأما أم شريك بنت جابر الغفارية، التي ذكرها أحمد بن صالح المضري في الزوجات اللاتي لم يدخل بهن، فلا تذكر هنا؛ لأنها لم تهب نفسها.
"وذكر ابن قتيبة في المعارف عن أبي اليقظان أن الواهبة نفسها خولة" بفتح المعجمة وسكون الواو، فلام، فتاء تأنيث، ويقال لها خويلة بالتصغير "بنت حكيم" بن أمية "السلمي" بضم السين، نسبة إلى جده سليم، صحابية، صالحة، فاضلة، لها أحاديث يقال كنيتها أم شريك.
قال أبو عمر، "ويجوز أن يكونا وهبتا أنفسهما من غير تضاد بين الروايات.
"وقال عروة بن الزبير" ابن العوام: "كانت خولة بنت حكيم من اللائي" بالهمز "وهبن أنفسهم للنبي صلى الله عليه وسلم" فهذا يؤيد الجمع المذكور لقوله من، وقد قال الحافظ: في شرحه سمي منهن أم شريك، وخولة، وليلى بنت الخطيم.
ذكره ابن أبي خيثمة عن أبي عبيدة معمر بن المثني، ولم يدخل بهؤلاء.
وروي عن قتادة وغيره أن ميمونة بنت الحارث ممن وهبت نفسها، فتزوجها، وكذا قيل في زينب بنت خزيمة أم المساكين، "فقالت عائشة:" فيه إشعار بأن عروة حمل الحديث عنها، فلا(4/438)
أما تستحيي المرأة أن تهب نفسها للرجل فلما نزلت: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاء} [الأحزاب: 51] قالت عائشة: يا رسول الله، ما أرى ربك إلا يسارع لك في هواك، رواه الشيخان.
وهذه خولة هي زوجة عثمان بن مظعون، ولعل ذلك وقع منها قبل عثمان.
الثانية: خولة بنت الهذيل بن هبيرة. تزوجها صلى الله عليه وسلم فهلكت قبل أن تصل إليه.
__________
يكون مرسلا "أما" بتخفيف الميم "تستحيي المرأة أن تهب نفسها للرجل"، زاد في رواية بغير صدق، فلما نزلت {تُرْجِي} تؤخر {مَنْ تَشَاءُ مِنْهُن} .
وفي مسلم وابن ماجه "فأنزل الله ترجي من تشاء، وهي أظهر في أن نزول هذه الآية بهذا السبب وروى ابن سعد عن أبي زين قال: هم صلى الله عليه وسلم أن يطلق من نسائه، فلما رأين ذلك جعلنه في حل من أنفسهن يؤثر من يشاء على من يشاء فأنزل الله {تُرْجِي مَنْ تَشَاء} [الأحزاب: 51] ولا مانع من تعدد السبب وإلا فما في الصحيحين أصح.
"قالت عائشة: يا رسول الله ما أرى" بفتح الهمزة "ربك إلا يسارع لك في هواك"، أي في رضاك.
قال القرطبي: هذا قول أبرزه الدلال والغيرة، وإلا فلا يجوز إضافة الهوى إليه صلى الله عليه وسلم، لكن الغيرة مغتفر لأجلها إطلاق مثل ذلك "رواه الشيخان" واللفظ للبخاري في النكاح، "وهذه خولة هي زوجة عثمان بن مظعون" بالظاء المعجمة، "ولعل ذلك وقع منها قبل عثمان" أي قبل تزوجه بها، وبه جزم ابن الجوزي في التلقيح، وزاد، فأرجأها، فتزوجها عثمان بن مظعون، وقال هشام بن الكلبي: كانت ممن وهبت نفسها، وكان عثمان بن مظعوت مات عنها "الثانية" ممن ذكر أنه تزوج بهن، ولم يقل الثالثة مع أنه قدم أم شريك وخولة؛ لأنه جعل الواهبة واحدة على اختلاف الأقوال في تعيينها، وإلا فلو جرى على ظاهر ما قدمه لقال الخامسة "خولة بنت الهذيل" بذال معجمة مصغرا "ابن هبيرة" بالتصغير ابن قبيصة بن الحارث بن حبيب بن حرفة، بضم الحاء المهملة، وسكون الراء، وبالفاء الثعلبية "تزوجها صلى الله عليه وسلم فهلكت" في الطريق "قبل أن تصل إليه".
قال أبو عمر عن الجرجاني النسابة قال في الإصابة: وقد ذكرها المفضل بن غسان الغلابي في تاريخه عن علي بن صالح عن علي بن مجاهد قال: وتزوج خولة بن الهذيب وأمها خرنق بنت خليفة أخت دحية الكلبي، فحملت إليه من الشام، فماتت في الطريق انتهى. وذكرهم لها في الصحابة مع أنهم لم يذكروا أنها اجتمعت بالنبي صلى الله عليه وسلم فلا صحبة لها، اتفاقا لقربها لطبقة الصحابة كغيرها من المخضرمين، لا لأنهم صحابة، كما أفصح به ابن عبد البر وابن شاهين،(4/439)
الثالثة: عمرة بنت يزيد بن الجون -بفتح الجيم- الكلابية، وقيل: عمرة بنت يزيد بن عبيد بن أوس بن كلاب الكلابية. قال أبو عمر: وهذا أصح.
تزوجها صلى الله عليه وسلم فتعوذت منه حين أدخلت عليه، فقال لها: "لقد عذت بمعاذ"، فطلقها وأمر أسامة بن زيد فمتعها بثلاثة أثواب، فقال أبو عمر: هكذا روى عن عائشة.
وقال قتادة: كان ذلك من امرأة من بني سليم، وقال أبو عبيدة: إنما ذلك لأسماء بنت النعمان بن الجون، وهكذا ذكره ابن قتيبة، وسيأتي وقال في عمرة هذه: إن أباها وصفها النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال: وأزيدك أنها لم تمرض قط قال عليه الصلاة والسلام: "ما لهذه عند الله من خير" فطلقها.
الرابعة: أسماء بنت النعمان بن الجون -بفتح الجيم- ابن الحارث
__________
وغلط من جزم بأن ابن عبد البر يقول: إن المخضرمين صحابة نبه عليه في ديباجة الإصابة.
"الثالثة عمرة" بفتح العين "بنت يزيد بن الجون بفتح الجيم الكلابية، وقيل عمرة بنت يزيد بن عبيد بن أوس بن كلاب الكلابية".
"قال أبو عمر" بن عبد البر "وهذا" الثاني "أصح" في نسبها "تزوجها صلى الله عليه وسلم، فتعوذت منه" فقالت: أعوذ بالله منك "حين أدخلت عليه، فقال لها: "لقد عذت بمعاذ" بفتح الميم، أي بالذي يستعاذ به وهو الله.
قال المصنف في شرح البخاري، "فطلقها" وصدر في الإصابة بأنه بلغه أنه بها برصا، فطلقها ولم يدخل بها، فيحتمل أن سبب الطلاق كلا الأمرين، ونفى الدخول المراد به الوقاع، "وأمر أسامة بن زيد، فمتعها بثلاثة أثواب".
"فقال أبو عمر" النمري: "هكذا روي عن عائشة" أنها المستعيذة، رواه هشام بن عروة عن أبيه عنها، "وقال قتادة كان ذلك" المذكور من الاستعاذة "من امرأة من" بني "سليم" بالضم "وقال أبو عبيدة" معمر بن المثنى "إنما ذلك لأسماء بنت النعمان بن الجون، وهكذا ذكر ابن قتيبة، وسيأتي" قريبا" "وقال" ابن قتيبة "في عمرة هذه، أن أباها وصفها للنبي صلى الله عليه وسلم" بالجمال، "ثم قال: وأزيدك" في أوصافها الحسنة "أنها لم تمرض قط".
قال عليه الصلاة والسلام: "ما لهذه عند الله من خير" لأن العبد لا يخلو من ذنب، والمرض مكفر له أو رافع لدرجاته وكاسر لشماخة نفسه، "فطلقها" لذلك لا لأنها استعاذت منه. "الرابعة أسماء بنت النعمان بن الجون، بفتح الجيم" وسكون الواو، ونون "ابن الحارث".(4/440)
الكندية وهي الجونية. قال أبو عمر: أجمعوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوجها واختلفوا في سبب فراقه لها، فقال قتادة وأبو عبيدة: إنه صلى الله عليه وسلم لما دعاها قالت: تعال أنت وأبت أن تجيء وقال بعضهم: قالت أعوذ بالله منك، فقال: "عذت بمعاذ ولقد أعاذك الله مني" وقيل: إن نساءه صلى الله عليه وسلم علمنها ذلك.
__________
قيل بنت النعمان بن الأسود بن الحارث بن شراحيل "الكندية"، بكسر الكاف، نسبة إلى كندة قبيلة من اليمن، وعد في العيون أسماء بنت النعمان هذه، وأسماء بنت كعب الجونية، وقال: ولا أراها والتي قبلها إلا واحدة، وقال الشامي: الظاهر أن ابنة كعب غير ابنة النعمان، وإن كان كل منهما من بني الجون، ولم يذكر الحافظ في الإصابة أسماء بنت كعب، ولا ذكر ذلك في نسب أبيها في ترجمته، "وهي الجونية" نسبة لجدها المذكور، وروى البخاري عن عائشة: أن ابنة الجون لما أدخلت عليه صلى الله عليه وسلم ودنا منها قالت: أعوذ بالله منك، فقال لها: "لقد عذت بعظيم الحقي بأهلك".
"قال أبو عمر" بن عبد البر "أجمعوا" "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوجها" واختلفوا في سبب فراقه لها، فقال قتادة" بن دعامة، فيما أسنده عنه ابن أبي خيثمة "وأبو عبيدة" معمر بن المثني، فيما أسنده عنه أبو عمر، "أنه صلى الله عليه وسلم لما دعاها قالت: تعال أنت، وأبت تجيء" لسوء حظها، وعدم معرفتها بجلالة قدره الرفيع، "وقال بعضهم: قالت أعوذ بالله منك، فقال: "عذت بمعاذ" بفتح الميم، "وقد أعاذك الله مني".
قال ابن عبد البر: وهذا باطل إنما قال هذا لامرأة أخرى من بني سليم، وقال أبو عبيدة: كلتاهما عاذتا بالله منه انتهى.
ولا يشكل على حكمه بالبطلان أنه مسند في الصحيح؛ لأن فيه أن اسمها أميمة، وكلامه في أسماء بناء على أنها غيرها، كما يأتي إيضاحه، "وقيل إن نساءه صلى الله عليه وسلم علمنها ذلك".
أخرجه ابن سعد من طرق عن أبي أسيد وفي بعضها، فقالت حفصة لعائشة، أو عائشة لحفصة: خضبيها وأنا أمشطها ففعلتا، ثم قالت إحداهما للأخرى: إنه يعجبه من المرأة إذا دخلت عليه أن تقول: أعوذ بالله منك الحديث.
وأخرجه من طريق آخر عن ابن عباس، وفيه أنها كانت من أجمل أهل زمانها وأشبه، فقالت عائشة: قد وضع يده في الغرائب يوشك أن يصرفن وجهه عنا وكان خطبها حين وفد أبوها عليه في وفد كنده، فلما رآها نساؤه حسدنها، فقلن لها: إن أردت أن تحظين عنده الحديث وهي إن كانت مفرداتها ضعيفة، فبمجموعها تتقوى، والغيرة التي طبعت النساء عليها يغتفر لها مثل ذلك، وأقوى منه، ألا ترى أنه اغتفر قول عائشة: إن ربك يسارع لك في هواك مع(4/441)
فإنها كانت أجمل النساء فخفن أن تغلبهن عليه، فقلن لها إنه يحب إذا دنا منك أن تقولي: أعوذ بالله منك، فقال: "قد عذت بمعاذ" فطلقها، ثم سرحها إلى أهلها وكانت تسمي نفسها الشقية.
__________
علمها إن الله قد أباح ذلك لنبيه، وأن الله لو ملكه جميع النساء لكان قليلا في حقه، على أنه يحتمل أنهن رضي الله عنهن اجتهدن فظنن جواز ذلك لدفع ما يلحقهن من الضرر من غلبتها لهن عليه صلى الله عليه وسلم بحسب ظنهن، وذلك بين من قول عائشة يوشك أن يصرفن وجهه عنا، وبهذا سقط قول الجلال البلقيني حاشا عائشة أن تقع في ذلك، وفيه إيذاء للنبي صلى الله عليه وسلم وللزوجة، وأما احتمال أن ذلك وقع من بعض جواريهن غيرة على سيداتهن، فظن أنه منهن، فنسب إليهن، فعقلي جاءت الروايات بخلافه، "فإنها كانت من أجمل النساء، فخفن أن تغلبهن عليه" فيفوتهن، ما ينلنه من الخير الذي لا مزيد عليه الذي من أعظمه مشاهدة ذلك الوجه الأزهر، والاطلاع على وظائف عباداته الليلية، وما يتلى في بيوتهن من آيات الله والحكمة، ولما جبلن عليه من حبهن له صلى الله عليه وسلم، والمحب لا يرضى أن حبه يذهب لغيره.
وفي الصحيحين عن عائشة أنه كان يستأذن في يوم المرأة منا، فكنت أقول له: إن كان ذاك إلي فإني لا أريد يا رسول الله أن أوثر بك أحدا، "فقلن" متأولات "لها إنه يحب إذا دنا" قرب "منك أن تقولي أعوذ بالله منك".
وعند ابن سعد عن أبي أسيد: فلما أدخلت عليه، وأغلق الباب وأرخى الستر مد يده إليها، فقالت: أعوذ بالله منك، فمال بكمه على وجهه، وقال: "عذت بمعاذ" ثلاث مرات.
وعنده من طريق آخر عن أبي أسيد قلت: يا رسول الله قد جئتك بأهلك، فخرج يمشي، وأنا معه فلما أتاها أهوى ليقبلها، وكان يفعل ذلك إذا خلا بالنساء، فقالت: أعوذ بالله منك، "فقال: "قد عذت بمعاذ"، فطلقها، ثم سرحها، بعثها إلى أهلها" لا طلقها وإن كان صريحا فيه لتقدمه في قوله، فطلقها فلا يفسر به، "وكانت تسمي نفسها الشقية".
وعن ابن عباس، فكانت تقول: ادعوني الشقية، وعن أم مناح بشد النون ومهملة، قالت: كانت التي استعاذت قد ولهت، وذهب عقلها، وكانت تقول إذا استأذنت على أمهات المؤمنين: أنا الشقية أنا خدعت.
وعن ابن اسيد: لما طلعت بها على قومها تصابحوا، وقالوا: إنك لغير مباركة، لقد جعلتينا في العرب شهرة فما دهاك؟ قالت: خدعت، فقالت لأبي أسيد: ما أصنع، قال: أقيمي في بيتك واحتجبي مع رحم محرم، ولا يطمع فيك أحد، فأقامت كذلك حتى ماتت في خلافة عثمان.
وعن ابن عباس أنه خلف عليها المهاجر بن أبي أمية، فأراد عمر أن يعاقبها، فقالت: والله(4/442)
وقال الجرجاني: قلن لها إن أردت أن تحظي عنده فتعوذي بالله منه، فقالت ذلك فولى وجهه عنها، وقيل المتعوذة غيرها، وقال أبو عبيدة: ويجوز أن تكونا تعوذتا، وقال آخرون: كان بأسماء وضح فقال لها الحقي بأهلك، وقيل في اسمها أميمة، وقيل: إمامة.
__________
ما ضرب عليَّ حجاب، ولا سميت بأم المؤمنين فكف عنها رواها كلها ابن سعد، ويذكر أن عكرمة بن جهل تزوجها في زمن الصديق.
قال الواقدي: ولم يثبت "وقال" علي بن عبد العزيز "الجرجاني" النسابة: "قلن لها إن أردت أن تحظي" أي تصيري ذات منزلة ومحبة "عنده فتعوذي بالله منه، فقالت ذلك: فولى وجهه عنها" وقال: قد عذت بمعاذ، وهذا رواه ابن سعد عن ابن عباس "وقيل المتعوذة غيرها" غير أسماء، فقيل عمرة، كما سبق، وقيل أميمة أو مليكة أو سنى أو فاطمة بنت الضحاك أو العالية فهي سبعة أقوال.
"وقال أبو عبيدة" معمر بن المثنى: "ويجوز أن تكونا تعوذتا" أي أسماء هذه والمرأة التي من بني سليم، كما نقله عنه أبو عمر، فهذان قولان في سبب فراق أسماء امتناعها من المجيء إليه أو تعوذها منه.
"وقال آخرون" في سببه: "كان بأسماء وضح" بفتحتين برص بدليل قول ابن عبد البر، كوضح العامرية، "فقال لها: "الحقي بأهلك" بكسر الهمزة، وفتح الحاء وقيل بالعكس كناية عن الطلاق بشرط النية إجماعا، والمعنى طلقتك سواء كان لها أهل أم لا، قاله المصنف.
وذكر ابن سعد: أن ذلك كان في ربيع الأول سنة تسع من الهجرة، "وقيل في اسمها أميمة" بالتصغير، "وقيل إمامة" بضم الهمزة هكذا حكاه في الإصابة عن أبي عمر في ترجمة أسماء، فهي واحدة اختلف في اسمها، ثم ترجم في الإصابة أميمة بنت النعمان بن شراحيل الكندية، ذكرها البخاري في كتاب النكاح تعليقا عن أبي أسيد، وسهل بن سعد، قالا: تزوج صلى الله عليه وسلم أميمة بنت شراحيل، لما أدخلت عليه بسط يده إليها، فكأنها كرهت ذلك، فأمر أبا أسيد أن يجهزها ويكسوها ثوبين، وأخرجه موصولا قبله.
من وجه آخر عن أبي أسيد قال: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم حتى انتهينا إلى حائطين فجلسنا بينهما، فقال صلى الله عليه وسلم: "اجلسوا ههنا"، ودخل وقد أتى بالجونية، فأنزلت في بيت في نخل في بيت أميمة بنت النعمان بن شراحيل ومعها دايتها حاضنة لها، فلما دخل عليها صلى الله عليه وسلم قال: "هبي لي نفسك"، قالت: وهل تهب الملكة نفسها للسوقة، فاهوى بيده يضعها عليها لتسكن، فقالت: أعوذ بالله منك، فقال: "عذت بمعاذ"، ثم خرج علينا، فقال: "يا أبا أسيد أكسها ثوبين وألحقها بأهلها"،(4/443)
الخامسة: ملكية بنت كعب الليثية، قال بعضهم: هي التي استعاذت منه صلى الله عليه وسلم، وقيل دخل بها، وماتت عنده، والأول أصح، ومنهم من ينكر تزويجه بها أصلا.
__________
وقد رجح البيهقي إنها المستعيذة لهذا الحديث الصحيح، وتقدم في أسماء بنت النعمان بن الجون شبيه بقصتها فالله أعلم، انتهى.
ولا خلاف بين روايتي البخاري، فإنه نسبها في الأولى إلى جدها، وفي الثانية إلى أبيها نبه على ذلك في فتح الباري، وقال: إن قوله في بيت بالتنوين وأميمة بالرفع بدل من ضمير، فأنزلت أو عطف بيان، وظن بعض الشراح أنه بالإضافة فقال في رواية أميمة بنت شراحيل لعل التي نزلت في بيتها بنت أخيها، وهو مردود فإن مخرج الطريقين واحد، وإنما جاء الوهم من إعادة لفظ في بيت، وقد رواه أبو بكر بن أبي شيبة في مسنده عن أبي نعيم شيخ البخاري فيه، فقال: فأنزلت في بيت في النخل أميمة إلى آخره، انتهى.
ولم يتنبه لذلك الشامي، فظنهما امرأتين لهاتين الروايتين وادعى أنه أغرب في الإصابة، فزعم أنهما واحدة، ولم يذكر لذلك مستندا، وحديث أبي أسيد، يرد عليه، فكيف يكونان واحدة انتهى، وقد علمت أنه ذكر مستنده في الفتح نصا، وفي الإصابة إشارة بجعله حديثا واحد الاتحاد، مخرج طريقيه بقوله، وأخرجه موصولا قبله من وجه آخر، وعذر الشامي أنه لم يراجع الفتح هنا، ولم يتنبه لإشارته في الإصابة لخفائها عليه، فأخذ كلا من الحديثين على ظاهره، فخرج له منهما امرأتان، وما هو بأبي عذرة، ذلك فقد سبقه إليه بعض شراح البخاري، فوهم كما رأيت، والعيني مع كثرة تعسفه على ابن حجر سلم له هنا وتبعه.
"الخامسة مليكة بنت كعب الليثية" الكنانية، "قال بعضهم هي التي استعاذت منه" رواه الواقدي عن أبي معشر، أنه صلى الله عليه وسلم تزوج بها، وكانت تذكر بجمال بارع فدخلت عليها عائشة، فقالت لها: أما تستحيي أن تنكحي قاتل أبيك، وكان أبوها قتل يوم فتح، قتله خالد ن الوليد، فاستعاذت منه صلى الله عليه وسلم فطلقها، فجاء قومها فسألوه أن يرتجعها، واعتذروا عنها بالصغر، وضعف الرأي وأنها خدعت فأبى، فاستأذنوه أن يزوجوها قريبا لها من بني عذرة، فأذن لهم، "وقيل دخل بها" في شهر رمضان أي وطئها "وماتت عنده" رواه الواقدي عن عطاء بن يزيد الجندعي، "والأول أصح، ومنهم من ينكر تزويجه بها أصلا".
قال الواقدي: بعدما ذكر هذين القولين أصحابنا ينكرون هذا، ويقولون لم يتزوج كنانية قط انتهى.
وذكر ابن حبيب في أزواجه اللاتي لم يبن بهن مليكة بنت داود، نقله ابن الأثير،(4/444)
والسادسة: فاطمة بنت الضحاك بن سفيان الكلابي، تزوجها بعد وفاة ابنته زينب وخيرها حين نزلت آية التخيير، فاختارت الدنيا ففارقها عليه الصلاة والسلام فكانت بعد ذلك تلقط البعر وتقول هي الشقية اخترت الدنيا، هكذا رواه ابن إسحاق.
لكن قال أبو عمر: هذا عندنا غير صحيح لأن ابن شهاب يروي عن عروة عن عائشة، أنه صلى الله عليه وسلم حين خير أزواجه بدأ بها فاختارت الله ورسوله،
__________
واليعمري، والقطب الحلبي وأقروه، وقال في الإصابة ذكره ابن بشكوال في الزوجات، ولا يصح، وستأتي مليكة بنت كعب، فيحرر ذلك.
"السادسة فاطمة بنت الضحاك بن سفيان الكلابي تزوجها بعد وفاه ابنته زينب، وخيرها"، بين الدنيا والآخرة أو بين الإقامة والطلاق.
قال الماوردي: وهو الصحيح، وقال القرطبي النافع: الجمع بين القولين لأن أحد الأمرين ملزوم بالآخر، وكأنهن خيرن بين الدنيا فيطلقهن، وبين الآخرة، فيمسكهن "حين نزلت آية التخيير {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ} [الأحزاب: 28] ، إلى تمام الآيتين، "فاختارت الدنيا، ففارقها عليه الصلاة والسلام، فكانت بعد ذلك تلقط"، بضم القاف، تأخذ "البعر" من الأرض، ولعل ذلك لتبيعه من ضيق عيشها، "وتقول هي الشقية" لفظها عند ابن إسحاق وغيره أنا، فغيره المصنف بقوله: هي كراهية لذلك "اخترت الدنيا هكذا، رواه ابن إسحاق، لكن قال أبو عمر" بن عبد البر: "هذا عندنا غير صحيح؛ لأن ابن شهاب يروى" في الصحيح "عن عروة عن عائشة أنه صلى الله عليه وسلم حين خير أزواجه" لما سألته الدنيا وزينتها، "بدأ بها" بعائشة وغلط من توهم أن الضمير لفاطمة، وقال ما لم يقله أحد، "فاختارت الله ورسوله"، وفي الصحيحين من طريق الزهري عن أبي سلمة عن عائشة: أنه صلى الله عليه وسلم جاءها حين أمره الله أن يخير أزواجه، فبدأ بي رسول الله، فقال: "إني ذاكر لك أمرا، فلا عليك أن تستعجلي حتى تستأمري أبويك"، وقد علم أن أبوي لم يكونا يأمراني بفراقه، ثم قال: "إن الله قال": {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ} إلى تمام الآيتين فقلت له: ففي أي هذا استأمر أبوي، فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة.
زاد أحمد والطبراني ولا أوامر أبي بكر وأم رومان فضحك وأي اسم معرب يستفهم بها نحو، {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُون} [الأعراف: 185] وبدأ بعائشة لفضلها، كما قال النووي أو لأنها كانت السبب في التخيير لأنها طلبت منه ثوابا، فأمره الله بالتخيير.
رواه ابن مردويه عن الحسن عن عائشة لكنه لم يسمع منها، فهو منقطع، وفي تفسير(4/445)
وتابع أزواج النبي صلى الله عليه وسلم كلهن على ذلك.
وقال قتادة وعكرمة: كان عنده صلى الله عليه وسلم عند التخيير تسع نسوة وهن اللاتي توفي عنهن.
وقيل إنه صلى الله عليه وسلم تزوجها سنة ثمان، وقيل إن أباها قال: إنها لم تصدع قط، فقال عليه الصلاة والسلام: "لا حاجة لي بها".
السابعة: عالية بنت ظبيان بن عمرو بن عوف، تزوجها عليه الصلاة والسلام وكانت عنده ما شاء الله، ثم طلقها وقل من ذكرها، وقال أبو سعد: طلقها حين أدخلت عليه الصلاة والسلام.
__________
النقاش أن كل واحدة سألته شيئا إلا عائشة، "وتابع" عائشة "أزواج النبي صلى الله عليه وسلم كلهن على ذلك" وفي الصحيحين أيضا قالت عائشة: ثم فعل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم مثل ما فعلت، ففي هذا دليل على أن فاطمة بنت الضحاك لم تكن عنده وقت نزول آية التخيير، ولذا قال الذهبي: يقال إنه تزوجها وليس بشيء.
"وقال قتادة وعكرمة، كان عنده صلى الله عليه وسم عند التخيير تسع نسوة، وهن اللاتي توفي عنهن" فيه نظر؛ لأن آية التخيير، كانت سنة تسع وتزوج بعد ذلك، كذا قال في الإصابة وفيه ما لا يخفى، فإنه وإن تزوج بعد، لكن لم يمت إلا عن التسع فأين النظر، "وقيل إنه صلى الله عليه وسلم تزوجها" أي فاطمة بنت الضحاك "سنة ثمان".
قال في الإصابة: مقتضاه أنه تقدم قول يخالفه، ولم يتقدم إلا قوله أول الترجمة إنه بعد وفاة ابنته زينب، وقد أسند ابن سعد عن أبي وجرة قال: تزوج صلى الله عليه وسلم الكلابية في ذي القعدة سنة ثمان منصرفه من الجعرانة، وعن إسماعيل بن مصعب عن شيخ من رهطها أنها ماتت سنة ستين. ا. هـ. ووفاة السيدة زينب كان أول سنة ثمان، كما مر، "وقيل إن أباها قال إنها لم تصدع قط فقال عليه الصلاة والسلام: "لا حاجة لي بها" إلى هنا ما ذكره من كلام أبي عمر.
"السابعة عالية" بعين مهملة، وكسر اللام، وتحتية بنت ظبيان، بكسر الظاء المعجمة، ويقال بفتحها، فموحدة ساكنة، فتحتية، فألف، فنون "ابن عمرو بن عوف" بن عبد بن أبي بكر بن كلاب الكلابية، "تزوجها عليه الصلاة والسلام، وكانت عنده ما شاء لله، ثم طلقها".
رواه ابن سعد عن هشام الكلبي عن رجل من بني بكر قال ابن عبد البر: وهذا يقتضي أنه دخل بها "وقل من ذكرها" ورواه يعقوب بن سفيان عن الزهري، وزاد فيه ودخل بها، "وقال أبو سعد: طلقها حين أدخلت عليه صلى الله عليه وسلم".(4/446)
الثامنة: قتيلة بضم القاف وفتح المثناة الفوقية وسكون المثناة التحتية بنت قيس أخت الأشعث بن قيس الكندي، زوجه إياها أخوها في سنة عشر، ثم انصرف إلى حضرموت فحملها فقبض صلى الله عليه وسلم سنة إحدى عشرة قبل قدومها عليه، وقيل تزوجها عليه الصلاة والسلام قبل وفاته بشهرين، وقال قائلون: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصى بأن تخير، فإن شاءت ضرب عليها الحجاب، وكانت من أمهات المؤمنين، وإن شاءت الفراق فلتنكح من شاءت.
__________
أخرجه أبو نعيم عن يحيى بن أبي كثير، وأخرجه الطبراني، عن الزهري، عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف حديثا طويلا فيه، وطلق صلى الله عليه وسلم العالية بنت ظبيان، وفارق الكندية من أجل بياض كان بهما وللبيهقي عن الزهري أنه لم يدخل بها وابن أبي خيثمة عن قتادة وغيره أنه صلى الله عليه وسلم أرسل أبا أسيد يخطبها عليه، ولم يكن رآها، فأنكحها إياه أبو أسيد، ثم جهزها فقدم بها فلما اهتدى بها رأى بياضا فطلقها.
وروى عبد الرزاق عن الزهري أنها تزوجت قبل أن يحرم على الناس نكاح أزواجه صلى الله عليه وسلم ابن عم لها وولدت فيهم.
"الثامنة قتيلة بضم القاف، وفتح المثناة الفوقية، وسكون المثناة التحتية" ولام، فتاء تأنيث "بنت قيس أخت الأشعث بن قيس الكندي".
ذكرها ابن عبد البر وغيره في الصحابة لقربها من طبقتهم لا لصحبتها، كما مر؛ لأن ابن عبد البر نفسه قال: لم تقدم عليه، ولا رآها، ولا دخل بها، "زوجه إياها أخوها في سنة عشر" حين قدم عليه وفد كندة ليومين مضيا من شهر ربيع الأول.
قاله أبو عبيدة وابن حبيب: "ثم انصرف إلى حضرموت" بفتح المهملة وسكون المعجمة بلد بأقصى اليمن.
"فحملها فقبض صلى الله عليه وسلم سنة إحدى عشرة قبل قدومها عليه، وقيل تزوجها عليه الصلاة والسلام قبل وفاته بشهرين" وقيل تزوجها في مرض موته، "وقال قائلون إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصى بأن تخير، فإن شاءت ضرب" بالبناء لمفعول "عليها الحجاب" نائب الفاعل، "وكانت من أمهات المؤمنين"، فتحرم عليهم "وإن شاءت الفراق"، عن أمومة المؤمنين وضرب الحجاب، "فلتنكح من شاءت".
وفي العيون وإن شاءت طلقت ونكحت من شاءت وإطلاق الطلاق على من توفي عنها مجاز، ولم يقع لفظ الفراق ولا الطلاق في الإصابة إنما فيها عن ابن عبد البر وإن شاءت فلتنكح(4/447)
فاختارت النكاح فتزوجها عكرمة بن أبي جهل بحضرموت فبلغ ذلك أبا بكر فقال: هممت أن أحرق عليها بيتها فقال له عمر رضي الله عنهما، ما هي من أمهات المؤمنين ما دخل بها صلى الله عليه وسلم ولا ضرب عليها الحجاب.
وقال بعضهم لم يوص فيها عليه الصلاة والسلام بشيء، ولكنها ارتدت حين ارتد أخوها. وبذلك احتج عمر على أبي بكر رضي الله عنهما، أنها ليست من أمهات المؤمنين لارتدادها.
التاسعة: سنى.
__________
من شاءت "فاختارت النكاح، فتزوجها عكرمة بن أبي جهل بحضرموت".
قال ابن عبد البر: ولم تلد له، "فبلغ ذلك أبا بكر" الصديق" لقد هممت أن أحرق عليها بيتها" تعزيزا لها بإهلاك مالها، ولا يلزم منه إحراقها هي، ولعله كان يرى التعزيز بإهلاك المال، أو أراد مجرد إيقاع النار فيه إظهارا لشناعة فعلها بينهم تحقيرا لها, ولا يلزم منه إحراقها ولا شيء من مالها فلا يرد أن إحراقها لا يجوز؛ لأن تزوجها بتقدير حرمته إنما يوجب التعزيز أو الحد "فقال له عمر رضي الله عنهما: ما هي من أمهات المؤمنين" لأنه "ما دخل بها صلى الله عليه وسلم ولا ضرب عليها الحجاب" فهو بيان للنفي، وهذا رواه أبو نعيم من مرسل الشعبي، وزاد في آخره فاطمأن أبو بكر وسكن "وقال بعضهم لم يوص فيها عليه الصلاة والسلام بشيء ولكنها ارتدت حين ارتد أخوها"، ثم عادا إلى الإسلام، ولذا ذكروهما في الصحابة، ومن ثم لم يقتلا، ونكحها عكرمة، "وبذلك احتج عمر على أبي بكر رضي الله عنهما أنها ليست من أمهات المؤمنين لارتدادها" كما رواه أبو نعيم عن الشعبي مرسلا، أنه صلى الله عليه وسلم تزوج قتيلة بنت قيس، ومات، فتزوجها عكرمة بن أبي جهل، فأراد أبو بكر أن يضرب عنقه، فقال له عمر: إنه صلى الله عليه وسلم لم يفرض لها، ولم يدخل بها، وارتدت مع أخيها فبرئت من الله ورسوله، فلم يزل حتى كف عنه.
وأخرج ابن عساكر وأبو نعيم بإسناد قوي عن ابن عباس، أنه صلى الله عليه وسلم تزوج قتيلة أخت الأشعث، ومات قبل أن يدخل بها.
قال الشامي: ومن الغريب ما رواه ابن سعد بسند ضعيف جدا عن عروة أنه صلى الله عليه وسلم لم يتزوجها ويحتمل أن مراده نفي الدخول وإلا فقد ورد من طرق كثيرة لا يمكن ردها أنه تزوجها والله أعلم.
"التاسعة سنى" بتح السين، وتخفيف النون، قاله ابن إسحاق وغيره، ورجحه ابن عبد البر،(4/448)
بنت أسماء بن الصامت السلمية، تزوجها عليه الصلاة والسلام وماتت قبل أن يدخل بها، وعند ابن إسحاق: طلقها قبل أن يدخل بها.
العاشرة: شراف -بفتح الشين المعجمة وتخفيف الراء وبالفاء- بنت خليفة الكلبية، أخت الكلبي، تزوجها صلى الله عليه وسلم فماتت قبل دخوله بها.
__________
وقيل بموحدة، حكاه ابن سعد، وقيل وسنى بواو أولها، وبالنون، وسماها قتادة أسماء بالميم، وكذا قال أحمد بن صالح المصري "بنت أسماء بن الصامت" ونسبها ابن حبيب إلى جدها، فقال سني بنت الصلت بن حبيب بن حازم بن هلال بن حرام بن سماك بن عفيف بن امرئ القيس بن بهية بن سليم "السلمية"، وزعم ابن حبيب أن أسماء أخوها لا أبوها، قاله كله في الإصابة ملخصا.
"تزوجها عليه الصلاة والسلام، وماتت قبل أن يدخل بها" فيما قاله الكلبي وابن حبيب وغيرهما، وحكى الرشاطي عن بعضهم، أن سبب موتها أنها لما بلغها أنه صلى الله عليه وسلم تزوجها سرت بذلك حتى ماتت من الفرح.
"وعند ابن إسحاق" وأبي عبيدة "طلقها قبل أن يدخل بها" وروى ابن أبي خيثمة عن أبي عبيدة معمر قال: زعم حفص وعبد القاهر السليماني، أنه صلى الله عليه وسلم تزوج سنى بنت أسماء بن الصلت، فماتت قبل أن يدخل بها، وخالفهما قتادة، فقال: تزوج أسماء بالميم بنت الصلت، فلم يدخل بها.
قال الشامي: فإن صح ما قالاه، وما قاله، فالتي بالنون بنت أخي التي بالميم، وفي الأكليل، أنه تزوج أسماء بنت الصلت، ولم يدخل بها، وجزم به في الإشارة وقول الإصابة انفرد قتادة بتسميتها أسماء، وإنما اسمها سنى بنت أسماء فيه نظر؛ لأن قتادة ذكر أسماء وسنى رواه عنه ابن عساكر، وتابعه على أسماء أحمد بن صالح، وناهيك به اتفانًا. ا. هـ.
"العاشرة شراف بفتح الشين المعجمة وتخفيف الراء وبالفاء" المضمومة، بخط ابن الأمين في الاستيعاب، ومكسورة في نسخة صحيحة من العيون، كما في النور "بنت خليفة الكلبية أخت" دحية "الكلبي، تزوجها صلى الله عليه وسلم، فماتت قبل دخوله بها".
رواه المفضل بن غسان عن علي بن مجاهد، وابن سعد عن سري بن قطامي، بفتح القاف والطاء المهملة، فألف، فميم، فتحتية خفيفة قالا، لما هلكت خولة بنت الهذيل تزوج صلى الله عليه وسلم شراف بنت خليفة، فماتت في الطريق قبل وصولها إليه ولم يدخل بها، وبهذا جزم ابن عبد البر، وأخرج أبو نعيم والطبراني، وابن سعد، وأبو موسى المدبني في ترجمة شراف عن ابن أبي مليكة قال: خطب صلى الله عليه وسلم امرأة من بني كلب، فبعث عائشة تنظر إليها، فذهبت، ثم رجعت، فقال: "ما رأيت"؟ قالت: ما رأيت طائلا، فقال صلى الله عليه وسلم: "لقد رأيت جمالا اقشعرت كل شعرة منك"، فقالت:(4/449)
الحادية عشر: ليلى بنت الخطيم -بفتح الخاء المعجمة وكسر الطاء المهملة- أخت قيس تزوجها صلى الله عليه وسلم وكانت غيورا فاستقالته فأقالها فأكلها الذئب، وقيل هي التي وهبت نفسها له عليه الصلاة والسلام.
__________
ما دونك سر.
"الحادية عشرة ليلى بنت الخطيم، بفتح الخاء المعجمة، وكسر الطاء المهملة، ابن عدي بن عمرو بن سواد بن ظفر بفتح الظاء المعجمة والفاء، الأنصارية الأوسية الصحابية، قال ابن سعد: هي أول من بايعه صلى الله عليه وسلم من نساء الأنصاري، "أخت قيس" بن الخطيم، الشاعر المشهور.
ذكره علي بن سعيد في الصحابة فوهم، فقد ذكر أهل المغازي أنه قدم مكة، فدعاه صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام، وتلا عليه القرآن، فقال: إني لأسمع كلاما عجبا، فدعني أنظر في أمري هذه السنة، ثم أعود إليك، فمات قبل الحول.
قاله في الإصابة "تزوجها صلى الله عليه وسلم، وكانت غيورا فاستقالته" فقالت كما عند الواقدي بسند له مرسل: إنك نبي الله، وقد أحل لك النساء، وأنا امرأة طويلة اللسان، لا صبر لي على الضرائر، "فأقالها" بأن قال: "قد أقلتك"، كما في الرواية "فأكلها الذئب".
روى ابن سعد وابن أبي خينمة بسند ضعيف عن ابن عباس قال: أقبلت ليلى بنت الخطيم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مول ظهره إلى الشمس، فضربت على منكبه، فقال: "من هذا أكله الأسود" وكان كثيرا ما يقولها، فقالت: أنا بنت مطعم الطير ومباري الريح، أنا ليلى بنت الخطيم، جئتك لأعرض عليك نفسي، فتزوجني فقد فعلت، فرجعت إلى قومها، فقالت: قد تزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: بئس ما صنعت أنت امرأة غيرى، والنبي صلى الله عليه وسلم صاحب نساء تغارين عليه، فيدعو الله عليك، فاستقيليه نفسك، فرجعت فقالت: يا رسول الله أقلني، قال: "قد أقلتك" فبينا هي في حائط تغتسل إذ وثب عليا ذئب، فأكل بعضها، فأدركت، فماتت، "وقيل هي التي وهبت نفسها له صلى الله عليه وسلم"، فقبلها.
رواه الواقدي عن صالح بن عمر بن قتادة، وروى أيضا عن ابن أبي عون أن ليلى وهبت نفسها، ووهبن نساء أنفسهن، فلم يسمع أنه صلى الله عليه وسلم قبل منهن أحدا.
وذكر ابن سعد أن مسعود بن أوس تزوجها في الجاهلية، فولدت له عمرة وعميرة، وكانت أول امرأة بايعت النبي صلى الله عليه وسلم ومعها ابنتها، وابنتان لابنتها، ووهبت له نفسها، ثم استقاله بنو ظفر فأقالها، ويحتمل الجمع بأن نسبة الاستقالة لقومها بني ظفر لإشارتهم عليها بذلك، وهي التي باشرت طلب ذلك.(4/450)
الثانية عشرة: امرأة من غفار تزوجها صلى الله عليه وسلم فأمر بها فنزعت ثيابها فرأى بكشحها بياضا فقال: "الحقي بأهلك"، ولم يأخذ مما آتاها شيئا، خرجه أحمد.
فهؤلاء جملة من ذكر من أزواجه صلى الله عليه وسلم،
__________
"الثانية عشر امرأة من غفار" يحتمل أن تفسر بأم شريك بنت جابر الغفارية، فقد ذكرها أحمد بن صالح المصري في الزوجات اللاتي لم يدخل بهن، كما نقله أبو عمر وأتباعه: "تزوجها صلى الله عليه وسلم فأمر بها" لما اختلى بها، "فنزعت ثيابها، فرأي بكشحها بياضا" أبرصا، "فقال: "الحقي بأهلك، ولم يأخذ مما آتاها شيئا".
"خرجه أحمد" عن كعب بن عجرة، وللطبراني بسند ضعيف عن سهل بن سعد أنه صلى الله عليه وسلم تزوج امرأة من أهل البادية، فوجد بكشحها بياضا، ففارقها قبل أن يدخل بها، وكان يقال لها آمنة بنت الضحاك الكلابي، وهذا إن صح فهي أخرى لا تفسر بها الغفارية؛ لأنهما متغايران.
وأغرب مغلطاي في الزهر فقال: آمنة بنت الضحاك الغفارية وجد بكشحها بياضا، ويقال هي آمنة بنت الضحاك الكلابية، فزاد، أي صاحب هذا القول آمنة ثانية، ولا ذكر لهما في كتاب الصحابة.
قال الشامي: هذا كلام غير محرر، فإن بني كلاب وبني غفار غيران، أي متغايران، ولم أر لآمنة بنت الضحاك ذكرا فيما وقفت عليه من كتب الصحابة انتهى.
"فهؤلاء جملة من ذكر من أزواجه صلى الله عليه وسلم" عند المصنف، وإلا فقد زاد عليه غيره، فعدوا أم حرام عند الطبراني وسلمى بنت نجدة، بنون، وجيم الليثية، نكحها عليه السلام، فتوفي عنها، وأبت أن تتزوج بعده.
ذكره أبو سعد في الشرف ومغلطاي وغيرهما، وسبا بموحدة بنت سفيان الكلابية، ذكرها ابن سعد وشاة بنت رفاعة، ذكرها المفضل في تاريخه عن قتادة والشنباء، بفتح المعجمة، ونون ساكنة، فموحدة، فألف تأنيث بنت عمرو الغفارية أو الكنانية دخل بها ومات ابنه إبراهيم، فقالت: لو كان نبيا ما مات أحب الناس إليه، فطلقها.
ذكره ابن جرير، وابن عساكر، والمفضل وابن رشد في آخر كتابه المقدمات، وعمرة بنت معاوية الكندية ذكرها أبو نعيم، وليلى بنت الحكم بالكاف الأوسية ذكرها أحمد بن صالح المصري، ولم يذكرها غيره، وجوز أبو الحسن بن الأثير أنها بنت الخطيم بالطاء السابقة؛ لأنه يلتبس به، وأقره في التجريد والإصابة، ومليكة بنت داود ذكرها ابن حبيب، وهند بنت يزيد المعروفة بابنة البرصاء، سماها أبو عبيدة في أزواجه، وقال أحمد بن صالح: هي عمرة بنت يزيد(4/451)
وفارقهن في حياته بعضهن قبل الدخول وبعضهن بعده -كما ذكرناه- فيكون جملة من عقد عليهن ثلاثا وعشرين امرأة دخل ببعضهن دون بعض ومات منهن عنده بعد الدخول خديجة وزينب بنت خزيمة، ومات منهن قبل الدخول اثنتان: أخت دحية، وبنت الهذيل باتفاق.
واختلف في مليكة وسنى، هل ماتتا أو طلقهما، مع الاتفاق على أنه صلى الله عليه وسلم لم يدخل بهما.
وفارق بعد الدخول باتفاق بنت الضحاك، وبنت ظبيان، وقبله باتفاق: عمرة وأسماء والغفارية.
واختلف في أم شريك هل دخل بها؟ مع الاتفاق على الفرقة، والمستقيلة التي جهل حالها، فالمفارقات بالاتفاق سبع، واثنتان على خلاف والميتات في حياته باتفاق أربع ومات صلى الله عليه وسلم عن عشر، واحدة لم يدخل بها.
__________
المتقدمة، وأسماء بنت كعب، ذكرها ابن إسحاق في رواية يونس وتبعه مغلطاي وغيره، وأميمة بنت النعمان بن شراحيل، ذكرها البخاري بناء على أنها غير أسماء المتقدمة، وآمنة بنت الضحاك الكلابية على مر عن الطبراني، "وفارقهن في حياته، بعضهن قبل الدخول، وبعضهن بعده كما ذكرناه، فيكون" على ما ذكره "جملة من عقد عليهن ثلاثا وعشرين امرأة، دخل ببعضهن دون بعض، ومات منهن عنده بعد الدخول: خديجة وزينب بنت خزيمة" أم المساكين، "ومات منهن قبل الدخول اثنتان: أخت دحية و" خولة "بنت الهذيل باتفاق، واختلف في ملكية وسنى هل ماتتا أو طلقهما، مع الاتفاق على أنه صلى الله عليه وسلم لم يدخل بهما، وفارق بعد الدخول باتفاق" ممن قال أنه تزوج فاطمة "بنت الضحاك" فلا يشكل بقول الذهبي، يقال إنه تزوجها، وليس بشيء إن سلم له ذلك، وإلا فالمنازعة إنما هي في كونها اختارت الدنيا، لا في أنه تزوجها وطلقها، "وبنت ظبيان" أي باتفاق من قال إنه بنى بها، وإلا فقد قيل لم يدخل بها كما مر، "وقبله باتفاق عمره" الجونية، "وأسماء" بنت النعمان الجونية، "والغفارية" ومن هنا علم أن المراد بعدم الدخول عدم الوطء، لا مجرد الخلوة وإرخاء الستر؛ لأن من هؤلاء من اختلى بها، ثم فارقها بلا وطء.
"واختلف في أم شريك هل دخل بها؟ مع الاتفاق على الفرقة والمستقيلة التي جهل حالها، فالمفارقات باتفاق سبع، واثنتان على خلف، والمتات في حياته باتفاق أربع، ومات صلى الله عليه وسلم عن عشر" التسع المشهورة و"واحدة لم يدخل بها" هي أخت الأشعث قتيلة بنت(4/452)
وروي أنه صلى الله عليه وسلم خطب عدة نسوة:
الأولى منهن: امرأة من بني مرة بن عوف بن سعد، خطبها صلى الله عليه وسلم إلى أبيها فقال: إن بها برصا، وهو كاذب فرجع فوجد البرص بها، ويقال: إن ابنها شبيب بن البرصاء بنت الحارث بن عوف. ذكره ابن قتيبة، كما قاله الطبري، وعند ابن الأثير في جامع الأصول. جمرة بنت الحارث بن عوف.
__________
قيس، وهذا كله ذكره المصنف زيادة إيضاح، "وروي أنه صلى الله عليه وسلم خطب عدة نسوة" غير من ذكرن، ولم يعقد عليهن ومرضه، وإن كان أصل الخطبة لا ضعف فيه نظرا إلى تعيين المعدودات، وعدتهن بأعيانهن لا لأصل الخطبة، ثم مراده بها ما يشمل من عرضت عليه، وهما إمامة وغرة أما من عرضت نفسها عليه، فهي الواهبة قدم الكلام فيها، فإدخالها هنا سهو، والاستظهار على ذلك، بترجمة الشامي، بكل ذلك سهو آخر؛ لأن الشامي آخر الكلام على الواهبة، فذكرها مع من خطبهن، فبلغ من ذكره ستة عشر منهن: أمر شريك الأنصارية، والدوسية، والعامرية، وخولة بنت حكيم، وهؤلاء تقدمن والمصنف وأم شريك الغفارية، وقال: وإنه لم يتحرر له هل عقد عليها، فتذكر فيمن سبق أو خطبها فقطن فتذكر هنا.
والجندعية وفيها وهم يأتي التنبية عليه للمصنف، فصار جملة من زاده الشامي على المصنف فيمن خطبها امرأتين فقط، سأذكرهما إن شاء الله تعالى، فأما إن المصنف اقتصر على ثمانية؛ لأن الزائدتين لم يثبتا عنده، أو لم تطلع عليهما، أو لم يرد الحصر إنما قال "الأولى منهن" بمن البيانية، فيقدر مثله بعد كل من الثانية والثالثة، فلا يفيد الحصر في الثمانية، ونقل الشارح عن زاد المعاد، أنهن نحو أربع وخمين وهم نشأ من تحريف وقع له في الشامية، والمذكور في نسخها الصحيحة، كزاد المعاد، وأما من خطبها ولم يتزوج فنحو أربع أو خمس، ثم عدهن، فلم يتنبه للعد، ووقف مع التصحيف "امرأة من بني مرة" بضم الميم، وشد الراء ابن عوف بن سعد، اختلف في اسمها كما يأتي: قال قتادة وأبو عبيدة "خطبها صلى الله عليه وسلم" منتهيا "إلى أبيها" في الخطبة أو ضمنه معنى رفع، فعداه بإلى أي رفع أمر تزويجها إليه، فلا يرد أن خطب يتعدى بمن، "فقال: إن بها برصا وهو كاذب" فقال صلى الله عليه وسلم فلتكن كذلك، "فرجع فوجد البرص بها، ويقال إن ابنها شبيب بن البرصاء، بنت الحارث بن عوف" وجزم به الرشاطي وقال: إن شبيبا عرف بابن البرصاء، "ذكره ابن قتيبة، كما قاله الطبري" الحافظ محب الدين.
"وعند ابن الأثير في جامع الأصول" في حرف الجيم "جمرة" بفتح الجيم، وسكون الميم والراء، كما في التبصير، نقلا عن أبي بكر محمد بن أحمد المفيد في تسمية أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، ويقال: بل اسمها قرصافة زاد في الإصابة، ويقال اسمها أمامة "بنت الحارث بن عوف".(4/453)
خطبها صلى الله عليه وسلم فقال أبوها: إن بها سوءا، ولم يكن بها شيء، فرجع إليها أبوها وقد برصت، قال: وهي أم شبيب بن البرصاء الشاعر.
الثانية: امرأة قرشية يقال لها سودة، خطبها صلى الله عليه وسلم وكانت مصبية، فقالت: أخاف أن يضغوا صبيتي -أي يضجوا يصيحوا ويبكوا- عند رأسك، فدعا لها وتركها.
الثالثة: صفية بنت بشامة -بفتح الموحدة وتخفيف الشين المعجمة- كان أصابها في سبي فخيرها بين نفسه الكريمة وبين زوجها، فاختارت زوجها.
__________
ابن أبي حارثة المري الصحابي. "خطبها صلى الله عليه وسلم" من والدها "فقال أبوها" لا أرضاها لك "إن بها سوءا، ولم يكن بها شيء فرجع إليها أبوها، وقد برصت" بكسر الراء فتزوجها ابن عمها يزيد بن جمرة المري، فولدت له شبيبا، فعرف بابن البرصاء، "وهي أم شبيب بن البرصاء الشاعر" فعلم من كلام الجامع تسميتها، والجزم بأنها أم شبيب الذى حكاه ابن قتيبة بلفظ يقال وسبقه إلى الجزم بذلك الرشاطي، وغيره ونسب عبد الملك النيسابوري أباها إلى جده، فقال جمرة بنت الحارث بن أبي حارثة المروية، فظنهما القطب الحلبي امرأتين.
قال الشامي: وليس بجيد فإنهما واحد بلا شك، "الثانية امرأة قرشية يقال لها سودة، خطبها النبي صلى الله عليه وسلم وكانت مصبية" أي لها خمسة أو ستة من البنين، كما في العيون، "فقالت: أخاف أن يضغوا" بضاد وغين معجمتين "صبيتي، أي يضجوا يصيحوا ويبكوا عند رأسك، فدعا لها وتركها" إخراج ابن منده وغيره من طريقة عبد الحميد بن بهرام، عن شهر بن حوشب، عن ابن عباس قال: أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يتزوج سودة القرشية، وكانت لها أولاد، فقالت: إنك أحب البرية إليَّ وإن لي صبية وأكره أن يتضاغوا عند رأسك، فقال صلى الله عليه وسلم: "خير نساء ركبن الإبل نساء قريش، أحناه على ولد في صغره، وأرعاه لبغل في ذات يده"، وأصله في البخاري من وجه آخر، لكن لم يسمها.
"الثالثة صفية بنت بشامة، بفتح الموحدة، وتخفيف الشين المعجمة".
تبعه على هذا تلميذه الشامي؛ لأنه مقتضى كلام الحافظ، كما في التبصير، خلال قول البرهان بشد المعجمة، ولم أره منصوصا، إلا أنه مقتضى كلام ابن ماكولا، وهو ابن نضلة، بفتح النون وسكون المعجمة من بني العنبر بن تميم.
روى ابن سعد بسند ضعيف، عن ابن عباس، أنه صلى الله عليه وسلم خطبها، وكان أصابها في سبي فخيرها بين نفسه الكريمة وبين زوجها" فقال: "إن شئت أنا وإن شئت زوجك"، "فاختارت زوجها" فقالت: بل زوجي، فأرسلها فلعنها بنو تميم.(4/454)
الرابعة: ولم يذكر اسمها، قيل إنه صلى الله عليه وسلم خطبها، فقالت: أستأمر أبي، فلقيت أباها فأذن لها، فعادت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال لها: "قد التحفنا لحافا غيرك".
الخامسة: أم هانئ فاختة بنت أبي طالب أخت علي، خطبها صلى الله عليه وسلم فقالت: إني امرأة مصبية واعتذرت إليه، فعذرها.
__________
"الرابعة ولم يذكر اسمها، قيل إنه صلى الله عليه وسلم خطبها، فقالت: أستأمر أبي، فلقيت أباها، فأذن لها، فعادت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لها: "قد التحفنا لحافا" أي اتخذنا امرأة "غيرك" إما بأن تزوج غيرها، أو استغنى بواحدة ممن عنده، كني باللحاف، وهو كل ثوب يتغطى به على المرأة، لشدة اتصالها بالرجل كاتصال الثوب به، أو لأنها تستره بمنعها له من الفواحش، كما يستر الثوب صاحبه.
"الخامسة أم هانئ" بنون، فهمزة منونة، "فاختة" على الأشهر، وقيل فاطمة، وقيل هند، وقيل رملة، وقيل حمانة وقيل عاتكة "بنت أبي طالب، أخت علي" أمير المؤمنين، شقيقته روت عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث في الكتب الستة، ولها في البخاري حديثان، قال الترمذي وغيره: وعاشت بعد علي "خطبها صلى الله عليه وسلم" من نفسها، "فقالت: إني امرأة مصبية، واعتذرت إليه" وعند ابن سعد بسند صحيح عن الشعبي، فقالت: يا رسول الله لأنت أحب إليَّ من سمعى وبصري، وحق الزوج عظيم فأخشى أن أضيع حق الزوج "فعذرها"
وروى الطبراني برجال ثقات عن ام هانئ قالت: خطبني صلى الله عليه وسلم فقلت: ما لي عنك رغبة يا رسول الله، ولكن لا أحب أن أتزوج وبني صغار، فقال صلى الله عليه وسلم: "خير نساء ركبن الإبل نساء قريش، أحناه على طفل في صغره، وأرعاه على بعل في ذات يده"، وذكر ابن الكلبي، عن أبيه، عن أبي صالح، عن ابن عباس قال: خطب صلى الله عليه وسلم إلى أبي طالب أم هانئ، وخطبها هبيرة، فزوج هبيرة، فعاتبه صلى الله عليه وسلم، فقال: "يابن أخي إنا قد صاهرنا إليهم، والكريم يكافئ الكريم"، ثم فرق الإسلام بين أم هانئ وهبيرة، فخطبها صلى الله عليه وسلم، فقالت: والله إني كنت أحبك في الجاهلية، فكيف في الإسلام، ولكني امرأة مصبية، فأكره أن يؤذوك، فقال: "خير نساء ركبن الإبل" الحديث.
وذكر ابن سعد عن أبي صالح مولاها أنه صلى الله عليه وسلم خطبها، فقلت: إني امرأة مؤتمة، فلما أدرك بنوها عرضت نفسها عليه، فقال: أما الآن فلا؛ لأن الله أنزل عليه وبنات عمك اللاتي هاجرن معك، ولم تكن من المهاجرات.
وأخرج الترمذي وحسنه والحاكم وصححه عن ابن عباس عن أم هانئ: خطبني صلى الله عليه وسلم، فاعتذرت إليه، فعذرني، فأنزل الله: {إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ} [الأحزاب: 50] ، إلى قوله {اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ} [الأحزاب: 50] فلم أكن أحل له؛ لأني لم أهاجر.(4/455)
السادسة: ضباعة -بضم الضاد المعجمة وتخفيف الموحدة وبالعين المهملة- بنت عامر بن قرط -بضم القاف وسكون الراء وبالطاء المهملة- خطبها صلى الله عليه وسلم إلى ابنها سلمة بن هشام فقال: حتى أستأمرها، فقيل للنبي صلى الله عليه وسلم: إنها قد كبرت، فلما عاد ابنها -وقد أذنت له- سكت.
__________
وأخرج ابن أبي حاتم عنها قالت: نزلت في هذه الآية {وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ} ، أراد صلى الله عليه وسلم أن يتزوجني فنهى عني إذ لم أهاجر.
"السادسة ضباعة، بضم الضاد المعجمة، وتخفيف الموحدة، وبالعين المهملة بنت عامر بن قرط، بضم القاف، وسكون الراء وبالطاء المهملة" ابن سلمة بن قشير بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة، أسلمت قديما بمكة، وهاجرت، وكانت من أجمل نساء العرب، وأعظمهن خلقا، وإذا جلست أخذت من الأرض شيئا كثيرا، وتغطي جسدها مع عظمه بشعرها، وأسند ابن الكلبي في الأنساب عن ابن عباس: أنها كانت تحت هوذة بن علي الحنفي، فمات عنها، فتزوجها عبد الله بن جدعان، فلم يلق بخاطرها، فسألته، طلاقها، ففعل بعد أن حلفها أنها إن تزوجت هشام بن المغيرة، المخزومي، تنحر مائة ناقة سود الحدق، وتغزل خيطا يمد بين أخشبي مكة، وتطوف بالبيت عريانة، فتزوجها هشام، ونحر عنها المائة ناقة، وأمر نساء بني المغيرة بغزل خيط ومده بين الأخشبين، وأمر قريشا فأخلوا له البيت.
قال المطلب بن أبي وداعة السهمي: وكان لدة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرجت أنا ومحمد، ونحن غلامان واستصغرونا، فلم نمنع، فنظرنا إليها، فخلعت ثوبا ثوبا، وهي تقول:
اليوم يبدو بعضه أو كله ... وما بدا منه فلا أحله
حتى نزعت ثيابها، ثم نشرت شعرها على ظهرها وبطنها، فما ظهر من جسدها شيء، وطافت وهي تقول العشر، وولدت له سلمة، وكان من خيار المسلمين، فلما مات هشام، وأسلمت هي، وهاجرت "خطبها صلى الله عليه وسلم إلى ابنها سلمة بن هشام" بن المغيرة المخزومي من السابقين، استشهد بمزج الصفراء سنة أربع عشرة عند ابن سعد أو بإجنادين عند غيره، وصوب، "فقال: حتى استأمرها" في حديث ابن عباس المذكور، فقال سلمة: يا رسول الله ما عنك مدفع، أفاستأمرها قال: "نعم"، فأتاها فقالت: الله أفي رسول الله تستأمرني، إني أبتغي أن أحشر مع أزواجه، ارجع إليه فقل له نعم قبل أن يبدو له، "فقيل للنبي صلى الله عليه وسلم إنها قد كبرت" في حديث ابن عباس، وكان قد قيل له، وقد ولى سلمة، أن ضباعة ليست كما عهدت قد كثرت غضون وجهها وسقطت أسنانها من فيها، "فلما عاد ابنها وقد أذنت له" وأخبره سلمة بما قالت، "سكت(4/456)
عنها صلى الله عليه وسلم فلم ينكحها.
السابعة: أمامة بنت حمزة بن عبد المطلب، عرضت عليه صلى الله عليه وسلم فقال: "هي ابنة أخي من الرضاعة".
الثامنة: عزة بنت أبي سفيان، عرضتها أختها أم حبيبة عليه صلى الله عليه وسلم فقال: "إنها لا تحل لي" لمكان أختها أم حبيبة تحت النبي صلى الله عليه وسلم.
وقيل: تزوج عليه الصلاة والسلام الجندعية -بضم الجيم وسكون النون وضم
__________
عنها صلى الله عليه وسلم فلم ينكحها" رضي الله عنها.
"السابعة: أمامة بنت حمزة بن عبد المطلب" في اسمها سبعة أقوال أمامة، وعمارة، وسلمى، وعائشة، وفاطمة، وأمة الله، ويعلى، وكنيتها أم الفضل، حكاها في التوشيح "عرضت عليه صلى الله عليه وسلم فقال: "هي ابنة أخي من الرضاعة" روى الشيخان، واللفظ لمسلم عن ابن عباس: أن علي بن أبي طالب قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ألا تتزوج ابن حمزة، قال: "إنها ابنة أخي من الرضاعة"، ولسعيد بن منصور فإنها من أحسن فتاة في قريش، قال العلماء: ولعل عليا لم يكن علم أن حمزة رضيعة صلى الله عليه وسلم أو جوز الخصوصية.
"الثامنة: عزة" بفتح المهملة، والزاي المشددة، وهاء تأنيث "بنت أبي سفيان" صخر بن حرب، سميت عزة في رواية مسلم والنسائي، وصوبه أبو موسى المديني، وقال ابن عبد البر: إنه الأشهر، وفي رواية للحميدي، وأبي موسى المديني درة، بضم المهملة، وشد الراء، قال الحافظ: ولعل أحد الاسمين كان لقبا لها، والمحفوظ أن درة بنت أبي سلمة، وفي رواية الطبراني تسمية بنت أبي سفيان حمنة، وجزم به المنذري، "عرضتها أختها أم حبيبة عليه صلى الله عليه وسلم، فقال: "إنها لا تحل لي".
روى الشيخان: أن أم حبيبة قالت: قلت يا رسول الله انكح اختي، زاد مسلم عزة بنت أبي سفيان فقال: "أوتحبين ذلك"، فقلت: نعم لست لك بمخلية، وأحب من شاركني في خير أختي، فقال صلى الله عليه وسلم: "إن ذلك لا يحل لي"، قلت: فإنا نحدث أنك تريد أن تنكح بنت أبي سلمة، فقال: لو أنها لم تكن ربيبتي في حجرة ما حلت لي، إنها لابنة أخي من الرضاعة أرضعتني وأبا سلمة ثويبة، فلا تعرضن على بناتكن ولا أخواتكن، فقوله: "لمكان أختها أم حبيبة تحت النبي صلى الله عليه وسلم" تعليل من المصنف، لقوله: "لا تحل لي"، أي لما فيه من الجمع بين الأختين، لا من لفظ النبوة، كما ظنه من تعسف توجيه كونه لم يقل تحتي.
وقد أفاد حديث الصحيح: أن أم حبيبة ظنت أن ذلك من خصائصه بدليل إيرادها ربيبته، "وقيل تزوج عليه الصلاة والسلام الجندعية، بضم الجيم، وسكون النون، وضم(4/457)
الدال وبالعين المهملة- امرأة من جندع، وهي ابنة جندب بن ضمرة، ولم يدخل بها. وأنكره بعض الرواة.
فهؤلاء النساء اللاتي ذكر أنه صلى الله عليه وسلم تزوجهن أو دخل بهن، أو لم يدخل بهن أو عرضن عليه.
__________
الدال" المهملة، "وبالعين المهملة امرأة من جندع" بطن من ليث، "وهي ابنة جندب بن ضمرة ولم يدخل بها" فإن صح فتذكر فيما تقدم قبل لا فيمن خطبهن، "و" لكن "أنكره بعض الرواة" وقد زيد فيمن خطبها حبيبة بنت سهل بن ثعلبة الأنصارية، هم أن يتزوجها، ثم تركها رواه ابن سعد عن عمرة ونعامة، ولم يسم أبوها من سبى بني العنبر، كانت جميلة عرض عليها صلى الله عليه وسلم أن يتزوجها، فلم تلبث أن جاء زوجها، ذكره الدباغ في ذيل الاستيعاب.
هذا ما زاده الشامي على المصنف في المخطوبات، وتردد في أمر شريك الغفارية، هل هي مخطوبة فقط، فتذكر هنا أو عقد عليها فتذكر فيما قبله.
وأما خولة بنت حكيم التي قيل إنها الواهبة نفسها، فتقدمت في المصنف، فلا تذكر في المخطوبات، فقول الشارح إنه زادها سهو؛ لأن الشامي عمم الترجمة فيمن خطبها، ومن عرضت نفسها ومن عرضت عليه، وقد تقدم التنبيه على هذا، "فهؤلاء النسوة اللاتي ذكر أنه صلى الله عليه وسلم تزوجهن أو خطبهن أو دخل بها أو لم يدخل بهن أو عرضن عليه" وهذا ظاهر في أنه أراد الحصر فيمن ذكرهن، وهو باعتبار ما وقف عليه، والله أعلم.(4/458)
[ذكر سراريه صلى الله عليه وسلم] :
وأما سراريه فقيل إنهن أربعة:
__________
ذكر سراريه صلى الله عليه وسلم:
"وأما سراريه" بخفة الياء وشدها جمع سرية، بضم السين وكسر الراء المشددة، ثم تحتية مشددة مشتقة من التسرر، وأصله من السر، وهو من أسماء الجماع، سميت بذلك لأنها يكتم أمرها عن الزوجة غالبا، وضمت سينها جريا على المعتاد من تغيير النسب للفرق بينها وبين الحرة إذا نكحت سرا، وقال الأصمعي: مشتقة من السرور؛ لأن مالكها يسر بها فضمها قياسي.
روى أبو داود في مراسيله مرفوعا "عليكم بأمهات الأولاد"، وفي رواية "بالسراري فإنهن مباركات الأرحام"، وفي كامل أبي العباس عن عمر من قوله ليس قوم أكيس من أولاد السراري؛ لأنهم يجمعون عن العرب ودهاء العجم، يريد إذا كن من العجم، "فقيل: إنهن أربعة" وبه جزم.(4/458)
مارية القبطية بنت شمعون -بفتح الشين المعجمة- أهداها له المقوقس القبطي صاحب مصر والإسكندرية، وأهدى معها أختها سيرين -بكسر السين المهملة وسكون المثناة التحتية وكسر الراء- وخصيا يقال له: مأبور،
__________
أبو عبيدة، وقال قتادة: ثنتان "مارية القبطية" نسبة إلى القبط نصارى مصر.
قال الواقدي: كانت من حفن من كورة أنصنا من صعيد مصر، وكانت بيضاء جميلة وحفن بفتح المهملة وسكون الفاء ونون.
قال اليعقوبي: كانت مدينة، قال في الفتح: وهي الآن كفر من عمل أنصنا بالبر الشرقي من الصعيد في مقابلة الأشمونين وفيها آثار عظيمة باقية انتهى.
قال البلاذري: وأمها من الروم ابن سعد عن عائشة ما غرت على امرأة إلا دون ما غرت على مارية، وذلك أنها جعدة جميلة، فأعجب بها صلى الله عليه وسلم وكان أنزلها أولا بجوارنا، فكان عامة الليل والنهار عندها، ثم حولها إلى العالية، وكان يختلف إليها هناك، فكان ذلك أشد علينا "بنت شمعون بفتح الشين المعجمة" وسكون الميم وبالعين المهملة، وقيل بإهمالهما، وقيل بإعجامهما، واقتصر عليه الحافظ في التبصير، ولم يرجح في الإصابة شيئا.
كذا قال الشامي: والذي في التبصير إنما هو إعجام الشين وإهمال العين.
وأما الذي ذكره بإعجامهما، فإنما هو والد ريحانة الصحابي، ونصه في حرف الشين المعجمة شمعون الصفا معروف ومارية بنت شمعون أم إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: وبمعجمتين أبو ريحانة الصحابي شمعون قال ابن يونس: بغين معجمة أصح انتهى.
هذا ولم أجده في الإصابة تعرض لضبط لا في ترجمتها ولا ابنها ولا أختها ولا مابور.
"أهداها له" كما رواه ابن سعد عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة قال بعض "المقوقس" لقب واسمه جريج بن مينا "القبطي" في سنة سبع من الهجرة، كما في نفس رواية ابن سعد "صاحب مصر والإسكندرية" مات على نصرانيته، وذكره ابن منده وأبو نعيم وابن قانع في الصحابة فغلطوهم، "وأهدى معها أختها سيرين بكسر السين المهملة، وسكون المثناة التحتية، وكسر الراء"، فياء فنون.
روى ابن عبد الحكم أن المقوقس لما وصله كتاب المصطفى، قال: إنا نجد من نعته أن لا يجمع بين أختين ويقبل الهدية لا الصدقة، وجلساؤه المساكين فلم يجد في مصر أحسن ولا أجمل من مارية وأختها فاهداهما "وخصيا يقال له مأبور" بميم، فألف فموحدة خفيفة مضمومة، فواو ساكنة، فراء ويقال هابو بهاء بدل الميم وبغير راء في آخره، كما في الإصابة.
زاد بن سعد في هذه الرواية، وكان شيخا كبيرا أخا مارية، وروى ابن شاهين عن عائشة،(4/459)
وألف مثقال ذهبا وعشرين ثوبا لينا من قباطي مصر، وبغلة شهباء وهي دلدل، وحمارا أشهب وهو غفير ويقال: يعفور، وعسلا من عسل بنها، فأعجب النبي صلى الله عليه وسلم العسل ودعا في عسل بنها بالبركة، قال ابن الأثير: وبنها -بالكسر الباء وسكون النون- قرية من قرى مصر، بارك النبي صلى الله عليه وسلم في عسلها، والناس اليوم يفتحون الباء، انتهى.
فوهب النبي صلى الله عليه وسلم سيرين لحسان بن ثابت وهي أم عبد الرحمن بن حسان،
__________
والبزار عن علي أنه ابن عم مارية، وللطبراني عن أنس كان نسيبا لها، فأسلم وحسن إسلامه، وكان يدخل على أم إبراهيم، فرضي لمكانه منها أن يجب نفسه، فقطع ما بين رجليه حتى لم يبق له قليل ولا كثير ولا منافاة، فقد تكون الإخوة لام أو أطلقت مجازا عن القرابة فلا ينافي أنه ابن عمها، كما أنه لا تنافي بين كونه أهداه خصيا، وبين كونه جب نفسه لاحتمال أنه أهدى فاقد الخصيتين مع بقاء الذكر، وهو الذي قطعه، "وألف مثقال ذهبا، وعشرين ثوبا لينا من قباطي مصر، وبغلة شهباء، وهي دلدل" بدالين مهملتين، ولامين "وحمارا أشهب، وهو عفير" بعين مهملة، "ويقال يعفور" ويقال الذي أهدى يعفور فروة بن عمرو، ويقال هما واحد، ويحتمله المصنف، "وعسلا من عسل بنها" وعند ابن سعد، وبعث بذلك كله مع حاطب بن أبي بلتعة، فعرض حاطب على مارية الإسلام، ورغبها فيه، فأسلمت، وأسلمت أختها، وأقام الخصي على دينة حتى أسلم بالمدينة في عهده صلى الله عليه وسلم.
"فأعجب النبي صلى الله عليه وسلم العسل، ودعا في عسل بنها بالبركة"، فلم تزل كثيرة العسل حتى الآن.
"قال ابن الأثير وبنها بكسر الباء" الموحدة، "وسكون النون قرية من قرى مصر بارك النبي صلى الله عليه وسلم في عسلها، والناس اليوم يفتحون الباء انتهى" وعلى الفتح اقتصر البهان مع القصر، في حواشي الصحاح لابن بري أن الكسر والفتح لغتان مسموعتان، ومثله في لسان العرب وعند أبي القاسم بن عبد الحكم أن المقوقس بعث إليه أيضا بمال صدقه، ودعا رجلا عاقلا وأمره أن ينظر من جلساؤه وإلى ظهره، هل فيه شامة كبيرة ذات شعر، ففعل ذلك، وقدم الهدية، وأعلمه أنها هدية، والصدقة، وأعلمه، فقبل صلى الله عليه وسلم الهدية، ورد الصدقة، ولما نظر إلى مارية وأختها أعجبتاه وكره أن يجمع بينهما، "فوهب النبي صلى الله عليه وسلم سيرين لحسان بن ثابت، وهي أم عبد الرحمن بن حسان" يقال إنه ولد في عهد النبوة، وذكره ابن حبان في ثقات التابعين، وقال مات سنة أربع ومائة، وقاله خليفة والطبري، واستبعده ابن عساكر، وعند ابن سعد، وكانت مارية(4/460)
ومارية هي أم إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم وماتت مارية في خلافة عمر رضي الله عنه سنة ست عشرة ودفنت بالبقيع.
__________
بيضاء جميلة، فأنزلها صلى الله عليه وسلم في العالية، وكان يطأها بملك اليمين، وضرب عليها مع ذلك الحجاب، فحملت منه، ووضعت في ذي الحجة سنة ثمان، "ومارية هي أم إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم".
وذكر الواقدي أن أبا بكر كان ينفق عليها حتى توفي، ثم عمر حتى توفيت، "وماتت مارية في خلافة عمر رضي الله عنه سنة ست عشرة، ودفنت".
قال الواقدي: فكان عمر يحشر الناس لشهودها، ثم صلى عليها ودفنها "بالبقيع" وقال ابن منده: ماتت سنة خمس عشرة ومن مناقبها الشريفة، أن الله برأها وقريبها، وأنزل في شأنها جبريل.
روى الطبراني عن ابن عمر قال: دخل صلى الله عليه وسلم على مارية، وهي حامل بإبراهيم، فوجد عندها نسيبا لها، فوقع في نفسه شيء، فخرج، فلقيه عمر، فعرف ذلك في وجهه، فسأله، فأخبره، فأخذ عمر السيف، ثم دخل على مارية وقريبها عندها، فأهوى إليه بالسيف فكشف عن نفسه، فرآه مجبوبا ليس بين رجليه شيء، فرجع عمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبره، فقال صلى الله عليه وسلم: $"إن جبريل أتاني فأخبرني أن الله تعالى قد برأها وقريبها مما وقع في نفسه، وإن في بطنها غلاما مني، وأنه أشبه الناس بي، وأمرني أن أسميه إبراهيم، وكناني أبا إبراهيم.
وأخرج البزار والضيا المقدسي في صحيحه عن علي قال: كثر الكلام على مارية في قبطي ابن عم لها كان يزورها، فقال صلى الله عليه وسلم: "خذ هذا السيف، فإن وجدته عندها، فاقتله" فقلت: يا رسول الله أكون في أمرك كالسكة المحماتي لا يشفيني شيء حتى أمضي لما، أمرتني به أم الشاهد يرى ما لا يرى الغائب، قال: بل الشاهد يرى ما لا يرى الغائب، فأقبلت متوشحا السيف، فوجدته عندها، فاخترطت السيف، وأقبلت نحوه، فعرف أني أريده فرقي نخلة، ثم رمى بنفسه ومال على قفاه ثم رفع رجله، فإذا هو أجب أمسح، ما له قليل ولا كثير، فغمدت السيف، ثم أتيته صلى الله عليه وسلم، فأخبرته فقال: "الحمد لله الذي يصرف عنا أهل البيت"، ورواه مسلم عن أنس أن رجلا كان يتهم بأم ولده صلى الله عليه وسلم، فقال لعلي: "اذهب فاضرب عنقه"، فأتاه، فإذا هو في ركية يتبرد فيها، فقال له: اخرج فخرج، فناوله يده، فإذا هو مجبوب ليس له ذكره، فكف عنه، ثم أخبره صلى الله عليه وسلم قال في الإصابة، ويجمع بين قصتي عمر وعلي باحتمال أن عمر مضى إليها سابقا عقب خروجه صلى الله عليه وسلم فلما رآه مجبوبا اطمأن قلبه وتشاغل بأمر ما، وتراخى إرسال علي قليلا بعد رجوعه صلى الله عليه وسلم إلى مكان ولم يسمع بعد بقصة عمر، فلما جاء علي وجد الخصي قد خرج من عندها إلى النخيل يتبرد في الماء، فوجده ويكون إخبار عمر وعلى معا، أو أحدهما بعد الآخر، ثم(4/461)
وريحانة بنت شمغون من بني قريظة، وقيل من بني النضير، والأول أظهر، وماتت قبل وفاته عليه الصلاة والسلام مرجعة من حجة الوداع سنة عشر، ودفنت بالبقيع، وكان عليه الصلاة والسلام يطؤها بملك اليمين، وقيل أعتقها وتزوجها ولم يذكر ابن الأثير غيره.
__________
نزل جبريل بما هو آكد من ذلك انتهى.
"و" الثانية "ريحانة" وقيل اسمها ربيعة بالتصغير، كما في الإصابة "بنت شمغون" بمعجمتين ابن زيد بن عمرو بن قنافة بالقاف أو خنافة بالخاء المعجمة "من بني" عمرو بن "قريظة" في قول ابن إسحاق، وقيل من بني النضير" وبه جزم ابن سعد قائلا: وكانت متزوجة رجلا من بني قريظة له الحكم، وصدر به في الإصابة، واقتصر عليه في العيون: فقوله: "والأول أظهر" فيه نظر، لكونها كانت متزوجة فيهم، فسبيت معهم وإن كانت نضرية نسبا، وبهذا يجمع بين القولين، لكن قول ابن إسحاق من بني عمرو بن قريظة يأبى ذلك لظهوره في أنها منهم نسبا، وقد قال ابن عبد البر: قول الأكثر أنها قرظية، وقيل نضرية قال ابن إسحاق: سباها صلى الله عليه وسلم فأبت إلا اليهودية، فعزلها، ووجد في نفسه، فبينما هو مع أصحابه إذ سمع وقع نعلين خلفه فقال: "إن هذا لثعلبة بن سعية يبشرني بإسلام ريحانة"، فبشره فسره ذلك، وعرض عليها أن يعتقها، ويتزوجها، ويضرب عليها الحجاب، فقالت: يا رسول الله بل تتركني في ملكك، فهو أخف علي وعليك، فتركها، واصطفاها لنفسه، "وماتت قبل وفاته عليه الصلاة والسلام مرجعة من حجة الوداع سنة عشر، ودفنت بالبقيع، وكان عليه الصلاة والسلام يطؤها بملك اليمين"، جزم به ابن إسحاق، ورواه ابن سعد عن أيوب بن بشر، "وقيل أعتقها وتزوجها".
أخرجه ابن سعد عن الواقدي من عدة طرق، "ولم يذكر ابن الأثير غيره، لقول الواقدي، إنه الأثبت عند أهل العلم، أخرج ابن سعد عن الواقدي بسند له عن عمر بن الحكم، قال: كانت ريحانة عند زوج لها يحبها، وكانت ذات جمال، فلما سبيت بنو قريظة، عرض السبي عليه صلى الله عليه وسلم، فعزلها، ثم أرسلها إلى بيت أم المنذر بنت قيس حتى قتل الأسرى، وفرق السبي، فدخل عليها، قالت: فاختبأت منه حياء، فدعاني فأجلسني بين يديه، وخيرني، فاخترت الله ورسوله، فأعتقني وتزوج بي، فلم تزل عنده حتى ماتت، وكان يستكثر منها، ويعطيها ما سألته.
وقال ابن سعد: أخبرنا محمد بن عمر، حدثني صالح بن جعفر عن محمد بن كعب: كانت ريحانة مما أفاء الله على رسوله، وكانت جميلة وسيمة، فلما قتل زوجها، وقعت في السبي، فخيرها صلى الله عليه وسلم، فاختارت الإسلام، فأعتقها وتزوجها، وضرب عليها الحجاب، فغارت عليه غيرة شديدة فطلقها، فشق عليها ذلك، وأكثرت البكاء فراجعها، فكانت عنده حتى ماتت قبله.(4/462)
تنبيه:
وأخرى: وهبتها له زينب بنت جحش.
الرابعة: أصابها في بعض السبي.
__________
"تنبيه" وقع في العيون أن ريحانة هذه ابنة شمغون، مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذا قال الحافظ السخاوي في كتابه الفخر المتوالي، بمن انتسب للنبي من الخدم والموالي شمعون والد سرية النبي صلى الله عليه وسلم ذكره الدميري تبعا لغيره.
قال الشامي: وهو وهم بلا شك، فإنها من قريظة، أو النضير، وأبو ريحانة المذكور في الخدم أزدي، أو أنصاري، أو قرشي، وجمع بين الأقوال بأن الأنصار من الأزد، ولعله حالف بعض قريش، وأما والد ريحانة السرية، فلم يقل أحد أنه أزدي أو أنصاري أو قرشي، وهو من بني إسرائيل، ولا قال أحد أنه أسلم، ولا أنه خدم النبي صلى الله عليه وسلم فهو غير الذي ذكروه قطعا انتهى، وهو تعقب جيد، "و" الثالثة أمة "أخرى".
قال في النور: لا أعرف اسمها، وفيه تقصير، ففي الإصابة نفيسة جارية زينب بنت جحش، وهبتها للنبي صلى الله عليه وسلم لما رضي عليها بعد الهجرة، سماها أحمد بن يوسف في كتاب أخبار النساء انتهى، "وهبتها له زينب بنت جحش" لما هجرها، لقولها في صفية اليهودية ذا الحجة والمحرم وصفر، ثم رضي عن زينب، ودخل عليها في شهر ربيع الأول الذي قبض فيه، فقالت: ما أدري ما أجزيك به، فوهبتها له. ذكره أبو عبيدة معمر. "الرابعة" قال البرهان أيضا: لا أعرف اسمها "أصابها في بعض السبي"، قال أبو عبيدة: وكانت جميلة، فكادها نساؤه، وخفن أن تغلبهن عليه.(4/463)
الفصل الرابع: في أعمامه وعماته واخوته من الرضاعة وجداته
مدخل
...
الفصل الرابع: في أعمامه وعماته وإخوته من الرضاعة وجداته
قال صاحب "ذخائر العقبي في مناقب ذوي القربي":.....................
__________
الفصل الرابع: في أعمامه وعماته وإخوته من الرضاعة
صفة كاشفة، لا للاحتراز إذ ليس له إخوة من النسب.
قال الواقدي المعروف عندنا وعند أهل العلم أن عبد الله وآمنة لم يلدا غير رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وجداته:
من قبل أبويه، قال صاحب "ذخائر العقبي في مناقب ذوي القربي" هو الحافظ، المحب،(4/463)
كان له صلى الله عليه وسلم اثنا عشر عما بنو عبد المطلب، أبوه -عبد الله- ثالث عشرهم: الحارث: وأبو طالب واسمه عبد مناف، والزبير ويكنى أبا الحارث، وحمزة والعباس، وأبو لهب واسمه عبد العزى،
__________
الطبري، كثير التصانيف، "كان له صلى الله عليه وسلم اثنا عشر عما بنو عبد المطلب" قيد به دفعا لتوهم المجاز، وهو إطلاق العم على عم الأب، وعم الجد، "أبوه عبد الله ثالث عشرهم" بفتح الثاء المثلثة؛ لأنه مركب مع عشر، ولا يجوز ضمه على الإعراب كما قاله الدماميني، وأطال في بيانه، وأمهاتهم شتى، كما ستراه "الحارث" أكبر ولد أبيه، وبه كان يكنى، وشهد معه حفر زمزم ومات في حياة أبيه ولم يدرك الإسلام، وأمه صفية بنت جنب، قال في الإصابة: زعم ابن أبي حاتم أنه صحب النبي صلى الله عليه وسلم واستعمله على بعض أعمال مكة، وولاه الشيخان وعثمان مكة، ثم انتقل إلى البصرة، فوهم فيه وهما شنيعا، فهذه الترجمة لحفيدة الحارث بن نوفل بن الحارث. أما هو فمات في الجاهلية وأولاده أبو سفيان، ونوفل وربيعة، والمغيرة وعبد الله كلهم صحابة، و"أبو طالب" كني باسم أكبر ولده وهم: طالب، فعقيل، فجعفر، فعلي، وكل أكبر ممن يليه بعشر سنين، وأختهم أم هانئ، قيل وحمانة أخت لهم ثانية، وأسلموا كلهم إلا طالبا، فمات كافرا، والصحيح أن أبا طالب وأمه فاطمة بنت عمرو لم يسلم وذكر جمع من الرافضة أنه مات مسلما وتمسكوا بأشعار وأخبار واهية تكفل بردها في الإصابة "واسمه عبد المناف" قال في الإصابة على المشهور، وقال في الفتح عند الجميع، وشذ من قال عمران، بل هو قول باطل نقله ابن تيمية في كتاب الرد على الروافض، فقال إنهم زعموا أنه المراد بقوله تعالى وآل عمران، وقال الحاكم أكثر المتقدمين على أن اسمه كنيته انتهى.
أي فسمى ولده حين ولد بما يوافق اسم أبيه على ذا القول، "والزبير" بفتح الزاي، وكسر الباء عند البلاذري وحده، والباقون على ضم الزاي، وفتح الباء قاله في الزهر الباسم، ونقله الشامي هنا وفي حفر زمزم، فعجب ما في الشرح، "ويكنى أبا الحارث"، وهو أسن من شقيقه عبد الله وأبي طالب، كان شاعرا شريفا رئيس بني هاشم وبني المطلب وأحد حكام قريش، وكان ذا عقل ونظر ولم يدرك الإسلام، وبناته ضباعة وصفية وأم الحكم وأم الزبير لهن صحبة وابنه عبد الله ثبت يوم حنين واستشهد بأجنادين سنة ثلاث عشرة بعدما بلى بها بلاء حسنا، "وحمزة والعباس" السيدان الآتي، ذكرهما، "وأبو لهب" وأمه لنبى بنت هاجر بكسر الجيم، كما جزم به في الروض قبيل المولد بيسير، ولم يذكره الأمير، ولا من تبعه "واسمه عبد العزى" كناه أبوه بذلك لحسن وجهه.
قال السهيلي: مقدمة لما يصير إليه من اللهب، وكان بعد نزول السورة فيه لا يشك مؤمن(4/464)
والغيداق والمقوم وضرار والعباس وقثم، وعبد الكعبة وجحل بتقديم الجيم، وهو السقاء الضخم وقال الدارقطني بتقديم الحاء وهو القيد والخلخال ويسمى المغيرة.
وقيل كانوا أحد عشر فأسقط المقوم، وقال هو عبد الكعبة، وقيل عشرة، فأسقط الغيداق وجحلا،
__________
أنه من أهل النار بخلاف غيره من الكفار، فإن الأطماع لم تنقطع من إسلامهم وصحب ولداه عتبة ومعتب، وثبتا في حنين ولأختهما درة صحبة وعتيبة قتله الأسد، كما مر وبعضهم يجعله الصحابي والمكبر عقير الأسد.
قال اليعمري: وغيره، والمشهور الأول، "والغيداق" بغين معجمة مفتوحة، فتحتية، فدال مهملة، فألف، فقاف لقب بذلك لجوده، وكان أكثر قريش مالا.
قال ابن سعد: اسمه مصعب، وقال الدمياطي نوفل وأمه ممنعة بنت عمرو بن مالك الخزاعية، "والمقوم" بضم الميم، وفتح القاف، وشد الواو مفتوحة ومكسورة، يكنى أبا بكر ولد له، وانقطع عقبه، وهو شقيق حمزة، "وضرار" كان من فتيان قريش جمالا وسخاء، ومات أيام أوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يسلم ولا عقب له، وهو شقيق العباس، "وقثم" بضم القاف وفتح المثلثة وميم غير منصرف للعدل والعلمية؛ لأنه معدول عن قائم من القثم وهو العطاء مات صغيرا وهو شقيق الحارث.
"وعبد الكعبة" قال البلاذري: درج صغيرا ولم يعقب وهو شقيق عبد الله. "وجعل بتقديم الجيم" على الحاء المهملة في رواية بن إسحاق، "وهو" في الأصل "السقاء الضخم".
قال صاحب العين: ونوع من اليعاسيب، وقال أبو حنيفة الدينوري: كل شيء ضخم فهو جحل، "وقال الدارقطني بتقديم الحاء" المهملة المفتوحة على الجيم الساكنة.
ذكره كله السهيلي قبيل المولد، وبضبط الدارقطني جزم النووي في تهذيبه، والحافظ في التبصير، "وهو" في الأصل "القيد والخلخال" عطف تفسير، ففي المختار الحجل بفتح الحاء وكسرها القيد، وهو الخلخال، فلعل اقتصارهم على الفتح؛ لأنه الذي لقب به، "ويسمى المغيرة" عند بعض.
وقال ابن دريد مصعب، كذا قال السهيلي، وعليه الذهبي، وتعقبه في التبصير، فقال: الذي اسمه مغيرة ابن أخيه جهل بن الزبير بن عبد المطلب انتهى، وأمه هالة بنت وهيب وولد له، وانقطع عقبه، "وقيل كانوا أحد عشر، فاسقط المقوم، قال هو عبد الكعبة"، وكذا ذكرهم عبد الغني الحافظ أحد عشر، لكنه أسقط قثم "وقيل" كانوا "عشرة" فقط، "فاسقط الغيداق وجحلا".(4/465)
وقيل تسعة فأسقط قثم.
__________
لأنهما لا وجود لهما عند هذا القائل هذا ظاهره، وفي العيون فاسقط عبد الكعبة، وقال هو المقوم، وجعل الغيداق وجحلا أو تبعه في السبيل، "وقيل" الأعمام "تسعة، فاسقط قثم" كما أسقط الغيداق وجحلا، ولم يذكر ابن إسحاق وابن قتيبة غيره وبعضهم، كما في العيون زاد العوام شقيق حمزة، فيكونون ثلاثة عشر، هذا وجملة أولادهم خمسة وعشرون أسلموا كلهم، وصحبوا إلا طالبا وعتيبة المصغر، والله يهدي من يشاء.(4/466)
[ذكر بعض مناقب حمزة] :
فأما حمزة، فأمه هالة بنت وهيب بن عبد مناف بن زهرة، ويكنى أبا عمارة وأبا يعلى، كنيتان له بابنيه عمارة ويعلى،
__________
ذكر بعض مناقب حمزة:
"فأما حمزة فأمه هالة بنت وهيب" أخي آمنة بنت وهب وهي أم النبي صلى الله عليه وسلم فأم كل منهما بنت عم أم الآخر فوهب ووهيب "ابن عبد مناف بن زهرة" بن كلاب، فهو قريبه من أمه أيضا أو أخوه من الرضاعة، أرضعتهما ثويبة مولاة أبي لهب، كما ثبت في الصحيح، "ويكنى أبا عمارة وأبا يعلى كنيتان له بابنيه عمارة" وأمه خولة بنت قيس من بنى مالك بن النجار، "ويعلى" وأمه أوسية من الأنصار، وله أيضا من الذكور عامر وروح، وأمه يعلى ذكره ابن سعد وعمرو بن حمزة، ذكره ابن الكلبي، وقال إنه مات صغيرا.
قال الزبير بن بكار: لم يعقب حمزة إلا من يعلى، فولد خمسة رجال من صلبه، لكنهم ماتوا، ولم يعقبوا فانقطع نسل حمزة وسمي ابن سعد أولا يعلى، وهم: عمارة، والفضل، والزبير، وعقيل، ومحمد، وله من الإناث أمامة، وقيل في اسمها عمارة، لكن الخطيب قال: انفرد الواقدي بهذا القول، وإنما عمارة ابنه لابنته.
وفي العيون، وله أيضا ابنة تسمى أم الفضل وابنة تسمى فاطمة ومن الناس من يعدهما واحدة.
وفي الإصابة فاطمة بنت حمزة أمها سلمى بنت عميس، قال ابن السكن: تكنى أم الفضل.
وقال الدارقطني: يقال لها أم أبيها، ثم ترجم في الكنى أم الفضل بنت حمزة.
روى عنها عبد الله بن شداد، فعجيب قول الشامي، كان له ذكر أن عمارة ويعلى وأنثى وهي أمامة، وولد حمزة قبل النبي صلى الله عليه وسلم بسنتين، وقيل أربع، كما في الإصابة، وبالثاني جزم(4/466)
في معجم البغوي أنه صلى الله عليه وسلم قال: "والذي نفسي بيده إنه لمكتوب عند الله عز وجل في السماء السابعة، حمزة أسد الله وأسد رسوله".
وكان إسلامه في السنة الثانية من المبعث، وقيل في السادسة بعد دخوله عليه الصلاة والسلام دار الأرقم، وقيل قبل إسلام عمر بثلاثة أيام.
وشهدا بدرا، وقتل بها عتبة بن ربيعة مبارزة، قاله موسى بن عقبة، وقيل: بل قتل شيبة بن ربيعة، قاله ابن إسحاق.
وأول راية عقدها عليه الصلاة والسلام لأحد من المسلمين كانت لحمزة، وأول سرية بعثها، وقال عليه الصلاة
__________
الحاكم، ولا يرد بأن ثوبية أرضعتهما؛ لأنه في زمانين، كما ذكره البلاذري.
"وفي معجم البغوي" الإمام أبي القاسم الكبير، الحافظ المتقدم على محيي السنة، أي كتابه المؤلف في الصحابة، وكذا في معجم الطبراني "أنه صلى الله عليه وسلم قال: "والذي نفسي بيده أنه لمكتوب".
أكده بالقسم وإن واللام إيذانا بتحقيق كونه مكتوبا "عند الله عز وجل في السماء السابعة حمزة أسد الله وأسد رسوله" أي شجاعا بالغا في الشجاعة، الغاية القصوى، ينتصر لله ولرسوله، وأضيف لله؛ لأن العادة إضافة الخارق للعادة له سبحانه على نحو لله دره.
وروى الحاكم وابن هشام: أتاني جبريل، فأخبرني أن حمزة مكتوب في أهل السماوات السبع أسد الله وأسد رسوله، "وكان إسلامه في السنة الثانية من المبعث" كما صدر به في الاستيعاب وبه جزم في الإصابة، "وقيل في السادسة بعد دخوله عليه الصلاة والسلام دار الأرقم".
قاله العتقي وابن الجوزي، "وقيل قبل إسلام عمر بثلاثة أيام" قاله أبو نعيم وغيره، وإسلام عمر في السادسة أو الخامسة، فإن قالوا به غاير ما قبله، وإلا وافقه وتقدم قصة إسلام حمزة في المقصد الأول، وكان أعزفتي في قريش، وأشد شكيمة، فكفت قريش عنه صلى الله عليه وسلم بعض ما كانوا ينالون منه خوفا من حمزة وعلما منهما أنه يمنعه ولازم نصر المصطفى، وهاجر معه، "وشهد بدرا، وقتل بها عتبة بن بيعة مبارزة، قاله موسى بن عقبة، وقيل: بل قتل" أخاه "شيبة بن ربيعة، قاله ابن إسحاق"، وتقدمت القصة في الغزوة، وقتل أيضا طعيمة بن عدي، "وأول راية عقدها عليه الصلاة والسلام لأحد من المسلمين كانت لحمزة وأول سرية بعثها" كانت له، كما جزم ابن عقبة وأبو معشر والواقدي، وابن سعد في آخرين، وصححه ابن عبد البر، وقال عليه الصلاة(4/467)
والسلام: "خير أعمامي حمزة"، رواه الحافظ الدمشقي.
وروى ابن السري مرفوعا: "سيد الشهداء يوم القيامة حمزة بن عبد المطلب".
وذكر السلفي عن بريدة في قوله تعالى: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ} [الفجر: 27] قال: حمزة بن عبد المطلب، وعن ابن عباس {فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ}
__________
والسلام: "خير أعمامي حمزة" لا سلامه مع السابقين الأولين، ومبالغته في نصر الدين.
وعند الطبراني من مرسل عمر بن إسحاق، أن حمزة كان يقاتل بين يديه صلى الله عليه وسلم بسيفين، ويقول: أنا أسد الله وأسد رسوله، ويقال إنه قتل بأحد قبل أن يقتل أكثر من ثلاثين نفسا، وهذا إن صح لا يعارضه أن قتلى أحد من الكفار ثلاثة وعشرون رجلا؛ لأنه لا يلزم من معرفة أسماء المقتولين على التعيين أن يكونوا جميع القتلى.
"رواه الحافظ" أبو القاسم بن عساكر "الدمشقي" وكذا أبو نعيم من حديث عبد الرحمن بن عباس بن ربيعة عن أبيه، ورواه الديلمي عنه بلفظ خير إخوتي علي، وخير أعمامي حمزة "وروى ابن السري" بفتح المهملة، وكسر الراء "مرفوعا سيد" وفي رواية خير "الشهداء" زاد الديلمي عن جابر عند الله "يوم القيامة حمزة بن عبد المطلب" وأبعد المصنف النجعة في العز ولغير المشاهير، فقد رواه الطبراني في الأوسط عن ابن عباس، والخلعي عن ابن مسعود، والحاكم، والخطيب، والضياء المقدسي والديلمي عن جابر، وزادوا ورجل قام إلى إمام جائر، فأمره ونهاه، فقتله.
ورواه الطبراني في الكبير عن علي بدون الزيادة والقول بأن سيد الشهداء: هابيل أو حبيب النار إن صحا لا يعارض هذا؛ لأن المراد من غير هذه الأمة، ومعلوم فضلها فحمزة سيد الشهداء مطلقا.
"وذكر" أي روى الحافظ العلامة أحمد بن محمد بن أحمد بن إبراهيم الأصبهاني "السلفي" بكسر السين المهملة، وفتح اللام فاء، كما ضبطه في التبصير، وغيره نسبة إلى جده أحمد، الملقب سلفة، ومعناه الغليظ الشفة، قاله الذهبي وغيره: كان أوحد زمانه في الحديث، وأعلمهم بقوانين الرواية ناقدا، حافظا، متقنا، ثبتا، دينا، خيرا، مات يوم الجمعة خامس ربيع الآخر، سنة ست وسبعين وخمسمائة "عن بريدة في" تفسير "قوله تعالى: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ} قال حمزة بن عبد المطلب، وأخرجه ابن أبي حاتم عن بريدة بلفظ، قال: نزلت في حمزة، وأخرج عن ابن عباس أنها نزلت في عثمان لما جعل بئر رومة سقاية للناس، ولا منافاة، فقد يكونان معا سبب نزولها، "وعن ابن عباس في" قوله تعالى: {فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ}(4/468)
[الأحزاب: 23] قال: حمزة.
واستشهد في وقعة أحد، قتله وحشي. وعن سعيد بن المسيب كان يقول: كنت أعجب لقاتل حمزة كيف ينجو، حتى إنه مات غريقا في الخمر. رواه الدارقطني على شرط الشيخين. وقال ابن هشام: بلغني أن وحشيا لم يزل يجد في الخمر حى خلع من الديوان، فكان عمر يقول: لقد علمت أن الله لم يكن ليدع قاتل حمزة.
ولما رأى النبي صلى الله عليه وسلم حمزة قتيلا بكى، فلما رأى ما مثل به شهق
__________
قتل في سبيل الله "قال حمزة" أي منهم، ومنهم أنس بن النضر عم أنس بن مالك، كما في مسلم "واستشهد في وقعة أحد قتله وحشي" كما في البخاري في حديثه، ومرت القصة في الغزوة، "وعن سعيد بن المسيبب" أنه "كان يقول: كنت أعجب لقاتل حمزة كيف ينجو" من شيء يعاقب عليه، مع أنه، ولو سلم، وهو يحب ما قبله قد قال له صلى الله عليه وسلم لما أسلم: "غيب وجهك عني"، وذلك مؤذن بأنه لا يصان عما يعاقب عليه "حتى إنه مات غريقا في الخمر، رواه الدارقطني"، بسند "على شرط الشيخين" فلا شك في صحته عن سعيد.
"وقال" عبد الملك "بن هشام" في السيرة في غزوة أحد "بلغني أن وحشيا لم يزل يجد في الخمر" مرة بعد مرة "حتى خلع من الديوان" ديوان الجند المعدين للقتال، مع أن له قوة ومعرفة بالحرب؛ لأنه لما كثر شربه المنافي للمتقين، عوقب بخلعه من الديوان "فكان عمر يقول: لقد علمت أن الله لم يكن ليدع قاتل حمزة" بلا عقوبة، فابتلاه بشرب الخمر وإقامة حدوده عليه، فإن قبل الإسلام يجب ما قبله، كما في الحديث، وقال تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38] ، فكيف يعاقب بما فعله قبله، ويتعجب سعيد من نجاته، ويقول عمر ذلك.
أجاب شيخنا بأن الإسلام يكفر الذنوب السابقة عليه، ثم يحسن لصاحبه، فيحفظ به عن الذنوب بعده، وقد يكون فيه شيء ولو بسبب ما سبق في الكفر، فيقع معه في ذنوب تقتضي ترتب عقوبة عليها في الدارين، وهذا لما كان جرمه، ولم ير بعد إسلامه ما يستدعى أنه حصل له ما يوجب عقوبة، فيوهم أنه عفى ما حصل له قبل الإسلام، وحفظ فيما بعده، فتعجب من ذلك انتهى.
"ولما رأى النبي صلى الله عليه وسلم حمزة قتيلا بكى، فلما رأى ما مثل به شهق" بفتح المعجمة، وكسر الهاء وفتحها.(4/469)
وعن أبي هريرة وقف عليه الصلاة والسلام على حمزة وقد قتل ومثل به فلم ير منظرا كان أوجع لقلبه منه. رواه أبو عمر، والمخلص، وصاحب الصفوة.
وعند ابن هشام أنه عليه الصلاة والسلام قال: "لن أصاب بمثلك أبدا، ما وقفت موقفا قط أغيظ لي من هذا".
وعند ابن شاذان من حديث ابن مسعود: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم باكيا قط أشد من بكائه على حمزة، وضعه في القبلة ثم وقف على جنازته وانتحب حتى نشغ من البكاء يقول: "يا حمزة يا عم رسول الله وأسد الله وأسد رسوله، يا حمزة يا فاعل الخيرات، يا حمزة يا كاشف الكربات، يا حمزة يا ذابا عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم". والنشغ: الشهيق حتى يبلغ به الغشي.
__________
قال القاموس، كمنع وضرب وسمع، تردد البكاء في صدره، "وعن أبي هريرة: وقف عليه الصلاة والسلام على حمزة، وقد قتل، ومثل به" بضم الميم، وكسر المثلثة مخففة، وتشدد لإرادة التكثير، أي جدع أنفه وأذناه وبقر عن كبده، كما مر، "فلم ير منظرا كان أوجع لقلبه منه".
"رواه أبو عمر" بن عبد البر "والمخلص" بضم الميم وفتح المعجمة، وكسر اللام الثقيلة. ومهملة محمد بن عبد الرحمن بن العباس أبو طاهر الذهبي البغدادي، الثقة، المكثر الصالح، "وصاحب الصفوة" ابن الجوزي، "وعند ابن هشام" بلا سند "أنه عليه الصلاة والسلام قال: "لن أصاب بمثلك أبدا ما وقفت موقفا قط أغيظ لي من هذا" وأثنى عليه وترحم، كما مر في أحد.
"وعند ابن شاذان من حديث ابن مسعود، ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم باكيا قط أشد من بكائه على حمزة، وضعه في القبلة، ثم وقف على جنازة، وانتحب حتى نشغ" بفتح النون، والشين، والغين المعجمتين "من البكاء" يقول: "يا حمزة يا عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسد الله وأسد رسوله، يا حمزة يا فاعل الخيرات، يا حمزة يا كاشف الكربات، يا حمزة يا ذابا عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم".
زاد في رواية: "رحمة عليك لقد كنت ما علمتك فعولا للخير وصولا للرحم"، والنشغ الشهيق حتى يبلغ به الغشي، وفي النهاية ومقدمة الفتح أنه الشهيق، وعلو النفس الصعداء حتى يكاد يبلغ به الغشي وهي أولى لأن الواقع أن صلى الله عليه وسلم ما بلغ ذلك، بل قارب، إلا أن يكون تفسير مراد، وتفسير المصنف لأصل المادة، قيل: وهذا كان قبل تحريم الصياح، بدليل أن نساء الأنصار أخذن ينحن عليه من الليلة، فنهاهن صلى الله عليه وسلم عن ذلك أخرج الطبراني بسند حسن عن ابن عباس، قال: أصيب حمزة وحنظلة بن الراهب، وهما جنب، فقال صلى الله عليه وسلم: "رأيت الملائكة(4/470)
وكان صلى الله عليه وسلم إذا صلى على جنازة كبر عليها أربعا وكبر على حمزة سبعين تكبيرة، رواه البغوي في معجمة.
وقد روى أنس بن مالك أن شهداء أحد لم يغسلوا ودفنوا بدمائهم ولم يصل عليهم. خرجه أحمد وأبو داود.
فيحمل أمر حمزة على التخصيص، ومن صلى عليه غيره على أنه جرح حال الحرب ولم يمت حتى انقضت الحرب.
وكان سن حمزة يوم قتل تسعا وخمسين سنة، ودفن هو وابن أخته عبد الله بن جحش في قبر واحد.
__________
تغسلهما، وروى ابن عبد البر عن ابن عباس رفعه: "دخلت البارحة الجنة، فإذا حمزة مع أصحابه"، "وكان صلى الله عليه وسلم إذا صلى على جنازة كبر عليها أربعا، وكبر على حمزة سبعين تكبيرة".
"رواه" الحافظ أبو القاسم عبد الله بن محمد بن عبد العزيز، "البغوي" الكبير "في معجمه" في الصحابة، "وقد روى أنس بن مالك أن شهداء أحد لم يغسلوا، ودفنوا بدمائهم" وهذا خلاف فيه، "ولم يصل عليهم، خرجه أحمد وأبو داود" وكذا رواه البخاري عن جابر بنحوه، فهذا معارض لما روى في حمزة، ولحديث أنه صلى عليهم صلاته على الميت، "فيحمل أمر حمزة على التخصيص" أي أنه خصه بذلك فيخص من قول أنس وجابر أنه لم يصل على قتلى أحد "و" يحمل أمر "من صلى عليه غيره على أنه جرح حال الحرب، ولم يمت حتى انقضت الحرب" فلا منافاة، وحمل أيضا على أنه دعا لهم، كدعائه للميت جمعا بين الأدلة، "وكان سن حمزة يوم قتل تسعا وخمسين سنة" بناء على القول، بأنه ولد قبل المصطفى بأربع سنين، بإلغاء عام الولادة أو الموت، وإلا كانت ستين؛ لأنه هاجر وهو ابن سبع وخمسين، ومات في شوال سنة ثلاث، وعلى أنه ولد قبله صلى الله عليه وسلم بسنتين، فكان سنة ثمانيا وخمسين، وقول صاحب الإصابة، فعاش دون الستين، وعلى أنه ولد قبله صلى الله عليه وسلم بسنتين، فكان سنة ثمانيا وخمسين، وقول صاحب الإصابة، فعاش دون الستين، أي على هذا القول الذي صدر وهو به، "ودفن هو وابن أخته" أميمة "عبد الله" بالتكبير "ابن جحش في قبر واحد" كما في البخاري عن جابر، وقال كعب بن مالك يرثيه:
بكت عيني وحق لها بكاها ... وما يغني البكاء ولا العويل
على أسد الإله غداة قالوا ... لحمزة ذا كم الرجل القتيل
أصيب المسلمون به جميعا ... هناك وقد أصيب به الرسول
أبا يعلى لك الأركان هدت ... وأنت الماجد البر الوصول
عليك سلام ربك في جنان ... يخالطها نعيم لا يزول(4/471)
................................
__________
ألا يا هاشم الأخيار صبرا ... فكل فعالكم حسن جميل
رسول الله مصطبر كريم ... بأمر الله ينطق إذ يقول
في أبيات، وقال أيضا في قصيدة:
ولقد هددت لفقد حمزة هدة ... ظلت بنات الجوف منها ترعد
ولو أنه فجعت حراء بمثله ... لرأيت رأسي صخرها يتبدد
قوم تمكن في ذؤابة هاشم ... حيث النبوة والندى السودد
والعاقر الكوم الجلاد إذا غدت ... ريح يكاد الماء منها يجمد
والتارك القرن الكمي مجدلا ... يوم الكريهة والقنا يتقصد
وتراه يرفل في الحديد كأنه ... ذو لبدة شثن البراثن أربد
عم النبي محمد وصفيه ... ورد الحمام فطاب ذالك المورد
وأتى المنية معلما في أسرة ... نصروا النبي ومنهم المستشهد
ورثاه حسان أيضا بأبيات حسان والله أعلم.(4/472)
[ذكر بعض مناقب العباس] :
وأما العباس وكنيته أبو الفضل، فأمه نتله، ويقال نتيله بنت جناب بن كلب بن النمر بن قاسط، ويقال: إنها أول عربية كست البيت الحرام الديباج وأصناف الكسوة؛ لأن العباس ضل وهو صبي، فنذرت إن وجدته أن تكسو البيت.
وكان العباس جميلا وسيما
__________
ذكر بعض مناقب العباس:
"وأما العباس، وكنيته أبو الفضل" باسم أكبر أولاده، "فأمه نتلة" بفتح النون وسكون الفوقية، "ويقال نتيلة" بضم النون والفتح المثناة، وسكون التحتية، وهو الذي قاله ابن دريد، وجزم به في الروض والإصابة والتبصير.
قال السهيلي: تصغير نتلة واحدة النتل، وهي بيض النعام، وصفحها بعضهم بثاء، مثلثة "بنت جناب" بفتح الجيم، وخفة النون، فألف فموحدة، كما في الأكمال "ابن كلب"، كذا في النسخ، ومثله في العيون والإصابة والتبصير، وقال البرهان صوابه كليب بالتصغير، كما في الاستيعاب والإكمال، ولبعضهم خبيب بالخاء المعجمة والموحدة "ابن النمر" بالنون "ابن قاسط، ويقال إنها أول عربية كست البيت الحرام الديباج وأصناف الكسوة؛ لأن العباس ضل، وهو صبي، فنذرت إن وجدته أن تكسو البيت" فوجدته، فكست الكعبة، "وكان العباس جميلا(4/472)
أبيض، له ضفيرتان معتدلا، وقيل كان طوالا، وولد قبل الفيل بثلاث سنين، وكان أسن من النبي صلى الله عليه وسلم بسنتين أو ثلاث، وكان رأسا في قريش، وإليه عمارة المسجد الحرام.
وكان مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم العقبة يعقد له البيعة على الأنصاري،
__________
وسيما" حسن الوجه، فهو صفة لازمة "أبيض له ضفيرتان" بالمعجمة عقيصتان "معتدلا" في القامة لا بالطول، ولا بالقصير "وقيل كان طوالا" بضم الطاء، أي طويلا.
روى ابن أبي عاصم، وأبو عمر عن جابر أن الأنصار لما أرادوا أن يكسوا العباس حين أسر يوم بدر، لم يصلح إلا قميص عبد الله بن أبي، فكساه إياه، فلما مات عبد الله ألبسه صلى الله عليه وسلم ثوبه، وتفل عليه من ريقه.
قال سفيان: فظني أنه مكافأة للعباس، أي لإلباسه العباس، فكأنه توفية حق دنيوي، ثبت له، فلا يرد أنه كيف يفعل ذلك معه مع علمه بكفره ونفاقه، ولعله أراد تخفيف عذاب غير الكفر جزاء لذلك ما دام عليه القميص، وتقدم مزيد لذلك في هلاكه، "وولد" العباس "قبل الفيل بثلاث سنين، وكان أسن من النبي صلى الله عليه وسلم بسنتين" وبه جزم في الإصابة، "أو ثلاث" هذا الموافق لولادته قبل الفيل بثلاثة، ومن لطائف الأدب ما رواه ابن أبي عاصم، عن أبي رزين والبغوي في معجمه عن ابن عمر، أنه قيل للعباس: أنت أكبر، أو النبي صلى الله عليه وسلم، قال هو أكبر مني وأنا ولدت قبله، "وكان رأس في قريش" مقدما فيهم؛ لأنه كان ذا رأي حسن جوادا مطعما، وصولا للرحم، "و" كان موكلا "إليه عمارة المسجد الحرام" فكان لا يدع أحدا يسب فيه، ولا يقول فيه هجرا، وكانت قريش قد اجتمعت وتعاقدت على ذلك فكانوا له هونا، وأسلموا ذلك إليه، كما في الشامية ووقع في الإصابة، وكان إليه في الجاهلية السفارة والعمارة، فإن لم يكن مصحفا من السقاية، فلينظر ما هو، "وكان مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم العقبة" الثالثة قبل إسلامة، "يعقد له البيعة على الأنصاري" السبعين الذي اجتمعوا رضي الله عنهم، فأخذ المصطفى العباس معه، "وكان عليه الصلاة والسلام يثق به في أمره كله" فكان أول من تكلم العباس، وهو أخذ بيده صلى الله عليه وسلم، فقال: إن محمدا منا حيث قد علمتم، وقد منعاه من قومنا ممن هو على مثل رأينا فيه، فهو وفي عز من قومه ومنعة في بلده، وإنه قد أبى إلا الانحياز إليكم واللحوق بكم، فإن كنتم ترون أنكم وافون له، ومانعوه وممن خالفه، فأنتم وما تحملتم، وإن كنتم ترون أنكم مسلموه، وخاذلوه بعد الخروج، فمن الآن فدعوه، فإنه في عزة ومنعة من قومه وبلده، فقالوا: قد سمعنا ما قلت، أما والله لو كان في أنفسنا غير ما تنطق به لقلنا فتكلم يا رسول الله فجذ لنفسك ولربك ما أحببت الحديث، رواه ابن إسحاق وغيره، ولذا دعا له صلى الله عليه وسلم فقال: "اللهم إن عمي العباس حاطني بمكة من(4/473)
وكان عليه السلام يثق به في أمره كله. ولما شدوا وثاقه في أسري بدر سهر عليه الصلاة والسلام تلك الليلة، فقيل: ما يسهرك يا رسول الله؟ قال: "لأنين العباس"، فقام رجل فأرخى من وثاقه، وفعل ذلك بالأسري كلهم، رواه أبو عمر، وصاحب الصفوة.
وقيل: كان يكتم إسلامه وخرجمع المشركين يوم بدر فقال صلى الله عليه وسلم: "من لقي العباس فلا يقتله فإنه خرج مستكرها"، فأسره كعب بن عمرو، ففادى نفسه ورجع إلى مكة.
وقيل: إنه أسلم يوم بدر
__________
أهل الشرك، وأخذ لي على الأنصار، وأجارني في الإسلام مؤمنا بالله مصدقا بي، اللهم احفظه وحطه واحفظه ذريته من كل مكروه" رواه ابن عساكر من مرسل محمد بن إبراهيم التيمي، وكان المراد بإجارته في الإسلام ثباته يوم حنين ومسكه البغلة، فهذا الدعاء وقع يومئذ أو بعده "ولما شدوا وثاقه في أسرى بدر" شده عمر رجاء إسلامه، "سهر عليه الصلاة والسلام تلك الليلة، فقيل: ما يسهرك يا رسول الله، قال: "سهرت لانين العباس" فهو بكسر اللام والجر، ولكن المذكور في رواية من عزا له المصنف، قال: "أنين العباس" فالواجب حذف اللام لأنه فاعل لفعل مقدر، أي أسهرني "فقام رجل، فأرخى من وثاقه" وفي رواية ابن عائذ لما ولي عمر وثاق الأسرى شد وثاق العباس، فسمعه النبي صلى الله عليه وسلم وهو يئن فلم يأخذه النوم فبلغ الأنصار، فأطلقوه، فيحتمل أن الرجل لما أرخى بعض وثاقه لم يرك الأنين، فأطلقه الأنصار بالمرة طلبا لرضاه صلى الله عليه وسلم، و" فعل ذلك بالأسرى كلهم" رعاية للعدل ومحافظة على الإحسان المأمور به في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ} [النحل: 90] وذلك بأمر المصطفى ففي نفس رواية من عزا له المصنف، فأرخى من وثاقه شيئا، قال صلى الله عليه وسلم: "فافعل ذلك بالأسرى كلهم"، "رواه أبو عمر" ابن عبد البر، "وصاحب الصفوة" أبو الفرج بن الجوزي من مرسل وسويد بن الأصم، ففي هذه القصة أنه حضر بدرا على دين قومه لأسره، وأخذ الفداء منه، "وقيل" بل أسلم قبل بدر، ولكنه "كان يكتم إسلامه" لأنه كان يهاب قومه، ويكره خلافهم، وكان ذا مال قاله مولاه أبو رافع، كما رواه ابن إسحاق، ولم يذكر مبدأه، "وخرج مع المشركين يوم بدر، فقال صلى الله عليه وسلم: "من لقي العباس فلا يقتله، فإنه خرج مستكرها"، بسين التأكيد أو زائدة، "فاسره كعب بن عمرو" بفتح العين أبو اليسر بفتحتين الأنصاري، "ففادى نفسه" وابني أخويه عقيل بن أبي طالب، ونوفل بن الحارث بأمره صلى الله عليه وسلم كما رواه ابن إسحاق بسند حسن "ورجع إلى مكة" فأقام بها على سقايته والمصطفى عنه راض، "وقيل إنه أسلم يوم بدر" لما قال للمصطفى حين أمره بالفداء تتركني(4/474)
ثم أقبل إلى المدينة مهاجرا، فاستقبل النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح بالأبواء وكان معه في فتح مكة وبه ختمت الهجرة. وقال أبو عمر: أسلم قبل فتح خيبر، وكان يكتم إسلامه ويسره ما يفتح الله على المسلمين وأظهر إسلامه يوم فتح مكة، وشهد حنينا والطائف وتبوك.
ويقال: إن إسلامه كان قبل بدر، وكان يكتب بأخبار المشركين إلى رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم، وكان المسلمون بمكة يثقون به، وكان يحب القدوم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيكتب إليه صلى الله عليه وسلم "إن مقامك بمكة خير لك". وقال أبو مصعب إسماعيل بن قيس بن سعد بن زيد بن ثابت حدثنا أبو حازم سلمة بن دينار عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: استأذن العباس
__________
فقير قريش ما بقيت، فقال صلى الله عليه وسلم: "فأين الذهب الذي دفعته إلى أم الفضل"؟ فقال وما يدريك؟ قال: "أخبرني ربي"، فأسلم وظاهره أنه لم يخف إسلامه، فلعله إن صح أظهره للمصطفى وأخفاه عن قومه، "ثم أقبل إلى المدينة مهاجرا فاستقبل النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح بالأبواء" بفتح الهمزة وسكون الموحدة، "وكان معه في فتح مكة وبه ختمت الهجرة" كما قال صلى الله عليه وسلم.
"وقال أبو عمر" بن عبد البر "أسلم قبل فتح خيبر وبعد بدر حتى يغاير ما قبله، وإلا فالقبيلة صادقة، فأي فائدة ذكره.
وفي الإصابة، يقال: أسلم بعد بدر، "وكان يكتم إسلامه" من قومه "ويسره ما يفتح على المسلمين" من ظفرهم بأعدائهم وغير ذلك مما يغيظ الكفار، "وأظهر إسلامه يوم فتح مكة وشهد حنينا والطائف وتبوك ويقال إن إسلامه كان قبل بدر" أعاده وإن علم مما أسلفه؛ لأنه من كلام أبي عمرو مراده نقله كله، "وكان يكتب بأخبار المشركين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان المسلمون بمكة يثقون به" بفتح الفوقية المشددة من الوقاية ويؤيده قول تهذيب النووي، وكان عونا للمسلمين المستضعفين ونقله الشامي عن أبي عمر نفسه بلفظ يتقون بواوين، أو بمثلثة مكسورة من الوثوق، أي فيلجئون له في مهماته، "وكان يحب القدوم على رسول الله صلى الله عليه وسلم" فاستأذنه فيه، "فكتب إليه صلى الله عليه وسلم "إن مقامك بمكة خير لك" صونا لمالك وأهلك، فالعطف على مقدر كما علم إذ لا يصح تفرعه على محبة القدوم ويدل على التقدير ما في قوله.
"وقال أبو مصعب إسماعيل بن قيس بن سعد بن زيد بن ثابت"، الأنصاري "حدثنا أبو حازم" بمهملة، وزاي "سلمة بن دينار" المدني الثقة العابد.
روى له الجميع "عن سهل بن سعد" الساعدي "رضي الله عنه قال استأذن العباس(4/475)
رضي الله عنه النبي صلى الله عليه وسلم في الهجرة فكتب إليه: "يا عم أقم مكانك الذي أنت فيه، فإن الله عز وجل يختم بك الهجرة كما ختم بي النبوة". رواه أبو يعلى والهيثم بن كليب في مسنديهما والطبراني في الكبير.
وأبو مصعب متروك لكن يعتضد بقول عروة بن الزبير: كان العباس قد أسلم وأقام على سقايته ولم يهاجر، رواه الحاكم في مستدركه.
وذكر السهمي في الفضائل أن أبا رافع لما بشر النبي صلى الله عليه وسلم بإسلام العباس أعتقه.
وكان عليه الصلاة والسلام يكرم العباس بعد إسلامه ويعظمه، ووصفه عليه الصلاة والسلام فقال: "أجود الناس كفا، وأحناه
__________
رضي الله عنه النبي صلى الله عليه وسلم في الهجرة، فكتب إليه يا عم أقم مكانك الذي أنت فيه، فإن الله عز وجل يختم بك الهجرة، كما ختم بي النبوة" فكان كذلك؛ لأنه آخر من هاجر.
"رواه أبو يعلى" أحمد بن علي الحافظ المشهور، "والهيثم بن كليب" بن شرح بن معقل العقيلي أبو سعيد الشاشي الحافظ الثقة محدث ما وراء النهر، ومصنف المسند الكبير سمع الترمذي، وعباسا الدوري ومنه ابن منده. مات سنة خمس وثلاثين وثلائمائة "في مسنديهما والطبراني" سليمان بن أحمد بن أيوب، أحد الأعلام "في" معجمه "الكبير، وأبو مصعب متروك". فالحديث ضعيف، "لكن يعتضد بقول عروة بن الزبير"، بن العوام، أحد الثقات الأثبات، "كان العباس قد أسلم وأقام على سقايته ولم يهاجر".
"رواه الحاكم في مستدركه" فهو عاضد في الجملة "وذكر" أي روى الإمام الثبت الحافظ حمزة بن يوسف بن إبراهيم بن موسى أبو القاسم السهمي "من ذرية هشام بن العاصي القرشي الجرجاني جال البلاد وسمع ابن عدي والإسماعيلي وخلائق وصنف وجرح، وعدل وصحح وعلل ومات سنة سبع وعشرين وأربعمائة في "الفضائل" عن شرحبيل بن سعد مرسلا، "أن أبا رافع" اسمه أسلم على المشهور، كان مولى العباس، فوهبه للمصطفى "لما بشر النبي صلى الله عليه وسلم بإسلام العباس أعتقه" جزاء لسروره بالبشرى، "كان عليه الصلاة والسلام يكرم العباس بعد إسلامه ويعظمه غاية التعظيم حتى قالت عائشة لعروة: يابن أختي لقد رأيت من تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم عمه العباس أمرا عجبا.
وقال أبو سفيان بن الحارث: كان العباس أعظم الناس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم رواهما أبو القاسم البغوي، ووصفه عليه الصلاة والسلام فقال: "أجود الناس كفا وأحناه" بفتح الهمزة وسكون(4/476)
عليهم". رواه الفضائلي، وفي معجم البغوي: "العباس عمي وصنو أبي، من آذاه فقد آذاني"، وفي الترمذي نحوه، وقال: حسن صحيح.
وذكر السهمي في الفضائل: أن العباس أتى النبي صلى الله عليه وسلم فلما رآه قام إليه، وقبل ما بين عينيه ثم أقعده عن يمينه ثم قال: "هذا عمي، فمن شاء فليباه بعمه"، فقال العباس: نعم القول يا رسول الله،
__________
المهملة وبالنون أي أشد الناس عطفا "عليهم" وأفرد ضميرا أحناه لأن أل في الناس للجنس فتبطل معنى الجمعية، وهو مطرد في أفعل التفضيل، وفي كثير من النسخ أحناهم بالجمع، وهو ظاهر، وكلاهما جائز مراعاة للفظه ومعناه.
"رواه الفضائلي" وأخرجه النسائي عن سعد: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فأقبل العباس، فقال: "هذا العباس أجود قريش كفا وأوصلها".
"وفي" كتاب "معجم" الصحابة للحافظ أبي القاسم عبد الله بن محمد بن عبد العزيز "البغوي" ثم البغدادي من مرسل عطاء الخراساني قال: قال صلى الله عليه وسلم "العباس عمي وصنو أبي" بكسر الصاد المهملة، أي مثله وقريبه، كما قال في التهذيب ومقدمة الفتح، أي في الشفقة عليه وهو أحد معانيه في القاموس ومنها الشقيق لكنه حمله عليه خطا فاضح فإنهما ليسا شقيقين "من آذاه فقد أذاني" وعند أبي نعيم وغيره في حديث "ومن آذاني فقد آذى الله، فعليه لعنة الله ملء السماء وملء الأرض".
"وفي الترمذي نحوه" من حديث ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم قال: "من آذى العباس فقد آذاني إنما عم الرجل صنو أبيه".
"وقال حسن صحيح" وأخرجه أيضا وحسنه عن علي أنه صلى الله عليه وسلم قال لعمر: "أما علمت أن عم الرجل صنو أبيه" وهو أيضا وابن أبي الدنيا والخراطي والخطيب من حديث المطلب بن ربيعة بن الحارث وابن عساكر وغيره من عمر والترمذي، وحسنه عن أبي هريرة وابن عساكر عن ابن مسعود، ومن ثم قال ابن منده إسناده متصل مشهور، وهو ثابت على رسم الجماعة "وذكر" أي روى "السهمي في الفضائل" وكذا روى الطبراني بسند حسن عن ابن عباس عن أمه أم الفضل: "أن العباس أتى النبي صلى الله عليه وسلم فلما رآه قام إليه، وقبل ما بين عينيه، ثم أقعده عن يمينه، ثم قال: "هذا عمي" إرادة لتشريفه بالقول، كما شرفه بالفعل، وإلا فمعلوم إنه عمه، أي هذا عمي الذي أباهي به من حيث فرحي بإسلامه وهداه، "فمن شاء فليباه" يفاخر "بعمه" والفخر المذموم محله إذا كان على وجه الاحتقار للغير، "فقال العباس: نعم القول" قولك يا رسول الله" وهذا(4/477)
قال: "ولم لا أقول هذا، أنت عمي وصنو أبي وبقية آبائي وارثي وخير من أخلف من أهلي". وقال له عليه الصلاة والسلام: "يا عم لا ترم منزل أنت وبنوك غدا حتى آتيكم فإن لي فيكم حاجة"، فلما أتاهم اشتمل عليهم بملاءة ثم قال: "يا رب، هذا عمي وصنو أبي وهؤلاء أهل بيتي فاسترهم من النار كستري إياهم بملاءتي هذه" قال: فأمنت أسكفه الباب وحوائط البيت فقالت: آمين آمين آمين. رواه ابن غيلان،
__________
بمجرد لا يترتب عليه قوله، "قال: ولم لا أقول هذا؟ " فلعله قدر سائلا العباس، أو غيره عن سبب المدح بما ذكر، فأجابه: "أنت عمي وصنو أبي" شريكه في خروجكما من أصل واحد، وهو الجد، وأصله النخلتان تخرجان عن أصل واحد، ومنه صنوان "وبقية آبائي" والعم والد، هكذا زاده في رواية الطبراني، وقال شيخنا: أي بقية الشفوقين علي من أعمامي كشفقة الأب وفيه إشارة إلى أن منهم من كان له زيادة شفقة بحيث استحق جعله أبا، "ووارثي" في القيام بتعلقاتي بعد موتي، كولاية غسلي، وفي تعظيم الناس لك واستسقائهم بك، كما كانوا يستسقون بي نحو ذلك، وإلا فالأنبياء لا يورثون، وقد كان العباس رضي الله عنه حمله على ظاهره حتى كشف له الصديق القناع، وروى له الحديث، كما في الصحيح مختصرا أو مطولا "وخير من أخف من أهلي" بتقدير من خير، أو في شيء خاص، كقيامه بتعلقات أهله، أو كون الخلفاء من ولده، أو باعتبار السن، وقرب المنزلة، فلا يرد أن عليا أفضل منه بإجماع أو المراد غير علي "وقال له عليه الصلاة والسلام: "يا عم لا ترم" لا تفارق "منزلك أنت وبنوك غدا حتى أتيكم، فإن لي فيكم حاجة" منفعة أوصلها لكم، وجعلها له لشدة رأفته بهم أو أوحى إليه بذلك فهي له "فلما أتاهم" زاد في رواية البيهقي بعدما أضحى فدخل عليهم فقال: "السلام عليكم"، فقالوا: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته، قال: "كيف أصبحتم"؟ قالوا: أصبحنا بخير بحمد الله تعالى، فقال لهم: "تقاربوا" فتقاربوا يزحف بعضهم إلى بعض حتى إذا أمكنوه "اشتمل عليهم" سترهم "بملاءة" بميم مضمومة ولام وهمز ومد الإزار والملحفة وقيل الملاءة الإزار له شقتان، فإن كان واحدة فريطة براء وطاء مهملتين، "ثم قال: "يا رب هذا عمى وصنو أبي وهؤلاء أهل بيتي" أي منهم ولبسطه موضع آخر يأتي إن شاء الله، "فاسترهم من النار كستري إياهم بملائتي هذه" قال: فأمنت أسكفة الباب"، بضم الهمزة عتبته العليا وقد تطلق على السفلى "وحوائط البيت، فقالت: آمين آمين آمين" ثلاث مرات وفي نسخ مرتين فيحتمل إن واحدة من الأسكفة والأخرى من الحوائط ويحتمل أن المراد الجميع.
"رواه ابن غيلان" بالغين المعجمة أبو طالب محمد بن محمد بن إبراهيم بن غيلان البزار(4/478)
وأبو القاسم حمزة، والسهمي، رواه ابن السري وفيه: فما بقي في البيت مدرة ولا باب إلا أمن. ورواه الترمذي من حديث ابن عباس بلفظ فألبسناه كساء ثم قال: "اللهم اغفر للعباس وولده مغفرة ظاهرة وباطنة لا تغادر ذنبا، اللهم احفظه في ولده". وقال حسن غريب.
وعند ابن عبد الباقي من حديث أبي هريرة: "اللهم اغفر للعباس ولولد العباس ولمن أحبهم".
__________
بمعجمتين "والسهمي" والبيهقي من حديث أبي أسيد الساعدي.
"ورواه ابن السري، و" راد "فيه فما بقي في البيت مدرة ولا باب إلا أمن" أي قال آمين معجزة له صلى الله عليه وسلم.
"ورواه الترمذي من حديث ابن عباس بلفظ" قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للعباس: "إذا كان غداة الاثنين فائتني أنت وولدك" حتى أدعو لكم بدعوة ينفعك الله بها وولدك، فغدا وغدونا معه "فألبسنا كساء" وفي حديث واثلة وأم سلمة عند أحمد أن أصحاب الكساء علي وفاطمة وابناهما وجمع بالتعدد وبسط القول فيه يأتي إن شاء الله تعالى في المقصد السابع، "ثم قال: "اللهم اغفر للعباس وولده" ذكورهم وإناثهم وقوله السابق أنت وبنوك تغليب، ويحتمل أنه أراد بالولد ما يشمل ولد الوالد للرواية الآتية وأبناء أبناء العباس، والجزم به لا يليق فهذه الدعوة حين سترهم ظاهرة في تخصيص الصلبية والآتية مع ضعفها لم يذكر فيها قصة الستر، فهي ظاهرة في كونها دعوة مستقلة فغاية دخولها فيما هنا إنما هو بالاحتمال "مغفرة ظاهرة" بضبط جوارحهم عن المعاصي، وتجليلها بما يجملهم من انور المشاهد "وباطنة" بأن تصون أسرارهم عن نحو الكبر والحسد والغل، "ولا تغادر" بمعجمة ومهملة تترك "ذنبا اللهم احفظه في ولده".
"وقال حسن غريب" وظاهر سياقه أنها قصة غير قصة ذهابه صلى الله عليه وسلم إلى منزل العباس، ولا مانع من التعدد، وعند الحاكم وابن عساكر، وغيرهما، عن سهل بن سعد، قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في زمان القيظ، فنزل منزلا فقام يغتسل فقام العباس فستره بكساء من صوف، قال سهل: فنظرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من جانب الكساء، وهو رافع رأسه إلى السماء يقول: "اللهم استر العباس وولده من النار"، وهذه دعوة أخرى غير يوم الكساء، كما هو ظاهر.
"وعند" أبي بكر محمد بن أحمد "ابن عبد الباقي" بن منصور البغدادي الإمام، القدوة الحافظ، الورع، الثبت، الزاهد، الثقة، العلامة في الأدب المتوفى سنة تسع وثمانين وأربعمائة "من حديث أبي هريرة" مرفوعا، "اللهم اغفر للعباس، ولولد العباس، ولمن أحبهم" فيه بشرى عظيمة للمحبين ولله الحمد.(4/479)
وفي تاريخ دمشق من حديث ابن عباس عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له في فتح مكة "اللهم انصر العباس وولد العباس" قالها ثلاثا ثم قال: يا عم أما علمت أن المهدي من ولدك.
وروى الحاكم في مستدركه والبغوي في معجمه عن سعيد بن المسيب أنه قال: العباس خير هذه الأمة، ووارث النبي صلى الله عليه وسلم وعمه. قال الذهبي وسنده صحيح. قال: ويتكلف لتأويله إن كان قوله خير -بالمعجمة والتحتية-.
__________
"وفي تاريخ دمشق" لابن عساكر برجال ثقات "من حديث ابن عباس عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال له في فتح مكة: "اللهم انصر العباس وولد العباس"، قالها ثلاثا، ثم قال" إيماء إلى وجه الدعاء لهم بالنصر: "يا عم أما علمت أن المهدي من ولدك" موقوفا، رضيا، مرضيا.
هذا بقية حديث ابن عباس، والمراد بالمهدي محمد بن أبي جعفر المنصور بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، وقد وجد، وهو ثالث الخلفاء العباسيين وليس المراد به الموعود به آخر الزمان لقوله صلى الله عليه وسلم، "المهدي من ولد فاطمة"، رواه أبو داود وابن ماجه وغيرهما.
وعند أبي نعيم مرفوعا إنه من ولد الحسن، وفي رواية إنه من ولد الحسن والحسين، وجمع بأن حسني أبا، حسيني أما، "وروى الحاكم في مستدركه والبغوي في معجمه عن سعيد بن المسيب" بكسر الياء وفتحها، "أنه قال" من عند نفسه، "العباس خير هذه الأمة ووارث النبي صلى الله عليه وسلم وعمه".
"قال" الحافظ "الذهبي وسنده صحيح، قال: ويتكلف لتأويله، يعني إن كان قوله خير بالمعجمة والتحتية" بأن المراد من حيث قربه من النبي وشفقته عليه صلى الله عليه وسلم ومزيد كرمه.
قال الزبير بن بكار: كان العباس ثوبا لعاري بني هاشم، وجفنة لجائعهم ويمنع الجار، ويبذل المال ويعطي في النوائب.
قال ابن المسيب: كانت جفنته تدور على فقراء بني هاشم، ويطعم الجائع، ويؤدب السفيه.
قال الزهري: هذا والله هو السؤدد، وكذا يتكلف لتأويله إن كان بالمهملة والموحدة، بأن المراد في شيء خاص، كشدة فراسته، وحسن سياسته، كقوله لعلي في مرض وفاته صلى الله عليه وسلم: وإني والله لأرى رسول الله صلى الله عليه وسلم سوف يتوفى من وجعه هذا، إني لأعرف وجوه بني عبد المطلب عند الموت.
رواه البخاري، وقوله لعبد الله: يا بني إن أمير المؤمنين -يعني عمر- يدعوك، ويقربك،(4/480)
وفي الأفراد للدارقطني عن جابر الأنصاري رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من لم يحب العباس بن عبد المطلب وأهل بيته فقد برئ من الله ورسوله"، وفي سنده عمرو بن راشد الحارثي. وهو ضعيف جدا، لكن يشهد له ما رواه محمد بن الحسين الأشناني ثم أبو بكر بن عبد الباقي في أماليه ومن طريقهما المنذري من طريق منصور عن مسلم بن صبيح أبي الضحى عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من لم يحب عمي هذا -وأخذ بيد العباس فرفعها- لله عز وجل ولقرابته مني فليس بمؤمن".
وللترمذي وقال: حسن، عن عبد المطلب بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب
__________
ويستشيرك فاحفظ عني ثلاث خصال: لا يجربن عليك كذبة، ولا تفش له سرا، ولا تغتابن عنده أحدا.
رواه أبو محمد بن السقاء وإلا فخير هذه الأمة وحبرها على الإطلاق الصديق، فمن بعده على الترتيب المعلوم، فلا ينبغي أن يفهم عن ابن المسيب مع جلالته خلافه، "وفي الأفراد" بفتح الهمزة "للدراقطني عن جابر الأنصاري رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من لم يحب العباس بن عبد المطلب وأهل بيته فقد برئ من الله ورسوله" إن كان عدم الحب من حيث القرب، "وفي سنده عمرو بن راشد الحارثي، وهو ضعيف جدا، لكنه يشهد له ما رواه محمد بن الحسين الأشناني" بضم الهمزة، "ثم أبو بكر" محمد بن أحمد "بن عبد الباقي في أماليه، ومن طريقهما المنذري من طريق منصور" ابن المعتمر بن عبد الله الكوفي، الثقة الثبت، المتوفى سنة اثنتين وثلاثين ومائة، "عن مسلم بن صبيح" بالتصغير الهمداني "أبي الضحى" الكوفي، الثقة، الفاضل، المشهور بكنيته مات سنة مائة.
"عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من لم يحب عمي هذا -أخذ بيد العباس، فرفعها" بأن يحبه "لله عز وجل ولقرابته مني فليس بمؤمن" حقيقة إن كان عدم المحبة لأجل قرابته، أو كامل الإيمان إن كان لذاته، "وللترمذي، وقال حسن" والنسائي وأحمد، والحاكم "عند عبد المطلب بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب" بن هاشم الصحابي ابن الصحابي، سكن الشام ومات سنة اثنتين وستين، ويقال اسمه المطلب، قال: دخل العباس على رسول الله صلى الله عليه وسلم مغضبا، وأنا عنده، فقال: "ما أغضبك"؟ قال: يا رسول الله ما لنا ولقريش إذا تلاقوا بينهم، تلاقوا الوجوه ببشر، وإذا لقونا لقونا بغير ذلك، فغضب صلى الله عليه وسلم حتى احمر وجهه، ثم(4/481)
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للعباس: "والذي نفسي بيده لا يدخل قلب رجل الإيمان حتى يحبكم لله ولرسوله" ثم قال: "يا أيها الناس من آذى عمي فقد آذاني فإنما عم الرجل صنو أبيه".
وروى البغوي أنه عليه الصلاة والسلام قال له: "لك يا عم من الله حتى ترضي".
وروى السهمي في الفضائل أن عليه الصلاة والسلام قال: "يا عباس إن الله عز وجل غير معذبك ولا أحد من ولدك".
وفي المعجم الكبير
__________
"إن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال للعباس: "والذي نفسي بيده لا يدخل قلب رجل الإيمان حتى يحبكم لله ولرسوله".
خطاب للعباس، والميم للتعظيم أو لجميع أهل البيت فهي للجميع، "ثم قال: "يا أيها الناس من آذى عمي فقد آذاني، فإنما عم الرجل صنو أبيه" وعن علي رفعه "استوصوا بالعباس خيرا، فإنه عمي وصنو أبي" رواه ابنا عدي وعساكر، وعن ابن عباس رفعه "استوصوا بالعباس خيرا، فإنه بقية آبائي، فإنما عم الرجل صنو أبيه" رواه الطبراني، وعن حنظلة الكاتب مرفوعا: "يا أيها الناس إنما أنا ابن العباس، فاعرفوا ذاك له صار لي والدا وصرت له فرطا".
رواه ابن قانع، قال ابن شهاب: كان الصحابة يعرفون للعباس فضله، فيقدمونه، ويشاورونه، ويأخذون برأيه، وقال أبو الزناد لم يمر العباس بعمر وعثمان، وهما راكبان إلا نزلا حتى يجوز العباس إجلالا له، ويقال لأنه عم رسول الله صلى الله عليه وسلم رواهما ابن عبد البر.
وروى السلفي عن ابن عباس: اعتل أبي، فعاده علي، فوجدني أضبط رجليه، فأخذهما من يدي وجلس موضعي، وقال: أنا أحق بعمي منك إن كان الله عز وجل قد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمي حمزة فقد أبقى لي العباس عم الرجل صنو أبيه وبره بأبيه، اللهم هب لعمي عافيتك، وارفع له درجتك، واجعله عندك في عليين.
"وروى البغوي" عن أبي رافع "أنه عليه الصلاة والسلام، قال له: "لك يا عم" البر، أو الير الكثير "من الله حتى ترضى".
"وروى السهمي في الفضائل أنه عليه الصلاة والسلام قال: "يا عباس إن الله عز وجل غير معذبك ولا أحد من ولدك". بأن يحفظهم مما يوجب العقوبة، ويغفر لهم ما دون ذلك، والظاهر أن المراد أولاده بلا واسطة، ويحتمل العموم وفضل الله واسع، "وفي المعجم الكبير(4/482)
للطبراني عن سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم اغفر للعباس، وأبناء العباس وأبناء أبناء العباس. وفي سنده عبد الرحمن بن حاتم المرادي المصري وهو متروك.
وفي تاريخ دمشق ما هو شديد الوهي عن أبي هريرة مرفوعا: اللهم اغفر للعباس ولولد العباس ولمحبي ولد العباس وشيعتهم.
وفي المناقب للإمام أحمد بسند لا بأس به، أن العباس قال: كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فقال: "انظر هل ترى في السماء نجما"، قلت: نعم، قال: "ما ترى"؟ قلت: الثريا، قال: "أما إنه يلي هذه الأمة بعددها من صلبك".
وروى السهمي من حديث ابن عباس أنه عليه الصلاة والسلام قال له: "ألا أبشرك يا عم"؟، قال: بلى بأبي أنت وأمي فقال عليه الصلاة والسلام: "إن من ذريتك الأصفياء ومن عترتك الخلفاء".
ومن حديث أبي هريرة: "فيكم النبوة والمملكة".
__________
للطبراني عن سهل بن سعد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم اغفر للعباس، وأبناء العباس" يحتمل أنه أراد بهم ما يشمل الإناث تغليبا للرواية السابقة، اغفر للعباس وولده، والولد شامل، "وأبناء أبناء العباس، وفي سنده عبد الرحمن بن حاتم المرادي" بضم الميم نسبة إلى مراد بطن من مذحج، ثم "المصري، وهو متروك" لكن له شاهد تقدم، "وفي تاريخ دمشق" لابن عساكر "مما هو شديد الوهي" الضعف من وهى الحائط إذا مال، "عن أبي هريرة مرفوعا: اللهم اغفر للعباس، ولولد العباس ولمحبي ولد العباس وشيعتهم" بكسر الشين.
"وفي المناقب للإمام أحمد بسند لا بأس به أن العباس، قال كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة، فقال: "انظر هل ترى في السماء نجما"، قلت: نعم، قال: "ما ترى"؟ أي نجم ترى، "قلت: الثريا، قال: "أما" بالفتح والتخفيف "إنه يلي هذه الأمة بعددها" مرارا "من صلبك" لأن الواقع إنه تولى منهم جم غفير، وبقية الحديث في المسند اثنين في فتنة، أي بعددها مرتين والمراد التكثير، وفي فتنة صلة محذوف، أي وتحصل تلك الولاية في زمن فتنة وتزول بولايتهم.
"وروى السهمي" ثلاثة أحاديث: أحدهما "من حديث ابن عباس أنه عليه الصلاة والسلام، قال له: "ألا أبشرك يا عم"؟ قال: بلى بأبي أنت وأمي، فقال عليه الصلاة والسلام: "إن من ذريتك الأصفياء، ومن عترتك" بكسر المهملة، وسكون الفوقية "الخلفاء" وغاير تفننا، فالمراد أن بعضهم أصفياء، وبعضهم خلفاء، "و" ثانيها من حديث أبي هريرة "فيكم النبوة والمملكة"، إن(4/483)
ومن حديث ابن عباس عن أبيه: "هذا عمي أبو الخلفاء أجود قريش كفا وأجملها وإن من ولده السفاح والمنصور والمهدي".
وذكر ابن حبان والملاء من حديث ابن عباس أنه عليه الصلاة والسلام قال: "يا أبا بكر هذا العباس قد أقبل وعليه ثياب بيض وسيلبس ولده من بعده السواد".
وعن جابر بن عبد الله سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ليكونن في ولده -يعني العباس- ملوك يكونون أمراء أمتي، يعز الله بهم الدين".
__________
كان المراد يا بني هاشم فهو ظاهر، والنبوة له صلى الله عليه وسلم والمملكة لذرية عمه، وإن كان المراد يا بني العباس، كما هو ظاهر السياق فلعل المراد أن فيهم شيما من أخلاق النبوة، أو قرابة أكيدة للنبوة "و" ثالثها "من حديث ابن عباس عن أبيه" رفعه "هذا عمي أبو الخلفاء أجود قريش كفا وأجملها".
والمراد من إخباره هو بذلك، حثه على مزيد الجود، لعلمه أن ذلك يزيده جودا، فإن شأن العرب لا سيما قريش إذا وصفوا بالجود زادوا فيه.
وقد روى ابن حبان عن سعد: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يجهز بعثا إذ طلع العباس، فقال صلى الله عليه وسلم: "العباس عم نبيكم أجود قريش كفا وأوصلها وإن من ولده السفاح" لقب أول خلفائهم، يكنى أبا العباس، واسمه عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، ولي الخلافة أربع سنين وتسعة أشهر، "والمنصور" أخاه أبا جعفر، واسمه يضا عبد الله بن محمد استخلفه أخوه، ولي الخلافة اثنتين وعشرين سنة، ومات سنة ثمان وخمسين ومائة بقرب مكة، محرما بالحج عن ثلاث وستين سنة، وكان محدثا فقيها بليغا حافظا للقرآن والسنة، جماعا للأموال، فلذا لقب أبا الدوانيق، "والمهدي" بن المنصور، وليها عشر سنين حتى مات سنة تسع وستين ومائة، وخصوا بالذكر لما وقع في ولايتهم من تسكين الفتن ودفع المظالم، حتى قيل في المهدي إنه في بني العباس كعمر بن عبد العزيز في بني أمية.
"وذكر ابن حبان والملاء" بفتح الميم وشد اللام عمر الموصلي كان يملأ من بئر بجامع الموصل احتسابا، كان إماما عظيما، ناسكا زاهدا، وكان السلطان نور الدين الشهيد يشهد قوله، ويقبل شفاعته لجلالته.
ذكره الشامي في أول فضائل الآل "من حديث ابن عباس أنه عليه الصلاة والسلام، قال: "يا أبا بكر هذا العباس قد أقبل، وعليه ثياب بيض، وسيلبس ولده من بعده السواد" أخبار بأنهم يصيرون خلفاء، وأن السواد يكون شعارا لهم، واختاروه اقتداء بلبسه صلى الله عليه وسلم يوم الفتح الأعظم العمامة السوداء، "وعن جابر بن عبد الله" رضي الله عنهما، قال "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ليكونن في ولده -يعني العباس- ملوك يكونون أمراء أمتي يعز الله بهم الدين" وقد فعل، فزال(4/484)
قال الحافظ أبو الحسن الدارقطني: هذا حديث غريب من حديث عمرو بن دينار عن جابر، خرجه الأصفهاني.
وتوفي العباس رضي الله عنه في خلافة عثمان رضي الله عنه قبل مقتله بسنتين بالمدينة، يوم الجمعة لاثنتي عشرة خلت من رجب، وقيل من رمضان سنة اثنتين وثلاثين وقيل سنة ثلاث وثلاثين،
__________
بهم ما أسسه بنو مروان من مزيد الظلم.
وقد روى الطبراني عن ثوبان رفعه: "رأيت بني مروان يتعاورون على منبري، فساءني ذلك، ورأيت بني العباس يتعاورون على منبري، فسرني ذلك"، "قال الحافظ أبو الحسن الدارقطني: هذا حديث غريب من حديث عمرو" بفتح العين "ابن دينار" الثقة، الثبت، التابعي من رحال الجميع.
"عن جابر خرجه الأصفهاني" وعن أبي هريرة قال: خرج صلى الله عليه وسلم فتلقاه العباس، فقال: "ألا أبشرك يا أبا الفضل"؟ قال: بلى، قال: "إن الله افتتح بي هذا الأمر وبذريتك يختمه"، رواه أبو نعيم، وقال صلى الله عليه وسلم: "أوصاني الله بذي القربى وأمرني أن أبدأ بالعباس" رواه الحاكم، وقال صلى الله عليه وسلم: "إن الله اتخذني خليلا، كما اتخذ إبراهيم خليلا، فمنزلي ومنزل إبراهيم في الجنة تجاهين، والعباس بيننا مؤمن بين خليلين".
رواه ابن ماجه والحاكم في الكنى، وأبو نعيم وابن شاهين، وقال: هذه فضيلة تفرد بها العباس ليست لغيره، وقال صلى الله عليه وسلم: "إن له -يعني العباس- في الجنة غرفة، كما تكون الغرف يظل عليَّ يكلمني وأكلمه" رواه ابن عساكر، وقال صلى الله عليه وسلم: "اللهم هذا عمي، وصنو أبي، وخير عمومة العرب، اللهم أسكنه معي في السناء الأعلى" رواه الديلمي.
وروى البخاري عن أنس: أن عمر كان إذا أقحطوا استسقى بالعباس، فقال: اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا صلى الله عليه وسلم فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا العباس فاسقنا فيسقون.
وروى الحاكم عن ابن عمر: استسقى عمر عام الرمان بالعباس، فقال: اللهم هذا عم نبيك نتوجه إليك، فاسقنا، فما برحوا حتى سقوا، فخطب عمر، فقال: يا أيها الناس إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرى للعباس ما يرى الولد لوالده يعظمه، ويفخمه، ويبر قسمه، فاقتدوا برسول الله في عمه العباس، واتخذوه وسيلة إلى الله فيما نزل بكم.
"وتوفي العباس رضي الله عنه في خلافة عثمان رضي الله عنه قبل مقتله بسنتين بالمدينة يوم الجمعة لاثنتى عشرة" ليلة "خلت من رجب، وقيل من رمضان سنة اثنتين وثلاثين" وبه جزم في الإصابة، "وقيل سنة ثلاث وثلاثين، وهذا الملائم لقوله قبل مقتل عثمان بسنتين؛ لأنه(4/485)
وهو ابن ثمان وثمانين سنة، وقيل سبع وثمانين سنة، أدرك منها في الإسلام اثنتين وثلاثين سنة ودفن بالبقيع، ودخل قبره ابن عبد الله.
وكان عظيما جليلا، وكان يسمى ترجمان القرآن،
__________
قتل في الحجة سنة خمس وثلاثين، "وهو ابن ثمان وثمانين سنة، وقيل سبع وثمانين سنة"، ومع ذلك مات معتدل القامة، وكان شديد الصوت.
قال النووي: ذكر الحازمي أنه كان يقف على سلع، فينادي، غلمانه آخر الليل وهم بالغابة، فيسمعهم، وبين سلع والغابة ثمانية أميال، "أدرك منها في الإسلام اثنتين وثلاثين سنة" بناء على أنه أسلم في بدر، أو قبلها.
قال مجاهد: أعتق العباس سبعين عبدا، رواه ابن أبي عاصم، وقال كعب تصدق بداره، فوسع به مسجد المدينة، وصلى عليه عثمان، "ودفن بالبقيع ودخل قبره ابنه عبد الله" الحبر البحر لكثرة علمه.
قال القاسم بن محمد: كان الصحابة يسمونه البحر، ويسمونه الحبر، وما سمعت فتوى أشبه بالسنة من فتواه، رواه أبو عمر، "وكان عظيما" في الخَلق والخُلق، "جليلا" واسع العلم حديثًا وفقهًا، وعربية وأنسابًا، وشعرا وتفسيرا، "و" لذا "كان يسمى ترجمان القرآن" وقد روى الطبراني في الكبير، وأبو نعيم عنه دعاني صلى الله عليه وسلم، فقال: "نعم ترجمان القرآن أنت" دعا لي جبريل مرتين، وعنه وضع صلى الله عليه وسلم يده على كتفي أو منكبي، ثم قال: "اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل" رواه أحمد والطبراني برجال الصحيح، وعنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وضع يده على صدره فوجد بردها في صدره، ثم قال: "اللهم احش جوفه علما وحلما" وعنه ضمني صلى الله عليه وسلم إلى صدره، وقال: "اللهم علمه الحكمة".
وفي رواية الكتاب رواهما البخاري، وعن أبي وائل قرأ ابن عباس سورة النور، وفي رواية البقرة، ثم جعل يفسرها، فقال رجل: لو سمعت هذا الديلم لأسلمت، واه يعقوب بن سفيان وأبو نعيم.
وروى أبو زرعة الرازي في العلل عن ابن عباس أتيت خالتي ميمونة، فقلت إني أريد أن أبيت عندكم، فقالت: كيف تبيت وإنما الفراش واحد، فقلت: لا حاجة لي بفراشكم أفرش نصف إزاري، وأما الوسادة، فإني أضع رأسي مع رأسكما من وراء الوسادة، فجاء صلى الله عليه وسلم فحدثته ميمونة بما قلت، فقال: "هذا شيخ قريش"، وهو أعلم إخوته الفضل، وهو أكبرهم وعبيد الله، وكان شيخا جوادا، وللثلاثة سماع ورواية ومعبد وقثم وعبد الرحمن وأم حبيب شقيقتهم، وكثير، وتمام لأم ولد، والحارث وأمه من هذيل وعون.(4/486)
وهو أبو الخلفاء.
ويروى أن أمه أم الفضل لما وضعته أتت به النبي صلى الله عليه وسلم فأذن في أذنه اليمني، وأقام في أذانه اليسري، وقال: "اذهبي بأبي الخلفاء"، رواه ابن حبان وغيره.
وقد ملأ عقبه الأرض حتى قيل إنهم بلغوا في زمن المأمون.
__________
قال أبو عمر: لم أقف على اسم أمه وآمنة وصفية ولكلهم رؤية.
قال أبو عمر: كان تمام أصغرهم، وكان العباس يحمله ويقول:
تموا بتمام فصاروا عشرة ... يا رب فاجعلهم كراما بررة
واجعل لهم ذكرا وأنم الثمرة
قال اليعمري: يقال ما رؤيت قبور أشد تباعدا من قبور بني العباس، استشهد الفضل بأجنادين، ومات معبد وعبد الرحمن بأفريقيا، وعبد الله بالطائف، وعبيد الله باليمن، وقثم بسمرقند، وكثير بالبقيع، وقد يقع في ذلك خلاف ليس هذا موضعه، "وهو أبو الخلفاء، ويروى أن أمه أم الفضل" لبابة بخفة الموحدتين بنت الحارث الهلالية.
قال ابن حبان: ماتت في خلافة عثمان قبل زوجها العباس "لما وضعته" قبل الهجرة بثلاث سنين بالشعب قبل خروج بني هاشم منه، "أتت به النبي صلى الله عليه وسلم" كما كان أمرها وهي حامل به، "فأذن في أذنه اليمنى، وأقام في أذنه اليسرى" وهذا مشكل؛ لأن الآذان إنما كان بالمدينة، اللهم إلا أن يكون صلى الله عليه وسلم كان يعلم كلمات الآذان ولإقامة، ولكن لم يوح إليه حينئذ أنه يدعو بهما إلى الصلاة حتى استشار أصحابه، وكانت الرؤيا والعلم عند الله، "وقال: "اذهبي بأبي الخلفاء"، رواه ابن حبان وغيره" كأبي نعيم في الدلائل والسهمي في الفضائل من حديث ابن عباس، قال: حدثتني أم الفضل، قالت: مررت برسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو جالس في الحجر، فقال: "يا أم الفضل"، قلت: لبيك يا رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "إنك حامل بغلام" قلت: كيف وقد تحالفت قريش لا يولدون النساء، قال: "هو ما أقول فإذا وضعتيه فائتيني به" فلما وضعته أتيت به رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرته.
ورواه الطبراني بسند حسن، ولكن ليس فيه ما يشكل من أنه أذن وأقام، إنما قالت: فلما وضعته أتيت به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسماه عبد الله وألبأه من ريقه، وقال: اذهبي فلتجديه كيسا، قالت: فأتيت العباس فأخبرته فتبسم.
وروى البيهقي وأبو نعيم عن ابن عباس، قال: مررت بالنبي صلى الله عليه وسلم، وإذا معه جبريل، وأنا أظنه دحية الكلبي وعليَّ ثياب بيض، فقال جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم: إنه لوضح الثياب وإن ولده يلبسون السواد، "وقد ملأ عقبه الأرض حتى قيل إنهم بلغوا في زمن المأمون" عبد الله بن هارون الرشيد.(4/487)
ستمائة ألف. واستبعد، فالله أعلم.
وكان العباس أصغر أعمامه عليه الصلاة والسلام ولم يسلم منهم إلا هو وحمزة، وأسنهم الحارث.
وأما عماته عليه الصلاة والسلام بنات عبد المطلب، فجملتهن ست: عاتكة، وأميمة، والبيضاء وهي أمي حكيم، وبرة، وصفية، وأروى، ولم يسلم منهن إلا صفية أم الزبير بلا خلاف.
واختلف في أروى وعاتكة،
__________
"ستمائة ألف، واستبعد فالله أعلم" هل كان ذلك أم لا، "وكان العباس أصغر أعمامه عليه الصلاة والسلام، ولم يسلم منهم إلا هو وحمزة" والقول بإسلام أبي طالب لا يصح.
قال ابن عساكر وغيره "وأسنهم الحارث" ولم يدرك الإسلام، قال في فتح الباري: من عجائب الاتفاق أن الذين أدركهم الإسلام من الأعمام أربعة لم يسلم منه اثنان وأسلم اثنان، وكان اسم من لم يسلم ينافي أسامي المسلمين، وهما: أبو طالب واسمه عبد مناف، وأبو لهب واسمه عبد العزى بخلاف من أسلم، وهما حمزة والعباس انتهى، وحدث العباس عن النبي صلى الله عليه وسلم بأحاديث، وعنه أولاده وعامر بن سعد والأحنف بن قيس وعبد الله بن الحارث وغيرهم، "وأما عماته عليه الصلاة والسلام"، قسيم أعمامه "بنات عبد المطلب" صفة، أو بدل لتعميم الشقائق وغيرهم، دفعا لتوهم أن المراد الشقائق، ولتوهم إرادة العمة المجازية كأخت الجد، كما في قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23] ، فإنه شامل لعمة الأب مجازا، "فجملتهن" بلا خلاف "ست" حذف التاء؛ لأن المعدود مؤنث "عاتكة وأميمة" بضم الهمزة وفتح الميمين بينهما تحتية ساكنة، ثم تاء تأنيث.
اختلف في إسلامها فنفاه ابن إسحاق ولم يذكرها غير ابن سعد، فقال: أمها فاطمة بنت عمرو وأطعم صلى الله عليه وسلم أميمة بنت عبد المطلب أربعين وسقا من خيبر، قلت: فعلى هذا لما تزوج صلى الله عليه وسلم بنتها زينب، كانت موجودة انتهى من الإصابة في القسم الأول، ففيه اختيار القول باسمها، وحاصله أن المثبت واحد، والنافي واحد، وسكت الباقون "والبيضاء وهي أم حكيم" يقال إنها توءمة عبد الله والد المصطفى، "وبرة" بفتح الباء، "وصفية وأروى، ولم يسلم منهمن إلا صفية أم الزبير" ابن العوام مجرد إيضا؛ لأن صفية في العمام لم تتعد "بلا خلاف" متعلق بيسلم، "واختلف في أروى وعاتكة" وكذا في أميمة كما علمت وممن حكى الخلاف المصنف نفسه في المقصد السابع، فقال: وأميمة وأروى وعاتكة وصفية أسلمت صفية، وصحبت، وفي(4/488)
فذهب أبو جعفر العقيلي إلى إسلامهما، وعدهما في الصحابة، وذكر الدارقطني: عاتكة في جملة الإخوة والأخوات، ولم يذكر أروى. وأما ابن إسحاق فذكر أنه لم يسلم منهن غير صفية.
__________
الباقيات خلاف، "فذهب أبو جعفر" محمد بن عمرو بن موسى بن حماد "العقيلي" بضم العين، نسبة إلى عقيل بن كعب بن ربيعة الحافظ الكبير، كثير التصانيف، الثقة العالم بالحديث، المتوفى سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة "إلى إسلامهما، وعدهما في الصحابة" ذكره؛ لأنه لا يلزم من الإسلام الصحبة.
"وذكر الدارقطني عاتكة في جملة الإخوة والأخوات" فقال لها شعر تذكر فيه تصديقها ولا رواية لها.
وقال ابن سعد: أسلمت عاتكة بمكة، وهاجرت إلى المدينة.
قال ابن عبد البر: وأبى ذلك الأكثرون، وقال اليعمري المشهور عندهم: أن عاتكة لم تسلم انتهى، وذكرها ابن فتحون في ذيل الاستيعاب، واستدل على إسلامها بشعر لها تمدح فيه النبي صلى الله عليه وسلم وتصفه بالنبوة وذكرها ابن منده في الصحابة، وقال: روت عنها أم كلثوم بنت عقبة قصة رؤياها المشهورة في وقعة بدر، قالت: رأيت في المنام قبل قدوم خبر العير بثلاث ليال رجلا أقبل على بعير، فوقف بالأبطح، فقال: انفروا يا آل غالب لمصارعكم في ثلاث، ثم أخذ صخرة، فأرسلها من رأس الجبل، فأقبلت تهوي حتى ما بقي دار ولا بيت إلا دخل فيها بعضها، فقصتها، فشاع الخبر، فقال أبو جهل للعباس: متى حدثت فيكم هذه البنية؟ فصدق الله رؤياها، والقصة مطولة عند ابن إسحاق وأوردها في القسم الأول من الإصابة، وحكى الخلاف، فكأنه اختار القول بإسلامها، "ولم يذكر" الدارقطني "أروى، وأما ابن إسحاق، فذكر أنه لم يسلم منهن غير صفية"، وتعقبه ابن عبد البر بأن العقيلي ذكرها ف الصحابة، وأسند عند الواقدي عن موسى بن محمد بن إبراهيم التيمي عن أبيه لما أسلم طليب بن عمير دخل على أمه أروى، فقال: قد أسلمت، فقالت: وأزرت وعضدت ابن خالك، والله لو قدرنا على ما تقدر عليه الرجال لمنعناه وذببنا عنه، فقال لها طليب: ما يمنعك أن تسلمي؟ فقد أسلم أخوك حمزة، فقالت: انظر ما يصنع أخواتي فقال: إني أسألك بالله إلا أتيته، فسلمت عليه وصدقتيه، قالت: فإني أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله، ثم كانت بعد تعضد النبي صلى الله عليه وسلم بلسانها، وتحض ابنها على نصرته والقيام بأمره، وجزم ابن سعد بأنها أسلمت وهاجرت إلى المدينة، ورثت النبي صلى الله عليه وسلم بأبيات منها:
ألا يا رسول الله كنت رجاءنا ... وكنت بنا برا ولم تك جافيا(4/489)
فأما صفية فأسلمت باتفاق، كما ذكرته، وشهدت الخندق، وقتلت رجلا من اليهود، وضرب لها عليه الصلاة والسلام بسهم، وأمها هالة بنت وهيب بن عبد مناف بن زهرة، شقيقة حمزة والمقوم وحجل، وكانت في الجاهلية تحت الحارث بن حرب بن أمية بن عبد شمس، ثم هلك فخلف عليها العوام بن خويلد أخو خديجة أم المؤمنين، فولدت له الزبير والسائب وعبد الكعبة وتوفيت بالمدينة في خلافة عمر رضي الله عنه سنة عشرين، ولها ثلاثة وسبعون سنة، ودفنت بالبقيع. وأما عاتكة المختلفة في إسلامها فأمها فاطمة بنت عمرو بن عائذ، فتكون شقيقة.
__________
كان على قلبي لذكر محمد ... وما جمعت بعد النبي المجاريا
قال في الهدى: وصحح بعضهم إسلامها وأوردها في الإصابة في القسم الأول، "فأما صفية فأسلمت باتفاق، كما ذكرته" وأعاده ليصدر به بعض مناقبها إذ هو أجلها، "وشهدت الخندق، وقتلت رجلا من اليهود" وهو الذي طاف بالحصن الذي كانت فيه مع نساء النبي صلى الله عليه وسلم، وهي أول امرأة قتلت رجلا من المشركين، وقدمت القصة، ثم "وضرب لها عليه الصلاة والسلام بسهم" من غنائم قريظة وله أن يخص من شاء بما شاء فلا يقال المرأة إنما يرضخ لها، ويروى أيضا أنها جاءت يوم أحد، وقد ولى الناس، وبيدها رمح تضرب في وجوههم، فقال صلى الله عليه وسلم: "يا زبير المرأة"، "وأمها هالة بنت وهيب" ويقال فيه أهيب بألف بدل الواو ومصغر فيهما "ابن عبد مناف بن زهرة"، فهي "شقيقة حمزة والمقوم وحجل، وكانت في الجاهلية تحت الحارث"، أخي أبي سفيان "بن حرب بن أمية بن عبد شمس" بن عبد مناف، "ثم هلك" عنها، "فخلف" بالتخفيف "عليها العوام بن خويلد أخو خديجة أم المؤمنين، فولدت له الزبير" أحد العشرة. "والسائب" صحابي شهد بدرا والخندق وغيرهما، واستشهد باليمامة، ولا عقب له، كما في الإصابة، "وعبد الكعبة" لم يذكره في الإصابة ولا ذكروه بإسلام، وهاجرت مع ولدها الزبير وروت "وتوفيت بالمدينة في خلافة عمر رضي الله عنه سنة عشرين ولها ثلاث وسبعون سنة، ودفنت بالبقيع" رضي الله عنها، "وأما عاتكة المختلف في إسلامها" كما علمت فهو مجرد إيضاح، "فأمها فاطمة بنت عمرو بن عائذ" بتحتية ودال معجمة؛ لأنه ابن عمران مخزوم، وقد صرح الزبير بن بكار بأن من كان من ولد عمران، فعائذ بتحتية ومعجمة، ومن كان من ولد أخيه عمر، فعابد بموحدة ومهملة نقله الأمير في إكماله، والحافظ في تبصيره، وأقره فسها من ضبطه بموحدة لحفظه ذلك في عتيق بن عابد بن زوج خديجة قبل المصطفى، "فتكون شقيقة(4/490)
عبد الله بن أبي النبي صلى الله عليه وسلم وأبي طالب والزبير وعبد الكعبة، وهي صاحبة الرؤية في قصة بدر.
وأما أروى المختلف في إسلامها أيضا، فأمها صفية بنت جندب، فهي شقيقة الحارث بن عبد المطلب، وكانت تحت عمير بن وهب بن عبد الدارين قصي، فولدت له طليبا ثم خلفه عليها كلدة بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي، وأسلم طليب وكان سببا في إسلام أمه، كما ذكره الواقدي.
__________
عبد الله أبي النبي صلى الله عليه وسلم وأبي طالب والزبير"، بضم الزاي عند الجميع إلا البلاذري، فقال: بفتحها، كما مر، "وعبد الكعبة" وكانت تحت أبي أمية بن المغيرة المخزومي، فولدت له عبد الله وزهيرا أسلما وصحبا، وقريبة بفتح القاف، وقيل بالتصغير أسلمت وصحبت، كما في الإصابة، وقال في العيون: مختلف في صحبتها، وهم إخوة أم سلمة أم المؤمنين لأبيها، "وهي صاحبة الرؤيا في قصة بدر" أوردها ابن إسحاق مطولة، وقد لخصت المراد منها قريبا، "وأما أروى المختلفة في إسلامها أيضا، فأمها صفية بنت جندب فهي شقيقة الحارث" وقثم "بن عبد المطلب" ووقع في العيون أنها شقيقة عبد الله وفيه نظر، "وكانت تحت عمير" بالتصغير، وقيل عمرو بفتح العين "ابن وهب بن عبد الدار بن قصي" القرشي.
قال البرهان: لا أعرف لعمير إسلاما، والظاهر هلاكه على دين قومه، "فولدت له طليبا" بالتصغير، "ثم خلف عليها كلدة" بفتح الكاف واللام "ابن عبد مناف" قال اليعمري: كذا في كتاب أبي عمر، والصحيح كلدة بن هاشم بن عبد مناف "بن عبد الدار بن قصي"، فولدت له أروى.
قاله أبو عمرو ليس بشيء إنما ولدت له فاطمة انتهى، "وأسلم طليب،" وكان من فضلاء الصحابة، وهاجر إلى الحبشة، وشهد بدرا، واستشهد بأجنادين ولا عقب له، "وكان سببا في إسلام أمه"، عند من قال إسلامها، "كما ذكره الواقدي" محمد بن عمر بن واقد بسند له معضل أن طليبا أسلم في دار الأرقم، ثم خرج، فدخل على أمه، فذكر ما تقدم قريبا، ومن طريقه أخرجه ابن عبد البر، ومال للقول به ورد به نف ابن إسحاق إسلامها.
وقد أخرجه الحاكم من طريق موسى بن محمد بن إبراهيم التيمي عن أبيه عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، فذكره قال الحاكم: صحيح على شرط البخاري، قال في الإصابة: وليس كما، قال: فموسى ضعيف، ورواية أبي سلمة مرسلة انتهى.
وذكر الواقدي أيضا بسند له أن أبا جهل وعدة معه عرضوا للنبي صلى الله عليه وسلم، فآذوه فعمد طليب بن عمير إلى أبي جهل، فضربه، فشجه، فأخذوه فقام أبو لهب في نصره، وبلغ أروى،(4/491)
وأما أم حكيم، فهي شقيقة عبد الله أبي النبي صلى الله عليه وسلم.
وأما برة فأمها فاطمة أيضا، وكانت عند أبي رهم بن عبد العزى العامري، ثم خلف عليها عبد الأسد بن هلال المخزومي، فولدت له أبا سلمة بن عبد الأسد الذي كانت عنده أم سلمة قبل النبي صلى الله عليه وسلم.
وأما أميمة فأمها فاطمة أيضا، وكانت تحت جحش بن رياب، فولدت له عبد الله وعبيد الله وأبا أحمد.
__________
فقالت: إن خير أيامه يوم نصر ابن خاله، فقال لأبي لهب: إن أروى صبت فعابها، فقالت: قم دون ابن أخيك فإنه أن يظهر كنت بالخيار، وإلا كنت أعذرت في ابن أخيك، فقال: ولنا طاقة بالعرب قاطبة أنه جاء بدين محدث.
قال ابن سعد: ويقال إنها قالت:
إن طليبا نصر ابن خاله ... وأساه في ذي دمه وماله
"وأما أم حكيم" بفتح المهملة وكسر الكاف، "فهي شقيقة عبد الله أبي النبي صلى الله عليه وسلم" وتوءمته على خلاف فيه، وكانت تقول إني لحصان فما أكلم وصناع فما أعلم، وهي التي وضعت جفنة الطيب للمطيبين، وكانت تحت كريز بالتصغير ابن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس بن عبد مناف، فولدت له عامرا وبنات منهن أروى أم عثمان بن عفان أسلما وصحبا، وولد عامر عبد الله على عهده صلى الله عليه وسلم فعوذه وتفل في فيه، فجعل يتسوغ ريقه صلى الله عليه وسلم، فقال: "إنه لمسقي"، فكان لا يعالج أرضا إلا ظهر له الماء، وعمل السقايات بعرفة وشق نهر البصرة، وجمع له عثمان بين ولاية البصرة وفارس، وهو ابن أربع وعشرين سنة، وكان سخيا جوادا، كما في العيون "وأما برة فأمها فاطمة" فهي شقيقة عبد الله "أيضا، وكانت عند أبي رهم" بضم الراء "ابن عبد العزى العامي" من بني عامر بن لؤي، فولدت له أبا سبرة، صحابي شهد بدرا والمشاهد معه صلى الله عليه وسلم كما في العيون، "ثم خلف عليها عبد الأسد بن هلال المخزومي، فولدت له أبا سلمة بن عبد الأسد"، الصحابي الشهير، "الذي كانت عنده أم سلمة قبل النبي صلى الله عليه وسلم" وقيل كانت عند عبد الأسد قبل أبي رهم، كما في العيون، "وأما أميمة" المختلف في إسلامها أيضا، كما سبق "فأمها فاطمة" المخزومية، فهي شقيقة عبد الله "أيضا، وكانت تحت جحش بن رياب" بكسر الراء فتحتية مخففة فألف فموحدة، "فولدت له عبد الله" المجدع في الله بدعائه المستشهد يوم أحد "وعبيد الله" بتصغير العبد أسلم، وهاجر إلى الحبشة فتنصر هناك ومات، "وأبا أحمد" اسمه عبد بلا إضافة، وقيل عبد الله، وهو وهم من السابقين، وكان ضريرا يطوف(4/492)
وزينب وأم حبيبة وحمنة، أولاد جحش بن رياب.
وأما جداته عليه الصلاة والسلام من أبيه:
فأم عبد الله -أبيه- فهي فاطمة بنت عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم.
وأم عبد المطلب، سلمى ابنة عمرو من بني النجار، وكانت قبل هاشم تحت أحيحة بن الجلاح فولدت له عمرا بن أحيحة،
__________
مكة أعلاها وأسفلها بلا قائد، وهاجر إلى المدينة مع أخيه عبد الله وشهد بدرا، والمشاهد، قيل وهاجر إلى الحبشة قبل المدينة، وأنكره البلاذري، كما في الإصابة، "وزينب" أم المؤمنين "وأم حبيبة" بهاء آخرها كانت تحت عبد الرحمن بن عوف، فاستحيضت فاستفتت رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديث في مسلم، ولبعض الرواة أم حبيب بلا هاء "وحمنة" كانت زوج مصعب بن عمير فقتل عنها يوم أحد، فتزوجها طلحة بن عبيد الله، فولدت له محمدا وعمران، قال أبو عمر: كانت من المبايعات، وشهدت أحدا، فكانت تسقي العطشى وتداوي الجرحى، وكانت تستحاض، كما أخرجه أبو داود والترمذي عنها، وقد قيل: إن بنات جحش كلهن ابتلين بالاستحاضة "أولاد جحش بن رياب" الأسدي من بني أسد بن خزيمة، "وأما جداته عليه الصلاة والسلام من" جهة "أبيه، فأم عبد الله أبيه، فهي فاطمة بنت عمرو بن عائذ" بتحتية ومعجمة؛ لأنه "ابن عمران" بألف ونون بعد الراء، كما في ابن إسحاق اليعمري وغيرهما.
ويقع في بعض نسخ المصنف بحذف أن، وهو تصحيف وسها من ضبطه بمهملة وموحدة؛ لأن ذاك لمن كان من ولد أخيه عمرو بن مخزوم، كعتيق بن عابد زوج خديجة قبل المصطفى، كما صرح به علامة النسب الزبير بن بكار وأقره في الاكمال والتبصير، كما تقدم قريبا "ابن مخزوم" ابن يقظة بن مرة بن كعب بن لؤي.
قال في الروض، وزاد ابن إسحاق بين عائذ وعمران عبد، فقال عائذ بن عبد بن عمران وخالفه ابن هشام، وقال عائذ بن عمران "بلا واسطة، وهو الصحيح؛ لأن أهل النسب ذكروا أن عبدا أخو عائذ وأنه أب لصخرة زوجة عمرو بن عائذ، وهي أم فاطمة جدته صلى الله عليه وسلم "وأم بد المطلب سلمى ابنة عمرو من بني النجار" وذلك أن هاشما أباه نزل على أبيها، فلمحها، فأعجبته فخطبها إليه، فأنكحه إياها وشرط عليه أنها لا تلد ولدا إلا في أهلها، فوفى لها، فولد عبد المطلب عندها، ومات هاشم، فبقي عندها حتى جاء عمه عبد المطلب، فأخذه، كما مر، "وكانت" كما جزم به ابن إسحاق في السيرة "قبل هاشم تحت أحيحة" بمهملتين مصغر "ابن الجلاح"، بضم الجيم وآخره مهملة، كما في الإصابة، "فولدت له عمرا" بفتح العين "ابن أحيحة" الأنصاري الأوسي.(4/493)
وهو أخو عبد المطلب لأمه.
وأم هاشم هي عاتكة بنت مرة بن هلال بن فالج بن ذكوان من بني سليم.
وأم عبد مناف عاتكة بنت فالج بن ذكوان من بني سليم.
وأم قصي فاطمة بنت سعد من أزد السراة.
__________
وقال ابن عبد البر: تزوجها أحيحة بعد موت هاشم، "وهو أخو عبد المطلب لأمه".
ذكره ابن أبي حاتم فيمن روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن خزيمة بن ثابت، قال أبو عمر: لا أدري ما هذا فمحال أن يروي عن خزيمة من كان في هذا السن، وعساه أن يكون حفيد العمر وسمي باسمه.
قال الحافظ: ويحتمل أن لا يكون بينه وبين زوج سلمى نسب بل وافق اسمه واسم أمه، واشتركا في التسمية بعمرو، وليت شعري ما المانع من ذلك مع كثرة وقوع مثله انتهى، فليتأمل والغرض من هذا أن سلمى تزوجت أحيحة اتفاقا، إنما الخلاف هل تزوجته قبل هاشم أو بعده، "وأم هاشم هي عاتكة بنت مرة" بضم الميم وشد الراء "ابن هلال بن فالج" بالفاء والجيم "ابن ذكوان" بذال معجمة "من بني سليم" بالتصغير، "وأم عبد مناف" قمر بالبطحاء "عاتكة بنت فالج" عمه أم هاشم، كما في الروض "ابن ذكوان من بني سليم".
وذكر ابن إسحاق أن أمه حبى بضم المهملة وشد الموحدة الممالة بنت حليل بضم الحاء، وفتح اللام الخزاعية، وعارضه السهيلي في الروض بأن غيره، قال أمه عاتكة هذه السليمية، وأنه صلى الله عليه وسلم قال لولادتهما وولادة عاتكة الآتية في نسب أمه: "أنا ابن العواتك من سليم" على الأصح خلافا لمن قال إنه أراد ثلاث مراضع أرضعنه كل تسمى عاتكة من سليم انتهى، "وأم قصي فاطمة بنت سعد" بن سيل بفتح المهملة والتحتية ولام، وهو السنبل إذا أخذ الحب لقب به، واسمه خير بن حبالة بموحدة، كما في الروض وفيه يقول الشاعر:
ما ترى في الناس شخصا واحدا ... من علمناه كسعد بن سيل
فارسا أضبط فيه عسره ... وإذا ما وافق القرن نزل
فارسا يستدرج الخيل كما اسـ ... ـتدرج الحر القطامي الحجل
"من أزد السراة" بفتح الهمزة وسكون الزاي والدال نسبة إلى الأزد بن الغوث بن نبت بن مالك بن أدد بن زيد كهلان بن سبأ بن يشحب بن يعرب بن قحطان، وقيل اسم الأزدري بتقديم الدال على الراء، وإليه جماع الأنصار، ويقال الأسد لقرب السين من الزاي، والأزدي أيضا من أزدشنوأة ومن أزد الحجر، ولكنهما مندرجان في الأول؛ لأنهما من ولده والنسبة ترجع إليه.(4/494)
وأم كلاب، نعم بنت سرير بن ثعلبة بن مالك بن كنانة.
وأم مرة وحشية بنت شيبان بن محارب من فهم.
وأم كعب، سلمى بنت محارب من فهم.
وأم لؤي وحشية بنت مدلج بن مرة بن عبد مناف بن كنانة.
وأم غالب، سلمى بنت سعد بن هذيل.
وأم فهر، جندلة بنة الحارث الجرهمي.
وأم مالك، هند بنت عدوان بن عمرو بن قيس بن عيلان.
__________
قاله الحازمي ذكره في التبصير "وأم كلاب نعم" بضم النون، وسكون المهملة، وميم، وجزم ابن إسحاق بأن اسمها هند، ورجحه البلاذري "بنت سرير" بمهملات مصغر "ابن ثعلبة بن الحارث بن مالك بن كنانة" بن خزيمة، "وأم مرة وحشية" بفتح الواو ويقال بميم عوضها بالأول جزم ابن إسحاق، وسكون الخاء، وكسر الشين المعجمتين فتحتية مشددة "بنت شيبان بن محارب" بن فهر بن مالك بن النضر.
هكذا نسبها ابن إسحاق وتبعه الشامي وغيره، وهذا صريح في أنها قرشية، وأما ابن قتيبة، فقال: "من فهم" بفتح الفاء وسكون الهاء، وبالميم فهم ثلاثة قبائل، فلم يعين هي من أيها، "وأم كعب سلمى بنت محارب من فهم" فهي عمة التي قبلها عنده، والذي قاله ابن إسحاق وأتباعه أن أمه ماوية بكسر الواو وشد التحتية بنت كعب بن القين من قضاعة، فخالف في الاسم والنسبة، كما خالف فيها في التي قبلها في النسبة.
قال شيخنا: وقد يقال على بعد كلاهما اسم لها غايته أن أحدهما اسم والآخر لقب، وأما النسبة فلعلها تنسب إلى إحدى القبيلتين من جهة الأب والأخرى من جهة الأم، واشتهرت بكل منهما "وأم لؤي وحشية بنت مدلج بن مرة بن عبد مناف بن كنانة" في قول ابن قتيبة.
وقال ابن إسحاق: أمه سلمى بنت عمرو الخزاعي، وقال غيره عاتكة بنت يخلد بن النضر بن كنانة. "وأم غالب سلمى بنت سعد بن هذيل" بن مدركة وسماها ابن إسحاق ليلى، ووافق في نسبها، وقال غيره ليلى بنت الحارث بن تميم بن هذيل بن مدركه، "وأم فهر جندلة" بجيم، فنون، فدال مهملة "ابنة الحارث" ابن مضاض بميم مكسورة ومعجمتين "الجرهمي".
قال ابن هشام وليس بابن مضاض الأكبر، "وأم مالك هند" وقيل عاتكة، ولقبها عكرشة "بنت عدوان"، بفتح العين، وسكون الدال المهملتين "ابن عمرو بن قيس بن عيلان" بفتح(4/495)
وأم النضر، برة بنت مرة أخت تميم بن مرة.
ذكره ابن قتيبة في كتاب المعارف كما حكاه الطبري عنه وقال: فالجدة الأولى قرشية مخزومية، والثانية نجارية، والثالثة سليمية، والرابعة سليمية أيضا، وقيل خزاعية والخامسة أزدية، والسادسة كنانية، والسابعة فهمية والثامنة أيضا أو فهرية -الخط في الأصل يوهم- والتاسعة كنانية، والعاشرة هذلية، والحادية عشر جرهمية، والثانية عشر قيسية، والثالثة عشر مرية.
وأما جداته عليه الصلاة والسلام من أمه:
فأم آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن
__________
المهملة، وسكون التحتية من خزاعة، وقيل هي عرابة بنت سعد القيسية بفتح المهملة وخفة الراء "وأم النضر برة بنت مرة أخت تميم بن مرة" بن أد بن طابخة بن إلياس بن مضر وهي بنت أخي برة بنت أد زوجة أبيه التي خلف عليها بعد موته ولم تلد له ذكرا ولا أنثى، فلما ماتت عنده تزوج بنت أختها هذه، فولدت له النضر، كما ذكره أبو عثمان الجاحظ، وبه تعقب الحافظ عبد الكريم القطب الحلبي كلام السهيلي، وقال: إنه غلط نشأ من اشتباه لاتفاق اسمهما وتقارب نسبهما، وقال مغلطاي هو الصواب وخلافه غلط ظاهر، كما مر بسطه في النسب الشريف المصون، عن كل دنس ومنه نكاح المقت مع الكلام على الآباء.
هذا وأم كنانة عوانة بنت سعد بن قيس بن عيلان بن مضر، وأم خزيمة امرأة من قضاعة وأم مدركة خندف بنت عمران القضاعية، وأم إلياس جرهمية وأم مضرة سودة بنت عك بن عدنان وأم نزار وأم معد امرأة من قومه اسمها الأمينة هكذا أورده ابن إسحاق وغيره.
وأما المصنف فاقتصر على جماع قريش؛ لأنه الذي "ذكره ابن قتيبة في كتاب المعارف، كما حكاه الطبري" أحمد بن عبد الله المكي "عنه، وقال: فالجدة الأولى قرشية مخزومية، والثانية نجارية، والثالثة سليمية، والرابعة سليمية أيضا، وقيل خزاعية"، واسمها حبى، كما مر خلافا لمن اقتضاه من أن الخلاف في النسبة مع الاتفاق على الاسم، فحاصل الخلاف أنها حبى الخزاعية، أو عاتكة السلمية، "والخامسة أزدية، والسادسة كنانية، والسابعة فهمية، والثامنة" فهمية "أيضا" بالميم، "أو فهرية" بالراء "الخط في الأصل يوهم، والتاسعة كنانية، والعاشرة هذلية، والحادية عشر جرهمية، والثانية عشر قيسية، والثالثة عشر مرية" فذلك لما أسلفه للإيضاح.
"وأما جداته عليه الصلاة والسلام من" قبل "أمه، فأم آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن(4/496)
زهرة بن كلاب، برة بنت عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار بن قصي بن كلاب بن مرة، وأم أبيها وهب: عاتكة بنت الأوقص بن مرة بن هلال بن فالج بن ذكوان من بني سليم، ذكره ابن قتيبة.
وقال أبو عمر: ويعرف أبوها بأبي كبشة الذي كان ينسب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقال: ابن أبي كبشة، ونسب إليه لأنه كان يعبد "الشعرى" ولم يكن أحد من العرب يعبدها، فلما جاءهم عليه الصلاة والسلام بخلاف ما كانت عليه العرب قالوا: هذا ابن أبي كبشة، ولم يقصدوا ذمة عليه والصلاة والسلام. وقيل: بل نسب إلى وهب أخي أمه كان يدعى بها، وقيل كان يدعى بها أبوه من الرضاع، الحارث بن عبد العزى زوج حليمة فنسب إليه.
__________
زهرة بن كلاب" بن مرة بن كعب. "برة بنت عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار بن قصي بن كلاب بن مرة" بن كعب بن لؤي، هكذا نسبها ابن إسحاق وغيره، ويقع في بعض نسخ المصنف عبد العزى بن قصي نسبة إلى الجد الأعلى "وأم أبيها وهب" جده آمنة "عاتكة بنت الأوقص بن مرة بن هلال بن فالج" بفاء وجيم "ابن ذكوان من بني سليم ذكره ابن قتيبة".
"وقال أبو عمر" ابن عبد البر: "ويعرف أبوها" أي عاتكة، وهو الأوقص "بأبي كبشة الذي كان ينسب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقال ابن أبي كبشة" كقول أبي جهل لقريش يخبركم ابن أبي كبشة أن خزنة جهنم تسعة عشر، أفيعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا برجل منهم، رواه ابن جرير، وكقول أبي سفيان: لقد أمر ابن أبي كبشة أصبح بخافة ملك بني الأصفر، قال في الفتح: كذا قال أبو الحسن الجرحاني النسابة، وفيه نظر، فلم يذكر أحد من أهل النسب أن الأوقص يكنى أبا كبشة، "ونسب إليه؛ لأنه" خالف العرب، "فكان يعبد الشعرى، ولم يكن أحد من العرب يعبدها" غيره، "فلما جاءهم عليه الصلاة والسلام بخلاف ما كانت عليه العرب" من عبادة الأصنام، "قالوا: هذا ابن أبي كبشة"، فنسبوه إليه في مطلق المخالفة لهم فيما يعبدون، "ولم يقصدوا ذمة عليه الصلاة والسام" وقيل: بل، قالوه عداوة وتحقيرا له بنسبته إلى غير نسبه المشهور؛ لأن عادة العرب إذا انتقصت نسبت إلى جد غامض، كما في الفتح والكرماني، وقيل الذي خالفهم وعبد الشعرى رجل من خزاعة اسمه وجز بفتح الواو وسكون الجيم، وزاي ابن قالب، فنسبوه إليه في مطلق المخالفة، "وقيل: بل نسب إلى وهب أخي أمه كان يدعى بها" بأبي كبشة تحقيرا وعداوة بنسبته إلى خاله، "وقيل: كان يدعى بها أبوه من الرضاع الحارث بن عبد العزى زوج حليمة" وكانت له بنت تسمى كبشة، "فنسب إليه" عداوة بنسبته إلى زوج(4/497)
وأم برة هي أم حبيب، قاله ابن قتيبة وقال أبو سعيد: أم سفيان بنت أسد بن عبد العزي بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب.
وأم أم حبيب هي برة بنت عوف بن عبيد بن عدي بن كعب بن لؤي بن غالب.
وأم برة بنت عوف، قلابة بنت الحارث بن صعصعة بن عائذ بن لحيان بن هذيل.
وأم قلابة، هند بنت يربوع من ثقيف. قاله ابن قتيبة، وقال ابن سعد إنها بنت مالك بن عثمان من بني لحيان.
فالجدة الأولى والثانية والثالثة من أمهات أمه عليه الصلاة والسلام قرشيات، وأم أبي أمه سليمة.
__________
المرضعة، وقيل: هو والد حليمة، وقيل نسبة لجد جده عبد المطلب لأمه، "وأم برة" والدة آمنة "هي أم حبيب، قال ابن قتيبة" وابن إسحاق، "وقال أبو سعيد" هي "أم سفيان" ويمكن التوفيق بأن أحدهما اسم بلفظ الكنية، والآخر كنية "بنت أسد بن عبد العزي بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب، وأم أم حبيبة هي برة بنت عوف بن عبيد" بن عويج، كما في ابن إسحاق "بن عدي بن كعب بن لؤي بن غالب" بن فهر بن مالك بن النضر، قال ابن هشام: فرسول الله صلى الله عليه وسلم أشرف ولد آدم حسبا، وأفضلهم نسبا من قبل أبيه وأمه، وأم برة بنت عوف قلابة" بكسر القاف وخف اللام، فألف فموحدة "بنت الحارث" بن طابخة، كما في الروض عن محمد بن حبيب قبل قوله "ابن صعصعة بن عائذ بن عادية بن كعب بن طابخة بن لحيان بن هذيل" كذا في النسخ، والذي في الروض عن محمد بن حبيب بعد صعصعة بن عادية بن كعب بن طابخة بن لحيان بن هذيل، قال: وزعم الزبير أن الحارث كان يكنى أبا قلابة وأنه أقدم شعراء هذيل، وذكر من شعره قوله:
لا تأمنن وإن أمسيت في حرم ... حتى تلاقي ما يمني لك الماني
فالخير والشر مقرونان في قرن ... بكل ذلك يأتيه الجديدان
"وأم قلابة هند بنت يربوع من ثقيف، قاله ابن قتيبة، وقال ابن سعد إنها" أي هند "بنت مالك بن عثمان من بني لحيان"، وقال محمد بن حبيب أم قلابة أمية بنت مالك بن غنم بن لحيان بن غادية وأمها بنت كهف الظلم من ثقيف، كما في الروض "فالجدة الأولى والثانية والثالثة من أمهات أمه عليه الصلاة والسلام قرشيات وأم أب أم سليمة" ولذا قال: أنا ابن(4/498)
والرابعة لحيانية هذلية، والخامسة ثقفية، ففي كل قبيلة من قبائل العرب له عليه الصلاة والسلام عقلة نسب.
وإما إخوته عليه الصلاة والسلام من الرضاعة.
فحمزة وهو عمه وأبو سلمة بن عبد الأسد، أرضعتهما معا معه صلى الله عليه وسلم ثوبية جارية أبي لهب بلبن ابنها مسروح بن ثويبة.
__________
العواتك من سليم. "والرابعة لحيانية" بكسر اللام وسكون الحاء "هذلية" نسبة إلى لحيان بن هذيل بن مدركة بن إلياس بن مضر. "والخامسة ثقفية ففي كل قبيلة من قبائل العرب له عليه الصلاة والسلام عقلة نسب" وقدم المصنف في المقصد الأول عن محمد بن السائب الكلبي، قال: كتبت للنبي صلى الله عليه وسلم خمسمائة أم فما وجدت فيهن سفاحا ولا شيئا مما كان من أمر الجاهلية. وقدمت الجواب عن استشكاله بأن أمهاته لا تبلغ ذلك، بأن مراده الجدات وجدات الجدات من قبل الأبوين، أو بالنظر إلى أن له في كل قبيلة عقلة نسب، فجميع نسائهم جدات، أو عمات، أو خالات فعد قرابتهم له ولادة. والمراد أن نسبه صلى الله عليه وسلم بحواشيه وأطرافه جميل لم يسمه دنس. "وأما أخوته عليه الصلاة والسلام من الرضاعة" أراد بهم ما يشمل الإناث كقوله وإن كان له إخوة. وأخرهم مع تقديمهم في الترجمة على الجدات لكونهم من الأصول. "فحمزة وهو عمه" سيد الشهداء "وأبو سلمة" عبد الله بن عبد الأسد" بن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم القرشي المخزومي من السابقين الأولين، قال ابن إسحاق: أسلم بعد عشرة أنفس. وروى ابن أبي عاصم في الأوائل من حديث ابن عباس أول من يعطي كتابه بيمينه أبو سلمة بن عبد الأسد، وأول من يعطي كتابه بشماله أخوه سفيان بن عبد الأسد هاجر إلى الحبشة، ثم إلى المدينة، وشهد بدرا قال ابن منده: ومات بالمدينة بعد أن رجعوا منها، وقال ابن إسحاق بعد أحد، وهو الصحيح، وهو ابن برة عمة النبي صلى الله عليه وسلم "أرضعتهما معا معه صلى الله عليه وسلم ثويبة" بضم المثلثة وفتح الواو وسكون التحتية فموحدة فهاء تأنيث، كما في الصحيحين. "جارية أبي لهب بلبن ابنها مسروح" بفتح الميم وسكون المهملة وضم الراء وسكون الواو وحاء مهملة، قال في الإصابة: لم أقف في شيء من الطرق على إسلامه، وهو محتلم "بن ثويبة" قال البلاذري أرضعته صلى الله عليه وسلم أياما قلائل قبل أن تأخذه حليمة وأرضعت قبله حمزة وبعده أبا سلمة وبهذا ينحل إشكال أن حمزة أسن منه فكيف يكون أخاه، كما مر هكذا ذكر غير واحد أن حمزة رضيعه صلى الله عليه وسلم من هذه الجهة فقط، وهو الذي في الصحيحين، وذكر ابن القيم أن حمزة كان مسترضعا في بني سعد، فأرضعت أمه رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما، وهو عند حليمة، فكان رضيعه من جهتين جهة السعدية وجهة ثوبية انتهى.(4/499)
وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب أرضعته ورسول الله صلى الله عليه وسلم حليمة السعدية، وعبد الله وآسية وجدامة -وتعرف بالشيماء- الثلاثة أولاد حليمة.
وقد روي أن خيلا له أغارت على هوازن فأخذوها في جملة السبي،
__________
"وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب" الهاشمي الذي قال في حقه صلى الله عليه وسلم، أبو سفيان بن الحارث سيد فتيان أهل الجنة.
أخرجه الحاكم وغيره، وقال: أبو سفيان خير أهلي رواه أبو عمر بن عبد البر والحاكم والطبراني بسند جيد "أرضعته ورسول الله صلى الله عليه وسلم حليمة السعدية وعبد الله" بفتح العين ابن الحارث بن عبد العزى السعدي الصحابي ذكره في الإصابة في القسم الأول في العبادلة المكبرين، ولم يدركه فيمن اسمه عبيد الله، بضم العين فيما يقع في بعض النسخ عبيد تصحيف من النساخ زادوها ياء، ثم أورده في المخضرمين، وقال فيه: أخرج ابن سعد بسند صحيح من مرسل إسحاق بن عبد الله، قال: كان للنبي صلى الله عليه وسلم أخ من الرضاعة، فجعل يقول له: أترى أن يكون بعث بعد الموت، فيقول صلى الله عليه وسلم: "أي والذي نفسي بيده لآخذن بيدك يوم القيامة ولأعرفنك"، قال: فلما آمن بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم جعل يبكي، ويقول: أنا أرجو أن يأخذ النبي صلى الله عليه وسلم بيدي يوم القيامة فأنجو انتهى.
وحاصل ذكره في الموضعين أنه لا نزاع في إسلامه بل في أنه صحابي، "وآسية" بالمد فسين مهملة فتحتية، قال في الإصابة: بنت الحارث السعدية أخت النبي صلى الله عليه وسلم من الرضاعة.
ذكره أبو سعد النيسابوري في شرف المصطفى انتهى، ويقع في بعض النسخ أنيسة بنون، وتقديم التحتية على السين، وهو تصحيف، فلم يذكرها في الإصابة فيمن اسمه أنيسة، إنما ذكر ما نقلت عنه بلفظ آسية، وهي أول امرأة بدأ بها من الصحابيات "وجدامة" بضم الجيم ودال مهملة ميم، كما جزم به ابن سعد، وقيل بخاء مكسورة، وذال معجمتين ذكره ابن إسحاق في رواية زياد، وقيل حذافة بضم الحاء المهملة، وفتح الذال المعجمة، فألف ففاء، ذكره ابن إسحاق في رواية يونس، وجزم به ابن عبد البر، وصوبه الخشبي، واقتصر في الإصابة على الأول والثالث، وفي الروض على الأخيرين، "وتعرف بالشيماء" بفتح الشين المعجمة وسكون الياء، ويقال: الشماء بلا ياء، قال ابن إسحاق، غلب على اسمها، فلا تعرف في قومها إلا به، وذكرها أبو نعيم وغيره في الصحابة "الثلاثة أولاد حليمة" من زوجها الحارث قاله ابن إسحاق.
"وقد روي" عند ابن سعد "أن خيلا له أغارت على هوازن" لما بعث أبا عامر الأشعري في طلب الفارين منهم يوم حنين، فهزموهم وسبوا النساء والذرية، "فأخذوها في جملة السبي،(4/500)
فقالت: أنا أخت صاحبكم، فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت له: يا محمد، أنا أختك، فرحب بها وبسط لها رداءه وأجلسها عليه ودمعت عيناه، وقال عليه الصلاة والسلام: "إن أحببت فأقيمي عندي مكرمة محببة، وإن أحببت أن ترجعي إلى قومك وصلتك". قالت: بل أرجع إلى قومي، فأسلمت، وأعطاها صلى الله عليه وسلم ثلاثة أعبد وجارية ونعما وشاء. ذكره أبو عمر وابن قتيبة.
وأما أمه من الرضاعة، فحليمة بنت أبي ذؤيب من هوازن، وهي التي أرضعته حتى أكملت رضاعه، وجاءته عليه الصلاة والسلام يوم حنين.
__________
فقالت: أنا أخت صاحبكم" من جهة أنه صلى الله عليه وسلم رضع أمها بلبان أختها.
قال ابن إسحاق: فلم يصدقوها، "فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت له: يا محمد أنا أختك" زاد ابن إسحاق، قال: "وما علامة ذلك"؟ قالت: عضة عضضتنيها في ظهري، وأنا متوركتك، فعرف صلى الله عليه وسلم العلامة، "فرحب بها، وبسط لها رداءه، وأجلسها عليه، ودمعت" بفتح الميم "عيناه" رقة عليها، "وقال عليه الصلاة والسلام: "إن أحببت فأقيمي عندي مكرمة محببة، وإن أحببت أن ترجعي إلى قومك وصلتك"، قالت: بل" تصلي "وأرجع إلى قومي، فأسلمت"، رضي الله عنها، "وأعطاها صلى الله عليه وسلم ثلاثة أعبد وجارية ونعما وشاء".
"ذكره أبو عمر" بن عبد البر، "وابن قتيبة" وأسنده ابن إسحاق عن يزيد بن عبيد السعدي بنحوه، وفيه فزعمت بنو سعد أنه أعطاها غلاما، يقال له مكحول وجارية، فزوجت أحدهما الأخرى، فلم يزل فيهم من نسلهما بقية، وذكر في الإصابة حفص بن الحارث من حليمة السعدية، ووصفه بأنه أخو النبي صلى الله عليه وسلم من الرضاعة، وقفت له عل رواية، عن أمه من طريق محمد بن عثمان اللخمي، عن محمد بن إسحاق، عن جهم بن أبي جهم، عن عبد الله بن جعفر، عن حفص بن حليمة، عن أمه، عن آمنة أم النبي صلى الله عليه وسلم في قصة ميلاده انتهى.
وذكر بعضهم في إخوته من الرضاع عبد الله بن جحش، ولم يصفه بذلك في الإصابة، وسنه يقصر عن ذلك، فإنه استشهد بأحد، وهو ابن بضع وأربعين سنة، وسنه صلى الله عليه وسلم يومئذ ست وخمسون "وأما أمه من الرضاعة فحليمة بنت أبي ذؤيب" بذال معجمة واسمه عبد الله بن الحارث بن شجنة، بكسر المعجمة، وسكون الجيم بعدها نون ابن جابر بن رزام بكسر المهملة، ثم زاي منقوطة ابن ناضرة بن قصية بن سعد بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة "من" بني "هوازن" كما علمت "وهي التي أرضعته حتى أكملت رضاعه" ورأت فيه آيات بينات مر بعضها في المقصد الأول، "وجاءته عليه الصلاة والسلام يوم حنين" بعد انصرافه من الغزو، وهو(4/501)
فقال إليها وبسط رداءه إليها، فجلست عليه، وكذا ثوبية جارية أبي لهب أيضا، واختلف في إسلامها كما اختلف في إسلام حليمة وزوجها،
__________
بالجعرانية، "فقام إليها، وبسط رداءه إليها، فجلست عليه" وروت عن النبي صلى الله عليه وسلم وروى عنها عبد الله بن جعفر، كما في الاستيعاب، قال في الإصابة: وحديثه عنها بقصة إرضاعها أخرجه أبو يعلي وابن حبان في صحيحه، وصرح فيه بالتحديث بين عبد الله وحليمة، وأخرج أبو داود وأبو يعلى وغيرهما، عن أبي الطفيل أن النبي صلى الله عليه وسلم كان بالجعرانة يقسم لحما، فأقبلت امرأة بدوية، فلما دنت من النبي صلى الله عليه وسلم بسط لها رداءه، فجلست عليه، فقلت: من هذه؟، قالوا: أمة أرضعته انتهى، وفي هذه القصة رد على ما وقع عند الواقدي أنه سأل بنتها الشماء لما جاءته عن أبويه، فأخبرته أنهما ماتا، والواقدي ما يحتج به إذا انفرد، فكيف إذا خالف، "وكذا ثوبية جارية أبي لهب" أمة رضاعة "أيضا".
"واختلف في إسلامها" حكاه ابن منده وقال أبو نعيم: لا أعلم أحدا أثبته، وفي طبقات ابن سعد ما يدل على أنها لم تسلم: قال في الإصابة لكنه لا يدفع نقل ابن منده، "كما اختلف في إسلام حليمة" السعدية، فالأكثرون، وهو الصحيح على أنها أسلمت وصحبت، وزعم الدمياطي وأبو حيان النحوي أنها لم تسلم، وقال ابن كثير: لم تدرك البعثة، ورده الحافظ بأن عبد الله بن جعفر حدث عنها، عند أبي يعلى، والطبراني، وابن حبان، وهو إنما ولد بعد البعثة انتهى، وحسبك في الرد على الدمياطي قوله، وقد وهم غير واحد فذكروها في الصحابة؛ لأنهم أثبتوا ذلك، فمن أين ل الحكم عليهم بالغلط، وأما أبو حبان فليس من فرسان ذا الميدان يذهب إلى زيده وعمره، وقد ألف الحافظ مغلطاي جزءا حافلا، سماه التحفة الجسمية في إثبات إسلام حليمة.
وذكرها في الصحابة ابن أبي خيثمة في تاريخه، وابن عبد البر، وابن الجوزي في الحداء، والمنذري في مختصر السنن، وخاتمهم في الإصابة وحسبك بهم حجة، "وزوجها" الحارث بن عبد العزى بن رفاعة بن ملان بن ناصرة بن قصية بن نضر بن سعد بن بكر بن هوازن السعدي، فلم يذكره كثير ممن ألف في الصحابة، ولا ذكره البكائي في روايته عن ابن إسحاق، وذكره في الصحابة جماعة منهم صاحب الإصابة لما أخرجه ابن إسحاق في رواية يونس، عنه قال: حدثني والدي إسحاق بن يسار عن رجال من بني سعد بن بكر، قالوا: قدم الحارث أبو رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرضاعة عليه بمكة حين أنزل عليه القرآن، فقالت له قريش ألا تسمع يا حار ما يقول ابنك، قال: وما يقول، قالوا: يزعم أن الله يبعث من في القبور، وأن لله دارين يعذب فيها من عصاه، ويكرم فيها من أطاعه، فقد شتت أمرنا وفرق جماعتنا، فأتاه فقال: أي بني مالك، ولقومك(4/502)
والله أعلم.
وكانت ثوبية تدخل عليه صلى الله عليه وسلم بعد أن تزوج خديجة فكانت تكرمها. وأعتقها أبو لهب، وكان عليه الصلاة والسلام يبعث إليها من المدينة بكسوة وصلة حتى ماتت بعد فتح خيبر، ذكره أبو عمر.
وكانت حاضنته عليه الصلاة والسلام أم أيمن، بركة بنت ثعلبة بن حصن بن مالك، غلبت عليها كنيتها، وكنيت باسم ابنها أيمن الحبشي، وهي أم أسامة بن زيد، تزوجها زيد بعد عبيدة،
__________
يشكونك، ويزعمون أنك تقول إن الناس يبعثون بعد الموت، ثم يصيرون إلى جنة ونار، فقال صلى الله عليه وسلم: "أنا أزعم ذلك، ولو قد كان ذلك اليوم يا أبت لقد أخذت بيدك حتى أعرفك حديثك اليوم"، فأسلم الحارث بعد ذلك، فحسن إسلامه، وكان يقول حين أسلم لو أخذ ابني بيدي فعرفني ما قال لم يرسلني إن شاء الله حتى الجنة، قال ابن إسحاق: وبلغني أنه إنما أسلم بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر ابن سعد نحو هذه القصة لابنه، كما تقدم قريبا، قال في الإصابة: فيحتمل أن يكون ذلك وقع للابن والأب "والله أعلم" بما في نفس الأمر.
"و" ذكر ابن سعد عن الواقدي، عن غير واحد من أهل العلم، أنه "كانت ثوبية تدخل عليه صلى الله عليه وسلم بعد أن تزوج خديجة، فكانت تكرمها" زاد ابن سعد، وهي ملك أبي لهب، وسألته خديجة أن يبيعها لها، فامتنع "وأعتقها أبو لهب" بعد الهجرة عند ابن سعد في هذه الرواية، والصحيح أنه أعتقها حين بشرته بولادته صلى الله عليه وسلم، كما مر، وقيل أعتقها قبل الولادة بدهر طويل، "وكان عليه الصلاة والسلام" لما هاجر "يبعث إليها من المدينة بكسوة وصلة حتى ماتت بعد فتح خيبر" سنة سبع "ذكره أبو عمر".
زاد ابن سعد ومات ابنها مسروح قبلها، "وكانت حاضنته عليه الصلاة والسلام أم أيمن بركة بنت ثعلبة بن حصن بن مالك" بن سلمة بن عمرو بن النعمان، "غلبت عليها كنيتها"، فاشتهرت بها، "وكنيت باسم ابنها أيمن الحبشي" كذا، قال ابن عبد البر، والصواب أن الحبشي غير ابن أم أيمن، فإنه خزرجي، أما الحبشي فجاء مع جعفر بن أبي طالب من الحبشة، كما في الإصابة، "وهي أم أسامة بن زيد" الحب ابن الحب، "تزوجها زيد" الأمير، المستشهد بموته "بعد" موت "عبيدة" بن زيد، الذي كان تزوجها في الجاهلية بمكة، وكان قدمها وأقام بها، ثم نقلها إلى يثرب، فولدت له أيمن، ثم مات عنها، فرجعت إلى مكة.
ذكر البلاذري، وأخرج ابن السكن مرفوعا "من سره أن يتزوج امرأة من أهل الجنة فليتزوج(4/503)
فولدت له أسامة، ويقال: إنها كانت مولاة رسول الله صلى الله عليه وسلم. هاجرت الهجرتين إلى أرض الحبشة وإلى المدينة. وكانت لعبد الله بن عبد المطلب. فورثها النبي صلى الله عليه وسلم. وقيل كانت لأمه عليه الصلاة والسلام. وكان عليه الصلاة والسلام يقول: "أم أيمن أمي بعد أمي".
__________
أم أيمن"، فتزوجها زيد بن حارثة، "فولدت له أسامة، ويقال له إنها كانت مولاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهبتها له أخت خديجة، حكاه أبو نعيم، أسلمت قديما و"هاجرت الهجرتين إلى أرض الحبشة وإلى المدينة" وساق الله لها في هجرتها إليها كرامة باهرة.
قال ابن سعد: أخبرنا أبو أسامة عن جرير بن حازم سمعت عثمان بن القاسم يقول لما هاجرت أم أيمن أمست بالمنصرف دون الروحاء، فعطشت وليس معها ماء وهي صائمة، فأجهدها العطش، فدلي عليها من السماء دلو من ماء برشاء أبيض، فأخذته فشربته، حتى رويت، فكانت تقول ما أصابني بعد ذلك عطش، ولقد تعرضت للصوم في الهواجر فما عطشت، وأخرجه ابن السكن من طريق هشام بن حسان عن عثمان بنحوه، وقال في روايته: خرجت مهاجرة من مكة إلى المدينة، وهي ماشية ليس معها زاد وفيه، فلما غابت الشمس إذا أنا بحقيق تحت رأسي، وفيه فلقد كنت بعد ذلك أصوم في اليوم الحار، ثم أطوف في الشمس، فما عطشت بعد، "و" قيل "كانت لعبد الله بن عبد المطلب فورثها النبي صلى الله عليه وسلم" من أبيه، وأعتقها لما تزوج خديجة، حكاه ابن سعد، "وقيل كانت لأمه عليه الصلاة والسلام"، حكاه ابن أبي خيثمة، "وكان عليه الصلاة والسلام يقول: "أم أيمن أمي بعد أمي" في الشفقة والحنو علي ورعايتي وتعظيمي، أو في رعايتي لها واحترامها وتعظيمها.
وعند ابن سعد: أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول لأم أيمن: "يا أمه" وكانت تدل عليه ويزورها.
وقد روى أحمد والبخاري وابن سعد عن أنس أن الرجل كان يجعل للنبي صلى الله عليه وسلم النخلات حتى فتحت عليه قريظة والنضير، فجعل يرد بعد ذلك فكلمني أهلي أن أسأله الذي كانوا أعطوه، أو بعضه، وكان أعطاه أم أيمن، فسألته، فأعطانيه، فجاءت أم أيمن، فجعلت تقول كلا والله لا يعطيكهن وقد أعطانيهن، فقال صلى الله عليه وسلم: "لك كذا وكذا"، وتقول: كلا ويقول: "لك كذا وكذا"، وتقول: كلا، حتى أعطاها حسبته، قال عشرة أمثاله، أو قريبا من عشرة أمثاله، وأخرج مسلم، وأحمد وابن السكن وأبو يعلى، عن أنس كان صلى الله عليه وسلم يدخل على أم أيمن فقدمت إليه لبنا، فإما كان صائما، وإما قال: "لا أريده"، فأقبلت تضاحكه، فلما كان بعد وفاته، قال أبو بكر لعمر: انطلق بنا نزور أم أيمن، كما كان صلى الله عليه وسلم يزورها فلما دخلا عليها بكت، فقالا: ما يبكيك فما عند الله خير لرسوله صلى الله عليه وسلم، قالت: أبكي على الوحي الذي رفع عنا فهيجتهما على البكاء، فجعلت تبكي(4/504)
وكانت الشيماء بنت حليمة السعدية تحضنه أيضا مع أمها حليمة السعدية. خاتمة.
__________
ويبكيان معها.
قال الواقدي: ماتت في خلافة عثمان، وعند مسلم وابن السكن، عن الزهري أنها توفيت بعده صلى الله عليه وسلم بخمسة أشهر.
قال الحافظ: وهذا مرسل، ويؤيد الأول ما أخرجه ابن سعد بسند صحيح عن طارق بن شهاب لما قتل عمر بكت أم أيمن، وقالت: اليوم وهي الإسلام، وهو موصول، فهو أقوى، واعتمده ابن منده وغيره، وزاد ابن منده أنها ماتت بعد عمر بعشرين يوما، وجمع ابن السكن بين القولين، بأن التي ذكرها الزهري هي مولاة النبي صلى الله عليه وسلم، والتي ذكرها طارق هي مولاة أم حبيبة، وأن كلا منهما اسمها بركة، وتكنى أم أيمن، وهو محتمل على بعده انتهى، وكانت الشيماء بنت حليمة السعدية تحضنه أيضا مع أمها حليمة السعدية، فهي أخت وحاضنة ومر أنها كانت ترقصه وتقول:
يا ربنا أبق أخي محمدا ... حتى أراه افعا وأمردا
ثم أراه سيدا مسودا ... وأكتب أعاديه معا والحسدا
واعطه عزا يدوم أبدا
فكان أبو عروة الأزدي إذا أنشده يقول: ما أحسن ما أجاب الله تعالى دعاءها.
"خاتمة" لم يذكر المصنف أخواله، وقد روى ابن شاهين عن عائشة أن الأسود بن وهب خال النبي صلى الله عليه وسلم أستأذن عليه، فقال: "يا خال أدخل"، فدخل، فبسط له رداءه.
وروى ابن الأعرابي في معجمه عن عبد الله بن عمرو، قال صلى الله عليه وسلم لخاله الأسود بن وهب: "ألا أعلمك كلمات من يرد الله به خيرا يعلمهن إياه، ثم لا ينسيه أبدا"، قال: بلى يا رسول الله، قال: "قل اللهم إني ضعيف، فقو في رضاك ضعفي، وخذ إلى الخير بناصيتي، واجعل الإسلام منتهى رضاي".
وروى ابن منده عن الأسود بن وهب خاله صلى الله عليه وسلم أنه قال له: "ألا أنبئك بشيء عسى الله أن ينفعك به"، قال: بلى: قال: "إن الربا أبواب الباب منه عدله بسبعين حوبا أدناها فجرة، كاضطجاع الرجل مع أمه، وإن أربى الربا باستطالة المرء في عرض أخيه بغير حق".
وروى الخرائطي بسند ضعيف عن عمير بن وهب خال النبي صلى الله عليه وسلم أنه قدم عليه فبسط له رداءه، وقال: "الخال والد".
قال في الإصابة: وهذه القصة للأسود بن وهب، فلعلها وقعت له ولأخيه عمير انتهى، وخاله أيضا عبد يغوث بن وهب والد الأسود الذي كان من المستهزئين، وذكر أبو موسى المديني في الصحابة فريعة بنت وهب الزهرية، فقال رفعها صلى الله عليه وسلم، وقال: "من أراد أن ينظر إلى خالة رسول الله، فلينظر إلى هذه" وروى أبو يعلى عن ابن عمر أنه صلى الله عليه وسلم أعطى خالته غلاما، فقال: "لا تجعليه قصابا ولا حجاما ولا صائغا".
وروى الطبراني عن جابر سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "وهبت خالتي فاخته بنت عمرو غلاما وأمرتها أن لا تجعله جازرا ولا صائغا ولا حجاما" والله أعلم.(4/505)
الفصل الخامس: في خدمه وحرسه ومواليه، ومن كان على نفقاته، وخاتمه ونعله وسواكه ومن يأذن عليه ومن كان يضرب الأعناق بين يديه
أما خدمه:
فمنهم أنس بن مالك بن النضر بن ضمضم بن زيد الأنصاري الخزرجي، يكنى أبا حمزة، خدم النبي صلى الله عليه وسلم تسع سنين أو عشر سنين،
__________
الفصل الخامس: في خدمه
جمع خادم غلاما كان، أو جارية، والخادمة بالهاء في المؤنث قيل ويجمع على خدام أيضا، كما في المصباح "وحرسه" بفتحتين أيضا جمع حارس، ويجمع أيضا على حراس، "ومواليه" جمع موالي، أي عتقائه، وهذا صفات متداخلة، كما يعلم من كلامه الآتي: فمنهم من هو من الخدم والموالي، ومنهم خادم لا مولى، وعكسه "ومن كان على نفقاته" أمينا، و"خاتمه" الذي كان يلبسه "ونعله وسواكه" أي من كان يتولاها إذا قلعها، فيحفظها ويعيدها إليه إذا أرادها، "ومن يأذن عليه" بالدخول لمن أراده فيعلمه به، فإذا رضي صلى الله عليه وسلم أذن له، "ومن كان يضرب الأعناق بين يديه، أما خدمه فمنهم" أي بعضهم إشارة إلى أنه لم يستوفهم، وهو كذلك "أنس بن مالك بن النضر" بالضاد المعجمة، "ابن ضمضم بن زيد" بن حرام من جندب بن عامر بن غنم بن عدي بن النجار، "الأنصاري، الخزرجي" النجاري بالنون، أحمد المكثرين من الرواة وفي الصحابة أنس بن مالك الكعبي القشيري، فلذا قيد بالأنصاري "يكنى أبا حمزة" بالمهملة، والزاي ببقلة كان يحبها، والمكنى له النبي صلى الله عليه وسلم، كما في الإصابة "خدم النبي صلى الله عليه وسلم تسع سنين، أو عشر سنين" وهو الذي صح عنه أنه قال: قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وأنا ابن عشر سنين، وأن أمه أم سليم أتت به النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم، فقالت له: هذا أنس غلام يخدمك، فقبله وكناه أبا حمزة ببقلة كان يحبها ومازحه، فقال له: يا ذا الأذنين وقال محمد بن عبد الله الأنصاري خرج أنس معه صلى الله عليه وسلم(4/506)
ودعا له النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "اللهم أكثر ماله وولده وأدخله الجنة". وقال أبو هريرة: ما رأيت أحدا أشبه صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم منه. وتوفي سنة ثلاث وتسعين وقيل سنة اثنين وقيل إحدى وتسعين وقد جاوز المائة.
ومنهم ربيعة بن كعب الأسلمي، صاحب وضوئه،
__________
إلى بدر، وهو غلام يخدمه، أخبرني أبي عن مولى لأنس أنه، قال له: أشهدتا بدرا، قال: وأين أغيب عن بدر لا أم لك، وإنما لم يذكروه في البدريين؛ لأنه لم يكن في سن من يقاتل.
وروى البخاري عن موسى بن أنس أن أنسا غزا مع النبي صلى الله عليه وسلم ثمان غزوات، ذكره في الإصابة، "ودعا له النبي صلى الله عليه وسلم" كما أخرجه.
عنه قال جاءت بي أم سليم إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأنا غلام فقالت: يا رسول الله أنيس ادع الله له، "فقال: "اللهم أكثر ماله وولده وأدخله الجنة" قال أنس: قد رأيت اثنتين وأنا أرجو الثالثة.
وروى الطبراني عنه، قال: قالت أم سليم يا رسول الله ادع الله لأنس، فقال: اللهم أكثر ماله وولده وبارك له فيه، قال: فلقد دفنت من صلبي سوى ولد ولدي مائة وخمسة وعشرين، وإن أرضي لتثمر في السنة مرتين.
وفي الترمذي عن أبي العالية أن أنسا خدمه صلى الله عليه وسلم عشر سنين، ودعا له وكان له بستان يحمل الفاكهة في السنة مرتين، وكان في ريحان يجيء منه ريح المسك.
"وقال أبو هريرة: ما رأيت أحدا أشبه صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم منه" لأنه لما خدمه تقيد بضبط فعله وكيفيته، فكان يحاكيه في صلاته بحسب الطاقة، ولعل أبا هريرة قال: هذا بعد موت الخلفاء ونحوهم، وعن أبي هريرة أخبرني عن أنس غير هذا الحديث ومناقب أنس وفضائله كثيرة جدا، "وتوفي" بالبصرة، وهو آخر الصحابة موتا بها، كما قال علي بن المديني "سنة ثلاث وتسعين" في قول أبي نعيم والمدائني وخليفة "وقيل سنة اثنتين" وتسعين حكاه الواقدي "وقيل سنة إحدى وتسعين" رواه ابن شاهين عن حميد، وقاله معتمر سليمان، والهيثم بن عدي، وسعيد بن غفيرة، وقيل سنة تسعين، "وقد جاوز المائة" بسنة واحدة، قاله يحيي بن بكير، وقيل بسبع سنين، حكاهما ابن شاهين، وقيل بثلاث سنين، قاله خليفة.
وروى ابن شاهين عن حميد، قال: كان عمر أنس مائة سنة إلا سنة.
وروى ابن السكن عن ثابت قال لي أنس: هذه شعرة من شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم فضعها تحت لساني، قال: فوضعتها تحت لسانه، فدفن وهي تحت لسانه، "ومنهم ربيعة بن كعب"، بن مالك بن يعمر أبو فراس "الأسلمي" بالفتح نسبة إلى أسلم قبيلة من الأزد "صاحب وضوئه" بضم(4/507)
وتوفي سنة ثلاث وستين.
ومنهم: أيمن ابن أم أيمن، صاحب مطهرته عليه الصلاة والسلام، استشهد يوم حنين.
ومنهم عبد الله بن مسعود بن غافل -بالمعجمة والفاء- ابن حبيب الهذلي، أحد السابقين الأولين وشهدا بدرا والمشاهد،
__________
الواو، أي الذي يباشره فيه بنحو صب الماء، فغايرت خدمته صاحب المطهرة.
روى حديثه مسلم وغيره من طريق أبي سلمة عن ربيعة بن كعب، قال: كنت أبيت على باب النبي صلى الله عليه وسلم وأعطيه الوضوء، فأسمعه الهوى من الليل يقول: "سمع الله لمن حمده"، وكان من أهل الصفة.
قال الوافدي: ولم يزل مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن قبض، فخرج من المدينة فنزل في بلاد أسلم على بريد من المدينة وبقي إلى أيام الحرة، "وتوفي" بعدها "سنة ثلاث وستين" في ذي الحجة انتهى، وأقره في الإصابة، وجزم به في التقريب فما في نسخة ثلاث وتسعين تحريف "ومنهم أيمن ابن أم أيمن" وهو أيمن بن عبيد بن زيد بن عمرو بن بلال الأنصاري والخزرجي، كما نسبه ابن سعد وابن منده وأما أبو عمر، فقال: أيمن بن عبيد الحبشي، وهو ابن أم أيمن أخو أسامة لأمه، وقد فرق ابن أبي خيثمة بين الحبشي وبين ابن أم أيمن، وهو الصواب، فإن الحبشي أحد من جاء مع جعفر بن أبي طالب من الحبشة، كما في الإصابة، وقد تقدم صاحب مطهرته عليه الصلاة والسلام، بكسر الميم آلة الطهر، كما في النور، وقال في المصباح والفتح لغة، ومنه السواك مطهرة للفم مرضاة للرب بالفتح انتهى، فهو بالفتح مصدر ميمي مرادا به اسم الفاعل، وعبر عنه بامصدر مبالغة، كزيد عدل، والحديث يروى بالوجهين، كما في التحفة: "استشهد يوم حنين" بين يديه صلى الله عليه وسلم لأنه كان ممن ثبت معه، كما في الغزوة وفيه يقول العباس:
وعاشرنا لاقى الحمام بنفسه ... لما مسه في الله لا يتوجع
"ومنهم عبد الله بن مسعود بن غافل بالمعجمة والفاء ابن حبيب" بن شمخ بفتح المعجمة وسكون الميم، فمعجمة ابن فار بفاء، فألف، فراء ابن مخزوم بن صاهلة بن كامل بن الحارث بن تميم بن سعد بن هذيل بن مدركة "الهذلي" نسبة إلى جده هذيل المذكور حليف بني زهرة. وأمه أم عبد بن عبدود، أسلمت، وصحبت "أحد السابقين الأولين" إلى الإسلام.
روى أبو القاسم البغوي عنه بسند صحيح لقد رأيتني سادس سنة، وما على الأرض غيرنا، وهاجر الهجرتين، "وشهد بدرا والمشاهد" كلها مع المصطفى، ولازمه، وقال له صلى الله عليه وسلم: "أذنتك أن(4/508)
وكان صاحب الوسادة والسواك والنعلين والطهور، وكان يلي ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم، وكان إذا قام النبي صلى الله عليه وسلم ألبسه نعليه، وإذا جلس جعلهما في ذراعيه حتى يقوم، وتوفي بالمدينة وقيل بالكوفة سنة اثنتين وثلاثين، وقيل سنة ثلاث.
__________
ترفع الحجاب وتسمع سوادي حتى أنهاك أخرجه أصحاب الصحيح.
وقال أبو موسى: قدمت أنا وأخي من اليمن، فمكثنا حينا ما نرى ابن مسعود إلا أنه من أهل البيت لما نرى من دخوله ودخول أمه على النبي صلى الله عليه وسلم.
رواه البخاري، ومسلم والنسائي والترمذي، وقال صلى الله عليه وسلم: "من سره أن يقرأ القرآن غضا، كما أنزل فليقرأه على قراءة ابن أم عبد"، رواه أحمد وأبو يعلى، "وكان صاحب الوسادة" بكسر الواو المخدة، ورواية الصحيح الوساد بلا هاء، وهي المخدة أيضا، كما في شرح المصنف، كغيره "والسواك والنعلين والطهور"، وفي الصحيح والمطهرة بالهاء، وفي رواية بلا هاء "كان يلي ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم" يباشره ويقوم به "وكان" كما رواه الحارث وابن أبي عمر من مرسل القاسم بن عبد الرحمن، "إذا قام النبي صلى الله عليه وسلم ألبسه نعليه"، ثم يأخذ العصا، فيمشي بها بين يديه، "وإذا جلس جعلهما في ذراعيه" كل فردة في ذراع "حتى يقوم" وكان حكمة ذلك تخلية يديه لخدمة المصطفى إن احتاج، أو شغلهما بالطاعة إذا أرادها، بهما وبقية هذه المرسل، فإذا قام ألبسه نعليه في رجليه، ومشى حتى يدخل الحجرة قبله، وقال علقمة: قال لي أبو الدرداء أليس عندكم ابن أم عبد صاحب النعلين والوساد والمطهرة والسواك، أخرجه أصحاب الصحيح، ومراد الثناء عليه بخدمته صلى الله عليه وسلم، وأنه لشدة ملازمته، لما ذكر يكون عنده من العلم ما يستغني به الطالب عن غيره، وعن عبد الرحمن بن يزيد النخعي، سألنا حذيفة عن رجل قريب السمت والهدي من النبي صلى الله عليه وسلم حتى نأخذ عنه، فقال: ما أعرف أحدا أقرب سمتا وهديا ودلا بالنبي صلى الله عليه وسلم من ابن أم عبد.
أخرجه البخاري والترمذي: وزاد: لقد علم المحفوظون من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أن ابن أم عبد من أقربهم إلى الله زلفى، وقال علي: أمر صلى الله عليه وسلم ابن مسعود أن يصعد شجرة، فيأتيه بشيء منها، فنظر أصحابه إلى خموشة ساقيه، فضحكوا منهما، فقال صلى الله عليه وسلم: "مم تضحكون؟ لرِجل عبد الله أثقل في الميزان من أحد"، رواه أحمد بسند حسن، وفضائله كثيرة شهيرة، "وتوفي بالمدينة" كما قاله أبو نعيم وغيره، "وقيل بالكوفة" قال في الإصابة: والأول أثبت "سنة اثنتين وثلاثين وقيل سنة ثلاث" وثلاثين، وقد جاوز الستين وصلى عليه عثمان، ودفن بالبقيع.
وفي تاريخ البخاري بسند صحيح، جاء نعي ابن مسعود إلى أبي الدرداء أي بالشام، فقال(4/509)
ومنهم عقبة بن عامر بن عبس بن عمرو الجهني، وكان صاحب بغلته يقود به في الأسفار، روينا عنه أن قال: بينما أنا أقود برسول الله صلى الله عليه وسلم في نقب من تلك النقاب إذ قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اركب يا عقبة"، فأجللت رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن أركب مركبه ثم أشفقت أن يكون معصية قال: فركبت هنيهة ثم نزلت، ثم ركب النبي صلى الله عليه وسلم وقدت به، فقال لي: "يا عقبة ألا أعلمك من خير سورتين قرأتهما الناس" فقلت: بلى بأبي أنت وأمي يا رسول الله فقال: "قل أعوذ برب الفلق، قل أعوذ برب الناس" الحديث رواه أحمد وأبو داود والنسائي. ولأحمد: قال: "يا عقبة، ألا أعلمك خير ثلاث سور أنزلت في التوراة والإنجيل والزبور والقرآن العظيم،
__________
ما ترك بعده مثله، "ومنهم عقبة" بالقاف "ابن عامر بن عبس" بفتح المهملة، وسكون الموحدة، فمهملة "ابن عمرو" بفتح العين ابن عدي بن عمرو بن رفاعة "الجهني" نسبة إلى جده الأعلى جهينة وفي الصحابة عقبة بن عامر الأنصاري، وعقبة بن لسلمي، بضم السين، فلذا قيد بالجهني الصحابي المشهور.
روى عنه صلى الله عليه وسلم كثيرا، وعنه جماعة من الصحابة والتابعين، وفي مسلم عنه، قدم صلى الله عليه وسلم المدينة وأنا في غنم لي أرعاها، فتركها، ثم ذهبت إليه، فقلت: بايعني، فبايعني على الهجرة، "وكان صاحب بغلته ويقود به في الأسفار" رفقا به صلى الله عليه وسلم في صعود الدابة لمرتفع وهبوطها منه، أو خروجها عن طريق، أو أنه كان في سيره مشغولا بالعبادة، كصلاة النافلة واشتغاله بالدابة يشغله عن ذلك، "روينا عنه أنه، قال: بينما أن أقود برسول الله صلى الله عليه وسلم في نقب" بفتح النون، وسكون القاف طريق "من تلك النقاب" جمع نقب، ويجمع أيضا على أنقاب، "إذ، قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اركب يا عقبة" وحدك بدليل قوله، "فاجللت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أركب مركبه، ثم أشفقت" خفت "أن يكون معصية، مخالفة لأمره، "قال: فركبت هنيهة" تصغير هنة، بزيادة الهاء، أي شيئا يسيرا، كما في مقدمة الفتح، وفي القاموس بإبدال الياء هاء "ثم نزلت، ثم ركب النبي صلى الله عليه وسلم وقدت به، فقال لي: "يا عقبة ألا علمك من" بيانية "خير سورتين قرأتهما الناس" من حيث النفع العائد عليهم، كالحفظ من الشيطان فلا ينافي أن ثواب قراءة غيرهما أكبر من قراءتهما؛ لأن الكلام ليس في الثواب، "فقلت: بلى بأبي أنت وأمي يا رسول الله، فقال: "قل أعوذ برب الفلق، قل أعوذ برب الناس".
"الحديث رواه أحمد وأبو داود والنسائي وفي رواية "لأحمد" أيضا، "قال صلى الله عليه وسلم: "يا عقبة ألا أعلمك خير ثلاث سور أنزلت في التوراة والإنجيل والزبور" بمعانيها، "والقرآن العظيم"(4/510)
قال: قلت بلى، يا رسول الله قال: فأقراني "قل هو الله أحد" و"قل أعوذ برب الفلق" و"قل أعوذ برب الناس".
وكان عالما بكتاب الله وبالفرائض فصيحا شاعرا مفوها، ولي مصر لمعاوية سنة أربع وأربعين ثم صرفه بمسلمة بن مخلد، وتوفي بها سنة ثمان وخمسين.
ومنهم أسلع بن شريك صاحب راحلته، وفي الطبراني عن الربيع بن بدر
__________
بألفاظها، أو المراد خير ثلاث أنزلت في الكتب المذكورة واختص بها القرآن، "قال: قلت بلى يا رسول الله قال فأقرأني" سورة "قل هو الله أحد" سورة "قل أعوذ برب الفلق" سورة "قل أعوذ برب الناس" فليس المراد ما ذكر فقط، كما هو ظاهر جدا، "وكان عالما بكتاب الله"، وهو أحد من جمع القرآن، ورأيت مصحفه بمصر على غير تأليف مصحف عثمان.
قاله الحافظ أبو سعيد بن يونس، قال: وبالفقه "وبالفرائض فصيحا شاعرا مفوها" بضم الميم، وفتح الفاء وشد الواو، اسم مفعول من فوهه الله إذا أقدره على النطق ووسع فمه، "ولي مصر لمعاوية سنة أربع وأربعين، ثم صرفه"، عزله "بمسلمة"، بفتح الميم "ابن مخلد" بضم الميم، وفتح المعجمة، وشد اللام الصحابي الخزرجي، كما في الإصابة،
قال الكندي: جمع معاوية لعقبة في إمارة مصر بين الخارج والصلاة، فلما أراد عزله كتب إليه أن يغزو رودس، فلما سار استولى مسلمة، فبلغ عقبة، فقال: أغربة وعزلا، وذلك في سنة سبع وأربعين، وفي أخبار مصر للسيوطي، وولى معاوية عقبة سنة أربع وأربعين، فأقام إلى سنة سبع وأربعين، فعزله وولى معاوية بن خديج، فأقام إلى سنة خمسين فعزله، وولى مسلمة بن مخلد، وجمعت له مصر والمغرب، وهو أول وال جمع له ذلك انتهى.
وروى أبو نعيم عن مكحول ركب عقبة بن عامر إلى مسلمة وهو أمير على مصر، فقال: أتذكر يوم قال صلى الله عليه وسلم: "من علم من أيه سيئة فسترها ستره الله بها من النار يوم القيامة"، قال: نعم، قال: فلهذا جئتك، "وتوفي" عقبه "بها" بمصر "سنة ثمان وخمسين" في آخرها كما أرخه الواقدي وغيره، وهو الصحيح كما في الإصابة.
قال السخاوي: والمكان المنسوب له بقرافة مصر إنما هو بمنام رآه بعضهم بعد مدة متطاولة "ومنهم أسلع" بفتح الهمزة، وسكون المهملة، فلام فمهملة "ابن شريك" بن عوف الأعرجي بالراء، وصحف من إبدالها بالواو، "صاحب راحلته" الذي كان ينزل الرحل عنها ويضعه عليها.
"وفي الطبراني" نعته بالأشجع، ثم ساق حديثه من طريقه، إحداهما "عن الربيع بن بدر".(4/511)
قال: حدثني أبي عن أبيه عن رجل يقال له أسلع قال كنت أخدم النبي صلى الله عليه وسلم وأرحل له، فقال لي ذات يوم: "يا أسلع قم فارحل" فقلت: يا رسول الله أصابتني جنابة، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتاه جبريل بآية الصعيد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قم يا أسلع فتيمم"، قال: فقمت فتيممت ثم رحلت له ثم سار حتى مر بماء ثم قال لي: "يا أسلع، مس أو أمس هذا جلدك" قال: فأراني التيمم ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين، انتهى.
__________
التميمي السعدي أبي عللاء البصري متروك، "قال: حدثني أبي" بدر بن عمرو بن جراد الكوفي، مجهول "عن أبيه" عمرو بن جراد التميمي، مجهول أيضا، كما في التقريب، "عن رجل، يقال له أسلع، قال: كنت أخدم النبي صلى الله عليه وسلم وأرحل له، فقال لي ذات يوم" أي ساعة صاحبة يوم والمراد في يوم "يا أسلع قم، فارحل" فقلت يا رسول الله أصابتني جنابة، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأتاه جبريل بآية الصعيد" التي في النساء، كما في الطريق الثانية، وظاهر هذا وصريح الرواية الثانية أنه سبب النزول، لكن هذا ضعيف فلا يعارض حديث عائشة في الصحيحين أن سبب نزول الآية إقامته صلى الله عليه وسلم على التماس قلادتها التي سقطت منها في بعض أسفاره، فأصبحوا ولا ماء معهم وليسوا على ماء، فشكوا إلى أبي بكر فعاتبها، فأنزل الله آية التيمم، وعلى تقدير الصحة، فلا مانع من تعدد السبب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قم يا أسلع فتيمم"، قال: فقمت فتيممت، ثم رحلت له، ثم سار حتى مر بماء، فقال لي: "يا أسلع مس أو أمس" شك في اللفظ الذي، قاله من الراوي "هذا جلدك" أي اغتسل "قال" أسلع: "فأراني التيمم ضربة للوجه، وضربة لليدين إلى المرفقين" آخره عن قوله فتيممت؛ لأنه أراد ذكر مقاله صلى الله عليه وسلم متصلا، ثم بيان ما فهمه عنه بغير القول "انتهى".
الطريق الثاني ساقه الطبراني أيضا من طريق الهيتم بن زريق، عن أبيه، عن الأسلع بن شريك، قال: كنت أرحل ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم فأصابتني جناية في ليلة باردة، فأراد صلى الله عليه وسلم الرحلة، فكرهت أن أرحل ناقته، وأنا جنب وخشيت أن أغتسل بالماء البارد، فأموت، أو أمرض، فأمرت رجلا من الأنصار فرحلها ووضعت أحجارا فأسخنت بها ماء، فاغتسلت، ثم لحقت برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فقال: "يا أسلع ما لي أرى راحلتك تغيرت"؟ فقلت: يا رسول الله لم أرحلها رحلها رجل من الأنصار، قال: "ولم"؟ فقلت: إني أصابتني جنابة، فخشيت القر على نفسي، فأمرته فرحلها، ووضعت أحجارا فأسخنت ماء فاغتسلت به، فأنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} [النساء: 43] إلى قوله {عَفُوًّا غَفُورًا} . قال في الإصابة: وهذه القصة فيها شبه يسير بالأولى، وبينهما مغايرة ظاهرة، فحمل الطبراني(4/512)
ومنهم: سعد مولى أبي بكر، وقيل سعيد، ولم يثبت، وروى عنه ابن ماجه. ومنهم: أبو ذر جندب بن جنادة الغفاري، أسلم قديما،
__________
وجماعة الأمر على أن ذلك كله وقع لأسلع، ويؤيده أن ابن منده، قال في ترجمته أسلع بن شريك بن عوف الأعرجي، ثم روى ذلك عن بعض بني عم أسلع، وكذا، قال: خليفة في تاريخه: ولم أر في شيء من الطرق أنه أشجعي ولا يلتئم ذلك مع كونه من بني الأعرج بن كعب، كما قال خليفة، فلعله وقع فيه تصحيف أراد أن يقول الأعرجي، فقال الأشجعي.
وأما ابن عبد البر، ففرق بين القصتين، وجعلهما الرجلين، كل منهما اسمه أسلع، فالأول، قال إنه ابن الأسقع روى حديثه الربيع بن بدر، والثاني أسلع بن شريك الأعرجي التميمي، ونسبة الثاني إلى الأعرج تدل على أنه الأول، فإن الأول ثبت أنه أعرجي وما أدري من أين له أن اسم أبيه الأسقع، فإن ثبت، فلعله كان يسمى شريكا، ويلقب بالأسقع، ووقع في أصله بخطه الأعوجي بالواو، وكذا وقع التميمي، وتعقبهما الرشاطي، فقال: إنما هو بالراء، وقد قال ابن السكن، في الأعرجي أيضا، يقال له ابن شريك فهذا يدل على الوحدة انتهى، "ومنهم سعد" بسكون العين، "مولى أبي بكر" الصديق، ويقال فيه مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم لكونه كان يخدمه، "وقيل" اسمه "سعيد" بكسر العين وتحتية، "ولم يثبت" والأول أشهر وأصح، قال: ابن عبد البر "وروى عنه" النبي صلى الله عليه وسلم فذكر الحديث في قران التمر، وأشار إليه الترمذي، وله حديث آخر من هذا الوجه عند البغوي، قال فيه، عن مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم فظن ابن فتحون لهذا أنه مولاه الآتي، وليس كما ظن؛ لأنه إنما قيل في هذا مولاه، لكونه كان يخدمه، وأما الآتي، فاختلف في اسمه، كما في الإصابة، وقال في التقريب: قيل تفرد الحسن البصري بالرواية عنه، "ومنهم أبو ذر" الزاهد المشهور الصادق اللهجة، مختلف في اسمه واسم أبيه، والأصح المشهور أنه "جندب" بضم الجيم والدال، وفتحها "ابن جنادة" بضم الجيم ابن سكن، ولابن ماجه أنه صلى الله عليه وسلم قال لأبي ذريا جنيدب بالتصغير، وقيل اسمه برير بموحدة مصغرا ومكبرا، وقيل سكن بن جنادة بن قيس، وقيل في اسم أبيه عبد الله وعروة ويزيد، وسكن وفي اسم جدة سفيان "الغفاري" بمعجمة مكسورة وفاء نسبة إلى جده الأعلى غفار أبي القبيلة، "أسلم قديما" بمكة، وأعلن بإسلامه بين ظهرانيهم فضربوه، فأجاره العباس، ثم عاد من الغد لمثلها، فضربوه، فأنقذه العباس وقصة إسلامة في الصحيحين مطولة على صفتين بينهما اختلاف ظاهر يطول جلبه، ويقال: أسلم بعد أربعة وانصرف إلى بلاد قومه، فأقامه بها حتى هاجر صلى الله عليه وسلم ومضت بدر وأحد، ولم تتهيأ له الهجرة إلا بعد ذلك، وكان طويلا أسمر اللون نحيفا، روى أحمد وغيره عنه إني لأقربكم مجلسا من(4/513)
وتوفي بالربذة سنة إحدى وثلاثين، وصلى عليه عبد الله بن مسعود ثم مات بعده في ذلك اليوم، قاله ابن الأثير في "معرفة الصحابة" وفي التقريب للحافظ ابن حجر سنة اثنتين وثلاثين.
ومنهم مهاجر مولى أم سلمة.
ومنهم: حنين
__________
رسول الله يوم القيامة، وذلك أني سمعته صلى الله عليه وسلم يقول: "أقربكم مني مجلسا يوم القيامة من خرج من الدنيا كهيئته يوم تركته فيها، وأنه ما فيكم من أحد إلا وقد تسبب فيها بشيء غيري"، وقال صلى الله عليه وسلم: "ما أقلت الغبراء، ولا أظلت الخضراء أصدق لهجة من أبي ذر".
أخرجه أحمد وأبو داود وقال علي أبو ذر وعاء مليء علما، ثم أوكئ عليه، رواه أبو داود، ومناقبه كثيرة روى عن المصطفى، وعنه أنس وابن عباس وآخرون، "وتوفي بالربذة" بفتح الراء والموحدة والمعجمة بقرب المدينة "سنة إحدى وثلاثين" في قول الأقل، "وصلى عليه عبد الله بن مسعود" في قصة رويت بسند لا بأس به، وتقدمت في غزوة تبوك، "ثم مات بعده".
قال المدائني: صلى عليه، ثم قدم المدينة، فمات بعده بقليل، وقال ابن الأثير، "في ذلك اليوم" بناء على القول الأصح أن ابن مسعود مات بالمدينة.
"قاله" الحافظ عز الدين أبو الحسن علي "بن الأثير" محمد بن عبد الكريم بن عبد الواحد الشيباني، الجزري، المحدث، اللغوي، النسابة، المكمل العارف بالرجال وأسمائهم لا سيما الصحابة، وكانت داره مجمع الفضلاء، مات في شعبان سنة ثلاث وستمائة "في" كتابه أسد الغابة في "معرفة الصحابة" وهو أخو صاحب النهاية، وجامع الأصول.
"وفي التقريب" أي تقريب التهذيب في رجال الكتب الستة "للحافظ ابن حجر" مات أبو ذر "سنة اثنتين وثلاثين" قال في الإصابة، وعليه الأكثر، "ومنهم مهاجر مولى أم سلمة،" يكنى أبا حذيفة صحب النبي صلى الله عليه وسلم، وخدمه، وشهد فتح مصر، واختطبها دارا، ثم تحول إلى طحا، فسكنها إلى أن مات.
ذكره أبو سعيد بن يونس وأخرج الحسن بن سفيان، وابن السكن، ومحمد بن الربيع الجيزي، والطبري وابن منده من طريق بكير مولى عمرة، سمعت المهاجر يقول: خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يقل لشيء صنعته لم صنعته، ولا لشيء تركته، لم تركته، ورواه أبو عمر عنه بلفظ خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس سنين فذكره، "ومنهم حنين" بمهملة ونونين مصغر، قال(4/514)
والد عبد الله، مولى عباس، كان يخدم النبي صلى الله عليه وسلم، ثم وهبه لعمه العباس.
ومنهم: نعيم بن ربيعة الأسلمي.
ومنهم: أبو الحمراء مولاه صلى الله عليه وسلم وخادمه، واسمه هلال بن الحارث، أو ابن ظفر، نزل حمص وتوفي بها.
ومنهم: أبو السمح خادمه عليه الصلاة والسلام واسمه إياد.
__________
البخاري وأبو حاتم وابن حبان له صحبة، وهو "والد عبد الله" بن حنين الهاشمي، مولاهم المدني، الثقة المشهور من رجال الجميع، وحنين "مولى عباس" بن عبد المطلب، "كان يخدم النبي صلى الله عليه وسلم، ثم وهبه لعمه العباس".
روى سمويه والبخاري في التاريخ أن حنينا كان غلاما للنبي صلى الله عليه وسلم، فوهبه للعباس عمه، فأعتقه، فكان يخدم النبي صلى الله عليه وسلم، وكان إذا توضأ خرج بوضوئه إلى أصحابه، فحبسه حنين، فشكوه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: حبسته لأشربه، وروى يعقوب بن شيبة عن حنين كنا يوم خيبر، فجعل صلى الله عليه وسلم على الغنائم سعد بن أبي وقاص، وسعد بن عابدة، "ومنهم نعيم بن ربيعة" بن كعب "الأسلمي".
ذكره ابن منده في الصحابة، وقال: روى حديثه إبراهيم بن سعد، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن عمرو بن عطاء، عن نعيم بن ربيعة كنت أخدم النبي صلى الله عليه وسلم وتعقبه أبو نعيم بأن الصواب عن نعيم عن ربيعة وهو كما قال، وإنما وقع فيه تصحيف عن فصارت ابن، وقد أخرج الحديث المذكور أحمد في المسند من طريق محمد بن عمرو بن عطاء عن نعيم وهو المجمر عن ربيعة بن كعب الأسلمي، والحديث حديث ربيعة وهو مشهو عنه ويتعجب من خفاء ذلك على ابن منده مع شدة حفظه، وأصله في صحيح مسلم من وجه آخر عن ربيعة ذكره في الإصابة في القسم الرابع فيمن ذكره في الصحابة غلطا، ومنهم "أبو الحمراء" بحاء مهملة بلفط تأنيث أحمر "مولاه صلى الله عليه وسلم وخادمه، واسمه هلال بن الحارث، أو" هلال "ابن ظفر"، كذا ساوى بين القولين في التقريب، وصدر بالأول في الإصابة قائلا، ويقال ابن ظفر "نزل حمص وتوفي بها" وروى ابن المنذر وابن جرير عنه، قال: حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانية أشهر ليس من مرة يخرج إلى صلاة الغداة إلا أتى باب علي، فرفع يده على جنبتي الباب، ثم قال: "الصلاة الصلاة إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا".
ورواه الطبراني بلفظ رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة فذكره، وقد ورد أيضا من حديث أنس، وحسنه الترمذي وصححه الحاكم، "ومنهم أبو السمح" بفتح المهملة، وسكون الميم، فمهملة "خادمه" ومولاه "عليه الصلاة والسلام، واسمه إياد" كذا جزم به مع أن الإصابة قال:(4/515)
ومن النساء: بركة أم أيمن الحبشية، وهي والدة
__________
يقال: اسمه إياد.
وقال أبو زرعة: لا أعرف اسمه، ولا أعرف له غير حديث واحد، وأخرجه ابن خزيمة، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه والبغوي من طريق محل بن خليفة، حدثني أبو السمح، قال: كنت أخدم النبي صلى الله عليه وسلم، وكان إذا أراد أن يغتسل، قال: "ولني قفاك"، قال أبو عمر يقال: إنه قتل فلا ندري أين مات انتهى.
هذا وأسقط المصنف من الخدم أريد ذكره ابن منده في تاريخه، وأبو موسى المديني، وأسماء وأخاه هندا ابني حارثة الأسلمي، قال أبو هريرة: ما كنت أرى هندا وأسماء ابني حارثة إلا خادمين لرسول الله صلى الله عليه وسلم من طول لزومهما بابه وخدمتهما إياه.
رواه ابن سعد، والحاكم، والأسود والحدرجان بن مالك الأسدي اليماني خدماه صلى الله عليه وسلم وصحباه.
رواه ابن منده والبراء بن مالك بن النضر أخاه أنس لأبيه كان يرحل له صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره، رواه الحاكم، وبكرا مكبر، ويقال بكير بن الشداخ الليثي، كان يخدمه صلى الله عليه وسلم، وهو غلام، فلما احتلم أعلمه، فدعا له.
رواه ابن منده وثعلبة بن عبد الرحمن الأنصاري، كان يخدمه صلى الله عليه وسلم، فبعثه في حاجة، فمر بباب أنصاري، فرأى امرأته تغتسل فكرر النظر إليها، ثم خاف أن ينزل الوحي، فهرب على وجهه، فأتى جبالا بين مكة والمدينة، فدخلها، ففقده صلى الله عليه وسلم أربعين يوما، فنزل جبريل، فقال: إن الهارب بين الجبال يتعوذ بالله من النار، فأرسل عمر وسلمان فأتياه به، فمرض، ومات خوفا من الله.
رواه ابن منده وابن شاهين وأبو نعيم، وجديعا بجيم مصغر ابن بدير تصغير بدر المرادي، ثم الكعبي ذكره ابن يونس، وحبة بمهملة وموحدة ابن خالد الخزاعي، حديثه في ابن ماجه وحسان الأسلمي.
ذكر الطبري أنه كان يسوق به صلى الله عليه وسلم هو وخالد بن يسار الغفاري ذو مخمر بالميم، ويقال بموحدة ابن أخي النجاشي، أو ابن أخته بعثه، ليخدم النبي صلى الله عليه وسلم نيابة عنه، وحديثه في أبي داود وغيره، وسابقا خادم النبي صلى الله عليه وسلم ذكره خليفة، وكناه أبا سلام، وهو وهم إنما لحديث عن ساق بن ناجية عن أبي سلام خادم النبي صلى الله عليه وسلم، قاله ابن عبد البر وغيره، وهو بفتح المهملة وشد اللام، وسالما الهاشمي ذكره العسكري، ويمكن أن يعد غير هؤلاء، فقد خدمه الصديق بنفسه في سفر الهجرة، وقاد به ابن رواحة ناقته في العمرة، "ومن النساء بركة أم أيمن الحبشية، وهي والدة(4/516)
أسامة بن زيد مات في خلافة عثمان رضي الله عنه.
وخولة جدة حفص.
وسلمى أم رافع، زوج أبي رافع.
__________
أسامة بن زيد" رضي الله عنهم أجمعين "ماتت في" أول "خلافة عثمان رضي الله عنه" بعد عمر بعشرين يوما، قاله ابن منده وغيره وتقدمت قريبا.
"وخولة جدة حفص" بن سعيد الذي روى عن أمه عنها، وكانت خادم النبي صلى الله عليه وسلم أن جروا دخل البيت، فدخل تحت السرير، ومكث ثلاثا لا ينزل عليه الوحي، فقال: "يا خولة ما حدث في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل لا يأتيني"، فقلت: والله ما علمت فأخذ برده، فلبسه وخرج، فقلت: لو هيأت البيت، فكنسته، فإذا بجرو ميت، فأخذته، فألقيته، فجاء صلى الله عليه وسلم ترعد لحيته، وكان إذا أتاه الوحي أخذته الرعدة، فقال: "يا خولة دثريني"، فأنزل الله تعالى: {وَالضُّحَى، وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} الآية، أخرجه ابن أبي شيبة والطبراني، قال أبو عمر: ليس إسناده يحتج به، قال الحافظ: قصة إبطاء الوحي بسبب الجرو مشهورة، لكن كونها سبب نزول الآية غريب، بل شاذ مردود بما في الصحيحين، وغيرهما، أنه اشتكى صلى الله عليه وسلم، فلم يقم ليلة، أو ليلتين، فأتته امرأة فقالت: يا محمد ما أري شيطانك إلا قد تركك، فأنزل الله والضحى السورة.
"وسلمى" بفتح فسكون "أم رافع زوج أبي رافع" يقال إنها مولاة صفية، ويقال لها أيضا مولاة النبي، وخادم النبي صلى الله عليه وسلم.
روى الترمذي عن علي بن عبد الله بن رافع عن جدته، وكانت تخدم النبي صلى الله عليه وسلم، قالت: ما كان يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم قرحة إلا أمرني أن أضع عليها الحناء.
وروى أحمد عن عائشة، جاءت سلمى امرأة أبي رافع، مولى النبي صلى الله عليه تستأذنه على أبي رافع وقالت: إنه يضربني، فقال: "ما لك ولها"؟، قال: إنها تؤذيني يا رسول الله، قال: "بماذا آذيتيه يا سلمى"؟، قالت: ما آذيته بشيء، ولكنه أحدث، وهو يصلي، فقلت: يا أبا رافع إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمر المسلمين إذا خرج من أحدهم ريح أن يتوضأ، فقام يضربني، فجعل صلى الله عليه وسلم، يضحك، ويقول: "يا أبا رافع لم تأمرك إلا بخير".
قال في الإصابة وفي طبقات ابن سعد في قصة تزويج زينب بنت جحش، فقال: "من يذهب إلى زينب يبشرها أن الله زوجنيها"، فخرجت سلمى خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم تشتد، فحدثتها بذلك، وأظنها أم رافع هذه.
قال: وروى ابن شاهين عن سلمى خادم النبي صلى الله عليه وسلم أن أزواجه كن يجعلن رءوسهن أربعة قرون، فإذا اغتسلن جمعنها، وسلمى هي أم رافع ظنها ابن شاهين رجلا، وذكر أن الراوي، قال مرة(4/517)
وميمونة بنت سعد.
وأم عياش مولاة رقية بنت النبي صلى الله عليه وسلم.
وكان يضرب الأعناق بين يديه، علي بن أبي طالب، والزبير بن العوام، والمقداد بن عمرو، ومحمد بن مسلمة، وعاصم بن ثابت بن أبي الأقلح،
__________
عن سالم خادم النبي، فكأنه تغير من سلمى.
"وميمونة بنت سعد" بسكون العين ويقال سعيد بكسرها، وياء، كانت تخدمه صلى الله عليه وسلم، وروى عنه، وروى لها أصحاب السنن الأربعة.
"وأم عياش" بعين مهملة، ثم تحتية، ثم شين معجمة، كما اقتصر عليه في التبصير والنور زاد الشامي، وقيل بموحدة ومهملة، "مولاة رقية بنت النبي صلى الله عليه وسلم" روى حديثها حفيدها عنبسة بن سعيد بن أبي عياش عن جدته أم أبيه أم عياش، وكانت أمه لرقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: كنت أوضئ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا قائمة، وهو قاعد.
أخرجه ابن ماجه، وروى ابن منده عن حفيدها، عنها: رأيت رسول الله حتى شاربه، وما رأيته يخضب حتى مات، ومن الخادمات أيضا رزينة براء، ثم زاي خادمه ومولاة زوجه صفية، كما في الإصابة، وصفية خادم رسول الله، روت عنها أمة الله بنت رزينة، خبرا، مرفوعا، في الكسوف، قاله أبو عمر ومارية جدة المثني بن صالح لها حديث عند أهل الكوفة، قالت صافحت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم أر كفا ألين من كفه، ومارية أم الرباب حديثها عند أهل البصرة، قالت: طأطأت للنبي صلى الله عليه وسلم حتى صعد حائطا ليلة فر من المشركين.
أخرجهما ابن منده وغيره، قال أبو عمر تبعا لابن السكن: لا أدري أهي التي قبلها، أم لا، وقال أبو نعيم: أفردهما ابن منده، وهما عنده واحدة، وتوقف فيه الحافظ، ومال إلى أنهما اثنتان، وذكر اليعمري أمة الله وعزاه الشامي للإصابة، ولم أره فيها، فالله أعلم نعم فيها أميمة، قال أبو عمر: خدمت النبي صلى الله عليه وسلم وحديثها عند أهل الشام، أنها كانت توضئ النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله إني أريد اللحوق بأهلي فأوصني، قال: "لا تشركي بالله شيئا وإن قطعت وحرقت".
الحديث أخرجه ابن السكن والحسن بن سفيان وغيرهما، "وكان" كما أخرجه الطبراني برجال الصحيح، عن أنس "يضرب الأعناق بين يديه على بن أبي طالب" أبو الحسن أمير المؤمنين الهاشمي، "والزبير بن العوام" الحواري "والمقداد بن عمرو" المعروف بابن الأسود الكندي، "ومحمد بن مسلمة"، الأنصاري، "وعاصم بن ثابت بن أبي الأقلح"، بالقاف والمهملة، الأنصاري المستشهد في بعث الرجيع.(4/518)
والضحاك بن سفيان.
وكان قيس بن سعد بن عبادة بين يديه عليه الصلاة والسلام بمنزلة صاحب الشرطة.
وكان بلال رضي الله عنه على نفقاته.
ومعيقيب بن أبي فاطمة الدوسي على خاتمه.
وابن مسعود على سواكه ونعله، كما تقدم.
وأبو رافع واسمه أسلم -وقيل غير ذلك- قبطي، كان على ثقله.
وأذن عليه في المشربة لعمر بن الخطاب رضي الله عنه رباح النوبي.
وأما حراسه: فمنهم سعد بن معاذ بن النعمان بن
__________
زاد في رواية الطبراني وأبو سعيد والمغيرة بن شعبة وقيس، قال "و" كان "الضحاك بن سفيان" بن عوف بن أبي بكر بن كلاب الكلابي سياف رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال الواقدي: كان شجاعا بعد بمائة فارس، "وكان قيس بن سعد بن عبادة" الخزرجي "بين يديه عليه الصلاة والسلام بمنزلة صاحب الشرطة"، بضم المعجمة والراء، وقد تفتح الراء الواحد شرطي، أي بمنزلة كبيرهم وهم أعوان الولاة، سموا بذلك؛ لأنهم الأشداء الأقوياء من الجند، وقيل لأنهم نخبة الجند وشرطة كل شيء خياره، وقيل لأن لهم علامات يعرفان بها.
وهذا الحديث كله رواه الطبراني، كما علمت، وروى القطعة الأخيرة منه البخاري عن أنس، قال: إن قيس بن سعد كان يكون بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم بمنزلة صاحب الشرطة من الأمير، "وكان بلال رضي الله عنه على نفقاته" عليه السلام، قال في الشامية: كان يلي أمر النفقة على العيال، ومعه حاصل ما يكون من المال، "ومعيقيب" بكسر القاف، فتحتية، فموحدة مصغر، ويقال معيقب بلا ياء ثانية "ابن أبي فاطمة الدوسي" أسلم قديما وشهد المشاهد، وهاجر الهجرتين يأتي في كتابه "على خاتمه وابن مسعود على سواكه ونعله" وغيرهما، "كما تقدم" قريبا، "وأبو رافع واسمه أسلم" على المشهور، "وقيل غير ذلك" فقيل إبراهيم، وسنان، ويسار، وصالح، وعبد الرحمن، وقزمان، ويزيد، وثابت، وهرمز فتلك عشرة كاملة "قبطي" بالقاف، "كان على ثقله" بفتح المثلثة، وكسرها، وتح القاف، أي أمتعته، "وأذن عليه" صلى الله عليه وسلم "في المشربة" بضم الراء، ويجوز فتحها الغرفة العالية التي جلس فيها حين اعتزل نساءه شهرا.
ومرت القصة "لعمر بن الخطاب رضي الله عنه" حين استأذن في الدخول "رباح النوبي،" كما سماه مسلم في روايته، وهو فاعل إذن، "وأما حراسه، فمنهم سعد بن معاذ بن النعمان بن(4/519)
امرئ القيس، سيد الأوس، أسلم بين العقبتين على يد مصعب بن عمير، وشهد بدرا واحدا والخندق، فرمى فيه بسهم عاش شهرا ثم انتقض جرحه فمات. حرس النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر حين نام في العريش.
ومنهم: محمد بن مسلمة الأنصاري، حرسه يوم أحد.
ومنهم: الزبير بن العوام حرسه يوم الخندق.
ومنهم: بلال، المؤذن، مولى أبي بكر رضي الله عنه، أسلم قديما، وعذب في الله، وسكن الشام أخيرا،
__________
امرئ القيس" بن زيد بن عبد الأشهل بن جشم بن الحارث بن الخزرج بن المسيب بن مالك بن الأوس الأنصاري الأوسي الأشهلي، "سيد الأوس، أسلم بين العقبتين" الثانية والثالثة "على يد مصعب بن عمير" حين بعثه صلى الله عليه وسلم إليهم، ليعلمهم القرآن، فأسلم على يده خلق كثير من الأنصار، منهم هذا السيد، وأسيد بن حضير في يوم واحد، ثم ذهب سعد ومعه أسيد إلى بني عبد الأشهل قومه، فقال سعد: كيف تعلمون أمري فيكم، قالوا: سيدنا وأفضلنا، قال فإن كلام رجالكم ونسائكم على حرام حتى تؤمنوا بالله ورسوله، فوالله ما أمسى فيهم رجل، ولا امرأة إلا مسلم ومسلمة.
ذكره ابن إسحاق "وشهد بدرا وأحدا والخندق" باتفاق في الثلاثة، "فرمى فيه بسهم" أصاب أكحله "عاش" بعده "شهرا" حتى حكم في قريظة، وأجيبت دعوته في ذلك، وأشرف جرحه على البرء، "ثم انتقض" بقاف وبمعجمة تغير "جرحه" بسبب عنز مرت به، فأصاب ظلفها موضعه، "فمات" رضي الله عنه، ومر شيء من فضائله في غزوة قريظة وقبلها في الهجرة "حرس النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر حين نام في العريش" كما جزم به اليعمري تبعا لغيره، وكان على باب العريش متوشحا سيفه في نفر من الأنصار والصديق مع المصطفى في داخل العريش، كما مر في الغزوة، "ومنهم محمد بن مسلمة الأنصاري حرسه يوم أحد".
زاد في بعض نسخ الشامية يوما واحدا، وكان مراده يوم أحد كله إذ هو يوم واحد. "ومنهم الزبير بن العوام حرسه يوم الخندق" يحتمل حقيقة اليوم، ويحتمل زمن الخندق لبقائه أياما، "ومنهم بلال المؤذن مولى أبي بكر رضي الله عنه، أسلم قديما وعذب في الله" كان لبعض بني جمح، وكان أمية بن خلفة يخرجه إذا حميت الظهيرة، فيطرحه على ظهره في بطحاء مكة، ثم يأمر بصخرة عظيمة، فتلقى على صدره، ثم يقول: لا تزال كذلك حتى تموت، أو تكفر بمحمد، فيقول: أحد أحد فمر به أبو بكر، فاشتراه، قيل بخمس أواق فضة، وقيل بعبد أسود، ويحتمل أنه اشتراه بها، فأعتقه فلزم النبي صلى الله عليه وسلم وشهد معه جميع المشاهد، "وسكن الشام أخيرا".(4/520)
ولا عقب له، وتأتي وفاته إن شاء الله تعالى، وكان يحرس النبي صلى الله عليه وسلم بوادي القرى.
وكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يوم بدر في العريش شاهرا سيفه على رأسه صلى الله عليه وسلم لئلا يصل إليه أحد من المشركين. رواه ابن السمان في الموافقة.
ووقف المغيرة بن شعبة على رأسه بالسيف يوم الحديبية.
وكان يحرسه عليه الصلاة والسلام أيضا عباد بن بشر.
فلما نزلت {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67] ترك ذلك.
__________
لقوله لأبي بكر، وقد منعه من الخروج لا أريد المدينة بغير رسول الله صلى الله عليه وإني رأيت أفضل عمل المؤمن الجهاد، فأردت أن أرابط في سبيل الله، فقال أبو بكر: أنشدك الله وحقي، فأقام معه بلال حتى توفي، فأذن له عمر، فتوجه إلى الشام مجاهدا حتى مات، كما في طبقات ابن سعد، "ولا عقب له" على المنصوص لا، كما يزعم بعض أن له عقبا، "وتأتي وفاته إن شاء الله تعالى" في المؤذنين، "وكان يحرس النبي صلى الله عليه وسلم بوادي القرى" هو وسعد بن أبي وقاص وذكوان بن عبد قيس، كما في العيون، "وكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يوم بدر في العريش شاهرا سيفه على رأسه صلى الله عليه وسلم لئلا يصل إليه أحد من المشركين" كأنه لم يعده من الحرس؛ لأن فعله من نفسه خوفا وشفقة عليه صلى الله عليه وسلم ولم يقصده منه، ولأنه تقيد فيه بلفظ الرواية المفادة بقوله: "رواه ابن السمان في الموافقة".
قال البرهان: ورأيت في سيرة مطولة جدا أنه حرسه في ليلة من ليالي الخندق أبو بكر وعمر، "ووقف المغيرة بن شعبة على رأسه بالسيف يوم الحديبية" كما في الصحيح، وعدل عن نسق ما قبله لفعله من نفسه أيضا، وكان يحرسه عليه الصلاة والسلام أيضا عباد بن بشر" عبر بكان، مع المضارع المفيد التكرار إشارة إلى تكرر حراسته، "فلما نزلت {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} ، ترك ذلك صلى الله عليه وسلم، قالت عائشة: كان صلى الله عليه وسلم يحرس حتى نزلت هذه الآية، {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} ، فأخرج رأسه من القبة. فقال: "يا أيها الناس انصرفوا فقد عصمني الله".
رواه الترمذي والحاكم وعن أبي سعيد كان العباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمن يحرسه، فلما نزلت ترك الحرس وعن عصمة بن مالك الخطمي، كنا نحرس رسول الله صلى الله عليه وسلم بالليل، فلما نزلت ترك الحرس رواهما الطبراني، وورد أيضا من حديث أبي ذر عند أبي نعيم، ولم يرد من حديث أنس، كما زعم البيضاوي تبعا للكشاف، وقد نبه عليه الطيبي والشيخ سعد الدين والسيوطي، وممن حرسه أيضا الأدرع السلمي.(4/521)
وأما مواليه صلى الله عليه وسلم:
فمنهم أسامة وأبوه زيد بن حارثة، حب رسول الله صلى الله عليه وسلم،
__________
روى ابن ماجه عنه، قال: جئت أحرس النبي صلى الله عليه وسلم فإذا رجل ميت، فخرج صلى الله عليه وسلم، فقيل: هذا عبد الله ذو البجادين الحديث، وقد رويت هذه القصة من طريق زيد بن أسلم عن ابن الأدرع فالله أعلم.
ذكره في الإصابة في حرف الألف، وقال: في حرف السين سلمة بن الأدرع، هو ابن ذكوان بن الأدرع روى ابن منده وغيره عن زيد بن أسلم عن سلمة بن ذكوان، قال: كنت أحرس رسول الله ذات ليلة، فخرج لحاجته، فانطلقت معه، فمر برجل في المسجد يصلي رافعا صوته الحديث.
وأخرجه من وجه آخر عن زيد، قال: قال ابن الأدرع فذكره انتهى، وأبو قتادة الحارث بن ربعي على الأشهر، روى الطبراني في الصغير عنه أنه حرس النبي صلى الله عليه وسلم ليلة بدر، فقال: اللهم احفظ أبا قتادة، كما حفظ نبيك هذه الليلة، قال في الإصابة: وهو غلط فإنه لم يشهد بدرا، والذي في مسلم عنه كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره إذ مال عن راحلته، فدعمته، فاستيقظ، فقال: "حفظك الله، كما حفظت نبيه" انتهى، وأبو ريحانة الأنصاري حرسه في سفر.
رواه أحمد وأبو أيوب ليلة دخوله على صفية، وابن مسعود ومرثد بن أبي مرثد الغنوي، وحذيفة، وحشرم بن الحباب، ومحجن بن الأدرع الأسلمي على ما ذكره الشامي والبرهان، وقال: إن الباب قابل للزيادة فاكشف عنه.
"وأما مواليه صلى الله عليه وسلم" قال النووي: اعلم أن هؤلاء الموالي لم يكونوا موجودين في وقت واحد للنبي صلى الله عليه وسلم، بل كان شخص منهم في وقت، "فمنهم أسامة" أبو محمد، ويقال أبو زيد الحب بن الحب، قال ابن سعد: ولد في الإسلام ومات صلى صلى الله عليه وسلم وله عشرون سنة، وقال ابن أبي خيثمة ثمان عشرة، وفي البخاري وغيره أنه صلى الله عليه وسلم كان يأخذ أسامة والحسن، فيقول: "اللهم أحبهما فإني أحبهما"، وفيه أيضا من وجه آخر عن أسامة أن كان صلى الله عليه وسلم ليأخذني فيضعني على فخذه ويضع على الفخذ الأخرى الحسن، ثم يضمهما، ثم يقول: "اللهم ارحمهما فإني أرحمهما"، وفضائله كثيرة، وأحاديثه شهيرة.
روى عنه أبو هريرة وابن عباس ومن كبار التابعين أبو عثمان النهدي وأبو وائل وآخرون وعد من الموالي؛ لأن أبويه معا منهم، "وأبوه زيد بن حارثة" بن شراحيل بن كعب الكلبي "حب" بكسر المهملة، أي محبوب "رسول الله صلى الله عليه وسلم" أحد السابقين حتى قيل: إنه أول من أسلم، وليس في القرآن تسمية أحد باسمه إلا هو باتفاق، ثم السجل إن ثبت، وقال صلى الله عليه وسلم فيه: "وايم الله إن كان(4/522)
أعتقه وزوجه مولاته أم أيمن واسمها بركة فولدت له أسامة.
وكان زيد قد أسر في الجاهلية، فاشتراه حكيم بن حزام لعمته خديجة بنت خويلد زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستوهبه النبي صلى الله عليه وسلم منها، ذكر قصته محمد بن إسحاق في السيرة، وأن أباه وعمه..
__________
لخليقا للإمارة وإن كان لمن أحب الناس إلي، وإن هذا -يعني ابنه- لمن أحب الناس إلي بعد".
رواه البخاري، وقال صلى الله عليه وسلم: "يا زيدنا مولاي ومني وإلي وأحب الناس إلي"، رواه ابن سعد بإسناد حسن.
وعن ابن عمر فرض عمر لأسامة أكثر مما فرض لي، فسألته، فقال: إنه كان أحب إلى رسول الله منك، وأبوه أحب إليه من أبيك صحيح، ولزيد رواية في الصحيح قصة زينب روى عنه أنس والبراء وابن عباس، وأسامة ابنه، وأرسل عنه جماعة من التابعين "أعتقه وزوجه مولاته أم أيمن".
روى ابن الكلبي عن ابن عباس، لما تبنى صلى الله عليه وسلم زيدا زوجه أم أيمن، ثم زوجه زينب بنت جحش، فلما طلقها زوجه أم كلثوم بنت عقبة، كما في الإصابة، فلم يصب من، قال بالحدس، أنه تزوج بركة بعد طلاقه زينب، "واسمها بركة" بفتح الموحدة والراء، "فولدت له أسامة" بمكة بعد البعثة بثلاث على قول ابن سعد، أو بخمس على قول ابن أبي خيثمة، "وكان زيد قد أسر في الجاهلية".
قال ابن الكلبي: وذلك لما خرجت به أمه سعدى بنت ثعلبة من بني معن من طيء لتزيره أهلها، فأصابته خيل بني القين، لما أغارت على بني معن، فأتوا به سوق عكاظ، فعرضوه للبيع، وهو غلام يفع، وفي الروض ابن ثمانية أعوام، "فاشتراه حكيم بن حزام" بالزاي بأربعمائة درهم "لعمته خديجة بن خويلد زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستوهبه النبي صلى الله عليه وسلم منها" فوهبته له فأعتقه.
"ذكر قصته محمد بن إسحاق في السيرة" بنحو ذلك عند أول من أسلم، فقال: كان حكيم قدم من الشام برقيق فيهم زيد، فدخلت عليه عمته خديجة، وهي يومئذ عند رسول الله، فقال لها: اختاري يا عمة، أي هؤلاء الغلمان شئت، فهو لك، فاختارت زيدا، فأخذته فرآه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستوهبه، فوهبته له فأعتقه، وتبناه، وذلك قبل أن يوحى إليه، وهذا بظاهره مخالف لما قبله، فيحتمل أنه أتى من الشام برقيق، فمر على سوق عكاظ بالحجاز قبل أن يدخل مكة، فرأى زيدا، فاشتراه، ودخل بالجميع، فعرضهم عليها، "و" ذكر في القصة "أن أباه وعمه" كعباء بعد جزع أبيه شديدا وقوله:
بكيت على زيد ولم أدر ما فعل ... أحي فيرجى أم أتى دونه الأجل(4/523)
أتيا مكة فوجداه، فطلبا أن يفدياه، فخيره النبي صلى الله عليه وسلم بين أن يدفعه لهما أو يبقي عنده فاختاره أن يبقي عنده عليه الصلاة والسلام،
__________
في أبيات ذكرها، وذكر ابن الكلبي أن ناسا من كلب حجوا، فرأوا زيدا، فعرفوه وعرفهم، فقال: أبلغوا أهلي هذه الأبيات:
أحسن إلى أهلي وإن كنت نائيا ... فإني قعيد البيت بين المشاعر
فكفوا عن الوجد الذي قد شجاكم ... ولا تعملوا في الأرض نص الأباعر
فإني بحمد الله في خير أسرة ... كرام معد كابرا بعد كابر
فلما بلغوه "أتيا مكة، فوجداه فطلبا أن يفدياه"، وعند الكلبي، فقدما مكة فسألا عنه صلى الله عليه وسلم، فقيل: هو في المسجد فدخلا عليه، فقالا: يابن عبد المطلب يابن سيد قومه أنتم أهل حرم الله تفكون العاني، وتطعمون الأسير جئنا في ولدنا عبدك، فآمنن علينا، وأحسن في فدائه، فإنا سنرفع لك، فقال: "أوغير ذلك ادعوه، فخيروه، فإن اختاركم، فهو لكم بغير فداء، وإن اختارني، فوالله ما أنا بالذي اختار على من اختارني فداء"، قالوا: زدتنا على النصف، فدعاه "فخيره النبي صلى الله عليه وسلم بين أن يدفعه لهما، أو يبقي عنده، فاختار أن يبقى عنده عليه الصلاة والسلام".
وعند الكلبي، فقال: ما أنا بالذي أختار عليك أحدا أنت مني بمكان الأب والعم، فقالا: ويحك يا زيد أتختار العبودية على الحرية، وعلى أبيك وعمك، وأهل بيتك، قال: نعم إني قد رأيت من هذا الرجل شيئا ما أنا بالذي أختار عليه أحدا، فلما رأى صلى الله عليه وسلم ذلك قام إلى الحجر، فقال: "اشهدوا أن زيدا ابني، أرثه ويرثني"، فطابت نفس أبيه وعمه، وانصرفا فدعي زيد بن محمد حتى جاء الله بالإسلام، وعند ابن إسحاق، فلم يزل عنده حتى بعثه الله، فصدقه وأسلم، فاتفق ابن الكلبي، وابن إسحاق على أن هذه القصة كانت قبل البعثة، وبه جزم في الروض.
وروى ابن منده في المعرفة وتمام في فوائده عن زيد، عن أبيه حارثة أن النبي صلى الله عليه وسلم دعاه إلى الإسلام، فأسلم، قال ابن منده، غريب لا نعرفه إلا من هذه الوجه.
قال في الإصابة: والمحفوظ أن حارثة قدم مكة في طلبه، فخيره صلى الله عليه وسلم، فاختاره ولم أر لحارثة ذكرا بإسلام إلا من هذا الوجه انتهى، قلت: إن صح الخبر، فهذه قدمة ثانية قدمها حارثة بعد البعثة لتفقد ولده، فهداه الله، فأسلم بدليل ذكرهم كلهم له في الصحابة بهذا الخبر، وإن استغربوه وسلمة ختامهم في الإصابة، فأورده في القسم الأول دون الرابع، وأما قوله رحمه الله في فتح الباري تلو ما ساقه المصنف بحروفه ما لفظه، وقد أخرج ابن منده وتمام بإسناد مستغرب على آل زيد بن حارثة، أن حارثة أسلم يومئذ انتهى، يعني يوم قدما في فدائه في الجاهلية، ففيه أنه(4/524)
وفي رواية الترمذي فقال: يا رسول الله، لا أختار عليك أحدا.
واستشهد زيد في غزوة مؤته، ومات ابنه أسامة بالمدينة أو بوادي القرى سنة أربع وخمسين.
ومنهم: ثوبان، لازم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومات بحمص سنة أربع وخمسين.
وأبو كبشة.
__________
ليس في الحديث يومئذ لا لفظا، ولا معنى، كما ذكره، وهو بلفظه في الإصابة، كما رأيت، فكأنه كتبه في الفتح دون مراجعة على عجل.
"وفي رواية الترمذي" وأبي يعلى من حديث جبلة، بفتح الجيم والموحدة، ابن حارثة، الصحابي، وهو أخو زيد وأكبر منه سنا، قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: أرسل معي أخي زيدا، فقال: "ها هو ذا بين يديك إن ذهب، فلست أمنعه"، "فقال زيد: يا رسول الله لا أختار أقدم وأفضل "عليك أحدا" قال جبلة: فوجدت قول أخي خيرا من قولي، وهذا كما هو ظاهر، قاله أخوه في قدمة قدمها بعد الإسلام، وهو صغير كيف يختار فراقه بعدهما، قال ابن عمر: ما كنا ندعو زيد بن حارثة إلا زيد بن محمد حتى نزلت أدعوهم لآبائهم أخرجه البخاري، ويقال إن النبي صلى الله عليه وسلم سماه زيدا لمحبة قريش في هذا الاسم، وهو اسم قصي، "واستشهد زيد" وقد شهد بدرا وما بعدها "في غزوة مؤتة" وهو أمير سنة ثمان، كما مر، "ومات ابنه أسامة بالمدينة" وقد كان اعتزل الفتن بعد عثمان، فسكن المزة من أعمال دمشق، ثم رجع، فسكن وادي القرى ثم نزل المدينة فمات بالجرف بها، "أو بوادي القرى" بقربها "سنة أربع وخمسين" كما صححه ابن عبد البر، وقيل بعدها "ومنهم ثوبان" بن بجدد بضم الموحدة، وسكون الجيم ومهملتين، أولاهما مضمومة يقال: إنه من العرب من سعد بن حمير اشتراه، ثم أعتقه صلى الله عليه وسلم وخيره إن شاء أن يرجع إلى قومه، وإن شاء يقيم عنده، فأقام على ولائه، ولازم رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يفارقه حضرا، ولا سفرا إلى أن مات فتحول ثوبان إلى الرملة، ثم حمص، "ومات بحمص سنة أربع وخمسين" قاله ابن سعد وغيره.
وروى ابن السكن عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا لأهله فقلت: أنا من أهل البيت، فقال في الثالثة: "نعم، ما لم تقم على باب سدة، أو تأتي أميرا فتسأله".
وروى أبو داود عنه، قال صلى الله عليه وسلم: "من يتكفل لي أن لا يسأل الناس، وأتكفل له بالجنة"، فقال ثوبان: أنا، فكان لا يسأل أحدا شيئا، "و" منهم "أبو كبشة" فموحدة، فمعجمة اختلف(4/525)
أوس، ويقال سليم من مولدي مكة وشهد بدرا.
وشقران -بضم الشين المعجمة وسكون القاف- واسمه صالح الحبشي، ويقال: فارسي، شهد بدرا وهو مملوك، ثم عتق، قاله الحافظ ابن حجر وقال: أظنه مات في خلافة عثمان.
ورباح -وهو بفتح الراء والموحدة- الأسود، وكان يأذن عليه أحيانا إذا انفرد وهو الذي أذن لعمر بن الخطاب في المشربة، كما تقدم.
ويسار، الراعي، وهو الذي قتله العرنيون.
__________
في اسمه، فقال: ابن حبان "أوس، ويقال سليم" بالتصغير، قاله خليفة، وقيل سلمة، حكاه ابن حبان أيضا "من مولدي مكة" الذي في الإصابة.
قال أبو أحمد الحاكم: من مولدي أرض دوس، ومات أول يوم استخلف عمر، وكذا ذكر ابن سعد وفاته، وقال: كانت يوم الثلاثاء ثامن جمادى الآخر سنة ثلاث عشرة، "وشهد بدرا" كما ذكره في البدريين ابن عقبة، وابن إسحاق، "وشقران بضم الشين المعجمة، وسكون القاف" فراء، فألف، فنون، "واسمه صالح" بن عدي "الحبشي" في قول مصعب، "ويقال فارسي" يقال أهداه عبد الرحمن بن عوف له صلى الله الله وسلم، ويقال: اشتراه منه، فأعتقه بعد بدر، ويقال ورثه صلى الله عليه وسلم من أبيه هو وأم أيمن.
ذكره البغوي عن زيد بن أخرم سمعت ابن داود، يعني عبد الله الحريثي يقول ذلك، وهو يرد القولين قبله، كذا في الإصابة "شهد بدرا، وهو مملوك"، فلم يسهم له لكن كان على الأسرى، فكل من افتدى أسيرا وهب له شيئا، فحصل له أكثر مما حصل لمن شهد القسم، قاله ابن سعد، "ثم عتق" بعد بدر، "قاله الحافظ ابن حجر" في التقريب، "وقال" فيه "أظنه مات في خلافة عثمان" لكنه لم يجزم بأن اسمه صالح، كما صنع المصنف، بل قال: قيل وكذا في الإصابة.
وروى الترمذي عنه أنا والله طرحت القطيفة تحت رسول الله صلى الله عليه وسلم في القبر.
قال البغوي: سكن المدينة، ويقال كانت له دار بالبصرة. "ورباح، وهو بفتح الراء والموحدة" الخفيفة "الأسود" النوبي، "وكان يأذن عليه أحيانا إذا انفرد، وهو الذي أذن لعمر بن الخطاب" بالدخول "في المشربة، كما تقدم" قريبا.
قال البلاذري: كان يستأذن عليه، ثم صيره بلقاحه بعد قتل يسار، وذكر عمر بن شبة: اتخذ رباح مؤذن النبي صلى الله عليه وسلم دارا على زاوية الدار اليمانية، فقال صلى الله عليه وسلم: "يا رباح أدن منزلك، فإني أخاف عليك السبع"، "ويسار" بتحتية، ثم مهملة خفيفة النوبي "الراعي، وهو الذي قتله العرنيون"(4/526)
وزيد وهو أبو يسار -وليس زيد بن حارثة والد أسامة- ذكر ابن الأثير.
ومدعم -بكسر الميم وفتح العين المهملة- عبد أسود، كان لرفاعة بن زيد الضبيبي -بضم الضاد المعجمة وفتح الموحدة الأولى- فأهداه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأبو رافع، واسمه: أسلم.
__________
ومثلوا به سنة ست اتفاقا، وفي الشهر خلاف تقدم مع القصة، وقع ذكره في الصحيحين غير مسمى عن أنس، وسماه سلمة بن الأكوع، قال: كان للنبي صلى الله عليه وسلم غلام، يقال له يسار، فنظر إليه يحسن الصلاة، فأعتقه وبعثه في لقاح له بالحرة، فذكر الحديث.
أخرجه الطبراني قال في الإصابة: ويحتمل أن يكون هو الذي أصابه في غزوة بني ثعلبة، لكنهم قالوا في ذاك حبشي، وفي هذا نوبي انتهى، أي فهما اثنان، كما ترجم هو بهما، وفصل بينهما بشخص آخر، "وزيد" النوبي ذكر أبو موسى المديني اسم أبيه بولا بموحدة.
وقال غيره اسمه زيد، قال ابن شاهين، أصابه في غزوة فأعتقه، "وهو أبو يسار" بن زيد التابعي المقبول رواية.
روى عنه ابنه بلال بن يسار بن زيد، قال: حدثني أبي عن جدي عند أبي داود والترمذي، وليس هو يسارا الذي قبله، "وليس" أبوه "زيد بن حارثة والد أسامة"، بل غيره "ذكره ابن الأثير" في المعرفة، "ومدعم بكسر الميم، وسكون الدال المهملة، "وفتح العين المهملة" آخره ميم "عبد أسود كان لرفاعة بن زيد" الجذامي، ثم "الضبيبي، بضم الضاد المعجمة، وفتح الموحدة الأولى" بعدها تحتية ساكنة، فياء ثانية مكسورة، فياء نسب إلى بني ضبيب بالتصغير، كما في رواية مسلم وله للبخاري أهداه أحد بني الضباب بكسر وموحدتين بينهما ألف، وفي رواية ابن إسحاق الضبني بضم المعجمة، وفتح الموحدة، بعدها نون وقيل بفتح المعجمة وكسر الموحدة نسبة إلى بطن من جذام أسلم وحسن إسلامه، "فأهداه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم"، كما في الصحيحين والموطأ، ويقال: إنما أهداه فروة بن عمرو الجذامي، حكاه البلاذري، واختلف هل أعتقه صلى الله عليه وسلم، أو مات رقيقا، قتل رضي الله عنه بعد انصرافهم من خيبر ووادي القرى، وقدمنا ثمة أن الحافظ استظهر أنه غير كركرة لعدة أوجه ذكرها، وكذا جزم في الإصابة بأنهما اثنان، قال: وحكى البخاري الخلاف في كافة هل هي بالفتح، أو الكسر، ونقل ابن قرقول أنه يقال بفتح الكافين وبكسرهما، ومقتضاه أن فيه أربع لغات.
وقال النووي: إنما الخلاف في الكاف الأولى، وأما الثانية فمكسورة جزما انتهى.
قال في النور: وفي كلام النووي نظر، "وأبو رافع واسمه اسلم" على أشهر الأقوال العشرة(4/527)
القبطي، وكان العباس فوهبه النبي صلى الله عليه وسلم فلما بشر النبي صلى الله عليه وسلم بإسلام العباس أعتقه، توفي قبل قتل عثمان بيسير.
ورفاعة بن زيد الجذامي.
وسفينة، واختلف في اسمه، فقيل: طهمان، وقيل: كيسان، وقيل: مهران، وقيل غير ذلك، وسماه برسول الله صلى الله عليه وسلم سفينة لأنهم
__________
"القبطي، وكان للعباس، فوهبه للنبي صلى الله عليه وسلم، فلما بشر النبي صلى الله عليه وسلم بإسلام العباس أعتقه" وكان إسلام أبي رافع قبل بدر، ولم يشهدها، وشهد أحدا وما بعدها.
وروى عنه صلى الله عليه وسلم وعن ابن مسعود، وعنه أولاده رافع، والحسن، وعبيد الله، والمغيرة، وأحفاده الحسن، وصالح، وعبيد الله أولاد ابن علي، والفضل بن عبيد الله ابنه، وآخرون "توفي" بالمدينة "قبل قتل عثمان بيسير"، أو بعده قاله الواقدي هكذا بالشك.
وقال ابن حبان مات في خلافة علي، كما في الإصابة وقال في التقريب: مات في أول خلافة علي على الصحيح، ومن الموالي أيضا آخر، يقال له أبو رافع والد البهي، قيل اسمه رافع، كان لسعيد بن العاصي، فلما مات أعتق كل من بنيه نصيبه منه إلا خالد بن سعيد، فوهب نصيبه للنبي صلى الله عليه وسلم، فأعتقه، وزعم جماعة أنه هو الأول.
قال في الإصابة: وهو غلط بين، فإن الأول كان للعباس، فالصواب أنهما ثنان. "ورفاعة بن زيد الجذامي"، كذا أورده المصنف، وتبعه تلميذه الشامي ولم يزد شيئا، ولم أره في الإصابة إنما فيها رفاعة بن زيد الجزامي الذي أهدى مدعما فقط وهذا حر، وفد وأسلم وحسن إسلامه كما مر، "وسفينة" بفتح المهملة، وكسر الفاء، "واختلف في اسمه، فقيل طهمان، وقيل كيسان، وقيل مهران".
قال النووي وهو قول الأكثر، "وقيل غير ذلك" مروان، ونجران ورومان وذكوان وسنبة بمهملة، ونون وشنبة بمعجمة، ونون، فموحدة مفتوحة فتاء تأنيث وأحمر، وأحمد، ورباح، ومفلح، وعمير، ومنقب، وعبس، وعيسى، وأيمن، وقيس، ومرقبة، وصالح فهذه أحد وعشرون قولا، كما في الإصابة، واقتصر الشامي منها على سبعة، وما في الشرح أن الشامي حكى فيه، بإذام أو سيحون، أو هرمز غلط من الكاتب، ونقل لشيء في غير موضعه، فإن الشامي إنما ذكر ذلك في مولى آخر بعد سفينة بخمسة أنفس؛ لأنه راعي في وضعه، فإن الشامي إنما ذكر ذلك في مولى آخر بعد سفينة بخمسة أنفس؛ لأنه راعى في وضعه حروف المعجم، فقال طهمان: أو باذام إلى آخر ما ذكر، قال ابن أبي حاتم: سمعت أبي يقول: اشترى صلى الله عليه وسلم سفينة، فأعتقه، وقال آخرون: أعتقته أم سلمة، واشترطت عليه أن يخدم النبي صلى الله عليه وسلم، فيقال له مولى رسول الله ومولى أم سلمة، وكان من أبناء فارس، وقيل من مولدي العرب، "وسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم سفينة؛ لأنهم(4/528)
كانوا حملوه شيئا كثيرا في السفر.
ومأبور القبطي، وهو من جملة من أهداه المقوقس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وواقد، أو أبو واقد.
وأنجشة الحادي، ويأتي ذكره في حداته عليه الصلاة والسلام إن شاء الله تعالى.
__________
كانوا حملوه شيئا كثيرا في السفر" كما رواه الإمام أحمد عنه، قال: كنا في سفر، وكان كلما أعيا رجل ألقى على ثيابه ترسا، أو سيفا حتى حملت من ذلك شيئا كثيرا، فقال صلى الله عليه وسلم: "احمل فإنما أنت سفينة"، فلو حملت يومئذ وقر بعير، أو بعيرين، أو ثلاثة، أو خمسة، أو ستة، أو سبعة ما ثقل على إلا أن يخففوا.
وروي أنه كان إذا قيل له ما اسمك يقول سماني صلى الله عليه وسلم سفينة، فلا أريد غيره، وكان يسكن بطن نخلة.
وروى عن صلى الله عليه وسلم وعن علي وأم سلمة، وعنه جماعة "ومأبور" بموحدة خفيفة مضمومة، وواو ساكنة، ثم راء مهملة، ويقال هابو بهاء بدل الميم، وبغير راء في آخره، كما في الإصابة "القبطي" الخصي قريب مارية أم إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم "وهو من جملة من أهداه المقوقس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم" وتقدمت قصته.
قال البرهان: ولا أعرف في الصحابة خصيا إلا هو وسندر، بفتح المهملة، وإسكان النون، ثم دال مفتوحة، ثم راء مهملتين، "وواقد" ذكره الحسن بن سفيان والطبراني، وأخرجا من طريق زاذان عن واقد مولى رسول الله رفعه من أطاع الله، فقد ذكر الله، وإن قلت صلاته وصيامه، "أو أبو واقد" ذكره ابن منده فقال مولى النبي صلى الله عليه وسلم: روى عنه زاذان، رفعه من أطاع الله، فقد ذكره، وإن قلت صلاته وصيامه وتلاوته القرآن، كذا ذكره في الإصابة في الأسماء وفي الكنى مع أن الحديث واحد، والراوي واحد غايته أنه عبر فيه أولا بالاسم، وثانيا بالكنية، وهذا لا يقتضي أنهما اثنان ولذا أحسن المصنف في التعبير بأو إشارة إلى أنه عبر عنه مرة بلفظ الاسم، وأخرى بلفظ الاسم وأخرى بلفظ الكنية، وهو واحد والعلم لله. "وأنشجه" بفتح الهمزة، وسكون النون، وفتح الجيم بالشين المعجمة، كما ضبطه المصنف فيما يأتي.
"الحادي" العبد الأسود، ويقال الحبشي "ويأتي ذكره في حداته" جمع حادي "عليه الصلاة والسلام، إن شاء الله تعالى" آخر الفصل السابع من ذا المقصد.(4/529)
وسلمان الفارسي، أبو عبد الله، ويقال له سلمان الخير، أصله من أصبهان، وقيل من رام هرمز، أول مشاهدة الخندق، ومات سنة أربع وثلاثين، ويقال بلغ ثلاثمائة سنة.
__________
"وسلمان" بن عبد الله "الفارسي، أبو عبد الله" العالم الزاهد، كان ينسج الخوص، ويأكل من كسب يده، ويتصدق بعطائه "ويقال له" سلمان ابن الإسلام، و"سلمان الخير" قال ابن حبان: ومن زعم أن سلمان الخير غيره فقد وهم، "أصله من أصبهان" بكسر الهمزة، وفتحها وفتح الموحدة، ويقال بالفاء، وهذا رواه أحمد وغيره عن ابن عباس، "وقيل من رام هرمز" بفتح الراء والميم بينهما ألف وضم الهاء والميم بينهما راء ساكنة، وآخره زاي مدينة معروفة بأرض فارس بقرب عراق العرب، كما في الفتح، قال المصنف: مركبة تركيب مزج كمعديكرب، فينبغي كتابة رام منفصلة عن هرمز، وهذا رواه البخاري عن أبي عثمان، قال: سمعت سلمان يقول أنا من رام هرمز، فعلى المصنف مؤاخذة لا تخفى، حيث جزم بالأول ومرض الثاني، وقد قال في الفتح: يمكن الجمع باعتبارين.
وروى الحاكم وابن حبان عن سلمان في قصته أنه كان ابن ملك، وأنه خرج في طلب الدين هاربا، وانتقل من عابد إلى عابد، وسمع به صلى الله عليه وسلم فخرج في طلبه، فأسر وبيع بالمدينة، وتداوله بضعة عشر، فاشتغل بالرق حتى كان "أول مشاهده الخندق".
قال ابن عبد البر: ويقال إنه شهد بدرا ومناقبه كثيرة، وروى أحاديث وعنه أنس وكعب بن عجرة وابن عباس وأبو سعيد وغيرهم من لصحابة وآخرون من التابعين وفي قصة إسلامه طول واختلاف يتعسر معه الجمع، "ومات سنة أربع وثلاثين" كما جزم به في التقريب وقال في الإصابة: مات سنة ست وثلاثين في قوله أبي عبيد، أو سبع في قول خليفة.
وروى عبد الرزاق عن أنس: دخل ابن مسعود على سلمان عند الموت، فهذا يدل على أنه مات قبله، ومات ابن مسعود سنة أربع وثلاثين، فكان سلمان مات سنة ثلاث، أو ثنتين، وعمر طويلا حتى قيل إنه أدرك عيسى بن مريم، وقيل بل أدرك وصي عيسى، "ويقال بلغ ثلاثمائة سنة" وقال الذهبي: وجدت الأقوال في سنه كلها دالة على أنه جاوز مائتين وخمسين، والاختلاف إنما هو في الزائد، ثم رجعت عن ذلك وظهر لي أنه ما زاد على الثمانين، قال في الإصابة: لم يذكر مستنده في ذلك، وأظنه أخذه من شهود سلمان الفتوح بعده صلى الله عليه وسلم، وتزوجه امرأة من كندة، وغير ذلك مما يدل على بقاء بعض النشاط، لكن إن ثبت ما ذكروه يكون ذلك من خوارق العادات في حقه، وما المانع من ذلك، فقد روى أبو الشيخ في طبقات الأصفهانيين عن العباس بن بريدة.
قال أهل العلم: يقولون عاش سلمان ثلاثمائة وخمسين سنة، فأما مائتين وخمسين، فلا(4/530)
وشمغون بن زيد، أبو ريحانة: قال الحافظ ابن حجر: حليف الأنصار، ويقال مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، شهد فتح دمشق وقدم مصر، وسكن بيت المقدس.
__________
يشكون فيها انتهى.
هذا وفي عدهم سلمان في الموالي نظر، ففي قصته أنه لما قدم صلى الله عليه وسلم المدينة أتاه سلمان، ورأى علامات النبوة، فأسلم، فقال له: كاتب عن نفسك، فكاتب على أن تغرس ثلاثمائة نخلة وأربعين أوقية من ذهب، فغرس صلى الله عليه وسلم بيده الكل، وقال: "أعينوا أخاكم"، فأعانوه حتى أدى ذلك كله، وعتق، ولذا لما زعم أحمد بن نصر الداودي، أن ولاء سلمان كان لأهل البيت؛ لأنه أسلم على يد النبي صلى الله عليه وسلم، فكان ولاؤه له تعقبه ابن التين، بأنه ليس مذهب مالك، قال: والذي كاتب سلمان كان مستحقا لولائه، إن كان مسلما، وإن كافرا، فولاؤه للمسلمين.
قال في الفتح وفاته من وجوه الرد عليه أنه صلى الله عليه وسلم لا يورث، فلا يورث عنه، الولاء أيضا أن قلنا بولاء الإسلام على تقدير التنزل انتهى.
"وشمغون" قال في الإصابة، بمعجمتين، ويقال بمهملتين، ويقال بمعجمة وعين مهملة، واقتصر في التبصير على أنه بمعجمتين.
قال ابن يونس: بغين معجمة أصح انتهى، "ابن زيد أبو ريحانة" مشهور بكنيته، وقيل اسمه عبد الله بن النضر.
قال ابن حبان: والأول أصح الأزدي بزاي وسين بدلها، ويقال الأنصاري، ويقال القرشي، قال ابن عساكر، الأول أصح، قال في الإصابة، الأنصار كلهم من الأزد، ويجوز أن يكون حالف بعض قريش.
فتجتمع الأقوال، "قال الحافظ ابن حجر" في التقريب الأزدي "حليف الأنصار" ففيه نوع مخالفة لكلامه في الإصابة، "ويقال مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم شهد فتح دمشق" ونزل دارا كان ولده يسكنها، ومنهم محمد بن حكيم بن أبي ريحانة من كتاب أهل دمشق، ذكره ابن السك، "وقدم مصر" قال الحافظ أبو سعيد بن يونس وما عرفنا وقت قدومه.
وروى عنه من أهل مصر كريب بن أبرهة وعمرو بن مالك وأبو عامر الحجري، "وسكن بيت المقدس" قاله البرقي وابن حبان، وروى أحمد والنسائي عنه أنه كان معه صلى الله عليه وسلم في غزوة فأصابنا برد شديد، فقال صلى الله عليه وسلم: "من يحرسنا الليلة، فأدعو له بدعاء يصيب فضله"، فقام رجل من الأنصار، فقال: أنا، فدعا له، فقلت: وأنا، فدعا لي دون ما دعا له، ثم قال: "حرمت النار على عين حرست في سبيل الله".
وروى ابن المبارك في الزهد عنه أنه قفل من غزوة له فتعشى، ثم توضأ وقام إلى مسجده، فقرأ سورة فلم يزل حتى أذن الصبح، فقالت امرأته: غزوت فغبت، ثم قدمت، أفما كان لنا فيك(4/531)
وأبو بكرة، نفيع بن الحارث بن كلدة، جلد القاضي الجليل بكار بن قتيبة الحنفي قاضي مصر المدفون بها.
ومن النساء: أم أيمن الحبشية وسلمى أم رافع زوج أبي رافع ومارية وريحانة وقيصر أخت مارية
__________
نصيب قال: بلى والله ولو ذكرتك لكان لك علي حق، قالت: فما الذي شغلك، قال: التفكر فيما وصف الله في جنته ولذاتها حتى سمعت المؤذن "أبو بكرة" بفتح الموحدة "نفيع" بضم النون "ابن الحارث بن كلدة" بفتح الكاف واللام ابن عمرو الثقفي، قال في الإصابة: ويقال نفيع بن مسروح، وبه جزم ابن سعد، وأخرج أحمد عن أبي بكرة أنه قال: أنا مولى رسول الله صلى الله الله عليه وسلم فإن أبى الناس إلا أن ينسبوني، فأنا نفيع بن مسروح، وقيل اسمه هو مسروح بمهملات، وبه جزم ابن إسحاق مشهور بكنيته، وكان من فضلاء الصحابة، وسكن البصرة، وأنجب أولادا لهم شهرة، وكان تدلى إلى النبي صلى الله عليه وسلم من حصن الطائف ببكرة، فاشتهر بأبي بكرة، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم وروى عنه أولاده انتهى، ومات بالبصرة سنة إحدى، أو اثنتين وخمسين، كما في التقريب، وهو "جد القاضي الجليل بكار بن قتيبة" المصري، "الحنفي"، الفقيه سمع أبا داود الطيالسي وأقرانه وعنه أبو عوانة وابن خزيمة "قاضي مصر" ولاه المتوكل الخليفة سنة ست وأربعين ومائتين، وله أخبار في العدل، والعفة، والنزاهة، والورع وتصانيف في الشروط والوثائق والرد على الشافعي، فيما نقضه على أبي حنيفة ولد سنة اثنتين وثمانين ومائة، ومات في ذي الحجة على الشافعة فيما نقضه على أبي حنيفة ولد سنة اثنتين وثمانين ومائة، ومات في ذي الحجة سنة سبعين ومائتين "المدفون بها" بالقرافة وقبره يزار، وترك المصنف من الرجال أضعاف ما ذكر، "ومن النساء أم أيمن الحبشية" بركة، والدة أسامة التي تقدمت، "وسلمى أم رافع زوج أبي رافع ومارية" أم السيد إبراهيم، "وريحانة بنت شمعون القرظية، أو النضرية التي تسري بها تقدما أيضا، "وقيصر" بفتح القاف، وسكون التحتية، فصاد مهملة عند مغلطاي وغيره، وعند اليعمري وابن القيم، وغيرهما بسين مهملة، فراء "أخت مارية".
قال اليعمري: أهداها له المقوقس مع مارية وسيرين، فقيل وهبها صلى الله عليه وسلم لأبي جهم بن حذيفة وقيل لجهم بن قيس العبدري، وتوقف فيه محشية الحافظ البرهان، بأنه لم يذكرها ابن الجوزي، ولا أبو عمر، ولا الذهبي، لا مولاة ولا صحابية، قلت: لا يلزم من عدم ذكرهم كغيرهم لها في الصحابة توقف أصلا، فقد أخرج ابن عبد الحكم في تاريخ مصر، والبيهقي في الدلائل عن حاطب بن أبي بلتعة أن المقوقس أهدى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث جواز، فيهن مارية أم إبراهيم واحدة وهبها صلى الله عليه وسلم لابن جهم بن حذيفة العبدري، وواحدة وهبها لحسان بن ثابت، ووقع في بعض الطرق تسميتها سيرين وقيصر، فيحتمل أنها لم تسلم حين جاءته، فوهبها(4/532)
وغير ذلك.
قال ابن الجوزي: مواليه ثلاثة وأربعون، وإماؤه إحدى عشرة. انتهى.
__________
لأبي الجهم، وأما كونها أمته، فلا شك فيه؛ لأنه ملكها ووهبها، كما رأيت، وكأن من تركها لكونها لم تحز شرف الخدمة النبوية ولا الصحبة، لكنه لا يقضي على من ذكرها بعد وروده مسندا عن حاطب الذي هو رسول المصطفى إلى المقوقس، "وغير ذلك" من الذكور والإناث.
"قال ابن الجوزي: مواليه ثلاث وأربعون" ذكرا "وإماؤه إحدى عشرة انتهى".
وزاد غيره عليه كثيرا فيهما، وأفرد ذلك بالتصنيف، والله أعلم.(4/533)
الفصل السادس: في أمرائه ورسله وكتابه وكتبه إلى أهل الإسلام في الشرائع والأحكام، ومكاتباته إلى الملوك وغيرهم من الأنام
أما كتابه فجمع كثير وجم غفير ذكرهم بعض المحدثين في تأليف له بديعة استوعب فيه جملا من أخبارهم ونبذا من سيرهم وآثارهم وصدر فيه بالخلفاء الأربعة بالكرام خواص حضرته عليه الصلاة والسلام
فأولهم في
__________
"الفصل السادس: في أمرائه"
ولاته الذين ولاهم على البلاد والقضاء والصدقات على ما يأتي بيانه "ورسله" جمع رسول، وهو المبعوث برسالة يؤديها "وكتابه" جمع كاتب، أي من كتب له لازم الكتابة أم لا "وكتبه" جمع كتاب لا بالفتح مصدر لاحتياجه لتقدير أمره بالكناية "إلى أهل الإسلام في" تعلقات "الشرائع" جمع شريعة "والأحكام" مساو، فالمراد، بهما الدين، "ومكاتباته" جمع مكاتبة "إلى الملوك وغيرهم من الأنام"، الإنس فقط وإن شمل الجن، أو كل ذي روح فليس مرادا وعبر بالمفاعلة؛ لأنه غالبهم كان يكتب له في مقابلة كتبه لهم، وأضافها له لكونه البادئ بها، أو المفاعلة غير مرادة والمراد الكتب.
"أما كتابه فجمع كثير وجم غفير" قدمهم في التفصيل مع أنه قدم في الترجمة الأمراء والرسل اهتماما بشأنهم، لكون الخلفاء منهم، "ذكرهم بعض المحدثين في تأليف له بديع استوعب فيه جملا من أخبارهم ونبذا" بضم النون ومعجمة "من سيرهم" أحوالهم الحميدة وآثارهم وصدر فيه بالخلفاء الأربعة الكرام خواص حضرته عليه الصلاة والسلام فأولهم في(4/533)
التقدم أبو بكر الصديق رضي الله عنه،
__________
التقدم" في كل خير ومنه الإسلام ودخول الجنة "أبو بكر".
قال سالم بن أبي الجعد: قلت لمحمد ابن الحنفية لأي شيء قدم أبو بكر حتى لا يذكر فيهم غيره قال: لأنه كان أفضلهم إسلاما حين أسلم فلم يزل كذلك إلى أن قبضه الله تعالى.
أخرجه محمد بن عثمان بن أبي شيبة "الصديق رضي الله عنه".
روى الطبراني عن علي أنه كان يحلف أن الله أنزل اسم أبي بكر من السماء الصديق رجاله ثقات، وقال أبو يحيى: لا أحصي كم سمعت عليا يقول على المنبر أن الله عز وجل سمى أبا بكر على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم صديقا.
أخرجه الدارقطني، قال صلى الله عليه وسلم: "يا أبا بكر إن الله سماك الصديق"، رواه الديلمي، وقال صلى الله عليه وسلم: "أما إنك يا أبا بكر أول من يدخل الجنة من أمتي" رواه أبو داود والحاكم.
وقال صلى الله عليه وسلم: "ما طلعت الشمس، ولا غربت بعد النبيين والمرسلين على أفضل من أبي بكر".
رواه أبو نعيم وغيره، وقال صلى الله عليه وسلم: "تأتي الملائكة بأبي بكر مع النبيين والصديقين تزفه إلى الجنة زفا".
رواه الديلمي، وقال صلى الله عليه وسلم: "إن أمن الناس عليَّ في صحبته وماله أبو بكر ولو كنت متخذا خليلا غير ربي لاتخذت أبا بكر خليلا، ولكن إخوة الإسلام ومودته لا يبقين في المسجد بابا إلا سد إلا باب أبي بكر" رواه البخاري وغيره، وقال صلى الله عليه وسلم: "أحب الناس إليَّ عائشة ومن الرجال أبوها" رواه الشيخان.
وقال صلى الله عليه وسلم: "ليس أحد من الناس أمن عليَّ في نفسه وماله من أبي بكر" وقال صلى الله عليه وسلم: "ما لأحد عندنا يد إلا كافأناه عليها ما خلا أبا بكر، فإن له عندنا يدا يكافئه الله بها يوم القيامة" رواه الترمذي.
وقال صلى الله عليه وسلم: "إن أعظم الناس علينا منا أبو بكر زوجني ابنته وواساني بنفسه، وإن خير المسلمين مالا أبو بكر، أعتق منه بلالا، وحملني إلى دار الهجرة" رواه ابن عساكر، وقالت عائشة: أنفق أبو بكر على النبي صلى الله عليه وسلم أربعين ألف درهم، رواه ابن حبان وعنها، لما مات أبو بكر ما ترك دينارا ولا درهما رواه الزبير بن بكار.
وقال صلى الله عليه وسلم: "الناس كلهم يحاسبون إلا أبا بكر" رواه الخطب.
قال صلى الله عليه وسلم: "اللهم اجعل أبا بكر معي في درجتي يوم القيامة" رواه أبو نعيم، وقالت حفصة: يا رسول الله إذا اعتللت قدمت أبا بكر، قال: "لست أنا الذي قدمته ولكن الله قدمه" رواه(4/534)
وكان اسمه في الجاهلية عبد الكعبة، وفي الإسلام عبد الله، وسمي بالصديق لتصديقه النبي صلى الله عليه وسلم،
__________
الطبراني.
وقال صلى الله عليه وسلم: "أتاني جبريل، فقال: إن الله أمرك أن تستشير أبا بكر" رواه تمام.
وقال صلى الله عليه وسلم: "إن الله يكره فوق سمائه أن يخطأ أبو بكر" رواه الطبراني، ولنمسك عنان القلم، فضائله لا تحصى، ومناقبه لا تستقصى، وقد أفردها العلماء بالتأليف.
قال في الإصابة: وهي في تاريخ ابن عساكر مجلد من ثمانين مجلدا، فهي قدر عشر ثمنه، قال: ولا نزاع في أنه المراد بقوله تعالى: {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} وهو من أعظم مناقبه، ولا يعترض بأنه لم يتعين؛ لأنه كان معه صلى الله عليه وسلم في الهجرة عامر بن فهيرة وعبد الله بن أبي بكر.
والدليل لأنه لم يصحبه في الغار سوى الصديق وأما ابنه وابن فهيرة فكانا يترددان مدة لبثهما في الغار ابنه ليخبرهما بما وقع بعدهما، وابن فهيرة بسبب ما يقوم بهما من لبن الشاة، قال: ومن أعظمها أيضا توارد ابن الدغنة على وصفة بمثل ما وصفت به خديجة النبي صلى الله عليه وسلم لما بعث، فتواردا فيها على نعت واحد من غير أن يتواطأا على ذلك، وهذا غاية في مدحه؛ لأن صفاته صلى الله عليه وسلم منذ نشأ كانت أكمل الصفات، "وكان اسمه في الجاهلية عبد الكعبة، وفي الإسلام عبد الله" فيما قيل، قال في الفتح، والمشهور ما جزم به البخاري أن اسمه عبد الله بن عثمان، ويقال كان اسمه قبل الإسلام عبد الكعبة انتهى.
وقد روى ابن عساكر عن عائشة: قال: اسم أبي بكر الذي سماه أهله عبد الله، ولكن غلب عليه اسم عتيق، "وسمي" من الله تعالى "الصديق لتصديقه" أول الناس "النبي صلى الله عليه وسلم" ولازم الصدق، فلم تقع منه هفوة ما، ولا وقفة في حال من الأحوال وقيل كان ابتداء تسميته بذلك صبيحة الإسراء، كما في الفتح.
وقال ابن إسحاق عن الحسن البصري وقتادة أول ما اشتهر به صبيحة الإسراء.
وروى الحاكم بإسناد جيد قلنا لعلي يا أمير المؤمنين أخبرنا عن أبي بكر، قال: ذاك امرؤ سماه الله تعالى الصديق على لسان جبريل وعلى لسان محمد، كان خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصلاة رضيه لديننا فرضيناه لدنيانا، وقوله امرؤ، أي رجل، وتصحفت الهمزة في عبارة، فظنت هاء، فأحوجت من صحفت عليه إلى تقدير خبر، أي ظاهر معلوم، ثم لا منافاة بين الأحاديث المصرحة، بأن الله سماه الصديق وبين ما ذكره ابن مسدي إن صح أنه كان يلقب به في الجاهلية، لما عرف منه من الصدق؛ لأن الملهم لهم بذلك هو الله، ثم أنزله على لسان رسوله(4/535)
وقيل إن الله صدقه، ويلقب عتيقا لجماله، أو لأنه ليس في نسبه ما يعب به، وقيل لأنه عتيق من النار.
ولي الخلافة سنتين ونصفا، وسنه سن المصطفى عليه الصلاة والسلام.
__________
بعد الإسلام، "وقيل" سمي بذلك لأجل "أن الله صدقه" نسبه للصدق قولا وفعلا في نحو قوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى، وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى} [الليل: 5، 6] الآيات الدالة على الثناء عليه، فإنها نزلت فيه، لما اشترى سبعة من المعذبين في الله وأعتقهم، وروى ابن مردويه عن ابن عباس، قال نزلت: {رَبِّ أَوْزِعْنِي} [النمل: 19] الآية في أبي بكر فاستجاب الله له، فأسلم والداه جميعا، وإخوته وولده كلهم، ثم كأن المصنف مرضه بقيل؛ لأنه لم يرد صريحا، قال الله صدق أبو بكر، "ويلقب عتيقا" واختلف في أنه اسم له أصلي، كما في الفتح، وقيل سمي به أولا، ثم بعبد الله، كما في السبل.
قال النووي: والصواب الذي عليه كافة العلماء أنه لقب له "لجماله" من العتاقة، وهي الحسن والجمال، "أو لأنه ليس في نسبه ما يعاب به" أو لقدمه في الخير وسبقه إلى الإسلام، أو لأن أمه كان لا يعيش لها ولد، فلما ولدته استقبلت به البيت، فقالت: اللهم هذا عتيقك من الموت، "وقيل لأنه عتيق من النار" كما روى الترمذي والحاكم عن عائشة أن أبا بكر دخل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "أنت عتيق الله من النار"، فسمي يومئذ عتيقا.
وروى البزار والطبراني، وصححه ابن حبان عن أبي الزبير، كان اسم أبي بكر عبد الله، فقال صلى الله عليه وسلم: "أنت عتيق والله من النار".
وروى أبو يعلى وابن سعد، وصححه الحاكم عن عائشة والله إني لفي بيتي، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الفناء والستر بيني وبينهم إذ أقبل أبو بكر، فقال صلى الله عليه وسلم: "من سره أن ينظر إلى عتيق من النار، فلينظر إلى أبي بكر"، وإن اسمه الذي سماه أهله عبد الله، فغلب عليه اسم عتيق، فقد علم أن هذا القول كان أولى بالتقديم، لا أن يحكى ممرضا، كما فعل المصنف، "ولي الخلافة" بعده صلى الله عليه وسلم فشيد الله به دعائم الدين، وخفض ما ارتفع من رءوس المنافقين، وجاهد المرتدين، كما أشار إليه صلى الله عليه وسلم بقوله: "أنا سيف الإسلام، وأبو بكر سيف الردة"، ولقبه المسلمون خليفة رسول الله، وقيل له يا خليفة الله، فقال: أنا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، رواه أحمد "سنتين ونصفا".
وفي فتح الباري سنتين وثلاثة أشهر وأياما، وقيل غير ذلك، ولم يختلفوا أنه استكمل عمر النبي صلى الله عليه وسلم فمات، وهو ابن ثلاث وستين انتهى، وهذا مراد المصنف بقوله: "وسنه سن المصطفى عليه الصلاة والسلام" على المشهور المعروف، وما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال له: أنا أكبر،(4/536)
وتوفي مسموما:
وأسلم أبوه أبو قحافة يوم الفتح،
__________
أو أنت، قال: أنت أكبر وأنا أسن فوهم، كما قال: ابن عبد البر وغيره وإنما صح ذلك عن العباس.
وقد قالت: عائشة: تذاكر النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر ميلادهما عندي، فكان صلى الله عليه وسلم أكبر أخرجه ابن البرقي، "وتوفي مسموما".
روى ابن سعد عن الزهري أن أبا بكر والحارث بن كلدة أكلا خزيرة أهديت لأبي بكر، وكان الحارث طبيبا، فقال: ارفع يدك، فوالله إن فيها لسم سنة، فلم يزالا عليلين حتى ماتا عند انقضاء السنة في يوم واحد.
وروى الحاكم عن الشعبي: ماذا يتوقع من هذا الدنيا الدنية، وقد سم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسم أبو بكر.
وفي فتح الباري سمته يهودية في خزيرة، أو غيرها، وعند الزبير بن بكار أنه مات بمرض السل، وعن الواقدي اغتسل في يوم بارد، فحم خمسة عشر يوما انتهى، يشير إلى ما رواه الواقدي، والحاكم عن عائشة قالت: كان أول بدء مرض أبي بكر أنه اغتسل يوم الاثنين لسبع خلون من جمادى الآخرة، وكان يوما باردا، فحم خمسة عشر يوما لا يخرج إلى صلاة، وتوفي ليلة الثلاثاء لثمان بقين من جمادى الآخرة سنة ثلاث عشرة، وله ثلاثة وستون سنة، وكان أكل السم، وتعلل، ولكن لم ينقطع وحصل له منه السل، ثم في شهر وفاته اغتسل، فحم حتى مات، فجمع الله له هذه الأمراض زيادة في الزلفى ورفع الدرجات، وقالوا له: ألا ندعو لك طبيبا ينظر إليك، قال: قد نظر إليَّ، فقالوا ما، قال لك، قال: إني فعال، لما أريد رواه ابن سعد، وقالت عائشة: دخلت عليه، وهو في الموت، فقال: في أي يوم توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قلت: يوم الاثنين، قال: أرجو ما بيني وبين الليل، فمات ليلة الثلاثاء ودفن قبل أن يصبح.
رواه أبو يعلى برجال الصحيح، وأحمد عنها، قال: إن مت من ليلتي، فلا تنظروا بي الغد، فإن أحب الأيام إلي، وأقربها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وغلط من قال: مات في جمادى الأولى أو لليلة خلت من ربيع الأول، كما في الإصابة، والصحيح ما تقدم عن عائشة، كما في الفتح، "وأسلم أبوه أبو قحافة" بضم القاف ومهملة، فألف ففاء، فهاء تأنيث عثمان بن عامر، قال في الفتح: لم يختلف في اسمه، كما لم يختلف في كنية الصديق "يوم الفتح" لما دخل صلى الله عليه وسلم المسجد خرج أبو بكر، فجاء به يقوده، وقد كف بصره، فقال صلى الله عليه وسلم: "هلا تركت الشيخ في بيته(4/537)
وتوفي بعد ولده في خلافة عمر، وأسلمت أمه أم الخير سلمى بنت صخر قديما في دار الأرقم.
وعمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزى،
__________
حتى آتيه"، فقال: هو يمشي إليك يا رسول الله أحق أن تمشي إليه، وأجلسه بين يديه، ثم مسح على رأسه، فقال: "اسلم تسلم" فاسلم. رواه ابن إسحاق، وصححه ابن حبان من حديث أسماء، وروى أحمد عن أنس جاء أبو بكر بأبيه أبي قحافة يوم فتح مكة يحمله حتى وضعه بين يديه صلى الله عليه وسلم، فقال: "لو أقررت الشيخ في بيته لآتيناه تكرمة لأبي بكر"، فأسلم، فيحتمل أنه قاده، ثم حمله لعجزه، أو كثرة الزحام، وهو أول من ورث خليفة في الإسلام، "وتوفي بعد ولده في خلافه عمر" سنة أربع عشرة وله سبع وتسعون سنة، "وأسلمت أمه أم الخير سلمى بنت صخر" ابن مالك بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي فهي بنت عم أبيه "قديما في دار الأرقم" بن أبي الأرقم، المخزومي المسلم بعد عشرة، أو سبعة البدري، كانت داره على الصفا يجلس فيها صلى الله عليه وسلم أوائل الإسلام قالت عائشة: لما أسلم أبو بكر قام خطيبا، فدعا إلى الله ورسوله، فثار المشركون، فضربوه. الحديث وفيه قوله للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله هذه أمي، فادع لها: وادعها إلى الإسلام، فدعا لها ودعاها فأسلمت، رواه ابن أبي عاصم، وهاجرت وماتت في خلافة عمر قبل أبي قحافة.
قال في الفتح: وذلك معدود في مناقب الصديق؛ لأنه انتظم له إسلام أبويه وجمع أولاده انتهى، وهذا وجه المصنف لأبويه رضي الله عنهم "وعمر بن الخطاب بن نفيل" بنون وفاء مصغر "ابن عبد العزى" بن رياح بكسر الراء بعدها تحتية، فألف فمهملة ابن عبد الله بن قرط بضم القاف ابن رزاح براء مفتوحة، فزاي، فألف، فمهملة ابن عدي بن كعب بن لؤي أبو حفص القرشي العدوي، لقبه الفاروق باتفاق، قيل أول من لقبه به النبي صلى الله عليه وسلم رواه ابن أبي شيبة عنه، وأبو سعد عن عائشة، وقيل جبريل، رواه البغوي، وقيل أهل الكتاب.
رواه ابن سعد: ولد بعد الفيل بثلاث عشرة سنة، وكان عند البعث شديدا على المسلمين، ثم أسلم بدعائه صلى الله عليه وسلم، فكان إسلامه فتحا على المؤمنين، وفرجا لهم من الضيق.
قال صلى الله عليه وسلم: "اتقوا غضب عمر، فإن الله يغضب إذا غضب"، وقال صلى الله عليه وسلم: "أصاب الله بك يابن الخطاب" رواهما أبو داود والحاكم، وغيرهما.
وقال صلى الله عليه وسلم: "إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه " رواه أبو داود والترمذي، وقال: حسن صحيح، وقال صلى الله عليه وسلم: "يابن الخطاب، والذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان سالكا فجا قط إلا سلك فجا غير فجك" رواه الشيخان، وقال صلى الله عليه وسلم: "إن الشيطان لم يلق عمر منذ أسلم الآخر(4/538)
استخلفه أبو بكر فأقام عشر سنين وستة أشهر وأربع ليال، وقتله أبو لؤلؤه، فيروز غلام المغيرة بن شعبة.
__________
على وجهه" رواه الطبراني وغيره، وقال صلى الله عليه وسلم: "ما في السماء ملك إلا وهو يوقر عمر، ولا في الأرض شيطان إلا وهو يفرق من عمر" رواه ابن عدي وأبو نعيم، وقال صلى الله عليه وسلم: "من أبغض عمر، فقد أبغضني، ومن أحب عمر، فقد أحبني، وإن الله باهى عشية عرفة بالناس عامة، وباهى بعمر خاصة" رواه ابن عساكر، وقال صلى الله عليه وسلم: "لو كان بعدي نبي لكان عمر" أخرجه أحمد والترمذي وحسنه، وابن حبان والحاكم من حديث عقبة بن عامر، والطبراني في الكبير من حديث عصمة بن مالك، وفي الأوسط من حديث أبي سعيد، وقال صلى الله عليه وسلم: "بينا أنا نائم رأيتني في الجنة، فإذا امرأة تتوضأ إلى جانب قصر، فقلت: لمن هذا القصر، فقالوا: لعمر، فأردت أن أدخله فأنظر إليه، فذكرت غيرتك، فوليت مدبرا"، فبكى عمر، وقال: أعليك أغار يا رسول الله، رواه الشيخان وغيرهما، وعنه استأذنت رسول الله في العمرة، فأذن، وقال: "لا تنسنا يا أخي من دعائك".
وفي رواية "أشركنا في دعائك"، فقال: كلمة ما يسرني أن لي بها الدنيا، رواه أبو داود والترمذي.
وقال: حسن صحيح، وفضائله كثيرة وصلابته في الدين، وموافقاته شهيرة، "استخلفه أبو بكر، فأقام عشر سنين وستة أشهر وأربع ليال"، وفتح الأمصار العظيمة، وحج بالناس عشر حج متواليات واستجاب الله قوله، اللهم ارزقني شهادة في سبيلك، واجعل موتي في بلد رسولك، فساق له الشهادة بالمدينة المنورة، "وقتله" بعد أن أحرم بالصبح "أبو لؤلؤة فيروز" المجوسي "غلام المغيرة بن شعبة" الصحابي، كان استأذن عمر في إدخاله المدينة، وقال: إن عنده أعمالا ينتفع الناس به حداد نقاش نجار، فأذن له، فضرب عليه المغيرة، كل شهر مائة فشكا إلى عمر شدة الخراج، فقال: ما هو بكثير، في جنب ما تعمل، فانصرف ساخطا، وقال: وسع الناس عدله غيري، وأضمر على قتله، فصنع له خنجرا له رأسان وسمه فلما أحرم عمر بالصبح يغلس طعنه ثلاث طعنات، إحداهن تحت السرة، وهي التي قتلته ثم طار العلج لا يمر على أحد إلا طعنه حتى طعن ثلاثة عشر رجلا مات منهم سبعة فطرح عليه رجل من المسلمين برنسا، فلما ظن أنه مأخوذ نحر نفسه، وتناول عمر يد عبد الرحمن بن عوف فقدمه، صلى بالناس صلاة خفيفة بـ"إنا أعطيناك الكوثر" و"إذ جاء نصر الله" فقال عمر: يابن عباس انظر من قتلني، فجال ساعة، ثم جاء فأخبره، فقال: الحمد لله الذي لم يجعل ميتتي بيد رجل يدعى الإسلام وكان ذلك لأربع بقين من ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين فعاش حتى انسلخ الشهر، فمات وغسله ابنه عبد الله، وحمل على سرير رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصلى عليه صهيب، ودفن هلال(4/539)
وعثمان بن عفان بن أبي العاصي بن أميمة، وكانت خلافته إحدى عشرة سنة وأحد عشر شهرا وثلاثة عشر يوما، ثم قتل يوم الدار شهيدا.
__________
المحرم وهو ابن ثلاث وستين سنة على الصحيح المشهور، وهو قول الجمهور، "وعثمان بن عفان بن أبي العاصي بن أمية" بن عبد شمس بن عبد مناف القرشي، أمير المؤمنين ذو النورين لتزوجه بنتي المصطفى.
قال المهلب بن أبي صفرة: لم يعلم أحد تزوج ابنتي نبي غيره، وقيل لأنه كان يختم القرآن في الوتر، فالقرآن نور، وقيام الليل نور، وقيل لأنه إذا دخل الجنة برقت له برقتين.
وروى خيثمة في الفضائل والدارقطني في الأفراد أن عليا ذكر له عثمان، فقال: ذاك امرؤ يدعى في الملأ الأعلى ذا النورين، وقال صلى الله عليه وسلم: "لكل نبي رفيق، ورفيقي في الجنة عثمان" رواه الترمذي، وقال صلى الله عليه وسلم: "من يحفر بئر رومة فله الجنة فحفرها عثمان".
وقال صلى الله عليه وسلم: "من جهر جيش العسرة، فله الجنة، فجهزه عثمان". رواهما البخاري.
وقال صلى الله عليه وسلم: "والذي نفس رسول الله بيده إن الملائكة لتستحيي من عثمان، كما تستحيي من الله ورسوله" رواه مسلم وأبو يعلى والطبراني.
وقال صلى الله عليه وسلم: "أشد الناس حياء عثمان بن عفان" رواه أبو نعيم.
وقال صلى الله عليه وسلم: "مر بي وعندي جبل من الملائكة، فقالوا: شهيد من الآدميين يقتله قومه إنا لنستحيي منه"، رواه الطبراني وابن عساكر، وقال صلى الله عليه وسلم: "والله ليشفعن عثمان بن عفان في سبعين ألفا من أمتي، قد استوجبوا النار حتى يدخلهم الله الجنة"، رواه ابن عساكر، ومناقبه جمة، وفتح الله في خلافته أمصارا كثيرة على الأمة "وكانت خلافته إحدى عشرة سنة وأحد عشر شهرا، وثلاثة عشر يوما" وعند ابن إسحاق واثنين وعشرين يوما، "ثم قتل يوم الدار" أي الزمن الذي حاصروه فيه في داره "شهيدا" مقتولا ظلما، كما قال صلى الله عليه وسلم وذكر فتنة، فقال: "يقتل فيها هذا مظلوما" لعثمان، رواه الترمذي.
قال في الإصابة: وسبب قتله أن أمراء الأمصار كانوا من أقاربه، بالشام كلها معاوية، وبالبصرة سعيد بن العاصي، وبمصر ابن أبي سرح، وبخراسان عبد الله بن عامر، وكان من حج منهم يشكو من أميره، وكان عثمان لين العريكة، كثير الإحسان والحلم إلى أن رحل أهل مصر يشكون ابن أبي سرح، فعزله وكتب لهم كتابا بتولية محمد بن الصديق فرضوا، فلما كانوا في أثناء الطريق رأوا راكبا على راحلة، فأخبرهم أنه من عند عثمان بكتاب، بإقرار ابن أبي سرح ومعاقبة جماعة من أعيانهم، فأخذوا الكتاب ورجعوا وواجهوه، فحلف أنه ما كتب، ولا أذن، فقالوا: سلمنا كتابك، وهو مروان بن الحكم ابن عمه، فخشي عليه منهم القتل، فلم يسلمه لهم،(4/540)
وروي عن عائشة رضي الله عنها، مما ذكره الطبرى في فضائله من كتابه "الرياض" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لمسند ظهره إليَّ، وإن جبريل ليوحي إليه القرآن، وإنه ليقول له: "اكتب يا عثيم"، رواه أحمد.
وروى البيهقي عن جعفر بن محمد عن أبيه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جلس جلس أبو بكر عن يمينه، وعمر عن يساره وعثمان بين يديه، وكان كاتب سر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه،
__________
فغضبوا وحصروه في داره، واجتمع جماعة يحمونه منهم، فنهاهم عن القتال إلى أن تسوروا عليه من دار إلى دار، فدخلوا عليه، فقتلوه يوم الجمعة بعد العصر لثمان عشرة، وقيل لسبع عشرة، وقيل لاثنين وعشرين خلت من ذي الحجة، ودفن ليلة السبت بين المغرب والعشاء بالبقيع سنة خمس وثلاثين، وهو ابن اثنتين وثمانين سنة وأشهر على الصحيح المشهور، وقيل دون ذلك، وزعم ابن حزم أنه لم يبلغ ثمانين، فعظم ذلك على الصحابة، وغيرهم من أهل الخير، وفتح باب الفتنة، فكان ما كان، والله المستعان انتهى.
والقصة طويلة جدا، وقد روى أحمد وابن ماجه أنه صلى الله عليه وسلم قال: "يا عثمان إن الله عز وجل يقمصك قميصا، فإن أرادك المنافقون على خلعة فلا تخلعه"، ولا كرامة يقولها مرتين، أو ثلاثا، ولابن عدي "يا عثمان إنك سترى الخلافة وسيريدك المنافقون على خعلها فلا تخلعها وصم في ذلك اليوم تفطر عندي"، وللترمذي عن أبي سلمة مولى عثمان، قال: قال عثمان يوم الدار إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إليَّ عهدا فأنا صابر عليه، ولم يلبس السراويل في جاهلية، ولا إسلام إلا يوم قتل، "وروي عن عائشة رضي الله عنها مما ذكره" المحب "الطبري في فضائله من كتابه الرياض النضرة" في فضائل العشرة أنها، قالت: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لمسند ظهره إليَّ وإن جبريل ليوحي إليه القرآن وإنه" صلى الله عليه وسلم "ليقول له" لعثمان "اكتب يا عثيم" بالضم مصغر للتحبب والملاطفة، ففيه منزلة رفيعة له عند المصطفى، وأنه من كتاب الوحي "رواه أحمد" بن حنبل.
"وروى البيهقي عن جعفر" الصادق "بن محمد" الباقر "عن أبيه" محمد بن علي بن الحسين، "قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جلس جلس أبو بكر عن يمينه، وعمر عن يساره، وعثمان بين يديه، وكان كاتب سر رسول الله صلى الله عليه وسلم"، أي الأمور التي يريد إخفاءها عن الناس.
"وعلي بن أبي طالب" أبو الحسن الهاشمي "رضي الله عنه" غزير العلم وافر الزهد، أمير المؤمنين خاتم خلافة النبوة، قال صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ} ، "يا علي إن الله أمرني(4/541)
....................................
__________
أن أدنيك ولا أقصيك، وأن يعلمك، وأن تعي وحق لك أن تعي، سألت ربي أن يجعلها أذنك".
رواه سعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وله طرق عديدة، وقال صلى الله عليه وسلم لفاطمة: "أما ترضين أني زوجتك أقدم أمتي إسلاما، وأكثرهم علما، وأعظمهم حلما".
رواه أحمد والطبراني، وله في رواية أول المسلمين إسلاما، وقال صلى الله عليه وسلم: "إن الله أمرني بحب أربعة، وأخبرني أنه يحبهم علي وأبو ذر والمقداد وسلمان".
رواه أحمد والترمذي وحسنه وابن ماجه وصححه الحاكم والضياء، وقال صلى الله عليه وسلم لعلي: "الله ورسوله وجبريل عنك راضون" رواه الطبراني، وقال صلى الله عليه وسلم: "من أذى عليا فقد آذاني" رواه أحمد والترمذي وأبو يعلى وصححه الضياء.
وقال صلى الله عليه وسلم: "من أحب عليا فقد أحبني، ومن أحبني أحبه الله، ومن أبغض عليا فقد أبغضني ومن أبغضني فقد أبغض الله" رواه الطبراني.
وقال صلى الله عليه وسلم: "من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عادة وأحب من أحبه وأبغض من أبغضه" رواه الترمذي والنسائي وأحمد وغيرهم، وطرقه كثيرة جدا، وهو صحيح.
وقال صلى الله عليه وسلم: " لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق" رواه مسلم والترمذي.
وقال صلى الله عليه وسلم: "علي مني وأنا منه، وعلي ولي كل مؤمن من بعدي" رواه ابن أبي شيبة، وهو صحيح.
وقال صلى الله عليه وسلم: "علي أخي في الدنيا والآخرة"، رواه الطبراني.
وقال صلى الله عليه وسلم: "علي مني بمنزلة رأسي من بدني"، رواه ابن مردويه والديلمي. وقال صلى الله عليه وسلم: "علي مع القرآن والقرآن مع علي، لن يفترقا حتى يردا على الحوض" رواه الحاكم.
وقال صلى الله عليه وسلم لعلي: "أنت مني وأنا منك" وقال صلى الله عليه وسلم: "إنه يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله" رواهما البخاري، وأخرجه الترمذي وحسنه.
عن علي قال لما نزلت: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} [المجادلة: 12] قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: "ما ترى دينار"، قلت: لا يطيقونه، قال: "فنصف دينار"، قلت: لا يطيقونه، قال: "فكم"؟ قلت: شعيرة، قال: "إنك لزهيد"، فنزلت: {أَأَشْفَقْتُمْ} فبي خفف الله عن هذه الأمة، وفضائله كثيرة جدا حتى قال الإمام أحمد وإسماعيل القاضي، والنسائي وأبو علي النيسابوري، لم يرد في حق أحد من الصحابة بالأسانيد(4/542)
وأقام في الخلافة أربع سنين وتسعة أشهر وثمانية أيام، وتوفي شهيدا على يد عبد الرحمن بن ملجم،
__________
الجياد أكثر مما جاء في حق علي.
قال العلماء: وكان سبب ذلك تنقيص بني أمية له، فكان كل من كان عنده شيء من مناقبه من الصحابة، يبثه، وكلما أرادوا إخماده وهددوا من حديث من حدث بمناقبه لا تزاد إلا انتشارا، "وأقام في الخلافة" لما بايعه المهاجرون والأنصار وكل من حضر، وكتب ببيعته إلى الآفاق، فأذعنوا كلهم إلا معاوية في أهل الشام، وكان بينهم بعدما كان "أربع سنين وتسعة عشر أشهر وثمانية أيام" وقاتل فيها البغاة والخوارج، كما عهد إليه صلى الله عليه وسلم فروى أبو يعلى بسند جيد عنه: عهد إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين، وقال صلى الله عليه وسلم: "إن منكم من يقاتل على تأويل القرآن، كما قاتلت على تنزيله" فقال أبو بكر: أنا هو يا رسول الله، قال: لا، قال عمر: أنا هو يا رسول الله، قال: لا ولكنه خاصف النعل، وكان أعطى على نعله يخصفها.
رواه أبو يعلى برجال الصحيح، قال في الإصابة وكان رأي علي أنهم يدخلون في الطاعة، ثم يقوم ولي دم عثمان فيدعى به عنده ثم يعمل معهم ما يوجبه حكم الشرع، وكان من خالفه يقول له: تتبعهم وأقتلهم، فيرى علي أن القصاص بغير دعوى، ولا إقامة بينة لا يتجه، وكل من الفريقين مجتهد، ومن الصحابة فريق لم يدخلوا في القتال وظهر بقتل عمار أن الصواب كان مع علي، واتفق على ذلك أهل السنة بعد اختلاف كان في القديم انتهى، "وتوفي" ولم يكن يومئذ على وجه الأرض أفضل منه "شهيدا" مقتولا ظلما "على يد" أشقى الآخرين "عبد الرحمن بن ملجم" بضم الميم، وإسكان اللام وفتح الجيم، كما قيده غير واحد منهم النووي والإسنوي، وعن الإقناع كسرها وذلك أن ثلاثة من الخوارج تعاهدوا بمكة على قتل علي، ومعاوية، وعمرو بن العاص في ليلة واحدة ليلة سبع عشرة من رمضان وقيل ليلة عشر، وقيل إحدى وعشرين، فقال ابن ملجم: المرادي أنا لكم سبع عشرة، من رمضان وقيل ليلة عشرة، وقيل إحدى وعشرين، فقال ابن ملجم: المرادي أنا لكم بعلي، وقال البراك بن عبد الله التميمي: أنا لكم بمعاوية، وقال عمرو بن بكير التميمي: أنا لكم بعمرو ثم توجه كل إلى المصر الذي فيه صاحبه، فأتى ابن ملجم الكوفة، واختفى وتزوج امرأة من الخوارج كان علي قتل أباها، فشرطت عليه في صداقها، ثلاث آلاف درهم وعبدا وقينة، وقتل علي، فلما كانت ليلة الجمعة سابع عشر رمضان سنة أربعين من الهجرة، خرج علي للصبح إلى المسجد فضربه ابن ملجم بسيف مسموم في جبهته، فأوصله إلى دماغه، فقال علي: فزت ورب الكعبة، وعند أبي داود أنه رأى تلك الليلة النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، فقال: يا رسول الله ماذا لقيت من أمتك، فقال صلى الله عليه وسلم: ادع عليهم، فقال: اللهم أبدلني بهم من هو خير منهم، وأبدلهم بي من هو شر مني، فمسكوا(4/543)
واختص علي بكتابة الصلح يوم الحديبية.
وطلحة بن عبد الله التيمي، أحد العشرة،
__________
ابن ملجم، وحبسوه حتى مات علي كرم الله وجهه ليلة الأحد، وقد أوصى بوصية عظيمة فيها مواعظ، ثم لم ينطق إلا بلا إله إلا الله وجعل يكثرها، لما احتضر حتى قبض، وهو ابن ثلاث وستين سنة على الصحيح المشهور، وغسله الحسنان وعبد الله بن جعفر، وصلى عليه الحسن، فقطعت أطراف ابن ملجم، وجعل في مقصورة وأحرق بالنار، وقد قال صلى الله عليه وسلم لعلي: "من أشقى الأولين"؟ قال: عاقر الناقة قال: "فمن أشقى الآخرين"؟، قال: الله ورسوله أعلم، قال: "قاتلك".
رواه الخطيب والطبراني عن جابر بن سمرة وأحمد عن عمار، وأبو يعلى بإسناد لين عن علي والبزار عنه بإسناد جيد، والطبراني عن صهيب.
وقال صلى الله عليه وسلم: "يا علي ستقتلك الفئة الباغية وأنت على الحق، فمن لم ينصرك يومئذ فليس مني" رواه ابن عساكر.
وقال صلى الله عليه وسلم: "يا علي إن لك لكنزا في الجنة" رواه أحمد وغيره.
هذا والذي سار إلى معاوية ضربه، فداووه، فصح، لكنه صار لا يلد، وقطعت أطراف قاتله، فذهب إلى الكوفة، وولد له فقال زياد: أيولد له ومعاوية لا يولد له فقتله، وأما عمرو فاشتكى بطنه تلك الليلة، فأمر خارجة بالصلاة بالناس، فطعنه فقتله، فأصبحوا يقصون على عمرو، فقال: أوما قتلت عمرًا؟ فقيل: إنما قتلت خارجة فقال: أردت عمرا، وأراد الله خارجة فقتلوه.
قال ابن زيدون في قصيدته:
وليتها إذ فدت عمرا بخارجة ... فدت عليا بما شاءت من البشر
ولكن ما عند الله خير وأبقى غالب العشرة، سيقت لهم الشهادة زيادة في الزلفى ورفع الدرجات، "واختص علي بكتابة الصلح يوم الحديبية" وقد تتبع النسائي ما خص به دون الصحابة، فجمع شيئا كثيرا بأسانيد أكثرها جيد، كما في الإصابة.
"وطلحة بن عبد الله" بضم العين ابن عثمان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي القرشي، "التيمي أحد العشرة" وأحد اليمانية السابقين إلى الإسلام، وأحد الستة، أصحاب الشورى، وأمه الصعبة أخت العلاء من الحضرمي، أسلمت وهاجرت وعاشت بعده قليلا.
قال صلى الله عليه وسلم: "يا طلحة هذا جبريل يقرئك السلام، ويقول لك أنا معك في أهوال القيامة حتى أنجيك منها" رواه الديلمي وابن عساكر، وقال صلى الله عليه وسلم: "اللهم ألق طلحة يضحك إليك وتضحك إليه" رواه الطبراني وأبو نعيم والضياء، وقال صلى الله عليه وسلم: "طلحة والزبير جاراي في الجنة"(4/544)
استشهد يوم الجمل سنة ست وثلاثين، وهو ابن ثلاث وستين سنة.
والزبير بن العوام بن خويلد الأسدي ابن عمته وحواريه، أحد العشرة أيضا،
__________
رواه الترمذي وغيره، وقال صلى الله عليه وسلم: "طلحة خير شهيد يمشي على وجه الأرض" رواه ابن ماجه والحاكم، ومر صلى الله عليه وسلم في غزوة ذي قرد على ماء، يقال له غسان مالح، فقال: "هو نعمان، وهو طيب"، فغير اسمه، فاشتراه طلحة، ثم تصدق به، فقال صلى الله عليه وسلم: $"ما أنت يا طلحة إلا فياض" فبذلك قيل له طلحة الفياض رواه الزبير بن بكار، وروى أنه سماه أيضا طلحة الخير، وطلحة الجود، وطلحة الطلحات، وليس هو الخزاعي الذي قيل فيه:
نضر الله أعظما دفنوها ... بسجستان طلحة الطلحات
ومناقبه كثيرة شهيرة، "استشهد يوم الجمل" بقرب البصرة في الوقعة التي كانت بينهم وبين علي حين خرجوا متاولين الطلب بدم عثمان، ومعهم عائشة الصديقة على جمل عظيم اشتراه يعلى بن أمية الصحابي المشهور بمائة دينار، وقيل مائتين وقيل بأكثر من ذلك فوقفت به في الصف، فلم يزل الذين معها يقاتلون حول الجمل حتى عقر الجمل، فهزموا فأضيفت الوقعة إليه، وجاء من طرق كثيرة أن مروان بن الحكم رمى طلحة، مع أنه كان من حزبه بسهم فأصاب ركبته، فلم يزل ينزف منها الدم حتى مات، وكان يؤمئذ أول قتيل، وذلك يوم الخميس لعشر خلون من جمادى الآخرة "سنة ست وثلاثين وهو ابن ثلاث وستين سنة" كما جزم به في التقريب، وجزم في الإصابة بأنه ابن أربع وستين، وقال في الفتح: اختلف في سنه على أقوال أكثرها أنه خمس وسبعون، أقلها ثمان وخمسون انتهى، "والزبير بن العوام بن خويلد" بن أسد بن عبد العزى بن قصي القرشي "الأسدي ابن عمته" صفية، "وحواريه" ناصره الخالص له، كما قال صلى الله عليه وسلم: "إن لكل نبي حواري وإن حواري الزبير" رواه الشيخان: أحد العشرة أيضا، وأحد الستة، وأحد من أسلم وهو صغير ابن ثمان سنين فيما قاله عروة، والأكثر أنه أسلم وله ثنتا عشرة سنة وقيل خمس عشرة، وكان عمه يعلقه في حصير، ويدخن عليه بالنار، ويقول: ارجع فيقول الزبير: لا أكفر أبدا، وقال عثمان: لما قيل له استخلف الزبير، أما إنه لخيرهم وأحبهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رواه البخاري.
ومناقبه كثيرة، وعن عروة وابن المسيب أول من سل سيفه في الله الزبير، وذلك أن الشيطان نفخ نفخة قال: أخذ رسول الله، فأخذ الزبير يشق الناس بسيفه، والنبي صلى الله عليه وسلم بأعلى مكة، فلقيه، فقال: "مالك يا زبير"؟ فقال: أخبرت إنك أخذت، فصلى عليه ودعا له ولسيفه، رواه الزبير بن بكار.
وروى يعقوب بن سفيان أن الزبير كان له ألف مملوك يؤدون إليه الخراج، فيتصدق به(4/545)
قتل سنة ست وثلاثين، يوم الجمل، قتله عمرو بن جرموز، بوادي السباع غيلة وهو نائم.
وسعيد بن العاص، أخو خالد وأبان.
وسعد بن أبي وقاص.
__________
كله ولا يدخل بيته من شيئا، "قتل سنة ست وثلاثين يوم الجمل، بعد انصرافه من الحرب، تاركا للقتال لما قال له علي: أنشدك الله أسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنك تقاتل عليا وأنت ظالم له" قال: نعم ولم أذكر ذلك إلى الآن فانصرف، رواه أبو يعلى، "قتله عمرو بن جرموز". بضم الجيم والميم بينهما راء ساكنة، وآخره زاي التميمي "بوادي السباع غيلة، وهو نائم" وجاء إلى علي متقربا بذلك، فبشره بالنار.
أخرجه أحمد والترمذي وغيرهما، وصححه الحاكم من طريق بعضها مرفوع، كما في الفتح ونحوه في الإصابة وفيها أيضا.
وروى يعقوب بن سفيان في تاريخه، لما التقوا كان طلحة أول قتيل، فانطلق الزبير على فرس له، فتبعه عمرو بن جرموز فأتاه من خلفه، وأعانه فضالة بن جابر ونفيع، فقتلوه انتهى، فظاهر هذا أنهم قتلوه على فرسه، اللهم إلا أن يكونوا أرادوا ذلك، فلم يقدروا لشدة شجاعته، فتركوه حتى نام، فأتاه ابن جرموز فقتله، وقد صحح ابن بدرون الأول قال وفيه تقول زوجته عاتكة:
يا عمرو لو نبهته لوجدته ... لا طائشا رعش الجنان ولا اليد
ثكلتك أمك إن قتلت لمسلما ... حلت عليك عقوبة المتعمد
"وسعيد بن العاصي" بن أمية "أخو خالد وأبان" أولاد أبي أحيحة أسلموا كلهم.
وذكر ابن إسحاق سعيدا فيمن استشهد بالطائف، وابن شاهين أنه أسلم قبل الفتح بيسير، وسيذكر المصنف أخويه أيضا من الكتاب، "وسعد بن أبي وقاص" وسمه مالك بن وهيب، ويقال أهيب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب بن مرة القرشي الزهري أحد العشرة، والستة والفرسان والسابقين الأولين بعد ستة هو سابعهم، وهو ابن تسع عشرة سنة، كما قاله ابن عبد البر.
وأما قوله: لقد رأيتني وأنا ثالث الإسلام رواه البخاري، فحمل على ما اطلع عليه، وكان مجاب الدعوة مشهورا بذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: "اللهم استجب لسعد إذا دعاك" فكان لا يدعو إلا استجيب له رواه الترمذي وكان أول من رمى بسهم في سبيل الله، وتوفي سنة خمس وعشرين على المشهور، وهو آخر العشرة موتا.(4/546)
وعامر بن فهيرة مولى أبي بكر رضي الله عنه.
وعبد الله بن الأرقم القرشي الزهري، كان يكتب الرسائل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الملوك وغيرهم، وكتب بعده لأبي بكر، ثم لعمر من بعده، رضي الله عنهم، واستعمله عمر على بيت المال مدة ولايته، ثم عثمان من بعده إلى أن استعفى عثمان من الولاية وبقي عاطلا،
__________
وروى الترمذي عن جابر أقبل سعد، فقال صلى الله عليه وسلم: "هذا خالي فليرني امرؤ خاله" ومناقبه كثيرة شهيرة.
"وعامر بن فهيرة" بضم الفاء مصغر التيمي، "مولى أبي بكر رضي الله عنه" أحد السابقين وكان ممن يعذب في الله، فاشتراه الصديق، فأعتقه استشهد يوم بئر معونة باتفاق أصحاب المغازي.
وفي البخاري وغيره: أن عامر بن الطفيل سأل من رجل منكم لما قتل رأيته رفع بين السماء والارض، قالوا: عامر بن فهيرة، وأما ما رواه ابن منده عنه، قال: تزود أبو بكر مع رسول الله في جيش العسرة بنحي من سمن وعكة من عسل على ما كنا عليه من الجهد فمنكر، فإن جيش العسرة، وهو غزوة تبوك باتفاق، وعامر قتل قبلها بست سنين، وقد عاب أبو نعيم على ابن منده إخراجه هذا الحديث ونسبه إلى الغفلة والجهالة، فبالغ وإنما اللوم عليه في سكوته عليه، ففي إسناده عمر بن إبراهيم الكردي، وهو متهم بالكذب فالآفة منه كما في الإصابة.
"وعبد الله بن الأرقم" بن أبي الأرقم واسمه عبد يغوث بن وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب، "القرشي، الزهري" وجده عبد يغوث خاله صلى الله عليه وسلم أسلم عبد الله يوم الفتح، "كان يكتب الرسائل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الملوك وغيرهم" كما رواه البغوي وزاد، وبلغ من أمانته عنده أنه كان يأمره أن يكتب إلى بعض الملوك، فيكتب، ويختم، ولا يقرأ لأمانته عنده.
وقال الإمام مالك عن زيد بن أسلم عن أبيه: قال عمر: كتب إلى رسول الله كتاب، فقال لعبد الله بن الأرقم الزهري: "أجب هؤلاء عني"، فأخذ الكتاب فأجابهم ثم جاء به فعرضه عليه صلى الله عليه وسلم فقال: "أصبت بما كتبت"، قال عمر: فما زالت في نفسي حتى جعلته يعني على بيت المال، رواه أبو القاسم البغوي أيضا، "وكتب بعده لأبي بكر ثم لعمر من بعده رضي الله عنهم، واستعمله عمر على بيت المال مدة ولايته" حتى أن حفصة روت عن عمر أنه قال لها: لولا أن ينكر علي قومك لاستخلفت عبد الله بن الأرقم "ثم عثمان من بعده إلى أن استعفى عثمان من الولاية"، فأعفاه "وبقي عاطلا" أي تاركا للولاية، قال مالك: بلغني أن عثمان أجازه بثلاثين ألفا، فأبى أن يقبلها، وقال: إنما عملت لله، وأخرج البغوي عن عمر بن دينار أنه أعطاه ثلاثمائة(4/547)
وكان أمير المؤمنين عمر يقول في حقه: ما رأيت رجلا أخشى لله منه، مات في خلافة عثمان رضي الله عنهما.
وأبي بن كعب بضم الهمزة وفتح الموخحدة من سباق الأنصار، كان يكتب الوحي له صلى الله عليه وسلم وهو أحد الستة الذين حفظوا القرآن على عهده صلى الله عليه وسلم.....
__________
ألف درهم، فأبى أن يقبلها، وقال: إنما عملت لله، وإنما أجري على الله، وكان أمير المؤمنين عمر يقول في حقه: ما رأيت رجلا، ممن أسلم في الفتح وتلبس بالولايات "أخشى لله منه" وحسبه هذا الثناء من مثل عمر، "مات في خلافة عثمان رضي الله عنهما".
قال ابن السكين قال في الإصابة وهو مقتضى صنيع البخاري في تاريخه الصغير، ووقع في ثقات ابن حبان أنه توفي سنة أربع وستين، وهو وهم، وروى عنه صلى الله عليه وسلم، وعنه عبد الله بن عتبة بن مسعود، وأسلم مولى عمر ويزيد بن قتادة وعروة انتهى "وأبي بن كعب" ابن قيس الأنصاري النجاري، "بضم الهمزة، وفتح الموحدة من سباق الأنصار، إلى الإسلام كان من أصحاب العقبة الثانية، وشهد بدرا والمشاهد.
روى مسلم وأحمد عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سأله: "أي آية في كتاب الله أعظم"؟، قال أبي: آية الكرسي، قال صلى الله عليه وسلم: "ليهنك العلم يا أبا المنذر"، وقال صلى الله عليه وسلم: "إن الله أمرني أن أقرأ عليك لم يكن الذين كفروا" قال: وسماني؟ قال: "نعم"، فبكى رواه الشيخان، وقال صلى الله عليه وسلم: "يا أبا المنذر أمرت أن أعرض عليك القرآن" فقال: بالله آمنت وعلى يديك أسلمت ومنك تعلمت، فرد صلى الله عليه وسلم القول، فقال: يا رسول الله ذكرت هناك، قال: "نعم باسمك ونسبك في الملإ الأعلى"، قال: فاقرأ إذا يا رسول الله، رواه الطبراني برجال ثقات.
"كان يكتب الوحي له صلى الله عليه وسلم، وهو أحد الستة الذين حفظوا القرآن على عهد صلى الله عليه وسلم" من الأنصار، وزيد بن ثابت وأبو زيد ومعاذ، وأبو الدرداء وسعد بن عبادة.
رواه الطبراني والبيهقي من مرسل الشعبي مقيدا بالأنصار، كما ذكر فلا يرد أنه حفظه كثيرون، وأما ما أخرجه الشيخان عن قتادة عن أنس جمع القرآن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم أربعة، كلهم من الأنصار أبي ومعاذ بن جبل، وأبو زيد، وزيد بن ثابت، قلت لأنس، من أبو زيد، قال: أحد عمومتي
وفي رواية ثابت عن أنس: مات صلى الله عليه وسلم ولم يجمع القرآن غير أربعة فذكرهم إلا أنه ذكر أبا الدرداء بدل أبي بن كعب فقال الإمام المازري: لا يلزم من قول أنس لم يجمعه غيرهم أن يكون الواقع في نفس الأمر كذلك لأن التقدير أنه لا يعلم أن سواهم جمعه، وإذا كان المرجع إلى ما في علمه لم يلزم أن يكون الواقع كذلك.(4/548)
وأحد الفقهاء الذين كانوا يفتون على عهده عليه الصلاة والسلام، وتوفي بالمدينة سنة تسع عشرة. وقيل سنة عشرين، وقيل غير ذلك،
__________
وقال القرطبي: إنما خص الأربعة بالذكر لشدة تعلقه بهم دون غيرهم، أو لكونهم كانوا في ذهنه دون غيرهم، وقال الباقلاني: الجواب عنه من أوجه، إما لا مفهوم له أو لم يجمعه على جميع الوجوه، والقراءات أو ما نسخ منه بعد تلاوته، أو لا مراد بجمعه كتابته، أو تلقيه من فم الرسول بلا واسطة، أو تصدوا لإلقائه وتعليمه، فاشتهروا به، أو إكمال حفظه، أو السمع والطاعة له والعمل بموجبه.
قال في فتح الباري: وفي غالب هذه الاحتمالات الثمانية تكلف، ولا سيما الأخير، وقد ظهر لي احتمال آخر، وهو أن المراد إثبات ذلك للخزرج دون الأوس فقط، فلا ينفي ذلك عن غير القبيلتين، قال: والذي يظهر من كثير من الأحاديث أن أبا بكر كان يحفظ القرآن في حياته صلى الله عليه وسلم، ففي الصحيح أنه بنى مسجدا بفناء داره، فكان يقرأ فيه القرآن، وهو محمول على ما كان نزل منه إذ ذاك، وقد صح حديث يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، وقد قدمه صلى الله عليه وسلم في مرضه، أما ما للمهاجرين والأنصار، فدل على أنه كان أقرأهم، وقد ورد عن علي أنه جمع القرآن على ترتيب النزول عقب موت النبي صلى الله عليه وسلم أخرجه ابن أبي داود انتهى.
"وأحد الفقهاء الذين كانوا يفتون على عهده عليه الصلاة والسلام".
روى ابن سعد من حديث سهل بن أبي خيثمة أن الذين كانوا يفتون على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة من المهاجرين عمر وعلي وعثمان، وثلاثة من الأنصار أبي بن كعب، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، ومن حديث ابن عمر، قال: كان أبو بكر، وعمر يفتيان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، ومن حديث خراشي الأسلمي كان عبد الرحمن بن عوف ممن يفتي في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ونظمهم الجلال السيوطي في قلائد الفرائد وآداب الفتوى، فقال:
وقد كان في عصر النبي جماعة ... يقومون بالإفتاء قومه ثابت
فأربعة أهل الخلافة معهم ... معاذ أبي وابن عوف ابن ثابت
وابن ثابت بالرفع بحذف العاطف، أي وزيد بن ثابت، وذكرهم ابن الجوزي في المدهش أحد عشر، فذكر من عدا أبي بن كعب، وزاد حذيفة وعمارا وأبا الدرداء وأبا موسى، وكان عمر يسمي أبيًّا سيد المسلمين، ويقول اقرأ يا أبي، ويروى ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم ويسأله عن النوازل ويتحاكم إليه في المعضلات، "وتوفي بالمدينة" وفي سنة موته اختلاف كثير، فقيل "سنة تسع عشرة، وقيل سنة عشرين" ذكرهما ابن أبي خيثمة عن يحيى بن معين، "وقيل غير ذلك" فقال الواقدي: رأيت أل أبي وأصحابنا يقولون مات سنة اثنتين وعشرين، فقال عمر: اليوم مات سيد(4/549)
وهو الذي كتب الكتاب إلى ملكي عمان "جيفر" و"عبد" ابني الجلندي، كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
وثابت بن قيس بن شماس،
__________
المسلمين وبهذا صدر ابن حبان، قال ابن عبد البر: الأكثر على أنه مات في خلافة عمر انتهى، وصحح أبو نعيم أنه مات في خلافة عثمان سنة ثلاثين.
قال الواقدي: وهو أثبت الأقاويل، وروى البغوي عن الحسن أنه مات قبل عثمان بجمعة، "وهو الذي كتب الكتاب إلى ملكي عمان" بضم المهملة، وخفة الميم من اليمن "جيفر،" بفتح الجيم، فتحتية ساكنة، ففاء مفتوحة، فراء مصروف الأزدي أسلم، "وعبد" بالموحدة بلا إضافة، وقيل بتحتية، وقيل عباد كذلك بلا إضافة أسلم أيضا، قال العسكري، لم ير هو ولا أخوه النبي صلى الله عليه وسلم فهما تابعيان. "ابني الجلندى"، بضم الجيم وفتح اللام وسكون النون، وفتح الدال المهملة والقصر، كما في الفتح والصحاح، ووهمه القاموس، فزعم أن القصر مع ضم اللام، وأما بفتحها فبالمد أسلم أيضا لما بعث صلى الله عليه وسلم إليه عمرو بن العاصي، وقال فيه أبياتا:
أتاني عمرو بالتي ليس بعدها ... من الحق شيء والنصيح نصيح
فقلت له ما زدت إن جئت بالتي ... جلندا عمان في عمان يصيح
فيا عمرو قد أسلمت لله جهرة ... ينادي بها في الواديين فصح
ذكره وبيمة عن ابن إسحاق، وذكر غيره أنه بعث عمرا إلى ولديه، "كما سيأتي إن شاء الله تعالى".
قال في الإصابة، فيحتمل أنه أرسل إليهم جميعا، ولا مانع من أن الجلندى قد ساح وفوض الأمر إلى ولديه.
"وثابت بن قيس بن شماس" بفتح المعجمة والميم المشددة، فألف فمهملة ابن زهير بن مالك الأنصاري الخزرجي خطيب الأنصار.
قال صلى الله عليه وسلم: "نعم الرجل ثابت بن قيس" رواه الترمذي بإسناد حسن، وأخرج ابن جرير عن محمد بن ثابت بن قيس قال: لما نزلت {لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} ، قعد ثابت في الطريق يبكي، فمر به عاصم بن عدي، فقال: ما يبكيك؟ قال: هذه الآية، أتخوف أن تكون نزلت في، وأنا صيت رفيع الصوت، فرفع عاصم ذلك إليه صلى الله عليه وسلم فدعا به، فقال: "أما ترضى أن تعيش حميدا، وتقتل شهيدا، وتدخل الجنة"، قال: رضيت، ولا أرفع صوتي أبدا على صوت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله: {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ} [الحجرات: 3] وأخرج أصل الحديث مسلم.(4/550)
استشهد باليمامة، وهو الذي كتب كتاب قطن بن حارثة العليمي، كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
وحنظلة بن الربيع الأسيد الذي غسلته الملائكة حين استشهد.
__________
وروى ابن السكن عن أنس، خطب ثابت بن قيس مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فقال: نمنعك مما نمنع منه أنفسنا وأولادنا، فما لنا قال: "الجنة"، قال: رضينا ولم يذكره أصحاب المغازي في البدريين، وقالوا: شهد أحدا وما بعدها، "واستشهد باليمامة"، سنة إحدى عشرة ولا يعلم من أجيزت وصيته بعد موته غيره.
روى البخاري مختصرا، والطبراني مطولا عن أنس لما انكشف الناس يوم اليمامة، قلت لثابت ألا ترى يا عم، ووجدته متحنطا، قال: ما هكذا كنا نقاتل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، بئسما عودتم أقرانكم، اللهم إني أبرأ إليك مما جاء به هؤلاء ومما صنع هؤلاء، ثم قاتل حتى قتل، وكان عليه درع، فمر به رجل مسلم، فأخذها. فبينما رجل من المسلمين نائم أتاه ثابت في منامه، فقال: إني أوصيك بوصية، فإياك أن تقول هذه حلم فتضيعه، إني لما قتلت أخذ درعي فلان ومنزله في أقصى الناس، وعند خبائه، فرس، وقد كفأ على الدرع برمة وفوقها رجل، فائت خالدا فمره فليأخذها، وليقل لأبي بكر أن علي من الدين كذا وكذا، وفلان عتيق، فاسيتقظ الرجل، فأتى خالدا، فأخبره فبعث إلى الدرع فأتى بها، وحدث أبا بكر برؤياه، فأجاز وصيته، "وهو الذي كتب كتاب قطن" بفتح القاف، والطاء المهملة، ونون "بن حارثة العليمي" بضم العين، وفتح اللام مصغر نسبة لبني عليم من كلب، أسلم وصحب، "كما سيأتي إن شاء الله تعالى" في المقصد الثالث.
"وحنظلة بن الربيع" بن صيفي بفتح المهملة وسكون التحتية ابن الحارث التميمي "الأسيد" بضم الهمزة مصغر بشد الياء وسكونها نسبة إلى جده الأعلى أسيد بن عمرو بن تميم، واقتصر في النور والتبصير على التثقيل، وقال بعض من ألف في الصحابة جوز بعض أهل اللغة تخفيفه مع أن المنسوب إليه المشدد، وهو أسيد "الذي غسلته الملائكة حين استشهد" كذا في النسخ، وهو غلط فاضح، فإن غسيل الملائكة هو حنظلة بن أبي عامر واسمه عمرو بن صيفي بن زيد الأنصاري الأوسي، عرف أبوه في الجاهلية بالراهب، وسماه المصطفى الفاسق، ولعله كان في الأصل غير الذي غسلته، فسقط لفظ غير، وقد فرق بينهما المؤلفون في الصحابة، وهو واضح، فالغسيل أوسي أنصاري، وهذا تميم، قال في الإصابة: ويقال له حنظلة الكاتب، وهو ابن أخي أكثم بن صيفي.
روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكتب له، وأرسله إلى أهل الطائف فيما ذكر ابن إسحاق وشهد(4/551)
وأبو سفيان صخر بن حرب بن أميمة بن عبد شمس بن مناف القرشي الأموي.
وابنه معاوية، ولي لعمر الشام، وأقره عثمان. قال ابن إ سحاق: وكان أميرا عشرين سنة، وخليفة أمير المؤمنين بعد نزول الحسن بن علي سبط سيد المرسلين عشرين سنة.
وروينا في مسند الإمام أحمد من حديث العرباض قال: سمعت
__________
القادسية، ونزل الكوفة، ومات في خلافة معاوية، ويقال رثته الجن، وفيه تقول امرأة من أبيات:
إن سواد العين أودى به ... حزني على حنظلة الكاتب
"وأبو سفيان صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف القرشي الأموي" بضم الهمزة على القياس، وبفتحها على غير القياس، وهو الأشهر عندهم، كما في المصباح، وقال الجوهري بالضم، وربما فتحوا، أسلم في الفتح، وكان من المؤلفة، ثم حسن إسلامه.
وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم وعنه ابن معاوية وابن عباس وقيس بن أبي حازم، مات سنة اثنتين أو إحدى أو أربع وثلاثين، قيل عاش ثلاثا وتسعين، وقيل ثمانيا وثمانين، وقيل غير ذلك.
"وابنه معاوية" المولود قبل البعثة بخمس سنين أو سبع أو ثلاث عشرة والأول أشهر.
قال أبو نعيم: كان من الكتبة الحسبة الفصحاء حليما وقورا وصحبه صلى الله عليه وسلم وكتب له، "ولي لعمر" بن الخطاب "الشام" بعد موت أخيه سنة تسع عشرة، "وأقره عثمان" مدة خلافته.
"قال ان إسحاق: وكان أميرا" من قبل عمر، ثم عثمان "عشرين سنة، وخليفة" بالتنوين "أمير المؤمنين" بالنصب بدل من خليف أو خبر ثان، "بعد نزول الحسن بن علي سبط سيد المرسلين" له عن الخلافة صونا لدماء المسلمين لا ضعفا ولا عجزا "عشرين سنة".
قال في الإصابة فيه تجوز لأن المدة بعد تسليم الحسن تسع عشرة سنة إلا يسيرا، وقال في الفتح: كانت ولايته بين إمارة ومحاربة ومملكة أكثر من أربعين سنة متوالية. ا. هـ.
روى أبو يعلى والبيهقي عن معاوية قال: اتبعت رسول الله صلى الله عليه وسلم بوضوء، فلما توضأ نظر إلي، فقال: "يا معاوية إن وليت أمرا فاتق الله وأعدل" فما زلت أظن أني مبتلى بعمل.
قال ابن عباس: إنه فقيه رواه البخاري: وقال أيضا ما رأيت أحدا أحلى للملك من معاوية رواه البخاري في تاريخه، وكان عمر إذا نظر إلى معاوية قال هذا كسري العرب.
رواه البغوي، ونظر إليه أبوه وهو غلام، فقال إن ابني هذا لعظيم الرأس وإنه لخليق أن يسود قومه، فقالت: هند قومه فقط؟ ثكلته إن لم يسد العرب قاطبة ذكره ابن سعد، "وروينا في مسند الإمام أحمد من حديث العرباض" بكسر العين ابن سارية السلمي، "قال: سمعت(4/552)
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "اللهم علم معاوية الكتاب والحساب، وقه العذاب".
وهو مشهور بكتابة الوحي.
أسلم يوم فتح مكة ومات في العشر الأخير من رجب سنة تسع وخمسين، وقيل سنة ستين وقد قارب الثمانين، وقال ابن عبد البر عن اثنتين وثمانين سنة، والله أعلم.
__________
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم علم معاوية الكتاب والحساب وقه العذاب".
زاد في رواية للطبراني، ومكن له في البلاد.
قال في فتح الباري: وقد ورد في فضائله أحاديث كثيرة، لكن ليس فيها ما يصح من طريق الإسناد، وبذلك جزم إسحاق بن راهويه، والنسائي، وقد صنف ابن أبي عاصم جزءا في مناقبه، وكذلك أبو عمر غلام ثعلب وأبو بكر النقاش.
وأورد ابن الجوزي في الموضوعات بعض الأحاديث التي ذكروها، ثم ساق قول ابن راهويه لم يصح في فضائل معاوية شيء، وأخرج أيضا عن عبد الله بن أحمد سألت أبي ما تقول في علي ومعاوية، فأطرق، ثم قال: اعلم أن عليا كان كثير الأعداء، ففتش أعداؤه له عيبا فلم يجدوا فعمدوا إلى رجل قد حاربه، فاظروه كيدا منهم لعلي، فأشار بهذا إلى ما اختلقوه لمعاوية من الفضائل مما لا أصل له. ا. هـ. "وهو مشهور بكتابة الوحي" وقال المدائني كان زيد بن ثابت يكتب الوحي ومعاوية يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم فيما بينه وبين العرب، وعن ابن عباس، قال لي صلى الله عليه وسلم: "ادع لي معاوية"، وكان كاتبه، رواه أحمد وأصله في مسلم، "أسلم يوم الفتح فتح مكة" وكان من المؤلفة قلوبهم، ومن الطبقة الأولى، وهي من أعطيت مائة في غنائم حنين، كما ذكر غير واحد، وحكى الواقدي أنه أسلم بعد الحديبية، وكتم إسلامه حتى أظهره عام الفتح، وأنه كان في عمرة القضاء مسلما.
قال في الإصابة: ويعارضه ما في الصحيح عن سعد بن بي وقاص، أنه قال في العمرة في أشهر الحج فعلناها، وهذا يومئذ كافر، يعني معاوية، فيحتمل إن ثبت الأول أن سعدا أطلق ذلك بحسب ما استصحب من حاله، ولم يطلع على أنه كان أسلم لإخفائه لإسلامه، "ومات في العشر الأخير من رجب سنة تسع وخمسين" كذا صدر به، "وقيل" في رجب "سنة ستين، وقد قارب الثمانين" وبهذا جزم في التقريب، وقال في الإصابة، مات في رجب سنة ستين على الصحيح، "وقال ابن عبد البر عن اثنتين وثمانين سنة"، ورجحه النووي وقيل عن ست وثمانين سنة، "والله أعلم"، بما في نفس الأمر.(4/553)
وأخوه يزيد بن أبي سفيان بن حرب وأمره عمر على دمشق حتى مات بها سنة تسع عشرة بالطاعون، فوليها بعدها أخوه معاوية حتى رقي منها إلى الخلافة، وكان يزيد من سروات الصحابة وساداتهم أسلم يوم الفتح أيضا وأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم من غنائم حين مائة بعير وأربعين أوقية وزنها له بلال رضي الله عنه.
وزيد بن ثابت بن الضحاك الأنصاري النجاري،
__________
وروي عنه صلى الله عليه وسلم، وعنه ابن عباس، وجرير، وابن الزبير ومعاوية بن خديج، والنعمان بن بشير، وغيرهم من الصحابة والتابعين، "أخوه" لأبيه "يزيد بن أبي سفيان بن حرب" وأمه في الحكم زينب بنت نوفل بن خلف من بني كنانة، كان يقال له يزيد الخير، ويكنى أبا الحكم، وهو أفضل بني أبي سفيان، قاله ابن عبد البر، واستعمله صلى الله عليه وسلم على صدقات بني فراس أخواله.
ذكره الزبير بن بكار، وأمره الصديق لما قفل من الحج سنة اثنتي عشرة أحد أمراء الأجناد، "وأمره عمر على" فلسطين، ثم على "دمشق" لما مات أميرها معاذ بن جبل، وكان استخلفه، فأقره عمر "حتى مات بها سنة تسع عشرة بالطاعون" كذا في التقرب، والذي في الإصابة، يقال مات في طاعون عمواس سنة ثماني عشرة.
وقال الوليد بن مسلم: بل تأخر موته إلى سنة تسع عشرة بعد أن افتتح قيسارية، "فوليها بعده أخوه معاوية" واستمر "حتى رقي منها إلى الخلافة" سنة إحدى وأربعين واجتمع عليه الناس فسمي بذلك العام عام الجماعة "وكان يزيد من سروات الصحابة وساداتهم" عطف تفسير، "أسلم يوم الفتح أيضا" كأبي وأخيه، وكان من المؤلفة أيضا، "و" لذا "أعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم من غنائم حنين مائة بعير وأربعين أوقية وزنها له بلال رضي الله عنه" وحسن إسلامه، وكان من فضلاء الصحابة.
وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن الصديق.
وروى عنه أبو عبد الله، وعياض الأشعريان، وجنادة بن أبي أمية، "وزيد بن ثابت بن الضحاك" بن زيد بن لوذان بن عمرو بن عبد عوف بن غنم بن مالك بن النجار "الأنصاري" الخزرجي، "النجاري" بنون وجيم إلى جده المذكور أبو سعيد، وقيل أبو ثابت، وقيل غير ذلك استصغر يوم بدر، ويقال شهد أحدا، ويقال أول مشاهده الخندق، وكان معه راية بني النجار، يوم تبوك قدم صلى الله عليه وسلم المدينة وله إحدى عشرة سنة، وروى البخاري تعليقا، والبغوي، وأبو يعلى موصولا عنه، قال: أتى بي النبي صلى الله عليه وسلم مقدمة المدينة، فقيل هذا غلام من بني النجار، وقد قرأ سبعة عشر سورة، فقرأت عليه، فأعجبه ذلك، فقال: "تعلم كتاب يهود، فإني ما آمنهم على كتابي" فتعلمت،(4/554)
مشهور، بكتب الوحي، مات سنة خمسين أو ثمان وأربعين، وقيل بعد الخمسين. وكان أحد فقهاء الصحابة، وأحد من جمع القرآن في خلافة أبي بكر، ونقله إلى المصحف في خلافة عثمان.
وشرحبيل ابن حسنة، وهي أمة، وهو أول كاتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
__________
فما مضى لي نصف شهر حى حذفته، فكنت أكتب له إليهم، وإذا كتبوا إليه قرأت له، "مشهور بكتب الوحي" وكان يكتب له أيضا المرسلات، وكتب للعمرين في خلافتهما، وتولى قسم غنائم اليرموك، وكان عمر يستخلفه إذا سافر للحج، فقلما رجع إلا أقطعه حديقة من نخل رواه البغوي، وكان عثمان يستخلفه أيضا إذا حج، "مات سنة خمسين أو ثمان وأربعين، وقيل بعد الخمسين" وفي الإصابة، مات سنة اثنتين أو ثلاث أو خمس وأربعين، وهو قول الأكثر سنة إحدى واثنتين أو خمس وخمسين.
قال أبو هريرة: اليوم مات حبر هذه الأمة، وعسى الله أن يجعل في ابن عباس منه خلفا، "وكان أحد فقهاء الصحابة" رأسا بالمدينة في القضاء والفتوى والفرائض.
قال صلى الله عليه وسلم: "أفرضكم زيد"، رواه أحمد بإسناد صحيح، وقيل إنه معلول.
وقال ابن عباس: لقد علم المحفوظون من أصحاب محمد أن زيد بن ثابت كان من الراسخين في العلم رواه البغوي، وعن الشعبي ذهب زيد ليركب، فأمسك ابن عباس بالركاب، فقال: تنح يابن عم رسول الله: قال: لا هكذا نفعل بالعلماء والكبراء، رواه يعقوب بن سفيان بإسناد صحيح، "وأحد من جمع القرآن في خلافة أبي بكر، ونقله إلى المصحف في خلافة عثمان، وفي الإصابة، وهو الذي جمع القرآن في عهد أبي بكر ثبت ذلك في الصحيح.
وقال له أبو بكر: إنك شاب عاقل لا انهمك، وروى عنه جماعة من الصحابة منهم أبو هريرة، وأبو سعيد، وابن عمر، وأنس، وسهل بن سعد، وسهل بن حنيف، وعبد الله بن يزيد الخطمي، ومن التابعين ولداه خارجة، وسليمان وابن المسيب، والقاسم بن محمد، وسليمان بن يسار وآخرون.
"وشرحبيل" بضم المعجمة، وفتح الراء وسكون المهملة، فموحدة، فتحتية، فلام "ابن حسنة" الصحابية، وهاجرت مع ابنها إلى الحبشة، "وهي أمه" على ما جزم به غير واحد.
وقال ابن عبد البر: بل تبنته وأبوه عبد الله بن المطاع بن عبد الله الكندي، ويقال التميمي، أسلم قديما هو وأخواه لأمه جنادة، وجابر ابنا سفيان بن معمر بن حبيب الجمحي، وهاجروا إلى الحبشة، ثم إلى المدينة "وهو أول كاتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم" وسيره أبو بكر في فتوح الشام، وولاه عمر على ربع من أرباعها، وبها مات سنة ثمان عشرة.(4/555)
والعلاء بن الحضرمي.
وخالد بن الوليد بن المغيرة المخزومي، سيف الله، أسلم بين الحديبية والفتح، مات سنة إحدى أو اثنتين وعشرين.
وعمرو بن العاص بن وائل السهمي، فاتح مصر في أيام أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، أسلم عام الحديبية ولي إمرة مصر مرتين، ومات بها سنة نيف وأربعين وقيل بعد الخمسين.
__________
والعلاء بن الحضرمي، واسم أبيه عبد الله بن عمار، سكن أبوه مكة، وحالف حرب بن أمية والعلاء صحابي جليل استعمله صلى الله عليه وسلم على البحرين فأقره أبو بكر، ثم عمر حتى مات سنة أربع عشرة أو إحدى وعشرين، وكان يقال له إنه مجاب الدعوة، وخاض البحر بكلمات قالها.
وروى عنه من الصحابة السائب وأبو هريرة، "وخالد بن الوليد بن المغيرة المخزومي سيف الله"، كما قال صلى الله عليه وسلم "أسلم بين الحديبية والفتح" وتقدم مفصلا، "مات سنة إحدى أو اثنتين وعشرين، بحمص عند الأكثر وقيل بالمدينة، وذكر أنه من الكتاب ابن عبد البر، وابن الأثير، وغيرهما.
"وعمرو بن العاص بن وائل" القرشي "السهمي، فاتح مصر في أيام أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، أي عمر وعمرو، كما هو ظاهر لا عمرو أبوه؛ لأن الخطاب لم يسلم، "أسلم عام الحديبية" وفي الإصابة أسلم قبل الفتح في صفر سنة ثمان، وقيل بين الحديبية وخيبر، ومر لذلك مزيد عند ذكر المصنف وقت إسلامه في المقصد الأول، وكان صلى الله عليه وسلم يقربه ويدنيه لشجاعته، وولاه ذات السلاسل وأمده بالعمرين، وأبي عبيدة، ثم استعمله على عمان، فمات وهو أميرها، ثم كان من الأمراء الأجناد في الجهاد بالشام في زمن عمر، ففتح قنسرين وصالح أهل حلب وإنطاكية، وولاه عمر فلسطين، وقال في حقه، ما ينبغي له أن يمشي على الأرض إلا أميرا، وقال صلى الله عليه وسلم: "عمرو بن العاص من صالحي قريش"، رواه أبو يعلى وغيره، "ولي إمرة مصر مرتين" الأولى، ولاه عمر لما فتحها إلى أن مات، فأبقاه عثمان قليلا ثم عزله وولى ابن أبي سرح فآل أمر عثمان بسببه إلى ما اشتهر ثم لما كانت الفتنة بين علي ومعاوية، لحق عمرو بمعاوية فكان يدبر أمره في الحرب إلى أن جرى أمر الحكمين فجهزه معاوية إلى مصر، وهي المرة الثانية، فوليها لمعاوية من صفر سنة ثمان وثلاثين إلى أن توفي، "ومات بها سنة نيف وأربعين، وقيل بعد الخمسين" وفي الإصابة مات سنة ثلاث وأربعين على الصحيح الذي جزم به ابن يونس وغيره من المتقين، وقيل قبلها بسنة، وقيل بعدها، ثم اختلفوا، فقيل بست،(4/556)
والمغيرة بن شعبة الثقفي، أسلم قبل الحديبية، وولي إمرة البصرة ثم الكوفة، مات سنة خمسين على الصحيح.
وعبد الله بن رواحة الخزرجي الأنصاري أحد السابقين، شهد بدرا واستشهد بمؤتة.
ومعيقيب -بقاف وآخره موحدة مصغر- ابن أبي فاطمة الدوسي، من السابقين الأولين، وشهد المشاهد ومات في خلافة عثمان أو علي.
وحذيفة بن اليمان،
__________
وقيل بثمان، وقيل بأكثر.
قال الليث: وهو ابن تسعين سنة، وقال العجلي: تسع وتسعين رضي الله عنه.
"والمغيرة" بضم الميم على الأشهر، وحكى ابن قتيبة وغيره كسرها، والهاء فيه في الأصل للمبالغة، كعلامة "ابن شعبة الثقفي أسلم قبل الحديبية" وشهدها وبيعة الرضوان وله فيه ذكر، وكان يقال له مغيرة الرأي، وكان من دهاة العرب، وشهد اليمامة، وفتوح الشام، والعراق "وولي إمرة البصرة" لعمر، ففتح همذان وعدة بلاد، ثم عزله عمر، "ثم" ولاه "الكوفة" وأقره عثمان، ثم عزله، فلما قتل عثمان اعتزل القتال، ثم بايع معاوية بعد اجتماع الناس عليه، فولاه بعد ذلك الكوفة، فاستمر على إمرتها حتى مات سنة خمسين على الصحيح، الذي عليه الأكثر، وقيل قبلها بسنة، وقيل بعدها بسنة.
"وعبد الله بن رواحة، الخزرجي، الأنصاري، أحد السابقين" إلى الإسلام من الأنصار، وأحد النقباء ليلة العقبة، "شهد بدرا" وما بعدها، "واستشهد بمؤتة" من الشام رضي الله عنه.
"ومعيقيب" بضم الميم، وفتح العين المهملة، وسكون التحتية، و"بقاف" مكسورة بعدها تحتية، "وآخره موحدة مصغر".
قال ابن شاهين: ويقال معيقب بغير الياء الثانية "ابن أبي فاطمة الدوسي" ويقال إنه من ذي أصبح، وهو حليف بني أمية "من السابقين الأولين" إلى الإسلام بمكة، "وشهد المشاهد" وكان به داء الجذام، وقيل البرص، فعولج بأمر عمر حتى وقف.
قاله أبو عمر: ويقال هاجر إلى الحبشة، وكان على بيت المال لعمر، ثم كان على خاتم عثمان.
وروى أحاديث وعنه ابناه محمد والحارث، وحفيده إياس بن الحارث وأبو سلمة بن عبد الرحمن، "مات في خلافة عثمان أو علي" وقيل عاش إلى بعد الأربعين، كما في الإصابة، "وحذيفة بن اليمان" واسه حسيل بالتصغير، ويقال حسل بكسر، فسكون المهملتين ابن(4/557)
من السابقين، صح في مسلم أنه صلى الله عليه وسلم أعلمه بما كان ومما يكون إلى أن تقوم الساعة، وأبوه صحابي أيضا استشهد بأحد، ومات حذيفة في أول خلافة علي سنة ست وثلاثين.
وحويطب بن عبد العزى العامر، أسلم يوم الفتح، عاش مائة وعشرين سنة، ومات سنة أربع وخمسين.
وله كتاب آخر سوى هؤلاء، وذكروا في الكتاب الذي تقدم ذكره.
__________
جابر بن ربيعة بن فروة بن الحارث بن قطيفة بن عبس العبسي، بسكون الموحدة أصاب أبوه دما، فهرب إلى المدينة، فحالف بني عبد الأشهل، فسماه قومه اليمان، لكونه حالف اليمانية، وتزوج أم حذيفة، فولد له بالمدينة "من السابقين" أسلم هو وأبوه، وأرادا شهود بدر، فصدهما المشركون.
وفي الصحيحين أن أبا الدرداء قال لعلقمة: أليس فيكم صاحب السر الذي لا يعلمه غيره يعني حذيفة، وذلك لأنه "صح في مسلم أنه صلى الله عليه وسلم أعلمه" لفظ مسلم عن حذيفة: لقد حدثني رسول الله صلى الله عليه وسلم "بما كان، وبما يكون إلى أن تقوم الساعة" ولذا سأله عمر عن الفتنة، كما في الصحيحين، وشهد أحدا والخندق وله بها ذكر حسن، وما بعدهما، وفتوح العراق، وله بها آثار شهيرة، "وأبوه صحابي أيضا استشهد بأحد"، قتله المسلمون خطأ يظنونه من المشركين، "ومات حذيفة" أميرا على المدائن من عمر، فلم يزل بها حتى مات "في أول خلافه علي" بعد أن بويع له بأربعين يوما "سنة ست وثلاثين".
وروى عنه صلى الله عليه وسلم وعن عمر، وروى عنه جابر، وجندب، وأبو الطفيل، وعبد الله بن يزيد، وغيرهم من الصحابة والتابعين، "وحويطب بن عبد العزى" بن أبي قيس بن عبدود بن نصر بن مالك بن حسل، بكسر الحاء، وسكون السين المهملتين، ولا ابن عامر بن لؤي القرشي، "العامر أسلم يوم الفتح" وشهد حنينا، وكان من المؤلفة، وجدد أنصاب الحرم في عهد عمر، ثم قدم المدينة، فنزلها إلى أن مات وباع داره بمكة من معاوية بأربعين ألف دينار، فاستكثرها بعض الناس، فقال حويطب: وما هي لمن عنده العيال.
ذكره ابن سعد "عاش مائة وعشرين سنة" قاله البخاري، "ومات سنة أربع وخمسين" قاله الواقدي، "وله كتاب آخر سوى هؤلاء ذكروا في الكتاب الذي تقدم ذكره" ومن كتابه السجل روى أبو داود والنسائي عن ابن عباس في قوله تعالى: {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ} [الأنبياء: 104] ، السجل كاتب للنبي صلى الله عليه وسلم.
زاد ابن منده: والسجل هو الرجل بالحبشة، وروى ابن مردويه وابن منده عن ابن عمر قال:(4/558)
وكان معاوية وزيد بن ثابت ألزمهم لذلك وأخصهم به، كما قاله الحافظ الشرف الدمياطي وغيره، ونبهت عليه.
قال الحافظ ابن حجر: وقد كتب له قبل زيد بن ثابت، أبي بن كعب، وهو أول من كتب له بالمدينة، وأول من كتب له بمكة من قريش عبد الله بن سعد بن أبي سرح، ثم ارتد ثم عاد إلى الإسلام يوم الفتح، وممن كتب له في الجملة أكثر من غيره الخلفاء الأربعة وأبان وخالد ابنا سعيد بن العاصي بن أمية.
__________
كان للنبي صلى الله عليه وسلم كاتب، يقال له السجل، فأنزل يوم نطوي السماء كطي السجل للكتاب، والسجل هو الرجل بالحبشة، وأخرجه أبو نعيم والخطيب، فهذا الحديث صحيح لهذه الطرق، وغفل من زعم أنه موضوع نعم ورد ما يخالفه، فأخرج ابن أبي حاتم من طريق أبي جعفر، البقار أن السجل ملك كان له في أم الكتاب كل يوم ثلاث طيات، وزاد النقاش أنه في السماء الثالثة، ونقل الثعلبي، وغيره عن ابن عباس، ومجاهد السجل الصحيفة، قاله في الإصابة باختصار، ومراده الرد على قول ابن كثير، عرضت حديث ابن عباس على المزي، فأنكره جدا، وأخبرته أن ابن تيمية قاله: إنه موضوع، وإن كان في سنن أبي داود فقال المزي: وأنا أقوله. ا. هـ.
قال الحافظ في غير الإصابة: وهذه مكابرة، "وكان معاوية، وزيد بن ثابت ألزمهم لذلك، وأخصهم به، كما قاله الحافظ الشرف" أي شرف الدين أبو محمد عبد المؤمن بن خلف "الدمياطي وغيره ونبهت عليه".
"قال الحافظ ابن حجر: وقد كتب له قبل زيد بن ثابت" وقبل معاوية بالأولى لتأخر إسلامه، عن زيد "أبي بن كعب: وهو أول من كتب له بالمدينة" قبل زيد وغيره، "وأول من كتب له بمكة من قريش" خرج شرحبيل بن حسنة؛ لأنه كندي، فلا يرد على قوله أنه أول كاتب "عبد الله بن سعد بن أبي سرح" العامري، "ثم ارتد، ثم عاد إلى الإسلام يوم الفتح" فحسن إسلامه، ولم يظهر منه بعده إلا الخير. ولاه عثمان مصر، ففتح الله على يديه أفريقية، فكان فتحا عظيما، بلغ سهم الفارس فيه ثلاثة آلاف مثقال، واعتزل الفتنة بعد قتل عثمان، فسكن عسقلان، وقيل الرملة، ودعا أن يختم عمله بالصلاة، فسلم من الصبح التسليمة الأولى، ثم هم بالثانية، فقبض، "وممن كتب له في الجملة أكثر من غيره الخلفاء الأربعة، وأبان" بن سعيد أسلم أيام خيبر وشهدها، كما ذكره الواقدي، ووافقه عليه علماء الأخبار، وهو المشهور، وخالفهم ابن إسحاق، فعده فيمن هاجر إلى الحبشة، ومات صلى الله عليه وسلم وإبان على البحرين، ثم قدم على أبي بكر، وسار إلى الشام، فقتل يوم أجنادين سنة ثلاثة عشرة، قاله الأكثر، وقيل غير ذلك.
"وخالد ابنا سعيد بن العاصي بن أمية" القرشي، الأموي، من السابقين قيل كان رابعا أو(4/559)
وقد كتب صلى الله عليه وسلم إلى أهل الإسلام كتبا في الشرائع والأحكام:
منها كتابه في الصدقات الذي كان عند أبي بكر، فكتبه أبو بكر لأنس لما وجهه إلى البحرين ولفظه كما عند البخاري، وأبي داود والنسائي:
بسم الله الرحمن الرحيم. هذه فريضة الصدقة التي فرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم على المسلمين،
__________
خامسا، فعاقبه أبوه ومنعه القوت، فهاجر إلى الحبشة حتى قدم مع جعفر، فشهد عمرة القضية وما بعدها، واستشهد بمرج الصفراء، وقيل بأجنادين، وقد اختلف في أيهما كانت قبل والله أعلم "وقد كتب صلى الله عليه وسلم" أي أمر بالكتابة، كما هو معلوم أنه لم يكتب، وهو في حقه معجزة، كما في الحديبية كتابة منتهية "إلى أهل الإسلام" تبقى عندهم يرجعون إليها عند الحاجة، "كتبا" نقوشا دالة على ألفاظ ذات معان تسمى كتبا "في الشرائع والأحكام" تفسيري، "منها كتابه في الصدقات الذي كان عند أبي بكر" الصديق، "فكتبه أبو بكر" بيده المباركة؛ لأنه كاتب أو بأمره لاشتغاله بأمور الخلافة "لأنس" ابن مالك "لما وجهه إلى البحرين" بلفظ التثنية عاملا عليها، وهي اسم لإقليم مشهور يشتمل على مدن معروفة قاعدتها هجر، والنسبة إليها بحراني، كما في الفتح، "ولفظه، كما عند البخاري" في مواضع عشرة منها ستة في كتاب الزكاة ثلاثة أبواب متوالية، ثم فصل بباب، ثم ثلاثة متوالية أيضا.
وفي الخمس والشركة واللباس وترك الخيل بإسناد واحد في العشرة مقطعا بحسب حاجته منه، "وأبي داود والنسائي" وابن ماجه الثلاثة في الزكاة، وكلهم من رواية ثمامة بن عبد الله أن جده أنسا حدثه أن أبا بكر كتب له هذا الكتاب لما وجهه إلى البحرين، وفي رواية لأبي داود أن أبا بكر كتبه لأنس، وعليه خاتم رسول الله صلى الله عليه وسلم "بسم الله الرحمن الرحيم".
قال الماوردي فيه إثبات البسملة أول الكتب، وإن الحمد ليس بشرط "هذه فريضة" قال الحافظ: أي نسخة فريضة، فحذف المضاف للعلم به "الصدقة" فيه أن اسمها يقع على الزكاة، خلافا لمن منع ذلك من الحنفية "التي فرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم" ظاهر في رفع الخبر إلى المصطفى وأنه ليس موقوفا على أبي بكر، وقد صرح برفعه إسحاق بن راهويه، أي أوجبها أو شرعها بأمر الله تعالى "على المسلمين" وقيل: معناه قدر؛ لأن إيجابها ثابت بالكتاب، ففرضه صلى الله عليه وسلم لها بيان لمجمله بتقدير الأنواع والأجناس، وأصل الفرض قطع الشيء الصلب، ثم استعمل في التقدير، لكونه مقتطعا من الشيء الذي يقدر منه، وقد يرد بمعنى البيان نحو قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم، والإنزال إن الذي فرض عليك القرءان والحل ما كان على(4/560)
والتي أمر الله بها رسوله، فمن سئلها من المسلمين على وجهها فليعطها، ومن سئل فوقها فلا يعط:
في أربعة وعشرين من الإبل فما دونها، من الغنم
__________
النبي صلى الله عليه وسلم من حرج فيما فرض الله له، وكله لا يخرج عن معنى التقدير، وبمعنى اللزوم حتى كاد يغلب عليه، وهو لا يخرج أيضا عن معنى التقدير، وقد قال الراغب، كل شيء ورد في القرآن فرض على فلان، فهو بمعنى الإنزال، وكل شيء ورد فرض له، فهو بمعنى لم يحرم عليه، وذكر أن معنى أن الذي فرض عليك القرآن، أي أوجب عليك العمل به، وهذا يؤيد قول الجمهور أن الفرض مرادف للوجوب، وتفريق الحنيفية بينهما باعتبار ما يلقبان به لا مشاحة فيه، وإنما النزاع في حمل ما ورد في الأحاديث الصحيحة على ذلك؛ لأن اللفظ السابق لا يحمل على الاصطلاح الحادث، واستدل به على أن الكافر لا يخاطب بالزكاة، وتعقب بأن المراد كونها لا تصح منه، لا أنه لا يعاقب عليها، وهو محل النزاع. ا. هـ.
"والتي أمر الله بها رسوله" أي بتبليغها، كما قال المصنف وغيره. فلا يرد أن الأنبياء لا زكاة عليهم، كما ذكره ابن عطاء الله بناء على قول الإمام مالك، أن الأنبياء لا يملكون.
قال السيوطي: وعند الشافعي وغيره يملكون، ثم الجلالة ثابتة في مواضع من البخاري، فما في بعض نسخ المواهب من حذفها تحريف، وأما لفظ بها، فقال الحافظ: كذا في كثير من نسخ البخاري ووقع في كثير منها بحذف بها، وأنكره النووي في شرح المهذب، ولأبي داود التي أمر بلا واو على أنها بدل من الأولى، "فمن سئلها" بضم السين "من المسلمين على وجهها" أي الكيفية المبنية في هذا الحديث، "فليعطها" وفيه دلالة على دفع الأموال الظاهرة للإمام، "ومن سئل فوقها" أي زائدا على ذلك في سن أو عدد، "فلا يعط" الزائد على الواجب، كما نقل الرافعي الاتفاق على ترجيحه، وقيل معناه: فليمنع الساعي، وليتول هو إخراجه بنفسه أو لساع آخر فإن الساعي طالب الزيادة متعد، وشرطه أن يكون أمينا، لكن محله إذا طلب الزيادة بغير تأويل، هكذا في الفتح ونسخته فلا يعطه بالهاء، وكذا في أبي داود المتبادر أنها ضمير عائد على فوق بمعنى الزائد، ويحتمل أنها للسكت.
وفي متون البخاري، وعليها شرح المصنف بدونها، وهل الموجود في نسخ المواهب الصحيحة، ويقع في بعضها بزيادة ياء من تحريف النساخ، وإن كانت لغة قليلة لعدم مجيء الرواية هنا بها، ثم شرح في بيان الفريضة، وأخذها وبدأ بالإبل؛ لأنها غالب أموالهم، فقال: "في أربعة وعشرين من الإبل" زكاة، "فما دونها" الفاء، بمعنى أو "من الغنم" متعلق بالمبتدأ المقدر.
قال الحافظ: كذا للأكثر، وفي رواية ابن السكن بإسقاط من، وصوبها بعضهم، وقال(4/561)
في كل خمس شاة.
فإذا بلغت خمسا وعشرين إلى خمس وثلاثين، ففيها بنت مخاض أنثى، فإن لم تكن ابنة مخاض فابن لبون ذكر.
فإذا بلغت ستا وثلاثين إلى خمس وأربعين، ففيها بنت لبون أنثى.
فإذا بلغت ستا وأربعين إلى ستين، ففيها حقة طروقة الجمل.
__________
عياض من أثبتها، فمعناه زكاتها، أي الإبل من الغنم، ومن للبيان لا للتبعيض، ومن حذفها فالغنم مبتدأ، والخبر مضمر في قوله أربعة وعشرين وما بعده، وإنما قدم الخير؛ لأن الغرض بيان المقادير التي تجب فيها الزكاة، وإنما تجب بعد وجوب النصاب، فحسن التقديم "في كل خمس شاة" مبتدأ وخبر، واستدل به على تعين إخراج الغنم، وهو قول مالك وأحمد، فلو أخرج بعيرا عن الأربعة والعشرين لم يجزه.
وقال الشافعي والجمهور يجزيه لأنه يجزي عن خمس وعشرين، فأولى ما دونها، ولأن الأصل أن تجب من جنس المال، وإنما عدل عنه رفقا، فإذا رجع باختياره إلى الأصل أجزأه، فإن كانت قيمة البعير دون قيمة أربع شياه، ففيه خلاف وإلا قيس أنه لا يجزي. ا. هـ. ويرد ما تمسكوا به لأنه قياس في معرض النص، فهو فاسد الاعتبار على أنه لا دخل له في هذا الباب.
نعم صحح المالكية أجزاء بعير عن شاة تفي قيمته بقيمته، "فإذا بلغت خمسا وعشرين" منتهية "إلى خمس وثلاثين، ففيها بنت مخاض" بفتح الميم والمعجمة الخفيفة، وآخر معجمة، أتى عليها حول، ودخلت في الثاني، وحملت أمها والمخاض الحامل، أي دخل وقت حملها، وإن لم تحمل "أنثى، فإن لم تكن بنت مخاض فابن لبون" وهو ما دخل في الثالثة فصارت أمه لبونا، بوضع الحمل "ذكر" أتى به، وبأنثى للتأكيد أو لينبه رب المال ليطيب نفسا بزيادة، وقيل احترز بذلك عن الخنثى وفيه بعد، كما في الفتح، وفي شرح الموطأ للباجي قال ذكر وإن كان ابن لا يكون إلا ذكرا زيادة في البيان؛ لأن من الحيوان ما يطلق على الذكر والأنثى، منه لفظ ابن كابن عروس وابن آوى، فرفع به هذا الاحتمال.
قال: ويحتمل أن يريد به مجرد التأكيد كقوله تعالى: {وَغَرَابِيبُ سُودٌ} "فإذا بلغت ستا وثلاثين إلى خمس وأربعين ففيها بنت لبون أنثى" إلى للغاية، وهي تقتضي أن ما بعدها يشتمل عليه الحكم المقصود بيانه بخلاف ما قبلها، فلا يدخل إلا بدليل وقد دخل هنا بدليل، قوله: "فإذا بلغت ستا وأربعين إلى ستين، ففيها حقة" بكسر المهملة، وشد القاف، والجمع حقاق بالكسر، والتخفيف "طروقة الجمل" لفتح الطاء أي مطروقة فعولة، بمعنى مفعولة كحكومة،(4/562)
فإذا بلغت إحدى وستين إلى خمس وسبعين، ففيها جذعة.
فإذا بلغت ستا وسبعين إلى تسعين، ففيها بنتا لبون.
فإذا بلغت إحدى وتسعين إلى عشرين ومائة، ففيها حقتان طروقتا الجمل.
فإذا زادت عن عشرين ومائة، ففي كل أربعين بنت لبون وفي كل خمسين حقة.
ومن لم يكن إلا أربع من الإبل، فليس فيها صدقة، إلا أن يشاء ربها، فإذا بلغت خمسا من الإبل ففيها شاة.
ومن بلغت عنده من الإبل صدقة الجذعة، وليست عنده جذعة، وعنده حقة فإنها تقبل منه الحقة، ويجعل معها شاتين إن استيسرتا له،
__________
بمعنى محكومة، أي بلغت أنها يطرقها الفحل، وهي التي أتت عليها ثلاث سنين ودخلت في الرابعة، "فإذا بلغت إحدى وستين إلى خمس وسبعين، ففيها جذعة" بفتح الجيم والمعجمة، وهي التي دخلت في الخامسة، سميت بذلك لأنها أجذعت مقدم أسنانها، أي أسقطته وهي غاية أسنان الزكاة "فإذا بلغت" يعني "ستا وسبعين، ففيها بنتا لبون".
قال الحافظ: كذا في الأصل بزيادة يعني، وكان العدد حذف من الأصل اكتفاء بدلالة الكلام، عليه فذكره بعض رواته بلفظ يعني لينبه على أنه مزيدا وشك أحد رواته فيه، وقد ثبت بغير لفظ يعني في رواية الإسماعيلي من طريق أخرى عن شيخ البخاري فيه، فيحتمل أن الشك فيه من البخاري، وقد وقع في رواية لأبي داود بإثباته أيضا، "فإذا بلغت إحدى وتسعين إلى عشرين ومائة، ففيها حقتان طروقتا الجمل، فإن زادت عن عشرين ومائة" واحدة، فصاعدا عند الجمهور "ففي كل أربعين بنت لبون، وفي كل خمسين حقة" فواجب مائة وثلاثين بنتا لبون، وحقه واجب مائة وأربعين بنت لبون وحقتان وهكذا، "ومن لم يكن معه إلا أربع من الإبل فليس فيها صدقة إلا أن يشاء ربها" أن يتبرع ويتطوع.
وأتى به للإيضاح وبيان الواقع، "فإذا بلغت خمسا من الإبل، ففيها شاة" زيادة في البيان والإيضاح إذ هو أول الكلام، "ومن بلغت عنده من الإبل صدقة الجذعة"، بالإضافة البيانية، ورفع صدقة فاعل بلغت ومن الإبل متعلق به فلم تتعين زيادة من داخلة على الفاعل، كما ظن لأنه تخريج لكلام سيد الفصحاء على قول ضعيف مع عدم الحاجة إليه.
"و" الحال أنه "ليست عنده جذعة، وعنده حقه، فإنها تقبل منه الحقة، ويجعل معها شاتين" بصفة الشاة المخرجة عن خمس من الإبل يدفعها للمصدق "إن استيسرتا له" أي(4/563)
أو عشرين درهما.
ومن بلغت عنده صدقة الحقة، وليست عنده الحقة، وعنده الجذعة فإنها تقبل منه الجذعة ويعطيه المصدق عشرين درهما أو شاتين.
ومن بلغت عنده صدقة الحقة، وليست عنده إلا ابنه لبون، فإنها تقبل منه بنت لبون، ويعطي المصدق شاتين أو عشرين درهما.
ومن بلغت صدقته بنت لبون، وعنده الحقة، فإنها تقبل منه الحقة ويعطيه المصدق عشرين درهما أو شاتين.
ومن بلغت عنده صدقة بنت لبون، وليست عنده وعنده بنت مخاض، فإنها تقبل منه بنت المخاض، ويعطي معها عشرين درهما أو شاتين.
__________
وجدتا في ماله.
قاله المصنف: "أو عشرين درهما" فضة وكل منهما أصل بنفسه لا بدل؛ لأنه قد خير فيهما، وكان ذلك معلوما لا يجري مجرى تعديل القيمة لاختلاف ذلك في الأزمنة والأمكنة، فهو تعويض قدره الشارع كالشاة في المصراة.
"ومن بلغت عنده صدقة الحقة، وليست عنده الحقة، وعنده الجذعة" وخبر المبتدأ قوله: "فإنها تقبل منه" أي المالك "الجذعة ويعطيه المصدق"، بضم الميم، وخفة المهملة، وكسر الدال، وهو الساعي الذي يأخذ الزكاة إما بشد الصاد، فدافع الصدقة، كما في الفتح وغيره "عشرين درهما" فضة خالصة، "أو شاتين".
"ومن بلغت عنده صدقة الحقة وليست عنده إلا ابنة لبون، فإنها تقبل منه بنت لبون، ويعطي المصدق" بالتشديد المالك "شاتين، أو عشرين درهما".
"ومن بلغت صدقته" عن إبله "بنت لبون" بالنصب على المفعولية، كما أعربه المصنف؛ لأن لفظ البخاري، كما هنا صدقته بالرفع فاعل بلغت مضافا لهاء الضمير، "وعنده الحقة، فإنها تقبل منه الحقة، ويعطيه المصدق" بالتخفيف، أي الساعي "عشرين درهما أو شاتين".
"ومن بلغت عنده صدقة بنت لبون" بالإضافة البيانية، وإن نصب صدقة مفعول بلغت وبنت بدل منه، وقدر الفاعل إبله جاز.
لكن الذي في البخاري، ومن بلغت صدقته بنت لبون بإضافة صدقة إلى الضمير، ونصب بنت، "وليست عنده وعنده بنت مخاض، فإنها تقبل منه بنت المخاض، ويعطي" المالك "معها عشرين درهما، أو شاتين".(4/564)
ومن بلغت صدقته بنت مخاض، وليست عنده، وعنده بنت ليون فإنها تقبل منه بنت لبون، ويعطيه المصدق عشرين درهما أو شاتين، فإن لم يكن عنده بنت مخاض على وجهها وعنده ابن لبون فإنه يقبل منه وليس معه شيء.
وفي صدقة الغنم في سائمتها إذا بلغت أربعين إلى عشرين ومائة شاةٍ شاةٌ.
فإذا زادت على عشرين ومائة إلى مائتين ففيها شاتان.
فإذا زادت على مائتين إلى ثلاثمائة ففيها ثلاث شياه.
فإذا زادت على ثلاثمائة ففيها ثلاث شياه.
فإذا زادت على ثلاثمائة ففي كل مائة شاة.
فإذا كانت سائمة الرجل ناقصة عن أربعين شاة شاة واحدة، فليس فيها
__________
"ومن بلغت صدقته بنت مخاض" بنصب بنت على المفعولية، وفي نسخة بإضافة صدقة إلى بنت، قاله المصنف، "وليست عنده و" الحال أن الموجود "عنده بنت لبون، فإنها تقبل منه بنت لبون، ويعطيه المصدق عشرين درهما أو شاتين، فإن لم يكن عنده بنت مخاض على وجهها" المفروض، "وعنده ابن لبون، فإنه يقبل منه" وإن كان أقل قيمة منها، ولا يكلف تحصيلها، "وليس معه شيء" زيادة عليه، وهذا الحكم متفق عليه، ولو لم يجد واحدا منهما، فالأصح عند الشافعية أن له أن يشتري أيهما شاء، وقال مالك وأحمد وغيرهما: يتعين شراء بنت المخاض.
"وفي صدقة الغنم في سائمتها" بدل من الغنم بإعادة الجار، أي في الغنم السائمة، أي الراعية "إذا بلغت" رواية الكشميهني، ولغيره إذا كانت "أربعين إلى عشرين ومائة شاة" بالإضافة "شاة" بالرفع خبر مبتدأ مضمرا ومبتدأ، وفي صدقة الغنم خبره، قاله المصنف، "فإذا زادت على عشرين ومائة" واحدة فصاعدا "إلى مائتين"، فزكاتها "شاتان" مرفوع على الخبرية والابتدائية، كما مر "فإذا زادت على مائتين" ولو واحدة "إلى ثلاثمائة، ففيها ثلاث شياه، فإذا زادت على ثلاثمائة" مائة أخرى لا دونها، "ففي كل مائة شاة" ومقتضاه أن لا تجب الرابعة حتى توفي أربعمائة، وهو قول الجمهور، قالوا: وفائدة ذكر ثلاثمائة لبيان النصاب الذي بعده لكون ما قبله مختلفا، وعن بعض الكوفيين، كالحسن بن صالح، ورواية عن أحمد، إذا زادت على الثلاثمائة واحدة وجب أربع، "فإذا كانت سائمة الرجل، ناقصة عن أربعين شاة" تمييز "شاة" معمول ناقصة "واحدة" أعربه الزركشي صفة شاة الذي هو تمييز أربعين، ورده الدماميني بأنه لا فائدة في هذا الوصف مع كون شاة تمييز، وإنما واحدة منصوب على أنه مفعول ناقصة، أي صفة لمفعوله "فليس فيها" أي(4/565)
صدقة إلا أن يشاء ربها.
ولا يجمع بين متفرق، ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة، وما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية، ولا يؤخذ في الصدقة هرمة ولا ذات عوار ولا تيس إلا أن يشاء المصدق.
__________
الناقصة واحدة، فأولى ما فوقها "صدقة إلا أن يشاء ربها" أن يطوع "ولا يجمع" بضم أوله وفتح ثالثة "بين متفرق" بتقديم التاء على الفاء، كما قال الحافظ وغيره "ولا يفرق" بضم أوله وفتح ثالثه مشددا "بين مجتمع خشية الصدقة" نصب مفعول لأجله تنازع فيه الفعلان.
قال الدماميني: ويحتمل أن التقدير لا يفعل شيء من ذلك خشية الصدقة، فيحصل المراد بلا تنازع انتهى.
قال مالك في الموطأ معنى هذا الحديث أن يكون النفر الثلاثة لكل واحد منهم أربعون شاة وجبت فيها الزكاة، فيجمعونها حتى لا يجب عليهم كلهم فيها إلا شاة واحدة، أو يكون للخليطين مائتا شاة وشاة، فيكون عليهما فيها ثلاث شياه، فيفرقوها حتى لا يكون على كل واحد إلا شاة واحدة.
وقال الشافعي: هو خطاب لرب المال من جهة، والساعي من جهة، فأمر كل واحد منهم أن لا يحدث شيئا من الجمع والتفريق خشية الصدقة، فرب المال يخشى أن تكثر الصدقة، فيجمع أو يفرق لتقل، والساعي يخشى أن تقل الصدقة، فيجمع أو يفرق لتكثير، فمعنى قوله خشية الصدقة، أي خشية أن تكثر الصدقة أو أن تقل الصدقة، فلما كان محتملا للأمرين لم يكن الحمل على أحدهما بأولى من الآخر، فحمل عليهما معا.
قال الحافظ: لكن الذي يظهر أن حمله على المالك أظهر، "وما كان من خليطين، فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية" يأتي بيانه في المصنف، "ولا يؤخذ في الصدقة هرمة".
قال الحافظ: بفتح الهاء وكسر الراء، كبيرة سقطت أسنانها، "ولا ذات عوار" بفتح العين المهملة وبضمها، وقيل بالفتح أي معيبة، وبالضم العور، واختلف في ضبطها، فالأكثر على أنه ما ثبت به الرد في البيع، وقيل ما يمنع الإجزاء في الأضحية، ويدخل في المعيب المريض، والصغير سنا بالنسبة إلى سن أكبر منه، "ولا تيس إلا أن يشاء المصدق".
قال الحافظ: اختلف في ضبطه، فالأكثر على أنه بالتشديد والمراد المالك، وهذا اختيار أبي عبيدة وتقديره لا يؤخذ هرمة. ولا ذات عيب أصلا، ولا يؤخذ التيس، وهو فحل الغنم، إلا برضا المالك لاحتياجه إليه، ففي أخذه بغير رضاه إضرار به، فالاستثناء مختص بالثالث، ومنهم من ضبطه بتخفيف الصاد، وهو الساعي، وكأنه أشير إلى التفويض إليه؛ لأنه كالوكيل، فلا(4/566)
وفي الرقة ربع العشر، فإن لم تكن إلا تسعين ومائة فليس فيها صدقة إلا أن يشاء ربها.
قوله وفي الرقة: الدراهم المضروبة، والهاء فيه عوض عن الواو المحذوفة من الورق. قاله ابن الأثير في الجامع. وقال في فتح الباري: هي بكسر الراء وتخفيف القاف: الفضة الخالصة سواء كانت مضروبة أو غير مضروبة.
ومنها كتاب الذي كان عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه،
__________
يتصرف بغير مصلحة.
وهذا قول الشافعي في كتاب البويطي، وهو أشبه بقاعدته في تناول الاستثناء جميع ما قبله.
وعن الماليكة يلزم المالك أن يشتري شاة مجزئة تمسكا بظاهر هذا الحديث، وفي رواية أخرى عندهم كالأول انتهى، "وفي" مائتي درهم من "الرقة ربع العشرة" خمسة دراهم، وما زاد على المائتين فبحسابه فيجب ربع عشرة، وقال أبو حنيفة لا شيء على ما زاد عليها حتى يبلغ أربعين درهما فضة، ففيه درهم واحد، وكذا في كل أربعين، "فإن لم تكن" الرقة "إلا تسعين ومائة، فليس فيها صدقة" لعدم النصاب، وهذا يوهم أنهم إذا زادت ولم تبلغ مائتين أن فيها صدقة وليس كذلك، وإنما ذكر التسعين؛ لأنه آخر عقد قبل المائة، والحساب إذا جاوز الآحاد كان تركيبه بالعقود، كالعشرات والمئين والألوف، فذكر التسعين ليدل على أن لا صدقة فيما نقص عن المائتين، ويدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: "ليس فيما دون خمس أواق صدقة".
رواه الشيخان، ذكره الحافظ وغيره "إلا أن يشاء ربها" أن يتطوع متبرعا "قوله، وفي الرقة" هي الدراهم المضروبة، والهاء فيه عوض عن الواو المحذوفة في الورق" نحو العدة والوعد.
"قاله ابن الأثير في الجامع" للأصول، فقيدها بالمضروبة، وهو أحد القولين في اللغة، لكنه ليس مراد الحديث، "و" لذا، "قال في فتح الباري، وهي بكسر الراء، وتخفيف القاف الفضة الخالصة سواء كانت مضروبة أو غير مضروبة" كما هو أحد القولين لغة، وهو المراد هنا، وبقية كلام الفتح، قيل أصلها الورق فحذفت الواو، وعوضت الهاء، وقيل تطلق على الفضة بخلاف الورق، فعلى هذا قيل الأصل في زكاة النقدين نصاب الفضة، فإذا بلغ الذهب ما قيمته مائتا درهم فضة خالصة، وجبت فيه الزكاة، وهو ربع العشر.
وهذا قول الزهري، وخالفه الجمهور انتهى، والله أعلم، "ومنها كتابه الذي كان عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه" صريح في أنه غير الذي كتبه أبو بكر لأنس، وهو مقتضى تغاير(4/567)
في نصب الزكاة وغيرها، كما رواه أبو داود والترمذي عن سالم عن أبيه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: كتب صلى الله عليه وسلم كتاب الصدقة ولم يخرجه إلى عمله وقرنه بسيفه حتى قبض، فعمل به أبو بكر حتى قبض، ثم عمل به عمر حتى قبض وكان فيه:
في خمس من الإبل شاة، وفي عشر شاتان وفي خمس عشر ثلاث شياه، وفي عشرين أربع شياه، وفي خمس
__________
ألفاظهما أيضا، ولا يرد أن الصديق عمل به حتى قبض؛ لأنه لا يقتضي اتحادا مع الأول "في نصب" بضمتين جمع نصاب، أي القدر المعتبر لوجوب "الزكاة وغيرها" وأل للجنس لا الاستغراق إذ لم يستوعب فيه جميع أنواع الزكاة، "كما رواه أبو داود والترمذي" وأحمد والحاكم، وغيرهم من طريق سفيان بن حسين، عن الزهري "عن سالم" بن عبد الله بن عمر القرشي العدو المدني، أحد الفقهاء السبعة أشبه إخوته بأبيه، كان من أفضل أهل زمانه أواسط التابعين "عن أبيه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال" ابن عمر وتسمح من قال: سالم لا يخفي "كتب صلى الله عليه وسلم كتاب الصدقة" فيه أن اسم الصدقة يقع على الزكاة خلافا لمن منع ذلك من الحنفية، وقد قال الله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة: 103] وتعسف من أجاب عنهم باحتمال أن الزكاة لا تسمى صدقة حقيقة بل مجازا، فإن الأصل الحقيقة، "ولم يخرجه إلى عمله" لئلا يستغنوا بأخذ الأحكام منه عن مشافهته صلى الله عليه وسلم، وأخذها من لفظه اذي هو أرقى من الكتاب، وأما بعده فالرجوع إلى ما في الكتاب أولى من سؤال بعضهم لبعض، "وقرنه بسيفه"، أي وضعه في مرض في قراب سيفه.
قال ابن رسلان وحكمة ذلك الإشارة إلى أنها تؤخذ كرها وإن بقتال، ومن ثم أبو بكر، والله لو منعوني عناقا كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلهم على منعها.
قال عمر: فما هو إلا أن رأيت أن الله شرح صدر أبي بكر للقتال، فعرفت أنه الحق، كما في الصحيح، واستمر مقرونا بالسيف "حتى قبض" فأخذه الصديق بعده هذا هو المتبادر، ويحتمل كما قال ابن رسلان أن يراد حتى شارف أن يقبض، وقارب وفاته، كما في قوله تعالى: {فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} [البقرة: 231] أي أشرفن على انقضاء العدة، وقربن منها "فعمل به أبو بكر حتى قبض، ثم عمل به عمر حتى قبض" ففي عملهما به أنه شرع باق لم ينسخ منه شيء إذ العمل بما نسخ حرام، "وكان فيه في خمس من الإبل شاة، وفي عشر شاتان، وفي خمس" بفتح السين "عشرة" بالفتح أيضا؛ لأن الاسمين يتركبان تركيب بناء، قاله ابن رسلان فنسخة، وفي خمسة عشر تصحيف "ثلاث شياه، وفي عشرين أربع شياه" إلى أربع وعشرين بدليل قوله، "وفي خمس(4/568)
وعشرين بنت مخاض، إلى خمس وثلاثين، فإن زادت واحدة ففيها بنت لبون، إلى خمس وأربعين، فإن زادت واحدة ففيها حقة إلى ستين، فإن زادت واحدة ففيها جذعة، إلى خمس وسبعين فإن زادت واحدة ففيها ابنتا لبون إلى تسعين، فإن زادت واحدة ففيها حقتان إلى عشرين ومائة، فإن كانت الإبل أكثر من ذلك ففي كل خمسين حقة، وفي كل أربعين ابنه لبون.
وفي الغنم في كل أربعين شاة إلى عشرين ومائة.. فإن زادت واحدة
__________
وعشرين بنت مخاض" وإلى هذا ذهب الجمهور، وجاء عن علي أنه في خمس وعشرين شاة، فإذا صارت ستا وعشرين كان فيها بنت مخاض.
أخرجه ابن أبي شيبة وغيره عنه موقوفا ومرفوعا، وإسناد مرفوع ضعيف "إلى خمس وثلاثين" فيه أنه لا يجب فيما بين العددين شيء غير بنت مخاض، خلافا لمن قال: كالحنفية تستأنف الفريضة، فيجب في كل خمس من الإبل شاة مضافة إلى بنت المخاص، "فإن زادت واحدة" بالرفع، قاله ابن رسلان، أي على العدد المذكور، فإن كان الرواية تعين، وإلا فيجوز نصبه على معنى زادت الإبل واحدة "ففيها بنت لبون" وفي نسخة ابنه، وهي أفصح من بنت لأنها مؤنث الابن، كما في المصباح "إلى خمس وأربعين" الغاية فيه، وفي نظائره داخلة في المغيا، فلا يتغير الواجب إلا بما زاد عليها بدليل قوله، "فإن زادت واحدة" بالرفع، كما ضبطه ابن رسلان.
أما رواية، أو جريا على أن زاد لازم، كما هو أحد الأقوال، وثانيها متعد لواحد، وثالثها لاثنين، فإيمانا في قوله تعالى: {زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} [الأنفال: 2] ، حال على الثاني، ومفعول ثان على الثالث، "ففيها حقة إلى ستين فإن زادت واحدة، ففيها جذعة إلى خمس وسبعين، فإن زادت واحدة، ففيها ابنتا لبون إلى تسعين، فإن زادت واحدة، ففيها حقتان إلى عشرين ومائة، فإن كانت الإبل أكثر من ذلك"، بواحدة فصاعدا عند الجمهور، "ففي كل خمسين حقة، وفي كل أربعين ابنة لبون" وقال الإصطخري من الشافعية، إن زادت بعض واحدة على العشرين ومائة، فثلاث بنات لبون، وتتصور المسألة في الشركة.
قال الحافظ: ويرده ما في أبي داود وغيره في كتاب عمر المذكور، فإذا كانت الإبل إحدى وعشرين ومائة، ففيها ثلاث بنات لبون حتى تبلغ تسعا وعشرين ومائة، مقتضاه أن ما زاد على ذلك فزكاته بالإبل، خاصة وعن أبي حنيفة إذا زادت على عشرين ومائة رجعت إلى فريضة الغنم، فتكون في خمس وعشرين ومائة ثلاث بنات لبون وشاة، "وفي الغنم" لم يقيدها في هذا الحديث بالسائمة، ففيه إشارة إلى أنه جرى في الحديث السابق على الغالب، فلم يعتبر مفهومه، ولأنه مفهوم صفة "في كل أربعين شاة" تمييز "شاة" خبر "إلى عشرين ومائة، فإذا زادت واحدة،(4/569)
فشاتان، إلى مائتين فإذا زادت على المائتين ففيها ثلاث شياه إلى ثلاثمائة، فإن كانت الغنم أكثر من ذلك ففيها كل مائة شاة شاة، ثم ليس فيها شيء حتى تبلغ المائة.
ولا يفرق بين مجتمع، ولا يجمع بين متفرق مخافة الصدقة، وما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية، ولا يؤخذ في الصدقة هرمة ولا ذات عيب.
قال الزهري: وإذا جاء المصدق قسم الشاء أثلاثا، ثلث خيار،
__________
فشاتان إلى مائتين، فإذا زادت على المائتين ففيها ثلاث شياه إلى ثلاثمائة، فإن كانت الغنم أكثر من ذلك" بمائة رابعة، "ففي كل مائة شاة شاة، ثم ليس فيها شيء حتى تبلغ المائة" ففي الخمسمائة خمس، وهكذا وفيه أن ما بين النصب عفو لا زكاة فيه، وإليه ذهب الجمهور، وقال الشافعي في البويطي: الأربع شياه مثلا المأخوذة في أربع وعشرين من الإبل، مأخوذة عن الجميع، وإن كانت الأربع الزائدة وقصا، قال في الفتح، ويظهر أثر الخلاف فيمن له مثلا تسع من الإبل، فتلف منها أربعة بعد الحول، وقبل التمكن، فإن قلنا إنه شرط في الوجوب وجبت عليه شاة بلا خلاف، وكذا إن قلنا إنه شرط في الضمان، وإن قلنا يتعلق به الفرض، وجبت خمسة اتساع شاة، والأول قول الجمهور، كما نقله ابن المنذر، وعن مالك رواية كقول الشافعي، ولا يفرق بضم أوله وفتح ثالثه المثقل "بين مجتمع" بضم الميم الأولى وكسر الثانية، ولا يجمع بين متفرق، بتقديم التاء، وشد الراء وفي رواية مفترق بتأخير التاء، وخفة الراء، كما في الفتح وغيره، "مخالفة" بالنصب مفعول لأجله، بمعنى الرواية السابقة خشية "الصدقة" أي كثرتها أو تقليلها أو سقوطها، وإن قدر تغيير شمل الجميع، "وما كان من الخليطين" تثنية خليط، بمعنى مخالط، كنديم وجليس، بمعنى منادم وجالس، "فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية، ولا يؤخذ في الصدقة هرمة"، بفتح فكسر، وهي التي أضر بها الكبر، "ولا ذات عيب" عام على خاص، ومر بيانه.
"قال الزهي" محمد بن شهاب من عند نفسه بعد روايته: الحديث بيانا لمجمله في النهي عما يؤخذ فليس فصله للاختلاف في رفعه كما ظن تشبثا بقوله الآتي: ورواه يونس؛ لأن الآتي عائد لأصل الحديث، هل هو موصول أو مرسل، وهو مرفوع على كل حل، بخلاف قول الزهري: "وإذا جاء المصدق قسم الشاه أثلاثا" منها "ثلث خيار" صفة، لثلث أو خبر عنه بتقدير(4/570)
وثلث أوساط، وثلث شرار، وأخذ من الوسط، رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن، قال: ورواه يونس وغير واحد عن الزهري عن سالم ولم يرفعه، انتهى.
قال ابن الأثير في النهاية: والخليط: المخالط، يريد به الشريك الذي يخلط ماله بمال شريكه، والتراجع بينهما هو أن يكون لأحدهما مثلا أربعون بقرة وللآخر ثلاثون بقرة ومالهما مختلط، فيأخذ الساعي عن الأربعين مسنة وعن الثلاثين تبيعا، فيرجع باذل المسنة بثلاثة أسباعها على شريكه، وباذل التبيع بأربعة أسباعه على شريكه؛ لأن كل واحد من السنين واجب على الشيوع وكأن المال ملك واحد، انتهى.
__________
ثلث منها، "وثلث أوساط وثلث شرار" وهذا لفظ الترمذي، ولفظ أبي داود ثلثا شرار أو ثلثا خيار، أو ثلثا أوساطا، "وأخذ من الوسط" رفقا بالفريقين لقوله في حديث آخر، "وإياك وكرائم أموالهم".
"رواه أبو داود، والترمذي" أعاد عزوه لزيادته قوله، "وقال: حديث حسن، قال" الترمذي: "ورواه يونس" بن يزيد الأيلي أحد الحفاظ، "وغير واحد، عن الزهري، عن سالم، ولم يرفعه" وإنما رفعه سفيان بن حسين "انتهى" كلام الترمذي، ومراده بالرفع الوصل.
قال في الفتح: وسفيان بن حسين ضعيف في الزهري، وقد خالفه من هو أحفظ منه في الزهري، فأرسله، أخرجه الحاكم من طريق يونس بن يزيد عن الزهري، وقال: إن فيه تقوية لرواية سفيان بن حسين؛ لأنه قال عن الزهري: أقرأنيها سالم بن عبد الله، فوعيتها على وجهها، فذكر الحديث، ولم يقل إن ابن عمر حدثه به، ولهذه العلة لم يجزم به البخاري، بل قال: ويذكر عن سالم عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم انتهى، فتحسين الترمذي له باعتبار شاهده، وهو حديث أنس عن أبي بكر الذي قبله، فإنه بمعناه "قال ابن الأثير في النهاية، والخليط المخالط" فعيل بمعنى اسم الفاعل، كنديم وجليس بمعنى منادم ومجالس "يريد به الشريك الذي يخلط ماله بمال شريكه" فهي شركة مجاورة لا شيوع.
"والتراجع بينهما هو أن يكون لأحدهما مثلا أربعون بقرة، وللآخر ثلاثون بقرة، وما لهما مختلط، فيأخذ الساعي عن الأربعين مسنة، وعن الثلاثين تبيعا" فيرجع باذل المسنة بثلاثة أسباعها على شريكه، وباذل التبيع بأربعة أسباعه على شريكه؛ لأن كل واحد من السنين واجب على الشيوع، كأن المال ملك واحد، انتهى" كلام ابن الأثير وسبقه إلى نحوه الخطابي، فقال:(4/571)
وقال في فتح الباري: اختلف في المراد بالخليط، فعند أبي حنيفة أنه الشريك، واعترض عليه بأن الشريك لا يعرف عين ماله. وقد قال: إنهما يتراجعان بالسوية، ومما يدل على أن الخليط لا يستلزم أن يكون شريكا قوله تعالى: {وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ} وقد بينه قبل ذلك بقوله: {إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ} [ص: 23] .
واعتذر بعضهم عن الحنفية: بأنهم لم يبلغهم هذا الحديث، أو رأوا أن الأصل قوله: ليس فيما دون خمس ذود صدقة، وحكم الخلطة يغاير هذا الأصيل، فلم يقولوا به، وقال أبو حنيفة: لا يجب على أحد منهم فيما يملك إلا مثل الذي يجب عليه لو لم يكن خلطة.
__________
قوله يتراجعان معناه أن يكون بينهما أربعون شاة مثلا، لكل واحد منهما عشرون قد عرف كل منهما عين ماله، فيأخذ الساعي من أحدهما شاة، فيرجع المأخوذ من ماله على خليطه بقيمة نصف شاة، وهذه تسمى خلطة الجوار انتهى، لكنه بنى مثاله على قول من لم يشترط أن يكون لكل نصاب.
"وقال في فتح الباري: اختلف في المراد بالخليط، فعند أبي حنيفة أنه الشريك، واعترض عليه بأن الشريك لا يعرف عين ماله"، لعدم تميزه عن مال شريكه حتى يرجع بحصة ما أخذ منه، "وقد قال: إنهما يتراجعان بينهما بالسوية" فلو كان كما قال لم يكن لتراجعهما بالسوية معنى اللهم إلا أن يجيب بأن التراجع بحسب الحساب، "ومما يدل على أن الخليط لا يستلزم أن يكون شريكا، قوله تعالى: {وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ} وقد بينه قبل ذلك بقوله: {إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ} فأفاده أن المراد بالخلطة مطلق الاجتماع لا الشركة، "واعتذر بعضهم عن الحنفية، بأنهم لم يبلغهم هذا الحديث" الذي هو قوله، وما كان من المخلطين إلخ، "أو" بلغة، ولكن "رأوا أن الأصل" في الزكاة "قوله" صلى الله عليه وسلم في الموطأ والصحيحين من طريقة "ليس فيما دون خمس ذود صدقة" بفتح المعجمة، وسكون الواو بعدها مهملة، تقع على المذكر والمؤنث والجمع والمفرد، فلذا أضاف إليه خمس، "وحكم الخلطة يغاير هذا الأصل فلم يقولوا به" تقديما للأصل عليه.
"وقال أبو حنيفة: لا يجب على أحد منهم فيما يملك إلا مثل الذي يجب عليه لو لم يكن خلط" وتعقبه ابن جرير بأنه لو كان تفريقها مثل جمعها في الحكم لبطلت فائدة الحديث.(4/572)
وقال سفيان الثوري: لا يجب حتى يتم لهذا أربعون شاة ولهذا أربعون شاة.
وقال الشافعي وأحمد وأصحاب الحديث: إذا بلغت ماشيتهما النصاب زكيا، والخلطة عندهم أن يجتمعا في المسرح والمبيت والحوض والفحل، والشركة أخص منها.
ومنها كتابة عليه الصلاة والسلام إلى أهل اليمن، وهو كتاب جليل، فيه من أنواع الفقه في الزكاة والديات والأحكام، وذكر الكبائر والطلاق والعتاق، وأحكام الصلاة في الثوب الواحد والاحتباء فيه، ومس المصحف وغير ذلك. واحتج الفقهاء كلهم بما فيه من مقادير الديات، رواه النسائي وقال: قد روى هذا الحديث يونس عن الزهري مرسلا، وأبو حاتم في صحيحه وغيرهما متصلا عن
__________
"وقال سفيان الثوري" كما نقله عند عبد الرزاق والبخاري "لا تجب حتى يتم لهذا أربعون شاة، ولهذا أربعون شاة".
قال الحافظ: وبهذا قال مالك انتهى، فظاهره أن الشرط عند سفيان إنما هو أن يكون لكل نصاب، ثم يزكي على ما اقتضته الخلطة من تخفيف وتثقيل ومساواة، كما هو قول مالك.
وأما المصنف فقال: فيجب على كل شاة وهذا مذهب أبي حنيفة.
"وقال الشافعي وأحمد وأصحاب الحديث: إذا بلغت ماشيتهما النصاب زكيا" وإن لم يكن لكل نصاب عملا بظاهر هذا الحديث، لكن قول مالك أرجح؛ لأن فيه الجمع بينه "و" بين حديثه ليس فيما دون خمس ذود صدقة، كما لا يخفى "الخلطة عندهم أن يجتمعا في المسرح والمبيت والحوض والفحل والشركة أخص منها" أي الخلطة؛ لأنها الاشتراك في المال على وجه الشيوع والخلطة شاملة لذلك وللمجاورة، "ومنها كتابه عليه الصلاة والسلام إلى أهل اليمن، وهو كتاب جليل، فيه من أنواع الفقه" أنواع كثيرة منها "في الزكاة والديات والأحكام، وذكر الكبائر والطلاق والعتاق" بفتح العين مصدر عتق، كما في المصباح.
"وأحكام الصلاة في الثوب الواحد، والاحتباء فيه ومس المصحف، وغير ذلك، واحتج الفقهاء كلهم بما فيه من مقادير الديات" وهي التي ساقها المصنف من الكتاب للاختصار.
"رواه النسائي" متصلا، "وقال" بعده "قد روى هذا الحديث يونس عن الزهري مرسلا، و" رواه "أبو حاتم" بن حبان تلميذ النسائي فهو عطف على النسائي لا من مقولة "في صحيحه" المسمى بالأنواع والتقاسيم، "و" رواه "غيرهما" أي النسائي وأبي حاتم "متصلا" يتنازع فيه الثلاثة(4/573)
أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل اليمن وكان في كتابه:
إن من اعتبط مؤمنا قتلا عن بينة فإنه قود إلا أن يرضى أولياء المقتول، وفيه: أن الرجل يقتل بالمرأة، وفيه: في النفس الدية مائة من الإبل وعلى أهل الذهب ألف دينا، وفي الأنف إذا أوعب جدعة الدية مائة من الإبل، وفي اللسان الدية، وفي الشفتين الدية، وفي البيضتين الدية، وفي الذكر الدية، وفي الصلب الدية، وفي العينين الدية، وفي الرجل الواحدة نصف الدية، وفي المأمومة ثلث الدية، وفي الجائفة.
__________
"عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم" الأنصاري النجاري بنون وجيم المدني القاضي اسمه وكنيته واحد، وقيل يكنى أبا محمد ثقة روى له الجميع عابد مات سنة ثلاث عشرة ومائة، وقيل غير ذلك "عن أبيه" محمد بن عمرو بن حزم، أبي عبد الملك المدني، له رؤية وليس له سماع إلا من الصحابة، قتل يوم الحرة سنة ثلاث وستين "عن جده" عمرو بن حزم بن زيد بن لوزان الأنصاري الصحابي الشهير، شهد الخندق فما بعدها، وكان عمل النبي صلى الله عليه وسلم على نجران، مات بعد الخمسين، وقيل في خلافة عمر، وغلط قائله "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل اليمن" بكتاب فيه الفرائض والسنن والديات، وبعث به مع عمرو بن حزم، فقدم به على أهل اليمن، وهذه نسخته بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد النبي إلى شرحبيل بن عبد كلال والحارث بن عبد كلال، ونعيم بن عبد كلال، قيل ذي رعين ومعافير وهمدان، أما بعد فذكر الحديث بطوله "وكان في كتابه أن من اعتبط" بعين مهملة، أي ذبح "مؤمنا" بلا جنابة "قتلا" مفعول مطلق؛ لأنه نوع منه "عن بينة، فإنه قود" جواب الشرط، وكان الظاهر أن يقال يقتص منه؛ لأنه سبب، فأقيم السبب وهو القود، أي الانقياد مقام المسبب، أي القصاص، كما قال الطيبي قال: والاستثناء في الحقيقة من المسبب، أي في قوله "إلا أن يرضى أولياء المقتول" وفي النهاية أي قتله بلا جناية منه، ولا جريرة توجب قتله، فإن القاتل يقاد به ويقتل، وكل من مات بلا علة، فقد اعتبط ومات فلان عبطة، أي شابا صحيحا، "وفيه أن الرجل يقتل بالمرأة" إذ هي نفس بنفس بشرط المساواة في الإسلام والحرية، "وفيه في" قتل "النفس" خطأ "الدية مائة من الإبل" على أهل الإبل، "وعلى أهل الذهب" كمصر "ألف دينار، وفي الأنف إذا أوعب"، أي استوعب "جدعه" بدال مهملة، أي استؤصل بحيث لم يبق منه شيء "الدية مائة من الإبل" على أهلها، "وفي اللسان الدية، وفي الشفتين الدية، وفي البيضتين الدية، وفي الذكر الدية، وفي الصلب الدية، وفي العينين الدية، وفي الرجل الواحدة نصف الدية، وفي المأمومة ثلث الدية، وفي الجائفة(4/574)
ثلث الدية وفي المنقلة خمس عشرة من الإبل، وفي كل إصبع من أصابع اليد والرجل عشر من الإبل، وفي السن خمس من الإبل.
وفي رواية مالك: وفي العين خمسون، وفي اليد خمسون وفي الرجل خمسون وفي الموضحة خمس من الإبل.
ومنها كتابه إلى بني زهير.
__________
ثلث الدية وفي المنقلة خمس عشرة من الإبل، وفي كل إصبع من أصابع اليد، أو الرجل عشرة من الإبل، وفي السن خمس من الإبل" وتفاصيل هذا كله معلومة، وفي بعضها اختلاف بين الأئمة بحسب الفهم، كاللسان، ولولا أخرس أولا لأخرس، فقوله أولا احتج الفقهاء كلهم بما فيه، أي في الجملة، "وفي رواية مالك، وفي العين خمسون" من الإبل، وظاهره ولو لأعور، "وفي اليد خمسون وفي الرجل خمسون" يعني من الإبل في الثلاثة، "وفي الموضحة خمس من الإبل" وإنما ذكر المصنف هذه القطعة من الحديث تبركا، وللاتفاق على الأحكام التي فيه في الجملة، والله أعلم، "ومنها كتابه إلى بني زهير" بيض له المصنف، وقد روى أحمد وأبو داود والنسائي من طريق الجريري عن أبي العلاء، وهو يزيد بن عبد الله بن الشخير، قال: كنت في سوق الإبل، فجاء أعرابي أشعث الرأس معه قطعة أديم أحمر، أو جراب، فقال: أفيكم من يقرأ؟ قلت: نعم، فأخذته، فإذا فيه بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى بني زهير بن أقيش حي من عكل أنهم إن شهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وفارقوا المشركين، وأقاموا الصلاة، وآتوا الزكاة، وأقروا بالخمس من غنائمهم وسهم النبي صلى الله عليه وسلم وصفيه، فإنهم آمنون بأمان الله ورسوله، فقلنا من كتب لك هذا الكتاب، قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له بعض القوم: هل سمعت منه شيئا تحدثناه؟ قال: سمعته يقول: $"من سره أن يذهب عنه كثير من وحر الصدر فليصم شهر الصبر، وثلاثة أيام من كل شهر"، فقال له القوم، أو بعضهم: أنت سمعت هذا منه صلى الله عليه وسلم، فقال: لا أراكم تتهموني أني أكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم لأحدثنكم سائر اليوم، ثم انصرف.
وأخرجه ابن قانع والطبراني، وفيه فسألناه عنه، فقيل هذا النمر بن تولب، قال المرزباني: كان شاعرا فصيحا، وفد على النبي صلى الله عليه وسلم وكتب له كتابا، ونزل البصرة، وكان جوادا، وعمر طويلا حتى أنكر عقله، فيقال إنه عاش مائتي سنة وأقيش بضم الهمزة وفتح القاف وسكون التحتية وشين معجمة قبيلة من عكل وهم أولاد عوف بن عبد مناف بن أد العكلي، حضنتهم أمهم فنسبوا إليها وحر الصدر غشه ووساوسه وقيل الحقد والغيظ والعداوة وقيل أشد الغضب.(4/575)
الفهرس
...
No pages(4/)
المجلد الخامس
تايع الفصل السادس: في أمرائه ورسله وكتابه وكتبه إلى أهل الإسلام في الشرائع والأحكام، ومكاتباته إلى الملوك وغيرهم من الأنام
وأما مكاتبته عليه الصلاة والسلام إلى الملوك وغيرهم
...
تايع الفصل السادس: في أمرائه ورسله وكتابه وكتبه إلى أهل الإسلام في الشرائع والأحكام، ومكاتباته إلى الملوك وغيرهم من الأنام
بسم الله الرحمن الرحيم
[وأما مكاتبته عليه الصلاة والسلام إلى الملوك وغيرهم] :
فروي أنه لما رجع عليه الصلاة والسلام من الحديبية كتب إلى الروم، فقيل له: إنهم لا يقرءون كتابا إلا أن يكون مختوما، فاتخذ خاتما من فضة ونقش فيه ثلاثة أسطر: محمد سطر، ورسول سطر، و"الله" سطر، وختم به الكتاب.
وإنما كانوا لا يقرءون الكتاب إلا مختوما
__________
وفي القاموس النمر ككتف, ابن تولب، ويقال: النمر -بالفتح- شاعر للنبي -صلى الله عليه وسلم- وسيذكر المصنف كتابه إلى بني نهد في المقصد الثالث، فذكره هنا في قوله: إلى بني زهير لا فائدة فيه؛ لأنهما غيران، والله أعلم.
"وأما مكاتباته عليه الصلاة والسلام" أي: بيان كتابته "إلى الملوك وغيرهم، فروي" عند ابن سعد وغيره عن ابن عباس "أنه لما رجع عليه الصلاة والسلام من الحديبية" في ذي الحجة سنة ست، "كتب إلى الروم" يدعوهم إلى الإسلام، أي: أمر بالكتب، فكتب وأراد إرساله، "فقيل له: إنهم لا يقرءون كتابا إلا أن يكون مختوما، فأخذ خاتما من فضة"، هكذا في رواية ابن سعد وغيره، وروى ابن عدي في هذه القصة، أنه عمل له خاتما من حديد، فجاء جبريل، فقال: انبذه من أصبعك فنبذه، فعمل له خاتما من نحاس، فأمره جبريل، فنبذه، فعمل له خاتما من فضة، فأقره جبريل، فإن صحا، فاقتصر من اقتصر على الفضة؛ لأنه الذي استقر عليه أمره، "ونقش فيه ثلاثة أسطر من محمد سطر ورسول" بالتنوين وعدمه على الحكاية "سطر والله" بالرفع والجر على الحكاية "سطر" ولابن سعد من مرسل ابن سيرين باسم الله محمد رسول الله.
قال الحافظ: ولم يتابع على هذه الزيادة، وقول بعض الشيوخ -يعني الإسنوي: إن كتابته كانت من فوق، يعني الجلالة أعلى الأسطر الثلاثة، ومحمد أسفلها، فلم أر التصريح بذلك في شيء من الأحاديث، بل رواية الإسماعيلي يخالف ظاهرها ذلك، فإنه قال: محمد سطر، والسطر الثاني رسول، والسطر الثالث الله "وختم به الكتاب".
قال الحافظ: ولم تكن كتابة الخاتم على الترتيب العادي، فإن ضرورة الختم به تقتضي أن الأحرف المنقوشة مقلوبة ليخرج الختم مستويا انتهى.
وهو تعويل على العادة وأحواله -صلى الله عليه وسلم- خارجة عن طورها، بل في تاريخ ابن كثير عن بعضهم أن كتابته كانت مستقيمة، وكانت تطبع كتابة مستقيمة، وفي رواية ابن سعد وغيره، فخرج ستة نفر في يوم واحد، وأصبح كل رجل منهم يتكلم بلسان القوم الذين بعث إليهم، "وإنما كانوا لا يقرءون الكتاب" إذا ورد عليهم، "إلا مختوما" بأن يطوى، ويجعل عليه ما يمنع فكه، ثم(5/3)
خوفا من كشف أسرارهم، وللإشعار بأن الأحوال المعروضة عليهم ينبغي أن تكون مما لا يطلع عليها غيرهم.
وعن أنس: إن ختم كتاب السلطان والقضاة سنة متبعة، وقال بعضهم: هو سنة لفعله -صلى الله عليه وسلم.
فكتب إلى قيصر، المدعو "هرقل" ملك الروم يوم ذاك، ثم قال بعد تمام الكتابة: "من ينطلق بكتابي هذا إلى هرقل وله الجنة"؟، فقالوا: وإن لم يصل يا رسول الله؟ قال: "وإن لم يصل"
__________
يختم عليه, "خوفا من كشف أسرارهم، وللإشعار بأن الأحوال المعروضة عليهم ينبغي أن تكون مما لا يطلع عليها غيرهم"، صونا لسورة الملك عن مشاركة العامة في أخبارهم.
"وعن أنس أن ختم كتاب السلطان"، أي: من له سلطنة، فيشمل الأمراء، "والقضاة سنة متبعة"، وقول الصحابي: من السنة، كذا له حكم الرفع، كما في الألفية وغيرها، فأفاد أنس أنه مطلوب، "و" لذا، "قال بعضهم: هو سنة لفعله -صلى الله عليه وسلم"، فمؤدى العبارتين واحد، لا أن قول أنس إخبار عن مجرد الاعتياد، وأن كلام بعضهم مقابل له كما توهم، ثم عطف على قوله: كتب إلى الروم من عطف المفصل على المجمل لبيان المكتوب له، منهم قوله: "فكتب إلى قيصر المدعو"، أي المسمى، "هرقل" بكسر الهاء، وفتح الراء، وسكون القاف على المشهور في الروايات، وحكى الجوهري وغيره سكون الراء، وكسر القاف، وجزم به القزاز وغيره، علم له غير منصرف للعلمية والعجمة ما في الفتح لقب قيصر بالقاف غير صافية في لغتهم من القصر، وهو القطع في لغتهم؛ لأن أحشاء أمه قطعت حتى خرج منها؛ لأنها لما طلقت به ماتت، فبقر بطنها عنه، فخرج حيا وكان يفخر بذلك، لأنه لم يخرج من فرج، وكان شجاعا جبارا مقداما في الحروب، كذا ذكره العيني وغيره، ولا يشكل بقولهم: قيصر اسما لكل ملك الروم؛ لأن المراد من هرقل فمن بعده، ولا يشكل بقوله: لله إذا هلك قيصر، فلا قيصر بعده، لأن المراد في إقليمه الذي كان فيه، أو يملك مثله، أو غير ذلك مما أجابوا به "ملك الروم يوم ذاك" الكتب، وليس المراد خصوص يوم معين؛ لأن العرب تريد باليوم مطلق الزمن، وقد ذكروا أنه ملك الروم إحدى وثلاثين سنة، وفي ملكه مات -صلى الله عليه وسلم، "ثم قال بعد تمام الكتابة: "من ينطلق بكتابي هذا إلى هرقل، وله الجنة" " مع السابقين، أو بلا حساب، "فقالوا: وإن لم يصل يا رسول الله" بأن منعه مانع من موت، أو غيره عن الوصول، "قال: وإن لم يصل"؛ لأن نيته الوصول، وهو خير من العمل، وفي رواية الحارث بن أبي أسامة بلفظ يقتل في الموضعين، ثم يحتمل أنه بفوقية من القتل، أو بموحدة من القبول، كأنهم استعظموا هذا الجزاء العظيم، وإن عاد الذاهب سالما، أو لم يقبل هرقل(5/4)
فأخذه دحية بن خليفة الكلبي، وتوجه إلى مكان فيه هرقل، ولفظه:
باسم الله الرحمن الرحيم. من محمد رسول الله -صلى الله عليه وسلم.
__________
الكتاب بأن لم يعمل به، فأخبرهم بذلك؛ لأنه رتب الجزاء على مجرد الانطلاق والقتل، أو القبول شيء آخر, "فأخذه دحية".
قال الحافظ: بكسر الدال وفتحها لغتان، ويقال: إنه الرئيس بلغة اليمن "ابن خليفة الكلبي" الصحابي الجليل، كان من أحسن الناس وجها، وأسلم قديما، "وتوجه به إلى مكان فيه هرقل"، وهو بيت المقدس، كما في الصحيح، وعنده في الجهاد أن الله لما كشف عن هرقل جنود فارس مشى من حمص إلى إيلياء شكرا لله.
زاد ابن إسحاق: فكان يبسط له البسط، وتوضع عليها الرياحين، فيمشي عليها.
وعند الطبري، وابن عبد الحكم من طرق متعاضدة أن كسرى أغزى جيشه بلاد هرقل، فخربوا كثيرا منها، ثم استبطأ كسرى أميره، فأراد قتله وتولية غيره، فاطلع أميره على ذلك، فباطن هرقل، واصطلح معه على كسرى، وانهزم عنه بجنوده، فمشى هرقل إلى بيت المقدس شكرا، وعند ابن إسحاق عن أبي سفيان: لما كانت الهدنة, خرجت تاجرا إلى الشام مع رهط قريش، فقال هرقل لصاحب شرطته: قلب الشام ظهر البطن حتى تأتي برجل من قوم هذا الرجل أسأله عن شأنه، فوالله إني وأصحابي بغزة إذ هجم علينا، فساقنا جميعا، فذكر الحديث بنحو ما في الصحيح أنهم أتوه، وهو بإيلياء، فدعاهم في مجلسه، وحوله عظماء الروم، وعليه التاج الحديث في الأسئلة والأجوبة، وفيه: ثم دعا بكتاب النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي بعث به دحية إلى عظيم بصرى، فدفعه إلى هرقل، فقرأه.
قال في الفتح: بصرى -بضم الموحدة والصر- مدينة بين المدينة ودمشق، وقيل: هي حوران وعظيمها هو الحارث بن أبي شمر الغساني، وفي الصحابة لابن السكن أنه أرسل بكتاب النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى هرقل مع عدي بن حاتم، وكان عدي إذ ذاك نصرانيا، فوصل به هو ودحية معا.
وروى البزار أن دحية نفسه ناول الكتاب لقيصر، ولفظه: بعثني -صلى الله عليه وسلم- بكتاب إلى قيصر، فقدمت عليه، وأعطيته الكتاب، "ولفظه: بسم الله الرحمن الرحيم"، فيه استحباب تصدير الكتب بالبسملة، وإن كان المبعوث إليه كافرا، وأجيب عن تقديم سليمان اسمه بأنه إنما ابتدأه بالبسملة، وكتب اسمه عنوانا بعد ختمه؛ لأن بلقيس إنما عرفت كونه من سليمان بقراءة عنوانه، ولذا قالت: وإنه بسم الله الرحمن الرحيم، فالتقديم واقع في حكاية الحال "من محمد رسول الله -صلى الله عليه وسلم"، فيه أن السنة أن يبدأ الكاتب بنفسه، وهو قول الجمهور، بل حكى فيه النحاس إجماع الصحابة.
قال الحافظ: والحق إثبات الخلاف، وفيه أن من التي لابتداء الغاية تأتي في غير الزمان(5/5)
وفي رواية البخاري: عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم, وفي رواية غير البخاري: إلى قيصر صاحب الروم, سلام على من اتبع الهدى، أما بعد، فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، يؤتك الله أجرك مرتين.
__________
والمكان، كذا قال أبو حيان، والظاهر أنها هنا لم تخرج عن ذلك, لكن بارتكاب مجاز, انتهى.
ثم هذا لفظ رواية البخاري في التفسير، "وفي رواية البخاري" في بدء الوحي وفي الجهاد من محمد "عبد الله ورسوله"، وفيه إشارة إلى أن رسل الله وإن كانوا أكرم الخلق عليه، فهم مع ذلك مقرون بأنهم عبيده، وإلى بطلان ما تدعيه النصارى في عيسى عليه السلام، وفي رواية له أيضا من محمد بن عبد الله رسول الله "إلى هرقل عظيم الروم"، أي: المعظم عندهم بالخفض على البدل، ويجوز الرفع على القطع، والنصب على الاختصاص، "وفي رواية غير البخاري" كأبي نعيم وابن عساكر، وغيرهما من حديث دحية "إلى قيصر صاحب الروم"، ويحتمل الجمع بأنها بالمعنى، ورواية البخاري باللفظ لموافقة مسلم له، وهو يحافظ على اللفظ، ثم اتفق البخاري وغيره على قوله: "سلام"، وللبخاري في كتاب الاستئذان: السلام "على من اتبع الهدى"، أي: الرشاد.
قال الحافظ: وقد ذكرت هذه الجملة في قصة موسى وهارون مع فرعون، وظاهر السياق يدل على أنه من جملة ما أُمرا به أن يقولاه، فإن قيل: كيف يبدأ الكافر بالسلام؟ فالجواب أن المفسرين قالوا: ليس هذا من التحتية، إنما المراد سلم من عذاب الله من أسلم، ولذا جاء بعد أن العذاب على من كذب وتولى، وكذا في بقية هذا الكتاب، فإن توليت ... إلخ، فمحصل الجواب أنه لم يبدأ الكافر بالسلام قصدا، وإن كان اللفظ يشعر به، ولكنه لم يدخل في المراد؛ لأنه ليس ممن اتبع الهدى، فلم يسلم عليه، "أما بعد, فإني أدعوك بدعاية الإسلام" بكسر الدال من قولك: دعا يدعو دعاية نحو: شكا يشكو شكاية، ولمسلم بداعية الإسلام، أي: بالكلمة الداعية إليه، وهي شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، والباء موضع إلى، كما في الفتح، وتبعه المصنف وغيره، قال شيخنا: ولا يتعين، بل يجوز بقاؤها على ظاهرها، والمعنى: أدعوك بالكلمة الدالة على طلب الإسلام منك، وحملك عليه، وما بعده بيان للكلمة التي دعا بها، وهو قوله: "أسلم" بكسر اللام "تسلم" بفتحها فيه غاية الاختصار، ونهاية الإيجاز والبلاغة وجمع المعاني، مع ما فيه من البديع، وهو الجناس الاشتقاقي، وهو رجوع اللفظين في الاشتقاق إلى أصل واحد "يؤتك الله أجرك مرتين" لإيمانه بنبيه، ثم بالنبي -صلى الله عليه وسلم- وهو موافق لقوله تعالى: {أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ} [القصص: 54] أو من جهة أن إسلامه يكون سببا لدخول أتباعه.
وللبخاري في الجهاد: أسلم تسلم، وأسلم يؤتك, بتكرار أسلم مع زيادة الواو في الثانية،(5/6)
فإن توليت فإن عليك إثم الأريسين، ويا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله.
__________
فيحتمل التأكيد، ويحتمل أن الأمر الأول للدخول في الإسلام، والثاني للدوام عليه كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ} [النساء: 136] .
قاله الحافظ بناء على قول جماعة من أهل التفسير: إنها خطاب للمؤمنين، أو على قول ابن عباس: إنها لمؤمني أهل الكتاب، فلا يعترض عليه بقول مجاهد: إن الآية في المنافقين، "فإن توليت" أعرضت عن الإجابة إلى الإسلام، وحقيقة التولي إنما هو بالوجه، ثم استعمل مجازا في الإعراض عن الشيء، وهو استعارة تبعية، "فإن عليك إثم الأريسين" جمع أريس، بوزن فعيل، وقد تقلب همزته ياء، وجاءت به رواية أبي ذر والأصيلي وغيرهما.
قال ابن سيده: الأريس: الأكار، أي: الفلاح عند ثعلب، وعند كراع: الأريس الأمير، وقال الجوهري: هي لغة شامية، وأنكر ابن فارس أن تكون عربية، وقيل في تفسيره غير ذلك، لكن هذا هو الصحيح هنا، فقد صرح به في رواية ابن إسحاق بلفظ: فإن عليك إثم الأكارين.
زاد البرقاني: يعني الحراثين، وعند المدائني: فإن عليك إثم الفلاحين، وعند أبي عبيد: وإن لم تدخل في الإسلام، فلا تحل بين الفلاحين وبين الإسلام.
قال أبو عبيد: المراد بهم أهل مملكته؛ لأن كل من كان يزرع، فهو عند العرب فلاح، سواء كان يلي ذلك بنفسه، أو بغيره، وقال الليث بن سعد عن يونس: الأريسون العشارون، يعني: أهل المكس، رواه الطبراني والأول أظهر، وهذا إن صح أنه المراد، فالمعنى المبالغة في الإثم، ففي الصحيح في المرأة التي اعترفت بالزنى: لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لقبل، "ويا أهل الكتاب"، هكذا رواية النسفي، والقابسي، وعبدوس بالواو داخلة على مقدر معطوف على أدعوك، أي: أدعوك بدعاية الإسلام، وأقول لك ولأتباعك امتثالا لقوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ} [آل عمران: 64] ، فليس بزيادة في التلاوة، إذ الواو إنما دخلت على محذوف، ولا يردان حذف المعطوف، وبقاء العاطف ممتنع؛ لأن محله إذا حذف المعطوف وجميع تعلقاته، أما إذا بقي شيء هو معمول للمحذوف، فيجوز نحو: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ} .
قال الحافظ: ويحتمل أنها من كلام أبي سفيان، كأنه لم يحفظ جميع الألفاظ، فاستحضر منها صدر الكتاب، فذكره، فكأنه قال: كان فيه كذا، وكان فيه يا أهل الكتاب، قالوا: ومن كلامه لا من نفس الكتاب.
وذكر عياض أن الواو ساقطة من رواية الأصيلي، وأبي ذر: "تعالوا إلى كلمة سواء" سوية, "بيننا وبينكم" لا يختلف فيها القرآن والتوراة والإنجيل، هي "ألا نعبد إلا الله"، أي: نوحده(5/7)
ولا نشرك به شيئا, ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله، فإن تولوا فقولوا: اشهدوا بأنا مسلمون, رواه البخاري.
وكان -صلى الله عليه وسلم- أرسل هذا الكتاب مع دحية في آخر سنة ست، بعد أن رجع من الحديبية، كما قاله الواقدي. ووقع في تاريخ خليفة أن إرساله كان سنة خمس، والأول أثبت، بل هذا غلط لتصريح أبي سفيان بأن ذلك كان في مدة
__________
بالعبادة، ونخلص له فيها، "لا نشرك به شيئا"، لا نجعل غيره شريكا له في استحقاق العبادة، ولا نراه أهلا لأن يعبد، "ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله"، فلا نقول: عزير ابن الله، ولا المسيح ابن الله, ولا نطيع الأحبار فيما أحدثوه من التحريم والتحليل؛ لأن كلا منهم بشر مثلنا، "فإن تولوا" عن التوحيد، "فقولوا: اشهدوا بأنا مسلمون"، أي: لزمتكم الحجة، فاعترفوا بأنا مسلمون دونكم، أو اعترفوا بأنكم كافرون بما نطقت به الكتب، وتطابقت عليه الرسل.
قال الحافظ: وقد اشتملت هذه الجملة القليلة التي تضمنها بعض هذا الكتاب على الأمر بقوله: أسلم والترغيب بقوله: تسلم ويؤتك، والزجر بقوله: فإن توليت، والترهيب بقوله: فإن عليك، والدلالة بقوله: يا أهل الكتاب، وفي ذلك من البلاغة ما لا يخفى، وكيف لا وهو كلام من أوتي جوامع الكلم -صلى الله عليه وسلم- قال: واستنبط منه شيخنا، شيخ الإسلام، يعني البلقيني أن كل من دان بدين أهل الكتاب كان في حكمهم في المناكحة والذبائح، لأن هرقل هو وقومه ليسوا من بني إسرائيل، بل ممن دخل في النصرانية بعد التبديل، وقد قال لهم: يا أهل الكتاب، فدل على أن لهم حكمهم، خلافا لمن خص ذلك بالإسرائيليين، أو بمن علم أن سلفه دخل اليهودية، أو النصرانية قبل التبديل.
"رواه البخاري" في مواضع كثيرة، وأخرجه مسلم في المغازي، وهو من جملة حديث طويل مشهور.
وعندي ابن أبي شيبة من مرسل ابن المسيب: أن هرقل لما قرأه، قال: هذا كتاب لم أسمعه بعد سليمان، كأنه يريد الابتداء بالبسملة، "وكان -صلى الله عليه وسلم- أرسل هذا الكتاب مع دحية في آخر سنة ست, بعد أن رجع من الحديبية"، وكان وصوله إلى هرقل في المحرم سنة سبع، "كما قاله الواقدي" بما زدته، كما في الفتح قائلا: "ووقع في تاريخ خليفة" بن خياط بن خليفة العصفري البصري الحافظ, أحد شيوخ البخاري.
قال ابن عدي: له حديث وتاريخ حسن، وكتاب في طبقات الرواة، وهو مستقيم الحديث، صدوق متيقظ، مات سنة أربعين ومائتين، "أن إرساله كان سنة خمس، والأول أثبت، بل هذا غلط لتصريح أبي سفيان" بن حرب، راوي الحديث، "بأن ذلك كان في مدة(5/8)
صلح الحديبية كما في حديث البخاري، في المدة التي كان -عليه الصلاة والسلام- مادَّ فيها أبا سفيان وكفار قريش، يعني: مدة صلح الحديبية، وكانت سنة ست اتفاقا.
ولم يقل -صلى الله عليه وسلم- إلى هرقل ملك الروم؛ لأنه معزول بحكم الإسلام، ولم يخله من الإكرام لمصلحة التأليف.
وقوله: يؤتك الله أجرك مرتين، أي: لكونه مؤمنا بنبيه ثم آمن بمحمد -صلى الله عليه وسلم.
وقوله: فإن عليك إثم الأريسين أي: فإن عليك مع إثمك إثم الأتباع, بسبب أنهم اتبعوك على استمرار الكفر.
__________
صلح الحديبية، كما في حديث البخاري" عن أبي سفيان: إن هرقل أرسل إليه في ركب من قريش، وكانوا تجارا بالشام "في المدة التي كان عليه الصلاة والسلام مادّ" بشد الدال من مادد، فأدغم الأول في الثاني من المثلين، "فيها أبا سفيان، وكفار قريش"، بالنصب مفعولا معه، أو عطفا على المفعول به، أعني أبا سفيان، "يعني مدة صلح الحديبية، وكانت سنة ست اتفاقا"، فكيف يتأتى قول خليفة سنة خمس؟
"ولم يقل -صلى الله عليه وسلم- إلى هرقل ملك الروم؛ لأنه معزول" عن الملك "بحكم الإسلام"، ولا سلطنة لأحد إلا من قبله -صلى الله عليه وسلم، "و" لكنه "لم يخله من الإكرام"، ويذكر اسمه مجردا، بل قال: عظيم، أو صاحب "لمصلحة التأليف"، فلاطفه بالقول اللين، كما قال تعالى: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا} [طه: 44] ، وقال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ} [النحل: 125] ، "وقوله: يؤتك الله أجرك مرتين، أي: لكونه مؤمنا بنبيه" عيسى عليه السلام، "ثم آمن بمحمد -صلى الله عليه وسلم"، وهو موافق لقوله تعالى: {أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ} [القصص: 54] ، ويحتمل أن يكون تضعيف الأجر له من جهة إن إسلامه يكون سببا لدخول أتباعه، وصرح بذلك في حديث الشعبي، كما في الفتح، "وقوله: فإن عليك إثم الأريسين" بالهمزة، وفي رواية: اليريسين، بقلبها ياء، جمع يريس، بوزن كريم، وفي أخرى: اليريسيين بشد الياء بعد السين، جمع يريسيّ، وفي أخرى حكاها صاحب المشارق وغيره: الأرّيسين بشد الراء.
قال ابن الأعرابي: أرس يارس بالتخفيف فهو أريس, وأرّس بالتشديد يؤرس فهو أريس، وفي أخرى: الأرسين بتحتانية واحدة، وفي الكلام حذف دل عليه المعنى، "أي: فإن عليك مع إثمك إثم الأتباع, بسبب أنهم اتبعوك على استمرار الكفر"، فلأن يكون عليه إثم نفسه أولى, وهذا يعد من مفهوم الموافقة، ولا يعارض هذا قوله تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} ؛(5/9)
وقيل: إنه -عليه الصلاة والسلام- كتب هذه الآية: يعني {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ} قبل نزولها، فوافق لفظه لفظها لما نزلت؛ لأن هذه الآية نزلت في قصة وفد نجران، وكانت قصتهم سنة.
__________
لأن وزر الآثم لا يتحمله عليه، ولكن الفاعل المتسبب، والمتلبس للسيئات يتحمل من وجهين؛ جهة فعله وجهة تسببه.
قال الخطابي: المراد: أن عليه إثم الضعفاء، والأتباع إذ لم يسلموا تقليدا له؛ لأن الأصاغر أتباع الأكابر.
وقال الأزهري: الأريس بالتخفيف والتشديد الأكابر لغة شامية، وكان أهل السواد أهل فلاحة، وكانوا مجوسا، وأهل الروم أهل صناعة، فأعلموا بأنهم، وإن كانوا أهل كتاب، فإن عليهم من الإثم إن لم يؤمنوا مثل إثم المجوس, انتهى.
وحكى غيره أن الأريسين ينسبون إلى عبد الله بن أريس، رجل كانت النصارى تعظمه، ابتدع في دينهم أشياء مخالفة لدين عيسى، وقيل: إنه من قوم بعث إليهم نبي فقتلوه، والتقدير على هذا: فإن عليك مثل إثم الأريسين.
وذكر ابن حزم أن أتباع عبد الله بن أريس كانوا أهل مملكة هرقل، ورده بعضهم بأنهم كانوا قليلا وما كانوا يظهرون، وكانوا ينكرون التثليث، وما أظن قول ابن حزم إلا عن أصل، فإنه لا يجازف في النقل انتهى، من فتح الباري في موضعين, وفيه زيادات حسان تركتها خوف الإطالة، وأيضا لما قدمته عنه أن الصحيح تفسيره بالفلاحين؛ لوروده في رواية أخرى كذلك، وبلفظ الأكارين، وهو بمعناه.
قال النووي: نبه بهم على بقية الرعية؛ لأنهم الأغلب، ولأنهم أسرع انقيادا.
قال الحافظ: ومراده أنه نبه بذكر طائفة من الطوائف على بقية الطوائف، كأن يقول: إذا امتنعت، فإن عليك إثم كل ممتنع بامتناعك، وكأن يطيع لو أطعت كالفلاحين، فلا يرد تعقب شيخنا البلقيني بأن من الرعايا غير الفلاحين من له قوة وعشيرة، فلا يلزم من دخول الفلاحين دخول بقية الرعايا حتى صح أنه نبه بذكرهم على الباقين.
نعم, قول أبي عبيدة: ليس المراد بالفلاحين الزارعين فقط، بل جميع أهل المملكة إن أراد على ما قررت به كلام النووي فمسلم وإلا فمعترض، "وقيل: إنه عليه الصلاة والسلام كتب هذه الآية، يعني: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ} قبل نزولها، فوافق لفظه لفظها لما نزلت"، كما نزل بموافقة عمر في الحجاب، وأسرى بدر, وعدم الصلاة على المنافقين, وغير ذلك، "لأن هذه الآية نزلت في قصة وفد نجران" بفتح النون وسكون الجيم: بلد قريب من اليمن، "وكانت قصتهم" وستأتي "سنة(5/10)
الوفود سنة تسع، وقصة أبي سفيان هذه كانت قبل ذلك سنة ست. وقيل: نزلت في اليهود، وجوز بعضهم نزولها مرتين، وهو بعيد والله أعلم.
ولما قرئ كتاب النبي -صلى الله عليه وسلم.
__________
الوفود سنة تسع"، كما جزم به ابن سعد وغيره، "وقصة أبي سفيان هذه كانت قبل ذلك سنة ست" كما علم، وقيل: بل نزلت سابقة في أوائل الهجرة، وإليه يومئ كلام ابن إسحاق هكذا في الفتح قبل قوله: "وقيل: نزلت في اليهود"، فالقول الثالث عين مراد الثاني؛ ولذا قال: "وجوز بعضهم نزولها مرتين" مرة في أوائل الهجرة، وأخرى في سنة تسع, "وهو بعيد"؛ لأن الأصل عدم تكرار النزول، "والله أعلم" بما في نفس الأمر.
وهذا كلام الحافظ في الفتح، وقال ابن كثير: هذه القصة كانت بعد الحديبية وقبل الفتح، كما صرح به في هذا الحديث.
وقد ذكر ابن إسحاق وغيره أن صدر سورة آل عمران إلى بضع وثمانين آية منها, نزلت في وفد نجران.
وقال الزهري: هم أول من بذل الجزية, ولا خلاف أن آية الجزية نزلت بعد الفتح، فما الجمع بين كتابة هذه الآية إلى هرقل، وبين ما ذكره ابن إسحاق والزهري، أجيب بأن قدوم وفد نجران كان قبل الفتح وبعد الحديبية. وما بذلوه كان مصالحة على المباهلة لا عن الجزية، ووافق نزول الجزية بعد ذلك على وفقه، وباحتمال تعدد النزول، واحتمال كتبها قبل نزولها, انتهى.
"ولما قرئ كتاب النبي -صلى الله عليه وسلم" بالبناء للمفعول، وعند الواقدي من مرسل محمد بن كعب القرظي، فدعا الترجمان الذي يقرأ بالعربية، فقرأه.
وعند البخاري في بدء الوحي والتفسير: ثم دعا بكتاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقرأه، فظاهره أن هرقل هو الذي قرأه إلا أن تكون نسبة قراءته إليه مجازا لكونه الأمر به، والقارئ الترجمان، وللبخاري في الجهاد ما ظاهره أن قراءة الكتاب وقعت مرتين، ففي أوله، فلما جاء قيصر كتاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال حين قرأه: التمسوا لي ههنا أحدا من قوه لأسألهم عنه، فذكر القصة إلى أن قال: ثم دعا بكتاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقرئ.
قال في الفتح: والذي يظهر لي أن هرقل قرأه بنفسه أولا، ثم لما جمع قومه وأحضر أبا سفيان ومن معه، وسأله وأجابه, أمر بقراءة الكتاب على الجمع، ويحتمل أن المراد بقوله: أو لا حين قرأه، أي عنوانه؛ لأنه كان مختوما بختمه: محمد رسول الله، ولذا قال: إنه يسأل عن هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي، ويؤيده أن من جملة الأسئلة قول هرقل: بم يأمركم؟ فقال أبو سفيان:(5/11)
غضب ابن أخي قيصر غضبا شديدا, وقال: أرني الكتاب، فقال له: وما تصنع به؟ قال: إنه بدأ بنفسه، وسماك صاحب الروم، فقال له عمه: والله إنك لضعيف الرأي، أتريد أن أرمي بكتاب رجل يأتيه الناموس الأكبر، أو كلاما هذا معناه، أو قال: أن أرمي بكتاب لم أعلم ما فيه، لئن كان رسول الله, إنه لأحق أن يبدأ بنفسه، ولقد صدق, أنا صاحب الروم، والله مالكي ومالكه.
__________
يقول: اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، وهذا بعينه في الكتاب، فلو كان قرأه ما احتاج إلى السؤال عنه إلا أن يكون مبالغة في تقريره, "غضب ابن أخي قيصر"، كما أخرجه الحسن بن سفيان، وسعيد بن منصور، عن دحية قال: بعثني النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى هرقل، فقدمت عليه، فأعطيته الكتاب، وعنده ابن أخ له, أحمر, أزرق, سبط الرأس، فلما قرئ الكتاب نخر ابن أخيه نخرة، فقال: لا تقرأه، فقال قيصر: لم؟ قال: لأنه بدأ بنفسه، وكتب صاحب الروم، ولم يقل: ملك الروم، قال: اقرأ فقرئ الكتاب.
وذكر المدائني أن القارئ لما قرأ من محمد رسول الله إلى عظيم الروم غضب أخو هرقل، واجتذب الكتاب، فقال له هرقل: ما لك؟ قال: بدأ بنفسه وسماك صاحب الروم، قال: إنك لضعيف الرأي, أتريد أن أرمي الكتاب قبل أن أعلم ما فيه؟ لئن كان رسول الله لهو أحق أن يبدأ بنفسه، ولقد صدق، أنا صاحب الروم، والله مالكي ومالكهم، ذكره في فتح الباري في التفسير، وعند ابن سعد في كتاب ملكي عثمان تسمية أخي قيصر يناق.
قال البرهان: بفتح التحتية، وشد النون، فألف، فقاف, لا أعرف له ترجمة، والظاهر هلاكه على دينه, انتهى.
فيحتمل أن الأخ وابن الأخ وقع من كل منهما ما ذكر، ولفق المصنف من كل منهما ناسبا لابن الأخ ما ذكره بقوله: "غضبا شديدا، وقال: أرني الكتاب، قال: وما تصنع به؟ قال: إنه بدأ بنفسه"، وعادة العجم إذا كتبوا إلى ملوكهم بدءوا باسم ملوكهم، وهذا خلاف العادة، فلا يقرأ كتابه، "وسماك صاحب الروم"، ولم يقل: ملك الروم، "فقال له عمه: والله إنك لضعيف الرأي"، قليل العقل، "أتريد أن أرمي بكتاب رجل يأتيه الناموس الأكبر" جبريل عليه السلام بالوحي من الله، "أو كلاما هذا معناه"، والحاصل أنه لا يرمي به خوفا من تعجيل العقوبة لو فعل، "أو قال: أن أرمي بكتاب لم أعلم ما فيه"، ولا يليق هذا بعقل الملوك، ثم تنزل معه زيادة في توبيخه على ضعيف رأيه؛ لأن الخبر من حيث هو يحتمل الصدق، فقال: "لئن كان رسول الله, إنه لأحق أن يبدأ بنفسه، ولقد صدق أنا صاحب الروم، والله مالكي ومالكه"، أي: الروم، وكأنه أفرد الضمير باعتبار لفظ الروم, ومر أن الرواية: مالكهم بالجمع، زاد في رواية: ولكن الله سخرهم لي، ولو شاء(5/12)
ثم أمر بإنزال دحية وإكرامه, إلى أن كان من أمره ما ذكره البخاري في حديثه، انتهى.
__________
لسلَّطهم علي، كما سلط فارس على كسرى فقتلوه، ثم أخذ كتاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فوضعه على رأسه، ثم قبله وطواه في الديباج والحرير، وجعله في سفط، "ثم أمر بإنزال دحية وإكرامه".
قال دحية: ثم بعث إلي من الغد سرا، فأدخلني بيتا عظيما فيه ثلاثمائة وثلاث عشرة صورة، فإذا هي صور الأنبياء المرسلين، فقال: انظر أين صاحبك من هؤلاء؟ فرأيت صورة النبي -صلى الله عليه وسلم- كأنه ينطق، قلت: هذا, قال: صدقت.
رواه أبو نعيم وغيره "إلى أن كان من أمره ما ذكره البخاري في حديثه" من أنه رجع إلى حمص، وجمع عظماء الروم في دار له، وقال: يا معشر الروم, هل لكم في الفلاح والرشد آخر الأبد، وإن يثبت ملككم فتبايعوا هذا النبي، فحاصوا حيصة حمر الوحش إلى الأبواب، فوجدوها قد غلقت، فقال: علي بهم، فقال: إني إنما اختبرت شدتكم على دينكم، فقد رأيت منكم الذي أحببت، فسجدوا له، ورضوا عنه، فكان ذلك آخر شأن هرقل "انتهى".
أي: فيما يتعلق بهذه القصة، خاصة المتعلقة بدعائه الإيمان؛ لأنه انقضى أمره حينئذ، ومات أو أطلق الآخرية بالنسبة إلى ما في علمه وهذا أوجه؛ لأنه قد وقعت له قصص أخرى من تجهيز الجيش إلى مؤتة، ومكاتبة النبي -صلى الله عليه وسلم- ثانيا وهو بتبوك، وبعث به دحية أيضا، وإرساله إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- بذهب قسمه بين أصحابه، كما رواه ابن حبان.
وروى أحمد وأبو يعلى: قدم -صلى الله عليه وسلم- تبوك، فبعث دحية إلى هرقل، فلما جاءه الكتاب دعا القسيسين والبطارقة، وأغلق عليهم وعليه، فقال: إن هذا الرجل يدعوني، ووالله لقد قرأتم فيما تقرءون من الكتب، ليأخذن ما تحت قدمي، فهلم إلى أن نتبعه، فنخروا نخرة رجل واحد حتى إن بعضهم خرج عن برنسه، فلما ظن أنهم أن خرجوا من عنده، أفسدوا عليه الروم، قال: إنما قلت لأعلم صلابتكم على أمركم الحديث، وقد تقدم بعضه في غزوة تبوك، وأن إرسال الهدية وكتابته إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وبعثه رسوله التنوخي، إنما كان لما أرسل إليه، وهو عليه السلام بتبوك، كما في الحديث، وبه جزم السهيلي.
قال في الفتح: روى ابن حبان أنه -صلى الله عليه وسلم- كتب إليه بتبوك يدعوه إلى الإسلام، فقارب الإجابة ولم يجب، فدل على استمراره على الكفر، لكن يحتمل مع ذلك أنه كان يضمر الإيمان، ويفعل هذه المعاصي مراعاة لملكه، وخوفا من أن يقتله قومه، إلا أن في مسند أحمد أنه كتب من تبوك إلى النبي -صلى الله عليه وسلم: إني مسلم، فقال: كذب، بل هو على نصرانيته، ولأبي عبيد: كذب عدو الله ليس بمسلم، فإطلاق صاحب الاستيعاب أنه آمن، أي: أظهر التصديق، لكن لم يستمر(5/13)
وكتب صلى الله عليه وسلم إلى كسرى أبرويز بن هرمز بن أنوشروان ملك فارس:
بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى كسرى عظيم فارس، سلام على من اتبع الهدى، وآمن بالله ورسوله.
__________
عليه، ويعمل بمقتضاه، بل شح بملكه، وآثر الفانية على الباقية، ولو تفطن لقوله -صلى الله عليه وسلم: أسلم تسلم، وحمل الخبر على عمومه في الدنيا والآخرة لسلم، أو أسلم من كل ما يخافه، ولكن التوفيق بيد الله، واختلف الأخباريون: هل هو الذي حاربه المسلمون في زمن أبي بكر وعمر، أو ابنه، والأظهر أنه هو "انتهى".
"وكتب صلى الله عليه وسلم إلى كسرى" بكسر الكاف وتفتح, لقب لكل من ملك الفرس، قال ابن الأعرابي: الكسر أفصح، واختاره أبو حاتم، وأنكره الزجاج، واحتج بأن النسبة كسروي بالفتح، ورده ابن فارس بأن النسبة قد يفتح فيها ما الأصل كسره أو ضمه، كما قالوا في بني تغلب بكسر اللام: تغلبي بفتحها، وفي سلمة كذلك، فلا حجة فيه على تخطئة الكسر.
قال في الفتح: ومعناه بالعربية المظفر "أبرويز"، بفتح الواو، وكسرها، ويقال له: أبرواز وآخره زاي معجمة كما في القاموس, ومقتضى قاعدته فتح همزته.
قال السهيلي في أوائل الروض: ومعنى أبرويز بالعربية المظفر، وهو الذي غلب على الروم حين أنزل الله: {الم، غُلِبَتِ الرُّومُ} [الروم: 2] انتهى, فعلى هذا، فكل من لفظ كسرى وأبرويز معناه المظفر "بن هرمز بن أنوشروان"، وهو كسرى الكبير المشهور، الذي بنى الإيوان، وملك ثمانيا وأربعين سنة، وقيل: إنه الذي كتب إليه -صلى لله عليه وسلم.
قال الحافظ: وفيه نظر؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنذر بأن ابنه يقتله، والذي قتله ابنه هو كسرى أبرويز بن هرمز, "ملك فارس"، ولفظه فيما أخرجه الواقدي من حديث الشفاء بنت عبد الله "بسم الله الرحمن الرحيم"، قال في فتح الباري: لم تجر العادة الشرعية، ولا العرفية بابتداء المراسلات بالحمد، وقد جمعت كتبه -صلى الله عليه وسلم- إلى الملوك وغيرهم، فلم يقع في واحد منها البداءة بالحمد، بل بالبسملة, "من محمد رسول الله" فيه البداءة باسم الكاتب قبل المكتوب إليه، وقد أخرج أحمد وأبو داود أن العلاء بن الحضرمي كتب إليه -صلى الله عليه وسلم- وكان عامله على البحرين: من العلاء إلى محمد رسول الله، فبدأ بنفسه، وعند البزار أنه -صلى الله عليه وسلم- وجه عليا وخالد بن الوليد, فكتب إليه خالد, فبدأ بنفسه, وكتب إليه علي, فبدأ برسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلم يعب على واحد منهما، وكتب ابن عمر إلى معاوية وعبد الملك، فبدأ بهما، وكذا جاء عن زيد بن ثابت إلى معاوية "إلى كسرى عظيم فارس، سلام" من عذاب الله "على من اتبع الهدى" الرشاد، "وآمن بالله ورسوله،(5/14)
وشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله. أدعوك بدعاية الله عز وجل، فإني رسول الله إلى الناس كلهم؛ لينذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين، أسلم تسلم، فإن توليت فعليك إثم المجوس.
فلما قرئ عليه الكتاب مزقه، فبلغ ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: مزق ملكه.
__________
وشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله"، أكد في هذا الكتاب، وأوضح البيان؛ لأنهم مجوس، لا يقرءون الكتب، ولا يعرفون مدلولات الألفاظ بسرعة، بخلاف قيصر، فإنه كتابي قد قرأ الكتب، فلم يصح بدعائه إلى الشهادة له -صلى الله عليه وسلم- بالرسالة؛ لكونه منطويا في قوله على من اتبع الهدى وأسلم، ودعاية الإسلام، فإن جميعه يتضمن الإقرار بالشهادتين، "أدعوك بدعاية الله عز وجل" بكسر الدال، كما مر "فإني رسول الله إلى الناس كلهم"، كما قال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف: 158] ، وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ} [سبأ: 28] ، "لينذر" الرسول وراعى نظم القرآن مع مراعاة لفظ رسول الله.
وفي نسخة: لأنذر، وهو الذي في العيون عن رواية الواقدي المذكورة على الاقتباس "من كان حيا" عاقلا فهما، فإن الغافل كالميت، أو مؤمنا في علم الله، فإن الحياة الأبدية بالإيمان، وتخصيص الإنذار به؛ لأنه المنتفع به، "ويحق القول" يجب كلمة العذاب "على الكافرين" المصرين عل الكفر، وجعلهم في مقابلة من كان حيا إشعارا بأنهم لكفرهم، وسقوط حجتهم، وعدم تأملهم أموات في الحقيقة، كما قال البيضاوي: "أسلم تسلم"، لم يقل: يؤتك الله أجرك مرتين، لأنه مجوسي، عابد لنا, لا كتاب له ولا دين، "فإن توليت، فعليك" مع إثمك "إثم المجوس" يعني أتباعه عبدة النار، واختلف هل كان لهم كتاب أم لا، فيروى عن علي: أنهم كان لهم كتاب فبدلوه، فأصبحوا وقد أسرى به.
رواه الإمام الشافعي، وقال: متصل، وبه نأخذ, ورد بأن في إسناده سعيد بن المرزبان ضعفه يحيى بن سعيد الأنصاري وابن معين، وقال الفلاس: بالفاء متروك الحديث، وقال أبو أسامة: كان ثقة، وقال أبو زرعة: صدوق مدلس.
وقال ابن القيم: الأثر الذي فيه أنه كان لهم كتاب، فرفع ورفعت شريعتهم، لما وقع ملكهم على بنته لا يصح البتة.
وعند الواقدي، قال عبد الله بن حذافة: فانتهيت إلى بابه، فطلبت الإذن عليه حتى وصلت إليه، فدفعت إليه الكتاب، "فلما قرئ عليه الكتاب مزقه"، أي: خرقه، "فبلغ ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فقال: "مزق ملكه" " دعاء، أو إخبار بالغيب، ويؤيد الأول قوله الآتي: فدعا عليهم.(5/15)
وفي البخاري من حديث ابن عباس أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعث بكتابه إلى كسرى مع عبد الله بن حذافة السهمي، فأمره أن يدفعه إلى عظيم البحرين، فدفعه عظيم البحرين إلى كسرى، فلما قرأه مزقه، فحسبت أن ابن المسيب قال: فدعا عليهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يمزقوا كل ممزق.
__________
"وفي البخاري" في العلم والجهاد والمغازي وغيرها من أفراده عن مسلم "من حديث" الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن "ابن عباس أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعث بكتابه إلى كسرى مع عبد الله بن حذافة" القرشي "السهمي"، أسلم قديما، وكان من المهاجرين الأولين، قيل: واختاره لتردده عليه كثيرا، "فأمره"، أي: أمر المصطفى عبد الله "أن يدفعه إلى عظيم البحرين" المنذر بن ساوى -بالمهملة وفتح الواو الممالة- العبدي نائب كسرى على البحرين، "فدفعه عظيم البحرين إلى كسرى".
قال الحافظ: الفاء عاطفة على محذوف تقديره: فتوجه إليه، فأعطاه الكتاب، فأعطاه لقاصده عنده، فتوجه به، فدفعه إلى كسرى، ويحتمل أن المنذر توجه بنفسه، فلا يحتاج إلى القاصد، ويحتمل أن القاصد لم يباشر إعطاء كسرى بنفسه، كما هو الأغلب من حال الملوك، فيزداد التقدير ا. هـ، ولم يتنزل للجميع بينه وبين ما ذكره الواقدي أن عبد الله بن حذافة دفع الكتاب إلى كسرى؛ لأن مثله لا يعارض به ما في الصحيح، فإن كان محفوظا، فيحتمل أن عبد الله لما وصل إلى عظيم البحرين، أرسله أو ذهب به إلى كسرى، فاستأذن حتى دخل عليه، "فلما قرأه" رواية الكشميهني، وللأكثر، فلما قرأ بحذف المفعول، وفيه مجاز، فإنه لم يقرأه بنفسه، وإنما قرئ عليه، كما ذكر ابن سعد من حديث عبد الله بن حذافة، هكذا في الفتح، فقول المصنف: قرأه بنفسه، أو قرأه غيره عليه, فيه نظر, "مزقه" بزاي وقاف، أي: قطعه، وهذا لفظ البخاري هنا.
وفي كتاب العلم، وله في الجهاد خرقه بخاء معجمة، وشد الراء بدل مزقه، وهو قريب منه في المعنى، "فحسبت أن ابن المسيب"، قال الحافظ: قائله الزهري، وهو موصول بالإسناد المذكور، ووقع في جميع الطرق مرسلا، ويحتمل أن ابن المسيب سمعه من عبد الله بن حذافة صاحب القصة، "قال: فدعا عليهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يمزقوا كل ممزق" بفتح الزاي فيهما، أي: يتفرقوا ويتقطعوا، فاستجاب الله لرسوله، فسلط الله على أبرويز ابنه شيرويه، فقتله، ثم قتل إخوته، وكان أبوه لما علم أن ابنه يقتله, احتال على قتل ابنه بعد موته، فعمل في بعض خزائنه المختصة به حقا مسموما، وكتب عليه حق الجماع من تناول منه، كذا جامع، كذا, فقرأه شيرويه، فتناول(5/16)
وقيل: بعثه مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه، والذي في البخاري هو الصحيح.
وفي كتاب "الأموال" لأبي عبيد من مرسل عمير بن إسحاق, قال: كتب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى كسرى وقيصر، فأما كسرى فلما قرأ الكتاب مزقه، وأما قيصر فلما قرأ الكتاب طواه ثم رفعه، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "أما هؤلاء فيمزقون، وأما هؤلاء فسيكون لهم بقية".
__________
منه، فهلك بعد أبيه بستة أشهر، ولم يخلف ذكرا، فملكوا أخته بوران بضم الموحدة, ذكره ابن قتيبة في المعارف، ثم ملكوا أختها أزدميدخت، كما ذكره الطبري, فجر ذلك إلى ذهاب ملكهم ومزقوا، كما دعا به -صلى الله عليه وسلم- هكذا في الفتح، ونقل غيره عن كتاب المعارف لابن قتيبة المذكور أنه تولى بعد شيرويه ابن عمه كسرى بن قياذ بن هرمز وأردشير بن شيرويه وجرهان، ثم ملك بعدهم بوران بنت كسرى، فبلغه -صلى الله عليه وسلم- فقال: "لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة"، "وقيل: بعثه"، أي الكتاب "مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه"، أخرجه ابن عدي بسند ضعيف عن ابن عباس.
قال الحافظ: فإن ثبت, فلعله كتب إلى ملك فارس مرتين، "والذي في البخاري هو الصحيح"، وفي رواية عمر بن شبة أنه بعثه مع خنيس بن حذافة أخي عبد الله، وهو غلط، فإنه مات بأحد، فتأيمت منه حفصة، وبعث الرسل كان سنة سبع انتهى. وقيل: مع خارجة بن حذافة، ولا يصح لأن خارجة كما في الإصابة, من مسلمة الفتح والبعث كان قبله، وقيل: مع شجاع بن وهب وفيه نظر، فالمروي عند الطبراني وغيره أنه بعث شجاعا إلى الحارث بن أبي شمر الغساني، وبعثهم كان في آن واحد، "وفي كتاب الأموال لأبي عبيد من مرسل عمير" بضم العين مصغرا "ابن إسحاق" أبي محمد، مولى بني هاشم, مقبول من الثالثة، كما في التقريب: قال: كتب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى كسرى وقيصر، فأما كسرى، فلما قرأ الكتاب مزقه، وأما قيصر, فلما قرأ الكتاب طواه، ثم رفعه، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "أما هؤلاء -أي كسرى وقومه- فيمزقون، وأما هؤلاء فسيكون لهم بقية"، فكان كذلك، فعاش قيصر إلى زمان عمر سنة عشرين على الصحيح، وقيل: مات في زمنه -صلى الله عليه وسلم- والذي حارب المسلمين بالشام ولده ولقبه أيضا قيصر.
وفي حديث التنوخي رسول هرقل أنه -صلى الله عليه وسلم- قال له: "يا أخا تنوخ, إني كتبت بكتاب إلى كسرى فمزقه, والله ممزقه وملكه، وكتبت إلى صاحبك بصحيفة، فأمسكها، فلن يزال الناس يجدون منه بأسا ما دام في العيش خير".(5/17)
وروي أنه لما جاءه جواب كسرى قال: "مزق ملكه"، ولما جاءه جواب هرقل قال: "ثبت ملكه".
وذكر شيخ الإسلام أبو الفضل بن حجر رحمه الله في فتح الباري عن سيف الدين قلج المنصوري، أحد أمراء الدولة القلاوونية، أنه قدم على ملك المغرب بهدية من الملك المنصور قلاوون، فأرسله ملك المغرب إلى ملك الفرنج في شفاعة، وأنه قبله وأكرمه، وقال: لأتحفنّك بتحفة سنية، فأخرج له صندوقا
__________
"وروي أنه لما جاءه جواب كسرى، قال: "مزق ملكه"، ولما جاءه جواب هرقل، قال: "ثبت ملكه" "، فذهب ملك كسرى أصلا، وبقي ملك قيصر، وإنما ارتفع من الشام وما والاها، وعبر بالملك نظرا للظاهر، فلا ينافي أنهما معزولان عن الملك بحكم الإسلام، ولا يرد على هذا حديث الصحيح: إذا هلك كسرى، فلا كسرى بعده، وإذا هلك قيصر، فلا قيصر بعده؛ لأن المراد: لا يبقى قيصر بالشام، ولا كسرى بالعراق، كما نقل عن الشافعي، وقيل غير ذلك.
وفي حديث عبد الله بن حذافة: فلما بلغ ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "اللهم مزق ملكه" وكتب كسرى إلى باذان عامله على اليمن أن ابعث من عندك رجلين جلدين إلى هذا الرجل الذي بالحجاز فليأتيا بخبره, فبعث باذان رجلين بكتاب إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقدما المدينة بكتابه، فتبسم -صلى الله عليه وسلم- ودعاهما إلى الإسلام، وفرائصهما ترعد، ثم قال: "ارجعا عني حتى تأتياني الغد" , فجاآه الغد, فقال لهما: "أبلغا صاحبكما أن ربي قتل ربه في هذه الليلة لتسع ساعات مضت منها"، قال: وكان ذلك ليلة الثلاثاء لعشر مضين من جمادى الأولى سنة سبع، وإن الله سلط عليه ابنه شيرويه، فقتله، فانطلقا، فأخبراه، فقال باذان: إن يكن كما قال, فوالله إنه لنبي، ويأتي الخبر إلي بذلك يوم كذا، فأتاه الخبر كذلك، فبعث باذان بإسلامه وإسلام من معه إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم.
عن الزهري: بلغني أن كسرى كتب إلى باذان أن رجلا من قريش يزعم أنه نبي فسر إليه، فإن تاب وإلا فابعث إلي برأسه، فذكر القصة، قال: فلما بلغ باذان أسلم هو ومن معه.
"وذكر شيخ الإسلام أبو الفضل بن حجر رحمه الله تعالى في فتح الباري" في حديث هرقل من بدء الوحي، قال: أنبأني غير واحد عن القاضي نور الدين بن الصائغ الدمشقي، "عن سيف الدين قلج" بقاف ولام وجيم معناه سيف بالتركي "المنصوري، أحد أمراء الدولة القلاوونية أنه قدم على ملك المغرب بهدية من الملك المنصور قلاوون، فأرسله ملك المغرب إلى ملك الفرنج في شفاعة، وأنه قبله وأكرمه"، وعرض عليه الإقامة عنده فأبى، كما في الفتح، "وقال: لأتحفنك بتحفة" بضم التاء وفتح الحاء.
وحكى الصغاني سكونها "سنية، فأخرج له صندوقا" بضم الصاد، وقد تفتح، وبالزاي(5/18)
مصفحا بالذهب، فأخرج منه مقلمة من ذهب, فأخرج منها كتابا قد زالت أكثر حروفه، وقد ألصقت عليه خرقة حرير، فقال: هذا كتاب نبيكم لجدي قيصر، ما زلنا نتوارثه إلى الآن، وأوصانا آباؤنا عن آبائهم إلى قيصر، أنه ما دام هذا الكتاب عندنا لا يزال الملك فينا، فنحن نحفظه غاية الحفظ، ونعظمه ونكتمه عن النصارى ليدوم الملك فينا، انتهى.
وكتب -صلى الله عليه وسلم- إلى النجاشي:
بسم الله الرحمن الرحيم, من محمد رسول الله إلى النجاشي ملك.
__________
والسين لغات وجمعه: صناديق، كما في القاموس "مصفحا بالذهب، فأخرج منه مقلمة من ذهب"، بكسر الميم: وعاء الأقلام، كذا في المصباح، وانتقده شيخنا بأن المناسب لتفسيرها بالوعاء أن يكون بالفتح اسم مكان, أما بكسرها فيقتضي أنها اسم آلة, وهي الواسطة بين الفاعل ومن فعله القريب، "فأخرج منها كتابا قد زالت أكثر حروفه، وقد ألصقت عليه خرقة حرير، فقال: هذا كتاب نبيكم لجدي قيصر, ما زلنا نتوارثه إلى الآن، وأوصانا آباؤنا عن آبائهم إلى قيصر أنه ما دام هذا الكتاب عندنا لا يزال"، أي: يدوم "الملك فينا، فنحن نحفظه غاية الحفظ، ونعظمه ونكتمه عن النصارى، ليدوم الملك فينا"، وسماه تحفة؛ لأنه من آثاره -صلى الله عليه وسلم- فهو أعظم شيء يتحفه به, "انتهى".
قال في الفتح: ويؤيد هذا مرسل عمير بن إسحاق، فذكره، وقوله -صلى الله عليه وسلم: "إني كتبت إلى صاحبكم بصحيفة، فأمسكها، فما يزال الناس يجدون منه بأسا ما دام في العيش خير"، فانظر تفاوت الناس، وكونهم معادن حتى في الكفر.
وقد روي أن كسرى أهدى له بغلة، وأعل بأنه مزق الكتاب، كما يأتي للمصنف في الفصل التاسع من ذا المقصد، وأجيب بجواز أن المهدي شيرويه ابنه أو غيره ممن تولى بعده، على أنه لا يلزم من التمزيق عدم الإهداء؛ لأنه مزقه لما جاءه للشقاوة التي كتبت عليه، ثم يحتمل أنه لما خلا بنفسه خاف لاستيقانه نبوته، فأهدى له البغلة والعلم لله، "وكتب -صلى الله عليه وسلم- إلى النجاشي".
قال في الإصابة: بفتح النون على المشهور، وقيل: تكسر عن ثعلب، وتخفيف الجيم، وأخطأ من شددها عن المطرزي وتشديد آخره.
وحكى المطري التخفيف، ورجحه الصغاني انتهى. وذكره الواقدي، ورواه البيهقي عن ابن إسحاق أن لفظه "بسم الله الرحمن الرحيم, من محمد رسول الله إلى النجاشي ملك(5/19)
الحبشة، أما بعد: فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن، وأشهد أن عيسى ابن مريم روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم البتول الطيبة الحصينة، فحملت بعيسى فخلقه من روحه, ونفخه كما خلق آدم بيده، وإني أدعوك إلى الله وحده لا شريك له، والموالاة على طاعته، وأن تتبعني وتؤمن بالذي جاءني.
__________
الحبشة"، لم يقل: عظيم، كما قال في غيره، لما رأى فيه من العلامات الدالة على أنه يسلم، لما صنعه مع المسلمين الذين هاجروا إليه من الإحسان، ومنع الأذى ممن أراده بهم، ويحتمل أنه علم بالوحي أنه يسلم؛ فلذا وصفه بالملك.
وفي رواية الواقدي: سلم أنت بكسر فسكون، أي: مسالم أو مصالح، أو بمعنى الدعاء له أو البشارة بأن يكون ذا سلامة؛ لما علمه من صدقه ومحبته وحسن حاله، وللبيهقي عن ابن إسحاق سلام عليك، ولم يذكر هو، ولا الواقدي "أما بعد" بل عقب الواقدي قوله: سلم أنت، وابن إسحاق: سلام عليك بقوله: "فإني أحمد إليك الله" أي: أنهي إليك حمد الله "الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن"، هكذا ذكرهما في الكتاب ابن إسحاق والواقدي، فكأنهما سقطا من قلم المؤلف، "وأشهد أن عيسى ابن مريم روح الله"، أي: ذو روح أضيف إليه تعالى تشريفا له؛ لأنه أوجده بلا أب، أو لأنه يحيي الأموات أو القلوب، "وكلمته" هي قوله تعالى: {كُنْ} [آل عمران: 59] ، فكان بشرا بلا أب، ولا واسطة، وقول البيضاوي: لعل جبريل تمثل لها بشرا سويا، خلقه شابا أمرد تستأنس بكلامه، لتهيج شهوتها، فتنحدر نطفتها إلى رحمها.
قال السيوطي: كان في غنية عن هذا الكلام الفاسد، ولكن هذا ثمرة التوغل في الفلسفة انتهى، "ألقاها" أوصلها "إلى مريم البتول"، المنقطعة عن الرجال التي لا شهوة لها فيهم، وسميت فاطمة الزهراء بذلك؛ لانقطاعها عن الدنيا إلى الله تعالى "الطيبة الحصينة" بفتح الحاء، وكسر الصاد المهملتين، العفيفة فعيلة بمعنى مفعلة، "فحملت بعيسى، فخلقه من روحه"، وسقط من نسخة: فخلقه، لكنها ثابتة عند ابن إسحاق والواقدي، "ونفخه" أي: الله تعالى، أي: نفخ رسوله جبريل، كما قال تعالى: {فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا} [الأنبياء: 91] ، فأرسلنا إليها روحنا، فهو عطف تفسير للروح.
وفي القاموس: من جملة معانيها النفخ، "كما خلق آدم بيده"، بقدرته وقوته, إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم, خلقه من تراب, من تشبيه الغريب بالأغرب، ليكون أقطع للخصم، وأوقع في النفس، "وإني أدعوك إلى الله وحده لا شريك له"، لا كما تزعمه النصارى من التثليث وغيره، "والموالاة" المتابعة والمناصرة "على طاعته، وأن تتبعني وتؤمن بالذي جاءني،(5/20)
"فإني رسول الله، وإني أدعوك وجنودك إلى الله تعالى، وقد بلَّغت ونصحت فاقبلوا نصيحتي، وقد بعثت إليكم ابن عمي جعفرًا ومعه نفر من المسلمين، والسلام على من اتبع الهدى".
وبعث الكتاب مع عمرو بن أمية الضمري، فقال النجاشي له عندما قرأ الكتاب: أشهد بالله أنه النبي الأميّ الذي ينتظره أهل الكتاب، وأن بشارة موسى براكب الحمار، كبشارة عيسى براكب الجمل، وأن العيان ليس بأشفى من الخبر عنه،
__________
"فإني رسول الله" إلى الناس كافة، "وإني أدعوك" و " أدعو " جنودك إلى الله تعالى"، أي: طاعته وعبادته، "وقد بلغت ونصحت" بضم التاءين على التكلم، "فاقبلوا" بهمزة وصل وفتح الموحدة "نصيحتي"، ففيها سعادة الدارين، "وقد بعثت إليكم ابن عمي جعفرًا"، قيل هذا في الهجرة الثانية إلى الحبشة في السنة السادسة من النبوة، وبعث الكتاب، كما يأتي كان في سنة ست من الهجرة، واستمرَّ جعفر مقيمًا بالحبشة حتى قدم في خيبر، "ومعه نفر من المسلمين"، وسقط قوله، وقد بعثت إلى هنا من رواية الواقدي، وثبت للبيهقي عن ابن إسحاق "والسلام على من اتبع الهدى" الرشاد، وبعث الكتاب مع عمرو بن أمية الضميري" الصحابي المشهور.
قال ابن سعد: أسلم حين انصرف المشركون من أحد، كذا ذكر ابن عبد البر.
قال النووي: والمشهور أنه أسلم قديمًا، وهاجر إلى الحبشة، ثم إلى المدينة.
ذكر ابن إسحاق أن عمرًا قال له: يا أصحمة إن عليّ القول وعليك الاستماع، إنك كأنَّك في الرقة علينا منّا، وكأنَّا في الثقة بك منك؛ لأنا لم نظن بك خيرًا قط إلا نلناه منك، ولم نخفك على شيء قط إلا أمناه، وقد أخذنا الحجة عليك من فيك, الإنجيل بيننا وبينك شاهد لا يرد, وقاض لا يجور، وفي ذلك موقع الحز، وإصابة المفصل، وإلّا فأنت في هذا النبي الأمي، كاليهود في عيسى ابن مريم، وقد فرق النبي -صلى الله عليه وسلم- رسله إلى الناس، فرجاك لما لم يرجهم له، وأمَّنك على ما خافهم عليه، لخير سالف، وأجر ينتظر، "فقال النجاشي له: عندما قرأ الكتاب، أشهد بالله إنه النبي الأمي الذي ينتظره أهل الكتاب, وأن بشارة موسى براكب الحمار" عيسى -عليه السلام، "كبشارة عيسى براكب الجمل" أحمد -صلى الله عليه وسلم، "وأن العيان" بكسر العين المشاهدة له "ليس بأشفى من الخبر عنه"، لأن ما أعلمه من صفاته وأخباره بحقيقة الإسلام, وغير ذلك ثبت عندي، وتيقنته؛ بحيث لو عاينته لا أزداد من حيث العلم بتحققه شيئًا، فلا تعارض بين هذا، وبين قوله -صلى الله عليه وسلم: "ليس الخبر كالمعاينة، إن الله عز وجل أخبر موسى بما صنع قومه في العجل، فلم يلق(5/21)
ولكن أعواني من الحبش قليل، فأنظرني حتى أكثر الأعوان وألين القلوب".
ثم كتب النجاشي جواب الكتاب إلى النبي -صلى الله عليه وسلم.
بسم الله الرحمن الرحيم. إلى محمد رسول الله, من النجاشي أصحمة، سلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركات الله الذي لا إله إلا هو الذي هداني للإسلام، أما بعد: فقد بلغني كتابك يا رسول الله، فما ذكرت من أمر عيسى، فورب السماء والأرض إن عيسى -عليه الصلاة والسلام- لا يزيد على ما ذكرت ثفروفا،
__________
الألواح، فلمَّا عاين ما صنعوا ألقى الألواح فانكسرت"، رواه أحمد وغيره بسند صحيح عن ابن عباس؛ لأن معناه أن الخبر يفيد العلم بصفة إجمالية، والمعاينة تفيد حصولها وتصورها عند الرائي، وذلك لا يفيده الإخبار، أو الحديث حكم على المجموع، ومنه فعل موسى، وقول النجاشي، أي: عندي حق لو رأيته ما زدت على اليقين؛ كقوله: لو كشف الغطاء ما زددت يقينًا، "ولكن أعواني من الحبش قليل، فأنظرني" أخرني "حتى أكثر الأعوان وألين القلوب" إلى الإسلام.
قال ابن سعد: فأخذ الكتاب، ووضعه على عينيه، ونزل عن سريره، فجلس على الأرض، ثم أسلم وشهد شهادة الحق، وقال: لو كنت أستطيع أن آتيه لأتيته، "ثم كتب النجاشي جواب الكتاب إلى النبي -صلى الله عليه وسلم: بسم الله الرحمن الرحيم، ابتدأ بها اقتداءً بكتاب المصطفى، لكنه تأدَّب، فلم يبدأ باسم نفسه، بل بالاسم الشريف، فقال: "إلى محمد رسول الله من النجاشي أصحمة" بوزن أربعة وحاؤه مهملة، وقيل معجمة، وقيل: إنه بموحدة بدل الميم، وقيل: صحمة بغير ألف، وقيل: كذلك، لكن بتقديم الميم على الصاد، وقيل: بزيادة ميم في أول بدل الألف.
نقله عن ابن إسحاق الحاكم في المستدرك، والمعروف عن ابن إسحاق الأوّل، ويتحصّل من هذا الخلاف في اسمه ستة ألفاظ لم أرها مجموعة، قاله في الإصابة، وصوَّب النووي أولها، وقيل: اسمه سليم بضم السين، وقيل: حازم, "سلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركات الله الذي لا إله إلا هو الذي هداني للإسلام"، ذكر الله بالاسم الظاهر دون الضمير لقصد الالتذاذ بذكر الله وعظم شأنه، والثناء عليه تعالى:
أعد ذكر نعمان لنا أن ذكره ... هو المسك ما كررته يتضوع
"أما بعد, فقد بلغني كتابك يا رسول الله، فما ذكرت" فيه "من أمر عيسى، فورب السماء والأرض إن عيسى -عليه الصلاة والسلام- لا يزيد على ما ذكرت ثفروقًا"، بضم المثلثة، وسكون(5/22)
إنه كما ذكرت، وقد عرفنا ما بعثت به إلينا، فأشهد أنك رسول الله صادقًا مصدقًا، وقد بايعتك، وبايعت ابن عمك, وأسلمت على يديه لله رب العالمين، وقد بعثت إليك ابني، وإن شئت أتيتك بنفسي فعلت، فإني أشهد أن ما تقوله حق، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.
ثم إنه أرسل ابنه.
__________
الفاء، وضم الراء، وسكون الواو، ثم قاف يأتي تفسيره بعلاقة ما بين النواة والقشر؛ "إنه كما ذكرت"، وأتى بهذا إعلامًا بأنه آمن إيمانًا صحيحًا، وأن ما أخبر به المصطفى عن عيسى موافق لما عندهم في الكتب، وتلقَّوه من الأحبار الذين لم يبدِّلوا؛ وأنه ليس كما زعم من ضلَّ من النصارى ابن الله، وليس إلهًا معه، ولا ثالث ثلاثة، فأقسامه على ذلك إذاعة الآية محمدية، وهي موافقة خبره لكتب الله المنزلة التي لم تبدّل "وقد عرفنا ما بعثت به إلينا"، وقد قرَّبنا ابن عمك وأصحابه، كما في الرواية، "فأشهد أنك رسول الله صادقًا مصدقًا، وقد بايعتك، وبايعت ابن عمك، وأسلمت على يديه لله رب العالمين".
وروى أحمد بسند حسن عن ابن مسعود قصة بعث قريش عمرو بن العاص، وعمارة بن الوليد إلى النجاشي, ليرد أهل الهجرة إليهم, وفيها قول النجاشي: أنا أشهد أنه رسول الله، وأنه الذي بشر به عيسى في الإنجيل، والله لولا ما أنا فيه من الملك لأتيته، فأكون أنا الذي أحمل نعليه، وأوضئه، وإن ابن مسعود تعجّل، فشهد بدرًا، وقد أسلفت لفظ الحديث ثمة، فهو صريح في إسلامه قبل بعث الكتاب سنة ست، فيحتمل أنه أسلم، وكتمه عن قومه حتى بعث إليه الكتاب، فأعلن بالإيمان والعلم لله، "وقد بعثت إليك بابني" اسمه أرخى، كما في مغازي التيمي، أو أريخا، كما في دلائل البيهقي عن ابن إسحاق ذكره الإصابة, ودخول الباء على ما يصل بنفسه قليل, وأكثر اللغيين على تعدية بعث فيما يصل بنفسه، كزيد, وبالباء فيما لا يصل كالكتاب، كما قال أبو حيان، "وإن شئت أتيتك بنفسي" في موضع المفعول لشئت، أي: إتياني وجواب الشرط قوله، "فعلت، فإني أشهد أن ما تقوله حق، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته"، كرر السلام، وجعله ختام الكتاب زيادةً في الشوق والتماس الثواب.
وذكر ابن سعد أنه -صلى الله عليه وسلم- بعث إليه مع عمرو بن أمية بكتابين, يدعوه في أحدهما إلى الإسلام، والثاني أن يزوّجه أم حبيبة، وأن يبعث إليه مَن عنده من أصحابه، ويحملهم، فأسلم، وفعل ما أمر به، ودعا بحق عاج، فجعل فيه الكتابين، وقال: لن تزال الحبشة بخير ما كان هذان الكتابان بين أظهرها، وجهَّزهم في سفينتين, في إحداهما جعفر ومن معه، "ثم إنه أرسل ابنه" في(5/23)
في أثر من أرسله من عنده مع جعفر بن أبي طالب ابن عم رسول الله، فلمَّا كانوا في وسط البحر غرقوا، ووافى جعفر وأصحابه رسول الله -صلى الله عليه وسلم, وكانوا سبعين رجلًا عليهم ثياب الصوف، منهم اثنان وستون من الحبشة, وثمانية من أهل الشام، فقرأ عليهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- القرآن, سورة يس إلى آخرها، فبكوا حين سمعوا القرآن وآمنوا وقالوا: ما أشبه هذا بما كان ينزل على عيسى -عليه الصلاة والسلام، وفيهم أنزل الله تعالى: {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى} [المائدة: 82] إلى آخر الآية؛ لأنهم كانوا من أصحاب الصوامع.
__________
ستين نفسًا في سفينة "في أثر من أرسله من عنده مع جعفر بن أبي طالب ابن عم رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فلمَّا كانوا في وسط البحر غرقوا"، يعني: ابنه والستين الذين معه، كما عند التيمي والبيهقي عن ابن إسحاق، ونجا أصحاب السفينة الأخرى، كما قال، "ووافى جعفر وأصحابه رسول الله -صلى الله عليه وسلم، وكانوا سبعين رجل, عليهم ثياب الصوف, منهم اثنان وستون من الحبشة، وثمانية من أهل الشام" كانوا عنده بالحبشة، وسمَّاهم قتادة، فقال: أبرهة، وإدريس، وأشرف، وأيمن، وبحيرًا، وتمام، وتميم، ونافع، وظن العز بن الأثير أن بحيرًا هو الراهب المشهور، والظاهر أنه غيره؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- إنما رآه في أرض الشام، وهذا إنما هو بالحبشة, وابن الجنوب من الشمال، ولا مانع أن يسمى اثنان باسم واحد.
قاله في الإصابة, "فقرأ عليهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- القرآن, سورة يس إلى آخرها"، بدل كل من كل, بناءً على المختار أن القرآن باللام للقدر المشترك بين جميعه وبعضه، وقيل: المعرَّف لجميعه، فهو بدل بعض من كل، "فبكوا حين سمعوا القرآن وآمنوا، وقالوا: ما أشبه" ما أشد شبه "هذا بما كان ينزل على عيسى -عليه الصلاة والسلام"، لما علموه حين سمعوا القرآن من الأخبار عن عيسى ورسله والبعث, وغير ذلك من الآيات العجيبة، "وفيهم"، كما رواه ابن أبي حاتم وغيره، "أنزل الله تعالى: {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ} أي الناس {مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى} إلى آخر الآية؛ لأنهم كانوا من أصحاب الصوامع، والتي بعدها ثناء عليهم أيضًا، ولنزولها فيمن أسلم منهم غير الأسلوب، فلم يقل النصارى، كما قال: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} ، فمن بقي على نصرانيته لا يوصف بأنه قريب للمؤمنين، فضلًا عن كونه أقرب، لا كما يتوهم الجهلة من الآية، وليس قول قتادة نزلت في ناس من أهل الكتاب كانوا على شريعة الحق مما جاء به عيسى، فلمَّا بعث محمد -صلى الله عليه وسلم- آمنوا به، وصدَّقوه مقابلًا لهذا، بل هو بمعناه غايته أنه أبهم أهل الكتاب، فيحمل على بيان ابن الزبير عند النسائي، وابن عباس عند الطبراني، وسعيد بن جبير عند ابن أبي حاتم؛ أنها نزلت في أصحاب(5/24)
والثفروق: علاقة ما بين النواة والقمح.
وهذا هو أصحمة الذي هاجر إليه المسلمون في رجب سنة خمس من النبوة، وكتب له النبي -صلى الله عليه وسلم- كتابًا يدعوه فيه إلى الإسلام مع عمرو بن أمية الضمري سنة ست من الهجرة، فآمن به وأسلم على يد جعفر بن أبي طالب، وتوفي في رجب سنة تسع من الهجرة, ونعاه النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم توفي, وصلى عليه بالمدينة.
وأمَّا النجاشي الذي ولي بعده، وكتب له النبي -صلى الله عليه وسلم- يدعوه إلى الإسلام
__________
النجاشي.
وقيل كما حكاه الخازن: نزلت في أربعين من بحران, واثنين وثلاثين من الحبشة, وثمانية من أهل الشام، ومحصله: أنها نزلت في أصحاب النجاشي، وشاركهم غيرهم، والاختلاف في عدة الحبشيين غير ضار، فالأقل داخل في الأكثر، "والثفروق علاقة ما بين النواة والقمح" من التمرة، وفي القاموس أنه قمع التمر، أو ما يلتزق به قمعها, ونحوه في الصحاح، فتفسير المصنف لا يوافق قولًا منهما إلا بجعل الإضافة بيانية، أي: علاقة هي شيء إلخ ... ، فيوافق الأول.
"وهذا" النجاشي "هو أصحمة الذي هاجر إليه المسلمون في رجب سنة خمس من النبوة" الهجرة الأولى، ثم هاجروا إليه بعد ذلك بقليل الهجرة الثانية، كما مَرَّ تفصيله، "وكتب له النبي -صلى الله عليه وسلم، كتابًا يدعوه فيه إلى الإسلام"، وكتابًا آخر بأن يزوّجه أم حبيبة، ويحمل إليه من عنده من أصحابه، وبعثهما "مع عمرو بن أمية" الضمري "سنة ست من الهجرة، فآمن به وأسلم على يد جعفر بن أبي طالب، وتوفي في رجب سنة تسع من الهجرة" عند الأكثر.
وقيل: سنة ثمان قبل فتح مكة، كما ذكره البيهقي في الدلائل، "ونعاه"، أي: أخبر بموته "النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم توفي, وصلى عليه بالمدينة"، وأخرج أصحاب الصحيح قصة صلاته عليه صلاة الغائب من طرق عن جابر: لما مات النجاشي قال -صلى الله عليه وسلم: "قد مات اليوم عبد صالح، يقال له أصحمة، فقوموا فصلوا" فصفنا خلفه.
وعند ابن شاهين والدارقطني عن أنس، قال -صلى الله عليه وسلم: "قوموا فصلوا على أخيكم النجاشي، فقال بعضهم: يأمرنا أن نصلي على علج من الحبشة، فأنزل الله: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ} " آل عمران: 199] إلى آخر السورة، وللدارقطني وغيره عن أبي هريرة، فوثب -صلى الله عليه وسلم، ووثبنا معه حتى جاء المصلَّى، فقام، فصففنا وراءه، فكبَّر أربع تكبيرات.
وروى ابن إسحاق عن عائشة، لما مات النجاشي، كما نتحدث أنه لا يزال يرى على قبره نور. أخرجه أبو داود، وترجم عليه النور يرى على قبر الشهداء.
"وأما النجاشي الذي ولي بعده، وكتب له النبي -صلى الله عليه وسلم" كتابًا "يدعوه إلى الإسلام"، روى(5/25)
فكان كافرًا، لم يعرف إسلامه ولا اسمه، وقد خلط بعضهم ولم يميز بينهما.
وفي صحيح مسلم عن قتادة: أن نبي الله -صلى الله عليه وسلم- كتب إلى كسرى وإلى قيصر وإلى النجاشي, وإلى كل جبار يدعوهم إلى الله، وليس بالنجاشي الذي صلَّى عليه.
__________
البيهقي عن ابن إسحاق، قال: "هذا كتاب من النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- إلى النجاشي الأصحم، عظيم الحبشة، سلام على من اتبع الهدى، وآمن بالله ورسوله، وشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لم يتخذ صاحبة، ولا ولدًا، وأن محمد عبده ورسوله، وأدعوك بدعاية الله، فإني أنا رسوله، فأسلم تسلم، يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم، أن لا نعبد إلا الله، ولا نشرك به شيئا، ولا يتخذ بعضنا بعضًا أربابًا من دون الله، فإن تولوا، فقولوا اشهدوا بأنَّا مسلمون، فإن أبيت فعليك إثم النصارى من قومك".
قال الحافظ ابن كثير: الظاهر أن هذا الكتاب إنما هو إلى النجاشي الذي ولي بعد المسلم صاحب جعفر، وذلك حين كتب إلى ملوك الأرض يدعوهم إلى الله قبل الفتح.
قال الزهري: كانت كتبه -صلى الله عليه وسلم- واحدة، يعني: نسخة واحدة، وكلها فيها هذه الآية، وهي مدنية بلا خلاف. انتهى. ومراد الزهري: كتبه إلى أهل الكتاب، وهم النجاشيان، وهرقل، والمقوقس، وإلّا فكتاب كسرى وغيره ليس فيه الآية، كما يتلى عليك "فكان كافرًا لم يعرف إسلامه ولا اسمه"؛ لأن النجاشي اسم لكل من ملك الحبشة، وأما قوله في الكتاب: الأصحم، فقال ابن كثير: لعله مقحم من الراوي بحسب ما فهمه، "وقد خلط بعضهم ولم يميز بينهما"، فظنهما واحدًا، "وفي صحيح مسلم" ما يرد عليه، ويصرّح بأنهما اثنان؛ فإنه أخرج "عن قتادة" بن دعامة عن أنس "أن نبي الله -صلى الله عليه وسلم- كتب إلى كسرى، وإلى قيصر، وإلى النجاشي، وإلى كل جبار" عنيد، كما هو رواية مسلم، "يدعوهم إلى الله، وليس النجاشي الذي صلى عليه"، فصرَّح أنس بأنه غيره، كما هو الواقع عند مسلم لا قتادة، كما أوهمه المصنف، وقد كتب لكلٍّ منهما، كما بيّنَه البيهقي عن ابن إسحاق.
وروى الطبراني عن المسور، قال: خرج -صلى الله عليه وسلم- إلى أصحابه، فقال: "إن الله بعثني للناس كافَّة، فأدوا عني، ولا تخلقوا علي"، فبعث عبد الله بن حذافة إلى كسرى، وسليطًا إلى هوذة واليمامة، والعلاء بن المنذر بهجر، وعمرو بن العاص إلى جيفر وعبَّاد ابني الجلندي بعمّان، ودحية إلى قيصر، وشجاع بن وهب إلى ابن أبي شمر، وعمر بن أمية إلى النجاشي، فرجعوا جميعًا قبل وفاته -صلى الله عليه وسلم- غير عمرو بن العاص.
قال في الفتح: وراد أصحاب السير أنه بعث المهاجر إلى الحارث بن عبد كلال، وجرير إلى ذي الكلاع، والسائب إلى مسيلمة، وحاطبًا إلى المقوقس، وبَيِّنَ أنس عند مسلم أن(5/26)
وكتب -صلى الله عليه وسلم- إلى المقوقس ملك مصر والإسكندرية, واسمه: جريج بن مينا.
"بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد عبد الله ورسوله، إلى المقوقس عظيم القبط، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد: فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، يؤتك
__________
النجاشي الذي بعث إليه مع هؤلاء غير النجاشي الذي أسلم. انتهى، والله أعلم.
"وكتب -صلى الله عليه وسلم- إلى المقوقس" بضم الميم، وفتح القاف، وسكون الواو، وكسر القاف الثانية، آخره مهملة.
قال البرهان: معناه: المطوّل البنّاء، وفي القاموس وحياة الحيوان: أنه لقب له، ولطائر مطوق طوقًا سواده في بياض، كالحمام، وليس فيهما ما يشعر بالوصف الذي ذكره البرهان، "ملك مصر والإسكندرية" بكسر الهمزة، وتفتح وسكون السين، والنون، وفتح الكاف، والدال المهملة، وبالراء, بلد على طرف بحر المغرب من آخر حدّ مصر, نسبت إلى بانيها الإسكندر الروميّ "واسمه جريج" بضم الجيم الأولى "ابن مينا" بن قرقوب أمير القبط بمصر, من طريق ابن إسحاق عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، قال: حدثني المقوقس، قال: أهديت إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- قدح قوارير، فكان يشرب فيه، وأنكر ابن الأثير ذكره، فقال: لا وجه لذكره في الصحابة، فإنه لم يزل نصرانيًّا، ومنه فتح المسلمون مصر في خلافة عمر، ولم يصب من ذكره في الصحابة, انتهى.
"بسم الله الرحمن الرحيم, من محمد عبد الله ورسوله"، وفي رواية: "من محمد رسول الله إلى المقوقس" لقبه، كما علم قبل، وهو لقب لكل من ملك مصر والإسكندرية، وقيل: ملك مصر والشام فرعون، فإن إضيف إليهما الإسكندرية، فالعزيز كما في سيرة مغلطاي، "عظيم القبط" بالكسر اسم لنصارى مصر, الواحد قبطي على القياس، كما في القاموس، "سلام على من اتبع الهدى" الرشاد، "أما بعد"، أي: مهما يكن من شيء، كما قال سيبويه، قال الكرماني: إن قلت أمَّا للتفصيل، فأين القسيم؟ قلت: التقدير، أمَّا الابتداء فاسم الله، وأما المكتوب، فهو من محمد إلخ ... ، وأما المكتوب به، فهو ما ذكر في الحديث.
قال الحافظ: وهو توجيه مقبول، لكنه لا يطَّرد في كل موضع، ومعناه: الفصل بين الكلامين، وقال العيني: هذا تعسّف وذهول، فإنَّ أمالها استعمالًا؛ لأن التفصيل، وهو الذي يطلب له القسيم، والآخر الاستئناف من غير أن يتقدَّمها كلام، كما هنا، ولم يقل أحد إنها في مثل هذا الموضع تقتضي القسيم، والتحقيق ما قلنا، كذا قال: فليتأمل، "فإني أدعوك بدعاية" بكسر الدال, كلمة التوحيد، وفي لفظ بداعية، أي دعوة "الإسلام, أسلم تسلم يؤتك" مجزوم جواب ثان(5/27)
الله أجرك مرتين، فإن توليت فعليك إثم القبط، يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئًا ولا يتخذ بعضنا بعضًا أربابًا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون".
وبعث به مع حاطب بن أبي بلتعة، فتوجه إليه
__________
للأمر، أو بدل اشتمال منه، أو معطوف عليه بحذف العاطف، فلا يرد أن جواب الأمر حصل بقوله تسلم، أو جواب لأمر محذوف هو: وأسلم يؤتك، كما في رواية أخرى، فكرَّر الأمر للتأكيد، أو الأول للدخول في الإسلام، والثاني للدوام عليه "الله أجرك مرتين".
قال ابن المنير: مؤمن أهل الكتاب لا بد أن يكون مؤمنًا بنبينا -صلى الله عليه وسلم، لما أخذ الله عليهم من العهد والميثاق، فإذا بعث فإيمانه مستمر، فكيف يتعدّد إيمانه حتى يتعدّد أجره، ثم أجاب بأن إيمانه الأول، بأن الموصوف بكذا رسول، والثاني بأن محمدًا هو الموصوف، فظهر التغاير فثبت التعدد.
قال الحافظ: ويحتمل أن يكون تعدد أجره؛ لكونه لم يعاند كما عاند غيره ممن أضله الله على علم، فحصل له الأجر الثاني؛ لمجاهدته نفسه على مخالفة أنظاره، "فإن توليت فعليك" مع إثمك "إثم القبط"، والمراد: رعاياه الذين ينقادون له، سواء كانوا من القبط أو غيرهم، فنَبَّه بذكر طائفة على بقية الطوائف "يا أهل الكتاب" بواو وبدونها، كما أفاده البرهان، وقد صرَّح في الإصابة بأنَّ هذا الكتاب مثل الكتاب إلى هرقل, "تعالوا إلى كلمة سواء"، أي: عدل ونصف "بينا وبينكم"، نستوي نحن وأنتم فيها, صفة لكلمة مرادًا بها الجمل المفيدة، وفسرت بقوله: "أن لا نعبد إلا الله، ولا نشرك به شيئًا، ولا يتخذ بعضنا بعضًا أربابًا من دون الله، فإن تولوا، فقولوا: اشهدوا بأنَّا مسلمون"، وختم الكتاب كما في الرواية، وحكمة كتب هذه الآية أنَّ القبط وعظيمهم نصارى، وقد جمع النصارى الثلاثة الأشياء المذكورة في الآية، فعبدوا غير الله، وهم اليعقوبية, فرقة منهم الذين قالوا: إن الله هو المسيح ابن مريم، وأشركوا به في العبادة غيره؛ كالذين قالوا: {إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} ، و {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} ، فاتبعوهم في تحليل ما حرم، وتحريم ما أحل "وبعث به مع حاطب ابن أبي بلتعة"، بفتح الموحدة، وسكون اللام، ففوقية، فمهملة مفتوحتين القرشي، مولاهم اللخمي، المتَّفق على شهوده بدرًا، "فتوجه إليه" وحده.
ذكر السهيلي؛ أنه -صلى الله عليه وسلم، بعث معه جبرًا -بجيم وموحدة- مكبَّر, مولى أبي رهم الغفاري، وهو وَهْمٌ, فالذي في الاستيعاب والإصابة وغيرهما أن جبرًا كان من القبط، وأنه رسول المقوقس بمارية إليه -صلى الله عليه وسلم.(5/28)
إلى مصر، فوجده بالإسكندرية، فذهب إليها، فوجده في مجلس مشرف على البحر، فركب سفينة إليه وحاذى مجلسه وأشار بالكتاب إليه، فلمَّا رآه أمر بإحضاره بين يديه، فلمَّا جيء به إليه، ووقف بين يديه، ونظر إلى الكتاب فضَّه وقرأه، وقال لحاطب: ما منعه إن كان نبيًّا أن يدعو عليَّ فيسلط علي؟ فقال له حاطب: وما منع عيسى أن يدعو على من خالفه أن يسلط عليه؟ فاستعاد منه الكلام مرتين ثم سكت، فقال له حاطب:
إنه قد كان قبلك
__________
قال سعيد بن عفير: فالقبط تفتخر بأنه منهم, "إلى مصر" بدل الاشتمال من إليه على نية تكرار العامل، فلا يرد أن الفعل لا يتعدَّى بجر في جر، متحدين لفظًا ومعنًى, فلا يقال: مررت بزيد بعمر، وبخلاف مررت بزيد بالبرية، "فوجده بالإسكندرية، فذهب إليها، فوجده في مجلس مشرف" صفة، أي مطّلع "على البحر، فركب سفينة" وقصد بها "إليه، وحاذى مجلسه" مكان جلوسه، "وأشار بالكتاب إليه"؛ بأن جعله بين أصبعيه، وأشار به، "فلما رآه أمر بإحضاره بين يديه"، هكذا في رواية ابن عبد الحكم في فتوح مصر، ووقع في العيون: خرج حاطب إلى الإسكندرية، فانتهى إلى حاجبه، فلم يلبثه أن أوصل إليه الكتاب، ويحتمل الجمع بأنه لما خرج من السفينة لقيه الحاجب، فأوصله سريعًا إلى المقوقس؛ لعلمه بأمره بإحضاره، "فلمَّا جيء به إليه، ووقف بين يديه، ونظر في الكتاب فضَّه"، فك ختمه، كذا في كثير من النسخ بلا واو، وفي بعضها بها، وهي زائدة؛ لأنه جواب لما, "وقرأه، وقال لحاطب: ما منعه إن كان نبيًّا أن يدعو علي فيسلط علي، فقال له حاطب: وما منع عيسى أن يدعو على من خالفه أن يسلط عليه".
زاد ابن عبد الحكم، فوج له المقوقس، "فاستعاد منه الكلام مرتين" لينظر هل يتلعثم، وكأنَّه جوز أن جوابه أولًا اتفاقي، "ثم سكت" لما أفحمه بالحجة، وعند البيهقي عن حاطب، قال: بعثني -صلى الله عليه وسلم- بكتاب إلى المقوقس، فجئته، فأنزلني في منزل، وأقمت عنده، ثم بعث إلي، وقد جمع بطارقته، وقال: إني سأكلمك بكلام، وأحب أن تفهمه مني، قلت: هلمّ، قال: أخبرني عن صاحبك أليس هو نبي؟ فقلت: بلى هو رسول الله، قال: فما له لم يدع على قومه حيث أخرجوه من بلده، فقلت له: أتشهد أن عيسى ابن مريم رسول الله، فما له حيث أخذه قومه، فأرادوا أن يصلبوه، أن لا يكون دعا عليهم، بأن يهلكهم الله حتى رفعه الله، فقال له: أحسنت, أنت حكيم جئت من عند حكيم، ولا يتوهم منافاة بين هاتين الروايتين، فإنه سأله بما ذكره المصنف حين جاء بالكتاب، ثم أنزله وأكرمه، ثم أحضره بعد مع بطارقته، فسأله عن هذا السؤال الثاني، ووعظه حاطب أوّل قدومه عليه لما سكت، "فقال له حاطب: إنه قد كان قبلك" بمصر(5/29)
رجل يزعم أنه الرب الأعلى، فأخذه الله نكال الآخرة والأولى، فانتقم به ثم انتقم منه، فاعتبر بغيرك، ولا يعتبر غيرك بك.
قال: إن دينًا لن ندعه إلا لما هو خير منه.
فقال حاطب: ندعوك إلى دين الله وهو الإسلام الكافي به الله فَقْد ما سواه، إن هذا النبي -صلى الله عليه وسلم- دعا الناس فكان أشدهم عليه قريش، وأعداهم له اليهود، وأقربهم منه النصارى، ولعمري ما بشارة موسى بعيسى إلّا كبشارة عيسى بمحمد -صلى الله عليه وسلم، وما دعاؤنا إياك إلى القرآن إلّا كدعائك أهل التوراة إلى الإنجيل، وكل نبي أدرك قومًا فهم من أمته، فالحق عليهم أن يطيعوه، فأنت ممن أدرك هذا
__________
"رجل يزعم أنه الرب الأعلى" على من يلي أمركم، وهو فرعون، "فأخذه الله" أهلكه بالغرق "نكال"، أي: عقوبة، أي: جعله نكالًا، وعبرة لغيره "الآخرة"، أي: هذه الكلمة, "والأولى"، أي: قوله قبلها {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} ، وكان بينهما أربعون سنة، وقيل: الأولى الدنيا بالإغراق، والآخرة يوم القيامة بالإحراق، "فانتقم به، ثم انتقم منه، فاعتبر بغيرك, ولا يعتبر غيرك بك"، بأن تفعل ما يوجب النقمة، فتصير عبرة لغيرك.
فالمراد نهيه عن كونه هذه الصفة، لا نهي غيره من الاعتبار به, إن لو وقع فيما يوجب النقمة، وسقط غيرك من العيون، فقال البرهان: بالبناء للمفعول على الأحسن، ويجوز بناؤه للفاعل، "قال: إن لنا دينًا لن ندعه إلّا لما هو خير منه، فقال حاطب: ندعوك إلى دين الله، وهو الإسلام" التوحيد المبعوث به الرسل من قبل، "الكافي به الله، فقد" بفتح الفاء، وإسكان القاف، ودال مهملة مفعول به "ما سواه"، أي المغني به عن غيره, الذي فقد بحيث لا يجوز التمسك به، {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} ، {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْأِسْلامُ} ، "إن هذا النبي -صلى الله عليه وسلم- دعا الناس، فكان أشدهم عليه قريش" قومه حسدًا، وتكذيبًا بالحق مع اعترافهم به، "وأعداهم له يهود" بالرفع بلا تنوين، لأنه لا ينصرف للعلمية والتأنيث، مع تيقنهم أنه النبي المبشَّر به في كتبهم، "وأقربهم منه النصارى" الذين آمنوا به، "ولعمري ما بشارة موسى بعيسى" التي تحققتها أنت "إلّا كبشارة عيسى بمحمد -صلى الله عليه وسلم"، فيجب عليك اتباعه، "وما دعاؤنا إياك إلى القرآن إلّا كدعائك أهل التوراة" بالنصب مفعول المصدر "إلى الإنجيل"، فكما تعتقد أن ذلك حق، يجب عليك أن تعتقد حقيقة الإسلام، وأن رسالة محمد -صلى الله عليه وسلم- ثابتة يجب اتباعها، "وكل نبي أدرك قومًا فهم من أمته، فالحق" الثابت الواجب "عليهم أن يطيعوه، وأنت ممن أدرك هذا(5/30)
النبي، ولسنا ننهاك عن دين المسيح, ولكننا نأمرك به.
فقال المقوقس: إني قد نظرت في أمر هذا النبي, فوجدته لا يأمر بمزهود فيه، ولا ينهى عن مرغوب فيه، ولم أجده بالساحر الضال، ولا الكاهن الكاذب، ووجدت معه آلة النبوة بإخراج الخبء والإخبار بالنجوى وسأنظر.
__________
النبي"، فالحق عليك اتباعه، "ولسنا ننهاك عن دين المسيح" عيسى، ولكنَّا نأمرك به"؛ لأن من دينه الأمر باتباع المصطفى، {وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} "فقال المقوقس: إني قد نظرت في أمر هذا النبي، فوجدته لا يأمر بمزهود فيه"، بل يأمر بما تفرح وترغب فيه القلوب النيرة، والعقول السليمة، وإنما يجحد بعضهم بطرًا وكبرًا، "ولا ينهى عن مرغوب فيه" عند أولي الألباب.
وفي الروض: ولا ينهى إلّا عن مرغوب عنه، "ولم أجده بالساحر الضال" لنفسه، ولغيره، "ولا الكاهن الكاذب، ووجدت معه آلة النبوة"، كذا في العيون، أي: علامتها, عَبَّرَ عنها بالآلة؛ لأنها سبب في تحقيقها وإظهارها، فأشبهت الآلة. وفي الروض: آية مفرد آي, وهي العلامة بلا تكلف, "بإخراج الخبء" بفتح الخاء المعجمة تليها موحدة فهمزة الغائب المستور، كأنه يشير إلى الإخبار بالمغيبيات، "والإخبار بالنجوى"، أي: يعلم ما يتناجون به حقيقة، وهو من جملة الأخبار بالغيب.
قال البيضاوي: والنجوى مصدر، أو جمع نجى، وفي المصباح ناجيته ساررته، والاسم النجوى، "وسأنظر"، وهذا علمه المقوقس من الأخبار الواردة عليه بذلك قبل كتابة المصطفى إليه, فقد ذكر الواقدي بإسناد له عن المغيرة بن شعبة في قصة خروجهم من الطائف إليه قبل إسلام المغيرة، قال: لما دخلنا عليه قال: ما صنعتم فيما دعاكم إليه محمد؟ قالوا: ما تبعه منّا رجل واحد، قال: كيف صنع قومه؟ قالوا: تبعه أحداثهم، وقد لاقاه من خالفه في مواطن كثيرة، قال: فإلى ماذا يدعو؟ قالوا: إلى أن نعبد الله وحده، ونخلع ما كان يعبد آباؤنا، ويدعو إلى الصلاة، والزكاة، وصلة الرحم، ووفاء العهد، وتحريم الزنا والربا والخمر، فقال المقوقس: هذا نبي مرسَل إلى الناس كافّة، ولو أصاب القبط والروم لاتبعوه، وقد أمرهم بذلك عيسى، وهذا الذي تصفون منه نعت الأنبياء من قبله، وستكون له العاقبة حتى لا ينازعه أحد، ويظهر دينه إلى منتهى الخف والحافر، فقالوا: لو دخل الناس كلهم معه ما دخلنا معه، فهزَّ المقوقس رأسه، وقال: أنتم في اللعب، ثم سألهم عن نحو ما وقع في قصة هرقل من سؤاله لأبي سفيان، وفي آخره: فما فعلت يهود يثرب، قلنا: خالفوه، فأوقع بهم، قال: هم قوم حسد، أما أنهم يعرفون من أمره مثل ما(5/31)
وأخذ كتاب النبي -صلى الله عليه وسلم- فجعله في حق من عاج ودفعه لجارية له، ثم دعا كاتبًا له يكتب بالعربية، فكتب إلى النبي -صلى الله عليه وسلم.
بسم الله الرحمن الرحيم، لمحمد بن عبد الله من المقوقس عظيم القبط، سلام عليك، أما بعد: فقد قرأت كتابك وفهمت ما ذكرت فيه وما تدعو إليه، وقد علمت أن نبيًّا قد بقي، وكنت أظن أن يخرج بالشام، وقد أكرمت رسولك وبعثته إليك بجاريتين لهما مكان من القبط عظيم، وكسوة وأهديت إليك بغلة لتركبها والسلام.
__________
نعرف، "وأخذ كتاب النبي -صلى الله عليه وسلم" وضمَّه إلى صدره، وقال: هذا زمان النبي الذي نجد نعته في كتاب الله، رواه ابن عبد الحكم، "فجعله في حق من عاج"، ثم ختم عليه -كما في الرواية، "ودفعه لجارية له" لتحفظه، قال البرهان: لا أعرف اسمها، "ثم دعا كاتبًا له يكتب بالعربية"، قال البرهان: لا أعرف اسمه، "فكتب إلى النبي -صلى الله عليه وسلم" كتابًا صورته: "بسم الله الرحمن الرحيم, لمحمد بن عبد الله من المقوقس عظيم القبط, سلام عليك" كما في الرواية، فتأدَّب فقدَّم اسم المصطفى، ولم يصف نفسه بالملك، بل كتب مثل ما كتب له، "أما بعد, فقد قرأت كتابك، وفهمت ما ذكرت فيه، وما تدعو إليه، وقد علمت أن نبيًّا قد بقي" خاتم النبيين "وكنت أظن أن يخرج من الشام"؛ لأنه مخرج الأنبياء من قبله، "وقد أكرمت رسولك" بالضيافة، وقلة المكث عندي، وسرعة إذني في دخوله علي.
قال حاطب: وقد كان مكرمًا لي في الضيافة، وقلة اللبث ببابه, ما أقمت عنده إلّا خمسة أيام، وإن وفود العجم ببابه منذ شهرين وأكثر، وأمر لي بمائة دينار وخمسة أثواب، ذكره الواقدي وغيره، "وبعثته إليك بجاريتين" مارية وأختها سيرين، ولم يذكر الثالثة، وهي أختهما، فيصير بالصاد عند مغلطاي، والسين عند اليعمري وغيره، بل اقتصر عليهما لحسنهما وجمالهما، كما قال "لهما مكان من القبط عظيم, وكسوة" هي عشرون ثوبًا لينًا من قباطي مصر، كما أسلفه المصنّف في ترجمة مارية.
وروى ابن عبد الحكم مرسلًا؛ أنها بقيت حتى كفِّن -صلى الله عليه وسلم- في بعضها، والصحيح ما في الصحيح عن عائشة: أنه كُفِّنَ في ثياب يمانية، "وأهديت إليك بغلة"، ذكرها في الكتاب؛ لأنها كانت من مراكبه، وهي دلدل، ولذا قال: "لتركبها", ولم يذكر فيه الحمار، وهو يعفور، ولا الألف مثقال ذهبًا، ولا العسل الذي من بنها -بكسر الموحدة وفتحها، كما تقدَّم في مارية، لحقارة ذلك عند الملوك، فلا يذكر في الكتب، وللطبراني عن عائشة أنه أهدى له مكحلة عيدانٍ شامية ومرآة ومشطًا "والسلام".(5/32)
ولم يزد على هذا، ولم يسلم.
وكتب -صلى الله عليه وسلم- إلى المنذر بن ساوى:
__________
وذكر الواقدي وابن عبد الحكم من طريق أبان بن صالح، قال: أرسل المقوقس إلى حاطب، فقال: أسألك عن ثلاث، فقال: لا تسألني عن شيء إلّا صدقتك، قال: إلام يدعو محمد، قلت: إلى أن يعبد الله وحده، ويأمر بخمس صلوات في اليوم والليلة، وصيام رمضان، وحج البيت، والوفاء بالعهد، وينهى عن أكل الميتة والدم, إلى أن قال: صفه لي، فوصفته، فأوجزت، قال: قد بقيت أشياء لم تذكرها: في عينيه حمرة، قلت: ما تفارقه, وبين كتفيه خاتم النبوة, يركب الحمار، ويلبس الشملة، ويجتزئ بالتمرات والكسر, لا يبالي من لاقى من عم ولا ابن عم، قلت: هذه صفته، قال: قد كنت أعلم أن نبيًّا قد بقي، وكنت أظن أن مخرجه من الشام، وهناك كانت تخرج الأنبياء قبله، فأراه قد خرج في أرض العرب في أرض جهد وبؤس، والقبط لا تطاوعني على اتباعه، وأنا أضنّ بملكي أن أفارقه، وسيظهر على البلاد، وينزل أصحابه من بعده بساحتنا هذه حتى يظهروا على ما ههنا، وأنا لا أذكر للقبط من هذا حرفًا، ولا أحب أن تعلم بمحاورتي إياك أحدًا.
قال حاطب: فذكرت قوله لرسول الله -صلى الله عليه وسلم، فقال: ضنَّ الخبيث بملكه، ولا بقاء لملكه اهـ. فكان كما قال، "ولم يزد" المقوقس "على هذا، ولم يُسْلِم"، بل استمرَّ على نصرانيته حتى فتح المسلمون منه مصر في خلافة عمر، وغلط ابن الأثير وغيره من الحفَّاظ ابن منده وأبا نعيم وابن قانع في ذكرهم له في الصحابة تشبثًا بما أخرجوه من طريق ابن إسحاق عن الزهري عن عبيد الله، قال: حدثني المقوقس، قال: أهديت إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- قدح قوارير، فكان يشرب فيه، ولا أدري ما وجه إثباتهم الصحبة له من هذا الخبر، فإنه بفرض أن التصلية منه لا يلزم إسلامه؛ لأن النصارى تعترف بنبوته فيصلون عليه، ويزعمون أنها إلى العرب، ولم يقل أحد أنه سافر واجتمع بالنبي -صلى الله عليه وسلم, حتى يكون صحابيًّا، فما هذا إلّا غلط على غلط، "وكتب -صلى الله عليه وسلم- إلى المنذر بن ساوى" بن الأخنس بن بيان بن عمرو بن عبد الله بن زيد بن عبد الله بن دارم التميمي الدارمي العبدي؛ لأنه من ولد عبد الله بن دارم المذكور لا من عبد القيس، كما ظنَّه بعض الناس، أفاد ذلك الرشاطي.
روى إسحاق بن راهويه، ومن طريق الطبراني وابن قانع من سليمان بن نافع العبدي عن أبيه، قال: وفد المنذر بن ساوى من البحرين ومعه أناس، وأنا غليم أمسك جمالهم، فذهبوا بسلاحهم، فسلَّموا على النبي -صلى الله عليه وسلم، ووضع المنذر سلاحه، ولبس ثيابًا كانت معه، ومسح لحيته بدهن، فأتى نبي الله، وأنا مع الجمال أنظر إلى نبي الله.(5/33)
ذكر الواقدي بإسناده عن عكرمة قال: وجدت هذا الكتاب في كتب ابن عباس بعد موته، فنسخته فإذا فيه:
بعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- العلاء بن الحضرمي إلى المنذر بن ساوى, وكتب إليه كتابًا يدعوه فيه الإسلام. فكتب المنذر إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم: أما بعد، يا رسول الله, فإني قد قرأت كتابك على أهل البحرين، فمنهم من أحبَّ الإسلام وأعجبه ودخل فيه، ومنهم من كرهه، وبأرضي يهود ومجوس، فأحدث إلي في ذلك أمرك.
فكتب إليه في ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "بسم الله الرحمن الرحيم، من
__________
قال المنذر: قال لي -صلى الله عليه وسلم: رأيت منك ما لم أر من أصحابك، فقلت: أشيء جبلت عليه أو أحدثته، قال: لا، بل جبلت عليه، فأسلموا، قال سليمان: وعاش أبي مائة وعشرين سنة، قال في الإصابة: ولم يثبت ذلك الأكثر، بل قالوا: لم يكن في الوفد، وإنما كتب معهم بإسلامه، وسليمان ذكره ابن أبي حاتم عن أبيه، ولم يذكر فيه جرحًا، والقصة معروفة للأشج، واسمه المنذر بن عائذ، وأظنّ سليمان وَهِمَ في ذكر سن أبيه؛ لأنه لو كان غلامًا سنة الوفود، وعاش هذا القدر لبقي إلى سنة عشرين ومائة، وهو باطل، فلعلّه قال مائة وعشر؛ لأن أبا الطفيل آخر الصحابة موتًا، وأكثر ما قيل في عام موته سنة عشر ومائة, انتهى. ومع هذا، فذكر المنذر بن ساوى في القسم الأول موافقة للأقل، ثم في القسم الثالث موافقة للأكثر.
و"ذكر الواقدي بإسناده عن عكرمة، قال: وجدت هذا الكتاب في كتب ابن عباس بعد موته فنسخته" نقلته, "فإذا فيه بعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- العلاء بن الحضرمي إلى المنذر بن ساوى، وكتب إليه كتابًا يدعوه فيه إلى الإسلام"، لم نر من ذكر لفظ هذا الكتاب، فإنما هذا إخبار بشيء مما اشتمل عليه الكتاب، كما تقول: قرأت القرآن، فوجدت فيه أمر الساعة، وبَعْث من في القبور, وغير ذلك, مع أنك لم تذكر شيئًا من القرآن، "فكتب المنذر" لما وصل إليه الكتاب وآمن, "إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم: أما بعد يا رسول الله، فإني قرأت كتابك على أهل البحرين" كتثنية بحر في حال النصب والجر، قاعدة من قواعد اليمن، وعمل من أعمالها، كذا في النور، ولا يخالفه قول المصنف كغيره إن البحرين اسم لإقليم مشهور، مشتمل على مدن معروفة, قاعدتها هجر؛ لأن المراد بالقاعدة الجانب الكبير، كالإقليم، فلا ينافي أن هجر قاعدة من قواعده، "فمنهم من أحبَّ الإسلام وأعجبه ودخل فيه"، أي: آمن, "ومنهم من كرهه" فلم يدخل فيه, "وبأرضي يهود ومجوس" باقين على كفرهم، "فأحدث" بهمزة قطع وكسر الدال: ابعث "إليَّ في ذلك أمرك" أفعل فيهم، "فكتب إليه في ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "بسم الله الرحمن الرحيم، من(5/34)
محمد رسول الله إلى المنذر بن ساوى، سلام عليك, فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، وأشهد أن لا إله إلا الله, وأن محمدًا رسول الله. أما بعد، فإني أذكِّرك الله -عز وجل، فإنه من ينصح فإنما ينصح لنفسه، وأنه من يطع رسلي ويتبع أمرهم فقد أطاعني، ومن نصح لهم فقد نصح لي، وإن رسلي قد أثنوا عليك خيرًا،
__________
محمد رسول الله إلى المنذر بن ساوى, سلام عليك" خاطبه بالسلام؛ لأن هذا الكتاب كما ترى بعد إسلامه، "فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله"، لعله قصد بكتب الشهادتين تعليمهم إياهما، "أما بعد".
قال في فتح الباري: اختلف في أول من قالها، فقيل: داود -عليه السلام، وقيل: يعرب بن قطحان، وقيل: كعب بن لؤي، وقيل: قس بن ساعدة، وقيل: سحبان.
وفي غرائب مالك للدارقطني: أن يعقوب -عليه السلام قالها، فإن ثبت وقلنا: إن قحطان من ذرية إسماعيل، فيعقوب أوّل من قالها مطلقًا، وإن قلنا: إن قحطان قبل إبراهيم، فيعرب أوّل من قالها، وفي الفتح أيضًا في كتاب الجمعة، قيل: أول من قالها داود. رواه الطبراني مرفوعًا عن أبي موسى، وفي إسناده ضعف، وروى عبد بن حميد، والطبري عن الشعبي مقوفًا: إنها فصل الخطاب الذي أعطيه.
وروى الدارقطني بسندٍ رواه في غرائب مالك: أوّل من قالها يعقوب.
وروى الفاكهي كعب بن لؤي بسند ضعيف، وقيل: يعرب بن قطحان، وقيل: سحبان وائل، وقيل: قسّ بن ساعدة، والأول أشبه، ويجمع بينه وبين غيره بأنه بالنسبة إلى الأولية المحضة، والبقية بالنسبة إلى العرب خاصّة، ثم يجمع بينها بالنسبة إلى القبائل, انتهى. "فإني أذكِّرك الله"، أي: أوامره ونواهيه, إشارة إلى أنه لا ينبغي عبادة غيره "عز وجل"، ولا الخروج عن أحكامه لأحد؛ لأنها معلومة على لسان الرسل، فكأنها من المعلوم الحاصل للجاهل بها مجرد غفلة، "فإنه من ينصح، فإنما ينصح لنفسه" لعود ثواب نصحه عليها، "وإنه من يطع رسلي ويتبع أمرهم" عطف تفسير "فقد أطاعني"، {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} ، "ومن نصح لهم فقد نصح لي" والدين النصيحة، "وإن رسلي" لا يعارض هذا قوله أولًا إنه بعث له العلاء بن الحضرمي لاحتمال أنه اجتمع معه عند المنذر أحد من المسلمين، فسماهم كلهم رسلًا، أو أطلق الجمع على ما فوق الواحد، فقد ذكر الشامي أنه بعث أبا هريرة مع العلاء، وأوصاه به خيرًا، "قد أثنوا عليك خيرًا" من قبولك الحق، وانقيادك إلى الإيمان.
ذكر السهيلي في الروض: إن العلاء لما قدم عليه قال له: يا منذر, إنك عظيم العقل في الدنيا، فلا تصغرنَّ عن الآخرة، إن هذه المجوسية شَرُّ دينٍ، ليس فيها تكرم العرب، ولا علم أهل(5/35)
وإني قد شفعتك في قومك، فاترك للمسلمين ما أسلموا عليه، وعفوت عن أهل الذنوب فاقبل منهم، وإنك مهما تصلح فلن نعزلك عن عملك، ومن أقام على يهوديته أو مجوسيته فعليه الجزية".
__________
الكتاب ينكحون ما يستحيا من نكاحه، ويأكلون ما يتكرم عن أكله، ويعبدون في الدنيا نارًا تأكلهم يوم القيامة، ولست بعديم عقل ولا رأي، فانظر هل ينبغي لمن يكذب في الدنيا أن لا تصدقه، ولمن لا يخون أن لا تأمنه، ولمن لا يخلف أن لا تثق به, فإن كان هذا هكذا، فهذا هو النبي الأمي الذي والله لا يستطيع ذو عقل أن يقول ليت ما أمر به نهى عنه، أو ما نهى عنه أمر به, أو ليته زاد في عفوه، أو نقص من عقابه؛ إذ كل ذلك منه على أمنية أهل العقل وفكر أهل النظر، فقال: المنذر: قد نظرت في هذا الذي في يدي، فوجدته للدنيا دون الآخرة، ورأيت في دينكم، فرأيته للآخرة والدنيا، فما يمنعني من قبول دين فيه أمنية الحياة وراحة الموت، ولقد عجبت أمس ممن يقبله، وعجبت اليوم ممن يرده، وإن من إعظام ما جاء به أن يعظم رسوله، وسأنظر. انتهى. أي: فيما أصنع من الذهاب إليه، أو مكاتبته, أو غير ذلك، لا في أنه يسلم أو لا, فإن قوله: وعجبت اليوم ممن يرده, اعتراف منه بأنه دين حق، والأمنية في الأصل ما يقدره الإنسان في نفسه من منى إذا قدر، والعاقل لا يقدر إلا ما فيه فلاحه، "وإني قد شفعتك في قومك، فاترك للمسلمين ما أسلموا عليه" من مال وزوجات أربع يحل نكاحهن، "وعفوت عن أهل الذنوب" المتقدمة منهم في الكفر, من زنا وشرب ونكاح محارم وسب وغير ذلك؛ لأن الإسلام يَجُبُّ ما قبله، "فاقبل منهم" الإسلام، ولا تؤاخذهم بما مضى، فإن الله يقول: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38] ، "وإنك مهما تصلح فلن نعزلك عن عملك"، بل نقيمك فيه نائبا عنا، "ومن أقام على يهوديته أومجوسيته فعليه الجزية".
وأخرج ابن منده عن زيد بن أسلم عن المنذر بن ساوى: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- كتب إليه أن افرض على كل رجل ليس له أرض أربعة دراهم وعباءة.
وروي أنه -صلى الله عليه وسلم- كتب إلى مجوس هجر يعرض عليهم الإسلام، فإن أبوا أخذت منهم الجزية بأن لا تنكح نساؤهم ولا تؤكل ذبائحهم.
وأخرج الطبراني عن ابن مسعود, كتب -صلى الله عليه وسلم- إلى المنذر بن ساوى: "من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا، فذلكم المسلم له ذمة الله ورسوله".
وذكر أبو جعفر الطبري: أن المنذر هذا مات بالقرب من وفاته -صلى الله عليه وسلم، وحضره عمرو بن العاص، فقال له: كم جعل -صلى الله عليه وسلم- للميت من ماله عند الموت، فقال: الثلث، قال: فما ترى أن أصنع في ثلثي، قال: إن شئت قسمته في سبل الخير، وإن شئت جعلت غلته بعدك على(5/36)
وكتب -عليه الصلاة والسلام- إلى ملكي عمان، وبعثه مع عمرو بن العاص:
"بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد بن عبد الله ورسوله إلى جيفر -بفتح الجيم- وعبد ابني الجلندي
__________
من شئت، قال: ما أحب أن أجعل شيئًا من مالي كالسائبة، ولكني أقسمه، "وكتب -عليه الصلاة والسلام- إلى ملكي عمان".
قال الحافظ: بضم المهملة وخفة الميم، قال الرشاطي باليمن: سميت بعمان بن سبأ, ينسب إليها الجلندي رئيس أهلها.
روى مسلم عن أبي برزة, بعث -صلى الله عليه وسلم- رجلًا إلى قوم، فسبوه وضربوه، فجاء إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فقال: "لو أهل عمان أتيت ما سبوك ولا ضربوك".
وروى أحمد عن عمر, سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إني لأعلم أرضًا يقال لها عمان, ينضح بناحيتها البحر، لو أتاهم رسولي ما رموه بسهم ولا حجر" , وبعمل الشام بلدة يقال لها عمان، لكنها بفتح المهملة، وشد الميم، وهي التي أرادها القائل:
في وجهه خالان لولاهما ... ما بت مفتونًا بعَمَّان
وليست مرادة هنا قطعًا، وإنما وقع اختلاف للرواة فيما جاء في بعض طرق حديث صفة الحوض النبوي من ذكر عمان, انتهى من فتح الباري, "وبعثه" في ذي القعدة سنة ثمان، ووقع عند ابن عبد البر، أنه بعد خيبر، قال في الفتح: فلعلها كانت بعد حنين، فتصحَّفت "مع عمرو بن العاص"، ولفظه كما رواه ابن سعد مع القصة كلها من طريق عمرو بن شعيب عن مولى لعمرو بن العاص عنه: "بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد بن عبد الله ورسوله إلى جيفر" بفتح الجيم مصروف بوزن جعفر, إلّا أن بدل العين تحتانية، "وعبد" بموحدة، وقيل: تحتيه لا إضافة فيهما، وصوَّب الخشني أنه عياد، وهو الذي في رواية الطبراني, وضبطه في الفتح -بفتح المهملة وشد التحتانية وآخره معجمة, "ابني الجلندي" بضم الجيم، وفتح اللام، وسكون النون والقصر، كما في الفتح, غير مبالٍ بقول شيخه في القاموس: جلنداء -بضم أوله، وفتح ثانيه ممدودة، وبضم ثانية مقصورة- اسم ملك عمان، ووَهِمَ الجوهري، فقصر مع فتح ثانيه، قال الأعشى:
وجلنداء في عمان مقيمًا ... ثم قيًسا في حضرموت المنيف
وذكر وثيمة في كتاب الردة عن ابن إسحاق, أنه -صلى الله عليه وسلم- بعث إلى الجلندي عمرًا يدعوه إلى الإسلام، فقال: لقد دلني على هذا النبي الأمي أنه: لا يأمر بخير إلّا كان أوّل آخذ به، ولا ينهى عن شر إلّا كان أوّل تارك له، وأنه يغلب فلا يبطر، ويغلب فلا يهجر، وإنه يفي بالعهد، وينجز الوعد، وأشهد أنه نبي، وأنشد أبياتًا منها:(5/37)
سلام على من اتبع الهدى، أما بعد: فإني أدعوكما بدعاية الإسلام، أسلما تسلما، فإني رسول الله إلى الناس كافَّة، لأنذر من كان حيًّا ويحق القول على الكافرين، وإنكما إن أقررتما بالإسلام وليتكما، وإن أبيتما أن تقرا بالإسلام فإن ملككما زال عنكما، وخيلي تحلّ بساحتكما، وتظهر نبوتي على ملككما".
وكتب أُبَيّ بن كعب، وختم الكتاب.
قال عمرو: فخرجت حتى انتهيت إلى عمان، فلما قدمتها عمدت إلى عبد -وكان أحلم الرجلين وأسهلهما خلقًا, فقلت: إني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إليك وإلى أخيك, فقال: أخي المقدَّم علي بالسنّ والملك، وأنا أوصلك إليه حتى تقرأ كتابك عليه.
ثم قال: وما تدعو إليه؟
قلت: أدعوك إلى الله وحده لا شريك له، وتخلع ما عُبِدَ من دونه، وتشهد أن
__________
فيا عمرو، قد أسلمت لله جهرة ... ينادي بها في الواديين فصيح
قال في الإصابة، فيحتمل أن عمرًا أرسل إليهم جميعًا "سلام على من اتبع الهدى، أمَّا بعد, فإني أدعوكما بدعاية الإسلام, أسلما" بهمزة قطع، وكسر اللام، أمر من الرباعي, "تسلما، فإني رسول الله إلى الناس كافَّة, لأنذر من كان حيًّا، ويحقّ القول على الكافرين، وإنكما أن أقررتما بالإسلام ولَّيتكما" بشدِّ اللام من التولية، "وإن أبيتما أن تُقِرَّا" هكذا في نسخ صحيحة، كالعيون وغيرها، ويوجد في بعض النسخ: أن لا تقرا, بالزيادة لا، وبتقدير صحتها رواية، فالمعنى: إن أبيتما الإسلام وأردتما أن لا تقرَّا "بالإسلام، فإن ملككما زائل عنكما، وخيلي تحلّ" بضم المهملة تنزل "بساحتكما" فناء دوركما "وتظهر نبوتي"، أي أرها "على ملككما" فتزيله، "وكتب" الكتاب أُبَيّ بن كعب، وختم" -صلى الله عليه وسلم "الكتاب" بنفسه، أو بأمره.
"قال عمرو: فخرجت" وسرت "حتى انتهيت إلى عمان، فلمَّا قدمتها عمدت" بفتح الميم على المشهور بوزن قصدت ومعناه, وفي لغة بكسر الميم، وقد مرَّ مرارًا "إلى عبد، وكان أحلم الرجلين، وأسهلهما خلقًا" بضمتين، "فقلت: إني رسول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إليك وإلى أخيك" بهذا الكتاب، وبالدعاء إلى ما تضمَّنه من الإيمان، "فقال" عبد: "أخي" جيفر "المقدَّم علي بالسن والملك" بضم الميم، "وأنا أوصلك إليه حتى تقرأ كتابك عليه، ثم قال: وما تدعو إليه؟، قلت: أدعوك إلى" عبادة "الله وحده، لا شريك له، و" إلى أن "تخلع ما عُبِدَ من دونه, و" أن "تشهد أن(5/38)
محمدًا عبده ورسوله.
قال: يا عمرو, إنك كنت ابن سيد قومك، فكيف صنع أبوك؟ فإن لنا فيه قدوة.
قلت: مات ولم يؤمن بمحمد -صلى الله عليه وسلم، ووددت أنه كان أسلم وصدّق به، وقد كنت على مثل رأيه حتى هداني الله للإسلام.
قال: فمتى تبعته؟ قلت: قريبًا، فسألني: أين كان إسلامك؟
قلت: عند النجاشي, وأخبرته أنَّ النجاشيّ قد أسلم.
قال: فكيف صنع قومه بملكه؟ قلت: أقرّوه واتَّبعوه.
قال: والأساقفة والرهبان تبعوه؟ قلت: نعم.
قال: انظر يا عمرو ما تقول، إنه ليس من خصلة في رجل أفضح له من كذب.
قلت: ما كذبت وما
__________
محمد عبده ورسوله".
"قال: يا عمرو, إنك كنت" أي: وجدت "ابن سيد قومك"، والذي في العيون وغيرها: إنك ابن بدون كنت، "فكيف صنع أبوك" العاص بن وائل السهمي، أحد الكفار المستهزئين، "فإن لنا فيه قدوة، قلت: مات ولم يؤمن بمحمد -صلى الله عليه وسلم، ووددت" بكسر الدال الأولى "أنه كان أسلم، وصدَّق به، وقد كنت" أنا "على مثل رأيه حتى هداني الله للإسلام، قال: فمتى تبعته؟ قلت: قريبًا، فسألني: أين كان إسلامك، قلت: عند النجاشي" على يده، وهو من اللطائف، صحابي أسلم عن يد تابعي، "وأخبرته أن النجاشي قد أسلم".
"قال: كيف صنع قومه بملكه؟ قلت: أقرّوه واتبعوه. قال: والأساقفة" بفتح الهمزة، فسين مهملة، فألف، فقاف مكسورة، ثم فاء، ثم تاء تأنيث, جمع أسقف، وهو السقف -بضم السين، والقاف- لفظ أعجمي، ومعناه: رئيس دين النصارى، وقيل: عربيّ، وهو الطويل في انحناء، وقيل: ذلك للرئيس؛ لأنه يتخاشع، كما في الفتح "والرهبان تبعوه؟ قلت: نعم، قال: انظر يا عمرو ما تقول"، استعظم وقوع ذلك، واتَّهمه في صحة الخبر، واحتمل عنده أنه قصد ترويج ما أرسل به، فقال له ذلك، واستشهد عليه بالعلوم من شدة قبح الكذب ليتجنبه، فقال: "إنه ليس من خصلة" بالفتح خلة "في رجل أفضح"، أي أكثر فضيحة "له من كذب، قلت" أنا صادق في خبري، "وما(5/39)
نستحله في ديننا.
ثم قال: أخبرني ما الذي يأمر به وينهى عنه.
قلت: يأمر بطاعة الله -عز وجل, وينهى عن معصيته، ويأمر بالبر وصلة الرحم، وينهى عن الظلم والعدوان, وعن الزنا وشرب الخمر, وعن عبادة الحجر والوثن والصليب.
قال: ما أحسن هذا الذي يدعو إليه، ولو كان أخي يتابعني لركبنا حتى نؤمن بمحمد ونصدّق به، ولكن أخي أضنَّ بملكه من أن يدعه ويصير ذَنَبًا.
قلت: إن أسلم ملَّكه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على قومه, يأخذ الصدقات من غنيهم ويردها
__________
كذبت، وما نستحله في ديننا" زيادة عن كونه أفضح خصلة، "ثم قال": أشار إلى أنه حذف بعض الحديث، وهو كذلك، فعند ابن سعد ثم قال: ما أرى هرقل علم بإسلام النجاشي، قلت: بلى، قال: شيء علمت ذلك؟ قلت: كان النجاشي يخرج خرجًا, فلما أسلم وصدَّق بمحمد -صلى الله عليه وسلم قال: لا والله، ولو سألني درهمًا واحدًا ما أعطيته، فبلغ هرقل قوله، قال: يناق أخوه, أتدع عبدك لا يخرج لك خرجًا، ويدين دينًا محدثًا؟ قال هرقل: رجل رغب في دين واختاره لنفسه, ما أصنع به؟ والله لولا الضنّ بملكي لصنعت كما صنع، قال: انظر ما تقول يا عمرو, قلت: والله صدقتك، قال عبد: "فأخبرني ما الذي يأمر به، وينهى عنه"، ويناق بفتح التحتية، وشد النون، فألف، فقاف غير مصروف للعملية، والعجمة، لا أعرف له ترجمة، والظاهر هلاكه على دينه، قاله البرهان. "قلت: يأمر بطاعة الله -عز وجل، وينهى عن معصيته، ويأمر بالبر وصلة الرحم" هما من أفراد الطاعة، "وينهى عن الظلم، والعدوان، وعن الزنا، وشرب الخمر، وعن عبادة الحجر والوثن", هو كل ما له جثة معمولة من جواهر الأرض، أو من الخشب والحجارة، كصورة الآدمي يعمل وينصب ويعبد، والصنم: الصورة بلا جثة، ومنهم من لم يفرق بين الصنم والوثن، ويطلقهما على المعنيين، وقد يطلق الوثن عل غير الصورة, ذكره البرهان.
"والصليب" للنصارى، والجمع: صلب وصلبان، قاله الجوهري. واستعمل عمرو مقام الإطناب زيادة في البيان؛ لأنه مقام خطابة، وإلا فكل هذه من أفراد معصية الله، فأجمل أولًا، ثم فَصَّل بعض التفصيل ليكون أوقع في النفس.
"قال: ما أحسن هذا الذي يدعو إليه، ولو كان أخي يتابعني لركبنا حتى نؤمن بمحمد، ونصدّق به، ولكن أخي" جيفر "أضنّ" بمعجمة وشد النون: أبخل "بملكه من أن يدعه، ويصير ذَنَبًا" بفتح المعجمة، والنون وموحدة، أي: طرفًا وتابعًا بعد أن كان رأسًا ومتبوعًا.
"قلت: إن أسلم ملَّكه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على قومه, يأخذ الصدقات من غنيهم، ويردّها على(5/40)
على فقرائهم.
قال: إن هذا لخلق حسن. وما الصدقة؟
فأخبرته بما فرض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الصدقات في الأموال، حتى انتهيت إلى الإبل، فقال: يا عمرو، يؤخذ من سوائم مواشينا التي ترعى الشجر وترد المياه؟ قلت: نعم. قال: والله ما أرى قومي في بعد دراهم وكثرة عددهم يطيعون بهذا.
قال: فمكثت ببابه أيامًا وهو يصل إلى أخيه فيخبره كل خبري، ثم إنه دعاني يومًا فدخلت عليه, فأخذ أعوانه بضبعي فقال: دعوه، فأرسلت، فذهبت لأجلس فأبوا أن يدعوني أجلس, فنظرت إليه فقال: تكلّم بحاجتك, فدفعت إليه الكتاب مختومًا، ففضَّ ختمه وقرأه حتى انتهى إلى آخره, ثم دفعه إلى أخيه فقرأه مثل قراءته، إلّا أني رأيت أخاه أرقّ منه، فقال: ألا تخبرني عن قريش كيف صنعت؟
__________
فقرائهم".
قال: "إن هذا خلق حسن"، لما فيه من مواساة الفقراء, "وما الصدقة؟ فأخبرته بما فرض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الصدقات في الأموال, حتى انتهيت إلى الإبل، فقال: يا عمرو, يؤخذ من سوائم" جمع سائمة، وهي الراعية "مواشينا التي ترعى الشجر وترد المياه؟ قلت: نعم، قال: والله ما أرى" بضم الهمزة: أظن "قومي في"، أي مع "بعد دراهم" عنه -صلى الله عليه وسلم، فيأمنون مجيء خيله إليهم لذلك، "وكثرة عددهم"، فبتقدير مجيئه إليهم لا يخافون منه لكثرتهم, "يطيعون" ضمنه معنى يقرون، فعدَّاه بالباء، فقال "بهذا" الذي ذكرته.
"قال: فمكثت ببابه أيامه، وهو يصل إلى أخيه، فيخبره كل خبري, ثم إنه دعاني يومًا" لأدخل معه على أخيه، "فدخلت عليه، فأخذ أعوانه بضبعي" بفتح المعجمة، وإسكان الموحدة ومهملة, تثنية ضبع, حذفت نونه للإضافة لياء المتكلم، وهو العضد، أو وسطه، أو ما بين الإبط إلى نصف العضد، والجمع أضباع, مثل: فرخ وأفراخ -كما في النور. "فقال: دعوه فأرسلت" بضم الهمزة، والتاء مبني للمفعول، "فذهبت لأجلس، فأبوا أن يدعوني" بفتح الدال: يتركوني "أجلس" على عادة ملوك العجم, في أن نحو رسول شخص ولو ملكًا لا يجلس عند الملك، "فنظرت إليه، فقال: تكلّم بحاجتك، فدفعت إليه الكتاب مختومًا، ففضَّ ختمه، وقرأه حتى انتهى إلى آخره، ثم دفعه إلى أخيه عبد، "فقره مثل قراءته"، فاستوفاه إلى آخره.
"إلّا أني رأيت أخاه" عبدًا "أرقَّ منه، فقال" جيفر: "ألا تخبرني عن قريش كيف صنعت؟(5/41)
فقلت: تبعوه إما راغب في الدين وإما مقهور بالسيف، قال: ومن معه؟ قلت: الناس قد رغبوا في الإسلام واختاروه على غيره, وعرفوا بعقولهم مع هدى الله أنهم كانوا في ضلال. فما أعلم أحدًا بقي غيرك في هذه الحرجة، وإن لم تسلم اليوم وتتبعه يوطئك الخيل، فأسلم تسلم، ويستعمك على قومك، ولا تدخل عليكم الخيل والرجال.
قال: دعني يومي هذا وارجع إلي غدًا.
فرجعت إلى أخيه، فقال: يا عمرو, إني لأرجو أن يسلم إن لم يضن بملكه. حتى إذا كان الغد أتيت إليه فأبى أن يأذن لي، فانصرفت إلى أخيه، فأخبرته أني لم أصل إليه، فأوصلني إليه فقال: إني فكرت فيما دعوتني إليه, فإذا أنا أضعف العرب إن ملَّكت رجلًا ما في يدي، وهو لا تبلغ خيله ههنا، وإن بلغت خيله ههنا ألفت
__________
فقلت: تبعوه إمَّا" بكسر الهمزة، وشد الميم "راغب في الدين"، فدخل فيه طوعًا، "وإمَّا مقهور يالسيف"، فدخل كرهًا إلى أن هداه الله وحسن إسلامه، كالمؤلَّفة، "قال: ومن معه؟ قلت: الناس قد رغبوا في الإسلام، واختاروه على غيره، وعرفوا بعقولهم مع هدى الله أنهم كانوا في ضلال، فما أعلم أحدًا بقي غيرك في هذه الحرجة" بفتح الحاء المهملة، والراء، ثم جيم، ثم تاء تأنيث، كذا في النسخ، فإن صحَّ، فهي شجر ملتف -كذا في النور، والمراد: التجوز, "وإن لم تسلم اليوم وتتبعه يوطئك الخيل" زاد في رواية، كما في العيون: ويبيد خضراءك، أي: جماعتك -بفتح الخاء وإسكان الضاد المعجمتين والمد، "فأسلم تسلم، ويستعملك على قومك"، فتبق على ملكك مع الإسلام، "ولا تدخل عليكم الخيل والرجال"، وفي هذا مع سعادة الدارين راحة من القتال، وفيه قوة نفس عمرو -رضي الله عنه، وشدة شكيمته, خاطبه بهذا الخطاب، وأنذره بالحرب والهلاك في محل ملكه بحضرة أعوانه، مع أنه واقف بين يديه لم يتمكّن من الجلوس، ومع ذلك حمى الله رسول نبيه ببركته -صلى الله عليه وسلم، فلم يؤذه ولا بكلمة، بل خاطبه باللين؛ حيث "قال: دعني يومي هذا، وارجع إلي غدًا, فرجعت إلى أخيه، فقل: يا عمرو, إني لأرجو أن يسلم" أخي "إن لم يضنّ" بفتح المعجمة وكسرها: يبخل "بملكه، حتى إذا كان الغد أتيت إليه، فأبى أن يأذن لي، فانصرفت إلى أخيه، فأخبرته أني لم أصل إليه، فأوصلني إليه، فقال: إني فكرت فيما دعوتني إليه، فإذا أنا أضعف العرب إن ملّكت رجلًا ما في يدي، وهو لا تبلغ خيله ههنا" لبعد الدار، "وإن بلغت خيله ههنا ألفت" بالفاء: وجدت(5/42)
قتالًا ليس كقتال من لاقى.
قلت: وأنا خارج غدًا، فلمَّا أيقن بمخرجي خلا به أخوه, فأصبح فأرسل إليّ, فأجاب إلى الإسلام هو وأخوه جميعًا، وصدَّقا النبي -صلى الله عليه وسلم، وخلَّيَا بيني وبين الصدقة وبين الحكم فيما بينهم، وكانا لي عونًا على من خالفني.
وكتب -صلى الله عليه وسلم- إلى صاحب اليمامة هوذة بن علي، وأرسل به مع سليط بن عمرو العامري:
__________
"قتالًا ليس كقتال من لاقى".
قال عمرو: "قلت: وأنا خارج غدًا، فلمَّا أيقن بمخرجي خلا به أخوه"، فقال: ما نحن فيما ظهر عليه، وكل من أرسل إليه أجابه، كما في الرواية، "فأصبح، فأرسل إليّ، فأجاب إلى الإسلام هو وأخوه جميعًا، وصدَّقا النبي -صلى الله عليه وسلم، وخلَّيَا بيني وبين الصدقة, وبين الحكم فيما بينهم، وكانا لي عونًا على من خالفني"، فلم يزل عمرو بعمان عندهم حتى مات النبي -صلى الله عليه وسلم، كما في بقية الرواية عند ابن سعد، ولعلَّ إقامته كانت بأمر المصطفى حين بعثه، أو إشارة فهم منها ذلك، أو باجتهاده حتى يجمع الصدقة, وروى عبدان بإسناد صحيح عن عبد الرحمن بن عبد القاري أنه -صلى الله عليه وسلم- بعث عمرو بن العاص إلى جيفر وعبَّاد ابني الجلندي أميري عمان، فأسلما وأسلم معهما بشر كثير، ووضع الجزية على من لم يسلم، "وكتب -صلى الله عليه وسلم- إلى صاحب اليمامة" بلاد بالبادية.
قال الجوهري: كان اسمها الجو، فسميت باسم جارية زرقاء كانت تبصر الراكب من مسيرة ثلاثة أيام، لكثرة ما أضيف إليها، وقيل: جوّ اليمامة, زاد المجد، وهي أكثر نخيلًا من سائر الحجاز، وهي دون المدينة في وسط الشرق عن مكة, على ست عشرة مرحلة من البصرة، وعن الكوفة نحوها "هوذة بن علي" الحنفي -بفتح الحاء، كما قال البرهان تبعًا للجوهري، وقال الدميري: بضم الهاء، وإسكان الواو، وبالذال المعجمة، كما في الصحاح وغيره, ونقل بعضهم عن القطب إهماهما.
قال البرهان: وما أظنّه إلا سبق قلم، "وأرسل به" الباء زائدة لتعدي أرسل بنفسه {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ} ، أو ضُمِّنَ معنى بعث، وهو فيما لا يصل بنفسه كالكتاب يعدَّى بالباء، كما مَرَّ "مع سليط" بفتح السين وكسر اللام ثم تحتية ساكنة ثم طاء مهملتين, "ابن عمرو" بفتح العين, ابن عبد شمس بن عبدود بن نصر بن مالك بن حسل -بكسر الحاء، واسكان السين المهملتين, ابن عامر بن لؤي القرشي "العامري"، أسلم قديمًا وهاجر إلى الحبشة في قول ابن إسحاق، وشهد بدرًا(5/43)
"بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى هوذة بن علي، سلام على من اتبع الهدى، واعلم أن ديني سيظهر إلى منتهى الخف والحافر، فأسلم تسلم، وأجعل لك ما تحت يديك".
فلمَّا قدم عليه سليط بكتاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مختومًا، أنزله وحباه واقترأ عليه الكتاب، فردَّ ردًّا دون رد، وكتب للنبي -صلى الله عليه وسلم: ما أحسن ما تدعو إليه وأجمله، والعرب تهاب مكاني, فاجعل إلي بعض الأمر أتبعك
__________
في قول الواقدي، وأبي معشر، واستشهد باليمامة.
وفي الصحابة سليط بن عمر، والأنصاري، وسليط بن عمرو بن زيد، فلذا قيّد بالعامري واختاره للإرسال؛ لأنه كان يختلف إلى اليمامة قبل ذلك، "بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله، إلى هوزة بن علي، سلام على من اتبع الهدى، واعلم أن ديني سيظهر" وينتهي "إلى منتهى"، فهو متعلق بمحذوف، أو ضُمِّنَ معناه، أي: يظهر منتهيًا إلى "الخف" الإبل، "والحافر" الخيل، والبغال وغيرها، والمراد: إنه يصل إلى أقصى ما يصلان إليه فيؤمنون به.
وفي المصباح: انتهى الأمر بلغ النهاية، وهي أقصى ما يمكن أن يبلغه، "فأسلم تسلم، وأجعل" بالجزم معطوف على جواب الأمر "لك" ولاية "ما تحت يديك"، "فلما قدم عليه سليط بكتاب رسول الله -صلى الله عيه وسلم- مختومًا، أنزله، وحباه" بفتح المهملة، وموحدة خفيفة، أي: أعطاه، كما في النور، ولا يتكرَّر مع قوله بعد أجازه؛ لأنها عند السفر، وهذا الحباء عند القدوم، فلا حاجة إلى أن قراءته بتحتية ثقيلة أظهر، "واقترأ عليه الكتاب"، أي: قرأ، وبه عبَّر اليعمري، وهو لغة، ففي القاموس: قرأه، وبه: كنصره، ومنعه، كاقترأه: تلاه، قال السهيلي: وقال سليط: يا هوذة, إنَّك سوَّدتك أعظم حائلة، أي بالية، وأرواح في النار، وإنما السيد من متع بالإيمان، ثم زود بالتقوى, إن قومًا سعدوا برأيك فلا تشقين به، وإني آمرك بخير مأمور به، وأنهاك عن شر منهي عنه، آمرك بعبادة الله، وأنهاك عن عبادة الشيطان، فإن في عبادة الله الجنة, وفي عبادة الشيطان النار، فإن قبلت نلت ما رجوت، وأمنت ما خفت، وإن أبيت فبيننا وبينك كشف الغطاء، وهو المطلع، فقال هوزة: يا سليط, سودني من لو سودك شرفت به، وقد كان لي رأي أختبر به الأمور، ففقدته، فموضعه من قلبي هواء، فاجعل لي فسحة يرجع إلى رأي، فأجيبك به إن شاء الله، "فردَّ ردًّا" فيه لطف "دون رد" بعنف، كما وقع لغيره من الجبارين، "وكتب للنبي -صلى الله عليه وسلم: ما أحسن ما تدعو إليه وأجمله"، زاد في الرواية: وأنا شاعر قومي، وخطيبهم، "والعرب تهاب مكاني" تجلّه وتعظمه لشدة بأسي، "فاجعل لي بعض الأمر أتبعك"، كأنه أراد شركته في النبوة، أو الخلافة بعده، كما(5/44)
وأجاز سليطًا بجائزة, وكساه أثوابًا من نسج هجر.
فقدم بذلك على النبي -صلى الله عليه وسلم- فأخبره، وقرأ النبي -صلى الله عليه وسلم- كتابه وقال: "لو سألني سيابة من الأرض ما فعلت. باد، وباد ما في يديه".
فلما انصرف النبي -صلى الله عليه وسلم- من الفتح جاءه جبريل -عليه الصلاة والسلام- بأن هوذة مات، فقال -صلى الله عليه وسلم: "أما إن اليمامة سيظهر بها كذاب يتنبأ، يقتل بعدي" فكان كذلك.
__________
سأله ابن الطفيل فيها، ولم يرض بكونه تحت ولايته التي ذكرها في قوله: "وأجعل لك ما تحت يديك"، "وأجاز سليطًا بجائزة، وكساه أثوابًا من نسج هجر" بفتحتين, بلد باليمن مذكَّر مصروف، وقد يؤنَّث ويمنع، واسم لجميع أرض البحرين، كما في القاموس، وهو المراد هنا، لا التي بقرب المدينة، "فقدم بذلك على النبي -صلى الله عليه وسلم، فأخبره" بخبره، "وقرأ النبي -صلى الله عليه وسلم- كتابه، وقال: "لو سألني سيابة" بفتح المهملة وخفة التحتية فألف فموحدة مفتوحة، فتاء تأنيث- أي: ناحية، أي: قطعة، "من الأرض ما فعلت" هكذا فسَّره ابن حديدة، وأما البرهان ففسره بالبلح، أو البسر تبعًا للقاموس، وهو أبلغ، لكن بتقدير مضاف، أي: فدر بلحة، أو بسرة من الأرض أو المراد نفسه: البلحة، أو البسرة بتقدير ناشئة. "باد" بموحدة، فألف، فمهملة: هلك، "وباد ما في يديه"، أي: هلك، بمعنى ذهب عنه وتفرَّق، وهو خبر أو دعاء، "فلمَّا انصرف النبي -صلى الله عليه وسلم- من الفتح جاءه جبريل -عليه الصلاة والسلام"، فأخبره "بأن هوذة" قد "مات" على كفره؛ لأنه لم يجب إلّا بشرط لم يعطه، ولفظًا: فأخبره، وقد ثبت في الرواية، فكأنهما سقطا من قلم المصنف، أو تعمد حذفهما لفهم المعنى، "فقال -صلى الله عليه وسلم: "أما أن اليمامة سيظهر بها كذَّاب يتنبأ, يقتل بعدي"، فكان كذلك"؛ لأنه لا ينطق عن الهوى، إن هو إلّا وحي يوحى، فظهر بها مسيلمة -لعنه الله- وقتل.
وفي الرواية: فقال قائل: يا رسول الله, من يقتله، فقال: أنت وأصحابك، قال البرهان، لا أعرف هذا القائل بعينه، والظاهر أنه من الذين اشتركوا في قتله، أو خالد بن الوليد.
وذكر الواقدي أن أركون دمشق -عظيم من عظماء النصارى، كان عند هوذة، فسأله عن النبي -صلى الله عليه وسلم، فقال: جاءني كتابه يدعوني إلى الإسلام، فلم أجبه، قال الأركون: لم لا تجيبه؟ قال: ضننت بديني وأنا ملك قومي، ولئن تبعته لن أملك، قال: بلى, والله لئن اتبعته ليملِّكَنَّك، وإن الخير لك في اتباعه، وإنه للنبي العربي الذي بشَّر به عيسى ابن مريم، وأنه لمكتوب عندنا في الإنجيل محمد رسول الله -صلى الله عليه وسلم، وأركون -بفتح الهمزة، والراء، وضم الكاف- الرومي، قال في الإصابة: أدرك الجاهلية، وأسلم على يدي خالد في عهد أبي بكر، ذكره ابن عساكر في(5/45)
وكتب -صلى الله عليه وسلم- إلى الحارث بن أبي شمر الغساني، وكان بدمشق، بغوطتها:
"بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله, إلى الحارث بن أبي شمر، سلام على من اتبع الهدى، وآمن بالله وصدّق، فإني أدعوك إلى أن تؤمن بالله وحده لا شريك له، يبقى لك ملكك". وأرسله مع شجاع بن وهب.
__________
ترجمة حفيده إبراهيم بن محمد بن صالح بن سنان بن يحيى بن أركون, انتهى.
فقول البرهان: لا أعلم له ترجمة، والظاهر هلاكه على كفره, فيه قصور ومنع، "وكتب -صلى الله عليه وسلم- إلى الحارث ابن أبي شمر" بكسر الشين المعجمة، وإسكان الميم، وبالراء "الغساني" هلك عام الفتح، قال في النور: الظاهر على كفره، "وكان" أميرًا "بدمشق" من جهة قيصر "بغوطتها"، بدل من دمشق -بضم الغين المعجمة، وسكون الواو، وطاء مهملة، وتاء تأنيث.
قال الجوهري: موضع بالشام كثير الماء والشجر، وهي غوطة دمشق.
وفي القاموس: الغوطة -بالضم- مدينة دمشق، أو كورتها، لكنه لا يوافق ما ذكر المصنف, "بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله، إلى الحارث ابن أبي شمر، سلام على من اتبع الهدى، وآمن بالله، وصدق" كذا في نسخ كالعيون، وآمن بواو عطف التفسير، وفي نسخة بالفاء عطف مفصَّل على مجمل "على من اتبع الهدى فآمن وصدق" بصيغة الماضي، "فإني أدعوك إلى أن تؤمن بالله وحده لا شريك له"، فإنك إذا فعلت ذلك "يبقى لك ملكك"، فختم الكاتب، "وأرسله مع شجاع بن وهب" بن ربيعة بن أسد بن صهيب بن مالك بن كثير بن دودان بن أسد بن خزيمة الأسدي من السابقين الأولين، وهاجر إلى الحبشة الهجرة الثانية، وشهد بدرًا والمشاهد كلها، واستشهد باليمامة، وكونه الذي أرسله بالكتاب للحارث, ذكره الواقدي، وابن إسحاق وابن حزم.
وقال ابن هشام: إنما توجه لجبلة بن الأيهم، وقال أبو عمر: لهما معًا، وقيل: لهرقل مع دحية، ولم يتمم المصنف القصة، وعند الواقدي وابن عائذ، قال شجاع: فانتهيت، فوجدته مشغولًا بتهيئة الضيافة لقيصر، وهو جاءٍ من حمص إلى إيلياء؛ حيث كشف الله عنه جنود فارس شكرًا لله تعالى، فأقمن على بابه يومين أو ثلاثة، فقلت لحاجبه: إني رسول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إليه، فقال حاجبه: لا تصل إليه حتى يخرج يوم كذا وكذا، وجعل حاجبه -وكان روميًّا اسمه مرى -بكسر الميم مخففًا- كما في الإصابة يسألني عنه -صلى الله عليه وسلم، وما يدعو إليه، فكنت أحدثه، فيرقّ حتى يغلبه البكاء، فيقول: إني قرأت في الإنجيل، وأجد صفة هذا النبي بعينه، وكنت أظنّه يخرج بالشام، فأراه خرج بأرض القرظ، فأنا أومن به وأصدقه، وأنا أخاف من الحارث بن أبي شمر أن يقتلني.
قال شجاع: وكان يكرمني، ويحسن ضيافتي، ويخبرني باليأس من الحارث، ويقول: هو(5/46)
وقال صاحب "باعث النفوس": روي عن أبي هند الداري قال: قدمنا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ونحن ستة نفر: تميم بن أوس الداري، وأخوه نعيم، ويزيد بن قيس،
__________
يخاف قيصر، قال: فخرج الحارث يومًا، فوضع التاج على رأسه، فأذن لي عليه، فدفعت إليه الكتاب، فقرأه ثم رمى به، وقال: من ينتزع مني ملكي, أنا سائر إليه ولو كان باليمن جئته, عليّ بالناس، فلم يزل جالسًا حتى الليل، وأمر بالخيل أن تنعل، ثم قال: أخبر صاحبك بما ترى، وكتب إلى قيصر يخبره بخبري، فصادف قيصر بإيلياء وعنده دحية، وقد بعثه -صلى الله عليه وسلم- إليه، فلمّا قرأ قيصر كتاب الحارث، كتب إليه أن: لا تسر إليه، واله عنه، ووافني بإيلياء، قال: ورجع الكتاب وأنا مقيم فدعاني، وقال: متى تريد أن تخرج إلى صاحبك، قلت: غدًا، فأمر لي بمائة، ووصلني مرى بنفقة وكسوة، وقال: اقرأ على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مني السلام، وأخبره بأني متتبع دينه، فقدمت فأخبرته -صلى الله عليه وسلم، فقال: بادٍ ملكه، واقرأته من مرى السلام، وأخبرته بما قال, فقال -صلى الله عليه وسلم: صدق، انتهى.
"وقال صاحب باعث النفوس" إلى زيارة القدس المحروس، وهو ركن الشام، شيخ الإسلام، برهان الدين إبراهيم الفزاري، وذكر المصنف هذه القصة هنا، وإن كان ذكرها في الوفود أنسب، كما فعل غيره دفعًا لتوهُّ أنه لا يقطع أحدًا من الأرض شيئًا من قوله في قصة هوذة: "لو سألني سيابة من الأرض ما فعلت"، فكأنه قال: فمن سأله شيئًا من النبوة ونحوها منعه, ومن الملك أو الأرض أعطاه لقصة الدرايين، ولذا كان الأَوْلَى ذكرها قبل الكتاب إلى الحارث، كما هو في بعض النسخ، وفي كثير منها إسقاطها.
"روي" عند أبي نعيم من طريق سعيد بن زياد -بفتح الزاء المنقوطة، وشد التحتانية ابن فائد بالفاء ابن زياد، بضبط حفيده ابن أبي هند عن آبائه إلى أبي هند وفائد، وابنه ضعيفان، ولذا مرضه يروى "عن أبي هند الداري" من بني الدار بن هانئ بن حبيب، مشهور بكنيته، واختلف في اسمه، فقيل: بر بن عبد الله، ويقال: بر بن عبد الله، وقال ابن حبان: الصحيح أن اسمه بر بن برو، وقيل: برير، وقيل: ابن برسن، قال أبو عمر: كان يقال: إنه أخو تميم لأمه وابن عمه, يعد في أهل الشام، ومخرج حديثه عن ولده، كما في الإصابة، "قال: قدمنا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم" سنة تسع, وقت انصرافه من تبوك، "ونحن ستة نفر: تميم بن أوس الداري" مشهور في الصحابة كان نصرانيًّا، فقدم المدينة فأسلم، وذكر للنبي -صلى الله عليه وسلم- خبر الجساسة والدجال، فحدَّث -صلى الله عليه وسلم- عنه بذلك على المنبر، فعدَّ من مناقبه، وهو أوّل من أسرج السراج في المسجد, رواه الطبراني، وأوّل من قصَّ, وذلك في عهد عمر، رواه ابن رواهويه. وكان كثير التهجد، "وأخوه نعيم" بن أوس، قال أبو عمر: يقال: وفد مع أخيه، "ويزيد بن قيس" بن خارجة الداري.(5/47)
وأبو عبد الله بن عبد الله -وهو صاحب الحديث, وأخوه الطيب بن عبد الله, فسمَّاه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عبد الرحمن، وفاكه بن النعمان، فأسلمنا, وسألنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يقطعنا أرضًا من أرض الشام، فقال: سلوا حيث شئتم. قال أبو هند: فنهضنا من عنده -صلى الله عليه وسلم- إلى موضع نتشاور فيه: أين نسأل.
فقال تميم: أرى أن نسأله بيت المقدس وكورتها، فقال أبو هند: رأيت ملك العجم اليوم، أليس هو بيت المقدس، قال تميم: نعم، فقال أبو هند: فكذلك يكون في ملك العرب، وأخاف أن لا يتمّ لنا هذا. قال تميم: نسأله بيت جيرون، فقال أبو هند: أكبر وأكبر، فقال تميم: فأين ترى أن
__________
ذكره ابن إسحاق فيمن أوصى له -صلى الله عليه وسلم- بمائة وسق من تمر خيبر، "وأبو عبد الله" الذي في رواية أبي نعيم المذكورة، وأبو هند "بن عبد الله، وهو صاحب الحديث"، أي: راوية، وعلى فرض صحة نقل المصنف، فيكون له كنيتان، ولم يذكر ذلك في الإصابة، "وأخوه الطيب بن عبد الله" الداري، ويقال: ابن بر، ويقال: ابن البراء أخو أبي هند، كما في الإصابة، "فسمَّاه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عبد الرحمن" كما لأبي نعيم ولابن أبي حاتم، والواقدي، فسماه: عبد الله، ولعلَّ ذلك للتشاؤم بنفي الطيب، أو كراهة إيهام التزكية لو سئل من أنت، فيقول الطيب، "وفاكه" بفاء، فألف، فكاف مكسورة، فهاء أصلية "ابن النعمان" بن جبلة -بجيم، فموحدة، فلام مفتوحات- الداري, ممن أوصى له النبي -صلى الله عليه وسلم، وسماه أبو نعيم في روايته رفاعة بن النعمان، وكذا الواقدي من مرسل عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، قال: قدم وفد الداريين على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- منصرفه من تبوك، وهم عشرة: هانئ بن حبيب وعروة بن مالك بن شداد، وقيس بن مالك، وأخوه مرة، وذكر الستة باقي العشرة، قال: فسمى الطيب عبد الله، وسمى عروة عبد الرحمن, وذكر الرشاطي أن هانئًا أهدى لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- قباء مخوصًا بالذهب، فأعطاه العباس، فباعه من يهودي بثمانية آلاف، "فأسلمنا، وسألنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يقطعنا أرضًا من أرض الشام، فقال: "سلوا" أرضا "حيث"، أي: في أي مكان "شئتم" أقطعها لكم، "قال أبو هند: فنهضنا" قمنا "من عنده -صلى الله عليه وسلم"، وذهبنا "إلى موضع نتشاور فيه أين نسأل، فقال تميم: أرى أن نسأله بيت المقدس وكورتها" بضمّ الكاف: ناحيتها، "فقال أبو هند: رأيت ملك العجم اليوم، أليس هو بيت المقدس، قال تميم: نعم، فقال أبو هند: فكذلك يكون فيه ملك العرب, وأخاف أن لا يتمّ لنا هذا"، فيفوت مرادنا، "قال تميم: نسأله بيت جيرون" بفتح الجيم، وإسكان التحتية موضع بدمشق، أو بابهها الذي بقرب الجامع عن المطرزي، أو منسوب إلى الملك جيرون؛ لأنه كان حصنًا له، وباب الحصن باقٍ هائل، قاله في القاموس، "فقال أبو هند: أكبر وأكبر" من بيت المقدس؛ لأنه محل الملك، "فقال تميم: فأين ترى أن(5/48)
نسأله؟ قال: أرى أن نسأله القرى التي نصنع فيها حصونًا مع ما فيها من آثار إبراهيم -عليه السلام، فقال تميم: أصبت ووافقت.
قال: فنهضنا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "يا تميم, أتحب أن تخبرني بما كنتم فيه، أو أخبركم"؟ فقال تميم: بل تخبرنا يا رسول الله فنزداد إيمانًا، فقال -عليه الصلاة والسلام: "أردت يا تميم أمرًا، وأراد أبو هند غيره، ونعم الرأي رأي أبي هند"، فدعا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بقطعة من أدم، وكتب فيها كتابًا نسخته:
"بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب ذكر فيه ما وهب محمد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للداريين إذا أعطاه الله الأرض، وهب لهم بيت عينون وحبرون والمرطوم
__________
نسأله، قال: أرى أن نسأله القرى التي نصنع فيها حصونًا مع ما فيها من آثار إبراهيم -عليه السلام، فقال تميم: أصبت"، فيما رأيت، "ووافقت" ما نطلبه، وفي نسخة وفقت، أي: في رأيك، "قال: فنهضنا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فقال: "يا تميم, أتحب أن تخبرني بما كنتم فيه" تتشاورون، "أو أخبركم"، فقال تميم: بل تخبرنا يا رسول الله، فنزداد إيمانًا" فيه، إن الإيمان يزيد وينقص، وهو قول الجمهور، "فقال -عليه الصلاة والسلام: "أردت يا تميم أمرًا، وأراد أبو هند غيره, ونعم الرأي رأي أبي هند"، فدعا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بقطعة من أدم" جلد، "وكتب فيها كتابًا نسخته: "بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب ذكر فيه ما وهب محمد رسول الله -صلى الله عليه وسلم"، يحتمل أن الصلاة من جملة الكتاب، أو من الراوي, "للداريين" بدال مهملة، فألف، فراء، فتحتيتين، فنون, نسبة للدار بن هانئ جدّهم، "إذا أعطاه الله الأرض" عبَّرَ بإذا؛ لأنه متحقق لذلك بوعد الله, "وهب لهم بيت عينون" بفتح المهملة، فتحتية ساكنة، فنونين بينهما واو، "وحبرون" بفتح الحاء المهملة، بوزن زيتون، كما في القاموس وغيره، ويقال فيه أيضًا: حبرى -بكسر أوله، وإسكان ثانيه وفتح الراء على وزن، فِعلى, كما في معجم الكبرى، وقال غيره: بفتح الحاء، قال الكبرى: وهما بين وادي القرى والشام, وليس له -صلى الله عليه وسلم- بالشام قطيعة غيرهما، وفي المراصد حبرون اسم القرية التي بها إبراهيم الخليل قرب بيت المقدس, غلب على اسمها الخليل، ويقال حبرى "والمرطوم".
"وبيت إبراهيم ومن فيهم إلى أبد الأبد"، عبَّر بميم جمع الذكور العقلاء، فلم يقل من فيها تنزيلًا لها منزلة العقلاء تجوزًا، ثم هذا من خصائصه -صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله ملَّكه الأرض كلها، وأفتى الغزالي بكفر من عارض أولاد تميم فيما أقطعهم، وقال: إنه -صلى الله عليه وسلم- كان يقطع أرض الجنة, فأرض الدنيا أَوْلَى.(5/49)
وبيت إبراهيم ومن فيهم إلى أبد الأبد" شهد عباس بن عبد المطلب وخزيمة بن قيس، وشرحبيل بن حسنه وكتب.
قال: ثم دخل بالكتاب إلى منزله, فعالج في زواية الرقعة بشيء لا يعرف، وعقد من خارج الرقعة بسير عقدتين، وخرج به إلينا مطويًا وهو يقول: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 68] ثم قال: انصرفوا حتى تسمعوا أني هاجرت.
قال أبو هند: فانصرفنا، فلما هاجر -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة قدمنا عليه وسألناه أن يجدد لنا كتابًا آخر، فكتب لنا كتابًا نسخته.
"بسم الله الرحمن الرحيم: هذا ما أنطى محمد رسول الله لتميم الداري وأصحابه، إني أنطيتكم بيت عين وحبرون والمرطوم وبيت إبراهيم برمتهم, وجميع ما فيهم نطية بت ونفذت, وسلمت ذلك لهم ولأعقابهم من بعدهم أبد
__________
ذكر المصنف في الخصائص تبعًا لغيره "شهد عباس بن عبد المطلب" أبو الفضل الهاشمي، "وخزيمة ابن قيس" "وشرحيل" بضم المعجمة، وفتح الراء، وسكون المهملة "ابن حسنة" هي أمّه, وأبوه عبد الله بن المطاع الكندي، كما تقدَّم كثيرًا، "وكتب" الكتاب شرحبيل، "قال" أبو هند راوي الحديث، "ثم دخل" -صلى الله عليه وسلم- "بالكتاب إلى منزله، فعالج في زاوية الرقعة بشيء لا يعرف، وعقد من خارج الرقعة بسير عقدتين، وخرج به إلينا مطويًا، وهو يقول: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ} أحقهم {ِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ} " في زمانه {وَهَذَا النَّبِيُّ} محمد -صلى الله عليه وسلم؛ لموافقته له في أكثر شرعه {وَالَّذِينَ آمَنُوا} من أمته, فهم الذين ينبغي لهم أن يقولوا نحن على دينه, {وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} ناصرهم وحافظهم، وحكمة تلاوتها في ذا المقام لا تخفى؛ لأنه لما كانت المحلات من آثاره، فلا أولى بها من هذا النبي والذين آمنوا, فإذا خص النبي بها بعضهم كانت له، "ثم قال: "انصرفوا حتى تسمعوا أني هاجرت" أي: رجعت إلى المدينة, سماه هجرة مجازًا؛ لأنَّ قدومهم كان عند انصرافه من تبوك، كما مَرَّ فائتوني، "قال أبو هند: فانصرفنا، فلمَّا هاجر -صلى الله عليه وسلم" رجع "إلى المدينة قدمنا عليه، وسألناه أن يجدد لنا كتابًا آخر، فكتب لنا كتابا نسخته: "بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أنطى" بالنون، أي أعطى، وقرأ: "إنا أنطيناك الكوثر" بالنون، "محمد رسول الله, لتميم الداري وأصحابه، إني أنطيتكم بيت عين" اسم للقرية المسمَّاة عينون، كما قال النجم: فهما اسمان لمحل واحد، "وحبرون، والمرطوم، وبيت إبراهيم برمتهم، وجميع ما فيهم نطية" عطية "بت ونفذت" النطية "وسلمت" أنا "ذلك لهم ولأعقابهم من بعدهم أبد(5/50)
الأبد، فمن آذاهم فيه آذاه الله" شهد أبو بكر بن أبي قحافة, وعمر بن الخطاب, وعثمان بن عفان, وعلي بن أبي طالب، ومعاوية بن أبي سفيان، وكتب علي.
فلما قُبِضَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- واستُخْلِفَ أبو بكر وجنَّد الجنود إلى الشام, كتب كتابًا نسخته: بسم الله الرحمن الرحيم, من أبي بكر الصديق إلى أبي عبيدة بن الجراح، سلام عليك، فإني أحمد الله إليك الذي لا إله إلا هو, أما بعد: فامنع من كان يؤمن بالله واليوم الآخر من الفساد في قرى الداريين، وإن كان أهلها قد جعلوا عنها وأراد الداريون يزرعونها فليزرعونها بلا خراج, وإذا رجع إليها أهلها فهي لهم وأحق بهم, والسلام عليك. نقل من كتاب إسعاف الأخصا بتفضيل المسجد الأقصى.
وكتب -صلى الله عليه وسلم- ليوحنَّة بن رؤبة صاحب أيلة لما أتاه بتبوك، وصالح
__________
الأبد، فمن آذاهم فيه آذاه الله"، لمخالفته أمر رسوله، "شهد أبو بكر بن أبي قحافة" عبد الله بن عثمان، " وعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، ومعاوية بن أبي سفيان، وكتب علي"، وفي رواية: معاوية, وأخرى غيرهما، "فلمَّا قُبِضَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم، واستخلف أبو بكر، وجنَّد الجنود إلى الشام, كتب كتابًا نسخته: بسم الله الرحمن الرحيم، من أبي بكر الصديق إلى أبي عبيدة" عامر "بن الجراح، سلام عليك, فإني أحمد الله إليك"، أنهي إليك حمد الله "الذي لا إله إلا هو، أمَّا بعد، فامنع من كان يؤمن بالله واليوم الآخر من الفساد في قرى الداريين"، أضافها إليهم؛ لأنها بمجرد الفتح صارت ملكًا لهم بعطيته -صلى الله عليه وسلم، "وإن كان أهلها قد جعلوا"، أخرجوا "عنها، وأراد الداريون يزرعونها، فليزرعونها بلا خراج، وإذا رجع إليها أهلها، فهي لهم، و" هم بها "أحق، والسلام عليك, نقل من كتاب إسعاف الأخصا بتفضيل المسجد الأقصى" مؤلفه، "وكتب -صلى الله عليه وسلم- ليوحنَّة" بضم التحتية، وفتح المهملة، وفتح النون الثقيلة، ثم تاء تأنيث، ويقال فيه: يوحنَّا، وهو كذلك في نسخة، "ابن رؤبة" بضم الراء، فهمزة ساكنة فموحدة- النصراني.
قال البرهان: لا أعرف له ترجمة، والظاهر هلاكه على دينه, "صاحب أيلة" بفتح الهمزة، وإسكان التحتية: مدينة بالشام على النصف ما بين مصر ومكة, على ساحل البحر من بلاد الشام، قاله أبو عبيدة، ويقال: سميت أيلة باسم بنت مدين بن إبراهيم، وروي أنها القرية التي كانت حاضرة البحر، "لما أتاه بتبوك" حين خاف أن يبعث إليه، كما بعث إلى أكيدر "وصالح(5/51)
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأعطاه الجزية.
"بسم الله الرحمن الرحيم, هذه أمنة من الله ومحمد النبي رسول الله ليوحنَّا بن رؤبة وأهل أيلة: أساقفتهم وسائرهم في البر والبحر، لهم ذمة الله وذمة النبي, ومن كان معه من أهل الشام وأهل اليمن وأهل البحر، فمن أحدث منهم حدثًا فإنه لا يحول ماله دون نفسه، وإنه طيب لمن أخذه من الناس، وإنه لا يحل أن يمنعوا ماء يريدونه، ولا طريقًا يريدونه من بر أو بحر". هذا كتاب جهيم بن الصلت وشرحبيل ابن حسنة بإذن رسول الله -صلى الله عليه وسلم.
__________
رسول الله -صلى الله عليه وسلم"، وأهدى إليه بغلة بيضاء، فكساه المصطفى بردًا، كما في الصحيح، "فأعطاه الجزية"، أي: التزمها وانقاد لإعطائها عنه وعن أهل مدينته، وكانوا ثلاثمائة رجل، فوضع -صلى الله عليه وسلم- الجزية ثلاثمائة دينار كل سنة، كما ذكر ابن سعد وغيره، ولفظ الكتاب كما عند ابن إسحاق وغيره: "بسم الله الرحمن الرحيم، هذه أمنة" بفتح الهمزة والميم والنون وتاء تأنيث أمان "من الله, ومحمد النبي رسول الله"، وذكر الله تبركًا.
والمعنى: أمان لكم من رسول الله بوحي من الله "ليوحنَّا بن رؤبة وأهل أيلة: أساقفتهم" بالجر بدل "وسائرهم"، أي: باقيهم؛ إذ الأساقفة بعض منهم، لكن لفظ ابن إسحاق، وتبعه اليعمري: "سفنهم وسيارتهم"، أي: قافلتهم "في البر والبحر"، يعني: إن الأمان عام لهم في جميع الأماكن التي يكونون بها، "لهم ذمَّة الله" أمانه، "وذمَّة النبي" لفظ ابن إسحاق أيضًا: ومحمد النبي "ومن كان معه" عطف على يوحنّا، أي: أمنه له ولمن كان معه "من أهل الشام وأهل اليمن وأهل البحر".
وحاصله أن في أيلة أهلها الأصليين، وجماعة من هذه البلاد توطنوها، فعمَّ الجميع بالأمنة، "فمن أحدث" جدَّد "منهم حدثًا" أمر لم يكن في شريعتنا، "فإنه" انتقض عهده، فلذا "لا يحول ماله دون نفسه"، بل يحلّ ماله ونفسه جميعًا بدليل قوله: "وإنه طيب" حلال "لمن أخذه من الناس" لنقض العهد، فصار حربيًّا، "وإنه"، أي الشأن "لا يحلّ أن يمنعوا" بالبناء للمفعول، ونائبه الضمير العائد لأهل أيلة ومن معهم "ماء" بالنصب والتنوين مفعول ثان "يريدون, ولا طريقًا يريدونه" يقصدونه فيهما، لكن لفظ ابن إسحاق وتابعه: يردونه فيهما من الورود, "من بر أو بحر"، زاد الواقدي كابن إسحاق في رواية غير زياد, تعيين اسم الكاتب، فقال: "هذا كتاب جهيم" بضم الجيم مصغر "ابن الصلت" بن مخرمة بن المطلب بن عبد مناف المطلبي.
قال ابن سعد: أسلم عام خيبر, وأطعمه -صلى الله عليه وسلم- منها ثلاثين وسقًا، "وشرحبيل" بضم المعجمة، وفتح الراء، وسكون المهملة، وكسر الموحدة, غير مصروف للعجمة والعلمية "ابن حسنة بإذن رسول الله -صلى الله عليه وسلم" لهما في كتابة -كل, بعض- الكتاب، ولعلَّ حكمته أن تعدد الكاتب بمنزلة تعدد(5/52)
وكتب -صلى الله عليه وسلم- لأهل جربا وأذرح لما أتوه بتبوك أيضًا وأعطوه الجزية:
"بسم الله الرحمن الرحيم. هذا كتاب من محمد النبي رسول الله لأهل أذرح وجربا أنهم آمنون بأمان الله وأمان محمد. وإن عليهم مائة دينار في كل رجب وافية طيبة،
__________
الشاهد، أو أنَّ كلًّا كتب نسخة، أو كتبه أحدهما بحضور الآخر، فنسب إليهما، ثم هذا الكتاب بهذا اللفظ أورده ابن إسحاق، وتابعه اليعمري في غزوة تبوك -كما علم، وكذا ذكره ابن سعد عن الواقدي، وذكره ابن سعد أيضًا أنه -صلى الله عليه وسلم- كتب إلى يوحنَّة بن رؤبة، وسروات أهل أيلة سلم أنتم: "فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، وإني لم أكن لأقاتلكم حتى أكتب إليكم، فأسلم، أو أعط الجزية، وأطع الله ورسوله ورسل رسوله، وأكرمهم، وأكسهم كسوة حسنة، فمهما رضيت رسلي، فإني قد رضيت، وقد علم الجزية، فإن أردتم أن يأمن البحر والبر، فأطع الله ورسوله، ويمنع عنكم كل حق كان للعرب والعجم إلا حق الله وحق رسوله، وإنك إن رددتم ولم ترضهم لا آخذ منك شيئًا حتى أقاتلكم، فأسبي الصغير، وأقتل الكبير، وإني رسول الله بالحق، أؤمن بالله وكتبه ورسله، والمسيح ابن مريم أنه كلمة الله، وإني أؤمن به أنه رسول الله، وائت قبل أن يمسَّكم الشر, فإني قد أوصيت رسلي بكم، وأعط حرملة ثلاثة أوسق من شعير، وإن حرملة شفع لكم، وإني لولا الله وذلك لم أراسلكم شيئًا حتى ترى الجيش، وإنكم إن أطعتم رسلي، فإن الله لكم جار ومحمد ومن كان معه، ورسلي شرحبيل وأبو حرملة وحريث بن زيد الطائي، فإنهم مهما فاوضوك عليه فقد رضيته، وإن لكم ذمة الله وذمة محمد رسول الله، والسلام عليكم إن أطعتم"، ولعل هذا الكتاب، كما ترى أرسل ليوحنة قبل إتيانه إليه، فلم يقنع بضرب الرسل الجزية حتى أتى هو للمصطفى، وأهدى له وصالحه، فكتب له الكتاب المذكور أولًا فلا منافاة بينهما.
وروى البخاري عن أبي حميد الساعدي: قدم ملك أيلة على رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فأهدى إليه بغلة بيضاء، فكساه -صلى الله عليه وسلم- بردًا وكتب له بجرهم، "وكتب -صلى الله عليه وسلم- لأهل جربا" بالجيم، قال في المطالع: مقصورة, من بلد الشام، وجاءت في البخاري ممدودة اهـ، وكذا ذكرها القاموس ممدودة، "وأذرح" بفتح الهمزة وسكون المعجمة وضم الراء وحاء مهملة, بلد بالشام، قيل: هي فلسطين, بينها وبين جربا ثلاثة أميال -بميم, وغلط من قال: أيام "لما أتوه بتبوك أيضًا وأعطوه الجزية".
قال الواقدي: أتوه مع صاحب أيلة بجزيتهم، فأخذها فكأنَّهم عجلوها، فلا يقدر هنا، أي: التزموها، وصورته كما ذكر الواقدي "بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب من محمد النبي رسول الله"، وفي لفظ: "هذا كتاب محمد النبي لأهل أذرح وجربا؛ أنهم آمنون بأمان الله وأمان(5/53)
والله كفيل عليهم بالنصح والإحسان إلى المسلمين، ومن لجأ إليهم من المسلمين في المخافة والتعزيز".
وعن حسين بن عبد الله بن ضميرة, عن أبيه, عن جده ضميرة, أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مَرَّ بأمّ ضميرة وهي تبكي، فقال: "ما يبكيك؟ أجائعة أم عارية أنت"؟ فقالت: يا رسول الله, فرق بيني وبين ابني, فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "لا يفرَّق بين الوالدة وولدها"، ثم أرسل إلى الذي عنده ضميرة فدعاه, فابتاعه من ببكر, قال ابن أبي ذؤيب: ثم أقرأني كتابًا عنده: "بسم الله الرحمن الرحيم. هذا كتاب من محمد رسول الله لأبي ضميرة وأهل بيته، أن
__________
محمد، وإن عليهم مائة دينار في كل رجب وافية طيبة" لا يؤخذ منه، إن رجال البلدين مائة بالقياس على رجال أيلة؛ لأن هذه جزية صلحية، وللصلحي ما شرط، وأما العنوية فأربعة دنانير على كل رجل كما تقرَّر، "والله كفيل عليهم"، أي: أخذ عليهم العهد، أي: آمرهم "بالنصح والإحسان إلى المسلمين، ومن لجأ إليهم من المسلمين في المخافة والتعزيز" إذا خشوا على المسلمين، فهم آمنون حتى يحدث إليهم حمد -صلى الله عليه وسلم- شيئًا من قتلٍ أو خروج. هذا بقية الكتاب عند الواقدي، كما ذكره الشامي في تبوك.
"و" روى البخاري في تاريخه، والحسن ابن سفيان، وابن منده من طريق ابن أبي ذئب، "عن حسين بن عبد الله بن ضميرة، عن أبيه، عن جده ضميرة" بالتصغير, ابن أبي ضميرة الضميري الليثي، قاله ابن حبَّان، وقيل: إنه ضمير بن سعد الحميري "أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مَرَّ بأمِّ ضميرة" صحابية ذكرها في الإصابة في الكُنَى ولم يسمّها، "وهي تبكى، فقال: "ما يبكيك؟ أجائعة أنت أم عارية أنت" فأطعمك وأكسوك, "فقالت: يا رسول الله, فرق بيني وبين ابني"، وكانوا أهل بيت من العرب مما أفاء الله على رسوله، كما رواه ابن منده في القصة، "فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "لا يفرَّق بين الوالدة وولدها، ثم أرسل إلى الذي عنده ضميرة، فدعاه فابتاعه" اشتراه "منه ببكر"، وأعطاه لأمّه، "قال ابن أبي ذؤيب" محمد بن عبد الله بن المغيرة القرشي، العامري، الثقة، الفقيه، الحافظ، أحد الأعلام, راوي هذا الحديث: زعم ابن صاعد أنه تفرَّد به عن حسين، وردَّ بأن ابن منده ذكر أن زيد بن الحباب تابعه, فرواه عن حسين، وكذا رواه إسماعيل بن أبي أويس: أخبرني حسين، "ثم أقرأني" حسين "كتابًا عنده" صورته "بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب من محمد رسول الله لأبي ضميرة" الحميري، الصحابي، قيل: اسمه سعد، وقيل: روَّج ذكره البغوي، وابن منده، وابن سعد في الكنى، ووصفوه بأنه مولى رسول الله -صلى الله عليه وسلم، قال مصعب: وكان له دار بالعقيق، وقال ابن الكلبي: هو غير أبي ضميرة مولى عليّ، كما في الإصابة, "وأهل بيته أن(5/54)
رسول الله أعتقهم, وأنهم أهل بيتهم من العرب، إن أحبوا أقاموا عند رسول الله, وإن أحبوا رجعوا إلى قومهم, فلا يعرض لهم إلّا بحق، ومن لقيهم من المسلمين فليستوص بهم خيرًا". وكتب أُبَيّ بن كعب.
وكتب -صلى الله عليه وسلم- كتابًا إلى أهل وج، سيأتي في وفد ثقيف في الفصل العاشر من هذا المقصد إن شاء الله تعالى.
وكذا كتابه -عليه الصلاة والسلام- إلى مسيلمة الكذاب في وفد بني حنيفة.
وكتب -صلى الله عليه وسلم- لأكيدر ولأهل دومة الجندل لما صالحه:
__________
رسول الله أعتقهم، وأنهم أهل بيت من العرب" مما أفاء الله على رسوله "إن أحبوا أقاموا عند رسول الله" صلى الله عليه وسلم، "وإن أحبوا رجعوا إلى قومهم, فلا يعرض لهم إلا بحق، ومن لقيهم من المسلمين فليستوص بهم خيرًا"، وكتب" الكتاب "أُبَيّ بن كعب"، وفي رواية: فاختار أبو ضمرة الله ورسوله، ودخل في الإسلام، وقال ابن سعيد والبلاذري: وفد حسين بن عبد الله بن ضميرة على المهدي بهذا الكتاب، فوضعه على عينيه، وأعطاه ثلاثمائة دينار، وكان خرج في سفر ومعه قومه، ومعهم هذا الكتاب، فعرض لهم اللصوص، فأخذوا ما معهم، فأخرجوا الكتاب وأعلموهم بما فيه، فقرأوه عليهم، فردوا عليهم ما أخذوا منهم ولم يعترضوا لهم، "وكتب -صلى الله عليه وسلم- كتابًا إلى أهل وج" بفتح الواو وشد الجيم- وادٍ بالطائف "سيأتي في وفد ثقيف في الفصل العاشر من هذا المقصد إن شاء الله تعالى، وكذا" يأتي "كتابه -عليه الصلاة والسلام- إلى مسيلمة الكذاب في وفد بني حنيفة"، فأخرهما؛ لأنهما مرتَّان على الوفود بخلاف ما هنا، فإنه كتب لمن لم يفد, ولا يرد أن منهم من قدم عليه أيضًا؛ لأن القدوم والوفد إنما هما لمن قدم مسلمًا، وهؤلاء قدموا لإعطاء الجزية، وأبو ضميرة وأهل بيته كانوا أسرى, فأعتقهم وكتب لهم الكتاب، فهذا موضعه، "وكتب -صلى الله عليه وسلم- إلى أكيدر" بضم الهمزة، وفتح الكاف، وسكون التحتية، وفتح المهملة، وبالراء, لا يصرف للعلمية ووزن الفعل, ابن عبد الملك, النصراني المختلف في إسلامه، والأكثر على أنه قتل كافرًا، كما في الإصابة، "ولأهل دومة" بضم الدال، وفتحها، وسكون الواو فيهما, "الجندل" بفتح الجيم والمهملة، بينهما نون ساكنة, حصن وقرى من طرف الشام "لمن صالحه" حين أرسل إليه، وهو بتبوك, سرية عليها خالد بن الوليد، فأسره وجاء به، فصالحه على الجزية، وخلَّى سبيله.
قال أبو السعادات بن الأثير: ومن الناس من يقول أنه أسلم وليس بصحيح، وممن وقع في كلامه ذلك الواقدي، قال في المغازي: حدثني شيخ من دومة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كتب لأكيدر(5/55)
"بسم الله الرحمن الرحيم. هذا كتاب من محمد رسول الله لأكيدر ولأهل دومة الجندل، إن لنا الضاحية من الضحل، والبور والمعامي وأغفال الأرض، والحلقة والسلاح والحافر والحصن، ولكم الضامنة من النخل، والمعين من المعمور، لا تعدل سارحتكم، ولا تعد فاردتكم، ولا يحظر عليكم النبات، تقيمون الصلاة لوقتها وتؤتون الزكاة بحقها، عليكم بذلك حق الله والميثاق، ولكم به الصدق والوفاء. شهد الله ومن حضر من المسلمين".
__________
هذا الكتاب: "بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب من محمد رسول الله لأكيدر، ولأهل دومة الجندل" حين أجاب إلى الإسلام، وخلع الأنداد والأصنام, مع خالد بن الوليد سيف الله في دومة الجندل وأكنافها.
هكذا أسقطه المصنِّف من لفظ الكتاب عند الواقدي قبل قوله: " إن لنا الضاحية من الضحل" بفتح المعجمة، وسكون المهملة، وباللام, "والبور والمعامي" بمهملة فألف فميم، "وأغفال الأرض" بغين معجمة ففاء, "والحلقة" بسكون اللام: الدروع, "والسلاح" بما يمتنع به من العدو، "والحافر" الخيل والبغال ونحوهما، "والحصن، ولكم الضامنة من النخل والمعين من المعمور ولا تعدل سارحتكم".
قال الواقدي: أي لا تنحى عن الرعي، وقال في الروض: أي: لا تحشر إلى المصدق، "ولا تعد فاردتكم" بالفاء، وهي ما لا تجب فيه الصدقة، "ولا يحظر" بالظاء المعجمة "عليكم النبات".
قال السهيلي": أي: لا تمنعون من الرعي حيث شئتم، قال ابن حديدة: والنبات النخل القديم الذي ضرب عروقه في الأرض ونبت. أهـ.
وفي نسخة: "لا تحصر" بصاد مهملة "عليكم البيات" بموحدة وتحتيه، أي: لا يضيق عليكم في البيات بأرض تزروعون بها, "تقيمون الصلاة لوقتها، وتؤتون الزكاة بحقها، عليكم بذلك حق الله والميثاق، ولكم به" منا "الصدق والوفاء" على ما عاهدناكم، "شهد الله ومن حضر من المسلمين" بذلك.
هكذا ذكر هذا الكتاب الواقدي، ونقله السهيلي في الروض عن أبي عبيد، قال: أتاني به شيخ، فقرأته فإذا فيه، فذكره وهو صريح في إسلامه، وبهذا وبنحوه اغترَّ ابن منده وأبو نعيم فذكراه في الصحابة، وشنَّع عليهما أبو الحسن بن الأثير، فقال: إنما أهدى إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وصالحه ولم يسلم، وهذا مما لا خلاف فيه بين أهل السِّيَر، ومن قال أنه أسلم فقد أخطأ خطأً ظاهرًا، بل كان نصرانيًّا، وقتله خالد بن الوليد في خلافة أبي بكر كافرًا، كما ذكره البلاذري، قال في الإصابة: يظهر أن أكيدر صالح على الجزية، كما قال ابن إسحاق: ويحتمل أن يكون(5/56)
والضاحي: البارز الظاهر.
والضحل: الماء القليل.
والبور: الأرض التي تستخرج.
والمعامي: أغفال الأرض.
والحصن: دومة الجندل.
والضامنة: النخل الذي معهم في الحصن.
والمعين: الظاهر من الماء الدائم.
وباع -صلى الله عليه وسلم- للعداء عبدًا وكتب: "بسم الله
__________
أسلم بعد ذلك، كما قال الواقدي، ثم ارتدَّ بعد النبي -صلى الله عليه وسلم- مع مَنْ ارتدَّ، كما قال البلاذري, ومات على ذلك، "والضاحي: البارز الظاهر" من الأرض، وفي الروض: الضاحية أطراف الأرض، "والضحل: الماء القليل، والبور: الأرض التي تستخرج"، أي يؤخذ خراجها، والمعامي: أغفال الأرض"، فعطفه عليه, قوله: وأغفال الأرض تفسيريّ، لكن في الروض: المعامي مجهولها، أي: الأرض وأغفال الأرض ما لا أثر لهم فيه من عمارة، أو نحوها، وهو يقتضي تغايرهما, إلّا أن يقال أنه بحسب المفهوم, وما صدقهما واحد بأن يراد المجهول ما لا أثر فيه.
وفي القاموس: الأعماء الجهال جمع أعمى، وأغفال الأرض التي لا عمارة بها كالمعامي، "والحصن دومة الجندل"، يقال: عرفت بدومة ابن إسماعيل, كان نزلها، "والضامنة" بضاد معجمة "النخل الذي معهم في الحصن, والمعين الظاهر من الماء الدائم"، قال في الروض: قال أبو عبيد: وإنما أخذ منهم بعض هذين الأرضين مع الحلقة والسلاح، ولم يفعل ذلك مع أهل الطائف حين جاءوا تائبين؛ لأن هؤلاء ظهر عليهم وأخذ ملكهم أسيرًا، ولكنه أبقى لهم من أموالهم ما تضمنه الكتاب؛ لأنه لم يقاتلهم حتى يأخذهم عنوة، كما أخذ خيبر، فلو كان الأمر كذلك لكانت أموالهم كلها للمسلمين، وكان لهم الخيار في رقابهم، كما تقدَّم، ولو جاءوا إليه تائبين أيضًا قبل الخروج إليهم, كما فعلت ثقيف, ما أخذ من أموالهم شئًا. أهـ، "وباع -صلى الله عليه وسلم- للعداء".
قال في التقريب: بفتح المهملة والتشديد وآخره همزة، وقال في الإصابة: العداء بوزن العطاء, ابن خالد بن هوذة بن خالد بن عمرو بن عامر بن صعصعة العامري، أسلم بعد حنين مع أبيه وأخيه حرملة، وذكره ابن الكلبي هو ووالده في المؤلفة, وعَمَّر، فإن أحمد ذكر أنه عاش إلى زمن خروج يزيد بن المهلب، وكان ذلك سنة إحدى، أو اثنتين ومائة. أ. هـ "عبدً، وكتب: "بسم الله(5/57)
الرحمن الرحيم، هذا ما اشترى العداء بن خالد بن هوذة من محمد رسول الله، اشترى عبدًا أو أمة -شك الراوي- لا داء ولا غائلة ولا خبثة، بيع المسلم للمسلم". رواه أبو داود والدارقطني.
والغائلة: الإباق والسرقة والزنا.
والخبثة: قال ابن أبي عروبة: بيع غير أهل المسلمين.
وكان إسلام العداء بعد فتح خيبر، وهذا يدل على مشروعية الإشهاد في المعاملات, قال الله تعالى: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} [البقرة: 282] والأمر هنا ليس للوجوب. فقد باع -عليه الصلاة والسلام- ولم يشهد، واشترى ورهن درعه عند يهودي ولم يشهد، ولو كان الإشهاد أمرًا واجبًا لوجب مع الرهن خوف المنازعة, والله أعلم.
__________
الرحمن الرحيم، هذا ما اشترى العداء بن خالد بن هوذة" بفتح الهاء، وسكون الواو، وذال معجمة، "من محمد رسول الله، اشترى عبدًا أو أمة، -شك الراوي- لا داء" به، "ولا غائلة" فيه، " ولا خبثة" بكسر الخاء المعجمة وسكون الموحدة ومثلثة، "بيع المسلم للمسلم"، رواه أبو داود والدارقطني.
"والغائلة" بغين معجمة "الإباق والسرقة والزنا, والخبثة، قال ابن أبي عروبة" سعيد بن مهران اليشكري، مولاهم البصري، الثقة الحافظ، صاحب التصانيف من رجال الجميع, "بيع غير أهل المسلمين".
وفي القاموس: الخبثة -بالكسر في الرقيق أن لا يكون طيبة، أي: سبى من قوم لا يحل سبيهم ولا استرقاهم أهـ، وهذا مما شمله تفسير سعيد, "وكان إسلام العداء بعد فتح خيبر"، لعله مكة، ليوافق قول الإصابة بعد حنين، وكان من المؤلفة, أو لفظة فتح مقحمة، والأصل بعد حنين وخيبر تصحيف، "وهذا يدل على مشروعية الإشهاد في المعاملات".
"قال الله تعالى: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} ، والأمر هنا ليس للوجوب"، كما ال به طائفة، بل للندب عند الجمهور؛ لأنه أدفع للخلاف، "فقد باع -عليه الصلاة والسلام- ولم يشهد"، فدلَّ على أنه للندب، "واشترى و" تسلّف، و"رهن درعه عند يهودي ولم يشهد، ولو كان الإشهاد أمرًا واجبًا" ما تركه، و"لوجب مع الرهن خوف المنازعة، والله أعلم" بالحق، وترك المصنف هنا من الكتب كتابه إلى بني نهد -بالنون، وكتابه بين قريش والأنصار، وكتابه لأهل همدان، وكتابه لقطن بن حارثة، وكتابه لوائل بن حجر؛ لأنه سيذكرها في فصاحة(5/58)
وأما أمراؤه -عليه الصلاة والسلام:
فمنهم: باذان بن ساسان من ولد بهرام، أمَّره -صلى الله عليه وسلم- على اليمن، وهو أوّل أمير في الإسلام على اليمن، وأوّل من أسلم من ملوك العجم.
وأمَّر -صلى الله عليه وسلم- على صنعاء خالد بن سعيد. وولَّى زياد بن لبيد الأنصاري حضرموت
__________
لسانه -صلى الله عليه وسلم- من المقصد الثالث لما فيها من مزيد الفصاحة، "وأمَّا أمراؤه -عليه الصلاة والسلام" أخَّرهم عن الكتاب مع قوله أول الفصل: في أمرائه ورسله وكتابه؛ لإحتمال أن ولايتهم كانت بعد المكاتبات، فقدَّمهم في الترجمة لشرف الولاية، لا لشرفهم، فالكتاب أشرف منهم؛ لأن فيهم الخلفاء، وأخَّرهم في الذكر نظرًا لزمن الولاية، "فمنهم باذان" بفتح الموحدة، والذال المعجمة بعدها ألف وآخره نون، ويقال: ميم "ابن ساسان من ولد بهرام" بن سابور بن أردشير بن بابك بن ساسان الأصغر، أحد الملوك الساسانية من الفرس، وأسلم باذان لما هلك كِسَرى، وكان نائبه على اليمن، وأرسل بإسلامه إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فـ"أمَّره -صلى الله عليه وسلم- على اليمن" وفاءً بقوله -صلى الله عليه وسلم- لرسوليه اللذين بعثهما للمصطفى، بأمر كسرى ليأتياه به، فأخبرهما أن الله قتله، قالا: فنكتب بذلك عنك إلى باذان، قال: "نعم" , وقولا له: "إن أسلمت أقرَّك على ملكك"، فأسلم لما شاهد الآية الباهرة من الإخبار بالغيب في الساعة التي عينها من الليلة، كما تقدَّم، "وهو أوّل أمير في الإسلام على اليمن، وأوّل من أسلم من ملوك العجم"، كما قاله الثعلب، ثم مات, فاستعمل ابنه شهر بن باذان على بعض عمله.
ذكره الواقدي، وابن إسحاق، والطبري، وعند الفاكهي من مرسل الشعبي أن باذان خرج إلى النبي --صلى الله عليه وسلم، فلحقه العنسي الكذّاب فقتله.
قاله في الإصابة في القسم الثالث فيمن أدرك النبي ولم يره، وقال في ترجمة شهر: استعمله -صلى الله عليه وسلم- على صنعاء بعد موت أبيه، روى ذلك سيف بسنده، وقال الطبري: لما غلب الأسود الكذاب على صنعاء، وقتل شهر بن باذان تزوَّج زوجته، فكانت هي التي أعانت على قتل الأسود بغضًا له، "وأمَّره -صلى الله عليه وسلم- على صنعاء" وأعمالها بعد قتل شهر "خالد بن سعيد" بن العاص القرشي، "وولَّى" لم يقل أمر تفننًا لترادفها لغة "زياد بن لبيد" بفتح اللام, ابن ثعلبة بن سنان بن عامر "الأنصاري" البياضي، شهد العقبة وبدرًا "حضرموت"، كما ذكره الواقدي وغيره، قال في المراصد: بالفتح، ثم السكون وفتح الراء والميم: اسمان مركَّبان, ناحية واسعة في شرقي عدن بقرب البحر, حولها رمال كثيرة تعرف بالأحقاف، وقيل: هو مخلاف باليمن، وفي القاموس قد(5/59)
وولى أبا موسى الأشعري زبيد وعدن, وولَّى معاذ بن جبل الجند, وولَّى أبا سفيان بن حرب نجران. وولَّى ابنه يزيد تيماء.
وولَّى عتاب -فتح المهملة وتشديد المثناة الفوقية- ابن أسيد -بفتح الهمزة وكسر السين المهملة- مكة، وإقامة الموسم والحج بالمسلمين سنة ثمان.
__________
تضم الميم، "وولَّى أبا موسى الأشعري" عبد الله بن قيس "زبيد"، بفتح الزاي وكسر الموحدة وسكون التحتية ودال مهملة, مدينة باليمن, "وعدن" بفتحتين, مدينة أيضًا باليمن، "وولَّى معاذ بن جبل" الخزرجي البدري، أعلم الأمة بالحلال والحرام "الجند"، بفتح الجيم والنون، فدال مهملة مدينة باليمن.
قال في المراصد: واليمن ثلاث ولايات: الجند ومخاليفها، وصنعاء ومخاليفها، وحضرموت ومخاليفها، "وولَّى أبا سفيان بن حرب نجران" بفتح النون، وسكون الجيم, موضع باليمن فُتِحَ سنة عشر، سمي بنجران بن زيد بن سبأ، كما في القاموس، قال في الإصابة: يقال: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- استعمله على نجران ولا يثبت، قال الواقدي: أصحابنا ينكرون ذلك ويقولون: كان أبو سفيان بمكة وقت وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم, وكان عاملها -أي: نجران- حينئذٍ عمرو بن حزم. انتهى.
"وولَّى ابنه يزيد تيماء" بفتح الفوقية، وسكون التحتية، والمد, بلد في بادية تبوك على نحو سبع أو ثمان مراحل من المدينة، قال بعضهم: هي فعلاء من التيم، وهو العبد، ومنه: تيم الله، أي: عبده, وقد تيَّمه الحب، أي: استعبده، فكانت هذه الأرض، قيل لهما: تيماء؛ لأنها مذللة معبَّدة، "وولَّى عتاب فتح المهملة وتشديد المثناة الفوقية, ابن أسيد -بفتح الهمزة وكسر السين المهملة وبعد الألف موحدة, ابن أبي العيص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، أسلم يوم الفتح، وكان صالحًا فاضلًا "مكة", حين سار إلى حنين، وقيل: بعد أن رجع من الطائف. حكاهما الواقدي، "وإقامة الموسم والحج بالمسلمين سنة ثمان" التي هي سنة الفتح, فهو أول أمراء الحج، كما جزم به الماوردي وابن كثير والمحب الطبري وغيرهم.
وأما قول الأزرقي: لم يبلغنا أنه استعمل في تلك السنة على الحج أحدًا، وإنما ولَّى عتابًا إمرة مكة، وحجَّ المسلمون والمشركون جميعًا، فكان المسلمون مع عتاب لكونه الأمير، فهو إنما نفى أنه بلغه، ولم يطلق النفي، قال في الإصابة: وأقرَّه أبو بكر على مكَّة إلى أن مات يوم مات الصديق، ذكره الواقدي وغيره، لكن ذكره الطبري في عمّال عمر إلى سنة اثنتين وعشرين، فهذا يشعر بأنَّه مات في أواخر خلافة عمر، وروى الطيالسي والبخاري في تاريخه عن عمرو بن أبي عقرب: سمعت عتاب بن أسيد، وهو مسند ظهره إلى بيت الله يقول: ما أصبت في عملي هذا الذي ولّاني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلّا ثوبين معقدين كسوتهما مولاي كيسان, وإسناده حسن،(5/60)
وولى علي بن أبي طالب القضاء باليمن.
وولى عمرو بن العاص عمان وأهلها.
وولى أبا بكر الصديق إقامة الحج سنة تسع، وبعث في أثره عليًّا، فقرأ على الناس براءة، فقيل: لأنَّ أولها نزل بعد أن خرج أبو بكر إلى الحج،.
__________
ومقتضاه أنه عاش بعد أبي بكر.
وروى المحاملي، عن أنس أنه -صلى الله عليه وسلم- استعمل عتابًا على مكة، وكان شديدًا على المنافقين لينًا على المؤمنين، وكان يقول: والله لا أعلم متخلفًا عن الصلاة في جماعة إلّا ضربت عنقه، فإنه لا يتخلّف عنها إلا منافق، فقال أهل مكة: يا رسول الله, استعملت على أهل الله أعرابيًّا جافيًا، فقال: "إني رأيت فيما يرى النائم؛ أنه أتى باب الجنة فأخذ بحلقة الباب، فقعقها حتى فُتِحَ له ودخل" رجاله ثقات إلا محمد بن إسماعيل بن حذافة السهمي، ضعفوه في غير الموطأ، "وولّى علي بن أبي طالب القضاء باليمن"، كما رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه عنه: بعثني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على اليمن قاضيًا، وأنا حديث السن، قلت: يا رسول الله, تبعثني وأنا شاب أقضي ولا أدري ما القضاء، فضرب بيده في صدري، فقال: "اللهم اهد قلبه، وثبّت لسانه"، وقال: "إن الله سيهدي قلبك، ويثبت لسانك"، قال: فما شككت في قضء بين اثنين، وجمع بين هذا ونحوه، وبين قول ابن عمر ما اتخذ -صلى الله عليه وسلم- قاضيًا، ولا أبو بكر، ولا عمر حتى كان في آخر زمانه، قال ليزيد -ابن أخت نمير: اكفني بعض الأمور. رواه أبو يعلى برجال الصحيح.
وقال السائب بن يزد: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- وأبا بكر لم يتخذا قاضيًا، وأوّل من استقضى عمر، قال: ردّ عني الناس في الدرهم والدرهمين. رواه الطبراني بسند جيد، بأنه -صلى الله عليه وسلم- لم يستقض شخصًا معينًا للقضاء بين الناس دائمًا، وإنما استقضى جماعة في أشياء خاصّة؛ كقول معقل بن يسار: أمرني -صلى الله عليه وسلم- أن أقضي بين قوم، فقلت: ما أحسن أن أقضي، قال: "إن الله مع القاضي ما لم يحف عمدًا"، وجاءه -صلى الله عليه وسلم- خصمان، فقال لعمر: "اقض بينهما"، رواهما أحمد والحاكم، وكذا قال لعقبة في خصمين جاءاه: "اقض بينهما"، رواه أحمد وغيره، "وولى عمرو بن العاص عمان"، كغراب "وأهلها، وولَّى أبا بكر الصديق إقامة الحج سنة تسع" في ذي الحجة على المعتمد، وقال مجاهد وعكرمة بن خالد: في ذي القعدة، "وبعث في أثره عليًّا، فقرأ على الناس براءة".
قال الحافظ: فيه تجوّز؛ لأنه أمره أن يؤذن ببضع وثلاثين آية، منتهاها ولو كره المشركون، كما رواه ابن جرير عن محمد بن كعب, وعنده عن علي: بأربعين آية من أول براءة، "فقيل" في حكمة إرساله وكونه لم يأمر الصديق بقراءتها مع أنه الأمير؛ "لأن أولها نزل بعد أن خرج أبو بكر إلى الحج"، كما رواه ابن إسحاق من مرسل أبي جعفر الباقر: لما نزلت براءة، وكان قد بعث(5/61)
وقيل: أردفه به عونًا له ومساعدًا، ولهذا لما قال له الصديق: أمير أو مأمور؟ قال: بل مأمور، وأمَّا الرافضة فقالوا: بل عزله، وهذا لا يبعد من بهتهم وافترائهم.
وقد ولّى -صلى الله عليه وسلم- على الصدقات جماعة كثيرة.
"رسله -صلى الله عليه وسلم":
وأما رسله -صلى الله عليه وسلم، فقد روي أنه -عليه الصلاة والسلام- بعث ستة نفر في يوم واحد، في المحرم سنة سبع. وذكر القاضي عياض في الشفاء مما عزاه للواقدي: إنه أصبح كل رجل منهم يتكلم بلسان القوم الذين بعثه إليهم.
__________
الصديق ليقيم للناس الحج، قيل: يا رسول الله, لو بعث بها إلى أبي بكر، قال: "لا يؤدي عني إلّا رجل من أهل بيتي"، دعا عليًّا، فقال: "اخرج بهذه القصة من صدر براءة، وأذّن في الناس يوم النحر" الحديث. لكن روى أحمد والترمذي، وحسَّنه عن أنس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- بعث ببراءة مع أبي بكر، فلمَّا بلغ الحليفة قال: "لا يبلغها إلّا أنا، أو رجل من أهل بيتي"، فبعث بها مع علي.
رواه أحمد والطبري من حديث عليّ بنحوه، وفيه: إن أبا بكر رجع، وقال: نزل فيّ شيء يا رسول الله؟ قال: "لا, أنت صاحبي في الغار، وصاحبي على الحوض، ولكن جبريل قال لي: لا يؤدي عنك إلّا أنت، أو رجل منك"، ولم يتعرض الحافظ لجمع، ولا ترجيح، كأنه لظهور الترجيح؛ لأن رواية نزولها بعد خروج أبي بكر مرسلة، ورواية نزولها قبل خروجه مسندة وإسناده حسن، "وقيل: أردفه به عونًا له ومساعدًا" عطف تفسير، "ولهذا لما قال له الصديق" أنت "أمير أو مأمور" بالمساعدة لي، فتكون تحت أمري، "قال: بل مأمور. وأمَّا الرافضة فقالوا: بل عزله، وهذا لا يبعد من بهتهم" تقول: "وافترائهم" كذبهم على المصطفى فيما يوافق أغراضهم، "وقد ولَّى -صلى الله عليه وسلم- على" جمع "الصدقات" الزكوات والقيام بأمرها "جماعة كثيرة", سيذكر بعضهم قريبًا.
قال ابن القيم: لأنه كان على كل قبيلة والٍ يقبض صدقاتها، فمن هنا كثر عمَّال الصدقات، "وأمَّا رسله -صلى الله عليه وسلم، فقد روي" عن ابن سعد "أنه -عليه الصلاة والسلام" لما رجع من الحديبية في ذي الحجة سنة ست، أرسل إلى الملوك يدعوهم إلى الإسلام، وكتب إليهم كتبًا، و"بعث ستة نفر في يوم واحد في المحرم سنة سبع"، فأفادت هذه الرواية بما زدته منها أنَّ العزم على الإرسال والكتب في ذي الحجة، وتأخَّر البعث إلى أوّل المحرم، فخرجوا في يوم واحد، وهي رواية واحدة, فلا ينافي بعضها بعضًا، كما هو ظاهر.
"وذكر القاضي عياض في الشفاء، مما عزاه للواقدي, أنه أصبح كل رجل منهم يتكلّم بلسان القوم الذين بعثه إليهم"، من غير مضيّ زمان يمكن فيه التعلّم، معجزة له -صلى الله عليه وسلم, حتى(5/62)
وكان أوّل رسول بعثه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عمرو بن أمية الضمري، إلى النجاشي ملك الحبشة، وكتب إليه كتابين يدعوه في أحدهما إلى الإسلام، ويتلو عليه القرآن، فأخذه النجاشي ووضعه على عينيه, ونزل عن سريره، فجلس على الأرض, ثم أسلم وشهد شهادة الحق, وقال: لو كنت أستطيع أن آتيه لأتيته
__________
يفهموا ما يقال، ولا ينافي هذا دعاء بعض الملوك الترجمان؛ لأنه من تعاظم العجم، وما ذكره الواقدي له شواهد، فأخرج ابن سعد عن بريدة الزهري، ويزيد بن رومان، والشعبي, أنه -صلى الله عليه وسلم- بعث عدة إلى عدة، وأمرهم بنصح عباد الله، فأصبح الرسل كل رجل منهم يتكلّم بلسان القوم الذين أرسل إليهم، فذكر ذلك -صلى الله عليه وسلم- فقال: "هذا أعظم ما كان من حق الله في أمر عباده".
وروى ابن أبي شيبة من مرسل جعفر بن عمرو, بعث -صلى الله عليه وسلم- أربعة: رجلًا إلى كسرى، ورجلًا إلى قيصر، ورجلًا إلى المقوقس، وعمرو بن أمية إلى النجاشي، فأصبح كل رجل منهم يتكلم بلسان القوم الذين بعث إليهم، وكان جعفرًا لم يحفظ بقية الستة.
وقد روى الطبراني عن المسور بن مخرمة الصحابي، قال: خرج -صلى الله عليه وسلم- إلى أصحابه، فقال: "إن الله بعثني للناس كافّة، فأدوا عني وا تختلفوا علي"، فبعث عبد الله بن حذافة إلى كسرى، وسليطًا إلى هوذة، والعلاء إلى المنذر، وابن العاص إلى ملكي عمان، ودحية إلى قيصر، وشجاعًا إلى الحارث، وعمرو بن أمية إلى النجاشي. فعدَّهم سبعة، وزاد أصحاب السير جماعة غيرهم، ففي هذا موازاة الصحابة للحواريين، فقد روى ابن عبد الحكم في فتوح مصر، وابن إسحاق في السيرة, أنه -صلى الله عليه وسلم- قام على المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، وتشهَّد ثم قال: "أما بعد، فإني أبعث بعضكم إلى ملوك العجم، فلا تختلفوا علي كما اختلف بنو إسرائيل على عيسى، وذلك أن الله بعث إليه أن أبعث إلى ملوك الأرض، فبعث الحواريين، فأمَّا القريب مكانًا فرضي، وأما البعيد مكانًا فكره، وقال: لا أحسن كلام من تبعثني إليه، فقال عيسى: اللهمَّ أمرت الحواريين بالذي أمرت، فاختلفوا علي، فأوحى الله إليه أني سأكفيك، فأصبح كل إنسان يتكلّم بلسان الذين أرسل إليهم"، فقال المهاجرون: يا رسول الله، والله لا نختلف عليك أبدًا في شيء, فمرنا وابعثنا, "وكان أول رسول بعثه -صلى الله عليه وسلم- عمرو بن أمية الضمري" نسبة إلى جدِّه ضمرة -بفتح فسكون كما تقدَّم مرارًا, "إلى النجاشي ملك الحبشة, وكتب إليه كتابين, يدعوه في أحدهما إلى الإسلام، ويتلو عليه القرآن"، أي: بعضه، "فأخذه النجاشي، ووضعه على عينيه" تبركًا وتعظيمًا، "ونزل عن سريره، وجلس على الأرض" تواضعًا لله على هذه النعمة التي ساقها إليه، "ثم أسلم وشهد وشهادة الحق"، إضافة بيانية، أي: هي الحق. "وقال: لو كنت أستطيع أن آتيه لأتيته"، لكنِّي لا أستطيع ذلك خوفًا من خروج الحبشة،(5/63)
وفي الكتاب الآخر أن يزوجه أم حبيبة بنت أبي سفيان، فزوَّجه إياها كما تقدَّم في الأزواج، ودعا بحق من عاج فجعل فيه كتابي رسول الله -صلى الله عليه وسلم, وقال: لن تزال الحبشة بخير ما كان هذان الكتابان بين أظهرهم، وصلى عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو بالحبشة, كذا قاله الواقدي وغيره.
وليس كذلك، فإن النجاشي الذي صلى عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليس هو الذي كتب كما تقدَّم.
وبعث -عليه الصلاة والسلام- دحية بن خليفة الكلبي -وهو أحد الستة- إلى قيصر ملك الروم، واسمه هرقل, يدعوه إلى الإسلام، فهمَّ بالإسلام فلم توافقه الروم, فخافهم على ملكه فأمسك.
وبعث عبد الله.
__________
وتلاشى أمرهم مع ما أؤمله من إسلامه ببقائي بينهم، "وفي الكتاب الآخر أن يزوجه أم حبيبة بنت أبي سفيان", وأن يبعث إليه من هاجر إليه من الصحابة، "فزوجه إياها كما تقدَّم في الأزواج"، وجهَّز إليه أصحابه كما تقدَّم، "ودعا بحق من عاج، فجعل فيه كتابي رسول الله -صلى الله عليه وسلم، وقال: لن تزال الحبشة بخير ما كان هذان الكتابان بين أظهرهم"، ومات -رحمه الله- سنة تسع أو ثمان، "وصلى عليه النبي -صلى الله عليه وسلم" بالمدينة يوم موته، "وهو بالحبشة، كما قاله"، أي: كل ما ذكره "الواقدي وغيره"، لا خصوص الصلاة؛ لأنها في الصحيحين، "وليس كذلك، فإن النجاشي الذي صلى عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليس هو الذي كتب إليه كما تقدَّم"، هذا وَهْم، فالذي تقدَّم إنه كتب إليهما جميعًا؛ أصحمة الذي صلى عليه، والذي ولي بعده، وكان كافرًا لم يعرف إسلامه، ولا اسمه، وخلط بعضهم، ولم يميز بينهما.
هذا كلام المصنف في كتابه إلى النجاشي، وما بالعهد من قدم، وقد روى البيهقي وغيره أنه كتب إلى كلٍّ منهما، كما قدَّمته، فمن نفى الكتابة عن الأول فقد وَهمَ، والله أعلم.
"وبعث -عليه الصلاة والسلام- دحية بن خليفة الكلبي، وهو أحد الستة"، أي: الثاني منها, والأنسب بما بعده أن يقول: وهو الثاني, والمراد في العدو الذكر، لما مَرَّ أنهم خرجوا في يوم واحد "إلى قيصر ملك الروم واسمه هرقل" بكسر، ففتح، فسكون على المشهور في الروايات "يدعوه إلى الإسلام, فهَمَّ بالإسلام فلم توافقه الروم، فخافهم على ملكه فأمسك" على نصرانيته حتى مات عليها، "وبعث عبد الله" بن حذافة بن قيس بن عدي بن سعيد -بضم السين(5/64)
السهمي إلى كسرى وهو الثالث.
وبعث الرابع وهو حاطب بن أبي بلتعة إلى المقوقس فأكرمه، وبعث إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- بجاريتين وكسوة وبغلة ولم يسلم.
وبعث الخامس وهو شجاع بن وهب الأسدي إلى ملك البلقاء الحارث بن أبي شمر الغساني.
وبعث السادس وهو سليط بن عمرو العامري إلى هوذة وإلى ثمامة بن أثال الحنفي, فأسلم ثمامة.
وبعث عمرو بن العاص في ذي القعدة سنة ثمان إلى جيفر وعبد ابني
__________
ابن سهم القرشي، "السهمي" نسبة إلى جدِّه سهم المذكور "إلى كسرى، وهو الثالث، وبعث الرابع، وهو حاطب بن أبي بلتعة إلى المقوقس، فأكرمه وبعث إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- بجاريتين" على ما في روايات، وفي رواية بثلاث، فالاقتصار على اثنتين لجمالهما ومكانهما من القبط، كما مَرَّ "وكسوة" عشرين ثوبًا من قباطي مصر, "وبغلة" هي دلدل, وحمار, وغير ذلك، كما مَرَّ، "ولم يسلم على الصواب، ووَهِمَ من عده في الصحابة، "وبعث الخامس، وهو شجاع بن وهب الأسدي" نسبة إلى جده أسد بن حزيمة "إلى ملك البلقاء" بفتح الموحدة، وإسكان اللام وقاف والمد، وتقصر مدينة من عمل دمشق, فيها قرى كثيرة ومزارع واسعة "الحارث بن أبي شمر الغساني" فلم يسلم، "وبعث السادس، وهو سليط بن عمرو العامري"، نسبة إلى جده عامر بن لؤي القرشي "إلى هوذة" صاحب اليمامة، "وإلى ثمامة" بضم المثلثة، وخفة الميمين "ابن أثال" بضم الهمزة، وبمثلثة خفيفة، ولام, مصروف, ابن النعمان، "الحنفي" من فضلاء الصحابة، "فأسلم ثمامة" ولم يسلم هوذة، كذا قال ابن إسحاق: إنه بعث إليهما، وهو منابذ لما في الصحيحين أنه -صلى الله عليه وسلم- بعث خيلًا قِبَلَ نجد، فجاءت بثمامة بن أثال، سيد أهل اليمامة، فربطوه بسارية المسجد. الحديث، وفيه: فقال -صلى الله عليه وسلم: "أطلقوا ثمامة"، فانطلق, فاغتسل، ثم دخل المسجد، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله. الحديث، وأخرجه بنحوه ابن إسحاق نفسه في المغازي، وذكر المصنف في المغازي كغيره: إن ذلك في المحرم سنة ست، فإن صحَّ أنه أرسل إليه أيضًا، فالمراد به أنه يكون عونًا لسليط على هوذة، ويئول قوله: فأسلم ثمامة، أي: استمرَّ على إسلامه، لا أنه أسلم حين الإرسال؛ لأنه أسلم قبل ذلك بسنة, بالمدينة لما أُسِرَ ومنَّ عليه المصطفى، كما في الصحيحين، "وبعث عمرو بن العاص في ذي القعدة سنة ثمان إلى جيفر(5/65)
الجلندي بعمان فأسلما وصدَّقا.
وبعث العلاء بن الحضرمي إلى المنذر بن ساوى العبدي ملك البحرين قبل منصرفه من الجعرانة -وقيل قبل الفتح- فأسلم وصدَّق.
وبعث أبو موسى الأشعري ومعاذ بن جبل إلى اليمن عند انصرافه من تبوك, وقيل: بل سنة عشر في ربيع أول داعيين إلى الإسلام، فأسلم غالب أهلها من غير قتال, ثم بعث عليّ بن أبي طالب بعد ذلك إليهم, ووافاه بمكة في حجَّة الوداع.
وبعث المهاجر بن أبي أمية المخزومي إلى الحارث بن عبد كلال
__________
وعبد ابني الجلندي بعمان، فأسلما وصدقا"، كما تقدَّم بسطه، "وبعث العلاء بن الحضرمي إلى المنذر بن ساوى العبدي" نسبة إلى جدِّه عبد الله بن دارم التميمي، لا إلى عبد القيس, كما ظنَّه بعض الناس، أفاده الرشاطي، كما في الإصابة "ملك البحرين قبل منصرفه من الجعرانة"، لاثنتي عشرة ليلة بقيت من ذي القعدة سنة ثمان، فهو سنة الفتح، "وقيل: قبل الفتح" لمكة، وجزم به في الإصابة، وعزاه لابن إسحاق، وغير واحد, ونحو قول العيون بعد إنصرافه من الحديبية، "فأسلم وصدَّق".
زاد الواقدي: ثم استقدم النبي -صلى الله عليه وسلم- العلاء الحضرمي، فاستخلف المنذر مكانه، "وبعث أبو موسى" عبد الله بن قيس "الأشعري، ومعاذ بن جبل إلى اليمن, عند انصرافه من تبوك" رواه الواقدي، وابن سعد، عن كعب بن مالك، وكان انصرافه منها في رمضان، أو شعبان سنة تسع، "وقيل: بل سنة عشر في ربيع أوَّل" حكاه ابن سعد، وقيل: عام الفتح سنة ثمان.
حكى الثلاثة في فتح الباري، فما يوجد في بعض نسخ المصنف من تبوك سنة عشر بإسقاط، وقيل: بل خطأ نشأ عن سقط، وإن أمكن توجيهه بأن سنة عشر معمول لبعث لا لتبوك، لكنه مع إيهامه يكون قاصرا على قول "داعيين إلى الإسلام, فأسلم غالب أهلها من غير قتال، ثم بعث علي بن أبي طالب بعد ذلك إليهم" في رمضان سنة عشر، كما قال ابن سعد، فقاتل من لم يسلم، فهزموا، وقتل منهم فكفَّ، ثم دعاهم إلى الإسلام، فأسرعوا الإجابة، فأقام فيهم يقرئهم القرآن، ويعلمهم الشرائع، وكتب للنبي -صلى الله عليه وسلم، فأمر أن يوافيه بالموسم، فقفل "ووافاه بمكة في حجة الوداع، وبعث المهاجر بن أبي أمية" بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم القرشي، "المخزومي" شقيق أم سلمة أم المؤمنين, له في قتال أهل الردة أثر كبير, "إلى الحارث بن عبد كلال" الأصغر ابن نصر بن سهل بن غريب بن عبد كلال الأوسط بن عبيد(5/66)
الحميري باليمن.
وبعث جرير بن عبد الله البجلي إلى ذي الكلاع وذي عمرو يدعوهم إلى الإسلام، فأسلما
__________
"الحميري" أحدًا قبال اليمن.
قال الهمداني في الأنساب: كتب -صلى الله عليه وسلم- إلى الحارث وأخيه، وأمر رسوله أن يقرأ عليهما لم يكن، فوفد عليه الحارث فأسلم، فاعتنقه، وأفرشه رداءه، وقال قبل أن يدخل عليه: "يدخل عليكم من هذا الفج رجل كريم الجدين، صبيح الخدين"، فكان هو، قال في الإصابة: والذي تظاهرت به الروايات أنه أرسل بإسلامه، وأقام "باليمن", وقال ابن إسحاق: قدم على المصطفى مقدمه من تبوك كتاب ملوك حمير بإسلامهم, منهم الحارث بن عبد كلال، وكان -صلى الله عليه وسلم- أرسل إليه المهاجر فأسلم، وكتب إلى المصطفى شعرًا يقول:
ودينك دين الحق فيه طهارة ... وأنت بما فيه من الحق آمر
"وبعث جرير" بفتح الجيم "ابن عبد الله" بن جابر بن مالك بن نصر "البجلي" بفتح الموحدة والجيم، نسبة إلى بجيلة بفتح فكسر, بنت صعب بن سعد العشيرة، تنسب إليها القبيلة، الصحابي الشهير، القائل: ما حجبني -صلى الله عليه وسلم- منذ أسلمت، ولا رآني إلا تبسَّم. رواه الشيخان، وقال -صلى الله عليه وسلم: "جرير منَّا أهل البيت" رواه الطبراني، المتوفَّى سنة إحدى أو أربع وخمسين، قال عمر: هو يوسف هذه الأمة؛ لأنه كان جميلًا, "إلى ذي الكلاع"، قال المصنف وغيره: بفتح الكاف واللام الخفيفة، فألف فعين مهملة, اسمه: أسميفع، بفتح الهمزة، والميم، والفاء، وسكون السين المهملة والتحتية، وآخره عين مهملة، ويقال: أيفع بن باكور، أو يقال: ابن حوشب، "وذي عمرو" الحميري "يدعوهم"، أي هما وقومهما "إلى الإسلام، فأسلما".
قال الهمداني: وعتق ذو الكلاع لذلك أربعة آلاف، ثم قدم المدينة زمن عمر ومعه أربعة آلاف، فسأله عمر في بيعهم فأعتقهم، فسأله عمر عن ذلك، فقال: إني أذنبت ذنبًا عظيمًا، فعسى أن يكون ذلك كفّارة، وذلك أني تواريت مرة، يعني: قبل إسلامه، ثم أشرفت، فسجد لي مائة ألف.
وروى يعقوب بن شيبة عن الجراح بن منهال قال: كان عند ذي الكلاع اثنا عشر ألف بيت من المسلمين، فبعث إليه عمر، فقال: هؤلاء نستعين بهم على عدو المسلمين، فقال: لا هم أحرار، فأعتقهم كلهم في ساعة واحدة.
قال أبو عمر: لا أعلم له صحبة إلّا أنه أسلم في حياته -صلى الله عليه وسلم, وقدم في زمن عمر، فروى(5/67)
وتوفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وجرير عندهم.
وبعث عمرو بن أمية الضميري إلى مسيلمة الكذاب بكتاب.
وبعث إلى فروة بن عمرو الجذامي -وكان عاملًا لقيصر- فأسلم، وكتب إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- بإسلامه، وبعث إليه بهديه مع مسعود بن سعد، وهي: بغلة شهباء يقال لها فضة، وفرس يقال له الظرب، وحمار يقال له يعفور، وبعث إليه أثوابًا وقباء سندسيًّا مذهَّبًا، فقبل هديته, ووهب لمسعود بن سعد اثنتي عشرة أوقية
__________
عنه، وقُتِلَ بصفين مع معاوية، "وتوفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وجرير عندهم"، ذكره الحاكم وغيره، ورجع جرير بعد الوفاة النبوية إلى المدينة، "وبعث عمرو بن أمية الضميري إلى مسيلمة الكذاب بكتاب" يدعوه فيه إلى الإسلام، فكتب إليه مسيلمة جوابًا لكتابه, يذكر فيه أنه رسول الله مثله، وأنه أشرك مع المصطفى بالنصف في الأرض، وإن قريشًا لا يعدلون، فكتب إليه: "بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب، أما بعد, فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده، والعاقبة للمتقين، بلغني كتابك الكذب والإفك والافتراء على الله، والسلام على من اتبع الهدى"، وبعثه إليه مع السائب أخي الزبير بن العوام. ذكره ابن سعد وغيره، "وبعث إلى فروة بن عمرو" على الأشهر، ويقال: ابن عامر "الجذامي، وكان عاملًا لقيصر" على من يليه من العرب، وكان منزله معان وما حولها من الشام، كما ذكر ابن إسحاق، "فأسلم وكتب إلى النبي -صلى لله عليه وسلم- بإسلامه", ولم ينقل أنه اجتمع به، كما في الإصابة.
قال ابن إسحاق: فبلغ الروم إسلامه، فطلبوه فحبسوه، ثم قتلوه، فقال في ذلك:
أبلغ سراة المسلمين بأنني ... سلم لربي أعظمي وثيابي
"وبعث إليه بهدية مع مسعود بن سعد" الجذامي، أسلم وصحب، "وهي بغلة شهباء، يقال لها فضة" بلفظ أحد النقدين، "وفرس، يقال له الظرب" بالظاء المعجمة؛ لكبره وسمنه، أو لقوته وصلابة حافرة، "وحمار يقال له يعفور" بناء على أنه غير عفير الذي أهداه المقوقس، "وبعث إليه أثوابًا وقباء" بفتح القاف وخفة الموحدة والمد والقصر، قيل: فارسي معرب، وقيل: عربي مشتق من قبوت الشيء إذا ضممت أصاعبك عليه, سمي به لانضمام أطرافه.
وروي عن كعب أن أوَّل من لبسه سليمان، قاله الحافظ وغيره, "سندسيًّا" نسبة إلى السندس، وهو مارق من الديباج، معرَّب اتفاقًا, من نسبة الجزئي إلى كليه؛ لأن البقاء جزء من جزئيات مطلق السندس، فلم يتحد المنسوب والمنسوب إليه "مذهَّبًا، فقبل هديته, ووهب لمسعود بن سعد" رسوله بالهدية، والإسلام "اثنتي عشرة أوقية"، وفي الإصابة عن الواقدي: وأجازه(5/68)
وبعث المصدقين لأخذ الصدقات هلال المحرم سنة تسع:
فبعث عيينة بن حصن الفزاري إلى بني تميم.
وبعث بريدة -ويقال: كعب بن مالك- إلى أسلم وغفار.
وبعث عباد بن بشر إلى سليم ومزينة.
وبعث رافع بن مكيث إلى جهينة.
وبعث عمرو بن العاص إلى فزارة.
وبعث الضحاك بن سفيان إلى بني كلاب.
وبعث بشر.
__________
بخمسمائة درهم، "وبعث المصدقين" بضم الميم وخفة المهملة, السعاة، "لأخذ الصدقات هلال المحرم سنة تسع" كما قال ابن سعد، "فبعث عيينة بن حصن الفزاري إلى بني تميم"، وتقدَّمت القصة في المغازي، "وبعث بريدة" بضم الموحدة مصغَّر, بن الحصيب الأسلمي، "ويقال: كعب بن مالك" الأنصاري "إلى أسلم" بفتح فسكون، قبيلة من الأزد, "وغفار" بكسر المعجمة وخفة الفاء, قبيلة من كنانة، وسبق إلى الإسلام منهم أبو ذر الغفاري وأخوه أنيس، ورجع أبو ذر إلى قومه، فأسلم الكثير منهم، وفي القبيلتين، فقال -صلى الله عليه وسلم: "أسلم سالمها الله، وغفار غفر الله لها" وفيه من جناس الاشتقاق ما يلذ على السمع لسهولته وانسجامه، وهو من الاتفاقات اللطيفة، وحكي أن بني غفار كانوا يسرقون الحاج في الجاهلية، فدعا لهم النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد أن أسلموا ليمحوا عنهم ذلك العار، "وبعث عباد بن بشر" بكسر الموحدة وسكون المعجمة, الأنصاري "إلى سليم" بالتصغير, قبيلة "ومزينة" بضم الميم وفتح الزاي وسكون التحتانية بعدها نون، وهو اسم امرأة عمرو بن طابخة -بموحدة ومعجمة, ابن إلياس بن مضر، وهي مزينة بنت كلب بن وبرة، وهي أم أوس وعثمان ابني عمرو, فولد هذين، يقال لهم مزينة والمزنيون، ومن قدماء الصحابة, منهم: عبد الله بن مغفل وعمه خزاعي، وإياس بن هلال وابنه قرة وآخرون، كما في الفتح، "وبعث رافع بن مكيث" بميم وكاف.
قال في الإصابة: بوزن عظيم وآخره مثلثة, الجهني, شهد بيعة الرضوان، وكان أحد من يحمل ألوية جهينة يوم الفتح، وشهد الجابية مع عمر "إلى" قومه "جهينة" بالتصغير، قبيلة من قضاعة، من مشهوري الصحابة، منهم عقبة بن عامر الجهني وغيره، "وبعث عمرو بن العاص إلى فزارة" بفتح الفاء والزاي ثم راء, قبيلة من قيس عيان، "وبعث الضحَّاك بن سفيان" الكلابي "إلى" قومه "بني كلاب, وبعث بشر"، قال في الإصابة: ضبطه ابن ماكولا وغيره بضم الموحدة،(5/69)
ابن سفيان الكعبي -ويقال: النحام العدوي- إلى بني كعب.
وبعث عبد الله بن اللتبية إلى ذبيان.
وبعث رجلًا من سعد هذيم إلى قومه.
__________
وسكون السين المهملة "ابن سفيان" الخزاعي الكعبي" نسبة إلى كعب بن عمرو, بطن من خزاعة.
قال أبو عمر: أسلم سنة ست وشهد الحديبية، "ويقال: النحام" بفح النون وشد الحاء المهملة، قال ابن ماكولا: كذا يقوله أصحاب الحديث.
وقال ابن الكلبي: هو -بضم النون وخفة الحاء، واسمه كما قال البخاري وغيره: نعيم بن عبد الله القرشي "العدوي"، قديم الإسلام بعد عشرة أنفس، ويقال: بعد ثمانية وثلاثين، لقب بالنحام لقوله -صلى الله عليه وسلم: "دخلت الجنة فسمعت نحمة من نعيم فيها"، والنحمة السعلة، قال في التبصير ونحوه في الإصابة، واسمه في الأصل: صالح.
ذكره ابن أبي حاتم "إلى بني كعب, وبعث عبد الله بن اللتبية" قال في التبصير بضم اللام وفتحها معًا، ثم فوقية مفتوحة ثم موحدة مكسورة ثم ياء مشددة, الأزديّ, له صحبة وقصة, وفي الكواكب -بضم اللام، وسكون الفوقية أو فتحها وكسر الموحدة وشد التحتية، وقيل: بضم الهمزة بدل اللام، فهي أربعة أوجه، والأصحّ أنه باللام وسكون الفوقية, نسبة إلى بني لتب، قبيلة معروفة "إلى ذبيان" بضم الذال المعجمة وكسرها.
قال ابن الأعرابي: رأيت الفصحاء يختارون الكسر بعدها موحدة فتحتيه خفيفة, قبيلة من الأزد، "وبعث رجلًا من سعد هذيم" كزبير, أبو قبيلة، وهو ابن زيد، لكن حضنه عبد أسود هذيم، فغلب عليه، كما في القاموس "إلى قومه" هذيم.(5/70)
الفصل السابع: في مؤذنيه وخطبائه وحدائه وشعرائه
أما مؤذنوه فأربعة: اثنان بالمدينة:
بلال بن رباح،
__________
"الفصل السابع: في مؤذنيه وخطبائه": لا محل للجمع في هذا؛ إذ لم يذكر إلّا واحدًا، إلا أن تكون الإضافة في الجميع للجنس الصادق بالواحد، وهو الخطب والمعتد وهم من عداه. "وحداته" جمع حادي, "وشعرائه" الذين ناضلوا عنه وهجوا كفار قريش، "أما مؤذنوه" أي: بيانهم "فأربعة، اثنان بالمدينة: بلال بن رباح" بفتح الراء وخفة الموحدة فألف فمهملة، "وأمه حمامة" بفتح المهملة وخفة الميم, الصحابية، وبها اشتُهر, ذكرها أبو عمر فيمن كان يعذَّب في الله،(5/70)
وأمه حمامة، مولى أبي بكر الصديق، وهو أوّل من أذن لرسول الله -صلى الله عليه وسلم، ولم يؤذن بعده لأحد من الخلفاء، إلّا أنَّ عمر لما قدم الشام حين فتحها أذَّن بلال، فتذكَّر النبي -صلى الله عليه وسلم، قال أسلم -مولى عمر بن الخطاب: فلم أر باكيًا أكثر من يومئذ،
__________
فاشتراها أبو بكر، فأعتقها "مولى أبي بكر الصديق" ولاء عتاقة.
وجاء عن أنس عند الطبراني وغيره أنه حبشي، وهو المشهور, وقيل: نوبيّ. ذكر ابن سعد أنه كان من مولدي السراة، "وهو أوّل من أذَّن لرسول الله -صلى الله عليه وسلم" حين شرع الآذان، ورآه عبد الله بن زيد الأنصاري في المنام، فقال -صلى الله عليه وسلم: "قم مع بلال، فألق عليه ما رأيت، فليؤذن به، فإنه أندى منك صوتًا" , "ولم يؤذن بعده لأحد من الخلفاء, إلّا أنَّ عمر لما قدم الشام حين فتحها، أذَّن بلال"، استثناء متصل، أي لم يوجد منه أذان لأحد إلّا لعمر, أو منقطع، أي: لم يتخذه أحد من الخلفاء مؤذنًا، لكنه أذّن عند عمر بلا اتخاذ، "فتذكَّر النبي -صلى الله عليه وسلم، قال أسلم مولى عمر بن الخطاب" الثقة المخضرم، المتوفَّى سنة ثمانين، وهو ابن أربع عشرة ومائة سنة: "فلم أر باكيًا أكثر من يومئذ"، وفي نسخة: من ذلك اليوم، أي: لم أر إنسانًا يبكي أكثر من بكاء كل واحد يومئذ، أو لم أر قومًا يبكون أكث من الباكين يومئذ؛ لأنَّ باكيًا نكرة في سياق النفي فتعمّ، فلا يراد أن باكيًا مفعول رأى, وأكثر حال إن كانت بصرية، ومفعول ثانٍ إن كان علمية، وعليهما لا يصح وصف الباكي بأنه أكثر من الباكين، ولا يراد أن دلالة العام كلية، أي: محكوم فيها على كل فرد؛ لأن هذه قاعدة أكثرية على أن النظر في نحو هذا إنما هو لمذهب النحاة، أو يقال: إن باكيًا صفة لمتعدد في المعنى، أي: فريقًا باكيًا, على أنه يمكن التخلص من أصل الإيراد بأنه ليس المراد الكثرة في نفس الأفراد التي نشأ الإشكال منها, بأن يقدَّر أن أكثر صفة لموصوف محذوف هو بكاء، أي: لم أر باكيًا بكاءً أكثر من بكاء الباكين يومئذ.
وروى البخاري أن بلالًا قال لأبي بكر: إن كنت إنما اشتريتني لنفسك فأمسكني، وإن كنت إنما اشتريتني لله فدعني وعمل الله.
زاد ابن سعد، قال أبو بكر: أنشدك الله وحقي، فأقام معه حتى توفي، فتوجَّه إلى الشام مجاهدًا بإذن عمر.
وروى ابن عساكر بسند جيد عن بلال، أنه لما نزل بداريا رأى النبي -صلى الله عليه وسلم، وهو يقول: ما هذه الجفوة يا بلال، أما آن لك أن تزورني، فانتبه حزينًا خائفًا، فركب راحلته وقصد المدينة، فأتى قبر النبي -صلى الله عليه وسلم، فجعل يبكي ويمرغ وجهه عليه، فأقبل الحسن والحسين فجعل يضمهما ويقبلهما, فقالا: نتمنَّى، نسمع أذانك الذي كنت تؤذن به لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- في المسجد، فعَلَا سطح المسجد، ووقف موقفه الذي كان يقف فيه، فلمَّا قال: الله أكبر, ارتجت المدينة، فلمَّا(5/71)
وتوفي سنة سبع عشرة، أو ثمان عشرة أو عشرين بداريا بباب كيسان، وله بضع وستون سنة، وقيل: دفن بحلب، وقيل: بدمشق.
وعمرو بن أم مكتوم القرشي الأعمى، وهاجر إلى المدينة قبل النبي -صلى الله عليه وسلم.
وأذَّن له -عليه
__________
قال: أشهد أن لا إله إلا الله، ازدادت رجَّتها، فلمَّا قال: أشهد أن محمدًا رسول الله، خرجت العواتق من خدورهنّ، وقالوا: بُعِثَ رسول الله، فما رؤي يوم أكثر باكيًا ولا باكية بالمدينة بعده -صلى الله عليه وسلم- أكثر من ذلك اليوم، "توفي سنة سبع عشرة أو ثمان عشرة"، بفتح النون، وحذف الياء على قلة، "أو عشرين".
هكذا ساوى بين الأقوال الثلاثة في التقريب، لكن قال: وقيل: سنة عشرين، وصدر في الفتح بالثاني، "بداريا" بفتح الدال والراء والياء الثقيلة, قرية بدمشق "بباب كيسان" بفتح فسكون, محل معروف بها، "وله بضع وستون سنة، وقيل: دفن بحلب"، ذكره ابن منده وردَّه المنذري وقال: الذي دفن بحلب أخوه خالد، "وقيل: بدمشق", وصحَّحه الذهبي فقال: مات على الصحيح بدمشق سنة عشرين، وفي فتح الباري كانت وفاته بدمشق, ودفن بباب الصغير، وبهذا جزم النووي، وقيل: دفن بباب كيسان، وقيل بداريا، وقيل: بحلب.
وردَّه المنذري، وزعم ابن السمعاني أن بلالًا مات بالمدينة وغلَّطوه. انتهى. "وعمرو" على الأكثر، وقيل عبد الله، وقيل: كان اسمه الحصين, فسماه -صلى الله عليه وسلم- عبد الله، قال في الفتح: ولا يمتنع أنه كان له اسمان "ابن أم مكتوم" نُسِبَ لأمّه وهي عاتكة بنت عبد الله المخزومية، وزعم بعضهم أنه ولد أعمى، فكنِّيت أمه به لاكتتام نور بصره، والمعروف أنه عمي بعد بدر بسنتين، كذا وقع في الفتح، وتعقب أن نزول عبس بمكة قبل الهجرة، فلعلَّ أصله بعد البعثة.
وقد روى ابن سعد والبيهقي عن أنس أن جبريل أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- وعنده ابن أم مكتوم، فقال: متى ذهب بصرك، قال: وأنا غلام، ولفظ البيهقي: وأنا صغير، فقال: قال الله -تبارك وتعالى: "إذا ما أخذت كريمة عبدي، لم أجد له بها جزاء إلا الجنة"، والأشهر في اسم أبيه: قيس بن زائدة "القرشي" العامري "الأعمى"، المذكور في سورة عبس، ونزلت فيه غير أولي الضرر، كما في البخاري، وهو ابن خال خديجة أم المؤمنين، أسلم قديمًا بمكة، "وهاجر إلى المدينة قبل النبي -صلى الله عليه وسلم"، وقيل: بعده وبعد بدر بيسير.
قال الواقدي والأول أصح، وكان -صلى الله عليه وسلم- يكرمه، واستخلفه ثلاث عشرة مرة، قاله ابن عبد البر: شهد القادسية في خلافة عمر ومعه اللواء، فاستشهد بها، قاله الزبير بن بكار، وقال الواقدي: بل شهدها ورجع إلى المدينة فمات بها, ولم يسمع له بذكر بعد عمر، "وأذَّن له -عليه(5/72)
الصلاة والسلام- بقباء، سعد بن عائد أو ابن عبد الرحمن, المعروف بسعد القرظ وبالقرظي، مولى عمَّار، بقي إلى ولاية الحجَّاج على الحجاز، وذلك سنة أربع وسبعين.
وبمكة أبو محذورة، واسمه: أوس الجمحي المكي، أبوه: معير -بكسر الميم وسكون وفتح التحتانية, مات بمكة سنة تسع وخمسين، وقيل: تأخَّر بعد ذلك.
__________
الصلاة والسلام- بقباء بعد بن عائد، أو ابن عبد الرحمن, المعروف بسعد القرظ" بالتنوين بلا إضافة صفة له؛ لأنه كان يتَّجِر فيه, حتى كأنه صار جزء علم "وبالقرظي" بفتحتين وظاء معجمة نسبة للقرظ أيضًا, وغلط من ضمها؛ لأنه نسبة إلى بني قريظة، وليس هو منهم، إنما هو "مولى عمَّار" بن ياسر، وقيل: مولى الأنصار.
روى البغوي عن القاسم الحسن بن محمد بن عمرو بن حفص بن عمر بن سعد القرظ, عن آبائه, أن سعدًا شكا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- قلة ذات يده، فأمره بالتجارة، فخرج إلى السوق، فاشترى شيئًا من قرظٍ فباعه، فربح فيه، فذكر ذلك للنبي -صلى الله عليه وسلم، فأمره بلزوم ذلك.
روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم، وعنه ابناه عمّار وعمر، قال أبو عمر: نقله أبو بكر من قباء إلى المسجد النبوي، فأذَّن فيه بعد بلال، وتوارثت عنه بنوه الأذان، قال خليفة: أذَّن لأبي بكر ولعمر بعده.
وروى يونس عن الزهري: أن الذي نقله عن قباء عمر "بقي إلى ولاية الحجاج على الحجاز، وذلك سنة أربع وسبعين"، كما في التقريب وغيره. "وبمكة أبو محذورة واسمه: أوس"، وقيل: سمرة، وقيل: سلمة، وقيل: سلمان، وقيل: معير، وقيل: عبد العزيز.
قال البلاذري: لا يثبت أنه أوس، لكن، قال ابن عبد البر: اتفق الزبير وعمّه وابن إسحاق والسمعي على أن اسمه أوس، وهم أعلم بأنساب قريش، ومن قال اسمه سلمة، فقد أخطأ, "الجمحي" القرشي "المكي أبوه" اسمه "معير -بكسر الميم وسكون العين وفتح التحتانية" هذا هو المشهور، وحكى ابن عبد البر أن بعضهم ضبطه بفتح العين وتشديد التحتانية عدها نون، وقيل: اسمه سمرة، وقيل: محيريز، وقيل: عمر.
روى أبو محذورة عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه علمه الأذان، وقصته في مسلم وغيره، وفي رواية أن تعليمه إياه كان بالجعرانة.
قال ابن الكلبي: ولم يهاجر، بل أقام حتى "مات بمكة سنة تسع وخمسين، وقيل: تأخَّر بعد ذلك" حتى مات سنة تسع وسبعين، كما في الإصابة, وفي الروض: لما سمع أبو محذورة الأذان سنة الفتح، وهو مع فتية من قريش خارج مكة أقبلوا يستهزؤن، ويحكون صوت المؤذن غيظًا،(5/73)
وكان منهم من يرجِّع الأذان ويثنِّي الإقامة، وبلال لا يرجِّع ويفرد الإقامة، فأخذ الشافعي بإقامة بلال، وأهل مكة أخذوا بأذان أبي محذورة وإقامة بلال. وأخذ أبو حنيفة وأهل العراق بأذان بلال وإقامة أبي محذورة، وأخذ أحمد وأهل المدينة بأذان بلال وإقامته، وخالفهم مالك في موضعين: إعادة التكبير وتثنية لفظ الإقامة.
__________
فكان أبو محذورة من أحسنهم صوتًا، فرفع صوته مستهزئًا بالأذان، فسمعه -صلى الله عليه وسلم، فأمر به، فمثل بين يديه وهو يظن أنه مقتول، فمسح -صلى الله عليه وسلم- ناصيته وصدره قال: فامتلأ قلبي نورًا وإيمانًا ويقينًا، وعلمت أنه رسول الله، فألقى عليه الأذان وعلَّمه إياه، وأمره أن يؤذّن لأهل مكة وهو ابن ست عشرة سنة، فكان يؤذنهم حتى مات، ثم عقبه بعده يتوارثون الأذان كابرًا عن كابر، "وكان منهم" أي: بعضهم، وهي فائدة الاستطرادية، أو نشأت عن سؤال هو معلوم اختلاف المذاهب في الأذان والإقامة، فما كان يفعله مؤذنوا المصطفى الذين ذكرتهم، فأجاب بأنه كان منهم "من يرجِّع الأذان، ويثنِّي الإقامة"، وهو أبو محذورة، "وبلال لا يرجِّع، ويفرد الإقامة"، أي: كلماتها إلا لفظ ق قامت الصلاة, بدليل قوله: "فأخذ الشافعي بإقامة بلال"؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- سمعه وأقرَّه, فليس استدلالًا بفعل الصحابي, والشافعي لا يقول به لا بأذانه بل بأذان أبي محذورة، "وأهل مكة أخذوا بأذان أبي محذورة" وهو ترجيع الأذان وتثنية الإقامة، "وإقامة بلال"، وهذا تطويل بلا طائل، فلو قال: وأخذ الشافعي وأهل مكة بأذان أبي محذورة، وإقامة بلال لدفع ما يوهمه لفظه، "وأخذ أبو حنيفة وأهل العراق بأذان بلال وإقامة أبي محذورة"، فقالوا: بترجيع الأذان وتثنية الإقامة، "وأخذ أحمد وأهل المدينة بأذان بلال وإقامته، وخالفهم مالك في موضعين: إعادة التكبير"، أي: تربيعه، فقال: بعدمها "وتثنية لفظ الإقامة"، فقال بإفرادها عملًا بقوله -صلى الله عليه وسلم: "الأذان والإقامة واحدة"، رواه ابن حبان.
وروى الدارقطني وحسَّنه في حديث لأبي محذورة، وأمر أن يقيم واحدة واحدة، ثم المصنف في عهدة أنه خالف أهل المدينة، كما زعمه كابن القيم، فمالك بعملهم أدرى، ونصب الجدل يطول، وقد علم مما قررته أن إعادة بدل من موضعين بيان للمفعول في خالفهم، فهو بيان للمخالف اسم مفعول لا اسم فاعل، لأن الأولى بالذكر من القولين ما نسب لمن خالفه من جعل فاعلًا، وترك المصنف ممن أذن زياد بن الحارث الصدائي -بضم المهملة- أذن مرة، فقال -صلى الله عليه وسلم: "من أذن فهو يقيم"، أخرجه أحمد وأصحاب السنن؛ لأنه لم يتكرر, ونظم الخمسة البرماوي، فقال:
لخير الورى خمس من الغر أذَّنوا ... بلال ندي الصوت بدأ يعين
وعمر والذي أم لمكتوم أمه ... وبالقرظ أذكر سعدهم إذ يبين(5/74)
وأما شعراؤه -عليه الصلاة والسلام- الذين يذبّون عن الإسلام: فكعب بن مالك.
وعبد الله بن رواحة الخزرجي الأنصاري.
__________
وأوس أبو محذورة وبمكة ... زياد الصدائي نجل حارس يعلن
وعبد العزيز بن الأصم، ذكره أبو نعيم في الصحابة في بعض النسخ، وروى الحارث بن أبي أسامة عن ابن عمر: كان للنبي -صلى الله عليه وسلم- مؤذنان: أحدهما بلال، والآخر عبد العزيز بن الأصم. قال في الإصابة: وهو غريب جدًّا، وفيه موسى بن عبيدة ضعيف، ثم ظهرت لي علته، وهو أن أبا قرة موسى بن طارق أخرج مثله، وزاد: وكان بلال يؤذن بليل يقوظ النائم، وكان ابن أم مكتوم يتوخَّى الفجر، فلا يخطئه. فظهر من هذه الرواية أن عبد العزيز اسم ابن أم مكتوم، والمشهور في اسمه عمرو، وقيل عبد الله بن قيس بن زائدة ابن الأصم، فالأصم اسم جد أبيه, نسب إليه في هذه الرواية. انتهى، "وأما شعراؤه -عليه الصلاة والسلام- الذين يذبّون" بضم الذال، يدفعون "عن الإسلام"، ويحمون, لا الذين مدحوه بالشعر من رجال الصحابة ونساهم، فإن اليعمري جمعهم في مؤلف، فقارب بهم مائتين، "فكعب بن مالك" الأنصاري السلمي -بفتحتين, شهد العقبة، وبايع بها، وتخلّف عن بدر، وشهد أحدًا وما بعدها، وتخلّف عن تبوك، وهو أحد الثلاثة الذين تيبت عليهم, قال ابن سيرين: له بيتان كانا سبب إسلام دوس:
قضينا من تهامة كلب وبر ... وخيبر ثم أغمدنا السيوفا
تخبرنا ولو نطقت لقالت ... قواطعن دوسًا أو ثقيفًا
فلمَّا بلغ ذلك دوسًا، قالوا: خذوا لأنفسكم لا ينزل بكم ما نزل بثقيف. مات في خلافة علي، وقيل معاوية.
روى أحمد عن كعب المذكور، قال: قال لنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "اهجوا المشركين بالشعر، فإن المؤمن يجاهد بنفسه وماله، والذي نفس محمد بيده، كأنما ينضحونهما بالنبل" , "وعبد الله بن رواحة الخزرجي الأنصاري"، أحد النقباء ليلة العقبة، وشهد بدرًا وما بعدها, إلى أن استشهد في مؤتة, ومناقبه كثيرة.
قال المرزباني في معجم الشعراء: كان عظيم القدر في الجاهلية والإسلام، وكان يناقض قيس بن الحطيم في حروبهم، ومن أحسن ما مدح به النبي -صلى الله عليه وسلم- قوله:
لو لم يكن فيه آيات مبينة
... كانت بديهته تنبيك بالخبر
وأخرج ابن سعد، وابن عساكر عن عروة، لما نزلت {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} ، قال ابن رواحة: قد علم الله أني منهم، فأنزل الله: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} الآية.(5/75)
وحسان بن ثابت بن المنذر بن عمرو بن حرام الأنصاري، دعا له -عليه الصلاة والسلام- فقال: "اللهم أيده بروح القدس"، فيقال: أعانه جبريل بسبعين بيتًا، وفي الحديث: "إن جبريل مع حسان ما نافح عني"، وهو بالحاء المهملة, أي: دافع، والمراد هجاء المشركين ومجاوبتهم على أشعارهم.
__________
وعند ابن عساكر عن هشام بن حسان أن عبد الله لما قال للمصطفى:
فثبت الله ما آتاك من حصن ... كالمرسلين ونصرًا كالذي نصروا
قال له -صلى الله عليه وسلم: "وإياك يا سيد الشعراء"، "وحسان بن ثابت بن المنذر بن عمرو بن حرام" بالمهملتين، "الأنصاري" الخزرجي، وأمه الفريعة -بالفاء والعين المهملة, مصغر, بنت خالد, خزرجية أيضًا, أسلمت وبايعت, وإليها كان ينسب، فيقال: قال ابن الفريعة: ونسب هو نفسه إليها في قوله:
أمسى الحلائب قد عزوا وقد كثروا ... وابن الفريعة أضحى بيضة البلد
"دعا له -عليه الصلاة والسلام- فقال كما في الصحيحين عن سعيد بن المسيب، قال: مر عمر بحسان في المسجد وهو ينشد، فلحظ إليه، فقال: كنت أنشد، وفيه من هو خير منك، ثم التفت إلى أبي هريرة، فقال: أنشدك الله, أسمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "أجب عني"، "اللهم أيده"، أي: قوّه "بروح القدس".
قال أبو هريرة: نعم، والمراد: جبريل؛ لحديث الشيخين عن البراء أنه -صلى الله عليه وسلم- قال لحسان: "اهجم، أو هاجهم وجبريل معك" , "فيقال: أعانه جبريل بسبعين بيتًا" كما أخرجه ابن عساكر، وأبو الفرج الأصبهاني في الأغاني عن بريدة، قال: أعان جبريل حسان بن ثابت عن مدحه النبي -صلى الله عليه وسلم- بسبعين بيتًا، "وفي الحديث: "إن جبريل مع حسان ما" مصدرية "نافح عني"، وفي مسلم عن عائشة, سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول لحسان: "إن روح القدس لا يزال يؤيدك ما نافحت عن الله ورسوله"، قالت: وسمعته يقول: "هجاهم حسان فشفى وأشفى" وهو بالحاء المهملة" قبلها فاء، "أي: دافع، والمراد" بذلك "هجاء المشركين ومجاوبتهم" بجيم ثم واو فموحدة "على أشعارهم" التي كانوا يلمزون بها الإسلام وأهله، كقوله يوم بدر مجيبًا لابن الزبعري المسلم في الفتح, لما رثى أصحاب القليب بأبيات، فقال حسان:
ابك بكت عيناك ثم تبادرت ... بدم تعل عروقها بسجام
وإذا بكيت به الذين تبايعوا ... هلا ذكرت مكارم الأقوام
وذكرت منا ماجدًا ذا همة ... سمح الخلائق صادق الأقدام
فلمثله ولمثل ما يدعو له ... كان الممدح ثم غير كهام
ومجاوباته لهم كثيرة، فكم يقول ابن إسحاق في السيرة، قال فلان من الكفار: كذا، فأجابه(5/76)
وعاش مائة وعشرين سنة، ستين في الجاهلية وستين في الإسلام، وكذا عاش أبوه ثابت، وجده المنذر، وجد أبيه حرام، كل واحد منهم عاش مائة وعشرين سنة، وتوفي حسان سنة أربع وخمسين.
ولما جاءه -عليه الصلاة والسلام- بنو تميم، وشارعهم الأقرع بن حابس، فنادوه يا محمد اخرج إلينا نفاخرك ونشاعرك، فإن مدحنا زين وذمنا شين.
__________
حسان بكذا.
وفي نسخة ومحاربتهم بمهملة, أي: مغالبتهم ومدافعتهم بالشعر, سماه حربًا مجازًا.
وقد روى أبو داود عن عائشة: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يضع لحسان المنبر في المسجد يقوم عليه قائمًا، يهجو الذين كانوا يهجونه -صلى الله عليه وسلم، فقال -صلى الله عليه وسلم: "إن روح القدس مع حسان ما دام ينافح عن رسول الله".
وروى أبو نعيم، وابن عساكر عن عروة: أن حسان ذكر عند عائشة، فقالت: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "ذاك حاجز بيننا وبين المنافقين, لا يحبه إلا مؤمن، ولا يبغضه إلا منافق" , وعاش مائة وعشرين سنة: ستين في الجاهلية وستين في الإسلام" كما قاله ابن سعد، "وكذا عاش أبوه ثابت، وجده المنذر، وجد أبيه" بواسطة "حرام, كل واحد منهم عاش مائة وعشرين سنة"، إيضاح لما أفاده التشبيه, لا بقيد الجاهلية والإسلام، فإنها كلها في الجاهلية، كما هو بَيِّن، ثم المصنف في عهده أن حرام عاش كذلك، ولعل أصله وجد أبيه عمرو بن حرام، فالذي قاله ابن منده وابن سعد: وكذلك عاش أبوه وجده وأبو جده, لا يعرف في العرب أربعة تناسلوا من صلب واحد اتفقت مدة تعميرهم مائة وعشرين سنة غيرهم، قال في ريح النسرين: ويشبه هذا أن لسانه كان يصل لجبهته ونحره، وكذا كان أبوه وجده وابنه عبد الرحمن، قال أبو عبيدة: فضل حسان الشعراء بثلاث، كان شاعر الأنصار في الجاهلية، وشاعر المصطفى في أيام النبوة، وشاعر اليمن كلها في الإسلام، "وتوفي حسان سنة أربع وخمسين" قال في الإصابة: وذكر ابن إسحاق أنه سأل سعيد بن عبد الرحمن بن حسان، فقال: قدم -صلى الله عليه وسلم- المدينة، ولحسان ستون سنة، فعلى هذا يلزم من قال: مات سنة أربع وخمسين أنه بلغ مائة وأربع عشرة، أو سنة خمسين مائة وعشرة، أو سنة أربعين مائة أو دونها، والجمهور أنه عاش مائة وعشرين، قيل مائة وأربع سنين، جزم به ابن أبي خيثمة عن المدائني، "ولما جاءه -عليه الصلاة والسلام" سنع تسع "بنو تميم"، وكانوا سبعين فيما قيل، "وشاعرهم الأقرع بن حابس" الصحابي الشهير، "فنادوه" من وراء الحجرات، "يا محمد, اخرج إلينا نفاخرك ونشاعرك، فإن مدحنا زين, وذمَّنا شين"، وعند ابن إسحاق، فآذى(5/77)
فلم يزد -عليه الصلاة والسلام- على أن قال: "ذلك الله, إذا مدح زان, وإذا ذمَّ شان، إني لم أبعث بالشعر، ولم أؤمر بالفخر، ولكن هاتوا"، فأمر -عليه الصلاة والسلام- ثابت بن قيس أن يجيب خطيبهم فخطب فغلبهم، فقام الأقرع بن حابس شاعرهم وقال:
أتيناك كيما يعرف الناس فضلنا ... إذا خالفونا عند ذكر
__________
ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من صياحهم، وخرج إليهم، "فلم يزد -عليه الصلاة والسلام- على أن قال ذلك" الموصوف بما قلتموه، "الله إذا مدح زان" من مدحه، "وإذا ذمَّ شأن" من ذمه، وصلى -صلى الله عليه وسلم- الظهر، ثم جلس في صحن المسجد، وقال: "إني لم أبعث بالشعر، ولم أؤمر بالفخر، ولكن هاتوا"، وعند ابن إسحاق، فقالوا: ائذن لخطيبنا وشاعرنا، فقال: "أذنت لخطيبكم فليقل"، فقام عطارد بن حاجب، فقال: الحمد لله الذي له علينا الفضل، وهو أهله، الذي جعلنا ملوكًا، ووهب لنا أموالًا عظامًا, نفعل فيها المعروف، وجعلنا أعز أهل المشرق، وأكثره عددًا وعدة، فمن مثلنا في الناس؟ ألسنا برءوس الناس وأولي فضلهم؟ فمن فاخرنا فليعدد مثل ما عددنا، وإنا لو شئنا لأكثرنا الكلام، ولكن نستحي من الإكثار فيما أعطانا وإنا نعرف بذلك، أقول هذا، لأن تأتوا بمثل قولنا وأمر أفضل من أمرنا، ثم جلس، "فأمر -عليه الصلاة والسلام" خطيبه "ثابت بن قيس أن يجيب خطيبهم" عطارد بن حاجب، كما رأيت، وتجويز أنه الأقرع من عدم الاطلاع، وخطيب القوم لغة من يتكلّم عنهم، "فخطب فغلبهم"، وعن ابن إسحاق، فقال -صلى الله عليه وسلم- لثابت: "قم فأجب الرجل في خطبته"، فقام، فقال: الحمد الله الذي السماوات والأرض خلقه، قضى فيهنّ أمره، ووسّع كرسه علمه، ولم يكن شيء قط إلّا من فضله، ثم كان من قدرته أن جعلنا ملوكًا، واصطفى خير خلقه رسولًا، أكرمه نسبًا، وأصدقه حديثًا، وأفضله حسبًا، وأنزل عليه كتابًا, وائتمنه على خلقه، فكان خيرة الله في العالمين، ثم دعا الناس إلى الإيمان به، فآمن برسول الله -صلى الله عليه وسلم- المهاجرون من قومه، وذوي رحمه أكرم الناس أحسابًا، وأحسن الناس وجوهًا، وخير الناس فعالًا، ثم كنَّا أول الخلق إجابة واستجابة لله حين دعانا رسول الله، ووزراء رسول الله، نقاتل الناس حتى يؤمنوا بالله ورسوله، منع ماله ودمه ومن فكر جاهدناه في الله، وكان قتله علينا يسيرًا، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي وللمؤمنين والمؤمنات، والسلام عليكم.
"فقام الأقرع بن حابس شاعرهم، فقال" الذي ذكره ابن هشام عن بعض علماء الشعر، فقام الزبرقان بن بدر، فقال: "أتيناك كما يعرف"، وفي لفظ يعلم، وما زائده "الناس فضلنا، إذا خالفونا" أي: جاءوا بعدنا، وفي نسخة إذا خالفونا، والظاهر الأولى لإفادتها أن قصدهم معرفة فضلهم لمن يخلفهم إذا بلغهم ما فاخروا به، أما معرفة فضلهم لمعارضهم، فهي عندهم لا تخفى(5/78)
........................... ... ..................... المكارم
وأنا رءوس الناس في كل معشر ... وأن ليس في أرض الحجاز كدار
فأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- حسانًا يجيبهم, فقام فقال:
بني دارم ل تفخروا إن فخركم ... يعود وبالًا عند ذكر المكارم
هبلتم علينا تفخروه وأنتم ... لنا خول ما بين قن وخادم
__________
"عند ذكر المكارم" ظرف ليعرف.
وفي رواية: إذا اختلفوا عند احتضار المواسم، "و" يعرفون "أنا" بفتح الهمزة "رءوس الناس" عظماؤهم وأشرافهم, شبه الواحد منهم بالرأس مجازًا؛ لأنه أشرف ما فيه لموته بإزالته، أو المراد أصولهم، وفي المصباح: رأس المال أصله, "في كل معشر" طائفة، وفي لفظ: في كل موطن، "وأن ليس في أرض الحجاز كدارم" بكسر الراء, بطن من تميم, وبعد هذين عند ابن هشام:
وأنا نذود المعلمين إذا انتحوا ... ونضرب رأس إلّا صيدًا المتفاقم
وأنا لنا المرباع في كل غارة ... نغير بنجد أو بأرض الأعاجم
"فأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- حسانًا" بالصرف على أنه من الحسن، ومنعه على أنه من الحسن، كذا جوَّزه الجوهري وغيره، قال ابن مالك: والمسموع فيه منع الصرف "يجيبهم، فقال قال":
هل المجد إلا السود والعود والندى ... وجاه الملوك واحتمال العظائم
نصرنا وآوينا النبي محمدًا ... على أنف راض من معد وراغم
زكي جريد أصله وثراؤه ... بجابية الجولان وسط الأعاجم
نصرناه لما حلَّ وسط ديارنا ... بأسيافنا من كل باغٍ وظالم
جعلناه بنينا دونه وبناتنا ... وطبنا له نفسًا بفيء المغانم
ونحن ضربنا الناس حتى تتابعوا ... على دينه بالمرهقات الصوارم
ونحن ولدنا في قريش عظيمها ... ولدنا نبي الخير من آل هاشم
بني دارم لا تفخروا إن فخركم ... يعود وبالًا عند ذكر المحارم
هبلتم علينا تفخرون وأنتم ... لنا خول ما بين قن وخادم
فإن كنتم جئتم لحقن دمائكم ... وأموالكم أن تقسموا في المقاسم
فلا تجعلوا لله ندًّا وأسلموا ... ولا تلبسوا زيًّا كزي الأعاجم
هكذا أنشدنا كلها ابن هشام في السيرة، وهبلتم، أي: تعاظمتم علينا حال كونكم تفخرون، والحال أنكم خول لنا دائرين بين قن وخادم، في القاموس، هبلته أمه كفرح: ثكلته، لكنه لا يظهر(5/79)
..........................................................................
__________
هنا لنسبة الفعل إلى المخاطبين، ولم يجعلوهم مفعولين، فلم يقل: هبلناكم إلّا أن يكون استعير لذلك، أي ثكلتم، ثم استأنف استفهامًا إنكاريًّا، فقال: تفخرون بحذف أداة الاستفهام، فعلينا متعلق بالفعل بعده، غير أن هذا بعيدًا، ولذا لم يذكره شيخنا، وإن قرَّره، وتفسيره بأقبلتم، وإن ظهر معناه، لكن لا تساعد عليه اللغة، وعند ابن إسحاق، فقام الزبرقان بن بدر، فقال:
نحن الكرام فلا حي يعادلنا ... منا الملوك وفينا تنصيب البيع
وكم قسرنا من الأحياء كلهم ... عند النهاب وفضل الغر يتبع
ونحن نطعم عند القحط مطعمنا ... من الشواء إذا لم يؤنس الفزع
فما ترى الناس تأتينا سراتهم ... من كل أرض هويًا ثم نصطنع
فننحر الكوم عبطًا في أرومتنا ... للنازلين إذا ما أنزلوا شبعوا
فلا ترانا إلى حي نفاخرهم ... إلّا استكانوا وكاد الرأس يقتطع
فمن يفاخرنا في ذاك نعرفه ... فيرجع القوم والأخبار تستمع
إنا أبينا ولم يأبى لنا أحد ... إنا كذلك عند الفخر نرتفع
وكان حسان غائبًا، فبعث إليه -صلى الله عليه وسلم، فقال: "قم فأجبه"، فقام, فقال:
إن الذوائب من فهر وإخوته ... قد بينوا سنة للناس تتبع
يرضى بها كل من كانت سريرته ... تقوى الإله وكل الخير يصطنع
قوم إذا حاربوا ضروا عدوهم ... أو حاولوا النفع في أشياعهم نفعوا
سجية تلك منهم غير محدثة ... إن الخلائق فاعلم شرها البدع
إن كان في الناس سباقون بعدهم ... فكل سبق لأدنى سبقهم تبع
لا يرفع الناس ما أوهت أكفهم ... عند الدفاع ولا يوهون ما رفعوا
إن سابقوا الناس يوما فاز سبقهم ... أو وازنوا أهل مجد بالندى فنعوا
أعفة ذكرت في الوحي عفتهم ... لا يطمعون ولا يرديهم طمع
لا يبخلون على جار بفضلهم ... ولا يمسسهم من مطمع طبع
إذا نصبنا لحي لم ندب لهم ... كما يدب إلى الوحشية الذرع
نسمو إذا الحرب نالتنا مخالبها ... إذا الزعانف من أظفارها خشعوا
لا يفخرون إذا نالوا عدوهم ... وإن أصيبوا فلا خور ولا هلع
كأنهم في الوعي والموت مكتنع ... أسد بجلبة في أرساغها فدع
خذ منهم ما أتى عفوًا إذا غضبوا ... ولا يكن همك الأمر الذي منعوا(5/80)
وكان أوّل من أسلم شاعرهم.
وكان أشد شعرائه -عليه الصلاة والسلام- على الكفار حسان وكعب.
ولما رجع -عليه الصلاة والسلام- من تبوك, وفد عليه همدان، وعليهم مقطعات الحبرات والعمائم العدنية، جعل مالك النمط يرتجز بين يديه
__________
فإنَّ في حربهم فاترك عداوتهم ... شرًّا يخاض عليه السم والسلع
أكرم بقوم رسول الله شيعتهم ... إذا تفاوتت الأهواء والشيع
أهدى لهم مدحتي قلب يوازره ... فيما أحب لسان حائك صنع
فإنهم أفضل الأحياء كلهم ... إن جد بالناس جد القول، أو سمعوا
قال: فقال الأقرع بن حابس، وأبى أن هذا الرجل المؤتى له لخطيبه أخطب من خطيبنا، ولشاعره أشعر من شاعرنا، ولأصواتهم أعلى من أصواتنا، فلمَّا فرغ القوم أسلموا، "وكان أوَّل من أسلم شاعرهم" الزبرقان بن بدر، لا الأقرع بن حابس، فإنه وفد قبلهم، وأسلم وشهد الفتح وحنينًا والطائف، وكان من المؤلَّفة، وحسن إسلامه، ولما حضر وفد قومه بني تميم كان معهم، كما ذكره بن إسحاق، قال: وجوزهم -صلى الله عليه وسلم، فأحسن جوائزهم، "وكان أشد شعرائه -عليه الصلاة والسلام- على الكفار حسَّان"؛ لأنه كان يقبل بالهجو على أنسابهم فيألمون، ويزيّف آراءهم، ويلزمهم الحجة التي لا يستطيعون لها ردًّا.
"وكعب" بن مالك كان كثير المناقضة، ويخوّفهم بالحرب، وابن رواحة يعيرِّهم بالكفر، وكانوا لا يبالوا بأهاجيه، فلمَّا أسلم من أسلم منهم وجدوا أهاجيه أشد وأشق، وفي مسلم عن عائشة، قال -صلى الله عليه وسلم: "اهجوا المشركين، فإنه أشد عليهم من رشق النبل"، فأرسل إلى ابن رواحة، فقال: "اهجهم"، فهجاهم، فلم يرض، فأرسل إلى كعب بن مالك، ثم أرسل إلى حسان، فقال: "قد آن لكم أن ترسلوا إلى هذا الأسد الضارب بذنبه"، ثم أدلع لسانه، فجعل يحركه، ثم قال: والذي بعثك بالحق لأفرينّهم بلساني فري الأديم، فقال -صلى الله عليه وسلم: "لا تعجل، فإن أبا بكر أعلم قريش بأنسابهم، وإن لي فيهم نسبًا حتى يلخّص لك نسبي"، فأتاه حسان ثم رجع، فقال: يا رسول الله، لقد لخص لي نسبك، والذي بعثك بالحق نبيًّا لأسلنك، كما تسلّ الشعرة من العجين. الحديث، "ولما رجع -عليه الصلاة والسلام- من تبوك وفد عليه" من جملة الوفود سنة تسع "همدان" بفتح فسكون، "وعليهم مقطعات" ثياب قصار؛ لأنها قطعت عن لوث القمام، أو كلّ ما يفصّل ويخيط من قميص وغيره، كما في النهاية, "الحبرات" بكسر المهملة وفتح الموحدة, جمع حبرة, برود تصنع باليمن، "والعمائم العدنية" بفتحتين، نسبة إلى مدينة باليمن معروفة "جعل مالك النمط"، كذا في النسخ، وصوابه: ابن النمط بن قيس الهمداني، الصحابي "يرتجز بين يديه(5/81)
عليه الصلاة والسلام.
وكان خطيبه -عليه الصلاة والسلام- ثابت بن قيس بن شمّاس -بمعجمة وميم مشددة وآخره مهملة- وهو خزرجي، شهد له النبي -صلى الله عليه وسلم- بالجنة، وكان خطيبه وخطيب الأنصار، واستشهد يوم اليمامة سنة اثنتي عشرة.
وكان يحدو بين يديه -عليه الصلاة والسلام- في السفر عبد الله بن رواحة، وفي رواية الترمذي في الشمائيل عن أنس أنه -عليه الصلاة والسلام- دخل مكة في عمرة القضية, وابن رواحة يمشي بين يديه ويقول:
خلوا بني الكفار عن سبيله ... اليوم نضربكم............
__________
عليه الصلاة والسلام" يقول:
إليك جاوزن سواد الريف ... في هبوات الصيف والخريف
مخطمات بخطام الليف
كما عند ابن هشام وتأتي القصة إن شاء الله تعالى، وكان المصنف أراد بذكر هذه القطعة في الشعراء تجويز عد مالك بن النمط من شعراء المصطفى، ولا يخفى ما فيه، فغاية ما ذكره أنه مادح، لا من الذابين الذين الكلام فيهم.
"وكان خطيبه -عليه الصلاة والسلام- ثابت بن قيس بن شمّاش بمعجمة" مفتوحة "وميم مشددة، وآخره مهملة، وهو خزرجي، شهد له النبي -صلى الله عليه وسلم، بالجنة" في قصة شهيرة، رواها موسى بن أنس عن أبيه.
أخرج أصل الحديث مسلم، "وكان خطيبه وخطيب الأنصار" روى ابن السكن عن أنس، قال: خطب ثابت بن قيس مقدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المدينة، فقال: نمنَّعك مما نمنع منه أنفسنا، وأولادنا، فما لنا، قال: "الجنة"، قال: رضينا، "واستشهد يوم اليمامة سنة اثنتي عشرة"، ونفذت وصيته بمنام، كما تقدَّم في الكتاب، ولا يعلم من أجيزت وصيته بعد موته غيره، "وكان يحدو بين يديه -عليه الصلاة والسلام- في السفر عبد الله بن رواحة"، الأمير المستشهد بمؤتة، أي: يقول الحداء -بضم المهملة، وهو الغناء للإبل.
"وفي رواية الترمذي في الشمائل"، ولا داعية للتقييد، فكذا في سننه "عن أنس" بن مالك "أنه -عليه الصلاة والسلام والسلام- دخل مكة في عمرة القضية, وابن رواحة يمشي بين يديه، ويقول: خلو" تنحوا يا "بني الكفار عن سبيله" طريقه "اليوم نضربكم" بسكون الباء تخفيف، كقراءة أبي عمر، وإن الله يأمركم وقوله:
اليوم أشرب غير مستحقب(5/82)
....................... ... ............. على تنزيله
ضربًا يزيل الهام عن مقيله ... ويذهل الخليل عن خليله
وقد تقدَّم مزيد لهذا في عمرة القضية والله أعلم.
وعامر بن الأكوع -بفتح الهمزة وسكون الكاف وفتح الواو وبالعين المهملة- وهو عمّ سلمة بن الأكوع، واستشهد يوم خيبر، ومرَّت قصته في غزوتها.
وأنجشة: العبد الأسود -وهو بفتح الهمزة وسكون النون وفتح الجيم وبالشين المعجمة, وكان حسن الحداء. قال أنس: كان البراء بن مالك.
__________
"على تنزيله"، أي: النبي مكة إن عارضتم، ولا نرجع كما رجعنا عام الحديبية، أو على تنزيل القرآن، وإن لم يتقدّم؛ كقوله: {حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} , "ضربًا يزيل الهام" جمع هامة بالتخفيف: الرأس, "عن مقيله" أي: محل نومه وقت القائلة, كناية عن محل الراحة؛ إذ النوم أعظمها، ويذهل الخليل عن خليله"، لكونه يهلك أحدهما، فيذهب الهالك عن الحي، وعكسه، وبقية الحديث: فقال عمر: يا ابن رواحة, بين يدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم، وفي حرم الله تقول الشعر، فقال -صلى الله عليه وسلم: "خلّ عنه يا عمر، فلهي فيهم أسرع من نضح النبل"، "وقد تقدَّم مزيد لهذا في عمرة القضية، والله أعلم". وفي رواية: أنه لما أنكر عمر علي، قال -صلى الله عليه وسلم: "يا عمر إني أسمع، فاسكت يا عمر".
"وعامر بن الأكوع"، كان يحدو بين يديه, "بفتح الهمزة، وسكون الكاف، وفتح الواو، وبالعين المهملة" لقبه، واسم الأكوع: سنان بن عبد الله الأسلمي، الجاهد، والمجاهد بالنص النبوي "وهو عم سلمة" ابن عمرو "بن الأكوع"، كما عند ابن إسحاق وغيره، ووقع في رواية لمسلم أنه أخوه، قال في الإصابة: فيمكن التوفيق بأن يكون أخان على ما كانت الجاهلية تفعله، أو من الرضاعة، ففي رواية أخرى عند مسلم نفسه أنه عمّه، "واستشهد يوم خيبر" بعد أن قاتل بها قتالًا شديدًا، "ومرت قصته في غزوتها"، ومن جملتها حداؤه بقوله: "اللهم لولا أنت ما اهتدينا" إلى آخره، "وأنجشة: العبد الأسود"، كما في الصحيح، وقال البلاذري: كان حبشيًّا يكنَّى أبا مارية، "وهو بفتح الهمزة، وسكون النون، وفتح الجيم، وبالشين المعجمة، وكان حسن الحداء"، وفي الصحيح عن أنس: كان حسن الصوت.
"قال أنس" في الصحيحين: "كان البراء بن مالك" الأنصاري أخو أنس لأبيه، وقيل: شقيقه, شهد المشاهد إلا بدرًا، قال -صلى الله عليه وسلم: "رب أشعث أغبر، لا يؤبه له, لو أقسم على الله لأبره, منهم البراء بن مالك"، قال أنس: فلمَّا كان يوم تستر من بلاد فارس انكشف الناس، فقال المسلمون: يا(5/83)
يحدو بالرجال وأنجشة بالنساء، وقد كان يحدو وينشد القريض والرجز، فقال -عليه الصلاة والسلام -كما في رواية للبراء بن مالك: "عبد رويدك رفقًا بالقوارير" أي: النساء.
فشبههن بالقوارير من الزجاج؛ لأنه يسرع إليها الكسر، فلم يأمن -عليه الصلاة والسلام- أن يصيبهنَّ أو يقع في قلوبهنَّ حداؤه, فأمره بالكف عن ذلك. وفي المثل: الغناء رقية الزنا. وقيل: أراد أن الإبل إذا سمعت الحداء أسرعت في المشي واشتدت فأزعجت الراكب وأتعبته، فنهاه عن ذلك؛ لأن النساء يضعفن عن شدة الحركة.
__________
براء, أقسم على ربك, فقال: أقسم عليك يا رب لما منحتنا أكتافهم، وألحقتني بنبيك، فحمل وحمل الناس معه، فقتل هرمزان من عظماء الفرس، وأخذ سلبة، فانهزم الفرس، وقُتِلَ البراء. رواه الترمذي والحاكم، وذلك في خلافة عمر سنة عشرين، وقيل: قبلها، وقيل: سنة ثلاث وعشرين, "يحدو بالرجال"، وكان حسن الصوت، كما قاله أنس في المستدرك، "وأنجشة بالنساء".
زاد الطيالسي: فإذا اعتقب الإبل، قال -صلى الله عليه وسلم: "يا أنجشة رويدك سوقك بالقوارير"، وقد كان" أنجشة "يحدو وينشد القريض والرجز" الشعر، قال الجوهري: قرض الرجل الشعر، أي: قاله، والشعر قريض، فإن جعل منه فعطف خاصٍّ على عام، وإن جعل غيره فمباين، وفيه خلاف عند العروضيين، "فقال -عليه الصلاة والسلام- كما في رواية للبراء بن مالك" بن النضر: يا "عبد"، فهو منادى بحذف الأداة, "رويدك"، قال ابن مالك: هو اسم فعل بمعنى: أرود، أي: أمهل مصدرًا مضافًا للكاف, "رفقًا بالقوارير".
وفي الصحيحين عن أنس: أن أنجشة حدا بالنساء في حجة الوداع، فأسرعت الإبل، فقال -صلى الله عليه وسلم: "يا أنجشة رفقًا بالقوارير"، "أي: النساء، فشبههن بالقوارير من الزجاج؛ لأنه يسرع إليها الكسر"، كما يسرع الكسر المعنوي إلى النساء، "فلم يأمن -عليه الصلاة والسلام- أن يصيبهنَّ، أو يقع في قلوبهم حداؤه، فأمره بالكف عن ذلك" خوفًا على دينهنَّ، "وفي المثل: الغناء رقية الزنا"، أي: طريقه الموصِّل إليه، "وقيل: أراد أنَّ الإبل إذا سمعت الحداء أسرعت في المشي واشتدت، فأزعجت الراكب، وأتعبته، فنهاه عن ذلك؛ لأن النساء يضعفن عن شدة الحركة"، لا خوفًا من وقوعه في قلوبهنَّ.
قال الدماميني: وحمله على هذا قرب إلى ظاهر لفظه من الحمل على الأوّل. انتهى، ويؤيده ما في مسلم عن أنس، كان لرسول الله حادّ حسن الصوت، فقال -صلى الله عليه وسلم- له: "رويدك يا أنجشة، لا تكسر القوارير"، يعني: ضعفة النساء، والتأييد بهذا ليس بالقوي، بل هو محتمل.(5/84)
الفصل الثامن: في آلات حروبه -عليه الصلاة والسلام, كدروعه وأقواسه ومنطقته وأتراسه
أما أسيافه -عليه الصلاة والسلام, فكان له تسعة أسياف:
مأثور، وهو أوّل سيف ملكه -عليه الصلاة والسلام
__________
"الفصل الثامن: في آلات حروبه" التي يُسْتَعان بها فيه, سواء كانت للقتل كالسيف، أو للمنع كالدرع، وفي القاموس: الآلة ما اعتملت به من أداة تكون واحدًا وجمعًا، أو هي جمع، بلا واحد، أو واحد جمعه آلات، فمشى المصنف على الثالث؛ إذ عَبَّرَ بالجمع، والإضافة جنسية؛ لأنه لم يقاتل بها دفعة واحدة، ولا في حرب واحد "عليه الصلاة والسلام؛ كدروعه، وأقواسه، ومنطقته، وأتراسه".
روى أحمد وابن أبي شيبة عنه -صلى الله عليه وسلم: "بعثت بين يدي الساعة مع السيف، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذل والصغار على من خالف أمري، ومن تَشَبَّه بقوم فهو منهم" فيه إشارة إلى فضل الرمح، وحِلّ الغنائم، وأنَّ رزقه -صلى الله عليه وسلم- جُعِلَ فيها، لا في غيرها من المكاسب، ولذا قيل: إنها أفضل المكاسب.
والمراد بالصغار -بفتح المهملة، وبالمعجمة: بذل الجزية، وفي قوله: "تحت ظلّ رمحي" إشارة إلى أن ظله ممدود إلى أبد الأبد، وحكمة الاقتصار على الرمح دون غيره من آلات الحرب كالسيف, أن عادتهم جرت بجعل الرايات في أطراف الرماح، فلمَّا كان ظل الرمح أسبغ, كان نسبة الرزق إليه أليق، ونسبت الجنة إلى ظل السيف في قوله -صلى الله عليه وسلم: "الجنة تحت ظلال السيوف"؛ لأن الشهادة تقع به غالبًا؛ ولأن ظل السيف يكثر ظهوره بكثرة حركة السيف في يد المقاتل، ولأنَّ ظله لا يظهر إلا بعد الضرب؛ لأنه قبل ذلك يكون مغمدًا معلقًا. أفاده في فتح الباري.
"أمَّا أسيافه -عليه الصلاة والسلام" قدَّمَها على غيرها؛ لأنها أهم آلات الحرب، وإن لم تذكر في الأمثلة، فالترجمة شملتها، وآثر جمع القلة، فلم يقل: سيوفه, لمناسبته لكونها تسعة، كا قال، "فكان له تسعة أسياف: مأثور" بهمزة ساكنة ومثلثة، "وهو أول سيف ملكه -عليه الصلاة والسلام", ورثه من أبيه. ذكره اليعمري، وهي مسألة نزاع, حتى قال بعضهم: ليس في كون الأنبياء يرثون نقل، وبعضهم قال: لا يرثون، كما لا يورَثون، وإنما ورث أبويه قبل الوحي، وصرَّح شيخ(5/85)
وهو الذي يقال: إنه قدم به إلى المدينة في الهجرة.
والعضب: أرسله إليه سعد بن عبادة حين سار إلى بدر.
وذو الفقار: لأنه كان في وسطه مثل فقرات الظهر، ويجوز في "فائه" الفتح والكسر، وصار إليه يوم بدر، وكان للعاص بن منبه،
__________
الإسلام في شرح الفصول بأنهم يرثون، وبه جزم الفرضيون.
وذكر الواقدي: أنه -صلى الله عليه وسلم- ورث من أبيه أم أيمن وخمسة أجمال وقطعة من غنم، ومولاه شقران وابنه صالحًا، وقد شهد بدرًا, ومن أمِّه دارها بالشعب، ومن زوجته خديجة دارها بمكة بين الصفا والمروة وأموالًا، "وهو الذي يقال: إنه قدم به المدينة في الهجرة"، وبه جزم اليعمري، "والعضب" بفتح المهملة، وإسكان المعجمة، فموحدة في الأصل: السيف القاطع، ثم جُعِلَ علمًا لأحد الأسياف النبوية، أرسله إليه سعد بن عبادة حين سار إلى بدر، وذو الفقار" أشهر أسيافه -صلى الله عليه وسلم، وهو الذي رأى فيه الرؤيا يوم أحد، وهو غير العضب، وحكى مغلطاي أنهما واحد، وسمي بذلك؛ "لأنه كان في وسطه مثل فقرات الظهر"، وقيل: سمي بذلك لأنه كان فيه حفر صغار، والفقرة الحفرة التي فيها الودية.
وقال أبو عبيد: الفقر من السيوف ما فيه خروز. قال الأصمعي: دخلت على الرشيد فقال: أريكم سيف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذا الفقار, قلنا: نعم, فجاء به، فما رأيت سيفًا قط أحسن منه, إذا نُصِبَ لم ير فيه شيء، وإذا بطح عُدَّ فيه سَبُع فقر، وإذا صفيحة يمانية يحار الطرف فيه من حسنه. وكذا قال قاسم في الدلائل: إن ذلك يرى في رونقه شبيهًا بفقار الحية، فإذا التمس لم يوجد، وفي رواية عن الأصمعي أحضر الرشيد يومًا ذا الفقار، فأذن لي في تقليبه فقلَّبته، واختلفت أنا ومن حضر في عدة فقاره، هل هي سبع عشرة، أو ثماني عشرة؟ "ويجوز في فائه الفتح، والكسر"، كما قال اليعمري: هو بكسر الفاء، وقيل أيضًا: بفتحها، ومن حفظ حجة فلا عليك ممن زعم أنه لا يقال: بالكسر، بل بالفتح، وفقر كعنب، وقد قال في النور في غزوة بني قينقاع: حكى غير واحد فيه الفتح والكسر أ. هـ، وقول الخطابي: بفتح الفاء، والعامة تكسره, إن أراد الأكثر فصحيح، وإن أراد الجهلة فلا، "وصار إليه يوم بدر" من الغنيمة، كما أخرجه أحمد والترمذي وقال: حسن غريب، والحاكم، وصحَّحه عن ابن عباس: أنه -صلى الله عليه وسلم- تنفل ذا الفقار يوم بدر، قال الحاكم: والأخبار في أنه من خيبر واهية، "وكان للعاص بن منبه" المقتول كافرًا ببدر، وقيل: كان لمنبه بن وهب، وقيل: لمنبه أو نبيه بن الحجاج، وفي كبير الطبراني بسند ضعيف، عن ابن عباس: أن الحجاج بن علاط أهداه لرسول الله -صلى الله عليه وسلم، ثم كان عند الخلفاء العباسيين، ويقال(5/86)
وكان هذا السيف لا يفارقه -صلى الله عليه وسلم, يكون معه في كل حرب يشهدها، وكانت قائمته وقبيعته وحلقته وذؤابته وبكراته ونعله من فضة.
والقلعي: بضم القاف وفتح اللام، وهو الذي أصابه من قلع، موضع بالبادية.
والبتار: أي: القاطع.
والحتف: وهو الموت. والمخذم: وهو القاطع. والرسوب: أي يمضي في الضريبة ويغيب فيها، وهو فعول من رسب يرسب إذا ذهب إلى أسفل وإذا ثبت.
أصابهما من الفلس -بضم الفاء وإسكان اللام- صنم كان لطيء.
__________
أصله من حديدة وُجِدَت مدفونة عند الكعبة فصُنِعَ منها، "وكان هذا السيف لا يفارقه -صلى الله عليه وسلم" بعد أن ملكه, "يكون معه في كل حرب يشهدها"؛ لأنه نادى مَلَك من السماء يوم بدر -يقال له رضوان: لا سيف إلّا ذو الفقار، ولا فتى إلّا علي. رواه الحسن بن عرفة في جزئه عن أبي جعفر الباقر، فإن صحَّ القول بأنه -عليه السلام- أعطاه لعلي، وانتقل في أولاده، فكأنَّه كان يأخذه منه في الحروب، أو أنه أعطاه له عند موته، "وكانت قائمته" أي: مقبضه، "وقبيعته" بالقاف ما على طرف مقبضه، "وحلقته" بإسكان اللام وفتحها لغة في السكون، وهي ما في أعلاه تجعل فيه العلاقة، "وذؤابته" بمعجمة، أي: علاقته -كما في العيون، "وبكراته" حلقه التي في حليته، وهي ما يكون في وسطه، "ونعله" حديدته التي في أسفل غمده "من فضة"، قال مرزوق الصقال: أنا صقلته، فكانت قبعته من فضة، وحلق في قيده، وبكر في وسطه من فضة. وجاء بسند حسن أن قبيعة سيفه، ونعله، وحلقًا بينهما كانت من فضة، "والقلعي -بضم القاف" الذي في النهاية، والدر، واللب غيرها أنه بفتح القاف، "وفتح اللام، وهو الذي أصابه من قلع"، بفتحتين، فعين مهملة "موضع" هو قلعة "بالبادية"، يقال لها مرج بالجيم، وشدّ الفوقية، ثم راء، "أي: القاطع الحتف" بفتح المهملة، وسكون الفوقية ففاء، "وهو الموت" ومن قال: التحتية، فهو سبق قلم؛ إذ هو الحور، ولا معنى له هنا.
"والمخذم" بكسر الميم، وإسكان الخاء، وفتح الذال المعجمتين، ثم ميم، "وهو القاطع والرسوب، بفتح الراء، وضم المهملة، وسكون الواو، فموحدة, قيل: إنه من السيوف السبعة التي أهدت بلقيس بسليمان، كما في النور، "أي: يمضي في الضريبة ويغيب فيها، وهو فعول من رسب يرسب" بضمّ السين "إذا ذهب إلى أسفل، وإذا ثبت" استقرَّ؛ لأن ضربته تغوص في المضروب به، وتثبت فيه "أصابهما"، أي: المخذم والرسوب "من الفلس -بضم الفاء، وإسكان اللام، وقيل: بضمهما، وقيل: بفتح الفاء، وسكون اللام، وآخره سين مهملة "صنم كان لطيئ".(5/87)
والقضيب.
وأمَّا أدراعه فسبعة: ذات الفضول -بالضاد المعجمة، لطولها، أرسل بها إليه سعد بن عبادة حين سار إلى بدر، وكانت من حديد، وهي التي رهنها عند أبي الشحم اليهودي على شعير، وكان ثلاثين صاعًا، وكان الدَّيْن إلى سنة.
__________
كان الحارث قلَّده إياهما، فبعث المصطفى عليًّا سنة تسع، فهدمه، وغنم سبيًا، وشاءً، ونعمًا، وفضة، فعزل علي له -صلى الله عليه وسلم- صفيا السيفين، وذكر ابن هشام عن بعض أهل العلم: إنه -عليه الصلاة والسلام- وهبهما لعلي. وذكر أبو الحسن المدائني: إن زيد الخيل أهداهما للمصطفى لما وفد عليه، "والقضيب" بفتح القاف، وكسر المعجمة، وسكون التحتية، وموحدة, يطلق بمعنى: اللطيف من السيوف، وبمعنى: السيف القاطع، كما في النور، وقيل: إنه ليس بسيف، بل هو قضيبه الممشوق، قال العراقي:
وقيل ذا قضيبه الممشوق ... كان بأيدي الخلفا يشوق
وزاد اليعمري وغيره: الصمصامة، ويقال له: الصمصام -بفتح المهملة، وإسكان الميم فيهما، السيف الصارم الذي لا ينثني، كان سيف عمرو بن معديكرب، وكان مشهورًا، فوهبه -صلى الله عليه وسلم- لخالد بن سعيد بن العاص، واللحيف: سيف مشهور، فهذه أحد عشر، أو عشرة إن حذف منها القضيب، "وأمَّا أدراعه" جمع درع، وهو القميص المتَّخَذ من الزرد، وآثر جمع القلة لمناسبته لقوله: "فسبعة"، وعبَّرَ في الترجمة بجمع كثرة؛ لأنه لم يذكر ثَمَّة عددًا، فحسن تعبيره بدروعه؛ ليفيد أن له جمعين، وذكر ابن الأثير في النهاية في س ب غ ما لفظه، ومنه الحديث.
كان اسم درع النبي -صلى الله عليه وسلم- إذًا السبوغ لتمامها، وسبغها، قال البرهان: فيحتمل أنها واحدة من أدراعه، لها اسمان، وأن تكون ثامنة "ذات الفضول -بالضاد المعجمة"، قبلها فاء مضمومتين، سميت بذلك "لطولها" من الفضل: الزيادة، "أرسل بها إليه سعد بن عبادة حين سار إلى بدر، وكانت" كما في الصحيح عن عائشة "من حديد، وهي التي رهنها" بالتأنيث؛ لأن الدرع يُذَكَّر ويؤنَّث "عند أبي الشحم" -بفتح الشين المعجمة، وسكون الحاء المهملة "اليهودي"، المسمَّى بذلك في رواية البيهقي "على" ثمن "شعير" اشتراه لأهله، ولابن حبان عن أنس أن قيمته كانت دينارًا، "وكان ثلاثين صاعًا"، وفي نسخة: ثلثي صاع، وهو تحريف، فالذي في الصحيح عن عائشة: توفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم، ودرعه مرهونة عند يهودي بثلاثين صاعًا من شعير. وعند النسائي والبيهقي أن الشعير عشرون صاعًا.
قال الحافظ: ولعلَّه كان دون الثلاثين، فجبر الكسر تارة، وألغاه أخرى، "وكان الدَّيْن إلى سنة"، كما عند ابن حبان عن أنس، ولأحمد عنه، فما وجد ما يفتكها به، وذكر ابن الطلاع في(5/88)
وذات الوشاح. وذات الحواشي. والسعدية، ويقال بالغين، وهي درع عكبر القيقاعي، قيل: وهي درع داود التي لبسها حين قتل جالوت.
وفضة وكان قد أصابهما من بني قينقاع. والبتراء لقصرها، والخرنق -باسم ولد الأرنب.
وكان عليه -صلى الله عليه وسلم- يوم أحد درعان، ذات الفضول وفضة. وكان عليه يوم حنين درعان: ذات الفضول والسعدية.
وأما أقواسه -عليه الصلاة والسلام, فكانت ستة:
__________
الأقضية النبوية: إن أبا بكر افتكَّ الدرع بعد النبي -صلى الله عليه وسلم، "وذات الوشاح" بكسر الواو، وخفة الشين المعجمة فألف فمهملة، "وذات الحواشي" جمع حاشية، وهي في الأصل: جانب الثوب، "والسعدية" بفتح السين، وجوَّز بعض ضمَّها، وإسكان العين، ودال مهملات.
قال بعضهم: منسوبة للسعد، وهي جبال معروفة، وفي معرب الجواليقي أنه بالسين والصاد؛ لأنه قياس في كل سين معها حرف استعلاء, قال الشاعر:
وخافت من جبال السعد نفسي
"ويقال بـ"ضم السين، و"الغين" المعجمة الساكنة.
قال البرهان: وهو الذي أحفظه، قال ابن القطاع: موضع يصنع به الدروع، أي: ناحية بسمرقند، كما في اللب، وفي القاموس, وسغدان، أي: بمعجمة كسلطان, قرية ببخارى، فجوَّز شيخنا نسبتها إليها لكونها تعمل فيها، وفيه أنه كان يقال: سغدانية؛ لأن تغيير النسب يحتاج لنقل، ولا يكفي فيه التجويز، "وهي درع عكبر القينقاعي" نسبة إلى بني قينقاع -بتثليث النون والضم أشهر، "قيل: وهي درع داود التي لبسها حين قتل جالوت"، كما حكاه اليعمري ومغلطاي، "وفضة" بكسر الفاء، "وكان قد أصابهما من بني قينقاع" بطن من يهود المدينة، "والبتراء" بفتح الموحدة، وسكون الفوقية، والمد "لقصرها" سميت بذلك، "والخرنق" بكسر المعجمة، وإسكان الراء، وكسر النون، وقاف, "باسم ولد الأرنب"، كما في العيون وغيرها، وهو أحد إطلاقين في القاموس, ثانيهما: أنه الفتي من الأرانب، "وكان عليه -صلى الله عليه وسلم- يوم أُحدٍ درعان: ذات الفضول وفضة، وكان عليه يوم حنين" بضم المهملة آخره نون "درعان: ذات الفضول، والسعدية"، نقله عبد الغني في السيرة عن محمد بن مسلمة الصحابي، أنه رأى ذلك على المصطفى في اليومين، وأفاد البرهان وغيره: أنه لم يظاهر بين درعين إلّا في اليومين، وهذه فائدة استطرادية لا دخل لها في أسماء دروعه، "وأما أقواسه -عليه الصلاة والسلام، فكانت ستة"(5/89)
الزوراء، وثلاث من سلاح بني قينقاع: قوس يدعى الروحاء، وقوس يدعى الصفراء، وشوحط، والكتوم كسرت يوم أُحد, فأخذها قتادة، والسداد.
وكانت له جعبة تدعى الكافور، وكانت له منطقة من أديم فيها ثلاث حِلَق من فضة، والإبزيم من فضة، والطرف من فضة.
وأما أتراسه: فكان له -عليه الصلاة والسلام- ترس اسمه: الزلوق، يزلق عنه السلاح، وترس يقال له: الفتق،
__________
وعدَّها اليعمري خمسة، فأسقط السداد، وذكر البيضاء، وأنها من شوحط، وعليه: فهما واحدة، فليست سبعة ولا خمسة كما يظن، وإنما هي كما قال المصنِّف ستة: "الزوراء" اسم منقول عن الجنس؛ لأن الزوراء اسم للقوس، كما في القاموس، وهي بالرفع خبر لمحذوف، لا بالنصب بدل من ستة؛ لقوله: "وثلاث من سلاح بني قينقاع، قوس" بدل من ثلاث "يدعى الروحاء، وقوس يدعى الصفراء" من نبع بفتح النون، وإسكان الموحدة، ومهملة، شجر يُتَّخَذُ منه القسي، ومن أغصانها السهام، "وشوحط" بفتح المعجمة وإسكان الواو فحاء مفتوحة فطاء مهملتين, ضرب من شجر الجبال تُتَّخَذُ منه القسي، كما في النور، ويقال لها كما في العيون: البيضاء، فإنما ذكر المصنف مما هي دون اسمها، "والكتوم" بكاف مفتوحة ففوقية, سميت بذلك، قال في العيون: لانخفاض صوتها إذا رمي عنها. "كسرت يوم أحد" حتى صارت شظايا من كثرة رميه عنها -صلى الله عليه وسلم, حتى انحاز عنه العدو، "فأخذها قتادة" بن النعمان الأنصاري الذي أصيبت عينه يومئذ، فردَّت بكفِّ المصطفى أحسن الرد.
"والسداد" بفتح السين, علم منقول؛ لأنه الصواب من قول وعمل، "وكانت له جعبة" بفتح الجيم، والموحَّدة بينهما مهملة ساكنة، وهي الكنانة يجمع فيها نبله, "تدعى: الكافور، وكانت له منطقة" بكسر الميم, اسم لما يسميه الناس الحياصة, "من أديم" جلد "فيها ثلاث حلق من فضة".
"والإبزيم" بالكسر, الذي في رأس المنطقة، وما أشبهه، وهو ذو لسان يدخل فيه الطرف الآخر، كما في القاموس "من فضة، والطرف" الذي يدخل في الإبزيم "من فضة".
وقد ذكر ابن سعد، وغيره: أنه -صلى الله عليه وسلم- يوم أحد حزم وسطه بمنطقة، وأقرّه اليعمري وغيره، فقول ابن تيمية: لم يبلغنا أنه شدَّ على وسطه منطقة, تقصير، فابن سعد ثقة حافظ، فهو حجة على النافي، ولا سيما إنما نفى أنه بلغه، ولم يطلق النفي، فدع عنك قيل وقال. "وأمَّا أتراسه: فكان له -عليه الصلاة والسلام- ترس اسمه الزلوق" بفتح الزاي، وضم اللام المخففة، وسكون الواو، وقاف، سمي بذلك لأنه "يزلق" بفتح اللام "عنه السلام، وترس يقال له: الفتق" بضم الفاء وفتح(5/90)
وترس أهدي إليه، فيه تمثال عقاب أو كبش، فوضع يده عليه فأذهب الله ذلك التمثال.
وأمَّا أرماحه -عليه الصلاة والسلام، فالمثوي: قال ابن الأثير: سمي به لأنه يثبت المطعون به، من الثواء وهو الإقامة. انتهى. والمثْنَى، ورمحان آخران.
وكانت له -صلى الله عليه وسلم- حربة كبيرة تسمَّى البيضاء، وكانت له -عليه الصلاة والسلام- حربة أخرى صغيرة دون الرمح, شبه العكاز، يقال لها: العنزة,
__________
الفوقية، وقاف، "وترس أهدي إليه" بالبناء للمفعول.
قال البرهان: والذي أهداه لا أعرفه، "فيه تمثال" صورة "عقاب أو كبش، فوضع يده عليه، فأذهب الله ذلك"، كما في العيون.
وروى البيهقي عن عائشة أنها قالت: أهدي لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- ترس فيه "تمثال" عقاب أو كبش، فكرهه، فأصبح وقد أذهبه الله، فيحتمل أنه لما كرهه وضع يده، فأصبح وقد أذهبه الله، "وأما أرماحه -عليه الصلاة والسلام، فالمثوي" بضم الميم وإسكان المثلثة وكسر الواو ثم ياء، أي: القاتل.
"قال ابن الأثير: سمي به؛ لأنه يثبت المطعون به"، فبينه وبين المعنى اللغوي مناسبة "من الثواء وهو الإقامة أ. هـ، والمثْنَى" بضم الميم وإسكان المثلثة وفتح النون وكسرها, اسم فاعل من تثنى إذا انعطف، كما في النور، ولعل وجه التسمية أنه كان لينًا، "ورمحان آخران"، كذا عدَّها مغلطاي أربعة، فتبعه المصنف على عادته، وقد عدَّها صاحب العيون، والهدى، والسبل, والعراقي: خمسة، فقال:
كان له من الرماح خمسة ... من قينقاع جاءه ثلاثة
ورابع له يسمَّى المثويا ... والخامس المثنى بذاك سميا
"وكان له -صلى الله عليه وسلم- حربة كبيرة" بالنسبة للتي بعدها، وإن كانت دون الرمح أيضًا "تسمَّى البيضاء، وكانت له -عليه الصلاة والسلام- حربة أخرى صغيرة دون الرمح" بنصفه، عريضة النصل، لكن سنانها في أسفلها بخلاف الرمح، فإنه في أعلاه.
قال المصنف: "شبه العكّاز" بضمّ العين وشد الكاف: عصا ذات زج، "يقال له: العنزة" بفتح المهملة، والنون والزاي.
قال الحافظ: عصا أقصر من الرمح، يقال لها: سنان، وقيل: هي الحربة القصيرة، وفي رواية: كريمة العنزة عصا عليها زج -بزاي مضمومة ثم جيم مشددة، أي: سنان، وفي طبقات ابن سعد:(5/91)
وكانت تركّز أمامه فيصلي إليها.
وكان له -عليه الصلاة والسلام- مغفر من حديد يسمَّى السبوغ، أو ذا السبوغ، وآخر يسمى: الموشح.
__________
إن النجاشي أهداها للنبي -صلى الله عليه وسلم، وهذا يؤيد أنها كانت على صفة الحربة؛ لأنها من آلات الحبشة.
وقد روى عمر بن شبة في أخبار المدينة, من حديث سعد القرظ: إن النجاشي أهدى له -صلى الله عليه وسلم- حربة، فأمسكها لنفسه، فهي التي يمشي بها مع الإمام يوم العيد، ومن طريق الليث بن سعد بلاغًا أنها كانت لرجل من المشركين، قتله الزبير بن العوام يوم أُحد، فأخذها منه -صلى الله عليه وسلم، فكان ينصبها بين يديه إذا صلى، ويحتمل الجمع بأن عنزة الزبير كانت أولًا قبل حربة النجاشي. انتهى، لكن هذا البلاغ مخالف لما في الصحيح، أنَّ الزبير لقي يوم بدر عبيدة بن سعيد بن العاص، قال: فحملت عليه بالعنزة، فطعنته في عينه فمات، ولقد وضعت رجلي على عينه، ثم تمطأت، فكأن الجهد أن نزعتها، وقد انثنى طرفها، قال عروة: فسأله إياها -صلى الله عليه وسلم، فأعطاه، فلما قُبِضَ أخذها، ثم طلبها أبو بكر، فأعطاه إياها، فلمَّا قُبِضَ أخذها، فسألها عمر، فلمَّا قُبِضَ أخذها، ثم طلبها عثمان، فأعطاه، فلمَّا قُتِلَ وقعت عند علي، فطلبها عبد الله بن الزبير، فكانت عنده حتى قُتِلَ، فإن هذا ظاهر أنها كانت للزبير، لا للمشرك الذي قتله، وقد نقل ابن سيد الناس وغيره: أن الزبير قدم بها من الحبشة، "وكانت" كما في الصحيح عن ابن عمر "تركز" بفوقية مضمومة وكاف مفتوحة فزاي، أي: تغرز له الحربة، "فيصلي إليها"، أي: إلى جهتها.
وفي الصحيحين أيضًا عن ابن عمر: كان -صلى الله عليه وسلم- إذا خرج إلى العيد أمر بالحربة، فتوضع بين يديه، فيصلي إليها والناس وراءه، وكان يفعل ذلك في السفر، فمن ثَمَّ اتخذها الأمراء، "وكان له -عليه الصلاة والسلام- مغفر" بكسر الميم وإسكان المعجمة وفتح الفاء ثم راء "من حديد"، صفة لازمة على أنه ما نسج من زرد الدرع، أو مخصصة على أنه ما يلبس على الرأس مثل القلنسوة، وقد مَرَّ الكلام فيه غير مرة، منها في فتح مكة، "يسمَّى: السبوغ" بفتح السين المهملة وضمها فموحدة، فواو فغين معجمة، كما في النور، بمعنى: السابغ، أي: الطويل، "أو ذا السبوغ" بالفتح والضم أيضًا على ما في النور، وفي القاموس: ضمهما، أي: ذا الطول، وهو ظاهر, قول الخلاصة:
وفعل اللازم مثل قعدا ... له فعول باطراد كغدا
فكأنه على الفتح استعمل بمعنى الفعل الذي هو المصدر، وهو الستر اللازم للطول، وإن كان ذلك الاستعمال قليلًا، "وآخر يسمَّى الموشح" بضم الميم وفتح الواو والشين المعجمة المشددة والمهملة, وترك المصنّف هنا من آلات الحرب اللواء والراية؛ لأنه قدَّم الكلام(5/92)
تكميل:
وكان له -عليه الصلاة والسلام- فسطاط يسمَّى الكن.
وكان له محجن قدر ذراع أو أكثر يمشي ويركب به, ويعلقه بين يديه على بعيرة.
وكانت له مخصرة تسمَّى العرجون، وقضيب من الشوحط يسمَّى الممشوق.
وكان له قدح يسمَّى الريان، وآخر يسمَّى مغيثًا، وآخر مضبب بسلسلة من فضة في ثلاث مواضع،
__________
عليهما أوائل المغازي.
وفي العيون هنا: كان له راية سوداء تسمَّى العقاب, وراية بيضاء تسمَّى الزينة، وربما جعل فيها الأسود، وروى أبو داود عن رجل, رأيت راية رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صفراء، وروي أن لواءه أبيض مكتوب عليه: لا إله إلا الله، محمد رسول الله.
تكميل:
لما كان يستعمله -صلى الله عليه وسلم، وإن لم يكن من آلات الحرب، تشتاق إلى معرفتها أنفس الطالبين، وترتاتح بالمذاكرة فيها قلوب المتأدبين، وكل ما كان من باب المعرفة به، ومتصلًا بأخبار سيرته، فهو مما يؤنق الأسماع، ويهز بأرواح المحبة الطباع، وآثر آلات الحروب بالترجمة أولًا؛ لأنها الأهمّ عنده، "وكان له -عليه الصلاة والسلام- فسطاط" بضم الفاء وكسرها وبالطاء والتاء مكانها، والسين بدونهما: الخباء، كما في المطالع "يسمَّى الكِن" بكسر الكاف؛ لأنه يستر من الحرِّ والبرد، كما أشار اليعمري، "وكان له محجن" بكسر الميم وإسكان المهملة وفتح الجيم ونون, عصا معوجة "قدر ذراع أو أكثر, يمشي ويركب به، ويعلقه بين يديه على بعيره" للاحتياج إليه، "وكانت له مخصرة" بكسر الميم وإسكان المعجمة وفتح المهملة, ما يختصره بيده فيمسكه من عصا، أو عجازة، أو مقرعة، أو قضيب، وقد يتكئ عليه, كذا في النور, "تسمَّى العرجون"، كما قال اليعمري وغيره.
"وروى الطبراني عن ابن عباس، قال: كان للنبي -صلى الله عليه وسلم "قضيب من الشوحط", مَرَّ أنه من شجر الجبال "يسمَّى الممشوق"، وقال ابن عباس: التوكؤ على العصا من أخلاق الأنبياء، وكان لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- عصا يتوكأ عليها. رواه أبو الشيخ، "وكان له قدح يسمَّى الريَّان"، بفتح الراء وشد التحتية، "وآخر يسمَّى مغيثًا"، بمعجمة ومثلثة؛ لأنه كن يغيث الناس إذا مستهم الحاجة، فيشربون، كما رواه أبو يعلى وغيره، "وآخر مضبَّب بسلسلة من فضة في ثلاث مواضع"، والذي(5/93)
وآخر من عيدان، وآخر من زجاج.
وتور من حجارة يسمَّى المخضب، وركوة تسمَّى الصادرة، ومخضب من نحاس، ومغتسل من صفر، ومدهن.
__________
ضبَّبه أنس، قال: إنه انشعب، فجعلت في مكان الشعب سلسلة، وفي بعض الروايات ما يوهم أن المصطفى هو الذي ضبَّبه، وليس كذلك، كما أفاده ابن الصلاح والبيهقي. ذكره النووي، "وآخر من عيدان" بفتح المهملة وسكون الياء آخر الحروف، والعيدانة: النخلة السحوق، كما في العيون والقاموس، وحكى بعضهم كسر العين أيضًا، "وآخر من زجاج" مثلث الزاي، كما في النور.
قال ابن حبان: بعثه إليه النجاشي، فكان يشرب منه, زاد الشامي: وآخر من فخار، فيحتمل أنه من جملة ما تقدَّم، أو زائد عليها، "وتور" بالفوقية, إناء "من حجارة" كان يتوضأ فيه، قال في الفتح: شبه الطست، وقيل: هو الطست، ووقع في رواية شريك عن أنس في المعراج: أتي بطست من ذهب فيه تور، وظاهره المغايرة بينهما، ويحتمل الترادف، فكأنَّ الطست أكبر من التور "يسمَّى المخضب" بكسر الميم، وسكون الخاء وفتح الضاد المعجتمين آخره موحدة، إجانة لغسل الثياب، أو المركن، أو إناء يغسل فيه، كذا قاله المصنف، وصريحه أن المركن غير الإجانة، والذي في الكرماني، وغيره المخضب المركن، وهو بالكسر: الإجانة التي تغسل فيها الثياب. انتهى.
وهو يقع على الكبير والصغير، وهو الواقع هنا، ففي الصحيحين: حضرت الصلاة، فأتي -صلى الله عليه وسلم- بمخضب من حجارة فيه ماء، فصغَّر المخضب أن يبسط فيه كفه، "وركوة" بفتح الراء وتكسر، قاله ابن قرقول، وحكى ابن دحية تثليثها "تسمَّى الصادرة"؛ لأنه يصدر عنها الريّ، "ومخضب من نحاس" كأنه عبَّرَ بالتور؛ لأنهم كانوا يطلقونه على ما كان من حجارة، وما هو نحاس مخضب، وإن كان كلٌّ يسمَّى المخضب، لكن في شرحه للبخاري: التور إناء من صفر، أو حجارة، "ومغتسل من صفر" بضم المهملة, وكسرها أبو عبيدة، وإسكان الفاء، وبالراء: صنف من جيِّد النحاس يعمل منه الأواني، "ومدهن" بضم الميم والهاء، كما قال ابن مالك في شرح لامية أبيه، قال: وهو ما يجعل فيه الدهن الذي يدهن به, مختصة به, حتى لو جعل في إناء آخر لم يسمّ مدهنًا، فعدلت العرب به عن مِفعل -بكسر الميم وفتح العين إلى مُفعل -بضم الميم والعين، إشعارًا بأنه إناء لا آلة، وكذا مدق، ومسعط، ومكحلة ومنخل. والمقصل وهو السيف، والمحرضة وهي كالمدهن، فهذه سبعة جاءت بضم الميم والعين.
قال ابن مالك: لكن لو قصد بها مقصد العمل بالآلات ساغ كسر الميم وفتح العين، وقد(5/94)
وربعة إسكندرانية يجعل فيها المرآة، ومشطًا من عاج -وهو الذبل، والمكحلة يكتحل منها عند النوم ثلاثًا في كل عين، وكان له في الربعة أيضًا المقراض والسواك. وهذه الربعة أهداها له المقوقس صاحب الأسكندرية مع مارية أم إبراهيم -عليه السلام.
وكانت له قصعة تسمَّى الغراء، بأربع حلق وصاع ومد.
وقطيفة وسرير قوائمه من ساج،
__________
سمع ذلك من بعض العرب في المدق أ. هـ بحروفه.
"وربعة" بفتح الراء وإسكان الموحدة وعين مهملة، كجونة العطَّار -بإسكان الواو، وربما همزت، وهي جلد يجعل فيه العطار الطيب، "إسكندرانية" نسبة إلى إسكندرية، "يجعل فيها المرآة" التي كان ينظر فيها، فلم تبد أوسم من وجهه -صلى الله عليه وسلم، "و" يجعل فيها "مشطًا" بضم الميم مع إسكان الشين، وضمها, وكسر الميم مع إسكان الشين، ويقال: ممشط -بميمين: الأولى مكسورة "من عاج"، وهو ظهر السلحفاة البحرية، كما في المصباح قائلًا: وعليه يحمل أنه كان لفاطمة سوار من عاج، ولا يجوز حمله على أنياب الفيلة؛ لأن أنيابها ميتة بخلاف السلحفاة. انتهى.
وعليه يحمل المشط النبوي بالأولى ومن ثَمَّ قال المصنف: "وهو الذبل" بفتح المعجمة وإسكان الموحدة، وباللام.
قال المصباح: شيء كالعاج، وفي القاموس: عظام دابة بحرية يتَّخَذُ منها الأسورة والأمشاط، "و" يجعل فيها "المكحلة"، وكان "يكتحل منها عند النوم ثلاث في كل عين، وكان له في الربعة أيضًا المقراض" بكسر الميم، والجمع: المقاريض، "والسواك" بكسر السين على الأفصح، كما قاله الحافظ والكرماني, يطلق على الفعل والآلة، وهو المراد هنا، "وهذه الربعة أهداها له المقوقس صاحب الإسكندرية مع مارية أم إبراهيم -عليه السلام" في جملة ما أهداه, وفي الألفية:
كانت له ربعة أي مربعه ... كجونة يجعل فيها أمتعه
"وكانت له قصعة" بفتح القاف ولا تكسرها, "تسمَّى: الغراء" كبيرة، "بأربع حلق"، يحملها أربعة رجال، كما رواه أحمد وأبو داود.
قال ابن رسلان في شرحه تأنيث الأغر: مشتق من الغرة، وهي بياض الوجه وإضاءته، ويجوز أن يراد أنها من الغرة، وهي الشيء النفيس والمرغوب فيه، فتكون سميت بذلك لرغبة الناس فيها؛ لنفاسة ما فيها، أو لكثرة ما تشبعه.
وقال المنذري: سميت غراء لبياضها بالألية والشحم، "وصاع ومد" ربع الصاع، وهو رطل(5/95)
وفراش من أدم حشوة ليف.
وخاتم من حديد ملوي بفضة، وخاتم فضة فصه منه، يجعله في يمينه، وقيل: كان أولًا في يمينه, ثم حول إلى يساره، منقوش عليه: محمد رسول الله.
وأهدى له النجاشي خفَّين ساذجين فلبسهما.
وكان له ثلاث جباب يلبسهن في الحرب، جبة
__________
وثلث، "وقطيفة" كساء له خمل، "وسرير قوائمه من ساج" أهداه إليه أسعد بن زرارة, فكان ينام عليه، ثم وضع عليه لما مات، ثم الصديق، ثم الفاروق، ثم صار الناس يحملون عليه موتاهم تبركًا به، ثم بيع في زمن بني أمية في ميراث عائشة، فاشترى ألواحه عبد الله بن إسحاق بأربعة آلاف درهم، ذكره ابن العماد.
وفي الروض: إنه كان خشبات مشدودة بالليف، "وفراش من أدم حشوه ليف"، زاد في العيون: وكساء من شعر، وكساء أسود، ومنديل يمسح به وجهه، وسُئِلَت حفصة: ما كان فراشه -صلى الله عليه وسلم، قالت: مسح نثنيه ثنيتين، فينام عليه، فلمَّا كان ليلة ثنيته بأربع ثنيات ليكون أوطأ، فلما أصبح، قال: "ما فرشتم لي"؟ قلنا: هو فراشك ثنيناه أربعًا، قال: "ردوه لحاله الأولى، فإنه منعتني وطأته صلاة الليل"، رواه الترمذي في الشمائل، "وخاتم من حديد ملوي بفضة"، وخاتم من ذهب لبسه ثم طرحه، "وخاتم فضة" وكان كما في البخاري وغيره "فصه منه" بتثليث الفاء، ووَهِمَ الجوهري في جعله الكسر لحنًا، كما في القاموس.
نعم، قال الفارابي، وابن السكيت: إنه رديء، وإطلاقه على ما كان منه مجاز، فإنه لغةً: ما يركب فيه من غيره، وفي مسلم: كان فصه حبشيًّا, يعني: حجرًا حبشيًّا من جذع أو عقيق، وجمع ابن العربي والبيهقي والقرطبي بأنَّ الذي فصه منه هو الفضة، والذي فصه حبشي هو الذي اتخذه من ذهب، ثم طرحه، وقيل: غير ذلك، كما يأتي إن شاء الله تعالى في اللباس، وكان "يجعله في يمينه"، كما أخرجه البخاري، والترمذي عن ابن عمرو الترمذي عن جابر بسند ضعيف.
وفي أبي داود عن ابن عمر أنَّه كان يتختَّم في يساره، وفي مسلم عن أنس: كان خاتم النبي -صلى الله عليه وسلم- في هذه، وأشار إلى الخنصر من يده اليسرى، "وقيل: كان أولًا في يمينه، ثم حوله إلى يساره"، كما جاء عن ابن عمر، وبه يحصل الجمع بين الحديثين، "منقوش عليه: محمد رسول الله، وأهدى له النجاشي خفَّين ساذجين" بفتح الذال المعجمة, معرَّب شاذة، وقال المحب الطبري: بالدال المهملة والمعجمة بكسرهما وفتحهما، كما في النور، "فلبسهما", زاد العراقي:
كذا له أربعة منها أخر ... أصابها من سهمه من خيبر
"وكان له ثلاث جباب" بكسر الجيم, جمع جبة، "يلبسهنَّ في الحرب"، إحداهنَّ "جبة(5/96)
سندس أخضر، وجبة طيالسة. وعمامة يقال لها: السحاب، وأخرى سوداء، ورداء -صلوات الله وسلامه عليه.
__________
سندس أخضر، وجبة طيالسة"، بالإضافة، وهي الثانية، ولم يذكروا لثالثة، وفي الألفية:
له ثلاث من جبات تلبس ... في الحرب إحداهنَّ منها سندس
أخضر ثم جبة طيالسة ... تغسل للمرضى وكانت ملبسة
"وعمامة يقال لها: السحاب" وهبها لعلي، كما في العيون، "وأخرى سوداء" دخل بها مكة يوم الفتح، كما في حديث جابر عند الترمذي، وكانت فوق المِغْفَر، أو تحته, وقايةً من صدأ الحديد، فلا يخالف حديث أنس في الصحيحين أنه -صلى الله عليه وسلم- دخل عام الفتح وعلى رأسه المِغْفَر، "ورداء" مربع، طوله أربعة أذرع، وإنما اختُلِفَ في عرضه، فقيل: ذراع وشبر، وقيل: ذراعان وشبر، كما في العيون.
وقال الواقدي: كان رداؤه بردة, طوله ستة أذرع في ثلاثة وشبر "صلوات الله وسلامه عليه"، ويأتي إن شاء الله تعالى مباحث جليلة في لباسه في المقصد الثالث.(5/97)
الفصل التاسع: في ذكر خيله ولقاحه ودوابه
__________
"الفصل التاسع: في ذكر خيله" مؤنَّث سماعي، لكنه استعمل في المذكر والمؤنث، "ولقاحه" بكسر اللام وخفة القاف, جمع لِقحة -بكسر اللام وقد تفتح، وسكون القاف، وهي النوق ذوات الألبان إلى ثلاثة أشهر، ثم هي لبون، فلم يدخل في الترجمة الجمال ولا النوق غير قريبة الولادة، فلذا قال "ودوابه"، عطف عام على خاص؛ لأنها لغة ما دبَّ على الأرض، وعرفًا اسم لذوات القوائم الأربع، كما قال المحلي، فشمل الغنم أيضًا؛ لأنه ذكرها آخر الفصل، وقدَّم الخاص على العام اعتناءً بذكر الخيل؛ لأن في نواصيها الخير، واللقاح؛ لأنها كرائم أموال العرب، وقد روى النسائي عن أنس: لم يكن شيء أحب إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعد النساء من الخيل.
وروى مالك، والشيخان من طريقه عن ابن عمر، عن النبي -صلى الله عليه وسلم: "الخيل في نواصيها الخير إلى يوم القيامة".
قال ابن عبد البر: فيه تفضيل الخيل على سائر الدوابّ؛ لأنه لم يأت عنه في غيرها مثل هذا القول.
وقال عياض: فيه مع وجيز لفظه من البلاغة والعذوبة، ما لا مزيد عليه في الحسن مع(5/97)
أما خيله -عليه الصلاة والسلام: فالسكب، يقال: فرس سكب, أي: كثير الجري, كأنما يصب جريه صبًّا، وأصله من سكب الماء يسكب، وهو أوّل فرس ملكه، اشتراه -عليه الصلام والسلام- بعشرة أواق، وكان أغرّ محجلًا، طلق اليمين، كميتًا، وقال ابن الأثير: كان أدهم.
والمرتجز -بضم الميم وسكون الراء وفتح التاء وكسر الجيم بعدها زاي, سمي به لحسن صهيله، مأخوذ من الرجز الذي هو ضرب من الشعر، وكان أبيض، وهو الذي شهد له فيه خزيمة بن ثابت، فجعل شهادته بشهادة رجلين.
__________
الجناس الذي بين الخيل، والخير، "أمَّا خيله -عليه الصلاة والسلام: فالسكب" بفتح السين المهملة وإسكان الكاف وبالموحدة، "ويقال: فرس سكب، أي: كثير الجري, كأنما يصب جريه صبًّا".
قال الثعلبي: إذا كان الفرس شديد الجري فهو فيض وسكب, تشبيهًا بفيض الماء وانسكابه، "وأصله من سكب الماء يسكب" بضم الكاف، "وهو أوّل فرس ملكه, اشتراه -عليه الصلاة والسلام- بعشرة أواق" بالتخفيف والتشديد، جمع أوقية بالتشديد، وهي أربعون درهمًا، "وكان أغَرّ" في وجهه بياض فوق الدرهم "محجلًا" أبيض القوائم، وجاوز بياضه الأرساغ إلى نصف الوظيف، أو نحوه، وذلك موضع التحجيل، كما في المصباح "طلق اليمين" بفتح فسكون.
وحكى القاموس: ضم الطاء واللام سمحها’ "كميتًا" بضم الكاف، قال سيبويه عن الخليل: صغر؛ لأنه بين السواد والحمرة، كأنه لم يخلص له واحد منهما، فأرادوا بالتصغير أنه منهما قريب.
"وقال ابن الأثير: كان أدهم"، أي: أسود، كما أخرجه الطبراني عن ابن عباس، قال: كان للنبي -صلى الله عليه وسلم- فرس أدهم يسمَّى السكب، "والمرتجز -بضم الميم وسكون الراء وفتح التاء" الفوقية، "وكسر الجيم بعدها زاي، سُمِّيَ به لحسن صهيله" صوته.
قال في العيون: كأنَّه ينشد رجزًا، "مأخوذ من الرجز الذي هو ضرب من الشعر" عند الجمهور، "وكان أبيض وهو" كما قال ابن سعد وجزم به اليعمري وغيره، "الذي شهد له فيه خزيمة بن ثابت"، الأنصاري الأوسي، وقيل: الذي شهد فه الملاوح، وقيل: الطرف، وقيل: النجيب، كما يأتي، "فجعل شهادته بشهادة رجلين"؛ لأن له -صلى الله عليه وسلم- أن يخصَّ من شاء بما شاء.
وفي البخاري عن زيد بن ثابت، فوجدتها -أي: الآية- مع خزيمة الذي جعل النبي -صلى الله عليه وسلم- شهادته بشهادة رجلين {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب: 23] .(5/98)
والظرب -بالظاء المعجمة- واحد الظراب، سمي به لكبره وسمنه، وقيل: لقوته وصلابة حافره، أهداها له فروة بن عمرو الجزامي.
__________
أخرج ابن أبي شيبة، وأبو يعلى، وابن خزيمة، والطبراني، وغيرهم من حديث خزيمة: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- اشترى فرسًا من سواء بن الحارث، فجحده، فشهد له خزيمة، فقال -صلى الله عليه وسلم: "ما حملك على الشهادة ولم تكن معه حاضرًا"، فقال: صدقتك بما جئت به، وعلمت أنك لا تقول إلّا حقًّا، فقال -صلى الله عليه وسلم: "من شهد له خزيمة أو شهد عليه فحسبه".
ورواه أبو داود والنسائي بدون تسمية البائع، وفي مسند الحارث بن أبي أسامة من حديث النعمان بن بشير, فردَّ -صلى الله عليه وسلم- الفرس على الأعرابي، وقال: "لا بارك الله لك فيها"، فأصبحت من الغد شائلة برجلها، أي: ماتت، وهذه ترد على تعيين كونه من أفراسه المعلومة المعينة بأسمائها.
قال الخطابي: هذا الحديث حمله كثير على غير محمله، وإنما وجهه أنه -صلى الله عليه وسلم- حكم على الأعرابي بعلمه، وجرت شهادة خزيمة مجرى التوكيد لقوله, والاستظهار على خصمه، فصار في التقدير بشهادة اثنين في غيرها من القضايا، كذا قال, وفيه نظر، فإن قوله: "من شهد له خزيمة أو شهد عليه فحسبه" يأبى ذلك.
وفي رواية ابن أبي عمر العدني، شيخ مسلم في مسنده، فأجاز النبي -صلى الله عليه وسلم- شهادته بشهادة رجلين حتى ات خزيمة، وفي مسند الحارث: فلم يكن في الإسلام من تجوز شهادته بشهادة رجلين غير خزيمة، فهذا كله ظاهر في تخصيصه بذلك دائمًا، لا لمجرد الحكم بعلمه، وسواء هذا صحابي من وفد محارب، وقد أخرج ابن منده، وابن شاهين عن المطلب بن عبد الله، قال: قلت لبني الحارث بن سواء: أبوكم الذي جحد بيعة رسول الله -صلى الله عليه وسلم، قالوا: لا تقل ذلك، فلقد أعطاه بكرة، وقال له: إن الله سيبارك لك فيها، فلمَّا أصبحنا نسوق سارحًا، ولا بارحًا إلا منها، "والظرب بالظاء المعجمة" المفتوحة وكسر الراء وبالموحدة، كما اقتصر عليها البرهان، ويقال: بكسر أوله، وسكون الراء، وقدَّمه الشامي "واحد الظراب"، وهي الجبال الصغار، "سُمِّيَ به لكبره وسمنه، وقيل: لقوته، وصلابة حافره"، ووجه التسمية ظاهر على القولين، "أهداها له" أنَّثه بعد أن ذكَّره؛ لأن الفرس يجوز تذكيره وتأنيثه، وكأنَّه جمع بينهما لاحتمال كَوْن كلٍّ منهما مذكرًا ومؤنثًا.
"فروة بن عمرو" على الأشهر، كما في الإصابة، ويقال: ابن عامر، ويقال: ابن نفاثة -بضم النون وخفة الفاء فألف فمثلثة، وصحَّحه بعضهم لثبوته في مسلم.
وقيل: نعامة -بفتح النون، وعين، وميم، وقيل: نباتة بموحدة، وبعد الألف فوقية، "الجزامي" عامل قيصر على من يليه من العرب، وكان منزله معان وما حولها من الشام، أسلم لما(5/99)
واللحيف -بالمهملة, أهداها له ربيعة بن أبي البراء، سُمِّيَ به لسمنه
__________
بعث -صلى الله عليه وسلم- إليه يدعوه, وكتب إليه بإسلامه، ولم ينقل أنه اجتمع به، فلمَّا بلغ الروم إسلامه قتلوه.
ذكره ابن إسحاق، وجزم به في الإصابة، وقال عياض: اختلف في إسلامه، فقال الطبري: أسلم وعمَّر طويلًا، وقال غيره: لم يسلم، ويقال: الذي أهدى الظرب ربيعة بن أبي البراء، ويقال: جنادة بن المعلي، "واللحيف" رواه البخاري من طريق أُبَيّ بن عباس بن سهل عن أبيه عن جدّه سهل بن سعد، قال: كان للنبي -صلى الله عليه وسلم- في حائطنا فرس يقال له: اللحيف. وقد انتقد الحافظ أبو الحسن الدارقطني على البخاري إخراج هذا الحديث في الصحيح بأن أبيًّا ضعَّفَه أحمد وابن معين، وقال النسائي: ليس بالقويّ، وغاية ما أجاب به الحافظ في مقدمة الفتح أن قال: تابعه عليه أخوه عبد المهيمن بن العباس، "بالمهملة"، والتصغير، قال ابن قرقول: وضبطوه عن ابن سراح بوزن رغيف.
قال الحافظ: ورجَّحه الدمياطي، وبه جزم الهروي "أهداها له ربيعة بن أبي البراء"، واسمه: عامر بن مالك العامري، يعرف عامر بملاعب الأسنة، ذكره ابن سعد عن الواقدي، وقال في الإصابة: ربيعة بن ملاعب الأسنة عامر بن مالك بن جعفر بن كلاب الكلابي، ثم الجعفري, لم أر من ذكره في الصحابة إلّا ما قرأت في ديوان حسّان, تصنيف أبي سعيد السكري، وروايته عن أبي جفر بن حبيب، وقال حسان لربيعة بن عامر: وهو ملاعب الأسنة, يحرض ربيعة بعامر بن الطفيل بإخفاره ذمَّة أبي براء:
ألا من مبلغ عني ربيعًا ... فما أحدثت في الحدثان بعدي
أبوك أبو الفعال أبو براء ... وخالك ماجد حكم بن سعد
بني أم البنين ألم يرعكم ... وأنتم من ذوائب أهل نجد
تحكم عامر بأبي براء ... ليخفره وما خطأ كعمد
فلمَّا بلغ ربيعة هذا الشعر جاء النبي -صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، أيغسل عن أبي هذه العذرة أن أضرب عامرًا ضربة، أو طعنة، قال: "نعم"، فرجع فضرب عامرًا ضربة أشواه بها، فوثب عليه قومه، فقالوا لعامر: اقتص، فقال: قد عفوت, ورأيت له رواية عن أبي الدرداء، فكأنَّه عمَّر في الإسلام. انتهى، فقول البرهان: لا أعلم لربيعة إسلامًا ولا ترجمة، ويقع في مكان آخر ربيعة بن البراء، فليحرر تقصير، وقد تحرر أن الصواب إثبات أبي لنقل ابن سعد وغيره، أنَّ اسمه عامر, فمن قال ابن البراء سقطت عليه أداة الكنية، وأبوه أبو براء هذا من مشاهير العرب، اختُلِفَ في إسلامه وصحبته، كما قدمته في بئر معونة، ويروى أنه -عليه السلام- أثاب ربيعة عليه فرائض.
وعند ابن سعد أن الذي أهداها له فروة بن عمر والجذامي المتقدم قريبًا "سُمِّيَ به لسمنه،(5/100)
وكبره، كأنه يلحف الأرض, أي: يغطيها بذنبه لطوله، فعيل بمعنى فاعل، يقال: لحفت الرجل باللحاف: طرحته عليه، ويروى بالجيم وبالخاء المعجمة، رواه البخاري ولم يتحققه، والمعروف بالحاء المهملة، قاله في النهاية.
واللزاز: سُمِّيَ به لشدة تلززه، أو لاجتماع خلقه, ولزبه الشيء أي: لزق به، كأنه يلتزق بالمطلوب لسرعته، وهذه أهداها له المقوقس.
والورد:
__________
وكبره".
وقال الهروي لطول ذنبه، وهو الأنسب بقوله: "كأنه يلحف الأرض، أي: يغطيها بذنبه لطوله, فعيل بمعنى فاعل، يقال: ألحفت الرجل باللحاف طرحته عليه، ويروى بالجيم".
قال في الفتح: سبق ابن الأثير إلى ذلك صاحب المغيث، وقال: فإن صحَّ فهو سهم عريض النصل، كأنه سمي بذلك لسرعته، "وبالخاء المعجمة. رواه البخاري" تعليقًا "ولم يتحققه، فقال بعد أن روى حديث سهل بإسناده السابق: وقال بعضهم: اللخيف، قال الحافظ: يعني بالخاء المعجمة, وحكوا فيه الوجهين، يعني: التصغير والتكبير، وهي رواية عبد المهيمن أخي أُبَيّ.
وحكى سبط ابن الجوزي أن البخاري قَيَّدَه بالتصغير والمعجمة، قال: وكذا حكاه ابن سعد عن الواقدي، "والمعروف بالحاء المهملة" حتى قيل: لا وجه لضبطه بالمعجمة، "قاله" المبارك أبو السعادات بن الأثير "في النهاية".
وحكى البلاذري: الخليف بتقديم الخاء على اللام، وقال عياض بالأول، يعني: المهملة, ضبطناه عن عامة شيوخنا، وبالثاني عن أبي الحسين اللغوي.
وحكى ابن الجوزي أنه روي بالنون بدل اللام من النحافة، "واللزاز" بكسر اللام وزاءين معجمتين خفيفتين، رواه ابن منده من رواية عبد المهيمن بن عباس بن سهل عن أبيه عن جده، قال: كان لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- عند سعد والد سهل ثلاثة أفراس، فسمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يسميهنّ: لزاز والظرب واللخيف، أي: بالخاء المعجمة، وهي التي حكاها البخاري عن بعضهم، كما في الفتح: "سمي به لشدة تلززه، أو" يعني، وقيل: "لاجتماع خلقه", والملزز المجتمع الخلق، كما في العيون، "ولزبه الشيء، أي: لزق به" بكسر الزاي؛ "كأنَّه يلتزق بالمطلوب لسرعته".
قال السهيلي: معناه: لا يسابق شيئًا إلّا لزه، أي: أثبته، "هذه أهداها له المقوقس" جريح بن مينا القبطي في جملة ما أهدى قبل، وكان -صلى الله عليه وسلم- معجبًا به، وكان تحته يوم بدر ورد، بأن بدرًا في العام الثاني، وبعثه للملوك كان في غرة سنة سبع، "والورود" بفتح الواو، وسكون الراء لون بين(5/101)
قال ابن سعد: أهداها له تميم الداري، فأعطاه عمر بن الخطاب -رضي الله عنه, فحمل عليه في سبيل الله تعالى، ثم وجده يباع برخص فقال: "لا تشتره".
وسبحة: بالموحدة، من قولهم: فرس سابح إذا كان حسن مَدّ اليدين في الجري. قال ابن سيرين: هي فرس شقراء اشتراها من أعرابي.
فهذه سبعة متفق عليها.
وذكر ابن بنين فيما حكاه الحافظ الدمياطي: البحر في خيله -عليه الصلاة والسلام، قال: وكان اشتراه من تجارٍ قدموا به من اليمن، فسبق عليه مرات،
__________
الكميت والأشقر شبه بالورد المشموم.
"قال ابن سعد" عن الواقدي بسنده عن سهل بن سعد "أهداها له تميم الداري، فأعطاه" صلى الله عليه وسلم "عمر بن الخطاب -رضي الله عنه, فحمل" عمر "عليه في سبيل الله تعالى، ثم وجده يباع برخص" فأراد شراءه، "فقال" صلى الله عليه وسلم: "لا تشتره".
وفي الموطأ والصحيحين عن عمر, حملت على فرس في سبيل الله، فأضاعه الذي كان عنده، فأردت أن أشتريه منه، وظننت أنه بائعه برخص، فسألت عن ذلك النبي -صلى الله عليه وسلم، فقال: "لا تشتره، وإن أعطاكه بدرهم واحد، فإن العائد في صدقته كالكلب يرجع في قيئه".
قال الحافظ: لا, ويعارضه ما أخرجه مسلم، ولم يسق لفظه، وساقه أبو عوانه في مستخرجه أن عمر حمل على فرس في سبيل الله، فأعطاه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رجلًا؛ لأنه يحمل على أن عمر لما أراد أن يتصدَّق به فوّض إلى رسول الله اختيار من يتصدق به عليه، أو استشاره من يحمله عليه، فنسبت إليه العطية لكونه أمر بها، "وسبحة" بفتح المهملة و"بالموحدة" الساكنة، وحاء مهملة مفتوحة، ثم تاء تأنيث, "من قولهم: فرس سابح إذا كان حسن مد اليدين في الجري" وسَبْح الفرس جريه، كما قال اليعمري، وزاد غيره: أو من سبح إذا علا علوًّا في اتساع مده، ومنه: سبحان الله عظمته وعلوّه، "قال ابن سيرين: هي فرس شقراء اشتراها من أعرابي، فهذه سبعة متَّفَقٌ عليها" جمعها البدر بن جماعة في بيت هو:
والخيل سكيب لحيف سبحة ظرب ... لزاز مرتجز ورد لها أسرار
"وذكر" عبد الغني بن سليمان "بن بنين" بفتح الموحدة وكسر النون, المصري، وإليه انتهى علوّ الإسناد بها، قال الحافظ في التبصير: محدّث مشهور, حدثونا عن أصحابه، مات سنة إحدى وستين وستمائة، "فيما حكاه الحافظ الدمياطي: البحر في خيله -عليه الصلاة والسلام، قال: وكان اشتراه من تجار قدموا به من اليمن، فسبق عليه مرات" لأنه -صلى الله عليه وسلم- كان يسابق بين(5/102)
فجثنا -صلى الله عليه وسلم- على ركبتيه ومسح وجهه وقال: ما أنت إلّا بحر، فسُمِّي بحرًا. قال ابن الأثير: وكان كميتًا وكان سرجه دفتان من ليف.
والسجل: بكسر السين المهملة وسكون الجيم، ذكره علي بن محمد بن حنين بن عبدوس الكوفي، ولعله مأخوذ من قولك: سجلت الماء فانسجل، أي: صببته فانصبَّ.
وذو اللمة: بكسر اللام وتشديد الميم, ذكره ابن حبيب.
وذو العقال: بضم العين المهملة وتشديد القاف، وحكى بعضهم تخفيفًا.
__________
الخيل، كما في الصحيح، "فجثا -صلى الله عليه وسلم- على ركبتيه، ومسح وجهه" الفرس، "وقال: "ما أنت إلا بحر"، فسمي بحرًا لسرعة جريه, شُبِّهَ بالبحر الذي لا ينقطع ماؤه، وهذا إن صحَّ غير ما أخرجه الشيخان عن أنس، قال: كان فزع بالمدينة، فاستعار النبي -صلى الله عليه وسلم- فرسًا من أبي طلحة يقال له: المندوب، فركبه، ثم خرج يركض وحده، فركب الناس يركضون خلفه، فلمَّا رجع قال: ما رأينا من شيء، وإن وجدناه لبحر، أو جاء الحديث بألفاظ أخر بنحوه؛ لأن هذا لأبي طلحة، واسمه المندوب بخلاف ذاك اشتراه من تجار، واسمه البحر.
"قال ابن الأثير: وكان كميتًا، وكان سرجه دفتان من ليف" بالألف على لغة من يلزمه المثنى، أو سرجه بالنصب، ودفتان اسمه، والإخبار بالمعرفة عن النكرة جائز في أخبار الناسخ كقوله:
يكون مزاجها عسل وماء
الأَوْلَى أن اسم كان ضمير الشأن، والجملة بعده خبرية في محل النصب، "والسجل -بكسر السين المهملة وسكون الجيم" بعدها لام، "ذكره علي بن محمد بن حنين" اسم بلفظ الوادي المذكور في القرآن "ابن عبدوس الكوفي، ولعلَّه مأخوذ من قولك: سجلت الماء، فانسجل، أي: صببته فانصبَّ" وبه جزم بعضهم، "وذو اللمة: بكسر اللام وتشديد الميم, ذكره" أبو جعفر محمد "بن حبيب" الإخباريّ النسَّابة، حبيب قيل: إنه اسم أمه، فلا يصرف للعلمية والتأنيث المعنوي، وردَّ ذلك بأنه اسم أبيه، وهو حبيب بن المحبر, معروف، فهو مصروف كما في الروض، قال في العيون: واللمة بين الوفرة والجمة، فإذا وصل شعر الرأس إلى شحمة الأذن فهو وفرة، فإن زادت حتى ألَمَّت بالمنكبين فهي لمة، فإن زادت فهي جمة.
"وذو العقال: بضم العين المهملة وتشديد القاف، وحكى بعضهم تخفيفًا،" وساوى بينهما في العيون، فقال: وبعضهم يشدِّد قافه، وبعضهم يخففها، وهو ظلع في قوائم الدواب.(5/103)
والسرحان: بكسر السين المهملة وسكون الراء, ذكره ابن خالويه.
والطرف: بكسر الطاء المهملة وسكون الراء بعدها فاء, ذكره ابن قتيبة في المعارف، وذكر في رواية أنه الذي اشتراه من الأعرابي, وشهد له خزيمة بن ثابت.
والمرتجل: بكسر الجيم, ذكره ابن خالويه، من قولهم: ارتجل الفرس ارتجالًا، إذا خلط العنق بشيء من الهملجة.
والمرواح: بكسر الميم, من أبنية المفاعلة -كالمطعام, مشتق من الريح، أو من الرواح؛ لتوسعه في الجري، أهداه له قوم من مذحج، ذكره ابن سعد.
وملاوح: بضم الميم وكسر الواو, ذكره ابن خالويه.
والمندوب: ذكره بعضهم في خيله -صلى الله عليه وسلم.
__________
"والسرحان -بكسر السين المهملة وسكون الراء" والسرحان: الذئب, وهذيل تسمي الأسد سرحانًا، قاله اليعمري، "ذكره ابن خالويه" الحسين بن أحمد, الإمام المشهور, المتوفَّى سنة سبعين وثلاثمائة، "والطرف -بكسر الطاء المهملة وسكون الراء بعدها فاء" وهو الكريم الآباء والأمهات, كلا طرفيه كريم.
"ذكره" عبد الله بن مسلم "بن قتيبة" الدينوري، المتوفَّى سنة سبع وستين ومائتين "في المعارف" ووقع في القاموس: وككتف فرس للنبي -صلى الله عليه وسلم, "وذكر في رواية أنه الذي اشتراه من الأعرابي" ثم جحده، "وشهد له خزيمة بن ثابت" بأنه باعه، "والمرتجل" بضم الميم وسكون الراء وفتح الفوقية و"بكسر الجيم" وباللام "ذكره ابن خالويه من قولهم: ارتجل الفرس ارتجالًا إذا خلط العنق" بفتح المهملة والنون, أن يباعد بين خطاه ويتوسّع في جريه "بشيء من الهملجة" وهي مقاربة الخطا مع الإسراع، "والمرواح بكسر الميم" وإسكان الراء, فواو، فألف، فحاء مهملة "من أبنية المفاعلة" للمبالغة "كالمطعام, مشتق من الريح" وأصله الواو, سُمِّيَ به "لسرعته" كالريح، "أو من الرواح لتوسعه في الجري" أو من الراحة؛ لأنه يستراح به. "أهداه له قوم من مذحج" بفتح الميم، وسكون المعجمة، وكسر المهملة، وجيم، "ذكره ابن سعد" محمد الحافظ الشهير. "وملاوح -بضم الميم، وكسر الواو،" فحاء مهملة، "ذكره ابن خالويه. والمندوب" من ندبه فانتدب، أي: دعاه فأجاب، "ذكره بعضهم،" وهو ابن عساكر في خيله -صلى الله عليه وسلم" قال ابن الأثير: أي: المطلوب, سُمِّيَ بذلك من الندب، وهو الرهن عند السباق، وقيل: لندب كان في جسمه، وهو أثر الجرح.(5/104)
والنجيب، ذكره ابن قتيبة، وأن في رواية: أنه الذي اشتراه من الأعرابي, وشهد له خزيمة.
واليعبوب واليعسوب: ذكرهما قاسم بن ثابت في كتاب الدلائل، وكان سرجه دفتاه من ليف.
__________
وقال عياض: يحتمل أنه لقب، أو اسم لغير معنى كسائر الأسماء، "والنجيب" بوزن كريم, ومعناه "ذكره ابن قتيبة، وأن في رواية أنه الذي اشتراه من الأعرابي، وشهد له خزيمة" بن ثابت، "واليعبوب" بفتح التحتية، وسكون المهملة، وموحدتين بينهما واو, الفرس الجواد، وجدول يعبوب: شديد الجري، "واليعسوب" وهو طائر أطول من الجرادة، لا يضم جناحيه إذا وقع، كما في الشامية، قال اليعمري: وهو أيضًا أمير النحل، والسيد: يعسوب قومه، واليعسوب: غرة تسطيل في وجه الفرس, انتهى.
"ذكرهما قاسم بن ثابت" بن حزم الأندلسي الفقيه المالكي المحدث, المقدَّم في المعرفة بالغريب والنحو والشعر، المشارك لأبيه في رحلته وشيوخه, الورِع الناسك، مجاب الدعوة، المتوفَّى سنة اثنتين وثلاثمائة "في كتاب الدلائل" فيما أغفل أبو عبيد وابن قتيبة من غريب الحديث، مات قاسم ولم يكمله، فتمَّه أبوه ثابت الحافظ الشهير، "وكان سرجه دفتاه" بفتح الدال: جانباه "من ليف" مبتدأ وخبر، والجملة في محل نصب خبر كان، وفي نسخة: دفتان بنون بدل الضمير، وفيه ما مَرَّ, واعلم أنه سقط في غالب النسخ من قوله، والسجل حتى هنا، وذكره أتم فائدة، وهو ثابت عند غير المصنف، وما أظنه إلّا سقط من أحد الكتبة سهوًا، فتبعه الناسخون منه؛ إذ الترجمة في ذكر خيله، وهذه ظاهرها العموم، وذكر السهيلي الضريس -بفتح الضاد المعجمة وكسر الراء وتحتية وسين مهملة، وتبعه اليعمري والعراقي، وزاد: الشحا -بفتح المعجمة وشد المهملة والقصر.
قال اليعمري: من قولهم: فرس بعيد الشحوة، أي: بعيد الخطوة، والأبلق: وهو الذي فيه بياض وسواد, حمل عليه بعض أصحابه. والأدهم، أي: الأسود، وزاد بعضهم: اليعسوب -بتقديم العين على الياء.
قال ابن بطال: معلوم أن المدينة لم تخل من إناث الخيل، ولم ينقل عن النبي -صلى الله عليه وسلم، ولا جملة أصحاب أنهم ركبوا غير الفحول إلّا ما ذكر عن سعد بن أبي وقاص، قال في الفتح: كذا قال: وهو محل توقّف، وقد روى الدارقطني أن فرس المقداد كان أنثى، وفي البخاري عن راشد بن سعد الدمشقي، التابعي الوسط قال: كان السلف يستحبون الفحولة؛ لأنها أجرى،(5/105)
وكان له عليه الصلاة والسلام من البغال:
دلدل: بدالين مهملتين، وكانت شهباء, أهداها له المقوقس.
وفضة: أهداها له فروة بن عمرو الجذامي.
وأخرى: أهداها له ابن العلماء،
__________
وأجسر.
وروى الوليد بن مسلم في الجهاد عن عبادة بن نسي -بنون ومهملة, مصغَّر، وعن ابن محيرير, أنهم كانوا يستحبون إناث الخيل في الغارات والبيات، ولما خفي من أمور الحرب، ويستحبون الفحول في الصفوف والحصون، ولما ظهر من أمور الحرب.
وروي عن خالد بن الوليد أنه كان لا يقاتل إلَّا على أنثى؛ لأنها تدفع البول، وهي أقل صهيلًا، والفحل يحبسه في جريه حتى ينفتق، ويؤذي بصهيله، "وكان له -عليه الصلاة والسلام- من البغال دلدل بدالين مهملتين" مضمومتين ولامين أولاهما ساكنة، "وكانت شهباء" بياضها غالب على سوادها، ومن ثَمَّ أطلق عليها عمرو بن الحارث الصحابي أنّها بيضاء، كما في الصحيح وغيره، وقال بعضهم: كانت بيضاء، وقيل: شهباء.
قال في التحفة: وزعم بعض اللغويين في نحو الحمار، والجمل، والبغل، أنه يطلق على الذكر والأنثى شاذ، أو خفي, وإن بنى على ذلك أنه لو حلف لا يركب بغلًا أو بغلة حنَثَ في كلٍّ بهما، وأن بلغته -صلى الله عليه وسلم- دلدل الباقية إلى زمن معاوية أنثى، كما أجاب به ابن صلاح، أو ذكر، كما نقل عن إجماع أهل الحديث، ويدل له قوله -عليه الصلاة والسلام: "ابرك دلدل"، ولم يقل: ابركي، "أهداها له المقوقس،" قيل: وهي أول بغلة رؤيت في الإسلام، وكان -صلى الله عليه وسلم- يركبها في السفر، وعاشت بعده حتى كبرت وسقطت أسنانها، وكان يجش لها الشعير، وعميت وماتت بينبع.
وفي تاريخ ابن عساكر من طرق, أنها بقيت حتى قاتل علي عليها الخوارج في خلافته، وفي البخاري، وغيره، عن عمرو بن الحارث: ما ترك -صلى الله عليه وسلم- إلّا بغلته البيضاء وسلاحه، وأرضًا تركها صدقة.
قال شراحه: هي دلدل؛ لأن أهل السِّيَر لم يذكروا بغلة بقيت بعده سواها، "وفضة" بمنع الصرف للعلمية والتأنيث "أهداها له فروة بن عمرو الجذامي،" فوهبها لأبي بكر, رواه ابن سعد، وكانت بيضاء، وهي التي كان عليها يوم حنين، كما في مسلم عن العباس، وعنده عن سلمة, كانت شهباء، ولا منافاة، وقيل: كان على دلدل, ذكره ابن سعد وغيره، وجمع القطب الحلبي باحتمال أنه ركب كلًا منهما يومئذ، كما مَرَّ مبسوطًا، "وأخرى أهداها له ابن العلماء" بفتح العين(5/106)
صاحب أيلة, وأخرى من دومة الجندل، وأخرى من عند النجاشي.
قيل: وأهدى له كسر بغلة أخرى، وفي ذلك نظر؛ لأن كسرى مزَّق كتابه -صلى الله عليه وسلم.
__________
المهملة وإسكان اللام وبالمد تأنيث الأعلم، مشقوق الشفة العليا، قاله القرطبي "صاحب أيلة" بفتح الهمزة وسكون التحتية، مدينة على ساحل البحر بين مصر ومكة، قاله أبو عبيدة، وقال غيره: هي آخر الحجاز، وأول الشام.
روى مسلم في حديث أبي حميد: وجاء رسول ابن العلماء صاحب أيلة إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بكتاب، وأهدى له بغلة بيضاء، وعند ابن إسحاق: ولما انتهى -صلى الله عليه وسلم- إلى تبوك أتاه يحنَّة بن رؤبة صاحب أيلة، فصالحه وأعطاه الجزية، وكذا رواه إبراهيم الحربي في الهدايا من حديث عليّ، قال في فتح الباري: فاستفيد من هذا اسمه، واسم أبيه، ولعلَّ العلماء اسم أمه، ويحنّة -بضم التحتانية وفتح المهملة وتشديد النون، ورؤبة -بضم الراء وسكون الواو بعدها موحدة. انتهى، فقول الحافط البرهان: لا أعرف اسم ابن العلماء، ولا أعرف له إسلامًا، تقصير شديد، وقد مَرَّ شيء من ذلك في تبوك وفي المكاتبات، وذكر بعضهم أنه -صلى الله عليه وسلم- أهدى إليه بردًا، وأنَّ حكمة ذلك أنه لما أهدى إليه ما يعلو المصطفى عليه، وهو البغلة، وكانت طويلة مخندفة، حسنة السير فأعجبته, أهدى له ما يعلو عليه، أي: على يُحَنَّة، وهو البرد ليكون العلوّ له -صلى الله عليه سلم- في الطرفين, "وأخرى من دومة الجندل" أهداها له صاحبها, وهو أكيدر بن عبد الملك النصراني, اختلف في إسلامه، والأكثر وهو الأصح أنه لم يسلم، وأن خالد بن الوليد قتله على نصرانيته في خلافة أبي بكر، كما مَرَّ مفصَّلًا في تبوك وفي المكاتبات، "وأخرى من عند النجاشي".
روى أبو الشيخ في كتاب أخلاق النبي -صلى الله عليه وسلم، عن ابن عباس, أهدى النجاشي إلى رسول الله بغلة فكان يركبها، "قيل: وأهدى له كسرى بغلة أخرى" أخرجه الثعالبي في تفسيره، والحاكم في مستدركه عن ابن عباس، أنَّ كسرى أهدى للنبي -صلى الله عليه وسلم- بغلة، فركبها بحبل من شعر، ثم أردفني خلفه، "وفي ذلك نظر" كما قال الحافظ الدمياطي، قال: "لأنَّ كسرى مزق كتابه -صلى الله عليه وسلم،" فبعيد أن يهدي له، وأجيب باحتمال أن الذي أهداها له شيرويه ولده، أو ابن عمّه كسرى بن قباذ، أو أردشير بن شيرويه، أو جرهان، فإن هؤلاء كلهم ملكوا بعد قتل أبرويز، ثم ملك بعدهم بوران بنت كسرى، كما ذكره ابن قتيبة، قلت: على أنه لا يلزم من تمزيق الكتاب أن لا يهدي إليه، فإنه مزقه لما ورد عليه لسورة الملك, والشقاوة التي كتبت عليه، فيحتمل أنه لما خلا بنفسه خاف لاستيقانه نبوته, فأهدى له البغلة، والعلم عند الله, فهذه ست، وزاد بعضهم سابعة تسمَّى: حمارة شامية، رواه ابن السكن عن بسر -بضم الموحدة وسكون المهملة, والد عبد الله(5/107)
وكان له عليه الصلاة والسلام من الحمير: عفير، أهداه له المقوقس، ويعفور, أهداه له فروة بن عمرو والجذامي، ويقول: هما واحد، وذكر أن سعد بن عبادة أعطى للنبي -صلى الله عليه وسلم- حمارًا فركبه.
__________
الحارثي، واستدلَّ بهذا على جواز اتخاذ البغال، وإنزاء الحمر على الخيل، وأمَّا حديث علي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إنما يفعل ذلك الذين لا يعلمون".
أخرجه أبو داود والنسائي، وصحَّحه ابن حبان، فقال الطحاوي: أخذ به قوم فحرَّموا ذلك، ولا حجة فيه؛ لأن معناه: الحض على تكثير الخيل لما فيها من الثواب، وكأنَّ المراد: لا يعلمون الثواب المرتَّب على ذلك، "وكان له -عليه الصلاة والسلام- من الحمير عفير".
قال الحافظ: بالمهملة والياء, مصغَّر مأخوذ من العفرة، وهو لون التراب، كأنه سمي بذلك للونه، والعفرة حمرة يخالطها بياض، وهو تصغير أعفر، أخرجوه عن بناء أصله، كما قالوا: سويد في تصغير أسود، ووَهِمَ من ضبطه بالغين المعجمة.
روى البخاري عن معاذ: كنت ردف النبي -صلى الله عليه وسلم- على حمارٍ يقول له عفير، فقال: "يا معاذ, هل تدري ما حق الله على عباده، وما حق العباد على الله؟ " قلت: الله ورسوله أعلم، قال: "فإن حق الله على العباد أن يعبدوه، ولا يشركوا به شيئًا، وحق العباد على اله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئًا"، فقلت: يا رسول الله، أفلا أبشِّر الناس، قال: "لا تبشرهم فيتكلوا". "أهداه له المقوقس" في جملة الهدايا, "ويعفور" بسكون المهملة وضم الفاء, مصروف، قال الحافظ وغيره: هو اسم ولد الظبي، كأنه سُمِّيَ بذلك لسرعته، وقيل: تشبيهًا في عدوه باليعفور، وهو الخشف، أي: ولد الظبي، وولد البقرة الوحشية، "أهداه له فروة بن عمرو الجذامي" قال الواقدي: نَفِقَ يعفور، أي: مات, منصرف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من حجة الوداع، وبه جزم النووي عن ابن صلاح، وقيل: طرح نفسه في بئر لأبي الهيثم ابن التيهان يوم مات -صلى الله عليه وسلم، فكانت قبره، وقع ذلك في حديث طويل ذكره ابن حبَّان في الضعفاء، وقال: لا أصل له، وليس سنده بشيء، وفيه أنه غنمه من خيبر، كان اسمه يزيد بن شهاب، وقد ساقه المصنف في المعجزات.
وروى الطيالسي وابن سعد عن ابن مسعود، قال: كانت الأنبياء يلبسون الصوف، ويحلبون الشاة، ويركبون الحمير, كان لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- حمار يقال له عفير، ثم المشهور كما في الألفية، وهو قول الجمهور: أنهما اثنان، "ويقول: هما واحد", قال في الفتح: زعمه ابن عبدوس، وقواه صاحب الهدى، وردّه الدمياطي، فقال: عفير أهداه المقوقس، ويعفور فروة بن عمرو، وقيل بالعكس "وذكر أن سعد بن عبادة" سيد الخزرج "أعطى النبي -صلى الله عليه وسلم- حمارًا، فركبه".
روى يحيى بن منده في كتاب أسماء من أردفه النبي -صلى الله عليه وسلم- خلفه، أنه -صلى الله عليه وسلم- زار سعدًا ماشيًا،(5/108)
وكان له -عليه الصلاة والسلام- من اللقاح: القصواء, وهي التي هاجر عليها، والعضباء, والجدعاء، ولم يكن بهما عضب ولا جدع، وإنما سميتا بذلك،
__________
فأركبه في رجوعه حمارًا، وأرسل قيس بن سعد معه، فأردفه -صلى الله عليه وسلم- خلفه، فلمَّا وصل إلى بيته أراد أن يردَّ الحمار، فقال: هو لك هدية، وزاد في الشامية حمارًا رابعًا أعطاه له بعض الصحابة، "وكان له -عليه الصلاة والسلام- من اللقاح" بكسر اللام فقط، وخفة القاف, جمع لقحة -بكسر اللام وفتحها، وهي الناقة القريبة العهد بالولادة إلى ثلاثة أشهر، ثم هي بعد الثلاثة لبون، وجاء اللقحة في البقر والغنم أيضًا، كما ذكره البرهان في غزوة الغابة "القصواء" بفتح القاف، والمد على غير قياس، والقياس القصر، كما وقع في بعض نسخ أبي ذر، والقصو: قطع طرف الأذن، وقد قيل: كان طرف أذنها مقطوعًا.
وزعم الداودي شارح البخاري أنها كانت لا تسبق، فقيل لها القصواء؛ لأنها بلغت من السبق أقصاه.
قال عياض: ووقع في رواية العذري في مسلم -بالضم والقصر، وهو خطأ، وقال الخطابي: أكثر أصحاب الحديث يقولون بالضم، والقصر، وهو خطأ فاحش, إنما القصوى تأنيث الأقصى، كالسفلى تأنيث الأسفل، "وهي" كما قال الواقدي: وتبعه غير واحد من الحفّاظ "التي هاجر عليها" اشتراها من أبي بكر بثمانمائة درهم، وكانت من نعم بني قشير، وعاشت بعده -صلى الله عليه وسلم، وماتت في خلافة أبي بكر، وكانت مرسلة ترعى بالبقيع.
ذكره الواقدي، وعند ابن إسحاق: أنَّ التي هاجر عليها الجدعاء، وكانت من إبل بني الحريش، وكذا في رواية البخاري في غزوة الرجيع، وابن حبان عن عائشة، وهو أقوى إن لم نقل أنهما واحدة، وكان على القصواء يوم الحديبية، ويوم الفتح دخل عليها مردفًا أسامة.
"والعضباء" بفتح المهملة، وسكون المعجمة، بعدها موحدة، وهى المقطوعة الآذان، أو المشقوقتها.
وقال ابن فارس: كان ذلك لقتالها، وقال الزمخشري: العضباء منقول من قولهم ناقة عضباء، أي: قصيرة القد.
"والجدعاء" بفتح اجيم، وإسكان الدال المهملة، كما ضبطه المصنف، وغيره في شرح الصحيح، وهو الذي في اللغة، فقول الشامي: المعجمة سبق قلم بعدها عين مهملة, هي المقطوعة الأنف، أو الأذن، أو الشفة, "ولم يكن بهما عضب، ولا جدع، وإنما سميتا بذلك" قاله ابن فارس، وتبعه ابن الأثير، وغيره محتجين بقول أنس في الصحيح: تسمَّى العضباء، وقوله: ويقال:(5/109)
وقيل: كان بأذنها عضب، وقيل: العضباء والجدعاء واحدة، والعضباء هي التي كانت لا تسبق, فجاء أعرابي على قعود له فسبقها, فشقَّ ذلك على المسلمين, فقال -عليه الصلاة والسلام: "إن حقًّا على الله أن لا يرفع من الدنيا شيئًا إلّا وضعه".
__________
لها العضباء، ولو كانت تلك صفتها لم يحتج لذلك، "وقيل: كان بأذنها عضب" وبه صدّر في الفتح، وقابله بقول ابن فارس، وبقول غيره: كانت مشقوقة الأذن، "وقيل: العضباء والجدعاء واحدة" قال في الفتح: اختُلِفَ هل العضباء هي القصواء أو غيرها, فجزم الحربي بالأوّل، وقال: تسمَّى العضباء والقصواء والجدعاء، وروى ذلك ابن سعد عن الواقدي، وقال غيره بالثاني، وقال: الجدعاء كانت شهباء، وكان لا يحمله عند نزول الوحي غيرها, انتهى، وعلى الأوَّل جرى العراقي في قوله:
عضباء جدعاء هما القصواء
لكن روى البزار عن أنس, خطبنا النبي -صلى الله عليه وسلم- على العضباء، وليست بالجدعاء، قال السهيلي: فهذا من قول أنس أنها غير الجدعاء، وهو الصحيح، "والعضباء هي التي كانت لا تسبق" أخرج البخاري عن أنس قال: كان للنبي -صلى الله عليه وسلم- ناقة تسمَّى العضباء لا تسبق، "فجاء أعرابي" قال الحافظ: لم أقف على اسمه بعد التتبع الشديد, "على قعود له" بفتح الاف, ما استحقَّ الركوب من الإبل، قال الجوهري: هو البكر حتى يركب، وأقل ذلك أن يكون ابن سنتين إلى أن يدخل السادسة، فيسمَّى جميلًا.
وقال الأزهري: لا يقال إلًَّا للذكر، ولا يقال للأنثى قعودة، وإنما يقال لها: قلوص، قال: وقد حكى الكسائي في النوادر: قعودة للقلوص، وكلام الأكثر على غيره، وقال الخليل: القعود من الإبل ما يعده الراعي لحمل متاعه، والهاء فيه للمبالغة، "فسبقها", وعند أبي نعيم: فسابقها فسبقها، وللنسائي سابق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أعرابي فسبقه، "فشقَّ ذلك على المسلمين" حتى عرفه، كما في البخاري، أي: عرف أثر المشقة، "فقال -عليه الصلاة والسلام", وللبخاري في الرقاق، فلمَّا رأى ما في وجوههم، وقالوا: سبقت العضباء، قال: "إن حقًّا على الله" متعلق بحقًّا "أن لا يرفع من الدنيا شيئًا إلّا وضعه" خبر إن وأن مصدرية، فيكون معرفة, والاسم نكرة من باب القلب، أي: إن عدم الارتفاع حق على الله، ويمكن أن يقال: على الله صفة حقًّا، أي: حقًّا ثابتًا على الله، قال الطيبي: وفي رواية للبخاري: "أن لا يرتفع شيء من الدنيا"، وللنسائي: "أن لا يرجع شيء بقسمه في الدنيا"، وفي الحديث اتخاذ الإبل للركوب، والمسابقة عليها، والتزهيد في الدنيا للإشارة إلى أن كل شيء منها لا يرتفع إلّا اتَّضع، والحثّ على التواضع، وحسن خلقه -صلى الله عليه وسلم،(5/110)
وغنم -عليه الصلاة والسلام- يوم بدر جملًا لأبي جهل في أنفه برة من فضة، فأهداه يوم الحديبية ليغيظ بذلك المشركين.
وكانت له -عليه الصلاة والسلام- خمسة وأربعون لقحة, أرسل بها إليه سعد بن عبادة: منها: أطلال، وأطراف، وبردة، وبركة، والبغوم، والحناء، وزمزم، والرياء، والسعدية، والسقيا، والسمراء، والشقراء، وعجرة والعريس،
__________
وتواضعه، وعظمته في صدور أصحابه, انتهى. "وغنم -عليه الصلاة والسلام- يوم بدر جملًا" يسمَّى المكتسب، كما في الألفية -بفتح المهملة, على صيغة اسم المفعول "لأبي جهل, في أنفه برة" بضم الموحدة وفتح الراء المخففة وتاء تأنيث, حلقة صغيرة "من فضة", فكان عنده -صلى الله عليه وسلم- يغزو عليه، ويضرب في لقاحه، "فأهداه" نحوه في جملة ما أهدى "يوم الحديبية, ليغيظ بذلك المشركين" وذكر في الألفية جملين آخرين، فقال:
وعيرهن والجمال الثعلب ... وجمل أحمر والمكتسب
غنمه في يوم بدر من أبي ... جهل، فأهداه إلى البيت النبي
وقد روى ابن سعد عن نبيط بن شريط قال: رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في حجته على جمل أحمر، "وكانت له -عليه الصلاة والسلام- خمسة وأربعون لقحة، أرسل بها إليه سعد بن عبادة" المصنف في عهده، كونه أرسل الجميع، والذي في الهدى: كانت له خمسة وأربعون لقحة مهرة، أرسل بها سعد، أي: منها اللقحة المسمَّاة مهرة، وكذا ذكر اليعمري أن سعدًا أرسل مهرة، فسقط من المصنف لفظ مهرة، فأوهم, "منها أطلال" بفتح الهمزة، "وأطراف" إنما ذكرهما العراقي بعد الكلام على اللقاح في باب ذكر منائحه, جمع منيحة، وهي الشاة "وبردة" أهداها له الضحاك بين سفاين، وكانت غزيرة اللبن تحلب، كما تحلب لقحتان غزيرتان، ذكره اليعمري وغيره، وهو مما يرد قول: أرسل بها سعد، "والبغوم" بضم الموحدة والغين المعجمة وسكون الواو، وهو في الأصل: صوت الناقة التي لا تفصح به، "وبركة" بالتحريك, إنما ذكره العراقي اسمًا لمنيحة، "والحناء" بفتح المهملة وشد النون ومد، وهي التي نحرها العرنيون، "وزمزم" إنما ذكره العراقي اسمًا لشاة، "والرياء" بفتح الراء وشد التحتية ومد.
"والسعدية" بفتح السين وسكون العين وكسر الدال المهملات، "والسقيا" بضم أوله، وإسكان القاف, إنما هي في الألفية اسم لشاة.
"والسمراء" بفتح المهملة والمد كانت لعائشة، و"الشقراء" بمعجمة وقاف، "وعجرة" بفتح العين، وسكون الجيم, إنما ذكره العراقي اسمًا لشاة، "والعريس" بضم العين، وفتح الراء(5/111)
وغوثة، وقيل: غيثة، وقمر، ومروة، ومهرة، وورشة، واليسيرة.
وكانت له مائة شاة، وكانت له سبعة أعنز منائح ترعاهنَّ أم أيمن.
__________
المهملتين، وشد التحتية، وسين مهملة، و"وغوثة" بغين معجمة"، ومثلثة، و"قيل: غيثة" بياء بدل الواو، "وقمر" وهذه والتي قبلها إنما ذكرهما اليعمري والعراقي اسمًا لشاتين، وروى ابن سعد: كان له -صلى الله عليه وسلم- شاة تسمَّى قمر، "ومروة" أهداها له سعد بن عبادة، "ومهرة" بضم الميم، قال اليعمري وغيره: بعث إليه بها سعد بن عبادة من نعم بني عقيل، "وورشة" بشين معجمة، "واليسيرة" بضم أوله، ومن قوله: منها إلى هنا, ساقط من بعض النسخ، ولعله الصواب، فإن كثيرًا منها إنما ذكره العراقي اسمًا للمنيحة، كما رأيت، ووافقه اليعمري على بعضها، ولم يتكلم على أسماء الباقي، فإن صحَّ ما ذكره المصنف بناءً على ثبوته عنه، فتكون تلك الأسماء سُمِّيَ بها كلٌّ من اللقاح والمنائح, والعلم عند الله. "وكانت له مائة شاة" لا يريد أن تزيد على ذلك، كلما ولدت بهيمة ذبح الراعي مكانها شاة, رواه أبو داود، وفي العيون: كانت له شاة تسمَّى غوثة, وقيل: غيثة، وشاة تسمَّى قمر, وعنز تسمَّى اليمن، "وكانت له سبة أعنز منائح ترعاهن أم أيمن" بركة الحبشية، ومنائح جمع منيحة، وهي في الأصل شاة، أو بقرة يعطيها صاحبها لمن يشرب لبنها، ثم يردّا إذا انقطع اللبن، ثم كثر استعمالها حتى أطلق على كل شاة، أو بقرة معدَّة لشرب لبنها، لكن المراد هنا الشياه، فقد قال اليعمري: وأمَّا البقر، فلم ينقل أنه -صلى الله عليه وسلم- ملك منها شيئًا. انتهى، أي: للقنية، فلا يرد عليه ما في الصحيح أنه -صلى الله عليه وسلم- ضحَّى عن نسائه بالبقر في حجة الوداع، وتجويز أنهنّ ملكنها، فضحَّى هو بها, رده البرهان بأن في مسند أحمد عن عائشة: دخل علينا يوم النحر بلحم بقر، فقلت: ما هذا، قال: نحره -صلى الله عليه وسلم- عن أزواجه، وبوّب عليه البخاري: باب ذبح الرجل البقر عن نسائه من غير أمرهنَّ، قال العراقي:
وكان ديك عنده أبيض له ... كذا المحب الطبري نقله
يشير إلى ما رواه أبو نعيم، والحارث بن أبي أسامة بسند ضعيف، عن أبي زيد الأنصار مرفوعًا, الديك الأبيض صديقي، وعدو إبليس يحرس داره، وتسع دور حولها، وكان -صلى الله عليه وسلم- يبيته معه في البيت، وأحاديث الديك حكم ابن الجوزي بوضعها، وردَّ عليه الحافظ بما حاصله أنه لم يتبين له الحكم بوضعها؛ إذ ليس فيها وضَّاع ولا كذاب, نعم هو ضعيف من جميع طرقه, والله تعالى أعلم.(5/112)
الفصل العاشر: في ذكر من وفد عليه صلى الله عليه وسلم وزاده فضلا وشرفا لديه
مدخل
...
الفصل العاشر: في ذكر من وفد عليه -صلى الله عليه وسلم- وزاده فضلًا وشرفًا لديه
قال النووي: الوفد: الجماعة المختارة للتقدم في لقاء العظماء، واحدهم: وافد، انتهى.
وكان ابتداء الوفود عليه -عليه الصلاة والسلام- بعد رجوعه من الجعرانة في آخر سنة ثمان وما بعدها، وقال ابن إسحاق: بعد غزوة تبوك، وقال ابن هشام: كانت سنة تسع تسمَّى سنة الوفود.
وقد سرد محمد بن سعد في.
__________
"الفصل العاشر":
"في ذكر من وفد" أي: قدم "عليه" بالإفراد, مراعاة اللفظ من, ولو راعى معناه لقال: وفدوا, وكلٌّ جائز، ويعدَّى بعلى وإلى, "صلى الله وسلم عليه", فكان المناسب تعديته بإلى حتى يغاير هذه الفقرة، "وزاده فضلًا وشرفًا لديه" عنده.
"قال النووي: الوفد: الجماعة المختارة للتقدم" صلة المختارة، أي: التي اختيرت لفصاحة ونحوها للتقدم "في لقاء" أي: ملاقاة "العظماء, واحدهم: وافد" أي: راكب، قاله ابن كثير وغيره في تفسير وفد. "انتهى" كلام النووي وأقرّه في الفتح, وكأنه استعمال عرفي، وإلّا ففي اللغة: إن الوافد القادم مطلقًا مختارًا للقاء العظماء أم لا؟ راكبًا أم لا.
قال القاموس: وفد إليه وعليه، يفد وفدًا ووفودًا ووفادة وإفادة، قدم وورد, ونحوه في الصحاح وغيره، "وكان ابتداء الوفود" مصدر وَفَد لا جمع, ضرورة إضافته إلى ابتداء، أي: لقدوم "عليه -عليه الصلاة والسلام- بعد رجوعه من الجعرانة" حين قدم من غزوة الطائف، فانتهى إليها ليلة الخمس لليال خلون من ذي القعدة، فأقام بها ثلاث عشرة ليلة، وقسم بها غنائم حنين، فلما أراد الانصراف إلى المدينة خرج ليلة الأربعاء لاثنتي عشرة ليلة بقيت من ذي القعدة، فأحرم بعمرة ودخل مكة، كما قدَّمه المصنف هناك "في آخر سنة ثمان" أي: ما يقرب من آخرها لا آخر يوم منها، كما يفيده السياق، "و" استمرَّ فيها "بعدها" من سنة تسع وعشر إلى أن توفي -صلى الله عليه وسلم، فهو متعلق بمقدر لا عطف على سنة ثمان لفساده؛ إذ يصير معناه: الابتداء في آخر ما بعدها.
"وقال ابن إسحاق: بعد غزوة تبوك" ورجع منها في شعبان أو رمضان سنة تسع.
"وقال ابن هشام: كانت سنة تسع تسمَّى سنة الوفود،" يعني: كلها، فخالف شيخ شيخه في قوله: بعد تبوك، واستعمل الوفود ها جمعًا، وفيما قبله مصدرًا، "وقد سرد محمد بن سعد في(5/113)
الطبقات الوفود، وتبعه الدمياطي في السيرة له، وابن سيد الناس، ومغلطاي، والحافظ زين الدين العراقي. ومجموع ما ذكروه يزيد على الستين.
__________
الطبقات: الوفود، وتبعه الدمياطي في السيرة له, و" تلميذه "ابن سيد الناس ومغلطاي والحافظ زين الدين العراقي" في منظومته, "ومجموع ما ذكروه يزيد على الستين" ولا يبلغ السبعين على المتبادر من مثل هذه العبارة عرفًا، وقد سردهم الشامي فزادوا على مائة، فلعلّ الجماعة اقتصروا على المشهورين أو الآتين لترتيب مصالحهم، وذكر المصنف خمسًا وثلاثين وما للإيجاز.(5/114)
[الوفد الأول: وفد هوازن]
قدم -عليه الصلاة والسلام- وفد هوازن، كما رواه البخاري وغيره، وذكر موسى بن عقبة في المغازي: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما انصرف من الطائف في شوال إلى الجعرانة, وفيها السبي -يعني سبي هوازن, قدمت عليه وفود هوازن مسلمين، فيهم تسعة
__________
"الوفد الأول":
"قدم عليه -صلى الله عليه وسلم- وفد هوازن، كما رواه البخاري وغيره" من طريق الزهري عن عروة، عن المسور ومروان, أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قام حين جاءه وفد هوازن مسلمين، فسألوه: أن يردَّ إليهم سبيهم وأموالهم، فقال لهم -صلى الله عليه وسلم: "معي من ترون, وأحب الحديث إليّ أصدقه، فاختاروا إحدى الطائفتين: إما السبي، وإما المال، وقد كنت استأنيت بكم"، وكان انتظرهم بضع عشرة ليلة حين قفل من الطائف، فلمَّا تَبَيِّنَ لهم أنه -صلى الله عليه وسلم- غير رادّ إليهم إلّا إحدى الطائفتين، قالوا: فإنا نختار سبينا، فقام -صلى الله عليه وسلم- في المسلمين، فأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال: "أما بعد، فإن إخوانكم قد جاؤونا تائبين, وإني قد رأيت أن أردَّ عليهم سبيهم، فمن أحب منكم أن يطيب فليفعل، ومن أحب منكم أن يكون على حظه حتى نعطيه إياه من أوّل ما يفيء الله علينا فليفعل"، فقال الناس: قد طيبنا ذلك يا رسول الله، فقال -صلى الله عليه وسلم: "إنا لا ندري من أذن منكم في ذلك ممن لم يأذن، فارجعوا حتى يرجع إلينا عرفاؤكم أمركم"، فرجع الناس فكلمهم عرفاؤهم، ثم رجعوا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فأخبروه أنهم قد طيبوا وأذنوا.
"وذكر موسى بن عقبة" بالقاف "في المغازي" له "أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما انصرف من الطائف في شوال" متعلّق بانصرف, ووصل "إلى الجعرانة" ليلة الخامس من ذي القعدة لأمور عرضت له في الطريق اشتغل بها، وبهذا وافق قول ابن سيد الناس المعروف عند أهل السير أنه انتهى إلى الجعرانة لخمس ليالٍ خلون من ذي القعدة، "وفيها السبي -يعني سبي هوازن- قدمت عليه وفود هوازن" حال كونهم "مسلمين, فيهم تسعة نفر من أشرافهم" إضافة بيانية؛ إذ(5/114)
نفر من أشرافهم, فأسلموا وبايعوا، ثم كلموه فقالوا: يا رسول الله، إن فيمن أصبتم الأمهات والأخوات والعمات والخالات، فقال: "سأطلب لكم، وقد وقعت المقاسم، فأي الأمرين أحبّ إليكم، السبي أم المال"؟ قالوا: خيرتنا يا رسول الله بين الحسب والمال، فالحسب أحب إلينا، ولا نتكلم في شاة ولا بعير، فقال: "أما الذي لبني هاشم فهو لكم، وسوف أكلم لكم المسلمين فكلموهم وأظهروا إسلامكم".
فلمَّا صلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الهاجرة قاموا، فتكلَّم خطباؤهم, فأبلغوا فيه, ورغبوا إلى المسلمين في ردّ سبيهم،
__________
النفر الرجال من ثلاثة إلى عشرة، والمراد: أنَّ جملتهم تسعة، أو المراد بالنفر: الرجال مجازًا، فكأنه قال: تسعة من الرجال، فهي غير بيانية، "فأسلموا وبايعوا، ثم كلموه، فقالوا: يا رسول الله" بيان لما كلموه به، فهو عطف مفصَّل على مجمل "إن فيمن أصبتم الأمهات" بالكسر, اسم إن واللام فيه وفيما بعده عوض عن المضاف إليه، أي: أمهاتك، "والأخوات والعمات والخالات" لك, "فقال: "سأطلب لكم، وقد وقعت المقاسم" جمع مقسم كمنبر، أو مقسم كمقعد، بمعنى: الأنصباء، أي: فرقت الأنصباء من الغنيمة على أربابها، أو جمع مقسم كمسجد، أي: فرقت الغنائم في مواضع قسمتها، "فأي الأمرين أحب إليكم: السبي أم المال" بالجر بدل من الأمرين، "قالوا: خيَّرتنا يا رسول الله بين الحسب" شرف الإنسان، وإن لم يكن لآبائه شرف، أو هو الشرف الثابت له ولآبائه, "والمال، فالحسب أحب إلينا" من المال، "ولا نتكلم في شاة ولا بعير" يقع على الذكر والأنثى، كالشاة، "فقال: "أما الذي لبني هاشم فهو لكم، وسوف أكلم لكم المسلمين" أشفع لكم عندهم، "فكلموهم وأظهروا إسلامكم" كي يتحننوا عليكم؛ وأراد أن لا يكون هو الآمر ابتداء، فيصير في نفوس بعض القوم شيء من أمره برد ما أخذوه.
وفي رواية ابن إسحاق: "وأنا إذا بالناس فأظهروا إسلامكم وقولوا: إنا أخوانكم في الدين، وإنا نستشفع برسول الله إلى المسلمين، وبالمسلمين إلى رسول الله، فإني سأعطيكم ذلك وأسأل لكم الناس"، وعلمهم -صلى الله عليه وسلم- التشهد، أي: كلمة الشهادة كيف يكلمون الناس، "فلمَّا صلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الهاجرة،" يعني الظهر بالناس "قاموا".
زاد في رواية: فاستأذنوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الكلام، فأذن لهم، "فتكلم خطباؤهم،" أي المتكلون عنهم بما أمرهم به -صلى الله عليه وسلم، وأصابوا القول "فأبلغوا فيه ورغبوا" بفتح الراء وشد المعجمة المفتوحة. "إلى المسلمين" أي: حملوهم على الرغبة "في رد سبيهم،" ويجوز كسر المعجمة وتخفيفها، أي: قصدوا إلى المسلمين في ذلك، والأول أبلغ؛ لحملهم المسلمين على الرغبة في الرد بخلاف الثاني, فقصد منهم فقط، والمناسب لبلاغتهم ترغيب المسلمين لا القصد.(5/115)
ثم قام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين فرغ، وشفع لهم وحضَّ المسلمين عليه، وقال: "قد رددت الذي لبني هاشم عليهم"، وفي رواية ابن إسحاق عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: وأدركه وفد هوازن بالجعرانة وقد أسلموا، فقالوا: يا رسول الله، إنا أهل وعشيرة، وقد أصبنا من البلاء ما لم يخف عليك, فأمنن علينا منَّ الله عليك، وقام خطيبهم زهير بن صُرد فقال: يا رسول الله، إن اللواتي في الحظائر من السبايا خالاتك وعماتك وحواضنك اللاتي كن يكفلنك، وأنت خير مكفول
__________
وقد ذكر الفتح رواية ابن عقبة هذه بلفظ: ورغَّبوا المسلمين، بدون إلى، وهي تؤيد أو تعين الأول، وقول الشارح: رغبوا إلى الإسلام، أي: أظهروا حبهم له، ورغبوا في الدخول فيه سهو، فاللفظ إلى المسلمين لا الإسلام، "ثم قام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين فرغ" المصطفى من أذكار صلاته، أو خطيبهم، وهو ما عند ابن إسحاق، ولا ينافيه قوله: فتكلم خطباؤهم؛ لأنهم تكلّموا أولًا جميعًا، ثم خطب واحد وهو زهير، "وشفع لهم وحضَّ المسلمين عليه" أي: رد سبيهم، "وقال: قد رددت الذي لبني هاشم عليهم" من جملة الحض أو بيان له.
"وفي رواية ابن إسحاق عن" شيخه "عمرو بن شعيب" بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص صدوق، مات سنة ثماني عشرة ومائة، ولفظ ابن إسحاق: حدثني عمرو بن شعيب، "عن أبيه" شعيب السهمي، صدوق، ثبت سماعه "عن جده" عبد الله بن عمرو بن العاص, الصحابي ابن الصحابي، فضمير جده لشعيب لا لابنه عمرو، فهو متصل, أو لعمرو، ويحمل على الجد الأعلى، كما قال:
والأكثر احتجوا بعمرو حملًا ... له على الجد الكبير الأعلى
"وأدركه وفد هوازن بالجعرانة" لفظ ابن إسحاق عن جده عبد الله بن عمرو: أن وفد هوازن أتوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم, "وقد أسلموا، فقالوا" ترقيقًا واستعطافًا: "يا رسول الله, إنا أهل وعشيرة, وقد أصبنا من البلاء ما لم يخف عليك، فامنن علينا منَّ الله عليك، وقام خطيبهم،" أي: المتكلم عنهم "زهير" بضم الزاي، وفتح الهاء وسكون التحتية. "ابن صُرد". بضم الصاد، وفتح الراء ودال مهملات. مصروف, ليس معد, ولا السعدي الجشمي أو جرول، ويقال: أبو صرد.
قال ابن منده: سكن الشام، "فقال: يا رسول الله, إن اللواتي في الحظائر" بمهملة ومعجمة مشالة: جمع حظيرة، وهو السرب الذي يصنع للإبل والغنم يكفها، وكان السبي في حظائر مثلها "من السبايا خالاتك وعمَّاتك" من الرضاع، "وحواضنك اللاتي كنَّ يكفلنك وأنت خير مكفول" أي: تزيد في الفضل والشرف على كل مكفول.
وفي رواية الواقدي: وإن أبعدهنَّ قريب منك، حضنك في حجرهن، وأرضعنك ثديهن،(5/116)
ثم أنشد:
امنن علينا رسول الله في كرم ... فإنك المرء نرجوه وندخر
الأبيات المشهورة الآتية.
وروينا في المعجم الصغير للطبراني من ثلاثياته، عن زهير بن صرد الجشمي يقول: لما أسرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم حنين -يوم هوازن, وذهب يفرّق السبي والشاء, أتيته فأنشأت أقول:
امنن علينا رسول الله في كرم ... فإنك المرء نرجوه وندخر
امنن على بيضة قد عاقها قدر ... مشت شملها في دهرها غير
__________
وتوركنك على أوراكهنَّ وأنت خير المكفولين.
وفي رواية عند ابن إسحاق: أن زهيرًا قال: ولو أنَّا ملحنا للحارث بن أبي شمر، أو للنعمان بن المنذر، ثم نزل منَّا بمثل الذي نزلت, رجونا عطفه وعائدته علينا وأنت خير المكفولين، "ثم أنشد: امنن علينا" يا "رسول الله" فهو منادى بحذف الأداة "في كرم" في: سببية، أي: بسبب صفتك الجميلة التي هي كرمك, أو كرم بمعنى إكرام، أي: امنن علينا بإكرامك لنا لما بيننا وبينك من الوصلة، "فإنك المرء". بفتح الميم وبالراء والهمزة وأل: لاستغراق أفراد الجنس، أي: أنت المرء الجامع للصفات المحمودة المتفرقة في الرجال "نرجوه" لمهماتنا "وندخر" بدال هملة ومعجمة، أي: نختاره ونتخذه لما يعرض لنا من الأهوال، وأصله: نذتخر -بمعجمة, قلبت التاء دالًا، ثم أدغمت فيها الذال، ويجوز قلب المهملة معجمة، ويجوز ترك الإدغام، لكن إنما يتَّزن بالإدغام "الأبيات المشهورة الآتية" قريبًا في قوله: "وروينا في المعجم الصغير" وهو عن كل شيخ له حديث "للطبراني من ثلاثياته،" أي: ما وقع بينه وبين النبي -صلى الله عليه وسلم- ثلاثة أنفس، "عن زهير بن صرد،" ولفظ الطبراني: حدثنا عبيد الله بن دماحش القيسي. بزيادة الرملة, سنة أربع وسبعين ومائتين، قال: حدثنا أبو عمرو زياد بن طارق البلوي، وكان قد أتت عليه مائة وعشرون سنة، قال: سمعت أبا جرول زهير بن صرد "الجشمي" -بضم الجيم وفتح المعجمة وميم، نسبة إلى جشم, بطن من بني سعد "يقول: لما أسرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم حنين يوم هوازن" أي: أسر نساءنا وأولادنا، وكانوا ستة آلاف من الذراري والنساء، "وذهب يفرق السبي والشاء" جمع شاة، أي: وفرَّقهم بالفعل, "أتيته" في وفد هوازن، "فأنشأت أقول: امنن علينا" بهمزة مضمومة، فميم ساكنة، فنون مضمومة فأخرى ساكنة، أي: أحسن إلينا من غير طلب ثواب ولا جزاء يا "رسول الله في كرم، فإنك المرء" الرجل الكامل في صفة الرجولية "نرجوه وندَّخر" لنوائبنا "امنن على بيضة" أي: أهل وعشيرة "قد عاقها قدر، مشتت شملها في دهرها غير" بكسر(5/117)
أبقت لنا الدهر هتافًا على حزن ... على قلوبهم الغماء والغمر
إن لم تداركهم نعماء تنشرها ... يا أرجح الناس حلمًا حين تختبر
امنن على نسوة قد كنت ترضعها ... إذا فوك يملؤه من مخضها الدرر
إذ أنت طفل صغير كنت ترضعها ... وإذ يزينك ما تأتي وما تذر
لا تجعلنا كمن شالت نعامته ... واستبق منا فإنا معشر زهر
إنا لنشكر للنعماء إذ كفرت ... وعندنا بعد هذا اليوم مدخر
فألبس العفو من قد كنت ترضعه ... من أمهاتك إن العفو مشتهر
يا خير من مرحت كُمْت الجياد به ... عند الهياج إذا ما استوقد الشرر
إنا نؤمل عفوًا منك تلبسه ... هادي البرية إذ تعفو وتنتصر
فاعفوا عفا الله عمّا أنت راهبه ... يوم القيامة إذ يهدي لك الظفر
__________
المعجمة وفتح الياء، تغيّر حال وانتقالها من صلاح لفساد، "أبقت لنا الدهر" نصب معمول أبقت "هتافًا" بفتح الهاء وفوقية وفاء، أي: ذا هتف، أي: صوت مشتمل "على حزن" بفتحتين, "على قلوبهم الغماء" بفتح المعجمة وشد الميم، أي: الحزن؛ لأنه يغطي السرور، "والغمر" بفتح المعجمة، وتكسر، وميم مفتوحة وراء, الحقد, "إن لم تداركهم نعماء تنشرها" عليهم هلكوا، فجواب أن محذوف, أو هو شرط في أبقيت فلا حذف، "يا أرجح الناس حلمًا" عقلًا "حين تختبر" بالبناء للمفعول قيد به لظهوره بالاختبار. "امنن على نسوة قد كنت ترضعها" بفتح الفوقية. "إذ فوك يملؤه من مخضها" بفتح الميم، وسكون المعجمة, لبنها الخالص "الدرر" بكسر المهملة وفتح الراء الأولى, كثرة اللبن وسيلانه، جمع درة. "إذ أنت طفل صغير كنت ترضعها، وإذ يزينك" بفتح الياء وكسر الزاي. "ما تأتي وما تذر"، أي: تترك, "لا تجعلنا" بشد النون "كما شالت" ارتفعت "نعامته" أي: هلك، والنعامة باطن القدم، "واستبق منا" ثناء يدوم، "فإنا معشر زهر" بضمتين. "إنا لنشكر للنعماء" بفتح النون وإسكان العين وميم والمد، أي: النعمة؛ "إذ كفرت" بالبناء للمفول، "عندنا بعد هذا اليوم مدخر" بميم مضمومة، فمهملة مشددة، فمعجمة مفتوحتين فراء، "فألبس" بفتح الهمزة وكسر الموحدة. "العفو من قد كنت ترضعه من أمهاتك إن العفو مشتهر" حسنه بين الناس ظاهر، فهو وصف سببي, "يا خير من مرحت" بفتح الميم والراء والحاء المهملة. نشطت ورعت "كمت،" بضم الكاف، وسكون الميم وفوقية. جمع كيمت "الجياد". بكسر الجيم. "به عند الهياج". بكسر الهاء وخفة التحتية، وجم القتال "إذا ما استوقد" بالبناء للمفعول، "الشرر، إنا نؤمل"، نرجو "عفوًا منك تلبسه" بضم الفوقية، وسكون اللام وكسر الموحدة "هادي" بهاء ومهملة. منادى، أي: يا هادي "البرية"،(5/118)
قال: فلمَّا سمع النبي -صلى الله عليه وسلم- هذا الشعر قال: "ما كان لي ولعبد المطلب فهو لكم"، وقالت قريش: ما كان لنا فهو لله ولرسوله، وقالت الأنصار: ما كان لنا فهو لله ولرسوله.
ومن بين الطبراني وزهير لا يعرف، لكن يقوى حديثه بالمتابعة المذكورة، فهو حديث حسن، وقد وهم من زعم أنه منقطع
__________
وفي نسخة: بمعجمة, إشارة للنسوة التي طلب العفو عنهنَّ, "إذ تعفو وتنتصر" فتجمع بين الأمرين الحسنين، "فاعفو،" بواو الإشباع, أو على لغة من يجري المعتل مجرى الصحيح، "عفا الله عمَّا أنت راهبه" بموحدة, خائفه "يوم القيامة؛ إذ يهدي لك الظفر" أي: الفوز، "قال: فلمَّا سمع النبي -صلى الله عليه وسلم- هذا الشعر قال: "ما كان لي ولعبد المطلب" أي: آله المعبَّر عنهم في السابقة ببني هاشم.
وعند ابن إسحاق في حديث عمرو: لبني عبد المطلب, "فهو لكم" بلا فداء، "وقالت قريش: ما كان لنا فهو لله ولرسوله" يفعل فيه ما شاء، "وقالت الأنصار: ما كان لنا فهو لله ولرسوله".
زاد ابن إسحاق في حدث عمرو عن أبيه، عن جده: وقال الأقرع بن حابس: أما أنا وبنو تميم فلا، وقال عيينة بن حصن: أما أنا وبنو فزارة فلا، وقال عباس بن مرداس: أما أنا وبنو سليم فلا، فقالت بنو سليم: بلى ما كان لنا فهو لرسول الله -صلى الله عليه وسلم، فقال لهم عباس: وهنتموني، فقال -صلى الله عليه وسلم: " أما مَنْ تمسَّك منكم بهذا السبي فله بكل إنسان ست فرائض من أول سبي أصيبه، فردوا إليهم أبناءهم ونساءهم"، وعنده من طريق آخر: إلّا عيينة بن حصن أخذ عجوزًا من عجائز هوازن، وقال حين أخذها: أرى عجوزًا, إني لا أحسب لها في الحي نسبًا، وعسى أن يعظم فداؤها، فلما ردَّ -صلى الله عليه وسلم- السبايا بست فرائض أبى أن يردها، فقال له زهير بن صرد: خذها فوالله ما فوها ببارد، ولا ثديها بناهد، ولا بطنها بوالد، ولا زوجها بواحد، ولا درها بماكد. فردَّها بست فرائض حين ذلك، ولقي الأقرع فشكا إليه ذلك، فقال: والله إنك ما أخذتها بيضاء غريزة ولا نصقًا وتيرة، وكسا النبي -صلى الله عليه وسلم- كل واحد من السبي قبطية.
وقال ابن عقبة: كساهم ثياب المعقد -بضم الميم، وفتح المهملة والقاف الثقيلة, ضرب من برود هجر، "ومن بين الطبراني وزهير" وهم الرجلان "لا يعرف" بتعديل ولا جرح، "لكن يقوى حديثه بالمتابعة المذكورة".
في رواية عمرو بن شعيب عن أبيه، عن جدة: "فهو حديث حسن، وقد وَهِمَ من زعم أنه منقطع" كذا في الفتح.
وقال في الإصابة: وَهَّى ابن عبد البر إسناده من غير قادح، وقد أوضحته في لسان الميزان(5/119)
وقد زاد الطبراني على ما أورده ابن إسحاق خمسة أبيات.
وذكر الواقدي: إن وفد هوازن كانوا أربعة وعشرين بيتًا، فيهم أبو برقان السعدي، فقال: يا رسول الله، إن هذه الحظائر لأمهاتك وخالاتك وحواضنك ومرضعاتك, فامنن علينا منَّ الله عليك، فقال: "قد استأنيت بكم حتى ظننت أنكم لا تقدمون، وقد قسمت السبي".
__________
في ترجمة زياد بن طارق.
"وقد زاد الطبراني على ما أورده ابن إسحاق خمسة أبيات" أي: وأسقط مما ذكره بعض أبيات.
قال في الروض: لم يذكر ابن إسحاق شعر زهير في رواية البكائي، وذكره في رواية إبراهيم بن سعد عنه، وهو ذكر البيتين الأولين وقال عقبهما:
يا خير طفل ومولود ومنتخب ... في العالمين إذا ما حصل البشر
وأسقط بيت: أبقت لنا الدهر، وقال عقب ذا البيت: إن لم تداركهمو، حتى قوله: فإنا معشر زهر، وأسقط بيت: فألبس العفو، وذكر بعده: يا خير من مرحت، إلى آخر الشعر. انتهى، وعلى هذا، فالذي زاده الطبراني على ابن إسحاق بيتين فقط لا خمسة، كما قال المصنف تبعًا للفتح, إلّا أن يكون مرادهما رواية غير إبراهيم، كيونس الشيباني.
"وذكر الواقدي: أن وفد هوازن كانوا أربعة وعشرين بيتًا" قدموا مسلمين، وجاءوا بإسلام من وراءهم من قومهم، كما هو عند الواقدي، "فيهم أبو برقان".
قال الحافظ: بموحدة وقاف، ويقال: أبو مروان -بميم أوله، ويقال: أبو ثروان -بمثلثة أوّله- السعدي, عمه -صلى الله عليه وسلم- من الرضاعة, ذكره ابن سعد، "فقال: يا رسول الله, إن هذه الحظائر" أي: أهلها، يعني من فيها "لأمهاتك وخالاتك وحواضنك ومرضعاتك، فامنن علينا مَنَّ الله عليك، فقال: "قد استأنيت بكم".
قال الحافظ: أي: استنظرت، أي: أخَّرت قسم السبي لتحضروا، فأبطأتم "حتى ظننت أنكم لا تقدمون، وقد قسمت السبي" وقد كان ترك السبي بلا قسمة، وتوجّه إلى الطائف فحاصرها، ثم رجع إلى الجعرانة، ثم قسم الغنائم فيها، فجاءه بعد ذلك وفد هوازن، فبيِّنَ لهم أنه آخر القسم ليحضروا فأبطئوا. انتهى، أي: ثم شفع لهم ومن عليهم بسباياهم، كما مَرَّ.(5/120)
الوفد الثاني: وفد ثقيف
وقدم -عليه الصلاة والسلام- وفد ثقيف، بعد قدومه -عليه الصلاة والسلام- من تبوك، وكان من أمرهم أنه -صلى الله عليه وسلم- لما انصرف من الطائف قيل له: يا رسول الله, ادع لنا ثقيف، فقال: "اللهم اهد ثقيفًا وأتِ بهم".
ولما انصرف عنهم، اتبع أثره عروة بن مسعود حتى أدركه قبل أن يدخل المدينة، فأسلم وسأله أن يرجع إلى قومه بالإسلام،
__________
"الوفد الثاني":
"وقدم عليه -عليه الصلاة والسلام- وفد ثقيف بعد قدومه -عليه الصلاة والسلام- من تبوك"
المدينة في رمضان، كما قال ابن سعد وابن إسحاق، وجزم به مغلطاي، وقال بعضهم: في شعبان سنة تسع، وأما خروجه من المدينة إلى تبوك فكان يوم الخميس في رجب سنة تسع اتفاقًا كما مَرَّ، "وكان من أمرهم" أي: من جملة الأشياء المتعلقة بثقيف "أنه -صلى الله عليه وسلم- لما انصرف من الطائف" أي: ترك محاصرته، وعزم على السفر، "قيل له: يا رسول الله, ادع لنا ثقيف" فقد أحرقتنا نبالهم، "فقال: "اللهم اهد ثقيفًا" إلى الإسلام "وأت بهم" مسلمين.
روى الترمذي، وحسَّنه عن جابر قال: قالوا: يا رسول الله, أحرقتنا نبال ثقيف، فادع الله عليهم، فقال: "اللهم اهد ثقيفً وأت بهم".
وعند البيهقي عن عروة، ودعا -صلى الله عليه وسلم- حين ركب قافلًا، فقال: "اللهم اهدهم، واكفنا مؤنتهم"، "ولما انصرف عنهم،" أي: شرع فيه بالفعل ليغاير ما قبله "اتبع بشد التاء "أثره" بتثليث الهمزة وفتح المثلثة وإسكانها "عروة بن مسعود" بن معتب -بمهملة وفوقية مشددة، أن مالك كعب بن عمرو بن سعد بن عوف بن ثقيف الثقفي، وهو عمّ والد المغيرة بن شعبة، وأمه سبيعة بنت عبد مناف، كان أحد الأكابر, ممن قيل: إنه المراد بقوله تعالى: {عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف: 31] الآية، قال ابن عباس وجماعة: أرادوا الوليد بن المغيرة من أهل مكة، وعروة بن مسعود من أهل الطائف.
وفي مسلم: عرض على الأنبياء الحديث, وفيه: ورأيت عيسى فإذا أقرب من رأيت به شبهًا عروة بن مسعود، وله ذكر في الصحيح في قصة الحديبية، وكانت له اليد البيضاء في تقرير الصلح، وترجمة ابن عبد البر بأنه شهد الحديبية، وليس كذلك، فالعرف إذا أطلق على الصحابي أنه شهد غزوة كذا، فالمراد شهدها مسلمًا, فلا يقال شهد معاوية بدرًا؛ لأنه إذا أطلق ذلك ظنّ من لا خبرة له لكونه عرف أنه صحابي أنه شهدها مع المسلمين، أفاده في الإصابة. "حتى أدركه" أي: لحقه، ففيه تجريد، ففي المصباح: أدركته إذا طلبته، فلحقته "قبل أن يدخل المدينة"، كما عند ابن إسحاق، وعند موسى بن عقبة عن الزهري وأبي الأسود، عن عروة: لما صدر أبو بكر من الحج سنة تسع قدم عروة بن مسعود على النبي -صلى الله عليه وسلم، "فأسلم وسأله أن يرجع إلى قومه بالإسلام" أي: بإظهاره, وطلبه منهم.
وعند ابن عقبة وغيره، فقال: إني أخاف أن يقتلوك، فقال: لو وجدوني نائمًا ما أيقظوني.(5/121)
فلمَّا أشرف على علية له، وقد دعاهم إلى الإسلام وأظهر لهم دينه، رموه بالنبل من كل وجه، فأصابه سهم فقتله.
ثم أقامت ثقيف بعد قتله أشهرًا، ثم إنهم ائتمروا فيما بينهم, ورأوا أنهم لا طاقة لهم بحرب من حولهم من العرب، وقد بايعوا وأسلموا،
__________
وفي رواية ابن إسحاق، فقال له: "إنهم قاتلوك"، وعرف أن فيهم نخوة الامتناع، أي: كبره وعظمته، فقال: أنا أحب إليهم من أبكارهم.
وقال ابن هشام: من أبصارهم، وكان فيهم كذلك محببًا مطاعًا، فأذن له، فخرج يدعو قومه إلى الإسلام رجاء أن لا يخالفوه لمنزلته فيهم، "فلمَّا أشرف" ظهر "لهم على علية" بضم العين، وكسرها وشد التحتية, غرفة، "وقد دعاهم إلى الإسلام، وأظهر لهم دينه" بالإفراد، أي: الإسلام.
وفي نسخة: دينهم، أي: بطلان دينهم، لكن الرواية عند ابن إسحاق وغيره: إنما هي بالإفراد، ثم في هذه الرواية اختصار، ففي رواية ابن عقبة وغيره: فرجع، فدعاهم إلى الإسلام، ونصح لهم فنقصوه وأسمعوه من الأذى، فلمَّا كان من السحر قام على غرفة له، فأذن، "رموه بالنبل من كل وجه" أي: جهة، "فأصابه سهم فقتله".
وحكى ابن إسحاق: الخلاف في أنَّ اسم قاتله أوس بن عوف, أو وهب بن جارية، فقيل لعروة: ما ترى في دمك؟ قال: كرامة أكرمني الله بها، وشهادة ساقها الله إليَّ، فليس فيَّ إلّا ما في الشهداء الذين قتلوا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قبل أن يرتحل عنكم، فادفنوني معكم، فدفنوه معهم، فقال فيه النبي -صلى الله عليه وسلم: "إن مثله في قومه كمثل صاحب ياسين في قومه".
روى عروة بن مسعود الثقفي عن النبي -صلى الله عليه وسلم: "لقنوا موتاكم لا إله إلا الله, فإنها تهدم الخطايا" رواه ابن منده, إسناد ضعيف.
وروى أبو نعيم عنه: كان -صلى الله عليه وسلم- يوضع عنده الماء، فإذا بايع النساء لمسن أيديهن فيه، وإسناده ضعيف منقطع، "ثم أقامت ثقيف بعد قتله أشهرًا" نحو: ثمانية، فعند ابن إسحاق: قدم -صلى الله عليه وسلم- المدينة من تبوك في رمضان، وقدم عليه في ذلك الشهر وفد ثقيف، "ثم إنهم ائتمروا فيما بينهم, ورأوا أنهم لا طاقة" لا قوَّة "لهم بحرب من حولهم من العرب, و" الحال أنهم "قد بايعوا وأسلموا" أي: من حولهم، فبقي أهل الطائف منفردين بعد الإسلام معرضين للحرب.
وعند ابن إسحاق: أن عمرو بن أمية كان مهاجر العبد ياليل لشيء كان بينهما، وكان عمرو من أدهى العرب، فمشى إلى عبد ياليل حتى دخل داره, فخرج إليه فرحَّب به، فقال له عمر: إنه قد نزل بنا أمر ليست معه هجرة، إنه قد كان من أمر هذا الرجل ما قد رأيت، وقد أسلمت العرب كلها، وليست لكم بحربهم طاقة، فانظروا في أمركم، فعند ذلك ائتمرت ثقيف, وقال بعضهم(5/122)
وأجمعوا أن يرسلوا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم.
فبعثوا عبد ياليل بن عمرو بن عمير، ومعه اثنان من الأحلاف: الحكم بن عمرو بن وهب بن معتب بن مالك، وشرحبيل بن غيلان، وثلاثة من بني مالك: عثمان بن أبي العاص، وأوس بن عوف، ونمير.
__________
لبعض: ألا ترون أنه لا يأمن لكم سرب، ولا يخرج منكم أحد إلا اقتطع، فأتمروا بينهم "وأجمعوا" عزموا وصمَّموا على "أن يرسلوا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فبعثوا عبد ياليل بن عمرو" بفتح العين "ابن عمير" بضمها مصغَّر، كذا قاله ابن إسحاق، فذكره ابن حبان في الصحابة، فقال: له صحبة، وكان من الوفد، والذي قاله غيره: إن هذا إنما هو لولده مسعود، ذكره في الإصابة فيمن ذكر غلطًا في الصحابة، ومن الغير موسى بن عقبة، وابن الكلبي، وأبو عبيدة قالوا: إنه مسعود بن عبد ياليل، لكن صاحب الإصابة وغيره ترجموا مسعود بن عمرو.
وقالوا: إنه أخو عبد ياليل لا ابنه، وما ذكروا لابنه ترجمة، "ومعه اثنان من الأحلاف: الحكم بن عمرو بن وهب بن معتب" بضم الميم، وفتح العين المهملة، وكسر الفوقية وموحّدة، ويجوز فيه إسكان العين، وكسر الفوقية "ابن مالك" بن كعب بن عمرو بن سعد بن عوف بن ثقيف الثقفي، كذا نسبه في الإصابة ثقيفًا, والمصنف تبعًا لابن إسحاق قالا: إنه من أحلافهم، "وشرحبيل" بفتح المعجمة والراء، وإسكان المهملة وكسر الموحدة وتحتية ولام "ابن غيلان" بفتح المعجمة وسكون التحتية, ابن معتب بن مالك الثقفي.
قال ابن سعد: نزل الطائف وله صحبة، ومات سنة ستين.
قال أبو عمرو: له حديث في الاستغفار بين كل سجدتين, ليس مما يحتجّ بإسناده، "وثلاثة من بني مالك: عثمان بن أبي العاص" بن بشر بن عبيد بن درهمان بن عبد الله الثقفي، أبو عبد الله, نزيل البصرة, أسلم في ود ثقيف، فاستعمله النبي -صلى الله عليه وسلم- على الطائف، وأقرَّه أبو بكر، ثم استعمله عمر على البحرين وعمان سنة خمس عشرة، ثم سكن البصرة حتى مات بها، قيل: سنة خمسين، وقيل: سنة إحدى وخمسين، وكان هو الذي منع ثقيفًا عن الردة, خطبهم فقال: كنتم آخر الناس إسلامًا، فلا تكونوا أولهم ارتدادًا، وجاء عنه: إنه شهد آمنة لما ولدت النبي -صلى الله عليه وسلم، فعلى هذا يكون عاش نحوًا من مائة وعشرين سنة.
روى عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أحاديث في مسلم والسنن، "وأوس بن عوف" بن جابر بن سفيان بن عبد ياليل بن سالم بن مالك، كذا نسبه ابن حبان في الصحابة، وقال: كان في وفد ثقيف، وزعم أبو نعيم أنه هو أوس بن حذيفة، نسب إلى عوف أحد أجداده.
قال الحافظ: وليس كذلك, لاختلاف النسبين "ونمير" بضم النون، وفتح الميم، وإسكان(5/123)
ابن خرشة، فلمَّا قدموا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ضرب عليهم قبة في ناحية المسجد، وكان خالد بن سعيد بن العاص هو الذي يمشي بينهم وبين رسول الله -صلى الله عليه وسلم, حتى أسلموا واكتتبوا كتابهم، وكان خالد هو الذي كتبه، وكان فيما سألوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يدع لهم الطاغية -وهي اللات, لا يهدمها ثلاث سنين، فأبى عليهم -عليه الصلاة والسلام- إلّا أن يبعث أبا سفيان بن حرب والمغيرة بن شعبة يهدمانها.
وكان فيما سألوه مع ذلك أن يعفيهم من الصلاة، وأن لا يكسروا.
__________
التحتية وراء. "ابن خرشة" بفتح المعجمة والراء المعجمة, ابن ربيعة بن الحارث بن حبيب بن الحارث بن حطيط بن جشم بن ثقيف, نسبه ابن حبان.
وقال أبو عمرو: هو حليف لهم من بني كعب، أخرج البغوي وابن السكن وأبو نعيم عنه, قال: أدركنا النبي -صلى الله عليه وسلم- بالجحفة, فاستبشر الناس قدومنا. الحديث. وذكر في سياق اشتراطهم ما اشترط، وذكره في الإصابة.
وعند ابن إسحاق: فخرج بهم عبد ياليل وهو صاحب أمرهم، فلمَّا دنوا من المدينة ونزلوا قناة, وجدوا المغيرة بن شعبة ليبشِّر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بقدومهم، فلقيه أبو بكر، فقال: أقسمت عليك بالله لا تسبقني إلى رسول الله حتى أكون أنا أحدثه، ففعل المغيرة، فدخل أبو بكر، فأخبره بقدومهم عليه، ثم خرج المغيرة إليهم فروج الظهر، أي: الركاب معهم، وعلمهم كيف يحيون رسول الله -صلى الله عليه وسلم, فلم يفعلوا إلّا بتحية الجاهلية، "فلمَّا قدموا على رول الله -صلى الله عليه وسلم- ضرب عليهم قبة" خيمة "في ناحية المسجد"؛ لكي يسمعوا القرآن ويروا الناس إذا صلوا، "وكان خالد بن سعيد بن العاص" بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف, من السابقين الأولين، قيل: كان رابعًا، أو خامسًا، "هو الذي يمشي بينهم وبين رسول الله -صلى الله عليه وسلم", وكانوا لا يطعمون طعامًا يأتيهم من عنده -صلى الله عليه وسلم- حتى يأكل منه خالد، "حتى أسلموا واكتتبوا كتابهم، وكان خالد هو الذي كتبه، وكان فيما سألوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-أن يدع لهم الطاغية" اسم لمعبودهم من أصنام وغيرها, والجمع طواغي، "وهي" أي: المراد بها هنا: "اللات", لا أنها مفهوم الطاغية "لا يهدمها ثلاث سنين، فأبى عليهم -عليه الصلاة والسلام" في ابن إسحاق: فما برجوا يسألونه سنة سنة، ويأبى عليهم حتى سألوه شهرًا واحدًا بعد مقدمهم، فأبى عليهم أن يدعها شيئًا، وإنما يريدون بذلك فيما يظهرون أن يسلموا بتركها من سفهائهم ونسائهم وذراريهم، ويكرهون أن يروعوا قومهم بهدمها حتى يدخلهم الإسلام، فأبى -صلى الله عليه وسلم "إلا أن يبعث أبا سفيان بن حرب، والمغيرة بن شعبة يهدمانها، وكان فيما سألوه مع ذلك أن يعفيهم" بضم الياء وكسر الفاء, يتركهم "من الصلاة، وأن لا يكسروا(5/124)
أوثانهم إلّا بأيديهم، فقال -عليه الصلاة والسلام: "كسروا أوثانكم بأيديكم, وأما الصلاة: فلا خير في دين لا صلاة فيه"، فلما أسلموا وكتب لهم الكتاب أمَّرَ عليهم عثمان بن أبي العاص, وكان من أحدثهم سنًّا، لكنه كان من أحرصهم على التفقّه في الإسلام وتعلم القرآن.
فرجعوا إلى بلادهم ومعهم أبو سفيان بن حرب والمغيرة بن شعبة لهدم الطاغية،......................
__________
أوثانهم إلا بأيديهم، فقال -عليه الصلاة والسلام: "كسروا أوثانكم بأيديكم" نقل بالمعنى.
ولفظ ابن إسحاق: فقال -صلى الله عليه وسلم: "أما كسر أوثانكم بأيديكم فسنعفيكم منه، "وأمّا الصلاة فلا خير في دين لا صلاة فيه"،" فقالوا: يا محمد, فسنؤتيكها وإن كانت دناءة، "فلما أسلموا وكتب لهم الكتاب أمَّرَ" بشد الميم "عليهم عثمان بن أبي العاص, وكان من أحدثهم سنًّا" بزيادة من في الإثبات على رأي الأخفش أو تبعيضية، والمراد: أن ثلاثة من الستة مثلًا أحدث من باقيهم، وهو واحد منهم، فلا ينافي كونه أصغرهم، فلا يخالف ما هنا قوله: الآتي وأنا أصغر الستة، "لكنَّه كان من أحرصهم على التفقُّه في الإسلام وتعلم القرآن" بشد اللام مضمومة والجر عطف على التفقّه، فلذا أمَّره عليهم بإشارة الصديق، كما عند ابن إسحاق, وعنده عن بعض وفدهم: وصمنا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- ما بقي من رمضان، فكان بلال يأتينا من عنده بفطرنا وسحورنا، فيأتينا السحور وإنا لنقول: إنا لنرى الفجر قد طلع، فيقول: قد تركت رسول الله يتسحَّر, ويأتينا بفطورنا وإنا لنقول: ما نرى الشمس ذهبت، فيقول: ما جئتكم حتى أكل -صلى الله عليه وسلم، ثم يضع يده في الجنة، فيلقم منها، "فرجعوا إلى بلادهم ومعهم أبو سفيان بن حرب، والمغيرة بن شعبة لهدم الطاغية", حتى إذا قدموا الطائف، أراد المغيرة أن يقدم أبا سفيان فأبى, وقال: ادخل أنت على قومك، وأقام بماله بذي الهرم -بفتح الهاء وإسكان الراء وميم, محلّ بالطائف، كذا عند ابن إسحاق وغيره، أنهما ذهبا مع الوفد.
وفي رواية: أنهم تأخروا عنهم أيامًا حتى قدموا، وأنَّ الوفد لما قدموا تلقاهم ثقيف، فقصدوا اللات ونزلوا عندها، فسألوهم ماذا جئتم به؟ فقالوا: أتينا رجلًا فظًّا غليظًا، قد ظهر بالسيف، وداخ له العرب، قد عرض علينا أمورًا شددًا، أهدم اللات، فقالت ثقيف: والله لا نقبل هذا أبدًا، فقال الوفد: أصلحوا السلاح وتهيؤا للقتال، فمكثوا يومين أو ثلاثة، ثم ألقى الله في قلوبهم الرعب، فقالوا: والله ما لنا به من طاقة، فارجعوا فأعطوه ما سأل، فقال الوفد: فإنا قاضيناه وشرطنا ما أردنا، وجدناه أتقى الناس وأوفاهم وأرحمهم وأصدقهم، وقد بورك لنا ولكم في مسيرنا إليه، فاقبلوا عافية الله. فقالت ثقيف: فلم كتمتمونا هذا الحديث؟ فقالوا: لو أردنا أن ننزع من(5/125)
فلمَّا دخل المغيرة عليها علاها بضربها بالمعول، وخرج نساء ثقيف حسرًا يبكين عليه، وأخذ المغيرة بعد أن كسرها مالها وحليها.
وكان كتاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذي كتبه لهم: "بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله
__________
قلوبكم نخوة الشيطان، أي: الكبر والعظمة، فأسلموا مكانهم، ومكثوا أيامًا، ثم قدم رسل النبي -صلى الله عليه وسلم- لهدم اللات, فإن صحَّ، فيحتمل أنهم خرجوا من المدينة مصاحبين للوفد، ثم أخَّروهم في مكان لكي يستألف الوفد قومهم قبل قدومهم, حتى لا يكون نزاع، "فلما دخل المغيرة عليها" وقام قومه دونه, خشية أن يرمى أو يصاب كعروة, "علاها يضربها بالمعول" بكسر الميم، وإسكان المهملة وفتح الواو. الفأس العظيمة يقطع بها الصخر، "وخرج نساء ثقيف حسرًا" بضم الحاء، وفتح السين المشددة وراء مهملات، أي: منكشفات "يبكين عليها".
وفي رواية: خرجت ثقيف كلها حتى العواتق من الحجال، لا ترى أنها مهدومة، ويظنون أنها ممتنعة، فأخذ المغيرة الفأس فضرب ثم سقط، فارتجوا وقالوا: أبعد الله المغيرة قتلته، وفرحوا وقالوا: والله لا يستطاع هدمها، فوثب المغيرة وقال: قبَّحكم الله, إنما هي حجارة ومدر، فاقبلوا عافية الله واعبدوه، ثم ضرب الباب فكسره، ثم علا سورها, وعلا الرجال معه يهدمونها حجرًا جرًا حتى سورها، فقال البواب: ليغضبنّ الأساس فيخسف بهم، فحفروا أساسها حتى أخرجوا ترابها، "وأخذ المغيرة بعد أن كسرها مالها وحليها" بضم الحاء وكسر اللام والياء المشددة, جمع حلي -بفتح فسكون. عطف خاص على عام.
زاد ابن إسحاق: وأرسل إلى أبي سفيان حليها -مجموع, ومالها من الذهب والفضة والجذع، وقد كان أبو فليح بن عروة وقارب بن الأسود قدما على رسول الله قبل وفد ثقيف حين قتل عروة يريدان فراق قومهما، فأسلما, فقال لهما -صلى الله عليه وسلم: "توليا من شئتما"، فقالا: نتولّى الله ورسوله، فقال -صلى الله عليه وسلم: "وخالكما أبا سفيان بن حرب"، فقالا: وخالنا أبا سفيان، فلما أسلم أهل الطائف, سأل أبو فليح رسول الله أن يقضي عن أبيه عروة دينًا كان عليه من مال اللات، فقال: "نعم"، فقال له: قارب، وعن الأسود: يا رسول الله, فاقضه, وعروة والأسود شقيقان، فقال -صلى الله عليه وسلم: "إن الأسود مات مشركًا"، فقال قارب: يا رسول الله, لكن تصل مسلمًا ذات قرابة، يعني: نفسه، إنما الدَّيْن عليَّ, وأنا الذي أطلب به، فأمر أبا سفيان أن يقضي دينهما من مال الطاغية فقضاه، ثم قدموا عليه بحليها وكسوتها، فقسمه من يومه, وحمد الله على نصر دينه وإعزاز نبيه، "وكان كتاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذي كتبه لهم: "بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله" لفظه في ابن إسحاق: "من محمد النبي رسول الله" , فسقط من المصنف لفظ النبي, "إلى المؤمنين: إن عضاه(5/126)
إلى المؤمنين: إن عضاه وج, وصيده حرام لا يعضد، من وجد يفعل شيئًا من ذلك فإنه يجلد، وتنزع ثيابه، فإن تعدَّى ذلك فإنه يؤخذ فيبلغ النبي محمدًا، وإن هذا أمر النبي محمد رسول الله"، وكتب خالد بن سعيد بأمر محمد بن عبد الله، فلا يتعدَّاه أحد, فيظلم نفسه فيما أمر به محمد رسول الله.
و"وج": واد بالطائف.
واختلف فيه: هل هو حرم يحرم صيده وقطع شجره؟ فالجمهور: أنه ليس في البقاع حرم إلّا حرم مكة والمدينة, وخالفهم أبو حنيفة
__________
"وج" بمهملة مكسورة ومعجمة وآخره هاء لا تاء, كل شجر ذي شوك, جمع عضهة، حذفت منه هاء، فصار عضه بهاء تأنيث كشَفَه، ثم ردّت في الجمع، فقيل: عضاه كشِفَاه، ويقال: عضهة كعنبة، ويقال أيضًا: عضاهة وهو أقبحها. "وصيده حرام لا يعضد" بضم التحتية وفتح المعجمة. لا يقطع "من وجد يفعل شيئًا من ذلك فإنه يجلد" تعزيرًا لمخالفة النهي "وتنزع ثيابه" أي: تكون سلبًا لمن وجده يفعل، "فإن تعدَّى ذلك" أي: امتنع من تسليم نيابه لمن وجده يقطع، "فإنه يؤخذ، فيبلغ" به "النبي محمدًا"، فيرى فيه رأيه, "وإنَّ هذا أمر النبي محمد رسول الله وكتب خالد بن سعيد بأمر محمد بن عبد الله: فلا يتعداه أحد فيظلم نفسه فيما أمر به محمد رسول الله" زيادة في التأكيد، وإلى هذا ذهب الشافعي في القديم، واختاره النووي في شرح المهذَّب للأحاديث الصحيحة فيه بلا معارض.
روى مسلم: أن سعد بن أبي وقاص وجد عبدًا يقطع شجرًا أو يخبطه، فسلبه، فجاءه أهل العبد، فكلموه أن يردّ على غلامهم, أو عليهم ما أخذ منه، فقال: معاذ الله أنْ أَرُدَّ شيئًا نفلنيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم، وأبى أن يرد عليهم.
وروى أبو داود: أن سعدًا أخذ رجلًا يصيد في حرم المدينة، فسلبه ثيابه، فجاءوا إليه فكلموه فيه، فقال: إن رسول الله حرَّم هذا الحرم، وقال: "من أخذ أحدًا يصيد فيه فليسلبه" , فلا أردّ عليكم طعمة أطعمنيها رسول الله، ولكن إن شئتم دفعت إليكم ثمنه، ولم يأخذ الجمهور بهذا, ومنهم الشافعي في الجديد؛ لأن عمل الأمَّة على لافه "ووج" بفتح الواو وشد الجيم "واد بالطائف" لا بلد به، وغلط الجوهري, قاله في القاموس، أي: في قوله: إنه بلد، أي: حصن من حصون الطائف.
"واختلف فيه: هل هو حرم بحرم صيده وقطع شجره، فالجمهور أنه" لا يحرم ذلك؛ لأنه "ليس في البقاع حرم إلّا حرم مكة والمدينة" للأحاديث الصحيحة، "وخالفهم أبو حنيفة في(5/127)
في حرم المدينة.
وقال الشافعي -في أحد قوليه: وج حرم يحرم صيده وشجره، واحتج لهذا القول بحديثين: أحدهما: ما تقدَّم، والثاني: حديث عروة بن الزبير عن أبيه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن صيد وج وعضاهه حرم محرَّم لله" رواه الإمام أحمد وأبو داود, لكن في سماع عروة من أبيه نظر، وإن كان قد رآه.
وفي مغازي المعتمر بن سليمان التيمي عن عبد الله بن عبد الرحمن الطائفي عن عمه عمرو بن أوس عن عثمان بن أبي العاص، قال: استعملني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأنا أصغر الستة الذين وفدوا عليه من ثقيف، وذلك أني كنت قرأت سورة البقرة،
__________
حرم المدينة" فأباح صيده وقطع شجره، وهو محجوج الصحيحة في البخاري وغيره.
"وقال الشافعي في أحد قوليه: وج حرم يحرم صيده وشجره" وهو القول الجديد والمشهور، قال في البهجة:
وحرم الهادي ووج الطائف ... كتلك الحرمة والجزا نفي
"واحتجَّ لهذا القول بحديثين، أحدهما ما تقدَّم" في الكتاب, وأجاب الجمهور بضعفه؛ إذ إن إسحاق ذكره بلا إسناد، "والثاني: حديث عروة بن الزبير عن أبيه" الزبير بن العوام: "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن صيد وج وعضاهه حرم محرم لله"، رواه الإمام أحمد وأبو داود" فلو صحَّ لكان حجة, "لكن" لا يصح؛ لأن "في سماع عروة من أبيه نظر, وإن كان قد رآه،" فأصحاب الحديث نفوا سماعه منه، فهي علة تقدح في صحته.
"وفي مغازي المعتمر بن سليمان التيمي" أبي محمد البصري, ثقة، روى له الستة، ومات سنة سبع وثمانين، وقد جاوز الثمانين, "عن عبد الله بن عبد الرحمن" بن يعلى بن كعب "الطائفي" الثقفي، صدوق يخطئ ويهم, "عن عمه عمرو بن أوس" الثقفي التابعي الكبير، روى له الجميع، ووهم من ذكره في الصحابة، كالطبري وابن منده، كما بينه الحافظ، "عن عثمان بن أبي العاص" الثقفي، الطائفي الصحابي الشهير، "قال: استعملني رسول الله -صلى الله عله وسلم- وأنا أصغر الستة الذين وفدوا عليه من ثقيف، وذلك أني" أي: لأجل أني "كنت قرأت سورة البقرة في" مدة إقامتهم، كانوا يفدون على المصطفى ويخلّفونه في رحالهم لصغره، فإذا رجعوا بالهاجرة عَمَد عثمان إلى رسول الله، فسأله عن الدين، واستقرأه القرآن حتى فقه في الدِّين، فأعجب ذلك المصطفى وأحبه.(5/128)
فقلت: يا رسول الله، إن القرآن يتفلّت مني، فوضع يده على صدري، وقال: "يا شيطان, اخرج من صدر عثمان"، فما نسيت شيئًا بعده أريد حفظه.
وفي صحيح مسلم، عن عثمان بن أبي العاص، قلت: يا رسول الله، إن الشيطان حال بيني وبين صلاتي، فقال: "ذلك شيطان يقال له خنزب، فإذا أحسسته تعوَّذ بالله منه, واتفل على يسارك ثلاثًا" قال: ففعلت فأذهبه الله عني.
__________
وروي عنه: سألته مصحفًا كان عنده فأعطانيه، "فقلت: يا رسول الله, إن القرآن يتفلّت مني، فوضع يده على صدري، وقال: "يا شيطان, اخرج من صدر عثمان"، فما نسيت شيئًا بعده أريد حفظه،" وعنه قلت: يا رسول الله, ادع الله أن يفقِّهني في الدّين ويعلمني، قال: "ماذا قلت"؟ فأعدت عليه القول، فقال: "لقد سألتني عن شيء ما سألني عنه أحد من أصحابك، اذهب فأنت أمير عليهم وعلى من تقدَّم عليك من قومك".
"وفي صحيح مسلم عن عثمان بن أبي العاص قلت: يا رسول الله, إن الشيطان حال بيني وبين صلاتي، فقال: "ذلك شيطان يقال له خنزب" مثلث الخاء المعجمة، كما في النهاية.
قال النووي: والمعروف: الفتح والكسر، ثم نون ساكنة، ثم زاي مفتوحة، ثم ياء موحدة، "فإذا أحسسته فتعوَّذْ بالله منه واتفل" بضم الفاء وكسرها, من بابي: ضرب ونصر, "على يسارك ثلاثًا" أي: على جهته، فيشمل ما إذا ألقى ما يتفله بالأرض، أو على شيء من أعضائه كيده اليسرى، "قال: ففعلت, فأذهبه الله عني" ففيه أن ذلك يذهب الوسواس.
وروى ابن إسحاق عن عثمان، قال: كان من آخر ما عهد إليّ النبي -صلى الله عليه وسلم- حين بعثني على ثقيف أن قال: "يا عثمان, تجاوز في الصلاة, وأقدر الناس بأضعفهم، فإن فيهم الكبير والصغير والضعيف وذا الحاجة".(5/129)
الوفد الثالث: وفد بني عامر
وقدم وفد بني عامر عليه -صلى الله عليه وسلم، قال ابن إسحاق: لما فرغ من تبوك، وأسلمت ثقيف وبايعت، ضربت إليه وفود العرب،
__________
"الوفد الثالث":
"وقدم وفد بني عامر" بن صعصعة، كما في الروض، وهو من قيس عيلان "عليه -صلى الله عليه وسلم، قال ابن إسحاق لما فرغ" أي: رجع "من تبوك، وأسلمت ثقيف وبايعت, ضربت" أي: سارت "إليه وفود العرب"، كقوله تعالى: {ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْض} [النساء: 101] ، [المائدة: 106] ,(5/129)
فدخلوا في دين الله أفواجًا، يضربون إليه من كل وجه.
فوفد عليه -عليه الصلاة والسلام- بنو عامر، فيهم عامر بن الطفيل، وأربد بن قيس, وخالد بن جعفر، وحيان بن أسلم بن مالك، وكان هؤلاء النفر, لفظ: رؤساء القوم وشياطينهم، فقدم -عدو الله- عامر بن الطفيل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم, وهو يريد أن يغدر به، فقال لأربد: إذا قدمنا على الرجل فإني شاغل عنك وجهه، فاعله بالسيف, فكلّم عامر رسول الله -صلى الله عليه وسلم.
__________
فحذف منها المضروب إليه للعلم به، كما حذف هنا المضروب فيه للعلم به؛ إذ سير الوفود إنما يكون في الأرض، أو إشارة إلى أنّ استعماله بمعنى السير لا يتوقف على كونه في الأرض، فيقال: ضرب الطائر في الهواء إذا سار، "فدخلوا في دين الله أفواجًا, يضربون إليه من كل وجه، فوفد عليه -عليه الصلاة والسلام- بنو عامر" بن صعصعة, "فيهم عامر بن الطفيل" بضم الطاء وفتح الفاء, ابن مالك بن جعفر بن كلاب العامري، وهذا صريح في أن قصته كانت بعد الفتح.
وقال ابن كثير: الظاهر أنها متقدمة على الفتح، وإن ذكرها ابن إسحاق والبيهقي بعده, "وأربد" بفتح الهمزة وإسكان الراء وفتح الموحدة ومهملة, "ابن قيس وخالد" كذا في النسخ، وهو تصحيف, صوابه كما في ابن إسحاق وغيره: وأربد بن قيس بن جزء بن خالد "بن جعفر, وحيان بن أسلم" صوابه كما في ابن إسحاق وغيره: وجبار بن سلمى -بفتح الجيم وشد الموحدة وبالراء، وسلمى -بفتح السين وضمها، والصواب: الفتح، قاله أبو ذر، قال في النور: والذي أعرفه الضم، وفي الإصابة: بضم السين، وقيل: بفتحها, "ابن مالك" بن جعفر بن كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة الكلابي العامري، كان يقال لأبيه: سلمى نزال الضيف، وأسلم جبار بعد ذلك وصحب -رضي الله عن، "وكان هؤلاء النفر، لفظ" ابن إسحاق: هؤلاء الثلاثة "رؤساء القوم وشياطينهم" أي: عتاتهم، فكل عات متمرد، من جن وإنس ودوابّ شيطان، كما في المصباح، "فقدم عدو الله عامر بن الطفيل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم، وهو يريد أن يغدر به" مثلث الدال.
قال في القاموس: الغدر ضد الوفاء، غدره وبه كنصر وضرب وسمع.
قال ابن إسحاق: وقد قال له قومه: يا عامر, إن الناس قد أسلموا فأسلم، فقال: والله قد كنت آليت لا أنتهي حتى تتبع العرب عقبي، أفأنا أتبع عقب هذا الفتى من قريش، "فقال لأربد: إذا قدمنا على الرجل فإني شاغل عنك وجهه" أي: صارفه بأن ألهيه بحديثٍ حتى لا يفطن لما تريد فعله به "فاعله" أي: اضرب أعلاه "بالسيف"؛ كأنه يريد ضرب عنقه، فانتهى إليه عامر وأربد، وجلسا بين يديه. "فكلّم عامر رسول الله -صلى الله عليه وسلم" فقال: يا محمد, خالني -بمعجمة فألف،(5/130)
وقال: والله لأملأنَّها عليك خيلًا ورجالًا، فلمَّا ولَّى, قال -عليه الصلاة والسلام: "اللهم اكفني عامر بن الطفيل".
فلما خرجوا، قال عامر لأربد: ويحك، أينما كنت أمرتك به؟ فقال: والله ما هممت بالذي أمرتني به إلّا دخلت بيني وبينه، أفأضربك بالسيف؟
ولما كانوا ببعض الطريق بعث الله تعالى على عامر بن الطفيل الطاعون في عنقه فقتله الله.
__________
فلام مشدَّدة مكسورة, من المخالة، وهي المصادقة، أي: اتخذني خليلًا، وروي بخِفَّة اللام، أي: انفرد لي خاليًا حتى أتحدث معك، قال: "لا، والله حتى تؤمن بالله وحده لا شريك له"، فقال: يا محمد, خالني، وجعل يكلمه وينتظر من أربد ما كان أمره به، وأربد لا يصنع شيئًا, ويبست يده على السيف، فلم يستطع سلّه، فقال: يا محمد خالني، قال: "لا, والله حتى تؤمن بالله وحده لا شريك له"، قال: ما تجعل لي إن أسلمت؟ قال: "لك ما للمسلمين, وعليك ما عليهم"، قال: أتجعل لي الأمر بعدك، قال: "ليس ذلك لك، ولا لقومك, ولكن لك أعنة الخيل"، قال: أنا الآن في أعنة خيل نجد، أتجعل لي الوبر ولك المدر؟ قال: "لا"، فقام عنه "وقال: والله لأملأنَّها،" أي: المدينة "عليك خيلًا" زاد في رواية: جروًا "ورجالًا", زاد في رواية: مردًا, ولأربطنَّ بكل نخلة فرسًا، فقال -صى الله عليه وسلم: "يمنعك الله"، "فلمَّا ولَّى قال -عليه الصلاة والسلام: "اللهم اكفني عامر بن الطفيل"،" زاد في رواية: "بما شئت وابعث له داء يقتله واهد قومه"، "فلمَّا خرجوا، قال عامر لأربد: ويحك, أينما كنت أمرتك به" والله ما كان على ظهر الأرض رجل هو أخوف على نفسي منك، وايم الله, لا أخافك بعد اليوم أبدًا، "فقال" أربد: لا أبا لك, لا تعجل عليّ، "والله ما هممت بالذي أمرتني به إلّا دخلت بيني وبينه" حتى ما أرى غيرك، "أفأضربك بالسيف،" والمعنى: إن الله تعالى منع أربد عن رسوله بإراءته صورة صاحبه بينهما.
قال في الروض: وفي رواية غير ابن إسحاق: إلّا رأيت بيني وبينه سورًا من حديد، وفي رواية: لما أردت سل سيفي، نظرت فإذا فحل من الإبل فأغرفاه بين يديّ يهوي إليَّ، فوالله لو سللته لخفت أن يبلغ رأسي، وجمع بأن ما في الرواية الأولى بعد أن تكر منه الهم، وما في الثانية بعد أن حصل منه هم آخر، وكذا يقال في الثالثة، "ولما كانوا ببعض الطريق" بمكانٍ يقال له: الرقم -بفتح الراء والقاف, موضع بالمدينة، "بعث الله تعالى على عامر بن الطفيل الطاعون في عنقه، فقتله الله،" والمتبادر من ذا السياق قتله سريعًا، ووقع في رواية، فمكث -صلى الله عليه وسلم- يعدعو عليه ثلاثين صباحًا، حتى إذا كان بالرقم بعث الله عليه الطاعون فقتله، والذي يظهر أنها وهم نشأ من دعائه عليه شهرًا، لما قتل أصحابه ببئر معونة، فدخل على روايها حديث في حديث، فخلط قصة(5/131)
وفي صحيح البخاري: أن عامرًا أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: أخيرك بين ثلاث خصال، يكون لك أهل السهل، ولي أهل المدر، أو أكون خليفتك من بعدك، أو أغزوك بغطفان بألف أشقر وألف شقراء. فطُعِنَ في بيت امرأة, فقال: أغدة كغدة البكر في بيت امرأة من آل بني فلان. ائتوني بفرسي, فمات على ظهر فرسه.
__________
بقصة، كما أشار إليه شيخنا.
"وفي صحيح البخاري" من حديث أنس: "أن عامرًا" أي: ابن الطفيل "أتى النبي -صلى الله عليه وسلم، فقال: أخيّرك" لفظ البخاري، وكان عامر رئيس المشركين خير "بين ثلاث خصال".
قال الحافظ: بفتح أوّله وحذف المفعول، أي: خيِّرَ النبي -صلى الله عليه وسلم, وبَيِّنَه البيهقي في الدلائل من طريق شيخ البخاري فيه، ولفظه: وكان أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: أخيرك بين ثلاث خصال، وفي نسخة خير -بضم أوله. وخطأها ابن قرقول "يكون لك أهل السهل" -بفتح المهملة وسكون الهاء, سكَّان البوادي "ولي أهل المدر" -بفتح الميم، والدال المهمل وراء, أهل البلاد.
قال المصنف: فتفسير شيخنا السهل بالمدن، والقرى والمدر بالبوادي خلافه، "أو أكون خليفتك من بعدك، أو أغزوك بغطفان -بمعجمة، ومهملة وفاء مفتوحات, قبيلة "بألف أشقر، وألف شقراء" الذي في البخاري: بألف وألف.
قال الحافظ وغيره في رواية البيهقي عن أنس, والطبراني عن سهل بن سعد: بألف أشقر، وألف شقراء، وبه مزج المصنف لفظ البخاري بلا عزو، "فطُعِنَ في بيت امرأة، فقال: أغدة" بالنصب يعامل مقدر، أي: أغد غدة، كما قال سيبويه، والاستفهام تعجبي، لكن لفظ البخاري: غدة بدون أََلِف.
قال الحافظ: يجوز رفعه بتقدير: أصابتني، أو غدة بي، ويجوز النصب على المصدر، أي: أغد غدة، "كغدة البكر" -بفتح الموحدة وإسكان الكاف, الفتي من الإبل، والغدة -بضم المعجمة, من أمراض الإبل وهو طاعونها، "في بيت امرأة من آل بني فلان" بينها الطبراني من حديث سهل، فقال: امرأة من آل سلول، وهي بنت ذهل بن شيبان، وزوجها مرة بن صعصعة أخو عامر بن صعصعة، ينسب بنوه إليها، كما في الفتح، "ائتوني بفرسي، فمات على ظهر فره" كافرًا.
وفي رواية: ركب فرسه وأخذ رمحه، وأقبل يجول ويقول: يا ملك الموت ابرز لي، فلم تزل تلك حاله حتى سقط عن فرسه ميتًا.
قال الداودي: كانت هذه من حماقات عامر، فأماته الله بذلك ليصغر إليه نفسه، وبنو سلول كانوا موصوفين باللؤم، فرغب أن يموت في بيتها.(5/132)
......................................
__________
قال في الفتح: وفي الإصابة ذكر جعفر المستغفري عامر بن الطفيل هذا في الصحابة، وهو غلط وخطأ صريح، وموت عامر المذكور على الكفر أشهر عند أهل السِّيَر من أن يتردَّد فيه، وإنما اغترَّ جعفر برواية أخرجها البغوي, وبما أخرجه هو عن أبي أمامة، عن عامر بن الطفيل؛ أنه قال: يا رسول الله, زوِّدني بكلمات أعيش بهنّ؟ " قال: "يا عامر: أفش السلام، وأطعم الطعام، واستح من الله كما تستحي رجلًا من أهلك، وإذا أسأت فأحسن، فإن الحسنات يذهبن السيئات"، فعامر هذا أسلمي لا عامري، فقد روى البغوي عن عبد الله بن بريدة الأسلمي، قال: حدثني عمي عامر بن الطفيل، فذكر حديثًا، فعرف أن الصحابي أسلمي، وافق اسمه واسم أبيه العامري، فساق المستغفري في نسب الصحابي نسب العامري، فوَهِمَ.
قال ابن إسحاق: ثم خرج أصحابه حين واروه بالتراب حتى قدموا أرض بني عامر، فأتاهم قومهم، فقالوا: ما وراءك يا أربد؟ قال: لا شيء، والله لقد دعانا إلى عبادة شيء لوددت أنه عندي الآن فأرميه بالنبل حتى أقتله، فخرج بعد مقالته بيوم، أو يومين معه جمل له يتبعه، فأرسل الله عليه وعلى جمله صاعقة فأحرقتهما.
قال ابن هشام: وذكر زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار، عن ابن عباس: فأنزل الله في عامر وأربد: {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى} إلى قوله: {وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ} ، وأما ثالثهم: جبَّار بن سلمى، فقد أسلم مع من أسلم من بني عامر.
ذكر الواقدي عن عبد الله بن كعب بن مالك، قدم وفدهم وهم ثلاثة عشر رجلًا، فيهم لبيد بن ربيعة، فنزلوا دار رملة، وكان بين جبار بن سلمى وبين كعب بن مالك صحبة، فجاء كعب فرحَّبَ بهم، وأكرم جبارًا، وانطلق معهم إلى النبي -صلى الله عليه وسلم، فأسلموا وأسلم جبار وحسن إسلامه.
قال ابن الكلبي: وكان أفرس بني عامر, ذكره في الإصابة.(5/133)
الوفد الرابع: وفد عبد القيس
وقدم وفد عبد القيس عليه، زاده الله شرفًا وكرمًا لديه، وهي قبيلة كبيرة يسكنون البحرين, ينسبون إلى عبد القيس بن أقصى -بسكون الفاء بعدها ضاد مهملة.
__________
"الوفد الرابع":
"وقد وفد عبد القيس عليه, زاده الله شرفًا وكرمًا لديه، وهي قبيلة كبيرة يسكنون البحرين" وما والاها من أطراف العراق، كما في الفتح، والنسبة إليها العبدي، "ينسبون إلى عبد القيس بن أقصى -بسكون الفاء بعدها صاد مهملة" مفتوحة، وقبلها ألف مفتوحة، وأفادهما(5/133)
بوزن أعمى, ابن دُعْمي -بضم الدال وسكون العين المهملتين وكسر الميم بعدها تحتانية.
وفي الصحيحين من حديث ابن عباس: قدم وفد عبد القيس على رسول الله -صلى الله عليه وسلم, فقال: "ممن القوم"؟ قالوا: من ربيعة، قال: "مرحبًا بالوفد غير خزايا ولا ندامى"،
__________
بقوله: "بوزن أعمى, ابن دعمي -بضم الدال، وسكون العين المهملتين، وكسر الميم بعدها تحتانية" ثقيلة، كما في الفتح, ومن قال كالكرماني والمصنف: وياء نسبة، فمراده: أنها تثقل كياء النسبة, وإلا فهو علم، وهو ابن جذيلة -بجيم, وزن كبيرة, ابن أسد بن ربيعة بن نزار.
"وفي الصحيحين" البخاري في عشرة مواضع، ومسلم في الإيمان والأشربة "من حديث ابن عباس, قدم وفد عبد القيس على رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فقال: "ممن القوم"؟ " وفي رواية: "من القوم"، أو الوفد بالشك من الراوي، "قالوا: من ربيعة" كذا للبخاري في الصلاة، وله في الإيمان: ربيعة بإسقاط من, قال الحافظ فيه: التعبير عن البعض بالكل؛ لأنهم بعض ربيعة، وهذا من بعض الرواة، فللبخاري في الصلاة، فقالوا: إن هذا الحي من ربيعة.
قال ابن الصلاح: الحي منصوب على الاختصاص, والمعنى: إن هذا الحي حي من ربيعة، "قال: "مرحبًا بالوفد" منصوب بفعل مضمر، أي: صادفت رحبًا -بضم الراء، أي: سعة، والرحب -بالفتح: الشيء الواسع, وقد يزيدون معها أهلًا، أي: وجدت أهلًا فاستأنس، وأفاد العسكري أن أول من قال مرحبًا, سيف بن ذي بزن، وفيه استحباب تأنيس القادم، وقد تكرَّر ذلك من النبي -صلى الله عليه وسلم- في حدث أم هانئ، وقال لعكرمة بن أبي جهل: "مرحبًا بالراكب المهاجر"، وفي قصة فاطمة: "مرحبًا بابنتي"، وكلها صحيحة.
وأخرج النسائي عن عاصم بن بشير الحارثي عن أبيه, أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال له لما دخل فسلم عليه: "مرحبًا, وعليك السلام غير خزايا" بنصبه حالًا، وروي بجره صفة، والمعروف الأوّل، قاله النووي، وأيضًا: فيلزم منه وصف المعرفة بالنكرة, إلّا أن تجعل أل للجنس كقوله:
ولقد أمرّ على اللئيم يسبني
والأولى: أن يكون الخفض على البدل, قاله الأبي.
قال الحافظ: ويؤيد النصب رواية البخاري في الأدب: "مرحبًا بالوفد الذين جاءوا غير خزايا" جمع خزيان، أي: غير أذلاء، أو غير مستحيين لقدومكم مسلمين طوعًا من غير حرب، أو سبي بخزيهم ويفضحهم، "ولا ندامى" جمع نادم على غير قياس، اتباعًا لخزايا للمشاكلة والتحسين، كما قالوا: العشايا والغدايا، وغداة جمعها غدوات, لكنه اتبع فاصلة نادمين، جمع نادم؛ لأن ندامى(5/134)
فقالوا: يا رسول الله، إن بيننا وبينك هذا الحي من كفار مضر، وإنا لا نصل إليك إلا في شهر حرام، فمرنا بأمر فصل، نأخذ به ونأمر به من وراءنا، وندخل به الجنة.
__________
إنما هو جمع ندمان، أي: المنادم في اللهو، قال الشاعر:
فإن كنت ندماني فبالأكبر اسقني
كذا قاله الخطابي, قال الحافظ: وقد حكى القزاز والجوهري وغيرهما من أهل اللغة: إنه يقال: نادم وندمان في الندامة، بمعنى: فعلى هذا, فهو على الأصل، ولا اتباع فيه، وللنسائي والطبراني: رحبًا بالوفد ليس الخزايا، ولا النادمين.
قال ابن أبي جمرة: بشَّرهم بالخير عاجلًا وآجلًا؛ لأن الندامة إنما تكون في العاقبة، فإذا انتفت ثبت ضدها، وفيه جواز الثناء على الإنسان في وجهه إذا أُمِنَ عليه الفتنة، "فقالوا: يا رسول الله, إن بيننا وبينك هذا الحي من كفَّار مضر" -بضم الميم وفتح المعجمة, لا ينصرف للعلمية والتأنيث، "وإنا لا نصل إليك إلّا في شهر حرام" بتنكيرهما، فهو شامل للأربعة، ويؤيده رواية البخاري في المناقب: إلّا في كل شهر حرام، وقيل: المراد المعهود: وهو رجب, وبه صرح في رواية البيهقي، وكانت مضر تبالغ في تعظيمه، فلذا أضيف إليهم في حديث أبي بكرة؛ حيث قال: "رجب مضر" , والظاهر أنهم كانوا يخصونه بمزيد التعظيم مع تحريم القتال في الأشهر الثلاثة الأخرى، إلّا أنهم ربما أنسوها بخلافه.
وللبخاري في العلم: وإنا نأتيك من شُقَّةٍ بعيدة. قال ابن قتيبة: الشقة: السفر، وقال الزجاج: هي الغاية التي تقصد، "فمرنا" أصله أؤمرنا -بهمزتين, من أمر يأمر، فحذفت الهمزة الأصلية للاستثقال، فصا أمرنا، فاستغني عن همزة الوصل فحذفت، فبقي مُرْ على وزن عل؛ لأنَّ المحذوف فاء الفعل "بأمر فصل" بصاد مهملة وبالتنوين فيهما، لا بالإضافة بمعنى الفاصل كالعدل بمعنى العادل، أي: يفصل بين الحق والباطل، أو بمعنى المفصل، أي: المبيّن المكشوف. حكاه الطيبي.
وقال الخطابي: الفصل البيّن، وقيل: المحكم, "نأخذ به ونأمر به من" أي: الذي استقرَّ "وراءنا" أي: خلفنا من قومنا الذين خلفناهم في بلادهم، "وندخل به الجنة" إذا قبل برحمة الله.
ولفظ البخاري في الإيمان: نخبر به من وراءنا، بدل نأمر به، وإسقاط نأخذ به, قال الحافظ: نخبر بالرفع على الصفة لأمر، وكذا قوله: وندخل، وروي بالجزم فيها على أنه جواب الأمر، وسقطت الواو من: وندخل, في بعض الروايات، فيرفع نخبر، ويجزم ندخل.
قال ابن أبي جمرة: فيه إبداء العذر عند العجز عن توفية الحق واجبًا كان، أو مندوبًا وأنه(5/135)
قال: "آمركم بأربع وأنهاكم عن أربع، آمركم بالإيمان بالله وحده، أتدرون ما الإيمان بالله؟ شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان، وأن تعطوا من المغنم الخمس، وأنهاكم عن أربع: عن الدباء والحنتم والنقير والمزفت،
__________
يبدأ بالسؤال عن الأهمّ، وأن الأعمال الصالحة تدخل الجنة إذا قبلت، وقبولها برحمة الله، وللبخاري في رواية: وسألوه عن الأشربة، أي: عن ظروفها على حذف مضاف، أو على حذف الصفة، أي: التي تكون في الأواني المختلفة، "قال: "آمركم بأربع" أي: بأربع خصال، أو جمل, لقولهم: حدثنا بجمل من الأمر، وهي رواية البخاري في المغازي, "وأنهاكم عن أربع, آمركم بالإيمان بالله وحده، أتدرون ما الإيمان بالله وحده"، قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: هذا أسقطه المصنف من لفظ الحديث في الصحيحين سهوًا، أو من الكاتب, "شهادة أن لا إله إلا الله" برفع شهادة خبر مبتدأ محذوف، أي: هو، ويجوز جره على البدلية، "وأن محمدًا رسول الله".
وهذه رواية البخاري في العلم والصلاة, وسقطت الجملة الثانية من الإيمان؛ لأن الأولى صارت علمًا عليهما معًا، "وإقام الصلاة" المفروضة، "وإيتاء الزكاة" المعهودة، "صوم رمضان، وأن تعطوا من المغنم الخمس" بضم الخاء -كما في التنزيل.
وذكر جواب سؤالهم عن الأشربة بقوله: "وأنهاكم عن أربع: عن الدباء" بضم المهملة وشد الموحدة والمد، وحكى الفزار: القصر هو الفرع، والمراد منه اليابس، وهو والثلاثة بعده من إطلاق المحلّ وإرادة الحال، أي: ما في الدباء, "والحنتم" , وصرَّح بالمراد في رواية النسائي، فقال: "وأنهاكم عن أربع: ما يبنذ في الحنتم" بفتح المهملة، وسكون النون وفتح الفوقية, هي الجرة، كما فسرها ابن عمر في مسلم، وله عن أبي هريرة: الحنتم: الجرار الخضر.
وروى الحربي عن عطاء: إنها جرار كانت تعمل من طين وشعر وأدم, "والنقير" بفتح النون وكسر القاف, أصل النخلة تنقر ليتخذ منه وعاء.
وفي البخاري: وربما قال: المقير -بالقاف وفتح التحتية المشددة: ما طُلِيَ بالقار، ويقال له: القير، وهو نبت يحرق إذا يبس يُطْلَى به السفن وغيرها كما يطلى بالزفت, قاله في المحكم, "والمزفت" بالزاي والفاء: ما طلي بالزفت.
وفي مسند أبي داود الطيالسي عن أبي بكرة، قال: أمَّا الدباء: فإن أهل الطائف كانوا يأخذون القرع، فيخطرون فيه العنب، ثم يدفنونه حتى يهدر، ثم تموت، وأما النقير: فإن أهل اليمامة كانوا ينقرون أصل النخلة، ثم ينبذون الرطب والبسر، ثم يدعونه حتى يهدر، ثم تموت، وأما الحنتم: فجرار كانت تحمل إلينا فيها الخمر، وأما المزفت، فهذه الأوعية التي فيها الزفت.(5/136)
فاحفظوهنَّ وادعوا إليهنَّ من وراءكم".
قال ابن القيم: ففي هذه القصة أن الإيمان بالله مجموع هذه الخصال من القول والعمل، كما على ذلك أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والتابعون موتابعوهم كلهم، ذكر ذلك الشافعي في المبسوط، وعلى ذلك ما يقارب مائة دليل من الكتاب والسنة، ولم يعد الحج من هذه الخصال، وقد كان قدومهم في سنة تسع، وهذا أحد ما يحتج به على أنَّ الحج لم يكن فُرِضَ بعد، وأنه إنما فرض في العاشرة، ولو كان فرض لعدَّه من الإيمان كما عَدَّ الصوم والزكاة. انتهى.
__________
قال الحافظ: وإسناده حسن، وتفسير الصحابي أَوْلَى أن يعتمد عليه من غيره؛ لأنه أعلم بالمراد، ومعنى النهي عن الانتباذ في هذه الأوعية بخصوصها؛ لأنه يسرع إليها الإسكار، فربما يشرب منها من لا يشعر بذلك، ثم ثبتت الرخصة في الانتباذ في كلِّ وعاء مع النهي عن شرب كل مسكر أ. هـ، يعني في صحيح مسلم مرفوعًا: "كنت نهيتكم عن الانتباذ إلّا في الأسقية، فانتبذوا في كل وعاء، ولا تشربوا مسكرًا، فاحفظوهنَّ وادعو إليهنَّ".
وفي رواية: وأخبروا بهنَّ "من" بفتح الميم "وراءكم" يشمل من جاءوا من عندهم، وهو باعتبار المكان، ويشتمل من يحدث لهم من الأولاد وغيرهم، وهذا باعتبار الزمان، فيحتمل إعمالها في المعنيين معًا حقيقة ومجازًا. قاله الحافظ.
"قال ابن القيم: ففي هذه القصة أنَّ الإيمان بالله مجموع هذه الخصال من القول" وهو الشهادتان "والعمل" وهو ما بعدهما، "كما على ذلك أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والتابعون، وتابعوهم كلهم" وأرادو بذلك أن الأعمال شرط كمال، وثَمَّ سبعة أقوال أُخَر، فصَّلَها المصنف في شرح البخاري، "ذكر ذلك" الذي بيناه، وفي نسخة كما ذكره "الشافعي في المبسوط، وعلى ذلك ما يقارب مائة دليل من الكتاب والسنة، ولم يعدّ الحج من هذه الخصال، وقد كان قدومهم في سنة تسع" إذ هي سنة الوفود، "وهذا أحد ما يحتج به على أن الحج لم يكن فرض بعد" أي: الآن، "وأنه إنما فرض في العاشرة، ولو كان فرض لعده من الإيمان، كما عدَّ الصوم والزكاة. انتهى" كلام ابن القيم.
قال الحافظ: وأما قول من قال: ترك الحج لكونه على التراخي فليس بجيد؛ لأنه لا يمنع من الأمر به، وكذا من قال لشهرته عندهم ليس بقوي؛ لأنه عند غيرهم ممن ذكره لهم أشهر منه عندهم، وكذا القول بأنه تركه؛ لأنهم لم يكن لهم إليه سبيل من أجل كفار مضر ليس بمستقيم؛ لأنه لا يلزم من عدم الاستطاعة في الحال ترك الإخبار به ليعمل به عند الإمكان، كما في الآية،(5/137)
وقد كان لعبد القيس وفدتان:
إحداهما: قبل الفتح، ولهذا قالوا له -عليه الصلاة والسلام: حال بيننا وبينك كفار مضر، وكان ذلك قديمًا، إمَّا في سنة خمس أو قبلها، وكانت قريتهم بالبحرين، وكان عدد الوفد الأوَّل ثلاثة عشر رجلًا، وقيل: كانوا أربعة عشر راكبًا،
__________
بل دعوى أنهم لا سبيل لهم إلى الحج ممنوعة؛ لأنه يقع في الأشهر الحرم، وقد ذكروا أنهم يأمنون فيها، لكن يمكن أن يقال إنما أخبرهم بعض الأوامر، لكونهم سألوا أن يخبرهم بما يدخلون بفعله الجنة، فاقتصر لهم على ما يمكن فعله في الحال، ولم يقصد إعلامهم بجميع الأحكام التي تجب عليهم فعلًا وتركًا، ويدل على ذلك اقتصاره في المناهي على الانتباذ في الأوعية، مع أنَّ في المناهي ما هو أشد تحريمًا من الانتباذ، لكن اقتصر عليها لكثرة تعاطيهم لها، وزيادة أبي قلابة الحج بلفظ: وتحجوا البيت الحرام، أخرجه البيهقي شاذة، وقد أخرجه الشيخان ومن استخرج عليهما، والنسائي، وابن خزيمة، وابن حبان من طريق شيخ أبي قلابة، فلم يذكر أحد منهم الحج، وأبو قلابة تغيِّر حفظه في آخر أمره، فلعلَّ هذا مما حدَّث به في التغيّر، لكن هذا بالنسبة لرواية أبي جمرة -بجيم وراء- عن ابن عباس.
وقد روى أحمد من طريق سعيد بن المسيب وعكرمة عن ابن عباس، ذكر الحج في قصة وفد عبد القيس، فإن كان محفوظًا، فالمراد بالأربع ما عدا الشهادتين وأداء الخمس، "وقد كان لعبد القيس وفدتان، إحداهما قبل الفتح، ولهذا قالوا له -عليه الصلاة والسلام: حال بيننا وبينك كفار مضر، وكان ذلك قديمًا، إمَّا في سنة خمس" من الهجرة "أو قبلها" وكان سبب ذلك أن منقذ -بميم مضمومة، ونون ساكنة وقاف مكسورة. ابن حبان -بفتح المهملة والموحدة، كان متجره إلى المدينة، فمرَّ به -صلى الله عليه وسلم، وهو قاعد، فنهض إليه منقذ، فقال -عليه الصلاة والسلام: "كيف قومك"؟ ثم سأله عن أشرافهم رجل رجل بأسمائهم، فأسلم منقذ، وتعلّم الفاتحة وسورة اقرأ، وكتب -عليه الصلاة والسلام- لجماعة عبد القيس كتابًا، فلمَّا دخل على قومه كتمه أيامًا، وكان يصلي، فقالت زوجته لأبيها المنذر بن عائذ، وهو الأشجّ: إني أنكرت فعل بعلي منذ قدم من يثرب، إنه ليغسل أطرافه، ثم يستقبل الكعبة، فيحني ظهره مرّة، ويضع جبينه إلى الأرض أخرى، فاجتمعا فتجاريا ذلك، فوقع الإسلام في قلبه، ثم أخذ المنذر كتابه -عليه الصلاة والسلام، وذهب إلى قومه، فقرأه عليهم، فأسلموا، وأجمعوا المسير إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم، كذا ذكر الكرماني، "وكانت قريتهم بالبحرين" أول قرية أقيمت فيها الجمعة بعد المدينة، كما يأتي، "وكان عدد الوفد الأوّل ثلاثة عشر رجلًا" كما رواه البيهي وغيره "وقيل: كانوا أربعة عشر راكبًا" كما جزم به القرطبي والنووي, وهم: المنذر بن عائذ، وهو الأشج، ومنقذ بن حبان،(5/138)
وفيها سألوه عن الإيمان، وعن الأشربة، وكان فيهم الأشج، وكان كبيرهم، وقال له -عليه الصلاة والسلام: "إن فيك خصلتين يحبهما الله: الحلم والأناءة" رواه مسلم من حديث أبي سعيد.
وأخرج البيهقي: قال: بينما النبي -صلى الله عليه وسلم- يحدث أصحابه قال: "سيطلع عليكم من.
__________
ومزيدة بن مالك، وهو بميم وزاي بوزن كبيرة، وعمرو بن رحوم، والحارث بن شبيب، وعبيدة بن همام، والحارث بن جندب وصحار -بضم الصادر وبالحاء المهملتين- ابن العباس، وعقبة بن حروة، وقيس بن النعمان، والجهم بن قثم، وجويرة العبدي، ورستم العبدي، والزراع بن عامر. انتهى ملخصًا من الفتح، "وفيها سألوه عن الإيمان وعن الأشربة" على حذف مضاف، أي: عن ظروفها، أو حذف الصفة، أي: التي تكون في الأواني المختلفة، "وكان فيهم الأشج" -بهمزة فشين معجمة مفتوحتين فجيم، واسمه: المنذر بن عائذ -بمهملة وتحتية ومعجمة، سمَّاه النبي -صلى الله عليه وسلم- الأشجّ لأثر كان في وجهه.
قال النووي: هذا هو الصحيح المشهور في اسمه الذي قاله ابن عبد البر والأكثرون.
وقال الكلبي: اسمه المنذر بن الحارث بن زياد بن عصر بن عوف، وقيل: اسمه المنذر بن عامل، وقيل: ابن عبيد، وقيل: اسمه عائذ بن المنذر، وقيل: عبد الله بن عوف العصري، بفتح العين والصاد المهملتين، "وكان كبيرهم" قدرًا لا ينافي الحديث الآتي، وكان أصغرهم سنًّا، "وقال له -عليه الصلاة والسلام: "إن فيك لخصلتين يحبهما الله الحلم" بحاء مكسورة فلام ساكنة فميم: العقل, "والأناة" بهمزة ونون مفتوحتين، فألف، فتاء تأنيث وبالقصر: التثبت وعدم العجلة.
قال عياض: وهي تربُّصه حين نظر في مصالحه ولم يعجل، والحلم أنه -صلى الله عليه وسلم- قال لهم: "تبايعون على أنفسكم وقومكم"؟ فقالوا: نعم، فقال الأشج: يا رسو ل الله, إنك لن تزاول الرجل على شيء أشدّ عليه من دينه، نبايعك على أنفسنا، ونرسل من يدعوهم، فمن اتَّبَعنا كان منَّا، ومن أبى قتلناه، قال: "صدقت, إن فيك خصلتين.. " إلخ، فهذا يدل على صحة عقله وجودة نظره للعواقب, انتهى.
"رواه مسلم من حديث أبي سعيد" الخدري، ولا يخالف هذا النهي عن مدح الرجل في وجهه؛ لأن ما كان من النبي -صلى الله عليه وسلم- وحي ولا يجوز كتمه، أو أنه علم من حاله أنه لا يلحقه من المدح إعجاب، فأخَّره بأن ذلك مما يحبه الله ليشكره على ما منحه ويزداد لزومًا له، "وأخرج البيهقي" وأبو يعلى، والطبراني بسند جيد، عن مزيد بن مالك العصري، "قال: بينما النبي -صلى الله عليه وسلم- يحدث أصحابه قال: "سيطلع" بضم اللام، ولفظ الرواية: إذ قال لهم: "سيطلع عليكم من(5/139)
ههنا ركب هم خير أهل المشرق"، فقام عمر بن الخطاب نحوهم، فلقي ثلاثة عشر راكبًا، فبشَّرهم بقوله -عليه الصلاة والسلام, ثم مشى معهم حتى أتوا النبي -صلى الله عليه وسلم، فرموا بأنفسهم عن ركبائهم، فأخذوا يده فقبَّلوها. الحديث, وأخرجه البخاري في الأدب المفرد. فيمكن أن يكون أحد المذكورين غير راكب أو مرتدفًا.
وثانيتهما: كانت في سنة الوفود وكان عددهم حينئذ
__________
ههنا ركب هم خير أهل المشرق"، فقام عمر بن الخطاب نحوهم، فلقي ثلاثة عشر راكبًا" فقال من القوم؟ قالوا: من بني عبد القيس، قال: فما أقدمكم هذه البلاد ألتجارة؟ قالوا: لا، قال: أما إن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد ذكركم آنفًا فقال خيرًا.
هذا لفظ رواية البيهي وغيره، واختصره المصنِّف تبعًا للحافظ بقوله: "فبشرهم بقوله -عليه الصلاة والسلام" أي: بمعنى قوله على طريق الإجمال، كما علم من لفظ الرواية، "ثم مشى معهم حتى أتوا النبي -صلى الله عليه وسلم،" فقال عمر للقوم: هذا صاحبكم الذي تريدون، "فرموا بأنفسهم عن ركائبه" فمنهم من مشى إليه، ومنهم من هرول، ومنهم من سعى حتى أتوا النبي -صلى الله عليه وسلم، فابتدروه القوم ولم يلبسوا إلا ثياب سفرهم.
هذا أسقطه من رواية البيهقي قبل قوله: "فأخذوا يده فقبَّلوها.. الحديث" بقيّته، وتخلّف الأشج، وهو أصغر القوم في الركاب حتى أناخها، وجمع متاع القوم، وذلك بعين رسول الله -صلى الله عليه وسلم.
وفي حديث الزراع بن عامر عند البيهقي: فجعلنا نتبادر من رواحلنا نقبِّل يد رسول الله ورجله، وانتظر المنذر الأشج حتى أتى عبئته، فلبس ثوبيه، وفي حديث عند أحمد: فأخرج الأشج ثوبين أبيضين من ثيابه فلبسهما، ثم جاء يمشي حتى أخذ بيد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقَبَّلَهما، وكان رجلًا دميمًا، قال: يا رسول الله, إنه لا يستقي في مسوك الرجال، إنما يحتاج من الرجل إلى أصغريه لسانه وقلبه، فقال له -صلى الله عليهوسلم: "إن فيك خلتين يحبهما الله ورسوله: الحلم والأناة"، قال: يا رسول الله أنا أتخلق بهما أم الله جبلني عليهما؟ قال: "بل الله تعالى جبلك عليهما"، قال: الحمد لله الذي جبلني على خِلَّتَيْن يحبهما الله تعالى ورسوله.
وفي مسند أبي يعلى: قديمًا كان فيَّ أم حدثًا, قال: "بل قديمًا"، قال: الحمد لله الذي جبلني على خلتين يحبهما، "وأخرجه البخاري في الأدب المفرد" مطوّلًا من وجه آخر عن رجل من وفد عبد القيس لم يسمعه، فصرح في الحديث بأنهم ثلاثة عشر راكبًا، فيخالف القول بأنهم أربعة عشر، "فيمكن" في طريق الجمع بينهما "أن يكون أحد المذكورين غير راكب" بل راجل "أو مرتدفًا" مع واحد منهم، فلا خلف, "وثانيتهما: كانت في سنة الوفود، وكان عددهم حينئذ(5/140)
اربعين رجلًا، كما في حديث أبي خيرة الصباحي عند ابن منده.
ويؤيد التعدد: ما أخرجه من وجه آخر أنه -عليه الصلاة والسلام- قال لهم: "مالي أرى ألوانكم تغيّرت"؟ ففيه إشعار بأنه كان رآهم قبل التغيّر، وفي قولهم: يا رسول الله، دليل على أنهم كانوا حين المقالة مسلمين، وكذا في قولهم: كُفَّار مضر، وقولهم: الله ورسوله أعلم.
__________
أربعين رجلًا".
قال الحافظ: سمى منهم في جملة أخبار زيادة على الأربعة عشر السابقين، مطر أخو الزراع وابن أخته، ولم يسم، ومسمرح السعدي.
روى ابن السكن أنه وَفَدَ مع عبد القيس، وجابر بن الحارث، وخزيمة بن عبد عمرو، وهمَّام بن ربيعة، وجارية -بجيم أوله- ابن جابر, ذكرهم ابن شاهين. ونوح بن مخلدة، وأبو خيرة، والجارود العبدي، وقد ذكر ابن إسحاق قصته، وأنه كان نصرانيًّا فأسلم وحَسُنَ إسلامه، "كما في حديث أبي خيرة" بفتح الخاء المعجمة وسكون التحتية فراء فهاء "الصباحي" -بضم الصاد المهملة فموحدة خفيفة فألف فحاء مهملة- نسبة إلى صباح بطن من عبد القيس، كما في الفتح.
زاد في الإصابة عن الخطيب: إنه لا يعلم أحدًا سماه "عند ابن منده" والدولابي وغيرهما، عنه قال: كنت في الوفد الذين أتوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من وفد عبد القيس، وكنا أربعين رجلًا نسأله عن الدباء والنقير.. الحديث، وفيه: فزودنا الأراك نستاك به، فقلنا: يا رسول الله عندنا الجريد، ولكن نقبل كرامتك وعطيتك، فقال: "اللهم اغفر لعبد القيس، أسلموا طائعين غير مكرهين، إذ قعد قوم لم يسلموا إلا خزايا موترين" , "ويؤيد التعدد ما أخرجه" ابن حبان, ما في الفتح، وبيض له المصنف "من وجه آخر؛ أنه -عليه الصلاة والسلام- قال لهم: ما لي أرى ألوانكم تغيّرت، ففيه إشعار بأنه كان رآهم قبل التغير" وهذا كله على أنَّ لهما وفادتين، كما جزم به الحافظ في المغازي من فتح الباري قائلًا: إنه الذي تبيِّنَ لنا، وذكر قول المصنّف، وقد كان لعبد القيس وفادتان حتى هنا، ومشى في كتاب الإيمان على الاتحاد؛ حث جمع بين اختلاف الروايتين في عددهم، بأنه يمكن أن الثلاثة عشر كانوا رءوس الوفد، ولهذا كانوا ركبانًا، وكان الباقون أتباعًا, انتهى.
"وفي قولهم: يا رسول الله، دليل على أنهم كانوا حين المقالة مسلمين، وكذا في قولهم: كفار مضر، وقولهم: الله ورسوله أعلم" هذه عبارة الفتح، ومَرَّ أن المصنِّف أسقط ذا من(5/141)
ويدل على سبقهم إلى الإسلام أيضًا، ما في البخاري: إن أول جمعة جمعت بعد جمعة في مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في مسجد عبد القيس بجواثي من البحرين، وهي قرية لهم، وإنما جمَّعوا بعد رجوع وفدهم إليهم. قال في فتح الباري: فدلَّ على أنهم سبقوا جميع القرى إلى الإسلام.
وما جزم به ابن القيم من أنَّ السبب في كنه لم يذكر الحج في الحديث؛ لأنه لم يكن فرض هو المعتمد. وقد قدمت الدليل على قدم إسلامهم، لكن جزمه تبعًا للواقدي بأن قدومهم كان في سنة تسع قبل فتح مكة ليس بجيد؛ لأن
__________
لفظ الخبر سهوًا، أو من الناسخ، وأورد شيخنا حافظ العصر البابلي -رحمه الله تعالى؛ حيث كانوا مسلمين, فكيف يقولون جوابًا لقوله: "أتدرون ما الإيمان"؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، وأجاب بأنه احتمل عندهم أن ما دخلوا به في الإسلام تغيّر لحقيقة أخرى؛ لأن الزمن كان زمن وحي، ونظيره حديث حجة الوداع: أتدرون ما هذا اليوم؟ وما هذا الشهر؟ وما هذا البلد؟ " فقالوا: الله ورسوله أعلم، مع معرفتهم أن اليوم عرفة، والشهر الحرام، والبلد مكة، "ويدل على سبقهم إلى الإسلام أيضًا ما في البخاري" في الجمعة والمغازي عن ابن عباس أنه قال: "إن أوّل جمعة جمعت" بضم الجيم وشد الميم المكسورة.
زاد في رواية أبي داود: في الإسلام "بعد جمعة" زاد البخاري في المغازي جمعت "في مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم" زاد أبو داود: بالمدينة، والنسائي: بمكة، وهو خطأ بلا مرية, قاله الحافظ "في مسجد عبد القيس بجواثي من البحرين" بضم الجيم وتخفيف الواو وقد تهمز ثم مثلثه خفيفة، "وهي قرية" كما في رواية أبي داود: قرية من قرى البحرين، وفي أخرى له: من قرى عبد القيس، وحكى الجوهري والزمخشري، وابن الأثير: إن جواثي اسم حصن بالبحرين، وهذا لا ينافي كونها قرية.
وحكى ابن التين عن أبي الحسن اللخمي: أنها مدينة، وما ثبت في الحديث من كونها قرية أصح، مع احتمال أن تكون في الأوّل قرية، ثم صارت مدينة، قاله الحافظ، "وإنما جمعوا بعد رجوع وفدهم إليهم، قال في فتح الباري: فدلَّ على أنهم سبقوا جميع القرى إلى الإسلام" فيتنافى من قال: إنهم قدموا سنة تسع، فهذا مما يؤيد تعدد القدوم أيضًا، "وما جزم به ابن القيم من أن السبب في كونه لم يذكر الحج في الحديث؛ لأنه لم يكن فرض, هو المعتمد، وقد قدَّمت الدليل على قدم إسلامهم" قريبًا، "لكن جزمه تبعًا للواقدي؛ بأن قدومهم كان في سنة تسع قبل فتح مكة" صوابه: بعدلان فتحها سنة ثمان، والذي قاله الحافظ، لكن جزم القاضي عياض؛ بأن قدومهم كان سنة ثمان قبل فتح مكة، تبع فيه الواقدي "ليس بجيد، لأن فرض(5/142)
فرض الحجّ كان سنة ست على الأصح، ولكنه اختار -كغيره- أنَّ فرض الحج في السنة العاشرة، حتى لا يرد على مذهبه أنه على الفور شيء.
وقد احتجَّ الشافعي بكونه على التراخي, بأن فرض الحج كان بعد الهجرة، وأنه -صلى الله عليه وسلم- كان قادرًا على الحج في سنة ثمان، وفي سنة تسع، ولم يحجّ إلا في سنة عشر، وسيأتي في حجه -صلى الله عليه وسلم- من مقصد عبادته مزيد بيان لذلك -إن شاء الله تعالى.
فإن قلت: كيف قال -صلى الله عليه وسلم: "آمركم بأربع" والمذكورات خمس؟
قلت: أجاب القاضي عبد الوهاب تبعًا لابن بطال: بأن الأربع ما عدا أداء الخمس، قال: وكأنه أراد إعلامهم بقواعد الإيمان وفروض الأعيان التي هي الأربع, ثم أعلمهم بما يلزمهم إخراجه إذا وقع لهم جهاد؛ لأنهم كانوا بصدد محاربة كفار مضر، ولم يقصد إلى ذكرها بعينها؛ لأنها مسببة عن الجهاد، ولم يكن الجهاد إذ ذاك فرض عين. قال: وكذلك لم يذكر الحج لأنه لم يكن فرض.
__________
الحج كان سنة ست على الأصح" فالتحرير أنهم قدموا مرتين: مرة قبل سنة ست، ولذا لم يذكر الحج، ومرة بعدها سنة ثمان أو تسع، "ولكنَّه اختار كغيره أن فرض الحج في السنة العاشرة حتى لا يرد على مذهبه، أنه على الفور شيء" وبنى مختاره على اتخاذ القدوم، "وقد احتجَّ الشافعي بكونه على التراخي، بأن فرض الحج كان بعد الهجرة، وأنه -صلى الله عليه وسلم- قادر على الحج في سنة ثمان" التي هي سنة الفتح، وولَّى على الحج فيها عتاب بن أسيد كما مَرَّ.
"وفي سنة تسع" وفيها ولَّى الصِّدِّيق على الحج، "ولم يحج إلّا في سنة عشر" فدل ذلك على التراخي، وأجاب القائلون بالفور: بأنه لم يحج في السنتين لأعذار، "وسيأتي في حجه -علي الصلاة والسلام- من مقصد عباداته مزيد بيان لذلك إن شاء الله تعالى" وقد شاء، "فإن قلت: كيف قال -صلى الله عليه وسلم: "آمركم بأربع" والمذكورات خمس، قلت: أجاب القاضي عبد الوهاب" كذا في نسخ المصنف والمذكور في الفتح القاضي فقط، ثم أفصح عنه بعد قليل بقوله: القاضي عياض، وهو الصواب لقوله: "تبعًا لابن بطال" المتوفَّى سنة أربع وأربعين وأربعمائة، وعبد الوهاب مات سنة اثنتين وعشرين وأربعمائة عن ستين سنة، فهو متقدّم الوفاة على ابن بطال، فكيف يتبعه، "بأن الأربع ما عدا أداء الخمس، قال: وكأنه أراد إعلامهم بقواعد الإيمان وفروض الأعيان التي هي الأربع، ثم أعلمهم بما يلزمهم إخراجه إذا وقع لهم جهاد؛ لأنهم كانوا بصدد محاربة كفار مضر، ولم يقصد إلى ذكرها" أي: الخصلة الخامسة "بعينها؛ لأنها مسببة عن الجهاد، ولم يكن الجهاد إذ ذاك فرض عين، قال: وكذلك لم يذكر الحج؛ لأنه لم يكن فرض".(5/143)
وقال غيره: قوله: "وأن تعطوا" معطوف على قوله: "بأربع" أي: آمركم بأربع وآمركم بأن تعطوا، ويدل عليه العدول عن سياق الأربع والإتيان: بأن والفعل، مع توجه الخطاب إليهم.
وقال القاضي أبو بكر بن العربي: يحتمل أن يقال: إنه -عليه الصلاة والسلام- عد الصلاة والزكاة واحدة؛ لأنها قرينتها في كتاب، وتكون الرابعة أداء الخمس، أو أنه لم يعد الخمس؛ لأنه داخل في عموم إيتاء الزكاة، والجامع بينهما: إنه إخراج مال معين.
وقال البيضاوي: الظاهر أن الأمور الخمسة هنا تفسير للإيمان، وهو أحد الأربعة الموعودة بذكرها، والثلاثة الأخرى حذفها الراوي اختصارًا أو نسيانًا.
__________
"وقال غيره" وهو ابن الصلاح "قوله: "وأن تعطوا" معطوف على قوله: "بأربع"، أي: آمركم بأربع، وآمركم بأن تعطوا، ويدل عليه العدول عن سياق الأربع، والإتيان بأن والفعل مع توجه الخطاب إليهم".
وقد قال النووي في ذا الجواب والذي قبله: إنهما أصح الأجوبة، وتوقَّف فيهما الكرماني، بأن البخاري عقد الباب على أنَّ أداء الخمس من الإيمان، فلابُدَّ وأن يكون داخلًا تحت أجزاء الإيمان، كما أن ظاهر العطف يقتضي ذلك. انتهى، وهذا سبقه إليه ابن رشيد، وأجاب بأن المطابقة تحصل من جهة أخرى، وهي أنهم سألوه عن الأعمال التي يدخلون بها الجنة، وأجيبوا بأشياء منها: أداء الخمس والأعمال التي تدخل الجنة هي أعمال الإيمان، فيكون أداء الخمس من الإيمان بهذا التقرير، وأجاب ابن التين بأن الزيادة لا تمنع إذا حصل الوفاء بعد الأربع.
قال الحافظ: ويدل على ذلك لفظ مسلم عن أبي سعيد: "آمركم بأربع: اعبدوا الله، ولا تشركوا به شيئًا، وأقيموا الصلاة، وآتوا الزكاة، وصوموا رمضان، وأعطوا الخمس من الغنائم".
"وقال القاضي أبو بكر بن العربي: يحتمل أن يقال: إنه -عليه الصلاة والسلام- عَدَّ الصلاة والزكاة واحدة؛ لأنها قرينتها في كتاب، وتكون الرابعة أداء الخمس" فلا زيادة عمَّا عدّ، "أو أنه لم يعد الخمس، لأنه داخل في عموم إيتاء الزكاة، والجامع بينهما أنه إخراج مال معين" في حال دون حال.
"وقال البيضاوي" في شرح المصابيح: "الظاهر أن الأمور الخمسة هنا تفسير للإيمان، وهو أحد الأربعة الموعود بذكرها، والثلاثة الأخرى حذفها الراوي اختصارًا، أو نسيانًا" وهذا بعيد جدًّا، لما فيه من نسبة الراوي إلى ما الأصل عدمه، ولذا قال الحافظ: ما ذكر أنه الظاهر لعله بحسب ما ظهر له، وإلا فالظاهر من السياق أن الشهادة أحد الأربع لقوله: وعقد واحدة، قال:(5/144)
وتعقَّب بأنه وقع في صحيح البخاري أيضًا في رواية: "آمركم بأربع: شهادة أن لا إله إلا الله" وعقد واحدة" فدلَّ على أن الشهادة إحدى الأربع.
وقال القرطبي: قيل إن أوّل الأربع المأمور بها: إقام الصلاة، وإنما ذكر الشهادتين تركبًا، وإلى هذا نحا الطيبي، فقال: عادة البلغاء أنَّ الكلام إذا كان منصوبًا لغرض جعلوا سياقه له، وطرحوا ما عداه، وهنا لم يكن الغرض في الإيراد ذكر الشهادتين؛ لأن القوم كانوا مؤمنين مقرِّين بكلمتي الشهادة، ولكن ربما كانوا يظنون الإيمان مقصور عليهما كما كان الأمر في صدر الإسلام. قال: ولهذا لم
__________
وكأنه أراد أن يرفع إشكال كون الإيمان واحدًا، والموعود بذكره أربع، وقد أجيب عن ذلك؛ بأنه باعتبار أجزائه المنفصلة أربع، وهو في ذاته واحد، والمعنى: إنه اسم جامع للخصال الأربع التي ذكر أنه يأمرهم بها، ثم فَسَّرها، فهو واحد بالنوع متعدد بحسب وظائفه، كما أن المنهي عنه وهو الانتباذ فيما يسرع إليه الإسكار واحد بالنوع متعدِّد بحسب أوعيته، والحكمة في الإجمال بالعدد قبل التفسير أن تتشوَّق النفس إلى التفصيل، ثم تسكن إليه، وأن يتحصَّل حفظها للسامع، فإذا نسي شيئًا من تفاصيلها طلب نفسه بالعدد، فإذا لم يستوف العدد الذي في حفظه علم أنه قد فاته بعض ما سمع. انتهى، فاختصره المصنّف بقوله: "وتعقَّب بأنه وقع في صحيح البخاري أيضًا في رواية" له في المغازي: "آمركم بأربع: شهادة أن لا إله إلا الله، وعقد واحدة" , وعنده في فرض الخمس، وعقد بيده، "فدلَّ على أن الشهادة إحدى الأربع", وأمَّا ما وقع عند البخاري في الزكاة من زيادة واو في قوله: "وشهادة أن لا إله إلا الله"، فهي زيادة شاذّة لم يتابع أحد عليها، راويها حجَّاج بن منهال، ومما يدل أيضًا على أنه عد الشهادتين من الأربع، رواية البخاري في المواقيت بلفظ: "آمركم بأربع وأنهاكم عن أربع"، ثم فسرها لهم: "شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله"؛ لأنه أعاد الضمير في قوله، فسرها مؤنثًا، فيعود على الأربع، ولو أراد تفسير الإيمان لأعاده مذكرًا، قاله الحافظ.
"وقال القرطبي:" أبو العباس في المفهم على مسلم، "قيل" في الجواب عن الإشكال: "إن أول الأربع المأمور بها إقام الصلاة، وإنما ذكر الشهادتين تبركًا،" كما قيل في قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41] "وإلى هذا نحا الطيبي، فقال: عادة البلغاء أنَّ الكلام إذا كان منصوبًا" أي: مسوقًا "لغرض, جعلوا سياقه له، وطرحوا ما عداه" وإن ذكروه، "وهنا لم يكن الفرض في الإيراد ذكر الشهادتين؛ لأن القوم كانوا مؤمنين مقرين بكلمتي الشهادة،" فلم يقصدا بالذكر، بل ذكرًا تبركًا، "ولكن ربما كانوا يظنون أن الإيمان مقصور عليهما، كما كان الأمر في صدر الإسلام، قال: ولهذا لم يعد الشهادتين في(5/145)
بعد الشهادتين في الأوامر، انتهى ملخصًا من فتح الباري.
__________
الأوامر،" قيل: ويَرُدُّ على هذا الإتيان بحرف العطف، فيحتاج إلى تقدير.
قال ابن العربي: لولا وجود حرف العطف لقلنا: إن ذكر الشهادتين ورد على سبيل التصديق، لكن يمكن أن يقرأ قوله: "وإقام الصلاة" بالخفضِ، فيكون عطفًا على قوله: "آمركم بأربع" مصدرًا به وبشرطه من الشهادتين، وآمركم بإقام الصلاة إلى آخره.
قال: ويؤيد هذا حذفها في رواية البخاري في الأد، "انتهى" جميع ما ذكره "ملخصًا من فتح الباري" في كتابي الإيمان والمغازي، إلّا ما نقله عن ابن القيم، فليس فيه، والله أعلم.(5/146)
الوفد الخامس: وفد بني حنيفة
وقدم عليه -عليه الصلاة والسلام- وفد بني حنيفة، فيهم مسيلمة الكذّاب، فكان منزلهم في دار امرأة من الأنصار، من بني النجار،
__________
"الوفد الخامس":
"وقد عليه -عليه الصلاة والسلام- وفد بني حنيفة" قبيلة كبيرة ينزلون اليمامة، بين مكة واليمن، ينسبون إلى جَدِّهم حنيفة بن لجيم -بالجيم- ابن صعب بن علي بن بكر بن وائل.
ذكر الواقدي: إنهم كانوا سبعة عشر، "فيهم مسيلمة الكذاب" بكسر اللام مصغرًا- ابن ثمامة بن كبير-بموحدة- ابن حبيب من بني حنيفة، وزعم وثيمة في كتاب الردة أنَّ مسيلمة لقب، واسمه: ثمامة, وفيه نظر؛ لأن كنيته أبو ثمامة، فإن كان محفوظًا، فيكون ممن توافقت كنيته واسمه، "فكان منزلهم" -بفتح الميم والزاي- مصدر ميمي، أي: نزولهم مضاف لفاعله، ويجوز ضم الميم مع فتح الزاي أيضًا من إضافة المصدر لمفعوله، فيفيد أن النبي أو أحد من صحبه أمر بإنزالهم، وقد ضبط البرهان الزاي بالفتح، وسكت عن الميم، فيحتمل الضبطين، وأمَّا كسر الزاي مع فتح الميم اسم للموضع، في أنه ليس مرادًا هنا لإيهامه موضعًا معينًا من الدار، مع أنَّ المراد مجرَّد النزول دون تعيين محل, "في دار امرأة من الأنصار من بني النجار" هي كما قاله الحافظ: رملة بنت الحدث -بدال بعد الحاء المهملة، لا براء قبلها ألف- كما عند ابن سعد وغيره، والحدث: هو ابن ثعلبة بن الحارث بن زيد, الأنصارية النجارية، كانت دارها دار الوفود، وهي صحابية, زوجة معاذ بن عفراء، وأما كيسة -بكاف فتحتية مشددة فمهملة- بنت الحارث بن كيرز -بضم الكاف- ابن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس بن عبد مناف، فكانت زوجًا لمسيلمة، ولم تكن إذ ذاك بالمدينة, وإنما كانت باليمامة، فلمَّا قتل مسيلمة تزوَّجها ابن عمها عبد الله بن عامر بن كريز، ذكر ذلك الدارقطني، وتبعه ابن ماكولا، فلا يصحّ تفسير المرأة بها، كما فعل(5/146)
فأتو بمسيلمة إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يستر بالثياب، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- جالس مع أصحابه، في يده عسيب من سعف النخل، فلمَّا انتهى إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهم يسترونه بالثياب -كلَّمه وسأله، فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "لو سألتني هذا العسيب الذي في يدي ما أعطيتك".
وذكر حديثه ابن إسحاق على غير ذلك, فقال: حدَّثني شيخ من أهل اليمامة من بني حنيفة: أنَّ وفد بني حنيفة أتوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وخلَّفوا مسيلمة في رحالهم، فلمَّا أسلموا ذكروا له مكانه، فقالوا: يا رسول الله، إنا قد خَلَّفنا صاحبنا في رحالنا وركابنا يحفظها لنا، فأمر له رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بما أمر به للقوم، وقال لهم: إنه ليس بشركم مكانًا، يعني: لحفظه ضيقة أصحابه،
__________
السهيلي؛ لأنها قرشية عبشمية، وقد قال في الرواية: امرأة من الأنصار، انتهى ملخصًا من الفتح، ومقدمته "فأتوا" كما ذكره ابن إسحاق عن بعض علمائه "بمسيلمة إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يستر بالثيا" إكرامًا له وتعظيمًا، ولعلّ ذلك عادتهم فيمن يعظّمونه، وقد كان أمره عند قومه كبيرًا، فكانوا يقولون له: رحمن اليمامة، قبل مولد عبد الله والد النبي -صلى الله عليه وسلم، ولما سمعت قريش البسملة قال قائلهم: دق فوك، إنما يذكر مسيلمة رحمن اليمامة، قتل مسيلمة وهو ابن ائة وخمسين سنة، ذكره السهيلي, "ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- جالس مع أصحابه في يده عسيب" بفتح العين وكسر السين المهملتين. "من سعف النخل" في رأسه خويصات، كما في السيرة، وفي المصباح: السعف: أغصان النخل ما دامت بالخوص، فإذا زال عنها قيل لها: جريدة, الواحدة سعفة مثل قصب وقصبة، فتفسير النور عسيب بالجريدة توهّم أنه لا خوص بها، وليس بمراد لما علم، "فلما انتهى إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم، وهم يسترونه بالثياب، كلَّمه وسأله" أن يجعل له الأمر من بعده، كما هو لفظ حديث الصحيحين الآتي, وأن يشركه معه في النبؤة، "فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "لو سألتني هذا العسيب الذي في يدي ما أعطيتك" مبالغة في منعه عن سؤاله ما لا يكون له، "وذكر حديثه ابن إسحاق على غير ذلك، فقال" بعدما أورد هذا أوّلًا عن بعض علمائه: وقد "حدثني شيخ من أهل اليمامة من بني حنيفة" أن حديثه كان على غير هذا، زعم "أنَّ وفد بني حنيفة أتوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم، وخلَّفوا مسيلمة في رحالهم، فلمَّا أسلموا ذكروا له مكانه" أي: محله، "فقالوا: يا رسول الله, إنا قد خلفنا صاحبنا في رحالنا وركابنا يحفظها لنا، فأمر له رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بما أمر به للقوم" وهو خمس آواقٍ فضة لكل واحد، "وقال لهم: "إنه ليس بشركم مكانًا" يعني: " أنه قصد معكم معروفًا "لحفظه ضيعة أصحابه" بفتح الضاد، وإسكان(5/147)
ثم انصرفوا، فلمَّا قدموا اليمامة ارتدَّ -عدوّ الله- وتنبَّأ وقال: إني أشركت في الأمر معه، ثم جعل يسجع السجعات، فيقول لهم فيما يقول مضاهاة للقرآن:
لقد أنعم الله على الحبلى، أخرج منها نسمة تسعى, من بين صفاق وحشي.
وسجع اللعين على سورة {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر: 1] ، فقال: إنا أعطيناك الجواهر، فصل لربك وهاجر، إن مبغضك رجل فاجر. وفي رواية: إنا أعطيناك الجماهر, فخذ لنفسك وبادر، واحذر أن تحرص أو تكاثر، وفي رواية: إنا أعطيناك الكواثر, فصل لربك وبادر, في الليالي الغوادر.
__________
التحتية ومهملة، المراد بها هنا ظهرهم وحوائجهم، وإن كانت في الأصل العقار، "ثم انصرفوا، فلمَّا قدموا اليمامة ارتدَّ عدوَّ الله" ظاهره أنه كان أسلم "وتنبأ" ادَّعى النبوَّة، "وقال: إني أشركت" -بضم الهمزة مبني للمفعول "في الأمر معه"، وبقية هذه الرواية في ابن إسحاق، وقال لوفده الذين كانوا معه: ألم يقل لكم: إنه ليس بشركم مكانًا، ما ذاك إلا لما يعلم أني أشركت في الأمر معه، "ثم جعل يسجع السجعات، فيقول لهم فيما يقول مضاهاة للقرآن" أي: مشاكلة, تقول: ضاهات فلانًا، وضاهيته بالهمزة وتركه, بهما قرئ: "يضاهون قول الذين كفروا" قراءة عاصم بالهمز وكسر الهاء، والباقون بضم الهاء بلا همز: "لقد أنعم الله على الحبلى" عام في كل امرأة وبهيمة تلد، وقيل: مختص بالآدميات، فغيرهم من بهائم وشجر، يقال: حمل بالميم، "أخرج منها نسمة" بفتح السين- روحًا "تسعى" تمشي "من بين صفاق" بكسر المهملة، وخفة الفاء، فألف، فقاف- الجلد الأسفل الذي تحت الجلد الذي عليه الشعر، أو ما بين الجلد والمصران، أو جلد البطن كله، كما في القاموس "وحشى" بالقصر- المعي والجمع أحشاء، مثل عنب وأعناب، "وسجع" كمنع, نطق بكلام له فواصل، فهو ساجع، والسجع الكلام المقفَّى، أو موالاة الكلام على روي, جمعه أسجاع، كما في القاموس في فصل السين من باب العين المهملتين "اللعين على سورة {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر: 1] "فقال: إنا أعطيناك الجواهر"، فظنَّ اللعين المخذول أن الجواهر تعادل الكوثر، فجهل اللغة العربية أن الكوثر الخير الكثير، "فصلِّ لربك وهاجر، إن مبغضك رجل فاجر" ليت شعري ما الذي جاء به، فإنه أخذ لفظ القرآن، وحرَّف الكلم عن مواضعه، أبدل شانئك بمبغضك، ولكونه هو الفاجر، أتى الفجور في لسانه، وصرف عن الإتيان بما يفيد الحصر.
"وفي رواية: إنا أعطيناك الجماهر، فخذ لنفسك وبادر، واحذر أن تحرص أو تكاثر" بمثلثة، أو موحدة.
"وفي رواية: إنا أعطيناك الكواثر، فصل لربك وبادر، في الليالي الغوادر،" أي: المظلمة،(5/148)
ولم يعرف المخذول أنه محروم عن المطلوب، وسيأتي في أوائل مقصد معجزاته -عليه الصلاة والسلام- من تسجيع مسيلمة الركيك زيادةً على ما ذكرته هنا إن شاء الله.
وقيل: إنه أدخل البيضة في القارورة وادعى أنها معجزة له، فافتضح بنحو ما ذكر: أن النوشادر إذا ضرب في خل الخمر ضربًا جيدًا، وتجعل فيه بيضة بنت يومها يومًا وليلة فإنها تمتد كالخيط، فتجعل في القارورة ويصب عليها الماء البارد فإنها تجمد.
ولما سمع اللعين أن النبي -صلى الله عليه وسلم- مسح رأس صبيّ كان ألمَّ به داء فشفي في الوقت, ومج في عين بئر فكثر ماؤها، وتفل في عين علي -وكان أرمد- فبرأ, فتفل في بئر فغار ماؤها، وفي عين بصير فعمي، ومسح بيده ضرع شاة حلوب فارتفع درها وييس ضرعها، ولله در الشقراطيسي حيث يقول -يخاطب النبي -صلى الله عليه وسلم:
أعجزت بالوحي
__________
"ولم يعرف المخذول أنه محروم عن المطلوب، وسيأتي في أوائل مقصد معجزاته -عليه الصلاة والسلام" وهو الرابع "من تسجيع مسيلمة الركيك، زيادة على ما ذكرته هنا إن شاء الله، وقيل: إنه أدخل البيضة في القارورة".
وفي الروض، يقال: إنه أوَّل من فعل ذلك، وأوَّل من وصل جناح الطائر المقصوص، "وادَّعى أنها معجزة، فافتضح بنحو ما ذكر: إن النوشادر" بضم النون، وكسر الدال المهملة، وآخره راء. "إذا ضرب في خلّ الخمر ضربًا جيدًا، وتجعل فيه بيضة بنت يومها يومًا وليلة، فإنها تمتد كالخيط، فتجعل في القارورة ويصب عليها الماء البارد، فإنها تجمد" بضم الميم، "ولما سمع اللعين أن النبي -صلى الله عليه وسلم- مسح رأس صبي كان ألَمَّ" بالفتح والتثقيل, نزل "به داء فشفي في الوقت" كذا في نسخ، وفي غالبها إسقاطها، والاقتصار على أن النبي مَجَّ، ويدل عليه أنه لم يذكر نظيرها، "ومجَّ في عين بئر فكثر ماؤها، وتفل في عين عليٍّ وكان أرمد فبرأ" بفتح الراء أكثر من كسرها. "فتفل" جواب لما اقترن بالفاء، على قلة "في بئر فغار ماؤها، وفي عين بصير فعمي، ومسح بيده ضرع شاة حلوب فارتفع درها" لبنها، "ويبس ضرعها،" ولم يذكر نظير الأولى، وقد ذكرها في الروض, وقال: ومسح رأس صبي فقرع قرعًا فاحشًا، "ولله در الشقراطيسي؛ حيث يقول -يخاطب النبي -صلى الله عليه وسلم" في قصيدته الطنانة التي قدم المصنف منها في الفتح، وقبله المولد "أعجزت بالوحي" القرآن؛ لأن الله أطلقه عليه في قوله: إن هو إلا وحي(5/149)
............ أرباب البلاغة في ... عصر البيان فضلَّت أوجه الحيل
سألتهم سورة في مثل حكمته ... فتلَّهم عنه حين العجز حين تُلي
فرام رجس كذوب أن يعارضه ... بعي غي فلم يحسن ولم يطل
مثبج بركيك الإفك ملتبس ... ملجلج بزري الزور والخطل
يمج أول حرف سمع سامعه ... ويعتريه كلال العجز والملل
كأنه منطق الورهاء شذَّ به ... لبس من الخبل أو مسّ من الخبل
__________
يوحى "أرباب" جمع رب، أي: ملوك "البلاغة في عصر" زمان "البيان" هو والبلاغة والفصاحة متقاربة بمعنى, "فضلّت" ضاعت وهلكت "أوجه الحيل", فلم يقدروا على حيلة يدفعوه بها، "سألتهم سورة في مثل حكمته" وفي نسخة محكمه، ولو أبدل في بمن لوافق قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ} [البقرة: 23] الآية, "فتلهم". بفوقية وشد اللام. صرعهم "عنه حين". بفتح فسكون. هلاك "العجز حين تلي" قرئ "فرام" طلب بالفاء، وفي نسخة بالواو، والأُولَى أحسن "رجس" قذر "كذوب" يعني: مسيلمة، جعله رجسًا مبالغة في ذمه، أو على حذف مضاف، أي: ذو رجس "أن يعارضه" أي: القرآن "بعي" بمهملة. ضعف نطق، وانقطاعه "غي" بمعجمة، أي: ضلالة وخيبة.
وفي نسخة: بسخف إفك، أي: رقة عقل، والإفك: الكذب وإضافة السخف إليه على معنى، أن كذبه الذي أتى به سخيف واهٍ، "فلم يحسن" عن الغي، أو سخف الإفك، "ولم يطل" أي: يمتد من طال.
وفي نسخة: بضم حرفي المضارعة من أحسن وأطال، والواو وفي ولم يطل للحال، أي: والحال أنه فقد كلامه صفة الحسن على قصره عيًّا منه وغباوة "مثبج" بمثلثة، فموحدة، فجيم مبهم: لم يبين، أو مضطرب فاسد المعاني، "بركيك الإفك" ضعيف الكذب، قليل الفائدة, "ملتبس" مختلط مشتبه، متعلق بركيك الإفك، أي: مع فساد، معناه: قد اختلط بإفك ركيك "ملجلج" مردد غير مفصح به "بزري" بالزاي قبل الراء، أي: حقير "الزور" الكذب "والخطل" المنطق الفاحش، ثم يجوز الرفع على أنها أخبار لمحذوف، أي: الذي أتى به مثبج، والجر صفة لما قبله "يمج" يطرح ويلقى "أوَّل حرف سمع سامعه، ويعتريه" يصيبه "كلال" تعب "العجز" عن سماعه، "والملل" منه لرذالته وقبحه، "كأنه منطق الورهاء،" المرأة الحمقاء، "شذبه" خلطه، فشذب فعل ماض، والهاء ضمير المفعول، أي: خلط "لبس" اختلاط "من الخبل" بالسكون. الفساد، "أو مس من الخبل" -بالفتح الجنون والمسّ: الجنون أيضًا، والمعنى: قطع ذلك الكلام وفرقه، فلم يلتئم تخليطه، ويروى شذبه كصد، وبه جار ومجرور فلبس، أما فاعل(5/150)
أمرت البئر واغورت لمحبته ... فيها وأعمى بصير العين بالتفل
وأيبس الضرع منه شؤم راحته ... من بعد إرسال رسل منه منهمل
فشبَّه هذا الكلام الذي عارض به مسيلمة بكلام امرأة ورهاء، وهي الحمقاء التي تتكلم لحمقها بما لا يفهم، فهي تهذي بكلام مشذّب -أي مختلط- لا يقترن بعضه ببعض، ولا يشبه بعضه بضعًا؛ ككلام من به خبل -بسكون الموحدة, أي: فساد، أو مسّ من الخبل -بفتحها- أي جنون.
ثم إن اللعين وضع عن قومه الصلاة، وأحلَّ لهم الخمر والزنا، وهو مع ذلك يشهد لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه نبي.
وقد كان كتب لرسول الله -صلى الله عليه وسلم: من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله، أما بعد: فإني قد أشركت معك الأوامر، وإن لنا نصف الأمر، ولقريش نصف الأمر.
__________
شذا ومبتدأ وخبره المتقدم عليه، أي: به لبس، أي: إنه وإن أشبه منطق الورهاء إلّا أنه شاذ بالنسبة إليه "أمرت البئر واغورت" أي: غار ماؤها "لمحبته فيها، وأعمى بصير العين بالتفل" بتحريك الفاء الساكنة للوزن، فتفل من بابي ضرب ونصر, "وأيبس الضرع منه شؤم" ضد اليُمن "راحته" كفه "من بعد إرسال رسل" لبن "منه منهمل" مُنْصَبّ جارٍ، "فشبَّه هذا الكلام الذي عارض به مسيلمة" القرآن "بكلام امرأة ورهاء، وهي الحمقاء التي تتكلم لحمقها بما لا يفهم، فهي تهذي بكلام مشذب، أي: مختلط لا يقترن بعضه ببعض، ولا يشبه بعضه بعضًا، ككلام من به خبل -بسكون الموحدة، أي: فسادًا، ومس من الخبل- بفتحها، أي: جنون" وهذا على الرواية المشهورة: إن شذَب فعل ماض اتصل به ضمير المفعول، كما مَرَّ وروي شذبه، واعتمده مخمس القصيدة إذ قال:
مسيلم هو هذا هل سمعت به ... سحقًا له من لعين في تكذبه
وما إليه دعا من سوء مذهبه ... كأنه منطق الورهاء شذبه
"ثم إن اللعين وضع عن قومه الصلاة، وأحلَّ لهم الخمر والزنا" ترغيبًا لهم في اتباعه، فأباح لهم ما يشتهون، "وهو مع ذلك يشهد لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه نبي" مشارك له في النبوة، فهذا من جملة سخافة عقله؛ إذ النبي لا يبيح المحرمات، "وقد كان كتب لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-،" لما ادَّعى النبوة سنة عشر، "من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله، أمَّا بعد فإني أشركت" بضم الهمزة. "معك في الأوامر،" يعني: النبوة، "وأن لنا نصف الأمر، ولقريش نصف الأمر"(5/151)
فقدم عليه -صلى الله عليه وسلم- بهذا الكتاب، فكتب إليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم: ِ "بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين".
وفي الصحيحين من حديث نافع بن جبير عن ابن عباس قال: قدم مسيلمة الكذاب على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فجعل يقول: إن جعل لي محمد الأمر من بعده اتبعته، وقدمها في بشر كثير من قومه، فأقبل
__________
الذي في ابن إسحاق، بلفظ: نصف الأرض في الموضعين، وزاد، ولكن قريشًا يعتدون، "فقدم عليه -صلى الله عليه وسلم- بهذا الكتاب" والقادم به رسول لمسيلمة.
قال ابن إسحاق: حدَّثني شيخ من أشجع، عن سلمة بن نعيم بن مسعود الأشجعي، عن أبيه نعيم, سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول لهما حين قرأ كتابه: "فما تقولان أنتما"؟ قالا: نقول كما قال، فقال: "أما والله لولا أن الرسل لا تقتل لضرب أعناقكما".
قال عبد الله -يعني: ابن مسعود: فمضت السُّنَّة أن الرسل لا تقتل، "فكتب إليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله، إلى مسيلمة الكذاب، سلام على من اتبع الهدى" الرشاد "أما بعد، فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده، والعاقبة للمتقين".
قال ابن إسحاق: وذلك في آخر سنة عشر، "وفي الصحيحين" البخاري في علامات النبوَّة والمغازي، ومسلم في الرؤيا "من حديث نافع بن جبير" بن مطعم القرشي النوفلي المدني، ثقة من رجال الجميع، مات سنة تسع وتسعين، "عن ابن عباس، قال: قدم مسيلمة الكذاب على" أسقط من البخاري، عهد وفسروه بزمن "رسول الله -صلى الله عليه وسلم" المدينة، "فجعل يقول: إن جعل لي محمد الأمر،" أي: الخلافة "من بعده اتبعته".
قال الحافظ: وثبت لفظ الأمر في علامات النبوة، وسقط في المغازي من رواية الأكثر، وهو مقدر، وثبت في رواية ابن السكن "وقدمها" أي: المدينة "في بشر كثير من قومه" بني حنيفة. ذكر الواقدي: أن عدد من كان معه سبعة عشر نفسًا، فيحتمل تعدد القدوم، "فأقبل"(5/152)
النبي -صلى الله عليه وسلم- معه ثابت بن قيس بن شماس، وفي يد النبي -صلى الله عليه وسلم- قطعة من جريد، حتى وقف على مسيلمة في أصحابه، فقال: "لو سالتني هذه القطعة ما أعطيتكها ولن تعدو أمر الله فيك، ولئن أدبرت ليعقرنك الله، وإني لأراك الذي أريت فيه ما رأيت، وهذا ثابت بن قيس يجيبك عني"، ثم انصرف -صلى الله عليه وسلم.
قال ابن عباس: فسألت عن قول النبي -صلى الله عليه وسلم: "إنك الذي أريت فيه ما رأيت" فأخبرني أبو هريرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "بينا أنا نائم, رأيت في يدي سوارين من ذهب فأهمَّني شأنهما, فأوحي إلي في المنام أن
__________
النبي -صلى الله عليه وسلم" تأليفًا له ولقومه، رجاء إسلامهم, وليبلغه ما أنزل إليه، "ومعه ثابت بن قيس بن شماس" بفتح المعجمة، والميم المشددة، فالف فمهملة، "وفي يد النبي -صلى الله عليه وسلم- قطعة من جريد، حتى وقف على مسيلمة في أصحابه" فكلَّمه في الإسلام، فطلب مسيلمة أن يكون له شيء من أمر النبوة، "فقال" -صلى الله عليه وسلم: "لو سألتني هذه القطعة" من الجريدة "ما أعطيتكها" مبالغة في منعه لطلبه ما ليس له، "ولن تعدو" لن تجاوز "أمر الله" حكمه "فيك".
قال الحافظ: رواه الأكثر بالنصب، ولبعضهم: لن تعد بالجزم بلن على لغة "ولئن أدبرت" أي: خالفت الحق "ليعقرنك الله" بالقاف، أي: يهلكك، "وإني لأراك" بفتح الهمزة- لأعتقدك، وفي بعضها بضم الهمزة: لأظنك "الذي أريت" بضم الهمزة وكسر الراء- في منامي "فيه ما أريت، وهذا ثبات بن قيس يجيبك عني"؛ لأنه خطيب الأنصار وخطيبه -عليه السلام، والنبي -صلى الله عليه وسلم- أعطي جوامع الكلم، فاكتفى بما قاله لمسيلمة، وأعلمه أنه إن كان يريد الإسهاب في الخطاب فهذا الخطيب يقوم عني بذلك، ويستفاد منه: استعانة الإمام بأهل البلاغة في جواب أهل العناد ونحو ذلك، قاله الحافظ، "ثم انصرف -صلى الله عليه وسلم".
"قال ابن عباس: فسألت عن قول النبي -صلى الله عليه وسلم: "إنك الذي أريت فيه ما أريت" , فأخبرني أبو هريرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "بينا" بلا ميم في المغازي، وفي علامات النبوّة بالميم، كما أفاده المصنف "أنا نائم رأيت في يدي" بالتثنية "سوارين" بكسر السين، ويجوز ضمها.
وفي رواية: إسوارين -بكسر الهمزة وسكون المهملة- تثنية إسوار، وهي لغة في السوار، كما في الفتح "من الذهب" من لبيان الجنس، كقوله تعالى: {وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ} ، ووهم من قال: لا تكون الأساور إلّا من ذهب، فإن كانت من فضة فهي القلب، "فأهمَّني" أحزنني "شأنهما"؛ لأن الذهب من حلية النساء محرَّم على الرجال.
وفي رواية: فكبر على، "فأوحى إليَّ في المنام" على لسان ملك، أو وحي إلهام "أن(5/153)
انفخهما، فنفختهما فطارا، فأولتهما: كذابين يخرجان من بعدي، فهذان هما: أحدهما العنسي صاحب صنعاء
__________
انفخهما" بهمزة وصل وكسر النون. للتأكيد بالجزم على الأمر.
قال الطيبي: ويجوز أن تكون مفسّرة، لا وحي مضمّن، معنى القول وأن تكون ناصبة، والجار محذوف، "فنفختهما فطارا" لحقارة أمرهما، ففيه إشارة إلى اضمحلال أمرهما وحقارته؛ لأن ما يذهب بالنفخ يكون في غاية الحقارة، قاله بعضهم, وردَّه ابن العربي بأن أمرهما كان في غاية الشدة، لم ينزل بالمسلمين قبله مثله.
قال في الفتح: وهو كذلك، لكن الإشارة إنما هي للحقارة المعنوية لا الحسية، "فأولتهما كذابين" لأن الكذب وضع الشيء في غير موضعه، ووضع الذهب المنهي عن لبسه من وضع الشيء في غير موضعه؛ إذ هما من حلية النساء، ففيه أن السوار وسائر آلات الحليّ اللائقة بالنساء، تعبّر للرجال بما يسوءهم، ولا يسرهم، وأيضًا، فالذهب مشتق من الذهاب، فعلم أنه شيء يذهب عنه، وتأكد ذلك بالأمر له بنفخهما، فطارا، فدلَّ ذلك على أنه لا يثبت لهما أمره، وأيضًا يتَّجه في تأويل نفخهما أنه قتلهما بريحه؛ لأنه لم يقتلهما بنفسه، فأمَّا العنسي فقتله فيروز الديلمي في مرض موت النبي -صلى الله عليه وسلم- على الصحيح، وأمَّا مسيلمة فقُتِلَ في خلافة الصديق، "يخرجان من بدي" أي: تظهر شوكتهما ودعواهما النبوَّة، واستشكل بأنهما كانا في زمنه -صلى الله عليه وسلم، فإمَّا أن يكون المعنى بعد نبوّتي، أو يحمل على التغليب؛ لأن مسيلمة قُتِلَ بعده، "فهذان هما" لفظ البخاري في المغازي، ليس فيه هذه الجملة، ولفظه في علامات النبوَّة، فكان "أحدهما العنسي" بفتح العين المهملة وسكون النون وكسر السين المهملة, من بني عنس، وحكى ابن التين: فتح النون.
قال الحافظ: ولم أر له في ذلك سلفًا "صاحب صنعاء" ولقبه الأسود، واسمه كما قال الحافظ والمصنف وغيرهما: عبهلة -بفتح العين المهملة وسكون الموحدة وفتح الهاء- ابن كعب، وكان يقال له أيضًا: ذو الخمار؛ لأنه كان يخمر وجهه، وقيل: هو اسم شيطانه، وكان الأسود قد خرج بصنعاء وادَّعى النبوَّة، وغلب على عامل النبي -صلى الله عليه وسلم- على صنعاء المهاجر بن أبي أمية، ويقال: إنه مر به، فلما حاذاه عثر الحمار، فادَّعى أنه سجد له، ولم يقم الحمار حتى قال له شيئًا، فقام وكان معه شيطانان، يقال لأحدهما سحيق -بمهملتين وقاف مصغَّر، والآخر شقيق -بمعجمة وقافين مصغَّر، وكانا يخبرانه بكل شيء يحدث من أمور الناس، وكان باذان عامل النبي -صلى الله عليه وسلم- بصنعاء، فمات فجاء شيطان الأسود فأخبره، فخرج في قومه حتى ملكها، وتزوَّج المرزبانة زوجة باذان، فواعدت فيروز وغيره، فدخلوا عليه ليلًا، وقد سقته الخمر صرفًا حتى(5/154)
والآخر مسيلمة الكذاب".
__________
سكر، وكان على بابه ألف حارس، فنقب فيروز ومن معه الجدار، حتى دخلوا فقتله فيروز واحتزَّ رأسه، وأخرجوا المرأة وما أحبوا من متاع البيت، وأرسلوا الخبر إلى المدينة، فوافاهم عند وفاته -صلى الله عليه وسلم.
قال أبو الأسود عن عروة: أصيب الأسود قبل وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم- بيوم وليلة، فأتاه الوحي، فأخبر أصحابه، ثم جاء الخبر إلى أبي بكر، وقيل: وصل الخبر بذلك صبيحة دفن النبي -صلى الله عليه وسلم، "والآخر مسيلمة الكذاب" ادَّعى النبوّة في حياته -صلى الله عليه وسلم، لكن لم تظهر شوكته، ولم تقع محاربته إلّا في زمن الصديق، وكان بدء أمره أنَّ الرحال الحنفي، واسمه: نهار, آمَنَ وتعلَّم سورًا من القرآن، فرآه -صلى الله عليه وسلم- مع فرات بن حيان وأبي هريرة، فقال: "ضرس أحدكم في النار مثل أحد"، فما زالا خائفين حتى ارتدَّ الرحال، وآمن بمسيلمة، وشهد زورًا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد شركه معه في النبوَّة، ونسب إليه بعض ما تعلم من القرآن، فكان أقوى أسباب الفتنة على بني حنيفة، فجمع جموعًا كثيرة ليقاتل الصحابة، فجهَّز له الصديق جيشًا أمَّرَ عليهم خالد بن الوليد، فقتل جميع أصحابه، ثم كان الفتح بقتل مسيلمة، قله عبد الله بن زيد بن عاصم الأنصاري المازني، جزم به الواقدي وإسحاق بن راهويه والحاكم، وقيل: عدي بن سهل، وبه جزم سيف، وقيل: أبو دجانة، وقيل: زيد بن الخطاب، وقيل: وحشي، والأول أشهر، ولعلَّ عبد الله بن زيد هو الذي اصابته ضربته، وحمل عليه الآخرون في الجملة، وأغرب وتيمة، فزعم أن اسم الذي ضربه شن -بفتح المعجمة وشد النون- ابن عبد الله، وأنشد له:
ألم تر أني ووحشيهم ... ضربنا مسيلمة المفتتن
تسائلني الناس قتله ... فقلت ضربت وهذا طعن
فلست بصاحبه دونه ... وليس بصاحبه دون شن
وأغرب منه ما حكاه ابن عبد البر: إن الذي قتل مسيلمة هو جلاس بن بشير بن عاصم، ذكره الحافظ في شرح قول وحشي عند البخاري، لما خرج مسيلمة قلت: لأخرجنَّ إليه لعلي أقتله فأكافئ به حمزة، فخرجت مع الناس، فإذا رجل قائم، كأنه جمل أورق، ثائر الرأس، فرميته بحربتي، فوضعتها بين ثدييه حتى خرجت من بين كتفيه، وضربه رجل من الأنصار بالسيف على هامته، وقال رجل من بني حنيفة يرثيه:
لهفي عليك أبا ثمامة ... لهفي على ركني يمامه
كم آية لك فيهم ... كالشمس تطلع من غمامه
قال السهيلي: وكذب، بل كانت آيته منكوسة، فذكر بعض ما قدمه المصنف، وزاد: ودعا(5/155)
فإن قلت: كيف يلتئم خبر ابن إسحاق مع الحديث الصحيح أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- اجتمع به وخاطبه، وصرَّح بحضرة قومه أنه لو سأله القطعة من الجريد ما أعطاه.
فالجواب: إن المصير إلى ما في الصحيح أَوْلَى.
ويحتمل أن يكون مسيلمة قدم مرتين، الأولى تابعًا وكان رأس بني حنيفة غيره، ولهذا أقام في حفظ رحالهم، ومرة متبوعًا، وفيها خاطبه النبي -صلى الله عليه وسلم.
أو القصة واحدة، وكانت إقامته في رحالهم باختياره أنفة منه واستكبارًا أن يحضر مجلس النبي -صلى الله عليه وسلم، وعامله -عليه الصلاة والسلام- معاملة الكرم على عادته في الاستئلاف, فقال لقومه: "إنه ليس بشركم" أي: مكانًا، لكونه كان يحفظ رحالهم، وأراد
__________
الرجل في ابنين له بالبركة، فرجع إلى منزله، فوجد أحدهما قد سقط في بئر، والآخر أكمله الذئب، ومسح رأس صبي، فقرع قرعًا فاحشًا.
قال صاحب المفهم: مناسبة هذا التأويل لهذه الرؤيا أن أهل صنعاء واليمامة كانوا أسلموا، وكانوا كساعدين للإسلام، فلمَّا ظهر الكذابان، ويهرجا على أهلهما بزخرف أقوالهما ودعواهما الباطلة، انخدع أكثرهم بذلك، فكان اليدان بمنزلة البلدين، والسواران بمنزلة الكذابين، وكونهما من ذهب إشارة إلى ما زخرفاه، والزخرف من أسماء الذهب، "فإن قلت كيف يلتئم خبر ابن إسحاق" الذي قدمه من كونه لم يجتمع بالمصطفى، وقعد في الرحال "مع" هذا "الحديث الصحيح، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- اجتمع به وخاطبه، وصرَّح بحضرة قومه أنه لو سأله القطعة من الجريد" بفتح الجيم "ما أعطاه، فالجواب أن المصير إلى ما في الصحيح أولى" لصحة إسناده، بخلاف خبر ابن إسحاق، فضعيف منقطع، ولم يسم راويه، ويحتمل" في طريق المع على تقدير الصحّة، كما قال الحافظ "أن يكون مسيلمة قدم مرتين: الأولى كان تابعًا، وكان رأس بني حنيفة غيره، ولهذا أقام في حفظ رحالهم، ومرة متبوعًا، وفيها خاطبه النبي -صلى الله عليه وسلم" وهذا بعيد جدًّا، فقد قال هو -أعني الحافظ: وهذا يعني حديث ابن إسحاق مع شذوذه ضعيف السند لإنقطاعه، وأمر مسيلمة كان عند قومه أكبر من ذلك، فقد كان يقال له رحمَّن اليمامة، لعظم قدره فيهم أ. هـ، فمن يكون مقامه عند قومه أكبر من دعوى النبوَّة، يبعد كل البعد أن يكون تابعًا، فالأولى قوله, "أو القصة واحدة" لأنه الأصل، "وكانت إقامته في رحالهم باختياره أنفة منه واستكبارًا أن يحضر مجلس النبي -صلى الله عليه وسلم, وعامله -عليه الصلاة والسلام- معاملة الكرم على عادته في الاستئلاف، فقال لقومه: "إنه ليس بشركم"، أي: مكانًا لكونه كان يحفظ رحالهم، وأراد(5/156)
استئلافه بالإحسان بالقول والفعل، فلما لم يفد في مسيلمة توجه بنفسه إليه ليقيم عليه الحجة ويعذر إليه بالإنذار. والعلم عند الله تعالى.
__________
استئلافه بالإحسان بالقول" المذكور، "والفعل"؛ حيث أعطاه مثل ما أعطى قومه، "فلمَّا لم يفد في مسيلمة، توجه بنفسه إليه ليقيم عليه الحجة ويعذر" بكسر الذال "إليه بالإنذار، والعلم عند الله تعالى".
قال -أعني الحافظ: ويستفاد من هذه القصة أن الإمام يأتي بنفسه إلى من قدم يريد لقاءه من الكفار، إذا تعيِّن ذلك طريقًا لمصلحة المسلمين أ. هـ.(5/157)
الوفد السادس: وفد وطئ
وقدم عليه -صلى الله عليه وسلم- وفد طيء، وفيهم زيد الخيل
__________
"الوفد السادس":
"وقدم عليه -صلى الله عليه وسلم- وفد وطيء" بفتح المهملة وشد التحتانية المكسورة، بعدها همزة- ابن أدد بن زيد بن يشجب بن عريب بن كهل بن سبا، يقال: كان اسمه جلهمة، فسمي طيئًا، لأنه أوّل من طوى بئرًا، ويقال: أوَّل من طوى المناهل، وكانوا خمسة عشر رجلًا، اقتصر المصنف على زيد، لتميزه بمناقب حسنة، فقال: "وفيهم زيد الخيل" بن مهلهل بن زيد بن منهب بن عبد الطائي، وفد في قومه سنة تسع، كما في السير، هذا يرد على ما في النور؛ أن زيدًا كان من المؤلَّفة؛ لأن المؤلفة من أعطي من غنائم حنين، وكان ذلك سنة ثمان، وقد تقدَّم أن الحافظ نقله في سردهم عن التلقيح لابن الجوزي، وأن الشامي توقف فيه بأنه لم يره في نسختين من التلقيح، ويقوَّي ذلك ما في الروض من رواية أبي علي البغدادي: قدم وفد طيء، فعقلوا رواحلهم بفناء المسجد، ودخلوا، وجلسوا قريبًا من النبي -صلى الله عليه وسلم، حيث يسمعون صوته، فلمّا نظر -عليه السلام- إليهم، قال: "إني خير لكم من العزى، ومن الجمل الأسود الذي تعبدون من دون الله، ومما حازت مناع من كل ضار غير نفاع"، فقام زيد الخيل، وكان من أعظمهم خلقًا وأحسنهم وجهًا وشعرًا، وكان يركب الفرس العظيم الطويل، فتخط رجاله في الأرض كأنه حمار، فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا يعرفه: "الحمد لله الذي أتى بك من حزنك وسهلك، وسهّل قلبك للإيمان"، ثم قبض على يده، فقال: "من أنت"؟ فقال: أنا زيد الخيل بن مهلهل، أنا أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك عبد الله ورسوله، فقال له: "بل أنت زيد الخير، ما خبرت عن رجل قط شيئًا إلّا رأيته دون ما خرت عنه غيرك"، فبايعه وحسن إسلامه أ. هـ.
فعلى تقدير ثبوت كونه من المؤلَّفة، فيحتمل أنه نطق بالإسلام وفي قلبه شيء، ثم حسن(5/157)