وقال ابن سعد: إنما انهزم المسلمون.
وقال ابن إسحاق: انحازت كل طائفة من غير هزيمة.
__________
وهذا ظاهر حديث الصحيح كما أسلفته قريبا وفيه أيضا عن خالد لقد انقطعت في يدي يوم مؤتة تسعة أسياف فما بقي في يدي إلا صفيحة يمانية بتخفيف الياء وحكي شدها، وهذا يقتضي أن المسلمين قتلوا من المشركين كثيرا.
وقد روى أحمد ومسلم وأبو داود عن عوف بن مالك أن رجلا من أهل اليمن رافقه فقتل روميا وأخذ سلبه فاستكثره خالد فشكاه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فدل ذلك على أن ذلك كان بعد قيام خالد بالإمرة، وهو يرجح أنه لم يقتصر على حوز المسلمين والنجاة بهم بل باشر القتال.
"وقال ابن سعد إنما انهزم المسلمون" هو الذي قدمه قبل قول الحاكم. فلو قال عقب قوله من المسلمين. قاله ابن سعد لكفى.
"وقال ابن إسحاق انحازت كل طائفة" عن الأخرى "من غير هزيمة". قال: أعني ابن إسحاق وقد وقع كذلك في شعر القيس بن المسحر فذكره، ثم قال فبين ما اختلل فيه الناس أن القوم تحاجزوا وكرهوا الموت وحقق انحياز خالد بمن معه، قال اليعمري: وهو المختار.
لكن قال الشامي وافق ابن إسحاق شرذمة فسمي فتحا ونصرا باعتبار ما كانوا فيه من إحاطة العدو وتكاثرهم عليهم وكان مقتضى العادة أن يقتلوا بالكلية وهو محتمل لكنه خلاف ظاهر قوله صلى الله عليه وسلم: "يفتح على يديه". والأكثرون على أن خالدا والمسلمين قاتلوا المشركين حتى هزموهم، ففي حديث أبي عامر عند ابن سعد أن خالدا لما حمل اللواء حمل على القوم فهزمهم أسوأ هزيمة ما رأيتها قط حتى وضع المسلمون أسيافهم حيث شاءوا ونحوه عن الزهري وعروة، وابن عقبة، وعطاف بن خالد، وابن عائذ وغيرهم، وهو ظاهر الحديث. انتهى ملخصا، وقال في فتح الباري: اختلف أهل النقل في المراد بقوله صلى الله عليه وسلم: "حتى فتح الله عليهم". هل كان هناك قتلا فيه هزيمة للمشركين، أو المراد بالفتح انحيازه بالمسلمين حتى رجعوا سالمين.
ففي رواية ابن إسحاق عن محمد بن جعفر عن عروة: فجاش خالد الناس ودافع وانحاز وانحيز عنه، ثم انصرف بالناس، وهذا يدل على الثاني ويؤيده ما عند سعيد بن منصور عن سعيد ابن أبي هلال بلاغا، قال: فأخذ خالد الراية فرجع بالمسلمين على جهة، ورمى واقد بن عبد الله التميمي المشركين حتى ردهم الله.
وذكر ابن سعد عن أبي عامر أن المسلمين انهزموا لما قتل ابن رواحة حتى لم أر اثنين جميعا، ثم اجتمعوا على خالد وعند الواقدي من طريق عبيد الله بن الحارث بن فضيل عن أبيه،(3/349)
ورفعت الأرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نظر إلى معترك القوم.
وعن عباد بن عبد الله بن الزبير قال: حدثني أبي الذي أرضعني, وكان أحد بني مرة قال: شهدت مؤتة مع جعفر بن أبي طالب وأصحابه، فرأيت جعفرا حين التحم القتال اقتحم عن فرس له شقراء ثم عقرها وقاتل القوم حتى قتل، أخرجه البغوي في معجمه.
__________
قال: لما أصبح خالد بن الوليد جعل مقدمته ساقة وميمنته ميسرة فأنكر العدو حالهم، وقالوا: جاءهم مدد، فرعبوا وانكشفوا منهزمين وعنده من حديث جابر قال: أصيب بمؤتة ناس من المشركين وغنم المسلمون بعض أمتعتهم، وفي مغازي أبي الأسود عن عروة فحمل خالد على الروم فهزمهم، وهذا يدل على الأول وهو وإن كان ضعيفا من جهة الواقدي وابن لهيعة الراوي عن أبي الأسود، ففي مغازي موسى بن عقبة وهي أصح المغازي ما نصه: ثم اصطلح المسلمون على خالد فهزم الله العدو وأظهر المسلمين ويمكن الجمع بأنهم هزموا جانبا من المشركين، وخشي خالد أن تتكاثر الكفار عليهم فانحاز بهم عنهم حتى رجع بهم إلى المدينة.
وقال العماد بن كثير يمكن أن خالدا لما حاز المسلمين وبات، ثم أصبح وقد غير تعبية العسكر، كما تقدم وتوهم العدو أنهم جاءهم مدد، حمل عليهم خالد حينئذ فولوا ولم يتبعهم ورأى الرجوع بالمسلمين هي الغنيمة الكبرى، ثم وجدت في مغازي ابن عائذ بسند منقطع أن خالدا لما أخذ الراية قاتلهم قتالا شديدا حتى انحاز الفريقان عن غير هزيمة، وقفل المسلمون فمروا على طريقهم بقرية بها حصن كانوا في ذهابهم قتلوا من المسلمين رجلا، فحاصروهم حتى فتحه الله عليهم عنوة وقتل خالد مقاتلتهم، فسمي ذلك المكان نقع الدم إلى الآن، انتهى.
"ورفعت الأرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نظر إلى معترك القوم" كما في مغازي ابن عقبة، "وعن عباد" بفتح المهملة وشد الموحدة "ابن عبد الله بن الزبير" بن العوام كان قاضي مكة زمن أبيه وخليفته إذا حج, ثقة أخرج له الستة، "قال: حدثني أبي الذي أرضعني" يعني أنه أبوه من الرضاعة "وكان أحد بني مرة" بن عوف، "قال: شهدت مؤتة مع جعفر بن أبي طالب وأصحابه فرأيت جعفرا حين التحم القتال اقتحم" نزل "عن فرس له شقراء" قيل هذا يفعله الفارس من العرب إذا أرهق أي غشيه العدو وعرف أنه مقتول فينزل ويجادل العدو راجلا، "ثم عقرها وقاتل القوم حتى قتل".
"أخرجه البغوي" الحافظ الكبير الثقة مسند العالم أبو القاسم عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغدادي طال عمره، وتفرد في الدنيا حتى توفي ليلة عيد الفطر سنة سبع عشرة وثلاثمائة عن مائة وثلاث سنين "في معجمه" في الصحابة وهو متقدم على محيي السنة صاحب المصابيح،(3/350)
وقطعت في تلك الوقعة يداه جميعا ثم قتل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله أبدله بيديه جناحين يطير بهما في الجنة حيث شاء". خرجه أبو عمر.
وفي البخاري عن عائشة رضي الله عنها: لما قتل ابن رواحة وابن حارثة وجعفر بن أبي طالب جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرف فيه الحزن ... الحديث.
__________
وكان المصنف أعاد الحديث مع أنه قدمه قريبا عن ابن إسحاق, وأبو داود لأجل عزوه له لقول ابن أبي حاتم: أبو القاسم يدخل في الصحيح ومراده بذلك دفع قول أبي داود: إسناده ليس بالقوي ويقع في نسخ، وعن عبد الله بإسقاط عباد وهو خطأ، فالحديث في الروايتين إنما هو له عن رجل من بني مرة لا لأبيه عن الرجل، "وقطعت في تلك الواقعة يداه جميعا"، وذلك أنه أخذ اللواء بيمينه، فقطعت, فأخذه بشماله, فقطعت, فاحتضنه بعضديه.
رواه ابن هشام عمن يثق به من أهل العلم، "ثم قتل"، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله أبدله بيديه" أي أعطاه بدلهما "جناحين يطير بهما في الجنة حيث شاء" والمقصود أن الله أكرمه بذلك في مقابلة قطعهما فلا يستلزم عدم رد يديه بل بعد ردهما أعطاه الجناحين. "أخرجه أبو عمر" بن عبد البر.
"وفي البخاري عن عائشة رضي الله عنها لما قتل ابن رواحة، وابن حارثة، وجعفر بن أبي طالب" هذه رواية أبي ذر وابن عساكر ولغيرهما لما جاء قتل ابن حارثة، وجعفر بن أبي طالب وعبد الله بن رواحة.
قال الحافظ: يحتمل أن المراد مجيء الخبر على لسان القاصد الذي حضر من عند الجيش، ويحتمل أن المراد مجيئه على لسان جبريل كما يدل عليه حديث أنس الذي قبله يعني في البخاري وهو أنه صلى الله عليه وسلم، نعاهم للناس قبل أن يأتيهم خبرهم.
"جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم" زاد البيهقي في المسجد "يعرف فيه الحزن" بضم الحاء وسكون الزاي وضبطه أبو ذر بفتحهما.
قال الحافظ: أي لما جعل الله فيه من الرحمة ولا ينافي ذلك الرضا بالقضاء ويؤخذ منه أن الإنسان إذا أصيب بمصيبة لا تخرجه عن كونه صابرا راضيا، إذا كان قلبه مطمئنا، بل قد يقال: إن من كان ينزعج بالمصيبة ويعالج نفسه على الصبر والرضا أرفع رتبة ممن لا يبالي بوقوع المصيبة أصلا.
أشار إلى ذلك الطبري وأطال في تقريره "الحديث" بقيته فجاء رجل فقال: إن نساء جعفر(3/351)
وأخرج الطبراني بإسناد حسن عن عبد الله بن جعفر قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هنيئا لك أبوك يطير مع الملائكة في السماء".
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "رأيت جعفر بن أبي طالب يطير مع الملائكة". أخرجه الترمذي والحاكم، وفي إسناده ضعف، لكن له شاهد من حديث علي عند ابن سعد.
وعن أبي هريرة أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مر بي جعفر الليلة في ملأ من الملائكة وهو مخضب الجناحين بالدم".
__________
فذكر بكاءهن فأمره أن ينهاهن. فذهب ثم أتى فقال: قد نهيتهن وذكر أنهن لم يطعنه فأمر أيضا فذهب، ثم أتى، فقال: الله ولقد غلبنا قال: فأحث في أفواههن من التراب.
قالت: عائشة فقلت: أرغم الله أنفك فوالله ما أنت تفعل وما تركت رسول الله من العناء.
وعند ابن إسحاق: قالت عائشة: وعرفت أنه لا يقدر أن يحثي في أفواههن التراب قالت: ربما ضر التكلف أهله. "وأخرج الطبراني بإسناد حسن عن عبد الله بن جعفر" الشبيه خَلقا وخُلقا كأبيه روى أحمد، والنسائي بسند صحيح عنه، ثم أمهل صلى الله عليه وسلم آل جعفر ثلاثا، ثم أتاهم، فقال لهم: "لا تبكوا على أخي بعد اليوم". ثم قال: "ائتوني ببني أخي". فجيء بنا كأنا أفرخ، فدعا الحلاق فحلق رءوسنا، ثم قال: "أما محدم فشبيه عمنا أبي طالب وأما عبد الله فشبيه خَلقي وخُلقي". ثم دعا لهم "قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم" تسلية لي وإعلاما بمقام أبيه: "هنيئا لك أبوك يطير مع الملائكة في السماء". وما وصل إليه الأب فهو من مناقب الابن. ألم تر قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} ولذا قال: "هنيئا لك". ولم يقل: لأبيك، ولذا كان ابن عمر إذا سلم على عبد الله قال: السلام عليك يابن ذي الجناحين. كما في الصحيح.
"وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "رأيت جعفر بن أبي طالب يطير مع الملائكة". يحتمل أنها منامية ويحتمل يقظة ويؤيده ما رواه الدارقطني بسند ضعيف عن ابن عمر: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فرفع رأسه إلى السماء، فقال: وعليكم السلام ورحمة الله، فقال الناسك يا رسول الله ما كنت تصنع هذا؟ قال: مر بي جعفر بن أبي طالب في ملأ من الملائكة فسلم علي "أخرج الترمذي، والحاكم، وفي إسناده ضعف لكن له شاهد من حديث علي" أمير المؤمنين "عند ابن سعد" محمد الحافظ المشهور، "وعن أبي هريرة أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مر بي جعفر الليلة في ملأ من الملائكة وهو مخضب الجناحين بالدم".(3/352)
أخرجه الترمذي والحاكم بإسناد على شرط مسلم.
وأخرج أيضا هو والطبراني عن ابن عباس مرفوعا: "دخلت البارحة الجنة فرأيت فيها جعفر بن أبي طالب يطير مع الملائكة".
وفي طريق أخرى عنه: "إن جعفرا يطير مع جبريل وميكائيل له جناحان، عوضه الله من يديه". وإسناد هذا جيد.
فقد عوضه الله تعالى عن قطع يديه في هذه الوقعة، حيث أخذ اللواء بيمينه فقطعت ثم أخذه بشماله فقطعت ثم احتضنه فقتل.
__________
وفي الطبراني عن سالم بن أبي الجعد قال: رأى صلى الله عليه وسلم جعفرا ملكا ذا جناحين مضرجين بالدماء وذلك أنه قاتل حتى قطعت يداه "أخرجه الترمذي، والحاكم بإسناد على شرط مسلم" فهو من السادسة من مراتب الصحيح.
"وأخرج" أي الحاكم كما في الفتح وكان المصنف اعتمد على عود الضمير لأقرب مذكور في أخرج "أيضا هو والطبراني عن ابن عباس مرفوعا" لفظة يستعملها المحدثون بدل قال صلى الله عليه وسلم: "دخلت البارحة الجنة فرأيت فيها جعفر بن أبي طالب يطير مع الملائكة" وفي شعر علي كرم الله وجهه:
وجعفر الذي يضحي ويمسي ... يطير مع الملائكة ابن أمي
"وفي طريق أخرى" عن المذكورين عن ابه عباس: "أن جعفرا يطير مع جبريل وميكائيل له جناحان عوضه الله من يديه" أي بدلهما، وفي فوائد أبي سهل بن زياد القطان عن سعد بينما النبي صلى الله عليه وسلم جالس وأسماء بنت عميس قريب منه إذ قال: "يا أسماء هذا جعفر بن أبي طالب قد مر مع جبريل وميكائيل". فرد عليه السلام ... الحديث. وفيه: فعوضه الله من يديه جناحين يطير بهما حيث شاء، "وإسناد هذا" أي حديث ابن عباس "جيد" أي مقبول وهذه منقبة عظيمة له، وقد كان أبو هريرة يقول: إنه أفضل الناس بعد المصطفى.
روى الترمذي، والنسائي بإسناد صحيح عن أبي هريرة قال: ما احتذى النعال ولا ركب المطايا ولا وطئ التراب بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل من جعفر بن أبي طالب وفي البخاري عنه قال: كان جعفر خير الناس للمساكين "فقد عوضه الله تعالى عن قطع يديه في هذه الواقعة حيث أخذ اللواء بيمينه فقطعت، ثم أخذه بشماله فقطعت، ثم احتضنه فقتل"، كما رواه ابن هشام قال: أخبرني من أثق به من أهل العلم، فذكره, واختلف في أن الجناحين حقيقيان, وهو المختار.(3/353)
قال السهيلي: له جناحان، ليسا كما يسبق إلى الوهم كجناحي الطائر وريشه؛ لأن الصورة الآدمية أشرف الصور وأكملها، فالمراد بالجناحين صفة ملكية وقوة روحانية أعطيها جعفر. وقد عبر القرآن عن العضد بالجناح توسعا في قوله: {وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ} [طه: 22] وقال العلماء في أجنحة الملائكة إنها صفات ملكية لا تفهم إلا بالمعاينة، فقد ثبت أن لجبريل ستمائة جناح، ولا يعهد للطير ثلاثة أجنحة فضلا عن أكثر من ذلك، وإذا لم يثبت خبر في بيان كيفيتها فنؤمن بها من غير بحث عن حقيقتها. انتهى.
قال الحافظ ابن حجر: وهذا الذي جزم به في مقام المنع، والذي حكاه عن العلماء ليس صريحا في الدلالة لما ادعاه.
ولا مانع من الحمل على الظاهر، إلا من.
__________
وروى النسفي عن البخاري أنه قال: يقال لكل ذي ناحيتين جناحان.
قال الحافظ: لعله أراد بهذا حمل الجناحين على المعنوي دون الحسي. وجرى عليه في الروض حيث "قال السهيلي: له جناحان ليسا كما يسبق إلى الوهم كجناحي الطائر وريشه؛ لأن الصورة الآدمية أشرف الصور وأكملها" قال: وفي قوله صلى الله عليه وسلم إن الله خلق آدم على صورته تشريف لها عظيم، وحاشا لله من التشبيه والتمثيل يعني فلو كانا حقيقيين كانت صورته ناقصة عن صورة البشر.
"فالمراد بالجناحين صفة ملكية وقوة روحانية أعطيها جعفر، وقد عبر القرآن عن العضد بالجناح توسعا في قوله واضمم يدك" اليمنى بمعنى الكف "إلى جناحك" أي جنبك الأيسر تحت العضد فعبر عنه بالجناح لأنه للإنسان كالجناح للطائر.
قال أعني السهيلي: وليس ثم طيران فكيف بمن أعطي القوة عليه مع الملائكة أخلق به إذن أن يوصف بالجناح مع كمال الصورة الآدمية وتمام الجوارح البشرية، "و" "قال العلماء في أجنحة الملائكة إنها صفات ملكية لا تفهم إلا بالمعاينة، فقد ثبت أن لجبريل عليه السلام ستمائة جناح ولا يعهد للطير ثلاثة أجنحة فضلا عن أكثر من ذلك".
قال: فدل على أنها صفات لا تنضبط كيفيتها للفكر ولا ورد في بيانها أيضا خبر فيجب علينا الإيمان به "وإذا لم يثبت خبر في بيان كيفيتها فنؤمن بها من غير بحث عن حقيقتها. انتهى" قول السهيلي ملخصا.
"قال الحافظ ابن حجر" في الفتح: "وهذا الذي جزم به في مقام المنع والذي حكاه عن العلماء ليس صريحا في الدلالة لما ادعاه ولا مانع من الحمل على الظاهر" الحقيقة "إلا من(3/354)
جهة ما ذكره من المعهود، وهو من قياس الغائب على الشاهد وهو ضعيف.
وكون الصورة البشرية أشرف الصور لا يمنع من حمل الخبر على ظاهره، لأن الصورة باقية. وقد روى البيهقي في الدلائل من مرسل عاصم بن عمر بن قتادة: أن جناحي جعفر من ياقوت. وجاء في جناحي جبريل أنهما من لؤلؤ. أخرجه ابن منده في ترجمة ورقة.
وذكر موسى بن عقبة في المغازي، أن يعلى بن أمية قدم بخبر أهل مؤتة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن شئت فأخبرني.
__________
جهة ما ذكره من المعهود، وهو من قياس الغائب على الشاهد وهو ضعيف" لعدم الجامع "وكون الصورة البشرية أشرف الصور" الذي استدل به "لا يمنع من حمل الخبر على ظاهره لأن الصورة باقية" كما هي، وإعطاء الجناحين له إكراما لتألمه من قطعهما حتى يطير بهما حيث شاء من الجنة والسماء كما في الأحاديث المارة مضموما إلى عود يديه وكمال خلقته يصيره في المنظر أتم من حال بقية نوع الإنسان. فالأجنحة له كالزينة والحلي لمن تحلى وتزين.
"وقد روى البيهقي في الدلائل" النبوية "من مرسل عاصم بن عمر بن قتادة" الأنصاري الثقة العالم بالمغازي من رجال الستة مات بعد العشرين ومائة "أن جناحي جعفر من ياقوت" فهو صريح في ثبوتهما له حقيقة، وأنه ليس من نوع أجنحة الطير التي هي من ريش، فهذا يرد قوله إنها صفة ملكية وقوة روحانية.
"وجاء في جناحي جبريل أنهما من لؤلؤ أخرجه ابن مندة في ترجمة ورقة" بن نوفل من كتاب المعرفة له. فهذا يرد دعواه أن الملائكة لا أجنحة لهم التي لم يستدل عليها إلا بكون المعهود للطير جناحين فقط وذلك بمجرده لا يمنع الزيادة لهم فكمال صورهم الأصلية مخالفة لصور غيرهم، كذلك زيادة الأجنحة من جملة المخالفة، وقد قال بعض العلماء هذا التأويل لا يليق مثله بالإمام السهيلي بل هو أشبه بكلام الفلاسفة والحشوية، ولا ينكر الحقيقة إلا من ينكر وجود الملائكة.
وقال تعالى: {أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} . [فاطر: 1] .
"وذكر موسى بن عقبة في المغازي أن يعلى بن أمية" بن أبي عبيدة بن همام بن الحارث، التميمي الحنظلي حليف قريش صحابي روى له الستة. مات سنة بضع وأربعين وأمه منية بضم الميم وسكون النون وفتح التحتية الخفيفة وبها اشتهر وبأبيه معا، وقيل: هي أم أبي جزم به الدارقطني، ونسبها منية بنت الحارث بن جابر وأنها أيضا أم العوام والد الزبير، فهي جدة الزبير، ويعلى كما في الإصابة وغيرها "قدم بخبر أهل مؤتة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن شئت فأخبرني(3/355)
وإن شئت أخبرتك". قال: أخبرني فأخبره خبرهم فقال: والذي بعثك بالحق ما تركت من حديثهم حرفا لم تذكره.
وعند الطبراني من حديث أبي اليسر الأنصاري: أن أبا عامر الأشعري هو الذي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بمصابهم.
__________
وإن شئت أخبرتك". قال: أخبرني" لأزداد يقينا "فأخبره خبرهم" كله ووصف له، "فقال: والذي بعثك بالحق ما تركت من حديثهم حرفا لم تذكره" وإن أمرهم لكما ذكرت، فقال صلى الله عليه وسلم: "إن الله رفع لي الأرض حتى رأيت معتركهم". هذا بقية ما ذكره ابن عقبة.
"وعند الطبراني من حديث أبي اليسر" بفتح التحتية والمهملة كعب بن عمرو "الأنصاري" السلمي بفتحتين البدري المتوفى بالمدينة سنة خمس وخمسين وقد زاد على المائة.
روى له مسلم والأربعة "أن أبا عامر" عبد الله وقيل: عبيد الله بن هانئ أو ابن وهب "الأشعري" صحابي عاش إلى خلافة عبد الملك. روى له الترمذي وهو غير أبي عامر الأشعري عم أبي موسى المستشهد بخيبر واسمه عبيد "هو الذي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بمصابهم" ولا مانع من أن كل منهم أخبره وأخبار الثاني لأنه لم يبلغه أن أحدًا أخبره بذلك ولم يمنعه صلى الله عليه وسلم لئلا يخجله وليرى أعنده زيادة على خبر الأول أم لا؟ وإن كان هو عالما بالواقعة وشاهدها عليه السلام ليطلع على حفظ الناقل، وهذا كله إن كان أبو عامر أخبره، وإن كان قال له كما قال ليعلى فلا وكما أخبر به عليه السلام من جاءه بالخبر أخبر أصحابه قبل ذلك يوم الواقعة.
روى ابن إسحاق عن أسماء بنت عميس. قالت: لما أصيب جعفر وأصحابه دخل عليّ صلى الله عليه وسلم وقد دبغت أربعين منا وعجنت عجيني وغسلت بني ودهنتهم ونظفتهم فقال لي صلى الله عليه وسلم: "ائتيني ببني جعفر". فأتيته بهم فشمهم وذرفت عيناه، فقلت: بأبي أنت وأمي ما يبكيك أبلغك عن جعفر وأصحابه شيء؟ قال: "نعم، أصيبوا هذا اليوم". فقمت أصيح واجتمع إليّ النساء وخرج صلى الله عليه وسلم إلى أهله، فقال: "لا تغفلوا آل جعفر من أن تصنعوا لهم طعاما فإنهم قد شغلوا بأمر صاحبهم".
وعند الزبير بن بكار عن عبد الله بن جعفر فعمدت سلمى مولاة النبي صلى الله عليه وسلم إلى شعير فطحنته ثم آدمته بزيت وجعلت عليه فلفلا, قال عبد الله: فأكلت منه وحبسني صلى الله عليه وسلم مع إخوتي في بيته ثلاثة أيام. قال ابن إسحاق: فلما انصرف خالد بالناس أقبل بهم قافلا، فحدثني محمد بن جعفر عن عروة قال: لما دنوا من المدينة تلقاهم صلى الله عليه وسلم على دابة والمسلمون والصبيان يشتدون، فقال: "خذوا الصبيان فاحملوهم وأعطوني ابن جعفر". فأتي بعبد الله فحمله بين يديه، وقال حسان يبكيهم:
تأوبني ليل بيثرب أعسر ... وهم إذا ما نوم الناس مسهر(3/356)
.........................................
__________
لذكرى حبيب هيجت لي لوعة ... سفوحا وأسباب البكاء التذكر
بلى إن فقدان الحبيب بلية ... وكم من كريم يبتلى ثم يصبر
رأيت خيار المسلمين تواردوا ... شعوب وخلفا بعدهم يتأخر
فلا يبعدن الله قتلى تتابعوا ... بمؤتة منهم ذو الجناحين جعفر
وزيد وعبد الله حين تتابعوا ... جميعا وأسباب المنية تخطر
غداة مضوا بالمؤمنين يقودهم ... إلى الموت ميمون النقيبة أزهر
أغر كضوء البدر من آل هاشم ... أبي إذا سيم الظلامة يجسر
فطاعن حتى مال غير موسد ... بمعترك فيه فتى متكسر
فصار مع المستشهدين ثوابه ... جنان وملتف الحدائق أخضر
وكنا نرى في جعفر من محمد ... وفاء وأمرا حازما حين يأمر
وقد زال في الإسلام من آل هاشم ... دعائم عزلا يزلن ومفخر
فهم جبل الإسلام والناس حولهم ... رضام إلى طود يروق ويقهر
بهاليل منهم جعفر وابن أمه ... علي ومنهم أحمد المتخير
وحمزة والعباس منهم ومنهم ... عقيل وماء العود من حيث يعصر
بهم تفرج اللأواء في كل مارق ... عماس إذا ما ضاق بالناس مصدر
هم أولياء الله أنزل حكمه ... عليهم وفيهم ذا الكتاب امطهر(3/357)
"ذات السلاسل":
ثم سرية عمرو بن العاصي رضي الله عنه إلى ذات السلاسل.
__________
ذات السلاسل:
"ثم سرية عمرو بن العاصي" بالياء على الصحيح الذي عليه الجمهور كما مر أول الكتاب "رضي الله عنه إلى ذات السلاسل" بمهملتين الأولى مفتوحة على المشهور، وبه جزم البكري على لفظ جمع السلسلة قيل سمي المكان بذلك، لأنه كان به رمل بعضه على بعض كالسلسلة، وضبطها ابن الأثير بالضم.
قال: وهو بمعنى السلسال أي السهل، قاله: في الفتح في المناقب، ولذا قال ابن القيم بضم السين وفتحها لغتان، وتبرأ الشامي منه وقوله وصاحب القاموس مع سعة اطلاعه لم يحك إلا الفتح غير قادح فمن حفظ حجة، كيف وقد صرح البرهان بأن غير ذكر اللغتين الضم والفتح وهو المشهور والمجد، وإن اتسع اطلاعه فلم يحط باللغة ولم يستوعبها، وقدمت عن(3/357)
وسميت بذلك لأن المشركين ارتبط بعضهم إلى بعض مخافة أن يفروا. وقيل: لأن بها ماء يقال له: السلسل، وراء ذات القرى، من المدينة على عشرة أيام.
وكانت في جمادى الآخرة سنة ثمان، وقيل: كانت سنة سبع، وبه جزم ابن أبي خالد في كتاب صحيح التاريخ. ونقل ابن عساكر الاتفاق على أنها كانت بعد غزوة مؤتة، إلا ابن إسحاق فقال: قبلها.
وسببها: أنه بلغه صلى الله عليه وسلم أن جمعا من قضاعة.
__________
الفتح وجه تسميتها بذلك في المناقب وهو صريح في قدم التسمية قبل السرية.
"و" قال هنا ما حكاه المصنف إلا أنه أسقط منه قوله أوله: قيل: "سميت بذلك لأن المشركين ارتبط بعضهم إلى بعض مخافة أن يفروا", وهذا ظاهر في حدوثه بعدها.
ولعل المراد انضموا والتصقوا أخذا من تعبيره بإلى دون الباء لا أنهم ارتبطوا بالفعل؛ لأنه يكون سببا في الظفر بهم، ولعل هذا وجه قول الشامي أغرب من قال هذا القول أو لمنافاته لما في القصة من أنه أتاهم على غفلة وهربوا وتفرقوا إلا أن يقال: تجمعوا أولا خوف الفرار. ثم لما قرب المسلمون منهم ألقي الرعب في قلوبهم فهربوا.
"وقيل: لأن بها ماء يقال له: السلسل" وبه جزم ابن إسحاق وغيره.
وفي القاموس السلسل كجعفر وخلخال الماء العذب أو البارد كالسلاسل بالضم "وراء ذات القرى" مر له نظيره مرتين وتقدم تأويله والذي عند ابن سعد، كما في الفتح: وراء وادي القرى "من المدينة على عشرة" أي بينها وبين المدينة عشرة "أيام وكانت في جمادى الآخرة سنة ثمان" كما قاله ابن سعد والجمهور فيكون تأمير عمرو عقب إسلامه بنحو أربعة أشهر على ما صدر به المصنف فيما مر أنه كان في صفر سنة ثمان.
وفي الشامية أن بعثه كان بعد سنة من إسلامه وهو إنما يأتي على قول الحاكم أسلم سنة سبع، وقيل كانت سنة سبع" حكاهما ابن سعد، "وبه جزم ابن أبي خالد في كتاب صحيح التاريخ، ونقل ابن عساكر الاتفاق على أنها كانت بعد غزوة مؤتة إلا ابن إسحاق فقال: قبلها", وهو قضية ما ذكر عن ابن سعد، وابن أبي خالد قاله الحافظ وتعقبه الشامي بأنه غير واضح إن ابن سعد قال: كانت في جمادى الآخرة سنة ثمان وإن مؤتة في جمادى الأولى منها، وأما ابن إسحاق فالذي في رواية البكائي عنه تأخيرها عن مؤتة بعد غزوات وسرايا ولم يذكر أنها قبلها فيحتمل أنه نص على ما ذكره ابن عساكر في رواية غير زياد البكائي، "وسببها" كما قال ابن سعد: "أنه بلغه صلى الله عليه وسلم أن جمعا من قضاعة" هم كما قال ابن إسحاق عن يزيد عن عروة، هي أي ذات(3/358)
قد تجمعوا للإغارة فعقد له لواء أبيض وجعل معه راية سوداء، وبعثه في ثلاثمائة من سراة المهاجرين والأنصار. ومعهم ثلاثون فرسا.
فسار الليل وكمن النهار، فلما قرب منهم بلغه أن لهم جمعا كثيرا، فبعث رافع بن مكيث -بفتح الميم- الجهني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستمده، فبعث إليه أبا عبيدة بن الجراح، وعقد له لواء.
__________
السلاسل بلاد بلى وعذرة وبني القين نقله عنه البخاري.
قال الحافظ: الثلاثة بطون من قضاعة وبلى بفتح الموحدة وكسر اللام الخفيفة بعدها ياء النسب قبيلة كبيرة ينسبون إلى بلى بن عمرو بن الحارث بن قضاعة، وعذرة بضم العين المهملة وسكون الذال المعجمة قبيلة كبيرة ينسبون إلى عذرة بن سعد ونسبه إلى قضاعة وبنو القين بفتح القاف وسكون التحتية قبيلة كبيرة ينسبون إلى القين ونسبه إلى قضاعة، قال: ووهم ابن التين. فقال: بنو القين قبيلة من تميم "قد تجمعوا للإغارة" وأرادوا أن يدنوا من أطراف المدينة، كما هو المنقول عن ابن سعد، وذكر ابن إسحاق أن أم أبيه العاصي بن وائل كانت من بلى فبعث صلى الله عليه وسلم عمرا يستفز العرب إلى الشام ويستألفهم.
قال في الروض: واسمها سلمى فيما ذكر الزبير، وأما أم عمرو فهي ليلى تلقب بالنابغة.
قال الحافظ: ويمكن الجمع بين السببين. انتهى.
وروى أحمد والبخاري في الأدب صححه أبو عوانة، وابن حبان، والحاكم عن عمرو بن العاصي. قال بعث إليّ النبي صلى الله عليه وسلم يأمرني أن آخذ ثيابي، وسلاحي، فقال: "يا عمرو إني أريد أن أبعثك على جيش فيغنمك الله ويسلمك". قلت: إني لم أسلم رغبة في المال، قال: "نعم المال الصالح للمرء الصالح". "فعقد له لواء أبيض وجعل معه راية سوداء، وبعثه في ثلاثمائة من سراة المهاجرين والنصار" بفتح المهملة، وقد تضم جمع سري بفتح فكسر وهو النفيس الشرف وقيل السخي ذو مروءة، قاله ابن الأثير.
قال الجوهري: وهو جمع عزيز أن يجمع فعيل على فعلة ولا يعرف غيره، وفي القاموس أنه اسم جمع "ومعهم ثلاثون فرسا" قال ابن سعد وأمره أن يستعين بمن مر به من بلى وعذرة وبلقين "فسار الليل وكمن النهار فلما قرب منهم" بأن وصل إلى الماء المسمى بالسلاسل "بلغه أن لهم جمعا كثيرا فبعث رافع" براء وفاء "ابن مكيث بفتح الميم" وكسر الكاف وسكون التحتية وبمثلثة "الجهني" بضم الجيم وفتح الهاء والنون صحابي شهد الحديبية والفتح ومعه لواء جهينة "إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستمده"، أي: يطلب منه مددا أي جيشا يعينونه "فبعث إليه أبا عبيدة بن الجراح" القرشي أمين هذه الأمة، "وعقد له لواء" لم نر من عين لونه إلا قوله في بعض(3/359)
وبعث معه مائتين من سراة المهاجرين والأنصار فيهم أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، وأمره أن يلحق بعمرو، وأن يكونا جميعا ولا يختلفا.
فأراد أبو عبيدة أن يؤم الناس فقال عمرو: إنما قدمت عليّ مددا، وأنا الأمير، فأطاع له بذلك أبو عبيدة، فكان عمرو يصلي بالناس.
وسار حتى وصل إلى العدو: بلى وعذرة، فحمل عليهم المسلمون غافلين، فهربوا في البلاد وتفرقوا.
__________
النسخ أبيض ولا أخال صحتها، "وبعث معه مائتين من سراة المهاجرين والأنصار فيهم أبو بكر، وعمر رضي الله عنهما وأمره أن يلحق بعمرو وأن يكونا" الظاهر أنها ناقصة خبرها "جميعا" أي مجتمعين، ويجوز أنها تامة وجميعا حال وهو قيد في عاملها لكن الأول أتم فائدة لجعله جزء الكلام "ولا يختلفا" بيان للمراد من الاجتماع، كأنه قال: كونا متفقين غير مختلفين "فأراد أبو عبيدة أن يؤم الناس فقال عمرو: إنما قدمت عليّ مددا" معينا ومقويا "وأنا الأمير" ولا إمارة لك حتى تؤم.
وعند ابن إسحاق: قال أبو عبيدة: لا ولكني على ما أنا عليه وأنت على ما أنت عليه وكان أبو عبيدة رجلا لينا سهلا هينا عليه أمر الدنيا. فقال له عمرو: بل أنت مدد لي، فقال أبو عبيدة: يا عمرو إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لي: "لا تختلفا". وإنك إن عصيتني أطعتك. قال: فإني الأمير عليك وأنت مدد لي. قال: فدونك "فأطاع له بذلك أبو عبيدة فكان عمرو يصلي بالناس وسار حتى وصل إلى العدو بلى" بالجر بدل قبيلة كبيرة من قضاعة "وعذرة" قبيلة كبيرة أيضا تنسب إلى عذرة بن سعد هذيم بن زيد بن ليث بن سود بن أسلم بضم اللام ابن الحارث بن قضاعة، "فحمل عليهم المسلمون غافلين، فهربوا في البلاد وتفرقوا".
والمصنف اختصر كلام ابن سعد وما وفى به فأوهم أنه لم يقع بينهم حرب ولفظه بعد قوله يصلي بالناس وسار حتى وجأ بلاد بلى ودوخها حتى أتى إلى أقصى بلادهم وبلاد عذرة وبلقين ولقي في آخر ذلك جمعا، فحمل عليهم المسلمون فهربوا في البلاد وتفرقوا، وبعث عوف بن مالك الأشجعي بريدا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بقفولهم وسلامتهم، وما كان في غزاتهم.
وذكر موسى بن عقبة نحو هذه القصة وبلقين أي بني القين كقولهم بلحارث في بني الحارث ودوخها بفتح المهملة وشد الواو وخاء معجمة استولى عليها وقهرها وعند الواقدي أنهم لما لقوا ذلك الجمع وليسوا بالكثير اقتتلوا ساعة وحمل المسلمون عليهم، فهزموهم وتفرقوا وأقام هناك أياما، وكان يبعث الخيل فيأتون بالشاء والنعم فينحرون ويأكلون، ولم يكن في ذلك(3/360)
...............................
__________
غنائم تقسم وقال البلاذري: فلقي العدو من قضاعة وغيرهم وكانوا مجتمعين ففضهم أي فرقهم وقتل منهم مقتلة عظيمة وغنم وهذا يعضده قوله صلى الله عليه وسلم: "فيغنمك الله ويسلمك". كما مر.
وروى ابن راهويه والحاكم عن بريدة أن عمرو بن العاصي أمرهم في تلك الغزوة أن لا يوقدوا نارا فأنكر عمر ذلك، فقال له أبو بكر: دعه فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعثه إلا لعلمه بالحرب، فسكت عنه.
وروى ابن حبان عن عمرو بن العاصي أنهم سألوه أن يوقدوا نارا فمنعهم، فكلموا أبا بكر فكلمه في ذلك، فقال: لا يوقد أحد نارا إلا قذفته فيها. قال: فلقوا العدو فهزموهم فأرادوا أن يتبعوهم فمنعهم فلما انصرفوا ذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فسأله، فقال: كرهت أن آذن لهم أن يوقدوا نارا فيرى عدوهم قلتهم، وكرهت أن يتبعوهم فيكون لهم مدد فحمد أمره، فقال: يا رسول الله! من أحب الناس إليك.
قال الحافظ: فاشتمل هذا السياق على فوائد زوائد ويجمع بينه وبين حديث بريدة بأن أبا بكر سأله فلم يجبه فسلم له أمره أو ألحوا على أبي بكر حتى سأله فلم يجبه.
أخرج الشيخان والترمذي، والنسائي وغيرهم دخل حديث بعضهم في بعض عن عمرو أنه قال: قدمت من جيش ذات السلاسل فحدثت نفسي أنه لم يبعثني على قوم فيهم أبو بكر، وعمر إلا لمنزلة لي عنده، فأتيته حتى قعدت بين يديه، فقلت: يا رسول الله! أي الناس أحب إليك؟ قال: "عائشة". فقلت: إني لست أعني النساء إنما أعني الرجال. فقال: "أبوها". فقلت: ثم من؟ قال. "ثم عمر بن الخطاب". فعد رجالا فسكت مخافة أن يجعلني في آخرهم وقلت في نفسي لا أعود أسأله عن هذا، وفي الحديث جواز تأمير المفضول على الفاضل، إذا امتاز المفضول بصفة تتعلق بتلك الولاية وفضل أبي بكر على الرجال وبنته على النساء ومنقبة لعمرو بن العاصي لتأميره على جيش فيهم أبو بكر وعمر, وإن لم يقتض ذلك أفضليته عليهم لكن يقتضي أن له فضلا في الجملة، وقد قال رافع الطائي: هذه الغزوة هي التي يفتخر بها أهل الشام.(3/361)
"سرية الخبط":
ثم سرية أبي عبيدة بن الجراح.
__________
سرية الخبط:
"ثم سرية أبي عبيدة" عامر بن عبد الله "بن الجراح" بن هلال القرشي الفهري أحد العشرة البدري من السابقين مات شهيدا بطاون عمواس سنة ثمان عشرة، أميرا على الشام من قبل عمر، ثم كونه أميرها هو الذي في الكتب الستة عن جابر.(3/361)
وسماها البخاري: غزوة سيف البحر، وتعرف بسرية الخبط.
وبعث معه صلى الله عليه وسلم ثلاثمائة، كما في الصحيحين وغيرهما وهو المشهور، لكن في رواية للنسائي: بضع عشرة وثلاثمائة، فإن صحت هذه الرواية فلعله اقتصر في الرواية المشهورة على الثلاثمائة استسهالا لأمر الكسر، والأخذ بالزيادة مع صحتها واجب.
وكان فيهم عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهم.
ليلقى عيرا لقريش. رواه مسلم، وعنده أيضا: إلى أرض جهينة.
ولا منافاة بينهما: فالجهة.
__________
وعند ابن أبي عاصم عن جابر أن أميرها قيس بن سعد. قال الحافظ والمحفوظ ما اتفقت عليه روايات الصحيحين أنه أبو عبيدة وكأن أحد رواته ظن من صنع قيس ما صنع من نحر الإبل التي اشتراها أنه أمير السرية وليس كذلك. انتهى.
"وسماها البخاري غزوة سيف" قال الحافظ وغيره: بكسر المهملة وسكون التحتية ففاء أي ساحل "البحر" وكذا ترجمها ابن إسحاق، فقال: غزوة أبي عبيدة إلى سيف البحر وهو جري على غير الغالب من اصطلاح أهل السير أن ما لم يحضره المصطفى يسمى سرية أو بعثا وما حضره غزوة لكن الأقدمين لا يراعون ذلك غالبا "وتعرف بسرية الخبط" وبه ترجمها اليعمري لأكلهم فيها الخبط ولاشتهارها بذلك. قال: تعرف دون تسمي "وبعث معه صلى الله عليه وسلم ثلاثمائة، كما في الصحيحين وغيرهما"، كأصحاب السنن الأربعة بطرق عن جابر "وهو المشهور" الذي جزم به أهل السير كابن سعد قائلا من المهاجرين والأنصار.
"وفي رواية النسائي" أيضا "بضع عشرة وثلاثمائة" وأشعر تنكيره رواية، ووصفها بما ذكر بأن المعروف رواية النسائي الأولى التي وافق فيها بقية الأئمة الستة وما في ذلك ريب. ولذا أتى بأن التي للشك إشارة لتوقفه في صحتها بقوله "فإن صحت هذه الرواية، فلعله اقتصر في الرواية المشهورة على الثلاثمائة استسهالا لأمر الكسر" لقلته، "و" لكن "الأخذ بالزيادة مع صحتها واجب،" لأنها زيادة من الثقة غير منافية "وكان فيهم عمر بن الخطاب رضي الله عنهم" أجمعين خصه بالذكر لعظمته "ليلقى عيرا لقريش، رواه" أي جملة المذكور من قوله وكان فيهم ... إلخ.
"مسلم" فلا ينافي أن قوله: ليلقى في البخاري أيضا بلفظ: نرصد عيرا لقريش ولقوله: "وعنده أيضا" عن جابر قال: بعث صلى الله ليه وسلم بعثا "إلى أرض جهينة ولا منافاة بينهما فالجهة" التي أمرهم(3/362)
أرض جهينة، والقصد تلقي عير قريش -وهي الإبل المحملة طعاما وغيره.
لكن في كتب السير: أن البعث إلى حي من جهينة بالقبلية -بفتح القاف والمحدة- مما يلي ساحل البحر، وبينه وبين المدينة خمس ليال.
ولعل البعث لمقصدين: رصد عير قريش، ومحاربة حي من جهينة.
قال ابن سعد: وكانت في رجب سنة ثمان.
وفيه نظر، فإن تلقي عير قريش ما يتصور أن يكون في هذه المدة، لأنهم حينئذ كانوا في الهدنة، فالصحيح أن تكون هذه السرية سنة ست أو قبلها، قبل هدنة الحديبية.
نعم يحتمل أن يكون تلقيهم العير ليس لمحاربتهم بل لحفظهم من جهينة، ولهذا لم يقع في شيء من طرق الخبر أنهم قاتلوا أحدا. بل فيه أنهم أقاموا نصف شهر أو أكثر في مكان واحد. والله أعلم.
__________
بانتظار العير فيها "أرض جهينة والقصد" بالبعث "تلقى عير قريش وهي" أي العير بكسر العين "الإبل المحملة طعاما وغيره" من التجارات وهو تفسير لها باعتبار الاستعمال المشتهر، فلا ينافي أنها في الأصل التي تحمل الميرة بالكسر، أي الطعام وحمل لجهة على ما ذكر ليفارق استدراكه عليه بقوله.
"لكن في كتب السير أن البعث لحي من جهينة، بالقبلية بفتح القاف والموحدة" وكسر اللام وشد التحتية "مما يلي ساحل البحر وبينها وبين المدينة خمس ليال ولعل البعث للمقصدين رصد عير قريش ومحاربة حي من جهينة" فلا منافاة والحي الواحد من أحياء العرب يقع على بني أب واحد كثروا أم قلوا وعلى شعب يجمع القبائل.
من ذلك "قال ابن سعد: وكانت في رجب سنة ثمان وفيه نظر فإن تلقي عير قريش ما يتصور أن يكون في هذه المدة لأنهم كانوا حينئذ في الهدنة" بضم الهاء وسكون المهملة وبضمهما الصلح، "والصحيح" لفظ الحافظ بل مقتضى ما في الصحيح، "أن تكون هذه السرية سنة ست أو قبلها هدنة الحديبية".
"نعم يحتمل أن تلقيهم للعير ليس لمحاربتهم، بل لحفظهم" أي العير ومن معها "من جهينة، ولهذا لم يقع في شيء من طرق الخبر أنهم قاتلوا أحدًا فيه أنهم أقاموا نصف شهر أو أكثر في مكان واحد والله أعلم".(3/363)
قاله الحافظ ابن حجر.
لكن قال شيخ الإسلام ابن العراقي في شرح التقريب، قالوا: وكانت هذه السرية في شهر رجب سنة ثمان من الهجرة وذلك بعد نكث قريش العهد وقبل الفتح، فإنه كان في رمضان من السنة المذكورة. انتهى.
قالوا: وزودهم رسول الله صلى الله عليه وسلم جرابا من التمر، فلما فني أكلوا الخبط -وهو بفتح المعجمة والموحدة بعدها مهملة- ورق السلم. وفي رواية أبي الزبير:.
__________
"قاله الحافظ ابن حجر" في الفتح "لكن قال شيخ الإسلام" العلامة أحمد ولي الدين "ابن" عبد الرحيم "العراقي" الحافظ ابن الحافظ صاحب التصانيف الكثيرة الشهيرة "في شرح التقريب" أي تقريب الأسانيد لوالده، "قالوا: وكانت هذه السرية في شهر رجب سنة ثمان من الهجرة، وذلك بعد نكث" نقض "قريش العهد وقبل الفتح، فإنه" أي الفتح "كان في رمضان من السنة المذكورة. انتهى".
وبه يسقط النظر ولم يعتبر قول ابن القيم في الهدى كون السرية في رجب وهم غير محفوظ إذ لم يحفظ عنه صلى الله عليه وسلم أنه غزا في الشهر الحرام، ولا أغار فيه ولا بعث فيه سرية. انتهى.
لقول البرهان في النورانة كلام حسن مليح لكنه على مختاره من عدم نسخ القتال في الشهر الحرام كشيخه ابن تيمية تبعا لأهل الظاهر وعطاء، وهو خلاف ما عليه المعظم. انتهى.
وعلى تسليم ظاهره أنه لم يتفق ذلك لا قبل نسخ القتال في الأشهر الحرم ولا بعده يحتمل أن يكون البعث في أواخر رجب بحيث لا يصلون إلى جهينة ويلقون العير إلا في شعبان، "قالوا" أي: أصحاب المغازي: "وزودهم" أي أعطاهم "رسول الله صلى الله عليه وسلم جرابا" بكسر الجيم، وقد تفتح كما مر مرارا عن عياض وغيره "من التمر" يأكلونه في السفر، وفي المصباح: زودته: أعطيته زادا. انتهى.
فليس من الزيادة كما توهم إذ لو كان كذلك لقيل: زادهم ثم ليس مراد المصنف التبري فقد صح في مسلم عن جابر، وزودنا جرابا من تمر لم يجد لنا غيره "فلما فني" بكسر النون، أي: فرغ "أكلوا الخبط وهو بفتح" الخاء "المعجمة" وفتح "الموحدة بعدها" طاء "مهملة ورق السلم", كما قاله الفتح وهو بفتحتين شجر عظيم له شوك كالعوسج والطلع، قيل: وهو الذي أكلوه فهذا بيان للشجر الذي أخذ ورقه وإلا فالخبط لغة ما سقط من ورق الشجر إذا خبط بالعصى.
"وفي رواية" مسلم عن "أبي الزبير" محمد بن مسلم المكي صدوق من رجال الجميع التابعي عن جابر.(3/364)
وكنا نضرب بعصينا الخبط ونبله بالماء فنأكله، وهذا يدل على أنه كان يابسا، خلافا لمن زعم أنه كان أخضر رطبا.
وقد كان معهم تمر غير الجراب النبوي، ويدل عليه حديث البخاري في الجهاد: خرجنا ونحن ثلاثمائة نحمل زادنا على رقابنا ففني زادنا، حتى كان الرجل منا يأكل تمرة تمرة.
__________
قال: "وكنا نضرب بعصينا الخبط" بضم العين وكسر الصاد المهملتين جمع عصا بالقصر والتأنيث كذا ضبطه الشامي وغيره وهو مخالف لقوله تعالى: {فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ} [الشعراء: 44] فقد اتفق القراء على أنه بكسر العين.
قال شيخنا: إلا أن يقال أصله بضمها فتصرف فيه، فالأصل عصوو بواوين قلبت الأخيرة ياء لوقوعها رابعة ثم قلبت الواو ياء وأدغمت في الياء لأن الواو والياء متى اجتمعتا، وسبقت إحداهما بالسكون قلبت الواو ياء وأدغمت، فلما فعل ذلك قلبت الضمة كسرة لتسلم الياء "ونبله" بفتح النون وضم الموحدة ننديه "بالماء فنأكله".
"وهذا" كما قال الحافظ "يدل على أنه يابسا خلافا لمن زعم"، وهو الداودي شارح البخاري "أنه كان أخضر رطبا، وقد كان معهم تمر غير الجراب النبوي" خلافا لقول عياض: يحتمل أنه لم يكن في أزوادهم تمر غير الجراب المذكور، "ويدل عليه حديث البخاري في الجهاد" في باب حمل الزاد على الرقاب عن جابر "خرجنا ونحن ثلاثمائة نحمل زادنا على رقابنا ففني زادنا" جوز العيني أن معناه أشرف على الفناء "حتى كان الرجل منا يأكل،" زاد الكشميهني: في كل يوم "تمرة تمرة". بقية هذا الحديث:
قال رجل أي لجابر: وأين كانت التمرة تقع من الرجل؟ قال: لقد وجدنا فقدها حين فقدناها. وفي رواية مسلم عن أبي الزبير، فقلت: كيف كنتم تصنعون؟ قال: نمصها كما يمص الصبي الثدي، ثم نضرب عليها من الماء فيكفينا يومنا إلى الليل، وفي البخاري حدثنا إسماعيل حدثنا مالك عن وهب بن كيسان عن جابر: بعث صلى الله عليه وسلم بعثا قبل الساحل وأمر عليهم أبا عبيدة وهم ثلاثمائة فخرجنا فكنا ببعض الطريق، فني الاد فأمر أبو عبيدة بأزواد الجيش فجمع فكان مزود تمر فكان يقوتنا كل يوم قليلا قليلا حتى فني فلم يكن يصيبنا إلا تمرة، فقلت: ما تغني عنكم تمرة؟ قال: لقد وجدنا فقدها حين فنيت أي مؤثرا وصريحه أن قائل ما تغني وهب، ولا مانع من أن كلا من وهب وأبي الزبير سأل جابرا عن ذلك حين حدثه استغرابا.
قال الحافظ: ظاهر هذا السياق أنهم كان لهم زاد بطريق العموم وأزواد بطريق الخصوص،(3/365)
وابتاع قيس بن سعد جزورا ونحرها لهم.
__________
فلما فني الذي بطريق العموم اقتضى رأي أبي عبيدة أن يجمع الذي بطريق الخصوص لقصد المساواة بينهم في ذلك ففعل، فكان جميعه مزودا بكسر الميم وسكون الزاي ما يجعل فيه الزاد.
وعند مسلم عن أبي الزبير عن جابر بعثنا صلى الله عليه وسلم وأمر علينا أبا عبيدة نلقى عيرا لقريش وزودنا جرابا من تمر لم يجد لنا غيره، فكان أبو عبيدة يعطينا تمرة تمرة وظاهره مخالف لرواية وهب ويمكن الجمع بأن الزاد العام كان قدر جراب، فلما نفذ وجمع أبو عبيدة الزاد الخاص اتفق أنه أيضا قدر جراب ويكون كل من الراويين ذكر ما لم يذكر الآخر، وأما تفرقته تمرة تمرة فكان في ثاني الحال، وقول عياض يحتمل أنه لم يكن في أزوادهم تمر غير الجراب المذكور مردود بأن حديث وهب صريح في المجتمع من أزوادهم مزود تمر رواية، ورواية أبي الزبير صريحة في أنه صلى الله عليه وسلم زودهم جرابا من تمر فصح أن التمر كان معهم من غير الجراب، وقول غيره يحتمل أن تفرقته عليهن تمرة تمرة كان من الجراب النبوي قصدا لبركته، وكان يفرق عليهم من الأزواد التي جمعت أكثر من ذلك بعيد من ظاهر السياق، بل في رواية هشام بن عروة عند ابن عبد البر، فقلت: أزوادنا حتى ما يصيب الرجل منا إلا تمرة. انتهى.
"وابتاع قيس بن سعد" بن عبادة الصحابي ابن الصحابي الجواد ابن الجواد "جزورا ونحرها لهم"، كذا في النسخ لأفراد، أما على أن المراد به الجنس أو أن الواو زادت من الكاتب وأصله جزرا بضم الجيم والزاي جمع جزور كقوله:
لا يبعدن قومي الذين هم ... سم العداة وآفة الجزر
ويجمع أيضا على جزائر وهو البعير ذكرا كان أو أنثى فلا ينافي ما رواه الواقدي بأسانيده أنهم أصابهم جوع شديد، فقال قيس: من يشتري مني تمرا بالمدينة بجزر هنا؟ فقال له رجل من جهينة من أنت؟ فانتسب. فقال: عرفت نسبك. فابتاع منه خمس جزائر بخمسة أوسق وأشهد له نفرا من الصحابة، وامتنع عمر لكون قيس لا مال له، فقال الأعرابي: ما كان سعد ليخنى بابنه في أوسق تمر بفتح التحتية وسكون الخاء وبالنون يقصر.
قال: وأرى وجها حسنا، وفعلا شريفا فأخذ قيس الجزر فنحر لهم ثلاثة كل يوم جزورا، فلما كان اليوم الرابع نهاه أميره، فقال: عزمت عليك أن لا تنحر أتريد أن تخفر ذمتك ولا مال لك؟ قال قيس: يا أبا عبيدة أترى أبا ثابت يقضي ديون الناس ويحمل الكل ويطعم في المجاعة لا يقضي عني تمر القوم مجاهدين في سبيل الله؟ فكاد أبو عبيدة يلين وجعل عمر يقول: اعزم فعزم عليه فبقيت جزوران، فقدم بهما قيس المدينة ظهرا يتعاقبون عليهما. وبلغ سعدا مجاعة القوم، فقال: إن يك قيس كما أعرف فسينحر لهم. فلما لقيه قال: ما صنعت في مجاعة القوم؟(3/366)
وأخرج الله لهم من البحر دابة تسمى العنبر فأكلوا منها، وتزودوا ورجعوا ولم يلقوا كيدا.
وفي رواية جابر عند الأئمة الستة: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثمائة راكب، أميرنا
__________
قال: نحرت، قال: أصبت، ثم ماذا؟ قال: نحرت، قال: أصبت، ثم ماذا؟ قال: نحرت، قال: أصبت، ثم ماذا؟ قال: نهيت. قال: ومن نهاك؟ قال: أبو عبيدة أميري، قال: ولم؟ قال: زعم أنه لا مال لي وإنما المال لأبيك؟ فقال: لك أربع حوائط أدناها تجد منه خمسين وسقا وقدم البدوي مع قيس فأوفاه أوسقه وحمله وكساه فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فعل قيس، فقال: "إنه في قلب جود".
وفي رواية ابن خزيمة، فقال صلى الله عليه وسلم: "إن الجود من سمة أهل ذلك البيت". قال في الفتح: اختلف في سبب نهي أبي عبيدة قيسا أن يستمر على إطعام الجيش، فقيل: خيفة أن تفنى حمولتهم, وفيه نظر؛ لأن القصة أنه اشترى من غير العسكر، وقيل: لأنه كان يستدين على ذمته ولا مال له فأريد الرفق به، وهذا أظهر. انتهى.
بقي أن البخاري روى هنا عن جابر قال: كان رجل من القوم نحر ثلاث جزائر ثم نحر ثلاث جزائر ثم نحر ثلاث جزائر بالتكرار ثلاث مرات كما قال المصنف.
قال في المقدمة: هو قيس بن سعد كما عند المصنف. انتهى. ولم يتكلم الفتح ولا المصنف هنا على الجمع بينه وبين رواية أنه اشترى خمسا نحر منها ثلاثا، ثم منع مع ذكرهما لها في شرح هذا الحديث، ويمكن الجمع بأنه نحر أولا ستا مما معه من الظهر، ثم اشترى خمسا نحر منها ثلاثا، ثم نهي، فاقتصر من قال: ثلاثا على ما نحره مما اشتراه، ومن قال: تسعا ذكر جملة ما نحره، فإن ساغ هذا وإلا فما في الصحيح أصح, والله أعلم.
"وأخرج الله لهم من البحر دابة" بمهملة وشد الموحدة حيوان الأرض الذكر، والأنثى "تسمى العنبر" قال أهل اللغة: العنبر سمكة كبيرة يتخذ من جلدها الترسة، ويقال: إن العنبر المشموم رجيعها.
وقال ابن سينا بل المشموم يخرج من الشجر وإنما يوجد في أجواف السمك الذي يبتلعه, ونقل الماوردي عن الشافعي قال: سمعت من يقول رأيت العنبر نابتا في البحر ملتويا مثل عنق الشاة وفي البحر دابة تأكله، وهو سم لها فيقتلها فيقذفها البحر فيخرج العنبر من بطنها، وقال الأزهري العنبر سمكة بالبحر الأعظم يبلغ طولها خمسين ذراعا يقال لها: بالة وليست بعربية. انتهى.
من الفتح "فأكلوا منها وتزودوا ورجعوا ولم يلقوا كيدا" أي حربا.
"وفي رواية جابر عند الأئمة الستة": البخاري، ومسلم، وأبي داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه "بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثمائة راكب أميرنا" جملة حالية بلا واو، ولأبي ذر: وأميرنا(3/367)
أبو عبيدة بن الجراح، فأقمنا على الساحل حتى فني زادنا، حتى أكلنا الخبط ثم إن البحر ألقى لنا دابة يقال لها: العنبر، فأكلنا منها نصف شهر، حتى صحت أجسامنا، فأخذ أبو عبيدة ضلعا من أضلاعها فنصبه ونظر إلى أطول بعير فجاز تحته. الحديث.
__________
بالواو "أبو عبيدة بن الجراح".
وفي رواية البخاري: نرصد عيرا لقريش "فأقمنا على الساحل حتى فني زادنا"، زاد في رواية البخاري فأصابنا جوع شديد "حتى أكلنا الخبط، ثم إن البحر ألقى لنا دابة" من السمك.
وفي رواية للبخاري فإذا حوت مثل الظرب والحوت اسم جنس لجميع السمك وقيل: مخصوص بما عظم منها، والظرب بفتح المعجمة المشالة وفي بعض النسخ المعجمة الساقطة حكاها ابن التين، والأول أصوب وبكسر الراء بعدها موحدة الجبل الصغير.
وقال القزاز: هو بسكون الراء إذا كان منبسطا ليس بالعالي، وفي رواية أبي الزبير عند مسلم فوقع لنا على ساحل البحر كهيئة الكثيب الضخم فأتيناه فإذا هي دابة "يقال لها: العنبر", وفي رواية للبخاري: فألقى لنا البحر حوتا ميتا لم نر مثله.
وفي رواية ابن أبي عاصم: فإذا نحن بأعظم حوت ففي هذا جواز أكل الحوت الطافي "فأكلنا منها نصف شهر".
وفي رواية وهب عند البخاري: ثمان عشرة ليلة.
وفي رواية أبي الزبير عند مسلم: فأقمنا عليه شهرا قال الحافظ: ويجمع بأن قائل ثمان عشرة ضبط ما لم يضبطه غيره وقائل نصف شهر ألغى الكسر الزائد وهو ثلاثة أيام، ومن قال: شهرا جبر الكسر أو ضم بقية المدة التي كانت قبل وجدانهم الحوت إليها.
ورجح النووي رواية أبي الزبير لما فيها من الزيادة وقال ابن التين: إحدى الروايتين وهم، ووقع في رواية الحاكم: اثني عشر يوما وهي شاذة منها شذوذا رواية الخولاني عن جابر عند ابن أبي عاصم، فأقمنا قبلها ثلاثا، ولعل الجمع الذي ذكرته أولى. انتهى.
"حتى صحت أجسامنا" وفي رواية البخاري: وادهنا من ودكه حتى ثابت إلينا أجسامنا بمثلثة، أي رجعت وفيه إشارة إلى أنهم أصابهم هزال من الجوع "فأخذ أبو عبيدة ضلعا" بكسر الضاد وفتح اللام "من أضلاعه فنصبه".
قال الحافظ واستشكل بأن الضلع مؤنثة، ويجاب بأنه غير حقيقي فيجوز تذكيره، وفي رواية وهب عند البخاري، ثم أمر عبيدة بضلعين من أضلاعه فنصبا "ونظر إلى أطول بعير فجاز تحته" براكبه، وفي رواية وهب عند البخاري ثم أمر براحلة فرحلت، ثم مرت تحتهما فلم تصبهما، وفي رواية له أيضا فعمد إلى أطول رجل معه وفي حديث عبادة عند ابن إسحاق ثم أمر(3/368)
زاد الشيخان في رواية: فلما قدمنا المدينة أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرنا ذلك له فقال: "هو رزق أخرجه الله لكم، فهل معكم شيء من لحمه فتطعمونا"؟. قال: فأرسلنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منه فأكل.
__________
بأجسم بعير معنا فحمل عليه أجسم رجل منا فخرج من تحتها وما مست رأسه.
وجزم الحافظ في المقدمة بأن الرجل قيس بن سعد فتبعه المصنف في الشرح، وقال في الفتح لم أقف على اسمه وأظنه قيسا فإنه كان مشهورا بالطول، وقصته مع معاوية معروفة لما أرسل إليه ملك الروم أطول رجل منهم ونزع له قيس سراويله، فكانت طول قامة الرومي بحيث كان طرفها على أنفه وطرفها بالأرض، وعوتب قيس في نزع سراويله فأنشد:
أردت لكيما يعلم الناس أنها ... سراويل قيس والوجوه شهود
وأن لا يقولوا غاب قيس وهذه ... سراويل عادي فمنه ثمود
وفي رواية مسلم عن جابر: فلقد رأيتنا، نغترف من وقب عينيه بالقلال الدهن، ونقطتع منه الفدر كالثور، فأخذ أبو عبيدة، ثلاثة عشر رجلا، فأقعدهم في وقب عينه بفتح الواو وسكون القاف، وموحدة: النقرة التي فيها الحدقة، والفدر بكسر الفاء وفتح الدال، جمع فدرة بفتح، فسكون القطعة من اللحم وغيره، ولمسم عن عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت، قال جابر: فدخلت أنا وفلان، قعد خمسة في فجاج عينها، ما يرانا أحد حتى خرجنا، وأخذنا ضلعا من أضلاعها، فقومناه وعدونا بأعظم رجل في الركب، وأعظم جمل، وأعظم كفل، فدخل تحته ما يطأطئ رأسه. انتهى، فسبحان القوي القادر، وكفل بكسر الكاف، وإسكان الفاء، وباللام، أي الكساء الذي يجعله راكب البعير على سنامه لئلا يسقط، "الحديث" ذكر في بقيته نحر التسع جزائر، ثم النهي، "زاد الشيخان في رواية" عن أبي الزبير عن جابر، "فلما قدما المدينة أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرنا ذلك له"، فقال: "هو رزق أخرجه الله لكم، فهل معكم شيء من لحمه فتطعمونا"؟ زاد في رواية أحمد، فكان معنا منه شيء "قال: فأرسلنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منه فأكل" هذا لفظ مسلم، ولفظ البخاري فقال: "كلوا رزقا أخرجه الله أطعمونا إن كان معكم". فأتاه بعضهم، فأكله.
ولابن السكن، فأتاه بعضهم بعضو منه، فأكله، قال عياض: وهو الوجه، وفي رواية أبي حمزة الخولاني، عن جابر عند ابن أبي عاصم، فلما قدموا ذكروا له صلى الله عليه وسلم فقال: "لو نعلم أنا ندركه، لم يروح لأحببنا لو كان عندنا منه". قال الحافظ: وهذا لا يخالف رواية أبي الزبير، لأنه يحمل على أنه قال ذلك، ازديادا منه بعد أن أحضروا له منه ما ذكر، أو قال ذلك قبل أن يحضروا له منه، وكان الذي أحضروه معهم، لم يروح فأكل منه, والله أعلم. انتهى.(3/369)
"سرية أبي قتادة إلى نجد":
ثم سرية أبي قتادة بن ربعي الأنصاري إلى خضرة، وهي أرض محارب بنجد، في شعبان سنة ثمان، وبعث معه خمسة عشر رجلا إلى غطفان، فقتل من أشرف منهم، وسبى سبيا كثيرا، واستاق النعم، فكانت الإبل مائتي بعير، والغنم ألفي شاة.
__________
سرية أبي قتادة إلى نجد:
"ثم سرية أبي قتادة" الحارث، ويقال عمرو أو النعمان "ابن ربعي" بكسر الراء، وسكون الموحدة، بعدها مهملة "الأنصاري" السلمي، بفتحتين، المدني شهد أحدًا وما بعدها، ولم يصح شهوده بدرا مات سنة أربع وخمسين على الأصح الأشهر، "إلى خضرة" ضبطه الشامي، بفتح الخاء، وكسر الضاد، المعجمتين مخالفا قول البرهان، بضم الخاء، وإسكان المعجمة، هذا الظاهر، ثم راء، ثم تاء تأنيث، "وهي أرض محارب بنجد" أشار إلى أنه لا تنافي بين من ترجمها كالبخاري، بقوله السرية التي قبل نجد، وبين من قال سرية محارب؛ لأن الأرض نجد، والمقصودين بالسرية من أهلها محارب، "في شعبان سنة ثمان" عند ابن سعد، وذكر غيره: أنها قبل مؤتة، وهي في جمادى كما مر، وقيل: كانت في رمضان، ذكره الحافظ، "وبعث معه خمسة عشر رجلا إلى غطفان" بأرض محارب.
قال ابن سعد: وأمره أن يشن عليهم الغارة، فسار الليل وكمن النهار، فهجم على حاضر منهم عظيم، فأحاط به، فصرخ رجل منهم يا خضرة، وقاتل منهم رجال، "فقتل من أشرف" ظهر "منهم وسبى سبيا كثيرا واستاق النعم، فكانت الإبل مائتي بعير والغنم ألفي شاة" زاد ابن سعد وشيخه، وجمعوا الغنائم فأخرجوا الخمس فعزلوه، فأصاب كل رجل اثنا عشر بعيرا فعدل البعير بعشر من الغنم، ونفلنا أميرنا بعيرا بعيرا ثم قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقسم علينا غنيمتنا، وروى الشيخان وغيرهما، عن ابن عمر بعث صلى الله عليه وسلم سرية قبل نجد، فكنت فيها فغنموا إبلا كثيرة وغنما، فكانت سهامنا اثني عشر بعيرا، ونفلنا بعيرا بعيرا، فرجعنا بثلاثة عشر بعيرا، قال في الفتح: اختلف الرواة في القسم والتنفيل هل كانا جميعا من أمير ذلك الجيش، أو من النبي صلى الله عليه وسلم، أو أحدهما من أحدهما؟ فرواية أبي داود صريحة، أن التنفيل من الأمير والقسم منه، صلى الله عليه وسلم ولفظه فخرجت فيها فأصبنا نعما كثيرا وأعطانا أميرنا بعيرا لكل إنسان ثم قدمنا على النبي صلى الله عليه وسلم فقسم بيننا غنيمتنا، فأصاب كل رجل اثني عشر بعيرا بعد الخمس، وظاهر رواية مسلم، أن ذلك صدر من الأمير، وأنه صلى الله عليه وسلم كان مقررا له، ومجيزا لأنه قال فيه ولم يغيره النبي صلى الله عليه وسلم، ولمسلم أيضا،(3/370)
وكان غيبته خمس عشرة ليلة.
__________
في رواية ونفل صلى الله عليه وسلم بعيرا بعيرا وهذا يمكن حمله على التقرير، فتجتمع الروايات، قال النووي: معناه أن أمير السرية نفلهم فأجازه، صلى الله عليه وسلم, فجازت نسبته لكل منهما، والنفل زيادة يزادها الغازي على نصيبه من الغنيمة، ومنه نفل الصلاة، وهو ما عدا الفريضة. انتهى.
"وكانت غيبته خمس عشرة ليلة"، قال ابن سعد وشيخه: وكان في السبي، وهو أربع نسوة، وأطفال وجوار جارية وضيئة كأنها ظبي، وقعت في سهم أبي قتادة، فجاء محمية بن جزء الزبيدي، فقال: يا رسول الله! إن أبا قتادة قد أصاب في وجهه هذا جارية وضيئة وقد كنت وعدتني جارية، فأرسل صلى الله عليه وسلم إلى أبي قتادة، فقال: هب لي الجارية فوهبها له، فدفعها إلى محمية، بفتح الميم وسكون المهملة، وكسر الميم الثانية، وتخفيف التحتية المفتوحة ابن جزء بفتح الجيم، وسكون الزاي، بعدها همزة الزبيدي، بضم الزاي. انتهى.(3/371)
"سريته أيضا إلى إضم":
ثم سرية أبي قتادة أيضا إلى بطن إضم -فيما بين ذي خشب وذي المروة- على ثلاثة برد من المدينة، في أول شهر رمضان سنة ثمان.
وذلك أنه صلى الله عليه وسلم لما هم أن يغزو أهل مكة، بعث أبا قتادة في ثمانية نفر، سرية إلى بطن إضم، ليظن ظان أنه صلى الله عليه وسلم توجه إلى تلك الناحية.
__________
سريته أيضا إلى إضم:
"ثم سرية أبي قتادة أيضا إلى بطن إضم", بكسر الهمزة وفتح الضاد المعجمة، وبالميم واد، "فيما بين ذي خشب" بضم المعجمتين وبموحدة، واد على ليلة من المدينة له ذكر كثير في الحديث، والمغازي كما في النهاية، "وذي المروة" بلفظ أخت الصفا من أعمال المدينة، على ثمانية برد منها، وأضم المذكور أنه بين هذين، "على ثلاثة برد من المدينة في أول شهر رمضان سنة ثمان" أي في أول يوم منه على المتبادر، ويحتمل ما يصدق بغير الأول، لإطلاقه على نحو النصف، "وذلك أنه صلى الله عليه وسلم لما هم أن يغزو أهل مكة, بعث أبا قتادة في ثمانية نفر سرية" على قول القاموس السرية، خمسة إلى ثلاثمائة أو أربعمائة، ومر نقل المصنف عن الحافظ أن مبدأها مائة، "إلى بطن إضم" وتعبيره ببطن تبعا لابن سعد وغيره ظاهر في أنه واد لأنهم يضيفون بطن، إلى الوادي دون الجبل، وفي السبل أن إضما واد أو جبل، لكن في القاموس إضم كعنب، وجبل الوادي الذي به المدينة. انتهى.
فلا يفسر ما هنا بالجبل، "ليظن ظان أنه صلى الله عليه وسلم توجه إلى تلك الناحية" التي هي بطن(3/371)
ولأن تذهب بذلك الأخبار.
فلقوا عامر بن الأضبط، فسلم عليهم بتحية الإسلام، فقتله محلم بن جثامة، فأنزل الله تعالى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا} [النساء: 94] إلى آخر الآية, رواه أحمد.
__________
إضم، "ولأن تذهب بذلك" أي بتوجهه إليها، "الأخبار" فلا تستعد قريش لحربه، ويدخل عليهم على حين غفلة، وكيف توهم أن اسم الإشارة يعود على مكة، ويتعسف توجيهه بتجويز العقل المخالف للنقل، وهو صلى الله عليه وسلم، تجهز إلى مكة كما يأتي سرا، وأطلعه الله على كتاب حاطب، فبعث من أتاه به، وقال كما عند ابن إسحاق: "اللهم خذ العيون والأخبار عن قريش، حتى نبغتها في بلادها". واستجيب له، فعميت الأخبار عنهم، فلم يأتهم خبر عنه، ولا علموا بذلك إلا ليلة دخوله صلى الله عليه وسلم، "لقوا عامر بن الأضبط" بفتح الهمزة وسكون الضاد المعجمة، وفتح الموحدة، ثم طاء مهملة, الأشجعي المعدود في الصحابة، والذي ينبغي كما قال البرهان: عده في التابعين؛ لأنه أسلم ولم يلق النبي مسلما.
وقد ذكره صاحب الإصابة في القسم الأول تسليما لمن قبله، ثم أورده في القسم الثالث، وهو أدرك النبي ولم يرده لهذ المعنى "فسلم عليه بتحية الإسلام" بأن قال: السلام عليكم، قال ابن هشام: ولذا قرأ أبو عمر والسلام، أو المعنى عظمهم بالانقياد، كلمة الشهادة التي هي أمارة على السلامة، "فقتله محلم" بضم الميم، وفتح الحاء المهملة، وكسر اللام المشددة، ثم ميم "ابن جثامة" بفتح الجيم وشد المثلثة، فألف، فميم، فتاء تأنيث، واسمه زيد بن قيس بن ربيعة صحابي أخو الصعب بن جثامة، قال ابن عبد البر: قيل: إن محلما غير الذي قتل، وأنه نزل حمص ومات بها أيام ابن الزبير، ويقال: إنه هو ومات في حياته صلى الله عليه وسلم، فلفظته الأرض مرة بعد أخرى.
قال في الإصابة: وبالأول جزم ابن السكن، "فأنزل الله تعالى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ} بألف ودونها أي التحية، أو الانقياد بكلمة الشهادة، {لَسْتَ مُؤْمِنًا} ", وإنما قلت هذا تقية لنفسك ومالك، "إلى آخر الآية, رواه أحمد", والطبراني وابن إسحاق وغيرهم عن عبد الله بن أبي حدرد، قال: بعثنا صلى الله عليه وسلم إلى إضم في نفر من المسلمين فيهم: أبو قتادة ومحلم بن جثامة بن قيس، فخرجنا حتى إذا كنا ببطن إضم، مر بنا عامر بن الأضبط الأشجعي على قعود له، ومعه متيع له ووطب من لبن، فسلم علينا بتحية الإسلام، فأمسكنا عنه، وحمل عليه محلم، فقتله لشيء كان بينه وبينه، وأخذ بعيره ومتيعه، فلما قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخبرناه الخبر نزل فينا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [النساء: 94] إلى آخر الآية,(3/372)
وهو عند ابن حرير من حديث ابن عمر بنحوه وزاد: فجاء محلم بن جثامة في بردين فجلس بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ليستغفر له، فقال صلى الله عليه وسلم: "لا غفر الله لك". فقام وهو يتلقى دموعه ببرديه، فما مضت له سابعة حتى مات فلفظته الأرض. وعند غيره: ثم عادوا به فلفظته الأرض، فلما غلب قومه عمدوا إلى صدين فسطحوه ثم رضموا عليه الحجارة حتى واروه.
__________
ولا ينافي قوله لشيء كان بينه وبينه. قوله تعالى: {لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [النور: 33] ؛ لأن الحقد من عرضها المبتغى، مع أنه أخذ متاعه وبعيره أيضا "وهو عند ابن جرير، من حديث ابن عمر بنحوه", وقد مر في سرية غالب الليثي: أن الآية نزلت في قتل أسامة بن زيد مرداس بن نهيك، وأنه يحتمل تعدد القصة، وتكرير نزول الآية، "وزاد" ابن عمر في حديث: "فجاء ملحم بن جثامة في بردين" معهم حين رجعوا ولم يلقوا جمعا، فلما وصلوا إلى ذي خشب بلغهم أنه صلى الله عليه وسلم توجه إلى مكة، فلحقوه بالسقيا، كما عند ابن سعد وغيره، فأخبروه الخبر، فقال لمحلم: "أقتلته بعدما قال: آمنت بالله". "فجلس بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليستغفر له"، فقال صلى الله عليه وسلم: "قتلته بعدما قال: إني مسلم"؟. قال: إنما قالها متعوذا. قال: "أفلا شققت عن قلبه لتعلم أصادق هو أم كاذب"؟. قال: وهل قلبه إلا مضغة من لحم. قال صلى الله عليه وسلم: "إنما كان ينبئ عنه لسانه هذا". من جملة حديث ابن عمر عند ابن جرير، وفي رواية: فقال صلى الله عليه وسلم: "لا ما في قلبه تعلم، ولا لسانه صدقت". فقال: استغفر لي يا رسول الله، قال: "لا غفر الله لك". زجرا وتهويلا، "فقام وهو يتلقى دموعه ببرديه، فما مضت له سابعة" من الليالي يؤرخون بها ويريدون الأيام، "حتى مات، فلفظته" طرحته "الأرض وعند غيره" كابن إسحاق: حدثني من لا أتهم عن الحسن البصري: قال صلى الله عليه وسلم حين جلس بين يديه: "أمنته بالله ثم قتلته".
فما مكث إلا سبعا حتى مات فلفظته الأرض، "ثم عادوا به، فلفظته الأرض،" ثم عادوا به، فلفظته الأرض، "فلما غلب قومه عمدوا إلى صدين" بضم الصاد وفتحها، ودال مهملتين تثنية صد أي: جبلين، "فسطحوه" بينهما "ثم رضموا" بفتح الراء، والضاد المعجمة، أي جعلوا "عليه الحجارة" بعضها فوق بعض، "حتى واروه" وظاهره أن ذلك كله يوم الدفن، وفي رواية: أنهم حفروا له فأصبح، وقد لفظته الأرض، ثم عادوا، فحفروا له فأصبح, وقد لفظته الأرض إلى جنب قبره، قال الحسن: لا أدري كم قال أصحاب رسول الله، مرتين أو ثلاثا؟
وفي حديث جندب عند الطبراني وقتادة عن ابن جرير أن ذلك وقع ثلاث مرات، فإن صح، فيحتمل أنه لفظ يوم الدفن مرتين أو ثلاثا، ثم استقر به حتى أصبح، وقد لفظ أيضا حتى واروه بعد ثلاث أيضا بين الجبلين، فحفظ كل من الرواة ما لم يحفظ الآخر، ولا يخفى بعده، والله أعلم.(3/373)
وفي رواية ابن جرير: فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "إن الأرض تقبل من هو شر من صاحبكم، ولكن يريد الله أن يعظكم".
ونسب ابن إسحاق هذه السرية لابن أبي حدرد.
__________
"وفي رواية ابن جرير" عن ابن عمر وكذا في مرسل الحسن عند ابن إسحاق، "فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم" فقال: "إن الأرض تقبل من هو شر من صاحبكم". إذ هي تقبل من ادعوا الألوهية، وجميع الكفار، "ولكن يريد الله أن يعظكم" وفي مرسل الحسن: ولكن الله أراد أن يعظمكم، فيحرم ما بينكم بما أراكم منه، وظاهر هذا أنهم ألقوا عليه الحجارة، قبل إخبارهم له عليه السلام، بلفظ الأرض.
وفي رواية: أنها لما لفظته جاءوا، فذكروا ذلك له، فقال: "إن الأرض" ... إلخ، ثم ألقوها عليه هذا وبين ما ذكر من موته بعد سابعة من لقي المصطفى، بالسقيا وبين ما رواه ابن إسحاق، عن عروة بن الزبير عن أبيه وجده, شهدا حنينا، قالا: صلى بنا صلى الله عليه وسلم الظهر وهو بحنين.
ثم جلس تحت ظل شجرة، فقام عيينة يطلب بدم عامر بن الأضبط وهو يومئذ رئيس غطفان، والأقرع بن حابس يدفع عن محلم لمكانه من خندف فتداولا الخصومة عنده، صلى الله عليه وسلم، ونحن نسمع ثم قبلوا الدية.
ثم قالوا: أين صاحبكم هذا يستغفر له صلى الله عليه وسلم، فقام رجل آدم ضرب طويل عليه حلة قد كان تهيأ للقتل فيها حتى جلس بين يديه، فقال: "ما اسمك". قال: محلم بن جثامة، فرفع صلى الله عليه وسلم يده، ثم قال: "اللهم لا تغفر لمحلم بن جثامة". ثلاثا، فقام وهو يتلقى دموعه بفضل ردائه، فأما نحن، فنقول فيما بيننا: نرجو أنه صلى الله عليه وسلم استغفر له، وأما اظهر منه عليه السلام، فهذا انتهى بون بعيد لكن يحتمل الجمع، بأنه اجتمع به بالسقيا حين عادوا من السرية.
ثم سارو معه في الفتح حتى غزاها وغزا حنينا، ثم اختصم عنده عيينة والأقرع. فلما قبلوا الدية جاءوا به ليستغفر له، فقال: "اللهم" ... إلخ. فمات بعد سبع، فحفظ بعض الرواة ما لم يحفظ الآخر ويؤيد ذلك أنه لم يقع في حديث ابن أبي حدرد ولا ابن عمر تعيين المحل الذي أتوا به فيه، ووقع ذلك في حديث عروة عن أبويه، فوجب قبوله لأنه زيادة ثقة, والله أعلم.
ونسب ابن إسحاق هذه السرية" التي نسبها ابن سعد وغيره لأبي قتادة "لابن أبي حدرد"، بمهملات بوزن جعفر, عبد الله بن سلامة بن عمير الأسلمي، الصحابي ابن الصحابي، المتوفى سنة إحدى وسبعين، وله إحدى وثمانون سنة، قال الحافظ: ووهم من أرخ موت أبيه فيها، فقال أعني ابن إسحاق: غزوة ابن أبي حدرد ببطن إضم وساق فيها حديثه، في قتل عامر(3/374)
ومعه رجلان إلى الغابة، لما بلغه صلى الله عليه وسلم أن رفاعة بن قيس يجمع لحربه، فقتلوا رفاعة وهزموا عسكره، وغنموا غنيمة عظيمة، حكاه مغلطاي, والله أعلم.
__________
ونزول الآية، ثم حديث عروة الذي ذكرته مطولا، ثم حديث الحسن، ثم حديثا آخر بين الأقرع وعيينة، ثم ترجم عقبها غزوة ابن أبي حدرد الأسلمي الغابة فوهم المصنف في قوله، "ومعه رجلان", لم يسميا، "إلى الغابة لما بلغه صلى الله عليه وسلم، أن رفاعة بن قيس يجمع لحربه" قيسا قومه بالغابة "فقتلوا رفاعة وهزموا عسكره، وغنموا غنيمة عظيمة" من إبل وغنم، "حكاه مغلطاي،" لإدخاله قصة في أخرى، وأيضا فلم يقل أحد أنهم في سريتهم إلى إضم حاربوا أحدًا ولا غنموا بل صرح ابن سعد وشيخه كما مر بأنهم رجعوا ولم يلقوا جمعا.
وأما سرية الغابة فقال ابن إسحاق: كان من حديثها فيما بلغني، عمن لا أتهم عن ابن أبي حدرد، قال: تزوجت امرأة من قومي، وأصدقتها مائتي درهم، فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم، أستعينه فقال: "وكم أصدقت". قلت: مائتي درهم، قال: "سبحان الله لو كنتم تأخذون الدراهم من بطن واد ما زدتم، والله ما عندي ما أعينك به". فلبثت أياما. وأقبل رفاعة بن قيس، أو قيس بن رفاعة، في بطن عظيم من بني جشم، فنزل بمن معه بالغابة، يريد جمع قيس على حربه صلى الله عليه وسلم، فدعاني صلى الله عليه وسلم، ورجلين، فقال: "اخرجوا إلى هذا الرجل، حتى تأتونا منه بخبر وعلم". فخرجنا ومنا النبل، والسيوف حتى جئنا قريبا من الحاضر مع غروب الشمس.
فكمنت في ناحية، وأمرت صاحبي، فكمن في ناحية، وقلت لهما إذا سمعتماني قد كبرت، وشددت على العسكر، فكبرا وشدا معي فوالله إنا لننتظر غرة القوم وأن نصيب منهم شيئا، وقد غشينا الليل حتى ذهبت فحمة العشاء، وقد كان لهم راع، قد سرح فأبطأ عليهم حتى تخوفوا عليه، فقام رفاعة بن قيس، فجعل سيفه في عنقه، ثم قال: لأتبعن أثر راعينا هذا، لقد أصابه شر، فقال له نفر ممن معه: نحن نكفيك، قال: والله لا يذهب إلا أنا، قالوا فنحن معك، قال: والله لا يتبعني أحد منكم، فخرج حتى يمر بي فرميته بسهمي، فوضعته في فؤاده فوالله ما تكلم، ووثبت إليه فاحترزت رأسه وشددت في ناحية العسكر، وكبرت وشد صاحباي، وكبرا فوالله ما كان إلا النجاء ممن فيه عندك بكل ما قدروا عليه من نسائهم وأبنائهم، وما خف من أموالهم واستقنا إبلا عظيمة، وغنما كثيرة، فجئنا بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجئت برأسه أحمله معي، فأعانني صلى الله عليه وسلم، من تلك الإبل بثلاثة عشر بعيرا فجمع إلى أهلي، وأما الواقدي وهو محمد بن عمر، فجعل هذه القصة مع قصة أبي قتادة إلى خضرة التي قبل هذه واحدة، وساق بسند له عن ابن أبي حدرد، قال: تزوجت ابنة سراقة بن حارثة النجاري، وقد قتل ببدر، فلم أصب شيئا من الدنيا كان أحب إليَّ(3/375)
.................................
__________
من نكاحها، وأصدقتها مائتي درهم، فلم أجد شيئا أسوقه إليها، فقلت على الله ورسوله المعول، فجئت رسول الله، فأخبرته، فقال: كم سقت إليها، فقلت: مائتي درهم، فقال: "سبحان الله لو كنتم تغترفون من ناحية بطحان ما زدتم". فقلت: يا رسول الله! أعني على صداقها. فقال: "ما وافقت عندنا ما أعينك به، ولكن قد أجمعت أن أبعث أبا قتادة في أربعة عشر رجلا في سرية، فهل لك في أن تخرج فيها؟ فإني أرجو أن يغنمك الله مهر زوجتك". فقلت: نعم، فخرجنا حتى جئنا الحاضر، فذكر القصة، وأن أبا قتادة ألف بين كل رجلين، وقاتل رجالا من القوم.
فإذا فيهم رجل من طويل أقبل على ابن حدرد، وقال: يا مسلم هلم إلى الجنة يتهكم به، قال: فملت عليه، فقتلته وأخذت سيفه، فلما أصبحنا رأيت في السبي امرأة كأنها ظبي، تكثر الالتفات خلفها وتبكي، فقلت: أي شيء تنظرين، قالت: أنظر والله إلى رجل إن كان حيا استنقذنا منكم، فقلت: لها، قد قتلته وهذا سيفه معلق بالقتب، قالت: فألق إليّ غمده، فلما رأته بكت ولبثت، ولا يخفى أن سياق كل من القصتين يبعد أو يمنع كونهما واحدة والله تعالى أعلم.(3/376)
"باب غزوة الفتح الأعظم":
ثم فتح مكة زادها الله شرفا. وهو كما قال في زاد المعاد: "الفتح الأعظم، الذي أعز الله به دينه ورسوله وجنده وحرمه الأمين، واستنقذ به بلده وبيته الذي جعله هدى للعالمين من أيدي الكفار والمشركين.
__________
باب غزوة الفتح الأعظم:
"ثم فتح مكة زادها الله شرفا", يحتمل أنه دعاء من المصنف، وأنه إخبار بأن الفتح النبوي زادها الله به شرفا على شرفها السابق، "وهو كما قال" العلامة ابن القيم، "في زاد المعاد" في هدي خير العباد: "الفتح الأعظم" من بقية الفتوحات قبله، كخيبر وفدك والحديبية، وعد فتحا لأمور تقدمت منها أن مقدمة الظهور ظهور، وهو قد كان مقدمة لهذا الفتح الأعظم، "الذي أعز الله به دينه", قواه وأظهره على جميع الأديان، إذ ما من أهل دين إلا وقد قهرهم المسلمون، "ورسوله وجنده" أنصاره المسلمون الذين بذلوا نفوسهم في نصرة دينه، وجعلوا أنصارا وجندا، كما في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ} {وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} لإخلاصهم في إعلاء كلمة الله وإظهار دينه، "وحرمه الأمين" الآمن فيه من دخله، "واستنقذ" خلص "به بلده وبيته"، والإضافة للتشريف ولتمييزه لهما على غيرهما من البقاع، "الذي جعله الله هدى للعالمين" هاديا لهم لأنه قبلتهم ومتعبدهم، كما قال تعالى: {مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ} "من أيدي الكفار والمشركين" عبدة الأوثان، فهو عطف أخص على أعم، بعد(3/376)
وهو الفتح الذي استبشر به أهل السماء، وضربت أطناب عزه على مناكب الجوزاء ودخل الناس في دين الله أفواجا، وأشرق به وجه الأرض ضياء وابتهاجا".
خرج له صلى الله عليه وسلم بكتائب الإسلام وجنود الرحمن لنقض قريش العهد الذي وقع بالحديبية فإنه كان قد وقع الشرط: أنه من أحب أن يدخل في عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهده فعل، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم فعل. فدخلت بنو بكر في عقد قريش وعهدهم، ودخلت خزاعة في عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهده.
__________
طول استيلائهم عليه، وعبادتهم لغير الله فيه، فجعله مثابة لعامة من قصده من المسلمين.
"وهو الفتح الذي استبشر به أهل السماء وضربت أطناب" جمع طنب بضمتين وهو حبل الخباء الخمية، "عزه" استعارة بالكناية شبه العز بخباء متين، وأثبت الإطناب تخييلا، "على مناكب الجوزاء" بفتح الجيم وسكون الواو، وبالزاي والمد، يقال: إنها تعرض في جوز السماء، أي وسطها ولا استعارة فيها، ولا في مناكب أيضا لأنها اسم لنجوم متصلة بها، "ودخل الناس في دين الله أفواجا" جماعات جمع فوج، جاءوا بعد الفتح من أقطار الأرض طائعين، "وأشرق به وجه الأرض" وفي نسخة الدهر، "ضياء وابتهاجا" سرورا "خرج له صلى الله عليه وسلم بكتائب" بالفوقية جمع كتيبة، وهي القطعة من الجيش، "الإسلام وجنود الرحمن" أي الملائكة لما ورد أنها تحضر مواضع قتال المسلمين، مع الكفار وإن لم تقاتل، فالعطف مباين أو عام على خاص، إن أريد بجنوده ما يشمل الملائكة وغيرهم، وهذا أحسن من أنه مساو، "لنقض قريش العهد الذي وقع بالحديبية" في شعبان سنة ثمان على رأس اثنين وعشرين شهرا، من صلح الحديبية.
روى الواقدي أنه صلى الله عليه وسلم ال لعائشة صبيحة وقعة خزاعة: "لقد حدث يا عائشة في خزاعة أمر". فقالت: أترى قريشا تجترئ على نقض العهد الذي بينك وبينهم وقد أفناهم السيف؟ فقال: "ينقضون العهد لأمر يريده الله". قالت: يا رسول الله خير. قال: "خير". "فإنه كان قد وقع الشرط". كما رواه ابن إسحاق. حدثني الزهري عن المسور ومروان: "أنه من أحب أن يدخل في عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهده فعل، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم فعل، فدخلت بنو بكر في عقد قريش وعهدهم، ودخلت خزاعة في عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهده", وكانت حلفاء عبد المطلب، وكان عليه الصلاة والسلام بذلك عارفا، ولقد جاءته خزاعة يومئذ بكتاب عبد المطلب، فقرأه عليه أبي بن كعب وهو: باسمك اللهم هذا حلف عبد المطلب بن هاشم لخزاعة إذا قدم عليه سراتهم وأهل الرأي غائبهم يقر بما قاضى عليه شاهدهم أن بيننا وبينكم(3/377)
وكان بين بني بكر وخزاعة حروب وقتلى في الجاهلية، فتشاغلوا عن ذلك لما ظهر الإسلام، فلما كانت الهدنة خرج نوفل بن معاوية الديلي من بني بكر في بني الديل.
__________
عهود الله وعقوده وما لا ينسى أبدا.
اليد واحدة والنصر واحد ما أشرف ثبير وثبت حراء وما بل بحر صوفة ولا يزداد فيما بيننا وبينكم إلا تجددا أبد الدهر سرمدا، فقال صلى الله عليه وسلم: "ما أعرفني بحلفكم وأنتم على ما أسلمتم عليه من الحلف، وكل حلف كان في الجاهلية فلا يزيده الإسلام إلا شدة، ولا حلف في الإسلام". انتهى.
من الشامية والحلف المنهي عنه ما كان على الفتن والقتال والغارات والذي قواه الإسلام ما كان على نصر المظلوم وصلة الأرحام والخير ونصرة الحق، كما في النهاية.
قال ابن إسحاق: "وكان بيني بني بكر" بن عبد مناة بن كنانة "وخزاعة حروب وقتلى في الجاهلية" وذلك أن مالك بن عباد من بني الحضرمي خرج تاجرا فلما توسط أرض خزاعة عدوا عليه وقتلوه وأخذوا ماله وكان حليفا للأسود بن رزن بفتح الراء وكسرها، كما في الروض والمحكم فزاي ساكنة وتفتح كما في الإملاء فنون فعدت بنو بكر على خزاعي فقتلوه حمية للأسود فعدت خزاعة على بني الأسود وهم ذؤيب تصغير ذئب وسلمى بفتح السين وكلثوم فقتلوهم بعرفة عند أنصاب الحرم وكان قوم الأسود يؤدون ديتين لفضلهم في بني بكر وباقيهم دية دية، فبينما هم كذلك بعث صلى الله عليه وسلم "فتشاغلوا عن ذلك لما ظهر الإسلام" وإن لم يسلموا، "فلما كانت الهدنة خرج نوفل بن معاوية" بن عروة بن يعمر بن نفاثة بضم الون وخفة الفاء فألف فمثلثة ابن عدي بن الديل "الديلمي" بكسر المهملة وسكون التحتية كما ضبطه الحافظ وغيره أبو معاوية صحابي من مسلمة الفتح وعاش إلى أول إمارة يزيد وعمر مائة وعشرين سنة.
روى له البخاري ومسلم والنسائي "من بني بكر في بني الديل" بكسر الدال المهملة وسكون الياء كما قاله الكسائي وأبو عبيد وغيرهما، وقال الأصمعي وسيبويه وأبو حاتم وغيرهم هو بضم الدال وكسر الهمزة وإنما فتحت في النس كما فتحت ميم النمر في النمري، ولام سلمة في السلمي فرارا من توالي الكسرات وكان عيسى بن عمر ويونس وغيرهما يكسرانها في النسب تبقية على الأصل.
قال الأصمعي: وهو شاذ في القياس وهو الديل بن بكر بن عبد مناة بن كنانة كما في مقدمة الفتح ونحوه في التبصير له، ففي قول الشامي بكسر الدال وسكون الهمزة وتسهل نظر(3/378)
حتى بين خزاعة وهم على ماء لهم يقال له: الوتير, فأصاب منهم رجلا يقال له: منبه، واستيقظت لهم خزاعة فاقتتلوا إلى أن دخلوا الحرم ولم يتركوا القتال.
وأمدت قريش بني بكر بالسلاح، وقاتل بعضهم معهم ليلا في خفية.
__________
لأن الذين قالوا بكسر الدال، إنما قالوا بعدها تحتية لا همزة، والذين قالوا همزة إنما قالوا بكسرها والدال مضمومة قال ابن إسحاق ونوفل يومئذ قائدهم وليس كل بني بكر تابعه "حتى بيت خزاعة وهم على ماء لهم" بأسفل مكة "يقال له: الوتير" بفتح الواو وكسر الفوقية وسكون التحتية آخره راء.
قال السهيلي: وهو في كلام العرب الورد الأبيض سمي به الماء "فأصاب منهم رجلا" أبهمه ابن إسحاق في أول عبارته ثم بعد قليل قال: "يقال له: منبه" بضم الميم وفتح النون وكسر الموحدة.
قال ابن إسحاق وكان رجلا مفئودا أي ضعيف الفؤاد، خرج هو ورجل من قومه يقال له: تميم فقال له منبه: يا تميم انج بنفسك فوالله إني لميت قتلوني أو تركوني لقد أنبت فؤادي فأفلت تميم وأدركوا منبها فقتلوه فليسا برجلين كما اقتضاه قول البرهان قوله رجلا لا أعرف اسمه ثم ضبط منبها بلفظ اسم الفاعل، قال ولا أعلم ترجمته إلا أنه كافر إلا أن يقال مراده لا أعرف له اسما عند من ذكر أسماء الرجال، وإنما وقفت عليه في السيرة فيحتمل أنه اسم كما هو الظاهر المتبادر وأنه صفة وله اسم آخر، وهذا مع ما فيه من التعسف أحوج إليه التماس المخرج لمثل هذا الحافظ حتى لا يتناقض في أسطر يسيرة، "واستيقظت" تنبهت "لهم خزاعة" لما علموا بهم "فاقتتلوا إلى أن دخلوا الحرم ولم يتركوا القتال" فلما انتهوا إليه قالت بنو بكر: يا نوفل: إنا قد دخلنا الحرم إلهك إلهك، فقال كلمة عظيمة لا إله له يا بني بكور أصيبوا ثأركم فلعمري إنكم لتسرقون في الحرم أفلا تصيبوا ثأركم فيه؟ "وأمدت قريش" حلفاءهم "بني بكر بالسلاح وقاتل بعضهم معهم ليلا في خفية" منهم: صفوان بن أمية وشيبة بن عثمان وسهيل بن عمرو قاله موسى بن عقبة. وحويطب بن عبد العزى ومكرز بن حفص قاله ابن سعد.
فلما دخلوا مكة لجأت خزاعة إلى دار بجديل بن ورقاء الخزاعي، ودار مولى لهم، يقال له: رافع فانتهوا بهم في عماية الصبح ودخلت رؤساء قريش منازلهم وهم يظنون أنهم لا يعرفون، وأن هذا لا يبلغه عليه الصلاة والسلام وأصبحت خزاعة مقتولين على باب بديل ورافع فقال سهيل لنوفل: قد رأيت الذي صنعنا بك وبأصحابك وبمن قتلت من القوم وأنت قد حصرتهم تريد قتل من بقي وهذا ما لا نطاوعك عليه فاتركهم فتركهم فخرجوا وندمت قريش على ما صنعوا وعرفوا أنه نقض للذمة والعهد الذي بينهم وبين المصطفى وجاء الحارث بن هشام وعبد الله بن أبي ربيعة إلى صفوان, ومن سمي، فلاماهم بما صنعوا، وقالا: إن بينكم وبين محمد مدة، وهذا نقض لها أخرج مسدد في مسنده، والواقدي أن قريشا ندمت، فقالت: إن محمدا غازينا، فقال ابن(3/379)
ولما خرج عمرو بن سالم الخزاعي في أربعين راكبا من خزاعة، فقدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبرونه بالذي أصابهم ويستنصرونه. فقام صلى الله عليه وسلم وهو يجر رداءه وهو يقول: "لا نصرت إن لم أنصركم بما أنصر منه نفسي".
وفي المعجم الصغير، من حديث ميمونة أنها سمعته صلى الله عليه وسلم يقول في متوضئه
__________
أبي سرح: لا يغزوكم حتى يخيركم في خصال كلها أهون من غزوه، يرسل إليكم أن دوا قتلى خزاعة وهم ثلاثة وعشرون قتيلا أو تبرءوا من حلف بني نفاثة أو ننبذ إليكم على سواء، فقال سهيل: نبرأ من حلفهم أسهل وقال شيبة: ندي القتلى أهون.
وقال قرطة بن عبد عمرو: لا ندي ولا نبرأ لكنا ننبذ إليه على سواء. وقال أبو سفيان ليس هذا بشيء وما الرأي الأصوب إلا جحد هذا الأمر أن تكون قريش دخلت في نقض عهد أو قطع مدة وأنه قطع قوم بغير رضا منا ولا مشورة فما علينا. قالوا: هذا الرأي لا رأي غيره، "ولما" انقضى القتال "خرج" كما رواه ابن إسحاق وغيره "عمرو" بفتح العين وقيل بضمها وصححه الذهبي "ابن سالم" بن كلثوم "الخزاعي" أحد بني كعب الصحابي.
ذكر ابن الكلبي، وأبو عبيد، والطبري أنه أحد من عمل ألوية خزاعة يوم الفتح.
زاد ابن سعد وشيخه "في أربعين راكبا من خزاعة" ترجى اليعمري أن يكونوا هم النفر الذين قدموا مع بديل وفيه أن الأربعين لا يقال لهم: نفر، "فقدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبرونه بالذي أصابهم ويستنصرونه فقام صلى الله عليه وسلم وهو يجر رداءه", وهو يقول: "لا نصرت إن لم أنصركم بما أنصر" ضمن معنى أمنع فعدي بمن في قوله "منه" وفي نسخة به "نفسي" فلا تضمين.
وروى عبد الرزاق وغيره عن ابن عباس، مرفوعا: "والذي نفسي بيده لأمنعنهم مما أمنع منه نفسي وأهل بيتي".
وروى أبو يعلى بسند جيد عن عائشة: لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم غضب ما كان من شأن بني كعب غضبا لم أره غضبه منذ زمان، وقال: "لا نصرني الله تعالى إن لم أنصر بني كعب". "وفي المعجم الصغير" قيد به، لأنه ساق الحديث بتمامه إلى آخر الشعر.
وروى في الكبير بعض الحديث، وأما من عزاه لهما كالشامي فلذكره عنه ما اتفقت عليه روايته في الكبير والصغير "من حديث ميمونة" بنت الحارث، أم المؤمنين "أنها" قالت: بات عندي رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة فقام ليتوضأ إلى الصلاة "سمعته" لفظها فسمعته "صلى الله عليه وسلم يقول في متوضئه" بميم مضمومة ففوقية مفتوحة فواو فضاد معجمة مشددة مفتوحتين فهمزة مكسورة أي مكان وضوئه، كما قال الشامي؛ لأنه أنسب من زمانه ومن نفسه وإن أطلق عليهما أيضا، فإن مزيد الثلاثي(3/380)
ليلا: "لبيك لبيك لبيك -ثلاثا- نصرت نصرت نصرت -ثلاثا". فلما خرج قلت: يا رسول الله سمعتك تقول في متوضئك: "لبيك لبيك لبيك -ثلاثا- نصرت نصرت نصرت -ثلاثا". كأنك تكلم إنسانا فهل كان معك أحد؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "هذا راجز بني كعب يستصرخني ويزعم أن قريشا أعانت عليهم بني بكر". ثم خرج عليه الصلاة والسلام فأمر عائشة أن تجهزه ولا تعلم أحدا. قالت: فدخل عليها أبو بكر فقال: يا بنية، ما هذا الجهاز؟ فقالت: والله ما أدري، فقال: والله ما هذا زمان غزو بني الأصفر.
__________
يستوي فيه اسم الفاعل، واسم المفعول، واسم الزمان، والمكان، والمصدر في لفظ واحد، ليلا: "لبيك لبيك لبيك -ثلاثا- نصرت نصرت نصرت". بفتح التاء، فيها خطابا للذي سمعه "ثلاثا، فلما خرج قلت: يا رسول الله سمعتك تقول في متوضئك: "لبيك لبيك لبيك -ثلاثا- نصرت نصرت نصرت -ثلاثا". كأنك تكلم إنسانا فهل كان معك أحد؟ " فقال صلى الله عليه وسلم: "هذا راجز" بجيم وزاي، قائل الرجز نوع من الشعر معروف وصحف من قال، راجل "بني كعب" بطن من خزاعة "يستصرخني" يستغيث بي "ويزعم أن قريشا أعانت عليهم بني بكر" ففي إخباره به قبل قدومه علم من أعلام النبوة باهر، فأما أنه أعلم بذلك بالوحي وعلم ما يصوره الراجز في نفسه، أو يكلمه به أصحابه فأجابه بذلك، وأنه كان يرتجز في سفره، وأسمعه الله كلامه قبل قدومه بثلاث، ولا يعد في ذلك، فقد روى أبو نعيم مرفوعا: "إني لأسمع أطيط السماء وما تلام أن تئط". الحديث.
قال ميمونة: "ثم خرج عليه الصلاة والسلام" بعد قدوم الوفد، وبديل ثم أبي سفيان كما عند أصحاب المغازي لا قبل مجيئهم كما يوهمه السياق ففيه اختصار، "فأمر عائشة أن تجهزه" بالتثقيل أي: تهيئ له أهبة السفر وما يحتاج إليه في قطع المسافة "ولا تعلم أحدا" وعند ابن إسحاق وابن عقبة، والواقدي، أنه قال: "جهزينا وأخفي أمرك". وقال: "اللهم خذ على أسماعهم وأبصارهم فلا يرونا إلا بغتة، ولا يسمعون بنا إلا فلتة" وأمر جماعة أن تقيم بالأنقاب وكان عمر يطوف على الأنقاب فيقول لا تدعوا أحدا يمر بكم تنكرونه إلا رددتموه وكانت، الأنقاب مسلمة إلا من سلك إلى مكة فإنه يتحفظ منه ويسأل عنه.
"قالت" ميمونة، راوية الحديث: "فدخل عليها" أي على عائشة "أبو بكر، فقال: يا بنية ما هذا الجهاز" بفتح الجيم والكسر لغة قليلة كما في المصباح "فقالت: والله ما أدري، فقال" أبو بكر: "والله ما هذا زمان غزو بني الأصفر", وهم الروم؛ لأن جدهم روم بن عيص بكسر العين ابن إسحاق بن إبراهيم تزوج بنت ملك الحبشة فجاء ولده بين البياض والسواد فقيل له الأصفر أو لأن جدته سارة، حلته بالذهب، وقيل غير ذلك وكأنه خصهم لتوقعهم الغزو إليهم لما فعلوا، مع(3/381)
فأين يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: والله لا علم لي. قالت فأقمنا ثلاثا ثم صلى الصبح في الناس فسمعت الراجز ينشده:
يا رب إني ناشد محمدًا ... حلف أبينا وأبيه الأتلدا
إن قريشا أخلفوك الموعدا ... ونقضوا ميثاقك المؤكدا
وزعموا أن لست تدعو أحدا ... .........................
__________
أهل مؤتة "فأين يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت" عائشة: "والله لا علم لي" وعند ابن أبي شيبة من مرسل أبي سلمة أنها أعلمته، فقال: والله ما انتقضت الهدنة بيننا، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فذكر له أنهم أول من غدر ثم أمر بالطرق فحبست فعمي على أهل مكة لا يأتيهم خبر ويحتمل الجمع بأنه دخل عليها مرتين الأولى قالت له: لا علم لي، حتى أخبرته صلى الله عليه وسلم وأذن لها في إخبار أبيها لكونه غيبة سره فدخل عليها ثانيا فأخبرته وكأنه لم يبلغه نقضهم العهد أو تأول أنه غير ناقض لكونه لم يصدر من جميعهم، فقال: ما انتقضت الهدنة، وأخبر النبي والله أعلم. "قالت" ميمونة: كما هو رواية الطبراني "فأقمنا ثلاثا" لفظ الطبراني بالناس، صبح اليوم الثالث، "فسمعت الراجز ينشده" وعند الواقدي، وغيره فلما فرغوا من قصتهم قام عمرو بن سالم، فقال وهو جالس بالمسجد: ظهري الناس "يا رب إني ناشد" طاب ومذكر "محمدا".
"حلف" بكسر المهملة وإسكان اللام مناصرة "أبينا وأبيه" عبد المطلب إشارة إلى ما مر "الأتلدا" بفتح أوله وسكون والفوقية وفتح اللام، وبالدال المهملة، أي الأقدم مما بيننا وبينه صلى الله عليه وسلم وقول الشامي أي القديم لا يناسب، أفعل التفضيل إنما هو تفسير للتليد وزاد في رواية ابن إسحاق وغيره:
قد كنتم ولدا وكنا والدا ... ثمت أسلمنا فلم نزغ سدى
ولد بضم الواو وسكون اللام، لغة في ولد، وذلك أن ولد بني عبد مناف أمهم من خزاعة وكذا أم قصي فاطمة الخزاعية، كما في الروض وثمت حرف عطف أدخل عليه تاء التأنيث، "إن" بكسر الهمزة، وتقديره أقول: "قريشا أخلفوك" أو هو التفات وإلا فمقتضى الظاهر أخلفوه، "الموعدا".
"ونقضوا" عطف تفسير لأخلفوك "ميثاقك" عهدك "المؤكدا" بالكتب والإشهاد "وزعموا أن لست" بفتح التاء على الخطاب "تدعو أحدًا" لنصرتنا، وبضم التاء على رواية إسحاق، وجماعة بعد قوله، المؤكد أقوله جماعة:
وجعلوا لي في كداء رصدا ... وزعموا أن لست أدعو أحدا(3/382)
.......................... ... فانصر هداك الله نصرا أبدا
وادع عباد الله يأتوا مددا ... فيهم رسول الله قد تجردا
إن سيم خسفا وجهه تربدا
قال في القاموس: وتربد -يعني بالراء- تغير. انتهى. وزاد ابن إسحاق:
هم بيتونا بالوتير هجدا ... وقتلونا ركعا وسجدا
وزعموا أن لست أدعوا أحدا ... وهم أذل وأقل عددا
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نصرت يا عمرو بن سالم".
__________
"فانصر هداك الله نصرا أبدا" مستمرا لا ينقطع أثره من التأبيد وهذه رواية الطبراني، ورواه ابن إسحاق، وطائفة نصرا اعتدا بفتح العين المهملة وكسر الفوقية، بعدها مهملة، أي حاضرا مهيئا أو قويا.
"وادع عباد الله يأتوا مددا" بفتحتين جيوشا ينصرونا، ويقوونا "فيهم رسول الله" أتى به لدفع توهم أنه يبعث سرية وإنما القصد أنه فيهم حالة كونه "قد تجردا" روي بحاء مهملة أي غضب وبجيم أي شمر وتهيأ لحربهم "إن سيم" بكسر المهملة وسكون التحتية، وبالميم، مبني للمفعول، "خسفا" بفتح المعجمة وضمها وسكون المهملة وبالفاء، أي أولى ذلا "وجهه تربدا،" بفتح لفوقية فراء فموحدة فمهملة "قال في القاموس وتربد يعني بالراء تغير. انتهى".
والمعنى هنا أنه صلى الله عليه وسلم إن قصد بذل له أو لأحد من أهل عهده تغير وجهه حتى ينتقم ممن أراد ذلك لله وهذه رواية الطبراني في الصغير، "وزاد ابن إسحاق" عليه في الرجز "هم بيتونا" أي قصدونا ليلا من غير علم "بالوتير هجدا" بضم الهاء، وفتح الجيم مشددة جمع هاجد، وهو النائم "وقتلونا ركعا وسجدا" هذا يدل على أنه كان فيهم من صلى لله فقتل.
قال السهيلي متعقبا قول نفسه، في قوله: ثمت أسلمنا من السلم لأنهم لم يكونوا آمنوا بعد، قال في الإصابة وتأوله بعضهم، بأنهم حلفاء الذين يركعون ويسجدون ولا يخفى بعده، قال: وقد رواه ابن إسحاق أي: في رواية، غير زياد هم قتلونا بصعيد هجدا، نتلو القرآن ركعا وسجدا. انتهى.
يعني فهذا يبطل التأويل "وزعموا أن لست"، بضم التاء، أنا "أدعو أحدا، وهم أذل وأقل، عددا، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نصرت يا عمرو بن سالم" جوز البرهان، ضم عمرو، وفتح ابن وفتحهما وضمهما، قال: وذكر الثالث في التسهيل. انتهى.
في شرح التسهيل للدماميني رواه الأخفش عن بعض العرب، وكان قائله، راعى أن التابع ينبغي أن يتأخر عن المتبوع ولم يراع أن الأصل الحامل على الاتباع قصد التخفيف. انتهى.(3/383)
فكان ذلك ما هاج فتح مكة. وقد ذكر البزار من حديث أبي هريرة بعض الأبيات المذكورة.
__________
"فكان ذلك ما" الذي "هاج" حرك "فتح مكة" زاد ابن إسحاق ثم عرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم عنان من السماء، فقال: "إن هذه السحاب، لتستهل بنصر بني كعب". والعنان بفتح المهملة، ونونين بينهما ألف السحاب، "وقد ذكر"، أي روى "البزار من حديث أبي هريرة، بعض الأبيات المذكورة" بإسناد حسن، موصول.
ورواه ابن أبي شيبة عن أبي سلمة، وعكرمة، مرسلا كما في الفتح، قال في الإصابة: ورويت هذه الأبيات لعمر بن كلثوم، أخرجه ابن منده، ويحتمل أن يكون هو عمرو بن سالم ونسب في هذه الرواية إلى جد جده. انتهى.
وعند الواقدي، أنه صلى الله عليه وسلم قال لعمرو بن سالم وأصحابه: "ارجعوا وتفرقوا في الأودية". فرجعوا وتفرقوا وذهبت فرقة إلى الساحل بعرض الطريق وعند ابن إسحاق وغيره، ثم قدم بديل بن ورقاء الخزاعي في نفر من قومه فأخبروه صلى الله عليه وسلم الخبر، ورجعوا، قال ابن عقبة: ولزم بديل الطريق في نفر من قومه وروى الواقدي عن محجن بن وهب أن بديلا لم يفارق مكة من الحديبية حتى لقيه في الفتح بمر الظهران قال الواقدي: وهذا أثبت. انتهى.
وليس بشيء والمثبت مقدم على النافي.
وروى ابن عائذ، عن ابن عمران، ركب خزاعة لما قدموا وأخبروه خبرهم، قال صلى الله عليه وسلم: "فمن تهمتكم وظنتكم"؟ قالوا بني بكر: قال: "أكلها"؟ قالوا: لا ولكن بنو نفاثة ورأسهم نوفل، قال: "هذا بطن من بني بكر، وأنا باعث إلى أهل مكة، فسائلهم عن هذا الأمر ومخيرهم في خصال ثلاث"، فبعث إليهم ضمرة يخبرهم بين أن يدوا قتلى خزاعة، أو يبرءوا من حلف بني نفاثة أو ينبذ إليهم على سواء، فأتاهم ضمرة، فأخبرهم، فقال قرطة بن عمرو: لا ندي ولا نبرأ لكنا ننبذ إليه على سواء، فرجع بذلك فندمت قريش على ما ردوا وبعثت أبا سفيان، قال: في الفتح، وكذا، أخرجه مسدد من مرسل محمد بن عباد بن جعفر، وأنكره الواقدي وزعم أن أبا سفيان إنما توجه مبادرا قبل أن يبلغ المسلمين الخبر, والله أعلم. انتهى.
وروى الواقدي أنه صلى الله عليه وسلم قال: "كأنكم بأبي سفيان، قد جاء يقول جدد العهد، وزد في المدة وهو راجع بسخطة". ومشى الحارث بن هشام وعبد الله بن أبي ربيعة إلى أبي سفيان، فقالا: لئن لم يصلح هذا الأمر لا يروعكم إلا محمد في أصحابه، فقال أبو سفيان: قد رأت هند بنت عتبة رؤيا كرهتها وخفت من شرها، قالوا: وما هي؟ قال: رأت دما أقبل من الحجون يسيل، حتى وقف بالخندمة مليا، ثم كان ذلك الدم كأن لم يكن فكرهوا الرؤيا، وقال أبو سفيان: هذا أمر لم أشهده(3/384)
وقدم أبو سفيان بن حرب على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة يسأله أن يجدد العهد ويزيد في المدة. فأبى عليه.
__________
ولم أغب عنه لا يحمل إلا علي ولا والله ما شوورت فيه ولا هويته، حين بلغني ليغزوننا محمد إن صدقني ظني وهو صادقي، وما بد في أن آتي محمدا فأكلمه، فقالت قريش: أصبت فخرج ومعن مولى له على راحلتين، "وقدم" كما رواه ابن إسحاق، وابن عائذ عن عروة "أبو سفيان بن حرب على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة" فدخل على بنته أم حبيبة، فذهب ليجلس على فراشه صلى الله عليه وسلم فطوته عنه، فقال: يا بنية ما أدري أرغبت بي عن هذا الفراش أم رغبت به عني. قالت: بل هو فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنت رجل مشرك، نجس ولم أحب أن تجلس على فراشه صلى الله عليه وسلم. قال: والله لقد أصابك يا بنية بعدي شر, فقالت: بل هداني الله تعالى للإسلام، فأنت يا أبت سيد قريش وكبيرها، كيف يسقط عنك الدخول في الإسلام وأنت تعبد حجرا لا يسمع، ولا يبصر فقام؟ من عندها فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد، "يسأله أن يجدد العهد ويزيد في المدة فأبى عليه" قال ابن إسحاق: فكلمه فلم يرد عليه شيء, وعند الواقدي: فقال: يا محمد إني كنت غائبا في صلح الحديبية، أجدد العهد وزدنا في المدة، فقال صلى الله عليه وسلم: "فلذلك جئت". قال: نعم. فقال: "هل كان من حدث"؟. فقال: معاذ الله نحن على عهدنا وصلحنا لا نغير ولا نبدل، فقال صلى الله عليه وسلم: "فنحن على ذلك". فأعاد أبو سفيان القول فلم يرد عليه شيئا، فذهب إلى أبي بكر، فكلمه أن يكلم له رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ما أنا بفاعل، وعند الواقدي، فقال: تكلم محمدًا وتجير أنت بين الناس، فقال: جواري في جوار رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتى عمر. فقال: أنا أشفع لكم والله لو لم أجد إلا الذر لجاهدتكم به.
زاد الواقدي ما كان من حلفنا جديدا فأخلقه الله وما كان منه متينا فقطعه الله، وما كان منه مقطوعا فلا وصله الله فقال: أبو سفيان جوزيت من ذي رحم شر إثم. دخل عليٌّ عليَّ، وعنده فاطمة وحسن غلام يدب بين يديه، فقال: يا علي إنك أمس القوم بي رحما وإني جئت في حاجة فلا أرجع كما جئت خائبا فاشفع لي، فقال عليٌّ: ويحك يا أبا سفيان والله لقد عزم صلى الله عليه وسلم على أمر ما نستطيع أن نكلمه فيه فالتفت إلى فاطمة وقال: يا بنت محمد، هل لك أن تأمري بنيك هذا فيجير بين الناس، فيكون سيد العرب إلى آخر الدهر، قالت: والله ما بلغ بني أن يجير بين الناس، وما كان يجير أحد على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعند الواقدي، أنه أتى عثمان قبل، علي، فقال: جواري في جوار رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أتى عليا، ثم سعد بن عبادة، فقال: يا أبا ثابت إنك سيد هذه البحيرة، فأجر بين الناس وزد في المدة، فقال سعد: جواري في جوار رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يجير أحد عليه صلى الله عليه وسلم، فأتى أشراف قريش والأنصار فكلهم يقول: جواري في جوار رسول الله(3/385)
وانصرف إلى مكة.
فتجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير إعلام أحد بذلك.
__________
ما يجير أحد عليه، فلما أيس منهم دخل على فاطمة، فقال: هل لك أن تجيري بين الناس، فقالت: إنما أنا امرأة وأبت عليه فقال: مري ابنك، فقالت: ما بلغ أن يجير، فقال لعلي: يا أبا حسن إني أرى الأمور قد اشتدت علي فانصحني، قال: والله ما أعلم شيئا يغني عنك، ولكنك سيد بني كنانة، فقم فأجر بين الناس، ثم الحق بأرضك قال: أوترى ذلك مغنيا عني شيئا، قال: لا والله ما أظنه ولكن لا أجد لك غير ذلك، فقام أبو سفيان في المسجد فقال: أيها الناس إني قد أجرت بين الناس ولا والله ما أظن أن يخفرني أحد ثم دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد إني قد أجرت بين الناس، فقال صلى الله عليه وسلم: "أنت تقول ذلك يا أبا حنظلة"؟. ثم ركب بعيره "وانصرف إلى مكة".
وعند الواقدي: وطالت غيبته واتهمته قريش أشد التهمة وقالوا: قد صبأ واتبع محمدًا سرا وكتم إسلامه، فلما دخل على هند امرأته ليلا، قالت: لقد غبت حتى اتهمك قومك، فإن كنت مع طول الإقامة جئتهم بنجح، فأنت الرجل، ثم جلس منها مجلس الرجل من امرأته فقالت: ما صنعت؟ فأخبرها الخبر وقال: لم أجد إلا ما قال لي علي فضربت برجلها في صدره، وقالت: قبحت من رسول قوم فما جئت بخير فلما أصبح حلق رأسه عند إساف ونائلة وذبح لهما ومسح بالدم رأسيهما وقال: لا أفارق عبادتكما حتى أموت إبراء لقريش مما اتهموه به، فقالوا له: ما وراءك هل جئت بكتاب من محمد أو زيادة في مدة ما نأمن به أن يغزونا فقال: والله لقد أبى عليّ. ولابن إسحاق كلمته فوالله ما رد عليّ شيئا ثم جئت أبا بكر، فلم أجد فيه خيرا، ثم جئت ابن الخطاب فوجدته أدنى العدو وفي لفظ أعدى العدو وكلمت عليه أصحابه فما قدرت على شيء منهم إلا أنهم يرمونني بكلمة واحدة وما رأيت قوما يوما، أطوع لملك عليهم منهم له. إلا أن عليا، لما ضاقت بي الأمور، قال: أنت سيد بني كنانة، فأجر بين الناس فناديت بالجوار. قالوا: هل أجاز ذلك محمد؟ قال: لا. قالوا: رضيت بغير رضا وجئتنا بما لا يغني عنا ولا عنك شيئا ولعمر الله ما جوارك بجائز وإن إخفارك عليهم لهين والله إن زاد على عليٍّ أن لعب بك تلعبا، فقال: والله ما وجدت غير ذلك.
وفي مرسل عكرمة عند ابن أبي شيبة، فقالوا: ما جئتنا بحرب فنحذر ولا بصلح فنأمن "فتجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم، من غير إعلام أحد بذلك" لعامة الناس أولا فلا ينافي عند ابن إسحاق وغيره ثم إنه صلى الله عليه وسلم أعلم الناس أنه سائر إلى مكة، وأمرهم بالجد والتهيؤ، وقال: "اللهم خذ العيون والأخبار عن قريش حتى نبغتها في بلادها". فتجهز الناس، وقال حسان يحرضهم ويذكر مصاب(3/386)
فكتب حاطب كتابا وأرسله إلى مكة يخبر بذلك. فأطلع الله نبيه على ذلك.
__________
رجال خزاعة:
عناني ولم أشهد ببطحاء مكة ... رحال بني كعب تحز رقابها
بأيدي رجال لم يسلوا سيوفهم ... وقتلى كثير لم تجس ثيابها
ألا ليت شعري هل تنالن نصرتي ... سهيل بن عمرو حرها وعقابها
فلا تأمننا يابن أم مجالد ... إذا احتلبت صرفا واعضل نابها
فلا تجزعوا منها فإن سيوفنا ... لها وقعة بالموت يفتح بابها
قال ابن إسحاق: بأيدي رجال يعني، قريشا وابن أم مجالد: عكرمة بن أبي جهل وقد روى ابن أبي شيبة عن أبي مالك الأشجعي قال: خرج صلى الله عليه وسلم من بعض حجره، فجلس عند بابها، وكان إذا جلس وحده لم يأته أحد، حتى يدعوه، فقال: "ادع لي أبا بكر". فجاء، فجلس بين يديه فناجاه طويلا ثم أمره فجلس عن يمينه، ثم قال: "ادع لي عمر". فجلس فناجاه طويلا فرفع عمر صوته، فقال: يا رسول الله هم رأس الكفر هم الذين زعموا أنك ساحر وأنك كاهن وأنك كذاب وأنك مفتر، ولم يدع شيئا مما كانوا يقولونه إلا ذكره فأمره فجلس، عن شماله ثم دعا الناس، فقال: "ألا أحدثكم بمثل صاحبيكم هذين". قالوا: نعم يا رسول الله فأقبل بوجهه الكريم عل أبي بكر، فقال: "إن إبراهيم كان ألين في الله تعال من الدهن بالليل، ثم أقبل على عمر، فقال: إن نوحا كان أشد في الله تعالى من الحجر وإن الأمر أمر عمر فتجهزوا وتعاونوا". فتبعوا أبا بكر فقالوا: إنا كرهنا أن نسأل عمر عما ناجاك به رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: قال لي: "كيف تأمرني في غزو مكة". قلت: يا رسول الله هم قومك، حتى رأيت أنه سيطيعني، ثم دعا عمر، فقال عمر: هم رأس الكفر حتى ذكر له كل شيء كانوا يقولونه وايم الله لا تذل العرب حتى تذل أهل مكة, وقد أمركم بالجهاز لتغزوا مكة، "فكتب حاطب" بن أبي بلتعة بموحدة مفتوحة ولام ساكنة، ففوقية فعين مهملة مفتوحتين عمرو بن عمير اللخمي حليف بني أسد اتفقوا على شهوده بدرا مات في سنة ثلاثين، وله خمس وستون سنة.
قال ابن عبد البر: لا أعلم له غير حديث واحد: "من رآني بعد موتي" ... الحديث. ورده في الإصابة بأن له خمسة أحاديث به وذكرها "كتابا وأرسله إلى مكة يخبر بذلك" مع امرأة استأجرها بدينار وقيل: بعشرة دنانير، وقال لها: أخفيه ما استطعتي، ولا تمري على الطريق، فإن عليه حرسا ذكره الواقدي، "فأطلع الله نبيه على ذلك" وعند ابن إسحاق من مرسل عروة، وغيره وأتاه الخبر(3/387)
فقال عليه الصلاة والسلام لعلي بن أبي طالب والزبير والمقداد: "انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ، فإن بها ظعينة معها كتاب، فخذوه منها". قال: فانطلقنا حتى أتينا الروضة، فإذا نحن بالظعينة، فقلنا: أخرجي الكتاب، قالت: ما معي كتاب.
__________
من السماء "فقال عليه الصلاة والسلام لعلي بن أبي طالب، والزبير، والمقداد" كما أخرجه الشيخان وغيرهما من طريق عبيد الله بن أبي رافع عن علي قال: بعثني صلى الله عليه وسلم أنا والزبير، والمقداد فقال: "انطلقوا".
وللبخاري في غزوة بدر من رواية عبد الرحمن السلمي عن علي بعثني وأبا مرثد الغنوي، والزبير وكلنا فارس، قال الحافظ: فيحتمل أن الثلاثة كانوا معه، فذكر أحد الراويين عنه ما لم يذكر الآخر ولم يذكر ابن إسحاق مع علي والزبير أحدا وساق الخبر بالتثنية. قال: انطلقا فخرجا حتى أدركاها فاستنزلاها. فالذي يظهر أنه كان مع كل منهما آخر تبعا له. انتهى.
ووقع في البيضاوي زيادة عمار وطلحة، والله أعلم بصحته "حتى تأتوا روضة خاخ" بخاءين معجمتين بينهما ألف على بريد من المدينة.
قال السهيلي: وصحفه أبو عوانة، وهشيم بحاء وجيم "فإن بها ظعينة" بفتح الظاء المعجمة وكسر العين المهملة فتحتية فنون مفتوحة امرأة في هودج سماها ابن إسحاق سارة، والواقدي، كنود، وفي رواية: أم سارة، وقيل: كانت مولاة العباس ذكره الحافظ وذكر المصنف في الجهاد أن اسمها سارة على المشهور، وتكنى أم سارة. انتهى.
وفي الإصابة سارة مولاة عمرو بن هاشم بن المطلب كان معها كتاب أمر النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح، كذا في التجريد، "معها كتاب" وزاد في غزوة بدر من حاطب بن أبي بلتعة إلى المركين "فخذوه منها". "قال: فانطلقنا" تعادي بنا خيلنا كما في الرواية، بحذف إحدى التاءين تجري "حتى أتينا الروضة" المذكورة "فإذا نحن بالظعينة".
وعند ابن إسحاق من مرسل عروة، فخرجا حتى أدركاها بالخليقة خليقة بني أبي أحمد، بقاف وخاء معجمة كسفينة، منزل على اثني عشر ميلا من المدينة، وعند ابن عقبة، أدركاها ببطن ريم بكسر الراء وسكون التحتية والهمز وتركه واد بالمدينة، فيحتمل أن روضة اسم لمكان يشتمل على بطن رئم والخليقة، وإلا فما في الصحيح أصح.
وللبخاري في غزوة بدر فأدركناها تسير على بعير لها حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "فقلنا" لها: "أخرجي" بهمزة قطع مفتوحة وكسر الراء "الكتاب. قالت: ما معي كتاب".
زاد البخاري في بدر: فأنخناها فالتمسنا فلم نر كتابا فقلنا: ما كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(3/388)
قلنا: لتخرجن الكتاب أو لنلقين الثياب. قالت: فأخرجته من عقاصها، فأتينا به رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإذا فيه: من حاطب بن أبي بلتعة إلى ناس من المشركين بمكة، يخبرهم ببعض أمر.
__________
المصنف بفتحتين وللأصيلي بضم الكاف، وكسر المعجمة مخففة "قلنا: لتخرجن" بضم الفوقية وكسر الراء والجيم "الكتاب أو لنلقين" بضم النون، وكسر القاف، وفتح التحتية ونون التأكيد الثقيلة نحن "الثياب".
وللأصيلي وأبي الوقت بضم الفوقية وحذف التحتية، وفي بعض الأصول أو لنلقي بتحتية مكسورة أو مفتوحة، بعد القاف والصواب في العربية أو لتلقن بدون باء لأن النون الثقيلة إذا اجتمعت مع الياء الساكنة حذفت الياء لالتقاء الساكنين، لكن أجاب الكرماني وتبعه البرماوي، وغيره بأن الرواية إذا صحت تؤول الكسرة بأنها لمشاكلة لتخرجن، وباب المشاكلة واسع والفتح بالحمل على المؤنث الغائب على طريق الالتفات من الخطاب إلى الغيبة قاله المصنف في الجهاد، وفي رواية ابن إسحاق، فقال لها علي: إني أحلف بالله ما كذب صلى الله عليه وسلم ولا كذبنا لتخرجن لنا هذا الكتاب، أو لنكشفنك "قالت": كذا بالتأنيث في الفرع وفي غيره. قال: أفاده المصنف ويوجه التأنيث بأن فيه حذفا، ففي رواية ابن إسحاق فلما رأت الجد منه قالت: أعرض فأعرض فحلت قرونها "فأخرجته من عقاصها" بكسر المهملة وبالقاف والصاد المهملة الخيط الذي تعتقص به أطراف الذوائب أو الشعر المضفور.
وقال المنذري: هو لي الشعر بعضه على بعض على الرأس وتدخل أطرافه في أصوله. وقيل: هو السير الذي تجمع به شعرها على رأسها.
وللبخاري في بدر فلما رأت الجد أهوت إلى حجزتها وهي محتجزة بكساء فأخرجته الحجزة بضم المهملة وسكون الجيم وفتح الزاي معقد الإزار، قال في النور: والظاهر أن الكتاب كان ف ضفائرها وجعلت الضفائر في حجزتها. انتهى.
وذكر في الفتح هنا أنه قدم في الجهاد وجه الجمع بين كونه في عقاصها أو في حجزتها وراجعته فلم أجده فيه ولا في بدر، "فأتينا به" بالكتاب "رسول الله صلى الله عليه وسلم" وللمستملي في الجهاد فأتينا بها، وللبخاري في بدر فانطلقنا بها، قال المصنف: أي بالصحيفة المكتوب فيها قول الكرماني أو بالمرأة معارض بما رواه الواقدي بلفظ: "انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ، فإن بها ظعينة معها كتاب إلى المشركين فخذوه وخلوا سبيلها فإن لم تدفعه إليكم فاضربوا عنقها". انتهى.
"فإذا فيه: من حاطب بن أبي بلتعة" وهي التظرف في اللغة واسمه عمر، وقاله السهيلي: "إلى ناس من المشركين بمكة": سهيل, وصفوان، وعكرمة كما يأتي "يخبرهم ببعض أمر(3/389)
رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "يا حاطب، ما هذا"؟. قال: يا رسول الله لا تعجل عليّ، إني كنت امرأ ملصقا في قريش -يقول: كنت حليف ولم أكن من أنفسها- وكان من معكم من المهاجرين لهم قرابات يحمون أهليهم وأموالهم، فأحببت إذا فاتني ذلك من النسب فيهم أن أتخذ عندهم يدا يحمون بها قرابتي، ولم أفعله ارتدادا عن ديني ولا رضى بالكفر بعد الإسلام. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما إنه قد صدقكم". فقال عمر رضي الله عنه يا رسول الله! دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال: "إنه قد شهد بدرا، وما يدريك لعل الله اطلع على من شهد بدرا.
__________
رسول الله صلى الله عليه وسلم" وفي مرسل عروة يخبرهم بالذي أجمع عليه صلى الله عليه وسلم من الأمر في السير إليهم فقال: "يا حاطب ما هذا"؟. وفي مرسل عروة، فدعاه. فقال: "ما حملك على هذا؟ " وللبخاري في بدر: "ما حملك على ما صنعت"؟، "قال: يا رسول الله لا تعجل عليّ" بالمؤاخذة على ما صنعت. ولابن إسحاق: أما والله إني لمؤمن بالله ورسوله ما غيرت ولا بدلت، "إني كنت امرأ ملصقا" بضم الميم وفتح الصاد، "في قريش" أي مضافا لهم من إلصاق الشيء بغيره وليس منه وقد فسره بقوله: "يقول: كنت حليفا" لها "ولم أكن من أنفسها" بضم الفاء، قال في الإصابة: يقال: إنه حالف الزبير وقيل: كان مولى عبد الله بن حميد بن زهير بن أسد بن عبد العزى فكاتبه، فأدى كتابته وفي مرسل عروة عند ابن إسحاق: ولكني كنت امرأ ليس لي في القوم أصل ولا عشيرة، وكان لي بين أظهرهم ولد وأهل فصانعتهم عليه، "وكان من معك من المهاجرين" ممن له أهل أو مال بمكة "لهم قرابات" بالجمع "يحمون بها أهليهم وأموالهم" فليس المراد جميع المهاجرين لأن كثيرا منهم ليس له بمكة مال ولا أهل، "فأحببت إذ" أي حين "فاتني ذلك من النسب فيهم أن أتخد"، مصدرية في محل نصب مفعول أحببت "عندهم يدا" أي نعمة ومنة عليهم "يحمون بها قرابتي"، وروى ابن شاهين، والطبراني وغيرهما، فقال حاطب: والله ما ارتبت في الله منذ أسلمت ولكنني، كنت امرأ غريبا ولي بمكة بنون وأخوة وعند ابن مردويه، من حديث ابن عباس، عن عمر، فكتبت كتابا لا يضر الله ولا رسوله "ولم أفعله ارتدادا عن ديني ولا رضا بالكفر بعد الإسلام"، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما" بفتح الهمزة، وخفة الميم "إنه قد صدقكم" بتخفيف الدال، أي قال الصدق، فيما أخبركم به زاد البخاري في بدر: "ولا تقولوا له إلا خيرا". "فقال عمر رضي الله عنه يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق"، فقال: "إنه قد شهد بدر" وكأنه قال: وهل شهودها يسقط عنه هذا الذنب الكبير، فقال: "وما يدريك لعل الله اطلع على من شهد بدرا".
وللبخاري في الجهاد: "وما يدريك لعل الله أن يكون قد اطلع على أهل بدر".
قال المصنف: استعمل لعل استعمال عسى، فأتى, فإن قال النووي: الترجي هذا راجع إلى(3/390)
فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم". فأنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} إلى قوله: {فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} [الممتحنة: 1] رواه البخاري.
قال في فتح الباري: وإنما قال عمر: دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق مع تصديق.
__________
عمر لأن وقوع هذا الأمر محقق عند الرسول. انتهى.
وفي الفتح هي بشارة عظيمة لم تقع لغيرهم. وقد قال العلماء: الترجي في كلام الله وكلام الرسول للوقوع وعند أحمد، وأبي داود، وابن أبي شيبة من حديث أبي هريرة، بالجزم، ولفظه: "إن الله اطلع على أهل بدر". "فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم" , زاد البخاري في بدر: فدمعت عينا عمر، وقال: الله ورسوله أعلم.
قال الحافظ اتفقوا على أن هذه البشارة فيما يتعلق، بأحكام الآخرة لا بأحكام الدنيا من إقامة الحدود وغيرها. "فأنزل الله تعالى" السورة كما في لفظ البخاري: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} فيه أن الكبيرة لا تسلب اسم الإيمان {لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ} أي كفار مكة {أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ} حال من ضمير لا تتخذوا أي لا تتخذوهم أولياء ملقين {إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} أي تبذلونها لهم ودخول الباء وعدمه سواء عند الفراء، وقال سيبويه: لا تزاد في الواجب فمفعول تلقون عند طائفة من البصريين محذوف أي النصيحة.
وقال النحاس: أي تخبرونهم بما يخبر به الرجل أهل مودته وهذا التقدير إن نفع هنا لم ينفع في مثل قول العرب: ألقى إليه بوسادة أو ثوب، فيقال: إن ألقى قسمان وضع الشيء بالأرض وفي الآية إنما هو إلقاء بكتاب وإرسال به فعبر عنه بالمودة؛ لأنه من أفعال أهلها فمن ثم حسنت الباء؛ لأنه إرسال بشيء، كذا في الروض "إلى قوله: {فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} " أخطأ طريق الهدى والصواب، والسواء في الأصل السوط ودل هذا الأغياء على أن قوله فأنزل الله السورة مجاز من تسمية الجزء باسم الكل، أو من مجاز الحذف أي بعض السورة التي أولها {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} .
وفي مرسل عروة، عند ابن إسحاق: فأنزل الله في حاطب: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} إلى قوله: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ} "رواه البخاري"، هنا وقبله في بدر وفي الجهاد وبعده في التفسير "قال في فتح الباري" دفعا لإشكال مشهور علم من قوله: "وإنما قال عمر دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق" زاد البخاري في بدر: إنه قد خان الله ورسوله والمؤمنين "مع تصديق(3/391)
رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاطب فيما اعتذر به، لما كان عند عمر من القوة في الدين وبغض المنافقين، فظن أن من خالف ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم استحق القتل. لكنه لم يجزم بذلك، فلذلك استأذن في قتله. وأطلق عليه منافقا لكونه أبطن خلاف ما أظهر. وعذر حاطب ما ذكره، فإنه فعل ذلك متأولا أن لا ضرر فيه. وعند الطبراني من طريق الحارث عن علي في هذه القصة فقال: "أليس قد شهد بدرا -أو: ما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم". فأرشد إلى علة ترك قتله.
وعند الطبراني أيضا عن عروة: "فإني غافر لكم".
__________
رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاطب فيما اعتذر به", ونهيه أن يقال له إلا خيرا.
"لما كان عند عمر من القوة" الشدة "في الدين وبغض المنافقين، فظن أن من خالف ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم" من إخفاء مسيره عن قريش وحرصه على عدم وصول خبره إليهم، وبعثه جماعة على الطريق حتى لا يبلغهم الخبر، كما مر وظهور هذا بين الصحابة، لا يخفى على حاطب رضي الله عنهم أجمعين، فلذا ظن أنه "استحق القتل لكنه لم يجزم بذلك، فلذلك استأذن في قتله" ولو جزم به لما استأذن، "وأطلق عليه منافقا لكونه أبطن خلاف ما أظهر", فلم يرد عمر أنه أظهر الإسلام وأخفى الكفر، فلا يشكل بتصديقه له عليه السلام، بأنه ما فعل ذلك كفرا ولا ارتدادا ولا رضا بالكفر بعد الإسلام، فإن هذه الشهادة نافية للنفاق قطعا "وعذر حاطب ما ذكره" من خوفه على أهله بمكة "فإنه فعل ذلك متأولا أن لا ضرر فيه", كما صرح بذلك في قوله: فكتبت كتابا لا يضر الله ولا رسوله، وفي كتابه لقريش: فوالله لو جاءكم وحده لنصره الله، وقد يكون تأول أن مع سلامة قرابته بذلك يلقي الله الرعب في قلوبهم فيسلموا مكة طائعين بلا قتال، خصوصا وقد وصف الجيش بأنه كالسي، "وعند الطبراني، من طريق الحارث" بن عبد الله الأعور الهمداني، بسكون الميم، الكوفي صاحب علي في حديثه ضعف ورمي بالرفض مات في خلافة ابن الزبير "عن علي في هذه القصة"، فقال: "أليس قد شهد بدرا -أو: ما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم، فقد غفرت لكم". "فأرشد" صلى الله عليه وسلم "إلى علة ترك قتله" أي تركه أمر عمر بقتله. وفي نسخة تركه قتله.
قال السهيلي: ففيه دليل على قتل الجاسوس لتعليقه حكم المنع من قتله بشهوده بدرا فدل على أن من فعل مثله، وليس بدريا أنه يقتل.
وعند الطبراني أيضا عن عروة: "فإني غافر لكم" ما سيقع منكم، وفي المغازي، وابن عائذ(3/392)
وهذا يدل على أن المراد: بقوله "غفرت" أغفر، على طريق التعبير عن الآتي بالماضي مبالغة في تحققه.
قال: والذي يظهر أن هذا الخطاب خطاب إكرام وتشريف، تضمن أن هؤلاء حصلت لهم حالة غفرت بها ذنوبهم السالفة وتأهلوا أن يغفر لهم ما يستأنف من الذنوب اللاحقة. وقد أظهر الله تعالى صدق رسوله في كل من أخبر عنه بشيء من ذلك، فإنهم لم يزالوا عن أعمال أهل الجنة إلى أن فارقوا الدنيا، ولو قدر صدور شيء من أحدهم لبادر إلى التوبة.
__________
عن عروة: "فسأغفر لكم". "وهذا يدل على أن المراد بقوله: غفرت: أغفر على طريق التعبير عن الآتي" في المستقبل "بالماضي مبالغة في تحققه", كقوله: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} ، فقصر من أجاب عن إشكال قوله: "اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم". من أن ظاهره الإباحة، وهو خلاف عقد الشرع بأنه إخبار عن الماضي، أي كل عمل كان لكم فهو مغفور، وأيده بأنه لو كان للمستقبل لم يقع بلفظ الماضي ولقال: فسأغفر لكم، وقد تعقب بأنه لو كان للماضي لما حسن الاستدلال به في قصة حاطب؛ لأنه صلى الله عليه وسلم خاطب به عمر منكرا عليه ما قاله في أمر حاطب، فدل على أن المراد ما سيقع، وأورد ماضيا مبالغة في تحققه "قال" الحافظ في الفتح: "والذي يظهر" في الجواب عن الإشكال المذكور "أن هذا الخطاب" والأمر في قوله: "اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم". "خطاب إكرام وتشريف تضمن أن هؤلاء حصلت لهم حالة غفرت بها ذنوبهم السالفة" قبل بدر "وتأهلوا" أي: صاروا أهلا "أن يغفر لهم ما يستأنف من الذنوب اللاحقة" إن وقعت، أي كل ما عملوه بعد هذه الوقعة من أي عمل كان فهو مغفور خصوصية لهم. قاله الحافظ في بدر وما أحسن قوله:
وإذا الحبيب أتى بذنب واحد ... جاءت محاسنه بألف شفيع
قال المصنف: وليس المراد أنه نجزت لهم في ذلك الوقت مغفرة الذنوب اللاحقة، بل له صلاحية أن يغفر لهم ما عساه أن يقع، ولا يلزم من وجود الصلاحية لشيء وجود ذلك الشيء، "وقد أظهر الله تعالى صدق رسوله" الصادق والمصدوق صلوات الله وسلامه عليه "في كل من أخبر عنه بشيء من ذلك، فإنهم لم يزالوا على أعمال أهل الجنة إلى أن فارقوا الدنيا، ولو قدر صدور شيء من أحدهم لبادر إلى التوبة", امتثالا لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} الآية، وهي تمحو آثار الذنب: {إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ عَمَلا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} ، ومن أولى بها من أهل بدر، ولذا لما شرب قدامة بن مظعون من أهلها أيام عمر وحده رأى عمر في المنام(3/393)
ولازم الطريقة المثلى، يعلم ذلك من أحوالهم، بالقطع من اطلع على سيرهم. قاله القرطبي.
وذكر بعض أهل المغازي -وهو في تفسير يحيى بن سلام- أن لفظ الكتاب الذي كتبه حاطب: أما بعد: يا معشر قريش، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءكم بجيش عظيم يسير كالسيل، فوالله لو جاءكم وحده لنصره الله وأنجز له وعده، فانظروا لأنفسكم والسلام. هكذا حكاه السهيلي.
لكن وقد ذكر وروى الواقدي بسند له مرسل: أن حاطبا كتب إلى سهيل بن عمرو، وصفوان بن أمية، وعكرمة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن في الناس بالغزو، ولا أراه يريد غيركم وقد أحببت أن تكون لي عندكم يد.
__________
من يأمره بمصالحة قدامة "ولازم الطريق المثلى يعلم ذلك من أحوالهم بالقطع" وفاعل يعلم "من اطلع على سيرهم، قاله القرطبي".
قال الحافظ: في بدر، وهذا هو الذي فهمه أبو عبد الرحمن السلمي، التابعي الكبير حيث قال لحسان بن عطية: قد علمت الذي جرأ صاحبك على الماء، وذكر له هذا الحديث وقيل في الجواب أيضا: المراد أن ذنوبهم تقع إذ وقعت مغفورة، وقيل: بشارة بعدم وقوع الذنوب منهم وفيه نظر لقصة قدامة. انتهى.
"وذكر بعض أهل المغازي وهو في تفسير يحيى بن سلام أن لفظ الكتاب الذي كتبه حاطب" لأهل مكة "أما بعد يا معشر قريش فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءكم بجيش عظيم يسير كالسيل" وجه الشبه امتلاء الوادي بجيشه وكثرة انتشارهم، "فوالله لو جاءكم وحده لنصره الله، وأنجز له وعده" بنصره عليكم "فانظروا لأنفسكم والسلام", وفي هذا مزيد إرهاب لهم وكسر لقلوبهم، ولذا قال: لا يضر الله ولا رسوله "كذا حكاه السهيلي، لكن" قوله وهو في تفسير يحيى بن سلام لم يحكه كذلك فلفظ الروض وقد قيل: إن لفظ الكتاب فذكر ما نقل عنا هنا وعقبه بقوله وفي تفسير ابن سلام أنه كان في الكتاب أن محمدًا قد نفر فإما إليكم وإما إلى غيركم، فعليكم الحذر. انتهى، وقد نقله الشامي بلفظ الروض كما ذكرته وعزاه له.
"وقد ذكر" أي "وروى الواقدي بسند له مرسل أن حاطبا كتب إلى سهيل بن عمرو وصفوان بن أمية وعكرمة" بن أبي جهل، وأسلم الثلاثة رضي الله عنهم "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن", أعلم "في الناس بالغزو ولا أراه" أظنه أو اعتقده "يريد غيركم" لنقضكم عهد الحديبية، "وقد أحببت أن تكون لي عندكم يد" نعمة ومنة.(3/394)
انتهى.
وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى من حوله من العرب فجلبهم: أسلم وغفار وأشجع وسليم، فمنهم من وافاه بالمدينة ومنهم من لحقه بالطريق.
فكان المسلمون في غزوة الفتح: عشرة آلاف.
وفي "الإكليل" و"شرف المصطفى" اثني عشر ألفا.
ويجمع بينهما أن العشرة آلاف خرج بها من نفس المدينة، ثم تلاحق به الألفان.
واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم وقيل: أبا رهم الغفاري.
__________
"انتهى" كلام فتح الباري، وقد جمع باحتمال أن جميع ما ذكر في الكتاب بأن يكون كتب أولا أنه نفر ... إلخ.
وأنه أذن في الناس ... إلخ. قبل علمه بأن السير إلى مكة، فلما علم ألحق فيه أما بعد ... إلخ.
"وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى من حوله، من العرب فجلبهم" طلب حضورهم إليه، "أسلم" سالمها الله "وغفار" غفر الله لها "وأشجع وسليم" مصغر، وعند الواقدي وغيره أنه أرسل يقول لهم: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحضر رمضان بالمدينة". وبعث رسلا في كل ناحية فقدموا "فمنهم من وافاه بالمدينة ومنهم من لحقه بالطريق، فكان المسلمون في غزوة الفتح" كما في الصحيح عن ابن عباس "عشرة آلاف" قال في الفتح: أي من سائر القبائل، وفي مرسل عروة عند ابن إسحاق، وابن عائذ: خرج صلى الله عليه وسلم في اثني عشر ألفا من المهاجرين والأنصار، وأسلم, وغفار، ومزينة، وجهينة، وسليم "و" كذا، وقع "في الإكليل" للحاكم "و" كتاب "شرف المصطفى" للنيسابوري "اثني عشر ألفا ويجمع بينهما"، كما قال الحافظ "بأن العشرة آلاف خرج بها من نفس المدينة، ثم تلاحق به ألفان" ولعل ما عزاه الحافظ لابن إسحاق رواية لغير زياد، وإلا فلفظه: ثم مضى حتى نزل مر الظهران في عشرة الآف، ثم صرح آخر الغزوة، بأن جميع من شهد الفتح من المسلمين عشرة آلاف. انتهى.
وكذا نسبه له اليعمري، "واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم" قاله ابن سعد، والبلاذري "وقيل: أبا رهم" بضم الراء وسكون الهاء، كلثوم بضم الكاف وسكون اللام، ابن الحصين، بضم الحاء، وفتح الصاد المهملتين "الغفاري" وهو الصحيح، فقد رواه ابن إسحاق: حدثني الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس. قال: ثم مضى صلى الله عليه وسلم لسفره واستخلف على المدينة أبا رهم كلثوم بن صين بن عتبة بن خلف الغفاري. وأخرجه أحمد(3/395)
وخرج عليه الصلاة والسلام يوم الأربعاء لعشر ليال خلون من رمضان، بعد العصر، سنة ثمان من الهجرة، قاله الواقدي.
وعن أحمد بإسناد صحيح عن أبي سعيد قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح لليلتين خلتا من شهر رمضان.
فما قاله الواقدي ليس بقوي لمخالفته ما هو أصح منه. وفي تعيين هذا التاريخ أقوال أخر منها عند مسلم: لست عشرة، ولأحمد: لثماني عشرة، وفي أخرى: لثنتي عشرة. والذي في المغازي: لسبع عشرة مضت, وهو.
__________
والطبراني، وسنده حسن فكان اللائق بالمصنف تقديمه كما فعل اليعمري وغيره أو الاقتصار عليه كما فعل صاحب الفتح ويحتمل أنه استخلف أبا رهم على المدينة، وابن أم مكتوم على الصلاة بها كما تقدم نظيره مرارا.
"وخرج عليه الصلاة والسلام" من المدينة "لعشر ليال خلون من رمضان بعد العصر سنة ثمان من الهجرة، قاله الواقدي" ولم ينفرد به كما يوهمه سياق المصنف تبعا للحافظ ففي بقية حديث ابن عباس المذكور عند ابن إسحاق: وخرج لعشر مضين من رمضان، وإسناده حسن كما علمت وفوق الحسن، وقد أخرجه ابن راهويه بسند صحيح عن ابن عباس.
"وعند أحمد بإسناد صحيح عن أبي سعيد" الخدري "قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح لليلتين خلتا من شهر رمضان", وهذا يعين يوم الخروج فيدفع تردد الزهري عند البيهقي حيث قال: لا أدري أخرج في شعبان فاستقبل رمضان أو خرج في رمضان بعد ما دخل؟ "فما قال الواقدي" من أنه خرج لعشر "ليس بقوي لمخالفته ما هو أصح منه" كذا قال تبعا للفتح وهو كما علمت واضح لو انفرد به الواقدي, أما حيث رواه ابن راهويه، وإسحاق عن ابن عباس بسند صحيح فهو قوي.
"وفي تعيين هذا التاريخ أقوال أخر" ظاهره أنها في تاريخ الخروج ولا كذلك وإنما هي في تاريخ دخول مكة ففي الفتح أخرج البيهقي عن الزهري: صبح صلى الله عليه وسلم مكة لثلاث عشرة خلت من رمضان قال الحافظ: فهذا يعين يوم الدخول ويعطي أنه أقام في الطريق اثني عشر يوما. وما قاله الواقدي ليس بقوي لمخالفته ما هو أصح منه.
وفي تعيين هذا التاريخ أقوال أخر "منها عند مسلم": أنه دخل مكة "لست عشرة. ولأحمد: لثمان عشرة، وفي أخرى: لثنتي عشرة". قال أعني الحاظ: والجمع بين هاتين بحمل إحداهما على ما مضى والأخرى على ما بقي، "والذي في المغازي: دخل" مكة "لسبع عشرة مضت(3/396)
محمول على الاختلاف في أول الشهر، ووقع في أخرى: لتسع عشرة أو سبع عشرة على الشك.
ولما بلغ صلى الله عليه وسلم الكديد -بفتح الكاف- الماء الذي بين قديد وعسفان أفطر
__________
وهو محمول على الاختلاف في أول الشهر،" فالكلام كله في الاختلاف في دخول مكة، وبه يصح الحمل المذكور من زيادة يوم ونقصه، وأما الخروج من المدينة فإنما فيه روايتان عشر وليلتان, والمصنف أراد تلخيص كلام الفتح فسقط عليه منه ما ذكرته فوهم حتى تحير شيخنا رحمه الله تعالى وبرد مضجعه في صحة هذا الحمل؛ لأنه لم يقف على كلام الفتح وقت التأليف.
"ووقع في" رواية "أخرى" دخل مكة "لتسع عشرة أو سبع عشرة على الشك" وروى يعقوب بن سفيان من طريق إسحاق عن جماعة من مشايخه أن الفتح كان في عشر بقين من رمضان، فإن ثبت حمل على أن مراده أنه وقع في العشر الأوسط قبل أن يدخل العشر الأخير. هذا بقية كلام الحافظ رحمه الله, ثم اعلم أنه لا خلاف أن هذه الغزوة كانت في رمضان كما في الصحيح وغيره عن ابن عباس.
"ولما بلغ صلى الله عليه وسلم الكديد بفتح الكاف" وكسر الدال المهملة الأولى فتحتية فمهملة "الماء الذي بيد قديد" بضم القاف وفتح الدال بلفظ التصغير، قرية جامعة قرب مكة "وعسفان" بضم العين وسكون السين المهملتين وبفاء ونون، قرية جامعة على ثلاثة مراحل من مكة، والكديد أقرب إليها من عسفان، وهو على اثنين وسبعين ميلا من مكة، وهذا تعيين للمسافة.
وقول ابن عباس: ماء. تعيين للمحل فلا تنافي.
وفي رواية ابن إسحاق بين عسفان وأمج بفتح الهمزة، والميم، وجيم خفيفة اسم واد "أفطر" لأنه بلغه أن الناس شق عليهم الصيام، وقيل له: إنما ينظرون فيما فعلت، فلما استوى على راحلته بعد العصر دعا بإناء من ماء، فوضعه على راحلته ليراه الناس فشرب فأفطر فناوله رجلا إلى جنبه فشرب.
رواه مسلم والترمذي عن جابر، وفي الصحيحين من طريق طاوس عن ابن عباس: ثم دعا بماء فرفعه إلى يديه. ولأبي داود: إلى فِيهِ فأفطر، وللبخاري وحده من طريق عكرمة عن ابن عباس بإناء من لبن أو ماء فوضعه على راحته أو راحلته بالشك فيهما. قل الداودي: يحتمل أن يكون دعا بهذا مرة، وبهذا مرة. قال الحافظ: ولا دليل على التعدد، فإن الحديث واحد، والقصة واحدة، وإنما وقع الشك من الراوي فيقدم عليه رواية من جزم، وأبعد الداودي فقال: كانتا قصتين: إحداهما في الفتح والأخرى في حنين. انتهى.(3/397)
فلم يزل مفطرا حتى انسلخ الشهر. رواه البخاري، وفي أخرى له: أفطر وأفطروا. الحديث.
__________
وروى مالك وغيره عن رجل من الصحابة: لما دخل صلى الله عليه وسلم العرج وهو صائم صب الماء على رأسه ووجهه من العطش. وللحاكم في الإكليل، بسند صحيح عن أبي هريرة: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعرج يصب الماء على رأسه من الحر وهو صائم، فقد حصلت له المشقة لزيادة رفعة الدرجات, والعرج بفتح العين، وسكون الراء المهملتين, وبالجيم: قرية على نحو ثلاث مراحل من المدينة، فتحمل المشقة لأنه لا يبالي بها في عبادته. ألا ترى إلى قيامه حتى تورمت قدماه، حتى بلغ الكديد، فأفطر "فلم يزل مفطرا" رفقا بالمسلمين "حتى انسلخ الشهر"؛ لأنه وإن قدم مكة قبل تمام العشر الأوسط على ما مر، لكنه كان في أهبة القتال وبعث السرايا ولم ينو الإقامة، بل كان يقصر الصلاة على ما يأتي مفصلا.
"رواه البخاري" هنا وقبله في الجهاد والصوم، ومسلم، والنسائي، في الصوم عن ابن عباس، قال الحافظ أبو الحسن القابسي: وهو من مرسلات الصحابة؛ لأن ابن عباس كان في هذه السفرة مقيما مع أبويه بمكة، فلم يشاهد هذه القصة، فكأنه سمعها من الصحابة.
"وفي" رواية "أخرى له" للبخاري، هنا وفي الصوم من طريق آخر عن ابن عباس: فسار هو ومن معه من المسلمين إلى مكة يصوم ويصومون, حتى بلغ الكديد وهو ماء بين عسفان وقديد "أفطر وأفطروا" كلهم بعد حثه لهم على الفطر. ففي حديث جابر عند مسلم، والترمذي: أنه لما أفطر قيل له بعد ذلك: إن بعض الناس صام. فقال: "أولئك العصاة". وعبر بذلك مبالغة في حثهم على الفطر رفقا بهم.
وقد روى الشيخان: أنه صلى الله عليه وسلم كان في سفر. وعينه الترمذي، فقال: في غزوة الفتح رأى زحاما ورجلا قد ظلل عليه، فقال: "ما هذا"؟. فقالوا: صائم، فقال: "لَيْسَ مِنْ امْبِرِّ امْصِيَامُ فِي امْسَفَرِ". وروايته على لغة حمير في مسند أحمد لا في الصحيح، وإلا ففطره لا يوجب فطرهم فقد يكون احتمل عندهم، اختصاصه بمن شق عليه الصوم جدا والذين صاموا لم يكونوا كذلك.
وروى مسلم عن أبي سعيد. قال: سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن صيام، فقال: إنكم قد دنوتم من عدوكم والفطر أقوى لكم، فكانت رخصة فمنا من صام ومنا من أفطر ثم نزلنا منزلا آخر، فقال: "إنكم مصبحو عدوكم والفطر أقوى لكم فأفطروا". فكانت عزيمة فأفطرنا فهذا ظاهر في فطر الجميع بعد أمره، فإن كان هذا السفر سفر الفتح كما هو ظاهر سوقهم الحديث هنا فلعل هاتين المقالتين كانتا بعد فطر المصطفى، والغرض بهما حث من صام على الفطر بصريح الأمر هذا ولا يعارض ما في "الحديث" أنه أفطر بالكديد.(3/398)
وكان العباس قد خرج قبل ذلك بأهله وعياله مسلما مهاجرا، فلقي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجحفة، وكان قبل ذلك مقيما بمكة على سقايته، ورسول الله صلى الله عليه وسلم عنه راض.
وكان ممن لقيه في الطريق أبو سفيان بن الحارث، ابن عمه، عليه الصلاة
__________
رواية جابر أنه أفطر بكراع الغميم ولا رواية بقديد ولا بعسفان لما جمع به المحب الطبري وغيره بجواز أنه أفطر في واحد من الأربعة حقيقة لكن لتقاربها عبر بعض الرواة، باسم ذلك الموضع، والباقي باسم غيره مجاز القربة منه، أو أفطر في واحد منها حقيقة لكن لم يره جميع الناس لكثرتهم فكرره ليتساوى الناس في رؤية الفعل، فأخبر كل عن رؤية عين وبمحل رؤيته والله أعلم.
"وكان العباس" بن عبد المطلب أبو الفضل الهاشمي، أجود قريش كفا وأوصلها، كما قال صلى الله عليه وسلم، أخرجه النسائي "قد خرج قبل ذلك بأهله وعياله مسلما" أي مظهرا للإسلام، فإنه أسلم قديما وكان يكتمه، قال ابن عبد البر، وذلك بين في حديث الحجاج بن علاظ: أن العباس كان مسلما يسره ما يفتح الله على المسلمين، ثم أظهره يوم الفتح، وقيل: كان إسلامه قبل فتح خيبر وتقدم مزيد لذلك في بدر "مهاجرا فلقي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجحفة" فيما قال ابن هشام، وقال غيره: بذي الحليفة فيحتمل أنه انفرد عن أهله وعياله فلقيه بها ثم رجع معه إلى الجحفة فاجتمع معه بأهله وعياله فيها، فسار معه في الفتح وبعث ثقله إلى المدينة.
قال البلاذري: وقال له صلى الله عليه وسلم: "هجرتك يا عم آخر هجرة كما أن نبوتي آخر نبوة". وروى أبو يعلى والطبراني بسند ضعيف عن سهل بن سعد قال: استأذن العباس النبي صلى الله عليه وسلم في الهجرة فكتب إليه: "يا عم أقم مكانك الذي أنت فيه فإن الله يختم بك الهجرة كما ختم بي النبوة". "وكان قبل ذلك مقيما بمكة على سقايته ورسول الله صلى الله عليه وسلم عنه راض" كما ذكر الزهري، عند ابن هشام لعلمه بإسلامه باطنا وأن إقامته بها لخوفه على ماله وعياله؛ ولأنه كان يكتب بأخبار المشركين إليه صلى الله عليه وسلم وكان يثق به، وكان ينفع المستضعفين بمكة وبه يثقون، "وكان ممن لقيه في الطريق أبو سفيان" الهاشمي اسمه كنيته، وقال جماعة المغيرة لكن جزم ابن قتيبة وابن عبد البر بأن المغيرة أخوه "ابن الحارث" بن عبد المطلب الهاشمي، المتوفى سنة خمس عشرة أو عشرين وصلى عليه عمر.
روى أبو أحمد الحاكم عن عروة رفعه: "أبو سفيان بن الحارث سيد فتيان أهل الجنة". قال فحلقه الحلاق بمنى وفي رأسه ثؤلول فمات فيرون أنه مات شهيدا.
قال الحافظ: مرسل رجاله ثقات، وفي الروض مات من ثؤلول حلقه الحلاق في حج(3/399)
والسلام وأخوه من رضاع حليمة السعدية، ومعه ولده جعفر بن أبي سفيان. وكان أبو سفيان يألف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما بعث عاداه وهجاه. وكان لقاؤهما له عليه الصلاة والسلام بالأبواء وأسلما قبل دخوله مكة.
وقيل: بل لقيه هو وعبد الله بن أبي أمية، ابن عمته عاتكة بنت عبد المطلب بين السقيا والعرج، فأعرض صلى الله عليه وسلم عنهما لما كان يلقى منهما من شدة الأذى والهجو
__________
فقطعه مع الشعر فنزف منه الدم، وقال عند موته: لا تبكن عليّ فإني لم أنطق بخطيئة منذ أسلمت "ابن عمه" بالرفع، بيان لأبي سفيان بعد وصفه بأنه الحارث عمه "عليه الصلاة والسلام" ذكره لبيان قربه منه ليميزه من أبي سفيان بن حرب الذي تقدم ذكره كثيرا، وليعطف عليه قوله "وأخوه من رضاع حليمة السعدية، ومعه ولده جعفر بن أبي سفيان" الصحابي ابن الصحابي، شهد حنينا هو وأبوه وكان غلاما مدركا، كما ذكره ابن شاهين، وابن سعد، وابن حبان، وزاد أنه مات بدمشق سنة خمسين، ولا عقب له كما في الإصابة وكأنه جمع بين ولده وابن ... إلخ.
إشارة إلى أنه اشتهر بين الصحابة بهذا الاسم "وكان أبو سفيان يألف رسول الله صلى الله عليه وسلم" ولا يفارقه قبل النبوة "فلما بعث عاداه وهجاه" وأجابه حسان عنه كثيرا، "وكان لقاؤهما" هو وابنه "له عليه الصلاة والسلام بالأبواء" بفتح الهمزة وسكون الموحدة والمد، قرية بين مكة والمدينة، "وأسلما قبل دخوله مكة" عليه الصلاة والسلام "وقيل: بل لقيه هو" أي أبو سفيان "وعبد الله بن أبي أمية" واسمه حذيفة وقيل: سهيل بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم القرشي المخزومي أخو أم سلمة لأبيها.
قال البخاري: له صحبة شهد الفتح وحنينا والطائف وبها استشهد "ابن عمته عاتكة بنت عبد المطلب" وأم سلمة أمها عاتكة بنت عامر بن قيس، وكان عند أبي أمية أربع عواتك.
قال الزبير بن بكار: كان يدعى زاد الراكب، وكان ابنه عبد الله شديد الخلاف على المسلمين. قال: خرج مهاجرا فلقي النبي صلى الله عليه وسلم "بين السقيا" بضم السين المهملة وسكون القاف قرية جامعة بطريق مكة "والعرج" بفتح فسكون قرية جامعة على ثلاثة أميال من المدينة بطريق مكة، وبهذا القول جزم ابن إسحاق وعين المحل فقال لقياه بنقب العقاب بين مكة والمدينة، "فأعرض صلى الله عليه وسلم عنهما لما كان يلقى منهم من شدة الأذى والهجو", وعند ابن إسحاق فالتمسا الدخول عليه، فكلمته أم سلمة فيهما، فقالت: يا رسول الله ابن عمك، وابن عمتك، وصهرك. قال: "لا حاجة لي بهما؛ أما ابن عمي فهتك عرضي، وأما ابن عمتي وصهري، فهو الذي(3/400)
فقالت له أم سلمة: لا يكن ابن عمك وابن عمتك أشقى الناس بك، وقال علي لأبي سفيان -فيما حكاه أبو عمر وصاحب ذخائر العقبى: ائت رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبل وجهه فقل له ما قال أخوة يوسف: {تَاللَّهِ لَقَدْ آَثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ
__________
قال لي بمكة ما قال". قال في الروض يعني قوله له: والله لا آمنت بك حتى تتخذ سلما إلى السماء فتعرج فيه وأنا أنظر، ثم تأتي بصك وأربعة من الملائكة يشهدون أن الله أرسلك. "فقالت له أم سلمة" هند أم المؤمنين آخر الزوجات موتا سنة اثنتين وستين, وقيل: إحدى. وقيل: قبلها. والأول أصح تأتي في الزوجات: "لا يكن ابن عمك، وابن عمتك، أشقى الناس بك" نهى لهما ظاهرا وهو في الحقيقة سؤال له صلى الله عليه وسلم في الإقبال عليهما حتى لا يكونا أشقى الناس، وتلطفت في التعبير تعظيما لمقامه العظيم وأدبا عن أن تخاطبه بصورة نهي.
لكن في رواية ابن بكار كما في الإصابة: لا تجعل، فيحتمل أنه بالمعنى وعند ابن إسحاق: فلما خرج الخبر إليهما بذلك ومع أبو سفيان بني له، فقال: والله ليأذن لي، أو لآخذن بيد بني هذا، ثم لنذهبن في الأرض حتى نموت عطشا وجوعا، فلما بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، رق لهما، ثم أذن لهما فدخلا عليه وأسلما وأنشده أبو سفيان في إسلامه، واعتذر مما مضى فقال:
لعمرك إني يوم أحمل راية ... لتغلب خيل اللات خيل محمد
لكالمدلج الحيران أظلم ليله ... لهذا أواني حين أهدى وأهتدي
هداني هاد غير نفسي ونالني ... مع الله من طردته كل مطرد
أصد وأنأى جانبا عن محمد ... وأدعى وإن لم أنتسب من محمد
هم ما هم من لم يقل بهواهم ... وإن كان ذي رأي يلام ويفند
أريد لأرضيهم ولست بلائط ... مع القوم ما لم أهد في كل مقعد
قال ابن إسحاق: فزعموا أنه لما قال: ونالني مع الله من طردته كل مطرد. ضرب صلى الله عليه وسلم صدره، وقال: "أنت طردتني كل مطرد".
قال ابن هشام: ويروى: ودلني على الحق من طردته كل مطرد، "وقال علي لأبي سفيان" مرشدا لابن عمه إلى ما يكون، سببا لإقباله صلى الله عليه وسلم عليه بعد إذنه لهما في الدخول عليه، "فيما حكاه أبو عمر" بن عبد البر الحافظ الشهير "وصاحب ذخائر العقبي" في مناقب ذوي القرى، وهو المحب الطبري: "ائت رسول الله صلى الله عليه وسلم من قِبَل" جهة "وجهه" الوجيه؛ لأن عادة الكرماء الاستحياء من المواجهة ولا أكرم منه، "فقل له ما قال أخوة يوسف: {تَاللَّهِ لَقَدْ آَثَرَكَ} فضلك {اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ}(3/401)
كُنَّا لَخَاطِئِينَ} فإنه لا يرضى أن يكون أحد أحسن منه قولا، ففعل ذلك أبو سفيان, فقال له صلى الله عليه وسلم: {لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} .
ويقال: إنه ما رفع رأسه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أسلم حياء منه.
قالوا: ثم سار صلى الله عليه وسلم فلما كان بقديد عقد الألوية والرايات ودفعها إلى القبائل.
__________
مخففة أي، وإنا {كُنَّا لَخَاطِئِينَ} آثمين في أمرك فأذلنا لك، "فإنه لا يرضى أن يكون أحد أحسن منه قولا،" بل أن يكون هو الأحسن على مفاد هذا التركيب عرفا؛ لأن النفي إذا دخل على اسم التفضيل، فالقصد تفضيل من نسب إليه الفعل على غيره، وإن صدق النفي بالمساواة لغة ولا يرد أنه أجابهم بجواب يوسف, لإمكان أن حسن القول بما اقترن به من الإقبال بعد أن بالغوا في الأذى واقتراح الآيات والتصميم على قتله، ومحاربته المرة بع المرة يجعله فائقا على جواب يوسف وإن ساواه لفظا؛ لأن أخوته ما بالغوا في أذاه مبلغهم من النبي صلى الله عليه وسلم عليهما وما صمموا على قتله بل لما علموا حياته باعوه، وهذا التعسف أحوج إليه القاعدة ولك أن تقول: ما المانع هنا من جريه على أصل اللغة كما هو الظاهر والقاعدة أغلبية، "ففعل ذلك أبو سفيان، فقال له صلى الله عليه وسلم: {لَا تَثْرِيبَ} عتب {عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ} خصه بالذكر لأنه مظنة التثريب فغيره أولى {يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} فأسلم أبو سفيان فكان -كما في الروض وغيره- من أصح الناس إيمانا، وألزمهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وثبت معه في حنين، "ويقال: إنه ما رفع رأسه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أسلم حياء منه", وكان صلى الله عليه وسلم يحبه، ويشهد له بالجنة ويقول: "أرجو أن يكون خلفا من حمزة"، كما في العيون وقال له: "كل الصيد في جوف الفراء". وقيل: بل قالها لابن حرب، قال السهيلي: والأول أصح، ووقع عند البغوي أنه أول من بايع تحت الشجرة، قال في الإصابة ولم يصب في ذلك فقد أخرجه غيره من الوجه الذي أخرجه هو منه، فقال أبو سنان بن وهب وهو الصواب والمستفيض عند أهل المغازي كلهم وأسند أبو سفيان بن الحارث حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يقدس الله أمة لا يأخذ الضعيف فيها حقه من القوي". أخرجه الدارقطني, وابن نافع، وسنده صحيح، لكن فيه راو لم يسم. انتهى.
"قالوا: ثم سار صلى الله عليه وسلم" والترتيب ذكرى، فإن قديدا قبل الماء الذي أفطر به فعقد الألوية قبله، "فلما كان بقديد" ولقيته سليم هناك "عقد الأولية والرايات، ودفعها إلى القبائل" لبني سليم لواء وراية، وبني غفار راية وأسلم لواءين وبني كعب راية، ومزينة ثلاثة ألوية، وجهينة أربعة ألوية، وبني بكر لواء، وأشجع لواءين، كذا ذكره الواقدي.
هذا وادعى الشارح أن أبا بكر رأى مناما قبل عقد الألوية، ولا أدري من أين أخذه فإن(3/402)
ثم نزل مر الظهران، فأمر أصحابه فأوقدوا عشرة آلاف نار، ولم يبلغ قريشا مسيره وهم مغتمون خائفون من غزوه إياهم، فبعثوا أبا سفيان بن حرب وقالوا: إن لقيت محمدا فخذ لنا منه أمانا، فخرج أبو سفيان بن حرب وحكيم بن حزام، وبديل بن ورقاء حتى أتوا مر الظهران، فلما رأوا العسكر أفزعهم.
وفي البخاري.
__________
الشامي إنما ذكره بعد نزوله عليه السلام مر الظهران، فقال: روى البيهقي عن ابن شهاب أن أبا بكر قال: يا رسول الله أراني في المنام وأراك دنونا من مكة فخرجت إلينا كلبة تهر، فلما دنونا منها، استلقت على ظهرها فإذا هي تشخب لبنا، فقال صلى الله عليه وسلم: "ذهب كلبهم وأقبل درهم وهم سيأوون بأرحامهم وأنكم لاقون بعضهم، فإن لقيتم أبا سفيان فلا تقتلوه". تشخب: تدر وتسيل. كلبهم بفتح الكاف واللام: شدتهم. درهم بفتح المهملة: لبنهم, والمراد هنا خيرهم وهو انقيادهم، وإسلامهم. "ثم نزل مر الظهران" قال الحافظ: بفتح الميم وتشديد الراء، مكان معروف, والعامة تقوله بسكون الراء وزيادة واو. الظهران، بفتح المعجمة وسكون الهاء، بلفظ تثنية ظهر. "فأمر أصحابه فأوقدوا عشرة آلاف نارا" لتراها قريش فترعب من كثرتها، ولم يأمر باقي من معه وهم ألفان بالإيقاد تخفيفا، فليس في أمره بذلك أن الذين معه عشرة آلاف فقط, واستجاب الله لرسوله فغم على أهل مكة الأمر, "ولم يبلغ قريشا مسيره وهم مغتمون" محزونون، متحيرون "خائفون".
وفي نسخة لما يخافون بما المصدرية أي: لخوفهم "من غزوه إياهم فبعثوا أبا سفيان" صخر "بن حرب" الأموي "وقالوا: إن لقيت محمدا فخذ لنا منه أمانا فخرج أبو سفيان بن حرب، وحكيم بن حزام" بالزاي, الأسدي, ابن أخي خديجة أم المؤمنين, قيل: ولد في جوف الكعبة، قبل الفتح بأربع وسبعين سنة، ثم عمر إلى سنة أربع وخمسين أو بعدها "وبديل" بموحدة ومهملة مصغر "ابن ورقاء" الخزاعي، أسلموا في الفتح رضوان الله عليهم أجمعين.
وعند ابن أبي شيبة من مرسل أبي سلمة أنه صلى الله عليه وسلم أمر بالطرق فحبست ثم خرج فغم على أهل مكة الأمر، فقال أبو سفيان لحكيم: هل لك أن نركب إلى مر لعلنا أن نلقى خبرا, فقال بديل: وأنا معكم. قالا: وأنت إن شئت, فركبوا "حتى أتوا مر الظهران فلما رأوا العسكر أفزعهم", وعند ابن أبي شيبة: حتى إذا دنوا من ثنية مر أظلموا أي دخلوا في الليل فأشرفوا فإذا النيران قد أخذت الوادي كله.
"وفي البخاري" من مرسل عروة ابن الزبير، قال الحافظ: ولم أره في شيء من الطرق، عن عروة موصولا، قال: لما سافر صلى الله عليه وسلم عام الفتح فبلغ ذلك قريشا خرج أبو سفيان، وحكيم وبديل(3/403)
فإذا هم بنيران كأنها نيران عرفة، فقال أبو سفيان: ما هذه النيران؟ لكأنها نيران عرفة، فقال له بديل بن ورقاء: نيران بني عمرو، فقال أبو سفيان: عمرو أقل من ذلك. فرآهم ناس من حرس رسول الله صلى الله عليه وسلم فأدركوهم فأخذوهم.
__________
يلتمسون الخبر، قال الحافظ: ظاهر أنه بلغهم مسيره قبل خروج الثلاثة، والذي عند ابن إسحاق، وابن عائذ، من مغازي عروة: ثم خرجوا وقادوا الخيول حتى نزلوا بمر الظهران، ولم تعلم بهم قريش، وكذا في رواية أبي سلمة عند ابن أبي شيبة، فيحتمل أن قوله بلغ قريشا، أي: غلب على ظنهم ذلك لا أن مبلغا بلغهم ذلك حقيقة. انتهى.
قال: فأقبلوا يسيرون حتى أتوا مر الظهران "فإذا هم بنيران" جمع نار ويجمع أيضا على نور، مثل ساحة وسوح كما في المصباح وغيره فهو مشترك بينها وبين الضوء، ويميز بالقرائن اللفظية ونحوها، "كأنها نيران عرفة" التي كانوا يوقدونها فيها، ويكثرون منها، "فقال أبو سفيان، ما هذه النيران؟ " والله "لكأنها نيران عرفة" قال الحافظ: جواب قسم محذوف أشار إلى ما جرت به عادتهم من إيقاد النيران الكثيرة ليلة عرفة، "فقال له بديل بن ورقاء،" هذه "نيران بني عمرو" بفتح العين، وفي رواية نيران بني كعب، ويعني بهما خزاعة، وعمرو وهو ابن لحي، كما في الفتح وغيره، "فقال أبو سفيان: عمرو أقل من ذلك" وفي نسخة: بنو عمرو.
لكن الذي في البخاري، هو الأولى فإن صحت فهي بيان المراد، وأنه بتقدير مضاف، قال الحافظ: ومثل هذا في مرسل أبي سلمة وفي مغازي عروة عند ابن عائذ، عكس ذلك وأنهم لما رأوا الفساطيط، وسمعوا صهيل الخيل، راعهم ذلك، فقالوا: هؤلاء بنو كعب يعني خزاعة وكعب، أكبر بطون خزاعة جاشت بهم العرب، فقال بديل: هؤلا أكثر من بني كعب ما بلغ تألبها هذا. قالوا: فانتجعت هوازن أرضنا والله ما نعرف هذا إن هذا المثل حاج الناس "فرآهم ناس من حرس رسول الله صلى الله عليه وسلم فأدركوهم فأخذوهم".
وعند ابن عقبة: فأخذوا بخطم أبعرتهم، فقالوا: من أنتم؟ فقالوا: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فقال أبو سفيان: هل سمعتم بمثل هذا الجيش نزلوا على أكباد قوم لم يعلموا بهم؟ وروى الطبراني عن أبي ليلى: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمر الظهران، فقال: إن أبا سفيان بالأراك، فخذوه فدخلنا فأخذناه, وفي رواية ابن عائذ: وكان صلى الله عليه وسلم بعث بين يديه خيلا تقنص العيون، وخزاعة على الطريق لا يتركون أحدًا يمضي فلما دخل أبو سفيان، وأصحابه عسكر المسلمين أخذتهم الخيل، تحت الليل وفي مرسل أبي سلمة: وكان حرس رسول الله صلى الله عليه وسلم نفر من الأنصار، وكان عمر بن الخطاب عليهم تلك الليلة فجاءوا بهم إليه، فقالوا: جئناك بنفر أخذناهم من أهل مكة.(3/404)
فأتوا بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم أبو سفيان بن حرب.
فلما سار قال للعباس: "احبس أبا سفيان عند خطم الجبل". فحبسه العباس،
__________
فقال عمر: وهو يضحك إليهم والله لو جئتموني بأبي سفيان ما زدتم. قالوا والله قد أتيناك بأبي سفيان، فقال: احبسوه فحبسوه، حتى أصبح فغدا به على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعند ابن إسحاق أن العباس خرج ليلا فلقيهم فحمل أبا سفيان معه على البغلة ورجع صاحباه، وجمع الحافظ بإمكان أن الحرس، لما أخذوهم استنقذ العباس أبا سفيان ويأتي ما فيه "فأتوا بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم أبو سفيان بن حرب" أي انقاد وأظهر الذل له عليه الصلاة والسلام فلا ينافي ما يأتي عن ابن إسحاق وغيره أنه لم يسلم حتى أصبح.
وفي مغازي ابن عقبة فلقيهم العباس فأجارهم وأدخلهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم بديل وحكيم، وتأخر أبو سفيان بإسلامه حتى أصبح. "فلما سار" أبو سفيان "قال" صلى الله عليه وسلم للعباس: "احبس أبا سفيان" وعند موسى ابن عقبة، أن العباس قال له صلى الله عليه وسلم: لا آمن أن يرجع أبو سفيان فيكفر فأحبسه حتى يرى جنود الله ففعل. فقال أبو سفيان: أغدر يا بني هاشم قال: لا ولكن لي إليك حاجة فتصبح فتنظر جنود الله وما أعد الله للمشركين.
وعند الواقدي، فقال: إن أهل النبوة، لا يغدرون.
وروى ابن أبي شيبة من مرسل أبي سلمة، ويحيى بن عبد الرحمن أن أبا بكر لما ولي أبو سفيان، قال: لو أمرت بأبي سفيان فحبس على الطريق ولا منافاة لجواز أنه بعد سؤال الصديق والعباس ذلك قال العباس احبسه "عند خطم الجبل" قال الحافظ: بفتح الخاء المعجمة وسكون المهملة وبالجيم والموحدة، أي أنفع، كذا في رواية النسفي، والقابسي، وهي رواية ابن إسحاق وغيره من أهل المغازي.
وفي رواية الأكثر بفتح المهملة، من اللفظة الأولى، وبالخاء المعجمة، وسكون التحتية، أي ازدحامها "فحبسه العباس" هناك لكونه مضيقا ليرى الجميع ولا تفوته رؤية أحد منهم، وفي رواية ابن عقبة فحبسه بالمضيق دون الأراك حتى أصبحوا فلما أذن الصبح أذن العسكر كلهم أي أجابوا المؤذن ففزع أبو سفيان، فقال: ما يصنع هؤلاء؟ قال العباس: الصلاة.
وعند ابن أبي شيبة ثار المسلمون إلى ظهورهم فقال: يا أبا الفضل ما للناس أمروا بشيء، قال: لا ولكنهم قاموا إلى الصلاة فذهب العباس به فلما رأى اقتداءهم به في الصلاة، قال أبو سفيان: ما رأيت كاليوم طاعة قوم جمعهم من ههنا، وههنا، ولا فارس الأكارم ولا الروم ذات القرون بأطوع منهم له يا أبا الفضل. أصبح ابن أخيك والله عظيم الملك، فقال العباس: إنه ليس بملك ولكنها النبوة، قال: أو ذاك.(3/405)
فجعلت القبائل تمر مع النبي صلى الله عليه وسلم: تمر كتيبة كتيبة على أبي سفيان: فمرت كتيبة فقال: يا عباس من هذه؟ قال: هذه غفار؟ قال: ما لي ولغفار؟ ثم مرت جهينة فقال مثل ذلك.
__________
وعند ابن عقبة وأمر صلى الله عليه وسلم مناديا ينادي: لتصبح كل قبيلة عند راية صاحبها وتظهر ما معها من الأداة والعدة. فأصبح الناس على ظهر وقدم، بين يديه الكتائب، ومرت القبائل على قاداتها والكتائب على راياتها "فجعلت القبائل تمر مع النبي صلى الله عليه وسلم كتيبة كتيبة" بمثناة ووزن عظيمة، وهي القطعة من الجيش فعيلة من الكتب بفتح فسكون، وهو الجمع "على أبي سفيان" قال الواقدي: وأول من قدم صلى الله عليه وسلم خالد في بني سليم، وهو ألف، ويقال تسعمائة معهم لواءان يحملهما العباس بن مرداس وخفاف، بضم المعجمة ابن ندبة، بضم النون، وراية مع الحجاج ابن علاط فمروا بأبي سفيان فكبروا ثلاثا فقال: من هؤلاء؟ فقال خالد بن الوليد. قال: الغلام. قال: نعم. قال: ومن معه، قال: بنو سليم، قال: ما لي وبني سليم، ثم مر على أثره الزبير بن العوام في خمسمائة من المهاجرين، وأفتاء العرب فكبروا ثلاثا، فقال: من هؤلاء؟ قال: الزبير بن العوام. قال: ابن أختك. قال: نعم "فمرت" بعدهما "كتيبة" في ثلاثمائة يحمل رايتهم أبو ذر ويقال: غيره. فلما حاذوه كبروا ثلاثا، "فقال: يا عباس من هذه؟ قال: هذه غفار" بكسر الغين المعجمة "قال: ما لي ولغفار" قال المصنف بغير صرف ولأبي ذر بالتنوين مصروفا، أي: ما كان بيني وبينهم حرب.
وعند الواقدي: ثم مرت أسلم في أربعمائة فيها لواءان يحملهما بريدة بن لحصيب وناجية بن الأعجم فلما حاذوه كبروا ثلاثا، فقال: من هؤلاء؟ قال: أسلم. قال: ما لي ولأسلم، قال: مرت بنو كعب بن عمرو في خمسمائة يحمل رايتهم بسر بن سفيان فلما حاذوه كبروا ثلاثا، قال: من هؤلاء، قال: بنو كعب أخوة أسلم، قال: هؤلاء حلفاء محمد، ثم مرت مزينة فيها مائة فرس وثلاثة ألوية يحمله النعمان، وعبد بن عمرو بن عوف وبلال بن الحارث، فلما حاذوه كبروا ثلاثا، قال: من هؤلاء؟ قال: مزينة. قال: ما لي ولمزينة، قد جاءتني تقعقع من شواهقها.
"ثم مرت جهينة" بضم الجيم، وفتح الهاء، وسكون التحتية وبالنون، في ثمانمائة فيها أربعة ألوية يحملها معبد بن خالد، وسويد بن صخر ورافع بن مكيث، وعبد الله بن بدر فلما حاذوه كبروا ثلاثا، قال: من هؤلاء؟ قال: جهينة، قال: ما لي ولجهينة، وعند ابن أبي شيبة والله ما كان بيني وبينهم حرب قط "فقال" كل من أبي سفيان والعباس "مثل ذلك" لقول الأول ففيه تجوز إذ الحاصل من أبي سفيان السؤال، والعباس الجواب، ثم من أبي سفيان الإخبار بأنه لا حرب بينه وبينها.
وأسقط المصنف من رواية عروة هذه التي في البخاري قوله: ثم مرت سعد بن هذيم،(3/406)
حتى أقبلت كتيبة لم ير مثلها، قال: من هذه؟ قال: هؤلاء الأنصار عليهم سعد بن عبادة معه الراية، فقال سعد بن عبادة: يا أبا سفيان! اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل.
__________
فقال: مثل ذلك، ومرت سليم، فقال: مثل ذلك. قال في الفتح: ذكر عروة من القبائل أربعا، وفي مرسل أبي سلمة زيادة أسلم ومزينة، والواقدي: أشجع، وتميم, وفزارة، ولم يذكرا سعد بن هذيم وهم من قضاعة، وقد ذكر قضاعة موسى بن عقبة، والمعروف فيها سعد بن هذيم بالإضافة، ويصح الآخر على المجاز وهو سعد بن زيد بن ليث بن سود بضم المهملة ابن أسلم بضم اللام ابن الحاف بمهملة وفاء بن قضاعة. انتهى.
وقول عروة ومرت سليم لا يقتضي أنها مرت بعد سعد بن هذيم؛ لأنه لما عدل عن حرف الترتيب علم أنه لم يضبط مرورها، فلا ينافي أنها أول من مر مع خالد، كما مر عن أن ثم في ثم مرت سعد للترتيب الذكرى، فإنهم كما علمت من قضاعة، وقد قال ابن عقبة: بعث خالدا في قبائل قضاعة وسليم، وغيرهم كما يأتي في المتن، وقد كان خالد أول من مر وعند الواقدي، بعد جهينة ثم مرت كنانة بكسر الكاف بنو ليث وضمرة وسعد بن بكر في مائتين يحمل لواءهم أبو واقد بالقاف الليثي فلما حاذوه كبروا ثلاثا، قال: من هؤلاء؟ قال: بنو بكر، قال: نعم أهل شؤم والله هؤلاء الذين غزانا محمد بسببهم، ثم مرت أشجع وهم آخر من مر, وهم ثلاثمائة معهم لواءان يحملهما معقل بن سنان ونعيم بن مسعود، فكبروا ثلاثا قال: من هؤلاء؟ قال: أشجع. قال: هؤلاء كانوا أشد العرب على محمد. قال: أدخل الله تعالى الإسلام في قلوبهم فهذا فضل الله. ثم قال أبو سفيان: أبعد ما مضى محمد، فقال العباس: لا لو أتت الكتيبة التي هو فيها رأيت الخيل، والحديد، والرجال وما ليس لأحد به طاقة، قال: ومن له بهؤلاء طاقة؟ وجعل الناس يمرون, كل ذلك يقول: ما مر محمد؟ فيقول العباس: لا "حتى أقبلت كتيبة لم ير مثلها" إذ في كل بطن منها لواء وراية وهم في الحديد، لا يرى منهم إلا الحدق "قال: من هذه؟ قال: هؤلاء الأنصار عليهم سعد بن عبادة معه الراية" أي: راية الأنصار وراية المهاجرين مع الزبير، كما يأتي، ومر "فقال سعد بن عبادة" لما مر بالراية النبوية: "يا أبا سفيان! اليوم يوم الملحمة" قال الحافظ: بالحاء المهملة، أي يوم حرب، لا يوجد منه مخلص أو يوم القتل. يقال: لحم فلانا إذا قتله.
قال الشامي: برفعهما أو نصب الأول ورفع الثاني. انتهى.
ولا يرد على الثاني من ظرفية الزمان لنفسه إذ يوم الملحمة مظروف في اليوم لأنه من ظرفية الكل لجزئه إذ المراد به وقت الحرب.
"اليوم" قال المصنف: نصب على الظرفية "تستحل" بضم الفوقية الأولى وفتح الثانية(3/407)
الكعبة، فقال أبو سفيان: يا عباس، حبذا يوم الذمار بالمعجمة المكسورة: أي الهلاك.
قال الخطابي: تمنى أبو سفيان أن يكون له يد فيحمي قومه ويدفع عنهم. وقيل: هذا يوم الغضب للحريم والأهل والانتصار لهم لمن قدر عليه، وقيل: هذا يوم يلزمك فيه حفظي وحمايتي من أن ينالني مكروه.
وقال ابن إسحاق: زعم بعض أهل العلم أن سعدا قال: اليوم يوم الملحمة اليوم تستحل الحرمة، فسمعها رجل من المهاجرين فقال: يا رسول الله! ما نأمن أن يكون لسعد في قريش صولة. فقال لعلي: "أدركه فخذ الراية منه فكن أنت تدخل بها".
__________
والحاء المهملة مبنيا للمفعول "الكعبة" بقتل من أهدر دمه ولو تعلق بأستارها، وقتال من عارض من أهل مكة وإباحة خضراء قريش وبإزالة ما يزعمون أنه تعظيم لها من نحو أصنام وصور وهو باطل وقد وقع جميع ذلك، كما يأتي "فقال أبو سفيان: يا عباس حبذا" بفتح الحاء والموحدة، فعل ماض، وذا فاعل على مذهب سيبويه، وجزم به في الخاصة وفيه أقوال أخر محلها كتب النحو "يوم الذمار" وفصل المصنف حديث البخاري بشيء من الفتح فقال: "بالمعجمة المكسورة" وتخفيف الميم، "أي: الهلاك, قال الخطابي: تمنى أبو سفيان أن يكون له يد" قوة في هذا اليوم "فيحمي قومه ويدفع عنهم" قاله عجزا "وقيل": معناه "هذا يوم الغضب للحريم والأهل، والانتصار لهم، لمن قدر عليه" قاله غلبة وعجزا ومخالفته للأول.
وبالمفهوم فإن كلا من الهلاك والغضب صالح لتمنيه لشرفه وعزه في قومه فإن غضبه لهم يستلزم تمنيه قدرة لتحميهم "وقيل" معناه "هذا يوم يلزمك فيه حفظي وحمايتي" لقربك، للمصطفى، وحبه لك وإقباله عليك "من أن ينالني مكروه، وقال ابن إسحاق: زعم بعض أهل العلم: أن سعدا قال: اليوم يوم الملحمة اليوم تستحل الحرمة" أي حرمة الكعبة "فسمعها رجل من المهاجرين" قال ابن هشام: هو عمر، قال الحافظ: وفيه بعد؛ لأن عمر كان معروفا بشدة البأس عليهم. انتهى.
وفي مغازي الواقدي والأموي أن عثمان وعبد الرحمن قالا ذلك جميعا، فالأولى أن يفسر المبهم بأحدهما أو بهما على إرادة الجنس، "فقال: يا رسول الله ما نأمن أن يكون لسعد في قريش صولة" بفتح المهملة وسكون الواو: حملة. فقال لعلي: "أدركه فخذ الراية منه فكن أنت تدخل بها".(3/408)
وقد روى الأموي في المغازي: أن أبا سفيان قال للنبي صلى الله عليه وسلم لما حاذاه: أمرت بقتل قومك؟ قال: "لا". فذكر له ما قاله سعد بن عبادة ثم ناشده الله والرحم، فقال: "يا أبا سفيان! اليوم يوم المرحمة، اليوم يعز الله تعالى قريشا". وأرسل إلى سعد فأخذ الراية منه فدفعها إلى ابنه قيس.
وعند ابن عساكر من طريق أبي الزبير عن جابر قال: لما قال سعد بن عبادة ذلك عارضت امرأة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت:
يا نبي الهدى إليك لجا ... حي قريش ولات حين لجائي
حين ضاقت عليهم سعة الأر ... ض وعاداهم إله السماء
__________
"وقد روى الأموي" يحيى بن سعيد بن أبان بن سعيد بن العاصي أبو أيوب الكوفي نزيل بغداد لقبه الجمل بجيم صدوق روى له الستة مات سنة أربع وتسعين ومائتين "في المغازي أن أبا سفيان قال للنبي صلى الله عليه وسلم لما حاذاه" وهو مار في جنود الله: "أمرت" بحذف همزة الاستفهام "بقتل قومك، قال: "لا". فذكر له ما قال سعد بن عبادة، ثم ناشده الله تعالى والرحم" نقل بالمعنى ولفظ مغازي الأموي: أنشدك الله في قومك فإنك أبر الناس وأرحمهم وأوصلهم "فقال: "يا أبا سفيان! اليوم يوم المرحمة" بالراء الرأفة والشفقة على الخلق "اليوم يع الله تعالى قريشا" بالإسلام والدين وإنقاذهم من الضلال المبين بهذا الرسول الرءوف الرحيم الذي من أنفسهم وأنفسهم فعزه عزهم وكم تحمل أذاهم ولم يدع عليهم، بل دعا لهم بالهدى وحجزهم من الوقوع في مهالك الردى "وأرسل إلى سعد فأخذ الراية منه فدفعها إلى ابنه قيس" ورأى صلى الله عليه وسلم أن اللواء لم يخرج عنه إذ صار إلى ابنه هذا بقية رواية الأموي.
"وعند ابن عساكر من طريق أبي الزبير" محمد بن مسلم المكي "عن جابر قال: لما قال سعد بن عبادة ذلك" القول "عارضت" تعرضت له، كأن وقفت في طريقه. "امرأة رسول الله صلى الله عليه وسلم" وعند الواقدي، والأموي، أن هذا الشعر لضرار بن الخطاب الفهري، قال أبو الربيع وهو من أجود شعر قاله. قال الحافظ: فكأن ضرار أرسل به المرأة ليكون أبلغ في انعطافه صلى الله عليه وسلم على قريش "فقال: يا نبي الهدى إليك لجا" بالهمز وتركه للوزن "حي قريش ولا حين" أي ليس الوقت وقت "لجاء" بإثبات الألف للضرورة وإلا فلجاء مهموز من بأبي نفع وتعب كما في المصباح، قال البرهان وأنشده في الاستيعاب في ترجمة ضرار، وأنت خير لجاء وفي ترجمة سعد كما هنا. انتهى.
فكأنهما روايتان "حين ضاقت" ظرف لجا "عليهم سعة الأرض" بفتح السين كناية عن شدة كربهم حتى كأن الأرض لم تسعهم "وعاداهم إله السماء" أي فعل معهم فعل المعادي،(3/409)
إن سعدا يريد قاصمة الظهـ ... ـر بأهل الحجون والبطحاء
__________
فسلط عليهم من لا طاقة لهم به لكفرهم وبعد هذا في مغازي الأموي والواقدي:
والتقت حلقتا البطان عل القو ... م ونودوا بالصيلم الصلعاء
تثنية حلقة البطان بكسر الموحدة حزام يجعل تحت بطن البعير، يقال ذلك إذا اشتد الأمر.
الصيلم بفتح المهملة وسكون التحتية، وفتح اللام وميم الداهية الصلعاء بفتح المهملة، وسكون اللام فعين مهملة مد، كأنه عطفها على الصيلم وحذف حرف العطف للنظم وهو جائز في غيره أيضا كما في النور:
"إن سعدا يريد قاصمة الظهـ ... ـر بأهل الحجون والبطحاء"
قاصمة الظهر، كأسرته، يعني أنه يريد الخصلة لمانعة لهم من كل الأمور حتى كأنها كسرت ظهورهم بحيث صار وإلا حركة لهم وبقية ضرار، كما في رواية الأموي والواقدي:
خزرجي لو يستطيع من ... الغيظ رمانا بالنسر والعوا
وغر الصدر لا يهم بشيء ... غير سفك الدما وسبي النساء
قد تلظى على البطاح وجاءت ... عنه هند بالسوأة السوآء
إذ ينادي بذل حي قريش ... وأين حرب بذا من الشهداء
فلئن أقحم اللواء ونادى ... يا حماة الأدبار أهل اللواء
ثم ثابت إليه من بهم الخز ... رج والأوس انجم الهيجاء
لتكونن بالبطاح قريش ... فقعة القاع في أكف الإماء
أنهينه فإنه أسد الأسد ... لدى الغاب والغ في الدماء
إنه مطرق يريد لنا الأمر ... سكوتا كالحية الصماء
النسر بفتح النون نجم. والعواء بفتح العين المهملة، وشد الواو، والمد وقصره لغة، وهي خمسة أنجم، قال القالي: من مدها فهي، فعال من عويت الشيء إذ لويت طرفه.
وقال السهيلي الأصح أن العواء من العوة وهي الدبر، كأنها سميت بذلك لأنها دبر الأسد من البروج والوغر بفتح الواو وكسر المعجمة وبالراء، اسم فاعل، والوغرة شدة توقد الحريهم بفتح فضم تلظى تلهب هند بنت عتبة بالسوأة السوآء بالخلة القبيحة. أقحم اللواء أرسله في عجلة. الأدبار جمع دبر والمراد الظهر ثابت بمثلثة فألف فموحدة بفوقية رجعت بهم بضم الموحدة، وفتح الهاء جمع بهمة بالضم الفارس الذي لا يدري من أين يؤتى من شدة بأسه.
ويقال: أيضا للجيش بهم، قال أبو عبيدة الهيجاء، بالمد وفيها القصر، إيضاء الحرب. الفقعة(3/410)
فلما سمع هذا الشعر دخلته رأفة لهم ورحمة. فأمر بالراية فأخذت من سعد ودفعت إلى ابنه قيس.
وعند أبي يعلى من حديث الزبير أن النبي صلى الله عليه وسلم دفعها إليه فدخل مكة بلواءين، وإسناد ضعيف جدا. لكن جزم موسى بن عقبة في المغازي عن الزهري أنه دفعها إلى الزبير بن العوام.
فهذه ثلاثة أقوال فيمن دفعت إليه الراية التي نزعت من سعد.
والذي يظهر في الجمع أن عليا أرسل لينزعها ويدخل بها، ثم خشي تغير خاطر سعد فأمر بدفعها إلى ابنه قيس، ثم إن سعدا خشي أن يقع من ابنه شيء ينكره النبي صلى الله عليه وسلم فسلم النبي صلى الله عليه وسلم أن يأخذها منه فحينئذ أخذها الزبير.
قال في رواية البخاري: ثم جاءت كتيبة فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه،
__________
بكسر الفاء، فقاف فعين مفتوحة جمع فقع بكسر، الفاء وفتحها، وسكون القاف، ضرب من الكمالة، وهي البيضاء الرخوة، يشبه به الرجل الذليل لأن الدواب تنحله بأرجلها. القاع المكان المستوي الواسع الأسد بضم فسكون. الغاب أجم الأسد والغ بغين معجمة، "فلما سمع هذا الشعر دخلته رأفة ورحمة فأمر بالراية فأخذت من سعد ودفعت إلى ابنه قيس" وعند الواقدي، فأبى أن يسلمها إلا بإنارة منه صلى الله عليه وسلم فأرسل إليه بعمامته.
"وعند أبي يعلى من حديث الزبير" بن العوام "أن النبي صلى الله عليه وسلم دفعها إليه فدخل" الزبير "مكة بلواءين" لواء المهاجرين الذي كان معه أولا وهذا "وإسناده ضعيف جدا لكن حزم موسى بن عقبة في المعازي، عن الزهري، أنه دفعها إلى الزبير بن العوام" فاعتضد به وإن كان مرسلا ضعف حديث الزبير المسند، "فهذه ثلاثة أقوال فيمن دفعت إليه الراية التي نزعت من سعد، والذي يظهر في الجمع", كما قال الحافظ، "أن عليا أرسل لينزعها ويدخل بها ثم خشي، تغير خاطر في الجمع" كما قال الحافظ: "أن عليا أرسل لينزعها ويدخل بها ثم خشي، تغير خاطر سعد فأمر بدفعها إلى ابنه قيس, ثم إن سعدا خشى أن يقع من ابنه شيء ينكره النبي صلى الله عليه وسلم فسأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يأخذها منه فحينئذ أخذها الزبير".
ويؤيد ذلك ما رواه البزار، بسند على شرط البخاري عن أنس قال: كان قيس في مقدمة النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم مكة فكلم سعد النبي صلى الله عليه وسلم أن يصرفه عن الموضع الذي هو فيه مخافة أن يقدم على شيء فصرفه عن ذلك انتهى. ملام فتح الباري بجميع ما ساقه المصنف.
"قال في رواية البخاري" المذكورة من مرسل عروة تلو قوله حبذا يوم الذمار، "ثم جاءت كتيبة" خضراء يقال فيها ألف دارع، "فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه" المهاجرون والأنصار(3/411)
وراية النبي صلى الله عليه وسلم مع الزبير، فلما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي سفيان قال: ألم تعلم ما قال سعد بن عبادة؟ قال: "ما قال"؟ قال: قال كذا وكذا. فقال: "كذب سعد، ولكن هذا يوم يعظم الله فيه الكعبة، ويوم تكسى فيه الكعبة. قال: وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تركز رايته بالحجون".
__________
وفيها الرايات والألوية مع كل بطن من بطون الأنصار لواء وراية وهم في الحديد لا يرى منهم إلا الحدق، ولعمر فيها زجل بصوت عال وهو يقول رويدا يلحق أولكم آخركم كذا عند الواقدي.
وأسقط المصنف من البخاري قبل قوله فيهم ما لفظه وهي أقل الكتائب قال الحافظ: أي أقلها عددا، قال عياض، وقع للجميع بالقاف ووقع في الجمع للحميدي، أجل بالجيم، وهي أظهر، ولا يبعد، صحة الأولى؛ لأن عدد المهاجرين كان أقل من عدد غيرهم، من القبائل. انتهى.
وقال البدر في مصابيحه كل منهما ظاهر لا خفاء فيه، ولا ريب أن المراد قلة العدد، لا الاحتقار هذا ما لا يظن بمسلم اعتقاده ولا توهمه، فهو وجه لا محيد عنه ولا ضير فيه بهذا الاعتبار، والتصريح بأن النبي صلى الله عليه وسلم فيها قاض بجلالة قدرها وعظم شأنها ورجحانها على كل شيء سواها، ولو كان ملء الأرض، بل وأضعاف ذلك فما هذا الذي يشم من نفس القاضي، في هذا المحل، قد تجر أعلى، القاضي، بما لم يحط بعلمه وفهم منه غير مراده، فإن الكتيبة النبوية موصوفة في السير بالكثرة، وأن فيها ألفي دارع فضلا ن غيرهم وليس في الكتائب ما وصل إلى هذا العدد، ولذا احتاج الحافظ لتأويل قلتها باعتبار المهاجرين الذين كانوا فيها لا مطلقا، وقد قال عروة في كتيبة الأنصار: لم ير مثلها وهي من جملة كتيبة النبي صلى الله عليه وسلم على أن القاضي قال: أظهر فأفاد أن رواية أقل ظاهرة، فلم هذا التشدق عليه من ذا النحوي الغافل عن أفعل التفضيل "وراية النبي صلى الله عليه وسلم مع الزبير" بن العوام "فلما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي سفيان، قال: ألم تعلم ما قال سعد بن عبادة" لم يكتف، بما دار بينه وبين العباس حتى شكا للنبي صلى الله عليه وسلم, قال: "ما قال" سعد؟ "قال" أبو سفيان: "قال: كذا، وكذا" أي: اليوم يوم الملحمة، "فقال" عليه السلام: "كذب سعد".
قال الحافظ: فيه إطلاق الكذب على الأخبار بغير ما سيقع لو بناه قائله على لبة ظنه وقوة القرينة "ولكن هذا يوم يعظم الله فيه الكعبة" بإظهار الإسلام، وأذان بلال على ظهرها وإزالة ما كان فيه من الأصنام، ومحو ما فيها من الصور وغير ذلك، "ويوم تكسى فيه الكعبة" قيل: إن قريشا كانت تكسوها في رمضان فصادف ذلك اليوم أو المراد باليوم الزمان كما قال يوم الفتح، فأشار صلى الله عليه وسلم إلى أنه هو الذي يكسوها في ذلك العام، ووقع. ذلك "قال" عروة: "وأمر(3/412)
قال: وقال عروة: أخبرني نافع بن جبير بن مطعم قال: سمعت العباس يقول للزبير بن العوام: يا أبا عبد الله، ههنا أمرك رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تركز الراية؟ قال: نعم.
قال وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ خالد بن الوليد أن يدخل من أعلى مكة من كداء -بالفتح والمد- ودخل النبي صلى الله عليه وسلم من كدى -بالضم والقصر- فقتل من خيل خالد يومئذ رجلان: حبيش بن الأشعر وكرز بن جابر الفهري.
__________
رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تركز" بضم أوله وفتح الكاف مبني للمفعول "رايته بالحجون" بفتح المهملة وضم الجيم الخفيفة، مكان معروف بالقرب من مقبرة مكة "قال: وقال عروة" بن الزبير، راوي الحديث المذكور: "وأخبرني" بالإفراد "نافع بن جبير بن مطعم" القرشي النوفلي أبو محمد وأبو عبد الله المدني الثقة الفاضل روى له الستة مات سنة تسع وتسعين.
"قال سمعت العباس يقول: الزبير بن العوام" قال الحافظ: أي في حجة اجتمعوا فيها في خلافة عمر أو عثمان لا أن نافعا حضر المقالة، كما يوهمه السياق، فإنه لا صحبة له أو التقدير سمعت العباس يقول: قلت للزبير فحذف قلت: "يا أبا عبد الله ههنا أمرك رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تركز" بفتح التاء وضم الكاف "الراية قال: نعم، قال" عروة: وهو ظاهر الإرسال في الجميع إلا ما صرح بسماعه من نافع وأما باقيه فيحتمل أن عروة تلقاه عن أبيه أو عن العباس، فإنه أدركه وهو صغير أو جمعه من نقل جماعة له بأسانيد مختلفة وهو الراجح.
ذكره الحافظ "وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ خالد بن الوليد أن يدخل" مكة "من أعلى مكة، من كداء".
قال المصنف "بالفتح والمد ودخل النبي صلى الله عليه وسلم من كدى" أي "بالضم والقصر فقتل من خيل خالد يومئذ رجلان حبيش" بمهملة ثم موحدة، ثم تحتية، ثم معجمة كما رواه الأكثر ع ابن إسحاق.
وروى عنه إبراهيم بن سعد وسلمة بن الفضل أنه بمعجمة ونون، ثم مهملة والصواب الأول كما في الإصابة مصغر على الضبطين "ابن الأشعر" بشين معجمة، وعين مهملة وهو لقب واسمه خالد بن سعد بن منقذ بن ربيعة الخزاعي أخو أم معبد التي مر بها صلى الله عليه وسلم مهاجرا.
وروى أحمد، عن حزام بن هشام ابن حبيش قال: شهد جدي الفتح مع رسول الله صلى الله عليه وسلم "وكرز" بضم الكاف وسكون الراء بعدها زاي، "ابن جابر" بن حسل بمهملتين بكسر ثم سكون ابن الأحب بمهملة مفتوحة وموحدة، مشددة ابن حبيب "الفهري" وكان من رؤساء المشركين، وهو الذي أغار على سرح النبي صلى الله عليه وسلم في غزة بدر الأولى، ثم أسلم قديما، وبعثه صلى الله عليه وسلم في طلب(3/413)
قال الحافظ ابن حجر: وهذا مخالف للأحاديث الصحيحة في البخاري أن خالدا دخل من أسفل مكة والنبي صلى الله عليه وسلم من أعلاها.
يعني حديث ابن عمر: أنه صلى الله عليه وسلم أقبل يوم الفتح من أعلى مكة على راحلته مردفا أسامة بن زيد، وحديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل يوم الفتح من كداء التي بأعلى مكة وغيرهما.
__________
العرنيين ووقع عند الواقدي أنهما من خيل الزبير بن العوام وكأنه وهم، ولذا لم يعرج عليه صاحب الفتح، لأن عروة لم ينفرد به، بل وافقه عبد الله بن أبي نجيح وعبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم عند ابن إسحاق فقالا: إنهما من خيل خالد شذا فسلكا طريقا غير طريقه فقتلا جميعا حبيش أولا فجعله كرز بين رجليه ثم قاتل عنه حتى قتل "قال الحافظ ابن حجر وهذا" أي مرسل عروة "مخالف للأحاديث الصحيحة" المسندة "في البخاري أن خالدا دخل من أسفل مكة" الذي هو كدى بالقصر "والنبي صلى الله عليه وسلم" دخل "من أعلاها" الذي هو بالمد وبه جزم ابن إسحاق، وموسى بن عقبة وغيرهما فلا شك في رجحانه على المرسل لكونه موصولا وإخبارا من صحابي شاهد القصة واعتضد بموافقة أصحاب المغازي الذين هم أهل الخبرة بذلك، فيجب تقديمه على مرسل عروة، ويحتمل الجمع بتأويل قول عروة دخل هم بالدخول من السفلى وأمر خالدا بالدخول من العليا، ثم بدا له خلاف ذلك لما ظهر له أن بالسفلى مقاتلين ليبعد عن محل القتال، ما أمكن رعاية للرحم ناشدوه بها وحرمة الحرم فدخل هو من العليا، وخالد من السفلى، والله أعلم.
"يعني" الحافظ بالأحاديث الصحيحة "حديث ابن عم" الذي رواه البخاري، في مواضع منها هنا وترجم عليه في باب دخول النبي صلى الله عليه وسلم من أعلى مكة "أنه صلى الله عليه وسلم أقبل يوم الفتح من أعلى مكة على راحلته" حال كونه، "مردفا أسامة بن زيد" وفي هذا مزيد تواضعه وكريم أخلاقه حيث أردف في هذا الموكب العظيم خادمه وابن خادمه رضي الله عنهما، والمتكبر يعد إرداف ابنه إذا ركب في السوق عارا عليه ما ذاك إلا تكبر برأ صلى الله عليه وسلم منه ونزه من خلقه على خلق عظيم. "وحديث عائشة" المروي عنده من رواية عروة نفسه أن عائشة أخبرته "أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل يوم الفتح من كداء التي بأعلى مكة" فما وصله عروة نفسه مقدم على ما أرسله قال في الروض: وبكداء وقف إبراهيم حين دعا لذريته، فقال: واجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم، كما روي عن ابن عباس فمن ثم، استحب صلى الله عليه وسلم الدخول منها لأنها المواضع الذي دعا فيه إبراهيم. انتهى.
وعند البيهقي بإسناد حسن عن ابن عمر، قال: لما دخل صلى الله عليه وسلم عام الفتح رأى النساء يلطمن وجوه الخيل بالخمر، فتبسم إلى أبي بكر، وقال: " يا أبا بكر! كيف قال حسان"؟ فأنشده قوله:(3/414)
وغيرها قال: وقد ساق ذلك موسى بن عقبة سياقا واضحا فقال:
وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم الزبير بن العوام على المهاجرين وخيلهم وأمره أن يدخل من كداء بأعلى مكة، وأمره أن يركز رايته بالحجون ولا يبرح حتى يأتيه.
وبعث خالد بن الوليد في قبائل قضاعة وسليم وغيرهم وأمره أن يدخل من أسفل مكة وأن يغرز رايته عنه أدنى البيوت.
وبعث سعد بن عبادة في كتيبة الأنصار في مقدمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمرهم أن يكفوا أيديهم ولا يقاتلوا إلا من قاتهلم.
__________
عدمت بنيتي إن لم تروها ... تثير النقع موعدها كداء
ينازعن الأعنة مسرحات ... يلطمهن بالخمر النساء
فقال صلى الله عليه وسلم: "أدخلوها من حيث قال حسان"، "و" يعني حديث "غيرها" كالعباس، فقد روى الطبراني، عن العباس لما بعث صلى الله عليه وسلم قلت لأبي سفيان بن حرب: أسلم بنا قال: لا والله حتى أرى الخيل تطلع من كداء، قال العباس: قلت: ما هذا قال: شيء طلع بقلبي، لأن الله لا يطلع هناك خيلا أبدا، قال العباس فلما طلع صلى الله عليه وسلم من هناك ذكرت أبا سفيان به، فذكره.
"قال" الحافظ ابن حجر "وقد ساق ذلك" أي دخول خالد والزبير "موسى بن عقبة سياقا واضحا" موافقا للأحاديث الصحيحة، "فقال: وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم الزبير بن العوام على المهاجرين وخيلهم وأمره أن يدخل من كداء" بالفتح والمد "بأعلى مكة وأمره أن يركز" بفتح الياء وضم الكاف "رايته بالحجون" وأن يمكث عند الراية "ولا يبرح حتى يأتيه، وبعث خالد بن الوليد في قبائل" أبدل منها "قضاعة وسليم" بالتصغير "وغيرهم" جمع باعتبار أفراد القبائل فلم يقل وغيرهما كأسلم وغفار ومزينة وجهينة، "وأمره أن يدخل من أسفل مكة وأن يغرز رايته عند أدنى البيوت" أقربها إلى الثنية التي دخل منها، وهو أول بيوت مكة من الجهة التي دخل منها.
روى أصحاب السنن الأربعة عن جابر كان لواء رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم دخل مكة أبيض.
وروى ابن إسحاق عن عائشة: كان لواء رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح أبيض، ورايته سوداء تسمى العقاب، وكانت قطعة مرط مرجل "وبعث سعد بن عبادة في كتيبة الأنصار" ومعه الراية، حتى نزعت منه لابنه أو غيره، واستمر هو بلا راية "في مقدمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمرهم أن يكفوا أيديهم ولا يقاتلوا إلا من قاتلهم".
وروى ابن إسحاق: حدثني عبد الله بن أبي نجيح وعبد الله بن أبي بكر أن أصحاب خالد لقوا ناسا من قريش منهم صفوان وعكرمة وسهيل تجمعوا بالخندمة بخاء معجمة ونون مكان(3/415)
واندفع خالد بن الوليد حتى دخل من أسفل مكة، وقد تجمع بها بنو بكر وبنو الحارث بن عبد مناف، وناس من هذيل ومن الأحابيش الذين استنصرت بهم قريش، فقاتلوا خالدا فانهزموا، وقتل من بني بكر نحو من عشرين رجلا، ومن هذيل ثلاثة أو أربعة، حتى انتهى بهم القتل إلى الحزورة حتى دخلوا الدور، وارتفعت طائفة منهم على الجبال.
__________
أسفل مكة ليقاتلوا المسلمين، فناوشوهم شيئا من القتال، فقتل من خيل خالد مسلمة بن الميلاء الجهني، قتل من المشركين اثنا عشر أو ثلاثة عشر، ثم انهزموا وفي ذلك يقول جماش بن قيس بجيم مكسورة وميم مخففة ومعجمة يخاطب امرأته حين لامته على الفرار، وقد كان يصلح سلاحه ويعدها أن يخدمها بعض المسلمين:
إنك لو شهدت يوم الخندمه ... إذ فر صفوان وفر عكرمه
وأبو يزيد قائم كالموتمه ... واستقبلتهم بالسيوف المسلمه
يقطعن كل ساعد وجمجمه ... ضربا فلا تسمع إلا غمغمه
لهم نهيت خلفنا وهمهمه ... لم تنطقي في اللوم أدنى كلمه
قال ابن هشام: ويروى هذا الشعر للمرعاش الهذلي وكان شاعر المهاجرين يوم الفتح وحنين، والطائف يا بني عبد الرحمن وشاعر الخزرج يا بني عبد الله والأوس يا بني عبيد الله "واندفع خالد بن الوليد حتى دخل من أسفل مكة وقد تجمع بها بنو بكر وبنو الحارث بن عبد مناف وناس من هذيل ومن الأحابيش الذين استنصرت بهم قريش" وظاهر كلام ابن عقبة هذا أن بني بكر اجتمعوا كلهم.
وعند لواقدي، ناس من بني بكر فيحتمل كثرة بني بكر فأطلق عليهم اسم القبيلة وقلة هذيل بالنسبة لهم فعبر عنهم بناس "فقاتلوا خالدا".
وعند الواقدي، فمنعوه الدخول، وشهروا له بالسلاح، ورموه بالنبل وقالوا: لا تدخلها عنوة فصاح خالد في أصحابه "فقاتلهم فانهزموا" أقبح الانهزام، "وقتل من بني بكر نحوا من عشرين رجلا ومن هذيل ثلاثة أو أربعة" وعند ابن سعد، وشيخه الواقدي، فقتل أربعة وعشرين رجلا من قريش وأربعة من هذيل، ويحتمل الجمع بأنه من مجاز الحذف أي، من حزب قريش لأن بني بكر دخلوا في عقدهم عام الهدنة ونحو العشرين شامل للأربعة والعشرين، فيفسر بها وأما رواية، ابن إسحاق، اثنا عشر وثلاثة عشر، فالأقل لا ينفي الأكثر بل هو داخل فيه "حتى انتهى بهم القتل إلى الحزورة" بفتح المهملة والواو بينهما زاي ساكنة، ثم راء، وهاء تأنيث كانت سوقا بمكة ثم أدخلت في المسجد "حتى دخلوا الدور وارتفعت طائفة منهم على الجبال" هربا وتبعهم(3/416)
وصاح أبو سفيان: من أغلق بابه وكف يده فهو آمن.
قال: ونظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى البارقة فقال: "ما هذه؟ وقد نهيت عن القتال". فقالوا: نظن أن خالدا قوتل وبدئ بالقتال فلم يكن له بد من أن يقاتلهم.
قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم -بعد أن اطمأن- لخالد بن الوليد: "لم قاتلت وقد نهيتك عن القتال"؟. فقال: هم بدؤنا بالقتال، وقد كففت يدي ما استطعت. قال: "قضاء الله خير".
__________
المسلمون "وصاح أبو سفيان، من أغلق بابه وكف يده" عن القتال، "فهو آمن".
وعند الواقدي، وصاح حكيم، وأبو سفيان، يا معشر قريش، علام تقتلون أنفسكم من دخل داره فهو آمن، ومن وضع السلاح فهو آمن، فجعلوا يقتحمون الدور، ويغلقون أبوابها، ويطرحون السلاح في الطرق فيأخذه المسلمون "قال: ونظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى البارقة" اللامعة صفة لمحذوف أي السيوف بثنية قرب مكة، يقال لها: أذاخر بفتح الهمزة، وذال معجمة فألف فمعجمة مكسورة، فراء وفي السبل البارقة لمعان السيوف وفيه أن اللمعان مصدر فلا يفسر به اسم الفاعل إلا نحو العافية والعاقبة ولا أحفظ الآن أن البارقة منها. شيخنا فقال: "ما هذه"؟ البارقة "وقد نهيت عن القتال"، "فقالوا: نظن أن خالدا قوتل وبدئ بالقتال، فلم يكن له بد من أن يقاتلهم".
"قال" ابن عقبة: "وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن اطمأن لخالد بن الوليد: "لم قاتلت وقد نهيتك عن القتال"؟، فقال: هم بدؤنا بالقتال، وقد كففت يدي ما استطعت. فقال صلى الله عليه وسلم: "قضاء الله خير". زاد في الفتح.
وروى الطبراني عن ابن عباس قال: خطب صلى الله عليه وسلم، فقال: "إن الله حرم مكة" ... الحديث. فقيل له هذا خالد بن الوليد يقتل، فقال: "قم يا فلان فقل له فليرفع يديه من القتل". فأتاه الرجل، فقال له: إن نبي الله يقول لك اقتل من قدرت عليه فقتل سبعين فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر له ذلك، فأرسل إلى خالد: "ألم أنهك عن القتل". فقال: جاءني فلان فأمرني أن أقتل من قدرت عليه, فأرسل إليه: "آمرك أن تنذر خالدا"، قال: أردت أمرا فأراد الله أمرا، فكان أمر الله فوق أمرك وما استطعت إلا الذي كان، فسكت صلى الله عليه وسلم وما رد عليه. انتهى.
قيل: وهذا الرجل أنصاري فيحتمل أنه تأول، ويحتمل أنه سبق إلى سمعه ما أمر به خالدا، كما قد يرشد إلى كل من الاحتمالين قوله وأراد الله أمر ... إلخ.
ثم في قوله فقل سبعين مباينة زائدة لما قبله بكثير إذ غاية الأول ثمانية وعشرون لكن(3/417)
وعند ابن إسحاق: فلما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم مر الظهران، رقت نفس العباس لأهل مكة، فخرج ليلا راكبا بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم لكي يجد أحدًا فيعلم أهل مكة بمجيء النبي صلى الله عليه وسلم ليستأمنوه، فسمع صوت أبي سفيان بن حرب وحكيم بن حزام وبديل بن ورقاء فأردف أبا سفيان خلفه وأتى به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسلم وانصرف الآخران ليعلما أهل مكة.
__________
زيادة الثقات، مقبولة والأقل داخل فيها.
"وعند ابن إسحاق" بمعناه وأخرجه ابن راهويه بسند صحيح من حديث ابن عباس بلفظ "فلما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم مر الظهران رقت نفس العباس لأهل مكة", فقال: واصباح قريش والله لئن دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم عنوة قبل، أن يأتوه فيستأمنوه أنه لهلاك قريش إلى آخر الدهر، "فخرج ليلا راكبا بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم"الشهباء، كما في رواية ابن راهويه وهو بمعنى رواية ابن إسحاق البيضاء "لكي يجد أحدًا فيعلم أهل مكة بمجيء النبي صلى الله عليه وسلم ليستأمنوه", ولفظ ابن إسحاق عقب قوله إلى آخر الدهر، فجلست على بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم البيضاء، فخرجت عليها حتى جئت الأراك فقتل لعلي أجد بعض الخطابة أو صاحب لبن أو ذا حاجة يأتي مكة فيخبرهم بمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخرجوا إليه فيستأمنوه قبل أن يدخلها عليهم عنوة، "فسمع صوت أبي سفيان بن حرب وحكيم بن حزام وبديل بن ورقاء فأردف أبا سفيان خلقه وأتي بي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسلم" نقل بالمعنى أيضا ولفظ ابن إسحاق قال: فوالله إني لأسير ليها ألتمس ما خرجت له إذ سمعت كلام أبي سفيان وبديل وهما يتراجعان فذكر مراجعتهما في النيران لمن هي؟ قال: فعرفت صوته فقتل: يا أبا حنظلة، فعرف صوتي، فقال: أبو الفضل، قلت: نعم. قال مالك: فداك أبي وأمي. قلت: ويحكم هذا رسول الله في الناس واصباح قريش والله قال: فما الحيلة فداك أبي وأمي، قلت: والله لئن ظفر بك ليضربن عنقك فاركب في عجز هذه البغلة فركب خلفي "وانصرف الآخران ليعلم أهل مكة " كذا في رواية ابن إسحاق بلا سند وابن راهويه، والواقدي، عن ابن عباس أنهما رجعا وعند ابن عقبة، وابن عائذ، والواقدي في موضع آخر أنهما لم يرجعا. وأن العباس قدم بهم عليه صلى الله عليه وسلم فأسلم بديل وحكيم.
قال الحافظ: فيحمل قوله ورجع صاحباه أي، بعد أن أسلما، واستمر أبو سفيان عند العباس لأمره صلى الله عليه وسلم بحبسه حتى يرى العساكر ويحتلم أنهما رجعا لما التقى العباس بأبي سفيان فأخذهما العسكر أيضا.
وفي مغازي ابن عقبة، ما يؤيد ذلك ففيه فلقيهم العباس فأجارهم وأدخلهم عليه صلى الله عليه وسلم فأسلم بديل وحكيم، وتأخر أبو سفيان بإسلامه حتى أصبح. انتهى.(3/418)
ويمكن الجمع: بأن الحرس لما أخذوه استنقذه العباس.
وروي أن عمر رضي الله عنه لما رأى أبا سفيان رديف العباس دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! هذا أبو سفيان، دعني أضرب عنقه، فقال العباس: يا رسول الله! إني قد أجرته. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اذهب يا عباس به إلى رحلك، فإذا أصبحت فأتني به".
__________
"ويمكن الجمع" كما قال في الفتح بين هذا وبين ما مر عن البخاري من مرسل عروة أن الحرس أخذوا الثلاثة فأتوا بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحوه في مرسل أبي سلمة عند ابن أبي شيبة "بأن الحرس لما أخذوه" أي أبا سفيان" استنقذه العباس" وأردفه خلفه وأتى به المصطفى، ويؤيده ما رأيته عن ابن عقبة قريبا، وقد روى ابن أبي شيبة عن عكرمة أن أبا سفيان لما أخذه الحرس، قال دلوني على العباس فأتى العباس وأخبره الخبر وذهب به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان العباس سمع صوت أبي سفيان وهو مع الحرس فأجاره مع صاحبيه وأتى بهم المصطفى، فمن نسب إليه أنه أتى بهم فلإجارته لهم وتخليصه إياهم من الحرس، واستئذانه لهم في الدخول على المصطفى، ومن نسبه للحرس فلكنهم السبب فيه إذ وقفوا به حتى أدركه العباس واستنقذ منهم غير أنه يعكر على ذا الجمع قول عمر احبسوا أبا سفيان فحبسوه حتى أصبح فغدا به على رسول الله صلى الله عليه وسلم كما مر من مرسل أبي سلمة، وقد لا يعكر بحمله على ضرب من المجاز أي كان مرادهم ذلك حتى أجازه العباس وأخذه وذهب به وبالجملة فحقيقة الجمع بين هذا التباين لم تنقدح.
"وروي" عن ابن إسحاق وغيره "أن عمر رضي الله عنه لما رأى سفيان رديف العباس" قال: عدو الله الحمد له الذي أمكن منك بغير عقد ولا عهد، ثم خرج يشتد نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال العباس: وركضت البغلة فسبقته بما تسبق الدابة البطيئة فاقتحمت عن البغلة، فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، "ودخل" عمر "على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله هذا أبو سفيان دعني أضرب عنقه، فقال العباس: يا رسول الله إني قد أجرته", ثم جلست إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: لا يناجيه الليلة دوني رجل, فلما أكثر عمر في شأنه قلت: مهلا يا عمر فوالله لو كان من رجال بني عدي ما قلت هذا، ولكنك قد عرفت أنه من رجال بني عبد مناف، فقال: مهلا يا عباس فوالله لإسلامك يوم أسلمت كان أحب إلي من إسلام الخطاب لو أسلم وما بي إلا أني قد عرفت أن إسلامك كان أحب إلى رسول الله من إسلام الخطاب لو أسلم, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اذهب يا عباس به إلى رحلك فإذا أصبحت فائتني به". كذا في رواية ابن إسحاق وغيره.(3/419)
فذهب فلما أصبح غدا به على رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رآه صلى الله عليه وسلم قال: "ويحك يا أبا سفيان، ألم يأن لك أن تعلم أن لا إله إلا الله"؟. فقال: بأبي أنت وأمي، ما أحلمك وأكرمك وأوصلك، لقد ظننت أنه لو كان مع الله إله غيره لما أغنى عني شيئا. ثم قال: "ويحك يا أبا سفيان، ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله"؟.
__________
وذكر ابن عقبة وغيره قال العباس: فقلت: يا رسول الله أبو سفيان وحكيم وبديل قد أجرتهم وهم يدخلون عليك، قال: أدخلهم فدخلوا عليه، فمكثوا عنده عامة الليل يستخبرهم، فدعاهم إلى الإسلام، فشهدوا أن لا إله إلا الله. فقال: "واشهدوا أني رسول الله". فشهد بديل وحكيم، وقال أبو سفيان: ما أعلم ذلك والله إن في النفس من هذا شيئا بعد فأرجئها.
وفي رواية ابن أبي شيبة من مرسل عكرمة قال عليه الصلاة والسلام: "يا أبا سفيان أسلم، تسلم". قال: كيف أصنع باللات والعزى؟ فسمعه عمر وهو خارج القبة، فقال: اخرأ عليهما أما والله لو كنت خارج القبة ما قلتها, وفي رواية عبد بن حميد، فقال: يا أبا سفيان، ويحكم يا عمر إنك رجل فاحش دعني مع ابن عمي، فإياه أكلم، فقال صلى الله عليه وسلم: "اذهب به يا عباس"، "فذهب فلما أصبح غدا" أي أتى "به" أول النهار قبل الشمس كما أفاده تعبيره بغدا "على رسول الله صلى الله عليه وسلم".
وروى عبد بن حميد وغيره أنه لما أصبح رأى الناس بادروا إلى الوضوء، فقال: ما للناس أأمروا فيَّ بشيء قال: لا ولكنهم قاموا إلى الصلاة فأمره العباس فتوضأ وانطلق به، فلما كبر صلى الله عليه وسلم كبر الناس، ثم ركع فركعوا، ثم رفع فرفعوا، ثم سجد فسجدوا، فقال: ما رأيت كاليوم طاعة قوم جمعهم من ههنا، وههنا ولا فارس الأكارم ولا الروم ذات القرون بأطوع منهم لا يا أبا الفضل أصبح ابن أخيك والله عظيم الملك، فقال العباس: إنه ليس بملك ولكنها النبوة فقال: أو ذاك "فلما رآه صلى الله عليه وسلم قال" بعد فراغه من الصلاة: "ويحك يا أبا سفيان! توقع نفسك في الهلاك مع مزيد عقلك؟ فإنك لو نظرت بعين البصيرة لبادرت إلى الإسلام".
وفي هذا التعبير مزيد رفق في الدعاء للإسلام "ألم يأن" يحن "لك أن تعلم أن لا إله إلا الله". "فقال: بأبي أنت وأمي ما أحلمك وأكرمك وأوصلك" حيث خاطبتني بهذا الخطاب اللين العذب وأغضيت، وضرب صفحا عما جرى مني في عداوتك ومحاربتك. "لقد ظننت أنه لو كان مع الله إله غيره لما أغنى" ما زائدة ولفظ ابن إسحاق لقد أغنى "عني شيئا" بعد, زاد في رواية الواقدي: لقد استنصرت إلهي واستنصرت إلهك فوالله ما لقيتك من مرة إلا نصرت عليّ، فلو كان إلهي محقا وإلهك مبطلا لقد غلبتك، ثم قال: "ويحك يا أبا سفيان ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله". ولم يختصر ويقل له أن تسلم لأنه ليلا شهد أن لا إله إلا الله وتوقف في(3/420)
فقال: بأبي أنت وأمي ما أحلمك وأكرمك وأوصلك أما هذه ففي النفس منها شيء.
فقال له العباس: ويحك أسلم واشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله قبل أن تضرب عنقك. فأسلم وشهد شهادة الحق. فقال العباس: يا رسول الله إن أبا سفيان رجل يحب الفخر فاجعل له شيئا، قال: "نعم".
__________
الشهادة له، "فقال: بأبي أنت وأمي ما أحلمك وأكرمك وأوصلك أما هذه ففي النفس منها شيء" لفظ ابن إسحاق: والله إن في النفس منها شيئا حتى الآن، "فقال له العباس:" خوفا عليه لئلا يبادر أحد بقتله فإنه ليس وقت مجادلة في الكلام لا سيما مع شدة حنق المسلمين عليه "ويحك أسلم واشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله قبل أن تضرب عنقك، فأسلم وشهد شهادة الحق" رضي الله عنه، وعند بن عقبة والواقدي، قال أبو سفيان، وحكيم: يا رسول الله جئت بأوباش الناس من يعرف ومن لا يعرف إلى أهلك وعشيرتك فقال صلى الله عليه وسلم: "أنتم أظلم وأفجر، فقد غدرتم بعد الحديبية وظاهرتم على بني كعب بالإثم والعدوان في حرم الله وأمنه". فقالا: صدقت يا رسول الله، ثم قالا: لو كنت جعلت جدك ومكيدتك لهوازن فهم أبعد رحما وأشد عداوة لك، فقال صلى الله عليه وسلم: "إني لأرجو من ربي أن يجمع لي ذلك كله فتح مكة وإعزاز الإسلام بها وهزيمة هوازن وغنيمة أموالهم وذراريهم فإني أرغب إلى الله تعالى في ذلك". انتهى.
ثم أراد العباس تثبيت إسلام أبي سفيان لئلا يدخل عليه الشيطان أنه كان متبوعا فأصبح تابعا ليس له من الأمر شيء "فقال العباس: يا رسول الله إن أبا سفان رجل يحب الفخر فاجعل له شيئا" قال: "نعم" وعند ابن أبي شيبة، فقال أبو بكر: يا رسول الله إن أبا سفيان رجل يحب السماع يعني الشرف، فقال: "من دخل دار أبي سفيان فهو آمن"، فقال: وما تسع داري؟ زاد ابن عقبة: "ومن دخل دار حكيم فهو آمن". وهي من أسفل مكة ودار أبي سفيان بأعلاها, "ومن دخل المسجد فهو آمن". قال: وما يسع المسجد؟ قال: " ومن أغلق بابه فهو آمن".
قال أبو سفيان: هذه واسعة، ثم لما أراد الانصراف أمر بحبسه حتى مرت عليه جنود الله، كما مر، ثم قال له العباس النجاء إلى قومك حتى إذ جاءهم صرخ بأعلى صوته يا معشر قريش هذا محمد قد جاءكم بما لا قبل لكم به.
زاد الواقدي: أسلموا تسلموا من دخل دار أبي سفيان فهو آمن. قالوا: قاتلك الله وما تغني عنا دارك؟ قال: ومن أغلق عليه بابه فهو آمن ومن دخل المسجد فهو آمن، فقامت إليه هند زوجته فأخذت بشاربه وقالت: اقتلوا الحميت الدسم الأحمس قبح من طليعة قوم. فقال: ويلكم لا تغرنكم هذه من أنفسكم فقد جاءكم بما لا قبل لكم به، فتفرقوا إلى دوركم وإلى المسجد(3/421)
وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فنادى مناديه: من دخل المسجد فهو آمن ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن إلا المستثنين.
وهم كما قال مغلطاي وغيره:
عبد الله بن سعد بن أبي سرح.
__________
كما أورده ابن إسحاق وغيره مفصلا فلخصه المصنف بقوله: "وأمر رسول الله فنادى مناديه" هو أبو سفيان كما علم: "من دخل المسجد فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن, ومن أغلق عليه بابه فهو آمن", فليس المراد أنه أمر المنادي بذلك حين سأله العباس والصديق كما قد يوهمه السياق، والحميت بفتح المهملة وكسر الميم وسكون التحتية وبالفوقية، قال: في الروض الزق نسبته إلى الضخم والسمن والدسم، بدال فسين مكسورة مهملتين الكثير الودك، والأحمس بحاء وسين مهملتين، قال في الروض: أي الذي لا خير عنده من قولهم عام أحمس إذا لم يكن فيه مطر. انتهى.
وفي النهاية الدسم الأحمس أي الأسود الدنيء، وفي حديث عبد بن حميد، أنها قالت: يا آل غالب اقتلوا الأحمس فقال لها أبو سفيان: والله لتسلمن أو لأضربن عنقك "إلا المستثنين" بوزن المصطفين فاصله متثنيين بياءين تحركت الأولى وانفتح ما قبلها فقلبت ألفا، ثم حذفت لالتقاء الساكنين، "وهم كما قاله مغلطاي وغيره" كالحافظ قال في الفتح: قد جمعت أسماءهم من متفرقات الأخبار "عبد الله بن سعد بن أبي سرح" بفتح السين وسكون الراء، وبالحاء المهملات. ابن الحارث القرشي العامري، أول من كتب بمكة له صلى الله عليه وسلم روى أبو داود، والحاكم عن ابن عباس، قال: كان عبد الله بن سعد يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم فأزله الشيطان فلحق بالكفار فأمر صلى الله عليه وسلم بقتله يعني يوم الفتح فاستجار له عثمان فأجاره أخرج ابن جرير عن عكرمة في قوله تعالى: {وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ} ، إنها أنزلت فيها، كان يكتب للنبي فيملي عليه عزيز حكيم فيكتب غفور رحيم، ثم يقرأ عليه فيقول نعم سواء فرجع عن الإسلام ولحق بقريش.
ورواه عن السدي بزيادة، وقال: إن كان محمد يوحى إليه فقد أوحي إليّ وإن كان الله ينزله فقد أنزلت مثل ما أنزل الله قال محمد: سميعا عليما فقلت أنا: عليما حكيما.
وروى الحاكم عن سعد بن أبي وقاص أنه اختبأ عند عثمان فجاء به حتى أوقفه على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبايع الناس، فقال: يا رسول الله بايع عبد الله فبايعه بعد ثلاث، ثم أقبل على أصحابه، فقال: "أما كان فيكم رجل رشيد يقوم إلى هذا حين كففت يدي عن مبايعته فيقتله"؟، فقال رجل: هلا أومأت إليّ، فقال: "إن النبي لا ينبغي أن تكون له خائنة الأعين"، وأفاد سبط(3/422)
أسلم.
وابن خطل قتله أبو برزة, وقينتاه وهما: فرتنى بالفاء المفتوحة والراء الساكنة والتاء المثناة الفوقية والنون. وقريبة بالقاف والراء والموحدة مصغرا, أسلمت إحداهما وقتلت الأخرى. وذكر غير ابن إسحاق أن التي أسلمت فرتنى وأن قريبة قتلت.
وسارة مولاة لبني المطلب.
__________
ابن الجوزي في مرآة الزمان أن الرجل عباد بن بشر الأنصاري وقيل: عمر. انتهى.
ثم أدركته العناية الأزلية وأتته السعادة الأبدية حتى "أسلم" وحسن إسلامه وعرف فضله وجهاده، وكان على ميمنة عمرو بن العاصي في فتح مصر، وكان له المواقف المحمودة في الفتوح، وهو الذي افتتح إفريقية زمن عثمان سنة ثمان أو سبع وعشرين وكان من أعظم الفتوح، بلغ سهم الفارس ثلاثة آلاف دينار، وغزا الأساود من النوبة سنة إحدى وثلاثين وهادن باقي النوبة الهدنة الباقية بعد وغزا ذات الصواري سنة أربع وثلاثين وولاه عمر صعيد مصر ثم ضم إليه عثمان مصر كلها، وكان محمودا في ولايته واعتزل الفتنة حتى مات سنة سبع أو تسع وخمسين.
روى البغوي بإسناد صحيح عن يزيد بن أبي حبيب، قال: لما كان عند الصبح، قال ابن أبي سرح: اللهم اجعل آخر عملي الصبح فتوضأ، ثم صلى فسلم عن يمينه، ثم ذهب يسلم عن يساره، فقبض الله روحه رضي الله عنه.
"وابن خطل" بفتح المعجمة والمهملة كما يأتي قريبا, ثم بعد قليل يأتي الخلاف في اسمه وقاتله، وأن الأرجح أنه "قتله أبو برزة" بفتح الموحدة وسكون الراء وفتح الزاي، آخره هاء، اسمه نضلة بن عبيد على الأصح بنون مفتوحة ومعجمة ساكنة. الأسلمي أسلم قبل الفتح وغزا سبع غزوات ثم نزل البصرة وغزا خراسان وبها مات سنة خمس وستين على الصحيح "وقينتاه" بفتح القاف وسكون التحتية فنون ففوقية تثنية قينة الأمة غنت أم لم تغن كثيرا ما يطلق على المغنية، وقد كانتا تغنيانه بهجوه صلى الله عليه وسلم، "وهما فرتنى بالفاء المفتوحة والراء الساكنة والتاء المثناة الفوقية" وتليها "النون" والقصر "وقريبة بالقاف والراء والموحدة، مصغرا" وضبطه الصغاني بفت القاف وكسر الراء، وأيده البرهان بقول الذهبي في المشتبه لم أجد أحدا بالضم لكن، قال في التقصير فيه نظر "أسلمت إحداهما" بعد أن هربت حتى استؤمن لها صلى الله عليه وسلم. "وقتلت الأخرى" كذا وقع مبهما عند ابن إسحاق "وذكر غير ابن إسحاق أن التي أسلمت فرتنى" فلم تقتل "وأن قريبة قتلت وسارة مولاة لبعض بني المطلب" بن هاشم بن عبد مناف كذا(3/423)
أسلمت، ويقال: كانت مولاة عمرو بن صيفي بن هاشم.
وأرنب -علم امرأة- وقريبة قتلت, وعكرمة بن أبي جهل: أسلم.
__________
وقع بإبهام البعض عند ابن إسحاق، "ويقال" في تعيين هذا البعض "كانت مولاة عمرو بن صيفي بن هاشم" بن المطلب بن عبد مناف وهي التي وجد معها كتاب حاطب ومر عند الفتح قيل: كانت مولاة العباس.
وفي السبل كانت نواحة مغنية بمكة فقدمت قبل الفتح وطلبت الصلة وشكت الحاجة، فقال صلى الله عليه وسلم لها $"ما كان في غنائك ما يغنيك"، فقالت: إن قريشا منذ قتل من قتل منهم ببدر تركوا الغناء فوصلها وأوقر لها بعيرا طعاما فرجعت إلى قريش وكان ابن خطل يلقي عليها هجاء رسول الله فتغني به، فأسلمت قال ابن إسحاق، ثم تعبت حتى أوطأها رجل فرسا بالأبطح فقتلها في زمن عمر "وأرنب علم امرأة" ذكرها الحاكم، وأنها مولاة ابن خطل أيضا، قتلت، وأم سعد قتلت فيما ذكره ابن إسحاق ويحتمل أن تكون أرنب وأم سعد هما القينتان، اختلف في اسمهما باعتبار الكنية واللقب، قاله في الفتح. "وقريبة قتلت" كما تراه قريبا.
وتكلف شيخنا دفع التكرار فترجى أنه ذكره لضرورة أنه في ضمن من نقل عنه بقوله ويقال: وفيه وقفة "وعكرمة بن أبي جهل" بن هشام المخزومي، "أسلم" وحسن إسلامه واستشهد بالشام في خلافة أبي بكر على الصحيح.
روى الواقدي: أنه هرب ليلقي نفسه في البحر أو يموت تائها في البلاد وكانت امرأته أم حكيم، بنت عمه الحارث أسلمت قبله، فاستأمنت له رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وروى أبو داود، والنسائي، أنه ركب البحر فأصابتهم ريح عاصف فنادى عكرمة: اللات، والعزى، فقال أهل السفينة، أخلصوا فآلهتكم لا تغني عنكم شيئا ههنا، فقال عكرمة: والله لئن لم ينجني من البحر إلا الإخلاص لا ينجيني في البر غيره اللهم لك عهد إن أنت عافيتي مما أنا فيه أن أتي محمدا حتى أضع يدي في يده فلأجدنه عفوا غفورا كريما فجاء فأسلم.
وروى البيهقي، عن الزهري، والواقدي، عن شيوخه أن امرأته، قالت: يا رسول الله قد ذهب عكرمة عنك إلى اليمن وخاف أن تقتله فأمنه فقال: هو آمن فخرجت في طلبه فأدركته وقد ركب سفينة ونؤتى بقول له أخلص أخلص قال: ما أقول؟ قال: قل: لا إله إلا الله قال: ما هربت إلا من هذا وإن هذا أمر تعرفه العرب والعجم حتى النواتي ما الدين إلا ما جاء به محمد، وغير الله قلبي وجاءت أم حكيم تقول ابن عم جئتك من عند أبر الناس وأوصل الناس وخير الناس لا تهلك نفسك إني قد استأمنت لك رسول الله فرجع وجعل يطلب جماعها فتأبى وتقول أنت كافر وأنا مسلمة، فقال: إن أمرًا منعك مني لأمر كبير فلما وافى مكة، قال صلى الله عليه وسلم لأصحابه:(3/424)
والحويرث بن نقيد: قتله علي.
ومقيس بن صبابة -بمهملة وموحدتين الأولى خفيفة- قتله نميلة الليثي.
وهبار بن الأسود وهو الذي عرض لزينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين هاجرت فنخس بها حتى سقطت على صخرة وأسقطت جنينها.
__________
"يأتيكم عكرمة مؤمنا، فلا تسبوا أباه فإن سب الميت يؤذي الحي". قال الزهري: وابن عقبة فلما رآه صلى الله عليه وسلم وثب إليه فرحا به فوقف بين يديه ومعه زوجته متنقبة فقال: إن هذه أخبرتني إنك أمنتني فقال صلى الله عليه وسلم: "صدقت فأنت آمن"، قال: إلام تدعو قال: "أدعو إلى أن تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة"، وكذا حتى عد خصال الإسلام، قال: ما دعوت إلا إلى خير وأمر حسن جميل, قد كنت فينا يا رسول الله قبل أن تدعونا، وأنت أصدقنا حديثا وأبرنا. ثم قال: فإني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، ثم قال: يا رسول الله علمني خير شيء أقول. قال: "تقول أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله"، قال: ثم ماذا؟ قال: "تقول أشهد الله وأشهد من حضرني أني مسلم مجاهد مهاجر"، فقال عكرمة ذلك.
رواه البيهقي "والحويرث" بالتصغير "ابن نقيد" بنون وقاف مصغر بن وهب بن عبد بن قصي، قال البلاذري: كان يعظم القول فيه صلى الله عليه وسلم وينشد الهجاء فيه ويكثر أذاه وهو بمكة، وقال ابن هشام وكان العباس حمل فاطمة وأم كلثوم، بنتي رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة يريد بهما المدينة، فنخس الحويرث بهما الجمل فرمى بهما الأرض, وشارك هبارا في نخس جمل زينب لما هاجرت فأهدر دمه "قتله علي" وذلك أنه سأل عنه، وهو في بيته، قد أغلق عليه بابه فقيل: هو في البادية فتنحى علي عن بابه فخرج يريد أن يهرب من بيت إلى آخر فتلقاه علي فضرب عنقه، "ومقيس" بميم فقاف فسين مهملة "ابن صبابة بمهملة مضمومة وموحدتين الأولى خفيفة" كان أسلم، ثم أتى على أنصاري فقتله، وكان الأنصاري قتل أخاه هشاما خطأ في غزوة ذي قرد ظنه من العدو, فجاء مقيس فأخذ الدية، ثم قتل الأنصاري، ثم ارتد ورجع إلى قريش فأهدر دمه "قتله نميلة" تصغير نملة ابن عبد الله "الليثي" ويقال له: الكلبي نسبة لجده الأعلى كلب بن عوف بن كعب بن عامر بن ليث وحيث يطلق الكلبي فإنما يراد به من كان من بني كلب بن وبرة كما في الإصابة. "وهبار" بفتح الهاء وشد الموحدة "ابن الأسود" بن المطلب بن أسد بن عبد العزى بن قصي القرشي، الأسدي "أسلم" رضي الله عنه بالجعرانة بعد الفتح وكان شديد الأذى للمسلمين، "وهو الذي عرض لزينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين هاجرت، فنخس بها حتى سقطت على صخرة، وأسقطت جنينها", ولم تزل مريضة حتى ماتت فأهدر دمه.(3/425)
وكعب بن زهير أسلم, وهند بنت عتبة أسلمت, ووحشي بن حرب, أسلم
__________
أخرج الواقدي عن جبير بن مطعم، قال: كنت جالسا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم منصرفه من الجعرانة فطلع هبار, فقالوا: يا رسول الله هبار بن الأسود، قال: قد رأيته فأراد رجل القيام إليه فأشار إليه أن اجلس فوقف هبار، وقال: السلام عليك يا نبي الله أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمد رسول الله, وقد هربت منك في البلاد، وأردت اللحاق بالأعاجم، ثم ذكرت عائدتك وصلتك وصفحك عمن جهل عليك وكنا يا رسول الله أهل شرك، فهدانا الله بك وأنقذنا من الهلكة فاصفح عن جهلي، وعما كان يبلغك عني فإني مقر بسوء فعلي معترف بذنبي، فقال صلى الله عليه وسلم: "قد عفوت عنك وقد أحسن الله إليك حيث هداك إلى الإسلام، والإسلام يجب ما قبله".
وروى ابن شاهين من مرسل الزهري، أن هبارا لما قدم المدينة جعلوا يسبونه فشكا ذلك له صلى الله عليه وسلم فقال: "سب من سبك". فكفوا عنه.
"وكعب بن زهير" ذكره الحاكم "أسلم" بعد ذلك ومدح وتأتي قصته، "وهند بنت عتبة" بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف القرشية العبشمية زوجة أبي سفيان، ذكره الحاكم فيمن أهدر دمه. "أسلمت" فأتته صلى الله عليه وسلم بالأبطح، وقالت: الحمد لله الذي أظهر الدين الذي اختاره لنفسه لتمسني رحمتك يا محمد. إني امرأة مؤمنة بالله مصدقة به ثم كشفت نقابها، فقالت: أنا هند بنت عتبة، فقال صلى الله عليه وسلم: مرحبا بك ثم أرسلت إليه بهدية جديين مشويين، وقديد مع جارية لها فقالت: إنها تعتذر إليك وتقول لك: إن غنمنا اليوم قليلة الوالدة، فقال صلى الله عليه وسلم: "بارك الله لكم في غنمكم وأكثر والدته". فلقد رأينا من كثرتها ما لم نره قبل ولا قريبا فتقول هند: هذا بدعائه صلى الله عليه وسلم ثم تقول: لقد كنت أرى في النوم أني في الشمس أبدا قائمة، والظل قريب مني لا أقدر عليه، فلما دنا صلى الله عليه وسلم رأيت كأني دخلت الظل. أورده الواقدي بأسانيده.
وروى الشيخان عن عائشة: قالت هند بن عتبة: يا رسول الله ما كان لي على ظهر الأرض من أهل خباء أريد أن يذلوا من أهل خبائك، ثم ما أصبح اليوم على وجه الأرض أحب إليّ من أن يعزوا من أهل خبائك.
"ووحشي بن حرب أسلم" قاتل حمزة رضي الله عنهما صح عنه أنه لما قتله بأحد قال: أقمت بمكة حتى فتحت فهربت إلى الطائف، فكنت به فلما خرج وفد الطائف ليسلموا، ضاقت عليّ المذاهب فقلت: ألحق بالشام أو باليمن أو ببعض البلاد, فوالله إني لفي ذلك من همي، إذ قال لي رجل: ويحك والله إنه ما يقتل أحدا دخل في دينه، فخرجت حتى قدمت عليه فلم يرعه إلا بي قائما على رأسه أشهد شهادة الحق. فلما رآني قال: "وحشي". قلت: نعم يا رسول الله. قال: "اقعد فحدثني كيف حمزة". فحدثته فلما فرغت, قال: "ويحك غيب وجهك عني"، فكنت(3/426)
انتهى. وابن خطل بفتح الخاء المعجمة والطاء المهملة. وابن نقيد بضم النون وفتح القاف وسكون المثناة التحتية آخره دال مهملة مصغرا.
ومقيس: بكسر الميم وسكون القاف وفتح المثناة التحتية آخره مهملة.
وقد جمع الواقدي عن شيوخه أسماء من لم يؤمن يوم الفتح وأمر بقتله عشرة أنفس، ستة رجال، وأربع نسوة.
__________
أتنكب رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث كان لئلا يراني حتى قبضه الله "انتهى" ما قاله مغلطاي وغيره.
وقال الحافظ في الفتح قد جمعت أسماءهم من مفرقات الأخبار فذكر هؤلاء وزاد وذكر أبو معشر فيمن أهدر دمه الحارث بن طلاطل الخزاعي قتله علي وأم سعد قتلت، ثم قال: فكملت العدة تسعة رجال، وست نسوة، ويحتمل أن أرنب، وأم سعد هما القينتان، اختلف في اسمهما باعتبار الكنية واللقب أي فيكون النساء أربعا "وابن خطل بفتح الخاء المعجمة" وفتح "الطاء المهملة" وباللام، واسم خطل عبد مناف من بني تيم بن فهر بن غالب "وابن نقيد بضم النون وفتح القاف وسكون المثناة التحتية آخره دال مهملة مصغرا ومقيس بكسر الميم، وسكون القاف، وفتح المثناة التحتية آخره مهملة".
"وقد جمع الواقدي" محمد بن عمر بن واقد الأسلمي أبو عبد الله المدني "عن شيوخه أسماء من لم يؤمن" بضم الياء وشد الميم مبني للمفعول أي الذين لم يؤمنهم صلى الله عليه وسلم "وأمر بقتله عشرة أنفس ستة رجال" هم: ابن سعد، وابن خطل, وعكرمة، والحويرث، ومقيس, وهبار "وأربع نسوة" قينتا ابن خطل، وسارة، وأرنب. وعد صاحب إنسان العيون ممن لم يؤمن: الحارث بن هشام، وزهير بن أبي أمية، وصفوان أسلموا، وزهير بن أبي سلمى، فأما الأخير فغلط قطعا لأنه والد كعب بن زهير ولم يدرك الإسلام، كما أخرجه ابن إسحاق وغيره، ويأتي في قصة ابنه كعب.
وأما الثلاثة قبله فيتوقف على رواية، أنه صلى الله عليه وسلم أهدر دماءهم، فإن كانت شبهته في الأولين أن أم هانئ أجارتهما، وقد كان شقيقها علي أراد قتلهما، فقال صلى الله عليه وسلم قد أجرنا من أجرت، فهذا ليس فيه أنه كان أهدر دمهما, وإرادة علي قتلهما، لكونهما كانا ممن قاتل خالدا، ولم يقبلا الأمان وفي صفوان خوفه وهروبه من النبي صلى الله عليه وسلم حين استأمنه له ابن عمه عمير بن وهب، فهذا ليس فيه ذلك أيضا فهروبه لعلمه بشدة ما فعل، ومن جملته أنه ممن جمع، وقاتل خالدا وبغضا في الإسلام حتى هداهم الله.
وقد هرب ابن الزبعرى وطائفة لم تهدر دماؤهم خوفا وبغضا، وبالجملة فزيادة لم يوجد في كلام الحفاظ النص عليها مع قول خاتمتهم جمعها من مفرقات الأخبار، مع تكلمه على(3/427)
وروى أحمد ومسلم والنسائي عن أبي هريرة قال: أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد بعث على أحد المجنبتين خالد بن الوليد، وبعث الزبير على الأخرى، وبعث أبا عبيدة على الحسر -بضم المهملة وتشديد السين المهملة، أي الذي بغير سلاح- فقال لي: "يا أبا هريرة اهتف بالأنصار"، فهتف بهم فجاءوا فطافوا به، فقال: "أترون إلى أوباش قريش وأتباعهم"، ثم قال بإحدى يديه على الأخرى: "احصدوهم حصدا، حتى توافوني بالصفا". قال أبو هريرة: فانطلقنا، فما نشاء أن نقتل أحدا منهم
__________
حديث أم هانئ في شرح الصحيح غير مرة لا تقبل إلا بثبت والله أعلم.
"وروى أحمد والنسائي عن أبي هريرة قال: أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم" فدخل مكة "وقد بعث على إحدى المجنبتين" بضم الميم، وفتح الجيم، وكسر النون المشددة، قال في النهاية، مجنبة الجيش هي التي في الميمنة والميسرة، وقيل الكتيبة، تأخذ إحدى ناحيتي الطريق، والأول أصح "خالد بن الوليد".
وفي رواية ابن إسحاق من مرسل ابن أبي نجيح أن خالدا كان على المجنبة اليمنى، "وبعث الزبير على الأخرى، وبعث أبا عبيدة على الحسر بضم الحاء المهملة وتشديد السين المهملة" فراء "أي الذين بغير سلاح", كما قاله في الفتح، وقال في النور: وهم الذين لا دروع لهم. انتهى.
فيحتمل أنها المراد بالسلاح المنفي لا مطلقا إذ الذاهب للقتال لا يخرج بلا سلاح البتة. وفي مسلم أيضا أن أبا عبيدة كان على البياذقة بتفح الموحدة وخفة التحتية فألف فذال معجمة، فقاف فتاء تأنيث أي: الرجالة فارسية معربة وكلاهما في العيون، خلافا لما أوهمه الشارح وفي مسلم وغيره أن قريشا وبشت أوباشها وأتباعها، فقالوا: تقدم هؤلاء، فإن كان لهم شيء كنا معهم وإن أصيبوا أعطينا الذي سئلنا فرآني صلى الله عليه وسلم, فقال لي: "يا أبا هريرة" قلت: لبيك قال: "اهتف" صح "بالأنصار" ولا يأتيني إلا أنصاري، "فهتف بهم، فجاءوا، فطافوا به" داروا حوله وحكمة تخصيصهم عدم قرابتهم لقريش، فلا تأخذهم بهم رأفة، فقال: "أترون إلى أوباش قريش" بفتح الهمزة، وسكون الواو، وبموحدة، فألف فمعجمة الجموع من قبائل شتى "وأتباعهم"، ثم قال: بإحدى يديه على الأخرى: "احصدوهم" بهمزة وصل فإن ابتدأت ضممت وبالحاء والصاد، المهملتين "حصدا" أي اقتلوهم وبالغوا في استئصالهم "حتى توافوني الصفا" قال الحافظ: والجمع بين هذا وبين ما مر من تأمينه لهم أن التأمين علق بشرط وهو ترك قريش المجاهرة بالقتال، فلما جاهروا به واستعدوا للحرب انتفى التأمين "قال أبو هريرة، فانطلقنا فما نشاء أن نقتل أحدًا منهم(3/428)
إلا قتلناه، فجاء أبو سفيان فقال: يا رسول الله! أبيحت خضراء قريش لا قريش بعد اليوم. فقال صلى الله عليه وسلم: "من أغلق بابه فهو آمن".
قال في فتح الباري: وقد تمسك بهذه القصة من قال: إن مكة فتحت عنوة، وهو قول الأكثر.
وعن الشافعي، وهو رواية عن أحمد: أنها فتحت صلحا، لما وقع في هذا من التأمين، ولإضافة الدور إلى أهلها؛ لأنها لم تقسم؛ ولأن الغانمين لم يملكوا دورها. وإلا لجاز إخراج أهل الدور منها.
وحجة الأولين: ما وقع التصريح به من الأمر بالقتال، ووقوعه من خالد بن الوليد، وبتصريحه عليه الصلاة والسلام بأنها أحلت له ساعة، من نهار، ونهيه عن التأسي به في ذلك.
وأجابوا عن ترك القسمة: بأنها لا تستلزم عدم العنوة، فقد تفتح البلد عنوة ويمن
__________
إلا قتلناه, فجاء أبو سفيان، فقال: يا رسول الله أبيحت" بالبناء، للمفعول أي انتهبت وتم هلاكها.
وفي رواية لمسلم أيضا أبيدت ببنائه للمفعول أي أهلكت "خضراء قريش" بخاء مفتوحة وضاد ساكنة معجمتين وبالمد جماعتهم وأشخاصهم والعرب تكنى بالسواد عن الخضرة وبها عن السواد "لا قريش بعد اليوم" وهذا صريح في أنهم أثخنوا فيهم القتل بكثرة فهو مؤيد لرواية الطبراني، أن خالدا قتل منهم سبعين, فقال صلى الله عليه وسلم: "من أغلق بابه فهو آمن" زاد في رواية: "ومن ألقى سلاحه فهو آمن". فألقى الناس سلاحهم، وغلقوا أبوابهم، "قال في فتح الباري: وقد تمسك بهذه القصة من قال: إن مكة فتحت عنوة" أي بالقهر والغلبة "وهو قول الأكثر" من العلماء.
"وعن الشافعي: وهو رواية عن أحمد أنها فتحت صلحا لما وقع في هذا من التأمين" ويأتي الجواب عنه، بأنه إنما يكون صلحا إذا كف المؤمن عن القتال وقريش لم تلتزم ذلك، بل استعدوا للحرب وقاتلوا "ولإضافة الدور إلى أهلها ولأنها لم تقسم ولأن الغانمين لم يملكوا دورها وإلا لجاز إخراج أهل الدور منها".
"وحجة الأولين ما وقع التصريح به" في الأحاديث الصحيحة "من الأمر بالقتال ووقوعه من خالد بن الوليد، وتصريحه عليه الصلاة والسلام بأنها حلت له ساعة من نهار ونهيه عن التأسي به في ذلك"؛ لأنه من خصائصه، فهذه أرع حجج قوية كل منها بانفراده كاف في الحجية, "وأجابوا عن ترك القسمة بأنها لا تستلزم عدم العنوة فقد تفتح البلد عنوة ويمن(3/429)
عن أهلها، ويترك لهم دورهم.
__________
عن أهلها ويترك لهم دورهم" وغنائمهم، ولأن قسمة الأرض المغنومة ليست متفقا عليها، بل الخلاف ثابت عن الصحابة، فمن بعدهم وقد فتحت أكثر البلاد عنوة، فلم تقسم وذلك في زمن عمر وعثمان مع وجود الصحابة.
وقد زادت مكة، بأمر يمكن أن يدعى اختصاصها به دون بقية البلاد، وهي دار النسك ومتعبد الخلق وقد جعلها الله تعالى حرما سواء العاكف فيه والبادي، هذا أسقطه المصنف من كلام الفتح، وسلم له تلامذته وغيرهم.
هذه الأدلة والأجوبة لأنها كالشمس في رابعة النهار، حتى جاء سميه الشهاب الهيثمي، فأجاب عن احتجاج الجمهور الأول بأن قوله حتى توافوني بالصفا إنما كان لخالد ومن معه الداخلين من أسفلها، فقوله احصدوهم أي إن قاتلوكم، وهذا الحصر منه عجيب.
فالحديث الصحيح بعين الأنصار فحصر في غيرهم نظرا لمذهبه يعين الانتصار مع أن خالد لم يكن معه من الأنصار أحد إنما كان في قبائل قضاعة وسليم، ومزينة، وجهينة، وغيرهم من قبائل العرب كما قاله ابن إسحاق وغيره من أئمة السير، وقوله أي إن قاتلوكم برده قول أبي هريرة، في صحيح مسلم وغيره، فانطلقنا فما نشاء أن نقتل أحدا منهم إلا قتلناه وما أحد يوجه إلينا منهم شيئا فصرح بخلاف تأويله على أن كون المراد إن قاتلوكم ينتج المدعي، وأن قريشا لم تلتزم التأمين فقاتلوهم حتى دخلوه عنوة وبهذا بطل جوابه عن الثاني بأن قتال خالد إنما كان لمن قاتله، كما أمره عليه الصلاة والسلام, قال: وبفرض، أنه باجتهاده فلا عبرة به مع رأيه صلى الله علي وسلم وفيه نظر فإنه بفرض ذلك قد أقره عليه سيد الخلق ولم يعنفه بل قال: "قضاء الله خير"، وأجاب عن الثالث، بأن حلها لا يستلزم وقوع القتال لمن لم يقاتله، وكم أحل له أشياء لم يفعلها وليس بشيء فهو عقلي مدفوع بالنقل كيف، وفي حديث مسلم كما نرى: أن الأنصار قاتلوا من لم يقاتلهم بأمره عليه الصلاة والسلام وقواه: "احصدوهم حصدا". وفي الصحيحين، والترمذي، والنسائي، قوله صلى الله عليه وسلم: "فإن أحد ترخص لقتال رسول الله فيها، فقولوا إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم". فقد صرح الدليل الصحيح بأن هذا من الأشياء التي أحلت له وفعلها، وأجاب عن الرابع بأن عدم القسمة ليس دليلا مستقلا بل مقويا يقال عليه لا تلازم فلا تقوية فيه وزعمه إمكان أنه دليل لأنه الأصل في عدم القسمة مدفوع بقيام الدليل على خلافه وهو أمره بالقتال وأنه من خصائصه فتعين حمله على أنه منّ عليهم بالأرض والأنفس، كما قال: "اذهبوا فأنتم الطلقاء". زعمه أن معناه الذين أطلقوا واسطة تركهم للقتال من أن يؤسروا أو يسترقوا فهو دليل الصلح لا العنوة، تعسف, إذ الطليق كما قاله في النهاية وتبعه في الفتح وغيره الأسير إذا أطلق، فتفسيره(3/430)
قال: وأما قول النووي: واحتج الشافعي بالأحاديث المشهورة أن النبي صلى الله عليه وسلم صالحهم بمر الظهران قبل دخول مكة ففيه نظر؛ لأن الذي أشار إليه، إن كان مراده ما وقع من قوله صلى الله عليه وسلم: "من دخل دار أبي سفيان فهو آمن". كما تقدم وكذا: "من دخل المسجد". كما عند ابن إسحاق, فإن ذلك لا يسمى صلحا إلا إذا التزم من أشير إليه بذلك الكف عن القتال.
__________
بما زعمه خلاف مدلوله بل يأباه الحديث، فإن قوله صلى الله عليه وسلم: "ماذا تقولون, ماذا تظنون ". قالوا: نقول خيرا ونظن خيرا أخ كريم، وابن أخ كريم، وقد قدرت، فقال صلى الله عليه وسلم: "فإني أقول كما قال أخي يوسف: {لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} اذهبوا، فأنتم الطلقاء".
رواه البخاري، وأحمد وغيرهما، يدل على العنوة إذ لو كان ثم صلح ما كان لقوله ذلك لهم معنى ولا لقولهم له: قد قدرت؛ لأنه لو وقع ذلك لم يكن عندهم خوف أصلا، وقد قال في الحديث بعد قوله: "فأنتم الطلقاء". فخرجوا كأنما نشروا من لقبور فدخلوا في الإسلام.
"قال" في فتح الباري عقب ما قدمت أن المصنف أسقطه من كلامه.
"وأما قول النووي: واحتج الشافعي، بالأحاديث المشهورة، أن النبي صلى الله عليه وسلم صالحهم بمر الظهران قبل دخول مكة، ففيه نظر لأن الذي أشار له إن كان مراده ما وقع من قوله صلى الله عليه وسلم: "من دخل دار أبي سفيان فهو آمن". "كما تقدم" والأمان في معنى الصلح "وكذا": "من دخل المسجد فهو آمن". "كما عند ابن إسحاق فإن ذلك لا يسمى صلحا إلا إذا التزم من أشير به بذلك الكف عن القتال".
"والذي ورد في الأحاديث الصحيحة ظاهر في أن قريشا لم يلتزموا ذلك لأنهم استعدوا للحرب" أجاب سميه بأن أكابرهم كفوا عن القتال، ولم يقع إلا من أخلاطهم في غير الجهة التي دخل منها صلى الله عليه وسلم ولا عبرة بها ولا بمن بها لأنهم كانوا أخلاطا لا يعبأ بهم، كما أطبق عليه أئمة السير، كذا قال. وليت شعري من أئمة السير الذين زعمهم وأئمتهم ابن إسحاق، والواقدي، وابن سعد، وغيرهم يقولون: إن صفوان بن أمية, وعكرمة بن أبي جهل، وسهيل بن عمرو دعوا إلى قتاله صلى الله عليه وسلم وجمعوا ناسا من قريش وغيرهم بالخندمة، وقاتلوا حتى هزمم الله أفما هؤلاء من أكابر قريش؟ أما سهيل كان صاحب الهدنة يوم الحديبية، ألم يأب من كتب البسملة ورسول الله ألم يمتنع من إجازة ابنه المسلم للمصطفى مع قوله: "أجزه لي". غير مرة.
أما عكرمة وصفوان من أجلاء يوم أحد والأحزاب، وقتال جيشه صلى الله عليه وسلم، وأن في غير الجهة التي دخل منها هو قتال له، ألم تر أن سبب الفتح هو نقضهم عهد الحديبية بقتال حلفائه خزاعة، وإنما دخل عليه من قوله: "انظروا إلى أوباش قريش وأتباعهم"، فظن أنه لم يكن فيهم أحد(3/431)
والذي ورد في الأحاديث الصحيحة ظاهر في أن قريشا لم يلتزموا ذلك لأنهم استعدوا للحرب. وإن كان مراده بالصلح وقوع عقده فهذا لم ينقل، ولا أظنه عني إلا لاحتمال الأول وفيه ما ذكرته. انتهى.
ثم دخل صلى الله عليه وسلم مكة في كتيبته الخضراء.
__________
من أكابرهم، "وإن كان مراده" أي النووي رحمه الله "بالصلح، وقوع عقده فهذا لم ينقل", فلا ينبغي أن يكون مراد مثل النووي، "ولا أظنه عني إلا الاحتمال الأول وفيه ما ذكرته" من أنهم لم يلتزموا الأمان واستعدوا للحرب، وقد علمت أنه المنقول عند أصحاب السير وغيرهم وزعم سميه أنه بفرض تأهبهم للقتال فلا يقتضي رد الصلح؛ لأنه الخوف بادرة تقع من شواذ ذلك الجيش الحافل لا سيما قد سمعوا قول سعد: اليوم يوم الملحمة، كذا قال وإنه لعجيب قوله بفرض مع قول الأئمة، دعوا إلى القتال، ونفيه اقتضاءه لعلته الباردة مردود بما صرحوا به من أن الذين اجتمعوا بالخندمة أقسموا بالله لا يدخلها محمد عليهم عنوة أبدا، فقاتلوا حتى هزموا "انتهى" كلام فتح الباري، ثم قال بعد كلام طويل وجنحت طائفة منهم الماوردي إلى أن بعضها فتح عنوة، وقد رد ذلك الحاكم في الإكليل، والحق أن صورة فتحها عنوة، وعومل أهلها معاملة من دخلت بأمان، ومنع جمع منهم السهيلي، ترتب عدم قسمتها، وجواز بيع دورها وإجارتها على أنها فتحت صلحا.
أما الأول فالإمام مخير في قسمة الأرض بين الغانمين إذا انتزعت من الكفار وبين إبقائها وقفا على المسلمين، ولا يلزم من ذلك منع بيع الدور وإجارتها.
وأما ثانيا فقال بعضهم: لا تدخل الأرض في حكم الأموال؛ لأن من مضى كانوا إذا غلبوا على الكفار، لم يغنموا الأموال، وتنزل النار فتأكلها وتصير الأرض لهم عموما كما قال تعالى: {ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةً} الآية، وقال: {وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ} الآية. انتهى.
"ثم" كما قال ابن إسحاق وغيره لما ذهب أبو سفيان إلى مكة بعدما عاين جنود الله, وانتهى المسلمون إلى ذي طوى، فوقفوا ينتظرونه صلى الله عليه وسلم حتى تلاحق الناس، فأقبل معتجرا بشقة برد حبرة حمراء "دخل صلى الله عليه وسلم" بهم "مكة" وهو يقرأ سورة الفتح يرجع صوته بالقراءة، كما أخرجه الشيخان "في كتيبته الخضراء" قال ابن هشاك: إنما قيل الخضراء لكثرة الحديد وظهوره فيها قال حسان:
لما رأى بدرا تسير جلاهه ... بكتيبة خضراء من بالخزرج
والعرب تكني بالخضرة عن السواد، وبه عنها كما مر، ولعله إيثار للون المحبوب لنفرة النفس من السواد, ولا يرد قول جابر أنه صلى الله عليه وسلم دخل مكة، وعليه عمامة سوداء بغير إحرام, وقول عمرو بن حريث: كأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة، وعليه عمامة سوداء حرقانية، قد(3/432)
وهو على ناقته القصواء بين أبي بكر وأسيد بن حضير، فرأى أبو سفيان ما لا قبل له به، فقال العباس: يا أبا الفضل! لقد أصبح ملك ابن أخيك ملكا عظيما. فقال العباس: ويحك، إنه ليس بملك ولكنها نبوة. قال: نعم.
__________
أرخى طرفها بين كتفيه.
رواهما مسلم لأن ذلك إشارة إلى أن هذا الدين لا يغير، كما أن السواد لا يقبل التغير بل جميع الألوان ترجع إليه ولا يرجع هو إلى لون منها، "وهو على ناقته القصواء" مردفا أسامة "بين أبي بكر" الصديق، "وأسيد بن حضير" بتصغيرهما، وفي كتيبته المهاجرون والأنصار، لا يرى منهم إلا الحدق من الحديد.
قاله ابن إسحاق، والواقدي وغيرهما، وتبعهم ابن سيد الناس، والشامي، الذين في يد الشارح فعجيب قوله: ذكر أبي بكر هنا لا ينافي أن كتيبته صلى الله عليه وسلم كانت من الأنصار؛ لأن المراد: أن معظمها كان من الأنصار، وكان ذلك دخل عليه من العبارة الثانية التي في ابن سيد الناس، وهي: فأقبل صلى الله عليه وسلم في كتيبة الأنصار، وغفل عن الأولى فوهم.
وأما ما رواه الطبراني، عن علي أنه صلى الله عليه وسلم دخل يوم الفتح بين عتبة ومعتب ابني أبي لهب، يقول للناس: "هذان أخواي، وابنا عمي". فرحا بإسلامهما، "استوهبتهما من الله فوهبهما لي". فهذا لما دخل المسجد بعد ذلك في أيام إقامته بعد أن أسلما.
وقد روى ابن سعد عن العباس لما قدم صلى الله عليه وسلم مكة في الفتح قال لي: "يا عباس أين ابنا أخيك عتبة ومعتب لا أراهما"؟. قلت: تنحيا فيمن تنحى من مشركي قريش. قال: "اذهب فائتني بهما". فركبت إلى عرفة فأتيتهما، فقلت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوكما فركبا معي مسرعين، فدعاهما فأسلما، وبايعا، فقال صلى الله عليه وسلم: "إني استوهبت ابني عمي هذين من ربي فوهبهما لي".
قال في الإصابة: ويجمع بينه وبين حديث علي بأنه دخل المسجد بينهما بعد أن أحضرهما العباس "فرأى أبو سفيان ما لا قبل" بكسر ففتح: طاقة "له به، فقال للعباس: يا أبا الفضل لقد أصبح ملك ابن أخيك ملكا" لفظ ابن إسحاق الغداة بدل ملكا "عظيما، فقال العباس: ويحك" نصب وجوبا لإضافته، فإن لم يضف كويح لزيد جاز رفعه على الابتداء ونصبه بإضمار فعل.
وحكى ابن عصفور أنه استعمل من ويح فعل واح ويحا. "إنه ليس بملك ولكنه نبوة. قال: نعم".
قال السهيلي: قال شيخنا أبو بكر يعني ابن العربي إنما أنكر ذكر الملك مجردا عن النبوة، مع أنه كان أول دخوله في الإسلام، وإلا فجائز أن يسمى مثل هذا ملكا وإن كان لنبي، فقد قال الله تعالى لداود: {وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ} ، وقال سليمان: {وَهَبْ لِي مُلْكًا} غير أن الكراهة(3/433)
وروي أنه صلى الله عليه وسلم وضع رأسه تواضعا لله لما رأى ما أكرمه الله به من الفتح، حتى إن رأسه لتكاد تمس رحله شكرا وخضوعا لعظمته أن أحل له بلده، ولم يحله لأحد قبله ولا لأحد بعده.
__________
أظهر في تسمية حاله صلى الله عليه وسلم ملكا لأنه خير بين أن يكون نبيا عبدا أو نبيا ملكا، فالتفت إلى جبريل فأشار إليه، أن تواضع، فقال: "بل نبيا عبدا أشبع يوما وأجوع يوما". وإنكار العباس يقوي هذا المعنى، وأمر الخلفاء الأربعة بعده يكره أيضا أن يسمى ملكا لقوله صلى الله عليه وسلم: "تكون بعدي خلفاء، ثم تكون أمراء, ثم تكون ملوك، ثم جبابرة"، ويروى: "ثم تكون بزيزيا" وهو تصحيف. قال الخطابي: إنما هو فريرا أي: قتل وسلب. انتهى.
وروى الحافظ محمد بن يحيى الدهلي، بالذال واللام من مرسل سعيد بن المسيب، لما دخل صلى الله عليه وسلم مكة ليلة الفتح لم يزالوا في تكبير وتهليل وطواف بالبيت حتى أصبحوا، فقال أبو سفيان: قلت لهند: أترين هذا من الله؟ ثم أصبح فقال له عليه السلام: "قلت لهند أترين هذا من الله؟ ". قال: "نعم هذا من الله". فقال أبو سفيان: أشهد أنك عبد الله ورسوله والذي يحلف به ما سمع قولي هذا إلا الله وهند.
"وروي" عن ابن إسحاق من مرسل شيخه عبد الله بن أبي بكر "أنه صلى الله عليه وسلم" وقف على راحلته معتجرا بشقة برد حبرة أحمر، "وضع رأس تواضعا لله لما رأى ما أكرمه الله به من الفتح حتى أن رأسه" لفظ ابن إسحاق عثنونه، وهو بضم المهملة والنون بينهما مثلثة ساكنة، أي لحيته "لتكاد تمس رحله" لفظه أيضا واسطة الرحل فكان المصنف عبر بالرأس، لأنه الظاهر للرائي غالبا عند الخفض وهو الذي يرفعه المتكبرون عادة دون بقية الأجزاء، وقد روى الحاكم، بسند جيد قوي عن أنس قال: لما دخل صلى الله عليه وسلم مكة يوم الفتح استشرفه الناس فوضع رأسه على رحله متخشعا.
وروى الواقدي عن أبي هريرة دخل صلى الله عليه وسلم يومئذ حتى وقف بذي طوى وتوسط الناس، وأن عثنونه ليمس واسطة رحله أو يقرب منها تواضعا لله حين رأى ما رأى من فتح الله وكثرة المسلمين، ثم قال: "اللهم إن العيش عيش الآخرة"، وجعلت الخيل تجمع بذي طوى في كل وجه، ثم ثابت وسكنت، حتى توسطهم صلى الله عليه وسلم فأفاد أن ابتداء فعله ذلك من ذي طوى واستمر حتى دخل مكة "شكرا وخضوعا لعظمته" أي لذاته المتصفة بالعظمة.
فالعظمة هي المجموع من الذات والصفات، فلا يرد أن الخضوع إنما هو للذات "أن أحل له بلده" أي القتال فيه ومع ذلك، فلا خلاف أنه لم يجر فيها قسمة غنيمة، ولا سبى من أهلها أحدا بل منّ عليهم بأموالهم وأنفسهم، كما في الروض وغيره وعند أبي داود، بإسناد حسن عن جابر، أنه سئل هل غنمتم يوم الفتح شيئا؟ قال: لا "ولا يحله لأحد قبله ولا لأحد بعده", كما(3/434)
وفي البخاري من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة يوم الفتح وعلى رأسه المغفر -وهو بكسر الميم وسكون الغين المعجمة وفتح الفاء: زرد ينسج من الدروع على قدر الرأس، وفي الحكم: هو ما يجعل من فضل درع الحديد الرأس مثل القلنسوة- فلما نزعه جاء رجل فقال: ابن خطل متعلق بأستار الكعبة، فقال: "اقتلوه".
وفي حديث سعيد بن يربوع.
__________
أخبر عليه السلام.
وروى الطبراني عن أبي سعيد الخدري، قال صلى الله عليه وسلم يوم الفتح: "هذا ما وعدني ربي"، ثم قرأ: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} .
"وفي البخاري" في الحج، والجهاد والمغازي، واللباس، ومسلم، والسنن الأربعة كلهم. "من حديث" مالك عن ابن شهاب عن "أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة يوم الفتح، وعلى رأسه المغفر" وفي رواية عن مالك خارج الموطأ: مغفر من حديد.
رواه الدارقطني من رواية عشرة عن مالك كذلك، وفي بعضها أنه قال: "من رأى منكم ابن خطل فليقتله". وفي بعضها: كان يهجوه بالشعر "وهو بكسر الميم وسكون الغين المعجمة" وفتح الفاء بعدها "راء "زرد ينسج من" زرد "الدروع" المتصل بها جمع درع وهو ما يلبس من الحديد، كالثوب "على قدر الرأس وفي الحكم" لابن سيده "وهو ما يجعل من فضل" زيادة "درع الحديد" المتصل به "على الرأس مثل القلنسوة" والعبارتان بمعنى وإنما أتى بعبارة المحكم لزيادته فيها على الرأس لأن قوله في الأولى على قدر لا يلزم منه كونها عليه وأما مثل القلنسوة، فمفاد قول الأولى على قدره زاد المصنف في الحج أو رفرف البيضة، أو ما غطى الرأس من السلاح، كالبيضة "فلما نزعه جاء رجل" قال الحافظ: لم يسم، وتبعه المصنف في المغازي، وقال في الحج: هو أبو برزة الأسلمي كما جزم به الفاكهاني في شرح العمدة، والكرماني.
قال البراوي: وكذا ذكره ابن طاهر، وغيره وقيل: سعيد بن حريث. انتهى.
"فقال ابن خطل متعلق بأستار الكعبة" وذلك أنه خرج، كما ذكر الواقدي إلى الخندمة ليقاتل على فرس وبيده قناة، فلما رأى خيل الله والقتال دخله رعب حتى ما يستمسك من الرعدة فرجع حتى انتهى إلى الكعبة، فنزل عن فرسه وطرح سلاحه، ودخل تحت أستار الببيت فأخذ رجل من بني كعب سلاحه وفرسه فاستوى عليه وأخبر المصطفى. فقال: "اقتلوه ".
زاد الوليد بن مسلم عن مالك فقتل، أخرجه ابن عائذ، وصححه ابن حبان "وفي حديث سعيد بن يربوع" القرشي، المخزومي، صحابي كان اسمه الصرم، ويقال: أصرم فغيره عليه السلام.(3/435)
عند الدارقطني والحاكم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أربعة لا أؤمنهم في حل ولا حرم: الحويرث وهلال بن خطل ومقيس بن صبابة وعبد الله بن أبي سرح". قال: فأما هلال بن خطل قتله الزبير. الحديث.
وفي حديث سعد بن أبي وقاص عند البزاز والحاكم والبيهقي في الدلائل نحوه، لكن قال: أربعة نفر وامرأتان وقال: "اقتلوهم وإن وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة". فذكره. لكن قال: عبد الله بن خطل بدل هلال، وقال عكرمة بدل الحويرث، ولم يسم المرأتين. وقال: فأما عبد الله بن خطل فأدرك وهو متعلق بأستار الكعبة فاستبق إليه سعيد بن حريث وعمار بن ياسر فسبق سعيد عمارا، وكان أشب الرجلين فقتله. الحديث.
وروى ابن أبي شيبة من طريق أبي عثمان.
__________
مات سنة أربع وخمسين وله مائة وعشرون سنة أو أزيد.
"عند الدارقطني والحاكم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أربعة لا أؤمنهم في حل، ولا" في "حرم" إن استمروا على كفرهم فلا ينافي أنه أمن ابن أبي سرح، لإسلامه أو هو من سلب العموم لا عموم السلب أي لا أؤمن جملتهم والأول أظهر هنا "الحويرث وهلال بن خطل، ومقيس بن صبابة وعبد الله بن أبي سرح" وكأنه خصهم بالذكر لشدة ما وقع منهم، من أذى الإسلام وأهله فلا ينافي أنه أهدر دم غيرهم وهي نكتة للتخصيص وإلا فمعلوم أن مفهوم العدد لا يفيد الحصر ولا يصح أن معناه حتم قتلهم لعفوه عن ابن أبي سرح "قال: فأما هلال بن خطل فقتله الزبير. الحديث" والغرض منه تسمية ابن خطل وقاتله.
"وفي حديث سعد بن أبي وقاص عند البزار، والحاكم، والبيهقي في الدلائل نحوه لكن" فيه مخالفات بينها بقوله "قال أربعة نفر" إضافة بيانية أي: هم نفر أي رجال "وامرأتان"، وقال: "اقتلوهم، وإن وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة" بدل قوله: "لا أؤمنهم في حل ولا حرم"، "فذكره لكن قال" سعد: في حديثه لي بيان الأربعة عن المصطفى "عبد الله بن خطل بدل هلال، وقال عكرمة" بن أبي جهل "بدل الحويرث، ولم يسم المرأتين" وهما من الست أو الأربع السابقات.
"وقال" سعد "فأما عبد الله بن خطل فأدرك وهو متعلق بأستار الكعبة فاستبق إليه سعيد بن حريث" ابن عمرو بن عثمان بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم القرشي، المخزومي، الصحابي، "وعمار بن ياسر فسبق سعيد عمارا وكان أشب الرجلين فقتله. الحديث".
"وروى ابن أبي شيبة من طريق أبي عثمان" عبد الرحمن بن مل بميم مثلثة، ولام ثقيلة(3/436)
النهدي: أن أبا برزة الأسلمي قتل ابن خطل وهو متعلق بأستار الكعبة وإسناده صحيح مع إرساله.
ورواه أحمد من وجه آخر، وهو أصح ما ورد في تعيين قاتله، وبه جزم البلاذري وغيره من أهل الأخبار.
وتحمل بقية الروايات على أنهم ابتدروا قتله فكان المباشر له منهم أبو برزة، ويحتمل أن يكون غيره شاركه فيه، فقد جزم ابن هشام في السيرة: بأن سعيد بن حريث وأبا برزة الأسلمي اشتركا في قتله.
وإنما أمر بقتل ابن خطل، لأنه كان مسلما فبعثه صلى الله عليه وسلم مصدقا، وبعث معه رجلا من الأنصار.
__________
"النهدي" بفتح النون، وسكون الهاء، المخضرم الثقة، الثبت العابد، "أن أبا برزة" بفتح الباء، والزاي بينهما راء ساكنة، نضلة بن عبيد "الأسلمي قتل ابن خطل وهو متعلق بأستار الكعبة وإسناده صحيح مع إرساله" وله شاهد عند ابن المبارك في كتاب البر والصلة من حديث أبي برزة نفسه.
"ورواه أحمد من وجه آخر وهو أصح ما ورد في تعيين قاتله" وقد رجحه الواقدي "وبه جزم" أحمد بن يحيى الحافظ الأخباري، العلامة "البلاذري" صاحب التاريخ "وغيره من أهل" العلم بـ"الأخبار وتحمل بقية الروايات" المخالفة له "على أنهم ابتدروا قتله فكان المباشر" بالنصب خبر كان "له منهم" واسمهما "أبو برزة ويحتمل أن يكون غيره شاركه فيه فقد جزم ابن هشام في" تهذيب "السيرة" لابن إسحاق عنه "بأن سعيد بن حريث، وأبا برزة الأسلمي اشتركا في قتله" هكذا في الفتح هنا وزاد في المقدمة.
وروى الحاكم: أن قاتله سعيد بن زيد, وروى البزار: أنه سعد بن أبي وقاص, وقيل: عمار بن ياسر، قال: ويجمع بينه بأنهم ابتدروا, أي: قتله, والذي باشر قتله منهم هو سعيد بن حريث. انتهى. وما جمع به في الفتح أحسن, وقيل: قتله شريك بن عبدة العجلاني، حكاه الواقدي، وأخرج عمر بن شبة في كتاب مكة عن السائب بن يزيد، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم استخرج من تحت أستار الكعبة ابن خطل فضربت عنقه صبرا بين زمزم ومقام إبراهيم، وقال: "لا يقتل قرشي، بعد هذا صبرا". قال الحافظ: رجال ثقات، إلا أن في أبي معشر مقالا "وإنما أمر بقتل ابن خطل" كما قاله ابن إسحاق وغيره "لأنه كان مسلما فبعثه صلى الله عليه وسلم مصدقا" بضم الميم وفتح الصاد، وكسر الدال مشددة, ويجوز إسكان الصاد، وتخفيف الدال المكسورة كما قاله البرهان، وتبعه الشامي، أي: آخذا لصدقات النعم "وبعث معه رجلا من الأنصار" كذا في رواية ابن إسحاق ونقله اليعمري،(3/437)
وكان معه مولى يخدمه -وكان مسلما- فنزل منزلا فأمر المولى أن يذبح تيسا ويصنع له طعاما ونام، فاستيقظ ولم يصنع له شيئا، فعدى عليه فقتله، ثم ارتد مشركا، وكانت له فتاتان تغنيان بهجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأما الجمع بين ما اختلف فيه من اسمه، فإنه كان يسمى عبد العزى، فلما أسلم سمي عبد الله، وأما من قال: هلال، فالتبس عليه بأخ له اسمه هلال.
وفي أبي داود من حديث مصعب: لما كان يوم الفتح أمن رسول الله صلى الله عليه وسلم
__________
وغيره. قال البرهان: ولا أعرف اسمه.
ووقع عند الواقدي، وتبعه الشامي، من خزاعة، ولا شك في تقديم ابن إسحاق على الواقدي، فلا يتم لنا تجويز العقل أنه أطلق عليه أنصاريا لكونه حليفا لهم "وكان معه مولى يخدمه" قال البرهان هذا المولى لا أعرف اسمه أيضا "وكان مسلما" فرواية ابن إسحاق هذه ظاهرها أنهما اثنان، وعليه جرى كما ترى البرهان.
وأما الواقدي فلم يذكر إلا الرجل الخزاعي وتبعه الشامي واعتمده الشارح فجعل ضمير كان للأنصاري أي: وكان الأنصاري مع ابن خطل خادما له فسمي مولى تجوزا، ومن ثم عبر الكلاعي بأنه كان معه رجل مسلم يخدمه. انتهى.
وهو واضح لو كان الذي اقتصر على واحد نفي الثاني وأيضا، فالذي ذكر الاثنين أوثق ممن ذكر الواحد بل هو متروك فلا يرد له كلام الثقة، فإن زيادة الثقة مقبولة وابن إسحاق صدوق، وقد أقر كلامه اليعمري والعسقلاني وغيرهما غير معرجين على غيره "فنزل منزلا فأمر المولى أن يذبح تيسا ويصنع له طعاما ونام" نصف النهار، "فاستيقظ ولم يصنع له شيئا فعدا" بعين مهملة من العدوان "عليه فقتله ثم ارتد مشركا" أتى به؛ لأن الردة تكون بغير الشرك الذي هو عبادة الأوثان كالتهود، "و" لأنه "كانت له فتاتان" أمتان "تغنيان بهجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم" فهذا سبب إهدار دمه، واختلاف الروايات في قتله فأما الجمع بينه فهو ما علمته "وأما الجمع بين ما اختلف فيه من اسمه" فهو عطف على مقدر وما موصولة، صفة لمحذوف أي الروايات التي اختلفت، في تعيين اسمه "فإنه" بالفاء جواب أما وفي نسخة بحذفها على تقدير فأقول: إنه "كان يسمى عبد العزى، فلما أسلم سمي عبد الله" المسمي له النبي صلى الله عليه وسلم كما في المقدمة وغيرها.
"وأما من قال هلال فالتبس عليه بأخ له اسمه هلال وفي أبي داود" والحاكم "من حديث مصعب" بن سعد بن أبي وقاص، الزهري المدني الثقة، أي عن أبيه لأنه الواقع في أبي داود، لا أنه من مرسل مصعب كما أوهمه المصنف "لما كان يوم الفتح أمن رسول الله صلى الله عليه وسلم(3/438)
الناس إلا أربعة نفر فذكرهم ثم قال: وأما ابن أبي سرح فاختبأ عند عثمان بن عفان رضي الله عنه فلما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس إلى البيعة، جاء به حتى أوقفه على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبي الله بايع عبد الله، فرفع رأسه فنظر إليه مليا ثلاثا، كل ذلك يأبى، فبايعه بعد ثلاث، ثم أقبل على أصحابه فقال: "أما كان فيكم رجل رشيد يقوم إلى هذا حيث رآني كففت عن بيعته فيقتله"؟. فقالوا: يا رسول الله ما ندري ما في نفسك، ألا أومأت إلينا؟ فقال: "إنه لا ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين". الحديث.
__________
الناس إلا أربعة نفر فذكرهم" فقال: عكرمة وابن خطل ومقيس وابن أبي سرح، "ثم قال وأما ابن أبي سرح فاختبأ عند عثمان بن عفان رضي الله عنه" وكان أخاه من الرضاعة كما عند ابن إسحاق.
"فلما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس إلى البيعة جاء به" عثمان "حتى أوقفه" لغة قليلة والكثير وقفه "على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال" عثمان: "يا نبي الله بايع عبد الله فرفع رأسه فنظر إليه مليا" طويلا "ثلاثا كل ذلك يأبى" أن يبايعه، "فبايعه بعد ثلاث ثم" لما انصرف عثمان به كما عند ابن إسحاق "أقبل على أصحابه"، فقال: "أما" فهمزة الاستفهام مقدرة "كان فيكم رجل رشيد" يفهم مرادي "يقوم إلى هذا حين كففت عن بيعته فيقتله" فالاستفهام للوم على عدم قتله وعند ابن إسحاق لقد صمت ليقوم إليه بعضكم فيضرب عنقه "قالوا": وعند ابن إسحاق: ورواه الدراقطني عن أنس وعن سعيد بن يربوع، وابن عساكر عن عثمان فقال رجل من الأنصار. قال في الإصابة وأفاد سبط ابن الجوزي في مرآة الزمان: أنه عباد بن بشر الأنصاري وقيل: عمر. انتهى.
وتسمي عمر أنصاريا بالمعنى الأعم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ} "يا رسول الله ما ندري ما في نفسك ألا أومأت إلينا" أشرت بحاجب أو بيد أو غيرهما، فقال: "إنه لا ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين" هي الإيماء إلى مباح من نحو ضرب أو قتل على خلاف ما يظهر.
سمي بذلك لشبهه بالخيانة لإخفائه كما لو أومأ لقتله حين طلب عثمان مبايعته فإنه خلاف الظاهر من سكوته وتجوز لغيره إلا في محظور، وعليه قوله: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} ، فإن فيه ذم النظر إلى ما لا يجوز كما فسره به ابن عباس ومجاهد وغيرهما، وفسره السدي والضحاك، بالرمز بالعين "الحديث" وعند ابن إسحاق، قال: فهلا أومأت إليّ، قال: إن(3/439)
قال مالك -كما رواية البخاري: ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما نرى يومئذ محرما. انتهى.
وقول مالك هذا رواه عبد الرحمن بن مهدي عن مالك جازما به. أخرجه الدارقطني في الغرائب.
ويشهد له ما رواه مسلم من حديث جابر: دخل صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة وعليه عمامة سوداء بغير إحرام.
وروى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن طاوس قال: لم يدخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة إلا محرما إلا يوم فتح مكة.
وقد اختلف العلماء: هل يجب على من دخل مكة الإحرام أم لا؟
__________
النبي لا يقتل بالإشارة وكان عبد الله بعد ذلك ممن حسن إسلامه ولم يظهر منه شيء ينكر عليه، وكانت له المواقف المحمودة في الفتوح، والولاية المحمودة، وهو أحد النجباء العقلاء الكرماء من قريش، وكان فارس بني عامر بن لؤي المقدم فيهم. وولاه عمر ثم عثمان وتقدم مزيد لذلك "قال مالك" الإمام الأعظم "كما في رواية البخاري، ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما نرى" بضم النون، وفتح الراء أي: نظن, والله أعلم.
"يومئذ محرما" أي لم يرو أحد أنه تحلل يومئذ من إحرامه "انتهى، وقول مالك هذا رواه عبد الرحمن بن مهدي" بن حسان العنبري، مولاهم البصري الثقة الثبت الحافظ العارف بالرجال والحديث.
روى له الستة "عن مالك جازما به" فأسقط قوله فيما نرى, والله أعلم.
"أخرجه الدارقطني في الغرائب" أي غرائب الرواة، عن مالك "ويشهد له ما رواه مسلم" والإمام أحمد، وأصحاب السنن الأربعة "من حديث جابر: دخل صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة وعليه عمامة سوداء بغير إحرام" فصرح بما جزم به مالك أو ظنه، "و" ما "روى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن طاوس" بن كيسان اليماني الثقة الفقيه، المتوفى سنة ستين ومائة أو بعدها، روى له الجماعة "قال: لم يدخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة إلا محرما إلا يوم فتح مكة" وستر الرأس بالمغفر يدل على ذلك أيضا.
وقول ابن دقيق العيد يحتمل أنه محرم وغطاه لعذر تعقب بتصريح جابر وغيره بأنه لم يكن محرما.
"وقد اختلف العلماء، هل يجب على من دخل مكة" ولم يقصد النسك "الإحرام أم لا؟(3/440)
فالمشهور من مذهب الشافعي عدم الوجوب مطلقا. وفي قول: يجب مطلقا، وفيمن يتكرر دخوله خلاف مرتب، وهو أولى بعدم الوجوب.
والمشهور عند الأئمة الثلاثة: الوجوب. وفي رواية عن كل منهم: لا يجب، وجزم الحنابلة باستثناء ذوي الحاجات المتكررة، واستثنى الحنفية من كان داخل الميقات, والله أعلم.
وقد زعم الحاكم في الإكليل: أن بين حديث أنس في المغفر وبين حديث جابر في العمامة السوداء معارضة.
وتعقبوه باحتمال أن يكون أول دخوله كان على رأسه المغفر ثم أزاله ولبس العمامة بعد ذلك، فحكى كل منهما ما رآه.
ويؤيده: أن في حديث عمرو بن حريث أنه خطب الناس وعليه عمامة سوداء. أخرج مسلم أيضا: وكانت الخطبة عند باب الكعبة وذلك بعد تمام الدخول. وهذا الجمع للقاضي عياض.
__________
فالمشهور من مذهب الشافعي عدم الوجوب مطلقا" سواء تكرر دخوله أم لا، "وفي قول" للشافعي: "يجب مطلقا وفيمن يتكرر دخوله خلاف مرتب" مفرع على القولين "وهو أولى بعدم الوجوب، والمشهور عند الأئمة الثلاثة الوجوب" ودخوله بلا إحرام من خصائصه.
"وفي رواية عن كل منهم لا يجب وجزم الحنابلة باستثناء ذوي الحاجات المتكررة" كحطاب وصياد "واستثنى الحنفية من كان داخل الميقات, والله أعلم" بحكمه.
"وقد زعم الحاكم في الإكليل أن بين حديث أنس في المغفر وبين حديث جابر في العمامة السوداء، معارضة وتعقبوه" بأن التعارض إنما يتحقق إذا لم يمكن الجمع، وهنا يمكن "باحتمال أن يكون دخوله كان على رأسه المغفر، ثم أزاله ولبس العمامة، بعد ذلك، فحكى كل منهما، ما رآه ويؤيده" أي: التعقب "أن في حديث عمرو بن حريث أنه خطب الناس وعليه عمامة سوداء".
"أخرجه مسلم أيضا وكانت الخطبة عند باب الكعبة وذلك بعد تمام الدخول وهذا الجمع للقاضي عياض" ولا يرد عليه ما ذكره ابن إسحاق والواقدي، أنه لما وصل لذي طوى كان معتجرا بشقة برد حبرة حمراء، وعند الثاني وعليه عمامة سوداء لأنه بفرض صحته يحتمل أنه لما وصل لذي طوى نزعها ولبس المغفر، ثم دخل به مكة ثم بعد أن استقر نزع المغفر ولبس(3/441)
وقال غيره: يجمع بأن العمامة السوداء كانت ملفوفة فوق المغفر، أو كانت تحت المغفر وقاية لرأسه من صدإ الحديد، فأراد أنس بذكر المغفر كونه دخل متأهبا للحرب، وأراد جابر بذكر العمامة كونه دخل غير محرم.
وفي البخاري عن أسامة بن زيد أنه قال زمن الفتح: يا رسول الله! أين تنزل غدا؟
__________
العمامة السوداء، "وقال غيره يجمع بأن العمامة السوداء، كانت ملفوفة فوق المغفر" إشارة للسؤدد وثبات دينه وأنه لا يغير، "أو كانت تحت المغفر وقاية لرأسه من صدإ الحديد" بالهمز، فأراد أنس بذكر المغفر كونه دخل متأهبا للحرب، وأراد جابر بذكر العمامة كونه دخل غير محرم،" وهذا أوفق بما مر من أنه وصل إلى ذي طوى وعلى رأسه العمامة وقد زعم ابن الصلاح وغيره، تفرد مالك عن الزهري بذكر المغفر وتعقبه الحافظ العراقي بأنه ورد من عدة طرق عن ابن شهاب غير طريق مالك، فذكر أربعة تابعوا مالكا، ثم قال: وروى ابن مسدي، أن أبا بكر بن العربي، قال لأبي جعفر بن المرخي حين ذكر أن مالكا تفرد به قد رويته من ثلاثة عشر طريقا غير طريق مالك، فقالوا له: أفدنا هذه الفوائد فوعدهم ولم يخرج لهم شيئا، وقال الحافظ بن حجر في نكته: استبعد أهل إشبيلية قول ابن العرجي حتى قال قائلهم:
يا أهل حمص ومن بها أوصيكم ... بالبر والتقوى وصية مشفق
فخذوا عن العربي أسمار الدجى ... وخذوا الرواية عن إمام متقي
إن الفتى ذرب اللسان مهذب ... إن ل يجد خبرا صحيحا يخلق
وأراد بأهل حمص أهل إشبيلية، قال الحافظ: وقد تتبعت طرقه فوجدته، كما قال ابن العربي، بل أزيد فعد ستة عشر نفسا غير مالك رووه عن الزهري، وعزاها لمخرجيها، قال: ولم ينفرد الزهري به بل تابعه سعد بن أبي وقاص، وأبو برزة الأسلمي في سنن الدارقطني وعلي بن أبي طالب في المشيخة الكبرى لأبي محمد الجوهري، وسعيد بن يربوع، والسائب بن يزيد في مستدرك الحاكم. قال: فهذه طرق كثيرة غير طريق مالك عن الزهري، عن أنس فكيف يحل لأحد أن يتهم إماما من أئمة المسلمين بغير علم ولا اطلاع. انتهى.
ونحوه في الفتح وزاد لكن ليس في شيء من طرقه على شرط الصحيح إلا طريق مالك، وأقربها طريق ابن أخي الزهري عند البزار ويليها رواية أبي أويس عند ابن سعد، وابن عدي فيحمل قول من قال تفرد به مالك أي بشرط الصحة وقول من قال توبع أي في الجملة.
"وفي البخاري" في الحج والجهاد، والمغازي ومسلم في الحج "عن أسامة بن زيد" الحب بن الحب، "أنه قال زمن الفتح" قبل أن يدخلها بيوم "يا رسول الله أين تنزل غدا؟ " زاد في(3/442)
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "وهل ترك لنا عقيل من منزل"؟. وفي رواية: "وهل ترك لنا عقيل من رباع أو دور"؟.
وكان عقيل ورث أبا طالب هو وطالب، ولم يرث جعفر ولا علي شيئا لأنهما كانا مسلمين، فكان.
__________
الحج: في دارك بمكة.
قال الحافظ: حذفت أداة الاستفهام من قوله في دارك بدليل رواية ابن خزيمة والطحاوي، والجوزي بلفظ: أتنزل في دارك؟ فكأنه استفهمه أولا عن مكان نزوله ثم ظن أنه ينزل في داره فاستفهم عن ذلك "فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "وهل ترك لنا عقيل" بفتح العين وكسر القاف "من منزل" هذا لفظ رواية المغازي.
"وفي رواية" للبخاري في الحج، عن أسامة: "وهل ترك لنا عقيل من رباع" جمع ربع بفتح الراء، وسكون الموحدة، وهو المنزل المشتمل على أبيات وقيل: الدار فعليه قوله: "أو دور" إما للتأكيد أو من شك الراوي، قاله الحافظ, وجمع النكرة، وإن كانت في سياق الاستفهام الإنكاري تفيد العموم، للإشعار بأنه لم يترك من الرباع المتعددة، شيئا ومن للتبعيض قاله الكرماني.
قال الحافظ: وأخرج هذا الحديث الفاكهي، وقال في آخره: ويقال: إن الدار التي أشار إليها كانت دار هاشم، ثم صارت لابنه عبد المطلب، فقسمها بين ولده حين عمي، ثم صار للنبي صلى الله عليه وسلم حظ أبيه, قال المصنف: وظاهره أنها كانت ملكه، فأضافها إلى نفسه، فيحتمل أن عقيلا تصرف فيها كما فعل أبو سفيان بدور المهاجرين، ويحتمل غير ذلك، وقد فسر الراوي ولعله أسامة، المراد بما أدرجه هنا حيث قال: "وكان عقيل، ورث أبا طالب هو و" أخوه "طالب" المكنى به "ولم يرث جعفر ولا علي شيئا لأنهما كانا مسلمين".
قال الحافظ: هذا يدل على تقدم هذا الحكم من أوائل الإسلام لموت أبي طالب قبل الهجرة، فلما هجر استولى عقيل وطالب على الدار كلها باعتبار ما ورثاه، وباعتبار تركه صلى الله عليه وسلم لحقه منها بالهجرة، وفقد طالب ببدر، فباع عقيل الدار كلها، واختلف في تقريره عليه الصلاة والسلام عقيلا على ما يخصه، فقيل: ترك له ذلك تفضلا عليه وقيل: استمالة وتأليفا وقيل: تصحيحا لتصرفات الجاهلية كما تصحح أنكحتهم قال الخطابي: إنما لم ينزل فيها لأنها دور هجروها لله فلم يرجعوا فيما تركوه, وتعقب بأن سياق الحديث يقتضي أن عقيلا باعها ومفهومه أنه لو تكرها بغير بيع لنزلها. وحكى الفاكهي: أن الدار لم تزل بيد أولاد عقيل حتى باعوها لمحمد بن يوسف أخي الحجاج بمائة ألف دينار وكان علي بن الحسين يقول من أجل ذلك تركنا نصيبنا من الشعب، أي: حصة جدهم علي من أبيه أبي طالب "فكان".(3/443)
عمر بن الخطاب يقول: لا يرث الكافر المسلم ولا المسلم الكافر.
وفي رواية أخرى قال عليه الصلاة والسلام: "منزلنا إن شاء الله تعالى -إذا فتح الله- الخيف حيث تقاسموا على الكفر". يعني به المحصب، وذلك أن قريشا وكنانة.
__________
وعند الإسماعيلي فمن أجل ذلك كان "عمر بن الخطاب، يقول: لا يرث الكافر المسلم، ولا المسلم الكافر", قال الحافظ: هذا القدر الموقوف على عمر قد ثبت مرفوعا بهذا الإسناد عند البخاري في المغازي، من طريق ابن جريج عنه، ويختلج في خاطري أن قائل: فكان عمر ... إلخ، هو ابن شهاب، فيكون منقطعا عن عمر. انتهى.
وقد رفعه البخاري، هنا في نفس حديث أسامة، هذا ولفظه فقال صلى الله عليه وسلم: "وهل ترك لنا عقيل من منزل" ثم قال: "لا يرث المؤمن الكافر، ولا يرث الكافر المؤمن".
وروى الواقدي عن أبي رافع قيل للنبي صلى الله عليه وسلم ألا تنزل منزلك من الشعب فقال: "وهل ترك لنا عقيل منزلا"؟، وكان عقيل قد باع منزله صلى الله عليه وسلم ومنزل إخوته من الرجال والنساء بمكة، فقيل له: فانزل في بعض بيوت مكة غير منازلك فأبى، وقال: "لا أدخل البيوت". ولم يزل بالحجون لم يدخل بيتا، وكان يأتي المسجد لكل صلاة من الحجون وكان أبو رافع ضرب له به قبة من أدم ومعه أم سلمة، وميمونة.
"وفي رواية أخرى" للبخاري، في مواضع من حديث الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة, قال عليه الصلاة والسلام: "منزلنا إن شاء الله تعالى". أتى بها تبركا وامتثالا لقوله تعالى: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا، إِلَا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} ، ولعلامات الفتح الظاهرة عبر بقوله: "إذا فتح الله" مكة "الخيف" بفتح المعجمة وسكون التحتية وبالفاء.
قال الحافظ: والرفع مبتدأ خبره منزلنا، وليس هو مفعول فتح، والخيف ما انحدر من غلظ الجبل وارتفع عن مسيل الماء. انتهى.
واقتصر على هذا الإعراب لأنه المشهور، في المبتدأ والخبر إذا كانا معرفتين فإن المعلوم للمخاطب، هو المبتدأ، وهو هنا الخيف ومنزلنا خبر لأنه المجهول فما صدر به المصنف من أن منزلنا والخيف خبره خلاف المشهور وهو جواز الابتداء منهما.
وفي رواية للبخاري: "بخيف بني كنانة". "حيث تقاسموا" تحالفوا "على الكفر" حال من فاعل تقاسموا أي في حال كفرهم أن لا يبايعوا بني هاشم، ولا يناكحوهم وحصروهم في الشعب "يعني به المحصب" بضم الميم وفتح الحاء والصاد المشددة المهملتين, "وذلك" أي تقاسمهم على الكفر "أن قريشا وكنانة".(3/444)
تحالفت على بني هاشم وبني عبد المطلب: أن لا يناكحوهم ولا يبايعوهم حتى يسلموا إليهم النبي صلى الله عليه وسلم، كما تقدم.
وفي رواية أخرى له: أنه صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة اغتسل في بيت أم هانئ.....
__________
قال الحافظ: فيه إشعار بأن في كنانة من ليس قرشيا إذ العطف يقتضي المغايرة فيترجح القول بأن قريشا من ولد فهر بن مالك على القول بأنهم من ولد كنانة نعم، لم يعقب النضر غير مالك، ولا مالك غير فهر فقريش ولد النضر بن كنانة، وأما كنانة فأعقب من غير النضر فلذا وقعت المغايرة "تحالفت" بحاء مهملة والقياس تحالفوا لكن أتى بصيغة المفرد المؤنث باعتبار الجماعة "على بني هاشم، وبني المطلب أن لا يناكحوهم" فلا تتزوج قريش وكنانة امرأة من بني هاشم، "ولا يبايعوهم" لا يبيعوا لهم ولا يشتروا منهم, ولأحمد: ولا يخالطوهم.
وللإسماعيلي: ولا يكون بينهم وبينهم شيء وهي أعم "حتى يسلموا" بضم أوله وإسكان المهملة وكسر اللام الخفيفة "إليهم النبي صلى الله عليه وسلم".
قال الحافظ: يختلج في خاطري، أن من قوله يغني المحصب إلى هنا من قول الزهري، أدرجه في الخبر، فقد رواه البخاري في الحج أيضا وفي السيرة والتوحيد، مقتصرا على الموصول منه إلى قوله: على الكفر. ومن ثم لم يذكر مسلم في روايته شيئا من ذلك، قيل: إنما اختار صلى الله عليه وسلم النزول في ذلك الموضع ليتذكر ما كانوا فيه فيشكر الله تعالى على ما أنعم به عليه من الفتح العظيم وتمكنه من دخول مكة ظاهرا على رغم من سعى في إخراجه منها، ومبالغة في الصفح عن الذين أساءوا، ومقابلتهم بالمن والإحسان ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء "كما تقدم" زيادة من المصنف على ما في البخاري لإفادة أنه ذكر القصة أول الكتاب "وفي رواية أخرى له" أي للبخاري، في مواضع عن أم هانئ، "أنه صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة اغتسل في بت أم هانئ" بنت أبي طالب الهاشمية، فاختة وقيل: هند، وقيل: فاطمة، أسلمت عام الفتح، وصحبت ولها أحاديث. ماتت في خلافة معاوية.
روى لها الستة وفي حديثها عند مسلم: أنها ذهبت إليه صلى الله عليه وسلم وهو بأعلى مكة فوجدته يغتسل وفاطمة تستره، وجمع بأن ذلك تكرر منه بدليل أن في رواية ابن خزيمة عنها أن أبا ذر ستره لما اغتسل ويحتمل أن يكون نزل في بيتها بأعلى مكة، وكانت هي في بيت آخر بها فجاءت إليه فوجدته يغتسل فيصح القولان، وأما الستر فيحتمل أن يكون أحدهما، ستره في ابتداء الغسل والآخر في أثنائه.
وروى الحاكم في الإكليل عنها أنه صلى الله عليه وسلم كان نازلا عليها يوم الفتح ولا يغاير حديث(3/445)
ثم صلى الضحى ثمان ركعات، قالت: لم أره صلى صلاة أخف منها، غير أنه يتم الركوع والسجود.
وأجارت أم هانئ حموين لها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ"، والرجلان: الحارث بن هشام، وزهير بن أمية بن المغيرة.
__________
نزوله بالخيف لأنه لم يقم في بيتها، وإنما نزل به حتى اغتسل، "ثم صلى الضحى ثمان ركعات" ثم رجع إلى حيث ضربت خيمته. "قالت" أم هانئ: "لم أره صلى الله عليه وسلم صلى صلاة أخف منها غير أنه يتم الركوع والسجود" وصريح الحديث، أن الصلاة هي صلاة الضحى المشروعة المعهودة، وقال السهيلي: هذه الصلاة تعرف عند العلماء بصلاة الفتح، وكان الأمراء يصلونها إذا فتحوا بلدا.
قال ابن جرير الطبري: صلاها سعد بن أبي وقاص حين افتتح المدائن ثمان ركعات في إيوان كسرى، قال وهي ثمان ركعات لا يفصل بينها ولا تصلى بإمام.
قال السهيلي: ومن سنتها أيضا أن لا يجهر فيها بالقراءة والأصل فيها صلاته صلى الله عليه وسلم يوم الفتح. انتهى.
وروى الطبراني عن ابن عباس، أنه صلى الله عليه وسلم قال لأم هانئ يوم الفتح: "هل عندك من طعام نأكله"؟. قالت: ليس عندي إلا كسر يابسة وإني لأستحي أن أقدمها إليك. فقال: "هلمي بهن". فكسرهن في ماء وجاءت بملح، فقال: "هل من أدم"؟. قالت: ما عندي يا رسول الله إلا شيء من خل، فقال: "هلميه". فصبه على الطعام وأكل منه، ثم حمد الله تعالى، ثم قال: "نعم الأدم الخل، يا أم هانئ لا يقفر بيت فيه خل". "وأجارت أم هانئ" بهمزة منونة "حموين لها" أي رجلين من أقارب زوجها، كما رواه أحمد، ومسلم، وابن إسحاق ويرهم.
عن أم هانئ قالت: لما كان يوم الفتح فر إلي رجلان من أحمائي من بني مخزوم، وكانت عند هبيرة بن أبي وهب المخزومي، قالت: فدخل عليَّ عليٌّ فقال: والله لأقتلنهما، فأغلقت عليهما بيتي، ثم جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم بأعلى مكة، فلما رآني، قال: "مرحبا وأهلا بأم هانئ ما جاء بك"؟. فأخبرته خبر الرجلين وخبر علي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ" زاد في رواية ابن إسحاق: "وأمنا من أمنت فلا يقتلهما"، "والرجلان الحارث بن هشام" بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم القرشي المخزومي، أبو عبد الرحمن المكي، شقيق أبي جهل من مسلمة الفتح استشهد في خلافة عمر.
روى له ابن ماجه وله ذكر في الصحيحين أنه سأل عن كيفية الوحي، "وزهير بن أبي أمية بن المغيرة" بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم المخزومي، أخو أم سلمة، أم المؤمنين ذكره هشام الكلبي في المؤلفة.(3/446)
كما قاله ابن هشام، وقد كان أخوها علي بن أبي طالب أراد أن يقتلهما فأغلقت عليهما باب بيتها وذهبت إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
ولما كان الغد من يوم الفتح قام النبي صلى الله عليه وسلم خطيبا في الناس، فحمد الله وأثنى عليه ومجده بما هو أهله ثم قال: "أيها الناس! إن الله حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض
__________
قال ابن إسحاق: كان ممن قام في نقض الصحيفة وأسلم وحسن إسلامه رضي الله عنه "كما قاله ابن هشام" عبد الملك، وقيل: الثاني عبد الله بن أبي ربيعة.
روى الأزرقي، بسند فيه الواقدي في حديث أم هانئ هذا أنهما الحارث وهبيرة بن أبي وهب.
قال الحافظ: وليس بشيء لأن هبيرة هرب عند الفتح إلى نحران فلم يزل بها مشركا حتى مات كما جزم به ابن إسحاق وغيره، فلا يصح ذكره فيمن أجارته أم هانئ، وقيل: إن الثاني جعدة بن هبيرة وفيه أنه كان صغير السن، فلا يكون مقاتلا عام الفتح حتى يحتاج إلى الأمان، ولا يهم علي بقتله, وجوز ابن عبد البر أن جعدة ابن لهبيرة من غير أم هانئ مع نقله عن أهل النسب أنهم لم يذكروا له ولدا من غيرها، "وقد كان أخوها علي بن أبي طالب" شقيقها "أراد أن يقتلهما".
قال الحافظ: لأنهما كانا فيمن قاتل خالد بن الوليد، ولم يقبلا الأمان فأجارتهما أم هانئ. انتهى.
فليس لكونهما ممن أهدر دمه كما ظنه من وهم وقد تقدم، "فأغلقت عليهما باب بيتها وذهبت إلى النبي صلى الله عليه وسلم" فرحب بها وأمضى جوارها. قال السهيلي: وتأمين المرأة جائز عند جماعة الفقهاء إلا سحنونا وابن الماجشون، فقالا: موقوف على إجازة الإمام. انتهى.
"ولما كان الغد من يوم الفتح" أي ثاني يوم فتح مكة في العشرين من رمضان "قام النبي صلى الله عليه وسلم" على باب البيت، بعدما خرج منه "خطيبا في الناس،" بخطبة طويلة مشتملة على أحكام وحكم ومواعظ "فحمد الله" تعالى فقال كما في رواية أحمد والواقدي: "الحمد لله الذي صدق وعده". "وأثنى عليه ومجده" عطف عام على خاص لأن الثناء والتمجيد أعم من لفظ الحمد لله "بما هو أهله".
وفي رواية: أنه قال: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له صدق وعده ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده". ثم قال: "أيها الناس إن الله حرم مكة" ابتدأ تحريمها بأن أظهره للملائكة "يوم خلق السموات والأرض" وذاتها وإن لم توجد حينئذ لكن أرضها موجودة إذ هي أول ما(3/447)
فهي حرام بحرمة الله تعالى إلى يوم القيامة، فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دما، أو يعضد بها شجرة، فإن أحد ترخص فيها لقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا: إن الله قد أذن لرسوله ولم يأذن لكم، وإنما أحلت لي ساعة من نهار، وقد عادت حرمتها الآن كحرمتها بالأمس
__________
وجد من الأرض.
ودحيت الأرض من تحتها كما مر أول الكتاب "فهي حرام بحرمة الله تعالى إلى يوم القيامة" يعني أن تحريمها أمر قديم وشريعة سالفة مستمرة ليس مما أحدثه أو اختص بشرعه، ولا ينافيه قوله في حديث جابر عند مسلم أن إبراهيم حرم مكة لأن إسناد التحريم إليه حيث أنه بلغه، فإن الحاكم بالشرائع والأحكام كلها هو الله تعالى والأنبياء يبلغونها، فكما تضاف إليه تعالى من حيث إنه الحاكم بها تضاف إلى رسوله لأنها تسمع منهم وتظهر على لسانهم والحاصل أنه أظهر تحريمها بعد أن كان مهجورا، لا أنه ابتدأه أو أنه حرمها بإذن الله يعني أن الله كتب في اللوح المحفوظ يومئذ أن إبراهيم سيحرم مكة بإذنه تعالى.
وفي رواية للشيخين، أن مكة حرمها الله ولم يحرمها الناس، "فلا يحل لامرئ" بكسر الهمزة والراء "يؤمن بالله واليوم الآخر" القيامة إشارة للمبدأ والمعاد، وقيد به لأنه الذي ينقاد للأحكام وينزجر فلا ينافي خطاب الكافر أيضا بفروع الشريعة "أن يسفك بها دما" بكسر الفاء وقد تضم، وهما لغتان حكاهما الصغاني وغيره.
والسفك صب الدم، وأن مصدرية أي: فلا يحل سفك دم بها "أو يعضد" بفتح التحتية، وسكون المهملة، وكسر المعجمة فدال مهملة، أي قطع بالمعضد وهو آلة كالفأس "بها شجرة" ذات ساق، "فإن أحد ترخص فيها" برفع أحد بفعل مقدر يفسره ما بعده لا بالابتداء، لأن إن من عوامل الفعل وحذف الفعل وجوبا لئلا يجتمع المفسر والمفسر والمعنى إن قال أحد ترك القتال عزيمة والقتال رخصة يتعاطى عند الحاجة "لقتال" أي: لأجل قتال "رسول الله صلى الله عليه وسلم" فيها مستدلا بذلك "فقولوا" له: ليس الأمر كما ذكرت.
"إن الله قد أذن لرسوله" تخصيصا له "ولم يأذن لكم" ففيه إثبات خصائص لرسول الله صلى الله عليه وسلم واستواء المسلمين معه في الحكم إلا ما ثبت تخصيصه به، "وإنما أحلت لي ساعة من نهار" فكانت في حقه تلك الساعة، بمنزلة الحل، قال الحافظ: والمأذون له فيه القتال لا قطع الشجر.
وفي رواية ابن إسحاق ولم تحل لي إلا هذه الساعة غضبا على أهلها "وقد عادت حرمتها الآن".
وفي رواية اليوم أي: الذي هو ثاني يوم الفتح "كحرمتها بالأمس" الذي قبل يوم الفتح.(3/448)
فليبلغ الشاهد الغائب".
ثم قال: "يا معشر قريش ما ترون أني فاعل فيكم"؟.
قالوا: خيرا, أخ كريم وابن أخ كريم.
قال: "اذهبوا فأنتم الطلقاء".
أي: الذي أطلقوا، فلم يسترقوا ولم يؤسروا. والطليق: الأسير إذا أطلق. والمراد بالساعة التي أحلت له -عليه الصلاة والسلام- ما بين أول النهار ودخول وقت العصر، كذا قاله في فتح الباري.
وقد أجاد العلامة أبو محمد الشقراطسي حيث يقول في قصيدته المشهورة:
__________
كما قاله المصنف، تبعا لغيره فلا حاجة للتعسف "فليبلغ" بكسر اللام وسكونها "الشاهد" الحاضر "الغائب" بالنصب مفعول فالتبليغ عنه صلى الله عليه وسلم فرض كفاية، ثم قال: "يا معشر قريش ما ترون أني فاعل فيكم"؟، وعند ابن إسحاق وغيره ماذا تقولون ماذا تظنون؟ "قالوا: خيرا أخ كريم، وابن أخ كريم" وقد قدرت، "قال" صلى الله عليه وسلم: "فإني أقول كما قال أخي يوسف: {لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} , اذهبوا فأنتم الطلقاء"، بضم الطاء المهملة وفتح اللام وقاف جمع طليق، "أي الذين أطلقوا" منا عليهم "لم يسترقوا ولم يؤسروا والطليق الأسير إذا أطلق، والمراد بالساعة التي أحلت له عليه الصلاة والسلام ما بين أول النهار", أي من طلوع الشمس "ودخول وقت العصر، كذا قاله في فتح الباري" بمعناه ولفظه في كتاب العلم وفي مسند أحمد من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن ذلك كان من طلوع الشمس إلى العصر ونحوه قوله هنا عند أحمد من حديث عمرو، عن أبيه عن جده إنها استمرت من صبيحة يوم الفتح إلى العصر. انتهى.
وحديث الخطبة رواه الشيخان، وغيرهما، وعند كل ما ليس عند الآخر وهي طويلة اقتصر المصنف على ما ذكره فتبعته قال الزهري، ثم نزل صلى الله عليه وسلم ومعه المفتاح فجلس عند السقاية، وذكر الواقدي عن شيوخه أنه كان قد قبض مفتاح السقاية من العباس ومفتاح البيت عن عثمان.
وروى ابن أبي شيبة أنه أتى بدلو من زمزم فغسل منها وجهه ما تقع منه قطرة إلا في يد إنسان إن كانت قدر ما يحسوها حساها وإلا مسح جلده، والمشركون ينظرون، فقالوا: ما رأينا ملكا قط أعظم من اليوم ولا قوما أحمق من القوم، "وقد أجاد العلامة أبو محمد" عبد الله بن أبي زكريا يحيى بن علي "الشقراطسي" نسبة إلى شقراطسة ذكر لي أنها بلدة من بلاد الجريد بإفريقية، قاله أبو شامة "حيث يقول في قصيدته المشهورة" بعدما ساق قصة بدر أتبعها بثمانية(3/449)
ويوم مكة إذ أشرفت في أمم ... تضيق عنها فجاج الوعث والسهل
خوافق ضاق ذراع الخافقين بها ... في...........................
__________
وعشرين بيتا في قصة الفتح، لأنهما كانتا عظيمتين فبدر أول مشهد نصر الله رسوله فيه وهذه يوم استيلائه على مكة التي هي من أشرف البقاع وعزه في بلاده التي أوذي فيها، ودخل الناس في دين الله أفواجا "ويوم مكة" مبتدأ حذف خبره أي كان عظيما والنصب مفعول به ذكرا أمرا أو مضارعا أو ظرف لهما أو لنصرت، أو قوله الآتي خشعت والخفض عطفا على لفظ بدر السابق "إذ" ظرف زمان بدل بعض من كل من يوم "أشرفت" علوت عليها، وظهرت على أخذها "في أمم" طوائف وجماعات كثيرة "تضيق عنها" بالتاء والياء؛ لأن تأنيث "فجاج" غير حقيقي جمع فج طريق واسع بين جبلين "الوعث" بفتح الواو، وسكون المهملة، ومثلثة، المكان الواسع الدهش بمهملة فهاء، مفتوحتين فمهملة، تغيب فيه الأقدام ويشق المشي فيه كما في القاموس وغيره.
وفي المصباح الطريق الشاق المسلك ويقال: رمل رقيق تغيب فيه الأقدام ثم استعير لكل أمر شاق من تعب وإثم غير ذلك منه وعثاء السفر وكآبة المنقلب أي شدة النصب والتعب، وسوء الانقلاب.
"والسهل" بسكون الهاء، وفتحها ضرورة وفي بعض النسخ، بضمتين جمع سهل ما لأن من الأرض ولم يبلغ، أن يكون وعثا.
والمعنى أن جميع الطرق تضيق عن ذلك الجيش، فالإضافة بيانية وخصا بالذكر لأنهما الغالب في الطرق المسلوكة لا للاحتراز "خوافق" بالجر بدل من أمم بدل بعض من كل بتقدير الضمير، أي منها وصرف للضرورة، أو هو لغة حكاها الخفش قائلا كأنها لغة الشعراء، لأنهم اضطروا إليه في الشعر فجرى، على ألسنتهم في غيره جمع خافق أو خافقة من خفقت الراية تحقق بكسر الفاء وضمها أو صفة لأمم بالمفرد يعد الجملة من خفق الأرض بنعله وهو صوت النعل وخفق في البلاد ذهب، والبرق لمع والريح جرى، والطائر طار فوصفها بسرعة السير ولمعان الحديد، وصوت وقع حوافر الخيل ونحوه.
وبالرع مبتدأ قال الشامي: على تقدير لها خوافق، أي رايات أو خبر أي: هي خوافق، يعني الأمم، ويجوز أن التقدير على جر خوافق ذوي خوافق فمهما قدرنا حذف مضاف أو قلنا هي مبتدأ أو جررنا على البدل فالمراد الرايات، وإن خفضنا صفة لأمم أو قلنا هي خوافق فالخوافق الأمم لا الرايات. انتهى.
وفي نسخ حوافر بالراء قال أبو شامة، وهو تصحيف "ضاق" ضعف "ذراع" أي وسع "الخافقين" المشرق، والمغرب؛ لأن الليل والنهار يخفقان فيهما "بها" الرايات أو الأمم "في(3/450)
........................ ... ... قاتم من عجاج الخيل والإبل
وجحفل قذف الأرجاء ذي لجب ... عرمرم كزهاء الليل منسحل
وأنت صلى عليك الله تقدمهم ... في بهو إشراق نور منك مكتمل
ينير فوق أغر الوجه منتجب ... متوج بعزيز النصر مقتبل
يسمو أمام جنود الله مرتديا ... ثوب الوقار لأمر الله ممتثل
خشعت تحت بهاء العز حين سمت ... بك المهابة فعل الخاضع الوجل
__________
قاتم" مغبر "من عجاج" بمهملة وجيمين غبار "الخيل والإبل" لكثرتهما في ذلك الجيش، "وجعفل" بالجر على أمم أو خوافق أو قاتم "قذف" بفتح القاف والذال المعجمة، وبضمهما أي متباعد "الأرجاء" بالفتح النواحي والأطراف.
"ذي لجب" صوت "عرمرم" كثير "كزهاء" بضم الزاي "السيل" أي قدره وعلى صفته كثرة وسرعة، وفي نسخة كزهاء الليل وأخرى كجناح الليل شبهه بالليل، في سده الأفق وتطبيقه الأرض واسوداده بكثرة السلاح "منسحل" بضم الميم وسكون النون وفتح السين وكسر الحاء المهملتين اسم فاعل أي ماض في سيره ومسرع فيه، كأنه جار "وأنت" مبتدأ "صلى عليك الله" جملة معترضة للاهتمام والخبر "تقدمهم" التقدم المعنوي أي المتقدم عليهم الآمر المطاع فيهم لا الحسنى لأنه قدم الكتائب إمامة ولا يصح ولا باعتبار كتيبته صلى الله عليه وسلم لأن الأنصار، كانوا في مقدمة كتيبته، كما مر "في بهو" حال من فاعل تقدمهم "إشراق نور منك مكتمل" بضم الميم الأولى وكسر الثانية، أي تام "ينير" بضم التحتية أي يضيء النور المذكور "فوق أغر الوجه" أبيضه "منتجب" مختار من أصل نجيب كريم.
"متوج" لابس التاج، وهو الإكليل الذي تلبسه الملوك شبه عصابة تزين بالجوهر، والمعنى أنه مجمل "بعزيز النصر" أي النصر العزيز الذي وعده به ربه. "مقتبل" بكسر الموحدة أي مستأنف للخير مستقبل له وفتحها أي مقابل بذلك "يسمو" بتحتية يعلو "أمام" قدام "جنود الله" جمع جند "مرتديا" حال من ضمير يسمو "ثوب الوقار" العظمة مفعول بإسقاط الخافض، والإضافة بيانية أي تجمل بالوقار بحيث أحاط به كما يشمل الثوب لابسه أو من إضافة المشبه به للمشبه أي مرتديا بالوقار الذي هو كالثوب في ستر ما تحته والإحاطة به "لأمر الله" متعلق بقوله "متمثل" أي عامل به جار في فعله، "على مثاله "خشعت" خضعت حسا ومعنى "تحت بهاء" حسن "العز حين سمت" ارتفعت "بك المهابة" الهيبة أي الإجلال والمخافة، "فعل الخاضع" نصب يخشع على أنه مفعول مطلق، والعامل فيه من معناه "الوجل" الخائف تواضعا لربك وشكرا لنعمائه، فقابلت تلك المهابة بما يفعل الخاشع الخائف.(3/451)
وقد تباشر أملاك السماء بما ... ملكت إذ نلت منه غاية الأمل
والأرض ترجف من زهو ومن فرق ... والجو يزهو إشراقا من الجذل
والخيل تختال زهوا في أعنتها ... والعيس تنثال رهوا في ثنى الجدل
لولا الذي خطت الأقلام من قدر ... وسابق من قضاء غير ذي حول
أهل ثهلان بالتهليل من طرب ... ..........................
__________
وفي نسخة الخائف الوجل جمع بينهما لاختلاف اللفظ تأكيدا للمعنى قال أبو شامة: وهي أحسن، أي: فعلت في زمان نهاية عزك ما يفعله الخائف الوجل، وأما الخضوع فبمعنى الخشوع فالمعنى عليه خشعت خشوعا كخشوع الخاشع ولا يخفى ما فيه "وقد تباشر أملاك السماء" جمع ملك بشر بعضهم بعضا "بما ملكت" بضم الميم، وكسر اللام مشددة، وبفتحهما وخفة اللام "إذا نلت" حيت أعطيت "منه" العز أو الفتح أو الله "غاية الأمل" نهاية المطلوب.
"والأرض ترجف" بضم الجيم تهتز "من زهو" سرور بهذا الجيش، لإزالته ما كان بها من الفساد، "ومن فرق" فزع من صولته ""والجو" ما تحت السماء من الهواء "يزهر" بفتح الهاء يضيء "إشراقا" مصدر، مؤكد من معنى يزهر أو حال من ضميره فمعناه ذا إشراق "من الجذل" بفتح الجيم، والذال المعجمة السرور والفرح متعلق بإشراقا أو بيزهر.
"والخيل تختال" تتبختر في مشيها "زهوا" كبرا وإعجابا فهو غير معنى الزهو في سابقه، فلا تكرار "في أعنتها" جمع عنان بالكسر سير اللجام.
"والعيس" بكسر فسكون الإبل البيض يخالط بياضها شقرة "تنثال" بفتح الفوقية وسكون النون فمثلثة، فلام تنصب من كل جهة "رهوا" بالراء، كما قال أبو شامة والشامي، في النسخ الصحيحة، أي ذات رهو وهو السير السهل كما فسراه، وقال الطرابلسي أي ساكنة أو متتابعة أو سريعة. انتهى.
وكان المراد بسكونها أنها انصبرت مطمئنة بلا فزع وهو بمعنى السير السهل "في ثنى" بكسر المثلثة وفتح النون كأنه جمع ثني بكسر المثلثة وسكون النون، لأن كل جديل له ثني، إلا أنه جمع لم يسمع فكأنه أجرى المذكر مجرى المؤنث.
وفي بعض النسخ بضم المثلثة وكسرها كحلية وحلي "الجدل" بضمتين جمع جديل وهو الزمام المجدول أي المغفور.
ثني الجدل ما انثنى منها على أعناق الإبل أي انعطف والتوى "لولا الذي خطت" أي خطته "الأقلام" فالعائد محذوف كخبر المبتدأ "من قدر" بيان لها "و" من "ساق من قضاء" بيان لسابق "غير ذي حول" بكسر ففتح انتقال، وتغير لقضاء "أهل" بفتحات واللام ثقيلة أي رفع صوته "ثهلان" بمثلثة "بالتهليل" مصدر هلل إذا قال لا إله إلا الله "من طرب" خفة لشدة سروره.(3/452)
........................ ... وذاب يذبل تهليلا من الذبل
الملك لله هذا عز من عقدت ... له النبوة فوق العرش في الأزل
شعبت صدع قريش بعد ما قذفت ... بهم شعوب شعاب السهل والقلل
قالوا محمد قد زادت كتائبه ... كالأسد تزأر في أنيابها العصل
فويل...................... ... ..........................
__________
"وذاب" سال "يذبل" بفتح التحتية وسكون المعجمة وضم الموحدة واللام "تهليلا" جبنا "من الذبل" بضم المعجمة والموحدة الرماح والمعنى لولا ما سبق من قضاء الله وقدره أن الجماد لا ينطق إلا خرقا للعادة، كتسبيح الحصى في يد المصطفى لرفع ثهلان صوته فهلل الله من الطرب، ولذاب يذبل جزعا وفرقا من الذوابل "الملك لله" ابتداء كلام من الناظم أو منصوب بقول مقدر، حال من ثهلان "أي قائلا الملك لله "هذا" النصر" المبين.
"عز من عقدت" بالبناء للمفعول أي أظهرت "له النبوة" وأفرغت عليه بالفعل "فوق العرش في الأزل" بفتحتين. القدم متعلق بعقدت وفوق العرش حال منه والمراد به مجرد التعظيم لحديث البخاري عن أبي هريرة مرفوعا: "لما قضى الله الخلق كتب كتابا فهو عنده فوق العرش: إن رحمتي غلبت غضبي". لا أن النبوة موجودة حقيقة فوقه فلا يرد أن الجمع بين وجودها في الأزل الذي هو القدم قبل وجود الأشياء فلا عرش، ثم وبين كونها فوقه تناقض "شعبت" بفتح المعجمة والمهملة وسكون الموحدة، جمعت وأصلحت "صدع" شق "قريش بعدما قذفت" رمت "بهم شعوب" بفتح المعجمة وضم المهملة علم للمنية لا ينصرف من شعب إذا تفرق، لأنها تفرق الجماعات فشعب من الأضداد بمعنى جمع وفرق "شعاب" بالنصب جمع شعب بالكسر الطريق في الجبل ظرف لقذفت، على أن الباء في بهم زائدة أي قذفهم خوف المنية في الشعاب أو مفعول به على معنى أن شعوب قذفت الشعاب بهم كأنهم في يدها كالحجارة في يد القاذف، فرمت بهم شعاب "السهل والقلل،" أي رءوس الجبال جمع قلة، وهي من كل شيء أعلاه إشارة إلى ما حصل لهم بمنه صلى الله عليه وسلم عليهم وعفوه عنهم من الأمن والاجتماع بعدما تفرق بعضهم من بعض، وانهزموا إلى رءوس الجبال وبطون الدور وكثر القتل فيهم بحيث قال أبو سفيان أبيدت خضراء قريش لا قريش بعد اليوم "قالوا" أهل مكة وغيرهم. "محمد" بترك التنوين للضرورة "قد زادت" كثرت كتائبه".
"كالأسد تزأر" بالهمز تصوت "في أنيابها" حال من فاعل تزأر "العصل" بضم العين والصاد المهملتين جمع أعصل كحمر وأحمر فحركت الصاد اتباعا أو ضرورة وهو الناب الشديد المعوج، فشبه الصحابة في الشدة والصولة بالأسد في حال تصويتها "فويل" يعبر بها عن المكروه(3/453)
..... مكة من آثار وطأته ... وويل أم قريش من جوى الهبل
فجدت عفو بفضل العفو منك ولم ... تلمم ولا بأليم اللوم والعذل
أضربت بالصفح صفحا عن طوائلهم ... طولا أطال مقيل النوم في المقل
رحمت واشج أرحام أتيح لها ... تحت الوشيج نشيج الروع والوجل
__________
ويدعي بها فيه "مكة" أي فيا ويل أهلها "من آثار وطأته" أرضهم ونكايته فيهم بالقتل والإثخان.
"وويل أم قريش من جوى" بفتح الجيم والواو حرقة وحزن "الهبل" بفتح الهاء، والموحدة، الثكل، أي فقدهم "فجدت عفوا" أي سهلا من غير عناء ولا كد في السؤال "بفضل العفو" أي ترك العقوبة والتجاوز عن الذنب مع قدرتك عليها تركا تاما صدر "منك" بسهولة من غير إكراه ولا مشير به، فمعنى العفو فيهما مختلف "ولم تلمم" من ألممت بالشيء إذا دنوت منه أو نلت منه يسيرا، "ولا بأليم" موجع "اللوم والعذل" بفتح المعجمة وسكونها متقاربان فلما اختلف اللفظ حسم التكرير.
يعني أنه صلى الله عليه وسلم لم يقابل أهل مكة ولا باللوم بل عفا عنهم وصفح.
"أضربت" أعرضت. وتركت "بالصفح" هو ترك المؤاخذة بالذنب مع القدرة عليها، فهو بمعنى العفو "صفحا" مصدر مؤكد لأعرضت معناه أي إعراضا أو حال من فاعل أعرضت بمعنى صافحا "عن" نتائج "طوائلهم" جمع طائلة أي عداوة، ونتائجها الجايات الصادرة منهم "طولا" بفتح الطاء منا وإنعاما وتفضلا. "أطال" هو أي الطول أو الصفح أو الإضراب الدال عليه أضربت "مقيل النوم في المقل" جمع مقلة وهي شحمة العين التي تجمع السواد والبياض استعار المقيل وهو النوم أو الاستراحة في الظهيرة للنوم، فشبه حصوله في أعينهم واستقراره بالمقيل بمعنى الاستراحة، وكنى بذلك عن لبثه واستقراره بسبب الصفح والعفو عنهم، وكان قبل ذلك نافرا عنهم بسبب الخوف من القتل والغم من الطرد. "رحمت واشج" بمعجمة وجيم مختلط "أرحام" من أضافة الصفة للموصوف أي: أرحاما مختلطة ومتصلا بعضها ببعض.
"أتيح" بضم أوله وكسر الفوقية وسكون التحتية وبالمهملة قدر وقيض "لها تحت الوشيج" بفتح الواو وكسر المعجمة وبالجيم، ما نبت من القنا والقصب ملتفا. قيل: سميت بذلك؛ لأن عروقها تنبت تحت الأرض وقيل: هي عامة الرماح.
"نشيج" بفتح النون وكسر المعجمة وسكون التحتية وبالجيم بكاء يخالطه شهيق "الروع" الفزع "والوجل" الخوف وهما متقاربان، أو مترادفان، فعطف لاختلاف اللفظ والمعنى أن الذين رحمتهم فأمنتهم قرابتهم شديدة الاتصال بك فراعيت القرابة وأزلت عنهم البكاء والحزن لخوفهم من سطوة جيشك الذي نزل بهم فاشتد روعهم ووجلهم.(3/454)
عاذوا بظل كريم العفو ذي لطف ... مبارك الوجه بالتوفيق مشتمل
أزكى الخليقة أخلاقا وأطهرها ... وأكرم الناس صفحا عن ذوي الزلل
وطفت بالبيت محبورا وطاف به ... من كان عنه قبيل الفتح في شغل
والجحفل: الجيش العظيم.
وقذف الأرجاء: أي متباعدها.
واللجب: بالجيم المفتوحة: الضجة من كثرة الأصوات.
__________
"عاذوا" بمعجمة لجئوا "بظل" ستر نبي "كريم العفو ذي لطف" بفتح اللام، والطاء المهملة، وبالفاء اسم لما يبر به "مبارك الوجه" الذات "بالتوفيق مشتمل" أي حاصل له من جميع جوانبه أي حركاته كلها موفقة.
"أزكى" أكثر وأوسع، وأطهر "الخليقة" الخلائق "أخلاقا" جمع خلق السجية "وأطهرها" عطف مساو وسوغه اختلاف اللفظ، أو هو من زكا الزرع نما أو الرجل تنعم فالعطف مغاير "وأكرم الناس صفحا عن ذوي الزلل" بفتحتين التنحي عن الحق، وفي هذا الوصف زيادة على ما فهم من قوله قبل كريم العفو، لأن هذا اسم تفضيل وبعد هذا البيت في القصيد.
زان الخشوع وقار منه في خفر ... أرق من خفر العذراء في الكلل
زان من الزينة، والخفر بفتح المعجمة والفاء شدة الحياء والكلل بكسر الكاف جمع كلة بالكسر هي ستر رقيق يخاط كالبيت يتوقى فيه من البق "وطفت بالبيت" عطف على شعبت "محبورا" مسرورا منعما، "وطاف به من كان عنه قبيل الفتح في شغل" بضم المعجمتين ممنوع من الوصول إليه, وبعد هذا البيت مما يتعلق بالفتح في القصيدة:
والكفر في ظلمات الرجس مرتكس ... ثاو بمنزلة البهموت من زحل
حجزت بالأمن أقطار الحجاز معا ... وملت بالخوف عن خيف وعن ملل
وحل أمن ويمن منك في يمن ... لما أجابت إلى الإيمان عن عجل
وأصبح الدين قد حفت جوانبه ... بعزة النصر واستولى على الملل
قد طاع منحرف منهم لمعترف ... وانقاد منعدل منهم لمعتدل
أحبب بخلة أهل الحق في الخلل ... وعز دولته الغراء في الدول
"والجحفل الجيش العظيم" الزائد على أربعة آلاف قال في المحكم إن كان فيه خيل، "وقذف الأرجاء أي متباعدها" جمع رجا بالقصر كسبب وأسباب "واللجب بالجيم المفتوحة", كما في القاموس وغيره فما في نسخة المضمومة خطأ "الضجة من كثرة الأصوات".(3/455)
والعرمرم: الضخم الكثير العدد.
وقوله: كزهاء الليل: شبهه بالليل في سده الأفق، واسوداده بالسلاح.
والمنسحل: بالحاء المهملة الماضي في سيره يتبع بعضه بعضا.
وقوله: في بهو إشراق: شبه النور الذي يغشاه -عليه الصلاة والسلام- ببهو أحاط به.
والبهو: البناء العالي كالإيوان ونحوه.
والمنتجب: المتخير من أصل نجيب، أي كريم.
والمقتبل: المستقبل الخير.
__________
ولفظ القاموس اللجب محركة الجلبة والصياح "والعرمرم" بفتح العين، والراء المهملتين، وسكون الميم الأولى، والراء المفتوحة "الضخم الكثير العدد، وقوله كزهاء الليل شبهه بالليل في سده الأفق واسوداده بالسلاح" الكثير، "والمنسحل بالحاء المهملة" المكسورة اسم فاعل "الماضي في سيره يتبع بعضه بعضا" يقال انسحلت الناقة انسحالا، أسرعت في سيرها وفي نسخة بدله منسدل ومنسحل أجود في المعنى قاله أبو شامة، "وقوله في بهو إشراق" نور منك مكتمل "شبه النور الذي يغشاه عليه الصلاة والسلام ببهو أحاط به، والبهو البناء العالي كالإيوان ونحوه" فيه أن النور أضيف إليه الإشراق، وللإشراق البهو والمضاف إليه لا يصح أن يشبه بالمضاف مرادا به معناه.
فالمناسب أن يقل شبه جسده الشريف بالبناء المرتفع واستعار له اسمه وأضافه إلى إشراق النور المحيط به ويمكن أنه شبه المحيط به ببناء مرتفع واستعار له اسمه، وأضافه إلى إشراق نور أصحابه الذين حوله، فنوره كالقمر، ونور أصحابه كالنجوم المشرقة مع القمر ويجوز أنه استعار البهو للجيش، وأراد بالنون ما علا ما علاه من البهاء، وإضافة الإشراق إليه من إضافة الصفة للموصوف، والمعنى على هذا وأنت تقدمهم في جيش عظيم كالبناء المرتفع في عدم الوصول إليه وذلك البناء ذو نور مشرق، قاله شيخنا: "والمنتخب المتخير من أصل نجيب أي كريم" والنجيب الكريم ذو الحسب إذا خرج كأبيه في الكرم، ونسبه صلى الله عليه وسلم أزكى الأنساب وأشرفها وفاق هو صلوات الله وسلامه عليه أصوله وغيرهم فوصل إلى ما لا يدانيه غيره فيه.
"والمقتبل المستقبل الخير" على كسر الباء من اقتبل أمره استأنفه واستقبله وبفتحها المقابل بالخير من قولهم رجل قبل الشباب، أي مستأنفه لم ير فيه أثر أكبر لأنه مقابل بالتوجه إليه(3/456)
وترجف: تهتز. والزهو: الخفة من الطرب، يعني: أن الأرض اهتزت فرحا بهذا الجيش، وفرقا من صولته، أي كادت تهتز، قال الله تعالى: {وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ} [الأحزاب: 10] أي كادت تبلغ.
والجدل: جمع جديل، وهو الزمام المضفور.
وثني الجدل: ما انثنى على أعناق الإبل، أي انعطف.
وثهلان: اسم جبل معروف. وأهل: رفع صوته. ويذبل: اسم جبل أيضا.
والذبل: الرماح والذوابل وهي التي لم تقطع من منابتها حتى ذبلت أي جفت ويبست.
وتهليلا: أي صياحا، جبنا وفزعا. يعني: لولا ما سبق من تقدير الله تعالى أن الجبال لا تنطق لرفع ثهلان صوته وهلل الله من الطرب، ولذاب يذبل من الجزع والفرق.
__________
لم يتكامل وجوده بعد.
"وترجف تهتز" هز طرب وفرح، "والزهو" في قوله والأرض ترجف من زهو ومن فرق "الخفة من الطرب".
قال الجوهري: الطرب خفة تصيب الإنسان لشدة حزن أو سرور، والمراد هنا الثاني "يعني أن الأرض اهتزت فرحا بهذا الجيش وفرقا" خوفا وفزعا "من صولته" حملته، وليس المراد اهتزت بالفعل، بل قاربت، "أي كادت تهتز" ولا يعد المتكلم بالمجاز مبالغة كاذبا لوروده في أفصح الكلام "قال الله تعالى: {وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ} أي كادت تبلغ لشدة الخوف إذ لو بلغت الفعل لماتوا.
"والجدل" بضم الجيم، والدال المهملة، "جمع جديل وهو الزمام المضفور" الذي أحكم فتله، والزمام ما كان في الأنف والخطام وغيره، "وثني الجدل، ما انثنى على أعناق الإبل، أي انعطف وثهلان" بمثلثة مفتوحة وهاء ساكنة "اسم جبل معروف وأهل رفع صوته" إذ الإهلال رافع الصوت ومنه الإهلال بالحج واستهلال الصبي.
"ويذبل" بوزن ينصر "اسم جبل أيضا والذبل الرماح الذوابل وهي التي لم تقطع من منابتها حتى ذبلت" بفتحات من باب قعد، "أي جفت ويبست" وإذا قطعت كذلك كانت أجود وأصلب، "وتهليلا أي صياحا جبنا وفزعا يعني لولا ما سبق من تقدير الله تعالى أن الجبال لا تنطق" ولا تعقل، "لرفع ثهلان صوته وهلل الله من الطرب، ولذاب يذبل من الجزع والفرق،(3/457)
وقوله: شعبت أي جمعت وأصلحت.
وقذفت بهم: أي فرقت بهم مخافة شعوب.
وشعوب: اسم للمنية لأنها تفرق الجماعات، من شعبت أي فرقت، وهو من الأضداد.
والشعاب: الطرق في الجبال.
والسهل: خلاف الجبل.
والقلل: رءوس الجبال. يعني أنه صلى الله عليه وسلم أعفا عنهم بعدما تصدعوا، وتفرقوا وهربوا من خوفه إلى كل سهل وجبل.
وقوله: كالأسد تزأر في أنيابها العصل: أي المعوجة.
ولما فتح الله مكة على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الأنصار فيما بينهم: أترون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ فتح الله عليه أرضه وبلده يقيم بها؟
وكان عليه الصلاة والسلام يدعو على الصفا رافعا يديه، فلما فرغ من دعائه قال:
__________
وقوله شعبت جمعت وأصلحت وقذفت بهم أي فرقتهم مخافة وشعوب" بوزن رسول "اسم للمنية، لأنها تفرق الجماعات من شعبت أي فرقت، وهو من الأضداد" حيث يستعمل في الجمع والتفريق.
والشعاب" جمع شعب بالكسر فيهما "الطرق في الجبل" وقيل الطريق مطلقا وقدمه المصباح.
"والسهل خلاف الجبل" وهو ما سهل ولان من الأرض.
"والقلل" جمع قلة "رءوس الجبال" أي أعاليها وقلة كل شيء أعلاه "يعني" الناظم بهذا البيت "أنه صلى الله عليه وسلم أغضى عنهم" لأن دأب الحليم الإغضاء "بعدما تصدعوا وتفرقوا، وهربوا من خوفه إلى كل سهل وجبل, وقوله كالأسد تزأر في أنيابها العصل أي المعوجة" تفسير للعصل.
"ولما فتح الله مكة على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الأنصار" كما ذكر ابن هشام من مرسل يحيى بن سعيد أنه قام على الصفا يدعو الله وقد أحدقت به الأنصار، فقالوا: "فيما بينهم أترون بهمزة الاستفهام وضم التاء، أي تظنون "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ فتح الله عليه أرضه وبلده" إذ ظرفية أو تعليلة أي لفتحها عليه "يقيم بها" أم يرجع إلينا؟ "وكان عليه الصلاة والسلام يدعو" جملة حالية، أي: قالت ذلك في حال دعائه "على الصفا رافعا يديه فلما فرغ من دعائه قال(3/458)
"ماذا قلتم"؟ قالوا: لا شيء يا رسول الله، فلم يزل بهم حتى أخبروه، فقال صلى الله عليه وسلم: "معاذ الله، المحيا محياكم والممات مماتكم".
وهم فضالة بن عمير.
__________
"ماذا قلتم" , وكأنه علم أنهم قالوا: بالوحي. "قالوا: لا شيء" قلنا: يؤذيك "يا رسول الله" فإنا لم نلمك على فعل شيء ولا نقصنا قومك "فلم يزل" يتلطف "بهم حتى أخبروه" بما قالوا, فقال صلى الله عليه وسلم: "معاذ الله" " نصب على المصدر حذف فعل وأضيف إلى المفعول أي أعوذ بالله أن أفعل غير ما وعدتكم به من الإقامة عندكم.
"المحيا محياكم"، أي حياتي حياتكم "والممات مماتكم" والإضافة لأدنى ملابسة أي حياتي وموتي لا يكون إلا عندكم، فكلاهما مصدر ميمي، ويجوز جعلهما زمانين أو مكانين، أي مكان حياتي، ومماتي أو زمانهما عندكم، وهذا أوفق بالسياق وهذا المرسل صح بأتم منه في مسلم، وأحمد وغيرهما عن أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم لما فرغ من طوافه، أتى الصفا فعلا منه حتى يرى البيت فرفع يديه وجعل يحمد الله ويذكره ويدعو بما شاء الله أن يدعو والأنصار تحته، فقال بعضهم لبعض: أما الرجل فأدركته رغبة في قريته ورأفة بعشيرته، قال أبو هريرة: وجاء الوحي وكان إذا جاء لم يخف علينا فليس أحد من الناس يرفع طرفه إليه فلما قضي الوحي قال: "يا معشر الأنصار"، قالوا: لبيك يا رسول الله. قال: "قلتم أما الرجل فأدركته رغبة في قريته ورأفة بعشيرته". قالوا: قلنا ذلك يا رسول الله. قال: "فما اسمي إذًا كلا إني عبد الله ورسوله هاجرت إلى الله وإليكم, المحيا محياكم والممات مماتكم". فأقبلوا إليه يبكون يقولون: والله يا رسول الله ما قلنا الذي قلنا إلا الضن بالله ورسوله، فقال صلى الله عليه وسلم: "فإن الله ورسوله يعذرانكم ويصدقانكم". الضن: بكسر الضاد المعجمة، وشد النون أي البخل والشح به أن يشركنا فيه أحد غيرنا كما ضبطه الشامي.
ولعله الرواية وإلا ففتحها لغة أيضا، وكان ذلك وقع لطائفتين فبادر بإخبار إحداهما لجزمها وتلطف في سؤال الأخرى لكونها لم تجزم، بل قالت: أترى إلخ.
ويعذرانكم بكسر الذال المعجمة يقبلان عذركم "وهم" بالفتح والتشديد، كما رواه ابن هشام عن بعض أهل العلم "فضالة" بفتح الفاء "ابن عمير بن الملوح" بضم الميم وفتح اللام والواو المشددة، ثم حاء مهملة، الليثي، الصحابي.
ذكره ابن عبد البر في كتاب الدرر في السير له بهذه القصة ولم يذكره في الاستيعاب وهو على شرطه.(3/459)
أن يقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يطوف بالبيت، فلما دنا منه قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أفضالة"، قال: نعم يا رسول الله! قال: "ماذا كنت تحدث به نفسك"؟ قال: لا شيء، كنت أذكر الله، فضحك صلى الله عليه وسلم ثم قال: استغفر الله، ثم وضع يده على صدره، فسكن قلبه، فكان فضالة يقول: والله ما رفع يده عن صدري حتى ما خلق الله شيئا أحب إلي منه.
وطاف صلى الله عليه وسلم بالبيت.
__________
وذكر عياض في الشفاء بنحوه كما في الإصابة "أن يقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يطوف بالبيت" عام الفتح، "فلما دنا منه قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أفضالة" قال: نعم" فضالة "يا رسول الله" هكذا ثبت فضالة بن نعم عند ابن هشام راوي هذا الخبر، وهو يفيد أن الهمز للاستفهام لا النداء هكذا نقله عنه اليعمري. وأما الشامي فنقله عنه بلفظ: يا فضالة وهو الذي قوى الشارح على جعلها للنداء. "قال: "ماذا كنت تحدث به نفسك". قال: لا شيء" أكرهه "كنت أذكر الله فضحك صلى الله عليه وسلم ثم قال: "استغفر الله" مما حدثت نفسك به وقولك لا شيء، "ثم وضع يده" المباركة الميمونة "على صدره فسكن قلبه" اطمأن، وثبت فيه الإسلام وحب خير الأنام، "فكان فضالة يقول والله ما رفع يده عن صدري، حتى ما خلق الله شيئا أحب إلي منه" هكذا لفظه عند ابن هشام، ونقله عنه كذلك اليعمري، والشامي في نسخة صحيحة يقع في بضع نسخه حتى ما خلق شيء وهو بمعناه إلا أن الكلام في العزو وبقية الخبر عند ابن هشام.
قال فضالة فرجعت إلى أهلي فمررت بامرأة كنت أتحدث إليها، فقالت: هلم إلى الحديث، فقلت: لا وانبعث فضالة يقول:
قالت هلم إلى الحديث فقلت لا ... يأبى على الله والإسلم
لو ما رأيت محمدا وقبيله ... بالفتح يوم تكسر الأصنام
لرأيت دين الله أضحى بينا ... والشرك يغشى وجهه الأظلام
وأنشده بعضهم كما في الإصابة لو ما شهدت بدل رأيت وجنوده بدل قبيله وساطعا بدل بينا، "وطاف صلى الله عليه وسلم بالبيت" بعد أن استقر في خيمته ساعة، واغتسل وعاد للبس السلاح، والمغفر ودعا بالقصواء فأدنيت إلى باب الخيمة، وقد حف به الناس فركبها وسار وأبو بكر معه يحادثه فمر ببنات أبي أحيحة بالبطحاء، وقد نشرن شعورهن يلطمن وجوه الخيب بالخمر، فتبسم إلى أبي بكر واستنشده قول حسان الماضي يلطمهن بالخمر النساء إلى أن انتهى إلى الكعبة ومعه المسلمون، فاستلم الركن بمحجنه، وكبر فكبر المسلمون لتكبيره، ورجعوا التكبير حتى ارتجت(3/460)
يوم الجمعة لعشر بقين من رمضان. وكان حول البيت ثلاثمائة وستون صنما، فكلما مر بصنم أشار إليه بقضيب وهو يقول: "جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا"، فيقع الصنم لوجهه. رواه البيهقي.
وفي رواية أبي نعيم: قد ألزقها الشياطين بالرصاص والنحاس.
__________
مكة تكبيرا حتى جعل صلى الله عليه وسلم يشير إليهم أن اسكتوا، والمشركون فوق الجبال ينظرون، فطاف بالبيت ومحمد بن مسلمة آخذ بزمام الناقة سبعا يستلم الحجر الأسود كل طرف "يوم الجمعة" على المعروف خلافا لما قدمه المصنف في المولد النبوي أنه يوم الاثنين، وإن جزم به بعض المتأخرين هنا فلا عاضد له "لعشر بقين من رمضان، وكان حول البيت" أي في الجهات المحيطة به وحرف من قال وعلى الكعبة لاقتضائه أنها على سطحها ولفظ الصحيحين وغيرهما وحول البيت "ثلاثمائة وستون صنما".
وفي رواية البخاري، نصب قال الحافظ: بضم النون والمهملة، وقد تسكن فموحدة ما نصب للعادة من دون الله، ويطلق ويراد به الحجارة التي كانوا يذبحون عليها للأصنام، وليست مرادة هنا، وعلى أعلام الطريق وليست مرادة هنا ولا في الآية، "فكلما مر بصنم أشار إليه بقضيبه" فعيل بمعنى مفعول وهو الغصن المقضوب أي المقطوع.
وفي البخاري بعود في يده وفي مسلم بسية القوس بكسر المهملة وفتح التحتية المخففة ما عطف من طرفه، وهو يقول: "جاء الحق" الإسلام "وزهق الباطل" بطل الكفر "إن الباطل كان زهوقا" مضمحلا زائلا من زهق روحه إذا خرج وفيه استحباب هذا القول عند إزالة المنكر، كما قال السيوطي "فيقع الصنم لوجهه" أي عليه.
وعند الفاكهي، وصححه ابن حبان، في حديث ابن عمر فيسقط الصنم، ولا يمسه وللفاكهي والطبراني، من حديث ابن عباس لم يبق وثن استقبله إلا سقط على قفاه مع أنها كانت ثابتة بالأرض قد شد لهم إبليس أقدامها بالرصاص.
"رواه البيهقي" عن ابن عمر أنه صلى الله عليه وسلم دخل مكة يوم الفتح وحول البيت فذكره، "و" كذا هو "في رواية أبي نعيم" عنه وزاد "قد ألزقها الشيطان بالرصاص" بفتح الراء. "والنحاس" بضم النون أي حملهم على ذلك فنسب إليه لكونه سببا فيه، وإلا فمعلوم أن الشيطان لم يفعل ذلك، كذا قال شيخنا, وحمله على الحقيقة أولى وإنما أبعد المصنف النجعة لقوله فيقع الصنم لوجهه.
ولزيادة أبي نعيم هذه وإلا فقد روى الشيخان عن ابن مسعود، قال: دخل صلى الله عليه وسلم يوم الفتح وحول البيت ستون وثلاثمائة نصب فجعل يطعنها بعود في يده ويقول: "جاء الحق وزهق الباطل، جاء الحق وما يبدئ الباطل، وما يعيد".(3/461)
وفي تفسير العلامة ابن النقيب المقدسي: إن الله تعالى لما أعلمه صلى الله عليه وسلم بأنه قد أنجز له وعده بالنصر على أعدائه، وفتحه مكة وإعلاء كلمة دينه، أمره إذ دخل مكة أن يقول: "وقل جاء الحق وزهق الباطل"، فصار صلى الله عليه وسلم يطعن الأصنام التي حول الكعبة بمحجنه ويقول: "جاء الحق وزهق الباطل"، فيخر الصنم ساقطا، مع أنها كانت مثبتة بالحديد والرصاص، وكانت ثلاثمائة وستين صنما بعدد أيام السنة.
قال: وفي معنى الحق والباطل لعلماء التفسير أقوال:
__________
"وفي تفسير العلامة" الإمام المفسر "ابن النقيب" جمال الدين أبي عبد الله محمد بن سليمان بن حسن البلخي، ثم "المقدسي" الحنفي قدم مصر وأقام مدة بالجامع الأزهر وصنف بها تفسيرا كبيرا إلى الغاية وكان عابدا زاهدًا أمارا بالمعروف ويتبرك بدعائه وبزيارته. مات بالقدس في المحرم سنة ثمان وتسعين وستمائة ذكره في العبر "أن الله تعالى لما أعلمه صلى الله عليه وسلم بأنه قد أنجز له وعده بالنصر على أعدائه وفتحه مكة وإعلاء كلمة دينه أمره إذا دخل مكة أن يقول: "وقل جاء الحق" الإسلام أو القرآن "وزهق" اضمحل وتلاشى "الباطل" الكفر، أو الأصنام، أو إبليس "فصار صلى الله عليه وسلم يطعن".
قال الحافظ: بضم العين وفتحها، والأول أشهر "الأصنام التي حول الكعبة بمحجنه" بكسر الميم، وسكون المهملة، وفتح الجيم، فنون عصا محنية الرأس وهذا موافق لرواية الصحيحين، فجعل يطعنها بعود في يده.
وظاهر قوله في رواية البيهقي، وأبي نعيم السابقة أشار إليه بقضيبه أنه مجرد إشارة بلا طعن حقيقي، فيمكن التجوز في قوله أشار عن الطعن بالعود دون أن يمسها بيده الشريفة بأن سمى الطعن إشارة لخفته حتى كأنه ليس بطعن حقيقي، ويقول: "جاء الحق وزهق الباطل" , ولم يأت بلفظ وقل مع أنها من جملة ما أمر بقوله على صلة أما، لأن المراد أن يتلو وقل ... إلخ.
بدليل ما سيتلى عليك قريبا أنها نزلت يومئذ، وأما لأنها معطوفة على شيء قبله في كلام جبريل كأن يقال أمره أن يقول كذا وكذا ولم يسمعه، وعطف عليه قوله وقل ففهم أن المأمور به جاء الحق دون لفظ، وقل "فيخر" بكسر الخاء يسقط فقوله "ساقطا" تأكيدا أو لدفع توهم أن يراد غير السقوط، لأن خر يستعل لصوت الماء والنائم والمخنق كما في اللغة، "مع أنها كلها كانت مثبتة بالحديد والرصاص، وكانت ثلاثمائة وستين صنما بعدد أيام السنة".
قال الحافظ وغيره: وفعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك لإذلال الأصنام وعابديها ولإظهار أنها لا تنفع ولا تضر ولا تدفع عن نفسها شيئا.
"قال" ابن النقيب: "وفي معنى الحق والباطل لعلماء التفسير أقوال" في المراد بهما في(3/462)
قال قتادة: جاء القرآن وذهب الشيطان. وقال ابن جريج: جاء الجهاد وذهب الشرك وقال مقاتل: جاءت عبادة الله وذهبت عبادة الشيطان.
وقال ابن عباس: وجد صلى الله عليه وسلم يوم الفتح حول البيت ثلاثمائة وستين صنما، كانت لقبائل العرب يحجون إليها، وينحرون لها، فشكا البيت إلى الله تعالى فقال: أي رب! حتى متى تعبد هذه الأصنام حولي دونك فأوحى الله تعالى إليه إني سأحدث لك نوبة جديدة، يدفون إليك دفيف النسور، ويحنون إليك حنين الطير إلى بيضها، لهم عجيج حولك بالتلبية. قال: ولما نزلت الآية يوم الفتح قال جبريل عليه الصلاة والسلام لرسول الله صلى الله عليه وسلم: خذ.
__________
الآية، وإلا فالحق كما قال التفتازاني هو الحكم المطابق للواقع يطلق على الأقوال والعقائد والأديان والمذاهب باعتبار اشتمالها على ذلك، ويقابله الباطل "قال قتادة: جاء" الحق، أي "القرآن" وزهق "ذهب" الباطل "الشيطان" إبليس اللعين؛ لأنه صاحب الباطل أو لأنه هالك، كما قيل له الشيطان من شاط إذا هلك، "وقال ابن جريج" عبد الملك "جاء الجهاد" أي الأمر به، أو حصل من المسلمين امتثالا للأمر به. "وذهب الشرك" الكفر وتسويلات الشيطان.
"وقال مقاتل: جاءت عبادة الله" في البلد الحرم بإسلام غالب أهله في الفتح، ثم لم يبق قرشي بعد حجة الوداع إلا أسلم كما في الإصابة "وذهبت عبادة الشيطان" وقد روى أبو يعلى، وأبو نعيم، عن ابن عباس لما فتح صلى الله عليه وسلم مكة رن إبليس رنة فجمعت إليه ذريته، فقال: ايئسوا أن تردوا أمة محمد إلى الشرك بعد يومكم، ولكن افشوا فيها يعني مكة النوح والشعر.
"وقال ابن عباس وجد "صلى الله عليه وسلم" يوم الفتح حول البيت ثلاثمائة وستين صنما كانت لقبائل العرب يحجون" يقصدون أي يأتون "إليها وينحرون لها" لتعظيمها.
وعند ابن إسحاق في غير هذا الموضع مع اعترافهم بفضل الكعبة عليها، "فشكا البيت" بلسان القال على المتبادر الظاهر بأن خلقت له قوة النطق بالشكاية، كنطق الجذع وغيره "إلى الله تعالى، فقال: أي رب حتى متى" إلى أي وقت "تعبد هذه الأصنام حولي دونك؟ فأوحى الله تعالى إليه" وحي إلهام، كما أوحى إلى النحل "إني سأحدث لك نوبة جديدة" بالنون جماعة، أي دولة من الناس، "يدفون" بضم الدال، يسرعون "إليك دفيف النسور" أي مثل إسراعها فشبه قدوم الناس له بدفيفها بفاءين وهو تحريك جناحيها للطيران، "ويحنون" بكسر الحاء، يشتاقون "إليك حنين الطير إلى بيضها لهم عجيج" رفع صوت "حولك بالتلبية" الخالصة إلى الله تعالى.
"قال" ابن عباس: "ولما نزلت الآية يوم الفتح، قال جبريل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: خذ(3/463)
بمخصرتك ثم ألقها، فجعل يأتي لها صنما صنما ويطعن في عينه أو بطنه بمخصرته ويقول: "جاء الحق وزهق الباطل"، فينكب الصنم لوجهه حتى ألقاها جميعا, وبقي صنم خزاعة فوق الكعبة وكان من قوارير صفر. فقال يا علي: "ارم به". فحمله عليه الصلاة والسلام حتى صعد ورمى به وكسره, فجعل أهل مكة يتعجبون. انتهى.
__________
بمخصرتك" بكسر الميم قضيبك، كما عبر به في رواية البيهقي المارة، وهو المراد من المحجن والعود "ثم ألقها" أي الأصنام، ولعله أشار إليها حين قال له ذلك إذ هي غير مذكورة في ذي الرواية، "فجعل يأتي لها صنما صنما" أي بعد صنم "ويطعن في عينه أو بطنه" تنويع لا شك وهو حقيقي.
وأما قوله في حديث ابن عمر فيسقط الصنم ولا يمسه فالضمير للمصطفى بدليل رواية من غير أن يمسه بيده لا للعود إذ لا يدله "بمخصرته، ويقول: "جاء الحق وزهق الباطل" فينكب الصنم لوجهه حتى ألقاها جميعا".
وفي رواية ابن إسحاق وغيره عن ابن عباس، فما أشار إلى صنم في وجهه إلا وقع لقفاه، ولا أشار لقفاه إلا وقع حتى ما بقي منها صنم إلا وقع، فقال تميم بن أسد الخزاعي:
وفي الأصنام معتبر وعلم ... لمن يرجو الثواب أو العقابا
وأفاد في روايته أن ذلك كان وهو طائف، فلما فرغ من طوافه نزل عن راحلته، وعند ابن أبي شيبة عن عمر فما وجدنا مناخا في المسجد حتى أنزل على أيدي الرجال، فأخرج الراحلة فأناخها بالوادي، ثم انتهى صلى الله عليه وسلم إلى المقام وهو لاصق بالكعبة، فصلى ركعتين ثم انصرف إلى زمزم، وقال: "لولا أن تغلب بنو عبد المطلب لنزعت منها دلوا". فنزع له العباس دلوا، فشرب منه، وتوضأ والمسلمون يبتدرون وضوءه يصبونه على وجوههم والمشركون ينظرون ويعجبون ويقولون: ما رأينا ملكا قط أبلغ من هذا، ولا سمعنا به وأمر بهبل فكسر وهو واقف عليه، فقال الزبير لأبي سفيان: قد كسر هبل أما إنك قد كنت يوم أحد في غرور حين تزعم أنه أنعم، فقال أبو سفيان: دع عنك هذا يابن العوام فقد أرى لو كان مع إله محمد غيره لكان غير ما كان، ثم جلس صلى الله عليه وسلم في ناحية المسجد والناس حوله.
وروى البزار عن أبي هريرة كان صلى الله عليه وسلم يوم الفتح قاعد وأبو بكر قائم على رأسه بالسيف "وبقي صنم خزاعة فوق الكعبة وكان من قوارير صفر" بضم الصاد وكسرها لغة نحاس على شكل القوارير جمع بعضها إلى بعض.
وفي حديث علي وكان من نحاس موتدا بأوتاد من حديد إلى الأرض, فقال: "يا علي ارم به"، "فحمله عليه الصلاة والسلام حتى صعد ورمى به وكسره، فجعل أهل مكة يتعجبون. انتهى" كلام ابن النقيب وفي سياقه في هذه القصة الأخيرة اختصار، فقد رواه ابن أبي شيبة، والحاكم(3/464)
وعن ابن عباس: لما قدم صلى الله عليه وسلم أبى أن يدخل البيت وفيه الآلهة، فأمر بها فأخرجت فأخرجوا صورة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام في أيديهما الأزلام، يعني: الأقداح التي كانوا يستقسمون بها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قاتلهم الله، أما والله
__________
عن علي قال: انطلق صلى الله عليه وسلم حتى أتى بي الكعبة، فقال: "اجلس". فجلست إلى جنب الكعبة فصعد على منكبي، ثم قال: "انهض". فنهضت فلما رأى ضعفي تحته قال: "اجلس". فجلست ثم قال: "يا علي اصعد على منكبي". ففعلت، فلما نهض بي خيل لي لو شئت نلت أفق السماء فصعدت فوق الكعبة وتنحى صلى الله عليه وسلم، فقال: "ألق صنمهم الأكبر"، وكان من نحاس موتدا بأوتاد من حديد إلى الأرض فقال عليه السلام: "عالجه". ويقول لي: "إيه إيه جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا". فلم أزل أعالجه حتى استمكنت منه، وقد أجاد القائل:
يا رب بالقدم التي أوطأتها ... من قاب قوسين المحل الأعظما
وبحرمة القدم التي جعلت لها ... كتف المؤيد بالرسالة سلما
ثبت على متن الصراط تكرما ... قدمي وكن لي منقذا ومسلما
واجعلهما ذخري فمن كانا له ... ذخرا فليس يخاف قط جهنما
"وعن ابن عباس: لما قدم صلى الله عليه وسلم" مكة "أبى" امتنع "أن يدخل البيت" الحرام "وفيه الآلهة،" أي الأصنام، وأطلق عليها الآلهة باعتبار ما كانوا يزعمون، وفي جواز إطلاق ذلك وقفة، والذي يظهر كراهته وكانت تماثيل على صور شتى فامتنع من دخول البيت وهي فيه؛ لأنه لا يقر على باطل، ولأنه لا يحب فراق الملائكة، وهي لا تدخل بيتا فيه صورة "فأمر بها فأخرجت".
في حديث جابر عند ابن سعد وأبي داود أنه صلى الله عليه وسلم أمر عمر بن الخطاب وهو بالبطحاء أن يأتي الكعبة فيمحو كل صورة فيها، فلم يدخلا حتى محيت الصور، فكان عمر هو الذي أخرجها والذي يظهر أنه محا ما كان من الصور مدهونا مثلا وأخرج ما كان مخروطا ذكره في الفتح، "فأخرجوا صورة إبراهيم، وإسماعيل عليهما السلام في أيديهما الأزلام" جمع زلم بضم الزاي، ويقال: بفتحها واللام مفتوحة فيهما وهو السهم، "يعني الأقداح" جمع قدح بالكسر سهم صغير لا ريش له ولا نصل "التي كانوا يستقسمون" يطلبون القسم والحكم "بها" في الخير والشر مكتوب عليها افعل لا تفعل، فإذا أراد أحدهم فعل شيء أخرج واحدا منها، فإن خرج الأمر مضى لشأنه وإن خرج النهي كف، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "قاتلهم الله" أي لعنهم، كما في القاموس وغيره. "أما" بفتح الهمزة، وخفة الميم بعدها ألف حرف استفتاح.
قال الحافظ: كذا رواية بعضهم وللأكثر أم "والله" قال المصنف بحذف الألف للتخفيف(3/465)
لقد علموا أنهما لم يستقسما بها قط". فدخل البيت وكبر في نواحيه ولم يصل. رواه الترمذي.
__________
"لقد علموا أنهما لم يستقسما بهما قط" قال الحافظ: قيل وجه ذلك أنهم كانوا يعلمون أول من أحدث الاستقسام بها وهو عمرو بن لحي، فكانت نسبتهم إلى إبراهيم وولده ذلك افتراء عليهما. انتهى.
قال الزركشي معنى قط هنا أبدا، ورده الدماميني بأن قط مخصوص باستغراق الماضي من الزمان، وأما أبدا، فيستعمل في المستقبل نحو، لا أفعل أبدًا, {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} "فدخل البيت" وظاهر هذا أنها أخرجت قبل دخوله كظاهر قول جابر لم يدخلها حتى محيت الصور.
ووقع عند الواقدي في حديث جابر، وكان عمر قد ترك صورة إبراهيم فلما دخل صلى الله عليه وسلم رآها فقال: "يا عمر ألم آمرك أن لا تدع فيها صورة قاتلهم الله جعلوه شيخا يستقسم بالأزلام". ثم رأى صورة مريم، فقال: "امسحوا ما فيها من الصور، قاتل الله قوما يصورون ما لا يخلقون".
قال في الفتح وفي حديث أسامة أنه صلى الله عليه وسلم دخل الكعبة فرأى صورا فدعا بماء فجعل يمحوها وهو محمول على أنه بقيت بقية خفيت على من محاها أولا.
وقد حكى ابن عائذ عن سعيد بن عبد العزيز أن صورة عيسى وأمه بقيتا حتى رآهما بعض من أسلم من نصارى غسان، فقال: إنكما لبلاد عربية، فلما هدم ابن الزبير البيت ذهبا فلم يبق لهما أثر، وقال عمر بن شبة حدثنا أبو عاصم عن ابن جريج سأل سليمان بن موسى عطاء أدركت في الكعبة تماثيل؟ قال: نعم أدركت تمثال مريم في حجرها ابنها عيسى مزوقا وكان ذلك في العمود الأوسط الذي يلي الباب، قال: متى ذهب ذلك، قال: في الحريق، وبه عن ابن جريج أخبرني ابن دينار أنه بلغه أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بطلس الصورة التي كانت في لبيت، وهذا سند صحيح ومن طريق عبد الرحمن بن مهران عن عمير مولى ابن عباس عن أسامة أنه صلى الله عليه وسلم دخل الكعبة، فأمرني فأتيته بماء في دلو، فجعل يبل الثوب ويضرب به على الصورة، ويقول: "قاتل الله قوما يصورون ما لا يخلقون". انتهى.
وروى ابن أبي شيبة عن ابن عمر أن المسلمون تجردوا في الأزر وأخذوا الدلاء، وانجروا على زمزم يغسلون الكعبة ظهرها وبطنها فلم يدعو أثرا من المشركين إلا محوه وغسلوه. انتهى، فلعل صورة مريم كان لا يذهبها الغسل "وكبر في نواحيه ولم يصل" وفي حديث بلال أنه صلى ويأتي قريبا الجمع بوجهين في كلام المصنف.
"رواه الترمذي" كذا في النسخ، وما أظنه إلا سبق قلم أراد أن يكتب البخاري فطغى عليه(3/466)
وعن ابن عمر قال: أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح على ناقته القصواء، وهو مردف أسامة حتى أناخ بفناء الكعبة، ثم دعا عثمان بن طلحة فقال: "ائتني بالمفتاح"، فذهب إلى أمه فأبت أن تعطيه فقال: والله لتعطينه، أو ليخرجن هذا السيف من صلبي، فأعطته إياه، فجاء به النبي صلى الله عليه وسلم فدفعه إليه، ففتح الباب. رواه مسلم.
وروى الفاكهي من طريق ضعيفة، عن ابن عمر أيضا قال: كان بنو أبي طلحة يزعمون أنه لا يستطيع أحد فتح باب الكعبة غيرهم، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم المفتاح ففتحها بيده.
__________
القلم. فإن البخاري في يد المصنف وقد رواه في مواضع منها وهنا وفي الحج "و" صح "عن ابن عمر قال: أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح" وللبخاري في الجهاد يوم الفتح من أعلى مكة "على ناقته القصواء" وهو يقرأ سورة الفتح يرجع صوته بالقراءة كما عند الشيخين، وهو مردف أسامة" بن زيد، وللبخاري في الجهاد والمغازي، ومعه بلال وعثمان بن طلحة، "حتى أناخ بفناء الكعبة ثم" بعدما دخل هو والثلاثة الكعبة وخرجوا كما في رواية الشيخين "دعا عثمان بن طلحة، فقال: "ائتني بالمفتاح". "فذهب إلى أمه" وهي سلافة كما يأتي.
وعند الواقدي أن عثمان أخبر المصطفى أنه عند أمه فبعث إليها فأبت. فقال عثمان: أرسلني أخلصه لك منها فقال: يا أمه ادفعي إليّ المفتاح فإنه صلى الله عليه وسلم أمرني أن آتيه به "فأبت أن تعطيه".
وعند الواقدي، قالت: لا واللات والعزى، لا أدفعه إليك أبدا "فقال": لا لات ولا عزى قد جاء أمر غير ما كنا فيه "والله لتعطينه أو ليخرجن هذا السيف من صلبي".
وفي رواية الواقدي: وإنك إن لم تفعلي قتلت أنا وأخي فأنت قتلتينا ووالله لتدفعنه أو ليأتين غيري فيأخذه منك؟ فأدخلته في حجزتها وقالت: أي رجل يدخل يده هنا؟
وروى عبد الرزاق، والطبراني من جهته من مرسل الزهري فأبطأ عثمان ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظره حتى إنه لينحدر منه مثل الجمان من العرق ويقول: "ما يحبسه فيسعى إليه رجل"، أي: أفيسعى, وجعلت تقول: إن أخذه منكم لا يعطيكموه أبدا، فلم يزل بها، "فأعطته إياه، فجاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فدفعه إليه ففتح الباب، رواه مسلم" والبخاري، بنحوه لكن قوله فذهب إلى أمه ... إلخ. من زيادة مسلم فلذا لم يعزه لهما.
قال الحافظ: وظهر من رواية البخاري في المغازي بلفظ: وقال لعثمان ائتنا بالمفتاح فجاءه بالمفتاح ففتح له الباب فدخل أن فاعل فتح في رواية في مسلم هو عثمان المذكور.
"و" لكن "روى الفاكهي من طريق ضعيفة عن ابن عمر أيضا، قال: كانت بنو أبي طلحة يزعمون أنه لا يستطيع أحد فتح باب الكعبة غيرهم فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم المفتاح ففتحها بيده"(3/467)
وعثمان المذكور: هو عثمان بن طلحة بن أبي طلحة بن عبد العزى، ويقال له: الحجبي، بفتح الحاء المهملة والجيم، ويعرفون الآن بالشيبيين، نسبة إلى شيبة بن عثمان بن أبي طلحة وهو ابن عم عثمان، وعثمان هذا لا ولد له وله صحبة ورواية.
واسم أم عثمان: سلافة -بضم السين المهملة والتخفيف والفاء.
وفي الطبقات لابن سعد:
__________
ويحتمل الجمع بأنه صلى الله عليه وسلم لما فتح الضبة بالمفتاح عاونه عثمان، فدفع الباب ففتحه له "وعثمان المذكور هو عثمان بن طلحة بن أبي طلحة" واسمه عبد الله قتل طلحة كافرا يوم أحد.
قاله ابن إسحاق وغيره "ابن عبد العزى" ابن عثمان بن عبد الدار بن قصي بن كلاب العبدري ومن قال كالبيضاوي عثمان بن طلحة ابن عبد الدار نسبه لجده الأعلى للتمييز بين أولاد قصي على عادة أهل النسب فلا يفهم منه أن اسم أبي طلحة عبد الدار كما ظنه من وهم فإنه لم يقله أحد.
وفي التقريب تبعا لغيره واسم جده أي عثمان عبد الله "ويقال له الحجبي بفتح الحاء المهملة والجيم" زاد في الفتح ولآل بيته الحجبة لحجبهم الكعبة. "ويعرفون الآن بالشيبيين نسبة إلى شيبة بن عثمان بن أبي طلحة" المكي من مسلمة الفتح له صحبة وأحاديث.
روى له البخاري، وأبو داود، وابن ماجه ومات سنة تسع وخمسين "وهو" أي شيبة "ابن عم عثمان، وعثمان هذا لا ولد له وله صحبة" وهجرة.
"ورواية" في مسلم وأبي داود وغيرهما مات سنة اثنتين وأربعين "واسم أم عثمان سلافة بضم السين المهملة والتخفيف" للام "والفاء".
قال في الإصابة: وقال ابن الأثير بالميم، وإنما هي بالفاء بنت سعيد الأنصارية الأوسية، أسلمت بعده ثم هذه العبارة جزم بها المصنف تبعا للفتح في كتاب الحج من أول قوله وعثمان المذكور إلى هنا بلفظه وكأه لم يصح عنده ما حكي أن ولد عثمان لما قدموا من المدينة منعهم ولد شيبة، فشكوا إلى الخليفة المنصور ببغداد فكتب إلى ابن جريج يسأله، فكتب إليه أنه عليه الصلاة والسلام دفع المفتاح إلى عثمان فأدفعه إلى ولده فدفعه فمنعوا ولد شيبة عن الحجابة، فركبوا إلى منصور وأعلموه أن ابن جريج يشهد أنه عليه السلام قال: "خذوها يا بني طلحة". فكتب إلى عامله أن شهد ابن جريج بذلك فأدخلهم، فشهد عند العامل بذلك فجعلها إليهم كلهم.
"وفي الطبقات لابن سعد" الحافظ محمد المشهور قال الخطيب: كان من أهل العلم(3/468)
عن عثمان بن طلحة قال: كنا نفتح الكعبة في الجاهلية يوم الاثنين والخميس, فأقبل النبي صلى الله عليه وسلم يوما يريد أن يدخل الكعبة مع الناس، فأغلظت له ونلت منه، فحلم عني ثم قال: "يا عثمان لعلك سترى هذا المفتاح يوما بيدي أضعه حيث شئت". فقلت لقد هلكت قريش يومئذ وذلت، قال: "بل عمرت وعزت يومئذ"، ودخل الكعبة، فوقعت كلمته مني موقعا ظننت يومئذ أن الأمر سيصير إلى ما قال, فلما كان يوم الفتح قال: "يا عثمان ائتني بالمفتاح". فأتيته به فأخذه مني، ثم دفعه إليَّ.
__________
والفضل صنف كتابا كبيرا في طبقات الصحابة والتابعين، ومن بعدهم إلى وقته فأجاد فيه وأحسن. مات سنة ثلاثين ومائتين، فروى فيها من طريق إبراهيم بن محمد العبدري عن أبيه "عن عثمان بن طلحة" الصحابي المذكور "قال" زاد في رواية الواقدي: لقيني صلى الله عليه وسلم بمكة قبل الهجرة فدعاني إلى الإسلام, فقلت: يا محمد العجب لك حيث تطمع أن أتبعك وقد خالفت دين قومك وجئت بدين محدث، "وكنا نفتح الكعبة في الجاهلية" أراد بها قبل الفتح لأنه أفاد أن ذلك بعد البعثة وقبل الهجرة، كقول ابن عباس في الصحيح سمعت أبي يقول في الجاهلية: اسقنا كأسا دهاقا. وابن عباس إنما ولد في الشعب.
"يوم الاثنين، والخميس فأقبل النبي صلى الله عليه وسلم يوما يريد أن يدخل الكعبة مع الناس" وذلك بعد بعثته لقوله: "فأغلظت له" عنفته بالكلام.
وفي نقل العيون عن ابن سعد المذكور فغلظت عليه وهو مستعار من التغليظ في اليمين أي شددت عليه القول "ونلت منه فحلم" بضم اللام صفح "عني، ثم قال: "يا عثمان لعل سترى هذا المفتاح يوما بيدي أضعه حيث شئت". فقلت: لقد هلكت قريش، يومئذ وذلت" يعني أن هذا محال، فإن قريشا ما دامت لا تقدر عليه، قال: "بل عمرت" بفتح الميم وكسرها، ففي القاموس عمر كفرح ونصر وضرب، عمرا وعمارة بقي زمانا، المعنى أن هذا الأمر يحصل وبه حياة قريش في الدارين الحياة الطيبة، "وعزت يومئذ" بدخولها في دين الله، ومجاهدتها في سبيله الملوك الأكاسرة، وتلقيها كتاب الله وأحاديث رسوله بعد ذلها بمزيد الجهل وعبادة حجارة تنحتها بأيديها إذا خلي المرء وعقله لا يرتضيها وفيه علم من أعلام النبوة باهر.
"ودخل الكعبة فوقعت كلمته مني موقعا ظننت أن الأمر سيصير إلى ما قال"؛ لأنه كان معروفا بينهم بالصدق والأمانة، فإنهم لا يكذبونه, وأسقط من هذا الخبر ما لفظه: فأردت الإسلام فإذا قومي يزبرونني زبرا شديدا "قال فلما كان يوم الفتح"، قال: "يا عثمان ائتني بالمفتاح". فأتيته به من عند أمي بعد امتناعها، على ما مر "فأخذه مني، ثم دفعه إليَّ".(3/469)
وقال: "خذوها خالدة تالدة لا ينزعها منكم إلا ظالم، يا عثمان إن الله استأمنكم على بيته فكلوا ما يصل إليكم من هذا البيت بالمعروف". قال: فلما وليت ناداني، فرجعت إليه فقال: "ألم يكن الذي قلت لك"؟ قال: فذكرت قوله لي بمكة قبل الهجرة: "لعلك سترى هذا المفتاح يوما بيدي أضعه حيث شئت". قلت:.
__________
وروى الفاكهي عن جبير بن مطعم أنه صلى الله عليه وسلم لما ناول عثمان المفتاح قال له: "غيبه".
قال الزهري: فلذلك يغيب المفتاح وفي هذه الأحاديث كلها أن الذي طلب منه المفتاح، وأتى به عثمان ودفع إليه ووقع عند ابن أبي شيبة بسند جيد عن أبي السفر لما دخل صلى الله عليه وسلم مكة دعا شيبة بن عثمان بالمفتاح مفتاح الكعبة فتلكأ، فقال لعمر: "قم فاذهب معه فإن جاء به وإلا فأخله رأسه". فجاء به فوضعه في حجره، ويمكن الجمع بأن أم عثمان لما امتنعت من دفعه حين أرسل يطلبه المصطفى منها فذهب لها ابنها عثمان وأبطأت عليه دعا شيبة فطلبه منه حتى لا يساعد المرأة في المنع فأرسله مع عمرو، قال له هذه المقالة لتذهب عنه حمية الجاهلية فسلمته لعثمان وهو الذي أتى به، ثم دفع إليه ونسب إليه المجيء به في هذه الرواية، لمجيئه مع ابن عمه، وسكوته على ذلك وإلا فما في الصحيح من أن عثمان هو الآتي به أصح، وقال: "خذوها" أي سدنة الكعبة "خالدة تالدة" معنى كل منها مقيمة، كما في القاموس وغيره فالثاني تأكيد للأول حسنه اختلافا للفظ، وقال المحب الطبري لعل تالدة من التالد وهو المال القديم، أي هي لكم من أول الأمر وآخره، واتباعها لخالدة بمعناها "لا ينزعها منكم إلا ظالم".
وفي رواية: "لا يظلمكموها إلا كافر". أي كافر نعمة الفتح العظيم عليه ويحتمل الحقيقة، أي إن استحل. "يا عثمان إن الله استأمنكم على بيته، فكلوا مما يصل إليكم من هذا البيت" , أي: بسبب خدمته على سبيل التبرع والبر "بالمعروف".
قال المحب الطبري: ربما تعلق به الجهال في جواز أخذ الأجر على دخول الكعبة، ولا خلاف في تحريمه وأنه من أشنع البدع، وهذا إن صح احتمل أن معناه ما يأخذونه من بيت المال على خدمته والقيام بمصالحه ولا يحل لهم إلا قدر ما يستحقونه أو ما يقصدون به من البر والصلة، على وجه التبرر فلهم أخذه وذلك أكل بالمعروف, قال الشمس الحطاب المالكي: والمحرم إنما هو نزع المفتاح منهم لا منعهم من انتهاك حرمة البيت وما فيه قلة أدب.
فهذا واجب لا خلاف فيه، لا كما يعتقده الجهلة أنه لا ولاية لأحد عليهم وأنهم يفعلون في البيت ما شاءوا فهذا لا يقوله أحد من المسلمين "قال" عثمان: "فلما وليت نادناني فرجعت إليه، فقال: "ألم يكن الذي قلت لك". فذكرت قوله لي بمكة قبل الهجرة: "لعلك سترى هذا المفتاح يوما بيدي أضعه حيث شئت". قلت: بلى" جواب للنفي أي قد كان ذلك ولم يقل له(3/470)
بلى أشهد أنك رسول الله.
وفي التفسير: أن هذه الآية: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58] نزلت في عثمان بن طلحة الحجبي. أمره عليه الصلاة والسلام أن يأتيه بمفتاح الكعبة فأبى عليه، وأغلق باب البيت وصعد إلى السطح وقال: لو علمت أنه رسول الله لم أمنعه، فلوى علي يده وأخذ منه المفتاح وفتح الباب، فدخل صلى الله عليه وسلم البيت، فلما خرج سأله العباس أن يعطيه المفتاح ويجمع له بين السقاية
__________
ذلك ابتداء تأنيسا له وخشية أن يفهم عنه أنه يعنفه، فلما اطمأن بدفعه له وذهابه عاوده فقال: ذلك ليعلمه بالمعجزة الظاهرة ليزداد إيمانا إلى إيمانه، ومن ثم قال: "أشهد أنك رسول الله" فليس ابتداء إيمانه؛ لأنه أسلم وهاجر قبل الفتح كما أسلفه المصنف.
"وفي التفسير" للثعالبي بلا سند "إن هذه الآية" وهي قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ} ما ائتمن عليه {إِلَى أَهْلِهَا} خطاب يعم المكلفين، كما قاله ابن عباس عند ابن أبي حاتم وجميع الأمانات، ومن ثم استدل به المالكية على أن الحربي إذا دخل دارنا بأمان فأودع وديعة ثم مات أو قتل وجب رد وديعته وماله إلى أهله. وأن المسلم إذا استدان من الحربي بدار الحرب، ثم خرج يجب وفاؤه وعلى حرمة خيانة أسير ائتمن طائعا, واختار ابن جرير ما رواه عن علي وغيره أنها خطاب لولاة المسلمين أمروا بأداء الأمانة لمن ولوا عليه، فهي عامة وإن "نزلت في عثمان بن طلحة الحجبي" نسبة إلى الحجابة، وهي سدانة البيت بسين مكسورة ودال مهملتين فألف فنون فتاء تأنيث خدمته وتولي أمره وفتح بابه وإغلاقه.
"أمره عليه الصلاة والسلام أن يأتيه بمفتاح الكعبة، فأبى عليه، وأغلق باب البيت، وصعد إلى السطح، وقال لو علمت أنه رسول الله لم أمنعه،" وهذا وهم كما يأتي، ولعله بفرض صحته
وقع من ابن عمه شيبة؛ لأنه لم يكن أسلم بعد، لكن بعده لا يخفى؛ لأنه لم يمكن من هو أجل منه منع شيء ولا قول شيء يومئذ.
"فلوى علي يده وأخذ منه المفتاح وفتح الباب".
وفي هذا السياق نكارة ومخالفة لما يفهم من حديث الصحيح، أن الذي فتحه عثمان، أو النبي صلى الله عليه وسلم على ما رواه الفاكهي وهو ظاهر رواية مسلم كما مر.
"فدخل صلى الله عليه وسلم البيت، فلما خرج سأله العباس أن يعطيه المفتاح، ويجمع له بين السقاية"(3/471)
والسدانة، فأنزل الله هذه الآية. فأمر صلى الله عليه وسلم عليا أن يرد المفتاح إلى عثمان ويعتذر إليه، ففعل ذلك علي رضي الله عنه، فقال: أكرهت وآذيت ثم جئت ترفق؟ فقال علي: لقد أنزل الله تعالى في شأنك قرآنا، وقرأ عليه الآية. فقال عثمان: أشهد أن محمدا رسول الله. فجاء جبريل عليه الصلاة والسلام فقال: ما دام هذا البيت أو لبنة من لبناته قائمة، فإن المفتاح والسدانة في أولاد عثمان.
__________
وهي أحواض من أدم، ويوضع فيها الماء العذب لسقاية الحاج، وقد يطرح فيه التمر والزبيب.
فعل ذلك عبد المطلب لما حفر زمزم، وقام بها بعد العباس، فلما كان يوم الفتح، قال الواقدي عن شيوخه.
قبض الله صلى الله عليه وسلم السقاية منه، ومفتاح البيت من عثمان، فسأله العباس أن يجمع له بين السقاية. "والسدانة فأنزل الله هذه الآية".
وهكذا روى عبد الرزاق عن ابن أبي مليكة، أن السائل العباس، وفي رواية ابن إسحاق عن بعض أهل العلم، أنه علي ولفظه: ثم جلس، أي بعد الخطبة، صلى الله عليه وسلم في المسجد، فقام إليه علي ومفتاح البيت في يده فقال: اجمع لنا الحجابة مع السقاية، والجمع بينهما أنه سأل لعمه لا لنفسه، "فأمر صلى الله عليه وسلم عليا أن يرد المفتاح إلى عثمان، ويعتذر إليه، ففعل ذلك علي رضي الله عنه".
واعتذر صلى الله عليه وسلم كما روى عبد الرزاق عن ابن جريج عن ابن أبي مليكة، أنه عليه الصلاة والسلام قال لعلي: "يومئذ إنما أعطيكم ما ترزءون، ولم أعطكم ما ترزءون" يقول: أعطيكم السقاية لأنكم تغرمون فيها، ولم أعطكم البيت.
قال عبد الرزاق أي أنهم يأخذون من هديته.
"فقال" عثمان لعلي "أكرهت وآذيت، ثم جئت ترفق؟ فقال علي: لقد أنزل اله تعالى في شأنك قرآنا، وقرأ عليه الآية، فقال عثمان: أشهد أن محمدًا رسول الله".
قال في الإصابة كذا وقع في تفسير الثعلبي بلا سند، أنه أسلم يوم الفتح بعد أن دفع له المفتاح، وهو منكر، والمعروف أنه أسلم وهاجر مع عمرو بن العاصي وخالد بن الوليد، وبه جزم غير واحد. انتهى، وفيه نكارة أيضا من جهة أن الذي دفع له المفتاح علي، والذي تظافرت به الآثار أن الذي دفعه له المصطفى، وأصرحها حديث جبير بن مطعم، أنه صلى الله عليه وسلم لما ناول عثمان المفتاح قال له: "غيبه". وحديث الواقدي عن شيوخه، أنه أعطاه المفتاح ورسول الله مطبع بثوبه عليه، وقال: "غيبوه، إن الله تعالى رضي لكم بها في الجاهلية والإسلام".
"فجاء جبريل عليه السلام، فقال ما دام هذا البيت أو لبنة من لبناته قائمة فإن المفتاح والسدانة في أولاد عثمان" بن أبي طلحة: لا عثمان بن طلحة، لما قدمه المصنف قريبا تبعا للفتح(3/472)
فلما مات دفعه إلى أخيه شيبة، فالمفتاح والسدانة في أولاده إلى يوم القيامة.
قال ابن ظفر في "ينبوع الحياة" قوله: "لو أعلم أنه رسول الله لم أمنعه" هذا وهم؛ لأنه كان ممن أسلم. فلو قال هذا كان مرتدا.
وعن الكلبي: لما طلب عليه الصلاة والسلام المفتاح من عثمان مد يده إليه، فقال العباس: يا رسول الله اجعلها مع السقاية، فقبض عثمان يده بالمفتاح، فقال: هاكه بالأمانة، فأعطاه إياه فنزلت الآية.
__________
أن عثمان هذا لا ولد له، "فلما مات دفعه إلى أخيه شيبة،" مر أيضا أنه ابن عمه ويحتمل تصحيحه بما مر أنه قال لأمه: إن لم تدفعي المفتاح قتلت أنا وأخي.
لكن لم يسم، فيكون اسمه شيبة على ما يفيده هذا الخبر ويكون أعطاه له أخوه فمات ولم يعقب أيضا فأخذه ابن عمه شيبة بن عثمان بن أبي طلحة، "فالمفتاح والسدانة في أولاده إلى يوم القيامة".
ولذا عرفوا بالشيبيين، ويحتمل أنه المراد الأخوة في سدانة البيت، وبالجملة فهذا الحديث منكر من جهات عديدة، ومن ثم "قال" محمد "بن ظفر"، بفتح الظاء المعجمة والفاء وبالراء " في ينبوع الحياة" اسم تفسيره، "قوله لو علمت أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم لم أمنعه، هذا وهم لأنه كان ممن أسلم" وهاجر قبل الفتح في صفر سنة ثمان، وقيل سنة سبع، وقيل سنة خمس، كما قدم المصنف وقدمت عن الإصابة أن الثالث وهم.
"فلو قال هذا كان مرتدا" إلا أن يقال: هذا وقع من غيره ممن لم يسلم حينئذ من أهله، فنسب إليه مجازا، وبعده لا يخفى.
"وعن الكلبي" محمد بن السائب، فيما رواه ابن مردويه عنه عن أبي صالح عن ابن عباس قال: "لما طلب عليه الصلاة والسلام المفتاح من عثمان، مد يده إليه، فقال العباس: يا رسول الله، اجعلها مع السقاية، فقبض عثمان يده بالمفتاح، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن كنت يا عثمان تؤمن بالله واليوم الآخر فهاته". بكسر التاء فعل أمر وهذا صريح في أنه كان آمن كما هو المعروف؛ لأنه لو كان لم يؤمن لم يقل له ذلك.
"فقال: هاكه" اسم فعل بمعنى خذه "بالأمانة" أي ملتبسا بها، أي خذه أمانة على أن ترده إليّ، لأن كل شيء اليوم بعدك، وتحت قدمك، ولفظ ابن مردويه فقال: هاكه بأمانة الله، فقام ففتح الكعبة، ثم خرج فطاف بالبيت، ثم نزل عليه جبريل برد المفتاح، فدعا عثمان بن طلحة "فأعطاه إياه فنزلت الآية".(3/473)
قال بن ظفر: وهذا أولى بالقبول.
__________
ولفظ ابن مردويه ثم قال: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} ، حتى فرغ من الآية.
"قال ابن ظفر: وهذا أولى بالقبول" من الخبر السابق.
وروى الأزرقي وغيره عن مجاهد: نزلت هذه الآية في عثمان بن طلحة، أخذ عليه الصلاة والسلام منه مفتاح الكعبة ودخلها يوم الفتح، فخرج وهو يتلوها، فدعا عثمان، فدفعه إليه، وقال: "خذوها يا بني أبي طلحة بأمانة الله، لا ينزعها منكم إلا ظالم".
قال: وقال عمر: لما خرج صلى الله عليه وسلم من الكعبة، خرج وهو يتلو هذه الآية، ما سمعته يتلوها قبل ذلك، قال السيوطي: ظاهر هذا أنها نزلت في جوف الكعبة. انتهى.
وروى الأزرقي أيضا نحوه من مرسل بن المسيب وقال: في آخره: "خذوها خالدة تالدة، لا يظلمكموها إلا كافر".
وروى ابن عائذ وابن أبي شيبة من مرسل عبد الرحمن بن سابط، أنه صلى الله عليه وسلم دفع المفتاح إلى عثمان، فقال: "خذوها خالدة مخلدة، إني لم أدفعها إليكم، ولكن الله دفعها إليكم ولا ينزعها منكم إلا ظالم".
وروى عبد الرزاق والطبراني من طريقه من مرسل الزهري: أنه صلى الله عليه وسلم لما خرج من البيت قال علي: إنا أعطينا النبوة والسقاية والحجابة ما قوم بأعظم نصيبا منا، فكره صلى الله عليه وسلم مقالته، ثم دعا عثمان بن طلحة، فدفع المفتاح إليه.
وعند ابن إسحاق عن بعض أهل العلم فقال: "هاك مفتاحك يا عثمان، اليوم يوم بر ووفاء". وفي هذه الأخبار كلها دليل على بقاء عقبهم إلى الآن.
قال العلامة الشمس الحطاب المالكي: ولا التفات إلى قول بعض المؤرخين أن عقبهم انقطع في خلافة هشام بن عبد الملك، فإنه غلط لقول مالك: لا يشرك مع الحجبة في الخزانة أحد لأنها ولاية منه صلى الله عليه وسلم ومالك ولد بعد هشام بنحو عشرين سنة.
وذكر ابن حزم وابن عبد البر جماعة منهم في زمانهم، وعاشا إلى بعد نصف المائة الخامسة.
وكذا ذكر العلامة القلقشندي، وعاش إلى إحدى وعشرين وثمانمائة، ولا دلالة لزاعم انقراضه، في إخدام معاوية الكعبة عبيدا لأن إخدامها غير ولاية فتحها، كما هو معلوم، وكثيرا ما يقع في كلام المؤرخين كالأزرقي والفاكهي ذكر الحجبة، ثم الخدمة، بما يدل على التغاير بينهم. انتهى ملخصا.(3/474)
وفي رواية لمسلم: دخل عليه الصلاة والسلام هو وأسامة بن زيد وبلال وعثمان بن طلحة الحجبي فأغلقوا عليهم الباب. قال ابن عمر فلما فتحوا كنت أول من ولج، فلقيت بلالا فسألته: هل صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم، بين العمودين اليمانيين، وذهب عني أسأله: كم صلى؟
__________
"وفي رواية لمسلم" وكذا للبخاري، ولا وجه لقصر العز وكلاهما من حديث ابن عمر: "دخل عليه الصلاة والسلام" الكعبة عام الفتح، "هو وأسامة بن زيد وبلال وعثمان بن طلحة الحجبي" زاد مسلم من طريق أخرى ولم يدخلها معهم أحد، ووقع عند النسائي وأحمد زيادة، والفضل بن عباس، "فأغلقوا عليهم الباب".
زاد أبو عوانة من داخل، وفي الموطأ فأغلقاها عليه، الضمير لعثمان وبلال ولمسلم، فأجاف عليهم الباب. والجمع أن عثمان هو المباشر لذلك، لأنه من وظيفته، ولعل بلالا ساعده في ذلك، ورواية الجمع يدخل في الآمر بذلك والراضي به، وفي رواية فمكث نهارا طويلا، وأخرى زمانا بدل نهارا، وأخرى فأطال، وكلها في البخاري ولمسلم فمكث فيها مليا، وله أيضا فأجافوا عليهم الباب، وله أيضا فمكث فيها ساعة، "قال ابن عمر" راوي الحديث: "فلما فتحوا كنت أول من ولج".
"دخل" وفي رواية، ثم خرج فابتدر الناس الدخول، فسبقتهم.
وفي أخرى: وكنت رجلا شابا قويا فبادرت الناس، فبدرتهم.
وأخرى: كنت أول الناس ولج على أثره.
وأخرى وأجد بلالا قائما بين البابين. وكلها في البخاري.
"فلقيت بلالا فسألته هل صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال نعم بين العمودين اليمانيين" بخفة الياء، لأنهم جعلوا الألف بدل إحدى ياءي النسب.
وجوز سيبويه التشديد، والمحفوظ أنه سأل بلالا كما رواه الجمهور، ولمسلم في رواية أنه سأل بلالا أو عثمان بالشك، ولأبي عوانة والبزار أنه سأل بلالا وأسامة، ولأحمد والطبراني عن ابن عمر أخبرني أسامة أنه صلى فيه ههنا، ولمسلم والطبراني فقلت: أين صلى؟ فقالوا, فإن كان محفوظا، حمل على أنه ابتدأ بلالا بالسؤال، ثم أراد زيادة الاستثبات في مكان الصلاة، فسأل عثمان وأسامة أيضا.
ويؤيده رواية مسلم أيضا: ونسيت أن أسألهم كم صلى بصيغة الجمع، وهذا أولى من جزم عياض بوهم رواية مسلم.
وكأنه لم يقف على بقية الروايات، "وذهب" غاب "عني أسأله: كم صلى؟ " أي نسيت(3/475)
وفي إحدى روايات البخاري:
__________
سؤاله عن عدد صلاته.
وللبخاري: فنسيت أن أسأله كم صلى من سجدة أي ركعة، ولذا استشكل الإسماعيلي وغيره ما وقع في الصحيح، من رواية مجاهد عن ابن عمر، فسألت بلالا: أصلى النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم، ركعتين بين الساريتين اللتين عن يسارك إذا دخلت، ثم خرج فصلى في وجه الكعبة ركعتين؛ لأن المشهور عن ابن عمر من رواية نافع وغيره: أنه نسي أن يسأل عن كمية الصلاة، والجواب باحتمال أن ابن عمر اعتمد على القدر المحقق؛ لأن بلالا أثبت له الصلاة، ولم ينقل تنفله عليه الصلاة والسلام نهارا بأقل من ركعتين، فتحقق فعل الركعتين لما استقرئ من عادته، فعلى هذا قوله ركعتين من كلام ابن عمر لا بلال، وقوله: نسيت أن أسأله كم صلى؟ أي لم يتحقق أزاد على الركعتين أم لا؟ ويؤيد هذا ويستفاد منه جمع آخر ما رواه عمر بن شبة من طريق آخر، عن ابن عمر بلفظ: فاستقبلني بلال، فقلت: ما صنع صلى الله عليه وسلم ههنا؟ فأشار بيده أن صلى ركعتين بالسبابة والوسطى، فعلى هذا يحمل على أنه لم يسأله لفظا ولم يجبه لفظا، وإنما استفاد منه صلاة ركعتين بإشارته، لا بنطقه.
ونقل عياض أن قوله: ركعتين غلط من يحيى بن سعيد لقول ابن عمر: نسيت إلى آخره, وإنما دخل الوهم عليه من ذكر الركعتين مردود، والمغلط هو الغالط، فإنه ذكر الركعتين قبل وبعد، فلم يهم من موضع إلى موضع، ولم ينفرد يحيى بذلك حتى يغلط، بل تابعه أربعة من الحفاظ عن شيخه، وتابع شيخه اثنان عن مجاهد، ثم قد ورد ذلك عن عثمان بن طلحة عند أحمد والطبراني، بإسناد قوي، وعن أبي هريرة عند البزار، وعبد الرحمن بن صفوان في الطباني بإسناد صحيح، وعن شيبة بن عثمان عند الطبراني بإسناد جيد، قال: لقد صلى ركعتين عند العمودين.
وفي هذا الحديث من الفوائد رواية الصحابي عن الصحابي وسؤال المفضول مع وجود الأفضل، والاكتفاء، به والحجة بخبر الواحد، ولا يقال هو أيضا خبر واحد، فكيف يحتج للشيء بنفسه، لأنا نقول: هو فرد ينضم إلى نظائر مثله توجب العلم بذلك، وفيه اختصاص السابق بالبقعة الفاضلة، والسؤال عن العلم والحرص فيه، وفضل ابن عمر لشدة حرصه على تتبع آثاره صلى الله عليه وسلم، ليعمل بها، وأن الفاضل من الصحابة قد كان يغيب عنه صلى الله عليه وسلم في بعض المشاهد الفاضلة، ويحضره من هو دونه، فيطلع على ما لم يطلع عليه؛ لأن أبا بكر وعمر وغيرهما ممن هو أفضل من بلال ومن ذكر معه لم يشاركوهم في ذلك. انتهى من فتح الباري كله ملخصا.
"وفي إحدى روايات البخاري" في كتاب الصلاة حدثنا عبد الله بن يوسف، قال: أخبرنا مالك عن نافع عن ابن عمر، فذكر الحديث، وفيه فسألت بلالا حين خرج: ما صنع النبي صلى الله عليه وسلم؟(3/476)
جعل عمودا عن يساره وعمودا عن يمينه، وثلاثة أعمدة وراءه.
وليس بين الروايتين مخالفة، لكن قوله في الرواية الأخرى: وكان البيت يومئذ على ستة أعمدة مشكل؛ لأنه يشعر بكون ما عن يمينه أو يساره كان اثنين، ولهذا عقبه البخاري برواية إسماعيل بن أبي أويس التي قال فيها: عمودين عن يمينه.
ويمكن الجمع بين الروايتين بأنه: حيث ثنى أشار إلى ما كان عليه البيت في زمنه صلى الله عليه وسلم وحيث أفرد أشار إلى ما صار بعد ذلك، ويرشد إليه قوله: وكان البيت يومئذ. لأن فيه إشعارا بأنه تغير عن هيئته الأولى.
ويحتمل أن يقال: لم تكن الأعمدة الثلاثة على سمت واحد، بل اثنان على سمت والثالث.
__________
قال: "وجعل عمودا عن يساره وعمودا عن يمينه" بإفراد عمود.
فيهما كما هو الثابت في البخاري، "وثلاثة أعمدة وراءه، وليس بين الروايتين" رواية مالك هذه ورواية جويرية عن نافع المروية في البخاري قبلها بلفظ: صلى بين العمودين المقدمين، وبمعناها الرواية التي ساقها المصنف فوقها: بين العمودين اليمانيين، وهي في البخاري من رواية الزهري عن سالم عن أبيه، "مخالفة" فإن معنى البينية جعل واحدا عن يساره وآخر عن يمينه.
"لكن قوله في الرواية الأخرى" التي هي رواية مالك، كان اللائق للمصنف أن يقول في بقية هذه الرواية: "وكان البيت يومئذ على ستة أعمدة مشكل، لأنه يشعر بكون ما عن يمينه أو يساره، كان اثنين" فينافي قوله: في أولها عمود عن يساره وعمود عن يمينه بإفراد عمود فيهما، "ولهذا عقبه البخاري برواية" شيخه "إسماعيل بن أبي أويس" عبد الله بن عبد الله بن أويس بن مالك الأصبحي المدني الصدوق، المتوفى سنة ست وعشرين مائتين، "التي قال فيها" البخاري ما لفظه، وقال لنا إسماعيل: حدثني مالك فقال: "عمودين عن يمينه" وعمودا عن يساره.
"ويمكن الجمع بين الروايتين بأنه حيث ثنى أشار إلى ما كان عليه البيت في زمنه صلى الله عليه وسلم وحيث أفرد أشار إلى ما صار إليه بعد ذلك" حيث هدم وبني في زمن ابن الزبير، "ويرشد إليه" أي الجمع المذكور "قوله: وكان البيت يومئذ، لأن فيه إشعارًا بأنه تغير عن هيئته الأولى".
وقال الكرماني لفظ العمود جنس يحتمل الواحد الاثنين، فهو مجمل بينته رواية عمودين، "ويحتمل أن يقال لم تكن الأعمدة الثلاثة على سمت واحد، بل اثنان على سمت والثالث(3/477)
على غير سمتهما، ولفظ "المقدمين" في إحدى روايات البخاري مشعر به.
وفي رواية لمسلم: جعل عمودين عن يساره وعمودا عن يمينه، عكس رواية إسماعيل، وكذلك قال الشافعي، وبشر بن عمر في إحدى الروايتين عنهما.
وجمع بعض المتأخرين بين هاتين الروايتين باحتمال تعدد الواقعة، وهو بعيد لاتحاد مخرج الحديث.
__________
على غير سمتهما".
"ولفظ" رواية جويرية عن نافع عن ابن عمر، فسألت بلالا: أين صلى؟ قال: صلى بين العمودين "المقدمين".
وللكشميهني: المتقدمين بتاء قبل القاف، وأيا ما كان فهو مثنى، صفة للعمودين لا جمع صفة للرجال كما توهم، "في إحدى روايات البخاري" التي علمتها "مشعر به", قال الحافظ ويؤيده أيضا رواية مجاهد عن ابن عمر، عند البخاري أيضا بلفظ بين الساريتين اللتين عن يسار الداخل، وهو صريح في أنه كان هناك عمودان على اليسار، وأنه صلى بينهما، فيحتمل أنه ثم عمود آخر على اليمين، لكنه بعيد، أو على غير سمت العمودين، فيصح قول من قال: جعل عن يمينه عمودين.
وقول من قال: جعل عمودا عن يمينه.
وجوز الكرماني احتمالا آخر وهو أن يكون هناك ثلاثة أعمدة مصطفة، فصلى إلى جنب الأوسط، فمن قال جعل عمودا عن يمينه وعمودا عن يساره، لم يعتبر الذي صلى إلى جنبه.
ومن قال عمودين اعتبره "في رواية لمسلم" عن يحيى بن يحيى النيسابوري عن مالك به، وقال "جعل عمودين عن يساره وعمودا عن يمينه عكس رواية إسماعيل" المذكور.
"وكذلك قال" الإمام "الشافعي" في روايته عن مالك "وبشر بن عمر" بن الحكم الزهراني الأزدي، أبو محمد البصري، الثقة، الصدوق، الحافظ، أحد الرواة عن مالك, مات أول سنة سبع ومائتين "في إحدى الروايتين عنهما" عن مالك "وجمع بعض المتأخرين بين هاتين الروايتين باحتمال تعدد الواقعة، وهو بعيد لاتحاد مخرج" بفتح الميم وسكون المعجمة، أي موضع خروج "الحديث" وهو ابن عمر.(3/478)
وجزم البيهقي بترجيح روية إسماعيل، ووافقه عليها ابن القاسم والقعنبي وأبو مصعب ومحمد بن الحسن وأبو حذافة وكذلك الشافعي وابن مهدي في إحدى الروايتين عنهما. انتهى ملخصا من فتح الباري.
__________
قال الحافظ: "و" قد ذكر الدارقطني الاختلاف على مالك فيه، فوافق الجمهور عبد الله بن يوسف في قوله: عمودا عن يمينه وعمودا عن يساره، "وجزم البيهقي بترجيح رواية إسماعيل، ووافقه عليها" عبد الرحمن "بن القاسم" بن خالد بن جفادة العتقي، أبو عبد الله المصري، الثقة، الفقيه، المشهور.
"و" عبد الله بن مسلمة، بن قعنب "القعنبي"، بفتح القاف والنون بينهما مهملة ساكنة آخره موحدة، نسبة إلى جده المذكور البصري، المدني الأصل، وسكنها مدة, الثقة, العابد, كان ابن معين وابن المديني لا يقدمان عليه في الموطأ أحدًا، أسمعه مالك نصف الموطأ، وقرأ هو على مالك النصف الباقي، مات بمكة سنة إحدى وعشرين ومائتين، "وأبو مصعب" أحمد بن أبي بكر القاسم بن الحارث بن زرارة بن مصعب بن عبد الرحمن بن عوف القرشي المدني، الحافظ، الصدوق، الفقيه، شيخ الجماعة، سوى النسائي، مات سنة اثنتين وأربعين ومائتين، وقد زاد على التسعين.
"ومحمد بن الحسن" الشيباني، مولاهم الكوفي، صاحب أبي حنيفة أحد رواة الموطأ وكان من بحور العلم والفقه، وسمع الثوري والأوزاعي ومالكا وغيرهم، ومات سنة تسع وثمانين ومائة.
"وأبو حذافة" أحمد بن إسماعيل بن محمد السهمي، سماعه للموطأ صحيح، وخلط في غيره، مات سنة تسع وخمسين ومائتين.
"وكذلك الشافعي" الإمام المعروف، حفظ الموطأ وهو ابن عشر، بمكة في تسع ليال، وقيل: في ثلاث، ثم رحل، فأخذه عن مالك، كما في ديباج ابن فرحون "و" عبد الرحمن "بن مهدي" بن حبان، أبو سعيد البصري، اللؤلؤي، الحافظ, روى عن شعبة ومالك والسفيانين والحمادين وخلق, وعنه خلائق منهم: ابن وهب وابن المبارك وابن المديني، وقال: كان أعلم الناس.
والإمام أحمد قال: إذا حدث ابن مهدي عن رجل، فهو حجة مات بالبصرة سنة ثمان وتسعين ومائة عن ثلاث وستين سنة.
"في إحدى الروايتين عنهما"، عن مالك "انتهى ملخصا من فتح الباري" في باب الصلاة، بين السواري من كتاب الصلاة "و" قال فيه: في كتاب الحج وقع في رواية للبخاري في(3/479)
وقد بين موسى بن عقبة في روايته عن نافع أن بين موقفه صلى الله عليه وسلم وبين الجدار الذي استقبله قريبا من ثلاثة أذرع، وجزم برفع هذه الزيادة مالك عن نافع فيما أخرجه الدارقطني في الغرائب. ولفظه: وصلى وبينه وبين القبلة ثلاثة أذرع.
وفي كتاب مكة للأزرقي، والفاكهي: أن معاوية سأل ابن عمر: أين صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: اجعل بينك وبين الجدار ذراعين أو ثلاثة، فعلى هذا ينبغي لمن أراد الاتباع في ذلك أن يجعل بينه وبين الجدار ثلاثة أذرع، فإنه تقع قدماه في مكان قدميه.
__________
المغازي، وكان البيت على ستة أعمدة سطرين، صلى بين العمودين من السطر المقدم وجعل باب البيت خلف ظهره، وقال: في آخره وعند المكان الذي صلى فيه مرمرة حمراء، وكل هذا إخبار عما كان عليه البيت قبل أن يهدم ويبنى في زمن ابن الزبير، فأما الآن فإنه، "قد بين موسى بن عقبة في روايته عن نافع" عن ابن عمر، عند البخاري "أن بين موقفه، صلى الله عليه وسلم، وبين الجدار الذي استقبله، قريبا من ثلاثة أذرع".
ولفظ البخاري عن موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر، أنه كان إذا دخل الكعبة، مشى قبل الوجه حين يدخل، ويجعل الباب قبل الظهر يمشي حتى يكون ما بينه وبين الجدار الذي قبل وجهه، قريبا من ثلاثة أذرع، فيصلي متوخيا المكان الذي أخبره بلال أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى فيه، "وجزم برفع هذه الزيادة" التي وقفها موسى بن عقبة، "مالك عن نافع" عن ابن عمر، "فيما أخرجه الدارقطني في الغرائب" من طريق ابن مهدي، وابن وهب وغيرهما، وأبو داود من طريق ابن مهدي كلهم عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر، "ولفظه صلى وبينه وبين القبلة ثلاثة أذرع", وكذا أخرجه أبو عوانة من طريق هشام بن سعد، عن نافع، وهذا فيه الجزم بثلاثة أذرع، لكن رواه النسائي من طريق ابن القاسم عن مالك، بلفظ نحو من ثلاثة أذرع وهي موافقة لرواية ابن عقبة، "وفي كتاب" تاريخ "مكة للأزرقي" نسبة إلى جده الأعلى، فهو محمد بن عبد الله بن أحمد بن محمد بن الوليد بن عقبة بن الأزرق بن عمرو الغساني أبو الوليد, "والفاكهي" من وجه آخر، "أن معاوية سأل ابن عمر: أين صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: اجعل بينك وبين الجدار ذراعين أو ثلاثة، فعلى هذا ينبغي لمن أراد الاتباع في ذلك" أي: موضع صلاة المصطفى في البيت، "أن يجعل بينه وبين الجدار ثلاثة أذرع، فإنه تقع قدماه في مكان قدميه(3/480)
صلى الله عليه وسلم إن كانت ثلاثة سواء، أو تقع ركبتاه أو يداه أو وجهه إن كان أقل من ثلاثة أذرع, والله أعلم.
وفي رواية عن ابن عباس قال: أخبرني أسامة أنه عليه الصلاة والسلام لما دخل البيت دعا في نواحيه كله ولم يصل فيه حتى خرج، فلما خرج ركع في قبل البيت ركعتين وقال: "هذه القبلة".
__________
صلى الله عليه وسلم، إن كانت ثلاثة" أذرع، "سواء أو تقع ركبتاه أو يداه أو وجهه، إن كان" المحل "أقل من ثلاثة أذرع, والله أعلم" بحقيقة الموضع الذي صلى فيه، وفيه استحباب الصلاة في الكعبة، وهو ظاهر في النفل وألحق الجمهور به الفرض إذ لا فرق وعن ابن عباس: لا تصح الصلاة داخله مطلقا، وعلله بلزوم واستدبار بعضها، وقد ورد الأمر باستقبالها فيحمل على استقبال جميعها، وقال به بعض المالكية والظاهرية وابن جرير، وقال المازري والمشهور في المذهب منع صلاة الفرض داخلها ووجوب الإعادة.
وعن ابن عبد الحكم الإجزاء، وصححه ابن عبد البر وابن العربي، وأطلق الترمذي عن مالك جواز النقل وقيده بعض أصحابه بغير الرواتب، ومن المشكل ما نقله النووي في زوائد الروضة، أن صلاة الفرض داخل الكعبة، إن لم يرج جماعة أفضل منها خارجها.
ووجه الإشكال أن الصلاة خارجها متفق على صحتها بين العلماء فكيف يكون المختلف في صحته أفضل من المتفق عليه.
انتهى من الفتح جميعه بما ساقه المصنف، فلله در مالك ما أدق نظره حيث استحب النفل داخلها؛ لأنه الواقع منه، صلى الله عليه وسلم، ومنع الفرض لورود الأمر باستقبالها، فخص منه النفل بالسنة فلا يقاس عليه، "وفي رواية عن ابن عباس قال: أخبرني أسامة، أنه عليه الصلاة والسلام، لما دخل البيت دعا في نواحيه كلها" جمع ناحية وهي الجهة "ولم يصل فيه حتى خرج" منه، "فلما خرج ركع في قبل البيت".
قال الحافظ بضم القاف والموحدة وقد تسن أي مقابله أو ما استقبلك منه، وهو وجهه، وهذا موافق لقول ابن عمر عند الشيخين، ثم خرج فصلى في وجه الكعبة "ركعتين، وقال: هذه القبلة" الإشارة إلى الكعبة، قيل: المراد بذلك تقرير حكم الانتقال عن بيت المقدس، وقيل: المراد أن حكم من شاهد البيت وجوب مواجهة عينه جزما بخلاف الغائب، وقيل: المراد أن الذي أمرتكم باستقباله، ليس هو الحرم كله ولا مكة ولا المسجد الذي حول الكعبة، بل الكعبة نفسها، أو الإشارة إلى وجه الكعبة، أي هذا موقف الإمام ويؤيده ما رواه البزار من حديث عبد الله بن حبشي الخثعمي قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي إلى باب الكعبة وهو يقول: "أيها الناس إن(3/481)
رواه مسلم.
والجمع بينه وبين حديث ابن عمر، أن أسامة أخبره أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في الكعبة كما رواه أحمد والطبراني. بأن أسامة حيث أثبتها اعتمد في ذلك على غيره وحيث نفاها أراد ما في علمه لكونه لم يره حين صلى، ويكون ابن عمر ابتدأ بلالا بالسؤال ثم أراد زيادة الاستثبات في مكان الصلاة، فسأل أسامة أيضا.
قال النووي: وقد أجمع أهل الحديث على الأخذ برواية بلال لأنه مثبت فمعه زيادة علم، فوجب ترجيحه. وأما نفي أسامة فيشبه أنهم لما دخلوا الكعبة أغلقوا الباب واشتغلوا بالدعاء، فرأى أسامة النبي صلى الله عليه وسلم يدعو فاشتغل أسامة في ناحية من نواحي البيت والنبي صلى الله عليه وسلم في ناحية أخرى، وبلال قريب منه، ثم صلى النبي صلى الله عليه وسلم فرآه بلال لقربه منه ولم يره أسامة لبعده واشتغاله بالدعاء.
__________
الباب قبلة البيت، وهو محمول على البيت لقيام الإجماع على جواز استقبال البيت من جميع جهاته" انتهى.
"رواه مسلم" ورواه البخاري عن ابن عباس، لما دخل البيت، ولم يقل: أخبرني أسامة، فلذا عزاه لمسلم، "والجمع بينه" أي بين حديث ابن عباس عن أسامة نفي الصلاة، "وبين حديث ابن عمر أن أسامة أخبره: أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في الكعبة، كما رواه أحمد والطبراني", وخبر الجمع قوله: "بأن أسامة حيث أثبتها" كما في رواية ابن عمر عنه، "اعتمد في ذلك على غيره" لا على رؤيته، وحيث نفاها أراد ما في علمه لكونه لم يره حين صلى، و"الجمع بين رواية: أنه سأل بلالا، ورواية: أنه سأل أسامة، "بكون ابن عمر ابتدأ بلالا بالسؤل", فأخبره، "ثم أراد زيادة الاستثبات في مكان الصلاة، فسأل أسامة أيضا", فلا معارضة بين الروايات.
"قال النووي: قد أجمع أهل الحديث على الأخذ برواية بلال" الصلاة في الكعبة، "لأنه مثبت فمعه زيادة علم" لم يختلف عليه في الإثبات، واختلف على من نفى "فوجب ترجيحه" لهذين الوجهين على القاعدة، "وأما نفي أسامة فيشبه أنهم لما دخلوا الكعبة أغلقوا الباب واشتغلوا بالدعاء، فرأى أسامة النبي صلى الله عليه وسلم يدعو، فاشتغل أسامة" بالداء "في ناحية من نواحي البيت والنبي صلى الله عليه وسلم في ناحية أخرى، وبلال قريب منه، ثم صلى النبي، صلى الله عليه وسلم، فرآه بلال لقربه منه، ولم يره أسامة لبعده واشتغاله بالدعاء".(3/482)
وكانت صلاته -عليه الصلاة والسلام- خفيفة فلم يرها أسامة لإغلاق الباب مع بعده واشتغاله بالدعاء، وجاز له نفيها عملا بظنه، وأما بلال فتحققها وأخبر بها. انتهى.
وتعقبوه بما يطول ذكره, وأقرب ما قيل في الجمع: أنه صلى الله عليه وسلم صلى في الكعبة لما غاب عنه أسامة من الكعبة لأمر ندبه إليه، وهو أن يأتي بماء يمحو به الصور التي كانت في الكعبة، فأثبت الصلاة بلال لرؤيته لها ونفاها أسامة لعدم رؤيته، ويؤيده ما رواه أبو داود الطيالسي عن أسامة بن زيد قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكعبة، فرأى صورا فدعا بدلو من ماء فأتيته به فجعل يمحوها ويقول: "قاتل الله قوما يصورون ما لا يخلقون". ورجاله ثقات.
__________
زاد الحافظ، ولأن بإغلاق الباب تكون الظلمة، مع احتمال أن يحجبه بعض الأعمدة، "وكانت صلاته عليه الصلاة والسلام خفيفة" جواب عما يقال اشتغاله لا يمنع "فلم يرها أسامة لإغلاق الباب مع بعده واشتغاله بالدعاء، وجاز له نفيها عملا بظنه، وأما بلال فتحققها وأخبر بها. انتهى" كلام النووي.
"وتعقبوه بما يطول ذكره" لكن قد أقره الحافظ وغيره، "وأقرب ما قيل في الجمع" قول المحب الطبري، يحتمل "أنه صلى الله عليه وسلم صلى في الكعبة لما غاب عنه أسامة لأمر ندبه" حثه ووجه "إليه، وهو أن يأتي بماء يمحو به الصور التي كانت في الكعبة، فأثبت بلال الصلاة لرؤيته لها، ونفاها أسامة لعدم رؤيته لها، ويؤيده" كما قال الحافظ: "ما رواه أبو داود الطيالسي عن أسامة بن زيد، قال: دخلت على رسول الله، في الكعبة فرأى صورا، فدعا بدلو من ماء فأتيته به", فظاهر هذا أنه حين دخوله، رآه غير مصل، فأرسله ليأتي بالماء فصلى إذ ذاك فلم يره، فجعل يمحوها ويقول: "قاتل الله قوما يصورون ما لا يخلقون".
وظاهر هذا أنه محاها بيده، وعند ابن أبي شيبة من حديث ابن عباس، ثم أمر بثوب فبل ومحا به صورهما، أي إبراهيم وإسماعيل، ثم دعا بزعفران فلطخ تلك التماثيل، وقد مر عن الفتح حمل حديث أسامة هذا ونحوه على أنه بقيت منه بقية، خفيت عمن محاها أولا، فلا ينافي ما رواه أبو داود وغيره أنه، صلى الله عليه وسلم أمر عمر وهو بالبطحاء، أن يأتي الكعبة فيمحو كل صورة فيها، فلم يدخلها حتى محيت الصور ومر مزيد حسن لذلك قريبا، "ورجاله ثقات" نحوه، قول الحافظ: هذا إسناد جيد.
قال القرطبي: فلعل أسامة استصحب النفي بسرعة عوده، قال الحافظ: وفي كل ذلك إنما نفى رؤيته، لا ما في نفس الأمر ومنهم من جمع بين الحديثين من غير ترجيح أحدهما على(3/483)
وأفاد الأزرقي -في تاريخ مكة- أن خالد بن الوليد كان على باب الكعبة يذب عنه صلى الله عليه وسلم الناس.
__________
الآخر، إما بحمل الصلاة المثتبة على اللغوية، والمنفية على الشرعية ويرده أن تعيين قدر الصلاة في بعض طرقه، يعين الشرعية، لا الدعاء، وإما بحمل الإثبات على التطوع، والنفي على الفرض، قال القرطبي على طريقه المشهور من مذهب مالك، أو أنه دخل البيت مرتين، صلى في إحداهما، ولم يصل في الأخرى، قاله المهلب.
وقال ابن حبان الأشبه أنه، لما دخل في الفتح صلى، ولما حج دخلها ولم يصل، ورده النووي بأنه لا خلاف أنه دخل يوم الفتح لا في حجة الوداع، ويشهد له ما رواه الأزرقي عن سفيان، عن غير واحد من أهل العلم، أنه، صلى الله عليه وسلم إنما دخل الكعبة مرة واحدة عام الفتح، ثم حج فلم يدخلها، وإذا كان كذلك فلا يمتنع أنه دخلها عام الفتح مرتين، ويكون المراد، بالوحدة التي في خبر ابن عيينة، وحدة السفر لا الدخول، وعند الدارقطني من طريق ضعيفة ما يشهد لهذا الجمع. انتهى ملخصا.
"وأفاد الأزرقي في تاريخ مكة، أن خالد بن الوليد كان على باب الكعبة يذب" بضم المعجمة يمنع "عنه، صلى الله عليه وسلم الناس" وهو في داخل الكعبة، قال الحافظ: وكأن خالدا جاء بعدما دخل، صلى الله عليه وسلم انتهى.
قال الواقدي: ثم خرج والمفتاح في يده، ثم جعله في كمه، وخالد يذب الناس حتى خرج، فقال على باب البيت، فخطب.
وروى أبو يعلى عن ابن عباس، والبيهقي عن ابن إسحاق، وعروة وابن أبي شيبة عن أبي سلمة، وغيرهم أنه، صلى الله عليه وسلم لما حانت الظهر أمر بلالا أن يؤذن فوق الكعبة، ليغيظ المشركين وقريش فوق رؤوس الجبال، وقد فر جماعة من وجوههم وتغيبوا، وأبو سفيان وعتاب وخالد ابنا أسيد، والحارث بن هشام، جلوس بفناء الكعبة، وأسلموا بعد.
فقال عتاب وخالد: لقد كرم الله أسيدا أن لا يسمع هذا فيغيظه، وقال الحرث: أما والله لو أعلم أنه محق، لاتبعته، إن يكن الله يكره هذا، فسيغيره.
وقال أبو سفيان: لا أقول شيئا، لو تكلمت لأخبرت عني هذه الحصى.
وقال بعض بني سعيد بن العاصي: لقد أكرم الله سعيدا أن قبضه، قبل أن يرى هذا الأسود على ظهر الكعبة.
وقال الحكم بن أبي العاصي: هذا والل الحدث العظيم، أن يصيح عبد بني جمح على(3/484)
وفي البخاري: أنه صلى الله عليه وسلم أقام خمسة عشرة ليلة، وفي رواية: تسع عشرة. وفي رواية أبي داود: سبع عشرة. وعند الترمذي: ثمان عشرة.
__________
بنية أبي طلحة، فأتى جبريل فأخبره صلى الله عليه وسلم خبرهم فخرج عليهم وقال: قد علمت الذي قلتم وأخبرهم، فقال الحارث وعتاب: نشهد أنك رسول الله ما اطلع على هذا أحد كان معنا، فنقول: أخبرك.
وروى ابن سعد والحارث بن أبي أسامة وابن عساكر، عن عبد الله بن أبي بكر بن حزم: خرج صلى الله عليه وسلم، وأبو سفيان جالس في المسجد، فقال في نفسه: ما أدري بم يغلبنا محمد؟ فأتاه صلى الله عليه وسلم، فضرب صدره, وقال: "بالله نغلبك". فقال: أشهد أنك رسول الله.
وروى الحاكم وتلميذه البيهقي عن ابن عباس، وابن سعد عن أبي إسحاق السبيعي قالا: رأى أبو سفيان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي والناس يطئون عقبه، فقال في نفسه: لو عاودت هذا الرجل القتال، وجمعت له جمعا، فجاء عليه السلام حتى ضرب في صدره فقال: "إذن يخزيك". فقال: أتوب إلى الله وأستغفر الله ما أيقنت أنك نبي إلا الساعة، إني كنت لأحدث نفسي بذلك.
"وفي البخاري: أنه صلى الله عليه وسلم أقام خمس عشرة ليلة" هذا غلط فإنما وقع هذا في رواية لأبي داود، وضعفه النووي كما يأتي، فلو كانت في البخاري، ما وسعه تضعيفها والذي في البخاري هنا وقبله في أبواب التقصير من طريق عاصم عن عكرمة، عن ابن عباس: أقام النبي صلى الله عليه وسلم بمكة تسعة عشر يوما يصلي ركعتين، قال المصنف: بتقديم الفوقية على السين.
"وفي رواية" له أيضا هنا عن ابن عباس: أقمنا مع النبي صلى الله عليه وسلم، في سفره "تسع عشرة ليلة" نقصر الصلاة فأفادت أن الأيام في الرواية التي فوقها بلياليها، كما قاله في الفتح، "وفي رواية أبي داود" من هذا الوجه وغيره بلفظ "سبع عشرة" بتقديم السين قال أبو داود وقال عباد بن منصور عن عكرمة تسع عشرة كذا عقله وقد وصلها البيهقي.
"وعند الترمذي ثمان عشرة" ورواه أبو داود من حديث عمران بن حصين: غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الفتح فأقام بمكة ثماني عشرة ليلة لا يصلي إلا ركعتين، وله من طريق ابن إسحاق عن الزهري، عن عبيد الله، عن ابن عباس: أقام صلى الله عليه وسلم بمكة عام الفتح خمس عشرة يقصر الصلاة، وجمع البيهقي بين هذا الاختلاف بأن من قال: تسع عشرة، عد يومي الدخول والخروج، ومن(3/485)
وفي الإكليل: أصحها بضع عشرة يقصر الصلاة.
وقال الفاسي.
__________
قال: سبع عشرة، حذفهما ومن قال: ثماني عشرة عد أحدهما، وأما رواية خمس عشرة، فضعفها النووي في الخلاصة وليس بجيد؛ لأن رواتها ثقات، ولم ينفرد بها ابن إسحاق، فقد أخرجها النسائي من رواية عراك بن مالك، عن عبيد الله كذلك وإذا ثبت أنها صحيحة، فلتحمل على أن الراوي ظن أن الأصل رواية سبع عشرة، فحذف منها يومي الدخول والخروج، فذكر أنها خمس عشرة، واقتضى ذلك أن رواية تسع عشرة أرجح الروايات، ويرجحها أيضا أنها أكثر ما وردت به الروايات الصحيحة. انتهى من فتح الباري.
"وفي الإكليل" للحاكم "أصحها بضع عشرة" لعله من حيث صدقها بالجميع، وإلا فأصحها إسنادا تسع عشرة، كما علم.
"يقصر الصلاة" بضم الصاد، وضبطه المنذري بضم الياء وشد الصاد من التقصير؛ لأنه عليه السلام لم ينو الإقامة، بل قصده متى تهيأ له فراغ حاجته رحل، وروى البخاري هنا في باب مقام النبي صلى الله عليه وسلم بمكة زمن الفتح قبل هذا الحديث عن أنس، أقمنا مع النبي صلى الله عليه وسلم عشرا نقصر الصلاة، وكذا رواه في أبواب التقصير, قال الحافظ: ولا معارضة بينهما، فحديث ابن عباس في فتح مكة، وحديث أنس في حجة الوداع، وقول ابن رشيد: أراد البخاري أن يبين أن حديث أنس داخل في حديث ابن عباس؛ لأن عشرة داخلة في تسع عشرة، فيه نظر لأنه إنما يجيء على اتحاد القصتين، الحق أنهما مختلفتان.
انتهى باختصار منه في التقصير.
وقال في هذا الباب: ظاهر الحديثين التعارض، والذي أعتقده أن حديث أنس إنما هو في حجة الوداع؛ لأنها السفرة التي أقام فيها بمكة عشرا، لدخوله يوم الرابع وخروجه يوم الرابع عشر، ولعل البخاري أدخله في هذا الباب، إشارة إلى ما ذكرت، ولم يفصح بذلك تشحيذا للأذهان، ويؤيده رواية الإسماعيلي والبخاري في باب قصر الصلاة بلفظ: فأقام بها عشرا يقصر الصلاة حتى رجع إلى المدينة، فإن مدة إقامتهم في سفرة الفتح حتى رجعوا إلى المدينة أكثر من ثمانين يوما. انتهى.
"وقال الفاسي" القاضي تقي الدين محمد بن أحمد بن علي بن عبد الرحمن المكي الشريف، أبو الطيب الحافظ، ولد سنة خمس وسبعين وسبعمائة، ورحل وبرع ودرس وأفتى(3/486)
في تاريخ مكة: وكان فتح مكة لعشر ليال بقين من شهر رمضان.
__________
وصنف وولي قضاء المالكية بمكة، وأذن له الحافظ العراقي بإقراء الحديث، مات في شوال سنة اثنتين وثلاثين وثمانمائة، قال الحافظ ابن حجر: لم يخلف في الحجاز مثله "في تاريخ مكة" المسمى شفاء الغرام، "كان فتح مكة لعشر ليال بقين من شهر رمضان" سنة ثمان، فبعض مدة القصر فيه وبعضها في شوال، وقد أبعد المصنف النجعة، فهذا لفظ ابن إسحاق في السيرة، وروى الإمام أحمد والترمذي، وقال: حسن صحيح عن الحارث بن مالك: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يوم فتح مكة: "لا تغزى هذه بعد اليوم إلى يوم القيامة".
قال العلماء: يعني بقوله: "لا تغزى على الكفر" قالوا: ونادى مناديه صلى الله عليه وسلم من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فلا يدع في بيته صنما إلا كسره، والكلام في هذه الغزوة الشريفة يطول، ومرام المصنف، رحمة الله عليه، الاختصار فلنتبعه والله تعالى أعلم.(3/487)
"هدم العزى":
ثم سرية خالد بن الوليد عقب فتح مكة إلى العزى بنخلة، وكانت لقريش وجميع بني.
__________
هدم العزى:
"ثم سرية" خالد بن الوليد" سيف الله الذي صبه الله على الكفار، "عقب فتح مكة" بخمس ليال لا متصلا به، لكن لما قصرت المدة لا سيما مع شغلهم بتعلقات الفتح، أطلق أنه عقبه "إلى العزى" بضم المهملة وفتح الزاي، قال البغوي: اشتقوها من اسم الله تعالى العزيز، وقيل: العزى تأنيث الأعز.
قال مجاهد: هي شجرة.
وقال الضحاك: صنم وضعه سعد بن ظالم الغطفاني لما قدم مكة، ورأى أهلها يطوفون بين الصفا والمروة، فأخذ من كل حجر أو نقلهما إلى نخلة، وسماهم الصفا والمروة، ثم أخذ ثلاثة أحجار فأسندها إلى شجرة فقال: هذا ربكم.
فجعلوا يطوفون بين الحجرين، ويعبدون الحجارة "بنخلةَ" غير مصروف للعلمية والتأنيث.
قال المصنف: وهو موضع على ليلة من مكة، "وكانت" العزى "لقريش وجميع بني(3/487)
كنانة، وكانت أعظم أصنامهم. لخمس ليال بقين من رمضان، سنة ثمان، ومعه ثلاثون فارسا لهدمها، فلما انتهوا إليها هدمها ثم رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة فأخبره. فقال: "هل رأيت شيئا"؟ قال: لا. قال: "فإنك لم تهدمها، فارجع إليها فاهدمها". فرجع فجرد سيفه فخرجت إليه امرأة عجوز عريانة سوداء ثائرة الرأس، فجعل السادن.
__________
كنانة", قال ابن إسحاق وابن سعد: وكان سدنتها وحجابها بني شيبان من بني سليم حلفاء بني هاشم، قال ابن هشام: حلفاء أبي طالب خاصة، "وكانت أعظم أصنامهم" أجلها بزعمهم الفاسد، لا أنها أعظم جسما من غيرها، وذلك أن عمرو بن لحي أخبرهم أن الرب يشتي عند اللات، ويصيف عند العزى، فعظموها وبنوا لها بيتا، وكانوا يهدون إليها كما يهدون للكعبة، ويعظمونها كتعظيمها، ويطوفون وينحرون عندها، وهم يعرفون فضل الكعبة عليها؛ لأنها بيت إبراهيم ومسجده، "لخمس ليال بقين من رمضان سنة ثمان" كما قاله ابن سعد وغيره، وذكر ابن إسحاق: أنها كانت بعد سرية خالد إلى بني جذيمة، ونظر فيه مغلطاي بأنه صلى الله عليه وسلم كان قد وجد على خالد في أمر بني جذيمة، ولا يتجه إرساله في بعث، وأجاب الشامي بأنه إن صح فوجهه أنه صلى الله عليه وسلم رضي عليه وعذره في اجتهاده. "ومعه ثلاثون فارسا لهدمها".
قال ابن إسحاق: فلما سمع سادنها السلمي بسير خالد إليها، علق سيفه وأسند في الجبل الذي هو فيه، وهو يقول:
يا عز شدي شدة لا سوى لها ... على خالد ألقي القناع وشمري
يا عز إن لم تقتلي المرء خالدا ... فبوئي بإثم عاجل أو تنصري
"فلما انتهوا إليها هدمها", أي: دم البيت التي هي فيه، وكان على ثلاث سمرات كما رواه البيهقي عن أبي الطفيل، بفتح المهملة وضم الميم فقطعها وهدم البيت وكسر الصنم، "ثم رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة فأخبره"، فقال: "هل رأيت شيئا" خرج منها حين هدمتها؟ "قال: لا". قال: "فإنك لم تهدمها" الهدم الأبدي المزيل لها حقيقة، فإن الذي فعلته هو إزالة الصورة الظاهرة، وبقي أمر خفي لا تزول إلا بزواله، "فارجع إليها فاهدمها". "فرجع" خالد.
قال ابن سعد وهو متغيظ، "فجرد سيفه فخرجت إليه امرأة عجوز عريانة سوداء ثائرة الرأس" بمثلثة، أي منتشرة الشعر.
زاد في حديث أبي الطفيل تحثو التراب على رأسها ووجهها "فجعل السادن" بفتح السين(3/488)
يصيح بها، فضربها خالد فجزلها اثنتين، ورجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال: "نعم تلك العزى، وقد يئست أن تعبد ببلادكم أبدا".
__________
وكسر الدال المهملتين وبالنون الخادم "يصيح بها"، وفي نسخة فيها أي في شأنها وبها، أظهر وهو يقول: يا عزى خبليه يا عزى عوريه ولا تموتي برغم، "فضربها خالد" وهو يقول: يا عز كفرانك لا سبحانك إني رأيت الله قد أهانك.
وفي تفسير البغوي عن مجاهد وغيره: فضربها بالفاس فقلعها، واجتث أصلها، فخرجت منها شيطانة ناشرة شعرها، داعية ويلها، واضعة يدها على رأسها "فجزلها" بفتح الجيم وشد الزاي قطعها "اثنتين" قطعتين وفي نسخة باثنتين بباء زائدة للتأكيد، كما قال النووي وغيره في نحوه. واختار الدماميني أنها للمصاحبة وهي ومدخولها ظرف مستقر منصوب المحل على الحال أي فقطعها ملتبسة بقطعتين، ولا مانع من جمع القطع وكونها اثنتين، في حالة واحدة وليس المراد أن انقسامها إلى اثنتين كان ثابتا قبل القطع، وإنما هو معه وبسببه، "ورجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبره"، فقال: "نعم تلك العزى وقد يئست" بفتح التحتية وكسر الهمزة وسكون السين وضم التاء "أن تعبد ببلادكم أبدا"، وقد علمت من نقل البغوي، أنها كانت شيطانة خرجت من أصل الشجرة، وفيه علم من أعلام النبوة، حيث أعلمه أنه لم يهدمها أولا، لأنه لم يزل ما هو الداعي إلى تجديدها، ولعل تلك الشيطانة كانت تكلمهم، أو تظهر لهم، فربما أمرتهم بتجديدها، أو تخبرهم أنها ولو قطعت شجراتها أو كسرت حجارتها، لم تزل عظمتها، وفي خروجها لخالد ثانيا آية أخرى لأنها لم تكن مشاهدة.(3/489)
"هدم سواع":
ثم سرية عمرو بن العاصي إلى سواع
__________
هدم سواع:
"ثم سرية عمرو بن العاصي" رضي الله عنه "إلى سواع" بضم السين وفتحها، كما في القاموس قال ابن جرير: سواع ابن شيث بن آدم، لما مات، صورت صورته وعظمت لموضعه من الدين، ولما عهدوا في دعائه من الإجابة، وأولاده يغوث ويعوق ونسر، فلما مات صورت صورهم، فلما خلفت الخلوف، قالوا ما عظم هؤلاء آباؤنا إلا لأنها ترزق وتنفع وتضر، فاتخذوها آلهة.(3/489)
صنم هذيل على ثلاثة أميال من مكة في شهر رمضان سنة ثمان.
قال عمرو: فانتهيت إليه وعنده السادن، فقال: ما تريد؟ فقلت أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أهدمه، قال: لا تقدر على ذلك. قلت: لم؟ قال: تمنع، فقلت: ويحك، وهل يسمع أو يبصر؟ قال: فدنوت منه فكسرته, ثم قلت للسادن: كيف رأيت؟ قال: أسلمت لله.
__________
قال السهيلي: وكان بدء عبادتها في عهد مهلائيل بن قينان قبل نوح، وهي الجاهلية الأولى في أحد القولين، وفي البخاري عن ابن عباس: صارت الأوثان التي كانت في قوم نوح، في العرب بعد، وهي أسماء قوم صالحين، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم: أن انصبوا في مجالسهم التي كانوا يجلسونها أنصابا وسموها بأسمائهم ففعلوا، فلم تعبد حتى هلك أولئك، ونسخ العلم، عبدت. "صنم هذيل" بضم الهاء وفتح الذال المعجمة وسكون التحتية وباللام ابن مدركة بن إلياس بن مضر، روي عن ابن عباس: أن الطوفان دفنه، فأخرجه إبليس فعبد وصار لهذيل، وحج إليه.
وذكر ابن إسحاق: أنهم أول من اتخذه برهاط بضم الراء قرية جامعة بساحل البحر، "على ثلاثة أميال من مكة في شهر رمضان سنة ثمان" بعد سرية خالد على مفاد التعبير بثم، ولم نر خصوص يوم خروجه، ولا عدة من خرج معه.
"قال عمرو" بن العاصي "فانتهيت إليه وعنده السادن، فقال: ما تريد؟ فقلت: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أهدمه، قال: لا تقدر على ذلك. فقلت: لم؟ قال: تمنع. فقلت" زاد ابن سعد وغيره حتى الآن أنت على الباطل، "ويحك وهل يسمع أو يبصر" حتى يمنعني، "قال: فدنوت منه فكسرته" زاد ابن سعد وغيره وأمرت أصحابي فهدموا بيت خزانته، فلم نجد فيه شيئا، "ثم قلت للسادن: كيف رأيت؟ قال: أسلمت لله،" فهداه رب العالمين.(3/490)
"هدم مناة":
ثم سرية سعد بن زيد الأشهلي إلى مناة،
__________
هدم مناة:
"ثم سرية" الترتيب ذكرى، لأنها لست بقين من رمضان، وسرية خالد لخمس، وكأنه قدمها للاهتمام، لأنها كانت لقريش "سعد" بسكون العين "ابن زيد الأشهلي إلى مناة" قرأ ابن كثير بالمد والهمزة والعامة بالقصر غير مهموز؛ لأن العرب سمت زيد مناة، وعبد مناة، ولم يسمع فيها المد ووقف عليها بالهاء، وبعضهم بالتاء، وقال بعضهم: ما كتب في المصحف بالتاء، يوقف عليه بالتاء، وما كتب بالهاء، يوقف عليه بالهاء، وأما قوله عز وجل: {الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} =(3/490)
صنم للأوس والخزرج بالمشلل، في شهر رمضان، حين فتح مكة، فخرج في عشرين فارسا حتى انتهى إليها، قال السادن: ما تريد؟ قال: هدم مناة، قال: أنت وذاك.
فأقبل سعد يمشي إليها، فخرجت إليه امرأة عريانة سوداء ثائرة الرأس تدعو بالويل وتضرب صدرها، فضربها سعد بن زيد فقتلها، وأقبل إلى الصنم ومعه أصحابه فهدموه وانصرف راجعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وكان ذلك لست بقين من رمضان.
__________
فالثالثة نعت لمناة، أي الثالثة للصنمين في الذكر، والأخرى نعت للثالثة، وإن كانت العرب لا تقول للثالثة الأخرى، قال الخليل لو فاق رءوس الآي، كقوله: {مَآرِبُ أُخْرَى} ولم يقل أخر، وقيل: في الآية تقديم وتأخير مجازها: أفرأيتم اللات والعزى الأخرى ومناة الثالثة، قاله في معالم التنزيل، "صنم للأوس والخزرج" ومن دان بدينهم من أهل يثرب، قاله ابن إسحاق.
زاد ابن سعد وغسان أي صنمهم قبل الهجرة، وكذا قول عائشة، كان الأنصار يهلون لمناة، وقال قتادة صنم لخزاعة، وقال الضحاك لها ولهذيل، وقال ابن زيد لبني كعب "بالمشلل" جبل على ساحل البحر يهبط منه إلى قديد، وقالت عائشة: كانوا يهلون لمناة وكانت حذو قديد، ومن الغريب ما وقع في معالم التنزيل عن بعضهم، أن اللات والعزى ومناة أصنام من حجارة كانت في جوف الكعبة يعبدونها، ولو كانت كذلك لأزالها في جملة ما أزاله من الأصنام، وما بعث إليها "في شهر رمضان حين فتح مكة، فخرج في عشرين فارسا حتى انتهى إليها، وعليها سادن. "قال السادن: ما تريد؟ قال": أريد, أو مرادي "هدم مناة، قال: أنت وذاك" تهكما لظنه أنه لا يقدر عليها، "فأقبل سعد يمشي إليها، فخرجت إليه امرأة عريانة سوداء ثائرة الرأس" بمثلثة منتشرة الشعر، "تدعو بالويل وتضرب صدرها", فقال السادن: مناة دونك بعض عصاتك، "فضربها سعد بن زيد فقتلها، وأقبل إلى الصم ومعه أصحابه فهدموه" ولم يجدوا في خزانته شيئا.
"وانصرف راجعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وكان ذلك لست بقين من رمضان" فكان اللائق تقديمها على العزى، لكنه قدمها عليها تبعا للعيون, وغيرها لتقديمها في الذكر العزيز، وللاهتمام بشأن ذكر هدمها؛ لأنها كانت من أصنام قريش، كما قال أبو سفيان ليلة أسلم: كيف أصنع بالعزى، فقال له عمر: تخرأ عليها كما مر، ثم كون سعد هو المبعوث إليها، هو ما ذكره ابن سعد في طائفة.
وقال ابن إسحاق بعث صلى الله عليه وسلم أبا سفيان بن حرب فهدمها، قال ابن هشام: ويقال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ورضي عنه وعن بقية الصحابة والتابعين آمين والحمد لله رب العالمين(3/491)
ثم سرية خالد بن الوليد إلى بني جذيمة، قبيلة من عبد القيس، أسفل مكة على ليلة بناحية يلملم، في شوال سنة ثمان. وهو يوم الغميصاء.
بعثه عليه الصلاة والسلام لما رجع من هدم العزى، وهو صلى الله عليه وسلم مقيم بمكة، وبعث معه ثلاثمائة وخمسين رجلا، داعيا إلى الإسلام لا مقاتلا، فلما انتهى إليهم قال: ما أنتم قالوا: مسلمين قد صلينا وصدقنا بمحمد، وبنينا المساجد في ساحاتنا.
__________
= "ثم سرية خالد بن الوليد إلى بني جذيمة" قال الحافظ: بفتح الجيم، وكسر المعجمة، وسكون التحتية، ابن عامر بن عبد مناة بن كنانة، ووهم الكرماني، فظن أنهم من بني جذيمة بن عوف بن بكر بن عوف، "قبيلة من عبد القيس". انتهى، فعجب من المصنف كيف جزم بما حكم شيخ الحافظ أنه وهم. وكذا قال إمام المغازي ابن إسحاق الجويني: جذيمة من كنانة، وتبعه الإمام اليعمري وغيره، وتحرفت في بعض النسخ الشامية من بالواو، وكانوا كما قال ابن سعد: أسفل مكة على ليلة بناحية يلملم" الميقات المعروف "في شوال سنة ثمان".
قال الحافظ: قبل الخروج إلى حنين، عند جميع أهل المغازي "وهو يوم الغميصاء" بضم الغين المعجمة، وفتح الميم، وسكون التحتية، فصاد مهملة ممدودة، قال في الروض: وتعرف بغزوة الغميصاء وهو اسم ماء لبني جذيمة، وفي القاموس الغميصاء موضع أوقع فيه خالد بن الوليد ببني جذيمة "بعثه عليه الصلاة والسلام لما رجع من هدم العزى وهو صلى الله عليه وسلم مقيم بمكة وبعث معه ثلاثمائة وخمسين رجلا" من المهاجرين والأنصار وبني سليم، قاله ابن سعد، وقال ابن إسحاق: حدثني حكيم بن حكيم بن عباد عن أبي جعفر يعني الباقر، قال: بعث صلى الله عليه وسلم خالدا، حين افتتح كة داعيا ولم يبعثه مقاتلا، ومعه قبائل من العرب سليم بن منصور ومدلج بن مرة، فوطئوا بني جذيمة بن عامر بن عبد مناة بن كنانة، فلما رأوا القوم أخذو السلاح، فقال خالد: ضعوا السلاح فإن الناس قد أسلموا، وفي هذا الحديث رد على من زعم أنهم من عبد القيس، "داعيا إلى الإسلام له مقاتلا فلما انتهى إليهم قال: ما أنتم" قال البرهان الظاهر: أنه سألهم عن صفتهم، أي أمسلمون أنتم أم كفار؟ ولذا أتى بما دون من أو استعمل ما في العاقل، وهو شائع كمن لغيره وإن كان الأكثر أن من للعاقل وما لغيره، "قالوا": نحن "مسلمين" فنصب بتقدير فعل أو بتقدير الجار، أي نحن من قوم مسلمين كذا الرواية، بالياء في ابن سعد، كما في العيون وفي الشامي مسلمون بالواو، وهي ظاهرة "قد صلينا وصدقنا بمحمد" برسالته وبما جاء به، "وبنينا المساجد في ساحاتنا،" زاد ابن سعد: وأذنا فيها، قال: فما بال السلاح عليكم، قالوا: بيننا وبين قوم من العرب عداوة، فخفنا أن تكونوا هم. قال: فضعوا السلاح، فوضعوه.(3/492)
وفي البخاري: لم يحسنوا أن يقولوا فقالوا: صبأنا.
فقال لهم: استأسروا فاستأسر القوم، فأمر بعضهم فكتف بعضا، وفرقهم في أصحابه، فلما كان السحر، نادى منادي خالد: من كان معه أسير فليقتله، فقتلت بنو سليم من كان بأيديهم، وأما المهاجرون والأنصار فأرسلوا أسراهم.
فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم من رجل فقال: "اللهم إني أبرأ إليك من فعل خالد". وبعث عليا فودى لهم قتلاهم.
__________
"وفي البخاري" عن ابن عمر بعث صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى بني جذيمة، فدعاهم إلى الإسلام، "فلم يحسنوا أن يقولوا ذلك، فقالوا: صبأنا" لفظ البخاري أسلمنا، فجعلوا يقولون: صبأنا صبأنا ... الحديث، وعاد المصنف لرواية ابن سعد دون بيان، فيوهم أنها من جملة عزوه للبخاري، وليس كذلك لكنه اتكل على شهرة ذلك، "فقال لهم: استأسروا فاستأسر القوم"، كذا في نسخ العيون برفع القوم فاعل استأسر اللازم، وفي نسخة فاستأسروا بزيادة واو ونصب القوم، وكأنها تحريف إذ يأباها قوله: "فأمر بعضهم فكتف" بفتح التاء مخففة "بعضا" لأنه بيان لقوله استأسروا "وفرقهم في أصحابه"، وفي البخاري: فجعل خالد يقتل منهم، ويأسر ودفع إلى كل رجل منا أسيرا، قال الحافظ: فيجمع بينه وبين كلام ابن سعد هذا، بأنهم أعطوا ما بأيديهم بغير محاربة، "فلما كان السحر، نادى منادي خالد: من كان معه أسير فليقتله،" لفظ الرواية فليذافه، والمذافة الإجهاز "بالسيف، فنقلها بالمعنى لأنه لم يقيد بها، "فقتلت بنو سليم من كان بأيديهم، أما المهاجرون والأنصار فأرسلوا" أطلقوا "أسراهم" ولم يذكر أسرى بني مدلج لأن هذا كلام ابن سعد، ولم يذكروا في روايته فأما أنهم لم يثبتوا عنده، أو أراد ببني سليم ما يشملهم.
وفي البخاري حتى إذا كان يوم أمر خالد أن يقتل كل رجل منا أسيره، فقلت: والله لا أقتل أسيري، ولا يقتل رجل من أصحابي أسيره، وكان تامة ويوم بالتنوين، أي زمن لرواية ابن سعد، فلما كان السحر. وأصاب ابن عمر: هم المهجارون والأنصار، وفيه الخلف على نفي فعل الغير، إذ أوثق بطواعيته، كما في الفتح والمصنف، "فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم من رجل" انفلت منهم، ذكر ابن هشام في زيادته عن بعض أهل العلم، أنه انفلت رجل من القوم، فأتاه صلى الله عليه وسلم فأخبره، قال: "هل أنكر عليه أحد"، قال: نعم رجل أبيض ربعة، فنبهه خالد فسكت، وأنكر عليه آخر طويل مضطرب فراجعه، فاشتدت مراجعتهما، فقال عمر: أما الأول فابني عبد الله، وأما الآخر فسالم مولى أبي حذيفة، فقال: "اللهم إني أبرأ إليك من فعل خالد" وبقية حديث ابن عمر عند البخاري، حتى قدمنا على النبي صلى الله عليه وسلم، فذكرناه له، فرفع يديه، فقال: "اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد". مرتين، "وبعث عليا فودى لهم قتلاهم" ما ذهب منهم وعند ابن إسحاق من مرسل(3/493)
قال الخطابي: يحتمل أن يكون خالد نقم عليهم العدول عن لفظ الإسلام؛ لأنه فهم عنهم أن ذلك وقع منهم على سبيل الأنفة ولم ينقادوا إلى الدين، فقتلهم متأولا، وأنكر صلى الله عليه وسلم العجلة وترك التثبت في أمرهم قبل أن يعلم المراد من قولهم: صبأنا.
__________
الباقر، ثم دعا عليا، فقال: "يا علي اخرج إلى هؤلاء القوم، فانظر في أمرهم واجعل أمر الجاهلية تحت قدميك"، فخرج حتى جاءهم ومعه مال بعثه به النبي عليه الصلاة والسلام، فودى لهم الدماء وما أصيب من الأموال، حتى إنه ليدي لهم ميلغة الكلب، حتى إذا لم يبق شيء من دم ولا مال إلا وداه، بقيت معه بقية من المال، فقال لهم علي: فرغ فرغ هل بقي لكم دم أو مال لم يود لكم، قالوا: لا، قال: فإني أعطيكم بقية هذا المال، احتياطا لرسول الله بما لا يعلم ولا تعلمون، ففعل، ثم رجع إليه صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال: "أصبت وأحسنت" ثم استقبل صلى الله عليه وسلم القبلة قائما شاهرا يديه، حتى إنه ليرى ما تحت منكبيه يقول: "اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد". ثلاث مرات.
قال ابن هشام: حدثني بعض أهل العلم أنه حدث عن إبراهيم بن جعفر المحمودي، قال: قال صلى الله عليه وسلم: "رأيت كأني لقمت لقمة من حيس، فالتذذت بطعمها، فاعترض في حلقي منها شيء حين ابتلعتها، فأدخل علي يده فنزعه ". فقال أبو بكر الصديق: يا رسول الله هذه سرية من سراياك تبعثها، فيأتيك منها بعض ما تحب، ويكون في بعضها اعتراض، فتبعث عليا فيسهله.
"قال الخطابي: يحتمل أن يكون خالد نقم" بفتح القاف وكسرها لغة، كما في المصباح، أي عاب "عليهم العدول عن لفظ الإسلام لأنه فهم عنهم أن ذلك وقع منهم على سبيل الأنفة ولم ينقادوا إلى الدين، فقتلهم متأولا وأنكر عليه صلى الله عليه وسلم العجلة، وترك التثبت في أمرهم قبل أن يعلم المراد من قولهم: صبأنا" فظن أن مرادهم خرجنا إلى الدين الباطل، مع أن مرادهم من دين إلى دين.
قال المصنف: ولم ير عليه قودا؛ لأنه تأول أنه كان مأمورا بقتالهم إلى أن يسلموا انتهى، وقال ابن إسحاق: قال بعض من عذر خالدًا: إنه قال: ما قاتلت حتى أمرني عبد الله بن حذافة السهمي، وقال: إن رسول الله قد أمرك أن تقاتلهم لامتناعم من الإسلام، قال الحافظ قول ابن عمر راوي الحديث: فلم يحسنوا ... إلخ، يدل على أنه فهم أنهم أرادوا الإسلام حقيقة، ويؤيد فهمه أن قريشا كانوا يقولون لمن أسلم صبا، حتى اشتهرت هذه اللفظة، وصاروا يطلقونها في مقام الذم، ومن ثم لما أسلم ثمامة، وقدم معتمرا قالوا: أصبأت؟ قال: لا, بل أسلمت. فلما اشتهرت هذه اللفظة بينهم في موضع أسلمت، استعملها هؤلاء، وأما خالد، فحمل اللفظة على ظاهرها(3/494)
....................................
__________
لأن قولهم: صبأنا، أي خرجنا من دين إلى دين، ولم يكتف خالد بذلك حتى يصرحوا بالإسلام، وقال الحافظ: فذكره انتهى وأنت خبير بأن هذا كله إنما هو على رواية الصحيح.
وأما على ما في ابن سعد قالوا: مسلمين قد صلينا وصدقنا بمحمد، وبنينا المساجد في ساحاتنا وأذنا فيها، فلعل خالدا رضي الله عنه تأول أن هذا القول منهم تقية، كما تأول أسامة في السرية المتقدمة، وذكر أهل السير: أن عبد الرحمن بن عوف قال لخالد: عملت بأمر الجاهلية في الإسلام، أخذت بثأر أبيك، قال: كذبت، أنا قتلت قاتل أبي وإنما أخذت بثأر عمك، وكانت بنو جزيمة قتلوا في الجاهلية عوفا والفاكه عم خالد وأخاه الفاكه أيضا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "مهلا يا خالد دع عنك أصحابي، فوالله لو كان لك أحد ذهبا، ثم أنفقته في سبيل الله، ما أدركت غدوة رجل منهم ولا روحته".
وفي مسلم عن أبي سعيد قال: كان بين خالد وبين عبد الرحمن شيء، فسبه خالد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تسبوا أحدًا من أصحابي".
قال الحافظ: ما حاصله فهذا صريح في أن المراد بقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تسبوا أصحابي فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه".
رواه الشيخان وغيرهما عن أبي سعيد: السابقون إلى الإسلام لأن خالدا كان من الصحابة حينئذ، باتفاق. ونهي بعضهم عن سبه من سبقه، يقتضي زجر من لم ير المصطفى ولم يخاطبه بالأولى، فلا حاجة لجواب الكرماني بأن الخطاب لغير الصحابة المفروضين في العقل، تنزيلا لمن سيوجد كالموجود الحاضر. انتهى.
ونقل العلامة السبكي عن التاج بن عطاء الله: أنه صلى الله عليه وسلم كان له تجليات، فرأى في بعضها سائر أمته الآتين بعده فخاطبهم بقوله: "لا تسبوا أصحابي" لطيفة وعبرة.
روى ابن إسحاق عن أبي حدرد قال: كنت يومئذ في خيل خالد، فقال لي فتى من جذيمة قد جمعت يداه إلى عنقه برمة: يا فتى هل أنت آخذ بهذه الرمة، فعائدي إلى هؤلاء النسوة حتى أقضي إليهن حاجة، ثم تردني فتصنع بي ما بدا لكم، فقدمته حتى وقف عليهن، فقال: أسلمي يا حبيش قبل نفاد العيش.
أريتك إن طالبتكم فوجدتم ... بحلية أو أدركتم بالخوانق
ألم يك أهلا أن ينول عاشق ... تكلف ادلاج السرى والودائق
فلا ذنب لي قد قلت إذا أتاها هنا ... أثيبي بود قبل إحدى الصعائق
أثيبي بود قبل أن يشحط النوى ... وينأى لأمر بالحبيب المفارق(3/495)
...........................................
__________
فقالت له امرأة منهن: وأنت نجيت عشرا وتسعا وترا وثمانيا تترا، قال ابن إسحاق: فحدثني أبو فراس الأسلمي عن أشياخ منهم عمن حضرها، قالوا: فقامت إليه المرأة حين ضرب عنقه، فأكبت عليه، فما زالت تقبله حتى ماتت عنده.
وروى النسائي والبيهقي بإسناد صحيح عن ابن عباس: أنه صلى الله عليه وسلم بعث سرية فغنموا وفيهم رجل، فقال: إني لست منهم عشقت امرأة فلحقتها، فدعوني أنظر إليها، ثم اصنعوا بي ما بدا لكم، فإذا امرأة طويلة أدماء، فقال لها: أسلمي حبيش قبل نفاد العيش، وذكر البيتين الأولين، وقال بعدهما، قالت: نعم فديتك، فقدموه فضربوا عنقه، فجاءت المرأة، فوقعت عليه، فشهقت شهقة أو شهقتين، ثم ماتت، فلما قدموا عليه صلى الله عليه وسلم أخبروه، فقال: "أما كان فيكم رجل رحيم".
وأخرجه البيهقي من وجه آخر نحو هذه القصة، وقال في آخرها: فانحدرت إليه من هودجها، فحنت عليه حتى ماتت.
قال السهيلي: وحبيش مرخم حبيشة، وحلية بفتح المهملة، وسكون اللام، فتحتية فتاء تأنيث، والخوانق بفتح المعجمة، ونون وقاف موضعان، والودائق جمع وديقة، وهي شدة الحر في الظهيرة. انتهى.(3/496)
"غزوة حنين":
ثم غزا صلى الله عليه وسلم حنينا -بالتصغير- وهو واد قرب ذي المجاز، وقيل: ماء بينه وبين مكة ثلاث ليال، قرب الطائف، وتسمى غزوة هوازن.
__________
غزوة حنين:
"ثم غزا", أي: قصد "صلى الله عليه وسلم حنينا" أي: أهلها، بالسير لقتالهم "بالتصغير" كما نطق به التنزيل، "وهو واد قرب" نحوه قول الفتح وغيره إلى جنب "ذي المجاز" وهو سوق كان للعرب على فرسخ من عرفة بناحية كبكب، كجعفر جبل وراء الخطيب إذا وقف، كما في القاموس، وبقية هذا القول، كما في الفتح وغيره، قريب من الطائف بينه وبين مكة بضعة عشر ميلا من جهة عرفات، "وقيل: ماء بينه وبين مكة ثلاث ليال قرب الطائف", حكاه في المراصد، قال أبو عبيد البكري: سمي باسم حنين بن قاين بن مهلاييل.
قال الشامي: والأغلب عليه التذكير؛ لأنه اسم ماء، وربما أنثته العرب؛ لأن اسم البقعة، فسميت الغزوة باسم مكانها، وفي المصباح مذكر منصرف، وقد يؤنث على معنى البقعة، "وتسمى غزوة هوازن، بفتح الهاء وكسر الزاي قبيلة كبيرة من العرب فيها عدة بطون، ينسبون إلى هوازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة، بمعجمة ثم مهملة ثم هاء مفتوحات, ابن قيس(3/496)
وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فرغ من فتح مكة وتمهيدها، وأسلم عامة أهلها مشت أشراف هوازن وثقيف بعضهم إلى بعض، وحشدوا وقصدوا محاربة المسلمين، وكان رئيسهم مالك بن عوف النصري.
__________
عيلان بعين مهملة ابن إلياس بن مضر، كما في الفتح وغيره سميت بذلك؛ لأنهم الذين أتوا لقتاله صلى الله عليه وسلم.
روى الواقدي عن أبي الزناد: أن هوازن أقامت سنة تجمع الجموع، وتسير رؤساؤهم في العرب تجمعهم، وغاير المصنف الأسلوب؛ لأن الحاصل منه صلى الله عليه وسلم، لما خرج من مكة مجرد السير، والمناسب له الفعل، والمشار إليه بالتسمية، هو ما حصل للمسلمين مع هوازن ومن معهم، والمناسب له الغزوة، وتسمى أيضا كما في الروض وغيره أوطاس باسم الموضع الذي كانت فيه الوقعة أخيرا، "و" سبب "ذلك" الغزوة "أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فرغ من فتح مكة وتمهيدها، وأسلم عامة أهلها" أي غالبهم لما يأتي أنه خرج معه ثمانون من المشركين، "مشت أشراف هوازن وثقيف بعضهم إلى بعض" بدل من أشراف، "وحشدوا" بمهملة فمعجمة: اجتمعوا "وقصدوا محاربة المسلمين".
قال أهل المغازي: وأشفقوا أن يغزوهم صلى الله عليه وسلم، وقالوا: قد فرغ لنا، فلا ناهية له دوننا، والرأي أن نغزوه، فحشدوا وبغوا، وقالوا: والله إن محمدا لاقى قوما لا يحسنون القتال، فأجمعوا أمركم، فسيروا في الناس، وسيروا إليه قبل أن يسير إليكم، فأجمعت هوازن أمرها، "وكان رئيسهم مالك بن عوف", وهو ابن ثلاثين سنة، ويقال: مالك بن عبد الله، والمشهور ابن عوف بن سعد بن يربوع بن واثلة، بمثلثة عند أبي عمر وتحتية عند ابن سعد, ابن دهمان بن نصر بن معاوية بن بكر بن هوازن "النصري،" بالصاد المهملة نسبة إلى جده الأعلى نصر المذكور، أسلم بعد غزوة الطائف، وصحب، وشهد القادسية، وفتح دمشق.
ذكر ابن إسحاق: أنه لما انهزم المشركون لحق مالك بالطائف، فلما جاءه صلى الله عليه وسلم وفد هوازن سألهم عنه، فقالوا: هو مع ثقيف، فقال: "أخبروه أنه إن أتاني مسلما، رددت إليه أهله وماله، وأعطيته مائة من الإبل" , فأتى مالك بذلك فركب مستخفيا، فأدركه صلى الله عليه وسلم بالجعرانة أو بمكة، فرد عليه أهله وماله وأعطاه المائة وأسلم، وحسن إسلامه، وقال حين أسلم هذا الشعر:
ما إن رأيت ولا سمعت بمثله ... في الناس كلهم بمثل محمد
أوفى وأعطى للجزيل إذا اجتدى ... ومتى تشأ يخبرك عما في غد
وإذا الكتيبة عودت أنيابها ... بالسمهري وضرب كل مهند
فكأنه ليث على أشباله ... وسط الهباة جاء ذر في مرصد(3/497)
فخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة يوم السبت لست خلون من شوال، في اثني عشر ألفا من المسلمين: عشرة آلاف من أهل المدينة وألفان ممن أسلم من أهل مكة. وهم الطلقاء، يعني: الذين خلى عنهم يوم فتح مكة وأطلقهم فلم يسترقهم، واحدهم طليق -فعيل بمعنى مفعول- وهو الأسير إذا أطلق سبيله.
واستعمل صلى الله عليه وسلم على مكة عتاب بن أسيد.
__________
فاستعمله صلى الله عليه وسلم على من أسلم من قومه وتلك القبائل، فكان يقاتل بهم ثقيفا، لا يخرج لهم سرح، إلا أغار عليه، حتى ضيق عليهم، "فخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة يوم السبت لست خلون من شوال", قاله الواقدي وغيره، وقال ابن إسحاق وعروة: لخمس منه واختاره ابن جرير وروي عن ابن مسعود, فأما إنه للاختلاف في هلال الشهر، أو من قال لست عد ليلة الخروج، ومن قال لخمس لم يعدها؛ لأنه لما خرج في صبيحتها، كأنه خرج فيها وقيل: خرج لليلتين بقيتا من رمضان، وجمع بعضهم، كما في الفتح وغيره: بأنه بدأ بالخروج في أواخر رمضان، وسار سادس شوال، ووصل إليها في عاشره، "في اثني عشر ألفا من المسلمين عشرة آلاف" الذين خرج بهم "من أهل المدينة" أربعة آلاف من الأنصار، وألف من جهينة، وألف من مزينة، وألف من أسلم، وألف من غفار، وألف من أشجع، وألف من المهاجرين وغيرهم.
رواه أبو الشيخ عن محمد بن عبيد بن عمير الليثي، "وألفان ممن أسلم من أهل مكة" قاله ابن إسحاق، ومن وافقه في أن جميع من حضر الفتح عشرة آلاف، فزادوا ألفين، "وهم الطلقاء" الذين قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اذهبوا فأنتم الطلقاء"، "يعني الذين خلى عنهم يوم فتح مكة، وأطلقهم، فلم يسترقهم", بل منَّ عليهم بعدما كانوا مظنة لأن يسترقهم، "وأحدهم طليق فعيل بمعنى مفعول وهو الأسير إذا أطلق سبيله"، فكأنه جعلهم أسرى، مع أنه لم يأسر أحدًا منهم بالفعل، تنزيلا لهم منزلة الأسرى، لقدرته عليهم ومنِّه.
قال الشامي: وعلى قول عروة، والزهري, وابن عقبة: يكون جميع الجيش الذين سار بهم أربعة عشر ألفا؛ لأنهم قالوا: قدم مكة باثني عشر ألفا، وأضيف إليهم ألفان من الطلقاء، قال شيخنا: ولا يتعين، بل يجوز أن الألفين الذين لحقوه بعد خروجه من المدينة رجعوا إلى أماكنهم بعد الفتح، وبقي من خرج معه من المدينة خاصة، وانضم إليهم الطلقاء، "واستعمل صلى الله عليه وسلم على مكة عتاب" بفتح المهملة والفوقية المشددة وبالموحدة, "ابن أسيد" بفتح الهمزة وكسر السين المهملة وسكون التحتية فمهملة, ابن أبي العيص، بكسر المهملة, ابن أمية الأموي المكي، أمير(3/498)
وخرج معه صلى الله عليه وسلم ثمانون من المشركين، منهم صفوان بن أمية، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم استعار منه مائة درع بأداتها.
__________
مكة في العهد النبوي، وسنه قريب من عشرين سنة، ومعه معاذ بن جبل، يعلمهم السنن والفقه.
وفي الروض قال أهل التعبير: رأى صلى الله عليه وسلم في المنام أسيدا واليا على مكة مسلما، فمات كافرا، فكانت الرؤيا لولده عتاب، حين أسلم ولاه، وهو ابن إحدى وعشرين سن، ورزقه كل يوم درهما، فكان يقول: لا أشبع الله بطنا جاع على درهم في كل يوم، وقال عند موته: والله ما اكتسبت في ولايتي كلها قميصا معقدا كسوته غلامي كيسان.
قال الحافظ: مات عتاب يوم مات الصديق، فيما ذكر الواقدي، لكن ذكر الطبري أنه كان عاملا على مكة لعمر سنة إحدى وعشرين، "وخرج معه صلى الله عليه وسلم ثمانون من المشركين", وابن عقبة والواقدي: خرج معه أهل مكة، لم يغادر منهم أحدا ركبانا ومشاة، حتى خرج معه النساء يمشين على غير دين، نظارا ينظرون ويرجون الغنائم، ولا يكرهون أن تكون الصدمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم "منهم صفوان بن أمية", وهو يومئذ في المدة التي جعل له عليه السلام الخيار فيها، "وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم استعار منه مائة درع", كما رواه أحمد، وأبو داود والنسائي، وابن إسحاق في رواية يونس عنه، عن جابر وغيره: أنه صلى الله عليه وسلم لما أجمع السير إلى هوازن، ذكر له أن عند صفوان أدرعا وسلاحا، فأرسل إليه، وهو يومئذ مشرك، فقال: "يا أبا أمية أعرنا سلاحك نلقى فيه عدونا". فقال صفوان: أغصبا يا محمد، فقال: "بل عارية مضمونة حتى نردها إليك". قال: ليس بهذا بأس فأعطى له مائة درع بما فيها من السلاح، فسأله صلى الله عليه وسلم أن يكفيهم حملها، فحملها إلى أوطاس "بأداتها" الأنسب قول غيره بآلاتها، أي التروس والخوذ ويقال: إنه استعار منه أربعمائة درع بما يصلها، فإن صح، فالمائة داخلة في الأربعمائة، قال في النور: واختلفوا في قوله عارية مضمونة، هل هو صفة موضحة أو مقيدة، فإن قال بالأول كالشافعي، قال: تضمن إذا تلفت، ومن قال: مقيدة، قال: لا إلا الشرط.
قال السهيلي: واستعار صلى الله عليه وسلم من نوفل بن الحارث بن عبد المطلب ثلاثة آلاف رمح، فقال صلى الله عليه وسلم: "كأني أنظر إلى رماحك هذه تقصف ظهر المشركين".
روى ابن إسحاق والترمذي وصححه، والنسائي عن الحارث بن مالك: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين، ونحن حديثو عهد بالجاهلية، فسرنا معه، وكانت لكفار قريش ومن سواهم من العرب شجرة عظيمة يقال لها: ذات أنواط، يأتونها كل سنة، فيعلقون أسلحتهم عليها، ويذبحون عندها، ويعكفون عليها يوما، فرأينا ونحن نسير سدرة خضراء عظيمة، فتنادينا من جنبات الطريق: يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط، كما لهم ذات أنواط، فقال صلى الله عليه وسلم: "الله أكبر".(3/499)
فوصل إلى حنين ليلة الثلاثاء لعشر ليال خلون من شوال.
فبعث مالك بن عوف ثلاثة نفر يأتونه بخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجعوا إليه وقد تفرقت أوصالهم من الرعب.
ووجه صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي، فدخل عسكرهم، فطاف به وجاء بخبرهم.
__________
ثلاثا، "قلتم والذي نفسي بيده كما قال قوم موسى لموسى: اجعل لنا إلها كما لهم آلهة، قال: إنكم قوم تجهلون لتركبن سنن من كان قبلكم". "فوصل إلى حنين" كما رواه أبو نعيم والبيهقي من طريق ابن إسحاق.
قال: حدثني أمية بن عبد الله، أنه حدث أنه صلى الله عليه وسلم انتهى إلى حنين مساء "ليلة الثلاثاء" كأنه جعلها مضت مع إتيانهم فيها، فقال: "لعشر ليال خلون من شوال" ولم يحسب ليلة السبت مما مضى، فتكون سابعة وإلا فتكون ليلة الثلاثاء تاسعة؛ لأنه إذا حسبه ماضية، فالماضي بعدها ثلاث ليال، "فبعث مالك بن عوف" رئيس المشركين "ثلاثة نفر" من هوزان "يأتونه بخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
لفظ رواية أمية المذكور ينظرون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وأمرهم أن يتفرقوا في العسكر، "فرجعوا إليه، وقد تفرقت أوصالهم" أي مفاصلهم جمع وصل بالكسر "من الرعب" بقية الرواية المذكورة، فقال، أي مالك: ويلكم ما شأنكم، فقالوا: رأينا رجالا بيضا على خيل بلق، فوالله ما تماسكنا أن أصابنا ما ترى، والله ما نقاتل أهل الأرض إن نقاتل إلا أهل السماء، وإن أطعتنا رجعت بقومك، فإن الناس إن رأوا مثل الذي رأينا، أصابهم مثل ما أصابنا. فقال: أف لكم بل أنتم أجبن أهل العسكر، فحبسهم عنده فرقا أن يشيع ذلك الرعب في العسكر، وقال: دلوني على رجل شجاع، فأجمعوا له على رجل، فخرج، ثم رجع إليه، قد أصابه كنحو ما أصاب من قبله، قال: ما رأيت؟ قال: رأيت رجالا بيض على خيل بلق، ما يطاق النظر إليهم، فوالله ما تماسكت أن أصابني ما ترى، فلم يثن ذلك مالكا عن وجهه، "ووجه صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أبي حدرد" بمهملات وزان جعفر، واسمه سلامة، وقيل: عبيد بن عمير بن أبي سلامة بن سعد بن سنان بن الحارث بن قيس بن هوازن بن أسلم "الأسلمي" الصحابي ابن الصحابي، المتوفى سنة إحدى وسبعين، وله إحدى وثمانون سنة، وما في نسخ ابن حدرد بإسقاط أبي غلط، "فدخل عسكرهم" كما أمره عليه السلام، "فطاف بهم، وجاء بخبرهم".
أخرج ابن إسحاق في رواية الشيباني، عن جابر وغيره: أنه صلى الله عليه وسلم، أمر عبد الله بن أبي حدرد، فيقيم فيهم، وقال له: اعلم لنا من علمهم، فأتاهم، فدخل فيهم، فأقام فيهم يوما أو يومين، حتى(3/500)
وفي حديث سهل بن الحنظلية -عند أبي داود بإسناد حسن- أنهم ساروا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأطنبوا السير، فجاء رجل فارس فقال: إني انطلقت من بين أيديكم حتى طلعت جبل كذا وكذا، وإذا أنا بهوازن عن بكرة أبيهم، بظعنهم ونعمهم وشائهم اجتمعوا إلى حنين، فتبسم صلى الله عليه وسلم وقال: "تلك غنيمة المسلمين غدا، إن شاء الله تعالى".
__________
سمع، وعلم ما قد أجمعوا، عليه من حربه صلى الله عليه وسلم وسمع من مالك وأمر هوازن، وما هم عليه.
وعند الواقدي أنه انتهى إلى خباء مالك، فيجد عنده رؤساء هوازن، فسمعه يقول لأصحابه: إن محمدا لم يقاتل قوما قط قبل هذه المرة، وإنما كان يلقى قوما أغمارا لا علم لهم بالحرب، فيظهر عليهم، فإذا كان السحر، فصفوا مواشيكم، ونساءكم، وأبناءكم من ورائكم، ثم صفوا، ثم تكون الحملة منكم، واكسروا جفون سيوفكم، فتلقونه بعشرين ألف سيف مكسورة الجفون، واحملوا حملة رجل واحد، واعلموا أن الغلبة لمن حمل أولا، فأقبل حتى أتاه صلى الله عليه وسلم، فأخبره الخبر، فقال لعمر: "ألا تسمع ما يقول"، فقال: كذب، فقال ابن حدرد: لئن كذبتني يا عمر ربما كذبت بالحق، فقال عمر: ألا تسمع ما يقول، فقال صلى الله عليه وسلم: "قد كنت ضالا فهداك الله" وقوله بعشرين ألف سيف صواب، ويأتي تحقيقه قريبا.
"وفي حديث سهل ابن الحنظلية،" هي أمه، أو جدته، أو أم جده، واسم أبيه الربيع، أو عبيد، أو عمر بن عدي، وهو الأشهر, بن زيد بن جشم الأنصاري الأوسي.
قال البخاري: صحابي بايع تحت الشجرة، وكان عقيما، لا يولد له، وقال غيره: شهد المشاهد إلا بدرا، توفي في صدر خلافة معاوية، قاله في الإصابة ملخصا، ووقع في نسخ سعد ابن الحنظلية، وهو خطأ، فالذي في الفتح وغيره سهل، وهو الذي "عند أبي داود بإسناد حسن، أنهم ساروا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم" يوم حنين، "فأطنبوا السير" بالغوا فيه حتى كان عشيته، حضرت صلاة الظهر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، "فجاء رجل فارس" قال الحافظ: هو عبد الله بن أبي حدرد، كما دل عليه حديث جابر عند ابن إسحاق، يعني الحديث المتقدم، "فقال إني انطلقت من بين أيديكم حتى طلعت جبل كذا وكذا، وإذا أنا بهوازن عن بكرة أبيهم" بفتح الموحدة وسكون الكاف، قاله ابن الأثير، وتبعه غيره، فهو الرواية هنا، وإن كان فتح الكاف لغة، "بظعنهم، ونعمهم، وشائهم" جمع شاة "اجتمعوا إلى حنين، فتبسم صلى الله عليه وسلم"، وقال: "تلك غنيمة المسلمين غدا إن شاء الله تعالى"، وهذا صنعه الله لرسوله، وإن كان قد غيب ذلك على مالك بن عوف، فعند ابن إسحاق وغيره، أن هوازن لما اجتمعت على حرب المصطفى، سألت دريد بن الصمة الرياسة عليها، فقال: وما ذاك، وقد عمي بصري، وما أستمسك على ظهر الفرس، أي لأنه بلغ(3/501)
وقوله: عن بكرة أبيهم. كلمة للعرب، يريدون بها الكثرة وتوفر العدد، وليس هناك بكرة في الحقيقة، وهي التي يستقى عليها الماء، فاستعيرت هنا.
__________
مائة وعشرين، أو خمسين، أو وسبعين سنة، أو قارب المائتين، قال: ولكن أحضر معكم لأشير عليكم رأيي، بشرط أن لا أخالف، فإن ظننتم أني مخالف أقمت ولم أخرج، فقالوا: لا نخالفك، وجاءه مالك، وكان جماع أمرهم إليه فقال له: لا نخالفك فيما تراه فقال: تريد أنك تقاتل رجلا كريما، قد أوطأ العرب، وخافته العجم ومن بالشام، وأجلى يهود الحجاز، إما قتلا وإما خروجا عن ذلك وصغار، ويومك هذا الذي تلقى فيه محمدا، ما بعده يوم، قال مالك: إني لأطمع أن ترى ما يسرك، قال دريد: منزلي حيث ترى، فإذا جمعت الناس رست إليك.
فلما خرج مالك بالظعن والأموال، وأقبل دريد، قال لمالك: ما لي أسمع بكاء الصغير، ورغاء البعير، ونهاق الحمير، وخوار البقر، قال: أردت أن أجعل خلف كل إنسان أهله وماله، يقاتل عنهم، فانتقص به دريد، وقال: راعي ضأن والله ما له وللحرب وصفق بإحدى يديه على الأخرى تعجبا، وقال: هل يرد المنهزم شيء، إنها إن كانت لك لم ينفعك إلا رجل بسيفه ورمحه، وإن كانت عليك، فضحت في أهلك ومالك، إنك إن لم تصنع بتقديم بيضة هوازن إلى نحور الخيل، فارتفع الأموال، والنساء، والذراري إلى ممتنع بلادهم، ثم الق القوم على متون الخيل، والرجال بين أصناف الخيل, فإن كانت لك لحق بك من وراءك، وإن كانت عليك ألفاك، وقد أحرزت أهلك ومالك. فقال مالك: والله لا أفعل، ولا أغير أمرا فعلته، إنك قد كبرت، وكبر عقلك، فغضب دريد، وقال: يا معشر هوازن ما هذا برأي، إن هذا فاضحكم في عورتكم، وممكن منكم عدوكم، ولاحق بحصن ثقيف وتارككم، فانصرفوا وتركوه، فسل مالك سيفه، وقال: إن لم تطيعوني لأقتلن نفسي، وكره أن يكون لدريد فيها ذكر أو رأي، فمشى بعضهم إلى بعض، فقالوا: لئن عصيناه ليقتلن نفسه وهو شاب، ونبقى مع دريد وهو شيخ كبير لا قتال معه، فاجمعوا رأيكم مع مالك، فلما رأى دريد أنهم خالفوه قال:
يا ليتني فيها جذع ... أخب فيها وأضع
أقود وطفاء الزمع ... كأنها شاة صدع
وطفاء بفتح الواو وسكون المهملة وبالفاء وبالمد، والزمع بفتح الزاي والميم ومهملة، صفة محمودة في الخيل، "وقوله: عن بكرة أبيهم. كلمة العرب يريدون بها الكثرة، وتوفر العدد", وأنهم جاءوا جميعا، لم يتخلف منهم أحد، "وليس هناك بكرة في الحقيقة، وهي التي يستقى عليها الماء، فاستعيرت هنا" أي: استعملت، لا المعنى الاصطلاحي، وكان المراد أن اجتماع بني أب على بكرة أبيهم التي يستقى بها، يلزمها الكثرة عرفا، فأطلق العبارة مريدا لازمها، وهو(3/502)
وقوله: بظعنهم. أي: بنسائهم، واحدها ظعينة، وأصل الظعينة الراحلة التي ترحل ويظعن عليها، أي: يسار، وقيل للمرأة: ظعينة لأنها تظعن مع زوجها حيثما ظعن، ولأنها تحمل على الراحلة إذا ظعنت. وقيل الظعينة: المرأة التي في الهودج، ثم قيل للمرأة بلا هودج، وللهودج بلا امرأة ظعينة. انتهى.
وروى يونس بن بكير في زيادة المغازي عن الربيع قال: قال رجل يوم حنين.
__________
مطلق الكثرة، "وقوله بظعنهم" بضم الظاء المعجمة، والعين المهملة، "أي: بنسائهم واحدها ظعينة، وأصل الظعينة" يقال: "للراحلة التي ترحل ويظعن عليها، أي يسار، وقيل للمرأة،" أي سميت "لأنها تظعن" ترحل "مع زوجها حيثما ظعن، ولأنها تحمل على الراحلة إذا ظعنت", فهي من تسمية المحمول باسم الحامل، "وقيل: الظعينة المرأة في الهودج، ثم قيل للمرأة بلا هودج، وللهودج بلا امرأة: ظعينة. انتهى".
وبقية حديث سهل ابن الحنظلية، ثم قال صلى الله عليه وسلم: "من يحرسنا الليلة"؟. قال أنس بن أبي مرثد: أنا يا رسول الله، قال: "فاركب". فركب فرسا له، وجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: "استقبل هذا الشعب حتى تكون في أعلاه، ولا نغرن من قبلك الليلة". فلما أصبحنا خرج صلى الله عليه وسلم إلى مصلاه، فركع ركعتين، ثم قال: "هل أحسستم فارسكم" قالوا ما أحسسناه، فوثب بالصلاة، فجعل صلى الله عليه وسلم يصلي، وهو يلتفت إلى الشعب حتى إذا قضى صلاته وسلم، قال: "أبشروا، فقد جاءكم فارسكم". فجعل ينظر إلى خلال الشجر في الشعب، فإذا هو قد جاء حتى وقف عليه، فقال: إني انطلقت حتى إذا كنت في أعلى هذا الشعب، حيث أمرني صلى الله عليه وسلم فلما أصبحت طلعت الشعبين كلاهما، فنظرت، فلم أر أحدا فقال صلى الله عليه وسلم: "هل نزلت الليلة" قال: لا إلا مصيبا أو قاضي حاجة، فقال له: "قد أوجبت، فلا عليك أن تعمل بعدها".
رواه أبو داود، والنسائي، ونغرن بضم النون، وفتح المعجمة، وشد الراء.
"وروى يونس بن بكير" بن واصل الشيباني، أبو بكر الكوفي، الصدوق، الحافظ، عن ابن إسحاق وهشام وخلف، وعنه ابن معين، وغيره مات سنة تسع وتسعين ومائة، "في زيادة المغازي،"لشيخه ابن إسحاق أي فيما زاده على ما رواه عنه، "عن الربيع" بن أنس البكري أو الحنفي البصري، صدوق له أوهام.
روى له الأربعة, مات سنة أربعين ومائة أو قبلها، "قال: قال رجل يوم حنين" هو غلام من الأنصار، كما في حديث أنس عن البزار، وقيل: هو مسلمة بن وقش، وقيل: هو رجل من بني بكر.(3/503)
لن نغلب اليوم من قلة، فشق ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم.
ثم ركب صلى الله عليه وسلم بغلته البيضاء "دلدل" لطيفة.
__________
حكاه ابن إسحاق: "لن نغلب اليوم من قلة، فشق ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم" لأن ظاهره الافتخار بكثرتهم والإخبار بنفي الغلبة لانتفاء القلة، فكأنه قال: سبب الغلبة القلة، ونحن كثير فلا نغلب، كما روى الحاكم وصححه، وابن المنذر وابن مردويه وغيرهم عن أنس، لما اجتمع يوم حنين أهل مكة وأهل المدينة أعجبتهم كثرتهم، فقال القوم: اليوم والله نقاتل حين اجتمعنا، فكره صلى الله عليه وسلم ما قالوا وما أعجبهم من كثرتهم، ووقع عند ابن إسحاق: حدثني بعض أهل مكة أن رسول الله صلى لله عليه وسلم قال حين رأى كثرة من معه من جنود الله تعالى: "لن نغلب اليوم من قلة" قال الشامي: والصحيح أن قائل ذلك غيره صلى الله عليه وسلم.
وروى الواقدي عن سعيد بن المسيب أن أبا بكر الصديق قال: يا رسول الله لن نغلب اليوم من قلة وبه جزم ابن عبد البر. انتهى، وعلى فرض صحة أن المصطفى صلى الله عليه وسلم قاله أو الصديق، فليس المراد الافتخار، بل التسليم لله، فالمقصود نفي القلة لا نفي الغلبة، أي إن غلبنا فليس لأجل القلة، بل من الله الذي بيده النصر والخذلان، كما أفاد ذلك الطيبي في حواشي الكشاف، فقال: هذا مثل قوله تعالى: {لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا} [الفرقان: 73] الآية، في أن قوله لم يخروا ليس نفيا للخرور، إنما هو إثبات له ونفي للصمم والعمى، كذلك لن نغلب ليس نفيا للمغلوبية، وإنا هو إثبات ونفي القلة، يعني متى غلبنا، كان سببه عن القلة، هذا من حيث الظاهر، ليس كلمة إعجاب، لكنها كناية عنها، فكأنه قال: ما أكثر عددنا، "ثم ركب صلى الله عليه وسلم بغلته البيضاء دلدل".
قال الحافظ في الفتح: كذا عند ابن سعد، وتبعه جماعة ممن صنف في السير، وفيه نظر لأن دلدل أهداها له المقوقس، وقد روى مسلم عن العباس: أنه صلى الله عليه وسلم كان على بغلة له بيضاء، أهداها له فروة بن نفاثة الجذامي، وله عن سلمة: وكان على بغلته الشهباء.
قال القطب الحلبي: يحتمل أن يكون يومئذ ركب كلا من البلغتين، إن ثبت أنها كانت صحبته، وإلا فما في الصحيح أصح، وأغرب النووي، فقال: البيضاء والشهباء واحدة، ولا يعرف به بغلة غيرها، وتعقبوه بدلدل، فقد ذكرها غير واحد، لكن قيل: إن الاسمين لواحدة. انتهى.
وهذا القيل زعمه ابن الصلاح وهو مردود بأن البيضاء التي هي الشهباء أهداها له فروة بن نفاثة، بضم النون وخفة الفاء ومثلثة، ودلدل أهداها المقوقس، "لطيفة" قال القطب الحلبي: استشكلت عند الدمياطي ما ذكره ابن سعد، فقال لي: كنت تبعته فذكرت ذلك في السيرة، وكنت حينئذ سيريا محضا، وكان ينبغي لنا أن نذكر الخلاف.(3/504)
ولبس درعين والمغفر والبيضة. فاستقبلهم من هوازن ما لم يروا مثله قط من السواد والكثرة، وذلك في غبش الصبح.
__________
قال الحافظ: ودل هذا على أنه كان يعتقد الرجوع عن كثير مما وافق فيه أهل السير، وخالف الأحاديث الصحيحة، وأن ذلك كان منه قبل تضلعه منها، ولخروج نسخ كتابه، وانتشاره لم يتمكن من تغييره. انتهى.
ووقع في رواية لأحمد، وأبي داود وغيرهما: أنه صلى الله عليه وسلم كان يومئذ على فرس، قال الشامي: وهي شاذة، والصحيح أنه كان على بغلة.
قال الواقدي عن شيوخه: لما كان ثلث الليل عمد مالك بن عوف إلى أصحابه، فعبأهم في وادي حنين، وهو واد أجوف خطوط ذو شعاب ومضايق، وفرق الناس فيها، وأوعز إليهم أن يحملوا على المسلمين حملة واحدة، وعبأ صلى الله عليه وسلم أصحابه، وصفهم صفوفا في الشجر، ووضع الألوية والرايات في أهلها، "ولبس درعين، والمغفر، والبيضة", واستقبل الصفوف، وطاف عليهم بعضا خلف بعض ينحدرون، فحضهم على القتال، وبشرهم بالفتح إن صدقوا وصبروا، وقدم خالد بن الوليد في بني سليم، وأهل مكة، وجعل ميمنة، وميسرة وقلبا كان صلى الله عليه وسلم فيه.
قال ابن القيم: من تمام التوكل استعمال الأسباب التي نصبها الله لمسبباتها قدرا، وشرعا، فإنه صلى الله عليه وسلم أكمل الخلق توكلا، وقد دخل مكة، والبيضة على رأسه، ولبس يوم حنين درعين، وقد أنزل الله عليه: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67] .
وكثير ممن لا تحقيق عنده يستشكل هذا، ويتكايس في الجواب تارة بأنه فعله تعليما لأمته، وتارة بأنه قبل نزول الآية، ولو تأمل أن ضمان الله العصمة، لا ينافيه تعاطيه لأسبابها، فإن ضمان ربه لا ينافي احتراسه من الناس، كما أن إخباره تعالى بأنه يظهره على الدين كله ويعليه، لا يناقض أمره بالقتال، وإعداده العدة، والقوة، ورباط الخيل، والأخذ بالجد والحذر، والاحتراس من عدوه، ومحاربته بأنواع الحرب والتورية، فكان إذا أراد غزوة وارى بغيرها، وذلك لأنه إخبار من الله عن عاقبة حاله وما له بما يتعاطاه من الأسباب، التي جعلها بحكمته موجبة لما وعده من النصر والظفر، وإظهار دينه وغلبة عدوه. انتهى.
"فاستقبلهم من هوازن ما لم يرو مثله قط من السواد والكثرة" لأنهم أزيد من عشرين ألفا، "وذلك في غبش" بفتح المعجمة والموحدة وبالمعجمة قال في القاموس: بقية الليل أو ظلمة آخر، فإضافته إلى "الصبح" الذي هو أول النهار إشارة إلى شدة قربه من الليل حتى كأن ظلمته باقية، وفي حديث جابر عند ابن إسحاق وغيره في عماية الصبح، بفتح المهملة وخفة الميم بقية ظلمته، ولا ينافي هذا ما عند أبي داود وغيره بسند جيد عن أبي عبد الرحمن بن(3/505)
وخرجت الكتائب من مضيق الوادي، فحملوا حملة واحدة فانكشفت خيل بني سليم مولية وتبعهم أهل مكة والناس.
ولم يثبت معه صلى الله عليه وسلم يومئذ إلا العباس بن عبد المطلب، وعلي بن أبي طالب،
__________
يزيد: أنه أتاه صلى الله عليه وسلم حين زالت الشمس قال: "ثم سرنا يومنا فلقينا العدو"؛ لأنه يجمع بأنهم ساروا بقية اليوم، ونزلوا بحنين ليلا، والتقوا بغبش الصبح، "وخرجت الكتائب من مضيق الوادي،" وكانوا فيه كامنين، "فحملوا حملة واحدة، فانكشفت خيل بني سليم مولية" لتقدم كثير ممن لا خبرة له بالحرب، وغالبهم من شبان مكة، "وتبعهم أهل مكة" مؤلفة وغيرهم ممن إسلامه مدخول، قيل: فقالوا: اخذلوه هذا وقته، فانهزموا "والناس" المسلمون.
قال الحافظ: والعذر لمن انهزم من غير المؤلفة، أن العدو كانوا ضعفهم في العدد، وأكثر من ذلك. انتهى، بل في النور أنهم كانوا أضعاف المسلمين، وما وقع في البيضاوي والبغوي ونحوهما: أن ثقيف وهوازن كانوا أربعة آلاف إن صح، فلا ينافيه لأنهم انضم إليهم من العرب ما بلغوا به ذلك، فقد مر أنهم أقاموا حولا يجمعون لحربه عليه السلام، لا أنهم باعتبار ما معهم من نساء ودواب يرون ضعفا وأضعاف المسلمين وإن كانوا في نفس الأمر أربعة آلاف، لأن بعده لا يخفى، كما كتبناه عن شيخنا في التقرير، أي لأن فيه رد كلام الحفاظ الثقات الأثبات بلا دليل، فإن أربعة داخلة في الزائد، فلا يصح رد الزائد إليها، بهذا الحمل المتعسف الذي يأباه قول مالك بن عوف تلقونه بعشرين ألف سيف، فإن البهائم لا سيوف معها، ثم كون هذا سبب انكشافم، وأنهم بمجرد التلاقي ولوا مدبرين، هو ما وقع عند ابن سعد وغيره، ورواه ابن إسحاق وأحمد وابن حبان عن جابر: لما استقبلنا وادي حنين انحدرنا في واد أجوف خطوط له مضايق وشعوب، وإنما ننحدر فيه انحدارا، وفي عماية الصبح: وقد كان القوم سبقونا إلى الوادي، فكمنوا في شعابه، وأجنابه، ومضايقه وتهيئوا وأعدوا، فوالله ما راعنا ونحن محيطون إلا الكتائب قد شدو علينا شدة رجل واحد، وكانوا رمة، وانحاز صلى الله عليه وسلم ذات اليمين، ثم قال: "أيها الناس هلم إلي، أنا رسول الله، أنا محمد بن عبد الله"، قال: فلأي شيء حملت الإبل بعضه على بعض، فانطلق الناس. وفي حديث البراء عند البخاري، كما يأتي: أن هوازن كانوا رماة، ولما حمل المسلمون عليهم كشفوهم فأكبوا على المغانم، فاستقبلوهم بالسهام، فهذا صريح في أنهم لم يفروا بمجرد التلاقي، بل قاتلوا المشركين حتى كشفوهم، واشتغلوا بالغنيمة وذكر الحافظ السببين ولم يجمع بينهما، "ولم يثبت معه صلى الله عليه وسلم يومئذ إلا العباس بن عبد المطلب وعلي بن أبي طالب".
قال أنس: وكان يومئذ أشد الناس قتالا بين يديه، رواه أبو يعلى والطبراني لرجال ثقات،(3/506)
والفضل بن العباس، وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، وأبو بكر وعمر وأسامة بن زيد، في أناس من أهل بيته وأصحابه.
قال العباس: وأنا آخذ بلجام بغلته أكفها مخافة أن تصل إلى العدو، وفعل ذلك العباس لأنه صلى الله عليه وسلم كان يتقدم في نحر العدو، وأبو سفيان بن الحارث آخذ بركابه.
__________
"والفضل بن العباس" أكبر ولده، وبه كان يكنى استشهد في خلافة عمر "وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب"، زاد ابن إسحاق في حديث جابر: وأخوه ربيعة وابنه، قال ابن هشام واسمه جعفر، قال: وبعض الناس يعد فيهم قثم بن العباس ولا يعد ابن أبي سفيان، ويأتي فيه نظر لأن قثما كان صغيرا يومئذ، "وأبو بكر، وعمر، وأسامة بن زيد في أناس من أهل بيته وأصحابه" منهم أيمن ابن أم أيمن وقتل يومئذ.
قال الحافظ: وأكثر ما وقفت عليه قول ابن عمر وما معه عليه السلام مائة رجل.
وللبخاري عن أنس فأدبروا عنه حتى بقي وحده، ويجمع بينهما بأن المراد بقي وحده متقدما مقبلا على العدو والذين ثبتوا معه، كانوا وراءه أو الوحدة بالنسبة لمباشرة القتال، وأبو سفيان بن الحارث وغيره، كانوا يخدمونه في إمساك البغلة وغير ذلك، ولأبي نعيم في الدلائل تفصيل المائة: بضعة وثلاثون من المهاجرين، والبقية من الأنصار.
ومن الأنصار من النساء أم سلم وأم حارثة. انتهى، ويأتي مزيد لذلك حيث أعاد الكلام فيه المصنف، "قال العباس" في رواية مسلم وغيره: شهدت يوم حنين، فلزمته أنا وأبو سفيان بن الحارث، فلم نفارقه ... الحديث, وفيه تولي المسلمين مدبرين، فطفق صلى الله عليه وسلم يركض بغلته قبل الكفار، "وأنا آخذ بلجام بغلته أكفها مخافة أن تصل إلى العدو، فعل ذلك العباس؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان يتقدم في نحر العدو", أي: صدره، أي: أوله، "وأبو سفيان بن الحارث آخد بركابه".
وفي حديث البراء عند البخاري وغيره وأبو سفيان بن الحارث: آخذ برأس بغلته البيضاء وفي رواية له وابن عمه يقود به. قال الحافظ: ويمكن الجمع بأن أبا سفيان كان آخذا أولا بزمامها، فلما ركضها صلى الله عليه وسلم إلى جهة المشركين، خشي العباس فأخذ بلجامها يكفها، وأخذ أبو سفيان بالركاب، وترك اللجام للعباس، إجلالا له، لأنه عمه. انتهى.
قال ابن عقبة: فرفع صلى الله عليه وسلم يديه وهو على البغلة يدعو: "اللهم إني أنشدك ما وعدتني اللهم لا ينبغي لهم أن يظهروا علينا".
وروى أحمد برجال الصحيح عن أنس كان من دعائه صلى الله عليه وسلم يوم حنين: "اللهم إنك إن تشأ لا تعبد بعد اليوم". وعند الواقدي كان من دعائه حين انكشف الناس ولم يبق معه إلا المائة(3/507)
وجعل عليه الصلاة والسلام يقول للعباس: "ناد يا معشر الأنصار، يا أصحاب السمرة". يعني: شجرة بيعة الرضوان التي بايعوا تحتها، أن لا يفروا عنه.
فجعل ينادي تارة يا أصحاب السمرة، وتارة أيا أصحاب سورة البقرة.
__________
الصابرة: "اللهم لك الحمد، وإليك المشتكى، وأنت المستعان". فقال له جريل: لقد لقنت الكلمات التي لقن الله تعالى موسى يوم فلق البحر، وكان البحر أمامه وفرعون خلفه.
وروى البيهقي عن الضحاك قال: فدعا موسى حين توجه إلى فرعون، ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين: "كنت وتكون، وأنت حي لا تموت، تنام العيون، وتنكدر النجوم، وأنت حي قيوم لا تأخذه سنة ولا نوم، يا حي يا قيوم". والجمع أنه دعا بجميع ذلك، وقوله: "لا تعبد بعد اليوم"؛ لأنه أول يوم لقي فيه المشركين بعد الفتح الأعظم، ومعه المشركون والمؤلفة قلوبهم، والعرب في البوادي كانت تنتظر بإسلامها قريشا، فلو وقع والعياذ بالله تعالى خلاف ذلك، لما عبد الله.
وقد روى الواقدي عن قتادة قال: مضى سرعان المنهزمين إلى مكة يخبرون أهلها بالهزيمة، فسر بذلك قوم من أهلها وأظهروا الشماتة، وقال قائلهم: ترجع العرب إلى دين آبائها وقد قتل محمد وتفرق أصحابه، فقال عتاب بن أسيد، إن قتل محمد فإن دين الله قائم، والذي يعبده محمد حي لا يموت، فما أمسوا حتى جاءهم الخبر بنصره صلى الله عليه وسلم فسر عتاب ومعاذ، وكبت الله من كان يسر خلاف ذلك.
وعند اب إسحاق لما رأى من كان معه صلى الله عليه وسلم من جفاة أهل مكة ما وقع، تكلم رجال بما في أنفسهم، فقال أبو سفيان بن حرب وكان إسلامه بعد مدخولا: لا تنتهي هزيمتهم دون البحر، وإن الأزلام لمعه في كنانته. وصرخ جبلة بن الحنبل، وقال ابن هشام كلدة بن الحنبل: وأسلم بعد ألا بطل السحر اليوم، فقال له أخوه لأمه صفوان بن أمية، هو حينئذ مشرك: اسكت فض الله فاك، لأن يريني رجل من قريش أحب إلي من أن يريني رجل من هوازن، وقال شيبة بن عثمان بن أبي طلحة: اليوم أدرك ثأري، أقتل محمدا فأقبل شيء حتى غشي فؤادي فعلمت أنه ممنوع مني، وعند ابن أبي خثيمة، لما هممت به حال بيني وبينه خندق من نار، وسور من حديد فالتفت إليّ صلى الله عليه سلم وتبسم وعرف ما أردت فمسح صدري وذهب عني الشك، "وجعل عليه الصلاة والسلام يقول للعباس: "ناد يا معشر الأنصار ". لأنهم بايعوه ليلة العقبة على عدم الفرار "يا أصحاب السمرة". "يعني: شجرة الرضوان التي بايعوا تحتها على أن لا يفروا عنه", كما في مسلم، بل في البخاري أنهم بايعوه على الموت.
وجمع الترمذي بأن بعضا بايع على هذا وبعضا بايع على هذا وبعضا على ذاك، كما مر مفصلا "فجعل ينادي تارة يا أصحاب السمرة، وتارة يا أصحاب سورة البقرة" خصت بالذكر(3/508)
وكان العباس رجل صيتا, فلما سمع المسلمون نداء العباس أقبلوا كأنهم الإبل إذا حنت على أولادها.
وفي رواية مسلم: قال العباس: فوالله لكأن عطفتهم -حين سمعوا صوتي- عطفة البقر على أولادها. يقولون: يا لبيك، فتراجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى أن الرجل منهم إذا لم يطاوعه بعيره على الرجوع انحدر عنه وأرسله، ورجع بنفسه.
__________
حين الفرار لتضمنها {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً} ، أو لتضمنها: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} ، أو {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ} ، وليس النداء بها اجتهادا من العباس، بل بأمره صلى الله عليه وسلم ففي مسلم وغيره قال العباس: فقال صلى الله عليه وسلم: "يا عباس! ناد: يا معشر الأنصار! يا أصحاب السمرة! يا أصحاب سورة البقرة! " , "وكان العباس رجلا صيتا ولذا خصه بالنداء".
قيل: كان يسمع صوته من ثمانية أميال، "فلما سمع المسلمون نداء العباس، أقبلوا كأنهم الإبل إذا حنت على أولادها" حتى نزل صلى الله عليه وسلم كأنه في حرجة، بفتح المهملة والراء وبالجيم، شجر ملتف كالفيضة.
قال العباس: فلرماح الأنصار كانت أخوف عندي على رسول الله من رماح الكفار.
أخرج البيهقي وغيره، أي لعلمه بحفظ الله له من رماح الكفار، وبعدهم عنه بخلاف رماح الأنصار، خاف أن يصيبه شيء منها بغير قصدهم، لشدة عطفهم عليه ومجيئهم لديه.
"وفي رواية مسلم" أيضا: أن الذي قبلها روايته عن العباس: شهدت مع رسول الله يوم حنين ... الحديث, وفيه: وكنت رجلا صيتا، فناديت بأعلى صوتي أين الأنصار أين أصحاب السمرة أين أصحاب سورة البقرة، "قال العباس: فوالله لكان عطفهم" أي إقبالهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم "حين سمعوا صوتي عطفة"، أي: حنو "البقر على أولادها" وفي السابقة الإبل فتارة شبههم بها، وتارة بالبقر، والمعنى صحيح، لأنه كان حنوا زائدا، وفيه دليل على أنهم لم يبعدوا حين تولوا، "يقولون: يا" عباس "لبيك يا" عباس "لبيك" فالمنادى محذوف نحو: ألا يا اسلمي, "ألا يا اسجدوا" في قراءة، أي إجابة لك بعد إجابة، ولزوما بطاعتك بعد لزوم، "فتراجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم" وازدحموا "حتى أن الرجل منهم إذا لم يطاوعه بعيره على الرجوع" أي لكثرة الأحزاب المنهزمين، كما ذكره ابن عبد البر، "انحدر عنه وأرسله ورجع بنفسه".
وفي رواية ابن إسحاق: فأجابوا لبيك لبيك، فيذهب الرجل ليثني بعيره، فلا يقدر على ذلك، فيأخذ درعه، فيقذفها في عنقه، ويأخذ سيفه وترسه ويقتحم عن بعيره ويخلي سبيله، فيؤم(3/509)
إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فأمرهم عليه الصلاة والسلام أن يصدقوا الحملة، فاقتتلوا مع الكفار، فأشرف رسول الله صلى الله عليه وسلم فنظر إلى قتالهم فقال: "الآن حمي الوطيس". وهو كما قال جماعة التنور يخبز فيه، يضرب مثلا لشدة الحرب الذي يشبه حرها حره. وهذا من فصيح الكلام الذي لم يسمع من أحد قبل النبي صلى الله عليه وسلم.
وتناول صلى الله عليه وسلم حصيات من الأرض ثم قال: "شاهت الوجوه" أي قبحت.
__________
الصوت حتى ينتهي "إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمرهم عليه الصلاة والسلام أن يصدقوا الحملة" على المشركين، فامتثلوا أمره، "فاقتتلوا مع الكفار".
وفي رواية ابن إسحاق حتى إذا اجتمع إليه منهم مائة استقبلوا الناس فاقتتلوا، فكانت الدعوى أولا للأنصار، ثم خلصت أخيرا للخزرج وكانوا صبرا عند الحرب، "فأشرف رسول الله صلى الله عليه وسلم فنظر إلى قتالهم", أسقط من مسلم قوله: وهو على بغلته كالمتطاولة، فقال: "الآن" وفي رواية: "هذا حين". "حمي الوطيس".
قال في الروض: من وطست الشيء إذا كدرته، وأثرت فيه، "وهو كما قال جماعة التنور يخبز فيه" وقال ابن هشام: حجارة توقد العرب تحتها النار، ويشوون فيها اللحم وفي الروض الوطيس نقرة في حجر يوقد حوله النار فيطبخ فيه اللحم والوطيس التنور.
"يضرب مثلا" بعد نطقه عليه السلام به لأنه أول من قاله، "لشدة الحرب الذي يشبه حرها" ألمها الحاصل منها، "حره" التنور الحاصل من ملاقاته إذ ليس فيها حرارة حسية تشبه بحره، وفي السبل الوطيس شيء كالتنور يخبر فيه شبه شدة الحر به، وقيل: حجارة مدورة إذا حميت منعت الوط عليها، فضرب مثلا للأمر يشتد، "وهذا من فصيح الكلام الذي لم يسمع من أحد قبل النبي صلى الله عليه وسلم" كما قاله في الروض وغيره، وتناول صلى الله عليه وسلم حصيات من الأرض" بنفسه، كما روى أبو القاسم البغوي والبيهقي وغيرهما عن شبيه، قال صلى الله عليه وسلم: "يا عباس ناولني من الحصباء" فأقعد الله تعالى البغلة، فانخفضت به حتى كاد بطنها يمس الأرض، فتناول من البطحاء، فحثى به في وجوههم، وقال: "شاهت الوجوه حم لا ينصرون".
ووقع عند أبي نعيم بسند ضعيف عن أنس، أنه كان على بغلته الشهباء دلدل، فقال لها: "دلدل البدي" فألزقت بطنها في بالأرض، فأخذ حفنة من تراب، كذا في هذه الرواية الضعيفة اسمها دلدل، والصحيح أنه كان على فضة، كما مر، ثم قال: "شاهت الوجوه". "أي قبحت" خبر بمعنى الدعاء أي اللهم قبح وجوههم وقال: "شاهت الوجوه" وجوههم ويحتمل أنه خبر، لوثوقه بذلك(3/510)
ورمى بها في وجوه المشركين فما خلق الله منهم إنسانا إلا ملأ عينيه من تلك القبضة.
وفي رواية لمسلم: ثم قبض من تراب الأرض. فيحتمل أنه رمى بذا مرة وبذا مرة أخرى. ويحتمل أن يكون أخذ قبضة واحدة مخلوطة من حصى وتراب.
ولأحمد وأبي داود والدارمي، من حديث أبي عبد الرحمن الفهري في قصة حنين.
__________
"ورمى بها في وجوه المشركين" زاد مسلم، ثم قال: "انهزموا ورب محمد". ففيه معجزتان: فعلية خبرية، فإنه رماهم بالحصيات وأخبر بهزيمتهم فانهزموا، "فما خلق الله منهم إنسانا إلا ملأ عينيه" الثنتين "من تلك القبضة".
قال البرهان: بضم القاف الشيء المقبوض، ويجوز فتحها انتهى، لكن المناسب هنا الضم اسم للقبض باليد، وفي بقية رواية مسلم هذه عن العباس فوالله ما هو إلا أن رماهم بحصياته، فما زلت أرى جدهم كليلا وأمرهم مدبرا فوالله ما رجع الناس، إلا والأسارى عنده صلى الله عليه وسلم مكتفون.
"وفي رواية لمسلم" أيضا من حديث سلمة بن الأكوع: فما غشوا النبي صلى الله عليه وسلم، نزل عن البغلة، "ثم قبض قبضة من تراب الأرض" ثم استقبل به وجوههم، فقال: "شاهت الوجوه"، فما خلق الله منهم إنسانا إلا ملأت عينه ترابا تلك القبضة، فولوا منهزمين، "فيحتمل" في الجمع بين روايتي العباس وسلمة، "أنه رمى بذا" الحصى "مرة وبذا" التراب "أخرى، ويحتمل أن يكون أخذ قبضة واحدة مخلوطة من حصى وتراب".
لكن بقي أن في الرواية الأولى أنه لم ينزل عن البغلة، وقد بينا كيف أخذه وهو عليها وفي الثانية أنه نزل وأخذه، ويأتي قريبا أن ابن مسعود ناوله كفا من تراب، وللبزار من حديث ابن عباس أن عليا ناوله التراب يومئذ.
قال الحافظ ويجمع بين هذه الأحاديث: بأنه صلى الله عليه وسلم قال لصاحبه: ناولني, فرماهم ثم نزل عن البغلة فأخذ بيده فرماهم أيضا، فيحتمل أن الحصى في إحدى المرتين، وفي الأخرى التراب. انتهى. أي وأن كلا من ابن مسعود وعلي ناوله، "ولأحمد وأبي داود والدارمي" عبد الله بن عبد الرحمن، الحافظ, الثقة، شيخ مسلم وأبي داود والترمذي، وكذا رواه ابن سعد وابن أبي شيبة والطبراني وابن مردويه والبيهقي رجاله ثقات كلهم "من حديث أبي عبد الرحمن الفهري"، بكسر الفاء الصحابي قيل: اسمه يزيد بن إياس, وقيل: الحارث بن هشام وقيل: عبيد، وقيل: كرز بن ثعلبة شهد حنينا، ثم فتح مصر، كما في الإصابة وغيرها "في قصة حنين" ولفظة:(3/511)
قال: فولى المسلمون مدبرين كما قال الله تعالى، فقال صلى الله عليه وسلم: "أنا عبد الله ورسوله أنا عبد الله ورسوله". ثم اقتحم عن فرسه، فأخذ كفا من تراب. قال: فأخبرني الذي كان أدنى إليه مني أنه ضرب به وجوههم وقال: "شاهت الوجوه". فهزمهم الله تعالى.
__________
كنت معه صلى الله عليه وسلم في حنين في يوم قائظ شديد الحر، فنزلنا تحت ظلال الشجر، فلما زالت الشمس، لبست لأمتي، وركبت فرسي، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو في فسطاطه، فقلت: السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله، قد حان الرواح، قال: "أجل" ثم قال: "يا بلال". فثار من تحت شجرة كأن ظله ظل طائر، فقال: لبيك وسعديك، وأنا فداؤك. قال: "اسرج لي فرسي". فأتى بسرج وقفاه من ليف، ليس فيهما أشر ولا بطر فركب فرسه، ثم سرنا يومنا، فلقينا العدو، وتشاءمت الخيلان فقاتلناهم، "قال: فولى المسلمون" أي أكثرهم، كما مر، ويأتي أنه ثبت معه جماعة نحو المائة. "مدبرين" ذاهبين إلى خلف ضد الإقبال، "كما قال الله تعالى، فقال" رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا عبد الله ورسوله أنا عبد الله وسوله". وفي مرسل عكرمة عند أبي الشيخ، فقال: "أنا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم". ثلاث مرات.
وفي حديث أنس عند أحمد والحاكم وغيرهما قال: جاءت هوازن بالنساء والصبيان، والإبل والغنم فجعلوهم صفوفا ليكثروا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالتقى المسلمون والمشركون، فولى المسلمون مدبرين، كما قال تعالى، وبقي صلى الله عليه وسلم وحده، فقال: "يا عباد الله أنا عبد الله ورسوله"، ونادى صلى الله عليه وسلم نداءين لم يخلط بينهما كلام فالتفت عن يمينه، فقال: "يا معشر الأنصار أنا عبد الله ورسوله"، فقالوا: لبيك يا رسول الله نحن معك، ثم التفت عن يساره، فقال: "يا معشر الأنصار، أنا عبد الله ورسوله"، فقالوا: لبيك يا رسول الله نحن معك، فهزم الله المشركين، ولم يضرب بسيف، ولم يطعن برمح، "ثم اقتحم عن فرسه". قال الشامي: هي رواية شاذة، والصحيح أنه كان على بغلة انتهى، ويحتمل أنه عبر عنها بالفرس مجازا لشبهها بها في الإقدام بحيث كان العباس يكفها، ونزوله بعد انخفاضها به وأخذه الحصى ورميهم به، كما مر فلا تنافي.
قال العلماء: وفي نزوله عن البغلة، حين غشوه مبالغة في الشجاعة والثبات والصبر، وقيل فعله موأساة لمن كان نازلا على الأرض من المسلمين. انتهى، فزعم أن الراوي لم يتأمله تحقيقا لكثرة الناس، وظن بانخفاضها نزوله عنها توهيم للرواة الأثبات بلا داعية، فقد أمكن الجمع بدون توهيم فنزوله عنها ثبات في الصحيحين وغيرهما، "فأخذ كفا من تراب. قال" أبو عبد الرحمن المذكور: "فأخبرني الذي كان أدنى" أقرب "إليه مني أنه ضرب به وجوههم، وقال: "شاهت الوجوه". فهزمهم الله تعالى".
ولأبي يعلى، والطبراني برجال ثقات عن أنس: أنه صلى الله عليه وسلم أخذ يوم حنين كفا من حصباء(3/512)
قال يعلى بن عطاء راويه عن أبي همام عن أبي عبد الرحمن الفهري فحدثني أبناؤهم عن آبائهم أنهم قالوا: لم يبق هنا أحد إلا امتلأت عيناه وفمه ترابا وسمعنا صلصلة من السماء كإمرار الحديد على الطست الجديد بالجيم.
قال في النهاية: وصف الطست وهي مؤنثة بالجديد وهو مذكر، إما لأن تأنيثها غير حقيقي فأوله على الإناء والظرف، أو لأن فعيلا يوصف به المؤنث بلا علامة تأنيث كما توصف به المرأة نحو: امرأة قتيل. انتهى.
ولأحمد والحاكم من حديث ابن مسعود: فحادت به صلى الله عليه وسلم بغلته، فمال السرج فقلت ارتفع رفعك الله.
__________
أبيض فرمى به، وقال: "هزموا ورب الكعبة" "قال يعلى" بتحتية أوله "ابن عطاء" العامري، ويقال: الليثي الطائفي, الثقة، المتوفى سنة عشرين ومائة أو بعدها، روى له مسلم والأربعة "راويه عن أبي همام" الكوفي عبد الله بن يسار، ويقال: عبد الله بن رافع مجهول من الثالثة، كما في التقريب روى له أبو داود "عن أبي عبد الرحمن الفهري" الصحابي المذكور، ومقول يعلى الموصوف بذلك هو قوله: "فحدثني أبناؤهم عن آبائهم قالوا: لم يبق منا أحد إلا امتلأت عيناه وفمه ترابا", فزاد الفم "وسمعنا صلصلة" صوتا له دوي "من السماء كإمرار الحديد على الطست الجديد بالجيم" تنبيها على قوة الصوت الذي سمعوه، فإن صوت الجديد أقوى من العتيق.
"قال في النهاية: وصف الطست، وهي مؤنثة بالجديد، وهو مذكر إما لأن تأنيثها غير حقيقي، فأوله على الإناء والظرف" الواو بمعنى أو، وهذا قد يفهم أن المؤنث الحقيقي لا يصح مع أنه يصح بالتأويل على إرادة الشخص، كما صرحوا به كثيرا إلا أن غير الحقيقي أسهل "أو لأن فعيلا يوصف به المؤنث بلا علامة تأنيث، كما يوصف به المرأة حو: امرأة قتيل. انتهى", وفيه أن الذي يستوى فيه المذكر والمؤنث هو فعيل بمعنى مفعول كقتيل وجريح لا بمعنى فاعل، كقوله: جديد إذ معناه قامت به الجدة، ولذا اعترض من قال ذلك في قوله تعالى: {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [الأعراف: 56] ، بأنه بمعنى فاعل؛ لأن معناه قام به القرب، "ولأحمد، والحاكم" والطبراني، وأبي نعيم, والبيهقي برجال ثقات "من حديث ابن مسعود" قال: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين فولى الناس وبقيت معه في ثمانين رجلا من المهاجرين والأنصار، فقمنا على أقدامنا ولم نولهم الدبر، وهم الذين أنزل الله تعالى عليهم السكينة ورسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلته لم يمض قدما، "فحادت" مالت "به صلى الله عليه وسلم بغلته،" ولعل معناه خرجت عن الاستقامة لأمر أصابها، "فمال السرج" لخروجها عنها في نفسها، "فقلت: ارتفع رفعك الله" خطاب له ودعاء(3/513)
فقال: ناولني كفا من تراب، فضرب وجوههم وامتلأت أعينهم ترابا، وجاء المهاجرون والأنصار سيوفهم بأيمانهم كأنها الشهب فولى المشركون الأدبار.
وروى أبو جعفر بن جرير بسنده عن عبد الرحمن بن مولى عن رجل كان في المشركين يوم حنين قال: لما التقينا نحن وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقوموا لنا حلب شاة، فلما لقيناهم جعلنا نسوقهم في آثارهم حتى انتهينا إلى صاحب البغلة البيضاء، فإذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فتلقانا عنده رجال بيض الوجوه حسان فقالوا لنا: شاهت الوجوه ارجعوا. قال: فانهزمنا وركبوا أكتافنا.
__________
تأدبا، والمراد صاحبه صلى الله عليه وسلم، فقال: "ناولني كفا من تراب" زاد في رواية فناولته، "فضرب" به "وجوهم وامتلأت أعينهم ترابا، وجاء المهاجرون والأنصار سيوفهم بأيمانهم، كأنها الشهب" جمع شهاب، "فولى المشركون الأدبار".
روى البخاري في التاريخ والبيهقي عن عمرو بن سفيان قال: قبض صلى الله عليه وسلم يوم حنين قبضة من الحصى، فرمى بها وجوهنا، فما خيل إلينا إلا أن كل حجر وشجر فارس يطلبنا، وعند ابن عساكر عن الحارث بن زيد مثله، ليس في هذا كله ما ينفي قتال الصحابة، فإنهم حين صرخ بهم العباس عادوا فقاتلوا بأمره عليه السلام، وأشرف عليهم، وقال: "الآن حمي الوطيس"، فأخذ القبضة، ورمى بها، فانهزموا، ولا ينافيه ما وقع عند أبي نعيم بسند ضعيف عن أنس بلفظ: فأخ حفنة من تراب، فرمى بها في وجوههم، وقال: "حم لا ينصرون"، فانهزم القوم وما رمينا بسهم، ولا طعنا برمح؛ لأن نفيهما لا ينفي اجتلادهم بالسيوف، وقد ثبت في حديث شيبة فأقبل المسلمون والنبي يقول: "أنا النبي لا كذب" فجالدوهم بالسيوف، فقال: "الآن حمي الوطيس".
"وروى أبو جعفر" محمد "بن جرير" الطبري الحافظ المجتهد "بسنده", وكذا رواه البيهقي وابن عساكر ومسدد كلهم "عن عبد الرحمن بن مولى"، كذا في النسخ وصوابه، كما في رواية المذكور ابن مولى أم برثن، وفي التقريب عبد الرحمن بن آدم البصري، صاحب السقاية، مولى أم برثن، بضم الموحدة وسكون الراء بعدها مثلثة مضمومة ثم نون, صدوق من الثالثة، روى له مسلم وأبو داود، "عن رجل كان في المشركين يوم حنين قال: لما التقينا نحن وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقوموا لنا" لم يصبروا لقتالنا، "حلب شاة" أي مقدار حلبها، بل ولو أمن رشق النبل ونيتهم العود، "فلما لقيناهم جعلنا نسوقهم" ونحن متبعوهم "في آثارهم".
وفي رواية فبينا نحن نسوقهم في أدبارهم، "حتى انتهينا إلى صاحب البغلة البيضاء، فإذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فتلقانا عنده رجال بيض الوجوه حسان، فقالوا لنا: شاهت الوجوه ارجعوا، فانهزمنا وركبوا أكتافنا" أي تمكنوا منا تمكنا تاما، واتصلوا بنا حتى كأنهم ركبوا أكتافنا.(3/514)
وفي سيرة الدمياطي: كان سيما الملائكة يوم حنين عمائم حمر أرخوها بين أكتافهم.
وفي حديث جبير بن مطعم: نظرت والناس يقتتلون يوم حنين إلى مثل البجاد الأسود يهوي من السماء.
والبجاد: بالموحدة والجيم آخره دال مهملة: الكساء، وجمعه: بجد، أراد الملائكة الذين أيدهم الله تعالى بهم،
__________
وفي رواية، وكانت إياها، أي الهزيمة، ولم يعلم هل أسلم بعد هذا الرجل الذي حدث عبد الرحمن أم لا؟ إلا أن ظاهر سياق الحديث إسلامه، ثم كون الرائي للملائكة مشركا؛ لأنه لا يراها على صورة المقاتلة إلا المشرك؛ لأن القصد إرهابهم، فقد أخرج ابن مردويه، والبيهقي وابن عساكر، عن شيبة بن عثمان قال: خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين والله ما خرجت إسلاما، ولكن خرجت إتقاء أن تظهر هوازن على قريش، فوالله إني لواقف مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قلت: يا رسول الله إني لأرى خيلا بلقا، قال: "يا شيبة إنه لا يراها إلا كافر" فضرب بيده في صدري، وقال: "اللهم اهد شيبة". فعل ذلك ثلاث مرات، فوالله ما رفع صلى الله عليه وسلم الثالثة حتى ما أجد من خلق الله تعالى أحب إلي منه، فالتقى المسلمون، فقتل من قتل، ثم أقبل صلى الله عليه وسلم وعمر آخذ باللجام، والعباس آخذ بالثغر ... الحديث، فإن صح، فلعل عمر تناوب مع العباس في أخذ اللجام، ولعل حكمة عدم رؤية المسلمين لهم، لئلا يعتمدوا عليهم أو يشتغلوا بالنظر إليهم لكون قتالهم خارقا للعادة، فيفوتهم الاجتهاد في الحرب والثواب المرتب عليه، "وفي سيرة الدمياطي كان سيما" خبر مقدم، أي علامات "الملائكة يوم حنين عمائم أرخوها بين أكتافهم،" كما روى عند الواقدي عن مالك بن أوس بن الحدثان، وقال ابن عباس: كانت عمائم خضرا أخرجه ابن إسحاق والطبراني، فيحتمل أن بعضها خضر، وبعضها حمر.
"وفي حديث جبير بن مطعم" عند ابن إسحاق وابن مردويه، وابيهقي وأبي نعيم: "نظرت" قبل هزيمة القوم، أي: المشركين "والناس يقتتلون يوم حنين إلى مثل البجاد الأسود يهوي من السماء" نقل بالمعنى، ولفظه رأيت قبل هزيمة القوم، والناس يقتتلون مثل البجاد الأسود أقبل من السماء حتى سقط بين القوم، فنظرت فإذا نمل أسود مبثوث قد ملأ الوادي لم أشك أنها الملائكة، ولم يكن إلا هزيمة القوم "والبجاد بالموحدة" المكسورة "والجيم" الخفيفة "آخره دال مهملة الكساء، وجمعه بجد أراد الملائكة الذين أيدهم الله تعالى بهم،" لأنهم لكثرتهم واختلاط بعضهم ببعض صاروا في ذلك كالبجاد المتصل أجزاؤه بنسجه.(3/515)
قاله ابن الأثير.
وفي البخاري: عن البراء وسأله رجل من قيس: أفررتم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين؟ فقال: لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفر، كانت هوازن رماة، وإنا لما حملنا عليهم انكشفوا فأكببنا على الغنائم.
__________
وروى الواقدي عن شيوخ من الأنصار قالوا: رأينا يومئذ كالبجاد السود هوت من السماء ركاما، فنظرنا فإذا نمل مبثوث، فإن كان ننفضه عن ثيابنا، فكان نصر الله أيدنا به، قال شيخنا: ولعل نزولهم في صورة النمل ليظهروا للمسلمين فيسألوا عنه، ويتوصلوا بذلك للعلم بهم، فيعلموا أن ذلك من معجزاته، فقوى بذلك إيمانهم. "قاله ابن الأثير".
وروى ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال: في يوم حنين أيد الله تعالى رسوله بخمسة آلاف من الملائكة مسومين، ويومئذ سمى الله الأنصار مؤمنين، قال الله تعالى: {فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [الفتح: 26] ، وأخرج أيضا عن السدي الكبير في قوله تعالى: {وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا} [التوبة: 26] ، قال: هم الملائكة, {وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا} ، قال: قتلهم بالسيف، "وفي البخاري" في مواضع بطرق "عن" أبي إسحاق السبيعي سمع "البراء" بن عازب، "وسأله رجل من قيس". قال الحافظ: لم أقف على اسمه، "أفررتم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين" وفي رواية له أيضا: أفررتم م النبي صلى الله عليه وسلم، ويمكن الجمع بينهما بحمل المعية على ما قبل الهزيمة، فبادر إلى إخراجه، "فقال: لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفر" قال النووي: هذا الجواب من بديع الأدب؛ لأن تقديره أفررتم كلكم، فيدخل فيهم النبي صلى الله عليه وسلم، فقال البراء: لا والله ما فر صلى الله عليه وسلم ولكن جرى كيت وكيت، فأوضح أن فرار من فر لم يكن على نية الاستمرار، وكأنه لم يستحضر الرواية الثانية، ويحتمل أن السائل أخذ التعميم من قوله تعالى: {ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} [التوبة: 25] فبين له أنه من العموم الذي أريد به الخصوص. انتهى.
وفي رواية: أما أنا فأشهد على النبي أنه لم يزل، وفي أخرى: ولا والله ما ولى يوم حنين دبره. وبين سبب التولي بقوله: "كانت" بالتأنيث، كما هو الثابت في البخاري، فما في نسخ: كان بالتذكير تصحيف "هوازن رماة", وللبخاري في الجهاد تكملة لهذا السبب، قال: خرج شبان أصحابه وأخفارهم حسرا، بضم الحاء وشد السين المهملتين، ليس عليهم سلاح، فاستقبلهم جمع هوازن وبنو نصر ما يكادون يسقط لهم سهم، فرشقوهم رشقا ما يكادون يخطئون، "وإنا لما حملنا عليهم انكشفوا" أي: انهزموا، كما هو روايته في الجهاد، "فأكببنا" بفتح الموحدة الأولى وسكون الثانية بعدها نون، أي وقعنا "على الغنائم" وفي الجهاد فأقبل الناس على(3/516)
فاستقبلنا بالسهام، ولقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلته البيضاء وإن أبا سفيان بن الحارث أخذ بزمامها، وهو يقول: "أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب".
__________
الغنائم "فاستقبلنا" بضم التاء وكسر الموحدة، وفي الجهاد فاستقبلونا "بالسهام" وفي مسلم فرموهم برشق من نبل كأنها رجل جراد، وعنده أيضا عن أنس جاء المشركون بأحسن صفوف رأيت صف الخيل، ثم المقاتلة، ثم النساء من وراء ذلك، ثم الغنم، ثم الإبل، ونحن بشر كثير وعلى خيلنا خالد بن الوليد، فجعلت خيلنا تلوذ خلف ظهورنا، فلم نلبث أن انكشفت خيلنا وفرت الأعراب، ومن تعلم من الناس، "ولقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلته البيضاء" التي أهداها له فروة بن نفاثة، كما في مسلم وعند ابن سعد وغيره، على بغلته دلدل وفيه نظر؛ لأن دلدل أهداها له المقوقس، وجمع القطب الحلبي باحتمال أنه ركب كلا منهما يومئذ كما مر، "وأن أبا سفيان بن الحارث" بن عبد المطلب "أخذ بزمامها" أولا، فلما ركضها صلى الله عليه وسلم إلى جهة المشركين، خشي العباس، فأخذه، وأخذ أبو سفيان بالركاب، كما مر جمعا بينه وبين ما في مسلم، أن العباس كان آخذا بزمامها، وللبخاري في الجهاد فنزل، أي عن البغلة، فاستنصر.
وفي مسلم فقال: "اللهم أنزل نصرك". وهو يقول: "أنا النبي لا كذب" قال ابن التين: كان بعض العلماء يفتح الباء ليخرجه عن الوزن، قال الدماميني: وهذا تغيير للرواية بمجرد خيال يقوم في النفس ولا حاجة للعدول عن الرواية؛ لأن هذا لا يسمى شعرا، أي: لما سيذكره المصنف، "أنا ابن عبد المطلب".
قال الحافظ: اتفقت الطرق التي أخرجها البخاري لهذا الحديث على سياقه إلى هنا، إلا رواية زهير بن معاوية فزاد في آخرها: ثم صف أصحابه، وفي مسلم قال البراء: كنا والله إذا احمر البأس نتقي به وإن الشجاع منا الذي يحاذيه يعني النبي صلى الله عليه وسلم, قال: وفي الحديث من الفوائد حسن الأدب في الخطاب، والإرشاد إلى حسن السؤال بحسن الجواب، وذم الإعجاب، وفيه الانتساب إلى الآباء ولو ماتوا في الجاهلية، والنهي عنه محمول على ما هو خارج الحرب، ومثله الرخصة في الخيلاء في الحرب دون غيرها، وجواز التعرض إلى الهلاك في سبيل الله تعالى، ولا يقال كان صلى الله عليه وسلم متيقنا بالنصر بوعد الله تعالى له به، وهو حق لأن أبا سفيان بن الحارث قد ثبت معه آخذا بلجام بغلته، وليس هو في اليقين، وقد استشهد في تلك الحالة ابن أم أيمن، كما مر وفي ركوب البغلة إشارة إلى مزيد الثبات؛ لأن ركوب الفحولة مظنة الاستعداد للفرار والتولي، وإذا كان رئيس الجيش قد وطن نفسه على عدم الفرار وأخذ أسباب ذلك، كان ذلك أدعى لاتباعه على الثبات، وفيه شهرة الرئيس نفسه في الحرب مبالغة في الشجاعة، وعدم المبالاة بالعدو. انتهى.(3/517)
وهذا فيه إشارة إلى أن صفة النبوة يستحيل معها الكذب، فكأنه قال: أنا النبي، والنبي لا يكذب، فلست بكاذب فيما أقول حتى أنهزم، بل أنا متيقن أن الذي وعدني الله به من النصر حق، فلا يجوز عليّ الفرار.
وأما ما في مسلم عن سلمة بن الأكوع من قوله: "فأرجع منهزما" إلى قوله: "ومررت على رسول الله صلى الله عليه وسلم منهزما فقال: "لقد رأى ابن الأكوع فزعا" فقال العلماء: قوله منهزما حال من ابن الأكوع, لا من رسول الله صلى الله عليه وسلم كما صرح أولا بانهزامه، ولم يرد أن النبي صلى الله عليه وسلم انهزم، وقد قالت الصحابة كلهم: إنه عليه الصلاة والسلام ما انهزم ولم ينقل أحد قط أنه انهزم في موطن من المواطن. وقد نقلوا إجماع
__________
"وهذا" أي قوله لا كذب "فيه إشارة إلى أن صفة النبوة يستحيل معها الكذب", أي قوله لا كذب، لأنها صفة شريفة، والكذب ذميمة، فهما ضدان لا يجتمعان، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "ولا يكذب الكاذب إلا من مهانة نفسه عليه".
أخرجه الديلمي عن أبي هريرة، "فكأنه قال: أنا النبي، والنبي لا يكذب، فلست بكاذب فيما أقول حتى أنهزم، بل أنا متيقن أن الذي وعدني الله به من النصر حق"؛ لأن الله لا يخلف الميعاد، "فلا يجوز عليّ الفرار", وقد قال له تعالى: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} "وأما ما في رواية مسلم عن سلمة بن الأكوع من قوله": غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حنينا فلما واجهنا العدو تقدمت فأعلوا ثنية، فاستقبلني رجل من المشركين فأرميه، بسهم وتوارى عني، فما دريت ما صنع، ثم نظرت إلى القوم، فإذا هم قد طلعوا من ثنية أخرى فالتقوا هم والصحابة، فولى الصحابة، "فأرجع" أنا "منهزما" وعلي بردتان مؤتزر بإحداهما مرتد بالأخرى، فاستطلق إزاري، فجمعتهما جميعا.
وهذا ما أشار إلى أنه حذفه "إلى قوله: ومررت على رسول الله صلى الله عليه وسلم منهزما، فقال: "لقد رأى ابن الأكوع فزعا"، خوفا "فقال العلماء: قوله: منهزما حال من ابن الأكوع، لا من رسول الله صلى الله عليه وسلم،" ونسبه للعلماء تنبيها على أنه مجمع عليه، "كما صرح أولا بانهزامه" في قوله: فأرجع منهزما.
قال الحافظ: ولقوله من طريق أخرى مررت على رسول الله صلى الله عليه وسلم منهزما، وهو على بغلته "ولم يرد" سلمة "أن النبي صلى الله عليه وسلم انهزم", فلا يرد على إقسام البراء أنه ما ولى، "وقد قالت الصحابة كلهم: إنه عليه الصلاة والسلام ما انهزم", فلا يجوز أن ينقل عن سلمة ما يخالفهم بمجرد لفظ محتمل, دفعته الرواية الأخرى عنه، فهذا من جملة ما استند إليه العلماء في أنه حال من ابن الأكوع، "ولم ينقل أحد قط أنه انهزم في موطن من المواطن، وقد نقلوا إجماع(3/518)
المسلمين على أنه لا يجوز أن يعتقد انهزامه صلى الله عليه وسلم ولا يجوز ذلك عليه، بل كان العباس وأبو سفيان بن الحارث آخذين ببغلته يكفانها عن إسراع التقدم إلى العدو.
وقد تقدم في غزوة أحد ما نسب لابن المرابط من المالكية، فيما حكاه القاضي عياض في الشفاء: أن من قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم هزم يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، وأن العلامة البساطي تعقبه بما لفظه: هذا القائل إن كان يخالف في أصل المسألة يعني: حكم الساب، فله وجه، وإن وافق على أن الساب لا تقبل توبته فمشكل. انتهى.
وقال بعضهم: وقد كان ركوبه عليه الصلاة والسلام البغلة في هذا المحل الذي هو موضع الحرب والطعن والضرب تحقيقا للنبوة، لما كان الله تعالى خصه به من مزيد الشجاعة وتمام القوة، وإلا فالبغال عادة من مراكب الطمأنينة، ولا يصلح لمواطن الحرب في العادة إلا الخيل.
__________
المسلمين", وهو حجة "على أنه لا يجوز أن يعتقد انهزامه صلى الله عليه وسلم، ولا يجوز ذلك عليه، بل" انتقال مؤكد لما قبله، "كان العباس وأبو سفيان بن الحارث" الهاشميان "آخذين ببغلته يكفانها عن إسراع التقدم إلى العدو" لما ركضها في نحورهم، فنزل عنها، واستنصر، وتقدم ورمى العدو بالتراب، مبالغة في الشجاعة والثبات والصبر، "وقد تقدم في غزوة أحد ما نسب لابن المرابط" محمد بن خلف الإفريقي "من المالكية، فيما حكاه القاضي عياض في الشفاء، أن من قال أن النبي صلى الله عليه وسلم هزم يستتاب، فإن تاب وإلا قتل" مبالغة في الرد على توهم نسبة ذلك إليه، حيث جعله ردة على رأي قوم، "وأن العلامة البساطي" محمد بن أحمد بن عثمان، "تعقبه بما لفظه: هذا القائل إن كان يخالف" المالكية "في أصل المسألة، يعني حكم الساب فله وجه"؛ لأنه خرج عن مذهبه لغيره، "وإن وافق على أن الساب لا تقبل توبته" بالنسبة إلى أحكام الدني، بمعنى أنها لا تفيده في نفي قتله؛ لأن حده كالزاني والشارب، "فمشكل" لمخالفته نص مالك وأصحابه أنه يقتل بلا استتابة "انتهى", فكيف يجوز عليه نسبة شيء يرتد ناسبه أو يقتل، ولو تاب على اختلاف العلماء.
"وقال بعضهم وقد كان ركوبه عليه الصلاة والسلام البغلة في هذا المحل الذي هو موضع الحرب والطعن والضرب تحقيقا للنبوة، لما كان الله تعالى خصه به من مزيد الشجاعة وتمام القوة" وفي الفتح قال العلماء: في ركوبه البغلة يومئذ دلالة على النهاية في الشجاعة والثبات انتهى، فنسبه المصنف إلى البعض لما فيه من زيادة الإيضاح، لا سيما قوله: "وإلا فالبغال عادة من مراكب الطمأنينة، ولا تصلح لمواطن الحرب في العادة، إلا الخيل" لأنها أشد(3/519)
فبين عليه الصلاة والسلام أن الحرب عنده كالسلم قوة قلب وشجاعة نفس وثقة وتوكلا على الله تعالى، وقد ركبت الملائكة في الحرب معه عليه الصلاة والسلام على الخيل لا غير لأنها بصدد ذلك القتال عرفا دون غيرها من المركوبات، ولهذا لا يسهم في الحرب إلا الخيل، والسر في ذلك أنها المخلوقة للكر والفر بخلاف الإبل. انتهى.
وعند ابن أبي شيبة، من مرسل الحكم بن عتيبة لم يبق معه عليه الصلاة والسلام إلا أربعة.
__________
الدواب عدوا وفي طبعها الخيلاء في مشيها، والسرور بنفسها ومحبة صاحبها، "فبين عليه الصلاة والسلام" بركوب البغلة "أن الحرب عنده، كالسلم قوة قلب" مفعول لأجله، أي لقوة قلب، "وشجاعة نفس، وثقة" بوعد الذي لا يخلف الميعاد، "وتوكلا على الله تعالى", ومن يتوكل على الله فهو حسبه، وكفى بالله وكيلا.
"وقد ركبت الملائكة في الحرب" شمل إطلاقه هذه الغزوة وغيرها مما ركبت فيه الملائكة "معه عليه الصلاة والسلام على الخيل" البلق، كما مر في حديث شيبة بن عثمان، ومر قول النفر الثلاثة: رأينا رجالا بيضا على خيل بلق، فوالله ما نقاتل إلا أهل السماء، وقول سعيد بن جبير: يوم حنين أعز الله رسوله بخمسة آلاف من الملائكة مسومين.
وعند الواقدي عن مالك بن أوس بن الحدثان: ولقد رأينا يومئذ رجالا بلقا على خيل بلق، عليها عمائم حمر قد أرخوها على أكتافهم بين السماء والأرض، كتائب كتائب ما يليقون شيئا، ولا نستطيع أن نقاتلهم من الرعب منهم، ويليقون بتحتانيتين بينهما لام مكسورة فقاف "لا غير؛ لأنها بصدد ذلك القتال،" والصالح له الخيل "عرفا، دون غيرها من المركوبات، ولهذا لا يسهم في الحرب إلا للخيل" فيسهم للفرس مثلا فارسه عند الأئمة الثلاثة، لخبر الصحيحين عن ابن عمر: أنه صلى الله عليه وسلم جعل للفرس سهمين، ولصاحبه سهما، وقال أبو حنيفة: له سهم واحد كصاحبه، وأكره أن أفضل بهيمة على مسلم، وأيا ما كان فاتفقوا على أنه لا يسهم إلا للخيل, "والسر في ذلك أنها مخلوقة للكر" على القتال، "والفر" منه عند الاجة، "بخلاف الإبل" والبغال والحمير والفيلة إن قوتل عليها "انتهى".
قول بعضهم: "وعند ابن أبي شيبة من مرسل الحكم بن عتيبة" بفوقية ثم موحدة مصغر, الكندي، أبي محمد الكوفي التابعي، الوسط, الثقة، الثبت, الفقيه, الحافظ، مات سنة ثلاث عشرة، أو أربع عشرة، أو خمس عشرة ومائة.
روى له الستة قال: لما ولى الناس يوم حنين، "لم يبق معه عليه الصلاة والسلام إلا أربعة(3/520)
نفر، ثلاثة من بني هاشم، ورجل من غيرهم: عليّ والعباس بين يديه، وأبو سفيان بن الحارث آخذ بالعنان، وابن مسعود من الجانب الأيسر، وليس يقبل نحوه أحد إلا قتل.
وفي الترمذي بإسناد حسن من حديث ابن عمر: لقد رأيتنا يوم حنين، وإن الناس لمولون، وما مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة رجل.
وفي شرح مسلم للنووي: أنه ثبت معه عليه الصلاة والسلام اثنا عشر رجلا، وكأنه أخذه من قول ابن إسحاق.
__________
نفر، ثلاثة من بني هاشم ورجل من غيرهم: علي، والعباس بين يديه، وأبو سفيان بن الحارث آخذ بالعنان" وهؤلاء الهاشميون "وابن مسعود من الجانب الأيسر" كما في نفس هذا المرسل، كما في الفتح وغيره، وكأنه سقط من قلم المصنف، قال: "وليس يقبل نحوه أحد إلا قتل" بقتل الملائكة، على المتبادر من أنه لم يبق إلا هؤلاء الأربعة وبين ما اشتغلوا، وتقدم في حديث أبي عبد الرحمن، فتلقانا عند صاحب البغلة رجال بيض الوجوه حسان.
"وفي الترمذي بإسناد حسن من حديث ابن عمر لقد رأيتنا" مفعول أول "يوم حنين" ظرف، "وإن الناس لمولون" جملة، في موضع نصب مفعول رأى الثاني، فاندفع إيراد أنه لا يصح أنها علمية لعدم المفعول الثاني، ولا بصرية لأن شرط مفعولها أن لا يتحد الفاعل والمفعول، بأن يكونا لمتكلم، "وما مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة رجل".
قال الحافظ: هذا أكثر ما وقفت عليه في عدد من ثبت يومئذ، ولأبي نعيم في الدلائل تفصيل المائة بضعة وثلاثون من المهاجرين، والبقية من الأنصار.
وروى أحمد والحاكم عن ابن مسعود: أنه ثبت معه ثمانون رجلا من المهاجرين والأنصار، فكنا على أقدامنا، ولم نولهم الدبر، وهم الذين أنزل الله عليهم السكينة، وهذا لا يخالف حديث ابن عمر، لأنه نفى أن يكونوا مائة، وابن مسعود أثبت أنهم كانوا ثمانين. انتهى.
وروى البيهقي عن حارثة بن النعمان: لقد حرزت من بقي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: مائة واحدة.
وحكى الواقدي عنه: فما علمت أنهم مائة حتى مررت يوما عليه صلى الله عليه وسلم، وهو ينادي جبريل عند باب المسجد فقال جبريل: من هذا؟ فقال: حارثة بن النعمان، فقال جبريل: هو أحد المائة الصابرة يوم حنين، لو سلم لرددت عليه، فأخبرني عليه السلام، فقلت ما كنت أظنه إلا دحية الكلبي واقفا معك.
"وفي شرح مسلم للنووي أنه ثبت معه عليه الصلاة والسلام اثنا عشر رجلا، وكأنه أخذه من قول ابن إسحاق" الذي لم يذكره المصنف، وهو ما رواه عن جابر قال: ثبت معه أبو بكر(3/521)
ووقع في شعر العباس بن عبد المطلب أن الذين ثبتوا كانوا عشرة فقط وذلك لقوله:
نصرنا رسول الله في الحرب تسعة ... وقد فر من قد فر عنه فاقشعوا
وعاشرنا..................
__________
وعمر, وعلي، والعباس وابنه الفضل وأبو سفيان وربيعة ابنا الحارث، وابن أبي سفيان، قال ابن هشام: واسمه جعفر، وأسامة وأيمن بن عبيد استشهد، فهؤلاء عشرة، وتقدم في مرسل الحاكم، ذكر ابن مسعود، والثاني عشر يمكن تفسيره بعثمان، فقد روى البزار عن أنس: أن أبا بكر، وعمر، وعثمان وعليا ضرب كل منهم بضعة عشر ضربة، وممن ذكر الزبير بن بكار وغيره: أنه ثبت يومئذ عتبة ومعتب ابنا أبي لهب، وعبد الله بن الزبير بن عبد المطلب، ونوفل وابن الحارث بن عبد المطلب، وعقيل بن أبي طالب، وشيبة بن عثمان الحجبي، فقد ثبت عنه أنه لما رأى الناس ولوا استدبر النبي صلى الله عليه وسلم ليقتله، فأقبل عليه فضربه في صدره وقال له: "قاتل الكفار". فقاتلهم حتى انهزموا، وقثم بن العباس.
قال مغلطاي: وفيه نظر لأن المؤرخين قاطبة فيما أعلم عدوه فيمن توفي وهو صغير، فكيف شهد حنينا؟ وعند الواقدي وغيره: من الأنصار أبو دجانة، وأبو طلحة، وحارثة بن النعمان، وسعد بن عبادة، وأسيد بن حضير وأبو بشر المازني، ومن نسائهم أم سليم، وأم عمارة، وأم الحارث، وأم سليط. قال ابن إسحاق: حدثني عبد الله بن أبي بكر أنه صلى الله عليه وسلم رأى أم سليم، وكانت مع زوجها أبي طلحة، وهي حامل منه بعبد الله، وقد خشيت أن يضربها الجمل، فأدنت رأسه منها، وأدخلت يدها في خزامه مع الخطام، فقال صلى الله عليه وسلم: "أم سليم"؟. قالت: نعم بأبي أنت وأمي يا رسول الله! أقتل المنهزمين عنك، كما يقتل الذين يقاتلونك، فإنهم لذلك أهل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أو يكفي الله يا أم سليم".
وروى مسلم وغيره عن أنس قال: اتخذت أم سليم خنجرا عام حنين، وكان معها، فقال أبو طلحة: ما هذا؟ قالت: إن دنا مني بعض المشركين، أبج بطنه. فقال أبو طلحة: ألا تسمع يا رسول الله ما تقول أم سليم، فضحك صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله أقتل الطلقاء انهزموا عنك، فقال: "إن الله قد كفى وأحسن يا أم سليم". "ووقع في شعر العباس بن عبد المطلب أن الذين ثبتوا كانوا عشرة فقط".
قال الحافظ: ولعل هذا هو المثبت، ومن زاد على ذلك يكون عجل في الرجوع، فعد فيمن لم ينهزم، "وذلك لقوله نصرنا رسول الله في الحرب تسعة، وقد فر من قد فر عنه" راعى لفظ من فأفرد ومعناها فجمع في قوله "فاقشعوا" أي انكشفوا مطاوع قشع متعديا "وعاشرنا"(3/522)
.... لاقى الحمام بنفسه ... لما مسه في الله لا يتوجع
وقد قال الطبراني: الانهزام المنهي عنه هو ما وقع على غير نية العود، وأما الاستطراد للكثرة فهو كالتحيز إلى فئة.
__________
يعني أيمن بن عبيد، كما في الاستيعاب وغيره "لاقى الحمام" الموت "بنفسه، لما مسه في الله لا يتوجع" حال من مفعول مسه، يعني أنه أصيب في الحرب، ولم يظهر جزعا، ولا تألما، ومحصل ما ذكره المصنف فيمن ثبت أربعة أقوال أربعة دون مائة: اثنا عشر, عشرة، ومر خامس وهو ثمانون, وسادس وهو مائة.
رواه البيهقي، وغيره عن حارثة بن النعمان إلا أنه يمكن ترجيع دون مائة إلى الثمانين، كما أشار له الحافظ فلا يعد قولا، فهي خمسة فقط، وجمع شيخنا بحمل الأربعة على ما بقي معه آخذا بركابه، والاثني عشر، والعشرة على المتلاحقين بسرعة، فمن قال: اثنا عشر عد من كان معه أولا فيهم، ومن قال: عشرة أراد الأربعة، وستة ممن أسرع وحمل الثمانين على الذين نكصوا على أعقابهم، ولم يولوا الدبر، والمائة عليهم وعلى من انضم إليهم حين تقدموا إليه عليه السلام، هذا وقد تقدم الاعتذار عمن تولى من غير المؤلفة، بأن العدو كانوا ضعفهم في العدد وأكثر من ذلك، كما جزم به في الفتح، وكذا حزم في النور بأنهم كانوا أضعاف المسلمين، ولذا تبرأ الشامي في تفسيره للآية مما جزم به غير واحد أنهم كانوا أربعة آلاف، وسبق الاعتذار عنهم باحتمال أن الأربعة آلاف من نفس هوازن، والزائد ممن انضم إليهم من غيرهم، لأنهم أقاموا حولا يجمعون الناس.
"وقد قال الطبري" الإمام ابن جرير في الاعتذار عنهم، "الانهزام المنهي عنه هو ما وقع على غير نية العود" بلا عذر، "وأما الاستطراد" أي الفرار في الحرب، "للكثرة فهو كالمتحيز إلى فئة" أي جماعة من المسلمين يستنجد بها فليس انهزاما منهيا عنه، واستعمل الاستطراد بمعنى الفرار مجاز؛ لأنه كما في المصباح الفرار كيدا، ثم يكر عليه وتقدير بلا عذر المدلول عليه بمقابلته بعذر الكثرة ليظهر وجه مقابلته لما قبله، وإلا فلا يخفى أنه من أفراده لشموله، لما إذا نوى أن يعود أو لا نية له والفرار للكثرة، لا يخرج عنهما، وفي العيون فرارهم يوم حنين، قد أعقبه رجوعهم إليه بسرعة وقتالهم معه حتى كان الفتح، ففي ذلك نزل قوله تعالى: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ} [التوبة: 25] إلى قوله: {غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 218] كما قال فيمن تولى يوم أحد: {وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ} [آل عمران: 155] وإن اختلف الحال في الوقعتين، وفي الروض لم يجمع العلماء على أنه الكبائر إلا في يوم بدر، وهو ظاهر قوله تعالى: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ} [الأنفال: 16] ، ثم أنزل التخفيف في الفارين يوم أحد، وهو قوله: {وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ} وكذا أنزل: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ(3/523)
انتهى.
وأما قوله عليه الصلاة والسلام: "أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب". فقد قال العلماء: إنه ليس بشعر؛ لأن الشاعر إنما سمي شاعر الوجوه، منها: أنه شعر القول وقصده واهتدى إليه، وأتى به كلاما موزونا على طريقة العرب مقفى، فإن خلا من هذه الأوصاف أو بعضها لم يكن شعرا، ولا يكون قائله شاعرا, والنبي صلى الله عليه وسلم لم يقصد بكلامه ذلك الشعر، ولا أراده، فلا يعد شعرا، وإن كان موزونا.
وأما قوله عليه الصلاة والسلام: "أنا ابن عبد المطلب". ولم يقل: أنا ابن عبد الله، فأجيب: بأن شهرته كانت بجده أكثر من شهرته بأبيه، لأن أباه توفي في حياة أبيه عبد المطلب قبل مولده عليه الصلاة والسلام.
__________
أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ} إلى قوله {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 218] وفي تفسير ابن سلام كان الفرار يوم بدر من الكبائر، وكذا يكون في ملحمة الروم الكبرى وعند الدجال، وأيضا فقد رجعوا لجيشهم وقاتلوا معه حتى فتح الله عليهم. "انتهى".
وأما قوله عليه الصلاة والسلام: "أنا النبي" حقا، "لا كذب" في ذلك، أو: والنبي لا يكذب، فلست بكاذب حتى أنهزم، "أنا ابن عبد المطلب" مع قوله تعالى: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} [يس: 69] "فقد قال العلماء" في الجواب عنه: "إنه ليس بشعر؛ لأن الشعر إنما سمي شاعر الوجوه منها أنه شعر القول، وقصده، واهتدى إليه، وأتى به كلاما موزونا على طريقة العرب مقفى، فإن خلا من هذه الأوصاف" الستة، "أو" من "بعضها لم يكن شعرا، ولا يكون قائله شاعرا والنبي صلى الله عليه وسلم لم يقصد بكلامه ذلك الشعر، ولا أراده فلا يعد شعرا، وإن كان موزونا" الوا للحال؛ لأن هذا موزون، واقتصر على هذا القول الحافظ، لأنه أعدل الأجوبة، ومنها أن لا يكون شعرا حتى تتم قطعة، وهذه كلمات يسيرة لا تسمى شعرا، وقيل: إنه نظم غيره وكان أنت النبي لا كذب، أنت ابن عبد المطلب، فذكره بلفظ أنا في الموضعين، والممتنع عليه إنشاء الشعر، لا إنشاده، وقيل: هو رجز، وليس من أقسام الشعر، وهذا مردود لأن الجمهور على أن الرجز شعر: "وأما قوله عليه الصلاة والسلام أنا ابن عبد المطلب، ولم يقل: أنا ابن عبد لله" فانتسب إلى جده دون أبيه، "فأجيب بأن شهرته كانت بجده أكثر من شهرته بأبيه، لأن أباه توفي" شابا، "في حياة أبيه عبد المطلب قبل مولده عليه الصلاة والسلام" على أصح الأقوال.(3/524)
وكان عبد المطلب مشهورا شهرة ظاهرة شائعة وكان سيد قريش وكان كثير من الناس يدعو النبي صلى الله عليه وسلم ابن عبد المطلب ينسبونه إلى جده لشهرته، ومنه حديث ضمام بن ثعلبة في قوله: أيكم ابن عبد المطلب، وقيل: غير هذا.
وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقتل من قدر عليه، وأفضى الناس في القتل إلى الذرية، فنهاهم عليه الصلاة والسلام عن ذلك.
__________
"وكان عبد المطلب مشهورا شهرة ظاهرة شائعة", ورزقه الله طول العمر، ونباهة الذكر "وكان سيد قريش، وكان كثير من الناس يدعو النبي صلى الله عليه وسلم ابن عبد المطلب، ينسبونه إلى جده لشهرته به، ومنه حديث ضمام" بكسر الضاد المعجمة وخفة الميم، "ابن ثعلبة" الصحابي، في قوله" لما قدم المدينة، وأناخ بعيره في المسجد قال: "أيكم ابن عبد المطلب", ولم يقل: ابن عبد الله لشهرته به، وتأتي القصة في الوفود.
"وقيل غير هذا" في حكمة انتسابه له دون أبيه، فقيل: لأنه كان اشتهر بين الناس أنه يخرج من ذرية عبد المطلب رجل يدعو إلى الله، ويهدي الله الخلق على يديه، ويكون خاتم الأنبياء، فانتسب إليه ليتذكر ذلك من كان يعرفه، وقد اشتهر ذلك بينهم، وذكر سيف بن ذي يزن قديما لعبد المطلب قبل أن يتزوج عبد الله آمنة، فأراد صلى الله عليه وسلم تنبيه أصحابه، لأنه لا بد من ظهوره، وأن العاقبة لهم لتقوى نفوسهم، إذا عرفوا أنه ثابت غير منهزم.
ذكره في الفتح، وفي الروض قال الخطابي: خص عبد المطلب بالذكر في هذا المقام تثتبيتا لنبوته، وإزالة للشك لما اشتهر وعرف من رؤيا عبد المطلب المبشرة به صلى الله عليه وسلم، وقد تقدمت، ولما انبأت به الأحبار والكها، فكأنه يقول: أنا ذاك، فلا بد مما وعدت به لئلا ينهزموا عنه، ويظنوا أنه مغلوب، أو مقتول، فالله أعلم، أراد ذلك رسوله أم لا انتهى، فليس من الافتخار بالآباء في شيء وبفرق تسليمه، فهو جائز في الحرب لإرهاب العدو.
وقد روى الطبراني: أنه صلى الله عليه وسلم قال يوم حنين: "أنا ابن العواتك"، ثم لما أقبل المسلمون سيوفهم بأيمانهم كأنها الشهب، وأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين، وأنزل جنودا، قتل الله من قتل من الكفار، وانهزم الأعداء من كل ناحية، وأفاء الله تعالى على رسوله أموالهم، ونساءهم وأبناءهم، وفر مالك بن عوف في ناس من أشراف قومه حتى بلغ حصن الطائف، وأسلم عند ذلك ناس كثير من مكة حين رأوا نصر الله لرسوله، وإعزاز دينه، "وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقتل من قدر عليه" من الكفار المنهزمين، فقال: "اجزروهم جزرا" وأومأ بيده إلى الحلق.
أخرجه البزار برجال ثقات عن أنس، فامتثلوا أمره، فتبعوهم يقتلونهم، "وأفضى الناس على القتل إلى الذرية، فنهاهم عليه الصلاة والسلام عن ذلك".(3/525)
وقال: من قتل قتيلا له عليه بينة فله سلبه. واستلب أبو طلحة.
__________
روى الواقدي: أن سعد بن عبادة جعل يصيح يومئذ بالخزرج ثلاثا، وأسيد بن حضير بالأوس ثلاثا، فثابوا من كل ناحية كأنهم النحل تأوي إلى يعسوبها.
قال أهل المغازي: فحنق المسلمون على المشركين، فقتلوهم حتى أسرع القتل في ذراري المشركين، فبلغه ذلك صلى الله عليه وسلم، فقال: "ما بال أقوام بلغ بهم القتل حتى بلغ الذرية لا لا تقتل الذرية". ثلاثا, فقال أسيد: يا رسول الله! أليس إنما هم أولاد المشركين، فقال صلى الله عليه وسلم: "أوليس خياركم أولاد المشركين، كل نسمة تولد على الفطرة حتى يعرب عنها لسانها، فأبواها يهودانها أو ينصرانها".
وروى أحمد، وأبو داود عن رباح بن ربيع: أنه مر هو والصحابة على امرأة مقتولة مما أصابت المقدمة، فوقفوا ينظرون إليها، ويعجبون من خلقها حتى لحقهم صلى الله عليه وسلم على راحلته فانفرجوا عنها، فوقف عليها، فقال: "ما كانت هذه لتقاتل"، فقال لأحدهم: "الحق خالدا فقل له: لا تقتل ذرية ولا عسيفا"، وعند ابن إسحاق: "فقل له: إن رسول الله ينهاك أن تقتل وليدا أو امرأة أو عسيفا" والعسيف الأجير لفظا ومعنى، وذكر الواقدي عن شيوخ ثقيف: ما زال صلى الله عليه وسلم في طلبنا ونحن مولون، حتى أن الرجل منا ليدخل حصن الطائف، وأنه ليظن أنه على أثره من رعب الهزيمة.
وروى البيهقي وغيره عن يزيد بن عامر السوائي، وكان حضر يومئذ فسئل عن الرعب، فكان يأخذ الحصاة فيرمي بها في الطست فتطن، فيقول: إن كنا نجد في أجوافنا مثل هذا.
وروى الواقدي عن مالك بن أوس: حدثني عدة من قومي شهدوا ذلك اليوم يقولون: لقد رمى رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الرمية من الحصى فما منا أحد إلا يشكو القذى في عينيه ولقد كنا نجد في صدورنا خفقانا كوقع الحصى في الطساس، ما يهدأ ذلك الخفقان "وقال" صلى الله عليه وسلم يومئذ بعد انقضاء القتال، كما في الصحيحين وغيرهما عن أبي قتادة: "من قتل قتيلا" أوقع القتل على المقتول، باعتبار ما له كقوله تعالى: {أَعْصِرُ خَمْرًا} [يوسف: 36] ، "له عليه بينة فله سلبه".
قال الحافظ: بفتح المهملة، واللام بعدها موحدة، ما يوجد مع المحارب من ملبوس وغيره عند الجمهور، وعن أحمد لا تدخل الدابة، وعن الشافعي تختص بأداة الحرب، واتفق الجمهور على أنه لا يقبل قول مدعيه إلا ببينة تشهد له أنه قتله، لمفهوم قوله: "له عليه بينة"، وعن الأوزاعي يقبل بلا بينة، ونقل ابن عطية عن أكثر الفقهاء أن البينة هنا شاهد واحد يكتفى به. انتهى.
"واستلب أبو طلحة" زيد بن سهل بن الأسود بن حرام الأنصاري، الخزرجي من كبار(3/526)
وحده ذلك اليوم عشرين رجلا.
وقال ابن القيم في الهدى النبوي: كان الله تعالى وعد رسوله إذا فتح مكة دخل الناس في دين الله أفواجا، ودانت له العرب بأسرها، فلما تم له الفتح المبين اقتضت حكمته تعالى أن أمسك قلوب هوازن ومن تبعها عن الإسلام، وأن يجمعوا ويتأهبوا لحربه عليه الصلاة والسلام، ليظهر أمره تعالى، وتمام إعزازه لرسوله ونصره لدينه، ولتكون غنائمهم شكرانا لأهل الفتح، وليظهر الله تعالى رسوله وعباده المؤمنين، وقهره لهذه الشوكة العظيمة التي لم يلق المسلمون قبلها مثلها، ولا يقاومهم بعد أحد من العرب، فاقتضت حكمته سبحانه أن أذاق المسلمين أولا مرارة الهزيمة والكسرة.
__________
الصحابة، شهد بدرا وما بعدها، مات سنة أربع وثلاثين، وقال أبو زرعة الدمشقي: عاش بعد النبي صلى الله عليه وسلم أربعين سنة "وحده ذلك اليوم" كما رواه أحمد وابن حبان عن أنس: قتل أبو طلحة يومئذ "عشرين رجلا" وأخذ أسلابهم "وقال ابن القيم في الهدي النبوي" في بيان حكمة ما جرى يومئذ: "كان الله قد وعد رسوله" وهو الصادق الوعد "إذا فتح مكة، دخل الناس في دين الله أفواجا، ودانت" طاعت وانقادت "له العرب بأسرها، فلما تم له الفتح المبين اقتضت حكمته تعالى أن أمسك قلوب هوازن ومن تبعها عن الإسلام" مديدة "وأن يجمعوا" من قدروا على جمعه، "ويتأهبوا" يجتمعوا بعد ذلك، فهو مغاير "لحربه عليه الصلاة والسلام، ليظهر أمره تعالى وإتمام إعزازه لرسوله، ونصره لدينه، ولتكون غنائمهم شكرانا" مصدر شكر ككفر، أي اعترافا بنعمه "لأهل الفتح، وليظهر الله تعالى رسوله وعباده المؤمنين، وقهره لهذه الشوكة" شدة البأس، والقوة "العظيمة التي لم يلق المسلمون قبلها مثلها" في الكثرة وشدة البأس.
وغاية ما لقوا في أحد ثلاثة آلاف، وكان لهم الظفر ابتداء، لكن لما خالف الرماة موقفهم الذي أمرهم عليه السلام بعدم مفارقته استشه من استشهد إظهارا لأنه لا ينبغي مخالفته في أمر ما، وغاية ما لقوا في الخندق عشرة آلاف، ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا.
وأما هؤلاء فكانوا أضعاف المسلمين، كما قال البرهان وغيره، وفي كلام ابن القيم: هذا رد على من زعم أنهم كانوا أربعة آلاف، "ولا يقاومهم بعد أحد من العرب" قيد بهم؛ لأنه قاومهم من فارس والروم بعد العهد النبوي أضعاف ونصرهم الله ببركته صلى الله عليه وسلم.
قال في الهدى، ولغير ذلك من الحكم الباهرة التي تلوح للمتأملين "فاقتضت حكمته سبحانه أن أذاق المسلمين أولا مرارة الهزيمة والكسرة" بسين مهملة، عطف مرادف، سوغه(3/527)
مع كثرة عَددهم وعُددهم وقوة شوكتهم، ليطأ رءوسا رفعت بالفتح ولم تدخل بلده وحرمه كما دخل عليه الصلاة والسلام واضعا رأسه منحنيا على مركوبه تواضعا لربه، وخضوعا لعظمته أن أحل له بلده، ولم يحله لأحد قبله ولا لأحد بعده، وليبين سبحانه لمن قال: لن نغلب اليوم من قلة، أن النصر إنما هو من عند الله تعالى، وأنه من ينصره فلا غالب له ومن يخذله فلا ناصر له، وأنه سبحانه هو الذي تولى نصر رسوله ودينه، لا كثرتكم التي أعجبتم بها، فإنه لم تغن عنكم شيئا فوليتم مدبرين، فلما انكسرت قلوبهم أرسلت خلع الجبر مع بريد أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودا لم تروها. وقد اقتضت حكمته تعالى: أن خلع النصر وجوائزه إنما تفاض على أهل الانكسار، قال الله تعالى: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ} [القصص: 5] .
__________
اختلاف اللفظ "مع كثرة عَددهم" بفتح العين، "وعُددهم" بضمها، "وقوة شوكتهم ليطأ رءوسا رفعت بالفتح" لمكة، والنصر على أهلها، "ولم تدخل بلده وحرمه، كما دخل عليه الصلاة والسلام" فابتلوا بقصة حنين منعا لهم من إظهار الترفع وتنبيها لهم على أن المطلوب منهم التواضع وإظهار الشكر، كما فعل صلى الله عليه وسلم في دخوله "واضعا رأسه منحنيا على مركوبه،" حتى أن ذقنه يكاد يمس سرجه "تواضعا لربه، وخضوعا لعظمته أن أحل له بلده، ولم يحله لأحد قبله، ولا لأحد بعده", كما قال: "ولو قدر أن يغلبوا الكفار ابتداء لرجع من رجع منهم شامخ الرأس متعاظما" وليبين سبحانه لمن قال لن نغلب اليوم من قلة" بناء عى أن قائلها غيره صلى الله عليه وسلم، كما هو الصحيح وغير الصديق رضي الله عنه، "أن النصر إنما هو من عند الله تعالى، وأن من ينصره" يعينه على عدوه، "فلا غالب له، ومن يخذله" بترك نصره، "فلا ناصر له" بعد خذلانه، كما أنزل الله قبل ذلك في الكتاب العزيز: "وأنه سبحانه هو الذي تولى نصر رسوله ودينه، لا كثرتكم التي أعجبتم بها، فإنها لم تغن عنكم شيئا فوليتم مدبرين، فلما انكسرت قلوبهم أرسلت خلع الجبر", أي بينت لهم علامات النصر الشبيهة بالخلع في إدخال السرور والعز لمن قامت به "مع بريد" أي: رسوله وعلى المؤمنين" فردوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم لما ناداهم العباس بإذنه، {وَأَنْزَلَ جُنُودًا} ملائكة {لَمْ تَرَوْهَا} ، وقد اقتضت حكمته تعالى أن خلع النصر وجوائزه", أي عطاياه جمع جائزة, والمراد ما يترتب على النصر من الفوائد، "إنما تفاض على أهل الانكسار، قال الله تعالى: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً(3/528)
قال: وبهاتين الغزاتين, أعني: حنينا وبدرا, وقاتلت الملائكة بأنفسها مع المسلمين، ورمى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوه المشركين بالحصى فيهما. وبهاتين الغزاتين طفئت جمرة العرب لغزو رسول الله صلى الله عليه وسلم.
__________
وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ، وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ} [القصص: 5] .
قال أعني ابن القيم عقب هذا: وافتتح الله تعالى غزو العرب بغزوة بدر، وختم غزوهم بغزاة حنين، ولهذا يجمع بين هاتين الغزاتين بالذكر: بدر وحنين وإن كان بينهما سبع سنين، "قال" بعد هذا "وبهاتين الغزاتين" قال المصنف: أعني حنينا وبدرا", وكان اللائق أن يقول: يعني لأن قصده بيان مراد ابن القيم، لحذفه من كلامه ما يرجع اسم الإشارة له، وهو ما ذكرته، ولم يقع في كلامه أعني "قاتلت الملائكة بأنفسها مع المسلمين،" كما هو ظاهر الأحاديث السالفة، والجمهور على أنها لم تقاتل يوم حنين، كما قدمه المصنف في بدر؛ لأن الله تعالى قال: {وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا} [التوبة: 26] ولا دلالة فيه على قتال.
وفي تفسير ابن كثير المعروف من قتال الملائكة: إنما كان يوم بدر، وقال ابن مرزوق وهو المختار من الأقوال. اتهى، وثالث الأقوال: أنها لم تقاتل في بدر، ولا في غيرها، وإنما كانوا يكثرون السواد، ويثبتون المؤمنين، وإلا فملك واحد يكفي في إهلاك أهل الدنيا، وهذه شبهة دفعها الكفار بريشة من جناحه، سئلت عن الحكمة في قتال الملائكة معه صلى الله عليه وسلم مع قدرة جبريل على دفع الكفار بريشة من جناحه، فقلت: ذلك لإرادة أن يكون الفعل للنبي صلى الله عليه وسلم وتكون الملائكة مددا على عادة الجيوش، رعاية لصورة الأسباب، وسننها التي أجراها الله في عباده، والله فاعل الجميع. انتهى، وقول أبو الحسن الهروي في أرجوزته:
كذا لجنس الأنس فضل بادي ... بالعلم والفطنة والجهاد
على كرام الملا العباد ... من ساكني السبع العلي الفراد
لا يعارضه، لأن قتالهم ليس كقتال الإنس لأن الحاصل منهم القتل لا القتال.
وقدم المصنف في بدر أنهم كانوا يعرفون قتل الملائكة بآثار سود في الأعناق والبنان، "ورمى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوه المشركين بالحصى فيهما،" فانكشفوا ورماهم بالحصى أيضا يوم أحد، لما ولي الناس عنه، فرجعوا القهقري حتى أتوا الجبل، رواه الحاكم بإسناد صحيح عن سعد، وبعد هذا في كلام ابن القيم، "وبهاتين الغزاتين طفئت جمرة العرب لغزو رسول الله صلى الله عليه وسلم" والمسلمين، فالأولى خوفتهم وكسرت من حرهم، والثانية استفرغت قواهم، واستنفدت سهامهم وأذلت جمعهم حتى لم يجدوا بدا من الدخول في دين الله، وجبر الله أهل مكة بهذه الغزوة، وفرحهم بما نالوا من النصر والمغنم، فكانت كالدواء لما نالهم من كسرهم، وإن كان عين جبرهم(3/529)
انتهى.
وأمر رسوله الله صلى الله عليه وسلم بطلب العدو، فانتهى بعضهم إلى الطائف، وبعضهم نحو نخلة، وقوم منم إلى أوطاس.
واستشهد من المسلمين أربعة: منهم أيمن ابن أم أيمن.
__________
وتمام نعمته تعالى عليهم بما صرفه عنهم من شر من كان مجاورهم من أشرار العرب من هوازن وثقيف بما أوقع بهم من الكسرة، وبما قبض لهم من دخولهم في الإسلام. ولولا ذلك ما كان أهل مكة يطيقون مقاومة تلك القبائل مع شدتها. "انتهى".
كلام ابن القيم "وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بطلب العدو" بعد انهزامهم "فانتهى بعضهم إلى الطائف" كمالك بن عوف في جماعة من أشراف قومه، فإنهم لما انهزموا، وقف على ثنية في شبان أصحابه، فقال: قفوا حتى يمضي ضعفاؤكم وينتام آخركم، فبصر بهم الزبير، فحمل عليهم حتى أهبطهم من الثنية، وهرب مالك إلى الطائف، ويقال: تحصن في قصر بلية، بلام مكسورة وتحتية خفيفة, على أميال من الطائف، فغزاهم صلى الله عليه وسلم بنفسه، كما يأتي وهدم القصر، "وبعضهم نحو نخلة" فتبعهم خيل المسلمين، ولم تتبع من سلك في الثنايا، فأدرك ربيعة بن رفيع بفاء مصغرا دريد بن الصمة في ستمائة نفس، فقتله فيما جزم به ابن إسحاق، وقال ابن هشام: يقال: إن قاتله عبد الله بن قبيع.
وروى البزار بإسناد حسن ما يشعر بأن قاتل دريد هو الزبير، ولفظه عن أنس لما انهزم المشركون انحاز دريد بن الصمة في ستمائة نفس على أكمة، فرأوا كتيبة، فقال: خلوهم لي فخلوهم، فقال: هذه قضاعة ولا بأس عليكم منهم، ثم رأوا كتيبة مثل ذلك، فقال: هذه سليم، ثم رأوا فارسا وحده، فقال: خلوه لي، فقالوا: هذا الزبير بن العوام، وهو قاتلكم، ومخرجكم عن مكانكم هذا، فالتفت الزبير، فرآهم، فقال: علام هؤلاء هنا، فمضى إليهم وتبعه جماعة، فقتلوا ثلاثمائة، وخر رأس دريد بن الصمة، فجفلوا بين يديه، ويحتمل أن ربيعة أو عبد الله كان في جماعة الزبير، فباشر قتله، فنسب إلى الزبير مجازا، وكان دريد من الشعراء المشهورين في الجاهلية، ويقال: إنه كان لما قتل ابن عشرين ومائة سنة، ويقال: ابن ستين ومائة. انتهى من الفتح ملخصا.
"وقوم منهم إلى أوطاس" فبعث إليهم أبا عامر، كما يأتي، "واستشهد من المسلمين أربعة منهم أيمن" بن عبيد بن زيد بن عمرو بن خلال الخزرجي، كذا نسبه ابن سعد وابن منده، وأما أبو عمر، فقال الحبشي: وقد فرق ابن أبي خيثمة بين الحبشي وبين ابن أم أيمن وهو الصواب، فإن أيمن الحبشي أحد من جاء مع جعفر بن أبي طالب، قاله في الإصابة، والخزرجي أحد الثابتين، كما مر، وقول ابن إسحاق الهاشمي: يريد بالولاء، وهو المعروف بأنه "ابن أم أيمن" بركة(3/530)
وقتل من المشركين أكثر من سبعين قتيلا.
__________
الحبشية، وكانت تزوجت في الجاهلية بمكة عبيد المذكور لما قدمها، وأقام بها، ثم نقلها إلى المدينة، فولدت له أيمن، ثم مات عنها، فرجعت إلى مكة فتزوجها زيد بن حارثة، قاله البلاذري وغيره، والثاني يزيد بن زمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزى بن قصي، جمح به فرس له يقال له: الجناح بلفظ جناح الطائر، فقتل، وسراقة بن الحارث الأنصاري وأبو عامر الأشعري، كما عند ابن إسحاق وعند ابن سعد، بدل يزيد بن زمعة رقيم بضم الراء وفتح القاف ابن ثعلبة بن زيد بن لوذان بضم اللام، وسكون الواو وذال معجمة.
لكن ابن إسحاق ذكره فيمن استشهد في الطائف، وذكر الواقدي أنه ذكر له صلى الله عليه وسلم: أن رجلا كان بحنين قاتل قتالا شديدا حتى اشتدت به الجراح، فقال: إنه من أهل النار، فارتاب بعض الناس من ذلك، فلما آذته الجراح نحر نفسه بسهم, فأمر صلى الله عليه وسلم بلالا ينادي: "ألا يدخل الجنة إلا مؤمن، إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر". والثابت في الصحيح أن ذلك يوم خيبر، كما مر في غزوتها، والواقدي لا يحتج به إذا انفرد فكيف إذا خالف خصوصا ما في الصحيح، فإن كان محفوظا فيمكن أنه وقع ذلك في كلتا الغزاتين لرجلين، وقد تقدم نقل كلام العلماء في قوله: "إنه من أهل النار". بأنه لنفاقه، أو إن لم يغفر الله له، أو إنه استحل قتل نفسه، أو شك في الإيمان لما جرح. فلا يلزم منه أن كل من قتل نفسه يقضى عليه بالنار، أو أنه يدخلها للتطهير، ولا يرد بقوله: "لا يدخل الجنة إلا مؤمن" لأن المراد لا يدخلها مع السابقين، أو بلا عذاب إلا من كمل إيمانه، ولا بالرجل الفاجر، لأنه يكفي في فجوره عصيانه، "وقتل من المشركين أكثر من سبعين قتيلا" وقت الحرب، فلا ينافيه حديث أنس عند البزار السابق قريبا: أن الزبير ومن معه قتلوا ثلاثمائة لأنه بعد انهزام الكفار ولا يخالف قوله أكثر قول ابن إسحاق وغيره: "واستحر"1 القتل وهو "بحاء" وراء من الحر، أي: اشتدت الحرب، وكثر من بني مالك من ثقيف، فقتل منهم سبعون رجلا تحت رايتهم.
وما رواه البيهقي عن عبد الله بن الحارث عن أبيه: قال: قتل من أهل الطائف يوم حنين مثل من قتل يوم بدر، لأن الزائد على السبعين ممن اجتمع معهم من الأخلاط.
قال ابن إسحاق: وكان راية ثقيف مع ذي الخمار، فقتل فأخذها عثمان بن عبد الله، فقاتل حتى قتل، فقال صلى الله عليه وسلم: "أبعده الله، فإنه كان يبغض قريشا" , وأسند ابن إسحاق أحمد، وصححه ابن حبان عن جابر قال: ورجل من هوازن أمامهم على جمل له أحمر، بيده راية سوداء في رأس رمح طويل، إذا أدرك طعن برمحه، وإذا فاته الناس رفع رمحه لمن وراءه، فاتبعوه فأهوى له علي، ورجل من الأنصار، فضرب علي عرقوبي الجمل، فوقع على عجزه، فضرب الأنصاري الرجل
__________
1 في الأصل: استجر القتل وهو بجيم. وما أثبتناه فيما بين الحاصرتين هو الصواب كما في النهاية 1/ 364.
ضربة أطن قدمه بنصف ساقه، فوقع عن رحله، وفيه جواز عقر مركوب العدو إذا كان عونا على قتله.(3/531)
"غزاة أوطاس":
ثم سرية أبي عامر الأشعري، وهو عم أبي موسى الأشعري، وقال ابن إسحاق: ابن عمه والأول أشهر.
بعثه صلى الله عليه وسلم حين فرغ من حنين في طلب الفارين من هوازن يوم حنين إلى أوطاس -وهو واد في ديار هوازن- وكان معه سلمة بن الأكوع، فانتهى إليهم، فإذا هم مجتمعون فقتل منهم أبو عامر تسع إخوة.
__________
غزوة أوطاس:
"ثم سرية أبي عامر" عبيد بن سليم، بتصغيرهما ابن حضار، بفتح المهملة وشد المعجمة فألف فراء, "الأشعري" ذكر ابن قتيبة أنه عمي، ثم أبصر وأنه هاجر إلى الحبشة, قال في الإصابة: فكأنه قدم قديما فأسلم "وهو عم أبي موسى" عبد بن قيس بن سليم "الأشعري" الصحابي المشهور، "وقال ابن إسحاق": هو "ابن عمه، والأول أشهر" كما قاله في الفتح، وقال في النور: هو غلط إنما أبو موسى ابن أخيه. انتهى.
لكن في الفتح قول أبي عامر في الصحيح: ابن أخي يرد قول ابن إسحاق، ويحتمل إن كان ضبطه أنه قال له ذلك لكونه أسن منه. انتهى.
"بعثه صلى الله عليه وسلم حين فرغ من حنين في طلب الفارين من هوازن يوم حنين إلى أوطاس" صلة الفارين، أي بعثه إلى من فر إلى أوطاس بفتح الهمزة، وسكون الواو، وطاء وسين مهملتين، "وهو" كما قال أبو عبيد البكري: "واد في ديار هوازن" قال: وهناك عسكروا هم وثقيف، ثم التقوا بحنين، وقال عياض: هو موضع حرب حنين، قال الحافظ: هذا الذي قاله، ذهب إليه بعض أهل السير، والراجح أن وادي أوطاس غير وادي حنين، ويوضحه ما ذكره ابن إسحاق: أن الوقعة كانت في وادي حنين، وأن هوازن لما انصرفوا صارت طائفة إلى الطائف, وطائفة إلى نخلة، وطائفة إلى أوطاس.
هكذا في الفتح عن عياض: حرب بالحاء المهملة، وكذا يأتي اعتراضه عليه، وتصحف على من قرأه قرب بقاف، وأجاب أنه لا يخالف الراجح؛ لأن غاية ما فيه أنه مع مغايرته لحنين قريب منها، "وكان معه سلمة بن الأكوع" الفارس المشهور "فانتهى إليهم، فإذا هم مجتمعون".
قال ابن إسحاق: فأدرك بعض من انهزم، فناوشوه القتال، "فقتل منهم أبو عامر تسعة إخوة(3/532)
مبارزة بعد أن يدعو كل واحد منهم إلى الإسلام، ويقول: اللهم اشهد عليه، ثم برز له العاشر فدعاه إلى الإسلام وقال اللهم اشهد عليه، فقال اللهم لا تشهد عليّ فكف عنه أبو عامر ظنا منه أنه أسلم فأفلت, ثم أسلم بعد فحسن إسلامه فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رآه قال: "هذا شريد أبي عامر".
ورمى أبا عامر ابنا الحارث: العلاء وأوفى, فقتلاه.
__________
مبارزة بعد أن يدعو كل واحد منهم إلى الإسلام، ويقول: اللهم اشهد عليه" بأني دعوته إلى الإسلام، فلم يجب، كأنه أراد إظهار العذر في قتله، "ثم برز له العاشر".
قال ابن سعد: معمما بعمامة صفراء، "فدعاه إلى الإسلام وقال: اللهم اشهد عليه، فقال: اللهم لا تشهد عليّ، فكف عنه أبو عامر ظنا منه أنه أسلم فأفلت، ثم أسلم بعد، فحسن إسلامه, فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رآه قال: "هذا شريد" بالراء، ووقع في خط الحافظ بالهاء بدلها، وهو سبق قلم، فالذي في سيرة ابن إسحاق التي هو ناقل عنها بالراء، وهو الوجيه، وبالهاء لا وجه له، "أبي عامر".
هكذا ذكره ابن هشام عمن يثق به، وجزم الواقدي وابن سعد، بأن العاشر المذكور لم يسلم، وأنه قتل أبا عامر، "و" اختلف في قاتل أبي عامر، فقال ابن هشام: حدثني من أثق به، قال: "رمى أبا عامر ابنا الحارث" بن جشم بن معاوية، وهما "العلاء" بفتح العين، "وأوفى" قال الحافظ: وفي نسخة ووافى بدل أوفى، فأصاب أحدهما قلبه، والآخر ركبته، "فقتلاه" فقتلهما أبو موسى، فرثاهما بعضهم بأبيات منها:
هما القاتلان أبا عامر
وقال ابن إسحاق: زعموا أن سلمة بن دريد بن الصمة هو الذي رمى أبا عامر بسهم، فأصاب ركبته، فقتله قل الحافظ ويؤيده ما روه الطبراني، وابن عائذ بإسناد حسن عن أبي موسى: لما هزم الله المشركين يوم حنين بعث صلى الله عليه وسلم على خيل الطلب أبا عامر وأنا معه، فقتل ابن دريد أبا عامر، فعدلت إليه فقتلته وأخذت اللواء.
وعند ابن إسحاق أيضا أنه قتله عاشر الإخوة الذي أسلم بعد، وهذا يخالف الحديث الصحيح في أن أبا موسى قتل قاتل أبي عامر، وهو أولى بالقبول، ولعل الذي ذكره ابن إسحاق شارك في قتله. انتهى، وانتقده الشامي: بأن ما نسبه لابن إسحاق ليس في رواية البكائي، وإنما زاده ابن هشام عن بعض من يثق به، ولم يذكر أن العاشر قتل أبا عامر أصلا، بل قال: رماه أخوان، والحافظ قلد القطب الحلبي دون مراجعة السير، كذا قال: وفيه أن اتفاق مثل هذين الحافظين(3/533)
فخلفه أبو موسى الأشعري فقاتلهم حتى فتح الله عليه.
وكان في السبي الشيماء أخته عليه الصلاة والسلام من الرضاعة.
__________
على نقله لا يتجه رده بما قال، فإن رواة سيرة ابن هشام متعددون، فهو قطعا في رواية يونس الشيباني وإبراهيم بن سعد أو غيرهما عنه، "فخلفه أبو موسى الأشعري" باستخلافه، كما في الصحيح، وبه جزم ابن سعد، فقول ابن هشام: وولى الناس أبا موسى، أي أقروه على استخلاف عمه، "فقاتلهم حتى فتح الله عليه" بأن هزم المشركين، وظفر المسلمون بالغنائم والسبايا.
"وكان في السبي الشيماء" بفتح المعجمة وسكون التحتية، ويقال فيها: الشماء بلا ياء ابنة الحارث بن عبد العزى السعدية، ذكرها أبو نعيم وغيره في الصحابة، وقدمت الخلاف في أن اسمها جدامة بضم الجيم ودال مهملة وميم, أو حذافة بحاء مهملة مضمومة وذال معجمة مفتوحة وفاء, أو خذامة بخاء مكسورة وذال معجمتين, "أخته عليه الصلاة والسلام من الرضاعة" من جهة أنه عليه الصلاة والسلام رضع أمها بلبان أبيها.
ذكر ابن إسحاق والواقدي وغيره أنه صلى الله عليه وسلم قال يوم حنين: "إن قدرتم على بجاد". رجل من بني سعد "فلا يفلتنكم" وكان أحدث حدثا عظيما: أتاه مسلم فقطعه عضوا عضوا، ثم أحرقه بالنار، فظفروا به، فساقوه وأهله، وساقوا معه الشيماء، وأتعبوها في السير، فقالت: تعلموا والله إني أخت صاحبكم من الرضاعة، فلم يصدقوها، فلما انتهوا بها إليه صلى الله عليه وسلم، قالت: يا رسول الله إني أختك، قال: "وما علامة ذلك" قالت: عضة عضضتنيها في ظهري وأنا متوركتك، فعرف العلامة فبسط لها رداءه، فأجلسها عليه، ورحب بها، ودمعت عيناه، وقال لها: "إن أحببت فعندي محببة مكرمة، وإن أحببت أن أمتعك، وترجعي إلى قومك فعلت". فقالت: بل تمتعني وتردني إلى قومي، فأسلمت, قال ابن إسحاق: فأعطاها جارية، وغلاما اسمه مكحول، فزوجته بها، فلم يزل فيهم من نسلهما بقية، ومكحول صحابي، كما في الإصابة, وعند الواقدي فأعطاها ثلاثة أعبد، وجارية، وأمر لها ببعير أو بعيرين، وقال لها: "ارجعي إلى الجعرانة تكونين مع قومك، فإني أمضي إلى الطائف"، فرجعت إليها ووافاها بها، فأعطاها نعما وشاء ولمن بقي من أهل بيتها، وكلمته في بجاد أن يهبه لها، ويعفو عنه، ففعل صلى الله عليه وسلم.
هذا وما وقع عند الواقدي أنه صلى الله عليه وسلم سألها عن أبويها، فأخبرته أنهما ماتا لا يصح, فقد روى أبو داود، وأبو يعلى وغيرهما، عن أبي الطفيل أنه صلى الله عليه وسلم كان بالجعرانة يقسم لحما، فأقبلت امرأة بدوية، فلما دنت منه بسط لها رداءه، فجلست عليه، فقلت: من هذه؟ قالوا: أمه التي أرضعته، وذكر ابن إسحاق أن زوجها الحارث عاش بعده عليه السلام، والواقدي لا يحتج به إذا انفرد، فكيف(3/534)
وقتل قاتل أبي عامر, فقال صلى الله عليه وسلم: "اللهم اغفر لأبي عامر واجعله من أعلى أمتي في الجنة".
وفي البخاري قال -يعني: أبا عامر لأبي موسى الأشعري، لما رمي بالسهم: يابن أخي! أقرئ النبي صلى الله عليه وسلم السلام، وقل له: يستغفر لي, ثم مات، فرجعت فدخلت على النبي صلى الله عليه وسلم.
__________
إذا خالف، "وقتل" بالبناء للفاعل عطفا على خلف، أي أبو موسى "قاتل أبي عامر، فقال صلى الله عليه وسلم" لما بلغه: "اللهم اغفر لأبي عامر واجعله من أعلى أمتي في الجنة".
ذكره ابن سعد "وفي البخاري" عن أبي موسى الأشعري: لما فرغ صلى الله عليه وسلم من حنين بعث أبا عامر على جيش إلى أوطاس، فلقي دريد بن الصمة، فقتل دريد، وهزم الله أصحابه، قال أبو موسى: وبعثني مع أبي عامر، فرمي أبو عامر في ركبته، رماه جشمي بسهم فأثبته في ركبته، قال أبو موسى: فانتهيت إليه، فقلت: يا عم من رماك؟ فأشار إليّ, فقال: ذاك قاتلي الذي رماني، فلحقته، فلما رآني ولى، فأتبعته، وجعلت أقول له: ألا تستحيي؟ ألا تثبت؟ فكف، فاختلفنا ضربتين بالسيف، فقتلته، ثم قلت لأبي عامر: قتل الله قاتلك، قال: فانزع مني السهم، فنزعته فنزا منه الماء "قال: يعني أبا عامر لأبي موسى الأشعري لما رمي بالسهم" هذا كله من المصنف بيان للقائل والمقول له، لحذفه صدر الحديث المذكور "يابن أخي أقرئ النبي صلى الله عليه وسلم السلام" عني، "وقل له: يستغفر لي".
قال المصنف كذا بالياء مصححا عليه: وفي الفرع، فليستغفر بلفظ الطلب والمعنى أن أبا عامر سأل أبا موسى أن يسأل له النبي صلى الله عليه وسلم أن يستغفر له، وأسقط المصنف هنا من البخاري ما لفظه: واستخلفني أبو عامر على الناس، فمكث يسيرا، "ثم مات، فرجعت فدخلت على النبي صلى الله عليه وسلم".
زاد في رواية ابن عائذ: فلما رآني صلى الله عليه وسلم معي اللواء قال: "يا أبا موسى قتل أبو عامر" , وحذف المصنف من البخاري ما لفظه في بيته على سرير مرمل، وعليه فراش قد أثر، ورمال السرير بظهره وجنبه.
قال المصنف: مرمل بضم الميم الأولى وكسر الثانية بينهما راء ساكنة، ولأبي ذر: بفتح الراء والميم الثانية مشددة منسوج بحبل ونحوه. انتهى.
وجزم الحافظ بضبط أبي ذر، فقال: مرمل براء مهملة، ثم ميم ثقيلة، أي معمول بالرمال، وهي حبال الحصر التي يضفر بها الأسرة قال ابن التين: أنكره الشيخ أبو الحسن، وقال: الصواب ما عليه فراش، فسقطت ما. انتهى، وهو إنكار عجيب، فلا يلزم من كونه رقد على غير فراش في(3/535)
فأخبرته بخبرنا وخبر أبي عامر، وقال: قل له: استغفر لي، فدعا بماء فتوضأ، ثم رفع يديه وقال: "اللهم اغفر لعبيد أبي عامر". ورأيت بياض إبطيه, ثم قال: "اللهم اجعله يوم القيامة فوق كثير من خلقك". فقلت: ولي فاستغفر. قال: "اللهم اغفر لعبد الله بن قيس ذنبه وأدخله يوم القيامة مدخلا كريما". قال أبو بردة: إحداهما لأبي عامر والأخرى لأبي موسى.
__________
قصة عمر أنه لا يكون على سريره دائما فراش. انتهى.
من الفتح لكن قال الشامي يؤيد أبا الحسن: وأظنه ابن بطال أو القابسي قول أبي موسى: قد أثر رمال السرير بظهره وجنبه. انتهى، وقد لا يؤيده لرقة الفراش، فلا يمنع تأثير الرمال، فالحاصل على هذا دفع دعوى الخطأ عن الرواية، "فأخبرته بخبرنا وخبر أبي عامر، وأنه قال: قل له استغفر لي، فدعا بماء فتوضأ، ثم رفع يديه" فيه استحباب الوضوء لإرادة الدعاء، ورفع اليدين فيه خلافا لمن خصه بالاستسقاء، وقال: "اللهم اغفر لعبيد أبي عامر". بدل من عبيد، جمع بين اسمه وكنيته، وفي نسخ لعبيدك بزيادة كاف من تحريف الجهال، فالثابت في البخاري بدون كاف وهو اسمه كما مر، "ورأيت بياض إبطيه", ثم قال: "اللهم اجعله يوم القيامة في الجنة فوق كثير". في المرتبة "من خلقك" من الناس حذفها البخاري، وقال في شرحها بيان للسابقة؛ لأن الخلق أعم، ولأبي ذر: ومن الناس, قال أبو موسى: "فقلت: ولي فاستغفر" يا رسول الله! قال: "اللهم اغفر لعبد الله بن قيس ذنبه وأدخله يوم القيامة مدخلا" بضم الميم، ويجوز فتحها وكلاهما بمعنى المكان والمصدر "كريما" حسنا "قال أب بردة" عامر أو الحارث بن أبي موسى راوي الحديث المذكور عن أبيه ثقة مات سنة أربع ومائة، وقيل غير ذلك، وقد جاوز الثمانين: "إحداهما" أي الدعوتين "لأبي عامر، والأخرى لأبي موسى" أي الأخيرة وهذا ظاهر جدا.
وسيذكر المصنف قريبا بعد الطائف قسم غنائم حنين بعد استثنائه عليه السلام رجاء قدوم هوازن، ثم يذكر في الوفود قدومهم عليه صلى الله عليه وسلم مسلمين في شوال بعد انصرافه من الطائف، وقسم غنائمهم، وأنه خيرهم بين رد المال، وبين السبايا، فاختاروا السبايا، فشفع لهم صلى الله عليه وسلم عند أصحابه في ذلك، فطابت نفوسهم، وقالوا كلهم: ما كان لنا فهو لله ولرسوله، فرد عليهم سباياهم، ويأتي ذكر قصيدة خطيبهم زهير بن صرد:
امتن علينا رسول الله في كرم
بتمامها فلم يستوف المصنف هنا تعلقات الغزوة، وللناس فيما يعشقون مذاهب.(3/536)
فهرس الجزء الثالث من المواهب اللدنية:
الفهرس:
3 غزوة المريسيع
17 غزوة الخندق وهي الأحزاب
65 غزوة بني قريظة
101 سرية القرطاء وحديث ثمامة
106 غزوة بني لحيان
109 غزوة ذي قرد, غزوة الغابة
119 سرية الغمر
120 سرية ابن مسلمة إلى ذي القصة
123 سرية زيد إلى الجموم
124 سرية زيد إلى العيص
128 سريته للطرف
129 سريته إلى حسمى
133 سرية زيد أيضا إلى وادي القرى
133 سرية دومة الجندل
136 سرية علي إلى بني سعد
137 سرية زيد إلى أم قرفة
141 قتل أبي رافع
152 سرية ابن رواحة
155 قصة عكل وعرينة
166 بعث الضمري ليغتال أبا سفيان
169 أمر الحديبية
243 غزوة خيبر
301 فتح وادي القرى
304 ذكر خمس سرايا بني خيبر والعمرة(3/539)
المجلد الرابع
تابع كتاب المغازي
حرق ذي الكفين
...
تابع كتاب المغازي:
بسم الله الرحمن الرحيم
[حرق ذي الكفين] :
ثم سرية الطفيل بن عمرو الدوسي إلى ذي الكفين، صنم من خشب، كان لعمر بن حممة في شوال -لما أراد عليه الصلاة والسلام السير إلى الطائف- ليهدمه ويوافيه بالطائف.
فخرج سريعا فهدمه وجعل يحش النار في وجهه ويحرقه يقول:
يا ذا الكفين.
__________
حرق ذي الكفين
"ثم سرية الطفيل"، بضم الطاء المهملة، وفتح الفاء وسكون التحتية، "ابن عمرو" بن طريف بن العاصي بن ثعلبة بن سليم بن فهم بن غنم بن دوس، "الدوسي،" وقيل: هو ابن عبد عمرو بن عبد الله بن ملك بن عمرو بن فهم المذكور، وقيل: هو الطفيل بن عمرو بن حممة.
قال ابن سعد وابن حبان: أسلم بمكة، ورجع إلى بلاد ثم وافاه صلى الله عليه وسلم في عمرة القضية، وشهد فتح مكة، وقال ابن أبي حاتم: قدم عليه مع أبي هريرة بخيبر، لقبه ذو النور، براء في آخره؛ لأنه لما وفد ودعا صلى الله عليه وسلم لقومه، فقال له: ابعثني إليهم، واجعل لي آية، فقال: "اللهم نور له"، فسطع نور بين عينيه، فقال: يا رب أخاف أن يقولوا مثله، فتحول إلى طرف سوطه، فكان يضيء له في الليلة المظلمة.
ذكره هشام بن الكلبي في قصة طويلة فيها أنه: دعا قومه إلى الإسلام، فأسلم أبوه، ولم تسلم أمه، وأجابه أبو هريرة وحده.
قال الحافظ: وهذا يدل على قدم إسلامه، وجزم ابن أبي حاتم، بأنه قدم مع أبي هريرة بخيبر وكأنها قدمته الثانية، وقال ابن سعد وابن الكلبي: استشهد باليمامة، وقال ابن حبان: باليرموك، وقيل: بأجنادين في خلافة أبي بكر، ذكره ابن عقبة عن الزهري وأبو الأسود، عن عروة "إلى ذي الكفين" بلفظ تثنية كف، "صنم من خشب كان لعمر بن حممة،" بضم المهملة وفتح الميمين، كان حاكما على دوس ثلثمائة سنة، فيما ذكر ابن الكلبي "في شوال لما" حين "أراد عليه الصلاة والسلام السير إلى الطائف ليهدمه،" وعند ابن إسحاق أنه قال: يا رسول الله ابعثني إلى ذي الكفين حتى أحرقه، وعند ابن سعد وأمره أن يستمد قومه، "ويوافيه بالطائف، فخرج سريعا، فهدمه، وجعل يحش" بفتح الياء وضم المهملة، وشد المعجمة "النار في وجهه،" أي يلقيها عليه، "ويحرقه،" أي يوصل النار إلى بقيته، "ويقول: "يا ذا الكفين" ".
قال السهيلي: بالتشديد، فخفف للضرورة، وقيل: هو مخفف، فإن صح فهو محذوف(4/3)
لست من عبادكا ... ميلادنا أقدم من ميلادكا
إني حشوت النار في فؤادكا
وانحدر معه من قومه أربعمائة سراعا، فوافوا النبي صلى الله عليه وسلم بعد مقدمه بأربعة أيام، وعند مغلطاي: وقدم معه أربعة مسلمون.
__________
اللام، كأنه تثنية كفء، من كفأت الإناء أو كف بمعنى كفء، ثم سهلت الهمزة، وألقيت حركتها على الفاء، كما يقال: الخب والخبء انتهى.
"لست من عبادكا" بألف الإطلاق فيه، وفيما بعده "ميلادنا" زمان ولادتنا أيها النوع الإنساني "أقدم من ميلادكا" زمان ولادتك، فكيف تصلح لعبادتنا إياك مع أن وجودك بفعلنا "إني حشوت النار في فؤادكا" جوفك تشبيها له بقلب الحيوان، وإن كان جمادا لا قلب له لكونه مصورا، "وانحدر معه من قومه أربعمائة سراعا" وكان الطفيل مطاعا في قومه، شريفا شاعرا لبيبا، كما عند ابن إسحاق، "فوافوا النبي صلى الله عليه وسلم بعد مقدمه" الطائف "بأربعة أيام".
هكذا ذكر ابن سعد "وعند مغلطاي، وقدم معه أربعة مسلمون"، فهذا تباين زائد إلا أن يقال: أن الباقي أسلموا بعد القدوم، وذكر ابن سعد أنه قدم بدبابة، ومنجنيق، وقال: يا معشر الأزد من يحمل رايتكم، فقال الطفيل: من كان يحملها في الجاهلية، النعمان بن الرازية اللهبي، قال: أصبتم دبابة بمهملة مفتوحة، فموحدة مشددة، فألف، فموحدة، فتاء تأنيث، آلة يدخل فيها الرجال، فيدبون فيها النقب الأسوار الرازية، براء، فألف، فزاي مكسورة، فتحتية، وتأتي قصة دوس في الوفود، والله تعالى أعلم.(4/4)
[غزوة الطائف] :
ثم غزوة الطائف، وهي بلد كبير، على ثلاث مراحل أو اثنتين من مكة، من جهة المشرق، كثيرة الأعناب والفواكه.
__________
غزوة الطائف:
"ثم غزوة الطائف، وهي" كذا في النسخ بالتأنيث، والذي في الفتح، وهو "بلد كبير على ثلاث مراحل، أو اثنتين من مكة من جهة المشرق،" متعلق بكل من ثلاث، أو اثنتين ولك الجمع بأن الثلاث من عمران مكة والاثنتين من آخر ما ينتهي إليها من توابعها المنسوبة إليها، وكأنه تقريب على كلا القولين، "كثيرة الأعناب" جمع عنب واحدة عنبة، "والفواكة،" وهي ما يتفكه، أي يتنعم بأكله رطبا كان أو يابسا، كتين وعنب وبطيخ وزبيب ورطب ورمان، فهو عطف عام(4/4)
وقيل: إن أصلها أن جبريل -عليه السلام- اقتلع الجنة التي كانت لأصحاب الصريم، فسار بها إلى مكة، فطاف بها حول البيت ثم أنزلها حيث الطائف، فسمي الموضع، وكانت أولا بنواحي صنعاء.
__________
على خاص، غير أن الذي في الفتح، وتبعه الشامي كثير الأعناب والنخيل.
قال في القاموس: سمي بذلك؛ لأنه طاف على الماء في الطوفان، أو؛ لأن جبريل طاف بها على البيت، أو؛ لأنها كانت بالشام، فنقلها الله إلى الحجاز بدعوة إبراهيم، أو؛ لأن رجلا من الصدف أصاب دما بحضرموت، ففر إلى وج، وحالف مسعود بن معتب، وكان له مال عظيم، فقال: هل لكم أن أبني لكم طوفا عليكم يكون لكم ردأ من العرب، فقالوا: نعم، فبناه وهو الحائط المطيف به. ا. هـ.
فهذه أربعة أقوال في سبب التسمية، "وقيل" خامس هو: "إن أصلها، أي تسمية البلدة بذلك "أن جبريل عليه السلام اقتلع الجنة التي كانت،" أي البستان الذي كان بصوران على فرسخ من صنعاء، كما في الروض وفي الأنوار أنها دون صنعاء بفرسخين "لأصحاب الصريم" البستان المقطوع ثمره سماه صريما؛ لأنه لما حل به البلاء صار لا ثمر له، والإضافة لأدنى ملابسة لشبه جنتهم به، فجعلوا أصحابه تجوزا، وإلا فهم ليسوا أصحابا له، بل هو مشبه به، كما دل عليه قوله تعالى: {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ، وَلَا يَسْتَثْنُونَ، فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ، فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ} , [القلم: 17] قال البيضاوي: البستان الذي صرم ثماره بحيث لم يبق فيه شيء، فعيل بمعنى مفعول، أو كالليل باحتراقها وإسودادها، أو كالنهار بابيضاضها من فرط اليبس سميا بالصريم؛ لأن كلا منهما ينصرف عن صاحبه أو كالرماد. ا. هـ.
وفي النهر قال ابن عباس: كالرماد الأسود والصريم الرماد الأسود بلغة خزيمة. ا. هـ. "فسار بها إلى مكة فطاف بها حول البيت، ثم أنزلها حيث الطائف" أي في المكان الذي فيه هذا البلد، لا يقال: على أنها احترقت وصدر به ابن عطية، واقتصر عليه الجلال كيف نقلها جبريل؛ لأنه يحتمل أنه لما أراد اقتلاعها، وطاف بها، عادت كما كانت أو أعظم، أو أنه لما اقتلعها حرق موضعها، وقد يدل له تسفير الصريم بالرماد الأسود، والعلم عند الله، "فسمي الموضع" الذي هو البلد الكبير، وما تبعه من القرى، وبهذا وافق قول القاموس الطائف بلاد ثقيف في واد أول قراها لقيم وآخرها الوهط، "وكانت أولا" قبل النقل "بنواحي صنعاء" على فراسخ منها بصوران، ومن ثم كان الشجر والماء بالطائف دون ما حولها، وكانت قصة أصحاب الجنة بعد عيسى ابن مريم بيسير، ذكر هذا الخبر كله النقاش وغيره، كما في الأرض، فلا يعترض بأن القاموس لم يذكره، وذكر أبو عبيدة البكري: أن أصل أعنابها أن قيس بن منبه، وهو ثقيف أصاب دما في قومه إياد(4/5)
واسم الأرض: وج، بتشديد النجم المضمومة.
سار إليها النبي صلى الله عليه وسلم في شوال سنة ثمان، حين خرج من حنين.
وحبس الغنائم بالجعرانة.
وقدم خالد بن الوليد على مقدمته، وكانت ثقيف لما انهزموا من أوطاس دخلوا حصنهم.
__________
ففر إلى الحجاز، فمر بيهودية، فآوته واقام عندها زمانا، ثم انتقل، فأعطته قصبا من الحبلة وأمرته بغرسها، فأتى بلاد عدوان، وهم سكان الطائف حينئذ، فمر بسخيلة جارية عامر بن الظرب، وهي ترعى غنما، فأراد سباءها، وأخذ الغنم، فقالت: ألا أدلك على خير من ذلك، أقصد سيدي وجاوره، فإنه أكرم الناس، فأتاه، فزوجه ابنته زينب، فلما جلت عدوان عن الطائف بالحروب التي كانت بينها أقام ثقيف، فتناسل أهل الطائف منه، وسمى قيسا لقساوة قلبه حين قتل أخاه، أو ابن عمه، وسمي ثقيفا لقولهم فيه: "ما أثقفه حين ثقف عامرا حتى آمنه وزوجه بنته، "واسم الأرض وج بتشديد الجيم" قبلها واو مفتوحة، سميت برجل، وهو ابن عبد الحي من العمالقة، وهو أول من نزلها، قاله في فتح اللباب، كجميع ما ذكره المصنف، من أوله، وفي الروض قيل: وج هو الطائف، وقيل: اسم لواد بها، ويشهد له قول أمية بن الأشكر حيث قال:
إذا يبكي الحمام ببطن وج ... على بيضاته بكيا كلانا
وقول الآخر:
أتهدي لي الوعيد ببطن وج ... كأني لا أراك ولا تراني
ويقال: بتخفيف الجيم والصواب تشديدها، ويقال: وج وأج بالهمزة بدل الواو، قاله يعقوب في كتاب الأبدال. ا. هـ.
"سار إليها النبي صلى الله عليه وسلم في شوال سنة ثمان،" قاله موسى بن عقبة، وجمهور أهل المغازي، وقيل: بل وصل ليها في أول ذي القعدة، كما في الفتح "حين خرج من حنين، وحبس الغنائم بالجعرانة" بكسر الجيم، وسكون العين المهملة، وقد تكسر، وتشديد الراء، قاله ابن إسحاق: وجعل صلى الله عليه وسلم على الغنائم مسعود بن عمرو الغفاري، وقال البلاذري: بديل بن ورقاء الخزاعي.
وروى عبد الرزاق من مرسل بن المسيب: جعل عليها أبا سفيان بن حرب وفيه نظر، فإنه شهد الطائف، كما يأتي فإن صح، فكأنه جعله عليها أولا، ثم بدا له فجعل غيره وسار هو معه.
"وقدم خالد بن الوليد على مقدمته" في ألف من أصحابه، وقيل: مائة من بني سليم، فإنه صح، فباقي الألف من غيرهم، "وكانت ثقيف لما انهزموا من أوطاس دخلوا حصنهم بالطائف،(4/6)
ورموه بالطائف، وأغلقوه عليهم بعد أن أدخلوا فيه ما يصلحهم لسنة، وتهيئوا للقتال.
وسار صلى الله عليه وسلم فمر في طريقة بقبر أبي رغال، وهو أبو ثقيف -فيما يقال- فاستخرج منه غصنا من ذهب.
__________
ورموه "بشد الميم، "وأغلقوه عليهم بعد أن أدخلوا فيه ما يصلحهم من القوت لسنة، وتهيئوا للقتال" فأعدوا سككا من حديد، وجمعوا حجارة كبيرة، وأدخلوا معهم عقيلا وغيرهم من العرب، وأمروا سرحهم أن يرتع في موضع يأمنون فيه، وقاموا على حصنهم بالسلاح والرجال فدنا خالد، فدار بالصحن، ونظر إلى نواحيه، ثم وقف في ناحية، فنادى بأعلى صوته، ينزل إلى أحدكم أكلمه، وهو آمن حتى يرجع أو اجعلوا لي مثل ذلك، وأدخل عليكم أعلمكم، فقالوا: لا ينزل إليك رجل منا ولا تصل إلينا يا خالد، إن صاحبكم لم يلق قوما يحسنون قتاله غيرنا.
قال خالد فاسمعوا من قولي: نزل صلى الله عليه وسلم بأهل الحصون والقوة بيثرب وخيبر، وبعث رجلا واحدا إلى فدك، فنزلوا على حكمه، وأنا أحذركم مثل يوم قريظة حصرهم أيامًا، ثم نزلوا على حكمه فقتل مقاتلهم في صعيد واحد، وسبى الذرية، ثم فتح مكة، وأوطا هوازن في جمعها وإنما أنتم في حصن في ناحية من الأرض لو ترككم لقتلكم من حولكم ممن أسلم، قالوا: لا نفارق ديننا فرجع خالد إلى المقدمة، كذا ذكر الواقدي ومن تبعه "وسار صلى الله عليه وسلم فمر في طريقه بقبر أبي رغال،" بكسر الراء وغين معجمة، ولام "وهو أبو ثقيف فيما يقال" في تمريضه شيء، فقد ثبت مرفوعا.
أخرج ابن إسحاق وأبو داود البيهقي عن ابن عمر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول حين خرجنا معه إلى الطائف، فمررنا بقبر فقال: "هذا قبر أبي رغال"، وهو أبو ثقيف، وكان من ثمود كان بهذا الحرم يدفع عنه، فلما خرج أصابته النقمة التي أصابت قومه بهذا المكان فدفن فيه "وآية ذلك أن دف معه غصن من ذهب إن أنتم نبشتم عنه أصبتموه" فابتدره الناس، فاستخرجوا منه الغصن، وأخطأ من قال: أن أبا رغال هذا هو دليل أبرهة حين مر على الطائف إلى مكة، فإن بين مولده صلى الله عليه وسلم وبين هلاك ثمود ألوفا من السنين، وإنما دليل أبرهة شاركه في الاسم، "فاستخرج منه غصنا،" بضم المعجمة، وأحد الأغصان، وهي أطراف الشجر، والمراد به هنا قضيب "من ذهب" كان يتوكأ عليه، وكان نحو نيف وعشرين رطلا فيما قيل، ونسب الاستخراج إليه؛ لأنه الذي نبه عليه، وخيرهم في إخراجه لا أنه أخرجه بنفسه ولا بأمره، ومر في طريقه بحصن ملك النصري قائد هوازن، وكان يليه بكسر اللام، وخفة التحتية على أميال من الطائف، فأمر بهدمه،(4/7)
ونزل قريبا من الحصن وعسكر هناك، فرموا المسلمين بالنبل رميا شديدا، كأنه رجل جراد، حتى أصيب ناس من المسلمين بجراحة وقتل منهم اثنا عشر رجلا منهم: عبد الله بن أبي أمية.
__________
فهدم، ثم سار حتى نزل تحت سدرة قريبا من مال رجل من ثقيف قد تمنع، فأرسل إليه إما أن تخرج، وإما أن يحرق عليك حائطك، فأبى أن يخرج، فأمر بإحراقه ذكره ابن إسحاق.
قال: "و" سار بعد ذلك حتى "نزل قريبا من الحصن"، ولا مثل له في حصون العرب، "وعسكر هناك"، وأشرفت ثقيف، وأقاموا رماتهم، وهم مائة، "فرموا المسلمين بالنبل رميا شديدا، كأنه رجل" بكسر الراء وسكون الجيم "جراد" يعني أن السهام لكثرتها صارت كجماعة الجراد المنتشر، والإضافة بيانية، أي رجل هو الجراد وجرد رجل عن معناه، فأضيف إذ هو الجماعة الكثيرة من الجراد خاصة.
وذكر أهل المغازي أنهم رموا بالنبل والمقاليع من بعده من الحصن، ومن دخل تحته دلوا عليه سكك الحديد محماة بالنار يطير منها الشرر، وقال عمرو بن أمية الثقفي وأسلم بعد ذلك، ولم يكن عند العرب أدهى منه: لا يخرج إلى محمد أحد إذا دعا أحد من أصحابه إلى البراز، ودعوه يقيم ما أقام، فنادى خالد من يبارز مرتين، فلم يجب، ونادى عبد يا ليل لا ينزل إليك أحد، ولكنا نقيم في حصننا، خبأنا فيه ما يصلحنا لسنين، فإن أقمت حتى يذهب ذلك الطعام خرجنا إليك جميعا بأسيافنا حتى نموت من آخرنا، فقاتلهم صلى الله عليه وسلم بالرمي عليهم، وهم يقاتلونه بالرمي من وراء الحصن، ولم يخرج إليه أحد، وكثرت الجراحات "حتى أصيب قوم من المسلمين بجراحة، وقتل منهم اثنا عشر رجلا منهم" كما قال ابن إسحاق، والبخاري وغيرهما "عبد الله بن أبي أمية" المخزومي أخو أم سلمة لأبيها المسلم في الفتح، وهو ابن عمته عاتكة. وحكمة النص عليه بيان ما أراد الله به من الخير بحيث صحب، وصار في زمرة الشهداء بعدما كان منه ما كان من شدة الأذى للمصطفى صلى الله عليه وسلم والمسلمين، فسبقت له السعادة، وتمت له السيادة، وسعيد بن سعيد بن العاصي الأموي، وعرفطة، بضم المهملة، وسكون الراء، وضم الفاء، وطاء مهملة، ابن حباب بضم المهملة، وخفة الموحدة عند موسى بن عقبة وابن هشام.
وقال ابن إسحاق: ابن جناب بجيم ونون الأزدي، وعبد الله بن عامر بن ربيعة حليف بني مخزوم، والسائب وعبد الله ابنا الحارث بن قيس السهمي، وجليحة بضم الجيم، وفتح اللام، وسكون التحتية، وحاء مهملة ابن عبد الله، ومن الأنصار ثابت بن الجزع، بفتح الجيم، والمعجمة، وبالمهملة، واسمه ثعلبة السلمي والحارث بن سهل، والمنذر بن عبد الله، ورقيم بن ثابت.(4/8)
ورمي عبد الله بن أبي بكر الصديق يومئذ بجرح فاندمل، ثم نقض بعد ذلك فمات منه في خلافة أبيه.
وارتفع صلى الله عليه وسلم إلى موضع مسجد الطائف اليوم، وكان معه من نسائه أم سلمة وزينب، فضرب لهما قبتين، وكان يصلي بين القبتين حصار الطائف كله.
فحاصرهم ثمانية عشر يوما،
__________
ذكره ابن إسحاق هنا، وتبعه اليعمري مع من ذكره في شهداء حنين تبعا لابن سعد لما جرت به عادة العلماء، أنهم إذا مشوا في محل على قول، وفي محل على آخر لا يعد تناقضا، وقول الشامي تبع هناك ابن إسحاق، وهنا ابن سعد سبق قلم، فإن ابن إسحاق إنما ذكر رقيما هنا، لا هناك، ويزيد بن زمعة بفتح الزاي وسكون الميم ابن الأسود جمح به فرسه إلى حصن الطائف فقتله، ذكره ابن سعد وأما ابن إسحاق فعده في شهداء حنين وعبد الله بن أبي بكر عده ابن إسحاق وأتباعه في الاثني عشر، لكنه ليس بشهيد عند جماعة كالشافعية والمالكية لبقائه بعد الحرب مدة طويلة، ومن ثم غير المصنف الأسلوب، فلم يقل ومنهم بل أخبر بما جرى له فقال: "ورمى عبد الله بن أبي بكر الصديق يومئذ" بسهم "فجرح فاندمل" جرحه، "ثم نقض بعض ذلك فمات منه في خلافة أبيه" رضي الله عنهم أجمعين فهؤلاء ثلاثة عشر لكن في واحد خلاف فابن إسحاق يعد رقيما هنا، ويسقط يزيد وابن سعد بعده ويسقط رقيما، واتفقا على عد ابن الصديق.
"وارتفع صلى الله عليه وسلم" بعد قتل هؤلاء "إلى موضع مسجد الطائف اليوم" الذي بناه عمرو بن أمية بن وهب بن متعب بن مالك لما أسلمت ثقيف، وكان فيه سارية فيما يزعمون لا تطلع عليها الشمس يوما من الدهر إلا سمع لها نقيض أكثر من عشر مرات، وكانوا يرون أن ذلك نبيح ذكره ابن إسحاق، وغيره نقيض بنون، وقاف وتحتية، ومعجمة صوت، "وكان معه من نسأله أم سلمة وزينب" اللتان خرج بهما من المدينة لما سار للفتح، "فضرب لهما قبتين خيمتين، ونص عليهما هنا لئلا يتوهم أنه تركهما بمكة حين فتحت، "وكان يصلي بين القبتين حصار، أي مدة حصار "الطائف كله" فبنت ثقيف لما أسلمت ذلك المسجد في موضع مصلاه، كما عنده ابن إسحاق، فحاصرهم ثمانية عشر يوما، ويقال: خمسة عشر يوما" حكاهما ابن سعد، وقال ابن إسحاق في رواية زياد: بضعا وعشرين ليلة، وقال في رواية يونس: حدثني عبد الله بن أبي بكر وعبد الله بن المكرم عمن أدركوا من العلماء أنه حاصرهم ثلاثين ليلة أو قريبا من ذلك قال ابن هشام: ويقال: سبع عشرة ليلة، وقيل: عشرين يوما، وقيل: بضع عشرة ليلة.
قال ابن حزم: وهو الصحيح بلا شك، وروى أحمد ومسلم في حديث أنس: أنهم(4/9)
ويقال: خمسة عشر يوما، ونصب عليهم المنجنيق وهو أول منجنيق رمي به في الإسلام، وكان قدم به الطفيل الدوسي معه لما رجع من سرية ذي الكفين، فرمتهم ثقيف بالنبل فقتل منهم رجال، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقطع أعنابهم وتحريقها، فقطع المسلمون قطعا ذريعا، ثم سألوه أن يدعها لله وللرحم، فقال عليه الصلاة والسلام
__________
حاصروا الطائف أربعين ليلة، ورواه ابن مسعود عن مكحول: أنه صلى الله عليه وسلم نصب المنجنيق على أهل الطائف أربعين يوما، قال ابن كثير: وهذا غريب. ا. هـ.
"ونصب عليهم المنجنيق" بفتح الميم، وتكسر مؤثر عند الأكثر، ويذكر معرب، والميم أصلية عند سيبويه، والنون زائدة، ولذا سقطت في الجمع قال كراع: كل كلمة فيها جيم، وقاف، أو جيم وقاف، أو جيم وكاف مثل كيلجة فهي أعجمية.
ذكره في الروض "وهو" كما ذكره ابن هشام عمن يثق به "أول منجنيق رمي به في الإسلام"، وأما أول منجنيق رمي به فإبراهيم الخليل عمله إبليس لما أرادوا رميه صلى الله عليه وسلم على نبينا وعليه.
وأما في الجاهلية فيذكر أن جذيمة بضم الجيم، وفتح المعجمة مصغرا ابن مالك المعروف بالأبرش أول من رمى به، وهو من ملوك الطوائف، "وكان قدم به الطفيل الدوسي معه لما رجع من سرية ذي الكفين"، ويقال: يزيد بن زمعة حكاهما ابن سعد بناء على قوله: أن يزيد لم يستشهد بحنين.
وقال الواقدي: قالوا: شاور صلى الله عليه وسلم أصحابه فقال له سليمان: يا رسول الله أرى أن تنصب المنجنيق على حصنهم، فإنا كنا بأرضنا ننصب المنجنيقات على الحصون، وتنصب علينا فنصيب من عدونا، ويصيب منا، وإن لم يكن منجنيق طال الثواء بفتح المثلثة، أي الإقامة، فأمره صلى الله عليه وسلم فعمل منجنيقا بيده، فنصبه على حصنهم، "فرمتهم ثقيف بالنبل، فقتل منهم رجال" هم الإثنا عشر السابقة.
ذكر ابن إسحاق والواقدي: أن المسلمين دخلوا تحت دبابة، وهي من جلود البقر يوم الشدخة لما شدح فيه من الناس، ثم زحفوا بها إلى جدار الحصن ليحفروه، فأرسلت ثقيف سكك الحديد المحماة بالنار، فأحرقن الدبابة، فخرج المسلمون من تحتها، وقد أصيب منهم من أصيب، "فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقطع أعنابهم" ونخيلهم "وتحريقها".
قال عروة: أمر كل مسلم أن يقطع خمس نخلات، وخمس حبلات، "فقطع المسلمون قطعا ذريعا" بمعجمة، أي سريعا، "ثم سألوه أن يدعها لله وللرحم"، فقالوا: لم تقطع أموالنا، إما أن تأخذها إن ظفرتم علينا، وإما أن تدعها لله وللرحم، "فقال عليه الصلاة والسلام:(4/10)
إني أدعها لله وللرحم.
ثم نادى مناديه عليه الصلاة والسلام: أيما عبد نزل من الحصن وخرج إلينا فهو حر.
قال الدمياطي: فخرج منهم بضعة عشر رجلا فيهم أبو بكرة، وعند مغلطاي: ثلاثة وعشرون عبدا.
وفي البخاري.
__________
"إني أدعها" أتركها "لله وللرحم" التي بيني وبينهم؛ لأن أمه آمنة، أمها برة بنت عبد العزى بن قصي، وأم برة هذه أم حبيب بنت أسعد، وأمها برة بنت عوف، وأمها قلابة بنت الحارث وأم قلابة بنت الحارث، وأم قلابة هند، بنت يربوع من ثقيف، كما قاله ابن قتيبة، "ثم نادى مناديه عليه الصلاة والسلام".
قال في النور: لا أعرف اسمه، "أيما عبد نزل من الحصن وخرج إلينا فهو حر".
رواه ابن إسحاق في رواية يونس من مرسل شيخه عبد الله بن المكرم الثقفي، والواقدي عن شيوخه "قال الدمياطي: فخرج منهم بضعة عشر رجلا"، كما رواه ابن إسحاق عن شيخه المذكور الواقدي عن شيوخه المنبعث واسمه المضطجع، فسماه عليه السلام لما أسلم المنبعث عبد عثمان بن عامر والأزرق عبد كلدة بفتح فسكون.
وورد أنه كان عبد الله بن ربيعة ويحنس، بضم التحتية، وفتح المهملة، والنون المشددة، وسين مهملة النبال عبد يسار بن مالك وأسلم سيده بعد فرد صلى الله عليه وسلم إليه ولاءه وإبراهيم بن جابر عبد خرشة بفتح المعجمتين، والراء بينهما، ويسار عبد عثمان بن عبد الله، ونافع أبو السائب عبد غيلان بن سلمة، فلما أسلم غيلان رد عليه الصلاة والسلام إليه ولاءه ونافع بن مسروح ومرزوق غلام لعثمان بن عبد الله والأزرق أبو عتبة وأبو بكرة عبد الحارث بن كلدة بفتحتين.
قال في الفتح: ويقال كان معهم زياد ابن سمية والصحيح أنه لم يخرج حينئذ لصغره "فيهم أبو بكرة" نفيع بضم النون، وفتح الفاء، وسكون التحتية ابن الحارث، ويقال: مسروح، وبه جزم ابن سعد، وأخرج أبو أحمد والحاكم عنه أنه قال: أنا مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن أبى الناس إلا أن يسموني فأنا نفيع بن مسروح، وقيل: اسمه هو مسروح، وبه جزم ابن إسحاق، كان من فضلاء الصحابة، وسكن البصرة، وأنجب أولادا لهم شهرة، تدلى من حصن الطائف ببكرة، فكي لذلك أبا بكرة، أخرجه الطبراني من حديث بإسناد لا بأس به، "وعند مغلطاي ثلاثة وعشرون عبدا" كما هو نص حديث الصحيح الذي بعده قال الحافظ: بعد عد هؤلاء ولم أعرف أسماء الباقين.
"وفي البخاري" من طريق شعبة عن عاصم سمعت أبا عثمان سمعت سعدا، وهو أول من(4/11)
عن أبي عثمان النهدي قال: سمعت سعدا وأبا بكرة عن النبي صلى الله عليه وسلم.... قال عاصم: قلت لقد شهد عندك رجلان حسبك بهما قال: أجل.... أما أحدهما فأول من رمى بسهم في سبيل الله، وأما الآخر فنزل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ثالث ثلاثة وعشرين من الطائف الحديث.
وأعتق صلى الله عليه وسلم من نزل منهم، ودفع كل رجل منهم إلى رجل من المسلمين
__________
رمى بسهم في سبيل الله، وأبا بكرة، وكان تسور حصن الطائف في أناس، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم قالا: سمعنا النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "من ادعى إلى غير أبيه، وهو يعلم فالجنة عليه حرام".
وقال هشام: أخبرنا معمر عن عاصم عن أبي العالية، أو"عن أبي عثمان" وعبد الرحمن بن مل "النهدي" هكذا فيه بالشك، لكن عن أبي عثمان وحده عن أبي بكرة وحده، كما أفاده في الفتح فتسمح المصنف في عزوه للبخاري "قال: سمعت سعدا" وهو ابن أبي وقاص أحد العشرة، "وأبا بكرة" يرويان "عن النبي صلى الله عليه وسلم" الحديث المذكور، من ادعى إلى غير أبيه إلخ "قال عاصم" بن سليمان الأحول أبو عبد الرحمن البصري الثقة مات سنة أربعين ومائة.
وروى له الجميع "قلت": لأبي عثمان، أو لأبي العالية "لقد شهد عندك" بكاف الخطاب، كما في رواية البخاري لأبي عثمان أو لأبي العالية، ونسخة عندي تصحيف "رجلان حسبك بهما قال: أجل" بالجيم واللام.
"أما أحدهما فأول من رمى" بفتح الراء والميم "بسهم في سبيل الله" حين كان في سرية عبيدة المطلبي، إلى رابغ، كما مر في أوائل المغازي.
"وأما الآخر، فنزل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ثالث ثلاثة وعشرين من الطائف" بنصب ثالث.
قال الحافظ: ولم يقع لي هذا التعليق موصولا إلى هشام وهو ابن يوسف الصنعاني، وغرض البخاري منه ما فيه بيان عدد من أبهم في الرواية الأولى التي قام فيها في أناس، وقوله: تسور، إلى صعد إلى أعلاه، وهذا لا يخالف قوله: تدلى؛ لأنه تسور من أسفله إلى أعلاه، ثم تدلى منه، وفيه رد على ن زعم أنه لم ينزل من سور الطائف غير أبي بكرة، وممن قاله موسى بن عقبة، وتبعه الحاكم، وجمع بعضهم بأن أبا بكرة نزل وحده أولا، ونزل الباقون بعده وهو جمع حسن. ا. هـ.
"الحديث " كذا في النسخ وهو وهم، فإن آخر هذا الحديث في البخاري ليس بعده شيء، "وأعتق صلى الله عليه وسلم من نزل منهم،" كما رواه ابن أبي شيبة، وأحمد عن ابن عباس قال: أعتق صلى الله عليه وسلم يوم الطائف كل من خرج إليه من رقيق المشركين، "ودفع كل رجل منهم إلى رجل من(4/12)
يمونه، فشق ذلك على أهل الطائف مشقة شديدة.
ولم يؤذن له صلى الله عليه وسلم في فتح الطائف، وأمر عمر بن الخطاب فأذن في الناس بالرحيل، فضج الناس من ذلك، فقالوا: نرحل ولم يفتح علينا الطائف؟ فقال عليه الصلاة والسلام: "فاغدوا على القتال"
__________
المسلمين يمونه"، فكان أبو بكرة إلى عمرو بن سعيد والأزرق إلى خالد بن سعيد، وورد أن إلى أبان بن سعيد والنبال إلى عثمان بن عفان، ويسار إلى سعد بن عبادة وإبراهيم إلى أسيد بن حضير، وأمرهم صلى الله عليه وسلم أن يقرؤهم القرآن، ويعلموهم السنين، كذا عند الواقدي، ولم يعين البقية لمن، "فشق ذلك على أهل الطائف مشقة شديدة"، ولما أسلمت ثقيف، تكلمت أشرافهم في أولئك العبيد أن يردوهم إلى الرق منهم الحارث بن كلدة، فقال صلى الله عليه وسلم لأولئك: "عتقاء الله لا سبيل إليهم".
رواه ابن إسحاق والواقدي وزاد، لكنه رد ولاء بعضهم إلى ساداتهم، قال ابن إسحاق: وبلغني أنه صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر الصديق: "إني رأيت أني أهديت لي قعبة مملوءة زبدا، فنقرها ديك فهراق ما فيها"، فقال أبو بكر: ما أظن أن تدرك منهم يومك هذا ما تريد، فقال صلى الله عليه وسلم: "وأنا لا أرى ذلك "، ولم يؤذن له صلى الله عليه وسلم في فتح الطائف" ذلك العام لئلا يستأصلوا أهله قتلا؛ لأنه لما خرج إليهم بعد موت أبي طالب دعاهم إلى الله، وأن يؤوه حتى يبلغ رسالة ربه، فردوا عليه ردا عنيفا، وكذبوه ورموه بالحجارة حتى أدموا رجليه، فرجع مهموما فلم يفق إلا عند قرن الثعالب، فناداه ملك الجبال: إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين فعلت، فقال: "بل استأني لعل الله أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله، فناسب قوله، بل استأني أن لا يفتح حصنهم لئلا يقتلوا عن آخرهم، وأن يؤخر الفتح ليقدموا مسلمين في العام المقبل، كما سيأتي في الوفود قاله الشامي، "وأمر عمر بن الخطاب، فأذن في الناس بالرحيل".
روى الواقدي عن أبي هريرة: لما مضت خمس عشرة من حصار الطائف استشار النبي صلى الله عليه وسلم نوفل بن معاوية الديلمي، فقال: "يا نوفل ما ترى في المقام عليهم" قال: يا رسول الله ثعلب في حجر إن أقمت عليه أخذته وإن تركته لم يضرك.
قال ابن إسحاق: ثم إن خولة بنت حكيم السلمية قالت: يا رسول الله أعطنى إن فتح الله عليك الطائف حلى بادية بنت غيلان، أو حلى القارعة بنت عقيل، وكانتا من أحلى نساء ثقيف، فقال صلى الله عليه وسلم: "وإن كان يؤذن لنا في ثقيف يا خولة"، فذكرته لعمر، فقال: يا رسول الله ما حديث حدثتنيه خولة زعمت أنك قلته، قال: "قلته" قال: أو ما أذنت فيهم فقال: "لا": أفلا أؤذن الناس بالرحيل؟ فقال: "بلى" فأذن عمر بالرحيل، "فضج الناس من ذلك، فقالوا: نرحل، ولم يفتح علينا الطائف، فقال عليه الصلاة والسلام: "فاغدوا على القتال"، أي سيروا أول النهار(4/13)
فغدوا فأصاب المسلمين جراحات، فقال صلى الله عليه وسلم: "إنا قافلون إن شاء الله تعالى" فسروا بذلك وأذعنوا، وجعلوا يرحلون، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك.
قال النووي: قصد صلى الله عليه وسلم الشفقة عليهم والرفق بهم بالرحيل عن الطائف لصعوبة أمره، وشدة الكفار الذين هم فيه، وتقويهم بحصنهم، مع أنه صلى الله عليه وسلم أولا علم، أو رجا أنه سيفتحه بعد هذا بلا مشقة، فلما حرص الصحابة على المقام والجهاد أقام، وجد في القتال فلما أصابتهم الجراح رجع إلى ما كان قصده أولا من الرفق بهم ففرحوا بذلك لما رأوا من المشقة الظاهرة، ووافقوا على الرحيل، فضحك صلى الله عليه وسلم تعجبا من تغير رأيهم.
وفقئت عين أبي سفيان صخر بن حرب يومئذ،
__________
لأجله "فغدوا فأصاب المسلمين جراحات" ولم يفتح لهم.
وروى الترمذي وحسنه عن جابر قال: قالوا: يا رسول الله أخرقتنا نبال ثقيف، فادع الله عليهم، فقال: "اللهم اهد ثقيف وائت بهم"، فقال صلى الله عليه وسلم: "إنا قافلون" راجعون إلى المدينة "إن شاء الله تعالى" فسروا بذلك وأذعنوا، وجعلوا يرحلون ورسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك" تعجبا من تغير رأيهم.
قال عروة: وأمر صلى الله عليه وسلم الناس أن لا يسرحوا ظهورهم، فلما أصبحوا ارتحل هو وأصحابه، ودعا حين ركب قافلا، فقال: "اللهم اهدهم واكفنا مؤنتهم".
رواه البيهقي وما ساقه المصنف لفظ ابن سعد، وقد رواه الشيخان عن ابن عمر وعمرو لما حاصر صلى الله عليه وسلم الطائف فلم ينل منهم شيئا قال: "إنا قافلون إن شاء الله تعالى"، فثقل عليهم وقالوا: نذهب ولا نفتحه، فقال: "اغدوا على القتال" فغدوا فأصابهم جراح، فقال: "إنا قافلون غدا إن شاء الله تعالى"، فأعجبهم فضحك، وفي لفظ فتبسم صلى الله عليه وسلم: "قال النووي: قصد صلى الله عليه وسلم الشفقة عليهم والرفق بهم بالرحيل عن الطائف لصعوبة أمره، وشدة الكفار الذين هم فيه وتقويهم بحصنهم"، مع أن عدم فتحه لا يضر، "مع أنه صلى الله عليه وسلم أولا علم" بالوحي، "أو رجا" ورجاؤه محقق الوقوع، كما قال العلماء "أنه سيفتحه بعد هذا بلا مشقة، فلما حرص الصحابة على المقام والجهاد، أقام وجد في القتال، فلما أصابتهم الجراح رجع إلى ما كان قصده أولا من الرفق بهم، ففرحوا بذلك لما رأوا من المشقة".
وفي نسخة الشقة "الظاهرة ووافقوا على الرحيل، فضحك صلى الله عليه وسلم تعجبا من تغير رأيهم وفقئت عين أبي سفيان صخر بن حرب" بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، "يومئذ" روى(4/14)
فذكر ابن سعد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له وهي في يده: "أيما أحب إليك عين في الجنة، أو أدعوا الله أن يردها عليك" قال: بل عين في الجنة ورمى بها.
وشهد اليرموك فقاتل وفقئت عينه الأخرى يومئذ ذكره الحافظ زين الدين العراقي في شرح التقريب.
وقال صلى الله عليه وسلم لأصحابه: قولوا: "لا إله إلا الله وحده، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده".
__________
الزبير بن بكار عن سعيد بن عبيد الثقفي، قال: رميت أبا سفيان يوم الطائف فأصيبت عينه، "فذكر ابن سعد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له وهي في يده:" وفي رواية الزبير عن سعيد المذكور، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: هذه عيني أصيبت في سبيل الله، فقال: "أيما أحب إليك عين في الجنة"، أي عين ماء لا الباصرة؛ لأنه لا يختص بها في الجنة، "أو أدعو الله أن يردها عليك"، قال: بل عين في الجنة ورمى بها" وفي هذا قوة إيمانه وثبات يقينه بعدما كان من المؤلفة.
روى القزويني في تاريخ قزوين عن ابن عباس قال: لطم أبو جهل فاطمة، فشكت إلى أبيها صلى الله عليه وسلم فقال: "ائت أبا سفيان" فأتته فأخبرته فأخذ بيدها حتى وقف على أبي جهل، وقال: إلطميه كما لطمك، ففعلت، فجاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبرته، فرفع يده وقال: "اللهم لا تنسها لأبي سفيان".
قال ابن عباس: ما شككت أن إسلامه إلا لدعوة النبي صلى الله عليه وسلم.
ذكره السيوطي في تحفة الأدب، "وشهد اليرموك" عند مقاتلة الروم في آخر خلافة الصديق تحت راية ابنه يزيد، وهو يقول: الله الله عباد الله انصروا الله ينصركم، اللهم هذا يوم من أيامك، اللهم أنزل نصرك على عبادك، "فقاتل" الروم، وكان أمير الجيش خالد بن الوليد، "وقفئت عينه الأخرى يومئذ، ذكره الحافظ زين الدين العراقي في شرح التقريب".
وروى يعقوب بن سفيان وابن سعد بإسناد صحيح عن سعيد بن المسيب عن أبيه، فقال: فقدت الأصوات يوم اليرموك إلا صوت علي يقول: يا نصر الله أقرب، فنظرت، فإذا هو أبو سفيان تحت راية ابنه يزيد.
وروى البغوي بإسناد صحيح عن أنس أن أبا سفيان دخل على عثمان بعدما عمي وغلامه يقوده، "و" ذكر الواقدي وابن سعد أنه "قال صلى الله عليه وسلم لأصحابه:" حين أرادوا أن يرتحلوا "قولوا: "لا إله إلا الله، وحده صدق وعده" "، الذي وعد به من إظهار دينه، "ونصر عبده" محمدا صلى الله عليه وسلم، "وهزم الأحزاب" الذين تحزبوا في غزوة الخندق، فاللام عهدية، أو المراد كل من تحزب من الكفار لحربه، فتكون جنسية "وحده" فهزيمتهم والنصر عليهم إنما هو مضاف إليه وهو خير الناصرين،(4/15)
فلما ارتحلوا قال: قولوا: آبيون، تائبون عابدون، لربنا حامدون.
فانظر كيف كان صلى الله عليه وسلم إذا خرج للجهاد يعتد لذلك بجمع أصحابه، واتخاذ الخيل والسلاح، وما يحتاج إليه من آلات الجهاد والسفر، ثم إذا رجع عليه الصلاة والسلام يتعرى من ذلك، ويرد الأمر كله لمولاه عز وجل لا لغيره بقوله: "آيبون تائبون عابدون لربنا حامدون، صدق الله وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده".
وانظر إلى قوله عليه الصلاة والسلام: "وهزم الأحزاب وحده"، فنفى صلى الله عليه وسلم ما تقدم ذكره، وهذا هو معنى الحقيقة؛ لأن الإنسان وفعله خلق لربه عز وجل، فهو لله سبحانه وتعالى الذي خلق ودبر، وأعان وأجرى الأمور على يد من شاء، ومن
__________
"فلما ارتحلوا قال: "قولوا: آيبون" بمد الهمزة، أي نحن راجعون إلى الله، نحن "تائبون" إليه تعالى، إشارة إلى التقصير في عبادته والتوبة من توليهم يوم حنين، نحن "عابدون" الذي استحقت ذته العبادة "لربنا" نحن "حامدون" على ما أولانا من الفتح المبين، والنصر المتين، والجار والمجرور متعلق بالأربعة على طريق التنازع، "فانظر" تأمل بعين البصيرة، وأجل فكرك "كيف كان صلى الله عليه وسلم إذا خرج للجهاد يعتد لذلك بجمع أصحابه، واتخاذ الخيل والسلاح وما يحتاج لذلك من آلات الجهاد والسفر، ثم إذا رجع عليه الصلاة والسلام يتعرى" يتباعد "من ذلك ويرد" يفوض "الأمر كله لمولاه عز وجل لا لغيره"، ويبين لصحبه أن النصر من عنده إلا بقوة ولا بعدد "بقوله" كما في البخاري وغيره: إذا رجع من الغزو بعد التكبير ثلاثا: "لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير"، "آيبون تائبون عابدون"، زاد البخاري "ساجدون"، "لربنا حامدون، صدق الله وعده ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده".
وكلام المصنف هذا وارد في ارتحاله عن الطائف، بل وعن غيرها، فإنه أخبر عن حالتيه في كل غزواته أنه في الخروج يعتد، وفي الرجوع يرد الأمر لله، كما هو ظاهر جدالًا في ارتحاله إلى الطائف، كما ظن، فاعترض بأنه قصد غزوهم، فلا يحسن قوله، ثم إذا رجع وتعسف الجواب، بأنه سماه رجوعا لفراغه من حنين وارتحاله، إلى الطائف بعد نصره، فعده رجوعا وإن اشتغل بغيره، فإن هذا الشيء
أمر عجاب ولا وجه له، "وانظر إلى قوله عليه الصلاة والسلام: "وهزم الأحزاب وحده"، فنفى صلى الله عليه وسلم ما تقدم ذكره" في قوله بجمع أصحابه إلى آخره، ونسب كل ذلك لله عز وجل "وهذا" أي نفي الأمور عن غيره، ونسبتها إليه "هو معنى الحقيقة" أي ما يكون الشيء عليه في نفس الأمر، وقال أرباب السلوك الحقيقة، العلوم المدركة بتصفية الباطن: "لأن الإنسان وفعله خلق لربه عز وجل: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} ، {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} ، "فهو لله سبحانه وتعالى الذي خلق ودبر، وأعان وأجرى الأمور على يد من شاء ومن(4/16)
اختار من خلقه، فكل منه، ولو شاء أن يبيد أهل الكفر من غير قتال لفعل، قال تعالى: {ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ} ، فيثيب سبحانه وتعالى الصابرين ويجزل الثواب للشاكرين، قال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [محمد: 31] .
فعلى المكلف الامتثال في الحالتين، أي: امتثال تعاطي الأسباب، والرجوع إلى المولى والسكون إليه بساحة كرمه، كما كان صلى الله عليه وسلم يأتي الأسباب أولا تأدبا مع الربوبية وتشريعا لأمته، ثم يظهر الله تعالى على يديه ما يشاء من قدرته الغامضة التي ادخرها له عليه الصلاة والسلام.
قال ابن الحاج في المدخل:.
__________
اختار من خلقه، فكل منه وإليه، ولو شاء الله أن يبيد"، بضم الياء يهلك، "أهل الكفر من غير قتال لفعل" كما "قال تعالى: {ذَلِكَ} خبر مبتدأ، أي الأمر فيهم، أو افعلوا بهم ذلك، {وَلَوْ يَشَاءُ اللهُ لَانْتَصَرَ} انتقم "منهم" باستئصال بغير قتال، {وَلَكِنْ} أمركم به {لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْض} ، فيصير من قتل منكم إلى الجنة ومنهم إلى النار "فيثيب سبحانه وتعالى الصابرين ويجزل" بضم الياء، يوسع "الثواب للشاكرين"، واعتبر في الصابرين أصل الثواب وفي الشاكرين أجزاء له، كأنه لحظ قوله تعالى: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم: 7] ، وفي حق الصابرين من محبته لهم ونصرهم، كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِين} [البقرة: 153] .
قال البيضاوي: بالنصر وإجابة الدعوة، والله يحب الصابرين، فينصرهم ويعظهم قدرهم "قال تعالى: {ولنبلونكم} " [محمد: 31] نختبرنكم بالجهاد وغيره: {حتى
نعلم} علم ظهور: {الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ} [محمد: 31] الآية في الجهاد وغيره، {وَنَبْلُوَ} نظهر {أَخْبَارَكُمْ} من طاعتكم، وعصيانكم في الجهاد وغيره، "فعلى المكلف الامتثال في" تحصيل "الحالتين"، كما يعلم من قوله: "أي امتثال تعاطي الأسباب والرجوع إلى المولى، والسكون إليه بساحة كرمه، كما كان صلى الله عليه وسلم يأتي الأسباب أولا تأدبا مع الربوبية" بامتثال أمرها {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} ، "وتشريعا لأمته"، وإن علم أن النصر إنما هو من عند الله، "ثم يظهر الله تعالى على يديه ما يشاء من قدرته الغامضة التي ادخرها له عليه الصلاة والسلام، قاله" محمد بن محمد أبو عبد الله "ابن الحجاج" العبدري الفارسي، الفقيه الورع، الزاهد، صحب جماعة من أرباب القلوب، وتخلق بأخلاقهم، مات سنة سبع وثلاثين وسبعمائة "في" كتاب "المدخل" إلى تنمية الأعمال بتحسين النيات، والتنبيه على(4/17)
ولما قيل له: يا رسول الله، ادع على ثقيف، قال: اللهم اهد ثقيفا وائت بهم مسلمين.
__________
كثير من البدع المحدثة والفوائد المنتحلة، كتاب حفل، جمع فيه علما غزيرا يتعين الوقوف عليه، "ولما قيل له: يا رسول الله ادع على ثقيف قال: "اللهم اهد ثقيفا وائت بهم مسلمين" ذكره ابن سعد ومر أنه قاله: لما قالوا له: أحرقتنا نبال ثقيف، وتحرفت ائت من الإتيان بلفظ اهد بهم على من قال لعله قاله في وقت آخر، والذي قاله في الشامية كغيرها ائت، وهو الذي في الترمذي، وتقدم أنه دعا حين ركب: "اللهم اهدهم واكفنا مؤنتهم"، وقد استجاب له ربه، فأتى بهم مسلمين في رمضان سنة تسع، كما يأتي في الوفود إن شاء الله تعالى.(4/18)
[نبذة من قسم الغنائم وعتب الأنصار] :
وكان صلى الله عليه وسلم قد أمر أن يجمع السبي، والغنائم مما أفاء الله على رسوله يوم حنين، فجمع ذلك كله إلى الجعرانة،
__________
نبذة من قسم الغنائم وعتب الأنصار:
"وكان صلى الله عليه وسلم قد أمر" وهو بحنين "أن يجمع السبي والغنائم مما أفاء الله على رسوله،" قال الحافظ: "أي أعطاه غنائم الذين قاتلهم "يوم حنين" وأصل الفيء الرد والرجوع، ومنه سمي الظل بعد الزوال فيأ؛ لأنه رجع من جانب إلى جانب، فكأن أموال الكفار سميت فيأً؛ لأنها كانت في الأصل للمؤمنين إذ الإيمان هو الأصل والكفر طار عليه، فإذا غلب الكفار على شيء من مال فهو بطريق التعدي، فإذا غنمه المسلمون منهم، فكأن رجع إليهم بعدما كان لهم انتهى، "فجمع ذلك كله" وأحضر "إلى الجعرانة"، ونادى مناديه: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يغل.
وروى أحمد، وابن ماجه والحاكم بسند صحيح عن عبادة، وابن إسحاق عن ابن عمر: أخذ صلى الله عليه وسلم يوم حنين وبرة من سنام بعير من الغنائم، فجعلها بين أصبعه، ثم قال: "يا أيها الناس إنه لا يحل لي مما أفاء الله عليكم قدر هذه إلا الخمس، والخمس مردود عليكم، فأدوا الخياط والمخيط، وإياكم والغلول، فإن الغلول عار ونار وشنار على أهله في الدنيا والآخرة"، فجاء أنصاري بكبة خيط من خيوط شعر، فقال: يا رسول الله أخذت هذه الوبرة لأخيط بها برذعة بعير لي دبر، فقال صلى الله عليه وسلم: "أما حقي منها".
وفي رواية: "أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لك"، فقال الرجل: أما إذا بلغ الأمر فيها ذلك، فلا حاجة لي بها، فرمى بها من يده، وروى عبد الرزاق، عن زيد بن أسلم عن أبيه: أن عقيل بن أبي طالب دخل على امرأته فاطمة بنت شيبة يوم حنين، وسيفه ملطخ دما، فقال:(4/18)
فكان بها إلى أن انصرف عليه الصلاة والسلام من الطائف.
وكان السبي ستة آلاف رأس، والإبل أربعة وعشرين ألف بعير، الغنم أكثر من أربعين ألف شاة، وأربعة ألاف أوقية فضة.
واستأنى صلى الله عليه وسلم -أي انتظر وتربص- بهوازن أن يقدموا عليه مسلمين بضع عشرة، ثم بدأ يقسم الأموال، فقسمها.
__________
دونك هذه الإبرة تخيطين بها ثيابك، فدفعها إليها، فسمع المنادي يقول: من أخذ شيئا فليرده حتى الخياط والمخيط، فرجع عقيل، فأخذها، فألقاها في الغنائم "فكان بها إلى أن انصرف" بها "عليه الصلاة والسلام من الطائف"، وعليها مسعود بن عمر والغفاري عند ابن إسحاق، أو بديل بن ورقاء الخزاعي عند البلاذري، كما مر.
وروى الطبراني عن بديل: أمر صلى الله عليه وسلم أن نحبس السبايا والأموال بالجعرانة حتى يقدم، فحبست "وكان" كما قال ابن سعد وتبعه اليعمري، السبي ستة آلاف رأس" من النساء والأطفال.
روى عبد الرزاق عن ابن المسيب: سبى صلى الله عليه وسلم يومئذ ستة آلاف بين امرأة وغلام "والإبل أربعة وعشرين ألف بعير، الغنم أكثر من أربعين ألف شاة وأربعة آلاف أوقية فضة"، وإطلاق السبي على الإبل والغنم، والفضة تغليب، ولم يذكر عدة البقر والحمير مع أنهما كانت معهم أيضا، كما ذكره ابن إسحاق وغيره أن دريد بن الصمة قال لمالك بن عوف: ما لي أسمع بكاء الصغير، ورغاء البعير، ونهاق الحمير، ونعار الشاء وخوار البقر، إما لقلتهما بالنسبة لما ذكر، أو؛ لأنه لم يتحرر عدتهما لابن سعد، "واستأنى" بفوقية مفتوحة فهمزة، ساكنة "صلى الله عليه وسلم" أي انتظر،" أي أخر قسم الغنيمة، "وتربص بهوازن أن يقدموا عليه هوازن مسلمين، فسألوه أن يرد عليهم سبيهم وأموالهم، فقال صلى الله عليه وسلم: "معي من ترون، وقد استأنينا بكم حتى ظننت أنكم لا تقدمون، وقد قسمت السبي فاختاروا إما السبي وإما المال"، فاختاروا السبي، فكلم صلى الله عليه وسلم في رد سبيهم عليهم، فردوه كلهم إلا عيينة بن حصن، فإنه أبى أن يرد عجوزا كبيرة.
قال: هذه أم الحي لعلهم أن يغلوا فداءها، ثم ردها بست قلائص، فيما ذكره ابن إسحاق.
وذكر الواقدي ورواه البيهقي عن الإمام الشافعي: أنه ردها بلا شيء فالله أعلم، أي ذلك كان وذكر الواقدي وابن سعد: أنه صلى الله عليه وسلم كسا كل واحد من السبي قبطية، وقال ابن عقبة: كساهم ثياب المعقد، بضم الميم، وفتح العين، وشد القاف ضرب من برود هجر، وتأتي أن(4/19)
وفي البخاري: وطفق صلى الله عليه وسلم يعطي رجالا المائة من الإبل
__________
شاء الله تعالى قصتهم في الوفود.
قال ابن القيم ما ملخصه: لما منع الله تعالى الجيش غنائم مكة، وكانوا كثيرا، وفيهم حاجة حرك الله تعالى قلوب هوازن لحربهم، وقذف في قلب قائدهم مالك بن عوف إخراج أموالهم، ونسائهم وذراريهم معهم نزلا وكرامة، وضيافة لحزب الله وجنده، وتمم تقديره بأن أطعمهم في الظفر وألاح لهم مبادئ النصر ليقضي الله أمرا كان مفعولا، ولو لم يقذف الله ذلك في قلبه لكان الرأي ما أشار به دريد، فخالفه فكان سببا لتصييرهم غنيمة للمسلمين، فلما أنزل الله نصره على رسوله وأوليائه ردت الغنائم لأهلها، وجرت فيها سهام الله ورسوله، وقيل: لا حاجة لنا في دمائكم ولا نسائكم ولا ذراريكم، فأوحى الله إلى قلوبهم التوبة، فجاءوا مسلمين فقيل: من شكر إسلامكم، أي يرد عليكم سبيكم، {إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ} [الأنفال: 70] .
"وفي البخاري" ومسلم عن أنس قال ناس من الأنصار: حين أفاء الله على رسوله ما أفاء من أموال هوازن "وطفق صلى الله عليه وسلم" يعطي رجالا" نحو العشرين ستعلمهم "المائة من الإبل"، زاد في رواية ولم يعط الأنصار شيئا، وفي أخرى قسم في الناس على المؤلفة قلوبهم، قال الحافظ: والمراد بهم ناس من قريش أسلموا يوم الفتح إسلاما ضعيفا ليتمكن الإسلام في قلوبهم، وكان فيهم من لم يسلم بعد كصفوان. ا. هـ.
وقد سردهم ابن الجوزي في التلقيح، وابن طاهر في مبهماته، والحافظ في الفتح، والبرهان في النور وهو أحسنهم سياقا، وأكثرهم عددا، فزادوا على الخمسين، وعند كل ما ليس عند الآخر وهم أبي بضم الهمزة، وشد التحتية، وهو الأخنس بن شريق أحيحة بمهملتين مصغرا ابن أمية أسيد بفتح فكسر ابن جارية بجيم وتحتية الثقفي أعطاه مائة، الأقرع بن حابس التميمي أعطاه مائة، جبير بن مطعم الجد بن قيس السهمي أورده في التلقيح الحارث بن الحارث أعطاه مائة، ثم سأله مائة أخرى فأعطاه إياها، ثم وعظه فأخذ المائة الأولى فقط، حكيم بن طليق حويطب بن عبد العزى أعطاه مائة، خالد بن أسيد بفتح فكسر خالد بن هوزة العامري خلف بن هشام، قال الصغاني، قال في النور: ولا أعرفه في الصحابةن ولم يذكره في التجريد قلت: لا في الإصابة وعد في العيون رقيم بن ثابت، وكأنه وهم؛ لأنه استشهد إما بحنين أو الطائف وكلاهما قبل القسم، زهير بن أسيد زيد الخيل عزاه الحافظ لتلقيح ابن الجوزي(4/20)
..................................................
__________
قال الشامي: ولم أجده في نسختين قلت: سقط من النسختين معا، والحافظ ثقة لا يجازف في النقل السائب بن أبي السائب صيفي بن عائذ سعيد بن يربوع أعطاه خمسين، سفيان بن عبد الأسد المخزومي سهيل بن عمرو أعطاه مائة، أخوه سهل شيبة بن عثمان صخر بن حرب أبو سفيان أعطاه مائة من الإبل وأربعين أوقية فضة صفوان بن أمية أعطاه مائة، وفي البخاري ومسلم عنه: ما زال صلى الله عليه وسلم يعطيني من غنائم حنين، وهو أبغض الخلق إلي حتى ما خلق الله تعالى شيئا أحب إلي منه، وفي مسلم أعطاه مائة من النعم ثم مائة.
قال الواقدي: يقال: إن صفوان طاف معه صلى الله عليه وسلم يتصفح الغنائم إذا مر بشعب مملوءا إبلا وغنما، فأعجبه وجعل ينظر إليه فقال صلى الله عليه وسلم: "أعجبك هذا الشعب يا أبا وهب"، قال: نعم، قال: "هو لك بما فيه" فقال صفوان: أشهد أنك رسول الله صلى الله عليه وسلم ما طابت بهذا نفس أحد قط إلا نبي طليق بن سفيان العباس بن مرداس أعطاه دون مائة، فقال:
أتجعل نهبي ونهب العبيد ... بين عيينة والأقرع
فما كان حصن ولا حابس ... يفوقان مرداس في المجمع
وقد كنت في الحرب ذا تدرا ... فلم أعط شيئا ولم أمنع
وما كنت دون امرئ منهم ... ومن تضع اليو لا يرفع
فأتم له المائة.
رواه مسلم وغيره عبد الرحمن بن يعقوب الثقفي عثمان بن وهب المخزومي أعطاه خمسين، عدي بن قيس السهمي أعطاه خمسين، عكرمة بن عامر العبدري عكرمة بن أبي جهل، قال ابن التيم علقمة بن علاثة بضم المهملة وخفة اللام، ومثلثة عمرو بن الأهتم بفوقية عمرو بن بعكك بموحدة، فمهملة، فكافين وزن جعفر، وهو أبو السنابل جمع سنبلة.
عمرو بن مرداس أخو عباس عمير بالتصغير ابن ودقة، بفتح الواو والدال المهملة عمير بن وهب أعطاه خمسين، العلاء بن جارية، بجيم وتحتية الثقفي أعطاه خمسين عند الواقدي، وقال ابن إسحاق: مائة عيينة بن حصن الفزاري، مائة قيس بن عدي السهمي، مائة ذكره ابن إسحاق والواقدي وقال بعضهم: صوابه عدي بن قيس، وقال الحافظ: لا أدري أهما وأحد أم اثنان.
قال الشامي: والظاهر اثنان لاتفاق ابن إسحاق والواقدي على ذلك.
قيس بن مخرمة كعب بن الأخنس نقله البرهان عن بعض شيوخه، وقال: لا أعرفه أنا، ولا ذكرته في كتاب التجريد قلت: ولا الإصابة لبيد بن ربيعة العامري مالك بن عوف النصري رئيس هوازن أعطاه مائة، مخرمة بن نوفل الزهري أعطاه خمسين، مطيع بن الأسود القرشي معاوية بن(4/21)
فقال ناس من الأنصار: يغفر الله لرسول الله صلى الله عليه وسلم يعطي قريشا ويتركنا، وسيوفنا تقطر من دمائهم؟!
__________
أبي سفيان أعطاه مائة من الإبل وأربعين أوقية فضة، أبو سفيان بن الحارث الهاشمي النضير، بمعجمة مصغرا ابن الحارث أعطاه مائة، نوفل بن معاوية الكناني هشام بن عمرو العامري خمسين، هشام بن الوليد المخزومي يزيد بن أبي سفيان الأموي أعطاه مائة بعير وأربعين أوقية، أبو الجهم بن حذيفة بن غنم العدوي فهؤلاء سبع وخمسون نفسا.
قال الحافظ: وفي عد العلاء بن جارية ومالك بن عوف نظر، وقد قيل أنهما أتيا طائعين من الطائف إلى الجعرانة، "فقال ناس من الأنصار: يغفر الله لرسول صلى الله عليه وسلم" قالوه توطئة وتمهيدا لما بعده من العتاب، كقوله: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} ، وفي رواية: والله إن هذا لهو العجب "يعطي قريشا، ويتركنا وسيفونا تقطر من دمائهم،" حال مقررة لجهة الأشكال، أي ودماؤهم تقطر من سيوفنا فهو من القلب كقوله:
لنا الجفنات الغر يلمعن في الضحى ... وأسيافنا يقطرن من نجدة دما
هكذا مشاه غير واحد، قال البدر العيني: ويجوز أنه على الأصل والمعنى أن سيوفنا من كثرة ما أصابها من دمائهم تقطر. ا. هـ.
وفي رواية وغنائمها ترد علينا والله إن هذا لهو العجب إذا كانت شديدة، فنحن ندعى وتعطي الغنيمة لغيرنا، ووددنا أن نعلم ممن كان هذا، فإن كان من الله صبرنا، وإن كان من رأيه صلى الله عليه وسلم استعتبناه.
وفي حديث أبي سعيد عند أحمد بن إسحاق، فقال رجل من الأنصار: لقد كنت أحدثكم أنه لو استقامت الأمور لقد آثر عليكم غيركم، فردوا عليه ردا عنيفا، وقال حسان يعاتبه في ذلك:
زاد الهموم فماء العين منحدر ... سحا إذا حفلته عبرة درر
وجدا بشماء إذ شاء بهكنة ... هيفاء لا نتن فيها ولا خور
دع عنك شماء إذ كانت مودتها ... نزرا وشر وصال الواصل النزر
وائت الرسول وقل: يا خير مؤتمن ... للمؤمنين إذا ما عدد البشر
علام تدعى سليم وهي ما برحت ... تأت قدام هم آووا وهم نصروا
سماهم الله أنصارا لنصرتهم ... دين الهدى وجحيم الحرب تستعر
وسارعوا في سبيل الله واعترضوا ... للنائبات وما خاروا وما ضجروا
والناس ألب علينا فيك ليس لنا ... إلا السيوف وأطراف القناوزر
نجالد الناس لا نبقي على أحد ... ولا نضيع ما توحي به السور(4/22)
قال أنس: فحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم بمقالتهم، فأرسل إلى الأنصار فجمعهم في قبة من أدم، ثم قال لهم: "أما ترضون أن يذهب الناس بالأموال
__________
ولا تهر جنات الحرب نادينا ... ونحن حين تلظى نارها سعر
كما وردنا ببدر دون ما طلبوا ... أهل النفاق ففينا ينزل الظفر
ونحن جندك يوم النصف من أحد ... إذ حزبت بطرا أحزابها مضر
فما ونينا وما خبنا وما خبروا ... منا عثارا وكل الناس قد عثروا
أورده ابن إسحاق وغيره، "قال أنس: فحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم بمقالتهم".
روى الإمام أحمد وابن إسحاق عن أبي سعيد الخدري: أن الذي حدثه سعد بن عبادة، ولفظه لما أطى صلى الله عليه وسلم من تلك العطايا في قريش، وفي قبائل العرب، ولم يكن في الأنصار منها شيء، وجد هذا الحي من الأنصار في أنفسهم حتى كثرت المقالة، فدخل عليه سعد بن عبادة، فذكر له ذلك، فقال: "فأين أنت من ذلك يا سعد" قال: ما أنا إلا من قومي، قال الحافظ: وهذا يعكر عليه رواية الصحيح، ففيها أما رؤساؤنا فلم يقولوا شيئا فإن سعدا من رؤسائهم بلا ريب، إلا أن يحمل على الأغلب الأكثر، وإن المخاطب سعد، ولم يرد إدخال نفسه في النفي، أو أنه لم يقل ذلك في اللفظ، وإن رضي بالقول المذكور، فقال: ما أنا إلا من قومي وهذا أوجه.
وفي مغازي التيمي أن سبب حزنهم، أنهم خافوا أن يكون صلى الله عليه وسلم يريد الإقامة بمكة، وما في الصحيح أصح على أنه لا يمنع الجمع وهو أولى، واختلف في أن العطاء من الغنيمة وهو المعتمد، وظاهر الروايات الماضية، وهو المخصوص بهذه الواقعة، وقد ذكر السبب في رواية البخاري حيث قال: "إن قريشا حديثو عهد بجاهلية ومصيبة وإني أردت أن أخبرهم، وأتألفهم أو من الخمس"، ورجحه القرطبي في المفهم، واختاره أبو عبيدة، وجزم له الواقدي، لكنه ليس بحجة إذا انفرد فكيف إذا خالف، وقيل: إنما تصرف في الغنيمة؛ لأن الأنصار كانوا انهزموا، فلم يراجعوا حتى هزم الكفار، فرد الله أمر الغنيمة لنبيه، وهذا معنى القول الأول أنه خاص بهذه الوقعة، ا. هـ ملخصا "فأرسل إلى الأنصار" سعد بن عبادة، ففي حديث أبي سعيد عند ابن إسحاق وأحمد قال صلى الله عليه وسلم: "فاجمع لي قومك" فخرج "فجمعهم في قبة" خيمة "من آدم"، بفتح الهمزة المقصورة، والدال جلد مدبوغ، قال في رواية البخاري: ولم يدع معهم، غيرهم فلما اجتمعوا قام صلى الله عليه وسلم، فقال: "ما حديث بلغني عنكم" فقال فقهاء الأنصار: أما فقهاؤنا، فلم يقولوا شيئا، وأما ناس منا حديثة أسنانهم، فقالوا: يغفر الله لرسوله، يعطي قريشا ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "فإني أعطي رجالا حديثي عهد بكفر أتألفهم"، ثم قال لهم: "تلو هذا "أما" بخفة الميم "ترضون أن يذهب الناس بالأموال"، وفي رواية: "ألا ترضون أن(4/23)
وتذهبون بالنبي إلى رجالكم؟! لما تنقلبون به خير مما ينقلبون به، قالوأ: يا رسول الله قد رضينا".
__________
"يذهب الناس بالشاة والبعير " وتذهبون بالنبي إلى رحالكم " " بالمهملة، أي بيوتكم، وفي رواية: "أولا ترضون أن يذهب الناس بالغنائم إلى بلدانهم، وترجعون برسول الله إلى بيوتكم"؟، "فوالله لما" بفتح لام التأكيد، أي للذي "تنقلبون" ترجعون "به خير مما ينقلبون به" فنبههم على ما غفلوا عنه من عظيم ما اختصوا به منه بالنسبة إلى ما حصل عليه غيرهم من عرض الدنيا الفانية، ومن ثم "قالوا: يا رسول الله قد رضينا".
وذكر الواقدي أنه حين دعاهم ليكتب لهم بالبحرين تكون لهم خاصة بعده دون الناس، وهي يومئذ أفضل ما فتح الله عليه من الأرض، فأبوا وقالوا: لا حاجة لنا بالدنيا وبقية حديث الصحيح، فقال لهم صلى الله عليه وسلم: "ستجدون إثرة شديدة فاصبروا حتى تلقوا الله ورسوله، فإني على الحوض".
وفي حديث أنس عند الشيخين: أنه صلى الله عليه وسلم خطبهم، فقال: "يا معشر الأنصار ألم أجدكم ضلالا، فهداكم الله بي وكنتم متفرقين فألفكم الله بي، وكنتم عالة فأغناكم الله بي" كلما قال شيئا قالوا: الله ورسوله أمن، قال: "ما يمنعكم أن تجيبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم لو ئتم قلتم: جئتنا كذا وكذا".
وفي حديث أبي سعيد عند أبن إسحاق وأحمد من طريقه: "أما والله لو شئتم لقلتم فصدقتهم وصدقتهم أتيتنا مكذبا فصدقناك، ومخذولا فنصرناك وطريدا فآويناك، وعائلا فواسيناك".
وأخرجه أحمد من وجه آخر عن أنس بلفظ آخر، فلا تقولون: جئتنا خائفا فآمناك، وطريدا فآويناك ومخذولا فنصرناك، قالوا: بل المن علينا لله ورسوله، وإنما قال ذلك صلى الله عليه وسلم تواضعا منه وإنصافا، وإلا فالحجة البالغة والمنة الطاهرة في جميع ذلك له عليهم، فلولا هجرته إليهم وسكناه عندهم لما كان بينهم وبين غيرهم فرق، وفي هذا إقامة الحجة على الخصم، وإفحامه بالحق عند الحاجة، وتنبيه الكبير الصغير على ما غفل عنه، وإيضاح وجه شبهته ليرجع إلى الحق وحسن أدب الأنصار، ومناقب عظيمة لهم لثناء الرسول البالغ عليهم، والمعاتبة واستعطاف المعاتب وإغنائه عن عتبه إقامة حجة من عتب عليه، والاعتذار بالاعتراف.
قال ابن القيم ما حاصله: اقتضت حكمة الله أن الغنائم لما حصلت قسمت على من لم يتمكن الإيمان من قلبه، لما بقي فيه من طبع البشر من حب المال فقسم فيهم لتجتمع قلوبهم على محبته؛ لأنها جبلت على حب من أحسن إليها، ومنع أهل الجهاد من أكابر المهاجرين ورؤساء الأنصار مع ظهور استحقاقهم لجميعها؛ لأنه لو قسم فيهم لقصر عليهم بخلاف قسمه.(4/24)
وعن جبير بن مطعم قال: بينما أنا مع النبي صلى الله عليه وسلم، ومعه الناس مقفلة من حنين، علقت برسول الله صلى الله عليه وسلم الأعراب حتى اضطروه إلى سمرة فخطفت رداءه.
__________
على المؤلفة؛ لأنه فيه استجلاب قلوب أتباعهم الذين كانوا يرضون إذا رضي رئيسيهم، فيكون سببا لإسلامهم، ولتقوية قلب من دخل فيه قبل، فتبعهم من دونهم في الدخول، فكان فيه مصلحة عظيمة، ولذا لم يقسم من أموال مكة عند فتحها شيء مع احتياج الجيوش إلى المال الذي يعينهم على ما هم فيه انتهى، ووكل أولئك إلى قوة إيمانهم، كما قال صلى الله عليه وسلم، لمن قال له: أعطيت عيينة والأقرع، وتركت جعيل بن سراقة، فقال: "أما والذي نفس محمد بيده لجعيل خير من طلاع الأرض كلها مثل عيينة والأقرع، ولكني أتألفها ليسلما، ووكلت جعيل بن سراقة لإسلامه".
أخرجه ابن إسحاق رواية يونس، وقد روى البخاري عن سعد مرفوعا: "إني لأعطي الرجل وغيره أحب إلي منه مخافة أن يكبه الله في النار على وجهه" وروي أيضا عن عمرو بن ثعلب مرفوعا: "إني لأعطى أقواما أخاف هلعهم وجزعهم، وأكل أقواما إلى ما جعل الله في قلوبهم من الخير والغنى، منهم عمرو بن ثعلب"، قال عمرو: فما أحب أن لي بها حمر النعم، "و" في البخاري، أيضا في الجهاد وفرض الخمس "عن جبير بن مطعم" بن عدي القرشي النوفلي": "بينما" بالميم أنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ومعه" أي والحال أن معه "الناس مقفله".
قال الحافظ: بفتح الميم وسكون القاف، وفتح الفاء واللام: يعني زمان رجوعه "من حنين" وتبعه المصنف، فالهاء للضمير في مقفله عائد على المصطفى لا تاء تأنيث، كما ظنه من ضبطه، بضم الميم وسكون القاف، وكسر الفاء؛ لأنه خلاف الرواية.
وفي رواية الخمس بدل مقفلة مقفلان، بالنصب على الحال، "علقت" بفتح العين، وكسر الخفيفة، بعدها قاف لزمت "برسول الله صلى الله عليه وسلم" الأعرب" رواية أبي ذر ولغيره، فعلق الناس ولأبي ذر عن الكشميهني فطفقت الناس الأعراب يسألونه أن يعطيهم من الغنيمة، وعند ابن إسحاق رواية يونس من حديث ابن عمر يقولون: يا رسول الله أقسم علينا فيأنا "حتى اضطروه" ألجأوه "إلى سمرة".
قال الحافظ: بفتح المهملة وضم الميم: شجرة طويلة متفرقة الرأس قليلة الظل، صغيرة الورق والشوك صلبة الخشب، قاله ابن التين، وقال الداودي هي العضاه، وقال الخطابي: ورق السمرة أثبت وظلها أكنف، ويقال: هي شجر الطلح، "فخطفت" بكسر الطاء الشجرة "رداءة"، أي علق شوكها به فجبذه، فهو مجاز أو المراد خطفته الأعراب.
قاله المصنف: وفي مرسل عمرو بن سعيد عند عمرو بن شيبة حتى عدلوا ناحية عن(4/25)
فوقف صلى الله عليه وسلم: فقال: "أعطوني ردائي، فلو كان لي عدد هذه العضاه نعما لقسمته بينكم، ثم لا تجدوني بخيلا ولا كذوبا ولا جبانا"، ورواه مسلم.
__________
الطريق، فمر بسمرات فانتهشن ظهره، وانتزعن رداءه، "فوقف صلى الله عليه وسلم" وقال: "أعطوني" بهمزة قطع "ردائي"، أي خلصوه من السمرة، وناولوه لي.
وفي حديث ابن عمر عند ابن إسحاق: "يا أيها الناس ردوا علي ردائي" "فلو كان لي عدد هذه العضاه" بكسر المهملة، وفتح المعجمة الخفيفة آخره هاء وصلا، ووقفا قال القزاز: شجر الشوك كالطلح، والعوسج والسدر، قيل: واحدة عضة بفتحتين، والأصل عضهة فحذفت الهاء، وقيل: واحدة عضاهة، وفي حديث ابن عمر: "فوالذي نفسي بيده لو كان لكم عندي عدد شجر تهامة "نعما" بفتح النون والعين نصب على التمييز، والخبر لي أو على الخبر، والاسم عدد ولأبي ذر نعم بالرفع اسم كان، ونصب عدد خبر مقدم "لقسمته بينكم".
زاد أبو ذر في نسخة عليكم، "ثم لا تجدوني"، بنون واحدة، ولأبي ذر بنونين "بخيلا، ولا كذوبا ولا جبانا"، أي إذا جربتموني لا تجدوني ذا بخل ولا ذا كذب ولا ذا جبن، فالمراد نفي الوصف من أصله، لا نفي المبالغة التي دل عليها الثلاثة؛ لأن كذوبا من صيغ المبالغة، وجبانا صفة مشبهة، وبخيلا يحتمل الأمرين.
قال ابن المنير: وفي جمعه صلى الله عليه وسلم بين هذه الصفات لطيفة؛ لأنها متلازمة، وكذا أضدادها الصدق والكرم والشجاعة، وأصل المعنى هنا الشجاعة، فإن الشجاع واثق من نفسه بالخلف من كسب سيفه، فبالضرورة لا يبخل، وإذا سهل عليه العطاء لا يكذب بالخلف في الوعد؛ لأن الخلف إنما ينشأ من البخل، وقوله: "لو كان لي مثل هذه العضاة" تنبيه بطريق الأولى؛ لأنه إذا سمح بمال نفسه، فلأن يسمح بقسم غنائمهم عليهم أولى، واستعمال ثم هنا بعدما تقدم ذكره ليس مخالفا لمقتضاها، وإن كان الكرم يتقدم العطاء، لكن علم الناس بكرم الكريم، إنما يكون بعد العطاء، وليس المراد بثم الدلالة على تراخي العلم بالكرم عن العطاء، وإنما التراخي هنا لعلو رتبة الوصف، كأنه قال: وأعلى من العطاء بما لا يتعارف أن يكون العطاء عن كرم، فقد يكون عطاء بلا كرم، كعطاء البخيل ونحو ذلك. ا. هـ.
"ورواه مسلم" أيضا وعبد الرزاق، ويقع في نسخ رواه بلا واو، وهي خطأ لإبهامها انفراده به عن البخاري مع أنه رواه في محلين كما علمت وفيه ذم الخصال المذكورة، وأن الإمام لا يصلح أن يكون فيه خصلة منها، وفيه ما كان فيه صلى الله عليه وسلم من الحلم وحسن الخلق، وسعة الجود والصبر على جفاة الأعراب، وجواز وصف المرء نفسه بالخصال الحميدة عند الحاجة لخوف، ظن أهل الجهل به خلاف ذلك، ولا يكون من الفخر المذموم، ورضا السائل للحق بالوعد إذ(4/26)
وذكره محمد بن سعد كاتب الواقدي عن ابن عباس أنه قال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الطائف نزل الجعرانة، فقسم بها الغنائم ثم اعتمر منها، وذلك لليلتين بقيتا من شوال.
قال ابن سيد الناس: وهذا ضعيف، والمعروف عند أهل السير أن النبي صلى الله عليه وسلم انتهى إلى الجعرانة ليلة الخميس، لخمس ليال خلون من ذي القعدة، فأقام بها ثلاثة عشر ليلة، فلما أراد الانصراف إلى المدينة خرج ليلة الأربعاء لاثنتي عشرة ليلة بقيت من ذي القعدة ليلا، فأحرم بعمرة ودخل مكة.
وفي تاريخ الأزرقي عند مجاهد أنه صلى الله عليه وسلم أحرم من وراء الوادي، حيث الحجارة المنصوبة.
__________
تحقق من الواعد التنجيز، وأن الإمام مخير في قسم الغنيمة إن شاء بعد فراغ الحرب، وإن شاء قبل ذلك.
"وذكر محمد بن سعد": بن منيع، الثقة الحافظ، المشهور بأنه "كاتب الواقدي" محمد بن عمر بن واقد، المدني الحافظ، المتروك مع سعة علمه، "عن ابن عباس أنه قال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الطائف، نزل الجعرانة، فقسم بها الغنائم".
قال أهل المغازي: أمر صلى الله عليه وسلم زيد بن ثابت بإحضار الناس والغنائم، ثم فضها على الناس، فكانت سهامهم لكل رجل أربعة من الإبل وأربعين شاة، فإن كان فارسا أخذ اثني عشر من الإبل ومائة وعشرين شاة، وإن كان معه أكثر من فرس واحد لم يسهم له، قالوا: ولما جمعت الغنائم بين يديه صلى الله عليه وسلم جاءه أبو سفيان بن حربش قال: يا رسول الله أصبحت أكثر قريش مالا، فتبسم صلى الله عليه وسلم، "ثم اعتمر منها"، أي الجعرانة، "وذلك لليلتين بقيتا من شوال، قال ابن سيد الناس: وهذا ضعيف، والمعروف عند أهل السير أن النبي صلى الله عليه وسلم انتهى إلى الجعرانة ليلة الخميس لخمس ليال خلون من ذي القعدة، فأقام بها ثلاث عشرة ليلة، فلما أراد الانصراف إلى المدينة خرج ليلة الأربعاء لاثنتي عشرة ليلة بقيت من ذي القعدة ليلًا، وأحرم بعمرة ودخل مكة، فطاف وسعى، وحلق ورجع إلى الجعرانة من ليلته، فكأنه كان بائتا بها، "وفي تاريخ" مكة للإمام "اأزرقي" نسبة إلى جده الأزرق، إذ هو محمد بن عبد الله بن أحمد بن محمد بن الوليد بن عتبة بن الأزرق بن عمرو الغساني، وجده الأدني أحمد من شيوخ البخاري.
"عن مجاهد" مرسلا "أنه صلى الله عليه وسلم" أحرم من وراء الوادي حيث" ظرف مكان "الحجارة المنصوبة.(4/27)
وعند الواقدي: من المسجد الأقصى الذي تحت الوادي بالعدوة القصوى من الجعرانة، وكان صلاته عليه الصلاة والسلام إذ كان بالجعرانة به.
والجعرانة موضع بينه وبين مكة بريد، كما قاله الفاكهي، وقال الباجي: ثمانية عشر ميلًا، وسمي بامرأة تلقب بالجعرانة، كما ذكره السهيلي.
قالوا: وقدم صلى الله عليه وسلم المدينة، وقد غاب عنها شهرين وستة عشر يومًا.
__________
"وعند الواقدي من المسجد الأقصى" إلا بعد الذي تحت الوادي العدوة القصوى من الجعرانة، وكانت صلاته عليه الصلاة والسلام إذ كان بالجعرانة به" بذلك المسجد.
والجعرانة موضع بينه وبين مكة بريد كما قاله الفاكهي".
قال عياض: وهي بين مكة والطائف وإلى مكة أقرب، "وقال الباجي: ثمانية عشر ميلًا"، ووقع في الصحيح أنها بين مكة والمدينة.
قال الداودي وغيره وهو وهم: إنما هي بين مكة والطائف، وكذا جزم به السيوري، "وسمي الموضع "بامرأة تلقب بالجعرانة"، واسمها ريطة وهي التي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا "كما ذكره السهيلي" في الروض، "قالوا: وقدم صلى الله عليه وسلم المدينة" بعدما استخلف على مكة عتاب بن أسيد ومعه معاذ بن جبل، زاد الواقدي والحاكم وأبا موسى الأشعري يعلمان الناس القرآن والفقه في الدين.
قال ابن هشام: وبلغني عن زيد بن أسلم أنه لما استعمل صلى الله عليه وسلم عتابا على مكة رزقه كل يوم درهمًا، فقام فخطب، فقال: أيها الناس أجاع الله كبد من جاع على درهم، فقد رزقني صلى الله عليه وسلم درهما كل يوم، فليست لي حاجة إلى أحد، "وقد غاب عنها شهرين وستة عشر يوما"، فقدم المدينة لثلاث بقين من ذي القعدة، وقال ابن هشام: لست بقين منها، فيما زعمه أبو عمرو المدني ومر عن الفتح أن مدة الغيبة أكثر من ثمانين يوما والله أعلم.(4/28)
[بعث قيس إلى صداء] :
وبعث صلى الله عليه وسلم قيس بن سعد بن عبادة إلى ناحية اليمن.
__________
بعث قيس إلى صداء:
"وبعث صلى الله عليه وسلم قيس بن سعد بن عبادة،" الخزرجي الصحابي، ابن الصحابي، الجواد ابن الجواد "إلى ناحية اليمن"؛ لأنه كما قال ابن سعد: لما انصرف من الجعرانة بعث بعوثا إلى اليمن، فبعث المهاجرين أبي أمية إلى صنعاء، وزياد بن لبيد إلى حضرموت، وهيأ بعثا استعمل(4/28)
في أربعمائة فارس، وأمره أن يقاتل قبيلة صداء، حين مروره عليهم في الطريق فقدم زياد بن الحارث الصدائي، فسأل عن ذلك البعث فأخبر، فقال: يا رسول الله أنا وافدهم فاردد الجيش، وأنا لك بقومي، فردهم النبي صلى الله عليه وسلم من قناة.
وقدم الصدائيون بعد خمسة عشر يوما فأسلموا، وتأتي قصة وفدهم في الفصل العاشر من المقصد الثاني إن شاء الله تعالى.
__________
عليهما قيسا، وعقد له لواء أبيض، ودفع إليه راية سوداء، وعسكر بناحية قناة "في أربعمائة فارس"، من المسلمين، وأمره أن يقاتل قبيلة صداء"، بضم الصاد وفتح الدال المهملتين، والمد قال البخاري وغيره: حي من اليمن قيل أنه صداء بن حرب بن علة "حين مروره عليهم"، وسياق المصنف يوهم أن صداء غير مقصود بالبعث، وينافيه رد الجيش من قناة لما تكفل زياد بهم.
وقد ذكر الواقدي وغيره أنه بعثه إلى ناحية من اليمن فيها صداء، فهذا صريح أنهم المقصودون بالبعث، وأجاب شيخنا: بأن اليمن لما كان متسعا ولم يعلم المحل الذي فيه الصدائيون بخصوصه عين لهم الجهود دون المحل، بقوله: "في الطريق" أي في أي محل وجدتموهم فقاتلوهم "فقدم زياد بن الحارث"، ويقال ابن حارثة، قال البخاري والحارث: أصح "الصدائي" قال ابن يونس: صحابي معروف نزل مصر، فسأل عن ذلك البعث فأخبر، فقال: يا رسول الله أنا وافدهم، يعني قومه وفي رواية جئتك وافدًا على من ورائي، "فأردد الجيش، وأنا" أتكفل "لك بقومي"، أن بمجيئهم مسلمين.
وفي رواية وأنا لك بإسلام قومي وطاعتهم، فقال لي: "اذهب فردهم" فقلت: إن راحلتي قد كانت فبعث رجلا "فردهم النبي صلى الله عليه وسلم من قناة". بفتح القاف والنون واد بالمدينة.
قال الواقدي: ورجع الصدائي إلى قومه، "وقدم الصدائيون" أي وفدهم وهم خمسة عشر رجلا، كما يأتي في الوفود "بعد خمسة عشر يوما فأسلموا،" فقال صلى الله عليه وسلم: "إنك مطاع في قومك يا أخا صداء"، فقال: بل الله هداهم، ورجعوا إلى قومهم، ففشا فيهم الإسلام، ثم وافاه زياد في حجة الوداع بمائة منهم، كما ذكره الواقدي عن بعض بني المصطلق، "وتأتي قصة وفودهم في الفصل في الفصل العاشر من المقصد الثاني إن شاء الله تعالى".(4/29)
[البعث إلى بني تميم] :
وبعث عيينة بن حصن.
__________
البعث إلى بني تميم:
"وبعث عينية بن حصن" بن حذيفة بن بدر بن عمرو بن جوير، بالجيم مصغرا بن لوذان بن(4/29)
الفزاري إلى بني تميم بالسقيا، وهي أرض بني تميم -في المحرم سنة تسع في خمسين فارسا من العرب ليس فيهم مهاجري ولا أنصاري.
فكان يسير الليل ويكمن النهار، فهجم عليهم في صحراء، فدخلوا.
__________
ثعلبة بن عدي بن فزارة "الفزاري" يقال: كان اسمه حذيفة، فلقب عيينة، لشجة أصابته، فجحظت عيناه، أسلم قبل الفتح وشهدها وحنينا والطائف، وارتد في عهد أبي بكر، ثم عاد إلى الإسلام، وكان فيه جفاء الأعراب، وقع للشافعي في الأم في كتاب الركاز، أن عمر قتله على الردة.
قال في الإصابة ولم أرد من ذكر ذلك غيره، فإن كان محفوظًا فلا يذكر في الصحابة، لكن يحتمل أنه أمر بقتله فبادر إلى الإسلام فترك فعاش إلى خلافة عثمان، وقد ذكر ابن عبد البر أنه دخل على عثمان، فأغلظ له فقال عثمان: لو كان عمر ما أقدمت عليه. ا. هـ، وقال فيه أيضا في ترجمة طليحة بن خويلد، وقع في الأم أن عمر قتل طليحة وعيينة، وراجعت في ذلك جلال الدين البلقيني، فاستغربه جدا، ولعله قبل بالباء الموحدة، أي قبل منهما الإسلام. .اهـ.
"إلى بني تميم" وفي البخاري عن ابن إسحاق إلى بني العنبر من بني تميم، قال ابن هشام: والعنبر هو عمرو بن تميم "بالسقيا" بضم السين المهملة وإسكان القاف، فتحتية مقصور قرية جامعة من عمل الفرع، بينهما مما يلي الجحفة سبعة عشر ميلا، "وهي أرض بني تميم" فيه تسمح فالذي في العيون وغيرها، وكانوا فيما بين السقيا وأرض بني تميم، فلعله أطلق عليها أرضهم لقربها منها.
ذكر الواقدي: أن سبب البعث إليهم أنهم غاروا على ناس من خزاعة لما بعث صلى الله عليه وسلم إليهم بشر بن أبي سفيان العدوي الكلبي يأخذ منهم الصدقات، ونهاه عن كرائم أموالهم، فجمعوا له ما طلبه، فاستكثره بنو تميم، وقالوا: ما لهذا يأخذ أموالكم منكم بالباطل، فشهروا السيو، فقال الخزاعيون: نحن مسلمون وهذا أمر ديننا، فقال التميميون: لا يص إلى بعير منها أبدا، فهرب الرسول ورجع فأخبره صلى الله عليه وسلم الخبر، فوثب خزاعة على التميميين، فأخرجوهم وقالوا: لولا قرابتكم ما وصلتم إلى بلادكم، ليدخلن علينا بلاء من محمد صلى الله عليه وسلم حيث تعرضتم لرسوله تردونه عن صدقات أموالنا، فخرجوا راجعين إلى بلادهم، فقال صلى الله عليه وسلم: "من لهؤلاء القوم، فانتدب أول الناس عيينة"، قال ابن سعد: كان ذلك "في المحرم سنة تسع" بعثه "في خمسين فارسا من العرب ليس فيهم مهاجري، ولا أنصاري" من مزيد حذقه صلى الله عليه وسلم خافهم عليهم، فلم يبعث منهم أحدا، "فكان يسير الليل، ويكمن النهار، فهجم عليهم في صحراء" حال كونهم "فدخلوا" بالقاف.(4/30)
وسرحوا مواشيهم فلما رأوا الجمع ولوا فأخذ عيينة منهم أحد عشر رجلا، ووجدوا في المحلة إحدى عشرة امرأة وثلاثين صبيا.
فقدم منه عشرة من رؤسائهم، منهم: عطارد والزبرقان،
__________
وفتح الحاء وشد اللام، ما ضبطه بالقلم من الحلول، أي نزلوا بها وإن قرئ بالفاء والخاء المعجمة من الدخول صح، أي دخلوا محل دوابهم "وسرحوا مواشيهم، فلما رأوا الجمع ولوا، فأخذ عيينة،" وفي نسخة فأخذوا أي عيينة ومن معه "منهم أحد عشر رجلا".
قال البرهان: لا أعرفهم "ووجدوا في المحلة" بفتح الميم، المهملة واللام المشددة مكان نزولهم "إحدى عشرة امرأة" كما قال الواقدي وابن سعد، وتبعهما مغلطاي وغيره، وفي العيون إحدى وعشري امرأة قال البرهان: لا أعرفهن، وثلاثين صبيا لا أعرف أسمائهم. ا. هـ.
زاد في العيون فجلبهم إلى المدينة، فأمر بهم صلى الله عليه وسلم، فحبسوا في دار رملة بنت الحارث، "فقدم" في شأن الأسرى "منهم عشرة من رؤسائهم" ليسوا جمل القادمين، كما يوهمه المصنف، فقد قال ابن إسحاق: لما قدم سبيهم عليه صلى الله عليه وسلم، ركب فيهم وفد من بني تميم حتى قدموا عليه منهم ربيعة بن رفيع، وسبرة بن عمرو، والقعقاع بن معبد، وردان بن محرز، ومالك بن عمرو، وفراس بن حابس، وذكر باقي العشرة الذين عدهم بقوله: "منهم عطارد" بن حاجب بن زرارة التميمي استعمله صلى الله عليه وسلم على صدقات بني تميم.
روى الطبراني عنه: أنه أهدي إليه صلى الله عليه وسلم ثوب ديباج، كساه لأبيه كسرى، فدخل أصحابه، فقالوا: ما نزل عليك من السماء، فقال: وما تعجبون من ذا المناديل سعد بن معاذ في الجنة خير من هذا.
قال في الإصابة وارتد عطارد بعده صلى الله عليه وسلم مع من ارتد من تميم ومع سجاح، ثم أسلم وهو القائل فيها:
أضحت نبيتنا أنثى نطيف بها ... وأصبحت أنبياء الناس ذكرانا
فلعنة الله رب الناس كلهم ... على سجاح ومن بالكفر أغوانا
"والزبرقان" بكسر الزاي، وسكون الموحدة، وراء مكسورة ابن بدر التميمي السعدي.
قال في الإصابة: كان اسمه الحصين، ولقب الزبرقان لحسن وجهه، وهو من أسماء القمر. ا. هـ قال الشاعر:
تضيء به المنابر حين يرقى ... عليها مثل ضوء الزبرقان
وقال ابن السكيت وغيره: إنما قيل له ذلك لتصغيره عمامته، يقال: زبرقت الثوب إذا صغرته.(4/31)
وقيس بن عاصم، والأقرع بن حابس،
__________
قال في الروض: وكان يرفع له بيت من عمائم وثياب، ويضمخ بالزعرفان والطيب وتحجه بنو تميم قال الشاعر:
وأشهد من عوف حلولا كثيرة ... يحجون بيت الزبرقان المزعفرا
قال: وله أسماء الزبرقان، والمعمر والحصين، وكنى ثلاثة أبو العباس، وأبو سدرة وأبو عياش. ا. هـ أسلم وصحب.
قال ابن عبد البر: ولاه صلى الله عليه وسلم صدقات قومه، فأداها إلى أبي بكر، فأقره، ثم إلى عمر وعمي، وعاش إلى خلافة معاوية.
وقيل: بعدها وأنه وفد على عبد الملك، وقاد إليه خمسة وعشرين فرسا، ونسب كل فرس إلى آبائه وأمهاته، وحلف على كل فرس يمينا غير التي حلف بها على غيرها، فقال عبد الملك: عجبي من اختلاف أيمانه أشد من عجبي بمعرفته أنساب الخيل.
"وقيس بن عاصم" بن سنان بن منقر التميمي المنقري، بكسر الميم وسكون النون، وفتح القاف نسبة إلى جده المذكور، كان عاقلا حليما يقتدى به، حرم الخمر في الجاهلية.
روى ابن سعد بسن حسن عنه: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فلما دنوت منه قال: هذا سيد أهل الوبر قال عمر للأحنف: ممن تعلمت الحلم، قال: من قيس بن عاصم رأيته أتى برجل مكتوف وآخر مقتول، فقيل: هذا ابن أخيك قتل ابنك، فالتفت إلى أبن أخيه، فقال: يا ابن أخي بئيس ما فعلت، أثمت بربك،
وقطعت رحمك، ورميت نفسك بسهمك، ثم قال لابن له آخر: قم يا بني فوار أخاك، وحل كتاف ابن عمك وسق إلى أمه مائة ناقة دية ابنها، فإنها غريبة.
قال ابن حبان: كان له ثلاثة وثلاثون ولدا، ونزل البصرة، وبها مات، ورثاه عبدة بن الطيب بقوله:
عليك سلام الله قيس بن عاصم ... ورحمته ما شاء أن يترحما
فما كان قيس هلكه هلك واحد ... ولكنه بنيان قوم تهدما
"والأقرع بن حابس" التميمي، المجاشعي الدارمي، قال ابن إسحاق: وفد وشهد الفتح وحنينا والطائف، وهو من المؤلفة، وقد حسن إسلامه حضر اليمامة، وغيرها وحرب أهل العراق، وفتح الأنبار مع خالد.
قال ابن دريد: اسمه فراس، وإنما قيل له: الأقرع لقرع كان برأسه، وكان شريفا في الجاهلية، والإسلام استشهد بخراسان في زمن عثمان.
قال الحافظ: وقرأت بخط الرضى الشاطبي، أنه قتل باليرموك في عشرة من بنيه والله أعلم.(4/32)
فجاءوا إلى باب النبي صلى الله عليه وسلم فنادوا: يا محمد اخرج إلينا، فخرج صلى الله عليه وسلم، وأقام بلال الصلاة وتعلقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم يكلمونه، فوقف معهم ثم مضى فصلى الظهر، ثم جلس في صحن المسجد.
فقدموا عطارد بن حاجب فتكلم وخطب، فأمر صلى الله عليه وسلم ثابت بن قيس بن شماس فأجابهم.
__________
وذكر ابن الكلبي أنه كان مجوسيا قبل إسلامه. ا. هـ، ولا يشكل عليه حضوره في وفد تميم، بأنه أسلم قبل، وحضر مع النبي الغزوات المذكورة لقول ابن إسحاق قد كان الأقرع وعيينة شهدا معه صلى الله عليه وسلم، الغزوات الثلاث فلما قدم وفد تميم كانا معهم، "فجاءوا" لما رآهم النساء والذراري، وبكوا، فعجلوا "إلى باب النبي صلى الله عليه وسلم"، ولا يرد عليه قوله من وراء الحجرات؛ لأن النداء، وقع عند الباب، وسمع من ورائها "فنادوه: يا محمد اخرج إلينا" زاد في رواية تفاخرنا، ونفاخرك، وتشاعرنا، ونشاعرك، فإن مدحنا زين وذمنا شين، فلم يزد صلى الله عليه وسلم على أنه قال: "ذاك الله إذا مدح زان وإذا ذم شان إني لم أبعث بالشعر، ولم أؤمر بالفخر ولكن هاتوا".
وعند ابن إسحاق: فآذى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم من صياحهم.
وروى ابن جرير وغيره عن الأقرع: أنه ناداه صلى الله عليه وسلم من وراء الحجرات فلم يجبه فقال: يا محمد والله إن حمدي ليزين، وإن ذمي ليشين، فقال صلى الله عليه وسلم: "ذلك الله" فخرج صلى الله عليه وسلم" وأقام بلال الصلاة" للظهر، "وتعلقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم يكلمونه" في فداء عيالهم، "فوقف معهم، ثم مضى فصلى الهر، ثم جلس في صحن المسجد".
قال ابن إسحاق: فقالوا: يا محمد جئناك نفاخرك فائذن لشاعرنا وخطيبنا، فليقل، فقال: "أذنت لخطيبكم"، "فقدموا عطارد بن حاجب" فقام، "فتكلم وخطب".
قال ابن إسحاق: فقال: الحمد لله الذي له علينا الفضل، وهو أهله الذي جعلنا ملوكا، ووهب لنا أموالا عظاما نفعل فيها المعروف، وجعلنا أعز أهل المشرق، وأكثر عددا وعدة، فمن مثلنا في الناس، ألسنا برءوس الناس وأفضلهم؟ فمن فاخرنا، فليعدد مثل ما عددنا وإنا لو شئنا لأكثرنا الكلام، ولكنا نستحيي من الإكثار، وإنا نعرف بذلك، أقول هذا لأن تأتوا بمثل قولنا، وأمر أفضل من أمرنا، ثم جلس، "فأمر صلى الله عليه وسلم ثابت بن قيس بن شماس"، بمعجمة، وشد الميم، فألف، فمهملة، الخزرجي الخطيب، من كبار الصحابة بشره صلى الله عليه وسلم بالجنة، واستشهد باليمامة، فأجابهم".
قال ابن إسحاق: فقال صلى الله عليه وسلم لثابت: "قم فأجب الرجل في خطبته"، فقام ثابت، فقال الحمد لله الذي السموات والأرض خلقه، قضى فيهن أمره ووسع كرسيه علمه، ولم يكن شيء(4/33)
ونزل فيهم: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُون} [الآية، [الحجرات: 4] ورد عليهم صلى الله عليه وسلم الأسرى والسبي.
__________
قط إلا من فضله، ثم كان من قدرته أن جعلنا ملوكا، واصطفى خير خلقه رسولا أكرمه نشبا وأصدقه حديثا، وأفضله حسبا، وأنزل عليه كتابا، وائتمنه على خلقه، فكان خيرة الله في العالمين، ثم دعا الناس إلى الإيمان به، فآمن برسول الله صلى الله عليه وسلم المهاجرون من قومه وذوي رحمه، أكرم الناس أحسابا، وأحسن الناس وجوها، وخير الناس فعالا، ثم كنا أول الخلق إجابة واستجابة لله حين دعا رسول الله، فنحن أنصار الله وزراء رسول الله، نقاتل الناس حتي يؤمنوا بالله، فمن آمن بالله ورسوله منع ماله ودمه، ومن كفر جاهدناه في الله أبدا، وكان قتله علينا يسير.
أقول قولي هذا واستغفر الله لي وللمؤمنين والمؤمنات والسلام عليكم، فقام الزبرقان، فقال قصيدة، وكان حسان غائبا، فبعث إليه صلى الله عليه وسلم فلما فرغ قال: "يا حسان قم فأجب الرجل"، فقام فأجابه والقصيدتان في ابن إسحاق، وسيكون لنا إن شاء الله تعالى عودة لذكرهما، حيث ذكر المصنف بعض القصيدة في ترجمة حسان.
قال ابن إسحاق: فلما فرغ حسان، قال الأقرع بن حابس: وأبي إن هذا الرجل المؤتى له لخطيبه أخطب من خطيبنا، ولشاعره من شاعرنا، ولأصواتهم أعلى من أصواتنا، فلما فرغ القوم أسلموا وجوزهم، فأحسن جوائزهم، قال: "ونزل فيهم": من القرآن: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ} من خارجها، خلفها أو قدامها؛ لأن وراء في الأصل مصدر جعل ظرفا فيضاف للفاعل، ويراد به ما يتوارى به وهو خلفه، وللمفعول ويراد به ما يواريه وهو قدامه، ولذا عد من الأضداد، والمراد حجرات نسائه ومناداتهم من ورائها إما بأنهم أتوها حجرة، حجرة، فنادوه، أو تفرقوا عليها متطلبين له؛ لأنهم لم يعلموه بأيها مناداة الأعراب بغلظة وجفاء: {أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُون} محلك الرفيع وما يناسبه من التعظيم، إذ العقل يقتضي حسن الأدب، وفيه تسلية الرسول وتلميح بالصفح عنهم، "ورد عليهم صلى الله عليه وسلم الأسرى والسبي"، بفداء النصف، والمن على النصف، كما روي عن ابن عباس أو من على الكل تفضلًا بعد إسلامهم ترغيبا لهم فيه، وإن وافقهم قبل على فداء النصف، وهذا هو الظاهر من مزيد كرمه صلى الله عليه وسلم، وإن جزم ابن إسحاق بأنه أعتق بعضا، وفادى بعضًا.
وقد روى ابن شاهين وغيره من طريق المدائني، عن رجاله قالوا: لما أصاب عيينة بن حصن بني العنبر من بني تميم، قدم وفدهم، فذكر القصة وفيها فكلم الأقرع بن حابس رسول الله صلى الله عليه وسلم في السبي، وكان بالمدينة قبل قدوم السبي، فنازعه عيينة بن حصن، وفي ذلك(4/34)
وفي البخاري: عن عبد الله بن الزبير: أنه قدم ركب من بني تميم على النبي صلى الله عليه وسلم فقال أبو بكر: أمر القعقاع بن معبد بن زرارة، وقال عمر: بل أمر الأقرع بن حابس، قال أبو بكر: ما أردت إلا خلافي، فقال عمر: ما أردت خلافك، فتماريا حتى ارتفعت
__________
يقول الفرزدق يفخر بعمه الأقراع:
وعند رسول الله قام ابن حابس ... بخطة سوار إلى المجد حازم
له أطلق الأسرى التي في قيودها ... مغللة أعناقها في الشكائم
كفى أمهات الخائفين عليهم ... غلاء المفادي أو سهام المقاسم
وهذا قد يرد على من زعم أن المنادي عيينة والأقرع، وأسند إلى الكل، لرضاعهم أو أمرهم به أو وجوده بينهم، ويحتمل التوفيق بأن كلا ناداه لمراده، فمراد عيينة الفداء ونحوه، ومراد الأقرع المن بلا شيء وعدا من الوفد، تجوزا؛ لأنهما من القبيلة، وإن كانا أسلما قبل وكانا بالمدينة.
"وفي البخاري" هنا، وفي التفسير "عن عبد الله بن الزبير" أمير المؤمنين الصحابي ابن الصحابي "أنه" قال: "قدم ركب من بني تميم" قيل: كانوا سبعين من رؤسائهم العشرة الذين ذكر المصنف منهم أربعة "على النبي صلى الله عليه وسلم" فأسلموا وسألوه أن يؤمر عليهم أحدا، "فقال أبو بكر" الصديق "أمر" عليهم "القعقاع" بفتح القافين بينهما عين مهملة، فألف مهملة "ابن معبد، بفتح الميم، والموحدة بينهما عين ساكنة مهملة، وآخره دال مهملة.
"ابن زرارة" بن عدي بن زيد بن عبد الله بن دارم التميمي الدارمي الصحابي.
قال هشام بن الكلبي: كان يقال له تيار الفرات لسخائه، وعند البغوي قال أبو بكر: استعمل القعقاع بن زرارة، فنسبه لجده.
قال ابن التين: كانت فيه رقة، فلذا اختاره أبو بكر "وقال عمر" الفروق: "بل أمر" عليهم "الأقرع بن حابس" لشرفه فيهم، وصلابته وحسن إسلامه، وقرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه من خندف، ثم من بني تميم، كما أفاده السهيلي.
"قال أبو بكر" لعمر رضي الله عنهما: "ما أردت إلا خلافي،" بكسر الهمزة وشد اللام، أي ليس مقصودك إلا مخالفة قولي، وفي رواية إلى خلافي بإلى الجارة، فما استفهامية، أي أي شيء قصدت منتهيا إلى خلافي "فقال عمر: ما أردت خلافك" تعنتا، وإنما أردت أن تولية الأقرع عليهم أصلح، ولم يظهر لك أنت ذلك، فأشرت بتولية غيره، "فتماريا" تجادلا وتخاصما "حتى(4/35)
أصواتهما، فنزل في ذلك: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الحجرات: 1] حتى انقضت، أي لا تقدموا القضاء في الأمر قبل أن يحكم الله ورسوله فيه.
ولما نزل: {لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ} [الحجرات: 2] أقسم أبو بكر لا يتكلم بين يدي رسول الله إلا كما يسارر الرجل صاحبه،
__________
ارتفعت أصواتهما" في ذلك فنزلت في ذلك: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الحجرات: 1] حتى انقضت أي الآية، كما هو رواية البخاري في التفسير، "أي لا تقدمو القضاء" فالمفعول محذوف ليذهب الوهم إلا كل ما يمكن أو تركه؛ لأن القصد نفي التقديم رأسا "في الأمر قبل أن يحكم الله ورسوله فيه".
وفي البخاري قال مجاهد: لا تقدموا لا تقتاتوا على رسول الله حتى يقضي الله على لسانه، قال الزركشي: الظاهر أن هذا التفسير على قراءة ابن عباس ويعقوب، بفتح التاء، والدال، والأصل لا تتقدموا، فحذف إحدى التاءين.
قال الدماميني: بل هو متأت على القراءة المشهورة أيضا فإن قدم بمعنى تقدم قال الجوهري: وقدم بين يديه أي تقدم قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الحجرات: 1] . ا. هـ.
وروى ابن المنذر عن الحسن: أن ناسا ذبحوا قبله صلى الله عليه وسلم يوم النحر، فأمرهم أن يعيدوا، وزلت الآية، وأخرج الطبراني عن عائشة أن ناسا كانوا يتقدمون الشهر، فيصومون قبله صلى الله عليه وسلم، فنزلت، وروى ابن جرير عن قتادة: ذكر لنا أن ناسا كانوا يقولون: لو أنزل في كذا، فنزلت ولا شك أن الأصح الأول لكونه مروي البخاري ويحتمل تعدد الأسباب، وقد قال الفخر الرازي: الأصح أنه إرشاد عام يشمل الكل، ومنع مطلق يدخل فيه كل افتيات، وتقدم واستبداد بالأمر، وإقدام على فعل غير ضروري بلا مشاورة، "ولما نزل" بسبب المماراة أيضا: {لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} [الحجرات: 2] .
قال المصنف: أي إذا كلمتموه؛ لأنه يدل على قلة الاحتشام وترك الاحترام، ومن خشي قلبه ارتجف، وضعفت حركته الدافعة، فلا يخرج منه الصوت بقوة، ومن لم يخف بالعكس، وليس المراد بنهي الصحابة عن ذلك أنهم كانوا مباشرين ما يلزم منه الاستخفاف والاستهانة، فكيف وهم خير الناس، بل المراد أن التصويت بحضرته مباين لتوقيره وتعزيره. ا. هـ.
"أقسم أبو بكر لا يتكلم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا كما يسارر الرجل صاحبه"، وفي البخاري: من وجه آخر عن أبن أبي ملكية كاد الخيران أن يهلكا أبو بكر وعمر رفعا أصواتهما عند(4/36)
ونزل فيه وفي أمثاله: {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ} [الحجرات: 3] الآية.
__________
النبي صلى عليه حين قدم عليه ركب بني تميم، فأنزل الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ} [الحجرات: 2] .
قال ابن الزبير: فكان عمر لا يسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية حتى يستفهمه، ولم يذكر ذلك عن أبيه، يعني أبا بكر وعنده في الاعتصام، فكان عمر بعد ذلك إذا حدثه صلى الله عليه وسلم بحديث يحدثه كأخي السرار لا يسمعه حتى يستفهمه، والحاصل أنهما رضي الله عنهما كانا يفعلان ذلك، وزاد أبو بكر الحلف، "ونزل فيه وفي أمثاله،" كعمر وثابت بن قيس خطيبه فإنه، كان من أرفع الصحابة صوتًا، ولما نزلت جلس في بيته منكسا رأسه، فافتقده صلى الله عليه وسلم، فقال لرجل: "قل إنك لست من أهل النار، ولكنك من أهل الجنة"، {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ} [الحجرات: 3] {أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} [الحجرات: 3](4/37)
[بعث الوليد إلى بني المصطلق] :
ثم بعث الوليد بن عقبة بن أبي معيط إلى بني المصطلق بن خزاعة يصدقهم،
__________
بعث الوليد إلى بني المصطلق:
"ثم بعث الوليد بن عقبة بن أبي معيط" إبان بن أبي عمرو، وذكوان بن أبي أمية بن عبد شمس بن عبد مناف الأموي، أخا عثمان لأمه يكنى أبا وهب، كان شجاعا، شاعرا من رجال قريش وسرواتهم، أسلم في الفتح ونشأ في كنف عثمان إلى أن استخلف فولاه الكوفه، ثم عزله للشرب وحده، كما في الصحيحين، ولما مات عثمان اعتزل الوليد الفتنة، فلم يشهد مع علي ولا غيره، وأقام بالرقة إلى أن مات في خلافة معاوية "إلى بني المصطلق" بضم الميم، وسكون الصاد، وفتح الطاء المهملتين، وكسر اللام آخره قاف لقب لجذيمة بجيم ومعجمة مصغرا ابن سعد بن عمرو بطن "بن خزاعة" بضم الميم وفتح الزاي مخففة.
قال المحدحي: من الأزد سمو بذلك؛ لأنهم تخزعوا، أي تخلفوا عن قومهم، وأقاموا بمكة "يصدقهم" أي: يأخذ الصدقة منهم؟ وسبب ذلك كما أخرجه الإمام أحمد وغيره بإسناد جيد عن الحارث بن ضرار الخزاعي قال: قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعاني إلى الإسلام فأسلمت، وإلى الزكاة فأقررت بها، وقلت: يا رسول الله أرجع إلى قومي فادعوهم إلى الإسلام وأداء الزكاة، فمن(4/37)
وكان بينهم وبينه عداوة في الجاهلية، وكانوا قد أسلموا وبنوا المساجد، فلما سمعوا بدنو الوليد خرج منهم عشرون بالجزر والغنم، فرحا به وتعظيما لله ولرسوله، فحدثه الشيطان أنهم يريدون قتله، فرجع من الطريق قبل أن يصلوا إليه، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنهم لقوه بالسلاح يحولون بينه وبين الصدقة.
فهم صلى الله عليه وسلم أن يبعث إليهم من يغزوهم، وبلغ ذلك القوم، فقدم عليه الركب الذي لقوا الوليد، فأخبروا النبي صلى الله عليه وسلم الخبر على وجهه، فنزلت هذه الآية
__________
استجاب لي جمعت زكاته، فترسل إلي لوقت كذا، فجمعت من الزكاة، فلما جاء الوقت لم يأته رسول، فظن، أنه حدث فيه شيء فدعا سروات قومه فقال لهم: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قد وقت وقتا يرسل إلى رسوله ليقبض ما عندي من الزكاة وليس الخلف منه، ولا أرى منع رسوله إلا مني فتعالوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعث صلى الله عليه وسلم: الوليد بن عقبة "وكان بينهم وبينه عداوة في الجاهلية، وكانوا قد أسلموا وبنوا المساجد، فلما سمعوا بدنوا" بقرب "الوليد، خرج منهم عشرون رجلا بالجزر" جمع جزور "والغنم" أي يؤدونها عن زكاتهم، كذا جزم به شيخنا "فرحًا به" أي لكونه رسول الله المصطفى، كما يدل عليه "وتعظيما لله ولرسوله".
وعند ابن عبد البر ومعهم السلاح "فحدثه الشيطان أنهم يريدون قتله" لرية السلاح، مع أنهم إنما خرجوا به تجملا على عادة العساكر، فخاف "فرجع من الطريق قبل أن يصلوا إليه، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم مستندا لظنه "أنهم لقوه بالسلاح يحولون بينه وبين الصدقة"، ولعبد الرزاق وغيره عن قتادة: فقال: ارتدوا "فهم صلى الله عليه وسلم أن يبعث إليهم من يغزوهم، وبلغ ذلك، أي همه بغزوهم "القوم" أي وبعث بالفعل: ففي حديث الحارث عند أحمد تلو ما مر فلما سار الوليد فرق، أي خاف فرجع فقال: إن الحارث منعني الزكاة وأراد قتلي، فضرب صلى الله عليه وسلم البعث إلى الحارث، فأقبل الحارث بأصحابه إذ استقبل البعث، فقال لهم: إلى أين بعثتم؟ فقالوا: إليك قال: ولم؟ قالوا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث الوليد فزعم أنك منعته الزكاة، وأردت قتله، قال: لا والذي بعث محمدا ما رأتيه ولا أتاني فلما دخل عليه عليه الصلاة والسلام قال له صلى الله عليه وسلم: "منعت الزكاة وأردت قتل رسولي" قال: قال: والذي بعثك بالحق فنزلت الآية: "فقدم عليه الركب الذين لقوا الوليد" من بعد ولم يصلوا إليه، "فأخبروا النبي صلى الله عليه وسلم الخبر على وجهه، فنزلت
هذه الآية"، كما رواه أحمد وغيره من حديث الحارث والطبراني بنحوه من
حديث جابر، وعلقمة بن ناجية، وأم سلمة وابن جرير عن أنس، ووردت من مرسل قتادة وعكرمة، ومجاهد قال ابن عبد البر: خلاف بين أهل التأويل، أنها نزلت في الوليد، ويعارضه ما أخرجه أبو داود، عن أبي موسى(4/38)
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6] إلى آخر الآية، فقرأ عليهم القرآن، وبعث معهم عباد بن بشر يأخذ صدقات أموالهم، ويعلمهم شرائع الإسلام ويقرئهم القرآن.
__________
عبد الله الهمداني، عن الوليد بن عقبة قال: لما افتتح صلى الله عليه وسلم مكة جعل أهلها يأتونه بصبيانهم، فيمسح على رءوسهم فأتى به إليه، وأنا مخلق، فلم يمسني من أجل الخلوق لكن ضعفه ابن عبد البر بأن أبا موسى مجهول، قال: ومن يكون صبيا يوم الفتح لا يبعثه صلى الله عليه وسلم مصدقا بعد الفتح بقليل، وقد ذكر الزبير بن بكار وغيره من علماء السير، أن أم كلثوم بنت عقبة لما هاجرت في الهدنة خرج أخواها الوليد، وعمارة ليرداها قال: فمن يكون صبيا يوم الفتح كيف يخرج ليرد أخته قبله.
قال الحافظ: وما يؤيد أنه كان في الفتح رجلا أنه قدم في فداء ابن عم أبيه الحارث بن أبي وجرة لما أسر يوم بدر، فافتداه بأربعة آلاف.
حكاه أهل المغازي: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6] يعني جنسها.
ففي حديث الحارث عند أحمد وغيره، فنزلت: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6] إلى قوله {عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [الحجرات: 8] ولا يشكل تسميته فاسقا بإخباره عنهم بذلك على ظنه للعداوة ورؤية السيوف، وذلك لا يقتضي الفسق؛ لأن المراد الفسق اللغوي، وهو الخروج عن الطاعة، وسماه فاسقا لإخباره بخلاف الواقع على المبعوث إليهم لا الشرعي الذي هو من ارتكب كبيرة أو أصر على صغيرة العدالة الصحابة، وقد صرح بعضم: بأن كون ذلك مدلول الفسق لا يعرف لغة إنما هو مدلول شرعي، "فقرأ عليهم صلى الله عليه وسلم القرآن، وبعث معهم عباد بن بشر" الأنصاري البدري، من قدماء الصحابة، أسلم قبل الهجرة، وأبلى يوم اليمامة، فاستشهد بها، يأخذ صقدات أموالهم، ويعلمهم شرائع الإسلام، ويقرئهم القرآن" بعد أن كان بعد خالد بن الوليد لاستكشاف الخبر، فروى عبد الرزاق وغيره، عن قتادة وعكرمة ومجاهد: أنه صلى الله عليه وسلم بعث خالد بن الوليد في عسكر، وأمره أن يخفي عنهم قدومه، فلما دنا منهم بعث عيونا ليلا، فإذا هم ينادون بالصلاة ويصلون، فأتاهم خالد، فلم ير منهم إلا طاعة وخيرًا، فرجع إليه صلى الله عليه وسلم فأخبره، فنزلت الآية، فبعث معهم عبادا الجمل الثلاث التي ذكرها المصنف.(4/39)
[سرية ابن عوسجة] :
وفي "شرف المصطفى" للنيسابوري مما ذكره مغلطاي أنه عليه الصلاة والسلام بعث عبد الله بن عوسجة إلى بني عمرو بن حارثة، وقيل: حارثة بن عمرو، قال: -وهو الأصح- في مستهل صفر ويدعوهم إلى الإسلام، فأبوا أن يجيبوا واستخفوا بالصحيفة، فدعا عليهم صلى الله عليه وسلم بذهاب العقل، فهم إلى اليوم أهل رعدة وعجلة، وكلام مختلط.
__________
سرية ابن عوسجة:
"وفي شرف المصطفى للنيسابوري" عبد الرحمن، الحافظ أبي سعد "مما ذكره مغلطاي"، وأصله في مغازي الواقدي بلا إسناد، وتبعه جماعة "أنه عليه الصلاة والسلام بعث عبد الله بن عوسجة" بفتح العين والسين المهملتين، بينهما واو ساكنة، وبالجيم العوفي الصحابي "إلى بني عمرو بن حارثة، وقيل: حارثة بن عمرو قال: وهو الأصح"؛ لأنه المذكور في المغازي للواقدي التي هي سلف من ذكر هذه القصة "في مستهل صفر".
وقال الطبري: كما في الإصابة في مستهل ربيع الأول، سنة تسع من الهجرة، "يدعوهم إلى الإسلام، فأبوا أن يجيبوا واستخفوا بالصحيفة".
قال الواقدي: فغسلوها، ورقعوا بها أسفل دلوهم، فرفع ذلك له عليه السلام، "فدعا عليهم صلى الله عليه وسلم بذهاب العقل"، فقال: ما لهم ذهب الله بعقولهم "فهم إلى اليوم أهل رعدة" بكسر الراء اضطراب في أجسادهم" "وعجلة" في كلامهم، "وكلام مختلط" لا يفهم، وأهل سفه.
قال الواقدي: قد رأيت بعضهم عيالا يحسن يعني الكلام. ا. هـ ... والله أعلم.(4/40)
[سرية قطبة إلى خثعم] :
ثم سرية قطبة بن عامر بن حديدة إلى خثعم، قريبا من تربة -بفتح الراء- من أعمال مكة سة تسع، وبعث معه عشرين رجلًا، وأمره أن يشن الغارة عليهم.
__________
سرية قطبة إلى خثعم:
"ثم سرية قطبة" بضم القاف، وسكون الطاء المهملة وبالموحدة "ابن عامر بن حديدة" بن عمرو الخزرجي العقبي، شهد بدرًا والمشاهد، وحمل راية بني سلمة يوم الفتح.
قال البغوي: لا أعلم له حديثا مات في خلافة عمر، قال أبو حاتم، وقال ابن حبان: في خلافة عثمان "إلى خثعم" بفتح المعجمة، وسكون المثلثة، وفتح المهملة "قريبا من تربة" بضم الفوقية، و"بفتح الراء،" والموحدة الخفيفة، وتاء التأنيث "من أعمال مكة" على يومين منها في صفر "سنة تسع، وبعث معه عشرين رجلا وأمره أن يشن الغارة عليهم"، أي يفرقهم من كل(4/40)
فاقتتلوا قتالا شديدا حتى كثر الجرحى في الفريقين جميعا، وقتل قطبة من قتل، وساقوا النعم والشاء والنساء إلى المدينة، وكانت سهامهم أربعة أبعرة، والبعير يعدل بعشرة من الغنم بعد أن أخرج الخمس.
__________
وجه، قال ابن سعد: فخرجوا على عشرة أبعرة يعتقبونها، فأخذوا رجلًا فسألوه، فاستعجم عليهم، أي سكت، ولم يعلمهم بالأمر فجعل يصيح بالحاضر، ويحذرهم، فضربوا عنقه، ثم أقاموا حتى نام الحاضر فشنوا عليهم الغارة، "فاقتتلوا قتالا شديدا حتى كثر الجرحى في الفريقين جميعا" المسلمين والمشركين، "وقتل قطبة من قتل، وساقوا النعم والشاء والنساء إلى المدينة".
قال ابن سعد: فجاء سيل، فحال بينهم وبينه، فما يجدون إليه سبيلًا، "وكانت سهامهم أربعة أبعرة، والبعير يعدل بعشرة من الغنم بعد أن أخرج الخمس" الذي لله سبحانه وتعالى، والله أعلم.(4/41)
[سرية الضحاك إلى القرطاء] :
ثم سرية الضحاك بن سفيان الكلابي إلى بني كلاب، في ربيع الأول سنة تسع، إلى القرطاء، فدعاهم إلى الإسلام فأبوا، فقاتلوا فهزموا وغنموا.
__________
سرية الضحاك إلى القرطاء:
"ثم سرية الضحاك بن سفيان" بن عوف بن كعب بن أبي بكر بن كلاب "الكلابي"، أبي سعيد الصحابي أحد، عمال المصطفى صلى الله عليه وسلم على الصدقات، وكان شجاعا بعد بمائة فارس، قاله الواقدي، وقال ابن سعد: كان ينزل نجدا، وكان واليا على من أسلم هناك من قومه.
وروى البغوي: أنه كان شيئًا قاله صلى الله عليه وسلم قائمًا على رأسه متوشحا، نسبة "إلى بني كلاب" جده المذكور، فهو صلة للمحذوف المقدر، ووجد كذلك في نسخة، وذكره دفعا لتوهم نسبته على غير قياس إلى كلب، أو بني كلبة، أو بني أكلب، أو بني كلب قبائل، كما في القاموس "في ربيع الأول" عند ابن سعد، وتبعه مغلطاي واليعمري وغيرهما، وقد علم من المصنف أنه لا يعد عنه، وقال شيخه الواقدي: في صفرة، واتفقا على كونها "سنة تسع،" وقال الحاكم: في آخر سنة ثمان بجيش "إلى القرطاء" بضم القاف، وفتح الراء، والطاء المهملة والمد، بطن من بني بكر، واسمه عبيد بن كلاب، وهم أخوة قرط، كقفل وقريط، كزبير وقريط، كأمير، كما تقدم مبسوطا، "فدعاهم إلى الإسلام، فأبوا فقاتلهم" الضحاك والجيش الذين معه، "فهزموا وغنموا".
قال ابن سعد: فلحق الأصيد بن سلمة بن قرط أباه سلمة على فرس له في غدير، فدعاه
إلى الإسلام، فسبه وسب دينه، فضرب عرقوبي فرسه، فوقع على عرقوبيه، فارتكز سلمة على رمحه في الماء، ثم استمسك حتى جاءه أحدهم، فقتله ولم يقتله ابنه.
قال الواقدي: وفيه يقول العباس بن مرداس:
إن الذين وفوا بما عاهدتهم ... جيش بعثت عليهم الضحاكا
طورا يعانق باليدين وتارة ... يفري الجماجم صارما فتاكا(4/41)
[سرية علقمة إلى طائفة من الحبشة] :
ثم سرية علقمة بن مجزز المدلجي إلى طائفة من الحبشة، في ربيع الآخر، وقال الحاكم في صفر سنة تسع.
وذكر ابن سعد أن سبب ذلك: أنه بلغه صلى الله عليه وسلم أن ناسا من الحبشة تراآهم أهل حدة،
__________
سرية علقمة إلى طائفة من الحبشة:
"ثم سرية علقمة بن مجزز" بضم الميم، وفتح الجيم ومعجمتين، الأولى مكسورة ثقيلة، وحكى فتحها والأول أصوب، وقال عياض، وقع لأكثر الرواة بسكون المهملة وكسر الراء المهملة، وعن القابسي بجيم، ومعجمتين وهو الصواب، وأغرب الكرماني، فحكى فيه بالحاء المهملة، وشد الراء فتحا وكسرا، وهو خطأ ظاهر، قاله في الفتح "المدلجي" بضم الميم وسكون المهملة، وكسر اللام والجيم، نسبة إلى جده الأعلى مدلج قبيلة من كنانة، ويقال أيضا: الكناني الصحابي ابن الصحابي، كما جزم أبو عمر في الاستيعاب بعد أبيه في الصحابة، وهو القائف المذكور في حديث أسامة، ووافقه جماعة وأغفله كثير ممن صنف في الصحابة.
وذكر الواقدي وابن سعد أن عمر بعث علقمة في سنة عشرين في جيش إلى الحبشة في البحر فأصيبوا، فجعل عمر على نفسه أن لا يحمل في البحر أحدا ورثاه خراش الهذلي بقوله:
إن السلام وحسن كل تحية ... تغدو على ابن مجزز وتروح
"إلى طائفة من الحبشة،" لا إلى نفس البلد، الآتي "في ربيع الآخر" عند ابن سعد، "وقال الحاكم" والواقدي: "في صفر سنة تسع،" ويحتمل الجمع بأن التهيئ، وإرادة البعث كان في آخر صفر، والذهاب أول ربيع والتأخر تلك المدة حتى يحقق أمرهم.
"وذكر ابن سعد" وشيخه الواقدي: "أن سبب ذلك"، أي بعث السرية "أنه بلغه صلى الله عليه وسلم أن ناسا من الحبشة تراآهم"، أي نظروهم ورأوهم، كما قال الشامي، فالمراد أصل الفعل، لا التفاعل "أهل جدة" بضم الجيم وشدة المهملة وفيه تجوز، فعند الواقدي تراآهم أهل الشعيبة في ساحل(4/42)
فبعث إليهم علقمة بن مجزز في ثلاثمائة، فانتهى إلى جزيرة في البحر، فلما خاض البحر إليهم هربوا.
فلما رجع علقمة، تعجل بعض القوم إلى أهليهم، فأمر عبد الله بن حذاقة على من تعجل، وكانت فيه دعابة،
__________
جدة بضم الشين المعجمة، وفتح المهملة، وسكون التحتية، وفتح الوحدة، فتاء تأنيث، "فبعث إليهم علقمة بن مجزز" لجزه نواصي إساري من العرب، ولذا صوب كونه بمعجمتين جماعة من الحفاظ.
ووقع في رواية الحافظ أبي ذر في الصحيح، كأكثر الرواة، كما مر عن عياض أنه بالحاء المهملة والراء المكسورة، ويحتمل الجمع بأن المهملة اسمه الأصلي، وبالمعجمة لقبه لجزه النواصي "في ثلاثمائة فانتهى".
قرب "إلى جزيرة في البحر،" فأراد الوصول إليها، "فلما خاض البحر" مشى فيه ليصل "إليهم هربوا".
وذكر ابن إسحاق: أن سبب ذلك أن وقاص بن مجزز قتل يوم ذي قرد، فأراد علقمة أن يأخذ بثأر أخيه، فأرسله صلى الله عليه وسلم في هذه السرية.
قال الحافظ: فهذا يخالف ما ذكره ابن سعد إلا أن يجمع بأن يكون أمره بالأمرين.
"فلما رجع علقمة" هو وأصحابه، ولم يلقوا كيدا، "تعجل بعض القوم" أرادوا الرجوع قبل بقية الجيش "إلى أهليهم".
وعند ابن إسحاق، فتعجل عبد الله بن خذافة، فيهم، "فأمر عبد الله بن حذافة،" بضم الحاء المهملة، فذال معجمة، فألف، ففاء.
ابن قيس بن عدي بن سعيد، بالتصغير ابن سهم القرشي السهمي، من قدماء المهاجرين، يقال: شهد بدرا، مات بمصر في خلافة عثمان، ومن منافيه ما أخرجه البيهقي عن أبي رافع قال: وجه عمر جيشا إلى الروم، وفيهم عبد الله بن حذافة فأسروه، فقال له ملك الروم: تنصر وأشركك في ملكي فأبى فأمر به فصلب، فأمر بإلقائه إن لم يتنصر، فلما ذهبوا به بكى، فقال: ردوه، فقال له: لم بكيت؟، قال: تمنيت أن لي مائة نفس تلقى هذا في الله فعجب، فقال: قبل رأسي وأنا أخلي، عنك فقال: وعن جميع أسارى المسلمين، قال: نعم، فقبل رأسه، فخلى سبيلهم، فقدم بهم على عمر، فقام عمر، فقبل رأسه، وله شاهد عند ابن عساكر، عن ابن عباس "على من تعجل، وكانت فيه دعابة" بضم الدال، وبالعين المهملتين فألف فموحدة ما يستملح من المزاح، كما في المصباح وفي القاموس أنها اللعب.(4/43)
فنزلوا ببعض الطريق وأوقدوا نارا يصطلون عليها، فقال: عزمت عليكم إلا تواثبتم في هذه النار، فلما هم بعضهم بذلك قال: اجلسوا، فإنما كنت أمزح.
فذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: "من أمركم بمعصية فلا تطيعوه"، ورواه الحاكم وابن ماجه وصححه ابن خزيمة، وابن حبان من حديث أبي سعيد الخدري.
وبوب عليه البخاري فقال: سرية عبد الله بن حذافة السهمي، وعلقمة بن مجزز المدلجي، ويقال: إنها سرية الأنصاري، ثم روي عن على قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم سرية، فاستعمل عليها رجلا من الأنصار،
__________
وفي السبل المزاح، "فنزلوا ببعض الطريق، وأوقدوا نارا يصطلون عليها" يستدفئون بها.
وفي حديث أبي سعيد ليصنعوا عليها صنيعا لهم أو يصطلون، "فقال: عزمت عليكم،" أي أمرتكم أمرا جدا، "إلا تواثبتم في هذه النار فلما هم" قصد "بعضهم بذلك قال: اجلسوا" امنعوا أنفسكم من التواثب، "فإنما كنت أمزح فذكروا ذلك" لما قدموا "للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: "من أمركم بمعصية، فلا تطيعوه"" لحرمة طاعته فيها.
و هذا الذي ذكره ابن سعد "رواه" أحمد، و"الحاكم وابن ماجه، وصححه ابن خزيمة وابن حبان" كلهم "من حديث أبي سعيد الخدري،" قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم علقمة بن مجزز على بعث أنا فيهم حتى انتهينا إلى رأس غزاتنا، أو كنا ببعض الطريق أذن لطائفة من الجيش، وأمر عليهم عبد الله بن حذافة السهمي، وكان من أصحاب بدر وكانت فيه دعابة، فلما كان ببعض الطريق أوقد القوم نارًا ليصنعوا عليها صنيعًا، لهم أو يصطلون فقال لهم: أليس لي عليكم السمع والطاعة؟، قالوا: بلى، قال: أفما أنا آمركم بشيء إلا فعلتموه، قالوا: نعم، قال: فإني أعزم عليكم بحقي وطاعتي لما تواثبتم في هذه النار، فقام بعض القوم يحتجز حتى ظن أنهم واثبون عنها، فقال: احبسوا أنفسكم، فإنما كنتم أضحك معكم، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن قدمنا عليه، فقال: "من أمركم منهم بمعصية، فلا تطيعوه"، "وبوب عليه، البخاري" في الصحيح، "فقال" باب "سرية عبد الله بن حذافة السهمي" نسبة إلى جده سهم "وعلقمة بن مجزز المدلجي ويقال: إنها"، أي هذه السرية "سرية الأنصاري" لقول الحديث من الأنصار "ثم روي" في الباب في الأحكام، وفي خبر الواحد ومسلم في المغازي، عن "علي قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم سرية، فاستعمل عليها،" ولأبي ذر بالواو "رجلا من الأنصار" قال في المقدمة: كذا في هذه الرواية، وهي سرية علقمة، والذي وقع له ذلك هو عبد الله بن حذافة السهمي، فلعل من أطلق عليه أنصاريًّا أطلقه باعتبار حلف، أو غير ذلك من أنواع المجاز. ا. هـ.(4/44)
وأمرهم أن يطيعوه، فغضب عليهم فقال: أليس قد أمركم النبي صلى الله عليه وسلم أن تطيعوني؟ قالوا: بلى، قال: فاجمعوا حطبا، فجمعوا، فقال: أوقدوا نارا، فأوقدوها، فقال: ادخلوا، فهموا وجعل بعضهم يمسك بعضا ويقولون: فررنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم من النار، فما زالوا حتى خمدت النار، فسكن غضبه، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "لو دخلوها ما خرجوا منها".
__________
وهذا حسن، وأما قول المصنف هو ابن حذافة، فيما قاله، ابن سعد، ففيه نظر؛ لأن ابن سعد لم يقل أن المصطفى استعمله، إنما قال: استعمله علقمة حين تعجل، فيمن تعجل، ولذا قال البرماوي: لعل تأمير علقمة لابن حذافة عذر البخاري، حيث جمع بينهما في الترجمة، مع أنه في الحديث يسم واحدا منهما، والترجمة لعلها تفسير للمبهم في الحديث، "وأمرهم أن يطيعوه، فغضب" زاد في الأحكام "عليهم" ولمسلم فأغضبوه في شيء "فقال: أليس قد أمركم النبي صلى الله عليه وسلم أن تطيعوني، قالوا: بلى، قال: فاجمعوا" لي "حبطا، فجمعوا" له حطبا، "فقال: أوقدوا" بفتح الهمزة، وكسر القاف "نارا".
هكذا في البخاري، وسقطت من بعض من نسخ المواهب "فأوقدوها"، ثبت هذا في البخاري، وسقط من النسخة التي وقف عليها شيخنا غلطا من المكاتب، فبنى، عليها ونفى كونها في البخاري، وأنها من المصنف بيان للمحذوف، "فقال: ادخلوا" وفي الأحكام: فقال: عزمت عليكم لما جمعتم حطبا، وأوقدتم نارا، ثم دخلتم فيها.
وجزم الحافظ بأن هذا مخالف لحديث أبي سعيد أنهم أوقدوها ليصنعوا عليها صنيعا لهم، أو يصطلوا "فهموا" بفتح الهاء وضم الميم مشددة، أي قصدوا، كما ارتضاه العيني، رد القول الكرماني، حزنوا وأيده المصنف برواية الأحكام، فلما هموا بالدخول فيها، قالوا: ينظر بعضهم إلى بعض، "وجعل بعضهم يمسك بعضا،" أي يمنعه من الوقوع في النار.
وفي رواية ابن جرير، فقال لهم شاب منهم: لا تعجلوا بالدخول فيهم، "ويقولوا: فررنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم من النار،" وفي خبر الواحد، فأرادوا أن يدخلوها، وقال آخرون، إنما فررنا منها، أي اتبعناه صلى الله عليه وسلم خوفا من نار جهنم، فكيف ندخل هذه، "فما زالوا حتى خمدت النار".
قال الحافظ: بفتح الميم وحكى المطرزي، كسرها، أي طفئ لهبها "فسكن غضبه،" هذا أيضا يخالف حديث أبي سعيد أنه كانت فيه دعاية، وأنهم تحجزوا حتى ظن أنهم واثبون فيها، فقال: احبسوا أنفسكم فإنما كنت أضحك معكم. "فبلغ النبي" وفي الأحكام فذكر للنبي ولمسلم، فلما رجعوا ذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم "فقال: "ولو دخلوها" " أي النار التي أوقدوها ظانين أنها
بسبب طاعة أميرهم لا تضرهم "ما خرجوا منها"، لاحتراقهم فيها فيموتوا.(4/45)
قال الحافظ أبو الفضل بن حجر: في قوله: "ويقال: إنها سرية الأنصاري" إشارة إلى احتمال تعدد القصة، وهو الظاهر لاختلاف سياقهما واسم أميرهما.
__________
وبقية الحديث إلى يوم القيامة الطاعة في المعروف، وفي الأحكام ما خرجوا منها أبدًا، إنما الطاعة في المعروف، ولابن جرير لم يزالوا فيها يوم القيامة يعني أن دخولها معصية، والعاصي يستحق النار، ويحتمل أن المراد لو دخلوها مستحلين لما خرجوا منها أبدا، وعلى هذا ففيه استخدام؛ لأن ضمير دخولها للتي أوقدها، وخرجوا النار الآخرة، لارتكابهم ما نهوا عنه من قتل أنفسهم، والظاهر الأول انتهى من الفتح، وصح رجوع الضمير لنار الآخرة مع قوله: إلى يوم القيامة بضرب من التجوز، أي طول الأمد، قال الكرماني، وغيره: المراد بيوم القيامة التأبيد، يعني لو دخلوها مستحلين.
قال الداودي فيه: أن التأويل الفاسد لا يعذر به صاحبه. ا. هـ.
ولا ضير في قولهم: مستحلين في الصحابة؛ لأنه مدخول الشرط الذي لم يقع، ووجه فساده قوله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195] ، فإنه ظاهر على أن ما فهمه الموافقون على الدخول غير المراد، وإنما يعذر إذا كان ثم شبهة قوية، ومن ثم قال صلى الله عليه وسلم للآخرين أي الذين امتنعوا قولا حسنا راه مسلم، وقال صلى الله عليه وسلم: "لا طاعة في معصية الله تعالى، إنما الطاعة في المعروف".
رواه الشيخان قال الحافظ: وفي الحديث من الفوائد أن الحكم في حال الغضب ينفذ منه ما لا يخالف الشرع، وأن الغضب يغطي على ذوي العقول عقولهم، وأن الإيمان بالله ينجي من النار لقولهم: إنما فررنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم إليه فرارًا إلى الله يطلق على الإيمان.
قال تعالى: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الذاريات: 50] ، وأن الأمر المطلق لا يعلم الأحوال؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أمرهم بطاعة الأمير فحملوه على عموم الأحوال، حتى في حالتي الغضب والأمر بالمعصية، فبين لهم أنه مقصود على ما كان منه في غير معصية، واستنبط منه ابن أبي جمرة أن الجمع من هذه الأمة لا يجتمعون على خطأ لانقسام السرية قسمين منهم من هان عليه دخول النار وظنه طاعة، ومنهم من فهم حقيقة الأمر، وأنه مقصور على ما ليس بمعصية، فكان اختلافهم سببا لراحة الجميع، قال: وفيه أن من كان صادق النية لا يقع إلا في خير، ولو قصد الشر فإن الله يصرفه عنه، ولذا قال أهل المعرفة، من صدق مع الله وقاه الله، ومن توكل على الله كفاه الله. اهـ.
"قال الحافظ أبو الفضل بن حجر في قوله: ويقال أنها سرية الأنصار، إشارة إلى احتمال تعدد القصة، وهو الظاهر لاختلاف سياقهما،" كما مر بيانه "واسم أميرهما" والسبب في أمره(4/46)
ويحتمل الجمع بينهما بضرب من التأويل، ويبعده وصف عبد الله بن حذافة السهمي القريشي المهاجري بكونه أنصاريا، ويحتمل الحمل على المعنى الأعم، أي أنه نصر رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجملة، وإلى التعدد جنح ابن القيم، وأما ابن الجوزي فقال: قوله: "من الأنصار" وهم من بعض الرواة، وإنما هو سهمي.
قال في فتح الباري: ويؤيده حديث ابن عباس عند أحمد، في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59] نزلت في عبد الله بن حذافة السهمي بن قيس بن عدي، بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية.
__________
بدخولهم النار.
هذا أسقطه المصنف من الفتح، كأنه للاستغناء عنه باختلاف سياقهما، فإنه من جملته، "ويحتمل الجمع بينهما بضرب من التأويل،" مثل أن يقال: لما كان تأمير علقمة لعبد الله ناشئا عن إذنه صلى الله عليه وسلم له أن يؤمر إن احتاج نسب للمصطفى تارة ولعلقمة أخرى، "و" لكن "يبعده وصف عبد الله بن حذافة السهمي القريش، المهاجري بكونه أنصاريا"؛ لأنهم الأوس والخزرج وهم مدنيون، فيحتمل أنه نسب إليهم بالحلف ونحوه، كما عن المقدمة، ويحتمل الحمل على المعنى الأعم،" الشامل لكل مؤمن نصر الله ورسوله لقوله: {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ} [محمد: 7] "أي أنه نصر رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجملة"، أي قاتل معه فعد من أنصاره، وإن كان قرشيا مهاجريا.
"وإلى التعدد جنح ابن القيم، وأما ابن الجوزي، فقال قوله" في الحديث، فاستعمل رجلا "من الأنصار، وهم من بعض الرواة، وإنما هو سهمي" بدليل أبعضا منهم لم يذكرها، "قال في فتح الباري" تلو هذا "ويؤيده" أي الوهم إن لم يحمل على المعنى الأعم أو الحلف "حديث ابن عباس عند أحمد" والبخاري في قوله تعالى: {إيَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59] ، "نزلت في عبد الله بن حذافة السهمي بن قيس بن عدي، بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية"، وكذا أخرجه البخاري مختصرا في تفسير سورة النساء، كما هو بقية كلام الحافظ هنا، وما كان ينبغي
للمصنف حذفه؛ لأنه أوهم انفراد أحمد به.
قال الداودي: هذا وهم على ابن عباس، فإن ابن حذافة خرج على جيش، فغضب فأوقد نارا، وقال: اقتحموا فامتنع بعض وهم بعض أن يفعل، فإن كانت الآية نزلت قبل فكيف يخص عبد الله بالطاعة دون غيره، وإن كانت نزلت بعد، فإنما قيل لهما: إنما الطاعة في المعروف، وما(4/47)
ا. هـ.
وقال النووي: وهذا الذي فعله هذا الأمير، قيل: أراد امتحانهم، وقيل: كان مازحًا، وقيل: إن هذا الرجل عبد الله بن حذافة السهمي، قال: وهذا ضعيف: لأنه قال في الرواية التي بعدها في مسلم إنه رجل من الأنصار، فدل على أنه غيره. ا. هـ.
__________
قيل لهم: لم يطيعوه وأجاب الحافظ بأن المقصود في قصته، فإن تنازعتم في شيء؛ لأنهم تنازعوا في امتثال الأمر بالطاعة، والتوقف فرارًا من النار، فناسب أن ينزل في ذلك ما يرشدهم إلى ما يفعلونه عند التنازع، وهو الرد إلى الله والرسول.
وقد أخرج ابن جرير أنها نزلت في قصة جرت لعمار بن ياسر مع خالد بن الوليد، وكان خالد أميرا، فأجار عمار رجلا بغير أمره فتخاصما، فنزلت "انتهى" كلام الفتح "وقال النووي" في شرح مسلم: "وهذا الذي فعله هذا الأمير، قيل: أراد امتحانهم" وقيل: كان مازحا" وينافي القولين معا قوله في الحديث فأغضبوه في شيء، وتكلف شيخنا الجواب في التقريب باحتمال أنه أظهر الغضب، والواقع أنه ممتحن، أو مازح "وقيل": ليس مقابلا لما قبله، بل المراد بيان "أن هذا الرجل" المبهم في قول: استعمل رجلا عند مسلم كالبخاري في خبر الواحد، ولم يقل: من الأنصار هو "عبد الله بن حذافة السهمي".
قال: وهذا" القول "ضعيف؛ لأنه قال في الرواية التي بعدها في مسلم"، ولم ينفرد بها، بل وافقه البخاري كما رأيت "أنه رجل من الأنصار، فدل على أنه غيره. ا. هـ" إلا أن يئول بالحلف، أو الأعم، كما مر والله تعالى أعلم.(4/48)
[هدم صنم طيء] :
"ثم سرية علي بن أبي طالب رضي الله عنه إلى الفلس بضم الفاء، وسكون اللام" -وهو صنم طيء ليهدمه، في ربيع الآخر سنة تسع، وبعث معه مائة وخمسين رجلا من الأنصار، على مائة بعير وخمسين فرسا-
__________
هدم صنم طيء:
"ثم سرية علي بن أبي طالب رضي الله عنه إلى الفلس بضم الفاء، وسكون اللام" آخره سين مهملة، كما ضبطه جمع منهم اليعمري، وقال في المراصد بضم أوله وثانيه، وضبطه بعضهم بالفتح وسكون اللام، "وهو صنم طيء"، ومن يليها قاله ابن إسحاق "ليهدمه" أي محله الذي هو فيه "في ربيع الآخر سنة تسع".
"وبعث معه مائة وخمسين رجلا من الأنصار على مائة بعير وخمسين فرسا" عند الواقدي.(4/48)
وعند ابن سعد: مائتي رجل -فهدمه وغنم سبيا ونعما وشاء.
وكان في السبي سفانة بنت حاتم، أخت عدي بن حاتم، فأطلقها النبي صلى الله عليه وسلم، فكان ذلك سبب إسلام أخيها عدي.
__________
"وعند ابن سعد مائتي رجل" من الأنصار، فالخلاف في عددهم لا في كونهم منهم، أو بعضهم منهم وبعضهم من غيرهم، قال ابن سعد وشيخه: ومعه راية سوداء ولواء أبيض، فغاروا على أحياء من العرب، وشنوا الغارة على محلة آل حاتم مع الفجر، "فهدمه" وحرقه وجد في خزانته ثلاثة أسياف، رسوب بفتح الراء، وضم المهملة وسكون الواو وموحدة، والمخذم بكسر الميم، وسكون الخاء، وذال معجمتين، وميم كان الحارث قلده إياهما، وسيف يقال له اليماني وثلاثة أدرع، "وغنم سبيا"، فاستعمل عليه أبا قتادة، و"نعما وشاء" وفضة، فجعل عليها عبد الله بن عتيك، فلما كان بركك، بفتح الراء والكاف الأولى موضع ببلاد طيء لا يصرف عزل له صلى الله عليه وسلم صفيا رسوبا والمخذم، ثم صار له بعد السيف الآخر، وعزل الخمس وآل حاتم، فلم يقسمهم حتى قدم بهم المدينة.
وذكر ابن هشام عن بعض أهل العلم: أنه صلى الله عليه وسلم وهب رسوبا والمخذم لعلى قال: وهما سيفا على رضي الله عنه، "وكان في السبي سفانة"، بفتح السين المهملة، والفاء المشددة، فألف فنون مفتوحة فتاء تأنيث، "بنت حاتم" الطائي الجواد المشهور، قال في الروض: وبها كان يكنى، وهي في الأصل الدرة. ا. هـ، فأسلمت، وحسن إسلامها ومن عليها صلى الله عليه وسلم قيل: فدعت له، فقالت: شكرتك يد افتقرت بعد غنى ولا ملكتك يد استغنت بعد فقر، وأصاب الله بمعروفك مواضعه، ولا جعل لك إلى لئيم حاجة، ولا سلب نعمة عن كريم قوم إلا وجعلك سببا لردها عليه، أخت "عدي بن حاتم" بن بد الله بن سعد بن الحشرج بفتح المهملة وسكون المعجمة، وآخره جيم الصحابي الشهير أبي طريف، بفتح المهملة آخره فاء كان ممن ثبت في الردة وأتى بصدقة قومه إلى الصديق، وحضر فتوح العراق وحروب علي، مات سنة ثمان وستين وهو ابن مائة وعشرين سنة وقيل: ثمانين.
روى له الستة "فأطلقها النبي صلى الله عليه وسلم، فكان ذلك سبب إسلام أخيها عدي،" كما ذكر ابن إسحاق، قال: أصابت خيلة صلى الله عليه وسلم ابنة حاتم في سبايا طيء، فجعلت في حظيرة في المسجد، فمر بها صلى الله عليه وسلم، فقامت إليه وكانت جزلة، فقالت: يا رسول الله هلك الوالد وغاب الوافد، فقال: "ومن وافدك"، فقالت: عدي بن حاتم، قال: "الفار من الله ورسوله" فمضى حتى كان الغد، مر بي فقلت له وقال لي مثل ذلك، حتى كان بعد الغد، مر بي ويئست، فأشار إلى علي وهو خلفه أن قومي إليه فكلميه، فقمت فقلت: يا رسول الله هلك الوالد، وغاب الوافد فأمنن علي من الله(4/49)
وعند ابن سعد أيضا: أن الذي كان سباها خالد بن الوليد رضي الله عنه.
ثم سرية عكاشة بن محصن إلى الجباب -موضع بالحجاز- أرض عذرة وبلي، وقيل: أرض فزارة وكلب ولعذرة فيها شركة.
قصة كعب بن زهير
__________
عليك، قال: قد فعلت فلا تعجلي حتى تجدي ثقة يبلغك بلادك ثم آذنيني، فقدم رهط من طيء، فأخبرته أن لي فيهم ثقة، وبلاغا فكساني وحملني وأعطاني نفقة، فخرجت حتى قدمت الشام على أخي، فقال: ما ترين في هذا الرجل؟ قالت: أرى والله أن تلحق به سريعا، فإن يك نبيا فللسابق إليه فضيلة، وإن يك ملكا فلن تزال في عز اليمن وأنت أنت، فقلت: والله إن هذا هو الرأي، وقدم فأسلم والقصة طويلة، وروى ابن المبارك في الزهد عندما دخل وقت صلاة قط: ألا وأنا أشتاق إليها، وفي رواية ما أقيمت الصلاة منذ أسلمت إلا وأنا على وضوء وكان جوادا.
وقد روى أحمد أن رجلا سأله مائة درهم، فقال: تسألني مائة درهم وأنا ابن حاتم والله لا أعطيك.
"وعند ابن سعد أيضا أن الذي كان سباها خالد بن الوليد رضي الله عنه" لا علي كرم الله وجهه، ولا يمكن الجمع بأنه كان في جيش علي؛ لأن جيشه كانوا كلهم من الأنصار فالله أعلم، "ثم سرية عكاشة" بضم العين، وشد الكاف وتخفيفها، وشين معجمة "ابن محصن" بكسر فسكون الأسدي من السابقين الأولين البدري ممن يدخل الجنة بغير حساب، كما في الصحيحين، استشهد في قتال الردة.
"إلى الحجاب" بكسر الجيم وموحدتين، بينهما ألف "أرض عذرة" بضم العين المهملة، وسكون الذال المعجمة "وبلى" بفتح الموحدة، وكسر اللام، وشد التحتية "وهي اسم قبيلتين" كلاهما من قضاعة بضم القاف ومعجمة فألف فمهملة، "وقيل: أرض فزارة وكلب ولعذرة فيها شركة".
قال ابن سعد: كانت هذه السرية في شهر ربيع الآخر سنة تسع، كذا ذكره ولم يزد وتبعه اليعمري وغيره ولم يبينوا سببها، ولا عدد من ذهب فيها، ولا ما جرى والله أعلم.
"قصة كعب بن زهير" بن أبي سلمى بضم أوله، واسمه ربيعة بن رياح بكسر الراء، وتحتانية المزني الشاعر ابن الشاعر، أخو الشاعر، وكان ولدا كعب عقبة، والعوام شاعرين قال الحطيئة، لكعب: أنتم أهل بيت ينظر إليكم في الشعر، فاذكرني في شعرك ففعل، وروى ابن أبي الدنيا عن الشعبي قال: أنشد النابغة الذبياني النعمان بن المنذر:
تزال الأرض أما مت خفا ... وتحيا ما حييت بها ثقيلا
فقال النعمان: إن لم تأت ببيت بعده يوضح معناه، وإلا كان إلى الهجاء أقرب، فتعسر(4/50)
مع النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت فيما بين رجوعه عليه الصلاة والسلام من الطائف وغزوة تبوك.
وكان من خبر كعب وأخيه بجير ما ذكره ابن إسحاق، وعبد الملك بن هشام وأبو بكر محمد بن القسم بن يسار الأنباري، دخل حديث بعضهم في بعض:
أن بجيرا قال لكعب: اثبت حتى آتي هذه الرجل -يعني النبي صلى الله عليه وسلم- فأسمع كلامه وأعرف ما عنده،
__________
عليه، فأجله ثلاثا، فإن قال: فله مائة من الإبل وإلا ضربه بالسيف، فخرج النابغة وجلا، فلقي زهيرا، فذكر له ذلك، وخرجا إلى البرية فتبعهما، كعب فرده، زهير، فقال النابغة: دعه يخرج وأردفه، فلم يحضرهما شيء، فقال كعب للنابغة يا عم ما يمنعك أن تقول:
وذلك إن ثللت الغي عنها ... فتمنع جانبيها أن تميلا
فأعجب النابغة، وغدا على النعمان، فأنشده فأعطاه المائة، فوهبها لكعب، فأبى أن يقبلها، ورويت هذه القصة على غير هذا الوجه "مع النبي صلى الله عليه وسلم" لم يقل وأخيه بجير وإن ذكر في القصة؛ لأن كعبا هو المقصود؛ لأنه الذي هرب، وأهدر دمه، وإنما ذكر أخوه لكونه سببا في مجيئه وإيمانه، "وكانت فيما بين رجوعه عليه الصلاة والسلام من الطائف وغزوة تبوك" تبع اليعمري لفظا ووضعا، ومقتضى التزامهما الترتيب على السنين أن تكون في التاسعة في آخر ربيع الثاني، أو في الجماديين.
وجزم الشامي في الحوادث بأنها في السنة الثامنة، وهو مقتضى ما يأتي عن ابن إسحاق، "وكان من خبر كعب وأخيه بجير"، بضم الموحدة، وفتح الجيم، وإسكان التحتية، ثم راء صحابي شهير أسلم قبل أخيه، ثم كان سببا في إسلامه، "ما ذكره ابن إسحاق" محمد في المغازي بلا إسناد "وعبد الملك بن هشام" الحميري المغافري أبو محمد البصري، ثم المصري المتوفى بها سنة ثلاث عشرة ومائتين كان مشهورا بحمل العلم مقدما في علم النسب والنحو.
روى سيرة ابن إسحاق عن زياد البكائي عنه وهذبها، وزاد فيها بعض أشياء بينها، وهو المراد بكونه ذكر هذا الخبر، "وأبو بكر" العلامة الحافظ الصدوق الدين "محمد بن القاسم بن يسار" ضد يمين "الأنباري" بفتح الهمزة والموحدة، بينهما نون ساكنة بلدة قديمة على الفرات، "دخل حديث بعضهم في بعض" يعني أن اللفظ لمجموعهم، فعند كل ما انفرد به عن الآخر "أن بجيرا" بفتح الهمزة، بدل من قوله ما ذكره، "قال لكعب: اثبت" روى ابن أبي عاصم عن كعب أنه لما فتحت مكة خرج وهو وبجير حتى أتيا أبرق العزاف، فقال بجير لكعب: اثبت في غنمنا هنا "حتى آتي هذا الرجل، يعني النبي صلى الله عليه وسلم، فأسمع كلامه، وأعرف ما عنده" هل هو مما(4/51)
فأقام كعب ومضى بجير، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسمع كلامه وآمن به.
وذلك أن زهيرا فيما زعموا كان يجالس أهل الكتاب فسمع منهم أنه قد آن مبعثه عليه الصلاة والسلام، ورأى زهير في منامه أنه قد مد سبب من السماء، وأنه قد مد يده ليتناوله ففاته، فأوله بالنبي الذي يبعث في آخر الزمان، وأنه لا يدركه، وأخبر بنيه بذلك وأمرهم، وأوصاهم إن أدركوه أن يسلموا.
قال ابن إسحاق: ولما قدم صلى الله عليه وسلم من الطائف، كتب بجير بن زهير إلى أخيه كعب: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل رجالا بمكة ممن كان يهجوه، وإن من بقي من شعراء قريش ابن الزبعري
__________
يستحسن، ويلوح صدقه فاتبعه أم لا فأتركه "فأقام كعب" بابرق العزاف بفتح المهملة، والزاي المشددة آخر فاء ماء لبني أسد بين المدينة، والربذة؛ لأنه كان يسمع بن عزيف الجن، أي صوتهم، كما قال الشريف، "ومضى بجير فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسمع كلامه وآمن به و" سبب "ذلك" أي قول بجير لأخيه ما سبق، وإتيانه للمصطفى "أن زهيرا" أباهما "فيما زعموا" عبر به لعدم صحته عنده كالأحاديث الصحيحة والحسنة.
"كان يجالس أهل الكتاب، فسمع منهم أنه قد آن" قرب "مبعثه عليه الصلاة والسلام، ورأي زهير في منامه أنه قد مد سبب،" حبل "من السماء وأنه قد مد يده ليتناوله ففاته فأوله،" أي الحبل الذي مد "بالنبي الذي يبعث في آخر الزمان، وأنه" أي وأول فوته بأنه "لا يدركه، وأخبر بنيه بذلك" المذكور من المنام، وما سمعه من أهل الكتاب "وأمرهم" أي بنيه كعبا وبجيرا وأختهما الخنساء شاعرة أيضًا، ذكرها ابن ماكولا غير الخنساء أخت صخر الشاعرة الصحابية المشهورة، ولم يذكر بنت زهير في الإصابة، فلا صحبة لها، ويحتمل أنه أراد ببنيه ما يشملهم وأولادهم، "وأوصاهم إن أدركوه أن يسلموا".
قال العسكري: ومات زهير قبل المبعث قال خلف الأحمر: ولولا قصائد له ما فضلته على ابنه كعب، أي في الشعر، ثم ما ساقه المصنف هو مما انفرد به ابن الأنباري عن المذكورين معه.
"قال ابن إسحاق:" عقب غزوة الطائف، "ولما قدم صلى الله عليه وسلم من الطائف كتب بجر بن زهير إلى أخيه كعب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل رجالا بمكة ممن كان يهجوه" ويؤذيه، "وأن من بقي من شعراء قريش" عبد الله بن "الزبعري"، بزاي فموحدة مسكورتين، وسكون المهملة بعدها راء مقصورة، كما في الإصابة والصحاح.(4/52)
وهبيرة بن أبي وهب قد هربوا في كل وجه، فإن كانت لك في نفسك حاجة فطر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه لا يقتل أحدا جاءه تائبا، وإن أنت لم تفعل فانج إلى نجائك، وكان كعب قد قال:
ألا بلغا
__________
وقال الأسنوي في شرح منهاج البيضاوي، والمجد بفتح الباء، وبعضهم حكى الوجهين، ولك ترجيح الأول لجزم الجوهري به.
وصحاحه في كتب اللغة نظير البخاري في الحديث، كما في المزهر، وجزم الإصابة الكسر، يرجحه أيضا فأهل كل فن أدرى به.
ابن قيس بن عدي بن سعيد بالتصغير ابن سهم القرشي السهمي.
قال المرزباني يكنى أبا سعيد: كان شاعر قريش، ثم أسلم ومدحه صلى الله عليه وسلم، فأمر له بحلة "وهبيرة" بضم الهاء وفتح الموحدة.
"ابن أبي وهب" المخزومي زوج أم هانئ، "قد هربوا في كل وجه" لما فتحت مكة، فهرب إلى نجران فأما هبيرة فهلك على كفره، وأما ابن الزبعري فروى ابن إسحاق أن حسان رماه ببيت واحد لم يرد عليه.
لا تعد من رجلا أحلك بغضه ... نجران في عيش أجد لئيم
فخرج إليه صلى الله عليه وسلم، فقال حين أسلم:
يا رسول المليك إن لساني ... راتق ما فتقت إذ أنا بور
إذا بارى الشيطان في سنن الغي ... ومن مال ميله مثبور
آمن اللحم والعظام لربي ... ثم قلبي الشهيد أنت النذير
إنني عنك زاجر ثم حيا ... من لؤي وكلهم مغرور
"فإن كانت لك في نفسك حاجة فطر،" أي أقبل مسرعا "إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم"، فإنه لا يقتل أحدا جاءه تائبا".
وعند ابن عاصم فإنه لا يأتيه أح مسلما إلا قبل منه، وأسقط ما كان قبل ذلك، "وإن أنت لم تفعل فانج إلى نجائك،" من الأرض، كما عند ابن إسحاق، أي إلى محل ينجيك منه بزعمك ونجائك، بالهمز أو هو نجاتك بفوقية بعد الألف، وكلاهما مصدر نجا كما في القاموس، "وكان كعب قد قال" لما بلغه إسلام أخيه "ألا بلغا" بألف لفظا، وخطا على أنه مؤكد وصل بنية الوقف أو خطاب للاثنين والواحد وكثيرا ما يخاطب الواحد بخطابهما، أو بنون توكيد(4/53)
عني بجيرا رسالة ... فهل لك فيما قلت ويحك هل لكا
فبين لنا إن كنت لست بفاعل ... على أي شيء غير ذلك دلكا
على خلق لم تلف أما ولا أبا ... عليه ولا تلقي عليه أخا لكا
فإن كنت لم تفعل فلست بآسف ... ولا قائل إما عثرت لعالكا
سقاك بها المأمون كأسا روية ... فأنهلك المأمون منها وعلكا
__________
خفيفة لفظا وألف خطا للوقف "عنى بجيرا رسالة، فهل لك" الفاء عاطفة والمعطوف محذوف، أي فقولا له هل لا زائدة؛ لأنه خلاف الأصل؛ ولأن في زيادة الفاء خلافًا "فيما قلت" رأي أو إرادة أو قلته بلا قصد، ويحك" وقعت في هلكة بما قلته لا تستحقها "هل لكا" توكيد وتكميل، "فبين لنا إن كنت لست بفاعل" مرادنا من بقائك على دينك جملة معترضة، ومفعول بين "على أي شيء غير ذلك دلكا"، أي الطريق الذي دلك عليه المالف لدين آبائك، كما أشار إليه بقوله: دلك على خلق بضمتين سجية
أي أفعال ناشئة عن طبيعة "لم تلف" عليها "أما ولا أبا، عليه" قال في الروض: إنما قال ذلك؛ لأن أمهما واحدة، وهي كبشة بنت عمار الشحيمية، كما ذكره ابن الكلبي، "و" كما لم تجد فيما مضى أحدا من إسلافك عليه كذلك "لا تلفي عليه أخا لك" يواتيك عليه في المستقبل، فلذا عبر بلا وفيما قبله بلم، وفي
رواية ولم تدرك، والظاهر أن المراد بالأخ الصديق، أو ما يشمله وفي رواية:
على خلق لم تلف يوما أخا له ... عليه وما تلفي عليه أبا لكا
"فإن كنت" بفتح التاء خطابا، وفي رواية فإن أنت "لم تفعل فلست" بضمها أنا "بآسف" بمد الهمزة، وكسر السين، حزين عليك لخلافك لي، "ولا قائل إما" بكسر الهمزة وشد الميم "عثرت لعالكا" بفتح اللام، والعين منونة "سقاك بها" بالمقالة المفهومة من قلت: أو من ما قلت بجعل ما مصدرية، أو هو عائد على نفس ما بجعلها موصولا اسميا حذف عائده، أي في التي قلتها، أو على كلمة الشهادة، فالباء زائدة أو بمعنى من التبعيضية، أو على الكأس "المأمون" يعني النبي صلى الله عليه وسلم كانت قريش تسميه به وبالأمين قبل النبوة.
وفي رواية غير ابن إسحاق المحمود، وهو من أسمائه صلى الله عليه وسلم قال في الروض قال عبد الملك: ويروي المأمور "كأسا" حال موطئة، كما تقول: لقيت زيدا رجلا صالحا، أو بدل من الضمير على الموضع، كمررت به زيدا هذا على زيادة الباء، وعلى أنها بمعنى من أو تمييز على عود الضمير على الكأس، وعود الضمير على تمييزه متفق عليه في نعم ورب نحو بئس للظالمين، بدلا وربه عطبا، ولم يخصه الزمخشري بذلك، بل قال به في: {فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ} ، وما هنا مثله "روية" فعلية بمعنى مفعلة بضم الميم وكسر العين أي مروية "فانهلك" سقاك أولا "المأمون منها، وعلكا".(4/54)
قال السهيلي: "لعا" كلمة تقال للعاثر دعاء له. ا. هـ.
قال ابن إسحاق: وبعث بها إلى بجير، فلما أتت بجيرا كره أن يكتمها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنشده إياها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سقاك بها المأمون، صدق وإنه لكذوب، وأنا المأمون".... ولما سمع: على خلق لم تلف أما ولا أبا عليه، قال: "أجل لم يلف عليه أباه ولا أمه"، ثم قال عليه الصلاة والسلام: "من لقي منكم كعب بن زهير فليقتله"، فكتب إليه أخوه بهذه الأبيات.
من مبلغ كعبا فهل لك في التي ... تلوم عليها باطلا وهي أحزم
__________
سقاك ثانيا، والمعنى سقاك بها مرة بعد أخرى قال عبد الملك عن بعض علماء الشعر بعد هذا:
ففارقت أسباب الهدى واتبعته ... على أي شيء ويب غيرك دلكا
قال الجمال ويب كويج.
"قال السهيلي: "لعا" كلمة تقال للعاثر دعا له" بالإقالة قال الأعشى:
فالنفس أدنى لها من أن يقال لعا
فإذا دعى عليه قيل: لا لعا وأنشد أبو عبيدة:
فلا لعا لبني ثعلان إذ عثروا
". ا. هـ" كلام السهيلي بما زدته.
قال ابن إسحاق: وبعث بها إلى بجير، فلما آت بجيرا كره أن يكتمها رسول الله صلى الله عليه وسلم" أي يخفيها عنه، وكتم يتعدى بنفسه وبمن وعن كما في المصباح، "فأنشده إياها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم" لما سمع "سقاك بها المأمون".
هكذا ثبت لما سمع عند ابن إسحاق، فكأنها سقطت من قلم المؤلف، وحذف المفعول للعلم به، أي قوله وأما مقولة عليه الصلاة والسلام، فهو "صدق" لمطابقة الواقع، و "إنه لكذوب" في أقواله، بل قوله هذا لكن بزعمه، أي هو يزعم، ويعتقد أنه كذوب فيه لا بحسب الواقع على نحو ما قيل في والله يشهد أن المنافقين لكاذبون "وأنا المأمون ولما سمع على خلق لم تلف أما ولا أبا عليه، قال: أجل لم يلف عليه أباه ولا أمه" لهلا كهما قبله، "ثم قال عليه الصلاة والسلام: من "لقي منكم كعب بن زهير فليقتله"، وهذا مما انفرد به ابن الأنباري عنهما.
وقد ثبت في رواية ابن أبي عاصم من حديث كعب، "فكتب إليه أخوه بهذه الأبيات من مبلغ" بضم فسكون فكسر من أبلغ، وفيه خرم بالراء وأصله فمن مبلغ، أي موصل "كعبا فهل لك" انقياد ودخول "في" الخصلة "التي تلوم" أخاك "عليها" لوما "باطلا، و" الحال أنها "هي أحزم".(4/55)
إلى الله لا العزى ولا اللات وحده ... فتنجو إذا كان النجاء وتسلم
لدى يوم لا ينجو وليس بمفلت ... من الناس إلا طاهر القلب مسلم
فدين زهير وهو لا شيء دينه ... ودين أبي سلمى علي محرم
فلما بلغ كعبا الكتاب ضاقت به الأرض، وأشفق على نفسه، وأرجف به من كان من حاضره من عدوه، فقال: هو مقتول، فلما لم يجده من شيء بدا، قال قصيدته، التي يمدح بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويذكر خوفه وإرجاف الوشاة به من عدوه.
ثم خرج حتى قدم المدينة، فنزل على رحل
__________
أتقن وأصوب، فترجح "إلى الله لا العزى، ولا اللات وحده" حال من الله، أي منفردا لا تشرك معه أحدا "فتنجو" تخلص من العذاب "إذا كان النجاء" الأكبر حاصلا لأهله، "وتسلم" من النار وأهوال يوم الفزع الأكبر، وذلك النجاء "لدى" عند "يوم لا ينجو" فيه، "وليس بمفلت" بفتح اللام المخففة أحسن من كسرها اسم فاعل، كما في النور "من الناس" أحد من العذاب "إلا طاهر القلب مسلم،" أي سليم منقاد للحق خالص من الشك والشرك، لا الذنوب، فإنه لا يسلم منها إلا المعصوم، "فدين زهير وهو لا شيء دينه".
قال السهيلي رواية مستقيمة، ورواه القالي فقال: لا شيء غيره وفسره على التقديم والتأخير، أي دين زهير وهو غيره لا شيء ورواية ابن إسحاق أبعد من الإشكال وأصح، وهذا كما قال الجمال اعتراض حسن بديع بين المبتدأ الذي عطف عليه "ودين أبي سلمى"، وبين الخبر وهو "علي محرم"، ويحتمل أنه إفراد الخبر؛ لأن المعنى فاتباع فحذف المضاف، كحديث أن هذين حرام على ذكور أمتي، أي استعمال الذهب والحرير، أو؛ لأن دينهما واحد، وأعيد المضاف توكيدا كقول قيس بن عاصم:
أيا بنت عبد الله وابنه مالك ... ويا بنت ذي البودين والفرس الورد
إذا ما صنعت الزاد فالتمسي له ... أكيلا فأني لست آكله وحدي
"فلما بلغ كعبا الكتاب ضاقت بن الأرض، وأشفق" خاف "على نفسه، وأرجف به" خوفه "من كان في حاضره،" أي حية "من عدوه فقال:" أفرد باعتبار لفظ من لكن في ابن إسحاق، فقالوا: "هو مقتول فلما لم يجد من شيء بد" مخلصا يلتجئ إليه إلا الإسلام، والمجيء إلى خير الأنام، كما في رواية ابن أبي عاصم أنه لما جاءه الكتاب أسلم كعب، وقدم "قال قصيدته التي يمدح فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ويذكر" فيها "خوفه وإرجافه الوشاة به" أي المزخرفين للأقوال الكاذبة عليه حالة كونهم "من عدوه، ثم خرج حتى قدم المدينة فنزل على رجل" قال البرهان:(4/56)
كانت بينه وبين معرفة من جهينة، فغدا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: هذا رسول الله فقم إليه واستأمنه، فقام حتى جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوضع يده في يده -وكان صلى الله عليه وسلم لا يعرف- فقال: يا رسول الله، إن كعب بن زهير قد جاء ليستأمنك تائبا مسلما، فهل أنت قابل منه إن أنا جئتك به؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نعم"، قال: أنا يا رسول الله كعب بن زهير.
قال ابن إسحاق: فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة، أنه وثب عليه رجل من الأنصار، وقال: يا رسول الله دعني وعدو الله أضرب عنقه، فقال صلى الله عليه وسلم: "دعه عنك فقد جاء تائبا نازعا"، قال: فغضب كعب على هذا الحي من
__________
لا أعرفه "كانت بينه وبينه معرفة من جهينة، فغدا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم" حين صلى الصبح فصلى معه كما في ابن إسحاق، قال: ثم أشار إليه "فقال: هذا رسول الله فقم إليه واستأمنه، فقام حتى جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضع يده في يده".
وفي رواية ابن أبي عاصم فأسلم كعب، وقدم المدينة حتى أناخ بباب المسجد قال: فعرفت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصفة، فتخطيت حتى جلست إليه فأسلمت، ثم قلت: الأمان يا رسول الله أنا كعب بن زهير، "وكان صلى الله عليه وسلم" لا يعرفه، فقال: يا رسول الله إن كعب بن زهير قد جاءك ليستأمنك" حال كونه "تائبا مسلما فهل أنت قابل منه إن أنا جئتك به،" أي بخبره، وأظهرته لك إذ هو حاضر "فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نعم"، قال:" إذا "أنا يا رسول الله كعب بن زهير".
وروى ابن قانع عن سعيد بن المسيب أن كعبا لما قدم المدينة سأل عن أرق الصحابة، فدل على أبي بكر، فأخبره بخبره، فمشى أبو بكر وكعب على أثره حتى صار بين يديه صلى الله عليه وسلم، فقال: رجل يبايعك فمد يده فبايعه، والجمع ممكن بأنه لما قدم نزل على الجهني، فأخبره بأن أبا بكر أرق الصحابة، وأتى به إليه فسارا معا معه، فصلوا الصبح، ثم تقدم الصديق وكعب على أثره، فجلس كعب، وقال ما قال فلما آمن عرفه بنفسه، "قال ابن إسحاق: فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة" بن النعمان الأنصاري الأوسي، أبو عمر المدني التابعي الثقة الذي روى له الستة العلامة بالمغازي، المتوفى بعد العشرين ومائة "أنه وثب عليه رجل،" قال البرهان: لا أعرفه "من الأنصار، فقال: يا رسول الله دعني وعدو الله" بالنصب "أضرب عنقه" بالجزم جواب دعني، ويجوز رفعه. ا. هـ. "فقال صلى الله عليه وسلم "دعه" اتركه "عنك، فقد جاء تائبا نازعا" بالنون، أي مائلا مشتاقا إلى الإسلام، أو كافا عن الشرك تاركا له: "قال" عاصم: "فغضب كعب على الحي من(4/57)
الأنصار لما صنع صاحبهم، وذلك أنه لم يتكلم فيه رجل من المهاجرين إلا بخير.
ثم قال قصيدته اللامية التي أولها:
بانت سعاد فقلبي اليوم متبول ... متيم إثرها لم يفد مكبول
وفيها:
أنبئت أن رسول الله أوعدني
__________
الأنصار،" الظاهر أنه أراد بالحي جميع الأنصار فمن بيانية "لما" بكسر اللام وخفة الميم "صنع" به "صاحبهم"، هكذا الرواية في ابن إسحاق فنسخة لما فعل بالمعنى، وذلك أنه لم يتكلم فيه رجل من المهاجرين إلا بخير، ثم قال قصيدته اللامية،" شرحها ابن هشام الجمال النحوي شرحا كبيرا، وقفت عليه أكثر فيه من فئة وكل وعاء "التي أولها بانت" فارقت فراقا بعيدا "سعاد".
قال الروياني: في البحر: هي امرأته وبنت عمه، ذكرها في هذه القصيدة لطول غيبته عنها، لهروبه من النبي صلى الله عليه وسلم. ا. هـ. وبه جزم البرهان فقولوا: الجمال علم مرتجل يريد به امرأة يهواها الشاعر حقيقة، أو الدعاء تقصير، ولذا قال الشامي: حقيقة لا ادعاء، "فقلبي" الفاء عاطفة سببية، كقوله تعالى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ} [البقرة: 37]
قال الجمال: والقلب الفؤاد أو أخص منه ومثله في القاموس، وتوقف فيه شيخنا في التقرير بأنه لم يرد المادة التي ينفرد فيها الفؤاد حتى يكون أخص، وقد صرح غيرهما بأن الفؤاد غشاء القلب "اليوم" أراد به مطلقا الزمن كيوم حصاده، متبول" أسقمه الحب "متيم" ذليل مستعبد خبر ثان عند مجيز تعدده، أو خبر عن هو محذوفا عند المانع، أو صفة لمتبول عند مجوز وصف الصفة "إثرها" بكسر فسكون فقط للوزن، وإن كان فيه لغة بفتحتين ظرف لمتيم أو حال من ضمير.
ويروي عندها وهي عندية معنوية؛ لأن المراد القلب حال كونه "لم يفد" لم يعط فداءه، ويروى لم يجز ولم يشف "مكبول" مقيد مطلقا أو بقيد ضخم، أو أعظم قيد ومر الناظم في غرضه من الغزل في سعاد، ثم في وصف الإبل الموصلة إليها، وقطعها للأراضي الصعبة في ثلاثة وثلاثين بيتا، ثم ذكر الأرجاف به وبعد أصدقائه عنه في قوله:
تمشي الوشاة بجنبيها وقولهم ... إنك يا ابن أبي سلمى لمقتول
وقال: كل صديق كنت آمله ... لا ألهينك أنى عنك مشغول
فقلت: خلوا سبيلي لا أبا لكم ... فكل ما قدر الرحمن مفعول
كل ابن أنثى وإن طالت سلامته ... يوما على آلة حدباء محمول
"وفيها" عقب هذه الأربعة "أنبئت" ويروى نبئت، ومعناهما أخبرت "أن رسول الله أودعني" بشر وهو القتل، وبناؤه للمجهول؛ لأن مقام الاستعطاف يناسبه أن لا يحقق الخبر بالوعيد، بل(4/58)
........... ... والعفو عند رسول الله مأمول
مهلا هداك الذي أعطاك نافلة ... القرآن فيه مواعيظ وتفصيل
لا تأخذني بأقوال الوشاة و ... لم أذنب وإن كثرت في الأقاويل
إن الرسول لسيف يستضاء به ... مهند من سيوف الله مسلول
__________
يمرضه؛ ولأنه لم يتعلق غرضه بالفاعل "والعفو عند رسول الله مأمول" مطموع فيه مرجو حصوله لما تواتر أن العفو من أخلاقه.
وذكر أنه صلى الله عليه وسلم لما سمع هذا البيت قال: "إن العفو عند الله"، "مهلا هداك الذي أعطاك نافلة القرآن" الكتاب المنزل عليك لا القراءة من إضافة الصفة للموصوف، أو ظرفية بتقدير مضاف، أي نافلة فوائد القرآن، أي نافلة هي الفوائد المشتمل عليها، أو نافلة مقحم، أو القرآن منصوب وحذف التنوين لالتقاء الساكنين، كقوله: ولا ذاكر الله إلا قليلا "فيه مواعيظ" مرفوع منون للضرورة؛ لأنه لا ينصرف، "وتفصيل" تبيين ما يحتاج إليه من أمر المعاش والمعاد، وهذا البيت ومن بعده تتميم للاستعطاف؛ لأنه اشتمل على طلب الرفق به والأناة في أمره، ولما في قوله: نافلة القرآن من الإشارة إلى أنعام الله على رسوله بعلوم عظيمة، وزاده عليها القرءان والإقرار بالتنزيل، والتذير بما جاء به: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} "لا تأخذني" سؤال وتضرع وإظهار للذل، أي لا تقتلني "بأقوال الوشاة" الذين يزوقون الكلام للإفساد، "و" الحال أني "لم أذنب" أي لا تأخذني غير مذنب لا عاطفة؛ لأنه خلاف قصده؛ ولأن الخبر لا يعطف على الإنشاء عند قوم، "وإن كثرت في الأقاويل" جمع أقوال جمع قول فهو جمع الجمع، وكأن المعنى أنك عرفت بالصفح ومن جاءك تائبا لا تعده مذنبا، وإن أذنب قبل الإسلام، فالإسلام يجب ما قبله وبعده هذا البيت تسعة أبيات في خوفه منه عليه السلام، وأنه أخوف عنده من ضيغم يفترس وتنفر منه الوحوش، وحاصلها الاعتذار، فأسقطها المصنف؛ لأن غرضه إنما تعلق بمدحه صلى الله عليه وسلم صريحا "أن الرسول لسيف".
وفي رواية ابن إسحاق وغيره لنور، وهو أنسب بقوله: "يستضاء به" والأخرى مناسبة، فالمعنى كيف يطلب ضياؤه في ظلمات الحروب، فيكشفها.
وقال التبريزي: جعله سيفا استعارة على قول جماعة لا يشترطون فيها طي المشبه ومنهم من قال: أصله قاطع كسيف، فحذف المشبه وأداة التشبيه، واستعمل سيف بدل قاطع، فانطبق على حد الاستعارة من أنها ذكر المشبه به، وإرادة المشبه "مهند" بفتح النون المشددة، صفة أو خبر محذوف، أي مطبوع من حديد الهند، أي أنه مبيد للكفار أقوى من السيوف الهندية "من سيوف الله مسلول" على أعدائه.(4/59)
في عصبة من قريش قال قائلهم ... ببطن مكة لما أسلموا زولوا
يمشون مشي الجمال الزهر يعصمهم ... ضرب إذا عرد السود التنابيل
__________
قال في الروض: يروي أنه لما قال هذا البيت نظر صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه كالمعجب لهم من حسن القول وجودة الشعر. ا. هـ.
وروى الحاكم: أن كعبا أنشده من سيوف الهند، فقال صلى الله عليه وسلم من سيوف الله. ا. هـ. أي أنه معدود من سيوف الهند لنفاسته، كما يقال: زيد من الرجال، فليس تكرار مع قوله: مهند "في عصبة" خبر آخر؛ لأن أو متعلق بمسلول، أي جماعة.
وهذه رواية ابن إسحاق، ويروى في فتية "من قريش قال قائلهم" عمر رضي الله عنه "ببطن مكة لما أسلموا زولوا" انتقلوا من مكة إلى المدينة، أي هاجروا، وبعد هذا البيت عند ابن إسحاق بيت هو:
زالوا فما زال أنكاس ولا كشف ... عند اللقاء ولا ميل معازيل
وتلوه قوله: "يمشون" صفة لعصبة أو فتية، "مشي الجمال" فوصفهم بامتداد القامة وعظم الخلق، بفتح فسكون، والبياض حيث قال: "الزهر" بضم وسكون جمع أزهر، وهو الأبيض والرفق في المشي؛ لأنه حال الجمال دون غيرها كالخيل، وذلك دليل على الوقار والتؤدة، "يعصمهم" يمنعهم، أي يحميهم من أعدائهم ويكفهم عنهم، وفاعه "ضرب إذا عرد" بمهملة، وشد الراء فمهملة فر وأعرض "السود" "التنابيل" بفتح الفوقية، والنون فألف فموحدة مكسورة فتحتية فلام جمع تنبال، أي القصار.
قال التبريزي ومن روى: غرد بغين معجمة أراد طرب. ا. هـ.
لا معنى لها هنا؛ لأن المراد فر وبقي فيها أربعة أبيات في وصفهم تركها المصنف؛ لأنها ليست مدحا عليه الصلاة والسلام صريحا، وإن لزم منها تعظيمه، فإن تعظيم صحبه تعظيم له وهي هذه:
شم العرانين أبطال لبوسهم ... من نسج داود في الهيجا سرابيل
بيض سوابغ قد شكت لها حلق ... كأنها حلق القفعاء مجدول
ليسوا مفاريح إن نالت رماحهم ... قوما وليسوا مجازيعا إذا نيلوا
لا يقع الطعن إلا في نحورهم ... وما لهم عن حياض الموت تهليل
لطيفة" قال السيوطي: ذكر الزبيدي في طبقات النحاة أن بندار الأصفهاني كان يحفظ تسعمائة قصيدة أول كل منها بانت سعاد على قوله: ما اطلعت عليه من ذلك.
قال زهير والد كعب:(4/60)
وفي رواية أبي بكر بن الأنباري أنه لما وصل إلى قوله:
إن الرسول لنور يستضاء به ... مهند من سيوف الله مسلول
رمى عليه الصلاة والسلام إليه بردة كانت عليه..............................
__________
بانت سعاد وأمسى حبلها انقطعا ... وليت وصلا لنا من حبلها رجعا
وقال ربيعة بن معرور الضبي:
بانت سعاد فأمسى القلب معمودا ... وأخلفتك ابنة الحر المواعيدا
وقال قعنب بن ضمرة:
بانت سعاد وأمسى دونها عدن ... وغلقت عندها من قلبك الرهن
وقال النابغة الذبياني:
بانت سعاد وأمسى حبلها انخرما ... واحتلت الفرع والأجداع من أضما
وقال الأعشى ميمون:
بانت سعاد وأمسى حبلها انقطعا ... واحتلت العرفا لجدين فالفرعا
وقال أيضا:
بانت سعاد وأمسى حبلها رابا ... وأحدث النأي لي شوقا وأوصابا
وقال الأخطل:
بانت سعاد ففي العينين مهلول ... من حبها وصحيح الجسم مخبول
وقال أيضا:
بانت سعاد ففي العينين تسهيد ... وأسخفت لبه فالقلب معمود
وقال عدي بن الرقاع:
بانت سعاد وأخلفت ميعادها ... وتباعدت عنا لتمنع زادها
وقال قيس بن الحرادية:
بانت سعاد فأمسى القلب إعلالا ... وأسلبتها بي الأرباع إقلالا
ا. هـ.
"وفي رواية أبي بكر بن الأنباري" وابن قانع من مرسل ابن المسيب "أنه لما وصل إلى قوله: إن الرسول لنور يستضاء به مهند من سيوف الله مسلول، رمى عليه الصلاة والسلام إليه بردة كانت عليه".
نقل المصنف في المقصد الثالث عن محمد بن هلال قال: رأيت على هشام بن عبد الملك برد النبي صلى الله عليه وسلم من حبرة له حاشيتنا رواه الدمياطي. ا. هـ. وهشام هذا من سلاطين بني(4/61)
وأن معوية بذل فيها عشرة آلاف فقال: ما كنت لأوثر بثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدا، فلما مات كعب بعث معاوية إلى ورثته بعشرين ألفا فأخذها منهم، قال: وهي البردة التي عند السلاطين إلى اليوم.
وقال ابن إسحاق: قال عاصم بن عمر بن قتادة: فلما قال كعب: "إذا عرد السود التنابيل" وإنما عني معشر الأنصار، لما كان صاحبهم صنع به، وخص المهاجرين بمدحته غضب عليه الأنصار، فقال بعد أن أسلم -يمدح الأنصار.
__________
أمية، ففيه تعيين البردة التي دفعت لكعب؛ لأنها آلت للملوك كما قال: "وأن معاوية بذل فيها عشرة آلاف" درهم، كما في الرواية، "فقال: ما كنت لأوثر" أفضل وأميز على نفسي "بثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم" الذي أعطانيه، وهو البردة واسم الثوب يشملها "أحدا"؛ لأن الإيثار المحمود إنما هو في أمور الدنيا، كما في قوله تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ} ، وما مس جسده الشريف من أجل القرب، فهو من الأمور الأخروية وما إيثار الغير فيها بمحمود، "فلما مات كعب بعث معاوية إلى ورثته بعشرين ألفا فأخذها منهم".
قال" ابن الأنباري: "وهي البردة التي عند السلاطين إلى اليوم،" وعند ابن قانع عن ابن المسيب فهي التي يلبسها الخلفاء في الأعياد.
قال الشامي: ولا وجود لها الآن والظاهر أنها فقدت في وقعة التتار "وقال ابن إسحاق:" بعد ذكر القصيدة كلها "قال عاصم بن عمر" بضم العين "ابن قتادة" بن النعمان التابعي حفيد الصحابي الأنصاري، "فلما قال كعب: إذا عرد السود التنابيل وإنما عني معشر الأنصار،" قال في الروض، جعلهم سودا لما خالط أهل اليمن من السودان عند غلبة الحبشة على بلادهم، ولذا قال حسان في آل جفنة:
أولاد جفنة حول قبر أبيهم ... بيض الوجوه من الطراز الأول
يعني أنهم كانوا من اليمن، ثم استوطنوا الشام، فلم تخالطهم السودان، كما خالطوا من باليمن فهم من الطراز الأول الذي كانوا عليه من ألوانهم، وأخلاقهم. ا. هـ.
"لما كان أصحابهم صنع به" حيث وثب، وقال: دعني وعدو الله أضرب عنقه، "وخص المهاجرين بمدحته"؛ لأنهم لم يتمكنوا فيه إلا بخير، "غضبت عليه الأنصار" قال عبد الملك بن هشام: ويقال أنه صلى الله عليه وسلم لما أنشده بانت سعاد، قال له: "لولا ذكرت الأنصار بخير فإن الأنصار لذلك أهل"، "فقال بعد أن أسلم يمدح الأنصار" لغضبهم عليه، وتحضيضه عليه الصلاة والسلام له على ذلك إذ هم عصابة الإسلام، وأول ما رفع لمناره من الأعلام، فذكر بلاءهم معه صلى الله عليه وسلم(4/62)
من سره كرم الحياة فلا يزل ... في مقنب من صالحي الأنصار
ورثوا المكارم كابرا عن كابر ... إن الخيار هم بنو الأخيار
المكرهين السمهري بأدرع ... كسوالف الهندي غير قصار
والناظرين بأعين محمرة ... كالجمر غير كليلة الأبصار
والبائعين نفوسهم لنبيهم ... للموت يوم تعانق وكرار
يتطهرون يرونه نسكا لهم ... بدماء من علقوا من الكفار
__________
وموضعهم من اليمن، فقال: "من سره كرم الحياة فلا يزال، في مقنب" بكسر الميم، وإسكان القاف، وفتح النون ثم موحدة جماعة الخيل والفرسان، قيل: هي دون المائة وفي القاموس ومن الخيل ما بين الثلاثين إلى الأربعين، أو زهاء ثلاثمائة.
ذكره في النور "من صالحي الأنصار ورثوا المكارم كابرا عن كابر،" أي عن آبائهم وأجدادهم كبيرا عن كبير في العز والشرف، "إن الخيار همو بنو الأخيار المكرهين" اسم فاعل مفعوه "السمهري" القناة الصلبة يقال: نسبة إلى سمهر اسم رجل كان يقوم الرماح، أي ردوها عنهم ومنعوها من التأثير فيهم "بأدرع" لبسوها، فكأنهم أكرهوها على عدم الوصول إليهم، وهكذا الرواية عند ابن إسحاق المكرهين بالهاء، ويقع في نسخة المكرمين بالميم، فإن صحت فمعناه أنهم ضموا أدرعهم لرماحهم، فأكرموا بذلك الضم، "كسوالف الهندي غير قصار"، قال أبو ذر في الإملاء: السوالف السيوف، وقد يراد بها الرماح أيضا؛ لأنها قد تنسب إلى الهند، "والناظرين بأعين محمرة" صفة مدح؛ لأن الشجاع إذا غضب احمرت عيناه "كالجمر غير كليلة الأبصار، والبائعين نفوسهم" بالنصب مفعول اسم الفاعل "لنبيهم" أي لأجله، "للموت" صلة البائعين "يوم تعانق وكرار،" أي التحام الحرب وكر بعضهم على بعض "يتطهرون يرونه" يعتقدونه "نسكا" بضم النون، وإسكان السين المضمومة للوزن عبادة "لهم بدماء" متعلق بيتطهرون أي يسيلون دماء "من علقوا" به "من الكفار" على أبدانهم كإسالة المغتسل الماء على بدنه، ويرونه عبادة، وسماه طهارة؛ لأنه سبب لإزالة الذنوب عنهم ورفع الدرجات، فأشبه الطهارة الحسية المزيلة للأقذار المحسنة للبدن، وبعد هذا البيت عند ابن إسحاق.
دربوا كما دربت ببطن خفية ... علب الرقاب من الأسود ضواري
وإذا حللت ليمنعوك إليهم ... أصبحت عند معاقل الأغفار
ضربوا عليا يوم بدر ضربة ... دانت لوقتها جميع تزار
لو يعلم الأقوام علمي كله ... فيهم لصدقني الذين أماري
ومراده علي بن أمية بن خلف، كما مر في بدر "قوم إذا خوت النجوم" بفتح الخاء(4/63)
قوم إذا خوت النجوم فإنهم ... للطارقين النازلين مقاري
وقد كان كعب بن زهير من فحول الشعراء، وأبوه.
__________
المعجمة والواو فتاء تأنيث.
قال الجوهري: أي سقطت ولم تمطر في نوئها وأخوت مثله. ا. هـ. أي على زعمهم، وكان ذلك في بدء إسلام كعب قيل أن يتفقه في الدين، "فإنهم للطارقين النازلين مقاري" بفتح الميم، والقاف جمع مقراة، وهي الحفنة التي يوضع فيها الطعام للأضياف قاله أبو ذر، وقال الجوهري: إناء يقري فيه الضيف وبعد هذا البيت.
في الغر من غسان في جرثومة ... أعيت بحافرها على النقار
وقد كان كعب بن زهير من فحول الشعراء بحيث قال خلف الأحمر: لولا قصائد لأبيه ما فضلته عليه، وقال له الحطيئة، اذكرني في شعرك وقد مر أنه أتم للنابغة ما لولاه لهلك وقد رواها ابن جني بسند له عن عاصم بن الحدثان قال: دخل النابغة على النعمان فقال:
تخف الأرض أن تفقدك يوما ... وتبقى ما بقيت بها ثقيلا
فنظر إليه النعمان نظر غضبان، وكان كعب بن زهير حاضرا فقال: أصلح الله الملك أن مع هذا بيتا ضل عنه وهو:
لأنك موضع القسطاس منها ... فتمنع جانبيها أن تميلا
فضحك وأمر لهما بجائزتين، ورويت على وجه ثالث أيضا.
قال ابن عبد البر من جيد شعر كعب:
لو كنت أعجب من شيء لأعجبني ... سعي الفتى وهو مخبوء له القدر
يسعى الفتى لأمور ليس يدركها ... فالنفس واجدة والهم منتشر
والمرء ما عاش ممدود له أمل ... لا تنتهي العين حتى ينتهي الأثر
قال السهيلي: ومن جيده قوله يمدحه صلى الله عليه وسلم:
تخدي به الناقة الأدماء معتجرا ... بالبرد كالبدر جلي ليلة الظلم
ففي عطافيه أو أثناء بردته ... ما يعلم الله من دين ومن كرم
"وأبوه" زهير من فحول الشعراء، بحيث قال يونس بن حبيب النحوي: أهل الحجاز لا يعدلون بزهير أحدا، وقد روى أبو عبيد القسم بن سلام عن ابن عباس قال لي عمر بن الخطاب: أنشدني لأشعر شعرائكم، قلت: ومن قال زهير، قلت: وكان كذلك، قال: كان يعاطل بين الكلام، ولا يتبع حوشيه، ولا يمدح الرجل إلا بما فيه.
قال ابن سلام: قال أهل النظر: كان زهير أحسنهم شعرا، وأبعدهم من سخفه، وأجمعهم(4/64)
وابنه عقبة وابن ابنه العوام بن عقبة.
__________
لكثير من المعاني في قليل من المنطق "وابنه عقبة" المعروف بالظرب، كما في الروض، "وابن ابنه العوام بن عقبة،" وهو الذي يقول:
ألا ليت شعري هل تغير بعدنا ... ملاحة عيني أم عمرو وجيدها
وهل بليت أثوابها بعد جدة ... ألا حبذا أخلاقها وجديدها
ذكره في الروض، كجميع ما ساقه المصنف من أول قوله، وقد كان كعب إلى هنا، وكان لكعب ابن أيضا اسمه العوام، كما نقله في الإصابة، فسمي ابن ابنه باسم عمه، ولم يقف عليه البرهان، فأبداه احتمالا بعد توقفه في كون العوام ابن ابنه، وهو من مثله عجيب، والروض في يده والله أعلم.(4/65)
[ثم غزوة تبوك] :
مكان معروف وهي نصف طريق المدينة إلى دمشق.
__________
ثم غزوة تبوك:
بفتح الفوقية وضم الموحدة مخففة لا ينصرف على المشهور.
قال النووي: وتبعه الحافظ: للتأنيث والعلمية ورد بأن علة منعه كونه على مثال الفعل، كتفول والمذكور والمؤنث في ذلك سواء.
وتصرف على إرادة الموضع في حديث كعب، ولم يذكرني صلى الله عليه وسلم حتى بلغ تبوك.
قال الحافظ: بغير صرف للأكثر، وفي رواية تبوكا على إرادة المكان. ا. هـ. وبه يرد قول البرهان أنه بالصرف في جميع نسخ البخاري، وأكثر نسخ مسلم "مكان معروف" قال الحافظ: بينه وبين المدينة من جهة الشام أربع عشرة مرحلة، وبينه وبين دمشق إحدى عشرة مرحلة، وكذا قال غيره، وتوقف فيه البرهان بأنه سارها مع الحجيج في اثنتي عشرة مرحلة ولا وقفة؛ لأنهم جدوا في السير "وهو نصف طريق المدينة إلى دمشق" كما في الفتح ومراده على التقريب بدليل ما تراه من ضبطه ما بينهما بالمراحل، وصريحه قدم تسمية المكان بذلك، ويوافقه قول الفتح وقعت تسميتها بذلك في الأحاديث الصحيحة منها في مسلم أنكم ستأتون غدا عين تبوك، وكذا أخرجه أحمد والبزار من حديث حذيفة، وقيل: سميت بذلك لقوله صلى الله عليه وسلم للرجلين اللذين سبقاه إلى العين ما زلتما تبوكانها منذ اليوم.
قال ابن قتيبة: فبذلك سميت العين تبوك والبوك كالنقش، والحفر والحديث المذكور رواه مالك ومسلم بغير هذا اللفظ عن معاذ أنهم خرجوا معه صلى الله عليه وسلم، فقال: "إنكم ستأتون غدا إن(4/65)
وهي غزوة العسرة، وتعرف بالفاضحة لافتضاح المنافقين فيها.
وكانت يوم الخميس في رجب سنة تسع من الهجرة بلا خلاف، وذكر البخاري لها بعد حجة الوداع لعله خطأ من النساخ.
__________
شاء الله تعالى عن تبوك فمن جارها فلا يمس من مائها، فجئناها وقد سبق إليها رجلان والعين مثل الشراك تبض بشيء من ماء، فذكر الحديث في غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم وجهه ويديه بشيء من مائها، ثم أعاده فيها، فجرت العين بماء كثير فاستقى الناس انتهى كلام الفتح.
قال الشامي: دل صريح هذا الحديث على أن تبوك اسم لذلك الموضع الذي فيه العين المذكورة النبي صلى الله عليه وسلم قال هذا القول قبل أن يصلها بيوم "وهي غزوة العسرة" كما قاله البخاري وغيره.
قال الحافظ: بمهملتين الأولى مضمومة، بعدها سكون مأخوذ من قوله تعالى: {الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ} [التوبة: 117] وفي حديث الشيخين قول أبي موسى في جيش العسرة، وهي غزوة تبوك.
عن ابن خزيمة عن ابن عباس قيل لعمر حدثنا عن شأن ساعة العسرة، قال: خرجنا إلى تبوك في قيظ شديد، فأصابنا عطش الحديث، "وتعرف بالفاضحة لافتضاح المنافقين فيها، بما نزل فيهم من الآيات الدالة على كذبهم، كقوله تعالى: {وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ} [التوبة: 81] {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي} [التوبة: 49] ، {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ} [التوبة: 65] {لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِمَانِكُمْ} [التوبة: 66] .
وتفصيل ذلك بطول "وكانت يوم الخمسين، " كما رواه البخاري والنسائي عن كعب بن مالك أنه صلى الله عليه وسلم خرج يوم الخميس في غزوة تبوك، وكان يحب أن يخرج يوم الخميس.
وفي رواية للبخاري أيضا عنه قلما كان يخرج إذا خرج في سفر إلا يوم الخميس، زاد النسائي جهاد أو غيره في رجب سنة تسع مع الهجرة، قبل حجة الوداع بلا خلاف، زاد الحافظ وعند ابن عائذ عن ابن عباس: أنها كانت بعد الطائف بستة أشهر، وليس مخالفا لقول من قال في رجب إذا حذفنا الكسور؛ لأنه صلى الله عليه وسلم دخل المدينة من رجوعه من الطائف في ذي الحجة.
"وذكر البخاري لها" وضعا "بعد حجة الوداع" قال الحافظ: خطأ "لعله خطأ من النساخ، وهي آخر مغازيه صلى الله عليه وسلم، كما رواه أحمد في حديث كعب ويونس في زيادات المغازي من مرسل الحسن، وابن عقبة من مرسل الزهري، فلعل البخاري تعمد تأخيرها إشارة إلى ذلك، ولم يفصح به لكونه ليس على شرطه، كما هو دأبه فيما هو كذلك، فختم بها كتاب المغازي الذي ترجم به أولا.(4/66)
وكان حرا شديدا، وجدبا كثيرا فلذلك لم يور عنها كعادته في سائر الغزوات.
وفي تفسير عبد الرزاق عن معمر عن ابن عقيل قال: خرجوا في قلة من الظهر وفي حر شديد، حتى كانوا ينحرون البعير فيشربون ما في كرشه، من الماء، فكان ذلك عسرة في الماء وفي الظهر وفي النفقة، فسميت غزوة العسرة.
وسببها أنه بلغة عليه الصلاة.
__________
وذكر غير المغازي إنما هو تتميم، فاتكل على المعلوم من أنها قبلها، مع أنه لم يلتزم ترتيبا هذا ما ظهر لي، فإن انقدح وإلا فما البخاري بأولى بالخطأ مني، "وكان" زمن خروجه حرا شديدا، وعند ابن عقبة عن الزهري جدبا قيظا شديدا في ليالي الخريف "وجدبا" بفتح الجيم، وإسكان المهملة وموحدة قحطا "كثيرا، فلذلك لم يور" بشد الراء لم يستر ويكن "عنها"، والتورية ذكر لفظ يحتمل معنيين أحدهما أقرب من الآخر، فيتوهم إرادة القريب، وهو يريد البعيد، والمتكلم صادق، لكن الخلل وقع من فهم السامع، خاصة وأصله من ورى الإنسان، كأنه ألقى البيان وراء ظهره "كعادته في سائر" باقي "الغزوات" التي قبل هذه لئلا يتفطن العدو، فيستعد للدفع كما رواه البخاري ومسلم في حديث كعب بن مالك قال: لم يكن صلى الله عليه وسلم يريد غزوة إلا ورى بغيرها حتى كانت تلك الغزوة، غزاها في حر شديد واستقبل سفرا بعيدا، وغزا عدوا كثيرا، فجلى للمسلمين أمرهم ليتأهبوا أهبة غزوتهم، فأخبرهم بوجهه الذي يريد، وللبخاري في الجهاد عنه: كان صلى الله عليه وسلم قلما يريد غزوة إلا ورى بغيرها، ولا خلف بينهما بحمل القلة على النفي المطلق، المنتهى، إلى العدم للرواية الأولى خصوصا، والمخرج متحد وجلي بشد اللام، كما قال الزركشي، والحافظ والدماميني أي أظهر، وجوز الأخيران تخفيفها.
وزعم العيني أنه خطأ، وفي تفسير عبد الرزاق" ابن همام الحافظ الثقة، الصنعاني المشهور "عند شيخه معمر" بن راشد الأزدي مولاهم البصري، نيل اليمن الحافظ، الثقة الثبت، كلاهما من رجال الكتب الستة، "عن" عبد الله بن محمد "بن عقيل" بتفح العين وكسر القاف، فنسبه لجده ابن أبي طالب الهاشمي أبي محمد المدني أمه زينب بنت على صدوق، مات بعد الأربعين ومائة "قال: خرجوا في قلة من الظهر" مع كثرتهم "وفي حر شديد حتى كانوا ينحرون البعير، فيشربون ما في كرشه من الماء" حتى أغاثهم الله ببركته صلى الله عليه وسلم، كما يأتي، "فكان ذلك عسرة" شدة "في الماء، وفي الظهر وفي النفقة، فسميت غزوة العسرة" أي الشدة والضيق.
"و" اختلف في سببها فقال ابن سعد وشيخه الواقدي وغيرهما: "سببها أنه بلغه عليه الصلاة(4/67)
والسلام من الأنباط الذين يقدمون بالزيت من الشام إلى المدينة أن الروم تجمعت بالشام مع هرقل. فندب صلى الله عليه وسلم الناس إلى الخروج وأعلمهم بالمكان الذي يريد؛ ليتأهبوا لذلك.
وروى الطبراني من حديث عمران بن الحصين قال: كانت نصارى العرب كتبت إلى هرقل: إن هذا الرجل الذي خرج يدعي النبوة هلك، وأصابتهم سنون فهلكت أموالهم، فبعث رجلا من عظمائهم وجهز معه أربعين ألفا. فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكن للناس قوة.
وكان عثمان قد جهز عيرا إلى الشام فقال: يا رسول الله، هذه مائتا بعير بأقتابها وأحلاسها،
__________
والسلام من الأنباط" قال الحافظ: نسبة إلى استنباط الماء واستخراجه ويقال: إن النبط ينسبون إلى نبيط بن هانب بن أميم بن لاوذ بن سام بن نوح، "الذين يقدمون بالزيت من الشام إلى المدينة، أن الروم" جمع رومي، نسبة إلى جدهم روم بن عيص بن إسحاق، وغلب عليهم اسم أبيهم، فصار كاسم القبيلة، كما في النور، "تجمعت بالشام مع هرقل" بكسر الهاء، وفتح الراء، وسكون القاف على المشهور، ويقال: بكسر الهاء، والقاف وسكون الراء علم على قيصر أعجمي، لا ينصرف للعلمية والعجمة، وبقية هذا القول، وأن هرقل رزق أصحابه لسنة، وأجلبت معهم لخم وجذام وعاملة وغسان وغيرهم من منتصرة العرب، وجاءت مقدمتهم إلى البلقاء، ولم يكن لذلك حقيقة، "فندب صلى الله عليه وسلم" لما بلغه ذلك "الناس إلى الخروج، وأعلمهم بالمكان الذي يريد؛ ليتأهبوا لذلك" أي يكونوا على أهبة وإعداد لما يحتاجونه في السفر والحرب.
"وروى الطبراني" بسند ضعيف في سببها "من حديث عمران بن حصين" الخزاعي الصحابي ابن الصحابي "قال كانت نصارى العرب كتبت إلى هرقل أن هذا الرجل الذي خرج يدعي النبوة هلك وأصابتهم سنون" جمع سنة بالفتح قحط "فهلكت أموالهم" أسقط كالفتح من رواية الطبراني، فإن كنت تريد أن تلحق دينك فالآن، "فبعث" هرقل "رجلا من عظمائهم" يقال له قباذ، كما في نفس رواية الطبراني، كما في الفتح "وجهز معه أربعين ألفا، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يكن للناس قوة" قدرة على الذهاب لتلك الأرض، لفقد الظهر والنفقة، لا الضعف كما هو ظاهر.
"وكان عثمان قد جهز عيرا إلى الشام، فقال:" لما علم بذلك, وبحثه صلى الله عليه وسلم على النفقة والحملان "يا رسول الله هذه مائتا بعير بأقتابها وأحلاسها" جمع حلس بكسر فسكون كساء(4/68)
ومائتا أوقية -يعني من ذهب- قال: فسمعته يقول: يقول: "لا يضر عثمان ما عمل بعدها" وروى عن قتادة أنه قال: حمل عثمان في جيش العسرة على ألف بعير وسبعين فرسا.
__________
تحت البرذعة "ومائتا أوقية، قال" عمران: "فسمعته" صلى الله عليه وسلم "يقول: "ولا يضر عثمان ما عمل بعدها".
يحتمل أن نفي الضرر لعدم وقوع زلة فهو إشارة إلى أن الله منعه منها ببركة إنفاقه في سبيل الله وأنه صلح أن يغفر له ما عساه يكون ذنبا إن وقع ولا يلزم من الصلاحية وجوده وقد أظهر الله صدق رسوله، فإن لم يزل على أعمال أهل الجنة حتى فارق الدنيا.
قال الحافظ وحديث عمران أخرجه الترمذي والحاكم من حديث عبد الرحمن بن خباب بنحوه، وقيل سببها ما رواه أبو سعد في الشرف والبيهقي في الدلائل وابن أبي حاتم ويونس في زيادات المغازي من طريق شهر بن حوشب عن عبد الرحمن بني غنم أن اليهود قالوا: يا أبا القاسم إن كنت صادقا فالحق بالشام فإنها أرض المحشر وأرض الأنبياء، فغزا تبوك لا يريد إلا الشام، فلما بلغ تبوك أنزل الله: {وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ} [الإسراء: 76] .
قال الحافظ: إسناده حسن مع أنه مرسل انتهى.
وقيل سببها أن لله تعالى لما منع المشركين من قرب المسجد الحرام في الحج وغيره، قالت قريش: لتقطعن عنا المتاجر والأسواق وليذهبن ما كنا نصيب منها، فعوضهم الله بالأمر بقتال أهل الكتاب، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة: 28] إلى قوله: {وَهُمْ صَاغِرُون} [التوبة: 29] وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ} [التوبة: 123] فعزم صلى الله عليه وسلم على قتال الروم؛ لأنهم أقرب الناس إليه وأولاهم بالدعوة إلى الحق لقربهم إلى الإسلام.
ابن مردويه عن ابن عباس وابن أبي شيبة وابن المنذر عن مجاهد وابن جرير عن سعيد بن جبير ويحتمل أن السبب جملة الأربعة، فليس بينها تناف.
ذكر الواقدي أنه صلى الله عليه وسلم حض على النفقة والحملان في سبيل الله، فجاءوا بصدقات كثيرة، فكان أول من جاء أبو بكر الصديق بماله كله أربعة آلاف درهم، فقال صلى الله عليه وسلم: "هل أبقيت لأهلك شيئا" قال: أبقيت لهم الله ورسوله، وجاء عمر بنصف ماله فسأله: "هل أبقيت لهم شيئا" قال: نعم، نصف مالي، وحمل العباس وطلحة وسعد بن عبادة، وجاء عبد الرحمن بن عوف بمائتي أوقية إليه صلى الله عليه وسلم، وتصدق عاصم بن عدي بسبعين وسقا من تمر، وجهز عثمان ثلث الجيش حتى كان يقال: ما بقيت لهم حاجة حتى كفاهم شنق أسقيتهم انتهى. وأقل ما قيل أنه ثلاثون ألفا فيكون جهز عشرة آلاف، وقال ابن إسحاق أنفق عثمان في ذلك الجيش نفقة عظيمة لم ينفق أحد مثلها.
"وروى عن قتادة أنه قال: حمل عثمان في جيش العسرة على ألف بعير وسبعين فرسا.(4/69)
وعن عبد الرحمن بن سمرة قال: جاء عثمان بن عفان بألف دينار في كمه حين جهز جيش العسرة في حجرة صلى الله عليه وسلم، فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقلبها في حجره ويقول: "ما ضر عثمان ما عمل بعد اليوم". خرجه الترمذي وقال: حسن غريب.
وعند الفضائلي والملاء في سيرته، كما ذكره الطبري في الرياض النضرة من حديث حذيفة: بعث عثمان -يعني في جيش العسرة- بعشرة آلاف دينار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
__________
وعن عبد الرحمن بن سمرة" بن حبيب بن عبد شمس القرشي العبشمي أبي سعيد صحابي من مسلمة الفتح، يقال: كان اسمه عبد كلال، افتتح سجستان، ثم سكن البصرة وبها مات سنة خمسين، أو بعدها، روى له الستة "قال جاء عثمان بن عفان رضي الله عنه بألف دينار في كمه حين جهز جيش العسرة" بالبناء للمفعول.
وفي رواية أحمد حين جهز رسول الله صلى الله عليه وسلم جيش العسرة "فنثرها" وفي رواية فصبها "في حجرة صلى الله عليه وسلم".
قال عبد الرحمن "فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقلبها في حجره ويقول: "ما ضر عثمان ما عمل بعد اليوم".
"أخرجه الترمذي: وقال حسن غريب" ورواه الإمام أحمد والبيهقي أيضا، "وعند الفضائلي والملاء"، قال الشامي في جماع فضائل أهل البيت بفتح الميم وشد اللام: عمر الموصلي كان يملأ من بئر في جامع الموصل احتسابا وكان إماما عظيما، ناسكا، زاهدا، وكان السلطان نور الدين الشهيد يشهر قوله ويقبل شفاعته، انتهى.
فوهم من ظنه الملائي فزاده ياء تعلقا بأن في اللب وغيره الملائي، بضم الميم وخفة اللام والمد، نسبة إلى بيع الملاءة التي يلتحف بها النساء، فإن هذا من الرواة لا سيرة له، وقد قال المصنف "في سيرته، كما ذكره الطبري في الرياض النضرة" في فضائل العشرة: وقد أبعد النجعة بالعز، ولغير المشاهير فقد أخرجه ابن عدي أيضا كلهم "من حديث حذيفة" بن اليمان قال: "بعث عثمان" ولفظ ابن عدي جاء عثمان "يعني في جيش العسرة بعشرة آلاف دينار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم".
قال الحافظ في المناقب بعد عزوه لابن عدي: سنده واه، ولعلها كانت بعشرة آلاف درهم، فتوافق رواية ألف دينار انتهى. ولو صح أمكن أن الألف جاء بها والعشرة بعث بها لكن(4/70)
فصبت بين يديه، فجعل صلى الله عليه وسلم يقول بيده ويقلبها ظهرا لبطن ويقول: "غفر الله لك يا عثمان ما أسررت وما أعلنت، وما هو كائن إلى يوم القيامة، ما يبالي ما عمل بعدها".
ولما تأهب رسول الله صلى الله عليه وسلم للخروج قال قوم من المنافقين: لا تنفروا في الحر، فنزل قوله تعالى: {وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ
__________
يمنع ذلك رواية ابن عدي بلفظ جاء المفيدة أن بعث من تعبير الرواة لاتحاد المخرج، "فصبت بين يديه، فجعل صلى الله عليه وسلم يقول بيده" أي يفعل بها، فقوله "ويقلبها" بيان للقول المذكور، والضمير عائد للدنانير بدليل قوله في الرواية التي فوقها يقلبها في حجره والحديث يفسر بعضه بعضا ظهرا لبطن، أي ما ظهر منها لما بطن تعجبا من كثرتها وسماحته بها في سبيل الله.
هذا هو المتبادر، وقال شيخنا: أي يجعل بطن يده تارة إلى السماء، وظهرها إليها أخرى، ولعله كان تارة يدعو برفع البلاء، فيجعل ظهرها إلى السماء، وتارة بطلب النصر، ونحوه فيجعل بطنها ولك الترجيح، "ويقول: "غفر الله لك يا عثمان ما أسررت، وما أعلنت، وما هو كائن إلى يوم القيامة ما يبالي ما عمل بعدها"، بشارة عظيمة بأن الله غفر له الذنوب، أي سترها عنه، فمنعه منها ببركة دعائه له، ونفقته في سبيل الله، فليس يبالي بما عمل إذ لا يقع منه إلا الخير.
وقال ابن هشام: حدثني من أثق به أن عثمان أنفق ألف دينار غير الإبل، والزاد وما يتعلق بذلك، فقال صلى الله عليه وسلم: "اللهم ارض عن عثمان فإني عنه راض" ومعلوم أن الألف دينار غير الإبل والزاد وما يتعلق بذلك.
وقد روى الطيالسي، وأحمد والنسائي عن الأحنف بن قيس: سمعت عثمان يقول لسعد بن أبي وقاص، وعلى، والزبير وطلحة: أنشدكم الله تعالى هل تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من جهز العسرة غفر الله له فجهزتهم حتى ما يفقدون خطاما ولا عقالا". قالوا: اللهم نعم.
وروى عبد الله في زوائد المسند والترمذي والبيهقي عن عبد الرحمن بن خباب بمعجمة وموحدتين الأولى ثقيلة. قال: خطب صلى الله عليه وسلم فحث على جيش العسرة فقال عثمان: عليَّ مائة بعير بأحلاسها وأقتابها، ثم نزل مرقاة أخرى من المنبر ثم حث فقال عثمان: عليَّ مائة بعير أخرى بأحلاسها وأقتابها ثم نزل مرقاة أخرى من المنبر ثم حث فقال عثمان: عليَّ مائة بعير أخرى بأحلاسها وأقتبابها ثم نزل مرقاة أخرى فحث فقال عثمان: عليَّ مائة بعير أخرى بأحلاسها وأقتباها قال: فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بيده، هكذا يحركها كالمتعجب "ما على عثمان بعد هذا اليوم" أو قال "بعدها " ولما تأهب صلى الله عليه وسلم للخروج قال" كما رواه ابن إسحاق عن شيوخه "قوم من المنافقين" بعضهم لبعض "لا تنفروا" تخرجوا إلى الجهاد "في الحر" زهادة في الجهاد وشكا في الحق وإرجافا بالرسول، "فنزل قوله تعالى: {وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّم(4/71)
أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُون} [التوبة: 81] .
وأرسل عليه الصلاة والسلام إلى مكة وقبائل العرب يستفزهم.
وجاء البكاءون يستحملونه، فقال عليه الصلاة والسلام: "لا أجد ما أحملكم عليه". وهم
__________
أَشَدُّ حَرًّا} من تبوك فالأولى أن تتقوها بترك التخلف {لَوْ كَانُوا يَفْقَهُون} ، يعلمون ذلك ما تخلفوا، فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا جزاء بما كانوا يكسبون، فأخبر عن حالهم بالضحك القليل في الدنيا، ومقابله في الآخرة بصيغة الأمر.
وعند ابن عقبة والواقدي وغيرهما: أن قائل ذلك الجد، بفتح الجيم، وشد المهملة ابن قيس لمن معه من بني سلمة وأنه القائل ائذن لي ولا تفتني.
وقد روى الطبراني، وأبو نعيم، وابن مردويه، عن ابن عباس، وابن أبي حاتم وابن مردويه عن جابر: لما أراد صلى الله عليه وسلم أن يخرج إلى تبوك قال لجد بن قيس: "ما تقول في مجاهدة بني الأصفر"، فقال: إني امرؤ صاحب نساء ومتى أرى نساءهم، أفتتن فائذن لي، ولا تفتني، فأعرض عنه، وقال: "قد أذنا لك" فأنزل الله: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي} [التوبة: 49] .
قال ابن إسحاق: أي إن كان إنما خشي منهن، وليس ذلك به فما سقط فيه من الفتنة أكبر بتخلفه عن رسول الله، والرغبة بنفسه عن نفسه يقول وإن جهنم لمن ورائه، زاد الواقدي عن شيوخه فجاءه ابنه عبد الله وكان بدريا فلامه فقال: ما لي وللخروج في الريح والحر الشديد والعسرة إلى بني الأصفر وأنا أخالفهم في منزلي، أفأغزوهم وإني عالم بالدوائر، فألظ له ابنه وقال: لا والله ولكنه النفاق والله لينزلن فيك قرآن، فضرب بنعله وجه ولده فانصرف ابنه ولم يكلمه فنزلت الآية.
وروى ابن هشام عن عبد الله بن حارثة عن أبيه قال: بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ناسًا من المنافقين يجتمعون في بيت سويلم اليهودي يثبطون الناس عن تبوك، فبعث صلى الله عليه وسلم طلحة بن عبيد الله في نفر وأمره أن يحرق عليهم بيت سويلم ففعل، واقتحم الضحاك بن خليفة من ظهر البيت، فانكسرت رجله، واقتحم أصحابه فأفلتوا، "وأرسل عليه الصلاة والسلام إلى مكة وقبائل العرب يستفزهم، وجاء البكاءون يستحملونه" يطلبون منه ما يركبون عليه، ويحملهم وكلهم معسر ذو حاجة لا يحب التخلف عن الغزو معه "فقال عليه الصلاة والسلام: "لا أجد ما أحملكم عليه" وهم" كما قال ابن عباس عند ابن جرير، وابن مردويه، وأبي نعيم، وابن إسحاق، عن شيوخه الزهري، وعاصم، ويزيد، وغيرهم، وابن جرير، عن محمد بن كعب القرظي وعند كل ما ليس عند الآخر.(4/72)
سالم بن عمير، وعلبة بن زيد، وأبو ليلى عبد الرحمن بن كعب المازني، والعرباض بن سارية، وهرم بن عبد الله، وعمرو بن عنمة، وعبد الله بن مغفل، وعبد الله بن عمرو المزني، وعمرو بن الحمام،
__________
وصرح ابن إسحاق وطائفة بأنهم سبعة والمتحصل من الجميع ما سرده المصنف تبعا لمغلطاي وحسن منه تقديم خمسة اتفق عليهم من ذكر وهم: "سالم بن عمير" ويقال: ابن عمرو ويقال: ابن عبد الله، ويقال: ابن ثابت بن النعمان الأوسي، يقال في نسبه العمري؛ لأنه من بني عمرو بن عوف، شهد العقبة وبدرا وما بعدهما ومات في خلافة معاوية.
ووقع عند ابن جرير، عن محمد بن كعب، وغيره في تسمية البكائين سالم بن عمير من بني واقف، قال في الإصابة: فيحتمل أن يكون غير الأول انتهى.
"وعلبة"، بضم المهملة، وسكون اللام، وفتح الموحدة وتاء تأنيث. "ابن زيد" بن عمرو بن عوف الأنصاري، "وأبو ليلى عبد الرحمن بن كعب" بن عمرو بن عوف الأنصاري، الأوسي، "المازني" من بني مازن بن الهنجار، شهد أحدا وما بعدها، ومات في خلافة عمر. "والعرباض" بكسر المهملة، وسكون الراء وموحدة فألف، فمعجمة.
"ابن سارية" السلمي قديم الإسلام ومن أهل الصفة، مات بعد السبعين، وهو من البكائين باتفاق من ذكرت، وعليه الواقدي وابن سعد، وحزم، وأبو عمرو "وهرم" بفتح الهاء، وكسر الراء وميم آخره، ويقال: هرمي بياء بعد الميم وقدمه جماعة "ابن عبد الله" بن رفاعة الأنصاري الواقفي، بقاف مكسورة، ثم فاء المدني، "وعمرو بن عنمة" بفتح المهملة والنون والميم وتاء تأنيث ابن عدي الأنصاري، ذكره ابن عقبة وغيره في البكائين وأهل بدر وقول الإصابة، وكذا ذكره ابن إسحاق، أي في رواية عن زياد، فلا يخالف نقله في الفتح عنه من عدم عده في البكائين، "وعبد الله بن مغفل"، بضم الميم وفتح المعجمة والفاء المشددة ابن عبد نهم، بفتح النون، وسكون الهاء وميم.
المزني من مشاهير الصحابة شهد بيعة الرضوان، مات سنة تسع وخمسين، أو ستين، أو إحدى وستين بالبصر، عده في البكائين ابن عباس وابن عقبة وابن إسحاق والقرظي.
وروى ابن سعد وغيره عنه قال: إني لأحد الرهط الذين ذكر الله {وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْك} [التوبة: 92] .
"وعبد الله بن عمرو" بن هلال "المزني" حكاه ابن إسحاق قولا بدل ابن مغفل.
ورواه ابن جرير عن محمد بن كعب القرظي، وابن مردويه عن مجمع بن جارية.
"وعمرو" بفتح العين "ابن الحمام"، بضم الحاء المهملة، والتخفيف ابن الجموح(4/73)
ومعقل المزني، وحرمي بن مازن، والنعمان وسويد ومعقل وعقيل وسنان وعبد الرحمن وهند.
__________
الأنصاري من بني سلمة، ذكره فيهم ابن إسحاق والطبري والدولابي.
"ومعقل بفتح الميم، وسكون المهملة، وكسر القاف، ولام، ابن يسار "المزني" بايع تحت الشجرة، وهو الذي ينسب إليه نهر معقل بالبصرة حكى كونه منهم ابن سعد عن بعض الروايات.
"وحرمي" بفتح المهملة، فراء، فميم اسم بلفظ النسب "ابن" عمر، ومن بني "مازن" انفرد بعده في البكائين محمد بن كعب القرظي، كما انفرد بذكر عبد الرحمن بن زيد أبي عبلة. رواه عنه ابن جرير، قال ابن سعد: وبعضهم يقول البكاءون بنو مقرن السبعة، وهم من مزينة، فسردهم المصنف، فقال: "والنعمان" بن مقرن بن عائذ، صحابي مشهور روى له الستة، استشهد بنهاوند سنة إحدى وعشرين، وهم من زعم أنه النعمان بن عمرو بن مقرن، فذاك تابعي وهو ابن أخي هذا.
"وسويد" مقرن صحابي مشهور نزل الكوفة روى له مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي ويقع في النسخ والنعمان بن سويد، وهو خطأ، فالذي في نفس مغلطاي الذي هو ناقل عنه بواو العطف.
"ومعقل" بن مقرن المزني قال ابن حبان: له صحبة وقال البغوي: سكن الكوفة: وروى عنه صلى الله عليه وسلم أحاديث.
"وعقيل بفتح أوله ابن مقرن المزني ذكره البخاري في الصحابة، والواقدي فيمن نزل الكوفة منهم.
"وسنان" بن مقرن أحد الأخوة، وقال ابن سعد له صحبة وذكره غير واحد في الصحابة.
"وعبد الرحمن" بن مقرن بن عائذ المزني قال ابن سعد: له صحبة، ويقال: كان اسمه عبد عمرو، فغيره صلى الله عليه وسلم، وهذا سقط من الشامي لما عذبني مقرن سهوا، أو من الناسخ.
"وهند" لم أر له ذكرا في الصحابة نعم فيها عبد الله بن مقرن المزني أحد الأخوة.
روى عنه مجد بن سيرين وعبد الملك بن عمير، كذا قال ابن منده: ولم يخرج له شيئا، وله ذكر في الفتوح.
قال سيف في كتاب الردة: خرج أبو بكر يمشي وعلى ميمنته النعمان بن مقرن، وميسرته عبد الله بن مقرن، وعلى الساقة سويد بن مقرن، فما طلع الفجر إلا وهم والعدو في صعيد واحد، فذكر قصة قتال أهل الردة انتهى.
وقد صرح في الشامية بأن السابع لم يسم فقيل: اسمه عبد الله، وقيل النعمان، وقيل(4/74)
بنو مقرن، وهم الذين قال الله تعالى فيهم: {تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ} [التوبة: 92] قال مغلطاي.
وفي البخاري، عن أبي موسى قال: أرسلني أصحابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أسأله الحملان لهم، فقلت يا نبي الله، إن أصحابي أرسلوني إليك لتحملهم، فقال: "والله لا أحملكم على شيء" فرجعت.
__________
ضرار "بنو مقرن" بضم الميم وفتح القاف وكسر الراء الثقيلة.
قال الواقدي وابن نمير: كان بنو مقرن سبعة كلهم صحب النبي صلى الله عليه وسلم قال أبو عمر: ليس ذلك لأحد من العرب غيرهم.
قال الحافظ: وقد ذكر هو في ترجمة هند بن حارثة الأسلمي ما ينقض ذلك، وأخرج الطبري من طريق عبد الرحمن بن معقل بن مقرن أن ولد مقرن كانوا عشرة، نزل فيهم: {مِنَ الأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} "وهم الذين قال الله تعالى فيهم": {وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ} [التوبة: 92] ، قلت: $"لا أجد ما أحملكم عليه"، " {تَوَلَّوْا} " انصرفوا جواب إذا، " {وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيض} " تسيل: " {مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا} " لأجل " {أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُون} " في الجهاد، "قاله مغلطاي" جامعا ما تفرق في الأخبار، قال الشامي: وذكر الحاكم أن فيهم حرمي بن المبارك بن النجار، وابن عائذ مهدي بن عبد الرحمن ولم أر لهما ذكرا في كتب الصحابة.
قال ابن إسحاق والواقدي: لما خرج البكاءون من عنده صلى الله عليه وسلم، وقد أعلمهم أنه لا يجد ما يحملهم عليه لقي يامين بن عمر، والنضري أبا ليلى وعبد الله بن مغفل، وهما يبكيان فقال: ما يبكيكما قالا: جئناه صلى الله عليه وسلم ليحملنا فلم نجد عنده ما يحملنا عليه وليس عندنا ما نتقوى به على الخروج، ونكره أن تفوتنا غزوة معه، فأعطاهما ناضحا له، وزود كل واحد منهما صاعين من تمر.
زاد الواقدي: وحمل العباس منهم رجلين وعثمان ثلاثة بعدما جهز من الجيش.
"وفي البخاري" ومسلم، "عن أبي موسى" عبد الله بن قيس الأشعري "قال: أرسلني أصحابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أسأله الحملان لهم" بضم الحاء المهملة وسكون الميم، أي الشيء الذي يركبون عليه ويحملهم، قاله الحافظ وغيره، "فقلت: يا نبي الله إن أصحابي أرسلوني إليك لتحملهم، فقال: "والله لا أحملكم على شيء".
زاد مسلم والبخاري في رواية: "وما عندي ما أحملكم عليه"، وأسقط من البخاري ومسلم ما لفظه ووافقتهه وهو غضبان، ولا أشعر من شيء آخر قبل مجيئه لقوله: وافقته وقوله: لا أشعر فكأن غضبه حمله على القسم، وفيه انعقاد اليمين في الغضب، "فرجعت" إلى أصحابي" حال(4/75)
حزينا من منع النبي صلى الله عليه وسلم ومن مخافة أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم وجد في نفسه على فرجعت إلى أصحابي فأخبرتهم الذي قال النبي صلى الله عليه وسلم. فلم ألبث إلا سويعة إذا سمعت بلالا ينادي: أين عبد الله بن قيس، فأجبته، فقال: أجب رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوك. فلما أتيته قال: "خذ هاتين القرينتين وهاتين القرينتين" لستة أبعرة أبتاعهن حينئذ من سعد
__________
كوني "حزينا من منع النبي صلى الله عليه وسلم" أن يحملنا "ومن مخافة أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم" غضب "في نفسه علي، فرجعت إلى أصحابي فأخبرتهم بالذي قال النبي صلى الله عليه وسلم، فلم ألبث" بفتح الهمزة والموحدة، بينها لام ساكنة آخره مثلثة "إلا سويعة" بضم السين المهملة، وفتح الواو مصغر ساعة، وهي جزء من الزمان، أو من أربعة وعشرين جزأ من اليوم والليلة.
قال المصنف وجزم الشام بالأول "إذ سمعت بلالا ينادي أين عبد الله" رواية أبي ذر ولغيره، أي عبد الله "بن قيس، فأجبته فقال: أجب رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوك" خبر رسول، أو حال، فرسول منصوب بأجب، "فلما أتيته قال: "خذ هذين القرينين" تثنية قرين. قال الحافظ: أي الحملين المشدودين أحدهما إلى الآخر وقيل: النظيرين المتساويين "وهذين القرينين"، ولأبي ذر عن غير المستملي وهاتين القرينتين أي الناقتين فذكر، ثم أنث، فالأولى على أرادة البعير والثانية على إرادة الاختصاص لا الوصفية انتهى.
وقال المصنف والشامي: ولأبي ذر عن الحموي والمستملي هاتين القرينتين، وهاتين القرينتين أي الناقتين.
قال الحافظ: وهو إما اختصار من الراوي، أو كانت الأولى اثنين والثانية أربعة؛ لأن القرين بصدق على الواحد وعلى الأكثر فلا يخالف قوله "لستة أبعرة".
وتقدم، أي في البخاري في قدوم الأشعريين أنه صلى الله عليه وسلم أمر لهم بخمس ذود، فأما تعددت القصة، أو زادهم على الخمس واحدا انتهى.
وللبخاري أيضا بثلاثة ذود وجمع بأنها باعتبار ثلاثة أزواج والأبعرة جمع بعير يقع على الذكر والأنثى، فهو جار على كل من رواية التذكير والتأنيث "ابتاعهن".
قال الحافظ في رواية الكشميهني: ابتاعهم، وكذا انطلق بهن في روايته بهم، والصواب ما عند الجماعة؛ لأنه جمع ما لا يعقل "حينئذ من سعد" لم يتعين لي من هو سعد إلى الآن، إلا أنه يهجس في خاطري أنه سعد بن عبادة انتهى.
ففي قول المصنف قيل: هو ابن عبادة وقفة، وفي قدوم الأشعريين، فحلف أن لا يحملنا، ثم لم يلبث صلى الله عليه وسلم أن أتى بنهب إبل، فأمر لنا بخمس ذود، ولم ينبه الحافظ على الجمع بين الروايتين.(4/76)
"فانطلق بهن إلى أصحابك فقل: إن الله أو إن رسول الله يحملكم على هؤلاء فاركبوهن" الحديث.
وقام علبة بن زيد، فصلى من الليل وبكى وقال: اللهم إنك قد أمرت بالجهاد ورغبت فيه ثم لم تجعل عندي ما أتقوى به مع رسولك، ولم تجعل في يد رسولك ما يحملني عليه، وإني أتصدق على كل مسلم بكل مظلمة أصابني فيها، مال أو جسد أو عرض. ثم أصبح مع الناس. فقال صلى الله عليه وسلم: "أين المتصدق بهذه الليلة"؟ فلم يقم أحد،
__________
قال الشامي: فيحتمل أن يكون ما جاء من النهب أعطاه لسعد، ثم اشتراه منه لأجل الأشعريين، أو يحمل على التعدد "فانطلق" بكسر اللام، والجزم على الأمر، قاله المصنف بناء على قول الكوفيين الأمر مجزوم، أو مسامحة، ومراده على صورة المجزوم بناء على قول البصرة مبني "بهن".
وللكشميهني بهم بالميم والصواب الأولى، كما علم "إلى أصحابك، فقل إن الله، أو إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يحملكم على هؤلاء" الأبعرة "فاركبوهن" الحديث". بقيته فانطلقت إليهم بهن، فقلت إن النبي صلى الله عليه وسلم يحملكم على هؤلاء الأبعرة، ولكني والله لا أدعكم حتى ينطلق معي بعضكم إلى من سمع مقالة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا تظنوا أني أحدثتكم شيئا لم يقله رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: إنك عندنا بالمصدق، ولنفعلن ما أحببت، فانطلق أبو موسى بنفر منهم حتى أتوا الذين سمعوا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنعه إياهم، ثم أعطاهم بعد، فحدثوهم بمثل ما حدثهم به أبو موسى، "وقام علبة بن زيد" أحد البكائيين المذكورين، "فصلى من الليل" ما شاء الله "وبكى" لفظ الرواية ثم بكى "وقال: اللهم إنك قد أمرت بالجهاد ورغبت فيه ثم لم تجعل عندي ما أتقوى به مع رسولك ولم تجعل في يد رسولك ما يحملني عليه، وإني أتصدق على كل مسلم بكل مظلمة أصابني" المسلم "فيها" في المظلمة "مال" بالجر بدل من مظلمة، ولفظ الروض أصابني بها في مال، "أو جسد، أو عرض" بأن أعفو عنه والغالب أن لا يخلو أحد من ظلم غيره له في شيء ما وبفرض أن لا ظلامة فهو مثاب على قصده الرأفة بالمسلمين.
وفي حديث أبي عيس: ولكني أتصدق بعرضي من آذاني، أو شتمني، أو لمزين فهو له حل "ثم أصبح مع الناس فقال صلى الله عليه وسلم" وفي حديث عمرو بن عوف فأمر صلى الله عليه وسلم مناديا فنادى "أين المتصدق بهذه الليلة"؟ فلم يقم أحد ثم قال: "أين المتصدق" فلم يقم أحد" وكأنه لو علم بالوحي لم يبين له خصوصه، كأنه قيل له: إن رجلا من أصحابك تصدق الليلة بكذا، أو(4/77)
ثم قال: "أين المتصدق بهذه الليلة"؟ فلم يقم أحد، ثم قال: "أين المتصدق فليقم"، فقام إليه فأخبره، فقال صلى الله عليه وسلم: "أبشر فوالذي نفس محمد بيده لقد كتبت في الزكاة المقبلة". رواه يونس كما ذكره السهيلي في الروض له، والبيهقي في الدلائل.
وجاء المعذرون من الأعراب ليؤذن لهم في التخلف، فأذن لهم، وهم اثنان وثمانون رجلا.
وقعد آخرون من المنافقين بغير عذر وإظهار علة،
__________
علم وأراد إذاعة فضله، ثم قال: "أين المتصدق فليقم" زاد في الروض ولا يتزاهد ما صنع هذه الليلة انتهى.
وكان علبة أراد خفاء عمله، فلم يقم في المرتين حتى أمره فلم يسمعه إلا امتثاله "فقام إليه، فأخبره فقال صلى الله عليه وسلم: "أبشر فوالذي نفس محمد بيده"، أقسم له ليزيد مسرته، ويدع كربته "لقد كتبت" بالبناء للمفعول، أي صدقتك "في" عداد "الزكاة المتقبلة" فثوابها كثوابها.
"رواه يونس" عن ابن إسحاق "كما ذكره السهيلي في الروض" بلا سند، "والبيهقي في الدلائل له" قال في الإصابة: وقد ورد موصولا من حديث مجمع بن جارية، ومن حديث عمرو بن عوف عند ابن أبي الدنيا وابن شاهين.
ومن حديث علبة نفسه عند البزار قال: حث صلى الله عليه وسلم على الصدقة، فذكره قال البزار: علبة هذا مشهور من الأنصار ولم نعلم له غير هذا الحديث.
ومن حديث أبي عبس، بفتح فسكون ابن جبير عند الخطيب انتهى ملخصا.
"وجاء المعذرون" جمع معذر بشد الذال.
قال البيضاوي: أما من عذر في الأمر إذا اقصر فيه موهما أن له عذرا ولا عذر له، أو من اعتذر إذا شهد العذر بإدغام في الذال ونقل حركتها إلى العين ويجوز كسر العين لالتقاء الساكنين، وضمها للإتباع لكن لم يقرأ بهما، وقرأ يعقوب المعذرون من أعذر إذا اجتهد في العذر "من الأعراب" إلى النبي صلى الله عليه وسلم "ليؤذن لهم في التخلف" وتعللوا بالجهد وكثرة العيال، "فأذن لهم" في التخلف، ولكن لم يعذرهم كما قال ابن إسحاق وغيره، أي لم يقبل عذرهم لكذبهم فيه "وهم" كما قال ابن سعد وشيخه: "اثنان وثمانون رجلا"، من بني غفار، وفي البيضاوي يعني أسد وغطفان، وقيل: هم رهط عامر بن الطفيل، قالوا: إن غزونا معك اغارت طيء على أهالينا ومواشينا.
"وقعد آخرون من المنافقين بغير عذر" في نفس الأمر، "و" بغير "إظهار علة" للنبي صلى الله عليه وسلم،(4/78)
جرأة على الله ورسوله وهو قوله تعالى: {وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [التوبة: 90] . واستخلف على المدينة محمد بن مسلمة. قال الدمياطي: وهو عندنا أثبت ممن قال استخلف غيره. انتهى.
وقال الحافظ زين الدين العراقي، في ترجمة علي بن أبي طالب من شرح التقريب، لم يتخلف عن المشاهد إلا تبوك، فإن النبي صلى الله عليه وسلم خلفه على المدينة، وعلى عياله، وقال يومئذ: "أنت منى بمنزلة هارون من موسى
__________
"جراءة" بفتح الجيم والراء، كضخامة "على الله ورسوله" لعدم مبالاتهم بهما لكفرهم" وهو قوله تعالى: {وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [التوبة: 90] في إدعاء الإيمان من منافقي الأعراب عن المجيء للاعتذار.
"واستخلف على المدينة" فيما قال ابن هشام "محمد بن مسلمة" الأنصاري.
"قال الدمياطي" تبعا للواقدي، "وهو عندنا أثبت ممن" أي من قول من قال: أو قائل استخلافه أثبت ممن قال استخلف غيره" عليًّا، أو سباعًا، أو ابن أم مكتوم "انتهى" كلام الدمياطي وهو في هذا الترجيح تابع لقول الواقدي الثبت عندنا محمد بن مسلمة، "و" لكن قال الحافظ زين الدين العراقي في ترجمة علي بن أبي طالب من شرح التقريب، لم يتخلف" علي "عن المشاهد" كلها، بل حضرها معه صلى الله عليه وسلم وخيبر، وإن تخلف في ابتدائها العذرة فقد حضر معظمها بحيث كان الفتح على يديه "إلا تبوك، فإن النبي صلى الله عليه وسلم خلفه على المدينة"، كما رواه عبد الرزاق في مصنفه بسند صحيح عن سعد بن أبي وقاص، ولفظه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خرج إلى تبوك استخلف على المدينة علي بن أبي طالب "و" خلفه أيضا على عياله" فقال: "يا علي اخلفني في أهلي وأضرب وخذ وعظ"، ثم دعا نساءه فقال: "اسمعن لعلي وأطعن".
رواه الحاكم في الأكليل من مرسل عطاء بن أبي رباح، وأخرج ابن إسحاق عن سعد ابن أبي وقاص خلف صلى الله عليه وسلم عليًّا على أهله وأمره بالإقامة فيهم فأرجف به المنافقون، وقالوا: ما خلفه إلا استثقالًا له وتخففًا فأخذ علي سلاحه، ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو نازل بالجرف، فقال: يا نبي الله زعم المنافقون أنك إنما خلفتني؛ لأنك استثقلتني وتخففت مني، فقال: "كذبوا ولكن خلفتك لما تركت ورائي فأرجع في أهلي وأهلك، أفلا ترضى يا علي أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي" فرجع إلى المدينة ومضى صلى الله عليه وسلم على سفره، "وقال يومئذ"، أي زمن استخلافه لما تراه أن قوله له لما لحقه بالجرف، فأراد باليوم القطعة من الزمن "أنت مني" وفي رواية لهما أيضا، "أما ترضي أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى".(4/79)
إلا أنه لا نبي بعدي". وهو في الصحيحين من حديث سعد بن أبي وقاص. انتهى. ورجحه ابن عبد البر.
__________
قال الطيب: "مني" خبر المبتدأ ومن اتصالية ومتعلق الخبر خاص والباء زائدة، كما في قوله تعالى: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ} [البقرة: 137] ، أي فإن آمنوا إيمانا مثل إيمانكم يعني أنت متصل ونازل مني منزلة هارون من موسى وفيه تشبيه، ووجه الشبه مبهم بينه بقوله، "إلا أنه لا نبي بعدي" فعرف أن الاتصال المذكور بينهما ليس من جهة النبوة، بل من جهة ما دونها وهي الخلافة، ولما كان هارون المشبه به إنما كان خليفة في حياة موسى، دل ذلك على تخصيص خلافة علي له صلى الله عليه وسلم بحياته انتهى. يعني فلا حجة فيه للشيعة في أن الخلافة لعلي، وأنه أوصى له بها، وكفرت الروافض جميع الصحابة، بتقديم غيره، وزاد بعضهم فكفر عليًّا لكونه لم يقم بطلب حقه، ولا حجة لهم في الحديث، ولا متمسك لهم به؛ لأنه إنما قال هذا حين استخلفه بالمدينة في هذه الغزوة.
قال المصنف وغيره: ويؤيده أن هارون المشبه به لم يكن خليفة بعد موسى، لوفاته قبله بنحو أربعين سنة انتهى. ومر في أحد قولي البيضاوي: الأكثر أن موسى مات قبله بسنة، وقول النور: بنحو خمسة أشهر، "وهو" أي كونه خلفه على المدينة وعلى عياله معا ظاهر ما في الصحيحين البخاري هنا، وفي المناقب ومسلم في الفضائل، والنسائي وابن ماجه كلهم "من حديث سعد بن أبي وقاص" ولفظه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى تبوك واستخلف عليًّا فقال: اتخلفني في الصبيان والنساء قال: "ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي".
زاد أحمد فقال علي: رَضيت ثم رضيت، فقوله: استخلف عليًّا ظاهر في أنه على المدينة، وتأيد هذا الظاهر بورود هذه اللفظة في نفس حديث سعد في مصنف عبد الرزاق، والروايات يفسر بعضها بعضا، لا سيما والمخرج متحد، ومن ثم جزم الحافظ العراقي الذي "انتهى".
كلامه بعزوه لهما استخلافه على المدينة، "ورجحه" الإمام الحافظ "ابن عبد البر" وتبعه الحافظ ابن دحية، وقطع به المصنف في شرح البخاري؛ لأن ما في أرفع الصحيح لا معدل عنه، وأما الدمياطي فقد مر عنه أنه كان لما ألف السيرة سيريًا محضًا، يتبعهم ولو خالف الأحاديث الصحيحة، فتبع هنا الواقدي في ترجيحه، ثم العجب من الشارح أخذ ترجمة الشامي من استخلفه على أهله، ومن استخلفه على المدينة، وأتى بصدر كلامه فقط، وزعم أنه ظاهر حديث البخاري. وقضى على المصنف بالتسمح، فإنه خلفه على أهله لكن لقربه منه وعظم أمره(4/80)
وقيل: استخلف سباع بن عرفطة.
وتخلف نفر من المسلمين من غير شك ولا ارتياب منهم، كعب بن مالك.
__________
إذا عرض للمدينة شيء عاون ابن مسلمة في دفعه، ولو استكمل عبارة الشامي لعلم أن الحق مع المصنف، وأنه لا تسمح في كلامه فإنه لما حكى عن الواقدي القول بأنه علي قال ما نصه. قال أبو عمرو تبعه ابن دية، وهو الأثبت قلت ورواه عبد الرزاق في المصنف بسند صحيح عن سعد بن أبي وقاص، ولفظه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خرج إلى تبوك، استخلف على المدينة علي بن أبي طالب انتهى.
فهذا صريح في ترجيحه، وأن ترجمته إنما هي توفية بتأدية كلام أهل المغازي ويهجس في خاطري أنه لم يقرأ له بقية كلامه أو سقط من النسخة التي كانت عنده؛ لأنه كان يشكو كثرة تحريفها وسقطها "وقيل: استخلف سباع" بكسر المهملة وخفة الموحدة "ابن عرفطة" بضم المهملة، وسكون الراء وضم الفاء فطاء مهملة حكى هذا القول ابن هشام عن عبد العزيز بن محمد الدراوردي، ويقال: إنه استخلف ابن أم مكتوم.
حكى الأقوال الأربعة الواقدين وقد علمت أن أرجحها علي لصحة الحديث به وترجيح جهابذة الحفاظ له، فناهيك بابن عبد البر، وابن دحية، والعراقي ويليه محمد بن مسلمة لترجيح الواقدي والدمياطي، وأما الأخيران فلم يرجحا وقال شيخنا يجمع بتقدير صحة جميعها، بأن عليًّا على أهله، وابن مسلمة على المدينة، وابن أم مكتوم على الصلاة وسباع أولا، ثم عرض ما منعه، فاستخلف ابن مسلمة انتهى. وملحظه فيه ما أصله، كما علمت من ترجيح أنه ابن مسلمة، "وتخلف نفر من المسلمين من غير شك" في أمره صلى الله عليه وسلم، "ولا أرتياب" بل كانوا جازمين متيقنين أنه خاتم النبيين.
"منهم كعب بن مالك" الأنصاري السلمي، بالفتح المدني، الصحابي المشهور، مات في خلافة علي.
روى له الجميع قال في حديث تخلفه عند الشيخين: تجهز صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه، فطفقت أغدو لكي أتجهز معهم، فأرجع ولم أقص شيئًا فأقول في نفسي أنا قادر عليه فلم يزل يتمادى بي حتى اشتد بالناس الجند، فأصبح صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه ولم أقض من جهازي شيئًا فقلت: أتجهز بعده بيوم، أو يومين، ثم ألحقهم فرجعت ولم أقض شيئًا ثم غدوت، ثم رجعت ولم أقض شيئًا لم يزل حتى أسرعوا وهممت أن أرتحل فأدركهم وليتني فعلت، فلم يقدر لي ذلك.(4/81)
ومرارة بن الربيع وهلال بن أمية، وفيهم نزل {وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} [التوبة: 118] وأبو ذر، وأبو خثيمة، ثم لحقاه بعد ذلك.
ولما رأى عليه.
__________
"ومرارة" قال في الفتح بضم الميم وراءين الأولى خفيفة.
"ابن الربيع" الأنصاري العمري، بفتح المهملة، وسكون الميم، نسبة إلى بني عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس، ووقع لبعضهم العامري، وهو خطأ، وكونه ابن الربيع هو المشهور، ووقع في مسلم ابن ربيعة وعند ابن مردويه من حديث مجمع بن جارية مرارة بن ربعي، وهو خطأ، وكذا ما عند ابن أبي حاتم من مرسل الحسن من تسميته ربيع بن مرارة وهو مقلوب، وذكر في هذا المرسل: أن سبب تخلفه أنه كان له حائط حين زها، فقال في نفسه، قد غزوت قبلها، فلو أقمت عامي هذا، فلما تذكر ذنبه قال: اللهم أني أشهدك أن قد تصدقت به في سبيلك.
"وهلال بن أمية" الأنصاري الواقفي بقاف، ثم فاء نسبة إلى بني واقف بن امرئ القيس بن ملك بن الأوس. ذكر في مرسل الحسن: أن سبب تخلفه، أنه كان له أهل تفرقوا، ثم اجتمعوا، فقال: لو أقمت هذا العام عندهم، فلما تذكر قال: اللهم لك على أن لا أرجع إلى أهل ولا مال، وفيهم نزل {عَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} [التوبة: 118] على التوبة عليهم بقرينة بقية الآية، ويأتي له مزيد "وأبو ذر".
ذكر الواقدي: أن سبب إبطائه عن السير أن بعيره كان أعجف، فقال: أعلفه أياما، ثم ألحقه عليه الصلاة والسلام، فعلفه أياما، ثم خرج فلم ير به حركة، فحمل متاعه على ظهره وسار.
"وأبو خيثمة" قال في الفتح اسمه سعد بن خيثمة، كذا أخرجه الطبراني من حديثه ولفظه تخلفت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدخلت حائطا، فرأيت عريشا قد رش بالماء، ورأيت زوجتي، فقلت: ما هذا بإنصاف رسول الله صلى الله عليه وسلم في السموم والحر وأنا في الظل والنعيم، فقمت إلى ناضح لي وتمرات وخرجت فلما طلعت على العسكر فرآني الناس قال صلى الله عليه وسلم: "كن أبا خيثمة"، فجئت فدعا لي. وذكره ابن إسحاق عن عبد الله بن أبي بكر بن حزم مرسلًا، وذكر الواقدي: أن اسمه عبد الله بن خيثمة وقال ابن هشام: اسمه مالك بن قيس انتهى. "ثم لحقاه بعد ذلك" روى ابن إسحاق عن ابن مسعود لما سار صلى الله عليه وسلم إلى تبوك جعلوا يقولون تخلف فلان، فيقول: "دعوه فإن يكن فيه خير، فسيلحقه الله بكم، وإن يك غير ذلك فقد أراحكم الله منه"، وتلوم أبو ذر على بعيره، فلما أبطأ عليه، أخذ متاعه على ظهره، ثم خرج يتبع أثره صلى الله عليه وسلم ماشيا، "ولما رأى عليه(4/82)
الصلاة والسلام أبا ذر الغفاري -وكان صلى الله عليه وسلم نزل في بعض الطريق- فقال: "يمشي وحده ويموت وحده ويبعث وحده"، فكان كذلك.
وأمر صلى الله عليه وسلم لكن بطن من الأنصار والقبائل من العرب أن يتخذوا لواء وراية.
__________
الصلاة والسلام أبا ذر الغفاري وكان عليه الصلاة والسلام نزل في بعض الطريق" قال أبو ذر: فطلعت عليه نصف النهار وقد أخذ مني العطش.
رواه الواقدي قال في حديث ابن إسحاق: فنظر ناظر من المسلمين، فقال: يا رسول الله إن هذا الرجل يمشي على الطريق وحده، فقال صلى الله عليه وسلم: "كن أبا ذر" فلما تأمله القوم قالوا: يا رسول الله هو والله أبو ذر "فقال" "رحم الله أبا ذر يمشي وحده، ويموت وحده ويبعث وحده".
هكذا الرواية عن ابن مسعود عند ابن إسحاق وأتباعه فما يقع في نسخ يعيش بدل يبعث تحريف من النساخ، وعند الواقدي، فلما قدم على النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره خبره قال: "لقد غفر الله لك يا أبا ذر بكل خطوة ذنبا إلى أن لقيتني"، ووضع متاعه عن ظهره، ثم استسقى فأتي بإناء من ماء فشربه، وقوله: "كن أبا ذر"، "كن أبا خيثمة" بلفظ الأمر قيل: معناه الدعاء، كما تقول أسلم، أي سلمك الله، أي اللهم اجعله أبا ذر، وقيل: معناه أنت أبو ذر، ثم إنه يقع في نسخ حذف، "ويبعث وحده"؛ لأنه لم يتقيد بالرواية، بل اقتطف منها ما يدل على الآية الباهرة التي شوهدت والبعث لم يشاهد بعد، فهي أنسب بقوله "فكان كذلك".
روى ابن إسحاق عن ابن مسعود: لما نفى عثمان أبا ذر إلى الربذة وأصابه بها قدره لم يكن معه أحد إلا امرأته وغلامه، فأوصاهما أن غسلان وكفناني، ثم ضعاني على قارعة الطريق، فأول ركب يمر بكم، فقولوا: هذا أبو ذر صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعينونا على دفنه، فلما مات فعلا ذلك به، وأقبل ابن مسعود في رهط من أهل العراق عمار، فلم يرعهم إلا والجنازة على ظهر الطريق، وقد كادت الإبل تطؤها، وقام إليهم الغلام، فقال: هذا أبو ذر صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعينونا على دفنه، فاستهل عبد الله بن مسعود يبكي، ويقول: صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم تمشي وحدك، وتموت وحدك وتبعث وحدك، ثم نزل هو وأصحابه فواروه، ثم حدثهم ابن مسعود بالحديث، وعسكر عليه السلام بثنية الوداع، كما قال ابن إسحاق.
زاد الواقدي: ولما رحل منها، عقد الألوية والرايات، "وأمر صلى الله عليه وسلم لكل بطن من الأنصار والقبائل من العرب أن يتخذوا لواء وراية".
قال الواقدي: فدفع لواءه الأعظم إلى الصديق ورايته العظمى إلى الزبير، ودفع راية الأوس إلى أسيد بن حضير، وراية الخزرج إلى أبي دجانة، ويقال إلى الحباب بن منذر.
قال: ورأى براس الثنية عبدًا لامرأة متسلحًا فقال: أقاتل معك، فقال: ارجع إلى سيدتك،(4/83)
وكان معه عليه الصلاة والسلام ثلاثون ألفًا: وعند أبي زرعة سبعون ألفًا، وفي رواية عنه أيضًا أربعون ألفًا. وكانت الخيل عشرة آلاف فرس.
__________
لا تقتل معي فتدخل النار، ونادى مناديه صلى الله عليه وسلم لا يخرج معنا إلا مقو، فخرج رجل على بكر صعب، فصرعه بالسويداء مصغر سوداء موضع على ليلتين من المدينة، فقال الناس: الشهيد الشهيد، فبعث صلى الله عليه وسلم مناديًا لا يدخل الجنة عاص، قال: وكان دليله إلى تبوك علقمة بن الفغواء الخزاعي وأبوه بفتح الفاء، وسكون الغين المعجمة وبالواو.
وروى عبد الرزاق وابن سعد عن كعب بن مالك: خرج صلى الله عليه وسلم إلى تبوك يوم الخميس، وعسكر عبد الله بن أبي معه على حدة عسكره أسفل منه نحو ذباب فأقام مدة إقامته، فلما سار عليه السلام نحو تبوك تخلف ابن أبي راجعًا إلى المدينة فيمن تخلف من المنافقين، وقال: يغزو محمد بني الأصفر مع جهد الحال والحر والبلد البعيد إلى ما لا طاقة له به يحسب أن قتالهم معه اللعب، والله لكأني أنظر إلى أصحابه مقرنين بالحبال إرجافا به وبأصحابه.
قال ابن إسحاق والواقدي وابن سعد: وكان عسكر ابن أبي فيما يزعمون ليس بأقل العسكرين.
قال ابن حزم هذا باطل لم يتخلف عنه إلا ما بين السبعين إلى الثمانين فقط، "وكان معه عليه الصلاة والسلام ثلاثون ألفًا" الذي جزم به ابن إسحاق والواقدي، وابن سعد ورواه الحاكم في الإكليل عن معاذ بن جبل والواقدي عن زيد بن ثابت، قالا: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى غزوة تبوك زيادة على ثلاثين ألفًا، فكأن المصنف ألغى الزائد في حكاية هذا القول.
"وعند أبي زرعة" عبيد الله بن عبد الكريم الحافظ، الثقة، الرازي، الإمام، المهور أنه كان معه "سبعون ألفًا" نقله الحاكم عنه في الإكليل قال الشامي: وجمع بين الكلامين بأن من قال ثلاثين ألفًا لم يعد التابع، ومن قال سبعين عند التابع والمتبوع.
"وفي رواية عنه أيضًا أربعون ألفًا" وهي التي نقلها عنه في الفتح قائلًا، ولا تخالف حديث معاذ أكثر من ثلاثين لاحتمال أن من قال أربعين ألفًا جبر الكسر، انتهى.
لكن تعقبه تلميذه السخاوي بأن المروي عن أبي زرعة أنهم كانوا سبعين، نعم الحصر بالأربعين في حجة الوداع فكأنه سبق قلم، أو انتقال نظر، نقله عنه تلميذه المصنف في شرح البخاري، وأقره، وهو عجيب مع جزمه هنا بأنهما روايتان عن أبي زرعة، وتأليفه للشرح متأخر عن المواهب لإحالته فيه كثيرا عليها وعلى تسليم النقل، فقد جمع شيخنا على قياس السابق بينهما وبين من قال أربعين بأنه عند المتبوعين ومن يقرب منهم من التابعين.
"وكانت الخيل عشرة آلاف فرس" رواه الواقدي من حديث زيد، وقيل: زيادة ألفين،(4/84)
ولما مر صلى الله عليه وسلم بالحجر -بكسر الحاء وسكون الجيم- بديار ثمود قال: "لا تشربوا من مائها شيئا،
__________
وعليه حمل في الفتح ما وقع في بعض طرق حديث كعب عند مسلم، والمسلمون يزيدون على عشرة آلاف قال: تحمل على إرادة عدد الفرسان، "ولما مر صلى الله عليه وسلم بالحجر بكسر الحاء وسكون الجيم بديار ثمود" بدل من الحجر بإعادة الجار، وفي الفتح، وهو منزل ثمود، وفي الأنوار هو واد بين المدينة والشام، كانوا يسكنونه بمنع الصرف على إرادة القبيلة للعلمية والتأنيث المعنوي وبالصرف على إرادة اسم الأب وكلاهما في القرءآن وإلى ثمود وعاد، أو ثمودًا "قال: "لا تشربوا" ظاهر سياقه أنه لم ينزل به، وعند ابن إسحاق أنه لما نزل وقال: "لا تشربوا"، وترجم البخاري نزول النبي صلى الله عليه وسلم الحجر.
قال الحافظ: وزعم بعضهم أنه مر ولم ينزل، ويرده تصريح ابن عمر بأنه، لما نزل الحجر أمرهم أن لا يشربوا "من مائها شيئا"؛ خوفا أن يورثهم شربه قسوة في قلوبهم، أو ضررا في أبدانهم.
قاله المصنف: زاد ابن إسحاق "ولا تتوضئوا منه للصلاة، وما كان من عجين عجنتموه، فاعلفوا الإبل، ولا تأكلوا منه شيئا"، وكأن من زعم أنه لم ينزل به تمسك بما أخرجه البخاري عقب الترجمة عن ابن عمر لما مر صلى الله عليه وسلم بالحجر قال: "لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم أن يصيبكم ما أصابهم إلا أن تكونوا باكين" ثم قنع رأسه وأسرع السير حتى جاز الوادي، وغفل عما أخرجه في أحاديث الأنبياء عن ابن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل الحجر في غزوة تبوك أمرهم أن لا يشربوا من بئرها، ولا يستقوا منها، فقالوا: قد عجنا منها واستقينا، فأمرهم أن يطرحوا ذلك العجين، ويهريقوا ذلك الماء، وأخرج الشيخان عن ابن عمر أن الناس نزلوا معه صلى الله عليه وسلم أرض ثمود الحجر، فاستقوا من بئرها واعتجنوا به، فأمرهم أن يهريقوا ما استقوا من بئرها، وأن يعلفوا الإبل العجين، وأمرهم أن يستقوا من البئر التي كانت تردها الناقة، وروى أحمد والحاكم بإسناد جيد عن جابر قال: لما مر صلى الله عليه وسلم بالحجر قال: " لا تسالوا الآيات فقد سالها قوم صالح" وكانت الناقة ترد هذا الفج، وتصدر من هذا الفج، فعتوا عن أمر ربهم، وكانت تشرب يوما ويشربون لبنها يوما، فعقروها، فأخذتهم صيحة أهمد الله من تحت أديم السماء منهم إلا رجلا واحدا كان في حرم الله، وهو أبو رغال، فلما خرج من الحرم أصابه ما أصاب قومه، قال الحافظ: سئل شيخنا البلقيني من أين علمت بئر الناقة، فقال: بالتواتر إذ لا يشترط فيه الإسلام، انتهى. والذي يظهر أنه صلى الله عليه وسلم علمها بالوحي، ويحمل كلام الشيخ على من سيجيء بعده، وفيه كراهة الاستقاء من آبار ثمود، ويلحق بها نظائرها من الآبار والعيون التي كانت لمن هلك بعذاب الله على(4/85)
ولا يخرجن أحد منكم إلا ومعه صاحب له"، ففعل الناس، إلا أن رجلين من بني ساعدة خرج أحدهما لحاجته وخرج الآخر في طلب بعيره، فأما الذي خرج لحاجته فخنق على مذهبه وأما الذي خرج في طلب بعيره فاحتملته الريح حتى طرحته بجبلي طيء. فأخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "ألم أنهكم"؟ ثم دعا للذي خنق على مذهبه فشفي، وأما الآخر فأهدته طيء لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة.
__________
كفره واختلف هل الكراهة للتنزيه، أو للتحريم، وعليه هل يمنع صحة التطهر من ذلك الماء أم لا، انتهى. "ولا يخرجن أحد منكم" الليلة، كما عند ابن إسحاق "إلا ومعه صاحب له" لحكمة علمها صلى الله عليه وسلم لعلمها أن الجن لا تقدم على اثنين.
وقد روى الإمام في الموطأ مرفوعا: "أن الشيطان بهم بالواحد"، قال الباجي: يحتمل أن يريد، أنه يهم باغتياله والتسلط عليه وأنه يهم بغيه وصرفه عن الحق وإغرائه بالباطل، انتهى.
وأخرج أصحاب السنن بإسناد حسن، وصححه ابن خزيمة والحاكم مرفوعا، "الراكب شيطان والراكبان شيطانان، والثلاثة ركب"، "ففعل الناس" ما أمرهم به صلى الله عليه وسلم "إلا رجلين من بني ساعدة من الأنصار.
قال البرهان: لا أعرفهما، "خرج أحدهما لحاجته" التغوط، "والآخر في طلب بعيره، فأما الذي خرج لحاجته فخنق، بنون ومعجمة مبني للمفعول، أي صرع "على مذهبه" بفتح الميم، والهاء بينهما معجمة ساكنة، وهو الموضع الذي يتغوط فيه.
"وأما الذي خرج في طلب بعيره فاحتملته الريح حتى طرحته بجبلي طيء".
قال في الروض وتبعه في النور: هما أجا وسلمى عرف أجا بفتح الهمزة والجيم آخره همزة مقصورة بأجا بن عبد الجن بجيم ونون، كما سيأتي كان صلب وفيه سلمى بفتح المهملة وإسكان اللام والقصر بسلمى بنت حام صلبت فيه فيما ذكر "فأخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "ألم أنهكم" أن يخرج منكم أحد إلا ومعه صاحبه، "ثم دعا للذي" وفي نسخة دعا الذي، أي طلبه فحضر فدعا له، والأولى أظهر، وهي التي عند ابن إسحاق للذي بلام الجر "خنق على مذهب فشفي، وأما الآخر فأهدته طيء لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة، كذا وروى ابن إسحاق حديث الرجلين عن عبد الله بن أبي بكر بن حزم عن عباس بن سهل الساعدي، قال: وقد حدثني عبد الله أن العباس سماهما له، ولكنه استودعه إياهما، فأبى أن يسميهما لي، وعارضه البرهان بأن الذي في مسلم أن ذلك كان بتبوك لا الحجر، وهو متعقب بأنهما قصتان إحداهما بالحجر، وهي التي ذكرها ابن إسحاق وتبعه اليعمري، والثانية بتبوك ويؤيد التعدد أن في(4/86)
وفي صحيح مسلم من حديث أبي حميد: انطلقنا حتى قدمنا تبوك، فقال رسول الله: "ستهب عليكم الليلة ريح شديدة" فلا يقم أحد منكم، فمن كان له بعير فليشد عقاله، فهبت ريح شديدة، فقام رجل فحملته الريح حتى ألقته بجبلي طيء.
وروى الزهري: لما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحجر سجى ثوبه على وجهه واستحث راحلته ثم قال: "لا تدخلوا بيوت الذين ظلموا إلا وأنتم باكون؛ خوفا أن يصيبكم ما أصابهم".
__________
الأولى رجلين، وفي الثانية رجل، ولوح لذلك المصنف، فقال "وفي صحيح مسلم" والبخاري بنحوه، فالأولى عزوه لهما كلاهما "من حديث أبي حميد" الساعدي اسمه المنذر، أو عبد الرحمن، أو عمر بن سعد بن المنذر، أو ابن مالك شهد أحدا وما بعدها وعاش إلى سنة ستين "انطلقنا حتى قدمنا تبوك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ستهب عليكم الليلة ريح شديدة، فلا يقم أحد منكم فمن كان له بعير فليشد عقاله".
وفي رواية البخاري فليعقله، "فهبت ريح شديدة، فقام رجل، فحملته الريح حتى ألقته بجبلي طيء، ولم يبين ما حصل لذلك الرجل بعد على تعدد القصة ويحتمل الاتحاد، وأن قصة الذي خرج لحاجته كانت بالحجر، والذي ألقته الريح كانت بتبوك فجمع بينهما في الذكر في مرسل ابن إسحاق، ولم يتنزل في الفتح للجمع مع ذكره رواية ابن إسحاق في شرح الحديث.
"وروى الزهري" محمد بن مسلم عن سالم عن أبيه قال: "لما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحجر سجى" غطى "ثوبه" وضمنه معنى وضع فقال: "على وجهه واستحث راحلته" أي حضها على السير "ثم قال: "لا تدخلوا بيوت الذين ظلموا أنفسهم".
قال الحافظ: شامل لثمود وغيرهم ممن هو كصفتهم، وإن كان السبب ورد فيهم، قال: ليس المراد الاقتصار في ذلك على ابتداء الدخول، بل دائما عند كل جزء من الدخول، وأولى في حال الاستقرار "إلا وأنتم باكون" بأن تستحضروا ما أصابهم بذنوبهم، فترق قلوبهم، فتبكوا "خوفا أن يصيبكم" بفتح الهمزة مثل "ما أصابهم".
قال المصنف: لا ينافيه قوله تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [فاطر: 18] الآية، لحمل الآية على عذاب يوم القيامة، انتهى.
وثبوت خوفا في هذه الرواية يؤيد البصريين في رواية "إلا أن تكونوا باكين أن يصيبكم" بالفتح مفعول له، أي كراهة الإصابة حيث قدروا كراهة، أو خشية الإصابة، وقدر الكوفيون لئلا يصيبكم.
قال الحافظ: ويؤيد الأول أن في رواية لأحمد "إلا أن تكونوا باكين، وإن لم تكونوا باكين،(4/87)
رواه الشيخان.
__________
فتباكوا خشية أن يصيبكم ما أصابهم"، ووجه الخوف أن البكاء يبعث على التفكر والاعتبار، فكأنه أمرهم بالتفكر في أحوال توجب البكاء من تقدير الله على أولئك بالكفر، مع تمكنهم من الإتيان بالإيمان، وتمكينه لهم في الأرض، وإمهالهم مدة طويلة، ثم إيقاع نقمته بهم وشدة عذابه، وهو سبحانه مقلب القلوب، فلا يأمن المؤمن أن تكون عاقبته إلى مثل ذلك، والتفكر أيضا في مقابلة أولئك نعمة الله بالكفر وإهمالهم إعمال عقولهم فيما يوجب الإيمان والطاعة، فمن مر عليهم ولم يتفكر فيما يوجب البكاء اعتبارا بأحوالهم، فقد شابههم في الإهمال ودل على قساوة قلبه وعدم خشوعه، فلا يأمن أن يجره ذلك إلى العمل بمثل أعمالهم فيصيبه ما أصابهم، وفيه الحث على المراقبة، والزجر على السكني في ديار المعذبين، انتهى.
من الفتح في موضعين "رواه الشيخان" في مواضع قال ابن إسحاق فلما أصبح الناس ولا ماء معهم، شكوا ذلك له صلى الله عليه وسلم، فدعا، فأرسل الله سحابة، فأمطرت حتى ارتوى الناس، وحملوا حاجتهم من الماء.
حدثني عاصم بن عمر عن محمود بن لبيد عن رجال من قومه قال: كان رجل معروف نفاقه يسير معه صلى الله عليه وسلم حيثما سار، فلما كان من أمر الحجر ما كان، ودعا صلى الله عليه وسلم فأرسل الله السحابة، فأمطرت حتى ارتوى الناس، أقبلنا عليه نقول: ويحك هل بعد هذا شيء قال: سحابة مارة.
وروى الإمام أحمد وابنا خزيمة وحبان والحاكم عن عمر: خرجنا إلى تبوك في يوم قيظ شديد فنزلنا منزلا، وأصابنا فيه عطش حتى ظننا أن رقابنا ستنقطع حتى إن كان الرجل ليذهب يلتمس الرجل، فلا يرجع حتى يظن أن رقبته ستنقطع حتى إن كان الرجل لينحر بعيره، فيعصر فرثه فيشربه، ويجعل ما بقي على كبده، فقال أبو بكر: يا رسول الله إن الله قد عودك في الدعاء خيرا، فادع الله لنا قال: "أتحب ذلك" قال: نعم، فرفع يديه نحو السماء فلم يرجعهما حتى قالت السماء فأظلت ثم سكبت فملئوا ما معهم ثم ذهبنا ننظر فلم نجدها جاوزت العسكر.
فعند ابن إسحاق أن هذه القصة كان بالحجر، كما ترى.
لكن روى ابن أبي حاتم عن أبي حرزة قال: نزلت هذه الآية في غزوة تبوك، ونزلوا الحجر، فأمرهم صلى الله عليه وسلم أن لا يحملوا من مائها شيئا، ثم ارتحل ونزل منزلا آخر وليس معهم ماء، فشكوا إليه صلى الله عليه وسلم فقام فصلى ركعتين ثم دعا فأرسل الله سحابة فأمطرت عليهم حتى استقوا منها، فقال أنصارى لآخر من قومه يتهم بالنفاق: ويحك قد ترى ما دعا صلى الله عليه وسلم، فأمطر الله علينا السماء، فقال: إنما مطرنا بنوء كذا وكذا، فأنزل الله تعالى: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} [الواقعة: 82] .(4/88)
ولما كان عليه الصلاة والسلام ببعض الطريق ضلت ناقته، فقال زيد بن اللصيت -وكان منافقا- أليس محمد يزعم أنه نبي ويخبركم عن خبر السماء، وهو لا يدري أين ناقته؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن رجلا يقول كذا" وذكر مقالته، "وإني والله لا أعلم إلا ما علمني الله، وقد دلني الله عليها، وهي في الوادي في شعب كذا وكذا، قد حبستها شجرة بزمامها، فانطلقوا حتى تأتوني بها". فانطلقوا فجاءوا بها. رواه البيهقي وأبو نعيم.
__________
ويحتمل الجمع بأن قول ابن إسحاق فلما أصبح، أي بعد أن سار ونزل منزلا بعد الحجر، وأنه لما طلب منه أبو بكر الدعاء صلى، ثم مد يديه ودعا والله أعلم.
"ولما كان عليه الصلاة والسلام ببعض الطريق" بعد ما سار من الحجر، كما عند الواقدي، وابن إسحاق "ضلت ناقته"، غابت وخفيت فلم يهتد إليها، قال الواقدي: وهي القصواء، "فقال زيد بن اللصيت" قال في الإصابة: بلام ومهملة، وتحتية مصغر، وقيل: بنون أوله وآخره موحدة القينقاعي، انتهى.
وفي النور آخره فوقية، تصغير لصت، بفتح اللام في الكثير وهو اللص بغلة طيء.
وحكى شيخنا في القاموس تثليث اللام في المكبر والجمع لصوت، انتهى. وهو في القاموس في باب الفوقية، فقول الإصابة وآخره موحدة، يعني على أن أوله نون "وكان منافقا".
قال الواقدي: كان يهوديًّا من بني قينقاع فأسلم فنافق، وكان فيه خبث اليهود وغشهم، وكان مظاهرا لأهل النفاق، "أليس يزعم محمد أنه نبي، ويخبركم عن خبر السماء، وهو لا يدري أين ناقته"، وعند ابن إسحاق وكان زيد ي رحل عمارة بن حزم العقبي البدري، وكان عنده عليه السلام "فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم" وعمارة عنده "أن رجلا" وعند الواقدي أن منافقا "يقول كذا" , وذكر مقالته" التي أعلمها الله له بالوحي إلهاما، أو غيره "وإني والله لا أعلم إلا ما علمني الله"، فإخباري بأمر السماء إنما هو بتعليم الله والنبي لا يعلم كل غيب.
قال ذلك رد الزعم المنافق، أنه لو كان نبيًّا لعلم مكان ناقته "وقد دلني الله عليها وهي في الوادي في شعب كذا وكذا"، لشعب عينه وأشار لهم إليه "قد حسبتها"، منعتها "شجرة بزمامها فانطلقوا" فعل أمر "حتى تأتوني بها" فانطلقوا" ماض "فجاءوا بها".
قال الواقدي: الذي جاء بها الحارث بن خزمة الأشهلي لكن الجمع كما قال البرهان يدل على أنه كان معه غيره وخزمة بفتح المعجمة، وإسكان الرازي وفتحها، وقيل: خزيمة بالتصغير بدري أحدي له حديث "رواه البيهقي وأبو نعيم" وابن إسحاق والواقدي، وزاد فرجع عمارة إلى رحله، فقال: والله لعجب لشيء حدثناه رسول الله صلى الله عليه وسلم آنفا عن مقالة قائل أخبره الله(4/89)
وفي مسلم من حديث معاذ بن جبل: أنهم وردوا عين تبوك، وهي تبض بشيء من ماء، وأنهم غرفوا منها قليلا قليلا حتى اجتمع في شن ثم غسل صلى الله عليه وسلم به وجهه ويديه ثم أعاده فيها فجرت بماء كثير، فاستقى الناس، الحديث، ويأتي إن شاء الله في مقصد المعجزات.
ولما انتهى صلى الله عليه وسلم إلى تبوك أتاه صاحب أيلة.
__________
بكذا وكذا للذي قال زيد، فقال رجل ممن كان في رحل عمارة.
قال الواقدي: هو أخوه عمرو بن حزم زيد والله قائل هذه المقالة قبل أن تطلع علينا، فأقبل عمارة على زيد يطعنه، في عنقه، ويقول: يا عباد الله إن في رحلي لداهية، وما أشعر فأخرج يا عدو الله من رحلي، ولا تصحبني، قال ابن إسحاق: فزعم بعض الناس أن زيدا تاب بعد ذلك، وقال بعض الناس: لم يزل متهما بشر حتى هلك وقد ذكره في الإصابة في القسم الأول، وأورد فيه القصة المذكورة عازا لابن إسحاق، ونقل الاختلاف في توبته، ولم يزد عليه شيئا، فكأنه اعتمد قول من زعم توبته، أو كتبه على الاحتمال.
"وفي مسلم" والموطأ "من حديث معاذ بن جبل، أنهم وردوا عين تبوك، وهي تبض" بفتح الفوقية، وكسر الموحدة وضاد معجمة، أي تقطر وتسيل هكذا رواه ابن مسلمة وابن القاسم في الموطأ بالمعجمة، ورواه يحيى وطائفة بالمهملة، أي تبرق، قاله الباجي "بشيء من ماء" يشير إلى تقليله، "وأنهم غرفوا منها قليلا قليلا" لفظ مالك ومسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال: "إنكم ستأتون غدا عين تبوك وأنكم لن تأتوها حتى يضحى النهار، فما جاءها فلا يمس من مائها شيئا حتى آتي".
فجئناها وقد سبق إليها رجلان، والعين مثل الشراك تبض بشيء من ماء فسألهما صلى الله عليه وسلم: "هل مسستما من مائها شيئا" قال: نعم، فسبهما وقال لهما: "ما شاء الله أن يقول"، ثم غرفوا من العين قليلا قليلا "حتى اجتمع في شن" بفتح المعجمة، ونون قربة خلقة فصريحة أن ماءها كان يخرج بنفسه وأن الذي جمعوه كان بعد سبه للرجلين اللذين مساها أي بسهمين ليكثر ماؤها، كما في الروض عن رواية ابن قتيبة "ثم غسل صلى الله عليه وسلم به وجهه ويديه" ومضمض "ثم أعاده فيها، فجرت بماء كثير، فاستقي الناس الحديث" بقيته، ثم قال عليه السلام: "يا معاذ يوشك إن طالت بك حياة أن ترى ما ههنا مليء" جنانا، "ويأتي إن شاء الله تعالى في مقصد المعجزات" بتمامه" وإنما ذكرت لفظه هنا؛ لأن من الناس من توهم من ذكره المصنف بمعناه: أن الرجلين السابقين للعين رواية أخرى فجعلها معارضة، وجوز لها جمعا، "ولما انتهى صلى الله عليه وسلم إلى تبوك أتاه صاحب أيلة" بفتح الهمزة، وسكون التحتية مدينة بين مصر ومكة على ساحل البحر من بلاد(4/90)
فصالحه وأعطاه الجزية وأتاه أهل جرباء بالجيم -واذرح- بالذال المعجمة والراء والحاء المهملتين بلدين بالشام بينهما ثلاثة أميال، فأعطوه الجزية، وكتب لهم صلى الله عليه وسلم كتابا.
__________
الشام، قاله أبو عبيدة، وهو يحنة بضم التحتية، وفتح المهملة، والنون المشددة، ثم تاء تأنيث ابن رؤبة بضم الراء فهمزة ساكنة، فموحدة، النصراني قال البرهان: لا أعرف له ترجمة والظاهر هلاكه على دينه.
وذكر الواقدي: أن سبب إتيانه أنه لما بعث صلى الله عليه وسلم خالدا إلى أكيدر، أشفق أن يبعث إليه، فقدم "فصالحه وأعطاه الجزية"، أي التزمها وإنقاد لإعطائها قالوا: وقطع صلى الله عليه وسلم الجزية جزية معلومة ثلاثمائة دينار كل سنة، وكانوا ثلاثمائة رجل.
روى ابن أبي شيبة والبخاري عن أبي حميد الساعدي: قدم ملك أيلة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأهدى إليه بلغة بيضاء، فكساه صلى الله عليه وسلم بردا، وكتب إليه بيحرهم وأسند الواقدي عن جابر رأيت يحنة بن رؤبة يوم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، صليب من ذهب، وهو معقود فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم، كفى وأومأ برأسه، فأومأ إليه صلى الله عليه وسلم بيده أن ارفع رأسك وصالحه، يومئذ وكساه بردا بمنية، وأمر له بمنزل عند بلال.
وذكر أن أبا العباس عبد الله بن محمد السفاح اشترى ذلك البرد بعد ذلك بثلاثمائة دينار، "وأتاه أهل جربا، بالجيم" المفتوحة، فالراء الساكنة فموحدة تقصر وتمد، "و" أهل "أذرج" بالهمزة المفتوحة، "وبالذال المعجمة" الساكنة، "والراء المهملة" المضمومة "والحاء المهملة"، قيل هي فلسطين "بلدين بالشام بينهما ثلاثة أميال" جمع ميل، قال في القاموس: وغلط من قال بينهما ثلاثة أيام، وإنما الوهم من رواة الحديث من إسقاط زيادة، ذكرها الدارقطني، وهي ما بين ناحيتي حوض، كما بين المدينة وجربا وأذرح، انتهى.
"فأعطوه الجزية" قال الواقدي: أتوه مع صاحب أيلة بجزيتهم، فأخذها "وكتب لهم صلى الله عليه وسلم" أي أمركما هو معلوم، وقد عين الواقدي أن الكاتب لصاحب أيلة جهيم بن الصلت وشرحبيل بن حسنة "كتابا" أراد جنس الكتاب؛ لأنه كتب لصاحب أيلة كتابا ولأهل جربا وأذرح معا كتابا، كما أفاده في المقصد الثاني، مع ذكر لفظ الكتابين، وما أفاده المصنف من أنه وقت انتهائه إلى تبوك أتوه تبع فيه لفظ ابن إسحاق فإنه كله لفظه، كما تبعه اليعمري، وكأنه لم يثبت عندهم السبب الذي ذكره الواقدي في مجيء يحنة، لا سيما وابن إسحاق بعد أن ذكر ذلك، قال: ثم بعث خالدا إلى أكيدر إلا أن تكون، ثم للترتيب الذكري والعلم عند الله.(4/91)
ووجد هرقل بحمص، فأرسل خالد بن الوليد إلى أكيدر بن عبد الملك النصراني، وكان ملكا عظيما بدومة الجندل، في أربعمائة وعشرين فارسا في رجب سرية، وقال له عليه الصلاة والسلام لخالد: "إنك ستجده ليلا يصيد البقر"،
__________
"ووجد هرقل بحمص" دار ملكه لم يتحرك ولم يرجف فكان الذي أخبر به صلى الله عليه وسلم من تعبية أصحابه ودنوه إلى الشام باطلا لم يرد ذلك، ولا هم به.
ذكره الواقدي: فكتب له كتابا، كما سيذكره ولو ذكره هنا كان أنسب إذ لا يتفرع عليه قوله، "فأرسل خالد بن الوليد إلى أكيدر" بضم الهمزة وفتح الكاف، وسكون التحتية، وفتح المهملة آخره راء، لا يصرف للعلمية، ووزن الفعل "ابن عبد الملك" بن عبد الجن، بجيم ونون، كما في الفتح "النصراني" المختلف في إسلامه والأكثر على أنه قتل كافرا، وقد ذكره ابن منده وأبو نعيم الصحابة.
ورده ابن الأثير بأنه خطأ ظاهر، فأنه إنما أهدى للنبي وصالحه، ولم يسلم باتفاق أهل السير، أسره خالد في زمن أبي بكر، فقتله كفرا، وقال أخوه أبو السعادات من الناس من يقول: إنه أسلم وليس بصحيح، وممن وقع في كلامه ما يدل على ذلك الواقدي، فإنه قال في المغازي حدثني شيخ من دومة، أنه صلى الله عليه وسلم كتب لأكيدر هذا الكتاب "بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله لأكيدر" حين جاء إلى الإسلام، وخلع الأنداد والأصنام إلى أن قال: "فيه تقيمون الصلاة، وتؤدون الزكاة عليكم بذلك عهد الله وميثاقه، ولكم الصدق والوفاء".
قال في الإصابة: فالذي يظهر أنه صالح على الجزية، كما قال ابن إسحاق ويحتمل أنه أسلم بعد ذلك، كما قال الواقدي، ثم ارتد بعده صلى الله عليه وسلم ومنع ما عليه فقتله خالد، كما قال البلاذري، انتهى.
وسيذكر المصنف لفظ الكتاب في المقصد الثاني، وما استظهره الحافظ، لا محيد عنه إذ هو جمع بين كلامهم وعلى كل حال فعده صحابيا غلط؛ لأن آخر أمره قتله كافرا، ولذا ذكره في القسم الرابع من الإصابة فيمن ذكر في الصحابة غلطا. "وكان ملكا عظيما" من قبل هرقل "بدومة" بضم الدال وفتحها والواو ساكنة.
"الجندل" بفتح فسكون حصن وقرى من طرف الشام بينها وبين دمشق خمس ليال، يقال: عرفت بدومة بن إسماعيل "في أربعمائة وعشرين فارسا في رجب سرية، وقال عليه الصلاة والسلام لخالد" وقد، قال له: كيف لي به، وهو وسط بلاد كلب، وإنما أنا في أناس يسيرين "إنك ستجده ليلا يصيد البقر" "فتأخذه فيفتح الله لك دومة فإن ظفرت به، فلا تقتله وائت به إلى فإن أبى فاقتله".(4/92)
فانتهى إليه خالد، وقد خرج من حصنه في ليلة مقمرة إلى بقر يطاردها، هو وأخوه حسان، فشدت عليه خيل خالد، فاستأسر أكيدر وقتل أخاه حسانا، وهرب من كان معهما فدخل الحصن، ثم أجار خالد.
__________
وروى يونس في زيادات المغازي عن بلال بن يحيى، قال: بعث صلى الله عليه وسلم أبا بكر على المهاجرين، وبعث خالدا على الأعراب معه، وقال: "انطلقوا أنكم ستجدون أكيدر دومة يقتنص الوحش فخذوه أخذا فابعثوا به إلي، ولا تقتلونه" ومن طريقه أخرجه البيهقي، ورواه ابن منده عن بلال بن يحيى، عن حذيفة موصولا، قال الشامي: وذكر أبي بكر في هذه السرية غريب جدا لم يتعرض أحدا من أئمة المغازي التي وقفت عليها، انتهى.
فمضوا "فانتهى إليه خالد وقد خرج من حصنه في ليلة مقمرة إلى بقر يطاردها" أي يريد ذلك فعند ابن إسحاق وابن سعد، فخرج خالد حتى كان من حصنه بمنظر العين في ليلة مقمرة صائفة، وهو على سطح له ومعه امرأته الرباب بكسر الراء وموحدتين وقينة تقنيه، وقد شرب فباتت البقر تحك بقرونها باب الحصن، فقالت له امرأته: هل رأيت مثل هذا قط، قال: لا والله. قالت: فمن يترك هذه؟ قال: لا أحد، وعند ابن عائذ: والله ما رأيتها قط جاءتنا إلا البارحة، ولقد كنت أضمر لها الخيل اليومين والثلاثة، وفي لفظ شهر ولكن قدر الله ونزل، فأسرج له فرسه، وخرج "هو وأخوه حسان" في نفر من أهل بيته ومملوكين له، فتلقتهم الخيل "فشدت عليه خيل خالد فاستأسر أكيدر" ولم يقتله، كما أمره صلى الله عليه وسلم أعطى بيده ولم يقاتل، "وقتل أخاه حسانا" لأنه قاتل.
قال إبن إسحاق: وقد كان عليه قباء من ديباج مخوص بالذهب، فاستلبه خالد، فبعث به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل قدومه فحدثني عاصم بن عمر، عن أنس رأيت قباء أكيدر دومة حين قدم به، فجعل المسلمون يلمسونه بأيديهم يتعجبون منه، فقال صلى الله عليه وسلم: "أتعجبون من هذا، فوالذي نفسي بيده لمناديل سعد بن معاذ في الجنة أحسن من هذا" وحديثه الذي رواه، لا يدل لمدعاه إلا بتقدير مضاف، أي قباء أخي أكيدر.
لكن، قد روى حديث أنس في البخاري في الهبة بلفظ أهدى أكيدر دومة الحديث والهداية غير السلب، فإن كان ما قاله محفوظا، وقد وافقه الواقدي، وذكر أن المرسل به عمرو بن أميلا الضمري حين أرسله بشيرا، فيكون هذا غير الذي أهداه بعد؛ لأن هذا سلب أخيه المقتول، وهو مأسور، فلا ينسب إليه أنه أهداه، ويكون التعجب وقع من كليهما، وقال المصطفى: ذلك في كل منهما والعلم عند الله.
"وهرب من كان معهما" وهم النفر والملوكان، "فدخل الحصن" وأغلقوه، "ثم أجار خالد(4/93)
أكيدر من القتل حتى يأتي به رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن يفتح له دومة الجندل، ففعل وصالحه على ألفي بعير وثمانمائة فرس وأربعمائة درع وأربعمائة رمح.
وفي هذه الغزوة كتب صلى الله عليه وسلم كتابا في تبوك إلى هرقل يدعوه إلى الإسلام، فقارب الإجابة ولم يجب
__________
أكيدر من القتل حتى يأتي به رسول الله صلى الله عليه وسلم على "صلة أجار "أن يفتح له" لخالد دومة الجندل ففعل"
ذكر ابن سعد وشيخه أن خالدا قال له، لما أسره هل لك أن أجير من القتل حتى آتي بك رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن تفتح لي دومة الجندل قال: نعم فانطلق به خالد حتى أدناه من الحصن، فنادى أكيدر أهله أن افتحوا باب الحصن، فأرادوا ذلك فأبى عليهم مضاد أخو أكيدر، فقال أكيد لخالد: تعلم والله أنهم لا يفتحون ما رأوني في وثاقك فحل عني فلك الله والأمانة أن أفتحه لك إن أنت صالحتني على أهلي، قال خالد: فأنى أصالحك، فقال: إن شئت حكمتك، وإن شئت حكمتني، قال خالد: بل نقبل منك ما أعطيت "صالحه على ألفي بعير وثمانمائة فرس"، كذا في النسخ، والذي لابن سعد وشيخه، وهو المنقول في العيون رأس "وأربعمائة درع وأربعمائة رمح" على أن ينطلق به وبأخيه إلى رسول الله فيحكم فيهما حكمه، فلما قاضاه على ذلك خلى سبيله، ففتح الحصن، فدخله خالد، وأوثق مضادا وأخذ ما صالح عليه من الإبل والرقيق والسلاح، فعزل خالد صفية له صلى الله عليه وسلم قبل أن يقسم، ثم خمسها، ثم قسم ما بقي في أصحابه، فصار لكل واحد منهم خمس قلائص، ثم قدم خالد بأكيدر عليه صلى الله عليه وسلم فحقن له دمه وصالحه على الجزية، وخلى سبيله، فرجع إلى قريته، فقال بجير الطائي:
تبارك سائق البقرات أني ... رأيت الله يهدي كل هاد
فمن يك حائدا عن ذي تبوك ... فإنا قد أمرنا بالجهاد
وعند ابن منده وأبي نعيم وابن السكن، فقال صلى الله عليه وسلم لبجير: "لا يف الله فاك فاتت عليه تسعون سنة، وما تحركت له سن".
"وفي هذه الغزوة كتب صلى الله عليه وسلم كتابا في تبوك إلى هرقل" غير الكتاب الذي كان أرسله مع دحية في مدة الهدنة المذكورة في الصحيح، فإنه بعثه في آخر سنة ست ووصل في المحرم سنة سبع، قاله الواقدي، واعتمده في الفتح، وكان المبعوث بهذا أيضا دحية، كما في رواية أحمد "يدعوه إلى الإسلام، فقارب الإجابة ولم يجب" خوفا على ملكه.
ذكر في الروض أنه أمر مناديا إلا أن هرقل، قد آمن بمحمد واتبعه فدخلت الأجناد في(4/94)
رواه ابن حبان في صحيحه من حديث أنس.
وفي مسند أحمد أن هرقل كتب من تبوك إلى النبي صلى الله عليه وسلم أني مسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "كذب هو على نصرانيته".
__________
سلاحها وأطافت بقصره تريد قتله فأرسل إليهم إني أردت أن اختبر صلابتكم في دينكم قد رضيت عنكم، فرضوا عنه، ثم كتب كتابا، وأرسله مع دحية يقول: إني مسلم ولكني مغلوب على أمري، وأرسل إليه هدية، فلما قرأ صلى الله عليه وسلم كتابه، قال: "كذب عدو الله ليس بمسلم هو على نصرانيته"، وقبل هديته وقسمها بين المسلمين وكان لا يقبل هدية مشرك محارب، فقبل هذا؛ لأنها فيء، ولذا قسمها عليهم، ولو أتته في بيته كانت له خاصة، انتهى.
"رواه ابن حبان في صحيحه من حديث أنس" وروى الحارث بن أبي أسامة عن بكر بن عبد الله، قال صلى الله عليه وسلم: "من يذهب بهذا الكتاب إلى قيصر وله الجنة" فقال رجل: وإن لم يقبل، قال: "وإن لم يقبل" فانطلق الرجل، فأتاه بالكتاب فقرأه، فقال: اذهب إلى نبيكم فأخبروه أني متبعه، ولكن، لا أريد أن أدع ملكي، وبعث معه بدنانير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجع فأخبره، فقال صلى الله عليه وسلم: "كذب" وقسم الدنانير.
"وفي مسند أحمد" من طريق سعيد بن أبي راشد، عن التنوخي رسول هرقل إليه صلى الله عليه وسلم قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم تبوك، فبعث دحية إلى هرقل بكتاب، فدعا قسيسي الروم وبطارقتها، ثم أغلق عليه وعليهم الدار، فقال: قد نزل هذا الرجل حيث رأيتم وأرسل يدعوني إلا ثلاث خصال أن أتبعه على دينه، أو الجزية، أو الحرب، وقد عرفتم فيما تقرءون من الكتب ليأخذن أرضنا، فهلم فلنتبعه، أو نعطه مالا، فنخروا نخرة رجل واحد حتى خرجوا من برانسهم، وقالوا: تدعون إلى أن نذر النصرانية، أو نكون عبيدا لأعرابي جاء من الحجاز فلما رأى ذلك قال: إنما أردت أن أعلم صلابتكم على دينكم، ثم دفع إليَّ كتابا، فقال: اذهب إليه، فاحفظ من حديثه ثلاثا هل يذكر كتابه الذي كتب إليَّ، وإذا قرأ كتابي هل يذكر الليل وهل في ظهره شيء؟ قال: فناولته الكتاب فدعاني إلى الإسلام، فأبيت فضحك، وقال: إنك لا تهدي من أحببت، إني كتبت إلى كسرى، فمزقه والله ممزقه، وإلى صاحبك صحيفة، فأمسكها لن يزال الناس يجدون منه بأسا ما دام في العيش خير، فقلت هذا إحدى الثلاث فكتبتها في جفن سيفي، ثم ناول الكتاب إلى معاوية فقرأ فيه: تدعوني إلى جنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين، فأين النار؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "سبحان الله أين النهار إذا جاء الليل" فكتبته في جفن سيفي، فذكر الحديث بطوله، وفيها "أن هرقل كتب من تبوك إلى النبي صلى الله عليه وسلم أني مسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "كذب هو على نصرانيته" وأنه ود أن يعطيه جائزة، فأتاه عثمان بحلة، وأمر أنصاريًّا بإنزاله، فقام معه فناداه عليه السلام،(4/95)
وفي كتاب الأموال لأبي عبيد، بسند صحيح من مرسل بكر بن عبد الله نحو، ولفظه: فقال: "كذب عدو الله ليس بمسلم".
ثم انصرف صلى الله عليه وسلم من تبوك، بعد أن أقام بها بضع عشرة ليلة. وقال الدمياطي -ومن قبله ابن سعد- عشرين ليلة، يصلي ركعتين ولم يلق كيدا،
__________
فكشف له ظهره فرأى خاتم النبوة.
"وفي كتاب الأموال لأبي عبيد" القاسم بن سلام بالتشديد البغداوي الإمام المشهور، الثقة الفاضل المصنف، المتوفى سنة أربع وعشرين ومائتين "بسند صحيح من مرسل بكر بن عبد الله، المزني، البصري الثقة الثبت من رجال الستة مات سنة ست ومائة "نحوه ولفظه، فقال: "كذب عدو الله ليس بمسلم".
قال في الفتح فعلى هذا إطلاق صاحب الاستيعاب أنه آمن أي أظهر التصديق لكنه لم يستمر عليه ويعمل بمقتضاه بل شح بملكه، وآثر القانية، على الباقة، "ثم انصرف صلى الله عليه وسلم من تبوك بعد أن أقام بها بضع عشرة ليلة" قال ابن عقبة وابن إسحاق، واقتصر عليه اليعمري، "وقال الدمياطي ومن قبله ابن سعد، والواقد، ابن حزم: عشرين ليلة يصلي بها ركعتين" وأخرجه أحمد عن جابر وابن سعد، عن يحيى بن أبي كثير، قالا: أقام صلى الله عليه وسلم بتبوك عشرين ليلة يقصر الصلاة ويحتمل الجمع بأنه حسب يوم القدوم ويوم الارتحال فيصدق البضع بما عداهما، "ولم يلق كيدا" أي حربا فكان من الحكمة فيها ما حصل من إغاظة الكفار، وظهور عز المسلمين وفضيحة المنافقين وإذلالهم.
وذكر الواقدي أنه شاور أصحابه في التقدم، فقال عمران: كنت أمرت بالمسير فسر، فقال: "لو أمرت بامسير لم أستشركم فيه"، فقال: يا رسول الله إن للروم جموعا كثيرة، وليس بها مسلم، وقد دنونا وأفزعهم دنوك، فلو رجعنا هذه السنة حتى ترى، أو يحدث الله أمرا وأخرج يونس في زيادات المغازي، وأبو سعد في الشرف وابن أبي حاتم والبيهقي عن عبد الرحمن بن غنم أن اليهود، قالوا: يا أبا القاسم إن كنت صادقا أنك نبي فالحق بالشام، فإنها أرض المحشر، وأرض الأنبياء، فصدق ما قالوا، فغزا تبوك لا يريد إلا الشام، فلما بلغ تبوك أنزل الله عليه آيات من سورة بني إسرائيل بعدما ختمت السورة {وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ} [الإسراء: 76] ، فأمره الله بالرجوع إلى المدينة، وقال: فيها محياك ومماتك ومنها تبعث، فرجع صلى الله عليه وسلم، فقال جبريل: سل ربك، فإن لكل نبي مسألة، وكان جبريل له ناصحا، والنبي صلى الله عليه وسلم مطيعا، قال: "فما تأمرني أن أسأل" فقال جبريل: {وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ} [الإسراء: 80] فهؤلاء الآيات نزلنا عليه في رجعته من تبوك، قال في الفتح: إسناده حسن مع كونه مرسلا، انتهى.(4/96)
وبنى في طريقه مساجد.
وأقبل عليه الصلاة والسلام حتى نزل بذي أوان -بفتح الهمزة بلفظ الأوان: الحين وبينها وبين المدينة ساعة جاءه خبر مسجد الضرار من السماء.
فدعا مالك بن الدخشم ومعن بن عدي العجلاني فقال:
__________
وأغرب السيوطي، فقال في الباب: هذا مرسل ضعيف الإسناد، وله شاهد عن ابن أبي حاتم، وآخر عند ابن جرير انتهى. وفيه نظر فإنه من رواية عبد الحميد بن بهرام، وهو صدوق، كما في التقريب عن شهر بن حوشب، وهو صدوق أيضا.
روى له مسلم وأصحاب السنن عن عبد الرحمن بن غنم، بفتح المعجمة، وسكون النون ذكره العجلي في كبار التابعين الثقات، واختلف في صحبته، فالحق قول الفتح حسن، وروى أحمد وغيره: أنه صلى الله عليه وسلم قال في غزوة تبوك: "إذا وقع الطاعون بأرض، وأنتم بها فلا تخرجوا منها، وإن كنتم بغيرها فلا تقدموا عليها" قال الحافظ: في بذل الطاعون يشبه والله أعلم أن السبب في ذلك أن الشام كانت قديما ولم تزل معرفة بكثرة ذلك، فلما قدم صلى الله عليه وسلم تبوك غازيا الشام بلغه أن الطاعون كان في الجهة التي كان قاصدها، فكان ذلك من أسباب رجوعه، من غير قتال "وبنى في طريقه مساجد" عشرين، أي كان سببا في بنائها لصلاته في تلك الأماكن، وأعلم عليها فبنيت بعده، كما يعلم من كلام الشريف السمهودي، ويجوز بناؤه للمفعول، أي أنها بنيت في طريقه التي صلى فيها، وعند ابن إسحاق مساجده في طريقه إلى تبوك مسماة معلومة مسجد بتبوك ومسجد بكذا فعدها سبعة عشر مسجدا، "وأقبل عليه الصلاة والسلام حتى نزل بذي، أوان بفتح الهمزة".
قال البرهان والخشني: يرويه بضم الهمزة حيث وقع، انتهى. وقال البكري: أظن الراء سقطت من بين الهمزة والواو، أي أروان منسوب إلى البئر المشهورة، وعلى الأول هو بلفظ الأوان بفتح الهمزة وكسرها لغة "لحين" بالجر بدل والرفع خير هو "وبينها" أي ذي أوان، وهي بلد "وبين المدينة ساعة" من نهار، قاله ابن إسحاق وأتباعه، وفي القاموس وأوان عين بالمدينة، انتهى. فلعل البلد كانت بها عين جاءه خبر مسجد الضرار" المضارة لأهل مسجد قباء "من السماء" فنزلت هذه الآية، "فدعا مالك بن الدخشم" بضم المهملة والمعجمة بينهما خاء معجمة ساكنة آخره ميم، ويقال: الدخشيم بالتصغير، ويقال: بنون بدل الميم مكبرا مصغرا الأوسي البدري باتفاق، قال أبو عمر: لا يصح عنه باتفاق "ومعن بن عدي" بن الجد بن العجلان "العجلاني" نسبة إلى جده هذا البلوي حليف الأنصاري شهد أحدا أو استشهد يوم اليمامة، ثم الرواية عند ابن إسحاق بالشك، قال: فدعا مالكا ومعن بن عدي، أو أخاه عاصم بن عدي، "فقال:(4/97)
انطلقا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدماه وحرقاه، فخرجا فحرقاه وهدماه.
وذلك بعد أن أنزل الله فيه: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا} [التوبة: 107] الآية.
قال الواحدي: قال ابن عباس ومجاهد وقتادة وعامة أهل التفسير: الذين اتخذوا مسجد الضرار كانوا اثني عشر رجلا،
__________
"انطلقا إلى هذا المسجد الظالم أهله" بالكفر والتفريق بين المؤمنين "فاهدماه وحرقاه" وعند غيره: فدعا مالكا ومعناه وأخاه.
زاد البغوي وعامر بن السكن ووحشيا قاتل حمزة وزاد في التجريد سويد بن عباس الأنصاري، فقال: انطلقوا إلى هذا المسجد الظالم أهله، فاهدموه واحرقوه، فيحتمل أنه أرسلهما أولا، وخاطبهما بلفظ التثنية، ثم عززهما بالأربعة، وخاطبهم بالجمع، فحفظ بعض الرواة ما لم يحفظ الآخر "فخرجا" قال ابن إسحاق سريعين حتى أتيا بني سالم بن عوف رهط مالك بن الدخشم، فقال: مالك لمعن: انظرني حتى أخرج إليك بنار من أهلي، فدخل إلى أهله فأخذ سعفا من النخل، فأشعل فيه نارا، ثم خرجا يشتدان حتى دخلاه وفيه أهله، "فحرقاه وهدماه".
وفي رواية: فخرجوا مسرعين حتى أتوا بني سالم، فأخذ مالك سعفا وأشعله، ثم خرجوا يشتدون حتى أتوه بين المغرب والعشاء وفيه أهله، فحرقوه وهدموه حتى وضعوه بالأرض وتفرق عنه أصحابه، فلما قدم عليه السلام المدينة عرضه على عاصم بن عدي ليتخذه دارا، فقال: ما كنت أتخذه، وقد أنزل الله فيه ما أنزل، ولكن أعطه ثابت بن أقرن فإنه، لا منزل له فأعطاه. فلم يولد في ذلك البيت مولود قط، ولا حمام، ولا دجاج.
وروى ابن المنذر عن ابن جبير وابن جريج وقتادة، قالوا: ذكر لنا أنه حفر في موضعه بقعة، فأبصروا الدخان منها "وذلك بعد أن أنزل الله فيه" لما نزل بذي أوان، وأتاه المنافقون، وسألوه أن يأتي مسجدهم، فدعا بقميصه ليلبسه على ما روى، {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا} [التوبة: 107] لأنهم بنوه ليكون معقلا للكفار "الآية.
"قال" علي بن أحمد بن محمد بن علي "الواحدي" أستاذ عصره نحوا وتفسيرا، تلميذ للثعلبي وأخذ عنه علم التفسير وزاد عليه ورزق السعادة في تصانيفه. توفي في جمادى الآخرة سنة ثمان وستين وأربعمائة.
"قال ابن عباس ومجاهد وقتادة وعامة أهل التفسير: الذين اتخذوا مسجدا ضرارا كانوا اثني عشر رجلا" سرد ابن إسحاق، وتبعه اليعمري وغيره أسماءهم فقال خذام هو بخاء مكسورة(4/98)
يضارون به مسجد قباء، وذلك أنهم قالوا في طائفة من المنافقين، نبني مسجدا فنقيل فيه فلا نحضر خلف محمد.
قال المفسرون: ولما بنوا ذلك لأغراضهم الفاسدة عند ذهاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى غزوة تبوك، قالوا: يا رسول الله، بنينا مسجدا لذي العلة، والليلة المطيرة، ونحن نحب أن تصلي فيه وتدعو لنا بالبركة،
__________
وذال معجمتين، ابن خالد، ومن داره أخرج هذا المسجد وثعلبة بن حاطب، ومتعب ين قشير، وأبو حبيبة بن الأذعر، وعباد بن حنيف أخو سهل وجارية، وهو بجيم وتحتية وابناه مجمع وزيد بن جارية بن عامر، ونبتل، وهو بفتح النون، وسكون الموحدة وفتح الفوقية، ولام ابن الحارث، ويخزج بموحدة مفتوحة، فمهملة ساكنة، فزاي مفتوحة فجيم وبجاد، بفتح الموحدة، وخفة الجيم فألف فمهملة، ابن عثمان ووديعة بن ثابت، وأشار السهيلي إلى انتقاده في مجمع بن جارية، فقال: وذكر فيهم مجمعا، وكان إذ ذاك غلاما حدثا، قد جمع القرآن، فقدموه إماما لهم، وهو لا يعلم بشيء من شأنهم، وقد ذكر: إن عمر أراد عزله عن الإمامة، وقال: أليس بإمام مسجد الضرار، فأقسم له مجمع أنه ما علم بشيء من أمرهم، وما ظن إلا الخير، فصدقه عمر، وأقره ومعتب بن قشير، بقاف ومعجمة مصغر ترجم له في القسم الأول من الإصابة، ثم قال: وقيل كان منافقا، وقيل إنه تاب، وذكره ابن إسحاق فيمن شهد بدرا "يضارون به مسجد قباء، و" بيان "ذلك أنهم قالوا في" مع "طائفة من المنافقين" لما بنى بنو عمرو بن عوف مسجد قباء الذي أسسه صلى الله عليه وسلم، لما قدم المدينة وصلى فيه بعثوا إليه عليه السلام أن أتيهم فيصلي فيه فرأى ذلك ناس من بني بفتح المعجمة، وسكون النون ابن عوف، فقالوا: "نبني" نحن أيضا "مسجدا" كما بنوا "فنقيل فيه، فلا نحضر خلف محمد" فقال لهم أبو عامر الفاسق قبل خروجه إلى الشام، ابنوا مسجدكم واستمدوا فيه بما استطعتم من سلاح وقوة فإني ذاهب إلى قيصر، فآتي بجند الروم فأخرج محمدا وأصحابه فكانوا يرصدون قدومه، وقد خرج محاربا لله ورسوله، ورواه ابن جرير وجماعة عن ابن عباس وغيره.
"قال المفسرون" المذكورون وغيرهم "ولما بنو ذلك" المسجد "لأغراضهم الفاسدة" من المضارة والكفر والإرصاد "عند ذهاب رسول الله"، أي عند إرادته "صلى الله عليه وسلم" الذهاب "إلى غزوة تبوك".
وفي حديث ابن عباس عند ابن مردويه والبيهقي: فلما فرغوا من بناء مسجدهم أرادوا أن يصلي فيه صلى الله عليه وسلم ليروح لهم ما أرادوه من الفساد والكفر والعناد، فأتاه جماعة منهم، وهو يتجهز إلى تبوك، "قالوا: يا رسول الله بنينا مسجدا لذي العلة"، المرض، والحاجة، "والليلة المطيرة، ونحن نحب أن تصلي فيه، وتدعو لنا بالبركة" كما، قال تعالى: {وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا(4/99)
فقال عليه الصلاة والسلام، "إني على جناح سفر، وإذا قدمنا إن شاء الله تعالى صلينا فيه" فلما قفل من غزوة تبوك سألوه إتيان المسجد، فنزلت هذه الآية.
ولما دنا صلى الله عليه وسلم من المدينة خرج الناس لتلقيه وخرج النساء والصبيان والولائد يقلن:
طلع البدر علينا ... من ثنيات الوداع
__________
الْحُسْنَى} [التوبة: 107] أي هذه الأمور التي أظهروها، والله يشهد أنهم لكاذبون.
روى ابن مردويه وابن أبي حاتم عن ابن عباس: لما بنى مسجد الضرار، قال صلى الله عليه وسلم: "ليخرج ويلك ما أردت" قال والله ما أردت إلا الحسنى، فنزلت الآية، "فقال عليه الصلاة والسلام: "إني على جناح سفر" أي مفارقة الأوطان، "وإذا قدمنا إن شاء الله صلينا فيه" فنزلت هذه الآية" يريد الجنس، ففي حديث أبي رهم الغفاري، فلما نزل بذي أوان على ساعة من المدينة أنزل الله: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا} [التوبة: 107] إلى آخر القصة، أخرجه ابن مردويه، وفي حديث ابن عباس عند البيهقي: فأنزل الله تعالى: {لَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِه} [التوبة: 84] ، إلى قوله {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِين} الآية، وقدمنا في الهجرة الخلاف في المراد بالمسجد الذي أسس على التقوى وأن الصحيح أنه مسجد قباء. وعند مسلم أنه المسجد النبوي وأنه لا منافاة فكل أسس عليها، غير أن قوله تعالى: {مِنْ أَوَّلِ يَوْم} و {رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا} يقتضي مسجد قباء، والله تعالى أعلم.
"ولما دنا" قرب "صلى الله عليه وسلم من المدينة خرج الناس" الرجال الكاملون؛ لأنهم الذين جرت العادة بخروجهم للقاء الأمير "لتلقيه" تعظيما له وإكراما، ولطول غيبته وتحدث المنافقين عليه بالسوء.
روى ابن أبي حاتم عن جابر. قال: جعل المنافقون الذين تخلفوا بالمدينة يخبرون عن النبي صلى الله عليه وسلم أخبار السوء يقولون: إن محمدا وأصحابه، قد جهدوا في سفرهم، وهلكوا فبلغهم تكذيب حديثهم، وعافية النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فساءهم ذلك فأنزل الله: {إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ} [التوبة: 50] "وخرج النساء والصبيان والولائد" الإماء، فالعطف مباين وإن أريد بالناس ما يشمل الرجال وغيرهم، فأفرد هؤلاء بالذكر لبيان خروجهم حال كونهم "يقلن" غلب النساء والولائد على ذكور الصبيان لكثرتهن، ولأن الغناء عادتهن بخلاف الصبيان وإنما خرج الجميع فرحا وسرورا بضد ما أرجف به المنافقون، ولأنهن ألفنه صلى الله عليه وسلم بخلاف الهجرة، فصعدت المخدرات على الأسطحة؛ لأنهن لم يكن رأينه، وإن فشا فيهم الإسلام:
طلع البدر علينا ... من ثنيات الوداع"(4/100)
وجب الشكر علينا ... ما دعا لله داع
وقد وهم بعض الرواة -كما قدمته- وقال: إنما كان هذا عند مقدمة المدينة. وهو وهم ظاهر؛ لأن ثنيات الوداع إنما هي من ناحية الشام، لا يراها القادم من مكة إلى المدينة ولا يراها إلا إذا توجه إلى الشام -كما قدمت ذلك.
__________
"وجب الشكر علينا ... ما دعا لله داع"
وبعدها فيما يروى:
أيها المبعوث فينا ... جئت بالأمر المطاع
"وقد وهم بعض الرواة" وهو عبيد الله بن محمد، المعروف بابن عائشة، "كما قدمته" في الهجرة، "وقال إنما كان هذا" الشعر "عند مقدمه المدينة" لما هاجر من مكة، بمعنى أنه روى ذلك في الهجرة كما مر عن رواية البيهقي وغيره، ولا أنه حصر، كما أفهمه، "وهو وهم ظاهر؛ لأن ثنيات الوداع إنما هي من ناحية الشام، لا يراها القادم من مكة إلى المدينة، ولا يراها إلا إذا توجه إلى الشام، كما قدمت ذلك"، في الهجرة وقدم ثمة أن الوالي العراقي، قال: يحتمل أن الثنية التي من كل جهة يصل إليها المشيعون يسمونها ثنية الوداع وقدمت أن هذا يؤيده جمع الثنيات إذ لو كان المراد التي من جهة الشام لم تجمع، ولا مانع من تعدد وقوع هذا الشعر مرة عند الهجرة، ومرة عند قدومه من تبوك فلا يحكم بغلط ابن عائشة لأنه ثقة، وتقدم جمع آخر، وفي البخاري وغيره عن السائب بن يزيد: أذكر أني خرجت مع الصبيان نتلقى النبي صلى الله عليه وسلم إلى ثنية الوداع مقدمة من غزوة تبوك، ووقع هنا في فتح الباري ما لفظه.
أنكر الوادي هذا، وتبعه ابن القيم، وقال: ثنية الوداع من جهة مكة، لا من جهة تبوك بل هي مقابلها كالمشرق والمغرب، قال: إلا أن يكون هناك ثنية أخرى في تلك الجهة، والثنية ما ارتفع من الأرض، وقيل الطريق في الجبل، قلت: لا يمنع كونها من جهة الحجاز أن يكون خروج المسافر من جهتها وهذا واضح، كما في دخول مكة من ثنية والخروج منها من أخرى، وينتهي كلاهما إلى طريق واحدة، وقد روينا بسند منقطع في الخلعيات قول النسوة لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة:
طلع البدر علينا ... من ثنيات الوداع
فقيل ذلك عند قدومه من غزوة تبوك، انتهى. فليتأمل فإن هذا عكس النقل عن ابن القيم السابق في المصنف الذي بنى عليه هنا، وقد قال في الفتح نفسه في الهجرة ما لفظه أخرج أبو سعد في شرف المصطفى، ورويناه في فوائد الخلعي من طريق عبيد الله بن عائشة منقطعا.(4/101)
وفي البخاري لما رجع صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك فدنا من المدينة، قال: "إن بالمدينة أقوما ما سرتم مسيرا، ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم حبسهم العذر" وهذا يؤيد معنى ما ورد: "نية المؤمن خير من عمله"، فإن نية هؤلاء خير،
__________
لما وصل النبي صلى الله عليه وسلم المدينة جعل الولائد يقلن: طلع البدر علينا، البيتين، وهو سند معضل، ولعل ذلك في قدومه من غزوة تبوك، انتهى.
"وفي البخاري" هنا وقبله في الجهاد عن أنس "لما رجع صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك، فدنا" قرب "من المدينة"، عطف على رجع وجواب لما، "قال: "إن بالمدينة أقواما ما سرتم مسيرا". مصدر ميمي، بمعنى السير، أي الذهاب، "ولا قطعتم واديا"، قال البيضاوي: هو كل منفرج ينفرج فيه السيل اسم فاعل من ودى إذا سال، فشاع بمعنى الأرض "إلا كانوا معكم" بالقلوب والنيات، وللإسماعيلي إلا وهم معكم فيه بالنية، ولأحمد وأبي داود "لقد تركتم بالمدينة أقواما ما سرتم من مسير، ولا أنفقتم من نفقة، ولا قطعتم من واد إلا وهم معكم فيه"، قالوا: يا رسول الله، وكيف يكونون معنا وهم بالمدينة، قال: "حبسهم العذر" ولابن حبان وأبي عوانة من حديث جابر "إلا شركوكم في الأجر"، بدل قوله: "إلا كانوا معكم"، وأسقط من البخاري، قالوا: يا رسول الله وهم بالمدينة، قال: "وهم بالمدينة" "حبسهم العذر" عن الغزو معكم.
قال الحافظ: هو الوصف الطارئ على المكلف المناسب للتسهيل عليه، والمراد به ما هو أعم من المرض، وعدم القدرة على السفر، وفي مسلم عن جابر بلفظ حبسهم المرض، وكأنه محمول على الأغلب، انتهى.
قولهم: وهم بالمدينة استفهام تعجبي لرواية كيف، أي أيكونون معنا ثوابا، وكأن المصنف أسقطها لأن الفائدة وهي التحريض على النيات الصالحة حاصل بدونها.
قال المهلب: يشهد لهذا الحديث قوله تعالى: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} [النساء: 95] فإنه فاضل بين المجاهدين والقاعدين ثم استثنى أولي الضرر من القاعدين فكأنه ألحقهم بالفاضلين.
"وهذا" الحديث الصحيح "يؤيد معنى ما روى" عند الطبراني، عن سهل بن سعد والعسكري عن النواس بن سمعان والديلمي عن أبي موسى، كلهم مرفوعا بلفظ "نية المؤمن خير من عمله".
ورواه البيهقي وغيره عن أنس بلفظ أبلغ وكلها ضعيفة ولذا مرضه لكن بمجموعها يتقوى الحديث، كما أفاده شيخ السخاوي، ويأتي بسطه إن شاء الله تعالى في المقصد الثالث، حيث ذكره المصنف ثمة في الكلام الموجز لم يسبق إليه وبين وجه التأييد بقوله: "فإن نية هؤلاء خير(4/102)
من أعمالهم، فإنها بلغت بهم مبلغ أولئك العاملين بأبدانهم وهم على فرشهم في بيوتهم والمسابقة إلى الله تعالى وإلى الدرجات العلا بالنيات والهمم لا بمجرد الأعمال.
ولما أشرف صلى الله عليه وسلم على المدينة، قال: "هذه طابة وهذا أحد جبل يحبنا ونحبه".
__________
من أعمالهم فإنها بلغت بهم مبلغ أولئك العاملين بأبدانهم، وهم على فرشهم في بيوتهم"، فشاركوهم في الثواب، وزادوا راحة الأبدان والمعية والصحبة الحقيقية، إنما هي بالسير بالروح، لا بمجرد البدن، وقصد المصنف بهذا دفع ما عساه، يقال: غاية ما أفاده الحديث المشاركة، أما الزيادة المستفادة من أفعل التفضيل، فلائم لضعفه جعله مؤيدا اسم مفعول بحديث الصحيح، لا مؤيدا اسم فاعل، فلم يقل هذا يؤيده "والمسابقة إلى الله تعالى" وفسر معناها، فقال: "وإلى الدرجات العلا بالنيات والهمم، لا بمجرد الأعمال".
قال شيخنا: استئناف بياني في جواب سؤال تقديره، وكيف نالوا ذلك مع راحة أبدانهم، وعدم المجاهدة، وكان الظاهر أن، يقال: إن عذرهم أسقط مؤاخذتهم بالتخلف، وكيف يحصل الثواب على شيء ما فعلوه، والجواب ظاهر مما ذكره، انتهى.
"ولما أشرف صلى الله عليه وسلم" كما رواه الشيخان وغيرهما، عن أبي حميد الساعدي، قال: أقبلنا مع النبي صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك حتى إذا أشرفنا "على المدينة، قال: "هذه طابة" بألف بعد الطاء، وفتح الموحدة سماها الله به، كما رواه مسلم مرفوعا مشتق من الطيب، كطيبة لطيب هوائها وترابها، وساكنها وطيب العيش بها.
قال ابن بطال: من أقام بها يجد من تربتها وحيطانها رائحة طيبة، لا توجد في غيرها.
زاد بن أبي شيبة أسكننيها ربي تنفي خبث أهلها، كما ينفي الكير خبث الحديد، بفتح المعجمة، والموحدة، فمثلثة وسخه الذي يخرجه، والمراد أنها، لا تترك فيها من في قلبه دغل، بل تخرجه، كما يميز الحداد رديء الحديد من جيده، ونسب للكير، لكونه السبب الأكبر في إشعال النار التي يقع بها، ذلك.
وروى خبث، بضم فسكون ورجح الأول لمناسبة الكير، وقيل غير ذلك، وقد بلغت أسماؤها خمسا وتسعين، وكثرة الأسماء آية شرف المسمى، "وهذا أحد جبل يحبنا ونحبه" حقيقة على الصحيح، ولا مانع منه بأن يخلق له المحبة في بعض الجمادات، كتسبيح الحصا وحنين الجذع، وقيل: هو مجاز، والمراد أهله نحو: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَة} [يوسف: 82] وقال الشاعر:(4/103)
ولما دخل قال العباس يا رسول الله ائدن لي أمتدحك قال: "قل لا يف الله فاك"، فقال:
من قبلها طبت في الظلال وفي ... مستودع حيث يخصف الورق
ثم هبطت البلاد لا بشر ... أنت ولا مضغة ولا علق
بل نطفة تركب السفين وقد ... ألجم نسرا..............
__________
وما حب الديار شغفن قلبي ... ولكن حب من سكن الديارا
ومن له مزيد في غزوة أحد "ولما دخل" المدينة في رمضان عند ابن سعد، وتبعه مغلطاي، وقال بعضهم في شعبان: وبدا بالمسجد، فصلى فيه ركعتين ثم جلس للناس، كما في حديث كعب بن مالك في الصحيح.
"قال العباس: بن عبد المطلب، كما رواه الطبراني وغيره: "يا رسول الله" إني أريد أن أمتدحك، "أتأذن لي" في أن "أمتدحك، قال: "قل لا يف الله فاك" لا للدعاء، فالفعل مجزوم حرك بالكسر لالتقاء الساكنين، أو نافية خبر بمعنى الدعاء، فهو مرفوع، والمراد الدعاء له بصيانة فيه عن كل خلل، لا عن نثر الأسنان فقط، "فقال من قبلها" أي الأرض، أو الدنيا أو الولادة "طبت" كنت طيبا، "في الظلال" أي، لا ظلال الجنة في صلب آدم "وفي مستودع" بفتح الدال، الموضع الذي كا آدم وحواء به في الجنة، أو صلب آدم، أو الرحم وليس بشيء؛ لأنه لم ينتقل للرحم حتى حملت بجده شيث بعد هبوطها بمدة مديدة، "حيث يخصف،" يلزق "الورق" فبنى للمفعول للعلم به، وطفقا يخصفان، "ثم هبطت" نزلت في صلب آدم "البلاد" الأرض سماها بلادا باعتبار الأول إذ لم يكن حينئذ بلاد، ولا قرى، "لا بشر أنت ولا مضغة" قطعة لحم قدر المضغ، "ولا علق" دم جامد لو صب عليه الماء الحار لم يذب، والمراد نفي جنس العلق على نحو قوله: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ} [العلق: 2] ، فلا يراد أن أصل الآدمي علقة واحدة، أو أطلق على كل جزء من الدم الذي هو أصل الإنسان علقة مجازا، فجمع، أو هو مرخم علقة، وإن كان في غير النداء قليلا، لا للتعظيم، كما زعم؛ لأنه منفي، "بل نطفة" مستقرة في صلب سام بن نوح بعد انتقالها من نوح فمن ولده إلى آدم، ولذا صح إطلاقها عليه وإلا فلم تكن تكونت حينئذ.
وفي رواية بل حجة، وفيه ما فيه من التعظيم والهروب من لفظ نطفة "تركب السفين" اسم جنس لسفينة، أي سفينة نوح، وجمع لضرورة الشعر، أو هو مفرد مرخم "وقد ألجم نسرا" أحد الأصنام التي عبدها قوم نوح.
ذكر ابن جرير الطبري أن نسرا وودا ويعوق ويغوث كانوا أبناء سواع بن شيث بن آدم، فلما هلك صورت صورته لدينه وما عهدوه في دعائه من الإجابة، فلما مات أولاده صورت(4/104)
....... ... وأهله الغرق
تنقل من صالب إلى رحم ... إذا مضى عالم بدا طبق
وردت نار الخليل مكتتما ... في صلبه أنت كيف يحترق
حتى احتوى بيتك المهيمن من ... خندف علياء تحتها النطق
وأنت لما ولدت أشرقت الأرض ... وضاءت بنورك الأفق
فنحن في ذلك الضياء وفي الـ ... ـنور وسبل الرشاد نخترق
__________
صورهم كذلك لتذكيرأفعالهم الصالحة فلم يزالوا حتى خلفت الخلوف، وقالوا: ما عظم هؤلاء آباؤنا إلا؛ لأنها وتنفع وتضر، واتخذوها آلهة وعبدوها، نقله في الروض: فما وقع في بعض العبارات أنها أسماء خمسة بنين لآدم، أي بواسطة، لا لصلبه، "وأهله" عباده سماهم لذلك أهله "الغرق" الذي عم الكفار زمن نوح "تنقل من صالب" أي صلب بضم فسكون وتضم لامه اتباعا، كما في المصباح، وهو ظهر الرجل "إلى رحم" بفتح الراء، وكسر الحاء موضع تكوين الولد "إذا مضى عالم" أنت فيه بواسطة من كنت في صلبه، "بدا" ظهر "طبق" عالم آخر تكون فيه بانتقالك من أصل إلى فرع، أو إذا مضى قرن ظهر آخر، سمي القرن طبقا؛ لأنهم طبق للأرض، أي يغطونها، ثم ينقرضون.
قال أبو عبيد، يقال: مضى طبق، وجاء طبق، أي مضى عالم، وجاء عالم "وردت" بلغت ودخلت "نار الخليل" إبراهيم عليه الصلاة والسلام، أضافها إليها لكونها أوقدت لأجله، حال كونك، "مكتتما" مخفيا "في صلبه" ظهره "أنت" توكيد للضمير في وردت "كيف يحترق" استفهام بمعنى النفي، أي، لا يحترق ببركتك، وأنت في صلبه وعبر بالورود، مع أنه لغة الوصول، بلا دخول إشارة إلى أنه لم يصبه منها شيء، وإن دخلها فكأنه لم يدخلها "حتى احتوى بيتك المهيمن" اسم فاعل من هيمن، أي المحفوظ من كل نقص، "من خندف علياء تحتها النطق" يأتي شرحه "وأنت لما ولدت".
ويروي لما ظهرت "أشرقت وضاءت بنورك الأفق" بضم الهمزة والفاء وتسكن الناحية جمعة آفاق مذكر أنثه على تأويله بالناحية، فراعى معناه، لا لفظه "فنحن" الآن "في ذلك الضياء" نهتدي به إلى ما فيه السعادة الأبدية.
"وفي النور وسبل الرشاد نخترق" هكذا في النسخ الصحيحة، وهي الرواية، وكذا أنشده المصنف في المولد، ويقع في نسخة:
فنحن في ذلك الضياء وفي ... مستودع حيث يخصف الورق
وفصاحة العباس تأبى هذا، وإن أمن توجيهه، بأن المراد بمنزلة الكائنين فيها لقوة إيماننا(4/105)
وقوله: من قبلها طبت إلخ: أي ظلال الجنة، أي كنت طيبا في صلب آدم حيث كان في الجنة.
وقوله: من قبلها: أي قبل نزولك إلى الأرض فكنى عنها ولم يتقدم لها ذكر لبيان المعنى.
وقوله: ثم هبطت البلاد لا بشر، أي لما أهبط الله آدم إلى الدنيا، كنت في صلبه غير بالغ هذه الأشياء.
وقوله: وقد ألجم نسرا وأهله الغرق، يريد الصنم الذي كان يعبده قوم نوح وهو المذكور في قوله تعالى: {وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} [نوح: 23] .
__________
بواسطة ما أفيض علينا، وبأن المراد، ونحن نكون في الجنة يوم القيامة، جزاء لأتباعك، ويقع في بعض النسخ زيادة أبيات هي:
وعاليا قدرك الرفيع وفي ... معناك حسنا يميله النسق
فذا تثنيك والقوام إذا ... غصنا رطيبا قوامك الرشق
ووجهك البدر أن يضيء ومن ... شعر لك الليل يحلك الغسق
أضاء منك الوجود نور سنا ... وفاح مسكا ونشرك العبق
وكأنها مصنوعة وليس عليها رونق شعره، "وقوله: من قبلها طبت إلى آخره، أي طلال الجنة" فأل عوض عن المضاف إليه، أو للعهد الذهني، وظلالها ليست كظلام الدنيا.
قال الزمخشري: هي مثل ما بين طلوع الفجر إلى الشمس وقال غيره: مثل ما بين الأسفار والطلوع، ولا يلزم على الأول أن تكون مظلمة؛ لأن التمثيل في عدم التغير فقط، "أي كنت طيبا في صلب آدم حيث كان في الجنة، وقوله: من قبلها، أي من قبل نزولك إلى الأرض"، وأنت لتأويل النزول بالحالة التي قامت به، والأوضح عود الضمير إلى الأرض بتقدير من قبل نزولك إليها، "فكني عنها، ولم يتقدم لها ذكر لبيان المعنى، "كقوله: حتى توارت بالحجاب ولأبويه "وقوله: ثم هبطت البلاد، لا بشر، أي لما أهبط الله تعالى آدم عليه السلام إلى الدنيا، كنت في صلبه غير بالغ هذه الأشياء" البشر، والمضغة والعلق، أي لم يك شيئا منها "وقوله: وقد ألجم نسرا، وأهله الغرق يريد الصنم الذي كان يعبده قوم نوح، وهو المذكور في قوله تعالى:" {وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} [نوح: 23] قيل: ثم بعد الطوفان انتقلت تلك الأصنام بأعيانها، وقيل: بل الأسماء فقط إلى قبائل من العرب قصار ود لكلب بدومة الجندل، وسواع لهذيل، ويغوث لمراد، ويعوق لهمدان ونسر لحمير، قال ابن عطية وغيره.(4/106)
وقوله: حتى احتوى بيتك المهيمن إلخ. النطق: جمع نطاق. وهي أعراض من جبال بعضها فوق بعض أي: نواح وأوساط منها شبهت بالنطق التي تشد بها أوساط الناس. ضربه مثلا في ارتفاعه وتوسطه في عشيرته وجعلهم تحته بمنزلة أوساط الجبال، وأراد ببيته: شرفه، والمهيمن، نعته، أي احتوى شرفه الشاهد إلى فضلك أعلى مكان من نسب خندف -وهو بكسر الخاء المعجمة والدال المهملة- انتهى.
وجاءه صلى الله عليه وسلم من كان تخلف عنه، فحلفوا له فعذرهم واستغفر لهم، وأرجأ
__________
"وقوله: حتى احتوى بيتك المهيمن إلخ النطق جمع نطاق، وهي أعراض من جبال" بجيم فموحدة "بعضها فوق بعض" وفسرها: فقال: أي "نواح وأوساط، منها شبهت بالنطق التي تشد بها أوساط الناس، ضربه مثلا في ارتفاعه وتوسطه في عشيرته، وجعلهم تحته بمنزلة أوساط الجبال" بجيم فموحدة جمع جبل، وقراءته بالمهملة تصحيف، "وأراد ببيته شرفه المهيمن نعته" فهو اسم فاعل، كقوله تعالى ومهيمنا عليه في القراءة المتواترة، "أي احتوى شرفك الشاهد على فضلك أعلى مكان" مفعول مطلق صفة لفضلا محذوف "من نسب خندف، وهو" أي هذا اللفظ "بكسر الخاء المعجمة، و" كسر "الدال المهملة" آخره فاء في الأصل المشي بهرولة، ثم جعل علما على امرأة إلياس بن مضر، وهي ليلى القضاعية لما خرجت تهرول خلف بنيها الثلاثة عمرو وعامر وعمر حين ندلهم إبل، فطلبوها، فأبطئوا عليها، ثم ضرب مثلا للنسب العالي في كل شيء؛ لأنها كانت ذات نسب "انتهى".
"وجاءه صلى الله عليه وسلم من كان تخلف عنه" قال كعب بن مالك في حديثه الصحيح، وكانوا بضعة وثمانين رجلا، وذكر الواقدي: أن هذا العدد كان من منافقي الأنصار، وأن المعذرين من الأعراب كانوا أيضا اثنين وثمانين رجلا من بني غفار وغيرهم، وأن عبد الله بن أبي ومن أطاعه من قومه كانوا من غير هؤلاء وكانوا عددا كثيرا، "فحلفوا له فعذرهم" قبل عذرهم بأن رفع عنهم اللوم، "واستغفر لهم".
وفي حديث كعب، فقيل منهم صلى الله عليه وسلم علانيتهم، وبايعهم، واستغفر لهم ووكل سرائرهم إلى الله، وعند ابن عقبه، لما دنا صلى الله عليه وسلم من المدينة تلقاه عامة الذين تخلفوا فقال لأصحابه: "لا تكلموا رجلا منهم ولا تجالسوه حتى آذن لكم" فأعرض عنهم هو والمؤمنون حتى إن الرجل ليعرض عن أبيه، وأخيه، وإن المرأة لتعرض عن زوجها، فمكثوا كذلك أياما حتى كرب الذين تخلفوا وجعلوا يعتذرون بالجهد والأسقام، ويحلفون له فرحمهم وبايعهم واستغفر لهم "وأرجأ".(4/107)
أمر كعب وصاحبيه حتى نزلت توبتهم في قوله تعالى: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ، وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا
__________
قال الحافظ: مهموز، أي أخر وزنا ومعنى "أمر كعب وصاحبيه" قال كعب في الصحيح: فجئته فلما سلمت عليه تبسم، تبسم المغضب، ثم قال: "تعال" فجلست بين يديه، فقال لي: "ما خلفك ألم تكن ابتعت ظهرك" فقلت: بلى إني والله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أن سأخرج من سخطه بعذر، ولقد أعطيت جدلا، ولكني والله، لقد علمت لئن حدثتك حديث كذب ترضى به عني، لوشكن الله أن يسخطك عليَّ، ولئن حدثتك حديث صدق تجد على إني لأرجو فيه عفو الله، لا والله ما كان لي من عذر، والله ما كنت قط أقوى، ولا أيسر مني حين تخلفت عنك، فقال صلى الله عليه وسلم: "أما هذا، فقد صدق، فقم حتى يقضي الله فيك". فقمت وثار رجال من بني سلمة، فقالوا: ما علمناك أذنبت قبل هذا، قد كان كافيك ذنبك استغفار رسول الله لك، فما زالوا حتى أردت أن أرجع، فأكذب نفسي، فقلت لهم: هل لقي هذا معي أحد، قالوا: نعم رجلان قالا مثل ما قلت، فقيل لهما مثل ما قيل لك مرارة بن الربيع العمري وهلال بن أمية الواقفي، فذكروا لي رجلين صالحين، قد شهدا بدرا لي فيهما أسوة، فمضيت حين ذكروهما، ونهى صلى الله عليه وسلم عن كلامنا أيها الثلاثة من بين من تخلف عنه، فاجتنبنا الناس، وتغيروا لنا حتى تنكرت في نفسي الأرض، فما هي التي أعرف فلبثنا على ذلك خمسين ليلة، فذكر الحديث بطوله "حتى نزلت توبتهم في قوله تعالى: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ} أدام توبته عليه وهذا أولى من قول من قال تجاوز عنه إذنه للمنافقين في التخلف وقيل: هو حث للمؤمنين على التوبة على سبيل التعريض؛ لأنه إذا وصف بها المستغني عنها صلى الله عليه وسلم كان باعثا للمؤمنين عليها وإبانة لفضلها "و" تاب على {َالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَار} حقيقة إذ، لا ينفك الإنسان عن زلة، أو عن وساوس تقع في قلوبهم {الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ} حقيقة بأن خرج أولا وتبعوه، مجازا عن اتباعهم أمره ونهيه {فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ} أي وقت الشدة والضيق كان الرجلان يقتسمان تمرة، والعشرة يتعقبون البعير الواحد، واشتد الحر حتى شربوا الفرث {مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ} بالتاء والياء تمثل {قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ} عن اتباعه إلى التخلف، لما هم فيه من الشدة، {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ} بالثبات {إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} حين تاب عليهم {و} تاب {َعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} عن التوبة.
قال كعب: ليس الذي ذكر الله مما خلفنا عن الغزو، وإنما هو تخليفه إيانا وإرجاؤه أمرنا عمن خلف له واعتذر إليه فقبل منه، وكذا قال قتادة وعكرمة: خلفوا عن التوبة.(4/108)
حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [التوبة: 117، 118] ،
والثلاثة هم: كعب بن مالك، وهلال بن أمية، ومرارة بن ربيعة.
__________
قال ابن جرير: فالمعنى تاب على من أخر توبتهم ويؤيده قوله: " {حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ} " أي مع رحبها، أي سعتها، فلا يجدون مكانا يطمئنون إليه قلقا، وجزعا تمثيل لحيرتهم في أمرهم " {وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ} " قلوبهم للغم والوحشة بتأخير توبتهم، فلا يسعها سرور، ولا أنس.
وفي حديث كعب: حتى تنكرت في نفسي الأرض فما هي بالتي أعرف، وفي رواية وتنكرت لنا الحيطان حتى ما هي بالحيطان التي نعرف، وهذا يجده الحزين والمهموم في كل شيء حتى، قد يجده في نفسه.
وعند ابن عائد حتى وجلوا أشد الوجل، وصاروا مثل الرهبان "وظنوا" أيقنوا " {أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ} " أي، لا مفر من عذابه لأحد " {إِلَّا إِلَيْه} " بالتوبة والاستغفار.
روى ابن أبي حاتم عن الحسن البصري، قال: ما أكل هؤلاء الثلاثة مالا حراما، ولا سفكوا دما حراما، ولا أفسدوا في الأرض، وأصابهم ما سمعتم، وضاقت عليهم الأرض بما رحبت، فكيف بمن يوافع الفواحش، والكبائر {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ} وفقهم للتوبة " {لِيَتُوبُوا} " ليستقيموا على توبتهم، ويثبتوا، أو ليتوبوا في المستقبل، كلما فرطت منهم زلة لعلمهم بالنصوص أن طريان الخطيئة يستدعي تجدد التوبة " {إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّاب} " على من تاب ولو عاد، كما قال صلى الله عليه وسلم: "ما أصر من استغفر ولو عاد في اليوم سبعين مرة".
رواه أبو داود والترمذي والبزار وضعفاه من حديث أبي بكر وله شاهد من حديث ابن عباس عند الطبراني " {الرَّحِيمُ} " به، ومن جملتها توفيقه للتوبة، "والثلاثة هم كعب بن مالك، وهلال بن أمية ومرارة"، بضم الميم، وتخفيف الراءين ومن تظرف، فقال: يجمع أسماءهم مكة مراده مجرد الحروف، لا الضبط "ابن ربيعة" كذا في رواية لمسلم، والمشهور ابن الربيع، كما في البخاري وعند ابن مردويه مرارة بن ربعي، وهو خطأ، وعند ابن أبي حاتم: ربيع بن مرارة، وهو مقلوب، قاله الحافظ، وقد مر، قال ابن بطال: إنما اشتد الغضب على من تخلف وإن كان الجهاد فرض كفاية؛ لأنه في حق الأنصار خاصة فرض عين؛ لأنهم بايعوا على ذلك، ومصداقه قولهم(4/109)
وعند البيهقي في الدلائل، من مرسل سعيد بن المسيب: أن أبا لبابة بن عبد المنذر لما أشار لبني قريظة بيده إلى حلقه: أنه الذبح وأخبر عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أحسبت أن الله قد غفل عن يدك حين تشير إليهم بها إلى حلقك"، فلبث حينا ورسول الله صلى الله عليه وسلم عاتب عليه، ثم غزا تبوكا فتخلف عنه أبو لبابة فيمن تخلف، فلما قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم منها جاءه أبو لبابة يسلم عليه فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ففزع أبو لبابة، فارتبط بسارية التوبة سبعا وقال: لا يزال هذا مكاني حتى أفارق الدنيا، أو يتوب الله عليَّ، الحديث.
__________
وهم يحفرون الخندق:
نحن الذين بايعوا محمدا ... على الجهاد ما بقينا أبدا
فكان تخلفهم عن هذه الغزوة كبيرا لأنها كالنكث لبيعتهم.
قال السهيلي: ولا أعرف لها وجها غيره، وقال الحافظ وإنما غلظ الأمر على الثلاثة وهجروا لأنهم تركوا الواجب بلا عذر؛ لأن الإمام إذا استنفر الجيش عموما، لزمهم النفير ولحق اللوم بكل فرد، فرد أن لو تخلف، فهذا وجه ثان غير الذي ذكر، ولعله أقعد، ويؤيده قوله تعالى: {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم} [التوبة: 120] وللشافعية وجه: أن الجهاد كان فرض عين في زمنه صلى الله عليه وسلم فعليه يتوجه العتاب على من تخالف مطلقا، وعند البيهقي في الدلائل النبوية "من مرسل سعيد بن المسيب" بن حزن، التابعي الجليل، ابن الصحابي، حفيد الصحابي، "أن أبا لبابة" رفاعة بن عبد المنذر، الأنصاري "لما أشار لبني قريظة بيده إلى حلقه" حين قالوا له: أترى أن ننزل على حكم محمد "أن الذبح، فأخبر عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أحسبت أن الله غفل عن يدك حين تشير إليهم بها إلى حلقك" فلبث حينا" زمنا "ورسول الله صلى الله عليه وسلم عاتب عليه، ثم غزا تبوكا" بالصرف إلى إرادة الموضع، "فتخلف عنه أبو لبابة في " جملة "من تخلف، فلما قفل" بفتح القاف، والفاء، ولام رجع "رسول الله صلى الله عليه وسلم، منها جاء أبو لبابة، يسلم عليه، فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ففزع أبو لبابه فارتبط بسارية التوبة", وهي العمود المخلق، أي المطلق بالخلوق بوزن رسول، وهو ما يخلق به من الطيب "سبعا" من الليالي، وقيل ستا، وقيل بضع عشرة كما مر، "وقال: لا يزال هذا مكاني حتى أفارق الدنيا" بالموت، "أو يتوب الله على الحديث" بقيته فأنزل الله تعالى، {وَآخَرُونَ} ، فأرسل صلى الله عليه وسلم إلى أبي لبابة ليطلقه، فأبى أن يطلقه أحد إلا رسول الله، فجاء صلى الله عليه وسلم فأطلقه بيده قال البيهقي،(4/110)
وعنده أيضا من حديث ابن عباس في قوله تعالى: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا} [التوبة/ 102] قال: كانوا عشرة رهط تخلفوا عن النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، فلما رجع صلى الله عليه وسلم أوثق سبعة منهم أنفسهم بسواري المسجد وكان ممره النبي صلى الله عليه وسلم إذ رجع في المسجد عليهم، فقال: من هؤلاء؟ قالوا: هذا أبو لبابة وأصحاب له تخلفوا عنك يا رسول الله، حتى تطلقهم وتعذرهم، فقال: أقسم بالله لا أطلقهم ولا أعذرهم حتى يكون الله هو الذي يطلقهم، رغبوا عني وتخلفوا عن الغزو، فأنزل الله تعالى: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ} فلما نزلت
__________
وترجم ابن إسحاق أن ارتباطه كان في بني قريظة، ورويناه عن ابن عباس وغيره: أنه بتخلفه عن تبوك انتهى، ويحتمل تكرر ربطه نفسه، "وعنده" أي البيهقي في الدلائل "أيضا" وعند ابن مردويه وابن جرير وغيرهم "من حديث ابن عباس في قوله تعالى: {وَآخَرُونَ} مبتدأ {اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ} من التخلف نعته والخبر {خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا} وهو جهادهم قبل ذلك أو اعترافهم بذنوبهم أو غير ذلك.
"قال: كانوا عشرة رهط تخلفوا عن النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، فلما رجع صلى الله عليه وسلم أوثق سبعة منهم أنفسهم بسواري المسجد، وثلاثة لم يوثقوا، وهم كعب، ومرارة وهلال، والذين أوثقوا أبو لبابة وأوس بن جذام وثعلبة بن وديعة رواه ابن منده وأبو الشيخ عن جابر بإسناد قوي وجد بن قيس وجذام بن أوس ومرداس رواه عبد بن حميد وابن أبي حاتم بن مرسل قنادة والسابع وداعة بن حرام الأنصاري. رواه المستغفري عن ابن عباس، "وكان ممره صلى الله عليه وسلم إذا رجع في المسجد عليهم، فقال" لما رآهم: "من هؤلاء" الموثقون أنفسهم؟ " قالوا هذا أبو لبابة وأصحاب له تخلفوا عنك يا رسول الله".
زاد في رواية عاهدوا الله لا يطلقون أنفسهم "حتى تطلقهم" زاد في رواية وترضي عنهم، وتعذرهم" ترفع اللوم عنهم، زاد في رواية، وقد اعترفوا بذنوبهم "قال صلى الله عليه وسلم": "وانا "أقسم بالله لا أطلقهم، ولا أعذرهم حتى يكون الله هو الذي يطلقهم".
"رغبوا عني" صانوا نفوسهم عما رضيته لنفسي من الشدائد، "وتخلفوا عن الغزو" مع المسلمين وقد استنفرت عموم الجيش فتركوا الواجب.
زاد في رواية: فلما بلغهم ذلك قالوا ونحن لا نطلق أنفسنا حتى يكون الله تعالى هو الذي يطلقنا، "فأنزل الله تعالى: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ} إلى آخر الآية، "فلما نزلت(4/111)
أرسل إليهم النبي صلى الله عليه وسلم فأطلقهم وعذرهم، الحديث.
قالوا: ولما قدم عليه الصلاة والسلام من تبوك وجد عويمر العجلاني امرأته حبلى، فلاعن عليه الصلاة والسلام بينهما.
__________
أرسل إليهم النبي صلى الله عليه وسلم فأطلقهم وعذرهم" إلا أن أبا لبابة لم يرض أن يطلقه إلا النبي صلى الله عليه وسلم بيده، ففعل كما مر "الحديث" بقيته، فجاء أبو لبابة وأصحابه بأموالهم حين أطلقوا، فقالوا: يا رسول الله هذه أموالنا فتصدق بها عنا واستغفر لنا، فقال: "ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئا" فأنزل الله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة: 103] ، يقول: رحمة لهم، فأخذ منهم الصدقة، واستغفر لهم، وبقي الثلاثة الذين لم يوثقوا أنفسهم، لم يذكروا بشيء، وهم الذين قال الله فيهم: {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّه} [التوبة: 106] فجعل أناس يقولون: هلكوا إذ لم ينزل عذرهم، وآخرون يقولون عسى الله أن يتوب عليهم حتى نزلت {وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} [التوبة: 118] ويقع في بعض الروايات: أنهم أخروا سنة، وهو ضعيف، فالثابت في الصحيح خمسين ليلة والله أعلم.
واعلم أنه من أول قوله، وعند البيهقي إلى هنا سقط في كثير من النسخ، وإثباتها أتم فائدة والعزو صحيح مذكور في دلائل البيهقي إلى هنا سقط في كثير من النسخ، وإثباتها أتم فائدة والغزو صحيح مذكور في دلائل البيهقي وغيره "قالوا: ولما قدم عليه الصلاة والسلام من تبوك وجد عويمر" بضم المهملة آخره راء مصغر ابن أبيض، وقال الطبراني ابن الحارث بن زيد بن جابر بن الجد بن العجلان "العجلاني" قال: وأبيض لقب لأحد آبائه، وأيد بأن في الموطأ رواية القعنبي عويمر بن أشقر، فقيل إنه خطأ لأن ابن أشقر آخر مازني، وقيل: لا خطأ، فإن أحد آباء العجلاني يلقب أبيض، فأطلق عليه الراوي أشقر، "امرأته" خولة بنت قيس عن المشهور أو بنت عاصم بن عدي أو بنت أخيه "حبلى" وعند ابن مردويه مرسلا أن عويمر رماها بشريك بن سحماء، وهو ابن عمه، وعند ابن أبي حاتم فقال لعاصم: يابن عم أقسم بالله لقد رأيت شريك بن سحماء على بطنها، وأنها لحبلى وما قربتها منذ أربعة أشهر، وسحماء بفتح السين، وسكون الحاء المهملتين، والمد اسم أمه، وهي حبشية أو يمانية، واسم أبيه عبده، ولا مانع من أن يتهم شريك بكل من امرأتي عويمر وهلال جمعا بين هذا وبين حديث البخاري الآتي، فلا يحسن قول ابن الصباغ في شامله أن قول الإمام المزني قذف العجلاني زوجته بشريك سهو في النقل، إنما هو هلال انتهى، وقد علم سند المزني، وإمكان الجمع فتعين المصير إليه، "فلاعن عليه الصلاة والسلام بينهما"، وكأن المصنف ساقه بصيغة التبري؛ لأنه صريح في أن اللعان لنفي الحمل وصريح الأحاديث أنه لرؤية الزنا.
وقد روى الشيخان وغيرهما عن سهل بن سعد قال: جاء عويمر إلى عاصم بن عدي، فقال:(4/112)
...................................
__________
أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أرأيت رجلا وجد مع امرأته رجلا فقتله، أيقتل به أم كيف يصنع، فسأله عاصم فعاب صلى الله عليه وسلم المسائل فلقيه عويمر، فقال: ما صنعت، قال: إنك لم تأمرني بخير سألت رسول الله، فعاب المسائل، فقال عويمر: فوالله لآتين رسول الله، فلأسألنه، فأتاه، فقال: يا رسول الله رجل وجد مع امرأته رجلا أيقتله فتقتلونه أم كيف يصنع؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "قد أنزل الله القرآن فيك وفي صاحبتك".
فأمرهما، فتلاعنا الحديث، وفيه أن الولد جاء على الصفة التي تصدق عويمرا، فكان ينسب إلى أمه.
وروى البخاري عن ابن عباس أن هلال بن أمية قذف امرأته عند النبي صلى الله عليه وسلم بشريك بن سحماء، فقال صلى الله عليه وسلم: "البينة أو حد في ظهرك" فقال: يا رسول الله إذا رأى أحدنا مع امرأته رجلا ينطلق يلتمس البينة، فجعل صلى الله عليه وسلم يقول: "البنية وإلا حد في ظهرك" فقال هلال: والذي بعثك بالحق إي لصادق، ولينزلن الله ما يبرئ ظهري من الحد، فنزل جبريل وأنزل الله، {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} [النور: 4] حتى بلغ إن كان من الصادقين، الحديث. وفيه أنهما تلاعنا، وأن الولد جاء على صفة شريك، فقال صلى الله عليه وسلم: "لولا ما مضى من كتاب الله لكان لي ولها شأن".
قال الحافظ: اختلف الأئمة في هذا الموضع، فمنهم من رجح نزولها في شأن عويمر، ومنهم من رجح نزولها في شأن هلال، ومنهم من جمع بأن أول من وقع له ذلك هلال، وصادف مجيء عويمر أيضا، فنزلت في شأنهما معا، وإليه جنح النووي، وسبقه الخطيب، فقال: لعلهما اتفق لهما ذلك في وقت واحد، ولا مانع أن تتعدد القصص، ويتحد النزول.
وروى البزار عن حذيفة قال: قال صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: "لو رأيت مع أم رومان رجلا ما كنت فاعلا به".
قال: كنت فاعلا به شرا قال: "فأنت يا عمر" قال: كنت أقول لعن الله الأبعد، فنزلت، ويحتمل أن النزول سبق هلال، فلما جاء عويمر، ولم يكن علم بما وقع لهلال أعلمه صلى الله عليه وسلم بالحكم، ولذا قال في قصة هلال: فنزل جبريل وفي قصة عويمر: "قد أنزل الله فيك"، وبهذا أجاب ابن الصباغ، قال: نزلت في هلال، وأما قوله لعويمر: "قد أنزل الله فيك"، فمعناه ما أنزل في قصة هلال، ويؤيده أن في حديث أنس عند أبي يعلى أول لعان كان في الإسلام أن شريك بن سحماء قذفه هلال بن أمية بإمرأته، وجنح القرطبي إلى تجويز نزول الآية مرتين قال: وهذه الاحتمالات وإن بعدت أولى من تغليظ الرواة الحفاظ، انتهى، ولم يذكر المصنف هنا بعثه صلى الله عليه والسلام أبا سفيان بن حرب والمغيرة بن شعبة لهدم اللات بالطائف لما أتاه وفدهم مسلمين، فذهبا في بضعة عشر رجلا، فهدموها حتى سووها بالأرض، ثم خرب المغيرة أساسها، وأخذوا حليتها وكسوتها وما فيها من طيب وذهب وفضة، وأقبلوا حتى دخلوا عليه صلى الله عليه وسلم، فحمد الله على نصره واعزاز دينه، وقسم المال من يومه اكتفاء بأنه أشار إلى ذلك في الوفود والله أعلم.(4/113)
[حج الصديق بالناس] :
ثم حجة أبي بكر الصديق رضي الله عنه بالناس، سنة تسع في ذي القعدة، كما ذكره ابن سعد وغيره بسند صحيح عن مجاهد، ووافقه عكرمة بن خالد، فيما أخرجه الحاكم في الإكليل.
وقال قوم في ذي الحجة، وبه قال الداودي والثعلبي والماوردي، والمعتمد ما قاله
__________
حج الصديق بالناس:
"ثم حجة أبي بكر الصديق" عبد الله بن عثمان "رضي الله عنه"، وعن أبيه "بالناس" أميرا عليه "سنة تسع، كما جزم به البخاري وابن إسحاق قال الحافظ في التفسير اتفقت عليه الروايات، وقال هنا: والحق أنه لم يختلف في ذلك، وإنما وقع الاختلاف في أي شهر حج أبو بكر، فقيل: "في ذي القعدة" على طريقة العرب من عدم تقييده بالحجة، ولا يرد أن الله صان أفعاله عليه الصلاة والسلام عن الجاهلية، لجواز أن المراد الأوثان والسفاح ونحوهما "كما ذكره ابن سعد وغيره بسند صحيح عن مجاهد" التابعي، الإمام المشهور، "ووافقه عكرمة بن خالد" بن العاصي بن هشام المخزومي، التابعي الثقة "فيما أخرجه الحاكم في الإكليل".
قال الحافظ: ومن عدا هذين، أي عكرمة ومجاهد، إما ساكت، وإما مصرح بأنه في الحجة، وقال "قوم في ذي الحجة، وبه قال الداودي" أحمد بن نصر شارح البخاري "و" من المفسرين "الثعلبي، والماوردي" والرماني وجماعة، واحتج له بحديث الصحيحين الآتي من قوله: يوم النحر قال الحافظ: ولا حجة فيه لأن قول مجاهد وعكرمة إن ثبت، فالمراد بيوم النحر صبيحة يوم الوقوف سواء وقع الوقوف في القعدة أو الحجة، لكن الحجة له حديث ابن مردويه، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: كانوا يجعلون عاما شهرا، وعاما شهرين، يعني يحجون في شهر واحد مرتين في سنتين ثم يحجون في شهر آخر غيره، فلا يقع الحج في أيام الحج إلا في كل خمس وعشرين سنة، فلما كان حج أبي بكر، وافق ذلك العام شهر الحج فسماه الله الحج الأكبر، وهذا يرد القول، بأنه في ذي القعدة ويضعفه، "والمعتمد ما قاله(4/114)
مجاهد وبه جزم الأزرقي، ويؤيده أن ابن إسحاق صرح بأن النبي صلى الله عليه وسلم أقام بعدما رجع من تبوك رمضان وشوالا وذا القعدة ثم بعث أبا بكر أميرا على الحج، فهو ظاهر في أن بعث أبي بكر كان بعد انسلاخ ذي القعدة، فيكون حجة في ذي الحجة على هذا والله أعلم.
وكان مع أبي بكر ثلاثمائة رجل من المدينة، وعشرون بدنة.
وفي البخاري ومسلم، عن أبي هريرة: أنا أبا بكر بعثه في الحجة التي أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم.
__________
مجاهد، وبه جزم الأزرقي" كذا في نسخ تقليدا لسبق قلم وقع في الفتح، وقد كتبوا عليه قديما صوابه المعتمد، خلاف ما قاله مجاهد، وسقط قوله والمعتمد إلخ، في كثير من النسخ، وهو ظاهر حتى يتأتى قوله، "ويؤيده" أي القول، بأنه في ذي الحجة "أن ابن إسحاق صرح" في السيرة، "بأن النبي صلى الله عليه وسلم أقام بعدما رجع من تبوك" بقية شهر "رمضان" على أنه قدم فيه أو كله، على أنه قدم في شعبان "وشوالا وذي القعدة، ثم بعث أبا بكر أميرا على الحج" من سنة تسع ليقيم للمسلمين حجهم، والناس من أهل الشرك على منازلهم، من حجهم انتهى كلام ابن إسحاق.
"فهو ظاهر في أن بعث أبي بكر كان بعد انسلاخ ذي القعدة" لأن التقدير ثم بعد إقامة تلك المدة بعث، "فيكون حجه في ذي الحجة على هذا" الظاهر، ولم يجعله صريحا لاحتمال إرادة الترتيب الذكري، وإن كان بعيدا "والله أعلم" ويحتمل أن قوله المعتمد ما قاله مجاهد من مجاز الحذف، أي خلاف ما قاله، ارتكبه للقرينة الظاهرة تشحيذا للأذهان إذ لا يتوهم عاقل أنه يقول يؤيده بما ينافيه، "وكان مع أبي بكر ثلاثمائة رجل من المدينة" لفظ ابن سعد والمصنف لا يعدل عنه غالبا كاليعمري، ولفظ شيخه الواقدي أنه خرج معه ثلاثمائة من الصحابة، واقتصر عليه الفتح وي وإن صرحت بأن الكل صحابة، لكنها محتملة؛ لأن يكون فيهم إناث بخلاف لفظ تلميذه قال رجل: فلا تغني إحدى العبارتين عن الأخرى، "وعشرون بدنة" بعثها صلى الله عليه وسلم قلدها وأشعرها بيده عليها ناجية بن جندب الأسلمي، وساق أبو بكر خمس بدنات.
ذكره ابن سعد وشيخه، فهذا من المصنف اختصار موهم ثم استأنف فذكر حديث أبي هريرة لما فيه من الفوائد التي ليست فيما قدمه، ومن جملتها أن الحجة كانت في ذي الحجة على ظاهر قوله يوم النحر، فقال: "وفي البخاري" في الصلاة، والحج، والجزية، المغازي والتفسير "ومسلم" في الحج، وكذا أبو داود والنسائي بطرق كلها عن "أبي هريرة، أن أبا بكر بعثه"، أي أبا هريرة، وفي رواية التفسير بعثني أبو بكر "في الحجة التي أمره" بشد الميم، أي جعله "رسول الله صلى الله وسلم" أميرا عليها.(4/115)
قبل حجة الوداع في رهط يؤذن في الناس يوم النحر، أن لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان.
__________
وللطبراني عن ابن عباس بعث صلى الله عليه وسلم أبا بكر أميرا على الموسم، وأمره أن يقيم للناس حجهم، فخرج أبو بكر "قبل حجة الوداع" أفاد أنها كانت سنة تسع؛ لأن حجة الوداع كانت سنة عشر اتفاقا، قاله ابن القيم "في رهط" وفي رواية في مؤذنين، أي في جماعة معلمين، وسمى منهم سعد بن أبي وقاص وجابرا، كلاهما عند الطبري كما في الفتح "يؤذن" بفتح الهمزة، وشد المعجمة المكسورة، يعلم الرهط وأبو هريرة على الالتفات، قاله المصنف، أي على رأي بعضهم لا الجمهور إذا كان مقتضى الظاهر أن يقول أؤذن "في الناس يوم النحر".
زاد في رواية بمعنى وهذا اقتباس من قوله تعالى: {وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِه} كما في الفتح وفي البخاري، فكان حميد يقول يوم النحر يوم الحج الأكبر من أجل حديث أبي هريرة "أن لا يحج".
قال المصنف في التفسير: بفتح الهمزة، وشد اللام ونصب يحج بأن ولا نافية، وقال الحافظ: بفتح الهمزة وإدغام النون في اللام "بعد العام" أي الزمان الذي وقع فيه الإعلام بذلك "مشرك" لقوله تعالى: {فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة: 28] ووقع للحافظ في الصلاة أن لا ناهية، فرده العيني وغيره بأن بعده، ولا يطوف، وقال بعضهم: هو اعتراض سهل، أي لأنها وإن كانت نافية لفظا، فهي ناهية معنى، فعليه يحمل قوله ناهية، وكون لا يطوف بعده ليس بمانع؛ لأنه من عطف الخبر على الإنشاء "ولا يطو بالبيت عريان" بنصب يطوف عطف على يحج، قاله الحافظ وغيره ذكر ابن عائذ أنه كان رجال يطوفون منهم عراة ليلا، يعظمون بذلك البيت.
ويقول بعضهم: أطوف بالبيت كما ولدتني أمي ليس على شيء من الدنيا، خالطه الظلم، فكره صلى الله عليه وسلم أن يحج ذلك العام، قال في الفتح قال الطحاوي في كشف الآثار: هذا مشكل لأن الأخبار في هذه القصة تدل على أنه صلى الله عليه وسلم كان بعث أبا بكر بذلك، ثم أتبعه عليًّا، فأمره أن يؤذن، فكيف يبعث أبو بكر أبا هريرة ومن معه بالتأذين مع صرف الأمر عنه في ذلك إلى علي، ثم أجاب مما حاصله أن أبا بكر كان الأمير على الناس في تلك الحجة، وكان علي هو المأمور بالتأذين بذلك، وكأن عليًّا لم يطق التأذين بذلك وحده، واحتاج إلى معين، فأرسل أبو بكر أبا هريرة وغيره ليساعدوه، ثم ساق من طريق محرز بن أبي هريرة عن أبيه قال: كنت مع علي حين بعثه صلى الله عليه وسلم ببراءة أهل مكة، فكنت أنادي معه بذلك حتى يصحل صوتي، وكان هو ينادي قبلي حتى يعبأ، فالحاصل أن مباشرة أبي هريرة لذلك كانت بأمر أبي بكر، وكان ينادي بما يلقيه(4/116)
ثم أردف النبي صلى الله عليه وسلم بعلي بن أبي طالب، وأمره أن يؤذن ببراءة،
__________
إليه علي، مما مر بتبليغه، انتهى.
"ثم أردف" أي أرسل "النبي صلى الله عليه وسلم" أبا بكر "بعلي بن أبي طالب" وفي نسخة من البخاري علي بإسقاط الحرف، وهذا من جملة ما رواه البخاري في الصلاة والتفسير، ولم يروه في هذا الباب وهو ما وقف عليه شيخنا، فتجرأ وقال ليس هو من رواية البخاري، وقد علمت أنه من روايته في موضعين نعم على المؤلف مأخذة لإبهامه أنه من حديث أبي هريرة، والبخاري ومسلم قالا في سياقه، قال حميد بن عبد الرحمن ثم أردف قال الحافظ: هذا القدر من الحديث مرسل؛ لأن حميدا لم يدرك ذلك، ولا صرح بسماعه له من أبي هريرة، لكن ثبت إرسال علي من عدة طرق، فروى الطبري من طريق أبي صالح عن علي: بعث صلى الله عليه وسلم أبا بكر إلى أهل مكة على الموسم، ثم بعثني في أثره، فأدركته الحديث، وكذا رواه عن أبي سعيد، وابن عمر مثله، والترمذي عن ابن عباس مطولا، والطبراني عن أبي رافع وأحمد والترمذي، وحسنه عن أنس انتهى بحروفه.
وذكر ابن سعد وهو في حديث جابر أنه أدركه بالعرج، وقال ابن عائذ: بضجنان بفتح المعجمة، وسكون الجيم ونونين بينهما ألف.
ورواه الطبري عن سعد بعث صلى الله عليه وسلم أبا بكر، فلما انتهينا إلى ضجنان أتبعه عليًّا، "وأمره أن يؤذن ببراءة".
قال الحافظ: مجرور بالفتحة وهو الثابت في الروايات، ويجوز رفعه منونا على الحكاية، وفيه تجوز لأنه أمره أن يؤذن ببضع وثلاثين آية، منتهاها ولو كره المشركون، كما رواه الطبري عن محمد بن كعب وغيره، وعنده عن علي بأربعين آية من أول براءة.
وروى أحمد والترمذي وحسنه عن أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث ببراءة مع أبي بكر، فلما بلغ ذا الخليفة قال: "يبلغها إلا أنا أو رجل من أهل بيتي" فبعث بها مع علي، وروى أحمد والطبري عن علي أنه صلى الله عليه وسلم بعث به مع أبي بكر ليقرأها على أهل مكة، ثم دعاني فقال: "أدرك أبا بكر، فحيثما لقيته فخذ منه الكتاب" فأدركته فأخذته منه، فرجع أبو بكر فقال: يا رسول الله نزل في شيء. قال: "لا أنت صاحبي في الغار، وصاحبي على الحوض، ولكن جبريل قال لي لا يؤدي عنك إلا أنت أو رجل منك".
قال ابن كثير: ليس المراد أنه رجع من فوره بل لما رجع من حجه قلت، ولا مانع من حمله على ظاهره لقرب المسافة انتهى من الفتح في التفسير ملخصا.
وذكر هنا أن ابن إسحاق روى بسند مرسل قال: نزلت براءة، وقد بعث النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر(4/117)
فأذن معنا في أهل منى ببراءة، وأن لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان.
__________
على الحج فقيل: لو بعثت بها إليه فقال: "لا يؤدي عني إلا رجل من أهل بيتي"، ثم دعا عليًّا وقال: "أخرج بصدر براءة وأذن في الناس يوم النحر إذا اجتمعوا بمنى" انتهى، ولم يتنزل في المحلين لجمع ولا ترجيح، كأنه لظهور الترجيح، فإنه رواية نزولها قبل خروج أبي بكر وبعثه بها مسنده مع أن إسنادها حسن بخلاف رواية نزولها بعد خروجه، فمرسله، "فأذن معنا".
قال المصنف في الصلاة: بفتح العين وإسكانها وهذا من الموصول، ففي الصحيح قال أبو هريرة: فأذن معنا علي.
قال الحافظ: وكان حميد بن عبد الرحمن حمل قصة توجه على من المدينة عن غير أبي هريرة وحمل القصة كلها عن أبي هريرة "في أهل منى"، أسقط من رواية الصحيح ما لفظه يوم النحر "ببراءة" بالفتحة نيابة عن الكسرة، كما علمت أنه الرواية والرفع على الحكاية تجويز وجوز الكرماني الكسر مع التنوين، أي بسورة براءة وانتقده شيخنا البابلي، بأن فيه حذف المضاف، وإقامة المضاف إليه وهو قليل قال: ولا يراد أن الإضافة تنافي العلمية؛ لأنه قصد تنكيره، ثم أضيف كقوله:
علا زيدنا يوم النقا رأس زيدكم ... بأبيض ماضي الشفرتين يماني
"وأن لا يحج بعد العام مشرك" قال الكرماني: أي بعد خروج هذا العام لا بعد دخوله.
لكن قال العيني: ينبغي دخول هذا العام أيضا نظرا إلى التقليل، ورد بأن الباقي منه عشرون يوما وأعمال الحج كانت انقضت، وهو سهو؛ لأنه بقي طواف الإفاضة، لمن أخرج إلى قية العشرين، وطواف الوداع "ولا يطوف بالبيت عريان" احتج به الأئمة الثلاثة على وجوب ستر العورة في الطواف خلافا لأبي حنيفة حيث جوز طواف العريان.
قال الكرماني: فيه إشكال لأن عليا مأمور أن يؤذن ببراءة فكيف يؤذن بذلك، ثم أجاب بأنه أذن ببراءة ومن جملة ما اشتملت عليه أن لا يحج بعد العام مشرك من قوله تعالى فيها: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة: 28] ويحتمل أن يكون مر بأن يؤذن ببراء، وبما أمر أبو بكر أن يؤذن به أيضا، ولأحمد من حديث أبي هريرة، وله وللترمذي وصححه من حديث علي أنه سئل بأي شيء بعث في الحجة، قال: بأربع لا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة، ولا يطوف بالبيت عريان، ولا يحج بعد العام مشرك، ومن كان بينه وبين رسول الله عهد فعهده إلى مدته.
زاد الطبري من حديث علي ومن لم يكن له عهد فأربعة أشهر، واستدل به على أن قوله(4/118)
قال: فنبذ أبو بكر إلى الناس في ذلك العام فلم يحج في العام القابل الذي حج فيه فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع مشرك: فأنزل الله تعالى في العام الذي نبذ فيه أبو بكر إلى المشركين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا}
__________
تعالى: {فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} [التوبة: 2] خاص بمن لا عهد له مؤقت، أو لا عهد له أصلا، وعند الطبري عن ابن عباس أن الأربعة أشهر أجل من كان له عهد مؤقت بقدرها أو يزيد عليها، ومن لا عهد له فانقضاؤه سلخ المحرم لقوله: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5] . ومن طريق معمر عن الزهري كان أول الأربعة أشهر شوال عند نزول براءة، وآخرها آخر المحرم، وبه يجمع بين ذكر الأربعة وبين قوله: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ} [التوبة: 5] .
لكن استبعده الطبري من حيث إن بلوغهم الخبر إنما هو عند وقوع النداء به يوم النحر، فكيف: يقال سيحوا أربعة أشهر ولم يبق منها إلا دون شهرين، ثم أسند عن السدي وغير واحد التصريح بأن تمام الأربعة أشهر في ربيع الآخر.
قال العلماء: والحكمة في إرسال علي بعد أبي بكر أن عادة العرب جرت بأن لا ينقض العهد إلا من عقده، أو من هو من أهل بيته، فأجراهم في ذلك على عادتهم، وقيل لأن براءة تضمنت مدح أبي بكر، فأراد أن يسمعوه من غيره، وهذا غفلة من قائله حمله عليها ظنه أن المراد تبليغها كلها، وليس كذلك إنما أمر بتبليغ أوائلها فقط كما مر. انتهى من الفتح، ثم انتهت رواية البخاري هنا في التفسير والصلاة، وزاد في الجزية قوله، "فنبذ" قال الحافظ وغيره: أي طرح "أبو بكر إلى الناس" عقدهم "في ذلك العام، فلم يحج في العام القابل الذي حج فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع مشرك....." قال الحافظ: وقوله: فنبذ إلخ.
هو أيضا مرسل من قول حميد بن عبد الرحمن والمراد أن أبا بكر أفصح لهم بذلك قال المهلب: خشي صلى الله عليه وسلم غدر المشركين، فلذا بعث من ينادي بذلك، وقد قال تعالى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} [الأنفال: 58] أي اطرح إليهم عهدهم، وذلك بأن يرسل إليهم من يعلمهم بأن العهد انقضى.
قال ابن عباس: أي على مثل، وقيل على عدل، وقيل أعلمهم أنك قد جازيتهم حتى يصيروا مثلك في العلم بذلك، وقال الأزهري: المعنى إذا عاهدت قوما فخشيت منهم النقض، فلا توقع بهم بمجرد ذلك حتى تعلمهم، انتهى.
"فأنزل الله تعالى في العام الذي نبذ فيه أبو بكر إلى المشركين" عقدهم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة: 28] {فَلَا يَقْرَبُوا(4/119)
الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة: 28] الآية.
وقد دلت هذه الآية الكريمة على نجاسة المشرك كما في الصحيح "المؤمن لا ينجس" وأما نجاسة بدنه فالجمهور على أنه ليس بنجس البدن والذات وذهب بعض الظاهرية إلى نجاسة أبدانهم، وهذا ضعيف؛ لأن أعيانهم لو كانت نجسة كالكلب والخنزير لما طهرهم الإسلام، ولاستوى في النهي عن دخول المشركين المسجد الحرام وغيره من المساجد
__________
الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} [التوبة: 28] أي لا يدخلوا الحرم كله؛ لأن المسجد الحرام حيث أطلق في القرآن فالمراد به الحرم كله، كما قاله ابن عباس، وابن جبير ومجاهد وعطاء وغيرهم.
رواه ابن أبي حاتم {بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} وهو صريح في منعهم دخوله ولو لم يقصدوا الحج لكن لما كان الحج هو المقصود الأعظم، صرح لهم في الحديث بالمنع منه فقال: أن لا يحج بعد العام مشرك، فيكون ما وراءه أولى بالمنع، كما في الفتح "الآية".
روى ابن جرير وغيره عن سعيد بن جبير وعكرمة وغيرهما، لما نزلت {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا شق ذلك على المسلمين، وقالوا: من يأتينا بالطعام وبالمتاع فنزل: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [التوبة: 28] ، "وقد دلت هذه الآية الكريمة" بالمنطوق "على نجاسة المشرك، كما" دل مفهوم قوله صلى الله عليه وسل في الحديث "الصحيح" الذي خرج الشيخان وأصحاب السنن "المؤمن لا ينجس" في حد ذاته حيا ولا ميتا عند الأكثر، ولذا يغسل إذا مات نعم يتنجس من ترك التحفظ من النجاسات والأقذار، وقد علمت أن التشبيه في مطلق الدلالة وإن اختلفت، والمراد نجاسة اعتقادهم عند الجمهور، "وأما نجاسة بدنه فالجمهور على أنه ليس بنجس البدن والذات" عطف تفسير، بل طاهر وحجتهم أن الله تعالى أباح الكتابيات، ومعلوم أن عرقهن لا يسلم منه من يضاجعهن ومع ذلك فلم يجب عليه من غسل الكتابية الأمثل ما يجب عليه من غسل المسلمة، فدل على الطهارة إذ لا فرق بين النساء والرجال، "وذهب بعض الظاهرية إلى نجاسة أبدانهم" تمسكا بظاهر الآية والحديث، حتى أفرط بعضهم فقال: ينجس الماء بملاقاتهم ويجب الوضوء على كل من صافحهم، "وهذا ضعيف لأن أعيانهم لو كانت نجسة كالكلب والخنزير" عند من قال بنجاستهما "لما طهرهم الإسلام" وهو خلاف الإجماع "ولاستوى في النهي عن دخول المشركين المسجد الحرام" بالرفع فاعل "استوى وغيره من المساجد" مع أن في ذلك خلافا بين الأئمة، فاستدل الشافعي بظاهر الآية على أنهم لا يمنعون من دخول سائر المساجد إن أذن(4/120)
فالمراد: الأخباث لما فيهم من خبث الظاهر بالكفر استوى وخبث الباطن بالعداوة قاله مقاتل.
وروى النسائي عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم لما رجع من عمرة الجعرانة بعث أبا بكر على الحج، فأقبلنا معه حتى إذا كنا بالعرج ثوب بالصبح، فلما استوى للتكبير سمع الرغوة خلف ظهره فوقف على التكبير فقال: هذه رغوة ناقة النبي صلى الله عليه وسلم الجدعاء، لقد بدا لرسول الله صلى الله عليه وسلم في الحج، فلعله أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم فنصلي معه، فإذا.
__________
مسلم لحاجة أو اقتضته مصلحة كقاض ونحوه بالمسجد، وأما غيره فقاس عليه سائر المساجد، وقال أبو حنيفة: لا يمنع الكتابي لتخصيصه بالمشرك فيها وعنه إجازة دخوله للمشرك أيضا، وأن المراد به النهي عن الحج والعمرة ولا الدخول، وحيث كان كذلك، "فالمراد" بقوله نجس "الأخباث لما فيهم من خبث الظاهر بالكفر، وخبث الباطن بالعداوة" للمسلمين، "قاله مقاتل" المفسر المشهور، وقيل: لوجوب اجتناب كما يجتنب عن الأنجاس، وقيل لأنهم لا يتطهرون ولا يجتنبون النجاسة فهم ملابسون لها غالبا.
"وروى النسائي،" والدارمي، والطبري، وابن راهويه وصححه ابنا خزيمة، وحبان كلهم "عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم لما رجع" إلى المدينة "من عمرة الجعرانة" التي اعتمرها سنة الفتح "بعث أبا بكر" أميرا على الحج" من قابل، وطوى ذكر من ولي الحج سنة ثمان، فيزول الإشكال الآتي، كما أفاده الفتح "فأقبلنا معه حتى إذا كنا بالعرج" بفتح المهملة، وإسكان الراء، فجيم قرية على نحو ثمانية وسبعين ميلا من المدينة، وبهذا جزم ابن سعد وعند الطبري عن ابن أبي وقاص أنه بضجنان" ولا منافاة "ثوب" أبو بكر "بالصبح" أي دعا إليها كما في المقدمة، "فلما استوى" قائما "للتكبير" ليحرم بالصبح "سمع الرغوة" بفتح الراء وضمها، وحكى كسرها أيضا صوت بعير "خلف ظهره" وإن لم يصرح القاموس والمصباح بإطلاق الرغوة على صوته لكن القياس يقتضيه؛ لأن اسم المرة من الثلاثي المجرد على فعله، "فوقف على التكبير، فقال: هذه رغوة ناقة النبي صلى الله عليه وسلم الجدعاء" بالدال المهملة، وعند ابن إسحاق من مرسل الباقر القصواء، وروى أيضا العضباء قال المصنف في الجهاد فهذا يصرح أن الثلاثة صفة ناقة واحدة لاتحاد القصة، وبه جزم الحربي، انتهى.
ورواه ابن سعد عن الواقدي: وقال غيره: إنهما اثنتان القصواء، وهي العضباء، والثانية الجدعاء كانت شهباء، وكان لا يحمله صلى الله عليه وسلم عند نزول الوحي غيرها، كما في الفتح، "لقد بدا لرسول الله صلى الله عليه وسلم في الحج، فلعله" أي القادم "أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم فنصلى معه، فإذا(4/121)
علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فقال له أبو بكر رضي الله عنه أمير أم رسول، قال: لا بل رسول، أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم ببراءة أقرؤها على الناس في مواقف الحج، فقدمنا مكة، فلما كان قبل التروية بيوم قام أبو بكر فخطب الناس فحدثهم عن مناسكهم، حتى إذا فرغ قام علي فقرأ على الناس براءة حتى ختمها، ثم خرجنا معه، حتى إذا كان يوم عرفة قام أبو بكر فخطب الناس فعلمهم مناسكهم حتى إذا فرغ قام على فقرأ على الناس براءة حتى ختمها،.
__________
علي بن أبي طالب رضي الله عنه عليها" على الناقة "فقال له أبو بكر رضي الله عنه:" أنت "أمير أم رسول قال: لا" ردا لما توهم، وهو المعطوف عليه فقط، أي لست أميرا، "بل" أنا رسول أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم ببراءة أقرؤها على الناس في مواقف الحج" ولم يكتف بأبي بكر لأمر الله له بذلك، كما سلف معاملة للعرب بسنتهم المألوفة أنه لا يحل العقد، إلا من عقده أو واحد من أهل بيته، فاختار منهم عليًّا؛ لأنه أفضلهم، "فقدمنا مكة، فلما كان قبل التروية" بفتح الفوقية، وسكون الراء، وكسر الواو وخفة التحتية؛ لأنهم كانوا يروون فيهم إبلهم، ويتروون من الماء؛ لأن تلك الأماكن لم يكن فيها آبار ولا عيون، وأما الآن فكثر جدا واستغنوا عن حمل الماء، أو لأن آدم رأى فيه حواء واجتمع بها، أو لأن إبراهيم رأى ليلة ذبح ابنه فأصبح يتروى، أو لأن جبريل أرى إبراهيم فيه المناسك، أو لأن الإمام يعلم الناس فيه المناسك وهي شاذة؛ إذ لو كان من الثاني لكان يوم الرؤية، أو الثالث لكان يوم التروي بشد الواو، أو الرابع لكان من الرؤيا، أو الخامس لكان من الرواية، كما في الفتح.
"بيوم قام أبو بكر فخطب الناس، فحدثهم عن مناسكهم حتى إذا فرغ قام علي" بعد الخطبة ليتم اجتماع الناس، وتعظيما لأبي بكر لكونه الأمير، "فقرأ على الناس براءة حتى ختمها" ثم خرجنا معه حتى إذا كان يوم عرفة قام أبو بكر فخطب الناس، فعلمهم مناسكهم حتى إذا فرغ قام علي فقرأ على الناس براءة حتى ختمها، "ثم كان يوم النحر فأفضنا، فلما رجع أبو بكر خطب الناس، فحدثهم عن إفاضتهم وعن نحرهم وعن مناسكهم، فلما فرغ قام علي فقرأ على الناس براءة حتى ختمها".
وعند الطبري عن أبي الصهباء قال: سألت عليًّا عن يوم الحج الأكبر، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا بكر يقيم للناس الحج، وبعثني بعده بأربعين آية من براءة حتى أتى عرفه، فخطب، ثم التفت إليَّ فقال: يا عليَّ قم فأد رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقمت فقرأت أربعين آية من أول براءة، ثم صدرنا حتى رمينا الجمرة، فطفقت أتتبع الفساطيط أقرؤها عليهم؛ لأن الجميع لم يكونوا حضروا خطبة أبي بكر يوم عرفة، فهذا معارض لقول جابر حتى ختمها.(4/122)
ثم كان يوم النحر، فأفضنا فلما رجع أبو بكر خطب الناس فحدثهم عن إفاضتهم وعن نحرهم وعن مناسكهم، فلما فرغ قام علي فقرأ على الناس براءة حتى ختمها.
فلما كان يوم النفر الأول قام أبو بكر فخطب الناس، فحدثهم كيف ينفرون، وكيف يرمون يعلمهم مناسكهم، فلما فرغ قام عي فقرأ على الناس براءة حتى ختمها.
وهذا السياق فيه غرابة من جهة أن أمير الحج سنة عمرة الجعرانة إنما هو عتاب بن أسيد، أما أبو بكر رضي الله عنه فإنما كان سنة تسع.
__________
قال الحافظ: فيجمع بأن عليًّا قرأها كلها في المواطن المذكورة وأما في سائر الأوقات، فكان يؤذن لا يحج بعد العام، إلخ ويستعين بأبي هريرة وغيره. ا. هـ. فليتأمل فإن جملة المواطن عرفة، وقد صرح علي كما ترى بأنه قرأ فيها أربعين آية، فاللائق تأويل قول جابر حتى ختمها، أي المقصود منها تجوزا، وهو أربعون، فيوافق قول علي؛ لأنه أدرى بما قرأ "فلما كان يوم النفر الأول قام أبو بكر فخطب الناس، فحدثهم كيف ينفرون، وكيف يرمون يعلمهم مناسكهم، فلما فرغ قام علي فقرأ على الناس" أوائل "براءة حتى ختمها".
وحكمة تكريره أربع مرات ما صرح به علي كما سمعت، أن الجميع لم يحضروا خطبة عرفة، ولم يكتف بانتشار الخبر وتنبيهًا على الاعتناء بشأن هذا الأمر حتى كرره بعد الخطب، "وهذا السياق" كما قال الحافظ عماد الدين بن كثير "فيه غرابة من جهة أن أمير الحج سنة عمرة الجعرانة، إنما هو عتاب بن أسيد، فأما أبو بكر رضي الله عنه فإنما كان" أمير الحج "سنة تسع" وقال المحب الطبري نحوه، وقال الحافظ في كتاب التفسير: يمكن رفع الإشكال في قوله: بعث أبا بكر، وقول أبي هريرة: لما قفل النبي صلى الله عليه وسلم من حنين اعتمر من الجعرانة، ثم أمر أبا بكر على تلك الحجة.
أخرجه عبد الرزاق، وصححه ابن حبان، بأن المراد بعد أن رجع إلى المدينة وطوى ذكر من ولى الحج سنة ثمان، فإنه صلى الله عليه وسلم لما رجع من العمرة إلى الجعرانة فأصبح بها توجه هو ومن معه إلى المدينة إلى أن جاء أوان الحج، فأمر أبا بكر سنة تسع، وليس المراد أنه بعثه، أو أمره أن يحج سنة عمرة الجعرانة، وقوله: على تلك الحجة يريد الآتية بعد رجوعهم إلى المدينة انتهى، وهو حسن أولى من قوله هنا كان الطبري تبع الماوردي في قوله: أمر صلى الله عليه وسلم عتابا أن يحج بالناس عام الفتح، والذي جزم به الأزرقي خلافه قال: لم يبلغنا أنه استعمل في تلك السنة على الحج أحدا، وإنما ولى عتابا أمرة مكة وحج المسلمون والمشركون جميعا، وكان المسلمون مع عتاب(4/123)
واستدل بهذه القصة على أن فرض الحج كان قبل حجة الوداع والأحاديث في ذلك شهيرة كثيرة.
وذهب جماعة إلى أن حج أبي بكر هذا لم يسقط عنه الفرض بل كان تطوعا قبل فرض الحج ولا يخفى ضعفه.
__________
لكونه الأمير انتهى لأن الأزرقي إنما نفى أنه بلغه، ولم يطلق النفي، وقد جزم الماوردي وابن كثير والمحب الطبري وغيرهم: بأنه صلى الله عليه وسلم ولى عتابا مكة والحجة سنة ثمان، وتبعهم المصنف في المقصد الثاني: "واستدل بهذه القصة" التي هي حديث أبي هريرة في أرفع الصحيح وحديث جابر وهو صحيح "على أن فرض الحج كان قبل حجة الوداع" إذ لو لم يكن فرضا لما اعتنى ببعث أمير يقيمه للناس وإنما تخلف هو لما ذكر ابن عائذ أن المشركين كانوا يحجون مع المسلمين، ويعلون أصواتهم ليغلطوهم، يقولون: لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك، ويطوف رجال منهم عراة، فكره صلى الله عليه وسلم الحج ذلك العام، فلما دنا علي بذلك قالوا: نبرأ منك ومن ابن عمك إلا من الضرب والطعن، فلما رجعوا أرعبهم الله، فأسلموا طوعا وكرها، "والأحاديث في ذلك شهيرة كثيرة، وذهب جماعة إلى أن حج أبي بكر هذا لم يسقط عنه الفرض" حيث خوطب به بعد، فلم يعتد به فيما وجب عليه، فلا يرد أن السقوط فرع الوجوب وهو لم يجب، فكيف عبر بالسقوط، "بل كان تطوعا قبل فرض الحج ولا يخفى ضعفه" لكثرة الأحاديث الدالة على خلافه والله أعلم.(4/124)
[هلاك رأس المنافقين] :
وفي هذه السنة مات عبد الله بن أبي بن سلول،
__________
هلاك رأس المنافقين:
"وفي هذه السنة" سنة تسع في ذي القعدة بعد الانصراف من تبوك "مات عبد الله بن أبي بن سلول" بفتح المهملة، وضم اللام وسكون الواو، ثم لام ورفع ابن صفة لعبد الله؛ لأنها أمه، وهي خزاعية، وهو خزرجي بعد مرضه عشرين ليلة ابتداؤها من ليال بقيت من شوال.
ذكره الواقدى، ثم الحاكم في الإكليل، ومال بعض أهل الحديث إلى تصحيح إسلامه لصلاة النبي صلى الله عليه وسلم عليه، ولم يقف على جواب شاف فيه، فأقدم على دعوى ذلك، وذهل عن الآيات والأحاديث المصرحة بما ينافي ذلك وهو محجوج بإجماع من قبله على نقيض قوله، وإطباقهم على ترك ذكره في الصحابة مع شهرته وذكرهم من هو دونه في الشرف والشهرة بأضعاف مضاعفة.(4/124)
فجاء ابنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله أن يعطيه قميصه يكفن فيه أباه، فأعطاه، ثم سأله أن يصلي عليه، فقام ليصلي عليه، فقام عمر رضي الله عنه فأخذ بثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله تصلي عليه وقد نهاك ربك أن تصلي عليه،
__________
"فجاء ابنه" عبد الله بن عبد الله الخزرجي من فضلاء الصحابة، وشهد بدرا وما بعدها، واستشهد يوم اليمامة في خلافة أبي بكر، ومن مناقبه أنه بلغه بعض مقالات أبيه في النبي صلى الله عليه وسلم، فجاء ليستأذنه في قتله، فقال: بل أحسن صحبته.
أخرجه ابن منده من حديث أبي هريرة بإسناد حسن قال ابن عمر: لما توفي عبد الله بن أبي جاء ابنه عبد الله "إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم" وعند الطبري من طريق الشعبي لما احتضر جاء ابنه، فقال: يا رسول الله إن أبي احتضر، فأحب أن تشهده وتصلي عليه قال: "ما اسمك"؟ قال: الحباب، فقال: "بل أنت عبد الله الحباب" اسم شيطان وهو بضم المهملة، وموحدتين مخففا، وكأنه كان يحمل أمر أبيه على ظاهر الإسلام، ولا سيما وقد ورد ما يدل على أنه فعل ذلك بعهد من أبيه، "فسأله أن يعطيه قميصه يكفن فيه أباه" وأخرج عبد الرزاق والطبري عن قتادة قال: أرسل عبد الله بن أبي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فلما دخل عليه قال: "أهلكك حب يهود" فقال: يا رسول الله إنما أرسلت إليك لتستغفر لي، ولم أرسل إليك لتوبخني، ثم سأله أنه يعطيه قميصه يكفن فيه فأجابه، وهذا مرسل مع ثقة رجاله، ويعضده ما أخرجه الطبراني عن ابن عباس لما مرض ابن أبي جاءه صلى الله عليه وسلم فكلمه فقال: قد فهمت ما تقول فأمنن عليَّ فكفني في قميصك وصل عليَّ، ففعل "فأعطاه، ثم سأله أن يصلي، فقام ليصلي عليه".
وفي حديث ابن عباس عن عمر في الصحيح: فلما قام وثبت إليه، فقلت يا رسول الله أتصلي عليه، وقد قال يوم كذا، كذا، وكذا أعدد عليه قوله يشير إلى مثل قوله لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا، وقوله ليخرجن الأعز منها الأذل، "فقام عمر رضي الله عنه، فأخذ بثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله تصلي" وفي رواية أتصلي بإثبات همزة الاستفهام الإنكاري "عليه وقد نهاك ربك أن تصلي عليه" استشكل جدا إطلاق النهي عن الصلاة؛ إذ لم يتقدم نهي عنها، كما دل عليه قوله آخر الحديث، فأنزل الله حتى قال بعضهم هو وهم من بعض رواته وعاكسه غيره، فزعم أن عمر اطلع على نهي خاص في ذلك، وقال القرطبي: لعل ذلك وقع في خاطر عمر من قبل الإلهام، ويحتمل أنه فهمه من قوله: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 113] انتهى.
والثاني أقرب؛ لأنه لم يتقدم نهي، والذي يظهر أن في هذا الحديث تجوزا بينته رواية البخاري من وجه آخر بلفظ، فقال: تصلي عليه وهو منافق وقد نهاك الله أن تستغفر لهم، وعند(4/125)
فقال صلى الله عليه وسلم: "إنما خيرني الله عز وجل قال": {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [التوبة: 80] .
__________
الطبري وعبد بن حميد عن عمر، فقلت: والله ما أمرك الله بهذا لقد قال: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ {إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [التوبة: 80] ، وكأنه فهم من الآية ما هو الأكثر الأغلب في لسان العرب أن أو ليست للتخيير، بل للتسوية في عدم الوصف، أي أن الاستغفار وعدمه، سواء كقوله: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} ، لكن الثانية أصرح، وأن سبعين مبالغة، والمراد نفي المغفرة، ولو كثر لاستغفار فلا مفهوم للعدد، وأن المقصود الأعظم من الصلاة طلب المغفرة للميت والشفاعة.
هذا تقرير ما صدر من عمر مع شدة صلابته في الدين، وكثرة بغضه للمنافقين، فلذا أقدم على ما قال ولم يلتفت إلى احتمال إجرائه على ظاهر لما غلب عليه من الصلابة المذكورة، قال ابن المنير: إنما قاله عمر عرضا ومشورة، لا إلزاما وله بذلك عوائد، ولا يبعد أنه صلى الله عليه وسلم كان أذن له في مثل ذلك، فليس باجتهاد مع وجود النص، كما زعم، بل أشار بما ظهر له فقط، ولذا احتمل منه أخذه بثوبه ومخاطبته له في مثل المقام حتى التفت إليه مبتسما، "فقال صلى الله عليه وسلم: إنما خيرني الله عز وجل" بين الاستغفار وتركه، "فقال: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} " [التوبة: 80] واستشكل فهم التخيير من الآية حتى أقدم جماعة من الأكابر على الطعن في صحة هذا الحديث مع كثرة طرقه، واتفاق الشيخين وسائر الذين خرجوا الصحيح عن صحته، وذلك ينادي على منكري صحته، كالباقلاني، وإمام الحرمين والغزالي والداودي بعدم معرفة الحديث، وقلة الاطلاع على طرقه. وأجيب بأن العمل بالبقاء على حكم الأصل مع فهم المبالغة لا يتنافيان فجوز حصول المغفرة بالزيادة على السبعين لا أنه جازم بذلك ولا يخفى ما فيه، وبأن المنهي عنه استغفار ترجي إجابته بخلافه لمثل ابن أبي، فإنه تطييب لقلوب من بقي وليس بمضي كقول، الزمخشري: إن قلت كيف خفي على أفصح الخلق، وأخبرهم بأساليب الكلام، وتمثيلاته أن المراد بهذا العدد أن الاستغفار ولو كثر لا يجدي، ولا سيما وقد تلاه قوله ذلك: {بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة: 80] فبين الصارف عن المغفرة لهم، قلت: لم يخف عليه ذلك لكنه فعل ما فعل، وقال ما قال إظهارا لغاية رحمته ورأفته على من بعث إليه كقول إبراهيم: {وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [إبراهيم: 36] . وفي إظهاراه الرأفة المذكورة لطف بأمته وباعث على رحمة بعضهم بعضا، وتعقبه ابن المنير، فقال: لا يجوز نسبة ما قاله إلى الرسول لأخبار الله أنه لا يغفر له، فطلبها لهم مستحيل، ولا يقع(4/126)
وسأزيد على السبعين قال: إنه منافق:
فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُم
__________
منه عليه الصلاة والسلام، والجواب الجيد أن النهي عن الاستغفار لمن مات مشركا لا يستلزم النهي عنه لمن مات مظهرا للإسلام لاحتمال أن يكون صحيحا، ولا ينافيه بقية الآية لجواز أن الذي نزل أولا إلى قوله تعالى: {فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُم} [التوبة: 80] الآية، بدليل تمسكه صلى الله عليه وسلم به وقوله إنما خيرني تمسكا بالظاهر على ما هو المشروع في الأحكام، إلى أن يقوم الدليل الصارف عن ذلك، فلما وقعت هذه القصة، كشف الله الغطاء، ونادى عليهم بعد ذلك بأنهم كفروا بالله، وبهذا يرتفع الإشكال، "وسأزيد على السبعين".
ولعبد بن حميدة، عن قتادة والطبري، عن مجاهد وهو ابن أبي حاتم عن عروة: فوالله لأزيدن على السبعين.
وعند الطبراني من مرسل الشعبي فأنا استغفر سبعين وسبعين وسبعين، وهي وإن كانت مراسيل يعضد بعضها بعضا، فلا يصح جواب من أجاب عن الإشكال بأنه قاله استمالة لقلوب عشيرته لا أنه إن زاد يغفر له، ولا أنه زاد لثبوت الرواية بأنه سيزيد ووعده صادق ولا سيما وقد قال: لأزيدن بصيغة المبالغة في التأكيد "قال" عمر: "إنه منافق" لما كان يطلع عليه من أحواله، "فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم" ولم يأخذ بقول عمر إجراء له على ظاهر حكم الإسلام واستصحبا لظاهر الحكم والإكرام ولده الذي تحقق صلاحه، واستئلافا لقومه، ودفعا للمفسدة، ولا سيما وقد كان ذلك قبل نزول النهي الصريح عن الصلاة على المنافقين.
وفي رواية للبخاري فصلينا معه، ففيه كما قال الحافظ أبو نعيم: أن عمر ترك رأي نفسه، وتابعه صلى الله عليه وسلم، وقد ورد ما يدل على أنه أطال في حال الصلاة عليه من الاستغفار له، فذكر الواقدي: أن مجمع بن جارية قال: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أطال على جنازة قط ما أطال على جنازة عبد الله بن أبي من الوقوف، وفي حديث ابن عباس عن عمر عند ابن إسحاق، ومشى معه حتى قام على قبره حتى فرغ منه.
قال الخطابي، وتبعه ابن بطال: إنما فعل ذلك لكمال شفقته على من تعلق بطرف من الدين ولتطييب قلب ولده الرجل الصالح، ولتألف الخزرج لرياسته فيهم، فلو لم يجب سؤال ابنه، وترك الصلاة عليه قبل ورود النهي الصريح لكان سبة على ابنه وعارا على قومه فاستعمل صلى الله عليه وسلم أحسن الأمرين في السياسة إلى أن كشف الله الغطاء، "فأنزل الله تعالى" وفي حديث ابن عباس في الصحيح، فصلى عليه ثم انصرف، فلم يمكث إلا يسيرا حتى نزلت: " {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ} " [التوبة: 84] . قال البيضاوي: المراد من الصلاة الدعاء للميت والاستغفار له، وهو(4/127)
مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ} [التوبة: 84] رواه الشيخان والنسائي.
__________
ممنوع في حق الكافر، ولذا رتب النهي على قوله: " {مَاتَ أَبَدًا} " [التوبة: 84] ، يعني على الكفر، فإن إحياء الكافر للتعذيب دون التمتع، فكأنه لم يحي " {وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ} " [التوبة: 84] .
قال قتادة: فذكر لنا أنه صلى الله عليه وسلم قال: "وما يغني عنه قميصي من الله وأنه لأرجو أن يسلم بذلك ألف من قومه".
أخرجه الطبراني زاد مسدد، فترك الصلاة عليهم وفي رواية ابن إسحاق عن عمر فما صلى على منافق بعده حتى قبضه الله، زاد ابن جرير ولا قام على قبره، وظاهر الآية أنها نزلت في جميع المنافقين، لكن ورد ما يدل على أنها نزلت في عدد معين منهم.
قال الواقدي: أخبرنا معمر عن الزهري قال: قال حذيفة قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني مسر إليك سرا فلا تذكره لأحد إني نهيت أن أصلي على فلان وفلان" رهط ذوي عدد من المنافقين، قال: فلذلك كان عمر إذا أراد أن يصلي على أحد استتبع حذيفة، فإن مشى معه وإلا لم يصل عليه. ومن طريق آخر عن جبير بن مطعم أنهم اثنا عشر رجلا ولعل حكمة اختصاصهم علم الله أنهم يموتون على الكفر بخلاف من سواهم فأنهم تابوا.
وروى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة لما نزلت: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [المنافقون: 6] ورجاله ثقات مع إرساله، ويحتمل أن كون الآيتان معا نزلتا في ذلك، انتهى جميعه ملخصا من فتح الباري خلا ما نقلته عن البيضاوي.
وفي شرح المصنف قد روى: أن ألفا من الخزرج أسلموا لما رأوه يستشفع بثوبه، ويتوقع اندفاع العذاب عن هذا، وعجيب من الشارح مع زيادة فطنته، وشدة حذقه كيف كتب على قول المصنف، فصلى عليه.
هذا حكاه البيضاوي بقيل وصدر بأنه ذهب ليصلي عليه، فنزلت فإذا كان لهم يقف على غيره أفما كان يتنبه لقول المصنف.
"رواه الشيخان والنسائي" بطرق عن ابن عمرو وبنحوه من حديث ابن عباس عن عمر، فأين يقع ما صدر به من مرويهما.
قال البيضاوي: وإنما لم ينه عن التكفين في قميصه؛ لأن الضنة به تخل بالكرم ولأنه كان(4/128)
وفي هذه السنة آلى صلى الله عليه وسلم من نسائه شهرا. وجحش شقه -أي خدش- وجلس في مشربة له درجها من جذوع،
__________
مكافأة لإلباسه العباس قميصه حين أسر ببدر، زاد المصنف لئلا يكون لمنافق عليه منة، وقد أطلت وما تركته أطول.
"وفي هذه السنة" سنة تسع فيما قال بعضهم، وجزم به اليعمري في الحوادث، فتبعه المصنف هنا والذي اقتصر عليه في الفتح لفظه أفاد ابن حبان أن هذه القصة كانت في ذي الحجة سنة خمس من الهجرة انتهى، وبه جزم شيخه ابن الملقن والمصنف في شرح البخاري "آلي" بمدة الهمزة "صلى الله عليه وسلم من نسائه" أي حلف أن لا يدخل عليهن، ففي مسلم أقسم أن لا يدخل على أزواجه "شهرا" وليس المراد به الإيلاء المتعارف بين الفقهاء.
قاله الحافظ وغيره لحرمته، فلا يغفله وإنما المراد اللغوي كقوله تعالى: {وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ} [النور: 22] أي يحلف "وجحش".
قال الحافظ بضم الجيم وكسر المهملة فشين معجمة "شقه" الأيمن، كما في رواية الزهري عن أنس في الصحيحين وفي رواية حميد عن أنس: فجحشت ساقه أو كتفه، وللإسماعيلي انفكت قدمه، وكذا رواه أبو داود، وابن خزيمة عن جابر، ولا منافاة لجواز وقوع الأمرين، وحاصله أن عائشة أبهمت الشكوى، فقالت وهو شاك وبين جابر وأنس السبب، وهو السقوط عن الفرس وعين جابر العلة في الصلاة قاعدا، وهو انفكاك القدم فليس كما قال عياض يحتمل أنه أصابه من السقطة رض منعه من القيام، "أي خدش" وفي الفتح الجحش الخدش أو أشد منه قليلا، والخدش قشر الجلد.
روى الشيخان وغيرهما عن أنس: أنه صلى الله عليه وسلم سقط عن فرس فجحشت ساقه أو كتفه، وآلى من نسائه شهرا، فليس سببه أنه نام على حصير على السرير، فأثر في جسده الخدش، كما توهم من مجرد رواية قوله: فأثر في جسده وإلا فلم يقله أحد، وجلس في مشربة.
قال الحافظ: بفتح الميم، وسكون المعجمة، وضم الراء، ويجوز فتحها أي غرفة عالية "له" في حجرة عائشة كما في حديث جابر، وهو دال على أن الصلاة لم تكن في المسجد، وكأنه عجز عن الصلاة بالناس فيه، فكان يصلي فيها بمن حضر، لكن لم ينقل أنه استخلف، ولذا قال عياض: الظاهر أنه صلى في حجرة عائشة وائتم به من حضر عنده ومن بالمسجد وما قاله محتمل وإن لزم عليه صلاة الإمام أعلى من المأمومين، ومذهب عياض خلافه؛ لأن محله ما لم يكن معه الإمام العالي أحد، وهنا كان معه بعض الصحابة، ويحتمل أيضا أن يكون استخلف، وإن لم ينقل "درجها من جذوع" كذا للأكثر بالتنوين بغير إضافة وللكشميهني من جذوع.(4/129)
فأتاه أصحابه يعودونه فصلى بهم جالسا وهم قيام، فلما سلم قال: "إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا صلى قائما فصلوا قياما، وإذا صلى قاعدا فصلوا قعودا، ولا تركعوا حتى يركع، ولا ترفعوا حتى يرفع".
__________
النخل، "فأتاه أصحابه يعودونه" سمي منهم أنس وجابر وأبو بكر وعمر، "فصلى بهم" زاد في رواية الزهري صلاة من الصلوات.
قال القرطبي اللام للعهد ظاهرا، والمراد الفرض؛ لأنها التي عرف من عاداتهم الاجتماع لها بخلاف النافلة.
وحكى عياض عن ابن القسم: أنها كانت نفلا، وتعقب بأن في رواية جابر عن ابن خزيمة وأبي داود الجزم بأنها فرض ولم أقف على تعيينها إلا في حديث أنس: فصلى بنا يومئذ، فكأنها نهارية الظهر أو العصر، ولأبي داود عن جابر: أنهم عادوه مرتين، فصلى بهم فيهما لكن بين أن الأولى كانت نافلة، وأقرهم على القيام وهو جالس، والثانية فريضة وابتدءوا قياما فأشار إليهم بالجلوس ونحوه للإسماعيلي عن أنس انتهى حال كونه "جالسا وهم قيام" جملة اسمية حالية، كذا في رواية حميد عن أنس.
وفي حديث عائشة في الصحيح: فصلى جالسا، وصلى وراءه قوم قياما فأشار إليهم أن اجلسوا وظاهرهما التعارض.
قال الحافظ: فيجمع بينهما بأن أنسا انتصر على ما آل إليه الحال بعد أمره لهم بالجلوس، وفي رواية الزهري عن أنس، فصلينا وراءه قعودا، والجمع بينهما أنهم ابتدءوا الصلاة قياما فأومأ إليهم بالقعود، فقعدوا فنقل كل من الزهري وحميد أحد الأمرين، وجمعتهما عائشة، وكذا جابر عند مسلم "فلما سلم قال: "إنما جعل الإمام" إماما "ليؤتم" ليفتدى "به" ويتبع، ومن شأن التابع أن يأتي بمثل متبوعه على أثره، فلا يسبقه ولا يساويه "فإذا صلى قائما، فصلوا قياما وإذا صلى قاعدا فصلوا قعودا" في جميع الصلاة لا أن المراد جلوس التشهد وبين السجدتين إذ لو كان مراد لقال: وإن جلس فاجلسوا كما قال ابن دقيق العيد وغره.
وهو محمول على العجز، أي إذا كنتم عاجزين عن القيام كالإمام، أو منسوخ "ولا تركعوا حتى يركع".
قال ابن المنير: مقتضاه أن ركوع المأموم بعد ركوع الإمام إما بعد انحنائه، وإما بأن يسبقه الإمام بأوله، فيشرع فيه بعد أن يشرع، "ولا ترفعوا" رءوسكم من الركوع والسجود "حتى يرفع" رأسه في حديث عائشة والزهري عن أنس "وإذا قال: سمع الله لمن حمده فقولوا ربنا ولك(4/130)
ونزل لتسع وعشرين فقالوا: يا رسول الله إنك آليت شهرا، فقال: "إن الشهر يكون تسعا وعشرين".
__________
الحمد". "ونزل" صلى الله عليه وسلم "لتسع عشرين" يوما مضت من الشهر، ولمسلم عن عائشة، فلما مضت تسع وعشرون ليلة دخل عليَّ أي بأيامها؛ لأن العرب تؤرخ بالليالي، فالأيام تابعة لها، فلا يعارض حديث أم سلمة في الصحيحين فلما مضى تسعة وعشرون يوما غدا أو راح، "فقالوا:" وفي حديث أم سلمة فقل وفي مسلم عن عائشة بدأ بي.
فقلت: "يا رسول الله إنك آليت" حلفت لا تدخل على نسائك "شهرا، فقال: "إن الشهر يكون تسعا وعشرين". وهذا كان كذلك لرواية أن الشهر تسع وعشرون.
قال الخطابي: أل للعهد، أي الشهر المحلوف عليه، وسبب الحلف ما رواه الشيخان وغيرهما عن عائشة: أنه صلى الله عليه وسلم كان يشرب عسلا عند زينب، ويمكث عندها، فتوطأت أنا وحفصة على أيتنا دخل عليها، فلتقل له: أكلت مغافير وهو بفتح الميم والمعجمة فألف ففاء صمغ له رائحة كريهة فدخل على إحداهما فقالت: إني أجد منك ريح مغافير قال: "لا ولكني كنت أشرب عسلا عند زينب بنت جحش فلن أعود له وقد حلفت لا تخبري بذلك أحدا".
وفي الصحيح أيضا من وجه آخر عن عائشة: أن التي شرب عندها حفصة بنت عمر من عكة أهدتها لها امرأة من قومها بمكة، قالت عائشة: ففرت فقلت لسودة إذا دنا منك، فقولي له: ما هذه الريح التي أجد منك وقولي أنت يا صفية ذاك.
وعند ابن مردويه عن ابن عباس أن شربه العسل كان عند سودة، وأن عائشة وحفصة هما اللتان تظاهرتا، فوافق الرواية الأولى، وإن اختلف في صاحبة العسل، فيحمل على التعدد، أو أن كون صاحبة العسل زينب أثبت كما صوبه عياض وغيره لموافقة ابن عباس لها على المتظاهرين، فلو كان حفصة صاحبة العسل لم تقترن بعائشة في المظاهرة، ورجح أيضا بقول عائشة: كنت أنا وسودة، وصفية وحفصة في خرب، وزينب وأم سلمة والباقيات في خرب، فلذا غارت من زينب لكونها من غير خربها.
قال ابن كثير وغيره: وفي ذلك نزل: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَك} [التحريم: 1] على الصحيح وقال الخطابي الأكثر على أن الآية نزلت في تحريم مارية على نفسه، ورجحه الحافظ بما رواه سعيد بن منصور، والضياء في المختارة، والطبراني في عشرة النساء، وابن مردويه والنسائي، ولفظه عن أنس أنه صلى الله عليه وسلم كان له أمة يطأها، فلم تزل به حفصة وعائشة حتى حرمها، فأنزل الله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التحريم: 1] ، على الصحيح وقال الخطابي الأكثر على أن الآية نزلت في تحريم مارية على نفسه، ورجحه الحافظ بما رواه سعيد بن منصور، والضياء في المختارة والطبراني في عشرة النساء، وابن مردويه والنسائي، ولفظه عن أنس أنه صلى الله عليه وسلم كان له أمة يطأها، فلم تزل به حفصة وعائشة حتى حرمها، فأنزل الله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التحريم: 1] .
وأخرج الطبراني بسند ضعيف عن أبي هريرة دخل صلى الله عليه وسلم بمارية بيت حفصة، فجاءت فوجدتها.
معه فقالت: يا رسول الله في بيتي دون بيوت نسائك، قال: "فإنها عليَّ حرام أن أمسها يا حفصة واكتمي هذا عليَّ" فأتت عائشة، فأخبرتها فنزلت الآية قال: ويحتمل أنها نزلت في السببين معا.
قال في اللباب: وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس أنها نزلت في التي وهبت نفسها، وهو غريب وسنده ضعيف والله أعلم.(4/131)
العبث إلى اليمن
...
[البعث إلى اليمن] :
ثم بعث أبا موسى ومعاذا إلى اليمن قبل حجة الوداع. كل واحد منهما على مخلاف. قالوا: واليمن مخلافان،
__________
البعث إلى اليمن:
"ثم بعث" صلى الله عليه وسلم "أبا موسى" عبد الله بن قيس الأشعري، "ومعاذا" هو ابن جبل "إلى اليمن قبل حجة الوداع" هذه ترجمة البخاري، إلا أن المصنف زاد أولها نظرا إلى أنه مقتضى القبلية، ولذا قال الحافظ في كتاب الزكاة، كان البعث إلى اليمن سنة عشر قبل حجه عليه السلام، كما ذكر البخاري في آخر المغازي، وقيل في آخر سنة تسع عند منصرفه صلى الله عليه وسلم من تبوك.
رواه الواقدي وابن سعد عن كعب بن مالك وحكى ابن سعد أيضا: أنه كان في ربيع الآخر سنة عشر، وقيل عام الفتح سنة ثمان، انتهى. وقال هناك كأنه أشار بالتقييد بالقبلية إلى ما وقع في بعض أحاديث الباب، أنه رجع من اليمن فلقي النبي صلى الله عليه وسلم بمكة في حجة الوداع، لكن القبلية نسبية، وعند أهل المغازي أنها كانت في ربيع الآخر سنة تسع، انتهى. فعلى ما نسبه لأهل المغازي، فثم في المصنف للترتيب الذكري، وأما على غيره، فالترتيب حقيقي.
قال الحافظ وبين البخاري في استتابة المرتدين عن أبي موسى سبب بعثه إلى اليمن ولفظه قال: أقبلت ومعي رجلان من الأشعريين وكلاهما سأل يعني أن يستعمله.
فقال: "لن نستعمل على عملنا من أراد ولكن اذهب أنت يا أبا موسى إلى اليمن" ثم أتبعه معاذ بن جبل، انتهى. وكأنه تراحى قليلا فعبر بثم، وإلا فروايات الباب كلها بالواو في البخاري، وهو ظاهر قوله يسرا إلخ.... بخطاب المثنى.
روى البخاري تلو الترجمة عن أبي بردة قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا موسى ومعاذ بن جبل إلى اليمن، وبعث "كل واحد منهما على مخلاف، فكل بالنصب مفعول بعث الثابتة في الرواية التي استعنى المصنف عنها يبعث التي ذكرها أولا لا مرفوع مبتدأ وخبر لأنه وإن جاز لكنه خلاف الرواية "قالوا" كذا في النسخ وهو تصحيف صوابه كما في البخاري قال بالأفراد أي أبو(4/132)
ثم قال: "يسرا ولا تعسرا وبشرا ولا تنفرا". وقال لمعاذ: "إنك ستأتي قوما أهل كتاب، فإذا جئتهم، فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله
__________
بردة "واليمن مخلافان" وهو بموحدة وراء واسمه عامر بن أبي موسى، وهو تابعي، فالحديث مرسل، ولذا عقبه البخاري بطريق أخرى موصولة، ثم قواها بأحاديث "ثم قال" صلى الله عليه وسلم لهما: "يسرا" بتحتية ومهملة من اليسر، أي سهلا "ولا تعسرا" لا تشددا أي عاملا بالرفق في الأمور، فأقيما الأحكام مطابقة للأمر، فأقيما الحدود وأوصلا إلى كل ذي حق حقه، لكن برفق كأنظار معسر، ولا تعملا بالشدة، كالقتل قبل تكرير الدعاء إلى الإسلام، "وبشرا" بموحدة ومعجمة "ولا تنفرا" بالفاء زاد بالبخاري في رواية وتطاوعا، وهذا ظاهر جدا في بعثهما معا.
قال الطبيبي: هو من باب المقابلة المعنوية؛ لأن الحقيقة أن يقال: بشرا، ولا تنذرا وآنسا، ولا تنفرا فجمع بينهما ليعم البشارة، والنذارة والتأنيس والتنفير.
قال الحافظ: ويظهر لي أن النكتة في الإتيان بلفظ البشارة، وهو الأصل، وبلفظ التنفير وهو اللازم وأتى بالذي عده على العكس للإشارة إلى أن الإنذار لا ينفي مطلقا بخلاف التنفير، فاكتفى بما يلزم عن الإنذار وهو التنفير فكأنه قيل إن أنذرتم فليكن بغير تنفير: كقوله تعالى:
{فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا} [طه: 44] قال شيخنا: ولعل قول الطيبي فجمع بينهما أنه لما قابل البشارة بالنهي عن التنفير. علم منه طلب التأنيس ولزم منه عدم التنفير، فلما ذكر النهي عنه كأنه أريد به النهي عن الإنذار، فشملت عبارته الأمر بالتأنيس، والنهي عن الإنذار، انتهى.
وبقية هذا الحديث في البخاري فانطلق كل واحد منهما إلى عمله، الحديث.
وفي البخاري عن ابن عباس قال: "قال" صلى الله عليه وسلم "لمعاذ:" وعند أحمد وأبي يعلى برجال ثقات عن معاذ أنه صلى الله عليه وسلم لما بعثه إلى اليمن خرج يوصيه، ومعاذ راكب ورسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي تحت ظل راحلته. فلما فرغ قال: "يا معاذ إنك عسى أن لا تلقاني بعد عامي هذا، ولعلك أن تمر بمسجدي وقبري" فبكى معاذ لفراقه.
وروى ابن عساكر عنه: أنه صلى الله عليه وسلم مشى معه ميلا، ومعاذ راكب لأمره صلى الله عليه وسلم له بذلك ولأحمد عنه: لما بعثني صلى الله عليه وسلم إلى اليمن قال: "قد بعثتك إلى قوم رقيقة قلوبهم، فقاتل بمن أطاعك من عصاك" "إنك ستأتي قوما أهل كتاب".
قال الحافظ: هو كالتوطئة للوصية ليستجمع عليها؛ لأن أهل الكتاب أهل علم في الجملة، فلا تكون مخاطبتهم كمخاطبة الجهال من عبدة الأوثان، ليس فيه أن جميع من يقدم عليهم أهل كتاب، بل يجوز أن فيهم غيرهم، وخصهم بالذكر تفضيلا لهم على غيرهم، "فإذا جئتهم" قيل عبر بإذا تفاؤلا بحصول الوصول إليهم، $"فادعهم إلى يشهدوا أن لا إله إلا الله،(4/133)
فإذا هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة. فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم
__________
وأن محمدا رسول الله" وفي رواية وأني رسول الله، وفي أخرى فأول ما تدعوهم إليه عبادة الله، ويجمع بينهما بأن المراد بها توحيده وبه الشهادة له بذلك ولنبيه بالرسالة، وبدأ بهما لأنهما أصل الدين لا يصح شيء إلا بهما، فمن كان غيره موحد طولب بكل من الشهادتين على التعيين، ومن كان موحدا طولب بالجمع بين الإقرار بالوحدانية والإقرار بالرسالة، وإن اعتقدوا ما يقتضي الاشتراك أو يستلزمه كالقائل: بأن عزيرا ابن الله أو اعتقدوا التشبيه وطلبوا بالتوحيد لنفي ما يلزم من عقائهم.
وذكر ابن إسحاق في أوئل السيرة: أن أصل دخول اليهودية في اليمن زمن أسعد وهو تبع الأصغر، "فإن هم أطاعوا لك" أي شهدوا وانقادوا وعدي أطاع باللام، وإن تعدى بنفسه لتضمينه معنى انقاد "بذلك".
وفي رواية ابن خزيمة: فإن هم أجابوا لذلك، وفي رواية فإذا عرفوا ذلك، وفيه أن أهل الكتاب ليسوا بعارفين، وإن عبدوا الله وأظهروا معرفته، لكن قال حذاق المتكلمين ما عرف الله من شبهه بخلقه أو أضاف إليه اليد او الولد، "فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة" وفيه أن الوتر ليس بفرض، "فإن هم أطاعوا لك" بأن التزموا فرضها، ويؤيده الأخبار بالفرضية، فتعود الإشارة "بذلك" إليها، أو المراد أطاعوا بفعل الصلاة ورجع بأنهم لو بادروا إلى الامتثال بالفعل كفى ولم يشترط التلفظ بخلاف الشهادتين، فالشرط عدم الإنكار والإذعان للوجوب قاله ابن دقيق العيد، والذي يظهر أن المراد القدر المشترك بينهما، فمن امتثل بالإقرار وبالفعل كفاه أو بهما فأولى.
وفي رواية فإذا صلوا، وفي رواية طاعوا بغير ألف، حكاها ابن التين قائلا إذا امتثل أمره فقد أطاعه، وإذا وافقه فقد طاعه.
قال الأزهري: طاع له انقاد، فإذا مضى لأمره فقد أطاعه، ومنهم من قال: طاع وأطاع بمعنى وحاصله أنه استعمل كل منهما لازما ومتعديا إما بمعنى واحد مثل بدأ الخلق وأبدأه أو دخلت الهمزة للتعدية وفي اللازم للصيرورة، أو ضمن المتعدي معنى فعل لازم؛ لأن كثيرا من اللغويين فسروا أطاع بمعنى لأن. وانقاد وهو اللائق هنا وإن غلب التعدي في الرباعي واللزوم في الثلاثي، وهذا أولى من دعوى أنهما بمعنى لقلته، ومن دعوى أن اللام في الحديث زائدة "فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة" وفي رواية افترض عليهم زكاة في أموالهم "تؤخذ من أغنيائهم" احتج به على أن الإمام يتولى قبض الزكاة وصرفها بنفسه، أو نائبه، فمن امتنع أخذت(4/134)
فترد على فقرائهم؛ فإن هم أطاعوا لك بذلك، فإنك وكرائم أموالهم واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب".
__________
منه قهرا، "فترد على فقرائهم" استدل به لقول مالك وغيره: بإخراج الزكاة في نصف واحد، وبحث فيه ابن دقيق العيد لاحتمال أن ذكر الفقراء لكونهم الغالب، وللمطابقة بينهم وبين الأغنياء.
قال الخطابي: آخر الصدقة عن الصلاة لأنها إنما تجب على قوم دون قوم، ولأنها لا تكرر تكرر الصلاة، وهو حسن وتمامه أن يقال بدأ بالأهم فالأهم، وذلك من التلطف في الخطاب؛ لأنه لو طالبهم بالجميع في أول مرة لم يأمن النفرة.
وقال بعضهم: هو استدلال ضعيف لأن الترتيب في الدعوة لا يستلزم الترتيب في الوجوب، وقد قدمت إحداهما على الأخرى ورتبت الأخرى عليها بالفاء لئلا يلزم من عدم الإتيان بالصلاة إسقاط الزكاة "فإنهم أطاعوا لك بذلك".
وفي رواية فإذا أقروا بذلك "فإياك وكرائم" جمع كريمة، أي نفائس "أموالهم" لأن الزكاة لمواساة الفقراء فلا يناسب ذلك الإجحاف بمال الأغنياء، وكرائم منصوب بفعل مضمر، لا يجوز اظهاره.
قال ابن قتيبة: ولا يجوز حذف الواو، " واتق دعوة المظلوم" أي تجنب الظلم لئلا يدعو عليك المظلوم، وفيه تنبيه على المنع من جميع أنواع الظلم، فالنكتة في ذكره عقب منع أخذ الكرائم الإشارة إلى أن أخذها ظلم.
وقال بعضهم: عطف واتق على عامل إياك المحذوف وجوبا، فالتقدير اتق نفسك أن تتعرض للكرائم، إشارة إلى أنه ظلم لكنه عمم إشارة إلى التحرز عن الظلم مطلقا، "فإنه ليس بينها" وفي رواية بينه، أي الدعاء "وبين الله حجاب" أي صارف يصرفها، ولا مانع، أي أنها مقبولة وإن كان عاصيا، كما في حديث أبي هريرة عند أحمد مرفوعا، دعوة المظلوم مستجابة، وإن كان فاجرا، ففجوره على نفسه، وإسناده حسن، وليس المراد أن لله حجابا يحجبه عن الناس، وقال الطيبي: "اتق دعوة المظلوم" تذييل لاشتماله على الظلم الخاص من أخذ الكرائم وعلى غيره، وقوله: "فإنه ليس بينها وبين الله حجاب" تعليل للاتقاء وتمثيل للدعاء كمن يقصد دار(4/135)
رواه البخاري.
والمخلاف: -بكسر الميم وسكون المعجمة وآخره فاء- بلغة أهل اليمن الكورة والإقليم والرستاق.
وكانت جهة معاذ العليا إلى صوب عدن، وكان.
__________
السلطان متظلما، فلا يحجب.
قال ابن العربي: إلا أنه وإن كان مطلقا فهو مقيد بالحديث الآخر أن الداعي إما أن يعجل له ما طلب، وإما أن يدخل له أفضل منه، وإما أن يدفع عنه من السوء مثله، كما قيد مطلق قوله: أمن يجيب المضطر إذا دعاه، بقوله فيكشف ما تدعون إليه إن شاء هذا، ولم يذكر الصوم والحج مع أن البعث كان في أواخر الأمر، وأجاب ابن الصلاح بأنه تقصير من بعض الرواة، وتعقب بأنه يقضي إلى ارتفاع الوثوق بكثير من الأحاديث لاحتمال الزيادة والنقصان، وقال شيخنا شيخ الإسلام: يعني البلقيني إذا كان الكلام في بيان الأركان لم يخل الشارع منها بشيء كحديث بني الإسلام على خمس، وإذا كان في الدعاء الإسلام اكتفى بالأركان الثلاثة ولو بعد فرض الصوم والحج قطعا؛ لأن الأركان الخمسة اعتقادي وهو الشهادة، وبدني وهو الصلاة، ومالي وهو الزكاة فاقتصر عليها التفرع الركنين الأخيرين عليها، فإن الصوم بدني محض، والحج بدني ومالي، وأيضا فكلمة الإسلام هي الأصل، وهي شاقة على الكفار، والصلوات شاقة لتكررها، والزكاة شاقة لما في جبلة الإنسان من حب المال، فإذا أذعن لهذه الثلاثة كان ما سواها أسهل عليه بالنسبة إليها، انتهى من فتح الباري جميعه ملخصا.
"رواه" أي المذكور من حديثي أبي بردة وابن عباس "البخاري" وكذا رواهما مسلم وغيره، ويقع في بعض نسخ المصنف إسقاط الصلاة، وهو خطأ نشأ عن سقط لغزوه للبخاري، وهي ثابتة فيه، فيسقط زعم أنها لم تذكر لأنها بدنية قد لا يشح بها، ومألوفة لأهل الكتاب لأنهم يصلون غايته أنهم يغيرونها على صفة أخرى، وهو سهل لأنه يوهم أن الشارع لم يذكرها وهو خطأ؛ لأنه ذكرها عليه السلام، "والمخلاف" كما في الفتح "بكسر الميم، وسكون" الخاء، "المعجمة وآخره فاء" هو "بلغة أهل اليمن الكورة"، بضم الكاف الناحية ويطلق على المدينة، كما في المصباح "والإقليم والرستاق".
قال الحافظ: بضم الراء، وسكون المهملة بعدها فوقية وآخره قاف، انتهى.
قال في المصباح معرب يستعمل في الناحية التي هي طرف الإقليم والرزداق، بالزاي والدال مثله، والجمع رساتيق ورزاديق، "وكانت جهة معاذ العليا إلى صوب" جهة "عدن، وكان(4/136)
من عمله الجند -بفتح الجيم والنون- وله بها مسجد مشهور. وكانت جهة أبي موسى السفلى.
__________
من عمله" أي معاذ "الجند، بفتح الجيم، و" فتح "النون" آخره دال مهملة، بلد باليمن ويقع في نسخة من عمل بإسقاط الضمير، وهي خطأ مخالفة للفتح لاقتضائها أن عدن من أعمال الجند، وهو خلاف الواقع، وأيضا المصنف نفسه حيث جعل محل معاذ صوب عدن، فهي مشهورة قصد بها التعريف، قرره شيخنا "وله بها" لمعاذ بالجندي "مسجد مشهور" إلى اليوم، كما قال الحافظ قال: واتفقوا على أن معاذا لم يزل على اليمن إلى أن قدم في عهد أبي بكر، ثم توجه إلى الشام، فمات بها، واختلف هل كان معاذ واليا أو قاضيا، فجزم ابن عبد البر بالثاني، والغساني بالأول، وقد دل حديث ابن عباس على أنه: كان أميرا على المال، وحديث عمرو بن ميمون أنه كان أميرا على الصلاة، انتهى. وكأنه عنى ترجيح أنه كان واليا، "وكانت جهة أبي موسى موسى السفلي"، واستدل به على أن أبا موسى كان عالما فطنا حاذقا، ولولا ذلك لم يوله النبي صلى الله عليه وسلم الإمارة، ولو كان فوض الحكم لغيره لم يحتج إلى توصيته بما وصاه به، ولذلك اعتمد عليه عمر، ثم عثمان ثم علي، وأما الخوارج، والروافض فنسبوه إلى الغفلة وعدم الفطنة لما صدر منه في التحكيم بصفين.
قال ابن العربي وغيره: والحق أنه لم يصدر منه ما يقتضي وصفة بذلك، وغاية ما وقع منه أنه أداه اجتهاده إلى أن يجعل الأمر شورى بين من بقي من الصحابة من أهل بدر ونحوهم لما شاهد من الاختلاف الشديد بين الطائفتين بصفين، فآل الأمر إلى ما آل إليه ذكره في الفتح والله أعلم.(4/137)
[بعث خالد إلى نجران] :
ثم أرسل خالد بن الوليد رضي الله عنه قبل حجة الوداع أيضا، في ربيع الأول سنة عشر -وفي الإكيل: في ربيع الآخر، وقيل: في جمادي الأولى-
__________
بعث خالد إلى نجران:
"ثم أرسل خالد بن الوليد رضي الله عنه قبل حجة الوداع أيضا في ربيع الأول سنة عشر، وفي الإكليل" للحاكم "في ربيع الآخر، وقيل في جمادى الأولى" سنة عشر، وهو الذي في ابن إسحاق في الوفود، ولفظه في شهر ربيع الآخر، أو جمادى الأولى سنة عشر، وتبعه اليعمري والمصنف في الوفود وغيرهما، وأو يحتمل أنها للشك، أو إشارة إلى قولين متساويين(4/137)
إلى بني عبد الدان قبيلة بنجران فأسلموا.
__________
إلى بني عبد المدان" بوزن سحاب اسم صنم.
قال في الروض: واسم عبد المدان عمرو بن الديان، واسم الديان يزيد بن قطن بن زياد بن الحارث بن مالك بن ربيعة بن كعب بن الحارث بن كعب "قبيلة" يقال لها: بنو الحارث "بنجران" موضع باليمن سمي بنجران بن زيد بن سبأ، "فأسلموا" قال ابن إسحاق: أمر صلى الله عليه وسلم خالدا أن يدعوهم إلى الإسلام قبل أن يقاتلهم ثلاثا، فإن استجابوا فاقبل منهم، وإن لم يفعلوا، فقاتلهم، فخرج حتى قدم عليهم فبعث الركبان يضربون في كل وجه ويدعون إلى الإسلام، ويقولون أيها الناس أسلموا تسلموا، فأسلموا ودخلوا فيما دعوا إليه، فأقام خالد يعلمهم الإسلام والكتاب والسنة، وبذلك كان أمره إن هم أسلموا ولم يقاتلوا، ثم كتب إليه السلام بذلك، فكتب إليه صلى الله عليه وسلم أن يقدم ومعه وفدهم، فقدموا فأمر عليهم قيس بن الحصين، فرجعوا إلى قومهم في بقية شوال أو صدر ذي القعدة ويأتي إن شاء الله تعالى بسط ذلك في الوفود بعون الله.
زاد الشامي هنا سرية المقداد بن الأسود إلى أناس من العرب، وقال: روى البزار، والطبراني والدارقطني والضياء عن ابن عباس: بعث صلى الله عليه وسلم سرية فيها المقداد، فلما أتوا القوم وجدوهم قد تفرقوا، وبقي رجل له مال كثير لم يبرح، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له فقتله المقداد فلامه رجل من الصحابة، ثم أخبره صلى الله عليه وسلم لما قدموا فقال: "أقتلت رجلا يقول لا إله إلا الله، فكيف لك بها غدا"، فأنزل الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} ، إلى قوله {كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ} انتهى. وليس في قوله بعث سرية فيها المقداد أنه أميرها، بل ظاهره أنه ليس الأمير، فلا تعد سرية مستقلة، فيحمل على أن المقداد كان في أحد السرايا السابقة مع غيره، ثم نزول الآية في مخالف لما سبق من نزولها في غيره والله تعالى أعلم.(4/138)
[بعث علي إلى اليمن] :
ثم أرسل علي بن أبي طالب رضي الله عنه إلى اليمن في شهر رمضان، سنة عشر.
__________
بعث علي إلى اليمن:
"ثم أرسل علي بن أبي طالب رضي الله عنه إلى اليمن" قال ابن سعد: يقال مرتين إحداهما "في شهر رمضان سنة عشر" من الهجرة، وهي الثانية كما جزم به الشامي. وأفاد أن الأولى بعثه إلى همدان، وبه صرح في فتح الباري، كما يأتي، فوهم من ترجى أنها سريته إلى الفلس المتقدمة؛ لأن تلك إلى بلاد طيء لهدم صنمهم والغارة عليهم، كما مر لا إلى جهة(4/138)
من الهجرة، وعقد له لواء وعممه بيده.
وأخرج أبو داود وأحمد والترمذي من حديث علي قال: بعثني النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن فقلت: يا رسول الله تبعثني إلى قوم أسن مني وأنا حديث السن لا أبصر القضاء. قال: فوضع يده في صدري وقال: "اللهم ثبت لسانه واهد قلبه"، وقال: "يا علي إذا جلس إليك الخصمان، فلا تقض بينهما حتى تسمع من الآخر" الحديث.
فخرج في ثلاثمائة، ففرق أصحاب فأتوا بنهب
__________
اليمن، "وعقد له لواء".
قال الواقدي: أخذ عمامته، فلفها مثنية مربعة، فجعلها في رأس الرمح، ثم دفعها إليه، "وعممه بيده" عمامة ثلاثة أكوار، وجعل له ذراعا بين يديه، وشبرا من ورائه، وقال له: "امض ولا تلتفت"، فقال علي: يا رسول الله ما أصنع، قال: "إذا نزلت بساحتهم، فلا تقاتلهم حتى يقاتلوك وادعهم إلى قول لا إله إلا الله، فإن قالوا نعم، فمرهم بالصلاة، فإن أجابوا فلا تبغ منهم غير ذلك، والله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك مما طلعت عليه الشمس أو غربت".
ذكره الواقدي: "وأخرج أبو داود وأحمد والترمذي من حديث علي قال: بعثني النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن، فقلت: يا رسول الله تبعثني إلى قوم أسن مني وأنا حديث السن لا أبصر" يجوز فتح الهمزة وضم الصاد، أي لا أعلم "القضاء" وضم الهمزة وكسر الصاد، أي لا أراه بتنزيل المعقول منزلة المحسوس "قال" علي: "فوضع يده" المباركة "في صدري" أي عليه، "وقال: "اللهم ثبت لسانه" بشد الباء، أي اجعله مستقرا دائما على النطق بالحق "واهد قلبه" بهمزة وصل، أضاف الثبات للسان لتحركه عند النطق، فناسب الثبات بمعنى القرار والهداية للقلب؛ لأن المراد بها خلق الاهتداء فيه، "وقال" صلى الله عليه وسلم: "يا علي" النسخ الصحيحة بإثبات ياء النداء، ومثلها في الفتح، وفي نسخة بحذف أداة النداء، لكن الرواية بإثباتها "إذا جلس إليك الخصمان، فلا تقض بينهما" وفي رواية "فلا تقض لأحدهما" " حتى تسمع من الآخر" كما سمعت من الأول، فإنك إذا فعلت ذلك تبين لك القضاء، هذا تمام "الحديث" عند المذكورين.
وفي رواية لأبي داود وغيره قال علي: والله ما شككت في قضاء بين اثنين، "فخرج" كما قال ابن سعد وشيخه علي وعسكر بقناة بفتح القاف والنون الخفيفة، كما أمره حتى تمام أصحابه "في ثلاثمائة فارس"، قالا: وكانت أول خيل دخلت تلك البلاد، وهي بلاد مذحج، "ففرق" لما انتهى إلى تلك الناحية "أصحابه فأتوا بنهب" قال البرهان: بفتح النون بلا خلاف نص عليه غير واحد، وسمعت بعض الطلبة، بكسرها ولا أعرفه، ولا سمعته انتهى. وهو الغلبة والقهر، كما في(4/139)
وغنائم ونساء وأطفال ونعم وشاء وغير ذلك، ثم لقي جمعهم فدعاهم إلى الإسلام فأبوا. ورموا بالنبل، ثم حمل عليهم علي بأصحابه فقتل منهم عشرين رجلا فتفرقوا وانهزموا فكف عن طلبهم، ثم دعاهم إلى الإسلام فأسرعوا وأجابوا، وبايعه نفر من رؤسائهم على الإسلام وقالوا نحن على من وراءنا من قومنا، وهذه صدقاتنا فخذ منها حق الله.
__________
المصباح فهو هنا بمعنى المنهوب؛ لأنه الذي يؤتى به لا نفس الغلبة، كما هو ظاهر "وغنائم" تفسير للمنهوب لقول ابن سعد بنهب غنائم.
قال في النور: بدل مما قبله وساقه الشامي بالواو كالمصنف، ثم قال: إنه يدل مما قبله، ولا يصح لوجود الواو فكأنه كتب كلام النور أو زادت عليه الواو سهوا، "ونساء، وأطفال، ونعم وشاء وغير ذلك" بيان الغنائم قال ابن سعد: وجعل علي على الغنائم بريدة بن الحصيب الأسلمي، فجمع إليه ما أصابوا "ثم لقي جمعهم، فدعاهم إلى الإسلام فأبوا ورموا" المسلمين "بالنبل" والحجارة، "ثم" بعد أن خرج رجل من مذحج يدعو إلى البراز فبرز إليه الأسود بن خزاعي، فقتله الأسود وأخذ سلبه "حمل عليهم علي بأصحابه" بعد أن صفهم ودفع لواءه إلى مسعود بن سنان الأسلمي، "فقتل منهم عشرين رجلا فتفرقوا، وانهزموا فكف عن طلبهم" قليلا، "ثم" لحقهم حتى "دعاهم إلى الإسلام" فلا يرد أنه كيف يدعوهم بعد تفرقهم وكفه عن طلبهم أو لعلهم اجتمعوا بعد التفرق، وأتوا إليه فدعاهم، "فأسرعوا وأجابوا، وبايعه نفر من رؤسائهم على الإسلام، وقالوا نحن على من وراءنا من قومنا، وهذه صدقاتنا فخذ منها حق الله"، وجمع على الغنائم فجزأها على خمسة أجزاء فكتب في سهم منها لله، وأقرع عليها فخرج أول السام سهم الخمس، وقسم على أصحابه بقية الغنم.
ذكره ابن سعد وشيخه قال اليعمري: ويشبه أن هذه السرية هي الثانية والأولى هي ما ذكر شاط، قال وفي حديث أنه: صلى الله عليه وسلم بعث علينا إلى اليمن وذلك في رمضان سنة عشر فأسلمت همدان كلها في يوم واحد، فكتب بذلك إليه صلى الله عليه وسلم، فخر لله ساجدا، ثم جلس فقال: السلام على همدان، وتتابع أهل اليمن على الإسلام، انتهى. وهو واضح لكن التاريخ وهم لاتحاده مع ما قال إنه الثانية كما ترى، فالأولى قول الحافظ لما شرح ما أخرجه البخاري عن البراء: بعثنا صلى الله عليه وسلم مع خالد إلى اليمن، ثم بعث عليًّا بعد ذلك مكانه، فقال: "مر أصحاب خالد من شاء منهم أن يعقب معلك، فليعقب ومن شاء فليقبل"، فكنت فيمن عقب معه فغنمت أواقي ذوات عدد.
زاد الإسماعيلي: فلما دنونا من القوم خرجوا إلينا فصلى بنا علي، وصفنا صفا واحدا، ثم تقدم بين أيدينا، فقرأ عليهم كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأسلمت همدان جميعا، فكتب علي إلى(4/140)
ثم قفل فوافى النبي صلى الله عليه وسلم بمكة قد قدمها للحج سنة عشر.
__________
رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسلامهم، فلما قرأ الكتاب خر ساجدا، ثم رفع رأسه وقال: "السلام على همدان"، وكان البعث بعد رجوعهم من الطائف، وقسمه الغنائم بالجعرانة انتهى. فهو صريح في أن البعث الأول كان في أواخر سنة ثمان، وأنه إلى همدان، والثاني كان في رمضان سنة عشر إلى مذحج، كما ذكر ابن سعد وغيره، وأنها أول خيل أغارت عليهم لاختلاف الجهة، وأن جمع الكل اسم اليمن، ويؤيده أن في رواية البيهقي عن البراء: فأقمنا ستة أشهر ندعوهم إلى الإسلام، فلم يجيبوا، ثم بعث عليًّا مكان خالد، فذكر الحديث قالوا: ثم أقام علي فيهم يقرئهم القرآن، ويعلمهم الشرائع، وكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابا بخبره مع عبد الله بن عمرو بن عوف المزني، فأتاه فأمره صلى الله عليه وسلم أن يوافيه الموسم، فانصرف عبد الله، فأخبر عليًّا بذلك، "ثم قفل" علي، "قوافي النبي صلى الله عليه وسلم بمكة قد قدمها للحج سنة عشر" وتعجل وخلف على أصحابه، والخمس أبا رافع، وكان في الخمس من ثياب اليمن أحمال معكومة، ونعم وشاء مما غنموا، ومن صدقات أموالهم، فسأل أصحاب علي أبا رافع أن يكسوهم ثيابا يحرمون فيها، فكساهم ثوبين ثوبين، فلما كانوا بالسدرة داخلين خرج علي ليتلقاهم ليقدم بهم فرأى الثياب على أصحابه، فنزعها فشكوه للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "ما لأصحابك يشكونك"؟ قال قسمت عليهم ما غنموا، وحبست الخمس، حتى يقدم عليك فترى فيه رأيك، فسكت صلى الله عليه وسلم والله أعلم.(4/141)
[حجة الوداع] :
ثم حج صلى الله عليه وسلم حجة الوداع،
__________
حجة الوداع:
"ثم حج صلى الله عليه وسلم حجة" قال الحافظ: بكسر المهملة، وفتحها.
"الوداع" بكسر الواو وفتحها قال المصنف: سميت بذلك لأنه صلى الله عليه وسلم ودع الناس فيها وبعدها انتهى. وفي الصحيحين وغيرهما عن ابن عمر كنا نتحدث بحجة الوداع والنبي صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا، ولا ندري ما حجة الوداع الحديث.
قال الحافظ: كأنه شيء ذكره صلى الله عليه وسلم، فتحدثوا به وما فهموا أن المراد به وداعه، حتى توفي بعدها بقليل، فعرفوا المراد وأنه ودع الناس بالوصية التي أوصاهم بها أن لا يرجعوا بعده كفارا، وأكد التوديع بإشهاد الله عليهم بأنهم شهدوا أنه قد بلغ ما أرسل إليهم به، فعرفوا حينئذ المراد بقولهم حجة الوداع: وفي رواية للبخاري عن ابن عمر: فودع الناس وروى البيهقي: أن سورة "إذا جاء نصر الله والفتح" نزلت في وسط أيام التشريق، فعرف صلى الله عليه وسلم أنه الوداع فركب واجتمع الناس،(4/141)
وتسمى حجة الإسلام، وحجة البلاغ، وكره ابن عباس أن يقال: حجة الوداع. وكان صلى الله عليه وسلم قد أقام بالمدينة يضحي كل عام ويغزو المغازي، فلما كان في ذي القعدة سنة عشر من الهجرة أجمع على الخروج إلى الحج فتجهز وأمر الناس بالجهاز له.
قال ابن سعد: ولم يحج غيرها منذ تنبأ إلى أن توفاه الله تعالى.
__________
فذكر الخطبة، "وتسمى حجة الإسلام" لأنه لم يحج من المدينة بعد فرض الحج غيرها، كما في حديث جابر أنه صلى الله عليه وسلم مكث تسع سنين لم يحج، ثم أذن في الناس في العاشرة أنه حاج، فقدم المدينة بشر كثير كل يلتمس أن يأتم به.
أخرجه مسلم وغيره "وحجة البلاغ" لأنه بلغ الناس الشرع في الحج قولا وفعلا.
قال المصنف: وتسمى أيضا حجة التمام والكمال انتهى. أي بمجموعهما، لا بكل واحد لنزول قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} الآية، ورسول الله صلى الله عليه وسلم واقف بعرفة، كما في الصحيح عن عمر جوابا لمن قال له من اليهود: لو نزلت فينا لاتخذنا ذلك اليوم عيدا، وفي الترمذي عن ابن عباس أن يهوديا سأله عن ذلك، فقال: فإنها نزلت في يوم عيدين يوم الجمعة ويوم عرفة، "وكره ابن عباس أن يقال حجة الوداع" لإشعاره بكراهة المودع وأسفه على من ودعه، وذلك لا يليق به صلى الله عليه وسلم، ولم يكرهه غيره، بل أطلقوا ذلك عليها فقالت عائشة: خرجنا في حجة الوداع، وقال ابن عمر: أمر صلى الله عليه وسلم أزواجه عام حجة الوداع، وقال سعد بن أبي وقاص: عادني صلى الله عليه وسلم ف حجة الوداع وقال أبو أيوب: أنه صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع صلى المغرب والعشاء جميعا، وقال جرير: أنه صلى الله عليه وسلم قال له: في حجة الوداع: "استنصت الناس" وكلها في الصحيح، بل فيه أيضا عن ابن عباس نفسه: أن امرأة استفتت رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، فكأنه رجع عن الكراهة؛ لأنه لا يلزم من الوصية بتلك الوصايا، والحث عليها المشعر بأنهم لا يجدون من يذكرهم بها بعده أسفه على مفارقتهم، "وكان صلى الله عليه وسلم قد أقام بالمدينة يضحى كل عام" من السنة الثانية من الهجرة قال اليعمري: وفيها ضحى بكبشين أحدهما عن أمته، والآخر عن محمد وآله، "ويغزو المغازي" من حين أذن في القتال: وأراد بها ما يشمل البعوث والسرايا أيضا، "فلما كان في ذي القعدة سنة عشر من الهجرة أجمع على الخروج إلى الحج، فتجهز وأمر الناس بالجهاز له".
قال ابن إسحاق: "قال ابن سعد: ولم يحج غيرها منذ تنبأ إلى أن توفاه الله" كذا أطلق النفي وليس كما قال: ففي فتح الباري حج قبل أن يهاجر مرارا، بل الذي لا ارتياب فيه أنه(4/142)
وفي البخاري عن زيد بن أرقم أن النبي صلى الله عليه وسلم غزا تسع عشرة غزوة، وأنه حج بعدما هاجر حجة واحدة لم يحج بعدها، حجة الوداع.
قال: قال أبو إسحاق: وبمكة أخرى، وقيل: حج بمكة حجتين.
__________
لم يترك الحج، وهو بمكة قط، "وفي البخاري" حدثنا عمرو بن خالد، حدثنا زهير، حدثنا أبو إسحاق، "عن زيد بن أرقم" بن زيد بن قيس الأنصاري، الخزرجي، الصحابي المشهور: "أن النبي صلى الله عليه وسلم غزا تسع عشرة غزوة" مراده التي خرج فيها بنفسه، وتقدم أن جابرا قال: إنها إحدى وعشرون، فخفي على زيد لصغره اثنتان، وعند أصحابه المغازي أنها سبع وعشرون، وجمع بأن من عدها دون ذلك نظر إلى شدة قرب بعض الغزوات لبعض، فيضم واحدة لأخرى، كما تقدم بسط ذلك في أول المغازي. والمقصود من الحديث هنا قوله: "وأنه حج بعدما هاجر حجة واحدة لم يحج بعدها".
قال الحافظ: يعني ولا حج قبلها، يعني بقيد الظرف إلا أن يريد نفي الحج الأصغر، وهو العمرة، فلا لأنه اعتمر قبلها قطعا "حجة الوداع".
قال المصنف: بنصب حجة بدل من الأولى، ويجوز الرفع بتقدير هي.
"قال" زهير بن معاوية، "قال أبو إسحاق" عمرو بن عبد الله السبيعي: بفتح المهملة وكثر الموحدة مكثر ثقة عابد، مات سنة تسع وعشرين ومائة.
روى له الستة قال الحافظ: هو موصول بالإسناد المذكور انتهى. فما وقع في نسخ المواهب ابن إسحاق خطأ؛ لأن البخاري لم يرو لصاحب السيرة محمد "وبمكة أخرى" قال الحافظ: غرض أبي إسحاق أن لقومه بعدما هاجر مفهوما، وأنه قبله حج، لكن قوله أخرى يوهم أنه لم يحج قبل الهجرة إلا واحدة، وليس كذلك، بل حج قبلها مرارا، بل الذي لا ارتياب فيه أنه لم يترك الحج وهو بمكة قط؛ لأن قريشا في الجاهلية لم يكونوا يتركون الحج، وإنما يتأخر منهم من لم يكن بمكة أو عاقه ضعف. وإذا كانوا وهم على غير دين يحرصون على إقامة الحج، ويرونه من مفاخرهم التي امتازوا بها على غيرهم من العرب، فكيف يظن به صلى الله عليه وسلم أنه يتركه، وقد ثبت حديث جبير بن مطعم أنه: رآه عليه السلام في الجاهلية واقفا بعرفة، وأنه من توفيق الله له. وثبت دعاؤه قبائل العرب إلى الإسلام بمنى ثلاث سنين متوالية، كما بينته في الهجرة انتهى. فلا يقبل نفي ابن سعد أنه لم يحج بعد النوبة إلا حجة الوداع؛ لأن المثبت مقدم على النافي، خصوصا وقد صحبه دليل إثبات، ولم يصحب النافي دليل نفيه. "وقيل: حج بمكة حجتين" قبل الهجرة، وحجة بعدها.
أخرجه الترمذي عن جابر وقال ابن عباس: من حج صلى الله عليه وسلم قبل أن يهاجر ثلاث حجج،(4/143)
فهذا بعد النبوة وقبلها لا يعلمه إلا الله.
فخرج صلى الله عليه وسلم من المدينة يوم السبت لخمس ليال بقين من ذي القعدة، وجزم ابن حزم بأن خروجه كان يوم الخميس. وفيه نظر؛ لأن أول ذي الحجة كان يوم الخميس، قطعا، لما ثبت وتواتر وقوفه بعرفة كان يوم الجمعة، فتعين أن أول الشهر كان يوم الخميس، فلا يصح أن يكون خروجه يوم الخميس، بل هو ظاهر الخبر أن يكون يوم الجمعة.
لكن ثبت في الصحيحين عن أنس: صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر بالمدينة أربعا، والعصر بذي الحليفة ركعتين، فدل على أن خروجهم لم يكن يوم الجمعة.
__________
أخرجه ابن ماجه والحاكم.
قال الحافظ: وهو مبني على عدد وفود الأنصار إلى العقبة بمنى بعد الحج، فإنهم قدموا أولا فتواعدوا، ثم ثانيا فبايعوا البيعة الأولى، ثم ثالثا فبايعوا الثانية، وهذا لا يقتضي نفي الحج قبل ذلك، "فهذا بعد النبوة وقبلها لا يعلمه"، أي عدد حجه "إلا الله" وقد أخرج الحاكم بسند صحيح إلى الثورى أن النبي صلى الله عليه وسلم حج قبل أن يهاجر حججا. وقال ابن الجوزي: حج حججا، لا يعرف عددها، وقال ابن الأثير في النهاية: كان يحج كل سنة قبل أن يهاجر انتهى. كلام الفتح، ولخص ذلك كله المصنف في قوله المروي أنه لم يترك وهو بمكة الحج قط انتهى. فقول الشارح أنه مخالف لكلام الفتح فيه نظر ظاهر فأين المخالفة، وأما قوله وقد نقل قول الفتح حج قبل أن يهاجر مرارا ليس فيس تصريح برواية عن حاله بعد الهجرة فعجيب من مثله إذ ليس بعده إلا حجة الإسلام باتفاق، "فخرج صلى الله عليه وسلم من المدينة يوم السبت".
قال ابن هشام: واستعمل عليها أبا دجانة الساعدي: ويقال: سباع بن عرفطة الغفاري "لخمس ليال بقين من ذي القعدة" كما أخرجه البخاري عن ابن عباس، والشيخان عن عائشة، "وجزم ابن حزم بأن خروجه كان يوم الخميس، وفيه نظر لأن أول ذي الحجة كان يوم الخميس قطعا لما ثبت، وتواتر أن وقوفه" صلى الله عليه وسلم "بعرفة كان يوم الجمعة، فتعين أن أول الشهر كان يوم الخميس، فلا يصح أن يكون خروجه يوم الخميس، بل ظاهر الخبر" الصحيح عن ابن عباس وعائشة: "أن يكون يوم الجمعة" لقولهما لخمس ليال بقين من ذي القعدة، فيبقى من ليلة السبت حتى ليلة الأربعاء خمس ليال، "لكن" يدفع هذا الظاهر، أنه "ثبت في الصحيحين عن أنس صلينا مع النبي صلى الله عليه وسلم الظهر بالمدينة أربعا، والعصر بذي الحليفة ركعتين فدل" قوله الظهر بالمدينة أربعا "على أن خروجهم لم يكن يوم الجمعة" فما بقي إلا أن يكون خروجهم يوم(4/144)
ويحمل قول من قال: لخمس بقين، أي إن كان الشهر ثلاثين فاتفق أن جاء تسعا وعشرين فيكون يوم الخميس أول ذي الحجة بعد مضي أربع ليال لا خمس، وبها تتفق الأخبار.
هكذا جمع الحافظ عماد الدين بن كثير بين الروايات، وقوى هذا الجمع بقول جابر: إنه خرج لخمس بقين من ذي القعدة أو أربع.
وصرح الواقدي بأن خروجه صلى الله عليه وسلم كان يوم السبت لخمس ليال بقين من ذي القعدة.
وكان خروجه من المدينة بين الظهر والعصر. وكان دخوله مكة صبح رابعة، كما ثبت في حديث عائشة رضي الله عنها وذلك يوم الأحد. وذلك يؤيد أن خروجه عليه الصلاة والسلام من المدينة كان يوم السبت، كما تقدم، فيكون مكث في الطريق ثمان ليال،
__________
السبت، "و" لا يشكل قولهما أن الباقي خمس ليال بأن الباقي أربع؛ لأنه "يحمل قول من قال: لخمس بقين، أي إن كان الشهر ثلاثين فاتفق أن جاء تسعا وعشرين، فيكون يوم الخميس أول ذي الحجة بعد مضي أربع ليال لا خمس، وبها" أي بهذه المقالة، وفي الفتح وبهذا، أي المذكور من الحمل "تتفق الأخبار".
"هكذا جمع الحافظ عماد الدين بن كثير بين الروايات وقوى" ابن كثير "هذا الجمع بقول جابر:" وهو أحسن الصحابة سياقا لحديث حجة الوداع، فإنه ذكرها من حيث خروجه صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى آخرها، فهو أحفظ لها من غيره "أنه خرج لخمس بقين من ذي القعدة أو أربع" فتردده فيما بقي يؤيد ذلك الجمع.
"وصرح الواقدي بأن خروج عليه الصلاة والسلام كان يوم السبت لخمس بقين من ذي القعدة" وهو مما يقوي الجمع أيضا، "وكان خروجه من المدينة بين الظهر والعصر" فنزل بذي الحليفة، فصلى بها العصر ركعتين، ثم بات وصلى بها المغرب والعشاء والصبح والظهر. وكان نساؤه كلهن معه، فطاف عليهن كلهن تلك الليلة، ثم اغتسل غسلا ثانيا لا حرامة غير غسل الجماع الأول.
ذكره المصنف في الحجة، "وكان دخوله مكة صبح رابعة" من ذي الحجة، "كما ثبت في حديث عائشة رضي الله عنها، وذلك يوم الأحد، وذلك يؤيد أن خروجه عليه الصلاة والسلام من المدينة كان يوم السبت، كما تقدم، فيكون مكث في الطريق ثمان ليال،(4/145)
وهي المسافة الوسطى.
وخرج معه عليه الصلاة والسلام تسعون ألفا، ويقال مائة ألف وأربعة عشر ألفا، ويقال أكثر من ذلك، كما حكاه البيهقي.
ويأتي الكلام على حجة الوداع وما فيها من المباحث في مقصد العبادات إن شاء الله تعالى تكميل.
__________
وهي المسافة الوسطى" المتوسطة بين السير الحثيث والسير البطيء، إلى هنا جلبه المصنف من الفتح من أول قوله: فخرج صلى الله عليه وسلم من المدينة يوم السبت، "وخرج معه عليه الصلاة والسلام تسعون ألفا، ويقال: مائة ألف وأربعة عشر ألفا، ويقال: أكثر من ذلك، كما حكاه البيهقي، وهذا كما ترى في عدة من خرج معه، وأما الذين حجوا فأكثر كالمقيمين بمكة، والذين أتوا من اليمن مع علي وأبي موسى. وفي حديث أن الله وعد هذا البيت أن يحجه في كل سنة ستمائة ألف إنسان، فإن نقصوا كملهم الله بالملائكة.
قال الحافظ في تسديد القوس: هذا الحديث ذكره الغزالي ولم يخرجه شيخنا العراقي، "ويأتي الكلام على حجة الوداع وما فيها من المباحث" بحسب ما أراد "في مقصد العبادات إن شاء الله تعالى" وهو السابع إنما ذكر هنا تاريخها ضرورة التزامه الترتيب على السنين واستطرد لعدم حجه قبلها وعده من حج معه والله أعلم.
تكميل:
ذكر ابن سعد في الوفود أن بني سعد وفدوا وهم تسعة، فبعثهم سرية لعير قريش، وذكر ابن الأثير أن فيهم ميسرة بن مسروق، وأنه لقيه صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، ولعل المراد لحفظ عير قريش؛ لأنها إن كانت في ذا التاريخ فقد أسلموا، فلا يبعث لأخذ عيرهم، وعند أحمد عن رعية السحيمي، بكسر الراء، وسكون المهملة وتحتية: أنه صلى الله عليه وسلم بعث إليه كتابا، فرقع به دلوه، فبعث سرية، فلم يدعوا له سارحة، ولا رائحة ولا أهلا، ولا مالا إلا أخذوه وانفلت عريانا على فرس له، ثم قدم عليه صلى الله عليه وسلم مسلما وقال: يا رسول الله أهلي ومالي، قال: "أما مالك فقد قسم وأما أهلك فمن قدرت عليه منهم فخذه". وأهمل المصنف أيضا كاليعمري سرية جرير بن عبد الله البجلي قبل فاته صلى الله عليه وسلم بنحو شهرين إلى ذي الخلصة بفتح المعجمة واللام بعدها مهملة. وحكى ابن دريد فتح أوله، وإسكان ثانيه، وحكى ابن هشام: ضمهما، وقيل بفتح أوله وضم ثانيه، والأول أشهر والخلصة نبات له حب أحمر كخرز العقيق، وذو الخلصة اسم البيت الذي كان فيه الصنم، وقيل: اسم البيت الخلصة واسم الصنم ذو الخلصة، عن جرير رضي الله عنه،(4/146)
...........................
__________
قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: "ألا تريحني من ذي الخلصة" فقلت: بلى فانطلقت في خمسين ومائة فارس من أحمس وكانوا أصحاب خيل، وكنت لا أثبت على الخيل، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فضرب في صدري، وقال: "اللهم ثبته واجعله هاديا مهذبا"، فما وقعت عن فرس بعد، وكان ذو الخلصة بيتا باليمن لخثعم وبجيلة فيه نصب تعبد يقال له الكعبة، فانطلق إليها فكسرها وحرقها، ثم بعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول جرير، والذي بعثك بالحق ما جئت حتى تركتها كأنها جمل أجرب، فبارك في خيل أحمس ورجالها خمس مرات، رواه الشيخان، وسمي في رواية مسلم رسول جرير حصين بن ربيعة الأحمسي، ولبعض رواته بين بدل الصاد، وهو تصحيف، وعند الطبراني عن جرير بعثني النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن أقاتلهم وأدعوهم أن يقولوا لا إله إلا الله، والذي يظهر كما قال الحافظ: أنه غير بعثه إلى هدم الصنم ويحتمل أنه بعثه إلى الجهتين على الترتيب ويؤيده ما وقع عند ابن حبان في حديث جرير أنه صلى الله عليه وسلم قال له: "يا جرير أنه لم يبق من طواغيت الجاهلية إلا بيت ذي الخلصة" فإنه يشعر بتأخير هذه القصة جدا، وقد شهد جرير حجة الوداع، فكأن إرساله كان بعدها فهدمها ثم توجه إلى اليمن ولما رجع بلغته وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وحكى المبرد: أن موضع ذي الخلصة صار مسجدا جامعا لبلدة يقال لها العبلات من أرض خثعم ووهم من قال في بلاد فارس وأن تعجب فعجب إيراد الشامي هنا سرية عمرو بن مرة الجهني إلى أبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب في مزينة وجهينة، فساروا إلى أبي سفيان، فهزم وكثر القتل في أصحابه.
رواه ابن عساكر، فإن هذا إن صح، فكانت قبل فتح مكة قطعا؛ لأنه أسلم في الفتح، كما مر، فكيف يورد في سنة إحدى عشرة، ولا أعلم كيف خفي عليه ذلك والله أعلم.(4/147)
[آخر البعوث النبوية] :
ثم سرية أسامة بن زيد بن حارثة إلى أهل أبني بالشراة ناحية
__________
آخر البعوث النبوية:
"ثم سرية أسامة بن زيد بن حارثة" الكلبي "رضي الله عنه" وعن أبيه وجده، وثبت في الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم كان يأخذ أسامة والحسن، فيقول: "اللهم أحبهما فإني أحبهما"، وفي حديث المخزومية فلم يجسر أحد أن يكلمه صلى الله عليه وسلم فكلمة أسامة.
سكن المزة من أعمال دمشق ومات بالمدينة أو بوادي القرى سنة خمس أو أربع وخمسين وهو ابن خمس وسبعين سنة "إلى أهل أبني" بضم الهمزة وسكون الموحدة، وفتح النون فألف مقصورة ويقال بميم بدل الموحدة "بالشراة" بفتح المعجمة والراء "ناحية" أي(4/147)
بالبلقاء، وكانت يوم الاثنين لأربع ليال بقين من صفر، سنة إحدى عشرة.
وهي آخر سرية جهزها النبي صلى الله عليه وسلم وأول شيء جهزه أبو بكر الصديق رضي الله عنه، لغزو الروم مكان مقتل أبيه زيد.
فلما كان يوم الأربعاء بدئ برسول الله صلى الله عليه وسلم وجعه، فحم وصدع، فلما أصبح يوم الخميس عقد لأسامة لواء بيده، فخرج بلوائه معقودا فدفعه إلى بريدة الأسلمي، وعسكر بالجرف. فلم يبق أحد من وجوه المهاجرين والأنصار إلا انتدب.
__________
جبل "بالبلقاء" بفتح الموحدة وسكون اللام بالقاف والمد ويقصر، "وكانت يوم الاثنين لأربع ليال بقين من صفر سنة إحدى عشرة" من الهجرة، أي ابتداء الأمر بها. ففي العيون قالوا: لما كان يوم الاثنين لأربع بقين من صفر سنة إحدى عشرة، أمر صلى الله عليه وسلم الناس بالتهيؤ لغزو الروم، فلما كان من الغد دعا أسامة، فقال: "سر إلى موضع مقتل أبيك، فأوطئهم الخيل فقد وليتك هذا الجيش، فأغر صباحا على أهل أبني، وحرق عليهم وأسرع السير تسبق الأخبار، فإن ظفرك الله، فأقل اللبث فيهم وخذ معك الأدلاء، وقدم العيون والطلائع معك" ونحوه في الفتح، وزاد "وهي آخر سرية جهزها النبي صلى الله عليه وسلم، وأول شيء جهزه أبو بكر الصديق رضي الله عنه، بمعنى أنفذ تجهيزه لأنه لما بويع بعد الوفاة النبوية كلم في جيش أسامة، فأبى إلا إنفاذه "لغزو الروم مكان مقتل أبيه زيد" أول الأمراء بسرية مؤتة، وهي بالهمز، وتركه من عمل البلقاء بالشام، كما مر فلا تخالف، "فلما كان يوم الأربعاء" كما عند أهل السير، وبه جزم الحاكم أبو أحمد. وقال الخطابي: يوم الاثنين وقيل: يوم السبت "بدئ بالبناء للمفعول مهموز الآخر، أي ابتدأ "برسول الله صلى الله عليه وسلم وجعه" نائب الفعل.
قال الحافظ: ابتداؤه في بيت ميمونة على المعتمد، وعند أبي معشر في بيت زينب بنت جحش، وعند اليمي في بيت ريحانة، "فحم" بشد الميم، والبناء للمفعول، "وصدع" بضم الصاد، وكسر الدال المشددة وبالعين المهملات، أي حصل له صداع أي وجع في رأسه وأما المخفف من صدع فليس مرادا هنا كأصدع بما تؤمر "فلما أصبح يوم الخميس" يجوز نصبه ظرفا رفعه فاعل أصبح كما في الشامي "عقد لأسامة لواء بيده" الشريفة ثم قال: أغز بسم الله وفي سبيل الله فقاتل من كفر بالله" "فخرج" أسامة "بلوائه معقودا فدفعه إلى بريدة" بن الحصيب، بمهملتين مصغر "الأسلمي" الصحابي المسلم قبل بدر المتوفى سنة ثلاث وستين، "وعسكر بالجرف" بضمتين وبضم فسكون، "فلم يبق أحد من وجوه المهاجرين والأنصار إلا(4/148)
فيهم أبو بكر وعمر.
فتكلم قوم وقالوا: يستعمل هذا الغلام على المهاجرين؟ فخرج صلى الله عليه وسلم وقد عصب رأسه وعليه قطيفة، فصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: $"أما بعد، أيها الناس، ما مقالة بلغتني عن بعضكم في تأميري أسامة، ولئن طعنتم في إماراتي أسامة فقد طعنتم في إمارتي أباه من قبله،
__________
انتدب" أي قام بسرعة والمراد سرعة الخروج "فيهم أبو بكر، وعمر" وأبو عبيدة، وسعد، وسعيد، وسلمة بن أسلم وقتادة بن النعمان، كما ذكره الواقدي وأخرجه ابن عساكر من طريقه وابن سعد، وأنكر ابن تيمية كون الصديق في السرية واستبعده بأنه استخلف أبا بكر على الصلاة، فكيف يأمره الخروج مع السرية ولا بعد فيه، فإنه أمره قبل مرضه، فلما اشتد مرضه استثناه واستخلفه على الصلاة، ثم الإنكار مكابرة فقد أتته أئمة المغازي وهم المرجوع إليهم في هذا. ومن ثم جزم به الحفاظ كاليعمري ومغلطاي والحافظ في المناقب، وقال هنا وقد ذكر إنكار ابن تيمية مستند من ذكره ما أخرجه الواقدي بأسانيده في المغازي وذكره ابن سعد في أواخر الترجمة النبوية بغير إسناد، وذكره ابن إسحاق في آخر السيرة المشهورة ولفظه: فلم يبق أحد من المهاجرين الأولين إلا انتدب في تلك الغزوة، فمنهم أبو بكر وعمر ذكر ذلك كله ابن الجوزي في المنتظم جازما به انتهى. "فتكلم قوم وقالوا: يستعمل هذا الغلام على المهاجرين" الأولين، وعند ابن إسحاق، من مرسل عروة وغيره أمر غلاما حدثا على جلة المهاجرين والأنصار.
قال الحافظ: والذي باشر القول ممن نسب إليهم الطعن في إمارته عياش بن أبي ربيعة المخزومي فكثرت فغضب غضبا شديدا، "فخرج صلى الله عليه وسلم وقد عصب" بالتشديد، كما اقتصر عليه البرهان وتبعه الشامي، فإن كان رواية وإلا فيخفف أيضا "رأسه وعليه قطيفة" كساء له خمل. "فصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه" بما هو أهله، "ثم قال: "أما بعد أيها الناس ما مقالة بلغتني عن بعضكم في تأميري أسامة".
وفي رواية في الصحيح "قد بلغني أنكم قلتم في أسامة وأنه أحب الناس إليَّ"، أي الذين طعنوا فيه أو "من أحب" للرواية الأخرى "ولئن طعنتم في إمارتي أسامة فقد طعنتم في إمارتي أباه من قبله".
قال الطيبي: هذا الجزاء إنما يترتب على الشرط بتأويل السببية والتوبيخ، أي طعنكم الآن فيه سبب،؛ لأن أخبركم أن ذلك من عادة الجاهلية وهجراهم، ومن ذلك طعنكم في أبيه من قبل نحو قوله: أن يسرق فقد سرق أخ له من قبل. وقال التوربشتي: إنما طعن من طعن في إمارتهما(4/149)
وايم الله إن كان للإمارة لخليقا، وإن ابنه من بعده لخليق للإمارة وإن كان لمن أحب الناس إليَّ، فاستوصوا به خيرا فإنه من خياركم"، ثم نزل عن المنبر فدخل بيته. وذلك يوم السبت لعشر خلون من ربيع الأول سنة إحدى عشرة.
وجاء المسلمون الذين يخرجون مع أسامة يودعون
__________
لأنهما من الموالي والعرب لا ترى تأميرهم وتستنكف عن اتباعهم كل الاستنكاف. فلما جاء الله بالإسلام ورفع قدر من لم يكن عندهم له قدر بالسابقة، والهجرة والعلم والتقى عرف حقهم أهل الدين، فأما المرتهنون بالعادة، والممتحنون بحب الرياسة من الأعراب ورؤساء القبائل، فلم يختلج في صدورهم شيء من ذلك لا سيما أهل النفاق، فكانوا يسارعون إلى الطعن وشدة النكير، وكان صلى الله عليه وسلم قد بعث زيدا على عدة سرايا ومؤتة أعظمها وتحت رايته نجباء الصحابة، "وايم الله" بهمزة وصل "إن كان" زيد "للإمارة لخليقا" بخاء معجمة مفتوحة وقاف، أي أهلا وحقيقا، فاللام في للإمارة على بابها، لكن الرواية عن أهل المغازي لخليقا للإمارة بتأخيرها كما في العيون، وهو الذي في الصحيح لسوابقه وقربه منه صلى الله عليه وسلم وقد روى النسائي عن عائشة: ما بعث صلى الله عليه وسم زيد بن حارثة في جيش قط إلا أمره عليهم، "وإن ابنه ن بعده لخليق" جدير وحقيق، وضمنه معنى أهل، فعداه باللام في "للإمارة" فلا يرد أن خليق يتعدى بالباء، ولذا أمره في مرضه على مشيخة الصحابة وفضلائهم، وكأنه رأى في ذلك سوى ما توسم أنه من النجابة، أي يمهد الأرض، ويوطئه لمن يلي الأمر بعده لئلا ينزع أحد يدا من طاعته، وليعلم كل أن العادات الجاهلية قد عميت مسالكها وخفيت معالمها. قال التوربشتي "وإن" مخففة من الثقيلة "كان" زيد "لمن أحب الناس إليَّ".
زاد في رواية الصحيح "وإن هذا لمن أحب الناس إليَّ بعده" فكان حذفها هنا من تصرف الرواة وفي العيون وأنهما لمخيلان لكل خير، بفتح الميم، وكسر المعجمة وسكون التحتية أي لمظنة وهذه القطعة مما أورده أهل المغازي صحيحة.
روى الإمام مالك ومن طريقه البخاري عن ابن عمر: أنه صلى الله عليه وسلم بعث بعثا وأمر عليهم أسامة بن زيد فطعن الناس في إمارته فقام صلى الله عليه وسلم فقال: "إن تطعنوا في إمارته فقد كنتم تطعنون في إمارة أبيه من قبل وايم الله إن كان لخليقا للإمارة وإن كان لمن أحب الناس إليَّ، وإن هذا لمن أحب الناس إليَّ بعده" "فاستوصوا به خيرا فإنه من خياركم" فيه منقبة ظاهرة لأسامة وأبيه حيث أذاع فضائلهما على المنبر مع تلبسه بالمرض وكونه عاصبا رأسا وأمره بالوصية لأسامة ونصه لي أنه من الخيار "ثم نزل عن المنبر، فدخل بيته، وذلك يوم السبت لعشر خلون من ربيع الأول سنة إحدى عشرة. وجاء المسلمون الذين يخرجون مع أسامة يودعون(4/150)
رسول الله صلى الله عليه وسلم ويخرجون إلى العسكر بالجرف.
فلما كان يوم الأحد اشتد برسول الله صلى الله عليه وسلم وجعه، فدخل أسامة من معسكره والنبي صلى الله عليه وسلم مغمور، وهو اليوم الذي لدوه فيه، فطأطأ أسامة فقبله، والنبي صلى الله عليه وسلم لا يتكلم، فجعل يرفع يديه إلى السماء ثم يضعها على أسامة. قال أسامة. فعرفت أنه يدعو لي. ورجع أسامة إلى معسكره.
ثم دخل يوم.
__________
رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويخرجون إلى العسكر، وهو ثلاثة آلاف فيهم سبعمائة من قريش، كما عند الواقدي، وعنده أيضا عن أبي هريرة كانت عدة الجيش سبعمائة ولا تنافي، فلعله اقتصر على القرشيين "بالجرف" موضع على فرسخ من المدينة، كما عند ابن إسحاق، "فلما كان يوم الأحد اشتد برسول الله صلى الله عليه وسلم وجعه".
قال أهل المغازي فجعل يقول: "أنفذوا بعث أسامة"، "فدخل أسامة من معسكره والنبي صلى الله عليه وسلم مغمور وهو اليوم الذي لدوه فيه" بدال مهملة قال الحافظ: أي جعلوا في جانب فمه دواء بغير اختياره، وعند الطبراني عن العباس: أنهم أذابوا القسط، أي العود الهندي بزيت فلدوه به؛ لأنهم ظنوا أنه به ذات الجنب، فلما أفاق قال: كنتم ترون أن الله يسلط على ذات الجنب ما كان الله ليجعل لها عليَّ سلطانًا والله لا يبقى أحد في البيت إلا لد، فما بقي أحد إلا لد حتى ميمونة وهي صائمة.
أخرجه ابن سعد عن عائشة وعبد الرزاق بسند صحيح عن أسماء بنت عميس نحوه وفيه ضعف ما رواه أبو يعلي بسند فيه ابن لهيعة عن عائشة رضي الله عنها: أنه صلى الله عليه وسلم مات من ذات الجنب لكن يمكن الجمع بأنها تطلق على ورم حار يعرض في الغشاء المستبطن وهو المنفي هنا وفي المستدرك ذات الجنب من الشيطان وعلى ريح بين الأضلاع وهو المثبت ولا محذور فيه وإنما لدهم تأديبا لئلا يعودوا لا قصاصا ولا انتقاما، وأنكر التداوي مع أنه كان يتداوى لأنه غير ملائم له إذ هو ملائم لذات الجنب وليست به انتهى ملخصا، وفي الصحيح عن عائشة لددناه في مرضه فجعل يشير إلينا أن لا تلدوني فقلنا كراهية المريض للدواء، فلما أفاق قال: "ألم أنهكم أن تلدوني" قلنا: كراهية المريض للدواء، فقال: "لا يبقى أحد في البيت إلا لد وأنا" انظر إلا العباس لم يشهدكم "فطأطأ" بهمزة ساكنة بعد الطاء الأولى، وهمزة مفتوحة بعد الثانية "أسامة فقبله والنبي صلى الله عليه وسلم لا يتكلم فجعل يرفع يديه إلى السماء ثم يضعهما على أسامة قال أسامة: فعرفت أنه يدعو لي ورجع أسامة إلى معسكره، ثم دخل" أسامة "يوم(4/151)
الاثنين وأصبح صلى الله عليه وسلم مفيقا، فودعه أسامة وخرج إلى معسكره فأمر الناس بالرحيل، فبينما هو يريد الركوب إذا رسول أمه أم أيمن قد جاءه يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يموت. فأقبل هو وعمر وأبو عبيدة فتوفي عليه الصلاة والسلام حين زاغت الشمس. لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول.
واستشكله السهيلي ومن تبعه، وذلك: أنهم اتفقوا على أن ذا الحجة كان أوله يوم الخميس فمهما فرضت الشهور الثلاثة: توام أو نواقص، أو بعضها، لم يصح.
قال الحافظ ابن حجر: وهو ظاهر لمن تأمله.
__________
الاثنين وأصبح صلى الله عليه وسلم مفيقا، فقال لأسامة: "اغد على بركة الله" فودعه أسامة وخرج إلى معسكره، وصاح في أصحابه باللحوق إلى العسكر، "فأمر الناس بالرحيل، فبينما هو يريد الركوب إذا رسول أمه أم أيمن".
قال البرهان: لا أعرف اسمه "قد جاءه يقول إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يموت، فأقبل هو وعمر وأبو عبيدة" فانتهوا إليه وهو يموت "فتوفي عليه الصلاة والسلام حين زاغت" مالت "الشمس" وذلك عند الزوال. وفي الصحيح: وتوفي في آخر ذلك اليوم.
قال الحافظ: وهو يخدش في جزام ابن إسحاق، بأنه مات حين اشتد الضحى، ويجمع بأن إطلاق الآخر بمعنى ابتداء الدخول في أول النصف الثاني من النهار، وذلك عند الزوال، واشتداد الضحى يقع قبل الزوال ويستمر حتى يتحقق زوال الشمس. وقد جزم ابن عقبة، عن الزهري وأبو الأسود، عن عروة بأنه مات حين زاغت الشمس، فهذا يؤيد الجمع، ثم الذي عند ابن إسحاق والجمهور وأبو الأسود، عن عروة بأنه مات حين زاغت الشمس، فهذا يؤيد الجمع، ثم الذي عند ابن إسحاق والجمهور أنه مات "لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول" وعند ابن عقبة والليث والخوارزمي وابن زير مات لهلال ربيع الأول، وعند أبي مخنف والكلبي في ثانيه، ورجحه في الروض "واستشكله" أي قوله: لاثنتي عشرة ليلة "السهيلي ومن تبعه. و" قال في بيان "ذلك" ما حاصله: "أنهم انفقوا على أن ذا الحجة كان أوله يوم الخميس" للإجما أن وقفة عرفة كانت الجمعة، "فمهما فرضت الشهور الثلاثة" الحجة ومحرم وصفر "توام أو نواقص" كلها "أو" فرضت بعضها تاما وبعضها ناقصا "لم يصح" أن الثاني عشر من ربيع الأول يوم الاثنين.
"قال الحافظ ابن حجر: وهو" إشكال "ظاهر لمن تأمله" ولفظ السهيلي فكان المحرم إما الجمعة وإما السبت فإن كان الجمعة فكان صفر إما السبت، وإما الأحد، فإن كان السبت(4/152)
وأجاب البازري ثم ابن كثير، باحتمال وقوع الأشهر الثلاثة كوامل، وكان أهل مكة والمدينة اختلفوا في رؤية هلال ذي الحجة، فرآه أهل مكة ليلة الخميس، ولم يره أهل المدينة إلا ليلة الجمعة، فحصلت الوقفة برؤية أهل مكة، ثم رجعوا إلى المدينة فأرخوا برؤية أهلها، وكان أول ذي الحجة الجمعة وآخره السبت، وأول المحرم الأحد وآخره الاثنين وأول صفر الثلاثاء وآخره الأربعاء، وأول ربيع الأول الخميس، فيكون ثاني عشرة يوم الاثنين.
قال: وهذا الجواب بعيد، من حيث إنه يلزم منه توالي أربعة أشهر كوامل، وقد جزم سليمان التيمي أحد الثقات، بأن ابتداء مرضه صلى الله عليه وسلم كان يوم السبت الثاني والعشرين من صفر، ومات يوم الاثنين لليلتين خلتا من ربيع الأول. فعلى هذا يكون صفر ناقصا ولا يمكن أن يكون أول صفر السبت إلا إن كان ذو الحجة والمحرم ناقصين. فيلزم منه نقص ثلاثة أشهر متوالية.
__________
فأول ربيع الأحد أو الاثنين، وكيفما دارت الحال على هذا الحساب فلم يكن ثاني عشر ربيع يوم الاثنين بوجه ولم أر أحدا تفطن له. "وأجاب البارزي ثم ابن كثير باحتمال وقوع الأشهر الثلاثة كوامل فكان أهل مكة والمدينة اختلفوا في رؤية هلال ذي الحجة فرآه أهل مكة ليلة الخميس، ولم يره أهل المدينة إلا ليلة الجمعة فحصلت" وفي نسخة فجعلت "الوقفة برؤية أهل مكة، ثم رجعوا إلى المدينة فأرخوا برؤية أهلها" المدينة، "فكان أول ذي الحجة، الجمعة" على رؤية المدينة، وآخره السبت وأول المحرم الأحد، وآخره الاثنين وأول صفر الثلاثاء، وآخره الأربعاء وأول ربيع الأول الخميس فيكون ثاني عشرة يوم الاثنين.
"قال" الحافظ: "وهذا الجواب بعيد من حيث" وفي نسخة من جهة "أنه يلزم منه توالي أربعة أشهر"، بعد ذي القعدة أولها كوامل وهو ممتنع عند جماعة من علماء الميقات، وصوب آخرون أن الممتنع توالي خمسة "وقد جزم سليمان التيمي أحد الثقات بأن ابتداء مرضه صلى الله عليه وسلم كان يوم السبت الثاني والعشرين من صفر ومات يوم الاثنين لليلتين خلتا من ربيع الأول، فعلى هذا يكون صفر ناقصا، ولا يمكن أن يكون أول صفر السبت إلا أن يكون ذو الحجة والمحرم ناقصين، فيلزم منه نقص ثلاثة أشهر متوالية" وهي غاية ما يتوالى.
قال الحافظ عقب هذا: وأما من قال مات أول يوم من ربيع الأول، فيكون اثنان ناقصان، وواحد كاملا، ولذا رجحه السهيلي، وفي مغازي أبي معشر عن محمد بن قيس: اشتكى صلى الله عليه وسلم يوم الأربعاء لإحدى عشرة مضت من صفر، وهو موافق لقول سليمان التيمي المتقدم بأن أول(4/153)
قال: والمعتمد ما قاله أبو مخنف: أنه توفي في ثاني ربيع الأول. وكان سبب غلط غيره أنهم قالوا: مات في ثاني شهر ربيع الأول، فغيرت فصار: ثاني عشر، واستمر الوهم بذلك يتبع بعضهم بعضا من غير تأمل. انتهى.
ثم إن وفاته عليه الصلاة والسلام يوم الاثنين من ربيع الأول بلا خلاف، بل كاد يكون إجماعا لكن في حديث ابن مسعود: في حادي عشر رمضان رواه البزار. والمعتمد ما تقدم، والله أعلم. انتهى.
وسيأتي حديث الوفاة الشريفة إن شاء الله تعالى في المقصد الأخير.
__________
صفر كان السبت. وما عند ابن سعد من طريق عمر بن علي بن أبي طالب، عن أبيه قال: اشتكى صلى الله عليه وسلم يوم الأربعاء لليلة بقيت من صفر، فاشتكى ثلاث عشرة ليلة، ومات يوم الاثنين لاثنتي عشرة مضت من ربيع الأول، فيرد عليه الإشكال المتقدم، وكيف يصح أن أول صفر الأربعاء، ليكون تاسع عشريه الأربعاء والفرض أن ذا الحجة أوله الخميس، فلو فرض هو والمحرم كاملين لكان أول صفر الاثنين، فكيف يتأخر إلى يوم الأربعاء.
"قال" الحافظ تلو هذا "والمعتمد ما قاله أبو مخنف" بكسر الميم، وسكون الخاء المعجمة وفتح النون، ثم فاء لوط بن يحيى الإخباري الشيعي، قال في الميزان وغيره. كذاب تالف متروك وفي القاموس وكمنبر أبو مخنف، وسقطت أداة الكنية من الشيخ، فتوقف في أنه المراد، وظنهما رجلين ولا كذلك، وقد وافقه ابن الكلبي على "أنه توفي في ثاني ربيع الأول، وكان سبب غلط غيره أنهم قالوا مات في ثاني شهر ربيع الأول، فغيرت فصار ثاني عشر، واستمر الوهم بذلك" للناقل عمن غيرها "يتبع بعضهم بعضا من غير تأمل" وأجاب البدر بن جماعة بحمل قول الجمهور لاثنتي عشرة ليلة خلت، أي بأيامها، فيكون موته في الثالث عشر، وتفرض الشهور كوامل، فيصح ويعكر عليه ما عكر على الذي قبله مع زيادة مخالفة، أهل اللسان في الاثنتي شرة فإنهم لا يفهمون منها إلا مضي الليالي، ويكون ما أرخ بذلك واقعا في اليوم الثاني عشر "انتهى" كلام الفتح. وقال قبله "ثم إن وفاته عليه الصلاة والسلام في يوم الاثنين" كما ثبت في الصحيح عن أنس ورواه ابن سعد بأسانيده عن عائشة، وعلي وسعد وعروة وابن المسيب وابن شهاب وغيرهم، "من ربيع الأول بلا خلاف" كما قال ابن عبد البر: "بل كاد يكون إجماعا، لكن في حديث ابن مسعود في حادي عشر رمضان رواه البزار والمعتمد ما تقدم" أنه في ربيع الأول "والله أعلم انتهى" ودفن ليلة الأربعاء على المشهور عند الجمهور، وقيل يوم الثلاثاء، وهو غريب، قاله ابن كثير، "وسيأتي حديث الوفاة الشريفة إن شاء الله تعالى في المقصد الأخير"(4/154)
ولما توفي صلى الله عليه وسلم دخل المسلمون الذين عسكروا بالجرف إلى المدينة، ودخل بريدة بلواء أسامة معقودا حتى أتى به باب رسول الله صلى الله عليه وسلم فغرزه عند بابه. فلما بويع أبو بكر الصديق رضي الله عنه أمر بريدة أن يذهب باللواء إلى بيت أسامة ليمضي لوجهه، فمضى به إلى معسكرهم الأول، وخرج أسامة هلال بن ربيع الآخر سنة إحدى عشرة إلى أهل أبنى، فشن عليهم الغارة، فقتل من أشرف له، وسبي من قدر عليه، وحرق منازلهم ونخلهم، وقتل قاتل أبيه في الغارة، ثم رجع إلى المدينة، ولم يصب أحد من المسلمين.
__________
وإنما ذكر هنا تاريخه، "ولما توفي صلى الله عليه وسلم دخل المسلمون الذين عسكروا بالجرف إلى المدينة. ودخل بريدة بلواء أسامة معقودا حتى أتى به باب رسول الله صلى الله عليه وسلم فغرزه عند بابه فلما بويع أبو بكر الصديق رضي الله عنه أمر بريدة أن يذهب باللواء إلى بيت أسامة ليمضي لوجهه، فمضى به إلى معسكرهم الأول" وأمر أبو بكر مناديا لا يتخلف عن أسامة من بعثه من كان انتدب معه في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإني لن أوتي بأحد أبطأ عن الخروج معه إلا ألحقته به ماشيا، فلم يتخلف عنه أحد. ومشى أبو بكر إلى بيت أسامة، فكلمه. أن يأذن لعمر في التخلف ففعل. "وخرج أسامة هلال ربيع الأخر سنة إحدى عشرة" في جيشه ثلاثة آلاف، كما مر وفيهم ألف فارس. وخرج أبو بكر يشيعه، فركب من الجرف، وسار أبو بكر إلى جنبه ساعة، وقال: أستودع الله دينك وأمانتك وخواتيم عملك، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوصيك فانفذ لأمره، فأسرع "إلى أهل ابنى" فقدم عينا له من عذرة يدعى حريثا فانتهى إلى أبنى ثم عاد، فلقي أسامة على ليلتين منها، فأخبره أنهم غارون، ولا جموع لهم، وحثه لى سرعة السير قبل اجتماعهم، فسار إلى أبنى وعبى اصحابه، "فشن عليهم الغارة فقتل من أشرف له، وسبي من قدر عليه وحرق منازهم ونخلهم".
زاد اليعمري وحرثهم وأجال الخيل في عرصاتهم، وأقاموا يومهم ذلك في تعبية ما أصابوا من الغنائم. وكان أسامة على فرس أبيه سبحة، أي بفتح المهملة وسكون الموحدة، "وقتل قاتل أبيه" ظاهر السياق بناؤه للفاعل، لكن قرأه البرهان بالمفعول، فقال: لا أعرف اسم قاتله، وكأنه لقوله "في الغارة" وأيضا لو قرئ بالفاعل لا يعين أن قاتله أسامة لما علم أن الإسناد إلى الأمير مجاز.
زاد اليعمري وأسهم للفرس سهمين وللفارس سهما وأخذ لنفسه مثل ذلك، فلما أمسى أمر الناس بالرحيل، "ثم" أسرع السير فورد وادي القرى في تسع ليال فبعث بشيرا إلى المدينة بسلامتهم، ثم قصد في السير ستا حتى "رجع إلى المدينة. ولم يصب أحد من المسلمين".(4/155)
وخرج أبو بكر في المهاجرين وأهل المدينة يتلقونه سرورا. والله أعلم.
فجمع سراياه وبعوثه نحو ستين ومغازيه نحو سبع وعشرين.
المقصد الثاني:
في ذكر أسمائه الشريفه المنبئة عن كمال صفاته المنيفة.
وذكر أولاده الكرام الطاهرين، وأزواجه الطاهرات أمهات المؤمنين، وأعمامه وعماته وإخوته من الرضاعة وجداته، وخدمه ومواليه وحرسه،
وكتابه وكتب إلى أهل الإسلام بالشرائع والأحكام، ومكاتباته إلى الملوك وغيرهم من الأنام، ومؤذنيه.
وخطبائه وحداته وشعرائه وآلات حروبه ودوابه. والوافدين إليه صلى الله عليه وسلم. وفيه عشرة فصول.
__________
"خرج أبو بكر في المهاجرين وأهل المدينة يتلقونه سرورا" بسلامتهم.
زاد اليعمري: ودخل على فرس أبيه سبحة واللواء أمامه يحمله بريدة حتى انتهى إلى باب المسجد فدخل فصلى ركعتين ثم انصرف إلى بيته وبلغ هرقل وهو بحمص ما صنع أسامة فبعث رابطة يكونون بالبلقاء، فلم يزل هناك حتى قدمت البعوث إلى الشام في خلافة أبي بكر وعمر، "والله أعلم، فجمع سراياه وبعوثه نحو ستين ومغازيه سبع وعشرون" وفي الفتح أن السرايا، أي وأراد بها ما يشمل البعوث تقرب من سبعين، وقرأت بخط مغلطاي أن مجموع الغزوات والسرايا مائة، وهو كما قال، انتهى. والله أعلم.
"المقصد الثاني في ذكر أسمائه الشريفة" وشرح بعضها "المنبئة" المخبرة "عن كمال صفاته المنيفة" الزائدة في الكمال على غيرها من أنافت الدراهم على مائة زادت، "وذكر أولاده الكرام الطاهرين" صفتان كاشفتان وأولاد شامل للإناث، فالطاهرين تغليب وهذان فصلان، "و" الثالث في "أزواجه الطاهرات" صفة لازمة "أمهات المؤمنين" ويأتي فيه: هل يقال لهن أمهات المؤمنات في نفس المتن وفيه ذكر سراريه "و" الرابع في أعمامه وعماته وإخوته" فيه تغليب كقوله تعالى: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ} ؛ إذ المراد ما يشمل الإناث "من الرضاعة" قيد به؛ لأنه لا إخوة له من النسب، وقد صرح العلماء بأن أبوابه لم يلدا غيره "وجداته" من قبل أبويه. "و" الخامس في "خدمه" جمع خادم غلاما كان أو جارية، وبالهاء فيها لغة قليلة "وموالية وحرسه. و" السادس في "كتابه" جمع كاتب، "وكتبه" جمع كتاب "إلى أهل الإسلام" في الشرائع والأحكام "ومكاتباته إلى الملوك وغيرهم من الأنام" وفيه ذكر أمرائه ورسله. "و" السابع في "مؤذنيه"
وخطبائه وحداته" جمع حاد "وشعرائه. و" الثامن في "آلات حروبه. و" التاسع في "دوابه. و" العاشر في ذكر "الوافدين عليه صلى الله عليه وسلم وفيه عشرة فصول".(4/156)
الفصل الأول: في ذكر أسمائه الشريفة المنبئة على كمال صفاته المنيفة
اعلم أن الأسماء جمع اسم، وهو كلمة وضعتها العرب بإزاء مسمى، متى أطلقت فهم منها لك المسمى، فعلى هذا لا بد من مراعاة أربعة أشياء: الاسم والمسمى -بفتح الميم والمسمي بكسرها-.....
__________
"الفصل الأول في ذكر أسمائه الشريفة" أي التي وقف عليها، وهي أكثر من أربعمائة، فلا يرد عليه أن الجمع المضاف يفيد العموم، وقد نقل ابن العربي: أنها ألف؛ لأن مراده عموما مقيد بما رآه بقرينة كلامه بعد "المنبئة" صفة لازمة إذ هي كلها دالة "على كمال صفاته المنيفة" الزائدة شرفا على غيرها، فليس المراد أنه يذكر ما دل على الكمال دون غيره، وإنما دلت على ذلك لأن مفاهيمها كلها تدل على معان شريفة، ولذا قال ابن القيم: إن محمد علم وصفة في حقه صلى الله عليه وسلم وإن كان علما محضا في حق غيره. وهذا شأن أسمائه كأسماء الله أعلام دالة على معان هي أوصاف مدح، فلا تضاد فيها العلمية الوصفية، ولما كانت الأسماء قوالب المعاني ودالة عليها اقتضت المحكمة أن يكون بينها وبينها ارتباط وتناسب وأن لا تكون معها بمنزلة الأجنبي المحض الذي لا تعلق له بها، فإن حكمة الحكيم تأبي ذلك والواقع يشهد بخلافه بل للأسماء تأثير في المسميات، وللمسميات تأثير في أسمائها في الحسن والقبح، والثقل، واللطافة والكثافة كما قيل:
وقل إن أبصرت عيناك ذا لقب ... إلا ومعناه إن فكرت في لقبه
"اعلم أن الأسماء جمع اسم، وهو" لغة "كلمة وضعتها العرب بإزاء" مقابل "مسمى متى أطلقت فهم منها ذلك المسمى" فشمل الأفعال لفهم معانيها إذا أطلقت وإن كانت الأسماء الشريفة كلها اصطلاحية وفيه مسامحة؛ لأن أسماء الله تعالى هو الواضع لها اتفاقا كأسماء الأجناس على الراجح، وقيل العرب. وأسماء الأشخاص من وضعها عربيا كان أو غيره فهو قاصر على أسماء الأجناس مع المشي على الضعيف، "فعلى هذا لا بد في تحقق الاسم ووجوده "من مراعاة أربعة أشياء الاسم والمسمى، بفتح الميم، والمسمي بكسرها" مخففة ومثقلة فيهما من(4/157)
والتسمية فالاسم: هو اللفظ الموضوع على الذات لتعريفها أو تخصيصها عن غيرها كلفظ: زيد.
والمسمى: هو الذات المقصود تمييزها بالاسم، كشخص زيد.
والمسمي: هو الواضع لذلك اللفظ.
والتسمية: هي اختصاص ذلك اللفظ بتلك الذات.
والواضع: تخصيص لفظ بمعنى إذا أطلق أو أحس فهم منه ذلك المعنى.
واختلفوا هل الاسم عين المسمى أو غيره؟ وهي مسألة طويلة تكلم الناس فيها قديما وحديثا.
فذهب قوم إلى أن الاسم عين المسمى.
__________
اسميته وسميته وهما بمعنى كما في القاموس: "والتسمية فالاسم هو اللفظ الموضوع على الذات" أراد بها ما دل عليه اللفظ فلا ينافي ما فوقه في تعريف الاسم لتعريفها كأسمائه سبحانه فإن مدلولها وهو الذات لا يلتبس بغيره حتى يراد تمييزه فالمراد منها تعريف عباده به تعالى "أو تخصيصها" أي تمييزها "عن غيرها كلفظ زيد" وغيره من أسماء المخلوقات، فإن المقصود تمييزها عن مشاركها في الوجود قال شيخنا: ويحتمل أنه أراد بالتعريف الإشارة إلى الإعلام الشخصية فإنها تشخص مسمياتها وبالتخصيص الإشارة إلى النكرات، فيكون قوله كلفظ زيد مثالا للأول ولا الثاني، "والمسمى هو الذات المقصود تمييزها بالاسم كشخص زيد" أراد بالذات المسمى جوهرا كمسمى زيد أو عرضا كمسمى البياض وفي القاموس: الاسم اللفظ الموضوع على الجوهر والعرض للتمييز "والمسمى هو الواضع لذلك اللفظ، فالواضع لأسماء الله وأسماء الأجناس هو الله تعالى ولإعلام الأشخاص البشر كما مر، "والتسمية هي اختصاص ذلك اللفظ بتلك الذات" مصدر اختصصته بكذا إذا خصصته به، فهي عبارة عن جعل الواضع الاسم دالا على المسمى، "والواضع تخصيص لفظ، بمعنى إذا أطلق" كالألفاظ الموضوعة "أو أحس" كالنقوش الدالة عليها، فإذا تصورت انتقل منها إلى الألفاظ ثم منها إلى معانيها فهم منه ذلك المعنى" للعالم، بالوضع فلا يرد أنه غير جامع لأن كثيرا ما تطلق الألفاظ، ولا يفهم الواقف عليها معناها؛ لأنه لعدم علمه بالوضع فهو شرط للفهم لا للدلالة لأنها دالة في نفسها، "واختلفوا" في جواب قول السائل: "هل الاسم عين المسمى أو غيره، وهي مسألة طويلة تكلم الناس فيها قديما وحديثا، فذهب قوم إلى أن الاسم عين المسمى".(4/158)
واستدلوا عليه بقوله تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} ، [الأعلى: 1] ، والتسبيح إنما هو للرب جل وعلا، فدل على أن اسمه هو هو.
وأجيب، بأنه أشرب معنى سبح "اذكر" فكأنه قال: اذكر اسم ربك الأعلى، كقوله تعالى: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الإنسان: 25] وقد أشرت معنى اذكر "سبح" عكس الأول. قال تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّك} [آل عمران: 41] أي سبح ربك، والإشراب جار في لغتهم، يشربون معنى فعل فعلا.
واستشكل.
__________
قال القرطبي وهو قول أبي عبيدة وسيبويه وعزاه الباقلاني لأهل الحق وارتضاه ابن فورك، فإذا قيل: الله عالم، فالله علم على الذات الموصوفة بالعلم، فالاسم بكونه عالما هو المسمى، ولذلك صحت الاستعاذة والاستعانة، يظهر ذلك في قوله "باسمك ربي وضعت جنبي وبك أرفعه" فأضاف الوضع إلى الاسم والرفع إلى الذات فدل على أن الاسم هو الذات وقد استعان وضعا ورفعا لا باللفظ، انتهى.
واستدلوا عليه بقوله تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1] الآية: "والتسبيح إنما هو للرب جل وعلا، فدل على أن اسمه هو، "أي الاسم "هو" أي المسمى، أي على أن الاسم هو الذات "وأجيب بأنه اشرب" بالبناء للمجهول معنى سبح اذكر، أي استعمل بمعناه كما يفهمه قوله، "فكأنه قال اذكر اسم ربك الأعلى كقوله تعالى: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} " [الإنسان: 25] والمشهور في مثله أنه تضمين وهو أنه يؤخذ اسم فاعل من معنى اللفظ الذي أريد ويجعل حالا من فاعل الفعل المذكور فيقدر هنا مثلا سبح ذاكرا اسم ربك، وقد أشرب معنى اذكر سبح عكس الأول "كما قال تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ} " [آل عمران: 41] "أي سبح ربك" فهو مثال لاستعمال اذكر بمعنى سبح فالأوضح أن يقول كقوله تعالى، يعني أنهما تقارضا فاستعمل كل منهما موضع الآخر. "والإشراب جار في لغتهم يشربون معنى فعل فعلا" ومنه الآية ويرد بأنه مجاز بلا قرينة، والاستدلال إنما هو على الحقيقة التي هي الأصل، ولا يعدل عنها بلا قرينة "واستشكل" ضمن معنى أورد؛ لأنه يتعدى بعلى فعداه(4/159)
على معنى كونه هو المسمى إضافته إليه، فإنه يلزم منه إضافة الشيء إلى نفسه. وأجيب: بأن الاسم هنا بمعنى التسمية، والتسمية غير الاسم؛ لأن التسمية هي اللفظ بالاسم، والاسم هو اللازم للمسمى فتغايرا.
واحتج من قال: إن الاسم عين المسمى أيضا بقوله تعالى: {بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى} [مريم: 7] ثم قال: {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} [مريم: 12] ، فنادى الاسم فدل على أنه المسمى.
وجوابه أن المعنى: يا أيها الغلام الذي اسمه يحيى، ولو كان الاسم عين المسمى لكان من قال: النار احترق لسانه، ومن قال: العسل ذاق حلاوته.
__________
بها في قوله: "على معنى كونه" أي الاسم هو المسمى" أي عينه ونائب الفاعل "إضافته إليه، فإنه يلزم منه إضافة الشيء إلى نفسه" في سبح اسم ربك أولا تضمين فمعناه عد ملتبسا إذ الإشكال الالتباس، كما في القاموس فكأنه قال: عدت إضافة الاسم إلى المسمى مشكلة بناء على أنه عين المسمى وفيه تعسف، "وأجيب بأن الاسم هنا بمعنى التسمية والتسمية غير الاسم؛ لأن التسمية هي اللفظ" أي التلفظ بدليل قوله: "بالاسم والاسم هو اللازم للمسمى فتغايرا" قال شيخنا فيه: إن التسمية بهذا المعنى مصدر، فهي عبارة عن النطق بالاسم والنطق لا يتعلق به الذكر فالأولى في الجواب أن يراد بالتسمية نفسه اللفظ فيكون معنى سبح ربك اذكر المعنى الذي هو الذات باللفظ، الدال عليه والإضافة بيانية، انتهى.
وقد أجيب أيضا كما في شرح المقاصد بأن معنى تسبيح الاسم تقديسه وتنزيهه عن أن يسمى به الغير، أو عن أن يفسر بما لا يليق أو يذكر على غير وجه التعظيم، أو هو كناية عن تسبيح الذات، كقوله سلام على المجلس الشريف والجانب المنيف، وفيه من التعظيم ما لا يخفى أو لفظ اسم مقحم كقوله إلى الحول، ثم اسم السلام عليكما "واحتج من قال: إن الاسم عين المسمى أيضا بقوله تعالى: {بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى} ثم قال: {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} فنادى الاسم فدل على أنه المسمى لأن النداء هو طلب الإقبال من المنادى والإقبال لا يكون من اللفظ وإنما يكون من مسماه وجوابه أن المعنى يا أيها الغلام الذي اسمه يحيى و"ذهب المتأخرون إلى أن الاسم مغاير للمسمى وبعضهم صححه، واحتجوا بأن "لو كان الاسم عين المسمى لكان من قال النار احترق لسانه، ومن قال العسل ذاق حلاوته" والواقع خلافه. ورد بأن الاسم هنا لفظ ولا نزاع فيه إنما النزاع في أنه هل يطلق، ويراد به غيره، فلا يلزم ما ذكره قال بعض المحققين: ليس مراد القائل أن الاسم عين المسمى أن اللفظ الذي هو(4/160)
وكثرة الأسماء تدل على شرف المسمى، وقد سمى الله تعالى نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم بأسماء كثيرة في القرآن العظيم وغيره من الكتب السماوية، وعلى ألسنة أنبيائه عليهم الصلاة والسلام.
ثم إن أشهر أسمائه صلى الله عليه وسلم: محمد، وبه سماه جده عبد المطلب وذلك أنه لما قيل له: ما سميت ولدك؟ قال: محمدا فقيل له: كيف سميته باسم ليس لأحد من آبائك وقومك؟ فقال: لأني أرجو أن يحمده أهل الأرض كلهم ... وذلك لرؤيا كان رآها عبد المطلب -كما ذكر حديثها على القيرواني العابر
__________
الصوت عين المعنى الذي وضع له اللفظ إذ لا يقوله عاقل، وإنما مراده أنه يطلق اسم الشيء مرادا به مسماه، وهو كثير شائع. والمسألة مفردة بالتأليف، وقد قيل لا طائل تحت هذا الخلاف، فلا حاجة لنا ببسط القول فيه، والذي صححه ابن السبكي وغيره أن الاسم هو المسمى، "وكثرة الأسماء تدل على شرف المسمى" للعناية به وبشأنه، ولذا ترى المسميات في كلام العرب أكثر محاولة وإعناء كما في الشامية، يعني أنهم أكثر ما يحاولون في المسميات تمييزها بالأسماء الكثيرة المميزة لها، والدالة على شرفها، لا سيما إذ لوحظت المناسبة بين كل اسم ومسماه، وهذه توطئة لقوله: "وقد سمى الله تعالى نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم بأسماء كثيرة في القرآن العظيم وغيره من الكتب السماوية، وعلى ألسنة أنبيائه عليهم الصلاة والسلام"، فهي كالعلة المتقدمة على معلولها، وذكرها بعدها أوضح، وأكثرها فات قال ابن عبد البر: الأسماء والصفات هنا سواء، "ثم إن أشهر أسمائه صلى الله عليه وسلم" زاد الشامي وأجلها "محمد" ويليه في الشهرة أحمد، كما في الفتح قال: محمد منقول من صفة الحمد، وفيه المبالغة والمحمد الذي حمد مرة بعد مرة، كالممدح قال الأعشى:
إليك أبيت اللعن كأن وجيفها ... إلى الماجد القرم الجواد المحمد
أي الذي حمد مرة بعد مرة، أو الذي تكاملت فيه الخصال المحمودة انتهى. "وبه سماه جده عبد المطلب، وذلك" كما في الروض، "أنه لما قيل له: ما سميت ولدك قال: محمدا، فقيل له. كيف سميته باسم ليس لأحد من آبائك وقومك" وعادت العرب الغالبة تسمية المولود باسم أحد آبائه، "فقال: لأني أرجو أن يحمده أهل الأرض كلهم".
وفي رواية أردت أن يكون محمودا في السماء لله وفي الأرض لخلقه، وقيل: بل سمته أمه بذلك لما رأته وقيل لها في شأنه بأن أمه لما نقلت ما رأته لجده سماه فوقع التسمية منه بسببها وإذا كان بسببها، صح أنها سمته "وذلك لرؤيا كان رآها عبد المطلب" قبل المولد النبوي بزمان، "كما ذكر حديثها على القيرواني العابر" اسم فاعل من عبر الرؤيا مخففا،(4/161)
في كتابه "البستان"- قال: كان عبد المطلب قد رأى في المنام كأن سلسلة من فضة قد خرجت من ظهره، لها طرف في السماء، وطرف في الأرض، وطرف في المشرق وطرف في المغرب، ثم عادت كأنها شجرة، على كل ورقة منها نور، وإذا أهل المشرق والمغرب كأنهم يتعلقون بها. فقصها، فعبرت له بمولود يكون من صلبه يتبعه أهل المشرق وأهل المغرب، ويحمده أهل السماء والأرض، فلذلك سماه محمدا، مع ما حدثته به أمه آمنة حين قيل لها: إنك حملت بسيد هذه الأمة، فإذا وضعتيه فسميه محمدا.
__________
فسرها "في كتابه البستان قال: كان عبد المطلب قد رأى في المنام كأن سلسلة من فضة خرجة من ظهره لها طرف في السماء وطرف في الأرض".
هكذا ثبت في النسخ الصحيحة، وسقط في بعضها سهوا، فإنه ثابت في الروض عن الكتاب المذكور "وطرف في المشرق وطرف في المغرب، ثم عادت كأنها شجرة على كل ورقة منها نور" وعند أبي نعيم وما رأيت نورا أزهر منها أعظم من نور الشمس بسبعين ضعفا وهي تزداد كل ساعة عظما ونورا وارتفاعا وإذا أهل المشرق والمغرب كأنهم يتعلقون بها، وعند أبي نعيم ورأيت العرب والعجم لها ساجدين وناسا من قريش تعلقوا بها وقوما منهم يريدون قطعها، فإذا دنوا منها أخذهم شاب لم أر أحسن منه وجها، ولا أطيب ريحا فيكسر أظهرهم ويقلع أعينهم فرفعت يدي لأتناول منها، فلم أنل وقيل لي: النصيب للذين تعلقوا بها، "فقصها" على كاهنة قريش، كما لأبي نعيم "فعبرت" بكسر الموحدة مخففة في لغة القرءن {إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُون} ، ومثقلة فيما أثبته في الكشاف اعتمادا على بيت أنشده المبرد في الكامل حيث قال:
رأيت رؤيا ثم عبرتها ... وكنت للأحلام عبارا
"له بمولود يكون من صلبه" بواسطة ذكر ولذا لم يقل من ذريته، لئلا يتوهم أنه من أولاد البنات "يتبعه أهل المشرق وأهل المغرب" تعبير لتعليقهم بالشجرة، "ويحمده أهل السماء والأرض" كأنه أخذ من التعلق إذ من تعلق بشخص حمده، ولا يراد أنه غير لازم لاحتمال أن التعلق للخوف منه؛ لأنه لا يخاف من الشجرة لا سيما وقد أعجبهم نورها المؤدي لمزيد الحمد وعمم الحمد بأهل السماء والأرض، وخص التبعية بالأرض؛ لأنهم كانوا على الضلال، فأنقذهم منه بخلاف السماء، فإيمانهم سابق على البعثة، فالمناسب لهم الحمد دون التبعية ولأن ظهور آثارها من التكاليف إنما هو لأهل الأرض، وأما أهل السماء ولو قلنا بالراجح من بعثه إليهم فغير مكلفين بتفاصيل الأحكام "فلذلك سماه محمدا مع ما حدثته به أمه آمنة حين قيل لها: إنك قد حملت بسيد هذه الأمة فإذا وضعتيه فسميه محمدا"، إلى هنا كلام السهيلي.(4/162)
وعن ابن عباس قال: لما ولد النبي صلى الله عليه وسلم عق عنه عبد المطلب وسماه محمدا فقيل له: يا أبا الحارث ما حملك على أن سميته محمدا ولم تسمه باسم آبائه، قال: أردت أن يحمده الله في السماء، ويحمده الناس في الأرض.
وعن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن لي أسماء: أنا محمد، وأنا أحمد وأنا الماحي الي يمحو الله بي الكفر،
__________
"و" أخرج ابن عبد البر في الاستيعاب "عن ابن عباس قال: لما ولد النبي صلى الله عليه وسلم" هو لم يدرك ذلك، فكأنه حمله على أبيه أو غيره "عق عنه عبد المطلب" بجزور يوم سابعه، كما في الخميس، وقيل بكبش "وسماه محمدا فقيل له: يا أبا الحارث" كنية عبد المطب باسم أكبر بنية "ما حملك على أن سميته محمدا، ولم تسمه باسم آبائه، قال: أردت أن يحمده الله في السماء، و" "أن يحمده الناس في الأرض".
"و" روى ابن شهاب "عن محمد بن جبير بن مطعم" بن عدي بن نوفل القرشي النوفلي، الثقة العالم بالأنساب من رجال الجميع مات على رأس المائة "عن أبيه" جبير بجيم، وموحدة مصغر الصحابي العالم بالأنساب أسلم بين الحديبية والفتح وقيل في الفتح، وتوفى سنة سبع أو ثمان أو تسع وخمسين "قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن لي أسماء" كذا رواه الأكثر عن الزهري، عن شعيب، عند الشيخين ومعمر ويونس وعقيل وسفيان بن عيية عند مسلم والترمذي.
ورواه مالك في الموطأ عن الزهري، ومن طريقه أخرجه البخاري أيضا بلفظ "لي خمسة أسماء" ولم ينفرد بها مالك بل تابعه محمد بن ميسرة عن الزهري، أخرجه البيهقي وأشار إليه عياض فخمسة زيادة ثقة غير منافية فيجب قبولها.
ولذا تعقب الحافظ وغيره من زعم أنها من الراوي كما يأتي وزعم أن الشامي قال: رواية مالك ومحمد بدون خمسة وسفيان بإثباتها وهم، فلفظ الشامي وإنما وقعت هذه اللفظة في رواية مالك ومحمد بن ميسرة ثم ساق رواية كل منهما وذكر فيها لفظ خمسة وسبب دخول الوهم على من نسب له ذلك، أن الشامي لما ذكر رواية سفيان قال: "إن لي خمسة أسماء"، فوقعت لفظة خمسة سبق قلم، أو من النساخ بدليل حصره بعد قليل جدا في مالك ومحمد، كما هو الواقع، فلما رأى الأولى ظن تحريف الثانية فنقلها على ما تخيله صوابا، وهو خطأ مخالف لما في الموطأ والصحيحين "أنا محمد وأنا أحمد" أفعل من الحمد قطع متعلقة للمبالغة، وبدأ بهما لأنهما أشهر أسمائه، وقدم محمد لأن أشهرهما "وأنا الماحي" بحاء مهملة "الذي يمحو الله بي الكفر" يزيله لأنه بعث والدنيا مظلمة بغياهب الكفر، فأتى صلى الله عليه وسلم بالنور الساطع حتى محاه.
قال عياض: أي من مكة وبلاد العرب وما روى له من الأرض، ووعد أنه يبلغه ملك أمته(4/163)
وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي، وأنا العاقب" رواه الشيخان.
وقد روى على قدمي بتخفيف الياء وبالإفراد وبالتشديد على التثنية.
__________
قال: أو يكون المحو عاما بمعنى الظهور والغلبة ليظهره على الدين كله.
وفي الفتح استشكل بأنه ما أنمحى من جميع البلاد وأجيب بحمله على الأغلب أو على جزيرة العرب أو أنه يمحي بسببه أولا فأولا إلى أن يضمحل في زمان عيسى فإنه يرفع الجزية ولا يقبل إلا الإسلام، وتعقب بأن الساعة لا تقوم إلا على شرار الناس، ويجلب بجواز أن يرتد بعضهم بعد موت عيسى، وترسل الريح فتقبض روح كل مؤمن ومؤمنة فحينئذ فلا يبقى إلا الشرار، "وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي"، أي على أثري، أي أنه يحشر قبل الناس، ويرجحه رواية نافع بن جبير بعثت مع الساعة أو المراد بالقدم الزمان، أي وقت قيامي على قدمي بظهور علامات الحشر إشارة إلى أنه لا نبي بعده ولا شريعة واستشكل التفسير باقتضائه أنه محشور، فكيف يفسر به حاشر اسم فاعل وأجيب بأن إسناد الفعل إلى الفاعل إضافة، وهي تصح بأدنى ملابسة. فلما كان لا أمة بعد أمته؛ لأنه لا نبي بعده نسب الحشر إليه لوقوعه عقبه أو معناه أول من يحشر كحديث: "أنا أول من تنشق الأرض عنه أو على مشاهدتي قائما لله شاهدا على الأمم" وقيل: معنى القدم السبب "وأنا العاقب".
زاد يونس في روايته عن الزهري الذي ليس بعده نبي، وقد سماه الله رءوفا رحيما.
قال البيهقي: وقد سماه مدرج من قول الزهري قال الحافظ: وهو كما قال وكأنه أشار إلى ما في آخر سورة براءة وأما قوله: "الذي ليس بعده نبي" فظاهره الإدراج أيضا. لكن في رواية ابن عيينة عند الترمذي وغيره بلفظ "الذي ليس بعدي نبي" انتهى.
وجزم السيوطي على الموطأ، بأنه مدرج من تفسير الزهري لرواية الطبراني، الحديث من طريق معمر إلى قوله: "وأنا العاقب" قال معمر: قلت للزهري: ما العاقب، قال: الذي ليس بعده نبي وقال أبو عبيدة قال سفيان: العاقب آخر الأنبياء انتهى. ولا ينافيه رواية بعدي بياء المتكلم؛ لأنها قد ترد على لسان المفسر حكاية عن لسان من فسر كلامه، إذا قوى تفسيره عنده عنده حتى كأنه نطق به وفي رواية نافع بن جبير فإنه عقب الأنبياء.
قال الحافظ: وهو محتمل للرفع والوقف انتهى. وما يقع في نسخ وأنا العاقب فلا نبي بعدي وهم إذ ليس في رواية من عزي له بقوة "رواه الشيخان البخاري بهذا اللفظ في التفسير وبلفظ "لي خمسة أسماء" إلخ في المناقب ومسلم في فضائل النبي صلى الله عليه وسلم.
"وقد روى على قدمي" بكسر الميم، وبتخفيف الياء بالإفراد وبالتشديد للياء مع فتح الميم "على التثنية".(4/164)
قال النووي في شرح مسلم: معنى الروايتين: يحشرون على أثري وزماني ورسالتي.
وفي رواية نافع بن جبير عند البخاري في تاريخه الأوسط والصغير، والحاكم في مستدركه وصححه، وأبي نعيم في الدلائل وابن سعد: أنه دخل على مطعم بعدها قال: نعم، هي ستة، فذكر الخمسة التي ذكرها محمد بن جبير، وزاد الحاتم.
__________
"قال النووي في شرح مسلم: معنى الروايتين يحشرون على أثري"، وهو موافق لقوله في الرواية الأخرى يحشر الناس على عقبي بكسر الموحدة مخففا على الإفراد، ولبعضهم بالتشديد على التثنية والموحدة مفتوحة، كما في الفتح "وزماني ورسالتي" كلاهما عطف على الياء من أثري، يعني أنهم يحشرون بعد الزمان الذي بعث فيه، إشارة إلى أنه لا نبي بعده ولا شريعة كما مر. وعيسى إذا نزل إنما يحكم بشرعه وهو واحد من أمته، وقد علم ما رأيت من الفتح أنهما قولان في معنى القدم الأثر أو الزمان، فكان النووي رأى أن تنافي بينهما فأتى، الواو، وقال ابن عبد البر، أي: قدامي وأمامي، أي أنهم يجتمعون إليه، وينضمون حوله، ويكونون أمامه يوم القيامة، ووراءه قال الخليل: حشرتهم السنة إذا ضمتهم من البوادي.
"وفي رواية نافع بن جبير" بن مطعم النوفلي الثقة الفاضل، روى له الجماعة ومات سنة تسع وتسعين قبل أخيه محمد بسنة، "عند البخاري في تاريخه الأوسط والصغير، والحاكم في مستدركه وصححه وأبي نعيم في الدلائل وابن سعد" وكذا الإمام أحمد "أنه" أي نافعا "دخل على عبد الملك بن مروان" بن الحكم الأموي المدني، ثم الدمشقي. كان طالب علم قبل الخلافة، ثم اشتغل بها، فتغير حاله مات في شوال سنة ست وثمانين، وقد جاوز الستين، "فقال" له: "أتحضى أسماء رسول الله صلى الله عليه وسلم التي كان جبير بن مطعم عدها" كأنه لم يقل أبوك لاشتهاره بينهم باسمه واسم أبيه، "قال: نعم هي ستة، فذكر الخمسة التي ذكرها" أخوه "محمد بن جبير، وزاد الخاتم" بالخاء المعجمة.
قال الحافظ لكن روى البيهقي في الدلائل من طريق ابن أبي حفصة عن الزهري في حديث محمد بن جبير: "وأنا العاقب" قال: يعني الخاتم، انتهى. فهذا صريح أنه بالمعجمة؛ لأن معناه بالمهملة أحسن الأنبياء، كما يأتي وليس من معنى العاقب فتعين أنه رواية نافع بالمعجمة، ومراد الحافظ بهذا الاستدراك أن زيادة الخاتم وهم من بعض الرواة في حديث جبير؛ لأنه إنما جاء تفسيرا للعاقب لا اسما برأسه، فلا ينافي قوله في خمسة أسماء، وليس النزاع في أنه من أسمائه، فلا نزاع فيه وخاتم النبيين، بل في وروده في حديث جبير، فزعم أن اختلاف الأخوين(4/165)
وفي حديث حذيفة أحمد ومحمد والحاشر، والمقفي ونبي الرحمة
ولفظ رواية أبي نعيم هي ستة: محمد، وأحمد، وخاتم، وحاشر، وعاقب، وماح. فأما الحاشر، فبعث مع الساعة نذيرا لكم بين يدي عذاب شديد، وأما العاقب: فإنه أعقب الأنبياء، وأما ماح: فإن الله عز وجل محا به سيئات من اتبعه.
وذكر بعضهم: أن العدد ليس من قوله النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما ذكره الراوي بالمعنى.
__________
باعتبار سماعهما من أبيهما إذ ذكرها مرة خمسة وأخرى ستة، فذكر كل ما سمع لا يصح؛ لأنه عقلي دفعته رواية البيهقي.
"وفي حديث حذيفة" بن اليمان عند البخاري في التاريخ، والترمذي وابن سعد "أحمد ومحمد والحاشر والمقفي" بفتح القاف وكسر الفاء المشددة أي المتبع للأنبياء فكان آخرهم.
قال ابن الأعرابي، وقال غيره: هو بمعنى العاقب "ونبي الرحمة" وكذا في حديث أبي موسى عند مسلم وغيره، لكنه لم يذكر الحاشر، "ولفظ رواية أبي نعيم" من طريق عقبة بن مسلم عن نافع بن جبير "هي ستة محمد وأحمد وخاتم" بمعجمة "وحاشر وعاقب وماح. فأما الحاشر فبعث مع الساعة نذيرا لكم بين يدي عذاب شديد" أي قدامه لأنه مبعوث في نسيم الساعة، أي في البشر الذين تقوم عليهم الساعة وهم أمته، "وأما عاقب فإنه أعقب الأنبياء" أي جاء عقبهم فلا نبي بعده.
قال أبو عبيد قال سفيان: العاقب آخر الأنبياء "وأما ماح فإن الله عز وجل محا به سيئات من اتبعه" بمغفرتها له بلا سبب أو بإلهام التوبة النصوح لمن صدرت منه وقبولها فيغفر له، إن الله يقبل التوبة عن عباده، ويعفو عن السيئات، وهذا لا يعارضه رواية الشيخين: وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر؛ لأن محو أحدهما لا يمنع محو الآخر، وعجيب ترجى أن أبا نعيم لم تثبت عنده رواية الشيخين، فإن هذا لا يقال على مثل الحافظ أبي نعيم، وقد صنف على كل من الصحيحين مستخرجا. وفي الفتح في رواية نافع بن جبير عند البخاري في التاريخ وغيره، وأما الماحي فإن الله محا به سيئات من اتبعه وهذا يشبه أن يكون من قول الراوي انتهى. ويؤيده رواية أبي نعيم هذه فإنها ظاهرة في أن تفسير الثلاثة كلها من قول الراوي وعلى هذا فليس تفسيرا للماحي بخلاف ما فسره به الشارع؛ لأنه لا ينافيه كما علمت، فكأنه صلى الله عليه وسلم خص الكفر لظهور محوه برسالته، "وذكر بعضهم" وهو ابن عساكر، فقال: يحتمل "أن العدد ليس من قول النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما ذكره الراوي بالمعنى" ويحتمل أنه من لفظه صلى الله عليه وسلم، ولا يقتضي الحصر انتهى(4/166)
وفيه نظر: لتصريحه في الحديث: "إن لي خمسة أسماء". والذي يظهر أنه أراد إن لي خمسة أسماء أختص بها لم يتسم بها أحد قبلي، أو مشهورة في الأمم الماضية لا أنه أراد الحصر فيها، وبهذا يجاب عن الاستشكال الوارد، وهو أن المقرر في علم المعاني أن تقديم الجار والمجرور يفيد الحصر، لكن ورود الروايات بما هو أكثر
يدل على أنه ليس حصرا مطلقا، فالطريق في ذلك أن يحمل على حصر مقيد كما ذكر
__________
كلام ابن عساكر، "وفيه نظر" كما قال ابن دحية
قال الحافظ: "لتصريحه في الحديث" أي حديث جبير المتقدم لكن من طريق مالك ومحمد بن ميسرة عن الزهري بقوله: "إني لي خمسة أسماء" فقوله لي، ونصه على عدتها قبل ذكرها صريح في أنه من قوله صلى الله عليه وسلم: "والذي يظهر أنه أراد "إن لي خمسة أسماء اختص بها لم يتسم بها أحد قبلي" كما استظهره ابن دحية وصدر به في الفتح معبرا بقوله قبله بالهاء وهو أولى؛ لأنه تأويل لا حديث ورد بذلك "أو مشهورة في الأمم الماضية" والكتب المتقدمة، كما قال عياض والقرطبي، وجزم به النووي وحكاه عن العلماء لكن تعقب بأن أسماءه في الكتب المتقدمة وعند علماء الأمم الماضية أكثر من خمسة ويدفع بقوله مشهورة؛ لأنها وإن كانت أكثر لكن المشهور منها خمسة، "لا أنه أراد الحصر فيها" بدليل نصه في روايات أخرى على أكثر ومن أسمائه بالقرآن، باتفاق الشاهد المبشر النذير المبين الداعي إلى الله السراج المنير، وفيه أيضا الذكر والرحمة والنعمة والهادي والشهيد والأمين والمزمل والمدثر.
ذكره الحافظ فلا يتوهم وقد نزل عليه ذلك في القرآن أنه أراد الحصر، "وبهذا يجاب عن الاستشكال الوارد" على الحديث، "وهو أن المقرر في علم المعاني أن تقديم الجار والمجرور يفيد الحصر، لكن ورود الروايات بما هو أكثر" من خمسة "يدل على أنه ليس حصرا مطلقا، فالطريق في ذلك أن يحمل على حصر مفيد، كما ذكر" من حملها على خمسة اختص بها، أو مشهورة في الكتب، وعند علماء الأمم الماضية. وأجاب أبو العباس العزفي، بفتح المهملة، والزاي المعجمة، وبالفاء بأنه قبل أن يطلعه الله على بقية أسمائه، وقال العكبري: خصت لعلم السامع بما سواها، أو لغير ذلك، وقيل: المراد معظمة فحذف الصفة للعلم بها، ووجه عظمتها اختصاصه بها وكونها في الكتب السالفة. وأجاب السيوطي بأن قواعد الأصول أن مفهوم العدد لا يخصص، وكم ورد في الأحاديث أعداد لم يقصد فيها الحصر، كسبعة يظلهم الله في ظل عرشه، ووردت أحاديث بزيادة عليها ويحضرني الآن منها سبعون وغير ذلك مما هو مشهور انتهى. ومراده لا يخصص بالنسبة إلى عدم النقصان لا الزيادة حتى يوافق(4/167)
الله أعلم.
وروى النقاش عنه عليه الصلاة والسلام: "لي في القرآن سبعة أسماء: محمد، وأحمد، ويس، وطه، والمزمل، والمدثر، وعبد الله".
وقد جاءت من ألقابه صلى الله عليه وسلم وسماته في القرآن عدة كثيرة، تعرض جماعة لتعدادها وبلغوا بها عددا مخصوصا فمنهم من بلغ تسعا وتسعين، موافقة لعدد أسماء الله الحسنى الواردة في الحديث.
__________
القول: بحجية مفهوم العدد بالنسبة إلى ذلك، أو بناه على قول الحنفية لا يحتج به مطلقا "والله أعلم" بما أراد رسوله.
"وروى النقاش" الحافظ أبو بكر محمد بن الحسن بن محمد بن زياد الموصلي، ثم البغدادي المقري المفسر، أحد الأعلام، صاحب التصانيف منها التفسير، ومع جلالته هو متروك في الحديث، وحاله في القراءات أمثل.
قال البرقاني: كل حديثه منكر، وقال غيره: تفسيره ملآن بالموضوعات، مات سنة إحدى وخمسين وثلاثمائة، "عنه عليه الصلاة والسلام "لي في القرآن سبعة أسماء محمد" وما محمد إلا رسول، محمد رسول الله، ما كان محمد "وأحمد" ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد، "ويس وطه والمزمل والمدثر وعبد الله" وأنه لما قام عبد الله يدعوه، وهذا إن صح حجة لمن جعل الأربعاء نداء له بأسمائه، والغرض منه قوله سبعة المفيد أن خمسة في حديث جبير من الحصر المقيد لا المطلق. وقد روى ابن عدي في الكامل عن جابر وغيره مرفوعا: "إن لي عند ربي عشرة أسماء" فذكر الخمسة التي في حديث جبير وزاد: "وأنا رسول الرحمة، ورسوله التوبة، ورسول الملاحم، وأنا المقفي، قفيت النبيين عامة، وأنا قثم، والقثم الكامل الجامع".
وروى ابن مردويه وأبو نعيم في الدلائل عن أبي الطفيل رفعه: "لي عشرة أسماء عند ربي أنا محمد، وأحمد، والفاتح، والخاتم، وأبو القاسم، والحاشر، والعاقب، والماحي، ويس، وطه"، "وقد جاءت من ألقابه صلى الله عليه وسلم وسماته" لغة في الأسماء "في القرآن عدة كثية، وتعرض جماعة لتعدادها، وبلغوا بها عددا مخصوصا، فمنهم من بلغ تسعا وتسعين موافقة" بكسر الفاء "لعدد أسماء الله الحسنى الواردة في الحديث" المشهور، يعني أنه اتفق أنه عد الأسماء التي اطلع عليها، فجاءت كذلك لا أنه اقتصر عليها لموافقتها للأسماء الحسنى في العدد وإن اطلع على غيرها.(4/168)
قال القاضي عياض: وقد خصه الله تعالى بأن سماه من أسمائه الحسنى بنحو ثلاثين اسمًا.
وقال ابن دحية في كتابه "المتسوفى": إذا فحص عن جملتها من الكتب المتقدمة والقرآن والحديث وفي الثلاثمائة.
ورأيت في كتاب "أحكام القرآن" للقاضي أبي بكر بن العربي: قال بعض الصوفية: لله تعالى ألف اسم وللنبي صلى الله عليه وسلم ألف اسم، انتهى.
والمراد الأوصاف: فكل الأسماء التي وردت أوصاف مدح، وإذا كان كذلك، فله صلى الله عليه وسلم من كل وصف اسم،
__________
"قال القاضي عياض: وقد خصه الله تعالى بأن سماه من أسمائه الحسنى بنحو ثلاثين اسما" ثم عدها في فصل عده لها بأدلتها من الكتاب والسنة ثمانيا وعشرين، ثم قال في آخره وصف الله نفسه بالبشارة والنذارة ويبشرهم ربهم وسماه مبشرا ونذيرا.
وذكر بعض المفسرين أن طه ويس من أسماء الله، وبعضهم من أسمائه صلى الله عليه وسلم انتهى: فهذه نكته قوله بنحو ثلاثين، أي تزيد عنها اسمين أو تنقص اثنين بالاعتبار، وزادوا على ما ذكره أزيد من ضعفه، وقد قال المصنف في المقصد السادس، أن الله سماه من أسمائه الحسنى بنحو سبعين، كما بينت ذلك في أسمائه انتهى. وسترى بيان ذلك قريبا. "وقال ابن دحية في كتابه المستوفى" اسم كتاب أفرده في الأسماء الشريفة: "إذا فحص عن جملتها من الكتب المتقدمة والقرآن والحديث، وفي الثلاثمائة" قال في الفتح وذكر ابن دحية في تصنيفه المذكور أماكنها من القرآن والأخبار، وضبط ألفاظها، وشرح معانيها، واستطرد كعادته إلى فوائد كثيرة، وغالبها صفات له صلى الله عليه وسلم "ورأيت في كتاب أحكام القرآن" وكذا في شرح الترمذي كلاهما "للقاضي أبي بكر بن العربي" الحافظ العلامة محمد الملكي المشهور.
"قال بعض الصوفية: لله تعالى ألف اسم، وللنبي صلى الله عليه وسلم ألف اسم انتهى".
قال الشامي: والذي وقفت عليه من ذلك خمسمائة اسم، مع أن في كثير منها نظرا، "والمراد الأوصاف" لا إنها كلها أعلام وضعت له، "فكل الأسماء التي وردت أوصاف مدح" وكثيرا ما يطلق الاسم على الصفة للتغليب، أو لاشتراكهما في تعريف الذات، وتمييزها عن غيرها، "وإذا كان كذلك فله صلى الله عليه وسلم من كل وصف اسم".
قال ابن عساكر: وإذا اشتقت أسماؤه من صفاته كثرت جدا انتهى. ويمكن أن هذا مستند(4/169)
ثم إن منها ما هو مختص به أو الغالب عليه، ومنها ما هو مشترك، وكل ذلك بين في المشاهدة كما لا يخفى، وإذا جعلنا له من كل وصف من أوصافه اسما بلغت أسماؤه ما ذكر، بل أكثر، والذي رأيته في كلام شيخنا في "القول البديع"، والقاضي عياض في "الشفا" وابن العربي في "القبس"، و"الأحكام" له، وابن سيد الناس، وغيرهم، يزيد على أربعمائة، وقد سردتها مرتبة على حروف المعجم، وهي:
__________
من قال من الصوفية أنها ألف، "ثم إن منها ما مختص به، أو الغالب عليه، ومنها ما هو مشترك" بينه وبين غيره، "وكل ذلك بين في المشاهدة، كما لا يخفى" وقال ابن القيم: ينبغي أن يفرق بين الوصف المختص به، أو الغالب عليه فيشتق له منه اسم، وبين المشترك فلا يكون له منه اسم يخصه.
قال شيخنا: ولا منافاة لجواز أن مراده إذا ورد مصدر، أو فعل معناه مشترك بينه وبين غيره، ثم اشتق له منه الاسم لا يكون مختصا به، بل هو باق على اشتراكه، ولكنه يحمل عليه بقرينة، "وإذا جعلنا له من كل وصف من أوصافه اسما بلغت أسماؤه ما ذكر" ابن دحية من الثلاثمائة "بل" بلغت "أكثر" وبل انتقالية، "والذي رأيته في كلام شيخنا" الحافظ محمد بن عبد الرحمن السخاوي "في القول البديع" في الصلاة على النبي الشفيع، "والقاضي عياض في الشفاء وابن العربي في القبس" على موطأ مالك بن أنس "والأحكام له و".
في كلام "ابن سيد الناس وغيرهم يزيد على أربعمائة".
قال السيوطي: وكثير منها لم يرد بلفظ الاسم، بل بصيغة المصدر أو الفعل، وقد اعتبر ذلك عياض وابن دحية، وهو خلاف ما اعتبره الجمهور خصوصا أهل الحديث في أسمائه تعالى انتهى. ونقل الغزالي الاتفاق، وأقره في الفتح على أنه لا يجوز لنا أن يسميه صلى الله عليه وسلم باسم لم يسمه به أبوه، ولا سمى به نفسه انتهى. أي لا يجوز أن نخترع له علما، وإن دل على صفة كمال، ولا يرد على الاتفاق وجود الخلاف في أسمائه تعالى؛ لأن صفات الكمال كلها ثابتة له عز وجل والنبي صلى الله عليه وسلم إنما يطلق عليه صفات الكمال اللائقة بالبشر، فلو جوز ما لم يرد به سماع، لربما وصف بأوصاف تليق بالله دونه على سبيل الغفلة، فيقع الواصف في محظور وهو لا يشعر. "وقد سردتها" الأسماء التي وقفت عليها "مرتبة على حروف" الخط "المعجم" اسم مفعول من أعجمت الكتاب بالألف أزلت عجمته بما يميزه عن غير بنقط، وشكل كما في المصباح، وكأنه أراد لإزالة الكاملة، وإلا فهي حاصلة بالنقط فيما ينقط، كجيم وباء، فلا حاجة للزيادة والإهمال.(4/170)
"حرف أ":
الأبر بالله، الأبطحي، أتقى الناس، الأجود، أجود الناس،
__________
حرف الألف:
"وهي أ" استغنى المصنف بكتبها عن الترجمة لها، أو كتابتها بصورة النطق بها، وكذا بقية الحروف روما للاختصار، "الأبر" الأكثر برا ممن عداه "بالله".
قال الشامي هذا مما سماه الله به من أسمائه الحسنى، أي المحسن أو الصادق الوعد أفعل تفضيل من بررت فلانا بالكسر أبره برا فأنا بر وبار، أي محسن. ويطلق على الصدق لحديث: "لا يزال الرجل يصدق حتى يكتب عند الله بارا" وهو صلى الله عليه وسلم حري أن يكون أبر الناس، وأصدقهم، وأكثرهم إحسانا.
قال أبو علي الحاتمي: اتفق أهل الأدب على أن أصدق بيت قالته العرب قول أبي إياس الدؤلي:
فما حملت من ناقة فوق رحلها ... أبر وأوفى ذمة من محمد
"الأبطحي" نسبة إلى أبطح مكة وهو مسيل واديها، وهو ما بين مكة ومنى ومبدؤه المحصب. سمي بذلك لأنه من قريش البطاح، أي النازلين بالبطاح دون الظواهر التي هي خارج الحرم حول مكة، وكان يقال لعبد المطلب سيد الأبطح والأباطح، وقال حسان في مدحه صلى الله عليه وسلم:
وأكرم بيت في البيوت إذا انتمى ... وأكرم جد أبطحي يسود
"أتقى الناس" أفعل تفضيل، أي أكثرهم تقى.
روى مسلم عن جابر مرفوعا: "قد علمتم أني أتقاكم وأبركم وأصدقكم حديثا" وقوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ} أمر بالدوام على التقوى، وهي لغة قلة الكلام قاله ابن فاس، وقال غيره الخوف والحذر وأصلها اتقاء الشرك، ثم المعاصي، ثم الشبهات، ثم ترك الفضلات، أي ما كان من الحلال المحقق لكنه زائد على الحاجة، كما قال صلى الله عليه وسلم: "لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا باس به حذرا لما به بأس".
رواه أحمد وحسنه الترمذي وحقيقتها التحرز بطاعة الله عن مخالفته، وإضافته إلى الله في قوله: هو أهل التقوى معناه أهل لأن يتقي عقابه ويحذر عذابه، وسئل علي عنها، فقال: هي الخوف من الجليل، والعمل بالتنزيل، والقناعة بالقليل، والاستعداد ليوم الرحيل.
"الأجود" أفعل من الجود الكرم. قال النحاس: الجواد الذي يتفضل على من لا يستحق، ويعطي من لا يسأل ويعطي الكثير ولا يخاف الفقر. قيل: هو مرادف للسخاء، والأصح أن السخاء أدنى منه، وهو اللين عند الحاجات "أجود الناس" بمعنى ما قبله.(4/171)
الأحد، الأحسن وأحسن الناس، أحمد، أحيد -بضم أوله وكسر المهملة ثم ياء تحتانية- الآخذ بالحجزات، آخذ الصدقات، الآخر،
__________
روى الشيخان عن ابن عباس: كان صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وروى أبو يعلى عن أنس رفعه: "ألا أخبركم عن الأجود؟ الله الأجود وأنا أجود بني آدم".
"الأحد" المنفرد بصفات الكمال عن الخلق أو بالقرب من الحق من الأسماء الحسنى، كما في رواية ابن ماجه، فهو مما سماه الله به منها فلا يشكل قول بعض اللغويين لا ينعت به غير الله تعالى لأنه لم يستعمل صفة بل اسما. "الأحسن" مما سماه الله تعالى به من أسمائه، قال تعالى: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون: 14] . قاله النسفي وهو أفعل من الحسن تناسب الأعضاء على ما ينبغي، والمراد المستجمع صفات الكمال قال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ} [فصلت: 33] .
روى عبد الرزاق عن معمر عن الحسن البصري: أنه تلا هذه الآية، فقال: هذا حبيب الله صفوة لله. هذا أحب أهل الأرض إلى الله، أجاب الله في دعوته، "و" دعا الناس إلى ما أجاب الله فيه: "أحسن الناس" قال أنس: كان صلى الله عليه وسلم أحسن الناس، وأجود الناس، وأشجع الناس. رواه عبد بن حميد "أحمد" يأتي شرحه "أحيد، بضم أوله وكسر المهملة، ثم ياء تحتانية"، كما ضبطه الشمني، وضبطه البرهان بفتحها وسكون المهملة وفتح التحتية قال المصنف: وهو المشهور كما يأتي لأنه يحيد أمته على النار "الآخذ بالحجزات" كذا في النسخ بالباء، والذي في الشامي الآخذ الحجزات، بالإضافة اسم فاعل من الأخذ وهو التناول.
روى الشيخان عن أبي هريرة رفعه: "إنما مثلي ومثل أمتي كمثل رجل استوقد نارا، فجعلت الدواب والفراش والجنادب يقعن فيها وهو يذبهن عنها وأنا آخذ بحجزكم وأنتم تقتحمون فيها الحجزات" بضم المهملة وفتح الجيم، ثم زاي جمع حجزة، وهو حيث يثني طرف الإزار، وهو اليفق من السراويل ومحلها الوسط، كأنه قال: آخذ بأوساطكم لأنجيكم من النار فعبر عنها بالحجزات استعارة بعد استعارة "آخذ الصدقات" لأنه كان يأخذها من أربابها ويفرقها على مستحقها قال تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة: 103] وإن نزلت في المخلفين عن تبوك وفي صدقة التطوع التي هي من تمام توبتهم لكنها عامة لغيرهم، وفي الزكاة المفروضة، ولذا قال مانعوها: لا ندفعها إلا لمن صلاته سكن لنا.
"الأخرى" أي آخر الأنبياء كما يأتي للمصنف، وقول الشارح: هو اسمه في الإنجيل، فيه أن الذي في الشامي اسم غير هذا، وهو أخرايا بزيادة ألف وياء فألف، وقال: هو اسمه في الإنجيل معناه آخر الأنبياء، روى ابن أبي شيبة عن مصعب بن سعد عن كعب أول من يأخذ حلقة باب(4/172)
الأخشى لله، أذن خير، أرجح الناس عقلا، أرحم الناس بالعباد، الأزهر: وهو النير المشرق الوجه، أشجع الناس،
__________
الجنة فيفتح له محمد صلى الله عليه وسلم ثم قرأ آية من التوراة أخريا قدمايا الأولون والآخرون انتهى. وقوله في الإنجيل مخالف لقوله في التوراة "الأخشى" أفعل تفضيل أي الأشد خشية أي خوفا لله من غيره. قال السيوطي: هو مأخوذ من حديث أبي داود "والله إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله"، واستشكله العز بن عبد السلام بأن الخشية والخوف حالة تنشأ عن ملاحظة شدة النقمة الممكن وقوعها بالخائف، وقد دل الدليل القاطع على أنه غير معذب قال تعالى: {يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ} [التحريم: 8] فكيف يتصور منه الخوف.
قال: والجواب أن النسيان جائز عليه صلى الله عليه وسلم فإذا حصل النسيان عن موجبات نفي العقاب، حصل له الخوف ولا يقال إخباره بشدة الخوف وعظم الخشية عظيم بالنوع لا بكثرة العدد، أي إذا صدر منه الخوف ولو في زمن فرد كان أشد من خوف غيره والخشية الخوف، وقيل: أعظمه والهيبة أعظم منها وعلى قدر علمه بالله كان خوفه انتهى.
"أذن خير" سمي بآلة السمع كان جملته أذن، كما يقال للربيئة عين قال تعالى: {وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ} [التوبة: 61] قال ابن عطية: أي سماع خير وحق لا غيره والمشهور إضافته، وقرأ عاصم برفع خير وتنوين أذن قال: وهو يوافق تفسير الحسن، أي من يقبل معاذيركم خير لكم.
قال العزفي: وأما اسمه أذن خير فهو مما أعطاه من فضيلة الإدراك لبيان الأصوات، فلا يبقى من ذلك خير ولا يسمع من القول إلا أحسنه.
"أرجح الناس عقلا" روى أبو نعيم عن وهب بن منبه قال: قرأت في أحد وسبعين كتابا، فوجدت في جميعها أن الله لم يعط جميع الناس من بدء الدنيا إلى انقضائها من العقل في جنب عقل محمد صلى الله عليه وسلم إلا كحبة رمل من بين جميع رمال الدنيا، وأن محمدا أرجح الناس عقلا، وقال زهير بن صرد في مدحه:
إن لم تداركهمو نعماء تنشرها ... يا أرجح الناس حلما حين يختبر
"أرحم الناس" أفعل من الرحمة، أي أكثرهم رحمة "بالعباد" مؤمنهم وكافرهم. ووقع في الشامي بالعيال بياء ولام والأول أعم "الأزهر" من الزهارة "وهو النير المشرق الوجه" يقال: زهر الشيء يزهر بفتحتين صفا لونه وأضاء.
وروى مسلم عن أنس: كان صلى الله عليه وسلم أزهر اللون قال النووي: معناه أبيض مستنير، فهو بمعنى حديث عكاشة كان أبيض "أشجع الناس" من الشجاعة وهي شدة القلب عند البأس. ومر حديث(4/173)
الأصدق في الله، أطيب الناس ريحا، الأعز، الأعلى، الأعلم بالله، أكثر الناس تبعا، الأكرم، أكرم الناس، أكرم ولد آدم، ألمص، إمام الخير،
__________
كان أشجع الناس "الأصدق في الله" أي الأثبت والأقوى، فلا أحد أثبت ولا أقوى على الحق منه، وهذا مما سماه الله به من أسمائه، قال تعالى: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} [النساء: 122] .
"أطيب الناس ريحا" اي أذكاهم وأشدهم لأن عرقه كان أطيب من المسك ومن أسمائه الأطيب بلا إضافة فقيل بمعناه وقيل: معناه الأفضل والأشرف. "الأعز" بمهملة فمعجمة أفعل من العز أي الكثير العزة وهي الغلبة والقوة "الأعلى" أي الأكثر علوا أي رفعة على غيره. قال النسفي: هو مما سماه الله من أسمائه قال تعالى: {وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى} قال السيوطي: لم يظهر لي وجه الأخذ منه لأنا وإن جعلنا الضمائر في فاستوى وفي وهو ودنا وتدلى للنبي صلى الله عليه وسلم، وهو قول مرجوح في التفسير لم يصح جعل الأعلى صفة له لأن الضمير لا يوصف إلا على رأي ضعيف، وكأنه جعله حالا من ضمير استوى وجملة، وهو بالأفق مبتدأ وخبر حالا أيضا، والتقدير فاستوى الأعلى، أي عليًّا حال كونه بالأفق، وهو بعيد جدا، ولم يظهر لي فيه غير ذلك انتهى.
"الأعلم بالله" وبصفاته وما يجب له، كما قال صلى الله عليه وسلم: "أنا أتقاكم وأعلمكم بالله". رواه البخاري. وقال: "أنا أتقاكم لله وأعلمكم بحدود الله" رواه أحمد "أكثر الناس" الذي في الشامي الأنبياء "تبعا" بفتح الفوقية، والموحدة جمع تابع، كما قال صلى الله عليه وسلم: "أنا أكثر الأنبياء تبعا يوم القيامة"، وقال: "إن من الأنبياء من يأتي يوم القيامة ما معه مصدق وغير واحد" أخرجهما مسلم عن أنس "الأكرم" المتصف بزيادة الكرم على غيره مما سماه الله به من أسمائه {وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ} وقال صلى الله عليه وسلم: "أنا أكرم الأولين والآخرين على الله، ولا فخر""أكرم الناس أكرم ولد آدم" يأتي شرح الثلاثة للمصنف "المص" وألم والمر ذكر الثلاثة ابن دحية.
قال الشامي: والمشهور أنها من أسماء الله تعالى، فإن صح ما قاله كانت مما سماه به من أسمائه.
"إمام الخير إمام المتقين" أي الذين يقتدون به ويتبعون هديه جمع متق وهو من اتقى الشرك والمخالفات.
وروى ابن ماجه عن ابن مسعود تسميته بهما في حديث موقوف ولفظه: إذا صليتم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأحسنوا الصلاة عليه، فإنكم لا تدرون لعل ذلك يعرض عليه قالوا له: علمنا، قال: "قولوا اللهم اجعل صلواتك ورحمتك وبركاتك على سيد المرسلين وإمام المتقين وخاتم النبيين محمد عبدك ورسولك، إمام الخير وقائد الخير ورسول الرحمة. اللهم ابعثه المقام(4/174)
إمام الرسل، إمام المتقين، إمام النبيين، الإمام، الآمر والناهي، الآمن، أمنة أصحابه، الأمين،
__________
المحمود الذي يغبطه فيه الأولون والآخرون".
"إمام الرسل إمام النبيين" روى الترمذي عن أبي بن كعب رفعه: إذا كان يوم القيامة كنت إمام النبيين، وخطيبهم، وصاحب شفاعتهم من غير فخر.
"الإمام" المقتدى به، سمي به لاقتداء الخلق به ورجوعهم إلى قوله وفعله قال حسان يمدحه صلى الله عليه وسلم:
إمام لهم يهديهم الحق جاهدا ... معلم صدق إن يطيعوه يهتدوا
ويطلق لغة على المقتدى به في الخير وغيره، والوحداني جاعلك للناس إماما، والجمع وجعلنا للمتقين إماما "الآمر والناهي" اسما فاعل من الأمر والنهي. قال تعالى: {يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَر} [الأعراف: 157] وهو في حقه فرض عين، وفي حق غيره فرض كفاية.
قال العزفي: وهذا الوصف على الحقيقة لله لكنه لما كان الواسطة بينه وبين عبيده أضيف ذلك إليه؛ إذ هو يشاهد آمرا وناهيا، ويعلم بالدليل أن ذلك واسطة، ونقل من الذي له ذلك الوصف حقيقة انتهى. وفي التنزيل {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] . "الآمن" بالمد وكسر الميم بوزن صاحب الخالص التقي والشريف سمي به؛ لأن الله آمنه في الدنيا والآخرة، والله يعصمك من الناس يوم لا يخزي الله النبي "أمنة أصحابه" أي سبب لأمنهم وطمأنينتهم من أمن البل أطمأن به أهله.
روى البيهقي عن أبي موسى قال: رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه إلى السماء، فقال: "النجوم أمنة، فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد وأنا أمنة لأصحابي، فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون، وأصحابي أمنة لأمتي، فإذا ذهبت أصحابي أتى أمتي ما يوعدون".
قال الشامي: أمنة، بضم الهمزة وفتحها وبفتح الميم الوافر الأمانة الذي يؤتمن على كل شيء سمي بذلك لأن الله ائتمنه على وحيه، أو الحافظ أي حافظ لأصحابه قيل من البدع، وقيل من الاختلاف والفتن، ولا ينافي هذا قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا أراد الله رحمة أمة قبض نبيها قبلها" لاحتمال أن يكون المراد أمنهم من المسخ والخسف، ونحو ذلك من أنواع العذاب، وبإتيان ما يوعدون من الفتن بينهم بعد أن كان بابها منسدا عنهم بوجوده.
"الأمين" ذكر ابن فارس سمي بذلك لأنه حافظ الوحي قوي على الطاعة، فقيل بمعنى فاعل.(4/175)
الأمي أنعم الله، الأول، أول شافع، أو المسلمين، أول المؤمنين، أول تنشق عنه الأرض.
__________
روى مسلم عن أبي سعيد رفعه: "ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء يأتيني خبر من السماء صباحا ومساء" قال تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} [التكوير/ 19، 20، 21] ذي قوة عند ذي العرش، مكين مطاع، ثم أمين، نسب عياض لأكثر المفسرين، أن الرسول هنا محمد صلى الله عليه وسلم وقد كان يدعى بذلك في صغره لوقاره وصدق لهجته، واجتنابه القاذورات والأدناس، وقد مر قول قريش عند إرادة بناء البيت هذا الأمين رضينا، وقال كعب بن مالك فيه:
أمين محب للعباد مسوم ... بخاتم رب قاهر للخواتم
أو بمعنى مأمون فعيل بمعنى مفعول من الائتمان، وهو الاستحفاظ والوثوق بالأمانة. سمي بذلك لأن الله ائتمنه على وحيه، وجعله واسطة بينه وبين خلقه، وكساه من الأمانة التي هي ضد الخيانة حلة وافرة، وتوجه بتاج الصدق المرصع بدررها الفاخرة.
"الأمي" قال تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ} [الأعراف: 157] وهو الذي لا يكتب كما في الحديث: "إنا أمة أمية لا نحسب ولا نكتب"، نسبة إلى الأم، كأنه على الحالة التي ولدته، أمه وهي في حقه معجزة، وفي غيره معجزة، قال عياض: من وصفه بالأمية ونحوها مما جرى عليه من الأذى، فإن قصد بذلك مقصده من التعظيم والدلالة على نبوته كان حسنًا، ومن أراد ذلك على غير وجهه، وعلم منه سوء قصده لحق بما تقدم، أي بالساب. وسماه بعضهم أيضا الأمي بفتح الهمزة، وقرئ به، قال ابن عطية: منسوب إلى الأم بمعنى القصد، أي أن هذا النبي مقصود للناس، وموضع أم يؤمونه بأفعالهم وشرعهم فعلى هذا يكون اسما آخر، وقال ابن جني: يحتمل أنه بمعنى الأمي غير تغيير النسب، فيكون لغة أخرى لا اسما.
"أنعم الله" بفتح الهمزة، وضم المهملة جمع نعمة في الأصل وهي الإحسان، سمي بذلك لأنه نعمة من الله على عباده وبعثه رحمة لهم، وحصل بوجوده للخلق نعم كثيرة، منها: الإسلام والإنقاذ من الكفر والأمن من الخسف.
"الأول" يأتي شرحه للمصنف ويقع في نسخ هنا زيادة الآخر وهي سهو؛ لأنه قدمه قريبا.
"أول شافع" أي طالب للشفاعة، "أول المسلمين" المقتدي به في الإسلام، ذكره العزفي، أي أول مسلمي هذه الأمة مأخوذ من قوله تعالى: {وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} "أول مشفع" بفتح الفاء الذي يشفع فتقبل شفاعته، وهي السؤال في التجاوز عن المذنبين وفصل القضاء ونحوه، "أول المؤمنين" أي المقتدى به في الإيمان "أول من تنشق عنه الأرض" أي أول من يبعث من الخلق، فذكر في ذا الحرف خمسة وأربعين اسما منها خمسة من أسماء الله، وزاد الشامي أسماء هي(4/176)
.....................................
__________
الأبلج بموحدة، وجيم الأبيض الأنقى، الأجل أجير بجيم؛ لأنه يجير أمته من النار.
ذكره العزفي عن بعض الصحف المنزلة، قال الشيخ: يعني السيوطي ولم أره لغيره وأخشى أنه تصحف باحيد أحاد بضم الهمزة اسم عدد معدول عن واحد واحد؛ لأنه واحد في أمور متعددة كسيادته على من سواه، وأنه ختام الأنبياء وأن شريعته أكمل الشرائع، وأنه واحد في خصائص ليست لغيره. الأحشم بمهملة ومعجمة، أي أكثر الناس وقارا آخرايا، ولم يضبطه إلا أن رسمه هكذا، وقد قدمت كلامه فيه أخوناخ، أي صحيح الإسلام، الأدعج الأدوم بفتح فسكون أفعل من المداومة على الشيء لملازمته طاعة ربه الأرجح، أي الزائد على غيره علما وفضلا الأرحم بلا إضافة، الأزج بفتح الزاي وشد الجيم، أي المقوس الحاجب، الأزكى بالزاي من الطهارة، أي أطهر العالمين، الأسد بفتح الهمزة والسين وشد الدال المهملتين من السداد وهو استقامة الأشد حياء من العذراء في خدرها، الأشنب، بسكون المعجمة، وفتح النون فموحدة من الشنب، وهو رونق الأسنان ورقة مائها، وقيل رقتها وعذوبتها.
أصدق الناس لهجة الأطيب الأعظم الأغر بمعجمة وراء، أي الشريف الكريم. أفصح العرب، كذا ورد في حديث ذكره أصحاب الغريب بهذا اللفظ قال ابن كثير والشيخ: ولم نقف على سنده الإكليل، أي التاج؛ لأنه تاج الأنبياء ورأس الأصفياء فسمي به لشرفه وعلوه أو لإحاطة رسالته وشمولها، كما سمي الإكليل، لإحاطته بالرأس.
الأمجد أفعل من المجد، وهو الشرف إمام العالمين بفتح اللام إمام العالمين جمع عالم أي العباد إمام الناس الأمان الأمنة الأمة، أي الجامع للخير المقتدى به، أو المعلم للخير ألم المر الألمعي الأمي بالفتح بناء على أنه الاسم لا لغة في المضموم أنفس العرب أو في الناس ذماما بكسر المعجمة، أي أكثرهم حرمة وأسدهم الأنور المتجرد أي المشرق وراء المتجرد مفتوحة كل ما تجرد عنه من بدنه، فيرى الأواه بشد الواو الأوسط" أي العادل أو الخيار من كل شيء قال:
يا أوسط الناس طرا في مفاخرهم ... وأكرم الناس أما برة وأبا
الأولى، أي بالمؤمنين من أنفسهم، أي أحرى وأجدر، في كل شيء من أمور الدنيا والدين أول الرسل آية الله.
روى ابن المنذر عن مجاهد في قوله تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا} [فصلت: 53] قال محمد صلى الله عليه وسلم لأن العلامة الظاهرة انتهى باختصار.(4/177)
"حرف ب":
البر، البار قليط، الباطن، البرهان، بشر، بشري عيسى، البشير، البصير،
__________
حرف ب:
"البر" بفتح الموحدة اسم فاعل من البر بالكسر، وهو الإحسان والطاعة أو الصدق: وقال صلى الله عليه وسلم: "البر حسن الخلق" وعن إدريس عليه السلام: "من أفضل البر ثلاثة الصدق في الغضب، والجود في العسرة والعفو عند المقدرة".
سمي برا لأنه من ذلك بمكان، وهو من أسماء الله تعالى، ومعناه البالغ في الإحسان والصادق فيما وعد.
"البارقليط الباطن" يأتي شرحهما في المصنف.
"البرهان" روى ابن أبي حاتم عن سفيان بن عيينة في {قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ} قال: هو محمد صلى الله عليه وسلم وجزم به ابن عطية والنسفي، ولم يحكيا غيره وهو لغة الحجة، وقيل الحجة النيرة الواضحة التي تعطي اليقين التام، وهو صلى الله عليه وسلم برهان بالمعنيين؛ لأنه حجة الله على خلقه وحجة نيرة واضحة لما معه من الآيات والمعجزات الدالة على صدقه، وهذا مما سماه الله به من أسمائه، فإنه منها كما عند ابن ماجه.
"بشر" الذي في الشامي البشر معرفا، وقال بمعجمة محركة الإنسان لظهور بشرته، وهي ظاهر الجلد من الشعر بخلاف سائر الحيوان؛ لأنها مستترة بالشعر والصوف والوبر سمي به صلى الله عليه وسلم لأنه أعظم البشر وأفضلهم، كما سمي بالناس من تسمية الخاص باسم العام. قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} [فصلت: 6] نبه تعالى بذلك على أن الناس متساوون في البشرية غير متفاضلين في الإنسانية، وإنما يتفاضلون بما يتخصصون به من المعارف الجليلة، ولذا قال بعده: يوحى إليَّ تنبيهًا على الجهة التي حصل بها الفضل عليهم، أي تميزت عليكم وخصصت من بينكم بالوحي والرسالة "بشرى عيسى" بضم الموحدة، وسكون المعجمة فعلى من البشارة، وهي الخبر السار، أي المبشر به في قوله ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد. وفي المستدرك مرفوعا: "أنا دعوة أبي إبراهيم وبشرى عيسى".
"فائدة" الأنبياء المبشر بهم خمسة محمد وعيسى وإسحاق ويعقوب ويحيى "البشير" اسم فاعل من بشر كفرح وزنا ومعنى قال تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا} [البقرة: 119] .
"البصير" أي العليم حكى السبكي في تفسير أنه هو السميع البصير. إن الضمير للنبي صلى الله عليه وسلم قال: ومعنى وصفه بهما أنه الكامل في السمع والبصر اللذين ندرك بها الآيات التي يريه إياها فوصفه بذلك. وهو نذير والإنذار بالعقل وهما أعظم الحواس الموصلة إليه لأنه لأكمل منه في(4/178)
البليغ، البالغ البيان، البينة.
__________
الإنذار والاستدلال انتهى. يعني أن وصفه بهما بالحصر المستفاد من تعريف الطرفين، وسيق للمدح ففسره بما يخصصه به ويصيره مدحا له، وهو كما قيل مع بعده لا حاجة إليه، فالأظهر أن المعنى السميع لكلام الله بلا واسطة البصير، أي الناظر إلى نور جماله بعين بصره، وهذا مما اختص به انتهى.
"البليغ" الفصيح الذي يبلغ بعبارته كنه ضميره.
"البالغ البيان" اسمان كأن الشامي لم يقف عليهما لغير المصنف فقال ذكرهما شيخنا أبو الفضل القسطلاني انتهى. ولم يزد لكنه ذكر آخر الحرف ما نصه البيان الكشف والإظهار، أي الفصاحة أو اجتماعها مع البلاغة أو إظهار المقصود بأبلغ لفظ أو هو بمعنى المبين، أي المظهر للناس ما أمروا به ونهوا عنه، والموضح لهم ما خفي عليهم من أمر ديهم انتهى. وهذا يقتضي قراءة البيان بالجر بالإضافة إلى البالغ، فيكون اسما واحدا مركبا تركيبا إضافيا، فيخالف قوله ذكرهما بالتثنية الظاهر في أنهما اسماه "البينة" الحجة الواضحة، قال تعالى: {حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَة} [البينة: 1] ، رسول من الله، أي محمد صلى الله عليه وسلم فرسول بدل أو عطف بيان.
قال ابن عطية والهاء في البينة للمبالغة، كهاء علامة، ونسابة فذكر اثني عشر منها اسمان من أسماء الله. وزاد الشامي البارع، أي الفائق أقرانه علما وفضلا. الراجح عليهم علما وحكما، الباهر بموحدة آخره راء في قصص الكسائي أن الله قال لموسى إن محدا هو البدر الباهر، أي لأنه بهر بنوره نور الأنبياء، أي غلبة في الإضاءة لكثرة الانتفاع به والاقتناس منه، أو لأنه غلب بحسنه جميع الخلق، أو لأنه ظاهر الحجة الباهي آخره تحتية، أي الحسن الجميل البحر بلفظ خلاف البر، لعموم نفعه لأنه طاهر في نفسه مطهر لغيره ممن اتبعه، لسعة كرمه البدء بدال مهملة مهموز السيد الذي يبدأ به إذا عدت السادات البديع، أي المستقل بالحسن والجمال، وهو من أسمائه تعالى، ومعناه موحد الشيء بلا آلة ولا مادة.
البدر أي القمر الكامل لتمام كماله وعلو شرفه، وفي قصص الكسائي أن الله قال لموسى إن محمدا هو البدر الباهر، والنجم الزاهر والبحر الزاخر، والبرقيطس.
قال ابن إسحاق وغيره هو محمد بالرومية، قال السيوطي: بفتح الموحدة، وكسرها، وفتح القاف، وكسر الطاء، بمؤذ ماذ بكسر الباء، وسكون الميم وضم الهمزة وسكون المعجمة.
عزاه ابن دحية للتوراة قال الشيخ: وأخشى أنه مؤذ ماذ بميم أوله، فتحرف قلت: ونقله ابن القيم عن نص التوراة، ونص بعض شراحها من مؤمني أهل الكتاب فصح ما قال الشيخ البهاء بالمد العز والشرف؛ لأنه شرف هذه الأمة وعزها البهي بالموحدة، كالعلي الحسن العاقل انتهى.(4/179)
"حرف ت":
التالي، التذكرة، التقي، التنزيل، التهامي.
"حرف ث":
ثاني اثنين.
__________
وأسقط مما ذكره المصنف البشير والبصير وما وقع في الشرح أن الشامي زاد البر سهوا؛ لأنه أول اسم ذكره المصنف في الحرف وتكلم عليه الشارح:
حرف ت:
"التالي": المتبع لمن تقدمه. قال تعالى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} ، أو من التلاوة وهي القراءة. قال تعالى: {رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا} ، أي القرآن: "التذكرة" ما يتذكر به الناسي، ويتنبه به الغافل. قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ} قيل المراد سيدنا محمد "التقي" فعيل من التقوى.
قال عياض وجد على الحجارة القديمة مكتوب محمد تقي مصلح سيد أمين.
"التنزيل" بمعنى المنزل، أي المرسل، أو المنزل إليه، أي الموحى إليه القرآن. قال تعالى: {تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَن} قيل محمد فهو بمعنى رسول من الله، وقيل القرآن "التهامي" بكسر التاء نسبة إلى تهامة من أسماء مكة، وتهامة ما نزل عن نجد من بلاد الحجاز سميت بذلك لتغير هوائها.
قال ابن فارس من تهم بفتحتين، وهي شدة الحر، وركود الريح، فذكر خمسة أسماء، وزاد الشامي التلقيط ذكره العزفي، وقال هو اسمه في كتب الروم.
حرف ث:
"ثاني اثنين" أي أحد اثنين وهما المصطفى والصديق أخذا من الآية، وذكر ابن دحية الثمال، ولم يتكلم عليه.
قال الشامي وهو بكسر المثلثة، وخفة الميم العماد والملجأ، والمغيث والمعين، والكافي قال جده يمدحه:
وأبيض يستسقي الغمام بوجهه ... ثمال اليتامى عصمة للأرامل
أي يمنعهم مما يضرهم قال ذلك جده وهو صلى الله عليه وسلم في حال الطفولية لما توسمه فيه من الخير وتنسمة من البركة، وقد يستدل بالظاهر على الباطن كما قال:
وقل من ضمنت يوما سريرته ... إلا وفي وجهه للخير عنوان
أو بضمها ومعناه المنقطع إلى الله الواثق بكفايته انتهى. وصوابه عمه في المحلين، فقد(4/180)
"حرف ج":
الجبار الجد، الجواد الجامع.
"حرف ح":
حاتم،
__________
صرح صلى الله عليه وسلم أن منشئ البيت أبو طالب في حديث رواه البيهقي، وهو من قصيدته المشهورة، وقوله لما توسمه يقتضي أنه لم يشاهد الاستسقاء به، مع أنه إنما قاله عن مشاهدة، فإنه استسقى به فسقوا، كما رواه ابن عساكر، وقد مر بسط ذلك في أوائل المقصد الأول.
حرف ج:
"الجبار" قال عياض وابن دحية سماه الله به في كتاب داود فقال تقلد سيفك أيها الجبار، فإن ناموسك وشريعتك مقرونة بهيئة يمينك، ومعناه في حقه تعالى المصلح للشيء، أو المصلح بضرب من القهر، أو العلي العظيم الشأن، وقيل المتكبر، ومعناه في حقه صلى الله عليه وسلم أما لإصلاحه للأمة بالهداية والتعليم، أو لقهر أعدائه، أو لعلو منزلته على البشر وعظم خطره ونفى عنه تعالى جبرية التكبر التي لا تليق به، فقال: {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّار} ، ويأتي نحوه للمصنف "الجد" بفتح الجيم وضمها العظيم الجليل القدر، أو بكسرها وفتحها أيضا بمعنى الحظ والحظوة، أي صاحب الحظ العظيم عند الحق والحظوة عند الخلق، أو بكسرها فقط بمعنى الاجتهاد في العبادة ودأب النفس في طلب السيادة.
"الجواد" يحتمل شد الواو وخفتها وهما اسمان له ذكرهما الشامي، فقال الجواد بالتشديد مبالغة في الجواد بالتخفيف، ثم قال الجواد بالتخفيف الكريم السخي الطائع الملي، صفة مشبهة من الجود وهي سعة الكرم والطاعة.
"الجامع" لجميع الخصال الحميدة اللائقة به، أو للمعاني الكثيرة في الألفاظ القليلة؛ لأنه أوتي جوامع الكلم، أو لحمده لله تعالى بكلمات جامعة لأنواع الحمد والثناء عليه، فذكر أربعا منها ثلاث من أسماء الله، وأسقط الشامي الجامع، وزاد الجليل صفة مشبهة، أي العظيم، أو من كملت صفاته. الجهضم بجيم ومعجمة ساقطة كجعفر العظيم الهامة المستدر الوجه الرحب الجبين الواسع الصدر هذه الأوصاف مجتمعة فيه صلى الله عليه وسلم.
حرف ح:
"حاتم" وفي الشفاء الحاتم بزيادة أل، وقال هو من أسمائه في الكتب السالفة، حكاه الأحبار قال ثعلب، ومعناه أحسن الأنبياء خَلقا وخُلقا.(4/181)
حزب الله، الحاشر، الحافظ، الحاكم بما أراه الله، الحامد، حامل لواء الحمد،
__________
روى عن عياض وانتقد بأنه ليس بمعروف لغة، وإنما هو القاضي، كما هو في الصحاح وليته استحيا من تفسير ثعلب، فإنه من أئمة اللغة على أن الذي في الصحاح بمعنى القاضي بكسر الفوقية، والاسم الشريف بفتحها، كما ضبط في نسخ معتمدة من الشفاء فلم يتواردا على محل واحد.
"حزب الله" الحزب الطائفة من الناس، وقيل جماعة فيها غلظ وحزب الله عبيده المتقون وأنصار دينه.
قاله الشامي بلفظه "الحاشر" يأتي للمصنف شرحه "الحافظ" من أسمائه تعالى، ومعناه في حقه صيانة جميع الموجودات عن العدم وصيانة المضادة بعضها عن بعض.
قال الغزالي: الحافظ من العباد من يحفظ جوارحه وقلبه ويحفظ دينه عن سطوة الغضب، وصلابة الشهوة وخداع النفس وغرور الشيطان، وهو اسم فاعل من الحفظ، وسمي به؛ لأنه الحافظ للوحي والأمة، ولا يقدح في وصفه بالحفظ وقوع النسيان منه، كما روى مسلم عن عائشة: كان صلى الله عليه وسلم يسمع قراءة رجل في المسجد، فقال رحمه الله تعالى لقد أذكرني آية كنت أنسيتها لندرة ذلك منه، والحكم إنما هو للأغلب قاله كله الشامي، وقد يمنع كون ذلك نسيانا حقيقة، بل هو عدم تذكر يحصل الرجوع إليه بأدنى التفات وعبر عنه بالنسيان مجازا، ثم كأنه جعل وجه التسمية أعظم الأمور، وإلا فكلام الغزالي يصلح وجها أيضا؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أقوى الناس حفظا لما ذكر بلا ريب ولا سبيل للشيطان عليه بوجه. فهو الحافظ على الحقيقة من العباد.
"الحاكم بما أراه" علمه "الله" أخذه ابن دحية من قوله تعالى لتحكم بين الناس بما أراك الله لكنه ذكر أن الاسم لفظ الحاكم فقط.
"الحامد" اسم فاعل من الحمد وهو الثناء عى الله بما هو أهله.
قال ابن دحية ذكره ابن كعب، وقال ابن إسحاق: رأت أمه صلى الله عليه وسلم قائلا يقول إنك حملت بخير البرية وسيد العالمين، فإذا ولدتيه فسميه محمدا، فإن اسمه في التوراة حامد وفي الإنجيل أحمد "حامل لواء الحمد" روى الترمذي عن ابن عباس رفعه "أنا حبيب الله ولا فخر، وأنا حامل لواء الحمد يوم القيامة ولا فخر" واختلف في أنه حقيقي مسمى بذلك وعند الله علم حقيقته ودونه تنتهي جميع المقامات، ولما كان أحمد الخلق في الدارين أعطيه ليأوي إليه الألوان والآخرون، ولذا قال في حديث أنس: آدم فمن دونه تحت لوائي، كما قاله المحب الطبري والتوربشتي، أو معنوي وهو انفراده بالحمد يوم القيامة وشهرته به على رءوس الخلائق كما جزم به الطيبي وتبعه السيوطي.(4/182)
الحائد لأمته على النار، الحبيبن حبيب الرحمن، حبيب الله، الحجازي، الحجة البالغة، حجة الله على الخلائق حرز الأميين، الحرمي، حريص الحريص على الإيمان، الحسيب،.
__________
"الحائد لأمته عن النار" اسم فاعل من حاد عنه يحيد مال، أي المبعد لهم عنها فإن حاد إذا عدي بهمزة، أو باء وبانت اللام، هنا عنها كان معناه أبعد غيره، وإلا فمعناه بعد عن الشيء. "الحبيب" فعيل من المحبة بمعنى مفعول؛ لأنه محبوب لله، أو بمعنى فاعل، لأنه محب له تعالى.
"حبيب الرحمن" ورد تسميته به في حديث المعراج عن أبي هريرة عند البزار وغيره.
"حبيب الله" ورد في عدة أحاديث قال عياض: المحبة الميل إلى ما يوافق المحب لكن في حق المخلوق، فأما الخالق فمحبته لعبده تمكينه من سعادته وعصمته وتوفيقه وتهيئة أسباب القرب له وإفاضة رحمته عليه، وقصواها كشف الحجب عن قلبه حتى يراه بقلبه وينظر إليه ببصيرته، فيكون كما ورد الحديث، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ولسانه الذي ينطق به.
"الحجازي" نسبة إلى الحجاز، وهو مكة واليمامة وقراهما سمي حجاز؛ لأنه حجز بين تهامة ونجد.
"الحجة البالغة" أي الدلالة الكاملة التي لا نقصان فيها ولا انفصام لها. "حجة الله على الخلائق" في الفردوس بلا إسناد أنا حجة الله، وهو بمعنى البرهان "حرز الأميين" العرب، أي حافظهم ومانعهم من السوء، وخصوا بالذكر؛ لأنه لما كان منهم قصد زيادة الاعتناء بهم، وتنبيها لبني إسرائيل على عظم شأنهم ورفعتهم بهذا النبي الذي يخرج منهم وأن غيرهم كالتابع لهم.
روى البخاري عن عبد الله بن عمرو بن العاص والله أنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} [الفتح: 8] وحرزا للأميين الحديث.
"الحرمي" نسبة إلى الحرم المكي.
"حريص" فعيل بمعنى فاعل من الحرص وهو شدة الإرادة للمطلوب "الحريص على الإيمان" قال تعالى: {حَرِيصٌ عَلَيْكُم} [التوبة: 128] أي على إيمانكم وهدايتكم.
"الحسيب" فعيل بمعنى مفعل من أحسبني الشيء كفاني ومنه عطاء حسابا، أو الشريف، أو الكريم من الحسب محركا، وهو ما يعد من مفاخر الآباء، أو الدين، أو الكرم، أو الشرف في الفعل، أو الآباء، وهو صلى الله عليه وسلم متصف بجميع ذلك، وهو من أسمائه تعالى. قال الغزالي وليس للعبد مدخل فيه إلا بنوع مجاز بأن يكون كافيا لطفله بتعهده، أو لتلميذه بتعليمه حتى لا يفتقر إلى غيره انتهى. وهو صحيح في حقه صلى الله عليه وسلم؛ لأنه كاف لأمته جميع ما تحتاج إليه في الدارين بحيث(4/183)
الحفيظ، الحق، الحكيم، الحليم، حماد، حمطايا أو قال حمياطا، حمعسق،
__________
لا تحتاج إلى غيره.
"الحفيظ" فعيل من الحفظ وهو صون الشيء عن الزوال، فإن كان في الذهن فضده النسيان، أو في الخارج فضده التضييع، وهو من أسمائه تعالى، وكلا المعنيين يصح إطلاقه عليه لأن الأشياء محفوظة في علمه لا يطرأ عليه نسيان ويحفظ الموجودات من الزوال. وقيل معناه الذي يحفظ سرك من الأغيار، ويصون ظاهرك عن موافقة الفجار. وأما قوله: {وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} [النساء: 80] فمعناه لست أحفظ أعمالكم وأجازيكم عليها. وقوله: {فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} [النساء: 80] أي لتحفظهم حتى لا يقعوا في الكفر والمعاصي، أو لتحصى مساويهم حفيظ بالمعنى الأول بمعنى أنه يردهم عنه ويقاتلهم عليه، وبالمعنى الثاني؛ لأنه يشهد عليهم يوم القيامة وهو أبلغ من الحافظ.
"الحق" يأتي في المتن وهو من أسمائه تعالى.
"الحكيم" لأنه علم وعمل وأذعن لربه قاله العزفي فعيل من الحكمة قال تعالى: {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [البقرة: 129] ، {ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ} والمتصف بالحكمة علما وتعليما حكيم. وفي أنها النبوة، أو معرفة القرءان والفهم فيه، أو الإصابة في القول، أو العلم المؤدي إلى العمل، أو السنة، أو خشية الله أقوا وهو عليه السلام حكيم بكل ذي المعاني. وقيل بمعنى مفعل من الأحكام وهو الإتقان أو بمعنى فاعل من الحكم، وهو المنع للإصلاح وهو أعم من الحكمة وهو عليه السلام متقن للأمور ومانع لأمته.
"الحليم" قال ابن دحية موصوف به في التوراة اسم فاعل للمبالغة من حلم بضم اللام إذا صار الحلم طبعا له، وسجية من سجاياه. قال أبو طالب يمدحه:
حليم رشيد عادل غير طائش ... يوالي الها ليس عنه بغافل
وكان أحلم الناس، وكل حليم قد عرفت منه زلة، وحفظت عنه هفوة وهو صلى الله عليه وسلم لا يزيد مع كثرة الأذى إلا صبرا، وعلى إسراف الجاهلية إلا حلما وهو من أسمائه تعالى، ومعناه في حقه الذي لا يعجل بالعقوبة.
"حماد" في الشامي الحماد بشد الميم صيغة مبالغة من الحمد، أي الحامد الكثير الحمد، "حمطايا" بفتح الحاء، وكسرها وسكون الميم، أو فتحها مشددة وبالطاء المهملة، فألف فتحتية، "أو قال" شك "حمياطا" بتقديم الياء، والألف على الطاء ومعناه حامي الحرم. ويأتي في المصنف "حمعسق" ذكره ابن دحية ونقله الماوردي عن جعفر بن محمد، ونقل عن ابن عباس(4/184)
حفي، الحمد، الحنيف، الحي.
"حرف خ":
الخبير، خاتم النبيين، خاتم المرسلين،
__________
أنه من أسماء الله.
"حفي" ذكره شيخه السخاوي الحفي بالتعريف، وتبعه الشامي، وقال البر اللطيف يقال: حفيت بفلان، وتحفيت به إذا أعنته في كرامته.
"الحمد" ذكره شيخه السخاوي، وتبعه الشامي وبيض لشرحه، ولم يتنبه شيخنا لذلك، فظنهما اسما واحدا وإن حفي مضاف للحمد وليس كذلك، فإن الشامي ترجم أولا الحفي، ثم ذكر بعده سبعة أسماء، ثم ترجم الحمد وكتب عليه علامة السخاوي.
"الحنيف" يأتي للمصنف، فذكر ثمانيا وعشرين منها خمسة من أسماء الله تعالى، وزاد الشامي حاط حاط. قال العزفي هو اسمه في الزبور الحامي، أي المانع لأمته من العدا والحافظ لهم من الردى، أو حامي البيت والحرم ببعده من أيدي ذي الجرم، أو لأنه كان له أن يحمي نفسه وإن لم يقع منه ذلك حبنطا.
قال العزفي: من أسمائه في الإنجيل وتفسيره، يفرق، بين الحق والباطل، الحكم بفتحتين، أي الحاكم، أو المناع، وهو من أسماء الله تعالى ومعناه الذي لا راد لحكمه قال: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا} أي مانعا. الحلاحل بمهملتين الأولى مضمومة والثانية مكسورة السيد الشجاع، أو كبير المروءة، أو الرئيس الرزين، كأنه مأخوذ من الحلول والاستقرار؛ لأن القلق وقلة الثبات في مجلس ليس من عادة السادات.
الحميد فعيل بمعنى حامد ومحمود صيغة مبالغة من الحمد وهو الثناء، أي الذي حمدت أخلاقه ورضيت أفعاله، أو الحامد لله بما لم يحمده به حامد، والكثير المحامد وهو من أسمائه تعالى ومعناه الذي حمد نفسه أبدا وحمده عباده أبدا، أو المستحق للحمد؛ لأن موصوف بكل كمال ومول لكل نوال.
الحنان بالتخفيف الرحمة الحيي بمهملة وتحتيتين الكثير الحياء.
روى الدارمي عن سهل بن سعد كان صلى الله عليه وسلم حييا لا يسأل شيئا إلا أعطى.
"الحي" أي الباقي المتلذذ المنعم في قبره انتهى.
حرف خ:
"الخبير" يأتي للمصنف من أسماء الله تعالى "خاتم النبيين" كما في التنزيل ولكن رسول الله وخاتم النبيين "خاتم المرسلين" ذكر العلماء في حكمه كونه خاتم النبيين والمرسلين(4/185)
الخاتم، الخازن لمال الله، الخاشع، الخاضع، الخالص، خطيب الأنبياء، خطيب الأمم، خطيب الوافدين على الله، خليل الرحمن، خليل الله،
__________
أوجها منها أن يكون الختم بالرحمة وإرادة الله أن لا يطول مكث أمته تحت الأرض إكراما له وإن لا ينسخ شريعته، بل من شرفه نسخها لجميع الشرائع، ولهذا إذا نزل عيسى إنما يحكم بها.
"الخاتم" يأتي للمصنف وذكر ابن دحية الخاتم بكسر التاء والخاتم بفتحها، ونقل ذلك عن ضبط ثعلب وابن عساكر.
"الخازن لمال الله" أخذه ابن دحية من حديث أبي هريرة رفعه "والله ما آتيتكم من شيء ولا أمنعكم من شيء منه إن أنا إلا خازن أضع حيث أمرت" رواه أحمد وغيره.
قال النووي معناه خازن ما عندي أقسم ما أمرت بقسمته على حسب ما أمرت به والأمور كلها بمشيئة الله.
"الخاشع" الخشوع لغة السكون والتخشع التذلل قاله الأزهري، وقال ابن سيده خشع رمى ببصره، وعند الصوفية الانقياد للحق، وقيل قيام القلب بين يدي الرب بهم مجموع. وقال الحسن، الخوف الدائم الملازم للقلب والجنيد تذلل القلوب لعلام الغيوب والحكيم الترمذي الخاشع من خمدت نيران شهوته وسكن دخان صدره، وأشرق نور التعظيم من قلبه فماتت شهواته وحيي قلبه فخشعت جوارحه.
قال القشيري على أن محل الخشوع القلب وهو قريب من التواضع.
"الخاضع" ذكره ابن دحية. قال الجوهري الخضوع التطامن والتواضع، وقال الأزهري الخضوع قريب من الخشوع إلا أن الخشوع للقلب وهو قريب من التواضع.
"الخالص" أي النقي من الدنس "خطيب الأنبياء" في حديث الشفاعة كنت إمام النبيين وخطيبهم، أي مقدمهم وصاحب الكلام ودونهم، والخطيب الحسن الخطبة، وهي الكلام المنثور المسجع مشتقة من الخطب وهو اللسان؛ لأن العرب إذا دهمهم أمر اجتمعوا له، وخطبت ألسنتهم فيه، أو من المخاطبة؛ لأنه يخاطب بالأمر والنهي، أو من الخطيب وهو ذو الألوان من كل شيء لاشتمالها على فنون الكلام.
"خطيب الأمم" جمع أمة "خطيب الوافدين على الله" جمع وافد ذكرهما السخاوي.
"الخليل" فعيل بمعنى فاعل من الخلة الصداقة والمحبة التي تخللت القلب، فصارت خلاله، أو من الخلة بمعنى الاصطفاء لأنه يوالي ويعادي في الله، أو بمعنى الحاجة لانقطاعه إلى ربه وقصر حاجته عليه.
"خليل الله" روى أحمد وغيره عن ابن مسعود رفعه "لو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا(4/186)
الخليفة، خير الأنبياء خير البرية، خير خلق الله، خير العالمين طرا، خير الناس، خير هذه الأمة، خير الله.
__________
بكر وإن صاحبكم خليل الله".
وروى أبو يعلى في حديث المعراج إن الله قال له صلى الله عليه وسلم: "وإني اتخذتك خليلا" واطلاق الخلقة على الله للمقابلة، ولأنها نصره إياه وجعله خير خلقه لا بمعنى الحاجة إذ لا يجوز أن يقال الله خليل محمد من الخلة التي هي الحاجة، كما أفاده الإمام الواحدي. "الخليفة" أي الذي يخلف غيره وينوب عنه والهاء للمبالغة، سمي بذلك، وكذا آدم وغيره؛ لأن الله استخلفهم على عمارة الأرض وسياسة الناس وتكميل نفوسهم وتنفيذ أوامره منهم لا لحاجة منه تعالى إلى ذلك بل لقصور المستخلف عليهم عن قبول فيضه وتلقي أمره بغير واسطة.
"خير الأنبياء" ذكره السخاوي وغيره، أي أفضلهم.
"خير البرية" الخلق "خير خلق الله خير العالمين طرا" ذكرهما معا ابن دحية وذلك من الأحاديث والآثار المشهورة ومعناهما واحد. والخلق مصدر بمعنى مخلوق وهو المبتدع المخترع بفتح الدال والراء.
"خير الناس" ذكره السخاوي، قال الجوهري يقال رجل خير، أي فاضل ولا يقال أخير؛ لأن فيه معنى التفضيل، وحذفت منه الهمزة كما حذفت من أشر غالبا لكثرة الاستعمال ورفضوا أخير وأشر فيما ندر كقوله: بلال خير الناس وابن الأخير.
"خير هذه الأمة" أخذه ابن حية مما رواه البخاري عن سعيد بن جبير قال: قال لي ابن عباس: هل تزوجت؟ قلت: لا، قال: تزوج فخير هذه الأمة أكثرها نساء يعني النبي صلى الله عليه وسلم.
"خيرة الله" بكسر الخاء وسكون التحتية المختار. وقال الجوهري يقال محمد خيرة الله من خلقه وخيرة بالتسكين أيضا، أي مختاره ومصطفاه، أو بفتح الخاء مع سكون التحتية، وعناه أفضل الناس وأكثرهم خيرا فعد أحد وعشرين منها واحد من أسمائه تعالى.
وزاد الشامي الخافض، أي خافض الجناح من الخفض والتواضع ولين الجانب {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} أي تواضع لفقرائهم وضعفائهم وطب نفسا عن أغنيائهم، أو الذي يخفض الجبابرة بسوطه ويكسر الأكاسرة ببأسه وهو من أسمائه تعالى.
خليل الرحمن ذكره السخاوي خليفة الله. ذكره ابن دحية من قوله في حديث الإسراء ونعم الخليفة حياه الله من أخ ومن خليفة وجاء إطلاقه على الله في حديث "اللهم أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل" فهو مما سماه به من أسمائه الخير بتحتية الفضل والنفع؛ لأنه حصل بوجوده خير كثير، أو الفاضل يقال رجل خير كعدل وخير ككيس، أي فاصنع خير الخلق(4/187)
"حرف د":
دار الحكمة، الداعي إلى الله، دعوة إبراهيم، دعوة النبيين، دليل الخيرات.
"حرف ذ":
الذاكر،
__________
ذكره ابن دحية.
حرف د:
"دار الحكمة" لقوله صلى الله عليه وسلم: "أنا دار الحكمة وعلى بابها".
رواه الحاكم في المستدرك وصححه، وزعم ابن الجوزي والذهبي أنه موضوع ورد بما يطول.
قال الحافظان العلائي وابن حجر الصواب أنه حسن لا صحيح ولا موضوع.
"الداعي إلى الله" كما في التنزيل وداعيا إلى الله بإذنه سمي به لدعائه إلى طاعته والحث عليها، وقد وصف الله تعالى نفسه بالدعاء والله يدعو إلى دار السلام فهو مما سماه من أسمائه.
"دعوة إبراهيم" كما قال صلى الله عليه وسلم: "أنا دعوة أبي إبراهيم" يعني {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُم} [البقرة: 129] الآية "دعوة النبيين" ذكره السخاوي.
"دليل الخيرات" فعد خمسا وزاد الشامي الدامغ بمعجمة آخر؛ لأنه دمغ الباطل بالحق وكسر جيوش الشرك بسيف حجته الداني اسم فاعل من الدنو القرب، ثم دنا فتدلى دعوة التوحيد، أي صاحب قول لا إله إلا الله، أو الأعلام سمي به؛ لأنه أعلم الناس، أي دلهم على طريق الهداية، أو بمعنى المدعو به على إطلاق المصدر على اسم المفعول الدليل، أي الهادي دهتم بفوقية وزن جعفر السهل الخلق والحسن الخلق انتهى.
حرف ذ:
"الذاكر" اسم فاعل من الذكر وهو تمجيد الله وتقديسه وتسبيحه.
قال تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ} [الأعراف: 205] .
قال الرازي: المعنى أنه يحب حصول الذكر كل وقت وإدامة القلبي لقوله: {وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِين} وأنه لا ينبغي أن يغفل عن استحضار جلال الله وكبريائه لحظة واحدة حسبما تطيقه القوى الإنسانية وتحمله الطاقة البشرية. ولا شك أنه صلى الله عليه وسلم أمس الخلق بذلك وأولاهم به وأحقهم بالاختصاص بدرجات الكمال والاستغراق في مشاهده الحلال، فلذا سمي به.(4/188)
الذكر، ذكر الله ذو الحوض المورود، ذو الخلق العظيم، ذو الصراط المستقيم، ذو القوة، ذو مكانة، ذو عزة، ذو فضل، ذو المعجزات، ذو المقام المحمود، ذو الوسيلة.
__________
"الذكر" بسكون الكاف القوي الشجاع الأبي، أو الثناء والشرف قال العزفي وابن دحية؛ لأنه شريف في نفسه مشرف غيره مخبر عنه به، فاجتمعت له وجوه الذكر الثلاثة قال تعالى: {قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا، رَسُولًا} [الطلاق: 10] قال جماعة هو محمد صلى الله عليه وسلم فرسولا حال "ذكر الله". ذكره السخاوي، وقال مجاهد في {أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد: 28] أنه محمد وأصحابه.
"ذو الحوض المورود" ذكره السخاوي أيضا ويأتي إن شاء الله تعالى الكلام عليه في محله. "ذو الخلق العظيم" قال تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4] ، ويأتي أيضا في محله.
"ذو الصراط المستقيم" كما قال: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52] صراط الله.
"ذو القوة" نقل عياض عن الجمهور في ذي قوة أنه محمد صلى الله عليه وسلم قال: وهو مما سماه به من أسمائه تعالى.
"ذو مكانة" منزلة عليه عند ربه ليست لغيره.
"ذو عزة" ذكره السخاوي.
"ذو فضل" وفي الشامي الفضل، أي الإحسان. "ذو المعجزات الكثيرة الباهرة.
"ذو المقام المحمود" وهو الشفاعة على المشهور، وبالغ الواحدي فحكى عليه إجماع المفسرين، ويأتي إن شاء الله تعالى في محله بسطه.
"ذو الوسيلة" هي أعلى درجة في الجنة. فعيلة، من وسل إليه إذا تقرب، وتطلق على المنزلة العلية كما في مسلم: "ثم سلوا الله ليَّ الوسيلة، فإنها منزلة في الجنة لا تبتغي إلا لبعد وأرجو أن أكون هو" "لطيفة".
قال السهيلي: الإضافة بذي أشرف من الإضافة بصاحب؛ لأنه يضاف بها إلى التابع مثل ذي مال وصاحب يضاف بها إلى المتبوع مثل أبو هريرة صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يقال النبي صاحب أبي هريرة إلا على وجه ما، ومن ثم لما ذكر يونس في موضع الثناء والمدح.
قال تعالى: {وَذَا النُّونِ} فاتي بذا الدالة على التشريف وأضيفت إلى لفظ النون الذي هو أشرف من لفظ الحوت؛ لأنه وإن كان بمعناه لكنه ذكر دونه في حروف التهجي وأوائل السور(4/189)
"حرف ر":
الراضع، الراضي، الراغب،
__________
على جهة القسم زيادة في التشريف ومبالغة في التعظيم، ولما كان المقصود من ذكره في سورة [القلم] قال: {وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوت} فذكر ثلاثة عشر وزاد الشامي: "الذخر" بضم الذال وسكون المعجمة، أي الذخيرة الذكار أي كثير الذكر.
روى ابن ماجه عن عائشة: كان صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحيانه. الذكر بفتحتين، الجليل الخطر. ومنه الحديث "القرآن ذكر فذكروه".
قال في النهاية، أي جليل خطير فاجلوه ذو التاج أي، العمامة؛ لأنها تاج العرب ذو الجهاد ذو الحطيم بفتح الحاء، وهو الحجر المخرج من البيت على الأصح أو ما بين الركن والباب، سمي بذلك في الكتب السابقة؛ لأنه أنقذه من أيدي المشركين، وأخرج ما كان فيه من الأصنام، وجعله محل عبادة.
ذو السيف من أسمائه في الكتب السالفة ذو السكينة بالفتح والتخفيف الوقار والتأتي في الحركة، وقال الصفاني بكسر السين وشد الكاف وهي الرحمة وطيبة، أي المدينة.
ذو العطايا جمع عطية وهي الموهبة. ذو الفتح جمع فتح وهو النصر على الأعداء. ذو المدينة وهي طيبة ذو القضيب، أي السيف الرقيق.
ذو الميسم بكسر الميم وسكون التحتية، أي العلامة، أو الجمال، أو الحسن، أي ذو حسن وجمال. ذو الهراوة بكسر الهاء العصا انتهى.
حرف ر:
"الراضع" ذكره السخاوي قال الشامي: وفي ذكر مثله نظر، أي لأنه ليس صفة تعظيم مع إشعاره باحتياجه، وقد يدفع بأن المراد الراضع على صفة لم تقع لغيره من الهامه العدل وأن له شريكا وظهور آيات في رضاعه حتى كأنه الراضع الذي لم يرضع أحد سواه.
"الراضي"، وهو القانع بما أعطى أخذه ابن دحية من قوله تعالى: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} .
روى مسلم وغيره أنه صلى الله عليه وسلم تلا قوله في إبراهيم {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي} [إبراهيم: 36] ، وقول عيسى: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُك} [المائدة: 118] فرفع يديه وقال: "اللهم أمتي"، وبكى فقال الله: يا جبريل اذهب إلى محمد فقل إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك.
قال ابن دحية: هذا الحديث هو تفسير الآية "الراغب" اسم فاعل من رغب إليه كسمع(4/190)
الرافع، راكب البراق، راكب البعير، راكب الجمل، راكب الناقة، راكب النجيب، الرحمة، رحمة الأمة، رحمة العالمين، رحمة مهداة، الرحيم، الرسول رسول الراحة،
__________
ابتهل وتضرع، أو سأل قال تعالى: {وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَب} [الشرح: 8] قال ابن مسعود، أي فاجعل رغبتك إليه دون من سواه من خلقه، وقال غيره ارغب إليه وسله حاجتك. وقيل تضرع إليه راهبا من النار راغبا في الجنة، "الرافع" الذي رفع به قدر أمته وشرفوا باتباع ملته، وهو من أسمائه تعالى, معناه الذي يرفع المؤمنين بالإسعاد ويخفض الكافرين بالإبعاد.
"راكب البراق" ذكره ابن دحية ويأتي الكلام عليه في المعراج.
"راكب البعير" وهو من أسمائه في الكتب السالفة.
"راكب الجمل" ورد في كتاب نبوة شعيا، وهو ذو الكفل أنه قال: قيل لي قم فانظر ما ترى فأخبر عنه، فقلت رأيت راكبين أحدهما على حمار والآخر على جمل. فقال أحدهما لصاحبه: سقطت بابل وأصنامها قال ابن دحية: فراكب الحمار عيسى وراكب الجمل محمد؛ لأن ملك بابل إنما ذهب بنبوته.
قال السيوطي: ولذا قال النجاشي لما جاءه كتابه صلى الله عليه وسلم وآمن به أشهد أن بشارة موسى براكب الحمار كبشارة عيسى براكب الجمل.
قال ابن عساكر: إن قيل لِمَ خص براكب الجمل وقد كان يركب الفرس والحمار فالجواب أن المعنى به أنه من العرب لا من غيرهم؛ لأن الجمل مركب للعرب يختص بهم لا ينسب إلى غيرهم.
"راكب الناقة" هو من أسمائه في الكتب السالفة. "راكب النجيب" ذكره في الاصطفاء. "الرحمة" قال أبو بكر بن طاهر زين الله تعالى محمدا صلى الله عليه وسلم بزينة الرحمة فكونه وجميع شمائله وصفاته رحمة على الخلق، وحياته رحمة وموته رحمة، كما قال صلى الله عليه وسلم: "حياتي خير لكم ومماتي خير لكم"، وكما قال: "إذا أراد الله رحمة بأمة قبض نبيها قبلها فجعله لها فرطا وسلفا". "رحمة الأمة" ذكره السخاوي. "رحمة العالمين" قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِين} [الأنبياء: 107] فهو رحمة لجميع الخلق المؤمن بالهداية والمنافق بالأمان من القتل والكافر بتأخير العذاب عنه "رحمة مهداة" بضم الميم روى الحاكم عن أبي هريرة رفعه "إنما أنا رحمة مهداة" وللطبراني "بعثت رحمة مهداة" قال ابن دحية، معناه إن الله بعثني رحمة للعباد لا يريد لها عوضا لأن المهدي إذا كانت هديته عن رحمة لا يريد لها عوضا.
"الرحيم الرسول" يأتي للمصنف الكلام عليهما: "رسول الراحة" لما في رسالته من الراحة لعامة الناس وهي لغة زوال المشقة والتعب.(4/191)
رسول الله، رسول الملاحم الرشيد، الرفيع الذكر، رفيع الدرجات الرقيب، روح الحق، روح القدس.
__________
"رسول الرحمة" وردت تسميته بذلك في حديث موقوف على ابن مسعود عند ابن ماجه ومعناه واضح؛ لأنه أرسل رحمة.
"رسول الله" ذكره الشامي وبيض بعده وكأنه مأخوذ من قوله محمد رسول الله.
"رسول الملامح" جمع ملحمة بفتح الميم، وهو موضوع القتال؛ لأنه أرسل بالجهاد والسيف.
"الرشيد" من الرشد بضم فسكون، أو بفتحتين وهو الاستقامة في الأمور بمعنى أشد، أي مستقيم، أو بمعنى مرشد، أي هاد قال تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيم} [الشورى: 52] أي ترشد إلى الدين القيم، وهو من أسمائه تعالى، وهو الذي تنساق تدبيراته إلى غاياتها على سنن السداد من غير استشارة والإرشاد، أو الذي أرشد الخلق إلى مصالحهم.
"الرفيع الذكر" قال تعالى: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَك} [الشرح: 4] .
روى ابن حبان عن أبي سعيد رفعه "أتاني جبريل، فقال: إن ربك يقول تدري كيف رفعت ذكرك قلت: الله أعلم قال: إذا ذكرت ذكرت معي" قال في الوفاء، ومعناه العلي، أو رفيع الدرجات على غيره، أو رفيع الذكر بمعنى مرفوعه، أو رافع هذه الأمة بالإيمان بعد انخفاضهم بذل الكفر والعصيان، فهو بمعنى الرفيع ومن أسمائه تعالى الرفيع.
"رفيع الدرجات" أخذه السيوطي من قوله: ورفع بعضهم درجات، والمراد محمد صلى الله عليه وسلم، كما قال مجاهد: قال الزمخشري: وفي هذا الإبهام من تفخيم فضله وإعلاء قدره ما لا يخفى لما فيه من الشهادة على أنه العلم الذي لا يشتبه والمتميز الذي لا يلتبس انتهى. وقد أجاد القائل:
وأقول بعض الناس عنك كناية ... خوف الوشاة وأنت كل الناس
ورفعه بما خصه به من بدائع الفضل الذي لم يؤته نبيا قبله.
"الرقيب" الذي يراقب الأشياء ويحفظها من المراقبة، وهي الحفظ قال بعض السادة: المراقبة علم العبد باطلاع الرب، وهو من أسمائه تعالى ومعناه المطلع على الضمائر العالم بما في السرائر.
"روح الحق روح القدس" قال ابن دحية: وردا في الإنجيل ومعنى القدس المقدسة، أي الطاهرة من الأدناس من إضافة الموصوف إلى الصفة والحق إما أن يراد به الله تعالى وإضافة الروح إليه تشريف، كما سمي عيسى روح الله، أو يراد به النبي صلى الله عليه وسلم وتكون الإضافة للبيان، أي(4/192)
الرءوف ركن المتواضعين.
"حرف ز":
الزاهد، زعيم الأنبياء، الزكي، الزمزمي،
__________
روح هو الحق.
"الرءوف" مما سماه به من أسمائه ويأتي للمصنف.
"ركن المتواضعين" وقع في كتاب شعيا فعد سبعا وعشرين منها ستة من أسماء الله تعالى.
وزاد الشامي الراجي من الرجاء ضد الخوف الرجل بفتح الراء وكسر الجيم وفتحها، أي رجل الشعر كأنه مشط الرجيح، أي الزائد على غيره في الفضل، الرحب الكف، أي واسعة، أو كثير العطاء وكان عليه السلام موصوفا بهما. الرضي، أي ذو الرضا، أو هو رضا الله على عباده رضوان الله بكسر الراء، أي رضاه على عباده وقيل في قوله يهدي به الله من اتبع رضوانه، أي اتبع رسوله.
الرفيق من الرفق، وهو اللطف وكان صلى الله عليه وسلم منه بمكان الرهاب يقال للمبالغة من الرهب بضم فسكون أو بفتحتين، وهو الخوف لا من الترهيب؛ لأن أمثلة المبالغة لا تبنى غالبا إلا من ثلاثي مجرد ولنهيه عن الرهبانية فلا يصف بها نفسه. وفي الحديث "واجعلني لك شكارا رهابا" رواه ابن ماجه. الروح في الأصل ما يقوم به الجسد سمي به؛ لأنه حياة الخلق بالهداية بعد موتهم بالضلال، وقيل في تفسير {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوح} أي محمد وقيل جبريل وقيل غيره.
حرف ز:
"الزاهد" من أسمائه في الكتب القديمة. روى عن أبي ذر رفعه الزهادة في الدنيا ليست بتحريم الحلال ولا إضاعة المال ولكن الزهادة في الدنيا أن لا تكون بما في يديك أوثق بما في يدي الله وأن تكون في ثواب المصيبة إذا أنت أصبت بها أرغب فيها لو أنها بقيت لك.
"زعيم الأنبياء" هو الكفيل المتحمل للأمور، أو الضامن لأمته بالفوز يوم النشور. سمي بذلك لكفالته للأنبياء بالشفاعة العظمى.
"الزكي" أي الطاهر المبارك من الزكاة النمو والطهارة أخذه ابن دحية من قوله تعالى: {يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ} [البقرة: 151] ورده السيوطي بأن الوصف في زكى مزكى لا زكى نعم الاسم الصحيح في حقه صلى الله عليه وسلم وفي حديث سطيح: نبي زكي.
"الزمزمي" قال ابن دحية نسبة إلى زمزم وهي سقيا الله لجده اسماعيل فهو أولى من نسب إليها.(4/193)
زين من وافي القيامة
"حرف س":
السابق من السبق، السابق بالخيرات، سابق العرب، الساجد، سبيل الله.
__________
"زين من وافى القيامة" ذكره عياض وفي حديث الضب قوله السلام عليك يا زين من وافى القيامة، فذكر خمسا وزاد الشامي الزاجر من الزجر المنع والكف؛ لأنه يزجر عن المعاصي الزاهر، أي المشرق اللون المستنير الوجه الزاهي، أي الحسن المشرق، أو الظاهر أمره الواضح برهانه المترفع بسمات الهداية والفتوة المنزه عما لا يليق بمنصب النبوة زلف بفتح الزاي ككتف، أي الزيف بتحتية بعد اللام من الزلف، وهو القرب والتقدم.
الزين، أي الحسن الكامل خَلقا وخُلقا، وهو لغة ضد الشين وزعم أنه زاد الربض غلط إنما قال الشامي في اسم زعيم الأنبياء: روى أبو داود بسند صحيح عن أبي أمامة مرفوعا "أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء"، وهو محق الربض بفتح الراء والباء وآخره ضاد معجمة، أي أرض الجنة تشبيه بربط المدينة، وهو ما حولها انتهى. بلفظ فصحفه بالزاي، ثم ظنه اسما، وعارضه بأن الذي في المصباح بالراء مع أن الشامي، كما ترى إنما ذكره ضبطا للحديث الذي ذكره دليلا على تسميته بالزعيم وضبطه بالراء.
حرف س:
"السابق من السبق" وهو التقدم وقد يستعار السبق لإحراز الفضيلة، ومنه والسابقون السابقون، ومعناه المخلص الذي سارع إلى طاعة مولاه وشق الفيافي في طلب رضاه، أو السابق لفتح باب الجنة قبل الخلق.
"السابق بالخيرات" الدينية والدنيوية في الدنيا والآخرة.
"سابق العرب" كما في حديث أنس مرفوعا "السباق أربعة أنا سابق العرب وصهيب سابق الروم وسلمان سابق الفرس وبلال سابق الحبش".
"الساجد" أخذه السيوطي من قوله: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَه} [الإنسان: 26] وقوله: {وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِين} [الحجرات: 98] أي: دوام على عبادتك وخضوعك معهم.
"سبيل الله" أي طريقه الموصل إليه؛ لأنه الموصل إلى رضا الله {الَّذِينَ َفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّه} [النساء: 167] أي كتموا نعت محمد صلى الله عليه وسلم وأخذه ابن دحية من قوله: {وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّه} [الأنفال: 47] في أحد القولين، أنه رسول الله.(4/194)
السراح المنير، السراط المستقيم، السعيد، سعد الله، سعد الخلائق، السميع، السلام، السيد، سيد ولد آدم، سيد المرسلين، سيد الناس،
__________
قال السادي: ورواه ابن أبي حاتم "السراج المنير" يأتي المصنف "السراط المستقيم" القيم الواضح الذي لا عوج فيه.
سمي به؛ لأنه الموصل إليه والصاد لغة فيه قال ابن عباس في الآية: هو رسول الله رواه الحاكم وصححه وكذا قاله أبو العالية عند ابن جرير وغيره.
"السعيد" فعيل بمعنى فاعل سمي به؛ لأن الله أوجب له السعادة من القدم وحقق له السيادة على سائر الأمم.
"سعد الله سعد الخلائق" ذكر الثلاثة السخاوي؛ لأن الله أسعد الخلائق بأتباعه.
"السميع" فعيل بمعنى فاعل من السمع الذي هو أحد الحواس الظاهر قال تعالى: {لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الإسراء: 1] ، قيل الضمير له عليه السلام، سمي بذلك لما شرف به في مسراه من سماع كلام مولاه، وهو من أسمائه تعالى، ومعناه الذي يسمع السر وأخفى وسمعه تعالى صفة تتعلق بالمسموعات.
"السلام" السالم من العيب المنزه عن الريب، وهو في الأصل السلامة سمي به لسلامة هذه الأمة بل وغيرها بوجوده من العضاب، وأمنها من العقاب، أو لسلامته من النقص والعيب، وبراءته من الزيغ والريب، وهو من أسمائه تعالى، أي الذي سلمت من الشين ذاته وجلت عن النقص صفاته أو مالك تسليم العباد من المهالك أو ذو السلام على المؤمنين في الجنة، أو الذي سلم خلقه من ظلمه، أو سلم المؤمنين من العذاب، أو المسلم على المصطفين لقوه {وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} [النمل: 59] وهو في حقه صلى الله عليه وسلم صحيح بالمعنى الأول والرابع والخامس واضح وليس الثالث والسادس ببعيد في حقه أيضا.
"السيد" الرئيس الذي يتبع وينتهي إلى قوله: أو الذي يلجأ إليه في الحوائج أو المطيع، أو الفقيه العالم، أو الذي ساد في العلم والعبادة والورع، أو فائق أقرانه في كل شيء، وهو صلى الله عليه وسلم سيد بالصفات المذكورة، وهو من أسمائه تعالى قال النحاس، ولا يقال لغيره إلا بلا تعريف.
قال النووي الأظهر جوازه باللام وغيرها للمشهور بعلم، أو صلاح ويكره لغيره وعند الحاكم مرفوعا إذا قال الرجل للفاسق سيد، غضب ربه عز وجل.
"سيد ولد آدم" لقوله صلى الله عليه وسلم: "أنا سيد ولد آدم يوم القيامة" رواه مسلم.
"سيد المرسلين" بالنص الجلي، "سيد الناس" لقوله في حديث الشفاعة "أنا سيد الناس يوم القيامة"، وإنما قيد به لظهور سؤدده فيه الكل واحد بلا منازع ولا معاند، بخلاف الدنيا فنازعه(4/195)
سيد الكونين، سيد الثقلين، سيف الله المسلول.
"حرف ش":
الشارع، الشافع، الشاكر،
__________
الكفار. وقال النووي وإنما قال ذلك امتثالا لقوله: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّث} [الضحى: 11] ولأنه من البيان الذي يجب تبليغه لأمته ليعرفوه ويعتقدوه "سيد الكونين" الدنيا والآخرة.
"سيد الثقلين" الإنس والجن؛ لأنهما كالثقل للأرض وعليها، أو لفضلهما بالتمييز الذي فيهما على سائر الحيوان، وكل شيء له وزن وقدر يتنافس فيه.
"سيف الله المسلول" ذكره الشامي أيضا غايته أنه حذف لفظ المسلول، وزاد السيف بلا إضافة. وقال روى الحاكم أن كعب بن زهير أنشده بانت سعاد حتى انتهى إلى قوله:
إن الرسول لسيف يستضاء به ... مهند من سيوف الهند مسلول
فقال صلى الله عليه وسلم من سيوف الله فذلك تسعة عشر فيها ثلاثة من أسماء الله. وزاد الشامي السابط بفتح المهملة وكسر الموحدة، أي سبط الشعر السخي، أي الكريم السديد بمهملات بمعنى فاعل من السداد، وهو الاستقامة، أو بمعنى مفعل، أي المسدد ثلم أمته بإصلاح أمورهم في الدنيا ورفع خللهم بالشفاعة في الآخرة. سرخليطس قال العزفي: هو اسمه بالسريانية ومعناه معنى البرقيطس السريع المبادر إلى طاعة ربه، أو الشديد السلطان، أي الحجة والبرهان؛ لأنه حجة الله على عباده في الدنيا والآخرة وبرهانه في الدنيا السمي، أي السامي، أي العالي من السمو العلو السنايا بالقصر الضوء الساطع، أو النور اللامع، أو بالمد، وهو الشرف والعلو؛ لأنه شرف هذه الأمة وفخرها، أو هو صاحب الشرف السند بمهملتين بينهما نون محركة الكبير الجليل الذي يعتمد عليه، ويقصد ويلجأ إليه السيف المخذم بمعجمتين كمعظم القاطع الماضي.
سيف الإسلام لقوله صلى الله عليه وسلم: "أنا سيف الإسلام وأبو بكر سيف الردة" رواه الديلمي السيف.
حرف ش:
"الشارع" العالم الرباني العامل المعلم، أو المظهر المبين للدين القيم اسم فاعل من الشارع، وهو الإظهار والتبيين. وقد اشتهر إطلاقه عليه؛ لأنه شرع الدين والأحكام، والشرع الدين كالشريعة، وقد وصف تعالى نفسه الكريمة بقوله: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّين} [الشورى: 13] فهو مما سماه به من أسمائه.
"الشافع" الطالب الشفاعة. "الشاكر" اسم فاعل من الشكر، وهو الثناء على المحسن بما أولاه من المعروف، أو تصور النعمة وإظهارها، أو الامتلاء من ذكر المنعم، وهو من أسمائه تعالى(4/196)
الشاهد، الشكور، الشكار، الشمس، الشهيد.
__________
ويأتي للمصنف.
"الشاهد" العالم، أو المطلع الحاضر من الشهود الحضور، قال تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا} ، أي على من بعثت إليهم، مقبول القول عليهم عند الله، كما يقبل الشاهد العدل، ويأتي له تتمة في المصنف.
"الشكور" كثير الشكر صيغة مبالغة فعول بمعنى فاعل، أو الذي يثيب الكثير على القليل.
وكان هذا من خصوصياته حتى لا يصير لأحد عليه منة، وهو من أسمائه تعالى، أي الذي يعطي الجزيل على العمل القليل، أو المثني على عباده إذا أطاعوه، أو المجازي على الشكر.
قال عياض الشكر من الخلق للحق معرفة إحسانه وشكره لهم مجازاتهم على أفعالهم، فسمي جزاء الشكر شكرا مجازا، والعلاقة المشاكلة، كما سمي جزاء السيئة سيئة. "الشكار" يأتي مع ما قبله للمصنف، "الشمس" يأتي أيضا. وكذا "الشهيد" وهو من أسمائه تعالى، أي الذي لا يغيب عنه شيء فذكر ثمانيا نصفها من أسماء الله تعالى.
وزاد الشامي المشفع بفتح الفاء الذي يشفع فيقبل الشفيع ورد في مسلم.
الشافي، أي المبرئ من السقم والألم والكاشف عن الأمة كل خطب يهم ألم الشثن بفتح أوله وسكون المثلثة ونون، أي عظيم الكفين والقدمين والعرب تمدح به.
وقال عياض: نحيفها، أو الذي في أنامله غلظ بلا قصر، وهو محمود في الرجال؛ لأنه أمكن للقبض الشديد وأحد الأشداء صفة مشبهة، وهو البين الشدة، أي القوة.
الشذقم بالفتح وسكون المعجمة وفتح القاف البليغ المفوه وأصله كبير الشذق، وهو جانب الفم وميمه زائدة.
روى مسلم عن سمرة كان صلى الله عليه وسلم ضليع الفم.
الشريف من الشرف العلو، أي العالي، أو المشرف على غيره، أي المفضل الشفاء بالكسر والمد البرء من السقم والسلامة؛ لأن الله أذهب ببركته الوصب وأزال بسماحة ملته النصب قال تعالى: {وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُور} قيل المراد محمد صلى لله عليه وسلم، الشهاب بالكسر السيد الماضي في الأمر، أو النجم المضيء لأن الله حمى به الدين من كل معاند، كما حمى بالشهب سماء الدنيا من كل شيطان ما رد قال كعب:
إن الرسول شهاب ثم يتبعه ... نور مضيء له فضل على الشهب
الشهم بفتح الكسر السيد النافذ الحكم.(4/197)
"حرف ص":
الصابر، الصاحب، صاحب الآيات، صاحب المعجزات، صاحب البرهان، صاحب البيان، صاحب التاج، صاحب الجهاد، صاحب الحجة، صاحب الحطيم، صاحب الحوض المورود، صاحب الخاتم، صاحب الخير، صاحب الدرجة العالية الرفيعة،
__________
حرف ص:
"الصابر" اسم فاعل من الصبر، حبس النفس عن الجزع وإمساكها في الضيق والفزع. وفيه تعاريف كثيرة قال تعالى: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ} [الطور: 48] ، وقال {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُك} {صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} [النجم: 2] {وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ} [التكوير: 22] قال ابن دحية: وهو بمعنى العالم والحافظ بالمعجمة قال: كان صلى الله عليه وسلم أصبر الناس على أقذار الناس.
"الصاحب" اسم فاعل من الصحبة وهي المعاشرة والملازمة قال تعالى: {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} {وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ} ، قال ابن دحية: وهو بمعنى العالم والحافظ واللطيف. وقال العزفي: سمي بذلك لما كان عليه لمن اتبعه من حسن الصحبة، وجميل المعاملة، وعظم المروءة، والوقار، والبر، والكرامة وقد ورد إطلاق الصاحب على الله "اللهم أنت الصاحب في السفر". "صاحب الآيات"، أي المعجزات "صاحب المعجزات" الكثيرة.
"صاحب البرهان" الحجة النيرة الواضحة التي تعطي اليقين.
"صاحب البيان" أي الكشف والإظهار، كما مر. قيل الفرق بينه وبين التبيان أنه الإظهار بالحجة، والبيان إظهار بلا حجة.
"صاحب التاج" اسم له في الإنجيل، أي العمامة ويأتي للمصنف.
"صاحب الجهاد" أي القتال. "صاحب الحجة" البرهان، أي المعجزات التي جاء بها، وهو من أوصافه في الكتب القديمة.
"صاحب الحطيم" وهو حجر البيت على الأصح، كما قال البرماوي.
"صاحب الحوض المورود" يوم القيامة "صاحب الخاتم"، أي خاتم النبوة ومر أو الذي كان يلبسه.
"صاحب الخير" ضد الشر؛ لأنه لا يصدر منه شر حتى إن غزوه وقتله الكفار خير محض لإظهار الدين.
"صاحب الدرجة العالية الرفيعة" ذكره السخاوي ولا ينافيه قوله في المقاصد الحسنة إنه(4/198)
صاحب الرداء، صاحب الأزواج الطاهرات، صاحب السجود للرب المحمود، صاحب السرايا، صاحب السلطان، صاحب السيف، لطيفة صاحب الشرع، صاحب الشفاعة الكبرى، صاحب العطايا، صاحب العلامات الباهرات، صاحب العلو والدرجات، صاحب الفضيلة، صاحب الفرج، صاحب القضيب الأصغر
__________
لم يره في شيء من الروايات؛ لأن مراده فيما يقال عقب الآذان، كما أفصح به فلا ينافي وروده أسما.
"صاحب الرداء" وطوله أربعة أذرع وعرضه ذراعان ونصف رواه أبو الشيخ من مرسل عروة. "صاحب الأزواج الطاهرات" ذكره السخاوي "صاحب السجود للرب المحمود" وفي نسخة المعبود وأخرى المعبود المحمود بالمجمع لكن الذي ذكره السخاوي الأول "صاحب السرايا" الكثيرة.
"صاحب السلطان" أي النبوة.
قال عياض: هو من أسمائه في الكتب المتقدمة وفي كتاب نبوة سعيا أثر سلطانه على كتفه قال ابن ظفر وفي رواية العبرانيين بدل هذه على كتفه خاتم النبوة فهو المراد بالأثر.
"صاحب السيف" هو من أوصافه في الكتب المتقدمة، أي صاحب القتال والجهاد وفيها سيفه على عاتقه يجاهد به في سبيل الله.
روى أحمد عن ابن عمر رفعه بعثت بالسيف حتى يعبد الله لا شريك له.
"لطيفة" أنشأ العلامة الجمال بن نبانة مفاخرة بين السيف والقلم ذكر فيها من مزايا السيف أن اليد النبوية حملته دونه.
"صاحب الشرع" الباقي الذي لم ينسخ، أي مظهره ومبينه أضيف إليه لعدم ظهوره قبله "صاحب الشفاعة الكبرى" في فصل القضاء.
"صاحب العطايا" التي لا تحصر بلا من ولا أذى ولا مقابل.
"صاحب العلامات الباهرات" التي أذعن لها حتى الأعادي، ولكن من يضلل الله فما له من هاد.
"صاحب العلو والدرجات" في الدنيا والآخرة.
"صاحب الفضيلة" التي لم ينلها غيره.
"صاحب الفرج" بفتح الراء ضد الشدة؛ لأنه ما حزبه أمر إلا توسل إلى ربه ففرج عنه وقرأه شيخنا بسكون الراء حيث قال لعله سمي بذلك لحصانه فرجه مع تمام الشهوة فلا تميل نفسه إلى النساء على وجه يمنعه عن كمال إقباله على الله. "صاحب القضيب"، أي السيف، كما(4/199)
صاحب قول لا إله إلا الله، صاحب القدم، صاحب الكوثر، صاحب اللواء، صاحب المحشر، صاحب المدينة، صاحب المغفر، صاحب المغنم، صاحب المعراج، صاحب المظهر المشهود، صاحب المقام المحمود، صاحب المئزر، صاحب المنبر، صاحب النعلين، صاحب الهراوة، صاحب الوسيلة، الصادع بما أمر الله،
__________
يأتي للمصنف.
"صاحب قول لا إله إلا الله" من صفته في التوراة، ولن يقبضه الله تعالى حتى يقيم به الملة العوجاء بأن يقولوا لا إله إلا الله. "صاحب القدم" ذكره السخاوي.
"صاحب الكوثر" كما في التنزيل {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} ويأتي الكلام عليه، وروى الدارقطني بسند جيد عن عائشة مرفوعا "من أراد أن يسمع خرير الكوثر فليجعل إصبعيه في أذنيه"،.
قال الحافظ جمال الدين المزي، أي من أراد أن يسمع مثل خريره. "صاحب اللواء" أي لواء الحمد وقد يحمل على اللواء الذي كان يعقده للحرب فيكون كناية عن القتال.
"صاحب المحشر" بكسر الشين موضع الحشر، وهو يوم القيامة، كما قال الجوهري، أي صاحب الكلمة فيه والشفاعة واللواء والمقام المحمود والكوثر ويظهر له خصائص جمة ليست لغيره.
"صاحب المدينة" لاختصاصه بتطهيرها من اليهود قتلا وإجلاء وإظهار الحق فيها وفتحها بالقرآن وتحريم صيدها وشجرها ومقامه بها حتى يحشر منها. "صاحب المغفر" يأتي للمصنف. "صاحب المغنم" ذكره السخاوي؛ لأن الغنائم لم تحل لنبي قبله.
"صاحب المعراج" يأتي في مقصده "صاحب المظهر المشهود"، أي المقام "صاحب المقام المحمود" وهو الشفاعة العظمى على الصحيح المشهور وبالغ الواحدي فحكى إجماع المفسرين عليه وتبعه ابن دحية هنا، وزاد المبالغة فلم يقيد بالمفسرين، وقد بسط المصنف في المقصد الأخير الكلام فيه.
"صاحب المئزر"، أي الإزار، وهو ما يشد به الوسط.
"صاحب المنبر" بكسر الميم من النبر، وهو الارتفاع.
"صاحب النعلين" في الإنجيل وصفه بذلك "صاحب الهراوة" بكسر الهاء العصا، ويأتي للمصنف "صاحب الوسيلة" درجة في الجنة، كما في مسلم وقد مر "الصادع بما أمر الله" اسم فاعل من صدع بالحجة إذا تكلم بها جهارا.
أخذه السيوطي من قوله تعالى: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَر} ، أي ابن الأمر إبانة لا تخفى،(4/200)
الصادق، الصبور، الصدق، صراط الله، صراط الذين أنعمت عليهم، الصراط المستقيم، الصفوح، الصفوح عن الزلات، الصفوة، الصفي، الصالح.
__________
كما لا يلتئم صدع الزجاجة المستعار منه ذلك التبليغ بجامع التأثير، وقيل اظهره، أو امضه، أو فرق بالقرآن والدعاء إلى الله وأوضح الحق وبينه من الباطل. "الصادق" اسم فاعل من الصدق.
روى البخاري وغيره عن ابن مسعود حدثنا رسول الله، وهو الصادق المصدوق. قال ابن دحية كان الصادق المصدوق علما له إذ جرى مجرى الأسماء، وهو من أسمائه تعالى.
قال ومن أصدق من الله حديثا، ويأتي في المصنف "الصبور"، صيغة مبالغة من الصبر فعول، بمعنى فاعل، وهو الذي لا تحمله العجلة على المؤاخذة، وكان شديد الصبر على أذى قومه مع حلمه عليهم امتثالا لقوله تسلية له، {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُل} ، وهو من أسمائه تعالى.
"الصدق" ذكره بعضهم أخذا من قوله: {وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ} "صراط الله صرط الذين أنعمت عليهم" حكاه الماوردي عن عبد الرحمن بن زيد في تفسير الآية.
"الصراط المستقيم" قاله الحسن وأبو العالية في تفسيرها، كما يأتي للمصنف؛ لأنه الطريق الموصل إليه وبالسين لغة فيه، كما مر.
"الصفوح" هو من صفائه في القرآن والتوراة والإنجيل، كما يأتي في المتن، قال تعالى: {فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيل} [الحجر: 85] ، فاعف عنهم واصفح. وفي حديث عبد الله بن عمرو بن العاص عند البخاري في بيان صفته في التوراة ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح "الصفوح عن الزلات"، بالإعراض ترك التئريب والتجاوز قيل هو أبلغ من العفو؛ لأن الإنسان قد يعفو ولا يصفح، وقيل العفو ألغ؛ لأنه إعراض عن المؤاخذة والعفو محو الذنب ومن لازمه الإعراض ولا عكس.
"الصفوة" بتثليث الصاد الخيار والخلاصة، وعند ابن ماجه والحاكم عن ابن عمر أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أنت نبي الله وصفوته.
"الصفي" فيعل بمعنى مفعول، وهو الذي يختاره الكبير من الغنيمة سمي به؛ لأن الله اصطفاه من خير خلقه، كما مر أول الكتاب.
"الصالح" القيم بما يلزمه من الحقوق، كما في المطالع، وفي حديث الإسراء قول الملائكة له مرحبا بالأخ الصالح والنبي صالح، وهي كلمة جامعة لمعاني الخير كله فعد خمسة وخمسين منها اثنان من أسماء الله.
زاد الشامي صاحب التوحيد مصدر وحدته، إذا وصفته بالوحدانية قال بعضهم: التوحيد(4/201)
"حرف ض":
الضارب بالحسام الملثوم، الضحاك، الضحوك.
__________
الحكم بأن الله واحد والعلم بذلك صاحب زمزم.
ذكره ابن دحية وابن خلويه صاحب المدرعة. ورد في الإنجيل، أي القتال والملاحم.
صاحب المشعر بفتح الميم، وحكى الجوهري كسرها لغة، وقال ابن قرقول لم يرد، أي رواية قال النووي: المعروف أنه مزدلفة كلها لما فيها من الشعائر وهي معالم الدين.
صاعد المعراج اسم فاعل من الصعود، وهو الرقي.
الصبيح، أي الجميل صفة مشبهة من الصباحة وهي الحسن والجمال؛ لأنه أصبح الناس وأحسنهم.
الصدوق الذي يتكرر منه الصدق، وهو الإخلاص وأول مراتبه استواء السر والعلانية.
الصديق بشد الدال، أي المؤتمن صيغة مبالغة من الصدق الصنديد بمهملات بوزن عفريت السيد المطاع والبطل الشجاع، أو الحليم، أو الجواد والشريف. الصين بالفتح وشد التحتية وخفة النون من الصيانة حفظ الأمور وإحرازها؛ لأنه صان نفسه عن الدنس وحفظها عن طوارق الشك والهوس.
حرف ض:
"الضارب بالحسام الملثوم" بيض الشامي للتكلم عن معناه.
"الضحاك" الذي يسيل دماء العدو في الحرب لشجاعته، كما يأتي للمصنف.
"الضحوك" روى ابن فارس عن ابن عباس، قال: اسم النبي صلى الله عليه وسلم في التوراة الضحوك القتال يركب البعير ويلبس الشملة ويجتزي بالكسرة سيفه على عاتقه.
قال ابن فارس سمي بذلك؛ لأنه كان طيب النفس فكها على كثرة من يفد عليه من جفاة العرب وأهل البوادي، لا يراه أحد ذا ضجر، ولا قلق ولكن لطيفا في النطق رفيقا في المسألة ذكر ثلاثة وزاد الشامي.
الضابط، أي الحازم فهو راجع إلى معنى الحفيظ والحافظ؛ لأنه يضبط ما يوحى إليه، أي يحفظه عن التغيير والتبديل.
الضارع الخاضع المتذلل المبتهل إلى الله لكثرة تضرعه وابتهاله وخضوعه واستكانته لعظمته، قال تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً} [الأعراف: 205] ، الضمين فعيل بمعنى فاعل، إلا في الأصل الكفالة والمراد الحفظ والرعاية لتكفله بالشفاعة لأمته حفظا ورعاية لهم. الضيغم بفتح المعجمتين بينهما تحتية ساكنة البطل الشجاع والسيد المطاع.(4/202)
"حرف ط":
طاب طاب، الطاهر، الطبيب، طسم، طس، طه، الطيب.
"حرف ظ":
الظاهر، الظفور، من الظفر وهو الفوز
__________
الضياء بالمد أشد النور وأعظمه سمي به، كالقرآن لأنه يهتدي بكل منهما أصحاب العقول، كما يهتدي بالضوء في الظلمات، قال عمرو بن معديكرب يمدحه:
حكمة بعد حكمة وضياء ... قد هدينا بنورها من عماها
حرف ط:
"طاب طاب" بالتكرير، قال العزفي من أسمائه في التوراة ومعناه طيب، وقيل معناه ما ذكر بين القوم إلا طاب ذكره بينهم.
"الطاهر" المنزه عن الأدناس سيأتي للمصنف.
"الطبيب" فعيل بمعنى فاعل من الطب، وهو علاج الجسم والنفس بما يزيل السقم، أي الذي يبرئ الأسقام وتذهب ببركته جميع الآلام.
"طسم طس" ذكرهما ابن دحية والنسفي من أسمائه وجماعة في أسماء الله.
"طه" ذكره خلائق في أسمائه وورد في حديث رواه ابن مروديه بسند ضعيف ويأتي للمصنف تفسيره وأن المعتمد أنه من أسماء الحروف.
"الطيب" بوزن سيد الطاهر، أو الزكي؛ لأنه لا أطيب منه ويأتي للمصنف. وورد إطلاقه على الله.
روى مسلم مرفوعا: "إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا" فذكر سبعا، وزاد الشامي الطراز المعلم، أي العلم المشهور الذي يهتدي به.
سمي به، لتشريف هذه الأمة، كما يشرف الثوب بالطراز المعلم بالبناء للمفعول المرسوم من العلامة، وهي ما يميز به، الشيء عن غيره.
الطهور كصبور أي الطاهر في نفسه المطهر لغيره؛ لأنه سالم من الذنوب والعيوب مطهر لأمته.
حرف ظ:
"الظاهر" الجلي الواضح، أو القاهر من ظهر فلان على فلان إذا قهره، وهو من أسمائه تعالى ومعناه المجلي الموجودات بالآيات والقدرات ويأتي للمصنف.
"الظفور" فعول بمعنى فاعل صيغة مبالغة من الظفر" بالتحريك، "وهو الفوز" مجازا وأصله لغة من ظفر إذا نشب ظفره بالشيء على ما يفيده الشامي.(4/203)
"حرف ع":
العابد، العادل، العظيم، العافي، العالم، علم الإيمان، علم اليقين، العالم بالحق، العامل، عبد الله، العبد، العدل، العربي، العروة الوثقى،
__________
لكن مقتضى المختار أن غمز الظفر إنما يقال فيه التظفير من ظفر مشدد، لا الظفر الذي هو مصدر ظفر مخففا، ثم هذا الاسم ثابت في كثير من نسخ المصنف، كما ذكرت وسقط في بعضها، فذكر اسمين واحد من أسماء الله تعالى.
حرف ع:
"العابد" اسم فاعل من عبد إذا أطاع، قال تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِين} ومواظبته على العبادة تواترت بها الأحاديث.
"العادل" المستقيم الذي لا جور في حكمه، ولا يميل من العدل ضد الجور. "العظيم" الجليل الكبير، وقيل عظمة الشيء كونه كاملا في نفسه مستغنيا عن غيره، وهو من أسماء الله تعالى.
"العافي" المتجاوز عن السيئات الماحي للزلات والخطيئات.
"العاقب" أي آخر الأنبياء ويأتي للمصنف وكذا.
"العالم" اسم فاعل، أي المدرك للحقائق الدنيوية والآخروية، وهو من أسمائه تعالى.
"علم الإيمان" بفتحتين علامته التي يهتدي بها، إليه علم اليقين، أي علامته ودليله والسبيل الموصل إليه واليقين بمعنى العلم الحقيقي والتحقيق، وقد يكون مجرد علم، وقد يكون مع كشف وشهود، ثم يختلف قوة وضعفا، بحسب الشعور بالغير وعدمه، فلذا انقسم إلى علم اليقين، وعين اليقين، وحق اليقين وهذا الاختلاف في اليقين من حيث هو إما يقينه صلى الله عليه وسلم فهو الأقوى الأعلى.
"العالم بالحق" أي الله سبحانه حق العلم، أو بأحكامه ووحيه كذلك.
"العامل" قال السيوطي: لعله مأخوذ من قوله: {قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامٌِ} [الأنعام: 135] ، وروى الترمذي في الشمائل عن عائشة كان عمله ديمة، وأيكم يطيق ما كان يطيق "عبد الله" يأتي للمصنف مبسوطا.
"العبد" مأخوذ من نحو {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِه} سمي به لأنه الكامل في العبودية. "العدل" ذكره ابن دحية، أي الدين الكافي في الشهادة والمستقيم مصدر في الأصل، وهو من أسمائه تعالى، ومعناه بالغ في العدل ضد الجور، أو في الاستقامة أقصى غاياته، أو الفاعل، لما يريد الماضي حكمه في العبد.
"العربي" روى الحسن بن عرفة في حديث الإسراء: إن موسى قال مرحبا بالنبي العربي نسبه إلى العرب خلاف العجم.
"العروة الوثقى" العقد الوثيق المحكم في الدين، أو السبب الموصل إلى الله يأتي(4/204)
العزيز، العفو، العطوف، العليم، العلي، العلامة، عين العز، عبد الكريم، عبد الجبار، عبد الحميد، عبد المجيد، عبد الوهاب، عبد القهار، عبد الرحيم، عبد الخالق، عبد القادر،
__________
للمصنف: أن السلمي حكى أنه صلى الله عليه وسلم المراد بالآية.
"العزيز" جليل القدر، أو الذي لا نظير له، أو المعز لغيره، كما يأتي للمصنف، أو الممتنع الغالب، وهو من أسمائه تعالى.
"العفو" مثل العافي لكنه أبلغ منه لدلالته على الكثرة والتكرير والعافي على أصل العفو سمي به؛ لأنه أكثر الناس عفوا وتجاوزا، وهو من صفاته في القرآن والإنجيل، كما يأتي للمصنف، وقال حسان يمدحه في مرثيته:
عفو عن الزلات يقبل عذرهم ... فإن أحسنوا فالله بالخير أجود
"العطوف" الشفوق لكثرة شفقته على أمته ورأفته بهم، كما يأتي للمصنف، قال حسان:
عطوف عليهم، لا يثني جناحه ... إلى كنف يحنو عليهم ويمهد
"العليم" الذي له كمال العلم، وثباته سمي به، لما حازه من العلم وحواه من الاطلاع على ملكوت السماوات والأرض والكشف عن المغيبات، وأوتي علم الأولين والآخرين، وأحاط بما في الكتب المنزلة، وحكم الحكماء وسير الأمم الماضيين مع احتوائه على لغة العرب، وغريب ألفاظها وضروب فصاحتها، وحفظ أيامها، وأمثالها، وأحكامها، ومعاني شعارها من كلماته في فنون العلوم صلى الله عليه وسلم وهو من أسمائه تعالى.
"العلي" من أسماء الله فعيل من العلو وهو البالغ في علو المرتبة إلى حيث لا رتبة إلا وهي منحطة عنه، وهو في حقه لله كذلك لكن تحمل الرتبة على اللائقة بالبشر.
"العلامة" بالتخفيف الشاهد والعلم الذي يهتدي به، ويستدل به على الطريق سمي بذلك؛ لأنه دليل على طريق الهدي.
"عين العز" بمهملة مكسورة وزاي منقوطة، أي العز كله مجموع فيه، فلا عز إلا بعزه، وجوز أنه الغر بضم المعجمة وراء، بلا نقط جمع أغر من الغرة، أي خيار الخلق وأكرمهم من الأنبياء والمرسلين والملائكة إذ آدم فمن دونه تحت لوائه، أو المراد بالغر أمته لبعثهم غرا محجلين، أي أنه أشرفهم ورئيسهم والأولى أبلغ وأولى.
"عبد الكريم" اسمه عند أهل الجنة، "عبد الجبار" عند أهل النار، ولا تخفى المناسبة "عبد الحميد" عند أهل العرش، عبد المجيد" عند سائر الملائكة، "عبد الوهاب" عند الأنبياء، "عبد القهار" عند الشياطين، "عبد الرحيم" عند الجن، "عبد الخالق" اسمه في الجبال، "عبد القادر"(4/205)
عبد المهيمن، عبد القدوس، عبد الغياث، عبد الرزاق، عبد السلام، عبد المؤمن، عبد الغفار.
"حرف غ":
__________
اسمه في البر، "عبد المهيمن" في البحر، "عبد القدوس" عند الحيتان، "عبد الغياث" عند الهوام، "عبد الرزاق" عند الوحوش، "عبد السلام" عند السباع، "عبد المؤمن" عند البهائم، "عبد الغفار" عند الطيور. كذا روى عن كعب الأحبار، كما يأتي في المتن، وهو من الإسرائيليات، فذكر ثمانيا وثلاثين فيها ستة من أسماء الله تعالى، وزاد الشامي العارف أي الصبور، كما في الصحاح أو العالم العاضد، أي المعين، اسم فاعل من عضده إذا أعانه وأصله الأخذ بالعضد ثم استعير للمعين، يقال عضدته، أي أخذت بعضده وقويته.
العائل الفقير، قال تعالى: {وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى} أي بما أفاء عليك من الغنائم، أو أغنى قلبك، وفي تسميته بالعائل بعد الغنى نظر، أي لنصه فيها على أنه أغناه بعد ذلك فزال عنه ذلك الوصف، فلا يجوز وصفه به بعد العدة بالضم الذخيرة المعد لكشف الشدائد والبلايا المرصد لإماطة المحن والرزايا، سمي بذلك لأنه ذخر أمته في القيامة والمتكفل لها بالنجاة.
العزيز أي القوي الذي لا يغلب ولا يقهر، أو الغالب العصمة بكسر فسكون الذي يستمسك الأولياء بحبله وتلوذ العصاة بحماه، فهي بمعنى عاصم كرجل عدل، أي عادل، أو بمعنى معصوم اسم مفعول من العصمة كاللقمة بمعنى الملقوم وحقيقتها، كما في المواقف في حق الأنبياء كلهم صلوات الله عليهم وسلامه أن لا يخلق الله فيهم ذنبا، عصمة الله في الفردوس، بلا سند عن أنس مرفوعا: "أنا عصمة الله أنا حجة الله".
العفيف الكاف عن المكروه والشبهة، وهو أعف الناس وموصوف به، في الكتب القديمة. العلم بفتحتين المهتدى به.
العماد السيد المعتمد عليه العمدة، أي الشجاع البطل المطاع. العين تطلق بالاشتراك على الباصرة، سمي به لأنه أبصر أمته بطرق الهدى، أو لشرفها به على الأمم، كما شرف الرأس بالعين على الجسد وعلى الذهب، وخيار كل شيء؛ لأنه أشرف الأنبياء وأفضلهم ومنه فلان عين الناس، أي خيارهم، وعلى السيد؛ لأنه سيد الناس والكبير في قومه؛ لأنه أجل الخلق وأعظمهم وعلى الإنسان، كقولهم ما بها عين، أي أحد من تسمية الخاص باسم العام؛ لأنه عليه السلام أشرفهم، وعلى الماء الجاري؛ لأنه طاهر في نفسه مطهر لغيره وعلى الجماعة من الناس لمهابته وشدة جلالته صلى الله عليه وسلم وعلى ينبوع الماء لعلوه وشرفه وكثرة نفعه عليه السلام، انتهى ملخصا.(4/206)
الغالب، الغفور، الغني، الغني بالله، الغوث، الغيث، الغياث.
"حرف ف":
الفاتح، الفارقليط -وقيل بالباء، وتقدم- الفارق، الفتح،
__________
"الغالب" القاهر اسم فاعل من الغلبة القهر، وهو من أسمائه تعالى، وهو بمعنى الغفار، أي الستار لذنوب من أراد من المؤمنين، فلا يظهرها بالعقاب عليها قال الغزالي الغفور ينبئ عن نوع مبالغة ليست في الغفار، فإنه ينبئ عن تكرار المغفرة وكثرتها والغفور عن وجودها، وكمالها فمعناه كامل الغفران، حتى يبلغ أقصى الدرجات.
قال ابن طلحة النحوي صيغ المبالغة تتفاوت، فغفور لمن كثر منه الفعل، وفعال لمن صار له كالطبيعة.
"الغني" قال تعالى: {وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى} من الغنى بالقصر، وهو ارتفاع الحاجات، وليس الإله سبحانه وقلتها كقوله صلى الله عليه وسلم: "الغنى غنى النفس" وكثرة المال كقوله: "ومن كان غنيا فليستعفف"، وهو من أسمائه تعالى، أي الذي لا يحتاج إلى شيء ويحتاج إليه كل شيء، قال الغزالي ومعناه في الخلق الذي لا حاجة له إلا الله تعالى، وكذلك كان نبينا لله.
"الغني بالله" عن كل ما سواه.
"الغوث" النصير الذي يستغاث به، في الشدائد والملمات، ويستعان به في النوازل والمهمات.
"الغيث الغياث" ذكرهما ابن دحية والغيث المطر الكثير؛ لأنه كان أجود بالخير من الريح المرسلة وكم استسقى، فأمطروا في الحين، فذكر سبعا منها ثلاث من أسمائه تعالى، وزاد الشامي الغطمطم بطاءين بوزن زبرجد الواسع الأخلاق الحليم.
حرف ف:
"الفاتح" يأتي للمصنف، وهو من أسمائه تعالى لقوله: {وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين} [الأعراف: 89] ، وقال: {ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاح} [سبأ: 26] قاله عياض وغيره.
"الفارقليط، وقيل بالباء" الموحدة أوله "وتقدم" ويأتي للمصنف.
"الفارق" قال العزفي هو اسمه في الزبور معناه يفرق بين الحق والباطل، وقال عبد الباسط البلقيني هو صيغة مبالغة والفارق اسم فاعل من الفرق، وهو الفصل والإبانة.
"الفتاح" بمعنى الفاتح إلا أنه أبلغ منه، أو الناصر ومنه {إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ} أي النصر، وهو من أسمائه تعالى، أي الذي لا يغلق وجوه النعم بالعصيان، ولا يترك إيصال(4/207)
الفاروق، الفجر، الفرط، الفصيح، فضل الله، فواتح النور.
__________
الرحمن بالنسيان، أو الذي يفتح على النفوس باب توفيقه وعلى القلوب باب تحقيقه، أو الذي يفتح بعنايته كل معضل ويكشف بهدايته كل مشكل.
"الفاروق" كثير الفرق بين الحق والباطل.
"الفجر" لتفجر الإيمان منه، كما يأتي للمصنف.
"الفرط" بفتح الراء لقوله صلى الله عليه وسلم: "أنا فرط لكم وأنا شهيد عليكم" رواه البخاري، وهو السابق إلى الماء يهيئ للواردين الحوض ويسقي لهم فضرب لله مثلا لمن تقدم أصحابه يهيئ لهم ما يحتاجون إليه، كذا فسره أبو عبيدة، ويوافقه رواية مسلم "أنا الفرط على الحوض"، وقال معناه أنا أمامكم وأنتم ورائي، وهو يتقدم أمته شافعا.
"الفصيح" فعيل من الفصاحة، وهي لغة البيان واصطلاحا خلوص الكلام من ضعف التأليف وتنافر الكلمات والتعقيد، وهذا باعتبار المعنى، وأما باعتبار اللفظ فهو كونه على ألسنة الفصحاء الموثوق بعربيتهم.
"فضل الله" المعني بقوله تعالى: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلًا} في قول حكام الماوردي.
"فواتح النور" أي المظهر للعلوم الكثيرة، فكأن إظهار كل علم فتح، فعبر بالجمع، فعد عشرا في قول حكام الماوردي
"فواتح النور" أي المظهر للعلوم الكثيرة، فكأن إظهار كل علم فتح، فعبر بالجمع، فعد عشرا منها اثنان من أسماء الله تعالى.
وزاد الشامي الفاضل، أي الحسن الكامل العالم إذ الفضل يرد بمعنى العلم، قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا} [سبا: 10] أي علما. الفائق بالهمز الخيار من كل شيء؛ لأنه خيار الخلق الفخر بالخاء المعجمة العظيم الجليل.
الفدعم بمهملتين بوزن جعفر الحسن الجميل الفرد، أي المنفرد بصفاته الجميلة الفضل الإحسان؛ لأنه فضل الله ومنته على هذه الأمة، بل وعلى غيرها، أو الفاضل أي الشريف الكامل.
الفطن بكسر المهملة الحاذق من الفطنة الفهم بطريق الفيض، أو بدون اكتساب.
الفلاح، قال العزفي: هو اسمه في الزبور، وتفسيره يمحق الله به الباطل، قال السيوطي، وكأنه غير عربي إذ الفلاح لغة الفوز والنجاح.
قال النووي ليس في كلام العرب أجمع للخير من لفظ الفلاح، ولا يبعد أن يكون هو اللفظ العربي، وسمي به لما جمع فيه من خصال الخير التي لم تجتمع في غيره، أو لأنه سبب الفلاح الفهم ككتف السريع الفهم، وهو لغة علم الشيء وعرفانه بالقلب فئة المسلمين.
ذكره السيوطي وكأنه أخذه من قوله صلى الله عليه وسلم: "أنا فئة المسلمين" رواه أبو داود والترمذي وحسنه(4/208)
"حرف ق":
القاسم، القاضي، القانت، قائد الخير، قائد الغر المحجلين، القائل، القائم، القتال، القتول، قثم، القثوم، قدم صدق، القرشي،
__________
حرف ق:
"القاسم" أي الذي يقسم الأمور في جهاتها، والمعطي اسم فاعل من القسم، وهو العطاء روى البخاري مرفوعا، "إنما أنا قاسم، والله معطي" "القاضي" الحاكم اسم فاعل من القضاء، وهو فصل الأمر وبثه سمي به؛ لأنه من خصائصه أنه يقضي، بلا دعوى، ولا بينة.
قاله ابن دحية مستدلا بحديث مسلم وأن يحكم لنفسه وولده وتقبل شهادة من شهد له، كما في قصة خزيمة، ولا يكره له القضاء، ولا الإفتاء في حال غضبه لعصمته.
"القانت" الطالع اسم فاعل من القنوت، وهو لزوم الطاعة مع الخضوع، أو الخاشع، أو طويل القيام في صلاته.
"قائد الخير" بالهمز جالبه إلى أمته، أو جالبهم إليه ودالهم عليه.
أخذه السيوطي من قول ابن مسعود قائد الخير في حديث تعليمه الصلاة عليه المروي في ابن ماجه، وقد سبق لفظه.
"قائد الغر" جمع أغر من الخيل ماله غرة، أي بياض في الجبهة "المحجلين" بيض القوائم والمراد أمته إلى الجنة.
روى الشيخان أن أمتي يدعون يوم القيامة غرا محجلين من آثار الوضوء.
"القائل" الحاكم؛ لأنه ينفذ قوله أو المحب بمهملة وموحدة من قال بالشيء، أي أحبه واختص به.
"القائم" هو بمعنى القيم الآتي.
"القتال" روى ابن فارس عن ابن عباس. قال: اسم النبي صلى الله عليه وسلم في التوراة أحمد الضحوك.
القتال: قال ابن فارس سمي به، لحرصه على الجهاد ومسارعته إلى القتال.
"القتول" بمعنى ما قبله، فإنهما من صيغ المبالغة فما صلح توجيها لأحدهما صلح للآخر.
"قثم" بضم ففتح المثلثة، أي جامع الخبر، كما، قال عياض، أو من القثم الإعطاء لجوده وعطائه كما قال الجوزي، كما يأتي للمصنف، وكذا "القثوم" وروى الحربي مرفوعا: "أتاني ملك، فقال أنت قثم وخلقك قيم ونفسك مطمئنة".
"قدم صدق" قال زيد بن أسلم وغيره في قوله تعالى: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ} هو محمد صلى الله عليه وسلم. "القرشي" نسبة إلى قريش.(4/209)
القريب، القمر، القيم: ومعناه الجامع الكامل، وصوابه بالمثلثة بدل الياء، القوي.
"حرف ك":
كافة الناس،
__________
"القريب" الداني من الله تعالى، قال: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى} ، أو من الناس لتواضعه من أسمائه تعالى، {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} ، أي بالعلم، لا يخفى عليه شيء من أحوالهم.
"القمر" الكوكب المعروف؛ لأنه جلا ظلمة الكفر بنور الهداية.
"القيم" بالتحتية، كما روى في حديث عند الديلمي "ومعناه الجامع" لمكارم الأخلاق "الكامل" فيها، أو الجامع لشمل الناس بتأليفه بينهم، وجمع شتاتهم؛ لأن القيم يكون بمعنى السيد، لقيامه بأمر الناس وأمر الدين، كما، قال جريبة، بضم الجيم، وفتح الراء وسكون التحتية فموحدة مصغر الأسدي، لما قدم عليه صلى الله عليه وسلم.
بدلت دينا بعد دين قد يذم ... كنت من الذنب كأني في ظلم
يا قيم الدين أقمنا نستقم ... فإن أصادف ما ثما فلن أثم
فهذا وجه الرواية إن صحت. "ولكن قال عياض في الشفاء "صوابه" فثم "بالمثلثة بدل الياء" فيما أرى، وهو أشبه بالتفسير، لكن في كتب الأنبياء أن داود، قال: اللهم ابعث لنا محمدا يقيم السنة بعد الفترة، فقد يكون القيم بمعناه انتهى. أي بمعنى المقيم السنة إلخ، فيكون اسما آخ غير قثم، فعلى المصنف مؤاخذة؛ لأن المصوب لم يجزم بالتصويب بل قال فيما أرى، أي أظن ولم يستمر عليه، بل استدرك والقيم من أسمائه تعالى، كما في حديث أنت قيم السماوات والأرض.
قال ابن دحية: وهو بمعنى القائم وأبلغ منه والفرق بينه وبين القيوم، والقيام أنهما يختصان به تعالى، لما فيهما من الأبلغية ولا يستعملان في غير المد بخلاف القيم.
"القوي" صفة مشبهة، أي الشديد المتمكن، وهو من أسمائه تعالى، ويأتي للمصنف فعد ثمانية عشر فيها اثنان من أسمائه تعالى، زاد الشامي.
القاري، أي الكريم الجواد اسم فاعل من القرى بالكسر مع القصر، وبالفتح مع المد، وهو البذل للأضياف القائد بالهمز الذي يقود الناس أي يقدمهم، فسيلك بهم، طريق الهدى، ويعدل بهم، عن سبيل الردى، وفي الترمذي مرفوعا. "وأنا قائدهم إذا فزعوا قدمايا" هو اسمه في التوراة، ومعناه الأول السابق القسم القطب.
حرف ك:"كافة الناس"، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ} [سبأ: 28] قال الزمخشري: إلا إرساله عامة محيطهم بهم؛ لأنها إذا شملتهم، فقد كفتهم أن يخرج منها أحد.(4/210)
الكفيل، الكامل في جميع أموره، الكريم، كهيعص.
"حرف ل":
اللسان.
__________
"الكفيل" السيد المتكفل بأمور قومه وإصلاح شأنهم، فعيل من الكفالة الضمان لتكفله لأمته بالفوز والنجاة بما ادخر لهم من الشفاعة، أو بمعنى مفعول كجريح وكحيل؛ لأن الله تكفل له بالنصر والظفر، أو بمعنى الكفل وزن طفل، وهو الرحمة والنعمة؛ لأنه رحمة للخلق ونعمة لهم من الحق "الكامل في جميع أموره" خَلقا وخُلقا ومنه العبادات وغيرها، وقد كان خُلقه القرآن.
"الكريم" الجواد المعطي، أو الجامع لأنواع الخير والشرف، أو الذي أكرم نفسه، أي طهرها عن التدنس بشيء من المخالفة ومر أن أحد القولين في أنه لقول رسول كريم محمد صلى الله عليه وسلم، ورجحه المصنف فيما يأتي قريبا، وهو من أسماء الله، أي المتفضل أو العفو أو العلي أو الكبير وكلها صحيحة في حقه لله.
"كهيعص" ذكره ابن دحية في أسمائه وغيره في أسماء الله تعالى، فهي خمس واحد من أسماء الله تعالى، وزاد الشامي الكاف بشد الفاء، أي الذي كف الناس عن المعاصي، وليس معناه المرسل إلى الناس كافة؛ لأن كافة لا يتصرف منه فعل، فيكون اسم فاعل، قال ابن دحية الكافة، أي الجامع المحيط والهاء للمبالغة اسم فعل من الكف المنع، أو مصدر كالعافية.
الكافي اسم فاعل من الكفاية سد الخلة وبلوغ المراد في الأمر؛ لأنه سد خلل أمته بالشفاعة يوم الحساب، وبلغهم مرادهم، أو لأنه كفى شر أعدائه، فيكون المراد المكفي بفتح الميم، وهو سائغ كعيشة راضية الكثير الصمت أي القليل الكلام فيما لا يجدي نفعا كنديدة.
قال ابن دحية هو اسمه في الزبور. الكنز في الأصل المال، أو الشيء النفيس، سمي به لنفاسته، أو لأنه حصل لنا به سعادة الدارين.
الكوكب سيد القوم، وفارسهم، أو النجم المعروف، سمي به لوضوح شريعته وسمو ملته.
حرف ل:
"اللسان" المراد هنا المتكلم عن القوم، سمي به لأنه لشدة بلاغته وفصاحته، كأن مجموعه لسان، وحكي أن المراد بقول الخليل {وَاجْعَلْ لِي لسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ} محمد صلى الله عليه وسلم والمعنى أنه سأل ربه أن يجعل من ذريته من يقوم مقامه بالحق ويدل عليه، فاجيب دعوته بالمصطفى وزاد الشامي.
اللبيب أي الفطن العاقل، الزكي اللسن بوزن كتف الفصيح البليغ اللوذعي، أي الذكي(4/211)
"حرف م":
الماجد، ماذماذ، المؤمل، الماحي، المأمون، المانح، الماء المعين، المبارك، المبتهل، المبرأ المبشر،
__________
الفصيح الحديد الذهن، كأنه يلذع بالنار من توقد ذكائه.
الليث بمثلثة الشديد القوي، أو السيد الشجاع، أو اللسان البليغ.
حرف م:
"الماجد" المفاضل الكثير الجود، أو الحسن الخلق السمح، أو الشريف اسم فاعل من المجد، وهو سعة الشرف وكثرة العوائد، قال إياس بن سلمة بن الأكوع.
سمع الخليفة ماجد وكلامه ... حق وفيه رحمة ونكال
وهو من أسمائه تعالى: قال الغزالي الماجد والمجيد هو الشريف لذاته الحميد فعاله الجزيل عطاؤه. فجمع معنى الجليل والوهاب والكريم. "ماذماذ" فألف فذال معجمة منونة، ثم ميم، فألف فمعجمة، أي طيب طيب، كما يأتي للمصنف.
قال الشمني والميم مفتوحة وهو غير مهموز.
"المؤمل" بفتح الميم، أي المرجو خيره.
"الماجي" فقدم معناه ويأتي للمصنف.
"المأمون" بالهمز اسم مفعول من الائتمان، وهو الاستحفاظ، أي الذي يوثق بأمانته وديانته سمي بذلك؛ لأنه لا يخاف من جهته.
"المانح" المعطي اسم فاعل من منح إذا أعطى الجزيل وأولى الجميل.
"الماء المعين" بفتح الميم، وهو الظاهر الجاري على وجه الأرض فعيل بمعنى فاعل.
"المبارك" العظيم البركة وهي لفظ جامع لأنواع الخير، ومنه {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَة} [الدخان: 3] ، ويأتي للمصنف، وقال حسان:
صلى الإله ومن يحف بعرشه ... والطيبون على المبارك أحمد
سمي بذلك، لما جعل الله في حاله من البركة والثواب، وفي أصحابه من الفضائل وفي أمته من زيادة القدر على الأمم.
"المبتهل" المتضرع المتذلل من الابتهال التضرع، وقيل في قوله تعالى: {ثُمَّ نَبْتَهِل} [آل عمران: 61] أي نخلص في الدعاء.
"المبرأ" المنزه المبعد عن كل وصف ذميم. المبشر اسم فاعل من البشارة الخبر السار، وأما {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [آل عمران: 21] فبمعنى أنذرهم.(4/212)
مبشر اليائسين، المبعوث بالحق، المبعوث، المبلغ، المبيح، المبين، المتبتل، المتبسم، المتربص، المترجم، المتضرع، المتقي، المتلو عليه، المتهجد، المتوسط،
__________
استعيرت البشارة للإنذار بإدخاله في جنسها تهكما واستهزاء.
"مبشر اليائسين" بمعنى ما قبله.
"المبعوث بالحق،" أي المرسل به، "المبعوث" اسم مفعول من البعث والإرسال.
"المبلغ" المؤدي الرسالة، كما أمر {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّك} ، كما أشار له المصنف فيما يأتي.
"المبيح" لأمته ما حرم على الأمم السابقة، كما يأتي بيانه في الخصائص.
"المبين" بكسر الباء وخفة الياء الساكنة من أبان الشيء إذا أظهره، كما قال تعالى: {حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ} [الزخرف: 29] ، و {قُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ} [الحجر: 89] وبشد التحتية اسم فاعل من التبيين، وهو الإظهار، قال تعالى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} الآية، أفادهما المصنف فيما يجيء تبعا لعياض، فقصر الشامي في الاقتصار على الثاني.
"المتين" القوي الشديد، ومنه حبل متين، وهو من أسمائه تعالى، أي القوي السلطان البالغ أقصى مراتب القدرة والإمكان.
"المتبتل" المخلص المنقطع إلى الله بعبادته، قال تعالى: {وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا} [المزمل: 8] .
"المتبسم" من التبسم، وو البشاشة؛ لأنه كان يلقى الناس بالبشر وطلاقة الوجه مع حسن العشرة، ويرحم الله القائل:
بشاشة وجه المرء خير من القرى ... فكيف الذي يأتي به، وهو ضاحك
"المتربص" ذكره الشمس البرماوي في رجال العمدة، أخذا من قوله تعالى، آمرا له أن يقول للكفار: {تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ} [الطور: 31] ، أي انتظروا حصول ما تتمنونه لي، فإني منتظر وعد ربي من النصر عليكم والظفر بكم.
"المترحم" اسم فاعل من ترحم. "المتضرع" في الدعاء الخاضع لله.
"المتقي" اسم فاعل من اتقى.
"المتلو عليه" من التلاوة لأن جبريل كان يتلو عليه القرآن، أي يدارسه به، "المتهجد" قال تعالى: {مِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِه} [الإسراء: 79] "المتوسط" المتردد في الشفاعة بين الله وبين الأمة "المتوكل" الذي يكل أمره إلى الله فإذا أمره بشيء نهض، بلا جزع، قاله ابن دحية، وهو من أسمائه في التوراة كما في البخاري عن عبد الله بن عمرو بن العاصي بلفظ(4/213)
المتثبت، مجاب، مجيب، المجتبي، المجير، المحرض، المحرم، المحفوظ، المحلل، محمد، المحمود، المخبر، المختار، المخصوص
__________
أنت عبدي ورسولي، سميت المتوكل وفي التنزيل {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّه} [النساء: 81] {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوت} [الفرقان: 58] .
"المتثبت" بكسر الباء مبنيا للفاعل، أي لمن اتبعه على الدين، أو بفتحها مبنيا للمفعول من الثبات، وهو التمكن والاستقرار، قال تعالى: {وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاك} [الإسراء: 74] سمي بذلك؛ لأن الله ثبت قلبه على دينه وهما اسمان له، كما في الشامية، "مجاب" وفي الشامي بزيادة أل، أي والمعطي سؤاله.
"مجيب" اسم فاعل من أجاب، وزاده الشامي. أل.
"المجتبى" اسم مفعول من الاجتباء، وهو الاصطفاء، كما في الصحاح.
"المجير" من أجار، أي أنقذ من استجار به وأغاث من استغاث به.
"المحرض" بكسر الراء المشددة فضاد معجمة على القتال والجهاد، أو العبادة، أي المحث على ذلك قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ} [الأنفال: 65] "المحرم" المتولى عن الله، التحريم كما قال السيوطي أو للظلم وهو مجاوزة الحد، كما، قال غيره. "المحفوظ" من الحفظ؛ لأنه محفوظ من الشيطان.
روى البخاري أنه صلى الله عليه وسلم صلى صلاة، فقال: "إن الشيطان عرض لي فشد علي بقطع الصلاة علي، فأمكنني الله منه" وفيه دليل على حفظه منه وسئل لِمَ لَمْ يفر منه، كما قال صلى الله عليه وسلم لعمر: "ما لقيك الشيطان ساكا فجا إلا سلك فجا غيره" رواه الشيخان وأجيب بأنه لما عصم صلى الله عليه وسلم منه ومن مكره، وحفظ من كيده وغدره وأمن من وسواسه وشره، كان اجتماعه به وهروبه منه سببين في حقه، ولما لم يبلغ عمر هذه الرتبة العلية، كان هروبه منه أولى في حقه، وأتقن لزيادة حفظه، وأمكن لدفع شره على أنه يجوز حمل الهارب من عمر على غير قرينه. أما هو فلا يهرب منه، بل لا يفارقه؛ لأنه وكل به كغيره انتهى.
"المحلل" شارع الحلال، وهو ما أذن في تناوله شرعا.
"محمد" الاسم الأول كما يأتي، "المحمود" المستحق؛ لأن يحمد لكثرة خصاله الحميدة، ويأتي "المخبر" بكسر الباء المبلغ عن الله ما أوحى إليه.
"المختار" اسم مفعول من الاختيار، وهو الاصطفاء كما في الصحاح.
روى الدارمي عن كعب الأحبار، قال في السطر الأول من التوراة محمد رسول الله عبدي المختار، لا فظ ولا غليظ، ولا صخاب بالأسواق، ولا يجزى بالسيئة السيئة. "المخصوص(4/214)
بالشرف، المخصوص بالعز، المخصوص بالمجد، المخلص، المدثر، المدني، مدينة العلم، المذكر، المذكور، المرتضى المرتل، المرسل، المرتجى،
__________
بالشرف" الكامل "المخصوص بالعز" الكامل.
"المخصوص بالمجد" الكامل الذي لم يصل غيره إلى كل من الثلاثة، فلا ينافي أن كل الأنبياء لهم شرف وعز ومجد. "المخلص" الصادق في عبادته الذي ترك الرياء في طاعة الله، {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي} [الزمر: 14] .
قال القشيري الإخلاص إفراد الحق بالطاعة بالقصد، أو تصفية الفعل عن ملاحظة المخلوقين، والفرق بينه وبين الصدق أنه التنقي عن مطالعة النفس، والإخلاص التوقي عن ملاحظة الخلق، والمخلص لا رياء له، والصادق لا إعجاب له.
"المدثر المدني" يأتيان للمصنف. "مدينة العلم" كما قال صلى الله عليه وسلم: "أنا مدينة العلم وعلي بابها".
رواه الترمذي والحاكم وصححه وغيرهما، عن علي والحاكم أيضا، والطبراني وأبو الشيخ وغيرهم عن ابن عباس. والصواب أنه حديث حسن، كما قاله الحافظان العلائي وابن حجر، لا موضوع، كما زعم ابن الجوزي، ولا صحيح كما قال الحاكم لكن من المحدثين من يسمى الحسن صحيحا.
"المذكر" المبلغ الواعظ اسم فاعل من التذكرة الموعظة والتبليغ، ويأتي استدلال المصنف له بقوله تعالى: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّر} [الغاشية: 21] .
"المذكور" في الكتب السالفة. "المرتضى" الذي رضيه مولاه، أي أحبه واصطفاه.
"المرتل" بكسر الفوقية اسم فاعل من رتل مضاعفا، وهو الذي يقرأ القرآن على مهل وتؤدة مع تبيين للحروف والحركات، قال تعالى: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} [المزمل: 4] .
روى الترمذي عن حفصة كان صلى الله عليه وسلم يقرأ بالسورة ويرتلها حتى تكون أطول من أطول منها.
"المرسل" ذكره ابن دحية وغيره من قوله تعالى: {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} [الرعد: 43] . الفرق بينه وبين الرسول أن الأول لا يقتضي التتابع في الإرسال، بل قد يكون مرة واحدة والرسول يقتضيه.
"المرتجى" بفتح الجيم من الرجاء، أي الأمل؛ لأن الذي يرجوه الناس لكشف كروبهم وجلاء مصائبهم وأعظمها يوم القيامة في فصل القضاء، قاله السيوطي، قال عبد الباسط، أو بكسر الجيم اسم فاعل، أي المؤمل من الله قبول شفاعته في أمته.
روى الشيخان مرفوعا: "لكل نبي دعوة مستجابة وإني أختبأت دعوتي شفاعة لأمتي، فهي(4/215)
المرحوم، المرتفع الدرجات، المرء -وهو الرجل الكامل المروءة- المزكي، المزمل، المسبح، المستغفر، المستغني، المستقيم، المسري به، المسعود،
__________
نائلة إن شاء الله تعالى من مات لا يشرك بالله شيئا".
"المرحوم" اسم مفعول من رحم بالبناء للمفعول.
"المرتفع الدرجات" معناه ظاهر "المرء" مثلث الميم، "وهو الرجل الكامل المروءة" بالهمزة وتركه الإنسانية، قاله الجوهري، وهو اسم جامع لكل المحاسن قيل هي صون النفس عن الأدناس وما يشينها عند الناس، وقيل إن لا تعمل سرا ما تستحيي منه علانية، وقال جعفر الصادق، هي أن تطمع فتذل وتسأل فتثقل، ولا تبخل فتشتم، ولا تجهل فتخصم، وعن عمر بن الخطاب المروءة مروءتان، مروءة ظاهرة وهي الرياسة، ومروءة باطنة وهي العفاف، وهذا ليس بخلاف محقق، بل كل عبر بما سنح له. سمى صلى الله عليه وسلم بذلك لأنه منها بمكان، قال زهير بن صرد:
امنن علينا رسول الله في كرم ... فإنك المرء نرجوه وندخر
"المزكي" أخذه السيوطي من قوله تعالى: {وَيُزَكِّيهِم} ، أي يطهرهم من الشرك والآثام، "المزمل" يأتي للمصنف.
"المسبح" بمهملتين بينهما موحدة المهلل الممجد اسم فاعل من التسبيح، وهو تنزيه الحق عن أوصاف الخلق، وفرق بينه وبين التقديس والتنزيه، بأن التقديس تبعيد الرب عما لا تليق به الربوبية، والتنزيه تبعيده عن أوصاف البشرية، والتسبيح تبعده عن أوصاف جميع البرية.
"المستغفر" من غير تأثم هذا بقية الاسم كما في الشامي، قال تعالى: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْه} [النصر: 3] ، فالاستغفار ليس لذنب، كما أفاده، بل لإظهار العبودية لله، والشكر لما أولاه، ويأتي بسطه في الخصائص إن شاء الله تعالى، وقد روى ابن السني عن ابن عمر كنا نعد لرسول الله صلى الله عليه وسلم في المجلس الواحد مائة مرة يقولها قبل أن يقول شيئا: "رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الرحيم".
"المستغني" مر في الغنى معناه. "المستقيم" اسم فاعل من الاستقامة، قال: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْت} أي استقامة مثل الاستقامة التي أمرت بها على جادة الحق غير عادل عنها، أي داوم على ذلك.
قال القشيري: الاستقامة درجة بها كمال الأمور وتمامها، وببلوغها حصول الخيرات، ونظامها وأول مدارجها التقويم، وهو تأدب النفس، ثم الاستقامة وهي تقريب الأسرار، وقيل الخروج من المعهودات، ومفارقة الرسوم والعادات، والقيام بين يدي الحق على قدم الصدق.
"المسرى به" بضم فسكون اسم مفعول من الإسراء لاختصاصه به، كما يأتي.
"المسعود" اسم مفعول من أسعده الله، أي أغناه وأذهب تعبه.(4/216)
المسلِّم، المسلَّم، المشاور، المشفع، المشفوع، المشفح، المشهود، المشير، المصباح، المصارع، المصافح، مصحح الحسنات، المصدوق، المصطفى،
__________
قال ابن دحية: ويجوز أنه بمعنى فاعل كالمحجوب بمعنى محب من سعد كعلم، وعنى سعادة، فهو سعيد ومسعود، أي حصل له اليمن والبركة.
"المسلم" بكسر اللام الثقيلة المفوض إلى الله بلا اعتراض المتوكل عليه في جميع الأغراض.
"المسلم" بفتح الللام المشددة من القتل والاغتيال والله يعصمك من الناس.
"المشاور" اسم فاعل من المشاورة، وهي استخراج الآراء ليعلم ما عند أهلها، قال تعالى {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْر} الآية، روى ابن أبي حاتم عن أبي هريرة ما رأيت أحدا أكثر مشورة من رسول الله صلى الله عليه وسلم. "المشفع" بفتح الفاء الذي يشفع فيقبل. "المشفوع" ذكره ابن دحية، قال السيوطي: ولم يظهر لي معناه؛ لأنه لا يصح أن يكون من الشفاعة لأن اسم المفعول منها مشفع من شفع. "المشفح" بضم الميم وفتح المعجمة والفاء المشددة فمهملة، وروي بقاف بدل الفاء الحمد بالسريانية، كما يأتي للمصنف.
"المشهود" اسم مفعول الذي تشهد أوامره ونواهيه، وتحضر، قال تعالى: {وَشَاهِدٍ وَمَشْهُود} حكى القرطبي: إن الشاهد الأنبياء والمشهود النبي صلى الله عليه وسلم قال: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ} [آل عمران: 81] إلى قوله: {وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِين} [آل عمران: 81] .
"المشير" اسم فاعل من أشار عليه إذ نصح له وبين له الصواب سمي بذلك؛ لأنه الناصح المخلص في نصحه.
"المصباح" السراج وأحد أعلام الكواكب سمي به لأنه أضاء به الآفاق. "المصارع" الذي يصرع الناس بقوته، أي يطرحهم، أو أصله بالسين فابدلت صادا، أي المبادر للشيء المقبل عليه لكن يؤيد الأول ما رواه البيهقي أنه صلى الله عليه وسلم صارع أبا الأسيد كلدة الجمحي فصرعه وبلغ من شدة أبي الأسيد أنه كان يقف على جلد البقرة، ويجاذبه عشرة من تحت قدميه، فيتمزق الجلد من تحته ولا يتزحزح، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم إلى المصارعة، وقال: إن صرعتني آمنت بك، فصرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يؤمن نقله المصنف في المقصد الثالث.
"المصافح" اسم فاعل من المصافحة الآخذ باليد، قال النووي، هي عند التلاقي سنة مجمع عليها ويستحب معها البشاشة بالوجه والدعاء بالمغفرة.
"مصحح الحسنات" لأن شرط صحتها الإيمان، به "المصدوق" يأتي للمصنف "المصطفى" من أشهر أسمائه، ومر في المقصد الأول أحاديث فيها أن الله اصطفاه على خلقه.(4/217)
المصلح، المصلى عليه، المطاع، المطهر، المظهر، المطلع، المطيع، المظفر، المعزر، المعصوم، المعطي، المعقب، المعلِّم، معلم أمته، المعلَّم، المعلن،
__________
"المصلح" اسم فاعل من أصح، أزال الفساد وأوضح سبيل الرشاد وهو مصلح للدين بإزالة الشرك وللخلق بالهداية.
"المصلى عليه" بفتح اللام من الله وملائكته.
"المطاع" المتبع الذي ينقاد له قال تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُول} الآية، وأحد القولين في قوله مطاع، ثم أمين أنه النبي صلى الله عليه وسلم.
"المطهر" نقله ابن دحية عن كعب، قال السيوطي: يحتمل أنه بكسر الهاء اسم فاعل؛ لأنه طهر غيره من دنس الشرك وبفتحها اسم مفعول؛ لأنه طهر ذاتا ومعنى ظاهرا وباطنا، ويأتي بمعناه للمصنف "المظهر" بالمعجمة وكسر الهاء شرائع الأحكام ودين الإسلام والآيات البينات.
"المطلع" المشرف على المغيبات العالم بها. "المطيع" المنقاد لربه اسم فاعل من الطوع الانقياد، وقد ورد به حديث ابن ماجه عن ابن عباس كان صلى الله عليه وسلم يقول: "رب اجعلني شكارا لك ذكارا لك رهابا لك مطواعا لك مخبتا إليك أواها منيبا".
"المظفر" المنصور على من عداه.
"المعزر" ذكره ابن دحية من قوله {وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ} [الفتح: 9] وقوله: {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوه} [الأعراف: 157] فأوجب الله تعزيره وتوقيره وإكرامه. ومعنى يعزروه يجلوه، أو يبالغوه في تعظيمه، أو يعينوه وقريء بزاءين من العز.
"المعصوم" قال تعالى: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاس} [المائدة: 67] .
"المعطي" الواهب المتفضل اسم فاعل من العطاء وهو الإنالة وهو من أسمائه تعالى.
"المعقب" قال السيوطي كأنه بفتح العين وكسر القاف المشددة بمعنى العاقب؛ لأنه قب الأنبياء، أي جاء بعدهم قال غيره أو من أعقب إذا أخلف عقبا لبقاء عقبه من فاطمة إلى يوم القيامة.
"المعلم" بكسر اللام المرشد للخير والدال عليه، قال حسان: معلم صدق إن يطيعوه يهتدوا.
"معلم أمته" ما لم يكونوا يعلمون.
"المعلم" اسم مفعول، قال تعالى: {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ} [النساء: 113] ، كما يأتي للمصنف.
"المعلن" المظهر بدعوته في حديث علي في صفة الصلاة عليه المعلن الحق بالحق.(4/218)
المعلى، المفضال، المفضل، المفتاح، مفتاح الجنة، المقتصد، المقتضي: يعني قفا النبيين، المقدس، المقري، المقسط، المقسم، المقصوص عليه، المقفى، وقيل بزيادة تاء بعد القاف كما تقدم، مقيل العثرات،
__________
"المعلى" الذي رفع على غيره اسم مفعول من التعلية الرفعة. "المفضال" صيغة مبالغة من الأفضال وهو الجود والكرم. "المفضل" قال السيوطي: يحتمل أنه يوزن المكرم فيكون بمعنى الذي قبله وأنه بوزن المقدس، أي المفضل على جميع العالمين، وقال غيره، أي المشرف على غيره اسم مفعول من التفضيل وهو الشريف والتكريم، سمي بذلك؛ لأن الله فضله على جميع الخلائق وخصه بالرتب.
"المفتاح" الذي يفتح به المغلاق.
"مفتاح الجنة" لأن أول من يفتح له صلى الله عليه وسلم.
"المقتصد" بكسر المهملة المستقيم اسم فاعل من الاقتصاد افتعال من القصد، وهو استقامة الطريق أو العدل.
"المقتفي" كما في حديث عند ابن عدي وأنا المقتفي قفيت النبيين عامة، ولذا قال "يعني قفا النبيين" أي جاء على أثرهم فوقف على أحوالهم وشرائعهم، فاختار الله له من كل شيء أحسنه، وكان في قصصهم له ولامته عبر وفوائد، أو المراد أنه آخرهم وخاتمهم وعليه المصنف فيما يأتي.
"المقدس" بفتح المهملة سماه الله به في الكتب السابقة، أي المطهر من الذنوب المبرأ من العيوب، أو المطهر من الأخلاق السيئة والأوصاف الذميمة ويأتي للمصنف.
"المقرئ" بالهمز الذي يقرئ غيره القرآن، وفي الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال لأبي بن كعب "إن الله أمرني أن أقرأ عليك القرآن" أي أعلمك، كما يقرأ الشيخ على الطالب ليفيده، لا ليستفيد منه وفيه منقبه لأبي "المقسط" اسم فاعل أقسط إذا عدل هو من أسمائه تعالى أي العادل في حكمه المنصف المظلوم من الظالم.
"المقسم" اسم فاعل من اقسم حلف؛ لأنه كان ل يقسم إلا فيما يرضي ربه، ولا يكون إلا صادقا بارا فسمي به إشعارا بأنه الحقيق بذلك الوصف دون غيره، "المقصوص عليه" قال تعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} . "المقفى" بضم الميم وفتح القاف وكسر الفاء المشددة ورد في حديث حذيفة عند أحمد وغيره برجال ثقات مرفوعا، "وقيل بزيادة تاء" فوقية "بعد القاف كما تقدم" قريبا، وقاله بعض شراح الشفاء عن الطيبي. وكان الشامي لم يقف عليه بزيادة التاء لغير المصنف فعزاه له حيث قال ذكره شيخنا أبو الفضل بن الخطيب.
"مقيل العثرات" أي عارف الزلات لمن صدرت منه، فلا ينتقم لنفسه، وإنما يغضب إذا(4/219)
مقيم السنة بعد الفترة، المكرم، المكتفي، المكين، المكي، الملاحمي، ملقي القرآن، الممنوح المنادي، المنتصر، المنجين المنذر،
__________
انتهكت حرمات الله، ويقال للزلة عثرة؛ لأنها سقوط في الإثم، وقد روى أحمد وأبو داود عن عائشة مرفوعا: "أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا في الحدود"، ورواه الشافعي، وابن حبان بلفظ: "أقيلوا ذوي الهيئات زلاتهم".
قال الشافعي نقلا عن أهل العلم: هم الذين لا يعرفون بالشر فتزل بأحدهم الزلة، وقال الماوردي في عثراتهم وجهان أحدهما الصغائر والثاني أول معصية زل فيها مطيع.
"مقيم السنة بعد الفترة"، كما هو نص الزبور، كما يأتي للمصنف ومعناه في التوراة.
"المكرم" بشد الراء وخفتها؛ لأنه أكرم الخلق على الله.
"المكتفي" بالله، أي الذي أسلم أموره إليه وتوكل عليه.
"المكفي" اسم مفعول، أي الذي كفاه الله مهماته، أي أغناه عن التعب في دفعها بنصره وقيامه بأمره، وكفى الله المؤمنين القتال أغناهم عنه.
"المكين" فعيل من المكانة ويأتي للمصنف، وكذا "المكي الملاحمي" نسبة إلى الملاحم جمع ملحمة، وهو القتال؛ لأنه بعث بالسيف والجهاد، "ملقي القرآن" على أمته أي مبلغة إليهم، أو بمعنى المتلقي، أي المتصدي لسماعه حين ينزل، قال الله تعالى: {وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ} [النمل: 6] ، وتخصيص القرآن بالذكر؛ لأنه المعجزة العظمى، فلا ينافي مشاركة غيره له في الإلقاء.
"الممنوح" المعطى: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى: 5] .
قال البيضاوي وعد شامل، لما أعطاه من كمال النفس وظهور الأمر وإعلاء الدين، ولما ادخره له مما، لا يعلم كنه سواه.
"المنادي" بكسر الدال الداعي إلى الله وتوحيده، قال ابن جريح في قوله تعالى: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا} هو محمد صلى الله عليه وسلم رواه ابن أبي حاتم، أو بفتح الدال، أي المدعو إلى الله ليلة الإسراء على لسان جبريل، وهما اسمان له، كما في الشامي.
"المنتصر" من ربي على أعدائه وفي نسخة المنتظر بالظاء المعجمة، أي لجميع الأمم لأخذ الله الميثاق على الأنبياء وأممهم أن من أدركه يؤمن به وينصره، فكل نبي مع أمته كانوا ينتظرون زمانه. "المنجي" من اتبعه من النار.
"المنذر" من الإنذار، وهو الإبلاغ مع تخويف، قال تعالى: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ} حصر خاص، أي لست بقادر على هداية الكفار لا عام؛ لأن له أوصافا أخرى كالبشارة.(4/220)
المنزل عليه، المنحمنا، المنصف، المنصور، المنيب، المنير، المهاجر، المهتدي، المهدي، المهداة، المهيمن، المؤتمن، المؤتي جوامع الكلم، الموحي إليه، الموصل، الموقر، المولي، المؤمن
__________
"المنزل عليه" ظاهر المعنى.
"المنحمنا" بضم فسكون ففتح فكسر فشد، وقيل بفتح الميمين، أي محمد بالسرياني، كما يأتي للمصنف.
"المنصف" بضم أوله وسكون النون وكسر المهملة العادل، وكان أشد الناس إنصافا.
"المنصور" المؤيد اسم مفعول من النصر التأييد.
"المنيب" المقبل على الطاعة.
"المنير" اسم فاعل من أنار إذا أضاء، أي المنور قلوب المؤمنين بما جاء به. "المهاجر" لأنه هاجر من مكة إلى المدينة.
"المهتدي" معناه واضح. "المهدي" بكسر الدال اسم فاعل من أهدى بمعنى هدى وهو المرشد والدال على طريق الخير، قال تعالى: {وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} [الفتح: 2] وقال حسان يرثيه:
جزعا على المهدي أصبح ثاويا ... يا خير من وطئ الثري، لا تبعد
أو بفتح الدال اسم مفعول من أهدى الشيء يهديه، فهو مهدي وهما اسمان له، كما في الشامي "المهداة" بضم أوله وفتح الدال، قال صلى الله عليه وسلم: "إنما أنا رحمة مهداة" رواه البيهقي.
"المهيمن" يأتي للمصنف، وهو من أسمائه تعالى، أي الشاهد الحافظ، أو المؤمن أو الأمين أو القريب أو القائم على خلقه، وهو صلى الله عليه وسلم مهيمن، بما عدا الأخير على أنه يصح عليه أيضا أنه القائم على خلق الله.
"المؤتمن" بفتح الميم الثانية الذي يؤتمن أمانته ويرغب في ديانته؛ لأنه حافظ للوحي مؤتمن عليه، أو على هذه الأمة، أي شاهد عليها.
"المؤتي جوامع الكلم" يأتي الكلام عليه في الخصائص "الموحى إليه" على صفات عديدة، كما مر أوائل الكتاب. "الموصل" اسمه في التوراة، ومعناه مرحوم "الموقر" ذو الحلم والرزانة، وقد كان أوقر الناس في مجلسه، لا يكاد يخرج شيئا من أطرافه. "المولى" أي السيد المنعم الناصر المحب، وهو من أسمائه تعالى، ويأتي استدلال المصنف له بقوله أنا ولي كل مؤمن.
"المؤمن" بهمزة وتبدل واوا تخفيفا لسكونها بعد ضمة، وهي لغة الحجاز المتصف(4/221)
المؤيد، الميسر.
__________
بالإيمان ويأتي للمصنف "المؤيد" بفتح التحتية. المنصور، أي المقوي المعان هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين، أو بكسرها أي الناصر، أو القوي، أو الشديد، وهما اسمان له، كما في الشامي.
"الميسر" المسهل للدين اسم فاعل روى مسلم عن جابر مرفوعا إن الله بعثني ميسرا فعد مائة واثنين وأربعين فيها من أسماء الله تعالى ستة، وزاد الشامي أسماء هي المؤمم بالهمز، أي المقصود الذي يؤم كل راج حماه لغة في الميم بالياء المؤيد بالكسر المتبع الذي يتبعه غيره، أي يقتدي به المتلو اسم مفعول من التلو، وهو المتابعة، المتمكن، أي المتمكن في الأرض الذي أطاعه الناس واتبعوه.
المتمم لمكارم الأخلاق المتمم بالبناء للمفعول خلقا المثبت بفتح الموحدة؛ لأن الله ثبته على دينه.
المجادل، أي المحكم المتقن للأمور، أو المحاجج المجيد الرفيع القدر أو الكريم، وهو من أسمائه تعالى. المحجة جادة الطريق من الحج القصد والميم زائدة المحكم بفتح الكاف المشددة، أي الحاكم، وهو القاضي المحيد من حاد عن الشيء إذا عدل عنه؛ لأنه حاد عن الباطل واتبع الحق، أو من أحاد؛ لأنه عدل بأمته إلى الطريق المستقيم.
المخبت الخاشع المختص اسم مفعول؛ لأن الله اختصه لنفسه واستأثر به على خلقه، أو اسم فاعل لاختصاصه بملازمة العبادة واستئثاره بزيادة حب الله وقربه المختص بالقرآن المختص بآي، لا تنقطع.
المختم اسم مفعول من تختم اتخذ خاتما. المخضم بضاد معجمة وزن منبر السيد الشريف العظيم المنيف مرحمة لقوله صلى الله عليه وسلم: "بعثت مرحمة وملحمة".
رواه أبو نعيم المزمزم بضم الميم الأولى وفتح الثاني أي المغسول قلبه بماء زمزم. المرشد الهادي الدال على طريق الهدي مرغمة وقع في الصحاح بعثت مرغمة، أي مذلا للكفر حتى يلصق بالرغام بالفتح التراب، ثم استعمل في الذل والعجز. المرغب اسم فاعل؛ لأنه يحث على الطاعة مزيل الغمة الكرب والمشدة.
المستجيب، أي المطيع أو بمعنى مستجاب فعيل بمعنى مفعول لوجوب طاعته وإجابته ولو في الصلاة، ولا تبطل المستعيذ من العوذ الالتجاء إلى الله.
المسدد أخاه السيوطي من قوله تعالى لسعيا أسدده لكل جميل. المسيح المبارك باليونانية، أو الذي يمسح العاهات فيبرئها، المشذب بمعجمتين آخره موحدة الطويل المعتدل القامة.(4/222)
...............................................
__________
المشرد اسم فاعل بالعدو، وهو التنكيل وتعجم داله، وبه قرأ ابن مسعود فشرذبهم المشيح بضم الميم وكسر المعجمة وسكون التحتية فمهملة، أي بادي الصدر من غير تطامن، بل بطنه وصدره سواء.
قال عياض ولعله بفتح الميم بمعنى عريض الصدر، كما في الرواية الأخرى المصدق اسم فاعل المذعن المنقاد، لما أمر به لتصديقه جبريل فيما أخبره به عن ربه المصدق بالبناء للمفعول؛ لأن أمته صدقته المصون المضخم بمعجمتين، وزن منبر السيد الشريف المضري بمعجمة نسبة إلى مضر جده المضيء، أي المنير المعروف، أي معروف الله، أي بره وإحسانه، أو صاحب المعروف المعمم بالبناء للمفعول، أي صاحب العمامة، وهو من أسمائه في الكتب السابقة.
المعين الناصر أو كثير المعونة المعاضدة والمساعدة المغرم بالضم وسكون المعجمة، أي المحب لله من الغرام، وهو الولوع بالشيء والاهتمام به.
المغنم بمعجمة ونونة وزن جعفر الخيار من كل شيء.
المغني المحسن المتفضل، قال تعالى: {وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِه} الآية، وفيه تشريفه صلى الله عليه وسلم وتعظيمه، والتنبيه على علو مقامه هو عظم شأنه حيث ذكره معه في إيصال الصنيع إلى عباده، وجعله مغنيا لهم بما فتح الله على يديه وأفاء من الغنائم. المفخم بشد المعجمة المفتوحة الموقر المعظم في الصدور المهاب في العيون.
المفلج بجيم كمعظم، أي الثنايا، وهو تباعد ما بين الأسنان. المفلح اسم فاعل من الفلاح الفوز. المقدم بالفتح؛ لأن الله قدمه على الأنبياء خلقه ورتبة وشرفا.
المقدم بالكسر؛ لأن أمته قدمته بسببه، أي فضلت على غيرها المقوم بفتح الواو، أي المستقيم أو بمعنى القيم.
المكلم بفتح اللام المشددة؛ لأنه كلمة ليلة المعراج. الملاذ بمعجمة الملبي بضم الميم وفتح اللام وموحدة المطيع، أو المخلص، أو المجيب أو المحب. الملجأ بالجيم مهموز، أي الملاذ.
المليك فعيل، وهو من أسمائه تعالى، أي القادر على الإيجاد والاختراع، أو ضابط الأمور. المتصرف الملك بكسر اللام الذي يسوس الناسد ويدير أمرهم، أو ذو العز والسلطان، وهو من أسماء الله تعالى. أي المستغني في ذاته وصفاته عن الكون والموجودات، ولا غنى لأحد عنه، أو القادر على الاختراع والإبداع، المليء باللام مهموز، أي الغني بالله عما سواه، أو الحسن حكمه وقضاؤه.(4/223)
"حرف ن":
النابذ، الناجز، الناس لقوله تعالى: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ} [النساء: 54] ، المفسر به عليه الصلاة والسلام، الناسخ، الناشر،
__________
الممنوع الذي له منعة، أي قوة تمنعه من الشيطان والأعداء، أو الذي منعه الله العدا والردى، المنتجب بالجيم، المنتخب بالخاء المعجمة كلاهما بمعنى المختار.
المنجد المعين الناصر، أو مرتفع القدر. المنقذ بنون فقاف فمعجمة، المخلص من الشدائد؛ لأنه ينقذنا بالشفاعة يوم القيامة قال حسان:
يدل على الرحمن من يقتدي به ... وينقذ من هول الخزايا ويرشد
منة الله. قال تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِين} ، وخصوا بالذكر؛ لأنهم المنتفعون بمبعثه. المهاب بالضم الذي يخافه الناس لعظم بأسه وسلطانه، المهذب بالمعجمة المطهر الأخلاق الخالص من الأكدار، المورود حوضه، أي يوم القيامة. موذموذ اسمه في صحف إبراهيم. الموعظة ما يتعظ به ويتذكر.
الموقن من أيقن الأمر فهمه وثبت في ذهنه. ميذميذ، قال العزفي هو اسمه في التوراة. الميزان حكى محمود الكرماني في قوله تعالى: {بِالْحَقِّ وَالْمِيزَان} أنه محمد صلى الله عليه وسلم الميم بفتح التحتية كمعظم المقصود؛ لأن الخلق تؤم حماه يوم القيامة وتقصد جاهه لنيل السلامة. ا. هـ. باختصار.
حرف ن:
"النابذ" اسم فاعل من النبذ بسكون الباء وفتحها طرح الشيء لقلة الاعتداد به، قال تعالى: {فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء} ، أي اطرح عهدهم على طريق مستو بأن تظهر إليهم نبذة بحيث يعلمون أنه قطع ما بينك وبينهم، لا تناجزهم بالحرب وهم يتوهمون بقاء العهد.
"الناجز" المنجز، لما وعد وكان من ذلك بمكان "الناس لقوله تعالى: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاس} .
"المفسر" عند عكرمة ومجاهد "به عليه الصلاة والسلام" رواه عنهما ابن جرير. سمي به من تسمية الخاص بالعام؛ لأنه أعظمهم وأجلهم، أو لجمعه ما فيهم من الخصال الحميدة.
"الناسخ" اسم فاعل من النسخ لغة إزالة شيء يعقبه واصطلاحا رفع الحكم الشرعي بخطاب؛ لأنه صلى الله عليه وسلم نسخ بشريعته كل الشرائع وقد وصف الله نفسه في قوله ما ننسخ من آية. "الناشر" لأنه نشر الإسلام، وأظهر الشرائع كما يأتي للمصنف، قال غيره، أو هو بمعنى(4/224)
الناصح، الناضر، الناطق بالحق، الناهي، نبي الأحمر، نبي الأسود، نبي التوبة، نبي الحرمين، نبي الراحة، نبي الرحمة، النبي الصالح، نبي الله، نبي المرحمة، نبي الملحمة، نبي الملاحم، النبي، النجم النجم الثاقب، نجي الله، النذير، النسيب، نصيح، ناصح، النعمة، نعمة الله، النقيب، النقي، النور،
__________
الحاشر "الناصح" مأخوذ من قوله الأنبياء ليلة الإسراء مرحبا بالنبي الأمي الذي بلغ رسالة ربه ونصح لأمته "الناضر" بضاد معجمة. الحسن من النضارة الحسن والرونق.
"الناطق بالحق" بالقرءان على أحد الأقوال في الحق خص؛ لأنه أعظم ما نطق به.
"الناهي" اسم فاعل من النهي والزجر عن الشيء والآمر به تقدم في الآمر "نبي الأحمر نبي الأسود" أي الإنس والجن، أو العجم والعرب لقوله صلى الله عليه وسلم: "بعثت إلى الأحمر والأسود" "نبي التوبة" وهي الرجوع والإنابة لرجوع الأمم بهدايته، بعد التفرق إلى الصراط المستقيم، كما يأتي للمصنف.
"نبي الحرمين" مكة والمدينة، "نبي الراحة" بمهملتين رجوع النفس بعد الإعياء والتعب وسكونها، أو السهولة؛ لأنه أراح أمته من نصب الشرك، أو لأنه خفف بشرعه ما كان مشددا في شرع غيره من التكاليف الشاقة كقتل النفس في التوبة.
"نبي الرحمة" يأتي المصنف. "النبي الصالح" كما قال له الأنبياء ليلة الإسراء مرحبا بالنبي الصالح.
"نبي الله" ومر أنه يسمى أيضا رسول الله، فلا تتعسف. "نبي المرحمة نبي الملحمة" الحرب والقتال. "نبي الملاحم" جمع الملحمة وتأتي الثلاثة للمصنف وفي مسلم، وأحمد وغيرهما "أنا نبي الرحمة ونبي التوبة ونبي الملحمة"، وفي رواية "نبي المرحمة".
"النبي النجم" يأتيان للمصنف، وأنه سمي به؛ لأنه يهتدى به، كما يهتدى بالنجم. "النجم الثاقب" المضيء الذي يثقب بنوره وإصاءته ما يقع عليه حكى السلمي أنه صلى الله عليه وسلم المراد في الآية.
قال المصنف فيما يأتي والصحيح أنه النجم على ظاهره للاهتداء به كالنجم.
"نجي الله" مناجيه، يقال للواحد والجمع، قال تعالى: {وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} [مريم: 52] وخلصوا نجيا ولم يأخذه أحد من ذلك، كما زعم إذ ضمير قربناه لموسى فكيف يؤخذ منه اسم لمحمد، وإنما ذكروه دليلا على أنه يقال للواحد، "النذير" المخوف من عواقب الأمور ويأتي للمصنف.
"النسيب" ذو النسب العريق ومعلوم أن نسبه أشرف الأنساب من جهة أبويه معا وتقدم ذلك "نصبح" فعيل بمعنى فاعل من النصح، "ناصح" اسم فاعل بمعناه "النعمة" بالكسر الحالة الحسنة "نعمة الله" يأتي للمصنف" وكذا النقيب النقي الخالص من الأدناس المنزه عن الأرجاس "النور" يأتي أنه أحد القولين في: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُور} [المائدة: 15] .(4/225)
نور الأمم أي الهادي لها الذي أوصلها نور الله الذي لا يطفأ.
"حرف هـ":
الهادي، هدى هدية الله، الهاشمي.
__________
"نور الأمم، أي الهادي لها الذي أوصلها"، إلى الحق، كما يوصل النور إلى المطلوب.
قال عياض سمي صلى الله عليه وسلم بالنور لوضوح أمره وبيانه وبيان نبوته وتنوير قلوب المؤمنين والعارفين بما جاء به انتهى. وهو من أسمائه تعالى، أي خالق النور ومنور قلوب المؤمنين بالهداية والسماوات والأرض بالأنوار، "نور الله الذي، لا يطفأ،" أي حجته الدالة للحق على ما فيه صلاحهم من توحيده وتقديسه عن الولد والشريك ونحوهما، واتباع أوامره واجتناب نواهيه وغير ذلك، وقيل في قوله تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّه} أنه محمد صلى الله عليه وسلم فعد أربعا وثلاثين فيها واحد من أسماء الله تعالى، وزاد الشامي الناسك العابد اسم فاعل الناصب، ذكره ابن دحية، قال السيوطي: يحتمل أنه مأخوذ من قوله تعالى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ} أي اتعب في الدعاء والتضرع، وأن معناه المبين لأحكام الدين من النصب بضم ففتح العلامات في الطريق يهتدي بها، أو المقيم لدين الإسلام من نصبته إذا أقمته قال غيره: أو الناصب المرتفع، أو للحرب، أي المقيم لها والمجتهد في الطاعة ناصر الدين بالإضافة أي مانعه من طعن الكفرة. الناظر من خلفه بفتح الميم على أن من موصولة، أي الذين وراءه، أو بكسرها على أنها جادة، أي يبصر من ورائه كأمامه. نبي زمزم النبأ بنون فموحدة مهموز، الشأن العظيم والخطب الجسيم، وقيل إنه المراد بقوله عن النبأ العظيم، وقيل القرآن.
لنجيب الكريم، أو المختار النجيد بدال مهملة الدليل الماهر، أو الشجاع الماضي فيما يعجز عنه غيره، الندب بالفتح وسكون المهملة فموحدة، أي النجيب الظريف ذكر ابن عساكر عن بعضهم في قوله تعالى: {ن وَالْقَلَم} ، إنه اسم له صلى الله عليه وسلم، وقيل من أسماء الله تعالى.
حرف هـ:
"الهادي" بمعنى الهداية والدعاء، كما يأتي للمصنف، وهو من أسمائه تعالى أي الذي بصر عباده طريق معرفته حتى أقروا بربوبيته، أو هادي كل أحد إلى ما لا بد له منه، "هدى" وأدخل الشامي عليه أل، أي الرشاد والدلالة، ولقد جاءهم من ربهم الهدى، مصدر سمي به مبالغة.
"هدية الله" التي أوصلها لعباده فضلا عليهم، وروى أحمد مرفوعا "إن الله بعثني رحمة للعالمين وهدى للعالمين".
"الهاشمي" نسبة إلى جد أبيه، فهي أربع واحد من أسمائه تعالى، وزاد الشامي الهجود(4/226)
"حرف و":
الوجيه، الواسط، الواسع، الواصل، الواضع، الواعد، الواعظ، الورع، الوسيلة، الوفي، ولي الفضل، الولي.
__________
كصبور كثير التهجد الهمام بالضم الملك العظيم الهمة بالكسر وتفتح واحدة الهمم. الهين بفتح فسكون مخفف الساكن المتئد.
حرف و:
"الوجيه" ذو الوجاهة والجاه عند الله. "الواسط" ذكره ابن دحية، قال الجوهري: فلان وسيط في قومه إذا كان أوسطهم نسبا، وأرفعهم محلا، والواسط الجوهر الذي وسط القلادة.
"الواسع" الجواد الكثير العطاء من الوسع مثلثة الواو كالسعة، وهي الجدة والطاقة وهو من أسمائه تعالى، أي المحيط بكل شيء، أو الذي وسع رزقه جميع خلقه، أو وسعت رحمته كل شيء، أو المعطي عن غنى، أو العالم، أو الغني.
"الواصل" البالغ في النهاية والشرف ما لا يعلمه إلا الله.
"الواضع" المزيل والقاطع اسم فاعل من الوضع أعم من الحط قال تعالى: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ} أي يزيله، ويقطعه والإصر الثقل الذي يأصر صاحبه، أي يحبسه عن الحركة، وهو مثل لثقل تكليف بني إسرائيل وصعوبته كقتل النفس في صحة التوبة وقطع الأعضاء الخاطئة.
"الواعد" اسم فاعل من الوعد إذا أطلق ففي الخير والوعيد في الشر إلا لقرينة كالبشارة والنذارة "الواعظ" قال تعالى: {إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَة} ابن فارس الوعظ التخويف، الخليل التذكير بالخير وما ترق له القلوب. الجوهري النصح والتذكير بالعواقب. "الورع" بكسر الراء التقي اسم فاعل من الورع اتقاء الشبهات.
"الوسيلة" ما يتقرب ويتوسل به إلى ذي قدر، وهو وسيلة الخلق إلى ربهم.
"الوفي" الكامل الخلق التام الخلق من الوفاء، وهو أوفى الناس بالعهد، وأوفاهم ذمة، وهو من أسمائه تعالى.
"الوافي" بمعنى الوفي لكماله خَلقا وخُلقا ورجحانه على غيره عقلا، قال حسان:
واف وماض شهاب يستضاء به ... بدر أنار على كل الأناجيل
"ولي الفضل" أي مولى" الإحسان والبر. "الولي" الناصر، أو الوالي، أو المتولي مصالح الأمة القائد بها، قال تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} إلا المحب لله، أو المتصف بالولاية، وهي كشف الحقائق وقطع العلائق والتصرف في باطن الخلائق.
قال القشيري: للولي معنيان فعيل بمعنى مفعول، وهو من يتولى الله أمره، ولا يكله إلى(4/227)
"حرف ي":
اليثربي، يس.
وكنيته
__________
نفسه لحظة. وبمعنى فاعل، وهو الذي يتولى عباد الله وطاعته فيجريها على التوالي، ولا يتخلل بينها عصيان، وهو من أسمائه تعالى، وهو الولي الحميد {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا} أي يتولى نصرهم ومعونتهم وكفايتهم ومصالحهم، فهي ثلاثة عشر فيها اثنان من أسماء الله، وزاد الشامي الواحد بالجيم العالم، أو الغني من الجدة الاستغناء، وهو من أسمائه تعالى أي العالم، أو الغني الذي لا يفتقر.
الوالي المالك، أو الملك، أو الحاكم، أو الشريف القريب، وهو من أسمائه تعالى.
الوسيم بمهملة وتحتية كأمير الحسن الوجه الجميل. الوصي بالمهملة الخليفة القائم بالأمر بعد غيره لقيامه بالتبليغ والرسالة بعد عيسى الذي بشر به، وأخبر برسالته، وحض على اتباعه، الوهاب من الهبة بذل المال، بلا عوض، وهو من أسمائه تعالى، أي الذي يعطي على قدر الاستحقاق، ولا يقبض ما في يمينه من كثرة الإنفاق انتهى. وهو بيان لمعناه في حقه تعالى وإلا فهو لغة كثير الهبة لمستحق، أو غيره.
حرف ي:
"اليثربي" نسبة إلى يثرب اسم المدينة الشريفة في الجاهلية، وقد ورد النهي عن تسميتها بذلك، كما مر غير مرة.
"يس" يأتي للمصنف بسطه، وقد استبان من العد أن فيها من الأسماء الحسنى ستة وخمسين اسما أعني الواردة في حديثي الترمذي وابن ماجه، وإن نظرت إلى غيرها مما اختلف كيس وطه والم، وما يصح إطلاقه عليه على رأي من قال به كانت نحو سبعين، وهو مراد المصنف بقوله في المقصد السادس، أنه ذكر هنا نحو سبعين من أسماء الله الحسنى انتهى.
يعني بالمعنى اللغوي إذ أسماؤه جل وعلا كلها حسنى، لا بالنظر إلى الوارد في الحديث من عدها، وزاد الشامي اليتيم من اليتم موت الأب قبل بلوغ الولد، أو من الانفراد كدرة يتيمية، كما قيل في قوله تعالى: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا} ، أي واحدا في قريش عديم النظير انتهى. ومذهب مالك، لا يجوز عليه هذا الاسم.
"وكنيته" قال الحافظ بضم الكاف وسكون النون من الكناية تقول كنيت عن الأمر إذا ذكرته بغير ما يستدل به عليه صريحا، واشتهرت الكنى للعرب حتى ربما غلبت على الأسماء كأبي طالب، وقد يكون للواحد كنية، فأكثر، وقد يشتهر باسمه وكنيته جميعا، فالاسم، والكنية، واللقب يجمعها العلم بفتحتين وتتغاير بأن اللقب ما أشعر بمدح، أو ذم، والكنية ما صدر بأب، أو(4/228)
المشهورة أبو القاسم، كما جاء في عدة أحاديث صحيحة.
ويكني بأبي إبراهيم، كما جاء في حديث أنس في مجيء جبريل إليه عليهما الصلاة والسلام، وقوله السلام عليك يا أبا إبراهيم.
__________
أم وما عدا ذلك، فالاسم انتهى، وقال ابن الأثير في كتابه المرصع الكنية من الكناية، وهي أن تتكلم بالشيء وتريد غيره جيء بها الاحترام المكنى بها وإكرامه وتعظيمه كيلا يصرح في الخطاب باسمه ومنه قول الشاعر:
أكنيه حين أناديه لأكرمه ... ولا ألقبه والسوأة اللقبا
ولقد بلغني أن سبب الكنى في العرب أنه كان لهم ملك من الأول ولد له ولد توسم فيه النجابة فشغف به، فلما نشأ وصلح لأدب الملوك أحب أن يفرد له موضعا بعيدا عن العمارة يقيم فيه ويتخلق بأخلاق مؤدبيه، ولا يعاشر من يضيع عليه بعض زمانه، فبنى له في البرية منزلا، ونقله إليه ورتب له من يؤدبه بأنواع الآداب العلمية والملكية وأقام له حاجته من الدنيا، وأضاف له من أقرانه بني عمه وغيرهم ليؤنسوه ويحببوا له الأدب بالموافقة، وكان الملك كل سنة يمضي له ومعه من له عنده ولد، فيسأل عنهم ابن الملك، فيقال له هذا، أبو فلان وهذا أبو فلان للصبيان الذين عنده فيعرفهم بإضافتهم إلى أبنائه فظهرت الكني في العرب انتهى.
"المشهورة" ولذا بدأ بهما "أبو القاسم" باسم أكبر أولاده عند الجمهور.
وقال العزفي وغيره؛ لأنه يقسم الجنة بين أهلها يوم القيامة، وقيل لقوله عليه السلام: "إني جعلت قاسما أقسم بينكم". "كما جاء" تكنيته بأبي القاسم "في عدة أحاديث صحيحة" كقول أبي هريرة في الصحيح: قال أبو القاسم: وقال أنس: كان صلى الله عليه وسلم في السواق، فقال رجل يا أبا القاسم، فالتفت صلى الله عليه وسلم، فقال: إني لم أعنك إنما دعوت فلانا، فقال: "سموا باسمي، ولا تكنوا بكنيتي" رواه الشيخان، وظاهره المنع، وهو المشهور عن الشافعي مطلقا، وقيل يختص بمن اسمه محمد لحديث نهى أن يجمع بين اسمه وكنيته، ومذهب مالك، وأكثر العلماء، كما قال عياض في شرح مسلم. الجواز مطلقا والنهي مختص بزمانه لإذنه صلى الله عليه وسلم لجماعة أن يسموا من يولد لهم بعده محمدا ويكنوه بأبي القاسم وبسط ذلك في الخصائص إن شاء الله تعالى. "ويكني بأبي إبراهيم" باسم آخر أولاده، "كما جاء في حديث أنس" عند البيهقي "في مجيء جبريل إليه عليهما الصلاة والسلام" لما وقع في نفسه من تردد "مابور" الغلام الذي أهدي مع مارية عليها، فبعث عليًّا ليقتله فوجده ممسوحا، فرجع، فأخبره صلى الله عليه وسلم، فقال: "الحمد لله الذي صرف عنا أهل البيت"، "وقوله السلام عليك يا أبا إبراهيم" لفظ البيهقي وابن الجوزي عن أنس، لما ولد إبراهيم من مارية كاد يقع في نفس النبي منه حتى أتاه جبريل، فقال: السلام عليك يا أبا إبراهيم وعند(4/229)
وبأبي الأرامل، فيما ذكره ابن دحية.
وبأبي المؤمنين، فيما ذكره غيره.
واعلم أنه لا سبيل لنا أن نستوعب شرح جميع هذه الأسماء الشريفة؛ لأن في ذلك تطويلا يفضي بنا إلى العدول عن غرض الاختصار، فلنذكر من ذلك ما يفتح الله تعالى به مما يدل على ما سواه وبالله أستعين.
فأول ذلك ما له عليه الصلاة والسلام من معنى الحمد الذي هو اسمه
__________
الطبراني من حديث ابن عمر وابن العاصي في القصة أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال لعمر بن الخطاب: "ألا أخبرك يا عمر أن جبريل أتاني، فأخبرني أن الله برأها وقريبها مما وقع في نفسي، وبشرني أن في بطنها غلاما مني، وأنه أشبه الناس بي، وأمرني أن أسميه إبراهيم وكناني بأبي إبراهيم. ولولا أكره أن أحول كنيتي التي عرفت بها لتكنيت بأبي إبراهيم، كما به كناني جبريل". "وبأبي الأرامل" جمع أرملة لشدة احتياجهن، والأرملة العزباء ولو غنية خلافا للأزهري، ويحتمل أن المراد الفقراء لإطلاق الأرمل على الفقير، وهي كنيته في التوراة.
"فيما ذكره ابن دحية" عن أبي الحسن سلام بن عبد الله الباهلي في كتاب الذخائر والإغلاق في آداب النفوس ومكارم الأخلاق، "وبأبي المؤمنين فيما ذكره غيره" قال تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب: 6] . وقرأ أبي بن كعب، وهو أب لهم، أي كأبيهم في الشفقة والرأفة والحنو، "واعلم أنه لا سبيل" طريق لائق "لنا أن نستوعب شرح جميع هذه الأسماء الشريفة" ولا يقدر الخبر ممكن؛ لأنها كلها مشروحة ولقوله "لأن في ذلك تطويلا يفضي بنا إلى العدول عن غرض الاختصار" الذي هو قصدنا في ذا الكتاب، "فلنذكر" بلام الطلب المراد بها مجرد الإخبار مجازا نحو {فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ} [مريم: 75] {وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ} [العنكبوت: 12] "من ذلك ما يفتح الله تعالى به" يسوقه ويرسله، أي يلهمنا إياه من إطلاق السبب وإرادة المسبب إذ فتح الباب سبب الخروج ما حفظ به "مما يدل على ما سواه" ولو بالإشارة "وبالله أستعين" أطلب المعونة، وهي تحصيل ماء، لا يتأتى الفعل دونه، كاقتداء الفاعل وتصوره، لما يريد فعله، وحصول آلة ومادة يفعل بها، أي الآلة في المادة وتحصيل ما تيسر به الفعل، ويسهل كالراحلة في السفر للقادر على المشي، "فـ" أقول "أول ذلك ما" وصف "له عليه الصلاة والسلام من معنى الحمد الذي هو اسمه" صفة مخصصة لمعنى الحمد الذي هو كالجنس؛ لأنه الوصف بالجميل فيشمل سائر أسمائه وصفاته(4/230)
المنبئ عن ذاته الشريفة، الذي سائر أسماء أوصافه راجعة إليه، وهو في المعنى واحد، وله في الاشتقاق صيغتان:
الاسم المبني صيغته على صيغة "أفعل" المنبئة عن الانتهاء إلى غاية ليس وراءها منتهى، وهو اسمه "أحمد".
والاسم المبني على صيغة "التفعل" المنبئة على التضعيف والتكثير إلى عدد لا ينتهي له الإحصاء وهو اسمه "محمد".
قال السهيلي: "محمد" منقول من الصفة، فالمحمد في اللغة هو الذي يحمد حمدا بعد حمد، ولا يكون "مفعل" مثل: مضرب، وممدح،
__________
دون أولية شيء منها بخلاف اسمه "المنبئ عن ذاته الشريفة" المشتملة على جميع الصفات "الذي سائر أسماء أوصافه" جمع صفة بمعنى الأثر القائم به كالعلم والحلم والأسماء الدالة عليها، كالعاقب "راجعة إليه، وهو في المعنى واحد وله في الاشتقاق صيغتان" لفظان دالان على ذاته، لا الصيغة الاصطلاحية التي هي تقديم بعض الحروف والحركات على بعض، كما أفاده قوله إحداهما "الاسم المبني صيغته على صيغة أفعل" حال من صيغته "المنبئة" المخبرة والكاشفة "عن الانتهاء إلى غاية ليس وراءها منتهى، وهو اسمه أحمد" لأنه أفعل تفضيل حذف المفضل عليه قصدا للتعظيم نحو الله أكبر، أي من كل شيء، ثم نقل ولحظ أصله، فلا يرد عليه أنه علم فكيف يفيد ما ذكره وزعم أنه للتفضيل، لا المبالغة؛ لأن لها صيغا مخصوصا رد بأنه وهم، ومن قال ليس بمنقول من المضارع، ولا من أفعل التفضيل، فهو كأحمر، وأصفر، ففيه نظر، لا يخفى "و" ثانيتهما "الاسم المبني على صيغة التفعل المنبئة" المخبرة الدالة "على التضعيف والتكثير" عطف تفسير "إلى عدد، لا ينتهى له الإحصاء" أي لا يصل إليه الضبط بالعد، بحيث، لا يبقى من أوصافه التي تعد شيء "وهو اسمه محمد" لأن زنة مفعل بشدة العين كمعظم ومبجل موضوعة للتكثير، فإن اشتق منه اسم فاع فمعناه من كثر صدور الفعل منه كمعلم، أو اسم مفعول فمعناه من تكرر وقوع الفعل عليه، ولذا، "قال السهيلي" في الروض "محمد" منقول من الصفة" وغلط من قال مرتجل ووجه بأنه لم يستعمل إلا علما ورد بقول الأعشى:
إلى الماجد القرم الجواد المحمد
"فالمحمد" أي الوصف الذي هو محمد، فلا يرد أنه علم، ولا تدخل عليه اللام، "في اللغة هو الذي يحمد حمدا بعد حمد" إلى ما لا نهاية له، فلا يقف حمده على حد، "ولا يكون "مفعل" بشد العين المفتوحة "مثل مضرب" لمن كثر عليه الضرب "وممدح" لمن كثر المدح له(4/231)
إلا لمن تكرر منه الفعل مرة بعد أخرى.
وأما "أحمد" وهو اسمه عليه الصلاة والسلام الذي سمي به على لسان عيسى وموسى، فإنه منقول أيضا من الصفة التي معناها التفضيل، فمعنى "أحمد" أحمد الحامدين لربه، وكذلك هو في المعنى؛ لأنه يفتح عليه في المقام المحمود بمحامد لم تفتح على أحد قبله، فيحمد ربه بها، وكذلك يعقد له لواء الحمد.
قال: وأما "محمد" فمنقول من صفة أيضا، وهو في معنى "محمود"، ولكن فيه معنى المبالغة والتكرار، فالمحمد هو الذي حمد مرة بعد مرة، كما أن المكرم من أكرم مرة بعد مرة، وكذلك الممدح ونحو ذلك. فاسم "محمد" مطابق لمعناه، والله سبحانه وتعالى سماه به قبل أن يسمى به، علم من أعلام نبوته عليه الصلاة والسلام؛ إذ كان اسمه صادقا عليه، فهو صلى الله عليه وسلم محمود في الدنيا بما هدى
__________
"إلا لمن تكرر منه" من للتعليل أي من أجله "الفعل" وهو الضرب والمدح في المثالين "مرة بعد أخرى" فلا يرد أن المناسب له بدل منه، أو معناه تكرر منه الفعل، أي الخصال المحمودة التي حمد بسببها، "وأما أحمد، وهو اسمه عليه الصلاة والسلام الذي سمي به على لسان عيسى وموسى" خصهما لشهرته في كتبهما، وإلا ففي الشفاء أن أحمد أتى في الكتب وبشرت به الأنبياء، "فإنه منقول أيضا من الصفة التي معناها التفضيل، فمعنى "أحمد" أحمد الحامدين لربه، وكذلك هو في المعنى، فاسمه مطابق لمعناه "لأنه يفتح عليه في المقام المحمود" وهو مقام الشفاعة العظمى الذي يحمده فيه الأولون والآخرون "بمحامد" جمع محمدة بمعنى حمد "لم تفتح على أحد قبله" أي يلهمه الله محامد عظيمة لم يلهمها لغيره، وأصل الفتح ضد الغلق، فاستعير للإلهام "فيحمد ربه بها، كما قال صلى الله عليه وسلم "وكذلك يعقد له لواء الحمد" الحقيقي وعلم حقيقته عند الله أي لواء يتبعه كل حامد ومحمود وأصحاب الحمد من لهم الشفاعة يومئذ كالأنبياء، أو هو تمثيل لشهرته في الموقف وعدم التأويل أسد، كما قيل، "قال" السهيلي "وأما محمد فمنقول من صفة أيضا، وهو في معنى محمود ولكن فيه معنى المبالغة والتكرار" لدلالة فعل على ذلك، "فالحمد هو الذي حمد مرة بعد مرة" إلى غير نهاية، أو الذي تكاملت فيه الخصال الحميدة، "كما أن المكرم من أكرم مرة بعد مرة وكذلك الممدح ونحو ذلك" من كل ما هو علي صيغة مفعل.
"فاسم محمد مطابق لمعناه والله سبحانه وتعالى سماه به قبل أن يسمى به" عند الناس، ولفظ الروض قبل أن يسمى به نفسه، فهذا "علم" بفتحتين دليل "من أعلام" أدلة "نبوته عليه الصلاة والسلام إذ كان اسمه صادقا عليه، فهو صلى الله عليه وسلم محمود في الدنيا بما هدى له ونفع به من العلم(4/232)
له ونفع به من العلم والحكمة، وهو محمود في الآخرة بالشفاعة، فقد تكرر معنى الحمد، كما يقتضيه اللفظ.
ثم إنه لم يكن محمدا حتى كان أحمد، حمد ربه فنبأه وشرفه، فلذلك تقدم اسم أحمد على الاسم الذي هو محمد، فذكره عيسى فقال اسمه أحمد، وذكره موسى حين قال له ربه: تلك أمة أحمد، فقال: اللهم اجعلني من أمة أحمد. فبأحمد ذكر قبل أن يذكر بمحمد؛ لأن حمده لربه كان قبل حمد الناس له، فلما وجد وبعث كان محمدا بالفعل، وكذلك في الشفاعة، يحمد ربه بالمحامد التي يفتحها عليه، فيكون أحمد الحامدين لربه، ثم يشفع فيحمد على شفاعته.
فانظر كيف ترتب هذا الاسم قبل الاسم الآخر في الذكر والوجود، وفي الدنيا والآخرة، تلح لك الحكمة الإلهية في تخصيصه بهذين الاسمين. انتهى.
وقال القاضي عياض: كان عليه الصلاة والسلام أحمد قبل أن يكون
__________
والحكمة" بيان، لما هدى ونفع، "وهو محمود في الآخرة بالشفاعة" العظمى حين أباها رؤساء الأنبياء، "فقد تكرر معنى الحمد، كما يقتضيه اللفظ" بالوضع العربي، "ثم إنه لم يكن محمدا" أي لم يثبت له ذلك الوصف "حتى كان أحمد" لأنه "حمد ربه فنبأه وشرفه، فلذلك تقدم اسم أحمد على الاسم الذي هو محمد فذكره عيسى فقال" ومبشرا برسول يأتي من بعدي "اسمه أحمد" وقال الراغب خصه عيسى به ولم يصفه بغيره تنبيها على أن أحمد منه وممن قبله، لما اشتمل عليه من الخصال الجميلة والأخلاق الحميدة التي لم تكمل لغيره، "وذكره موسى" في حديث مناجاته الطويل "حين: قال له ربه تلك أمة أحمد، فقال: اللهم اجعلني من أمة أحمد فبأحمد ذكر قبل أن يذكر بمحمد؛ لأن حمده لربه كان قبل حمد الناس له" تعالى؛ لأنه أول من أجاب يوم {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} بقوله بلى، "فلما وجد وبعث كان محمدا، بالفعل وكذلك في الشفاعة يحمد ربه بالمحامد التي يفتحها عليه" يلهمها له "فيكون أحمد الحامدين لربه" آجلهم حمدا، "ثم يشفع فيحمد على شفاعته" من الأولين والآخرين، "فانظر كيف ترتب" وجد "هذا ااسم" أحمد "قبل الاسم الآخر" محمد "في الذكر والوجود وفي الدنيا والآخر، تلح لك الحكمة الإلهية في تخصيصه بهذين الاسمين" وهي أنه خصه بهما لقيامه بمرتبة الحمد قبل الناس، وحمدهم له على ذلك "انتهى" كلام السهيلي.
"وقال القاضي عياض: كان عليه الصلاة والسلام أحمد قبل أن يكون محمدا، كما وقع(4/233)
محمدا كما وقع في الوجود؛ لأن تسميته أحمد وقعت في الكتب السالفة، وتسميته محمدا، وقعت في القرآن، وذلك أنه حمد ربه قبل أن يحمده الناس، انتهى.
وهذا موافق لما قاله السهيلي، وذكره في فتح الباري وأقره عليه، وهو يقتضي سبقية أحمد، خلافا لما ادعاه ابن القيم.
وذكر ابن القيم في اسمه "أحمد" أنه قيل فيه إنه بمعنى "مفعول" ويكون التقدير: أحمد الناس، أي أحق الناس وأولاهم أن يحمد، فيكون كمحمد، في المعنى، لكن الفرق بينهما: أن محمدا هو الكثير الخصال التي يحمد عليها، وأحمد: هو الذي يحمد أفضل مما يحمد غيره، فمحمد في
__________
في الوجود لأن تسمية أحمد وقعت في الكتب السالفة" المراد غالبها، فلا ينافي أن في بعضها اسمه محمد وفي بعضها الجمع بين محمد وأحمد، "وتسميته محمدا وقعت في القرآن وذلك أنه حمد ربه قبل أن يحمده الناس" وكذلك في الآخرة يحمد ربه فيشفعه فيحمده الناس، وقد خص بصورة الحمد ولواء الحمد والمقام المحمود، وشرع له الحمد بعد الأكل والشرب وبعد الدعاء وبعد القدوم من السفر وسميت أمته الحمادين، فجمعت له معاني الحمد وأنواعه صلى الله عليه وسلم "انتهى" كلام عياض بما زدته مما لخصه منه في الفتح، "وهذا موافق، لما قاله السهيلي وذكره في فتح الباري وأقره عليه، وهو يقتضي" صراحة "سبقية أحمد خلافا لما أدعاه العلامة محمد بن أبي بكر "بن القيم" في كتابيه جلاء الإفهام والهدى من سبقية محمد ونسبة القائل بسبقية أحمد إلى الغلط، واستدل بأن في التوراة تسميته ماذماذ، وصرح بعض شروحها من مؤمني أهل الكتاب بأن معناه محمد، وإنما سماه عيسى أحمد؛ لأن تسميته به وقعت متأخرة عن تسميته بمحمد في التوراة ومتقدمة على تسميته في القرآن، فوقعت بين التسميتين محفوفة بهما، وقد مر أن هذين الاسمين صفتان في حقه والوصفية فيهما لا تنافي العلمية وإن معناهما مقصود فعرف عند كل أمة بأعرف الوصفين عندها انتهى، ملخصا.
قال الشامي ووردت آثار كثيرة تشهد، لما قاله ابن القيم وفي حديث أنس عند أبي نعيم إن الله سماه محمدا قبل الخلق بألفي عام، كما يأتي للمصنف، فهذا مما يشهد له، "وذكر ابن القيم في اسمه أحمد أنه" اختلف فيها فقيل هو بمعنى فاعل، أي حمد الله أكثر من حمد غيره فمعناه أحمد الحامدين، "وقيل فيه أنه بمعنى مفعول ويكون التقدير أحمد الناس، أي أحق الناس وأولاهم أن يحمد فيكون كمحمد في المعنى، لكن الفرق بينهما أن محمدا هو الكثير الخصال التي يحمد عليها، وأحمد هو الذي يحمد أكثر مما يحمد غيره، فمحمد في(4/234)
الكثرة والكمية، وأحمد في الصفة والكيفية فيستحق من الحمد أكثر مما يستحقه غيره، أي أفضل حمد حمده البشر، فالاسمان واقعان على المفعول.
قال: وهذا أبلغ في مدحه وأكمل معنى، فلو أريد معنى الفاعل لسمي "الحماد" أي الكثير الحمد، فإنه صلى الله عليه وسلم كان أكثر الناس حمدا لربه، فلو كان اسمه أحمد باعتبار حمده لربه لكان الأولى الحماد، كما سميت بذلك أمته، وأيضا فإن هذين الاسمين إنما اشتقا من أخلاقة وخصائله المحمودة التي لأجلها استحق أن يسمى محمدا وأحمد.
وقال القاضي عياض -في باب تشريفه تعالى له عليه الصلاة والسلام بما سماه به من أسماءه الحسنى- أحمد بمعنى أكبر، من حمد، وأجل: من حمد.
ثم إن في اسمه "محمد" خصائص:
__________
الكثرة والكمية، وأحمد في الصفة والكيفية، فيستحق من الحمد أكثر مما يستحقه غيره، أي أفضل حمد حمده البشر، فالاسمان واقعان على المفعول".
"قال وهذا" القول "أبلغ في مدحه وأكمل معنى" قال: أعني ابن القيم، وهو الراجح المختار "فلو أريد معنى الفاعل لسمي الحماد" بدل أحمد، فلا ينافي أنه من أسمائه، كما مر، أو لم يصح عنده تسميته بالحماد، "أي كثير الحمد فإنه صلى الله عليه وسلم كان أكثر الناس حمدا لربه. فلو كان اسمه أحمد باعتبار حمده لربه"، كما قال من قال: إنه بمعنى فاعل "لكان الأولى الحماد، كما سميت بذلك أمته" أي بالحمادين "وأيضا، فإن هذين الاسمين إنما اشتقا من أخلاقه وخصائله المحمودة التي لأجلها استحق أن يسمى محمدا، وأحمد" لا من كثرة حمده لربه، وقد تعقب بأنه تخصيص، بلا مخصص، وبأن بناء اسم التفضيل من المفعول شاذ كأشغل من ذات النحيين، وكون حماد أبلغ من أحمد، كما اقتضاه كلامه، لا وجه له، وأجيب بأنه سلك ذلك لسلامته من التكرار والترادف الذي هو خلاف الأصل، وترجيحه على أحمد ليس لأبلغيته، بل لأنه أكثر وأقيس، وأما شذوذه فوارد لكه سمع من العرب، وأول من قال العود أحمد خداش بن حابس، "وقال القاضي عياض" في الشفاء "في باب تشريفه تعالى له عليه الصلاة والسلام بما سماه به من أسمائه الحسنى" وقبله أيضا في الباب الذي قبله وهو باب في أسمائه وما تضمنته من فضيلته، "أحمد بمعنى أكبر" بالموحدة، أي أجل، كما عبر به في الباب الأول "من حمد" بفتح فكسر مبني للفاعل، "وأجل" أعظم، وعبر في الباب الأول بأفضل "من حمد" بالبناء للمفعول فيه لف ونشر مرتب، فالأول راجع إلى اسم أحمد والثاني لمحمد، "ثم إن في اسمه"(4/235)
منها: كونه على أربعة أحرف ليوافق اسم الله تعالى اسم محمد، فإن عدة الجلالة على أربعة أحرف كمحمد.
ومنها: أنه قيل: إن مما أكرم الله به الآدمي أنه كانت صورته على شكل كتب هذا اللفظ، فالميم الأولى رأسه، والحاء جناحاه، والميم سرته والدال رجلاه. قيل: ولا يدخل النار من يستحق دخولها -أعاذنا الله منها- إلا ممسوخ الصورة إكراما لصورة اللفظ.
__________
مستأنف ليس من كلام عياض "محمد" بالجر بدل وفي نسخة محمدا بالنصب بتقدير أعني على جواز قطع البدل، أو جعل الاسم بمعنى التسمية فنصبه به "خصائص" اسم إن مؤخر "منها كونه" جاء على أربعة ليوافق اسم الله تعالى" بالنصب مفعول مقدم وفاعله "اسم محمد" لأن نسبة الموافقة للطارئ على غيره أوفق من نسبتها إلى الأصل. وقدم المفعول هنا؛ لأن ذاته تعالى مقدمة على سائر الأشياء، فلا أول لوجوده فقدمت في اللفظ، "فإن عدة الجلالة على أربعة أحرف كمحمد ومنها أنه قيل إن مما أكرم الله به الآدمي أن كانت صورته" تصويره "على شكل كتب هذا اللفظ" فلا يرد أن كتب مصدر الذي هو فعل الفاعل، أي تحريك يده، فلا يصح جعله صورة الإنسان؛ لأنه بمعنى تصويره، كما علم والإضافة حقيقية، أو كتب بمعنى مكتوب بدليل لفظ شكل، فالإضافة بيانية، أو من إضافة الأعم إلى الأخص، "فالميم الأولى رأسه" أي بمنزلته، كما عبر به الشامي، "والحاء جناحاه" أي يداه وبه عبر الشامي وفي القاموس الجناح اليد والجمع أجنحة، وأجنح، وظاهره أنه حقيقي، "والميم سرته والدال رجلاه".
زاد الشامي وباطن الحاء كالبطن وظاهرها كالظهر ومجمع الإليتين، والمخرج كالميم وطرف الدال كالرجلين وفي ذلك أشد:
له اسم صور الرحمن ربي ... خلائقه عليه كما تراه
له رجل وفوق الرجل ظهر ... وتحت الرأس قد خلقت يداه
قال: وفيه تكلف، "قيل: ولا يدخل ممن يستحق دخولها أعاذنا الله منها إلا ممسوخ الصورة إكراما لصورة اللفظ" وفي نسخة من يستحق، والأولى أولى لأنه إنما يدخلها بعض المستحقين، لا كلهم لمغفرة الله سبحانه لأكثر المذنبين، كما أخبر عن أصلها بقوله ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء، ولا ينافيه قوله: {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} لأنه لو بعد تعذيب، كما في البيضاوي، قال: وتقييده بالتوبة خلاف الظاهر، ويدل على إطلاقه فيما عدا الشرك {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء: 48] الآية.(4/236)
حكاهما ابن مرزوق، والأول، ابن العماد في كتابه كشف الأسرار.
ومنها: أنه تعالى اشتقه من اسمه "المحمود" كما قال حسان بن ثابت:
أغر عليه للنبوة خاتم ... من الله من نور يلوح ويشهد
وضم الإله اسم النبي إلى اسمه ... إذا قال في الخمس المؤذن أشهد
وشق له من اسمه ليجله ... فذو العرش محمود وهذا محمد
وأخر البخاري في تاريخه الصغير من طريق علي بن زيد قال: كان أبو طالب يقول:
وشق له من اسمه ليجله ... فذو العرش محمود وهذا محمد
__________
"حكاهما" أي قوله، قيل إنه مما أكرم وقوله قيل، ولا يدخل "ابن مرزوق والأول" أي قوله مما أكرم "ابن العماد في كتابه كشف الأسرار" وفيه أيضا أن الشياطين سخرت لسليمان بذكر اسمه صلى الله عليه وسلم: "ومنها أنه تعالى اشتقه من اسمه المحمود" أي سماه في الأزل ليدل على المناسبة بين الاسمين، ثم ألهمه عند وجوده لجده، "كما، قال حسان بن ثابت" الأنصاري شاعره المؤيد بروح القدس.
يأتي ذكره في شعرائه "أغر عليه للنبوة خاتم" كائن "من الله" أي موجود له وكائن "من نور" صفتان لخاتم، فلم يتحد حرفا جر بمجرور واحد "يلوح" يظهر "ويشهد" يشاهد. "وضم الإله اسم النبي إلى اسمه، إذا قال في الخمس المؤذن أشهد"، وهذا من خواص هذا الاسم أيضا وهو أن الله قرنه مع اسمه "وشق" مبني للفاعل من شق الشيء إذا جعله قطعتين، أي اشتق "له من اسمه" بقطع الهمزة للضرورة اسما "لجله" بعظمه "فذو العرش محمود وهذا محمد" وذكر الشمس التتائي عن بعض أهل العلم أن من كتب هذا البيت بورقة وعلقه من تعسرت ولادتها وضعت في الحال وهذه صفة كتابته. انتهى.
"وأخرج البخاري في تاريخه الصغير من طريق علي بن زيد" بن عبد الله بن زهير بن عبد الله بن جدعان القرشي التيمي البصري ضعيف، وهو المعروف بعلي بن زيد بن جدعان ينسب أبوه إلى جده، مات سنة إحدى وثلاثين ومائة، وقيل قبلها "قال كان أبو طالب يقول:
"وشق له من اسمه ليجله ... فذو العرش محمود وهذا محمد"
فتوارد حسان معه، أو ضمنه شعره، وبه جزم في الخميس، ومن خواصه أيضا له لا يصح(4/237)
وقد سماه الله تعالى بهذا الاسم قبل الخلق بألفي ألف عام، كما ورد من حديث أنس بن مالك، عن طريق أبي نعيم في مناجاة موسى.
وروى ابن عساكر عن كعب الأحبار قال: أنزل الله على آدم عصيا بعدد الأنبياء، والمرسلين. ثم أقبل على ابنه شيث فقال: أي بني، أنت خليفتي من بعدي، فخذها بعمارة التقوى، والعروة الوثقى، فكلما ذكرت الله فاذكر إلى جنبه اسم محمد، فإني رأيت اسمه مكتوبا على ساق العرش، وأنا بين الروح والطين،
__________
إسلام كافر إلا به، وتعين الإتيان به في التشهد عند قوم فيهما، وإن سفينة نوح جرت به، وإن آدم تكنى به في الجنة دون سائر بنيه، وأنه يخرج منه بالضرب، والبسط عدد المرسلين ثلاثمائة وثلاثة عشر؛ لأن الميم إذا كسرت فهي م ي م، والحرف المشدد بحرفين، فهي ثلاث ميمات بمائتين وسبعين ودال بخمسة وثلاثين، والحاء بثمانية، بلا تكسير، "وقد سماه الله تعالى بهذا الاسم قبل الخلق بألفي ألف عام"، أي بمدة لو قدرت بالزمان كان مقدارها ذلك وإلا فقبل الخلق لا ليل ولا نهار، وقد مر بسط ذلك أول الكتاب "كما ورد في حديث أنس بن مالك من طريق أي نعيم" متعلق بورد يعني الذي رواه أبو نعيم الحافظ أحمد بن عبد الله "في مناجاة موسى" عليه السلام، وهو حديث طويل يأتي إن شاء الله تعالى الإلمام به في خصائص الأمة، وروى ابن أبي عاصم في السنة وأبو نعيم عن أنس: إن الله، قال: يا موسى إنه من لقيني، وهو جاهل بمحمد أدخلته النار، فقال موسى: ومن محمد؟ قال: يا موسى وعزتي وجلالي ما خلقت خلقا أكرم عليَّ منه كتبت اسمه مع اسمي على العرش قبل أن أخلق السماوات والأرض، والشمس، والقمر بألفي ألف سنة.
"وروى ابن عساكر عن كعب الأحبار، قال: أنزل الله على آدم عصيا بعدد الأنبياء، والمرسلين" خاص على عام، على أن الرسول، لا يكون إلا من الناس ومن عطف أحد الأمرين اللذين بينهما عموم وخصوص من وجه بناء على أنه قد يكون ملكا لظاهر قوله {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ} ، "ثم أقبل على ابنه شيث، فقال: أي" بفتح الهمزة وحرف نداء للقريب "بني أنت خليفتي من بعدي فخذها" أي الخلافة "بعمارة التقوى" أي بعمارتك إياها بالتقوى فيها بأن تقوم بحق الخلافة، "والعروة الوثقى"، العقد المحكم تأنيث الأوثق مأخوذ من الوثاق بالفتح، وهو حبل، أو قيد يشد به الأسير، والدابة مستعارة للتمسك بالحق، "فكلما ذكرت الله تعالى، فاذكر إلى جنبه اسم محمد، فإني رأيت اسمه مكتوبا على ساق العرش" أي قوائمه "وأنا بين الروح والطين".(4/238)
ثم إني طفت السماوات فلم أر في السماوات موضعا إلا رأيت اسم محمد مكتوبا عليه، وإن ربي أسكنني الجنة فلم أر في الجنة قصرا ولا غرفة إلا اسم محمد مكتوبا عليه، ولقد رأيت اسم محمد مكتوبا على نحور الحور العين، وعلى ورق قصب آجام الحنة، وعلى ورق شجرة طوبى، وعلى ورق سدرة المنتهى، وعلى أطراف الحجب، وبين أعين الملائكة فأكثر ذكره فإن الملائكة من قبل تذكره في كل ساعاتها بيت مفرد.
بدا مجده من قبل نشأة آدم ... فأسماؤه في العرش من قبل تكتب
وروينا في جزء الحسن بن عرفة من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لما عرج بي إلى السماء ما مررت بسماء إلا وجدت
__________
قال بعضهم، أي بين العلم، والجسم، "ثم إني طفت السماوات، فلم أر في السماوات" لم يقل فيها تشوقا "موضعا إلا رأيت اسم محمد مكتوبا عليه، وإن ربي أسكنني الجنة، فلم أر في الجنة" كذلك لم يقل فيها تشوقا وتلذذا بذكرها؛ لأنه ألفها وشاهد فيها النعيم العظيم.
سعاد التي أضناك حب سعادا، "قصرا ولا غرفة إلا وجدت اسم محمد مكتوبا عليه" أي المذكور، "ولقد رأيت اسم محمد مكتوبا بأعلى نحور" جمع نحر موضع القلادة من الصدر ويطلق على الصدر، أي على صدور "الحور العين" ضخام العيون كسرت عينه بدل ضمها لمجانسة الياء ومفرده عيناء كحمراء. "وعلى ورق قصب آجام" جمع أجمة الشجر الملتف، أي على أغصان شجر "الحنة"، والقصب كل نبات لساقه أنابيب وكعوب، كما في مختصر العين، "وعلى ورق شجرة طوبى" تأنيث الأطيب شجرة في الجنة، "وعلى أطراف الحجب" الأستار التي في الجنة، أو المحلات التي لا يتجاوزها الرائي إلا ما وراءها إن صح ما يروى من أن ثم سبعين ألف حجاب مسيرة كل حجاب خمسمائة عام؛ لأنها في حق المخلوق، أما الخالق فمنزه عن أن يحجبه شيء، ولم يصح في ذلك غير ما في مسلم حجابه النور، كما بسطه المصنف في مقصد المعراج "وبين أعين الملائكة، فأكثر ذكره، فإن الملائكة من قبل" أي من قبل رؤياي لذلك "تذكره في كل ساعاتها بيت مفرد" لا أذكر قبله ولا بعده شيئا "بدا" ظهر "مجده من قبل نشاة آدم" أي ظهوره "فأسماؤه في العرش من قبل تكتب" خص العرش؛ لأنه أعظم ما كتبت عليه، "وروينا في جزء الحسن بن عرفة" بن يزيد العبدي أبي علي البغدادي الصدوق، المتوفى سنة سبع وخمسين ومائتين، وقد جاوز المائة "من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لما عرج بي إلى السماء ما مررت بسماء إلا وجدت".(4/239)
-أي علمت- اسمي فيها مكتوبا: محمد رسول الله، وأبو بكر من خلفي".
ووجد على الحجارة القديمة مكتوب: محمد تقي مصلح أمين. ذكره في الشفاء.
وعلى الحجر بالخط العبراني: باسمك اللهم، جاء الحق من ربك بلسان عربي مبين، لا إله إلا الله محمد رسول الله، وكتبه موسى بن عمران. ذكره ابن ظفر في "البشر" في معمر عن الزهري.
وشواهد -كما ذكره في الشفاء- في بعض بلاد خراسان مولود ولد على أحد جبينيه مكتوب: لا إله إلا الله، وعلى الآخر محمد رسول الله.
وببلاد الهند ورد أحمد مكتوب عليه بالأبيض لا إله إلا الله محمد رسول الله.
وذكر العلامة ابن مرزوق عن عبد الله بن صوحان.
__________
قال المصنف: تفسيرا له، "-أي علمت- اسمي فيها مكتوبا".
زاد أبو يعلي، والطبراني، لا إله إلا الله قبل قوله "محمد رسول الله وأبو بكر من خلفي" وقد أبعد المصنف النجعة فحديث أبي هريرة هذا رواه أبو يعلى، والطبراني، وأخرجه البزار من حديث ابن عمر بأسانيد ضعيفة، لكن قال السيوطي أنه حديث حسن لكثرة طرقه "ووجد على الحجارة القديمة مكتوب محمد تقي مصلح أمين ذكره في الشفاء وعلى حجر بالخط العبراني" بكسر العين أتبرك "باسمك اللهم"، أي يا الله "جاء الحق من ربك " أي جائني هذا اللفظ "بلسان عربي مبين" بين، "لا إله إلا الله، محمد رسول الله" فباسمك متعلق بمقدر، لا يقول جاء الحق لإيهامه أن الكاف في ربك راجع لقوله باسمك، "وكتبه موسى بن عمران" عليه الصلاة والسلام "ذكره" محمد "بن ظفر" بفتح المعجمة والفاء "في" كتاب "البشر" بخير البشر "عن معمر" بن راشد "عن الزهري" محمد بن مسلم العلم المشهور، "وشواهد، كما ذكره في الشفاء في بعض بلاد خراسان مولود ولد على أحد جبينيه" تثنية جبين "مكتوب، لا إله إلا الله وعلى الآخر محمد رسول الله، و" شوهد "ببلاد الهند" بنواحي مالكين، وهي قصبة الهند شجرة عظيمة لها "ورد أحمر مكتوب عليه بالأبيض، لا إله إلا الله محمد رسول الله".
ذكره صاحب مسالك الأمصار عن أبي سعيد المغربي إنه أخبره بذلك من دخل الهند، "وذكره العلامة" محمد بن محمد "بن مرزوق" في شرح البردة "عن عبد الله بن صوحان" قال(4/240)
عصفت بنا ريح، ونحن في لجج بحر الهند، فأرسينا في جزيرة، فرأينا فيها وردا أحمر زكي الرائحة، طيب الشم وفيه مكتوب بالأبيض، لا إله إلا الله محمد رسول الله، وورد أبيض مكتوبا عليه بالأصفر: براءة من الرحمن الرحيم إلى جنات نعيم، لا إله إلا الله محمد رسول الله.
وفي تاريخ ابن العديم عن علي بن عبد الله الهاشمي الرقي: أنه وجد ببعض قرى الهند وردة كبيرة طيبة الرائحة سوداء، عليها مكتوب بخط أبيض: لا إله إلا الله محمد رسول الله، أبو بكر الصديق، عمر الفاروق، قال فشككت في ذلك وقلت: إنه معمول، فعمدت إلى وردة لم تفتح فكان فيها مثل ذلك، وفي البلد منه شيء كثير وأهل تلك القرية يعبدون الحجارة، لا يعرفون الله تعالى.
وقال أبو عبد الله بن مالك: دخلت بلاد الهند، فسرت.
__________
"عصفت" بفتحات، أي اشتدت "بنا ريح ونحن في لجج" جمع لجة معظم ماء "بحر الهند، فأرسينا في جزيرة، فرأينا فيها وردا أحمر، ذكي الرائحة، طيب الشم، وفيه مكتوب بالأبيض، لا إله إلا الله محمد رسول الله، وورد أبيض مكتوبا عليه بالأصفر براءة من الرحمن الرحيم" توصل "إلى جنات النعيم" فهو صلة محذوف، "لا إله إلا الله، محمد رسول الله".
"و" روى "في تاريخ" الكمال "ابن العديم" لحلب، وهو عمر بن أحمد الصاحب كمال الدين الحلبي، وبها ولد وبرع وصار أوحد عصره فضلا ونيلا ورياسة، وألف في فقه الحنفية، والحديث، والأدب، وتاريخ حلب، ومات بمصر، وكذا رواه ابن عساكر في تاريخ دمشق كلاهما "عن" أبي الحسين "علي بن عبد الله".
"الهاشمي الرقي"، بفتح الراء وشد القاف نسبة إلى الرقة مدينة على الفرات "أنه وجد" بالبناء للفاعل "ببعض قرى الهند وردة كبيرة" فلفظه في التاريخين دخلت بلاد الهند، فرأيت في بعض قراها شجرة ورد أسود تنفتح عن وردة كبيرة "طيبة الرائحة سوداء عليها مكتوب بخط أبيض، لا إله إلا الله محمد رسول الله أبو بكر الصديق عمر الفاروق، قال فشككت في ذلك وقلت إنه معمول، فعمدت" قصدت "إلى وردة ولم تفتح، فكان فيها مثل ذلك وفي البلد منه شيء كثير، وأهل تلك القرية يعبدون الحجارة، لا يعرفون الله تعالى".
قاله تعجبا منهم حيث جعل الله بعض حجته عليهم في شجرهم {وَلا يَذْكُرُونَ} {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} ، "وقال أبو عبد الله بن مالك دخلت بلاد الهند، فسرت" حتى وصلت(4/241)
إلى مدينة يقال لها: نميلة -أو ثميلة- فرأيت شجرة كبيرة تحمل ثمرا كاللوز، له قشر، فإذا كسرت ثمرته خرج منها ورقة خضراء مطوية مكتوب عليها بالحمرة: لا إله إلا الله محمد رسول الله، وأهل الهند يتبركون بها ويستسقون بها إذا منعوا الغيث. حكاه القاضي أبو البقاء بن الضياء في منسكه.
وفي كتاب روض الرياحين، لليافعي عن بعضهم أنه وجد ببلاد الهند شجرة تحمل ثمرا كاللوز، له قشر إذا كسر خرجت منه ورقة خضراء طرية مكتوب فيها بالحمرة: لا إله إلا الله محمد رسول الله. كتابة جلية وهم يتبركون بها. قال: فحدثت بذلك أبو يعقوب الصياد، فقال: ما استعظم هذا، كنت أصطاد على نهر الأبلة فاصطدت سمكة، على جنبها الأيمن: لا إله إلا الله، وعلى جنبها الأيسر: محمد رسول الله،
__________
"إلى مدينة، يقال لها نميلة" بنون أوله، "أو ثميلة" بمثلثة، كذا بهامش، "فرأيت شجرة كبيرة تحمل ثمرا كاللوز له قشر، فإذا كسرت ثمرته خرج منها ورقة خضراء مطوية مكتوب عليها بالحمرة، لا إله إلا الله، محمد رسول الله، وأهل الهند يتبركون بها، ويستسقون بها إذا منعوا الغيث" المطر.
"حكاه القاضي أبو البقاء بن الضياء في منسكه، و" نحوه مع زيادة "في كتاب روض الرياحين" مؤلف حسن، قال فيه: بلغنا أن المؤمنين، لا يعذبون في قبورهم ليلة الجمعة ويومها رحمة من الله وشرفا للوقت.
"لليافعي" بكسر الفاء ومهملة، نسبة إلى يافع بطن من حمير الإمام القدوة عبد الله بن أسعد عفيف الدين اليمني، ثم المكي ولد بعدن قبيل السبعمائة، ونشأ بها تاركا للعب الأطفال، ثم اشتغل بالعلم حتى برع، ثم حج وحببت له الخلوة والسياحة، مات بمكة سنة ثمان وستين وسبعمائة.
"عن بعضهم أنه وجد ببلاد الهند شجرة تحمل ثمرا كاللوز له قشر إذا كسر يخرج منه ورقة خضراء طرية مكتوبة فيها بالحمرة، لا إله إلا الله، محمد رسول الله كتابة جلية وهم يتبركون بها" ويستسقون.
"قال فحدثت بذلك أبا يعقوب الصياد، فقال: ما استعظم هذا،" لا أعده عظيما؛ لأني شاهدت أعظم منه، وهو أني "كنت أصطاد على نهر الأبلة" بضم الهمزة، والموحدة، وشد اللم، بلد قرب البصرة، "فاصطدت سمكة" فرأيت مكتوبا "على جنبها الأيمن، لا إله إلا الله، وعلى جنبها الأيسر محمد رسول الله" ووجه كون هذا أعظم أن الورق يكتب عليه عادة بخلاف(4/242)
فلما رأيتها قذفتها في الماء احتراما لها.
وعن بعضهم -مما ذكره ابن مرزوق في شرح بردة الأبوصيري- أنه أتى بسمكة فرأى في إحدى شحمتي أذنيها لا إله إلا الله وفي الأخرى: محمد رسول الله.
وعن جماعة: أنهم وجدوا بطيخة صفراء فيها خطوط شتى بالأبيض خلقة، ومن جملة الخطوط بالعربي في أحد جنبيها: الله، وفي الآخر: عز أحمد، بخط بين لا يشك فيه عالم بالخط.
وأنه وجد في سنة تسع أو قال: سنة سبع -بالموحدة- وثمانمائة حبة عنب مكتوب فيها بخط بارع بلون أسود: محمد.
وفي كتاب "النطق المفهوم" لابن طغربك السياف، عن بعضهم أنه رأى في جزيرة شجرة عظيمة لها ورق كبير طيب الرائحة، مكتوب فيه بالحمرة والبياض في الخضرة كتابة بينة واضحة خلقة ابتدعها الله بقدرته،
__________
السمك الذي في الماء، "فلما رأيتها قذفتها في الماء احتراما بها".
وفي تاريخ الخطيب عن عبد الرحمن بن هارون المغربي، قال: ركبت بحر المغرب، فوصلنا إلى موضع، يقال له البرطون ومعنا غلام، فصاد بصنارة سمكة قدر شبر، فإذا مكتوب على أذنها الواحد، لا إله إلا الله، وفي قفاها وخلف أذنها الأخرى محمد رسول الله، وكان أبين من نقش على حجر، والسمكة بيضاء، والكتابة سوداء كأنها كتبت بحبر فقذفناها في البحر، "وعن بعضهم مما ذكره ابن مرزوق في شرح بردة الأبوصيري، تقدم أن صوابه البوصيري؛ لأنه منسوب إلى بوصير "أنه أتي بسمكة فرأى في إحدى شحمتي أذنيها، لا إله إلا الله، وفي الأخرى محمد رسول الله، وعن جماعة أنهم وجدوا بطيخة صفراء فيها خطوط شتى بالأبيض خلقة، ومن جملة الخطوط بالعربي في أحد جنبيها الله، وفي الآخر عز" غلب "أحمد بخط بين، لا يشك فيه عالم بالخط، وأنه وجد في سنة تسع" بفوقية فسين، "أو، قال سبع بالموحدة" بعد السنين، "وثمانمائة حبة عنب مكتوب فيها بخط بارع" زائد في الحسن "بلون أسود محمد".
"وفي كتاب "النطق المفهوم" لابن طغربك السياف عن بعضهم أنه رأى في جزيرة شجرة عظيمة لها ورق كثير طيب الرائحة مكتوب فيه بالحمرة والبياض في الخضرة" خضرة الورق، "كتابة بينة واضحة خلقة ابتدعها الله تعالى بقدرته" دفع لتوهم أن أحدا نقشها بنحو(4/243)
في الورقة ثلاثة أسطر، الأول: لا إله إلا الله، والثاني: محمد رسول الله، والثالث: إن الدين عند الله الإسلام.
قال ابن قتيبة: ومن أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم أنه لم يسم أحد قبله باسمه "محمد" صيانة من الله تعالى لهذا الاسم، كما فعل بيحيى عليه السلام إذ لم يجعل له من قبل سميا وذلك أنه تعالى سماه به في الكتب المتقدمة، وبشر به الأنبياء فلو جعل اسمه مشتركا فيه لوقعت الشبهة، إلا أنه لما قرب زمنه وبشر أهل الكتاب بقربه سمى قوم أولادهم بذلك رجاء أن يكون هو هو، والله أعلم حيث يجعل رسالته:
ما كل من زار الحمى سمع الندا ... من أهله أهلا بذاك الزائر
__________
عود "في الورقة ثلاث أسطر الأول، لا إله إلا اله، والثاني محمد رسول الله، والثالث إن الدين عند الله الإسلام".
"قال" عبد الله بن مسلم "بن قتيبة" الدينوروي، البغدادي صاحب التصانيف، "ومن أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم أنه لم يسم أحد قبله باسمه محمد صيانة من الله تعالى لهذا الاسم، كما فعل بيحيى عليه السلام إذ لم يجعل له من قبل سميا" مسمى باسمه وعد من أعلام النبوة؛ لأنه بعد الإعلام باسمه مع أنها أعلام منقولة، فلا يرد أن كثيرا من الأعلام للأنبياء وغيرهم لم يسبق تسمية غيرهم بها كآدم وشيث ونوح، "و" سر "ذلك أنه تعالى سماه به في الكتب المتقدمة، وبشر به الأنبياء" أممهم، "فلو جعل اسمه مشتركا فيه لوقعت الشبهة".
وهكذا جزم عياض بأن أحمد لم يتسم به غيره قبله انتهى، وهو قول الأكثر والصواب، والقول بأن الخضر اسمه أحمد مردود واه، كما قال ابن دحية وأحمد بن غجيان بضم المعجمة وسكون الجيم، لا أصل له، وقيل سمي قبل الإسلام بزمان طويل أحمد بن ثمامة الطائي، وأحمد بن دومان، وأحمد بن زيد، ومن القبائل بنو أحمد في همدان وطيء وكليل، ولكن لم يكن قريبا من عهده من سمي به صيانة له، "إلا أنه، لما قرب زمنه، وبشر أهل الكتاب بقربه سمى قوم أولادهم بذلك" بمحمد "رجاء أن يكون هو" المسمى به، "هو" أي النبي المبشر به، فهو الأولى اسم يكون، والثانية خبرها، "والله أعلم حيث يجعل رسالته" اقتباس لبيان أنه لم يفدهم ذلك؛ إذ ليس كل محمد رسول، ولا كل فاطمة بتول وأنشد لغيره:
"ما كل من زار الحمى سمع الندا ... من أهله أهلا بذاك الزائر
"أي، ما كل من زار مكانا محميا تلقاه أهله بالقبول، وقالوا له أهلا، فأهلا مفعول سمع(4/244)
ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
وذكر عددهم القاضي عياض: ستة، ثم قال: لا سابع لهم.
وذكر أبو عبد الله بن خاوية في كتاب "ليس" والسهيلي في "الروض" أنه لم يعرف في العرب من تسمى محمدا قبل النبي صلى الله عليه وسلم إلا ثلاثة.
قال الحافظ أبو الفضل بن حجر رحمه الله: وهو حصر مردود، والعجب أن السهيلي متأخر الطبقة عن عياض، ولعله لم يقف على كلامه.
قال: ولقد جمعت أسماء من تسمى بذلك في جزء مفرد فبلغوا نحو العشرين، لكن مع تكرر في بعضهم، ووهم في بعض، فيتلخص منهم خمسة عشر نفسا:
وأشهرهم: محمد بن.
__________
ومن أهله متعلق بالندا، قال عياض: ثم حمى الله كل من تسمى به أن يدعي النبوة، أو يدعيها أحد له، أو يظهر عليه سبب يشك أحدا في أمره حتى تحققت السمتان له صلى الله عليه وسلم "ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء" اقتباس ثان مؤكد للأول، فإنها موهبة من فضله تعالى ليس إلا، "وذكر عددهم القاضي عياض" في الشفاء "ستة" محمد بن أحيحة، وابن مسلمة الأنصاري، وابن البراء، وابن مجاشع، وابن حمران، وابن خزاعي، "ثم قال لا سابع لهم" بناء على ما وقف عليه. "وذكر أبو عبد الله" الحسين بن أحمد "بن خاويه" الإمام المشهور أحد أفراد الدهر صاحب التصانيف المتوفى سنة سبعين وثلاثمائة في كتاب "ليس" وهو ثلاث مجلدات موضوعة ليس في كذا إلا كذا وتعقب عليه الحافظ مغلطاي بعضه في مجلد سماه الميس على كتاب ليس، كما في المزهر "و" بعده "السهيلي في "الروض" أنه لم يعرف في العرب من تسمى محمدا قبل النبي صلى الله عليه وسلم إلا ثلاثة" ابن مجاشع، وابن أحيحة وابن حمران.
"قال الحافظ أبو الفضل بن حجر رحمه الله" في فتح الباري، "وهو حصر مردود" من عياض في ستة، ومن السهيلي ومتبوعه في ثلاثة، "والعجب أن السهيلي متأخر الطبقة عن عياض" لوفاته سنة أربع وأربعين وخمسمائة، والسهيلي سنة إحدى وثمانين وخمسمائة، "ولعله لم يقف على كلامه" لفظ الفتح، وعجب من السهيلي كيف لم يقف على ما ذكره عياض مع كونه قبله، "قال: ولقد جمعت أسماء من تسمى بذلك في جزء مفرد، فبلغوا نحو العشرين، لكن مع تكرر في بعضهم ووهم في بعض، فيتلخص منهم خمسة عشر نفسا وأشهرهم محمد بن(4/245)
عدي بن ربيعة بن سواءة بن جشم بن سعد بن زيد مناة بن تميم التميمي السعدي.
ومنهم: محمد بن أحيحة -بضم الهمزة وفتح المهملة- ابن الجلاح -بضم الجيم وتخفيف اللام آخره مهملة- الأوسي.
ومحمد بن أسامة بن مالك بن حبيب بن العنبر.
ومحمد بن البراء -ويقال: البر-
__________
عدي" بالدال "ابن ربيعة بن سواءة" بمهملة كحذافة "ابن جشم" بضم الجيم، وفتح المعجمة "ابن سعد بن زيد مناة" وفي نسخة عبد مناة وهي تصحيف فالذي في الفتح زيد مناة "بن تميم" التميمي "السعدي" نسبة إلى جده سعد المذكور.
قال الحافظ: روى حديثه البغوي، وابن سعد، وابن شاهين، وابن السكن، وغيرهم عن خليفة بن عبدة النصري، قال: سألت محمد بن عدي كيف سماك أبوك في الجاهلية محمدا، قال: سألت أبي عما سألتني، فقال: خرجت رابع أربعة من تميم أنا أحدهم وسفيان بن مجاشع ويزيد بن عمرو وأسامة بن مالك نريد الشام فنزلنا على غدير عند دير، فأشرف علينا الديراني، فقال لنا إنه يبعث منكم وشيكا نبي، فسارعوا إليه فقلنا ما اسمه، قال محمد، فلما انصرفنا ولد لكل منا ولد فسماه محمدا لذلك، "ومنهم محمد بن أحيحة بضم الهمزة وفتح المهملة" أي جنسها فشمل الحاءين، بينهما تحتية ساكنة "ابن الجلاح بضم الجيم وتخفيف اللام آخره" حاء "مهملة الأوسي" ذكره عبدان المروزي في الصحابة، وقال: بلغني أنه أول من سمي محمدا في الجاهلية، ووهمه في الإصابة وعده فيمن ذكر في الصحابة غلطا، وقال في الفتح وكأنه أي عبدان تلقى ذلك في قصة تبع، لما حاصر المدينة، وخرج إليه أحيحة المذكور هو، والحبر الذي كان عندهم، فأخبره أن هذا بلد نبي يبعث يسمى محمدا، فسمى ابنه محمدا.
قال: وذكر البلاذري محمد بن عقبة بن أحيحة، فلا أدري أهما واحد ينسب مرة إلى جده أم هما اثنان، زاد في الإصابة، ثم رأيت في رجال الموطأ لأبي عبد الله محمد بن يحيى الحذاء لأحيحة ابن يسمى عقبة، ولعقبة ابن يسمى محمدا، ولمحمد بنت هي أم فضالة بن عبيد الصحابي المهور، وابن يسمى المنذر، استشهد يوم بئر معونة فالظاهر أن محمد بن عقبة مات قبل الإسلام، انتهى.
"ومحمد بن أسامة بن مالك بن حبيب بن العنبر" بن تميم العنبري، التميمي، قال في الإصابة: لا صحبة له لأنه مات قبل البعثة بدهر، وغلط أبو نعيم فعده صحابيا، "ومحمد بن البراء" بفتح الموحدة، والراء تليها مدة، قال في المقتفى، كذا رأيته مصححا، "ويقال البر" بشدة(4/246)
ابن طريف بن عتوارة بن عامر بن ليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة البكري العتواري.
ومحمد بن الحارث بن حديج بن حويص.
ومحمد بن حرمان بن مالك اليعمري.
ومحمد بن حران بن أبي حمران، ربيعة بن أبي ربيعة مالك الجعفي المعروف بالشويعر.
ومحمد بن خزاعي
__________
الراء ليس بعدها ألف، كما ضبطه البلاذري "ابن طريف" بمهملتين بوزن رغيف "ابن عتوارة" بضم المهملة وكسرها ففوقية ساكنة، فواو مفتوحة، فألف، فراء، فهاء. "ابن عامر بن ليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة البكري"، نسبة إلى جده بكر المذكور.
"العتواري" نسبة إلى جده المذكور أيضا، وغفل ابن دحية، فعد فيهم محمد بن عتوارة، وهو نسب لجده الأعلى، كما في الفتح وعده في الإصابة فيمن ذكر في الصحابة غلطا، وإن أبا موسى المديني ذكره في الذيل، أي فغلط، "ومحمد بن الحارث بن حديج" بمهملتين، فتحتية فجيم مصغر.
"ابن حويص" ذكره أبو حاتم السجستاني في كتاب المعمرين، وقال إنه أحد من سمي محمدا في الجاهلية وله قصة مع عمر ذكر في الإصابة في القسم الثالث فيمن أدرك النبي ولم يره، فلا صحبة له "ومحمد بن حرماز" بكسر المهملة وسكون الراء وآخره زاي، كما رأيته بخط مغلطاي في الزهر، والحافظ ابن حجر والعيني في شرحيهما على البخاري خلافا لما في نسخ سقيمة من الإشارة، وتبعها الحلبي في حاشية الشفاء من أنه ابن خرمان، ذكره الشامي، قال: واسم الحرماز الحارث "بن مالك" بن عمرو بن تميم اليعمري" ذكره أبو موسى في الذيل، وأنه أحد من سمي محمدا في الجاهلية ورده في الإصابة بأنه لا يلزم من ذلك إدراكه الإسلام.
قال: وقد استدركه ابن دحية على شيخه السهيلي لكن، قال بدل التميمي اليعمري "ومحمد بن حمران بن أبي حمران" واسمه "ربيعة بن أبي ربيعة" واسمه "مالك الجعفي المعروف بالشويعر" مصغر شاعر، ذكره المرزباني، فقال هو أحد من سمي محمدا في الجاهلية وله قصة مع امرئ القيس، "و" أنه لقبه الشويعر ببيت قال وعده في الإصابة فيمن ذكر في الصحابة غلطا "محمد بن خزاعي" بضم الخاء وفتح الزاي المعجمتين، فألف فمهملة فتحتية اسم بلفظ النسب.(4/247)
بن علقمة بن حرابة السلمي، من بني ذكوان.
ومحمد بن خولى الهمداني.
ومحمد بن سفيان بن مجاشع.
ومحمد بن يزيد بن عمرو بن ربيعة.
ومحمد بن الأسيدي.
ومحمد الفقيمي.
__________
"ابن علقمة بن حرابة السلمي من بني ذكوان" بطن من سليم ذكره ابن سعد عن علي بن محمد عن سلمة بن الفضل عن محمد بن إسحاق، قال: سمي محمد بن خزاعة طمعا في النبوة، وذكر الطبري أن أبرهة الحبشي توجه وأمره أن يغزو بني كنانة، فقتلوه فكان ذلك من أسباب قصة الفيل، وذكر ابن سعد لأخيه قيس بن خزاعي أبياتا فيه يقول فيها:
فذلكم ذو التاج منا محمد ... ورايته في حومة الموت تخفق
وغلط من عده في الصحابة، كما في الإصابة، "ومحمد بن خولى" بالخاء المعجمة وسكون الواو.
"الهمداني" ذكره ابن دريد وليس بصحابي، كما في الإصابة.
"ومحمد بن سفيان بن مجاشع" التميمي، قال عياض: يقال إنه أول من سمي محمدا، قال في الإصابة: ليس بصحابي لموته قبل البعثة بدهر؛ لأن من عاصر النبي صلى الله عليه وسلم من ذريته بينه وبين عدة آباء منهم الأقرع بن حابس بن عقال بن محمد بن سفيان، كما بينه ابن الأثير. "ومحمد بن اليحمد" بضم التحتية وسكون المهملة وكسر الميم، كما ضبطه أبو علي الغساني وابن ماكولا، وزاد أن أصحاب الحديث يضمون الميم، وحكى القاموس أنه منقول من المضارع قال بعضهم: وأل مقارنة لنقله لأدلة بعد العلمية فإنه شاذ قبلها، كقوله بالحكم الترضي حكومته "الأزدي" نسبة إلى الأزد من اليمن، قال عياض ونساب اليمن تقول إنه أول من سمي بذلك، وغلط من عده صحابيا، كما في الإصابة، "ومحمد بن يزيد بن عمرو بن ربيعة" التميمي عده في الإصابة فيمن ذكره غلطا في الصحابة، "ومحمد بن الأسيدي" بضم الهمزة، وفتح السين المهملة، وكسر التحتية الثقيلة، "ومحمد الفقيمي" بضم الفاء، وفتح القاف، وسكون التحتية، ذكرهما ابن سعد ولم ينسبهما بأكثر من ذلك، وعدهما في الإصابة فيمن ذكر في الصحابة غلطا، وسقط من قلم المصنف الخامس عشر، وهو في الفتح، ولفظه ومحمد بن عمرو بن(4/248)
ولم يدركوا الإسلام إلا الأول ففي سياق خبره ما يشعر بذلك، وإلا الرابع فهو صحابي جزما.
وفيمن ذكره عياض: محمد بن مسلمة الأنصاري، وليس ذكره بجيد، فإنه ولد بعد النبي صلى الله عليه وسلم بأزيد من عشرين سنة، لكنه ذكر تلو كلامه المتقدم، محمد بن اليحمد، الماضي فصار من عند ستة لا سابع لهم، انتهى.
وأما اسمه عليه الصلاة "محمود" فاعلم أنه
__________
مغفل، بضم أوله، وسكون المعجمة، وكسر الفاء، ثم لام والد هبيب بموحدتين مصغر، وهو على شرط المذكورين، فإن لولده صحبة ومات في الجاهلية انتهى، "ولم يدركوا الإسلام إلا الأول" وهو محمد بن عدي، "ففي سياق خبره" الذي قدمته فيه من سؤاله أباه لم سماه محمدا "ما يشعر بذلك" بإدراكه الإسلام، وقد ذكره ابن سعد والبغوي والباوردي وغيرهم في الصحابة، وأنكره ابن الأثير على ابن منده وتبعه الذهبي، فقال: لا وجه لذكره فيهم، قال في الإصابة: ولا إنكار عليه؛ لأن سياقه يقتضي أن له صحبة، "وإلا الرابع" هو، كما ترى محمد بن البراء، وقد عده في الإصابة فيمن ذكره غلطا في الصحابة، وأنا أبا موسى المديني ذكره في الذيل، أي فغلط، قال: وذكره محمد بن حبيب فيمن سمي محمدا قبل الإسلام انتهى، فلا يصح قوله، "فهو صحابي جزما" ولم أر هذا في الفتح الذي المصنف ناقل عنه، "وفيمن ذكره عياض" من الستة "محمد بن مسلمة الأنصاري" الأوسي، الصحابي الشهير، "وليس ذكره بجيد فإنه ولد بعد" ميلاد "النبي صلى الله عليه وسلم بأزيد من عشرين سنة" والكلامة فيمن تسمى قبل ولادته، فلا يصح ذكره، وهكذا تعقبه مغلطاي، لكنه قال بأزيد من خمس عشرة سنة، وهو أنسب بقول الإصابة. ولد قبل البعثة باثنتين وعشرين سنة في قول الواقدي، وهو ممن سمي محمدا في الجاهلية انتهى، فتكون ولادته بعد المولد النبوي بثمان عشرة سنة، فهي أزيد من خمسة عشر، لا عشرون، وأجيب بأن مراد عياض من ولد في الجاهلية وسمي محمدا انتهى. وابن مسلمة منهم، وهو جواب لين يأباه قول عياض إلى أن أشاع قبل ميلاده صلى الله عليه وسلم أن نبيا سيبعث فعلى هذا فالذي خلص للقاضي خمسة فقط "لكنه ذكر تلو كلامه المتقدم" أي قوله: لا سابع لهم، ويقال أول من سمي به محمد بن سفيان واليمن تقول: بل "محمد بن اليحمد" الأزدي "الماضي" في كلام المصنف لا القاضي، "فصار من عنده ستة، لا سابع لهم" كما قال: وقد انتقد عياض أيضا بأن هذا زائد على الستة، فهو سابع فكيف يقول: لا سابع لهم "انتهى" كلام الحافظ ابن حجر باختصار، "وأما اسمه عليه الصلاة والسلام "محمود" بالرفع بدل من اسمه، "فاعلم أنه" أي الشأن والحال. وفي(4/249)
من أسماء الله تعالى الحميد، ومعناه: المحمود؛ لأنه تعالى حمد نفسه، وحمده عباده، وقد سمي الرسول صلى الله عليه وسلم بمحمود، وكذا وقع اسمه في زبور داود.
وأما "الماحي" ففسر في الحديث بمحود الكفر، ولم يمح الكفر بأحد من الخلق ما محي بالنبي صلى الله عليه وسلم فإنه بعث والأرض كلهم كفارا، ما من عباد أوثان ويهود.
__________
نسخة، بلا ضمير، وليس ثم رابط يربط الخبر بالمبتدأ، فينبغي تقديره "من أسماء الله تعالى الحميد ومعناه المحمود"، فهو فعيل بمعنى مفعول لاستحقاقه الحمد، "لأنه تعالى حمد نفسه وحمد عباده" ببناء الفعل للفاعل فيهما وذكر الأول توطئة للثاني، وبيانا؛ لأنه المحمود الحقيقي وحمد غيره له إنما هو بأقداره عليه وخلقه، في الحالين حمد نفسه، "وقد سمي الرسول صلى الله عليه وسلم بمحمود" لأن كلا منهما اسم مفعول دال على مبالغة في كونه محمودا، "و" كما أفاد هذا الاستنباط تسميته بمحمود "كذا وقع اسمع" أي تسميته بمحمود "في زبور داود" عليه السلام، وهذا يقتضي أنه ليس من أسماء الله، وجزم المصنف فيما سبق بأنه من أسمائه منشدا قول حسان:
فذو العرش محمود وهذا محمد
ولا يرد هذا على عياض متبوع المصنف هنا؛ لأنه أورد هذا الكلام دليلا على ما سماه الله به من أسمائه الحسنى، ومحمود، ليس منها فاحتاج إلى أخذه من الحميد قائلا وإلى نحو هذا أشار حسان، فذكر البيت على أن بيته ليس بقاطع، لاحتمال أن معناه مسمى بمحمود أو موصوف بالحمد، وأما "الماحي" ففسر في الحديث" المتقدم أوائل المقصد "بمحو الكفر"، ولفظه، وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر، وعجيب نقله عن غير المصنف، وما بالعهد من قدم.
ومر أن في رواية أخرى، فإن الله محا به سيئات من اتبعه، وأنه لا تعارض لأن محمود أحدهما لا يمنع محو الآخر، وسلف أيضا دفع استشكاله بأنه ما محي من كل البلاد بأجوبة، "ولم يمح الكفر بأحد من الخلق ما محي بالنبي"، أي محوا كمحواه به "صلى الله عليه وسلم، فإنه" أنقد الناس من الضلال إلى الهدي؛ لأنه "بعث والأرض" أي أهلها "كلهم كفار" لا يرد الخضر وإلياس على حياتهما لأنهما لما لم يخالطا أهل الأرض لم يعدا من أهلها، ولا المتمسكون بما لم يبدل من الشرائع لقلتهم جدا، فكأنه لا وجود لهم ولنسخ جميع الشرائع بالمحمدية، ولا يراد أن نوحا عليه السلام محا الكفر بدعوته التي أغرقت الكفار؛ لأنه بإهلاكهم وهدى بهداهم، وقد كانوا "ما بين عباد أوثان" وخرجت بين هنا عن معناها، وهو الوسط إلى الانتهاء مجازا علاقته المشابهة؛ إذ المتوسط بين شيئين ينتهي إلى كل منهما، والمعنى وهم منقسمون إلى هذه الأقسام، "ويهود(4/250)
ونصارى ضالين وصابئة ودهرية لا يعرفون ربا ولا معادا، وبين عباد الكواكب وعباد النار، وفلاسفة لا يعرفون شرائع الأنبياء ولا يقرون بها، فمحاها برسوله، حتى أظهر دينه على كل دين، وبلغ دينه ما بلغ الليل والنهار، وسارت دعوته مسير الشمس في الأقطار، ولما كانت البحار هي الماحية للأدران كان اسمه عليه الصلاة والسلام فيها الماحي.
وأما "الحاشر" ففسر أيضا في الحديث بأنه الذي يحشر الناس على قدمي، أي يقدمهم وهم خلفه،
__________
ونصارى صالين" صفة لنصارى فقط؛ لأن شريعتهم كانت باقية قبل بعثته، لكنهم لما حرفوا وبدلوا صاروا ضالين، فكأنهم ليسوا على شريعة، لا صفة لمن قبلها؛ لأن عباد الأوثان، لا يتوهم فيهم سوى الضلال حتى ينص عليه، وكذا اليهود لنسخ شريعتهم بعيسى، "وصابئة" قال في الكشاف قوم خرجوا من اليهودية والنصرانية، وعبدوا الملائكة، وقال غيره، طائفة تميل إلى النصارى واعتقدوا تأثير الأفلاك وقدم العالم والهيئة الشمس، وغير ذلك وأنكروا الرسالة في البشر عن الله ولم ينكروها في الكواكب.
"ودهرية" بفتح الدال ملحدين، "لا يعرفون ربا، ولا معادا" على الوجه الواجب على الموحد معرفته به الذي منه امتناع الشركة، فلا يزد أن أهل الكتابين والوثنيين يعترفون بالرب، ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله.
"وبين عباد الكواكب وعباد النار"، كالمانوية والمجوس "وفلاسفة، لا يعرفون شرائع الأنبياء، ولا يقرون بها، فمحاها" الله "برسوله حتى أظهر دينه على كل دين" كما قال ليظهره على الدين كله بعلوه وغلبته على الأديان، بنسخها وبيان ما غير وبدل منها، وعلو أهله على من عداهم بتسليطهم عليهم وقهرهم، وإلقاء الرعب في قلوبهم، كما هو مشاهد، "وبلغ دينه ما بلغ الليل والنهار" يعني عم جميع الدنيا، كما عماها وذلك مع مزيد الظهور البين، كما أشار له بقوله: "وسارت دعوته مسير الشمس في الأقطار" فهو مع ما فيه من عذوبة اللفظ بيان لأن البلوغ لم يكن مع خفاء، بل مع شدة الظهور الغالب الذي لا يمكن إمكانه، ولا دفعه، "ولما كانت البحار هي الماحية للأدران" الأوساخ "كان اسمه عليه الصلاة والسلام فيها الماحي" ويأتي أن اسمه فيها عبد المهيمن، فاستفيد منهما أن له فيها اسمين، "وأما "الحاشر" ففسر أيضا في الحديث" المتقدم "بأنه الذي يحشر الناس على قدمي" بالإفراد والتثنية روايتان، كما مر "أي يقدمهم وهو خلفه" كما قاله الخطابي وابن دحية، ثم تجيء كل نفس فتتبعه، ويرجحه(4/251)
وقيل على سابقته، وقيل: قدامه وحوله، أي يجتمعون إليه في القيامة، وقد كان حشرة لأهل الكتاب، إخراجه لهم من حصونهم وبلادهم من دار هجرته إلى حيث أذاقهم الله من شدة الحشر ما شاء في دار الدنيا إلى ما اتصل لهم بذلك في برزخهم.
وهو أول من تنشق عنه الأرض فيحشر الناس على أثره، وإليه يلجئون في محشرهم، وقيل: على سببه.
وأما "العاقب" فهو الذي جاء عقب الأنبياء، فليس بعده نبي؛ لأن العاقب هو الآخر، أي: عقب الأنبياء، وقيل: وهو اسمه في النار، فإذا جاء -لحرمة شفاعته-
__________
رواية يحشر الناس على عقبي، وحديث "أنا أول من تنشق عنه الأرض"، "وقيل على سابقته" بأن يتقدمهم، أي أنه يحشر قبل الناس، ويرجحه رواية نافع بن جبير، "وأنا حاشر بعثت مع الساعة"، قال في القاموس: يقال له سابقة في هذا الأمر أي سبق للناس فيه، "وقيل قدامه وحوله، أي يجتمعون إليه في القيامة" قاله ابن عبد البر ناقلا قول الخليل حشرتهم السنة إذا ضمتهم من البوادي، "وقد كان حشره" في الدنيا "لأهل الكتاب إخراجه لهم من حصونهم وبلادهم من دار هجرته إلى حيث أذاقهم الله من شدة الحشر ما شاء في دار الدنيا". واستمر ذلك قائما لهم "إلى ما اتصل لهم بذلك في برزخهم" قيل فلذا سمي الحاشر.
قال بعضهم، وهو ضعيف دراية ورواية، "وهو أول من تنشق عنه الأرض، فيحشر الناس على أثره وإليه يلجئون في محشرهم" هذا يشبه أنه أورده تقوية للأقوال الثلاثة التي قدمها، وهي متقاربة في الحقيقة، "وقيل على سببه" أي كونه السبب فيه لتقدمه عليهم، فنسب له لكونه السبب فيه، ثم يقفون في المحشر حتى يشفع لهم، فهو حاشرهم في ذا الحشر الثاني إلى مقرهم من جنة أو نار، ومر لهذا مزيد في شرح الحديث، وذكر السيوطي وغيره أن الله وصف نفسه بالحشر في قوله {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ} وقوله {وَحَشَرْنَاهُمْ} ، قال فيكون هذا الاسم مما سماه الله به من أسمائه، "وأما العاقب" في حديث جبير المتقدم في المتن عن الصحيحين، فلا تبعد النجعة، "فهو الذي جاء عقب الأنبياء فليس بعده نبي؛ لأن العاقب" لغة "هو الآخر أي عقب الأنبياء" وقد أسلفت أن في بعض روايات الصحيح، "وأنا العاقب الذي ليس بعده نبي"، وأنه مدرج من تفسير الزهري، كما بينه الطبراني في روايته، وأيا ما كان فلتفسيره مزية؛ لأنه أدرى بما روى مع مزيد إتقانه، وقيل العاقب عند العرب من يخلف سيد القوم، فمعناه خليفة الله؛ لأنه أحق بخلافته من جميع الخلق، "وقيل، وهو اسمه في النار" بين أهلها، "فإذا جاء" إلى النار "لحرمة شفاعته"(4/252)
خمدت النار وسكنت، كما روي أن قوما من حملة القرآن يدخلونها فينسيهم الله ذكر محمد صلى الله عليه وسلم حتى يذكرهم جبريل عليه السلام، فيذكرونه فتخمد النار وتنزوي عنهم.
وأما "المقفي" فكذلك، أي: قفي آثار من سبقه من الرسل، وهي لفظة مشتقة من "القفو" يقال: قفاه يقفوه إذا تأخر عنه، ومنه قافية الرأس، وقافية البيت، فالمقفي: أي قفى من قبله من الرسل فكان خاتمهم وآخرهم.
وأما "الأول" فلأنه أول الأنبياء خلقا -كما مر- وكما أنه أول في البدء فهو أول في العود، فهو أول من تنشق عنه الأرض، وأول من يدخل الجنة، وهو أول شافع وأول مشفع، كما
__________
تعليل قدم على معلوله، وهو "خمدت النار" بفتح الميم "وسكنت" وكأن وجه المناسبة أنه لما سكنت عقب مجيئه انتهى عذاب من شفع فيه وكأنه آخر عذابهم فسمي عاقبا، والإضافة يكفي فيها أدنى ملابسة، لكن قال بعضهم هذا غريب ضعيف، "كما روي أن قوما من حملة القرآن يدخلونها، فينسيهم الله ذكر محمد صلى الله عليه وسلم"، لما أراده من تعذيبهم "حتى يذكرهم جبريل عليه السلام" إكراما لهم، لحملهم القرآن بالمبادرة إلى تخفيف عذابهم، "فيذكرونه" صلى الله عليه وسلم بأي اسم كان، لا بخصوص العاقب وإن سمي به فيها على ما فيه فقط خلاف الظاهر؛ لأنه يصير معنى جاء ذكر، "فيذكرونه فتخمد النار" بضم الميم، "وتنزوي عنهم" تنجمع وتبعد، "وأما المقفى" بكسر الفاء المشددة "فكذلك" أي تسميته بالعاقب، أي هو بمعناه، كما قاله شمر، "أي قفي آثار من سبقه من الرسل" بشد الفاء أيضا، ثم قفينا على آثارهم "وهي لفظة مشتقة من القفو" بفتح القاف، وسكون الفاء، لا بضمهما وشد الواو وإن كان مصدرين؛ لأن الاشتقاق إنما هو من المجرد، لا المزيد، "يقال قفاه يقفوه إذا تأخر عنه، ومنه قافية الرأس" لمؤخره، "وقافية البيت" لآخره، والقافية من كل شيء آخره، "فالمقفي، أي قفي من قبله من الرسل" أعاده وإن علم من أول كلامه توطئة لقوله "فكان خاتمهم وآخرهم".
وقال ابن الأعرابي، أي المتبع للأنبياء؛ لأن معنى قفي تبع انتهى. وفيه من الفضل له صلى الله عليه وسلم أنه وقف على أحوالهم وشرائعهم، فاختار الله له من كل شيء أحسنه، وكان في قصصهم له ولامته عبر وفوائد، "وأما الأول، فلأنه أول الأنبياء خلقا، كما مر" أول الكتاب، "وكما أنه أول في البدء، فهو أول في العود، فهو أول من تنشق عنه الأرض" في الخروج من القبور للحشر، "وأول من يدخل الجنة، وهو أول شافع وأول مشفع، أي مأذون له في الشفاعة المقبولة، "كما(4/253)
كان في أول البدء في عالم الذر أول مجيب، إذ هو أول من قال: بلى، إذ أخذ ربه الميثاق على الذرية الآدمية، فأشهدهم على أنفسهم، ألست بربكم. فهو صلى الله عليه وسلم الأول في ذلك كله على الإطلاق.
وأما "الآخر" فلأنه آخر الأنبياء في البعث كما في الحديث.
وأما "الظاهر" فلأنه ظهر على جميع الظاهرات ظهوره، وظهر على الأديان دينه، فهو الظاهر في وجود الظهور كلها.
أما "الباطن" فهو المطلع على بواطن الأمور بواسطة ما يوحيه الله تعالى إليه.
__________
كان في أول البدء في عالم الذر أول مجيب إذ هو أول من، قال: بلى" أنت ربنا "إذ أخذ ربه الميثاق على الذرية الآدمية" كما هو نص الآية، لا الملائكة وغيرهم من الحيوانات؛ لأنهم ليسوا محلا للمخالفة، ولا الجن، "فاشهدهم على أنفسهم ألست بربكم، فهو صلى الله عليه وسلم الأول" السابق "في ذلك كله على الإطلاق" لم يتقدمه أحد في شيء منه، "وأما "الآخر" فلأنه آخر الأنبياء في البعث، كما في الحديث، عند ابن أبي حاتم وغيره عن أبي هريرة كتب أول الأنبياء خلقا وآخرهم بعثا. وروى ابن سعد من مرسل قتادة كنت أول الناس في الخلق وآخرهم في البعث، وهذان الاسمان مما سماه الله به من أسمائه الحسنى، وإن كان معنى الأول في حقه تعالى السابق للأشياء قبل وجودها بلا بداية، والآخر للأشياء بعد فنائها، بلا نهاية.
قال عياض وتحقيقه أنه ليس له أول، ولا آخر، وقد غفل وجمد من اعتراض على عياض بأنه لا مناسبة بينهما، فإنهما في حقه تعالى غيرهما في حقه صلى الله عليه وسلم، فكفاه شرفا تسميته بأسماء ربه ومشاركته في اللفظ وإن اختلف المعنى، ومثل هذا لا يخفى حتى يعترض له، "وأما "الظاهر" فلأنه ظهر" غلب "على جميع الظاهرات ظهوره" فاعل ظهر "وظهر على الأديان دينه فهو الظاهر في وجوه الظهور كلها"، والظهور العلو والغلبة وقيل معناه الجلي الواضح الذي لا يخفى على عاقل ظهوره، "وأما الباطن، فهو المطلع على بواطن الأمور بواسطة ما يوحيه الله تعالى إليه" وقال الشامي كأن معناه في حقه صلى الله عليه وسلم الذي لا تدرك غاية مقامه وعظم شأنه الذي خصه الله به لقصور العقول عن ذلك وهما أيضا مما سماه الله به من أسمائه ومعنى الظاهر في حقه المجلي الوجود بالآيات والقدرة والباطن المنزة عن الابصار، فلا تراه، أو المطلع على بواطن الأمور، فلا يعتريه فيها اشتباه أو الباطن بذاته الظاهر بآياته، وقيل الذي لا تدرك كنهه العقول، ولا تدركه الحواس.(4/254)
وأما "الفاتح الخاتم" ففي حديث الإسراء عن أبي هريرة من طريق الربيع بن أنس قول الله تعالى له: "وجعلتك فاتحا وخاتما، وفي حديث أبي هريرة أيضا في الإسراء: قوله صلى الله عليه وسلم: "وجعلني فاتحا وخاتما"، فهو الذي فتح الله به باب الهدى بعد أن كان مرتجا، وفتح أمصار الكفر، وفتح به أبواب الجنة، وفتح به أعينا عميا، وآذانا صما، وقلوبا غلفا، وفتح به طرق العلم النافع والعمل الصالح والدنيا
__________
"وأما "الفاتح الخاتم" بفتح التاء، وكسرها ذكرهما ابن دحية عن ضبط ثعلب وابن عساكر، فأما بفتحها فمعناه أحسن الأنبياء خَلقا وخُلقا؛ لأنه صلى الله عليه وسلم جمال الأنبياء كالخاتم الذي يتجمل به، وأما بالكسر، فهو اسم فاعل من ختمت الشيء أتممته وبلغت آخره، فمعناه آخر الأنبياء، وهو الذي شرح عليه المصنف واستدل بقوله. "ففي حديث الإسراء عن أبي هريرة" مرفوعا "من طريق الربيع بن أنس" البكري البصري نزيل خراسان صدوق له أوهام، ورمي بالتشيع مات سنة أربعين ومائة، أو قبلها روى له أصحاب السنن الأربعة "قول الله تعالى له" فيما خاطبه به ليلة المعراج "وجعلتك فاتحا وخاتما" أي أول الأنبياء وآخرهم، "وفي حديث أبي هريرة أيضا في الإسراء قوله صلى الله عليه وسلم" حيث أثنى على ربه "وجعلني فاتحا وخاتما"، فهو الذي فتح الله به باب الهدى بعد أن كان مرتجا" بضم الميم، وسكون الراء، وفتح الفوقية، وجيم خفيفة، ولا تشدد عند الجوهري وغيره، وحكى بعضهم تشديدها أي مقفلا، "وفتح أمصار الكفر" مكة وخيبر والمدينة والبحرين وسائر جزيرة العرب، وأرض اليمن بكمالها، وأخذ الجزية من مجوس هجر ومن بعض أطراف الشام وهاداه هرقل والمقوقس وملوك عمان والنجاشي الذي ملك بعد أصحمة، ثم فتح أيام الصديق بصري ودمشق بلاد حوران وما والاها، ثم في أيام عمر فتح البلاد الشامية كلها ومصر، وأكثر إقليم فارس وكسر كسرى، وفر إلى أقصى مملكته. وفر هرقل إلى القسطنطينية ثم في زمن عثمان فتحت مدائن العراق وخراسان والأهواز وبلاد المغرب بتمامها ومن المشرق إلى اقصى بلاد الصين، وقتل كسرى وباد ملكه بالكلية، ثم امتدت الفتوحات بعده إلى الروم وغيرها ولم تزل الفتوحات تتجدد إلى الآن. "وفتح به أبواب الجنة" مجازا في الدنيا وحقيقة يوم القيامة، "وفتح به أعينا عميا" الكفر عن طريق الهدى، فلا تراه حتى رأت آيات الله الباهرة، و"آذانا صما" عن سماع الحق، فلا تسمعه سماع قول فسمعته وانقادت له، "وقلوبا غلفا" جمع أغلف أي مغشاة بأغطية، فلا تعي الحق حتى استنارت لقبوله ووعته، "وفتح به طرق العلم النافع و" طرق "العمل الصالح" فسلكها المؤمنون بعد أن غلقا، كما قال علي رضي الله عنه الفاتح، لما استغلق "و" فتح به "الدنيا"، فحكمه فيها، وحمل أهلها على المحجة البيضاء،(4/255)
والآخرة، والقلوب والأسماع والأبصار والإبصار.
وقد يكون المراد: المبدأ المقدم في الأنبياء، والخاتم لهم، كما قال عليه الصلاة والسلام: كنت أول النبيين في الخق وآخرهم في البعث.
وأما "الرءوف الرحيم" ففي القرءان {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128] .
__________
ومنعهم من التعدي والظلم "والآخرة" فإنه فتح به البعث وباب الجنة والشفاعة والجواز على الصراط، "والقلوب والأسماع والأبصار" بفتح الهمزة جمع بصر نور العيون، "والإبصار" بكسرها مفرد بصائر نور القلوب، أي النظر في الأمور بالمعرفة التامة والمقام مقام خطابه، فلا يعاب فيها الإطناب، أو أراد بفتح الأعين والآذان أولا ما يمنع المشاهدة، ووصول الصوت، وبفتح القلوب إزالة الغلاف عنها، وكني بذلك عن زوال الكفر، وأراد بفتح الثلاثة ثانيا خلق قوة فيها بعد زوال الكفر بحيث صاروا يشاهدون المعقولات، كأنها صور محسوسة، ثم هذا كله بيان للفاتح، "وقد يكون المراد" به "المبدأ" بضم الميم وفتح الموحدة، وشد الدال المهملة، وهمزة، كما ضبطه البرهان في المقتفى، فيكون "المقدم" تفسيرا له.
وقال غيره إن كان رواية وإلا فيجوز فتح الميم وسكون الموحدة وخفة الدار بمعنى أول "في الأنبياء والخاتم لهم كما، قال عليه الصلاة والسلام" فيما رواه ابن سعد وغيره "كنت أول النبيين في الخلق" لخلق نوره قبلهم، "وآخرهم في البعث" باعتبار الزمان، ثم لا يشكل عليه أنه لا اختصاص لما ذكره غير الأخير به؛ لأن وقوعه منه على أتم وجه، لا يشاركون فيه غيره على أنه لم يقل، لا بد في أسمائه من اختصاص معانيها به وذكر عياض أن الفاتح هنا الحاكم، أو لأبواب الرحمة على أمته، أو لبصائرهم لمعرفة الحق والإيمان، أو المبتدئ بهداية الأمة، أو المبدأ المقدم في الأنبياء.
قال السيوطي، أو لأنه فتح الرسل؛ لأنه أولهم خلقا، أو فاتح الشفعاء بقرينة اقترانه باسم الخاتم انتهى، وهذه المعاني كلها مجتمعة فيه صلى الله عليه وسلم ولذا ساق غالبها المصنف بالواو والمشركة، "وأما الرءوف الرحيم ففي القرآن" العظيم "لقد جاءكم رسول من أنفسكم" أي منك، وروى ابن مردويه عن أنس أنه صلى الله عليه وسلم قرأها بفتح الفاء، وقال: "أنا أنفسكم نسبا وصهرا وحسبا"، "عزيز" شديد "عليه ما عنتم" عنتكم، أي مشقتكم ولقاؤكم المكروه "حريص عليكم" أن تهتدوا "بالمؤمنين رءوف" شديد الرحمة "رحيم" يريد لهم الخير، وهو "فعول من الرأفة، وهي" لغة "أرق من الرحمة" إذ هي رقة القلب والرأفة شدة الرحمة، وأبلغها، "قاله أبو عبيدة" معمر بن المثنى(4/256)
والرحيم فعيل من الرحمة وقيل رءوف بالمطيعين رحيم بالمذنبين.
وأما "الحق المبين" فقال الله تعالى: {حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ} [الزخرف: 29] ، وقال تعالى: {وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِين} [الحجر: 89] .
وقال تعالى: {قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ} [يونس: 108] ، وقال تعالى: {فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ} [الأنعام: 5] ، قيل المراد: محمد عليه الصلاة والسلام، وقيل القرآن، ومعناه هنا ضد الباطل، والمتحقق صدقه وأمره،
__________
الإمام اللغوي.
قال ابن دحية وخاصتها أنها لدفع المكاره والشدائد والرحمة لطلب المحاب، ولهذا قدمت الرأفة عليها، وقال غيره الفرق بينهما أن الرأفة إحسان مبدأه شفقة المحسن، والرحمة إحسان مبدأه فاقه المحسن إليه "والرحيم فعيل من الرحمة" وهي في الكلام العرب العطف والإشفاق، وهو صلى الله عليه وسلم أرحم الخلق، وأعطفهم وأشفقهم وأرقهم قلبا، "وقيل" في معنى الآية "رءوف بالمطيعين رحيم بالمذنبين" يستغفر لهم ويتجاوز عن سيئاتهم إلا في الحدود ومع إقامتها عليهم يمنع من أذاهم، ثم هو في قبره تعرض عليه أعمال أمته ويستغفر لهم، ثم هو يوم القيامة همه كله أمته فيشفع فيهم حتى لا يبقى منهم أحد في النار، وهذان مما سماه الله به من أسمائه الحسنى، لكنها بهذا المعنى محال عليه فيؤول باللازم، وهو إرادة الخير لأهله وإعطاء ما لا يستحقه العبد من الثواب ودفع ما يستوجبه من العقاب، "وأما الحق المبين فقال الله تعالى: {حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ} مظهر لهم الأحكام الشرعية، وهو محمد صلى الله عليه وسلم، وقال تعالى: {وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِير} ، المحذر من عذاب الله أن ينزل عليكم {الْمُبِين} لكم أمور دينكم أو البين الإنذار، وقال تعالى: {قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ} وقال تعالى: {فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ} من الله.
"قيل المراد" بالحق في الآيات "محمد عليه الصلاة والسلام" كما قال تعالى {وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ} وفي حديث الشفاعة ومحمد حق وتكذيبه بتكذيب رسالته وما جاءته "وقيل" المراد به القرآن بدليل التكذيب، "ومعناه هنا ضد الباطل"، من حق بمعنى ثبت "والمتحقق" بفتح القاف وكسرها كما في النسيم أي الثابت "صدقه، وأمره" شأنه وما يجب ثبوته له وما يستحيل عليه مما هو معلوم في صفات النبوة تفسير، لما قبله أو معنى آخر.
وفي البيضاوي الحق الثابت الذي لا يسوغ إنكاره فعم الأعيان والأفعال الصائبة والأقوال الصادقة من قولهم حق الأمر إذا ثبت ومنه ثوب محقق محكم النسج.(4/257)
والمبين البين أمره ورسالته، أو المبين عن الله ما بعثه به، كما قال تعالى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44] .
وأما "المؤمن" فقال تعالى: {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ} [التوبة: 61] ، أي يصدق، وقال عليه الصلاة والسلام: "أنا أمنة لأصحابي" فهذا بمعنى المؤمن.
وأما "المهيمن"
__________
"والمبين" بكسر الموحدة، وسكون التحتية، "البين" الظاهر الذي لا يخفى "أمره ورسالته" من بان اللازم والوصف به على هذا مجاز، "أو" هو "المبين" بشد التحتية مكسورة "عن الله ما بعثه به" للخلق كافة وعداه لتضمينه معنى المبلغ، أو هو حال بتقدير ناقلا "كما قال تعالى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} " من شرائعه وأحكامه وهذا على أنه من أبان المتعدي، وقد أفاد المصنف تبعا للقاضي بسوق الآيات أنه يطلق عليه المين بالتخفيف والتشديد، وهو بالتخفيف كالحق مما سماه الله به من أسمائه كما قال عياض وغيره أي الموجود المتحقق أمره والهيته، أو الموجد للشيء على حسب مقتضى حكمته والمبين البين أمره والهيته، أو المبين لعباده أمر دينهم ومعادهم "وأما المؤمن" وهو من أسمائه تعالى التي سماه بها، ومعناه في حقه المصدق وعده وقوله ولعباده المؤمنين ورسله، أو الموحد نفسه شهد الله أنه لا إله إلا هو، أو المؤمن عباده في الدنيا الظلم والمؤمنين في الآخرة من العذاب، وفي حقه صلى الله عليه وسلم المتصف بالإيمان والمصدق وعدا وقولا والمؤمن أمته الظلم "فقال تعالى: {وَمِنْهُم} ، أي المنافقين {الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ} بعيبه ونقل حديثه {وَيَقُولُونَ} ، إذا نهو عن ذلك لئلا يبلغه {هُوَ أُذُنٌ} أي سمع كل، قيل ويقبله، فإذا خلفنا له إنا لم نقل صدقنا {قُلْ هُوَ أَذًى} هو مستمع {خَيْرٍ لَكُمْ} ، لا مستمع شر {يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ} فيما أخبروه به، لا لغيرهم، "أي يصدق" لعلمه بخلوصهم، واللام لتضمينه معنى يذعن، أو مزيدة للفرق بين إيمان التسليم وغيره، "وقال عليه الصلاة والسلام" في حديث عند البيهقي "أنا منة" بفتح الهمزة وضمها مصدر بمعنى الأمان، أو بزنة المبالغة كرجل عدل، فيقع على الواحد وغيره "لأصحابي"، أي مؤمن لهم ومحصل لهم الطمأنينة، فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون، ومر الكلام على هذا الحديث، "فهذا بمعنى المؤمن" أشار إلى أنه يكفي في صحة إطلاق الأسماء عليه ورود ما يدل عليها، ولو بلفظ الفعل، "وأما المهيمن" وهو من الأسماء الحسنى أيضا بمعنى المؤمن أو الشاهد أو الشهيد، أو الحافظ، أو المتعالي، أو(4/258)
فقال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} [المائدة: 48] قال ابن الجوزي -في زاد المنير- إن ابن أبي نجيح روى عن مجاهد ومهيمنا عليه قال: محمد مؤتمن على القرآن، قال: فعلى قوله في الكلام تقدير محذوف، كأنه قال: وجعلناك يا محمد مهيمنا عليه، وسماه العباس بن عبد المطلب في شعره مهيمنا في قوله:
حتى احتوى بيتك المهيمن من ... خندق علياء تحتها النطق
وروى: ثم اغتدى بيتك المهيمن، قيل أراد: يا أيها المهيمن، قاله القتبي والإمام أبو القاسم القشيري.
__________
الشريف أو المصدق، أو الوالي، أو القاضي، أو الرقيب فتلك عشرة "فقال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ} القرآن "بالحق" متعلق بأنزلنا "مصدقا لما بين يديه" قبله "من الكتاب" بمعنى الكتب "ومهيمنا عليه، قال ابن الجوزي" عبد الرحمن بن علي أبو الفرج الحافظ المشهور "في زاد المنير" في علم التفسير "إن ابن أبي نجيح" عبد الله بن يسار المكي الثقفي مولاهم الثقة "روى عن مجاهد" كما أخرجه ابن جرير في قوله تعالى: " {وَمُهَيْمِنًا عَلَيْه} قال" مجاهد، وقد قرأها بفتح الميم الثانية مبني للمفعول "محمد" صلى الله عليه وسلم "مؤتمن على القرآن قال" ابن الجوزي: "فعلى قوله" أي مجاهد "في الكلام تقدير محذوف كأنه قال وجعلناك يا محمد مهيمنا عليه" بناء على أن المصدر وهو مصدقا حال من الكتاب، لا من المجرور بالحرف في إليك وإلا لقيل لما بين يديك وزعم أنه التفات من الخطاب إلى الغيبة بعيد من نظم القرآن كما قال أبو حيان: لكن جوز ابن عطية أن يكون مصدقا ومهيمنا حالين من الكاف فلا حاجة للتقدير؛ لأن الحال إذا تعددت لمتعدد عطفت بالواو، بلا تقدير محذوف، ولا يختص هذا بقراءة مجاهد كما ادعى ابن الجوزي تبعا لابن جرير بل يأتي على قراءة الجمهور بكسر الميم الثانية، "وسماه" عمه "العباس بن عبد المطلب في شعره" المتقدم في غزوة تبوك "مهيمنا في قوله:
"حتى احتوى بيتك المهيمن من ... خندق علياء تحتها النطق
وروى ثم اغتدى بيتك المهيمن، قيل أراد" العباس "يا أيها المهيمن" ولولا هذا لم يكن اسما "قاله" عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري، البغدادي الإمام المشهور "القتبي" بضم القاف وفتح الفوقية، بعدها موحدة نسبة إلى جده قتيبة المذكور، "والإمام أبو القاسم" عبد الكريم بن هوازن "القشيري" نسبة لقشير قبيلة مرضه المصنف، وتبرأ منه فعزاه لقائليه تبعا(4/259)
وأما "العزيز" فمعناه: جلالة القدر، أو الذي لا نظير له، أو المعز لغيره، وقد استدل القاضي عياض لهذا الاسم بقوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ} [المنافقون: 8] أي فجائز أن يوصف النبي صلى الله عليه وسلم بالعزيز والمعز، لحصول العز به. ولقائل أن يقول: هذا الوصف للمؤمنين أيضا لشمول العطف إياهم، فلا اختصاص للنبي صلى الله عليه وسلم، والغرض اختصاصه، قال اليمني: وعجيب من القاضي عياض كيف خفي عليه مثل هذا. ويجاب: باختصاصه عليه الصلاة والسلام برتبة من العز ليست لغيره والله أعلم.
وأما "العالم"
__________
لعياض؛ لأنه تكلف ضعيف لأن المعرف بال، لا ينادى، وتقدير، أيها مع تقدير حرف النداء، لا يرتضيه نحوي، ومر للمصنف في تبوك أنه أراد ببيته شرفه، والمهيمن نعته، أي احتوى شرفك الشاهد على فضلك أعلى مكان انتهى، ولا ثقل في هذا، كما ادعاه من زعم أنه أثقل من جعله منادى، فقد استعمل الفصحاء البيت بمعنى العز، والشرف كقوله:
إن الذي سمك السماء بنى لنا ... بيتا دعائمه أعز، وأطول
"وأما العزيز" وهو مما سماه الله به من أسمائه، "فمعناه" في حقه تعالى الممتنع الي لا يدرك، ولا ينال، أو الغالب، وفي حقه وحق عبده ورسوله "جلالة القدر" كان الظاهر جليل، لكنه لاحظ أنه مأخوذ من جلالة وحرف الجر يحذف إذا لوحظ ذكره "أو الذي لا نظير" لا مثل "له" ولا يعادله شيء "أو المعز لغيره" فعيل بمعنى مفعل، وهو عزيز عربية، ولذا أخره المصنف، "وقد استدل القاضي عياض" في الشفاء "لهذا الاسم بقوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ} ، وفسره بقوله، أي الامتناع وجلالة القدر، ومن هنا دخل لفظ جلالة على المصنف، فجعلها تفسيرا بقوله، أي الامتناع وجلالة القدر، ومن هنا دخل لفظ جلالة على المصنف، فجعلها تفسيرا للعزيز مع أن عياضا، كما ترى جعلها للعزة، "أي فجائز" بمعنى يجوز "أن يوصف النبي صلى الله عليه وسلم بالعزيز والمعز لحصول العز به" لغيره ولم يقل وله؛ لأن هذا هو الذي يخفى أخذه من الآية، وأما وصفه بالعزيز فظاهر فيه فهذه أظهر من نسخة له "ولقائل أن يقول هذا الوصف للمؤمنين أيضا لشمول العطف إياهم، تصريحا بقوله وللمؤمنين، "فلا اختصاص للنبي صلى الله عليه وسلم" بهذا الوصف، "والغرض اختصاصه".
"قال اليمني" محشي الشفاء "وعجيب من القاضي عياض كيف خفي عليه مثل هذا" مع ظهوره، "ويجاب باختصاصه عليه الصلاة والسلام برتبة من العز ليست لغيره" وأيضا فإن المؤمنين ذكروا بطريق التبع، فعزتهم ليست إلا من عزته، "والله أعلم" على أنه لم يقل، لا بد في أسمائه من اختصاص معانيها به، "وأما العالم" اسم فاعل من علم أي المدرك للحقائق(4/260)
و"العليم" و"المعلم" و"معلم أمته" فقال تعالى: {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ} [النساء: 113] ، وقال تعالى: {وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 151] .
وأما "الخبير" فمعناه: المطلع على كنه الشيء، العالم بحقيقته، وقيل: المخبر، فقال تعالى: {الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} [الفرقان: 59] . قال القاضي بكر بن العلاء -فيما ذكره في الشفاء: المأمور بالسؤال غير النبي صلى الله عليه وسلم، والمسئول الخبير هو النبي صلى الله عليه وسلم. وقال غيره: بل السائل النبي صلى الله عليه وسلم
__________
الدنيوية والأخروية، "والعليم" اسم فاعل للمبالغة الذي له كمال العلم وثباته، وهما مما سماه به تعالى من أسمائه، "والمعلم" اسم مفعول من التعليم، أو اسم فاعل، وهما اسمان، كما مر في السرد "ومعلم أمته" بكسر اللام المرشد لهم للخير، والدال عليه، واستدل للأولين ولثالث على أنه اسم مفعول بقوله: "فقال تعالى: {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَم} " أرشدك وهداك إلى ما لم يكن لك به علم، ولا سبق لك فيه معرفة من حوادث الأمور وضمائر القلوب وأسرار الغيوب، وأمر الدين، والأحكام وشرائع الإسلام، وعلى الأخيرين، أو الأخير بقوله، "وقال تعالى: {وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ} الآية القراءن، {وَالْحِكْمَةَ} ما فيه من الأحكام {وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُون} من المواعظ، وأخبار من مضى، وأحوال القيامة ومقدماتها، وغير ذلك مما لا طريق له سوى الوحي غير المتلو ولذا أعيد الفعل لتغايرهما، "وأما الخبير" وهو مما سماه الله تعالى به من أسمائه، "فمعناه" في حق الله ورسوله "المطلع" الواقف على كنه" بضم فسكون، أي حقيقة "الشيء العالم بحقيقته" وهي ذاته، لا غايته، كما قيل، وهو في حق الله واضح وفي حق رسوله كذلك، باطلاع الله تعالى له بوحيه، "وقيل" بمعناه "المخبر" بكسر الباء، أي أنبياءه ورسله بكلامه المنزل عليهم وعباده يوم القيامة بأعمالهم فإنه لا يغرب عن علمه شيء وفي حق رسوله بما نزل عليه من القرآن وغيره "فقال" الفاء للتعليل، أي لقوله "تعالى:" {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} ، عالما أي عنه، والضمير، لما قبله من خلق السماوات والأرض والاستواء، "قال القاضي بكر" بفتح الموحدة ابن محمد "بن العلاء" بن زياد القشيري، وأمه من ولد عمران بن حصين أبو الفضل البصري، ثم المصري أحد كبار الفقهاء المالكية وعلماء الحديث صاحب التصانيف مات بمصر سنة أربع وأربعين وثلاثمائة، وقد جاوز الثمانين بأشهر. "فيما ذكره في الشفاء" عياض "المأمور بالسؤال" في الآية "غير النبي صلى الله عليه وسلم" من كل من يتأتى منه السؤال، لا النبي؛ لأنه المخاطب، "والمسئول الخبير هو النبي صلى الله عليه وسلم" لأنه العالم بحقيقة ما ذكره دون غيره فدل على تسميته خبيرا. "وقال غيره" غير القاضي بكر، "بل السائل النبي صلى الله عليه وسلم"(4/261)
والمسئول الله عز وجل، فالنبي صلى الله عليه وسلم خبير بالوجهين المذكورين، قيل لأنه صلى الله عليه وسلم على غاية من العلم بما علمه الله من مكنون علمه، وعظيم معرفته، مخبر لأمته بما أذن له في إعلامهم به.
وأما "العظيم" فقال الله تعالى في شأنه. {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيم} [القلم: 4] ووقع في أول سفر من التوراة عن إسماعيل: وسيلد عظيما لأمه عظيمة.
__________
لأنه المخاطب به، "والمسئول الله عز وجل، فالنبي صلى الله عليه وسلم خبير بالوجهين المذكورين"، أي على التفسيرين فالباء بمعنى على، أو ظرفية أما الأول فظاهر لإطلاقه عليه، ولأنه لو لم يكن خبيرا لم يؤمر بسؤاله، وأما الثاني، فأذن له في السؤال دال على إعلامه به.
"قيل" في تعليل تسميته خبيرا على تفسيره بالعالم بالحقيقة، أو بالمخبر؛ "لأنه صلى الله عليه وسلم على غاية من العلم بما علمه الله من مكنون علمه وعظيم معرفته" أي سمي بذلك لما أعلمه به من الخفيات، والمغيبات التي أطلعه عليها بوحيه وما جبله عليه من المعرفة العظيمة، "مخبر لأمته بما أذن له في إعلامهم به" دون ما لم يأذن من الأسرار الإلهية، وهذا باعتبار أنه عالم قبل السؤال وما قبله باعتبار ما أجاب به بعد سؤاله، فافترقا، "وأما العظيم" وهو من أسمائه تعالى، أي الجليل الشأن، أو الذي كل شيء دونه، أو البالغ أقصى مراتب العظمة، فلا تتصوره الأفهام، ولا تحيط بعظمته الأوهام، أو الذي ليس لعظمته غاية، ولا لكبريائه نهاية سبحانه، "فقال الله تعالى في شأنه" بهمزة وإبدالها ألفا: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيم} فجمع الله تعالى له من محاسن الأخلاق ما لا يتصور في سواه وإذا وصف خلقه بالعظيم فقد وصفه به، فهو من أسمائه، فلا يرد أنه صفة للخلق، لا له، وإن العظمة مختصة بالله، أو هو توطئة لقومه، "ووقع في أول سفر" بكسر، فسكون كتاب "من التوراة عن إسماعيل" نبي الله ابن خليله، وكان الظاهر أن يقال في حق إسماعيل فكأنه صفة سفر، أي فيه ما يصدر عن إسماعيل، "وسيلد عظيما" من الولادة، وهو المصطفى صلى الله عليه وسلم؛ لأنه العظيم الذي ولده إسماعيل "لأمه عظيمة" وفيه مبالغة في وصفه بالعظمة؛ إذ جعل أتباعه عظماء فيما بالك به، وهذا هو الذي في الشفاء، والنسخ الصحيحة من الشامية نقلا عنها وعن ابن دحية بلام بعدها دال من الولادة، وعظيما مفعول، فلا عليك مما يقع في نسخ سيدا وعظيما، أو وسيلة عظيمة، أو سيرد براء بدل اللام عظيما فإنه كله من تحريف النساخ، وإن تكلف توجيه الأولتين بأن المعنى بعثناه سيدا فإنه فاسد؛ لأن الضمير لإسماعيل ولي القصدي الإخبار عنه، وإلا كان لا معنى لذكره احتجاجا على تسمية المصطفى بعظيم، والثالثة بأن المعنى سيرد على الحوض فإنه فاسد كذلك فإنما هو مجرد خيالات تقوم في العقول دون(4/262)
فهو صلى الله عليه وسلم عظيم وعلى خلق عظيم.
وأما "الشاكر" و"المشكور" فقد وصف صلى الله عليه وسلم نفسه بذلك فقال: "أفلا أكون عبدا شكورا" أي: أترك تهجدي فلا أكون عبدا شكورا؟! والمعنى: أن المغفرة سبب لكون التهجد شكرا، فكيف أتركه؟ وعلى هذا فتكون "الفاء" للسببية، وقال القاضي عياض: شكورا أي: معترفا بنعم ربي، عالما بقدر ذلك مثنيا عليه، مجهدا نفسي في الزيادة من ذلك، لقوله تعالى: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم: 7] .
وأما "الشكار" فهو أبلغ من شاكر، وفي حديث ابن ماجه أنه صلى الله عليه وسلم كان من دعائه: "رب اجعلني لك شكارا".
__________
مراجعة النقول، "فهو صلى الله عليه وسلم عظيم" كما وصف به في التوراة أي جليل شأنه كامل في ذاته وصفاته، وعلى خلق عظيم" كما وصف به في القرآن، "وأما "الشاكر" اسم فاعل، "والشكور" كثير الشكر، وهو من أسمائه تعالى إن ربنا لغفور شكور، أي المعطي الثواب الجزيل على العمل القليل، أو المثني على المطيعين، "فقد وصف صلى الله عليه وسلم نفسه بذلك"، لما صلى حتى تورمت قدماه فقيل له، أتتكلف هذا، وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ "فقال: "أفلا أكون عبدا شكورا"؟ رواه الشيخان، "أي أأترك تهجدي فلا أكون عبدا شكورا" فالاستفهام الإنكاري يدل على أنه وصف ثابت له، "والمعنى أن المغفرة سبب لكون التهجد شكرا فكيف أتركه، وعلى هذا فتكون الفاء للسببية، وقال القاضي عياض في الشفاء تفسيرا لقوله "شكورا، أي معترفا" مقرا "بنعم ربي عالما بقدر ذلك"، أي قدر عظمها، لا عددها لقوله تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} الآية، "مثنيا عليه" بلساني، وأركاني، "مجهدا" بزنة متعبا، أي باذلا جهدي وطاقاتي ومتعبا "نفسي في الزيادة من ذلك"، الاعتراف والثناء "لقوله تعالى: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} " من النعم التي شكرتموها وعدا ممن لا يخلف الميعاد، "وأما "الشكار" فهو أبلغ من شاكر" ومن شكور؛ لأنه ينبيء عن وجود الشكر وكماله. وشكار ينبئ عن تكرار الشكر وكثرته وصيرورته كالطبيعة له، وصرح أبو بكر بن طلحة النحوي بتفاوت صيغ المبالغة، كما مر، "وفي حديث ابن ماجه" عن ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم كان من دعائه "رب اجعلني لك شكارا" قيل الشاكر الذي يشكر على العطاء، أو على الموجود والشكور الذي يشكر على البلاء، أو على المفقود، وحكي أن شقيقا البلخي سأل جعفر الصادق عن الفتوة، فقال: ما تقول أنت، فقال: إن أعطينا شكرنا وإن منعنا صبرنا، فقال جعفر: هكذا تفعل كلاب المدينة، فقال شقيق: يابن رسول الله(4/263)
وأما "الكريم" و"الأكرم" و"أكرم ولد آدم" فسماه الله به في قوله تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} [سورة الحاقة: 40] أي محمد صلى الله عليه وسلم، وليس المراد به جبريل عليه السلام؛ لأنه تعالى لما قال: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} ذكر بعده أنه ليس بقول شاعر ولا كاهن، والمشركون لم يكونوا يصفوا جبريل عليه السلام بذلك، فتعين أن يكون المراد بالرسول الكريم هنا محمدا صلى الله عليه وسلم، كما سيأتي إن شاء الله تعالى بيانه في مقصد أي التنزيل. وقال عليه الصلاة والسلام: "أنا أكرم ولد آدم".
وأما "الولي" و"المولى".
__________
فما الفتوة عندكم؟ فقال: إن أعطينا شكرنا وإن منعنا صبرنا، "وأما الكريم" وهو من أسمائه تعالى، أي الكثير الخير، أو المتفضل، أو العفو، أو العلي، وهي صحيحة في حقه صلى الله عليه وسلم، "والأكرم" من الأسماء الحسنى. كما في رواية ابن ماجه وفي التنزيل {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ} أي الزائد في صفة الكرم على غيره، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "أنا أكرم الأولين والآخرين على الله ولا فخر". رواه الدرامي، "وأكرم ولد آدم فسماه الله به" بالكريم في قوله تعالى في سورة الحاقة: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ} {وَمَا لَا تُبْصِرُونَ} [الحاقة: 38، 39] أنه، أي القرآن "لقول رسول كريم، أي محمد صلى الله عليه وسلم أضيف إليه لنزوله عليه وتلقي الأمة له عنه، "وليس المراد به جبريل عليه السلام؛ لأنه تعالى، لما قال: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} ذكر بعده أنه ليس بقول شاعر، ولا كاهن"؛ إذ قال سبحانه: {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ} ، ولا بقول كاهن، ولو قال المصنف لأنه تعالى قال بعده، وذكر اللفظ إلى هنا لأغناه عن التكرار وحكاية القرآن بالمعنى، "والمشركون لم يكونوا يصفوا" بحذف النون للتخفيف، وفي نسخ بالنون، وهو أولى [أي:] "جبريل عليه السلام بذلك" الشعر، والكهانة "فتعين أن يكون المراد بالرسول الكريم هنا محمدا صلى الله عليه وسلم كما سيأتي إن شاء الله تعالى بيانه في مقصد أي التنزيل" السادس، وأما في سورة التكوير، فذكر المصنف في المقصد المذكور ترجيح أنه جبريل، ونسب عياض لأكثر المفسرين أنه محمد صلى الله عليه وسلم.
قيل ولا حاجة لإثباته بهاتين الآيتين المختلف فيهما لاتصافه صلى الله عليه وسلم بالكريم وبمعناه في الأحاديث الصحيحة، "وقال عليه الصلاة والسلام: "أنا أكرم ولد آدم" أي أشرف من الأنبياء وغيرهم دليل تسميته بهذا الاسم وبالأكرم وقدمت له دليلا آخر، "وأما الوالي، والمولى" بفتح الميم، واللام وهما من أسمائه تعالى، وهو الولي الحميد، الله ولي الذين آمنوا ذلك بأن الله مولى(4/264)
فقال عليه الصلاة والسلام: "أنا ولي كل مؤمن".
وأما "الأمين" فقد كان عليه الصلاة والسلام يعرف به، وشهر به قبل النبوة وبعدها، وأحق العالمين بهذا الاسم، فهو أمين الله على وحيه ودينه، وهو أمين من في السماء والأرض.
وأما "الصادق" و"المصدوق" فقد ورد في الحديث تسميته بهما، ومعناهما غير خفي،.
__________
الذين آمنوا ومعناهما الناصر، أي الذي ينصرهم على أعدائهم.
قال تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا} [المائدة: 55] ، أي ناصركم ولم يقل أولياؤكم؛ لأن نصرتهم واحدة، أو لأن الناصر إنما هو الله وغيره بتبعيته وإعانته، كما قال: وما النصر إلا من عند الله، "فقال عليه الصلاة والسلام" كما رواه البخاري عن أبي هريرة "أنا ولي كل مؤمن"، ناصره ومتوليه، والقائم بمصالحه.
وفي البخاري أيضا مرفوعا "ما من مؤمن إلا وأنا أولى به في الدنيا، والآخرة، فمن ترك مالا فلعصبته من كانوا، فإن ترك دينا، أو ضياعا فليأتني، فأنا مولاه"، وقال صلى الله عليه وسلم: "من كنت مولاه فعلي مولاه"، رواه الترمذي وحسنه "وأما الأمين" فعيل بمعنى مفعول مبالغة، أو بمعنى فاعل من أمن ككرم، فهو أمين "فقد كان عليه الصلاة والسلام يعرف به" من صغره، "وشهر به قبل النبوة وبعدها" فكانت توضع عنده الودائع، والأمانات، ومن ثم لما هاجر خلف عليا ليؤدي عنه الودائع وبه سماه الله في قوله مطاع، ثم أمين في أحد القولين. وسماه به كعب بن مالك في شعره، "وهو أحق العالمين بهذا الاسم" لوقاره وصدق لهجته، واجتنابه الأدناس، والقاذورات، وقوته على الطاعات، ولأنه الحافظ للوحي، كما قال: "فهو أمين الله على وحيه ودينه، وهو أمين من في السماء والأرض" أمره وحكمه، وقد مر شرح هذا الاسم مبسوطا، "وأما الصادق" اسم فاعل من الصادق، "والمصدوق" اسم مفعول من صدق المتعدي كقوله صادق وعده، "فقد ورد في الحديث" الصحيح "تسميته بهما" فقال ابن مسعود، حدثنا رسول الله، وهو الصادق المصدوق أخرجه البخاري وغيره، وكذا ورد في عدة أحاديث، ولا يضر كونها موقوفة؛ لأن الموقوف يقال له حديث.
قال ابن دحية: كان الصادق المصدوق علما، واضحا له إذ جرى مجرى الأسماء، "ومعناهما غير خفي" وهو أنه صادق في نفسه وصدق الأنبياء، والكتب التي قبله، وليس بمكذب عند الناس.(4/265)
وكذلك "الأصدق". وروي أنه عليه الصلاة والسلام لما كذبه قومه حزن فقال له جبريل: إنهم يعلمون أنه صادق.
وأما "الطيب" و "ماذ ماذ" -بميم ثم ألف ثم ذال معجمة منونة، ثم ميم ثم ألف ثم ذال معجمة- كذا رأيته لبعض العلماء، ونقل العلامة الحجازي في حاشيته على الشفاء عن السهيلي: ضم الميم وإشمام الهمزة ضمة بين الواو والألف ممدود، وقال: نقلت عن رجل أسلم من علماء بني إسرائيل، وقال معناه: طيب طيب،
__________
وقد روى الترمذي، والحاكم عن علي أن أبا جهل، قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إنا، لا نكذبك ولكن نكذب ما جئت به، فأنزل الله {فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} ، "وكذلك الأصدق"، ورد في الحديث، ومعناه غير خفي، وهو أفعل تفضيل للمبالغة إذ لا أحد أقوى ولا أثبت على الحق منه، فهو الأصدق، "وروى" على ما ذكره عياض في أوائل الشفاء، وقال السيوطي في تخريجه لم أجده "إنه عليه الصلاة والسلام، لما كذبه قومه حزن، فقال له جبريل عليه السلام إنهم يعلمون أنك صادق"، والفضل ما شهدت به الأعداء أتى به دليلا على أنه يسمى الصادق، كما قال جبريل، وأنه كان معروفا به عند أعدائه، كما هو ظاهر.
"وأما الطيب" بوزن سيد الطاهر، أو الزكي؛ لأنه لا أطيب منه قلبا وقالبا، وقد روى الترمذي في الشمائل عن أنس ما شممت مسكا قط، ولا عطرا كان أطيب عن عرقه وريحه صلى الله عليه وسلم "وماذ ماذ بميم" مفتوحة "ثم ألف" غير مهموز فيهما، كما اقتصر عليه عياض، فتبعه المصنف وروى موذموذ بواو وبدلها عزاه العزفي لصحف إبراهيم وميذميذ بتحتية فيهما عزاه أيضا العزفي للتوراة، "ثم ذال معجمة منونة" وقال البرهان في المقتفى ساكنة، "ثم ميم، ثم ألف، ثم ذال معجمة" كذلك منونة، أو ساكنة "كذا رأيته لبعض العلماء" وبه ضبطه الحافظ برهان الدين الحلبي في شرح الشفاء، إلا أنه أبدل منونة بساكنة، وقال عقب ضبطه بذلك المفيد إنه الرواية ما نصه لكن ينبغي ضم ذاله؛ لأنه اسم غير منصرف للعلمية والعجمة، وتقديره أنت ماذ ماذ، أو يا ماذ، "ونقل العلامة" أحمد بن محمد بن علي بن حسن بن إبراهيم الشهاب، "الحجازي" الأنصاري، الخزرجي، الفاضل، الأديب، الشاعر، البارع، صاحب التصانيف، أجاز له العراقي، والهيثمي مات في رمضان سنة خمس وسبعين وثمانمائة "في حاشيته على الشفاء عن السهيلي ضم الميم وإشمام الهمزة ضمة بين الواو، والألف ممدودة، وقال" السهيلي: "نقلته عن رجل أسلم من علماء بني إسرائيل، وقال" هذا المسلم العالم: "معناه طيب طيب" والتكرار للتأكيد، أو المراد طيب في نفسه، أو دنياه وطيب في صفاته وآخرته، وكونه اسما واحدا مثل مرمر، أو(4/266)
ولا ريب أنه صلى الله عليه وسلم طيب الطيبين، وحسبك أنه كان يؤخذ من عرفه ليتطيب به، فهو صلى الله عليه وسلم طيب الله الذي نفحه في الوجود فتعطرت به الكائنات وسمت، واعتذت به القلوب فطابت، وتنسمت به الأرواح فنمت.
وأما "الطاهر" و"المطهر" و"المقدس" أي المطهر من الذنوب، كما قال الله تعالى: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح: 2] أو الذي يتطهر به من الذنوب، ويتنزه بأتباعه عنها، كما قال الله تعالى: {وَيُزَكِّيهِمْ} [البقرة: 129] وقال: {وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [المائدة: 16] أو يكون مقدسا بمعنى مطهرا من الأخلاق الذميمة والأوصاف الدنية.
وأما "العفو".
__________
مركب خلاف الأصل، وزعم أن داله مهملة لم يقله أحد، وقول التلمساني يحتمل أنه مأخوذ من الماذ وهو العسل الأبيض لحلاوته في ذاته وصفاته، أو من الماذ بمعنى الدرع اللينة السهلة؛ لأنه حصن حصين للعالمين رد بأنه يقتضي أنه عربي، ولم يقل أحد ط، "ولا ريب" لا شك "أنه صلى الله عليه وسلم طيب الطيبين وحسبك" كافيك "إنه كان يؤخذ من عرقه ليتطيب به، فهو صلى الله عليه وسلم طيب الله الذي نفحه" بالفاء، والحاء المهملة، نشره "في الوجود فتعطرت به الكائنات" أي الموجودات "وسمت" علت، وارتفعت "واغتذت" بذال معجمة، "به القلوب فطابت وتنسمت" بسين مهملة من النسيم ومعجمة من النشم، وهو كما في القاموس طيب الرائحة "به الأرواح فنمت" زادت "وأما الطاهر" بالطاء المهملة النقي من النقائص، والأدناس الحسية، والمعنوية حتى قال قوم بطهارة فضلاته، وهو المعتمد، "والمطهر" بفتح الهاء وكسرها على ما يأتي، "والمقدس" بفتح الدال وكسرها فسره تبعا لعياض بقوله، "أي المطهر من الذنوب" تفسيرا للأسماء الثلاثة بناء على أن الأخيرين بفتح الهاء والدال: "كما قال الله تعالى: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح: 2] منه، ويأتي الكلام على هذه الآية، "أو الذي يتطهر به" بالبناء للمفعول من الذنوب ويتنزه بأتباعه" يتباعد بسببه "عنها" بناء على أنهما بكسر الهاء، والدال، أي الطهر من اتبعه وهما احتمالان، كما قال السيوطي ومر كلامه ونحوه تفسير المصنف هذا، كما قال تعالى: {وَيُزَكِّيهِمْ} [البقرة: 129] يطهرهم من الذنوب، "وقال" تعالى: {وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ} الكفر، والمعاصي {إِلَى النُّورِ} الإيمان والتقوى والطاعة، بإرشادهم وتوفيق الله ببركته صلى الله عليه وسلم، "أو يكون مقدسا بمعنى مطهرا من الأخلاق الذميمة" بالمعجمة، أي المذمومة، "والأوصاف الدنية" الحقيرة التي لا تليق بجنابه صلى الله عليه وسلم من التقديس، وهو التطهير، وقيل: معناه المفضل على غيره وقيل تقديسه الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم، "وأما العفو"(4/267)
و"الصفوح" فمعناهما واحد، وقد وصفه الله بهما في القرآن والتوراة والإنجيل، كما في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص عند البخاري ولا يجزي بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويصفح وأمره تعالى بالعفو كما قال تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ} [الأعراف: 199] وقال تعالى: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ} [المائدة: 13] .
وأما "العطوف".
__________
المبالغ في العفو عن السئيات وهو محوها وإزالتها، ولذا قيل إنه أبلغ من الغفور؛ لأنه من الغفر، وهو الستر، ولا يلزم منه الإزالة، "والصفوح" صيغة مبالغة من الصفح، وهو الإعراض عن الذنب، كما في الصحيح، "فمعناهما واحد" كما قال عياض: من حيث إن حاصل معنى كل الإعراض عن السيئات، وإن قيل الصفوح أبلغ؛ لأن الإنسان، قد يعفو، ولا يصفح، وقيل العفو أبلغ؛ لأن الصفح إعراض عن المؤاخذة، والعفو محو الذنب ومن لازمه الإعراض، ولا عكس، "وقد وصفه الله بهما في القرآن" إذ أمره بهما فيه فقال: فاعف عنهم واصفح، كما سيقول، فامتثل صلى الله عليه وسلم للأمر وتخلق به، فيقتضي الاتصاف به على أبلغ وجه، وأتمه إذ كان جبلة له؛ لأنه لا يعصي له أمرا، فلا يرد أنه لم يصفه في القرآن إنما أمر ولو سلم اتصافه به، لا يقتضي كونه على وجه المبالغة التي دل عليها فعول، والأمر لا يقتضي التكرار على الأصح "والتوراة ولإنجيل، كما في حديث عبد الله بن عمرو بن العاصي" الصحابي ابن الصحابي.
"عند البخاري" عن عطاء بن يسار، قال لقيت عبد الله بن عمرو، فقلت أخبرني عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: أجل والله إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن الحديث وفيه، "ولا يجزي بالسيئة السيئة" فلا يسيء لمن أساء إليه "ولكن يعفو ويصفح" فقد وصفه بهما في الكتابين، "و" أما في القرآن، فقط "أمره تعالى بالعفو، كما قال تعالى خذ العفو" بناء على أن المراد به الصفح، لما روي أنه سأل جبريل: "ما هذا"؟ قال: لا أدرى حتى أسأل ربي فسأله، ثم رجع، فقال: إن ربك أمرك أن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك وتعفو عمن ظلمك، وتحسن إلى من أساء إليك.
ذكره البغوي، والقرطبي، والذي عليه الأكثر أن العفو المال الفاضل عن نفقة العيال، كما في قوله: {وَيَسْأَلونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} ، ثم نسخت بآية الزكاة فلا شاهد فيها، ولذا أتى بدليل ثان بقوله: وقال تعالى: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ} [المائدة: 13] ، فامتثل الأمر حتى صار جبلة له، فأفاد الوصف بهما، ومواطن العفو، والصفح منه، لا تحصى، والمصنف تابع لعياض، ولم يذكر شيئا عن الإنجيل؛ لأن الراوي الصحابي صرح بأن ذلك في التوراة، "وأما العطوف، فهو الشفوق" حقيقة على مقتضى المصباح، والقاموس لكن صرح الشامي بأنه مجاز، فقال صفة(4/268)
فهو الشفوق، وسمي به عليه الصلاة والسلام لكثرة شفقته على أمته، ورأفته بهم.
وأما "النور" فقال تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ} [المائدة: 15] قيل: محمد صلى الله عليه وسلم وقيل القرآن، فهو نور الله الذي لا يطفأ.
وأما "السراج" فسماه تعالى به في قوله: {وَسِرَاجًا مُنِيرًا} [الأحزاب: 46] لوضوح أمره، وبيان نبوته، وتنوير قلوب المؤمنين والعارفين بما جاء به، فهو نير في ذاته.
__________
مشبهة من العطف، وهو الإنشاء، يقال عطف الغصن إذا أماله، ثم استعير للميل، والشفقة إذا عدي بعلى، وإذا عدي بعن كان على الضد من ذلك "وسمي به عليه الصلاة والسلام لكثرة شفقته على أمته ورأفته بهم" كما قال حسان:
عطوف عليهم لا يثني جناحه ... إلى كنف يحنو عليهم وبمهد
"وأما النور" وهو من أسمائه تعالى، أي ذو النور وخالقه، أو منور السماوات والأرض بالأنوار، أو قلوب المؤمنين بالهداية، قاله عياض كغيره، وهو المشهور، وذهب الغزالي، والحكماء إلى أنه حقيقة في ذات الله؛ لأن معناه الظاهر بنفسه المظهر لغيره، وقال الأشعري نور ليس كالأنوار، "فقال تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ} الآية، "قيل النور هنا محمد صلى الله عليه وسلم لظهور آياته، وقيل القرآن لإزالته ظلمة الكفر، والجهل "فهو" أي المذكور من كل منهما "نور الله الذي لا يطفأ" حكاهما عياض وغيره على حد سواء، فتبعهم المصنف، ولكن الأصح الأول، فقد انتصر عليه الجلال، وقد التزم الاقتصار على الأصح، ولا يشكل عليه إفراد الضمير في قوله يهدي به الله من اتبع رضوانه مع تغايرهما وعطفهما بالواو لرجوعه إليهما معا باعتبار المذكور، أو لأنهما معا كالشيء الواحد، وهداية أحدهما عين هداية الآخر، وقد صرح الفراء بجواز مثله جوزا مطردا، وبه وردت آيات كثيرة، وأنشد عليه:
رماني بأمر كنت منه ووالدي ... بريا ومن هول الطوى رماني
وقال ابن عباس عند ابن مردويه، وابن عمر عند الطبري وسعيد بن جبير وكعب الأحبار في قوله تعالى: {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاة} ، المراد بالنور هنا محمد صلى الله عليه وسلم، "وأما السراج" المنير، "فسماه تعالى به في قوله وسراجا منيرا"، مفعلا من أنار إنارة، وهو راجع إلى النور.
سمي بذلك على نهج الاستعارة، أو التشبيه البليغ، كما قال "لوضوح أمره" كالسراج المنير الذي لا يخفى "وبيان نبوته" أي كونها ظاهرة تضيء ضوء السراج في الليلة الظلماء، "وتنوير قلوب المؤمنين" والعارفين" به "بما جاء به" فاستضاءوا به من ظلمات الجهالة، واقتبسوا من نوره أنوار البصائر؛ لأن الله أمدها بنور نبوته، كما أمد بنور السراج أنوار الأبصار، "فهو نير في ذاته"(4/269)
منير لغيره، فهو السراج الكامل في الإضاءة، ولم يوصف بالوهاج كالشمس؛ لأن المنير الذي ينير من غير إحراق بخلاف الوهاج.
وأما "الهادي" فبمعنى الدلالة والدعاء، قال الله تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيم} [الشورى: 52] وقال تعالى فيه: {وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ} [الأحزاب: 46] .
__________
ناظر لاسمه النور "منير لغيره" ناظر للسراج، "فهو السراج الكامل في الإضاءة" الذي أضاءت الدنيا بنوره ومحا ظلام الكفر بظهوره، "ولم يوصف بالوهاج كالشمس" حيث وصفت به في قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا} لأن المنير هو الذي ينير من غير إحراق بخلاف الوهاج، أي الوقاد فقد يكون مع إحراق أو لأن المراد بالسراج الشمس؛ لأن الغاية في النيرات أو لأنه بعث في زمان يشبه الليل من ظلمات الكفر، والجهل، فكشفه بنور اليقين والهداية.
وقال القاضي أبو بكر بن العربي، قال علماؤنا: سمي سراجا؛ لأن السراج الواحد يؤخذ منه السرج الكثيرة، ولا ينقص من ضوئه شيء، وكذلك سرج الطاعات أخذت من سراجه صلى الله عليه وسلم ولم ينقص من أجره شيء وفسر السراج أيضا بالحجة، والهادي؛ لأنه حجة الله الظاهرة، كالسراج على الخلائق وهاديهم إلى الدين القويم، "وأما الهادي" وهو من أسمائه تعالى كما مر فبمعنى الدلالة، أي ذو الدلالة؛ لأنه اسم فاعل من هدى هداية، وهي الدلالة إن تعدت بحرف الجر، والوصول إن تعدت بنفسها.
قال الراغب: أصل معنى الهداية الدلالة بلطف، لما يوصف، أو الموصلة على الخلاف المشهور، وهي أنواع ما يعم كل مكلف من العقل والعلوم الضرورية، ودعاؤه إياهم على ألسنة رسله، والتوفيق الذي يختص به من اهتدى.
والتي في الآخرة في قوله الحمد لله الذي هدانا لهذا، ولا يقدر الإنسان بهدى إلا بالدعاء، ولذا بقيت تارة، وأثبتت أخرى انتهى، "والدعاء" أي الدعوة، ومنه قوله: ولكل قوم هاد، أي داع، وتطلق على خلق الاهتداء، وهو التوفيق وذلك مختص بالله، ولذا، قال: لا تهدي من أحببت وبمعنى الدلالة والدعاء على غيره، كما "قال الله تعالى له: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي} [الشورى: 52] ، تدل وتدعو {إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52] لا عوج فيه، طريق الإسلام الموصلة إلى سعادة الدارين على القراءة المشهورة بالبناء للفاعل، وقرئ شاذا للمفعول، فهو الله، وقال تعالى فيه: {وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِه} أي إرادته وتيسيره، والإذن يستعمل مجازا مشهورا في ذلك، وعبر أولا بله؛ لأنه خطاب، يقال: قال له كذا إذا خاطبه، وثانيا بفيه لعدم الخطاب؛ لأنه في حقه ووصفه فسقط زعم أنه لا وجه لتغاير المتعلقين.(4/270)
وأما "البرهان" فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ} [النساء: 174] قيل: محمد صلى الله عليه وسلم، وقيل معجزاته وقيل القرآن.
وأما "النقيب" فروي أنه صلى الله عليه وسلم لما مات نقيب بني النجار أبو أمامة أسعد بن زرارة وجد عليه صلى الله عليه وسلم ولم يجعل عليهم نقيبا بعده، وقال: "أنا نقيبكم" فكانت من مفاخرهم، والنقيب هو شاهد القوم وناظرهم وضمينهم.
وأما "الجبار" فسمي به في مزامير داود، في قوله من مزمور أربعة وأربعين.
تقلد أيها الجبار سيفك، فإن ناموسك وشرائعك.
__________
"وأما البرهان" الحجة الواضحة النيرة التي تعطي اليقين، وهو من أسمائه تعالى، كما في رواية ابن ماجه، "فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ} [النساء: 174] "قيل محمد صلى الله عليه وسلم" كما فسره به سفيان بن عيينة، وجزم به ابن عطية، والنسفي، والجلال، فهو المعتمد، "وقيل معجزاته، وقيل القرآن" وهو أجل معجزاته وعلى كل منها يصح تسميته بالبرهان، كما لا يخفى، "وأما النقيب فروي" عند الحاكم في المستدرك من طريق الواقدي عن ابن أبي الرجال، "أنه صلى الله عليه وسلم" لما مات نقيب بني النجار أبو أمامة أسعد بن زرارة،، الخزرجي النجاري، شهد العقبتين، ويقال إنه أول من بايع ليلة العقبة، مات على رأس تسعة أشهر من الهجرة في شوال، كما في نفس هذه الرواية المذكورة "وجد" بفتح الجيم، والمهملة حزن "عليه صلى الله عليه وسلم" فجاء بنور النجار، فقالوا: يا رسول الله مات نقيبا فنقب علينا، فقال: "أنتم أخوالي" "ولم يجعل عليهم نقيبا بعده، وقال: "أنا نقيبكم"، فكانت من مفاخرهم" الجليلة، "والنقيب هو شاهد القوم وناظرهم وضمينهم" وأمينهم؛ لأنه صلى الله عليه وسلم شهيد على أمته، وناظر، لما عملوا وضمين لهم الجزاء الأوفى على العمل الصالح والتجاوز عن السيئات والشفاعة حتى يدخلهم الجنة، ولو بعد تعذيب، وفي الشامية أصله لغة النقب الواسع، فنقيب القوم هو الذي ينقب عن أحوالهم، فيعلم ما خفي منها.
"وأما الجبار" وهو من أسمائه تعالى، كما مر بمعناه، "فسمي به" بالبناء للمجهول، أي سماه الله في "مزامير داود" أي الصحف الإلهية المنزلة عليه "في قوله من مزمور أربعة وأربعين" مخاطبا له صلى الله عليه وسلم لتنزيله منزلة الموجود لتحققه عنده، "تقلد" أمر "أيها الجبار سيفك" أي اجعل حمائله على عاتقك، واحمله كالقلادة، وفيه إشارة إلى أنه سيؤمر بالجهاد، "فإن ناموسك" الوحي النازل عليك، أو عظمتك في قلوب الناس، "وشرائعك" جمع شريعة، ونسخة سراياك تحريف، فالذي ذكره عياض، وابن دحية شرائعك وقال في شرح الشفاء يحتمل أنه عطف تفسير، ولذا(4/271)
مقرونة بهيبه يمينك؛ لأنه الجبار الذي جبر الخلق بالسيف على الحق، وصرفهم عن الكفر جبرا، قال القاضي عياض: وقد نفي الله عنه في القرآن جبرية التكبر التي لا تليق به فقال: {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ} [ق: 45] .
وأما "الشاهد" و"الشهيد" فسماه الله تعالى بهما في قوله: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا} [الأحزاب: 45] أي على من بعث إليهم بتصديقهم وتكذيبهم، ونجاتهم وضلالهم. وفي قوله تعالى: {وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143] ، روي أن الأمم يوم القيامة يجحدون تبليغ أنبيائهم،
__________
وحد الخبر في قوله: "مقرونة بهيبة يمينك" أي بالخوف من سيفك فكني بما ذكر عنه، أو تجوز باليمين عما فيه.
سمي بذلك "لأنه الجبار"، أي المجاهد القتال "الذي جبر الخلق بالسيف على الحق وصرفهم عن الكفر جبرا" أو لإصلاحه أمته بالهداية والتعليم، أو لقهر أعدائه، أو لعلو منزلته على الخلق، وعظم خطره، وهو من أسمائه تعالى.
بهذه المعاني الثلاثة، كما في الشفاء وبمعنى المتكبر.
"قال القاضي عياض: وقد نفى الله عنه في القرآن جبرية" بفتح الباء وسكونها وصوب.
قال أبو عبيد أنه مولد، وأضافها إلى "التكبر" احترازا عن الجبرية بمعنى الجبر خلاف القدرية التي لا تليق به؛ لأنها من صفات الله التي لا تناسب غيره، "فقال وما أنت عليهم بجبار" لا بمتكبر، ولا متعاظم، بل أنت لين هين، تدعوهم بفق وتهديهم بناء على أن الآية محكمة، وقيل معناها بمسلط، وبه فسرها ابن عباس وغيره، وهي منسوخة آية القتال؛ لأنها مكية وآيته مدنية.
قال السيوطي فيكون حينئذ جبارا، بمعنى المسلط بعد أمره بالقتال، وهو المناسب لسياق الزور، "وأما الشاهد" العالم، أو المطلع الحاضر، "والشهيد" العليم، أو العدل المزكي، وهو من أسمائه تعالى، أي الذي لا يغيب عنه شيء أو الشهيد يوم القيامة بما علم.
قال ابن الأثير فعيل من أبنية المبالغة، في فاعل، فإذا اعتبر العلم مطلقا، فهو العليم، فإذا أضيف إلى الأمور الباطنة، فهو الخبير، أو إلى الظاهر، فهو الشهيد انتهى. "فسماه الله تعالى بهما" فسماه بالشاهد في قوله {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا} حال مقدرة، أي مقبولا شهادتك "على من بعثت إليهم" ولهم "بتصديقهم وتكذيبهم ونجاتهم وضلالهم، و" بالشهيد في قوله تعالى: {وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} معدلا مزكيا.
قال البيضاوي "روى" عند مسلم بمعناه "إن الأمم يوم القيامة يجحدون" ينكرون "تبليغ أنبيائهم" لعل المراد أكثر الأمم، وقد روى الشيخان عن أبي سعيد رفعه يدعى نوح يوم القيامة،(4/272)
فيطالبهم الله ببينة التبليغ -وهو أعلم بهم- إقامة للحجة على المنكرين، فيؤتي بأمة محمد صلى الله عليه وسلم فيشهدون، فتقول الأمم، بم عرفتم؟ فيقولون علمنا ذلك بإخبار الله تعالى في كتابه الناطق على لسان نبيه الصادق، فيؤتي محمد صلى الله عليه وسلم فيسأل عن حال أمته، فيشهد بعدالتهم، وهذه الشهادة وإن كانت لهم لكن لما كان الرسول كالرقيب المهيمن على أمته عدي بعلي" وقدمت الصلة للدلالة على اختصاصهم بكون الرسول شهيدا عليهم. قاله البيضاوي.
وأما "الناشر" فسمي بذلك لأنه نشر الإسلام وأظهر شرائع الأحكام.
وأما "المزمل" فأصله المتزمل، فأدغمت التاء في الزاي وسمي به، لما روي أنه عليه الصلاة والسلام كان يفرق من جبريل عليه السلام ويتزمل بالثياب أو ما جاءه،
__________
فيقال له هل بلغت فيقول نعم فيقال لأمته هل بلغكم فيقولون: ما أتانا من نذير، فيقال: من يشهد لك فيقول: محمد وأمته فيشهدون أنه قد بلغ، ولأحمد والنسائي، يجيء النبي يوم القيامة ومعه الرجل والنبي ومعه الرجلان، وأكثر من ذلك فيقال لهم هل بلغتم الحديث "فيطالبهم الله ببينة التبليغ، وهو أعلم بهم" إذ لا يغيب عنه شيء "إقامة للحجة على المنكرين، فيؤتى بأمة محمد صلى الله عليه وسلم فيشهدون" للأنبياء أنهم قد بلغوا "فتقول الأمم بم عرفتم" فإنكم لا تدركوا عصرنا، "فيقولون علمنا ذلك بإخبار الله تعالى في كتابه الناطق على لسان نبيه الصادق، فيؤتى بمحمد صلى الله عليه وسلم فيسأل عن حال أمته" أهم عدول فتقبل شهادتهم، "فيشهد بعدالتهم" وفي فضيلة له صلى الله عليه وسلم لأن الأنبياء يسألون ولا يسأل، هو ولا أمته؛ إذ لم ينكروا تبليغه، بل شهدوا للأنبياء، "وهذه الشهادة وإن كانت لهم" للأمة المحمدية بالعدالة، "لكن، لما كان الرسول كالرقيب" الحافظ "المهيمن" المراقب، كذا في النسخ، والذي عند البيضاوي المؤتمن "على أمته عدي بعلي" لتضمينه معنى رقيبا، كما قال بعضهم، لكن ظاهر الكلام أن مجرد كون اللفظ بمعنى آخر يعدى بما يعدى به ما هو بمعناه وليس من التضمين، "وقدمت الصلة" أي قوله عليكم "للدلالة على اختصاصهم بكون الرسول شهيدا عليهم".
"قال البيضاوي" في سورة البقرة، "وأما الناشر" المظهر للشيء بعد طيه اسم فاعل من النشر، وهو البسط ومنه نشر الصحيفة، والحديث، والسحاب، "فسمي به؛ لأنه نشر الإسلام، وأظهر شرائع الأحكام" وقيل إنه بمعنى الحاشر، "وأما المزمل، فأصله المتزمل" لأنه من تزمل، "فأدغمت التاء" بعد قلبها "في الزاي وسمي به لما روى أنه عليه الصلاة والسلام كان يفرق" بفتح الراء، يخاف من جبريل عليه السلام، ويتزمل بالثياب أول ما جاءه" لأنه خشي الموت(4/273)
وقيل: أتاه وهو في قطيفة، وقال السدي، معناه: يا أيها النائم، وكان متلففا في ثياب نومه، وعن ابن عباس: يعني المتزمل بالقرآن وعن عكرمة بالنبوة.
وقيل من الزمل، بمعنى الحمل، ومنه الزاملة، أي: المتحمل بأعباء النبوة، وعلى هذا يكون التزمل مجازا.
قال السهيل: ليس "المزمل" باسم من أسمائه يعرف به، وإنما هو مشتق من حالته التي كان التبس بها حالة الخطاب، والعرب إذا قصدت الملاطفة بالمخاطب بترك المعاتبة نادوه باسم مشتق من حالته التي هو عليها، كقول النبي صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه -وقد نام ولصق جنبه بالتراب: "قم أبا
__________
من شدة الرعب، أو تعيير الكفار له، أو أن يقتلوه، أو عدم الصبر على أذاهم، أو تكذيبهم إياه، أو المرض، أو دوامه، أو العجز عن رؤية الملك، أو مفارقة الوطن، كما تقدم مبسوطا في بدء الوحي، وقيل سمي به؛ لأن جبريل "أتاه، وهو" صلى الله عليه وسلم متزمل "في قطيفة" كساء له خمل، "وقال السدي" بالضم وشد الدال إسماعيل بن عبد الرحمن، والمفسر المشهور "معناه" أي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} الآية، "يا أيها النائم وكان متلففا في ثياب نومه" لما جاءه.
"وعن ابن عباس، يعني المتزمل بالقرآن" على الاستعارة، "وعن عكرمة بالنبوة وقيل" أنه "من الزمل بفتح الزاي وسكون الميم، "بمعنى الحمل" مصدر زمل الشيء حمله "ومنه" قيل للبعير "لزاملة" لأنه يحمل متاع المسافر، والهاء للمبالغة، كما في المصباح، "أي المتحمل بأعباء" بالفتح أثقال "لنبوة. وعلى هذا" المذكور من تفسير ابن عباس وعكرمة وما بعده "يكون التزمل مجازا" لأن حقيقته التلفف بالثياب.
"قال السهيلي" الإمام الحافظ الشهير عبد الرحمن "ليس المزمل باسم من أسمائه" صلى الله عليه وسلم "يعرف به، وإنما هو مشتق من حالته التي كان التلبس" حاصلا "بها حالة الخطاب، والعرب إذا قصدت الملاطفة بالمخاطب" بالفتح "بترك المعاتبة، نادوه باسم مشتق من حالته التي هو عليها" حال النداء، "كقول النبي صلى الله عليه وسلم، لما جاء بيت فاطمة فلم يجد عليا، فقال: "أين ابن عمك"؟، قالت: كان بيني وبينه شيء فغاضبني، فخرج فلم يقل عندي، فقال صلى الله عليه وسلم لإنسان: "انظر أين هو"، فقال هو في المسجد راقد، فجاء صلى الله عليه وسلم، فقال "لعلي رضي الله عنه، وقد نام ولصق" بكسر الصاد "جنبه بالتراب".
وفي رواية فخلص ظهره إلى التراب قال الحافظ وكأنه نام أولا على مكان، لا تراب فيه، ثم انقلب فصار ظهره على التراب، أو سفي عليه التراب، فجعل صلى الله عليه وسلم يمسحه عنه ويقول "قم" يا "أبا(4/274)
تراب" إشعارا بأنه ملاطف له، فقوله: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} [المزمل: 1] فيه تأنيس وملاطفة. وأما ما روي عن عائشة رضي الله عنها، أنها قالت: كان متزملا مرطا طوله أربعة عشرة ذراعا، نصفه علي وأنا نائمة ونصفه عليه، فكذب صراح؛ لأن نزول يا أيها المزمل بمكة في أول مبعثه، ودخوله بعائشة كان بالمدينة.
وأما "المدثر" فأصله: المتدثر، فأدغمت التاء في الدال. روي أنه عليه الصلاة والسلام قال: "كنت بحراء فنوديت فنظرت عن يميني وشمالي. فلم أر شيئا، فنظرت فوقي فإذا هو على عرش بين السماء والأرض -يعني الملك الذي ناداه- فرعبت
__________
تراب" وفي رواية "اجلس يا أبا تراب" مرتين والحديث في الصحيحين وغيرهما عن سهل بن سعد.
قال سهل: وما كان لعلي اسم أحب إليه منه "إشعارا بأنه ملاطف له، لما كان بينه وبين الزهراء من المغاضبة "فقوله: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} فيه تأنيس وملاطفة، وأما ما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: كان متزملا مرطا" بكسر فسكون، كساء "طوله أربعة عشر ذراعا نصفه علي، وأنا نائمة ونصفه عليه فكذب صراح" خالص "لأن نزول يا أيها المزمل" كان "بمكة في أول مبعثه ودخوله بعائشة كان بالمدينة" وإنما الوارد عن عائشة لما نزلت يا أيها المزمل، قم الليل إلا قليلا، قاموا نة حتى ورمت أقدامهم فنزلت: {فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} . أخرجه الحاكم، وروى ابن جرير مثله عن ابن عباس وغيره، وهو مرسل؛ لأنهما لما يدركا ذلك، لكنه موصول حكما.
"وأما المدثر، فأصله المتدثر" لأنه من تداثر إذا تلفف في الدثار، وهو الثياب، "فأدغمت التاء في الدال" بعد القلب، "وروي" في الصحيحين من حديث جابر، ولا يقال في مثله.
روى "أنه عليه الصلاة والسلام، قال: "كنت بحراء" بكسر الحاء وخفة الراء، والمد، والتذكير والصرف على الصحيح جبل بينه وبين مكة نحو ثلاثة أميال، ولفظ الشيخين "جاورت بحراء شهرا، فلما قضيت جواري هبطت" "فنوديت فنظرت، عن يميني" فلم أر شيئا، "و" نظرت عن "شمالي فلم أر شيئا" ونظرت خلفي فلم أر شيئا "فنظرت فوقي فإذا هو" أي المنادي المستفاد من نوديت ولفظ الصحيحين "فإذا الملك الذي جاءني بحراء" "على عرش" أي سرير كرواية على كرسي "بين السماء والأرض" وأتى بقوله "يعني الملك الذي ناداه" لذكره الرواية بالمعنى "فرعبت" منه، بضم الراء، وكسر العين مبني للمفعول، واقتصر عليه النووي، وللأصيلي.(4/275)