وقال موسى بن عقبة: ولما فقد عليه الصلاة والسلام، قال رجل: منهم: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قتل، فارجعوا إلى قومكم ليؤمنوكم قبل أن يأتوكم فيقتلوكم، فإنهم داخلو البيوت. وقال رجال منهم: إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل أفلا تقاتلون على دينكم وعلى ما كان عليه نبيكم حتى تلقوا الله عز وجل شهداء. منهم أنس بن مالك بن النضر شهد له بها عند النبي صلى الله عليه وسلم سعد بن معاذ.
قال في "عيون الأثر": كذا وقع في هذا الخبر: أنس بن مالك، وإنما هو
__________
الصحابة، وفرقة ثبتت مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم تراجعت إليه الفرقة الثانية شيئا فشيئا لما عرفوا أنه حي، انتهى.
"وقال موسى بن عقبة: ولما فقد" بالبناء للمفعول، "عليه الصلاة والسلام"، أي: غاب عن أعينهم لشدة ما دهشهم، أو في ظنهم، أو بحسب الإشاعة فلا يرد أنه عليه السلام لم يفارق مكانه، ولم تزل قدمه شبرا واحدا. "قال رجل منهم"، قال في النور لا أعرف اسمه: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قتل".
وفي رواية الطبراني قال بعض من فر إلى الجبل: ليت لنا رسولا إلى عبد الله بن أبي ليستأمن لنا من أبي سفيان، يا قوم إن محمدًا قد قتل، "فارجعوا إلى قومكم ليؤمنوكم قبل أن يأتوكم" الكفار "فيقتلوكم فإنهم داخلوا البيوت" مجرور بالإضافة، ولذا حذفت النون، ويجوز عربية نصب البيوت، وقد قرئ شاذا، والمقيمي الصلاة بنصب الصلاة كما في النور، أي تخفيفا بحذف النون كما يحذف التنوين لالتقاء الساكنين، وهي قراءة الحسن وأبي عمر. وفي رواية كما في إعراب السمين. وفي رواية الطبراني فقال أنس بن النضر: يا قوم إن كان محمدا قتل فإن رب محمد لم يقتل، فقاتلوا على ما قاتل عليه، وأسقط من كلام ابن عقبة، وقال رجال منه: لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ههنا وهؤلاء منافقون.
"وقال رجال منهم" مؤمنون، قد تمكن الإيمان من قلوبهم، وهم الذين غشاهم النعاس أمنة: "إن كا رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل" شكوا في الأخبار لما وقر في قلوبهم، واطمأنت عليه نفوسهم أنه صلى الله عليه وسلم لا بد وأن يظهره الله على أعدائه، ويفتح له الفتح المبين، وهم أهل الصدق واليقين، "أفلا تقاتلون على دينكم وعلى ما كان عليه نبيكم حتى تلقوا الله عز وجل شهداء منهم أنس بن مالك بن النضر" بنون وضاد معجمة ساكنة، "شهد له بها" بهذه المقالة، "عند النبي صلى الله عليه وسلم" بعد قتله يومئذ "سعد بن معاذ" سيد الأوس.
"قال" الحافظ اليعمري "في عيون الأثر: كذا وقع في هذا الخبر أنس بن مالك، وإنما هو(2/416)
أنس بن النضر عم أنس بن مالك بن النضر. انتهى.
وثبت النبي صلى الله عليه وسلم...................................................................
__________
أنس بن النضر عم أنس بن مالك بن النضر، انتهى" وهو تعقيب حسن كما في النور، والجمع بإمكان أن كلا قال ذلك فاسد لصغر أنس عن قول مثل ذلك في المشاهد، فقد صح أنه خدم النبي لما قدم المدينة وهو ابن عشر سنين، فيكون يوم أحد ابن ثلاث عشرة سنة، فإن كان حضر الوقعة، فإنما كان في خدمة المصطفى، أو مع عمه على نحو ما مر في بدر.
وقد روى ابن إسحاق أن أنس بن النضر عم أنس بن مالك جاء إلى عمر وطلحة في رجال من المهاجرين والأنصار، وقد ألقوا ما بأيديهم فقال: ما يجلسكم؟، قالوا: قتل صلى الله عليه وسلم، قال: فما تصنعون بالحياة بعده قوموا فموتوا على ما مات عليه، ثم استقبل العدو فقاتل حتى قتل، وبه سمي أنس بن مالك. فحدثني حميد الطويل، عن أنس قال: لقد وجدنا بأنس بن النضر يومئذ سبعين ضربة، فما عرفه إلا أخته عرفته ببنانه.
وفي الصحيح عن أنس قال: غاب عمي أنس بن النضر عن قتال بدر، فقال: يا رسول الله غبت عن أول قتال المشركين، لئن الله أشهدني قتال المشركين ليرين الله ما أصنع، فلما كان يوم أحد، وانكشف المسلمون قال: اللهم إني اعتذر إليك مما صنع هؤلاء، يعني أصحابه، وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء، يعني المشركين، ثم تقدم فاستقبله سعد بن معاذ، فقال: يا سعد الجنة ورب النضر إني أجد ريحها من دون أحد. قال سعد: فما استطعت يا رسول الله ما صنع. قال أنس: فوجدنا به بضعا وثمانين ضربة بالسيف، أو طعنة برمح، أو رمية بسهم، ووجدناه قد قتل، ومثل به المشركون فما عرفه أحد إلا أخته ببنانه.
قال الحافظ: وأو للتقسيم لا للشك، قال: وسياق الحديث يشعر بأن أنس بن مالك إنما سمع هذا الحديث من سعد بن معاذ؛ لأنه لم يحضر قتل عمه، انتهى. وهذا مما يرد الجمع المار، "وثبت النبي صلى الله عليه وسلم" بإجماع.
قال ابن سعد: ما يزول يرمي عن قوسه حتى صارت شظايا، ويرمي بالحجر. وروى البيهقي عن المقداد: فوالذي بعثه بالحق ما زالت قدمه شبرا واحدا، وإنه لفي وجه العدو، وتفيء إليه طائفة من أصحابه مرة، وتفترق مرة، فربما رأيته قائما يرمي عن قوسه، ويرمي بالحجر حتى انحازوا عنه.
وروى أبو يعلى بسند حسن عن علي لما انجلى الناس يوم أحد، نظرت في القتلى فلم أر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: والله ما كان ليفر وما أراه في القتلى، ولكن أرى أن الله غضب علينا بما صنعنا، فرفع نبيه فما لي خير من أن أقاتل حتى أقتل، فكسرت جفن سيفي، ثم حملت على(2/417)
وانكشفوا عنه، وثبت معه من أصحابه أربعة عشر رجلا، سبعة من المهاجرين، فيهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه وسبعة من الأنصار.
وفي البخاري: لم يبق معه عليه الصلاة والسلام إلا اثنا عشر رجلا
__________
القوم فأفرجوا إلي، فإذا أنا برسول الله بينهم، أي: يقاتلهم صلى الله عليه وسلم.
وروى الحاكم في المستدرك بسند على شرط مسلم، عن سعد: لما جال الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الجولة يوم أحد، قلت: أذود عن نفسي فإما أن أستشهد، وإما أن ألحق حتى ألقى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبينما أنا كذلك إذا رجل مخمر وجهه، ما أدري من هو، فأقبل المشركون حتى قلت قد ركبوه، فملأ يده من الحصى، ثم رمى به في وجوههم فتنكبوا على أعقابهم القهقري حتى يأتوا الجبل، ففعل ذلك مرارا، ولا أدري من هو وبيني وبينه المقداد، فبينا أنا أريد أن أسأل المقداد عنه، إذ قال المقداد: يا سعد هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوك، فقلت: وأين هو، فأشار لي إليه، فقمت ولكأنه لم يصبني شيء من الأذى، وأجلسني أمامه، فجعلت أرمي وأقول: اللهم سهمك، فارم به عدوك، ورسول الله يقول: "اللهم استجب لسعد، اللهم سدد رميته وأجب دعوته"، حتى إذا فرغت من كنانتي، نثر صلى الله عليه وسلم ما في كنانته، فنبلني سهما نضا. قال: وهو الذي قد ريش وكان أشد من غيره.
"وانكشفوا عنه" قال محمد بن سعد، "وثبت معه من أصحابه أربعة عشر رجلا، سبعة من المهاجرين، فيهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه" وعمر، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد، وطلحة، والزبير، وأبو عبيدة، "وسبعة من الأنصار" أبو دجانة، والحباب بن المنذر، وعاصم بن ثابت، والحارث بن الصمة، وسهل بن حنيف، وسعد بن معاذ، وأسيد بن حضير، وقيل: سعد بن عبادة، ومحمد بن مسلمة بدل الأخيرين، ذكره الواقدي كما في الفتح، وذكر غيره في المهاجرين علي بن أي طالب، وكان من لم يذكره لأنه كان حامل اللواء بعد مصعب، فلا يحتاج إلى أن يقال ثبت، قال في السبل، ويقال ثبت بين يديه يومئذ ثلاثون رجلا كلهم يقول: وجهي دون وجهك، ونفسي دون نفسك، وعليك السلام غير مودع.
"وفي البخاري" في حديث البراء الذي قدم المصنف منه قطعتين عقب قوله في الثانية: فأقبلوا منهزمين، فذاك إذ يدعوهم الرسول في أخراهم فـ" لم يبق معه عليه الصلاة والسلام إلا اثنا عشر رجلا" ولفظه: فلم يبق مع النبي صلى الله عليه وسلم غير اثني عشر رجلا.
زاد ابن عائذ من مرسل عبد الله بن حنطب من الأنصار.
وفي مسلم عن أنس أفرد صلى الله عليه وسلم يوم أحد في سبعة من الأنصار، ورجلين من قريش، فقول(2/418)
فأصابوا منا سبعين، وكان عليه الصلاة والسلام وأصحابه أصابوا من المشركين يوم بدر أربعين ومائة، سبعين أسيرا وسبعين قتيلا.
__________
طلحة وسعد إنه لم يبق معه غيرهما رواه البخاري، أي من المهاجرين.
وعند الحاكم أن المقداد ممن ثبت، فيحتمل أنه حضر بعد تلك الجولة، وللنسائي والبيهقي بسند جيد عن جابر، تفرق الناس يوم أحد وبقي معه أحد عشر رجلا من الأنصار وطلحة، وهو كحديث أنس إلا أنه زاد ثلاثة، فلعلهم جاءوا بعد، ويجمع بينه وبين حديث غير طلحة وسعد، بأن سعدا جاءهم بعد ذلك كما مر عنه، وأن المذكورين من الأنصار استشهدوا كما في مسلم عن أنس، فقال صلى الله عليه وسلم: "من يردهم عنا وهو رفيقي في الجنة" فقام رجال من الأنصار فاستشهدوا كلهم، فلم يبق غير طلحة وسعد، ثم جاء بعدهم من جاء، وسمى ابن إسحاق بسنده ممن استشهد من الأنصار الذين بقوا مع النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ زياد بن السكن، قال: وبعضهم يقول: عمارة بن زياد بن السكن في خمسة من الأنصار، واختلاف الأحاديث باعتبار اختلاف الأحوال، وأنهم تفرقوا في القتال، فلما ولى من ولى، وصاح الشيطان، اشتغل كل واحد بهمه والذب عن نفسه، كما في حديث سعد، ثم عرفوا عن قرب بقائه صلى الله عليه وسلم فتراجعوا إليه أولا فأولا، ثم بعد ذلك كان يقدمهم إلى القتال، فيشتغلون به، ذكره الحافظ ملخصا، وذكر بعض شراح البخاري أن الانثي عشر قيل هم العشرة، وجابر، وعمار، وابن مسعود.
قال الحافظ في مقدمة الفتح: هذا غلط من قائله إنما ذلك حال الانفضاض يوم الجمعة، وقد ثبت في الصحيح أن عثمان لم يبق معه.
وقال البرهان: وهؤلاء ثلاثة عشر، وكأنه انتقل حفظه من الانفضاض في الجمعة إلى هنا. "فأصابوا منا" أي: من المسلمين، وفي رواية منهم "سبعين" قتيلا، "وكان عليه الصلاة والسلام" وأصحابه أصابوا" هكذا رواه الكشميهني ولغيره أصاب فينبغي كما قال شيخنا قراءة، وأصحابه بالنصب مفعولا معه، أي: أصاب مع أصحابه "من المشركين يوم بدر أربعين ومائة سبعين أسيرا وسبعين قتيلا" كما أشير إليه بقوله تعالى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا} [آل عمران: 165] .
قال الحافظ: وروى سعيد بن منصور من مرسل أبي الضحى: قتل يوم أحد سبعون، أربعة من المهاجرين: حمزة، ومصعب، وعبد الله بن جحش، وشماس بن عثمان وسائرهم من الأنصار، وبهذا جزم ابن إسحاق، وأخرج ابن حبان والحاكم عن أبي بين كعب قال: أصيب يوم أحد من الأنصار أربعة وستون من المهاجرين، ستة، وكان الخامس سعدا مولى حاطب بن أبي بلتعة، والسادس ثقيف بن عمرو الأسلمي حليف بني شمس.(2/419)
فقال أبو سفيان: أفي القوم محمد، ثلاث مرات، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يجيبوه، ثم قال: أفي القوم ابن أبي قحافة ثلاث مرات، ثم قال: أفي القوم ابن الخطاب ثلاث مرات،
__________
وذكر المحب الطبري عن الشافعي أنهم اثنان وسبعون، وعن مالك خمسة وسبعون من الأنصار خاصة أحد وسبعين، وسرد أبو الفتح اليعمري أسماءهم فبلغوا ستة وتسعين من المهاجرين، أحد عشر وسائرهم من الأنصار منهم من ذكره ابن إسحاق، والزيادة من عند موسى بن عقبة، أو ابن سعد، أو هشام بن الكلبي، ثم ذكر عن ابن عبد البر، وعن الدمياطي أربعة، أو خمسة: قال: فزادوا على المائة.
قال اليعمري: قد ورد في تفسير قوله تعالى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا} [آل عمران: 165] أنها نزلت تسلية للمؤمنين عمن أصيب منهم يوم أحد، فإن ثبت، فالزيادة ناشئة عن الخلاف في التفصيل، وليست زيادة في الجملة.
قال الحافظ ابن حجر: وهذا الذي يعول عليه، والحديث الذي أشار إليه أخرجه الترمذي وحسنه، والنسائي عن علي: أن جبريل هبط فقال: خيرهم في أسارى بدر القتل، أو الفداء على أن يقتل منهم قابل مثلهم. قالوا: الفداء ويقتل منا.
قال اليعمري: ومن الناس من يجعل السبعين من الأنصار خاصة، وبه جزم ابن سعد.
قال الحافظ: فكان الخطاب بقوله تعالى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ} [آل عمران: 165] ، للأنصار خاصة، ويؤيده قول أنس: أصيب منا يوم أحد سبعون وهو في الصحيح بمعناه، انتهى.
قال الحافظ برهان الدين الحلبي: ولم أر أحدا ذكر أسرى في أحد، وما وقع في بعض نسخ سيرة مغلطاي الصغرى، وتفسير الكواشي من أنه أسر سبعون، ويقال: خمسة وستون، فغلط وخطأ أو شاذ منكر لا التفات إليه.
"فقال أبو سفيان" لما انحاز الفريقان وأراد الانصراف إلى مكة: "أفي القوم محمد؟ ثلاث مرات، فناههم النبي صلى الله عليه وسلم أن يجيبوه" هذا لفظ البخاري في كتاب الجهاد، ولفظه في كتاب المغازي: وأشرف أبو سفيان، فقال: أفي القوم محمد؟، فقال: "لا تجيبوه"، وهي التي وقف عليها شيخنا، فاعترض على المصنف بها وهو معذور، "ثم قال: أفي القوم ابن أبي قحافة؟ " أبو بكر الصديق عبد الله بن عثمان، "ثلاث مرات" هكذا ثبت في الجهاد من البخاري، وفي المغازي قال: أي النبي صلى الله عليه وسلم: "ولا تجيبوه". "ثم قال: أفي القوم ابن الخطاب" عمر، "ثلاث مرات".
قال المصنف: والهمزة في الثلاثة للاستفهام الاستخباري ونهيه عليه السلام عن إجابة(2/420)
ثم رجع إلى أصحابه فقال: أما هؤلاء فقد قتلوا، فما ملك عمر نفسه فقال: كذبت يا عدو الله، إن الذين عددت لأحياء كلهم، وقد بقي لكما يسوءك، قال: يوم بيوم، والحرب سجال.
__________
أبي سفيان تصاونًا عن الخوض فيما لا فائدة فيه، وعن خصام مثله. وكان ابن قمئة قال لهم: قتلته "ثم رجع" أبو سفيان عن السؤال "إلى" أخبار "أصحابه،" فلا ينافي ما قيل إنه ناداهم وهو على فرسه في مكانه، "فقال: أما،" بشد الميم، "هؤلاء فقد قتلوا".
وفي المغازي فقال: إن هؤلاء قتلوا، فلو كانوا أحياء لأجابوا، "فما ملك عمر نفسه فقال: كذبت" والله "يا عدو الله إن الذين عددت لأحياء كلهم".
قال المصنف: إنما أجابه بعد النهي حماية للظن برسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قتل وأن بأصحابه الوهن فليس فيه عصيان له في الحقيقة، انتهى، يعني على ظاهر حديث البخاري هذا في الجهاد والمغازي، وإلا ففي فتح الباري في حديث ابن عباس عند أحمد والطبراني والحاكم أن عمر قال: يا رسول الله ألا أجيبه؟ قال: "بلى"، فكأنه نهى عن إجابته في الأولى، وأذن فيها في الثالثة، انتهى. ولا منافاة بين الحديثين لأن عمر لم يتمكن من إدامة ترك الجواب، فاستأذنه صلى الله عليه وسلم فأذن له، فأجابه سريعًا "وقد بقي لك ما يسوءك".
قال المصنف: يعني يوم الفتح، وهذا لفظ البخاري في الجهاد، ولفظه في المغازي: أبقى الله عليك، وفي لفظ: لك ما يحزنك. قال المصنف: بالتحتية المضمومة، وسكون الحاء المهملة بعدها نون ساكنة أو بالمعجمة وبعدها تحتية ساكنة، انتهى.
"قال" أبو سفيان: "يوم بيوم بدر" أي: هذا اليوم في مقابلة يوم بدر، وفي حديث ابن عباس، فقال عمر: لا سواء قتلاا في الجنة وقتلاكم في النار. قال أبو سفيان: إنكم لتزعمون ذلك، لقد خبنا إذًا وخسرنا، "والحرب سجال" قال الحافظ وغيره: بكسر المهملة وتخفيف الجيم، أي: دول مرة لهؤلاء، ومرة لهؤلاء.
وفي حديث ابن عباس: الأيام دول والحرب سجال، واستمر أبو سفيان على اعتقاد ذلك حتى قاله لهرقل وقد أقر، بل نطق صلى الله عليه وسلم بقوله: "الحرب سجال"؛ كما في حديث أوس بن أوس عند ابن ماجه، ويؤيده قوله تعالى: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران: 140] ، بعد قوله: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ} [آل عمران: 140] ، فإنها نزلت في قصة أحد بالاتفاق، والقرح: الجراح، انتهى.
قال ابن إسحاق: فلما أجاب عمر أبا سفيان قال له: هلم إلي يا عمر، فقال صلى الله عليه وسلم لعمر: "ائته فانظر ما شأنه"، فقال: أنشدك الله يا عمر أقتلنا محمدًا؟ قال عمر: اللهم لا، وإنه ليسمع كلامك(2/421)
وتوجه صلى الله عليه وسلم أصحابه، فاستقبله المشركون فرموا وجهه فأدموه وكسروا رباعيته، والذي جرح وجهه الشريف عبد الله بن قمئة، وعتبة بن أبي وقاص أخو سعد هو الذي كسر رباعيته،
__________
الآن، قال: أنت عندي أصدق من ابن قمئة وأبر.
قال الحافظ: في الحديث منزلة أبي بكر وعمر من النبي صلى الله عليه وسلم وخصوصيتهما به بحيث كان أعداؤهم لا يعرفون غيرهما، إذ لم يسأل أبو سفيان عن غيرهما، ولم يسأل عن هؤلاء الثلاثة إلا لعلمه وعلم قومه أن قيام الإسلام بهم. "وتوجه صلى الله عليه وسلم يلتمس أصحابه، فاستقبله المشركون، فرموا وجهه فأدموه وكسروا رباعيته" بفتح الراء وتخفيف الموحدة، والجمع رباعيات، وهي السن التي بين الثنية والناب، والمراد أنها كسرت فذهب منها فلقة ولم تقلع من أصلها، قاله في الفتح والنور، "والذي جرح وجهه الشريف عبد الله"، وسماه ابن القيم في الهدى عمرو "بن قمئة، لكن بالأول جاء حديث أبي أمامة الآتي، وبه جزم ابن هشام، "وعتبة بن أبي وقاص أخو سعد،" أحد العشرة، "هو الذي كسر رباعيته" لأنه رماه بأربعة أحجار، فكسر حجر منها رباعيته.
روى ابن إسحاق عن سعد بن أبي وقاص: ما حرصت على قتل رجل قط حرصي على قتل أخي عتبة بن أبي وقاص لما صنع برسول الله صلى الله عليه وسلم ولقد كفاني منه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اشتد غضب الله على من دمى وجه رسوله".
وروى عبد الرزاق في تفسيره من مرسل مقسم، وسعيد بن المسيب، أنه صلى الله عليه وسلم دعا على عتبة حين كسر رباعيته ودمى وجهه، فقال: "اللهم لا يحول عليه الحول حتى يموت كافرا" فما حال عليه الحول حتى مات كافرا إلى النار.
وروى الحاكم في المستدرك بإسناد فيه مجاهيل عن حاطب بن أبي بلتعة، أنه لما رأى ما فعل قال: يا رسول الله، من فعل بك هذا؟، قال: "عتبة" قلت: أين توجه؟ فأشار إلى حيث توجه، فمضيت حتى ظفرت به، فضربته بالسيف، فطرحت رأسه، فنزل، فأخذت رأسه وفرسه وسيفه، وجئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنظر إلى ذلك، ودعا لي، فقال: "رضي الله عنك" مرتين.
قال الحافظ: وهذا لا يصح لأنه لو قتل إذ ذاك كيف كان يوصي أخا سعدا، وقد يقال لعله ذكر له، قبل وقوع الحرب احتياطا، انتهى.
قال ابن إسحاق: وقال حسان لعتبة:
إذا الله جازى معشرا بفعالهم ... ونصرهم الرحمن رب المشارق
فأخزاك ربي يا عتيب بن مالك ... ولقاك قبل الموت إحدى الصواعق
بسطت يمينا للنبي تعمدا ... فأدميت فاه قطعت بالبوارق(2/422)
ومن ثم لم يولد من نسله ولد فيبلغ الحنث إلا وهو أبخر أو أهتم -أي مكسور الثنايا من أصلها- يعرف ذلك في عقبه.
وقال ابن هشام: في حديث أبي سعيد الخدري: إن عتبة بن أبي وقاص رمى رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ فكسر رباعيته اليمنى السفلى، وجرح شفته السفلى، وأن عبد الله بن شهاب
__________
فهلا ذكرت الله والمنزل الذي ... تصير إليه عند إحدى البوائق
قال ابن هشام: تركت منها بيتين أقذع فيهما وفي هذا كله أنه مات كافرا.
قال في الإصابة في القسم الرابع فيمن ذكر في الصحابة غلطا لم أر من ذكره في الصحابة إلا ابن منده، واستند لقول سعد في ابن أمة زمعة: عهد إلى أخي عتبة أنه ولده، وليس فيه ما يدل على إسلامه، وقد شدد أبو نعيم في الإنكار على ابن منده، واحتج بما مر عن عبد الرزاق، وفي الجملة ليس من الآثار ما يدل على إسلامه بل فيها ما يصرح بموته على الكفر كما مضى، فلا معنى لإيراده في الصحابة، انتهى.
"ومن ثم" كما قال في الروض: "لم يولد من نسله ولد فيبلغ الحنث" أي: أوانه، وهو الحلم كما عبر به السهيلي، "إلا وهو أبخر"، منتن الفم. وقال صاحب الخميس: أي: عطشان لا يروى. وفي القاموس: البخر العطش، فلا يروى من الماء، "أو اهتم، أي: مكسور الثنايا من أصلها يعرف ذلك في عقبه" هكذا لفظ الروض أبخر، أو أهتم بأو، كما رأيته فيه، وكما نقله في النور عنه، وهو يفيد أن الحاصل لهم أحد الأمرين لا هما معا، ووقع في نقل السبل عن الروض بحذف أو، فإن لم تكن سقطت أو من الكاتب فكان نسخ الروض اختلفت، فتجعل أو مانعة خلو، فلا ينافي الجمع في نسله بينهما، ولم يحصل مثل ذلك في نسل ابن شهاب، وابن قمئة؛ لأن أثر جراحتهما لم يدم بخلاف كسر الرباعية، فباق وإن لم يشنه صلى الله عليه وسلم لا سيما والزهري أسلم، فجب ما قبله هذا.
وروى ابن الجوزي والخطيب في تاريخه، عن محمد بن يوسف الحافظ الفريابي قال: بلغني أن الذي كسر رباعيته صلى الله عليه وسلم لم يولد له صبي، فتنبت له رباعية، وجمع شيخنا بينهما بحمل الثنايا في المصنف على الرباعية لمجاورتها لها، والكسر على عدم نباتها من أصلها.
"وقال ابن هشام" عبد الملك في السيرة: من زيادته على ابن إسحاق، "في حديث أبي سعيد الخدري: أن عتبة بن أبي وقاص رمى رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ، فكسر رباعيته اليمنى السفلى" هذا فائدة ذكره رواية ابن هشام؛ لأن فيها تعيين الرباعية المبهمة في الرواية السابقة، ولقوله: "جرح شفته السفلى" ولقوله: "وإن عبد الله بن شهاب" بن عبد الله بن الحارث بن زهرة(2/423)
الزهري شجه في جبهته، وإن ابن قمئة جرح وجنته فدخلت حلقتان من المغفر في وجنته، ووقع صلى الله عليه وسلم في حفرة من الحفر التي كان أبو عامر الفاسق يكيد بها المسلمين.
وفي رواية: وهشموا البيضة على وجهه -أي كسروا الخوذة- ورموه بالحجارة حتى سقط لشقه في حفرة من الحفر التي حفرها أبو عامر، فأخذ علي بيده، واحتضنه طلحة بن عبيد الله حتى استوى قائما،
__________
ابن كلاب القرشي "الزهري" جد الإمام الفقيه من قبل أبيه، شهد أحدًا مع الكفار، ويقال: هو الذي شج وجه النبي صلى الله عليه وسلم ثم أسلم بعد ذلك، ومات بمكة.
قاله أبو عمر تبعا للزبير بن بكار، وذكر البلاذري أنه مات في أيام عثمان، وأما جده من قبل أمه وهو أخو هذا، واسمه أيضا عبد الله، فكان من السابقين، ذكره الزهري والزبير والطبري فيمن هاجر إلى الحبشة، ومات بمكة قبل هجرة المدينة. زاد ابن سعد: وليس له حديث ذكره في الإصابة.
وفي الروض: أن الأول أصغر من الثاني، واختلف من المهاجر منهما للحبشة، وقيل لابن شهاب: أكان جدك ممن شهد بدرا؟ فقال: نعم، ولكن من ذلك الجانب، يعني مع الكفار، انتهى.
"شجه في جبهته" ذكر البرهان عن بعض أشياخه أن هذا غريب، ولذا مرضه في الإصابة حيث قال: يقال: هو الذي شج وجهه كما رأيت، "وإن ابن قمئة جرح وجنته" مثلث الواو، والأشهر الفتح، أي: ما ارتفع من لحم خده، فحصل في رواية ابن هشام هذه بيان مبهم قوله في الأول جرح وجهه، "فخلت حلقتان من المغفر" بكسر الميم وسكون الغين المعجمة وفتح الفاء، زرد ينسج من الدروع على قدر الرأس، قاله المصنف في المقصد الثالث "في وجنته، ووقع صلى الله عليه وسلم في حفرة من الحفر التي كان أبو عامر الفاسق" كما سماه صلى الله عليه وسلم، وكان يقال له الراهب، وهو عبد عمرو بن صيفي بن مالك بن النعمان الأوسي، مات كافرا سنة تسع، وقيل: سنة عشر، ذكرهما ابن عبد البر. وقال غيره: سنة سبع، وقد مر أنه أول من أنشب الحرب، "يكيد بها المسلمين" لفظ ابن هشام من الحفر التي عمل أبو عامر ليقع فيه المسلمون وهم لا يعلمون.
"وفي رواية: وهشموا البيضة على وجهه" لفظ مسلم عن عمر: وهشمت البيضة على رأسه وسال الدم على وجهه، "أي: كصروا الخوذة ورموه بالحجارة حتى سقط لشقه" أي: عليه، "في حفرة من الحفر التي حفرها أبو عامر، فأخذ علي بيده واحتضنه" ولفظ ابن هشام، ورفعه "طلحة بن عبيد الله" التيمي، أحد العشرة، "حتى استوى قائما".
وفي الصحيح عن قيس: رأيت يد طلحة شلاء، وقى بها النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد. وفي(2/424)
ونشبت حلقتان من المغفر في وجهه الشريف، فانتزعهما أبو عبيدة بن الجراح وعض عليهما حتى سقطت ثنيتاه من شدة غوصهما في وجهه الشريف.
__________
الإكليل: أن طلحة جرح يوم أحد تسعا وثلاثين، أو خمسا وثلاثين، وشل أصبعاه، أي: السبابة والتي تليها. وللطيالسي عن عائشة: كان أبو بكر إذا ذكر يوم أحد قال: كان ذلك اليوم كله لطلحة.
وروى النسائي والبيهقي بسند جيد عن جابر: أدرك المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "من للقوم"؟ فقال طلحة: أنا، فذكر قتل الذين كانوا معهما من الأنصار، قال: ثم قاتل طلحة قتال الأحد عشر حتى ضربت يده، فقطعت أصابعه، فقال: حس، فقال صلى الله عليه وسلم: "لو قلت بسم الله لرفعتك الملائكة والناس ينظرون إليك حتى تلج بك في جو السماء ثم رد الله المشركين" "ونشبت" بكسر الشين المعجمة، أي: علقت، والمراد دخلت، "حلقتان" تثنية حلقة بسكون اللام، "من المغفر في وجهه الشريف" أي: في وجنته بسبب جراح ابن قمئة وجنته، كما بينه في رواية ابن هشام التي قبل هذه الرواية، "فانتزعهما أبو عبيدة" عامر بن عبد الله "بن الجراح" أحد العشرة، أمين هذه الأمة، "وعض عليهما حتى سقطت ثنتياه" في مرتين، "من شدة غوصهما في وجهه الشريف" كما روى ابن إسحاق عن أبي بكر بسند صحيح: أن با عبيدة نزع إحدى الحلقتين من وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فسقطت ثنيته، ثم نزع الأخرى فسقطت ثنيته الأخرى، فكان ساقط الثنيتين.
وفي الاستيعاب قيل: إن عقبة بن وهب بن كلدة هو الذي نزع الحلقتين، وقيل: أبو عبيدة.
قال الواقدي: قال عبد الرحمن بن أبي الزياد: نرى أنهما جميعا عالجاهما وأخرجاهما من وجنتي النبي صلى الله عليه وسلم انتهى.
وفي الرياض النضرة قيل: إن المنتزع أبو بكر، انتهى. فيجوز أن الثلاثة عالجوهما، وقول النور قوله يعني اليعمري في العيون: أن طلحة بن عبيد الله نزع إحدى الحلقتين وهم، فلم يقع ذلك في العيون ولا في غيرها.
وروى أبو حاتم عن الصديق: رمي صلى الله عليه وسلم ووجنته، فأهويت إلى السهم لأنزعه، فقال أبو عبيدة: نشدتك بالله يا أبا بكر ألا تركتني، فتركته، فأخذ أبو عبيدة الهم بشفته، فجعل يحركه ويكره أن يؤذيه صلى الله عليه وسلم ثم استله بفيه.
قال في الرياض النضرة: يجوز أن السهمين أثبتا حلقتي الدرع، فانتزع الجميع فسقطتا لذلك، انتهى.(2/425)
وامتص مالك بن سنان -والد أبي سعيد الخدري رضي الله عنه- الدم من وجنته ثم ازدرده، فقال عليه الصلاة والسلام: "من مس دمي لم تصبه النار"، وسيأتي إن شاء الله تعالى حكم دمه عليه الصلاة والسلام.
وفي الطبراني من حديث أبي أمامة قال: رمى عبد الله بن قمئة رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد فشج وجهه وكسر رباعيته فقال: خذها وأنا ابن قمئة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يمسح الدم عن وجهه: "أقماك الله"، فسلط الله عليه تيس جبل فلم يزل ينطحه حتى قطعه قطعة قطعة.
__________
وعند الواقدي عن أبي سعيد: أن الحلقتين لما نزعتا جعل الدم يسرب كما يسرب الشن بسين مهملة وضم الراء، أي: يجري، "وامتص" أي: مص، وبه عبر ابن هشام، "مالك بن سنان، والد أبي سعيد" سعد، "الخدري رضي الله عنهما الدم من وجنته، ثم ازدرده" كله على ظاهر رواية ابن هشام هذه، لكن في رواية: أنه جعل يأخذ الدم بفيه، ويمجه ويزدرد منه، فقال له: "أتشرب الدم"؟ فقال: نعم يا رسول الله، "فقال عليه الصلاة والسلام: "من مس دمي لم تصبه" وفي رواية: "لم تمسه" "النار"، وسيأتي إن شاء الله تعالى حكم دمه عليه الصلاة والسلام وهو الطهارة على الراجح، ومجموع من قيل: إنه شرب دمه لا في خصوص هذا اليوم مالك بن سنان هذا، وعلي، وابن الزبير، وأبو طيبة الحجام، وسالم بن أبي الحجاج وسفينة مولى المصطفى.
"وفي الطبراني من حديث أبي أمامة" صدى بصاد ودال مفتوحة مهملتين، ابن عجلان الباهلي، "قال: رمى عبد الله بن قمئة رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد، فشج وجهه وكسر رباعيته" مر إن الذي كسرها عتبة بن أبي وقاص، وجعلهم صاحب المنتقى قولين، وجمع شيخنا بأن عتبة كسرها أولا، فلما شجه ابن قمئة، أثرت ضربته في رباعيته، فنسب كسرها له، "فقال: خذها وأنا ابن قمئة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يمسح الدم عن وجهه: "أقمأك الله".
قال البرهان: بهمزة مفتوحة في أوله، وأخرى في آخره، أي: صغرك وذلك، "فسلط الله عليه تسيل جبل" وهو ذكر الظباء، فإن لم يضف للجبل فذكر المعز، "فلم يزل" أي: استمر، "ينطحه حتى قطعه" فعل، وفاعل ومفعول، "قطعة قطعة" أي: قطعة بعد قطعة.
وروى ابن عائذ عن عبد الرحمن بن زيد بن جابر، قال: انصرف ابن قمئة عن ذلك اليوم إلى أهله، فخرج إلى غنمه، فوافاها على ذروة جبل، فأخذ فيها يعترضها، ويشد عليه تيسها، فنطحه نطحة أرداه من شاهق الجبل، فتقطع وهو منقطع، كما قال الحافظ: فإن أردت الترجيح، فرواية الطبراني موصولة، فتقدم على المنقطع، ولذا اقتصر عليها المصنف، وإن أردت الجمع(2/426)
وروى ابن إسحاق عن حميد الطويل عن أنس قال: كسرت رباعيته صلى الله عليه وسلم يوم أحد وشج وجهه، فجعل الدم يسيل على وجهه الشريف، وجعل يمسحه ويقول: "كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم، وهو يدعوهم إلى ربهم"، فأنزل الله: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} [آل عمران:
__________
فيمكن أنه لما نطحه تيس غنمه، وقع من هاشق الجبل إلى أسفل، فسلط الله عليه تيس الجبل، فنطحه حتى قطعه قطعا زيادة في نكاله وخزيه ووباله.
"وروى ابن إسحاق" محمد في السيرة، "عن حميد الطويل" الخزاعي البصري، ثقة تابعي صغير حافظ، توفي وهو قائم يصلي سنة أربعين ومائة، وقيل: سنة ثلاث، وقيل: اثنتين، وله خمس وسبعون سنة، واختلف في اسم أبيه على نحو عشرة أقوال، قيل: كان طويل اليدين، فلقب بذلك.
وقال الأصمعي: رأيته ولم يكن طويلا، لكن كان له جار يعرف بحميد القصير، فقيل له: الطويل، ليعرف من الآخر.
ولفظ ابن إسحاق: حدثني حميد، وكان الأولى للمصنف أن يأتي به؛ لأن ابن إسحاق وإن كان ثقة حافظا، لكنه يدلس فلا يقبل منه إلا ما صرح فيه بالتحديث، كما هو الواقع هنا، ثم حميد يدلس أيضا، ولذا علقه البخاري، وقرنه بثابت، فقال: حميد وثابت، "عن أنس قال: كسرت رباعيته صلى الله عليه وسلم يوم أحد، وشج وجهه، فجعل الدم يسيل على وجهه الشريف، وجعل يمسحه، ويقول: "كيف" استفهام تعجب، "يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم، وهو يدعوهم إلى ربهم" وذلك مقتض لمزيد إكرامه، وإنزالهم إياه منزلة الروح من الجسد لا إيذائه، "فأنزل الله: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران: 128] ، إنما أنت عبد مأمور بإنذارهم، وجهادهم وشيء اسمه ليس ولك خبر، ومن الأمر حال من شيء لأنها صفة مقدمة، {أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِم} إن أسلموا فنسر به، {أَوْ يُعَذِّبَهُم} إن أصروا فتشتفي منهم، وأو بمعنى إلا أن كما قطع به الجلال، وزاد البيضاوي: أو عطف على الأمر، أو شيء بإضمار أن، أي: أليس لك شيء من أمرهم، أو التوبة عليهم، أو تعذيبهم، {فَإِنَّهُمْ ظَالِمُون} [آل عمران: 128] ، بالكفر، وأما جعله عطفا على قوله: ليقطع طرفا من الذين كفروا، كما جزم به المصنف في شرح الصحيح، أو على قوله: أو يكبتهم وليس لك من الأمر اعتراض بين المعطوف والمعطوف عليه، والمعنى أن الله مالك أمرهم فإما أن يهلكهم، أو يكبتهم، أو يتوب عليهم، كما هو أحد الوجوه في البيضاوي، فقيه وقفة؛ لأن عامل يكبتهم هو قوله: ليقطع، وهو متعلق بقوله: نصركم، فكيف يكون سبب لنزول قوله: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ} الآية، المسوق لغير ما سيق له ما قبله، ثم قوله فأنزل الله: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ(2/427)
128] . ورواه أحمد والترمذي والنسائي من طرق حميد به.
وعند ابن عائذ من طريق الأوزاعي: بلغنا أنه لما جُرِحَ -صلى الله عليه وسلم- يوم أحد، أخذ شيئًا فجعل ينشف دمه ويقول: "لو وقع شيء على الأرض لنزل عليهم العذاب من السماء،
__________
شَيْءٌ} الآية. ليس قول المصنف، بل قول أنس، وحكمه الرفع, فإنه في ابن إسحاق، كما ذكر المصنف حرفًا بحرف لم يتصرَّف عليه إلّا في إبدال، حدَّثني حميد بقوله عن حميد، وقد رواه مسلم من حديث ثابت عن أنس بلفظ: فأنزل الله: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} الآية. "ورواه أحمد والترمذي والنسائي من طرق، عن حميد" عن أنس، "به" إشارة إلى ابن إسحاق, لم ينفرد به عن حميد، والحديث صحيح.
وروى البخاري أيضًا، وأحمد، والنسائي والترمذي في سبب نزول الآية، عن ابن عمر، أنه سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول إذا رفع رأسه من الركوع من الركعة الآخرة من الفجر: "اللهم العن فلانًا وفلانًا وفلانًا، بعدما يقول سمع الله لمن حمده وربنا ولك الحمد" , فأنز الله: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} إلى قوله {فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} [آل عمران: 128] ، وجمع الحافظ بأنه دعا على المذكورين في صلاته، بعدما وقع له يوم أحد، فنزلت الآية فيما وقع له وفيما نشأ عنه من الدعاء عليهم.
قال: لكن يشكل ذلك بما في مسلم عن أبي هريرة أنه -صلى الله عليه وسلم- كان يقول في الفجر: "اللهم العن لحيان ورعلًا، وذكوان وعصية" حتى أنزل الله: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران: 128] ووجه الإشكال أنَّ الآية نزلت في قصة أحد، وقصة رعل وذكوان بعدها، ثم ظهرت لي علة الخبر، وأنَّ فيه إدراجًا، فإن قوله: حتى أنزل الله منقطع من رواية الزهري عمَّن بلغه, بَيِّنَ ذلك مسلم، وهذا البلاغ لا يصح لما ذكرته، ويحتمل أن قصتهم كانت عقب ذلك، وتأخَّر نزول الآية عن سببها قليلًا، ثم نزلت في جميع ذلك، وقال في محل آخر فيه بعد: والصواب أنها نزلت بسبب قصة أحد، انتهى.
"وعند" الحافظ محمد "بن عائذ" -بتحتية وذال معجمة- الدمشقي الكاتب، صاحب المغازي وغيرها، وثَّقه ابن معين وغيره، مات سنة ثلاث وثلاثين ومائتين، "من طريق الأوزاعي،" عبد الرحمن بن عمرو، إمام أهل زمانه.
قال ابن سعد: ثقة مأمون صدوق، فاضل خيِّر، كثير الحديث والعلم والفقه، وُلِدَ سنة ثمان وثمانين، ومات في الحمام سنة سبع وخمسين ومائة.
قال: "بلغنا أنه لما جُرِحَ -صلى الله عليه وسلم- يوم أحد أخذ شيئًا، فجعل ينشف دمه" فيه ليمنعه من النزول على الأرض، "ويقول: "لو وقع منه شيء على الأرض لنزل عليهم العذاب من السماء" لعل(2/428)
ثم قال: "اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون".
وروى عبد الرزاق عن معمر عن الزهري قال: ضُرِبَ وجه النبي -صلى الله عليه وسلم- يومئذ بالسيف سبعين ضربة، ووقاه الله شرها كلها. قال في فتح الباري: وهذا مرسل قوي، ويحتمل أن يكون أراد بالسبعين حقيقتها, أو المبالغة في الكثرة. انتهى.
وقاتلت أم عمارة نسيبة
__________
حكمته أنَّ نزوله يحقق مرادهم من آذاه، ويدوم فيما أصابه من الأرض، وهي محلّ الامتهان, بخلاف إزالته بالمسح، فلم يبق له أثرظاهر، فكأنه لم ينزل، فلا امتهان، وهذا من كمال شفقته وحلمه وعظيم عفوه وكرمه، "ثم" لم يكتف بإزالة ما ينزل العذاب عليهم حتى "قال: " اللهم اغفر لقومي" , فأظهر سبب الشفقة بإضافتهم إليه، فإن الطبع البشري يقتضي الحنوَّ على القرابة بأي حال، وليبلغهم ذلك فتنشرح صدورهم للإيمان، ثم اعتذر عنهم، فقال: "فإنهم لا يعلمون" , فاعتذر عنهم بالجهل الحكمي، لعدم جريهم على مقتضى علمهم، وإن لم يكن بعد مشاهدة الآيات البينات عذرًا تضرعًا إلى الله أن يمهلهم حتى يكون منهم، أو من ذريتهم مؤمن، وقد حقق الله رجاءه, ولم يقل: يجهلون تحشينًا للعبارة، ليجذبهم بزمام لطفه إلى الإيمان، ويدخلهم بعظيم حلمه حرم الأمان، ثم استشكل هذا بنحو قوله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} ، وإن كان سببها خاصًّا فهي عامَّة في حق كل مشرك، وأجيب كما قال السهيلي في الروض: بأنَّ مراده الدعاء لهم بالتوبة من الشرك حتى يغفر لهم، بدليل رواية من روى: "اللهم اهد قومي"، وهي رواية عن ابن إسحاق، ذكرها بعض سيرته عنه بهذا اللفظ، وبأنه أراد مغفرة تصرف عنهم عقوبة الدنيا من نحو خسف ومسخ، انتهى.
وفي الينابيع: كان -صلى الله عليه وسلم- يأخذ قطرات الدم، ويرمي بها إلى السماء، ويقول: "لو وقع منها شيء على الأرض لم ينبت عليها نبات".
"وروى عبد الرزاق" بن همام الحافظ الصنعاني، "عن معمر" بن راشد الأزدي البصري، نزيل اليمني، الحافظ المتقن، الفقيه الورع، المتوفَّى في رمضان سنة اثنتين أو ثلاث وخمسين ومائة، "عن الزهري قال: ضُرِبَ وجه النبي -صلى الله عليه وسلم- يومئذ"، أي: يوم أحد، "بالسيف سبعين ضربة، ووقاه الله شرها كلها" فلم يحصل مرادهم بالضرب، ولله المنة.
"قال في فتح الباري: وهذا مرسل قوي" إسناده؛ لأنَّ رجاله من رواة الصحيح، "ويحتمل أن يكون أراد بالسبعين حقيقتها" على أصل مدلول اللفظ، "أو المبالغة في الكثرة" على عادة العرب في ذلك، "وقاتلت أم عمارة" بضم العين وتخفيف الميم، "نسيبة" بفتح النون، وكسر السين المهملة فمهملة مفتوحة، فهاء كما ضبطها في الإكمال، والتبصير، والإصابة، والنور وغيرهم،(2/429)
بنت كعب المازنية يوم أحد -فيما قاله ابن هشام, فخرجت أوَّل النهار حتى انتهت إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قالت: فقمت أباشر القتال وأذبّ عنه بالسيف وأرمي عن القوس, حتى خلصت الجراحة إلي، أصابني ابن قمئة -أقمأه الله تعالى- لما ولَّى الناس عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم, أقبل يقول: دلوني على محمد فلا نجوت إن نجا، قالت: فاعترضت له، فضربني هذه الضربة، ولكن ضربته ثلاث ضربات على ذلك، ولكنَّ عدو الله عليه درعان.
قالت أم سعد بنت سعد بن الربيع: فرأيت على عاتقها جرحًا أجوف له غور.
__________
وقول الشامي بالتصغير على المشهور، عن ابن معين والفربري ككريمة وهم, إنما هذا في نسيبة أم عطية، كما في الفتح الباري في الجنائز، فنقله في أمّ عمارة غلط، "بنت كعب المازنية" من بني مازن بن النجار الأنصارية النجارية.
قال أبو عمر: شهدت العقبة وأحدًا مع زوجها زيد بن عاصم، وولديها حبيب -بحاء مهملة، وكسر الموحدة، وعبد الله، وشهدت بيعة الرضوان، وخرجت يوم اليمامة اثنتي عشرة جراحة، وقطعت يدها، وقتل ولدها حبيب.
روت عن المصطفى، وعنها عكرمة وغيره، "يوم أحد فيما قاله" عبد الملك "بن هشام"، عن سعيد بن أبي يزيد الأنصاري، عن أم سعد بنت سعد بن الربيع، عنها قالت: "فخرجت أوَّل النهار حتى انتهيت إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قالت: فقمت أباشر القتال وأذبّ عنه" صلى الله عليه وسلم، "بالسيف وأرمي عن القوس حتى خلصت" أي: وصلت، "الجراحة" هذا, فاللام للحضور، "إليَّ" بالتشديد، من أجل أن "أصابني ابن قمئة -أقمأه الله" بهمزتين مفتوحتين أوّله وآخره، "لما ولَّى الناس عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أقبل يقول: دلوني على محمد، فلا نجوت إن نجا، قالت: فاعترضت" أي: تعرَّضت "له" لأمنعه عنه -صلى الله عليه وسلم, أنا، ومصعب بن عمير وأناس ممن ثبت معه -صلى الله عليه وسل، كما قالته عند ابن هشام، "فضربني هذه الضربة، ولكن ضربته على ذلك ضربات" وثبت لفظ ثلاث عند ابن هشام، وسقط من أكثر نسخ المصنف، "ولكن عدوَّ الله عليه درعان،" فلم تؤثر فيه ضرباتي.
"قالت" رواية هذا الحديث عنها "أم سعد" واسمها جميلة، كما قال ابن سعد، "بنت سعد بن الربيع" الصحابية بنت الصحابي، قُتِلَ أبوها يوم أحد, وكانت يتيمة في حجر الصديق، وقيل: إنها زوجة زيد بن ثابت، أخرج لها أبو داود، "فرأيت على عاتقها جرحًا أجوف له غور،" فبيَّنَت صفة الجراحة ومحلها، وأخرج الواقدي عن عمارة ابن غزية: إن أم عمارة قتلت يومئذ فارسًا من المشركين، وبسند آخر عن عمر، سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "ما التفت يوم أحد(2/430)
وتترِّس دون رسول الله -صلى الله عليه وسلم -فيما قاله ابن إسحاق- أبو دجانة بنفسه، يقع النبل في ظهره وهو ينحني عليه حتى كثر فيه النبل وهو لا يتحرك.
ورمى سعد بن أبي وقاص دون رسول الله -صلى الله عليه وسلم. قال سعد: فلقد رأيته يناولني النبل ويقول: "ارم فداك أبي وأمي،
__________
يمينًا، ولا شمالًا إلّا وأراها تقاتل دوني"، "وتترَّس دون رسول الله -صلى الله عليه وسلم" أي: جعل نفسه كالترس المانع من وصول سهام العدو إليه، "فيما قاله ابن إسحاق، أبو دجانة بنفسه, يقع النبل في ظهره، وهو ينحني عليه حتى كثر فيه النبل، وهو لا يتحرك، ورمى سعد بن أبي وقاص" مالك الزهري، أحد العشرة، "دون رسول الله -صلى الله عليه وسلم" بألف سهم، كما رواه الحاكم، وبعضها من سهام المصطفى حين فرغت سهام سعد.
"قال سعد: فلقد رأيته يناولني النبل، ويقول: "ارم فداك أبي وأمي" بكسر الفاء وتفتح، أي: لو كان لي إلى الفداء سبيل، لفديتك بأبوي اللذين هما عزيزان عندي، والمراد من التفدية لازمها، أي: ارم مرضيًا، قاله المصنف.
وقال النووي: والمراد بالتفدية الإجلال والتعظيم؛ لأن الإنسان لا يفدي إلا من يعظّمه، وكأنَّ مراده بذلت نفسي، أو مَنْ يعزّ علي في مرضاتك وطاعتك. انتهى.
وروى البخاري عن سعد: نثل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- كنانته يوم أحد, فقال: "ارم فداك أبي وأمي".
وروى الشيخان، والترمذي، والنسائي وابن ماجه عن علي: "ما سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- جمع أبويه لأحد إلّا لسعد بن مالك، فإني سمعته يقول يوم أحد: "يا سعد، ارم فداك أبي وأمي".
وفي رواية أخرى عن علي: ما جمع -صلى الله عليه وسلم- أبويه إلّا لسعد.
قال السهيلي: والرواية الأولى أصح، والله أعلم؛ لأنه أخبر فيها أنه لم يسمع. وقد قال الزبير ن العوام أنه جمع له أبويه، وقال له كما قال لسعد، رواه الزبير بن بكار. انتهى. أي: في هذا اليوم كما هو صريحه، وبه صرَّح في رواية أخرى.
وروى الشيخان عن الزبير قال: جمع لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أبويه يوم بني قريظة.
قال البرهان: ويحتمل أن عليًّا أراد تفدية خاصَّة؛ لأن الحاكم روى أن سعدًا رمى يوم أحد بألف سهم، وفي شرف المصطفى ما منها سهم إلّا والنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول له: "ارم فداك أبي وأمي"، فلم يفد أحدًا ألف مرة على هذا إلّا سعد بن أبي وقاص، انتهى.
قال القاضي عياض: ذهب جمهور العلماء إلى جواز ذلك, سواء كان المفدى به مسلمًا أو كافرًا.
قال النووي: وجاء من الأحاديث الصحيحة ما لا يحصى.(2/431)
حتى إنه ليناولني السهم ماله نصل فيقول: "ارم به".
وأصيبت يومئذ عين قتادة بن النعمان حتى وقعت على وجنته، فأتى بها إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم, فأخذها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بيده, وردَّها إلى موضعها وقال: "اللهم اكسه جمالًا"، فكانت أحسن عينيه وأحدُّهما نظرًا. ورواه الدارقطني بنحوه، ويأتي إن شاء الله تعالى لفظه
__________
وقال السهيلي عن شيخه ابن العربي: فقه هذا الحديث جوازه إن كان أبواه غير مؤمنين وإلّا فلا؛ لأنه كان كالعقوق.
قال البرهان: وقد فدى الصديق النبي -صلى الله عليه وسلم- بأبويه حين كانا مسلمين، وقد لا يمنع ابن العربي هذه المسألة؛ لأنه يجب على الخلق تفديته، بالآباء والأمهات والأنفس, انتهى.
وصار -صلى الله عليه وسلم- يناول سعد السهام كيفما اتفق، "حتى إنه ليناولني السهم ماله نصل فيقول: "ارم به" كما عند ابن إسحاق، "وأصيبت" بسهم، ويقال: برمح، "يومئذ" أي: يوم أحد، وقيل: يوم بدر، وقيل: يوم الخندق, والأول أصح, قاله في الاستيعاب.
"عين قتادة بن النعمان" بن زيد الأوسي المدني، شهد جميع المشاهد معه -صلى الله عليه وسلم، سمعه -عليه السلام يقرأ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَد} [الإخلاص: 1] يردِّدها، فقال: "وجبت"، وحديثه في الموطأ, توفي سنة ثلاث وعشرين عن خمس وستين سنة، وصلى عليه عمر, "حتى وقعت على وجنته", وقيل: صارت في يده، "فأتى بها إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم".
زاد في الصفوة فقال له: "إن شئت صبرت ولك الجنة، وإن شئت رددتها، ودعوت الله لك فلم تفقد منها شيئًا"، فقال: يا رسول الله، إن الجنة لجزاء جميل وطاء جليل، ولكني رجل مبتلى بحب النساء، وأخاف أن يقلن أعور فلا يردنني، ولكن تردها وتسأل الله لي الجنة، فقال: "أفعل يا قتادة".
وفي الروض: وإن لي امرأة أحبها، وأخشى إن رأتني تقذرني، "فأخذها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بيده وردَّها إلى موضعها، وقال: "اللهم اكسه جمالًَا".
وعند الطبراني وأبي نعيم، عن قتادة: كنت أتقي السهام بوجهي دون وجهه -صلى الله عليه وسلم, فكان آخرها سهمًا ندرت منه حدقتي، فأخذتها بيدي, وسعيت إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم, فلما رآها في كفِّي دمعت عيناه فقال: "اللهم قِ قتادة، كما وقى وجه نبيك, فاجعلها أحسن عينيه وأحدّهما نظرًا"، "فكانت أحسن عينيه وأحدّهما" أقواهما "نظرًا".
زاد في رواية: وكان لا ترمد إذا رمدت الأخرى، وفي رواية: إنها صارت لا تعرف، ولا يدري أيتهما التي سالت على خده، "ورواه الدارقطني بنحوه، ويأتي إن شاء الله تعالى لفظه"(2/432)
في مقصد المعجزات.
ورمي أبو رهم الغفاري كلثوم بن الحصين بسهم فوقع في نحره, فبصق عليه -صلى الله عليه وسلم- فبرئ.
وانقطع سيف عبد الله بن جحش، فأعطاه -صلى الله عليه وسلم- عرجونًا فعاد في
__________
وهو: أصيبت عيناي يوم أحد، فسقطتا على وجنتي، فأتيت بهما النبي -صلى الله عليه وسلم, فأعادهما مكانهما، وبصق فيهما، فعادتا تبرقان.
قال الدارقطني: تفرَّد به عن مالك عمارُ بن نصر، وهو ثقة, هكذا ساق لفظه "في مقصد المعجزات" هو الرابع، فلا يصح الجمع بأنَّ إحداهما وقعت على وجنته، والأخرى أصيبت، لكنها لم تصل إلى مثل ما وصلت إليه الأخرى؛ لأنه صرَّح في رواية العينين، كما ترى بأنهما معًا, فأسقطتا على وجنتيه. وقد قال النووي: وقال أبو نعيم: سالت عيناه، وغلطوه.
قال البرهان في النور، وروى الأصمعي عن أبي معشر قال: قدم على عمر بن عبد العزيز رجل من ولد قتادة بن النعمان، فقال: ممن الرجل؟ فقال:
أنا ابن الذي سالت على الخد عينه ... فردت بكف المصطفى أحسن الرد
فعادت كما كانت لأول أمرها ... فيا حسن ما عين ويا حسن ما خد
فقال عمر:
تلك المكارم لا قعبان من لبن ... شيبًا بماء فعادا بعد أبوالا
انتهى.
وفي رواية: فقال عمر: بمثل هذا فليتوسّل المتوسِّلون، ووصله وأحسن جائزته، وقوله: ويا حسن ما خد، هكذا رواية الأصمعي، وبها استدرك البرهان إنشاده اليعمري، ويا حسن ما رَدَّ وعلى صحتها فلا إيطاء فيه؛ لأنَّ الأوّل معرف، والثاني منكر، هذا ووقع في مسند أبي يعلى الموصلي أنَّ أبا ذر أصيبت عينه يوم أحد، وفيه عبد العزيز بن عمران، متروك، وأبو ذر لم يحضر بدرًا، ولا أحدًا ولا الخندق، قاله في الاستيعاب.
"ورُمِيَ" بالبناء للمفعول, ونائبه "أبو رهم الغفاري، كلثوم بن الحصين" بن خالد، أحد من بايع تحت الشجرة، واستخلفه -عليه السلام- على المدينة في عمرة القضاء، وعام الفتح.
وروى الزهري عن ابن أخيه عنه: "بسهم، فوقع في نحره", قال في النور: فسمي المنحور، "فبصق عليه -صلى الله عليه وسلم- فبرئ", في هذا كسابقه معجزة باهرة، "وانقطع" كما ذكر الزبير بن بكار، "سيف عبد الله بن جحش، فأعطاه -صلى الله عليه وسلم- عرجونًا" لفظ الزبير: عرجون نخلة، "فعاد في(2/433)
يده سيف، فقاتل به, وكان ذلك السيف يسمَّى العرجون، ولم يزل يتوارث حتى بيع من بغا التركي من أمراء المعتصم بالله في بغداد بمائتي دينار.
وهذا نحو حديث عكاشة السابق في غزوة بدر, إلّا أن سيف عكاشة كان يسمَّى العون، وهذا يسمَّى العرجون.
واشتغل المشركون بقتلى المسلمين يمثلون بهم، يقطعون الآذان والأنوف والفروج ويبقرون البطون, وهم يظنون أنهم أصابوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم, وأشراف أصحابه.
__________
يده سيفًا، فقاتل به" حتى قُتِلَ -رضي الله عنه، قتله أبو الحكم بن الأخنس بن شريق الثقفي، ثم قتله علي بعده، ودُفِنَ هو وخاله حمزة في قبرٍ واحد كما يأتي. "وكان ذلك السيف يسمَّى العرجون" باسم أصله قبل الآية الباهرة، "ولم يزل يتوارث" هذا لفظ السهيلي عن الزبير. ولفظ أبي عمر عنه: يتناول، واليعمري عنه: يتناقل، والمعنى قريب، وإنما ذكرته لأنَّ البرهان استدرك على اليعمري بأبي عمر، "حتى بيع من بغا التركي من أمراء المعتصم بالله" الخليفة العباسي، إبراهيم بن هارون الرشيد، "في بغداد بمائتي دينار"، وهذا" كما قال السهيلي، "نحو حديث عكاشة -بضم العين وشد الكاف وتخفف- ابن مصحن "السابق في غزوة بدر، إلّا أن سيف عكاشة كان يسمَّى العون -بفتح العين، وسكون الواو بعدها نون, وهذا يسمَّى العرجون" -بضم العين وسكون الراء، وجيم، فواو فنون؛ لأنه عرجون نخلة، فافترقا، "واشتغل المشركون" ذكورًا وإناثًا، فهو تغليب.
وذكر النساء بعد من عطف الخاص على العام، لمبالغتهنَّ وإظهارهنَّ الفرح "بقتلى المسلمين يمثلون بهم" -بفتح الياء، وضم المثلثة مخففة، وبضم الياء وفتح الميم، وكسر المثلثة مشددة- أي: بجميعهم.
قال في العيون: إلّا حنظلة بن أبي عامر، فإن أباه كان معهم فلم يمثلوا به، ذكره ابن عقبة. انتهى، لكنه مختلف، فبالغوا في بعضهم دون بعض. "يقطعون الآذان" بدل من يمثلون، "والأنوف" جمع أنف، ويجمع أيضًا على آناف وآنف كما في القاموس، حتى اتخذت هند منهما خلاخل، "وقلائد, "والفروج ويبقرون" بفتح الياء، وضم القاف: يشقون "البطون, وهم يظنُّون أنهم أصابوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم, وأصابوا "أشراف أصحابه" اعتمادًا على قول ابن قمئة, وما وقع بهامش: إنَّ التمثيل إنما وقع من النساء فقط لا يصح، فعند الواقدي، وتبعه الحافظ أبو الربيع بن سالم في مغازيه: أنَّ وحشيًّا بعدما رمى حمزة تركه حتى مات، ثم أتاه وأخذ حربته، وأخرج كبده، وذهب بها إلى هند, وقال لها: هذه كبد حمزة قاتل أبيك، فأخذتها ومضغتها، فلم تقدر(2/434)
وكان أوَّل مَنْ عرف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كعب بن مالك، قال: عرفت عينيه تزهران من تحت المغفر، فناديت بأعلى صوتي: يا معشر المسلمين، هذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم, فلمَّا عرفوه نهضوا ونهض معهم نحو الشِّعْب، معه أبو بكر وعمر وعلي ورهط من المسلمين، فلمَّا أسند
__________
أن تسيغها، فلفظتها وأعطته ثوبها وحليها, ووعدته عشرة دنانير بمكة، انتهى.
وعند ابن إسحاق: إن سيد الأحابيش الحليس مَرَّ بأبي سفيان وهو يضرب بزجّ الرمح في شدق حمزة ويقول: ذق عقق، فقال الحليس: يا بني كنانة, هذا سيد قريش يصنع بابن عمه ما ترون لحمًا، فقال: ويحك اكتمها عني، فإنها كانت زلة.
وفي العيون: كان خارجة بن زيد بن أبي زهير أخذته الرماح يوم أحد، فجُرِحَ بضعة عشر جرحًا، فمَرَّ به صفوان بن أمية فعرفه، فأجهز عليه، ومثَّلَ به, وقال: هذا ممن أغرى بأبي يوم بدر.
"وكان أوَّل" بالفتح خبر مقدّم، والضم اسم، وهو أَوْلَى؛ لأن المبتدأ والخبر إذا عُرِفَا قُدِّمَ المبتدأ، ولأنَّ الذي يقصد بيانه وتعيينه هو الخبر، قرره شيخنا "مَنْ عرف رسول الله -صلى الله عليه وسلم" بعد التحدث بقتله وخفائه عن أعينهم، "كعب بن مالك" بن عمرو، الخزرجي السلمي العقبي، أحد الثلاثة الذي تيبَ عليهم في تخلفهم عن تبوك.
روى له الستة، وأحمد في المسند, "قال: عرفت عينيه تزهران،" أي: تضيئان، ومن رواه تزران، فمعناه تتوقدان، قاله أبو ذر في الإملاء. وفي الصحاح: زرت عينه تزر -بالكسر- زريرًا، وعيناه تزران إذا توقدتا، "من تحت المغفر، فناديت بأعلى صوتي: يا معشر المسلمين" أبشروا، كما في رواية ابن إسحاق، "هذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم", زاد في رواية ابن إسحاق: فأشار لي -صلى الله عليه وسلم- أن أنصت.
وروى الطبراني برجال ثقات عن كعب: كان يوم أحد، وصرنا إلى الشِّعب، كنت أول من عرف رسول الله -صلى الله عليه وسلم, فقلت: هذا رسول الله، فأشار إلي بيده أن اسكت، ثم ألبسني لامته ولبس لامتي، فلقد ضربت حتَّى جرحت عشرين جراحة، أو قال: بضعًا وعشرين، كل من يضربني يحسبني رسول الله -صلى الله عليه وسلم, "فلمَّا" سمعوا ذلك، وأقبلوا عليه، و"عرفوه نهضوا" أي: أسرعوا إليه، حتى أتوه، "ونهض معهم نحو الشِّعْب"؛ لينظر حال الناس, "معه أبو بكر، وعمر وعلي ورهط من المسلمين".
قال ابن عقبة: بايعوه على الموت، انتهى. منهم طلحة، والزبير، والحارث بن الصمة، كما في ابن إسحاق وغيره.
قال شيخنا: وظاهره أنهم لم يكونوا ممن نهض إليه، ولا مانع منه لجواز أن كعبًا حين نادى سمعه طائفة لم يكونوا عنده فأقبلوا, وكان عند أبو بكر ومن معه فساروا معه، "فلمَّا أسند،"(2/435)
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الشِّعْب أدركه أُبَيّ بن خلف وهو يقول: أين محمد، لا نجوت إن نجا، فقالوا: يا رسول الله، يعطف عليه رجل منَّا؟ فقال -صلى الله عليه وسلم: "دعوه"، فلمَّا دنا تناول -عليه الصلاة والسلام- الحربة من الحارث بن الصمة، فلمَّا أخذها منه -عليه الصلاة والسلام- انتفض بها انتفاضة تطايرنا عنه تطاير الشعراء عن ظهر البعير إذا انتفض، ثم استقبله -عليه الصلاة والسلام، فطعنه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- طعنة
__________
قال في النور: أي صعد "رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الشِّعب"، وكأنَّ معناه: إنهم لما دخلوا به في الشعب صعدوا به في الصخرة، فاستندوا إلى جانب من الجبل، بدليل رواية ابن إسحاق: نهض -صلى الله عليه وسلم- إلى صخرة من الجبل ليعلوها، وكان قد بدن وظاهر بين درعين، فلمَّا ذهب لينهض لم يستطع، فجلس تحته طلحة بن عبيد الله، فنهض به، حتى استوى عليها، فقال كما حدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه، عن جده، عن الزبير بن العوام، سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم يقول يومئذ: "أوجب طلحة حين صنع برسول الله ما صنع".
قال ابن هشام: وبلغني عن عكرمة، عن ابن عباس، أنه -صلى الله عليه وسلم- لم يبلغ الدرجة المبنية في الشِّعب.
قال البرهان: بدن -بفتح الدال المهملة المشددة أي: أسنّ، أو ثقل من السنّ، وأوجب طلحة.
قال اليعمري: يعني أحدث شيئًا يستوجب به الجنة.
"أدركه أُبَيّ بن خلف وهو يقول: أين محمد لا نجوت إن نجا، فقالوا: يا رسول الله! "يعطف" فهو استفهام بتقدير الهمزة، وكأنها سقطت من قلم المصنف؛ إذ هي ثابتة في ابن إسحاق، "عليه رجل منا، فقال -صلى الله عليه سلم: "دعوه" , وعند ابن عقبة: عن سعيد بن المسيب، فاعترضه رجال من المؤمنين، فأمرهم -صلى الله عليه وسلم, فخلوا طريقه، واستقبله مصعب بن عمير يقي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بنفسه، فقتل مصعب، "فلمَّا دنا تناول -عليه الصلاة والسلام- الحربة من الحارث بن الصمة", ويقال من الزبير، ويقال من طلحة، ويقال من سهل بن حنيف، "فلمَّا أخذها -عليه الصلاة والسلام- منه, انتفض بها انتفاضة تطايرنا،" وفي نسخة: تطايروا، أي: بعدنا، "عنه تطاير الشعراء" بشين معجمة، فعين مهملة ساكنة فراء، فألف تأنيث.
قال ابن هشام: ذباب صغير له لذع، "عن ظهر البعير إذا انتفض" البعير.
قال السهيلي: ورواه العتيبي: تطاير الشعر، أي: بضم الشين وسكون العين، وقال: هي جمع شعراء.
"ثم استقبله -عليه الصلاة والسلام، فطعنه رسول الله -صلى الله عليه وسلم طعنة" في عنقه، وفي لفظ: في(2/436)
وقع بها عن فرسه, ولم يخرج له دم, فكسر ضلعًا من أضلاعه.
فلمَّا رجع إلى قريش قال: قتلني والله محمد، أليس قد كان قال لي بمكة:
أنا أقتلك، فوالله لو بصق علي لقتلني، فمات عدو الله بسرف
__________
ترقوته من فرجة، في سابغة البيضة والدرع.
وفي لفظ: فخدشه في عنقه خدشًا غير كبير، والترقوة في أصل العنق فلا خلف، "وقع بها عن فرسه" مرارًا، وجعل يخور كما يخور الثور، "ولم يخرج له دم،" بل احتبس، "فكسر ضلعًا" بكسر الضاد وفتح اللام، وتسكن "من أضلاعه", ففيه آية باهرة، سواء كان كسره من الطعنة، أو من سقوطه عن فرسه؛ لأن سقوطه من الطعنة، "فلمَّا رجع إلى قريش" يركض فرسه حتى بلغهم وهو يخور كالثور، "قال: قتلني والله محمد", فقالوا: ليس عليك بأس ما أجزعك، إنما هو خدش, لو كان بعين أحدنا ما ضره، فقال: واللات لو كان هذا الذي بي بأهل ذي المجاز، وفي رواية: بربيعة ومضر لماتوا أجمعين، وفي رواية: بجميع الناس لقتلهم، "أليس قد كان قال لي بمكة: أنا أقتلك".
وروى ابن إسحاق عن صالح بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف: إن أبيًّا كان يلقى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بمكة فيقول: يا محمد, إن عندي فرسًا أعلفه كل يوم فرقًا من ذرة أقتلك عليه، فيقول -صلى الله عليه وسلم: "بل أنا أقتلك عليه إن شاء الله تعالى"، فلمَّا رجع إلى قريش، وقد خدشه في عنقه خدشًا غير كبير، فاحتقن الدم, قال: قتلني والله محمد، قالوا: ذهب والله فؤادك، والله ما بك بأس، قال: إنه قد كان قال لي بمكة: أنا أقتلك, "فوالله لو بصق عليّ لقتلني".
وفي رواية: قال له أبو سفيان: ويلك ما بك إلّا خدشة، قال: ويلك يا ابن حرب, ما تعلم من ضربها، أما ضربها محمد، وإنه قال لي: سأقتلك، فعلمت أنه قاتلي، ولا أنجو منه ولو بزق عليَّ بعد هذه المقالة لقتلني، وأنا أجد من هذه الطعنة ألمًا لو قُسِّمَ على جميع أهل الحجاز لهلكوا، وكان يصرخ ويخور حتى مات، وإنما اقتصر أُبَيّ على قوله: قال لي بمكة, مع أنه -صلى الله عليه وسلم- قال ذلك بالمدينة أيضًا بعد بدر, لما بلغه قول أُبَيّ: إنه يقتله على فرسه كما في رواية؛ لأنه لم يبلغ أبيًّا، أو بلغه، واقتصر على ما شافهه به هذا.
وفي النور ما نصه: ذكر الذهبي ما لفظه، وأخبر، أي: النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه يقتل أُبَيّ بن خلف الجمحي، فخدشه يوم بدر، أو أحد خدشًا فمات منه، وهو غريب، والمعروف أنه يوم أحد، انتهى. فلم يذكر أن الذهبي روى حديثًا يدل على ذلك كما زعم، "فمات عدو الله بسرف،" بفتح السين المهملة، وكسر الراء وبالفاء، على ستة أميال من مكة، وقيل: سبعة، وتسعة واثني(2/437)
وهم قافلون إلى مكة. رواه أبو نعيم والبيهقي ولم يذكر: فكسر ضلعًا من أضلاعه.
قال الواقدي: وكان ابن عمر يقول: مات أُبَيّ بن خلف ببطن رابغ، فإني لأسير ببطن رابغ بعد هوي من الليل إذا نار تأجج فهبتها، وإذا رجل يخرج منها في سلسلة يجتذبها يصيح العطش، وإذا رجل يقول: لا تسقه، فإن هذا قتيل رسول الله -صلى الله عليه وسلم، هذا أُبَيّ بن خلف، ورواه البيهقي.
__________
عشر، ووجه هلاكه بها أنه مسرف, قاله البرهان، "وهم قافلون" أي: راجعون "إلى مكة، رواه أبو نعيم و" كذا "البيهقي، و" لكنه "لم يذكر: فكسر ضلعًا من أضلاعه", وهي ثابتة عند ابن عقبة وغيره.
وقد روى الحاكم، عن سعيد بن المسيب عن أبيه قال: أقبل أُبَيّ بن خلف يوم أحد إلى النبي -صلى الله عليه وسلم, فاعترضه رجال من المؤمنين، فأمرهم -صلى الله عليه وسلم, فخلوا سبيله, ورأى -صلى الله عليه وسلم- ترقوة أُبَيّ من فرجة بين سابغة الدرع والبيضة، فطعنه بحربته، فسقط عن فرسه، ولم يخرج من طعنته دم، فكسر ضلعًا من أضلاعه، فأتاه أصحابه وهو يخور خور الثور، فقالوا له: ما أعجزك إنما هي خدش، فذكر لهم قوله -صلى الله عليه وسلم: "بل أنا أقتل أبيًّا"، ثم قال: "والذي نفسي بيده لو كان هذا الذي بي بأهل ذي المجاز لماتوا أجمعين، فمات أُبَيّ قبل أن يقدم مكة، فأنزل الله: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال: 17] .
قال في اللباب: صحيح الإسناد لكنه غريب، والمشهور أنها نزلت في رميه يوم بدر بالقبضة من الحصباء. انتهى.
"قال الواقدي" محمد بن مر بن واقد، أبو عبد الله المدني: "وكان ابن عمر" عبد الله "يقول: مات أُبَيّ بن خلف ببطن رابغ" بكسر الموحدة وغين معجمة، بطن واد عند الجحفة، "فإني لأسير ببطن رابغ بعد هويّ" بفتح الهاء، وكسر الواو وشد التحتية، الحين الطويل من الزمان، وقيل: هو مختص باليل، كما في الشامية، فقوله: "من الليل" صفة مقيدة على الأول، ولازمة على الثاني، "إذا نار تأجّج" بحذف إحدى التاءين، "تتوقد، "فهبتها, وإذا رجل يخرج منها في سلسلة يجتذبها" بذال معجمة يسحبها: "يصيح" بفتح الياء من صاح، "العطش" بالرفع والنصب، "وإذا رجل يقول: لا تسقه، فإن هذا قتيل رسول الله -صلى الله عليه وسلم, هذا أُبَيّ بن خلف، ورواه البيهقي".
وقد روى البخاري وغيره عن النبي -صلى الله عليه وسلم- اشتدَّ غضب الله على رجل قتله رسول الله في سبيل الله.(2/438)
ولما انتهى -صلى الله عليه وسلم- إلى فم الشِّعب ملأ علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- درقته من المهراس -وهو صخرة منقورة تسع كثيرًا من الماء، وقيل هو اسم ماء بأحد-
__________
وروى البرقاني عن ابن مسعود قال: قال -صلى الله عليه وسلم: "إن أشدَّ الناس عذابًا من قتله نبي أو مصور".
قال المحب الطبري: وجه ذلك، والله أعلم، أن المصور ضاهى فعل الله -عز وجل، ومن قتله نبي محمول على أنه قتله دفعًا عن نفسه، أو بارز لعناده، فإن الأنبياء مأمورون باللطف والشفقة على عباد الله، والرأفة, فما يحمله على قتله إلّا أمر عظيم، انتهى.
قال ابن إسحاق: وقال حسان بن ثابت في ذلك هذه الأبيات:
لقد ورث الضلالة عن أبيه ... أُبَيّ حين بارزه الرسول
أتيت إليه تحمل رم عظم ... وتوعده وأنت به جهول
وقد قتلت بنو النجار منكم ... أمية إذ يغوث يا عقيل
وتب ابنا ربيعة إذ أطاعا ... أبا جهل وأمهما الهيول
وأفلت حارث لما اشتغلنا ... بأسر القوم أسرته قليل
وقال حسان أيضًا:
ألا من مبلغ عني أُبَيًّا ... فقد ألقيت في سحق السعير
تمنى بالضلالة من بعيد ... وتقسم إن قدرت مع النذور
تمنيك الأماني من بعيد ... وقول الكفر يرجع في غرور
فقد لاقتك طعنة ذي حفاظ ... كريم البيت ليس بذي فجور
له فضل على الأحياء طرًّا ... إذا نابت ملمات الأمور
"ولما انتهى -صلى الله عليه وسلم- إلى فم الشِّعب، ملأ علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- درقته من المهراس" بكسر الميم، وسكون الهاء، وبالراء وسين مهملة آخره، "وهي صخرة منقورة تسع كثيرًا من الماء" تجعل إلى جانب البئر، ويصبّ فيها الماء لينتفع به الناس، "وقيل: هو اسم ماء بأحد".
قال الشاعر: وقتيلًا بجانب المهراس، قاله المبرد، وحكاه عنه أبو ذر الهرويّ، وتبعه ابن الأثير، لكن غلط السهيلي المبرد، فقال: المهراس حجر منقور يمسك الماء فيتوضأ منه, شبه بالمهراس الذي هو الهاون، ووهم المبرد، فجعل المهراس اسمًا علمًا للمهراس الذي بأحد خاصة، وإنما اسم لكل حجر نقر، فأمسك الماء.
ورى ابن عبدوس عن مالك أنه سُئِلَ عن رجل مَرَّ بمهارس في أرض فلاة، كيف يغتسل(2/439)
فجاء به إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم, وغسل عن وجهه الدم، وصبّ على رأسه وهو يقول: "اشتدَّ غضب الله على من دمى وجه نبيه".
وصلى النبي -صلى لله عليه وسلم- الظهر يومئذ قاعدًا من الجراح التي أصابته، وصلَّى المسلمون خلفه قعودًا.
قال ابن إسحاق: ووقعت هند بنت عتبة والنسوة اللاتي معها يمثِّلن بالقتلى
__________
منه، فقال مالك: هلَّا قلت بغدير، ومن يجعل له مهراسًا في أرض فلاة، وبهذا يتبين لك أن المهراس ليس مخصوصًا بالذي كان بأُحد، ولذا وقع في غريب الحديث أنه -صلى الله عليه وسلم- مَرَّ بقوم يتحارون مهراسًا أن يرفعوه. انتهى.
"فجاء به،" أي: بالماء الذي ملأ به درقته، وفي الشامية: فجاء بها، أي: بالدرقة، لكن الذي في ابن إسحاق، وتبعه اليعمري به، "إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم".
قال ابن إسحاق: ليشرب منه، فوجد له ريحًا، فعافه فلم يشرب منه، "وغسل عن وجهه الدم، وصب على رأسه", وهذا وقع قبل انصراف الكفَّار من علي وحده، ثم لما انصرفوا، كما في رواية الطبراني: أتت فاطمة في النسوة، فجعلت تغسل وعلي يسكب كما يأتي، فلا يورد على هذا كما زعم، "وهو" صلى الله عليه وسلم "يقول" كما ذكره ابن إسحاق بلا إسناد: "اشتد غضب الله على من دمى".
قال البرهان: بفتح الميم المشددة، وهذا ظاهر، انتهى. أي: جرح, "وجه نبيه" , وأسنده البخاري وغيره عن ابن عباس بلفظ: "غضب الله على قوم دموا وجه نبي الله".
قال المصنف: بفتح الدال المهملة، والميم المشددة، أي: جرحوا. انتهى.
"وصلى النبي -صلى الله عليه وسلم" فيما ذكره ابن هشام مرسلًا، "الظهر يومئذ قاعدًا من الجراح التي أصابته، وصلَّى المسلمون خلفه قعودًا" من الجراح التي أصابتهم، أو لأنَّ موافقة الإمام كانت واجبة، ثم نسخت.
"قال ابن إسحاق: ووقعت هند بنت عتبة" بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف، أسلمت في الفتح بعد إسلام زوجها أبي سفيان بليلة، وشهدت معه اليرموك.
روى الأزرقي وغيره: أنها لما أسلمت جعلت تضرب صنمها في بيتها بالقدوم فلذة فلذة وتقول: كفاني غرورًا.
روى عنها ابنها معاوية وعائشة، ماتت سنة أربع عشرة. "والنسوة اللاتي معها" تقدَّمت عدتهن، "يمثِّن بالقتلى" يقال: مَثَل به -بفتح الميم والثاء المخففة- يمثل، بضم الثاء، مثلًا، بفتح(2/440)
من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم, يجدعن الآذان والآنف، وبقرت عن كبد حمزة فلاكتها فلم تستطع أن تسيغها فلفظتها.
__________
الميم وإسكان الثاء، أي: نكَّل، والاسم المثلة بالضم، ومثَّل بالقتيل: جدعه, وكثير من الناس يشدد مثل، وكأنه إذا أريد التكثير يجوز ذلك، "من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يجدعن" بفتح الياء وإسكان الجيم وخفة الدال، وكأنه إذا أريد المبالغة يجوز التشديد، "أي: يقطعن "الآذان والآنف" بفتح الهمزة الممدودة وضم النون, قاله كله البرهان.
قال ابن إسحاق: حتى اتخذت هند من آذان الرجال وأنفهم خدمًا وقلائد، وأعطت خدمها، وقلائدها، وقرطها وحشيًّا الخدم -بفتح الخاء المعجمة والدال المهملة: الخلاخيل, الواحدة خدمة، "وبقرت" بموحدة وقاف، أي: شقَّت، "عن كبد حمزة -رضي الله عنه, فلاكتها، فلم تستطع أن تسيغها".
قال البرهان: يقال: ساغ الشراب يسوغ سوغًا، أي: سهل مدخله في الحلق، وسغته أنا أسوغه وأسيغه يتعدَّى ولا يتعدَّى، والأجود أسغته إساغة، "فلفظتها" طرحتها، ولا ينافي هذا ما ذكره الواقدي وغيره أن وحشيًّا لما قتل حمزة شقَّ بطنه وأخرج كبده، فجاء بها إلى هند فقال: هذه كبد حمزة، فمضغتها ثم لفظتها, وقامت معه حتى أراها مصرع حمزة، فقطَّعت من كبده، وجدعت أنفه؛ لأن الذي أخذه وجاء به إليها بعض الكبد، ثم أخذت هي باقيه كما هو صريحه.
قال ابن إسحاق: ثم علت، أي: هند، على صخرة مشرفة، فصرخت بأعلى صوتها، فقالت:
نحن جزيناكم بيوم بدر ... والحرب بعد الحرب ذات سعر
ما كان عن عتبة لي من صبر ... ولا أخي وعمه وبكر
شفيت نفسي وقضيت نذري ... شفيت وحشي غليل صدري
فشكر وحشي على عمري ... حتى ترم أعظمي في قبري
فأجابتها هند بنت أثاثة بن عباد بن المطلب المطلبية، أخت مسطح:
خزيت في بدر وبعد بدر ... يابنت وقاع عظيم الكفر
صبحك الله غداة الفجر ... بالهاشميين الطوال الزهر
بكل قطاع حسام يفري ... حمزة ليثي وعليّ صقري
إذا رام شيب وأبوك غدري ... فخضبا منه ضواحي النحر
ونذرك السوء فشر نذر
قال الحافظ أبو الربيع في الاكتفاء: هذا قول هند، والكفر يحنقها، والوتر يقلقها، والحزن يحرقها، والشيطان ينطقها، ثم إن الله هداها للإسلام وعبادة الله وترك الأصنام، وأخذ بحجزتها(2/441)
ولما أراد أبو سفيان الانصراف أشرف على الجبل، ثم صرخ بأعلى صوته: أنعمت فعال، إن الحرب سجال، يوم بيوم بدر، أعل هبل.
وكان أبو سفيان حين أراد الخروج إلى أُحد، كتب على سهم نعم، وعلى آخر: لا، وأجالها عند هبل، فخرج سهم نعم، فخرج إلى أُحد، فلما قال: أعل هبل، أي: زد علوًّا.
قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لعمر: "أجبه فقل: الله أعلى وأجل".
فقال أبو سفيان:
__________
عن سوء النار، ودلها على دار السلام فصلحت حالها، وتبدَّلت أقوالها حتى قالت له -صلى الله عليه وسلم: والله يا رسول الله, ما كان على أهل الأرض خباء أحب إليَّ أن يذلوا من أهل خبائك، وما أصبح اليوم أهل خباء أحبَّ إليَّ أن يعِزُّوا من أهل خبائك، فالحمد لله الذي هدانا برسوله أجمعين، انتهى.
"ولما أراد أبو سفيان الانصراف أشرف على الجبل، ثم صرخ بأعلى صوته: أنعمت" روي بفتح التاء خطابًا لنفسه وبسكونها، أي: الواقعة، أو الحرب، أو الأزلام، "فعال" بفتح الفاء وتخفيف المهملة، "إن الحرب سجال" بكسر المهملة وخفة الجيم، أي: مرَّة لنا ومرَّة علينا, من مساجلة المستقيين على البئر بالدلاء. وفي رواية: سمال جمع سملة، وهي الماء القليل، والمراد بها ما أريد بالأول؛ لأن الماء القليل يتناوبه وراده ولا يزدحمون عليه لقِلَّته، "يوم بيوم بدر".
وعند الطبراني حنظلة بحنظلة، ويوم أُحد بيوم بدر، "أعل" بضم الهمزة، وسكون العين المهملة وضم اللام، "هبل"، أي: أظهر دينك، قاله ابن إسحاق. وقال السهيلي: معناه: زد علوًّا، وقال الكرماني: فإن قلت ما معنى أعل ولا علوًّا في هبل، فالجواب هو بمعنى العلى، أو المراد: أعلى من كل شيء. انتهى من الفتح.
وعند البخاري في الجهاد، ثم جعل يرتجز: أعل هبل أعل هبل، "و" سبب قوله ذلك أنه "كان أبو سفيان حين أراد الخروج إلى أحد،" استقسم بالأزلام، "كتب على سهم نعم، "وعلى الآخر لا، وأجالهما" أي: أدارهما، "عنده" أي: هبل، "فخرج سهم نعم، فخرج إلى أُحد، "فلمَّا قال: أعل هبل" بضم الهاء، وفتح الموحَّدة ولام، اسم صنم كان في الكعبة، "أي: زد علوًّا" كما قال السهيلي، أو ليرتفع أمرك ويعز دينك فقد غلبت.
"قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لعمر" بن الخطاب: "أجبه، فقل: الله أعلى وأَجَلّ"، فقال أبو سفيان:(2/442)
أنعمت فعال، أي: اترك ذكرها, فقد صدقت في فتواها وأنعمت، أي: أجابت بنعم.
فقال عمر: لا سواء، قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار.
فقال: إن لنا عزى ولا عزى لكم.
فقال له -عليه الصلاة والسلام- قولوا: "إن الله مولانا ولا مولى لكم".
__________
أنعمت" بسكون التاء "فعال، أي: اترك ذكرها فقد صدقت في فتواها، وأنعمت" الأزلام، "أي: أجابت بنعم" التي يحبها، وهذا كله ظاهر في سكون التاء، وإن فاء فعال من بنية الكلمة لا حرف عطف, فهو معدول عن فاعلة كحذام عن حاذمة.
وقال أبو ذر في الإملاء: أنعمت يخاطب نفسه، ومن رواه: أنعمت عني الحرب، أو الواقعة وفعال.
قال اليعمري: اسم الفعل الحسن، وأنعم زاد.
وقال السهيلي: فعال أمر، أي: عالٍ عنها، وأقصر عن لومها, تقول العرب: أعل عني، وعالٍ بمنى ارتفع عني ودَعْني.
ويروى أن الزبير قال لأبي سفيان يوم الفتح: أين قولك أنعمت؟ فقال: قد صنع الله خيرًا، وذهب أمر الجاهلية.
وقال أبو ذر: عالٍ من فعال، ارتفع يقال: عالٍ وأعل عن الوسادة، أي: ارتفع. قال: وقد يجوز أن تكون الفاء من نفس الكلمة، ويكون معدولًا عن الفعلة كما عدلوا، فجار عن الفجرة، أي: بالغت هذه الفعلة، ويعني بها: الوقعة، انتهى.
"فقال عمر: لا سواء" قال السهيلي: أي: لا نحن سواء، ولا يجوز دخول لا على اسم مبتدأ معرفة إلّا مع التكرار نحو: لا زيد قائم، ولا عمرو خارج، ولكنه جاز في هذا الموضع؛ لأن القصد فيه إلى نفي الفعل، أي: وهو لا يجب تكرار لا معه، فكذا ما هو بمعناه، أي: لا نستوي, كما جاز لا لك، أي: لا ينبغي لك.
وفي رواية أنه -صلى الله عليه وسلم- قال لعمر:"قل: لا سواء, قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار". قال أبو سفيان: إنكم لتزعمون ذلك، لقد خبنا إذًا وخسرنا، "فقال: إن لنا العزى ولا عزى لكم" تأنيث الأعزّ -بالزاي- اسم صنم لهم، "فقال -عليه الصلاة والسلام: "أجيبوه"، قالوا: ما نقول؟ قال: "قولوا: إن الله مولانا ولا مولى لكم" هكذا في رواية البخاري.
وفي رواية: فقال لعمر: "قل إن الله ... إلخ ".
قال المصنف: أي: لا ناصر لكم، فالله تعالى مولى العباد جميعًا من جهة الاختراع، وملك التصرف، ومولى المؤمنين خاصَّة من جهة النصرة.(2/443)
ولما انصرف أبو سفيان وأصحابه نادى: إن موعدكم بدر العام القابل، فقال -عليه الصلاة والسلام- لرجل من أصحابه: "قل نعم، هو بيننا وبينكم موعد".
وذكر الطبراني: أنه لما انصرف المشركون، خرج النساء إلى الصحابة يعنّهم, فكانت فاطمة فيمن خرج، فلمَّا لقيت النبي -صلى الله عليه وسلم- اعتنقته, وجعلت تغسل جراحاته بالماء فيزداد الدم، فلمَّا رأت ذلك أخذت شيئًا
__________
"ولما انصرف أبو سفيان وأصحابه نادى: إن موعدكم بدر" هكذا رواية ابن إسحاق وأتباعه.
وفي بعض الروايات: ألا إن موعدكم بدر الصفراء على رأس الحول.
قال الشامي: بالإضافة, وبدر تقدمت, والصفراء -بفتح الصاد المهملة، وسكون الفاء- تأنيث الأصفر، قرية فوق ينبع، كثيرة النخل والزرع، والحول السنة, انتهى.
وفي رواية: يا محمد, موعدنا موسم بدر لقابل إن شئت.
"فقال -عليه الصلاة والسلام- لرجل من أصحابه" هو عمر بن الخطاب، كما عند الواقدي، وذكره الشامي في غزوة بدر الأخيرة، فقول البرهان لا أعرفه تقصير: "قل: نعم هو بيننا وبينكم موعد" زاد في رواية: إن شاء الله.
قال ابن إسحاق: ثم بعث -صلى الله عليه وسلم- عليَّ بنِ أبي طالب، وقال ابن عائذ: سعد بن أبي وقاص، ويحتمل أنه بعثهما جميعًا، فقال: "اخرج في آثار القوم فانظر ماذا يصنعون، فإن كانوا قد جنبوا الخيل وامتطوا الإبل، فإنهم يريدون مكة، وإن ركبوا الخيل، وساقوا الإبل، فهم يريدون المدينة، والذي نفسي بيده إن أرادوها لأسيرنَّ إليهم، ثم لأناجزنهم" , قال علي، أو سعد: فخرجت في آثارهم أنظر ماذا يصنعون، فجنبوا الخيل وامتطوا الإبل ووجهوا إلى مكة, قال الله تعالى: {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْب} [آل عمران: 151] الآية.
قال في الكشاف: قذف الله في قلوبهم الخوف يوم أحد، فانهزموا إلى مكة من غير سبب.
"وذكر"، أي: روى "الطبراني" من طريق سعيد بن عبد الرحمن عن أبي حازم، عن سهل بن سعد، "أنه لما" كان يوم أحد، "وانصرف المشركون, خرج النساء إلى الصحابة يعنَّهم، فكانت فاطمة" الزهراء سيدة النساء، "فيمن خرج، فلمَّا لقيت النبي -صلى الله عليه وسلم- اعتنقته" فرحًا وشوقًا، "وجعلت تغسل جراحاته بالماء، فيزداد الدم، فلمَّا رأت ذلك".
وفي رواية البخاري: فلمَّا رأت فاطمة أن الماء لا يزيد الدم إلّا كثرة، "أخذت شيئًا،" وفي(2/444)
من حصير أحرقته بالنار وكمَّدته به حتى لصق بالجرح فاستمسك الدم.
ثم أرسل -عليه الصلاة والسلام- محمد بن سملة -كما ذكره الواقدي- فنادى في القتلى: "يا سعد ...
__________
البخاري، قطعة "من حصير" زاد في رواية: بردى، هو نبات يعمل منه الحصر، "أحرقته", وللبخاري في النكاح: عمدت إلى حصيرها فأحرقتها "بالنار", وللطبراني من طريق آخر: حتى صار رمادًا، فأخذت من ذلك الرماد، "وكمَّدته" بشد الميم, أي: ألصقته "به", وفعلت ذلك "حتى لصق بالجرح فاستمسك الدم", وللطبراني من الطريق الآخر: فوضعته فيه حتى رقا الدم، وقال في آخر الحديث: ثم قال يومئذ: "اشتدَّ غضب الله على قوم دموا وجه رسوله"، ثم مكث ساعة، ثم قال: "اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون".
قال الحافظ: وفي الحديث جواز التداوي، وأنَّ الأنبياء قد يصابون ببعض العوارض الدنيوية من الجراحات والآلام والأسقام ليعظم لهم بذلك الأجر، وتزداد درجاتهم رفعة، وليتأسَّى بهم أتباعهم في الصبر على المكاره, والعاقبة للمتقين, انتهى.
قال غيره: وليتحقق الناس أنهم مخلوقون لله، فلا يفتتنون بما ظهر على أيديهم من المعجزات، كما افتتن النصارى بعيسى، وفيه أنه لا ينافي التوكُّل والاستعانة في المداواة، وأنَّ الدواء حصير فاطمة التي أحرقتها.
وروى الجوزجاني عن أبي أمامة بن سهل، أنه -صلى الله عليه وسلم- داوى جرحه يوم أحد بعظم بال، لكنه حديث غريب، كما قال ابن كثير، فلا يعادل ما في الصحيح، وعلى فرض الصحة, فقد يكون جمع بينهما، وإنما عزاه المصنف للطبراني، مع أنه في الصحيحين، والترمذي وابن ماجه؛ لأنه بَيِّنَ فيه سبب مجيء فاطمة إلى أُحد -رضي الله عنها.
"ثم أرسل -عليه الصلاة والسلام"؛ لينظر خبر سعد بن الربيع، فقال كما في رواية ابن إسحاق: "من ينظر إلى سعد بن الربيع، أفي الأحياء أم في الأموات، فإني رأيت اثني عشر رمحًا شرعا إليه" , فقال رجل من الأنصار، يعني "محمد بن سلمة، كما ذكره" محمد بن عمر بن واقد "الواقدي".
وعند الحاكم عن خارجة بن زيد بن ثابت عن أبيه، قال: بعثني -صلى الل عليه وسلم- يوم أُحد لطلب سعد بن الربيع، وقال لي: "إن رأيته، فأقرأه مني السلام وقل له: يقول لك رسول الله: كيف تجدك"؟.
وقال ابن عبد البَرِّ واليعمري: أرسل أُبَيّ بن كعب.
قال البرهان: فلعله أرسل الثلاثة متعاقبين، أو دفعة واحدة. "فنادى في القتلى: يا سعد،"(2/445)
ابن الربيع، مرة بعد أخرى، فلم يجبه، حتى قال: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أرسلني إليك، فأجابه بصوت ضعيف، فوجده جريحًا في القتلى وبه رمق, فقال: أبلغ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عني السلام، وقل له: يقول لك: جزاك الله عنَّا خير ما جزى به نبيًّا عن أمته، وأبلغ قومك عني السلام وقل لهم: لا عُذر لكم عند الله أن يخلص إلى نبيكم وفيكم عين تطرف، ثم مات -رضي الله عنه.
وقتل أبو جابر,
__________
بضم الدال وفتحها، "ابن" بالفتح "الربيع مرة بعد أخرى، فلم يجبه"؛ لكونه في غمرات الموت، واستمرّ لا يجيبه، "حتى قال: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أرسلني إليك", وعند ابن إسحاق: أمرني أن أنظر أفي الأحياء أنت أم في الأموات؟ "فأجابه بصوت ضعيف" قال: أنا في الأموات، "فوجده جريحًا في القتلى", وفي حديث زبد بن ثابت: وبه سبعون ضربة ما بين طعنة برمح، وضربة بسيف، ورمية بسهم، "وبه رمق" بقية حياة، "فقال: أبلغ".
قال البرهان: بقطع الهمزة وكسر اللام رباعي، وهذا ظاهر جدًّا, "رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عني السلام, وقل له: يقول لك: جزاك الله عنَّا خير ما جزى نبيًّا عن أمته" وقل له: إني أجد ريح الجنة، "وأبلغ قومك عني السلام، وقل لهم: لا عذر لكم عند الله أن يخلص" -بضم أوله وفتح ثالثه- مبني للمفعول، كما في النور، والأصل: أن يخلص أحد "إلى نبيكم, وفيكم عين تطرف" بفتح أوله وكسر الراء، أي: تطبق أحد جفنيها على الآخر، والمراد كما قال البرهان وغيره: وفيكم حياة، "ثم مات -رضي الله عنه".
وعند ابن إسحاق: ثم لم أبرح حتى مات، فجئت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأخبرته خبره.
قال ابن هشام: وحدثني أبو بكر الزبيري: أن رجلًا دخل على أبي بكر، وبنت سعد بن الربيع جارية صغيرة على صدره يرشفها ويقبلها، فقال له الرجل، من هذه؟ قال: بنت رجل خير مني، سعد بن الربيع، كان من النقاباء يوم العقبة وشهد بدرًا، واستُشهد يوم أُحد.
وروى الطبراني عن أم سعد بنت سعد بن الربيع: إنها دخلت على الصديق فألقى لها ثوبه، حتى جلست عليه، فدخل عمر فسأله فقال: هذه ابنة من هو خير مني ومنك، قال: ومن هو يا خليفة رسول الله؟ قال: رجل قبض على عهد رسول الله مقعده من الجنة وبقيت أنا وأنت.
"وقتل أبو جابر" عبد الله بن عمرو بن حرام -بمهملة وراء. قال المصنف: قتله أسامة أبو الأعور بن عبيد، أو سفيان بن عبد شمس، أبو أبي الأعور السلمي، وعن جابر: أنه أول قتيل من المسلمين، وأن أخته هندًا حملته هو وزوجها عمرو بن الجموح وابنها خلّاد على بعير، ورجعت بهم إلى المدينة, فلقيتها عائشة وقالت لها: من هؤلاء؟ قالت: أخي وابني خلّاد وزوجي، قالت:(2/446)
فما عرف إلّا ببنانه -أي أصابعه، وقيل أطرافها، واحدتها بنانة.
وخرج -صلى الله عليه وسلم- يلتمس حمزة، فوجده ببطن الوادي، قد بُقِرَ بطنه عن كبده، ومُثِّل به فجدع أنفه وأذناه، فنظر -عليه الصلاة والسلام- إلى شيء لم ينظر إلى شيء أوجع لقلبه منه, فقال: "رحمة الله عليك، لقد كنت فعولًا للخير، وصولًا للرحم، أما والله
__________
فأين تذهبين بهم؟ قالت: إلى المدينة أقبرهم فيها، ثم زجرت بعيرها فبرك، فقالت لها عائشة لما عليه قالت: ما ذاك به؟ فإنه لربما حمل ما يحمل بعيران، ولكن أراه لغير ذلك, وزجرته ثانيًا، فقام وبرك, فوجهته إلى أُحد فأسرع, فرجعت إلى النبي -صلى الله عليه وسلم, فأخبرته فقال: "إن الجمل مأسور، هل قال عمرو -يعني ابن الجموح، شيئًا"؟ قالت: إنه لما توجه إلى أُحد قال: اللهمَّ لا تردني إلى أهلي وارزقني الشهادة، فقال -صلى الله عليه وسلم: "فلذلك الجمل لا يمضي, إن فيكم معشر الأنصار من لو أقسم على الله لأبَرَّه, منهم عمرو بن الجموح، ولقد رأيته يطأ بعرجته في الجنة". وهذا يناكد من قال: لعل سرَّ عدم سير الجمل أنه ورد الأمر بدفن الشهداء في مضاجعهم.
"فما عرف"؛ لأنه مُثِّل به وجدع "إلّا ببنانه، أي: أصابعه،" قيل: سميت بنانًا؛ لأن بها صلاح الأحوال التي يستقر بها الإنسان، يقال: أبن بالمكان إذا استقرَّ به كما في المصباح، "وقيل: أطرافها واحدتها بنانة".
قال ابن إسحاق: "وخرج -صلى الله عليه وسلم" فيما بلغني، "يلتمس حزة، فوجده ببطن الوادي قد بقر" بالبناء للمفعول، أي: شُقَّ "بطنه عن كبده", وفاعل ذلك هند ووحشي كما مَرَّ، "ومثل به" بضم الميم وكسر المثلثة المخففة, وتشدد لإرادة التكثير كما مَرَّ، "فجدع" بالتخفيف والتشديد للمبالغة، أي: قطع "أنفه وأذناه" بالرفع نائب الفاعل.
قال ابن إسحاق: فحدَّثني محمد بن جعفر بن الزبير، أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "لولا أن تحزن صفية وتكون سنة من بعدي لتركته حتى يكون في بطون السباع وحواصل الطير". زاد ابن هشام وقال: "لن أصاب بمثلك أبدًا"، ونزل جبريل فقال: إن حمزة مكتوب في أهل السموات السبع أسد الله وأسد رسوله.
وأخرج اليعمري من طريق أبي طالب في الغيلانيات بسنده عن أبي هريرة، أنه -صلى الله عليه وسلم وقف على حمزة حين استشهد، "فنظر -عليه الصلاة والسلام- إلى شيء لم ينظر إلى شيء أوجع لقلبه منه, فقال: "رحمة الله عليك لقد كنت" ما علمتك كما في الرواية، أي: مدة علمي لك، "فعولًا للخير" أي: مكثرًا لفعله، "وصولًا للرحم"، مكثرًا لوصلهم يما يليق بكل منهم، وأسقط المؤلف من ذا الحديث ما لفظه: "ولولا حزن من بعدك عليك لسرني أن أدعك حتى تحشر من أفواهٍ شتى" قبل قوله: "أما والله" بألف بعد ميم وبحذفها.(2/447)
لأمثِّلنَّ بسبعين منهم مكانك"، قال: فنزلت عليه خواتيم سورة النحل: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِه} [النحل: 126] الآية, فصبر وكفَّر عن يمينه وأمسك عمَّا أراد.
__________
قال ابن الشجري في الأمالي: ما الزائدة للتوكيد، ركبوها مع همزة الاستفهام، واستعملوا مجموعهما على وجهين: أحدهما أن يراد به معنًى حقًّا في قولهم: أما والله لأفعلنَّ، والآخر: أن تكون افتتاحًا للكلام بمنزلة ألَّا, كقولك: أما إن زيدًا منطلق، وأكثر ما تحذف ألفًا إذا وقع بعدها القسم؛ ليدلَّ على شدة اتصال الثاني بالأول؛ لأنَّ الكلمة إذا بقيت على حرف لم تقم بنفسها، فعُلِم بحذف ألفها افتقارها إلى الاتصال بالهمزة، هكذا قاله النووي في شرح: أما والله لأستغفرنَّ لك، فنقله هنا البرهان وهو حسن, إلا أنه لم يعجبني نقله قول النووي: أم من غير ألف بعد الميم، وفي كثير من الأصول أو أكثرها: إما بالألف بعد الميم، وكلاهما صحيح؛ لأن هذا إنما قاله النووي في لفظ حديث مسلم، لا في هذا الحديث، فإنه ليس في مسلم، فلذا أسقطت صدر عبارة النووي. "لأمثلنّ بسبعين منهم مكانك" , وفي رواية ابن إسحاق: "ولئن أظهرني الله على قريش لأمثلنَّ بثلاثين رجلًا منهم".
قال البرهان: فيحتمل أنه قال مرتين، أو أنَّ مفهوم العدد ليس بحجة، ورواية الأقل داخلة في رواية الأكثر، "فنزلت عليه" لفظ الحديث: فنزل جبريل والنبي -صلى الله عليه وسلم- واقف بـ "خواتيم سورة النحل، {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: 126] الآية, {وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} [النحل: 126] إلى آخر السورة، "فصبر" كما أمره ربه بقوله: فاصبر، "وكفَّر عن يمينه" لعزمه على الضد، "وأمسك عمَّا أراد، وهذا الحديث رواه الحاكم، والبيهقي، والبزار والطبراني, قال في الفتح بإسناد فيه ضعف، عن أبي هريرة أنه -صلى الله عليه وسلم- لما رأى حمزة قد مُثِّلَ به قال: "رحمة الله عليك, لقد كنت وصولًا للرحم، فعولًا للخير، ولولا حزن من بعدك لسرني أن أدعك حتى تحشر من أجواف شتى"، ثم حلف وهو مكانه: "لأمثلنَّ بسبعين منهم"، فنزل القرآن: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} إلخ السورة.
وعند ابن مردويه، عن ابن عباس نحوه، وقال في آخره: بل نصبر يا رب.
وروى الترمذي، وحسَّنه، والحاكم وعبد الله بن أحمد في زيادات المسند، والطبراني عن أُبَيّ بن كعب، قال: لما كان يوم أحد مثَّل المشركون بقتلى المسلمين، فقال الأنصار: لئن أصبنا منهم يومًا من الدهر لنريين عليهم، فلما كان يوم فتح مكة نادى رجل: لا قريش بعد اليوم، فأنزل الله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} الآية، فقال صلى الله عليه وسلم: "كفّوا عن القوم".
قال في اللباب: وظاهر هذا تأخر نزولها إلى الفتح، وفي الحديث الذي قبله نزولها بأحد،(2/448)
وممن مثِّل به كما بحمزة عبد الله بن جحش، ابن أخت حمزة, ولذا يعرف بالمجدع في الله، وكان حين قتل ابن بضع وأربعين سنة، ودفن مع حمزة في قبر واحد.
ولما أشرف -عليه الصلاة والسلام- على القتلى
__________
وجمع ابن الحصار، بأنها نزلت أولًا بمكة، ثم ثانيًا بأحد، ثم ثالثًا بعد الفتح تذكيرًا من الله لعباده، انتهى.
وروى الحاكم عن ابن عباس قال: قتل حمزة جنبًا، فقال -صلى الله عليه وسلم: "غسَّلته الملائكة". وعند ابن سعد من مرسل الحسن: لقد رأيت الملائكة تغسّل حمزة.
وروى الطبراني برجال ثقات عن أبي أسيد، والحاكم عن أنس قالا: كفَّن -صلى الله عليه وسلم- حمزة في نمرة، فمدت على رأسه فانكشف رجلاه, فمدت على رجليه فانكشف رأسه، فقال -صلى الله عليه وسلم: "مدوها على رأسه، واجعلوا على رجليه شيئًا من الحرمل" , وفي لفظ: من الإذخر. "وممن مثِّل به كما مثِّل بحمزة عبد الله بن جحش" ابن رياب براء مكسورة وتحتية وموحدة. قال في العيون: غير أنه لم يبقر عن كبده، "ابن أخت حمزة" أميمة -بميمين مصغرًا- بنت عبد المطلب, شقيقة والده -صلى الله عليه وسلم، اختُلِف في إسلامها، فنفاه ابن إسحاق, ولم يذكرها غير ابن سعد، "ولذا يعرف بالمجدع في الله"؛ لأنه سأل الله ذلك.
روى الطبراني وأبو نعيم بسند جيد عن سعد بن أبي وقاص: أن عبد الله بن جحش قال له يوم أحد: ألا تأتي ندعو الله, فخلوا في ناحية، فدعا سعد فقال: يا رب إذا لقيت العدو، فبلغني رجلًا شديدًا بأسه، شديدًا حرده -بفتح المهملة والراء ودال مهملة- أي: غضبه, أقاتله فيك، ويقاتلني، ثم ارزقني عليه الظفر حتى أقتله وآخذ سلبه، فأمَّنَ عبد الله، ثم قال: "اللهم ارزقني رجلًا شديدًا بأسه، شديدًا حرده، أقاتله ويقاتلني فيقتلني, ثم يأخذني فيجدع أنفي وأذني، فإذا لقيتك قلتَ: يا عبد الله, فيم جدع أنفك وأذنك، فأقول: فيك وفي رسولك، فيقول الله: صدقت.
قال سعد: كانت دعوته خيرًا من دعوتي, لقد رأيته أخير النهار، وأنَّ أنفه وأنه معلقان في خيط، "وكان حين قتل" على يد أبي الحكم ابن الأخنس الثقفي, "ابن بضع وأربعين سنة، ودفن مع" خاله "حمزة في قبر واحد", وهذا صريح في أنه قتل بأُحد.
قال البرهان: وهو الصحيح، ورأيت بعضهم حكى قولًا أنه قتل بمؤتة. انتهى، وكان قائله انتقل حفظه لعبد الله بن رواحة، "ولما أشرف" أي: اطَّلع "عليه الصلاة والسلام" كما قال ابن إسحاق: حدثني الزهري عن عبد الله بن ثعلبة: أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما أشرف "على القتلى"(2/449)
قال: "أنا شهيد على هؤلاء، وما من جريح يجرح في الله إلّا والله يبعثه يوم القيامة يدمى جرحه, اللون لون الدم, والريح ريح المسك".
__________
يوم أحد، "قال: "أنا شهيد على هؤلاء" راقب أحوالهم، وشفيع لهم بما فعلوه من بذل أجسامهم، وأرواحهم وأموالهم، وترك من له الأولاد كأبي جابر، ترك تسع بنات، طيبة بذلك قلوبهن، فرحين مستبشرين بوعد خالقهم، حتى إنه منهم من قال: إني لأجد ريح الجنة دون أُحد؛ كأنس بن النضر، وسعد بن الربيع, ومنهم من ألقى تمرات كنَّ في يده، وقاتل حتى قُتِل كما في الصحيح، ومنهم من قال: اللهمَّ لا تردَّني إلى أهلي؛ كعمرو بن الجموح، ومنهم من خلفه المصطفى لكبر سِنِّه، فخرج رجاء الشهادة, وهو اليمان وثابت بن وقش، فحذف المشهود به للعلم به.
قال السهيلي: شهيد من الشهادة, وهي ولاية وقيادة، فوصلت بحرف على؛ لأنه مشهود له وعليه.
وقال البيضاوي في قوله تعالى: {وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143] ، وهذه الشهادة وإن كانت لهم، لكن لما كان -صلى الله عليه وسلم- كالرقيب المؤتمن على أمته عدّي بعلى، وظاهره أن مجرَّد كون اللفظ بمعنى لفظ آخر يعدَّى بما يعدَّى به ما هو بمعناه، وليس من التضمين.
قال شيخنا: والمراد لما اطَّلع عليهم بعد البحث عن حمزة وغيره، وعرف جملة من قتل قال ذلك, فلا يرد أنه يقتضي قوله بمجرد رؤيتهم، والسياق يدل على خلافه، وأنه إنما قال ذلك بعد الإحاطة بهم.
"وما من جريح يجرح في" القتال لمحبة, "الله" وإخلاصه في إعزاز دينه، ففيه حذف شيئين، أو هو استعارة تبعية, شبه تمّن المجروح في المحبَّة بتمكّن المظروف في الظرف، فاستعار له لفظ في بدل اللام كما في قوله: {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْل} [طه: 71] ، "إلّا والله يبعثه يوم القيامة يدمى جرحه" بفتح الياء والميم، أي: يخرج منه الدم, "اللون" أي: لوم ما يخرج من جرحه، "لوم الدم" , والجملة مستأنفة استئنافًا بيانيًّا، كأنه قيل ما صفة دمائهم؟ هل هي على صفة دماء الدنيا أم لا؟ "والريح ريح المسك".
قال المصنف: أي كريحه, أي: ليس هو مسكًا حقيقة, بخلاف اللون لون الدم، فلا يقدر فيه ذلك؛ لأنه دم حقيقة، فليس له من أحكام الدنيا وصفاتها إلا اللون فقط. قال: وظاهر قوله في رواية مسلم: كل كلم يكلمه المسلم إنه لا فرق في ذلك بين أن يموت، أو تبرأ جراحه، لكن الظاهر أن الذي يجيء يوم القيامة، وجرحه يجري دمًا من فارق الدنيا وجرحه كذلك، ويؤيده ما رواه ابن حبان في حديث معاذ: عليه طابع الشهداء, والحكمة في بعثته كذلك أن يكون معه(2/450)
وفي رواية عبد الله بن ثعلبة: قال -عليه الصلاة والسلام- لقتلى أحد: "زمّلوهم بجراحهم".
__________
شاهد فضيلته ببذله نفسه في طاعة الله. ولأصحاب السنن، وصحّحه الترمذي وابن حبان والحاكم من حديث معاذ: "من جرح جرحًا في سبيل الله، أو نكب نكبة، فإنها تجيء يوم القيامة كأغزر ما كانت, لونها الزعفران, وريحها المسك".
قال الحافظ ابن حجر: وعرف بهذه الزيادة أنَّ الصفة المذكورة لا تختص بالشهيد, كذا قال فليتأمل.
وقال النووي: قالوا: وهذا الفضل، وإن كان ظاهره أنه في قتال الكفّار، فيدخل فيه من جرح في سبيل الله في قتال البغاة وقطّاع الطريق، وفي إقامة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, ونحو ذلك، وكذا قال ابن عبد البر، واستشهد على ذلك بقوله -عليه الصلاة والسلام: "من قتل دون ماله فهو شهيد".
لكن قال الولي بن العراقي: قد يتوقف في دخول المقاتل دون ماله في هذا الفضل؛ لإشاراته -صلى الله عليه وسلم- إلى اعتبار الإخلاص في ذلك في قوله: "والله أعلم بمن يكلم في سبيله"، والمقاتل دون ماله لا يقصد بذلك وجه الله, وإنما يقصد صون ماله وحفظه، فهو يفعل ذلك بداعية الطبع لا بداعية الشرع، ولا يلزم من كونه شهيدًا أن يكون دمه يوم القيامة كريح المسك، وأي بذلٍ بذَلَ نفسه فيه لله حتى يستحق هذا الفضل، انتهى.
"وفي رواية" النسائي من طريق الزهري، عن "عبد الله بن ثعلبة" بن صعير بصادٍ وعين مهملتين مصغرًا، العذري، حليف بني زهرة، له رؤية ولم يثبت له سماع. مات سنة سبع أو تسع وثمانين، وقد قارب التسعين.
"قال -عليه الصلاة والسلام- لقتلى أحد" اللام للتعليل، أي: لأجلهم بيانًا لما يفعل في تكفينهم: "زمّلوهم بجراحهم" , أي: معها باقية على ما هي عليه, فلا تزيلوا ما عليها من الدم بغسل ولا غيره.
قال أبو عمر: اختُلِف في صلاته -صلى الله عليه وسلم- على شهداء أحد، ولم يختلف في أنه أمر بدفنهم بثيابهم ودمائهم ولم يغسّلوا. وقد ثبت في الصحيح عن جابر، أنه -عليه الصلاة والسلام- قال: "أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة"، وأمر بدفنهم بدمائهم ولم يصلّ عليهم، ولم يغسَّلوا.
قال العلماء: وأما حديث صلاته عليهم صلاته على الميت، فالمراد دعاؤه لهم كدعائه للميت جمعًا بين الأدلة.(2/451)
وروى أبو بكر بن مردويه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "يا جابر ألا أخبرك، ما كلم الله تعالى أحدًا قط إلّا من وراء حجاب، وإنه كلَّم أباك كفاحًا، فقال: سلني أعطك، فقال: أسألك أن أردَّ إلى الدنيا فأقتل فيك ثانية، فقال الرب -عز وجل: إنه سبق مني أنهم لا يرجعون إلى الدنيا، قال: يا رب فأبلغ من ورائي، فأنزل الله تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا} " [آل عمران: 169] الآية.
__________
"وروى أبو بكر بن مردويه" وكذا الترمذي، وحسَّنه وابن ماجه, كلهم عن جابر: "أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "يا جابر ألا أخبرك".
وفي رواية الترمذي وابن ماجه: "ألا أبشرك بما لقي الله به أباك"، وللترمذي أيضًا: لقيني النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "ما لي أراك منكسرًا"، قلت: يا رسول الله! استشهد أبي يوم أُحد وترك دينًا وعيالًا، قال: "أفلا أبشرك"، وفي رواية: قلت: بلى، قال: "ماكلم الله أحدًا قط" غير من قام الدليل على تكليمهم بلا واسطة كالمصطفى ليلة الإسراء وموسى, قال: "إلّا من وراء حجاب" , أو المراد من هؤلاء الشهداء، كما يرشد إليه السياق فلا يردّان؛ لأنه كلمهما في حياتهما، "وإنه كلم أباك" عبد الله بن عمر، المدفون هو وعمرو بن الجموح في قبر واحد بأمره -صلى الله عليه وسلم, قال: لماكان بينهما من الصفاء, فحفر لهما وعليهما نمرتان، وعبد الله قد أصابه جرح في وجهه ويده عليه، فأميطت يده عن وجهه، فانبعث الدم فردت إلى مكانها، فسكن، ذكره ابن سعد. "كفاحًا" بكسر الكاف، مصدر كافح الشيء إذا باشره بنفسه، أي: بلا واسطة، "فقال: سلني أعطك" عطف مفصل على مجمل.
وفي رواية الترمذي وابن ماجه: "فقال: يا عبدي تمنَّ علي أعطك" , "قال: أسألك أن أردَّ إلى الدنيا".
وفي رواية الترمذي وابن ماجه قال: "يا رب تحييني فأقتل فيك" قتلة "ثانية, "فقال الرب -عز وجل: إنه سبق مني" الوعد. وفي رواية: "قد قضيت"، "أنهم" بفتح الهمزة "لا يرجعون" أي: يعدم رجوعهم " إلى الدنيا، قال: يارب فأبلغ من ورائي" ما صنعت بي لئلَّا يزهدوا في الجهاد، "فأنزل الله تعالى: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا} - بالتخفيف والتشديد- {فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا} الآية". وناهيك بها شرفًا حيث وصفهم بأنهم أحياء عند ربهم يرزقون، وهي عندية تخصيص وتشريف، والمراد حياة الأرواح في النعيم الأبدي لا حقيقة الدنيوية، بدليل أن الشهيد يورث وتتزوج زوجته.
قال بعضهم: ولا يلزم من كونها حياة حقيقية أن تكون الأبدان معها، كما كانت في الدنيا من الاحتياج إلى الطعام والشراب وغير ذلك من صفات الأجسام المشاهدة، بل يكون لها(2/452)
وعن ابن عباس قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "لما أصيب إخوانكم بأُحد جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة، وتأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل من ذهب في ظل العرش، فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم وحسن مقيلهم قالوا: يا ليت إخواننا يعلمون ما صنع الله بنا لئلَّا يزهدوا في الجهاد ولا ينكلوا
__________
حكم آخر, فليس في العقل ما يمنع من إثبات الحياة الحقيقية لهم، وأمَّا الإدركات فحاصلة لهم ولسائر الموتى، ثم المراد بالآية جنسها، فلا ينافي قوله الآتي، فأنزل الله على نبيه هذه الآيات، وهي كما في الشامية إلى قوله: {وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِين} [آل عمران: 171] الآية، وأما قوله: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ} [آل عمران: 172] الآية إلخ، فليس في شأن الشهداء، بل في حمراء الأسد كما يأتي.
"وعن ابن عباس قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "لما أصيب" بحسب الظاهر بالقتل، "إخوانكم بأُحد جعل الله أرواحهم" مع اتصالها بأجسادهم، "في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها" كما قال: {بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُون} [آل عمران: 169] الآية، "وتأوي إلى قناديل من ذهب في ظل العرش"، أنكر هذا قوم، وقالوا: لا يكون روحان في جسد.
قال القاضي عياض: وليس للأقيسة والعقول في هذا حكم، فإذا أراد الله جعلها في قناديل أو أجواف طير وقع ذلك ولا إشكال، فإن الروح وإن وجدت في جوف الطير فليس فيه قيام روحين بجسد واحد، بل قيام الروح بجوف الطير، كقيام الجنين في بطن أمه، وروحه غير روحها.
وقال السهيلي والبيضاوي: خلق الله لأرواحهم بعد مفارقة أجسامهم صورة طيور تجعل فيها الأرواح خلفًا عن الأبدان، توسلًا لنيل اللذات الحسية إلى أن يعيده الله يوم القيامة.
وقال بعضهم: في بمعنى على، أي: أرواحهم على أجواف هي طيور، وسمي الطير جوفًا لإحطاته واشتماله عليه, فهو من تسمية الكل باسم المجزء, وفيه تعسّف.
وقال السهيلي: أي في صورة طير خضر، كما تقول: رأيت ملكًا في صورة إنسان، "فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم" من الأنهار, "وحسن مقيلهم" مكانهم الذي يأوون إليه للاسترواح والتمتع تجوّز به عن مكان القيلولة على التشبيه، أو لأنه لا يخلو من ذلك غالبًا؛ إذ لا نوم في الجنة، كما قاله البيضاوي في قوله: {وَأَحْسَنُ مَقِيلًا} .
"قالوا: يا" للتنبيه أو النداء المحذوف، أي: يا هؤلاء "ليت إخواننا يعلمون ما صنع الله بنا لئلّا يزهدوا في الجهاد" , أي: يتركوه ويعرضوا عنه، "ولاينكلوا" بضم الكاف وتفتح في لغة،(2/453)
عن الحرب، "قال الله تعالى: أنا أبلغهم عنكم, فأنزل الله عز وجل هذه الآيات: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا} " رواه أحمد.
قال بعض من تكلّم على هذا الحديث: قوله: ثم تأوي إلى قناديل، يصدقه قوله تعالى: {وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ} , وإنما تأوي إلى ذلك القناديل ليلًا وتسرح نهارًا قبل دخول الجنة, وبعد دخول الجنة في الآخرة لا تأوي إلى تلك القناديل، وإنما ذلك في البرزخ.
__________
ومنعها الأصمعي, "عن الحرب" أي: ولئلَّا يجبنوا عنه ويتأخروا، "قال الله تعالى: أن أبلغهم عنكم, فأنزل الله -عز وجل- على نبيه هذه الآيات: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا} " [آل عمران: 169] مفعول ثانٍ، والأول الذين, والفاعل إمَّا ضمير كل مخاطب، أو ضمير الرسول -صلى الله عليه وسلم, وهذا صريح في نزولها في شهداء أحد.
وحكى البيضاوي قولًا: إنها نزلت في شهداء بدر، فإن صحَّ أمكن أنها مما تكرر نزوله، وعليه فكأنهم تمنَّوا علم إخوانهم بما حصل لهم، مع أنَّ الآيات عندهم متلوّة؛ لأنه عَبَّر فيها بالماضي, في قوله: قُتِلُوا، ثم لا يعارض هذا ما قبله من نزولها في شأن أبي جابر؛ لأن كلامه تعالى له لا يمنع قول قية الشهداء ما ذكر, فنزلت إبلاغًا عن الجميع على مفاد الخبرين، ولا مانع من تعدد سبب النزول وهو أولى من تجويز أنها مم تعدَّد نزوله؛ لأن الأصل عدمه، "روه أحمد", أخرجه مسلم عن مسروق، قال: سألنا عبد الله بن مسعود عن هؤلاء الآيات، قال: أمَّا إنا قد سألنا عنها فقيل لنا: "لما أصيب إخوانكم" الحديث. ولم يعزه له المصنف لعدم صراحته برفع الحديث، فلذا عدل لحديث ابن عباس عند أحمد لكونه صريحًا في الرفع.
"قال بعض من تكلَّم على هذا الحديث" هو الإمام السهيلي في الروض، "قوله: "ثم تأوي إلى قناديل" يصدقه قوله على أحد الأقوال: {وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ} مبتدأ وخبر، أي: الذين استشهدوا {لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ} وقيل: المراد الأنبياء من قوله: فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد، وقيل: هو عطف على الخبر وهو الصديقون: أي: أولئك بمنزلة الصديقين والشهداء، أو المبالغون في الصدق لتصديقهم جميع أخبار الله ورسله، وقائمون بالشهادة لله ولهم، أو على الأمم يوم القيامة، حكاها كلها البيضاوي وغيره.
"وإنما تأوي إلى تلك القناديل ليلًا، وتسرح نهارًا قبل دخول الجنة", فتعلم بذلك الليل من النهار، "وبعد دخول الجنة في الآخرة لا تأوي إلى تلك القناديل، وإنما ذلك في" مدة "البرزخ" هذا ما يدل عليه ظاهر الحديث.(2/454)
وقال مجاهد: الشهداء يأكلون من ثمر الجنة وليسوا فيها.
وقد ردَّ هذا القول، ويشهد له ما وقع في مسند ابن أبي شيبة وغيره، أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "الشهداء بنهر أو على نهر يقال له بارق, عند باب الجنة، في قباب خضر, يأتيهم رزقهم منها بكرة وعشيًّا".
قال الحافظ عماد الدين بن كثير: كأنَّ الشهداء أقسام، منهم من تسرح أرواحهم في الجنة، ومنهم من يكون على هذا النهر بباب الجنة، وقد يحتمل أن يكون منتهى سيرهم إلى هذا النهر, فيجتمعون هناك ويغدى عليهم برزقهم هناك ويراح.
__________
"وقال مجاهد: الشهداء يأكلون من ثمر الجنة وليسوا فيها، وقد ردَّ هذا القول" أنكره ابن عبد البر.
قال السهيلي: وليس بمنكر عندي، "ويشهد له" أي: لقول مجاهد ويبيّن مراده "ما وقع في مسند ابن أبي شيبة وغيره"؛ كالإمام أحمد والطبراني والحاكم, كلهم عن ابن عباس, "أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "الشهداء بنهر أو على نهر" شكَّ، "يقال له بارق" بالموحدة وبعد الألف راء مكسورة، ثم قاف في الحديث نهر، "عن باب الجنة, في قباب خضر, يأتيهم رزقهم منها بكرة وعشيًّا".
ولفظ أحمد ومن ذكر بعده: "الشهداء على بارق بباب الجنة, في قبة خضراء, يخرج عليهم رزقهم من الجنة بكرة وعشيًّا".
قال البيضاوي: يعني تعرض أرزاقهم على أرواحهم, فيصل إليهم الروح والفرح، كما تعرض الناس على آل فرعون غدوًّا وعشيًّا فيصل إليهم الوجع، وفيه دلالة على أنَّ الأرواح جواهر قائمة بأنفسها, مغايرة لما يحس من البدن، باقية بعد الموت داركة، وعليه الجمهور, وبه نطقت الآية والسنن، فتخصيص الشهداء لاختصاصهم بالقرب من الربّ, ومزيد البهجة والكرامة.
"قال الحافظ عماد الدين بن كثير" في الجمع بين مختلف الروايات، الدالّ بعضها على دخولهم الجنة، وبعضها على وقوفهم ببابها عند النهر، "كأنَّ الشهداء أقسام منهم من تسرح أرواحهم في الجنة" كما دلَّ عليه حديث ابن عباس الأول، "ومنهم من تكون على هذا النهر بباب الجنة" كما دل عليه حديثه الثاني، وعبَّر بكان؛ لأنه عل سبيل الاحتمال لا القطع؛ لأن حقيقة الحال غيب عنَّا، "وقد يحتمل أن يكون منتهى سيرهم إلى هذا النهر، فيجتمعون هناك ويغدى" بالبناء للمفعول وضمّنه معنى يمر, فعدَّاه بعلى في قوله: "عليهم برزقهم هناك ويراح"(2/455)
قال: وقد روينا في مسند الإمام أحمد حديثًا فيه بشرى لكل مؤمنٍ بأنه روحه تكون في الجنة أيضًا, وتسرح فيها, وتأكل من ثمارها، وترى ما فيها من النضرة والسرور, وتشاهد ما أعدَّ الله لها من الكرامة.
قال: وهو إسناد صحيح عزيز عظيم, اجتمع فيه ثلاثة من الأئمة الأربعة، أصحاب المذاهب المتَّبعة، فإن الإمام أحمد رواه عن الشافعي عن مالك بن أنس عن الزهري عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن أبيه يرفعه: "نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة
__________
مبنى للمفعول أيضًا, والغدوّ والرَّوَاح هنا بمعنى السير، أي: وقت كان، فالعطف تفسيري.
"قال" ابن كثير: "وقد روينا في مسند الإمام أحمد حديثًا فيه بشرى لكل مؤمن" وإن لم يكن شهيدًا، "بأن روحه تكون في الجنة أيضًا، وتسرح فيها، وتأكل من ثمارها، وترى ما فيها من النضرة" بسكون الضاد- والرونق، "والسرور" عطف مسبب على سبب، فإن الحسن سبب السرور، والرؤية علمية لا بصرية؛ إذ البصر لا يتعلّق بالسرور، أو بصرية، بتقدير مضاف، أي: ترى ما فيها من أسباب السرور، أو استعمل السرور فيما يحصله مجازًا، "وتشاهد ما أعدَّ الله لها من الكرامة، قال: وهو بإسناد صحيح عزيز عظيم" جمعها مبالغة في الثناء على إسناده، "اجتمع فيه ثلاث من الأئمة الأربعة أصحاب المذاهب المتَّبَعة، فإن الإمام أحمد رواه عن الشافعي عن مالك بن أنس، عن الزهري" محمد بن مسلم، "عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك" الأنصاري السلمي, يكنَّى أبا الخطاب. وُلِدَ في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم, وذكره البغوي في الصحابة.
روى عن أبيه وأخيه عبد الله, وجابر وسلمة بن الأكوع, وأبي قتادة وعائشة، وعنه أبو أمامة بن سهل، وهو من أقرانه وأسنّ منه, والزهري وغيرهما. قال ابن سعد: ثقة، وهو أكثر حديثًا من أخيه، مات في خلافة سليمان بن عبد الملك، "عن أبيه يرفعه" لفظة استعملها المحدثون بدل قال -صلى الله عليه وسلم: "نسمة" أي: روح "المؤمن طائر يعلق" بفتح اللام في رواية الأكثر، كما قاله القرطبي, "في شجر الجنة" تسرح فيها لتأكل منها.
وقال الإمام السهيلي في الروض: ويعلق -بفتح اللام- يتشبث بها، ويرى مقعده منها، ومن رواه بضم اللام فمعناه: يصيب منها العلقة من الطعام، فقد أصاب دون ما أصاب غيره ممن أدرك الرغد، أي: العيش الواسع, فهو مثل مضروب يفهم منه هذا المعنى، وإن أراد بيعلق الأكل نفسه, فهو مخصوص بالشهيد، فتكون رواية من رواه بالضم للشهداء، ورواية الفتح لمن دونهم، والله تعالى أعلم بما أراد رسوله من ذلك، انتهى.(2/456)
حتى يرجعه الله إلى جسده يوم يبعثه".
وقوله: يعلق، أي: يأكل، وفي هذا الحديث أنَّ روح المؤمن تكون على شكل طائر في الجنة، وأمَّا أرواح الشهداء ففي حواصل طير خضر، فهي كالراكب بالنسبة إلى أرواح عموم المؤمنين، فإنها تطير بأنفسها. فنسأل الله تعالى الكريم المنَّان أن يميتنا على الإسلام.
وقد استشهد من المسلمين يوم أحد سبعون -فيما ذكره مغلطاي وغيره, وقيل: خمسة وستون, أربعة من المهاجرين.
وروى ابن منده من حديث أُبَيّ بن كعب قال:
__________
ووقع في بعض نسخ الشافية تصحيف، فقال: يعلق -بضم اللام: يتشبث، وبفتحها: يصيب منها العلقة، والصواب ما في الروض وهو المناسب لقوله العلقة؛ إذ هي بالضم, كلَّ ما يتبلّغ به من العيش كما في القاموس، "حتى يرجعه الله إلى جسده يوم يبعثه" يوم القيامة، "وقوله: يعلق" بالتحتية، صفة لطائر كتذكير الضمير في يرجعه، "أي: يأكل، وفي هذا الحديث: "إن روح المؤمن تكون على شكل طائر في الجنة" , لا أن روحه جعل في جوف طائر ليأكل ويشرب كالشهيد.
"وأمَّا أرواح الشهداء ففي حواصل طير خضر، فهي كالراكب بالنسبة إلى أرواح عموم المؤمنين، فإنها تطير بأنفسها" على ما دلَّ عليه الحديثان، وقد تأوَّل بعضهم كما في الروض حديث "نسمة المؤمن" مخصوصًا بالشهيد، انتهى. ولكن المتبادر خلافه، ولذا جزم ابن كثير بالعموم, "فنسأل الله تعالى الكريم المنَّان أن يميتنا على الإسلام" بمنِّه وكرمه, "وقد استشهد من المسلمين يوم أحد سبعون فيما ذكره مغلطاي وغيره" اعتمادًا على ما صرَّح به حديث البراء وأنس في الصحيح، وأُبَيّ بن كعب، وقد صحَّحه ابن حِبَّان وهو المؤيَّد بقوله تعالى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا} [آل عمران: 165] .
اتفق علماء التفسير على أن المخاطب بذلك أهل أُحد، وأنَّ المراد بإصابتهم مثليها يوم بدر بقتل سبعين، وأسر سبعين، وبه جزم ابن إسحاق, وقد مَرَّ له مزيد، وأنَّ الزيادة إن ثبتت إنما نشأت عن الخلاف في التفصيل, وليست زيادة في الجملة، قاله اليعمري والعسقلاني: "وقيل: خمسة وستون, أربعة من المهاجرين" حمزة، وعبد الله بن جحش، وشماس بن عثمان، ومصعب بن عمير كما عند ابن إسحاق.
"وروى ابن منده" والحاكم في الإكليل والمستدرك "من حديث أُبَيّ بن كعب، قال:(2/457)
استشهد من الأنصار يوم أحد أربعة وستون, ومن المهاجرين ستة, وصحَّحه ابن حِبَّان من هذا الوجه.
وقتل من المشركين ثلاثة وعشرون رجلًا، وقتل -عليه الصلاة والسلام- بيده أُبَيّ بن خلف.
__________
استشهد من الأنصار يوم أحد أربعة وستون، ومن المهاجرين ستة.
قال الحافظ: وكان الخامس سعد مولى حاطب، ذكره موسى بن عقبة، والسادس ثقيف بن عمرو الأسلمي حليف بني عبد شمس، فقد عدَّه الواقدي منهم، "وصحَّحه ابن حبان من هذا الوجه", وكذا الحاكم وهو قول الأكثر، وعد ابن سعد من استشهد بأحد من غير الأنصار: الحارث بن عقبة بن قابوس المزني، وعمَّه وهب بن قابوس، وعبد الله وعبد الرحمن ابني الهبيب -بموحدتين- مصغَّر من بني سعد بن ليث، ومالكًا والنعمان ابني خلف بن عون الأسلميين، قال: إنهما كانا طليعة للنبي -صلى الله عليه وسلم- فقتلا.
قال الحافظ: ولعلَّ هؤلاء كانوا من حلفاء الأنصار فعدوا فيهم، فإن كانوا من غير المعدودين أولًا، فحينئذ تكمل العدة سبعين من الأنصار، وتكون جملة من قتل أكثر من سبعين. ومن قال سبعون، ألغى الكسر، انتهى. "وقتل من المشركين ثلاثة وعشرون رجلًا" منهم حملة اللواء من بني عبد الدار بن قصي، عشرة بغلامهم قد سبق ذكرهم.
وقال ابن إسحاق: اثنان وعشرون رجلًا، فأسقط واحدًا, وهو شريح بن قارظ.
وفي سيرة مغلطاي ما لفظه: وقتل من المشركين ثلاثة، ويقال: اثنان وعشرون رجلًا، وهذه عبارة موهمة كما قاله البرهان.
"وقتل -عليه الصلاة والسلام- بيده أُبَيَّ بن خلف", ولم يقتل بيده أحد سواه. ففي قول ابن إسحاق: ناول سيفه فاطمة فقال: "اغسلي عن هذا دمه" نظر، وكذا في قوله: "رمى عن قوسه حتى صارت شظايا"، كذا ذكر ابن تيمية، وقال: الشجاعة تكون شيئين: قوة القلب وثباته عند المخاوف، والثاني: شدة القتال بالبدن بأن يقتل كثيرًا، أو يقتل قتلًا عظيمًا, والأول هو الشجاعة، والثاني يدل على قوة البدن وعمله، وليس كل قوي البدن قوي القلب، ولا عكسه، والخصلة الأولى يحتاج إليها أمراء الجيوش والحروب وقوادها أكثرمن الثانية، فإن المقدم إذا كان شجاع القلب ثابتًا، أقدم وثبت ولم ينهزم، فقاتل معه أعوانه، وإذا كان جبانًا ضعيف القلب ذلَّ ولم يقدم ولم يثبت، ولو كان قوي البدن, وكان -صلى الله عليه وسلم- أكمل الناس في هذه الشجاعة التي هي المقصودة في أئمة الحرب، ولم يقتل بيده إلّا أُبَيّ بن خلف.
قال البرهان: وفي المستدرك عن ابن عباس، لما رجع -صلى الله عليه وسلم- من أُحد أعطى فاطمة ابنته(2/458)
وحضرت الملائكة يومئذ، ففي حديث سعد بن أبي وقاص عند مسلم في صحيحه: أنه رأى عن يمين رسول الله -صلى الله عليه وسلم, وعن شماله يوم أحد رجلين عليهما ثياب بيض ما رأيتهما قبل ولا بعد، يعني جبريل وميكائيل يقاتلان عنه كأشد القتال.
وفيه -كما قدمناه في غزوة بدر- أن قتال الملائكة معه -صلى الله عليه وسلم- لا يختص بيوم بدر، خلافًا لمن زعمه، كما نصَّ عليه النووي في شرح مسلم كما قدَّمته, والله أعلم.
__________
سيفه، فقال: "بنية اغسلي عنه الدم" وأعطاها علي سيفه. وقال هذا: فاغسلي عنه دمه.. الحديث. ولم يتعقبه الذهبي ففيه ردّ على ابن تيمية.
"وحضرت الملائكة يومئذ، ففي حديث سعد بن أبي وقاص عند مسلم في صحيحه" في كتاب المناقب، لا المغازي، "أنه رأى", ولفظه قال: رأيت، "عن يمين رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعن شماله يوم" وقعة "أُحد رجلين" أي: ملكين في صورة رجلين, "عليهما ثياب بيض, ما رأيتهما قبل ولا بعد".
وفي رواية الطيالسي: لم أرهما قبل ذلك اليوم ولا بعده.
"يعني: جبريل وميكائيل يقاتلان عنه" صلى الله عليه وسلم "كأشد القتال".
قال المصنف: الكاف زائدة، أو للتشبيه، أي: كأشد قتال بني آدم، وهذ الحديث أخرجه البخاري أيضًا، ولكنه لم يقع عنده التصريح باسم الملكين، فلذا اقتصر المصنّف على عزوه له، "وفيه كما قدمناه في غزوة بدر أن قتال الملائكة معه -صلى الله عليه وسلم- لا يختص بيوم ببدر،" لتصريحه بأنهما قاتلا يوم أُحد. وأيضًا روى الطبراني وابن منده أنه -صلى الله عليه وسلم- سأل الحارث بن الصمَّة عن عبد الرحمن بن عوف، فقال: هو بجنب الجبل، فقال -صلى الله عليه وسلم: "إن الملائكة تقاتل معه". قال الحارث: فذهبت إليه فوجدت بين يديه سبعة، فقلت له: ظفرت يمينك أكل هؤلاء قتلت؟ فقال: أما هذا وهذا فأنا قتلتهما، وأمَّا هؤلاء فقتلهم من لم أره، فقلت: صدق الله ورسوله.
وروى ابن سعد: أن مصعبًا لما قُتِلَ أخذ اللواء ملك في صورته، فجعل -صلى الله عليه وسلم- يقول: "تقدَّم يا مصعب" فالتفت الملك إليه وقال: لست بمصعب، فعرف أنه ملك أُيّد به، "خلافًا لمن زعمه كما نصَّ عليه انووي في شرح مسلم كما قدمته، والله أعلم" وقد قدَّمنا ثمة الجواب عن البيهقي وغيره, بما حاصله أنَّ قتالهم ببدر كان عامًّا عن جميع القوم، وأمَّا في أُحد فإنهما ملكان, وقتالهما عن المصطفى فقط.(2/459)
ولما بكى المسلمون على قتلاهم سر بذلك المنافقون, وظهر غش اليهود.
ذكر القاضي عياض في الشفاء, عن القاضي أبي عبد الله بن المرابط من المالكية أنه قال: من قال إن النبي -صلى الله عليه وسلم- هزم يستتاب, فإن تاب وإلّا قُتِل؛ لأنه تنقص،؛ إذ لا يجوز ذلك عليه في خاصته؛ إذ هو على بصيرة من أمره ويقين من عصمته،
__________
قال شيخنا: على أنه لا يلزم من ذلك قتال, بل يجوز أنهما كانا يدفعان عنه ما يُرْمَى به من السهام، ونحوهما، وعبَّر عن ذلك بالقتال مجازًا، وأمَّا الذي حمل اللواء فليس فيه أنه قاتل، فيجوز أنه رفع اللوء ليراه المسلمون فلا ينكسروا، وكذا لا يرد مقاتلتهم مع ابن عوف؛ لأنه ليس عن عموم الجيش, فهو مخصوص بعبد الرحمن.
"ولما بكى المسلمون على قتلاهم سُرَّ بذلك المنافقون" باطنًا، ولذا عبَّر بسُرَّ لإسلامهم ظاهرًا, حتى بعد أُحد, وإن خذلوا وأمروا بالتفرق، وقالوا: {لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا} ، فرد الله عليهم: {فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ} ، "وظهر غش اليهود" الذي كانوا يخفونه خوفًا من المسلمين؛ حيث تخيَّلوا وهنهم، فلذلك عبَّر بظهر لمخالفتهم في الظاهر والباطن، فقالوا: ما محمد إلّا طالب ملك، ما أصيب هكذا نبيّ قط, أصيب في بدنه وفي أصحابه، وما هذا البهتان بأقوى من قتلهم الأنبياء بغير حق.
تتمة إيقاظ لئلَّا يغترَّ ناقص العلم بما قد وقع في سياق الحديث، فيسري إلى وهمه أنه يجوز اعتقاده أو التكلم به.
"ذكر القاضي عياض في الشفاء عن القاضي أبي عبد الله" محمد بن خلف بن سعيد، المعروف ب"ابن المرابط, من المالكية" الإفريقي، فقيه بلده، ومفتيه وقاضيه، كان من أهل الفضل والفقه والتفنن, سمع أبا القاسم المهلب، وأجازه أبو عمر الطلمنكي، وشرح البخاري شرحًا كبيرًا حسنًا، ورحل إليه الناس وسمعوا منه. توفِّي بعد الثمانين وأربعمائة، "أنه قال: من قال إنَّ النبي -صلى عليه وسلم- هزم", وما في معناه من فَرَّ وهَرَب وتوارى واختفى؛ إذ العلة في ذلك تنقيصه, ولا توقف عندنا في ذلك، "يستتاب"" أي: يطلب منه الرجوع عمَّا قاله، "فإن تاب" قبلت توبته، "وإلّا قُتِلَ؛ لأنه تنقُّص" أي: ذم وتعييب، لكن في القاموس وغيره: انتقصه، فالمناسب أن يقول: لأنه انتقاص، والذي في الشفاء تنقيص بياء قبل الصاد، "إذ لا يجوز ذلك عليه في خاصيته" أي: لا مرخصه الله به، حيث ثبَّت قلبه، وألقى الرعب في قلوب أعدائه؛ "إذ هو على بصيرة من أمره" يعرف بها أن أحدًا لا يقدر على إصابته بسوء، "ويقين من عصمته", أي: عصمة الله له بحفظه، وأي يقين مثل ما وقع له يوم أُحد بحيث لم يبق معه غير طلحة وسعد في بعض الأوقات، وهو(2/460)
انتهى.
وهذا موافق لمذهبنا. لكن قال العلامة البساطي من المالكية: هذا القائل إن كان يخالف في أصل المسألة، أعني: حكم السابّ، فله وجه، وإن وافق على أن السابّ لا تقبل توبته فمشكل, انتهى.
وقد كان في قصة أُحد، وما أصيب به المسلمون من الفوائد والحِكَم الربانية أشياء عظيمة:
منها: تعريف المسلمين سوء عاقبة المعصية, وشؤم ارتكاب النهي، لما وقع من ترك الرماة موقفهم الذي أمرهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن لا يبرحوا منه.
__________
ثابت, ما يزال يرمي عن قوسه ينادي إلي عباد الله، ولم يبال بأن تسمع الأعادي صوته. "انتهى" كلام ابن المرابط وهو ضعيف، وإن مشى عليه صاحب المختصر؛ لأنه خلاف قول مالك وأصحابه، ولذا عقَّب صاحب الشفاء كلامه بقول القروي مذهب مالك وأصحابه أنَّ من قال فيه ما فيه نقص قُتِلَ دون استتابة.
"و" لذا قال المصنف: "هذا موافق لمذهبنا" أي: الشافعية، أنَّ سبَّ الرسول رِدَّة, "لكن قال العلامة" شيخ الإسلام " البساطي" قاضي القضاة المالكية بمصر, شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان، وُلِدَ سنة ستين وسبعمائة، وبرز في الفنون ودرس بالشيخونية وغيرها، وصنَّف تصانيف، ومات في رمضان سنة اثنتين وأربعين وثمانمائة "من المالكية" في شرح المختصر، "هذا القائل إن كان يخالف" المالكية "في أصل المسألة، أعني: حكم السباب" بمعنى السبّ، أي: الشتم، من أنه يقتل حدًّا وإن تاب، ويقول بمذهب الشافعية من قبول توبته مطلقًا، "فله وجه"؛ لأنه خرج عن مذهبه لغيره، "وإن وافق على أن الساب لا تقبل توبته" بالنسبة إلى أحكام الدنيا، بمعنى أنها لا تفيده في نفي قتله؛ لأنه حدٌّ كالزنا والشرب، "فمشكل" لمخالفته، نص مالك وأصحابه، "انتهى. وقد كان في قصة أُحد" كما نقله في الفتح عن العلماء: "وما أصيب به المسلمون من الفوائد والحِكَم الربانية أشياء عظيمة, منها: تعريف المسلمين سوء عاقبة المعصية وشؤم ارتكاب النهي،" أي: المنهيّ عنه، "لما وقع من ترك الرماة موقفهم الذي أمرهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن ايبرحوا منه", وإلى هذا أشار -سبحانه وتعالى: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ} [آل عمران: 152] الآية، إلى قوله: {وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِين} [آل عمران: 152] الآية.
أخرج الطبري عن السدي وغيره: إن المراد بالوعد قوله -صلى الله عليه وسلم- للرماة: "إنكم ستظهرون(2/461)
ومنها: إن عادة الرسل أن تبتلى ثم تكون لهم العاقبة، والحكمة في ذلك أن لو انتصروا دائمًا لدخل في المسلمين من ليس منهم, ولم يتميز الصادق من غيره, ولو انكسروا دائمًا لم يحصل المقصود من البعثة، فاقتضت الحكمة الجمع بين الأمرين ليتميّز الصادق من الكاذب, وذلك أنَّ نفاق المنافقين كان مخفيًا عن المسلمين, فلمَّا جرت هذه القصة وأَظْهرَ أهل النفاق ما أظهروه من الفعل والقول, عاد التلويح تصريحًا، وعرف المسلمون أن لهم عدوًّا في دورهم, فاستعدوا لهم وتحرزوا منهم.
ومنها:
__________
عليهم فلا تبرحوا من مكانكم حتى آمركم" , وعن قتادة ومجاهد: تحسونهم، أي: تقتلونهم. وقال البخاري وابن هشام: تستأصلونهم قتلًا، وهو من كلام أبي عبيدة.
قال جرير:
تحسهم السيوف كما تسامى ... حريق النار في الأجمّ الحصيد
قال ابن مسعود: ما كنت أرى أحدًا من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- يريد الدنيا حتى نزلت هذه الآية يوم أحد: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ} [آل عمران: 152] الآية. رواه السدي، وقد يرد عليه قوله تعالى: {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا} [الأنفال: 67] الآية، فإنها نزلت في شأن بدر وهي قبل هذه.
"ومنها: أنّ عادة الرسل أن تبتلى، وتكون لهم العاقبة" كما قاله هرقل لأبي سفيان, "والحكمة في ذلك: أن لو انتصروا دائمًا، لدخل في المسلمين من ليس منهم, ولم يتميز الصادق من غيره" كما قال تعالى: {وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [آل عمران: 154] الآية، ذكره ليدل على أن ابتلاءه لم يكن لأنه يخفى عليه ما في الصدور وغيرها؛ لأنه عالم بجميع المعلومات، وإنما ابتلاهم لمحض الإلهية، أي: للاستصلاح. "ولو انكسرو دائمًا لم يحصل المقصود من البعثة، فاقتضت الحكمة الجمع بين الأمرين ليتميز الصادق من الكاذب" كما قال تعالى: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} [آل عمران: 179] الآية، أي: المنافقين من المؤمنين، "وذلك أن نفاق المنافقين كان مخفيًا عن المسلمين" أي: مستورًا، اسم مفعول من خفاء لا من خفي، فإنه لازم ولا يأتي المفعول منه إلّا بالصلة, "فلمَّا جرت هذه القصة وأظهر أهل النفاق ما أظهروه من الفعل والقول" كانخزالهم وقولهم: لو نعلم قتالًا لاتَّبعناكم، "عاد التلويح تصريحًا" أي: عاد ما كانوا يضمرونه ويتكلمون به فيما بينهم ويخفونه عن المسلمين مصرحًا(2/462)
أنَّ في تأخير النصر في بعض المواطن هضمًا للنفس وكسرًا لشماختها, فلمَّا ابتلي المسلمون صبروا وجزع المنافقون.
ومنها: أنَّ الله تعالى هيأ لعباده المؤمنين منازل في دار كرامته لا تبلغها أعمالهم، فقيِّضَ لهم أسباب الابتلاء والمحن ليصلوا إليها.
ومنها: أن الشهادة من أعلى مراتب الأولياء فساقهم إليها.
ومنها: أنه أراد هلاك أعدائه فقيّض لهم الأسباب التي يستوجبون بها ذلك من كفرهم وبغيهم وطغيانهم في أذى أوليائه، فمحَّص ذنوب المؤمنين
__________
به، "وعرف المسلمون أنَّ لهم عدوًّا في دورهم، فاستعدوا لهم وتحرزوا منهم، ومنها: أنَّ في تأخير النصر في بعض المواطن هضمًا للنفس، وكسرًا لشماختها" تكبرها وتعاظمها، تفسير لهمضها، "فلمَّا ابتلي المسلمون صبروا وجزع" بكسر الزاي "المنافقون" أي: لم يصبروا.
"ومنها: أنَّ الله تعالى هيأ لعباده المؤمنين منازل في دار كرامته" الجنة، "لا تبلغها أعمالهم، فقيض لهم أسباب الابتلاء والمِحَن" جمع محنة، مساوٍ للابتلاء، "ليصلوا إليها" كما قال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِين} [آل عمران: 142] .
قال ابن إسحاق: أي: حسبتم أن تدخلوا الجنة فتصيبوا من ثوابي الكرامة، ولم أخبركم بالشدة، وأبتليكم بالمكاره، حتى أعلم أصدق ذلك منكم الإيمان بي, والصبر على ما أصابكم فيّ.
"ومنها: أن الشهادة من أعلى مراتب الأولياء فساقهم إليها،" إكرامًا لهم؛ حيث اتخذ منهم شهداء، وقد قال -صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده, لولا أنَّ رجالًا من المؤمنين لا تطيب أنفسهم أن يتخلفوا عنِّي, ولا أجد ما أحملهم عليه ما تخلَّفت عن سرية تغزو في سبيل الله، والذي نفسي بيده لوددت أن أقتل في سبيل الله, ثم أحيا، ثم أقتل ثم أحيا، ثم أقتل ثم أحيا، ثم أقتل" رواه البخاري ومسلم وغيرهما.
"ومنها: أنه أراد إهلاك أعدائه، فقيّض لهم الأسباب التي يستوجبون بها ذلك"؛ حيث اعتقدوا أنهم على شيء من ظفرهم الصوري بالمسلمين، فزادوا وعتوًّا وتجبرًا، وإلّا فقد ألقى في قلوبهم الرعب "من كفرهم وبغيهم وطغيانهم في أذى أوليائه، فمحَّص ذنوب المؤمنين،" التمحيص التخليص من الشيء المعيب، وقيل: هو الابتلاء والاختيار. قال:
رأيت فصيلًا كأن شيئًا ملفقًا ... فكشفه التمحيص حتى بداليا(2/463)
ومحق بذلك الكافرين.
__________
"ومحق بذلك الكافرين" كما قال تعالى: {وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِين} الآية. أي: يهلك الكافرين الذين حاربوا يوم أحد ولم يسلموا؛ لأنه تعالى لم يمحق كل كافر، بل بقي منهم كثير على كفرهم. والمعنى: إن كانت الدولة على المؤمنين فللتمييز والاستشهاد والتمحيص، وإن كان على الكافرين فلمحقهم ومحو آثارهم.
ومنها: أن الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- إذا أصيبوا ببعض العوارض الدنيوية من الجراحات والآلام والأسقام تعظيمًا لأجرهم, تأسَّى بهم أتباعهم في الصبر على المكاره والعاقبة للمتقين.
قال ابن إسحاق: أنزل الله في شأن أُحد ستين آية من آل عمران.
وروى ابن أبي حاتم وأبو يعلى من طريق المسْوَر بن مخْرَمَة قال: قلت لعبد الرحمن بن عوف: أخبرني عن قصتكم يوم أُحد؟ قال: اقرأ العشرين ومائة من آل عمران تجدها، {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ} إلى قوله: {أَمَنَةً نُعَاسًا} . قال: ألقى عليهم النوم، والله أعلم.(2/464)
"غزوة حمراء الأسد":
وهي على ثمانية أميال من المدينة, على يسار الطريق إذا أردت ذا الحليفة.
وكانت صبيحة يوم الأحد لست عشرة، أو لثمان خلون من شوال, على رأس اثنين وثلاثين شهرًا من الهجرة لطلب عدوهم بالأمس،
__________
غزوة حمراء الأسد:
بالحاء المهملة والمد. قال أبو عبيد البكري: تأنيث أحمر مضافة إلى أسد، "وهي" أنَّثه لكونه اسمًا للبقعة أو نظرًا للفظ حمراء، وإلّا ففي النور اسم مكان، والقاموس موضع، "على ثمانية أميال", وقيل: عشرة كما في الخميس، "من المدينة عن يسار الطريق إذا أردت" أيها الذاهب من المدينة "ذا الحليفة", تكون عن يسارك، "وكان صبيحة يوم أحد" وهو يوم السبت، فهذه الغزوة يوم الأحد "ليست عشرة ليلة مضت" عند ابن إسحاق, "أو لثمانٍ خَلَوْنَ" عند ابن سعد، "من شوال على رأس اثنين وثلاثين شهرًا من الهجرة".
قال اليعمري: والخلاف عندهم كما سبق في أُحد، "لطلب عدوهم" مصدر مضاف لمفعوله، أي: الذين عادوهم "بالأمس" أي: اليوم الذي قبل يوم خروجهم؛ لأنه كما ذكر الواقدي، باتت وجوه الأنصار على بابه -صلى الله عليه وسلم خوفًا من كرة العدوّ، فلمَّا طلع الفجر وأذَّن بلال بالصلاة، وجاء عبد الله ابن عمرو المزني, فأخبره -صلى الله عليه وسلم- أنه قد أقبل من أهله, حتى إذا كان بملل بميم(2/464)
ونادى مؤذن رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "أن لا يخرج معنا أحدٌ إلّا من حضر يومنا بالأمس"، أي: من شهد أُحدًا.
__________
ولامين, موضع قرب المدينة، إذا قريش قد نزلوا فسمعهم يقولون: ما صنعتم شيئًا، أصبتم شوكة القوم وحدهم, ثم تركتموهم ولم تبيدوهم، فقد بقي منهم رءوس يجمعون لكم فارجعوا نستأصل من بقي، وصفوان بن أمية يأبى ذلك عليهم ويقول: لا تفعلوا، فإن القوم قد حربوا -بمهملة وموحدة، أي: غضبوا، وأخاف أن يجتمع عليكم من تخلف من الخزرج، فارجعوا والدولة لكم, فإني لا آمن إن رجعتم أن تكون الدولة عليكم. فقال -صلى الله عليه وسلم: "أرشدهم صفوان وما كان برشيد، والذي نفسي بيده, لقد سومت لهم الحجارة, ولو رجعوا لكانوا كأمس الذاهب"، ودعا -صلى الله عليه وسلم- أبا بكر وعمر, فذكر لهما ما أخبر به المزني، فقالا: يا رسول الله, اطلب العدو ولا يقحمون على الذرية، أي: يدخلون، فلمَّا انصرف من صلاة الصبح ندب الناس، "وأذَّن مؤذن رسول الله -صلى الله عليه وسلم".
قال البرهان: لا أعرفه، وفيه تقصير، فقد ذكر الواقدي أنه بلال, أمره أن ينادي: أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يأمركم بطلب عدوكم, و"أن لا يخرج معنا أحد إلّا من خرج معنا أمس".
زاد ابن إسحاق: وكلمه جابر فقال: إن أبي كان خلَّفني على أخوات لي سبع, وفي لفظ: تسع، وهو الصحيح. وقال: يا بني, إنه لا ينبغي لي ولا لك أن تترك هذه النسوة لا رجل فيهنّ, ولست بالذي أترك الجهاد مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على نفسي, فتخلف على أخواتك, فتخلفت عليهنَّ فأذن له -صلى الله عليه وسلم- فخرج معه.
وعند الواقدي: فوثب المسلمون إلى سلاحهم, وما عولوا على دواء جراحهم, وجرح من بني سلمة أربعون جريحًا, بالطفيل بن النعمان ثلاثة عشر جرحًا، وبخراش بن الصمة عشر، وبقطبة بن عامر تسع، وبكعب بن مالك بضعة عشر.
"أي: من شهد أُحد"؛ لعل حكمة ذلك وإن كان خروج المتخلفين فيه زيادة في إرهاب الأعداء وتقوية المسلمين، أنه أراد إظهار الشدة للعدو, فيعلمون من خروجهم مع كثرة جرحاتهم أنَّهم على غاية من القوة والرسوخ في الإيمان وحب الرسول, والزيادة في تعظيم من شهد أُحد، أو أنه خاف اختلاط المنافقين بهم فيمنون عليه بعد بخروجهم معهم وهم مسلمون ظاهرًا، فلا يرد أنه كان يمنعهم دون المسلمين.
وفي البخاري ومسلم وغيرهما عن عائشة: لما انصرف عنه المشركون خاف أن يرجعوا، فقال: "من يذهب في أثرهم"، فانتدب منهم سبعون رجلًا فيهم أبو بكر والزبير.
زاد الطبراني عن ابن عباس، وعمر وعثمان وعلي وعمّار وطلحة وسعد وابن عوف وأبو عبيدة وحذيفة وابن مسعود.(2/465)
وإنما خرج -عليه الصلاة والسلام- مرهبًا للعدو، وليبلغهم أنه خرج في طلبهم؛ ليظنّوا به قوة، وأن الذي أصابهم لم يوهنهم عن عدوهم.
__________
قال الحافظ ابن كثير: هذا سياق غريب جدًّا، فالمشهور عند أصحاب المغازي أنَّ الذين خرجوا إلى حمراء الأسد كل من شهد أُحدًا، وكانوا سبعمائة، قُتِلَ منهم سبعون، وبقي الباقون.
قال الشامي: والظاهر أنه لا تخالف بين قولي عائشة وأصحاب المغازي؛ لأن معنى قولها: فانتدب منهم سبعون، أنهم سبقوا غيرهم، ثم تلاحق الباقون, ولم ينبه على ذلك الحافظ في الفتح، انتهى.
قال ابن هشام: واستعمل على المدينة ابن أمّ مكتوم.
قال ابن سعد: ودعا -صلى الله عليه وسلم- بلوائه وهو معقود لم يحل, فدفعه إلى عليِّ، ويقال: إلى أبي بكر الصديق. "وإنما خرج -عليه الصلاة والسلام- مرهبًا." قال البرهان: بكسر الهاء, اسم فاعل، أي: مخيفًا "للعدو, وليبلغهم أنه خرج في طلبهم" عطف سبب على مسبب، أي: خرج ليبلغهم فيخافوا، وفي نسخة: حذف الواو وهو الذي في ابن إسحاق، وكذا في العيون عنه، "ليظنوا به قوةً, وأن الذي أصابهم لم يوهنهم", أي: لم يضعفهم، "عن عدوهم،" فهذا سبب الغزوة عند ابن إسحاق، وعند موسى بن عقبة وغيره أن سببها ما بلغه من إرادة أبي سفيان العود لاستئصال المسلمين، كذا جعله الشامي خلافًا، وانتقده شيخنا بأنَّ مثل هذا لا يستلزم أن يكون خلافًا في السبب، بل يجوز أنه لما بلغه خبر أبي سفيان خرج لإرهاب العدو حتى لا يرجعوا إلى المدينة, فذكر ابن عقبة السبب الحقيقي وهو بلوغ خبر أبي سفيان وابن إسحاق, ما أراده -صلى الله عليه وسلم- بعد بلوغ الخبر.
وذكر ابن سعد أنه -صلى الله عليه وسلم- ركب فرسه وهو مجروح، فبعث ثلاثة نفر من أسلم طليعةً في آثار القوم، فلحق اثنان منهم القوم بحمراء الأسد, ولهم زجل, ويأتمرون بالرجوع, وينهاهم صفوان، فبصروا بالرجلين فقتلوهما، ومضوا ومضى -صلى الله عليه وسلم- بأصحابه, ودليله ثابت بن الضحاك بن ثعلبة بن الخزرج، حتى عسكر بحمراء الأسد، فوجد الرجلين فدفنهما بقبر واحد.
وروى النسائي والطبراني بسند صحيح عن ابن عباس قال: لما رجع المشركون عن أحد قالوا: لا محمدًا قتلتم ولا الكواعب أردفتم، بئسما صنعتم ارجعوا، فسمع بذلك -صلى الله عليه وسلم, فندب المسلمين فانتدبوا, حتى بلغ حمراء الأسد، أو بئر أبي عتبة، فأنزل الله -عز وجل: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُول} [آل عمران: 172] الآية، وهذا قول أكثر المفسرين ورجَّحه ابن جرير.
وقال مجاهد وعكرمة: نزلت في بدر الصغرى.
قال ابن كثير: والصحيح الأول.(2/466)
وأقام -عليه الصلاة والسلام- بها الاثنين والثلاثاء والأربعاء، ثم رجع إلى المدينة يوم الجمعة, وقد غاب خمسًا.
وظفر -عليه الصلاة والسلام- في مخرجه ذلك بمعاوية بن المغيرة بن أبي العاص, فأمر بضرب عنقه صبرًا.
__________
"وأقام -عليه الصلاة والسلام- بها الاثنين والثلاثاء والأربعاء".
قال ابن سعد: وكان المسلمون يوقدون تلك الليالي خمسمائة نار، حتى ترى من المكان البعيد، وذهب صوت معكسرهم ونيرانهم في كل وجه، فكبت الله بذلك عدوهم.
وعند ابن إسحاق: أنه لقيه بحمراء الأسد معبد بن أبي معبد الخزاعي، فعزاه بمصاب أصحابه، وهو يومئذ مشرك، وأسلم بعد, كما جزم به ابن عبد البر وابن الجوزي، ثم خرج حتى أتى أبا سفيان وأصحابه وهم بالروحاء، وقد أجمعوا الرجعة وقالوا: أصبنا في أُحد أصحاب محمد وقادتهم وأشرافهم، ثم نرجع قبل أن نستأصلهم؛ لنكِرنَّ عليهم فلنفرغنَّ منهم، فلمَّا رأى أبو سفين معبدًا قال: ما وراءك؟ قال: محمد خرج في أصحابه يطلبكم في جمع لم أر مثله قط, يتحرقون عليكم تحرقًا, قد اجتمع معه من كان تخلف عنه في يومكم, وندموا على ما صنعوا, فيهم من الحنق عليكم شيء لم أر مثله قط، قال: ويلك ما تقول! قال: ما أرى أن ترتحل حتى ترى نواصي الخيل، قال: لقد أجمعنا الكرة عليهم لنستأصل بقيتهم، قال: فإني أنهاك عن ذلك، فثنى ذلك المشركين فرجعوا إلى مكة.
وروى ابن جرير عن ابن عباس قال: إن الله قذف في قلب أبي سفيان الرعب يوم أحد بعد الذي كان منه، فرجع إلى مكة. فقال -صلى الله عليه وسلم: "إن أبا سفين قد أصاب منكم طرفًا، وقذف الله في قلبه الرعب".
"ثم رجع" -صلى الله عليه وسلم- بأصحابه بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء "إلى المدينة يوم الجمعة", لم يذكر ابن إسحاق وأتباعه يوم الجمعة، فلعله -صلى الله عليه وسلم- خرج من حمراء الأسد يوم الخميس، وبات بالطريق لغرض ما ليلة الجمعة، ثم دخل يومها، "وقد غاب خمسًا" كما جزم به البلاذري، "وظفر -عليه الصلاة والسلام- في مخرجه ذلك", أي: رجوعه من حمراء الأسد قبل روعه إلى المدينة "بمعاوية بن المغيرة بن أبي العاص" بن أمية بن عبد شمس، وهو جد عبد الملك بن مروان أبو أمه عائشة، "فأمر بضرب عنقه صبرًا" بأن أوثقه حتى أمر بقتله.
قال ابن هشام: ويقال: إن زيد بن حارثة وعمَّار بن ياسر قتلاه بعد حمراء الأسد، كان لجأ إلى عثمان فاستأمن له رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فأمَّنه على أنه إن وجد بعد ثلاث قُتِل، فأقام بعد ثلاث(2/467)
قال الحافظ مغلطاي: وحُرِّمَت الخمر في شوال، ويقال: سنة أربع. انتهى.
قال أبو هريرة فيما رواه أحمد: حُرِّمَت الخمر ثلاث مرات, قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المدينة وهم يشربون الخمر، ويأكلون الميسر،.............................................
__________
وتوارى، فبعثهما -صلى الله عليه وسلم- فقال: "إنكما ستجدانه بموضع كذا وكذا"، فوجداه فقتلاه، وبهذ عارض البرهان الأول. وجمع شيخنا بأنه لما توارى أرسل يطلبه، فظفر به زيد وعمَّار وأوثقاه وجاءا به إلى النبي -صلى الله عليه وسلم, فأمرهما بقتله, وأنهما لما ظفرا به أوثقاه ثم قتلاه اكتفاء بإشارته لهما بقتله، فيكون في قوله: "أمر بضرب عنقه صبرًا" تسمح.
وفي سيرة ابن هشام: وأخذ -صلى الله عليه وسلم- أبا عزَّة -بعين مهملة وزاي مشددة مفتوحة وتاء تأنيث- عمرو بن عبد الله الجمحي، وكان أسره ببدر، ثم مَنَّ عليه فقال: يا رسول الله, أقلني، فقال: "والله لا تمسح عارضيك بمكة تقول: خدعت محمدًا مرتين، اضرب عنقه يا زبير"، فضرب عنقه.
قال ابن هشام: وبلغني عن سعيد بن المسيب أنه قال: قال -صلى الله عليه وسلم: "إن المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين، اضرب عنقه يا عاصم بن ثابت"، فضرب عنقه.
"قال الحافظ مغلطاي: وحُرِّمَت الخمرة في شوال" سنة ثلاث بعد وقعة أُحد. ففي الصحيح عن جابر قال: اصطبح الخمر يوم أُحد ناس، ثم قتلوا شهداء. زاد في رواية: وذلك قبل تحريمها، "ويقال: سنة أربع"، ذكره ابن إسحاق وفيه نظر؛ لأن أنسًا كان الساقي يوم حُرِّمَت، فلمَّا سمع النداء بتحريمها بادر فأراقها. فلو كان ذلك سنة أربع لكان أنس يصغر ع ذلك "انتهى" كلام مغلطاي بما زدته، كما نقله عنه المصنف في الحديبية، وفي نظره نظر؛ لأن أنسًا كان ابن أربع عشرة سنة، فليس يصغر عن ذلك على أن إراقتها كان بأمر الصحابة له، كما في البخاري عنه. وجزم الدمياطي بأن تحريمها كان سنة الحديبية.
"قال أبو هريرة فيما رواه أحمد: حُرِّمَت الخمر ثلاث مرات", أي: نزل تحريمها في القرآن ثلاثًا، إلّا أنها حرمت ثم حرمت. وهكذا قال الإمام الشافعي: ليس شيء أُحِلَّ ثم حُرِّمَ، ثم أُحِلَّ ثم حُرِّمَ إلا المتعة. قال بعضهم: نسخت ثلاثًا، وقيل: أكثر. ويدل عليه اختلاف الروايات في وقت تحريمها، نقله الحافظ في تخريج الرافعي, ومَرَّ في تحويل القبلة عن ابن العربي أنها كنكاح المتعة ولحوم الحمر الأهلية, نُسِخَت مرتين.
وزاد أبو العباس العزفي: الوضوء مما مسَّت النار، وأيًّا كان فليس الخمر منها, وبين المرات بقوله: "قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المدينة وهم يشربون الخمر ويأكلون الميسر" أي: يتناولون المال المتحصل من القمار، ويصرفونه في منافعهم، وخصَّ الأكل لكثرة وقوعه وعمومه(2/468)
فسألوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأنزل الله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} [البقرة: 219] إلى آخر الأية. فقال الناس: ما حرم علينا، إنما قال: فيهما إثم كبير.
وكانوا يشربون الخمر حتى كان يومًا من الأيام صلى رجل من المهاجرين, أمَّ أصحابه في المغرب خلط في قراءته، فأنزل الله آية أغلظ منها فيها {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: 43] .
__________
والاحتياج إليه، "فسألوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عنهما" عن حكمهما أحلال أم حرام؟ "فأنزل الله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} [البقرة: 219] الآية، ما حكمهما؟ {قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِير} [البقرة: 219] الآية، عظيم, وفي قراءة بالمثلثة لما يحصل بسببهما من المخاصمة والمشاتمة، وقول الفحش، {وَمَنَافِعُ لِلنَّاس} باللذة والفرح في الخمر، وإصابة المال بلا كَدٍّ في الميسر "إلى آخر الآية", يعني: وإثمهما أكبر من نفعهما، "فقال الناس: ما حرم علينا, إنما قا فيهما إثم كبير" كأنهم فهموا أن المراد به ما يكون سببًا لفعل الحرام من تغيير العقل بالخمرة، وقيام النفوس بالقمار, فهما مظنة للحرام، ولا يلزم منه التحريم، "وكانوا يشربون الخمر", وفي إقراره -صلى الله عليه وسلم- لهم دليل على أن المراد ما فهموه "حتى كان" وجد "يوم من الأيام" وفي نسخة: يومًا بالنصب على الظرفية، أي: في يوم، وعلى التقديرين فقوله: "صلى رجل" في موضع المصدر, لكن على النصب, المصدر المؤوّل اسم كان، وعلى الرفع فاعل لفعل مقدَّر، أي: حتى وجد يوم وقع فيه صلاة رجل "من المهاجرين" هو علي، وقيل: ابن عوف، على ما حكاه ابن كثير، "أمَّ أصحابه في المغرب خلط في قراءته".
وروى أبو داود، والترمذي، وحسَّنه النسائي والحاكم عن علي قال: صنع لنا عبد الرحمن بن عوف طعامًا، فدعانا وسقانا من الخمر، فأخذت الخمر منَّا وحضرت الصلاة، فقدموني فقرأت: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ، لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} ونحن نعبد ما تعبدون، "فأنزل الله آية أغلظ منها فيها،" ولم تقع هذه الجملة في حديث علي, إنما قال: فأنزل الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ} [النساء: 43] الآية، أي: لا تصلوا {وَأَنْتُمْ سُكَارَى} [النساء: 43] الآية، من الخمر عند الأكثرين؛ لأن سبب نزولها صلاة جماعة حال السكر.
وقال الضحاك: المراد من النوم، قاله البغوي، {حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: 43] الآية" بأن تصحوا، وكان وجه الغلظ اشتمالها على النهي صريحًا، لكنه ليس عن شرب الخمر،(2/469)
وكان الناس يشربون ثم نزلت آية أغلظ منها {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} إلى قوله: {فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 90] قال: انتهينا ربنا.
والميسر: القمار وقيل غيره.
__________
وإنما هو عن الصلاة مع السكر خصوصًا، وقد فسَّر البيضاوي السكر بما يشمل غير الخمر من نحو نوم حتى ينتبهوا.
وقال ابن كثير: يحتمل أنَّ المراد التعريض بالنهي عن السكر بالكلية؛ لكونهم مأمورين بالصلاة في الخمسة أوقات من الليل والنهار، فلا يتمكَّن شارب الخمر من أدائها في أوقاتها دائمًا، انتهى. فكأنما قيل لهم: حال الصحو لا تسكروا لئلّا يفوتكم به شيء من الصلاة.
"وكان الناس يشربون،" لأنهم ما نهوا عنه، "ثم نزلت آية أغلظ من ذلك" للأمر الصريح باجتنابها، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} [المائدة: 90] "الآية، إلى قوله: {فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} الآية، وضمير اجتنبوه للرجس المعبّر به عن هذه الأشياء، كما جزم به الجلال.
وزاد البيضاوي: أو للتعاطي. قال: وأكد تحريمهما فصدر الجملة بإنما, وقرنهما بالأنصاب والأزلام، وسمَّاهما رجسًا، وجعلهما من عمل الشيان تنبيهًا على أنَّ الاشتغال بهما شر بحت أو غالب، وأمر باجتناب عينهما، وجعله سببًا يرجى منه الفلاح، ثم قرر ذلك بأن بيِّن ما فيهما من المفاسد، فقال: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَان} الآية. "قال: انتهينا ربنا" كذا في النسخ.
فقال الشارح: قائله عمر، كما مَرَّ عن البيضاوي, والذي مَرَّ حديث آخر غير هذ، والذي في المسند لأحمد عن أبي هريرة، ثم نزلت آية أغلظ من ذلك: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} [المائدة: 90] الآية، إلى قوله {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُون} [المائدة: 91] الآية، قالوا: انتهينا ربنا، فقال الناس: يا رسول الله ناس قتلوا في سبيل الله، وماتوا على فراشهم، وكانوا يشربون الخمر، ويأكلون الميسر، وقد جعله الله رجسًا من عمل الشيطان، فأنزل الله: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} [المائدة: 93] الآية، إلى آخر الآية. "والميسر" بكسر السين، وتضم وتفتح كما في القاموس، "القمار" بكسر القاف.
قال البيضاوي: سُمِّيَ به؛ لأنه أخذ مال الغير بيسر أو سلب يساره، أي: غناه، "وقيل غيره", فقيل هو التردد، وقيل: اللعب بالقداح، وقيل: الجزور التي كانوا يتقامرون عليها إذا أرادوا أن ييسروا، اشتروا جزورًا نسيئة، ونحروه قبل أن ييسروا، وقسموه ثمانية وعشرين قسمًا، وعشرة أقسام، فإذا خرج واحد واحد باسم رجل رجل، ظهر فوز من خرج لهم ذوات الأنصباء،(2/470)
وولد الحسن بن علي في هذه السنة.
__________
وغرم من خرج لهم الغفل، كذا في القاموس، انتهى.
"وولد الحسن بن علي في هذه السنة"، سنة ثلاث في منتصف رمضان.
قال أبو عمر: هذا أصحّ ما قيل، وقيل: ولد لنصف شعبان سنة ثلاث، وقيل: ولد بعد أُحد بسنة، وقيل: بسنتين، حكاها ابن الأثير.
قال الواقدي: وحملت فاطمة بالحسين بعد مولد الحسن بخمسين ليلة، وكانت الداية أسماء بنت عميس وأم أيمن.
وروى ابن منده عن سوادة الكندية، قالت: كنت فيمن شهد فاطمة حين ضربها المخاض، فجاء -صلى الله عليه وسلم- فقال: "كيف هي"؟ قلت: إنها لتجهد، قال: "فإذا وضعت فلا تحدثي شيئًا" فوضعت ابنًا، فسررته ووضعته في خرقة صفراء، فقال: "ائتيني به"، فلففته في خرقة بيضاء، فتفل في فيه، وسقاه من ريقه، ودعا عليًّا فقال: "ما سميته"؟، قال جعفرًا، قال: "لا, ولكنه الحسن".
وأخرج أحمد وأبو حاتم عن علي, لما ولد الحسن سميته حربًا، فجاء -صلى الله عليه وسلم- فقال: "أروني ابني ما سميتموه" , قلنا: سميناه حربًا فقال: "بل هو حسن"، فلمَّا ولد الحسين الثالث سميته حربًا، فجاء -صلى الله عليه وسلم- فقال: "أروني ابن ما سميتموه" قلنا: حربًا، قال: "بل هو حسين" , فلمَّا ولد الثالث سميته حربًا, فجاء -صلى الله عليه وسلم- فقال: "أروني ابني ما سميتموه"، قلنا: حربًا، فقال: "بل هو محسن".(2/471)
"سرية أبي سلمة عبد الله بن عبد الأسد":
ثم سرية عبد الله بن عبد الأسد، هلال المحرَّم على رأس خمس وثلاثين شهرًا من الهجرة، إلى قطن -جبل بناحية فيد-
__________
ثم سرية أبي سلمة عبد الله بن عبد الأسد:
بسين مهملة، ابن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم القرشي المخزومي، "هلال المحرَّم على رأس خمسة وثلاثين شهرًا من الهجرة إلى قطن" بفتح القاف، والطاء المهملة وبالنون، "جبل بناحية فيد" بفتح الفاء وسكون التحتية، وبالدال المهملة.
قال ابن سعد: ماء لبني أسد بن خزيمة، قال غيره: على يمينك إذا فارقت الحجاز وأنت صادر من النفرة.
وقال ابن إسحاق: قطن ماء من مياه بني أسد بنجد, بعث إليه -صلى الله عليه وسلم- أبا سلمة في سرية، فقتل مسعود بن عروة، وما في القاموس: إن فيد قطعة بطريق مكة لا تفهم منه أن السرية إليها؛ إذ لم يقل هو ذلك، والذي ذكره أصحاب المغازي إنما هو ما ذكره، فإنما ذكر الشارح كلامه استطرادًا،(2/471)
ومعه مائة وخمسون رجلًا من الأنصار والمهاجرين، لطلب طليحة وسلمة ابني خويلد، فلم يجدهما، ووجد إبلًا وشاء فأغار عليهما ولم يلق كيدًا.
__________
"ومعه مائة وخمسون رجلًا من المهاجرين والأنصار" منهم أبو عبيدة وسعد وأسيد بن حضير وأبو نائلة وأبو سبرة وعبد الله بن سهل والأرقم، كذا في الخميس، "لطلب طليحة" بالتصغير, وأسلم بعد ذلك، ثم ارتدَّ بعد النبي -صلى الله عليه وسلم- وادَّعى النبوة, فقاتله خالد بن الوليد فهزمه, فهرب إلى الشام، ثم أسلم إسلامًا صحيحًا، ولم يغمض عليه في إسلامه بعد ذلك، وشهد القادسية ونهاوند مع المسلمين، وذكر له الواقدي وغيره مواقف عظيمة في الفتوح، ويقال: إنه استشهد بنهاوند سنة إحدى وعشرين، ووقع في الأم للشافعي أن عمر قتل طليحة وعيينة.
قال في الإصابة: وراجعت في ذلك جلال الدين البلقيني فاستغربه جدًّا، ولعله قبل بالباء الموحدة، أي: قبل منهما الإسلام، "وسلمة".
قال البرهان: لا أعرف له إسلامًا، وجزم الشامي بأنه لم يسلم.
"ابني خويلد" قال ابن سعد وغيره: وذلك أن الوليد بن زبير الطائي أخبره -صلى الله عليه وسلم- أنه مَرَّ على طليحة وسلمة وهما يدعوان قومهما ومن أطاعهما لحربه -صلى الله عليه وسلم, فنهاهم قيس بن الحارث فلم ينتهوا، فدعا -صلى الله عليه وسلم- أبا سلمة وعقد له لواء، وقال: "سِرْ حتى تنزل أرض بني أسد بن خزيمة فأغر عليهم"، فخرج فأسرع السير حتى انتهى إلى أدنى قطن، فأغار على سرح لهم مع رعاء لهم مماليك ثلاثة، وأفلت سائرهم، فجاءوا جمعهم، وأخبروهم الخبر، فتفرقوا في كل وجه، "فلم يجدهما"؛ لأنهم خافوا، فهربوا عن منازلهم، "ووجد إبلًا وشاء" جمع شاة، "فأغار عليهما ولم يلق كيدًا" أي: حربًا.
وعند ابن سعد وغيره: وورد أبو سلمة الماء فعسكر به وفرَّق قومه ثلاث فرق, فرقة قامت معه، وفرقتان أغارتا في ناحيتين شتّى، فرجعتا إليه سالمتين، وقد أصابتا نعمًا وشاءً، فانحدر بهم أبو سلمة إلى المدينة. وأخرج منه صفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عبدًا، وأعطى الطائي الدليل ما رضي به، ثم خمسها, وقسم الباقي على أهل السرية، قيل: فبلغ سهم كل واحد سبع بعير، وأغنامًا، ومدة غيبته في تلك السرية عشرة أيام، والله أعلم.(2/472)
"سرية عبد الله بن أنيس":
__________
ثم سرية عبد الله بن أنيس:
بضم أوَّله، وفتح النون وسكون التحتية، ابن أسعد الجهني الأنصاري السلمي، وتردَّد المحب الطبري فيمن هو بعينه لا معنى له؛ لأنه الجهني وهو أشهر ذكرًا من الخمسة الذين(2/472)
ثم سرية عبد الله بن أنيس وحده، يوم الإثنين لخمس خلون من المحرَّم، على رأس خمسة وثلاثين شهرًا من الهجرة، إلى سفيان بن خالد الهذلي بعرنة -وادي عرفة؛ لأنه بلغه -صلى الله عليه وسلم- أنه جمع الجموع لحربه.
فلمَّا وصل إليه قال له: ممن الرجل؟ قال: من بني خزاعة، سمعت بجمعك لمحمد, فجئتك لأكون معك، قال: اجلس. فمشى معه ساعة، ثم اغترَّه.....
__________
وافقوه في الاسم، واسم الأب من الصحابة -رضي الله عنهم، ذكره الشامي.
"ثم سرية عبد الله بن أنيس وحده" إطلاق السرية على الواحد مجاز، "يوم الإثنين لخمس خلون من المحرم على رأس خمسة وثلاثين شهرًا من الهجرة إلى سفيان بن خالد" بن نبيح -بضم النون، وفتح الموحدة، وسكون التحتية وبالحاء المهملة, "الهذلي" ثم اللحياني، قاله ابن سعد، وتبعه اليعمري.
وقال ابن إسحاق: لقتل خالد بن سفيان بن نبيح، وفي حياة لحيوان: لقتل خالد بن نبيح، وتبعه المصنف فيما مرَّ, فنسباه لجدّه على قول ابن إسحاق. "بعرنة" بضم العين المهملة، وفتح الراء، والنون فتاء تأنيث، موضع بقرب عرفة موقف الحجيج، كذا في السبل، وقد ينافي قوله "وادي عرفة"؛ لأن ظاهره أن عرفة، بعضه, إلّا أن يكون أضافها إليها لاتصالها بها، ففي النور: عرنة موضع عند الموقف بعرفات.
وقال بعض مشايخ مشايخي قرية بوادي عرفة؛ "لأنه بلغه -صلى الله عليه وسلم- أنه جمع الجموع لحربه،" فقال لعبد الله: "ائته فاقتله"، فقلت: صفه لي حتى أعرفه" قال: "إذا رأيته هبته, وفرقت ووجدت له قشعريرة, وذكرت الشيطان"، وكنت لا أهاب الرجال"، فقلت: يا رسول الله, ما فرقت من شيء قط، فقال: "آية ما بينك وبينه ذلك"، واستأذنته أن أقول، فقال: "قل ما بدا لك".
وقال: انتسب لخزاعة، فأخذت سيفي ولم أزد عليه, وخرجت أعتزي إلى خزاعة، "فلمَّا وصل إليه" بعرنة لقيته يمشي ووراءه الأحابيش, فهبته, وعرفته بنعته -صلى الله عليه وسلم, فقلت: صدق الله ورسوله، وقد دخل وقت العصر حين رأيته، فصليت وأنا أمشي أومئ برأسي إيماءً، فلمَّا دنوت منه، "قال له: ممن الرجل؟ قال: من بني خزاعة، سمعت بجمعك لمحمد، فجئتك لأكون معك", قال: أجل إني لفي الجمع له، فمشيت معه، وحدَّثته فاستحلى حديثي، وأنشدته, وقلت عجبًا لما أحدث محمد من هذا الدين المحدث, فارق الآباء وسفّه أحلامهم، قال: إنه لم يلق أحدًا يشبهني، وهو يتوكأ على عصا يهد الأرض، حتى انتهى إلى خبائه، وتفرَّق عنه أصحابه إلى منازل قريبة منه، وهم يطيفون به، فقال: هلمَّ يا أخا خزاعة، فدنوت منه، "قال: اجلس، فمشى معه ساعة" قبل الجلوس، أو المراد مشى معه في الكلام، "ثم اغترَّه" بغين معجمة، أي:(2/473)
وقتله، وأخذ رأسه، فكان يسير الليل ويتوارى النهار، حتى قدم المدينة، فقال له -عليه الصلاة والسلام: "أفلح الوجه"، قال: أفلح وجهك يا رسول الله، ووضع رأسه بين يديه.
وكانت غيبته ثمان عشرة ليلة، وقدم يوم السبت لسبع بقين من محرم.
__________
أخذه في غفلة، "وقتله", عند ابن سعد، فقال: اجلس، أي: في الخباء، فجلست معه حتى إذا نام الناس اغتررته، وفي أكثر الروايات، وهي رواية ابن إسحاق أنه قال: مشيت معه حتى إذا أمكنني حملت عليه السيف وقتلته، "وأخذ رأسه", قال: ثم أقبلت فصعدت جبلًا فدخلت غارًا وأقبل الطلب، وأنا مكتمن في الغار، وضرب العنكبوت على الغار، وأقبل رجل معه إداوة ضخمة، ونعلاه في يده، وكنت حافيًا، فوضع إداوته ونعله، وجلس يبول قريبًا من فم الغار، ثم قال لأصحابه: ليس في الغار أحد، فانصرفوا راجعين، وخرجت فشربت ما في الإداوة ولبست النعلين، "فكان يسير الليل ويتوارى النهار" خوفًا من الطلب، "حتى في المدينة" فوجده -صلى الله عليه وسلم- في المسجد، "فقال له -عليه الصلاة والسلام: "أفلح الوجه" أي: فاز، قال: أفلح وجهك يا رسول الله", هكذا رواية ابن سعد، وفيها من الأدب ما لا يخفى؛ حيث لم يأت بالعطف المفيد للمشاركة؛ لأن فلاحه -صلى الله عليه وسلم- لا يشاركه فيه أحد، وإن شاركوه في أصل الفلاح.
نعم في رواية: ووجهك بالواو, فلعل إحداهما بالمعنى، أو تكررت بالعطف، ودونه، "ووضع رأسه بين يديه", وأخبرته خبري فدفع إليَّ عصا وقال: "تخصّر بها في الجنة, فإنَّ المتخصرين في الجنة قليل"، فكانت العصا عنده، حتى إذا حضرته الوفاة، أوصى أن يدرجوها في أكفانه، ففعلوا, والتخصر بفتح الفوقية، والخاء المعجمة وضم الصاد المهملة: الاتكاء على قضيب ونحوه، "وكانت غيبته ثماني عشرة ليلة، وقدم يوم السبت لسبع بقين من المحرم".
قال ابن عقبة: وزعموا أنه -صلى الله عليه وسلم- أخبر بموته قبل قدوم عبد الله بن أنيس.(2/474)
[بعث الرجيع] :
__________
بعث الرجيع:
"ثم سرية عاصم بن ثابت" بن أبي الأقلح -بالقاف، واللام والمهملة- قيس بن عصمة بن النعمان الأنصاري، من سباقهم إلى الإسلام.
روى الحسن بن سفيان: لما كان ليلة العقبة، أو ليلة بدر، قال -صلى الله عليه وسلم- لمن معه: "كيف تقاتلون"، فقام عصام بن ثابت، فأخذ القوس والنبل، وقال: إذا كان القوم قريبًا من مائتي ذراع، كان الرمي، وإذا دنوا حتى تنالهم الرماح، كانت المداعبة حتى تقصف، فإذا تقصفت وضعناها،(2/474)
ثم سرية عاصم بن ثابت، في صَفَر على رأس ستة وثلاثين شهرًا من الهجرة إلى الرجيع -بفتح الراء وكسر الجيم، اسم ماء لهذيل بين مكة وعسفان- بناحية الحجاز، وكانت الوقعة بالقرب منه فسميت به.
وحديث عضل والقارة -بفتح الضاد المعجمة بعده لام- بطن من بني الهون بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر، ينسبون إلى عضل بن الديش، وأما القارة -بالقاف وتخفيف الراء: بطن من الهون ينسبون إلى الديش المذكور، وقال ابن دريك: القارة: أكمة سوداء فيها حجارة، كأنهم نزلوا عندها فسموا بها.
وقصة عضل والقارة كانت في بعث الرجيع، لا في سرية بئر معونة، وقد فصل بينهما ابن إسحاق، فذكر بعث الرجيع في أواخر سنة
__________
وأخذنا السيوف وكانت المجالدة, فقال -صلى الله عليه وسلم: "هكذا أنزلت الحرب من قاتل، فليقاتل كما يقاتل عاصم".
وشهد العقبة وبدرًا وأحدًا، "في صفر على رأس ستة وثلاثين شهرًا من الهجرة" فتكون في السنة الرابعة، "إلى الرجيع -بفتح الراء وكسر الجيم فتحتية ساكنة فعين مهملة.
قال في الفتح: هو في الأصل اسم للروث, سمي بذلك لاستحالته، والمراد هنا "اسم ماء لهذيل" بذال معجمة, "بين مكة وعسفان", وبينهما مرحلتان "بناحية الحجاز، كانت الوقعة بالقرب منه" بالهداة، كما يأتي، "فسميت به، وحديث عضل" عطف على سرية، "والقارة" وعضل "بفتح" العين المهملة، والضاد "المعجمة بعدها لام، بطن من بين الهون" بضم الهاء وسكون الواو وبالنون كما في الصحاح.
"ابن خزيمة بن مدركة بن الياس بن مضر، ينسبون إلى عضل بن الديش" بفتح الدال المهملة وكسرها، ثم تحتية ساكنة ثم شين معجمة، كما قاله البرهان، وشيخه المجد في القاموس، ووقع في السبل بدال وسين مهملتين "ابن محكم، والقارة بالقاف وتخفيف الراء" فتاء تأنيث. "بطن من الهون أيضًا، ينسبون إلى الديش المذكور".
"وقال ابن دريد: القارة أكمة سوداء، فيها حجارة كأنهم نزلوا بها" أي: عندها، "فسموا بها" قال: ويضرب بهم المثل في إصابة الرمي, قال الشاعر:
قد أنصف القارة من راماها
"وقصة عضل والقارة كان في" أي: مع "بعث الرجيع لا في سرية بئر معونة" كما قد يوهمه ترجمة البخاري، "وقد فصل" فرق "بينهما ابن إسحاق, فذكر بعث الرجيح في أواخر سنة(2/475)
ثلاث، وبئر معونة أوائل سنة أربع.
وذكر الواقدي أن خبر بئر معونة وخبر أصحاب الرجيع جاءا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- في ليلة واحدة.
وسياق ترجمة البخاري يوهِمُ أن بعث الرجيع وبئر معونة شيء واحد، وليس كذلك؛ لأن بعث الرجيع كان سرية عاصم وخبيب وأصحابهما، وهي مع عضل والقارة. وبئر معونة كان سرية القراء، وهي مع رعل وذكوان، وكأن البخاري أدمجها معها لقربها منها.
ويدل على قربها منها ما في حديث أنس من تشريك النبي -صلى الله عليه وسلم- بين بني لحيان وبين عصية وغيرهم في الدعاء عليهم.
ولم يرد البخاري -رحمه الله- أنهما
__________
ثلاث" وهذا قول ابن إسحاق, وما مَرَّ أنها في صفر قول ابن سعد فلا يورد عليه، "وبئر معونة في أوائل سنة أربع".
"وذكر الواقدي أن خبر بئر معونة وخبر أصحاب الرجيع جاءا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- في ليلة واحدة", فهذا يدل على أن البخاري أدمجها معها للقرب، والجائي بالخبر الوحي فسيأتي في المتن، فاستجاب الله لعاصم، فأخبر رسوله خبرهم يوم أصيبوا، ويأتي في بئر معونة عن الحافظ، أن الله أخبر بهم على لسان جبريل.
"وسياق ترجمة البخاري" بقوله: باب غزوة الرجيع، ورعل، وذكوان وبئر معونة، وحديث عضل، والقارة، وعاصم بن ثابت، وخبيب وأصحابه، "يوهم أن بعث الرجيع وبئر معونة شيء واحد، وليس كذلك؛ لأن بعث الرجيع كانت سرية عاصم وخبيب" بضم الخاء المعجمة وفتح الموحدة الأولى مصغرًا، "وأصحابهما, وهي مع عضل، والقارة وبئر معونة كان سرية القراء, وهي مع رعل" بكسر فسكون "وذكوان" بذال معجمة، "وكأنَّ البخاري أدمجها" أدخلها، "معها لقربها منها، ويدل على قربه منها ما في حديث أنس" في الصحيح، "من تشريك النبي -صلى الله عليه وسلم- بين بني لحيان" بكسر اللام وفتحها، "وبين عصية" بضم الضم مصغرًا، "وغيرهم" كرعل وذكوان "في الدعاء عليهم" في قنوت الصبح شهرًا.
ووجه الدلالة أن بعث الرجيع مع بني لحيان وبئر معونة كانت مع عصية ورعل وذكوان، وقد جمع بين الكل في الدعاء، وهنا قال الحافظ، وذكر الواقدي، أنَّ خبر بئر معونة ... إلخ، استدلالًا على القرب أيضًا، فما كان ينبغي للمصنف تقديمه، "ولم يرد البخاري -رحمه الله- أنهما(2/476)
قصة واحدة، ولم يقل ذكر عضل والقارة عنده صريحًا.
وإنما وقع ذلك عند ابن إسحاق, فإنه بعد أن استوفى قصة أُحد قال: ذكر يوم الرجيع: حدثني عاصم بن عمر بن قتادة قال: قدم على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعد أُحدٍ رهط من عضل والقارة فقالوا: يا رسول الله، إن فينا إسلامًا، فابعث معنا نفرًا من أصحابك يفقهوننا، فبعث معهم ستة من أصحابه, وأمَّرَ -عليه الصلاة والسلام- على القوم مرثد بن أبي مرثد الغنوي, كذا في السيرة له, وفي الصحيح: وأمَّر عليهم عاصم بن ثابت، كما سيأتي، وهو
__________
قصة واحدة"؛ لأنه خلاف الواقع، فلا يحمل عليه وإن أوهمه كلامه، "ولم يقل ذكر عضل والقارة عنده صريحًا، وإنما وقع ذلك عند ابن إسحاق، فإنه بعد أن استوفى قصة أُحد قال: ذكر يوم الرجيع: حدثني عاصم بن عمر" بضم العين "ابن قتادة" الأنصاري الظفري العلامة في المغازي "قال: قدم على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعد أُحد رهط من عضل والقارة" سبعة، كما في رواية الواقدي عن شيوخه، مشت بنو لحيان من هذيل بعد قتل سفيان بن نبيح الهذلي إلى عضل والقارة، فجعلوا لهم إبلًا على أن يكلموا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يخرج إليهم نفرًا من أصحابه، فقدم سبعة نفر منهم مقرِّين بالإسلام، "فقالوا: يا رسول الله، إن فينا إسلامًا، فابعث معنا نفرًا من أصحابك يفقهوننا" في الدين، ويقرؤننا القرآن، ويعلموننا شرائع الإسلام.
وفي الصحيح عن أبي هريرة, بعث النبي -صلى الله عليه وسلم- سرية عينًا، وفي رواية: بعث عشرة عينًا يتجسسون له، وفي رواية أبي الأسود عن عروة: بعثهم عيون إلى مكة ليأتوه بخبر قريش، ويجمع بأنه لما أراد بعثهم عيونًا، وافق مجيء النفر في طلب مَنْ يفقههم، فبعثهم في الأمرين، "فبعث معهم ستة من أصحابه", وسماهم ابن إسحاق فقال: وهم: عاصم ومرثد وخبيب وزيد بن الدثنة وعدب الله بن طارق وخالد بن البكير، وجزم ابن سعد بأنهم كانوا عشرة، فزاد: معتب بن عبيد، وكذا سمَّى موسى بن عقبة السبعة المذكورين، لكن قال: مغيث بن عوف.
قال الحافظ: فلعل الثلاثة الآخرين كانوا أتباعًا فلم يحصل الاعتناء بتسميتهم.
"وأمَّرَ -عليه الصلاة والسلام- على القوم مرثد" بفتح الميم، وسكون الراء، وفتح المثلثة وبالدال المهملة "ابن أبي مرثد", صحابي وأبوه صحابي, واسمه كناز -بنون ثقيلة- ابن الحصين، وهما ممن شهد بدرًا "الغنوي" بفتح المعجمة والنون نسبة إلى غني بن أعصر، "كذا في السيرة له" لابن إسحاق.
"وفي الصحيح" من حديث أبي هريرة: "وأمَّر عليهم عاصم بن ثابت، كما سيأتي وهو(2/477)
أصح -فخرجوا مع القوم حتى أتوا الرجيع- ماء لهذيل, غدروا بهم, فاستصرخوا عليهم هذيلًا فلم يرع القوم، وهم في رحالهم، إلّا الرجال بأيديهم السيوف، وقد غشوهم، فأخذوا أسيافهم ليقاتلوا القوم، فقالوا لهم: إنا والله لا نريد قتلكم، ولكنَّا نريد أن نصيب بكم شيئًا من أهل مكة، ولكم عهد الله وميثاقه أن لا نقتلكم، فأبوا، فأمَّا مرثد وخالد وعاصم، فقالوا: والله لا نقبل من مشرك عهدًا, وقاتلوا حتى قتلوا -رضي الله عنهم.
وفي البخاري: وأمَّر عليهم عاصم بن ثابت، حتى إذا كانوا بالهدأة
__________
أصح" كما قاله السهيلي وغيره. قال في الفتح: وجمع بعضهم بأن أمير السرية مرثد وأمير العشرة عاصم بناء على التعدد، ولم يرد البخاري أنهما قصة واحدة، "فخرجوا مع القوم حتى أتوا الرجيع ماء لهذيل" بن مدركة بن إلياس بن مضر, "غدروا بهم فاستصرخوا" أي: استغاثوا "عليهم هذيلًا" ليعينوهم على قتلهم، "فلم يرع القوم" أي: يبغتهم ويفجأهم أو يفزعهم، "وهم في رحالهم إلّا الرجال بأيديهم السيوف وقد غشوهم" بضم الشين وهذا ظاهر، قاله البرهان؛ لأن فعله غشي كتعب، فإذا أسند إلى واو الجماعة قيل: غشيوا كرضيوا، استثقلت الضمة إلى الياء فحذفت الضمة ثم الياء, ثم قلبت كسرة الشين ضمة، لمناسبة الواو، "فأخذوا" أي: عاصم ومن معه، "أسيافهم ليقاتلوا القوم، فقالوا لهم: إنا والله لا نريد قتلكم، ولكنا نريد أن نصيب بكم شيئًا من أهل مكة", بأن نسلمكم لهم ونأخذ بدلكم شيئًا منهم، لعلمهم أنه لا شيء أحبَّ إليهم من أن يؤتوا بأحد من الصحابة يمثلون به ويقتلونه بمن قتل منهم ببدر وأحد، "ولكم عهد الله وميثاقه أن لا نقتلكم فأبوا، فأمَّا مرثد" بن أبي مرثد الغنوي حليف حمزة "وخالد" بن البكير -بضم الموحدة وفتح الكاف- الليثي حليف بني عدي, من السابقين، وشهد بدرًا, استشهد يومئذ وهو ابن أربع وثلاثين سنة.
ذكره ابن إسحاق وغيره، "وعاصم" بن ثابت أخو بني عمرو بن عوف، "فقالوا: والله لا نقبل من مشرك عهدًا، وقاتلوا حتى قتلوا -رضي الله عنهم" في الموضع الذي جاءوهم فيه حتى استصرخ عليهم الآتي بهم إليه وقسيم، أمَّا تركه المصنف استغناء بذكره بمعناه كما يأتي, وهو ثابت في ابن إسحاق قال: وأما زيد وخبيب وابن طارق فلانوا ورقوا ورغبوا في الحياة.
"وفي البخاري" في الجهاد وغزوة بدر، وهنا من طريق الزهري عن عمرو بن أبي سفيان الثقفي عن أبي هريرة قال: بعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عشرة رهط سرية عينًا، "وأمَّر عليهم عاصم بن ثابت حتى إذا كانوا بالهدأة" -بفتح الهاء.(2/478)
بين عسفان ومكة -وذكروا لحي من هذيل يقال لهم بنو الحيان، فنفروا لهم بقريب من مائتي رجل. وعند بعضهم فتبعوهم بقريب من مائة رام.
والجمع بينهما واضح، بأن تكون المائة الأخرى غير رماة.
وفي رواية أبي معشر في مغازيه: فنزلوا بالرجيع سحرًا، فأكلوا تمرة عجوة، فسقط نواه بالأرض، وكانوا يسيرون الليل ويكمنون بالنهار،
__________
قال الحافظ: وسكون الدال بعدها همزة مفتوحة لأكثر الرواة.
وللكشميهني: بفتح الدال وتسهيل الهمزة.
وعند ابن إسحاق بالهدة بتشديد الدال بغير ألف موضع.
"بين عسفان ومكة" وعند ابن إسحاق وهي على سبعة أميال من عسفان، "وذكروا" بضم المعجمة مبنيًّا للمفعول "لحي من هذيل" بضم الهاء، وفتح المعجمة، وسكون التحتية وباللام "يقال لهم بنو لحيان" بكسر اللام، وقيل: بفتحها وسكون المهملة، ولحيان هو ابن هذيل بن مدركة بن إلياس بن مضر، وزعم الهمداني النسَّابة أن أصل بني لحيان من بقايا جُرْهُم, دخلوا في هذيل فنسِبُوا إليهم، قاله الحافظ: "فنفروا لهم بقريب من مائتي رجل", هكذا عند البخاري في الجهاد من رواية شعيب عن الزهري بسنده، وزاد كلهم رامٍ، "وعند بعضهم" أي: الرواة، وهو معمر عن الزهري في صحيح البخاري في هذا الباب، "فتبعوهم بقريب من مائة رامٍ" بالنبل، ومثله عنده في غزوة بدر من رواية إبراهيم بن سعد عن الزهري، ولفظه: فنفروا لهم بقريب من مائة رجل رام، والجمع بينهما واضح بأن تكون المائة الأخرى غير رماة" ولم أقف على اسم أحد منهم, هكذا قال الحافظ، وفيه وقفة. فإن لفظ رواية شعيب في الجهاد: فنفروا لهم قريبًا من مائتي رجل كلهم رامٍ، فاقتصوا آثارهم حتى وجدوا مآكلهم تمرًا تزودوه من المدينة, فقالوا: هذا تمر يثرب.
"وفي رواية أبي معشر" بفتح الميم، وسكون المهملة وفتح المعجمة نجيح بن عبد الرحمن السندي "في مغازيه، فنزلوا بالرجيع سحرًا, فأكلوا تمرة عجرة" إضافة بيانية، أي: تمرًا مسمَّى بهذا الاسم "فسقط نواه في الأرض، وكانوا يسيرون بالليل ويكمنون" بضم الميم وفتحها.
قال في القاموس: كمن كنصر وسمع كمونًا: استخفى "بلنهار", وهذا واضح على أنهم كانوا عيونًا ليأتوه بخبر قريش، وكذا على أنهم ذهبوا ليفقهوا الآتين في طلب من يفقههم؛ لأنهم قليل؛ إذ غاية ما قيل في السرية عشرة، والآتين في طلبهم سبعة، ومثل هذا العدد في زمن المحاربة خصوصًا بعد أُحد لا يأمنون على أنفسهم فيسيروا ظاهرين نهارًا، فلذا كانوا يكمنون به،(2/479)
فجاءت امرأة من هذيل ترعى غنمًا، فرأت النواءات وأنكرت صغرهن، وقالت: هذا تمر يثرب, فصاحت في قومها قد أتيتم، فجاءوا في طلبهم، فوجدوهم قد كمنوا في الجبل، وتبعوا آثارهم حتى لحقوهم.
وفي رواية ابن سعد: فلم يرع القوم إلّا الرجال بأيديهم السيوف قد غشوهم.
فلما حسَّ بهم عاصم وأصحابه لجأوا إلى فدفد -بفاءين مفتوحتين ومهملتين, الأولى ساكنة- وهي الرابية المشرفة، فأحاط بهم القوم، فقالوا: لكم العهد والميثاق إن نزلتم إلينا أن لا نقتل منكم رجلًا،
__________
"فجاءت امرأة من هذيل ترعى غنمًا فرأت النواءات" هذا جمع تصحيح لم يذكره القاموس والمصباح، فإنهما قالا: النوى جمع نواة، وجمع الجمع أنواء, مثل سبب وأسباب، فالظاهر كما قال شيخنا: إنه كان يقال: فلمَّا رأت النوى بالقصر، أو الأنواء، "فأنكرت صغرهن وقالت: هذا تمر يثرب، فصاحت في قومها: قد أتيتم" بالبناء للمفعول من قِبل العدو، "فجاءوا في طلبهم فوجدوهم قد كمنوا" بفتحتين وبفتح فكسر: استخفوا "في الجبل، واتبعوا آثارهم" حين أخبرتهم المرأة "حتى لحقوهم" بالجبل، والواو لا ترتب, فلا يرد اقتضاؤه أن اقتفاء الأثر بعد وجدانهم كامنين بالجبل.
"وفي رواية ابن سعد" في حديث أبي هريرة هذا، "فلم يرع القوم إلّا الرجال بأيديهم السيوف قد غشوهم", أعاده وإن مَرَّ عن ابن إسحاق؛ لأن ذاك مرسل، وهذا مسند، ويقع سقوطه في نسخ وهو خطأ؛ لإيهامه أن ما بعده رواية ابن سعد، مع أنه من جملة حديث البخاري, ففيه عقب قوله: حتى لحقوهم، "فلمَّا حسَّ".
قال المصنف: صوابه كما قال السفاقسي أحسَّ رباعيًّا، أي: علم "بهم عاصم وأصحابه لجأوا" بفتح الجيم وكسرها آخره همزة- تحرزوا واعتصموا "إلى فدفد -بفاءين مفتوحتين ودالين مهملتين الأولى ساكنة- وهي الرابية المشرفة".
قال الحافظ: ووقع عند أبي داود إلى قردد -بقاف وراء ودالين.
قال ابن الأثير: هو الموضع المرتفع، ويقال: الأرض المستوية، والأول أصح, "فأحاط بهم القوم فقالوا: لكم العهد والميثاق" تفسيري، "إن نزلتم إلينا أن لا نقتل منكم رجلًا".
وعند ابن سعد فقالوا لهم: إنا والله ما نريد قتالكم، إنما نريد أن نصيب بكم شيئًا من أهل مكة، وهي رواية ابن إسحاق المتقدمة.(2/480)
فقال عاصم بن ثابت أيها القوم: أما أنا فلا أنزل في ذمَّة كافر، ثم قال: اللهم أخبر عنَّا رسولك، فاستجاب الله تعالى لعاصم فأخبر رسوله خبرهم يوم أصيبوا.
فرموهم بالنبل، فقتلوا عاصمًا، ونزل إليهم على العهد والميثاق: خبيب بن عدي، وزيد بن الدثنة -بفتح الدال المهملة وكسر المثلثة والنون المفتوحة المشددة, وعبد الله بن طارق.
__________
"فقال عاصم بن ثابت" لأصحابه: قاله المصنف: "أيها القوم أمَّا" بتشديد الميم "أنا فلا أنزل في ذمة كافر" أي: في عهده.
وعند سعيد بن منصور، فقال عاصم: لا أقبل اليوم عهدًا من مشرك.
"ثم قال: اللهمَّ أخبر عنّا رسولك" وفي لفظ: نبيك، وقوله، "فاستجاب الله تعالى لعاصم، فأخبر رسوله خبرهم يوم أصيبوا", هذه الجملة إنما نسبها في الفتح لرواية الطيالسي، وتبعه المصنف في شرح البخاري في المواضع الثلاثة، كما أوهمه المصنف، "فرموهم" أي: رمى الكفار المسلمين حين امتنعوا من النزول، "بالنبل" -بفتح النون وسكون الموحدة- السهام العربية، ورماهم عاصم بالنبل حتى فني نبله.
وفي رواية: نثر عاصم كنانته فيها سبعة أسهم، فقتل بكل سهم رجلًا من عظماء المشركين، ثم طاعنهم حتى انكسر رمحه، ثم سلَّ سيفه، وقال: اللهم إني حميت دينك صدر النهار فاحم لحمي آخره، "فقتلوا عاصمًا", زاد البخاري في هذا الباب: وفي الجهاد في سبعة، أي: في جملة سبعة، وقد مَرَّ أنهم عشرة, سمَّى منهم سبعة, وثلاثة لم يسموا؛ لأن الظاهر أنهم أتباع فلم يعتن بتسميتهم، كما قاله الحافظ، "ونزل إليهم على العهد والميثاق خبيب" بضم المعجمة وفتح الموحدة الأولى "ابن عدي" الأنصاري الأوسي البدري، "وزيد بن الدثنة" بن عبيد بن عامر بن بياضة الأنصاري البياضي، شهد بدرًا وأحدًا "بفتح الدال المهملة وكسر" الثاء "المثلثة" زاد البرهان: وقد تسكن "والنون المفتوحة المشددة" ثم تاء تأنيث.
قال ابن دريد: من قولهم: دثن الطائر إذا طاف حول وكره ولم يسقط عليه.
وفي القاموس: دثن الطائر تدثينًا: طار وأسرع السقوط ف مواضع متقاربة.
قال في رواية البخاري: ورجل آخر وسماه ابن إسحاق فقال: "وعبد لله بن طارق" البلوي البدري، فليست تسميته من رواية البخاري، كما أوهمه المصنف.
وفي رواية أبي الأسود عن عروة: إنهم صعدوا في الجبل فلم يقدروا عليهم حتى أعطوهم العهد والميثاق. وفي حديث البخاري: فلمَّا استمكنوا منهم أطلقوا أوتار قسيهم، فربطوهم بها, فقال الرجل الثالث، أي: ابن طارق: هذا أول الغدر، والله لا أصحبكم, إن لي بهؤلاء أسوة، يريد(2/481)
فانطلقوا بخبيب وزيد بن الدثنة حتى باعوهما بمكة، فابتاع بنو الحارث بن عامر خبيبًا،
__________
القتلى، فجرروه وعالجوه على أن يصحبهم فلم يفعل، فقتلوه. قال الحافظ: هذا يقتضي أن ذلك وقع منه أول ما أسروهم.
وفي رواية ابن إسحاق: فخرجوا بالنفر الثلاثة، حتى إذا كانوا بمر الظهران أشرع عبد الله بن طارق يده، وأخذ سيفه واستأخر عنه القوم، فرموه بالحجارة حتى قتلوه، فقبره بمر الظهران، فيحتمل أنهم إنما ربطوهم بعد أن وصلوا إلى مر الظهران, وإلا فما في الصحيح أصح، انتهى.
"فانطلقوا بخبيب وزيد بن الدثنة حتى باعوهما بمكة،" والذي باعهما زهير وجامع الهذليان.
قال ابن هشام: باعوهما بأسيرين من هذيل كانا بمكة.
وعند سعيد بن منصور: أنهم اشتروا خبيبًا بأمة سوداء، ويمكن الجمع، قاله الحافظ.
وقال الواقدي: بيع خبيب بمثقال ذهبًا، ويقال: بخمسين فريضة، وبيع الثاني بخمسين فريضة.
وعند ابن سعد وابن إسحاق: فأمَّا زيد فابتاعه صفوان بن أمية، فقتله بأبيه.
وعند ابن سعد: أن الذي قتله نسطاس مولى صفوان، ويقال: اشترك فيه ناس من قريش، ودخلوا بهما في شهر حرام في ذي القعدة, فحبسوهما حتى خرجت الأشهر الحرم.
"فابتاع بنو الحارث بن عامر" بن نوفل بن عبد مناف "خبيبًا", وهم عقبة وأبو سروعة وأخوهما لأمهما حجير -بضم الحاء المهملة، وفتح الجيم وسكون التحتية وبالراء- ابن أبي إهاب -بكسر أوله وبالموحدة- التميمي, حليف بني نوفل، وبَيِّنَ ابن إسحاق أنه الذي تولّى شراءه وقد أسلم الثلاثة بعد ذلك وصحبوا.
قال في حديث البخاري: وكان خبيب هو الذي قتل الحارث بن عامر يوم بدر.
قال الحافظ: هكذا وقع في حديث أبي هريرة، واعتمده البخاري، فذكر خبيب بن عدي فيمن شهد بدرًا وهو متجه، لكن تعقَّبه الدمياطي بأن أهل المغازي لم يذكر أحد منهم أن خبيب بن عدي شهد بدرًا ولا قتل الحارث بن عامر، وإنما ذكروا أن الذي قتل الحارث ببدر خبيب بن إساف الخزرجي, وابن عدي أوسي, قلت: يلزم من كلامه رد الحديث الصحيح, فلو لم يقتل ابن عدي الحارث ما كان لاعتناء بن الحارث بن عامر بأسر خبيب معنى، ولا بقتله, مع تصريح الحديث الصحيح أنهم قتلوه به، لكن يحتمل أنهم قتلوه لكون ابن أساف قتل الحارث على عادة الجاهلية بقتل بعض البيلة عن بعض، ويحتمل أن يكون خبيب بن عدي شارك في(2/482)
فلبث خبيب عندهم أسيرًا، حتى اجتمعوا على قتله, استعار من بعض بنات الحارث موسى ليستحد بها -يعني يحلق عانته-
__________
قتل الحارث، والعلم عند الله تعالى.
"فلبث خبيب عندهم أسيرًا" في بيت ماوية، مولاة حجير بن أبي إهاب، وأسلمت بعد.
قال في الروض: ماوية -بواو، أي: مكسورة وشد التحتية في رواية يونس بن بكير، عن ابن إسحاق، وكذا في النسخ العتيقة من رواية غيره عن ابن إسحاق بالراء، أي: والتخفيف، والماوية بالتخفيف البقرة، وبالتشديد القطاة الملساء، انتهى.
وعند سعيد بن منصور، فأساءوا إليه فقال لهم: ما يصنع القوم الكرام هذا بأسيرهم، فأحسنوا إليه بعد ذلك, وجعلوه عند امرأة تحرسه.
وروى ابن سعد عن موهب مولى آل نوفل قال: قال لي خبيب: وكانوا جعلوه عندي يا موهب, أطلب إليك ثلاثًا، أن تسقيني العذب، وأن تجنبني ما ذُبِحَ على النصب، وأن تعلمني إذا أرادوا قتلي.
قال الشامي: فكان موهبًا كان زوج ماوية. انتهى. ويؤيده أن في رواية الواقدي عنها, كانت تحدث بقصة خبيب بعد أن أسلمت وحسن إسلامها، وفيها: وكان يتهجد بالقرآن، فإذا سمعه النساء بكين ورققن عليه، فقلت له: له لك من حجاجة، قال: لا، إلا أن تسقيني العذب, ولا تطعميني ما ذبح على النصب، وتخبريني إذا أرادوا قتلي، فلمَّا أرادوا ذلك أخبرته، فوالله ما اكترث بذلك, فكأنه طلب ذلك من ماوية وموهب معًا، وقد أسلم موهب في فتح مكة كما في الإصابة. "حتى اجتمعوا" عزموا واتفقوا "على قتله" حين خرجت الأشهر الحرم، "استعار من بعض بنات الحارث".
ذكر خلف في الأطراف أن اسمها زينب بن الحارث أخت عقبة، قاتل خبيب، وقيل: امرأته، وعند ابن إسحاق عن عبد الله بن أبي نجيح قال: حدثت عن ماوية مولاة حجير بن أبي إهاب، وكانت قد أسلمت قالت: حبس خبيب في بيتي، ولقد اطَّلعت عليه يومًا، وإن في يده لقطفًا من عنب مثل رأس الرجل يأكل منه، فإن كان محفوظًا احتمل أن كلًّا من ماوية وزينب رأت القطف في يده يأكله، والتي حبس في بيتها ماوية، والتي كانت تحرسه زينب، جمعًا بين الروايتين، ويحتمل أن الحارث أب لماوية من الرضاع، وفي ابن بطال: أن اسم المرأة جويرية، فيتمله أن وجده رواية, أو سماها جويرية لكونها أمة، قاله الفتح.
"موسى" بعدم الصرف؛ لأنه على وزن فعلى، وبالصرف على وزن مفعل على خلاف بين الصرفيين، والذي في اليونينية الصرف قاله المصنف. "ليستحدَّ بها، يعني يحلق عانته،" لئلا(2/483)
فغفلت عن ابن لها صغير, فأقبل إليه الصبي فأجلسه عنده, فخشيت المرأة أن يقتله، ففزعت، فقال خبيب: ما كنت لأغدر.
قال: قالت: والله ما رأيت أسيرًا خيرًا من خبيب، والله لقد وجدته يأكل قطفًا من
__________
تظهر عند قتله، "فغفلت عن ابن لها صغير، فأقبل إليه الصبي، فأجلسه عنده".
زاد في حديث البخاري: على فخذه والموسى بيد، "فخشيت المرأة أن يقتله، ففزعت" بكسر الزاي.
وفي رواية البخاري: ففزعت فزعة عرفها خبيب، "فقال:" أتخشين أن أقتله, ما كنت لأفعل ذلك إن شاء الله. وفي مرسل بريدة بن سفيان: "ما كنت لأغدر".
قال في الفتح: ذكر الزبير ابن بكار: أن هذا الصبي هو أبو حسين بن الحارث بن عدي بن نوفل بن عبد مناف.
وفي رواية بريدة بن سفيان: وكان لها ابن صغير، فأقبل إليه الصبي, فأخذه فأجلسه عنده، فخشيت المرأة أن يقتله، فناشدته.
وعند أبي الأسود عن عروة: فأخذ خبيب بيد الغلام فقال: هل أمكن الله منك؟ فقالت: ماكان هذا ظني بك، فرمى لها الموسى، وقال: إنما كنت مازحًا.
وعند ابن إسحاق عن ابن أبي نجيح وعاصم بن عمر: أن ماوية قالت: قال لي خبيب حين حضره القتل: ابعثي إلي بحديدة أتطهر بها للقتل، قالت: فأعطيت غلامًا من الحي الموسى، فقلت: ادخل بها على هذا الرجل البيت، فوالله ما هو إلّا أن ولى الغلام بها إليه، فقلت: ماذا صنعت؟ أصاب الله الرجل ثأره يقتل هذ الغلام، فيكون رجل برجل، فلمَّا ناوله الحديدة، أخذها من يده, ثم قال: لعمرك ما خافت أمك غدري حين بعثتك بهذه الحديدة إلي، ثم خلَّى سبيله.
قال ابن هشام: يقال إن الغلام ابنها.
قال الحافظ: ويجمع بين الروايتين، بأنه طلب الموسى من كلٍّ من المرأتين، فأوصله إليه ابن إحداهما، وأما الابن الذي خشيت عليه، ففي رواية هذا الباب، فغفلت عن صبي لي، فدرج إليه حتى أتاه، فوضعه على فخذه, فهذا غير الذي أحضر إليه الحديدة، انتهى.
"قالت: والله ما رأيت أسيرًا" زاد في رواية: قط، "خيرًا من خبيب".
وعند الواقدي في حديث ماوية: وأسلمت وحسن إسلامها. قالت: كان يتهجد بالقرآن، فإذا سمعه النساء بكين ورققن عليه، "والله لقد وجدته يأكل قطفًا" بكسر القاف، عنقودًا "من(2/484)
عنب، مثل رأس الرجل، وإنه لموثق بالحديد وما بمكة من ثمرة، وما كان إلا رزقًا رزقه الله تعالى خبيبًا.
وهذه كرامة جعلها الله تعالى لخبيب، آية على الكفار، وبرهانًا لنبيه لتصحيح رسالته.
والكرامة للأولياء ثابتة مطلقًا عند أهل السنة, لكن استثني بعض المحققين مهم كالعلامة الرباني أبي القاسم القشيري ما وقع به التحدي لبعض الأنبياء, فقال: ولا يصلون إلى مثل إيجاد ولد من غير أب ونحو ذلك, وهذا أعدل
__________
عنب،" وقوله: "مثل رأس الرجل" زائد على خبر الصحيح من رواية ابن إسحاق، كما قدمنا, فما كان ينبغي للمصنف إلا البيان، "وأنه لموثق" بالمثلثة، مقيد "بالحديد، وما بمكة من ثمرة" بمثلثة وفتح الميم، أي: من ثمرة عنب.
وفي رواية ابن إسحاق عن ماوية: وما أعلم في الأرض حبة عنب فأطلقت الأرض، وأرادت أرض مكة، ووقع في بعض نسخ البخاري بالمثناة وسكون الميم، "وما كان" ذلك القطف "إلّا رزقًا رزقه الله تعالى خبيبًا، وهذه كرامة جعلها الله تعالى لخبيب آية على الكفار، وبرهانًا لنبيه لتصحيح رسالته" وتوسط ابن بطال بين من يثبت الكرامة ومن ينفيها، فجعل الثابت ما جرت به العادة لآحاد الناس أحيانًا, والممتنع ما يقلب الأعيان. "و" لكن "الكرامة للأولياء ثابتة مطلقًا" سواء كانت من معجزات الأنبياء، أم لا "عند أهل السنة، لكن استثني بعض المحققين منهم، كالعلامة الرباني، أبي القاسم" عبد الكريم بن هوازن، الحافظ المفسر، الفقيه النحوي اللغوي، الأديب، الكاتب، "القشيري" الشجاع، البطل، المجمَع على إمامته، وأنه لم ير مثل نفسه، ولا رأى الراءون مثله، وأنه الجامع لأنواع المحاسن, ولد سنة سبع وسبعين وثلاثمائة، وسمع الحديث من الحاكم وغيره.
وروى عنه الخطيب وغيره، وصنّف التصانيف الشهيرة، وتوفي سنة خمس وستين وأربعمائة، "ما وقع به التحدي لبعض الأنبياء، فقال: ولا يصلون"، أي: الأولياء "إلى مثل إيجاد ولد من غير أب، ونحو ذلك" كقلب جماد بهيمة، لكن الجمهور على الإطلاق, والتفصيل أنكروه على قائله, حتى ولده أبو نصر في المرشد، وإمام الحرمين في الإرشاد، وقال: إنه مذهب متروك، وبالغ النووي فقال: إنه غلط، وإنكار للحس, وأن الصواب وقوعها بقلب الأعيان ونحوه, انتهى. ولكن له قوة ما فقد اختاره السبكي وغيره، والحافظ ابن حجر فقال: "وهذا أعدل(2/485)
المذاهب في ذلك.
فإن إجابة الدعوة في الحال، وتكثير الطعام, والمكاشفة بما يغيب عن العين، والإخبار بما سيأتي, ونحو ذلك, قد كثر جدًّا، حتى صار وقوع ذلك ممن ينسب إلى الصلاح كالعادة.
فانحصر الخارق الآن في نحو ما قاله القشيري، وتعيّن تقييد من أطلق، بأن كل معجزة لنبي يجوز أن تقع كرامة لولي.
ووراء ذلك: إن الذي استقر عند العامة، أن خرق العادة يدل على أن من وقع له ذلك يكون من أولياء الله تعالى، وهو غلط، فإن الخارق قد يظهر على يد المبطل من ساحر وكاهن وراهب، فيحتاج من يستدل بذلك على ولاية أولياء الله تعالى إلى فارق، وأَوْلى من ذكروه: أن يختبر حال من وقع له ذلك، فإن كان متمسكًا بالأوامر الشرعية والنواهي، كان علامة على ولايته، ومن لا فلا
__________
المذاهب" الثلاثة، إثبات الكرامة نفيها التفصيل، "في ذلك، فإن إجابة الدعوة في الحال،" أي: سريعًا، "ولكثير الطعام والمكاشفة بما يغيب عن العين والإخبار بما سيأتي, ونحو ذلك قد كثر جدًّا حتى صار وقوع ذلك ممن ينسب إلى الصلاح كالعادة، فانحصر الخارق" المذكور في تعريف الكرامة، بأنها ظهور أمر خارق للعادة على يد الولي، مقرون بالطاعة والعرفان، بلا دعوى نبوة, "الآن في نحو ما قاله القشيري وتعيّن تقييد من أطلق" القول، "بأن كل معجزة وجدت لنبي يجوز أن تقع كرامة لولي،" لا فارق بينهما إلّا التحدي, بقصر الجواز على غير إيجاد ابن بلا أب، وقلب العصا حية، والجمهور كما علمت على الإطلاق, إلّا بمثل القرآن مما خرج من المعجزات إلى الخصائص، قاله السعد والنووي "ووراء ذلك" الذي حققناه، "أن الذي استقرَّ عند العامَّة أن خرق العادة يدل على أن من وقع له ذلك يكون من أولياء الله تعالى وهو غلط، فإن الخارق" كما قال الباقلاني: "قد يظهر على يد المبطل من ساحر وكاهن وراهب".
وقال إمام الحرمين: فيه نظر, فلسنا نثبت لهم كرامة، "فيحتاج من يستدل بذلك على ولاية أولياء الله تعالى إلى فارق" بين الولي وغيره، "وأولى مما ذكروه أن يختبر حال من وقع له" الخارق، "فإن كان متمسكًا بالأوامر الشرعية والنواهي، كان علامة على ولايته، ومن لا فلا،" فقد حكي الاتفاق على أن الكرامة لا تظهر على الفسقة الفجرة، بل على الموفَّقين البررة.
نعم، قد تظهر على يد فاسق إنقاذًا له مما هو فيه، ثم يتوب بعدها، ويصير على أحسن(2/486)
والله أعلم, انتهى ملخصًا من الفتح.
ولما خرجوا بخبيب من الحرم ليقتلوه قال: دعوني أصلي ركعتين -وعند موسى بن عقبة: أنه صلاهما في موضع مسجد التنعيم -وقال: اللهمَّ أحصهم عددًا، ولا تبق منهم أحدًا، واقتلهم بددًا -يعني متفرقين، فلم يحل الحول ومنهم أحد حي.
__________
حال, كأصحاب الكهف كانوا عبدة أوثان، فحصل لهم ما حصل إرشادًا وتذكرة "والله أعلم، انتهى".
كل ما ذكره من أول هذه السرية "ملخصًا من الفتح" أي: فتح الباري للحافظ -رحمه الله.
قال في حديث البخاري: "ولما خرجوا بخبيب من الحرم ليقتلوه،" في الحل، "قال: "دعوني" اتركوني "أصل" بلا ياء للكشميهني، ولغيره بثبوت الياء، ولكل وجه قاله الحافظ، "ركعتين", قال في حديث البخاري: فتركوه، فركع ركعتين.
"وعند موسى بن عقبة: أنه صلاهما في موضع مسجد التنعيم" بفتح الفوقية، يقال له الآن: مسجد عائشة، وهو عند طرف حرم مكة من جهة المدينة والشام, على ثلاثة أميال، وقيل: أربعة من مكة، سمي بذلك؛ لأنَّ عن يمينه جبلًا يقال له نعيم، وعن شماله جبلًا يقال له ناعم، والوادي نعمان بفتح النون، ويقال له: نعما الأراك، قال الشاعر:
أما والراقصات بذات عرق ... ومن صلى بنعمان الأراك
وفي حديث البخاري: ثم انصرف إليهم، فقال: لولا أن تروا أنَّ ما بي جزع من الموت لزدت، وفي مرسل بريدة بن سفين: لزدت سجدتين أخريين، "وقال: اللهمَّ أحصهم،" بقطع الهمزة وحاء ساكنة وصاد مكسورة مهملتين، "عددًا" أي: أهلكهم واستأصلهم، بحيث لا يبقى من عددهم أحد، "ولا تبق منهم أحدًا، واقتلهم بددًا".
قال السهيلي: بفتح الموحدة، والدال المهملة الأولى, مصدر بمعنى: التبدد، أي: ذوي بدد، "يعني متفرقين".
قال -أعني السهيلي: ومن رواه بكسر الباء، فجمع بدة وهي الفرقة والقطعة من الشيء المتبدد، ونصبه على الحال من المدعو عليهم.
قال الدماميني: ويحتمل أن بددًا نفسه حال على جهة المبالغة، أو على تأويله باسم الفاعل انتهى.
"فلم يحل الحول ومنهم أحد حي" كما في مرسل بريدة بن سفيان، ولفظه: فلما وقع(2/487)
وفي رواية بريدة بن سفيان، فقال خبيب: اللهمَّ إني لا أجد من يبلغ رسولك مني السلام فبلغه.
وفي رواية أبي الأسود عن عروة، جاء جبريل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فأخبره, فأخبر أصحابه بذلك.. الحديث.
ثم أنشأ خبيب يقول:
فلست أبالي حين أقتل مسلمًا ... على أي شق كان لله مصرعي
__________
على الخشبة استقبل الدعاء, فلبد رجل بالأرض خوفًا من دعائه, فلم يحل الحول ومنهم أحد حي غير ذلك الرجل الذي لبد في الأرض.
وحكى ابن إسحاق عن معاوية بن أبي سفيان قال: كنت مع أبي، فجعل يلقيني إلى الأرض خوفًا من دعوة خبيب، وكانوا يقولون: إن الرجل إذا دعي عليه فاضطجع لجنبه زالت عنه.
قال في الروض: فإن قيل: هل أجيبت عوة خبيب، والدعوة في تلك الحال من مثله مستجابة، قلنا: أصابت منهم من سبق في علم الله أن يموت كافرًا، ومن أسلم منهم لم يعنه خبيب ولا قصد بدعائه، ومن قتل منهم بعد الدعوة فإنما قتلوا بها بددًا غير معسكرين ولا مجتمعين كاجتماعهم في أُحد وبدر، وإن كانت الخندق بعدها، فقد قتل منهم آحاد متبددون, ثم لم يكن لهم بعد ذلك جمع، ولا معسكر غزوا فيه، فنفذت الدعوة على صورتها فيمن أراد خبيب، وحاشاه أن يكره إيمانهم، انتهى.
"وفي رواية" سعيد بن منصور من مرسل "بريدة بن سفيان" الأسلمي المدني، ليس بالقوي، وفيه رفض من السادسة.
روى له النسائي، كما في التقريب "فقال خبيب: اللهمَّ إني لا أجد من يبلغ رسولك مني السلام فبلغه".
"وفي رواية أبي الأسود عن عروة: جاء جبريل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فأخبره, فأخبر أصحابه بذلك. الحديث".
وعند موسى بن عقبة، فزعموا أنه -صلى الله عليه وسلم- قال ذلك اليوم وهو جالس: "وعليك السلام, خبيب قتلته قريش"، "ثم أنشأ خبيب يقول: فلست أبالي" هذه رواية الكشميهني، واختارها المصنّف لقول الحافظ، هي أوزن قال: وللأكثر: ما إن أبالي، وهو جائز, لكنه مخروم، ويكمل بزيادة الفاء وما نافية، وإن بكسر الهمزة نافية أيضًا للتأكيد.
وفي رواية: وما إن أبالي، بزيادة واو في أخرى، ولست أبالي، "حين أقتل" بالبناء للمفعول، حال كوني مسلم، على أيّ شق" بكسر الشين المعجمة، أي: جنب، "كان لله مصرعي" أي:(2/488)
وذلك في ذات الإله وإن يشأ ... يبارك على أوصال شلو ممزع
والأوصال: جمع وصل، وهو العضو. "والشلو -بكسر المعجمة- الجسد, ويطلق على العضو. لكن المراد به هنا الجسد. والممزع -بالزاي ثم المهملة- المقطّع, ومعنى الكلام: أعضاء جسد مقطع.
وعند أبي الأسود عن عروة, زيادة في هذا الشعر فقال:
لقد أجمع الأحزاب فيّ وألبوا ... قبائلهم واستجمعوا كل مجمع
وفيه أيضًا:
إلى الله أشكو غربتي بعد كربتي ... وما أرصد الأحزاب لي عند مصرعي
وساقه ابن إسحاق ثلاثة عشر بيتًا،
__________
مطرحي على الأرض، "وذلك في ذات الإله،" أي: في وجه الله وطلب رضاه وثوابه، كما قاله المصنف. "وإن يشأ يبارك على أوصال شلو ممزع" بضم الميم الأولى، وفتح الثانية وزاي مشددة "والأوصال جمع وصل، وهو العضو، والشلو بكسر" الشين "المعجمة" وإسكان اللام وبالواو: الجسد, ويطلق على العضو، لكن المراد به هنا الجسد" كما قال الخليل لقوله: على أوصال -يعني: أعضاء جسد؛ إذ لا يقال أعضاء عضو. انتهى. "والممزَّع بالزاي" المشددة "ثم" العين "المهملة المقطع، ومعنى الكلام: أعضاء جسد مقطع" مفرق.
"وعند أبي الأسود عن عروة، زيادة في هذا الشعر، فقال: لقد أجمع الأحزاب في" أي: في شأني، "وألَّبوا" بشدّ اللام وموحدة أي: حضوا "قبائلهم", ولا يفسّر يجمعوا أيضًا، كما في النور ليغاير قوله: أجمع "واستجمعوا كل مجمع, وفيه أيضًا:
إلى الله أشكو غربتي بعد كربتي ... وما أرصد الأحزاب لي عند مصرعي
روي أن قريش طلبوا جماعة ممن قتل آباؤهم وأقرباؤهم ببدر، فاجتمع أربعون بأيديهم الرماح والحراب، وقالوا لهم: هذا الرجل قتل آباءكم، فطعنوه بالرماح والحراب، فتحرَّك على الخشبة، فانقلب وجهه إلى الكعبة، فقال: الحمد لله الذي جعل وجهي نحو قبلته، فلم يستطع أحد أن يحوله، "وساقه" أي: الشعر محمد "ابن إسحاق ثلاثة عشر بيتًا" هكذا في الفتح، ولعله في رواية غير زيادة، وإلّا فروايته عشرة فقط، وكذا عند الواقدي وغيره وهي:
لقد جمع الأحزاب حوالي وألبوا ... قبائلهم واستجمعوا كل مجمع
وكلهم مبدي العداوة جاهد ... علي؛ لأني في وثاق مضيع
وقد جمعوا أبناءهم ونساؤهم ... وقربت من جذع طويل ممنع(2/489)
قال ابن هشام: ومن الناس من ينكرها لخبيب.
فكان أول مَن سنَّ الركعتين عند القتل لكل مسلم قتل صبرًا، كذا قاله ابن إسحاق، وقوله هذا يدل على أنها سنة جارية.
وإنما صار فعل خبيب سنة -والسنة إنما هي أقوال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأفعاله وتقريره؛ لأنه فعلها في حياته -صلى الله عليه وسلم, فاستحسن ذلك من فعله واستحسنها المسلمون
__________
إلى الله أشكو غربتي ثم كربتي ... وما أرصد الأحزاب لي عند مصرعي
فذا العرش صبرني على ما يراد بي ... فقد بضعوا لحمي وقد يأس مطمعي
وذلك في ذات الإله وإن يشأ ... يبارك على أوصال شلو ممزع
وقد خيروني الكفر والموت دونه ... وقد هملت عيناي من غير مجزع
وما بي حذار الموت إني لميت ... ولكن حذاري جحم نار ملفع
ووالله ما أخشى إذا مت مسلمًا ... على أي جنب كان في الله مضجعي
فلست بمبد للعدوّ تخشعًا ... ولا جزعًا إني إلى الله مرجعي
"قال ابن هشام: ومن الناس من" لفظه: وبعض أهل العلم، "ينكرها لخبيب،" والمثبت مقدم على النافي كيف وبيتان منها في الصحيح.
قال الحافظ: وفيه إنشاء الشعر، وإنشاده عند القتل، وقوة نفس خبيب، وشدة قوته في دينه.
قال في حديث البخاري: ثم قال إليه أبو سروعة عقبة بن الحارث فقتله، وكان خبيب هو الذي سنَّ لكل مسلم قتل صبرًا الصلاة، وأخبر أصحابه يوم أصيبوا خبرهم، هكذا في البخاري في بدر من رواية إبراهيم بن سعد عن الزهري, ونحوه في الجهاد من رواية شعيب عن ابن شهاب، وسقط ذلك في هذا الباب من رواية معمر، فوقف معه المصنف, فعزا لابن إسحاق قوله: "فكان أوّل من سنَّ الركعتين عند القتل لكل مسلم قتل صبرًا" أي: مصبورًا، أي: محبوسًا للقتل، "كذا قاله ابن إسحاق" عن شيخه عاصم ابن عمر بن قتادة، ولا أدري ما وجه التبري ولا قصر العزو.
ولابن إسحاق مع كونه في الصحيح موصولًا، وفي السيرة مرسلًا، وقيل: أول من سنهما زيد بن حارثة للبلاغ الآتي، وردّ بأنه لم يتصل، فلا يقاوم ما في الصحيح.
"وقوله: هذا" كما قال صاحب الروض، "يدل على أنها سنة جارية، وإنما صار فعل خبيب سنة، والسنة إنما هي أقوال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأفعاله وتقريره؛ لأنه فعلها في حياته -صلى الله عليه وسلم, فاستحسن ذلك من فعله" فهو تقرير له، "واستحسنها المسلمون", وفعلوها كحجر بن عدي(2/490)
والصلاة خير ما ختم به عمل العبد.
وقد صلى هاتين الركعتين زيد بن حارثة، مولى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في حياته -عليه الصلاة والسلام، كما رويناه من طريق السهيلي بسنده إلى الليث بن سعد قال: بلغني أن زيد بن حارثة اكترى بغلًا من الطائف، فاشترط عليه الكراء أن ينزله حيث شاء. قال: فمال به إلى خربة، فقال له انزل فنزل، فإذا في الخربة قتلى كثيرة، قال: فلمَّا أراد أن يقتله قال له: دعني أصلي ركعتين، قال: صلِّ فقد صلى قبلك هؤلاء فلم تنفعهم صلاتهم شيئًا، فلمَّا صليت أتاني ليقتلني فقلت: يا أرحم الراحمين، قال: فسمع صوتًا: لا تقتله، فهاب ذلك، فخرج ليطلب فلم ير شيئًا، فرجع إليّ، فناديت: يا أرحم الراحمين، فعل ذلك ثلاثًا، فإذا بفارس على فرس في يده حربة حديد في رأسها شعلة نار، فطعنه بها فأنفذها
__________
الصحابي، فدلَّ ذلك على عدم نسخها, "والصلاة خير ما ختم به عمل العبد" هو وجه استحسانهم لها, فهو عطف علة على معلول, ولفظ الروض: مع أن الصلاة، "وقد صلى هاتين الركعتين زيد بن حارثة، مولى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في حياته -عليه الصلاة والسلام، كما رويناه من طريق السهيلي" في الروض "بسنده إلى الليث" وهو: حدثنا أبو بكر بن طاهر الإشبيلي، حدثنا أبو علي الغساني، حدثنا أبو عمر النمري، حدثنا أبو القاسم عبد الوارث بن سفيان بن خيرون، حدثنا قسم بن أصبغ، حدثنا أبو بكر بن أبي خيثمة، حدثنا ابن معين، حدثنا يحيى عبد الله بن بكير المصري، حدثني الليث "بن سعد، قال: بلغني أن زيد بن حارثة" الحِبّ والد الحبّ المختص، بأن الله لم يصرّح في القرآن باسم أحد من الصحابة سواه, البدري، "اكترى" من رجل "بغلًا من الطائف، واشترط عليه الكراء أن ينزله حيث شاء، قال: فمال به إلى خربة، فقال له انزل، فنزل, فإذا في الخربة قتلى كثيرة، قال: فلمَّا أراد أن يقتله، قال: دعني أصلي ركعتين، قال: صلِّ، فقد صلى قبلك هؤلاء" الفرائض وغيرها، "فلم تنفعهم صلاتهم شيئًا" فمراده الاستهزاء بالمسلمين وصلاتهم من حيث هي، أو الركعتين عند القتل، وهؤلاء كانوا بعد قتل خبيب، فلا ينافي أنه أول من سنَّهما.
"قال: فلمَّا صليت أتاني ليقتلني، فقلت: يا أرحم الراحمين، قال: فسمع صوتًا لا تقتله فهاب ذلك، فخرج ليطلب فلم ير شيئًا، فرجع إليّ فناديت: يا أرحم الراحمين, فعل ذلك ثلاثًا، فإذا بفارس" يحتمل أنه جبريل أو غيره، "على فرس, في يده حربة حديد, في رأسها شعلة نار، فطعنه بها فأنفذها" كذا في نسخ، وهي ظاهرة.(2/491)
من ظهره فوقع ميتًا. ثم قال: لما دعوت المرة الأولى: يا أرحم الراحمين, كنت في السماء السابعة، فلمَّا دعوت المرة الثانية: يا أرحم الراحمين, كنت في سماء الدنيا، فلمَّا دعوت الثالثة أتيتك. انتهى.
في رواية أبي الأسود عن عروة: فلمَّا وضعوا فيه السلاح وهو مصلوب -نادوه وناشدوه: أتحب أن محمدًا مكانك؟ قال: لا والله، ما أحب أن يفديني بشوكة في قدمه.
ويقال: إن الذي قال ذلك زيد بن الدثنة، وأنَّ أبا سفيان قال له: يا زيد، أنشدك بالله, أتحب أن محمدًا الآن عندنا مكانك تُضْرَب عنقه، وإنك في أهلك؟ فقال: والله ما أحب أن محمدًا الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه، وإني لجالس في أهلي
__________
وفي أخرجه: وهي التي رأيتها بالروض فأنفذه، أي: أنفذ ما طعنه به، "من ظهره، فوقع ميتًا، ثم قال: لما دعوت المرة الأولى: يا أرحم الراحمين, كنت في السماء السابعة، فلما دعوت المرة الثانية: يا أرحم الراحمين, كنت في سماء الدنيا، فلما دعوت" المرة "الثالثة": يا أرحم الراحمين "أتيتك. انتهى" فيه الاعتناء بهذا الدعاء، وأن المخلص فيه كزيد محقق الإجابة، ولعلَّ حكمة عدم نزوله في أوّل مرة رجاء أن الكافر ينتهي عن قتله بالقول، فلمَّا كرره ثلاثًا ولم يكف تحقق عتوه فاستحقّ القتل، ولعلَّ عدم استمراره في السماء السابعة لآخر الدعوات مع قدرته على نزوله في أسرع زمن, الاعتناء بشأن الداعي في تقربه منه، وتعليمه بذلك الفعل, وإخباره عنه, بعد كيف يعين من استغاث به، وذلك بأن يبادر إلى جوابه ويشرع في إغاثة الملهوف بالأخذ في أسباب الدفع عنه، هكذا أبدعه شيخنا -رحمه الله.
"وفي رواية أبي الأسود عن عروة: فلمّا وضعوا فيه السلاح،" الرماح والحرب وطعنوه بها طعنًا خفيفًا، "وهو مصلوب, نادوه وناشدوه: أتحب أنّ محمدًا مكانك، قال: لا والله ما" أحب أن يفديني" بفتح الياء وسكون الفاء "بشوكة في قدمه، ويقال" وهو الذي عند ابن إسحاق: "إن الذي قال ذلك زيد بن الدثنة" لما بعث به صفوان مع مولاه نسطاس إلى التنعيم ليقتله، واجتمع هو وخبيب في الطريق, فتواصوا بالصبر والثبات على ايلحقهما من المكاره. "وأنَّ أبا سفيان قال له: يا زيد, أنشدك" بفتح الهمزة وضم الشين، أسألك "بالله, أتحب أن محمدًا الآن عندنا مكانك تُضْرَب عنقه، وإنك في أهلك, فقال: والله ما أحب أن محمدًا الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه وإني لجالس في أهلي،" ولا منافاة بين النقلين، فقد يكونون(2/492)
قال أبو سفيان: ما رأيت الناس أحدًا يحب أحدًا كحب أصحاب محمد محمدًا.
ثم قتله نسطاس -بكسر النون.
وبعثت قريش إلى عاصم ليؤتوا بشيء من جسده يعرفونه، وكان عاصم
__________
قالوا ذلك لخبيب، وقاله أبو سفيان لزيد، "فقال أبو سفيان: ما" نافية لا تعجبية كما زعم، وإن كان معنى كلامه التعجب، "رأيت من الناس أحدًا يحب أحدًا كحب أصحاب محمد محمدًا، ثم قتله نسطاس بكسر النون" مولى صفوان حضر يوم أُحد مع الكفار، ثم أسلم وحسن إسلامه, فكان يحدِّث عن يوم أُحد كما في الإصابة، وضمير قتله راجع لزيد فقط, كما هو المنقول في ابن إسحاق وأتباعه، وأما خبيب ففي الصحيح عن أبي هريرة وجابر, أن الذي قتله أبو سروعة -بكسر السين المهملة وفتحها- عند الأكثر، والراء ساكنة.
قال الحافظ: زاد سعيد بن منصور والإسماعيلي عن سفيان بن عيينة, واسمه: عقبة بن الحارث، وهذا خالف سفيان فيه جماعة من أهل السير والنسب، فقالوا: أبو سروعة أخو عقبة, حتى قال العسكري: من زعم أنهما واحد فقد وَهِمَ.
وفي الإصابة: أبو سروعة النوفلي: هو عقبة بن الحارث عند الأكثر، وقيل: أخوه, واسمه: الحارث, أسلم يوم الفتح، وكذا قال الزبير بن بكار وغيره, انتهى.
ولابن إسحاق بإسناد صحيح عن عقبة بن الحارث قال: ما أنا قتلت خبيبًا؛ لأني كنت أصغر من ذلك، ولكن أبا ميسرة العبدري أخذ الحربة فجعلها في يدي، ثم أخذ بيدي وبالحربة ثم طعنه بها حتى قتله، انتهى.
وروى أحمد عن عمرو بن أمية الضمري قال: بعثني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وحدي عينًا إلى قريش، فجئت خشبة خبيب بن عدي لأنزله من الخشبة، فصعدت خشبته ليلًا فقطعت عنه وألقيته، فسمعت وجبة خلفي، فالتفت فلم أر خبيبًا، وكأنما ابتلعته الأرض, فلم أر له أثرًا حتى الساعة.
وروي أنه -صلى الله عليه وسلم- أرسل الزبير والمقداد بن الأسود فأتياه، فإذا هو رطب لم يتغير منه شيء بعد أربعين يومًا ولونه لون الدم، وريحه ريح المسك, فحمله الزبير على فرسه وسارا, فلحقهم سبعون من الكفار، فقذفه الزبير، فابتلعته الأرض, فسمي بليع الأرض.
"وبعثت قريش إلى عاصم" الأمير المقتول أولًا في جملة السبعة حين حدّثوا أنه قتل "ليؤتوا" بضم التحتية وفتح الفوقية "بشيء من جسده يعرفونه" به كرأسه، "و" سبب ذلك أنه(2/493)
قتل عظيمًا من عظمائهم يوم بدر، ولعلَّ العظيم المذكور: عقبة بن أبي معيط، فإن عاصمًا قتله صبرًا بأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد أن انصرفوا من بدر. ووقع عند ابن إسحاق, وكذا في رواية بريدة بن سفيان: أن عاصمًا لما قُتِل أرادت هذيل أخذ رأسه ليبيعوه من سلافة بنت سعد، وهي أمّ مسافع وجلاس ابني طلحة العبدري، وكان عاصم قتلهما يوم أُحد، وكانت قد نذرت حين أصاب ابنيها يوم أحد: لئن قدرت على رأس عاصم لتشربنَّ الخمر في قحفة -بكسر القاف، وهو ما انفلق من الجمجمة فبان.
قال الطبري: وجعلت لمن جاء برأسه مائة ناقة.
فمنعهم منهم الدبر -بفتح الدال
__________
"كان عاصم قتل عظيمًا من عظمائهم يوم بدر" هكذا في حديث أبي هريرة في الصحيح.
قال الحافظ: "ولعلَّ العظيم المذكور عقبة بن أبي معيط، فإن عاصمًا قتله" على قول ابن إسحاق "صبرًا بأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد أن انصرفوا من بدر،" بمحلٍّ يُقال له: عرق الظبية, "ووقع عند ابن إسحاق، وكذا في رواية بريدة بن سفيان: أن عاصمًا لما قُتِلَ أرادت هذيل أخذ رأسه ليبيعوه من سلافة" بضمِّ السين المهملة وخفة اللام وبالفاء.
وصحَّف ابن الأثير فأبدلها ميمًا "بنت سعد" بن شهيد -بضم الشين المعجمة وفتح الهاء- الأنصارية الأوسية، أسلمت في فتح مكة بعدما نازعت طويلًا في إعطاء مفتاح البيت كما في الإصابة، "وهي أم مسافع" بضم الميم وكسر الفاء "وجلاس" بضم الجيم وخفة اللام وسين مهملة، "ابني طلحة العبدري" -بفتح العين المهملة وسكون الموحَّدة وفتح الدال المهملة وبالراء- نسبة إلى عبد الدار بن قصي، "وكان عاصم قتلهما يوم أُحد، وكانت قد نذرت حين أصاب ابنيها" المذكورين "يوم أُحد: لئن قدرت على رأس عاصم لتشربنَّ الخمر في قحفة -بكسر القاف وسكون الحاء المهملة وبالفاء، "وهو ما انفلق من الجمجمة فبان" ظهر، ولا ينافيه قول غيره أعلى الدماغ؛ لأن الجمجمة إذا انفلقت ظهر أعلى الدماغ، فإذا شربت في القحف فقد شربت في الجمجمة.
قال الحافظ: فإن كان محفوظًا احتمل أن تكون قريش لم تشعر بما جرى لهذيل من منع الدبر لها من أخد رأس عاصم، فأرسلت من يأخذه أو عرفوا بذلك، ورجعوا أن يكون الدبر تركته فيتمكنوا من أمره.
"قال الطبري: وجعلت لمن جاء برأسه مائة ناقة، فمنعهم منهم الدبر -بفتح الدال المهملة(2/494)
المهملة وسكون الموحَّدة: الزنابير -فلم يقدروا منه على شيء.
وكان عاصم بن ثابت قد أعطى الله عهدًا أن لا يمسه مشرك ولا يمس مشركًا, وكان عمر لما بلغه خبره يقول: يحفظ الله العبد المؤمن بعد وفاته، كما حفظه في حياته.
وإنما استجاب الله تعالى له في حماية لحمه من المشركين، ولم يمنعهم من قتله لما أراد من إكرامه بالشهادة، ومن كرامته حمايته من هتك حرمته بقطع لحمه.
__________
وسكون الموحدة الزنابير:
قال الحافظ: وقيل: ذكور النحل ولا واحد له من لفظه، وللبخاري: فبعث الله عليه مثل الظلة من الدبر, فحمته من رسلهم، "فلم يقدروا منه على شيء".
وفي رواية البخاري في الجهاد: فلم يقدروا أن يقطعوا من لحمه شيئًا، ولأبي الأسود عن عروة: فبعث الله عليهم الدبر، تطير في وجوههم وتلدغهم، فحالت بينهم وبين أن يقطعوا. ولابن إسحاق عن عاصم بن عمر بن قتادة، فلمَّا حالت بينهم وبينه قالوا: دعوه حتى يمسي فتذهب عنه فنأخذه، فبعث الله الوادي فاحتمل عاصمًا، فذهب به.
وفي معالم التنزيل: فاحتمله السيل، فذهب به إلى الجنة, وحمل خمسين من المشركين إلى النار، وفي حياة الحيوان أنهم لما قتلوه أرادوا أن يمثلوا به, فحماه الله بالدبر حتى أخذه المسلمون فدفنوه.
"و" في رواية ابن إسحاق، عن شيخه عاصم بن عمر، "كان عاصم بن ثابت قد أعطى الله عهدًا أن لا يمسَّه مشرك،" قوي رجاؤه في الله فعاهده بذلك، أو عاهده أن لا يمكِّن مشركًا من مَسِّه، أو المراد: سأله ذلك، "ولا يمس مشركًا" بمصافحة ونحوها مما يشعر بتعظيمه، أو الميل له, فلا ينافي أنه يقتلهم بالسيف والرمح.
"وكان عمر" بن الخطاب، "لما بلغه خبره يقول: يحفظ الله العبد المؤمن بعد وفاته، كما حفظه في حياته" ففيه استجابة دعاء المسلم وإكرامه حيًّا وميتًا، "وإنما استجاب الله له في حماية لحمه من المشركين"؛ لقوله: اللهمَّ إني حميت لك دينك صدر النهار فاحم لحمي آخره. "ولم يمنعهم من قتله لما أراد الله من إكرامه بالشهادة، ومن كرامته حمايته من هتك حرمته بقطع لحمه" كما طلب، ولا يستلزم ذلك كونه أفضل من حمزة ونحوه كما هو ظاهر، والله أعلم.(2/495)
بئر معونة:
سرية المنذر بن عمرو -بفتح العين المهملة- إلى بئر معونة -بفتح الميم وضم المهملة وسكون الواو بعدها نون: موضع ببلاد هذيل بين مكة وعسفان. في صفر على رأس ستة وثلاثين شهرًا من الهجرة، على رأس أربعة أشهر من أُحد.
بعث معه المطلب السلمي ليدلهم على الطريق.
وكانت مع رعل -بكسر الراء وسكون العين المهملة: بطن من بني سليم، ينسبون إلى رعل بن عوف بن مالك، وذكوان بطن من بني سليم أيضًا, ينسبون إلى ذكوان بن ثعلبة. فنسبت الغزوة إليها.
__________
بئر معونة:
"سرية المنذر" بضم فسكون، وكسر الذال المعجمة وراء "ابن عمرو -بفتح العين المهملة" الخزرجي العقبي، البدري، النقيب، من أكابر الصحابة، له حديث رواه عنه سهل بن سعد أن النبي -صلى الله عليه وسلم- سجد سجدتي السهو قبل التسليم. أخرجه الدارقطني وغيره. "إلى" أهل "بئر معونة" ليدعوهم إلى الإسلام، أو مددًا لهم على عدو لهم، ويجيء بسطه "بفتح الميم، وضم المهملة، وسكون الواو بعدها نون: موضع ببلاد هذيل بين مكة وعسفان" هذا لفظ الفتح تبعًا للمطالع، وفي ابن إسحاق، وتبعه اليعمري، وهي بين أرض بني عامر، وحرة بني سليم, كلا البلدين منها قريب، وهي إلى حرة بني سليم أقرب.
قال شيخنا: والظاهر أنه لا تنافي؛ لجواز أن يكون ذلك الموضع المنسوب لهذيل بين مكة وعسفان, وبجواره أرض بني عامرة وحرة بني سليم. "في صفر على رأس ستة وثلاثين شهرًا من الهجرة, على رأس أربعة أشهر من أُحد" عند ابن إسحاق، وجعلها بعضهم في المحرّم، وقدمها على بعث الرجيع، "وبعث" -صلى الله عليه وسلم "معه" أي: المنذر, خصَّ بالذكر لأنه الأمير، وفي نسخة معهم، أي: السرية "المطلب السلمي" بضم السين وفتح اللام، نسبة لبني سليم, صحابي له ذكر في هذه الغزوة، "ليدلهم على الطريق, وكانت مع رعل -بكسر الراء وسكون المهملة: بطن من بني سليم" بلفظ التصغير "ينسبو إلى رعل بن عوف" بالفاء "بن مالك" بن امرئ القيس بن نهية بن سليم، "و" مع "ذكوان" بفتح المعجمة وسكو الكاف، وواو وألف ونون "بطن من بني سليم" أيضًا ينسبون إلى ذكوان بن ثعلبة" بن نهية بن سليم "فنُسِبَت الغزوة إليها،" أي: بئر معونة لنزولهم بها.(2/496)
وهذه الوقعة تعرف بسرية القراء، وكان من أمرها -كما قاله ابن إسحاق: أنه قدم أبو براء عامر بن مالك بن جعفر, المعروف بملاعب الأسنّة على رسول الله -صلى الله عليه وسلم
__________
"وهذه الوقعة" كما تعرف بسرية المنذر وبئر معونة "تعرف بسرية القرّاء" جمع قارئ؛ لكثرة قراءة السبعين الذين ذهبوا فيها، "وكان من أمرها كما قاله ابن إسحاق" عن شيوخه: "أنه قدم أبو براء" بفتح الموحدة وبالراء والمد "عامر بن مالك بن جعفر" العامري. اختُلِفَ في إسلامه، فذكره جماعة في الصحابة.
وقال الذهبي: الصحيح أنه لم يسلم.
وقال في الإصابة: ليس في شيء من الأخبار ما يدل على إسلامه، وعمدة من ذكره في الصحابة ما عند ابن الأعرابي وغير عنه، أنه قال: بعثت إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- ألتمس منه دواء، فبعث إليّ بعكة عسل، وليس ذلك بصريح في إسلامه، بل ذكر أبو حاتم السجستاني عن هشام الكلبي، أن عامر بن الطفيل، لما أخفر ذمّة عمه عامر بن مالك، عمد إلى الخمر فشربها صرفًا حتى مات.
نعم، ذكر عمرو بن شبة، عن مشيخة من بني عامر، قالوا: قدم على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خمسة وعشرون رجلًا من بني جعفر، ومن بني بكر, فيهم عامر بن مالك، فنظر -صلى الله عليه وسلم- إليهم، فقال: "قد استعملت عليكم هذا" , وأشار إلى الضحاك بن سفيان الكلابي، وقال لعامر بن مالك: "أنت على بني جعفر"، وقال للضحاك: "استوص به خيرًا", فهذا يدل على أنه وفد بعد ذلك مسلمًا، انتهى. "المعروف بملاعب الأسنة،" جمع سنان، وهو نصل الرمح، كما في القاموس, عبَّر به لكونه المقصود من الرمح.
قال في الرض: سمي بذلك في يوم سوبان، وهو يوم كان بين قيس وتميم, وجبلة اسم لهضبة عالية؛ لأن أخاه طفيلًا الذي يقال له فارس قرزل، أسلمه ذلك اليوم وفرّ، فقال الشاعر:
فررت وأسلمت ابن أمك عامرًا ... يلاعب أطراف الوشيج المزعزع
فسمِّي ملاعب الرماح، وملاعب الأسنة، وهم عم لبيد بن ربيعة. انتهى. "على رسول الله -صلى الله عليه وسلم".
وفي رواية: أنه أهدى إليه فرسين وراحتلين، فقال -صلى الله عليه وسلم: "لا أقبل هدية مشرك".
وفي رواية: "إني نهيت عن زبد المشركين" بفتح الزاي، وسكون الموحدة وبالدال المهملة: الرفد والعطاء.
قال السهيلي في غزوة تبوك: ولم يقل من هديتهم؛ لأنه إنما كره ملاينتهم ومداهنتهم إذا كانوا حراب له؛ لأن الزبد مشتق من الزبد، كما أن المداهنة مشتقة من الدهن، فعاد المعنى إلى معنى اللين ووجود الجد في حربهم والمخاشنة، وقد ردَّ هدية أبي براء، وكان أهدى إليه فرسًا،(2/497)
فعرض عليه الإسلام فلم يسلم ولم يبعد, وقال: يا محمد, لو بعثت رجالًا من أصحابك إلى أهل نجد فدعوتهم إلى أمرك لرجوت أن يستجيبوا لك, فقال -عليه الصلاة والسلام: "إني أخشى أهل نجد عليهم". قال أبو براء: أنا لهم جاء فابعثهم.
فبعث -عليه الصلاة والسلام- المنذر بن عمرو، ومعه القراء وهم سبعون -وقيل: أربعون, وقيل: ثلاثون.
وقد بَيِّنَ قتادة في روايته أنهم كانوا يحتطبون بالنهار ويصلون بالليل
__________
وأرسل إليه أنني قد أصابني وجع، أحسبه قال: يقال له الدبلة، فابعث إلي شيء أتداوى به، فأرسل إليه بعكة عسل، وأمره أن يستشفي به, وردَّ عليه هديته، وقال: "إني نهيت عن زبد المشركين" انتهى. وهذا قبل ما تقدَّم بلا ريب لا بعده؛ لموته أسفًا على ما صنع عامر سريعًا. "فعرض عليه الإسلام فلم يسلم، ولم يبعد" بفتح أوله وضم العين, بل قال: يا محمد, إني أرى أمرك هذا حسنًا شريفًا، وقومي خلفي، فلو أنك بعث معي نفرًا من أصحابك؛ لرجوت أن يتبعوا أمرك، فإنهم إن اتبعوك فما أعز أمرك، "وقال: يا محمد, لو بعثت رجال من أصحابك إلى أهل نجد فدعوتهم" بفتح التاء خطابًا، أي: بواسطة من ترسله إليهم، "إلى أمرك لرجوت" بضم التاء على التكلم "أن يستجيبوا لك، فقال -عليه الصلاة والسلام: "إني أخشى أهل نجد عليهم" هو في الأصل ما أشرف من الأرض.
"قال أبو براء: أنا لهم جار" أي: هم في ذمامي وعهدي وجواري، "فابعثهم، فعث -عليه الصلاة والسلام- المنذر بن عمرو، ومعه القراء" وانفصل المصنف عن رواية ابن إسحاق التي هو فيها دون بيان، فقال: "وهم سبعون" كما في البخاري ومسلم من طرق عن أنس.
قال السهيلي: وهو الصحيح، "وقيل: أربعون،" كما في رواية ابن إسحاق وموسى بن عقبة.
قال الحافظ: ويمكن الجمع بأنّ الأربعين كانوا رؤساء، وبقية العدة أتباعًا "وقيل: ثلاثون".
قال الحافظ: هو وهم، لكن قال في الغرر: إن رواية القليل لا تنافي رواية الكثير، وهو من باب مفهوم العدد، وكذا قول من قال ثلاثين، انتهى.
"وقد بَيِّنَ قتادة" بن دعامة "في روايته", عن أنس في الصحيح "أنهم كانوا يحتطبون،" يجمعون الحطب "بالنهار، ويصلون بالليل", ولفظه: استمدوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم, فأمدَّهم بسبعين من الأنصار, كنَّا نسميهم القراء في زمانهم، كانوا يحتطبون بالنهار ويصلون بالليل, وادَّعى الدمياطي أن هذه الرواية وهم، فإنهم لم يستمدوه -صلى الله عليه وسلم, وإنما الذي استمدَّهم عامر بن الطفيل على الصحابة.
قال الحافظ: ولامانع أن يستمدوه -صلى الله عليه وسلم- في الظاهر, وقصدهم الغدر بهم، ويحتمل أن(2/498)
وفي رواية ثابت: ويشترون به الطعام لأهل الصفة، ويتدارسون القرآن بالليل.
فساروا حتى وصلوا إلى بئر معونة، بعثوا حرام بن ملحان بكتابه -صلى الله عليه وسلم- إلى عدو الله عامر بن الطفيل العامري، ومات كافرًا -وليس هو عامر بن
__________
الذي استمدوه غير الذين استمدهم عامر، والكل من بني سليم.
وفي رواية عاصم عن أنس عند البخاري أنه -صلى الله عليه وسلم- بعث أقوامًا إلى ناس من المشركين بينهم وبين رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عهد، ويحتمل أنه لم يكن استمدادهم لهم لقتال عدو، وإنما هو للدعاء للإسلام، وقد أوضح ذلك ابن إسحاق، فذكر ما نقله المصنف عنه، وقيل في تأويله أيضًا، أي: طلبوا منه مدة يمهلهم فيها، أي: للتروي في الإسلام؛ لأنهم لم يسلموا ولم يظهروا إسلامًا.
"وفي رواية ثابت" البناني، عن أنس في الصحيح: "ويشترون به،" أي: الحطب, "الطعام لأهل الصفة" وللفقراء.
وفي رواية: ويأتون به إلى حجر أزواجه -صلى الله عليه وسلم، "ويتدارسون القرآن بالليل"، ويصلون كما هو بقية رواية ثابت، والجمع بين هذه الروايات سهل, بأنهم كانوا يصلون بعض الليل، ويدرسون بعضه، ويحتطبون ويبيعون بعضه، يشترون به طعامًا لأهل الصُّفَّة والفقراء، وبعضه يأتون به الحجر الشريفة, أو بعضهم يفعل كذا، والآخر كذا، أو يفعلون ذا مرة وذا مرة، وقوله: لأهل الصفة, لا يفهم أنهم ليسوا من أهلها.
وقد نصَّ المصنف في بناء المسجد على أنهم من أهل الصفة، فبعض أهل المحل يشتري لبعض، كما هو مشاهد في كثير من الزوايا والربط, فلا حاجة لحمله على النفي والإثبات وتعسف الجمع، بأن من عدهم من أهلها نظر إلى إعراضهم عن نحو: التجارة والزراعة ومخالطة أهلها إلّا وقت الحاجة, ومن لم يعد بناه على أن أهلها هم الملازمون للمسجد الذين لم يتعلقوا بشيء غير العبادة، أو أمر ضروري يخرجون له ويعودون سريعًا.
"فساروا حتى وصلوا إلى بئر معونة، بعثوا حرام" بمهملة وراء "ابن ملحان" بكسر الميم أشهر من فتحها، أخو أم سليم, خال أنس بن مالك "بكتابه -صلى الله عليه وسلم- إلى عدو الله عامر بن الطفيل" ابن مالك بن جعفر الكلابي "العامري", وهو ابن أخي أبي براء، "ومات كافرًا" بإجماع أهل النقل، وعدَّه المستغفري صحابيًّا غلط، قاله البرهان.
وقال الحافظ: هو خطأ صريح، فإن عامرًا مات كافرًا، وقصته معروفة -يريد في الصحيح وغيره, من قدومه على النبي -صلى الله عليه وسلم، وقوله: لك أهل السهل ولي أهل المدر، أو أكون خليفتك، أو أغزوك بألف أشقر وألف شقراء، فقال -صلى الله عليه وسلم: "اللهم اكفني عامرًا"، فطعن في بيت امرأة فقال: غدة كغدة البكر في بيت امرأة، ائتوني بفرسي، فمات على ظهر فرسه، "وليس هو عامر بن(2/499)
الطفيل الأسلمي الصحابي -فلمَّا أتاه لم ينظر في كتابه حتى عدا على الرجل فقتله، ثم استصرخ عليهم بني عامر فلم يجبيبوه، وقالوا: لن نخفر أبا براء، وقد عقد لهم عقدًا وجوارًا، فاستصرخ عليهم قبائل من سليم: عصية
__________
الطفيل الأسلمي الصحابي.
قال الحافظ: وسبب وهم المستغفري: أنه أخرج عن أبي أمامة عن عامر بن الطفيل، أنه قال: يا رسول الله, زودني كلمات، قال: "يا عامر, أفش السلام، وأطعم الطعام، واستحي من الله، وإذا أسأت فأحسن" في ترجمة العامري، والحديث إنما هو للأسلمي, كما أخرجه البغوي عن عبد الله بن بريدة الأسلمي قال: حدثني عمّي عامر بن الطفيل فذكره.
وفي رواية الطبري: فخرج حرام، فقال: يا أهل بئر معونة, إني رسولُ رسولِ الله إليكم, فآمنوا بالله ورسوله، فخرج رجل برمح، فضربه في جنبه حتى خرج من الشق الآخر.
وفي الصحيح: فجعل يحدثهم فأومئوا إلى رجل، فأتاه من خلفه فطعنه بالرمح، قال: الله أكبر فزت ورب الكعبة، قال الحافظ: لم أعرف اسم الرجل الذي طعنه.
وفي سيرة ابن إسحاق ما ظاهره، أنه عامر بن الطفيل؛ لأنه قال: "فلما أتاه لم ينظر في كتابه،" بل أعرض عنه، واستمرّ في طغيانه، "حتى عدا على الرجل فقتله".
لكن في الطبراني من طريق ثابت عن أنس, قاتل حرام بن ملحان أسلم، وعامر بن الطفيل مات كافرًا كما تقدَّم، انتهى من الفتح. فكان نسبة ذلك إليه على سبيل التجوّز؛ لكونه رأس القوم، كما قاله نفس الحافظ بعد في ابن فهيرة.
وفي الصحيحين، عن أنس: لما طُعِنَ حرام بن ملحان قال: فزت ورب الكعبة.
واتفق أهل المغازي على أنه استشهد يوم بئر معونة المذكور.
وحكى أبو عمر عن بعض أهل الأخبار أنه ارتثّ يومئذ.
فقال الضحاك ابن سفيان الكلابي، وكان مسلمًا يكتم إسلامه، لامرأة من قومه: هل لك من رجل إن صح كان نعم الراعي، فضمته إليها, فعاجته, فسمعته يقول:
أيا عامر ترجو المودة بيننا ... وهل عامر إلا عدو مداهن
إذا ما رجعنا لم يك وقعة ... بأسيافنا في عامر أو تطاعن
فوثبوا عليه فقتلوه. "ثم استصرخ" استغاث "عليهم من بني عامر" قومه، "فلم يجيبوه، وقالوا: لن نخفر" بضم أوله وكسر الفاء، "أبا براء" أي: لن ننقض عهده وذمامه. "و" الحال أنه "قد عقد لهم عقدًا وجوارًا" بكسر الجيم وضمها، فالأجانب راعوه, وابن أخيه نقض عقده، "فاستصرخ عليهم قبائل من بني سليم عصية،" بدل من قبائل بضم العين، وفتح الصاد(2/500)
ورعلًا, فأجابوه إلى ذلك، ثم خرجوا حتى غشوا القوم فأحاطوا بهم في رحالهم، فلمّا رأوهم أخذوا سيوفهم وقاتلوهم حتى قتلوا إلى آخرهم، إلّا كعب بن زيد, فإنهم تركوه وبه رمق، فعاش حتى قُتِلَ يوم الخندق شهيدًا.
وأسرَّ عمرو بن أمية الضميري، فلما أخبرهم أنه من مضر أخذه عامر بن الطفيل
__________
المهملتين، وشد التحتية وتأنيث, "ورعلًا" بكسر فسكون، وذكوان هكذا هو ثابت في سيرة ابن إسحاق، وكأنه سقط من قلم المصنف كابن سيد الناس، وبه يستقيم ضمير الجمع في قوله، "فأجابوه إلى ذلك", ولا حاجة إلى أنه نظرًا لإفراد القبيلتين، أو الضمير للقبائل "ثم خرجوا" وساروا "حتى غشوا القوم، فأحاطوا بهم" حين أتوهم "في رحالهم،" أي: في منازلهم التي نزلوا بها، "فلما رأوهم أخذوا سيوفهم، وقاتلوهم حتى قتلوا،" مبتدئًا القتل من أولهم، منتهيًا "إلى آخرهم" يعني استأصلوهم.
ولفظ ابن إسحاق: من عند آخرهم "إلّا كعب بن زيد" بن قيس بن مالك بن كعب بن حارثة ابن دينار بن النجاري الأنصاري البدري، "فإنهم تركوه" لظنّهم موته، "وبه رمق" بفتح الراء والميم وبالقاف: بقية الحياة، فارتثّ من بين القتلى، "فعاش حتى قُتِلَ يوم الخندق" قتله ضرار بن الخطاب، قاله الواقدي.
وقال ابن إسحاق: أصابه سهم غرب، فقتله "شهيدًا" رضي الله عنهم، ناس اتخذ الله منهم شهداء بكثرة.
قال قتادة: ما نعلم حيًّا من أحياء العرب أكثر شهيدًا، أعز يوم القيامة من الأنصار، قال: وحدثنا أنس أنه قتل منهم يوم أُحد سبعون، ويوم بئر معونة سبعون، ويوم اليمامة على عهد أبي بكر سبعون يوم قتال مسيلمة الكذاب. رواه البخاري.
"وأسرَّ عمرو" استثناء في المعنى، كأنه قال: قتلوا إلّا كعبًا وعمرو "بن أمية الضميري" بفتح فسكون.
قال ابن إسحاق: كان في سرح القوم هو ورجل من الأنصار.
قال ابن هشام: هو المنذر بن محمد بن عقبة، فلم ينبئهما بمصاب أصحابهما إلّا الطير تحوم على العسكر، فقالا: والله إن لهذه الطير لشأنًا، فاقبلا لينظرا, فإذا القوم في دمائهم والخيل التي أصابتهم واقفة. فقال الأنصاري لعمرو: ما ترى، قال: أرى أن نلحق برسول الله -صلى الله عليه وسلم- فنخبره الخبر، فقال الأنصاري: لكني ماكنت لأرغب بنفسي عن موطن قتل فيه المنذر بن عمرو، ثم قاتل حتى قُتِلَ وأخذ عمرو أسيرًا، "فلمَّا أخبرهم أنه من مضر أخذه عامر بن الطفيل".(2/501)
وأعتقه عن رقبة زعم أنها كانت على أمه.
فلمَّا بلغ النبي -صلى الله عليه وسلم- خبرهم، قال: هذا عمل أبي براء، قد كنت لهذا كارهًا متخوفًا، فبلغ ذلك أبا براء, فمات أسفًا على ما صنع عامر بن الطفيل.
وقُتِل عامر بن فهيرة يومئذ, فلم يوجد جسده -رضي الله عنه، دفنته الملائكة.
__________
قال ابن إسحاق: وجزّ ناصيته، أي: الشعر المجاور لها مجازًا، "وأعتقه عن رقبة، زعم أنها كانت على أمه، فلمَّا بلغ النبي -صلى الله عليه وسلم- خبرهم" قال الحافظ: قد ظهر من حديث أنس أن الله أخبره بذلك على لسان جبريل.
وفي رواية عروة: فجاء خبرهم إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في تلك الليلة، "قال: هذا" سببه "عمل أبي براء"؛ حيث أخذهم في جواره، "قد كنت لهذا كارهًا متخوفًا، فبلغ أبا براء فمات" عقب ذلك كما في الفتح، "أسفًا على ما صنع" ابن أخيه "عامر بن الطفيل", ومات عامر بعد ذلك كافرًا بدعائه -عليه السلام- كما مَرَّ، وذكر أبو سعيد السكريّ في ديوان حسان, روايته عن أبي جعفر بن حبيب.
قال حسان لربيعة بن عامر: ملاعب الأسنة يحرضه بعامر بن الطفيل بإخفاء ذمة أبي براء:
ألا من مبلغ عني ربيعًا ... فما أحدثت في الحدثان بعدي
أبوك أبو الفعال أبو براء ... وخالك ماجد حكم بن سعد
بني أم البنين ألم يرعكم ... وأنتم من ذوائب أهل نجد
تحكم عامر بأبي براء ... ليخفره وما خطا كعمد
فلما بلغ ربيعة هذا الشعر، جاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله, أيغسل عن أبي هذه الغدرة أن أضرب عامًا ضربة أو طعنة، قال: نعم، فرجع, فضرب عامرًا ضربة أشواه بها، فوثب عليه قومه، فقالوا لعامر: اقتصّ، فقال: قد عفوت.
قال في الإصابة: لم أر من ذكر ربيعة في الصحابة إلّا ما تفيده هذه القصة، ورأيت له رواية عن أبي الدرداء، فكأنه عمَّر في الإسلام.
"وقتل عامر بن فهيرة" بضم الفاء وفتح الهاء، وسكون التحتية، وراء وتاء تأنيث- أحد السابقين, مولى أبي بكر "يومئذ", وهو ابن أربعين سنة, "فلم يوجد جسده -رضي الله عنه، دفنته الملائكة، كما رواه ابن المبارك عن عروة.
وفي الصحيح عنه: لما قتلوا وأُسر عمر، وقال له عامر بن الطفيل: من هذا؟ فقال: هذا عامر بن فهيرة، فقال: لقد رأيته بعدما قتل رفع إلى السماء، حتى إني لأنظر إلى السماء بينه وبين الأرض، ثم وضع, وفي هذا تعظيم لعامر، وترهيب للكفّار وتخويف، ومن ثَمَّ تكرَّرَ سؤال(2/502)
قال ابن سعد عن أنس بن مالك ما رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وَجد على أحد ما وجد على أصحاب بئر معونة.
وفي صحيح مسلم عن أنس أيضًا: دعا -صلى الله عليه وسلم- على الذين قتلوا أصحب بئر معونة ثلاثين صباحًا،
__________
ابن الطفيل عن ذلك.
روى يونس عن ابن إسحاق عن هشام، عن أبيه، لما قدم عامر بن الطفيل عليه -صلى الله عليه وسلم- قال له: من الرجل الذي لما قتل رأيته رفع بين السماء والأرض، حتى رأيت السماء دونه ثم وضع، فقال: هو عامر بن فهيرة.
وفي رواية ابن المبارك عن عروة: وكان الذي قتله رجلًا من بني كلاب جبار بن سلمى، ذكر أنه لما طعنه، قال: فزت والله، قال: فقلت في نفسي: ما قوله فزت، فأتيت الضحاك بن سفيان، فسألته فقال، بالجنة، قال: فأسلمت, ودعاني إلى ذلك ما رأيت من عامر بن فهيرة من رفعه إلى السماء علوًّا.
قال البيهقي: يحتمل أنه رفع، ثم وضع، ثم فقد بعد ذلك، ثم روي عن عائشة موصولًا بلفظ: لقد رأيته بعدما قتل رفع إلى السماء, حتى إني لأنظر إلى السماء بينه وبين الأرض، ولم يذكر فيها ثم وضع، ورواه بنحوه ابن سعد وعنده مرفوعًا: أن الملائكة وارت جثته، وأنزل في عليين.
قال السيوطي: فقويت الطرق وتعدّدت بمواراته في السماء، وجبار -بالجيم والموحدة: مثقل بن سلمى بضم المهملة، وقيل: بفتحها وسكون اللام والقصر، صحابي كما في الإصابة. ووقع في الاستيعاب أن عامر بن الطفيل قتل عامر بن فهيرة.
قال الحافظ: وكأنّ نسبة ذلك له على سبيل التجوّز لكونه كان رأس القوم.
"قال" أي: روى "ابن سعد" بسند صحيح "عن أنس بن مالك: ما رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وجد" بجيم، أي: حزن، "على أحدٍ ما وجد على أهل بئر معونة"؛ لعل حكمته أنه لم يرسلهم لقتال, إنما هم مبلغون رسالته، وقد جرت عادة العرب قديمًا بأن الرسل لا تقتل.
"وفي صحيح مسلم" لا وجه لقصر عزوه له، كابن سيد الناس، فإنه في صحيح البخاري أيضًا كلاهما، "عن أنس أيضًا, دعا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على الذين قتلوا أصحاب بئر معونة ثلاثين صباحًا.
وفي البخاري أيضًا: فدعا -صلى الله عليه وسلم شهرًا في صلاة الغداة بعد القراءة، وذلك بدء القنوت وما كنا نقنت.(2/503)
يدعو على رعل ولحيان وعصية عصت الله ورسوله، قال أنس: أنزل الله في الذين قتلوا يوم بئر معونة قرآنًا قرأناه ثم نسخ بعد -أي: نسخت تلاوته- بلغوا قومنا أنا قد لقينا ربنا، فرضي عنا ورضينا عنه.
__________
وفي البخاري في الجهاد: فدعا عليهم أربعين صباحًا, والأخبار بالأقل لا ينفي الزائد.
"يدعو على رعل، ولحيان وعصية" بيان لتعيين المدعو عليهم، فلا يتكرر مع قوله أولًا دعا، "عصت الله ورسوله" ليس حكمة التسمية, بل بيان لما هم عليه من الفعل القبيح.
"قال أنس: أنزل الله في الذين قتلوا يوم بئر معونة قرآنًا ثم نسخ بعد،" بالبناء على الضم.
وفي رواية: ثم رفع، ذلك ولا حمد.
ثم نسخ ذلك، "أي: نسخت تلاوته" وبقي معناه.
قال في الروض: فإن قيل هو خبر، والخبر لا ينسخ، قلنا: لم ينسخ منه الخبر، وإنما نسخ الحكم، فإن حكم القرآن أن يتلى في الصلاة، ولا يمسّه إلا طاهر، ويكتب بين اللوحين, وتعلمه فرض كفاية، فما نسخ رفعت منه هذه الأحكام، وإن بقي محفوظًا فهو منسوخ, فإن تضمن حكمًا جاز أن يبقى ذلك الحكم معمولًا به، وإن تضمَّن خبرًا بقي ذلك الخبر مصدقًا به، وأحكام التلاوة منسخوة عنه، كما نزل: لو كان لابن آدم واديان من ذهب لابتغى لهما ثالثًا، ولا يملأ جوف بن آدم إلّا التراب، ويتوب الله على من تاب. ويروى: ولا يملأ عيني ابن آدم وفم ابن آدم، وكلها في الصحاح.
وكذا روي من مال, فهذا خبر حق، والخبر لا ينسخ، وإنما نسخت أحكام تلاوته، قال: وكانت هذه الآية في سورة يونس بعد قوله: {كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [يونس: 24] الآية. كما قال ابن سلام، انتهى.
وفي رواية البخاري في الجهاد: فأخبر جبريل النبي -صلى الله عليه وسلم- أنهم قد لقوا ربهم, فرضي عنهم وأرضاهم، فكنا نقرأ: "بلغوا قومنا أنا قد لقينا ربنا, فرضي عنا ورضينا عنه".
وفي رواية: فرضي عنا وأرضانا.
وسبب نزوله أنهم قالوا: اللهمَّ بلغ عنا نبينا، وفي لفظ: إخواننا، أنا قد لقيناك فرضينا عنك ورضيت عنا، فأخبره جبريل، فحمد الله وأثنى عليه فقال: "إن إخوانكم" إلخ.
قال الإمام السهيلي: ثبت هذا في الصحيح وليس عليه رونق الإعجاز، فيقال: إنه لم ينزل بهذا النظم، ولكن بنظم معجم كنظم القرآن، انتهى.(2/504)
كذا وقع في هذه الرواية، وهو يوهم أن بني لحيان ممن أصاب القراء يوم بئر معونة، وليس كذلك. وإنما أصاب هؤلاء رعل وذكوان وعصية ومن صحبهم من سليم، وأمَّا بنو لحيان فهم الذي أصابوا بعث الرجيع. وإنما أتى الخبر إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عنهم كلهم في وقت واحد، فدعا على الذين أصابوا أصحابه في الموضعين دعاءً واحدًا. والله أعلم. خاتمة.
__________
قال الحافظ اليعمري في العيون تبعًا لشيخه الدمياطي: "كذا وقع في هذه الرواية" يدعو على رعل، ولحيان وعصية، "وهو يوهم أن بني لحيان ممن أصاب القراء يوم بئر معونة وليس كذلك، وإنما أصاب هؤلاء" القراء "رعل، وذكوان وعصية ومن صحبهم من سليم،" كزعب بكسر الزاي، وسكون العين المهملة والموحدة, "وأما بنو لحيان فهم الذين أصابوا بعث الرجيع" كما مَرَّ، "وإنما أتى الخبر إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عنهم كلهم في وقت واحد"، أي: في ليلة واحدة، كما قاله الواقدي، "فدعا على الذين أصابوا أصحابه في الموضعين دعاء واحدًا", فيحمل على ذلك الحديث، ويندفع الإيهام "والله أعلم".
"خاتمة" ذكر صاحب شرف المصطفى، أنه -صلى الله عليه وسلم- لما أصيب أهل بئر معونة جاءت الحمَّى إليه فقال لها: "اذهبي إلى رعل وذكوان وعصية الله ورسوله"، فأتتهم، فقتلت منهم سبعمائة رجل بكل رجل من المسلمين عشرة.
قال شيخنا: وإنما لم يخبره -سبحانه وتعالى- بما ترتَّب على ذهاب القراء، وأهل الرجيع قبل خروجهم، كما أخبره بنظير ذلك في كثير من الأشياء؛ لأنه سبق في علمه تعالى إكرامهم بالشهادة، وأراد حصول ذلك بمجيء أبي براء، ومن جاء في طلب أصحاب الرجيع.(2/505)
حديث بني النضير:
ثم غزوة بني النضير -بفتح النون وكسر الضاد المعجمة- قبيلة كبيرة من اليهود، في ربيع الأول سنة أربعة. وذكرها ابن إسحاق هنا.
__________
حديث بني النضير:
"ثم غزوة بني النضير -بفتح النون، وكسر الضاد المعجمة فتحتية فراء- قبيلة كبيرة من اليهود, دخلوا في العرب وهم على نسبتهم إلى هارون -عليه السلام, "في ربيع الأول سنة أربعة، وذكرها" محمد "بن إسحاق" بن يسار, إمام أهل المغازي "هنا"، أي: بعد أُحد وبئر معونة مجزومًا به في مغازيه, وعنه حكاه البخاري, ووقع في رواية القابسي للصحيح إسحاق.
قال عياض: وهو وهم، يعني: إن الصواب ابن إسحاق، ووقع في شرح الكرماني محمد بن(2/505)
قال السهيلي: وكان ينبغي أن يذكرها بعد بدر، لما روى عقيل بن خالد وغيره عن الزهري قال: كانت غزوة بني النضير على رأس ستة أشهر من وقعة بدر قبل أُحد.
ورجَّح الداودي ما قاله ابن إسحاق، من أن غزوة بني النضير بعد بئر معونة، مستدلًا بقوله تعالى: {وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ} [الأحزاب: 26] .
قال الحافظ أبو الفضل بن حجر: وهو استدلال واهٍ، فإن الآية نزلت في شأن بني
__________
إسحاق بن نصر.
قال الحافظ: وهو غلط، إنما اسم جده يسار.
"قال السهيلي: وكان ينبغي أن يذكرها بعد بدر، لما روى عقيل" بضم العين وفتح القاف "ابن خالد" الإيلي, "وغيره" كمعمر "عن الزهري", وصدَّر به البخاري تعليقًا جزمًا عنه عن عروة، "قال: كانت غزوة بني النضير على رأس ستة أشهر من وقعة بدر قبل أُحد".
قال الحافظ: وصله عبد الرزاق في مصنَّفه عن معمر، عن الزهري, أتمّ من هذا، وهو في حديثه عن عروة، ثم كانت غزوة بني النضير، وهم طائفة من اليهود, على رأس ستة أشهر من وقعة بدر، وكانت منازلهم ونخلهم بناحية المدينة, فحاصرهم -صلى الله عليه وسلم- حتى نزلوا على الجلاء, وعلى أن لهم ما أقلّت الإبل من الأمتعة والأموال إلّا الحلقة، يعني السلاح, فأنزل الله فيهم: {سَبَّحَ لِلَّه} [الحديد: 1] الآية، إلى قوله: {لِأَوَّلِ الْحَشْر} [الحشر: 2] الآية، وقاتلهم حتى صالحهم على الجلاء، فأجلاهم إلى الشام، وكانوا من سبط لم يصبهم جلاء فيما خلا، وكان الله قد كتب عليهم الجلاء، ولولا ذلك لعذبهم في الدنيا بالقتل والسباء، فكان جلاؤهم أول حشر حشر في الدنيا إلى الشام، انتهى. وهذا مرسل، وقد وصله الحاكم عن عائشة، وصحَّحه وقال في آخره: فأنزل الله: {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} سورة الحشر. الآية.
"ورجَّح الداودي" أحمد بن نصر الطرابلسي في شرح البخاري "ما قاله ابن إسحاق, من أنَّ غزوة بني النضير بعد بئر معونة، مستدلًا بقوله: {وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُم} [الأحزاب: 26] الآية، أي: عاونوا الأحزاب، {مِنْ أَهْلِ الْكِتَاب} [الأحزاب: 26] الآية، وهم قريظة، {مِنْ صَيَاصِيهِمْ} [الأحزاب: 26] الآية. حصونهم.
"قال الحافظ أبو الفضل بن حجر: وهو استدلال واهٍ، فإن الآية نزلت في شأن بني(2/506)
قريظة، فإنهم هم الذين ظاهروا الأحزاب، وأمَّا بنو النضير فلم يكن لهم في الأحزاب ذكر، بل كان من أعظم الأسباب في جمع الأحزاب ما وقع من إجلائهم، فإنه كان من رءوسهم حيي بن أخطب، وهو الذي حسن لبني قريظة الغدر، وموافقة الأحزاب حتى كان من هلاكهم ما كان, فكيف يصير السابق لاحقًا. انتهى.
وقد تقدَّم قريبًا أنَّ عامر بن الطفيل أعتق عمرو بن أمية لما قتل أهل بئر معونة عن رقبة على أمه، فخرج عمرو إلى المدينة, فصادف رجلين من بني عامر معهما عقد وعهد من
__________
قريظة، فإنهم هم الذين ظاهروا الأحزاب" وهي بعد بني النضير بلا ريب.
"وأمَّا بنو النضير فلم يكن لهم في الأحزاب ذكر، بل كان من أعظم الأسباب في جمع الأحزاب ما وقع" بلا واو على الصواب المذكور في الفتحِ؛ لأنه اسم كان, ولا تدخل عليه الواو، فنسخة الواو تحريف "من إجلائهم، فإنه كان من رءوسهم حيي" بلفظ تصغير "حي ابن أخطب" بفتح الهمزة وبالخاء المعجمة، "وهو الذي حسَّن لبني قريظة الغدر وموافقة الأحزاب, حتى كان من هلاكهم ما كان, فكيف يصير السابق لاحقًا، انتهى" كلامه في الفتح, ومنازعته إنما هي في الدليل فقط؛ لقوله بعد نحو ورقة، وإذا ثبت أن سبب إجلاء بني النضير همهم بالفتك به، وهو إنما وقع عندما جاء إليهم يستعين في دية قتيلي عمر، وتعين ما قاله ابن إسحاق؛ لأن بئر معونة كانت بعد أحد بالاتفاق، وأغرب السهيلي، فرجَّح ما قاله الزهري، انتهى. لكن يقويه السبب الآتي صحيحًا مسندًا، وقد قدم البخاري قول الزهري عن عروة، وجرى عليه وضعًا، فذكر بني النضير عقب بدر فلم يغرب السهيلي في ترجيحه، لا سيما وقد ثبت عن عائشة عند الحاكم وصحَّحه، وأما كون سببها ما ذكره ابن إسحاق فهو مرسل كما يجيء، "وقد تقدَّم قريبًا".
وذكره ابن إسحاق عبد الله بن أبي بكر بن حزم، وغيره من أهل العلم، "أنَّ عامر بن الطفيل أعتق عمرو بن أمية لما قتل أهل بئر معونة عن رقبة كانت على أمه، فخرج عمرو إلى المدينة فصادف" بالقرقرة من صدر قتادة، كما في ابن إسحاق بفتح القاف، والنون "رجلين من بني عامر" ثم من بني كلاب.
قال ابن هشام: وذكر أبو عمرو المدني أنها من بني سليم.
قال ابن إسحاق: حتى نزلا معه في ظل هو فيه، وكان "معهما عقد وعهد من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يشعر به عمرو، فقال لهما عمرو: من أنتما؟ فذكرا له أنهما من بني عامر،(2/507)
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يشعر به عمرو، فقال لهما عمرو: من أنتما؟ فذكرا له أنهما من بني عامر، فتركهما حتى ناما فقتلهما عمرو، وظنَّ أنه ظفر ببعض ثأر أصحابه، فأخبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بذلك, فقال: "لقد قتلت قتيلين لأدينهما".
قال ابن إسحاق وغيره: ثم خرج -عليه الصلاة والسلام- إلى بني النضير؛ ليستعين بهم في دية ذينك القتيلين اللذين قتلهما عمرو بن أمية؛ للجوار الذي كان -صلى الله عليه وسلم- عقده لهما، وكان بين بني النضير وبني عامر عقد وحلف.
فلمَّا أتاهم -عليه الصلاة والسلام- يستعينهم في ديتهما قالوا: يا أبا القاسم, نعينك على ما أحببت مما استعنت بنا عليه، ثم خلا بعضهم ببعض فقالوا: إنكم لن تجدوه على مثل هذا الحال. وكان -صلى الله عليه وسلم- إلى جنب جدار من بيوتهم.
قالوا: من رجل يعلو على هذا البيت
__________
فتركهما حتى ناما، فقتلهما عمرو، وظنَّ أنه ظفر بثأر" بالهمز، وتركه "بعض أصحابه، فأخبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بذلك" لما قدم عليه" فقال: "لقد قتلت قتيلين لأدينهما"، أي: لأعطين ديتهما لما بيننا وبينهما من العهد.
"قال ابن إسحاق وغيره" الواقدي، وابن سعد، وعائذ: وجل أهل المغازي في سبب هذه الغزوة، "ثم خرج -عليه الصلاة والسلام" إلى بني النضير؛ ليستعين بهم في دية ذينك القتيلين اللذين قتلهما عمرو بن أمية؛ للجوار الذي كان -صلى الله عليه وسلم- عقده لهما" كما حدثني يزيد بن رومان، "وكان بين بني النضير وبني عامر عقد وحلف" بكسر الحاء وسكون اللام.
قال شيخنا: ولعل سؤالهم لسهولة الإعطاء عليهم لكون المدفوع لهم من حلفائهم؛ إذ لو كانوا أعداءهم لشق عليهم الإعطاء لهم، فاندفع ما قيل هذا يقتضي أن الحليف يلزمه دية من قتل من محالفيه، "فلما أتاه -عليه الصلاة والسلام- يستعينهم في ديتهما، قالوا:" نعم "يا أبا القاسم, نعينك على ما أحببت مما استعنت بنا عليه" يحتمل أنهم قالوا ذلك ليتمكنوا من تدبير ما أرادوه، ويحتمل أنه إنما طرأ لهم الغدر بعد, حين رأوه جنب الجدار.
وفي رواية: إنهم قالوا: نفعل ما أحببت، قد آن لك أن تزورنا، وأن تأتينا، اجلس حتى تطعم وترجع بحاجتك، ونقوم فنتشاور ونصلح أمرنا فيما جئنتنا به. "ثم خلا بعضهم ببعض، فقالوا: إنكم لن تجدوه على مثل هذا الحال" منفردًا ليس معه من أصحابه إلّا نحو العشرة، "وكان -صلى الله عليه وسلم" قاعدًا "إلى جنب جدار من بيوتهم، قالوا: من" بفتح الميم "رجل يعلو على هذا البيت, فيلقي هذا الصخرة عليه" هكذا في نقل المصنّف كالفتح عن ابن إسحاق، وظاهره أنه معينة.(2/508)
فيلقي هذه الصخرة عليه فيقتله ويريحنا منه؟ فانتدب لذلك عمرو بن جحاش بن كعب, فقال: أنا لذلك، فصعد ليقي عليه الصخرة, ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- في نفرٍ من أصحابه, فيهم أبو بكر وعمر وعلي.
قال ابن سعد: فقال سلام بن مشكم لليهود: لا تفعلوا، والله ليخبرنّ بما هممتم، وإنه لنقض للعهد الذي بيننا وبينه.
قال ابن إسحاق: وأتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الخبر من السماء بما أراد القوم، فقام -عليه الصلاة والسلام- مظهرًا أنه يقضي حاجته، وترك أصحابه في مجلسهم، ورجع مسرعًا إلى المدينة.
واستبطأ النبي -صلى الله عليه وسلم- أصحابه، فقاموا في طلبه
__________
وفي سيرة ابن هشام عنه: وجرى عليه اليعمري فيلقي عليه صخرة، وظاهره أن المراد، أي: صخرة "فيقتله ويريحنا منه, فانتدب لذلك عمرو بن جحاش" بفتح الجيم وشد الحاء المهملة آخره شين معجمة "بن كعب, فقال: أنا لذلك، فصعد ليلقي عليه الصخرة".
وفي رواية: فجاء إلى رحى عظيمة ليطرحها عليه, "ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- في نفرٍ من أصحابه, فيهم أبو بكر وعمر وعلي" زاد عكرمة وغيره: وعثمان وطلحة وعبد الرحمن بن عوف. رواه ابن جرير، وزاد غيره: والزبير وسعد بن معاذ وأسيد بن حضير وسعد بن عبادة.
"قال ابن سعد: فقال سلّام" بالتشديد عند ابن الصلاح وغيره، ورجَّح الحافظ التخفيف مستندًا لوقوعه في أشعار العرب كقول أبي سفيان:
سقاني فرواني كميتًا مدامة ... على ظمأ مني سلام بن مشكم
"ابن مشكم" بكسر الميم، وسكون الشين المعجمة وفتح الكاف "لليهود: لا تفعلوا، والله ليخبرنّ" بفتح اللام جوابًا للقسم والبناء للمفعول, مؤكَّد بالنون الثقيلة، أي: ليخبره ربه "بما هممتم به، ونه لنقض العهد الذي بيننا وبينه".
وفي رواية قال لهم: يا قوم أطيعوني في هذه المرة، وخالفوني الدهر، والله لئن فعلتم ليخبرنّ بأنّا قد غدرنا به, وإن هذا نقض للعهد الذي بيننا وبينه.
"قال ابن إسحاق: وأتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الخبر من السماء" مع جبريل، "بما أراد القوم, فقام -عليه الصلاة والسلام- مظهرًا،" أي: موهمًا، "أنه يقضي حاجته" ويرجع, مخافة أن يفطنوا فيجتمعوا عليهم وهم قليل, فقد يؤذون أصحابه, "و" لذا "ترك أصحابه في مجلسهم، ورجع مسرعًا إلى المدينة، واستبطأ النبي أصحابه فقاموا في طلبه." فقال لهم حيي: لقد عجل أبو القاسم, كنا نريد أن نقضي حاجته ونقريه، وندمت اليهود على ما صنعوا، فقال لهم كنانة بن صويراء -بضم الصاد(2/509)
حتى انتهوا إليه، فأخبرهم الخبر بما أردت يهود من الغدر به.
قال ابن عقبة: ونزل في ذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ} [المائدة: 11] .
__________
المهملة، وفتح الواو، وسكون التحتية وبألف التأنيث الممدودة: هل تدرون لم قام محمد؟ قالوا: والله ما ندري وما تدري أنت؟ فقال: والله أُخْبِرَ بما هممتم به من الغدر، فلا تخدعوا أنفسكم، والله إنه لرسول الله "حتى انتهوا إليه" فقالوا: قمت ولم نشعر، "فأخبرهم الخبر بما أرادت يهود من الغدر به".
"قال" موسى بن عقبة: ونزل في ذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ} [المائدة: 11] الآية. وهكذا قاله عكرمة ويزيد بن أبي زياد ومجاهد وعاصم بن عمر وغيرهم في سبب النزول، كما أخرج عنهم ابن جرير، وكله مرسل أو معضل، وقيل: نزلت لما أراد بنو ثعلبة وبنو محارب الفتك به -صلى الله عليه وسلم, فعصمه الله.
وقال ابن عقبة في سبب الغزوة: وكانوا قد دسوا إلى قريش في قتاله -صلى الله عليه وسلم, فحضوهم على القتال, ودلوهم على العروة.
وروى ابن مرديه بسند صحيح, وعبد بن حميد عن عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري, أخبرني عبد الله بن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، عن رجل من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: كتب كفار قريش إلى عبد الله بن أُبَيّ وغيره ممن يعبد الأوثان قبل بدر، يهددونهم بإيوائهم النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، ويتوعدونهم أن يغزوهم بجمع العرب، فهمَّ ابن أُبَيّ ومن معه بقتال المسلمين، فأتاهم النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "ماكادكم أحد بمثل ما كادتكم قريش، يريدون أن يلقوا بأسكم بينكم"، فلما سمعوا ذلك عرفوا الحق فتفرّقوا، فلما كانت وقعة بدر كتب كفار قريش بعدها إلى اليهود أنكم أهل الحلقة والحصون يتهددونهم، فاجتمع بنو النضير على الغدر، فأرسلوا إليه -صلى الله عليه وسلم- أخرج إلينا في ثلاثة من أصحابك، ويلقاك ثلاثة من علمائنا، فإن آمنوا بك اتبعناك، فاشتمل اليهود الثالثة على الخناجر، فأرسلت امرأة من بني النصير إلى أخٍ لها من الأنصار مسلم, تخبره بأمرهم، فأخبر أخوها النبي -صلى الله عليه وسلم- قبل أن يصدر إليهم، فرجع وصبَّحهم بالكتائب فحصرهم يومه، ثم غدا على بني قريظة فحصرهم فعاهدوه، فانصرف عنهم إلى بني النضير، فقاتلهم حتى نزلوا على الجلاء، وعلى أنَّ لهم ما أقلَّت الإبل إلّا السلاح، فاحتملوا حتى أبواب بيوتهم، فكانوا يخربون بيوتهم فيهدمونها, ويحملون ما يوافقهم من خشبه، وكان جلاؤهم ذلك أوّل حشر الناس إلى الشام.
قال في الفتح: وفي هذا ردّ على زعم ابن التين، أنه ليس في هذه القصة حديث بإسناد،(2/510)
قال ابن إسحق: فأمر -صلى الله عليه وسلم- بالتيهؤ لحربهم والسير إليهم.
قال ابن هشام: واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم.
ثم سار بالناس حتى نزل بهم, فحاصرهم ست ليال. قال ابن إسحاق: فتحصَّنوا منه في الحصون, فقطع النخل وحرقها
__________
فهذا أقوى مما ذكر ابن إسحاق أن سبب غزوة بني النضير طلبه -صلى الله عليه وسلم- أن يعينوه في دية الرجلين، لكن وافقه جلّ أهل المغازي.
"قال ابن إسحاق: فأمر -صلى الله عليه وسلم- بالتهيؤ لحربهم والسير إليهم".
"قال ابن هشام: واستعمل على المدينة، ابن أمّ مكتوم" إمامًا على الصلاة، ولم يستعمل على أمرها أحدًا لقربها؛ لأن بينها وبين المدينة ميلين، كما قال البيضاوي، "ثم سار بالناس حتى نزل بهم، فحاصرهم ست ليال".
وقال ابن سعد والواقدي وأبو معشر والبلاذري وابن حبان: خمسة عشر يومًا.
وقال التيمي: قريبًا من عشرين.
وقال ابن الطلاع: ثلاثًا وعشرين ليلة.
وعن عائشة: خمسًا وعشرين.
وفي تفسير مقاتل: إحدى وعشرين ليلة.
وجمع شيخنا بأن حصار الستة كان وهم مصرون على الحرب طمعًا فيما منَّاهم به المنافقون، وما زاد إلى الخمسة عشر كانوا آخذين في أسباب الخروج، وفيما بعد خرجوا في أوقات مختلفة، فكان آخر خروجهم خمسًا وعشرين، وقد يؤيده ما في الشامية، أنه لما ولّى إخراجهم محمد بن مسلمة، قالوا: إن لنا ديونًا على الناس، فقال -صلى الله عليه وسلم: "تعجلوا وضعوا" , فكان لأبي رافع سلام بن أبي الحقيق على أسيد بن حضير عشرون ومائة دينار إلى سنة، فصالحه على أخذ رأس ماله ثمانين دينارًا، وأبطل ما فضل. انتهى.
"قال ابن إسحاق: فتحصَّنوا منه في الحصون, فقطع النخل،" أي: أمر بقطعها أبا ليلى المازني وعبد الله بن سلام، فكان أبو ليلى يقطع العجوة, وابن سلام يقطع اللين، فقيل لهما في ذلك، فقال أبو ليلى: كانت العجوة أحرق لهم.
وقال ابن سلام: قد عرفت أن الله سيغنمه أموالهم، وكانت العجوة خير أموالهم، فلمّا قطعت العجوة شقّ النساء الجيوب وضربن الخدود ودعون بالويل، "وحرَّقها" بشد الراء كما ضبط به المصنف قول ابن عمر: حرَّق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نخل بني النضير وقطع. ويجوز(2/511)
وخرب. فنادوا: يا محمد, قد كنت تنهى عن الفساد وتعيبه على من صنعه، فما بال قطع النخل وتحريقها.
قال السهيلي: قال أهل التأويل: وقع في نفوس بعض المسلمين من هذا الكلام شيء, حتى أنزل الله: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ} إلى قوله: {وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ} [الحشر: 5] واللينة: ألوان التمر ما عدا العجوة والبرني
__________
التخفيف, وهو بمعناه كما في القاموس.
وذكر المصباح أن حرَّق إذا أكثر الإحراق.
قال شيخنا: وعليه فالأنسب التخفيف لقول البغوي، قيل: قطعوا نخلة وأحرقوا نخلة، وقيل: جملة ما قطع وحرق ست نخلات، وكتبنا عنه في التقرير أن المناسب هنا التشديد، كأنه بولغ في التحريق والقطع حتى أنكاهم، ونادوه: يا محمد، وشق النساء الجيوب إلخ، ولا ينافي ذلك قول البغوي بفرض صحته؛ لأنهم ظنوا أنه -عليه السلام- يديم ذلك. "وخرب" أماكنهم، أي: تسبَّب في خرابها بقطع نخيلهم التي هي قوام أمرهم، وهذا لم يقع في ابن إسحاق، ولا في نقل الفتح والعيون عنه، ولا يحمل على يخربون بيوتهم؛ لأنه إنما وقع بعد موافقتهم على الجلاء، "فنادوه: يا محمد, قد كنت تنهى عن الفساد وتعيبه"، أي: تعده عيبًا "على من صنعه, فما بال" أي: حال "قطع النخل وتحريقها" أهو فساد أم صلاح؟ توبيخ على قطعه.
"قال السهيلي: قال أهل التأويل: وقع في نفوس بعض المسلمين من هذا الكلام شيء" فخافوا أن يكون فعلهم فسادًا، وبعض المسلمين قال: بل نقطع لنغيظهم بذلك، وكان أولئك لم يسمعوا أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي لا ينطق عن الهوى بالقطع والتحريق، فاعتقدوا أنه باجتهاد من القاطعين، أو زيادة المباشر على أمره، أو أنه للتهديد، فلا يلزم القطع بالفعل، أو ذلك ممن قرب عهده بالإسلام.
وفي تفسير السبكي: إنَّ من كان يقطع الأجود يقصد إغاظة الكفار، ومن كان يبقيه يقصد إبقاءه للنبي -صلى الله عليه وسلم. انتهى واستمر ما في نفوسهم، "حتى أنزل الله تعالى: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ} [الحشر: 5] الآية. بيان لما المنصوب محلًّا بقطعتم، "كأنه قيل: أي شيء قطتعتم "الآية إلى قوله -يريد: {أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ} ، فبإذن الله قطعها وتركها ومشيئته {وَلِيُخْزِيَ} [الحشر: 5] الآية بالإذن في القطع {الْفَاسِقِينَ} [الحشر: 5] الآية. اليهود في اعتراضهم، بأن قطع شجر الثمر فساد، وفيه جواز قطع الشجر الكفار وإحراقه، وبه قال الجمهور؛ كمالك والثوري والشافعي وأحمد. "واللينة" بالياء المنقلبة عن الواو لكسر اللام، وجمعها ليان، مثل كتاب، "ألوان" أي: أنواع "التمر" كلها "ما عدا العجوة والبرني،" هكذا قاله في الروض تبعًا لابن(2/512)
ففي هذه الآية أنه -صلى الله عليه وسلم- لم يحرق من نخلهم إلّا ما ليس بقوت الناس، وكانوا يقتاتون، العجوة، وفي الحديث: "العجوة من الجنة
__________
هشام، عمَّا حدثه أبو عبيدة به. قال ذو الرمة:
كان فؤادي فوقها عش طائر ... على لينة سوقاء تهفو جنوبها
وصدَّر به المصنف في شرح البخاري، وقابله بقوله: وقيل: كرام النخل، وقيل: كل الأشجار للينها, وأنواع نخل المدينة مائة وعشرون نوعًا. انتهى.
وفي الجامع والمصباح والأنوار: اللينة: النخلة، وقيل: الدقل -بفتحتين- أردأ التمر.
وعن الفراء: كل شيء من النخل سوى العجوة، فعلى كلام هؤلاء في تفسيره تسمح؛ لأن اللينة النخلة لا ثمرها.
"ففي هذ الآية: أنه -صلى الله عليه وسلم- لم يحرق من نخلهم إلّا ما ليس بقوت الناس" ولا يشكل بما روي أنه لما قطع العجوة شقّ النساء الجيوب، وضربن الخدود ودعون بالويل، إما لقلة ما قطع من العجوة، فلم يعتدّ به, أو لأنَّ الحاصل الهم لا القطع بالفعل، "وكانوا يقتاتون العجوة" عطف علة على معلول، ووجه دلالة الآية أن اللينة اسم لما عداها.
وعند البرني: وإنما كانوا يقتاتونها، وكان موضع نخل بني النضير يقال له البويرة -بضم الموحدة وسكون التحتية وفتح الراء بعده هاء تأنيث. قاله المصنف.
وفي الصحيح عن ابن عمر: حرق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نخل بني النضير وقطع, وهي البويرة، فنزل: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ} الآية.
وفي الفتح: البويرة -بضم الموحدة- مصغَّر بورة وهي الحفرة، وهي هنا مكان معروف بين المدينة وبين تيما من جهة الغرب، ويقال لها أيضًا: البويلة بالام، بدل الراء، انتهى.
فجميع نخلهم بهذا الموضع، فلا يقال القطع في جميع بساتينهم, بل في موضع يقال له البويرة كما زعم؛ لأن البويرة اسم لموضع البساتين التي فيها النخل لا لبستان منها يسمَّى بذلك.
"وفي الحديث" الذي رواه أحمد والترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة وأحمد والنسائي وابن ماجه عن أبي سعيد وجابر عنه -صلى الله عليه وسلم: "العجوة من الجنة" , ولأبي نعيم في الطب عن بريدة: من فاكهة الجنة.
قال الحليمي وغيره: أي في الاسم والشبه الصوري، لا اللذة والطعم؛ لأن طعام الجنة لا يشبه طعام الدنيا، غير أن ذلك الشبه يكسبها فخرًا وفضلًا، ولذا قال في بقية الحديث: وفيها شفاء من السمّ، وذلك لأنه قاتل, وثمر الجنة خالٍ من المضار، فإذا اجتمعا في جوف عدل(2/513)
وتمرها يغذوا أحسن غذاء", والبرني أيضًا كذلك. ففي قوله تعالى: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَة} ولم يقل من نخلة على العموم، تنبيه على كراهة قطع ما يقتات ويغذو من شجر العدو إذا رجي أن يصل إلى المسلمين.
قال ابن إسحاق: وقد كان رهط من بني عوف بن
__________
السليم الفاسد فدفع الضرر.
وقال البيضاوي: يريد المبالغة في الاختصاص بالمنفعة والبركة، فكأنها من طعامها؛ لأن طعامها يزيل الأذى، أو المراد أنَّ أصلها نزل به آدم من الجنة.
روى الثعلبي عن ابن عباس: هبط آدم من الجنة بثلاثة أشياء: بالآسة وهي سيدة ريحان الدنيا، والسنبلة وهي سيدة طعام الدنيا، والعجوة وهي سيدة ثمار الدنيا، وهي ظاهر ما رواه أحمد، وابن ماجه وصححه الحاكم مرفوعًا: "العجوة والصخرة والشجرة من الجنة"، "وتمرها يغذو أحسن غذاء".
قال السمهوري: لم يزل أطباق الناس على التبرك بالعجوة، وهو النوع المعروف الذي يأثره الخلف عن السلف بالمدينة, ولا يرتابون في تسميته بذلك.
وقال ابن الأثير: ضرب من التمر أكبر من الصيحاني، عمَّا غرسه المصطفى بيده بالمدينة.
"والبرني أيضًا كذلك" كانوا يقتاتونه؛ لأنه يغذو أحسن غذاء، فليس تشبيهًا في كل ما سبق حتى يشمل أنه من الجنة كالعجوة؛ لعدم وروده.
وفي الفتح: والبرني دون اللينة، وأسقط المصنف من كلام الروض عقب قوله كذلك ما لفظه.
وقال أبو حنيفة: معناه بالفارسية: حمل مبارك، فإن بر معناه: حمل وني، ومعناه: جيد أو مبارك, فعربته العرب وأدخلته في كلامها.
وفي حديث وفد عبد القيس أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال لهم، وذكر البرني أنه من خير تمركم، وإنه دواء وليس بداء، "ففي قوله تعالى: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَة} [الحشر: 5] الآية، ولم يقل من نخلة على العموم، تنبيهًا على كراهة قطع ما يقتات، ويغذو من شجر العدو إذا رجي أن يصل إلى المسلمين", وقد كان أبو بكر يوصي الجيوش أن لا يقطعوا شجرًا مثمرًا، وأخذ بذلك الأوزاعي، فأمّا تأولوا حديث بني النضير، وإما رأوه خاصًّا برسول الله -صلى الله عليه وسلم, إلى هنا كلام الروض.
"قال ابن إسحاق": عقب ما مَرَّ عنه قبل كلام السهيلي: "وقد كان رهط من بني عوف بن(2/514)
الخزرج منهم عبد الله بن أُبَيّ بن سلول, بعثوا إلى بني النضير: أن اثبتوا وتمنَّعوا، فإنا لن نسلمكم، إن قوتلتم قاتلنا معكم، وإن أخرجتم خرجنا معكم. فتربصوا, فقذف في قلوبهم الرعب، فلم ينصروهم. فسألوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يجليهم عن أرضهم ويكفّ عن دمائهم.
وعند ابن سعد: أنهم حين هموا بغدره -صلى الله عليه وسلم, وأعلمه الله بذلك، بعث إليهم محمد بن مسلمة: "أن اخرجوا من بلدي فلا تساكنوني بها، وقد هممتم بما هممتم به من الغدر، وقد أجَّلتكم عشرًا، فمن رؤي منكم بعد ذلك ضربت عنقه".
فمكثوا على ذلك أيامًا يتجهزون، وتكاروا من أناس من أشجع إبلًا، فأرسل
__________
الخزرج،" منافقون "منهم: عبد الله بن أُبَيّ بن سلول" رأسهم, وديعة بن مالك بن أبي قوقل، وسويد وداعس "بعثوا" سويدًا وداعسًا "إلى بني النضير" حين هموا بالخروج، كما عند ابن سعد، ولذا عقب بها المصنف رواية ابن إسحاق هذه تبعًا لما في العيون قصدًا إلى الإحاطة بالروايتين: "أن اثبتوا وتمنّعوا".
قال البرهان: بتشديد النون المفتوحة، "فإنّا لن نسلمكم, إن قوتلتم قاتلنا معكم، وإن أخرجتم خرجنا معكم فتربصوا" أي: انتظروا ذلك، "فقذف الله في قلوبهم الرعب" بقتل سيدهم كعب بن الأشرف.
روى عبد بن حميد: إن غزوة بني النضير كانت صبيحة قتل كعب بن الأشرف، "فلم ينصروهم،" وفيهم نزل قوله تعالى: {أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا} الآية. إلى قوله: {كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِم} الآية. قاله ابن إسحاق. "فسألوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يجليهم" يخرجهم، "عن أرضهم،" وكان لهم الجلاء نقمة من الله، "ويكف عن دمائهم", أي: بد سؤالهم في أنه يخرجهم مع بقاء أموالهم، كما أمرهم أولًا، فقال: "لا أقبله اليوم" كما ذكر ابن سعد.
"وعند ابن سعد أنهم حين هموا بغدره -صلى الله عليه وسلم, وأعلمه الله بذلك" نهض سريعًا إلى المدينة، "بعث إليهم محمد بن مسلمة" الأنصاري "أن أخرجوا من بلدي" المدينة؛ لأن مساكنهم من أعماله، فكأنها منها، "فلا تساكنوني بها، وقد هممتم بما هممتم به من الغدر" جملة حالية، "وقد أجَّلتكم عشرًا فمن رؤي منكم بعد ذلك ضربت" بالبناء للمفعول "عنقه" يذكر ويؤنث، وهو لغة الحجاز بمعنى: أنه يأذن إذنًا عامًّا يقتل كل يهودي، "فمكثوا على ذلك أيامًا".
روى البيهقي في الدلائل عن محمد بن مسلمة أنه -صلى الله عليه وسلم- بعثه إلى بني النضير، وأمره أن يؤجلهم في الجلاء ثلاثة أيام، "يتجهزون وتكاروا،" أي: اكتروا، "من أناس من أشجع إبلًا،(2/515)
إليهم عبد الله بن أُبَيّ: لا تخرجوا من دياركم، وأقيموا في حصونكم، فإن معي ألفين من قومي من العرب يدخلون حصونكم, وتمدكم قريظة وحلفاؤكم من غطفان، فطمع حيي فيما قاله ابن أُبَيّ، فأرسل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم: إنا لن نخرج من ديارنا، فاصنع ما بدا لك.
فأظهر -صلى الله عليه وسلم- التكبير، وكبَّر المسلمون بتكبيره، وسار إليهم -عليه الصلاة والسلام- في أصحابه، فصلَّى العصر بفناء بني النضير، وعلي يحمل رايته، فلمَّا رأوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قاموا على حصونهم، ومعهم النبل والحجارة، واعتزلهم ابن أُبَيّ ولم يمنعهم، وكذا حلفاؤهم من غطفان،
__________
فأرسل إليهم عبد الله بن أُبَيّ" سويداء "وداعسًا: "لا تخرجوا من دياركم، وأقيمو في حصونكم، فإن معي ألفين من قومي من العرب يدخلون حصونكم, وتمدكم قريظة" بالظاء المعجمة المشالة، "وحلفاؤكم من غطفان، فطمع حيي فيما قاله ابن أُبَيّ، فأرسل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم" مع أخيه جُدَيّ -بضم الجيم، وفتح الدال المهملة وشد التحتية: "إنا لن نخرج من ديارنا، فاصنع ما بدا لك، فأظهر -صلى الله عليه وسلم- التكبير، وكبَّر المسلمون بتكبيره،" وقال: حاربت يهود، "وسار إليهم -عليه الصلاة والسلام- في أصحابه", قيل: مشى المسلمون إليهم على أرجلهم؛ لأنهم كانوا على ميلين، وركب -عليه السلام- على حمار فحسب، "فصلَّى العصر بفناء بني النضير, وعليّ -رضي الله عنه- يحمل رايته، فلمَّا رأوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قاموا على حصونهم ومعهم البل والحجارة" واعتزلتهم قريظة فلم تعنهم، "واعتزلهم ابن أُبَيّ ولم يمنعهم، كذا حلفاؤهم من غطفان", فقال ابن مشكم وكنانة لحيي: أين الذي زعمت؟ قال: ما أصنع, هي ملحمة كتبت علينا, وحلمت معه -صلى الله عليه وسلم- حين سار قبَّة من خشب عليها مسوح، أرسل بها إليه سعد بن عبادة، فلمَّا صلى العشاء رجع إلى بيته في عشرة من أصحابه، واستعمل على العسكر عليًّا، ويقال: أبا بكر، وبات المسلمون يحاصرونهم حتى أصبحوا، ثم أذَّن بلال الفجر, فغدا -صلى الله عليه وسلم- في أصحابه الذين كانوا معه, فصلى بالناس في فضاء بني خطمة, وأمر بلالًا فضرب القبة في موضع المسجد الصغير الذي بفناء بني خطمة، ودخلها -صلى الله عليه وسلم, وكان عزوك اليهودي أعسر راميًا، فتباعدت من النبل، فيرمي فيبلغ القبة, فحولت إلى مسجد الفضيخ -بفاء مفتوحة, فضاد وخاء معجمتين بينهما تحتية, فتباعدت من النبل, ففقد علي في ليلة قرب العشاء، فقال الناس: يا رسول الله, ما نرى عليًّا، فقال: "دعوه, فإنه في بعض شأنكم" , فعن قليل جاء برأس عزوك، وقد كمن له حين خرج يطلب غرة من المسلمين، وكان شجاعًا راميًا فشد عليه، فقتله وفَرَّ من كان معه، وبعث -صلى الله عليه وسلم- خلفهم(2/516)
فيئسوا من نصرهم، فحاصرهم -صلى الله عليه وسلم, وقطع نخلهم، وقال لهم -عليه الصلاة والسلام: "اخرجوا منها، ولكم دماؤكم وما حملت الإبل إلا الحلقة" -بإسكان اللام, قال في القاموس: الدرع, فنزلت يهود على ذلك, فحاصرهم خمسة عشر يومًا، فكانوا يخربون بيوتهم بأيديهم.
ثم أجلاهم عن المدينة, وولي إخراجهم محمد بن مسلمة. وحملوا النساء والصبيان، وتحمَّلوا أمتعتهم على ستمائة بعير
__________
أبا دجانة وسهل بن حنيف في عشرة، فأدركوا اليهود الذين فروا من علي، فقتلوهم وطرحوا رؤسهم في بعض الآبار، انتهى من السبل. "فيئسوا من نصرهم, فحاصرهم -صلى الله عليه وسلم, وقطع نخلهم".
زاد ابن سعد، فقالوا: نحن نخرج من بلادك، فقال: لا أقبله اليوم، "وقال لهم -عليه الصلاة والسلام: "اخرجوا منها ولكم دماؤكم وما حملت الإبل إلا الحلقة -بإسكان اللام".
"قال في القاموس: الدرع"، وقيل: السلاح كله، حكاه في النور، واقتصر عليه المصباح، وهو المراد هنا لقوله بعد، ووجد من الحلقة إلخ. "فنزلت يهود على ذلك, وكان حاصرهم خمسة عشر يومًا", وقيل: أكثر وأقل كما مَرَّ بالجمع. "فكانوا" كما قال الله تعالى: {يُخْرِبُونَ} بالتشديد والتخفيف، من أخرب، {بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ} لينقلوا ما استحسنوه منها من خشب وغيره, {وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ} يخربون باقيها.
وفي الروض: يخربونها من داخل, والمؤمنون من خارج، وقيل: معنى بأيديهم: بما كسبت أيديهم من نقض العهد, وأيدي المؤمنين، أي: بجهادهم, انتهى. "ثم أجلاهم عن المدينة"؛ لأنه كتب عليهم كما في التنزيل {وَلَوْلا} ، أي: {أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا} ، أي: بالقتل والسباء, {وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ} مع ذلك، فلذا لم يستأصلهم بالقتل، أو لأنه رآه مصلحة, وإن حربهم قد يؤدي إلى سفك دماء المسلمين، وقد يرجع حلفاؤهم ويعينونهم، "وولي إخراجهم محمد بن مسلمة" الأنصاري، "وحملوا النساء والصبيان" على الهوادج، وعليهنّ الديباج والحرير والخز الأخضر والأحمر وحلي الذهب والفضة والمعصفر، وأظهروا تجلدًا عظيمًا.
قال ابن إسحاق: حدثني عبد الله بن أبي بكر، أنه حدث أنهم خرجوا بالنساء والأبناء والأموال، معهم الدفوف والمزامير والقينات، يعزفن خلفهم بزهاء وفخر لم ير مثله، قال: ولم يسلم منهم إلا يامين بن عمير وأبو سعد بن وهب، فأحرزوا أموالهما.
قال: وحدثني بعض آل يامين، أنه -صلى الله عليه وسلم- قال له: "ألم تر ما لقيت من ابن عمك وما هم به من شأني" , فجعل يامين لرجل من قيس عشرة دنانير، ويقال: خمسة أوسق من تمر على أن يقتل عمرو بن جحاش, فقتله غيلة، "وتحمَّلوا" بمعنى احتملوا، أي: حملوا "أمتعتهم على ستمائة بعير(2/517)
فلحقوا بخيبر. وحزن المنافقون عليهم حزنًا شديدًا.
وقبض -صلى الله عليه وسلم- الأموال، ووجد من الحلقة خمسين درعًا وخمسين بيضة، وثلاثمائة وأربعين سيفًا.
وكانت بنو النضير صفيًا لرسول الله -صلى الله عليه وسلم, حبسًا لنوائبه، ولم يسهم منها
__________
فلحقوا بخيبر،" أي: أكثرهم, منهم حيي وسلام بن أبي الحقيق, وكنانة بن صويرا, فدان لهم أهلها، وذهبت طائفة منهم إلى الشام، كما في الشامية، ولا ينافيه قول البيضاوي: لحق أكثرهم بالشام، لجواز أن الأكثر نزلوا أولًا بخيبر، ثم خرج منهم جماعة إلى الشام، فكان جملة من لحق به بآخرة الأمر أكثرهم.
لكن في ابن إسحاق: فخرجوا إلى خيبر, ومنهم من سار إلى الشام، فكان أشرافهم من سار إلى خيبر سلام وكنانة وحيي.
وفي الخميس: ذهب بعضهم إلى الشام إلى أذرعات وأريحاء، ولحق أهل بيتين وهم آل أبي الحقيق وآل حيي بخيبر, انتهى.
وفي الروض: روى موسى بن عقبة أنهم قالوا: إلى أين نخرج يا محمد؟ قال: "إلى الحشر"، يعني: أرض المحشر، وهي الشام، وقيل: كانوا من سبط لم يصبهم جلاء، فلذا قال لأوَّل الحشر، والحشر الجلاء، وقيل: الحشر الثاني، هو حشر النار التي تخرج من قعر عدن، فتحشر الناس إلى الموقف، تبيت معهم حيث باتوا، وتقيل معهم حيث قالوا، وتأكل من تخلف، والآية متضمَّنة لهذه الأقوال كلها، ولزائد عليها لإيذانها أن ثَمَّ حشرًا آخر، فكان هذا الحشر والجلاء إلى خيبر، ثم أجلاهم عمر منها إلى تيماء وأريحاء حين بلغه خبر: "لا يبقين دينان بأرض العرب"، انتهى.
"وحزن المنافقون عليهم حزنًا شديدًا، لكونهم إخوانهم "وقبض -صلى الله عليه وسلم- الأموال، ووجد من الحلقة" السلاح كله "خمسين درعًا وخمسين بيضة"، أي: خودة, "وثلاثمائة وأربعين سيفًا، وكانت بنو النضير صفيًّا" بالتشديد، أي: مختارة "لرسول الله -صلى الله عليه وسلم".
قال في الروض: لم يختلفوا أنَّ أموالهم كانت خاصَّة به -صلى الله عليه وسلم, وأن المسلمين لم يوجفوا عليهم بخيل ولا ركاب, ونه لم يقع قتال أصلًا، "حبسًا" بضم الحاء، وإسكان الموحدة وبالسين المهملة، أي: وقفًا كما في النور, ولعله الرواية، "وإلا ففي المصباح الحبس -بضمتين وإسكان الثاني للتخفيف- لغة "لنوائبه" أي: ما يعرض له من النوازل جمع نائبة, فكان ينفق منها على أهله، ويزرع تحت النخل ويدخر قوت أهله سنة من الشعير والتمر لأزواجه, وبني عبد المطلب، وما(2/518)
لأحد؛ لأن المسلمين لم يوجفوا عليها بخيل ولا ركاب، وإنما قدف في قلوبهم الرعب، وأجلوا عن منازلهم إلى خيبر، ولم يكن ذلك من المسلمين لهم، فقسمها -عليه الصلاة والسلام- بين المهاجرين؛ ليرفع بذلك مؤنتهم عن الأنصار؛ إذ كانوا قد قاسموهم في الأموال والديار،
__________
فضل جعله في السلاح والكراع -بضم الكاف وخفة الراء، أي: جماعة الخيل، "ولم يسهم منها لأحد؛ لأن المسلمين لم يوجفوا عليها" أي: يحركوا ويتعبوا في السير.
قال عبد الملك بن هشام: أوجفتم: حركتم وأتعبتم في السير. قال الشاعر:
مذاويد بالبيض الحديث صقالها ... عن الركب أحيانًا إذا القوم أوجفوا
والوجيف وجيف القلب والكبد، وهو الضربان، "بخيل ولا ركاب وإنما قذف في قلوبهم الرعب وأجلوا عن منازلهم إلى خيبر, ولم يكن ذلك عن قتال من المسلمين لهم", فكانت له -صلى الله عليه وسلم- خاصَّة, يضعها حيث شاء, كما حكى عليه السهيلي الاتفاق وأقرَّه الحافظ، وفي الخميس: أكثر الروايات على أنَّ أموال بني النضير وعقارهم كان فيئًا له -صلى الله عليه وسلم- خاصة له, خصها الله حبسًا لنوائبه، لم يخمسها، ولم يسهم منها لأحد، كما هو مذهب الإمام أبي حنيفة. وورد في بعض الروايات أنه خمَّسَها.
وذهب إليه الإمام الشافعي "فقسمها -عليه الصلاة والسلام- بين المهاجرين؛ ليرفع بذلك مؤنتهم" أي: مشقتهم "عن الأنصار" باعتبار ما في نفس الأمر، وإن رأى الأنصار ذلك من أَجَلِّ النعم، كما في التنزيل: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَة} [الحشر: 9] الآية، "إذ كانوا قد قاسموهم في الأموال والديار" لما هاجروا, وآخى بينهم -صلى الله عليه وسلم, فذهب كل أنصاريّ بالمهاجري الذي واخى بينه وبينه -صلى الله عليه وسلم- إلى منزله, وكفاه المؤنة، ثم تنافسوا حتى آل أمرهم إلى القرعة، فأي أنصاري تخرج القرعة باسمه يذهب بالمهاجري، فبلغت مواساتهم الغاية القصوى حتى ورد في الصحيح: أن سعد بن الربيع الأنصاري قال لأخيه عبد الرحمن بن عوف: هلمَّ أقسم مالي بيني وبينك نصفين, ولي امرأتان, انظر أعجبهما إليك أطلقها، فإذا انقضت عدتها فتزوجها، فقال عبد الرحمن: بارك الله لك في أهلك ومالك.
روى الحاكم في الإكليل من طريق الواقدي بسنده عن أم العلاء قالت: طار لنا عثمان بن مظعون في القرعة، فكان في منزلي حتى توفي: قالت: فكان المهاجرون في دورهم وأموالهم، فلما غنم -صلى الله عليه وسلم- بني النضير, دعا ثابت بن قيس بن شماس، فقال: "ادع لي قومك". قال ثابت: الخزرج، فقال -صلى الله عليه وسلم: "الأنصار كلها" فدعا له الأوس والخزرج, فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم ذكر الأنصار وما صنعوا بالمهاجرين، وإنزالهم إياهم في منازلهم وأموالهم، وأثرتهم على(2/519)
غير أنه أعطى أبا دجانة وسهل بن حنيف لحاجتهما. وفي الإكليل: وأعطى سعد بن معاذ سيف بن أبي الحقيق، وكان سيفًا له ذكر عندهم.
__________
أنفسهم، "ثم قال: "إن أحببتم قسمت بينكم وبين المهاجرين ما أفاء الله علي من بني النضير، وكان المهاجرون على ما هم عليه من السكنى في منازلكم وأموالكم، وإن أحببتم أعطيتهم وخرجوا من دوركم"، فقال سعد بن عبادة وسعد بن معاذ: يا رسول الله, بل تقسم بين المهاجرين، ويكونون في دورنا كما كانوا، وقالت الأنصار: رضينا وسلّمنا يا رسول الله، فقال -صلى الله عليه وسلم: "اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار" وقسم ما أفاء الله، وأعطى المهاجرين ولم يعط أحدًا من الأنصار شيئًا. "غير أنه أعطى أبا دانة وسهل بن حنيف لحاجتهما".
وعند ابن إسحاق، أنهما ذكرا فقرًا فأعطاهما.
قال السهيلي: وقال غير ابن إسحاق: أعطى ثلاثة، فذكر الحارث بن الصمّة, انتهى. ونظر فيه بأنه قتل في بئر معونة، ولذا تركه المصنف، والنظر إنما يأتي على أنها بعدها، أما على قول عروة أنها قبلها بمدة فلا نظر.
"وفي الإكليل" لأبي عبد الله الحاكم بقية حديثه الذي سقته، "وأعطى سعد بن معاذ سيف" سلام "بن أبي الحقيق" بحاء مضمومة فقاف مفتوحة فتحتية ساكنة ثم قاف أخرى، "وكان سيفًا له ذكر عندهم".
وذكر البلاذري أنه -صلى الله عليه وسلم- قال للأنصار: "ليست لإخوانكم من المهاجرين أموال، فإن شئتم قسمت هذه وأموالكم بينكم وبينهم جميعًا، وإن شئتم أمسكتم أموالكم وقسمت هذه خاصة"، فقالوا: بل اقسم هذه فيهم، واقسم لهم من أموالنا ما شئت، فنزلت {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 5] الآية.
قال أبو بكر الصديق: جزاكم الله خيرًا يا معشر الأنصار، فوالله ما مثلنا ومثلكم إلّا كما قال الغنوي: وهو بالمعجمة والنون:
جزى الله عنا جعفرًا حين أزلقت ... بنا نعلنا في الواطئين فزلت
أبوا أن يملونا ولو أن أمنا ... تلاقي الذي يلقون منا لملت
قال: وكان يزرع تحت النخيل في أرضهم، فيدَّخر من ذلك قوت أهله وأزواجه سنة، وما فضل جعله في الكراع والسلاح. انتهى، فهذا صريح في أنه لم يقسم الأرض والنخيل بين المهاجرين, بل الدور والأموال.
قال ابن إسحاق: ونزل في أمر بني النضير سورة الحشر بأسرها.
قال السهيلي: اتفاقًا، انتهى.
فقول البيضاوي: فأنزل الله: {سَبَّحَ لِلَّه} الآية. إلى قوله: {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير} الآية. لعلَّ المراد منه نزول هذا القدر في أخبار خروجهم حتى جلوا، وبقيتها فيما ترتَّب عليه من قسم الأموال، ومدح الأنصار، وذمّ المنافقين وغير ذلك, فهي كلها فيهم.
وفي البخاري عن سعيد بن جبير, قلت لابن عباس: سورة الحشر، قال: قل: سورة النضير.
قال الداودي: كأنه كره تسميتها بذلك لئلَّا يظن أنه يوم القيامة، أو لإجماله فكرة النسبة إلى غير معلوم، كذا قال.
وعند ابن مردويه من وجه آخر عن ابن عباس، قال: نزلت سورة الحشر في بني النضير، وذكر الله فيها الذي أصابهم من النقمة. ذكره في الفتح، والله أعلم.(2/520)
"غزوة ذات الرقاع":
واختلف فيها متى كانت:
فعند ابن إسحاق: بعد بني النضير سنة أربع، في شهر ربيع الآخر، وبعض جمادى.
وعند ابن سعد وابن حبان: في المحرم سنة خمس. وجزم أبو معشر........
__________
غزوة ذات الرقاع:
بكسر الراء بعدها قاف فألف فعين مهملة جمع رقعة بضمها، وهي غزوة محارب، وغزوة بني ثعلبة، وغزوة بني أنمار، وغزوة صلاة الخوف لوقوعها فيها، وغزوة الأعاجيب لما وقع فيها من الأمور العجيبة، وقول البخاري: وهي غزوة محارب بن حصفة من بني ثعلبة بن غطفان، وهم لاقتضائه أن ثعلبة جَدٌّ لمحارب, وليس كذلك، فصوابه كما عند ابن إسحاق وغيره: وبني ثعلبة بواو العطف، فإن غطفان هو ابن سعد بن قيس عيلان، ومحارب بن خصفة بن قيس عيلان, فمحارب وغطفان ابنا عم، فكيف يكون الأعلى منسوبًا إلى الأدنى، وقد ذكر في الباب حديث جابر بلفظ: محارب وثعلبة بواو العطف على الصواب، وفي قوله: ابن غطفان بموحدة ونون, نظر أيضًا، والأولى ما وقع عند ابن إسحاق, وبني ثعلبة من غطفان بميم ونون، فإنه ثعلبة بن سعد بن ذبيان بن بغيض بن ريث بن غطفان, على أنَّ لقوله ابن غطفان وجهًا بأن يكون نسبه إلى جدِّه الأعلى, قاله الحافظ. وكذا نبَّه على ذلك أبو علي الجيالي في أوهام الصحيح.
"واختلف فيها متى كانت", وفي سبب تسميتها بذلك.
"فعند ابن إسحاق" كانت "بعد بني النضير سنة أربع, في شهر ربيع الآخر وبعض جمادى" لفظ ابن إسحاق، ثم أقام -صلى الله عليه وسلم- بالمدينة بعد غزوة بني النضير شهر ربيع الآخر وبعض جمادى.
"وعند ابن سعد وابن حبان" أنها كانت "في المحرم سنة خمس، وجزم أبو معشر"(2/521)
بأنها بعد بني قريظة في ذي القعدة سنة خمس، فتكون ذات الرقاع في آخر السنة الخامسة وأول التي تليها.
قال في فتح الباري: قد جنح البخاري إلى أنها كانت بعد خيبر، واستدلّ لذلك بأمور، ومع ذلك فذكرها قبل خيبر، فلا أدري: هل تعمّد ذلك تسليمًا لأصحاب المغازي أنها كانت قبلها، أو أن ذلك من الرواة عنه، أو إشارة إلى احتمال أن تكون ذات الرقاع اسمًا لغزوتين مختلفتين -كما أشار إليها البيهقي. على أن أصحاب المغازي مع جزمهم بأنها كانت قبل خيبر مختلفون في زمنها. انتهى.
والذي جزم به ابن عقبة تقدمها، لكن تردَّد في وقتها فقال: لا ندري كانت قبل بدر أو بعدها؟ أو قبل أُحد أو بعدها؟
قال الحافظ ابن حجر: وهذا التردد لا حاصل له، بل الذي ينبغي الجزم به
__________
نجيح بن عبد الرحمن السندي "بأنها بعد بني قريظة".
قال الحافظ، وهو موافق لصنيع البخاري وقريظة: كانت "في ذي القعدة" أي: لسبع بقين منها -كما يأتي, "في سنة خمس" فليس قوله في ذي القعدة من مقول أبي معشر، كما أوهمه المصنف, فيعرب حالًا من بني قريظة, بدليل قوله: "فتكون ذات الرقاع في آخر السنة الخامسة، وأول التي تليها"؛ لأن الانصراف من قريظة كان في أواخر الحجة.
"قال في فتح الباري: قد جنح" مال "البخاري إلى أنها كانت بعد خيبر" صريحًا، فقال: وهي بعد خيبر؛ لأن أبا موسى جاء بعد خيبر، أي: وخيبر كانت في المحرم سنة سبع، "واستدلَّ لذلك بأمور، ومع ذلك فذكرها قبل خيبر" عقب بني قريظة، "فلا أدري هل تعمَّد ذلك تسليمًا لأصحاب المغازي أنها كانت قبلها، أو أن ذلك من الرواة عنه، أو إشارة إلى احتمال أن تكون ذات الرقاع اسم لغزوتين مختلفتين" واحدة بعد خيبر، وأخرى قبلها، "كما أشار إليه البيهقي، على أن أصحاب المغازي مع جزمهم بأنها كانت قبل خيبر مختلفون في زمنها".
فعند ابن إسحق أنها سنة أربع.
وعند ابن سعد وابن حبان سنة خمس.. إلخ ما مرَّ كما في الفتح، وأسقطه المصنف لكونه قدَّمه, "انتهى" كلام الفتح، والذي بعده له أيضًا, فلو أسقط انتهى هذه واكتفى بالآتية.
"والذي جزم به ابن عقبة تقدُّمها, لكن تردد في وقتها فقال: لا ندري أكانت قبل بدر" الكبرى، كما هو المراد عند الإطلاق، وفي كلام مغلطاي أنها بعد بدر الصغرى، لن لم ينقله عن ابن عقبة "أو بعدها، أو قبل أُحد أو بعدها".(2/522)
أنها بعد غزوة بني قريظة؛ لأن صلاة الخوف في غزوة الخندق لم تكن شُرِعَت، وقد ثبت وقوع صلاة الخوف في غزوة ذات الرقاع. فدلَّ على تأخرها بعد الخندق.
ثم قال عند قول البخاري: "وهي بعد خيبر"؛ لأن أبا موسى جاء بعد خيبر، وإذ كان كذلك وثبت أن أبا موسى شهد غزوة ذات الرقاع لزم أنها كانت بعد خيبر.
قال: وعجبت من ابن سيد الناس كيف قال: جعل البخاري حديث أبي موسى هذا حجة في أن غزوة ذات الرقاع متأخرة عن خيبر. قال: وليس في حديث
__________
"قال الحافظ ابن حجر" في الفتح: "وهذا التردد لا حاصل له، بل الذي ينبغي الجزم به أنها بعد غزوة بني قريظة" كما صنع البخاري، وبه جزم أبو معشر.
قال مغلطاي: وهو من المعتمدين في السِّيَر، وقوله موافق لما ذكره أبو موسى، "لأن صلاة الخوف في غزوة الخندق لم تكن شُرِعَت، وقد ثبت" في الصحيح عن جابر وغيره "وقوع صلاة الخوف في غزوة ذات الرقاع، فدلَّ على تأخرها بعد الخندق".
وروى أحمد وأصحاب السنن وصحَّحه ابن حبان عن أبي عيَّاش الزرقي قال: كنا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- بعسفان, فصلى بنا الظهر, وعلى المشركين يومئذ خالد بن الوليد، فقالوا: لقد أصبنا منهم غفلة، ثم قالوا: إن لهم صلاة بعد هذه هي أحب إليهم من أموالهم وأبنائهم، فنزلت صلاة الخوف بين الظهر والعصر، فصلَّى بنا العصر. الحديث. وهو ظاهر في أنَّ صلاة الخوف بعسفان غير صلاة الخوف بذات الرقاع، وإذا تقرَّر أن أوَّل ما صليت صلاة الخوف بعسفان، وكانت في عمرة الحديبية, وهي بعد الخندق وقريظة, تعيِّنَ تأخرها عنهما وعن الحديبية أيضًا، فيقوى القول بأنها بعد خيبر؛ لأن خيبر كانت عقب الرجوع من الحديبية. قاله في الفتح.
"ثم قال" الحافظ ابن حجر "عند قول البخاري: وهي بعد خيبر؛ لأن أبا موسى" الأشعري "جاء بعد خيبر" من الحبشة سنة سبع، هكذا استدلَّ به, وقد ساق حديث أبي موسى بعد قليل، وهو استدلال صحيح, وسيأتي أنَّ أبا موسى إنما قَدِمَ من الحبشة بعد فتح خيبر في باب غزوتها, ففيه في حديث طويل.
قال أبو موسى: فوافينا النبي -صلى الله عليه وسلم- حين افتتح خيبر "وإذا كان كذلك، وثبت أن أبا موسى شهد غزوة ذات الرقاع، لزم أنها كانت بعد خيبر، قال: وعجبت من" شيخ شيوخنا "ابن سيد الناس كيف قال: جعل البخاري حديث أبي موسى هذا حجة في أنَّ غزوة ذات الرقاع متأخرة(2/523)
أبي موسى ما يدل على شيء من ذلك، انتهى كلام ابن سيد الناس.
قال: وهذا النفي مردود، والدلالة على ذلك واضحة كما قررته.
قال: وأما الدمياطي فادَّعى غلط الحديث الصحيح، وأن جميع أهل السِّيَر على خلافه, وقد تقدَّم أنهم مختلفون في زمانها. فالأولى الاعتماد على ما ثبت في الصحيح.
وأمَّا قول الغزالي: إنها آخر الغزوات, فهو غلط واضح، وقد بالغ ابن الصلاح في إنكاره.
__________
عن خيبر، قال: وليس في حديث أبي موسى ما يدل على شيء من ذلك, انتهى كلام ابن سيد الناس".
"قال" الحافظ: "وهذا النفي مردود, والدلالة من ذلك واضحة، كما قررته" بقوله: وإذا كان كذلك وثبت إلخ.
"قال" ابن حجر: "وأمَّا" شيخه "الدمياطي" مَرَّ مرارًا أنه -بكسر الدال المهملة، وبعضهم أعجمها، "فادَّعى غلط الحديث الصحيح" يعني: حديث أبي موسى، "وأن جميع أهل السير على خلافه، وقد تقدَّم أنهم مختلفون في زمانها، فالأَوْلَى الاعتماد على ما ثبت في الصحيح".
وقد ازداد قوّة بحديث أبي هريرة، وبحديث ابن عمر: فإن أبا هريرة في ذلك نظير أبي موسى؛ لأنه إنما جاء والنبي -صلى الله عليه وسلم- بخيبر, فأسلم، وقد ذكر في حديثه أنه صلى معه صلاة الخوف في غزوة نجد، وكذلك ابن عمر ذكر أنه صلى مع النبي -صلى الله عليه وسلم- صلاة الخوف بنجد، وقد تقدَّم أن أوّل مشاهده الخندق، فتكون ذات الرقاع بعد الخندق، وقد قيل: الغزوة التي شهدها أبو موسى وسميت ذات الرقاع, غير غزوة ذات الرقاع التي وقعت فيها صلاة الخوف؛ لأن أبا موسى قال: إنهم كانوا ستة أنفس، والغزوة التي وقعت فيها صلاة الخوف كان المسلمون فيها أضعاف ذلك، والجواب عن ذلك أنَّ العدد الذي ذكره أبو موسى محمول على من كان مرافقًا له, ولم يرد جميع من كان مع النبي -صلى الله عليه وسلم. قال في الفتح.
ثم قال فيه: بعد أوراق في شرح حديث جابر لا عند قول البخاري, وهي بعد خيبر كما أوهمه المصنف ما نصه.
"وأما قول الغزالي: إنها" أي: غزوة ذات الرقاع، "آخر الغزوات, فهو غلط واضح، وقد بالغ ابن الصلاح في إنكاره" على الغزالي ذلك القول.(2/524)
وقال بعض من انتصر للغزالي: لعله أراد آخر غزوة صليت فيها صلاة الخوف.
وهو انتصار مردود بما أخرجه أبو داود والنسائي وصحَّحه ابن حبان من حديث أبي بكرة: أنه صلى مع النبي -صلى الله عليه وسلم- صلاة الخوف. وإنَّما أسلم أبو بكرة بعد غزوة الطائف بالاتفاق. انتهى.
وأما تسميتها بذات الرقاع:
فلأنهم رقَّعوا فيها راياتهم، قاله ابن هشام.
وقيل: لشجرة في ذلك الموضع يقال لها ذات الرقاع.
وقيل: الأرض التي نزلوا بها فيها بقع سود وبقع بيض، كأنها مرقعة برقاع مختلفة، فسميت ذات الرقاع لذلك.
وقيل: لأن خيلهم كان بها سواد وبياض. قاله ابن حبان.
__________
"وقال بعض من انتصر للغزالي: لعله أراد آخر غزوة صُلّيَت فيها صلاة الخوف, وهو انتصار مردود بما أخرجه أبو داود والنسائي، وصحَّحه ابن حبان من حديث أبي بكرة" نفيع بن الحارث "أنه صلى مع النبي -صلى الله عليه وسلم- صلاة الخوف، وإنما أسلم أبو بكرة بعد" لفظ الفتح في "غزوة الطائف بالاتفاق", وذلك بعد ذات الرقاع قطعًا، هذا أسقطه من كلام الفتح، أي: فيلزم من صلاة أبي بكر صلاة الخوف مع النبي -صلى الله عليه وسلم- أن لا تكون ذات الرقاع آخر صلاة الخوف. قال -أعني الحافظ: وإنما ذكرت هذا استطرادًا لتكميل الفائدة. "انتهى" كلام الحافظ.
"وأما تسميتها بذات الرقاع، فلأنهم رقعوا" بالتخفيف، ويشدد مبالغة على مفاد اللغة، أي: جعلوا مكان القطع رقعة, ويجمع على رقاع, كبرمة وبرام، "فيها راياتهم. قاله" عبد الملك "بن هشام".
قال أيضًا: "وقيل لشجرة في ذلك الموضع يقال لها ذات الرقاع", قيل: لأن هذه الشجرة كانت العرب تعبدها، وكل من كان له حاجة منهم يربط فيها خرقة، كذا بهامش وهو غريب.
وقال غير هشام: "وقيل الأرض التي نزلوا بها فيها بقع سود وبقع بيض كأنها مرقعة برقاع مختلفة، فسميت" الغزوة "ذات الرقاع لذلك", وصحَّحه صاحب تهذيب المطالع، "وقيل: لأن خيلهم كان بها سواد وبياض، قاله ابن حبان" وأبو حاتم البستي.(2/525)
وقال الواقدي: سميت بحبل هناك فيه بقع. قال الحافظ ابن حجر: وهذا لعله مستند ابن حبان، ويكون قد تصحّف عليه بخيل.
قال: وأغرب الداودي فقال: سميت ذات الرقاع لوقوع صلاة الخوف فيها، فسميت بذلك لترقيع الصلاة فيها.
قال السهيلي: وأصحّ من هذه الأقوال كلها، ما رواه البخاري ومسلم عن أبي موسى الأشعري قال: خرجنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في غزوة, ونحن ستة نفر، بيننا بعير نعتقبه،
__________
"وقال الواقدي: سميت بجبل هناك فيه بقع".
"قال الحافظ ابن حجر: وهذا" أي: قول الواقدي، "لعله مستند ابن حبان، ويكون قد تصحف عليه" جبل -بجيم وموحدة، الواقع عند الواقدي "بخيل" بخاء معجمة وتحتية.
"قال: وأغرب الداودي فقال: سميت ذات الرقاع لوقوع صلاة الخوف فيها، فسميت بذلك لترقيع الصلاة فيها"؛ لأنهم لما فعلوا بعضها منفردين عن المصطفى أشبه ذلك إصلاح خلل الثوب برقعة, فكأنه جعل انفراد الفرقة الأولى بمنزلة رقعة، وقيام الثانية وإتمامها في جلوسه بمنزلة رقعة أخرى.
قال في الفتح: وبهذ الخلاف استدلَّ على تعدد ذات الرقاع، فإنهم اتفقوا في تسميتها على غير السبب الذي ذكره أبو موسى، لكن ليس ذلك مانعًا من اتحاد الوقعة ولازمًا للتعدد، وقد رجَّح السهيلي السبب الذي ذكره أبو موسى، وكذا النووي، ثم قال: ويحتمل أن تكون سميت بالمجموع.
"قال السهيلي" في الروض بعد ذكر الأقوال الثلاثة الأول: "وأصح من هذه الأقوال كلها ما رواه البخاري ومسلم عن أبي موسى" عبد الله بن قيس "الأشعري قال: خرجنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في غزوة", وفي رواية: في غزاة "ونحن ستة نفر".
قال الحافظ: لم أقف على أسمائهم وأظنّهم من الأشعريين. "بيننا بعير نعتقبه" أي: نركبه عقبة، وهو أن يركب هذا قليلًا، ثم ينزل فيركب الآخر بالنوبة حتى يأتي على سائرهم، وفيه جواز مثل هذا إذا لم يضر المركوب. هذا ما قاله النووي والحافظ والمصنف وغيرهم من شراح الحديث، فعلى من زعم أن المراد بين كل ستة منا بعير، لا أنَّ الجميع كانوا ستة، بيان الرواية التي صرَّحت بأنَّ الجميع فعلوا فعل أبي موسى ورفقته وأنَّى بها، وإنما أراد أبو موسى كما مَرَّ عن الحافظ من كان مرافقًا مزاملًا له لا جميع الجيش، فإن إخباره عن نفسه ورفقته لا يستلزم أن(2/526)
فنقبت أقدامنا، ونقبت قدماي، وسقطت أظفاري، فكنا نلف على أرجلنا الخرق، فسميت غزوة ذات الرقاع، لما كنا نعصب من الخرق على أرجلنا.
وكان من خبر هذه الغزوة، كما قاله ابن إسحاق: أنه -صلى الله عليه وسلم- غزا نجدًا يريد بني محارب وبني ثعلبة -بالمثلثة- من غطفان -بفتح الغين المعجمة والمهملة؛ لأنه -عليه الصلاة والسلام- بلغه أنهم جمعوا المجموع. فخرج في
__________
الجيش كله كذلك. "فنقبت" قال الحافظ: بفتح النون وكسر القاف بعدها موحدة، أي: رقت "أقدامنا" يقال: نقب البعير، إذا رقَّ خفه. انتهى.
وقال النووي: أي: قرحت من الحفاء، وجمع بينهما المصنّف فقال: أي: رقَّت وتقرَّحت وقطعت الأرض جلودها من الحفاء، "ونقبت قدماي" عطف خاص على عام؛ ليعطف عليه قوله: "وسقطت أظفاري" لذلك "فكنَّا نلف" بضم اللام "على أرجلنا الخرق, فسميت غزوة ذات الرقاع لما" أي: لأجل ما "كنا نعصب".
قال الحافظ: بفتح أوله وكسر الصاد المهملة، زاد المصنف ولأبي ذر: نعصب -بضم النون وفتح العين وتشديد الصاد "من الخرق على أرجلنا", وبقية خبر الصحيح هذا، وحدث أبو موسى بهذا، ثم كره ذلك قال: ماكنت أصنع بأن أذكره كأنه كره أن يكون شيء من عمله أفشاه. "وكان من خبر هذه الغزوة كما قاله ابن إسحاق أنه -صلى الله عليه وسلم- غزا" أي: قصد "نجدًا، يريد بني محارب" بضم الميم وحاء مهملة وموحدة، ابن خصفة -بفتح المعجمة والصاد المهملة والفاء، ابن في عيلان، "وبني ثعلبة بالمثلثة" وعين مهملة "من غطفان"؛ لأن ثعلبة بن سعد بن ذبيان بن بغيض -بفتح الموحدة وكسر المعجمة وإسكان التحتية فضاد معجمة، ابن ريث -بفتح الراء وسكون التحتية ومثلثة، ابن غطفان -بفتح الغين المعجمة والظاء المهملة والفاء, ابن سعد بن قيس عيلان -بفتح العين المهملة وسكون التحتية، فمحارب وغطفان ابنا عم، وهذا هو الصواب الثابت في الصحيح وغيره عن جابر.
ووقع في ترجمة البخاري وَهْمٌ مَرَّ التنبيه عليه.
قال في الفتح جمهور أهل المغازي: على أن غزوة ذات الرقاع هي غزوة محارب.
وعند الواقدي: أنهما اثنتان، وتبعه القطب الحلبي في شرح السيرة، والله أعلم بالصواب، انتهى، "لأنه عليه الصلاة والسلام" تعليل, أي: سبب لغزوهم، "بلغه أنهم جمعوا الجموع".
قال ابن سعد قالوا: قدم قادم المدينة بجلب له، فأخبر الصحابة أن أنمارًا وثعلبة قد جمعوا إليهم الجموع, "فخرج" ليلة السبت لعشر خَلَوْنَ من المحرم على قول ابن سعد ومن وافقه "في(2/527)
أربعمائة من أصحابه -وقيل: سبعمائة, واستعمل على المدينة عثمان بن عفان، وقيل: أبا ذر الغفاري. حتى نزل نخلًا -بالخاء المعجمة- موضع من نجد من أراضي غطفان.
قال ابن سعد: فلم يجد في مجالسهم إلّا نسوة فأخذهنَّ.
وقال ابن إسحاق: فلقي جمعًا منهم فتقارب الناس، ولم يكن بينهم حرب، وقد أخاف الناس بعضهم بعضًا، حتى صلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالناس صلاة الخوف، ثم انصرف الناس.
__________
أربعمائة من أصحابه، وقيل: سبعمائة" قاله ابن سعد، وقيل: ثمانمائة كما في السبل، "واستعمل على المدينة عثمان بن عفان" ذا النورين أمير المؤمنين "رضي الله عنه" فيما قال الواقدي وابن سعد وابن هشام، "وقيل: أبا ذر الغفاري" قاله ابن إسحاق، وتعقَّبه ابن عبد البر، بأنه خلاف ما عليه الأكثر, وبأنَّ أبا ذر لما أسلم بمكة رجع إلى بلاده، فلم يجئ إلّا بعد الخندق, انتهى.
وعلى مختار البخاري أنها بعد خيبر, وأبي معشر أنها بعد قريظة لا تعقب، وسار -صلى الله عليه وسلم- إلى أن وصل إلى وادي الشقرة -بضم الشين المعجمة وسكون القاف، فأقام فيها يومًا وبت السرايا، فرجعوا إليه من الليل وخبَّروه أنهم لم يروا أحدًا، فسار "حتى نزل نخلًا -بالخاء المعجمة- موضع من نجد من أراضي غطفان".
وفي الفتح: هو مكان من المدينة على يومين, وهو بواد يقال له: شدخ -بشين معجمة بعدها مهملة ساكنة ثم خاء معجمة، وبذلك الوادي طوائف من قيس من بني فزارة، وإنما ذكره أبي عبيد البكري انتهى. وادَّعى البكري أنه غير مصروف.
قال الدماميني: فإن أراد تحتمه فليس كذلك ضرورة أنه ثلاثي ساكن، وغفل من قال: المراد نخل المدينة.
"قال ابن سعد: فلم يجد في مجالسهم إلّا نسوة فأخذهنَّ", وفيهنَّ جارية وضيئة, وهربوا في رءوس الجبال.
"وقال ابن إسحاق: فلقي جمعًا منهم" والجمع بينهما واضح، بأن يكون لقي الجمع في غير مجالسهم، "فتقارب الناس" دنا بعضهم من بعض, "ولم يكن بينهم حرب, وقد أخاف الناس" بالألف، وفي نسخة بدونها وكلاهما صحيح، "بعضهم" بدل من الناس "بعضًا" مفعوله، أي: أوقع بعض الناس في قلوب بعضهم الرعب، "حتى صلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالناس صلاة الخوف", وكان ذلك في صلاة العصر، كما رواه البيهقي عن جابر، "ثم انصرف الناس".(2/528)
قال ابن سعد: وكان ذلك أوّل ما صلاها.
وقد رويت صلاة الخوف من طرق كثيرة, ويأتي إن شاء الله تعالى الكلام على ما تيسَّر منها في مقصد عباداته -صلى الله عليه وسلم.
وكانت غيبته -صلى الله عليه وسلم- في هذه الغزوة خمس عشرة ليلة.
وفي البخاري عن جابر قال: كنا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- بذات الرقاع، فإذا أتينا على شجرة ظليلة تركناها للنبي -صلى الله عليه وسلم, فجاء رجل من المشركين وسيف النبي -صلى الله عليه وسلم- معلق بالشجرة, فاخترطه -يعني سله من غمده, فقال: تخافني, قال: "لا"، قال: فمن يمنعك مني؟ قال: "الله".
__________
"قال ابن سعد: وكان ذلك أوّل ما صلاها" بناءً على قوله -أعني: ابن سعد: أن هذه الغزوة سنة خمس، أمَّا على أنه صلاها بعسفان، وأنها أوّل صلاته, كما رواه أحمد وأصحاب السنن كما مَرَّ، فتكون هي أول, ويكون نزول جبريل في الأولى معلمًا والثانية مذكرًا.
"وقد رويت صلاة الخوف من طرق كثيرة، ويأتي إن شاء الله تعالى الكلام على ما تيسَّر منها في مقصد عباداته -صلى الله عليه وسلم" وهو التاسع, "وكانت غيبته -صلى الله عليه وسلم- في هذه الغزوة خمس عشرة ليلة". قاله ابن سعد, قال: وبعث جعال بن سراقة بشيرًا بسلامته وسلامة المسلمين.
"وفي البخاري" تعليقًا, ووصله مسلم، فلو عزاه المصنف لهما كان أَوْلَى "عن جابر قال: كنا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- بذات الرقاع، فإذا أتينا" ظرفية لا شرطية، أي: ففي وقت إتياننا "على شجرة ظليلة" ذات ظل، وفي نسخة: إذ وهي ظاهرة، لكنها ليست في البخاري "تركناها للنبي -صلى الله عليه وسلم" لينزل تحتها فيستظل بها.
وفي البخاري أيضًا قبل هذا بلصقه بمسندًا عن جابر، أنه غزا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قبل نجد، فلمَّا قفل قفل معه, فأدركتهم القافلة في واد كثير العضاء، فنزل النبي -صلى الله عليه وسلم- وتفرق الناس يستظلون بالشجر، ونزل -صلى الله عليه وسلم- تحت شجرة, فعلق بها سيفه,
قال جابر: فنمنا نومة، "فجاء رجل من المشركين وسيف النبي -صلى الله عليه وسلم- معلق بالشجرة" وهو نائم "فاخترطه، يعني: سله من غمده، فقال: له "تخافني، قال: "لا"، قال: فمن يمنعك مني؟ قال: "الله" يمنعني منك، وبقية هذا الحديث، فتهدده أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم، وأقيمت الصلاة, فصلَّى بطائفة ركعتين، ثم تأخَّروا وصلى بالطائفة الأخرى ركعتين، وكان للنبي -صلى الله عليه وسلم أربع، وللقوم ركعتان، وبقية الحديث الآخر الذي سقت أوله: فنمنا نومة، فإذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يدعونا فجئناه، فإذا عنده أعرابي جالس، فقال -صلى الله عليه وسلم: "إن هذا الأعرابي اخترط سيفي وأنا نائم, فاستيقظت وهو في(2/529)
وعند أبي عوانة: فسقط السيف من يده, فأخذه -عليه الصلاة والسلام- فقال: "من يمنعك مني"؟ قال: كن خير آخذ. قال: "تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله"؟ قال الأعرابي: أعاهدك أني لا أقاتلك، ولا أكون مع قوم يقاتلونك. قال: فخلى سبيله. فجاء إلى قومه فقال: جئتكم من عند خير الناس.
وفي رواية عند البخاري: ولم يعاقبه.
وإنما لم يؤاخذه -عليه الصلاة والسلام- بما صنع، وعفا عنه، لشدة رغبته -عليه الصلاة والسلام- في استئلاف الكفَّار.
وفي رواية أبي اليمان عند البخاري -في الجهاد- قال: من يمنعك مني ثلاث مرات. وهو استفهام......
__________
يده صلتًا، فقال لي: من يمنعك مني، قلت: "الله"، فها هو ذا جالس"، ثم لم يعاقبه النبي -صلى الله عليه وسلم.
قال الحافظ: وظاهر قوله فتهدده يشعر بأنهم حضروا القصة، وأنه إنما رجع عمَّا كان عزم عليه بالتهديد، وليس كذلك، بل في رواية البخاري في الجهاد بعد قوله قلت: الله فشام السيف، أي: بفاء وشين معجمة، أي: أغمده, وهي من الأضداد, شمه استله وأغمده، قاله الخطابي وغيره. وكأن الأعرابي لما شاهد ذلك الثبات العظيم، وعرف أنه حيل بينه وبينه تحقق صدقه، وعلم أنه لا يصل إليه فألقى السلاح وأمكن من نفسه.
"وعند أبي عوانة" في حديث جابر: "فسقط السيف من يده", وكأنه لما شامه سقط من يده زيادة في المعجزة، "فأخذه -عليه الصلاة والسلام، فقال: "من يمنعك مني"، قال: كن خير آخذ"، "قال: "تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله" , قال الأعرابي: أعاهدك أن لا أقاتلك ولا أكون مع قوم يقاتلونك" أجابه بغير ما سأله، فلم يثبت؛ لأنه لم يهتد حينئذ، ولم ينف كراهة لمواجهته بعد هذه الآية الباهرة والحلم الذي لا يباري بخلاف ما أمره، ونسخة: بل لا أعاهدك يأباها الطبع. "قال: فخلى سبيله، فجاء إلى قومه فقال: جئتكم من عند خير الناس".
"وفي رواية عند البخاري ولم يعاقبه", فيجمع مع قوله في رواية ابن إسحاق: "قم فاذهب لشأنك"، بأن قوله فاذهب كان بعد أن أخبر الصحابة بقصته, فمَنَّ عليه, قاله الحافظ. قال: وإنما لم يؤاخذه -عليه الصلاة والسلام- بما صنع وعفا عنه؛ لشدة رغبته -عليه الصلاة والسلام- في استئلاف الكفار".
"وفي رواية أبي اليمان" الحكم ابن نافع، شيخ البخاري، أخبرنا شعيب عن الزهري، فذكر الحديث. "عند البخاري في الجهاد" في باب من علَّق سيفه بالشجر في السفر عند القائلة "قال: من يمنعك مني ثلاث مرات، وهو" كما في الفتح هنا في المغازي "استفهام(2/530)
إنكاري، أي: لا يمنعك مني أحد.
وكان الأعرابي قائمًا على رأسه والسيف في يده, والنبي -صلى الله عليه وسلم- جالس لا سيف معه.
ويؤخذ من مراجعة الأعرابي له في الكلام أن الله سبحانه منع نبيه، وإلّا فما الذي أحوجه إلى مراجعته مع احتياجه إلى الحظوة عند قومه بقتله. وفي قوله -صلى الله عليه وسلم- في جوابه: الله، أي: يمنعني منك، إشارة إلى ذلك، ولذلك لما أعادها الأعرابي فلم يزده على ذلك الجواب، وفي ذلك غاية التهكم وعدم المبالاة به.
وذكر الواقدي في نحو هذه القصة أنه أسلم، ورجع إلى قومه فاهتدى به خلق كثير. وقال فيه: إنه رمي بالزلخة حين همَّ بقتله -صلى الله عليه وسلم, فندر السيف من يده وسقط إلى الأرض. والزلخة -بضم الزاي وتشديد اللام- وجع يأخذ في الصلب.
__________
إنكاري، أي: لا يمنعك مني أحد، وكان الأعرابي قائمًا على رأسه والسيف في يده, والنبي -صلى الله عليه وسلم- جالس لا سيف معه، ويؤخذ من مراجعة الأعرابي له في الكلام أن الله سبحانه منع نبيه" منه "وإلّا فما الذي أحوجه إلى مراجعته مع احتياجه" استفهام يفيد استبعاد كون ذلك من غير مانع من الله تعالى "إلى الحظوة" بضم الحاء المهملة وكسرها، كما في القاموس, وبالظاء المعجمة المكانة، أي: المنزلة الرفيعة "عند قومه بقتله" كما قاله لهم.
فعند ابن إسحاق أنه قال: ألا أقتل لكم محمدًا، قالوا: بلى، وكيف تقتله، قال: أفتك به.
"وفي قوله -صلى الله عليه وسلم- في جوابه: "لله"، أي: يمنعني منك إشارة إلى ذلك، ولذلك لما أعادها الأعرابي لم يزده على ذلك الجواب, وفي ذلك التهكم وعدم المبالاة به" أصلًا عطف تفسير.
"وذكر الواقدي في نحو هذه القصة أنه" أي: الأعرابي الذي هو دعثور المذكور عند الواقدي "أسلم ورجع إلى قومه، فاهتدى به خلق كثير".
وفي رواية ابن إسحاق ثم أسلم بعد، "وقال فيه: إنه رمي الزلخة حين همَّ بقتله -صلى الله عليه وسلم, فندر" بنون ودال وراء مهملتين: سقط أو خرج "السيف من يده وسقط" هو، أي: الأعرابي "إلى الأرض" لشدة وجع صلبه, فلم يستطع القيام، ولا يظهر جعل ضمير سقط للسيف، وأنه عطف مسبب على سبب؛ لأن خروجه من يده سبب لسقوطه؛ لأن هذا ليس فيه كبير فائدة، لأنه مستفاد من ندر، فإنما أراد أنه حين رمي بالزلخة أصابه شيئان: سقوط سيفه وقامة نفسه لشدة الوجع، "والزلخة بضم الزاي وتشديد اللام" بعدها خاء معجمة فتاء تأنيث "وجع يأخذ في الصلب".(2/531)
وقال البخاري: قال مسدد عن أبي عوانة عن أبي بشر: اسم الرجل غورث بن الحارث، أي: على وزن جعفر.
وحكى الخطابي فيه: غويرث -بالتصغير. وقد تقدَّم في غزوة غطفان, وهي غزوة ذي أمر بناحية نجد, مثل هذه القصة لرجل اسمه دعثور، وأنه قام على رأسه -صلى الله عليه وسلم- بالسيف فقال: من يمنعك مني؟ فقال -صلى الله عليه وسلم: "الله"، ودفع جبريل في صدره فوقع السيف من يده وأنه أسلم.
قال في عيون الأثر: والظاهر أن الخبرين واحد.
__________
"وقال البخاري" في الصحيح. "قال مسدد" بن مسرهد شيخه، "عن أبي عوانة" الوضاح اليشكري البصري، "عن أبي بشر" بكسر الموحدة وسكون المعجمة، جعفر بن إياس.
قال الحافظ: اختصر البخاري إسناده وتمامه، كما أخرجه مسدد في مسنده, رواية معاذ بن المثنى عنه، وكذا أخرجه إبراهيم الحربي في غريب الحديث عن مسدد، عن أبي عوانة، عن أبي بشر، عن سليمان بن قيس، عن جابر قال: غزا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خصفة بنخل, فرأوا من المسلمين غرة فجاء رجل منهم يقال له: غورث بن الحارث، حتى قام على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالسيف فذكره، فاختصر البخاري متنه أيضًا، فقال: "اسم الرجل غورث بن الحارث" بفتح الغين المعجمة، وسكون الواو، وفتح الراء فمثلثة، "أي: على وزن جعفر" وقيل: بضم أوله مأخوذ من الغرث وهو الجوع، ووقع عند الخطيب بالكاف بدل المثلثة.
"وحكى الخطابي فيه غويرث بالتصغير".
وحكى عياض أن بعض المغاربة قاله في البخاري بالعين المهملة، قال: "وصوابه بالمعجمة، "وقد تقدَّم في غزوة غطفان وهي غزوة ذي أمر" بفتح الهمزة والميم وشد الراء، "بناحية نجد مثل هذه القصة لرجل اسمه دعثور" بضم الدال وسكون العين المهملتين وضم المثلثة وسكون الواو وراء، وتقدَّم للمصنف أيضًا أن الخطيب سماه غورث، وغيره غورك. "وأنه قام على رأسه -صلى الله عليه وسلم- بالسيف فقال: من يمنعك مني اليوم؟ ".
وفي رواية الآن, "فقال -عليه الصلاة والسلام: "الله"، فدفع جبريل في صدره فوقع السيف من يده، وأنه أسلم".
"قال" الحافظ فتح الدين اليعمري "في عيون الأثر: والظاهر أن الخبرين واحد" اختلف الرواة في اسمه، فبعضهم سماه غورث، وبعضهم دعثور، وقد استدرك الذهبي في التجريد غورث ابن الحارث على من تقدمه، وعزاه للبخاري وتعقبه في الإصابة، بأنه ليس في البخاري تعرض(2/532)
وقال غيره من المحققين: الصواب أنهما قصتان في غزوتين.
وفي هذه القصة: فرط شجاعته، وقوة يقينه وصبره على الأذى، وحلمه على الجهال -صلى الله عليه وسلم.
وفي انصرافه -صلى الله عليه وسلم- من هذه الغزوة، أبطأ جمل جابر بن عبد الله فنخسه -صلى الله عليه وسلم- فانطلق متقدمًا بين يدي الركاب،
__________
لإسلامه, وبأنه يلزم عليه الجزم بكون القصتين واحدة مع احتمال كونهما واقعتين، وأطال في بيان ذلك، وقال: قد يتمسّك لإسلمه بقوله: جئتكم من عند خير الناس، انتهى. وجزم صاحب النور بإسلام غورث بعد رجوعه إلى قومه، إنما تبع فيه الذهبي على عادته, وقد علم التوقف فيه.
"وقال غيره من المحققين" كابن كثير: "الصواب أنهما قصتان في غزوتين" قصة لرجل اسمه دعثور بغزوة ذي أمر، وفيها التصريح بأنه أسلم، ورجع إلى قومه، فاهتدى به خلق كثير، وقصة بذات الرقاع لرجل اسمه غورث، وليس في قصته تصريح بإسلامه.
وفي فتح الباري: وقع عند الواقدي في شبيه هذه القصة أن اسم الأعرابي دعثور وأنه أسلم، لكن ظاهر كلامه أنهما قصتان في غزوتين، فالله أعلم.
وفي الإصابة قصة تشبه قصة غورث المخرَّجة في الصحيح، فيحتمل التعدد, أو أحد الاسمين لقب إن ثبت الاتحاد.
"وفي هذه القصة" كما قال في الفتح: "فرط شجاعته وقوة يقينه و" قوة "صبره على الأذى و" قوة "حلمه على الجهّال -صلى الله عليه وسلم" قال: وفيه جواز تفرّق العسكر في النزول ونومهم، وهذا محله إذا لم يكن هناك ما يخافون منه، انتهى.
"وفي انصرافه -صلى الله عليه وسلم- من هذه الغزوة" كما رواه ابن إسحاق عن وهب بن كيسان، عن جابر مطولًا، ومثله في طبقات ابن سعد.
وفي البخاري: أن ذلك كان في غزوة تبوك. وفي مسلم أنه في غزوة الفتح "أبطأ جمل جابر بن عبد الله" فلا يكاد يسير, "فنخسه" النبي "صلى الله عليه وسلم" بعد أن أناخه جابر بأمره نخسات بعصا من يد جابر، أو قطعها من شجرة، كما في رواية ابن إسحاق، ولمسلم وأحمد: فضربه برجله ودعا له،"فانطلق متقدمًا بين يدي الركاب" وللإسماعيلي: فضربه ودعا, فمشى مشية ما مشى مثل ذلك قبله. ولأبي نعيم: أنه نفث في ماء ثم مج من الماء في نحره ثم ضربه بالعصا، فوثب فقال: "اركب"، قلت: إني أرضى أن يساق معنا، قال: "اركب"، فركبت، فوالذي نفسي بيده لقد رأيتني وأنا أكفه عنه -صلى الله عليه وسلم, إرادة أن لا يسبقه, وليس هذا اختلافًا، بل يحمل على أنه -عليه السلام- فعل به(2/533)
ثم قال: "أتبيعنيه"؟ فابتاعه منه, وقال: "لك ظهره إلى المدينة"، فلما وصلها أعطى الثمن وأرجح، ووهب له الجمل. والحديث أصله في البخاري.
ولا حجة فيه لجواز بيع وشرط، لما وقع فيه من الاضطراب. وقيل غير ذلك مما يطول ذكره والله أعلم.
__________
جميع ما ذكر.
"ثم قال: "أتبيعنيه"، فابتاعه منه" بأوقية، "وقال: "لك ظهره" أي: الركوب عليه "إلى المدينة"، فلمَّا وصلها أعطى الثمن وأرجح" فزاده شيئًا يسيرًا على الأوقية، كما في رواية بن إسحاق، "ووهب له الجمل، والحديث أصله في البخاي" في عشرين موضعًا، لكن لم يقع فيه أن ذلك في ذات الرقاع، ولذا لم يذكره في غزواتها، بل في بعضها أنه في تبوك، "ولا حجة فيه لجواز بيعه، وشرط" كما قال به أحمد والبخاري في طائفة لكثرة رواة الاشتراط، ومنعه أبو حنيفة والشافعي مطلقًا، وإن وقع بطلًا للنهي عن بيع وشرط وتوسط مالك، ففصل كما قرر في الفروع، وقالوا: لا حجة في خبر جابر، "لما وقع فيه من الاضطراب".
قال في الروض: فقد روي: أفقرني ظهره إلى المدينة، وروي: شرط لي ظهره إليها.
وقال البخاري: الاشتراط أكثر وأصح، واضطربوا في الثمن، فقيل: بأوقية وبأربع أواق وبخمس أواق وبخمسة دنانير وبأربعة دنانير، وهو في معنى أوقية, وبدينارين ودرهمين، وكل هذه الروايات ذكرها البخاري, "وقيل غير ذلك مما يطول ذكره".
ومنه أنه لم يرد حقيقة البيع، بل أراد أن يعطيه الثمن بهذه الصورة، أو لم يكن الشرط في نفس العقد، بل كان سابقًا أو لاحقًا فلم يؤثِّر في العقد.
ووقع عند النسائي: "أخذته بكذا، وأعرتك ظهره إلى المدينة" فزال الإشكال, لكن فيها اضطراب "والله أعلم" بالصواب في نفس الأمر.
قال السهيلي -رحمه الله: ومن لطيف العلم في حديث جابر بعد أن يعلم قطعًا أنه -عليه السلام- لم يفعل شيئًا عبثًا، بل لحكمة مؤيدة بالعصمة اشتراؤه الجمل منه ثم أعطاه الثمن، وزاده ثم ردَّه عليه، وكان يمكن أن يعطيه ذلك بلا مساومة، ولا اشتراء, ولا شرط توصيل، فالحكمة فيه بديعة جدًّا, فلتنظر بعين الاعتبار، وذلك أنه سأله "هل تزوجت"؟ ثم قال: "هلَّا بكرًا"، فذكر مقتل أبيه وما خلف من البنات.
وقد كان -عليه السلام- أخبر جابرًا، بأنَّ الله قد أحيا أباه، وردَّ عليه روحه، وقال: ما تشتهي فأزيدك؟ فأكد -صلى الله عليه وسلم- هذا الخبر بمثل شبهه، فاشترى منه الجمل وهو مطيته، كما اشترى الله من أبيه ومن الشهداء أنفسهم بثمن هو الجنة, ونفس الإنسان مطيته، كما قال عمر بن العزيز: إن نفسي مطيتي. ثم زادهم زيادة، فقال: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} ثم ردَّ عليهم أنفسهم التي اشترى منهم فقال: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا} [آل عمران: 169] الآية. فأشار -صلى الله عليه وسلم- باشتراء الجمل من جابر وإعطائه الثمن وزيادة، ثم رد الجمل المشترى عليه إشارة بذلك كله إلى تأكيد الخبر الذي أخبر به عن فعل الله بأبيه, فتشاكل الفعل مع الخبر كما تراه، وحاشا لأفعاله أن تخلو من حكمة، بل هي كلها ناظرة إلى القرآن ومنتزعة منه. انتهى. فما أحسن استنباطاته. هذا واقتصر المصنف من الآيات الواقعة في هذه الغزوة على قصتي غورث وجابر لتعلقهما بها، وتعلق قصة جابر من جهة سيره معه -عليه الصلاة والسلام.(2/534)
"غزوة بدر الأخيرة وهي الصغرى":
وتسمَّى: بدر الموعد.
وكانت في شعبان، بعد ذات الرقاع. قال ابن إسحاق: لما قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المدينة من غزوة ذات الرقاع، أقام بها جمادى الأولى إلى آخر رجب، ثم خرج في شعبان إلى بدر لميعاد أبي سفيان. ويقال: كانت في هلال ذي القعدة.
__________
غزوة بدر الأخيرة وهي الصغرى:
بعدم وقوع حرب فيها، فكانت صغرى بالنسبة للكبرى للقتال، ونصر المؤمنين، فهي تسمية اصطلاحية للتمييز.
وأما قول الشامي في غزوة أُحد بدر الصغرى, الإضافة تأنيث الأصغر، فلعله اسم للبقعة في حَدِّ ذاتها، "وتسمَّى بدر الموعد" للمواعدة عليها مع أبي سفيان يوم أُحد، وهي الثالثة، "وكانت في شعبان" سنة أربع "بعد ذات الرقاع" في قول أبي إسحاق.
قال ابن كثير: وهو الصحيح.
وقال الواقدي: في مستهلّ ذي القعدة، يعني: سنة أربع، ووافق ابن عقبة على أنها في شعبان، لكنه قال: سنة ثلاث وهو وَهْم، فإن هذه تواعدوا عليها من أُحد, وكانت في شوال سنة ثلاث.
"قال ابن إسحاق: لما قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المدينة من غزوة ذات الرقاع أقام بها جمادى الأولى، آخر رجب" نقل بالمعنى, تبع فيه ابن سيد الناس، ولفظ ابن إسحاق: أقام بها بقية جمادى الأولى وجمادى الآخرة ورجبًا، "ثم خرج في شعبان إلى بدر لميعاد أبي سفيان" حتى نزله، إلى هنا انفصل المصنّف من كلام ابن إسحاق دون بيان، فإن قوله: "ويقال: كانت في هلال ذي القعدة"(2/535)
وميعاد أبي سفيان: هو ما سبق أنَّ أبا سفيان قال يوم أُحد: الموعد بيننا وبينكم بدر العام القابل، فقال -عليه الصلاة والسلام- لرجل من أصحابه: $"قل: نعم هو بيننا وبينكم موعد".
فخرج -عليه الصلاة والسلام- ومعه ألف وخمسمائة من أصحابه، وعشرة أفراس، واستخلف على المدينة عبد الله بن رواحة، فأقاموا على بدر ينتظرون أبا سفيان.
وخرج أبو سفيان حتى نزل مجنة من ناحية مر الظهران،
__________
قول الواقدي كما مَرَّ، وفي تعبيره: بِيُقَالُ إشارة إلى ضعفه، "وميعاد أبي سفيان هو ما سبق أن أبا سفيان قال يوم أحد: الموعد بيننا وبينكم بدر من العام القابل، فقال -عليه الصلاة والسلام- لرجل من أصحابه" هو عمر كما عند الواقدي: "قل: نعم هو بيننا وبينكم موعد"، فخرج -عليه الصلاة والسلام- ومعه" كما رواه الحاكم في الإكليل، عن الواقدي "ألف وخمسمائة من أصحابه, وعشرة أفراس" وعدَّها فقال: فرس لرسول الله -صلى الله عليه وسلم, وفرس لأبي بكر، وفرس لعمر، وفرس لأبي قتادة، وفرس لسعيد بن زيد، وفرس للمقداد، وفرس للحباب، وفرس للزبير، وفرس لعباد بن بشر، كذا نقله في العيون.
قال البرهان: هي تسعة: فينبغي أن يطلب العاشر مع من قال, أعني: الواقدي، "واستخلف على المدينة عبد الله بن رواحة" الأنصاري الخزرجي، الأمير المستشهد بموتة، قال: وحمل اللواء علي بن أبي طالب.
وقال ابن هشام: استخلف عبد الله بن عبد الله بن أُبَيّ بن سلول, هكذا عزاه لنفسه في تهذيب السيرة، وتبعه اليعمري، وأمَّا الشامي فعزاه لابن إسحاق, ولعله وقف عليه في رواية غير زياد البكائي، كيونس أو إبراهيم بن سعد، ويحتمل أنه استخلف أحدهما على الصلاة والآخر على الحكم، أو وجه الخطاب إلى أحدهما، ثم عدل إلى الآخر لأمرٍ اقتضاه، فروى كل ما علم وعاد المصنف إلى خبر ابن إسحاق، فقال: "فأقاموا على بدر ينتظرون أبا سفيان" ثمان ليال، "وخرج أبو سفيان" في قريش، وهم ألفان ومعهم خمسون فرسًا، كذا عند الواقدي، "حتى نزل مجنة" بميم فجيم فنون مشددة مفتوحات، ويجوز كسر الميم والنون: سوق بقرب مكة، كما في الشامية، أي: إمالة النون في الوقف والجيم مفتوحة، إلّا أن انون مكسورة في الوصل لفتح ما قبل هاء التأنيث أبدًا، "من ناحية مَرَّ" بفتح الميم وشد الراء "الظهران" بفتح الظاء المعجمة وإسكان(2/536)
ويقال: عسفان، ثم بدا له الرجوع، فقال: يا معشر قريش، إنه لا يصلحكم إلّا عام خصيب، ترعون فيه الشجر وتشربون فيه اللبن، وإن عامكم هذا عام جدب، وإني راجع فارجعوا، فرجع الناس. فسماهم أهل مكة: جيش السويق, يقولون: إنما خرجتم تشربون السويق.
وأقام -صلى الله عليه وسلم- ببدر ثمانية أيام،
__________
الهاء، وادٍ بين مكة وعسفان, تسمِّيه العامة: بطن مرو، "ويقال" حتى نزل "عسفان" بدل مجنة، "ثم بدا له الرجوع" أي: ظهر له صورة، وإلّا فقد كان دبره لقريش وهو بمكة.
روي أن نعيم بن مسعود الأشجعي قدم مكة، فأخبر قريشًا بتهيؤ المسلمين لحربهم، فذكر أبو سفيان أنه كاره للخروج، وجعل له عشرين بعيرًا على أن يخذّل المسلمين ضمنها له سهيل بن عمرو, وحمله على بعير فقدم المدينة، وأرجف بكثرة العدو حتى قذف في قلوبهم الرعب، ولم يبق لهم نية في الخروج حتى خشي -عليه السلام- أن لا يخرج معه أحد، وجاءه العمران، فقالا: إن الله مظهر دينه ومعز نبيه، وقد وعدنا القوم موعدًا لا نحب أن نتخلّف عنه، فيرون أن هذا جبن، فسر لموعدهم, فوالله إن في ذلك لخيرة، فسر بذلك وقال: "والذي نفسي بيده لأخرجنّ وإن لم يخرج معي أحد" فأذهب الله عن المسلمين ما كان الشيطان رعبهم به، وقال أبو سفيان لقريش: قد بعثنا نعيمًا يخذّل أصحاب محمد عن الخروج، وهو جاهد لكن نخرج فنسير ليلة أو ليلتين، ثم نرجع، فإن لم يخرج محمد بلغه أنا خرجنا فرجعنا؛ لأنه لم يخرج، فيكون لنا هذا عليه، وإن خرج أظهرنا أن هذا عام جدب ولا يصلحنا إلا عام عشب، قالوا: نعم ما رأيت، "فقال: يا معشر قريش, إنه لا يصلحكم" أي: لا يريحكم ويزيل عنكم مشقة اسفر، "إلّا عام خصب" بالتنوين، أي: ذو خصب، أو مخصب، والإضافة لوجود النماء فيه، والبركة بظهور النبات وكثرته "ترعون فيه الشجر وتشربون فيه اللبن، وإنّ عامكم هذا عام جدب" بالإضافة والتنوين، أي: محل، وهو انقطاع المطر، ويبس الأرض، "وإني راجع فارجعوا، فرجع الناس فسماهم أهل مكة جيس السويق، ويقولون: إنما خرجتم تشربون السويق" وهو قمح، أو شعير يقلى ثم يطحن، ويتزوّد به ملتوتًا بماء، أو عسل، أو سمن، أو وحده، فسمع الناس بمسير جيش الإسلام، وذهب صيته إلى كل جانب، وكبت الله عدوهم، فقال صفوان لأبي سفين: والله نهيتك يومئذ أن تعد القوم وقد اجترأوا علينا, ورأونا قد اخلفناهم, وأخذوا في الكيد والنفقة والتهيؤ لحرب الخندق.
"وأقام عليه الصلاة والسلام ببدر ثمانية أيام" ينتظر أبا سفيان لميعاده، كذا عند ابن إسحاق، ومقتضاه أنها أيام الموسم، وصرّح بذلك السبل فقال: فانتهوا إلى بدر ليلة هلال ذي القعدة, وقام السوق صبيحة الهلال، فأقاموا ثمانية أيام والسوق قائمة.(2/537)
وباعوا ما معهم من التجارة، فربحوا الدرهم درهمين. وأنزل الله في المؤمنين: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ} [آل عمران: 172] إلى قوله {فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ} [آل عمران: 174] .
والصحيح أن هذه الآية نزلت في شأن حمراء الأسد، كما نصَّ عليه العماد بن كثير.
__________
وفي البغوي: كانت بدر الصغرى موضع سوق الجاهلية يجتمعون إليها في كل عام ثمانية أيام لهلال ذي القعدة إلى ثمانٍ تخلو منه، ثم يتفرّقون إلى بلادهم، لكنه مشكل مع ما قدَّمه المصنف من أن الخروج في شعبان، ويقال لهلال ذي القعدة، بل لا يصح إلّا على القول بأن الخروج في شوال، اللهمَّ إلا أن يخرج على الثاني مع تأويله بأنه كانت كذلك بالنظر لوصوله إلى بدر، لا لخروجه من المدينة، أو أطلق الهلال، وأراد ما يقاربه, بقي أنه يشكل على تصحيح قول ابن إسحاق أنه خرج في شعبان إلا أن يئول بأن معناه: عزم على الخروج فيه، وأمر أصحابه بالتهيؤ، ولم يخرج بالفعل إلّا في أواخر شوال, حتى وصل هلال ذي القعدة، وهذا جمع بين الأقوال.
"وباعوا ما معهم من التجارة" التي خرجوا بها معهم، "فربحوا الدرهم درهمين" كما روي أن عثمان قال: ربحت للدينار دينارًا، "وأنزل الله في المؤمنين: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ} [آل عمران: 172] الآية، بأُحد، وخبر المبتدأ قوله: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا} إلى قول: {فَانْقَلَبُوا} [آل عمران: 174] الآية. رجعوا من بدر {بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْل} [آل عمران: 174] الآية. بسلامة وربح {لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ} [آل عمران: 174] , من قتل أو جرح. هذا قول مجاهد وعكرمة.
"والصحيح" وهو قول المفسرين: "إن هذه الآية نزلت" قبل ذلك "في شأن حمراء الأسد كما نص عليه العماد بن كثير" وسبقه إلى ترجيحه ابن جرير, ووقع في البيضاوي والجلال ما يشبه التناقض, فذكر أن قوله: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا} [آل عمران: 172] الآية. في حمراء الأسد، وأعرب الجلال {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ} بدلًا منه، ثم قالا: فانقلبوا، أي: رجعوا من بدر بنعمة من الله، وفضل ربح في التجارة، فإنهم أتوا بدرًا وافوا بها سوقًا، فاتَّجروا وربحوا. انتهى.
وهذا إنما يأتي على أنها نزلت في بدر، فهو خلط بين قولين متنافيين، إلّا أن يقال قولهما رجعوا من بدر، بيان لما ترتَّب على استجابتهم له -عليه السلام- في حمراء الأسد، ولم يبالوا بكونها في عام آخر لكونها من ثمرات الأولى, فكأنهما شيء واحد، وعليه فتفسيرهما قوله: {فَانْقَلَبُوا} برجعوا من بدر يكون حملًا للآية على أنه عبَّر بالماضي عن المستقبل لتحقق وقوعه, هكذا أملاني شيخنا.(2/538)
"غزوة دومة الجندل":
وهي بضم الدال "من "دومة" هي مدينة بينها وبين دمشق خمس ليال، وبعدها من المدينة خمس عشرة أو ست عشرة ليلة. قال أبو عبيدة الله البكري: سميت بدومي بن إسماعيل، كان نزلها.
وكان في شهر ربيع الأول، على رأس تسعة وأربعين شهرًا من الهجرة، وكان سببها أنه بلغه -صلى الله عليه وسلم- أن بها جمعًا كثيرًا يظلمون من مَرَّ بهم،
__________
غزوة دومة الجندل:
"وهي بضم الدال من دومة" عند أهل اللغة وأصحاب الحديث يفتحونها كذا في الصحاح.
ورجَّح الحازمي وغيره من المحدثين الضم.
وقال اليعمري: بضم الدال وفتحها.
وقال ابن القيم: بضم الدال، وأما بفتحها فمكان آخر.
وقال بعضهم: دومة الجندل بالضم والفتح، وأما المكان الآخر الذي باليمن فبالفتح فقط، "وهي مدينة بينها وبين دمشق" بكسر الدال وفتح الميم، على المشهور.
وحكي في المطالع كسر الميم، قاله النووي.
قال الجواليقي: أعجمي معرّب، فهو ممنوع الصرف, "خمس ليال وبعدها من المدينة خمس عشرة أو ست عشرة ليلة" كما قاله ابن سعد.
"قال أبو عبد الله البكري: سميت بدومي بن إسماعيل, كان نزلها" وفي الوفاء قيل: كان منزل أكيدر أولًا دومة الحيرة، وكان يزور أخواله من كلب، فخرج معهم للصيد، فرفعت له مدينة متهدمة لم يبق إلا حيطانها مبنية بالجندل، فأعادوا بناءها وغرسوا الزيتون وسموها دومة الجندل، تفرقة بينها وبين دومة الحيرة، وكان أكيدر يتردد بينهما.
"وكان في شهر ربيع الأول على رأس تسعة وأربعين شهرًا من الهجرة" فتكون سنة خمس، وبه صرح ابن هشام، "وكان سببها" كما قال ابن سعد وغيره: "أنه بلغه -صلى الله عليه وسلم- أن بها جمعًا يظلمون من مَرَّ بهم", وأنهم يريدون أن يدنوا من المدينة, وهي طرف من أفواه الشام، فأراد -عليه الصلاة والسلام- الدنوَّ إلى أدنى الشام، وقيل له: لو دنوت لها لكان ذلك مما يفزع قيصر، وكان بها سوق عظيم وتجار.(2/539)
فخرج -عليه الصلاة والسلام- لخمس ليالٍ بقين من شهر ربيع، في ألف من أصحابه، فكان يسير الليل ويكمن النهار.
واستخلف على المدينة سباع بن عرفطة.
فلمَّا دنا منهم، لم يجد إلّا النعم والشاء، فهجم على ماشيتهم ورعاتهم, فأصاب من أصاب، وهرب من هرب في كل وجه. وجاء الخبر أهل دومة فتفرقوا، ونزل -صلى الله عليه وسلم- بساحتهم, فلم يلق بها أحدًا، فأقام بها أيامًا، وبعث السرايا وفرَّقها، فرجعوا ولم يصب منهم أحد. ودخل المدينة في العشرين من ربيع الآخر.
__________
"فخرج -صلى الله عليه وسلم- لخمس ليالٍ بقين من شهر ربيع" الأول "في ألف من أصحابه، فكان يسير الليل، ويكمن النهار" بضم الميم وفتحها, "واستخلف على المدينة" كما قال ابن هشام: "سباع" -بكسر السين المهملة فموحدة فألف فعين مهملة, "ابن عرفطة" -بضم العين والفاء- الغفاري، ويقال له: الكناني.
وعندا بن سعد وغيره: فقال له دليله مذكور العذري، ونكب عن طريقهم لما دنا من دومة: يا رسول الله, إن سوائمهم ترعى عندك, فأقم لي حتى أطلع لك، قال: "نعم"، فخرج العذري طليعة وحده، فوجد آثار النعم والشاء وهم مغربوم -بفتح الغين المعجمة وكسر الراء مشددة، فرجع إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فأخبره, وقد عرف مواضعهم، "فلما دنا منهم لم يجد" النبي -صلى الله عليه وسلم، وفي نسخة: لم يجدوا، أي: النبي ومن معه "إلّا النعم والشاء" عطف خاص على عام، على أن النعم الإبل والبقر والغنم أو المال الراعي، "فهجم على ماشيتهم ورعاتهم" جمع راعٍ، كقاض وقضاة, ويجمع أيضًا على رعاء بالكسر والمد، ورعيان كرغفان كما في المصباح.
زاد القاموس: ورعاء -بالفتح، أي: من ولي أمر مواشيهم.
"فأصاب من أصاب، وهرب من هرب في كل وجه، وجاء الخبر أهل دومة، فتفرقوا" فرقًا من المنصور بالرعب، "ونزل -عليه الصلاة والسلام- بساحتهم, فلم يلق بها أحدًا، فأقام بها أيامًا، وبعث السرايا وفرَّقها، فرجعوا ولم يصب منهم أحد" بالبناء للمفعول، أي: من المسلمين في تلك الغزوة، أو من الكفار الذي بعث لهم السرايا.
وفي نسخة: أحدًا -بالنصب, وهي المنقولة في العيون عن ابن سعد, وزاد: وأخذوا منهم رجلًا فسأله -صلى الله عليه وسلم- عنهم، فقال: هربوا حيث علموا أنك أخذت نعمهم، فعرض عليه الإسلام فأسلم "ودخل المدينة في" يوم "العشرين من ربيع الآخر", فتكون غيبته خمسًا وعشرين ليلة، ولعله جَدَّ في السير لما مَرَّ أن بعد دومة من المدينة خمس عشرة، فيكون الذهاب والإياب في ثلاثين، وأقام بها أيام وأقلها ثلاثة، والله أعلم.(2/540)
الفهرس:
3 إسلام الفاروق
12 دخول الشعب وخبر الصحيفة
31 الهجرة الثانية إلى الحبشة ونقض الصحيفة
38 وفاة خديجة وأبي طالب
49 خروجه صلى الله عليه وسلم إلى الطائف
56 ذكر الجن
67 وقت الإسراء
72 ذكر عرض المصطفى نفسه على القبائل ووفود الأنصار
89 باب هجرة المصطفى وأصحابه إلى المدينة
143 قصة سراقة
175 ذكر بناء المسجد النبوي وعمل المنبر
191 ذكر المؤاخاة بين الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين
194 باب بدء الأذان
كتاب المغازي
224 بعث حمزة رضي الله عنه
226 سرية عبيدة المطلبي
228 سرية سعد بن مالك
229 أول المغازي ودان
231 غزوة بواط
236 غزوة بدر الأولى
237 سرية أمير المؤمنين عبد الله بن جحش
242 تحويل القبلة وفرض رمضان وزكاة الفطر
255 باب غزوة بدر العظمى
342 قتل عمير عصماء
344 غزوة بني سليم وهي قرقرة الكدر
347 قتل أبي عنك اليهودي
348 غزوة بني قينقاع(2/541)
353 غزوة السويق
356 ذكر بعض وقائع ثانية الهجرة
357 ذكر تزويج علي بفاطمة رضي الله عنهما
367 قتل كعب بن الأشرف وهي سرية محمد بن مسلمة
378 غزوة غطفان
382 غزوة بحران
384 سرية زيد إلى القردة
386 غزوة أحد
464 غزوة حمراء الأسد
471 سرية أبي سلمة عبد الله بن عبد الأسد
472 سرية عبد الله بن أنيس
474 بعث الرجيع
496 بئر معونة
505 حديث بني النضير
521 غزوة ذات الرقاع
535 غزوة بدر الأخيرة وهي الصغرى
539 غزوة دومة الجندل(2/542)
المجلد الثالث
تابع كتاب المغازي
غزوة المريسيع
...
تابع كتاب المغازي:
بسم الله الرحمن الرحيم
"غزوة المريسيع":
غزوة المريسيع: بضم الميم وفتح الراء وسكون التحتيتين بينهما مهملة مكسورة وآخره عين مهملة- وهو ماء لبني خزاعة، بينه وبين الفرع مسيرة اليوم.
وتسمى غزوة بني المصطلق -بضم الميم وسكون المهملة وفتح الطاء المشالة المهملة، وكسر اللام بعدها قاف- وهو لقب اسمه: جذيمة بن سعد بن عمرو، بطن من خزاعة.
__________
غزوة المريسيع:
"بضم الميم وفتح الراء وسكون التحتيتين بينهما مهملة مكسورة آخره عين مهملة" قال في القاموس مصغر مرسوع.
قال السهيلي: وهو من قولهم: رسعت عين الرجل، إذا دمعت من فساد، "وهو ماء لبني خزاعة" بضم الخاء المعجمة وفتح الزاي المخففة، قال في القاموس: حي من الأزد سموا بذلكن؛ لأنهم تخزعا، أي: تخلفوا عن قومهم، وأقاموا بمكة "بينه وبين الفرع" بضم الفاء والراء كما قاله السهيلي.
وجرى عليه في المشارق، وقال في التنبيهات: كذا قيده الناس، وكذا رويناه، وحكى عبد الحق عن الأحول، إسكان الراء ولم يذكر غير ا. هـ.
ونقل مغلطاي أن الحازمي وافقه وتبعهما ابن الأثير والصغاني، وغيرهما موضع من ناحية المدينة، وأما الفرع بفتحتين، فموضع بين الكوفة والبصرة "مسيرة يوم" هكذا في الفتح، وشرح المصنف، ويقع في بعض النسخ يومين ومثله في سيرة مغلطاي، وقال: بين الفرع والمدينة ثمانية برد، "وتسمى غزوة بني المصطلق، بضم الميم وسكون" الصاد "المهملة وفتح الطاء المشالة المهملة" المبدلة من التاء لأجل الصاد "وكسر اللام بعدها قاف، هو لقب" لحسن صوته، وهو أول من غنى من خزاعة قاله المصنف.
وفي الروض: هو مفتعل من الصلق، وهو رفع الصوت، فأفاد أنه كان حسن الصوت شديده، واقتصر المصنف على الحسن؛ لأنه المرغوب في سماعه، "واسمه جذيمة" بجيم مضمومة فذال معجمة مفتوحة فتحتية ساكنة "ابن سعد بن عمرو" بفتح العين، ابن ربيعة بن حارثة "بطن من بني خزاعة".
وقد روى الطبراني من حديث سفيان بن وبرة قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة المريسيع،(3/3)
وكانت يوم الاثنين لليلتين خلتا من شعبان، سنة خمس، وفي البخاري قال ابن إسحاق في شعبان سنة ست، وقال موسى بن عقبة: سنة أربع ا. هـ.
قالوا: وكأنه سبق قلم، أراد أن يكتب سنة خمس فكتب سنة أربع، والذي في مغازي موسى بن عقبة من عدة طرق أخرجها الحاكم وأبو سعيد النيسابوري والبيهقي في الدلائل وغيرهم سنة خمس.
وسببها أن بلغه عليه الصلاة والسلام أن رئيسهم الحارث بن أبي
__________
غزوة بني المصطلق، "وكانت" كما قال ابن سعد: "يوم الاثنين لليلتين خلتا من شعبان سنة خمس" ورواه البيهقي عن قتادة وعروة وغيرهما، ولذا ذكرها أبو معشر قبل الخندق، ورجحه الحاكم.
"وفي البخاري: قال ابن إسحاق" محمد في مغازيه: رواية يونس بن بكير وغيره "في شعبان سنة ست" وبه جزم خليفة والطبري.
"وقال موسى بن عقبة: سنة أربع ا. هـ، قالوا: وكأنه سبق قلم" من البخاري، "أراد أن يكتب سنة خمس" لأنه الذي قاله ابن عقبة، "فكتب سنة أربع" سهوا، وتبعه عليه اليعمري، وهو عجيب، "والذي في مغازي موسى بن عقبة من عدة طرق، أخرجها الحاكم وأبو سعيد النيسابوري والبيهقي في الدلائل، وغيرهم سنة خمس" ولفظه عن موسى بن عقبة، عن ابن شهاب، ثم قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم بني المصطلق وبني لحيان في شعبان سنة خمس.
قال في فتح الباري بعد ذكر ما ساقه المصنف من أول الغزوة إلى هنا غير أنه أسقط صورة التبري، ويؤيده ما أخرجه البخاري في الجهاد عن ابن عمر؛ أنه غزا مع النبي صلى الله عليه وسلم بني المصطلق في شعبان، وابن عمر سنة أربع لم يؤذن له في القتال؛ لأنه إنما أذن له فيه في الخندق، وهي بعد شعبان سواء قلنا إنها كانت سنة خمس، أو سنة أربع.
وقال الحاكم في الإكليل: قول عروة وغيره أنها كانت سنة خمس أشبه من قول ابن إسحاق قلت: ويؤيده ما ثبت في حديث الإفك أن سعد بن معاذ تنازع هو وسعد بن عبادة في أصحاب الإفك، فلو كانت المريسيع في شعبان سنة ست مع كون الإفك كان فيها لكان ما وقع في الصحيح من ذكر سعد بن معاذ غلطا؛ لأنه مات أيام قريظة، وكانت في سنة خمس على الصحيح، وإ كانت كما قيل سنة أربع، فهو أشد غلطا، فظهر أن المريسيع كانت سنة خمس في شعبان قبل الخندق؛ لأنها كانت في شوال سنة خمس أيضا، فيكون سعد بن معاذ موجودا في المريسيع، ورمي بها بعد ذلك بسهم في الخندق ومات من جراحته في قريظة ا. هـ.
"وسببها أنه بلغة عليه الصلاة والسلام أن رئيسهم" أي: بني المصطلق، "الحارث بن أبي(3/4)
ضرار سار في قومه ومن قدر عليه من العرب، فدعاهم إلى حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجابوه، وتهيئوا للمسير معه إليه.
فبعث عليه الصلاة والسلام بريدة بن الحصيب الأسلمي يعلم علم ذلك، فأتاهم ولقي الحارث بن أبي ضرار وكلمه، ورجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مسرعا في بشر كثير من المنافقين، لم يخرجوا في غزاة قط مثلها, واستخلف على المدينة زيد بن حارثة, وقادوا الخيل، وكانت ثلاثين فرشا
__________
ضرار" والد جويرية أم المؤمنين، وأسلم لما جاء في فدائها، "سار في قومه، ومن قدر عليه من العرب، فدعاهم إلى حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجابوه وتهيئوا للمسير معه إليه" وكانوا ينزلون ناحية الفرع، "فبعث عليه الصلاة والسلام" كما قال ابن سعد "بريدة" بضم الموحدة وفتح الراء مصغر "ابن الحصيب" بضم الحاء.
قال الغساني: وصحف من أعجمها وفتح الصاد المهملتين.
"الأسلمي يعلم علم ذلك" أي: ليعلم حالهم الذي هم عليه، فاستأذنه أن يقول, فأذن له، "فأتاهم ولقي الحارث بن أبي ضرار، وكلمه" فوجدهم قد جمعوا الجموع، قالوا: من الرجل؟، قال: منكم قدمت لما بلغني من جمعكم لهذا الرجل، فأسير في قومي ومن أطاعني فنكون يدا واحدة حتى نستأصله.
قال الحارث: فنحن على ذلك فعجل علينا، فقال بريدة: اركب الآن وآتيكم بجمع كثير من قومي، فسروا بذلك منه، "ورجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم" فأخبره خبرهم، فندب صلى الله عليه وسلم الناس "وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مسرعا في"، أي: مع "بشر" يطلق على الواحد والجمع، لكن العرب ثنوه ولم يجمعوه. وفي التنزيل: {أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ} [المؤمنون: 47] ، كما في المصباح، لكن وصفه بقوله "كثير" دليل على استعماله في الجمع "من المنافقين، لم يخرجوا في غزاة قط مثلها".
قال الشامي: ليس بهم رغبة في الجهاد، إلا أن يصيبوا من عرض الدنيا بفتحتين ما سوى العين، ولقرب السفر، "واستخلف على المدينة" حبه "زيد بن حارثة" قاله ابن سعد وشيخه.
وقال ابن هشام: أبا ذر الغفاري، ويقال: نميلة بن عبد الله الليثي، ونميلة تصغير نملة، كما قال البرهان، "وقادوا الخيل، وكانت ثلاثين فرسا" قاله ابن سعد قال: منها عشرة في المهاجرين, وفي الأنصار عشرون ومعه صلى الله عليه وسلم لزاز والظرب.(3/5)
وخرجت عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما.
وبلغ الحارث ومن معه مسيره عليه الصلاة والسلام فسيء بذلك هو ومن معه، وخافوا خوفا شديدا، وتفرق عنهم من كان معهم من العرب.
وبلغ عليه الصلاة والسلام المريسيع، وصف أصحابه، ودفع راية المهاجرين إلى أبي بكر، وراية الأنصار إلى سعد بن عبادة
__________
وذكر الشامي أنهما من جملة عشرة المهاجرين.
قال البرهان: لزاز بكسر اللام وزاي مكررة مخففة بينهما ألف، من لاززته، أي: ألصقته، كأنه لصق بالمطلوب لسرعته، وقيل: لاجتماع خلقه، واللزز المجتمع الخلق، ا. هـ. والظرب بفتح الظاء المعجمة كما في القاموس والنور في الخيل النبوية، والسبل وتكسر على ما في بعض نسخ النور هنا، وصدر به الشامي في ذكر الخيل النبوية فراء مكسورة فموحدة واحد الظراب، وهي الروابي الصغار سمي بذلك لكبره وسمنه، وقيل: لقوته وصلابته.
"وخرجت عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما" فسار صلى الله عليه وسلم حتى سلك على الخلائق بالخاء والقاف، مكان به مزارع وآبار قرب المدينة، فنزل بها فأتي يومئذ برجل من عبد القيس، فسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: "أين أهلك"؟، قال: بالروحاء من عمل الفرع، قال: "أين تريد"؟، قال: إياك جئت لأؤمن بك، وأشهد أن ما جئت به حق وأقاتل معك عدوك، فقال صلى الله عليه وسلم: "الحمد لله الذي هداك إلى الإسلام"، فقال: "أي الأعمال أحب إلى الله"؟، قال: "الصلاة، لأول وقتها".
فكان بعد ذلك يصلي الصلاة لأول وقتها، وأصاب صلى الله عليه وسلم عينا للمشركين، أي: جاسوسا لهم، فسألوه عنهم فلم يذكر من شأنهم شيئا، فعرض عليه الإسلام فأبى، فأمر عمر بن الخطاب فضرب عنقه كما في الشامية.
"وبلغ الحارث ومن معه مسيره عليه الصلاة والسلام" وأنه قتل جاسوسه "فسيء بذلك" الخبر "هو ومن معه" أي: ساءهم خبر مسيره إليهم، كما قاله البيضاوي، وسيء بهم معناه ساءه مجيئهم، وفي إعراب السمين سيء مبني للمفعول، والقائم مقام الفاعل ضمير لوط من ساءني بكذا، أي: حصل لي سوء وبهم متعلق به، أي: بسببهم "وخافوا شديدا" للرعب الذي قذفه الله في قلوب أعدائه، "وتفرق عنهم من كان معهم من العرب" الذين جمعهم الحارث من غير قومه، "وبلغ عليه الصلاة والسلام إلى المريسيع".
قال ابن سعد: فضرب عليه قبة فتهيئوا للقتال، "وصف أصحابه ودفع راية المهاجرين إلى أبي بكر" الصديق، قاله ابن سعد، ويقال: إلى عمار بن ياسر "وراية الأنصار إلى سعد بن عبادة".(3/6)
فتراموا بالنبل ساعة ثم أمر عليه الصلاة والسلام أصحابه فحملوا حملة رجل واحد، وقتلوا عشرة وأسروا سائرهم، وسبوا الرجال والنساء والذرية والنعم والشاء.
__________
وروي أنه صلى الله عليه وسلم أمر عمر، فنادى في الناس: قولوا: لا إله إلا الله تمنعوا بها أنفسكم وأموالكم، فأبوا "فتراموا بالنبل ساعة" فكان أول من رمى رجل منهم، "ثم أمر عليه الصلاة والسلام أصحابه فحملوا حملة رجل واحد" فما أفلت منهم إنسان، "وقتلوا عشرة وأسروا سائرهم" أي: باقيهم.
قال البرهان: لم يذكر عدتهم، وقد قال بعض شيوخي: كانت الأسرى أكثر من سبعمائة فطلبتهم منه جويرية ليلة دخوله بها فوهبهم لها ا. هـ، ولا يشكل بما رواه ابن إسحاق وغيره من حديث عائشة، وخرج الخبر إلى الناس أنه صلى الله عليه وسلم قد تزوج جويرية، فقال الناس: أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأرسلوا ما بأيديهم، قالت: فلقد أعتق بتزويجها مائة أهل بيت من بني المصطلق، فما أعلم امرأة كانت أعظم بركة على قومها منها، ا. هـ؛ لأن طلبها إياهم منه وكونه وهبهم لها لا يمنع كون المسلمين حين سمعوا أنه تزوجها أطلقوا الأسرى، فكان ذلك زيادة إكرام من الله لنبيه حتى لا يسأل أحدا منهم في ذلك بشيء أو مجانا.
نعم، روى الواقدي بسند له مرسل أن جويرية قالت: رأيت قبل قدوم النبي صلى الله عليه وسلم بثلاث ليال، كأن القمر يسير من يثرب حتى وقع في حجري، فكرهت أن أخبرها أحدا من الناس حتى قدم صلى الله عليه وسلم، فلما سبينا رجوت الرؤيا، فلما أعتقني وتزوجني والله ما كلمته في قومي، حتى كان المسلمون هم الذين أرسلوهم من أيديهم وما شعرت إلا بجارية من بنات عمي تخبرني الخبر فحمدت الله تعالى، فإن صح أمكن أن يكون قولها ما كلمته، أي: ألححت عليه، بل اكتفيت بأول مرة ليلة الدخول، أو ما كلمته حين خطبني.
"وسبوا الرجال والنساء والذرية" تفسير لأسر سائرهم، "و" ساقا "النعم والشاء" فهو مفعول لمحذوف؛ لأن السبي مخصوص بأسر العدو، أو ضمن سبي معنى أخذ فلا تقدير.
قال ابن سعد: وكانت الإبل ألفي بعير، والشاء خمسة آلاف شاة، وكان المسبي مائتي بيت.
قال البرهان: وأحد البيوت.
وفي نسخة: بنت بكسر الموحدة ونون ساكنة وفوقية، والأولى أظهر ا. هـ. وهو الذي دل عليه حديث عائشة: لقد أعتق..... إلخ، ثم ظاهر حديث عائشة أنهم كلهم أطلقوا بلا فداء.
وذكر الواقدي أنه قدم وفدهم فافتدوا الذرية والنساء كل واحد منهم بست فرائض ورجعوا إلى بلادهم وخير من خير منهن أن تقيم عند من صارت في سهمه، فأبين إلا الرجوع، فإن صح(3/7)
ولم يقتل من المسلمين إلا رجل واحدا، كذا ذكره ابن إسحاق.
والذي في صحيح البخاري من حديث ابن عمر يدل على أن أغار عليهم على حين غفلة منهم فأوقع بهم ولفظه: أن النب صلى الله عليه وسلم أغار على بني المصطلق وهم غارون، وأنعامهم تستقي على الماء، فقتل مقاتلتهم وسبي ذراريهم وهم على الماء.
يحتمل أنهم حين الإيقاع بهم ثبتوا قليلا، فلما كثر فيهم القتل انهزموا بأن يكونوا لما دهمهم
__________
فيحتمل أن بعض الوفد قدم ففادى جملة، وذهبوا بهم قبل تزوج جويرية، ثم أعتق المسلمون الباقي بعد تزوجها وإلا فالأصلح الأول.
"ولم يقتل من المسلمين إلا رجل واحد" هو هشام بن صبابة، بصاد مهملة مضمومة فموحدة مخففة فألف فموحدة أخرى، أصابه أنصاري يقال له أوس من رهط عبادة بن الصامت، يرى أنه من المشركين فقتله خطأ، وقدم أخوه مقبس بن صبابة من مكة مسلما في الظاهر، فقال: يا رسول الله جئتك مسلما، وأطلب دية أخي قتل خطأ، فأمر له بدية أخيه، فأقام غير كثير، ثم عدا على قاتل أخيه فقتله، ثم خرج إلى مكة مرتدا، كما ذكر ابن إسحاق وأتباعه، فأهدر صلى الله عليه وسلم دمه فقتل يوم الفتح، "كذا ذكره" أي: حاصل المعنى الذي ساقه المصنف "ابن إسحاق" وإلا فأكثره لفظ ابن سعد، كما فصله صاحب العيون.
وإنما قال ابن إسحاق: حدثني عاصم بن عمر، وعبد الله بن أبي بكر ومحمد بن يحيى، قالوا: بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن بني المصطلق يجمعون له وقائدهم الحارث، فخرج حتى لقيهم على المريسيع من ناحية قديد إلى الساحل، فتزاحف الناس واقتتلوا، فهزم الله بني المصطلق، وقتل من قتل منهم، ونفل رسول الله أبناءهم ونساءهم وأموالهم فأفاءهم عليه.
قال الحافظ: كذا عنده بأسانيد مرسلة، "والذي في صحيح البخاري" في كتابه العتق، وكذا في صحيح مسلم "من حديث ابن عمر يدل على أنه أغار عليهم على حين غفلة منهم، فأوقع بهم" القتل والأسر.
قال المصباح: وقع بالقوم وقيعة قتلت وأثخنت وتميم تقول: أوقعت بهم بالألف، "ولفظه: أن النبي صلى الله عليه وسلم أغار على بني المصطلق وهم غارون" بغين معجمة فألف فراء مشددة، أي: غافلون "وأنعامهم تستقي على الماء فقتل مقاتلتهم، وسبي ذراريهم وهم على الماء" فهذا خلاف رواية ابن إسحاق أنهم اقتتلوا. "فيحتمل" في الجمع بينهما، كما قاله الحافظ "أنهم حين الإيقاع بهم" وإن كانوا غافلين "ثبتوا قليلا، فلما كثر فيهم القتل" بحمل المسلمين عليهم حملة واحدة، "انهزموا بأن يكونوا" تصوير لما فعل بهم "لما دهمهم" بكسر الهاء وفتحها، أي:(3/8)
وهم على الماء وتصافوا وقع القتال بين الطائفتين، ثم بعد ذلك وقعت الغلبة عليهم.
قيل وفي هذه الغزوة نزلت آية التيمم. وفي الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره، فذكر حديث التيمم.
__________
فجأهم "وهم على الماء وتصافوا، وقع القتال بين الطائفتين، ثم بعد ذلك وقعت الغلبة عليهم" للمسلمين، والحمد لله.
وذكر ابن سعد القصة بنحو ما ذكر ابن إسحاق، ثم أشار إلى حديث ابن عمر، ثم قال: الأول أثبت وأقره اليعمري، ورده الحافظ، فقال: والحكم يكون الذي في السير أثبت مما في الصحيح مردوده، ولا سيما مع إمكان الجمع ا. هـ.
وذكر ابن إسحاق من جملة السبي جويرية أم المؤمنين، وسيذكر المصنف قصتها التي ساقها الشارح في الزوجات، فلا نطيل بها هنا.
"قيل: وفي هذه الغزوة نزلت آية التيمم".
قال ابن بطال: هي آية النساء، أو المائدة.
وقال القرطبي: آية النساء ووجهه بأن آية المائدة تسمى آية الوضوء، وآية النساء لا ذكر فيها للوضوء.
وكذا ذكر الواحدي في سبب النزول الحديث في آية النساء.
قال الحافظ: وخفي على الجميع ما ظهر للبخاري من أنها آية المائدة بلا تردد لرواية عمرو بن الحارث، إذ صرح فيها بقوله: فنزلت: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} [المائدة: 6] .
"وفي الصحيحين" البخاري في التيمم والمناقب والنكاح والتفسير والمحاربين، ومسلم في الطهارة "من حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره، فذكر" كل في صحيحه "حديث التيمم" بطوله، وهو حتى إذا كنا بالبيداء أو بذات الجيش انقطع عقد لي، فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على التماسه، وأقام الناس معه وليسوا على ماء وليس معهم ماء، فأتى الناس إلى أبي بكر فقالوا له: ألا ترى إلى ما صنعت عائشة، أقامت برسول الله صلى الله عليه وسلم والناس ليسوا على ماء وليس معهم ماء، فجاء أبو بكر ورسول الله صلى الله عليه وسلم واضع رأسه على فخذي قد نام، فقال: حبست رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس ليسوا على ماء وليس معهم ماء فقالت عائشة: فعاتبني أبو بكر، وقال: ما شاء الله أن يقول، وجعل يطعنني بيه في خاصرتي،(3/9)
قال في فتح الباري: "قوله في بعض أسفاره" قال ابن عبد البر في التمهيد:
يقال كان ذلك في غزوة بني المصطلق. وجزم بذلك في الاستذكار. وسبقه إلى ذلك ابن سعد وابن حبان، وغزوة بني المصطلق هي غزوة المريسيع.
وفيها كانت قصة الإفك لعائشة، وكان ابتداء ذلك بسبب وقوع عقدها أيضا.
فإن كان ما جزموا به ثابتا، حمل على أنه سقط منها في تلك السفرة مرتين, لاختلاف القصتين، كما هو بين من سياقهما.
__________
فلا يمنعني من التحرك إلا مكان رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذي، قام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أصبح على غير ماء، فأنزل الله آية التيمم فتيمموا، فقال أسيد بن حضير: ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر، قالت: فبعثا البعير فأصبنا العقد تحته.
"قال في فتح الباري" في كتاب التيمم "قولا في بعض أسفاره. قال ابن عبد البر في التمهيد" لما في الموطأ من المعاني والأسانيد رتبه على أسماء شيوخ مالك على حروف المعجم، ولم يتقدمه أحد إلى مثله، وهو سبعون جزءا.
قال ابن حزم: لا أعلم في الكلام على فقه الحديث مثله، فكيف أحسن منه "يقال كان ذلك في غزوة بني المصطلق، وجزم بذلك في الاستذكار" بمذاهب علماء الأمصار، فيما تضمنه الموطأ من معاني الرأي والآثار، شرح فيه الموطأ على وجهه، ونسق أبوابه، "وسبقه إلى ذلك" الجزم "ابن سعد وابن حبان وغزوة بني المصطلق هي غزوة المريسيع، وفيها كانت" تامة، أي: وقعت، وبه عبر الفتح "قصة الإفك لعائشة" حال من قصة أو صفة لها، أي: المنسوبة لعائشة لا حال من الإفك وإلا لقال عن عائشة، ثم هو كما ترى لم يذكر قصة الإفك كما توهمه الشارح، وجعل له ترجمة وتكلم فيها على لفظ الإفك لغة. "وكان ابتداء ذلك بسبب وقوع عقدها أيضا" كما أنه سبب حديث التيمم، "فإن كان ما جزموا به" من أن قصة التيمم في غزوة المريسيع "ثابتا حمل على أنه سقط منها في تلك السفرة مرتين، لاختلاف القصتين، كما هو بين من سياقهما" فقد علمت سياق حديث التيمم.
وأما حديث الإفك ففي البخاري ومسلم عن عائشة خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدما أنزل الحجاب، فأنا أحمل في هودجي، وأنزل فيه حت إذا فرغ صلى الله عليه وسلم من غزوته تلك وقفل ودنونا من المدينة قافلين أذن ليلة بالرحيل فقمت حين أذنوا بالرحيل، فمضيت حتى جاوزت الجيش، فلما قضيت شأني أقبلت إلى رحلي فلمست صدري، فإذا عقد لي من جزع ظفار قد انقطع،(3/10)
واستبعد بعض شيوخنا ذلك؛ لأن المريسيع من ناحية مكة بين قديد والساحل، وهذه القصة كانت من ناحية خيبر لقولها في الحديث: حتى إذا كنا بالبيداء، أو بذات الجيش، وهما بين مكة وخيبر كما جزم به النووي.
قال: وما جزم به مخالف لما جزم به ابن التين فإنه قال: البيداء هو ذو الحليفة بالقرب من المدينة من طريق مكة، وذات الجيش وراء ذي الحليفة.
__________
فرجعت فالتمست عقدي، فحبسني ابتغاؤه قالت: وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلون بي، فاحتملوا هودجي فرحلوه على بعيري الذي كنت أركب عليه وهم يحسبون أني فيه، وكان النساء إذ ذاك خفافا لم يغشهن اللحم، إنما يأكلن العلقة من الطعام، فلم يستنكر القوم خفة الهودج حين رفعوه وحملوه، وكنت جارية حديثة السن، فبعثوا الجمل فساروا ووجدت عقدي بعدما استمر الجيش، فجئت منازلهم وليس بها داع ولا مجيب، فتيممت منزلي الذي كنت به، وظننت أنهم سيفقدوني فيرجعون إلي، فبينا أنا جالسة في منزلي غلبتني عيني فنمت، وكان صفوان بن المعطل السلمي ثم الذكواني من وراء الجيش، فأصبح عند منزلي، فرأى سواد إنسان نائم فعرفني حين رآني، وكان رآني قبل الحجاب، فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني فخمرت وجهي بجلبابي، ووالله ما تكلمنا بكلمة، ولا سمعت منه غير استرجاعه، وهوى حتى أناخ راحلته، فوطئ على يدها فقمت إليها فركبتها، فانطلق يقود بي الراحلة حتى أتينا الجيش في نحر الظهيرة وهم نزول، فهلك من هلك، وكان الذي تولى كبر الإفك عبد الله بن أبي بن سلول ... الحديث في نحو أربع ورقات.
"واستبعد بعض شيوخنا ذلك" أي: ما جزموا به، أي: ابن سعد وابن حبان وابن عبد البر، من أن قصة التيمم في غزاة المريسيع؛ "لأن المريسيع من ناحية مكة بين قديد والساحل، وهذه القصة" أي: قصة التيمم، "كانت من ناحية خيبر لقولها في الحديث: حتى إذا كنا بالبيداء" بفتح الموحدة والمد، "أو بذات الجيش" بفتح الجيم، وسكن التحتية وشين معجمة، والشك من عائشة قاله المصنف، "وهما بين مكة وخيبر" وليست خيبر من جهة قديد التي بها المريسيع "كما جزم به النووي".
"قال" أي: بعض شيوخه: "وما جزم به" النووي "مخالف لما جزم به ابن التين" شارح البخاري "فإنه قال: البيداء هو ذو الحليفة بالقرب من المدينة من طريق مكة وذات الجيش وراء ذي الحليفة" وهذا يرد الاستبعاد، ويدل على أن قصة التيمم كانت بالمريسيع كما جزموا به.(3/11)
وقال أبو عبيد البكري في معجمه: البيداء أدنى إلى مكة من ذي الحليفة، ثم ساق حديث عائشة هذا، ثم قال: وذات الجيش من المدينة على بريد. قال: وبينها وبين العقيق سبعة أميال, والعقيق من طريق مكة لا من طريق خيبر، فاستقام ما قاله ابن التين تنبيه.
__________
"وقال أبو عبيد البكري في معجمه: البيداء أدنى" أقرب "إلى مكة من ذي الحليفة، ثم ساق حديث عائشة هذا" في التيمم، ثم ساق حديث ابن عمر، قال: بيداؤكم هذه التي تكذبون فيها ما أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا من عند المسجد.
قال: والبيداء هو الشرف الذي قدام ذي الحليفة من طريق مكة، هكذا أسقطه المصنف من الفتح قبل قوله، "ثم قال: وذات الجيش من المدينة على بريد قال: وبينها وبين العقيق سبعة أميال".
قال ابن حجر: قلت: "والعقيق من طريق مكة، لا من طريق خيبر، فاستقام ما قاله ابن التين" وظهر به عدم استبعاد كون قصة التيمم بالمريسيع.
"تنبيه" لا يخفى عليك أن الكلام كله صريح في أن الاستبعاد، إنما هو في كون قصة التيمم بالمريسيع، ولم أدر ما وجه ترجيع اسم الإشارة لقصة الإفك، وأيضا فقصة الإفك لا نزاع في كونها في غزاة المريسيع؛ لأنه المنقول في البخاري عن الزهري.
ورواه الجوزقي والبيهقي عنه عن عروة عن عائشة، وجزم به ابن إسحاق وغيره من أهل المغازي، فلا يتأتى من شيخ الحافظ استبعادها؛ لأنه يشبه خرق الإجماع؛ فإنما استبعد ما جزم به أولئك، كما هو صريح الكلام السابق واللاحق.
وفي الفتح عقب قوله: فاستقام، ما قال ابن التين ويؤيده ما رواه الحميدي: أن القلادة سقطت ليلة الأبواء، والأبواء بين مكة والمدينة.
وعند الفريابي: وكان ذلك المكان يقال له الصلصل بمهملتين مضمومتين ولامين أولاهما ساكنة بين الصادين.
قال البكري: جبل عند ذي الحليفة، كذا ذكره في حرف الصاد المهملة، ووهم مغلطاي وغيره، فزعم أنه ضبطه بالمعجمة، وعرف من تظافر هذه الروايات تصويب ما قال ابن التين ا. هـ.
ثم قال في الفتح في شرح قول أسيد: ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر، أي: بل مسبوقة بغيرها من البركات، وهذا يشعر بأن هذه القصة كانت بعد قصة الإفك، فيقوى قول من ذهب إلى تعدد ضياع العقد، فأخذه المصنف ووصله بكلامه الأول وهو صادق؛ لأنه كله كلامه.(3/12)
وقد قال قوم بتعدد ضياع العقد مرتين، ومنهم محمد بن حبيب الأخباري فقال: سقط عقد عائشة في غزوة ذات الرقاع وفي غزوة بني المصطلق.
وقد اختلف أهل المغازي في أي هاتين الغزوتين كانت أولا.
وقال الداودي: كانت قصة التيمم في غزاة الفتح ثم تردد في ذلك.
وقد روى ابن أبي شيبة من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: لما نزلت آية التيمم لم أدر كيف أصنع, فهذا يدل على تأخرها عن غزوة بني المصطلق؛ لأن إسلام أبي هريرة كان في السنة السابعة، وهي بعدها بلا خلاف.
وكان البخاري يرى أن غزوة ذات الرقاع كانت بعد قدوم أبي موسى، وقدومه كان وقت إسلام أبي هريرة.
ومما يدل على تأخر القصة أيضا عن قصة...........
__________
فقال: "وقد قال قوم بتعدد ضياع العقد مرتين، ومنهم محمد بن حبيب الأخباري".
قال أبو ذر في حواشيه: أكثر العلماء لا يصرف حبيب هنا يجعله اسم أمه، فعلى هذا لا ينصرف للتعريف والتأنيث ا. هـ، أي: العلمية والتأنيث المعنوي. وبهذا جزم النووي في شرح مسلم وهو مردود.
ففي الروض للسهيلي ما لفظه وابن حبيب النسابة مصروف اسم أبيه، ورأيت لابن المغربي إنما هو حبيب بفتح الباء غير مجرى، أي: مصروف لأنها أمه، وأنكر عليه غيره، وقالوا: هو حبيب بن المحبر معروف ا. هـ. "فقال: سقط عقد عائشة في غزوة ذات الرقاع، وفي غزوة بني المصطلق" فليست المرتان في غزوة واحدة، "وقد اختلف أهل المغازي في أي هاتين الغزوتين كانت أولا" بالفتح وشد الواو.
"وقال الداودي" أحمد بن نصر المالكي شارح البخاري: "كانت قصة التيمم في غزاة الفتح، ثم تردد في ذلك وقد روى ابن أبي شيبة من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: لما نزلت آية التيمم لم أدر كيف أصنع" لأنه ليس فيها بيان كيفية التيمم، "فهذا يدل على تأخرها عن غزوة بني المصطلق؛ لأن إسلام أبي هريرة كان في السنة السابعة وهي بعدها" أي: بعد غزوة بني المصطلق، "بلا خلاف" وهذا أيضا يرد أن المرتين كانتا في غزوة واحدة، "وكان" فعل ماض "البخاري يرى أن غزوة ذات الرقاع كانت بعد قدوم أبي موسى، وقدومه كان وقت إسلام أبي هريرة" في سنة سبع، "ومما يدل على تأخر القصة" للتيمم "أيضا عن(3/13)
الإفك ما رواه الطبراني من طريق يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت: لما كان من أمر عقدي ما كان، وقال أهل الإفك ما قالوا، خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة أخرى، فسقط أيضا عقدي حتى جلس الناس على التماسه، فقال لي أبو بكر: يا بنية في كل سفرة تكونين عناء وبلاء على الناس، فأنزل الله تعالى الرخصة في التيمم، فقال أبو بكر: إنك لمباركة.
__________
قصة الإفك ما رواه الطبراني من طريق" محمد بن إسحاق، عن "يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير" بن العوام، المدني الثقة، مات بعد المائة، وله ست وثلاثون سنة "عن أبيه" عباد قاضي مكة زمن أبيه وخليفته إذا حج ثقة.
روى له الجميع "عن عائشة رضي الله عنها قالت: لما كان من أمر عقدي" أي: قلادتي، وكانت من جزع ظفار كما مر عنها في حديث الإفك، ورواه أبو داود وغيره عن عمار في هذه القصة، وجزع بفتح الجيم وسكون الزاي خرز يمني وظفار مدينة باليمن.
وفي رواية عروة، عنها في الصحيح: أنها استعارتها من أسماء أختها فهلكت، أي: ضاعت.
قال الحافظ: والجمع أن إضافتها إليها لكونها في يدها وتصرفها، وإلى أسماء لكونها ملكها لتصريحها بأنها استعارتها منها "ما كان وقال أهل الإفك ما قالوا، خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزو أخرى، فسقط أيضا عقدي حتى جلس الناس" بجلوس النبي صلى الله عليه وسلم "على التماسه" أي: لأجل طلبه.
وفي أبي داود: فبعث أسيد بن حضير وناسا معه في طلبه، وفيه اعتناء الإمام بحفظ حقوق المسلمين، وإن قلت فقد نقل ابن بطال أنه روي أن ثمن العقد كان اثني عشر درهما، وفيه إشارة إلى ترك إضاعة المال, قاله الحافظ وقد مر في حديث الصحيحين، فأتى الناس إلى أبي بكر فقالوا: ألا ترى إلى ما صنعت عائشة، أقامت برسول الله صلى الله عليه وسلم والناس وليسوا على ماء وليس معهم ماء.
"فقال لي أبو بكر" قال الحافظ: لم تقل أبي؛ لأن قضية الأبوة الحنو، وما وقع من العتاب بالقول والتأديب بالفعل مغاير لذلك في الظاهر، فلذا أنزلته منزلة الأجنبي، فقال أبو بكر:
"يا بنية في كل سفرة تكونين عناء وبلاء على الناس، فأنزل الله تعالى الرخصة في التيمم".
اختلف فيه هل هو عزيمة أو رخصة، وفصل بعضهم قال هو لعدم الماء عزيمة وللعذر رخصة، "فقال أبو بكر: إنك لمباركة" هذا لفظ الفتح، ولفظ العيون: والله يا بنية إنك كما علمت لمباركة. وكل عزى للطبراني فكأنهما روايتان له، أو الفتح اختصر وقال لها صلى الله عليه وسلم: "ما كان(3/14)
وفي إسناده محمد بن حميد الرازي. وفيه مقال.
وفي سياقه من الفوائد: بيان عتاب أبي بكر رضي الله عنه الذي أبهم في حديث الصحيح، والتصريح بأن ضياع العقد كان مرتين في غزوتين. ا. هـ.
وفي هذه الغزوة
__________
أعظم بركة قلادتك" رواه ابن إسحاق القتيبي في تفسيره، وقال أسيد بن حضير: ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر، وفي رواية: لقد بارك الله فيكم، وفي رواية: فقال أسيد: جزاك الله خيرا، فوالله ما نزل بك أمر تكرهينه إلا جعل الله ذلك لك وللمسلمين فيه خيرا، وفي رواية: إلا جعل الله لك منه مخرجا، وجعل للمسلمين فيه بركة، رواها كلها البخاري.
قال الحافظ: إنما قال ذلك دون غيره؛ لأنه كان رئيس من بعث في طلب العقد الذي ضاع، قال: وقولها: فأصبنا العقد تحته ظاهر في أن الذين توجهوا في طلبه لم يجدوه.
وللبخاري أيضا: فبعث رجلا فوجدها وله ولمسلم، فبعث ناسا من أصحابها في طلبها, ولأبي داود: فبعث أسيد بن حضير، وناسا معه قال: وطريق الجمع أن أسيدا كان رأس من بعث لذلك، فلذا سمي في بعض الروايات دون غيره وأسند الفعل إلى واحد منهم، وهو المراد به، وكأنهم لم يجدوا العقد أولا، فلما رجعوا ونزلت آية التيمم، وأرادوا الرحيل وأثاروا البعير وجده أسيد، فرواية وجدها, أي: بعد جميع ما تقدم من التفتيش وغيره انتهى ملخصا.
"وفي إسناده" الحافظ "محمد بن حميد الرازي" أبو عبد الله التميمي عن ابن المبارك وخلق.
وعنه أبو داود والترمذي وابن ماجه وطائفة، توفي سنة ثلاثين ومائتين، "وفيه مقال" فضعفه النسائي والجوزجاني، ووثقه أحمد ويحيى بن معين وغير واحد، "وفي سياقه من الفوائد بيان عتاب أبي بكر رضي الله عنه الذي أبهم في حديث الصحيح" في قولها: فعاتبني أبو بكر، وقال: ما شاء الله أن يقول.
"والتصريح بأن ضياع العقد كان مرتين في غزوتين" في قولها: خرجت مرة أخرى فسقط أيضا عقدي، وقول أبيها في كل سفرة "انتهى" كلام الفتح، وحاصله: هل السفر المبهم في قول عائشة في بعض أسفاره المريسيع، أو ذات الرقاع، أو الفتح أقوال، وهل سقط العقد مرتين في غزوة واحدة وهي المريسيع, أو مرتين في غزوتين "وفي هذه الغزوة" على ما عند ابن إسحاق وأهل المغازي.
وعند النسائي أن ذلك كان في غزوة تبوك وأيده الحافظ, بأن في رواية للبخاري في سفر(3/15)
قال ابن أبي: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، فسمعه زيد بن أرقم، ذو الأذن الواعية، فحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فأرسل إلى ابن أبي وأصحابه فحلفوا ما قالوا، فأنزل الله تعالى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ} فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله قد صدقك يا زيد". رواه البخاري.
وكانت غيبته عليه الصلاة والسلام في هذه الغزوة ثمانية وعشرين يوما.
__________
أصاب الناس فيه شدة، ورجح ابن كثير الأول، بأن ابن أبي لم يخرج في غزوة تبوك، بل ورد أنه رجع بطائفة من الجيش.
"قال ابن أبي" ابن سلول، رأس المنافقين: "لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز" يعني نفسه، "منها" أي: المدينة، "الأذل" يعني النبي صلى الله عليه وسلم، وما أحسن قول أسيد بن حضير بالموجب، لما قال له ذلك عليه السلام، قال: فأنت والله يا رسول الله تخرجه إن شئت هو والله الذليل وأنت العزيز، ثم قال: ارفق به فوالله لقد جاء الله بك، وإن قومه لينظمون له الخرز ليتوجوه وإنه ليرى أنك قد استلبته ملكا، ذكره ابن إسحاق، وذلك أنه ضرب مهاجري أنصاريا بيده, فقال الأنصاري: يا للأنصار وقال المهاجري: يا للمهاجرين، فسمعها الله رسوله الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما هذا"؟ فأخبروه، فقال: "دعوها فإنها منتنة"، فقال ابن أبي أوقد: فعلوا والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، فقال عمر: دعني أضرب عنق هذا المنافق، قال: "دعه لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه" رواه البخاري عن جابر، وأورده ابن إسحاق مطولا، وسمى المهاجري جهجاه بن مسعود أجير عمر بن الخطاب والأنصاري سنان بن وبر, "فسمعه زيد بن أرقم" الأنصاري استصغر بأحد وأول مشاهده الخندق، وقيل: المريسيع، وغزا مع النبي صلى الله عليه وسلم سبع عشرة غزوة، كما في الصحيح وله حديث كثير وشهد صفين مع علي، ومات بالكوفة سنة ست، وقيل: ثمان وستين "ذو الأذن الواعية" الضابطة لما سمعته؛ لأنه لما نقل قول ابن أبي، واتهم فيه نزل القرآن مصدقا له، فدل على قوة ضبطه وحفظه لما سمعه، "فحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك" بنفسه، كما في رواية أو ذكر ذلك لعمه، فذكره عمه له صلى الله عليه وسلم كما في أخرى، وكلاهما في الصحيح، "فأرسل إلى ابن أبي وأصحابه، فخافوا ما قالوا".
قال في حديث البخاري فصدقهم، وكذبني فأصابني هم لم يصبني مثله، فجلست في بيتي، "فأنزل الله تعالى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ} [المنافقون: 1] فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله قد صدقك يا زيد" وفي مرسل الحسن: أنه أخذ بإذنه فقال له: وفي الله بإذنك يا غلام، وكان عليه السلام لما حلف له ابن أبي قال لزيد: لعله أخطأ سمعك، "رواه" أي: أصل الحديث بمعناه، لا كونه في هذه الغزوة "البخاري" بطرق عديدة من حديث زيد.
وفي الترمذي فقال له ابنه عبد الله بن عبد الله بن أبي: والله لا تنقلب، أي: إلى المدينة،
حتى تقول إنك أنت الذليل ورسول الله العزيز، ففعل.
"وكانت غيبته عليه الصلاة والسلام في هذه الغزوة ثمانية وعشرين يوما" وقدم المدينة لهلال رمضان، قاله ابن سعد، وفي هذه الغزوة أيضا نهى صلى الله عليه وسلم عن العزل، رواه البخاري وغيره عن أبي سعيد.(3/16)
"غزوة الخندق وهي الأحزاب":
جمع حزب، أي: طائفة
فأما تسميتها بالخندق: فلأجل الخندق الذي حفر حول المدينة بأمره عليه الصلاة والسلام، ولم يكن اتخاذ الخندق من شأن العرب، ولكنه من مكايد الفرس وكان الذي أشار به سلمان
__________
غزوة الخندق وهي الأحزاب:
هذه الترجمة للبخاري
قال الحافظ: يعني أن لها اسمين وهو كما قال: والأحزاب "جمع حزب، أي: طائفة فأما تسميتها بالخندق" بفتح الخاء المعجمة وسكون النون، "فلأجل الخندق الذي حفر حول المدينة" في شاميها من طرف الحرة الشرقية إلى طرف الحرة الغربية "بأمره عليه الصلاة والسلام".
روى الطبراني بسند لا بأس به عن عمرو بن عوف المزني: أنه صلى الله عليه وسلم خط الخندق من أحمر الشيخين تثنية شيخ ضد شاب، وهما أطمان تثنية أطم بضمتين، طرف بني حارثة حتى بلغ المداحج، فقطع لكل عشرة أربعين ذراعا.
قال شيخنا: لعلها حاصلة من ضرب قدر من الطول في العرض، والحاصل في ذلك في العمق وليس المراد لكل عشرة أربعين طولا لزيادة ذلك على مسافة عرض المدينة بكثير لكثرة الصحابة الذين حفروا فيه، قلت: وفي رواية خط صلى الله عليه وسلم الخندق لكل عشرة أناس عشرة أذرع، "ولم يكن" كما أفاده السهيلي "اتخاذ الخندق من شأن العرب، ولكنه من مكايد الفرس" وحروبها جمع مكيدة، أي: حيلها التي يتوصلون بها إلى مرادهم، "و" لذا "كان الذي أشار به سلمان" الفارسي.
قال ابن جرير: أول من اتخذ الخنادق موشهر بن أيرج، وإلى رأس ستين سنة من ملكه(3/17)
فقال: يا رسول الله، إنا كنا بفارس إذا حوصرنا خندقنا علينا، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفره، وعمل فيه بنفسه ترغيبا للمسلمين.
وأما تسميتها بالأحزاب، فلاجتماع طوائف من المشركين على حزب المسلمين، وهم: قريش وغطفان واليهود ومن تبعهم
__________
بعث موسى عليه السلام، وأول من فعل الكمائن في الحروب بختنصر انتهى من الروض، وتبعه العيون وهو بميم مفتوحة فواو فشين معجمة فهاء ساكنة فراء، وإيرج بهمزة في أوله مكسورة فتحتية فراء فجيم، كما في نسخة صحيحة من الروض والعيون قرئت على مصنفيهما.
"فقال" سلمان، كما ذكره أصحاب المغازي منهم، أبو معشر "يا رسول الله إنا كنا بفارس إذا حوصرنا خندقنا علينا، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفرة" حول المدينة "وعمل فيه بنفسه ترغيبا للمسلمين"، فسارعوا إلى عمله، حتى فرغوا منه وجاء المشركون فحاصروهم.
وذكر ابن سعد وغيره أنه لما تهيأت قريش للخروج، أتى ركب خزاعة النبي صلى الله عليه وسلم في أربع ليال حتى أخبروه، فندب الناس وأخبرهم خبر عدوهم وشاورهم في أمرهم أيبرز من المدينة، أم يكون فيها ويحاربهم عليها؟، وفي طرقها، فأشار سلمان بالخندق، فأعجبهم وأحبوا الثبات بالمدينة وأمرهم صلى الله عليه وسلم بالجد ووعدهم النصران إن هم صبروا واتقوا وأمرهم بالطاعة.
"وأما تسميتها بالأحزاب فلاجتماع طوائف من المشركين على حرب المسلمين وهم قريش وغطفان واليهود"، عد اليهود مشركين وإن كانوا أهل كتاب؛ لأنهم لما ظاهروهم وخالفوا ما يعلمونه من كتابهم المقتضي لمبادرتهم للإسلام، أفلا أقل من كف الأذى وترك القتال، كانوا كأنهم منهم أو ضمهم إليهم بالتبعية؛ لأن الجل مشركون، أو لأن المراد مطلق الكفار، كما هو المراد بهم إذا أفردوا، فإن جمعوا فعباد الأوثان، "ومن تبعهم" كبني سليم.
ذكر موسى بن عقبة في المغازي، قال: خرج حيي بن أخطب بعد بني النضير إلى مكة يحرض المشركين على حربه صلى الله عليه وسلم، وخرج كنانة بن الربيع بن أبي الحقيق يسعى في غطفان، ويحرضهم على قتاله على أن لهم نصف تمر خيبر، فأجابه عيينة بن حصن الفزاري إلى ذلك، وكتبوا إلى حلفائهم من بني أسد، فأقبل إليهم طليحة بن خويلد فيمن أطاعه، وخرج أبو سفيان بقريش، فنزلوا بمر الظهران فجاءهم من أجابهم من بني سليم مددا لهم، فصاروا في جمع عظيم فهم الذين سماهم الله الأحزاب.
وذكر الواقدي أنهم جعلوا لهم تمر خيبر سنة، ولعلهما كان قصدهما خروج حيي لمكة وكنانة لغطفان ابتداء ثم طرأ لهما الذهاب جملة لمكة، ثم لغطفان فلا ينافي رواية ابن إسحاق الآتية لذلك.(3/18)
وقد أنزل الله تعالى في القصة صدرا من سورة الأحزاب.
واختلف في تاريخها: فقال موسى بن عقبة: كانت سنة أربع.
وقال ابن إسحاق: كانت في شوال سنة خمس، وبذلك جزم غيره من أهل المغازي.
ومال البخاري إلى قول موسى بن عقبة، وقواه بقول ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عرضه يوم أحد وهو ابن أربع عشرة فلم يجزه، وعرضه يوم الخندق وهو ابن خمس عشرة فأجازه
__________
"وقد أنزل الله تعالى في هذه القصة صدرا" أي: جملة، "من سورة الأحزاب" من قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 11] ، إلى قوله: {قَوِيًّا عَزِيزًا} [الأحزاب: 25] سميت صدرا لارتفاعها على غيرها من بقية السورة من حيث دلالتها على فضل المؤمنين، وثباتهم وخبث المنافقين وعنادهم.
وفي المصباح صدر المجلس مرتفعه.
"واختلف في تاريخها فقال موسى بن عقبة" في مغازيه التي شهد مالك والشافعي بأنها أصح المغازي "كانت سنة أربع".
قال الحافظ: وتابع على ذلك الإمام مالك أخرجه أحمد عن موسى بن داود عنه.
"وقال ابن إسحاق:" كانت "في شوال سنة خمس، وبذلك جزم غيره من أهل المغازي".
قال ابن القيم: وهو الأصح والذهبي هو المقطوع به، والحافظ هو المعتمد، انتهى غايته أن ابن سعد وشيخه قالا: كانت في ذي القعدة "ومال البخاري إلى قول موسى بن عقبة" فنقله عنه مقتصرا عليه، "وقواه بقول ابن عمر" الذي أخرجه أول أحاديث الباب عن نافع عنه بلفظ: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عرضه يوم أحد".
قال الحافظ: عرض الجيش اختبار أحوالهم قبل مباشرة القتال للنظر في هيآتهم، وترتيب منازلهم وغير ذلك، "وهو ابن أربع عشرة" سنة.
وفي رواية مسلم: عرضني يوم أحد في القتال وأنا ابن أربع عشرة سنة، "فلم يجزه" بضم أوله وكسر الجيم فزاي، أي: لم يمضه، ولم يأذن له لعدم أهليته للقتال، "وعرضه يوم الخندق وهو ابن خمس عشرة" سنة، "فأجازه".
وفي رواية مسلم: عرضني يوم أحد في القتال وأنا ابن أربع عشرة سنة، "فلم يجزه" بضم أوله وكسر الجيم فزاي، أي: لم يمضه، ولم أذن له لعدم أهليته للقتال، "وعرضه يوم الخندق وهو ابن خمس عشرة" سنة، "فأجازه".
قال الحافظ: أي: أمضاه وأذن له في القتال.
وقال الكرماني: أجازه من الإجازة وهي للأنفال، أي: أسهم له، قلت: والأول أولى، ويرد(3/19)
فيكون بينهما سنة واحدة، وأحد كانت سنة ثلاث، فيكون الخندق في سنة أربع.
ولا حجة فيه إذا ثبت أنها كانت سنة خمس، لاحتمال أن يكون ابن عمر في أحد كان أول ما طعن في الرابعة عشر، وكان في الأحزاب استكمل الخمس عشرة، وبهذا أجاب البيهقي.
وقال الشيخ ولي الدين بن العراقي: والمشهور أنها في السنة الرابعة.
وكان من حديث هذه الغزوة:
__________
الثاني هنا أنه لم يكن في غزوة الخندق غنيمة يحصل منها نقل.
وفي حديث أبي واقد الليثي رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض الغلمان وهو يحفر الخندق، فأجاز من أجاز ورد من رد إلى الذراري، فهذا يوضح أن المراد بالإجازة الإمضاء للقتال؛ لأن ذلك كان في مبدأ الأمر قبل حصول الغنيمة، أن لو حصلت غنيمة ا. هـ.
وعلى هذا "فيكون بينهما سنة واحدة، وأحد كانت سنة ثلاث" باتفاق "فيكون الخندق في سنة أربع" كما قال ابن عقبة، "ولا حجة فيه إذا ثبت أنها كانت سنة خمس"، كما جزم به أهل المغازي "لاحتمال أن يكون ابن عمر في أحد كان أول ما طعن في الرابعة عشر، وكان في الأحزاب استكمل الخمس عشرة، وبهذا أجاب البيهقي".
زاد الحافظ ويؤيد قول ابن إسحاق: أن أبا سفيان قال للمسلمين لما رجع من أحد: موعدكم العام المقبل ببدر، فخرج صلى الله عليه وسلم من السنة المقبلة إليها، فلم يأت أبو سفيان للجدب، فرجعوا بعد أن وصلوا إلى عسفان، أو دونها، ذكره ابن إسحاق وغيره، وقد بين البيهقي سبب هذا الاختلاف، وهو أن جماعة من السلف كانوا يعدون التاريخ من المحرم الذي وقع بعد الهجرة، ويلغون الأشهر التي قبل ذلك إلى ربيع الأول، وعلى ذلك جرى يعقوب بن سفيان في تاريخه، فذكر أن غزوة بدر الكبرى كانت في السنة الأولى، وأحد في الثانية، والخندق في الرابعة، وهذا عمل صحيح على ذلك البناء لكنه بناء واه مخالف لما عليه الجمهور من جعل التاريخ من المحرم سنة الهجرة، وعلى ذلك تكون بدر في الثانية، وأحد في الثالثة، والخندق في الخامسة، وهو المعتمد، ا. هـ.
"و" لكن "قال الشيخ" الحافظ ابن الحافظ "ولي الدين بن العراقي المشهور: أنها" أي: الخندق، "في السنة الرابعة" حقيقة لمزيد إتقان القائلين بذلك كيف وهم موسى بن عقبة ومالك والبخاري، ولذا صححه النووي في الروضة.
"وكان من حديث" أي: سبب هذه الغزوة، "هذه الغزوة" كما رواه ابن إسحاق بأسانيد(3/20)
أن نفرا من يهود خرجوا حتى قدموا على قريش بمكة وقالوا: إنا سنكون معكم عليه حتى نستأصله، فاجتمعوا لذلك واتعدوا له.
ثم خرج أولئك اليهود حتى جاءوا غطفان من قيس عيلان، فدعوهم إلى حربه عليه الصلاة والسلام وأخبروهم أنهم سيكونون معهم عليه، وأن قريشا قد بايعوهم على ذلك واجتمعوا معهم.
فخرجت قريش وقائدها أبو سفيان بن حرب، وخرجت غطفان وقائدها عيينة بن حصن
__________
كلها مرسلة، "أن نفرا من يهود" منهم سلام بن مشكم وابن أبي الحقيق وحيي وكنانة النضيريون وهوذة بن قيس وأبو عمار الوائليان، "خرجوا" من خيبر "حتى قدموا على قريش مكة، وقالوا: إنا سنكون معكم عليه حتى نستأصله".
قال في رواية ابن إسحاق: فقالت لهم قريش: إنكم أهل الكتاب الأول، والعلم بما أصبحنا نختلف فيه نحن ومحمد أفديننا خير أم دينه، قالوا: بل دينكم خير من دينه، وأنتم أولى بالحق منه، فأنزل الله تعالى فيهم: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} إلى قوله {وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا} فسر ذلك قريشا ونشطوا لما دعوهم إليه، "فاجتمعوا لذلك واتعدوا له" أي: تواعدوا على وقت يخرجون فيه، وفي نسخة: واستعدوا له، والأول هو الرواية في ابن إسحاق والمناسب لقوله، "ثم خرج أولئك اليهود حتى جاءوا غطفان من قيس عيلان" بعين مهملة.
قال الجوهري: وليس في العرب عيلان غيره، وهو في الأصل اسم فرسه، ويقال هو لقب مضر؛ لأنه يقال قيس بن عيلان، "فدعوهم إلى حربه عليه الصلاة والسلام وأخبروهم أنهم سيكونون معهم عليه".
قال الواقدي: وجعلوا لهم خيبر سنة إن هم نصروهم، "وأن قريشا قد تابعوهم على ذلك، واجتمعوا معهم فخرجت قريش" في أربعة آلاف، وعقدوا اللواء في دار الندوة، وحمله عثمان بن أبي طلحة "وقائدها أبو سفيان بن حرب" المسلم في الفتح، وقادوا معهم ثلاثمائة فرس وألفا وخمسمائة بعير ولاقتهم بنو سليم بمر الظهران في سبعمائة يقودهم سفيان بن عبد شمس حليف حرب بن أمية، وخرجت معهم بنو أسد يقودهم طليحة بن خويلد الأسدي، قاله ابن سعد، وأسلم طليحة بعد ذلك.
"وخرجت غطفان وقائدها يينة بن حصن" بن حذيفة بن بدر الفزاري، "في فزارة" قبيلته،(3/21)
في فزارة، والحارث بن عوف المري في مرة.
وكان عدتهم -فيما ذكره ابن إسحاق- عشرة الآف, والمسلمون ثلاثة آلاف وقيل غير ذلك.
__________
وكانو ألفا.
قال في الروض: سمي عيينه لشتر كان بعينيه واسمه حذيفة، وهو الذي قال في صلى الله عليه وسلم: "الأحمق المطاع" لأنه كان يتبعه عشرة الآف قناة.
وقال فيه أيضا: إن شر الناس من ودعه الناس اتقاء شره.
وفي رواية: إني أداريه لأني أخشى أن يفسد علي خلقا كثيرا، وفيه بيان معنى الشر الذي أتقي منه، ودخل عليه صلى الله عليه وسلم بغير إذن، فقال له: "أين الإذن"، قال: "ما استأذنت على مضري قبلك"، وقال: "ما هذه الحميراء معك"؟ قال: "عائشة بنت أبي بكر"، فقال: "طلقها"، وأنزل لك عن أم البنين في أمور كثيرة من جفائه أسلم، ثم ارتد وآمن بطليحة حتى تنبأ، وأخذ أسيرا، فأتي به للصديق، فمن عليه، ولم يزل مظهرا للإسلام على جفوته وعنجهيته ولوثة أعرابيته حتى مات.
قال الشاعر:
وإني على ما كان من عنجهيتي ... ولوثة أعرابيتي لأديب
ا. هـ.
"والحارث بن عوف المري" بضم الميم وشد الراء، أسلم بعد تبوك في وفد قومه بني مرة، وكانوا ثلاثة عشر رجلا رأسهم الحارث أحد الفرسان المشهورين "في" بني "مرة" وكانوا أربعمائة.
زاد ابن سعد: وخرجت أشجع، وهم أربعمائة يقودهم مسعود بن رخيلة، بضم الراء وفتح الخاء، وأسلم بعد وخرج معهم غيرهم.
قال: وقد روى الزهري: أن الحارث بن عوف رجع ببني مرة، فلم يشهد الخندق منهم أحد، وكذلك روت بنو مرة والأول أثبت ا. هـ.
"وكان عدتهم فيما ذكره ابن إسحاق" بأسانيده, وابن سعد "عشرة الآف".
قال ابن سعد: وكانوا ثلاثة عساكر، وعاج الأمر إلى أبي سفيان، قالا أيضا: "والمسلمون ثلاثة آلاف".
قال الشامي: وهو الصحيح المشهور "وقيل غير ذلك".
قال في الفتح: وقيل: كان المشركون أربعة آلاف، والمسلمون نحو الألف.
ونقل ابن القيم في الهدى عن ابن إسحاق أن المسلمين كانوا سبعمائة. قال: وهذا غلط(3/22)
وذكر ابن سعد أنه كان مع المسلمين ستة وثلاثون فرسا.
ولما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأحزاب، ما أجمعوا عليه من الأمر، ضرب على المسلمين الخندق، فعمل فيه عليه الصلاة والسلام ترغيبا للمسلمين في الأجر، وعمل معه المسلمون، فدأب ودأبوا.
وأبطأ على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى المسلمين في عملهم ذلك ناس من المنافقين، وجعلوا يورون بالضعف عن العمل
__________
من خروجه يوم أحد.
قال الشامي: ولا دليل في قول جابر في قصة الطعام، وكانوا ألفا؛ لأنه أراد الآكلين فقط لا عدة من حضر الخندق ا. هـ. وقيل: كان المشركون خمسة عشر ألفا، كذا حكاه في النهر.
قال ابنا سعد وهشام: واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم.
"وذكر ابن سعد أنه كان مع المسلمين سنة وثلاثون فرسا، ولما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأحزاب وما أجمعوا عليه من الأمر" الذي زعموه، وهو استئصال المسلمين "ضرب على المسلمين الخندق"، أي: جعل على كل عشرة أربعين ذراعا كما مر، وكان الخندق بسطة أو نحوها، "فعمل فيه عليه الصلاة والسلام" بنفسه "ترغيبا للمسلمين في الأجر، وعمل معه المسلمون فدأب ودأبوا" جدوا وتعبوا، حتى كان سلمان يعمل عمل عشرة رجال حتى عانه قيس بن صعصعة، أي: أصابه بالعين فلبط، بضم اللام وكسر الموحدة وطاء مهملة، أي: صرع فجأة من عين، أو علة وهو ملتو، فقال صلى الله عليه وسلم: "مروه فليتوضأ وليغتسل به سلمان وليكفئ الإناء خلفه" ففعل، فكأنما حل من عقال.
وعند الطبراني: وت نافس المهاجرون والأنصار في سلمان، وكان رجلا قويا، فقال المهاجرون: سلمان منا، وقال الأنصار: سلمان منا. فقال صلى الله عليه وسلم: "سلمان منا أهل البيت" بنصب أهل على الاختصاص، أو على إضمار، أعني وأما الخفض على البدل فلم يجزه سيبويه من ضمير المتكلم، ولا من ضمير المخاطب؛ لأنه في غاية البيان، وأجازه الأخفش، قاله السهيلي.
"وأبطأ على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى المسلمين في عملهم ذلك" أي: تأخر عن العمل معهم، "ناس من المنافقين" وهذا كالاستثناء من دأب ودأبوا، كأنه قال: إلا المنافقين وإنما أخرجوا؛ لأنهم مسلمون ظاهرا، "وجعلوا يورون بالضعف عن العمل" أي: يخفون مقصودهم من خذلان المسلمين بإظهار الضعف.
ففي القاموس وراه تورية أخفاه كواراه أو يتعللون به سماه تورية، لإظهارهم خلاف(3/23)
وفي البخاري: عن سهل بن سعد قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في الخندق، وهم يحفرون ونحن ننقل التراب على أكتادنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة، فاغفر للمهاجرين والأنصار".
والأكتاد: بالمثناة الفوقية- جمع كتد -بفتح أله وكسر المثناة- وهو ما بين الكاهل إلى الظهر، وفي بعض نسخ البخاري: أكبادنا بالموحدة، وهي موجه على أن المراد به مما يلي الكبد من الجنب.
__________
قصدهم من عدم إعانة المسلمين وخذلانهم، وأبرزوه في صورة الضعف، لكن حيث صح المعنى اللغوي بالحقيقة، فلا معدل عنه للمجاز.
"وفي البخاري" ثاني حديث في هذا الباب. "عن سهل بن سعد" الساعدي "قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في الخندق وهم يحفرون" بكسر الفاء "ونحن ننقل التراب على أكتادنا" بالتاء والباء.
وفي حديث أنس: على متونهم كما عند البخاري.
ق ال الحافظ: ووهم ابن التين فعزا هذه اللفظة لحديث سهل.
"فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الله لا عيش" دائم "إلا عيش الآخرة".
قال الداودي: إنما قال ابن رواحة: لا هم إن العيش بلا ألف ولام، فأورده بعض الرواة على المعنى.
قال الحافظ: وحمله على ذلك ظنه أنه يصير بالألف واللام غير موزون، وليس كذلك بل يكون دخله الجزم، ومن صوره زيادة شيء من حروف المعاني في أول الجزء "فاغفر للمهاجرين والأنصار"، وفي حديث أنس بعده، " فاغفر للأنصار والمهاجرة".
قال الحافظ: وكلاهما غير موزون، ولعله صلى الله عليه وسلم تعمد ذلك، ولعل أصله فاغفر للأنصار وللمهاجرة بتسهيل همزة الأنصار، وباللام في المهاجرة، وفي الرواية الأخرى فبارك بدل فاغفر، "والأكتاد بالمثناة الفوقية، جمع كتد، بفتح أوله وكسر المثناة".
زاد المصباح وفتحها "ما بين الكاهل" كصاحب الحارك، أو مقدم أعلى الظهر مما يلي العنق وهو الثلث الأعلى، وفيه ست فقرات، أو ما بين الكتفين، أو موصل العنق في الصلب، كما في القاموس "إلى الظهر".
وقال ابن السكيت: الكتد مجتمع الكتفين، وحاصل المعنى أنهم كانوا يحملون على أكتافهم أعالي ظهورهم، "وفي بعض نسخ البخاري: أكبادنا بموحدة، وهو موجه على أن المرد به ما يلي الكبد من الجنب" لاستحالة الحقيقة.(3/24)
وفي البخاري أيضا: عن أنس: فإذا المهاجرون والأنصار يحفرون في غداة باردة، فلم يكن لهم عبيد يعملون ذلك لهم، فلما رأى ما بهم من النصب والجوع قال:
"اللهم إن العيش عيش الآخرة ... فاغفر للأنصار والمهاجرة"
فقالوا مجيبين له:
نحن الذين بايعوا محمدا ... على الجهاد ما بقينا أبدا
قال ابن بطال: وقوله: "اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة"، هو من قول ابن رواحة تمثل به عليه الصلاة والسلام
__________
"وفي البخاري أيضا" ثالث حديث في الباب عن حميد، "عن أنس": خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الخندق، "فإذا المهاجرون والأنصار يحفرون في غداة باردة، فلم يكن لهم عبيد يعملون ذلك لهم".
قال الحافظ: أي: إنهم عملوا فيه بأنفسهم لاحتياجهم إلى ذلك لا مجرد الرغبة في الأجر، "فلما رأى ما بهم من النصب" بفتح النون والصاد التعب "والجوع".
"قال:" وفي رواية أبي الوقت فقال: والأولى أولى؛ لأن جواب لما لا يقترن بالفاء "صلى الله عليه وسلم" وفي هذا كما قال الفتح بيان سبب قوله: "اللهم إن العيش" المعتبر الدائم "عيش الآخرة " لا عيش الدنيا لكدورته، وكونه مع المنغصات التي لا تتناهى، ثم بعد هو فإن وإن طال قل متاع الدنيا قليل، هكذا رواية أنس في الصحيح كما سقته. ومت رواية سهل لا عيش إلا عيش الآخرة، وما يقع في نسخ من جعله كذلك في خبر أنس مخالف للبخاري. "فاغفر للأنصار والمهاجرة" بكسر الجيم وسكون الهاء، "فقالوا": أي الطائفتان حال كونهم، "مجيبين له نحن الذين بايعوا" صفة الذين لا صفة نحن، قاله الفتح "محمدا على الجهاد".
وفي رواية عبد العزيز، عن أنس عند البخاري على الإسلام بدل الجهاد، والأول أثبت، قاله الحافظ. "ما بقينا أبدا. قال ابن بطال وقوله: اللهم لا عيش إلى عيش الآخرة، هو من قول ابن رواحة" عبد الله الصحابي الشهير "تمثل به عليه الصلاة والسلام" قال: ولو لم يكن من لفظه لم يكن بذلك شاعرا، قال: وإنما يسمى شاعرا من قصده، وعلم السبب والوتد، وجميع معايبه من الزحاف ونحو ذلك، قال الحافظ كذا، قال: وعلم الوتد إلخ، إنما تلقوه من العروض التي اخترع ترتيبها الخليل بن أحمد وقد كان من شعراء الجاهلية والمخضرمين والطبقة الأولى والثانية من شعراء الإسلام قبل أن يضعه الخليل، كما قال أبو العتاهية، أن أقدم من العروض، يعني أنه نظم(3/25)
وعند الحارث بن أبي أسامة من مرسل طاوس زيادة في آخر الرجز:
والعن عضلا والقارة ... هم كلفونا ننقل الحجارة
وفي البخاري من حديث البراء قال: لما كان يوم الأحزاب، وخندق رسول الله صلى الله عليه وسلم رأيته ينقل من تراب الخندق حتى وارى عني الغبار جلدة بطنه،
__________
الشعر قبل وضعه:
وقال أبو عبد الله بن الحجاج الكاتب:
قد كان شعر الورى قديما ... من قبل أن يخلق الخليل
ا. هـ.
"وعند الحارث" بن محمد "بن أبي أسامة" داهر الحافظ المشهور، "من مرسل طاوس" بن كيسان اليماني الفارسي تابعي ثقة، فقيه، كثير الحديث. يقال اسمه ذكوان وطاوس لقب. مات سنة ست ومائة، وقيل بعدها "زيادة في آخر" هذا "الرجز" هي:
والعن عضلا والقاره ... هم كلفونا ننقل الحجاره
قال الحافظ: والأول غير موزون أيضا، ولعله والعن الهي عضلا والقارة.
وفي رواية عبد العزيز عن أنس عند البخاري: وينقلون التراب على متونهم وهم يقولون:
نحن الذين بايعوا محمدا ... على الإسلام ما بقينا أبدا
يقول صلى الله عليه وسلم وهو يجيبهم: "اللهم لا خير إلا خير الآخرة، فبارك في الأنصار والمهاجره".
قال الحافظ: ولا أثر للتقديم والتأخير فيه؛ لأنه يحمل على أنه كان يقول إذا قالوا ويقولون إذا قال، يعني يجيبونه تارة ويجيبهم أخرى، قال: وفيه أن في إنشاد الشعر تنشيطا في العمل، وبذلك جرت عادتهم في الحرب، وأكثر ما يستعملون في ذلك الرجز.
"وفي البخاري" من طريقين ذكر المصنف الثانية "من حديث البراء" بن عازب، "قال: لما كان يوم الأحزاب وخندق صلى الله عليه وسلم رأيته ينقل من تراب الخندق حتى وارى" أخفى، "عني الغبار" لتراكمه، "جلدة بطنه".
وفي الطريق الأولى حتى أغمر أو اغبر بطنه بالشك، وغين معجمة فيهما، فإما بالموحدة فواضح، وإما بالميم.
فقال الخطابي: إن كانت محفوظة فمعناها وارى التراب جلدة بطنه، أي: فبطنه بالنصب، ومنه غمار الناس وهو جمعهم إذا تكاثف، ودخل بعضهم في بعض.
قال: وروي اعفر بمهملة وفاء، والعفر بالتحريك التراب.(3/26)
وكان كثير الشعر، فسمعته يرتجز بكلمات ابن رواحة، وهو ينقل التراب ويقول:
اللهم لولا أنت ما اهتدينا ... ولا تصدقنا ولا صلينا
فأنزلن سكينة علينا ... وثبت الأقدام إن لاقينا
إن الأولى قد رغبوا علينا
__________
قال عياض: وقع للأكثر بمهملة وفاء وبمعجمة وموحدة، فمنهم من ضبطه بنصب بطنه، ومنهم من ضبطه برفعها.
وعند النسفي حتى غبر بطنه، أو أغبر بمعجمة فيهما وموحدة.
ولأبي ذر وأبي زيد: حتى أغمر. قال: ولا وجه لها إلا أن تكون بمعنى ستر، كما في الرواية الأخرى حتى وارى عني التراب جلدة بطنه.
قال: وأوجه هذه الروايات اغبر بمعجمة وموحدة، ورفع بطنه.
"وكان كثير الشعر" بفتحتين، أي: شعر بطنه، وفي حديث أم سلمة عند أحمد بسند صحيح كان صلى الله عليه وسلم يعاطيهم اللبن يوم الخندق، وقد أغبر شعر صدره، وظاهره أنه كان كثير شعر الصدر، وليس كذلك فإن في صفته صلى الله عليه وسلم أنه كان دقيق المسربة، أي: الشعر، الذي في الصدر إلى البط، فيمكن أن يجمع بأنه كان مع دقته كثيرا، أي: لم يكن منتشرا بل كان مستطيلا، والله أعلم انتهى كله من الفتح. "فسمعته يرتجز بكلمات ابن رواحة وهو ينقل التراب ويقول: اللهم" وفي الطريق الأولى والله، "لولا أنت ما اهتدينا" وعلى الطريق الأولى وهو موزون، وأما الثانية فقال الزركشي: صوابه في الوزن لا هم، أو تالله لولا أنت، قال الدماميني: هذا عجيب، فإنه صلى الله عليه وسلم هو المتمثل بهذا الكلام والوزن لا يجري على لسانه الشريف غالبا. قلت: إنما قال صوابه في الوزن، ولا عجب في ذلك أصلا. "ولا تصدقنا" ولفظ أبي يعلى: اللهم لولا أنت، وقال بدل تصدقنا صمنا كذا في الشامية، ومراده أنه ذكره بإحدى روايتي الصحيح في أوله، وأبدل تصدقنا بصمنا كما هو ظاهر جدا، إلا أنه انفرد عن البخاري بلفظ: اللهم لولا أنت، كما توهم فإنه فاسد لثبوتها في البخاري "ولا صلينا فأنزلن" بنون التوكيد الخفيفة "سكينة" بالتنكير، أي: وقارا، "علينا" هكذا رواية البخاري في المغازي من الطريقين، وله في الجهاد: فأنزل السكينة علينا، وللحموي والمستملي: فأنزل سكينة، وللكشميهني كما هنا، "وثبت" قوّ "الأقدام إن لاقينا" العدو "إن الأولى" هو من الألفاظ الموصولات، لا من أسماء الإشارة جمعا للمذكر، "قد رغبوا" بغين معجمة، العدو "علينا" أي: على قتالنا.
قال الحافظ: كذا للسرخسي، والكشميهني، وأبي الوقت، والأصيلي، وابن عساكر وللباقين قد بغوا كالأولى، لكن الأصيلي ضبطها بالعين المهملة الثقيلة والموحدة، وضبطها في(3/27)
إذا أرادوا فتنة أبينا
قال: ويمد بها صوته ... وفي روية له أيضا:
إن الأولى بغوا علينا ... إذا أرادوا فتنة أبينا
وفي حديث سليمان التيمي عن أبي عثمان النهدي أنه صلى الله عليه وسلم ضرب في الخندق قال:
بسم الإله وبه بدينا ... ولو عبدنا غيره شقينا
حبذا ربا و..............
__________
المطالع بالغين المعجمة، وكذا ضبطت في رواية أبي الوقت لكن بزاي أوله، والمشهور ما في المطالع ا. هـ، وعلى خلاف المشهور، وهو الإهمال فتشديد رعبوا للمبالغة، أي: رعبوا المسلمين بتحزبهم علينا، فلا حاجة إلى أنه ضمنه معنى جمعوا، فعداه بعلي مع أنه يتعدى بنفسه وبالهمزة، "إذا أرادوا فتنة أبينا" بالموحدة، الفرار، كما رجحه عياض وبالفوقية، أي: جئنا وأقدمنا على عدونا، وتتمة حديث البراء من هذا الطريق لفظها "قال:" ثم يمد صوته بآخرها.
قال المصنف كالحافظ، أي: بقوله: أبينا، ولفظه في الطريق الأولى ورفع صوته أبينا أبينا، وكان المصنف ذكر حاصل معنى الروايتين بقوله: "ويمد بها صوته" أي: باللفظة الأخيرة لا بالجميع.
"وفي رواية له" للبخاري "أيضا" في الطريق الأولى: "إن الأولى بغوا علينا، إذا أرادوا فتنة أبينا".
قال الحافظ: ليس بموزون وتحريره إن الذين قد بغوا علينا، فذكر الراوي الأولى بعنى الذين وحذف قد وزعم ابن التين أن المحذوف هم وقد والأصل أن الأولى هم قد بغوا علينا وهو يتزن بما قال لكن لم يتعين، وذكر بعض الرواة في مسلم أبوا بدل بغوا، ومعناه صحيح، أي: أبوا أن يدخلوا في ديننا.
"وفي حديث" الحارث بن أبي أسامة من طريق "سليمان" بن طرخان "التيمي" أبي المعتمر البصري، نزل في التيم فنسب إليهم الثقة العابد، المتوفى سنة ثلاث وأربعين ومائة، وهو ابن سبع وتسعين سنة. روى له الجميع "عن أبي عثمان" عبد الرحمن بن مل، بميم مثلثة ولام ثقيلة "النهدي" بفتح النون وسكون الهاء، ثقة عابد مخضرم، مات سنة خمس وتسعين، وقيل بعدها وعاش مائة وثلاثين سنة، وقيل: أكثر.
روى له الستة وهو مرسل، وقد أخرجه البيهقي موصولا عن سلمان "أنه صلى الله عليه وسلم حين ضرب في الخندق قال: بسم الإله وبه بدينا" لا بحولنا وقوتنا، "ولو عبدنا غيره شقينا، حبذا ربا" هو(3/28)
.............حبذا دينا
قال في النهاية: يقال بديت بالشيء -بكسر الدال- أي: بدأت به، فلما خفف الهمزة كسر الدال، فانقلبت الهمزة ياء، وليس هو من بنات الياء. ا. هـ.
وقد وقع في حفر الخندق آيات من أعلام نبوته عليه الصلاة والسلام. منها ما في الصحاح عن جابر قال: إنا يوم الخندق نحفر فعرضت كدية شديدة -وهي بضم الكاف وتقديم الدال المهملة على التحتية، وهي القطعة الصلبة-.........
__________
"وحبذا دينا" ديننا، وهذا غير موزون، ويتزن بإسكان باء حبذا، الثانية لكن الذي في الفتح عن رواية النهدي هذه حبذا ربا حبذ دينا بإسقاط ذا الثانية وهذا موزون.
"قال في النهاية يقال: بديت بالشيء بكسر الدال، أي: بدأت به، فلما خفف الهمز كسر الدال فانقلبت الهمزة ياء، وليس هو من بنات الياء" أي: ليس فيه أصلية، "انتهى".
قال شيخنا: يرد عليه أن الدال مكسورة قبل التخفيف، إذ الظاهر من قوله بديت أن كسره أصلي غايته أن مكسور الدال بمعنى مفتوحها، اللهم إلا أن يقال المراد إن مكسور الدال أصله الفتح فقلبت الهمزة ياء، ثم كسرت الدال لمناسبة الياء، "وقد وقع في حفر الخندق آيات" علامات "من أعلام" جمع علم، وهو العلامة وجمعها علامات فكأنه قال وقع علامات هي بعض علامات "نبوته عليه الصلاة والسلام" وتفنن فعبر أولا بالآيات، وثانيا بإعلام "منها ما في الصحاح" البخاري وغيره.
"عن جابر قال: إنا" بتشديد النون "يوم الخندق" ظرف لقوله: "نحفر" أي: كنا في وقت حفرنا مشغولين به.
وفي رواية الإسماعيلي: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الخندق نحفر "فعرضت" أي: ظهرت، "كدية شديدة، وهي بضم الكاف وتقديم الدال المهملة على التحتية، وهي القطعة الصلبة" من الأرض لا يعمل فيها المعول، وبهذه الرواية صدر المصنف في شرح البخاري، وعزاها الحافظ لرواية الإسماعيلي وأحمد وصدر بقوله كيدة كذا لأبي ذر بفتح الكاف وسكون التحتية، قيل: هي القطعة الشديدة الصلبة من الأرض.
وقال عياض: كأن المراد أنها واحدة الكيد، كأنهم أرادوا أن الكيد وهو الحيلة أعجزهم، فلجئوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وللأصيلي عن الجرجاني كندة بالنون. وعند ابن السكن: كتدة بفوقية.
قال عياض: لا أعرف لهما معنى ا. هـ.
وحكى الأنصاري كبدة بفتح الكاف، وسكون الموحدة انتهى فهي خمسة.(3/29)
فجاءوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: هذه كدية عرضت في الخندق، فقام وبطنه معصوب بحجر، ولبثنا ثلاثة أيام لا نذوق ذواقا فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم المعول فضرب فعاد كثيبا أهيل أو أهيم.
كذا بالشك من الراوي، وفي رواية الإسماعيلي باللام من غير شك،
__________
وفي شرح المصنف عن الفتح: أن رواية الجرجاني بفتح الكاف والموحدة، أي: قطعة صلبة من الأرض لكن الذي في الفتح كما رأيت بالنون، "فجاءوا للنبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: هذه كدية عرضت في الخندق".
وفي رواية الإسماعيلي فقال: رشوها بالماء، فرشوها "فقام وبطنه معصوب بحجر" زاد في رواية من الجوع، ولأحمد أصابهم جهد شديد حتى ربط صلى الله عليه وسلم على بطنه حجرا من الجوع.
قال الحافظ: وفائدة ربطه على البطن أنها تضمر من الجوع، فيخشى على انحناء الصلب بواسطة ذلك، فإذا وضع فوقها الحجر وشد عليها العصابة استقام الظهر.
وقال الكرماني: لعله لتسكين حرارة الجوع ببرد الحجر، أو لأنها حجارة رقاق قدر البطن تشد الأمعاء، لئلا يتحلل شيء مما في البطن، فلا يحصل ضعف زائد بسبب التحلل، "ولبثنا ثلاثة أيام لا نذوق ذواقا" بفتح الذال المعجمة، أي: شيئا.
قال الحافظ وهي جملة معترضة أوردها لبيان السبب في ربطه صلى الله عليه وسلم الحجر على بطنه..
وزاد الإسماعيلي: ولا نطعم شيئا، ولا نقدر عليه ا. هـ.
قال شيخنا: أو لبيان اجتهاد الصحابة ومبالغتهم في امتثال أمره، وإن كانوا على غاية من الجهد وتوطئة لصنع جابر للطعام.
"فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم المعول" بكسر الميم، وسكون المهملة، وفتح الواو بعدها لام، أي: المسحاة.
وفي رواية أحمد: فأخذ المعول، أو المسحاة بالشك أي: في اللفظ الذي قاله وإن اتحدا معنى "فضرب" في رواية الإسماعيلي، ثم سمي ثلاثا، ثم ضرب "فعاد" المضروب "كثيبا" بمثلثة، أي: رملا "أهيل" بفتح الهمزة والتحتية بينهما هاء ساكنة آخره لام.
وعند ابن إسحاق بلاغا عن جابر أنه دعا بإناء من ماء فتفل فيه، ثم دعا بما شاء الله أن يدعو، ثم نضح ذلك الماء على تلك الكدية، فيقول من حضرها: والذي بعثه بالحق لاهالت حتى عادت مثل الكثيب، لا ترد فاسا ولا مسحاة "أو أهيم" بالميم بدل اللام، "كذا بالشك من الراوي" ولم يعينه الحافظ ولا غيره.
"وفي رواية الإسماعيلي باللام من غير شك" كما في الفتح. قال: وكذا عند يونس.(3/30)
والمعنى: أنه صار رملا يسيل ولا يتماسك.
وأهيم: بمعنى أهيل. وقد قيل في قوله تعالى: {فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ} [الواقعة: 55] المراد: الرمال التي لا يرويها الماء.
وقد وقع عند أحمد والنسائي في هذه القصة زيادة بإسناد حسن من حديث البراء قال: لما كان حين أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفر الخندق، عرضت لنا في بعض الخندق صخرة لا تأخذ فيها المعاول
__________
وفي رواية أحمد كثيبا يهال، "والمعنى أنه صار رملا يسيل، ولا يتماسك" قال الله تعالى: {وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا} الآية، أي: رملا سائلا، "و" أما "أهيم" بالميم، فقال عياض: ضبطها بعضهم بالمثلثة، وبعضهم بالمثناة، وهي "بمعنى أهيل" باللام، ووقع للمصنف في شرح البخاري أن رواية الإسماعيلي بالميم، فكأنه سبق قلم، فما بعد هذا البيان من الحافظ بيان، "وقد قيل في قوله تعالى: {فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ} المراد الرمال التي لا يرويها الماء" أي: لا يظهر أثره فيها لكثرتها شبه ظهور الماء، بزوال العطش الذي هو الري، واستعير له اسمه، ثم اشتق منه الفعل على أنه جمع هيام بالفتح كسحاب، فخفف بنقل حركة الياء إلى الهاء بعد سلب حركتها، أو حذفت ضمتها بلا نقل، ثم قلبت كسرة لتسلم الياء، فصار هيم كما أشار إليه البيضاوي، وصدر بأن المراد الإبل التي بها الهيام، أي: بضم الهاء وهو داء يشبه الاستسقاء جمع أهيم وهيماء.
قال ذو الرمة:
فأصبحت كالهيماء لا الماء مبرد ... صداها ولا يقضي عليها هيامها
ا. هـ.
وما أفاده من اختلاف مفرده بالمعنيين قد ينافي ما يشعر المصنف من ن أهيم يجمع على هيم، فلا يختص بالإبل اللهم إلا أن يكون إذا وصف به الكثيب جمع على هيم، ولا يطلق إلا هيم على الرمل بل الهيام، وإذا جمع قيل هيم، و"قد وقع عند أحمد والنسائي في هذه القصة زيادة بإسناد حسن من حديث البراء" بن عازب "قال: لما كان" تامة وفاعلها "حين" بالبناء على الفتح لإضافته إلى الجملة الماضوية في قوله: "أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم" وهو الأكثر لإضافته إلى مبني، ويجوز فيه الإعراب أو كان ناقصة، أي: عملنا في الخندق حاصلا حين أمرنا "بحفر الخندق"، وجواب لما هو قوله: "عرضت لنا في بعض الخندق صخرة لا تأخذ فيها المعاول" جمع معول، وهو الفأس العظيمة التي ينقر بها قوي الصخر، كما في الجوهري. وقول شيخنا(3/31)
فاشتكينا ذلك لرسول صلى الله عليه وسلم، فجاء وأخذ المعول فقال: بسم الله، ثم ضرب ضربة فنشر ثلثها، وقال: الله أكبر، أعطيت مفاتيح الشام، والله إني لأبصر قصورها الحمر الساعة، ثم ضرب الثانية فقطع ثلثا آخر، فقال: الله أكبر، أعطيت مفاتيح فارس، والله إني لأبصر قصر المدائن الأبيض الآن، ثم ضرب الثالثة وقال بسم الله فقطع بقية الحجر، فقال: الله أكبر أعطيت مفاتيح اليمن، والله إني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني الساعة.
__________
جوابها محذوف، أي: لما كان زمن أمره بالحفر حفرنا؛ لأن نسخته فعرضت بالفاء لكن الثابت في النسخ الصحيحة، وهو الذي رأيته في الفتح في نسختين صحيحتين عرضت بدون فاء فهي الجواب على أنه قد يقترن بالفاء جواب لما، فلا حاجة للتقدير، "فاشتكينا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فجاء وأخذ المعول" من سلمان "فقال: بسم الله، ثم ضربه فنشر" بشين معجمة قطع، والذي في الفتح فكسر "ثلثها" بالمعول. وفي رواية: فخرج نور أضاء ما بين لابتي المدينة، "وقال: "الله أكبر أعطيت مفاتيح الشام، والله إني لأبصر قصورها الحمر الساعة" من مكاني" "ثم ضرب الثانية فقطع ثلثا آخر".
زاد في رواية: فبرقت برقة من جهة فارس أضاء ما بين لابتيها، "فقال: "الله أكبر أعطيت مفاتيح فارس، والله إني لأبصر قصر المدائن" مدائن كسرى "الأبيض" لعل المراد به قصر كسرى المعد له "الآن".
وفي رواية: والله إني لأبصر قصور الحيرة، ومدائن كسرى، كأنها أنياب الكلاب من مكاني هذا، وأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها فأبشروا بالنصر، فسر المسلمون، "ثم ضرب الثالثة وقال: بسم الله، فقطع بقية الحجر".
زاد في رواية فخرج نور من قبل اليمن فأضاء ما بين لابتي المدينة حتى كان مصباحا في جوف ليل مظلم، "فقال: " الله أكبر أعطيت مفاتيح اليمن، والله إني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني الساعة" " وهذا الحديث الحسن لا يعارضه رواية ابن إسحاق بلفظ عن سلمان فذكره، وفيه أما الأولى فإن الله فتح بها على اليمن، والثانية الشام والمغرب، والثالثة المشرق فارس؛ لأنه منقطع، فلا يعارض المسند المرفوع الحسن، ومن ثم لم يلتفت الحافظ لرواية ابن إسحاق وإن تبعه عليها اليعمري وغيره، بل اقتصر على هذا الحديث وأيده، بأن طرقه تعددت بقوله عقبه، وللطبراني من حديث عبد الله بن عمر ونحوه، وأخرجه البيهقي مطولا من طريق كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف عن أبيه عن جده.
وفي رواية: خط صلى الله عليه وسلم الخندق لكل عشرة أناس عشرة أذرع، وفيه فمرت بنا صخرة بيضاء(3/32)
ومن أعلام نبوته ما ثبت في الصحيح من حديث جابر من تكثير الطعام والقليل يوم حفر الخندق، كما سيأتي إن شاء الله تعالى مستوفى في مقصد المعجزات مع غيره.
وقد وقع عند موسى بن عقبة أنهم أقاموا في عمل الخندق قريبا من عشرين ليلة.
وعند الواقدي: أربعا وعشرين.
وفي الروضة للنووي: خمسة عشر يوما.
وفي الهدي النبوي لابن القيم: أقاموا شهرا.
__________
كسرت معاويلنا، فأردنا أن نعدل عنها ثم قلنا حتى نشاور رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأرسلنا إليه سلمان، وفيه فضرب ضربة صدع الصخرة، وبرق منها برقة، فكبر وكبر المسلمون، وفيه رأيناك تكبر فكبرنا بتكبيرك قال: "إن البرقة الأولى أضاءت لها قصور الشام فأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليهم"، وفي آخره ففرح المسلمون واستبشروا، وأخرجه الطبراني عن عبد الله بن عمرو بن العاصي بنحوه ا. هـ.
قال ابن إسحاق: وحدثني من لا أتهم عن أبي هريرة، أنه كان يقول حين فتحت هذه الأمصار في زمان عمر وعثمان افتحوا ما بدا لكم، والذي نفس أبي هريرة بيده ما افتتحتم من مدينة، ولا تفتحونها إلى يوم القيامة إلا وقد أعطى الله محمدًا صلى الله عليه وسلم مفاتيحها قبل ذلك.
"ومن أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم ما ثبت في الصحيح من حديث جابر" المتقدم أوله في حديث الكدية "من تكثير الطعام القليل" وهو صاع من شعير وعنز صغير "يوم حفر الخندق" فجاء بالقوم وهم ألف، فبصق في العجين والبرمة. قال جابر: فأقسم بالله لقد أكلوا حتى تركوه، وإن برمتنا كما هي، وإن عجيننا ليخبز كما هو، "كما سيأتي إن شاء الله تعالى، مستوفى في مقصد المعجزات مع غيره".
ومنها خبر الحفنة من التمر التي جاءت بها ابنة بشير بن سعد، أخت النعمان لأبيها وخالها ابن رواحة ليتغديا به، فقال لها صلى الله عليه وسلم: "هاتيه فصبته في كفيه" فما ملأهما، ثم أمر بثوب فبسط له، ثم قال لإنسان: "اصرخ في أهل الخندق، أن هلموا إلى الغداء"، فاجتمعوا عليه فجعلوا يأكلون، وجعل يزيد حتى صدروا عنه، وإنه ليسقط من أطرا الثوب رواه ابن إسحاق، "وقد وقع عند موسى بن عقبة أنهم أقاموا في عمل الخندق" أي: مدة حفره، "قريبا من عشرين ليلة، وعند الواقدي: أربعا وعشرين" وعند ابن سعد: ستة أيام. قال السمهودي، وهو المعروف.
"وفي الروضة للنووي: خمسة عشر يوما، وفي الهدي النبوي لابن القيم: أقاموا شهرا"(3/33)
ولما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخندق أقبلت قريش حتى نزلت بمجتمع السيول في عشرة آلاف من أحابيشهم ومن تبعهم من بني كنانة وتهامة.
ونزل عيينة بن حصن في غطفان ومن تبعهم من أهل نجد إلى جانب أحد.
__________
كذا قاله المصنف تبعا للفتح حرفا بحرف، ورد ذلك الشريف السمهوري، بأن الذي في الروضة، والهدي ومغازي ابن عقبة، إنما هو في مدة الحصار، لا في عمل الخندق، ثم استدرك على الرد بأن ابن سيد الناس بعد نقله عن ابن سعد، أنه كمل في ستة أيام. قال وغيره يقول بضع عشرة ليلة، وقيل: أربعا وعشرين ا. هـ، وليست بواثق من هذا التعقب، فإن الحافظ نقل أولا عن ابن عقبة، أن مدة الحصار عشرون يوما، ثم بعد قليل ذكر هذا الخلاف في مدة الحفر، وتوهيم مثله بمجرد نسخ قد يكون سقط منها أحد الموضعين، لا ينبغي فإنه لا يجازف في النقل.
قال ابن إسحاق: "ولما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من: حفر "الخندق, أقبلت قريش حتى نزلت بمجتمع" بضم الميم الأولى، وسكون الجيم، وفتح الفوقية والميم الثانية، أي: الموضع الذي تجتمع فيه "السيول" جمع سيل, كما في القاموس وغيره، ويجمع أيضا على أسيال.
وفي ابن إسحاق على أسيال من رومة بين الجرف وزغابة.
قال السهيلي: بزاي مفتوحة وغين منقوطة، وقيل: بضم الراء وعين مهملة اسم موضع ذكرهما البكري، مقدما الثاني
وحكي عن الطبري، أنه قال في هذا الحديث: بين الجرف والغابة، واختار هذه الرواية، وقال: لأن زغابة لا تعرف وإلا عرف عندي رواية الغين المنقوطة
لحديث: ألا تعجبون لهذا الأعرابي، أهدى إلي ناقتي أعرفها بعينها ذهبت مني يوم زغابة، وقد كافأته بست فيسخط ا. هـ، وتحققت ووجدت جملة قريش، ومن معهم "في عشرة آلاف" منهم، "ومن أحابيشهم" فهو ظرف لمقدر لا لقريش، وإلا لاقتضى أنهم ليسوا من العشرة والجار والمجرور عطف على محذوف مع حذف العاطف، حتى لا يقتضي ذلك أيضا، مع أن الجميع عند ابن إسحاق الذي هذا كلامه عشرة آلاف فقط، ثم الأحابيش الحلفاء من التحبيش التجميع لتجمعهم على أنهم يد واحدة، أو لتحالفهم بذنبة حبشي جبل بأسفل مكة، أو واديها كما مر في أحد، "ومن تبعهم من بني كنانة وأهل تهامة، ونزل عيينة بن حصن في" على بابها، أو بمعنى مع "غطفان، ومن تبعهم من أهل نجد".
قال ابن إسحاق: بذنب نقمي، "إلى جانب أحد" ونقمي بفتح النون، والقاف وفتح الميم مقصور.(3/34)
وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من المسلمين حتى جعلوا أظهرهم إلى سلع، وكانوا ثلاثة آلاف رجل, فضرب هنالك عسكره، والخندق بينه وبين القوم, وكان لواء المهاجرين بيد زيد بن حارثة، ولواء الأنصار بيد سعد بن عبادة وكان صلى الله عليه وسلم يبعث الحرس إلى المدينة خوفا على الذراري من بني قريظة.
قال ابن إسحاق: وخرج عدو الله حيي بن أخطب حتى أتى كعب بن أسد القرظي صاحب عقد بني قريظة وعهدهم، وكان وادع رسول الله صلى الله عليه وسلم على قومه وعاقده، فأغلق كعب دونه باب حصنه، وأبى أن يفتح له، وقال ويحك يا حيي، إنك امرؤ مشئوم، وإني قد عاهدت محمدا فلست بناقض ما بيني وبينه، فإني لم أر منه إلا وفاء وصدقا. فقال: ويحك افتح لي، ولم يزل، به حتى فتح له
__________
قال الصغاني: موضع من أعراض المدينة ذكره البرهان.
"وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من المسلمين، حتى جعلوا ظهورهم إلى سلع" بفتح السين المهملة، وسكون اللام وبالعين المهملة، جبل بالمدينة "وكانوا ثلاثة آلاف رجل".
قال الشافعي: ووهم من قال كانوا سبعمائة، "فضرب هنالك عسكره والخندق بينه وبين القوم".
قال ابن هشام: واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم، "وكان" كما ذكر ابن سعد "لواء المهاجرين بيد زيد بن حارثة، ولواء الأنصار بيد سعد بن عبادة، وكان صلى الله عليه وسلم يبعث الحرس إلى المدينة".
قال ابن سعد: كان يبعث سلمة بن أسلم في مائتي رجل، وزيد بن حارثة في ثلاثمائة رجل يحرسون المدينة، ويظهرون التكبير "خوفا على الذراري من بني قريظة" زاد غيره فإذا أصبحوا أمنوا.
قال ابن إسحاق: وخرج عدو الله حيي بن أخطب" فسار "حتى أتى كعب بن أسد القرظي، صاحب عقد بني قريظة وعهدهم"، تفسيري، "وكان وادع" صالح "رسول الله صلى الله عليه وسلم على قومه، وعاقده فأغلق كعب دونه باب حصنه، وأبى أن يفتح له، وقال" بعدما ناداه حيي: ويحك يا كعب، "ويحك يا حيي"، كلمة ترحم وتوجع، والمراد أمره بالانصراف عنه، كأنه قال: اذهب عني "إنك امرؤ مشئوم، وإني قد عاهدت محمدا، فلست بناقض ما بيني وبينه، فإني لم أرم من إلا وفاء وصدقا فقال: ويحك افتح لي" أكلمك، قال: ما أنا بفاعل، "ولم يزل به حتى فتح له"، ذلك أنه نسبه إلى البخل بالطعام، والله إني أغلقت دوني إلا تخوفا على(3/35)
فقال: ويلك يا كعب جئتك بعز الدهر، جئتك بقريش حتى أنزلتهم بمجتمع الأسيال، ومن دونه غطفان وقد عاهدوني على أن لا يبرحوا حتى نستأصل محمدا ومن معه، ولم يزل به حتى نقض عهده، وبرئ مما كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وعن عبد الله بن الزبير قال: كنت يوم الأحزاب أنا وعمر بن أبي سلمة مع النساء في أطم حسان
__________
جشيشتك أن آكل معك منها، ففتح له "فقال: ويلك" كلمة تقال لمن وقع في هلاك يستحقه، والمعنى وقعت في الهلاك إن لم توافقني، "يا كعب جئتك بعز الدهر" أي: بسبب عز مدته وبينه بقوله، "جئتك بقريش حتى أنزلتهم بمجتمع الأسيال" جمع سيل، "ومن دونه" أي: منزل قريش "غطفان، وقد عاهدوني على أن لا يبرحوا، حتى نستأصل محمدًا ومن معه" فقال له كعب: جئتني والله بذل الدهر، وبجهام قد هراق ماءه يرعد، ويبرق وليس فيه شيء، ويحك يا حيي دعني وما أنا عليه، فإني لم أر من محمدًا إلا صدقا ووفاء، "ولم يزل به" يفتله في الذروة والغارب.
قال في الروض: هو مثل أصله البعير، يستصعب عليك، فتأخذ القراد من ذروته، وغارب سنامه فيجد لذة، فيأنس عند ذلك، فضرب مثلا في المراوضة. قال الحطيئة:
لعمرك ما قراد بني بغيض ... إذا نزع القراد بمستطاع
"حتى نقض عهده، وبرئ مما كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم" وأعطاه عهدا على أنه إن رجعت قريش وغطفان، ولم يصيبوا محمدًا أن أدخل معك في حصنك يصيبني ما أصابك.
"وعن عبد الله بن الزبير" الصحابي أمير المؤمنين ابن الصحابي الحواري "قال: كنت يوم الأحزاب أنا وعمر" بضم العين "ابن أبي سلمة" بن عبد الأسد القرشي المخزومي الصحابي ابن الصحابي ربيبه صلى الله عليه وسلم أمه أم سلمة "مع النساء" يعني نسوة النبي صلى الله عليه وسلم "في أطم" بضمتين حصن مبني بالحجارة "حسان" بن ثابت أضيف إليه لكونه فيه مع النساء، وهذا لفظ مسلم، وله في رواية في الأطم الذي فيه النسوة.
قال ابن الكلبي: كان حسان لسا شجاعا فأصابته علة أحدثت فيه الجبن، فكان لا ينظر إلى قتال ولا يشهده.
وأخرج ابن إسحاق من مرسل يحيى بن عباد، عن أبيه، والطبراني برجال الصحيح من مرسل عروة، وأبو يعلى والبزار بإسناد حسن عن الزبير بن العوام قال: لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم(3/36)
فنظرت فإذا الزبير على فرسه يختلف إلى بني قريظة مرتين أو ثلاثا، فلما رجعت قلت يا أبت رأيتك تختلف، قال: أرأيتني يا بني قلت: نعم
__________
إلى الخندق جعل نساءه وعمته صفية في حصن، ومعهم حسان فأقبل عشرة من اليهود، فجعلوا يرمون الحصن، ودنا أحدهم إلى بابه، وجعل يطيف به.
قالت صفية: وقد حاربت قريظة، وليس بيننا وبينهم أحد يدفع عنا، والنبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون في نحور عدوهم لا يستطيعون أن ينصرفوا عنهم، فقلت: يا حسان إن هذا اليهودي، كما ترى ولا آمنه أن يدل على عوراتنا، فانزل إليه فاقتله، قال: يغفر الله لك يا بنت عبد المطلب، والله لقد عرفت ما أنا بصاحب هذا، ولو كان في لخرجت مع رسول الله، قالت: فلم لم أر عنده شيئا أخذت عمودا، ثم نزلت فضربته به ضربة شدخت رأسه، حتى قتلته، ورجعت فقلت: يا حسان اسلبه، فإنه لم يمنعني من سلبه، إلا أنه رجل قال ما لي بسلبه من حاجة، فقلت: خذ الرأس وارم به إلى اليهود، قال: ما ذاك في، قالت: فأخذت الرأس فرميت به على اليهود، فقالوا: قد علمنا أن محمدًا لم يترك أهله خلوا ليس معهم أحد فتفرقوا.
زاد أبو يعلى، فأخبر بذلك صلى الله عليه وسلم فضرب لها بسهم كالرجال، أي: من غنائم قريظة.
قال في الروض: محمل هذا الحديث على أن حسان كان جبانا شديد الجبن، وأنكره بعض العلماء منهم ابن عبد البر في الدرر؛ لأنه حديث منقطع الإسناد، ولو صح لهجي به حسان، فإنه كا يهاجي الشعراء كطرار وابن الزهراء، وكانوا يناقضونه، ويردون عليه، فما عيره أحد منهم بجبن، ولا وسمه به، فدل ذلك على ضعف حديث ابن إسحاق وإن صح فالأولى أنه كان معتلا ذلك اليوم بعلة تمنعه شهود القتال ا. هـ.
وإنما كان أولى لأن ابن إسحاق لم ينفرد به، بل جاء بسند حسن متصل، كما علم فاعتضد حديثه، وقد قال ابن السراج: سكوت الشعراء عن تعبيره بذلك من أعلام النبوة؛ لأنه شاعره صلى الله عليه وسلم وفي مسلم وكان، أي: عمر، يطأطئ لي مرة فأنظر، وأطأطئ له مرة، فينظر فكنت أعرف أبي إذا مر على فرسه في السلاح "فنظرت فإذا الزبير على فرسه يختلف إلى بني قريظة" أي: يذهب ويجيء، "مرتين أو ثلاثا".
قال المصنف بالشك، كذا بإثبات مرتين أو ثلاثا في كل ما وقفت عليه من الأصول، وعزاه الحافظ ابن حجر، وتبعه العيني لرواية الإسماعيلي من طريق أبي أسامة لا يقال مراد الحافظ زيادة لك عند الإسماعيلي على رواية البخاري بعد قوله يختلف؛ لأنه ذكر ذلك عقب قوله إلى بني قريظة، "فلما رجعت" من أطم حسان إلى منزلنا، "قلت: يا أبت رأيتك تختلف" تجيء وتذهب إلى بني قريظة "قال" مستفهما بالهمز استفهام تقرير: "أرأيتني يا بني؟ قلت:(3/37)
قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من يأت بني قريظة فيأتيني بخبرهم فانطلقت، فلما رجعت جمع لي رسول الله صلى الله عليه وسلم أبويه في الفداء فقال: "فداك أبي وأمي". أخرجه الشيخان والترمذي وقال: حديث حسن.
وفي رواية أصحاب المغازي: فلما انتهى الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سعد بن معاذ وسعد بن عبادة ومعهما ابن رواحة وخوات بن جبير ليعرفوا الخبر،
__________
نعم" رأيتك "قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من يأت بني قريظة، فيأتيني بخبرهم" بتحتية ساكنة بعد الفوقية، ولأبي ذر عن الكشميهني، فيأتني بحذفها، "فانطلقت" إليهم، "فلما رجعت" بخبرهم "جمع لي رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أبويه في الفداء" تعظيما لي وإعلاء لقدري، فإن الإنسان لا يفدي إلا من يعظمه فيبذل له نفسه، "فقال: فداك أبي وأمي" لا يعارضه قول على ما جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم أبويه لغير سعد بن مالك؛ لأن مراده بقيد يوم أحد أو تفدية خاصة كما مر.
قال الحافظ: وفي هذا الحديث صحة سماع الصغير، وأنه لا يتوقف على أربع، أو خمس؛ لأن ابن الزبير كان ابن سنتين وأشهر، أو ثلاث وأشهر بحسب الاختلاف في وقت مولده.
وفي تاريخ الخندق فإن قلنا: إنه ولد في أول سنة الهجرة، والخندق سنة خمس فيكون ابن أربع وأشهر، وإن عجلنا إحداهما وأخرنا الأخرى فيكون ابن ثلاث سنين وأشهر، "أخرجه الشيخان والترمذي، وقال: حديث حسن" من رواية هشام بن عروة، عن أبيه، عن عبد الله بن الزبير.
قال الحافظ: وبين مسلم أن في هذه الرواية أدراجا، فساقه من رواية علي بن مسهر إلى قوله إلى بني قريظة.
ثم قال: قال هشام، وأخبرني عبد الله بن عروة عن عبد الله بن الزبير، قال فذكرت ذلك لأبي، إلخ الحديث ثم ساقه من طريق أبي أسامة عن هشام، فساق الحديث نحوه، ولم يذكر عبد الله بن عروة، ولكن أدرج القصة في حديث هشام عن أبيه، ويؤيده أن النسائي أخرج القصة الأخيرة من طريق عبدة عن هشام، عن أخيه عبد الله بن عروة، عن عبد الله بن الزبير، عن أبيه، والله أعلم.
"وفي رواية أصحاب المغازي فلما انتهى الخبر" أي: خبر نقض قريظة العهد، "إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سعد بن معاذ وسعد بن عبادة، ومعهما ابن رواحة وخوات" بفتح الخاء المعجمة، وشد الواو فألف ففوقية "ابن جبير" الأنصاري الأوسي، شهد بدرا والمشاهد كلها.
زاد الواقدي وأسيد بن الحضير "ليعرفوا الخبر".(3/38)
فوجدوهم على أخبث ما بلغه عنهم، قالوا من رسول الله وتبرءوا من عقده وعهده، ثم أقبل السعدان ومن معهما على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: عضل والقارة، أي: كغدرهما بأصحاب الربيع.
فعظم عند ذلك البلاء، واشتد الخوف، فأتاهم عدوهم من فوقهم ومن أسفل منهم، حتى ظن المؤمنون كل ظن.
__________
وعند ابن إسحاق فقال: انطلقوا لتنظروا أحق ما بلغنا عن هؤلاء القوم أم لا؟، فإن كان حقا فالحنوا إلي لحنا أعرفه، ولا تفتوا في أعضاد الناس، وإن كانوا على الوفاء فيما بيننا فاجهروا به للناس.
قال في الروض: اللحن العدول بالكلام على الوجه المعروف عند الناس إلي وجه لا يعرفه إلا صاحبه، كما أن اللحن الذي هو الخطأ عدول على الصواب المعروف، وتفتوا بضم الفاء وشد الفوقية.
قال في الروض: أي تكسروا من قوتهم، وتوهنوهم وضرب العضد مثلا، وقال في أعضاد ولم يقل أعضاء؛ لأنه كناية عن الرعب الداخل في القلب، ولم يرد كسرا حقيقيا، ولا العضد الذي هو العضو، وإنما هو عبارة عما يدخل في القلب من الوهن، وهو من أفصح الكلام، فخرجوا حتى أتوهم، "فوجدوهم على أخبث ما بلغه عنهم، قالوا من رسول الله" فتكلموا فيه بما لا يليق، وقالوا من رسول الله "وتبرءوا من عقده وعهده" فقالوا: لا عهد بيننا وبين محمد ولا عقد، "ثم أقبل السعدان، ومن معهما على رسول الله صلى الله عليه وسلم،" فلحنوا له كما أمرهم، "وقالوا: عضل والقارة أي:" غدرروا "كغدرهما بأصحاب الربيع" خبيب وأصحابه، فقال صلى الله عليه وسلم: "الله أكبر أبشروا يا معشر المسلمين"، كذا في ابن إسحاق، ثم رواية أصحاب المغازي هذه لا تنافي رواية الصحيح التي قبلها أنه أرسل الجميع دفعة، أو بعد إرسال الزبير لاحتمال أن يرجعوا إلى العهد بعد نقضه حياء من حلفائهم؛ لأنهم كانوا حلفاء الأوس، وقد أرسل إليهم سيدهم فغلبت عليهم الشقوة، وليس لك أن تقول أو لاحتمال أن الزبير علم من غيرهم نقض العهد، فاكتفى به؛ لأنه ظن سوء بمثل الزبير تأباه مروءته وشجاعته "فعظم عند ذلك البلاء واشتد الخوف، فأتاهم عدوهم من فوقهم" من أعلى الوادي من قبل المشرق بنو غطفان، "ومن أسفل منهم"، من أسفل الوادي من قبل المغرب قريش.
وعند ابن مردويه عن ابن عباس: إذ جاءوكم من فوقكم.
قال عيينة بن حصن: ومن أسفل منكم أبو سفيان بن حرب "حتى ظن المؤمنون كل ظن" كما قال تعالى: {وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا} [الأحزاب: 10] أي: المختلفة بالنصر(3/39)
ونجم النفاق من بعض المنافقين، وأنزل الله تعالى: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إَِّلا غُرُورًا} الآيات [الأحزاب: 12] .
__________
واليأس، وقال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة: 214] .
قال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن قتادة قال: نزلت هذه الآية في يوم الأحزاب. أصاب النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ وأصحابه بلاء وحصر.
وعند الواقدي فقال صلى الله عليه وسلم: "الله أكبر أبشروا بنصر الله وعونه إني لأرجو أن أطوف بالبيت العتيق وآخذ المفتاح، وليهلكن كسرى وقيصر ولننفقن أموالهما في سبيل الله"، يقول ذلك حين رأى ما بالمسلمين من الكرب.
وذكر ابن إسحاق ما حاصله فأراد صلى الله عليه وسلم أن يعطي عيينة بن حصن، ومن معه ثلث ثمار المدينة على أن يرجعوا، فمنعه السعدان وقالا: كنا نحن وهم على الشرك لا يطمعون أن يأكلوا منا تمرة إلا بقرى أو بيع، أفحين أكرمنا الله بالإسلام، وأعزنا بك وبه نعطيهم أموالنا بهذا من حاجة، والله ما نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله، فقال صلى الله عليه وسلم: "أنت وذاك".
وروى البزار والطبراني عن أبي هريرة: أتى الحارث إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد ناصفنا تمر المدينة وإلا ملأتها عليك خيلا ورجالا، فقال: "حتى أستأمر السعود سعد بن عبادة، وسعد بن معاذ، وسعد بن الربيع، وسعد بن خيثمة، وسعد بن مسعود، فكلمهم" فقالوا: لا والله ما أعطينا الدنية في أنفسنا في الجاهلية، فكيف وقد جاء الله بالإسلام، فأخبر الحارث فقال: غدرت يا محمد، كذا في هذا الحديث، وسعد بن الربيع وقد تقدم أنه استشهد بأحد ولا خلف لاحتمال أن إتيان الحارث بسبب ذلك قبل أحد إذ ليس في الحديث أنه أتى يوم الخندق.
"ونجم" بفتح النون والجيم والميم، ظهر "النفاق من بعض المنافقين" كذا عند ابن إسحاق، وينافيه ظاهر قوله تعالى: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ} [الأحزاب: 12] إلا أن يكون الذين أظهروه بعضهم ولم ينكره باقيهم ولا ضعاف القلوب من المؤمنين، فنسب القول إلى جميعهم "وأنزل الله تعالى: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} [الأحزاب: 12] " من الظفر وإعلاء الدين " {إِلَّا غُرُورًا} " [الأحزاب: 12] وعدا باطلا.
ذكر ابن إسحاق أن قائله معتب بن قشير.
قال: كان محمد يرى أن نأكل من كنوز كسرى وقيصر وأحدنا لا يأمن أن يذهب إلى الغائط.(3/40)
وقال رجال ممن معه: يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا، وقال أوس بن قيظي: يا رسول الله، إن بيوتنا عورة من العدو، فائذن لنا فنرجع إلى ديارنا، فإنها خارج المدينة.
وأقبل نوفل بن عبد الله بن المغيرة المخزومي على فرس له ليوثبه فوقع في الخندق فقتله الله. وكبر ذلك على المشركين، فأرسلوا إلى رسول صلى الله عليه وسلم إنا نعطيكم الدية على أن تدفعوه إلينا فندفنه، فرد إليهم النبي صلى الله عليه وسلم: "إنه خبيث خبيث الدية، فلعنه الله
__________
وأخرج جويبر عن ابن عباس قال: أنزلت هذه الآية في معتب بن قشير الأنصاري، هو صاحب هذه المقالة وقيل: عبد الله بن أبي وأصحابه.
قال ابن هشام: وأخبرني من أثق به من أهل العلم أن معتبا لم يكن من المنافقين، واحتج بأنه كان من أهل بدر "الآيات" وهذا إخبار إجمالي عما نزل بسبب ظهور النفاق، فصله بقوله: "وقال رجال ممن معه: يا أهل يثرب لا مقام لكم" بضم الميم وفتحها، أي: لا إقامة ولا مكان، "فارجعوا" إلى منازلكم بالمدينة.
"وقال أوس بن قيظي" بتحتية وظاء معجمة، الأنصاري الأوسي، يقال: إنه منافق تمسكا بهذه القصة ونحوها، لكن ذكره في الإصابة في القسم الأول، وقال: شهد أحدًا هو وابناه عرابة وعبد الله، ويقال كان منافقا، وإنه القائل: إن بيوتنا عورة، ا. هـ. وابنه عرابة في صحبته خلاف، وكان سيدا وفيه يقول شماخ:
إذا ما راية رفعت لمجد ... تلقاها عرابة باليمين
"يا رسول الله إن بيوتنا عورة" غير حصينة، نخشى عليها "من العدو" قال ابن إسحاق، وذلك عن ملأ من رجال قومه، "فائذن لنا فنرجع إلى ديارنا فإنها خارج المدينة" قال تعالى: {وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا} [الأحزاب: 13] .
قال ابن عائذ: بياء وذال معجمة، محمد الحافظ صاحب المغازي، "وأقبل نوفل بن عبد الله بن المغيرة المخزومي" يريد قتل النبي صلى الله عليه وسلم، كما عند أبي نعيم "على فرس له ليوثبه الخندق، فوقع في الخندق".
زاد في رواية أبي نعيم: فاندقت عنقه، "فقتله الله وكبر" عظم "ذلك على المشركين فأرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إنا نعطيكم الدية".
قال ابن هشام: بلغني عن الزهري أنهم أعطوا في جسده عشرة آلاف درهم، "على أن تدفعوه إلينا، فندفنه، فرد إليهم النبي صلى الله عليه وسلم" جواب قولهم ذلك بقوله: "إنه خبيث" لموته كافرا محاربا لله ورسوله، "خبيث الدية" لعدم حلها، إذ لا دية في مثل هذه الصورة، "فلعنه الله(3/41)
ولعن ديته، ولا نمنعكم أن تدفنون ولا أرب لنا في ديته".
قال ابن إسحاق: وأقام عليه الصلاة والسلام والمسلمون وعدوهم يحاصرهم، ولم يكن بينهم قتال إلا مراماة بالنبل، لكن كان عمرو بن عبدود العامري اقتحم هو ونفر معه خيولهم من ناحية ضيقة من الخندق، حتى كانوا بالسبخة، فبارزه علي فقتله،
__________
ولعن ديته، ولا نمنعكم أن تدفنوه ولا أرب" بفتح الهمزة والراء وبالموحدة، أي: حاجة "لنا في ديته".
"وقال ابن إسحاق: وأقام عليه الصلاة والسلام والمسلمون" على الخندق، "وعدوهم يحاصرهم، ولم يكن بينهم قتال،" إلا أنهم لا يدعون الطلائع بالليل يطمعون في الغارة، قاله ابن سعد، "اقتحم هو ونفر معه" هم: عكرمة وهبيرة بن أبي وهب المخزوميان وضرار بن الخطاب، كما في ابن إسحاق "خيولهم" بالرفع بدل من الفاعل فهو المقصود بالنسبة، ومعناه اقتحمت بإكراههم إياها، أو بالنصب واقتحم بمعنى أقحم مجاز "من ناحية ضيقة من الخندق حتى كانوا بالسبخة" بمهملة فموحدة فمعجمة مفتوحات، واحدة السباخ، ويقال أرض سبخة بالكسر ذات سباخ وهو أنسب بالمصنف، أي: حتى صاروا بالأرض السبخة بين الخندق وسلع، "فبارزه علي" بعدما نادى عمرو ثلاثا من يبازر؟ وفي كل مرة يقول علي: أنا له يا نبي الله، فيقول: "اجلس، إنه عمرو"، فقال علي في الثالثة: وإن كان عمرا فأعطاه صلى الله عليه وسلم سيفه وعممه، وقال: "اللهم أعنه عليه"، فدعاه إلى الإسلام أو الرجوع عن الحرب، فأبى إلا البراز فضحك، وقال: ما كنت أظن أحدا يرومني على هذه الخصلة فمن أنت، قال: علي بن أبي طالب، قال: يابن أخي من أعمامك من هو أسن منك، فإني أكره أن أهريق دمك، فقال علي: لكني والله لا أكره أن أهريق دمك فغضب عمرو، فنزل عن فرسه وعقرها وسل سيفه، كأنه شعلة نار، ثم أقبل نحوه علي مغضبا, فاستقبله على بدرقته ودنا أحدهما من الآخر، وثارت بينهما غبرة فضربه عمرو فاتقاها بدرقته، فانقدت وأثبت فيها السيف وضربه علي فوق عاتقه "فقتله" وقيل: طعنه في ترقوته حتى أخرجها من مراقه فسقط ثم أقبل نحوه صلى الله عليه وسلم وهو متهال، فقال له عمر بن الخطاب: هلا سلبته درعه فإنه ليس في العرب درع خير منها، فقال: إنه حين ضربته استقبلني بسوأته فاستحييت.
قال الحاكم: سمعت الأصم، قال: سمعت العطاردي قال: سمعت الحافظ يحيى بن آدم يقول: ما شبهت قتل علي عمرا إلا بقوله تعالى: {فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ} [البقرة: 251] .(3/42)
وبرز نوفل بن عبد الله بن المغيرة فقتله الزبير وقيل قتله علي، ورجعت بقية الخيول مهزومة.
ورمي سعد بن معاذ بسهم فقطع منه الأكحل -وهو بفتح الهمزة والمهملة بينهما كاف ساكنة- عرق في وسط الذراع. قال الخليل: هو عرق الحياة يقال إن في كل عضو منه شعبة فهو في اليد الأكحل وفي الظهر الأبهر وفي الفخذ النسا،
__________
"وبرز نوفل بن عبد الله بن المغيرة" المخزومي "فقتله الزبير" بن العوام بالسيف، حتى شقه اثنتين وقطع سرجه حتى خلص إلى كاهل الفرس، فقيل: ما رأينا مثل سيفك، قال: ما هو السيف، ولكنها الساعد، "وقيل: قتله علي" هكذا عزاه في الفتح لابن إسحاق فتبعه المصنف ولم يذكر ذلك ابن هشام في روايته عن البكائي عنه، فلعله في رواية غيره ثم هو معارض لما قدمه المصنف عن ابن عائذ من أنه اقتحم الخندق، فوقع فيه فقتل، وهو الذي ذكره ابن هشام عن زياد عن ابن إسحاق ومثله في رواية أبي نعيم، وعليه اقتصر اليعمري.
وقد روي ابن أبي شيبة من مرسل عكرمة، أن رجلا من المشركين قال يوم الخندق: من يبارز؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "قم يا زبير" فقالت أمه صفية: واحدي يا رسول الله، فقال: "قم يا زبير"، فقام فقتله، ثم جاء بسلبه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنفله إياه.
وذكر ابن جرير، أن نوفلا لما تورط في الخندق، رماه الناس بالحجارة، فجعل يقول قتلة أحسن من هذه يا معشر العرب، فنزل إليه علي فقتله، وفي الجمع بين الثلاثة عشر.
"ورجعت بقية الخيول مهزومة" قال ابن هشام: وألقى عكرمة رمحه يومئذ، وهو منهزم عن عمرو فعيره حسان بأبيات، فلما رجعوا إلى أبي سفيان قال: هذا يوم لم يكن لنا فيه شيء فارجعوا، وكان شعار الصحابة يوم الخندق وبني قريظة حم لا ينصرون، "ورمي سعد بن معاذ بسهم، فقطع منه الأكحل، وهو بفتح الهمزة و" الحاء "المهملة بينهما كاف ساكنة، عرق في وسط الذراع".
"قال الخليل" ابن أحمد لأزدي الفراهيدي، أبو عبد الرحمن البصري اللغوي، صاحب العروض والنحو، العالم العابد الصدوق في الحديث. مات بعد الستين ومائة، وقيل: سنة سبعين أو بعدها. أخرج له ابن ماجه في التفسير، "هو عرق الحياة يقال: إن في كل عضو منه شعبة، فهو في اليد الأكحل".
وفي القاموس: هو عرق في اليد، أو هو عرق الحياة، ولا تقل عرق الأكحل، "وفي الظهر الأبهر" بفتح الهمزة والهاء بينهما موحدة ساكنة، وفي القاموس: الأبهر الظهر، وعرق فيه ووتد العنق والأكحل، "وفي الفخذ النسا" بفتح النون مقصور، كما قال الأصمعي: عرق من الورك إلى(3/43)
إذا قطع لم يرقا الدم.
وكان الذي رمى سعدا، ابن العرقة، أحد بني عامر بني لؤي، قال: خذها وأنا ابن العرقة، فقال سعد: عرق الله وجهك في النار. ثم قال: اللهم إن كنت أبقيت من حرب قريش شيئا فأبقني لها، فإنه لا قوم أحب إلي أن أجاهدهم من قوم آذوا رسولك وكذبوه.
__________
الكعب.
قال أبو زيد: يثنى نسوان ونسيان والجمع أنساء.
قال ابن السكيت: هو عرق النسا، وقال الأصمعي: هو النسا، ولا تقل عرق النسا.
قال الزجاج: لأن الشيء لا يضاف إلى بعضه.
"إذا قطع لم يرقأ الدم" بالهمز، أي: لم ينقطع، ونسخة لم يرق تحريف، فالذي في اللغة إنه مهموز، لكن وجهها شيخنا في التقرير، بأن الهمزة أبدلت ألفا قبل الجازم، فلما دخل حذفت الألف كالحركة، "وكان الذي رمى سعدا هو ابن العرقة" بفتح العين المهملة وكسر الراء، وهي أمه واسمها قلابة بنت سعيد بن سعد بن سهم، تكنى أم فاطمة، سميت العرقة لطيب ريحها، وهي جدة خديجة أم أبيها، وهو حبان بن عبد مناف بن منقذ بن عمرو بن هصيص بن عامر بن لؤي، كذا قال السهيلي.
وقال ابن الكلبي: هي أم عبد مناف جد أبيه، وهو عنده حبان بن أبي قيس بن علقمة بن عند مناف.
قال في التبصير: وحبان، بكسر الحاء المهملة وفتح الموحدة مثقلة، وصحفه موسى بن عقبة، فقال جبار، بجيم وموحدة وراء، والأول أصح قاله الأمير، يعني ابن ماكولا "أحد بني عامر بن لؤي" ولذا يقال له العامري، "قال: خذها وأنا ابن العرقة، فقال سعد" ويقال النبي صلى الله عليه وسلم "عرق" بعين مهملة "الله وجهك في النار، ثم قال: اللهم إن كنت أبقيت من حرب قريش شيئا، فأبقني لها، فإنه لا قوم أحب إلي أن أجاهدهم من قوم آذوا رسولك وكذبوه" وأخرجوه وإن كنت وضعت الحرب بيننا وبينهم، فاجعلها لي شهادة ولا تمتني حتى تقر عيني من بني قريظة، هذا بقية قوله عند ابن إسحاق ونحوه في الصحيح، وقد استحباب الله له، فلم يقم لقريش حرب بعدها، وما مات حتى حكم في بني قريظة كم يأتي.
قال ابن إسحاق: وحدثني من لا أتهم عن عبد الله بن كعب بن مالك، أنه كان يقول: ما أصاب سعدا يومئذ إلا أبو أسامة الجشني حليف بني مخزوم.(3/44)
وأقام عليه الصلاة والسلام وأصحابه بضع عشرة ليلة. فمشى نعيم بن مسعود الأشجعي -وهو مخف إسلامه- فثبط قوما عن قوم وأوقع بينهم شرا لقوله عليه الصلاة والسلام: "إن الحرب خدعة
__________
وقال ابن هشام: ويقال الذي رماه خفاجة بن عاصم بن حبان، والله أعلم.
"وأقام عليه الصلاة والسلام وأصحابه" في حصار الكفار على الخندق، ولم يكن بينهم قتال إلا مراماة بالنبل والحجارة "بضع عشرة ليلة".
وذكر موسى بن عقبة أن مدة الحصار عشرون يوما، نقله الفتح.
وفي العيون: بضع وعشرون ليلة قريب من شهر.
وفي الهدي: إنه شهر.
"فمشى نعيم بن مسعود" بن عامر بن أنيف، بنون وفاء مصغر "الأشجعي" الصحابي، المشهور، المتوفى أول خلافة علي، خرج له أبو داود، "وهو مخف إسلامه، فثبط قوما" وهم بنو قريظة "عن قوم" وهم قريش ومن معهم، "وأوقع بينهم شرا" كراهية من كل فريق للآخر لا حربا، وإنما فعل ذلك "لقوله عليه الصلاة والسلام" له لما أتاه قائلا: إني أسلمت، وإن قومي لم يعلموا بإسلامي فمرني بما شئت، قال صلى الله عليه وسلم: "خذل عنا فـ " إن الحرب خدعة " ".
قال الحافظ: بفتح المعجمة، وبضمها مع سكون الدال المهملة فيها، وبضم أوله وفتح ثانيه صيغة مبالغة، كهمزة لمزة.
قال النووي: اتفقوا على أن الأولى أفصح، حتى قال ثعلب: بلغنا أنها لغة النبي صلى الله عليه وسلم، وبذلك جزم أبو ذر الهروي والقزار، والثانية ضبطت كذلك في رواية الأصيلي.
قال أبو بكر بن طلحة: أراد ثعلب أنه صلى الله عليه وسلم كان يستعملها كثيرا لو جاه لفظها ولكونها تعطي معنى للشيئين الآخرين.
قال: ويعطي معناها أيضا الأمر باستعمال الحيلة مهما أمكن، ولو مرة، فكانت مع اختصارها كثيرة المعنى إذ المعنى أنها تخدع أهلها من وصف الفاعل باسم المصدر، أو أنها وصف للمفعول، كهذا الدرهم ضرب الأمير، أي: مضروبه.
وقال الخطابي: إنها المرة الواحدة، يعني أنه إذا خدع مرة واحدة لم تقل عثرته، ومعنى الضم مع السكون أنها تخدع الرجال، أي: ي محل الخداع، وموضعه ومع فتح الدال، أي: تمنيهم الظفر، ولا تفي لهم، كالضحكة إذا كان يضحك بالناس، وقيل: الحكمة في الإتيان بالتاء، الدلالة على الوحدة، فإن الخداع أن كان من المسلمين، فكأنه حضهم على ذلك، ولو مرة واحدة، وإن كان من الكفار، فكأنه حذرهم من مكرهم، ولو وقع مرة واحدة، فلا ينبغي(3/45)
فاختلفت كلمتهم.
__________
التهاون بهم، لما ينشأ عنه من المفسدة ولو قل.
وحكى المنذري لغة رابعة بالفتح فيهما، قال: وهو جمع خادع، أي: إن أهلها بهذه الصفة، فكأنه قال أهل الحرب خدعة.
وحكى مكي، ومحمد بن عبد الواحد لغة خامسة كسر أوله مع الإسكان، وأصل الخدع أبطأن أمر وإظهار خلافه، وفيه التحريض على أخذ الحذر في الحرب والندب إلى خداع الكفار، وإن لم يتيقظ لذلك لم يأمن أن ينعكس الأمر عليه.
قال النووي: اتفقوا على جواز خداع الكفار في الحرب، كيفما أمكن إلا أن يكون فيه نقض عهد أو أمان فلا يجوز.
قال ابن العربي: ويقع الخداع بالتعريض وبالكمين ونحو ذلك، وفي الحديث الإشارة إلى استعمال الرأي في الحرب، بل الاحتياج إليه آكد من الشجاعة، ولذا اقتصر على ما يشير إليه بهذا الحديث، وهو كقوله: الحج عرفة.
قال ابن المنير: معنى الحرب خدعة، أن الحرب الجيدة لصاحبها، الكاملة في مقصودها إنما هي المخادعة، لا المواجهة، وذلك لخطر المواجهة، وحصول الظفر مع المخادعة بغير خطر.
وذكر الواقدي أن أول ما قال صلى الله عليه وسلم الحرب خدعة في غزوة الخندق انتهى من الفتح، وهو صريح في أن الرواية إنما هي بالثلاثة، الأولى لتصريحه بلغة رابعة لغة خامسة، وتبعه المصنف.
وفي القاموس: أنه روي أيضا بكسر الخاء وسكون الدال، ويوافقه قول السيوطي في التوشيح بفتح الخاء وضمها، وكسرها وسكون الدال، أمر باستعمال الحيلة فيه ما أمكن.
"فاختلفت كلمتهم" وذلك أن نعيما أتاه صلى الله عليه وسلم فقال: إني أسلمت وإن قومي لم يعلموا بإسلامي، فمرني بما شئت، فقال: "إنما أنت فينا رجل واحد فخذل عنا إن استطعت، فإن الحرب خدعة" فخرج حتى أتى بني قريظة، وكان لهم نديما، فقال: قد عرفتم ودي وإياكم، وخاصة ما بيني وبينكم، قالوا: صدقت لست عندنا بمتهم، فقال لهم: إن قريشا وغطفان ليسا كأنتم، البلد بلدكم به أموالكم، وأبناؤكم، ونساؤكم لا تقدرون أن تحولوا منه إلى غيره، وأنهم جاءوا لحرب محمد وأصحابه، وقد ظاهرتموهم عليه وبلدهم وأموالهم ونساؤهم بغيره، فإن رأوا نهزة أصابوها، وإن كان غير ذلك لحقوا ببلادهم، وخلوا بينكم وبينه ببلدكم، ولا طاقة لكم به إن خلا بكم، فلا تقاتلوا معهم حتى تأخذوا منهم رهنا من أشرافهم، يكونون بأيديكم ثقة لكم على أن تقاتلوا معهم محمدا حتى تناجزوه، فقالوا: لقد أشرت بالرأي، ثم أتى قريشا، فقال لأبي سفيان ومن معه: قد عرفتم ودي لكم وفراقي محمدا، وإنه قد بلغني أمر رأيت حقا علي أن أبلغكموه نصحا لكم،(3/46)
وروى الحاكم عن حذيفة قال: لقد رأيتنا ليلة الأحزاب
__________
فاكتموه عني، قالوا: نفعل، قال: إن يهود ندموا على ما صنعوا، وأرسلوا إلى محمد إنا قد ندمنا على ما فعلنا، أيرضيك أن نأخذ من أشراف قريش وغطفان رجالا تضرب أعناقهم، ثم نكون معك على من بقي منهم حتى نستأصلهم، فأرسل إليهم نعم، فإن بعثت إليكم يهود يلتمسون منكم رهنا، فلا تدفعوا إليهم رجلا واحدا، ثم أتى غطفان فقال: إنكم أصلي وعشيرتي وأحب الناس إلي، ولا أراكم تتهموني، قالوا: صدقت ما أنت عندنا بمتهم، قال: فاكتموا عني، قالوا: نفعل، فقال لهم مثل ما قال لقريش، وكان من صنع الله لرسوله أن أبا سفيان ورءوس غطفان أرسولوا إلى بني قريظة عكرمة في نفر من القبيلتين، فقالوا: إنا لسنا بدار مقام وقد هلك الخف والحافر، فأعدوا للقتال حتى نناجز محمدا ونفرغ مما بيننا وبينه، فأرسلوا إليهم أن اليوم يوم السبت لا نعمل فيه شيئا، وكان قد أحدث فيه بعضنا حدثا، فأصابه ما لم يخف عليكم، ولسنا مع ذلك بمقاتلين معكم حتى تعطونا رهنا من رجالكم يكونون بأيدينا ثقة لنا حتى نناجز محمدًا، فإنا نخشى إن اشتد عليكم القتال، أن ترجعوا إلى بلادكم وتتركونا والرجل في بلادنا ولا طلاقة لنا به، فقالت قريش وغطفان: والله إن الذي حدثكم نعيم به لحق، فأرسلوا إليهم إناوالله لا ندفع إليكم جلا واحدا، فإن كنتم تريدون القتال فاخرجوا فقاتلوا، فقالت قريظة: إن الذي ذكر لكم نعيم لحق، فأرسلوا إليهم إنا والله لا نقاتل معكم حتى تعطونا رهنا، فأبوا عليهم وخذل الله بينهم، وبعث الله عليهم الريح في ليال شديدة البرد، فأكفأت قدورهم وطرحت أبنيتهم، ذكره ابن إسحاق في رواية ابن هشام عن البكائي عنه، ولخصه الحافظ في الفتح بأوجز عبارة، وقال بعده ما لفظه.
قال ابن إسحاق: حدثني يزيد بن رومان، عن عروة عن عائشة: أن نعيما كان رجلا نمويا، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: إن اليهود قد بعثت إلي، إن كان يرضيك أنا نأخذ من قريش وغطفان رهنا نبعثهم إليك فتقتلهم فعلنا، فرجع نعيم مسرعا إلى قومه فأخبرهم، فقالوا: والله ما كذب محمد عليهم وإنهم لأهل غدر، وكذا قال لقريش، فكان ذلك سبب خذلانهم ورحيلهم ا. هـ.
"وروى الحاكم عن حذيفة" بن اليمان الصحابي ابن الصحابي "قال: لقد رأيتنا ليلة الأحزاب" أي: الليلة التي اشتد علينا الأمر فيها من ليالي الأحزاب، وهي الليلة التي كانت بعد المحاصرة الشديدة، وذلك كما ذكر ابن سعد وغيره، أنه لما طال المقام على قريش، وقتل عمرو، وانهزم من معه اتعدوا أن يفدوا جميعا، ولا يتخلف منهم أحد، فباتوا يعبون أصحابهم، ثم وافوا الخندق قبل طلوع الشمس وعبى صلى الله عليه وسلم أصحابه، وجمعهم على القتال، ووعدهم النصر إن صبروا، والمشركون قد جمعوا المسلمين في مثل الحصن من كتائبهم، فأحدقوا بكل وجه من الخندق، ووجهوا على خيمته صلى الله عليه وسلم كتيبة عظيمة غليظة فيها خالد بن الوليد، فقاتلوهم يومهم(3/47)
وأبو سفيان ومن معه من فوقنا، وقريظة أسفل منا نخافهم على ذرارينا، وما أتت علينا ليلة أشد ظلمة ولا ريحا منها، فجعل المنافقون يستأذنون ويقولون بيوتنا عورة، فمر بي النبي صلى الله عليه وسلم وأن جاث على ركبتي
__________
ذلك إلى هوى من الليل ما يقدر صلى الله عليه وسلم ولا أحد من المسلمين أن ينزلوا من مواضعهم، ولا على صلاة ظهر ولا عصر ولا مغرب ولا عشاء، فجعل الصحابة يقولون: ما صلينا، فيقول صلى الله عليه وسلم: "ما صليت" حتى كشفهم الله، فرجعوا متفرقين، ورجع كل فريق إلى منزله، وأقام أسيد بن حضير في مائتين على شفير الخندق فكرت خيل المشركين، وعليها خالد يطلبون غرة فناوشوهم ساعة، فزرق وحشي بن حرب الطفيل بن النعمان، وقيل: فيه الطفيل بن مالك بن النعمان من بني سلمة بمزراقه، فقتله وانكشفوا وسار صلى الله عليه وسلم إلى قبته، فأمر بلالا فأذن، وأقام فصلى الظهر، ثم أقام لكل صلاة إقامة فصلوا ما فاتهم، وقال: شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر، ملأ الله أجوافهم وقبورهم نارا، ولم يكن بعد قتال حتى انصرفوا، لكنهم لا يدعون الطلائع بالليل يطمعون في الغارة "وأبو سفيان ومن معه من فوقنا" أي: من فوق الوادي من قبل المشرق، "وقريظة أسف منا" من بطن الوادي من قبل المغرب، وهذا خلاف ما مر عن ابن عباس أن الذين من فوقهم غطفان، ومن أسفل منهم قريش، رواه ابن مردويه، وبه جزم البغوي وغيره، وزادوا وانضم إلى غطفان بنو قريظة والنضير، ويحتمل الجمع بأن قريشا كانت تأتي تارة من فوق وغطفان من أسفل، وتارة على العكس من ذلك، ثم لعل معنى كون قريظة مع المشركين، أي: في جهتهم منحازين في جانب لأنفسهم ممتنعين من الزحف معهم عليه صلى الله عليه وسلم، فلا ينافي أيضا حديث نعيم من امتناعهم من القتال، وفيه بعد لأن ظاهر حديث نعيم أنهم لم يخرجوا من ديارهم، فلعل معنى قوله وقريظة أسفل منا وهم في ديارهم، ويؤيده أو يعينه قوله: "نخافهم على ذرارينا وما أتت علينا ليلة أشد ظلمة ولا ريحا منها،" لا ينافي هذا قوله في بقية ذا الحديث، فإذا الريح فيه، أي: عسكر المشركين لا يجاوز شبرا؛ لأن شدة هذه بالنسبة للعادة، والآتية هي التي هتكت قبابهم وأطفأت نيرانهم، "فجعل المنافقون يسأذنون" النبي، "ويقولون: بيوتنا عورة" أي: غير حصينة.
وفي رواية البيهقي: فما يستأذن أحد منهم إلا أذن له فيتسللون.
وفي رواية له أيضا: أن رجلا قال لحذيفة: أدركتم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ندركه، قال: يابن أخي والله لا تدري لو أدركته كيف تكون، لقد رأيتنا ليلة الخندق في ليلة باردة مطيرة، فقال صلى الله عليه وسلم: "من يذهب فيعلم لنا علم القوم، جعله الله رفيق إبراهيم يوم القيامة، فوالله ما قام أحد" فقال الثانية: " جعله الله رفيقي" فلم يقم أحد، فقال أبو بكر: ابعث حذيفة، "فمر بي النبي صلى الله عليه وسلم، وأنا جاث على ركبتي" من شدة البرد والجوع والخوف، ولابن إسحاق: فدعاني فلم(3/48)
فقال: اذهب فائتني بخبر القوم ولم يبق معه إلا ثلاثمائة قال ودعا لي، فأذهب الله عز وجل عني القر والفزع، فدخلت عسكرهم فإذا الريح فيه، لا تجاوز شبرا، فلما رجعت رأيت فوارس في طريقي فقالوا: أخبر صاحبك أن الله كفاه القوم.
وفي رواية: أن حذيفة لما أرسله عليه الصلاة والسلام ليأتيه بالخبر سمع أبا سفيان يقول:
__________
يكن لي بد من القيم "فقال: اذهب فائتني بخبر القوم" وعند البيهقي: فقلت: أخشى أن أؤسر، قال: "إنك لن تؤسر" "ولم يبق معه إلا ثلاثمائة" لا يفهم منه أن من عداهم وهم ألفان وسبعمائة منافقون. وقد قال تعالى: {وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ} [الأحزاب: 13] .
قال ابن عباس: الفريق بنو حارثة، قال غيره: وبنو سلمة، أي: منافقوهم، لأنهم خصوا بالذكر لتعللهم بالباطل، وإنما هو وسيلة الفرار، كما قال تعالى: {وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ} [الأحزاب: 13] إن يريدون إلا فرارا. وأما المؤمنون فإنما رجعوا لألم البرد والجوع الشديدين، أو الخوف الحقيقي على بيوتهم، أو لفهمهم عدم التغليظ في ذهاب من يذهب فكشفوا حال بيوتهم ثم رجعوا.
"قال: ودعا لي" وفي رواية أبي نعيم عن حذيفة، فقال: اللهم احفظه من بين يديه، ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله ومن فوقه ومن تحته، وعند ابن عقبة وابن عائذ فقال: قم حفظك الله من أمامك ومن خلفك وعن يمينك وعن شمالك حتى ترجع إلينا، فقمت مستبشرا بدعائه فما شق علي شيء مما كان، "فأذهب الله عز وجل عني القر" بضم القاف والبرد، "والفزع" الخوف.
زاد في رواية أبي نعيم: فوالله ما خلق الله تعالى قرا ولا فزعا في جوفي إلا خرج، فما وجدت منه شيئا، فمضيت كأنما أمشي في حمام، فلما ولت دعاني، فقال: "يا حذيفة لا تحدث في القوم شيئا حتى تأتيني"، "فدخلت عسكرهم".
قال في رواية ابن إسحاق: والريح وجنود الله تفعل بهم ما تفعل لا تقر لهم قدرا ولا نارا ولا بناء "فإذا الريح فيه لا تجاوز" عسكرهم "شبرا فلما رجعت رأيت فوارس" نحو عشرين "في طريقي" حين انتصف بي الطريق، أو نحو ذلك معتمين، "فقالوا:" وفي رواية فارسين، فقالا: "أخبر صاحبك أن الله قد كفاه القوم" بالريح والجنود.
"وفي رواية" لابن إسحاق: "أن حذيفة لما أرسله عليه الصلاة والسلام ليأتيه بالخبر سمع أبا سفيان يقول،" ولفظه: حدثني يزيد بن زياد عن محمد بن كعب القرظي قال: قال رجل من أهل الكوفة لحذيفة: أرأيتم رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبتموه، قال: نعم، قال: فكيف كنتم تصنعون، قال: والله لقد كنا نجهد، قال: والله لو أدركنا ما تركناه يمشي على الأرض ولحملناه(3/49)
يا معشر قريش، إنكم والله ما أصبحتم بدار مقام، ولقد هلك الخف والكراع، واختلفنا وبنو قريظة، ولقينا من هذا الريح ما ترون فارتحلوا فإني مرتحل ووثب على جمله فما حل عقال يده إلا وهو قائم.
ووقع في البخاري أنه عليه الصلاة والسلام قال يوم الأحزاب:
__________
على أعناقنا فقال حذيفة: والله لقد رأيتني بالخندق وصلى صلى الله عليه وسلم هو يأمن الليل، ثم التفت إلينا فقال: "من رجل يقوم فينظر ما فعل القوم، ثم يرجع بشرط له الرجعة، أسأل الله أن يكون رفيقي في الجنة" فما قام رجل من شدة الخوف، وشدة الجوع وشدة البرد, فلما لم يقم أحد، دعاني فلم يكن لي بد من القيام، فقال: "يا حذيفة اذهب فادخل في القوم، فانظر ماذا يفعلون، ولا تحدثن شيئا حتى تأتنيا"، فذهبت فدخلت فيهم، والريح وجنود الله تفعل بهم ما تفعل، لا تقر لهم قدرا ولا نارا ولا بناء.
فقال أبو سفيان: لينظر امرؤ من جليسه.
فأخذت بيد الرجل الذي كان إلى جنبي، فقلت: من أنت؟ قال: فلان بن فلان، ثم قال أبو سفيان: "يا معشر قريش إنكم والله ما أصبحتم بدار مقام" أي: بمحل يصلح للإقامة فيه، "ولقد هلك الخف والكراع" بضم الكاف، وخفة الراء وبالعين المهملة، اسم لجمع الخيل، كما في الشامية، "واختلفنا وبنو قريظة" حيث امتنعوا من القتال معنا، وفيه عطف الظاهر على ضمير الرفع المتصل بلا فاصل، وهو جائز على قلة، لكن لفظ الرواية عند ابن إسحاق: وأخلفتنا بنو قريظة، وبلغنا عنهم الذي نكره، "ولقينا من هذا الريح ما ترون"، ما يطمئن لنا قدر، ولا تقوم لنا نار، ولا يستمسك لنا بناء، "فارتحلوا فإني مرتحل، ووثب على جمله، فما حل عقال يده،" أي: الجمل، "إلا وهو قائم".
ولفظ الرواية في ابن إسحاق: ثم قام إلى جمله وهو معقول، فجلس عليه، ثم ضربه فوثب به على ثلاث، فوالله ما أطلق عقاله إلا وهو قائم، ولولا عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلي، أن لا تحدث شيئا حتى تأتيني، ثم شئت لقتلته بسهم، فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو قائم يصلي في مرط لبعض نسائه، فلما رآني أدخلني إلى رجليه وطرح علي طرف المرط، ثم ركع وسجد وإني لفيه، فلما سلم أخبرته الخبر وسمعت غطفان بما صنعت قريش، فرجعوا إلى بلادهم هذا بقية رواية ابن إسحاق.
"ووقع في البخاري" في الجهاد، وفي المغازي، وكذا في مسلم، والترمذي، والنسائي وابن ماجه كله عن جابر، "أنه عليه الصلاة والسلام قال يوم الأحزاب" وفي رواية النسائي عن(3/50)
"من يأتينا بخبر القوم". فقال الزبير: أنا، فقال: "من يأتينا بخبر القوم"، فقال الزبير: أنا، فقال: "من يأتينا بخبر القوم"؟ قالها ثلاثا.
وقد أشكل ذكر الزبير في هذه القصة.
فقال ابن الملقن: وقع هنا أن الزبير هو الذي ذهب والمشهور أنه حذيفة بن اليمان.
قال الحافظ بن حجر: وهذا الحصر مردود، فإن القصة التي ذهب لكشفها غير القصة التي ذهب حذيفة لكشفها، فقصة الزبير كانت لكشف خبر بني قريظة هل نقضوا العهد بينهم وبين المسلمين، ووافقوا قريشا على محاربة المسلمين؟ وقصة حذيفة كانت لما اشتد الحصار على المسلمين بالخندق، وتمالأت عليهم الطوائف، ثم وقع بين الأحزاب الاختلاف، وحذرت كل طائفة من الأخرى، وأرسل الله عليهم الريح واشتد البرد تلك الليلة، فانتدب عليه الصلاة والسلام من يأتيه بخبر
__________
جابر، أنه قال: يوم بني قريظة "من يأتيني بخبر القوم" بين الواقدي، أن المراد بهم بنو قريظة، وبه يسقط الإشكال الآتي، "فقال الزبير: أنا" آتيك بخبرهم، "ثم قال: "من يأتينا بخبر القوم"؟ فقال الزبير: أنا، ثم قال: "من يأتينا بخبر القوم"؟ فقال الزبير: أنا ثم قال: "إن لكل نبي حواريا، وإن حواري الزبير" هذا بقية الحديث في البخاري وغيره، وقوله "قالها ثلاثا" من المصنف ضبطا للحديث لئلا تسقط واحدة، وهي رواية المغازي، وأما الجهاد فقالها مرتين.
"وقد أشكل ذكر الزبير في هذه القصة، فقال ابن الملقن: وقع هنا أن الزبير هو الذي ذهب" لكشفها، "والمشهور" كما قال شيخنا أبو الفتح اليعمري، "أنه حذيفة بن اليمان"، كما رويناه من طريق ابن إسحاق وغيره.
"قال الحافظ ابن حجر: وهذا الحصر مردود، فإن القصة التي ذهب" الزبير "لكشفها غير القصة التي ذهب حذيفة لكشفها" فتوهمها ابن الملقن وشيخه واحدة وليس كذلك، "فقصة الزبير كانت لكشف خبر بني قريظة، هل نقضوا العهد بينهم وبين المسلمين، ووافقوا قريشا على محاربة المسلمين" وهي التي رواها جابر في الصحيحين وغيرهما.
"وصة حذيفة كانت لما اشتد الحصار على المسلمين بالخندق، وتمالأت عليهم الطوائف، ثم وقع بين الأحزاب الاختلاف، وحذرت كل طائفة من الأخرى، وأرسل الله عليهم الريح، واشتد البرد تلك الليلة فانتدب" أي: دعا "عليه الصلاة والسلام من يأتيه بخبر(3/51)
قريش فانتدب له حذيفة بعد تكراره طلب ذلك، وقصته في ذلك مشهورة لما دخل بين قريش في الليل وعرف قصتهم.
__________
قريش، فانتدب له حذيفة بعد تكراره طلب ذلك"، وهو الذي رواه ابن إسحاق وغيره، فتوهم اليعمري وتلميذه القصتين واحدة، فقضى بأن المشهور رواية ابن إسحاق وغيره، أنه حذيفة على رواية الصحيحين، وغيرهما أنه لزبير مع أنك قد علمت من هذا البيان الشافي، أنهما قصتان وهو واضح جدا، ولم يظهر لي قول شيخنا لا يظهر منه رد قول ابن الملقن، فالمفهوم منه أنه إنما أنكر أن الذاهب لقريش هو الزبير، ولم يدع أنه لم يذهب في غزوة الخندق بأمره صلى الله عليه وسلم البتة ا. هـ.
فإن وجه الرد عليه ليس من دعواه ذلك، حتى يقال إنه لم يدعه، بل من توهمه أن حديث الصحيح في بعثه لقريش، مع أنه إنما كان لبني قريظة، كما بينه الواقدي، بل روى النسائي عن جابر نفسه لما اشتد الأمر يوم بني قريظة، قال صلى الله عليه وسلم: "من يأتيني بخبرهم"، فلم يذهب أحد، فذهب الزبير فجاء بخبرهم، ثم اشتد الأمر أيضا، فقال: "من يأتينا بخبرهم"؟، فلم يذهب أحد، فذهب الزبير، ثم اشتد الأمر أيضا، قال: "من يأتينا بخبرهم"؟ فلم يذهب أحد، فذهب الزبير.
ففيه أنه ذهب لقريظة ثلاث مرات، وقول بعضهم: لا مانع أنه أرسل الزبير لقريظة مرة أخرى للبحث عن حال قريش فاسد، فالمانع موجود وهو مجيء الرواية عن جابر نفسه، أن ذهاب الزبير لبني قريظة.
والروايات يفسر بعضها بعضا، وتجويز أنه صلى الله عليه وسلم عدل عن إرسال الزبير؛ لأن له حة وشدة، لا يملك معها نفسه أن يحدث بالقوم، ما نعى عنه حذيفة، فاختار إرساله لذلك، وأن بهذا يرد كلام الحافظ، هذا الذي نقله المصنف خطأ صريح أوقعه في حق الحواري أحد الشعرة، حاشاه من هذا الهذيان، فإنه لا يفعل ما نهاه عنه لو وقع.
"وقصته" أي: حذيفة "في ذلك مشهورة لما دخل بين قريش في الليل، وعرف قصتهم"، فعند أبي نعيم والبيهقي وغيرهما عنه قال: لما دخلت بينهم نظرت في ضوء نار توقد، وإذا رجل أدهم ضخم يقول بيده على النار، ويمسح خاصرته وحوله عصبة، قد تفرق عنه الأحزاب، وهو يقول الرحيل، ولم أعرف أبا سفيان قبل ذلك، فانتزعت سهما من كنانتي أبيض الريش لأضعه في كبد القوس لأرميه في ضوء النار، فذكرت قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تحدثن في القوم شيئا حتى تأتيني" فأمسكت ورددت سهمي، فلما جلست فيهم أحس أبو سفيان أنه قد دخل فيهم من غيرهم، فقال: "ليأخذ كل رجل منكم بيد جليسه"، فضربت بيدي على يد الذي عن يميني، فأخذت بيده فقلت: من أنت؟، قال: معاوية بن أبي سفيان، ثم ضربت بيدي على يد الذي عن شمالي فقلت: من أنت؟ قال: عمرو بن العاص، فعلت ذلك خشية أن يفطن بي، فبدرتهم(3/52)
وفي البخاري من حديث عبد الله بن أبي أوفى قال: دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأحزاب فقال: "اللهم منزل الكتاب سريع الحساب
__________
بالمسألة ثم تلبثت فيهم هنيهة، فأتيت قريشا وبني كنانة وقيسا، وقلت: ما أمرني به صلى الله عليه وسلم بقوله: ادخل حتى تدخل بين ظهراني القوم، فأتيت قريشا، فقلت: يا معشر قريش، إنما يريد الناس إذا كان غدا أن يقال أين قريش، أين قادة الناس، أين رءوس الناس، فيقدمونكم فتصلوا القتال، فيكون القتل فيكم، ثم ائت بني كنانة فقل إذا كان غدا فيقال: أين رماة الحذف فيقدمونكم فتصلوا القتال فيكون القتل فيكم ثم ائت قيسا فقل: يا معشر قيس إنما يريد الناس إذا كان غدا أن يقولوا أين قيس، أين أحلاس، الخيل أين الفرسان، فيقدمونكم، فتصلوا القتال، فيكون القتل فيكم الحديث.
وذكر في بقيته ارتحالهم وغلبة الريح عليهم، وأنه عاد إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولقيه الفوارس في نحو نصف الطريق، فلما وصل عاد له البرد ووجده صلى الله عليه وسلم يصلي، فأومأ إليه بيده فدنا منه، فسدل عليه من فضل شملته، قال: فأخبرته الخبر وإني تركتهم يترحلون، فلم أزل نائما حتى الصبح، فلما أصبحت، قال صلى الله عليه وسلم: "قم يا نومان".
"وفي البخاري" في الجهاد، والمغازي، والتوحيد والدعوات، ومسلم في المغازي، والترمذي وابن ماجه في الجهاد والنسائي في السير كلهم "من حديث" الصحابي ابن الصحابي "عبد الله بن أبي أوفى" بفتح الهمزة والفاء بينهما واو ساكنة، كما ضبطه الكرماني وغيره، واسمه علقمة بن خالد بن الحارث الأسلمي، شهد عبد الله الحديبية، وعمر دهرا، ومات سنة سبع وثمانين، وهو آخر من مات بالكوفة من الصحابة. "قال: دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأحزاب".
وفي رواية أحمد وابن سعد عن جابر، أنه صلى الله عليه وسلم أتى مسجد الأحزاب يوم الاثنين ويوم الثلاثاء، ويوم الأربعاء بين الظهر والعصر، فوضع رداءه، فقام فرفع يديه يدعو عليهم، فرأينا البشر في وجهه.
وفي رواية أبي نعيم: انتظر حتى زالت الشمس، ثم قام، فقال: "يا أيها الناس لا تتمنوا لقاء العدو، واسألوا الله العافية، فإن لقيتم العدو فاصبروا، واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف"، ثم دعا "فقال: "اللهم" أي: يا الله، يا "منزل الكتاب" القرءان.
قال الطيبي: لعل تخصيص هذا الوصف بهذا المقام تلويح إلى معنى الانتصار في قوله تعالى: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [الصف: 9] ، وأمثال ذلك يا "سريع الحساب".
قال الكرماني: إما أن يريد به سريع حسابه، بمجيء وقته، وإما أنه سريع في الحساب،(3/53)
اهزم الأحزاب، اللهم اهزمهم وزلزلهم".
وروى أحمد عن أبي سعيد قال: قلنا يوم الخندق يا رسول الله هل من شيء نقوله فقد بلغت القلوب الحناجر فقال: "نعم، اللهم استر عوراتنا وآمن روعاتنا". قال: فضرب الله وجوه أعدائنا بالريح فهزمهم بالريح.
__________
"اهزم الأحزاب" بزاي: اكسرهم، وبدد شملهم، "اللهم اهزمهم وزلزلهم" فلا يثبتوا عند اللقاء، بل تطيش عقولهم، وترعد أقدامهم، وقد استجاب الله لرسوله، فأرسل عليهم ريحا وجنودا، فهزمهم حتى قال طليحة بن خويلد الأسدي: أما محمد فقد بدأكم بالسحرة فالنجاء النجاء، فانهزموا من غير قتال.
وخص الدعاء عليهم بالهزيمة والزلزلة دون الهلاك؛ لأن في الهزيمة سلامة نفوسهم، وقد يكون ذلك رجاء أن يتوبوا من الشرك ويدخلوا في الإسلام والإهلاك مفوت لهذا المقصد الصحيح.
"وروى أحمد عن أبي سعيد" سعد بن مالك بن سنان الخدري، الصحابي، ابن الصحابي، "قال: قلنا يوم الخندق: يا رسول الله هل من شيء نقوله، فقد بلغت القلوب الحناجر" جمع حنجرة، وهي مجرى النفس.
قال قتادة: شخصت مكانها، فلولا أنه ضاق الحلقوم عنها لخرجت، رواه ابن أبي حاتم، وقد قيل: إذا انتفخت الرئة من شدة الفزع والغضب، أو الغم الشديد ربت، وارتفع القلب بارتفاعها إلى رأس الحنجرة، وقيل: هو تمثيل عن شدة الخوف، وعليه السهيلي. قال في الروض فيه: أن التكلم بالمجاز مبالغة حتى إذا فهمه المخاطب، فإن القلب لو انتقل إلى الحنجرة لمات صاحبه، فحالهم فيما بلغهم من الخوف وضيق الصدر، كمثل المنخلع قلبه من موضعه، ومثله جدارا يريد أن ينقض، أي: مثله كمثل من يريد الفعل، ويهم به فهو من مجاز التشبيه، وقيل: هو على حذف مضا، تقديره بلغ وجيف القلوب الحناجر ا. هـ، "فقال: "نعم"، قولوا: اللهم استر عوراتنا"" أي: خللنا، أي: عيوبنا، وتقصيرنا وما يسوءها إظهاره، "وآمن" بمد الهمزة وكسر المبهم مخففة، ويجوز القصر والتثقيل "روعاتنا" خوفنا وفزعنا من الروع بالفتح الفزع، وفيه من أنواع البديع جناس القلب، وإيقاع الأمن على الروع مجاز من إطلاق اسم المحل، وهو القلب على الحال فيه وهو الروع، وبهذا وافق قوله تعالى: {وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} [قريش: 4] ، قوله: {وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا} [النور: 55] ، حيث أوقع الأمن على الذوات.
"قال: فضرب الله وجوه أعدائنا بالريح، فهزمهم بالريح" وكفى الله المؤمنين القتال، فانصرف الكفار خائبين خائفين، حتى إن عمرو بن العاص، وخالد بن الوليد أقاما في مائتي(3/54)
وفي "ينبوع الحياة" لابن ظفر: قيل إنه صلى الله عليه وسلم دعا فقال: "يا صريخ المكروبين يا مجيب المضطرين اكشف همي وغمي وكربي فإنك ترى ما نزل بي وبأصحابي". فأتاه جبريل فبشره بأن الله سبحانه يرسل عليهم ريحا وجنودا، فأعلم أصحابه ورفع يديه قائلا: "شكرا شكرا"، وهبت ريح الصبا ليلا فقلعت الأوتاد وألقت عليهم الأبنية وكفت القدور
__________
فارس، ساقه عسكر المشركين ردأ لهم، مخافة الطلب، كما ذكره ابن سعد.
"وفي ينبوع الحياة" اسم تفسير القرءان العظيم "لابن ظفر" بفتح الظاء المعجمة والفاء بعدها راء، كما ضبطه ابن خلكان، ونسب إلى جده لشهرته به، وإلا فهو محمد بن محمد بن ظفر أحد الفضلاء صاحب التصانيف الصقلى، ولد بها، ونشأ بمكة، وتنقل في البلاد، وسكن آخر وقته بحماة، وكان فقيرا جدا حتى قيل: إنه زوج بنته بغير كفؤ للحاجة، فخرج الزوج بها من حلب، وباعها "قيل: إنه صلى الله عليه وسلم دعا فقال: "يا صريخ" بخاء معجمة، أي: يا مغيث "المكروبين"، ويطلق على المستغيث أيضا, كما في القاموس, وليس مرادا هنا "يا مجيب المضطرين" المكروبين الذي مسهم الضر، كما قال: أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء "اكشف همي وغمي وكربي، فإنك ترى ما نزل بي وبأصحابي، فأتاه جبريل فبشره بأن الله سبحانه وتعالى يرسل عليهم ريحا وجنودا، فأعلم أصحابه" بذلك ليزول خوفهم، "ورفع يديه قائلا" أشكرك "شكرا شكرا" أي: شكرا بعد شكر على ما أوليتني من نعمائك "وهبت ريح الصبا" بفتح الصاد المهملة وخفة الموحدة، وهي الشرقية، ويقال لها القبول؛ لأنها تقابل الشمال، وهي الريح العقيم التي لا خير فيها "ليلا".
روى ابن مردويه والبزار وغيرهما برجال الصحيح، عن ابن عباس قال: لما كانت ليلة الأحزاب قال الصبا للشمال: اذهبي بنا ننصر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إن الحرائر لا تهب بالليل، فغضب الله عليها، فجعلها عقيما، وأرسل الصبا، فأطفأت نيرانهم، وقطعت أطنابهم، فقال صلى الله عليه وسلم: "نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور".
وروى الشيخان والنسائي عنه مرفوعا: نصرت بالصبا، وأهلكت عاد بالدبور بفتح الدال، الريح الغربية، ومن لطيف المناسبة، كون القبول نصرت أهل القبول، والدبور أهلكت أهل الأدبار "فقلعت" الأوتاد" وأطفأت النيران، "وألقت عليهم الأبنية" أي: الأخبية، "وكفت" قلبت "القدور" على أفواهها.
قال مجاهد: سلط الله عليهم، الريح فكفت قدورهم، ونزعت خيامهم حتى أظعنتهم، رواه البيهقي فهذا صريح في أنه من الريح، ومثله في الأنوار والنهر.(3/55)
وسفت عليهم التراب ورمتهم بالحصى، وسمعوا في أرجاء معسكرهم التكبير وقعقعة السلاح فارتحلوا هرابا في ليلتهم وتركوا ما استثقلوه من متاعهم. قال: فذلك قوله تعالى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا} [الأحزاب: 9] .
وفي البخاري عن علي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم الخندق: "ملأ الله بيوتهم وقبورهم نارا، كما شغلونا
__________
وزاد: وبعث الله مع الصبا ملائكة تسدد الريح، وتفعل نحو فعلها ا. هـ. "وسفت عليهم التراب" في وجوههم، "ورمتهم بالحصا وسمعوا في أرجاء معسكرهم" أي: جوانبه، "التكبير وقعقعة السلاح" من الملائكة "فارتحلوا هرابا" بضم الهاء والتشديد، جمع هارب، أي: هاربين، "في ليلتهم وتركوا ما استثقلوه من متاعهم" فغنمه المسلمون مع عشرين بعيرا أرسلها أبو سفيان لحيي فحملها له شعيرا وتمرا وتبنا، فلقيها جماعة من المسلمين فأخذوها وانصرفوا بها إليه صلى الله عليه وسلم، فتوسعوا بها وأكلوه حتى نفد ونحروا منها أبعرة، وبقي منها ما بقي حتى دخلوا به المدينة، فلما رجع ضرار بن الخطاب أخبرهم الخبر، فقال أبو سفيان: إن حييا لمشئوم قطع بنا ما نجد، ما نحمل عليه إذا رجعنا، أخرجه الواقدي بإسناد له مرسل. "قال: فذلك قوله تعالى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا} [الأحزاب: 9] ، صبا باردة في ليلة شاتية، {وَجُنُودًا} ملائكة قيل: كانوا ألفا.
وروى ابن سعد عن ابن المسيب قال: أتى جبريل يومئذ، ومعه الريح فقال صلى الله عليه وسلم حين رأى جبريل: "ألا أبشروا" ثلاثا، {لَمْ تَرَوْهَا} قذفت في قلوبهم الرعب والفشل، وفي قلوب المؤمنين القوة والأمل، وقيل: إنما أرسلت لتزجر خيل العدو وإبلهم، فقطعوا ثلاثة أيام في يوم واحد، ذكره ابن دحية.
قال مجاهد: ولم تقاتل الملائكة يومئذ.
قال البلاذري: بل غشيتهم تطمس أبصارهم فانصرفوا، ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال.
"وفي البخاري" في الجهاد، والمغازي، والتفسير والدعوات، ومسلم وأبي داود والنسائي في الصلاة، والترمذي في التفسير، "عن علي رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم" وقعة "الخندق".
قال الحافظ: وفي الجهاد يوم الأحزاب: وهو بالمعنى "ملأ الله بيوتهم" أي: الكفار أحياء، "وقبورهم" أمواتا "نارا"، والجملة خبرية لفظا، إنشائية معنى أي: اللهم املأ، ففيه كما قال الحافظ جواز الدعاء على المشركين بمثل ذلك "كما شغلونا".
وفي رواية المستملي: لما شغلونا بزيادة لام وهو خطأ، قاله الفتح، والكاف للتعليل بمعنى(3/56)
عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس" ومقتضى هذا أنه استمر اشتغاله، بقتال المشركين حتى غابت الشمس.
ويعارضه ما في صحيح مسلم عن ابن مسعود أنه قال: حبس المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صلاة العصر حتى احمرت الشمس أو اصفرت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "شغلونا عن الصلاة الوسطى". الحديث. ومقتضى هذا أنه لم يخرج الوقت بالكلية.
قال الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد، الحبس انتهى إلى ذلك الوقت، أي: الحمرة أو الصفرة، ولم تقع الصلاة إلا بعد المغرب ا. هـ.
وفي البخاري عن عمر بن الخطاب
__________
اللام، وما مصدرية نحو كما هداكم، أي: لشغلهم إيانا "عن" صلاة "الصلاة الوسطى" أي: عن إيقاعها.
زاد مسلم: صلاة العصر، "حتى غابت الشمس" زاد مسلم: ثم صليناها بين المغرب والعشاء، "ومقتضى هذا" صراحة "أنه استمر اشتغاله بقتال المشركين" أي: المراماة بينهم بالنبل والحجارة، "حتى غابت الشمس، ويعارضه ما في صحيح مسلم عن ابن مسعود، أنه قال: حبس" منع "المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صلاة العصر حتى احمرت الشمس أو اصفرت،" أي: قاربت الغروب، "فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "شغلونا عن الصلاة الوسطى"، الحديث. ومقتضى هذا" صراحة أيضا، "أنه لم يخرج الوقت بالكلية".
"قال الشيخ تقي الدين" أبو الفتح محمد بن علي بن وهب بن مطيع القشيري المنفلوطي، العلامة الفقيه الحافظ، صاحب التصانيف "ابن دقيق العيد".
قال السخاوي، الملقب بذلك جده وهب لخروجه يوما من قوص، وعليه طيلسان أبيض وثوب أبيض، فقال بدوي: كأن قماش هذا يشبه دقيق العيد، يعني في البياض، فلزمه ذلك "الحبس انتهى إلى ذلك الوقت، أي: الحمرة أو الصفرة" كما هو لفظ ابن مسعود، "ولم تقع الصلاة إلا بعد المغرب" كما صرح به علي، وكأنه حصل لهم عذر، كخوف عود الكفار لهم، "انتهى" كلام تقي الدين وهو جمع بين الحديثين.
"وفي البخاري" في المواقيت، وصلاة الخوف والمغازي، ومسلم، والترمذي والنسائي في الصلاة عن جابر أن عمر جاء، وأما قوله: "عن عمر بن الخطاب" ففيه تسمح من المصنف، لم(3/57)
أنه جاء يوم الخندق بعد ما غابت الشمس وجعل يسب كفار قريش قال: يا رسول الله، ما كدت أصلي حتى كادت الشمس أن تغرب تنبيه
__________
يرد أنه راوي الحديث؛ لأنه خلاف الواقع في البخاري وغيره، فإنما مراده عن قصة عمر، فقد قال الحافظ: اتفق الرواة على أن هذا الحديث من رواية جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا حجاج بن نصير، فرواه عن علي بن المبارك عن يحيى بن أبي كثير، عن جابر، عن عمر، فجعله من مسند عمر، تفرد بذلك حجاج، وهو ضعيف ا. هـ. "أنه جاء يوم الخندق بعدما غابت"، وفي لفظ: غربت "الشمس و".
في رواية للبخاري أيضا: بعدما أفطر الصائم، والمعنى واحد. "جعل" بلا فاء في المغازي من البخاري، وله في المواقيت بإثباتها، فجعل "يسب كفار قريش" لأنهم السبب في تأخيرهم الصلاة عن وقتها، إما المختار كما وقع لعمر، وإما مطلقا كما وقع لغيره. "قال: يا رسول الله ما كدت" قال المصنف: بكسر الكاف وقد تضم، "أصلي حتى كادت الشمس أن تغرب".
قال اليعمري: كاد من أفعال المقاربة، فمعناه أنه صلى العصر قرب غروب الشمس؛ لأن نفي الصلاة يقتضي إثباتها وإثبات الغروب يقتضي نفيه، فيحصل من ذلك لعمر ثبوت الصلاة، ولم يثبت الغروب.
وقال الكرماني: يلا يلزم منه وقوع الصلاة في وقت العصر، بل يلزم منه أن لا تقع الصلاة؛ لأنه يقتضي أن كيدودته كانت عند كيدودتها.
قال: وحاصله عرفا ما صليت حتى غربت ا. هـ، وفيه نظر، فإن كاد إذا أثبتت نفت، وإذا نفت أثبتت، ولا يخفى ثقل تعبيره بكيدودة، ثم قوله: أن تغرب بحذف، أن عند البخاري في المواقيت، وثبوتها له في المغازي، ومثله في مسلم.
قال اليعمري: وهو من تصرف الرواة، والراجح أن كاد لا تقترن بأن بخلاف عسى، فالراجح اقترانها وهل تسع الرواية بالمعنى مثل هذا أو لا، الظاهر الجواز؛ لأن المقصود الإخبار عن صلاته العصر كيف وقعت، لا الإخبار أن عمر تكلم بالراجحة، أو المرجوحة، فإن قيل: الظاهر أن عمر كان معه صلى الله عليه وسلم فكيف اختص بإدراك العصر قل الغروب دونهم، فالجواب يحتمل أنه كان متوضئا، فبادر فصلى، ثم جاءه عليه السلام في حال تهيئة للصلاة فاعلمه، فقام هو وأصحابه إلى الوضوء انتهى ملخصا من الفتح.
"تنبيه": ما سقته من لفظ المتن هو ما في نسخة صحيحة، وهو الصواب المذكور في صحيح البخاري، وما في أكثر النسخ من قوله عن عمر، أنه جاء بعدما كادت الشمس تغرب، فهو مع كونه خلاف ما في البخاري من الاختصار المخل، لإيهامه أن مجيء عمر للمصطفى(3/58)
فقال صلى الله عليه وسلم: "والله ما صليتها"، فنزلنا مع النبي صلى الله عليه وسلم بطحان، فتوضأ للصلاة وتوضأنا لها فصلى العصر بعدما غربت الشمس، ثم صلى بعدها المغرب.
وقد يكون ذلك للاشتغال بأسباب الصلاة أو غيرها، ومقتضى هذه الرواية المشهورة أنه لم يفت غير العصر.
وفي الموطأ: الظهر والعصر.
__________
قبل الغروب، وهو خلاف تصريحه بأنه جاء بعدما غربت الشمس، ويوهم أيضا أن عمر لم يصل العصر قبل الغروب، مع أن الحديث كالنص في أنه صلاها قبل الغروب كما علم "فقال صلى الله عليه وسلم: "والله ما صليتها " " فيه جواز اليمين من غير استحلاف، إذا اقتضته مصلحة من زيادة طمأنينة أو نفي توهم، وفيه ما كان عليه صلى الله عليه وسلم من مكارم الأخلاق، وحسن التأني مع أصحابه وتألفهم، "فنزلنا مع النبي صلى الله عليه وسلم بطحان".
قال الحافظ: بضم أوله وسكون ثانيه، واد بالمدينة، وقيل: بفتح أوله وكسر ثانيه، حكاه أبو عبيد البكري، ونسب عياض الأول للمحدثين، والثاني للغويين، وحكى الفتح مع السكون أيضا.
"فتوضأ للصلاة، وتوضأنا لها فصلى" زاد الإسماعيلي: بنا، "العصر بعدما غربت الشمس،" ففيه قضاء الفائتة جماعة، وبه قال الأكثر إلا الليث، مع إجازته صلاة الجمعة جماعة إذا فاتت، "ثم صلى بعدها المغرب" ووقع عند أحمد، أنه صلى الله عليه وسلم صلى المغرب يوم الأحزاب، فلما سلم قال: "هل علم رجل مسلم أني صليت العصر"؟ قالوا: لا يا رسول الله فصلى العصر، ثم صلى المغرب.
قال الحافظ: وفي صحته نظر، لمخالفته لحديث الصحيحين، هذا ويمكن الجمع بينهما بتكلف. قال: واختلف في سبب تأخير الصلاة ذلك اليوم، فقيل: النسيان، واستبعد وقوعه من الجميع، وقيل: شغلهم إياهم، فلم يتمكنوا من ذلك وهو أقرب لا سيما, ولأحمد والنسائي عن أبي سعيد، أن ذلك كان قبل أن ينزل الله في صلاة الخوف، فرجالا أو ركبانا، "وقد يكون ذلك" أي: التأخير عن إيقاعها قبل الغروب "للاشتغال بأسباب الصلاة أو غيرها" كخوف عود العدو قبل الغروب، "ومقتضى هذه الرواية المشهورة" في الصحيحين وغيرهما، عن جابر وعلي، "أنه لم يفت غير العصر".
"وفي الموطأ" من طريق أخرى، أنه فاتهم "الظهر والعصر".(3/59)
وفي الترمذي عن ابن مسعود أن المشركين شغلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أربع صلوات يوم الخندق. وقال: ليس بإسناده بأس إلا أن أبا عبيدة لم يسمع من عبد الله، فمال ابن العربي إلى الترجيح فقال: الصحيح أن التي اشتغل عنها صلى الله عليه وسلم واحدة وهي العصر.
وقال النووي: طريق الجمع بين هذه الروايات، أن وقعة الخندق بقيت أياما فكان هذا في بعض الأيام وهذا في بعضها. قال: وأما تأخيره عليه الصلاة والسلام صلاة العصر حتى غربت الشمس فكان قبل نزول صلاة الخوف.
__________
وفي حديث أبي سعيد عند أحمد والنسائي: الظهر والعصر والمغرب، وأنهم صلوا بعد هوى من الليل.
"وفي الترمذي" والنسائي "عن ابن مسعود: أن المشركين شغلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أربع صلوات يوم الخندق" حتى ذهب من الليل ما شاء الله.
قال الحافظ: وفي قوله: أربع، تجوز لأن العشاء لم تكن فاتت.
"وقال الترمذي: "ليس بإسناده بأس إلا أن أبا عبيدة" ابن عبد الله بن مسعود مشهور بكنيته، والأشهر أنه لا اسم له غيرها، ويقال اسمه عامر كوفي ثقة، مات بعد سنة ثمانين، "لم يسمع من" أبيه "عبد الله" بن مسعود، فهو منقطع، وفي التقريب الراجح أنه لا يصح سماعه من أبيه، "فمال ابن العربي إلى الترجيح، فقال: الصحيح أن التي اشتغل عنها صلى الله عليه وسلم واحدة وهي العصر".
قال الحافظ: ويؤيده حديث علي في مسلم: شغلونا عن الصلاة الوسطى، صلاة العصر.
"وقال النووي: طريق الجمع بين هذه الروايات، أن وقعة الخندق بقيت أياما فكان هذا،" أي: شغلهم عن العصر أو الظهر والعصر، "في بعض الأيام، وهذا" أي: تأخير أربع صلوات، "في بعضها".
قال الحافظ: ويقربه أن روايتي أبي سعيد وابن مسعود ليس فيهما تعرض لقصة عمر، بل فيهما أن قضاءه للصلاة وقع بعد خروج وقت المغرب، وأما حديث جابر ففيها أن ذلك كان عقب غروب الشمس.
"قال" النووي: "وأما تأخيره عليه الصلاة والسلام للعصر حتى غربت الشمس، فكان قبل نزول" قوله تعالى: {فَرِجَالا أَوْ رُكْبَانًا} ، "صلاة الخوف" كما مر من حديث أبي سعيد، وقد صلى صلاة الخوف في ذات الرقاع، وهي قبل الخندق عند جماعة.(3/60)
قال العلماء: يحتمل أنه أخرها نسيانا لا عمدا، وكان السبب في النسيان الاشتغال بأمر العدو، ويحتمل أنه أخرها عمدا للاشتغال بالعدو قبل نزول صلاة الخوف، وأما اليوم فلا يجوز تأخير الصلاة عن وقتها بسبب العدو والقتال، بل تصلي صلاة الخوف على حسب الحال.
وقد اختلف في المراد بالصلاة الوسطى. وجمع الحافظ الدمياطي في ذلك مؤلفا مفردا سماه: كشف المغطي عن الصلاة الوسطى، فبلغ تسعة عشر قولا، وهي: الصبح
__________
"قال العلماء: يحتمل أنه أخرها نسيانا لا عمدا، وكان السبب في النسيان الاشتغال بأمر العدو".
قال الحافظ: واستبعد وقوع ذلك من الجميع، "ويمكن أنه أخرها عمدا للاشتغال بالعدو".
قال الحافظ: وهو أقرب.
وكان هذا عذرا في تأخير الصلاة "قبل نزول صلاة الخوف، وأما اليوم، فلا يجوز تأخير الصلاة عن وقتها بسبب العدو والقتال، بل تصلي صلاة الخوف على حسب الحال"، ثم استطرد المصنف، فذكر الخلاف في الصلاة الوسطى لمناسبة وقوعها في الحديث السابق.
فقال: "وقد اختلف في المراد بالصلاة الوسطى،" تأنيث الأوسط، وهو الأعدل من كل شيء، وليس المراد التوسط بين شيئين؛ لأن معنى فعلى التفضيل ولا يبنى منه إلا ما يقبل الزيادة والنقص والوسط بمعنى العدل والخيار يقبلهما بخلاف المتوسط، فلا يقبلهما، فلا يبنى منه أفعل تفضيل قاله الحافظ.
"وجمع الحافظ الدمياطي في ذلك مؤلفا مفردا سماه كشف المغطى عن الصلاة الوسطى، فبلغ تسعة عشر قولا وهي الصبح، "قاله أبي، وأنس، وجابر، وأبو العالية، وعبيد بن عمير، وعطاء، وعكرمة، ومجاهد وغيرهم، نقله ابن أبي حاتم عنهم، وهو أحد قولي ابن عمر وابن عباس، نقله مالك والترمذي عنهما، ونقله مالك بلاغا عن علي، والمعروف عنه خلافه.
وروى ابن جرير عن أبي رجاء: صليت خلف ابن عباس الصبح، فقنت فيها، ورفع يديه، ثم قال: هذه الصلاة الوسطى أمرنا أن نقوم فيها قانتين، وأخرجه من وجه آخر عن ابن عمر، ومن طريق أبي العالية صليت خلف عبد الله بن قيس بالبصرة في زمن عمر، صلاة الغداة، فقلت لهم: ما الصلاة الوسطى؟ قالوا: هي هذه، وهو قول مالك والشافعي الذي نص عليه في الأم، واحتجوا بأن فيه القنوت، وقد قال تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238] ، وبأنها لا تقصر في(3/61)
أو الظهر، أو العصر، أو المغرب، أو جميع الصلوات وهو يتناول الفرائض والنوافل واختاره ابن عبد البر، أو الجمعة وصححه القاضي
__________
السفر، وبأنها بين صلاتي جهر وصلاتي سر، "أو الظهر" رواه في الموطأ عن زيد بن ثابت، وابن المنذر وغيره عن أبي سعيد وعائشة، وبه قال أبو حنيفة في رواية.
وأخرج أبو داود عن زيد بن ثابت، كان صلى الله عليه وسلم يصلي الظهر بالهاجرة، ولم تكن صلاة أشد على أصحابه منها، فنزلت {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ} [البقرة: 238] .
وروى أحمد عنه، كان صلى الله عليه وسلم يصلي الظهر بالهجيرة، فلا يكون وراءه إلا الصف، أو الصفان والناس في قائلتهم، وفي تجارتهم، فنزلت الآية "أو العصر".
قال الترمذي: هو قول أكثر الصحابة الماوردي وجمهور التابعين ابن عبد البر، وأكثر علماء الأثر، وقال به من المالكية ابن حبيب، وابن العربي وابن عطية، وهو الصحيح من مذهب أبي حنيفة، وقول أحمد، وصار إليه معظم الشافعية مخالفين، نص إمامهم لصحة الحديث فيه، وقد قال: إذا صح الحديث فهو مذهبي.
قال ابن كثير: لكن صمم جماعة من الشافعية أنها الصبح قولا واحدا.
وروى الترمذي والنسائي عن علي: كنا نرى أنها الصبح حتى سمعته صلى الله عليه وسلم يقول يوم الأحزاب: "شغلونا عن الصلاة الوسطى" صلاة العصر.
قال الحافظ: وهذه الرواية تدفع دعوى أن صلاة العصر مدرج من تفسير بعض الرواة، فهي نص في أن كونها العصر من كلامه عليه السلام، وأن حجة من قال الصبح قوية ا. هـ.
وقال ابن عبد البر: الاختلاف القوي في الصلاة الوسطى، إنما هو في هاتين الصلاتين، أعني العصر والصبح، وغير ذلك ضعيف، "أو المغرب" قاله ابن عباس عند ابن أبي حاتم بإسناد حسن، وقبيضة بن ذؤيب عند ابن جرير، وحجتهم أنها معتدلة في عدد الركعات ولا تقصر في الأسفار، وأن العمل مضى على المبادرة إليها، وتعجيلها عقب الغروب، وأن قبلها صلاتي سر، وبعدها صلاتي جهر، "أو جميع الصلوات" قاله ابن عمرو.
رواه ابن أبي حاتم بسند حسن. ومعاذ بن جبل "و" احتج له بأن قوله: حافظوا على الصلوات: "هو يتناول الفرائض والنوافل" فعطف الوسطى عليه، وأريد بها كل الفرائض تأكيدا لها، "واختاره ابن عبد البر" أبو عمر، وتعجب منه ابن كثير حيث اختار مع اطلاعه وحفظه ما لم يقم عليه دليل، وأنها لإحدى الكبر كذا قال، وإنه من مثله لشيء عجاب، فإن السند إلى ابن عمر حسن، كما في الفتح فهو دليله، ولذا أعرض الحافظ عن تعقبه فحكاه بلا تعقب، "أو الجمعة" ذكره ابن حبيب، واحتج بما اختصت به من الاجتماع والخطبة، "وصححه القاضي(3/62)
حسين في صلاة الخوف من تعليقه، أو الظهر في الأيام والجمعة يوم الجمعة، أو العشاء لأنها بين صلاتين لا تقصران، أو الصبح والعشاء، أو الصبح والعصر لقوة الأدلة. فظاهر القرءان الصبح، ونص السنة العصر، أو صلاة الجماعة أو الوتر أو صلاة الخوف أو صلاة عيد الأضحى أو الفطر أو صلاة الضحى، أو واحدة من الخمس غير معينة، أو الصبح أو العصر على الترديد وهو غير القول السابق أو التوقف
__________
حسين في صلاة الخوف من تعليقه، أو الظهر في الأيام، والجمعة يوم الجمعة، أو العشاء" نقله ابن التين والقرطبي، "لأنها بين صلاتين لا تقصران" ولأنها تقع عند النوم فلذا أمر بالمحافظة عليها، واختاره الواحدي، "أو الصبح والعشاء" معا للحديث الصحيح أنهما أثقل الصلاة على المنافقين. وبه قال الأبهري من المالكية، "أو الصبح والعصر" معا "لقوة الأدلة" في أن كلا منهما الوسطى، "فظاهر القرءان الصبح" لقوله: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238] ، "ونص السنة العصر" عند مسلم وغيره وليس بنص؛ لأن قوله: شغلونا عن الصلاة الوسطى، صلاة العصر، يحتمل كما قال الباجي أن يريد به الوسطى من الصلوات التي شغل عنها، وهي الظهر والعصر؛ لأنها وسطى هذه الثلاث لتأكد فضلها عن الصلاتين اللتين معا ولا يدل ذلك على أنها أفضل من الصبح وإنما الخلاف عند الإطلاق ا. هـ، على أن السيوطي قد قال في الديباج على مسلم أن قوله صلاة العصر مدرج، كما ذكره بعضهم، ولهذا سقط في رواية البخاري.
وفي رواية يعني العصر، وهو صريح في الإدراج ا. هـ.
ومر أن الحافظ دفع ذلك ولكن فيه وقفة، "أو صلاة الجماعة، أو الوتر" صنف فيه علم الدين الشجاعي جزءا، ورجحه القاضي تقي الدين الأخنائي في جزء "أو صلاة الخوف، أو صلاة عيد الأضحى، أو الفطر، أو صلاة الضحى" كذا في النسخ الصحيحة، ومثله في الفتح، وفي نسخة بدله صلاة الفجر وهي تصحيف، "أواحدة من الخمس غير معينة" قاله الربيع بن خيثم وسعيد بن جبير، وشريح القاضي، واختاره إمام الحرمين في النهاية قال: كما أخفيت ليلة القدر "أو الصبح، أو العصر على الترديد، وهو غير القول السابق" الجازم بأن كلا منهما يقال له الوسطى، "أو التوقف".
فقد روى ابن جرير بإسناد صحيح عن سعيد بن المسيب قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مختلفين في الصلاة الوسطى هكذا، وشبك بين أصابعه.
زاد في الفتح: العشرون صلاة الليل، وجدته عندي وذهلت الآن عن معرفة قائله، وصار إلى أنها أبهمت جماعة من المتأخرين.(3/63)
ا. هـ.
وانصرف صلى الله عليه وسلم من غزوة الخندق يوم الأربعاء لسبع ليال بقين من ذي القعدة، وكان قد أقام بالخندق خمسة عشر يوما، وقيل أربعة وعشرين يوما.
فقال صلى الله عليه وسلم: "لن تغزوكم قريش بعد عامكم هذا".
وفي ذلك علم من أعلام النبوة. فإنه عليه الصلاة والسلام اعتمر في السنة التي صدته قريش عن البيت، ووقعت الهدنة بينهم إلى أن نقضوها فكان ذلك سبب فتح مكة فوقع الأمر كما قال عليه الصلاة والسلام. وسيأتي ذلك إن شاء الله تعالى.
وقد أخرج البزار من حديث جابر بإسناد حسن شاهدا لهذا
__________
قال القرطبي: وهو الصحيح لتعارض الأدلة وعسر الترجيح "انتهى".
ولنمسك عنان القلم رغبة عن التطويل.
"وانصرف صلى الله عليه وسلم من غزوة الخندق يوم الأربعاء لسبع ليال بقين من ذي القعدة" قاله ابن سعد، وهو مخالف لقول ابن إسحاق فلما أصبح انصرف، ثم هو ظاهر على أن الخندق في القعدة، وكذا على أنه في شوال؛ لأن المراد ابتداء حفره، فلا ينافي استمرار ما تعلق به إلى الوقت المذكور، "وكان قد أقام بالخندق" محاصرا "خمسة عشر يوما" فيما جزم به ابن سعد والبلاذري.
وقال الواقدي: إنه أثبت الأقوال، "وقيل: أربعة وعشرين يوما"، كما رواه يحيى بن سعيد عن ابن المسيب.
ورى الزهري عنه بضع عشرة ليلة، ويمكن أن يفسر بخمسة عشر كما أنه يحتمل تفسير قول ابن إسحاق بضعا وعشرين ليلة قريبا من شهر بالأربعة وعشرين.
وعند الواقدي عن جابر عشرين يوما، وفي الهدي شهرا.
"فقال عليه الصلاة والسلام: "لن تغزوكم قريش بعد عامكم هذا" ".
وفي البخاري عن سليمان بن صرد، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول حين أجلى الأحزاب عنه: "الآن نغزوهم ولا يغزونا نحن نسير إليهم" ".
قال الحافظ في شرحه: "وفي ذلك علم من أعلام نبوته، فإنه عليه الصلاة والسلام اعتمر في السنة" المقبلة "التي صدته قريش عن البيت" سنة الحديبية، "ووقعت الهدنة بينهم إلى أن نقضوها فكان ذلك سبب فتح مكة، فوقع الأمر كما قال عليه الصلاة والسلام، وسيأتي ذلك إن شاء الله تعالى، وقد أخرج البزار من حديث جابر بإسناد حسن شاهد لهذا" يعني الحافظ(3/64)
ولفظه: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم الأحزاب، وقد جمعوا له جموعا كثيرة: "لا يغزونكم بعدها أبدا، ولكن أنتم تغزونهم" تتميم.
__________
حديث سليمان بن صدر الذي لم يذكره المصنف اكتفاء بذكر معناه "ولفظه أن النبي صلى لله عليه وسلم قال يوم الأحزاب: "وقد جمعوا له جموعا كثيرة، لا يغزونكم بعدها أبدا ولكن أنتم تغزونهم" " فهذا بمعنى حديث الصحيح، وفي زيادة لفظ أبدا، وذكر الواقدي أنه صلى الله عليه وسلم قال ذلك بعد أن انصرفوا.
"تتميم":
ذكر ابن إسحاق والواقدي أنه استشهد من المسلمين يوم الخندق ستة لا غير سعد بن معاذ، وأنس بن أوس، وعبد الله بن سهل الأوسيون، والطفيل بن النعمان، وثعلبة بن عنمة، بمهملة ونون مفتوحتين، وكعب بن زيد الخزرجيون، وزاد الدمياطي في الأنساب قيس بن زيد بن عامر، وعبد الله بن أبي خالد.
وذكر الحافظ في الكنى أبا سنان ابن صيفي بن صخر، فقال: شهد بدرا، واستشهد في الخندق، وقتل من المشركين ثلاثة منبه بن عبيد.
قال ابن هشام: هو عثمان بن أمية بن منبه العبدري أصابه سهم فمات منه بمكة، ونوفل بن عبد الله المخزومي وعمرو بن عبدود.
في البخاري عن ابن عمر، أنه صلى الله عليه وسلم كان إذ قفل من الغزو أو الحج أو العمرة، يبدأ، فيكبر ثلاث مرات، ثم يقول: "لا إله إلا الله، وحده لا شريك، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير آيبون، تائبون، عابدون، ساجدون، لربنا حامدون، صدق الله وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده"، وهذا من السجع المحمود، وهو ما جاء بانسجام واتفاق بلا قصد، والمذموم ما يأتي بتكلف واستكراه والله أعلم.(3/65)
"غزوة بني قريظة":
ولما دخل صلى الله عليه وسلم المدينة يوم الأربعاء هو وأصحابه، ووضعوا السلاح
__________
غزوة بني قريظة:
"ولما دخل صلى الله عليه وسلم المدينة يوم الأربعاء" الذي انصرف فيه من الخندق لسبع بقين من ذي القعدة، قاله ابن سعد، وكان المصنف لم يترجم لها لاتصالها بغزوة الخندق حتى كأنها بيان لبعض تعلقاته؛ لأنهم ظاهروا الأحزاب، فكانوا من جملتهم "هو وأصحابه ووضعوا السلاح".
قال ابن إسحاق: وكان الظهر.(3/65)
جاء جبريل عليه السلام معتجرا بالعمامة من استبرق على بغلة عليها قطيفة من ديباج.
وفي البخاري من حديث عائشة أنه لما رجع صلى الله عليه وسلم ووضع السلاح واغتسل أتاه جبريل
__________
"جاء جبريل علي السلام معتجرا بالعمامة" وهو أن يلفها على رأسه، ويرد طرفها على وجهه، ولا يعمل منها شيئا تحت ذقنه، كما في النهاية، وتبعه الشامي ونحوه في القاموس.
وقال ابن فارس: اعتجر الرجل لف العمامة على رأسه فلم يقيده، فإما أن يحمل عليه، أو هو قول ثان، "من استبرق" ضرب من الديباج غليظ، وتصغيره أبيرق قاله البرهان.
قال ابن سعد: وكانت سوداء وأرخى منها بين كتفيه "على بغلة" بيضاء عليها رحالة، "عليها قطيفة ديباج"، هكذا لفظ ابن إسحاق عن الزهري، ورحالة، بكسر الراء، وخفة الحاء المهملة، سرج من جلود لا خشب فيها، تتخذ للركض الشديد، والجمع رحائل، والقطيفة كساء له خمل، وكانت حمراء كما روي عن الماجشون، وديباج بكسر الدال، وقد تفتح، فارسي معرب، والإضافة بيانية على معنى من، وفي لفظ: بغلة شهباء، وآخر فرس أبلق، وجمع بأن الدابة ليست من دواب الدنيا، فبعض الرائين تصورها بغلة، وبعضهم فرسا، فأخبر كل بما تصور، وبعض أمعن نظره، فقال بلقاء لكونها ذات لونين، وبعض لم يمعنه، ورأى غلبة البياض، فقال شهباء أو بيضاء.
"وفي البخاري" في الجهاد والمغازي "من حديث عائشة، أنه لما رجع صلى الله عليه وسلم" من الخندق، كما في رواية للبخاري أيضا، أي: إلى المدينة، "ووضع السلاح، واغتسل" للتنظيف من آثار السفر، وعليه بوب البخاري الغسل بعد الحرب، وظاهره أنه فرغ من غسله، وبه صرح كعب بن مالك عند الطبراني وغيره بسند صحيح، أنه اغتسل واستجمر، وكذا الواقدي، وقال: ودعا بالمجمرة ليتبخر، وقد صلى الظهر.
وعند ابن عقبة فأخذ يغسل رأسه، وقد رجل أحد شقيه، ويحتمل أنه أتم الغسل، وأخذ يرجل رأسه مكانه، والمحمرة عنده "أتاه جبريل" جواب لما، وللبخاري في الجهاد فأتاه بالفاء وهي زائدة قاله القرطبي، ويؤيده رواية المغازي هذه الأولى، وفي الرواية الثانية في المغازي لما رجع من الخندق، وضع السلاح واغتسل فأتاه جبريل.
قال الحافظ: فهذا يبين أن الواو في الجهاد زائدة في قوله: ووضع السلاح، هو أولى من دعوى زيادة الفاء لكثرة مجيء زيادة الواو، وللواقدي أنه وقف موضع الجنائز، وللطبراني والبيهقي عن كعب بن مالك، أنه صلى الله عليه وسلم لما رجع من طلب الأحزاب، وجمع عليه اللامة، واغتسل(3/66)
فقال: قد وضعت السلاح، والله ما وضعناه. واخرج إليهم.. وأشار إلى بني قريظة.
وعند ابن إسحاق: إن الله يأمرك يا محمد بالمسير إلى بني قريظة، فإني عامد إليهم فزلزل بهم
__________
واستجمر تبدى له جبريل فنادى عذيرك من محارب، فوثب فزعا بفتح العين المهملة، وكسر الذال المعجمة، وسكون التحتية وفتح الراء، أي: من يعذرك فعيل بمعنى فاعل، وللطبراني والبيهقي عن عائشة قالت: سلم علينا رجل، ونحن في البيت، فقام صلى الله عليه وسلم فزعا، فقمت في أثره، فإذا بدحية الكلبي، فقال: "هذا جبريل يأمرني أن أذهب إلى بني قريظة"، فكأني برسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح الغبار عن وجه جبريل، وللبخاري أيضا، وهو أي: جبريل، ينفض رأسه من الغبار، وله في الجهاد، وقد عصب رأسه الغبار، "فقال: قد وضعت السلاح" بحذف همزة الاستفهام الثابتة في ابن إسحاق، ولفظه: أوقد وضعت السلاح يا رسول الله؟ قال: "نعم" قال: "والله" نحن "ما وضعناه".
وعند ابن سعد من مرسل يزيد بن الأصم: وضعت السلاح، ولم تضعه ملائكة الله، "واخرج إليهم".
وعند ابن سعد من مرسل حميد بن هلال فقال: يا رسول الله انهض إلى بني قريظة، فقال: "إن في أصحابي جهدا، فلو أنظرتهم أياما"، قال: انهض إليهم فلأضعضعنهم، وأسقط المصنف من حديث البخاري قال: قل لي: أين، قال: ههنا، "وأشار" زاد الكشميهني بيده "إلى بني قريظة" بضم لقاف، وفتح الراء، وسكون التحتية، وبالظاء المعجمة فتاء تأنيث.
قال السمعاني: اسم رجل نزل أولاده قلعة حصينة بقرب المدينة فنسبت إليهم، وقريظة والنضير أخوان من أولاد هارون، وذكر عبد الملك بن يوسف أن بني قريظة كانوا يزعمون أنهم من ذرية شعيب نبي الله.
قال الحافظ: وهو محتمل، وأن شعيبا كان من بني جذام القبيلة المشهورة وهو بعيد جدا، ا. هـ.
"وعند ابن إسحاق" عن شيخه الزهري: "إن الله يأمرك يا محمد بالسير إلى بني قريظة،" فاذهب كما أمرك الله، "فإني عامد إليهم" فهو علة لمقدر "فزلزل بهم" حصونهم، فالمفعول محذوف لرواية ابن إسحاق: أن جبريل بعث إلى بني قريظة يزلزل بهم حصونهم، ويقذف الرعب في قلوبهم.
وعند ابن سعد من مرسل حميد بن هلال: فأدبر جبريل ومن معه من الملائكة حتى سطع الغبار في زقاق بني غنم من الأنصار بفتح الغين المعجمة وسكون النون، بطن من الخزرج.(3/67)
فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤذنا فأذن من كان سامعا مطيعا فلا يصلين العصر إلا في بني قريظة.
وعند ابن عائذ: قم فشد عليك سلاحك، فوالله لأدقنهم دق البيض على الصفا، وبعث مناديا ينادي يا خيل الله اركبي.
وعند الحاكم والبيهقي: وبعث عليا على
__________
وفي البخاري عن أنس لكأني أنظر إلى الغبار في زقاق بني غنم موكب جبريل حين سار إلى بني قريظة.
روى كما قال المصنف وغيره بنصب موكب بتقدير انظر، والجر بدل من الغبار، والرفع خبر مبتدأ محذوف، أي: هذا موكب وهو نوع من السير، وجماعة الفرسان، أو جماعة يسيرون برفق ا. هـ.
"فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤذنا"، أي: مناديا. قال البرهان: لا أعرفه، وقال الشامي: هو بلال، ومثله في الفتح ناسبا لابن إسحاق ولعله في رواية غير البكائي إذ روايته "مؤذنا، فأذن من كان سامعا مطيعا، فلا يصلين العصر إلا في بني قريظة، وعند ابن عائذ" بسنده عن جابر، قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يغسل رأسه، مرجعه من طلب الأحزاب إذ وقف عليه جبريل، فقال: ما أسرع ما حللتم والله ما نزعنا من لامتنا شيئا منذ نزل العدو، "قم فشد عليك سلاحك، فوالله لأدقنهم دق البيض"، كذا في نقل المصنف عنه، ومثله في الفتح والذي في العيون عن ابن عائذ كدق البيض، "على الصفا" وليس المراد أنه يقتلهم، وإن كان ظاهر اللظف لكونه خلاف الواقع، بل المراد ألقى الرعب في قلوبهم حتى يصيروا كالهالكين، ثم أزلزلهم، فأنزلهم من حصونهم، فتقتلهم فيصيروا كالبيض على الصفا، فعبر عن اسم السبب بالمسبب، وقد كان ذلك وبقية حديث هذا ثم ولى فأتبعته بصري، فلما رأينا ذلك نهضنا.
"و" روى ابن عائذ أيضا من مرسل قتادة، قال: "بعث" صلى الله عليه وسلم "مناديا" قال البرهان: لا أعرف اسمه، وقال الشامي: هو بلال. "ينادي: يا خيل الله اركبي".
قال العسكري وابن دريد هو على المجاز والتوسع أراد: يا فرسان خيل الله اركبي، فاختصره لعلم المخاطب ما أراده، وتعقبه شيخنا، بأنه لا يناسب قوله اركبي، فالأظهر أنه نزل الخيل منزلة المقاتلين حتى كأنها هي التي يوجد منها الفعل، فخاطبها بطلب الركوب منها، والمقصود أصحابها، فلما عبر بالخيل راعى لفظها، فأسند الفعل إليها، أو أنه سمى أصحاب الخيل خيلا مجازا لعلاقة المجاورة.
"وعند الحاكم والبيهقي" من طريق أبي الأسود عن عروة، "وبعث عليا" أميرا "على"(3/68)
المقدمة، وخرج صلى الله عليه وسلم في أثره.
وعند ابن سعد: ثم سار إليهم في المسلمين، وهم ثلاثة آلاف والخيل ستة وثلاثون فرسا، وذلك يوم الأربعاء لسبع بقين من ذي القعدة.
واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم، فيما قال ابن هشام.
ونزل عليه الصلاة والسلام على بئر من آبار بني قريظة
__________
الجماعة "المقدمة" على الجيش بكسر الدال مثقلة، من قدم اللازم، بمعنى تقدم، "وخرج صلى الله عليه وسلم في أثره" بكسر الهمزة، وسكون المثلثة ويجوز فتحها، وحكي تثليث الهمزة كما في السبل، أي: لم يتأخر في خروجه عنه.
"وعند ابن سعد، ثم سار إليهم في المسلمين وهم ثلاثة آلاف" أي: جملة الخارجين أعم من كونهم معه، أو قبله، أو بعده "والخيل ستة وثلاثون فرسا، وذلك يوم الأربعاء لسبع بقين من ذي القعدة" ذكره تتميما لكلام ابن سعد وإن قدمه أول كلامه، "واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم" عبد الله، أو عمرا "فيما قال ابن هشام" بيان للعز، ولا احتراز عن قول آخر، ولبس صلى الله عليه وسلم الدرع والمغفر والبيضة، وأخذ قتادة بيده، وتقلد القوس، وركب فرسه اللحيف، بضم اللام وفتحها.
قال القاموس: كأمير وزبير وحاؤه مهملة، ويروى بالجيم وبالخاء المعجمة رواه البخاري، ولم يتحققه، والمعروف بالحاء المهملة، قاله ابن الأثير.
وللطبراني عن ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم لما أتى بني قريظة ركب على حمار عري يقال له يعفور، والناس حوله فإن صحا، فيمكن أنه ركب الفرس بعض الطريق والحمار بعضها.
قال ابن إسحاق: وقدم صلى الله عليه وسلم عليا برايته وابتدرها الناس، فسار حتى دنا من الحصون، سمع مقالة قبيحة له عليه السلام، فرجع حتى لقيه بالطريق، فقال: لا عليك أن لا تدنو من هؤلاء الأخابث؟، قال: "لم أظنك سمعت منهم لي أذى"، قال: نعم، قال: "لو رأوني لم يقولوا شيئا"، فلما دنا من حصونهم قال: "يا خوان القردة هل أخزاكم الله وأنزل بكم نقمته"؟ قالوا: يا أبا القاسم ما كنت جهولا، ومر بنفر من أصحابه قبل أن يصل إليهم، فقال: "هل مر بكم أحد"؟، قالوا: مر بنا دحية بن خليفة على بغلة بيضاء، فقال: "ذاك جبريل بعث إلى بني قريظة يزلزل بهم حصونهم، ويقذف الرعب في قلوبهم"، "ونزل عليه الصلاة والسلام على بئر من آبار بني قريظة". قال ابن إسحاق يقال لها بئر أنا.
وقال ابن هشام: بئر أنا، وفي الشامية بالضم وتخفيف النون، وقيل: بالفتح والتشديد،(3/69)
وتلاحق به الناس. فأتى رجال منهم بعد عشاء الآخرة، ولم يصلوا العصر، لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة" فصلوا العصر بها بعد العشاء الآخرة، فما عابهم الله تعالى في كتابه ولا عنفهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي البخاري عن ابن عمر: فأدرك بعضهم العصر في الطريق، فقال بعضهم: لا نصلي حتى نأتيها، وقال بعضهم بل نصلي، لم يرد منا ذلك
__________
وقيل: بموحدة بدل النون وقيل غير ذلك.
"وتلاحق به الناس فأتى رجال". قال البرهان: لا أعرفهم بأعيانهم، "من بعد عشاء" الصلاة "الآخرة" بالإضافة، ولعل المراد من بعد الظلام الذي تفعل فيه الصلاة الآخرة، "ولم يصلوا العصر لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يصلين" بنون التوكيد الثقيلة "أحد العصر إلا في بني قريظة".
قال في رواية ابن إسحاق: "فصلوا العصر بها بعد العشاء الآخرة فما عابهم،" أي: فما نسب إليهم عيبا، أي: ذنبا، "الله تعالى في كتابه ولا عنفهم به" أي: ما لامهم ولا عتب عليهم بسببه "رسول الله صلى الله عليه وسلم" لأنهم إنما أخروها لفهمهم النهي عن فعلها قبل بني قرظة، وإن خرج الوقت كما هو ظاهر اللفظ.
"وفي البخاري عن ابن عمر" قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب: "لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة" "فأدرك بعضهم العصر" بالنصب مفعول، ولأبي ذر بنصب بعضهم، ورفع العصر فاعل، "في الطريق، فقال بعضهم": الضمير لنفس بعض الأول، "لا نصلي حتى نأتيها" حملا للنهي على حقيقته، ولم يبالوا بخروج الوقت ترجيحا للنهي الثاني على الأول، وهو ترك تأخير الصلاة على وقتها، واستدلوا بجواز التأخير لمن اشتغل بالحرب، بنظير ما وقع في الخندق، أنهم صلوا العصر بعد غروب الشمس لشغلهم بأمر الحرب، فجوزوا عمومه في كل شغل تعلق بالحر، ولا سيما والزمان زمان تشريع قاله في الفتح.
وقال المصنف: عملا بظاهر النهي؛ لأن في النزول مخالفة للأمر الخاص، فخصوا عموم الأمر بالصلاة أول وقتها، بما إذا لم يكن غدر بدليل أمرهم بذلك.
"وقال بعضهم" نظرا إلى المعنى، لا إلى ظاهر اللفظ، "بل نصلي" حملا للنهي عن غير حقيقته وأنه كناية عن الحث والاستعجال والإسراع، "لم يرد" بضم أوله، وفتح الراء وكسرها، كما قال المصنف "منا ذلك" الظاهر بل لازمه من الحث والإسراع إلى قريظة.
قال ابن القيم: فحازوا الفضيلتين امتثال الأمر في الإسراع، وفي المحافظة على الوقت، ولا سيما ما في هذه القصة بعينها من الحث على المحافظة عليها، وأن من فاتته حبط عمله،(3/70)
فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فلم يعنف واحدًا منهم.
كذا وقع في جميع النسخ من البخاري: أنها العصر، واتفق عليه جميع أهل المغازي.
__________
"فذكر" بضم الذال "ذلك" المذكور من فعل الطائفتين "للنبي صلى الله عليه وسلم فلم يعنف،" لم يلم "واحدا منهم" لا التاركين ولا الفاعلين؛ لأنهم بذلوا جهدهم، واجتهدوا فلم يأثموا.
قال السهيلي وغيره فيه: أن لا يعاب من أخذ بظاهر حديث أو آية، ولا على من استنبط من النص معنى يخصصه، وفيه أن كل مجتهد في الفروع مصيب.
قال الحافظ: وليس بواضح، فإنما فيه ترك تعنيف من بذل وسعه واجتهد، فيستفاد منه عدم تأثيمه.
قال السهيلي: ولا يستحيل كون الشيء صوابا في إنسان وخطأ في حق غيره، وإنما المحال الحكم في نازلة بحكمين متضادين في حق شخص واحد، والأصل فيه أن الخطر والإباحة صفات أحكام لا أعيان، فكل مجتهد وافق وجها من التأويل فهو مصيب ا. هـ.
والمشهور وعليه الجمهور أن المصيب في القطعيات واحد، وخالفه الجاحظ والعنبري وما لا قطع فيه، فالجمهور أيضا واحد.
وعن الأشعري كل مجتهد مصيب، وأن حكم الله تابع لظن المجتهد.
وقال بعض الحنفية والشافعية: هو مصيب في اجتهاده، فإن لم يصب ما في نفس الأمر فهو مخطئ، وادعى ابن المنير أن الذين صلوا إنما صلوا على دوابهم؛ لأن النزول ينافي مقصود الإسراع.
قال: فالذين لم يصلوا عملوا بالدليل الخاص، وهو الأمر بالإسراع، فتركوا عموم إيقاع العصر في وقتها إلى أن فات، والذين صلوا جمعوا بين دليلي وجوب الصلاة ووجوب الإسراع فصلوا ركبانا؛ لأنهم لو صلوا نزولا لضادوا ما أمروا به الإسراع، ولا يظن بهم ذلك مع ثقوب أذهانهم وفيه نظر؛ لأنه لم يصرح لهم بترك النزول، فلعلهم فهموا أن المراد بالأمر المبالغة في الإسراع فامتثلوه، وخصوا الصلاة من ذلك لما تقرر عندهم من تأكيد أمرها فلا يمتنع أن ينزلوا فيصلوا، ولا يكون مضادا لما أمروا به، ودعوى أنهم صلوا ركبانا يحتاج إلى دليل، ولم أره صريحا في شيء من طرق هذه القصة ا. هـ. من الفتح ملخصا، وفيه أيضا ما حاصله قوله: "لا يصلين أحد العصر"، "كذا وقع في جميع نسخ البخاري أنها العصر"، ووافقه أبو نعيم، "واتفق عليه جمع أهل المغازي".
"ووقع في مسلم أنها الظهر مع اتفاق البخاري ومسلم على روايته عن شيخ واحد(3/71)
ووقع في مسلم أنها الظهر مع اتفاق البخاري ومسلم على روايته عن شيخ واحد وبإسناد واحد. ووافق مسلما أبو يعلى وآخرون.
وجمع بين الروايتين باحتمال أن يكون بعضهم -قبل الأمر- كان صلى الظهر، وبعضهم لم يصلها، فقيل لمن لم يصلها لا يصلين أحد الظهر، ولمن صلاها: لا يصلين أحد العصر.
__________
بإسناد واحد،" وهو حدثنا عبد الله بن محمد بن أسماء، حدثنا جويرية أسماء، عن نافع، عن ابن عمر، فذكراه مسلم بلفظ الظهر، والبخاري بلفظ العصر.
"ووافق مسلما أبو يعلى وآخرون" كابن سعد، وابن حبان كلاهما من طريق مالك بن إسماعيل عن جويرية.
قال الحافظ ولم أره من رواية جويرية إلا بلفظ الظهر، غير أن أبا نعيم أخرجه من طريق أبي حفص السلمي عن جويرية، فقال: العصر، كذا أخرجه الطبراني والبيهقي في الدلائل بإسناد صحيح، عن كعب بن مالك، والبيهقي عن عائشة.
"وجمع بين الروايتين باحتمال أن يكون بعضهم قبل الأمر كان صلى الظهر، وبعضهم لم يصلها، فقيل: لمن لم يصلها لا يصلين أحد الظهر، ولمن صلاها لا يصلين أحد العصر، وجمع بعضهم باحتمال أن تكون طائفة منهم راحت بعد طائفة، فقيل للطائفة الأولى: الظهر، وللطائفة التي بعدها: العصر".
قال الحافظ: وكلاهما جمع لا بأس به، لكن يبعده اتحاد مخرج الحديثح لأنه عند الشيخين بإسناد واحد من مبدئه إلى منتهاه، فيبعد أن يكون كل من رجال إسناده، حدث به على الوجهين، ولم يوجد ذلك، ثم تأكد عندي أن الاختلاف في اللفظ المذكور من حفظ بعض رواته، فإن سياق البخاري وحده مخالف لسياق من رواه عن عبد الله بن محمد بن أسماء، عن عمه جويرية، فذكر لفظ البخاري المذكور في المصنف بما زدته أوله، وقال: ولفظ مسلم وسائر من رواه نادى فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أن لا يصلين أحد الظهر إلا في بني قريظة"، فتخوف ناس فوت الوقت، فصلوا دون بني قريظة، وقال آخرون: لا نصلي إلا حين أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن فاتنا الوقت، فما عنف واحدا من الفريقين، فالذي يظهر من تغاير اللفظين أن عبد الله شيخ الشيخين لما حدث البخاري حدثه على هذا اللفظ، ولما حدث به الباقين حدثهم به على اللفظ الآخر، وهو اللفظ الذي حدثه به عمه جويرية بدليل موافقة مالك بن إسماعيل له عليه بخلاف اللفظ الذي حدث به البخاري، أو أن البخاري كتبه من حفظه، ولم يراع اللفظ كما عرف من(3/72)
وجمع بعضهم باحتمال أن تكون طائفة منهم راحت بعد طائفة، فقيل للطائفة الأولى: الظهر، وللطائفة التي بعدها العصر، والله أعلم.
قال ابن إسحاق: وحاصرهم عليه الصلاة والسلام خمسا وعشرين ليلة، حتى أجهدهم الحصار.
وعند ابن سعد: خمس عشرة. وعند ابن عقبة: بضع عشرة ليلة.
وقذف الله في قلوبهم الرعب. فعرض عليهم رئيسهم كعب بن أسد أن يؤمنوا فقال لهم:
__________
مذهبه في تجويز ذلك بخلاف مسلم، فإنه يحافظ على اللفظ كثيرا، وإنما لم أجوز عكسه لموافقة من وافق مسلما على لفظه بخلاف البخاري، لكن موافقة أبي حفص السلمي تؤيد الاحتمال الأول، وهذا من حيث حديث ابن عمر، أما بالنظر إلى حديث غيره، فالاحتمالان المتقدمان في كونه قال: الظهر لطائفة، والعصر لطائفة، مجيئهما متجه، فيحتمل أن رواية الظهر هي التي سمعها ابن عمر.
ورواية العصر هي التي سمعها كعب بن مالك وعائشة، وقيل في وجه الجمع أيضا أن يكون لأهل القوة، أو لمن كان منزله قريبا لا يصلين أحد الظهر، وقال لغيرهم: لا يصلين أحد العصر ا. هـ.
والجمع الأخير ظاهر أيضا بالنظر لغير رواية ابن عمر "والله أعلم" بما وقع في نفس الأمر.
"قال ابن إسحاق: وحاصرهم عليه الصلاة والسلام خمسا وعشرين ليلة حتى أجهدهم" أي: بلغهم "الحصار" غاية المشقة، وكونه بالألف مثله في الفتح، وروايته في ابن إسحاق، وكذا نقله اليعمري جهدهم بلا ألف، وهما بمعنى.
ففي القاموس جهد دابته، بلغ جهدها كأجهدها ا. هـ.
"وعند ابن سعد: خمس عشرة" ليلة.
"وعند ابن عقبة: بضع عشرة ليلة" ولو قدمه على ما قبله، كما في الفتح ليكون كالتفسير للبضع كان أولى، وقد جمع شيخنا في التقرير، بأنه يمكن أن مدة شدة الحصار خمس عشرة المردودة إليها رواية بضع عشرة والخمس وعشرين مدته كلها، وعطف على أجهدهم قوله: "وقذف" ألقى "الله في قلوبهم الرعب" وإطلاقه على ذلك مجاز؛ لأن حقيقة القذف الرمي بالحجارة، فعرض عليهم رئيسهم كعب بن أسد أن يؤمنوا، فقال لهم:" عطف على(3/73)
يا معشر يهود قد نزل بكم من الأمر ما ترون، وإني أعرض عليكم خلالا ثلاثا، فخذوا أيها شئتم. قالوا: وما هي:
قال: نتابع هذا الرجل ونصدقه، فوالله لقد تبين أنه لنبي مرسل، وأنه الذي تجدونه في كتابكم، فتأمنون على دمائكم وأموالكم وأبنائكم ونسائكم. فأبوا.
قال: فإذا أبيتم علي هذه، فهلم فنقتل أبناءنا ونساءنا ثم نخرج إلى محمد وأصحابه رجالا مصلتين بالسيوف، لم نترك وراءنا ثقلا حتى يحكم الله بيننا وبين
__________
عرض، "يا معشر يهود، قد نزل بكم من الأمر ما ترون، وإني أعرض عليكم"، أي: أذكر لكم، "خلالا".
قال الشامي: بكسر الخاء المعجمة، أي: خصالا جمع خلة، بفتح المعجمة وشد اللام، "ثلاثا فخذوا أيها شئتم، قالوا: وما هي؟ قال: نتابع" من المتابعة "هذا الرجل، ونصدقه فوالله لقد تبين" ظهر، وتحقق لكم "أنه" بفتح الهمزة "نبي مرسل" هكذا في نسخة صحيحة من ابن إسحاق.
وفي العيون عنه، وكذا في بعض نسخ المصنف أنه لنبي بزيادة لام.
فقال البرهان: بكسر الهمزة؛ لأن اللام في خبرها. قال: وكذا، "وإنه الذي" والمذكور في ابن إسحاق، والعيون للذي بلام "تجدونه في كتابكم" التوراة، "فتأمنون على دمائكم" من القتل، "وأموالكم وأبنائكم ونسائكم" من الأسر والسلب، ولم يقل فنأمن، وإن كان الظاهر المطابق لقوله قبل نتابع اقتصارا على ما يحملهم على المتابعة مما تتعلق به أنفسهم، وذكر نفسه فيها إشارة إلى رضاه به لنفسه وأنه شريكهم فيه إن فعلوه ليكون أدعى لقبول ما عرضه، "فأبوا" حيث قالوا: لا نفارق حكم التوراة، ولا نستبدل به غيره.
"قال: فإذا" حيث "أبيتم علي" بشد الياء "هذه" الخصلة، فامتنعتم بها، "فهلم" تعالوا وافقوني، "فقتل أبناءنا ونساءنا، ثم نخرج إلى محمد وأصحابه رجالا" أي: مشاة، "مصلتين".
قال الشامي: جمع مصلت بكسر اللام، وبالصاد المهملة الساكنة، أي: مجردين السيوف من أغمادها ا. هـ.
فقوله: "بالسيوف" متعلق بمحذوف ذكر تأكيدا، كأنه قيل مجردين السيوف، مقاتلين بها، وأقام الظاهر مقام المضمر لعدم تقدمه لفظا، أو هو متعلق بنخرج، وإن أخر لفظا عن مصلتين "لم نترك وراءنا ثقلا".
قال البرهان: بفتح المثلثة والقاف، ويجوز كسر الثاء، ونقاتل "حتى يحكم الله بيننا وبين(3/74)
محمد، فإن نهلك نهلك ولم نترك وراءنا ما نخشى عليه.
فقالوا: أي عيش لنا بعد أبنائنا ونسائنا.
فقال: إن أبيتم علي هذه فإن الليلة ليلة السبت، وعسى أن يكون محمد وأصحابه قد أمنونا فيها، فانزلوا لعلنا نصيب من محمد وأصحابه غرة.
قالوا: نفسد سبتنا ونحدث فيه ما لم يحدث فيه من كان قبلنا، إلا من قد علمت فأصابه ما لم يخف عليك من المسخ.
وأرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ابعث إلينا أبا لبابة -وهو رفاعة بن عبد المنذر- نستشيره في أمرنا.
فأرسله إليهم، فلما رأوه قام إليه الرجال وجهش إليه النساء والصبيان يبكون في وجهه، فرق لهم يا أبا لبابة، أترى أن ننزل
__________
محمد" غاية لنخرج أو لمحذوف، "فإن نهلك نهلك ولم نترك وراءنا ما" وفي ابن إسحاق والعيون: نسلا، "نخشى عليه" حال من فاعل نهلك، وهو المقصود من الجواب، فلم يتحد الشرط والجزاء وبقية قوله: وإن نظهر على محمد، فلعمري لنجدن النساء والأبناء "فقالوا: أي عيش لنا بعد أبنائنا ونسائنا" استفهام إنكاري لرد قتلهم "فقال: إن أبيتم علي هذه، فإن الليلة ليلة السبت، وعسى أن يكون محمد وأصحابه قد أمنونا" بفتح الهمزة المقصورة وكسر الميم، أي: اطمأنوا، وسكنت قلوبهم لاعتقادهم أنا لا نحدث شيئا "فيها، فانزلوا لعلنا نصيب من محمد وأصحابه غرة" بكسر الغين المعجمة وشد الراء، غفلة، "قالوا: نفسد سبتنا، ونحدث فيه ما لم يحدث فيه من كان قبلنا، إلا من قد علمت، فأصابه ما لم يخف عليك من المسخ" قردة وخنازير، قال: ما بات رجل منكم منذ ولدته أمه ليلة من الدهر حازما، "وأرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أيقنوا بالهلاك "أن ابعث إلينا أبا لبابة" الأنصاري المدني أحد النقباء عاش إلى خلافة علي، "وهو" أي: اسمه فيما صدر به السهيلي، "رفاعة" وقيل: مبشر، وقيل: بشير، "ابن عبد المنذر".
قال في التقريب: ووهم من سماه مروان، "نستشيره في أمرنا" في شأننا وحالنا، وخصوه لكون ماله وولده وعياله فيهم، "فأرسله إليهم، فلما رأوه قام إليه الرجال وجهش" بفتح الجيم والهاء وكسرها، فزع وأسرع، "إليه النساء والصبيان يبكون في وجهه فرق لهم" رحمهم لما رآهم عليه من الحزن والذلة، "وقالوا:" عطف على قام إليه الرجال، "يا أبا لبابة، أترى أن ننزل(3/75)
على حكم محمد؟ قال: نعم، وأشار بيده إلى حلقه: إنه الذبح.
قال أبو لبابة: فوالله ما زالت قدماي من مكانهما حتى عرفت أني قد خنت الله ورسوله.
ثم انطلق أبو لبابة على وجهه فلم يأت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ارتبط في المسجد إلى عمود من عمده، وقال: لا أبرح من مكاني هذا حتى يتوب الله علي مما صنعت وعاهد الله أن لا يطأ بني قريظة أبدا، ولا أرى في بلد خنت الله ورسوله فيه أبدا.
__________
على حكم محمد" وذلك أنهم لما حوصروا حتى أيقنوا بالهلكة أنزلوا شاس بن قيس، فكلمه صلى الله عليه وسلم أن ينزلوا على ما نزل بنو النضير من تلك الأموال والحلقة والخروج بالنساء والذراري، وما حملت الإبل إلا الحلقة، فأبى رسول الله، فقال: تحقن دماءنا وتسلم لنا النساء والذرية، ولا حاجة لنا فيما حملت الإبل، فأبى صلى الله عليه وسلم إلا أن ينزلوا على حكمه وعاد شاس إليهم بذلك، "قال: نعم، وأشار بيه إلى حلقه أنه" أي: حكمه فيهم، "الذبح" كأنه فهم ذلك من ترك إجابته بحقن دمائهم.
"قال أبو لبابة: فوالله ما زالت قدماي من مكانهما حتى عرفت أني قد خنت الله ورسوله"، زاد في رواية: فندمت واسترجعت فنزلت وإن لحيتي لمبتلة من الدموع، والناس ينتظرون رجوعي إليهم، حتى أخذت من وراء الحصن طريقا أخرى، حتى جئت إلى المسجد، "ثم انطلق أبو لبابة على وجهه، فلم يأت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ارتبط في المسجد إلى عمود من عمده" بضم العين، والميم وفتحهما، ويكون مفردا وجمعا.
قال في رواية: وكان ارتباطي إلى الأسطوانة المخلقة، أي: التي طليت بالخلوق بوزن رسول، وهو ما يخلق به من الطيب، "وقال: لا أبرح من مكاني هذا حتى" أموت، أو "يتوب الله علي" أي: ينزل توبتي، "مما صنعت، وعاهد الله أن لا يطأ" وفي نسخة: وعاهدت الله أن لا أطأ على الالتفات "بني قريظة أبدا، ولا أرى".
قال البرهان: بضم الهمزة وفتح الراء مبني للمفعول، وقال الشامي: بفتح الهمزة فإن كان رواية، فالمعنى لا أرى أحدا "في بلد خنت الله ورسوله فيه أبدا"، وهو يستلزم أن لا يذهب إليهم.
قال ابن هشام: وأنزل الله في أبي لبابة، فيما قال ابن عيينة عن إسماعيل بن أبي خالد، عن عبد الله بن أبي قتادة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ(3/76)
فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خبره، وكان قد استبطأه، قال: أما لو جاءني لاستغفرت له، وأما إذا فعل ما فعل، فما أنا بالذي أطلقه من مكانه حتى يتوب الله عليه.
قال ابن هشام: وأقام أبو لبابة مرتبطا بالجذع ست ليال، تأتيه امرأته في وقت كل صلاة فتحله للصلاة ثم يعود فتربطه بالجذع.
وقال أبو عمر: روى ابن وهب عن مالك عن عبد الله بن أبي بكر أن أبا لبابة ارتبط بسلسلة ثقيلة بضع عشرة ليلة حتى ذهب سمعه
__________
تَعْلَمُونَ} [الأنفال: 27] "فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خبره، وكان قد استبطأه قال: أما لو جاءني" وأخبرني خبره "لاستغفرت له، وأما إذ فعل ما فعل، فما أنا بالذي أطلقه من مكانه حتى يتوب الله عليه".
قال أبو لبابة: فكنت في أمر عظيم في حر شديد عدة ليال لا آكل فيهن شيئا، ولا أشرب، وقلت: لا أزال هكذا حتى أفارق الدنيا، أو يتوب الله علي، وأذكر رؤيا رأيتها في النوم، ونحن محاصرون بني قريظة، كأني في حمأة، أي: طين سود آسنة، أي: متغيرة، فلم أخرج منها حتى كدت أموت من ريحها، ثم رأيت نهرا جاريا، فأراني اغتسلت فيه حتى استنقيت، وأراني أجد ريحا طيبة، فاستعبرتها أبا بكر، فقال: لتدخلن في أمر تغتم له، ثم يفرج عنك، فكنت أذكر قوله وأنا مرتبط، فأرجو أن ينزل الله توبتي، فلم أزل كذلك حتى ما أسمع الصوت من الجهد ورسول الله ينظر إلي.
"قال ابن هشام" عبد الملك: "وأقام أبو لبابة مرتبطا بالجذع ست ليال تأتيه امرأته" بطلب منه، أو بلا طلب على العادة من تفقد الزوجة، ونحوها الشخص في الشدة، "في وقت كل صلاة، فتحله للصلاة، ثم يعود فتربطه بالجذع" وكان هذه الست تقيدت به فيها امرأته، وباقي البضع عشرة بنته، فلا تنافي بين هذه والآتية.
"وقالوا أبو عمر" بن عبد البر الحافظ: "روى ابن وهب" عبد الله أحد الأعلام، "عن مالك" بن أنس الإمام، "عن عبد الله بن أبي بكر" بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري المدني، قاضيها الثقة، المتوفى سنة خمس وثلاثين ومائة عن سبعين سنة، "أن أبا لبابة ارتبط بسلسلة ثقيلة،" لفظ الرواية، كما في العيون عن أبي عمر بسلسلة ربوض، والربوض الثقيلة وهو بفتح الراء، وضم الموحدة مخففة، فواو فضاد معجمة، أي: عظيمة غليظة، "بضع عشرة ليلة حتى(3/77)
فما كاد يسمع، وكاد يذهب بصره، وكانت ابنته تحله إذا حضرت الصلاة أو أراد أن يذهب لحاجة، فإذا فرغ أعادته.
وعن يزيد بن عبد الله بن قسيط: أن توبة أبي لبابة نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بيت أم سلمة. قالت أم سلمة: فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم من السحر وهو يضحك، فقالت: قلت يا رسول الله مم تضحك، أضحك الله سنك. قال: "تيب على أبي لبابة". قالت: قلت أفلا أبشره يا رسول الله، قال: "بلى إن شئت". قال: فقامت على باب حجرتها -وذلك قبل أن يضرب عليهن الححاب- فقالت: فقلت يا أبا لبابة
__________
ذهب سمعه، فما يكاد يسمع، وكاد يذهب بصره فكانت ابنته تحله إذا حضرت الصلاة، أو أراد أن يذهب لحاجة، فإذا فرغ" من الصلاة، أو لحاجة "أعادته". والظاهر كما قال الشامس أن زوجه كانت تحله مرة وبنته أخرى.
"و" روى ابن إسحاق "عن يزيد" بياء تحتية وزاي "ابن عبد الله بن قسيط" بقاف ومهملتين مصغر، ابن أسامة الليثي أبي عبد الله المدني الأعرج الثقة، المتوفى سنة اثنتين وعشرين ومائة، وله تسعون سنة.
روى له الستة وفي غالب النسخ بإسقاط يزيد، وهو خلاف ما عند ابن إسحاق، وغيره من أنه عن يزيد، وهو الصواب، "أن توبة أبي لبابة نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم".
قال ابن هشام: والآية التي نزلت في توبته قول الله عز وجل: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا} ، "وهو في بيت أم سلمة،" وهذا مرسل، وقد رواه ابن مردويه بسند فيه الواقدي، موصولا عن أم سلمة، وفيه، وأنزل الله تعالى: {وَآخَرُونَ..} ويحتمل أن يزيد حمله عنها وقد يشعر به قوله.
"قالت أم سلمة: فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم من السحر، وهو يضحك" فرحا بالتوبة؛ لأنه بالمؤمنين رءوف رحيم، "فقالت: قلت: يا رسول الله مم تضحك؟، أضحك الله سنك، قال: "تيب على أبي لبابة"، قالت: قلت:" أأترك الذهاب إليه "فلا أبشره" أم أذهب إليه فأبشره، "يا رسول الله؟، قال: "بلى" بريه "إن شئت"".
ولفظ ابن مردويه قال: "ما شئت" وكله إليها حتى لا يشق عليها بالليل.
"قال: فقامت على باب حجرتها، وذلك قبل أن يضرب عليهن الحجاب، فقالت: "ولفظ ابن مردويه: فقمت على باب الحجرة، وذلك قبل أن يضرب الحجاب، "فقلت: يا أبا لبابة(3/78)
أبشر فقد تاب الله عليك. قالت: فثار الناس إليه ليطلقوه، فقال: لا والله حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يطلقني بيده، فلما مر عليه خارجا إلى صلاة الصبح أطلقه.
وروى البيهقي في الدلائل بسنده عن مجاهد في قوله تعالى: {اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ} [التوبة: 102] قال: هو أبو لبابة إذ قال لبني قريظة ما قال وأشار إلى حلقه إن محمدًا يذبحكم إن نزلتم على حكمه. قال البيهقي وترجم محمد بن إسحاق بن يسار أن ارتباطه كان حينئذ.
وقد روينا عن ابن عباس ما دل على أن ارتباطه بسارية المسجد كان بتخلفه عن غزوة تبوك
__________
أبشر" بهمزة قطع، "فقد تاب الله عليك، فثار" أي: نهض "الناس إليه ليطلقوه، فقال: لا والله حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يطلقني بيده"، تعظيما له ورجاء حصول بركته حتى لا يعود لمثلها "فلما مر عليه خارجا إلى صلاة الصبح، أطلقه" زاد ابن مردويه عقب هذا: ونزلت: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ} .
قال السهيلي: فإن قيل الآية ليست نصا في توبة الله عليه، أكثر من قوله: عسى الله أن يتوب عليهم، فالجواب أن عسى منه سبحانه واجبة وخبر صدق، فإن قيل القرءان نزل بلسان العرب، وعسى ليست في كلامهم بخبر، ولا تقتضي وجوبا، قلنا: عسى تعطي الترجي مع المقاربة، ولذا قال: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} ، ومعناه الترجي مع الخبر بالقرب كأنه قال قرب أن يبعثك، فالترجي مصروف إلى العبد، والخبر عن القرب، مصروف إلى الله، وخبره حق ووعده حتم، فما تضمنه من الخبر، فهو الواجب الذي هو الترجي الذي هو محال على الله انتهى باختصار.
"وروى البيهقي في الدلائل" النبوية "بسنده عن مجاهد في قوله تعالى: {اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ} قال: هو أبو لبابة، إذ قال لبني قريظة ما قال"، هو من إطلاق القول على الفعل، إذ لم يصدر منه قول غير الإشارة، ولذا أتى بعطف التفسير في قوله، "وأشار إلى حلقه بأن محمدًا يذبحك إن نزلتم على حكمه".
"قال البيهقي: وترجم محمد بن إسحاق بن يسار" ضد يمين إمام المغازي "أن ارتباطه كان حينئذ" أي: حين إشارته لقريظة، "وقد روينا عن ابن عباس" من طرق عند ابن مردويه وابن جرير "ما دل" على سبيل الصراحة "على أن ارتباطه بسارية المسجد كان بتخلفه عن غزوة تبوك،(3/79)
كما قال ابن المسيب قال: وفي ذلك نزلت هذه الآية.
ولما اشتد الحصار ببني قريظة أذعنوا أن ينزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحكم فيهم سعد بن معاذ، وكان قد جعله في خيمة في المسجد الشريف لامرأة من أسلم
__________
كما قال ابن المسيب قال: وفي ذلك نزلت هذه الآية {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ} ، وقد أخرجه أبو الشيخ وابن منده عن جابر بسند قوي، وعلى تقدير صحة الخبرين، فيجمع باحتمال تعدد ربطه نفسه، "ولما اشتد الحصار ببني قريظة أذعنوا"، خضعوا وذلوا ورضوا، "أن ينزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم" أي: على ما يحكم به فيهم.
قال ابن إسحاق: فقالت الأوس: قد فعلت في موالي الخزرج، أي: بني قينقاع، ما علمت فقال: ألا ترضون أن يحكم فيهم رجل منكم؟، قالوا: بلى، قال: فذلك إلى سعد بن معاذ.
وعند ابن عقبة فقال: اختاروا من شئتم من أصحابي، فاختاروا سعدا، فرضي صلى الله عليه وسلم.
قال ابن هشام: وحدثني من أثق به، أن عليا صاح وهم محاصرون: يا كتيبة الإيمان، وتقدم هو والزبير، وقال: والله لأذوقن ما ذاق حمزة، أو لأقتحمن حصنهم، فقالوا: ننزل على حكم سعد، "فحكم فيهم سعد بن معاذ".
وفي الصحيح: فرد الحكم إلى سعد.
قال الحافظ: كأنهم أذعنوا للنزول على حكم المصطفى، فلما سأله الأنصار فيهم رد الحكم إلى سعد، كما بينه ابن إسحاق قال: وفي كثير من السير، أنهم أبوا أن ينزلوا على حكم سعد، ويجمع بأنهم نزلوا على حكمه قبل أن يحكم فيهم سعدا.
وفي حديث عائشة عند أحمد والطبراني: فلما اشتد بهم البلاء، قيل لهم انزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما استشاروا أبا لبابة قالوا: ننزل على حكم سعد، ونحوه في حديث جابر عند ابن عائذ، فحصل في سبب رد الحكم إلى سعد أمران: أحدهما سؤال الأوس، والآخر إشارة أبي لبابة، ويحتمل أن الإشارة أثرت توقفهم، ثم لما اشتد بهم الحصار عرفوا سؤال الأوس، فأذعنوا للنزول على حكمه صلى الله عليه وسلم واثقين بأنه يرد الحكم إلى سعد.
وفي رواية مسلم: وكانوا حلفاءه.
"وكان" عليه السلام "قد جعله في خيمة في المسجد الشريف" النبوي، كما دل عليه كلام ابن إسحاق خلافا لمن قال، المراد المسجد الذي كان صلى الله عليه وسلم أعده للصلاة فيه في قريظة أيام حصارهم قاله الفتح، والجملة حالية والأولى أنها مستأنفة؛ لأن التحكيم لم يكن وقت جعله في الخيمة، بل وقت كونه فيها، وكانت تلك الخيمة "لامرأة من أسلم"، كما جزم به ابن إسحاق(3/80)
يقال لها رفيدة وكانت تداوي الجرحى، فلما حكمه أتاه قومه فحملوه على حمار وقد وطؤا له بوسادة من أدم -وكان رجلا جسيما- ثم أقبلوا معه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فلما انتهى سعد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين
__________
وغيره، وصدر البرهان بأنها أنصارية، وفي الإصابة: الأنصارية أو الأسلمية، "يقال لها رفيدة" بضم الراء، وفتح الفاء، وسكون التحتية، وفتح الدال المهملة ثم تاء تأنيث، صحابية، "وكانت تداوي الجرحى"، وتحتسب بنفسها على من به ضيعة من المسلمين، قاله ابن إسحاق.
وروى البخاري في الأدب المفرد، بسند صحيح عن محمود بن لبيد: لما أصيب أكحل سعد يوم الخندق، فثقل حولوه عند امرأة يقال لها رفيدة، وكانت تداوي الجرحى، وكان صلى الله عليه وسلم إذا مر به يقول: "كيف أمسيت"، وإذا أصبح يقول: "كيف أصبحت" فيخبره ذكره في الإصابة، ثم قال في الكاف كعيبة بالتصغير، بنت سعيد الأسلمية.
ذكر أبو عمر عن الواقدي: أنها شهدت خيبر معه صلى الله عليه وسلم فأسهم لها سهم رجل.
وقال ابن سعد: هي التي كانت لها خيمة في المسجد، تداوي المرضى والجرحى، وكان سعد بن معاذ عندها تداوي جرحه حتى مات ا. هـ.
فهما امرأتان، وقع الخلاف فيمن تنسب إليه الخيمة منهما، وليس أحدهما اسما، والآخر لقبا، ثم عجب من الشامي في اقتصاره على قول ابن سعد، وتركه قول إمام المغازي، مع أنه لم ينفرد به، بل ورد عن محمود الصحابي بسند صحيح هذا.
وقال البخاري: فضرب النبي صلى الله عليه وسلم خيمة في المسجد ليعوده من قريب.
قال المصنف: وعند ابن إسحاق في خيمة رفيدة عند مسجد ا. هـ. ففهم فاهم منه أنه جعله مقابلا للبخاري، وليس كذلك، فمراده بيان اسم صاحبة الخيمة، وأن قوله ضرب مجاز عن جعل، كما عبر به ابن إسحاق، وهو ما دل عليه كلام الفتح.
"فلما حكمه أتاه قومه" الأوس، "فحملوه على حمار" لأعرابي عليه قطيفة، "وقد وطؤا له" زيادة عى ذلك، "بوسادة من أدم"، لمشقة ركوبه على القطيفة للجرح "و" لأنه "كان رجلا جسيما، ثم أقبلوا معه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم".
زاد ابن إسحاق: وهم يقولون: يا أبا عمرو أحسن في مواليك، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما ولاك لتحسن فيهم، فلما أكثروا عليه قال: لقد آن لسعد أن لا تأخذه في الله لومة لائم، "فلما انتهى سعد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين".
وفي البخاري عن أبي سعيد: فلما دنا من المسجد، فقيل هو تصحيف صوابه، فلما دنا(3/81)
قال عليه الصلاة والسلام: "قوموا إلى سيدكم". فأما المهاجرون من قريش فيقولون إنما أراد صلى الله عليه وسلم الأنصار، وأما الأنصار فيقولون: عم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين.
فقالوا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ولاك أمر مواليك لتحكم فيهم.
__________
من النبي صلى الله عليه وسلم، كما في مسلم وأبي داود، وفيه تخطئة الراوي بمجرد الظن، فالأولى كما في المصابيح، أن المراد بالمسجد الذي أعده النبي صلى الله عليه وسلم للصلاة في قريظة أيام حصارهم، قال: ولئن سلمنا أنه لم يكن ثَمّ مسجد صلاة فلا نسلم أن قوله من المسجد متعلق بقوله قريبا، بل بمحذوف، أي: فلما دنا آتيا من المسجد، فإن مجيئه إلى النبي صلى الله عليه وسلم كان من مسجد المدينة.
"قال عليه الصلاة والسلام: "قوموا إلى سيدكم" " وفي حديث عائشة عند أحمد: "قوموا إلى سيدكم فأنزلوه" فقال عمر. السيد هو الله. قال رجال من بني عبد الأشهل: قمنا له على أرجلنا صفين، يحييه كل رجل منا، حتى انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم "فأم المهاجرون من قريش فيقولون: إنما أراد صلى الله عليه وسلم الأنصار" لكونه سيدهم، وهو فيهم بمنزلة الصديق في المهاجرين، ففهموا أن الإضافة عهدية، "وأما الأنصار، فيقولون: عم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين" أنصارا ومهاجرين، إبقاء للفظ العام على عمومه، والسيادة لا تقتضي الأفضلية.
وفي رواية: "قوموا إلى خيركم".
وفي البخاري في المناقب والمغازي: إلى سيدكم، أو خيركم، بالشك.
وله في الجهاد: إلى سيدكم بلا شك.
وفيه أيضا في المغازي، عن أبي سعيد الخدري، قال للأنصار، وكأنه من تصرف بعض الرواة لما رأى اختلاف المهاجرين والأنصار، ويدل له أنه أسقط في الجهاد والمناقب قوله للأنصار.
قال ابن إسحاق: فقاموا إليه، "فقالوا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم" فهو عطف على ما حذفه المصنف من كلام ابن إسحاق، وإلا فليس قبله ما يظهر عطفه عليه.
وفي رواية: فقالت الأوس: "قد ولاك أمر مواليك لتحكم فيهم".
وفي رواية: فأحسن فيهم واذكر بلاءهم عندك، أي: مناصرتهم ومعاونتهم لك قبل هذا اليوم.
وعند ابن إسحاق فقال سعد: عليكم بذلك عهد الله وميثاقه، أن الحكم فيهم لما حكمت، قالوا: نعم، قال: وعلي من ههنا من الناحية التي فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو معرض عنه إجلالا له، فقال صلى الله عليه وسلم: "نعم".
وفي البخاري عن أبي سعيد: فجلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إن هؤلاء نزلوا على(3/82)
فقال سعد: فإني أحكم فيهم، أن تقتل الرجال وتقسم الأموال وتسبى الذراري والنساء.
فقال عليه الصلاة والسلام: "لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة" والرقيع: السماء سميت بذلك؛ لأنها رقعت بالنجوم.
__________
حكمك، فكأنه عليه السلام تكلم أولا، ثم تكلمت الأوس بذلك.
"فقال سعد: فإني أحكم فيهم، أن تقتل الرجال، وتقسم الأموال وتسبى"، بالبناء للمفعول في الأفعال الثلاثة، كما في النور؛ لأنه جواب لقومه الأنصار، "الذراري" الأولاد الذين لم يبلغوا الحلم، "والنساء" أي: أزواجهم.
وفي البخاري، فقال: تقتل مقاتلتهم، وتسبى ذراريهم.
قال المصنف: بفتح الفوقية الأولى، وضم الثانية، وهم الرجال، وتسبى، بفتح الفوقية، وكسر الموحدة، ذراريهم بالتشديد، وهم النساء والصبيان ا. هـ، فضبطه بالبناء للفاعل؛ لأنه جواب لقول المصطفى: احكم فيهم يا سعد.
"فقال عليه الصلاة والسلام" كما رواه ابن إسحاق من مرسل علقمة بن وقاص الليثي: "لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة" بالقاف، جمع رقيع بتذكير العدد على معنى السقف، كما قال ابن دريد: إذا السماء مؤنث سماعي، فقياسه سبع أرقعة بتأنيث العدد.
قال السهيلي: معناه: أن الحكم ينزل من فوق قال، ومثله قول زينب ابنة جحش: زوجني الله من نبيه من فوق سبع سموات، أي: نزل تزويجها من فوق، وهذا نحو يخافون ربهم من فوقهم، أي: عقابا ينزل من فوقهم، وهو عقاب ربهم.
قال: ولا يستحيل وصفه تعالى بالفوق على المعنى الذي يليق بجلاله، لا على المعنى الذي يسبق إلى الفهم من التحديد الذي يفضي إلى التشبيه، ولكن لا ينبغي إطلاق ذلك الوصف، بما تقدم من الآية والحديثين، لارتباط حرف الجر بالفعل، حتى صار وصفا لا وصفا للباري سبحانه ا. هـ.
"والرقيع السماء" بدليل الرواية الآتية من فوق سبع سموات، "سميت" كما قال السهيلي "بذلك؛ لأنها رقعت" مخفف مبني للمفعول "بالنجوم" على التشبيه؛ لأنها لما كانت في مواضع منها شبهت بالثوب الذي فيه رقع في مواضع متفرقة، وظاهره أن كل سماء مرقوعة بالنجوم، وهو أحد قولين، والآخر أن الكواكب كلها في السماء الدنيا حكاهما ابن كثير. هذا وفي القاموس: الرقيع كالأمير السماء أو السماء الدنيا والرقع السابعة، فعلى القول الثاني ففي الحديث تغليب(3/83)
ووقع في البخاري: قال: قضيت فيهم بحكم الله، وربما قال: بحكم الملك -أي: بكسر اللام.
وفي رواية محمد بن صالح لقد حكمت اليوم فيهم بحكم الله الذي حكم به من فوق سبع سموات.
وفي حديث جابر بن عبد الله -عند ابن عائد-
__________
السماء الدنيا على غيرها.
"ووقع في البخاري" من حديث أبي سعيد، قال" صلى الله عليه وسلم "قضيت"، وفي الجهاد: "لقد حكمت فيهم بحكم الله، وربما قال: بحكم الملك" شك الراوي في أي اللفظين قاله، وهما بمعنى، "أي بكسر اللام" أي: الله كما وجه الحافظ لرواية محمد بن صالح الآتية.
ورواية جابر: قد أمرك الله أن تحكم فيهم.
ورواية ابن إسحاق المذكورة في المصنف، قال: وهذا كله يدفع ما وقع عند الكرماني بحكم الملك بفتح اللام، أي: جبريل؛ لأنه الذي ينزل بالأحكام ا. هـ.
لكن نقل القاضي عياض، أن بعضهم ضبطه في البخاري بكسر اللام وفتحها، فإن صح الفتح فالمراد جبريل، يعني بالحكم الذي جاء به الملك عن الله، وعورض بأنه لم ينقل نزول الملك في ذلك بشيء، ولو نزل بشيء اتبع وترك الاجتهاد، وبأنه ورد في الصحيح: "قضيت بحكم الله".
نعم، ذكر ابن إسحاق في غير رواية البكائي، أنه صلى الله عليه وسلم قال في حكم سعد بذلك طرقني الملك سحرا.
"وفي رواية محمد بن صالح" بن دينار التمار المدني، مولى الأنصار: صدوق يخطئ، مات سنة ثمان وستين، ومائة، خرج له أصحاب السنن، يعني عن سعد بن إبراهيم، عن عامر بن سعد بن أبي وقاص، عن أبيه.
"لقد حكمت اليوم فيهم بحكم الله الذي حكم به من فوق سبع سموات" أخرجه النسائي، وكان الأولى بالمصنف، عزوه له دون محمد بن صالح أحد رواته؛ لأنه أوهم أن الحديث معضل مع أنه موصول كما علمت، وأما صاحب الفتح، فلكونه يتكلم على الأسانيد يحسن منه ذلك؛ لأن به يتبين ممن جاء اختلاف اللفظ، أو الزيادة، أو النقص، أو نحو ذلك مع أنه أيضا عزاه لمن أخرجه وهو النسائي ففيه إفادة أن المراد بالأرقعة السموات، وأن لفظ الملك في رواية البخاري بكسر اللام.
"وفي حديث جابر بن عبد الله" رضي الله عنهما "عند" محمد "ابن عائذ" بتحتية وذال(3/84)
فقال: احكم فيهم يا سعد، فقال: الله ورسوله أحق بالحكم، قال: قد أمرك الله أن تحكم فيهم.
وفي هذ القصة: جواز الاجتهاد في زمنه صلى الله عليه وسلم وهي مسألة اختلف فيها أهل أصول الفقه. والمختار: الجواز، سواء كان في حضرته صلى الله عليه وسلم أم لا، وإنما استبعد المانع وقوع الاعتماد على الظن مع إمكان القطع، ولا يضر ذلك لأنه بالتقرير يصير قطعيا، وقد ثبت وقوع ذلك بحضرته عليه السلام كما في هذه القصة وغيرها. ا. هـ.
__________
معجمة، "فقال: "احكم فيهم يا سعد"، فقال: الله ورسوله أحق بالحكم، قال: "قد أمرك الله أن تحكم فيهم" فأوحى إلي إلهاما، أو على لسان جبريل بذلك، وأما قوله بذلك طرقني الملك سحرا، فيحتمل أن معناه، أنه أخبره أن يحكم بما يحكم به سعد، فليس نصا في أنه هو الذي أوحى إليه أن يأمر سعدا بذلك.
"وفي هذه القصة" تحكيم الأفضل من هو مفضول، وأنه يسوغ للإمام إذا كانت له حكومة في نفسه تولية نائب يحكم بينه وبين خصمه، وينفذ على خصمه إن كان عدلا، ولا يقدح فيه أن حكم له وهو نائبة، ولزوم حكم الحكم برضا الخصمين، سواء كان في أمور الحرب، أو غيرها، فهو رد على الخوارج المنكرين التحكيم على علي، قاله ابن المنير وغيره و"جواز الاجتهاد في زمنه صلى الله عليه وسلم وهي مسألة اختلف فيها أهل أصول الفقه والمختار الجواز سواء كان في حضرته صلى الله عليه وسلم أم لا، وإنما استبعد المانع وقوع الاعتماد على الظن"، المؤدي إليه الاجتهاد، "مع إمكان القطع" بسؤاله عليه السلام، "و" لكن "لا يضر ذلك لأنه بالتقرير،" بعلمه به، والسكون عليه، أو بعدم مجيء الوحي له بخلافه، "يصير قطعيا" إذ لو كان باطلا لجاءه الوحي، "فقد ثبت وقوع ذلك بحضرته عليه السلام، كما في هذه القصة، وغيرها" كقصة قتيل أبي قتادة إذ أخذ رجل سلبه، وقال للمصطفى: أرضه منه، فأبى أبو بكر، فقال عليه السلام: "صدق فأعطه.." الحديث في البخاري "انتهى".
وقال شيخنا: وهذا كله ظاهر حيث كان الفاعل بحضرته صلى الله عليه وسلم أما في غيبته ففيه شيء، وهو أنه قد يؤدي ظن المجتهد إلى خلاف الواقع، فيفعله وعلمه صلى الله عليه وسلم به بعد لا يمنع وقوع الفعل منه، وإنما يقتضي النهي عن العود لمثله، فالأولى الجواب بأنه إنما اكتفى بالظن مع القدرة على اليقين؛ لأن انتظاره قد يؤدي إلى مشقة، بل إلى فوات المطلوب ا. هـ.
وفيها أيضا تصحيح القول: إن المصيب واحد، وإن المجتهد ربما أخطأ، ولا حرج عليه،(3/85)
وانصرف صلى الله عليه وسلم يوم الخميس لسبع ليال -كما قاله الدمياطي، أو لخمس كما قاله مغلطاي- خلون من ذي الحجة.
وأمر عليه الصلاة والسلام ببني قريظة فأدخلوا المدينة، وحفر لهم أخدود في السوق
__________
ولذا قال: حكمت بحكم الله، فدل على أن حكمه في الواقعة متقرر، فمن أصابه أصاب الحق، ولولا ذلك لم يكن لسعد مزية، وأن المسألة اجتهادية ظنية، ولذا كان رأي الأنصار العفو عن اليهود خلافا لسعد، وما كان الأنصار ليتفق أكثرهم على الخطأ على سبيل القطع.
"وانصرف صلى الله عليه وسلم يوم الخميس لسبع ليال، كما قاله الدمياطي، أو لخمس، كما قاله مغلطاي، خلون من ذي الحجة"، ولا يتأتى واحد منهما على ما قدمه، أن مدة الحصار خمس وعشرون، أو خمس عشرة، وأنه خرج لسبع بقين من ذي القعدة. نعم يتأتى على أنه بضع عشرة، يجعله أقل من خمس عشرة.
"وأمر عليه الصلاة والسلام ببني قريظة" بعد نزولهم من الحصن، فكتفوا وجعلوا ناحية، والنساء والذرية ناحية، قاله ابن سعد، وأسلم في ليلة نزولهم ثعلبة، وأسد ابنا سعية، وأسد بن عبيد، كما عند ابن إسحاق.
"فأدخلوا المدينة" قال ابن إسحاق: فحبسوا في دار بنت الحارث الأنصارية النجارية.
قال في الإصابة: وهي رملة بنت الحارث بن ثعلبة بن الحارث بن زيد، زوجة معاذ بن الحارث بن رفاعة، تكرر ذكرها في السيرة.
والواقدي يقول: رملة بنت الحارث بفتح الدال المهملة بغير ألف قبلها، ا. هـ، وكذا قال ابن هشام.
قال السهيلي: الصحيح عندهم بنت الحارث، كما قال البخاري وليست هي كيسة، أي: بشد التحتية فمهملة، كما في الإصابة، بنت الحارث بن كريز التي أنزل في دارها وفد بني حنيفة، وكانت زوج مسليمة الكذاب، ثم خلف عليها عبد الله بن عامر، انتهى ملخصا.
وعند أبي الأسود عن عروة: أنهم حبسوا في دار أسامة بن زيد.
قال في الفتح: ويجمع بأنهم جعلوا في بيتين، كما صرح به في حديث جابر عند ابن عائذ ا. هـ.
وفي السبل: سيق الرجال إلى دار أسامة بن زيد، والنساء والذرية إلى دار رملة، ويقال: حبسوا جميعا في دارها، فأمر لهم صلى الله عليه وسلم بأحمال تمر، فنثرت لهم فباتوا يأكلونها.
"وحفر لهم أخدود" شق في الأرض، مستطيل "في السوق" بين موضع دار أبي جهم(3/86)
وجلس صلى الله عليه وسلم ومعه أصحابه، وأخرجوا إليه فضربت أعناقهم، وكانوا ما بين ستمائة إلى سبعمائة، وقال السهيلي: المكثر يقول إنهم ما بين الثمانمائة إلى التسعمائة، وفي حديث جابر عند الترمذي والنسائي وابن حبان بإسناد صحيح أنهم كانوا أربعمائة مقاتل.
__________
العدوي إلى إحجار الزيت بالسوق موضع بالمدينة، "وجلس صلى الله عليه وسلم ومعه أصحابه" في السوق، "وأخرجوا إليه"، زاد في الرواية: إرسالا، بالفتح، أفواجا وفرقا متقطعا بعضهم عن بعض، كما في النور، وظاهره أنه حقيقة.
وفي المصباح أن حقيقته القطيع من الإبل شبه به الناس.
"فضربت أعناقهم"، أي: ضربها علي والزبير، وأسلم الأنصاري، كما في الطبراني، قال: فكنت أضرب عنق من أنبت، وأجعل غيره في المغانم، وجاء سعد بن عبادة والحباب بن المنذر، فقالا: يا رسول الله إن الأوس قد كرهت قتل بني قريظة لمكان حلفهم، فقال سعد بن معاذ: ما كرهه من الأوس أحد فيه خير، فمن كرهه فلا أرضاه الله، فقام أسيد بن حضير، فقال: يا رسول الله لا يبقين دار من الأوس إلا فرقتهم فيها، فمن سخط، فلا يرغم الله إلا أنفه، فابعث إلى داري أول دورهم، ففرقهم في دور الأوس فقتلوهم، وهذا يفيد أن الذين فرقوا على الأوس من لم يكن قتله علي والزبير، لمجيء ابن عبادة والحباب أثناء القتل، وبقي عليه السلام عند الأخدود حتى فرغوا منهم عند الغروب، فرد عليهم التراب، فكان الذين أرسلوا إلى الأوس حملوا بعد القتل إلى الأخدود.
"وكانوا ما بين ستمائة إلى سبعمائة" إلى بمعنى الواو؛ لأنها التي يقابل بها بين، ولم أجده هكذا، فالذي في ابن إسحاق وهم ستمائة أو سبعمائة، وكذا نقله عنه اليعمري بأو التي لتنويع الخلاف.
ففي الفتح عند ابن إسحاق أنهم ستمائة، وبه جزم أبو عمر.
وعند ابن عائذ من مرسل قتادة: كانوا سبعمائة.
"وقال السهيلي: المكثر يقول إنهم ما بين الثمانمائة إلى التسعمائة" كذا عزاه له تبعا للفتح، ولا أدري لم ذلك، مع أنه في نفس كلام ابن إسحاق، بلفظ: والتسعمائة بالواو، بدل إلى، وهكذا نقله عنه اليعمري.
"وفي حديث جابر عند الترمذي، والنسائي وابن حبان بإسناد صحيح: أنهم كانوا أربعمائة مقاتل".(3/87)
فيحتمل في طريق الجمع: إن الباقين كانوا أتباعا.
واصطفى صلى الله عليه وسلم لنفسه الكريمة ريحانة فتزوجها، وقيل كان يطؤها بملك اليمين، وأمر بالغنائم فجمعت، وأخرج الخمس من المتاع والسبي ثم أمر بالباقي فبيع فيمن يريد وقسمه بين المسلمين، فكانت على ثلاثة آلاف واثنتين وسبعين سهما، للفرس سهمان ولصاحبه سهم
__________
قال الحافظ ابن حجر" في الفتح "فيحتمل في طريق الجمع أن الباقين كانوا أتباعا" غير مقاتلين، "واصطفى صلى الله عليه وسلم لنفسه الكريمة ريحانة" بنت شمعون بن زيد، وقيل: زيد بن عمرو بن خنافة بالخاء المعجمة والنون، إحدى نساء بني عمرو بن قريظة.
قال ابن عبد البر: قول الأكثر أنها قرظية، وقيل: كانت من بني النضير متزوجة في قريظة رجلا يقال له الحكم، "فتزوجها" بعد أن أسلمت وحاضت حيضة، وكانت جميلة وسيمة، وأصدقها اثنتي عشرة أوقية ونشا، أي: نصف أوقية، وأعرس بها في المحرم سنة ست في بيت سلمى بنت قيس النجارية، وضرب عليه الحجاب فغارت عليه غيرة شديدة، فطلقها تطليقة، فشق عليها، وأكثرت البكاء فراجعها، ولم تزل عنده حتى ماتت راجعة من حجة الوداع سنة عشر، ودفنها بالبقيع، ذكر الواقدي وابن سعد وغيرهما. "وقيل: كان يطؤها بملك اليمين".
قال ابن إسحاق: كان صلى الله عليه وسلم سباها، فأبت إلا اليهودية، فوجد في نفسه، فبينما هو مع أصحابه إذ سمع وقع نعلين خلفه فقال: "هذا ثعلبة بن شعبة يبشرني بإسلام ريحانة" فبشره وعرض عليها أن يعتقها ويتزوجها ويضرب عليها الحجاب فقالت: يا رسول الله بل تتركني في ملكك، فهو أخف علي وعليك، فتركها، لكن قال الواقدي بعد أن أخرج من عدة طرق: أنه تزوجها وضرب عليها الحجاب، هذا أثبت عند أهل العلم، واقتصر عليه ابن الأثير. "وأمر بالغنائم فجمعت،" وهي ألف وخمسمائة سيف وثلاثمائة درع وألفا رمح وخمسمائة ترس وجحفة وخمر جرار سكر بفتحتين أي: نبيذ تمر، فأهريق ذلك كله، ولم يخمس وجمال نواضح وماشية كثيرة، قاله ابن سعد، وجحفة بحاء مهملة فجيم ترس صغير.
"وأخرج الخمس من المتاع والسبي، ثم أمر بالباقي فبيع فيمن يريد،" ظاهره أنه بيع ما عد الخمس وهو مخالف قول ابن إسحاق وغيره.
بعث صلى الله عليه وسلم سعد بن يزيد الأنصاري الأشهلي بسبايا من بني قريظة إلى نجد، فابتاع لهم بهم خيلا وسلاحا، وعند الواقدي: بعث سعد بن عبادة بطائفة إلى الشام يبيعهم ويشتري بهم خيلا وسلاحا، "وقسمه بين المسلمين، فكانت على ثلاثة آلاف واثنين وسبعين سهما، للفرس سهمان" لما مر أن الخيل كانت ستة وثلاثين فرسا "ولصاحبه سهم" وعلى هذا(3/88)
وصار الخمس إلى محمية بن جزء الزبيدي، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعتق به ويهب ويخدم منه من أراد، وكذلك صنع بما صار إليه من الرثة - وهو السقط من المتاع.
وانفجر جرح سعد بن معاذ، فمات شهيدا.
وفي البخاري أنه دعا: اللهم إنك تعلم أنه ليس أحد أحب إلي أن أجاهدهم فيك من قوم كذبوا رسولك وأخرجوه
__________
مضت السنة في المغازي.
وروى أنه أعطى صفية بنت عبد المطلب، وأم عمارة، وأم سليطة، وأم العلاء، وأم سعد بن معاذ، والسميراء بنت قيس حضرن القتال، ولم يسهم لهن.
"وصار الخمس إلى محمية" بفتح الميم، وسكون الحاء المهملة، وكسر الميم الثانية، فتحتية مخففة مفتوحة "ابن جزء" بفتح الجيم وسكون الزاي، ثم همزة، ابن عبد يغوث "الزبيدي" بضم الزاي وفتح الموحدة ودال مهملة حليف بني سهم، قديم الإسلام، وهاجر إلى الحبشة، وكان عامل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأخماس.
وذكر ابن الكلبي: أنه شهد بدرا.
وقال الواقدي: أول مشاهده المريسيع.
قال أبو سعيد بن يونس: شهد فتح مصر، ولا أعلم له رواية.
"وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعتق منه ويهب ويخدم منه من أراد، وكذلك يصنع بما صار إليه من الرثة" بكسر الراء وشد المثلثة "وهو السقط من المتاع" أي: متاع البيت الدون، "وانفجر" لما انقضى شأن بني قريظة "جرح" بضم الجيم "سعد بن معاذ" الذي أصابه من ابن العرقة في الخندق في أكحله، "فمات شهيدا" كذا قال ابن إسحاق وغيره، ولعل مرادهم شهيد الآخرة؛ لأنه لم يمت عقب الجرح، بل عاش حتى شرف على البراء وأيضا فقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم صلى عليه وغسل، فلو كان شهيد المعركة لم يفعل به ذلك.
"وفي البخاري" في الصلاة والهجرة والمغازي عن عائشة "أنه دعا،" وزاد مسلم: وتحجر كلمه للبرء، أي: تيبس، أي: أنه دعا بذلك لما كاد جرحه يبرأ، ولفظ البخاري عن عائشة أن سعدا، قال: "اللهم إنك تعلم أنه ليس أحد"، أي: قوم "أحب إلي أن أجاهدهم فيك" جملة في تأويل المصدر فاعل اسم التفضيل "من قوم كذبوا رسولك، وأخرجوه" من وطنه، بيان للمفضل عليه الواقع في حيز النفي، فكان جهاده مفضل ومفضل عليه باعتبارين، كمسألة الكحل(3/89)
اللهم إني أظن أنك قد وضعت الحرب فافجرها واجعل موتي فيها، فانفجرت من لبته، فلم يرعهم -وفي المسجد خيمة لامرأة من بني غفار- إلا الدم يسيل إليهم، فقالوا: يا أهل الخيمة ما هذا الذي يأتينا من قبلكم؟ فإذا سعد يغذو جرحه دما فمات منها.
__________
المشهورة، ثم مدلول هذه العبارة عرفا أن جهاد هؤلاء أحب إليه من جهاد غيرهم، ولو كانوا كفارا، وإن صدق لغة بالتساوي على نحو: ما ركبك خلق أكرم على الله منه، وقد أفاد المصنف بسوق هذا الحديث هنا، وبما قدمه من دعاء سعد بذلك في الخندق، أنه دعا به في الوقتين.
"اللهم إني أظن أنك قد وضعت الحرب" بيننا وبينهم، فإن كان بقي من حرب قريش شيء، فأبقني له حتى أجاهدهم فيك، وإن كنت وضعت الحرب، "فافجرها" هذا كله قول سعد في البخاري، فكأن المصنف حذفه اختصارا والضمير للجراحة، والهمزة للوصل، والجيم مضمومة، "واجعل موتي فيها" لأفوز بموتة الشهادة.
قال الحافظ: فيه جواز تمني الشهادة، وهو مخصوص من عموم النهي عن تمني الموت، وفيه صبر سعد "فانفجرت من لبته" بفتح اللام والموحدة المشددة، موضع القلادة من صدره، وهي رواية مسلم والإسماعيلي، وللكشميهني من ليلته وهو تصحيف.
ففي رواية ابن خزيمة: فإذا لبته قد انفجرت من كلمه، أي: من جرحه، وكان موضع الجروح ورم حتى وصل إلى صدره، فانفجر من ثم قاله الحافظ، "فلم يرعهم" بفتح أوله، وضم ثانيه وتسكين العين المهملة، أي: لم يفزع أهل المسجد، "وفي المسجد خيمة" جملة حالية لرجل "من بني غفار" بكسر المعجمة وخفة الفاء، أو من خيامهم.
قال الحافظ في المقدمة: هي خيمة رفيدة نزلها قوم من بني غفار، وقال في الفتح: تقدم أن ابن إسحاق ذكر أن الخيمة كانت لرفيدة الأسلمية، فيحتمل أن يكون لها زوج من بني غفار. "إلا الدم" فاعل يرعهم، أي: الخارج من سعد، "يسيل إليهم" أي: أهل المسجد، "فقالوا: يا أهل الخمية ما هذا" الدم "الذي يأتينا من قبلكم؟ " بكسر القاف وفتح الموحدة، من جهتكم.
قال المصنف: وهذا يضعف قول الكرماني، وتبه البرماوي أن ضمير يرعهم لبني غفار، والسياق يدل عليه ما لا يخفى. نعم، إن كان ثم خيمة غير التي فيها سعد، فلا إشكال ا. هـ، فبحثوا عن ذلك، "فإذا سعد يغذو" بغين وذال معجمتين، يسيل، "جرحه دما".
وفي رواية ابن خزيمة: فإذا الدم له هدير، "فمات منها،" أي: من تلك الجراحة ولا حمد عن عائشة، فانفجر كلمه، وقد كان برأ الأمثل الخرص، وهو بضم المعجمة، وسكون الراء ثم(3/90)
وقد كان ظن سعد مصيبا، ودعاؤه في هذه القصة مجابا، وذلك أنه لم يقع بين المسلمين وبين قريش من بعد وقعة الخندق حرب يكون ابتداء القصد فيه من المشركين، فإنه عليه الصلاة والسلام تجهز إلى العمرة فصدوه عن دخول مكة، وكاد الحرب أن يقع بينهم فلم يقع كما قال الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ} [الفتح: 24] ثم وقعت الهدنة واعتمر عليه الصلاة والسلام من قابل، واستمر ذلك إلى أن نقضوا العهد فتوجه إليهم غازيا ففتحت مكة، فعلى هذا: فالمراد بقوله: أظن أنك قد وضعت الحرب، أي: أن يقصدونا محاربين، وهو كقوله عليه الصلاة والسلام: "إلا أن نغزوهم ولا يغزونا
__________
مهملة، من حلي الأذن.
وفي مسلم: فما زال الدم يسيل حتى مات، وقد زعم بعض شراح البخاري، أن سعدا لم يصب في هذا الظن لما وقع من الحروب في الغزوات، قال: فيحمل على أنه دعا بذلك فلم يجب، وله ما هو أفضل منه، كما ثبت في الحديث الآخر في دعاء المؤمن، أو أنه أراد بوضع الحرب، أي: في تلك الغزوة خاصة لا فيما بعدها.
"و" رده الحافظ فقال: الذي يظهر لي أنه "قد كان ظن سعد مصيبا، ودعاؤه في هذه القصة مجابا و"، بيان "ذلك، أنه لم يقع بين المسلمين وبين قريش من بعد وقعة الخندق حرب، يكون ابتداء القصد فيه من المشركين" أي: قريش "فإنه عليه الصلاة والسلام تجهز إلى العمرة فصدوه عن دخول مكة" سنة الحديبية، "وكاد الحرب أن يقع بينهم، فلم يقع كما قال الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ} بالحديبية، {مِنْ بَعْدِ أَنْ أَْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ} حيث طاف ثمانون منهم بعسكركم، ليصيبوا منكم فأخذوا، وأتي بهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فعفا عنهم، وخلى سبيلهم فنزلت الآية، رواه مسلم وغيره وهو الصحيح، وقبل في فتح مكة، "ثم وقعت الهدنة" الصلح بينهم على وضع الحرب عشر سنين، "واعتمر عليه الصلاة والسلام من قابل"، سنة سبع، "واستمر ذلك" المذكور من الهدنة، "إلى أن نقضوا العهد، فتوجه إليهم غازيا" قاصدا "ففتحت مكة" سنة ثمان "فعلى هذا، فالمراد بقوله أظن أنك قد وضعت الحرب، أي: أن يقصدونا محاربين" فلا ينافي وقوع الحرب بينهم في فتح مكة،؛ لأن القصد فيه إنما كان منه صلى الله عليه وسلم لهم، "وهو كقوله عليه الصلاة والسلام" حين انصرف الأحزاب: "إلا أن نغزوهم وهم لا يغزونا".(3/91)
-كما تقدم- وقد بين سبب انفجار جرح سعد في مرسل حميد بن هلال -عند ابن سعد- ولفظه: أنه مرت به عنز، وهو مضطجع، فأصاب ظلفها موضع النحر فانفجرت حتى مات.
وحضر جنازته رضي الله عنه سبعون ألف ملك، واهتز لموته عرش الرحمن. رواه الشيخان.
__________
روى بنون واحدة وبنونين، كما قاله المصنف، "كما تقدم" في آخر غزوة الخندق انتهى كلام الفتح، واللائق بالمصنف حذف كما تقدم، لأنه لم يقدم هذا اللفظ، بل معناه "وقد بين سبب انفجار جرح سعد في مرسل حميد بن هلال" العدوي، أبي نصر البصري، الثقة التابعي الكبير العالم، احتج به الستة.
"عند" محمد" بن سعد، ولفظه أنه مرت به عنز وهو مضطجع، فأصاب ظلفها موضع النحر" بنون فمهملة، من إضافة الأعم إلى الأخص، أي: موضعا هو النحر، وهو موضع القلادة من الصدر، ويطلق على الصدر كله، وهذا موافق لقول عائشة السابق، فانفجرت من لبته، وفي نسخة الفجر بفاء وجيم، أي: موضع فجر الجرح، والذي في الفتح عن هذا المرسل من موضع الجرح، وتبعه المصنف في شرحه ونحوه قول اليعمري عن ابن سعد فأصابت الجرح بظلفها، وكان معناه أصابت ما انتهى إليه ورم الجرح، وسماه جرحا، وإن لم يكن موضعه؛ لأنه لما سرى الورم إليه، صار الكل أثر الجراحة، "فانفجرت" جراحته وسال الدم "حتى مات، وحضر جنازته رضي الله عنه سبعون ألف ملك" كما قال صلى الله عليه وسلم: "لقد نزل سبعون ألف ملك شهدوا سعدا، ما وطئوا الأرض إلا يومهم هذا" ذكره ابن عائذ وتبعه السهيلي"، "واهتز لموته عرش الرحمن"، رواه الشيخان" من حديث جابر، وثبت عن عشرة من الصحابة أو أكثر.
قال ابن عبد البر: هو ثابت اللفظ من طرق متواترة، وقول البراء: اهتز سريره، لم يلتفت إليه العلماء ا. هـ.
وفي العتبية: أن مالكا سئل عنه، فقال: أنهاك أن تقوله، وما يدري المرء أن يتكلم بهذا، وما يدري ما فيه من الغرور.
قال ابن رشد في شرحها: إنما نهى مالك لئلا يسبق إلى وهم الجاهل أن العرش إذا تحرك يتحرك الله بحركته، كالجالس منا على كرسيه، وليس العرش بموضع استقرارا لله تبارك وتنزه عن مشابهة خلقه انتهى ملخصا، وهو حسن، وقول السهيلي العجب من إنكار مالك لهذا الحديث، وكراهته التحديث به مع صحة نقله، وكثرة روته، ولعل هذه الرواية لم تصح عنه، اعترضه(3/92)
قال النووي: اختلف العلماء في تأويله.
فقالت طائفة: هو على ظاهره، واهتزاز العرش تحركه فرحا بقدوم سعد، وجعل الله تعالى في العرش تمييزا حصل به هذا، ولا مانع منه، كما قال تعالى: {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [البقرة: 74] . وهذا القول هو ظاهر الحديث. وهو المختار. قال المازري: قال بعضهم: هو على حقيقته، وأن العرش تحرك لموته، وهذا لا ينكر من جهة العقل؛ لأن العرش جسم من الأجسام، يقبل الحركة والسكون. قال: لكن لا تحصل فضيلة سعد بذلك
__________
اليعمري باقتضائه، أن إنكاره يرجع إلى الإسناد وليس كذلك، بل اختلف العلماء في هذا الخبر، فمنهم من يحمله على ظاهره، ومنهم من يؤوله، وما هذا سبيله من الأخبار المشكلة، فمن الناس من يكره روايته إذا لم يتعلق به حكم شرعي، فلعل الكراهة المروية عن مالك من هذا النمط ا. هـ.
وبهذا يرد قول الحافظ في الفتح تعقبا على ابن رشد، الذي يظهر لي أن مالكا ما نهى عنه لهذا، إذ لو خشي ذلك لما أسند في الموطأ حديث: ينزل الله إلى سماء الدنيا؛ لأنه أصرح في الحركة من اهتزاز العرش ا. هـ؛ لأن حديث النزول، تعلق به حكم شرعي من طلب الدعاء والاستغفار والتوبة، وقوله أيضا يحتمل الفرق، بأن حديث سعد ما ثبت عنده بخلاف حديث النزول، فرواه ووكل أمره إلى فهم العلماء الذين يسمعون في القرءان استواء العرش ونحوه، لكن لا معنى لإنكاره لثبوته عجيب من مثله في حق نجم الأثر، أيظن أنه يخفى عليه حديث متواتر، فإنما أراد ما قاله ابن رشد واليعمري، وهو المتبادر من قوله وما يدري المرء إلخ، ولو أراد ما فهمه السهيلي وابن حجر لقال ليس بثابت أو لا أعرفه، أو ما سمعته، أو نحو ذلك، والله أعلم.
وقد "قال" الإمام "النووي" في شرح مسلم: "اختلف العلماء في تأويله، فقالت طائة: هو على ظاهره، واهتزاز العرش، تحركه" حقيقة "فرحا بقدوم روح سعد، وجعل الله تعالى في العرش تمييزا حصل به هذا" التحرك "ولا مانع منه، كما قال تعالى: {وَإِنَّ مِنْهَا} أي: الحجارة، {لَمَا يَهْبِطُ} ينزل من علو إلى سفل {مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} وهذا القول هو ظاهر الحديث وهو المختار" وكذا رجحه السهيلي، فقال: ولا معدل عن ظاهر اللفظ ما وحد إليه سبيل.
"قال المازري: قال بعضهم: هو على حقيقته، وإن العرش تحرك لموته، قال: وهذا لا ينكر من جهة العقل؛ لأن العرش جسم" مخلوق "يقبل الحركة والسكون".
"قال" المازري: "لكن لا تحصل فضيلة سعد بذلك" أي: مجرد تحركه لجواز أنه اتفاقي(3/93)
إلا أن يقال: إن الله تعالى جعل حركته علامة للمائكة على موته.
وقال آخرون: المراد بالاهتزاز الاستبشار والقبول: ومنه قول العرب: فلان يهتز للمكارم، لا يريدون اضطراب جسمه وحركته، وإنما يريدون ارتياحه إليها، وإقباله عليها.
وقال الحربي: هو عبارة عن تعظيم شأن وفاته، والعرب تنسب الشيء المعظم إلى عظم الأشياء فيقولون: أظلمت لموت فلان الأرض، وقامت له القيامة.
وقال جماعة: المراد اهتزاز سرير الجنازة, وهو العرش
__________
ذلك اليوم، وفيه أن علمه بموته، واهتزازه له فيه فضيلة كبيرة، كاضطراب الجبل، وتسبيح الحصى بكف المصطفى، ولا يدفع ذلك، بأنهما مرئيان للصحابة بخلاف اهتزازه؛ لأن خبر الصادق المصدوق به مثل رؤيته سواه "إلا أن يقال إن الله تعالى جعل حركته علامة للملائكة على موته،" فيفيد كرامته على ربه حيث تحرك العرش أسفا عليه لمحافظته على الحق.
"وقال آخرون" مقابل قوله أولا، فقالت طائفة، وقوله قال بعضهم هو على حقيقته، "المراد بالاهتزاز الاستبشار والقبول" بأن أودع فيه إدراكا علم به موته، وكرامته عند ربه، ففرح واستبشر، وبهذا صدر الفتح وقال: يقال لك من فرح بقدوم قادم عليه اهتز له، ومنه اهتزت الأرض بالنبات إذا اخضرت وحسنت، ووقع ذلك في حديث ابن عمر عند الحاكم بلفظ: اهتز العرش فرحا به.
"ومنه قول العرب: فلان يهتز للمكارم، لا يريدون اضطراب جسمه وحركته" تفسيري، "وإنما يريدون ارتياحه إليها، وإقباله عليها" فهذا يصحح قول الآخرين.
"وقال" إبراهيم بن إسحاق "الحربي" الحافظ البغدادي مر بعض ترجمته: "هو عبارة عن تعظيم شأن وفاته" من النبي صلى الله عليه وسلم، ولا تحرك ولا فرح من العرش، "والعرب تنسب الشيء المعظم إلى أعظم الأشياء فيقولون: أظلمت بموت فلان الأرض" ولم تظلم، "وقامت له القيامة" ولم تقم، ففي هذا منقبة عظيمة لسعد.
"وقال جماعة: المراد اهتزاز سرير الجنازة، وهو العرش،" وسياق الحديث يأباه، إذ المراد منه فضيلته، وأي فضيلة في اهتزاز السرير، فكل سرير يهتز إذا تجابته الأيدي.
قال الحافظ: إلا أن يراد اهتزاز، حملة سريره فرحا بقدومه على ربه، فيتجه.
وفي الصحيح: قال رجل لجابر: فإن البراء يقول اهتز السرير، فقال: إنه كان بين هذين(3/94)
وهذا القول باطل يرده صريح الروايات التي ذكرها مسلم "اهتز لموته عرش الرحمن" وإنما قال هؤلاء هذا التأويل لكونهم لم تبلغهم هذه الروايات التي ذكرها مسلم والله أعلم. ا. هـ.
وقيل المراد باهتزاز العرش حملة العرش...............................
__________
الحيين ضغائن، سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "اهتز عرش الرحمن لموت سعد بن معاذ"، والحيان الأوس والخزرج"، فقال ذلك جابر إظهارا للحق، واعترافا بالفضل لأهله، فكأنه تعجب من البراء كيف قال ذلك مع أنه أوسي، ثم قال: أنا وإن كنت خزرجيا، وكان بين الحيين ما كان، لا أمتنع من قول الحق، والعذر للبراء أنه لم يقصد تغطية سعد، وإنما فهم ذلك، فجزم به.
وقال الخطابي وغيره: لأنه سمع شيئا محتملا، فحمل الحديث عليه، ولعله لم يسمع قوله عرش الرحمن, وعذر جابر أنه ظن أن البراء أراد الغض من سعد، فانتصر له وقد وقع لابن عمر، أنه قال: العرش لا يهتز لأحد، ثم رجع وجزم بأنه اهتز له عرش الرحمن، أخرجه ابن حبان انتهى ملخصا من الفتح.
"وهذا القول باطل يرده صحيح الروايات التي ذكرها" أيك رواها، "مسلم" خصه لقوله الروايات بخلاف البخاري، ففيه رواية واحدة "اهتز لموته" بدل من الروايات "عرش الرحمن،" فإن إضافته إليه تأبى أن المراد السرير، كما أفاده جابر، "وإنما قال هؤلاء: هذا التأويل لكونهم لم تبلغهم هذه الروايات التي ذكرها مسلم" ألا ترى إلى أنها لما بلغت ابن عمر، رجع عن قوله: لا يهتز لأحد، وقد قال الحاكم: الأحاديث المصرحة باهتزاز عرش الرحمن مخرجة في الصحيحين، وليس لمقابلها في الصحيح ذكر، "والله أعلم، انتهى" كلام النووي في شرح مسلم بحروفه، "وقيل: المراد باهتزاز العرش، اهتزاز حملة العرش"، فرحا بقدوم روحه، لما رأوا من كرامته وعظم منزلته، نقله النووي في التهذيب عن العلماء، أي: بعضهم بدليل كلامه في الشرح، ففيه مجاز الحذف.
قال الحافظ: ويؤيده حديث الحاكم أن جبريل قال: من هذا الميت الذي فتحت له أبواب السماء واستبشر به أهلها؟ وقيل هو علامة نصبها الله لموت من يموت من أوليائه، ليعلم ملائكته بفضله. قال: ووقع عند الحاكم عن ابن عمر: اهتز العرش فرحا بلقاء الله، سعدا حتى تفسخت أعواده على عواتقنا.
قال ابن عمر: يعني عرش سعد الذي حمل عليه، وفيه عطاء بن السائب فيه مقال؛ لأنه اختلط آخر عمره.(3/95)
وصحح الترمذي من حديث أنس قال: لما حصلت جنازة سعد بن معاذ قال المنافقون ما أخف جنازته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم، "إن الملائكة كانت تحمله".
وعن البراء قال: أهديت للنبي صلى الله عليه وسلم حلة حرير، فجعل أصحابه يمسونها
__________
"و" يعارضه أنه "صحح الترمذي من حديث أنس قال: لما حملت" بالبناء للمفعول "جنازة سعد بن معاذ، قال المنافقون" أي: بعضهم وعند ابن إسحاق من مرسل الحسن: كان سعد رجلا بادنا، فلما حمله الناس، وجدوا له خفة، فقال رجال من المنافقين: والله إن كان لبادنا وما حملنا من جنازة أخف منه، "ما أخف جنازته" كأنهم قالوه استهزاء به، وأن خفته لخفة ميزانه بزعمهم الفاسد.
"فقال النبي صلى الله عليه وسلم" ردا عليهم: "إن الملائكة كانت تحمله".
وفي المرسل أن له حملة غيركم، والذي نفسي بيده لقد استبشرت الملائكة بروح سعد، واهتز له العرش، وذكر ابن إسحاق وغيره أنه لما احتمل على نعشه بكت أمه وقالت:
ويل أم سعد سعدا صرامة وحدا
وسوددا ومجدا وفارسا معدا سد به مسدا
فقال صلى الله عليه وسلم: "كل نائحة تكذب إلا نائحة سعد بن معاذ"، وفي رواية: "لا تزيدي على هذا، وكان فيما علمت والله حازما في أمر الله قويا في أمره كل النوائح تكذب إلا أم سعد".
وروي أنه قال لها: "ليرقأ دمعك، ويذهب حزنك، فإن ابنك يضحك الله عز وجل له".
وروى البيهقي أنه صلى الله عليه وسلم حمل جنازة سعد بين العمودين، ومشى أمام جنازته، ثم صلى عليه، وجاءت أمه، ونظرت إليه في اللحد، وقالت: احتسبتك عند الله عز وجل، وعزاها صلى الله عليه وسلم وهو واقف على قدميه على القبر، فلما سوى التراب على قبره رش عليه الماء، ثم وف ودعا، وأم سعد بن معاذ اسمها كبشة بنت رافع بن عبيد الأنصارية الخدرية.
ذكر ابن سعد أنها أول من بايع النبي صلى الله عليه وسلم من نساء الأنصار.
"وعن البراء" بن عازب بن حارث بن الخزرج بن عمرو بن مالك بن الأوس، الأوسي الصحابي، ابن الصحابي، والخزرج المذكور في نسبه ليس هو مقابل الأوس، وإنما سمي على اسمه، وظنه الخطابي إياه، فزعم أن البراء خزرجي، وهو خطأ فاحش نبه عليه الحافظ.
"قال: أهديت للنبي صلى الله عليه وسلم." قال الحافظ: الذي أهدى أكيدر دومة، كما في حديث أنس السابق في الهبة، "حلة حرير،" وفي حديث أنس عند البخاري: جبة من سندس، فكأنها مركبة من ظهارة وبطانة؛ لأن مسمى الحلة ثوبان فلا خلف، وفي حديث أنس عند البزار برجال الصحيح، فلبسها رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك قبل أن ينهى عن الحرير، "فجعل أصحابه يمسونها" بفتح(3/96)
ويعجبون من لينها، فقال صلى الله عليه وسلم: "أتعجبون من لين هذه؟ لمناديل سعد بن معاذ في الجنة خير منها وألين". هذا لفظ رواية أبي نعيم في مستخرجه على مسلم.
والمناديل: جمع منديل -بكسر الميم في المفرد- وهو معروف.
__________
التحتية والميم، "ويعجبون" بسكون العين "من لينها, فقال صلى الله عليه وسلم" لهم: "أتعجبون من لين هذه" الحلة"؟ زاد البخاري في الهبة عن أنس: "والذي نفس محمد بيده، "لمناديل سعد بن معاذ في الجنة خير منها وألين" " بالواو، كما رواه الكشميهني، ولغيره بأو بالشك، وكما قال صلى الله عليه وسلم ذلك في حلة أكيدر، قاله أيضا في ديباج أهداه له عطارد بن حاجب بن زرارة التميمي الصحابي.
روى الطبراني برجال ثقات عن عطارد بن حاجب، أنه أهدي إلى النبي صلى الله عليه وسلم ثوب ديباج كساه إياه كسرى، فدخل أصحابه فقالوا: نزل عليك من السماء، فقال: "وما تعجبون من ذا لمناديل سعد بن معاذ في الجنة خير من هذا"، ثم قال: "يا غلام اذهب به إلى أبي جهم بن حذيفة، وقل له يبعث إلي بالخميصة".
قال العيني: وتخصيص سعد به، قيل: لأنه كان يعجبه ذلك الجنس من الثياب، أو لأن اللامسين المتعجبين من الأنصار، فقال: مناديل سيدكم خير منها ا. هـ. ومقتضى وجود المناديل في الجنة، أنهم إذا أكلوا شيئا احتاجوا للمنديل لمسح ما تعلق بأيديهم وأفواههم، ولا يلزم أنه كوسخ الدنيا، بل جعل ذلك إكراما لهم حيث وجدوا في الجنة نظير ما ألفوه في الدنيا كذا قرره شيخنا حافظ العصر البابلي رحمه الله، "هذا لفظ أبي نعيم في مستخرجه على" صحيح "مسلم،" وجه عزوه له مع أن الحديث في الصحيحين البخاري في المناقب، ومسلم في الفضائل زيادة قوله في الجنة، وقد زادها البخاري في كتاب الهبة لكن من حديث أنس، وزاد في رواية البزار عنه: ثم أهداها إلى عمر، فقال: يا رسول الله أتكرهها وألبسها؟ فقال: "يا عمر إنما أرسلت بها إليك لتبعث بها وجها، فتصيب بها مالا"، وذلك قبل أن ينهى عن الحرير، ويعارضه ما رواه مسلم عن علي، أن أكيدر دومة أهدى للنبي صلى الله عليه وسلم ثوب حرير، فأعطاه عليا، فقال: "شققه خمرا بين الفواطم"، وفسرن في رواية غيره بفاطمة زوجه، وفاطمة أمه، وفاطمة بنت حمزة.
"والمناديل جمع منديل بكسر الميم في المفرد" زاد القاموس، وفتحها، وكمنبر الذي يتمسح به، "وهو معروف".
قال ابن الأعرابي وغيره: مشتق من الندل النقل؛ لأنه ينتقل من واحد إلى واحد، وقيل: من الندل الوسخ؛ لأنه يندل به.
قال ابن الأنباري وغيره: مذكر.(3/97)
قال العلماء: وهذا إشارة إلى عظم منزلة سعد في الجنة، وأن أدنى ثيابه فيها خير من هذه؛ لأن المنديل أدنى الثياب؛ لأنه معد للوسخ والامتهان، فغيره أفضل. ا. هـ.
وأخرج ابن سعد وأبو نعيم، من طريق محمد بن المنكدر عن محمد بن شرحبيل بن حسنة قال:
__________
"قال العلماء: وهذ" الحديث "إشارة إلى عظم منزلة سعد في الجنة، وأن" بفتح الهمزة عطفا على المجرور "أدنى" أقل "ثيابه فيها خير من هذه" الحلة، "لأن المنديل أدنى الثياب؛ لأنه معد للوسخ والامتهان" فيمسح به الأيدي، وينفض به الغبار عن البدن، ويغطى به ما يهدى ويتخذ لفافا للثياب، "فغيره أفضل"؛ لأن سبيله سبيل الخادم، وسائر الثياب سبيل المخدوم، فإذا كان أدناها أفضل من حلة الملوك، فما ظنك بأعلاها.
"وأخرج ابن سعد، وأبو نعيم من طريق محمد بن المنكدر" بن عبد الله التيمي المدني، الفاضل الثقة، المتوفى سنة ثلاثين ومائة، أو بعدها "عن محمد بن شرحبيل" بضم أوله، وفتح الراء وسكون المهملة.
قال في الإصابة في القسم الرابع، فيمن ذكر في الصحابة غلطا محمد بن شرحبيل من بني عبد الدار، ذكره ابن منده، وقال: أورده البخاري في الوحدان، ولا يعرف له صحبة، إنما روايته عن أبي هريرة.
ثم روى ابن منده عن ابن المنكدر، عنه قال: أخذت قبضة من تراب قبر سعد بن معاذ، فوجدت منه ريح المسك.
وقال أبو نعيم: هو محمود بن شرحبيل، قلت: ليس فيه إنه صحابي؛ لأن شم تراب القبر يتأتى لمن تراخى زمانه بعد الصحابة، ومن بعدهم.
وفي التابعين محمد بن ثابت بن شرحبيل من بني عبد الدار، فلعله هذا نسب لجده ا. هـ.
وفي تقريبه محمد بن ثابت، ويقال ابن عبد الرحمن بن شرحبيل العبدري، أبو مصعب الحجازي، وقد ينسب إلى جده مقبول.
روى له البخاري في الأدب المفرد، وقوله "ابن حسنة" لا يصح؛ لأنها أم الصحابي الجليل شرحبيل بن عبد الله بن المطاع الكندي، التي ربته كما في التقريب، وليس أبا لمحمد هذا؛ لأنه عبدري وشرحبيل كندي، والحديث مرسل؛ لأنه تابعي، فلم يشهد ما حدث به، حيث "قال:(3/98)
قبض إنسان يومئذ بيده من تراب قبره قبضة فذهب بها، ثم نظر إليها بعد ذلك فإذا هي مسك، فقثال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سبحان الله، سبحان الله"، حتى عرف ذلك في وجهه، فقال: "الحمد لله، لو كان أحد ناجيا من ضمة القبر لنجا منها سعد، ضم ضمة ثم فرج الله عنه".
__________
قبض إنسان يومئذ" أي: يوم موت سعد، "بيده من تراب قبره قبضة فذهب بها، ثم نظر إليها بعد ذلك، فإذا هي مسك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سبحان الله، سبحان الله" مرتين، تعجبا من كون تراب قبره صار مسكا، وكونه ضمه "حتى عرف ذلك" التعجب المدلول عليه بالتسبيح "في وجهه" الشريف، "فقال: "الحمد لله" شكرا له على تفريجه عن سعد، "لو كان أحد ناجيا من ضمة القبر" من الأمم، صالحهم وطالحهم، إلا الأنبياء لكونهم خصوا بأنهم لا يضغطون كما في الأنموذج، ولا ترد فاطمة أم علي رضي الله عنهما؛ لأن نجاتها لسبب اضطجاعه صلى الله عليه وسلم في قبرها، ولا قارئ الإخلاص في مرض موته؛ لأن نجاته لسبب هو القراءة، والمنفي أنه لم ينج أحد منها بلا سبب، أو هي خصوصيات لا تنقض الأمور الكلية "لنجا منها سعد" لكن لم ينج أحد، فلم ينج سعد "ضم ضمة، ثم فرج الله عنه".
قال الحكيم الترمذي: سبب هذه الضمة أنه ما من أحد إلا وقد ألم بخطيئة ما، وإن كان صالحا، فجعلت هذه الضغطة جزاء له، ثم تدركه الرحمة، ولذا ضغط سعد للتقصير في البول، فأما الأنبياء فلا ضم ولا سؤال لعصمتهم ا. هـ. وهذا الحديث المرسل له شاهد.
قال ابن إسحاق: حدثني معاذ بن رفاعة، عن محمود بن عبد الرحمن بن عمرو بن الجموح، عن جابر قال: لما دفن سعد، ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبح صلى الله عليه وسلم، فسبح الناس معه، ثم كبر، فكبر الناس معه، فقالوا: يا رسول الله مم سبحت، فقال: "لقد تضايق على هذا العبد الصالح قبره حتى فرج الله عنه"، ولم يقولوا كم كبرت؛ لأن الذي يقال عند التعجب إنما هو التسبيح، فسألوا عن سببه.
قال ابن هشام: ومجاز هذا الحديث قول عائشة، قال صلى الله عليه وسلم: "إن للقبر لضمة، لو كان أحد منها ناجيا لكان سعد بن معاذ".
وفي رواية يونس الشيباني، عن ابن إسحاق حدثني أمية بن عبد الله قال: قلت لبعض أهل سعد: ما بلغكم في هذا؟ فقال: ذكر لنا أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن ذلك، فقال: "كان يقصر في بعض الطهور من البول بعض التقصير"، ومعلوم أن تقصيره لم يكن على وجه يؤدي إلى فساد عبادته، ولكنه مخالف للأولى، كترك الجمع بين الحجر والماء في الاستنجاء، فضمه القبر ليعظم ثوابه(3/99)
وأخرج ابن سعد عن أبي سعيد الخدري قال: كنت ممن حفر لسعد قبره، فكان يفوح علينا المسك كلما حفرنا.
قال الحافظ مغلطاي وغيره: وفي هذه السنة فرض الحج. وقيل: سنة ست وصححه غير واحد، وهو قول الجمهور.
وقيل: سنة سبع، وقيل: سنة ثمان ورجحه جماعة من العلماء.
__________
ولتنبيه غيره حيث أخبرهم الصادق بسبب الضمة، فيحترزون عن خلاف الأولى وإن جاز.
وقد روى الحافظ أبو سعيد بن الأعرابي في معجمه, والبيهقي وابن منده، أن عائشة قالت: يا رسول الله ما انتفعت بشيء منذ سمعتك تذكر ضغطة القبر، وصوت منكر ونكير، فقال: "يا عائشة، إن ضغطة القبر -أو قال- ضمة القبر على المؤمن كضم الأم الشفيقة يديها على رأس ابنها، يشكو إليها الصداع فتغمز رأسه غمزا رفيقا، وصوت منكر ونكير، كالكحل في العين، ولكن يا عائشة " ويل للشاكين في الله، أولئك الذين يضغطون في قبورهم ضغطة البيض على الصخر" ". وزعم أن المراد بالمؤمن الذي هذا شأنه من لم يحصل منه تقصير، فلا ينافي ما تقدم عن سعد لا يصح، فإنه لم يتقدم عنه شيء ينافي هذا الحديث، حتى ينفي، وقد يكون مراد المصطفى أن هذا العبد الصالح الذي شهده سبعون ألف ملك، واهتز له عرش الرحمن، لا يضمه القبر أسا، ولا كضم الأم ابنها إكراما له، وإن كان يقصر بعض التقصير في البول، فذلك مغفور في جنب بعض حسناته التي منها حكمه في مواليه بحكم الله، فتعجب من ضمه، وهذا هو الظاهر من كلام الروض، فإنه قال: وأما ضغطه في قبره، فروي عن عائشة، فذكر الحديث، وعزاه لمعجم بن الأعرابي كما ذكرته.
"وأخرج ابن سعد" محمد الحافظ "عن أبي سعيد" سعد بن مالك، "الخدري" الصحابي، ابن الصحابي "قال: كنت ممن حفر لسعد قبره, فكان يفوح علينا المسك كلما حفرنا،" وكفى بهذا منقبة عظيمة، وهذا أيضا شاهد لما قبله.
"قال الحافظ مغلطاي وغيره: وفي هذه السنة" سنة خمس "فرض الحج" فقد وقع في حديث ضمام ذكر الأمر بالحج، وقدومه سنة خمس، كما ذكره الواقدي، فيدل على فرضه فيها أو تقدم، "وقيل: سنة ست، وصححه غير واحد من الجمهور" لأنه نزل فيها قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} ، بناء على أن المراد بالإتمام الفرض لقراءة علقمة ومسروق والنخعي وأقيموا، رواه الطبراني بأسانيد صحيحة عنهم، أما على أن المراد الإكمال بعد الشروع فلا، "وقيل: سنة سبع، وقيل: سنة ثمان، ورجحه جماعة من العلماء" لبعثه صلى الله عليه وسلم عتاب بن أسيد(3/100)
وسيأتي البحث في ذلك إن شاء الله تعالى ذلك وفد عبد القيس في المقصد الثاني وفي ذكر حجه عليه الصلاة والسلام من مقصد عباداته.
__________
أميرا على الحج تلك السنة، وهو أول أمراء الحج، وقيل: سنة تسع، وقيل: عشر، "وسيأتي البحث في ذلك إن شاء الله تعالى في ذكر وفد عبد القيس من المقصد الثاني" والكلام الذي ذكره فيه في تعلق الحج قليل؛ لأنه قوع استطرادا، "وفي ذكر حجه عليه الصلاة والسلام من مقصد عباداته" وهو التاسع وأشبع ثم الكلام عليه.(3/101)
"سرية القرطاء وحديث ثمامة":
ثم سرية محمد بن مسلمة إلى القرمطاء، بطن من بني بكر بن كلاب وهم ينزلون بناحية ضرية بالبكرات
__________
سرية القرطاء وحديث ثمامة:
"ثم سرية محمد بن مسلمة" الأنصاري، الأشهلي أكبر من اسمه محمد من الصحابة، وكان من الفضلاء، مات بعد الأربعين "إلى القرمطاء" بضم القاف، وسكون الراء وبالطاء المهملة, أي: والمد على القياس، وهم قرط بضم فسكون، وقريط بفتح الراء، وقريط بكسرها بنو عبد بغير، إضافة كما ضبطه البرهان، وتبعه الشامي، فمن قال القرطاء بفتح القاف، كأنه اشتبه عليه، أو سبقه القلم، وكذا من ضبطه بضم القاف، وفتح الراء اشتبه عليه الجمع بالمفرد "بطن من بني بكر،" واسمه عبيد بن كلاب من قيس عيلان، بعين مهملة وسكون التحتية.
ذكره أبو محمد الرشاطي، وبطن بدل من القرمطاء، وكان الأولى أن يقول بطون؛ لأنهم إخوة كما علمت، وفي القاموس: القرط بالضم من بني كلاب، وهم أخوة قرط، كقفل وقريط، كزبير وقريط كأمير، فلعل المصنف أراد طائفة، "وهم" أي: القرطاء "ينزلون بناحية ضرية".
قال البرهان: بفتح الضاد المعجمة، وكسر الراء، ثم تحتية مفتوحة مشددة، ثم تاء تأنيث.
قال في الصحاح: قرية لبني كلاب على طريق البصرة إلى مكة، وهي إلى مكة أقرب، "بالبكرات" بفتح الموحدة، وسكون القاف، فراء فألف ففوقية، جمع بكرة.
قال الشامي: كذا فيما وقفت عليه من كتب المغازي.
قال الصغاني: البكرة ماء لبني ذؤيب من الضباب، وعندها جبال شمخ يقال لها البكرات والبكران، يعني بلفظ التثنية موضع بناحية ضرية، وتبعه في المرصد.
قال في النور: ولعل ما في العيون بلفظ التثنية، وتصحف على الناسخ، فذكره بلفظ الجمع، ولم يذكر أبو عبيد البكري في معجمه بحي ضرية إلا بكرة بالأفراد، قلت: وهو بعيد(3/101)
وبين ضرية والمدينة سبع ليال, لعشر ليال خلون من المحرم سنة ست على رأس تسعة وخمسين شهرا من الهجرة.
بعثه في ثلاثين راكبا، فلما أغار عليهم هرب سائرهم.
وعند الدمياطي: فقتل نفرا منهم وهرب سائرهم, واستاق نعما وشاء، وقدم المدينة لليلة بقيت من المحرم ومعه ثمامة
__________
جدا لتوارد ما وقفت عليه من كتب المغازي ا. هـ.
"وبين ضرية والمدينة" الشريفة "سبع ليال لعشر" متعلق بسرية، والمعنى خرج لعشر "ليال خلون من المحرم سنة ست على رأس" أي: أول، "تسعة وخمسين شهرا من الهجرة"، من أول دخول المصطفى المدينة لا من أول المحرم حتى يوافق قوله سنة ست، وإلا فعدة الأشهر تفيد أنها سنة خمس فما بعد السنة الأولى من الهجرة معتبر بأول المحرم، والأولى من دخول المدينة والمحوج إلى هذا تلفيق المصنف بين القولين، فإن الحاكم ذكر أنها في المحرم سنة ست، ولم يعد الأشهر الماضية من الهجرة، وابن سعد عد الأشهر، ولم يقل إنها سنة ست كما في العيون.
"بعثه في ثلاثين راكبا" إبلا وخيلا كما في الصحيح، أنه بعث خيلا، وقول ثمامة: إن خيلك أخرتني، منهم عباد بن بشر، وسلامة بن وقش بفتح الواو، والقاف وبالشين المعجمة، والحارث بن خزمة بفتح المعجمة وسكون الزاي، وقيل بفتحها، وقيل: خزيمة بالتصغير، وأمره أن يسير الليل ويكمن النهار، وأن يشن الغارة عليهم بفتح الياء، وضم المعجمة، وضم الياء، وكسر الشين ونون، أي: يفرق الخيل المغيرة على العدو، ففعل ما أمره.
"فلما أغار" هجم "عليهم" مسرعا "هرب سائرهم،" أي: باقيهم، بعد من قتل منهم، فلا يخالف قوله.
"وعند الدمياطي" تبعا للواقدي عن شيوخه: "فقتل منهم نفرا" هم لغة ما دون العشرة، لكن عند الواقدي فقتل منهم عشرة، "وهرب سائرهم" أي: باقيهم بعد قتل النفر, ولم نر أحدا. قال: لم يقتل منهم حتى نحمل قوله أولا سائرهم على الجميع، ويجعل ما بعده مقابلا له، على أن كونه بمعنى الجميع ضعيف، و"استاق نعما"، وكانت مائة وخمسين بعيرا "وشاء" وكانت ثلاثة آلاف، فعدلوا الجزور بعشرة من الغنم، قاله ابن سعد القاموس النعم، وقد تسكن عينه الإبل والشاء، أو خاص بالإبل، فعليه العطف مباين وعلى الأول من عطف الأخص على الأعم، "وقدم المدينة لليلة بقيت من المحرم" وغاب تسع عشرة ليلة، قاله ابن سعد، "ومعه ثمامة" بضم(3/102)
ابن أثال الحنفي أسيرا.
فربط بأمره عليه الصلاة والسلام بسارية من سواري المسجد، ثم أطلق بأمره عليه الصلاة والسلام، فاغتسل وأسلم وقال:
__________
المثلثة وميمين خفيفتين "ابن أثال" بضم الهمزة، وبمثلثة خفيفة ولام، مصروف ابن النعمان "الحنفي،" من فضلاء الصحابة، لم يرتد مع من ارتد من أهل اليمامة، ولا خرج عن الطاعة قط رضي الله عنه، ونفع الله به الإسلام كثيرا، وقام بعد وفاة المصطفى مقاما حميدا حين ارتدت اليمامة مع مسيلمة، فقال: {بسم الله الرحمن الرحيم} {حم، تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ، غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ} [غافر: 3] أين هذا من هذيان مسيلمة فأطاعه منهم ثلاثة آلاف، وانحازوا إلى المسلمين "أسيرا".
قال ابن إسحاق: بلغني عن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة، أن خيلا لرسول الله صلى الله عليه وسلم أخذت رجلا، ولا يشعرون من هو، حتى أتوا به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "أتدرون من أخذتم، هذا ثمامة بن أثال الحنفي، أحسنوا أساره"، ورجع فقال لأهله: " اجمعوا ما عندكم من طعام، فابعثوا به إليه"، وأمر بلقحته أن يغدى عليها، ويراح، فلا يقع من ثمامة موقعا وإساره بكسر الهمزة، أي: قيده، "فربطوه بأمره عليه الصلاة والسلام" كما في رواية ابن إسحاق "بسارية من سواري المسجد" لنيظر حسن صلاة المسلمين واجتماعهم عليها ويرق قلبه، "ثم أطلق بأمره عليه الصلاة والسلام" منا عليه، أو تألفا، أو لما علم من إيمان قلبه، أو أنه سيظهره، أو أنه مر عليه فأسلم، كما رواه ابنا خزيمة وحبان من حديث أبي هريرة، كذا في شرح المصنف، "فاغتسل وأسلم" بعد اغتساله، كما في الصحيح، ففي حجة لمالك في صحة لمن أجمع على الإسلام.
قال في رواية ابن إسحاق: فلما أمسى جاؤوه بالطعام، فلم ينل منه إلا قليلا، وباللقحة، فلم يصب من حلابها إلا يسيرا، فعجب المسلمون، فقال صلى الله عليه وسلم: "مم تعجبون أمن رجل أكل أول النهار في معا كافر، وأكل آخر النهار في معا مسلم، إن الكافر يأكل في سبعة أمعاء، وإن المسلم يأكل في معا واحد".
"وقال" كما أخرجه الشيخان عن أبي هريرة: بعث النبي صلى الله عليه وسلم خيلا قبل نجد، فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له ثمامة بن أثال سيد أهل اليمامة، فربطوه بسارية من سواري المسجد، فخرج إليه صلى الله عليه وسلم فقال: "ماذا عندك يا ثمامة"؟، قال: عندي خير يا محمد، إن تقتل تقتل ذا دم وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت، فترك حتى كان الغد ثم قال: "ما عندك يا ثمامة"، قال: ما قلت لك إن تنعم تنعم على شاكر، فتركه حتى كان بعد الغد، فقال: "ما عندك يا ثمامة"؟ قال: عندي ما قلت لك، فقال: "أطلقوا ثمامة"،(3/103)
يا محمد، والله ما كان على الأرض وجه أبغض إلي من وجهك، فقد أصبح وجهك أحب الوجوه إلي، والله ما كان من دين أبغض إلي من دينك فأصبح دينك أحب الأديان كلها إلي، والله ما كان من بلد أبغض إلي من بلدك فأصبح بلدك أحب البلاد إلي. وإن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة فماذا ترى؟ فبشره النبي صلى الله عليه وسلم، وأمره أن يعتمر.
__________
فانطلق إلى نجل قريب من المسجد، فاغتسل، ثم دخل المسجد، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله "يا محمد والله ما كان على الأرض وجه أبغض إلي من وجهك، فقد أصبح وجهك أحب الوجوه إلي، والله ما كان من دين أبغض إلي من دينك، فأصبح دينك أحب الأديان كلها إلي" لفظ البخاري: أحب الدين إلي، ولفظ مسلم: أحب الدين كله إلي. "والله ما كان من بلد أبغض إلي من بلدك، فأصبح بلدك أحب البلاد إلي" فيه تعظيم أمر العفو عن المسيء؛ لأنه أقسم أن بغضه انقلب حبا في ساعة واحدة، لما أسداه صلى الله عليه وسلم إليه من العفو والمن من غير مقابل، "وإن خيلك" قال المصنف: أي فرسان خيلك، وهو من ألطف المجازات وأبدعها، فهو على حذف مضاف، كقوله: يا خيل الله اركبي، "أخذتني" قبل دخول المدينة، كما هو المتبادر منه، كقول أبي هريرة أول الحديث: بعث خيلا قبل نجد، فجاءت بثمامة.
قال الحافظ: وزعم سيف في كتاب الردة له أن الذي أسر ثمامة هو العباس، وفيه نظر؛ لأن العباس إنما قدم في الفتح، وقصة ثمامة قبله، بحيث اعتمر، ورجع إلى بلاده، ومنعهم أن يميروا أهل مكة حتى شكوا للمصطفى، فبعث يشفع لهم عند ثمامة ا. هـ.
وروى البيهقي عن ابن إسحاق: أن ثمامة كان رسول مسيلمة للمصطفى قبل ذلك، وأراد اغتياله، فدعا ربه أن يمكنه منه، فدخل المدينة معتمرا، وهو مشرك، فتحير في أزقتها، فأخذ وهو معضل فلا يعارض حديث الصحيحين، ثم لا يعارض هذا قوله أولا في ثلاثين راكبا، بناء على الأكثر لغة من أنه وصف لراكب الإبل؛ لأنه على الإطلاق الثاني.
ففي القاموس: الراكب للبعير خاصة، وقد يكون للخيل، ولا يحمل قوله: خيلك، على أنه أراد جماعته، أطلق عليهم خيلا للزومها للمقاتلين كثيرا؛ لأن فيه رد رواية الصحيحين إلى كلام أهل السيرة، مع إمكان الجمع بدون ذلك، "وأنا أريد العمرة، فماذ ترى" أأذهب إلى العمرة، أو أرجع، أو أقيم عندك، "فبشره النبي"، وفي رواية: رسول الله "صل الله عليه وسلم" قال الحافظ: أي بخير الدنيا والآخرة، أو الجنة، أو بمحو ذنوبه وتبعاته السالفة، وتبعه المصنف.
وقال شيخنا: لعل المراد بشره بالسلامة، وأنه لا يصيبه من أهل مكة ضرر إذا اعتمر، "وأمره أن يعتمر"(3/104)
فلما قدم مكة قال له قائل: صبوت؟ قال: لا، ولكن أسلمت مع محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا والله تأتيكم من اليمامة حبة حنطة حتى يأذن فيها النبي صلى الله عليه وسلم.
__________
"فلما قدم مكة قال له قائل:" قال المصنف: لم أعرف اسمه، "صبوت" أي: خرجت من دين إلى دين، "قال: لا" ما خرجت من دين؛ لأن عبادة الأوثان ليست دينا إذا تركته أكون خرجت من دين، "ولكن أسلمت" لله رب العالمين "مع محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم" أي: وافقته على دينه، فصرنا متصاحبين في الإسلام، أنا بالابتداء وهو بالاستدامة، وفي رواية ابن هشام: ولكني تبعت خير الدين دين محمد، قاله كله الفتح، وبسطه المصنف بقوله: وهذا من أسلوب الحكيم، كأنه قال: ما خرجت من الدين؛ لأنكم لستم على دين، فأخرج منه، بل استحدثت دين الله، وأسلمت مع رسول الله رب العالمين، فإن قلت مع تقتضي استحداث المصاحبة؛ لأنها معنى المعية وهي مفاعلة، وقد قيد بها الفعل، فيجب الاشتراك، كذا نص عليه الكشاف في الصافات، أجيب بأنه لا يبعد ذلك، فيكون منه صلى الله عليه وسلم استدامة ومنه استحداث ا. هـ.
"ولا والله" قال الحافظ: فيه حذف تقديره، والله لا أرجع إلى دينكم، ولا أرفق بكم، فأترك المسيرة "تأتيكم من اليمامة حبة حنطة" ويقع في بض نسخ المواهب المصحفة لفظ لما قبل قوله تأتيكم، وفي بعضه لا، ولا وجود لذلك في البخاري ولا مسلم، "حتى يأذن فيها النبي صلى الله عليه وسلم".
وعند ابن هشام: بلغني أنه خرج معتمرا حتى إذا كان ببطن مكة لبى، وكان أول من دخل مكة يلبي، فأخذته قريش، فقالوا: قد اجترأت علينا، فلما قدموه ليضربوا عنقه، قال قائل منهم: دعوه فإنكم تحتاجون إلى اليمامة فخلوه. فقال الحنفي:
ومنا الذي لبى بمكة معلنا ... برغم أبي سفيان في الأشهر الحرم
ثم خرج إلى اليمامة، فمنعهم أن يحملوا إلى مكة شيئا، فكتبوا إليه صلى الله عليه وسلم إنك تأمر بصلة الرحم، وإنك قد قطعت أرحامنا، فكتب إليه أن يخلي بينهم وبين الحمل.
وأخرج النسائي والحاكم، عن ابن عباس قال: جاء أبو سفيان إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد أنشدك الله والرحم قد أكلنا العلهز، يعني الوبر والدم، فأنزل الله: {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} ، رواه البيهقي في الدلائل بلفظ: إن ابن أثال الحنفي لما أتى به النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أسير خلى سبيله فأسلم فلحق بمكة، ثم رجع فجال بين أهل مكة وبين الميرة من اليمامة حتى أكلت قريش العلهز، فجاء أبو سفيان إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ألست تزعم أنك بعثت رحمة للعالمين؟ قال: "بلى"، قال: قد قتلت الآباء بالسيف والأبناء بالجوع، فنزلت العلهز بكسر العين المهملة، والهاء بينهما لام ساكنة وبزاي آخره، وكأنهم كتبوا(3/105)
ذكر قصته البخاري.
__________
له أولا، ثم لم يثقوا، ولم يكتفوا بالكتابة لشدة ما هم فيه من القحط، فخرج أبو سفيان، فانظر إلى هذا الحلم العظيم، والرحمة الشاملة، والرأفة العميمة، يواجهه بهذا الخطاب الخشن، مع شدة حاجته إليه، ومحاربته له قريبا، وقومه الأحزاب، ومع ذلك لم يمتنع من قضاء حاجته إنك لعلى خلق عظيم.
"ذكر قصته البخاري" ومسلم، كلاهما في المغازي تاما كما سقناه، واقتصر اليعمري على عزوه لمسلم، وكان اللائق له وللمصنف أن يقولا رواه الشيخان.
قال الحافظ: وفي قصة من الفوائد ربط الكافر في المسجد، والمن على الأسير الكافر، والاغتسال عند الإسلام، وإن الإحسان يزيل البغض، ويثبت الحب، وإن الكافر إذا أراد عمل خير، ثم أسلم، شرع له أن يستمر في ذلك الخير، وملاطفة من يرجى أسلامه من الأسرى، إذا كان في ذلك مصلحة للإسلام، ولا سيما من يتبعه على إسلامه العدد الكثير من قومه، وفيه بعث السرايا إلى بلاد الكفار، وأسر من وجد منهم، والتخير بعد ذلك في قتله وإبقائه ا. هـ، والله أعلم.(3/106)
"غزوة بني لحيان":
ثم غزوة بني لحيان -بكسر اللام وفتحها، لغتان- في ربيع الأول سنة ست من الهجرة، وذكرها ابن إسحاق في جمادى الأولى على رأس ستة أشهر من قريظة. قال ابن حزم: الصحيح أنها في الخامسة.
قالوا:
__________
ثم غزوة بني لحيان:
"بكسر اللام وفتحها لغتان"، نسبة إلى لحيان بن هذيل بن مدركة بن إلياس بن مضر.
قال الحافظ: وزعم الهمداني النسابة أن أصل بني لحيان من بقايا جرهم، دخلوا في هذيل، فنسبوا إليهم "في" غرة شهر "ربيع الأول، سنة ست من الهجرة" عند ابن سعد، "وذكرها ابن إسحاق" لا بالوضع، بل بالتصريح، بأنها "في جمادى الأولى، على رأس ستة أشهر من" فتح بني "قريظة".
"قال ابن حزم" الحافظ العلامة، "الصحيح، أنها في" السنة "الخامسة" الذي هو قول ابن إسحاق، وقيل: كانت في الرابعة، وقيل: كانت في رجب، وقيل: في شعبان، "قالوا" في سببها، كما ذكر ابن سعد، ورواه ابن إسحاق عن عاصم بن عمرو وعبد الله بن أبي بكر، عن عبد الله بن كعب بن مالك مرسلا.(3/106)
وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم على عاصم بن ثابت وأصحابه وجدا شديدا، فأظهر أنه يريد الشام، وعسكر في مائتي رجل ومعهم عشرون فرسا, واستخلف على المدينة عبد الله ابن أم مكتوم.
ثم أسرع السير حتى انتهى إلى بطن غران -واد بين أمج وعسفان، وبينها وبين عسفان خمسة أميال- حيث كان مصاب أصحابه أهل الرجيع الذين قتلوا ببئر معونة، فترحم عليهم ودعا لهم.
فسمعت بنو لحيان فهربوا في رءوس الجبال، فلم يقدر منهم على أحد، فأقام يوما أو يومين يبعث السرايا
__________
"وجد" حزن "رسول الله صلى الله عليه وسلم على عاصم بن ثابت وأصحابه،" وكانوا عشرة، أو سبعة على ما مر، وأراد بأصحابه ما يشمل المقتولين ببئر معونة، وهم القراء السبعون؛ لأن عاصما، وأصحابه لم يقتلوا بها، بل كانوا سرية وحدهم، "وجدا شديدا" حزنا قويا، "فأظهر أنه يريد الشام" ليصيب من القوم غرة "وعسكر،" أي: خرج، "في مائتي رجل ومعهم عشرون فرسا، واستخلف على المدينة عبد الله بن أم مكتوم"، فيما قال ابن هشام.
قال ابن إسحاق: فسلك على غراب، أي: بلفظ الطائر جبل بناحية المدينة، ثم على طريقه إلى الشام، ثم على محيص بفتح الميم، وكسر الحاء والصاد المهملتين، ثم على البتراء تأنيث أبتر، ثم صفق بشد الفاء، عدل ذات اليسار، فخرج على بين بفتح التحتية الأولى، وسكون الثانية ونون، وضبطه الصغاني بفتحهما، واد بالمدينة، ثم على صخيرات الثمام، جمع صخيرة مصغرة بمثلثة، وقيل: فوقية، ثم استقام به الطريق على المحجة من طريق مكة.
"ثم أسرع السير حتى انتهى إلى بطن غران" بضم المعجمة، وخفة الراء فنون، "واد" يقال له وادي الأزرق "بين أمج" بفتحتين وجيم، "وعسفان" بضم العين "وبينها" أي: بطن غران، "وبين عسفان خمسة أميال".
قال ابن إسحاق: وهي منازل بني لحيان، "حيث كان مصاب" مصدر ميمي، أي: إصابة "أصحابه أهل الرجيع الذين قتلوا ببئر معونة"، مر أن بعث الرجيع غير بئر معونة، خلافا لما توهمه ترجمة البخاري، والاعتذار عنه، بأنه أدمجهما لقربهما لمجيء خبرهما للمصطفى في ليلة واحة "فترحم عليهم، ودعا لهم" بالمغفرة "فسمعت بنو لحيان، فهربوا في رءوس الجبال" رعبا وخوفا ممن نصر بالرعب، "فلم يقدر منهم على أحد، فأقام يوما أو يومين، يبعث السرايا(3/107)
في كل ناحية، ثم خرج حتى أتى عسفان فبعث أبا بكر في عشرة فوارس لتسمع به قريش فيذعرهم، فأتوا كراع الغميم، ولم يلقوا كيدا.
وانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ولم يلق كيدا وهو يقول: آيبون تائبون عابدون لربنا حامدون وغاب عن المدينة أربع عشرة ليلة.
__________
في كل ناحية" من نواحيهم "ثم خرج حتى أتى عسفان، فبعث أبا بكر في" مع "عشرة فوارس لتسمع بهم قريش، فيذعرهم" بفتح الياء، وذال معجمة وفتح العين المهملة، أي: يفزعهم، "فأتوا كراع" بضم الكاف، وخفة الراء وعين مهملة، "الغميم" بفتح الغين المعجمة، وكسر الميم، فتحتية ساكنة فميم، واد أمام عسفان، بثمانية أميال يضاف إلى كراع، جبل أسود بطرف الحرة ممتد إليه، والكراع ما سال من أنف الجبل، أو الحرة، وطرف كل شيء، كما في النور، "ولم يلقوا كيدا" قاله ابن سعد.
وقال ابن إسحاق: لما أخطأه من غرتهم ما أراد، قال صلى الله عليه وسلم: "لو أنا نزلنا عسفان لرأى أهل مكة أنا قد جئنا مكة"، فخرج في مائتي راكب من أصحابه حتى نزل عسفان، ثم بعث فارسين من أصحابه حتى بلغا كراع الغميم، ثم كروا يمكن الجمع بأنه بعثهما، ثم بعث أبا بكر في العشرة أو عكسه، "وانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، ولم يلق كيدا"، أي: حربا، "وهو يقول،" كما رواه ابن إسحاق وابن سعد عن جابر: سمعت رسول الله صلى الله علي وسلم يقول حين وجه راجعا: "آيبون" بمد الهمزة، أي: نحن راجعون إلى الله، نحن "تائبون" إن شاء الله تعالى، كما في الرواية إليه سبحانه، فيه إشارة إلى التقصير في العبادة قاله تواضعا أو تعليما لأمته، نحن "عابدون" من استحقت ذاته للعبادة "لربنا" متعلق بالصفات الثلاثة على طريق التنازع، وكذا بقوله نحن "حامدون" له تعالى.
وقال الطيبي: يجوز أن يتعلق قوله لربنا بقوله عابدون؛ لأن عمل اسم الفاعل ضعيف، فيقوى به, أو بحامدون ليفيد التخصيص، أي: نحمد ربنا لا نحمد غيره، وهذا أولى؛ لأنه الخاتمة للدعاء، وبقية حديث جابر عندهما: أعوذ بالله من وعثاء السفر، وكآبة المنقلب، وسوء المنظر في الأهل والمال.
زاد الواقدي: اللهم بلغنا بلاغا صالحا، ينظر إلى خير مغفرتك ورضوانا، قالوا: وهذا أول ما قال هذا الدعاء، ووعثاء بمثلثة مشقة وكآبة حزن، وأصل الحديث في الصحيح عن ابن عمر كان صلى الله عليه وسلم إذا قفل يقول، كلما أوفى على ثنية أو فدفد كبر ثلاثا، ثم قال: "لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، آيبون، تائبون، عابدون، ساجدون، لربنا حامدون، صدق الله وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده"، "وغاب عن
المدينة أربع عشرة ليلة،" والله سبحانه وتعالى أعلم.(3/108)
"غزوة ذي قر" - "غزوة الغابة":
وتعرف بذي قرد -بفتح القاف والراء والدال المهملة- وهو ماء على نحو بريد من المدينة، في ربيع الأول سنة ست، قبل الحديبية.
وعند البخاري أنها كانت قبل خيبر بثلاثة أيام، وفي مسلم نحوه.
__________
غزوة ذي قرد - غزوة الغابة:
بغين معجمة، فألف، فموحدة على بريد من المدينة في طريق الشام.
قال البرهان: وصحف من قالها بالتحتية، وغلط القائل هي شجر لا مالك له، بل لاحتطاب الناس ومنافعهم.
قال الشريف: ووهم من قال من عوالي المدينة، كيف وهو مغيض مياه أوديتها بعد مجتمع الأسيال، ثم قال: وكان بها أملاك لأهلها استولى عليها الخراب، وبيعت في تركة الزبير بألف ألف، وستمائة ألف ا. هـ، أضيفت إليها الغزوة؛ لأن اللقاح التي أغير عليها كانت بها، "وتعرف بذي قرد" لكونه صلى الله عليه وسلم وصل إليها وصلى بها، كما يأتي "بفتح القاف والراء" زاد الحافظ: وحكي الضم فيها، وحكي ضم أوله وفتح ثانيه.
قال الحازمي: الأول ضبط أصحاب الحديث، والضم عن أهل اللغة.
وقال البلاذري الصواب الأول، "والدال المهملة" آخره، "وهو ماء على نحو بريد من المدينة" مما يلي بلاد غطفان، وقيل: على مسافة يوم ا. هـ.
قال السهيلي: القرد لغة الصوف، واختلف في وقتها، فقال ابن سعد، وشيخه الواقدي: "في ربيع الأول سنة ست"، وقيل: في جمادى الأولى.
وعند ابن إسحاق في شعبان على نقل الفتح، ولعله في رواية يونس أو غيره عنه، وإلا فرواية البكائي، أنها في جمادى الأولى، وعلى الثلاثة هي "قبل الحديبية"؛ لأنها هلال القعدة سنة ست.
"وعند البخاري" جزما، "أنها كانت قبل خيبر بثلاثة أيام،" وخيبر بعد الحديبية بنحو عشرين يوما.
قال الحافظ: كذا جزم به، "و" مستنده في ذلك حديث سلمة بن الأكوع، "في مسلم نحوه" حيث قال في آخر الحديث الطويل، فرجعنا، أي: من الغزوة إلى المدينة، فوالله ما لبثنا بالمدينة إلا ثلاث ليال، حتى خرجنا إلى خيبر.(3/109)
قال مغلطاي: وفي ذلك نظر لإجماع أهل السير على خلافهما. ا. هـ.
قال القرطبي شارح مسلم: لا يختلف أهل السير أن غزوة ذي قرد كانت قبل الحديبية.
وقال الحافظ ابن حجر: ما في الصحيح من التاريخ لغزوة ذي قرد أصح مما ذكر أهل السير. ا. هـ.
وسببها: أنه كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم عشرون لقحة
__________
"قال مغلطاي، وفي ذلك" الذي جزم به البخاري، وأفاده حديث سلمة في مسلم، "نظر لإجماع أهل السير على خلافهما، ا. هـ".
"قال" العلامة أبو العباس، أحمد بن عمر، الفقيه المحدث، "القرطبي" شيخ صاحب التذكرة، والتفسير مر بعض ترجمته، ولذا ميزه، بأنه "شارح مسلم" في الكلام على حديث سلمة، تبعا لأبي عمر، "لا يختلف أهل السير أن غزوة ذي قرد كانت قبل الحديبية" فما في حديث سلمة وهم من بعض الرواة.
قال القرطبي: ويحتمل الجمع، بأنه صلى الله عليه وسلم كان أغزى سرية فيهم سلمة إلى خيبر قبل فتحها، فأخبر سلمة عن نفسه وعمن خرج معه، يعني حيث قال: خرجنا إلى خيبر، قال: ويؤيده أن ابن إسحاق ذكر أنه صلى الله عليه وسلم أغزى إليها ابن رواحة قبل فتحها مرتين.
"وقال الحافظ ابن حجر": سياق الحديث يأبى هذا الجمع، ففيه خرجنا إلى خيبر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل عمي يرتجز بالقوم، وفيه قوله صلى الله عليه وسلم: "من السائق ومبارزة عمه لمرحب"؟ وقتل عامر، وغير ذلك مما وقع في خيبر، خرج إليها صلى الله عليه وسلم، فعلى هذا "ما في الصحيح من التاريخ لغزوة ذي قرد أصح مما ذكره أهل السير".
وصرح ابن القيم، بأن ما ذكره وهم.
قال الحافظ: ويحتمل في طريق الجمع، أن تكون إغارة عيينة على اللقاح وقعت مرتين: الأولى التي ذكرها ابن إسحاق، وهي قبل الحديبية، والثانية بعدها قبل الخروج إلى خيبر، وكان رأس الذين أغاروا عبد الرحمن بن عيينة، كما ساق سلمة عند مسلم، ويؤيده أن الحاكم ذكر في الإكليل أن الخروج إلى ذي قرد تكرر، ففي الأول خرج إليها زيد بن حارثة قبل أحد، وفي الثانية خرج إليها صلى الله عليه ووسلم في ربيع الآخر سنة خمس، والثالثة هذه المختلف فيها ا. هـ، فإذا ثبت هذا قوي الجمع الذي ذكرته "انتهى" كلام احافظ بما زدته كله من الفتح، "وسببها أنه كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم عشرون لقحة"، بكسر اللام، وقد تفتح، وحاء مهملة، والجمع لقاح بالكسر فقط(3/110)
-وهي ذوات اللبن القريبة العهد بالولادة -ترعى بالغابة، وكان أبو ذر فيها، فأغار عليهم عيينة بن حصن الفزاري ليلة الأربعاء، في أربعين فارسا فاستاقوها، وقتلوا ابن أبي ذر.
وقال ابن إسحاق: وكان فيها رجل من بني غفار وامرأة، فقتلوا الرجل وسبوا المرأة
__________
وخفة القاف، "وهي ذوات اللبن، القريبة العهد بالولادة"، بشهر، واثنين، وثلاثة وهو اسم لا صفة، فيقال هذه لقحة لا ناقة لقحة، فإن أريد الوصف فناقة لقوح ولاقح، وقد يقال ذلك قبل الوضع، ثم هي بعد الثلاثة لبون، وقد جاء اللقحة في البقر والغنم أيضا، كما في النور. "ترعى بالغابة" قاله ابن إسحاق وغيره من أهل المغازي، ومثله في حديث سلمة الطويل عند مسلم.
وفي البخاري ومسلم: كانت ترعى بذي قرد.
قال عياض: هو غلط.
قال الشريف: ويمكن الجمع بأنها كانت ترعى هنا تارة وهناك تارة.
"وكان أبو ذر فيها" وابنه وامرأته، "فأغار عليهم" على أبي ذر ومن معه، فلا حاجة لدعوى أنه غلب العاقل على غيره، وأن الأولى عليها، أي: الإبل، "عيينة بن حصن الفزاري" كما عند ابن سعد وغيره.
ورواه الطبراني، عن سلمة بن الأكوع، وروى عنه أحمد، ومسلم، وابن سعد، أن الذي أغار عبد الرحمن بن عيينة بن حصن، ولا منافاة، فكل من عيينة وابنه كان في القوم، وذكر ابن عقبة وابن إسحاق أن مسعدة الفزاري كان رئيسا أيضا في فزارة، في هذه الغزوة، قاله في الفتح "ليلة الأربعاء" من ربيع الأول فقط؛ لأن هذا الذي ساقه المصنف كلام ابن سعد، القائل أنها في في ربيع، ولم يعين الليلة هل هي أول الشهر، أو غيرها "في أربعين فارسا، فاستاقوها، وقتلوا ابن أبي ذر" وأسروا المرأة، قاله ابن سعد.
قال الدمياطي: والولد المقتول هو ذر، وكان راعي اللقاح، ونقله عنه في الإصابة.
"وقال ابن إسحاق: وكان فيها" أي: الإبل "رجل من بني غفار" هو ابن أبي ذر، كما صرح به ابن سعد، "وامرأة" لأبي ذر نفسه، "فقتلوا الرجل" الذي هو ابن أبي ذر، "وسبوا المرأة" التي هي زوجة أبي ذر، واسمها ليلى، كما في أبي داود.
وعند الواقدي: أن أبا ذر استأذنه عليه السلام إلى لقاحه، فقال: إني أخاف عليك، ونحن لا نأمن عيينة، فألح عليه فقال صلى الله عليه وسلم: "لكأني بك قد قتل ابنك، وأخذت امرأتك، وجئت توك(3/111)
فركبت ناقة النبي صلى الله عليه وسلم ليلا على حين غفلتهم، ونذرت لئن نجت لتنحرنها، فلما قدمت على النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته بذلك فقال: "أنه لا نذر في معصية، ولا لأحد فيما لا يملك".
فنودي: يا خيل الله اركبي، وكان أول ما نودي بها.
__________
على عصاك".
قال أبو ذر: عجبا لي يقول لي ذلك وأنا ألح عليه، فكان والله ما قال، فلما كان الليل أحدق بنا عيينة مع أصحابه، فأشرف لهم ابني فقتلوه، وكانت معه امرأته، وثلاثة نفر، فنجوا وتنحيت عنهم، وعليه فكان معهم امرأتان، فنجت امرأة ابنه الذي قتل، وأسرت امرأته هو والعلم عند الله، "فركبت" امرأة أبي ذر المذكورة بعد قفوله صلى الله عليه وسلم من هذه الغزوة، كما فصله ابن إسحاق "ناقة للنبي صلى الله عليه وسلم" هي العضباء "ليلا على حين غفلتهم".
فروى مسلم وأبو داود، وغيرهما عن عمران بن حصين: أنهم أوثقوا المرأة، وكانوا يريحون نعمهم بين يدي بيوتهم، فانفلتت ذات ليلة من الوثاق، فأتت الإبل، فإذا دنت من البعير رغا، فتتركه حتى انتهت إلى العضباء، فلم ترغ فقعدت في عجزها ثم زجرتها، فانطلقت وعلموا بها، فطلبوها، فأعجزتهم "ونذرت" بفتح النون والمعجمة، "لئن نجت لتنحرنها، فلما قدمت على النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته بذلك، فقال:" في رواية ابن إسحاق من مرسل الحسن قالت: يا رسول الله إني نذرت لله أن أنحرها، إن نجاني الله عليها، فتبسم الله صلى الله عليه وسلم، وقال: "بئسما جزيتيها إن حملك الله عليها، ونجاك أتنحريها" "إنه لا نذر في معصية، ولا لأحد فيما لا يملك"، إنما هي ناقة من إبلي، ارجعي إلى أهلك على بركة الله".
وفي حديث عمران: فلما قدمت المدينة رآها الناس، فقالوا: العضباء ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عمران: إنها نذرت إن نجاها الله عليها لتنحرنها، فذكروا ذلك له صلى الله عليه وسلم فقال: "سبحان الله، بئسما جزتها نذرت إن نجاها الله لتنحرنها، لا وفاء لنذر في معصية، ولا فيما لا يملك ابن آدم "، وكونهم أخبروه بذلك، لا ينافي أنها أخبرته أيضا، وأجاب كلا بما ذكر، كما هو مفاد الخبرين فلا خلف، "فنودي" ليس تعقيبا لقصة المرأة، حتى يفيد أن الخبر ما بلغ المصطفى إلا منها، كما يوهمه المصنف، بل هو راجع لكلام ابن سعد الذي فصله بكلام ابن إسحاق هذا، ولفظه عقب قوله: وقتلوا ابن أبي ذر، وجاء الصريخ فنادى الفزع الفزع، ونودي: "يا خيل الله اركبي،" هو من ألطف المجازات وأبدعها.
قال العسكري: هذا على المجاز والتوسع، أراد يا فرسان خيل الله، فاختصر لعلم المخاطبين بما أراد. ا. هـ، ولم يقل: اركبوا مراعاة للفظ خيل، "وكان أول ما نودي بها" قاله ابن(3/112)
وركب صلى الله عليه وسلم في خمسمائة وقيل: سبعمائة، واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم، وخلف سعد بن عبادة في ثلاثمائة يحرسون المدينة.
وكان قد عقد للمقداد بن عمرو لواء في رمحه، وقال له امض حتى تلحقك الخيول، وأنا على أثرك، فأدرك أخريات العدو
__________
سعد، وانتقده اليعمري بما مر عن ابن عائذ، من مرسل قتادة أنه نودي: يا خيل الله اركبي في قريظة، وهي قبل هذه، وأجيب بأن هذا مبني على أن قريظة بعدها، والمصنفون إذا بني كلامهم على قول في موضع، وفي آخر على خلافه لا يعد تناقضا، ومتى أمكن حمله عليه فعل.
وفي البخاري، ومسلم عن سلمة: خرجت قبل أن يؤذن بالأولى، وكان لقاح رسول الله ترعى بذي قرد، فلقيني غلام لعبد الرحمن بن عوف، فقال: أخذت لقاح رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: من أخذها؟ قال: غطفان وفزارة، فصرخت ثلاث صرخات: يا صباحاه، يا صباحاه، فأسمعت ما بين لابتي المدينة الحديث.
قال الحافظ: فيه إشعار أنه كان واسع الصوت جدا، ويحتمل أن يكون ذلك وقع من خوارق العادات.
وللطبراني وابن إسحاق، فأشرفت من سلع، ثم صح: يا صباحاه، فانتهى صياحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنودي في الناس: الفزع الفزع، فترامت الخيول إليه، فكان أول من انتهى إليه فارسا المقداد، ثم عباد بن بشر وسعد بن زيد وأسيد بن حضير، وعكاشة ومحرز بن نضلة وأبو قتادة وأبو عياش، فأمر صلى الله عليه وسلم عليهم سعد بن زيد، ثم قال: "اخرج في طلب القوم حتى ألحقك في الناس"، "وركب صلى الله عليه وسلم في خمسمائة، وقيل: سبعمائة" حكاهما ابن سعد، "واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم" عبد الله، أو عمرو، "وخلف سعد بن عبادة في ثلاثمائة يحرسون الدينة، وكان قد عقد لمقداد بن عمرو" المعروف بابن الأسود؛ لأنه تبناه، وكان أول من أقبل إليه، وعليه الدرع والمغفر شاهرا سيفه، فعقد له "لواء في رمحه، وقال له: "امض حتى تلحقك الخيول، وأنا على أثرك، فأدرك أخريات العدو".
ومن هنا اختلف في أنه الأمير، أو سعد بن زيد، ويجمع بأن الأمير سعد، وحامل اللواء المقداد فمن قال: إنه الأمير، نظر إلى حمله اللواء، وإن كان الواقع أنه سعد، ولذا قال ابن سعد وشيخه الواقدي الثبت عندنا أن سعدا أمير هذه السرية، ولكن الناس نسبوها للمقداد لقول حسان غداة فوارس المقداد، فعاتبه سعد، فقال اضطرني الروي والبيت هو:
ولسر أولاد اللقيطة أننا ... سلم غداة فوارس المقداد
ذكره إسحاق في قصيدة وأن حسان لما قالها غضب سعد، وحلف أن لا يكلمه أبدا،(3/113)
وقتل أبو قتادة مسعدة، فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فرسه وسلاحه، وقتل عكاشة بن محصن أبان بن عمرو، وقتل من المسلمين محرز بن نضلة قتله مسعدة.
__________
وقال: انطلق إلى خيلي وفوارسي، فاجعلها للمقداد، فاعتذر إليه حسان، وقال: والله ما ذاك أردت، ولكن الروي وافق اسم المقداد، وقال رجزا يرضيه به، فلم يقبل به سعد، ولم يغن شيئا. ا. هـ.
واللقيطة أم حصن بن حذيفة جدة عيينة.
"وقتل أبو قتادة" الحارث بن ربعي "مسعدة" بن حكمة، بفتحتين الفزاري رئيس المشركين يومئذ، وسجاه ببرده، فاسترجع الناس، وقالوا: قتل أبو قتادة، فقال صلى الله عليه وسلم: "ليس بأبي قتادة ولكنه قتيله"، وضع عليه برده لتعرفوه، فتخلوا عن قتيله وسلبه، كذا قاله ابن عقبة.
وعند ابن إسحاق وغيره: أن قتيل أبي قتادة حبيب بن عيينة، وأنه سجاه ببرده وقال فيه المصطفى ذلك القول، وكذا في حديث سلمة عند مسلم، ولكن سماه عبد الرحمن بن عيينة.
قال الحافظ: فيحتمل أن له اسمين "فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فرسه وسلاحه".
وذكر ابن سعد أن قاتل ابن عيينة المقداد قتله هو وقرفة بن مالك بن حذيفة بن بدر، لكنه لا يعادل ما في الصحيح المسند، أن قاتله أبو قتادة خصوصا، وقد جزم به أمام المغازي، اللهم إلا أن يكونا اشتركا في قتله، "وقتل عكاشة" بشد الكاف وخفتها "بن محصن" بكسر الميم، وسكون الحاء المهملة "أبان بن عمرو"، كذا في النسخ، والذي عند ابن إسحاق، فأدرك عكاشة أوبارا وابنه عمرا، وهما على بعير، فانتظمهما بالرمح، فقتلهما جميعا، واستنقذ بعض اللقاح، وضبطه البرهان بفتح الهمزة، وسكون الواو، ثم موحدة آخره راء.
وعند ابن سعد، أنه أثار بضم الهمزة وبالمثلثة آخر راء. ا. هـ.
"وقتل من المسلمين محرز بن نضلة" بن عبد الله الأسدي من بني أسد بن خزيمة، وشهد بدرا ونضلة بفتح النون، وسكون الضاد المعجمة على المعروف، ورأيت عن الدارقطني فتحها، وحكى البغوي عن ابن إسحاق محرز بن عون بن نضلة، وبعضهم يقول: ابن ناضلة، قاله اليعمري.
قال ابن إسحاق: حدثني عاصم بن عمر، كان أول فارس لحق بالقوم، وكان يقال له، أي: يلقب الأخرم، ويقال له: قمير، فوقف بين أيديهم، وقالوا: قفوا يا معشر بني اللكيعة، فحمل عليه رجل منهم فقتله، كذا أبهم قاتله.
وفي حديث سلمة عند مسلم التقى، هو وعبد الرحمن بن عيينة، فقتله عبد الرحمن، وتحول على فرسه، فلحقه أبو قتادة، فقتله وتحول على الفرس.
وعند ابن عقبة، كابن عائذ عن عروة قتله أوبار، فشد عليه عكاشة، فقتل أوبارا وابنه، وأما المصنف فقال تبعا للدمياطي "قتله مسعدة"، فإن أردت الترجيح، فما في الصحيح أصح أو(3/114)
وأدرك سلمة بن الأكوع القوم، وهو على رجليه، فجعل يرميهم بالنبل
__________
الجمع، فيمكن أن الثلاثة اشتركوا في قتله.
قال ابن إسحاق عن عاصم: فلم يقتل يومئذ من المسلمين غيره.
وقال ابن هشام: قتل أيضا وقاص بن مجزز المدلجي، فيما حكى غير واحد من أهل العلم انتهى، وهو بميم مضمومة، فجيم فمعجمتين، الأولى مشددة مكسورة، "وأدرك سلمة" بن عمرو، أو ابن وهب "ابن الأكوع" بن سنان بن عبد الله بن بشير الأسلمي، أبو مسلم، وأبو إياس شهد بيعة الرضوان، وبايع النبي صلى الله عليه وسلم عند الشجرة على الموت، رواه البخاري، وكان شجاعا راميا يسبق الفرس، وما كذب قط قيل: هو الذي كلمه الذئب، وقيل: أهبان بن صيفي أخرج له الستة وأحمد، ومات بالمدينة سنة أربع وسبعين على الصحيح، وقيل: سنة أربع وستين، وزعم الواقدي أنه عاش ثمانين سنة.
قال في الإصابة: وهو باطل على القول الأول، إذ يلزم أنه في الحديبية، له نحو عشر سنين، ومن في ذلك السن لا يبايع على الموت.
وعند ابن سعد والبلاذري، أنه مات في آخر خلافة معاوية "القوم" بعد صريخه، قبل أن تلحقه الخيل.
فعند ابن إسحاق: صرخ واصباحاه، ثم خرج يشتد في آثار القوم، فكان مثل السبع، حتى لحق بالقوم، "وهو على رجليه، فجعل يرميهم بالنبل".
وفي البخاري عنه: ثم اندفعت على وجهي، حتى أدركتهم، وقد أخذوا يستقون من الماء، فجعلت أرميهم بنبلي، وكنت راميا وأقول:
أن ابن الأكوع ... اليوم يوم الرضع
وأرتجز حتى استنقذت اللقاح كلها، وأسلبت ثلاثين بردة.
وفي مسلم وابن سعد: فأقبلت أرميهم بالنبل، وأرتجز، فألحق رجلا منهم، فأمكنه سهما في رجله، فخلص السهم إلى كعبه، فما زلت أرميهم وأعقرهم، فإذا رجع إلي فارس منهم، أتيت شجرة، فجلست في أصلها، ثم رميته فعرت به، إذا تضايق الجبل، فدخلوا في مضايقه، علوت الجبل، فرميتهم بالحجارة، فما زالت كذلك حتى ما خلق الله لرسول الله صلى الله عليه وسلم من بعير، إلا خلفته وراء ظهري، ثم أتبعهم أرميهم حتى ألقوا أكثر من ثلاثين بردة، وثلاثين رمحا، يتخففون بها، فأتوا مضيقا، فأتاهم عيينة ممدا لهم، فجلسوا يتغدون، وجلست على رأس قرن، فقال: من هذا؟ قالوا: لقينا من هذا البرح بفتح الموحدة، وسكون الراء المشددة، والأذى ما فارقنا السحر حتى الآن، وأخذ كل شيء في أيدينا، وجعله وراء ظهره، فقال عيينة: لولا أنه يرى وراءه طلبا(3/115)
ويقول:
خذها وأنا ابن الأكوع ... واليوم يوم الرضع
يعني يوم هلاك اللئام، من قولهم: لئيم راضع، أي راضع اللؤم في بطن أمه، وقيل معناه: اليوم يعرف من ارتضعته الحرب من صغره وتدرب بها، ويعرف غيره، ولحق رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس والخيول
__________
لترككم، ليقم إليه أربعة منكم، فصعدوا في الجبل، فقلت لهم: أتعرفونني؟ فقالوا: ومن أنت؟، قلت: ابن الأكوع، والذي أكرم وجه محمد، لا يطلبني رجل منكم فيدركني، ولا أطلبه فيفوتني، فقال رجل منهم، أظن فرجعوا، فما برحت مكاني حتى رأيت فوارس رسول الله صلى الله عليه وسلم، "ويقول: خذها" أي: الرمية "وأنا ابن الأكوع" المشهور في الرمي بالإصابة عن القوس، وهذا من الفخر الجائز في الحرب لاقتضائها فعله لتخويف الخصم، كما قال صلى الله عليه وسلم: " أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب"، "واليوم يوم الرضع" بضم الراء وشد المعجمة، جمع راضع.
قال السهيلي: يجوز رفعهما، ونصب الأول، ورفع الثاني على جعل الأول ظرفا، وهو جائز إذا كان الظرف واسعا، ولم يضق عن الثاني.
قال أهل اللغة: يقال في اللؤم رضع بالفتح، يرضع بالضم رضاعة لا غير، ورضع الصبي بالكسر ثدي أمه، يرضع بالفتح رضاعا، مث سمع يسمع سماعا، "يعني يوم هلاك اللئام من قولهم: لئيم راضع"، والأصل فيه أن شخصا كان شديد البخل، فكان إذا أراد حلب ناقته ارتضع من ثديها لئلا يحلبها فيسمع جيرانه، أو من يمر به صوت الحلب، فيطلبون منه اللبن، وقيل: بل صنع ذلك لئلا يتبدد من اللبن شيء إذا حلب في الإناء، أو يبى في الإناء شيء إذا شربه، فقالوا في المثل: ألأم من راضع، وقيل: "أي رضع اللؤوم في بطن أمه،" أي: هو معنى المثل، وقيل: كل لئيم يوصف بالمص والرضاع، وقيل: المراد من يمص طرف الخلال إذا خلل أسنانه، وهو دال على شدة الحرص، وقيل: هو الراعي الذي لا يستصحب محلبا، فإذا جاءه الضيف اعتذر بأن لا محلب معه، وإذا أراد أن يحلب ارتضع ثديها.
وقال أبو عمرو الشيباني: هو الذي يرضع الشاة، أو الناقة عند الحلب من شدة الشره، وقيل: أصله الشاة ترضع لبن شاتين من شدة الجوع، وقيل: معناه اليوم يعرف من ارتضع كريمة فأنجيته، أو لئيمة فهجنته، "وقيل: معناه اليوم يعرف من ارتضعته الحرب من صغره، وتدرب بها ويعرف غيره".
وقال الداودي: معناه هذا يوم شديد عليكم، تفارق فيه المرضعة من أرضعته، فلا يجد من يرضعه، قال جميعه في الفتح، "ولحق رسو الله صلى الله عليه وسلم الناس والخيول" بالرفع عطف على(3/116)
عشاء، قال سلمة: فقلت: يا رسول الله إن القوم عطاش، فلو بعثتني في مائة رجل استنقذت ما في أيديهم من السرح وأخذت بأعناق القوم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ملكت فأسجح" -وهي بهمزة قطع ثم سين مهملة، ثم جيم مكسورة ثم حاء مهملة- أي فارفق وأحسن، والسجاحة: السهولة، أي لا تأخذ بالشدة بل أرفق، فقد حصلت النكاية في العدو ولله الحمد، ثم قال: إنهم الآن ليقرون في غطفان.
__________
رسول الله "عشاء".
قال ابن إسحاق: فنزلوا بذي قرد، وأقام عليه يوما وليلة.
"قال سلمة" عن ابن سعد: "فقلت: يا رسول الله إن القوم" غطفان وفزارة "عطاش" بكسر العين المهملة، وبسبب العطش حصل لهم، وهن لا يقدرون معه على الحرب، "فلو بعثتني في مائة لاستنقذت ما في أيديهم من السرح" بفتح السين، وسكون الراء وحاء مهملات، المال السائم المرسل في المرعى، "وأخذت بأعناق القوم" أي: أسرتهم وقتلتهم.
وللبخاري في الجهاد فقلت: يا رسول الله، إن القوم عطاش وإني أعجلتهم أن يشربوا سقيهم، فابعث في أثرهم، وله في المغازي، وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس، فقلت: يا نبي الله قد حميت القوم الماء، وهم عطاش، فابعث إليهم الساعة.
وعند مسلم: وأتاني عمي عامر بماء ولبن، فتوضأت وشربت، ثم آتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو على الماء الذي أجليتهم عنه، فإذا هو قد أخذ كل شيء، استنقذته منهم، ونحر له بلال ناقته، وشوى له من كبدها وسنامها، فقلت: يا رسول الله خلني أنتخب من القوم مائة رجل، فأتبعهم، فلا يبقى منهم مخبر، فضحك حتى بدت نواجذه، وقال: "أتراك كنت فاعلا"؟ قلت: نعم، والذي أكرمك "فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"يا ابن الأكوع "ملكت" أي: قدرت عليهم، "فأسجح" وهي بهمزة قطع" مفتوحة، "ثم سين مهملة" ساكنة، "ثم جيم مكسورة، ثم حاء مهملة، أي: فارفق وأحسن، والسجاحة" بكسر السين المهملة "السهولة".
وفي القاموس: النجاة، فتفسيره بها؛ لأن النجاة تلزمها، "أي: لا تأخذ بالشدة، بل أرفق"، وأحسن العفو "فقد حصلت النكاية في العدو"، فهزموا وقتل رؤساؤهم ابن عيينة وسعدة في جماعة، وسلب منهم الرماح والبرد، "ولله الحمد" على نصر الإسلام، "ثم قال" عقب قوله: فأسجح، كما رواه الشيخان في حديث سلمة مسلم، بلفظ: "إنهم الآن ليقرون" بضم التحتية، وسكون القاف وفتح الراء، وضمها وسكون الواو، من القرى، وهي الضيافة، وقيل: معنى ضم الراء، أنهم يجمعون الماء واللبن، وصحف من قال: يغزون بغين معجمة وزاي "في غطفان".
والبخاري في الجهاد بلفظ: إنهم يقرون في قومهم، يعني وصولا إلى غطفان، وهم(3/117)
وذهب الصريخ إلى بني عمرو بن عوف، فجاءت الأمداد فلم تزل الخيل تأتي والرجال على أقدامهم، وعلى الإبل حتى انتهوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بذي قرد، فاستنقذوا عشر لقاح، وأفلت القوم بما بقي وهي عشر.
__________
يضيفونهم، ويساعدونهم، فلا فائدة في البعث في الأثر؛ لأنهم لحقوا بأصحابهم.
وزاد مسلم وابن سعد: فجاء رجل من غطفان، فقال: مروا على فلان الغطفاني، فنحر لهم جزورا، فلما أخذوا يكشطون جلدها رأوا غبرة، فتركوها وقالوا: أتاكم القوم، وخرجوا هرابا، وفيه معجزة، حيث أخبر بذلك، فكان كما قال.
وفي بعض الأصول من البخاري يقرون.
قال المصنف: بفتح أوله وفتح الراء، أي: يضيفون الأضياف، فراعى ذلك لهم رجاء توبتهم وإنابتهم.
ولأبي ذر عن الحموي والمستملي: يقرون بفتح أوله، وكسر القاف وشد الراء.
ولأبي ذر من قومهم. ا. هـ.
واقتصر الحافظ على الضبط الأول قائلا: ولابن إسحاق: أنهم الآن ليغبقون في غطفان، وهو بالغين المعجمة الساكنة، والموحدة المفتوحة، والقاف من الغبوق، وهو شرب أول الليل، والمراد أنهم فاتوا، ووصلوا إلى بلاد قومهم، ونزلوا عليهم، فهم الآن يذبحون لهم، ويطعمونهم انتهى، فعجب من الشامي في تقديمه رواية ابن إسحاق، ثم قوله: وفي لفظ: ليقرون مع أنه رواية الصحيحين، فيوهم أن المشهور ما قدمه ولا كذلك، فالمشهور رواية الشيخين، ولذا اقتصر عليها المصنف.
وفي مسلم وابن سعد في حديث سلمة: فلما أصبحنا قال صلى الله عليه وسلم: "فرساننا اليوم أبو قتادة، وخير رجالتنا اليوم سلمة"، فأعطاني سهم الراجل والفارس جميعا.
"وذهب الصريخ" بمهملة ومعجمة الاستغاثة، "إلى بني عمرو بن عوف" من الأنصار، "فجاءت الأمداد" جمع مدد، وهم الأعوان والأنصار "فلم تزل الخيل تأتي، والرجال على أقدامهم وعلى الإبل، حتى انتهوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بذي قرد، فاستنقذوا عشر لقاح، وأفلت القوم بما بقي، وهي عشر" من اللقاح، كذا قاله الواقدي وابن سعد، وابن إسحاق، وهو مخالف لقول سلمة في الصحيحين، أنه استنقذ جميع اللاح.
قال الشامي: وهو المعتمد لصحة سنده، قلت: وقد رواه ابن سعد نفسه عن سلمة، مثل رواية مسلم كما سلف، وما أسنده مقدم على ما ذكره بلا سند، فكيف وقد وافقه الشيخان، وقد تعسف من قال، يحتمل أن سلمة قاله بحسب ظنه، وهو في الواقع نصف اللقاح، فإنه مخالف(3/118)
وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بذي قرد صلاة الخوف، وأقام يوما وليلة ورجع، وقد غاب خمس ليال، وقسم في كل مائة من أصحابه جزورا ينحرونها.
__________
للمتبادر من قوله حتى ما خلق الله من بعير لرسول الله إلا خلفته وراء ظهري، وكذا قول المشركين لعيينة أخذ كل شيء في أيدينا، وجعله وراء ظهره، ثم كون اللقاح عشرين بمجرده لا ينافي أن معها زيادة عليها الجمل الذي لأبي جهل، وأما الناقة التي رجعت عليها امرأة أبي ذر، فلا ترد؛ لأنها إنما عادت بعد عوده عليه السلام إلى المدينة، كما في قصتها عند ابن إسحاق وغيره.
"وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بذي قرد صلاة الخوف، وأقام" به "يوما وليلة" يتجسس الخبر، "ورجع وقد غاب خمس ليال" مردفا سلمة وراءه على العضباء، كما في حديثه عند مسلم، وهو مخالف لما عنده عن عمران، أن امرأة أبي ذر أخذتها من العدو، وركبته ونذرت نحرها، كذا ذكره الشامي وبيض بعده، "وقسم في كل مائة من أصحابه جزورا ينحرونها" وكانوا خمسمائة، ويقال: سبعمائة، وبعث إليه سعد بن عبادة بأحمال تمر، وبعشر جزائر، فوافته بذي قرد، هذا بقية كلام ابن سعد، فيحتمل أن الجزائر المنحورة مما بعثه، ويحتمل أنها ما أخذوه من القوم.
قال الحافظ: وفي القصة من الفوائد جواز العدو الشديد في الغزو والإنذار بالصياح العالي، وتعريف الشجاع بنفسه، ليرعب خصمه واستحباب الثناء على لاشجاع ومن فيه فضيلة، لا سيما عند الصنع الجميل ليزيد منه، ومحله حيث يؤمن الافتتان انتهى، والله أعلم.(3/119)
"سرية الغمر":
سرية عكاشة بن محصن الأسدي إلى غمر ومرزوق -بالغين المعجمة المفتوحة- وهو ماء لبني أسد على ليلتين من فيد،
__________
سرية الغمر:
"سرية عكاشة" بضم العين المهملة وشد الكاف، وقد تخفف فشين معجمة، "ابن محصن" بكسر، فسكون ففتح كما مر "الأسدي"، وإضافة سرية إليه؛ لأنه أميرها عند ابن سعد.
وقال ابن عائذ: أميرها ثابت بن أقرم، ومعه عكاشة، فيمكن أنهما اشتركا، كما قد يدل عليه قوله، ومعه أو أن أحدهما أمير في الابتداء، والآخر في الانتهاء، لأمر ما "إلى غمر ومرزوق" بلفظ اسم المفعول، وفي نسخة زياة ابن، وهو وهم، فالذي عند ابن سعد، وتبعه اليعمري وغيره بدون ابن، "بالغين المعجمة المفتوحة"، وفي نسخة المكسورة، والصواب المذكور في العيون، وغيرها المفتوحة ساكن الميم بعدها راء مهملة، "وهو ماء لبني أسد، على(3/119)
في شهر ربيع الأول سنة ست من الهجرة، في أربعين رجلا، فخرج سريعا، فنذر به القوم -بكسر الذال المعجمة كفرح- فهربوا فنزلوا علياء بلادهم. فاستاقوا مائتي بعير، وقدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يلقوا كيدا.
__________
ليلتين من فيد" بفتح الفاء، وسكون التحتية ودال مهملة.
قال في القاموس: قلعة بطريق مكة سميت بفيد بن فلان، "في شهر ربيع الأول، سنة ست من الهجرة" بعد الغابة، قاله ابن سعد، ولم يبين مقدار ما بينهما، ولا اليوم الذي كانت فيه "في أربعين رجلا".
قال الواقدي: منهم ثابت وسباع بن وهب، حكاه الحاكم.
قال اليعمري: كذا وجدته، ولعله شجاع بن وهب.
وعند ابن عائذ: ولقيط بن أعصم.
"فخرج سريعا" عقب أمره صلى الله عليه وسلم دون تراخ.
زاد الواقدي: يغذ السير، كما في العيون.
قال البرهان: بضم أوله، وكسر الغين وبالذال المعجمة، أي: يسرع في السير حتى وصل إلى بلاده، "فنذر به القوم"، فهو عطف على مقدر "بكسر الذال المعجمة"، وفائدة قوله بعده "كفرح" أي: مضارعة بفتحها، "فهربوا" من مائهم، "فنزلوا عليا" بضم المهملة وسكون اللام، مقصورا على"بلادهم" فوجدوا ديارهم خلوفا بضم المعجمة واللام وتقدير مضاف، أي أصحاب ديارهم غيبا، فبعث شجاع بن وهب طليعة، فرأى أثر النعم قريبا، فتحملوا، فأصابوا رجلا منهم، فأمنوه، فدلهم على نعم لبني عم لهم، فأغاروا عليهم، "فاستاقوا مائتي بعير،" فأرسلوا الرجل، "وقدموا" بالإبل "على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يلقوا كيدا" أي حربا، ولم يصب منهم أحد، وقول ابن عائذ: أصيب فيها ثابت ليس بشيء؛ لأنه استشهد أيام الردة، قاله الشامي.(3/120)
"سرية ابن مسلمة إلى ذي القصة":
ثم سرية محمد بن مسلمة إلى ذي القصة -بالقاف والصاد المهملة المشددة المفتوحتين-
__________
سرية ابن مسلمة إلى ذي القصة:
"ثم سرية محمد بن مسلمة" الأنصاري، الصحابي، الشهير "إلى ذي القصة بالقاف، والصاد المهملة المشددة، المفتوحتين".
وحكى اليعمري إعجام الضاد، وسلمة الشامي، غير ملتفت لقول البرهان، لم أر أنا(3/120)
موضع بينه وبين المدينة أربعة وعشرون ميلا، في شهر ربيع الأول سنة ست من الهجرة، ومعه عشرة إلى بني ثعلبة.
فورد عليهم ليلا فأحدق به القوم، وهم مائة
__________
الإعجام؛ لأن من حفظ حجة، "موضع بينه وبين المدينة أربعة وعشرون ميلا" من طريق الزبدة، قاله ابن سعد وغيره، واقتصر عليه صاحبا العيون والسبل.
زاد الشريف: وقال المجد، موضع على بريد من المدينة تلقاء نجد.
وقال الأسدي: على خمسة أميال من المدينة، "في شهر ربيع الأول سنة ست من الهجرة"، الذي قاله ابن سعد، وقطع به اليعمري ربيع الآخر، وفي الشامية أول ربيع الآخر، فإن لم يكن تصحف في المصنف، أمكن الجمع، بأن الخروج في آخر الأول، والوصول إليهم في أول ربيع الآخر، "ومعه عشرة" أبو نائلة، والحارث بن أوس، وأبو عبس بن جبر، ونعمان بن عصر، ومحيصة، وحويصة ابنا مسعود، وأبو بردة بن نيار، ورجلان من مزينة، ورجل غطفاني، كذا سماهم الواقدي عن شيوخه، وفيه نظر.
فإن في القصة أنهم قتلوا كلهم، إلا الأمير وأبو عبس بن جبر البدري، مات سنة أربع وثلاثين عن سبعين سنة.
وخرج له البخاري والترمذي، والنسائي وابن عصر ذكر ابن ماكولا أنه استشهد في الردة في خلافة الصديق، وحويصة شهد أحدًا، والخندق وسائر المشاهد، وأخوه محيصة صحابي.
روى له أصحاب السنن، وأبو بردة بن نيار، مات سنة إحدى وأربعين، وقيل بعدها، "إلى بني ثعلبة" وبني عوال، قاله ابن سعد.
وفي الشامية إلى بني معوية بفتح الميم، والعين المهملة، وكسر الواو، وسكون التحتية وتاء تأنيث، وبني عوال بعين مهملة، مضمومة فواو مخففة، حي من العرب من بني عبد الله بن غطفان، وقوله: والعين، أي: وبالعين، وليس مراده أنها مفتوحة.
ففي القاموس معوية بفتح فسكون، ابن امرئ القيس بن ثعلبة، فمقتضاه أن بني عوال ليسوا من ثعلبة، وثعلبة بطن من بني ريث بفتح الراء، وإسكان التحتية ومثلثة بن غطفان، وصريحة أن بني معاوية من ثعلبة، فاقتصر عليها المصنف للشهرة، أو العظمة بالنسبة لبني عوال.
"فورد عليهم ليلا" بمن معه، فكمن لهم القوم حتى ناموا، "فأحدق به القوم، وهم مائة"، فما شعر المسلمون إلا بالنبل قد خالطهم، فوثب محمد بن مسلمة، ومع قوس، فصاح في(3/121)
رجل فتراموا بالنبل ساعة من الليل ثم حملت الأعراب عليهم بالرماح، فقتلوهم إلا محمد بن سلمة فوقع جريحا، وجردوهم من ثيابهم، فمر رجل من المسلمين بمحمد بن مسلمة فحمله حتى ورد به المدينة.
فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا عبيدة بن الجراح في ربيع الآخر في أربعين رجلا إلى مصارعهم، فأغاروا عليهم، فأعجزوهم هربا في الجبال، وأصاب رجلا واحدا فأسلم وتركه، وأخذ نعما من نعمهم فاستاقه، ورثة من متاعهم وقدم به المدينة، فخمسه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقسم ما بقي عليهم.
قال في القاموس: الرث: السقط من متا البيت، كالرثة بالكسر.
__________
أصحابه: السلاح، فوثبوا "فتراموا بالنبل ساعة من الليل، ثم حملت الأعراب عليهم بالرماح"، فقتلوا ثلاثة ثم انحاز أصحاب محمد إليه، فقتلوا من القوم رجلا، ثم حمل القوم، "فقتلوهم إلا محمد بن سلمة، فوقع جريحا" يضرب كعبه، فلا يتحرك "وجردوهم من ثيابهم" وانطلقوا، "فمر رجل من المسلمين بمحمد بن مسلمة"، فرآهم صرعى، فاسترجع، فتحرك له محمد، "فحمله حتى ورد به المدينة جريحا، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا عبيدة" عامر بن عبد الله "بن الجراح" أمين الأمة، أحد العشرة "في ربيع الآخر، في أربعين رجلا إلى مصارعهم، فأغاروا عليهم" فلم يجدوا أحدا، ووجدوا نعما وشاء فساقه، ورجع.
هكذا ذكر ابن سعد والواقدي، ومقتضاه أو صريحه، أن سبب بعث أبي عبيدة طلب ثأر المقتولين، وبذلك أفصح اليعمري، فإنه ترجم لهذه السرية، وذكر فيها كلا ابن سعد والواقدي، عقبها بقوله، ثم سرية أبي عبيدة إلى ذي القصة في شهر ربيع الآخر، وذكر أن سببها، أن بني ثعلبة وأنمارا أجمعوا أن يغيروا على سرح المدينة، وهي ترعى بهيفاء بهاء مفتوحة، وتحتية ساكنة وفاء موضع على سبعة أميال من المدينة، فبعث أبا عبيدة في أربعين حين صلوا المغرب، فمشوا ليلتهم حتى وافوا ذا القصة مع الصبح، فأغاروا عليهم، "فأعجزوهم هربا" بفتح الهاء والراء "في الجبال، وأصاب رجلا واحدا فأسلم، وتركه وأخذ نعما من نعمهم، فاستاقه.
أفاد أن النعم مذكر، وبه صرح المختار، فقال: يذكر ولا يؤنث، وجمعه أنعام يذكر ويؤنث، قال تعالى: {مِمَّا فِي بُطُونِهَا} [المؤمنون: 21] "ورثة في متاعهم، وقدم به المدينة، فخمسه رسول الله صلى الله عليه وسلم" أي: أخذ خمسه، "وقسم ما بقي" وهو الأربعة أخماس "عليهم،" قمقتضى هذا السياق من العيون، أنه بعث أبا عبيدة مرتين إلى ذي القصة، وذكر نحوه الشامي من رواية الواقدي، عن شيوخه، فقد لفق المصنف بين القصتين، الله إلا أن يكون البعث مرة، ولكن له سببان آخذ ثأر المقتولين، ودفع من أراد الإغارة على السرح، والله أعلم.
"قال في القاموس: الرث" بفتح الراء ومثلثة "السقط" الذي لا قيمة له "من متاع البيت كالرثة بالكسر" للراء، الواقع في الخبر هنا.(3/122)
"سرية زيد إلى الجموم":
ثم سرية زيد بن حارثة إلى بني سليم بالجموم -ويقال: الجمح- ناحية ببطن نخل من المدينة على أربعة أميال، في شهر ربيع الآخر سنة ست، فأصابوا امرأة من مزينة يقال لها: حليمة،
__________
سرية زيد إلى الجموم:
"ثم سرية زيد بن حارثة" أبي أسامة البدري الحب، والد الحب الخليقين للإمارة بالنص النبوي الصحابي، ابن الصحابي، والد الصحابي.
قالت عائشة: ما بعث صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة في سرية إلا أمره عليهم، ولو بقي لاستخلفه، أخرجه ابن أبي شيبة قوي عنها.
وفي البخاري عن سلمة بن الأكوع: غزوت مع النبي صلى الله عليه وسلم سبع غزوات، ومع زيد بن حارثة سبع غزوات، يؤمره علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم "إلى بني سليم" بضم المهملة، وفتح اللام وسكون التحتية، "بالجموم" بفتح الجيم، وضم الميم مخففة، "ويقال" له: "الجموح" بحاء مهملة بدل الميم الأخيرة، حكاهما مغلطاي، "ناحية ببطن نخل من المدينة على أربعة أميال،" وفي نسخة برد، وهي الموافقة لقول ابن سعد عند اليعمري وغيره، ناحية بطن نخل عن يسارها، وبطن نخل من المدينة على أربعة برد، فأما النسخة الأولى، فبينهما تفاوت كبير، فالأربعة برد ثمانية وأربعون ميلا "في" آخر يوم من "شهر ربيع الآخر،" كما يفيده تعبير المصنف بثم مع قول الشامي: إن أبا عبيدة أمير السرية قبلها، خرج ليلة السبت لليلتين بقيتا من ربيع الآخر، وغاب ليلتين، "سنة ست، فأصابوا" وجدوا "امرأة"، فأسروها "من مزينة يقال لها: حليمة".
قال البرهان: لا أعلم لها إسلاما، ولا صحبة ولا ترجمة، وليس في الصحابيات حليمة إلا المرضعة على الخلاف في إسلامها.
وذكر ابن الجوزي المرضعة وحليمة بنت عروة بن مسعود، قال: ويقال: جميلة، وأنكره عليه البرهان، وليس بمنكر، فبنت عروة، ذكرها الذهبي وسلم له في الإصابة، وأفاد أنها صحابية صغيرة، وأما جميلة بالجيم، بنت أوس المزينة.
ففي الإصابة أن ابن قانع وعبدان صحفاها بزاي ونون، وإنما هي المرئية براء فهمزة من(3/123)
فدلتهم على محلة من منازل بني سليم، فأصابوا نعما وشاء وأسرى، فكان فيهم زوج حليمة المزنية، فلما قفل زيد بما أصاب، وهب رسول الله صلى الله عليه وسلم للمزنية نفسها وزوجها.
__________
بني امرئ القيس، وتكنى أم جميل بجمين صحابية بنت صحابي انتهى، فليست هي هذه المسبية التي لم يعلم حالها، "فدلتهم على محلة" بفتح الميم، والمهملة، واللام المشددة ثم تاء تأنيث، منزل "من منازل بني سليم، فأصابوا نعما وشاء، وأسرى" أي: وجدوا جماعة منهم، فأسروهم.
فعند ابن عقبة عن ابن شهاب: فأصاب زيد نعما وشاء، وأسر جماعة من المشركين، "فكان فيهم زوج حليمة المزنية، فلما قفل" بفتح القاف والفاء، أي: رجع "زيد بما أصاب وهب رسول الله صلى الله عليه وسلم للمزنية نفسها وزوجها".
فقال بلال بن الحارث المزني في ذلك:
لعمرك ما أخنى المسول ولا ونت ... حليمة حتى راح ركبهما معا
ولم يبين المصنف كغيره عدة الإبل، والغنم والأسرى.(3/124)
"سرية زيد إلى العيص":
ثم سرية بن حارثة أيضا إلى العيص، موضع على أربع ليال من المدينة، في جمادى الأولى سنة ست، ومعه سبعون راكبا، لما بلغه صلى الله عليه وسلم أن عيرا لقريش قد أقبلت من الشام
__________
سرية زيد إلى العيص:
"ثم سرية زيد بن حارثة أيضا"، المتلو اسمه في محاريب المسلمين، "إلى العيص" بكسر العين، وإسكان التحتية فصاد مهملتين.
قال ابن الأثير: موضع قرب البحر، والصغاني عرض من أعراض المدينة، وهو بكسر العين المهلمة، وإسكان الراء وضاد معجمة، كل واد فيه شجر، كذا في النور، وكونه من أعراضها قد ينافيه قوله تبعا لابن سعد، "موضع على أربع ليال من المدينة"؛ لأن ما في هذه المسافة لا ينسب لها "في جمادى الأولى سنة ست" قاله الواقدي، وابن سعد، وجماعة "ومعه سبعون راكبا" صوابه كما قال ابن سعد وشيخه: سبعون ومائة راكب، وسلمه اليعمري، والبرهان والشامي، "لما بلغه عليه الصلاة والسلام أن عيرا لقريش قد أقبلت من الشام" ذكره الواقدي وابن سعد وغيرهما.(3/124)
يتعرض لها، فأخذها وما فيها، وأخذ يومئذ فضة كثيرة لصفوان بن أمية، وأسر منهم ناسا، منهم أبو العاصي بن الربيع، وقدم بهم المدينة، فأجارته زوجته زينب ابنة النبي صلى الله عليه وسلم، ونادت في الناس -حين صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الفجر- إني قد أجرت أبا العاصي.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما علمت بشيء من هذا، وقد أجرنا من أجرت"، ورد عليه ما أخذ منه.
__________
قال الشامي: واقتضى كلام ابن إسحاق، أن سرية من السرايا صادفت هذه العير، لا أنه صلى الله عليه وسلم أرسل السرية لأجلها، "يتعرض لها، فأخذها ما فيها، وأخذ يومئذ فضة كثيرة لصفوان بن أمية" ابن خلف بن وهب القرشي الجمحي، أسلم بعد حنين، وكان من المؤلفة، وحسن إسلامه، وهو أحد الأشراف الفصحاء الأجواد.
روى له مسلم والأربعة، مات أيام قتل عثمان: وقيل: سنة إحدى أو ثنتين وأربعين، "وأسر منهم" ممن كان في العير "ناسا منهم أبو العاصي" لقيط، أو الزبير، أو هشيم، أو مهشم، بكسر فسكون ففتح، أو بضم ففتح فتثقيل، أو ياسر.
قال الحافظ: وأظنه محرفا من قاسم، ورجح البلاذري الأول والزبير الثاني، "ابن الربيع" بن عبد العزى بن عبد شمس بن عبد مناف، وأمه هالة أخت خديجة بنت خويلد.
قال ابن إسحاق: كان من رجال مكة المعدودين تجارة ومالا وأمانة.
"وقدم بهم المدينة، فأجارته زوجته" السيدة "زينب ابنة النبي صلى الله عليه وسلم" أكبر بناته لما استجار بها، فعند ابن سعد، فاستجار أبو العاصي بزينب، فأجارته "ونادت في الناس حين صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الفجر".
قال الواقدي وابن إسحاق لما كبر المصطفى، وكبر الناس معه صرخت.
قال ابن إسحاق: من صفة النساء.
وقال الواقدي: قامت على بابها، فنادت بأعلى صوتها: أيها الناس "إني قد أجرت أبا العاصي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "زاد الواقدي وابن إسحاق: لما سلم من الصلاة، أقبل على الناس، فقال: "أيها الناس هل سمعتم ما سمعت"؟، قالوا: نعم، قال: "والذي نفس محمد بيده ما علمت بشيء من هذا" حتى سمعت ما سمعتم، المؤمنون يد واحدة، يجير عليهم أدناهم".
زاد الواقدي: "وقد أجرنا من أجارت"، فهذا خطاب منه للصحابة، وقال لزينب: "وقد أجرت من أجرت، ورد عليه" بسؤال زينب "ما أخذ" بالبناء للمفعول "منه".
قال ابن إسحاق والواقدي: ثم دخل صلى الله عليه وسلم إلى منزله، فدخلت عليه زينب، فسألته أن يرد(3/125)
وذكر ابن عقبة: أن أسره كان على يد أبي بصير بعد الحديبية.
__________
عليه ما أخذ منه، فقبل، وقال لها: "أكرمي مثواه، ولا يخلصن إليك، فإنك لا تحلين له".
وروى البيهقي بسند قوي أن زينب قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: إن أبا العاصي إن قرب فابن عم وإن بعد، فأبو ولد، وإني قد أجرته.
قال ابن إسحاق: وحدثني عبد الله بن أبي بكر، أنه صلى الله عليه وسلم بعث إلى السرية، الذين أصابوا مال أبي العاصي، فقال لهم: "إن هذا الرجل منا حيث قد علمتم، وقد أصبتم له مالا، فإن تحسنوا وتردوا عليه الذي له، فإنا نحب ذلك، وإن أبيتم فهو فيء الله الذي فاء عليكم، فأنتم أحق به"، فقالوا: يا رسول الله، بل نرده عليه حتى أن الرجل ليأت بالدلو، والرجل بالإداوة حتى ردوا عليه ماله بأسره لا يفقد منه شيئا، ثم ذهب إلى مكة فأدى إلى كل ذي مال ماله، ثم قال: هل بقي لأحد منكم عندي مال لم يأخذه؟ قالوا: لا، قال: هل أوفيت ذمتي؟ قالوا: اللهم نعم، فجزاك الله خيرا، فقد وجدناك وفيا كريما، قال: فإني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، ووالله ما منعني من الإسلام عنده إلا تخوفا أن تظنوا أني إنما أردت أن آكل أموالكم، فلما ردها الله تعالى إليكم، وفرغت منها أسلمت، ثم خرج فقدم المدينة.
وأخرج أبو أحمد الحاكم بسند صحيح عن الشعبي أن زينب هاجرت وأبو العاصي على دينه، فخرج إلى الشام في تجارة، فلما كان قرب المدينة، أراد بعض المسلمين الخروج إليه ليأخذوا ما معه ويقتلوه، فبلغ ذلك زينب، فقالت: يا رسول الله، أليس عقد المسلمين وعهدهم واحدًا؟، قال: "نعم"، قالت: فاشهد أني قد أجرت أبا العاصي، فلما رأى ذلك الصحابة خرجوا إليه بغير سلاح، فقالوا له: إنك في شرف من قريش، وأنت ابن عم رسول الله، فهل لك أن تسلم، فتغنم ما معك من أموال أهل مكة، فقال: بئسما أمرتموني به، أن أفتتح ديني بغدرة، فمضى إلى مكة، فسلمهم أموالهم، وأسلم عندهم، ثم هاجر، والجمع بينهما عسر، وقد قال في الإصابة: يمكن الجمع بين الروايتين.
"وذكر" موسى "ابن عقبة" الحافظ تبعا لشيخه الزهري كما رواه عنهما البيهقي: أن الذي أخذ هذه العير أبو جندل، وأبو بصير، و"أن أسره كان على يد أبي بصير" بفتح الموحدة، وكسر المهملة، فتحتية ساكنة فراء، ومن معه من المسلمين، لما أقاموا بالساحل، يقطعون الطريق على تجار قريش في مدة الهدنة "بعد الحديبية" وصوبه ابن القيم، واستظهره البرهان.
قال الشامي: ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم: "ولا يخلصن إليك"، أي: لا يطأك فإنك لا تحلين له؛ لأن تحريم المؤمنات على المشركين، إنما نزل بعد الحديبية انتهى، ثم الآخذ للعير على هذا القول ليس من السرايا، فإن أبا بصير ومن معه كانوا بالساحل، يقطعون الطريق على تجار قريش، ولم(3/126)
وكانت هاجرت قبله وتركته على شركه، وردها النبي صلى الله عليه وسلم بالنكاح الأول، قيل: بعد سنتين وقيل: بعد ست سنين، وقيل: قبل انقضاء العدة.
__________
يكن ذلك بأمره صلى الله عليه وسلم، فلا يشكل بأن السرايا لم تتعرض لقريش بعد الحديبية.
نعم، هو ظاهر على قول غير ابن عقبة، أنها كانت قبل الحديبية في جمادى.
وحكى الحاكم أبو أحمد: أنه أسلم قبل الحديبية بخمسة أشهر.
"وكانت هاجرت قبله، وتركته على شركه"، وذلك أنه لما أسر في بدر قبل أسره هذه المرة، وبعثت أهل مكة في فداء أسراهم، بعثت زينب في فدائه بمال، وبعثت فيه قلادة لها، كانت خديجة أدخلتا بها عليه حين بنى بها، فلما رآها صلى الله عليه وسلم رق لها رقة شديدة، وقال: "إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها، وتردوا عليها فافعلوا"، قالوا: نعم يا رسول الله، فأطلقوه، وردوا عليها الذي لها، وأخذ صلى الله عليه وسلم عليه، أو وعده، هو أو كان فيما شرط عليه في إطلاقه، أن يخلي سبيل زينب إليه، فلما ذهب إلى مكة، بعث المصطفى زيد بن حارثة وأنصاريا، فقال: "كونا ببطن يأجج حتى تمر بكما زينب فائتياني بها"، فأمرها أبو العاصي باللحوق بأبيها، فتجهزت، وهاجرت، كما أسنده ابن إسحاق عن عائشة.
قال في الروض: وفيها يقول أبو العاص لما كان بالشام تاجرًا:
ذكرت زينب لما يممت أضما ... فقلت سقيا لشخص يسكن الحرما
بنت الأمين جزاها الله صالحة ... وكل بعل سيثني بالذي علما
"وردها النبي صلى الله عليه وسلم" كما أخرجه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه، عن ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم رد على أبي العاص بنته زينب "بالنكاح الأول"، لم يحدث شيئا.
قال الترمذي: ليس بإسناده بأس، ولكن لا يعرف وجهه.
"قيل: بعد سنتين" من إسلامه الواقع في السادسة، أو السابعة، "وقيل: بعد ست سنين" من الهجرة، وقد عرفت قول الترمذي لا يعرف وهذا الحديث، فكذا هذان القولان المبنيان عليه، وإلا فابتداء السنتين من أي زمن، "وقيل: قبل انقضاء العدة"؛ لأنه لما نزل، لا هن حل لهم بعد الحديبية جعل بمنزل ابتداء إسلامها، وإن كانت أسلمت هي وأخواتها كلهن عقب البعثة، كما مر فوقف أمره إلى إنقضاء العدة، فأسلم قبلها فدام النكاح، فمعنى ردها، مكنه منها بناء على النكاح الأول؛ لأن الفرقة لم تقع، ثم لا يرد على هذا القول ما رواه ابن إسحاق، منقطع أنها لما هاجرت، راعها هبار بن الأسود بالرمح في هودجها، وهي حامل، فطرحت ما في بطنها؛ لأن هجرتها بعد بدر قبل نزول آية التحريم بمدة.(3/127)
وفي حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: ردها له بنكاح جديد سنة سبع.
__________
"وفي حديث" الترمذي، وابن ماجه من طريق حجاج بن أرطأة، عن "عمرو بن شعيب،" عن أبيه، عن جده: أن النبي صلى الله عليه وسلم "ردها" على أبي العاص "بنكاح جديد" لفظه بمهر جديد.
قال السهيلي: هذا الحديث هو الذي عليه العمل، وإن كان حديث ابن عباس أصح إسنادا ولكن لم يقل به أحد من الفقهاء فيما علمت؛ لأن الإسلام فرق بينهما، قال الله تعالى: {لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة: 10] . ا. هـ.
وقد قال الترمذي: سمعت عبد بن حميد يقول: سمعت يزيد بن عمرو، وذكر هذين الحديثين يقول: حديث ابن عباس أجود إسنادا، والعمل على حديث عمرو بن شعيب.
قال السهيلي: ومن جمعه بين الحديثين، قال: معنى حديث ابن عباس ردها على مثل النكاح الأول في الصداق والحباء، لم يحدث زيادة على ذلك من شرط ولا غيره.
"سنة سبع" أفاد انقضاء العدة؛ لأن نزول آية التحريم بعد الحديبية الواقعة في سنة ست.
وفي الصحيحين: أنه صلى الله عليه وسلم أثنى على أبي العاصي في مصاهرته خيرا، وقال: حدثني، فصدقني، ووعدني فوفاني، وأنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي وهو حامل أمامة بنت زينب من أبي العاصي، مات سنة اثنتي عشرة في خلافة الصديق، كما قاله ابن سعد، وابن إسحاق وغيرهما، وشذ من قال: سنة ثلاث عشرة، وأغرب منه قول ابن منده مات يوم اليمامة، والله تعالى أعلم.(3/128)
"سريته للطرف":
ثم سرية زيد بن حارثة أيضا إلى الطرف، ماء على ستة وثلاثين ميلا من المدينة في جمادى الآخرة سنة ست.
__________
سريته للطرف:
"ثم سرية زيد بن حارثة أيضا إلى الطرف" بفتح الطاء المهملة، وكسر الراء وبالفاء.
قال القاموس: ككتف "ماء،" أي: عين، كما في القاموس، "على ستة وثلاثين ميلا من المدينة".
زاد ابن سعد: قريب من المراض دون النخيل، براء، وضاد معجمة كسحاب.
وقال الشريف: هو بطريق العراق على خمسة وعشرين ميلا وربع من المدينة، ولا غبار على المصنف في تعبيره بثم؛ لأن التي قبلها في جمادى الأولى، وقد قال في هذه: "في جمادى الآخرة سنة ست" ولم يقل أحد أن التي قبلها كانت بعد الحديبية، إنما قال ابن عقبة ومن وافقه:(3/128)
فخرج إلى بني ثعلبة في خمسة عشر رجلا، فأصاب نعما وشاء، وهربت الأعراب، وصبح زيد بالنعم المدينة، وهي عشرون بعيرا، ولم يلق كيدا، وغاب أربع ليال.
__________
أن أخذ العير، وأسر أبي العاصي على يد أبي بصير بعد الحديبية، ولم يكن سرية، ولا هو بأمر المصطفى، ولا علمه على ذلك القول، فوهم من قال تعبيره بثم ظاهر على أن سرية عير قريش في جمادى الأولى، إما على أنها بعد الحديبية فلا، "فخرج إلى بني ثعلبة في خمسة عشر رجلا، فأصاب نعما وشاء وهربت الأعراب"؛ لأنهم خافوا أن يكون صلى الله عليه وسلم سار إليهم، وأن هؤلاء مقدمة له، كما قال الواقدي، "وصبح زيد بالنعم المدينة، وهي عشرون بعيرا" مثله في العيون، والسبل مع قولهم قبل، فأصاب نعما وشاء، فيحتمل أنه لم يسق شيئا من الغنم لمانع، أو ساقها أو بعضها مع الإبل، ثم تركها الطلب العدو إياه حين علموا ن المصطفى ليس معهم، فأعجزهم فترك الغنم لضعفها، وعدم قوتها على السير، واحتياجها لسائق على أن إصابة
الأمرين في محل العدوة، ولا يلزم منه أخذها بالفعل، فعلى بعض المتأخرين الدرك في قوله: صبح بالنعم والشاء، فإنه بمجرده لا يفيد ذلك، "ولم يلق
كيدا" حربا، و"وغاب أربع ليال"، وكان شعار المسلمين أمت أمت، وهو أمر بالموت، ومراده التفاؤل بالنصر بعد الأمر بالإماتة، مع حصول الغرض من الشعار، فإنهم جعلوا هذه الكلمة علامة بينهم يتعارفون بها، لأجل ظلمة الليل، ذكره الشامي.(3/129)
"سريته إلى حسمي":
ثم سرية، زيد أيضا إلى حسمي -بكسر المهملة- وهي وراء القرى،
__________
سريته إلى حسمي:
"ثم سرية زيدا أيضا إلى حسمي بكسر" الحاء "المهملة" وسكون المهملة، وفتح الميم مقصورا قال اليعمري: على مثال فعلى، مكسور، الأول قيده أبو علي، موضع من أرض جذام، وذكر أن الماء في الطوفان، أقام به بعد نضوبه ثمانين سنة.
وقال الجوهري: اسم أرض بالبادية، غليظة لا خير فيها، ينزلها جذام، ويقال: آخر ما نضب من ماء الطوفان حسمي، فبقيت منه بقية إلى اليوم، "وهي وراء القرى"، وفي نسخة: ذات القرى، وصوابه كما في العيون وغيرها، وراء وادي القرى، وهو بضم القاف وفتح الراء، واد كثير القرى، وليس ثم محل يقال له ذات القرى.
قال شيخنا في التقرير: ويمكن تصحي المصنف، بأنه لم يقصد المعنى العلمي، بل الإضافي بتقدير مضاف، موصوف ذات هو، وراء أرض ذات القرى، وعلى النسخة الأولى وراء(3/129)
وكانت في جمادى الآخرة سنة ست.
وسببها أنه قالوا: أقبل دحية ابن خليفة الكلبي من عند قيصر، وقد أجازه وكساه، فلقيه الهنيد في ناس من جذام بحسمي فقطعوا عليه الطريق، فسمع بذلك نفر من بني الضبيب، فاستنقذوا لدحية متاعه، وقدم دحية على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك، فبعث زيد بن حارثة
__________
وادي القرى.
"وكانت في جمادى الآخرة سنة ست،" عند ابن سعد، وقطع به اليعمري "و" غيره.
لكن قال ابن القيم: إنها كانت بعد الحديبية بلا شك، أي: لأن بعث دحية بالكتاب إلى هرقل في آخر سنة ست، بعد أن رجع من الحديبية، كما قاله الواقدي، فتكون هذه السرية سنة سبع؛ لأن "سببها أنهم" كلهم.
"قالوا: أقبل دحية" بفتح الدال وكسرها، "ابن خليفة الكلبي"، الصحابي الجليل، المتوفى في خلافة معاوية "من عند قيصر" لقب لكل من ملك الروم، واسمه هرقل، لما أرسله صلى الله عليه وسلم إليه بكتابه، يدعوه إلى الإسلام، "وقد أجازه" أي: أعطاه الجائزة، وهي كما في القاموس العطية، والتحفة واللطف، "وكساه"؛ لأنه قارب الإسلام، ولم يسلم خوفا على ملكه، فأكرم دحية.
زاد ابن إسحاق: ومعه أي دحية، تجارة له، "فلقيه الهنيد" بضم الهاء، وفتح النون وسكون التحتية، ابن عارض، وابنه عارض بن الهنيد.
وعند ابن إسحاق: عوض فيهما بدل عارض، "في ناس من جذام" بجيم مضمومة، فذال معجمة فميم، قبيلة من معد، أو اليمن، بجبال "بحسمي، فقطعوا عليه الطريق".
زاد ابن إسحاق وغيره: فأصابوا كل شيء كان معه، فلم يتركوا عليه إلا سمل ثوب.
قال البرهان: بفتح المهملة والميم، الخلق من الثياب.
"فسمع بذلك نفر من بني الضبيب" بضم الضاد المعجمة، ثم موحدتين، أولاهما مفتوحة، بينهما تحتية ساكنة.
قال ابن إسحاق: رهط رفاعة بن زيد الجذامي ممن كان أسلم، وأجاب وقدم على قومه بكتاب رسول الله يدعوهم إلى الإسلام، فاستجابوا له.
"فاستنقذوا لدحية متاعه،" وعند ابن إسحاق: فنفروا إلى الهنيد وابنه، حتى لقوهم، فاقتتلو، فاستنقذوا ما كان في يد الهنيد وابنه، فردوه على دحية، "وقدم دحية على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك،" وفي نسخة خبره زاد ابن إسحاق: واستسعاده دم الهنيد وابنه، "فبعث زيد بن حارثة(3/130)
وخمسمائة رجل، ورد معه دحية، فكان زيد يسير بالليل ويكمن بالنهار، فأقبلوا بهم حتى هجموا مع الصبح على القوم فأغاروا عليهم، فقتلوا فيهم فأوجعوا، وقتلوا الهنيد وابنه، وأغاروا على ماشيتهم ونعمهم ونسائهم. فأخذوا من النعم ألف شاة، ومائة من النساء والصبيان.
فرحل زيد بن رفاعة الجذامي في نفر من قومه، فدفع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابه الذي كان كتب له، ولقومه ليالي قدم عليه فأسلم.
__________
في خمسمائة رجل ورد معه دحية، فكان زيد يسير
بالليل، ويكمن" بضم الميم وفتحها، كما في القاموس "بالنهار" زاد ابن سعد: ومعه دليل من بني عذرة، "فأقبلوا بهم حتى هجموا مع الصبح على القوم، فأغاروا عليهم، فقتلوا فيهم، فأوجعوا،" أي: أكثروا فيهم القتل، "وقتلوا الهنيد وابنه"، زاد ابن إسحاق: ورجلا من بني خصيب، ورجلين من بني الأحنف، أي: بالنون.
وقال ابن هشام: أي: بالتحتية، "وأغاروا على ماشيتهم" هي الإبل والغنم، قاله ابن السكيت وغيره، ومشى عليه المجد، زاد بعضهم والبقر، فقوله: "ونعمهم" عطف خاص على عام، أو تفسيري؛ لأن النعم كما في القاموس الإبل والشاء، أو خاص بالإبل، "ونسائهم فأخذوا من النعم ألف شاة" لا شك أن فيه سقطا من الناسخ، أو قلم المصنف سهوا، فالذي قله ابن سعد، وتبع اليعمري وغيره من النعم ألف بعير، ومن الشاء خمسة آلاف شاة، "و" من السبي "مائة من النساء والصبيان، فرحل زيد بن رفاعة الجذامي" كذا عند ابن سعد، وهو مقلوب، فالذي عند ابن إسحاق رفاعة بن زيد.
قال اليعمري: وهو الصحيح.
قال البرهان: وكما هو الصحيح، ذكره ابن عبد البر، والذهبي وغيرهما، ولم أر أحدا ذكره في زيد إلا في هذا المكان.
قال ابن إسحاق: وفد فأسلم في هدنة الحديبية قبل خيبر، وحسن إسلامه، وأهدى للمصطفى غلاما.
وعند ابن منده: أنه قدم في عشرة من قومه.
وفي الصحيحين عن أبي هريرة في قصة خيبر: فأهدى رفاعة بن زيد لرسول الله صلى الله عليه وسلم غلاما أسود، يقال له: مدعم، "في نفر من قومه، فدفع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابه الذي كان كتبه له، ولقومه ليالي قدم عليه، فأسلم"، وذلك أنه وفد في الهدنة، فأسلم، وكتب له المصطفى كتابا هو: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب من حمد رسول الله إلى رفاعة بن زيد، إني(3/131)
وبعث صلى الله عليه وسلم عليا إلى زيد بن حارثة يأمره أن يخلي بينهم وبين حرمهم وأموالهم،
__________
بعثته إلى قومه عامة، ومن دخل فيهم يدعوهم إلى الله وإلى رسوله، فمن أقبل، ففي حزب الله وحزب رسوله، ومن أدبر فله أمان شهرين، فلما قدم على قومه أسلموا، فلم يلبث أن جاء دحية من عند قيصر، ذكره ابن إسحاق، وبسط القصة فقال: فلما سمع بنو الضبيب بما صنع زيد، ركب نفر منهم حسان بن ملة باللام، وروي بالكاف، وأنيف بن سلمة، وأبو زيد بن عمرو، فلما وقفوا على زيد بن حارثة، قال حسان: إنا قوم مسلمون، فقال: اقرأ أم الكتاب، فقرأها فقال زيد: نادوا في الجيش إن الله قد حرم علينا ثغرة القوم التي جاءوا منها إلا من ختر، وكانت أخت حسان في الأساري، فقال له زيد: خذها، فقالت امرأة: أتنطلقون ببناتكم، وتذرون أمهاتكم؟، فقال زيد لأخت حسان: اجلسي مع بنات عمك حتى يحكم الله فيكن، ونهى الجيش أن يهبطوا إلى واديهم الذي جاءوا منه، فأمسوا في أهليهم، فلما شربوا عتمتهم، ركبوا حتى صبحوا رفاعة، فقال له حسان: إنك لجالس، تحلب المعزى، ونساء جذام أسارى، قد غرها كتابك الذي جئت به، فدعا رفاعة بجمل، فشد عليه رحله، وخرج معه جماعة، فساروا ثلاث ليال، فلما دخلوا المدينة، وانتهوا إلى المسجد، دخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رآهم، آلاح لهم بيده، أن تعالوا من وراء الناس، فاستفت رفاعة المنطق، فقام رجل، فقال: يا رسول الله إن هؤلاء قوم سحرة، فرددها مرتين، أي: عندهم فصاحة لسان وبيان، فقال رفاعة: رحم الله من لم يحذنا في يومنا هذاإلا خيرا، ثم دفع كتابه إليه صلى الله علي وسلم، فقال: دونك يا رسول الله، فقال صلى الله عليه وسلم: "يا غلام اقرأه وأعلن"، فلما قرأه استخبرهم، فأخبروه الخبر، فقال صلى الله عليه وسلم: "كيف أصنع بالقتلى"، ثلاث مرار، فقال رفاعة: أنت أعلم يا رسول الله، لا نحرم عليك حلالا، ولا نحل لك حراما، فقال أبو زيد بن عمرو: أطلق لنا يا رسول الله من كان حيا، ومن قتل تحت قدمي هذه، فقال صلى الله عليه وسلم: "صدق أبو زيد اركب معهم يا علي"، فقال: إن زيد لن يطيعني، قال: "فخذ سيفي هذا"، فأعطاه سيفه، فقال: ليس لي راحلة، فحملوه على بعير وخرجوا، فإذا رسول لزيد على ناقة من إبلهم، فأنزلوه عنها فقال: يا علي ما شأني؟ قال: مالهم عرفوه فأخذوه ثم ساروا، فوجدوا الجيش بفيفاء، فأخذوا ما في أيديهم حتى كانوا ينزعون المرأة من تحت فخذ الرجل.
"وبعث صلى الله عليه وسلم عليا إلى زيد بن حارثة، يأمره أن يخلي بينهم وبين حرمهم" بضم المهملة وفتح الراء، جمع حرمة، وهي الأهل "وأموالهم".
وفي رواية، فقال علي: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن ترد على هؤلاء القوم ما كان بيدك من أسير أو سبي أو مال، فقال زيد: علامة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي: أطلب علامة، فقال علي:(3/132)
فرد عليهم.
__________
هذا سيفه، فعرفه زيد، فنزل وصاح بالناس، فاجتمعوا فقال: من كان معه شيء من سبي أو مال فليرده، فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، "فرد عليهم" كل ما أخذ لهم ثغرة القوم بضم المثلثة، وسكون المعجمة، وفتح الراء وهاء تأنيث، طريقهم، وختر بفتح المعجمة، وسكون الفوقية وبالراء غدر أي أن الله حرم التعرض لهم لإسلامهم ما لم يحصل غدر، ويحذنا بضم التحتية، وسكون الحاء المهملة، وكسر المعجمة، من أحذاه كذا أعطاه، والمعنى رحم الله من لم يتكلم في حقنا اليوم إلا بخير هذا، وظاهره أنهم كانوا يطأون الجواري بلا استبراء؛ لأن وجوبه إنما كان في سبي هوازن، والله أعلم.(3/133)
"سرية زيد أيضا إلى وادي القرى":
ثم سرية زيد أيضا إلى وادي القرى أيضا، في رجب سنة ست، فقتل من المسلمين قتلى، وارتث زيد، أي حمل من المعركة رثيثا، أي جريحا وبه رمق -وهو مبني للمجهول، قاله في القاموس.
__________
ثم سرية زيد أيضا إلى وادي القرى:
جمع قرية؛ لأن ذا الوادي كثير القرى.
قال المصباح: موضع قريب من المدينة على طريق الحاج من جهة الشام "أيضا"، يقتضي أن التي قبلها إلى وادي القرى، وقد مر قوله: إن حسمي وراء القرى، فلعله أطلق عليها ذلك لقربها منه، "في رجب سنة ست".
قال ابن إسحاق: لقي به بني فزارة، "فقتل من المسلمين قتلى" منهم رد بن مرداس، رواه ابن عائذ عن عروة، "وارتث" بضم أوله، وسكون الراء، وضم الفوقية وبمثلثة "زيد، أي حمل من المعركة، رثيثا، أي: جريح، وبه رمق وهو" أي: ارتث، "مبني للمجهول،" ففعله رث مشددا بزيادة تاء الافتعال التي هي من حروف الزيادة، فيبقى الحرف الأخير مشددا على أصله، فليس هو ارتث بكسر المثناة، وخفة المثلثة كما توهم.(3/133)
"سرية دومة الجندل":
ثم سرية عبد الرحمن بن عوف
__________
سرية دومة الجندل:
"ثم سرية عبد الرحمن بن عوف"، القرشي الزهري، أسلم قديما، ومناقبه شهيرة، مات سنة(3/133)
رضي الله عنه إلى دومة الجندل، في شعبان سنة ست.
قالوا: دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن بن عوف، فأقعده بين يديه، وعممه بيده،
__________
اثنتين وثلاثين، وقيل غير ذلك، أخرج له الجميع، "رضي الله عنه إلى دومة" بضم المهملة، وتفتح، فواو ساكنة، فميم فتاء تأنيث، ويقال: دوماء بالمد "الجندل" بفتح الجيم، وسكون النون، وفتح الدال وباللام، حصن، وقرى من طرق الشام بينها وبين دمشق خمس ليال، وبينها وبين المدية خمس عشرة، أو ست عشرة ليلة "في شعبان سنة ست" كما أرخصها ابن سعد، "قالوا: دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن بن عوف،" هذا الحديث أسنده ابن إسحاق وفي أوله زيادة لا بأس بذكرها، قال: حدثني من لا أتهم عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عمر، قال: كنت عاشر عشرة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجده، أبو بكر وعمر وعلي وعثمان وعبد الرحمن بن عوف، وابن مسعود ومعاذ وحذيفة، وأبو سعيد، إذ أقبل فتى من الأنصار فسلم، ثم جلس، فقال: يا رسول الله، أي المؤمنين أفضل؟، قال: "أحسنهم خلقا"، قال: فأي المؤمنين أكيس، قال: "أكثرهم للموت ذكرا، وأكثرهم استعداد له قبل أن ينزل به، أولئك هم الأكياس"، ثم سكت الفتى، وأقبل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "يا معشر المهاجرين خمس خصال إذا نزلن بكم، وأعوذ بالله أن تدركوهن، إنه لم تظهر الفاحشة في قوم قط، حتى يعلنوا بها الأظهر، فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا، ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين، وشدة المؤنة وجور السلطان، ولم يمنعوا الذكاء من أموالهم إلا منعوا االقطر من السماء، فلولا البهائم ما مطروا، وما نقضوا عهد الله عز وجل، وعهد رسوله إلا سلط عليهم عدو من غيرهم، فأخذوا ما كان في أيديهم، وما لم يحكم أئمتهم بكتاب الله، وتجبروا فيما أنزل الله إلا جعل بأسهم بينهم"، ثم أمر عبد الرحمن أن يتجهزوا لسرية بعثه عليها، فأصبح وقد اعتم بعمامة من كرابيس سوداء فأدناه صلى الله عليه وسلم، "فأقعده بين يديه وعممه بيده" لفظ ابن سعد.
وروى الدارقطني في الأفراد عن ابن عمر: دعا النبي صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن، فقال: "تجهز فإني باعثك في سرية من يومك هذا، أو من الغد، إن شاء الله تعالى".
قال عبد الله: فسمعت ذلك، فقلت: لأصلين مع رسول الله الغداة، فلأسمعن وصيته له، وفي حديثه عند ابن إسحاق فأدناه منه ثم نقضها، ثم عممه بها، فأرسل من خلفه أربع أصابع، أو نحوا من ذلك، ثم قال: "هكذا يا ابن عوف، فاعتم فإنه أحسن وأعرف"، ثم أمر بلالا أن يدفع إليه اللواء، فدفعه إليه فحمد الله وصلى على نفسه، ثم قال: "خذه يا ابن عوف، اغزوا جميعا في سبيل الله، فقاتلوا من كفر بالله، ولا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليدا، فهذا عهد(3/134)
وقال: "أغر، بسم الله، وفي سبيل الله، فقاتل من كفر بالله، ولا تغدر، ولا تقتل وليدا، وبعثه إلى كلب بدومة الجندل، وقال: إن استجابوا لك فتزوج، ابنة ملكهم".
فسار عبد الرحمن حتى قدم دومة الجندل، فمكث ثلاثة أيام يدعوهم إلى الإسلام، فأسلم الأصبغ بن عمرو الكلبي، وكان نصرانيا، وكان رئيسهم، وأسلم معه ناس كثير من قومه، وأقام من أقام على إعطاء الجزية.
وتزوج عبد الرحمن تماضر -بضم المثناة الفوقية، وكسر الضاد المعجمة- بنت الأصبغ، وقدم بها المدينة
__________
الله وسيرة نبيه فيكم"، فأخذ عبد الرحمن اللواء، "وقال" كما عند ابن سعد: "أغز بسم الله، وفي سبيل الله، فقاتل من كفر بالله، ولا تغدر" ثلاثي، أي: تترك الوفاء "ولا تقتل وليدا" أي: صبيا، فكان اختلاف الأمر جمعا، وإفرادا من تصرف الرواة، أو خاطبه مرة، وجميع الجيش أخرى، و"بعثه في سبعمائة، كما عند الواقدي "إلى كلب بدومة الجندل، وقال: "إن استجابوا لك" أطاعوك فأسلموا، "فتزوج ابنة ملكهم"، فسار عبد الرحمن" بجيشه، "حتى قوم دومة الجندل، فمكث ثلاثة أيام يدعوهم إلى الإسلام".
زاد الدارقطني: وقد كانوا أبو أول ما قدم أن لا يعطوا إلا السيف، "فأسلم" في اليوم الثالث "الأصبغ" بفتح الهمزة، وسكون الصد المهملة، وفتح الموحدة، وبالغين المعجمة "ابن عمرو" بن ثعلبة بن حصن بن ضمضم بن عدي بن جناب "الكلبي" القضاعي، ذكره صاحب الإصابة في القسم الثالث، فيمن أدرك النبي صلى الله عليه وسلم ولم يره، ولذا قال البرهان: لم تثبت له صحبة، "وكان نصرانيا وكان رئيسهم، وأسلم معه ناس كثير من قومه، وأقام من أقام على إعطاء الجزية، وتزوج عبد الرحمن تماضر".
قال الواقدي: وهي أول كلبية نكحها قرشي.
"بضم المثناة الفوقية، وكسر الضاد المعجمة" ومنع الصرف للعلمية، والتأنيث "بنت الأصبغ"، وقيل: بنت رباب بن الأصبغ، كما في الإصابة، "وقدم بها المدينة"، ففازت بشرف الصحبة، والمصنف تابع في هذا الذي ذكره في هذه السرية، لابن سعد، وقد أسنده عن شيخه الواقدي بسند له مرسل عن صالح بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف.
وعند الدارقطني: فكتب عبد الرحمن مع رافع بن مكيث الجهني إلى النبي صلى الله عليه وسلم يخبره، وأنه أراد أن يتزوج فيهم، فكتب إليه صلى الله عليه وسلم أن يتزوج ابنة الأصبغ، فتزوجها، وقد يمكن الجمع بين الروايتين، بأن عبد الرحمن لم يكتف بقوله أولا: "فإن استجابوا لك، فتزوج ابنة ملكهم" لاحتمال(3/135)
فولدت له أبا سلمة.
__________
أنه أراد إن أسلم الجميع، مع أنه قد بقي منه جماعة على الجزية، فكتب إليه احتياطا، "فولدت له" بعد ذلك سنة بضع وعشرين "أبا سلمة" المدني الزهري، قيل اسمه كنيته، وقيل: عبد الله، وقيل: إسماعيل التابعي الكبير الحافظ الثقة، كثير الحديث، إمام من العلماء، مات سنة أربع وتسعين، أو أربع ومائة.
روى له الجميع.
قال الواقدي: ولم تلد لعبد الرحمن غير أبي سلمة، وذكر في السبل عقب هذه سرية زيد إلى مدين، وقال: روى ابن إسحاق عن فاطمة بنت الحسين، أنه صلى الله عليه وسلم بعث زيد بن حارثة نحو مدين، ومعه ضميرة، مولى علي بن أبي طالب وأخ له، فأصاب سبيا من أهل مينا، وهي السواحل، وفيها جماع من الناس فبيعوا، ففرق بينهم، فخرج صلى الله عليه وسلم وهم يبكون، فقال: "ما لهم"؟، قيل: فرق بينهم، فقال: "لا تبيعوهم إلا جميعا".
قال ابن هشام: أراد الأمهات والأولاد.(3/136)
"سرية علي إلى بني سعد":
ثم سرية علي بن أبي طالب رضي الله عنه في شعبان سنة ست من الهجرة، ومعه مائة رجل إلى بني سعد بن بكر، لما بلغه صلى الله عليه وسلم أن لهم جمعا يريدون أن يمدوا يهود خيبر.
__________
سرية علي إلى بني سعد:
"ثم سرية علي بن أبي طالب" الهاشمي، ورجع جمع أنه أول من أسلم مات في رمضان سنة أربعين، وهو يومئذ أفضل أحياء بني آدم بالأرض بإجماع أهل السنة، وله ثلاث وستون سنة على الأرجح "رضي الله عنه في شعبان سنة ست من الهجرة، ومعه مائة رجل إلى بني سعد بن بكر،" أي: إلى حي منهم كما قال الواقدي، "لما بلغه صلى الله عليه وسلم أن لهم جميعا" مصدر، أي: أنهم ساعون في جمع الناس وليس المراد جماعة الناس؛ لأنه لو أراده لقال: إنهم اجتمعوا "يريدون أن يمدوا" بضم أوله وكسر الميم رباعي، كما قال البرهان، وتبعه الشامي أن يقووا ويعينوا "يهود خيبر".
وفي المصباح المدد بفتحتين الجيش، ومددته أعنته وقويته، وكأنما اقتصرا على الرباعي؛ لأنه أنسب بهذا المعنى دون المجرد، وإن كان متعديا أيضا كقوله: ويمدهم في طغيانهم الذي معناه يزيدهم لاستعمال الزيادة في الإمهال، وفي التقوية والإعانة، والمشترك دون المختص في(3/136)
فأغاروا عليهم بالغمج بين فدك وخيبر، فأخذوا خمسمائة بعير وألفي شاة، وهربت بنو سعد، وقدم علي ومن معه المدينة ولم يلقوا كيدا.
__________
الاستعمال هكذا كتبنا من تقرير الشيخ وهو أفيد مما في الحاشية، "فأغاروا عليهم بالغمج" بغين معجمة فميم مكسورة فجيم ماء "بين فدك" بفتح الفاء والدال المهملة وبالكاف.
قال المجد اللغوي: على يومين من المدينة، وقال عياض: يومين، وقيل: ثلاثة. وقال ابن سعد: على ست ليال من المدينة.
قال السمهودي: وأظنه الصواب لكن استبعد صحته البران وقال: إنه سأل به بعض أهل المدينة عنها، فقال بينهما يومان ذكره الشامي "وخيبر"، وفيه مسامحة فإنهم حين وصلوا المحل المذكور لم يجدوا به أحدًا منهم غير عين لهم، فعند ابن سعد وشيخه الواقدي، وسار على الليل وكمن النهار حتى انتهى إلى الغمج، فوجدوا به رجلا فقالوا: ما أنت؟ قال: باغ، أي: طالب لشيء ضل مني، فقالوا: هل كل علم بما وراءك من جميع بني سعد؟ قال: لا أعلم لي فشددوا عليه فأقر أنه عين لهم بعثوه إلى خيبر يعرض على يهودها نصرهم على أن يجعلوا لهم من تمرهم كما جعلوا لغيرهم ويقدمون عليهم، فقالوا له: فأين القوم؟ قال: تركتهم قد تجمع منهم مائتا رجل، قالوا: فسر بنا حتى تدلنا؟ قال: على أن تؤمنوني، قالوا: إن دللتنا عليهم أو على سرحهم أمناك وإلا فلا أمان لك، قال: فذاك، فخرج بهم دليلا حتى ساء ظنهم، ثم أفضى بهم إلى الأرض مستوية فإذا نعم كثيرة وشاء، فقال: هذه نعمهم وشاؤهم، فأغاروا عليها، فقال: أرسلوني، فقال: حتى نأمن الطلب وهرب الرعاء إلى جمعهم فحذرهم فتفرقوا، فقال الدليل: علام تحبسني قد تفرقت الأعراب، قال علي: حتى نبلغ معسكرهم، فانتهى بهم إليه فلم ير أحدًا فأرسلوه وساقوا النعم والشاء، "فأخذوا خمسمائة بعير وألفي شاة وهربت بنو سعد" بالظعن ورأسهم وبر بفتح الواو وسكون الموحدة وبالراء ابن عليم بضم العين المهملة، فعزل على صفي رسول الله صلى الله عليه وسلم لقوحا تدعى الحفدة، ثم عز ل الخمس وقسم سائر الغنائم على أصحابه قاله ابن سعد، والحفدة بفتح الحاء وكسر الفاء وفتح الدال المهملة وتاء تأنيث السريعة السير، "وقدم علي ومن معه المدينة ولم يلقوا كيدا"، ورد الله كيد المشركين فلم يمدوا اليهود"، ولله الحمد.(3/137)
"سرية زيد إلى أم قرفة":
ثم سرية زيد بن حارثة إلى أم قرفة
__________
سرية زيد إلى أم قرفة:
"ثم سرية زيد بن حارثة إلى أم قرفة" بكسر القاف، وسكون الراء وبالفاء وتأء تأنيث "فاطمة(3/137)
فاطمة بن ربيعة بدر الفزارية، بناحية وادي القرى، على سبع ليال من المدينة في رمضان سنة ست من الهجرة.
وكان سببها: أن زيد بن حارثة خرج في تجارة إلى الشام، ومعه بضائع لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فلما كان بوادي القرى لقيه ناس من فزارة من بني بدر، فضربوه وضربوا أصحابه، وأخذوا ما كان معهم.
وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره، فبعثه عليه الصلاة والسلام إليهم، فكمن هو وأصحابه بالنهار وساروا بالليل، ثم صحبهم زيد وأصحابه، فكبروا وأحاطوا
__________
بنت ربيعة بن بدر الفزارية" التي جرى فيها المثل أمنع من أم قرفة؛ لأنها كان يعلق في بيتها خمسون سيفا لخمسين رجلا كلهم لها محرم، كنيت بابنها قرفة قتله صلى الله عليه وسلم فيما ذكر الواقدي، وذكر أن سائر بنيها وهم تسعة قتلوا مع طليحة يوم بزاخة في الردة، وذكر أن عبد الله بن جعفر أنكر عليه ذلك، وهو الصحيح كذا في الروض، وفي الزهر الباسم أن ولدها اثنا عشر ولا منافاة، فالبنون عشرة وبنتان "بناحية وادي القرى على سبع ليال من المدينة في رمضان سنة ست من الهجرة" كما ذكر ابن سعد قائلا: "وكان سببها أن زيد بن حارثة خرج في تجارة إلى الشام، ومعه بضائع لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فلما كان بوادي القرى" لفظ ابن سعد دون وادي القرى "لقيه ناس من فزارة من بني بدر، فضربوه وضربوا أصحابه وأخذوا ما كان معهم"، وهذا ظاهر في لقيهم له في ذهابه من المدينة لا في عوده من الشام بالتجارو كما فهم الشارح، "وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره" خبره، وأما ابن إسحاق فقال: إن سببها أن زيدا لما لقي بني فزارة بوادي القرى في سريته التي قبل هذه، وأصيب ناس من أصحابه وارتث زيد من بين القتلى حلف أن لا يمس رأسه غسل من جنابة حتى يغزو بني فزارة، ويجمع بتعدد السبب بأن كون لما صح ذهب للتجارة، فنهبوه فرجع وأخبره صلى الله عليه وسلم، "فبعثه عليه الصلاة والسلام إليهم" في جيش، وقال لهم: اكمنوا النهار وسيروا الليل، "فكمن" القاموس كنصر وسمع "هو وأصحابه بالنهار وساروا بالليل"، ومعهم دليل من فزارة وعلمت بهم بنو بدر، فجعلوا لهن ناظورا ينظر قدر مسافة يوم حين يصبحون على جبل مشرف وجه الطريق الذي يرون أنهم يؤتون منه، فيقول: اسرحوا لا بأس عليكم فإذا كان العشاء أشرف على ذلك الجبل، فينظر مسيرة ليلة فيقول: ناموا لا بأس عليكم، فلما كان الصحابة على نحو ليلة أخطأ دليلهم الطريق، فسار في أخرى حتى أمسوا وهم على خطأ، فعاينوا الحاضر من بني فزارة فحمدوا خطأهم، "ثم صبحهم زيد وأصحابه، وكبروا وأحاطوا(3/138)
بالحاضر، وأخذوا أم قرفة -وكانت ملكة رئيسة- وأخذوا ابنتها جارية بنت مالك بن حذيفة بن بدر.
وعمد قيس بن المحسر إلى أم قرفة -وهي عجوز كبير- فقتلهما قتلا عنيفا، وربط بين رجليها حبل، ثم ربطها بين بعيرين ثم زجرهما، فذهبا فقطعاها.
__________
بالحاضر" أي: بمن حضر ثمة من فزارة.
قال ابن إسحاق: فقتلهم وأصاب فيهم "وأخذوا أم قرفة، وكانت ملك رئيسة"، وعند ابن إسحاق وكانت في بيت شرف من قومها كانت العرب تقول: لو كنت أعز من أم قرفة ما زدت، "وأخذوا ابنتها جارية" ظاهره أنه اسمها، وتبعه الشامي ولعلهما اطلعا على أنه اسمها فلا ينافي قول البرهان هذه البنت لا أعرف اسمها، "بنت مالك بن حذيفة بن بدر وعمد" كقصد "قيس بن المحسر" الكناني الليثي الصحابي.
قال اليعمري: بفتح السين المهملة، وقد تكسر، وقيل: بتقديم السين على الحاء، زاد في الإصابة، وقيل: ابن مسحل بكسر الميم وسكون السين وفتح الحاء المهملة بعدها لام، وكون قيس ابنه جزم به الأخباريون وصدر الإصابة بأنه قيس بن مالك بن المحسر، وقيل: بإسقاط مالك. ا. هـ.
وفي القاموس: وبطن محسر قرب المزدلفة، وكذا قيس بن المحسر الصحابي "إلى أم قرفة وهي عجوز كبيرة" زاد ابن إسحاق في رواية يونس، فأسرها وبنتها وقتل مسعدة بن حكمة بن مالك بن بدر، فأمره زيد بن حارثة، "فقتلهما قتلا عنيفا".
وفي رواية البكائي وأسرت أم قرفة، وبنتها وعبد الله بن مسعدة بالبناء للمجهول وهو الصواب؛ لأن الذي أسرهما سلمة بن الأكوع كما صرح به بعد، وما ذكر من قتل قيس لمسعدة يومئذ قول غير المتقدم: إن قائله أبو قتادة في غزوة الغابة، "وربط بين رجليها حبلا ثم ربطها بين بعيرين، ثم زجرهما فذهبا فقطعاها" صريحه أنه ربط رجليها بحبل ثم ربط فيه آخر، وجعله في البعيرين والذي في ابن إسحاق كما في العيون ربط رجليها بحبلين ثم ربطا إلى بعيرين حتى شقاها، وذكر الدولابي أن زيدا إنما قتلها كذلك لسبها رسول الله صلى الله عليه وسلم قيل: ولأنها جهزت ثلاثين راكبا من ولدها وولد ولدها، وقالت: اغزوا المدينة واقتلوا محمدا، لن قال بعضهم: أنه خبر منكر هذا، وقد التبس سبب السرية الذي هو السير للتجارة بالسرية نفسها على من زعم أن قول اليعمري كشيخه الدمياطي كذا ثبت عند ابن سعد لزيد سريتان بوادي القرى إحداهما في رجب، والآخرى في رمضان مشكل لاقتضائه أنه أرسل غازيا في المرتين لبني فزارة مع أنه إنما كان في(3/139)
وقدم زيد بن حارثة من وجهه ذلك، فقرع باب النبي صلى الله عليه وسلم، فقام إليه عريانا يجر ثوبه، حتى اعتنقه وقبله، وسأله فأخبره بما أظفره الله تعالى به.
__________
الأولى تاجرا اجتاز بهم كما دل عليه كلام ابن سعد، ففيه إطلاق السرية على الطائفة الخارجة للتجارة، ولا يختص ذلك بالخارجة للتجارة، ولا يختص ذلك بالخارجة للقتال، أو تحسس الأخبار وهو وهم فكلام ابن سعد كما علمت إنما هو في سبب غزو زيد لهم في رمضان مع أن الثلاثة مع كونهم حفاظا متقنين لم ينفردوا بأنهما سريتان لزيد بل سبقهم إلى ذلك الواقدي، وابن عائذ وابن إسحاق، وإن خالفهم في سببها ولم يذكر تاريخا، وقول الشارح لم يذكر ابن سيد الناس في رمضان إلا مجرد قدومه بالتجارة، وذكر قتل أم قرفة في رجب فيه أنه لم يذكر قدومه بالتجارة إنما نقل عن ابن سعد خروجه بالتجارة إلى قوله، فأخذوا ما كان معهم ثم قال عقبه.
وذكر ابن سعد نحو ما سبق عن ابن إسحاق في خبر أم قرفة، وقال في آخره فنقل عنه ما ذكره المصنف بقوله: "وقدم زيد بن حارثة من وجهه ذلك فقرع باب النبي صلى الله عليه وسلم، فقام إليه عريانا يجر ثوبه حتى اعتنقه وقبله وسأله، فأخبره بما ظفره الله تعالى به".
"وعند ابن إسحاق وغيره: وقدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعبد الله بن مسعدة وبابنة أم قرفة، وكان سلمة بن الأكوع هو الذي أصابها، فسألها صلى الله عليه وسلم فوهبها له فوهبها لخاله، حزن ابن أبي وهب فولدت له عبد الرحمن بن حزن، هكذا ذكر ابن إسحاق وابن سعد والواقدي، وابن عائذ وغيرهم هذه السرية، وأن أميرها زي بن حارثة، وفي صحي مسلم وأبي داود عن سلمة بن الأكوع بعث صلى الله عليه وسلم أبا بكر إلى فزارة، وخرجت معه حتى إذا صلينا الصبح أمرنا، فشننا الغارة فوردنا الماء فقتل أبو بكر، أي: جيشه من قتل ورأيت طائفة مهم الذراري، فخشيت أن يسبقوني إلى الجبل فأدركتهم ورميت بسهم بينهم وبين الجبل، فلما رأوا السهم وقفوا وفيهم امرأة وهي أم قرفة عليها قشع من أدم معها ابنتها من أحسن العرب، فجئت بهم أسوقهم إلى أبي بكر، فنفلني أبو بكر ابنتها فلم أكشف لها ثوبا، فقدمن المدينة فلقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "يا سلمة هب لي المرأة لله أبوك"، فقلت: هي لك يا رسول الله، فبعث بها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة، ففدى بها أسرى من المسلمين كانوا في أيدي المشركين.
وفي لفظ: فدى بها أسيرا كان في قريش.
قال الإمام السهيلي في الروض: وهذه الرواية أحسن وأصح من رواية ابن إسحاق أن وهبها لخاله حزن بمكة انتهى، ويقال مثله في كون أميرها الصديق.
قال الشامي: ويحتمل أنهما سريتان اتفق لسلمة فيهما ذلك، ويؤيد ذلك أن في سرية زيد أنه صلى الله عليه وسلم وهب المرأة لخاله فولدت له، وفي سرية أبي بكر أنه بعث بها إلى مكة، ففدى به أسرى
ولم أر من تعرض لتحرير ذلك انتهى، واستبعد باقتضائه تعدد أم قرفة وأن كلا لها بنت جميلة، وأن سلمة أسرهما وأن المصطفى أخذهما منه إلا أن يقال: لا تعدد لأم قرفة، وتسميتها في سرية أبي بكر وهم من بعض الرواة؛ لأن ابن سعد لم يسمها، وفيه توهيم رواية الصحيح بلا حجة، فإن تسميتها فيه من زيادة الثقة، فما في الصحيح أصح كما قال السهيلي، وتبعه البرهان.(3/140)
"قتل أبي رافع":
ثم سرية عبد الله بن عتيك لقتل أبي رافع، عبد الله -ويقال سلام- بن أبي الحقيق اليهودي، وهو الذي حزب الأحزاب يوم الخندق.
وكانت هذه السرية في شهر رمضان سنة ست، كما ذكره ابن سعد ههنا وذكر في ترجمة عبد الله بن عتيك: أنه بعثه في ذي الحجة إلى أبي
__________
قتل أبي رافع:
"ثم سرية عبد الله بن عتيك" بفتح العين المهملة وكسر الفوقية، وسكو التحتية وبالكاف، ابن قيس بن الأسود الخزرجي من بني سلمة، قال أبو عمر: شهد أحدًا وما بعدها بلا خلاف وأظنه شهد بدرًا، وزعم ابن أبي داود أنه استشهد باليمامة، وأما ابن الكلبي: فقال: شهد صفين.
وقال البغوي: بلغني أنه استشهد يوم اليمامة في خلافة أبي بكر سنة اثنتي عشرة "لقتل أبي رافع عبد الله، ويقال: سلام" بشد اللام كما جزم به في الفتح، وتبعه المصنف "ابن أبي الحقيق" بضم المهملة، وقافين بينهما تحتية مصغر، "اليهودي".
حكى البخاري القولين في اسمه ممرضا الثاني كما حكى المصنف سواء، وجزم ابن إسحاق بأن اسمه سلام وتبعه اليعمري، وأفاد في الفتح أنه اسمه الأصلي، حيث قال: الذي سماه عبد الله هو عبد الله بن أنيس كما أخرجه الحاكم في الإكليل من حديثه مطولا "وهو الذي حزب" بفتحات والزاي مشددة "الأحزاب" الطوائف على محاربة المصطفى "يوم الخندق".
وفي ابن إسحاق كما فيمن حزب الأحزاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي أولى لما قدمته ثمة عن ابن إسحاق أنه خرج وهو وحيي، وكنانة وهوذة وأبو عمار، لكن المصنف حصر التخريب فيه؛ لأنه أعان المشركين بالمال الكثير كما يأتي، فكان غيره لم يحزب "وكانت هذه السرية في شهر رمضان سنة ست كما ذكره ابن سعد ههنا" وضعا وتصريحا.
"وذكر في ترجمة عبد الله بن عتيك" أمير السرية "أنه بعثه في ذي الحجة إلى أبي(3/141)
رافع سنة خمس بعد وقعة بني قريظة، وقيل: في جمادى الآخرة سنة ثلاث.
وفي البخاري: قال الزهري: بعد قتل كعب بن الأشرف.
وأرسل معه أربعة: عبد الله بن عتيك، وعبد الله بن أنيس، وأبا قتادة
__________
رافع سنة خمس بعد وقعة بني قريظة"، ومشى عليه ابن إسحاق فذكرها بعد قريظة، "وقيل: في جمادى الآخرة سنة ثلاث" لعله اطلع عليه وإلا فالذي في الفتح، وتبعه في السبل، وقيل: في رجب سنة ثلاث، وقيل: في ذي الحجة سنة أربع.
"وفي البخاري قال الزهري:" مما وصله يعقوب بن سفيان في تاريخه عن حجاج بن أبي منيع، عن جده، عن الزهري هو، أي قتله، "بعد قتل كعب بن الأشرف" الواقع ليلة أربعة عشر من ربيع الأول سنة ثلاث، وهذا قد يقرب حكاية المصنف القول أنه في جمادى الآخرة سنة ثلاث.
قال الحافظ: وبين ابن إسحاق أن الزهري أخذ ذلك عن ابن كعب، فقال: لما قتلت الأوس كعب بن الأشرف في عداوته للنبي بعد إذنه صلى الله عليه وسلم، وتحريضه عليه استأذنته الخزرج في قتل سلام بن أبي الحقيق وهو بخيبر، فأذن لهم.
حدثني محمد بن مسلم بن شهاب، عن عبد الله بن كعب بن مالك قال: كان مما صنع الله لرسوله أن الأوس، والخزرج كانتا يتصاولان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تصاول الفحلين لا تصنع الأوس شيئا فيه عنه صلى الله عليه وسلم غناء إلا قالت الخزرج: والله لا يذهبون بهذه فضلا علينا عند رسول الله، وفي الإسلام، وإذا فعلت الخزرج شيئا قالت الأوس مثل ذلك، ولما أصابت الأوس كعب بن الأشرف في عداوته، لرسول الله صلى الله عليه وسلم قالت الخزرج: والله لا يذهبون بهذه فضلا علينا أبدا، فتذاكروا من رجل لرسول الله في العداوة كابن الأشرف، فذكروا سلام بن أبي الحقيق، فاستأذنوه صلى الله عليه وسلم في قتله، فأذن لهم، فخرج إليهم من الخزرج من بني سلمة خمسة. ا. هـ.
ويتصاولان بتحتية ففوقية فصاد مهملة مفتوحات يقال: تصاول الفحلان، إذا حمل كل منهما على الآخر، والمراد أن كلا من الأوس والخزرج كان يدفع عن المصطفى ويتفاخر بذلك.
"وأرسل معه أربعة" فصارت الجملة خمسة "عبد الله بن عتيك" بدل من الجملة المقدرة التي دل عليها السياق، لا من أربعة؛ لأنه لا يصح بعثه مع نفسه، ولا أنه غيره شاركه في الاسم؛ لأنه خلاف المنقول، ويلزم أنهم خمسة معه لا أربعة، "وعبد الله بن أنيس" بضم أوله وفتح النون وسكون التحتية، الجهني، حليف الأنصار، وفرق المنذري تبعا لابن المديني بينه وبين عبد الله الأنصاري، وجزم بأن الأنصاري، هو الذي كان في قتل أبي رافع، وجزم غير واحد بأنهما واحد، وهو جهني حالف الأنصار، قاله في الفتح، "وأبا قتادة" الحارث أو النعمان، أو عمرو بن ربعي(3/142)
والأسود بن خزاعي، ومسعود بن سنان، وأمرهم بقتله.
فذهبوا إلى خيبر،
__________
بكسر الراء وسكون الموحدة فهملة السلمي شهد أحدًا وما بعدها، ولم يصح شهوده بدرا، ومات على الأصح سنة أربع وخمسين، "والأسود بن خزاعي" بضم المعجمة وبالزاي، فألف فمهملة مكسورة فتحتية مشددة اسم علم بلفظ النسب مثل مكي.
قال في الإصابة: كذا سماه ابن عقبة عن ابن شهاب، وسماه ابن إسحاق خزاعي بن الأسود، فقال: حليف لهم من أسلم، وكذا معمر عن الزهري، واعتمد هذا في الفتح وقلبه بعضهم فقال: أسود بن خزاعي.
وفي الإكليل للحاكم ومغازي ابن عقبة أسود بن حرام، فإن كان غيره وإلا فهو تصحيف ثم وجدته في دلائل البيهقي عن ابن عقبة أسود بن خزاعي، أو أسود بن حرام بالشك، "ومسعود بن سنان" بكسر المهملة وبالنون الأنصاري، ونسبه بعضهم أسلميا، فكان أسلمي حالف بني سلمة.
قال أبو عمر: شهد أحدا، واستشهد يوم اليمامة كما في الإصابة، وقد سمي البراء بن عازب في رواية يوسف بن إسحاق عن جده عنه الأمير عبد الله بن عتيك، وقال في ناس معهم، قال الفتح: لم يذكر عبد الله بن عتبة إلا في هذا الطريق، وزعم ابن الأثير في جامع الأصول أنه ابن عنبة بكسر العين وفتح النون وهو غلط منه، فإنه خولاني لا أنصاري ومتأخر الإسلام، وهذه القصة متقدمة، والرواية بضم العين وسكون المثناة لا بالنون. ا. هـ.
وجزم الجلال البلقيني في مبهماته بأنه عبد الله بن عتبة أبو قيس الذكواني، وهو خلاف ما في الإصابة، فإنه ترجم للذكواني ثم ترجم بعده عبد الله بن عتبة الأنصاري أحد من توجه لقتل ابن أبي الحقيق، وقع ذلك في حديث البراء عند البخاري، ولم يزد على هذا فجعله غيره، وزعم الدمياطي أن صوابه عبد الله بن أنيس عجيب، ولذا لما وقع مثله لمغلطاي معللا بأنه ذكواني لا أنصاري رده بأن الصحيح ما في الصحيح لصحة سنده، وكونه ذكوانيا لا يخالف من قال: إنه من
الأنصار، لاحتمال أنه حليفهم، وفي الحديث: وحليفنا منا، وابن أنيس كان معهم وليس أنصاريا قطعا بل جهني حالفهم. ا. هـ.
"وأمرهم بقتله" زاد ابن إسحاق: ونهاهم أن يقتلوا وليدا أو امرأة، "فذهبوا إلى خيبر".
قال البخاري: كان، أي أبو رافع، بخيبر، ويقال: في حصن له بأرض الحجاز.
قال الحافظ: هو قول وقع في سياق الحديث الموصول في الباب، ويحتمل أن حصنه كان قريبا من خيبر في طرف أرض الحجاز، ووقع عند موسى بن عقبة فطرقوا باب أبي رافع(3/143)
فكمنوا، فلما هدأت الرجل جاؤوا إلى منزله فصعدوا درجة له، وقدموا عبد الله بن عتيك؛ لأنه كان يرطن باليهودية، فاستفتح وقال: جئت أبا رافع بهدية، ففتحت له امرأته، فلما رأت السلاح أرادت أن تصيح، فأشار إليها بالسيف فسكتت، فدخلوا عليه فما عرفوه إلا ببياضه، فعلوه بأسيافهم.
__________
بخيبر، فقتلوه في بيته. ا. هـ.
وقال غيره: لا منافاة؛ لأن خيبر من الحجاز، أي من قراه وهو واضح في نفسه، لكن المطلوب تعيين المحل الذي كان فيه "فكمنوا، فلما هدأت" بفتح الهمزة، أي: سكنت، "الرجل" عن الحركة.
وفي البخاري: هدأت الأصوات.
وقال السفاقسي: هدت بغير همز ولا ألف، ووجهه الدماميني بأنه خفف الهمزة المفتوحة بإبدالها ألفا مثل منساة، فالتقت هي والتاء الساكنة فحذفت الألف لالتقاء الساكنين، وهذا وإن كان على غير قياس لكنه يستأنس به دفعا للخطأ.
قال المصنف: وصوب السفاقسي الهمز، ولم أر تركه في أصل من الأصول التي رأيتها "جاؤوا إلى منزله فصعدوا درجة له".
وعند ابن إسحاق: أتوا داره وكان في عليه له إليها عجلة، أي: شبه الدرجة من جزع منقور ليصعد فيه، فاستندوا إليها حتى قاموا على بابه، "وقدموا عبد الله بن عتيك" الأمير؛ "لأنه كان يرطن" بضم الطاء، أي: يتكلم، "باليهودية" فيظنوه منهم فلا يفزعوا "فاستفتح، وقال:" لما قالت له امرأة أبي رافع: من أنت؟ "جئت أبا رافع بهدية ففتحت له امرأته" هكذا عند ابن سعد.
وفي رواية ابن إسحاق: فاستأذنوا فخرجت امرأته فقالت: من أنتم؟ قالوا: أناس من العرب نلتمس الميرة، قالت: ذاكم صاحبكم فادخلوا عليه، قال: فلما دخلنا أغقلنا عليها وعليه الحجرة تخوفا أن تكون دونه محاولة تحول بيننا وبينه، "فلما رأت السلاح أرادت أن تصيح، فأشار إليها بالسيف، فسكتت" هكذا عند ابن سعد أيضا.
وفي ابن إسحاق: فصاحت امرأته فنوهت بنا فيمكن أنهم لما دخلوا صاحت صياحا لم يسمع، ثم أرادت رفع صوتها ومداومة الصياح ليسمع الجيران، فرفعوا عليها السلاح، فسكتت، "فدخلوا عليه، فما عرفوه إلا ببياضه فعلوه بأسيافهم".
وعند ابن إسحاق: وابتدرناه وهو على فراشه بأسيافنا، والله ما يدلنا عليه في سواد الليل إلا بياضه، كأنه قبطية ملقاة بضم القاف وسكون الموحدة، وكسر الطاء المهملة، ثوب من كتان(3/144)
وفي البخاري: وكان أبو رافع يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعين عليه، وكان في حصن له, فلما دنوا منه وقد غربت الشمس، وراح الناس بسرحهم، قال عبد الله لأصحابه: اجلسوا مكانكم، فإني منطلق ومتلطف للبواب لعلي أن أدخل، فأقبل حتى دنا من الباب، ثم تقنع بثوبه كأنه يقضي حاجة، وقد دخل الناس، فهتف البواب: يا عبد الله إن كنت تريد أن تدخل فادخل، فإني أريد أن أغلق الباب،
__________
رقيق يعمل بمصر. قال: ولما صاحت بنا امرأته جعل الرجل منا يرفع عليها سيفه، ثم يذكره نهيه صلى الله عليه وسلم ولولا ذلك لفرغنا منها بليل.
"وفي البخاري" في المغازي من طريق إسرائيل عن أبي إسحاق عن البراء بن عازب قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي رافع اليهودي رجالا من الأنصار وأمر عليهم عبد الله بن عتيك، "وكان أبو رافع يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعين عليه".
ذكر ابن عائذ من طريق أبي الأسود، عن عروة أنه كان ممن أعان غطفان وغيرهم من مشركي العرب بالمال الكثير على رسول الله صلى الله عليه وسلم، "وكان في حصن" مكان لا يقدر عليه لارتفاعه "له" بأرض الحجاز كما في الرواية، ومر ما فيه "فلما دنوا" بفتح الدال والنون، قربوا "منه، وقد غربت الشمس وراح الناس بسرحهم" بفتح السين وسكون الراء وحاء مهملات، أي: رجعوا بمواشيهم التي ترعى وتسرح وهي السائمة من إبل وبقر وغنم. "قال" ولغير أبي ذر فقال "عبد الله" بن عتيك "لأصحابه: اجلسوا مكانكم فإني منطلق" إلى حصن أبي رافع "ومتلطف للبواب" أي: متخشع، أي مظهر له صورة الخاشع "لعلي أن أدخل" إلى الحصن "فأقبل حتى دنا من الباب ثم تقنع" تغطى "بثوبه" ليخفي شخصه كي لا يعرف "كأنه يقضي حاجته، وقد دخل الناس" ذكر البخاري أيضا في رواية يوسف عن أبي إسحاق عن البراء سبب تأخير غلق الباب فقال، قال: أي ابن عتيك، فتلطفت أن أدخل الحصن ففقدوا حمارا لهم، فخرجوا بقبس يطلبونه فخشيت أن أعرف فغطيت رأسي وجلست كأني أقضي حاجة "فهتف به البواب" قال الحافظ: أي ناداه، ولم أقف على اسمه "يا عبد الله".
قال الحافظ: لم يرد اسمه العلم لأنه لو كان كذلك لعرفه، والواقع أنه كان مستخفيا منه فالذي يظهر أنه أراد معناه الحقيقي، لأن الجميع عبيد الله "إن كنت تريد أن تدخل فادخل فإني أريد أن أغلق الباب".
وفي رواية يوسف بن عمر ثم نادى صاحب الباب: من أراد أن يدخل فليدخل قبل أن أغلقه، ومقتضاهما أن عادته أن لا يمنع الداخلين، ومقتضى قوله متلطف وتلطفت أن عادته منعهم، فيمكن أنها عادته إذا ارتاب في الداخل وابن عتيك لما تقنع وجلس على تلك الهيئة ظن أنه من(3/145)
فدخلت, فكمنت فلما دخل الناس أغلق الباب ثم علق الأغاليق على وتد، قال: فقمت إلى الأقاليد فأخذتها ففتحت الباب.
وكان أبو رافع يسمر عنده، وكان في علالي له، فلما ذهب عنه أهل سمره صعدت إليه، فجلعت كلما
__________
أهل الحصن وأنه من جملة من خرج لطلب الحمار الذي فقدوه "فدخلت فكمنت" بفتح الكاف والميم، أي: اختبأت هكذا في رواية إسرائيل عن جده عن البراء عند البخاري بإبهام موضع كونه. وفي رواية يوسف عن جده عن البراء عنده أيضا، فدخلت ثم اختبأت في مربط حمار عند باب الحصن، "فلما دخل الناس أغلق الباب ثم علق" بعين مهملة ولام مشددة "الأغاليق" بفتح الهمزة والغين المعجمة، جمع غلق بفتح أوله ما يغلق به، والمراد هنا المفاتيح لأنها يفتح بها ويغلق كذا في رواية أبي ذر، ولغيره بالعين المهملة وهو المفتاح بلا أسنان قاله في الفتح واللغة لم تنحصر في المصباح والقاموس والمختار فلا يتوقف في ألفاظ المروية في أصح الصحيح بأنهم لم يذكروا الأغاليق بالمعجمة ولا ذكر المصباح في معنى المهملة المفتاح "على وتد" بفتح الواو وكسر الفوقية، ولأبي ذر على ود بفتح الواو وشد الدال، أي: وتد.
وفي رواية يوسف وضع مفتاح الحصن في كوة بالفتح وقد تضم، وقيل: بالضم النافذة، وبالفتح غيرها فكأنه وضعها على وتد داخل الكوة.
"قال" ابن عتيك: "فقمت إلى الأقاليد" بالقاف جمع إقليد، أي: المفاتيح "فأخذتها ففتحت الباب".
وفي رواية يوسف: ففتحت باب الحصن.
"وكان أبو رافع يسمر" بضم أوله وسكون ثانية مبني للمفعول، أي: يتحدث "عنده" ليلا.
وفي رواية يوسف: فتعشوا عند أبي رافع، وتحدثوا حتى ذهبت ساعة من الليل.
"وكان في علالي" بفتح العين المهملة، وتخفيف اللام فألف فلام مكسورة فتحتية مشددة، جمع علية بالضم وكسر اللام مشددة، أي: غرفة "له".
وفي رواية ابن إسحاق: وكان في علية له إليها عجلة.
قال الحافظ: والعجلة بفتح المهملة والجيم، السلم من الخشب، وقيده ابن قتيبة بخشب النخل، "فلما ذهب عنه أهل سمره صعدت إليه" أفاد هذا أن محالهم داخل الحصن الذي أغلقه البواب، وبه صرح في رواية يوسف فقال: ثم رجعوا إلى بيوتهم داخل الحصن، "فجعلت(3/146)
فتحت بابا أغلقت علي من داخل، فانتهيت إليه فإذا هو في بيت مظلم وسط عياله، لا أدري أين هو من البيت، فقلت: أبا رافع، قال: من هذا؟ فأهويت نحو الصوت فأضربه ضربة بالسيف، وأنا دهش، فما أغنيت شيئا، وصاح، فخرجت من البيت، فأمكث غير بعيد، ثم دخلت إليه فقلت: ما هذا الصوت يا أبا رافع؟ فقال: لأمك الويل، إن رجلا في البيت ضربني قبل بالسيف. قال: فأضربه ضربة أثخنته ولم أقتله، ثم وضعت ضبيب السيف
__________
كلما فتحت بابا أغلق علي من داخل" قلت: إن القوم نذروا بي لم يخلصوا إليّ حتى أقتله، هذا أسقطه المصنف من البخاري في هذه الرواية.
وفي رواية يوسف: فلما هدأت الأصوات ولا أسمع خرجت ورأيت صاحب الباب حيث وضع مفتاح الحصن في كوة فأخذته، ففتحت به باب الحصن فقلت: إن نذر بي القوم انطلقت على مهل، ثم عمدت إلى أبواب بيوتهم فغلقتها عليهم من ظاهر، ثم صعدت إلى أبي رافع في سلم "فانتيهت إليه فإذا هو في بيت مظلم". زاد يوسف: قد طفئ سراجه، "وسط" أي: بين، "عياله" لا أنه وسطهم حقيقة فلا ينافي قوله "لا أدري أين هو من البيت" أي: خصوص المكان الذي هو فيه، "قلت" ولغير أبي ذر فقلت: "أبا رافع! " لأعرف موضعه، ولغير أبي ذر: يا أبا رافع، "قال: من هذا؟ فأهويت".
قال الحافظ وغيره، أي: قصدت. "نحو" صاحب "الصوت".
وفي رواية يوسف: فعمدت نحو الصوت. "فأضربه ضربة بالسيف" بلفظ المضارع مبالغة، والأصل ضربته لاستحضار صورة الحال. "وأنا" أي: الحال أني "دهش" بفتح الدال المهملة وكسر الهاء فمعجمة، صفة مشبهة، أي: حيران. ولأبي ذر: داهش، بألف بعد الدال، "فما أغنيت شيئا" أي: فلم أقتله، "وصاح" أبو رافع "فخرجت من البيت فأمكث" بهمزة قبل الميم آخره مثلثة "غير بعيد ثم دخلت عليه" كأني أغيثه وغيرت صوتي "فقلت: ما هذا الصوت يا أبا رافع" في حديث عبد الله بن أنيس عند الحاكم فقالت امرأته: يا أبا رافع هذا صوت عبد الله بن عتيك، قال: ثكلتك أمك وأين عبد الله بن عتيك؟ "قال: لأمك" خبر مبتدؤه "الويل".
قال المصنف: وهو دعاء عليه.
وقال شيخنا: أتى بالويل للتعجب.
"إن رجلا في البيت ضربني قبل بالسيف، قال: فأضربه أثخنته" بفتح الهمزة وسكون المثلثة وفتح الخاء المعجمة والنون بعدها فوقية، أي: الضربة. وفي نسخة بسكون النون، أي: بالغت في جراحته "ولم أقتله ثم" بعد أن بعدت عنه، جئت "ووضعت ضبيب السيف".(3/147)
في بطنه، حتى أخذ في ظهره فعرفت أني قد قتلته.
وفي رواية له: ثم جئت كأني أغيثه فقلت: ما لك يا أبا رافع؟ وغيرت الصوت فقال: لأمك الويل، دخل علي رجل فضربني، فعمدت إليه أخرى فأضربه، فلم تغن شيئا، فصاح وقام أهله، قال: ثم جئت وغيرت صوتي، كهيئة المغيث
__________
قال الحافظ: بضاد معجمة مفتوحة وموحدتين وزن رغيف.
قال الخطابي: هكذا يروى وما أراه محفوظا، وإنما هو ظبة السيف وهو حده، ويجمع على ظبات قال: وضبيب لا معنى له هنا لأنه سيلان الدم من الفم.
وقال عياض: هو في رواية أبي ذر بالصاد المهملة، وكذا ذكره الحربي، وقال: أظنه طرفه.
وفي رواية غير أبي ذر بالمعجمة وهو حد السيف انتهى.
وقول الخطابي لا معنى له مردود.
ففي القاموس: ضبيب السيف بالمعجمة حده، وسبقه عياض لمثله كما ترى.
"في بطنه" وصدر المصنف بظبة، وقال: بضم الظاء، المشالة المعجمة وفتح الموحدة المخففة فهاء تأنيث كما في الفروع وأصله.
قال في المحكم: الظبة حد سيف وسنان ونصل وخنجر وما أشبه ذلك، والجمع ظبات وظُبون وظِبون، أي: بالضم والكسر، وظبي، أي: كمدي، "حتى أخذ،" أي: دخل، "في ظهره فعرفت أن قد قتلته" وهذا صريح في أن فاعل ذلك كله ابن عتيك، وهو الصواب كما يأتي.
"وفي رواية له" للبخاري أيضا من طريق يوسف عن أبي إسحاق عن البراء، فذكر الحديث بنحو السابق وقد بينا زياداته إلى أن قال: ثم صعدت إلى أبي رافع في سلم فإذا البيت مظلم قد طفئ سراجه فلم أدر أين الرجل، فقلت: يا أبا رافع! قال: من هذا؟ قال: فعمدت نحو الصوت فأضربه وصاح فلم تغن شيئا.
قال "ثم جئت كأني أغيثه" بهمزة مضمومة فغين معجمة مكسورة ومثلثة، من الإغاثة "فقلت: ما لك" بفتح اللام، أي: ما شأنك "أبا رافع؟ وغيرت الصوت فقال: لأمك الويل دخل علي رجل فضربني" بالسيف "فعمدت" بفتحتين، قصدت "إليه أخرى فأضربه فلم تغن" تنفع الضربة "شيئا فصاح وقام أهله".
وفي رواية ابن إسحاق: فصاحت امرأته فنوهت بنا فجعلنا نرفع السيف عليها ثم نذكر نهييه صلى الله عليه وسلم فنكف عنها، ولولا ذلك لفرغنا منها بليل، "ثم جئت وغيرت صوتي كهيئة المغيث،(3/148)
فإذا هو مستلق على ظهره، فأضع السيف في بطنه، ثم أنكفئ عليه، فسمعت صوت العظم.
فجعلت أفتح الأبواب حتى انتهيت إلى درجة له، فوضعت رجلي وأنا أرى أني قد انتهيت إلى الأرض، فوقعت في ليلة مقمرة فانكسرت ساقي، فعصبتها بعمامة، فلما صاح الديك قام الناعي على السور
__________
وإذا" بالواو، وفي رواية بالفاء، "هو مستلق على ظهره فأضع السيف في بطنه، ثم أنكفئ" بفتح الهمزة وسكون النون، أي: أنقلب، "عليه حتى سمعت صوت العظم" وصريح هذه الرواية أنه لما ضربه الثانية بعد عنه ثم رجع فوضع فيه السيف، وظاهر التي قبلها أنه لما رأى ضربته الأولى لم تفد وضع السيف فيه، فيحتمل تلك على هذه جمعا بينهما، لأن الروايات يفسر بعضها بعضا، ثم عاد المؤلف لتتميم الرواية الأولى دون بيان فقال عقب قوله فيها: فعرفت أني قتلته.
"فجعلت أفتح الأبواب" بابا بابا هكذا في الرواية، "حتى انتهيت إلى درجة له فوضعت رجلي" قال المصنف بالإفراد، "وأنا أرى" بضم الهمزة، أظن "أني قد انتهيت إلى الأرض" لأنه كان سيئ أي: ضعيف البصر، كما عند ابن إسحاق: "فوقعت في ليلة مقمرة فانكسرت ساقي فعصبتها" بخفة الصاد "بعمامة".
وفي رواية يوسف عقب قوله: صوت العظم ثم خرجت دهشا حتى أتيت السلم أريد أن أنزل فأسقط منه فانخلعت رجلي فعصبتها.
قال الحافظ: ويجمع بينهما بأنها انخلعت من المفصل وانكسرت الساق.
وقال الداودي: هذا اختلاف، وقد يتجوز في التعبير بأحدهما عن الآخر، لأن الخلع هو زوال المفصل من غير بينونة، أي بخلاف الكسر.
قال الحافظ: والجمع بينهما بالحمل على وقوعهما معا أولى، ووقع في رواية ابن إسحاق: فوثبت يده وهو وهم، والصواب رجله، وإن كان محفوظا، فوقع جميع ذلك.
وذكر ابن إسحاق، أنهم كمنوا في نهر، وأن اليهود أوقدوا النيران، وذهبوا في كل وجه، يطلبون حتى إذا يئسوا رجعوا إليه، وهو يقضي انتهى، وأسقط المصنف من هذه الرواية عقب بعمامة، ثم انطلقت حتى جلست على الباب، فقلت: لا أخرج الليلة حتى أعلم أقتلته، "فلما صاح الديك قام الناعي" وفي رواية يوسف: فلما كان في وجه الصبح، صعد الناعية "على السور،" فقال: أنعي أبا رافع تاجر أهل الحجاز، كما في رواية إسرائيل هذه، وكذا في رواية أخيه يوسف.
قال الحافظ: كذا ثبت أنعي بفتح الين في الروايات.(3/149)
فانطلقت إلى أصحابي فقلت: النجاء، فقد قتل الله أبا رافع.
فانتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فحدثته فقال: "ابسط رجلك". فمسحها، فكأنما لم أشتكها قط
__________
قال ابن التين: هي لغة، والمعروف أنعو، والنعي خبر الموت، وذكر الأصمعي أن العرب كانوا إذا مات فيهم الكبير، ركب راكب فرسا، وسار فقال: أنعي فلانا انتهى.
وعند ابن إسحاق قال: فقلنا: كيف لنا بأن نعلم أن عدو الله قد مات، فقال: رجل منا قال الواقدي: هو الأسود بن خزاعي، أنا أذهب فأنظر حتى دخل في الناس، فوجدتها، أي امرأته، ورجال يهود حوله، وفي يده المصباح، تنظر في وجهه، وتحدثهم، وتقول: أما والله لقد سمعت صوت ابن عتيك، ثم كذبت نفسي، وقلت: أتى ابن عتيك بهذه البلاد، ثم نظرت في وجهه، وقالت فاظ وإله يهود، فما سمعت من كلمة، كانت ألذ في نفسي منها، ثم جاءنا فأخبرنا الخبر، وفاظ بفاء، فألف فمعجمة مشالة: مات.
"فانطلقت إلى أصحابي، فقلت النجاء" قال الحافظ: بالنصب، أي أسرعوا، وقال المصنف: مهموز ممدود منصوب مفعول مطلق، والمد أشهر، إذا أفرد، فإن كرر قصر، أي: أسرعوا، "فقد قتل الله أبا رافع".
وفي رواية يوسف عقب قوله: فعصبتها، ثم أتيت أصحابي أحجل، فقلت: انطلقوا، فبشروا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإني لا أبرح حتى أسمع الناعية، فلما كان وجه الصبح، صعد الناعية، فقال: أنعي أبا رافع، فقمت أمشي ما بي قلبة، فأدركت أصحابي قبل أن يأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فبشرته، وهذ ظاهره التعرض مع قوله "فانتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فحدثته" بما وقع، فقال: "ابسط رجلك" , أسقط المصنف قوله: فبسطت رجلي، "فمسحها" بيده المباركة، "فكأنما" بما زائدة في رواية أبي الوقت، وأبي ذر ولغيرهما، فكأنها بالهاء، أي فكأن رجلي "لم أشتكها قط"، أي: لم أشتك منها، فحذف الجار، فهذا مخالف لقوله: ما بي قلبة بفتح القاف واللام والموحدة، أي علة أنقلب بها.
قال الحافظ: فيحمل على أنه، لما سقط من الدرجة، وقع له جميع ما تقدم، لكنه من شدة ما كان فيه من الاهتمام بالأمر، ما أحس بالألم، وأعين على المشي أولا، وعليه يدل قوله: ما بي قلبة، ثم لما تمادى عليه المشي، أحس بالألم، فحمله أصحابه، كما وقع في رواية ابن إسحاق، ثم لما أتاه صلى الله عليه وسلم فزال عنه جميع الألم ببركته.
وفي حديث عبد الله بن أنيس عند الحاكم: وتوجهنا من خيبر، فكنا نكمن النهار، ونسير الليل، وإذا كمنا، أقعدنا منا واحدًا يحرسنا، فإذا رأى ما يخافه، أشار إلينا، فلما قربنا من المدينة(3/150)
هذا لفظ رواية البخاري.
وفي رواية محمد بن سعد: أن الذي قتله عبد الله بن أنيس: والصواب: أن الذي دخل عليه وقتله عبد الله بن عتيك وحده، كما في البخاري.
__________
كانت نوبتي، فأشرت إليهم فخرجوا سراعا، ثم لحقتهم، فدخلنا المدينة، فقالوا: ماذا رأيت؟ قلت: ما رأيت شيئا ولكن خشيت أن تكونوا عييتم أن يحملكم الفزع.
وروى ابن منده عند عتيك، قال: قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمن قتل ابن أبي الحقيق، وهو على المنبر فلما رآنا قال: "أفلحت الوجوه".
وفي هذا الحديث من الفوائد جواز اغتيال المشرك الذي بلغته الدعوة، وأصر، وقتل من أعان عليه صلى الله عليه وسلم، بيده أو ماله، أو لسانه، وجواز التجسس على أهل الحرب، وتطلب غرتهم والأخذ بالشدة في محاربتهم، وإيهام القول للمصلحة، وتعرض القليل من المسلمين لكثير من المشركين، والحكم بالدليل والعلامة لاستدلال ابن عتيك على أبي رافع بصوته، واعتماده على صوت الناعي بموته.
"هذا لفظ" مقصوده من "رواية البخاري" وإلا فقد علمت أنه أسقط منه ألفاظا، "و" وقع "في رواية محمد بن سعد"، الحافظ المشهور، "أن الذي قتل عبد الله بن أنيس" وكذا وقع في رواية ابن إسحاق عن الزهري، عن عبد الله بن كعب بن مالك، مرسلا فلما ضربناه بأسيافنا، تحامل عليه عبد الله بن أنيس في بطنه، حتى أنفذه وهو يقول: قطني قطني أي حسبي حسبي الحديث, وفي فقدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبرناه بقتل عدو الله، واختلفنا عنده في قتله كلنا يدعيه فقال صلى الله عليه وسلم: "هاتوا أسيافكم". فجئناه به، فنظر إليها فقال لسيف عبد الله بن أنيس: "هذا قتله أرى فيه أثر الطعام"، ومعلوم أن المرسل لا يعادل الصحيح المسند.
"و" لذا كان "الصواب أن الذي دخل عليه وقتله عبد الله بن عتيك وحده، كما في البخاري".
وعند ابن إسحاق، فقال حسن يذكر قتله، وقتل كعب بن الأشرف:
لله در عصابة لاقيتهم ... يابن الحقيق وأنت يابن الأشرف
يسرون بالبيض الخفاف إليكم ... مرحا كأسد في عرين معرف
حتى أتوكم في محل بلادكم ... فسقوكم حتفا ببيض ذفف
مستنصرين لنصر دين نبيهم ... مستصغرين لكل أمر مجحف(3/151)
"سرية ابن رواحة":
ثم سرية عبد الله بن رواحة رضي الله عنه إلى أُسَيْر بن رزام اليهودي بخيبر في شوال سنة ست.
وكان سببها أنه لما قتل أبو رافع سلام بن أبي الحقيق، أمرت يهود عليها أسيرا، فسار في غطفان وغيرهم
__________
سرية ابن رواحة:
"ثم سرية عبد الله بن رواحة" بن ثعلبة بن امرئ القيس، الأنصاري، الخزرجي، الشاعر، أحد السابقين, البدري، استشهد بمؤتة، وكان ثالث الأمراء بها في جمادى الأولى سنة ثمان.
روى له النسائي، وابن ماجه، وأبو داود في الناسخ. "رضي الله عنه إلى أسير" بضم الهمزة، وفتح السين المهملة، وسكون التحتية وبالراء، كذا يقول ابن سعد وغيره، كابن إسحاق يقول: يسير بضم التحتية، وفتح السين المهملة "ابن رزام" براء مكسورة، فزاي مخففة، فألف فميم، "اليهودي بخيبر في شوال سنة ست"، كما قاله ابن سعد، وجزم به اليعمري، فاقتفاه المصنف، فهو صريح في أنه قبل فتح خيبر، لأنه إما في آخر سنة ست، أو في المحرم سنة سبع، كما يأتي.
وذكر البيهقي، وتبعه في زاد المعاد هذه السرية بعد خيبر.
قال البرهان: وهو الذي يظهر، فإنهم قالوا له، إنه صلى الله عليه وسلم بعثنا إليك ليستعملك على خيبر، وهذا لا يناسب أنها كانت قبل فتحها.
وقال الشامي: كونها قبل خيبر أظهر لما في القصة، أنه سار في غطفان وغيرهم لحربه صلى الله عليه وسلم بموافقة يهود، وذلك قبل فتح خيبر قطعا إذ لم يصدر من يهود بعد فتحها شيء من ذلك، وقول الصحابة: بعثنا إليك ليستعملك، لا ينافي ذلك لأن مرادهم باستعماله المصالحة، وترك القتال والاتفاق على أمر يحصل به ذلك، "وكان سببها أنه لما قتل" بالبناء للمفعول، ونائبه "أبو رافع سلام بن أبي الحقيق"، بدل من أبو رافع، كما هو ظاهر "أمرت" بفتح أوله، والميم المشددة، والراء وسكون التاء "يهود عليها أسيرا" أي: جعلته أميرا عليها فقام فيهم، فقال: والله ما سار محمد إلى أحد من يهود، ولا بعث أحدًا من أصحابه إلا أصاب منهم ما أراد، ولكني أصنع ما لم يصنع أصحابي، فقالوا: وما عسيت أن تصنع؟ قال: أسير في غطفان فأجمعهم ونسير إلى محمد في عقر داره بفتح العين، وضمها وسكون القاف، أي: أصلها فإنه لم يغز أحد في عقر داره إلا أدرك منه عدوه بعض ما يريد، قالوا: نعم ما رأيت، "فسار في غطفان وغيرهم(3/152)
يجمعهم لحربه صلى الله عليه وسلم.
وبلغه ذلك فوجه عبد الله بن رواحة في ثلاثة نفر، في شهر رمضان سرا، فسأل عن خبره وغرته، فأخبر بذلك، فقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره.
فندب عليه الصلاة والسلام الناس، فانتدب له ثلاثون رجلا، فبعث عليهم عبد الله بن رواحة، فقدموا عليه فقالوا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثنا إليك لتخرج إليه، يستعملك على خيبر ويحسن إليك، فطمع في ذلك فخرج وخرج معه ثلاثون رجلا من اليهود مع رجل رديف من المسلمين، حتى إذا كانوا بقرقرة ضربه عبد الله بن أنيس وكان في السرية
__________
يجمعهم لحربه صلى الله عليه وسلم وبلغه" صلى الله عليه وسلم "ذلك، فوجه عبد الله بن رواحة في ثلاثة نفر، في شهر رمضان سرا" ليستكشف له الخبر، "فسأل عن خبره وغرته" بكسر الغين المعجمة، وشد الراء مفتوحة، الغفلة، "فأخبر بذلك"، وذلك أنه أتى ناحية خيبر، فدخل في الحوائط، وفرق الثلاثة في ثلاثة من حصونها، فوعوا ما سمعوا من أسير وغيره، ثم خرجوا بعد ثلاثة أيام، "فقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم" لليال بقين من رمضان، "فأخبره" بكل ما رآه، وسمع وقدم عليه أيضا خارجه بن حسيل بمهملتين مصغر، فاستخبره صلى الله عليه وسلم ما وراءه، فقال: تركت أسير بن رزام يسير إليك في كتائب يهود.
قال الشامي: ولم أر خارجة في كتب الصحابة، "فندب عليه الصلاة والسلام الناس، فانتدب له ثلاثون رجلا فبعث عليهم عبد الله بن رواحة، فقدموا عليه".
زاد ابن سعد: فقالوا: نحن آمنون حتى نعرض عليك ما جئنا له؟ قال: نعم، ولي منكم مثل ذلك، فقالوا: نعم، "فقالوا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثنا إليك، لتخرج إليه، يستعملك على خيبر، ويحسن إليك، فطمع في ذلك،" فشاور يهود، فخالفوه في الخروج، وقالوا: ما كان محمد يستعمل رجلا ن بني إسرائيل، قال: بلى قد مللنا الحرب، "وخرج" وعند ابن إسحاق: فلما قدموا عليه كلموه، وقربوا له، وقالوا: إنك إن قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم استعملك وأكرمك، فلم يزالوا به حتى خرج معهم، "وخرج معه ثلاثون رجلا من اليهود مع كل رجل رديف من المسلمين" ظاهره أن المسلمين خرجوا مشاة، حتى أردفتهم اليهود.
وعند ابن إسحاق فحمله، أي أسيرا عبد الله بن أنيس على بعيره، "حتى إذا كانوا بقرقرة" بفتح القافين، بعد كل راء، الأولى، ساكنة والثانية مفتوحة فهاء تأنيث. قال ابن إسحاق على ستة أميال من خيبر، "ضربه عبد الله بن أنيس" حين فطن لغدره، "وكان في السرية" مردفا أسيرا، ولفظ ابن إسحاق: حتى إذا كانوا بالقرقرة من خيبر على ستة أميال، ندم أسير على مسيره إلى(3/153)
بالسيف فسقط عن بعيره ومالوا على أصحابه فقتلوهم غير رجل ولم يصب من المسلمين أحد، ثم قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "قد نجاكم الهل من القوم الظالمين".
__________
رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففطن له عبد الله بن أنيس، وهو يريد السيف، فاقتحم به، ثم ضربه بالسيف، فقطع رجله وضربه أسير بمخرش في يده من شوحط، فأمه، وعند ابن سعد: وأهوى أسير بيده إلى سيفي، ففطنت له، فدفعت بعيري، وقلت: غدرا أي عدو الله! مرتين، فنزلت، فسقت بالقوم حتى انفرد لي أسير، فضربته "بالسيف" فأندرت عامة فخذه، وساقه، "فسقط عن بعيره" إضافة إليه لركوبه عليه، وإن كان لابن أنيس، وقوله: أهوى إليّ سيفي، يقتضي أنه كان رديفه، كما هو الواقع في رواية ابن أسحاق، ودفعه البعير بمعنى اقتحامه به لئلا يعينه أصحابه، كما أفاده قوله: فنزلت وسقت ... إلخ، فلا تخالف بين الروايتين كما زعم، ومخرش بكسر الميم، فسكون الخاء المعجمة، فراء مفتوحة فشين معجمة، من شوحط بمعجمة، فواو، ساكنة فحاء مفتوحة فطاء مهملتين، من شجر الجبال، يتخذ منه القسي، "ومالوا على أصحابه، فقتلوهم" لفظ ابن سعد.
وعند ابن إسحاق: ومال كل واحد من أصحابه صلى الله عليه وسلم إلى صاحبه من يهود، فقتله "غير رجل،" واحد أعجزنا شدا قاله ابن سعد، أي جريا، وقال ابن إسحاق: إلا رجلا واحدًا أفلت على رجليه، "ولم يصب من المسلمين أحد" ولله الحمد، ثم بهذا الذي سقناه من عند ابن سعد وابن إسحاق علم وجه قتلهم لهم بعد التأمين، لكونهم غدروا وما كان ينبغي للمصنف إسقاطه لإيهامه "ثم قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم".
زاد في رواية: فبينا هو يحدث أصحابه إذ قالوا: تمشوا بنا إلى الثنية لنبحث عن أصحابنا، فخرجوا معه، فلما أشرفوا عليها إذا هم بسرعان أصحابنا، فجلس صلى الله عليه وسلم في أصحابه فانتهينا إليه، فحدثناه الحديث، فقال: "قد نجاكم الله من القوم الظالمين" , وعند ابن عائذ وابن إسحاق: وتفل صلى الله عليه وسلم على شجة عبد الله بن أنيس، فلم تفلح، ولم تؤذه حتى مات، زاد في رواية: وقد كان العظم نغل بنون ومعجمة مكسورة ولام، فسد ومسح وجهي، ودعا لي، وقطع لي قطعة من عصاه، فقال: "أمسك هذه معك، علامة بيني وبينك يوم القيامة، أعرفك بها، فإنك تأتي يوم القيامة متحصرا"، فلما دفن عبد الله، جعلت معه على جلده دون ثيابه، ومر له مثل ذلك لما جاء برأس الهذلي، قيل: فيحتمل أن هذا وهم من بعض الرواة، وأنه لا مانع من تكرار إعطائه عصاه، وأنه جعل الصعوين بين جلده وكفنه والشارع، إذا خص بعض صحبه بشيء، لا يسأل لِمَ لَمْ يفعله مع بقية الصحابة، والله أعلم.(3/154)
"قصة عكل وعرينة":
سرية كرز بن جابر الفهري -بضم الكاف وسكون الراء بعدها زاي- ابن جابر الفهري، إلى العرنيين -بضم العين وفتح الراء المهملتين- حي من قضاعة، وحي من بجيلة، والمراد هنا الثاني، كذا ذكره ابن عقبة في المغازي.
وذكر ابن إسحاق في المغازي: أن قدومهم كان بعد غزوة ذي قرد، وكانت في جمادى الآخرة سنة ست.
وذكرها البخاري بعد الحديبية، وكانت في ذي القعدة منها.
وعند الواقدي: في شوال منها
__________
قصة عكل وعرينة:
"سرية كرز بن جابر" القرشي "الفهري" بكسر الفاء نسبة إلى جده فهر بن مالك بن النضر، أحد الرؤساء من قريش، المستشهد يوم الفتح، وهو "بضم الكاف، وسكون الراء، بعدها زاي إلى العرنيين، بضم العين، وفتح الراء المهملتين" نسبة إلى عرينة، "حي من قضاعة وحي من بجيلة" بفتح الموحدة، وكسر الجيم وسكون التحتية، "والمراد هنا الثاني، كذا ذكره" أي كونهم من بجيلة، موسى "ابن عقبة في المغازي" وكذا رواه الطبراني عن أنس، ولعبد الرازق عن أبي هريرة، بإسناد ساقط، أنهم من بني فزارة، وهو غلط؛ لأن بني فزارة من مضر، لا يجتمعون مع عكل، ولا مع عرينة أصلا، ذكره الحافظ متصلا بقوله.
"وذكر ابن إسحاق في المغازي" فليس كلامه مقابلا، كما قد يتوهمه غبي من المصنف، بل مستأنف لإفادة "أن قدومهم كان بعد غزوة ذي قرد، وكانت" ذو قرد عند ابن إسحاق في رواية البكائي "في جمادى الآخرة سنة ست"، فتكون هذه السرية عنده فيه لقوله فأتى بهم كرز، مرجع المصطفى من ذي قرد، وأما كون ذي قرد في ربيع، فهو قول ابن سعد، فلا يحصل عليه كلام ابن إسحاق، لأنه قائل بغيره.
قال الحافظ: وأشار بعض أهل المغازي إلى أن قصة العرنيين متحدة مع غزوة ذي قرد، والراجح خلافه "وذكرها" أي: سرية العرنيين، "البخاري" وضعا "بعد الحديبية" وقبل خيبر، "وكانت" الحديبية "في" هلال "ذي القعدة منها"، أي: سنة ست، والبعدية صادقة، ببقية السنة، وبمحرم سنة سبع، لأنه سار إلى خيبر فيه.
"وعند الواقدي" محمد بن عمر بن واقد، "كانت" هذه السرية "في شوال منها" من سنة(3/155)
وتبعه ابن سعد وابن حبان.
وفي البخاري -في كتاب المغازي- عن أنس أن ناسا من عكل -يعني بضم العين وسكون الكاف- وعرينة قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وتكلموا بالإسلام، فقالوا
__________
ست "وتبعه" تلميذه "ابن سعد وابن حبان" وغيرهما، وزعم أن ضمير كانت للحديبية خلاف المنقول عن الواقدي وتابعيه، فالحاصل أن أصحاب المغازي اتفقوا على أنها سنة ست، واختلفوا في الشهر: جمادى أو شوال، وأما البخاري، فصنيعه يقتضي أنها في آخر الحجة، أو المحرم، ولا يشكل بأن المصطفى عاد من الحديبية في أواخر ذي الحجة، فلم يكن بالمدينة والسرية، خرجت وعادت، وهو بها كما زعم، لأنه لما عاد في أواخر الحجة، بعثها لما جاءه الخبر أول النهار، وعادت إليه لما ارتفع النهار، كما في حديث أنس عند البخاري ومسلم، لأن المحل قريب، فسارت وعادت في بعض يوم.
"وفي البخاري في كتاب المغازي" والطهارة، والمحاربين، والجهاد، والتفسير، والديات من طرق عديدة، لكنه اختار المغازي، لأن سعيد بن أبي عروبة راويه، عن قتادة، "عن أنس" لم يشك، بل قال: "إن ناسا من عكل بضم العين" المهملة، "وسكون الكاف" فلام قبيلة من تيم الرباب، "وعرينة" بواو العطف، وللبخاري في الزكاة من عرينة فقط، وله في الجهاد والمحاربين من عكل فقط، وله في الطهارة من عكل أو عرينة بالشك.
قال الحافظ: والصواب بالواو العاطفة، ويؤيده ما رواه أبو عوانة، عن أنس قال: كانوا أربعة من عرينة، وثلاثة من عكل، ولا يخالفه ما للبخاري في الجهاد، والديات عن أنس، أن ناسا من عكل ثمانية، لاحتمال أن الثامن من غير القبيلتين، وكان من أتباعهم، فلم ينسب. انتهى.
قال شيخنا: لما قرأ البخاري، وهو جواب تام بالنسبة إلى العدو، ليس بتام بالنسبة لرواية عكل، ولم يقل: عرينة، ورواية عرينة ولم يقل: عكل، فإما أنه اكتفى بذكر إحدى القبيلتين عن الأخرى، أو تجوز بإحداهما إلى ما يشمل الأخرى، قلت: الحافظ أشار بقوله الصواب، رواية واو العطف إلى أن روايتي النقص نقص في السماع، فتقدم رواية من زاد، لأن معه زيادة علم، وهو ثقة زيادة مقبولة.
"قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم" وللبخاري في المحاربين، فأسلموا، وله في الديات، فبايعوه على الإسلام، فكأنهم لم يثبتوا عليه، نزله هنا منزلة العدم، فقال: "وتكلموا بالإسلام".
قال المصنف: أي تلفظوا بكلمة التوحيد، وأظهروا الإسلام.
"فقالوا": بالفاء، كما رأيته في نسخ البخاري، ونقله عنه في الفتح، والمصنف في الطهارة بالفاء، وكذا في نسخ المواهب الصحيحة، فما في بعضها بالواو تحريف، وليست على فرض(3/156)
يا نبي الله، إنا كنا أهل ضرع، ولم نكن أهل رديف، واستوخموا المدينة، فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بذود وراعي
__________
صحتها للتفسير، بل استئنافية، لأن تلفظهم بالتوحيد غير قولهم: "يا نبي الله إن كنا أهل ضرع" بفتح المعجمة وسكون الراء، ماشية وإبل، قال المصنف, "ولم نكن أهل رديف، واستوخموا المدينة" أي: كرهوا الإقامة بها، لما فيها من الوخم، أو لم يوافقهم طعامها.
وفي الطهارة والجهاد: فاجتووا المدينة بجيم وواوين.
قال ابن العربي: وهو بمعنى استوخموا.
وقال غيره: الجواء داء يصيب الجوف.
وله في الطب: أن ناسا كان بهم سقم، فقالوا: يا رسول الله آونا وأطعمنا، فلما صحوا، قالوا: إن المدينة وخمة.
قال الحافظ: والظاهر أنهم قدموا سقاما، فلما صحوا من السقم، كرهوا الإقامة بالمدينة لوخمها، فأما السقم الذي كان بهم، فهو الهزال الشديد، والجهد من الجوع.
فعند أبي عوانة، كان بهم هزال، مصفرة ألوانهم، وأما الوخم الذي شكا منه بعد أن صحت أجسامهم، فهو من حمى المدينة.
ولمسلم عن أنس ووقع بالمدينة الموم، أي بضم الميم وسكون الواو. قال: هو البرسام، أي بكسر الموحدة سرياني معرب اختلال العقل، وورم الصدر، وهو المراد.
فعند أبي عوانة: فعظمت بطونهم.
"فأمرهم" ولأبي ذر لهم بزيادة لام، وكذا البخاري في المحاربين.
قال الحافظ: فيحتمل أنها زائدة، أو للتعليل، أو لشبه الملك، أو الاختصاص وليست للتمليك. "رسول الله صلى الله عليه وسلم بذود" بفتح الذال المعجمة، وسكون الواو ودال مهملة، من الإبل ما بين الثلاثة إلى العشرة، "وراعي" بالياء. ورواية أبي ذر ولغيره: راع كقاض، أي فأمرهم أن يلحقوا بهما.
وللبخاري أيضا: فأمرهم أن يلحقوا براعيه، وله أيضا: فأمرهم بلقاح.
وعند أبي عوانة: أنهم بدءوا بطلب الخروج، فقالوا: يا رسول الله قد وقع هذا الوجع، فلو أذنت لنا لخرجنا إلى الإبل.
وللبخاري في الجهاد: أنهم قالوا: يا رسول الله ابغنا رسلا، أي: اطلب لنا لبنا، قال: "ما أجد لكم إلا أن تلحقوا بالذود".
وفي الديات: هذه نعم لنا تخرج فاخرجوا فيها، وظاهر هذا أن الإبل له صلى الله عليه وسلم، وصرح(3/157)
وأمرهم أن يخرجوا فيه فيشربوا من ألبانها وأبوالها.
فانطلقوا حتى إذا كانوا ناحية الحرة، كفروا بعد إسلامهم، وقتلوا راعي النبي صلى الله عليه وسلم
__________
بذلك البخاري في المحاربين، فقال: إلا أن تلحقوا بإبل رسول الله صلى الله عليه وسلم, وله فيه أيضا وفي الزكاة: فأمرهم أن يأتوا إبل الصدقة.
قال الحافظ: والجمع بينهما أن إبل الصدقة كانت ترعى خارج المدينة وصادف بعثه صلى الله عليه وسلم بلقاحه إلى المرعى طلب هؤلاء الخروج إلى الصحراء لشرب الألبان فأمرهم بالخروج مع راعيه، فخرجوا معه إلى الإبل، ففعلوا ما فعلوا، وظهر بذلك مصداق قوله صلى الله عليه وسلم: "إن المدينة تنفي خبثها".
"وأمرهم أن يخرجوا فيه،" أي مع الذود لمصادفتهم خروج راعي المصطفى بإبله، فلا تخالف بين الروايات كما علمت، "فيشربوا من ألبانها وأبوالها" أي: الإبل.
وله في الديات: فاشربوا من ألبانها وأبوالها بصيغة الأمر الصريح.
وفي الزكاة: فرخص لهم أن يأتوا إبل الصدقة فيشربوا، أي لأنهم أبناء سبيل. وأما لقاح المصطفى فبإذنه، وفيه حجة لمالك وأحمد ومن وافقهما على طهارة بول مأكول اللحم، نصا في الإبل وقياسا وفيه حجة لمالك وأحمد ومن وافقهما على طهارة بول مأكول اللحم، نصا في الإبل وقياسا في غيرها، فإنه لو كان نجسا ما أمرهم بالتداول، به، وقد قال: إن الله لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليها، رواه أبو داود وغيره، وخالفهم أبو حنيفة والشافعي والجمهور، فذهبوا إلى نجاسة الأبوال كلها، وحملوا الحديث على التداوي، فلا يفيد الإباحة في غير حال الضرورة، وحديث: "إن الله لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليها". على الاختيار، وإلا فلا حرمة كالميتة للمضطر، وفيه أنه لم يتعين طريقا للدواء.
وقد روى ابن المنذر عن ابن عباس مرفوعا: "إن في أبوال الإبل شفاء للذرية بطونهم، والذرب" بمعجمة، فساد المعدة، فهذا صريح أنه حالة الاختيار وهو يمنع حمل الحديث على ما ذكروه، وبسط الجدال يطول.
"فانطلقوا" زاد في الديات: فشربوا، وفي الطهارة: وصحوا، وفي الجهاد: وسمنوا، وللإسماعيلي، ورجعت ألوانهم، "حتى إذا كانوا ناحية الحرة" بفتح الحاء المهملة وشد الراء أرض ذت حجارة سود بظاهر المدينة كأنها أحرقت بالنار، كانت بها الواقعة المشهورة أيام يزيد بن معاوية، "كفروا بعد إسلامهم، وقتلوا راعي النبي صلى الله عليه وسلم".
قال الحافظ: لم تختلف روايات البخاري في أن المقتول راعيه عليه السلام، وفي ذكره بالإفراد، وكذا لمسلم لكن عنده من رواية عبد العزيز.(3/158)
واستاقوا الذود. فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فبعث الطلب في آثارهم، فأمر بهم فسمروا أعينهم
__________
وعند ابن حبان من رواية يحيى بن سعيد، كلاهما عن أنس، ثم مالوا على الرعاء، فقتلوهم بصيغة الجمع، فيحتمل أن الإبل رعاة, فقتل بعضهم مع راعي اللقاح، فاقتصر بعض الرواة على راعيه عليه السلام، وذكر بعضهم معه غيره، ويحتمل أن بعض الرواة ذكره بالمعنى، فتجوز في الإتيان بصيغة الجمع وهذا أرجح، لأن أصحاب المغازي لم يذكر أحد منهم أنهم قتلوا غير يسار، "و" ذلك أنهم لما "استاقوا" من السوق، وهو السير العنيف "الذود" أدركهم، فقاتلهم فقتلوه، ومثلوا به "فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم".
وفي الجهاد: فجاء الصريخ بمعجمة فعيل بمعنى فاعل، أي: صرخ بالإعلام بما وقع منهم.
قال الحافظ: ولم أقف على اسمه، والظاهر أنه راعي إبل الصدقة وهو أحد الراعيين، كما في صحيح أبي عوانة، ولفظه: فقتلوا أحد الراعيين، وجاء الآخر قد جزع، فقال: قد قتلوا صاحبي، وذهبوا بالإبل، "فبعث الطلب في آثارهم" أي وراءهم، ويروى أنه قال: "اللهم أعم عليهم الطريق، واجعله عليهم أضيق من مسك جمل"، فعمى الله عليهم السبيل.
وفي الطهارة: فجاء الخبر في أول النهار، فبعث في آثارهم، فلما ارتفع النهار جيء بهم.
وعند الواقدي: فبعث في آثارهم، فغدوا فإذا هم بامرأة تحمل كتف بعير، فسألوها، فقالت: مررت بقوم قد نحروا بعيرا، فأعطوني هذا وهم بتلك المفازة، فساروا، فوجدوهم، فأسروهم، فلم يفلت منهم إنسان، فربطوهم وأردفوهم على الخيل حتى قدموا المدينة، "فأمر بهم" صلى الله عليه وسلم "فسمروا أعينهم" بخفة الميم، ولأبي ذر بشدها.
قال المنذري: والأول أشهر وأوجه.
قال الحافظ: لم تختلف روايات البخاري في أنه بالراء، ووقع لمسلم من رواية عبد العزيز عن أنس وسمل بالتخفيف واللام.
قال الخطابي: السمل فقء العين بأي شيء كان.
قال أبو ذؤيب الهذلي:
والعين بعدهم كان حداقها ... سملت بشوك فهي عورا تدمع
قال: والسمر لغة في السمل ومخرجهما متقارب، وقد يكون من المسمار يريد أنهم كحلوا بأميال قد أحميت. قلت: قد وقع التصريح بالمراد عند البخاري في الجهاد، وفي المحاربين، ولفظه: ثم أمر بمسامير، فأحميت فكحلهم بها، فهذا يوضح ما تقدم، ولا يخالف رواية اللام، لأنه فقء العين بأي شيء كان.(3/159)
وقطعوا أيديهم، وتركوا في ناحية الحرة حتى ماتوا على حالهم.
وفي لفظ: وسمروا أعينهم، ثم نبذوا في الشمس حتى ماتوا.
وفي لفظ: ولم يحسمهم، أي لم يكو مواضع القطع فينحسم الدم.
وقال أنس: إنما سمل رسول الله صلى الله عليه وسلم أعينهم لأنهم سملوا أعين الرعاة رواه مسلم. فيكون ما فعل بهم قصاصا.
__________
"وقطعوا" بتخفيف الطاء "أيديهم" زاد في الطهارة: وأرجلهم، وللترمذي والإسماعيلي من خلاف، وبها رد الحافظ على الداودي قوله: قطع يدي كل واحد، ورجليه، "وتركوا في ناحية الحرة" لكونها قرب المكان الذي فعلوا فيه ما فعلوا "حتى ماتوا على حالهم" وللبخاري في الطهارة: فيستسقون لا يسقون.
"وفي لفظ" عند البخاري في الديات: "وسمروا أعينهم"، أي: كحلوها بالمسامير المحمية، "بالنار "فينحسم الدم" بل تركه ينزف.
"وقال أنس: إنما سمل رسول الله صلى الله عليه وسلم أعينهم، لأنهم سملوا أعين الرعاة" مر أن ذا الجمع إما مجاز عن المفرد، أو قتلوا من رعاة إبل الصدقة، "رواه مسلم".
قال الحافظ: وقصر من اقتصر يعني اليعمري في عزوه للترمذي والنسائي "فيكون ما فعل بهم قصاصا"، كما مال إليه جماعة منهم ابن الجوزي تمسكا بهذا الحديث، وتعقبه ابن دقيق العيد، بأن المثلة وقعت فيهم من جهات، وليس في الحديث إلا السمل، فيحتاج إلى ثبوت القضية.
قال الحافظ: كأنهم تمسكوا بما نقله أهل المغازي، أنهم مثلوا بالراعي، وذهب آخرون إلى أن ذلك منسوخ، كما رواه البخاري عن قتادة بلاغا، وأخرجه أبو داود، عن قتادة عن الحسن البصري، هن هياج بتحتية ثقيلة وجيم، ابن عمران بن حصين عن سمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك كان يحث على الصدقة وينهى عن المثلة.
قال ابن شاهين: هذا الحديث ينسخ كل مثلة، وتعقبه ابن الجوزي، بأنه يحتاج إلى تاريخ.
قال الحافظ: يدل عليه ما رواه البخاري في الجهاد، عن أبي هريرة في النهي، عن التعذيب بالنار بعد الإذن فيه.
وقصة العرنيين قبل إسلامه، فقد حصل الإذن، ثم النهي.(3/160)
وفي رواية أنهم كانوا ثمانية.
وعند البخاري أيضا -في المحاربين- أنهم كانوا في الصفة قبل أن يطلبوا الخروج إلى الإبل.
وفي رواية قال أنس: فلقد رأيت أحدهم
__________
وروى قتادة عن ابن سيرين: أن قصتهم كانت قبل أن تنزل الحدود.
وقال موسى بن عقبة: ذكروا أنه صلى الله عليه وسلم نهى بعد ذلك عن المثلة بالآية التي في سورة المائدة، وإلى هذا مال البخاري، وحكاه إمام الحرمين عن الشافعي، واستشكل عياض عدم سقيهم للماء، للإجماع على أن من وجب عليه القتل، فاستسقى لا يمنع، وأجاب بأنه لم يقع عن أمره صلى الله عليه وسلم ولا وقع منه نهي عن سقيهم.
قال الحافظ: وهو ضعيف جدا، لأنه اطلع على ذلك، وسكوته كاف في ثبوت الحكم، وأجاب النووي، بأن المحارب المرتد لا حرمة له في سقي الماء ولا غيره، ويدل عليه أن من معه ماء لطهارته لا يتيمم، بل يستعمله، ولو مات المرتد عطشا.
وقال الخطابي: إنما فعل صلى الله عليه وسلم ذلك، لأنه أراد بهم الموت به، وقيل الحكمة في تعطيشهم لكونهم كفروا نعمة سقي ألبان الإبل التي حصل لهم الشفاء بها من الجوع والوخم، ولأنه صلى الله عليه وسلم دعا بالعطش على من عطش آل بيته رواه النسائي، فيحتمل أنهم تلك الليلة منعوا إرسال اللبن الذي كان يراح به من لقاحه كل ليلة، كما ذكره ابن سعد انتهى.
"وفي رواية" عند البخاري في الجهاد من طريق أيوب.
وفي الديات من طريق أبي رجاء، كلاهما عن أبي قلابة، عن أنس، "أنهم كانوا ثمانية"، ولفظه: أن رهطا، ولفظ الديات ناسا من عكل ثمانية، أو عرينة لرواية ابن جرير وأبي عوانة من طريق سعيد بن بشير عن قتادة، عن أنس قال: كانوا أربعة من عرينة وثلاثة من عكل، فيحتمل أن الثامن ليس من القبيلتين، بل من أتباعهم فلم ينسب، كما مر على الحافظ، ثم اعلم أنه رواية البخاري في المحلين التي صرح فيها، بأنهم ثمانية لم يقع فيها وعرينة، بل اقتصر على عكل كما ترى، وإنما هي روايته في المغازي لكن لم يعدهم.
"وعند البخاري أيضا في" كتاب "المحاربين" من صحيحه من طريق أبي قلابة عن أنس: "أنهم كانوا في الصفة قبل أن يطلبوا الخروج إلى الإبل" وتقديم هذه عقب تاريخ وقتها كما صنع الفتح أنسب.
"وفي رواية" للبخاري في الطب عن ثابت "قال أنس: فلقد رأيت أحدهم" وفي رواية:(3/161)
يكدم الأرض بفيه حتى مات.
وعند الدمياطي وابن سعد أن اللقاح كانت خمسة عشر لقحة -بكسر اللام وسكون القاف- ويقال لها ذلك إلى ثلاثة أشهر.
وفي صحيح مسلم: أن السرية كانت قريبا من عشرين فارسا من الأنصار.
وروى ابن مردويه عن سلمة بن الأكوع قال: كان للنبي صلى الله عليه وسلم مولى يقال له: يسار
__________
الرجل منهم، "يكدم" بكسر الدال وضمها، أي: يعض "الأرض بفيه" ولأبي عوانة يعض الأرض ليجد بردها مما يجد من الحر والشدة "حتى مات".
وللبخاري في الزكاة يعضون الحجارة حتى ماتوا، وزعم الواقدي أنهم صلبوا، والروايات الصحيحة ترده لكن عند أبي عوانة، فصلب اثنين، وقطع اثنين، وسمل اثنين، كذا ذكر ستة فقط، فإن كان محفوظا فعقوبتهم كانت موزعة قاله الحافظ.
"وعند الدمياطي وابن سعد: أن اللقاح" التي للنبي صلى الله عليه وسلم المعبر عنها تارة بلفظ: فأمرهم بلقاح، وأخرى بذود، وهي التي اقتصر عليها المصنف، والمعنى واحدة، فالذود إناث الإبل كاللقاح "كانت خمسة عشر" الذي في الفتح، وهو الأولى عن ابن سعد خمس عشرة "لقحة" ونحروا منها واحدة يقال لها الحناء، وهو في ذلك تابع للواقدي، وقد ذكره الواقدي في المغازي بإسناد ضعيف مرسل انتهى "بكسر اللام وسكون القاف" جمعها لقاح بلام مكسورة وآخره مهملة، وهي النوق ذوات الألبان، "ويقال لها ذلك إلى ثلاثة أشهر" ثم هي لبون، قاله أبو عمرو ومر له مزيد.
"وفي صحيح مسلم" من رواية معاوية بن قرة عن أنس " أن السرية" التي بعثت في طلبهم "كانت قريبا من عشرين فارسا من" شباب "الأنصار" قال: وبعث معهم قائفا يقص آثارهم.
قال الحافظ: ولم أقف على اسم القائف ولا على اسم واحد من العشرين، لكن في مغازي الواقدي أنهم كانوا عشرين، ولم يقل من الأنصار، بل سمى منهم جماعة من المهاجرين منهم بريدة بن الحصيب وسلمة بن الأكوع الأسلميان، وجندب ورافع بن مكيث الجهنيان، وأبو ذر وأبو رهم الغفاريان، وبلال بن الحارث وعبد الله بن عمرو بن عوف المزنيان، والواقدي لا يحتج به إذا انفرد فكيف إذا خالف، لكن يحتمل أن من لم يسمه الأنصار فأطلق الأنصار تغليبا، أو قيل للجمع أنصار بالمعنى الأعم انتهى.
"وروى ابن مردويه عن سلمة بن الأكوع قال: كان للنبي صلى الله عليه وسلم مولى يقال له يسار"(3/162)
فنظر إليه يحسن الصلاة فأعتقه، وبعثه في لقاح له بالحرة، فكان بها. قال: فأظهر قوم الإسلام من عرينة، وجاءوا -وهم مرضى موعوكون قد عظمت بطونهم- وغدوا على يسار فذبحوه وجعلوا الشوك في عينيه، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم في آثارهم خيلا من المسلمين، أميرهم كرز بن جابر الفهري، فلحقهم فجاء بهم إليه، فقطع أيديهم وأرجلهم، وسمر أعينهم. قال ابن كثير: غريب جدا.
وروى ابن جرير عن محمد بن إبراهيم عن جرير بن عبد الله البجلي قال: قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم قوم من عرينة ... الحديث. وفيه قال جرير: فبعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم ونفرا من
__________
بتحتية فمهملة خفيفة. زاد ابن إسحاق: أصابه في غزوة بني ثعلبة، "فنظر إليه يحسن الصلاة فأعتقه وبعثه في لقاح له بالحرة، فكان بها. قال: فأظهر قوم الإسلام من عرينة وجاءوا وهم مرضى موعوكون" اسم مفعول من وعكته الحمى صفة مبينة لمرضى، "قد عظمت بطونهم" وههنا حذف أي: فأمرهم صلى الله عليه وسلم أن يخرجوا إلى اللقاح، فلما صحوا ساقوها "وغدوا على يسار، فذبحوه وجعلوا الشوك في عينيه" قبل موته.
فعند ابن سعد: ورواه الواقدي بسند مرسل: غدوا على اللقاح فاستاقوها، فأدركهم يسار فقاتلهم، فقطعوا يده ورجله، وغرزوا الشوك في لسانه وعينيه فمات، وصحف من قال: يديه ورجليه بالتثنية، لأنه خلاف الرواية بالإفراد، "فبعث النبي صلى الله عليه وسلم في آثارهم خيلا من المسلمين أميرهم كرز بن جابر" بن حسل بكسر الحاء وسكون السين المهملتين ولام، ابن الأحب بفتح المهملة وبموحدة ابن حبيب بن عمرو بن سنان بن محارب بن فهر بن مالك بن النضر، "الفهري" نسبة لجده فهر المذكور، "فلحقهم فجاء بهم فقطع أيديهم وأرجلهم" من خلاف "وسمر أعينهم".
"قال ابن كثير": حديث "غريب جدا" وقد رواه الطبراني بإسناد صالح كما في الفتح، فلو عزاه له المصنف كان أولى.
"وروى" محمد "بن جرير" الطبري الحافظ، "عن محمد بن إبراهيم" بن الحارث بن خالد التيمي المدني الثقة، مات سنة عشرين ومائة على الصحيح، "عن جابر بن عبد الله" بن جابر "البجلي" الصحابي المشهور، مات سنة إحدى وخمسين، وقيل: بعدها، "قال: قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم قوم من عرينة ... الحديث، وفيه: قال جرير: فبعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم ونفرا من(3/163)
المسلمين حتى أدركناهم، فقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف وسمل أعينهم، فجعلوا يقولون: الماء، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "النار"، حتى هلكوا. قال: وكره الله سمر الأعين، فأنزل الله تعالى هذه الآية: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} إلى آخر الآية. وهو حديث غريب ضعيف. وفيه: أن أمير السرية جرير بن عبد الله البجلي. قال مغلطاي: وفيه نظر، لأن إسلام جرير كان بعد هذه بنحو أربع سنين.
__________
المسلمين حتى أدركناهم" فجئنا بهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم "فقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف وسمر أعينهم" وإسناد الفعل فيه إليه عليه السلام مجاز بدليل رواية الصحيح، فأمر بقطع "فجعلوا يقولون: الماء، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "النار" حتى هلكوا" فنهى عن سقيهم، لأنهم ارتدوا عن الإسلام فلا حرمة لهم كالكلب العقور، فلا ينافي الإجماع على أن من وجب قتله لا يمنع سقي الماء، وهذا الحديث لو صح لرد قول عياض لم يكن منعهم بأمره ولا نهى عن سقيهم على أنه أطلع على ذلك وسكوته كاف في ثبوت الحكم، كما مر قريبا مع زيادات حسنة.
"قال" جرير: "وكره الله سمر الأعين"، أي: أراد إظهار تحريمه لاستحالة الكراهة والبغضاء عليه سبحانه، وإنما يطلقان عليه باعتبار الغاية وهي هنا إرادة التحريم، "فأنزل الله تعالى هذه اآية: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المائدة: 33] بمحاربة المسلمين "إلى آخر الآية" وهذا كما هو بين لا ينافي ما مر في أحد من نزول: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: 126] إلى آخر السورة، لما حلف المصطفى والصحابة أنهم إن قدروا على قريش ليزيدون عليهم لأنه لم يحرم فيها التمثيل كما زعم إنما قال: إن أردتموه فلا تزيدوا، وحرمة التمثيل إنما كانت بعد هذه القصة، كما في الحديث المرفوع، ومال إليه البخاري، وحكاه الإمام في النهاية عن الإمام الشافعي، كما مر قريبا مفصلا، "وهو حديث غريب ضعيف" جمع بينهما، لأن الغرابة تجامع الصحة والحسن، لأنها لتفرد الراوي فلا تستلزم الضعف، وقد اقتصر الحافظ على قوله إسناده ضعيف. انتهى. لكن له شاهد عن أبي هريرة نحوه, رواه عبد الرزاق، وعن أنس عند ابن جرير مثله. و"فيه" إفادة "أن أمير السرية جرير بن عبد الله البجلي" فيخالف ما رواه ابن إسحاق والأكثرون أن أميرها كرز، وهو المصرح به في حديث سلمة بن الأكوع على أن المعروف أن جريرا تأخر إسلامه ولذا "قال مغلطاي: وفيه نظر، لأن إسلام جرير كان بعد هذه" السرية "بنحو أربع سنين" في سنة الوفود سنة تسع على الصحيح، ووهم من قال: قبل موت المصطفى بأربعين يوما لما في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال له: "استنصت الناس في حجة الوداع، وذلك قبل موته بأكثر من ثمانين يوما" ذكره الفتح في المناقب.(3/164)
وفي مغازي ابن عقبة: أن أمير هذه السرية سعيد بن زيد، كذا عنده بزيادة ياء, وعند غيره: أنه سعد -بسكون العين- ابن زيد الأشهلي، وهذا أنصاري، فيحتمل أن يكون رأس الأنصار، وكان كرز أمير الجماعة.
وأما قوله: فكره الله سمر الأعين فأنزل الله تعالى هذه الآية، فإنه منكر. فقد تقدم أن في صحيح مسلم أنهم سملوا أعين الرعاة، فكان ما فعل بهم قصاصا والله أعلم.
تنبيه: قال في فتح الباري: وزعم ابن التين تبعا للداودي أن عرينة هم عكل وهو غلط، بل هما قبيلتان متغايرتان، عكل من عدنان، وعرينة من قحطان.
__________
"وفي مغازي ابن عقبة أن أمير هذه السرية سعيد بن زيد" بن عمرو بن نفيل القرشي العدوي، أحد العشرة والسابقين إلى الإسلام "كذا عنده بزيادة ياء".
قال الحافظ: "و" الذي "عنده غير أنه سعد بسكون العين، بن زيد" بن مالك بن عبد كعب ابن عبد الأشهل، "الأشهلي" العقبي البدري، "وهذا أنصاري" فيتقوى أنه هو لا سعيد المهاجري بما في مسلم أنهم من الأنصار، "فيحتمل أن يكون رأس الأنصار" فتجوز من أطلق أنه الأمير عن كونه عظيما فيهم، "وكان كرز أمير الجماعة" كلهم الأنصار والمهاجرين، "وأما قوله: فكره الله سمر الأعين وأنزل الله هذه الآية، فإنه منكر، فقد تقدم أن في صحيح مسلم" عن أنس "أنهم سملوا أعين الرعاة".
قال في العيون: وأكثر ما في الآية مما تشعره إنما هو الاقتصار في حد الحرابة على ما فيها، أما من زاد عليها جنايات أر كهؤلاء حيث ارتدوا ومثلوا بالرعاة، فليس في الآية ما يمنع من التغليظ عليهم، أي بمثل ما فعلوه "فكان ما فعل بهم قصاصا" ليس بمثلة، فالمثلة كانت ابتداء بغير جزاء. انتهى. "والله أعلم" بما في نفس الأمر هل كان قصاصا، أو مثلة قبل النهي.
"تنبيه: قال في فتح الباري" في كتاب الطهارة، "وزعم" عبد الواحد "ابن التين" السفاقسي "تبعا للداودي" أحمد بن نصر، كلاهما في شرح البخاري: "أن عرينة هم عكل،" وكأنهما حاولا الجمع بين رواية من اقتصر على عكل، ورواية من اقتصر على عرينة، "وهو غلط بل هما قبيلتان متغايرتان عكل من عدنان، وعرينة من قحطان" لا يشكل بما مر أن عرينة حيان من قضاعة، وبجيلة هو المراد هنا لأن قحطان كما أفاده كلامه، ففي قول القاموس: بجيلة كسفينة، حي من معد نظر مع هذا، وفي هذه القصة كما قال الحافظ من الفوائد غير ما تقدم قدوم الوفود على الإمام ونظره في مصالحهم ومشروعية الطب والتداوي بألبان الإبل وأبوالها، وأن
كل جسد يطب بما اعتاد وقتل الجماعة بالواحد سواء قتلوه غيلة أو حرابة، إن قلنا: إن قتلهم كان قصاصا والمماثلة في القصاص، وأنه ليس من المثلة المنهي عنها، وثبوت حكم المحاربة في الصحراء، وأما في القرى ففيه خلاف، وجواز استعمال أبناء السبيل إبل الصدقة في الشرب وفي غيره قياسا عليه بإذن الإمام والعمل بقول القائف وللعرب في ذلك المعرفة التامة، انتهى والله تعالى أعلم.(3/165)
بعث الضمري ليغتال أبا سفين
...
"بعث الضمري ليغتال أبا سفيان":
ثم سرية عمرو بن أمية الضمري إلى أبي سفيان بن حرب بمكة، لأنه أرسل للنبي صلى الله عليه وسلم من يقتله غدرا، فأقبل الرجل ومعه خنجر ليغتاله، فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن هذا يريد غدرا". فجذبه أسيد بن حضير بداخلة إزاره فإذا بالخنجر، فسقط في يده.
__________
بعث الضمري ليغتال أبا سفيان:
"ثم سرية عمرو بن أمية" بن خويلد بن عبد الله أبي أمية، "الضمري" الصحابي المشهور، أول مشاهده بئر معونة بالنون. مات بالمدينة في خلافة معاوية. قال أبو نعيم: قبل الستين "إلى أبي سفيان" صخر "بن حرب بمكة لأنه أرسل للنبي صلى الله عليه وسلم مَنْ", أي: رجلا "يقتله" قال ابن سعد: وذلك أبا سفيان قال لنفر من قريش ألا أحد يغتر محمدا فإنه يمشي في الأسواق، فأتاه رجل من الأعراب في منزله، فقال: قد وجدت أجمع الرجال قلبا وأشدهم بطشا وأسرعهم شدا فإن أنت قويتني خرجت إليه حتى أغتاله ومعي خنجر مثل خافية النسر فأسوره ثم آخذ في غير فأسير وأسبق القوم عدوا فإني هاد بالطريق قال: أنت صحبنا فأعطاه بعيرا ونفقة وقال: اطو أمرك فخرج ليلا، فسار على راحلته خمسا، وصبح ظهر الحرة صبح سادسة، ثم أقبل يسأل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دل عليه فعقل راحلته، ثم أقبل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في مسجد بني عبد الأشهل "فأقبل الرجل ومعه خنجر" بفتح المعجمة، وكسرها فنون، فجيم مفتوحة فراء مثل خافية بخاء معجمة فألف ففاء مكسورة فتحتية مفتوحة فتاء تأنيث ريشة صغيرة في جناح النسر دون العشر ريشات من مقدم الجناح قال الأصمعي "ليغتاله" أي: يأخذه غفلة وهو معنى قوله: يغتر بفتح أوله وسكون المعجمة وفتح الفوقية وشد الراء وأسوره بضم الهمزة، وفتح المهملة وكسر الواو الشديدة والراء وضمير الغائب, فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن هذا ليريد غدرا". زاد في رواية البيهقي: "والله حائل بينه وبين ما يريد". فذهب لينحني على رسول الله صلى الله عليه وسلم "فجذبه أسيد" بضم الهمزة وفتح المهملة "ابن حضير" بضم المهملة وفتح المعجمة ابن سماك الأنصاري، الأشهلي أبو يحيى، الصحابي الجليل، المتوفى سنة عشرين أو إحدى وعشرين "بداخلة إزاره"(3/166)
فقال صلى الله عليه وسلم: "اصدقني ما أنت"؟ , قال: وأنا آمن؟ قال: "نعم". فأخبره بخبره فخلى عنه صلى الله عليه وسلم.
وبعث عمرو بن أمية ومعه سلمة بن أسلم، ويقال: جبار بن صخر إلى أبي سفيان، وقال: إن أصبتما منه غرة فاقتلاه، فدخلا مكة.
ومضى عمرو بن أمية يطوف بالبيت ليلا، فرآه معاوية بن أبي سفيان
__________
أي طرفه وحاشيته من داخل، قاله البرهان، ثم الشامي "فإذا بالخنجر فسقط في يده" لفظ سعد فأسقط في يديه بضم الهمزة وكسر القاف أي ندم وقال: دمي دمي أي: اتركوا أو خلوا فأخذ أسيد بلببه بلام فموحدتين أولاهما مفتوحة أي: منحره فذعته بمعجمة فمهملة ففوقية أي خنقه أشد الخنق, فقال صلى الله عليه وسلم: "اصدقني" بهمزة وصل وضم الدال "ما أنت" أي: ما صفتك أو خاطبه خطاب ما لا يعقل لأن هذا فعل ما لا يعقل قاله البرهان أو استعمل ما للعاقل على اللغة القليلة لكن لا يحمل عليها كلام سيد الفصحاء مع إمكان غيرها "قال: وأنا آمن؟ " بمد الهمزة وكسر الميم، قال: "نعم" , فأخبره بخبره فخلى عنه صلى الله عليه وسلم، زاد ابن سعد وغيره فأسلم وقال: يا محمد والله ما كنت أفرق الرجال بفتح الراء أي أخافهم فما هو إلا أن رأيتك فذهب عقلي وضعفت نفسي ثم اطلعت على ما هممت به مما لم يعلمه أحد فعرفت أنك ممنوع وأنك على حق وأن حزب أبي سفيان حزب الشيطان فجعل صلى الله عليه وسلم يتبسم، فأقام الرجل أياما ليستأذنه صلى الله عليه وسلم فخرج ولم يسمع له بذكر.
قال البرهان: وهذا الرجل لا أعرف اسمه "وبعث عمرو بن أمية ومعه" في قول ابن سعد وشيخه الواقدي "سلمة بن أسلم" بن حريس بحاء مهملة فراء مكسورة فتحتية ساكنة فسين مهملة وقد ينسب إلى جده الأنصاري الحارثي يكنى أبا سعيد ذكره ابن إسحاق فيهم شهد بدرا قال أبو حاتم: قتل يوم جسر أبي عبيد، "ويقال" بدل سلمة وهو قول ابن هشام وعزاه اليعمري لابن إسحاق لكن ابن هشام ذكر هذا البعث من زيادته، وأن ابن إسحاق لم يذكر "جبار" بفتح الجيم وشد الموحدة "ابن صخر" بن أمية الأنصاري السلمي العقببي البردي له حديث عند أحمد وغيره، وآخر عند ابن السكن وغيره, مات سنة ثلاثين عن ثنتين وستين سنة "إلى أبي سفيان، وقال: إن أصبتما منه غرة" بكسر الغين المعجمة وشد الراء وتاء تأنيث أي غفلة "فاقتلاه فدخلا مكة ومضى عمرو بن أمية يطوف بالبيت ليلا، فرآه معاوية بن أبي سفيان" كذا عند ابن سعد ومقتضاه أنه رآه حال الطواف، وعند ابن هشام وغيره فقدما مكة وجلسا بشعب ثم دخلا مكة ليلا فقال جبار لعمرو: لو أنا طفنا بالبيت وصلينا ركعتين فقال عمران: القوم إذا تغشوا وجلسوا بأفنيتهم وأنهم إن رأوني عرفوني فإني أعرف بمكة من الفرس الأبلق فقال: كلا إن شاء الله. قال عمرو: فأبى أن(3/167)
فأخبر قريشا بمكانه، فخافوه وطلبوه، وكان فاتكا في الجاهلية، فحشد له أهل مكة وتجمعوا له.
فهرب عمرو وسلمة، فلقي عمرو عبيد الله بن مالك التيمي فقتله، وقتل آخر، ولقي رسولين لقريش بعثتهما يتحسسان الخبر، فقتل أحدهما وأسر الآخر، فقدم به المدينة. فجعل عمرو يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم خبره، وهو يضحك.
__________
يطيعني فطفنا بالبيت وصلينا ثم خرجنا نريد أبا سفيان فوالله إنا لنمشي بمكة إذ نظر إلى الرجل من أهلها فعرفني فقال عمرو بن مية: فوالله إن قدمها إلا لشر. فصريح هذا أنه لم يره إلا بعد خروجهما من الطواف في أزقة مكة فيحمل التعقيب في الأول على التراخي وإن كان بالفاء جمعا بينهما، كما حل الرجل المبهم في الثانية على معاوية للأولى، لأن الروايات يفسر بعضها بعضا "فأخبر قريشا بمكانه" أي: بكون أي: وجود عمرو بمكة، "فخافوه وطلبوه وكان فاتكا" بفاء فألف ففوقية مكسورة جريا "في الجاهلية" والفتك مثلث الفاء القتل على غفلة، "فحشد" أي: جمع "له أهل مكة، وتجمعوا" عطف تفسير، "فهرب عمرو وسلمة" لم يقل: أو جبار؛ لأنه ناقل كلام ابن سعد لم يزد عليه إلا حكاية القول بأنه جبار، "فلقي عمرو عبيد الله بن مالك" بن عبيد الله "التيمي" نسبة إلى تيم من قريش كذا سماه ابن سعد وقال ابن إسحاق: هو عثمان بن مالك أو عبد الله، "فقتله وقتل آخر" من بني الديل سمعه يتغنى ويقول:
ولست بمسلم ما دمت حيا ... ولست أدين دين المسلمينا
هذا أسقطه المصنف من كلام ابن سعد، "ولقي رسولين لقريش" قال البرهان: لا أعرفهما ولا الآخر "بعثتهما" عينا إلى المدينة "يتجسسان الخبر فقتل أحدهما" بسهم "وأسر الآخر فقدم به المدينة فجعل عمرو يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم خبره وهو يضحك" ثم دعا له بخير، ولم يبين في رواية ابن سعد هذه التي اقتصر عليها المصنف تبعا لليعمري محل قتل هؤلاء، وعند ابن هشام وغيره بعد قوله السابق: إن قدمها إلا لشر، فقتل لصاحبي: النجاء فخرجنا نشتد حتى أصعدنا في جبل، وخرجوا في طلبنا حتى إذا علونا الجبل يئسوا منا، فرجعنا فدخلنا كهفا في الجبل فبتنا فيه، وقد أخذنا حجارة فرضمناها دوننا. فلما أصبحنا غدا رجل من قريش يقود فرسا له ويختلي عليها فغشينا ونحن في الغار فقلت: إن رآنا صاح بنا فأخذنا وقتلنا قال: ومعي خنجر قد أعددته لأبي سفيان فأخرج إليه فأضربه على ثديه ضربة، فصاح صيحة أسمع أهل مكة وأرجع فأدخل مكاني، وجاءه الناس يشتدون وهو بآخر رمق، فقالوا: من ضربك؟ فقال: عمرو بن أمية, وغلبه الموت فمات مكانه ولم يدلل على مكاننا فاحتملوه. فقلت لصاحبي لما أمسينا: النجاء، فخرجنا ليلا من مكة نريد المدينة، فمررنا بالحرس وهم يحرسون جثة حبيب بن عدي، فقال أحدهم:(3/168)
...........................
__________
والله ما رأيت كالليلة أشبه بمشية عمرو بن أمية، لولا أنه بالمدينة لقلت أنه عمرو بن أمية، فلما حاذى الخشبة شد عليها فاحتملها وخرجا شدا وخرجوا وراءه حتى أتى جرفا بمهبط مسيل يأجج، فرمى الجثة في الجرف فغيبه الله عنهم، فلم يقدروا عليه فقلت لصاحبي النجاء ومضيت، ثم أويت إلى جبل فأدخل كهفا، فبينا أنا فيه دخل علي شيخ من بني الديل أعور في غنيمة له، فقال: من الرجل؟ قلت: من بني بكر فمن أنت؟ قال: من بني بكر. فقلت: مرحبا فاضطجع، ثم رفع عقيرته فقال:
ولست بمسلم ما دمت حيا ... ولا دان لدين المسلمينا
فقلت في نفسي ستعلم ثم أمهلته حتى إذا نام أخذت قوسي، فجعلت سيتها في عينه الصحيحة بكسر المهملة، وفتح التحتية ما عطف من طرفها، ثم تحاملت عليه حت بلغت العظم، ثم خرجت حتى جئت العرج، ثم سلكت حتى إذا هبطت النقيع إذا رجلان من قريش كانت بعثتهما عينا إلى المدينة. فقلت: استأسرا فأبيا فأرمي أحدهما بسهم واستأسر الآخر فأوثقته رباطا وقدمت به المدينة. انتهى.
وقد مر أنه صلى الله عليه وسلم بعث الزبير، والمقداد لإنزال خبيب فأنزلاه وخافا الطلب فألقياه فابتلعته الأرض, والله أعلم.(3/169)
"أمر الحديبية":
ثم الحديبية -بتخفيف الياء وتشديدها- وهي بئر سمي المكان بها، وقيل: شجرة، وقال المحب الطبري: قرية قريبة من مكة
__________
أمر الحديبية:
"ثم الحديبية" بضم الحاء وفتح الدال المهملتين وسكون التحتية وكسر الموحدة، ولم يقل: غزوة أو عمرة لتكون الترجمة محتملة، وقد ترجم البخاري غزوة ولأبي ذر عن الكشميهني عمرة بدل غزوة "بتخفيف الياء" عند الأكثر كالشافعي، والأصمعي، حتى قال ثعلب وهو أحمد بن يحيى لا يجوز فيها غيره، وقال النحاس: لم يختلف من أثق بعلمه في أنها مخففة "وتشديدها" عند كثير من المحدثين واللغويين، قال في الفتح وأنكر كثير من أهل اللغة التخفيف. وقال أبو عبيد البكري: أهل العراق يثقلون وأهل الحجاز يخففون. انتهى.
"وهي بئر" كما ثبت في الصحيح عن البراء "سمي المكان بها وقيل: شجرة" سمي المكان بها فيحتمل أن المكان واد فدفعه بقوله: "وقال المحب الطبري: قرية" ليست كبيرة "قريبة" قال المصنف: على مرحلة, والشامي: نحو مرحلة, والمصباح: دون مرحلة "من مكة" سميت(3/169)
أكثرها في الحرم، وهي على تسعة أميال من مكة.
خرج عليه الصلاة والسلام يوم الاثنين هلال ذي القعدة سنة ست من الهجرة للعمرة، وأخرج معه زوجته أم سلمة، في ألف وأربعمائة. ويقال: ألف وخمسمائة وقيل: ألف وثلاثمائة.
والجمع بين هذا الاختلاف: أنهم كانوا أكثر من ألف وأربعمائة
__________
بالبئر أو الشجرة "أكثرها في الحرم" وباقيها في الحل "وهي على تسعة أميال من مكة". وقال الواقدي: من المسجد فإن حمل عليه قدر مضاف "خرج عليه الصلاة والسلام" لأنه رأى في منامه أنه دخل البيت هو وأصحابه آمنين محلقين رءوسهم ومقصرين، كما ذكره الواقدي. وأما ما رواه الفريابي وعبد بن حميد، والبيهقي في الدلائل عن مجاهد قال: أرى النبي صلى الله عليه وسلم وهو بالحديبية أنه يدخل مكة هو وأصحابه آمنين محلقين رءوسهم ومقصرين فلما نحر الهدي بالحديبية، قال أصحابه أين رؤياك يا رسول الله؟ فنزلت: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ} الآية فهي رؤيا رآها بالحديبية تبشيرا من الله له ثانيا فلا يصلح جعلها سببا في خروجه من المدينة "يوم الاثنين هلال ذي القعدة سنة ست من الهجرة" عند الجمهور كالزهري، وقتادة، وموسى بن عقبة, وابن إسحاق، وابن سعد, وغيرهم. قال في الفتح وجاء عن هشام بن عروة عن أبيه أنه خرج في رمضان واعتمر في شوال وشذ في ذلك وقد وافق أبو الأسود عن عروة الجمهور ومضى في الحج قول عائشة ما اعتمر إلا في ذي القعدة. انتهى.
وقال ابن القيم قول هشام وهم إنما كانت غزاة الفتح في رمضان. وقد قال أبو الأسود عن عروة في ذي القعدة على الصواب, وفي الصحيحين عن أنس اعتمر صلى الله عليه وسلم أربع عمر كلهن في ذي القعدة فذكر منها عمة الحديبية "للعمرة".
قال الزهري: لا يريد قتالا، قال ابن إسحاق واستنفر العرب من البوادي ومن حوله من الأعراب ليخرجوا معه وهو يخشى من قريش أن يتعرضوا له بحرب أو يصدوه عن البيت، فأبطأ عليه كثير من الأعراب فخرج بمن معه من المهاجرين والأنصار ومن لحق من العرب، وساق معه الهدي وأحرم بالعمرة ليأمن الناس حربه وليعلموا أنه إنما خرج زائرا للبيت ومعظما له، "وأخرج معه زوجته أم سلمة في ألف وأربعمائة"، كما في الصحيحين من رواية إسرائيل عن أبي إسحاق عن البراء بن عازب ومن طريق عمرو بن دينار عن جابر، "ويقال: ألف وخمسمائة" كما فيهما من طريق سعيد بن المسيب عن جابر وابن أبي شيبة عن مجمع بن جارية، "وقيل: ألف وثلاثمائة"، كما في الصحيحين عن عبد الله بن أبي أوفى، فليس مراد المصنف تضعيفهما، بل مجرد الحكاية، ولذا قال: "والجمع بين هذا الاختلاف" كما قال في الفتح "أنهم كانوا أكثر من ألف(3/170)
فمن قال: ألف وخمسمائة جبر الكسر، ومن قال ألف وأربعمائة ألغاه، ويؤيده رواية البراء: ألف وأربعمائة أو أكثر.
واعتمد على هذا الجمع النووي. وأما رواية ألف وثلاثمائة فيمكن حملها على ما اطلع هو عليه، واطلع غيره على زيادة مائتين لم يطلع هو عليهم، والزيادة من الثقة مقبولة.
وأما قول ابن إسحاق: إنهم كانوا سبعمائة، فلم يوافقه أحد عليه، لأنه قاله استنباطا من قول جابر: نحرنا عن عشرة، وكانوا نحروا سبعين بدنة، وهذا لا يدل على أنهم ما كانوا نحروا غير البدن
__________
وأربعمائة. فمن قال: ألف وخمسمائة جبر الكسر، ومن قال: ألف وأربعمائة ألغاه".
"ويؤيده رواية" البخاري من طريق زهير بن معاوية عن أبي إسحاق عن البراء" أنهم كانوا "ألفا وأربعمائة أو أكثر" فأو بمعنى بل فيظهر وجه الجمع، ولعل وجه من زاد عد من تبعه بعد خروجه من الأعراب أو على بابها، فالجمع على تقدير الكثرة، ويكفي في الجمع احتمال الزيادة "واعتمد على هذا الجمع النووي" لصحة الروايات كلها.
ومال البيهقي إلى الترجيح وقال: رواية ألف وأربعمائة أصح لاتفاق البراء وجابر وسلمة بن الأكوع ومعقل بن يسار والمسيب بن حزن عليه ثم أسنده عنهم.
قال ابن القيم: والقلب إليه أميل، "وأما رواية" ابن أبي أوفى "ألف وثلاثمائة فيمكن حملها على ما اطلع هو عليه واطلع غيره على زيادة مائتين" لو حذفها كان أولى ليشمل ألفا على ما اطلع هو عليه واطلع غيره على زيادة مائتين" لو حذفه كان أولى ليشمل ألفا وأربعمائة، لكنها تصحفت على المصنف حين نقل من الفتح، ولفظه زيادة ناس بنون فألف فسين مهملة "لم يطلع هو عليهم والزيادة من الثقة مقبولة" فلا تعارضها رواية من نقص عنها.
زاد الحافظ أو العدد الذي ذكره جملة من ابتدأ الخروج من المدينة والزائد تلاحقوا بهم بعد ذلك، أو العدد الذي ذكره هو عدد المقاتلة والزيادة عليها من الأتباع من الخدم والنساء والصبيان الذين لم يبلغوا الحلم.
"وأما قول ابن إسحاق: إنهم كانوا سبعمائة فلم يوافقه أحد عليه لأنه قاله استنباطا من قول جابر نحرنا البدنة عن عشرة وكانوا نحروا سبعين بدنة" لما تحللوا، "وهذا لا يدل على أنهم ما كانوا نحروا".
هكذا في النسخ الصحيحة ويقع حذف ما في نسخ من تحريف النساخ والأول الصواب الموافق لقول الفتح وأتباعه لم ينحروا "غير البدن" من بقر وغنم لمن زاد على السبعمائة التي(3/171)
مع أن بعضهم لم يكن أحرم أصلا.
وجزم موسى بن عقبة: بأنهم كانوا ألفا وستمائة.
وعند ابن أبي شيبة من حديث سلمة بن الأكوع: ألف وسبعمائة.
وحكى ابن سعد: ألفا وخمسمائة وخمسة وعشرين.
واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم، ولم يخرج معه بسلاح إلا سلاح المسافر السيوف في القرب.
__________
نحروها عنها "مع أن بعضهم لم يكن أحرم أصلا" فيجوز أن الزائد على سبعمائة لم يحرموا فهو جواب ثان وكأن الجوابين من باب التنزل وإلا فقد قال ابن القيم: إنه غلط بين، وقول جابر لا يدل له فإنه صرح أن البدنة في هذه العمرة عن سبعة فلو كانت السبعون عن جميعهم كانوا أربعمائة وتسعين وقد قال في تمام الحديث بعينه أنهم كانوا ألفا وأربعمائة انتهى.
"وجزم موسى بن عقبة بأنهم كانوا ألفا وستمائة، وعند ابن أبي شيبة من حديث سلمة بن الأكوع"، أنهم "ألف وسبعمائة" فهو خبر إن المقدرة بلا كان وإلا فالظاهر رسمه بالألف وهو الذي في الفتح، "وحكى" وفي نسخة وعند "ابن سعد" أنهم كانوا "ألفا وخمسمائة وخمسة وعشرين".
قال الحافظ وهذا إن ثبت تحرير بالغ ثم وجدته موصولا عن ابن عباس عند ابن مردويه، وفيه رد على ابن دحية حيث زعم أن سبب الاختلاف في عددهم أن الذي ذكر عددهم لم يقصد التحديد، وإنما ذكره بالحدس والتخمين، "واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم" ويقال: أبو رهم كلثوم بن الحصين حكاهما البلاذري. قال وقوم يقولون استخلفهما جميعا. وكان ابن أم مكتوم على الصلاة. وقال ابن هشام ومن تبعه استخلف نميلة تصغير نملة، ابن عبد الله الليثي فيحتمل أنه استخلفه وكلثوما على المصالح والإمام ابن أم مكتوم. "ولم يخرج" بضم الياء وكسر الراء أي النبي صلى الله عليه وسلم "معه" أحدًا فحذف المفعول لأنه فضلة "بسلاح" وهو ما يقاتل به في الحرب، ويدافع والتذكير أغلب من التأنيث كما في المصباح، ويجوز بناؤه للمفعول لكنه قليل الإنابة الجار والمجرور مع وجود المفعول المحذوف تخفيفا.
فالأول أظهر وأولى "إلا سلاح" بالجر، بدل من سلاح "المسافر السيوف"، بدل من سلاح، وصح إبداله وإن كان لفظ سلاح مفردا؛ لأنه اسم جنس شامل للواحد وغيره. وأما الجمع في خذوا حذركم وأسلحتكم، فباعتبار الأفراد ويجوز نصب سلاح المسافر على الاستثناء، فالسيوف بالنصب أيضا "في القرب" بضمتين جمع قراب ويجمع أيضا على أقربة.(3/172)
وفي البخاري -في المغازي- عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم، قالا: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية في بضع عشرة مائة من أصحابه، فلما كان بذي الحليفة قلد الهدي، وأشعر وأحرم منها. وفي رواية: أحرم منها
__________
"وفي البخاري في" الحديث الثامن من كتاب "المغازي" في هذه الغزوة، "عن المسور" بكسر الميم وسكون المهملة "ابن مخرمة" بفتح الميم وسكون المعجمة ابن نوفل بن أهيب بن عبد مناف بن زهرة القرشي، الزهري له ولأبيه صحبة مات سنة أربع وستين، "ومروان بن الحكم" بن أبي العاصي بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف القرشي الأموي أبو عبد الملك ولي الخلافة في آخر سنة أربع وستين، ومات سنة خمس في رمضان وله ثلاث أو إحدى وستون سنة لا تثبت له صحبة.
"قالا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية" قال الحافظ: هذا مرسل فمروان لا صحبة له والمسور لم يحضر القصة وقد رواه البخاري في أول كتاب الشروط من طريق أخرى عن الزهري عن عروة أنه سمع المسور ومروان يخبران عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر بعض الحديث، وقد سمعا جمعا صحابة شهدوا هذه القصة كعمر، وعثمان، وعلي، والمغيرة، وأم سلمة، وسهل بن حنيف وغيرهم "في بضع عشرة مائة" هكذا في نسخ، وهو الثابت في البخاري، وهو واضح لأن الهاء تثبت في بضع مع المذكر وتحذف مع المؤنث كما في المصباح وهو هنا عشرة، ويقع في بعض نسخ المصنف بعض عشر بلا هاء فيهما، فإن كانت رواية فلعل حذف الهاء من بضع نظرا للفظ مائة ومن عشرة لكون المعدود رجالا لأن العشرة تجري على القياس أفردت أو ركبت "من أصحابه" وكان معهم مائتا فارس.
وفي رواية من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال الحافظ: ويجمع أيضا يعني بين هذه الرواية والسابقات بأن الذين بايعوا كانوا كما تقدم، وما زاد على ذلك كانوا غائبين عنها كمن توجه مع عثمان، على أن لفظ بضع يصدق على الخمس والأربع فلا تخالف، "فلما كان بذي الحليفة"، ميقات أهل المدينة، "قلد الهدي" بأن علق في عنقه شيئا وهو نعل ليعلم أنه هدى "وأشعر" بأن ضرب صفحة السنام اليمني بحديدة فلطخها بدمها إشعارا بأنه هدى أيضا، قاله المصنف "وأحرم منها" فقلد المسلمون بدنهم وأشعروها.
"وفي رواية" للبخاري أيضا في المغازي وهو الخامس والعشرون عن مسور ومروان أيضا قالا: خروج النبي صلى الله عليه وسلم عام الحديبية في بضع عشرة مائة من أصحابه فلما أتى ذا الحليف قلد الهدي وأشعره و"أحرم منها" بعدما صلى ركعتين وركب من باب مسجد ذي الحليفة، فلما(3/173)
بعمرة, وبعث عينا له من خزاعة. وسار النبي صلى الله عليه وسلم حتى كان بغدير الأشطاط أتاه عينه فقال: إن قريشا جمعوا لك جموعا، وقد جمعوا لك الأحابيش، وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت ومانعوك من مكة.
__________
انبعثت به راحلته مستقبل القبلة أحرم "بعمرة" إعلاما بأنه لم يخرج لحرب، "وبعث عينا" أي جاسوسا "له من خزاعة" وهو بسر بضم الموحدة وسكون المهملة على الصحيح كما قال الحافظ: هكذا جزم به ابن إسحاق وابن عبد البر وغيرهما، إلا أنه وقع لابن إسحاق بكسر الباء وإعجام الشين ورده عليه ابن هشام ووقع عند ابن أبي شيبة تسمية العين ناجية. قال الحافظ: والمعروف أن ناجية اسم الذي بعث معه الهدي كما جزم به ابن إسحاق وغيره انتهى.
واختار بعث بسر بن سفيان، بن عمر وهذا لقرب عهده بالإسلام، لأنه أسلم في شوال فلا يظنه من رآه عينا فلا يؤذيه. "وسار النبي صلى الله عليه وسلم حتى كان بغدير" بفتح الغين المعجمة وكسر الدال المهملة "الأشطاط"، زاد أحمد قريبا من عسفان بشين معجمة وطاءين مهملتين جمع شط وهو جانب الوادي كما جزم به صاحب المشارق ووقع في بعض نسخ أبي ذر بطاءين معجمتين قاله الفتح.
قال المصنف: وهو موضع تلقاء الحديبية "أتاه عينه فقال: إن قريشا جمعوا لك جموعا، وقد جمعوا لك الأحابيش" بحاء مهملة وموحدة آخره معجمة جمع أحبوش بضم الهمزة والباء وهم بنو الهون بن خزيمة وبنو الحارث بن عبد مناة وبنو المصطلق من خزاعة، كانوا تحالفوا مع قريش, قيل: تحت جبل يقال له: الحبشي أسفل مكة، وقيل: سموا بذلك لتحبشهم أي: تجمعهم والتحبش التجمع والحباشة الجماعة.
وروى الفاكهي عن عبد العزيز بن أبي ثابت أن ابتداء حلفهم مع قريش كان على يد قصي بن كلاب، "وهم مقاتلوك وصادوك" بشد الدال "عن البيت، ومانعوك من" الدخول إلى "مكة"، وعند ابن إسحاق قال الزهري: وخرج صلى الله عليه وسلم فلقيه بعسفان بسر، فقال: هذه قريش قد سمعت بمسير فخرجوا معهم العوذ المطافيل قد لبسوا جلود النمر، وقد نزلوا بذي طوى يعاهدون الله أن لا تدخلها عليهم عنوة أبدا، وعند ابن سعد وبلغ المشركين خروجه، فأجمع رأيهم على صده عن مكة وعسكروا ببلد بفتح الموحدة والمهملة بينهما لام ساكنة، ثم حاء مهملة موضع خارج مكة.
وأخرج الخرائطي في الهواتف عن ابن عباس لما توجه صلى الله عليه وسلم عام الحديبية قدم عليه بسر بن سفيان الكعبي، فقال: يا بسر هل عندك علم إنْ أهل مكة علموا بمسيري فقال: إني لأطوف بالبيت في ليلة كذا وكذا وقريش في أنديتها إذ صرخ صارخ من أعلى جبل أبي قبيس(3/174)
فقال: "أشيروا عليّ أيها الناس، أترون أن أميل إلى عيالهم وذراري هؤلاء الذين يريدون أن يصدونا عن البيت".
وفيه: قال أبو بكر: يا رسول الله! خرجت عامدا لهذا البيت لا تريد قتل أحد، ولا حرب أحد، فتوجه له، فمن صدنا عنه قاتلناه، قال: "امضوا على اسم الله".
__________
بصوت أسمع أهل مكة:
هبوا لصاحبكم مثلى صحابته ... سيروا إليه وكونوا معشرا كرما
بعد الطواف وبعد السعي في مهل ... وأن يحوزهم من مكة الحرما
شاهت وجوههم من معشر ثكل ... لا ينصرون إذا ما حاربوا صنما
فارتجت مكة وتعاقدوا أن لا تدخل عليهم عامهم هذا، فقال صلى الله عليه وسلم: "هذا الهاتف سلفع شيطان الأصنام يوشك أن يقتله الله إن شاء الله". فبينما هم كذلك سمعوا من أعلى الجبل صوتا:
شاهت وجوه رجال حالفوا صنما ... وخاب سعيهم ما أقصر الهمما
إني قتلت عدو الله سلفعة ... شيطان أوثانكم سحقا لمن ظلما
وقد أتاكم رسول الله في نفر ... وكلهم محرم لا يسفكون دما
فإن ثبت هذا فكأنه لما أخبره بعثه عينا، هل اجتمعوا فذهب وعاد مخبرا له باجتماعهم, فقال: "أشيروا عليّ أيها الناس أترون" بتفح التاء "أن أميل إلى عيالهم وذراري هؤلاء" الكفار "الذين يريدون أن يصدونا عن البيت" فإن يأتونا كان الله عز وجل قد قطع عينا من المشركين، وإلا تركناهم محروبين "وفيه" عقب ما ذكرته، وما كان الكتاب يزيد به ومحروبين بالواو والموحدة أي مسلوبين منهوبين الأموال والعيال.
وفي رواية أحمد أترون أن نميل إلى ذراري هؤلاء الذين أعانوهم فنصيبهم، فإن قعدوا قعدوا موتورين محروبين وإن يجيئوا تكن عنقا قطعها الله.
وفي رواية: "أم ترون أن نؤم البيت فمن صدنا عنه قاتلناه"؟ , "قال أبو بكر" زاد أحمد: الله ورسوله أعلم "يا رسول الله خرجت عامدا لهذا البيت لا تريد قتل أحد ولا حرب أحد، فتوجه له" للبيت، "فمن صدنا عنه قاتلناه" قال الحافظ، والمراد أنه صلى الله عليه وسلم استشار أصحابه هل يخالف الذين نصورا قريشا إلى مواضعهم فيسبي أهلهم فإن جاءوا إلى نصرهم اشتغلوا بهم، وانفرد هو وأصحابه بقريش وذلك المراد بقوله يكون عنقا قطعه الله، فأشار عليه الصديق بترك القتال والاستمرار على ما خرج له من العمرة حتى يكون بدء القتال منهم فرجع إلى رأيه وقال: "امضوا على اسم الله" , ويروى أن المقداد بن عمرو الشهير بابن الأسود؛ لأنه تبناه قال نحو مقالته يوم(3/175)
وزاد أحمد: كان أبو هريرة يقول: ما رأيت أحدًا قط، كان أكثر مشاورة لأصحابه من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي رواية للبخاري: حتى إذا كانوا ببعض الطريق قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن خالد بن الوليد بالغميم في خيل لقريش طليعة، فخذوا ذات اليمين".
__________
بدر بعد كلام أبي بكر إنا والله يا رسول الله لا نقول كما قالت بنو إسرائيل لنبيها: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون. ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون. فقال صلى الله عليه وسلم: $"فسيروا على اسم الله تعالى".
"وزاد أحمد" عن عبد الرزاق وساقه ابن حبان من طريقه قال: قال معمر: قال الزهري: "كان أبو هريرة يقول: ما رأيت أحدًا قط كان أكثر مشاورة لأصحابه من رسول الله صلى الله عليه وسلم" امتثالا لقول ربه: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} .
قال الحافظ: وهذا القدر حذفه البخاري لإرساله لأن الزهري لم يسمع من أبي هريرة.
"وفي رواية للبخاري" في كتاب الشروط: حدثني عبد الله بن محمد حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر قال: أخبرني الزهري قال: أخبرني عروة بن الزبير عن المسور ومروان قالا: خرج صلى الله عليه وسلم ومن الحديبية "حتى إذا" هي رواية أبي ذر ولغيره بحذف إذا "كانوا ببعض الطريق" وهو عسفان، كما عند ابن إسحاق, قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن خالد بن الوليد" المخزومي سيف الله الذي سله بعد قريب جدا على المشركين "بالغميم" بفتح المعجمة وكسر الميم، وحكى عياض تصغيره، وكذا وقع في شعر جرير والشماخ قال محد بن حبيب موضع قريب من مكة بين رابغ والجحفة، وقول المحب الطبري يظهر أن المراد كراع الغميم وهو موضع بين مكة والمدينة، رده الحافظ بأن سياق الحديث ظاهر في أنه كان قريبا من الحديبية، فهو غير كراع الغميم فتعين قول ابن حبيب "في خيل لقريش" بين ابن سعد أنهم مائتا فارس فيهم عكرمة بن أبي جهل "طليعة" وهي مقدمة الجيش قال المصنف: بالنصب حال ولأبي ذر بالرفع انتهى.
وعند ابن أبي شيبة وابن إسحاق عن الزهري: فقال له عينه هذا خالد بن الوليد في خيلهم قد قدموها إلى كراع الغميم والجمع سهل جدا، بأنه لما أخبره عنه بذلك قال: ذلك ليسلكوا طريقا غير طريقهم، كما قال: "فخذوا ذات اليمين" وفي رواية ابن إسحاق: "من رجل يخرج بنا على غير طريقهم التي هم بها"؟ فحدثني عبد الله بن أبي بكر أن رجلا من أسلم قال: أنا يا رسول الله! فسلك بهم طريقا وعرا فخرجوا منه بعد أن شق عليهم وأفضوا إلى طريق سهلة فقال لهم: "قولوا: نستغفر الله ونتوب إليه". فقالوا ذلك, فقال: "والله إنها اللحظة التي عرضت على بني(3/176)
فوالله ما شعر بهم خالد حتى إذا هم بقترة الجيش، فانطلق يركض نذيرا لقريش.
وسار النبي صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان بالثنية التي يهبط عليهم منها بركت راحلته، فقال الناس: حل حل
__________
إسرائيل فلم يقولوها". وسمى ابن سعد السالك بهم حمزة بن عمرو الأسلمي.
وعند ابن إسحاق فقال صلى الله عليه وسلم: "واسلكوا ذات اليمين بين ظهري الحمض" بفتح الحاء المهملة وإسكان الميم وبالضاد المعجمة اسم موضع من طريق تخرجه على ثنية المرار بكسر الميم وخفة الراء مهبط الحديبية من أسفل مكة، فسلك الجيس ذلك الطريق فلما رأت خيل قريش قترة الجيش قد خالفوا عن طريقهم، ركضوا راجعين إلى قريش وهو معنى قوله "فوالله ما شعر بهم خالد حتى إذا هم بقترة" أي حتى فاجأهم قترة "الجيش" بفتح القاف والفوقية قال المصنف وسكنها في الفرع أي غبار الجيش الأسود، وكذا قيد به الحافظ وتبعه المصنف، وفي القاموس القتر والقترة محركتين والقترة بالفتح الغبرة انتهى.
فلم يقيد وهو صريح في أن القتر ليس جمعا وفي النورانة جمع قترة، "فانطلق" خالد حال كونه "يركض" يضرب برجله دابته استعجالا للسير حال كونه "نذيرا" منذرا "لقريش" بمجيء رسول الله صلى الله عليه وسلم وظاهر هذا الحديث الصحيح أنه بمجرد رؤيته انطلق نذيرا.
وعند ابن سعد وغيره أن خالدا دنا في خيله حتى نظر المصطفى والصحابة وصف خيله بينهم وبين القبلة فأمر صلى الله عليه وسلم عباد بن بشر فتقدم في خيله، فقام بإزائه فصف أصحابه وحانت الظهر فصلاها بهم صلى الله عليه وسلم فقال خالد: قد كانوا على غرة لو حملنا عليهم أصبنا منهم، ولكن تأتي الساعة صلاة أخرى هي أحب إليهم من أنفسهم وأبنائهم فنزل جبرل بين الظهر والعصر بقوله: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ} الآية, فحانت العصر فصلى صلاة الخوف، فإن أردت الترجيح فما في الصحيح أصح أو الجمع أمكن أن انطلاقه بعدما صف أصحابه، ووقف إلى العصر حتى أيس من إصابة المسلمين، "وسار النبي صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان بالثنية" أي ثنية المرار بكسر الميم وتخفيف الراء، طريق في الجبل تشرف على الحديبية، وزعم الدوادي أنها الثنية التي بأسفل مكة وهو وهم قاله الفتح "التي يهبط" بضم أوله، وفتح ثالثه مبنيا للمفعول "عليهم" أي قريش "منها بركت" به عليه السلام "راحلته" ناقته القصواء "فقال الناس حل حل" بفتح الحاء، وسكون اللام فيهما كلمة تقال للناقة إذا تركت السير.
وقال الخطابي: إن قلت حل واحدة، فبالسكون وإن أعدتها تؤنث الأولى، وسكنت الثانية، وحكى غيره السكون فيهما والتنوين، كنظيره في بخ بخ. يقال: حلحلت فلانا إذا أزعجته عن موضعه, ذكره الحافظ.(3/177)
فألحت -يعني تمادت على عدم القيام- فقالوا: خلأت القصواء خلأت القصواء. فقال النبي عليه الصلاة والسلام: "ما خلأت القصواء وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل".
أي حبسها الله عن دخول مكة كما حبس الفيل عن دخولها، ومناسبة ذلك أن الصحابة لو دخلوا مكة على تلك الصورة، وصدتهم قريش لوقع بينهم القتال المفضي إلى سفك الدماء ونهب الأموال، كما لو قدر دخول الفيل، لكن سبق في علم الله أنه سيدخل في الإسلام منهم خلق، ويستخرج من أصلابهم ناس يسلمون ويجاهدون. انتهى.
__________
قال المصنف: لكن الرواية بالسكون فيها. انتهى.
"فألحت" بفتح الهمزة وتشديد الحاء المهملة من الإلحاح. قال المصنف تبعا للفتح يعني تمادت على عدم القيام"، فلم تبرح من مكانها، فليس التفسير مدرجا في الحديث.
"فقالوا: خلأت" بخاء معجمة، ولام وهمزة مفتوحات، أي حرنت وبركت من غير علة "القصواء" بفتح القاف وسكون المهملة وفتح الواو مهموز اسم ناقته صلى الله عليه وسلم "خلأت القصواء" مرتين قيل كان طرف أذنها مقطوعا والقصور قطع طرف الأذن يقال بعير أقصى وناقة قصواء، وكان القياس القصر، كما في بعض نسخ أبي ذر، وزعم الداودي أنها كانت لا تسبق، فقيل لها: القصواء، لأنها بلغت من السبق أقصاه، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: "ما خلأت القصواء" قال الحافظ الخلاء بالمعجمة والمد للإبل كالحران للخيل، وقال ابن قتيبة لا يكون الخلاء إلا للنوق خاصة، وقال ابن فارس: لا يقال للجمل خلأ لكن ألح "وما ذاك لها بخلق" بضم الخاء المعجمة واللام أي ليس إخلاؤها بعادة كما حسبتم "ولكن حبسها" أي القصواء "حابس الفيل".
زاد ابن إسحاق عن مكة "أي حبسها الله" عز وجل "عن دخول مكة، كما حبس الفيل عن دخولها، ومناسبة ذلك" أي التشبيه بقصة الفيل، كما قال الحافظ: "أن الصحابة لو دخلوا مكة على تلك الصورة، وصدتهم قريش لوقع بينهم القتال المفضي إلى سفك الدماء ونهب الأموال، كما لو قدر دخول الفيل" وأصحابه "لكن سبق في علم الله" في الموضعين "أنه سيدخل في الإسلام خلق منهم، ويستخرج من أصلابهم ناس يسلمون ويجاهدون" وكان بمكة في الحديبية جمع كثير مؤمنون من المستضعفين من الرجال والنساء والولدان، فلو طرق الصحابة مكة لما أمن أن يصاب منهم ناس بغير عمد، كما أشار إليه في قوله تعالى: {وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُون} الآية, "انتهى".(3/178)
ثم قال صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده، لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها".
__________
ما فصل به الحديث من حكمة حبس الناقة، واستبعد المهلب جواز حابس الفيل على الله، فقال المراد: حبسه أمر الله، وتعقب أنه يجوز إطلاق ذلك في حق الله. فيقال حبسها الله حابس الفيل، وإنما الذي يمكن أن يمنع تسميته سبحانه حابس الفيل ونحوه، كذا أجاب ابن المنير وهو مبني على الصحيح من أن الأسماء توقيفية، وقد توسط الغزالي وطائفة فقالوا: محل المنع ما لم يرد نص بما يشتق منه بشرط أن لا يكون ذلك الاسم المشتق مشعرا بنقص فيجوز تسميته الواقي لقوله تعالى: {وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ} [غافر: 9] ، ولا يجوز تسميته البناء وإن ورد قوله: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ} ، وفي هذه القصة جواز التشبيه من الجهة العامة، وإن اختلفت الجهة الخاصة لأن أصحاب الفيل كانوا على باطل محض، وأصحاب هذه الناقة كانوا على حق محض، ولكن جاء التشبيه من جهة إرادة الله منع الحرم مطلقا.
أما من أهل الباطل فواضح وأما من أهل الحق فللمعنى المتقدم وفيه رب المثل واعتبار من بقي بمن مضى، واستدل بعضهم بهذه القصة لمن قال من الصوفية علامة الإذن التيسير وعكسه وفيه نظر.
قال ابن بطال وغيره وفيه جواز الاستتار عن طلائع المشركين ومفاجأتهم بالجيش طلبا لغرتهم والسفر وحده للحاجة والتنكب عن الطريق السهل إلى الوعرة للمصلحة، والحكم على الشيء بما عرف من عادته وإن جاز أن يطرأ عليه غيره وإذا وقع من شخص هفوة لا يعهد منه مثلها لا ينسب إليها، ويرد على من نسبه إليها ومعذرة من نسبه إليها ممن لا يعرف صورة حاله، لأن خلاء القصواء لولا خارق العادة لكان ما ظنه الصحابة صحيحا، ولم يعاتبهم صلى الله عليه وسلم على ذلك لعذرهم والتصرف في ملك الغير بالمصلحة بغير إذنه الصريح إذ سبق منه ما يدل على الرضا بذلك، لأنهم زجروها بغير إذن ولم يعاتبهم انتهى.
من فتح الباري "ثم قال صلى الله عليه وسلم" عقب قوله: "حابس الفيل": "والذي نفسي بيده" فيه تأكيد القول باليمين ليكون أدعى إلى القبول، وقد حفظ عنه صلى الله عليه وسلم الحلف في أكثر من ثمانين موضعا، قاله ابن القيم في الهدي "لا يسألوني" أي قريش، ولأبي ذر لا يسألونني بنونين على الأصل "خطة" بضم الخاء المعجمة وشد الطاء المهملة، أي: خصلة "يعظمون فيها حرمات الله" أي من ترك القتال في الحرم والجنوح إلى السلم والكف عن إراقة الدماء قاله الخطابي.
وفي رواية ابن إسحاق لا يدعوني قريش اليوم إلى خطة يسألوني فيها صلة الرحم وهي من حرمات الله "إلا أعطيتهم إياها" أي: أجبتهم إليها وإن كان فيها تحمل مشقة، وقيل المراد(3/179)
ثم زجرها فوثبت. قال: فعدل عنهم حتى نزل بأقصى الحديبية على ثمد قليل الماء -يعني حفرة فيها ماء قليل- يتربضه الناس تبرضا -أي يأخذونه قليلا قليلا- فلم يلبثه الناس
__________
حرمة الحرم والشهر والإحرام قال الحافظ: وفي الثالث نظر لأنهم لو عظموا الإحرام لما صدره قال السهيلي: لم يقع في شيء من طرق الحديث أنه قال: إن شاء الله مع أنه مأمور بها في كل حالة، وأجاب بأنه كان أمرا واجبا حتما فلا يحتاج فيه إلى الاستثناء، وتعقب بأنه تعالى قال في هذه القصة {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} [الفتح: 27] .
فقال: إن شاء الله مع تحقق وقوع ذلك تعليما وإرشادا، فالأولى أن يحمل على أن الاستثناء سقط من الراوي أو كانت القصة قبل نزول الأمر بذلك، ولا يعارضه أن الكهف مكية إذ لا مانع أن يتأخر نزول بعض السورة، كذا في الفتح، والجوابان اللذان "قال إنهما الأولى مذكوران في الروض عن غيره، وسلمهما البرهان فقال: ما قاله حسن مليح "ثم زجرها" أي الناقة "فوثبت" بمثلثة آخره فوقية أي: قامت "قال فعدل عنهم" في رواية ابن سعد فولى راجعا "حتى نزل بأقصى الحديبية".
وفي رواية ابن إسحاق، ثم قال للناس: "انزلوا" قالوا: يا رسول الله ما بالوادي ماء ننزل عليه "على ثمد" بفتح المثلثة والميم ودال مهملة "قليل الماء"، وفسره المصنف كغيره بقوله: "يعني حفرة فيها ماء قليل" يقال ماء مثمود أي: قليل فقوله: قليل الماء تأكيد لدفع توهم أن يراد، لغة من يقول الثمد الماء الكثير، وقيل: الثمد ما يظهر من الماء في الشتاء ويذهب في الصيف كذا في الفتح، وعورض بأنه إنما يتوجه إن ثبت لغة أن الثمد الماء الكثير، واعترض الدماميني قوله تأكيد بأنه لو اقتصر على قليل أمكن أم مع إضافته إلى الماء فيشكل، وكذلك إنا نقول هذا ماء قليل الماء نعم.
قال الراوي: في الثمد العين، وقال غيره حفرة فيها ماء فإن صح فلا إشكال "يتبرضه" بتحتية ففوقية فموحدة فراء مشددة فضاد معجمة "الناس تبرضا".
قال المصنف نصب على أنه مفعول مطلق من باب التفعيل للتكلف، "أي يأخذونه قليلا قليلا" قال الحافظ البرض بالفتح والسكون اليسير من العطاء، وقال صاحب العين هو جمع الماء بالكفين، وذكر أبو الأسود عن عروة وسبقت قريش إلى الماء ونزلوا عليه ونزل صلى الله عليه وسلم الحديبية في حر شديد وليس به إلا بئر واحدة، "فلم يلبثه الناس" قال الحافظ بضم أوله وسكون اللام من الإلباث، وقال ابن التين بضم أوله وكسر الموحدة المثقلة أي: لم يتركوه يلبث أي يقيم وقال المصنف: بضم أوله وفتح اللام وشد الموحدة وسكون المثلثة في الفرع، وأصله مصححا عليه(3/180)
حتى نزحوه، وشكي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العطش، فانتزع سهما من كنانته، ثم أمرهم أن يجعلوه فيه، فوالله ما زال يجيش لهم بالري حتى صدروا عنه.
__________
"حتى نزحوه" بنون فزاي فحاء مهملة أي لم يبقوا منه شيئا.
يقال: نزحت البئر على صيغة واحدة في التعدي واللزوم قال الحافظ: ووقع في شرح ابن التين بفاء بدل الحاء ومعناهما واحد، وهو أخذ الماء شيئا بعد شيء إلى أن يبقى منه شيء، "وشكي" بضم أوله مبني للمفعول "إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العطش" بالرفع نائب الفاعل، "فانتزع" أخرج "سهما من كنانته" بكسر الكاف جعبته التي فيها النبل، "ثم أمرهم أن يجعلوه فيه" في الثمد. قال الحافظ في المقدمة: روى ابن سعد من طريق أبي مروان حدثني أربعة عشرة رجلا من الصحابة بالأنصار أن الذي نزل البئر ناجية بن الأعجم وقيل: هو ناجية بن جندب وقيل: البراء بن عازب، وقيل: عبادة بن خالد.
حكاه عن الواقدي ووقع في الاستيعاب خالد بن عبادة، وقال في الفتح: يمكن الجمع بأنهم تعاونوا على ذلك بالحفر وغيره، "فوالله ما زال يجيش" بفتح أوله وكسر الجيم آخره معجمة أي يفور "بالري".
قال الحافظ: بكسر الراء ويجوز فتحها "حتى صدروا عنه" أي رجعوا رواء بعد ورودهم.
زاد ابن سعد حتى اغترفوا بآنيتهم جلوسا على شفير البئر، وكذا في رواية أبي الأسود عن عروة وعند ابن إسحاق فجاش بالرواء حتى ضرب الناس عنه بعطن.
وفي حديث البراء عند البخاري أنه صلى الله عليه وسلم جلس على البئر ثم دعا بإناء فمضمض ودعا ثم صبه فيها ثم قال: " دعوها ساعة" فأرووا أنفسهم وركابهم حتى ارتحلوا ويمكن الجمع بأن الأمرين وقعا معا، وقد روى الواقدي عن أوس بن خولي: أنه صلى الله عليه وسلم توضأ في الدلو، ثم أفرغه فيها وانتزع السهم فوضعه فيها، وهكذا ذكر أبو الأسود عن عروة وهذه القصة غير القصة التي في حديث جابر عند الشيخين قال: عطش الناس يوم الحديبية وبين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ركوة يتوضأ منها، فأقبل الناس نحوه، فقال: "ما لكم" قالوا: يا رسول الله ليس عندنا ما نتوضأ به ولا نشرب إلا ما في ركوتك، فوضع يده في الركوة، فجعل الماء يفور من بين أصابعه كأمثال العيون فشربنا وتوضأنا، وجمع ابن حبان بينهما بأن ذلك وقع في وقتين, وكان ذلك قبل قصة البئر وسيأتي في الأشربة يعني من كتاب البخاري بيان أن حديث جابر كان حين حضرت صلاة العصر عند إرادة الوضوء، وحديث البراء كان لإرادة ما هو أعم من ذلك، ويحتمل أن الماء لما تفجر من أصابعه ويده في الركوة وتوضئوا كلهم وشربوا أمر حينئذ بصب الماء الباقي في الركوة في البئر فتكاثر الماء فيها، وقد أخرج أحمد حديث جابر وفيه: فجاءه رجل بإداوة فيها شيء من ماء ليس في(3/181)
فبينما هم كذلك إذ جاء بديل بن ورقاء الخزاعي في نفر من قومه من خزاعة, وكانوا عيبة نصح رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل تهامة
__________
القوم ماء غيره فصبه صلى الله عليه وسلم في قدح، ثم توضأ فأحسن الوضوء ثم انصرف وترك القدح فتزاحم الناس عليه، فقال: "على رسلكم" فوضع كفه في القدح ثم قال: "أسبغوا الوضوء". قال: فلقد رأيت العيون عيون الماء تخرج من بين أصابعه. وفي حديث زيد بن خالد أنهم أصابهم مطر بالحديبية، فكان ذلك وقع بعد القصتين المذكورتين, والله أعلم, وفي هذا معجزات ظاهرة وفيه بركة سلاحه وما ينسب إليه صلى الله عليه وسلم. انتهى.
من الفتح في موضعين وسيكون لنا إن شاء الله تعالى عودة لمزيد الكلام على ذلك في المعجزات "فبينما" بالميم الزائدة للكشميهني بإسقاطها وبين مضافة الجملة "هم كذلك" تقدير مضاف أي أوقات "إذ جاء بديل" بالموحدة والتصغير "ابن ورقاء" بفتح الواو وسكون الراء بالقاف والمد ابن عمرو بن ربيعة "الخزاعي" بضم الخاء وبالزاي نسبة إلى خزاعة قبيلة من الأزد الصحابي المشهور كان سيد قومه. قال أبو عمر: أسلم يوم الفتح بمهر الظهران. قال ابن إسحاق: وشهد بديل حنينا والطائف وتبوك وكان من كبار مسلمة الفتح وقيل: أسلم قبل الفتح. وقال ابن منده وأبو نعيم أسلم قديما "في نفر من قومه". قال الحافظ: سمى الواقدي منهم عمرو بن سالم وخراش بن أمية وفي رواية أبي الأسود عن عروة منهم خارجة بن كرز ويزيد بن أمية انتهى.
فقصر البرهان في قوله لا أعرفهم أو مراده جميعهم "من خزاعة" أتى به مع علمه من إضافة قوم إلى ضميره لدفع توهم أن يراد، معاشروه ومخالطوه وإن لم يكونوا من خزاعة. "وكانوا" قال شيخنا: أي خزاعة وذكر باعتبار الحي وقال المصنف أي بديل والنفر الذين معه لكن يؤيد شيخنا أن الروايات تفسر بعضها. وقد رواه ابن إسحاق بلفظ: وكانت خزاعة "عيبة" بفتح المهملة وسكون التحتية بعدها موحدة ما يوضع فيه الثياب لحفظها أي: أنهم موضع "نصح" بضم النون. وحكى ابن التين: فتحها "رسول الله صلى الله عليه وسلم" وموضع الأمانة على سره كأنه شبه الصدر الذي هو مستودع السر بالعيبة التي هي مستودع الثياب. قاله الحافظ وتبعه المصنف وغيره وأصله قول النهاية تبعا للقزاز وغيره من اللغويين العرب تكنى عن الصدور والقلوب بالعياب لأنها مستودع السرائر، كما أن العياب مستودع الثياب "من أهل تهامة" لبيان الجنس، لأن خزاعة من جملة أهل تهامة بكسر الفوقية وهي مكة وما حولها وأصله من التهم وهو شدة الحرور كود الريح. وفي رواية ابن إسحاق وكانت خزاعة عيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم مسلمها ومشركها لا يخفون عليه شيئا كان بمكة. وعند الواقدي أن بديلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم غورت ولا سلاح معك فقال: "لم نجئ لقتال" فتكلم أبو بكر فقال له: بديل أنا لا آتيهم ولا قومي. انتهى.(3/182)
فقال: إني تركت كعب بن لؤي وعامر بن لؤي نزلوا أعداد مياه الحديبية، ومعهم العوذ المطافيل وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت.
والعوذ: بالذال المعجمة: جمع عائذ وهي الناقة ذات اللبن.
والمطافيل: الأمهات اللاتي معها أطفالها.
يريد أنهم خرجوا معهم
__________
والأصل في موالاتهم له صلى الله عليه وسلم أن بني هاشم في الجاهلية كانوا تحالفوا مع خزاعة فاستمروا على ذلك في الإسلام، وفيه جواز استنصاح بعض المعاهدين وأهل الذمة إذا دلت القرائن على نصحهم، وشهدت التجربة بإيثارهم أهل الإسلام على غيرهم ولو كانوا من أهل دينهم، ويستفاد منه جواز استنصاح بعض ملوك العدو واستظهارا على غيرهم، ولا يعد ذلك من موالاة الكفار، ولا من موادة أعداء الله، بل من قبيل استخدامهم، وتقليل شوكة جمعهم وإنكاء بعضهم ببعض، ولا يلزم من ذلك جواز الاستعانة بالمشركين على الإطلاق، "فقال: إني تركت كعب بن لؤي وعامر بن لؤي" إنما اقتصر على هذين لرجوع أنساب قريش الذين بمكة، أجمع إليهما وبقي من قريش بنو سامة بن لؤي وبنو عوف من لؤي وهم قريش البطاح ولم يكن بمكة منهم أحد، وكذلك قريش الظواهر الذين منهم بنو تميم بن غالب ومحارب بن فهر "نزلوا أعداد" بفتح الهمزة وسكون العين المهملة جمع عد بالكسر والتشديد وهو الماء الذي لا انقطاع له، وغفل الداودي فقال: هو موضع بمكة، ذكر كله الفتح فإضافة أعداد إلى "مياه الحديبية" من إضافة الأعم إلى الأخص، وفي القاموس أن عد يطلق أيضا على الكثرة في الشيء فإن أريدت فهو من إضافة الصفة إلى الموصوف، أي مياه الحديبية الكثيرة.
قال الحافظ: وهذا يشعر بأنه كان بها مياه كثيرة وأن قريشا سبقوا إلى النزول عليها، فلذا عطش المسلمون حيث نزلوا على الثمد المذكور، وقد مر قول عروة وسبقت قريش إلى الماء، ونزلوا عليه "ومعهم العوذ" بضم العين المهملة، وسكون الواو "المطافيل" بفتح الميم والطاء المهملة فألف ففاء مكسورة فتحتية ساكنة فلام، "وهم مقاتلوك وصادوك"، مانعوك "عن البيت" الحرام "والعوذ بالذال المعجمة" آخره "جمع عائذ" بالهمز، وإن رسم بصورة الياء، ولا يرد أنه اسم فاعل وصف به مؤنث، فقياسه عائذة بالتاء لاختصاصه بالمؤنث، فلا مذكر له يفرق بينه وبين مؤنثه بالتاء على أنه جعل اسما، فليست الوصفية مرادة منه كما يصرح به قوله "وهي الناقة ذات اللبن"، فعلى هذا يقال هذا عائذ لا ناقة عائذ ومر نظيره في لقحة، "والمطافيل الأمهات اللاتي معها أطفالها يريد"، كما جزم به في الروض وصدر به الفتح، فتبعه المصنف، "أنهم(3/183)
بذوات الألبان من الإبل ليتزودوا بألبانها، ولا يرجعوا حتى يمنعوه، أو كنى بذلك عن النساء معهن الأطفال. والمراد أنهم خرجوا بنسائهم وأولادهم لإرادة طول المقام ليكون أدعى إلى عدم الفرار.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنا لم نجئ لقتال أحد، ولكن جئنا معتمرين، وإن قريشا قد نهكتهم الحرب وأضرت بهم، فإن شاءوا ماددتهم مدة ويخلوا بيني وبين الناس إن شاءوا، فإن أظهر فإن شاءوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا، وإلا فقد جمعوا -يعني استراحوا
__________
خرجوا معهم بذوات الألبان من الإبل ليتزودوا بألبانها, ولا يرجعوا حتى يمنعوه، أو" كما قال ابن قتيبة "كنى بذلك" على سبيل الاستعارة "عن النساء معهن الأطفال والمراد أنهم خرجوا بنسائهم وأولادهم لإرادة طول المقام" إن دعا إليه الأمر "ليكون أدعى إلى عدم الفرار".
زاد الحافظ ويحتمل إرادة المعنى الأعم.
قال ابن فارس كل أنثى إذا وضعت فهي إلى سبعة أيام وعائذ والجمع عوذ كأنها سميت بذلك لأنها تعوذ ولدها وتلتزم الشغل به، وقال السهيلي: سميت بذلك وإن كان الولد هو الذي يعوذ بها لأنها تعطف عليه بالشفقة والحنو كما قالوا تجارة رابحة وإن كانت مربوحا فيها، وعند ابن سعد معهم العوذ المطافيل والنساء والصبيان، "فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم" مجيبا لبديل: "إنا لم نجئ لقتال أحد ولكنا جئنا معتمرين وإن قريشا قد نهكتهم الحرب" بفتح النون والهاء وكسرها في الفرع كأصله أي أبلغت فيهم حتى أضعفت قوتهم وهزلتهم وأضعفت أموالهم.
كذا في شرح المصنف والذي اقتصر عليها لحافظ وغيره كسر الهاء "وأضرت بهم فإن شاءوا ماددتهم" أي جعلت بيني وبينهم "مدة " تترك الحرب بيننا وبينهم فيها، "ويخلوا بيني وبين الناس" من كفار العرب وغيرهم.
"إن شاءوا" كذا عزاه المصنف لأبي ذر عن المستملي، والكشميهني، وسقط للباقين، فكان ذكرها مجرد تأكيد، "فإن أظهر" بالجزم بإظهار الله تعالى ديني بحيث يدخله الناس، ويتبعوني فيما جئت به "فإن شاءوا" مرتب على ظهور قال المصنف معطوف على الشرط الأول "أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس" من طاعتي "فعلوا" جواب الشرطين "وإلا" أي وإن لم أظهر، "فقد جموا" بفتح الجيم وشد الميم المضمومة، "يعني استراحوا" من القتال، ولابن عائذ فإن ظهر الناس عليّ فذاك الذي يبغون فصرح بما حذفه هنا من القسم الأول. انتهى.
وقال الحافظ: هو شرط بعد شرط والتقدير، فإن ظهر غيرهم عليّ كفاهم المؤنة، وإن(3/184)
وإن هم أبوا، فوالذي نفسي بيده لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي -أي صفحة العنق، كنى بذلك عن القتل- ولينقذن الله أمره".
فقال بديل: سأبلغهم ما تقول. فانطلق حتى أتى قريشا فقال: إنا قد جئناكم من عند هذا الرجل، وسمعناه يقول قولا، فإن شئتم أن نعرضه عليكم فعلنا
__________
أظهر أنا على غيرهم، فإن شاءوا أطاعوني وإلا فلا تنقضي مدة الصلح إلا وقد جموا أي استراحوا أي قووا، وفي رواية ابن إسحاق: "وإن لم يفعلوا قاتلوا وبهم قوة". وإنما ردد الأمر مع أنه جازم بأنه تعالى سينصره ويظهره لوعد الله تعالى له بذلك على طريق التنزل مع الخصم وفرض الأمر على ما زعمه ولهذه النكتة حذف القسم الأول وهو التصريح بظهور غيره عليه لكن صرح به في رواية ابن إسحاق ولفظه: "فإن أصابوني كان الذي أرادوا". ولابن عائذ من وجه آخر عن الزهري: "فإن ظهر الناس علي فذاك الذي يبتغون". فالظاهر أن الحذف وقع من بعض الرواة تأدبا. انتهى.
"وإن هم أبوا" امتنعوا، "فوالذي نفسي بيده لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي" بالسين المهملة، وكسر اللام، "أي صفحة العنق كنى بذلك"، كما قال السهيلي "عن القتل" لأن القتيل تنفرد مقدمة عنقه، وقال الداودي المراد الموت أي حتى أموت وأبقى منفردا في قبري، ويحتمل أنه أراد أنه يقاتل حتى ينفرد وحده في مقاتلتهم، وقال ابن المنير: لعله نبه بالأدنى على الأعلى، أي أن لي من القوة بالله والحول به ما يقتضي مقاتلتهم عن دينه لو انفردت، فكيف لا أقاتل عن دينه مع كثرة المسلمين ونفاذ بصائرهم في نصر دين الله، "ولينفذن" بضم أوله وسكون النون وكسر الفاء وذال معجمة فنون مشددة الزركشي والدماميني ضبطاه بفتح النون الأولى وشد الفاء مكسورة.
قاله المصنف وكلام الفتح محتمل فإنه قال بضم أوله وكسر الفاء أي: ليمضين "لله أمره" في نصر دينه وحسن الإتيان بهذا الجزم بعد ذلك التردد للتنبيه على أنه لم يورده إلا على سبيل الفرض، وفي هذا ما كان عليه صلى الله عليه وسلم من القوة والثبات في تنفيذ حكم الله، وتبليغ أمره والندب إلى صلة الرحم والإبقاء على ما كان من أهلها وبذل النصيحة للقرابة، "فقال بديل سأبلغهم" بفتح الموحدة وشدة اللام "ما تقول".
قال الحافظ أي فأذن له "فانطلق" بديل مع ركبه "حتى أتى قريشا".
زاد الواقدي فقال ناس منهم هذا بديل وأصحابه وإنما يريدون أن يستخبروكم فلا تسألوهم عن حرف واحد، فرأى بديل أنهم لا يستخبرونه، "فقال: إنا قد جئناكم من عند هذا الرجل" يعني النبي صلى الله عليه وسلم: "وسمعناه يقول قولا فإن شئتم أن نعرضه" بفتح النون "عليكم فعلنا"، وللواقدي إنا(3/185)
فقال سفهاؤهم: لا حاجة لنا أن تخبرنا عنه بشيء، وقال ذو الرأي منهم: هات ما سمعته يقول, قال: سمعته يقول كذا وكذا، فحدثهم بما قال النبي صلى الله عليه وسلم.
فقام عروة بن مسعود، فقال: أي قوم، ألستم بالوالد؟ قالوا: بلى، قال: أو لست بالولد؟ قالوا: بلى، قال: فهل تتهموني؟ قالوا: لا، قال: ألستم تعلمون أني استنفرت أهل عكاظ
__________
جئنا من عند محمد أتحبون أن نخبركم عنه؟ "فقال سفهاؤهم" قال الحافظ: سمى الواقدي منهم عكرمة بن أبي جهل والحكم بن العاصي "لا حاجة لنا أن تخبرنا عنه بشيء" زاد الواقدي، ولكن أخبره عنا أنه لا يدخلها علينا عامه هذا أبدًا حتى لا يبقى منا رجل واحد، "وقال ذو الرأي منهم: هات".
قال المصنف بكسر التاء أي أعطني، وقال شيخنا أي اذكر "ما سمعته يقول،" وفي رواية الواقدي فأشار عليهم عروة الثقفي بأن يسمعوا كلام بديل فإن أعجبهم قبلوه وإلا تركوه فقال صفوان والحارث بن هشام: أخبرونا بالذي رأيتم وسمعتم، "قال: سمعته يقول كذا وكذا، فحدثهم بما قال النبي صلى الله عليه وسلم" وفي رواية ابن إسحاق فرجعوا إلى قريش فقالوا: إنكم تعجلون على محمد أنه لم يأت لقتال إنما جاء زائرا لهذا البيت، فاتهموهم وجبهوهم وقالوا: وإن جاء لا يريد قتالا، فوالله لا يدخلها علينا عنوة أبدا، ولا تحدث بذلك عنا العرب أبدا، "فقام عروة بن مسعود" بن معتب بضم الميم وفتح المهملة وشد الفوقية المكسورة بعدها موحدة الثقفي أسلم عند منصرفه صلى الله عليه وسلم عن الطائف، ورجع إلى قومه ودعاهم إلى الإسلام فقتلوه، فقال صلى الله عليه وسلم: "مثله في قومه كصاحب يس".
ووقع في رواية أحمد عن ابن إسحاق عروة بن عمرو بن مسعود قال الحافظ: والصواب الأول وهو الذي في السيرة "فقال: أي قوم ألستم بالوالد" أي: مثله في الشفقة عل ولده، "قالوا: بلى قال: أو لست بالولد" أي مثله في النصح لوالده، "قالوا: بلى" وعند ابن إسحاق أن أم عروة سبيعة بنت عبد شمس بن عبد مناف، فأراد أنهم قد ولدوه في الجملة لكون أمه منهم ولأبي ذر ألستم بالولد وألست بالوالد، وجرى عليه بعض الشراح، فقال: أي أنتم عندي في الشفقة والنصح بمنزلة الولد، قال ولعله كان يخاطب قوما هو أسن منهم.
قال الحافظ والصواب الأول وهو الذي في رواية أحمد وابن إسحاق وغيرهما "قال: فهل تتهمونني" بنونين رواية أبي ذر على الأصل، ولغيره بواحدة أي تنسبوني إلى التهمة؟ "قالوا: لا" نتهمك، وعند ابن إسحاق قالوا: صدقت ما أنت عندنا بمتهم، "قال: ألستم تعلمون أني استنفرت أهل عكاظ" بضم المهملة، وخفة الكاف وآخره طاء معجمة مصروف، ولأبي ذر بمنعه،(3/186)
فلما بلحوا علي -وهو بالحاء المهملة، أي تمنعوا من الإجابة- جئتكم بأهلي وولدي ومن أطاعني؟ قالوا: بلى قال: فإن هذا قد عرض عليكم خطة رشد -أي خصلة خير وصلاح- اقبلوها، ودعوني آته، قالوا: ائته.
فأتاه، فجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم, فقال النبي صلى الله عليه وسلم نحوا من قوله لبديل. فقال عروة عند ذلك: أي محمد، أرأيت إن استأصلت أمر قومك هل سمعت بأحد من العرب اجتاح أهله قبلك؟ وإن تكن الأخرى
__________
أي دعوتهم إلى نصركم، "فلما بلحوا علي وهو" بالموحدة وشد اللام المفتوحتين، و"بالمهملة" المضمومة "أي امتنعوا من الإجابة" قال الحافظ والتبلح التمنع من الإجابة وبلح الغريم إذا امتنع من أداء ما عليه "جئتكم بأهلي وولدي ومن أطاعني، قالوا: بلى".
"قال فإن هذا" -يعني النبي صلى الله عليه وسلم- "قد عرض عليكم" وللكشميهني: لكم "خطة" بضم الخاء المعجمة وشد المهملة "رشد" بضم الراء وسكون المعجمة وبفتحهما، "أي خصلة خير وصلاح" وإنصاف "اقبلوها" وبين ابن إسحاق أن سبب تقديمه لهذا الكلام ما رآه من ردهم العنيف على من يجيء من عند المصطفى، ووقع عنده تقديم مجيء مكرز ثم الحليس على عروة، ولا ريب أن ما في الصحيح أصح "ودعوني" اتركوني "آته" بالمد مجزوم على جواب الأمر، وأصله آتيه أي أجيء إليه، هكذا اقتصر عليه الفتح، وعزاه المصنف لأبي ذر، وصدر بأنه آتيه بالياء على الاستئناف. "قالوا: ائته" قال الحافظ: بألف وصل بعدها همزة ساكنة ثم مثناة مكسورة، ثم هاء ويجوز كسرها.
زاد المصنف أمر من أتى يأتي "فأتاه أي: فأتى عروة النبي صلى الله عليه وسلم هكذا هو ثابت في البخاري، وسقط في كثير من نسخ المصنف، فاحتاج شيخنا لتقديرها، "فجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم" بنحو ما قال: بديل، "فقال له النبي صلى الله عليه وسلم نحوا من قوله لبديل" السابق.
زاد ابن إسحاق وأخبره أنه لم يأت يريد حربا، "فقال عروة عند ذلك" قال الحافظ: أي عند قوله لأقاتلنهم، "أي: محمد أرأيت" أي: أخبرني "إن استأصلت أمر قومك" أي أهلكتهم بالكلية، "هل سمعت بأحد من العرب اجتاح" بجيم، ثم حاء مهملة أي أهلك "أهله قبلك" حتى يكون سلفك، فلا تلام أولا فتلام لإحداثك ما لم يسبقك إليه أحد من العرب، "وإن تكن الأخرى" قال الحافظ حذف الجزاء تأدبا معه صلى الله عليه وسلم والمعنى وإن تكن الغلبة لقريش فلا آمنهم عليك مثلا وقوله: فإني ... إلخ، كالتعليل هذا المقدر المحذوف، والحاصل أنه ردد الأمر بين شيئين غير مستحسنين، وهو هلاك قومه إن غَلب وذهاب أصحابه إن غُلب، لكن كل منهما مستحسن شرعا، كما قال(3/187)
فإني والله لأرى وجوها، وإني لأرى أشوابا يعني أخلاطا من الناس خليقا أن يفروا عنك ويدعوك.
فقال له أبو بكر الصديق رضي الله عنه: امصص بظر اللات
__________
تعالى: {تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ} [التوبة: 52] انتهى.
ونحو تقديره للكرماني وتبعه العيني وقدر الزركشي وإن كانت الأخرى كانت الدولة للعدو، وكان الظفر لهم عليك وعلى أصحابك. ورده الدماميني باتحاد الشرط والجزاء لأن الأخرى هي انتصار العدو وظفرهم فيئول تقديره إلى أن انتصر أعداؤك وظفروا كانت الدولة لهم وظهورا. قال فالمستقيم تقدير لم ينفعك أصحابك "فإني والله لأرى" هكذا، هو في البخاري بالإثبات "وجوها" قال المصنف: أي أعيان الناس. انتهى.
فيعني بهم قريشا، والمعنى أن أعداءه أعيان وأصحابه بأخلاط، ويقع في بعض نسخ المواهب مصحفا لا أرى بزيادة ألف واقتصر عليها الشارح، وتكلف شرحها بأنه كالتعليل لعدم ثباتهم، أي: لا يظهر منهم نصر ولا ثبات؛ لأنهم أخلاط ليسوا من قبيلة واحدة حتى يحرصوا على الثبات على مناصرة بعضهم بعضا، لكن حيث لم تأت بها الرواية، ولم يتكلم عليها الشرح، ولا ذكروها نسخة فلا عبرة بها. "وإني لأرى" بالإثبات أيضا "أشوابا" بتقديم المعجمة على الواو للأكثر، وعليها اقتصر صاحب المشارق.
قال المصنف ولأبي ذر عن الكشميهني أوشابا بتقديم الواو المعجمة ويروى أوباشا بتقديم الواو على الموحدة "يعني أخلاطا من الناس" قال الحافظ: والأشواب الأخلاط من أنواع شتى والأوباش الأخلاط من السفلة فالأوباش أخص من الأشواب, "خليقا" بالخاء المعجمة والقاف. أي: حقيقا وزنا ومعنى ويقال للواحد والجمع، ولذا وقع صفة لأشواب "أن يفروا عنك ويدعوك" بفتح الدال أي: يتركوك.
وفي رواية أبي المليح عن الهري فكأني بهم لو قد لقيت قريشا قد أسلموك فتؤخذ أسيرا، فأي شيء أشد عليك من هذا، وفيه أن العادة جرت أن الجيوش المجمعة لا يؤمن عليها الفرار، بخلاف من كان من قبيلة واحدة، فإنهم يأنفون الفرار عادة، وما درى عروة أن مودة الإسلام أعظم من مودة القرابة، وقد ظهر له ذلك من مبالغة المسلمين في تعظيمه صلى الله عليه وسلم. انتهى.
"فقال له أبو بكر الصديق رضي الله عنه" زاد ابن إسحاق وأبو بكر خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد: "امصص" بألف وصل، وصادين مهملتين الأولى مفتوحة بصيغة الأمر، وحكى ابن التين عن رواية القابسي ضم الصاد الأولى وخطأها، وأقره الحافظ والمصنف؛ لأنه خلاف الرواية، وإن جاء لغة "بظر" بباء واحدة رواية أبي ذر ولغيره ببظر بباءين "اللات" زاد ابن عائذ من وجه آخر عن(3/188)
أنحن نفر عنه وندعه؟
قال العلماء: وهذا مبالغة من أبي بكر في سب عروة، فإنه أقام معبود عروة، وهو صنمه مقام أمه، وحمله على ذلك ما أغضبه به نسبته إلى الفرار.
والبظر: بالموحدة المفتوحة والظاء المعجمة الساكنة قطعة تبقى بعد الختان في فرج المرأة. واللات: اسم صنم. والعرب تطلق هذا اللفظ في معرض الذم. انتهى.
فقال عروة: من هذا؟ قالوا: أبو بكر، فقال: أما والذي نفسي بيده
__________
الزهري وهو طاغيته التي تعبد أي طاغية عروة "أنحن نفر عنه وندعه" استفهام إنكار قصد به توبيخه في نسبة الفرار لهم.
قال العلماء هذا مبالغة من أبي بكر في سب عروة فإنه أقام معبود عروة وهو صنمه مقام أمه"؛ لأن عادة العرب الشتم بذلك بلفظ الأم فأبدله الصديق باللات فنزله منزلة امرأة تحقيرا لمعبوده "وحمله على ذلك ما أغضبه به من نسبة المسلمين إلى الفرار والبظر بالموحدة المفتوحة والظاء المعجمة الساكنة" وبالراء وجمعه بظور وأبظر كفلوس وأفلس، "قطعة تبقى بعد الختان في فرج المرأة" كما جزم به في الفتح وزاد المصنف في الشرح، وقال الداودي: هو فرج المرأة.
قال السفاقسي: والذي عند أهل اللغة أنه ما يخفض من فرج المرأة، أي يقطع عند خفضها. انتهى.
وفي المصباح البظر لحمة بين شفري المرأة، وهي الغلفة التي تقطع في الختان، "واللات اسم صنم" كانت ثقيف وقريش يعبدونها، "والعرب تطلق هذا اللفظ في معرض الذم" فيقولون: امصص بظر أمك، فاستعار ذلك أبو بكر في اللات. "انتهى".
زاد الحافظ وفيه جواز النطق بما يستبشع من الألفاظ لإرادة زجر من بدا منه ما يستحق به ذلك، وقال ابن المنير: في قول أبي بكر تخسيس للعدو ولدينهم وتعريض بإلزامهم من قولهم اللات بنت الله تعالى عن ذلك بأنها لو كانت بنتا كان لها ما يكون للإناث، "فقال عروة: من هذا" لفظ البخاري: من ذا, "قالوا: أبو بكر، فقال" وفي رواية ابن إسحاق: من هذا يا محمد؟ قال: "هذا ابن أبي قحافة"، واستفهم عنه لجلوسه خلف المصطفى، فلا ينافي أنه يعرفه، وله عليه يد، كما قال "أما" بفتح الهمزة وخفة الميم حرف استفتاح، "والذي نفسي بيده".(3/189)
لولا يد كانت لك عندي لم أجزك بها لأجبتك.
قال: وجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم فكلما تكلم أخذ بلحيته، والمغيرة بن شعبة قائم على رأس النبي صلى الله عليه وسلم ومعه السيف عليه المغفر، فكلما أهوى عروة بيده إلى لحية النبي صلى الله عليه وسلم ضرب يده بنعل السيف وقال: أخر يدك عن لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد كانت عادة العرب
__________
قال الحافظ هذا يدل على أن القسم به كان عادة العرب، "لولا يد" نعمة ومنة "كانت لك عندي لم أجزك" بفتح الهمزة وسكون الجيم وبالزاي لم أكافئك "بها لأجبتك".
زاد ابن إسحاق ولكن هذه بها أي جازاه بعدم إجابته عن شتمه بيده التي كان أحسن إليه بها وبين عبد العزيز في روايته عن الزهري، أن اليد المذكورة أن عروة كان تحمل بدية، فأعانه فيها أبو بكر بعون حسن، وفي رواية الواقدي بعشر قلائص وكان غيره يعينه بالاثنين والثلاث.
"قال وجعل" عروة "يكلم النبي صلى الله عليه وسلم فكلما تكلم" زاد أبو ذر عن الحموي، والكشميهني كلمة وفي رواية فكلما كلمه "أخذ بلحيته" الشريفة، وفي رواية ابن إسحاق، فجعل يتناول لحية النبي صلى الله عليه وسلم وهو يكلمه، "والمغيرة بن شعبة" بن مسعود بن معتب الثقفي الصحابي الشهير أسلم قبل الحديبية، توفي سنة خمسين على الصحيح "قائم على رأس النبي صلى الله عليه وسلم ومعه السيف" قصدا لحراسته، "وعليه المغفر" بكسر الميم وسكون المعجمة وفتح الفاء، وفي رواية أبي الأسود عن عروة بن الزبير أن المغيرة لما رأى عروة مقبلا لبس لأمته وجعل على رأسه المغفر ليستخفي من عروة عمه.
قال الحافظ: فيه جواز القيام على رأس الأمير بالسيف لقصد الحراسة ونحوها من ترهيب العدو، ولا يعارضه النهي عن القيام على رأس الجالس لأن محله ما إذا كان على وجه العظمة والكبر، "فكلما أهوى" أي مد أو قصد أو أشار أو أومأ "عروة بيده إلى لحية النبي صلى الله عليه وسلم ضرب يده" إجلالا وتعظيما له صلى الله عليه وسلم "بنعل السيف".
قال الحافظ: هو ما يكون أسفل القراب من فضة أو غيره وبعه المصنف وغيره فقول الجوهري وأتباعه: هو الحديدة التي في أسفل جفنه وهو غلافه ليس قيدا. "وقال: أخر" فعل أمر من التأخير "يدك عن لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم".
زاد ابن إسحاق: قبل أن لا تصل إليك، وزاد عروة بن الزبير: فإنه لا ينبغي لمشرك أن يمسه، وفي رواية ابن إسحاق: فيقول عروة: ما أفظك وأغلظك "وقد كانت عادة العرب" كما قال في(3/190)
أن يتناول الرجل لحية من يكلمه، لا سيما عند الملاطفة، وفي الغالب إنما يصنع ذلك النظير بالنظير، لكن كان صلى الله عليه وسلم يغضي لعروة استمالة وتأليفا. والمغيرة يمنعه إجلالا للنبي صلى الله عليه وسلم وتعظيما. انتهى.
قال: فرفع عروة رأسه فقال: من هذا؟ قال: المغيرة بن شعبة. فقال: أي غدر، ألست أسعى في غدرتك؟ وكان المغيرة صحب قوما في الجاهلية فقتلهم وأخذ أموالهم، ثم جاء فأسلم
__________
الفتح وغيره "أن يتناول الرجل لحية من يكلمه، ولا سيما عند الملاطفة".
قال البرهان: يريدون بذلك التحية والتواصل، وأكثرهم فعلا لذلك أهل اليمن، وحكي ذلك عن بعض العجم أيضا، "وفي الغالب إنما يصنع ذلك النظير بالنظير" فربما رأى عروة لعظمته في قومه أنه نظير للمصطفى وما علم حينئذ أنه لا نظير له فاللائق منعه، "لكن كان صلى الله عليه وسلم يغضي" بغين وضاد معجمتين يتغافل ويسكت "لعروة" فلا يؤاخذه بفعله، ولا يمنعه "استمالة وتأليفا" له ولقومه، "والمغيرة يمنعه إجلالا للنبي صلى الله عليه وسلم وتعظيما" لعلمه بأن الله تعالى لم يخلق له نظيرا. "انتهى".
ما فصل به بين أجزاء الحديث من حكمة تناول اللحية ومنع المغيرة له، "قال فرفع عروة رأسه فقال: "من هذا؟ " وفي رواية أبي الأسود عن عروة بن الزبير، فلما أكثر المغيرة مما يقرع يده غضب، وقال: ليت شعري من هذا الذي آذاني من بين أصحابك، والله لا أحسب فيكم ألأم منه، ولا أشر منزلة "قال" كذا لأبي ذر، ولغيره قالوا: "المغيرة" وفي رواية ابن إسحاق فتبسم صلى الله عليه وسلم فقال له عروة: من هذا يا محمد؟ قال: "هذا ابن أخيك "بن شعبة" وكذا أخرجه ابن أبي شيبة، وابن حبان من حديث المغيرة بن شعبة نفسه بإسناد صحيح "فقال: أي غدر" بالمعجمة بوزن عمر معدول عن غادر مبالغة في وصفه بالغدر، أي ترك الوفاء "ألست أسعى في" دفع شر "غدرتك" بفتح الغين أي جنايتك ببذل المال، وفي مغازي عروة: والله ما غسلت يدي من غدرتك ولقد أورثتنا العداوة في ثقيف، وفي رواية ابن إسحاق: وهل غسلت سوأتك إلا بالأمس.
"وكان المغيرة" قبل إسلامه "صحب قوما في الجاهلية" ثلاثة عشرة من ثقيف من بني مالك لما خرجوا للمقوقس بمصر بهدايا، فأحسن إليهم وأعطاهم وقصر بالمغيرة، لأنه ليس من القوم، بل من أحلافهم فغار منهم، ولم يواسه أحد منهم فلما كانوا ببعض الطريق شربوا الخمر وناموا فوثب المغيرة "فقتلهم" كلهم، "وأخذ أموالهم ثم جاء" إلى المدينة "فأسلم" فقال أبو بكر: ما فعل المالكيون الذين كانوا معك؟ قال: قتلتهم وجئت بأسلابهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم(3/191)
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أما الإسلام فأقبل، وأما المال فلست منه في شيء".
ثم إن عروة جعل يرمق أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بعينيه، فقال: والله ما تنخم رسول الله صلى الله عليه وسلم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذ توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون النظر إليه تعظيما له.
__________
ليحسن أو ليرى رأيه فيها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أما الإسلام" بالنصب على المفعولية.
كذا قال المصنف "فأقبل" بلفظ المتكلم أي أقبله، "وأما المال فلست منه في شيء" أي لا أتعرض له لكونه أخذ غدرا؛ لأنه لا يحل أخذ مال الكفار غدرا حال الأمن، لأن الرفقة يصطحبون على الأمانة وهي تؤدى إلى أهلها مسلما كان أو كافرا، وإنما تحل أموالهم بالمحاربة والمغالبة فلعله صلى الله عليه وسلم ترك المال في يده لإمكان إسلام قومه فيرد إليهم أموالهم، وفيه أن الحربي إذا أتلف مال الحربي لم يضمن وهو أحد وجهين للشافعية. كذا في الفتح فبلغ ذلك ثقيفا فتهايج الفريقان للقتال بنو مالك والأحلاف رهط المغيرة، فسعى عروة عمه حتى أخذوا منه دية ثلاثة عشر نفرا واصطلحوا، وقد ساق الواقدي وابن الكلبي القصة مطولة وهذا حاصلها قال اليعمري: كذا في الخبر أن عروة عم المغيرة، وإنما هو عم أبيه. انتهى.
ولا ضير في ذلك فعم الأب عم فمراده مجرد الفائدة، لا الانتقاد كيف وقد نطق به سيد الفصحاء "ثم إن عروة جعل يرمق" بضم الميم، أي يلحظ "أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بعينيه" بالتثنية، "فقال" الراوي حين حدث الحديث لمسور ومروان حكاية عن حال الصحابة مع المصطفى بحضرة عروة: "واله ما تنخم رسول الله صلى الله عليه وسلم نخامة" قال المصنف بضم النون ما يخرج من الصدر إلى الفم "إلا وقعت في كف رجل منهم، فدلك بها وجهه وجلده تبركا.
زاد ابن إسحاق ولا يسقط من شعره شيء إلا أخذوه، "وإذا أمرهم ابتدروا أمره" أي أسرعوا إلى فعله، "وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه" بفتح الواو فضلة الماء الذي توضأ به أي على ما يجتمع من القطرات وما يسيل من الماء الذي باشر أعضاءه الشريفة عند الوضوء.
قاله المصنف وهو صريح في أنه الشرعي، وزعم أنه المراد غسيل يديه وأنه أبلغ لأنه يكون من الطعام ومما يستقذر، فإذا تبادروا إلى ذلك فأولى للشرعي، "وإذا تكلم" عليه الصلاة والسلام, لأبي ذر: تكلموا, أي: الصحابة "خفضوا أصواتهم عنده وما يحدون" بضم أوله وكسر الحاء المهملة، أي: يديمون "النظر إليه تعظيما له".(3/192)
قال في فتح الباري: فيه إشارة إلى الرد ما خشيه من فرارهم، فكأنهم قالوا بلسان الحال: من نحبه هذه المحبة ونعظمه هذا التعظيم كيف يظن أنه نفر عنه ونسلمه لعدوه، بل هم أشد اغتباطا به وبدينه ونصره من هذه القبائل التي تراعي بعضها بمجرد الرحم والله أعلم. انتهى.
قال: فرجع عروة إلى أصحابه فقال أي قوم. والله لقد وفدت على الملوك، ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي، والله إن رأيت ملكا قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمدًا، والله إن يتنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلم
__________
"قال في فتح الباري: فيه" أي فعل الصحابة ما ذكر وليس الضمير للقول المذكور ويتعسف توجيهه بأنه قال: لأرى وجوها ... إلخ، بحسب ظنه على ما جرت به عادة الأخلاط، فتبين له خطؤه بفعل الصحابة فإن لفظ الفتح، ولعل الصحابة فعلوا ذلك بحضرة عروة، وبالغوا في ذلك "إشارة إلى الرد على ما خشيه من فرارهم، فكأنهم قالوا بلسان الحال من نحبه هذه المحبة، ونعظمه هذا التعظيم كيف يظن به أن نفر عنه ونسلمه" بضم أوله وسكون السين "لعدوه" من أسلمه إذا خذله.
فالمعنى من كانت هذه صفته كيف يترك نصره ويخلى بينه وبين عدوه، "بل هم أشد اغتباطا" بمعجمة، أي تعلقا وتمسكا "به وبدينه ونصره من هذه القبائل التي تراعي بعضها بمجرد الرحم" بقية كلام الفتح، فيستفاد منه جواز التوصل إلى المقصود بكل طريق سائغ "والله أعلم. انتهى".
"قال: فرجع عروة إلى أصحابه فقال: أي قوم والله لقد وفدت" بفتح الفاء قدمت "على الملوك، ووفت على قيصر" غير منصرف للعجمة لقب لكل من ملك الروم "وكسرى" بكسر الكاف، وتفتح لكل من ملك الفرس "والنجاشي" بفتح النون وتكسر، وخفة الجيم وأخطأ من شددها، فألف فشين معجمة، فتحتية مشددة ومخففة لقب لمن ملك الحبشة، وهذا من عطف الخاص على العام، وخص الثلاثة بالذكر لأنهم أعظم ملوك ذلك الزمان، "والله إن" بكسر الهمزة وسكون النون نافية، أي ما "رأيت ملكا قط تعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمدا والله إن" بكسر فسكون أيضا, أي: ما "يتنخم" مصارع رواية أبي ذر ولغيره تنخم بلفظ الماضي "نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم، فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه وإذا تكلم" عليه الصلاة والسلام، ولأبي ذر تكلموا، أي(3/193)
خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون إليه النظر تعظيما له, وإنه قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها.
فقال رجل من بني كنانة: دعوني آته، فقالوا: ائته، فلما أشرف على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هذا فلان، وهو من قوم يعظمون البدن فابعثوها له". فبعثت له، واستقبله الناس يلبون، فلما رأى ذلك قال: سبحان الله ما ينبغي لهؤلاء أن يصدوا عن البيت
__________
الصحابة "خفضوا أصواتهم عنده" إجلالا وتوقيرا، "وما يحدون النظر إليه تعظيما له، وإنه" بكسر الهمزة "قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها" بهمزة وصل وفتح الموحدة عند ابن إسحاق.
ولقد رأيت قوما لا يسلمونه لشيء أبدًا فروا رأيكم.
وعند ابن أبي شيبة من مرسل علي بن زيد فقال عروة: أي قوم قد رأيت الملوك ما رأيت مثل محمد وما هو بملك ولقد رأيت الهدي معكوفا وما أراكم إلا ستصيبكم قارعة فانصرف هو ومن تبعه إلى الطائف.
وفي قصة عروة من الفوائد ما يدل على جودة عقله وتفطنه، وما كان على الصحابة من المبالغة في تعظيمه صلى الله عليه وسلم وتوقيره ومراعاة أموره وردع من جفا عليه بقول أو فعل والتبرك بآثاره "فقال رجل" هو الحليس بمهملتين مصغر، وسمى ابن إسحاق والزبير بن بكار أباه علقمة وكان الحليس سيد الأحابيش يومئذ قال البرهان: لا أعلم له إسلاما والظاهر هلاكه على كفره "من بني كنانة دعوني آته" بالجزم وكسر الهاء رواية أبي ذر أي: أذهب إليه، ولغيره آتيه بتحتية قبل الهاء "فقالوا: ائته" بهمزة ساكنة وكسر الهاء فأتاه "فلما أشرف على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هذا فلان وهو من قوم يعظمون البدن" جمع بدنة، وهي البعير ذكرا كان أو أنثى والهاء فيها للوحدة لا للتأنيث.
وعن مالك أنه كان يتعجب ممن يخصها بالأنثى، وقال الأزهري: البدنة لا تكون إلا من الإبل، وأما الهدي فمن الإبل والبقر والغنم، فنقل النووي عنه أن البدنة من الإبل والبقر، والغنم خطأ نشأ عن سقط، وفي الصحاح البدنة ناقة أو بقرة تنحر بمكة سميت بذلك، لأنهم كانوا يسمنونها، قاله الحافظ في كتاب الجمعة "فابعثوها" أي أثيروها دفعة واحدة "له" , "فبعثوها له" ليعتبر برؤيتها، ويتحقق أنهم لم يريدوا حربا، فيعينهم على دخول مكة لنسكهم، "واستقبله الناس يلبون" بالعمرة "فلما رأى" الكناني "ذلك قال" متعجبا "سبحان الله ما ينبغي لهؤلاء أن يصدوا" بضم أوله وفتح المهملة يمنعوا "عن البيت".(3/194)
فلما رجع إلى أصحابه قال: رأيت البدن قد قلدت وأشعرت، فما أرى أن يصدوا عن البيت.
فقام رجل منهم يقال له: مكرز بن حفص، فقال: دعوني آته. فلما أشرف عليهم قال
__________
وفي رواية الزبير بن بكار أبى الله أن تحج لخم وجذام وكندة وحمير، ويمنع ابن عبد المطلب وعند ابن إسحاق والواقدي، وابن سعد فلما رأى الهدي يسيل عليه من عرض الوادي بقلائده، وقد حبس عن محله رجع ولم يصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لكن في مغازي عروة عند الحاكم: فصاح الحليس فقال: هلكت قريش ورب الكعبة إن القوم إنما أتوا عمارا، فقال صلى الله عليه وسلم: "أجل يا أخا بني كنانة" قال الحافظ: فيحتمل أنه خاطبه على بعد، "فلما رجع إلى أصحابه قال: رأيت البدن قد قلدت" بضم القاف وكسر اللام مشددة "وأشعرت" بضم أوله وسكون المعجمة وكسر المهملة "فما أرى" بفتح الهمزة "أن يصدوا عن البيت".
زاد ابن إسحاق فقالوا له: اجلس فإنما أنت إعرابي لا علم لك وحدثني عبد الله بن أبي بكر أن الحليس غضب عند ذلك، وقال: يا معشر قريش والله ما على هذا حالفناكم ولا على هذا عاهدناكم.
أيصد عن بيت الله من جاء معظما له؟ والذي نفس الحليس بيده لتخلن بين محمد وبين ما جاء له أو لأنفرن بالأحابيش نفرة رجل واحد، فقالوا له: اكفف عنا يا حليس حتى نأخذ لأنفسنا ما نرضى به.
قال الحافظ: وفي هذه القصة جواز المخادعة في الحرب وإظهار إرادة الشيء والمقصود غيره، وأن كثيرا من المشركين كانوا يعظمون حرمات الإحرام والحرم وينكرون على من يصد ذلك تمسكا منهم ببقايا دين إبراهيم عليه السلام. "فقام رجل منهم يقال له: مكرز بن حفص" زاد ابن إسحاق بن الأخيف وهو بمعجمة فتحتية ففاء من بني عامر بن لؤي، قال في الإصابة والنور: لم أر من ذكره في الصحابة إلا ابن حبان بلفظ يقال له: صحبة ومكرز بكسر الميم، وسكون الكاف، وفتح الراء بعدها زاي كما ضبطه الحافظ أبو علي الغساني وغيره.
قال السهيلي في غزوة ودان، وهكذا الرواية حيث وقع قال ابن ماكولا: ووجدته بخط ابن عبدة النسابة بفتح الميم، قال الحافظ في الفتح: وبخط يوسف بن خليل الحافظ بضم الميم، وكسر الراء، والأول المعتمد، "فقال: دعوني آته" بالجزم وكسر الهاء رواية أبي ذر مضارع أتى بالقصر جاء أما بالمد فمعناه أعطى ولغيره آتيه بياء على الاستئناف، "فلما أشرف عليهم قال:(3/195)
النبي صلى الله عليه وسلم: "هذا مكرز، وهو رجل فاجر". فجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم.
فبينما هو يكلمه إذ جاء سهيل بن عمرو
__________
النبي صلى الله عليه وسلم: "هذا مكرز وهو رجل فاجر" بالفاء والجيم. وفي رواية ابن إسحاق: "غادر".
قال الحافظ: وهو أرجح، وما زلت متعجبا من وصفه بالفجور مع أنه لم يقع منه في قصة الحديبية فجور ظاهر، بل فيها ما يشعر بخلاف ذلك، كما سيأتي من كلامه في قصة أبي جندل، إلى أن رأيت في مغازي الواقدي في غزوة بدر أن عتبة بن ربيعة قال لقريش: كيف نخرج من مكة وبنو كنانة خلفنا لا نأمنهم على ذرارينا، وذلك أن حفص بن الأخيف كان له ولد وضيء، فقتله رجل من بني بكر بن كنانة بدم لهم كان في قريش فتكلمت قريش في ذلك، ثم اصطلحوا فعدا مكرز بعد ذلك على عامر بن يزيد سيد بني بكر غرة، فقتله فنفرت من ذلك كنانة، فجاءت وقعة بدر أثناء ذلك، فكان مكرز معروفا بالغدر.
وذكر الواقدي أيضا أنه أراد أن يثبت المسلمين بالحديبية فخرج في خمسين رجلا فأخذهم محمد بن مسلمة، وهو على الحرس وانفلت مكرز، فكأنه صلى الله عليه وسلم أشار إلى ذلك. انتهى، وبه تعلم أنه لا وجه لقول الشارح: إن قوله: وهو رجل غادر بوحي؛ لأنه لو كان ناشئا عن خبر لذكروه. انتهى.
فهذا خبره "فجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم" زاد ابن إسحاق: فقال له صلى الله عليه وسلم نحوا مما قال لبديل وأصحابه، "فبينما" بالميم "هو يكلمه إذ جاء سهيل بن عمرو" القرشي، العامري خطيب قريش سكن مكة، ثم المدينة أسلم في الفتح قال الإمام الشافعي: كان محمود الإسلام من حين أسلم.
روى البخاري في تاريخه، والباوردي عن الحسن قال: كان من الطلقاء فنظر بعضهم إلى بعض فقال سهيل: على أنفسكم فاغضبوا دعي القوم ودعيتم فأسرعوا وأبطأتم فكيف بكم إذا دعيتم إلى أبواب الجنة، ثم خرج إلى الجهاد.
وروى ابن شاهين عن ثابت البناني قال: قال سهيل والله لا أدع موقفا وقفته مع المشركين إلا وقفت مع المسلمين مثله، ولا نفقة أنفقتها مع المشركين إلا أنفقت على المسلمين مثلها، لعل أمري أن يتلو بعضه بعضا مات بالشام بطاعون عمواس سنة ثمان عشرة عند الأكثر, ويقال: قتل باليرموك، ويقال: بمرج الصفراء وقضية هذا الحديث الصحيح أنه جاء قبل انصراف مكرز من عند المصطفى، وفي رواية ابن إسحاق: أن مكرزا رجع إلى قريش فأخبرهم بقوله صلى الله عليه وسلم وأن ذهاب الحليس، ثم عروة بعد مكرز فيجمع بأنه رجع فأخبرهم، ثم جاء مع سهيل في الصلح هو وحويطب كما رواه الواقدي، وابن عائذ، فكان مكرز سبق سهيلا في المجيء فكلم المصطفى فجاء سهيل.(3/196)
قال معمر: فأخبرني أيوب عن عكرمة أنه لما جاء سهيل قال النبي صلى الله عليه وسلم: "قد سهل لكم من أمركم".
وفي رواية ابن إسحاق: فدعت قريش سهيل بن عمرو فقالت: اذهب إلى هذا الرجل فصالحه، فقال صلى الله عليه وسلم: "قد أرادت قريش الصلح حين بعثت هذا". فلما انتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم جرى بينهما القول
__________
وأما ثم في رواية ابن إسحاق في قوله: ثم بعثوا الحليس ثم عروة، فإنما هي للترتيب الذكري فلا تعارض رواية الصحيح وإلا فما في الصحيح أصح.
"قال معمر" بفتح الميمين بينهما مهملة ساكنة ابن راشد مما هو موصول إليه بالإسناد السابق، "فأخبرني" بالإفراد "أيوب" هو السختياني "عن عكرمة" بن عبد الله البربري مولى ابن عباس: أنه لما جاء سهيل قال النبي صلى الله عليه وسلم: "قد سهل لكم" بفتح السين وضم الهاء، كما اقتصر عليه المصنف, زاد الدماميني وبضم السين وكسر الهاء مشددة: "من أمركم". قال الكرماني: فاعل سهل ومن زائدة أو تبعيضية أي سهل بعض أمركم. انتهى.
أي على جعل الفاعل مضمون الجار والمجرور أو جعلهما صفة لمحذوف أي شيء من أمركم فسمي فاعلا لقيامه مقام الموصوف المحذوف فلا يرد على جعلها تبعيضية أن الفاعل لا يجر إلا بحرف الجر الزائد وهو من أو الباء قال المصنف، وهذا من باب التفاؤل وكان يعجبه الفأل الحسن وأتى بمن التبعيضية إيذانا بأن السهولة الواقعة في هذه القصة ليست عظيمة.
قيل: ولعله عليه السلام أخذ ذلك من التصغير في سهيل فإن تصغيره يقتضي كونه ليس عظيما انتهى.
قال في الفتح: وهذا مرسل ولم أقف على من وصله، فذكر ابن عباس فيه لكن له شاهد موصول عند ابن أبي شيبة عن سلمة بن الأكوع قال: بعثت قريش سهيل بن عمرو، وحويطب بن عبد العزى إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليصالحوه، فلما رأى صلى الله عليه وسلم سهيلا قال: "قد سهل لكم من أمركم". وللطبراني نحوه من حديث عبد الله بن السائب.
"وفي رواية ابن إسحاق: فدعت قريش سهيل بن عمرو, فقالت: اذهب إلى هذا الرجل فصالحه", ولا تكن في صلحه إلا أن يرجع عنا عامه هذا، فوالله لا تحدث العرب أنه دخلها علينا عنوة أبدا، فأتى سهيل "فقال صلى الله عليه وسلم" لما رآه مقبلا: "قد أرادت قريش الصلح حين بعثت هذا" الرجل، "فلما انتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم" وبرك على ركبتيه، وتربع المصطفى، وقام عباد بن بشر وسلمة بن أسلم على رأسه مقنعان في الحديد، وجلس المسلمون حوله "جرى بينهما القول"(3/197)
حتى وقع بينهما الصلح على أن توضع الحرب بينهم عشر سنين وأن يؤامر بعضهم بعضا، وأن يرجع عنهم عامهم هذا.
وقال معمر: قال الزهري في حديثه: فجاء سهيل بن عمرو فقال: هات اكتب بيننا وبينكم كتابا, فدعا النبي صلى الله عليه وسلم الكاتب. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "اكتب بسم الله الرحمن الرحيم". فقال سهيل: أما الرحمن الرحيم فوالله، ما أدري ما هو
__________
وأطال سهيل الكلام وتراجعا، وقال له عباد: اخفض صوتك عند النبي صلى الله عليه وسلم "حتى وقع بينهما الصلح على أن توضع الحرب بينهم عشر سنين"، كما في رواية ابن إسحاق هذه، وبه جزم ابن سعد وأخرجه الحاكم من حديث علي، وهو المعتمد وقع في مغازي ابن عائذ عن ابن عباس وغير أنه كان سنتين، وكذا عند ابن عقبة قال الحافظ: ويجمع بأن العشر هي المدة التي وقع الصلح عليها والسنتين هي التي انتهى أمر الصلح فيها حتى نقضته قريش، كما يأتي في غزوة الفتح وما وقع في كامل ابن عدي ومستدرك الحاكم وأوسط الطبراني عن ابن عمران مدة الصلح كانت أربع سنين، فهو مع ضعف إسناده منكر مخالف للصحيح "وأن يؤامر بعضهم بعضا، وأن يرجع عنهم عامهم، هذا" إلى هنا نقله من رواية ابن إسحاق، "و" عاد المصنف لحديث البخاري. فقال: "قال معمر" هو موصول بالإسناد الأول إلى معمر وهو بقية الحديث، وإنما اعترض حديث عكرمة في أثنائه.
قال الحافظ: "قال الزهري في حديثه" السابق بسنده عن عروة عن مسور ومروان "فجاء سهيل بن عمر، فقال: هات" بكسر التاء أي افعل معنا ما يؤكد ما اصطلحنا عليه فمفعول هات محذوف، وكأنه قيل: ماذا تريد؟ قال: "اكتب بيننا وبينكم كتابا", فهو استئناف مبين للمطلوب، فلا يراد أن أكتب للطلب، والطب لا يحسن كونه مطلوبا بالطلب الأول "فدعا النبي صلى الله عليه وسلم الكاتب" هو علي بن أبي طالب، كما رواه البخاري في كتاب الصلح عن البراء بن عازب، وكذا أخرجه عمر بن شبة عن سلمة بن الأكوع وعنده أيضا عن سهيل بن عمرو.
الكتاب عندنا كاتبه محمد بن مسلمة ويجمع بأن أصل كتاب الصلح بخط علي كما هو في الصحيح ونسخ مثله محمد بن مسلمة لسهيل، ومن الأوهام ما وقع عند عمر بن شبة أنه هشام بن عكرمة وهو غلط فاحش، فإن الصحيفة التي كتبها هشام هي التي اتفقت عليها قريش لما حصروا بني هاشم في الشعب بمكة قبل الهجرة وبينها وبين هذه نحو عشر سنين. ونبهت على هذا لئلا يغتر من لا يعرف فيعتقده خلافا في اسم كاتب قصة الحديبية قال الحافظ: فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "اكتب بسم الله الرحمن الرحيم". فقال سهيل: أما الرحمن فوالله ما أدري ما هو" ولأبي ذر عن الحموي، والمستملي ما هو بتأنيث الضمير أي كلمة الرحمن.(3/198)
ولكن اكتب باسمك اللهم، كما كنت تكتب. فقال المسلمون: والله لا تكتبها إلا بسم الله الرحمن الرحيم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اكتب باسمك اللهم". ثم قال: "هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله". وفي حديث عبد الله بن مغفل عند الحاكم: " هذا ما صالح محمد رسول الله أهل مكة" ... الحديث. فقال سهيل: لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك, ولكن اكتب: محمد بن عبد الله.
__________
وفي رواية فقال سهيل: لا أعرف الرحمن إلا صاحب اليمامة، "ولكن اكتب باسمك اللهم كما كنت تكتب" قبل ذلك في بدء الإسلام، كما كانوا يكتبونها في الجاهلية، فلما نزلت آية النمل كتب بسم الله الرحمن الرحيم، فأدركتهم حمية الجاهلية، وفي حديث أنس فقال سهيل: ما ندري ما بسم الله الرحمن الرحيم، ولكن أكتب ما نعرف باسمك الله، وللحاكم عن عبد الله بن مغفل فأمسك سهيل يده، فقال: أكتب في قضيتنا ما نعرف باسمك اللهم، "فقال المسلمون: والله لا تكتبها" أي التسمية ملتبسة بصيغة ما "إلا" إذا كانت "بسم الله الرحمن الرحيم"، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اكتب باسمك اللهم" فكتب كما في رواية الحاكم، والظاهر أنهم لم يكفروا عن أيمانهم لأن نيتهم ما لم يتحتم بأمر المصطفى، "ثم قال" اكتب "هذا" إشارة إلى ما في الذهن، "ما قاضى" بوزن فاعل من قضيت الشيء، أي فصلت الحكم فيه "عليه محمد رسول الله" فيه جواز كتابة مثل ذلك في المعاقدات، والرد على من منعه معتلا بخشية أن يظن ما أنها النافية نبه عليه الخطابي، "وفي حديث عبد الله بن مغفل" بضم الميم وفتح المعجمة والفاء الثقيلة ولام ابن عبد نهم بفتح النون وسكون الهاء أبي عبد الرحمن المزني بايع تحت الشجرة ونزل البصرة، مات سنة سبع وخمسين، وقيل بعدها "عند الحاكم"، فكتب "هذا ما صالح عليه محمد رسول الله أهل مكة" ... الحديث. والغرض منه بيان أن المراد بقاضى صالح والمفعول، وهو أهل مكة، "فقال سهيل والله لو كنا نعلم أنك رسول الله: ما صددناك عن البيت، ولا قاتلناك" وللبخاري في الصلح لا نقر لك بها، أي بالنبوة وله في المغازي لا نقر لك بهذا لو نعلم أنك رسول الله ما منعناك شيئا ولبايعناك.
وفي مغازي أبي الأسود عن عروة فقال سهيل: ظلمناك إن أقررنا لك بها، ومنعناك وللحاكم عن عبد الله بن مغفل لقد ظلمناك إن كنت رسولا. قال المصنف عن الطيبي وعبر بالمضارع بعد لو التي للماضي ليدل على الاستمرار، أي استمر عدم علمنا برسالتك في سائر الأزمنة من الماضي والمضارع، وهذا كقوله تعالى: {لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ} [الحجرات: 7] .
قال شيخنا: الأولى التعبير بالحال بدل المضارع لأنه إذا أطلق، فالمراد به لفظ الفعل، وهو لا يصلح لبيان الزمان، "ولكن اكتب محمد بن عبد الله" وفي حديث أنس: ولكن اكتب(3/199)
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "والله إني لرسول الله كذبتموني".
وفي رواية له -أي البخاري- ومسلم: فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي: "امحه" فقال ما أنا بالذي أمحاه، وهي لغة في أمحوه.
قال العلماء: وهذا الذي فعله علي من باب الأدب المستحب، لأنه لم يفهم من النبي صلى الله عليه وسلم تحتم محو على نفسه، ولهذا لم ينكر عليه، ولم حتم محوه لنفسه لم يجز لعلي تركه انتهى.
ثم قال صلى الله عليه وسلم: "أرني مكانها" فأراه مكانها فمحاها وكتب: ابن عبد الله.
__________
اسمك واسم أبيك.
وفي حديث عبد الله بن مغفل عند الحاكم فقال: اكتب هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، "فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إني لرسول الله وإن كذبتموني" قال المصنف: بتشديد المعجمة وجزاؤه محذوف. انتهى. وتقديره لا يضرني ذلك في رسالتي أو نحوه وبعد هذا في البخاري اكتب محمد بن عبد الله. قال الزهري: وذلك أي إجابته لسهيل في الأمرين لقوله: "لا يسألونني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها"، وللنسائي عن علي كنت كاتب النبي صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية، فكتبت: هذا ما صالح عليه محمد رسول الله فقال سهيل: لو علمنا أنه رسول الله ما قاتلناه. امحها قلت: هو رسول الله وإن رغم أنفك لا والله لا أمحوها أبدا.
"وفي رواية له أي للبخاري" في عمرة القضاء والصلح والجزية "ومسلم" كلاهما من حديث البراء بن عازب, فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي: "امحه"، وفي رواية: "امح رسول الله واكتب ما أرادوه". "فقال: ما أنا بالي أمحاه", وفي رواية: لا والله لا أمحوك أبدا, "وهي" أي: أمحاه بالألف "لغة في أمحوه" بالواو وفيه لغة ثالثة: أمحيه كما في المختار، ولم يذكرها المصباح، فلعله اقتصر على الواو لقلة أمحي بالياء "قال العلماء وهذا الذي فعله علي من باب الأدب المستحب" لأن العظيم إذا أمر بشيء وظن المأمور أنه لم يحتمه، فالأدب في حقه التوقف حتى يتحقق ما عند الآمر، "لأنه لم يفهم من النبي صلى الله عليه وسلم تحتم محو على نفسه، ولهذا لم ينكر عليه ولو حتم" النبي صلى الله عليه وسلم "محوه" أي على "لنفسه" أي على اسمه الشريف "لم يجز لعلي تركه. انتهى".
وعند الواقدي أن أسيد بن حضير وسعد بن عبادة أخذا بيد علي ومنعاه أن يكتب إلا محمد رسول الله وإلا فالسيف بيننا وبينهم وارتفعت الأصوات فجعل صلى الله عليه وسلم يخفضهم ويومئ بيديه إليهم اسكتوا، "ثم قال صلى الله عليه وسلم" في حديث البراء هذا لعلي "أرني مكانها". "فأراه مكانها، فمحاه" أي لفظ رسول الله "وكتب: ابن عبد الله".(3/200)
وفي رواية البخاري -في المغازي- فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتاب -وليس يحسن يكتب- فكتب: هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله.
وكذا أخرجه النسائي وأحمد ولفظه: فأخذ الكتاب -وليس يحسن أن يكتب- فكتب مكان رسول الله: محمد بن عبد الله.
قال في فتح الباري: وقد تمسك بظاهر هذه الرواية أبو الوليد الباجي
__________
زاد النسائي عن علي: "أما أن لك مثلها وستأتيها وأنت مضطر". يشير إلى ما وقع لعلي يوم الحكمين فإنه لما كتب الكاتب: بهذا ما صالح عليه علي أمير المؤمنين. أرسل معاوية يقول: لو كنت أعلم أنه أمير المؤمنين ما قاتلته, امحها واكتب ابن أبي طالب, فقال علي: الله أكبر مثل بمثل, امحها.
"وفي رواية البخاري في" باب عمرة القضاء من كتاب "المغازي" من حديث البراء، "فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتاب وليس يحسن يكتب" أي، فقال لعلي: "أرني مكانها". فأراه فمحاه كما في الرواية التي فوقها، ثم أعادها لعلي "فكتب هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله،" أي: فصار جملة المكتوب ذلك، لأن الممحو لفظ رسول الله فقط، كما في الرواية فوقه قال الحافظ: وقد روى البخاري في الصلح هذا الحديث بهذا الإسناد، وليس فيه لفظة: ليس يحسن يكتب، ولذا أنكر بعض المتأخرين علي بن موسى يعني المديني نسبتها للبخاري، فقال: ليست فيه ولا في مسلم وهو كما قال عن مسلم فإنه عنده بلفظ فأراه مكانها فمحاها وكتب: ابن عبد الله، وقد عرفت ثوبتها في البخاري في مظنة الحديث، "وكذا أخرجه النسائي" بلفظ رواية البخاري سواء "وأحمد لفظه، فأخذ الكتاب وليس يحسن أن يكتب فكتب مكان رسول الله محمد بن عبد الله قال في فتح الباري" عقب هذا: "وقد تمسك بظاهر هذه الرواية" التي هي: فأخذ الكتاب وليس يحسن يكتب، فكتب "أبو الوليد الباجي" بفتح الموحدة وبالجيم نسبة إلى باجة مدينة بالأندلس العلامة الحافظ ذو الفنون سليمان بن خلف بن سعد بن أيوب، ولد سنة ثلاث وأربعمائة وأخذ بالأندلس عن جمع ج ثم رحل ولازم أبا ذر الهروي الحافظ ثلاثة أعوام بالحجاز، وتفقه بأبي الطيب وغيره، وأخذ العقليات بالموصل عن أبي جعفر السمناني، وسمع بمصر، والشام والعراق والحجاز، وحج أربع حجات وبرع في الحديث وعلله ورجاله والفقه وغوامضه والكلام ومضايقه، وفقه الناس، وروى عنه خلائق وصنف في الجرح والتعديل والتفسير والفقه والأصول.
قال عياض: آجر نفسه ببغداد لحراسة دربه فكان يستعين بالأجرة على نفقته. ولما رجع(3/201)
فادعى أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب بيده بعد أن لم يكن يحسن أن يكتب.
فشنع عليه علماء الأندلس في زمانه ورموه بالزندقة، وأن الذي قاله يخالف القرءان حتى قال قائلهم شعرا:
برئت ممن شرى دنيا بآخرة
وقال إن رسول الله قد كتبا
فجمعهم الأمير فاستظهر الباجي عليهم بما لديه من المعرفة وقال الأمير: هذا لا ينافي القرآن، بل يؤخذ من مفهوم القرآن، لأنه قيد النفي بما قبل ورود القرآن، قال الله تعالى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ} [العنكبوت: 48] وبعد أن تحققت أميته وتقررت لذلك معجزته، وأمن الارتياب في ذلك، لا مانع من أن يعرف الكتابة بعد ذلك من غير تعليم، فيكون معجزة أخرى.
__________
إلى الأندلس كان يضرب ورق الذهب ويعقد الوثائق قال لي أصحابه: كان يخرج لإقرائنا وفي يده أثر المطرقة إلى أن فشا علمه واشتهرت تآليفه فعرف حقه وعظم جاهه وقرب من الرؤساء فأجزلوا صلاته حتى مات عن مال كثير تاسع عشر رجب سنة أربع وسبعين وأربعمائة، "فادعى أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب بيده بعد أن لم يكن يحسن أن يكتب، فشنع عليه علماء الأندلس" بفتح الهمزة والدال على المشهور ويقال بضمهما، واقتصر عليه أبو الفتح الهمداني "في زمانه ورموه بالزندقة، وأن الذي قاله يخالف القرآن" وأطلقوا عليه العيبة وقبحوا عند العامة ما أتى به، وتكلم به خطباؤهم في الجمع "حتى قال قائلهم" فيه شعرا:
برئت ممن شرى دنيا بآخرة ... وقال إن رسول الله قد كتبا
وشرى بمعنى اشترى ومراد هذا الشاعر الإزراء على الباجي، وأنه قاله ليتميز به على غيره ويتقرب به إلى عظماء بلده ليكرموه ويقدموه على غيره "فجمعهم الأمير فاستظهر الباجي عليهم بما لديه" عنده "من المعرفة" بأساليب الكلام التي لا تنافي القرآن، "وقال للأمير هذا" أي الأخذ من الحديث أنه كتب "لا ينافي القرآن بل يؤخذ من مفهوم القرآن، لأنه قيد النفي بما قبل ورود القرآن قال الله تعالى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} ، "وبعد أن تحققت أمنيته، وتقررت بذلك معجزته وأمن الارتياب في ذلك لا مانع من أن يعرف الكتابة بعد ذلك من غير تعليم فيكون معجزة أخرى".
وصنف الباجي في ذلك رسالة فرجع بها جماعة، وذكر اليعمري أنه بعث إلى الآفاق يستفتي بمصر، والشام والعراق فجمهورهم قال: لم يكتب بيده قط، ورأوا ذلك عل المجاز أي أمر بالكتابة وقالت طائفة: كتب جرت هذه المسألة بحضرة شيخنا الإمام أبي الفتح القشيري(3/202)
وذكر ابن دحية أن جماعة من العلماء وافقوا الباجي على ذلك، منهم شيخه أبو ذر الهروي وأبو الفتح النيسابوري وآخرون من علماء إفريقية.
واحتج بعضهم لذلك بما أخرجه ابن أبي شيبة وعمر بن شبة من طريق مجالد عن عون بن عبد الله قال: ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كتب وقرأ.
قال مجالد: فذكرته للشعبي فقال: صدق، قد سمعت من يذكر ذلك.
وقال القاضي عياض: وردت آثار تدل على معرفته حروف الخط وحسن تصويرها، كقوله لكاتبه:
__________
يعني ابن دقيق العيد فلم يعبأ يقول من قال: وقال هو قول أحوج الباجي إلى أن يستنجد بالعلماء من الآفاق، "وذكر ابن دحية أن جماعة من العلماء، وافقوا الباجي على ذلك منهم شيخه" العلامة الإمام الحافظ عبد -بغير إضافة- ابن أحمد بن محمد بن عبد الله الأنصاري "أبو ذر الهروي" المالكي، شيخ الحرم، صاحب التصانيف الزاهد الورع العابد العالم كثير الشيوخ، مات في شوال سنة أربع وثلاثين وأربعمائة "وأبو الفتح النيسابوري وآخرون من علماء إفريقية" وغيرها كما في الفتح "واحتج بعضهم لذلك بما أخرجه ابن أبي شيبة وعمر بن شبة" بفتح المعجمة وتشديد الموحدة ابن عبيد بن زيد النميري بنون مصغر.
أبو زيد البصري، نزيل بغداد صدوق له تصانيف مات سنة اثنتين وستين ومائتين، وقد جاور التسعين "من طريق مجالد" بضم الميم وتخفيف الجيم فألف فلام، فدال مهملة ابن سعد بن عمير الهمداني بسكون الميم، أبي عمر والكوفي ليس بالقوي وتغير في آخر عمره، مات سنة أربع وأربعين ومائة "عن عون بن عبد الله" بن عتبة بن مسعد الهذلي أبي عبد الله المكي العابد الثقة، المتوفى قبل سنة عشرين ومائة "ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كتب وقرأ قال مجالد: فذكرته للشعبي" عامر بن شراحيل التابعي المشهور، "فقال: صدق" عون "قد سمعت من يذكر ذلك".
وبعد هذا في الفتح ومن طريق أي وبما أخرجه المذكوران أيضا من طريق يونس بن ميسرة، عن أبي كبشة السلولي، عن سهل ابن الحنظلية أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر معاوية أن يكتب للأقرع وعيينة، فقال عيينة: أتراني أذهب بصحيفة المتلمس فأخذ صلى الله عليه وسلم الصحيفة فنظر فيها فقال: "قد كتب لك بما أمرت لك".
قال يونس: فنرى أنه صلى الله عليه وسلم كتب بعدما أنزل عليه، "وقال القاضي عياض: وردت آثار تدل على معرفته حروف الخط، وحسن تصويرها كقوله لكاتبه" فيما رواه الترمذي عن زيد بن ثابت(3/203)
"ضع القلم على أذنك فإنه أذكر لك", وقوله لمعاوية: "ألق الدواة وحرف القلم وفرق السين ولا تعور الميم" إلى غير ذلك. قال: وهذا وإن لم يثبت أنه كتب فلا يبعد أن يرزق علم وضع الكتابة، فإنه أوتي علم كل شيء.
وأجاب الجمهور بضعف هذه الأحاديث.
وعن قصة الحديبية: بأن القصة واحدة، والكاتب فيها هو علي بن أبي طالب رضي الله
__________
"ضع القلم على أذنك" اليمنى "فإنه أذكر لك" أي أكثر ذكرا بكسر الذال وضمها، "وقوله لمعاوية" كاتبه أيضا كثيرا بعد عام الفتح: "ألق الدواة" بفتح الهمزة وكسر اللام والقاف لالتقاء الساكنين، أي أصلح مدادها من لاق إذا لصق واشتهر فيما يجعل من حرير أو لبد ونحوه؛ لأنه يصلحها لمنعه كثرة أخذ المداد في القلم الذي قد يفسد الخط "وحرف القلم" أي اجعل قطه محرفا لأنه أعون على التصوير ويكون تحريفه من جهة اليمين "وأقم الباء" اجعلها مستقيمة أو طولها قليلا، لأنها عوض عن ألف اسم "وفرق السين" اجعل سننها منفصلا بعضها من بعض، "ولا تعور الميم" بضم الفوقية وفتح المهملة وكسر الواو الثقيلة وراء مهملة، أي لا تجعل دائرتها مطموسة كالعين العوراء، وبقية هذا الحديث في الشفاء: "وحسن الله ومد الرحمن وجود الرحيم".
ورواه الديلمي في مسند الفردوس، وأورد في الشفاء أيضا حديث: "لا تمد بسم الله الرحمن الرحيم".
رواه ابن شعبان من طريق ابن عباس، وإليه أشار بقوله "إلى غير ذلك"، لكن قال السيوطي حديث ابن عباس هذا لم أجده، وللديلمي عن أنس: "إذا كتب أحدكم بسم الله الرحمن الرحيم فليمد الرحمن"، وله عن زيد: إذا كتبت فبين السين في بسم الله الرحمن الرحيم "قال" عياض: "وهذا" المذكور من هذه الآثار، "وإن لم يثبت أنه كتب" لجواز أنه عرف صورة الحروف بالسماع مثلا "فلا بعد" عقلا "أن يرزق علم وضع الكتابة، فإنه أوتي علم كل شيء وأجاب الجمهور بضعف هذه الأحاديث" فلا حجة فيها، وقد صنف أبو محمد بن مفوز كتابا رد فيه على الباجي وبين خطأه وحكي أن أبا محمد الهواري كان يرى ذلك، فرأى في النوم أن قبر النبي صلى الله عليه وسلم انشق وماج فلم يستقر فاندهش لذلك وقال لعله لاعتقادي لهذه المقالة ثم عقدت التوبة مع نفسي فسكن واستقر، ثم قص الرؤيا على ابن مفوز فعبرها بذلك واستظهر بقوله تعالى: {تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ} [مريم: 90] .
"وعن قصة الحديبية بأن القصة واحدة والكاتب فيها هو علي بن أبي طالب رضي الله(3/204)
عنه، وقد صرح في حديث المسور بن مخرمة بأن عليا هو الذي كتب فيحتمل أن النكتة في قوله فأخذ الكتاب، وليس يحسن يكتب لبيان أن قوله "أرني إياها" إلى أنه إنما احتاج إلى أن يريه موضع الكلمة التي امتنع علي من محوها إلا لكونه كان لا يحسن الكتابة.
وعلى أن قوله بعد ذلك: فكتب، فيه حذف تقديره: فمحاها فأعادها لعلي فكتب:
أو أطلق "كتب" بمعنى: أمر بالكتابة، وهو كثير، كقوله: كتب إلى كسرى وقيصر.
وعلى تقدير حمله على ظاهره، فلا يلزم من كتابة اسمه الشريف في ذلك اليوم -وهو لا يحسن الكتابة- أن يصير عالما بالكتابة، ويخرج عن كونه أميا، فإن كثيرا ممن لا يحسن الكتابة يعرف صور بعض الكلمات، ويحسن وضعها بيده، وخصوصا الأسماء، ولا يخرج بذلك عن كونه أميا ككثير من الملوك.
ويحتمل أن تكون جرت يده بالكتابة حينئذ، وهو لا يحسنها، فخرج المكتوب على وفق المراد، فيكون معجزة أخرى في
__________
عنه، وقد صرح في حديث المسور بن مخرمة" وغيره عند البخاري وغيره، "أن عليا هو الذي كتب" فمجرد رواية أن المصطفى كتب لا تدل على خلافه لقبولها التأويل، "فيحتمل أن النكتة في قوله، فأخذ الكتاب وليس يحسن يكتب لبيان أن قوله أرني إياها إنما احتاج إلى أن يريه موضع الكلمة التي امتنع علي من محوها إلا لكونه كان لا يحسن الكتابة، وعلى أن قوله بعد ذلك فكتب فيه حذف تقديره فمحاها" إبرار القسم علي "فأعادها لعلي فكتب".
وبهذا جزم ابن التين "أو أطلق كتب بمعنى أمر بالكتابة وهو كثير، كقوله كتب إلى كسرى وقيصر وعلى تقدير حمله على ظاهره، فلا يلزم من كتابة اسمه الشريف في ذلك اليوم، وهو لا يحسن الكتابة أن يصير عالما بالكتابة" كا ادعى الباجي ومن وافقه "ويخرج عن كونه أميا، فإن كثيرا ممن لا يحسن الكتابة يعرف صور بعض الكلمات، ويحسن وضعها بيده وخصوصا الأسماء، ولا يخرج بذلك عن كونه أميا ككثير من الملوك ويحتمل أن تكون جرت يده بالكتابة حينئذ وهو لا يحسنها فخرج المكتوب على وفق المراد فيكون معجزة أخرى في(3/205)
ذلك الوقت خاصة، ولا يخرج بذلك عن كونه أميا, وبهذا أجاب أبو جعفر السمناني أحد أئمة الأصول من الأشاعرة وتبعه ابن الجوزي.
وتعقب ذلك السهيلي وغيره:
بأن هذا وإن كان ممكنا، ويكون آية أخرى لكنه يناقض كونه أميا لا يكتب، وهي الآية التي قامت بها الحجة، وأفحم الجاحد، وانحسمت الشبهة، فلو جاز أن يصير يكتب بعد ذلك لعادت الشبهة، وقال المعاند: كان يحسن يكتب لكنه كان يكتب ذلك.
قال السهيلي: والمعجزات يستحيل أن يدفع بعضها بعضا، والحق: أن معنى قوله "كتب" أمر عليا أن يكتب. انتهى.
قال: وفي دعوى أن كتابة اسمه الشريف فقط على هذه الصورة
__________
ذلك الوقت خاصة، ولا يخرج بذلك عن كونه أميا".
"وبهذا أجاب أبو جعفر" محمد بن أحمد بن محمد بن محمود الفقيه الحنفي "السمناني" بكسر السين المهملة، وسكون الميم وفتح النون الأولى نسبة إلى سمنان العراق "أحد أئمة الأصول من الأشاعرة" سكن بغداد وسمع الدارقطني وغيره وعنه الخطيب، وقال: كان ثقة عالما فاضلا حسن الكلام والباجي، وغيرهما ولد سنة إحدى وستين وثلاثمائة، ومات بالموصل وهو قاض بها سنة أربع وأربعين وأربعمائة، "وتبعه ابن الجوزي" أبو الفرج الحافظ عبد الرحمن البكري المشهور، "وتعقب ذلك السهيلي وغيره بأن هذا وإن كان ممكنا، ويكون آية أخرى لكنه يناقض كونه أميا لا يكتب وهي الآية التي قامت بها الحجة وأفحم الجاحد وانحسمت الشبهة" التي افتراها عليه الكفار، فقالوا: أساطير الأولين اكتتبها، فهي تملي عليه, ونحو ذلك، "فلو جاز أن يصير يكتب بعد ذلك لعادت الشبهة وقال المعاند" الكافر: كان يحسن يكتب لكنه كان يكتم ذلك".
"قال السهيلي": تقوية لرد هذا الاحتمال "والمعجزات يستحيل أن يدفع بعضها بعضا،" فلو قلنا أن كتابته يومئذ معجزة أخرى دفعت كونه أميا "والحق أن معنى قوله: كتب، أمر عليا أن يكتب" كما قاله الجمهور. "انتهى" قول السهيلي.
"قال" صاحب الفتح: لا عياض كما وهم، فإنه متقدم على السهيلي، فلا يتأتى تنظيره في كلامه، "وفي دعوى أن كتابة اسمه الشريف فقط على هذه الصورة" التي هي جريان يده(3/206)
تستلزم مناقضة المعجزة، وتثبت كونه غير أمي نظر كبير، والله أعلم. انتهى.
وأما قوله: "اكتب بسم الله الرحمن الرحيم" وقوله: أما الرحمن فوالله ما أدري ما هو، ولكن اكتب باسمك اللهم ... إلخ.
فقال العلماء: وافقهم عليه الصلاة والسلام في عدم كتابة: بسم الله الرحمن الرحيم, وكتب: باسمك اللهم، وكذا وافقهم في محمد بن عبد الله، وترك كتابة: رسول الله للمصلحة المهمة الحاصلة بالصلح.
مع أنه لا مفسدة في هذه الأمور: أما البسملة وباسمك اللهم فمعناهما واحد، وكذا قوله: محمد بن عبد الله، هو أيضا رسوله، وليس في ترك وصف الله تعالى
__________
بالكتابة، وهو لا يحسنها "تستلزم مناقضة المعجزة، وتثبت كونه غير أمي نظير كبير" لأنه خارق للعادة لا اختيار له فيه، حتى لو أراد كتابة غيره اختيارا لم يقدر فهو باق على أميته، وأجاب شيخنا بأن كونه خارقا للعادة باعتبار نفس الأمر وأما الواقف عليه فإنما يحمله على أنه فعله اختيارا فتعود الشبهة التي أريد دفعها عنه صلى الله عليه وسلم "والله أعلم" بما في نفس الأمر "انتهى" كلام فتح الباري. "وأما قوله" صلى الله عليه وسلم: "اكتب بسم الله الرحمن الرحيم". "وقوله" أي سهيل: "أما الرحمن فوالله ما أدري ما هو ولكن اكتب باسمك اللهم ... إلخ".
"فقال العلماء وافقهم عليه الصلاة والسلام في عدم كتابة: بسم الله الرحمن الرحيم، وكتب: باسمك اللهم، وكذا وافقهم في محمد بن عبد الله، وترك كتابة: رسول الله للمصلحة المهمة الحاصلة بالصلح"؛ لأنه يترك المصلحة مع الإمكان قال أبو بكر رضي الله عنه: ما كان فتح أعظم من صلح الحديبية، ولكن قصر رأيهم عما كان بين رسول الله وبين ربه والعباد يعجلون، والله تعالى لا يعجل لعجلة العباد حتى تبلغ الأمور ما أراد.
لقد رأيت سهيل بن عمرو في حجة الوداع قائما عند المنحر يقرب لرسول الله صلى الله عليه وسلم بدنه ورسول الله ينحرها بيده, ودعا الحلاق، فحلق رأسه، فانظر إلى سهيل يلتقط من شعره، وجعل بعضه على عينيه، وأذكر امتناعه أن يقر يوم الحديبية ببسم الله الرحمن الرحيم، فحمدت الله الذي هداه للإسلام. "مع أنه لا مفسدة في هذ الأمور،" ووجه نفي المفسدة بقوله: "أما البسملة وباسمك اللهم فمعناهما واحد، وكذا قوله "محمد بن عبد الله" هو أيضا رسوله" كما قال عليه السلام في رواية للبخاري: "أنا رسول الله وأنا محمد بن عبد الله" وليس من ترك وصف(3/207)
في هذا الموضع بالرحمن الرحيم ما ينفي ذلك، ولا في ترك وصفه صلى الله عليه وسلم هنا بالرسالة ما ينفيها، فلا مفسدة فيما طلبوه، وإنما المفسدة لو طلبوا أن يكتبوا ما لا يحل من تعظيم آلهتهم ونحو ذلك. انتهى.
قال في رواية البخاري: فكتب هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله.
فقال صلى الله عليه وسلم: "على أن تخلوا بيننا وبين البيت فنطوف به".
فقال سهيل: والله لا تتحدث العرب أنا أخذنا ضغطة, ولكن ذلك من العام المقبل، فكتب.
فقال سهيل: وعلى أنه لا يأتيك منا رجل -وإن كان على دينك- إلا رددته إلينا.
__________
الله في هذا الموضع بالرحمن الرحيم ما ينفي ذلك، ولا في ترك وصفه صلى الله عليه وسلم هنا بالرسالة ما ينفيها فلا مفسدة فيما طلبوه", فلذا وافقهم عليه، "وإنما المفسدة لو طلبوا أن يكتبوا ما لا يحل من تعظيم آلهتهم ونحو ذلك" ولم يقع "انتهى" ما قاله العلماء "قال في رواية البخاري": التي في الشروط عقب ما مر قبل قوله، وفي رواية له بعدما نقلته ثمة، فكتب هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله، فقال" النبي صلى الله عليه وسلم: "على أن تخلوا بيننا وبين البيت، فنطوف به" بالتخفيف بالنصب عطف على المنصوب السابق، وفي نسخة نطوف بالرفع على الاستئناف، وفي أخرى فنطوف بتشديد الطاء والواو وأصله نتطوف بالنصب والرفع، "فقال سهيل: والله لا" نخلي بينك وبين البيت "تتحدث العرب أنا أخذنا" بضم الهمزة، وكسر الخاء "ضغطة" بضم الضاد، وسكون الغين المعجمتين، والنصب على التمييز قهرا والجملة استئنافية، وليست مدخولة لا قاله كله المصنف، "ولكن ذلك" الذي أردته من التخلية "من العام المقبل فكتب" على ذلك، "فقال سهيل: وعلى أنه لا يأتيك منا رجل، وإن كان على دينك إلا رددته إلينا".
وفي رواية للبخاري أيضا في أول كتاب الشروط بلفظ، ولا يأتيك منا أحد وهي تعم الرجال والنساء، فدخلن في هذا الصلح، ثم نسخ ذلك فيهن أو لم يدخلن إلا بطريق العموم، فخصص زاد ابن إسحاق ومن جاء قريشا ممن تبع محمدا لم يردوه إليه، ولمسلم من حديث أنس أن قريشا صالحت البي صلى الله عليه وسلم على أن من جاء منكم لم نرده إليكم، ومن جاءكم منا رددتموه إلينا فقالوا: يا رسول الله أنكتب هذا؟ قال: "نعم, فإنه من ذهب منا إليهم فأبعده الله، ومن جاء منهم إلينا فسيجعل الله له فرجا ومخرجا". وللبخاري في أول الشروط، وكان فيما(3/208)
فقال المسلمون: سبحان الله، كيف يرد إلى المشركين وقد جاء مسلما؟
والضغطة، بالضم، قال في القاموس: الضيق والإكراه والشدة. انتهى.
فإن قلت: ما الحكمة في كونه عليه الصلاة وافق سهيلا على أنه لا يأتيه رجل منهم وإن كان على دين الإسلام إلا ويرده إلى المشركين.
__________
اشترط سهيل على النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يأتيك منا أحد، وإن كان على دينك إلا رددته إلينا، وخليت بيننا وبينه فكره المؤمنون ذلك، وامتعضوا منه بعين مهملة وضاد معجمة أي غضبوا من هذا الشرط وأنفوا منه. قال: فأبى سهيل إلا ذلك، فكاتبه النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك "فقال المسلمون" متعجبين: "سبحان الله كيف يرد إلى المشركين وقد جاء" حال كونه "مسلما".
قال الحافظ: قائل ذلك يشبه أن يكون عمر لما سيأتي وسمى الواقدي ممن قال ذلك أسيد بن حضير وسعد بن عبادة وسهل بن حنيف أنكر ذلك أيضا كما في المغازي من البخاري، "والضغطة بالضم" للضاد وسكون الغين المعجمتين ثم طاء مهملة، كما اقتصر عليه الفتح "قال في القاموس: الضيق والإكراه والشدة. انتهى".
وهي ألفاظ متقاربة وفي النهاية، أي عصرا وقهرا، يقال: أخذت فلانا ضغطة إذا ضيقت عليه لتكرهه على الشيء، وفي ترتيب المطالع بفتح الضاد وضمها للأصيلي، أي قهرا واضطرارا، وفي حديث البراء عند البخاري لا يدخل مكة السلاح إلا السيف في القراب، وأن لا يخرج من أهلها بأحد إن أراد أن يتبعه، أن لا يمنع من أصحابه أحدا إن أراد أن يقيم بها وعند ابن إسحاق: وعلى أن بيننا عيبة مكفوفة أي أمورا مطوية في صدور سليمة إشارة إلى ترك المؤاخذة بما تقدم بينهم من أسباب الحرب وغيرها، وأنه لا إسلال ولا إغلال أي لا سرقة ولا خيانة.
فالإسلال من السل وهي السرقة والإغلال الخيانة، تقول أغل الرجل أي خان أما في الغنيمة فيقال: غل بغير ألف، والمراد أن يأمن بعضهم من بعض ونفوسهم وأموالهم سرا وجهرا، وقيل الإسلال من سل السيوف والإغلال من لبس الدروع، ووهاه أبو عبيد قال: وأنه من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه, ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه فتواثبت خزاعة، فقالوا: نحن في عقد محمد وعهده، وتواثبت بنو بكر وقالوا: نحن في عقد قريش وعهدهم، وإنك ترجع عنا عامك هذا فلا تدخل مكة علينا, وأنه إذا كان عام قابل خرجنا فدخلتها بأصحابك، فأقمت بها ثلاثا معك سلاح الراكب السيوف في القرب لا تدخلها بغيره، "فإن قلت ما الحكمة في كونه عليه الصلاة والسلام وافق سهيلا على أن لا يأتيه رجل منهم، وإن كان على دين الإسلام إلا ويرده إلى المشركين".(3/209)
فالجواب: إن المصلحة المترتبة على إتمام هذا الصلح ما ظهر من ثمراته الباهرة، وفوائده المتظاهرة التي كانت عاقبتها فتح مكة وإسلام أهلها كلهم، ودخول الناس في دين الله أفواجا.
وذلك أنهم قبل الصلح لم يكونوا يختلطون بالمسلمين، ولا تتظاهر عندهم أمور النبي صلى الله عليه وسلم كما هي، ولا يخلون بمن يعلمهم بها مفصلة، فلما حصل صلح الحديبية اختلطوا بالمسلمين، وجاءوا إلى المدينة، وذهب المسلمون إلى مكة، وخلوا بأهلهم وأصدقائهم وغيرهم ممن يستنصحونه، وسمعوا منهم أحوال النبي صلى الله عليه وسلم ومعجزاته الظاهرة، وأعلام نبوته المتظاهرة، وحسن سيرته، وجميل طريقته، وعاينوا بأنفسهم كثيرا من ذلك، فمالت نفوسهم إلى الإيمان، حتى بادر خلق منهم إلى الإسلام، قبل فتح مكة، فأسلموا بين صلح الحديبية وفتح مكة، وازداد الآخرون ميلا إلى الإسلام.
__________
"فالجواب" كما نقله النووي عن العلماء "أن المصلحة المترتبة على إتمام هذا الصلح" هي "ما ظهر من ثمراته الباهرة" الغالبة، "وفوائده المتظاهرة" التي علمها صلى الله عليه وسلم وخفيت على غيره، فحمله ذلك على موافقتهم لأنه لا يترك ما فيه مصلحة للمسلمين.
وقد علم أن الله سيجعل للمستضعفين فرجا ومخرجا كما أخبر بذلك فكان كما قال فظهرت مصلحة هذا الفتح "التي كانت عاقبتها فتح مكة وإسلام أهلها كلهم ودخول الناس في دين الله أفواجا" جماعات، "وذلك أنهم قبل الصلح لم يكونوا يختلطون بالمسلمين ولا تتظاهر" أي تظهر "عندم أمور النبي صلى الله عليه وسلم كما هي", وعبر بالمفاعلة إشارة إلى أنه بعد الصلح صار بعض الأمور لظهوره، كأنه يعاون البعض وهو مستلزم لكمال الظهور.
وفي المختار: التظاهر التعاون, "ولا يخلون بمن يعلمهم بها مفصلة فلما حصل صلح الحديبية اختلطوا بالمسلمين وجاءوا إلى المدينة، وذهب المسلمون إلى مكة وخلوا بأهلهم وأصدقائهم وغيرهم ممن يستنصحونهم، وسمعوا منهم أحوال النبي صلى الله عليه وسلم ومعجزاته الظاهرة، وأعلام نبوته المتظاهرة، وحسن سيرته" طريقته وهيئته من إضافة الصفة للموصوف "وجميل طريقته" مساو لما قبله حسنه اختلاف اللفظ.
"وعاينوا بأنفسهم كثيرا من ذلك فمالت نفسهم إلى الإيمان حتى بادر خلق منهم إلى الإسلام قبل فتح مكة، فأسلموا فيما بين صلح الحديبية وفتح مكة" كخالد بن الوليد، وعمرو بن العاصي، وغيرهما، "وازداد الآخرون" وهم من لم يسلم حينئذ "ميلا إلى الإسلام".(3/210)
فلما كان يوم الفتح أسلموا كلهم، لما كان قد تمهد لهم من الميل.
وكانت العرب من غير قريش في البوادي ينتظرون بإسلامهم إسلام قريش، فلما أسلمت قريش أسلمت العرب في البوادي. قال الله تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ، وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا} [النصر: 1, 2] فالله ورسوله أعلم. انتهى.
قال في رواية البخاري: فبينما هم كذلك إذ دخل أبو جندل بن سهيل بن عمرو يرسف في قيوده
__________
"فلما كان يوم الفتح أسلموا كلهم لما كان قد تمهد لهم من الميل، وكانت العرب من غير قريش في البوادي ينتظرون بإسلامهم إسلام قريش" لما يعلمونه فيهم من القوة والرأي، ولأنهم كانوا يقولون: قوم الرجل أعلم به.
"فلما أسلمت قريش أسلمت العرب، قال الله تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ} نبيه صلى الله عليه وسلم على أعدائه {وَالْفَتْحُ} ، فتح مكة باتفاق كقوله: "لا هجرة بعد الفتح" {وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا} جماعات، جاءه العرب بعد فتح مكة من أقطار الأرض طائعين، "فالله ورسوله أعلم" بالحكمة البالغة التي منها أن صد المسلمين عن البيت كان في الظاهر هضما وفي الباطن عزا لهم وقوة، فذل المشركون من حيث أرادوا العزة وقهروا من حيث أرادوا الغلبة ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين. "انتهى" كلام العلماء.
"قال في رواية البخاري" التي في الشرط: "فبينما" بالميم "هم كذلك" وعند ابن إسحاق: فإن الصحيفة لتكتب، "إذ دخل أبو جندل" بالجيم، والنون وزن جعفر, "ابن سهيل بن عمرو" القرشي العامري، وكان اسمه العاصي فتركه لما أسلم، حبس بمكة ومنع الهجرة وعذب بسبب الإسلام، وله أخ اسمه عبد الله أسلم أيضا قديما وحضر مع المشركين بدرا ففر منهم إلى المسلمين، ثم كان معهم بالحديبية.
وقد وهم من جعلهما واحدا، وقد استشهد عبد الله باليمامة قبل أبي جندل بمدة، فإنه استشهد بالشام في خلافة عمر كما ذكره ابن عقبة عن الزهري، قاله في الفتح، وفي رواية أبي الأسود عن عروة: وكان سهيل أوثقه وسجنه حين أسلم فخرج من السجن وتنكب الطريق وركب الجبال حتى هبط على المسلمين ففرح به المسلمون وتلقوه حال كونه "يرسف" بفتح أوله وضم المهملة وبالفاء أي يمشي مشيا بطيئا بسبب أنه "في قيوده".
هكذا ضبطه في الفتح والنور والمصنف وغيرهم فهو الرواية، وقال الحافظ في المقدمة(3/211)
وقد خرج من أسفل مكة، حتى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين.
فقال سهيل: هذا يا محمد أول ما أقاضيك عليه أن ترده إليّ.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنا لم نقض الكتاب بعد".
قال: فوالله إذا لا أصالحك على شيء أبدا.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: "فأجزه لي". قال: ما أنا بمجيز ذلك.
قال: "بلى فافعل". قال: ما أنا بفاعل. قال مكرز: بلى
__________
بضم السين، ويقال بكسرها هو مشي المقيد، فقوله: يقال أي في اللفظ من حيث هو بدليل اقتصاره في الفتح على الضم، "وقد خرج" لما خرج من السجن "من أسفل مكة حتى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين".
زاد ابن إسحاق فقام سهيل إلى أبي جندل فضرب وجهه، وأخذ يتلببه قال البرهان: أي جمع عليه ثوبه الذي هو لابسه، وقبض عليه نحره، "فقال" أبوه "سهيل: هذا يا محمد أول ما أقاضيك،" أي أول شيء أحاكمك "عليه أن ترده إليّ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنا لم نقض الكتاب بعد". قال المصنف بنون مفتوحة، فقاف ساكنة، فضاد معجمة، أي لم نفرغ من كتابته ولأبي ذر عن المستملي والحموي: لم نفض بالفاء وتشديد المعجمة. انتهى.
والمراد به أيضا الفراغ مجازا؛ لأنه بالفاء: الكسر. فض الإناء: كسره, فأطلق اللازم وأراد الملزوم، وهو عدم الفراغ من الكتاب: "قال: فوالله إذا لا أصالحك على شيء أبدا"، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "فأجزه لي" بالجيم والزاي بصيغة فعل الأمر من الإجازة، أي أمض لي فعلي فيه ولا أرده إليك أو استثنه من القضية، ووقع في الجمع للحميدي بالراء.
ورجح ابن الجوزي الزاي وفيه أن الاعتبار في العقود بالقول ولو تأخرت الكتابة والإشهاد، ولذا أمضى صلى الله عليه وسلم لسهيل الأمر في ابنه إليه.
وكان تلطف به بقوله: "لم نقض الكتاب" رجاء أن يجيبه ولا تنكره بقية قريش؛ لأنه ولده فلما أصر على الامتناع تركه له.
قال الحافظ: وبه تعلم سقوط قول الشارح كأنه أشار بذلك إلى عدم انبرام الصلح بينهم، فكأنه قال لم يستقر الأمر على رد من جاءنا منكم.
"قال: ما أنا بمجيز ذلك" هي رواية أبي ذر ولغيره: بمجيزه لك.
قال: "بلى فافعل". "قال: ما أنا بفاعل, قال مكرز", زاد الواقدي: وحويطب: "بلى" كذا للأكثر(3/212)
قد أجزناه لك.
قال أبو جندل: أي معشر المسلمين، أرد إلى المشركين وقد جئت مسلما؟
ألا ترون ما قد لقيت؟ وكان قد عذب في الله عذابا شديدا.
زاد ابن إسحاق: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أبا جندل اصبر واحتسب، فإنا لا نغدر، وإن الله جاعل لك فرجا ومخرجا"
__________
بلفظ الإضراب وللكشميهني: بلى "قد أجزناه لك" فأخذاه فأدخلاه فسطاطا وكفا أباه عنه كما في رواية الواقدي وغيره.
وفي فتح الباري لم يذكر هنا من أجاب به سهيل مكرزا، فزعم بعض الشراح أنه لم يجبه؛ لأن مكرزا لم يكن ممن جعل له عقد الصلح وفيه نظر، فقد روى الواقدي وابن عائذ أنه كان ممن جاء في الصلح مع سهيل ومعهما حويطب بن عبد العزى، لكن ذكرا أن إجازته إنما هي في تأمينه من العذاب ونحو ذلك لا بأن يقرأه عند المسلمين لكن يعكر عليه رواية الصحيح. فقال مكرز: "قد أجزناه لك" يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم ولذا استشكل ما وقع منه لأنه خلاف قوله عليه السلام وهو فاجر، فكان الظاهر أن يساعد سهيلا على ابنه وأجيب بأن الفجور حقيقة ولا يلزم أن لا يقع منه شيء من البر نادرا أو قال ذلك نفاقا وفي بطنه خلافه، أو سمع قوله صلى الله عليه وسلم هو رجل فاجر فأراد إظهار خلافه فهو من جملة فجوره، ولو ثبتت رواية الواقدي وابن عائذ لكانت أقوى من هذه الاحتمالات، فإنه إنما أجازه ليكف عنه العذاب ليرجع إلى طاعة أبيه فما خرج بذلك عن الفجور. انتهى ملخصا.
وفي رواية ابن إسحاق: ثم قال أي سهيل: يا محمد قد لجت القضية بيني وبينك قبل أن يأتيك هذا، قال: "صدقت". "قال أبو جندل: أي معشر المسلمين أرد" بضم الهمزة وفتح الراء "إلى المشركين وقد جئت مسلما؟ ألا ترون ما قد لقيت؟ " بكسر القاف وفتحها بعضهم، "وكان قد عذب في الله عذابا شديدا".
"زاد ابن إسحاق" بعد نحو، هذا وهو قوله وجعل أبو جندل يصرخ بأعلى صوته: يا معشر المسلمين أرد إلى المشركين يفتنونني في ديني، فزاد الناس ذلك إى ما بهم، "فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أبا جندل اصبر واحتسب فإنا لا نغدر" وقد تم الصلح قبل أن تأتي وتلطفت بأبيك، فأبى "وإن الله جاعل لك" ولمن معك من المستضعفين، كما في نفس رواية ابن إسحاق، وأسقطها المصنف تبعا للفتح "فرجا ومخرجا" كأنه علم ذلك بالوحي.
وفي رواية أبي المليح فأرضاه رسول الله صلى الله عليه وسلم أي أبا جندل وبقية رواية ابن إسحاق: "فإنا(3/213)
فوثب عمر يمشي إلى جنبه ويقول، اصبر فإنما هم المشركون، وإنما دم أحدهم كدم كلب.
قال الخطابي: تأول العلماء ما وقع في قصة أبي جندل على وجهين:
أحدهما: أن الله تعالى قد أباح التقية للمسلم إذا خاف الهلاك، ورخص له أن يتكلم بالكفر مع إضمار الإيمان إن لم تمكن التورية، فلم يكن رده إليهم إسلاما لأبي جندل إلى الهلاك، مع وجود السبيل إلى الخلاص من الموت بالتقية.
والوجه الثاني: إنما رده إلى أبيه، والغالب أن أباه لا يبلغ به إلى الهلاك, وإن عذبه أو سجنه فله مندوحة بالتقية أيضا.
وأما ما يخاف عليه من الفتنة فإن ذلك امتحان من الله تعالى يبتلي به صبر عباده المؤمنين.
__________
قد عقنا بيننا وبين القوم صلحا وأعطيناهم على ذلك وأعطونا عهد الله وإنا لا نغدر بهم". قال "فوثب عمر" بن الخطاب مع أبي جندل "يمشي إلى جنبه ويقول: اصبر" يا أبا جندل، "فإنما هم المشركون، وإنما دم أحدهم كدم الكلب" ويدني قائم السيف يقول عمر رجوت أن يأخذ السيف فيضرب به أباه، قال: فضن الرجل بأبيه ونفذت القضية انتهى كلام ابن إسحاق.
"قال الخطابي تأول العلماء ما وقع في قصة أبي جندل على وجهين أحدهما أن الله تعالى قد أباح التقية للمسلم" أي ما يبقى به نفسه مما ظهره كفر، "إذ خاف الهلال ورخص له أن يتكلم بالكفر"، أو يفعل ما ظاهره كفر كسجود لصنم "مع إضمار الإيمان" بأن يصمم عليه بقلبه، فقال تعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} فالمكره غير مكلف "إن لم تمكن التورية" لعدم معرفتها أو قبولهم لها، "فلم يكن رده إليهم إسلاما لأبي جندل إلى الهلاك" أي تسليطا لهم عليه وتخذيلا له "مع وجود السبيل إلى الخلاص من الموت بالتقية".
"والوجه الثاني إنه إنما رده إلى أبيه، والغالب أن أباه لا يبلغ به إلى الهلاك" لما جبلت عليه النفوس من محبة الولد "وإن عذبه أو سجنه فله مندوحة" بفتح الميم أي سعة وفسحة "بالتقية أيضا"، فليس رده لأبيه طريقا للهلاك، لأنه يمكن أن يوافقهم على الكفر ظاهرا، وقلبه مطمئن بالإيمان فيسلم من الهلاك والتعذيب، "وأما ما يخاف عليه من الفتنة فإن ذلك امتحان من الله يبتلي به صبر عباده المؤمنين" أي يتحنهم ليظهر بذلك صبرهم للناس, فالابتلاء سبب لظهور الصبر لا ليعلمه إذ لا يعزب عن علمه شيء.(3/214)
واختلف العلماء: هل يجوز الصلح مع المشركين على أن يرد إليهم من جاء مسلما من عندهم، أم لا؟
فقيل: نعم، على ما دلت عليه قصة أبي جندل وأبي بصير.
__________
"واختلف العلماء" في جواب قول السائل "هل يجوز الصلح مع المشركين على أن يرد إليهم من جاء مسلما من عندهم، أم لا، فقيل: نعم" يجوز "على ما دلت عليه قصة أبي جندل" المذكور، "وأبي بصير" بفتح الموحدة، وكسر الصاد المهملة فتحتية ساكنة فراء عتبة بضم المهملة وسكون الفوقية وقيل عبيد بموحدة مصغر. قال الحافظ وهو وهم بن أسيد بفتح الهمزة وكسر السين على الصحيح ابن جارية بجيم وتحتية ابن عبد الله الثقفي حليف بني زهرة، فقوله في الصحيح رجل من قريش أي بالحلف؛ لأن بني زهرة من قريش, أسلم قديما. وقصته عند البخاري في بقية هذا الحديث الذي ساقه عنه المصنف من كتاب الشروط قال: ثم رجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة فجاءه أبو بصير رجل من قريش وهو مسلم، فأرسلوا في طلبه رجلين سماهما ابن سعد خنيس بمعجمة ونون وآخره مهملة مصغر ابن جابر ومولى يقال له كوثر، وقيل اسم أحدهما مرثد بن حمران بن إسحاق، وكتب الأخنس بن شريق والأزهر بن عبد عوف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعثا به مع مولى لهما ورجل من بني عامر استأجراه ببكرين.
زاد الواقدي فقدما بعد أبي بصير بثلاثة أيام، ورواية أبي المليح جاء أبو بصير مسلما، وجاء وليه خلفه على مجاز الحذف أي رسول وليه. انتهى.
فقالوا: العهد الذي جعلته لنا فدفعه إلى الرجلين، زاد ابن إسحاق فقال أتردني إلى المشركين يفتنونني عن ديني يعذبونني، قال: "اصبر واحتسب فإن الله جاعل لك فرجا ومخرجا" زاد أبو المليح فقال له عمر: أنت رجل وهو رجل ومعك السيف انتهى.
فخرجا به حتى بلغا ذا الحليفة، فنلوا يأكلون من تمر لهم، فقال أبو بصير لأحد الرجلين في رواية ابن سعد الخنيس بن جابر. انتهى.
والله إني لأرى سيفك هذا يا فلان جيدا، فاستله الآخر فقال: أجل والله إنه لجيد لقد جربت به، ثم جربت وفي رواية لأضربن به في الأوس والخزرج يوما إلى الليل. انتهى.
فقال أبو بصير: أرني أنظر إليه فأمكنه منه، فضربه أبو بصير حتى برد، وفر الآخر حتى أتى المدينة فدخل المسجد يعدو، فقال صلى الله عليه وسلم لقد رأى هذا ذعرا فلما انتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: قتل والله صاحبي، ولابن إسحاق قتل صاحبكم صاحبي انتهى، وإني لمقتول أي إن لم ترده عني.
وعند ابن عائذ وتبعه أبو بصير حتى دفع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه وهو عاض على أسفل ثوبه، وقد بدا طرف ذكره والحصى يطير من تحت قدميه من شدة عدوه وأبو(3/215)
.....................................
__________
بصير يتبعه انتهى.
فجاء أبو بصير فقال: يا نبي الله قد أوفى الله ذمتك، قد رددتني إليهم ثم أنجاني الله منهم، فقال صلى الله عليه وسلم: "ويل أمه مسعر حرب لو كان له أحد ينصره". فلما سمع ذلك عرف أنه سيرده إليهم ولابن عقبة، وجاء أبو بصير بسلبه فقال: خمسه يا رسول الله، فقال: "إني إذا خمسته لم أوف بالعهد الذي عاهدتهم عليه, ولكن شأنك بسلب صاحبك واذهب حيث شئت". فخرج معه خمسة قدموا معه مسلمين من مكة. انتهى.
فخرج حتى أتى سيف البحر بكسر المهملة، وسكون التحتية بعدها فاء أي ساحله، وعين ابن إسحاق المكان، فقال حتى نزل العيص بكسر المهملة، وسكون التحتية بعدها مهملة قال وكان طريق مكة إذا قصدوا الشام، وهو يحاذي المدينة إلى جهة الساحل انتهى.
قال وتفلت منهم أبو جندل بن سهيل فلحق بأبي بصير، وعند ابن عقبة كأبي الأسود عن عروة انفلت في سبعين راكبا مسلمين، فلحقوا بأبي بصير قريبا من ذي المروة على طريق قريش، فقطعوا مادتهم من طريق الشام وأبو بصير يصلي بأصحابه، فلما قدم أبو جندل كان يؤمهم، أي لأنه قرشي. انتهى.
فجعل لا يخرج من قريش رجل قد أسلم إلا لحق بأبي بصير حتى اجتمع منهم عصابة بكسر العين تطلق على أربعين فما دونها، ودل هذا الحديث على إطلاقها على أكثر، فلابن إسحاق بلغوا نحوا من سبعين، ولأبي المليح أربعين أو سبعين، وجزم عروة بأنهم بلغوا سبعين، وزعم السهيلي أنهم بلغوا ثلاثمائة رجل، كذا قال في الفتح: وفيه أن السهيلي لم يقله من عنده بل عزاه لرواية معمر عن الزهري.
وهكذا جزم به ابن عقبة في مغازيه فقال: واجتمع إلى أبي جندل ناس من غفار، وأسلم وجهينة وطوائف من الناس حتى بلغوا ثلاثمائة مقاتل وهم مسلمون.
زاد عروة وكرهوا أن يقدموا المدينة في الهدنة خشية أن يعادوا إلى المشركين. انتهى.
فوالله ما يسمعون بعير خرجت من مكة لقريش إلى الشام إلا اعترضو لها وأخذوا أموالهم ولابن إسحاق لا يظفرون بأحد منهم إلا قتلوه، ولا تمر بهم عير إلا اقتطعوها. انتهى.
فأرسلت قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم تناشده بالله والرحم لما أرسل إليهم فمن أتاه فهو آمن، ولأبي الأسود عن عروة، فأرسلوا أبا سفيان بن حرب إليه صلى الله عليه وسلم يسألونه ويتضرعون إليه أن يبعث إلى أبي جندل ومن معه، قالوا: ومن خرج منا إليك فهو لك حلال غير حرج. انتهى.
فأرسل صلى الله عليه وسلم إليهم، وفي رواية ابن عقبة عن الزهري، فكتب صلى الله عليه وسلم إلى أبي بصير، فقدم(3/216)
وقيل: لا، وإن الذي وقع في القصة منسوخ. وإن ناسخه حديث: "أنا بريء من مسلم بين مشركين" وهو قول الحنفية.
وعند الشافعية: يفصل بين العاقل والمجنون والصبي، فلا يردان. وقال بعض الشافعية: ضابط جواز الرد أن يكون المسلم بحيث لا تجب عليه الهجرة من دار الحرب. والله أعلم. قاله في فتح الباري.
قال في رواية البخاري: فقال عمر بن الخطاب: فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم, فقلت: ألست نبي الله حقا؟ قال: "بلى" , قلت: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: "بلى"
__________
كتابه وأبو بصير يموت، فمات وكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في يده، فدفنه أبو جندل مكانه، وجعل عند قبره مسجدا، وقدم أبو جندل ومن معه المدينة، فلم يزل بها حتى خرج إلى الشام مجاهدا، فاستشهد في خلافة عمر، ولابن الأسود عن عروة فعلم الذين أشاروا أن لا يسلم أبا جندل إلى أبيه أن طاعته صلى الله عليه وسلم خير مما كرهوا. انتهى.
وقد بينت الزائد على رواية البخاري بعزو أوله وقول انتهى آخره.
"وقيل: لا" يجوز صلح المشركين على رد من جاء مسلما منهم، "وأن الذي وقع في القصة" المذكورة لكل من أبي جندل وأبي بصير "منسوخ، وأن ناسخه حديث" أبي داود، والترمذي وصححه الضياء عن جرير مرفوعا: "أنا بريء من مسلم بين مشركين"، واختصره المصنف، ولفظه عند رواية المذكورين: "أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين لا تراءى ناراهما"، "وهو قول الحنفية" ولا شاهد فيه للنسخ، لأنه فيمن تمكن من الفرار ولا عشيرة له تحميه أو قاله بعد رضا المشركين برد من جاء مسلما.
"وعند الشافعية يفصل بين العاقل و"بين "المجنون والصبي، فلا يردان" بخلاف العاقل، فيجوز شرط رده إن كان له عشيرة تحميه. "وقال بعض الشافعية ضابط جواز الرد أن يكون المسلم بحيث لا تجب عليه الهجرة من دار الحرب والله أعلم".
"قاله في فتح الباري، قال في رواية البخاري" الذكورة، "فقال" بالفاء ولأبي ذر، قال "عمر بن الخطاب" هذا بما يقوي أنه الذي حدث المسور ومروان بالقصة، وكذا ما مر قريبا من قصته مع أبي جندل قاله الحافظ، "فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت" له "ألست نبي الله" بالنصب خبر ليس والاستفهام تقريري "حقا؟ " قال: "بلى" ألسنا على الحق وعدونا على الباطل، قال: "بلى". زاد البخاري في الجزية والتفسير: أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟، قال: "بلى".(3/217)
قلت: فلم نعطي الدنية في ديننا إذا؟ قال: "إني رسول الله ولست أعصيه، وهو ناصري". قلت: أوليس كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به؟ قال: "بلى، أفأخبرتك أنا نأتيه العام"؟ قلت: لا، قال: "فإنك آتيه ومطوف به".
قال: فأتيت أبا بكر فقلت: يا أبا بكر، أليس هذا نبي الله حقا؟ قال: بلى، قلت: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: بلى، قلت: فلم نعطي الدنية في
__________
"قلت: فلم نعطي الدنية" بفتح الدال المهملة، وكسر النون وشد التحتية والأصل فيه الهمزة، لكنه خفف وهو صفة لمحذوف أي الحالة الدنية الخسيسة، "في ديننا إذا" بالتنوين أي حين إذ كان كذلك زاد في التفسير والجزية ونرجع ولم يحكم الله بيننا، قال: "إني رسول الله ولست أعصيه وهو ناصري" , فيه تنبيه لعمر على إزالة ما عنده من القلق، وأنه لم يفعل ذلك إلا لأمر أطلعه الله عليه، وأنه لم يفعل شيئا من ذلك إلا بوحي "قلت: أوليس كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به؟ " قال المصنف: بالتخفيف وفي نسخة فنطوف بشد الطاء والواو وقال شيخنا: وهي أنسب بقوله بعد ومطوف به.
وعند ابن إسحاق كانت الصحابة لا يشكون في الفتح لرؤيا رآها صلى الله عليه وسلم فلما رأوا الصلح دخلهم من ذلك أمر عظيم حتى كادوا يهلكون.
وعند الواقدي أنه صلى الله عليه وسلم كان رأى في منامه قبل أن يعتمر هو وأصحابه دخول البيت فلما رأوا تأخير ذلك شق عليهم، قال: "بلى أفخبرتك أنا نأتيه العام" هذا "قلت: لا" فيه حمل الكلام على عمومه وإطلاقه حتى يظهر إرادة التخصيص والتقييد، قال: "فإنك آتية ومطوف به" بفتح الطاء وكسر الواو الثقيلتين.
وروى الواقدي عن أبي سعيد، قال عمر: لقد دخلني أمر عظيم وراجعت النبي صلى الله عليه وسلم مراجعة ما راجعته مثلها قط.
وروى البزار عن عمر اتهموا الرأي على الدين، فلقد رأيتني أرد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم برأي وما ألوت عن الحق وفيه، فرضي صلى الله عليه وسلم وأبيت حتى قال: "يا عمر تراني رضيت وتأبى"؟.
وعند البخاري في الجزية والتفسير من حديث سهل بن حنيف، فقال: "يابن الخطاب إني رسول الله ولن يضيعني الله". فرجع متغيظا فلم يصبر حتى جاء أبا بكر، "قال" عمر: "فأتيت أبا بكر" الصديق رضي الله عنه "فقلت: يا أبا بكر أليس هذا نبي الله حقا؟ قال: بلى. قلت: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: بلى. قلت: فلم" نعطي الخصلة "الدنية" الخسيسة(3/218)
ديننا إذا؟ قال أبو بكر: أيها الرجل، إنه رسول الله، وليس يعصي ربه وهو ناصره، فاستمسك بغرزه، فوالله إنه على الحق. قلت: أو ليس كان يحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به؟ قال: بلى، أفأخبرك أنك تأتيه العام؟ قلت: لا، قال: فإنك آتيه ومطوف به.
قال العلماء: لم يكن سؤال عمر رضي الله عنه وكلامه شكا، بل طلبا لكشف ما خفي عليه، وحثا على إذلال الكفار، وظهور الإسلام، كما عرف في خلقه وقوته في نصرة الدين، وإذلال المبطلين.
وأما جواب أبي بكر لعمر رضي الله عنهما بمثل جواب النبي صلى الله عليه وسلم فهو من الدلائل الظاهرة على عظم فضله
__________
"في ديننا إذا؟ " بالتنوين "قال أبو بكر" لعمر: "أيها الرجل أنه رسول" رواية أبي ذر ولغيره لرسول "الله" بلام "وليس يعصي ربه وهو ناصره فاستمسك بغرزه" بفتح الغين المعجمة، وسكون الراء بعدها زاي، وهو للإبل بمنزلة الركاب للفرس، أي تمسك بأمره ولا تخالفه كالذي يتمسك بركاب الفارس فلا يفارقه. "فوالله إنه على الحق قلت: أو ليس كان يحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف" بالفاء لأبي ذر ولغيره بالواو "به قال: بلى أفأخبرك أنا نأتيه العام، قلت: لا قال: فإنك آتيه ومطوف به" فأجابه بمثل جوابه له صلى الله عليه وسلم سواء، فدل أنه أكمل الصحابة وأعرفهم بأحوال المصطفى، وأعلمهم بأمور الدين، وأشدهم موافقة لأمر الله تعالى ولجلالة قدر أبي بكر وسعة علمه عند عمر لم يراجع أحدًا في ذلك بعده صلى الله عليه وسلم غير الصديق، وإنما سأله بعد المصطفى وجوابه له لشدة ما حصل له من الغيظ وقوته في نصر الدين وإذلال الكافرين.
كما أفصح عن ذلك سهل بن حنيف الصحابي بقوله فرجع متغيظا فلم يصبر حتى جاء أبا بكر كما مر على الصحيح.
ووقع في رواية ابن إسحاق تقديم سؤاله لأبي بكر على سؤال للنبي صلى الله عليه وسلم وما في الصحيح أصح. لا سيما وقد أفصح في الحديث الآخر بسبب إتيانه له بعده كما ترى.
"قال العلماء: لم يكن سؤا عمر رضي الله عنه وكلامه شكا" في الدين حاشاه من ذلك، ففي رواية ابن إسحاق أنه لما قال له: الزم غرزه فإنه رسول الله قال عمر: وأنا أشهد أنه رسول الله. "بل طلبا لكشف ما خفي عليه" من المصلحة وعدمها في هذا الصلح، "وحثا على إذلال الكفار وظهور الإسلام كما عرف في خلقه" بضمتين عادته "وقوته" شدته "في نصر الدين وإذلال المبطلين" ففيه جواز البحث في العلم حتى يظهر المعنى، "أما جواب أبي بكر لعمر رضي الله عنهما بمثل جواب النبي صلى الله عليه وسلم" حرفا بحرف "فهو من الدلائل الظاهرة على عظيم فضله(3/219)
وبارع علمه، وزيادة عرفانه ورسوخه، وزيادته في كل ذلك على غيره.
وكان الصلح بينهم عشر سنين، كما في السير. وأخرجه أبو داود من حديث ابن عمر.
ولأبي نعيم في مسند عبد الله بن دينار كانت أربع سنين. وكذا أخرجه الحاكم في البيوع من المستدرك
__________
وبارع علمه وزيادة عرفانه" بأحوال المصطفى، "ورسوخه وزيادته في كل ذلك على غيره" ألا ترى أنه صرح في الحديث، أن المسلمين استنكروا الصلح المذكور وكانوا على رأي عمر، فلم يوافقهم أبو بكر بل كان قلبه على قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم سواء.
ومر في الهجرة أن ابن الدغنة وصفه بمثل ما وصفت به خديجة النبي صلى الله عليه وسلم سواء من كونه يصل الرحم ويحمل الكل ويعين على نوائب الحق وغيره ذلك، فلما تشابهت صفاتهما من الابتداء استمر ذلك إلى الانتهاء.
وفي البخاري قال عمر: فعملت لذلك أعمالا.
وفي ابن إسحاق ما زلت أتصدق وأصوم وأصلي وأعتق من الذي صنعت يومئذ مخافة كلامي الذي تكلمت به، حتى رجوت أن يكون خيرا.
وعند الواحدي عن ابن عباس: لقد أعتقت بسبب ذلك رقابا وصمت دهرا. وإنما عمل ذلك وإن كان معذورا في جميع ما صدر من، بل مأجورا لأنه مجتهد لتوقفه عن المبادرة في امتثال الأمر، حتى قال: ما شككت منذ أسلمت إلا هذه الساعة.
قال السهيلي: هذا الشك هو ما لا يصر عليه وإنما هو من باب الوسوسة. التي قال فيها صلى الله عليه وسلم: "الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة"، ففيه أن المؤمن قد يشك ثم يجدد النظر في دلائل الحق فيذهب شكه, قال الحافظ لكن الذي يظهر أنه توقف منه ليقف على الحكة في القضية وتنكشف عند الشبه. انتهى.
"وكان الصلح بينهم عشر سنين، كما في السير" سيرة ابن إسحاق وغيرها، "وأخرجه أبو داود من حديث ابن عمر" والحاكم حديث عليّ وجزم به ابن سعد وهو المعتمد.
"ولأبي نعيم في مسند عبد الله بن دينار" العدوي مولاهم المدني التابعي الصغير ثقة كثير الحديث، مات سنة سبع وعشرين ومائة أي ما أسنده عن مولاه عبد الله بن عمر "كانت" مدة الصلح "أربع سنين".
"وكذا أخرجه الحاكم في" أواخر "البيوع من المستدرك" عن ابن عمر وقال: صحيح ورده(3/220)
والأول أشهر.
وكان الصلح على وضع الحرب، بحيث يأمن الناس فيها، ويكف بعضهم عن بعض.
وأن لا يدخل البيت إلا العام المقبل ثلاثة أيام.
ولا يدخلوها إلا بجلبان السلاح، وهو القراب بما فيه.
والجلبان -بضم الجيم وسكون اللام- شبه الجراب يوضع فيه السيف مغمودا. ورواه القتيبي: بضم الجيم واللام وتشديد الباء، وقال: هو أوعية السلاح بما فيها.
وفي بعض الروايات: لا يدخلها إلا بجلبان السلاح: السيف والقوس.
وإنما اشترطوا ذلك ليكون علما وأمارة للسلم
__________
الذهبي فقال: بل ضعيف فإن عاصما أحد رجاله ضعفوه "والأول أشهر،" بل هو المعتمد الصحيح، وهذا مع ضعف إسناده منكر مخالف للصحيح كما مر عن الحافظ مع زيادة.
واختلف العلماء في المدة التي تجوز المهادنة فيها مع المشركين، فقال الشافعي والجمهور لا تجاوز عشر سنين لهذا الحديث لأن منع الصلح هو الأصل لآية القتال، فورد الحديث بعشر فالزيادة على أصل المنع، وقيل تجوز الزيادة، وقيل لا تجاوز أربع سنين وقيل ثلاثا وقيل سنتين.
"وكان الصلح على وضع الحرب بحيث يأمن الناس فيها" أي مدة الصلح "ويكف بعضهم عن بعض" القتال ونهب الأموال، "وأن لا يدخل البيت إلا العام القابل" ويقيم "ثلاثة أيام، ولا يدخلوها إلا بجلبان السلاح، وهو" أي السلاح "القراب بما فيه والجلبان بضم الجيم وسكون الجيم" وخفة الموحدة، فألف فنون "شبه الجراب يوضع فيه السيف مغمودا".
"ورواه القتيبي" بضم القاف، وفتح الفوقية، عبد الله بن مسلم بن قتيبة أبي محمد الدينوري مؤلف غريب الحديث وأدب الكاتب وغيره نسبة إلى جده قتيبة المذكور، فالصواب حذف الياء قبل الموحدة لوجوب حذفها في النسبة إلى فعيلة بالضم كجهينة وقريظة، فيقال: جهني وقرظي "بضم الجيم و" ضم "اللام وتشديد الباء" الموحدة "وقال: هو أوعية السلاح بما فيها، وفي بعض الروايات، ولا يدخلها إلا بجلبان السلاح السيف والقوس" بدل من السلاح، وفي نسخة والسيف بواو عطف التفسير، "وإنما اشترطوا ذلك ليكون علما وأمارة للسلم إذ كان دخولهم(3/221)
إذ كان دخولهم صلحا.
وقال مكي بن أبي طالب القيرواني في تفسيره.
وبعث عليه الصلاة والسلام بالكتاب إليهم مع عثمان بن عفان
__________
صلحا،" فهو أبلغ في الدلالة على أنهم غير محاربين، "وقال مكي" بميم وكاف ونسخة علي من أوهام النساخ "ابن أبي طالب" حموش بفتح المهملة وشد الميم المضمومة، وسكون الواو فشين معجمة بن محمد بن مختار "القيرواني" أبو محمد القيسي المالكي، الفقيه، الأديب المقري، أخذ بالقيروان عن ابن أبي زيد والقابسي، ورحل وحج وأخذ عن جميع بالمشرق كإبراهيم المروزي وابن فارس، ودخل قرطبة فنوه بمكانه القاضي ابن ذكوان فأجلسه في الجامع فعلا ذكره ونشر علمه ورحل إليه الناس من كل قطر.
وروى عنه ابن عتاب وحاتم بن محمد وابن سهل وغيرهم، وصنف كثيرا في علوم القرآن وغيره ومات صدر محرم سنة سبع وثلاثين وأربعمائة "في تفسيره" وهو في عشرة أجزاء، "وبعث عليه الصلة والسلام بالكتاب إليهم" ليس المراد كتاب الصلح، كما يوهمه سياق المصنف، بل هذا كتاب أرسله لأشراف قريش كما أخرجه البيهقي، والحاكم في الإكليل عن عروة، وابن إسحاق من وجه آخر وابن سعد والواقدي، قالوا: ما محصله لما نزل صلى الله عليه وسلم الحديبية أحب أن يبعث إلى قريش يعلمهم أنه إنما قدم معتمرا، فبعث خراش بن أمية الخزاعي على جمله عليه السلام، فعقره عكرمة بن أبي جهل وأرادوا قتله، فمنعه الأحابيش، فأتاه صلى الله عليه وسلم وأخبره فدعا عمر فاعتذر بأنه يخافهم على نفسه لما عرفوه من عداوته وغلظته عليهم ولا عشيرة له بمكة، ودله على عثمان لعزته عليهم وعشيرته فدعاه وكتب كتابا بعثه "مع عثمان بن عفان" وأمره أن يبشر المستضعفين بمكة بالفتح قريبا، وأن الله سيظهر دينه، فتوجه عثمان فوجد قريشا ببلدح قد اتفقوا على منعهم من مكة، فأجاره أبان بن سعيد بن العاصي وحمله على فرسه، وركب هو وراءه وقال له شعرا:
أقبل وأدبر ولا تخف أحدا ... بنو سعيد أعزة الحرم
فانطلق حتى أتى أبا سفيان وعظماء قريش، فبلغهم رسالة النبي صلى الله عليه وسلم وقرأ عليهم الكتاب واحدا واحدا فما أجابوا، وصمموا أنه لا يدخلها هذا العام، وقالوا لعثمان: إن شئت أن تطوف فطف، فقال: ما كنت لأفعل حتى يطوف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد قال المسلمون: هنيئا لعثمان خلص إلى البيت فطاف به دوننا، فقال صلى الله عليه وسلم: "إن ظني به أن لا يطوف حتى نطوف معا". وبشر عثمان المستضعفين، ولما تم الصلح وهم ينظرون نفاذ ذلك وإمضاءه رمى رجل من أحد الفريقين رجلا من الفريق الآخر، فكانت معركة بالنبل والحجارة، فارتهن كل فريق من عندهم،(3/222)
وأمسك سهيل بن عمرو عنده، وأمسك المشركون عثمان فغضب المسلمون.
وقال مغلطاي: فاحتبسته قريش عندها. فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم أن عثمان قد قتل، فدعا الناس إلى بيعة الرضوان تحت الشجرة على الموت، وقيل: على أن لا يفروا. انتهى.
__________
"وأمسك" عليه السلام "سهيل بن عمرو عنده"، كما في مغازي أبي الأسود عن عروة وابن عائذ عن ابن عباس وابن عقبة، عن الزهري، وقد نقله عن صاحب العيون. فالاعتراض على المصنف بأن الذي في ابن سيد الناس والشامي صريح في أنه إنما أمسك الذين جاءوا له مع مكرز، والاثني عشر الذين أسرهم بعد ذلك, وهم قلم يقع ذلك في العيون، وما في الشامية مما يوهم ذلك، إنما تبع فيه الواقدي ولا يعادل ما قاله هؤلاء الثقات على أنه لم ينف أنه أمسك سهيلا عنده، بل صح أنه أطلق الذين جاءوا مع مكرز كلهم، ففي مسلم عن سلمة: جاء عمي برجل يقال له: مكرز في ناس من المشركين، فقال صلى الله عليه وسلم: "دعوهم يكون لهم بدء الفجور وثنياه". فعفا عنهم، وأنزل الله: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ} الآية، "وأمسك المشركون عثمان" في عشرة دخلوا مكة بإذنه عليه السلام في أمان عثمان أو سرا "فغضب المسلمون، وقال مغلطاي" ملخصا لكلام ابن إسحاق: "فاحتبسته" أي عثمان "قريش عندها، فبلغ النبي صلى اله عليه وسلم أن عثمان قد قتل" فقال: "لا نبرح حتى نناجز القوم". "فدعا الناس إلى بيعة الرضوان" سميت بذلك لقوله تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} سمرة أو أم غيلان كان صلى الله عليه وسلم نازلا تحتها يستظل بها، فبايعوه "على الموت" كما قاله سلمة بن الأكوع عند البخاري، والترمذي, والنسائي، وروى الشيخان عن عبد الله بن زيد لا أبايع على هذا أي الموت أحدا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، "وقيل" لم يبايعهم على الموت، بل "على أن لا يفروا" قاله جابر بن عبد الله، ورواه مسلم عن معقل بن يسار. "انتهى".
وفي الصحيح أن نافعا سئل أبايعهم على الموت، قال: لا بايعهم على الصبر. وجمع الترمذي بأن بعضا بايع على الموت وبعضا على أن لا يفروا، واستدل لكل منهما بقوله: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ} الآية، لأن المبايعة وقعت مطلقة فيها، وقد أخبر سلمة وهو ممن بايع أنه بايع على الموت فدل على أن المراد، وقال ابن المنير: قوله {فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ} والسكينة الطمأنينة في موقف الحرب يدل على أنهم أضمروا في قلوبهم أن لا يفروا فأعانهم على ذلك.
قال الحافظ: على أنه لا منافاة فالمراد بالمبايعة على الموت أن لا يفروا ولو ماتوا، وليس المراد أن يقع الموت، ولا بد وهو الذي أنكره نافع وعدل إلى قوله بايعهم على الصبر، أي على الثبات وعدم الفرار سواء أفضي بهم ذلك إلى الموت أم لا.(3/223)
...................................................
__________
وقال في محل آخر، وحاصل الجمع أن من أطلق أنها على الموت أراد لازمها؛ لأنه إذا بايع على أن لا يفر لزم من ذلك أن يثبت، والذي يثبت أما أن يغلب وإما أن يؤسر والذي يؤسر، إما أن القتل وإما أن يموت، ولما كان الموت لا يؤمن في مثل ذلك أطلق الراوي، وحاصله أن أحدهما حكى صورة البيعة، والآخر حكى ما تئول إليه.
وفي الصحيح عن ابن عمر والمسيب بن حزن والد سعيد أن الشجرة أخفيت، والحكمة في ذلك أن لا يحصل افتتان بها لما وقع تحتها من الخبر، فلو بقيت لما أمن تعظيم الجهال لها حتى ربما اعتقدوا أن لها قوة نفع وضر كما نشاهده الآن فيما دونها.
وإلى ذلك أشار ابن عمر بقوله: كانت رحمة من الله، أي كان إخفاؤها رحمة من الله، ويحتمل أن معناه كانت الشجرة موضع رحمة الله ومحل رضوانه لنزول الرضا عن المؤمنين عندها، لكن إنكار سعيد بن المسيب على من زعم أنه يعرفها معتمدا على قول أبيه أنهم لم يعرفوها في العام المقبل، لا يدل على رفع معرفتها أصلا، لما في البخاري عن جابر، لو كنت أبصر اليوم لأريتكم مكان الشجرة، فهذا يدل على أنه كان يعرفها بعينها، لأنها كانت قطعت قبل مقالته، كما روى ابن سعد بإسناد صحيح عن نافع: أن عمر بلغه أن قوما يأتون الشجرة، فيصلون عندها، فتوعدهم ثم أمر بقطعها فقطعت.
انتهى من الفتح وكان أول من بايع أبو سنان الأسدي، وهو وهب أو عارم أو عبد الله بن مصحن أخو عكاشة.
أخرج الطبراني عن ابن عمر لما دعا صلى الله عليه وسلم الناس إلى البيعة كان أول من انتهى إليه أبو سنان، فقال: ابسط يدك أبايعك, فقال صلى الله عليه وسلم: "علام تبايعني"؟، قال: على ما في نفسي، قال: "وما في نفسك"؟، قال: أضرب بسيفي حتى يظهرك الله، أو أقتل فبايعه وبايعه الناس على بيعة أبي سنان.
وكذا رواه ابن منده عن زر بن حبيش، والبيهقي عن الشعبي وصححه أبو عمر قائلا أنه الأكثر والأشهر، وقيل: ابنه سنان؛ لأن أباه مات في حصار بني قريظة قبل اليوم.
قاله الواقدي، وضعفه بعض الحفاظ وقيل: ابن عمر. قال ابن عبد البر: ول يصح. وفي صحيح مسلم أن سلمة بن الأكوع أول من بايع.
قال البرهان: والجمع ممكن وكلهم بايع مرة إلا ابن عمر، فبايع مرتين، مرة قبل أبيه ومرة بعده، كما في الصحيح، وإلا سلمة بن الأكوع، فبايع مرتين، كما في البخاري، وثلاثا كما في مسلم.(3/224)
ووضع النبي صلى الله عليه وسلم شماله في يمينه وقال: "هذه عن عثمان". وفي البخاري: فقال صلى الله عليه وسلم بيده اليمنى: "هذه يد عثمان". فضرب بها على يده اليسرى فقال: "هذه لعثمان" ... الحديث.
ولما سمع المشركون بهذه البيعة خافوا
__________
قال ابن المنير: الحكمة في تكراره البيعة لسلمة أنه كان مقداما في الحرب، فأكد عليه العقد احتياطا.
قال الحافظ أو لأنه كان يقاتل قتال الفارس والراجل، فتعددت البيع بتعدد الصفة انتهى.
قال الشامي وكأنه لم يستحضر ما في مسلم من مبايعته ثلاثا، ولو استحضره لوجهه. انتهى، وفيه شيء، فتوجيه ابن المنير يجري فيه، "ووضع النبي صلى الله عليه وسلم شماله في يمينه"، وقال: "هذه" أي شماله "عن عثمان" وهذا قد يشعر بأنه علم بأنه لم يقتل، فيكون معجزة.
ويؤيده ما جاء أنه لما بايع الناس قال: "اللهم إن عثمان في حاجتك وحاجة رسولك". فضرب بإحدى يديه على الأخرى، فكانت يده لعثمان خيرا من أيديهم لأنفسهم.
"وفي البخاري" في المناقب والمغازي عن ابن عمر أن رجلا من أهل مصر سأله هل تعلم أن عثمان فر يوم أحد، وتغيب عن بدر وعن بيعة الرضوان، قال: نعم. قال: الله أكبر. قال ابن عمر: تعال أبين لك أما فراره يوم أحد فأشهد أن الله عفا عنه، وغفر له، وأما تغيبه عن بدر، فكان تحته بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت مريضة، فقال صلى الله عليه وسلم: "إن لك أجر رجل ممن شهد بدرا وسهمه". وأما تغيبه عن بيعة الرضوان، فلو كان أحد أعز ببطن مكة لبعثه مكان، وكانت بيعة الرضوان بعدما ذهب عثمان إلى مكة، "فقال صلى الله عليه وسلم بيده اليمنى" من إطلاق القول على الفعل، أي: مشيرا بها: "هذه يد عثمان" أي: بدلها "فضرب بها على يده اليسرى"، فقال: "هذه لعثمان" أي عنه ولا ريب أن يده صلى الله عليه وسلم لعثمان خير من يده لنفسه كما ثبت ذلك عن عثمان نفسه.
روى البزار بإسناد جيد أنه عاتب عبد الرحمن بن عوف، فقال له: لم ترفع صوتك عليّ، فذكر الأمور الثلاثة وأجابه عثمان بمثل ما أجاب به ابن عمر، قال عثمان: في هذه فشمال رسول الله صلى الله عليه وسلم خير لي من يميني "الحديث" بقيته فقال له ابن عمر: اذهب بها الآن معك.
"ولما سمع المشركون بهذه البيعة خافوا" وألقى الله في قلوبهم الرعب، فأذعنوا إلى الصلح وقال سهيل: ما كان من حبس أصحابك وقتالك لم يكن من رأي ذوي رأينا, كنا له كارهين حين بلغنا ولم نعلم به وكان من سفهائنا، فابعث إلينا بأصحابنا الذين أسرت، فقال: "إني غير مرسلهم حتى ترسلوا أصحابي". فقالوا: أنصفتنا. فبعث سهيل ومن معه إلى قريش فأذعنوا(3/225)
وبعثوا عثمان وجماعة من المسلمين.
وفي هذه البيعة قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح: 10] وقوله تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ} [الفتح: 18] .
وحلق الناس مع النبي صلى الله عليه وسلم
__________
"وبعثوا عثمان وجماعة من المسلمين" قال الشامي عشرة: كرز بن جابر وعبد الله بن سهيل، وعبد الله بن حذافة، وأبو الروم بن عمير العبدري، وعياش بن أبي ربيعة، وهشام بن العاصي، وحاطب بن عمرو، وعمير بن وهب الجمحي, وحاطب بن أبي بلتعة, وعبد الله بن أمية, وكانوا دخلوا مكة بإذنه عليه السلام، قيل: في جوار عثمان، وقيل: سرا. "وحلق الناس مع النبي صلى الله عليه وسلم" بعد توقفهم.
ففي البخاري في الشروط، فلما فرغ من الكتاب قال صلى الله عليه وسلم لأصحابه: "قوموا فانحروا، ثم احلقوا رءوسكم". فوالله ما قام رجل منهم حتى قال ذلك ثلاث مرات، فلما لم يقم منهم أحد دخل على أم سلمة، فذكر لها ما لقي من الناس.
وفي رواية ابن إسحاق فقال لها: "ألا ترين إلى الناس إني أمرتهم بالأمر فلا يفعلونه". فقالت: يا رسول الله لا تلمهم فإنهم قد دخلهم أمر عظيم مما أدخلت على نفسك من المشقة في أمر الصلح ورجوعهم بغير فتح.
وفي رواية أبي المليح فاشتد ذلك عليه فدخل على أم سلمة، فقال: "هلك المسلمون أمرتهم أن يحلقوا وينحروا، فلم يفعلوا". قال: فجلا الله عنهم يومئذ بأم سلمة. انتهى. فقالت: يا نبي الله أتحب ذلك أخرج ثم لا تكلم منهم أحدا كلمة حتى تنحر بدنك وتدعو حالقك فيحلقك، فخرج فلم يكلم منهم أحدا حتى نحر بدنه ودعا حالقه فحلقه فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا وجعل بعضهم يحلق بعضا حتى كاد بعضهم يقتل بعضا.
قال ابن إسحاق بلغني أن الذي حلقه يومئذ خراش بمعجمتين ابن أمية بن الفضل الخزاعي وكانت ابدن سبعين.
حدثني عبد الله بن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس كان فيها جمل لأبي جهل في رأسه برة من فضة ليغيط به المشركين، وكان غنمه منه في بدر، وحلق رجال يومئذ وقصر آخرون فقال صلى الله عليه وسلم: "يرحم الله المحلقين" قالوا: والمقصرين؟ قال: "يرحم الله المحلقين" قالوا: والمقصرين؟ قال: "والمقصرين". قالوا: لم ظاهرت الترحم للمحلقين دون المقصرين. قال: "لم يشكوا".(3/226)
ونحروا هداياهم بالحديبية، قال مغلطاي: وأرسل الله ريحا حملت شعورهم فألقتها في الحرم.
__________
رواه ابن إسحاق أيضا عن ابن عباس قيل: كان توقف الصحابة رضي الله عنهم بعد الأمر لاحتمال أن للندب أو لرجاء نزول الوحي بإبطال الصلح أو تخصيصه بالإذن لهم في دخول مكة العام لإتمام نسكهم، وساغ ذلك لهم لأنه زمان وقوع النسخ، ويحتمل أن صورة الحال أبهتتهم، فاستغرقوا في الفكر لما لحقهم من الذل عند نفوسهم مع ظهور واعتقادهم القدرة قضاء نسكهم بالغلبة أو لأن الأمر المطلق لا يقتضي الفور.
ويحتمل مجموع هذه الأمور لمجموعهم أو فهموا أنه صلى الله عليه وسلم أمرهم بالتحلل أخذا بالرخصة في حقهم، وأنه هو يستمر على الإحرام أخذا بالعزيمة في حق نفسه فأشارت عليه أم سلمة بالتحلل لينفي هذا الاحتمال وعرف صوابه ففعله، فلما رأوه بادروا إلى فعل ما أمرهم به، إذ لم يبق غاية ينتظرونها ونظيره ما وقع لهم، في غزوة الفتح من أمره لهم بالفرط في رمضان، فأبوا حتى شرب فشربوا وفيه فضل المشورة، ومشاورة المرأة الفاضلة وفضل أم سلمة ووفر عقلها، حتى قال إمام الحرمين: لا نعلم امرأة أشارت برأت فأصابت إلا أم سلمة، واستدرك عليه بعضهم بنت شعيب في أمر موسى انتهى من الفتح، "ونحروا هداياهم" أي من كان معه هدي منهم "بالحديبية" وهي في الحرم في قول مالك وبعضها في الحل وبعضها في الحرم في قول الشافعي. وقال الماوردي: هي في طرف الحل ولأبي الأسود، عن عروة: أمر صلى الله عليه وسلم بالنحر.
قال ابن عباس لما صدت عن البيت حنت كما تحن إلى أولادها، فنحر صلى الله عليه وسلم بدنه حيث حبسوه وهي الحديبية أي أكثرها، فلا ينافي ما رواه ابن سعد عن جابر أنه بعث من هديه بعشرين بدنة لتنحر عنه عند المروة مع رجل من أسلم.
"قال مغلطاي وأرسل الله ريحا" كما روا ابن سعد من مرسل يعقوب بن مجمع الأنصاري لما صد صلى الله عليه وسلم وأصحابه وحلقوا بالحديبية ونحروا بعث الله ريحا عاصفا "حملت شعورهم فألقتها في الحرم" جبرا لهم في صدهم عن البيت، وقد زاد أبو عمر فاستبشروا بقبول عمرتهم.
ولعل المراد غير شعره عليه السلام، فلا ينافي ما جاء أن خراشا لما حلقه رمى شعره على شجرة إلى جنبه من سمرة خضراء فجعل الناس يأخذونه من فوقها، وأخذت أم عمارة طاقات من شعره فكانت تغسلها للمريض وتسقيه فيبرأ، ويحتمل أنهم أخذوا أكثره، وألقت الريح باقيه في الحرم.
وفي الصحيح عن جابر قال لنا صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية: "أنتم خير أهل الأرض" وأخرج مسلم وغيره عن جابر مرفوعا لا يدخل النار من شهد بدرا والحديبية.(3/227)
وأقام عليه الصلاة والسلام بالحديبية بضعة عشر يوما، وقيل عشرين يوما، ثم قفل وفي نفوس بعضهم شيء، فأنزل الله تعالى سورة الفتح يسليهم بها ويذكرهم نعمه، فقال تعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} [الفتح: 1] .
قال ابن عباس وأنس والبراء بن عازب: الفتح هنا فتح الحديبية، ووقوع
__________
وروى أحمد بإسناد حسن عن أبي سعيد الخدري، قال: لما كنا بالحديبية. قال صلى الله عليه وسلم: "لا توقدوا نارا بليل". فلما كان بعد ذلك، قال: "أوقدوا واصطنعوا فإنه لا يدرك قوم بعدكم صاعكم ولا مدكم".
وروى مسلم من حديث أم مبشر سمعت النبي صلى الله عليه وسلم: يقول: "لا يدخل النار أحد من أصحاب الشجرة" وتمسك به من فضل عليا على عثمان؛ لأنه كان ممن خوطب بذلك وبايع وعثمان بمكة، ولا حجة فيه لأنه صلى الله عليه وسلم بايع عن عثمان فاستوى معهم ولم يقصد تفضيل بعضهم على بعض، واحتج به على موت الخضر لأنه لو كان حيا مع أنه نبي بالأدلة الواضحة لزم تفضيل غير النبي على النبي وهو باطل، وأجاب من قال بحياته باحتمال حضوره معهم أو لم يكن على وجه الأرض أو كان في البحر والثاني ساقط، وأما ابن التين فاستدل به على أنه ليس بنبي وأنه دخل في عموم من فضل صلى الله عليه وسلم أهل الشجرة عليه, ورده الحافظ بالأدلة الواضحة على ثبوت نبوة الخضر، وأما قولهم العشرة المبشرة بالجنة فلورود النص عليهم بأسمائهم في حديث واحد، وقد قال أبو عمر ليس في الغزوات ما يعدل بدرا أو يقرب منها إلا الحديبية حيث كانت بيعة الرضوان.
لكن قال غير الراجح تقديم أحد بالحدبية وإنها التي تلي غزوة بدر في الفضل، "وأقام عليه الصلاة والسلام بالحديبية بضعة عشر يوما وقيل: عشرين يوما" حكاهما الواقدي، وابن سعد بإبهام البضع.
وفي الشامي عنهما تسعة عشر يوما، وذكر ابن عائذ أنه قام في غزواته هذه شهرا ونصفا، "ثم قفل وفي نفوسهم بعض شيء" من عدم الفتح الذي كانوا لا يشكون فيه، "فأنزل الله تعالى سورة الفتح" بين مكة والمدينة، كما في حديث ابن إسحاق أي بضجنان، كما عند ابن سعد بفتح الضاد المعجمة، وسكون الجيم ونونين بينهما ألف جبل على بريد من مكة "يسليهم بها ويذكرهم نعمه، فقال تعالى:" وفي الموطأ وأخرجه البخاري من طريقه عن عمر مرفوعا: "لقد أنزلت عليّ الليلة سورة لهي أحب مما طلعت عليه الشمس". ثم قرأ {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} الفتح الظفر بالبلد عنوة أو صلحا بحرب أو بغيره، لأنه مغلق لم يظفر به فإذا ظفر به فقد فتح، ثم اختلف فيه "قال ابن عباس، وأنس والبراء بن عازب: الفتح هنا فتح الحديبية(3/228)
الصلح بعد أن كان المنافقون يظنون أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبدا، أي حسبوا أنهم لا يرجعون بل يقتلون كلهم.
وأما قوله تعالى: {وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح: 18] فالمراد فتح خيبر على الصحيح؛ لأنها هي التي وقعت فيها المغانم الكثيرة للمسلمين.
وقد روى أحمد وأبو داود والحاكم من حديث مجمع بن جارية قال: شهدنا الحديبية
__________
ووقوع الصلح".
قال الحافظ: فإن الفتح في اللغة فتح المغلق والصلح كان مغلقا حتى فتحه الله وكان من أسباب فتحه صد المسلمين عن البيت، فكانت الصورة الظاهرة ضيما للمسلمين والباطنة عزا لهم، فإن الناس للأمن الذي وقع فيهم اختلط بعضهم ببعض من غير نكير، وأسمع المسلمون المشركين القرآن وناظروهم على الإسلام جهرة آمنين، وكانوا قبل ذلك لا يتكلمون عندهم بذلك إلا خفية، فظهر من كان يخفي إسلامه، فذل المشركون من حيث أرادوا العزة، وقهروا من حيث أرادوا الغلبة، "بعد أن كان المنافقون يظنون أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبدا" كما أخبر الله، "أي حسبوا أنهم لا يرجعون، بل يقتلون كلهم" وقيل: هو فتح مكة فنزلت مرجعه من الحديبية عدة له بفتحها، أو أتى به ماضيا لتحقق وقوعه وفيه من الفخامة والدلالة على علو شأن المخبر به ما لا يخفى.
وقيل: المعنى قضينا لك قضاء بينا على أهل مكة أن تدخلها أنت وأصحابك قابلا من الفتاحة وهي الحكومة.
وفي الصحيح عن البراء تعدون أنتم الفتح فتح مكة، وقد كان فتحا ونحن نعد الفتح بيعة الرضوان قال الحافظ: يعني أنا فتحنا لك فتحا مبينا، وقد وقع فيه اختلاف قديم والتحقيق أنه يختلف باختلاف المراد من الآيات، فالمراد بقوله تعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} ، فتح الحديبية لما ترتب على الصلح من الأمن ورفع الحرب، وتمكن من كان يخشى الدخول في الإسلام والوصول إلى المدينة منه، وتتابع الأنساب إلى أن كمل الفتح.
قال: "وأما قوله تعالى: {وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} فالمراد به فتح خيبر على الصحيح لأنها هي التي وقعت فيها المغانم الكثيرة للمسلمين"، وقد قال الله تعالى: {مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا} ، "وقد روى أحمد، وأبو داود والحاكم من حديث مجمع" بضم الميم وفتح الجيم وشد الميم الثانية المكسورة "بن جارية" بالجيم والراء والياء, ابن عامر الأنصاري الأوسي المدني الصحابي، المتوفى في خلافة معاوية، روى له الترمذي، وأبو داود، وابن ماجه "قال: شهدنا(3/229)
فلما انصرفنا وجدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم واقفا عند كراع الغميم، وقد جمع الناس وقرأ عليهم: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} الآية فقال رجل: يا رسول الله، أوفتح هو؟ قال: "إي والذي نفسي بيده إنه لفتح".
وروى سعيد بن منصور بإسناد صحيح عن الشعبي: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} الآية, صلح الحديبية
__________
الحديبية" سفرا وإقامة وصلحا، ولا أدري ما وجه القصر عليه، "فلما انصرفنا منها وجدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم واقفا عند كراع الغميم" بفتح المعجمة، وكسر الميم على الصواب المشهور عند أهل الحديث واللغة والتواريخ والسير وغيرهم كما قال النووي.
وحكى ابن قرقول: ضم الغين وفتح الميم واد أمام عسفان "وقد جمع الناس" دعاهم من أماكن متفرقة وأحضرهم عنده "وقرأ عليهم: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} الآية. فقال رجل: يا رسول الله أوفتح هو؟ قال: "إي والذي نفسي بيده إنه لفتح". وعند ابن سعد: فلما نزل بها جبريل. قال: نهنيك يا رسول الله فلما هنأه جبريل هنأه الناس.
وروى موسى بن عقبة في حديثه عن الزهري وأخرجه البيهقي عن عروة، قال: أقبل النبي صلى الله عليه وسلم راجعا فقال رجل من أصحابه: ما هذا بفتح لقد صددنا عن البيت وصد هدينا ورد صلى الله عليه وسلم رجلين من المؤمنين أخرجا إليه فبلغه ذلك صلى الله عليه وسلم، فقال: "بئس الكام بل هو أعظم الفتح قد رضي المشركون أن يدفعوكم بالراح عن بلادهم ويسألوكم القضية ويرغبون إليكم في الأمان، ولقد رأوا منكم ما كرهوا وأظفركم الله عليهم وردكم سالمين مأجورين فهو أعظم الفتوح, أنسيتم يوم أحد إذ تصعدون ولا تلوون على أحد وأنا أدعوكم في أخراكم, أنسيتم يوم الأحزاب إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم، وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا"؟. فقال المسلمون: صدق الله ورسوله هو أعظم الفتوح والله يا نبي الله ما فكرنا فيما فكرت فيه، ولأنت أعلم بالله وبأمره منا.
"وروى سعيد بن منصور بإسناد صحيح عن الشعبي" في قوله {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} الآية قال: "صلح الحديبية" الذي قال فيه الزهري، لم يكن في الإسلام فتح قبله أعظم منه، إنما كان القتال حيث التقى الناس، فلما كانت الهدنة ووضع الحرب وأمن الناس كلهم بعضهم بعضا والتقوا وتفاوضوا في الحديث والمنازعة لم يكلم أحد بالإسلام يعقل شيئا في تلك المدة لا دخل فيه، ولقد دخل في تينك السنتين مثل من كان دخل في الإسلام، قيل ذلك أو أكثر.
قال ابن هشام: ويدل عليه أنه صلى الله عليه وسلم خرج في الحديبية في ألف وأربعمائة، ثم خرج بعد(3/230)
وغفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وتبايعوا بيعة الرضوان وأطعموا نخيل خيبر، وظهرت الروم على فارس، وفرح المسلمون بنصر الله.
وأما قوله تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحِ} [النصر: 1] وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا هجرة بعد الفتح". ففتح مكة باتفاق.
قال الحافظ ابن حجر: فبهذا يرتفع الإشكال وتجتمع الأقوال والله أعلم.
ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة.
__________
سنتين إلى فتح مكة في عشرة آلاف. انتهى.
ومما ظهر من مصلحة الصلح غير ما ذكره الزهري، أنه كان مقدمة بين يدي الفتح الأعظم الذي دخل الناس عقبه في دين الله أفواجا، فكانت قصة الحديبية مقدمة للفتح فسميت فتحا، إذ مقدمة الظهور ظهور، "وغفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر"، كناية عن العصمة أي عصمة، أي حال بينه وبين الذنوب فلا يأتيها، لأن الغفر الستر وهو إما بين العبد والذنب، وهو اللائق بالأنبياء وإما بين الذنب وعقوبته وهو اللائق بأممهم، وهذا قول في غاية الحسن. ويأتي إن شاء الله تعالى بسط ذلك في محله، وقد أخرج أحمد والشيخان والترمذي والحاكم عن أنس قال: أنزلت على النبي صلى الله عليه وسلم ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر مرجعه من الحديبية، فقال صلى الله عله وسلم: "لقد نزلت عليّ آية أحب إليّ مما على الأرض". ثم قرأها عليهم، فقالوا: هنيئا لك يا رسول الله لقد بين الله ماذا يفعل بك فماذا يفعل بنا فنزلت: {لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} حتى بلغ {فَوْزًا عَظِيمًا} "وتبايعوا بيعة الرضوان، وأطعموا نخيل خيبر، وظهرت الروم" وهم أهل كتاب "على فارس" وهم مجوس يعبدون الأوثان، أي غلبوهم لما التقوا بعدما غلبت فارس الروم وفرح بذلك كفار مكة. وقالوا للمسلمين: نحن نغلبكم كما غلبوهم فإنكم كالروم أهل كتاب ونحن كفار نعبد الأوثان. "وفرح المؤمنون بنصر الله" الروم على فارس كما أشير إليه في قوله تعالى {الم، غُلِبَتِ الرُّومُ} الآية، ففسر الشعبي الفتح المبين بهذه المذكورات، ولا ينافي هذا أن غنائم خيبر أريدت بقوله: {وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} لأنه لا مانع من إرادتها بكل من الآيتين، فتكون مستعملة في الحاصل وقت النزول وهو الصلح وفيما لم يحصل بعد وهو غنائم خيبر.
"وأما قوله تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحِ} ، وقوله صلى الله عليه وسلم: "ولا هجرة بعد الفتح". "ففتح مكة باتفاق" في الآية.
والحديث "قال الحافظ ابن حجر فبهذا يرتفع الإشكال" في المراد بالفتح في هذه المواضع "وتجتمع الأقوال" لأن المراد بالفتح مختلف "والله أعلم" بمراده، "ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة". بعد نزول سورة الفتح وجمعه الصحابة وقراءتها عليهم بكراع(3/231)
وفي هذه السنة كسفت الشمس.
وظاهر أوس بن الصامت من امرأته خولة بنت ثعلبة.
__________
الغميم فليس مكررا مع قوله قبل، ثم قفل لأن المراد به سار من الحديبية.
"وفي هذه السنة كسفت الشمس" سنة ست بالحديبية، وكسفت أيضا بالمدينة يوم مات السيد إبراهيم وفي وقت موته خلاف حكاه المصنف في شرح الحديث تبعا للفتح، وسيأتي في المقصد الثاني، فتوهم بعضهم أنها إنما كسفت مرة اختلف في وقتها وساق كلام المصنف في شرح البخاري، وهم؛ لأن إبراهيم لم يكن ولد سنة الحديبية، بل لم تكن أمه أهديت للمصطفى، لأن بعثه للملوك إنما كان بعد العود منها في غرة لمحرم سنة سبع كما يأتي.
"وظاهر أوس بن الصامت" الأنصاري الخزرجي البدري وشهد المشاهد أخو عبادة، ووقع لبعض الرواة تسمية المظاهر عبادة.
قال ابن عبد البر وهو وهم.
قال ابن حبان: مات أيام عثمان وله خمس وثمانون سنة "من امرأته خولة" ويقال لها: خويلة بالتصغير، ويقال: اسمها جميلة وفي اسم أبيها خلاف والأكثر أنها "بنت ثعلبة" بن أصرم الأنصارية الخزرجية، ويقال: مالك أو حكيم أو دلعج أو خويلد بالتصغير وآخره دال مهملة أو الصامت.
روى الإمام أحمد عنها قالت: في والله وفي أوس بن الصامت أنزل الله عز وجل صدر سورة المجادلة. كنت عنده وكان شيخا كبيرا قد ساء خلقه، وضجر فدخل عليّ يوما، فراجعته في شيء فغضب وقال: أنت علي كظهر أمي، ثم خرج فجلس في نادي قومه ساعة ثم دخل عليّ، فإذا هو يريدني فقلت: كلا والذي نفسي بيده لا تخلص إليّ، وقد قلت ما قلت حتى يحكم الله ورسوله فينا، فواثبني فامتنعت منه، فغلبته بما تغلب المرأة الشيخ الضعيف، فألقيته عني، ثم خرجت حتى جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلست بين يديه فذكرت له ما لقيت منه، فجعلت أشكو إلى الله ما ألقى من سوء خلقه، فجعل صلى الله عليه وسلم يقول: "يا خويلة ابن عمك شيخ كبير فاتقي الله فيه". قالت: فوالله ما برحت حتى نزل فيّ القرآن فتغشى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان يتغشاه، ثم سري عنه فقال: "يا خويلة قد أنزل الله فيك وفي صاحبك". ثم قرأ عليّ: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ} إلى قوله: {وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} ، فقال صلى الله عليه وسلم: "مريه فليعتق رقبة". فقلت: يا رسول الله ما عنده ما يعتق. قال: "فليصم شهرين متتابعين". فقلت: والله إنه لشيخ كبير ما به طاقة. قال: "فليطعم ستين مسكينا وسقا من تمر". فقلت: ما ذاك عنده، فقال صلى الله عليه وسلم: "فإنا سنعينك بفرق من تمر". فقلت: يا رسول الله وأنا سأعينه بفرق آخر، قال: "قد أصبت وأحسنت فاذهبي فتصدقي عنه ثم استوصي بابن عمك خيرا". قالت: قد فعلت.(3/232)
وفي هذه السنة أيضا استسقى في رمضان ومطر الناس، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أصبح الناس مؤمنا بالله وكافرا بالكواكب".
__________
وأخرج الحاكم وصححه عن عائشة. قالت: تبارك الذي وسع سمعه كل شيء إني لأسمع كلام خولة بنت ثعلبة ويخفى عليّ بعضه وهي تقول: يا رسول الله أكل شبابي، ونثرت له بطني حتى إذا كبرت سني، وانقطع ولدي ظاهر مني اللهم إني أشكو إليك، فما برحت حتى نزل جبريل بهؤلاء الآيات: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} وهو أوس بن الصامت.
قال ابن عبد البر: رويناه من وجوه عن عمر أنه خرج ومعه الناس فمر بعجوز فاستوقفته، فوقف فجعل يحدثها وتحدثه، فقال رجل: يا أمير المؤمنين حبست الناس على هذه العجور. قل: ويلك تدري من هي؟ هذه امرأة سمع الله شكواها من فوق سبع سموات، هذه خولة بنت ثعلبة التي أنزل الله فيها: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ} . والله لو حبستني إلى الليل ما فارقتها إلا للصلاة، ثم أرجع إليها.
وعن قتادة خرج عمر من المسجد، فإذا بامرأة برزت على ظهر الطريق فسلم عليها فردت عليه، وقالت: هيها يا عمر عهدتك وأنت تسمى عميرا في سوق عكاظ فلم تذهب الأيام حتى سميت عمر، ثم لم تذهب الأيام حتى سميت أمير المؤمنين فاتق الله في الرعية واعلم أنه من خاف الله قرب عليه البعيد ومن خاف الموت خشي الفوت، فقال الجارود العبدي: لقد أكثرت على أمير المؤمنين، فقال عمر: دعها أما تعرفها؟ هذه التي سمع الله قولها من فوق سبع سموات، فعمر والله أحق أن سمع لها.
"وفي هذه السنة أيضا استسقى في رمضان" قبل الحديبية "ومطر الناس"، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أصبح الناس" قسمين "مؤمنا بالله وكافرا بالكواكب" , ومؤمنا بالكواكب وكافرا بالله، وقد قال هذا الحديث عن ربه عز وجل بالحديبية.
أخرج الشيخان عن زيد بن خالد الجهني: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية فأصابنا مطر ذات ليلة فصلى لنا الصبح، ثم أقبل علينا بوجهه فقال: "أتدرون ماذا قال ربكم"؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، فقال: "قال الله: أصبح من عبادي مؤمن بي، وكافر بي، فأما من قال: مطرنا برحمة الله وبرزق الله وبفضل الله فهو مؤمن بي كافر بالكواكب وأما من قال: مطرنا بنوء كذا فهو مؤمن بالكواكب كافر بي".
قال في الفتح: يحتمل أن المراد كفر الشرك بقرينة مقابلته بالإيمان. ولأحمد عن معاوية الليثي مرفوعا: "يكون الناس مجدبين فينزل الله عليهم رزقا من رزقه فيصبحون مشركين يقولون: مطرنا بنوء كذا". ويحتمل أن المراد كفر النعمة ويرشد إليه رواية: "فأما من حمدني على سقياي(3/233)
قال مغلطاي: وجزم الدمياطي في سيرته بأن تحريم الخمر كان في سنة الحديبية.
وذكر ابن إسحاق أنه كان في وقعة بني النضير، وهي بعد أحد، وذلك سنة أربع على الراجح.
وفيه نظر؛ لأن أنسا كان الساقي يوم حرمت، وأنه لما سمع المنادي بتحريمها بادر فأراقها، فلو كان ذلك سنة أربع، لكان أنس يصغر عن ذلك.
وقال النسائي والبيهقي بسند صحيح
__________
وأثنى عليّ فذاك آمن بي". ولمسلم عن أبي هريرة مرفوعا: "قال الله ما أنعمت على عبادي من نعمة إلا أصبح فريق منهم بها كافرين". وعلى الأول حمله كثير من العلماء أعلاهم الشافعي، قال في الأم: من قال مطرنا بنوء كذا على ما كان بعض أهل الشرك يعنون من إضافة المطر إلى أنه أمطر نوء كذا فذلك كفر، كما قال صلى الله عليه وسلم؛ لأن النوء وقت، وهو مخلوق لا يملك لنفسه ولا لغيره شيئا، ومن قاله على معنى مطرنا في وقت كذا فلا يكون كفرا وغيره أحب إليّ منه، يعني حسما للمادة وعلى هذا يحمل إطلاق الحديث.
وللنسائي عن أبي سعيد مطرنا بنوء المجدج بكسر الميم، ويقال: بضمها وفتح الدال وحاء مهملتين، وهو نجم أحمر منير وفي طرح الإمام المسألة على أصحابه، وإن كانت لا تدرك إلا بدقة نظر، ويؤخذ منه أن للولي المتمكن من النظر في الإشارات أن يأخذ منها عبارات ينسبها إلى الله تعالى. كذا قال بعض شيوخنا وكأنه أخذه من استفهامه أصحابه عما قال ربهم، وحمل الاستفهام على حقيقته لكونهم فهموا خلاف ذلك، ولذا لم يجيبوا إلا بتفويض الأمر إلى الله ورسوله. "قال مغلطاي: وجزم الدمياطي في سيرته بأن تحريم الخمر كان في سنة الحديبية".
"وذكر ابن إسحاق أنه كان في وقعة بني النضير وهي بعد أحد وذلك سنة أربع على الراجح وفيه نظر، لأن أنسا كان الساقي يوم حرمت" كما ثبت في الصحيحين عنه: إني لقائم أسقي أبا طلحة وفلانا وفلانا. في مسلم. وأبا دجانة, وسهيل بن بيضاء, وأبا عبيدة، وأبي بن كعب، ومعاذ بن جبل، وأبا أيوب, إذ جاء رجل فقال: وهل بلغكم الخبر؟ قالوا: وماذا؟ قال: حرمت الخمر. قالوا: أهرق هذه القلال يا أنس. قال: فما سألوا عنها ولا راجعوها بعد خبر الرجل. "وأنه لما سمع المنادي" قال الحافظ: لم أرَ التصريح باسمه "بتحريمها بادر، فأراقها" بأمر الصحابة الذين كان يسقيهم، "فلو كان ذلك سنة أربع لكان أنس يصغر عن ذلك" وهذا النظر عجيب من مثل مغلطاي، فقد ثبت أنه خدم المصطفى لما قدم المدينة وهو ابن عشر سنين، فمن عمره أربع عشرة سنة كيف يصغر عن ذلك، "وقال" أي روى "النسائي، والبيهقي بسند صحيح عن(3/234)
عن ابن عباس: إنما نزل تحريم الخمر في قبيلتين من الأنصار شربوا، فلما ثمل القوم عبث بعضهم ببعض، فلما أن صحوا جعل الرجل يرى في وجهه ورأسه الأثر فيقول: صنع هذا أخي فلان -وكانوا إخوة ليس في قلوبهم ضغائن- فيقول: والله لو كان بي رحيما ما صنع بي هذا، حتى وقعت الضغائن في قلوبهم، فأنزل الله تعالى هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} إلى {مُنْتَهُونَ} . فقال ناس من المتكلفين: هي رجس، وهي في بطن فلان وفلان, وقد قتل يوم أحد، فأنزل الله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا}
__________
ابن عباس إنما نزل تحريم الخمر في قبيلتين من" قبائل "الأنصار شربوا، فلما ثمل" بكسر الميم "القوم" قال الجوهري: ثمل الرجل بالكسر إذا أخذ فيه الشراب فهو ثمل، أي نشوان. "عبث بعضهم ببعض" لعب بكسر الباء، وفتحه خلط، كما في القاموس ويصحان هنا أي فعل بعضهم ببعض لا فائدة فيه. وخلطوا على بعضهم "فلما أن صحوا" من السكر "جعل الرجل يرى في وجهه ورأسه الأثر، فيقول صنع" بي "هذا أخي فلان، وكانوا أخوة". أقارب وأصدقاء. قال: بعض جمع النسب إخوة والصديق إخوان، فكأنه نزلهم لشدة الوصلة بينهم منزلة إخوة النسب، فسماهم إخوة، وربما يشير إليه قوله: "ليس في قلوبهم ضغائن" جمع ضغينة أي حقد، كما في النهاية "فيقول: والله لو كان بي" رءوفا، كما في حديث ابن عباس عند من عزاه لهما قبل قوله: "رحيما ما صنع بي هذا حتى وقعت الضغائن في قلوبهم، فأنزل الله تعالى هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} [المائدة: 90] إلى قوله: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 91] .
زاد في رواية أحمد عن أبي هريرة، فقالوا: انتهينا ربنا وأخرج مسلم وأحمد عن سعد بن أبي وقاص، قال: صنع رجل من الأنصار طعاما فدعانا فشربنا الخمر قبل أن تحرم حتى سكرنا فتفاخرنا إلى أن قال: فنزلت إلى قوله فهل أنتم منتهون، ولا تنافي "فقال ناس من المتكلفين" المبالغين في البحث الحاملين له مع المشقة "هي رجس وهي في بطن فلان"، كحمزة رضي الله عنه، "وقد قتل يوم أحد" قبل تحريمها فهل عليه مؤاخذة هذا على أن قائله من المسلمين.
لكن في الفتح روى البزار من حديث جابر أن الذين قالوا ذلك كانوا من اليهود، وفي رواية أحمد عن أبي هريرة فقال: الناس يا رسول الله ناس قتلوا في سبيل الله، وماتوا على فراشهم، وكانوا يشربون الخمر، ويأكلون الميسر وقد جعله الله رجسا من عمل الشيطان "فأنزل الله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} أكلوا من(3/235)
إلى {الْمُحْسِنِينَ} .
وآية تحريم الخمر نزلت في عام الفتح قبل الفتح.
__________
الخمر والميسر قبل التحريم "إلى" قوله: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} بمعنى أنه يثيبهم، وفي ختم الكلام به إشعار بأن فعل ذلك من المحسنين وأنه يستجلب المحبة الإلهية، "وآية تحريم الخمر" التحريم المؤبد المطلق وهي: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ} ، إلى قوله {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} فالإضافة للعهد الذكري كأنه قال: وهذه الآية "نزلت في عام الفتح قبل الفتح" سنة ثمان.
كما قال الحافظ: إنه الذي يظهر لما روى أحمد عن ابن عباس كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم صديق من ثقيف أو دوس فلقيه يوم الفتح براوية خمر يهديها إليه، فقال: "يا فلان أما علمت أن الله حرمها". فأقبل الرجل على غلامه فقال: بعها. فقال: "إن الذي حرم شربها حرم بيعها".
وأخرج مسلم نحوه لكن ليس فيه تعيين الوقت.
وروى أحمد عن نافع بن كيسان الثقفي عن أبيه أنه كان يتجر في الخمر وأنه أقبل من الشام، فقال: يا رسول الله إني جئتك بشراب جيد، فقال: "يا كيسان إنها حرمت بعدك". قال: فأبيعه. قال: "إنها قد حرمت وحرم ثمنها".
وروى أحمد، وأبو يعلى عن تميم الداري أنه كان يهدي لرسول الله صلى الله عليه وسلم كل عام راوية خمر، فلما كان عام حرمت جاء براويته فقا: "أشعرت أنها قد حرمت بعدك"؟. قال: أفلا أبيعها وأنتفع بحقها فنهاه، ويستفاد من حديث كيسان تسمية المبهم في حديث ابن عباس ومن حديث تميم تأييدا لوقت المذكور، فإن إسلام تميم كان بعد الفتح.
وروى أصحاب السنن عن عمر أنه قال: اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا, فنزلت: {قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ} [البقرة: 219] ، فقرئت عليه, فقال: اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا، فنزلت: {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} [النساء: 43] ، فقرئت عليه، فقال: اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا، فنزلت آية المائة إلى قوله: {مُنْتَهُونَ} قال عمر: انتهينا وصححه علي بن المديني، والترمذي. انتهى.
وبحديث عمر هذا قد يجمع بين هذه الأقوال الثلاثة التي ذكرها المصنف في وقت تحريمها وهي سنة أربع أو ست أو ثمان باحتمال أن كل مرة كانت في سنة منها وقد مر له في حمراء الأسد عن مغلطاي أنها حرمت في شوال سنة ثلاث.
قال الحافظ: وزعم الواقدي أنه عقب قول حمزة إنما أنتم عبيد لأبي يعني سنة اثنتين, وحديث جابر يرد عليه يعني قوله: اصطبح ناس الخمر يوم أحد فقتلوا من يومهم جميعا شهداء.(3/236)
والخمر في الأصل مصدر خمره إذا ستره، سمي به عصير العنب إذا اشتد وغلا كأنه يخمر العقل، كما سمي مسكرا لأنه يسكره، أي يحجره.
وهي حرام مطلقا، وكذا كل ما أسكر عند أكثر العلماء. وقال أبو حنيفة: نقيع الزبيب والتمر إذا طبخ حتى ذهب ثلثاه ثم اشتد حل شربه ما دون سكر. انتهى.
وأما الحشيشة وتسمى القنب الهندي والحيدرية والقلندرية فلم يتكلم فيها الأئمة الأربعة ولا غيرهم من علماء السلف، لأنها لم تكن في زمنهم، وإنما ظهرت في أواخر المائة السادسة وأول السابعة.
واختلف هل هي مسكرة فيجب فيها الحد، أو مفسدة للعقل فيجب التعزير
__________
أخرجه البخاري في مواضع "والخمر في الأصل مصدر خمره إذا ستره سمي به عصير العنب إذا اشتد وغلا" بفتح الغين عطف تفسير، يقال للشيء إذا زاد وارتفع: قد غلا، "كأنه يخمر" بضم الياء وشد الميم يغطي ويستر "العقل، كما سمي مسكرا؛ لأنه سكره" بضم فسكون من الإسكار، "أي يحجره" بضم الجيم والراء المهملة، أي يمنعه من الإدراك "وهي حرام مطلقا" أسكرت أم لا قلت: أم لا "وكذا كل ما أسكر" أي: ما شأنه الإسكار أسكر بالفعل أم لا فلا تنافي بين ما أفاده قوله كذا من التعميم.
وقوله: أسكر "عند أكثر العلماء" لقول عمر على المنبر: إنه نزل تحريم الخمر وهي من خمسة: من العنب, والتمر، والعسل, والحنطة, والشعير، والخمر ما خامر العقل. أخرجه الشيخان وغيرهما.
"وقال أبو حنيفة: نقيع الزبيب، والتمر إذا طبخ حتى ذهب ثلثاه ثم اشتد حل شربه ما دون السكر،" أي حل شرب القدر الذي لا يسكر، وهو ضعيف المدرك جدا بحيث قال مالك والشافعي: يحد الحنفي إذا شربه. "انتهى".
"وأما الحشيشة وتسمى القنب الهندي" بضم القاف وكسرها والنون المشددة، كما في القاموس قال الهيتمي: لم أره بغير مصر يزرع في البساتين "والحيدرية والقلندرية، فلم يتكلم فيها الأئمة الأربعة ولا غيرهم من علماء السلف؛ لأنها لم تكن في زمنهم وإنما ظهرت في أواخر المائة السادسة، و" تزايدت وكثرت في "أول السابعة" حين ظهرت دولة التتار، "واختلف هل هي مسكرة فيجب فيها الحد، أو مفسدة للعقل فيجب التعزير", وهو الصحيح عند الشافعية(3/237)
والذي أجمع عليه الأطباء أنها مسكرة، وبه جزم الفقهاء وصرح به أبو إسحاق الشيرازي في كتاب التذكرة في الخلاف، والنووي في شرح المهذب، ولا نعرف فيه خلافا عندنا.
ونقل عن ابن تيمية أنه قال: الصحيح أنها مسكرة كالشراب، فإن أكلتها ينشون عنها ولذلك يتناولونها بخلاف البنج فإنه لا ينشي ولا يشتهى.
قال الزركشي: ولم أر من خالف في ذلك إلا القرافي في قواعده فقال: نص العلماء بالنبات أنها مسكرة، والذي يظهر لي أنها مفسدة ... في كلام تعقبه الزركشي يطول ذكره.
وقد تضافرت الأدلة على حرمتها: ففي صحيح مسلم كل مسكر حرام وقد قال تعالى: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} وأي خبيث أعظم مما
__________
والمالكية إن استعمل ما أفسد العقل.
"والذي أجمع عليه الأطباء أنها مسكرة، وبه جزم الفقهاء" أي كثير منهم "وصرح به أبو إسحاق الشيرازي" بكسر المعجمة آخره زاي نسبة إلى شيراز قصبة فارس "في كتاب التذكرة في الخلاف، والنووي في شرح المهذب" قائلا "ولا نعرف فيه خلافا عندنا ونقل عن ابن تيمية" الحنبلي "أنه قال: الصحيح أنها مسكرة كالشراب، فإن أكلتها ينشون عنها" بفتح الشين وإسكان الواو، أي يسكرون منها، "ولذلك يتناولونها بخلاف البنج" بفتح الموحدة وسكون النون، وجيم بنت مخبط للعقل مجبن مسكن لأوجاع الأورام والبثور ووجع الآذان وأخبثه الأسود، ثم الأحمر، وأسلمه الأبيض، كما في القاموس، "فإنه لا ينشي ولا يشتهى" وكذا قال العلامة ولي الله، المتوفى من المالكية قال: لأنا رأينا من يتعاطاها يبيع أمواله لأجلها، فلولا أن لهم فيها طربا لما فعلوا ذلك. يبين ذلك أنا لا نجد أحدا يبيع داره ليأكل بها سيكرانا "قال الزركشي: ولم أرَ من خالف في ذلك إلا القرافي في قواعده" التي سماها الفروق، "فقال: نص العلماء بالنبات" أي: بأحواله نفعا وضررا على "إنها مسكرة والذي يظهر لي أنها مفسدة".
وبين ذلك القرافي بما منه لأني لم أرهم يميلون إلى القتال والنصرة، بل عليهم الذلة والمسكنة، وربما عرض لهم البكاء "في كلام تعقبه الزركشي يطول ذكره وقد تضافرت الأدلة على حرمتها، ففي صحيح مسلم" مرفوعا: "كل مسكر حرام" تقول به لكن لا نسلم أنها مسكرة فلم تدخل فيه، وقد قال تعالى: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} وأي خبيث أعظم مما(3/238)
يفسد العقول التي اتفقت الملل والشرائع على إيجاب حفظها. ولا ريب أن تناول الحشيشة يظهر به أثر التغير في انتظام العقل والقول المستمد كماله من نور العقل. وقد روى أبو داود -بإسناد حسن- عن ديلم الحميري قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله! إنا بأرض باردة نعالج فيها عملا شديدا وإنا نتخذ شرابا من هذا القمح نتقوى به على أعمالنا وعلى برد بلادنا، قال: "فهل يسكر"؟ , قلت: نعم، قال: "فاجتنبوه"، قلت: فإن الناس غير تاركيه، قال: "فإن لم يتركوه فقاتلوهم".
وهذا منه صلى الله عليه وسلم تنبيه على العلة التي لأجلها حرم المزر فوجب أن كل شيء عمل عمله يجب تحريمه، ولا شك أن الحشيشة تعمل ذلك وفوقه.
__________
يفسد العقول التي اتفقت الملل والشرائع" جمع شريعة، وهي مع الملة ما صدقهما واحد "على إيجاب حفظها ولا ريب" شك "أن تناول الحشيشة يظهر به أثر التغير في انتظام العقل والقول المستمد كماله من نور العقل" وهذا غاية ما ينتج حرمة تناول ما يفسد العقل منها لا ما لا يفسده كما هو الصحيح.
"وقد روى أبو داود بإسناد حسن عن ديلم الحميري" الجيشاني، بفتح الجيم فتحتية فمعجمة نسبه ابن يونس، فقال: ابن هوشع ابن أبي جناب بن مسعود، ووصل نسبه إلى جيشان، وقال: كان أول وافد على النبي صلى الله عليه وسلم من اليمن أرسله معاذ، ثم شهد فتح مصر ونزلها، وروى عنه أبو الخير، مرثد ووقع لجمع من أكابر الحفاظ فيه تخبيط تكفل برده في الإصابة، وقال في التقريب: أخطأ، من زعم أنه أبو وهب الجيشاني.
"قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله إنا بأرض باردة، نعالج فيها عملا شديدا، وإنا نتخذ شرابا من هذا القمح، نتقوى به على أعمالنا وعلى برد بلادنا. قال: "فهل يسكر"؟. قلت: نعم. قال: "فاجتنبوه". قلت: فإن الناس غير تاركيه. قال: "فإن لم يتركوه فقاتلوهم". وهذا منه صلى الله عليه وسلم تنبيه على العلة التي لأجلها حرم المزر" بكسر الميم، وسكون الزاي وبالراء نبيذ الذرة والشعير كما في القاموس.
ومفاد هذا أنه كان تحريم المزر معلوما للسائل قبل السؤال وأنه أشار الحديث إلى أن علته إسكاره فيقاس عليه كل ما شاركه في العلة، "فوجب أن كل شيء عمل عمله يجب تحريمه، ولا شك أن الحشيشة تعمل ذلك وفوقه" فيحرم تعاطي ما عمل ذلك منها لا مطلق التعاطي، كما هو مختاره.(3/239)
وروى أحمد في مسنده وأبو داود في سننه عن أم سلمة قالت: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل مسكر ومفتر.
قال العلماء: المفتر كل ما يورث الفتور والخدر في الأطراف. وهذا الحديث أدل دليل على تحريم الحشيشة وغيرها من المخدرات، فإنها إن لم تكن مسكرة كانت مفترة، مخدرة ولذلك يكثر النوم من متعاطيها، وتثقل رءوسهم بواسطة تبخيرها في الدماغ.
واختلف هل يحرم تعاطي اليسير الذي لا يسكر؟
فقال النووي في شرح المهذب: إنه لا يحرم أكل القليل الذي لا يسكر من الحشيش، بخلاف الخمر، حيث حرم قليلها الذي لا يسكر. والفرق أن الحشيش طاهر والخمر نجس فلا يجوز شرب قليله للنجاسة.
وتعقبه الزركشي بأنه صح في الحديث: "ما أسكر كثيره فقليله حرام"
__________
"وروى أحمد في مسنده وأبو داود في سننه عن أم سلمة، قالت: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل مسكر ومفتر".
"قال العلماء: المفتر كل ما يورث الفتور" وهو الانكسار والضعف "والخدر" بفتح الخاء، والدال المهملة الاسترخاء "في الأطراف" فلا يطيق الحركة فهو من عطف الأخص على الأعم "وهذا الحديث أدل دليل على تحريم الحشيشة وغيرها من المخدرات، فإنها إن لم تكن مسكرة كانت مفترة مخدرة، ولذلك يكثر النوم من متعاطيها، وتثقل رءوسهم بواسطة تبخيرها في الدماغ" أي إيصالها البخار له.
والمعنى أنه ينفصل منه بخار يصعد إلى الدماغ، فتثقل الرءوس منه، "واختلف هل يحرم تعاطي اليسير الذي لا يسكر، فقال النووي في شرح المهذب: إنه لا يحرم أكل القليل الذي لا يسكر من الحشيش", وهذا هو الصحيح المعتمد عند الشافعية والمالكية "بخلاف الخمر حيث حرم قليلها الذي لا يسكر، والفرق أن الحشيش طاهر والخمر نجس فلا يجوز شرب قليله للنجاسة".
وتعقبه الزركشي بأنه صح في الحديث: "ما أسكر كثيره فقليله حرام".
يعني والنووي قد قال في نفس شرح المهذب: إنها مسكرة بلا خلاف نعلمه عندهم، كما مر قريبا فكيف يقول ذلك، ويجوز أكل القليل مع نص الحديث على حرمة قليل المسكر،(3/240)
قال: والمتجه أنه لا يجوز من الحشيش لا قليل ولا كثير.
وقد نقل الإجماع على تحريمها غير واحد، منهم القرافي وابن تيمية وقال: إن من استحلها فقد كفر.
وتعقبه الزركشي: بأن تحريمها ليس معلوما من الدين بالضرورة، سلمنا ذلك، لكن لا بد أن يكون دليل الإجماع قطعيا على أحد الوجهين، وقد ذكر أصحابنا أن المسكر من غير عصير العنب، كعصير العنب في وجوب الحد، لكن لا يكفر مستحله لاختلاف العلماء فيه.
وأما قول النووي: إنها طاهرة وليست بنجسة، فقطع به ابن دقيق العيد وحكى الإجماع عليه. قال: والأفيون وهو لبن الخشخاش، أقوى فعلا من الحشيش، لأن القليل منه يسكر جدا، وكذلك السيكران وجوز الطيب
__________
وجواب المعتمد عن الحديث: إنا لا نسلم أنها مسكرة، "قال: والمتجه أنه لا يجوز تناول شيء من الحشيش لا قليل ولا كثير، وقد نقل الإجماع على تحريمها غير واحد منهم القرافي وابن تيمية. وقال: إن استحلها فقد كفر".
"وتعقبه الزركشي بأن تحريمها ليس معلوما من الدين بالضرورة" فلا يلزم من الإجماع على تحريمها كفر مستحلها؛ لأنه إنما يكفر إذا أنكر مجمعا عليه معلوما من الدين بالضرورة بأن يشترك الخاص والعام في معرفته "سلما ذلك لكن" لا نسلم الكفر؛ لأنه "لا بد" لا فراق، ولا محالة "أن يكون دليل الإجماع قطعيا على أحد الوجهين".
"وقد ذكر أصحابنا أن المسكر" أي ما من شأنه الإسكار "من غير عصير العنب كعصير العنب، في وجوب الحد" سكر به الشارب أم لا، "لكن لا يكفر مستحله"، ولو سكر منه "لاختلاف العلماء فيه", فأولى مستحل الحشيشة، وهذا مراد من ذكره وإن لم يقدم فيه خلافا. "وأما قول النووي أنها طاهرة وليست بنجسة" تأكيد "فقطع به ابن دقيق العيد وحكى الإجماع عليه" وغلط بعض الشافعية، فقال: بنجاسة الحشيشة.
"قال" الزركشي: "والأفيون وهو لبن الخشخاش" المصري الأسود نافع من الأورام الحارة خاصة في العين مخدر وقليله نافع منوم، كذا في القاموس "أقوى فعلا من الحشيش، لأن القليل منه يسكر جدا" بعض الأمزجة، أو في ابتداء استعماله ولا خالف المشاهد، "وكذلك السيكران" بفتح السين مهملة ومعجمة، وضم الكاف: نبت دائم الخضرة يؤكل حبه.
"وجوز الطيب" حرام مسكر عند ابن دقيق العيد، واعتمده كثير منهم الزركشي، كما ترى(3/241)
مع أنه طاهر بالإجماع. انتهى.
وقد جمع بعضهم في الحشيشة مائة وعشرين مضرة دينية وبدنية، حتى قال بعضهم: كل ما في الخمر من المذمومات موجود في الحشيش وزيادة. فإن أكثر ضرر الخمر في الدين لا في البدن. وضررها فيهما.
فمن ذلك: فساد العقل، وعدم المروءة، وكشف العورة، وترك الصلوات، والوقوع في المحرمات، وقطع النسل، والبرص والجذام والأسقام والرعشة والأبنة، ونتن الفم وسقوط شعر الأجفان، وتفتيت الأسنان وتسويدها، وتضييق النفس وتصفير الألوان، وتفتيت الكبد، وتجعل الأسد كالجعل، وتورث الكسل والفشل، وتعيد العزيز ذليلا، والصحيح عليلا، والفصيح أبكما، والذكي أبلما، وتذهب السعادة
__________
ولم يعتمده المالكية فقد قال الإمام العلامة أبو القاسم البرزلي: أجاز بعض أئمتنا أكل قليل جوزة الطيب لتسخين الدماغ، واشترط بعضهم خلطها مع أدوية والصواب العموم. انتهى.
وقال العلامة ابن فرحون يمنع أكل عقاقير الهند إن أكلت لما تؤكل له الحشيشة لا للهضم وغيره من المنافع إلا ما أفسد العقل والجوزة وكثير الزعفران والبنج، والسيكران من المفسدات، قليلها جائز، "مع أنه طاهر بالإجماع. انتهى" كلام الزركشي.
"وقد جمع بعضهم في الحشيشة مائة وعشرين مضرة دينية وبدنية حتى قال بعضهم: كل ما في الخمر من المذمومات موجود في الحشيشة، و" فيها "زيادة، فإن أكثر ضرر الخمر في الدين لا في البدن، وضررها فيهما، فمن ذلك فساد العقل، وعدم المروءة" بضم الميم كسهولة: آداب نفسانية تحمل مراعاتها الإنسان على الوقوف على محاسن الأخلاق وجميل العادات ما في المصباح، وأثبته في تقريب الغريب "وكشف العورة وترك الصلوات والوقوع في المحرمات" فهذه من الدينية "و" من البدنية وترجع للدينية أيضا "قطع النسل والبرص، والجذام والأسقام والرعشة، والأبنة، ونتن الفم، وسقوط شعر الأجفان، وتفتيت الأسنان، وتسويدها، وتضييق النفس، وتصفير الألوان, وتفتيت الكبد، وتجعل الأسد كالجعل" بضم الجيم وفتح العين المهملة دويبة أكبر من الخنفساء شديد السواد في بطنه لون حمرة للذكر قرنان تسميه الناس أبا جعران؛ لأنه يجمع الجعر اليابس ويدخره في بيته، ويموت من ريح الورد والطيب فإذا أعيد إلى الروث عاش قاله في حياة الحيوان, "وتورث الكسل، والفشل" والضعف والتراخي والجبن، "وتعيد العزيز ذليلا، والصحيح عليلا، والفصيح أبكما والذكي أبلما. وتذهب السعادة(3/242)
وتنسي الشهادة، فصاحبها بعيد عن السنة طريد عن الجنة، موعود من الله باللعنة إلا أن يقرع من الندم سنة ويحسن بالله ظنه. ولقد أحسن القائل:
قل لمن يأكل الحشيشة جهلا ... يا خسيسا قد عشت شر معيشة
دية العقل بدرة فلماذا ... يا سفيها قد بعتها بحشيشة
__________
وتنسي الشهادة".
زاد في الزواجر وتجفف الرطوبات، وتورث موت النسيان، وتصدع الرأس، وتجفف المني، وتظلم البصر، وتورث الفجأة، والدق والسل، والاستسقاء وفساد الفكر ونسيان الذكر وإفشاء السرد وذهاب الحياء وعدم الغيرة وإتلاف الكيس ومجالسة إبليس واحتراق الدم.
وتذهب الفطنة وتحدث البطنة "فصاحبها بعيد عن السنة طريد عن الجنة موعود من الله باللعنة"؛ لأنه ظالم لنفسه، وقد قال تعالى: {أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} , قال السيوطي في الإكليل: استدل به على جواز لعن المسلم الظالم "إلى أن يقرع من الندم سنة" فيتوب، "ويحسن بالله ظنه" في قبول توبته، "ولقد أحسن القائل":
"قل لمن يأكل الحشيشة جهلا ... يا خسيسا قد عشت شر معيشة"
دية العقل بدرة فلماذا ... يا سفيها قد بعتها بحشيشة"
البدرة قال في القاموس: كيس فيه ألف، أو عشرة آلاف درهم، أو سبعة آلاف دينار, والله أعلم.(3/243)
أمر الحديبية
...(3/20)
"غزوة خيبر":
وهي مدينة كبيرة ذات حصون ومزارع، على ثمانية برد من المدينة إلى جهة الشام.
__________
غزوة خيبر:
بخاء معجمة وتحتانية وموحدة بوزن جعفر ذكر أبو عبيد البكري أنها سميت باسم رجل من العماليق نزلها وهو خيبر أخو يثرب ابنا قانية بن مهلايل، واقتصر عليه الروض والفتح وغيرهما، وقيل: الخيبر بلسان اليهود الحصن ولذا سميت خيابر أيضا.
ذكره الحازمي "وهي مدينة كبيرة ذات حصون ومزارع" ونخل كثير "على ثمانية برد من المدينة إلى جهة الشام" هكذا في الفتح فتبعه المصنف هنا.
وفي الإرشاد: والثمانية برد أربعة مراحل.
وقال الشامي: على ثلاثة أيام من المدينة على يسار الحاج الشامي، ولعله بالسير السريع أو(3/243)
قال ابن إسحاق: خرج النبي صلى الله عليه وسلم في بقية شهر المحرم سنة سبع، فأقام يحاصرها بضع عشرة ليلة إلى أن فتحها.
وقيل: كانت في آخر سنة ست، وهو منقول عن مالك، وبه جزم ابن حزم.
قال الحافظ ابن حجر: والراجح ما ذكره ابن إسحاق، ويمكن الجمع بأن من أطلق سنة ست بناه على أن ابتداء السنة من شهر الهجرة الحقيقي وهو ربيع الأول.
وأغرب ابن سعد وابن أبي شيبة فرويا من حديث أبي سعيد الخدري: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خيبر لثمان عشرة من رمضان، وإسناده حسن، لكنه خطأ ولعلها كانت إلى حنين فتصحفت. وتوجيهه: بأن غزوة حنين كانت ناشئة عن غزوة الفتح، وغزوة الفتح خرج صلى الله عليه وسلم فيها في رمضان جزما.
__________
على التقريب فلا ينافي أنها أربعة بالسير المعتدل، ويؤيده قول التهذيب على نحو أربعة أيام أو هو بحسب الاختلاف في الميل أو الأربعة بالنظر إلى داخل السور، والثلاثة بالنظر إلى خارجه.
"قال ابن إسحاق": أقام صلى الله عليه وسلم بالمدينة حين رجع من الحديبية ذا الحجة وبعض المحرم، ثم "خرج صلى الله عليه وسلم في بقية المحرم" إلى خيبر "سنة سبع"، وذكر ابن عقبة عن الزهري أنه أقام بالمدينة عشرين ليلة أو نحوها، وعند ابن عائذ عن ابن عباس: أقام بعد الرجوع إلى المدينة عشر ليال.
وفي مغازي التيمي أقام خمسة عشر يوما "فأقام يحاصرها بضع عشرة ليلة" موزعة على حصونها "إلى أن فتحها" في صفر هكذا في نقل الفتح عن ابن إسحاق. "وقيل: كانت في آخر سنة ست" حكاه ابن التين عن ابن الحصار "وهو منقول عن مالك" الإمام "وبه جزم ابن حزم".
"قال الحافظ ابن حجر" وهذه الأقوال متقاربة، "والراجح" منها "ما ذكره ابن إسحاق" قال في زاد المعاد: وهو قول الجمهور، "ويمكن الجمع بأن من أطلق سنة ست بناه على أن ابتداء السنة من شهر الهجرة الحقيقي وهو ربيع الأول" وهو ابن حزم، ولذا جزم أن خيبر سنة ست لكن الجمهور على أن التاريخ وقع من المحرم.
قال الحافظ وأما ما ذكره الحاكم، وابن سعد عن الواقدي أنها في جمادى الأولى فالذي رأيته في مغازي الواقدي أنها كانت في صفر، وقيل: في ربيع الأول "وأغرب ابن سعد، وابن أبي شيبة فرويا من حديث أبي سعيد الخدري" قالا: "خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خيبر لثمان عشرة من رمضان، وإسناده حسن لكنه خطأ ولعلها كانت إلى حنين فتصحفت" لتقارب اللفظين، "وتوجيهه" مع أن حنينا لست خلت من شوال أو لليلتين بقيتا من رمضان "بأن غزوة حنين كانت ناشئة عن غزوة الفتح وغزوة الفتح خرج صلى الله عليه وسلم فيها في رمضان جزما", فيصح(3/244)
قال: وذكر الشيخ أبو حامد في التعليقة: أنها كانت سنة خمس، وهو وهم، لعله انتقال من الخندق إلى خيبر.
وكان معه عليه الصلاة والسلام ألف وأربعمائة راجل ومائتا فارس، ومعه أم سلمة زوجته.
وفي البخاري من حديث سلمة بن الأكوع قال: خرجنا مع النبي إلى خيبر فسرنا ليلا، فقال رجل من
__________
إطلاقه على غزوة حنين بجعلها من غزوة الفتح، لكونها ناشئة عنها والخروج من المدينة لهما واحد.
"قال" الحافظ ابن حجر "وذكر الشيخ أبو حامد في التعليقة أنها كانت سنة خمس وهو وهم ولعله انتقال من الخندق إلى خيبر", وأجاب البرهان بأنه أسقط سنة الهجرة، أي وقطع النظر عن سنة الغزوة.
قال الحافظ: وذكر ابن هشام أنه استعمل على المدينة نميلة بنون مصغر ابن عبد الله الليثي، وعند أحمد والحاكم عن أبي هريرة أنه سباع بن عرفطة وهو أصح. انتهى.
ويمكن الجمع بأنه استخلف أحدهما أولا ثم عرض ما يقتضي استخلاف الآخر، كما مر نظيره "وكان معه عليه الصلاة والسلام ألف وأربعمائة راجل ومائتا فارس".
هذا مخالف لما عند ابن إسحاق أن عدة الذين قسمت عليهم خيبر ألف سهم وثمانمائة سهم برجالهم وخيلهم, الرجال ألف وأربعمائة والخيل مائتا فرس لكل فرس سهمان ولفارسه سهم. انتهى.
فإن لم يكن ما في المصنف مصحفا بزيادة الألف في راجل وفارس، فلا ينافي ما مر من الخلاف في عدد أهل الحديبية.
أما لما تقدم من أن من ذكر القليل كألف وثلاثمائة نظر إليهم في ابتداء الخروج، ثم زادوا بعد وأما لأنه خرج لخيبر من لم يخرج في الحديبية، فقد ذكر الواقدي أنه جاء المخلفون في الحديبية ليخرجوا رجاء الغنيمة، فقال عليه السلام: "لا تخرجوا معي إلا راغبين في الجهاد، فأما الغنيمة فلا". فلعله خرج معه جماعة لم يحضورا الحديبية ولم يأخذوا من الغنيمة، فلا ينافي قوله تعالى: {سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ} الآية، "ومعه أم سلمة زوجته" رضي الله عنها التي كانت معه في الحديبية. "وفي البخاري من حديث سلمة بن" عمرو بن "الأكوع" واسمه سنان فنسب لجده لشهرته به الأسلمي أبو مسلم، وأبو إياس شهد بيعة الرضوان ومات سنة أربع وسبعين, روى له الستة، "قال: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى خيبر فسرنا ليلا، فقال رجل من القوم"(3/245)
القوم لعامر: عامر، ألا تسمعنا من هنيهاتك وكان عامر رجلا شاعرا، فنزل يحدو بالقوم يقول:
اللهم لولا أنت ما اهتدينا ... ولا تصدقنا ولا صلينا
فاغفر فداء.........
__________
قال الحافظ لم أقف على اسمه صريحا، وعند ابن إسحاق من حديث نصر بن دهر الأسلمي، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في مسيره إلى خيبر لعامر بن الأكوع. ففي هذا أنه صلى الله عليه وسلم هو الذي أمره بذلك. انتهى.
ويمكن الجمع بأن الرجل لما قال له لم يسرع حتى أمره صلى الله عليه وسلم ولا ينافي ذلك إتيانه بالفاء، لأن الحال أزمنة من الماضي والآتي والحاكم فيها العرف، ولا قوله من هذا السائق، لاحتمال تعدد الحدأة أو بعده فلم يحقق صوته، فجوز أنه غيره "لعامر" ابن الأكوع عم سلمة، كما في حديث نصر، وفي مسلم قال سلمة لما كان خيبر قاتل أخي قتالا شديدا إلى أن قال: فقال صلى الله عليه وسلم: "من هذا"؟. قلت: أخي.
قال البرهان: والصحيح أن "عامرا" عم سلمة، وقد ذكر مسلم بعد هذا من طريق آخر، فجعل عمي عامر يرتجز قال، ويمكن الجمع بأنه أخوه رضاعة عمه نسبا "ألا تسمعنا من هنيهاتك" بهاءين أولاهما مضمومة بعدها نون مفتوحة فتحتية ساكنة جمع هنيهة تصغير هنة كما قالوا: في تصغير سنة سنيهة, للكشميهني: هنياتك بحذف الهاء الثانية وشدة التحتية أي من أراجيزك.
وللبخاري في الدعوات من وجه آخر من هناتك بلا تصغير قاله الحافظ والمصنف، وقال: أي من أخبارك وأمورك وأشعارك فكنى عن ذلك كله، "وكان عامر رجلا شاعرا" وللكشميهني حداء "فنزل يحدو بالقوم يقول:
"اللهم لولا أنت ما اهتدينا" فيه زحاف الخزم بمعجمتين وهو زيادة سبب خفيف في أوله، قاله الحافظ.
وفي رواية ابن إسحاق: والله لولا الله. ولا خزم فيه، "ولا تصدقنا، ولا صلينا" قال في الفتح: أكثر هذا الرجز تقدم في الجهاد عن البراء، وأنه من شعر عبد الله بن رواحة، فيحتمل أن يكون هو وعامر تواردا على ما تواردا عليه بدليل ما وقع لكل منهما مما ليس عند الآخر. واستعان عامر ببعض ما سبقه إليه ابن رواحة، "فاغفر فداء" بكسر الفاء والمد، وحكى ابن التين فتح أوله مع القصر، وزعم أنه هنا بالكسر مع القصر لضرورة الوزن فلم يصب فإنه لا يتزن إلا بالمد.
قال الحافظ: وقال القاضي عياض رويناه فداء بالرفع على أنه مبتدأ، أي لك نفسي فداء(3/246)
.... لك ما اتقينا
وألقين سكينة علينا ... وثبت الأقدام إن لاقينا
إنا إذا صيح بنا أتينا ... وبالصياح عولوا علينا
وفي رواية إياس بن سلمة عن أبيه عند أحمد في هذا الرجز من الزيادة:
إن الذين قد بغوا علينا ... إذا أرادوا فتنة أبينا
ونحن عن فضلك ما استغنينا
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم -كما في رواية البخاري:
__________
وبالنصب على المصدر "لك ما اتقينا" بشدة الفوقية بعدها للأكثر، أي ما تركنا من الأوامر وما ظرفية وللأصيلي والنسفي: بهمزة قطع، ثم موحدة ساكنة أي ما خلفنا وراءنا مما اكتسبناه من الآثام أو ما أبقيناه وراءنا من الذنوب فلم نثبت منه.
وللقابسي: كما لقينا بلام وكسر القاف أي ما وجدنا من الماهي، ولمسلم والبخاري في الأدب: ما اقتفينا بقاف ساكنة ففوقية مفتوحة ففاء فتحتية ساكنة أي تبعنا من الخطايا من قفوت الأثر إذا تبعته، وهي أشهر الروايات في هذا الرجز.
"وألقين سكينة علينا ... وثبت الأقدام إن لاقينا"
هكذا في البخاري فما يقع في نسخ من تقديم وثبت ... إلخ. على ما قبله خلافه, وللنسفي: وألقي بحذف النون وبزيادة ألف ولام في السكنية وليس بموزون كما قاله الحافظ وغيره. ولو أشبعت السكينة بألف بعد الفتحة مع تحريك ياء ألقي بالفتح اتزن. "إنا إذا صيح بنا أتينا" بفوقية، أي إلى القتال أو إلى الحق. وروي بموحدة كذا في نسخة النسفي فإن كانت ثابتة، فالمعنى إذا دعينا إلى غير الحق امتنعنا, "وبالصياح عولوا علينا" أي قصدونا بالدعاء بالصوت العالي، واستعانوا علينا أي اعتمدوا.
"وفي رواية إياس بن سلمة" بن الأكوع، أبو سلمة، ويقال: أبو بكر المدني, ثقة. مات سنة تسع عشرة ومائة وهو ابن سبع وسبعين سنة، "عن أبيه عند أحمد في هذا الرجز من الزيادة: إن الذين قد بغوا علينا. إذا أرادوا فتنة أبينا" بالموحدة على الراجح لا بالفوقية، وإن صح معنى أي جئنا وأقدمنا على قتالهم؛ لأن إعادة الكلمة في قوافي الرجز عن قرب عيب معلوم عندهم, قاله عياض.
قال الحافظ: وقع في بعض النسخ: وإن أردنا على فتنة أبينا, وهو تغير. "ونحن عن فضلك ما استغنينا" وهذا الشطر الأخير عند مسلم أيضا. "فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم -كما في رواية(3/247)
"من هذا السائق"؟ فقالوا: عامر بن الأكوع: قال: "يرحمه الله". قال رجل من القوم: وجبت يا نبي الله، لولا أمتعتنا به. الحديث.
وفي رواية أحمد: فجعل عامر يرتجز ويسوق الركاب، وهذه كانت عادتهم إذا أرادوا تنشيط الإبل في السير نزل بعضهم فيسوقها، ويحدو في تلك الحال.
وقوله: "اللهم لولا أنت ما اهتدينا" كذا الرواية، قالوا: وصوابه في الوزن: لا هم. أو: تالله، كما في الحديث الآخر.
وقوله: "فداء لك" قال المازري:
__________
البخاري" التي فصلها بزيادة إياس: "من هذا السائق"؟ للإبل "فقالوا: عامر بن الأكوع". قال: "يرحمه الله".
وفي رواية إياس عند أحمد فقال: "غفر لك ربك"، قال: وما استغفر رسول الله صلى الله عليه وسلم لإنسان يخصه إلا استشهدوا بهذه الزيادة يظهر السرفي قوله: "قال رجل من القوم" هو عمر كما في مسلم ولفظه فنادى عمر بن الخطاب وهو على جمل "وجبت يا نبي الله لولا" أي هلا "أمتعتنا به" بفتح الهمزة أي أبقيته لنا لنتمتع بشجاعته "الحديث".
ذكر في بقيته المحاصرة ثم الفتح والنهي عن لحم الحمر واستشهاد عامر، وزعم أنه أحبط عمله وقول المصطفى كذب من قاله أن له لأجرين بما يأتي بمعناه في كلام المصنف "وفي رواية أحمد" عن إياس بن سلمة عن أبيه. "فجعل عامر يرتجز ويسوق الركاب" بكسر الراء ما يركب من الإبل، "وهذه كانت عادتهم إذا أرادوا تنشيط الإبل في السير نزل بعضهم فيسوقها ويحدو في تلك الحال", ولذا طلبوه منه وأمره به صلى الله عليه وسلم فقال: "انزل يابن الأكوع فخذ لنا من هناتك"، كما في حديث نصر عند ابن إسحاق.
"وقوله: اللهم لولا أنت ما اهتدينا، كذا الرواية" في البخاري "قالوا: وصوابه في الوزن لا هم أو تالله كما في الحديث الآخر" تبرأ منه لأن الذي فيه إنما هو الخزم بمعجمتين وهو الزيادة على أول البيت حرفا إلى أربعة، وكذا على أول النصف الثاني حرفا أو اثنين على الصحيح.
وهذا أمر لا نزاع فيه بين العروضيين ولم يقل أحد بامتناعه وإن لم يستحسنوه، وما قال أحد أن الخزم يقتضي إلغاء ما هو فيه عن أن يعد شعرا. نعم لا يعتد بالزيادة في الوزن ويكون ابتداؤه ما بعدها، فكذا ما نحن فيه قاله في المصابيح، "وقوله: فداء لك قال" الإمام الفقيه،(3/248)
هذه اللفظة مشكلة، فإنه لا يقال للباري سبحانه: فديتك؛ لأن ذلك إنما يستعمل في مكروه يتوقع حلوله بالشخص، فيختار شخص آخر أن يحل ذلك به ويفديه منه. قال: ولعل هذا وقع من غير قصد إلى حقيقة معناه، كما يقال: قاله الله، ولا يريد بذلك حقيقة الدعاء عليه، وكقوله عليه الصلاة والسلام: "تربت يداك". و "تربت يمينك". وفيه كله ضرب من الاستعارة لأن المفادي مبالغ في طلب رضا المفدي حين بذل نفسه عن نفسه للمكروه، فكان مراد الشاعر: أي أبذل نفسي في رضاك.
__________
الأصولي، ذو الفنون في علوم عديدة محمد بن علي بن عمر التميمي "المازري" بفتح الزاي وكسرها نسبة إلى مازر بليدة بجزيرة صقلية. مات سنة ست وثلاثين وخمسمائة وله ثلاث وثمانون سنة.
في المعلم "هذه اللفظة مشكلة، فإنه لا يقال للباري سبحانه فديتك" لاستحالته إذ معناه، كما قال السهيلي: فداء لك أنفسنا فحذف المبتدأ لكثرة دوره في الكلام مع العلم به، "لأن ذلك إنما يستعمل في مكروه يتوقع حلوله بالشخص" المفدي "فيختار شخص آخر أن يحل ذلك به ويفديه منه", ولا يتصور ذلك في حق الله, وإنما يتصور الفداء لمن يجوز عليه الفناء أو حلول مكروه "قال" المازري مجيبا: "ولعل هذا وقع من غير قصد إلى حقيقة معناه", بل المراد المحبة والتعظيم، فجاز أن يخاطب بها من لا يجوز في حقه الفداء، ولا يجوز عليه الفناء قصدا لإظهار المحبة والتعظيم له قاله في الروض.
قال: ورب كلمة ترك أصلها واستعملت كالمثل في غير ما وضعت له، "كما يقال: قاتله الله" ما أفصحه "ولا يريد" القائل "بذلك حقيقة الدعاء عليه" بل التعجب واستعظام الأمر، وكقوله عليه الصلاة والسلام: "تربت يداك". و "تربت يمينك". يخاطب عائشة وغيرها فلم يقصد أصل معناها الذي هو افتقرت حتى لصقت يداك بالتراب بل الإنكار والزجر كقوله عليه الصلاة والسلام: "ويل أمه".
قال بديع الزمان في رسالته: العرب تطلق: تربت يمينه في الأمر إذا أهم، ويقولون: ويل أمه ولا يقصدون الذم، وكقوله عليه الصلاة والسلام في بعض الروايات: "أفلح وأبيه إن صدق". ومحال أن يقصد القسم بغير الله لا سيما برجل مات كافرا، وإنما هو تعجب من قول الأعرابي والمتعجب منه مستعظم والقسم في الأصل لما يعظم فاتسع فيه وقال الشاعر:
فإن تك ليلى استودعتني أمانة ... فلا وأبي أعدائها لا أحونها
لم يرد القسم بوالد أعدائها بل التعجب، "وفيه كله ضرب من الاستعارة؛ لأن المفادي مبالغ في طلب رضا المفدى" بضم الميم والتشديد، أي الذي جعل المتكلم نفسه فداءه "حين(3/249)
وعلى كل حال فإن المعنى وإن أمكن صرفه إلى جهة صحيحة فإطلاق اللفظ واستعارته والتجوز فيه يفتقر إلى ورود الشرع بالإذن فيه.
قال: وقد يكون المراد بقوله: "فداء لك" رجل يخاطبه، وفصل بين الكلام بذلك، ثم عاد إلى الأول فقال: ما اتقينا. وهذا تأويل يصح معه اللفظ والمعنى لولا أن فيه تعسفا اضطرنا إليه تصحيح الكلام. انتهى.
وقيل: إنه يخاطب بهذا الشعر النبي صلى الله عليه وسلم. المعنى: لا تؤاخذنا بتقصيرنا في حقك ونصرك. وعلى هذا فقوله: "اللهم" لم يقصد بها الدعاء وإنما افتتح بها الكلام. والمخاطب بقول الشاعر: "لولا أنت" النبي، لكن يعكر عليه قوله بعد ذلك:
فأنزلن سكينة علينا ... وثبت الأقدام إن لاقينا
فإنه دعاء لله تعالى.
ويحتمل أن يكون المعنى فاسأل ربك أن ينزل ويثبت
__________
بذل نفسه عن نفسه للمكروه، فكان مراد الشاعر أي أبذل نفسي في رضاك".
"وعلى كل حال فإن المعنى وإن أمكن صرفه إلى جهة صحيحة" كهذه الجهة المذكورة "فإطلاق اللفظ واستعارته والتجوز فيه يفتقر إلى ورود الشرع بالإذن فيه" ولم يرد فلا يحسن الجواب عنه بذلك، وقد يقال سكوت الشارع عليه وسماعه وترحمه على قائله إذن، وقد قال السهيلي: أنه أقرب الأجوبة إلى الصواب "قال" المازري جواب ثان، "وقد يكون المراد بقوله فداء لك رجل يخاطبه" المصطفى أو غيره، "وفصل بين الكلام بذلك" على سبيل الاعتراض، "ثم عاد إلى تمام الأول فقال: ما اتقينا قال: وهذا تأويل يصح معه اللفظ والمعنى لولا أن فيه تعسفا" خروجا عن سبيل الكلام، "اضطرنا" ألجأنا "إليه تصحيح الكلام انتهى" كلام المازري، "وقيل: إنه يخاطب بهذا الشعر النبي صلى الله عليه وسلم، والمعنى" أي معنى اغفر "لا تؤاخذنا بتقصيرنا في حقك ونصرك"، حكاه في الروض والفتح، قائلا: "وعلى هذا" لا على ما قبله لقوله، ثم عاد إلى تمام الأول ... إلخ.
فإنه ظاهر في أنه دعاء، "فقوله: اللهم لم يقصد بها الدعاء، وإنما افتتح بها الكلام" أما على الأول أنه خطاب لله تعالى، فهو دعاء لأن المعنى اللهم اغفر لنا، "و" على هذا أيضا "المخاطب بقول الشاعر: لولا أنت النبي" صلى الله عليه وسلم "لكن يعكر عليه قوله بعد، ذلك فأنزلن" الذي قدمه وألقين وهو الذي في البخاري هنا.
نعم رواه في الخندق لكن من حديث البراء بلفظ فأنزلن "سكينة علينا وثبت الإقدام إن لاقينا" العدو "فإنه دعاء لله تعالى، ويحتمل أن يكون المعنى فاسأل ربك أن ينزل ويثبت",(3/250)
والله أعلم.
وقوله: "إذا صيح بنا أتينا" أي إذا صيح بنا للقتال ونحوه من المكاره أتينا ولم نتأخر عنه. وفي رواية أبينا بالموحدة بدل المثناة، أي أبينا الفرار. وقوله: "وبالصياح عولوا عليها" أي استعانوا بنا واستفزعونا للقتال. قيل: هو من التعويل على الشيء وهو الاعتماد عليه، وقيل: هو من العويل، وهو الصوت.
وقوله: "من هذا السائق؟ قالوا: عامر، قال: يرحمه الله، قال رجل من القوم: وجبت" أي: ثبتت له الشهادة وستقع قريبا، لأنه كان معلوما عندهم أن من دعا له النبي صلى الله عليه وسلم هذا
__________
فلا عكر، "والله أعلم" بالمراد للشاعر وللمصطفى حين تمثل به في حفر الخندق، "وقوله إذا صيح بنا أتينا" بكسر الصاد المهملة وسكون التحتية، "أي إذا صيح بنا للقتال ونحوه من المكاره،" أي ما تكرهه النفوس "أتينا" بالفوقية.
وفي الفتح أي جئنا إذا دعينا إلى القتال أو إلى الحق. "وفي رواية أبينا بالموحدة بدل المثناة" الفوقية "أي أبينا الفرار".
وقال الحافظ: كذا رأيت في نسخة النسفي فإن كانت ثابتة فالمعنى إذا دعينا إلى غير الحق امتنعنا كذا في الفتح هنا وقال فيه في الخندق روي بالوجهين.
قال عياض: كلاهما صحيح المعنى أما الباء فمعناه إذا صيح بنا لفزع، أو حادث أبينا الفرار وثبتنا، وأما المثناة فمعناه جئنا وأقدمنا على عدونا. قال: ورواية المثناة أوجه لأن إعادة الكلمة في قوافي الرجز عن قرب عيب معلوم عندهم، والراجح أن قوله إذا صيح بنا أتينا بالمثناة، وقوله إذا أرادوا فتنة أبينا بالموحدة. انتهى.
"وقوله وبالصياح عولوا علينا، أي استعانوا بنا واستفزعونا للقتال" وفي الفتح، أي قصدونا بالدعاء بالصوت العالي واستعانوا علينا. تقول: عولت على فلان وعولت بفلان بمعنى استعنت به. "قيل: هو من التعويل على الشيء، وهو الاعتماد عليه" وهو المتبادر من عولوا بالتثقيل "وقيل: من العويل، وهو الصوت".
والمعنى أجابوا علينا بالصوت. قاله الخطابي وتعقبه ابن التين بأنه لو كان من العويل لكان أعولوا وأقره الحافظ نعم حكى المصنف أن في نسخة أعولوا فلعل كلامه عليها "وقوله من هذا السائق قالوا: عامر قال: يرحمه الله قال رجل من القوم: وجبت أي ثبتت له الشهادة" تفسير لوجبت "وستقع قريبا", وكأنه لم يكتف بأن يقول وقوله وجبت أي ثبتت ... إلخ. بل أعاده من أوله وإن قدمه قريبا لأنه جعله توطئة لقوله، "لأنه كان معلوما عندهم أن من دعا له النبي صلى الله عليه وسلم هذا(3/251)
الدعاء في هذا الموطن استشهد، وقوله: لولا أمتعتنا به؟ أي وددنا أنك أخرت الدعاء له بهذا إلى وقت آخر لنتمتع بمصاحبته ورؤيته مدة.
وفي البخاري من حديث أنس أنه صلى الله عليه وسلم أتى خيبر ليلا -وكان إذا أتى قوما بليل لم يغربهم حتى يصبح- فلما أصبح خرجت اليهود بمساحيهم ومكاتلهم
__________
الدعاء في هذا الموطن" يعني الحرب "استشهد" كما أشار إليه رواية سلمة، بل كلامه أعم من الحرب لقوله: ما استغفر لإنسان يخصه إلا استشهد كما مر قريبا، "وقوله: لولا أمتعتنا به" ليس المراد بلولا التحضيض لأنه إن كان على ماض أفادت اللوم ومعاذ الله أن يقصده أهل بيعة الرضوان الذين رضي الله عنهم، بل المراد العرض والتمني "أي وددنا أنك أخرت الدعاء له بهذا إلى وقت آخر لنتمتع بمصاحبته ورؤيته", وشجاعته "مدة". قال الحافظ والتمتع الترفه إلى مدة ومنه أمتعني الله ببقائك.
"وفي البخاري من حديث أنس" من ثلاثة طرق عنه؛ الطريق الأولى: حدثنا عبد الله بن يوسف أخبرنا مالك عن حميد الطويل عن أنس "أنه صلى الله عليه وسلم أتى خيبر ليلا" أي قرب منها، فلا يخالف رواية ابن سيرين عن أنس في الطريق الثانية عند البخاري: صبحنا خيبر بكرة، لأنه يحمل على أنهم قدموها وناموا دونها، ثم ركبوا إليها بكرة فصبحوها بالقتال.
وذكر ابن إسحاق أنه نزل بواد يقال له: الرجيع بينهم وبين غطفان لئلا يمدوهم وكانوا حلفاءهم، فبلغني أن غطفان تجهزوا وقصدوا خيبر فسمعوا حسا خلفهم، فظنوا أن المسلمين خلفوهم في ذراريهم، فرجعوا وأقاموا وخذلوا أهل خيبر. "وكان إذا أتى قوما بليل لم يغربهم" بضم التحتية وكسر الغين المعجم أي لم يسرع في الهجوم عليهم "حتى يصبح".
قال الحافظ: كذا للأكثر من الإغارة ولأبي ذر عن المستملي لم يقربهم بفتح أوله وسكون القاف وفتح الراء وسكون الموحدة، وفي الجهاد بلفظ لا يغير عليهم وهو مؤيد رواية الجمهور، وفي الأذان من وجه آخر: كان إذا غزا لم يغربنا حتى يصبح وينظر فإن سمع أذانا كف عنهم وإلا أغار، فخرجنا إلى خيبر فانتهينا إليهم ليلا فلما أصبح ولم يسمع أذانا ركب. انتهى.
وروى ابن إسحاق أنه صلى الله عليه وسلم لما أشرف على خيبر قال لأصحابه: "قفوا". ثم قال: "اللهم رب السموات وما أظللن ورب الأرضين وما أقللن ورب الشياطين وما أضللن ورب الرياح وما أذرين، فإنا نسألك خير هذه القرية وخير أهلها، وخير ما فيها، ونعوذ بك من شرها وشر أهلها، وشر ما فيها أقدموا بسم الله". وكان يقولها لكل قرية دخلها "فلما أصبح خرجت اليهود".
زاد أحمد: إلى زروعهم "بمساحيهم" بمهملتين جمع مسحاة من آلات الحرث. قال البرهان: والميم زائدة لأنه من السحو وهو الكشف والإزالة "ومكاتلهم" بفتح الميم وكسر الفوقية جمع(3/252)
فلما رأوه قالوا: محمد والله، محمد والخميس، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين".
وفي رواية: فرفع يديه وقال: "الله أكبر خربت خيبر".
__________
مكتل بكسرها وفتح الفوقية هو القفة الكبيرة التي يحول فيها التراب وغيره.
قال في الروض سميت بذلك لتكتيل الشيء فيها وهو تلاصق بعضه ببعض والكتلة من التمر ونحوه فصيحة وإن أبدلتها العامة انتهى.
وحكى الواقدي إن أهل خيبر سمعوا بقصده لهم، فكانوا يخرجون في كل يوم عشرة آلاف مقاتل مسلحين مستعدين صفوفا، ثم يقولون محمد يغزونا هيهات هيهات فلا يرون أحدا، حتى إذا كان الليلة التي قدم فيها المسلمون، ناموا ولم تتحرك لهم دابة، ولم يصح لهم ديك حتى طلعت الشمس، فخرجوا بالمساحي طالبين مزارعهم فوجدوا المسلمين "فلما رأوه قالوا": جاء أو هذا "محمد والله محمد والخميس" ضبطه القاضي عياض بالرفع عطف والنصب مفعول معه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم -زاد البخاري في الجهاد من هذا الطريق نفسه-: "الله أكبر خربت خيبر". أي: صارت خرابا "إنا إذا نزلنا بساحة" أي: فناء "قوم" وأصلهما الفضاء بين المنازل "فساء صباح المنذرين".
وهذا الحديث أصل في جواز التمثل والاستشهاد بالقرآن والاقتباس نص عليه ابن عبد البر وابن رشيق كلاهما في شرح الموطأ وهما مالكيان، والنووي في شرح مسلم كلهم في شرح هذا الحديث وكذا صرح بجوازه القاضي عياض والباقلاني من المالكية.
وحكى الشيخ داود الشاذلي اتفاق المالكية والشافعية على جوازه غير أنهم كرهوه في الشعر خاصة.
وروى الخطيب البغدادي وغيره بالإسناد عن مالك أنه كان يستعمله. قال السيوطي: وهذه أكبر حجة على من زعم أن مذهب مالك تحريمه، وأما مذهبنا فأجمع أئمته على جوازه والأحاديث الصحيحة والآثار عن الصحابة والتابعين تشهد لهم، فمن نسب إلى مذهبنا تحريمه فقد فشر وأبان أنه أجهل الجاهلين. انتهى.
وهذا منه قاض بغلطه فيما أورده في عقود الجمان، "وفي رواية" للبخاري في الجهاد، فرفع يديه وقال: "الله أكبر خربت خيبر". قال الحافظ: وزيادة التكبير في معظم الطرق عن أنس وعن حميد. انتهى.
وفيه استحباب التكبير عند الحرب وتثليثه، ففي رواية للبخاري في الصلاة، فلما دخل القرية قال: الله أكبر خربت خيبر إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين. قالها ثلاثا، وفي(3/253)
والخميس: الجيش: سمي به لأنه مقسوم بخمسة أقسام: المقدمة والساقة والميمنة والميسرة والقلب.
ومحمد: خبر مبتدأ، أي هذا محمد.
قال السهيلي: يؤخذ من هذا الحديث التفاؤل؛ لأنه عليه الصلاة والسلام لما رأى آلة الهدم تفاءل أن مدينتهم ستخرب. انتهى.
ويحتمل -كما قاله في فتح الباري- أن يكون قال: "خربت خيبر" بطريق الوحي، ويؤيده قوله بعد ذلك: "إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين".
وفي رواية: أنه صلى الله عليه وسلم صلى الصبح قريبا من خيبر بغلس ثم قال: "الله أكبر خربت خيبر إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين".
__________
التنزيل إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا والثلاثة مبدأ الكثرة "والخميس" بلفظ اليوم "الجيش" كما فسره عبد العزيز بن صهيب، أو من دونه عند البخاري في صلاة الخوف، بدليل روايته في أوائل كتاب الصلاة بلفظ يعني الجيش "سمي به، لأنه مقسوم بخمسة أقسام، المقدمة" وسماها في حديث الحراسة، "والساقة" مؤخر الجيش، "والميمنة والميسرة" ويقال لهما: الجناحان "والقلب" وقيل من تخميس الغنيمة، وتعقبه الأزهري بأن التخميس إنما ثبت بالشرع، وقد كان أهل الجاهلية يسمون الجيش خميسا فبان أن القول الأول أولى "ومحمد خبر مبتدأ أي هذا محمد" كما عليه معظم الشراح، وأعربه المصنف أيضا فاعلا بفعل فقدر جاء محمد.
"قال السهيلي" في الروض: "يؤخذ من هذا الحديث التفاؤل لأنه عليه الصلاة والسلام لما رأى آلة الهدم" وهي المساحي والمكاتل مع أن لفظ المسحاة من سحوت إذا قشرت "تفاءل أن مدينتهم ستخرب. انتهى".
ويحتمل كما قاله في فتح الباري أن يكون قال: "خربت خيبر" بطريق الوحي ويؤيده قوله بعد ذلك: "إن إذا نزلنا بساحة قوم فساء" بئس "صباح المنذرين" صباحهم فهو إخبار بالغيب أو على جهة الدعاء عليهم، ويجوز أن يكون أخذه من اسمها كما قال البرهان.
"وفي رواية" للبخاري في هذه الغزوة من طريق ثابت وقبلها في صلاة الخوف من طريق عبد العزيز وثابت عن أنس "أنه صلى الله عليه وسلم صلى الصبح قريبا من خيبر بغلس" في أول وقتها، "ثم قال" لما أشرف على خيبر: "الله أكبر" في رواية الطبراني ثلاثا "خربت خيبر" أخبار بالغيب عن الوحي، أو تفاؤلا باسمها أو بآلات الهدم، أو دعاء "إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين".(3/254)
وقال مغلطاي وغيره: وفرق عليه الصلاة والسلام الرايات، ولم تكن الرايات إلا بخيبر، وإنما كانت الألوية.
قال الدمياطي: وكانت راية النبي صلى الله عليه وسلم السوداء من برد لعائشة رضي الله عنها.
وفي البخاري: وكان علي بن أبي طالب تخلف عن النبي صلى الله عليه وسلم وكان رمدا, فقال: أنا أتخلف عن النبي صلى الله عليه وسلم فلحق فلما بتنا الليلة التي فتحت قال: "لأعطين الراية غدا -أو: ليأخذن
__________
المخصوص بالذم محذوف أي صباحهم واللام للجنس والصباح مستعار من صباح الجيش المبيت لوقت نزول العذاب، ولما كثرت فيهم الهجوم والغارة في الصباح سموا الغارة صباحا، وإن وقعت في وقت آخر قاله البيضاوي.
"وقال مغلطاي وغيره: وفرق عليه الصلاة والسلام الرايات" فدفع رايته العقاب إلى الحباب بن المنذر، وراية لسعد بن عبادة، ولواءه وهو أبيض إلى علي، "ولم تكن الرايات إلا بخيبر وإنما كانت الألوية" كما ذكره ابن إسحاق، وكذا أبو الأسود عن عروة وقد صرح جماعة من اللغويين بترادف الراية واللواء وهو العلم الذي يحمل في الحرب.
لكن روى أحمد، والترمذي عن ابن عباس، والطبراني عن بريدة، وابن عدي عن أبي هريرة، قالوا: كانت راية رسول الله صلى الله عليه وسلم سوداء ولواؤه أبيض زاد أبو هريرة مكتوب فيه لا إله إلا الله محمد رسول الله وهو ظاهر في التغاير، فلعل التفرقة بينهما عرفية قاله الحافظ وفي المصباح لواء الجيش علمه وهو دون الراية.
"قال الدمياطي: وكانت" مستأنف في جواب سؤال نشأ من ذكر الرايات هو مم كانت رايته؟ فقال: كانت "راية النبي صلى الله عليه وسلم السوداء من برد لعائشة رضي الله عنها" والأولى سوداء بالتنكير، كما قاله الصحابة الثلاثة لأنه لم يتقدم ذكرها وكانت تسمى العقاب، "وفي البخاري" عن سلمة "وكان علي بن أبي طالب رضي الله عنه تخلف عن النبي صلى الله عليه وسلم" في خيبر، "وكان رمدا" بكسر الميم ولابن أبي شيبة عن علي أرمد والطبراني عن جابر أرمد شديد الرمد وأبي نعيم عن ابن عمر أرمد لا يبصر، "فقال: أنا أتخلف عن النبي صلى الله عليه وسلم" قال الحافظ: كأنه أنكر على نفسه تأخره عنه فقل ذلك، "فلحق"، زاد الكشميهني به يحتمل قبل وصوله إلى خيبر ويحتمل بعد وصوله إليها. انتهى.
"فلما بتنا الليلة التي فتحت" خيبر في صبحتها "قال: لأعطين الراية غدا أو" قال:(3/255)
الراية غدا- رجل يحبه الله ورسوله". وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم قال: "لأعطين الراية غدا رجلا يفتح الله على يديه".
__________
"ليأخذن الراية غدا رجل" قال الحافظ شك من الراوي، وفي حديث سهل بعده: "لأعطين الراية غدا". بغير شك "يحبه الله ورسوله" زاد في حديث سهل بعده: "ويحب الله ورسوله". وفي رواية ابن إسحاق: "ليس بفرار". وفي حديث بريدة: "لا يرجع حتى يفتح الله له".
وروى أبو نعيم والبيهقي عن بريدة كان صلى الله عليه وسلم تأخذه الشقيقة فلم يخرج إلى الناس، فأرسل أبا بكر فأخذ راية رسول الله ثم نهض فقاتل قتالا شديدا ثم رجع ولم يكن فتح وقد جهد، ثم أرسل عمر فأخذ الراية فقاتل أشد من الأول، ثم رجع ولم يكن فتح.
وقال الحافظ: وقع في رواية البخاري اختصار وهو عند أحمد والنسائي وابن حبان، والحاكم عن بريدة. قال: لما كان يوم خيبر أخذ أبو بكر اللواء فرجع ولم يفتح له فلما كان من الغد أخذه عمر فرجع ولم يفتح له وقتل محمود بن مسلمة، فقال صلى الله عليه وسلم: "لأدفعن لوائي غدا" ... الحديث. وعند ابن إسحاق نحوه من وجه آخر أي عن سلمة وزاد.
قال سلمة: فخرج علي والله يهرول وإنا لخلفه نتبع أثره حتى ركز رايته في رضم من حجارة تحت الحصن فاطلع عليه يهودي من رأس الحصن، فقال: من أنت؟ قال: أنا علي بن أبي طالب. قال: علوتم وما أنزل على موسى، وفي الباب عن أكثر من عشرة من الصحابة سردهم الحاكم في الإكليل وأبو نعيم والبيهقي في الدلائل. انتهى.
وفي هذا رد على زعم ابن كثير ضعف حديث ذهاب الشيخين ولم يفتح لهما وبقية حديث سلمة هذا عند البخاري يفتح عليه فنحن نرجوها فقيل: هذا علي فأعطاه ففتح، "وفي رواية" للبخاري في مواضع عن سهل بن سعد "أنه صلى الله عليه وسلم قال: لأعطين الراية غدا رجلا يفتح الله" خيبر "على يديه" بالتثنية زاد البخاري في المغازي يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله.
قال الحافظ: في المناقب أراد وجود حقيقة المحبة وإلا فكل مسلم يشترك مع علي في مطلق هذه الصفة وفيه تلميح بقوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} ، فكأنه أشار إلى أن عليا تام الاتباع له صلى الله عليه وسلم حتى وصفه بصفة محبة الله، ولذا كانت محبته علامة الإيمان وبغضه علامة النفاق، ففي مسلم عن علي: والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إنه لعهد النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق، وله شاهد من حديث أم سلمة عند أحمد قال: أي سهل فبات الناس يدوكون ليلتهم أيهم يعطاها. يدوكون بضم الدال المهملة أي باتوا في اختلاط واختلاف.(3/256)
فلما أصبح الناس غدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم يرجون أن يعطاها، فقال: "أين علي بن أبي طالب"؟ فقالوا: هو يا رسول الله يشتكي عينيه، قال: "فأرسلوا إليه"، فأتي به، فبصق رسول الله صلى الله عليه وسلم في عينيه ودعا له فبرئ حتى كأن لم يكن به وجع، فأعطاه الراية.
__________
والدوكة بالكاف الاختلاط "فلما أصبح الناس غدوا" بمعجمة أتوا صباحا "على رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم يرجون" بالنون رواية أبي ذر ولغيره يحذفها. قال المصنف: حذف النون بغير ناصب ولا جازم لغة. انتهى.
"أن يعطاها" أي الراية وفي مسلم عن أبي هريرة أن عمر قال: ما أحببت الإمارة إلا يومئذ، وفي حديث بريدة فما منا رجل له منزلة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وهو يرجو أن يكون ذلك الرجل حتى تطاولت أنالها، "فقال: أين علي بن أبي طالب، فقالوا: "رواية أبي ذر ولغيره، فقيل: "يا رسول الله هو يشتكي عينيه، قال: فأرسلوا إليه" قال المصنف: بكسر السين أمر من الإرسال وفتحها، أي: قال سهل: فأرسلوا أي الصحابة إلى علي وهو بخيبر لم يقدر على مباشرة القتال لرمده "فأتي به" ولمسلم عن سلمة فأرسلني إلى علي فجئت به أقوده أردم قال الحافظ: فظهر منه أنه الذي أحضره، ولعل عليا حضر إليهم ولم يقدر على مباشرة القتال لرمده، فأرسل إليه صلى الله عليه وسلم فحضر من المكان الذي نزل به أو بعث إليه إلى المدينة، فصادف حضوره "فبصق صلى الله عليه وسلم في عينيه" وعند الحاكم عن علي نفسه فوضع رأسي في حجره ثم بزق في ألية راحته فدلك بها عيني، والألية اللحمة التي تحت الإبهام أو باطن الكف، "ودعا له" فقال: "اللهم أذهب عنه الحر، والقر".
رواه الطبراني بالقاف أي البرد "فبرأ" قال الحافظ بفتح الراء والهمزة بوزن ضرب، ويجوز كسر الراء بوزن علم. انتى.
فالراية بالفتح فتسمح المصنف في قوله بفتح الراء وكسرها "حتى كأن لم يكن به وجع" زاد بريدة فما وجعهما علي حتى مضى لسبيله أي مات.
رواه البيهقي وللطبراني عن علي: فما رمدت ولا صدعت مذ دفع إلي النبي صلى الله عليه وسلم الراية يوم خيبر، وله من وجه آخر فما اشتكيتهما حتى الساعة، قال: ودعا لي فقال: "اللهم أذهب عنه الحر، والبرد". فما اشتكيتهما حتى يومي هذا.
وفي رواية يونس عن ابن إسحاق وكان علي يلبس القباء المحشو الثخين في شدة الحر فلا يبالي الحر ويلبس الثوب الخفيف في شدة البرد فلا يبالي البرد فسئل، فأجاب بأن ذلك بدعائه عليه الصلاة والسلام يوم خيبر "فأعطاه الراية". وفي حديث أبي سعيد عند أحمد فانطلق(3/257)
فقال علي: يا رسول الله أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا؟ فقال: "انفذ على رسلك، حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله فيه، فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحدًا خير من أن يكون لك حمر النعم". الحديث.
__________
حتى فتح الله عليه خيبر وفدك وجاء بعجوتها، "فقال علي: يا رسول الله أقاتلهم" بحذف همزة الاستفهام "حتى يكونوا مثلنا" مسلمين، فقال: "انفذ" بضم الفاء بعدها معجمة أي: امض "على رسلك" بكسر الراء هينتك "حتى تنزل بساحتهم" بفنائهم "ثم ادعهم" بهمزة الوصل "إلى الإسلام".
وفي حديث أبي هريرة: حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله، واستدل بقوله: ادعهم إن الدعوة شرط في جواز القتال والخلاف فيه شهير فقيل: شرط مطلقا وهو عن مالك سواء من بلغتهم الدعوة أم لا قال: إلا أن يعجلوا المسلمين وقيل: لا مطلقا، وعن الشافعي مثله وعنه لا يقاتل من لم تبلغه الدعوة حتى يدعوهم، وأما من بلغته فتجوز الإغارة عليهم بغير دعاء وهو مقتضى الأحاديث، ويحمل حديث سهل على الاستحباب بدليل أن في حديث أنس أنه صلى الله عليه وسلم أغار على أهل خيبر لما لم يسمع النداء، وكان ذلك أول ما طرقهم، وقصة علي بعد ذلك.
وعن الحنفية تجوز الإغارة مطلقا وتستحب الدعوة، "وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله فيه" أي في الإسلام فإن لم يطيعوا لك بذلك فقاتلهم، "فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير من أن يكون لك حمر" بضم المهملة وسكون الميم "النعم" بفتح النون، والعين المهملة وهو من ألوان الإبل المحمودة، قيل: المراد خير من أن تكون لك فتتصدق بها وقيل: تقتنيها وتملكها، وكانت مما يتفاخر العرب بها, قال النووي: وتشبيه أمور الآخرة بأعراض الدنيا للتقريب إلى الإفهام، وإلا فذرة من الآخرة خير من الدنيا وما فيها بأسرها ومثلها معها، وزاد مسلم من حديث إياس ابن سلمة عن أبيه، وخرج مرحب فقال:
قد علمت خيبر أني مرحب ... شاكي السلاح بطل مجرب
إذا الحروب أقبلت تلهب
فبرز له علي وهو يقول:
أنا الذي سمتني أمي حيدره ... كليث غابات كريه المنظره
أكيلهم بالسيف كيل السندره
وضرب مرحبا، ففلق رأسه وقتله وكان الفتح.
قال الحافظ: وخالف في ذلك أهل السير حزم ابن إسحاق وابن عقبة والواقدي بأن الذي قتل مرحبا هو محمد بن مسلمة وكذا.(3/258)
ولما تصاف القوم، كان سيف عامر قصيرا، فتناول ساق يهودي ليضربه فرجع ذباب سيفه فأصاب عين ركبة عامر فمت منه. فلما قفلوا، قال سلمة:
__________
روى أحمد بإسناد حسن عن جابر وقيل: أن ابن مسلمة كان بارزه فقطع رجليه فأجهز علي عليه، وقيل: إن الذي قتله هو الحارث أخو مرحب فاشتبه على بعض الرواة، فإن يكن كذلك وإلا فما في الصحيح مقدم على ما سواه ولا سيما قد جاء عن بريدة أيضا عند أحمد، والنسائي، وابن حبان، والحاكم. انتهى.
وقد قال ابن عبد البر: إنه الصحيح، وابن الأثير الصحيح الذي عليه أهل السير و"الحديث" أن عليا قاتله، وقال الشامي: ما في مسلم مقدم عليه من وجهين: أحدهما: أنه أصح إسنادا, الثاني: أن جابرا لم يشهد خيبر، كما ذكر ابن إسحاق، والواقدي, وغيرهما، وقد شهدها سلمة وبريدة وأبو رافع فهم أعلم ممن لم يشهدها، وما قيل: إن ابن مسلمة قطع ساقي مرحب ولم يجهز عليه ومر به علي فأجهز عليه يأباه حديث سلمة وأبي رافع. انتهى.
وذكر قاسم بن ثابت في الدلائل أن اسمه في الكتب القديمة أسد وهو حيدرة, وقيل: سمته أمه أسد باسم أبيها فلما قدم أبوه سماه عليا وقيل: لقب به في صغره، لأن الحيدرة الممتلئ لحما مع عظم بطن وكان كذلك. انتهى.
ويقال: إن عليا كاشفه بذلك لأن مرحبا رأى تلك الليلة مناما أن أسدا افترسه، فأشار بقوله حيدرة إلى أنه الأسد الذي يفترسه، فلما سمع ذلك ارتعد وضعفت نفسه.
"و" في حديث سلمة بن الأكوع السابق أوله "لما تصاف" بتشديد الفاء " القوم" للقتال "كان سيف عامر" بن الأكوع "قصيرا، فتناول" أي قصد ساق يهودية ليضربه" به، ولأحمد عن إياس بن سلمة عن أبيه، فلما قدمنا خيبر خرج ملكهم مرحب يخطر بسيفه يقول:
قد علمت خيبر أني مرحب ... شاكي السلاح بطل مجرب
إذا الحروب أقبلت تلهب
فبرز إليه عامر فقال:
قد علمت خيبر أني عامر ... شاكي السلاح بطل مقامر
فاختلفا ضربتين فوقع سيف مرحب في ترس عامر، وذهب عامر يسفل له بفتح التحتية وسكون المهملة وضم الفاء أي يضربه من أسفل، فرجع ذباب" بضم المعجمة، وبالموحدة "سيفه".
قال الحافظ: أي طرفه الأعلى, وقيل: حده "فأصاب عين ركبة عامر" أي طرف ركبته الأعلى، وفي رواية يحيى القطان فأصيب عامر بسيف نفسه ولمسلم فقطع أكحله فكانت فيها نفسه، ولابن إسحاق فكلمه كلما شديدا "فمات منه فلما قفلوا" رجعوا من خيبر "قال سلمة"(3/259)
قلت يا رسول الله، فداك أبي وأمي، زعموا أن عامرا حبط عمله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "كذب من قال، وإن له أجرين -وجمع بين إصبعيه- إنه لجاهد مجاهد". رواه البخاري أيضا.
وعن يزيد بن أبي عبيد قال: رأيت أثر ضربة بساق سلمة، فقلت: ما هذه الضربة؟ قال: هذه ضربة أصابتها يوم خيبر, فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فنفث فيه ثلاث نفثات فما اشتكيتها حتى الساعة.
__________
رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو آخذ بيدي، وللبخاري في الأدب رآني شاحبا بمعجمة ثم مهملة وموحدة أي: متغير اللون. وفي رواية إياس فأتيته وأنا أبكي.
قال: "ما لك"؟ "قلت: يا رسول الله فداك أبي وأمي زعموا أن عامرا أحبط عمله".
وفي رواية إياس: بطل عمل عامر قتل نفسه وسمي في الأدب من القاتلين أسيد من حضير وعند ابن إسحاق ونحوه لمسلم فكان المسلمين شكوا فيه، وقالوا: إنما قتله سلاحه "فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "كذب" أي أخطأ "من قاله وأن له أجرين"، وفي رواية لأجرين باللام للتأكيد أجر الجهاد في الطاعة وأجر الجهاد في سبيل الله, وجمع بين إصبعيه: "إنه لجاهد مجاهد" قال الحافظ: كذا للأكثر باسم الفاعل فيهما وكسر الهاء والتنوين والأول مرفوع والثاني اتباع للتأكيد، كما قالوا: جاد مجد ولأبي ذر عن الحموي، والمستملي لجاهد بفتح الهاء والدال وكذا ضبطه الباجي، قال ابن دريد: رجل جاهد أي: جاهد في أموره، وقال ابن التين: الجاهد من يرتكب المشقة ومجاهد أي لأعداء الله تعالى. انتهى.
وقال الزركشي: وتبعه الدماميني بفتح الهاء في الأول ماض وكسر الهاء في الثاني اسما منصوبا بذلك الفعل جمعا المجهد "رواه البخاري أيضا" وبقية الحديث فيه قل عربي مشى بها مثله بالميم والقصر من المشي والضمير للأرض أو المدينة أو الحرب أو الخصلة، "وعن يزيد" من الزيادة "ابن أبي عبيد" بضم العين الأسلمي مولى سلمة, ثقة.
روى له الجميع مات سنة بضع وأربعين ومائة. "قال: رأيت أثر ضربة بساق سلمة" بن الأكوع. "فقلت": يا أبا مسلم "ما هذه الضربة؟ قال: هذه ضربة أصابتها" أي ساقه. وفي رواية أصابتنا وأخرى أصابتني "يوم خيبر" نصب على الظرفية، فقال الناس: أصيب سلمة "فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فنفث فيه", قال الحافظ وغيره: أي موضع الضربة "ثلاث نفثات" بمثلثة بعد الفاء المفتوحة فيهم جمع نفثة وهي فوق النفخ ودون التفل، وقد تكون بغير ريق بخلاف التفل وقد تكون بريق خفيف بخلاف النفخ "فما اشتكيتها حتى الساعة" قال المصنف: بالجر على أن حتى جارة. انتهى.(3/260)
أخرجه البخاري.
وعند أيضا عن أبي هريرة: شهدنا خيبر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل ممن معه يدعي الإسلام: "هذا من أهل النار"، فلما حضر القتال قاتل الرجل أشد القتال، حتى كثرت به الجراحة، فكاد بعض الناس يرتاب،
__________
فهو الرواية وإن جاز النصب وفيه معجزة باهرة "أخرجه البخاري" ثلاثيا، فقال: حدثنا المكي بن إبراهيم حدثنا يزيد بن أبي عبيد. قال: رأيت. فذكره, "وعنده أيضا عن أبي هريرة" قال: "شهدنا خيبر" مجاز عن جنسه من المسلمين، فالثابت أنه إنما جاء بعد فتحها وعند الواقدي أنه قدم بعد فتح معظمها فحضر فتح آخرها لكن البخاري في الجهاد عن أبي هريرة أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بخيبر بعدما افتتحها أو هو مجاز عن شهود الغنيمة؛ لأنه شهد قسم النبي صلى الله عليه وسلم لغنائم خيبر بها اتفاقا، "فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل" -اللام بمعنى عن, كقوله: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آَمَنُوا} أو بمعنى أي في شأنه وسببه, ومنه: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} - ممن معه يدعي الإسلام" نفاقا.
قال الحافظ: وقع لجماعة ممن تكلم على البخاري أنه قزمان بضم القاف وسكون الزاي، الظفري بفتح المعجمة والفاء نسبة إلى بني ظفر بطن من الأنصار المكنى أبا الغيداق بمعجمة مفتوحة وتحتية ساكنة آخره قاف، ويعكر عليه ما جزم به ابن الجوزي تبعا للواقدي أن قزمان قتل بأحد وكان يتخلف عن المسلمين عيره النساء فخرج حتى صار في الصف الأول فكان أول من رمى بسهم ثم فعل العجائب، فلما انكسر المسلمون كسر جفن سيفه وجعل يقول الموت أحسن من الفرار، فمر به قتادة بن النعمان فقال: هنيئا لك الشهادة. قال: إني والله ما قاتلت على حسب قومي، ثم أقلقته الجراحة فقتل نفسه.
لكن الواقدي لا يحتج به إذا انفرد، فكيف إذا خالف نعم عند أبي يعلى تعيين يوم أحد، لكن لم يسمل قاتل نفسه وفيه راو مختلف فيه "هذا من أهل النار" لنفاقه، أو أنه سيرتد ويستحل قتل نفسه، "فلما حضر القتال" بالرفع على الفاعلية، ويجوز النصب أي فلما حضر الرجل القتال "قاتل الرجل أشد القتال حتى كثرت به الجراح فكاد بعض الناس يرتاب".
وفي رواية بزيادة أن في خبر كاد وهو جائز على قلة أي شك في قوله صلى الله عليه وسلم هذا من أهل النار، وفيه إشعار بأنهم ما ارتابوا، وإنما هو استفهام خوف على أنفسهم، ففي حديث سهل عند البخاري. فقالوا: أينا من أهل الجنة إن كان هذا من أهل النار؟ وفي حديث أكثم بن أبي الجون الخزاعي عند الطبراني، قلنا: يا رسول الله إذا كان فلان في عبادته واجتهاده ولين جانبه في النار فأين نحن؟ قال: ذاك أخبأت النفاق فكنا نتحفظ عليه في القتال، وفي حديث سهل في(3/261)
فوجد الرجل ألم الجراحة فأهوى بيده إلى كنانته، فاستخرج منها سهما فنحر نفسه، فاشتد رجل من المسلمين فقال: يا رسول الله، صدق الله حديثك، انتحر فلان فقتل نفسه. فقال: "قم يا فلان فأذن: إنه لا يدخل الجنة إلا مؤمن، إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر".
__________
البخاري، فقال رجل من القوم: أنا صاحبه أي: أصحبه وألازمه لأنظر السبب الذي به يصير من أهل النار، فإن فعله في الظاهر جميل وقد أخبر الصادق المصدوق أنه من أهل النار فلا بد له من سبب عجيب، قال فخرج معه كلما وقف وقف معه "فوجد الرجل ألم الجراحة، فأهوى بيده إلى كنانته فاستخرج منها سهما" بالإفراد للكشميهني ولغيره أسهما بفتح أوله وضم الهاء بلفظ الجمع، "فنحر نفسه فاشتد" أي أسرع في المشي "رجل" بالإفراد "من المسلمين" قال الحافظ: هو أكثم الخزاعي، ففي حديثه عند الطبراني، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: أشهد أنك رسول الله. انتهى.
ويقع في نسخ رجال بالجمع وهو من تحريف النساخ، فالذي في البخاري بالأفراد وفسره شارحه بما ترى "فقال" بالإفراد، كما هو في البخاري، ونسخة، فقالوا: خطأ "يا رسول الله صدق الله حديثك انتحر فلان فقتل نفسه".
قال المهلب هذا الرجل ممن أعلمنا صلى الله عليه وسلم أنه نفذ عليه الوعيد، من النفاق ولا يلزم منه أن كل من قتل نفسه يقضى عليه بالنار، وقال ابن التين: يحتمل أن قوله من أهل النار أي إن لم يغفر الله له، ويحتمل أنه حين أصابته الجراحة ارتاب وشك في الإيمان أو استحل قتل نفسه فمات كافرا ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة، وبذلك جزم ابن المنير "فقال" عليه السلام: "قم يا فلان" هو بلال، كما عند البخاري في كتاب القدر بلفظ: "يا بلال قم". ولمسلم: "قم يابن الخطاب". وللبيهقي أن المنادي عبد الرحمن بن عوف ويجمع بأنهم نادوا جميعا في جهات مختلفة قاله في الفتح وقال في مقدمته: روى الطبراني والبيهقي عن العرباض أن عبد الرحمن أذن أن الجنة لا تحل إلا لمؤمن، وكان هذا في قصة أخرى أو المؤذن أكثر من واحد. انتهى.
"فأذن" بشد المعجمة المكسورة أي أعلم الناس "إنه" ولأبي ذر: أن "لا يدخل الجنة إلا مؤمن" فيه إشعار بسلب الإيمان عن هذا الرجل. "إن الله يؤيد" وللكشميهني: ليؤيد التأكيد. قال النووي: يجوز في أن فتح الهمزة وكسرها "هذا الدين بالرجل الفاجر" الذي قتل نفسه، أو أل للجنس لا للعهد فيعم كل فاجر أيد الدين وساعده بوجه من الوجوه. انتهى.
وليس فيه على أنها عهدية ما يقضي بكفره لأن عصيانه كاف في فجوره، وقال الحافظ:(3/262)
وفي رواية: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك: "إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار فيما يبدو للناس وهو من أهل الجنة". الحديث.
__________
الذي يظهر أن المراد بالفاجر أعم من أن يكون كافرا أو فاسقا ولا يعارضه قوله صلى الله عليه وسلم إنا لا نستعين بمشرك لأنه محمول على من كان يظهر الكفر أو هو منسوخ.
وفي الحديث أخبار صلى الله عليه وسلم بالمغيبات وذلك من معجزاته الظاهرة وفيه جواز إعلام الرجل الصالح بفضيلة تكون فيه والجهر بها، "و" عنده أي البخاري أيضا " في رواية" هنا وفي مواضع من طرق عن سهل بن سعد أنه صلى الله عليه وسلم التقى هو والمشركون فاقتتلوا فمال إلى عسكره ومال الآخرون إلى عسكرهم، وفي أصحابه رجل لا يدع لهم شاذة ولا فادة إلا اتبعها يضربها بسيفه، فقيل: ما أجزى منا أحد اليوم كما أجزى فلان، فقال صلى الله عليه وسلم: "أما إنه من أهل النار"، فقال رجل من القوم أنا صاحبه فخرج معه كلما وقف وقف معه، وإذا أسرع أسرع معه فجرح الرجل جرحا شديدا فاستعجل الموت فوضع سيفه بالأرض وذبابه بين ثدييه، ثم تحامل على سيفه فقتل نفسه فخرج الرجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أشهد أنك رسول الله، قال: "وما ذاك"؟ قال: الرجل الذي ذكرت آنفا أنه من أهل النار، فأعظم الناس ذلك. فقلت: أنا لكم به فخرجت في طلبه, ثم جرح جرحا شديدا فاستعجل المو فوضع سيفه بالأرض وذبابه بين ثدييه، ثم تحامل عليه فقتل نفسه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك: "إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة" من الطاعات "فيما يبدو" يظهر "للناس وهو من أهل النار" فيدخلها "وأن الرجل ليعمل بعمل" الباء فيهما زائدة للتأكيد أو ضمن يعمل معنى يتلبس بعمل "أهل النار" من المعاصي "فيما يبدو للناس وهو من أهل الجنة".
زاد الطبراني في حديث أكثم تدركه الشقاوة والسعادة عند خروج نفسه فيختم له بها، وذكر في ذا الحديث أهل الخير والشر صرفا إلى الموت لا الذين خلطوا وماتوا مسلمين، فلم يقصد تعميم أحوال المكلفين، بل أورده لبيان أن الاعتبار بالخاتمة، ختم الله أعمالنا بالصالحات بمنه وكرمه أنه على ذلك قدير.
قال النووي: فيه التحذير من الاغترار بالأعمال وأنه ينبغي للعبد أن لا يتكل عليها ولا يركن إليها مخافة من انقلاب الحل للقدر السابق، وكذا ينبغي للعاصي أن لا يقنط ولغيره أن لا يقنطه من رحمة الله "الحديث" تتمته: "وإنما الأعمال بالخواتيم".
هكذا رواه البخاري في كتاب القدر من صحيحه وبوب عليه العمل بالخواتيم.
ورواه في الجهاد والمغازي بطرق بإسقاط تتمته هذه، وقد صرح في حديث أبي هريرة(3/263)
وقاتل النبي صلى الله عليه وسلم أهل خيبر، وقاتلوه أشد القتال، واستشهد من المسلمين خمسة عشر، وقتل من اليهود ثلاثة وتسعون.
وفتحها الله عليه حصنا حصنا، وهي: النطاة، وحصن أصعب وحصن ناعم،
__________
السابق بما أبهمه في حديث سهل هذا من أن هذه القصة كانت بخيبر وهو ظاهر سياق المصنف كظاهر سياق البخاري فإنه أورد في المغازي حديث سهل ثم عقبه بحديث أبي هريرة، ثم أورد بعده حديث سهل بطريق آخر، وكذا في القدر فإنه روى حديث أبي هريرة، ثم حديث سهل لكن بين السياقين اختلاف فسياق أبي هريرة أن الرجل استخرج أسهما من كنانته فنحر بها نفسه وأنه عليه السلام قال: لما أخبروه بقصته قم ... إلخ.
وسياق سهل أنه اتكأ على سيفه حتى خرج من ظهره وأن المصطفى قال: حين أخبرته أن الرجل ... إلخ، ولذا جنح ابن التين إلى التعدد وأنهما قصتان متغايرتان في موطنين لرجلين.
قال الحافظ: ويمكن الجمع وأنها قصة واحدة بأنه عليه السلام قال: إن الرجل ... إلخ، وأمر بالنداء بذلك وأنه نحر نفسه بأسهمه فلم تزهق روحه وأشرف على الموت فاتكأ على سيفه استعجالا له. والله أعلم.
"وقاتل النبي صلى الله عليه وسلم أهل خيبر" نسب إليه القتال لأمره به وصدوره عن رأيه وتصرفه، "قاتلوه أشد القتال واستشهد من المسلمين خمسة عشر" رجلا من ابن سعد، وزاد عليه غيره، وسردهم الشامي أربعا وثلاثين. فالله أعلم.
قال ابن إسحاق: أخبرني عبد الله بن نجيح أنه ذكر له: إن الشهيد إذا أصيب نزلت زوجتاه من الحور العين عليه تنقصان التراب عن وجهه وتقولان ترب الله وجه من تربك وقتل من قتلك، "وقتل من اليهود ثلاثة وتسعون" بفوقية قبل السين لعنهم الله "وفتحها الله عليه حصنا" نصب على الحال "حصنا" نصب تأكيدا عند الزجاج، وصفة للأول عند ابن جني وبالأول عند الفارسي؛ لأنه لما وقع موقع الحال جاز عليه.
قال المرادي والمختار أنهما منصوبان بالعامل الأول لأن مجموعهما هو الحال ونظيره في الخبر، هذا حلو حامض، "وهي النطاة" بنون فطاء مهملة بوزن حصاة "وحصن أصعب" بفتح الصاد وإسكان العين المهملتين وبالموحدة ابن معاذ.
قال ابن إسحاق: حدثني عبد الله بن أبي بكر عمن حدثه عن بعض أسلم، والواقدي عن معتب بشد الفوقية المكسورة الأسلمي أن بني سهم من أسلم أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا رسول الله لقد جهدنا وما بأيدينا من شيء فلم نجد عنده شيئا، فقال: "اللهم إنك قد عرفت حالهم وأن ليست بهم قوة وأن ليس بيدي شيء أعطيهم إياه فافتح عليهم أعظم حصونها غنى وأكثرها(3/264)
وحصن قلعة الزبير، والشق، وحصن البريء، والقموص, والوطيح, والسلالم.
__________
طعاما وودكا"، فعدل الناس ففتح الله عليهم حصن الصعب بن معاذ وما بخيبر حصن كان أكثر طعاما وودكا منه "وحصن ناعم" بنون فألف فمهملة فميم.
قال ابن إسحاق وهو أول حصونهم افتتح وعنده قتل محمود بن مسلمة ألقيت عليه رحى منه. ثم ذكر بعد قليل أنه عليه السلام دفع كنانة بن ربيع بن أبي الحقيق إلى محمد بن مسلمة فضرب عنقه بأخيه محمود، ففيه أن كنانة قتل محمودا وذكر أبو عمر أن مرحبا ألقى على محمود رحى، فأصابت رأسه فهشمت البيضة رأسه وسقطت جلدة جبينه على وجهه، فأتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم فرد الجلدة، فعادت كما كانت وعصبها بثوبه فمكن ثلاثة أيام ومات، فلعل كنانة ومرحبا دلياها عليه فنسب إلى هذا مرة وإلى الآخر أخرى، "وحصن قلعة الزبير" بن العوام الذي صار في سهمه بعد، وكان اسمه حصن قلة لكونه على رأس جبل، ثم مفاد عطف المصنف ما ذكر عن النطاة تبعا لمغلطاي أن النطاة اسم لحصن مغاير لما بعده، والشامي جعل النطاة اسمها لحصن ناعم، والصعب والزبير فإن وفقت بينهما فقدر بعد وهي النطاة وحصونها ثلاثة، "والشق" بفتح الشين المعجمة وكسرها.
قال البكري: والفتح أعرف عند أهل اللغة وبالقاف المشددة، ووقع بخط مغلطاي بزيادة نون قبل القاف وفيه نظر وما أخاله إلا تصحيفا.
قاله البرهان في موضعين "و" يشتمل أيضا على حصون كثيرة منها "حصن أبي".
قال الواقدي: وهو أول ما بدأ به من حصون الشق فتقاتلوا قتالا شديدا، ثم تحامل المسلمون على الحصن فدخلوه يقدمهم أبو دجانة، فوجدوا فيه أثاثا ومتاعا وغنما وطعاما هرب من فيه من المقاتلة إلى حصن النزال بالشق فغلقوه وامتنعوا به أشد الامتناع، وزحف صلى الله عليه وسلم إليهم في أصحابه فقاتلهم فكانوا أشد أهل الشق رميا بالنبل والحجارة، فأخذ صلى الله عليه وسلم كفا من حصى فحصب به حصنهم فرف بهم، ثم ساخ في الأرض حتى جاء المسلمون فأخذوا أهله باليد. "وحصن البريء" بفتح الموحدة وكسر الراء المخففة وبالمد. "والقموص" بفتح القاف وضم الميم وسكون الواو، فصاد مهملة، وقيل: بغين فضاد معجمتين وهو الذي فتحه علي، وهو أعظم حصون الكتيبة بكاف مفتوحة ففوقية وقيل: مثلثة مكسورة فتحتية ساكنة فموحدة، ويقال: بضم الكاف ومنه سبيت صفية. "والوطيح" بفتح وكسر الطاء فتحتية ساكنة فحاء مهملتين، كما ضبطه ابن الأثير وغيره.
قال البرهان وسمعت من قرأه بإعجام الخاء وهو تصحيف قال البكري سمي بالوطيح بن(3/265)
وهو حصن بني أبي الحقيق.
وأخذ كنز آل أبي الحقيق الذي كان في مسك الحمار، وكانوا قد غيبوه في خربة، فدل الله رسوله عليه فاستخرجه.
وقلع
__________
مازن رجل من ثمود.
قال السهيلي: مأخوذ من الوطح وهو ما بالإظلال ومخالب الطير، من الطين "والسلالم" بضم السين المهملة وقيل: بفتحها وكسر اللام قبل الميم، ويقال: فيه السلاليم على ما تقدم أي من ضم السين وفتحها قاله ابن الأثير: قال ابن إسحاق وكانا آخر حصونها افتتاحا، "وهو حصن بني أبي الحقيق" بحاء مهملة وقافين مصغر، "وأخذ كنز آل أبي الحقيق" المشتمل على حلي وآنية وغيرهما، أي مالهم الذي غيبوه أضيف لهم لكونه في أيدي أكابرهم، وكانوا يعيرونه العرب وإلا فهو مال بني النضير الذي حمله حيي بن أخطب لما أجلي عن المدينة "الذي كان في مسك" بفتح الميم، وسكون السين المهملة جلد "الحمار" أولا، فلما كثر جعلوه في مسك ثور، ثم في مسك جمل كما قال الواقدي, ويحتمل أنهم ردوه إلى مسك الحمار لنفاد بعضه وغيبوه به قيل وخص جلد الحمار لأن الأرض لا تأكله، "وكانوا قد غيبوه في خربة فدل الله رسوله عليه" فأخبره بموضعه كما عند البيهقي عن عروة. وروى ابن سعد، والبيهقي عن ابن عمر أن أهل خيبر شرطوا له صلى الله عليه وسلم أن لا يكتموه شيئا فإن فعلوا فلا ذمة لهم فأتى بكنانة والربيع، فقال: "ما فعل مسك حيي الذي جاء به من بني النضير". قالا: أذهبته الحروب والنفقات، فقال: "العهد قريب والمال أكثر من ذلك". وروى البيهقي، وابن سعد عن ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم دعا بكنانة وأخيه الربيع، وابن عمهما، فقال: "أين آنيتكما التي كنتم تعيرونها أهل مكة". قالا: هربنا، فلم نزل تضعنا أرض وترفعنا أخرى فذهب فأنفقنا كل شيء، فقال: "إن كتمتماني شيئا فاطلعت عليه استحللت به دماءكما وذراريكما". فقالا: نعم فدعا رجلا من الأنصار فقال: "اذهب إلى نخل كذا وكذا, فانظر نخلة مرفوعة فائتني بما فيها". فجاءه بالآنية والأموال فقومت بعشرة آلاف دينار فضرب عنقهما وسبى أهليهما بالنكث الذي نكثاه "فاستخرجه".
وعند ابن إسحاق أن كنانة جحد أن يكون يعلم مكانه وعند البلاذري فدفع صلى الله عليه وسلم شعبة بن عمرو إلى الزبير فمسه بعذاب، فقال: رأيت حييا يطوف في خربة ففتشوها فوجدوا المسك فقتل ابني أبي الحقيق، وعند ابن إسحاق أنه أخرج من الخربة بعض كنزهم وسأل كنانة عما بقي فأبى فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الزبير، فقال له: عذبه حتى تستأصل ما عنده فكان الزبير يقدح بزند في صدره حتى أشرف على نفسه، ثم دفعه المصطفى إلى محمد بن مسيلمة فقتله بأخيه "وقلع(3/266)
علي باب خيبر، ولم يحركه سبعون رجلا إلا بعد جهد.
وفي رواية ابن إسحاق: سبعة، وأخرجه من طريق البيهقي في الدلائل، ورواه الحاكم، وعنه البيهقي من جهة ليث بن أبي سليم، عن أبي جعفر محمد بن علي بن حسين عن جابر: أن عليا حمل الباب يوم خيبر، وأنه جرب بعد ذلك فلم يحمله أربعون رجلا, وليث ضعيف.
__________
علي باب خيبر" الذي كان منصوبا كما هو المتبادر منه.
ويوافقه الرواية الآتية اجتذب أحد أبواب الحصن وفي رواية ابن إسحاق فتناول علي بابا عند الحصن فتترس به فهذا يشعر أنه لم يكن منصوبا فيحتمل أنه لما وصل قلع الباب وألقاه بالأرض فخرجوا إليه فتقاتلوا، فتناول ذلك الباب الذي اقتلعه وجعله ترسا وقاتل والعلم عند الله "ولم يحركه سبعون رجلا إلا بعد جهد" ففيه فرط قوته وكمال شجاعته رضي الله عنه.
"وفي رواية ابن إسحاق" حدثني عبد الله بن حسن عن بعض أهله عن أبي رافع قال: خرجنا مع علي حين بعثه صلى الله عليه وسلم برايته، فلما دنا من الحصن خرج إليه أهله فقاتلهم فضربه رجل من يهود فطرح ترسه من يده، فتناول علي بابا كان عند الحصن فترس به عن نفسه فلم يزل في يده وهو يقاتل حتى فتح الله عليه، ثم ألقاه من يده حين فرغ فلقد رأيتني في "سبعة" معي أنا ثامنهم نجهد على أن نقلب ذلك الباب فلم نقلبه.
"وأخرجه من طريقه البيهقي في الدلائل" للنبوة إشارة إلى أن هذه القوة والشجاعة إنما هي علامة لنبوة من أرسله صلى الله عليه وسلم.
"ورواه" الحديث من وجه آخر "الحاكم" محمد بن عبد الله المشهور "وعنه" أخرجه "البيهقي" فقال: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، ويقع في بعض النسخ الحاكم عن البيهقي من تحريف الجهال جعلوا الشيخ تلميذا مع أنه خلاف الواقع " من جهة" أي طريق "ليث بن أبي سليم" أيمن، وقيل: أنس وقيل: غير ذلك ابن زنيم بزاي ونون مصغر صدوق اختلط جدا ولم يتميز حديثه. مات سنة ثمان وأربعين ومائة "عن أبي جعفر" الباقر "محمد بن علي بن الحسين" بن علي بن أبي طالب الهاشمي، الثقة الفاضل، المتوفى سنة بضع عشرة ومائة، "عن جابر، أن عليا حمل الباب يوم خيبر" حتى صعد عليه المسلمون فافتتحوها. هذا أسقطه المصنف من الرواية المذكورة قبل قوله: "وأنه جرب" بضم الجيم وشد الراء وفتح الموحدة، أي أريد اختباره ليستدل به على كمال شجاعته. "بعد ذلك فلم يحمله أربعون رجلا", قال الحافظ: والجمع بينهما أن السبعة عالجوا قلبه والأربعين عالجوا حمله والفرق بين الأمرين ظاهر، ولو لم يكن إلا باختلاف حال الأبطال. "وليث ضعيف" والراوي عنه شيعي، وكذا من دونه لكن لمن دونه متابع ذكره البيهقي.(3/267)
وفي رواية البيهقي: أن عليا لما انتهى إلى الحصن اجتذب أحد أبوابه فألقاه بالأرض، فاجتمع عليه بعده منا سبعون رجلا فكان جهدهم أن أعادوا الباب مكانه.
قال شيخنا: وكلها واهية، ولذا أنكره بعض العلماء. انتهى.
وفي البخاري: وتزوج عليه الصلاة والسلام بصفية بنت حيي بن أخطب، وكان قد قتل زوجها كنانة بن الربيع بن أبي الحقيق، وكانت عروسا،
__________
"وفي رواية البيهقي" أيضا من جهة حرام بن عثمان عن أبي عتيق وأبي الزبير عن جابر "أن عليا لما انتهى إلى الحصن" المسمى القموص، وكان من أعظم حصونهم كما في الفتح وهو المعبر عنه بخيبر في الحديث، الذي فوقه لكونه من أعظمهما "اجتذب أحد أبوابه، فألقاه بالأرض، فاجتمع عليه بعده منا سبعون رجلا" لا يعارض رواية أربعين؛ لأنهم عالجوا حمله فما قدروا فتكاملوا سبعين، "فكان جهدهم" بالنصب خبر كان أي غاية وسعهم وطاقتهم واسمها "أن أعادوا الباب" أي إعادة الباب "مكانه".
"قال شيخنا": زاد في نسخة السخاوي أي في المقاصد الحسنة "وكلها" أي الأحاديث الثلاثة المذكورة "واهية" أي شديدة الضعف، "ولذا أنكره بعض العلماء" كالحافظ الذهبي فإنه بعد أن ذكر رواية الأربعين. قال: هذا منكر "انتهى".
والمنكر من قسم الضعيف، "وفي البخاري" عن أنس "وتزوج عليه الصلاة والسلام بصفية بنت حيي بن أخطب" بفتح الهمزة وسكون الخاء المعجمة، وفتح الطاء المهملة، آخره موحدة ابن سعية بفتح المهملة وسكون العين المهملة فتحتية مفتوحة ابن عامر بن عبيد بن كعب من سبط لاوي بن يعقوب، ثم من ذرية هارون أخي موسى عليهما السلام, وأمها ضرة بفتح الضاد المعجمة بنت سموال بني قريظة وكانت تحت سلام بن شكم القرظي، ثم فارقها فتزوجها كنانة النضيري فقتل عنها يوم خيبر.
ذكره ابن سعد وأسند بعضه من وجه مرسل، "وكان قد قتل زوجها كنانة بن الربيع بن أبي الحقيق" من بني النضير، وكان سبب قتله ما أخرجه البيهقي برجال ثقات.
عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزل من نزل من أهل خيبر على أن لا يكتموه شيئا من أموالهم فإن فعلوا فلا ذمة لهم ولا عهد، قال: فغيبوا مسكا فيه مال حلى لحيي بن أخطب كان احتمله معه إلى خيبر فسئلوا عنه، فقالوا: أذهبته النفقات، فقال: "العهد قريب والمال أكثر من ذلك". قال: فوجد بعد ذلك في خربة فقتل صلى الله عليه وسلم ابني أبي الحقيق وأحدهما زوج صفية "وكانت عروسا".(3/268)
فذكر له جمالها، فاصطفاها لنفسه فخرج بها حتى بلغت سد الصهباء حلت له, يعني طهرت من الحيض, فبنى بها عليه الصلاة والسلام فصنع حيسا في نطع
__________
قال الخليل رجل عروس في جرال عرس وامرأة عروس في نساء عرائس، قال: والعروس نعت يستوي فيه الرجل والمرأة ما داما في تعريسهما أياما.
قال العيني: وما اشتهر على ألسنة العوام أن الذكر عريس والأنثى عروسة لا أصل له لغة "فذكر له جمالها" وفي رواية للبخاري أيضا، فجاء رجل فقال: يا نبي الله أعطيت دحية صفية بنت حيي سيدة قريظة والنضير؟ لا تصلح إلا لك.
قال الحافظ: لم أقف على اسم الرجل "فاصطفاها" اختارها "لنفسه".
روى أبو داود وأحمد، وصححه ابن حبان، والحاكم عن عائشة، قالت: كانت صفية من الصفي وهو بفتح المهملة وكسر الفاء وشد التحتية فسره ابن سيرين عند أبي داود بسند صحيح عنه، قال: كان يضرب للنبي صلى الله عليه وسلم بسهم مع المسلمين والصفي يؤخذ له رأس من الخمس، قبل كل شيء، وعنده عن الشعبي كان له صلى الله عليه وسلم سهم يدعى الصفي إن شاء عبدا وإن شاء أمة وإن شاء فرسا يختاره من الخمس، وعنده عن قتادة كان صلى الله عليه وسلم إذا غزا كان له سهم صاف يأخذه من حيث شاء وكانت صفية من ذلك السهم، وقيل: كان اسمها قبل السبي زينب فلما صارت من الصفي سميت صفية، "فخرج بها حتى بلغت". رواية أبي ذر: أي وصلت صفية, ولغيره: حتى بلغ "سد" بفتح المهملة وضمها "الصهباء" بفتح الصاد المهملة وسكون الهاء وبالموحدة والمد موضع أسفل خيبر، وفي رواية سد الروحاء. قال الحافظ: والأول أصوب والروحاء بالمهملة مكان قرب المينة بينهما نيف وثلاثون ميلا من جهة مكة وقيل: بقرب المدينة مكان آخر يقال له: الروحاء وعلى التقديرين فليست قرب خيبر، فالصواب ما اتفق عليه الجماعة أنها الصهباء وهي على بريد من خيبر. قاله ابن سعد وغيره.
"حلت له" قال المصنف: "يعني طهرت من الحيض" فصارت بذلك حلاله وعند ابن سعد وأصله في مسلم قال أنس: ودفعها إلى أمي أم سليم حتى تهيئها وتصنعها وتعتد عندها. قال الحافظ: وإطلاق العدة عليها مجاز عن الاستبراء "فبنى بها" دخل عليها "عليه الصلاة والسلام فصنع" وفي رواية: ثم صنع "حيسا" بحاء مهملة مفتوحة فتحتية ساكنة فسين مهملة، أي تمرا مخلوطا بسمن وأقط قال الشاعر:
التمر والسمن جميعا والأقط ... الحيس إلا أنه لم يختلط
"في نطع" بكسر النون وفتح الطاء المهملة، وعليها اقتصر ثعلب في فصيحه، وكذا في الفرع وغيره من الأصول، ويجوز فتح النون وسكون الطاء وفتحهما وكسر النون وسكون الطاء، وقال الزركشي: فيه سبع لغات وجمعه أنطاع ونطوع قاله المصنف في الصلاة ولكون الرواية(3/269)
صغير، ثم قال لأنس: "آذن من حولك". فكانت تلك وليمته على صفية. قال أنس: ثم خرجنا إلى المدينة فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم يحوي لها وراءه بعباءة. ثم يجلس عند بعيره فيضع ركبته وتضع صفية رجلها على ركبته حتى تركب.
وفي رواية له: فقال المسلمون: إحدى أمهات المؤمنين أو ما ملكت يمينه؟ قالوا إن حجبها فهي إحدى أمهات.
__________
بالأول اقتصر عليه المصنف هنا "صغير، ثم قال: لأنس آذن" بمد الهمزة وكسر المعجمة أعلم "من حولك".
وفي رواية للبخاري فدعوت المسلمين إلى وليمته وما كان فيها من خبز ولا لحم، وما كان فيها إلا أن أمر بلالا بالأنطاع، فبسطت فألقى عليها التمر والأقط، والسمن. وفي رواية له أيضا فأصبح صلى الله عليه وسلم عروسا. فقال: "من كان عنده شيء فليجئ به". وبسط نطعا، فجعل الرجل يجيء بالتمر والرجل يجيء بالسمن والرجل بالسويق، فحاسوا حيسا "فكانت تلك" الحيسة، وقال الكرماني: فكانت أي الثلاثة المصنوعة أو أنث باعتبار الخبر، كما ذكر في قوله تعالى، قال: {هَذَا رَبِّي} ، "وليمته" وفي روية وليمة "على صفية" ورواية الأنطاع بالجمع لا تعارض رواية الأفراد لأنه بسط أولا فلما كثر الطعام من الجائين به بسطت الأنطاع وفيه مشروعية الوليمة، وأنها بعد البناء وحصولها بغير لحم ومساعدة الأصحاب بطعام من عندهم.
وروى ابن سعد عنها أنها قالت ما بلغت سبع عشرة سنة يوم دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم "قال أنس: ثم خرجنا إلى المدينة فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم يحوي" ضم أوله وفتح المهملة وشد الواو المكسورة: أي: يجعل "لها" حوية وهي كساء محشوة تدار حول الراكب "وراءه بعباءة، ثم يجلس عند بعيره فيضع ركبته وتضع صفية رجلها على ركبته حتى تركب".
وفي مغازي أبي الأسود عن عروة فوضع صلى الله عليه وسلم لها فخذه لتركب فأجلته أن تضع رجلها على فخذه فوضعت ركبتها على فخذه، وركبت وفيه مزيد تواضعه وحسن خلقه ومزيد عقلها وكمال فضلها، وروي أنها قالت ما رأيت أحدا قط أحسن خلقا من النبي صلى الله عليه وسلم لقد رأيته ركب بي من خيبر على عجز ناقته ليلا فجعلت أنعس فيضرب رأسي مؤخر الرحل فيمسني بيده، ويقول: "يا هذه مهلا". حتى إذا جاء الصهباء, قال: "أما إني أعتذر إليك مما صنعت بقومك أنهم قالوا لي: كذا، وكذا". ذكره في الروض.
"وفي رواية له" أي للبخاري أيضا: عن أنس "فقال المسلمون" هل هي "إحدى أمهات المؤمنين" الحرائر، "أو ما ملكت يمينه" فليست إحدى أمهاتهم، ففيه أن سراريه لا يتصفن بذلك وهو ظاهر قوله تعالى: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} ، "قالوا". ولأبي ذر: فقالوا. "إن حجبها فهي إحدى أمهات(3/270)
المؤمنين، وإن لم يحجبها فهي مما ملكت يمينه، فلما ارتحل وطأ لها ومد الحجاب.
وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم قتل المقاتلة وسبى الذرية، وكان في السبي صفية فصارت إلى دحية الكلبي ثم صارت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فجعل عتقها صداقها.
__________
المؤمنين وإن لم يحجبها فهي مما ملكت يمينه"؛ لأن ضرب الحجاب إنما هو على الحرائر لا على ملك اليمين، "فلما ارتحل" أي أراد الرحيل بعدما أقام ثلاثة أيام حتى أعرس بها، كما قاله أنس في البخاري.
قال الحافظ المرد أنه أقام في المنزل الذي أعرس بها فيه ثلاثة أيام لا أنه سار ثلاثة أيام ثم أعرس؛ لأن بين الصهباء الذي بنى بها فيه وبين خيبر ستة أميال، ثم لا معارضة بين قوله ثلاثة أيام، وقوله في الرواية التي بعدها أقام ثلاثة ليال يبني عليه بصفية؛ لأنه بين أنها ثلاثة أيام بلياليها "وطأ" أي أصلح "لها" ما تحتها للركوب "ومد الحجاب"، فعلموا أنها من أمهات المؤمنين.
"وفي رواية" للبخاري أيضا عن أنس: "أنه صلى الله عليه وسلم قتل المقاتلة" بكسر التاء أي الرجال "وسبى الذرية وكان في السبي صفية" الأكثر أنه اسمها الأصلي، وقيل: زينب وسميت بعد السبي والاصطفاء صفية "فصارت إلى دحية الكلبي،" وللبخاري أيضا عن أنس فجاء دحية، فقال: أعطني يا رسول الله جارية من السبي، قال: اذهب فخذ جارية فأخذ صفية فجاء رجل، فقال: يا رسول الله أعطيت دحية صفية سيدة قريظة والنضير لا تصلح إلا لك قال: "ادعوه بها". فجاء بها فلما نظر إليها صلى الله عليه وسلم، قال: "خذ جارية من السبي غيرها"، "ثم صارت إلى النبي صلى الله عليه وسلم" فتزوجها "فجعل عتقها صداقها" أي جعل نفس العتق صداقا، ففي الصحيح أن ثابتا قال لأنس ما أمهرها قال: أمهرها نفسها.
وروى أبو الشيخ والطبراني عن صفية أعتقني صلى الله عليه وسلم وجعل عتقي صداقي، أو أعتقها بلا عوض وتزوجها بلا مهر، لا حالا ولا مآلا، فحل العتق محل الصداق وإن لم يكن صداقا. كقولهم: الجوع زاد من لا زاد له، وصححه ابن الصلاح، وتبعه النووي في الروضة أو أعتقها بشرط أن ينكحها بلا مهر، فلزمها الوفاء أو أعتقها بلا عوض ولا شرط، ثم تزوجها برضاها من غير صداق.
وعزاه النووي في شرح مسلم للمحققين وصححه والكل من خصائصه عند الجمهور، وذهب أحمد في طائفة إلى جوازه حتى لو طلقها قبل البناء رجع عليها بنصف قيمتها، ويأتي إن شاء الله تعالى بسط هذا في الخصائص.(3/271)
وفي رواية: فأعتقها وتزوجها.
وفي رواية: قال صلى الله عليه وسلم لدحية: خذ جارية من السبي غيرها.
وفي رواية لمسلم: أنه صلى الله عليه وسلم اشترى صفية منه بسبعة أرؤس.
وإطلاق الشراء على ذلك، على سبيل المجاز، وليس في قوله سبعة أرؤس ما ينافي قوله في رواية البخاري: خذ جارية من السبي غيرها، إذ ليس هنا دلالة على نفي الزيادة والله أعلم.
وإنما أخذ صلى الله عليه وسلم صفية لأنها بنت ملك من ملوكهم
__________
"وفي الرواية" للبخاري أيضا "فأعتقها وتزوجها، وفي رواية" له أيضا: قال صلى الله عليه وسلم لدحية: "خذ جارية من السبي غيرها". وعند ابن إسحاق أنها سبيت وسبي معها بنت عم لها وعند غيره بنت عم زوجها، فلما استرجع صلى الله عليه وسلم صفية من دحية أعطاه بنت عمها.
قال السهيلي: لا معارضة بين هذه الأخبار فإنه أخذها منه قبل القسم والذي عوضه عنها ليس على سبيل البيع بل على سبيل النفل والهبة، غير أن بعض رواة الحديث في الصحيح، يقولون أنه اشتراها منه وكلهم يزيد في ذلك بعد القسم. انتهى.
"و" تعقبه الحافظ بأن "في رواية لمسلم" عن أنس أن صفية وقعت في سهم دحية، و"أنه صلى الله عليه وسلم اشترى صفية منه بسبعة أرؤس" وعند ابن سعد وأصله في مسلم صارت صفية لدحية، فجعلوا يمدحونها فبعث صلى الله عليه وسلم فأعطى بها دحية ما رضي، قال: فالأولى في طريق الجمع أن المراد بسهمه نصيبه الذي اختاره لنفسه لما أذنه في أخذ جارية، "وإطلاق الشراء على ذلك" العوض "على سبيل المجاز" لأنه لم يملكها إذ أذنه في أخذ مطلق جارية لم يرد به مثل هذه، "وليس في قوله سبعة أرؤس ما ينافي قوله في رواية البخاري خذ جارية من السبي غيرها إذ ليس هنا دلالة على نفس الزيادة".
قال الحافظ ولعله لما عوضه عنها بنت عمها أو بنت عم زوجها لم تطلب نفسه فأعطاه من جملة السبي زيادة على ذلك، وذكر الشافعي في الأم عن سير الواقدي أنه صلى الله عليه وسلم طيب خاطره لما استرجع منه صفية فأعطاه أخت زوجها وفي الروض أعطاه ابنتي عمها "والله أعلم" بالواقع، "وإنما أخذ صلى الله عليه وسلم صفية، لأنها بنت ملك من ملوكهم" فقد كان أبوها سيد بني النضير والملك يطلق على ذي السيادة والعظمة، كما في قوله وجعلكم ملوكا أي أصحاب حشم وخدم.
قال الحافظ: ولد صفية مائة نبي ومائة ملك، ثم صيرها الله لنبيه. انتهى، يعني أن في أصولها ذلك. والظاهر أنه من جهة الآباء والأمهات، كما قيل به في قول ابن الكلبي كتبت(3/272)
وليست ممن توهب لدحية لكثرة من كان في الصحابة مثل دحية وفوقه، وقلة من كان في السبي مثل صفية في نفاستها، فلو خصه بها لأمكن تغير خاطر بعضهم، فكان من المصلحة العامة ارتجاعها منه، واختصاصه عليه الصلاة والسلام بها، فإن في ذلك رضا الجميع، وليس ذلك من الرجوع في الهبة في شيء. انتهى.
قال مغلطاي وغيره: وكانت صفية قبل رأت أن القمر سقط في حجرها، فتؤول بذلك.
__________
للنبي صلى الله عليه وسلم خمسمائة أم فما وجدت فيهن سفاحا، "وليس ممن توهب لدحية لكثرة من كان في الصحابة مثل دحية وفوقه وقلة من كان في السبي مثل صفية في نفاستها" نسبا وجمالا، فقد قالت أم سنان الأسلمية: كانت صفية من أضوأ ما يكون من النساء. رواه ابن سعد، "فلو خصه بها لأمكن تغير خاطر بعضهم، فكان من المصلحة العامة ارتجاعها منه واختصاصه عليه الصلاة والسلام بها، فإن في ذلك رضا الجميع" رضي الله عنهم، "وليس ذلك من الرجوع في الهبة في شيء" بناء على أنه قبل القسم فلم يوجد فيها ملك حتى تنبني عليه الهبة. "انتهى".
هذا المبحث وأخذه من الفتح بتقديم وتأخير، وقال مغلطاي وغيره وكانت صفية قبل رأت أن القمر سقط في حجرها فتؤول بذلك". قال ابن إسحاق في رواية يونس: حدثني أبي إسحاق بن يسار، قال: لما افتتح صلى الله عليه وسلم القموص حصن بني أبي الحقيق أتى بلال بصفية وابنة عمها، فمر بهما على قتلى يهود فصكت المرأة التي مع صفية وجهها وصاحت وحثت التراب على رأسها، فقال صلى الله عليه وسلم: "أغربوا هذه الشيطانة عني". وجعل صفية خلفه، وغطى عليها ثوبه فعرف الناس أنه اصطفاها لنفسه، وقال لبلال: "أنزعت الرحمة من قلبك حين تمر بالمرأتين على قتلاهما"؟. وكانت صفية رأت قبل ذلك أن القمر وقع في حجرها، فذكرت ذلك لأبيها فلطم وجهها وقال: إنك لتمدين عنقك إلى أن تكوني عند ملك العرب فلم يزل الأثر في وجهها حتى أتى بها صلى الله عليه وسلم فسألها عنه، فأخبرته.
وأخرج ابن أبي عاصم عن أبي برزة لما نزل صلى الله عليه وسلم خيبر كانت صفية عروسا فرأت في المنام أن الشمس نزلت حتى وقعت في صدرها فقصت ذلك على زوجها، فقال: ما تمنين إلا هذا الملك الذي نزل بنا.
وأخرج أبو حاتم، وابن حبان, والطبراني عن ابن عمر رأى صلى الله عليه وسلم بعين صفية خضرة، فقال: "ما هذه"؟. فقالت: كان رأسي في حجر ابن أبي الحقيق، وأنا نائمة فرأيت قمرا وقع في حجري، فأخبرته بذلك, فلطمني، وقال: تمنين ملك يثرب. ولا يتوهم تعارض بين هذه الأخبار فالأثر الذي وليست ممن توهب لدحية لكثرة من كان في الصحابة مثل دحية وفوقه، وقلة من كان في السبي مثل صفية في نفاستها، فلو خصه بها لأمكن تغير خاطر بعضهم، فكان من المصلحة العامة ارتجاعها منه، واختصاصه عليه الصلاة والسلام بها، فإن في ذلك رضا الجميع، وليس ذلك من الرجوع في الهبة في شيء. انتهى.
قال مغلطاي وغيره: وكانت صفية قبل رأت أن القمر سقط في حجرها، فتؤول بذلك.
__________
للنبي صلى الله عليه وسلم خمسمائة أم فما وجدت فيهن سفاحا، "وليس ممن توهب لدحية لكثرة من كان في الصحابة مثل دحية وفوقه وقلة من كان في السبي مثل صفية في نفاستها" نسبا وجمالا، فقد قالت أم سنان الأسلمية: كانت صفية من أضوأ ما يكون من النساء. رواه ابن سعد، "فلو خصه بها لأمكن تغير خاطر بعضهم، فكان من المصلحة العامة ارتجاعها منه واختصاصه عليه الصلاة والسلام بها، فإن في ذلك رضا الجميع" رضي الله عنهم، "وليس ذلك من الرجوع في الهبة في شيء" بناء على أنه قبل القسم فلم يوجد فيها ملك حتى تنبني عليه الهبة. "انتهى".
هذا المبحث وأخذه من الفتح بتقديم وتأخير، وقال مغلطاي وغيره وكانت صفية قبل رأت أن القمر سقط في حجرها فتؤول بذلك". قال ابن إسحاق في رواية يونس: حدثني أبي إسحاق بن يسار، قال: لما افتتح صلى الله عليه وسلم القموص حصن بني أبي الحقيق أتى بلال بصفية وابنة عمها، فمر بهما على قتلى يهود فصكت المرأة التي مع صفية وجهها وصاحت وحثت التراب على رأسها، فقال صلى الله عليه وسلم: $"أغروا هذه الشيطانة عني". وجعل صفية خلفه، وغطى عليها ثوبه فعرف الناس أنه اصطفاها لنفسه، وقال لبلال: $"أنزعت الرحمة من قلبك حين تمر بالمرأتين على قتلاهما؟ ". وكانت صفية رأت قبل ذلك أن القمر وقع في حجرها، فذكرت ذلك لأبيها فلطم وجهها وقال: إنك لتمدين عنقك إلى أن تكوني عند ملك العرب فلم يزل الأثر في وجهها حتى أتى بها صلى الله عليه وسلم فسألها عنه، فأخبرته.
وأخرج ابن أبي عاصم عن أبي برزة لما نزل صلى الله عليه وسلم خيبر كانت صفية عروسا فرأت في المنام أن الشمس نزلت حتى وقعت في صدرها فقصت ذلك على زوجها، فقال: ما تمنين إلا هذا الملك الذي نزل بنا.
وأخرج أبو حاتم، وابن حبان, والطبراني عن ابن عمر رأى صلى الله عليه وسلم بعين صفية خضرة، فقال: $"ما هذه؟ ". فقالت: كان رأسي في حجر ابن أبي الحقيق، وأنا نائمة فرأيت قمرا وقع في حجري، فأخبرته بذلك, فلطمني، وقال: تمنين ملك يثرب. ولا يتوهم تعارض بين هذه الأخبار فالأثر الذي(3/273)
قال الحاكم: وكذا جرى لجويرية.
وفي هذ الغزوة حرم النبي صلى الله عليه وسلم لحوم الحمر الأهلية, كما في البخاري ولفظه: فلما أمسى الناس مساء اليوم الذي فتحت عليهم -يعني خيبر- أوقدوا نيرانا كثيرة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما هذه النيران، على أي شيء توقدون"؟. قالوا: على لحم. قال: "على أي لحم"؟. قالوا: لحم.
__________
في وجهها من أبيها غير الخضرة التي بعينها من لطم ابن أبي الحقيق، ورأت الشمس وقعت في صدرها والقمر في حجرها فقصتهما معا عليه قال أبو عمر: كانت صفية عاقلة جليلة فاضلة روينا أن جارية لها قالت لعمر: إن صفية تحب السبت وتصل اليهود فبعث فسألها فقالت: أما السبت فلم أحبه منذ أبدلني الله به الجمعة، وأما اليهود فإن لي فيهم رحما فأنا أصلهم، ثم قالت للجارية: ما حملك على هذا؟ قالت: الشيطان. قالت: اذهبي فأنت حرة.
وروى الترمذي عنها أنه بلغها عن عائشة وحفصة أنهما قالتا: نحن أكرم على رسول الله صلى الله عليه وسلم من صفية نحن أزواجه وبنات عمه فدخل عليها صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فقال: "ألا قلت: وكيف تكونان خيرا مني وزجي محمد وأبي هارون وعمي موسى". وأخرج ابن سعد بسند حسن عن زيد بن أسلم قال: اجتمع نساؤه صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي توفي فيه، فقالت صفية: إني والله يا نبي الله لوددت أن الذي بك بي فغمز بها أزواجه فأبصرهن، فقال: "مضمضن". فقلن: من أي شيء؟ فقال: "من تغامزكن بها, والله إنها الصادقة". ويأتي مزيد لذلك في الزوجات إن شاء الله تعالى.
"قال الحاكم: وكذا جرى لجويرية" بنت الحارث أم المؤمنين المصطلقية، أنها قالت: رأيت قبل قدومه صلى الله عليه وسلم بثلاث ليال كأن القمر يسير من يثرب حتى وقع في حجري، فكرهت أن أخبر أحدًا من الناس، فلما سبينا رجوت الرؤيا، كما تقدم في تلك الغزوة، "وفي هذه الغزوة حرم النبي صلى الله عليه وسلم لحوم الحمر" بضمتين جمع حمار "الأهلية" أي أظهر تحريمها ونسب إليه لظهوره على يديه، وإلا فالمحرم حقيقة هو الله "كما في البخاري، ولفظه" في حديث سلمة بن الأكوع الذي قدم المصنف أوله عقب قوله: لولا أمتعتنا، فأتينا خيبر فحاصرناهم حتى أصابتنا مخمصة شديدة، ثم إن الله تعالى فتحها عليهم "فلما أمسى الناس مساء اليوم الذي فتحت عليهم" قال المصنف "يعني خيبر" أي غالبها، لأن ذلك قبل فتح الوطيح والسلالم, أوقدوا نيرانا كثيرة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما هذه النيران؟ على أي شيء توقدون"؟. قالوا: على لحم. قال: "على أي لحم"؟ أي: على أي أنواع اللحم توقدونها، "قالوا: لحم" بالجر في الفرع ولأبي ذر بالرفع خبر مبتدأ محذوف أي هو ويجوز النصب بنزع الخافض، أي: على قاله المصنف ففاده أن(3/274)
الحمر الإنسية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أهريقوها واكسروها". فقال رجل: يا رسول الله، أو نهريقها ونغسلها، قال: "أو ذاك".
والمشهور في الإنسية: كسر الهمزة منسوبة إلى الإنس، وهم بنو آدم. وحكي: ضم الهمزة ضد الوحشة، ويجوز فتحها والنون أيضا, مصدر أنست به، آنس أنسا وأنسة.
وفي رواية: نهى يوم خيبر عن أكل الثوم، وعن لحوم الحمر الأهلية.
وفي رواية: نهى يوم خيبر عن لحوم الحمر الأهلية.
__________
الرواية بالجر والرفع والثالث مجرد تجويز فتسمع من قال جوز المصنف الأوجه الثلاثة "الحمر الإنسية" صفة حمر وكانت الحمر التي ذبحوها عشرين أو ثلاثين, كذا رواه الواقدي بالشك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أهريقوها". بهمزة مفتوحة وسكون الهاء ولأبي ذر وابن عساكر: هريقوها والهاء زائدة "واكسروها" أي القدور، "فقال رجل": قال الحافظ في المقدمة لم يسم، ويحتمل أن يكون هو عمر "يا رسول الله أو" بسكون الواو "نهريقها" بضم النون، كما ضبطه المصنف وزعم أن القياس فتحه رده شيخنا، "ونغسلها قال: أو" بسكون الواو "ذاك" أي الإراقة والغسل وبقية حديث سلمة، فلما تصاف القوم إلى آخر ما قدمه المصنف "والمشهور في الإنسية كسر الهمزة منسوبة إلى الإنس وهم بنو آدم، وحكى ضم الهمزة ضد الوحشية" لتأنسها ببني آدم "ويجوز فتحها و" فتح "النون أيضا".
وفي المقدمة قاله ابن أبي أويس بفتحتين ولأنس بالفتح الناس "مصدر أنست به" مثلث النون كما في القاموس.
واقتصر الجوهري على كسرها "آنس أنسا" بفتحتين من باب طرب، كما في المختار وقول المصباح من باب علم مراده الفعل لا المصدر "وأنسة" بفتحتين.
"وفي رواية" للبخاري عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "نهى يوم خيبر عن أكل الثوم" نهي تنزيه لنتن ريحه وتحريمه من الخصائص النبوية، "وعن لحوم الحمر" ولأبي ذر حمر " الأهلية" نهي تحريم، وفيه استعمال اللفظ في حقيقته، ومجازه لأن أكل الثوم مكروه والحمر حرام، وقد جمع بينهما بلفظ النهي فاستعمله في حقيقته وهو التحريم ومجازه وهو الكراهة.
"وفي رواية" للبخاري، ومسلم, وغيرهما عن جابر: "نهى" صلى الله عليه وسلم "يوم خيبر عن لحوم الحمر الأهلية". وفي البخاري عن أنس أنه صلى الله عليه وسلم جاءه فقال: أكلت الحمر. فسكت, ثم أتاه الثانية، فقال: أكلت الحمر. فسكت، ثم أتاه الثالثة، فقال: أفنيت الحمر. فأمر مناديا فنادى في الناس أن(3/275)
ورخص في الخيل.
قال ابن أبي أوفى: فتحدثنا أنه إنما نهى عنها لأنها لم تخمس، وقال بعضهم: نهى عنها ألبتة لأنها كانت تأكل العذرة.
قال العلماء: وإنما أمر بإراقتها لأنها نجسة محرمة، وقيل: إنما نهى عنها للحاجة إليها، وقيل: لأخذها قبل القسمة، وهذان التأويلان للقائلين بإباحة لحومها. والصواب.
__________
الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر الأهلية، فأكفئت القدور وإنها لتفور.
قال الحافظ: والجائي لم أعرف اسمه والمنادي أبو طلحة "ورخص في" أكل لحوم "الخيل"، وروى البخاري أيضا عن ابن أبي أوفى أصابتنا مجاعة يوم خيبر فإن القدور لتغلي وبعضها نضجت فجاء منادي النبي صلى الله عليه وسلم: لا تأكلوا من لحوم الحمر شيئا وأهريقوها. "قال ابن أبي أوفى" عبد الله راوي الحديث، "فتحدثنا" معشر الصحابة "أنه" عليه السلام "إنما نهى عنها لأنها لا تخمس" أي لم يؤخذ منها الخمس، واستبعده شيخنا بالأمر بغسل القدور فإن عدم التخميس إنما يقتضي المنع لحق الغير لا لنجاستها، "وقال بعضهم" أي الصحابة كما صرح به في رواية أخرى "نهى عنها البتة" أي تحريما لا لذلك السبب بل قصد تحريمها خمست أم لا كسائر الأعيان النجسة.
قال الحافظ: معناه القطع وألفها ألف وصل، وجزم الكرماني بأنها ألف قطع على غير قياس، ولم أر ما قاله في كلام أحد من أهل اللغة قال الجوهري: الانبتات الانقطاع ورجل منبت منقطع به ولا أفعله بتة ولا أفعله البتة لكل أمر لا رجعة فيه ونصبه على المصدر ورأيته في النسخ المعتمدة بألف وصل. انتهى، "لأنها كانت تأكل العذرة" قال المصنف الذال معجمة أي النجاسة، لأن التبسط قبل القسمة في المأكولات بقدر الكفاية حلال، وأكل العذرة موجب للكراهة لا للتحريم.
قال الحافظ: والحاصل أن الصحابة اختلفوا في علة النهي عن لحم الحمر هل هو لذاتها أو لعارض، وقد "قال العلماء" أي جمهورهم "وإنما أمر بإراقتها لأنها نجسة محرمة وقيل: إنما نهى عنها للحاجة إليها" أي كثرة احتياج الناس إليها مع قلتها بالنسبة للإبل ونحوها، "وقيل: لأخذها قبل القسمة" وكان هذا حكاية قول بعض أصحاب المذاهب فلا يتكرر مع قوله أولا عن الصحابة، لأنها لم تخمس "وهذان التأويان للقائلين بإباحة لحومها" وهم قليل جدا، حتى قيل: إنما رأيت الرخصة فيه عن ابن عباس، وحكى ابن عبد البر الإجماع الآن على تحريمها "والصواب(3/276)
ما قدمناه.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "اكسروها" فقال رجل: أو نهريقها ونغسلها قال: "أو ذاك".
فهذا محمول على أنه صلى الله عليه وسلم اجتهد في ذلك فرأى كسرها ثم تغير اجتهاده، أو أوحي إليه بغسلها.
وأما لحوم الخيل فاختلف العلماء في إباحتها:
فذهب الشافعي والجمهور من السلف والخلف: إلى أنه مباح لا كراهة فيه، وبه قال عبد الله بن الزبير وأنس بن مالك وأسماء بنت أبي بكر، وفي صحيح مسلم عنها قالت: نحرنا فرسا.
__________
ما قدمناه" من قوله؛ لأنها نجسة محرمة.
قال المصنف: ولا امتناع في تعدد العلل الشرعية على المرجع عند الأصوليين نعم التعليل بكونها لم تخمس فيه نظر؛ لأن أكل الطعام والعلف من الغنيمة قبل القسمة جائز لا سيما في المجاعة. انتهى.
"وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "اكسروها". فقال رجل: أو نهريقها ونغسلها؟ قال: "أو ذاك". فهذا محمول على أنه صلى الله عليه وسلم اجتهد في ذلك فرأى كسرها، ثم تغير اجتهاده" فظهر له من حيث الدليل، أنه لا يتعين الكسر بل يمنع، لأنه إضاعة مال، "أو أوحى إليه بغسلها" تقريرا لاجتهاده الثاني، فلم يتعين كون الواو بمعنى أو وليست في قوله: "أو ذاك". للتخيير حتى يشكل على المقرر في الفروع من حرمة الكسر للإضاعة بل للإضراب، كقوله أو يزيدون "وأما لحوم الخيل فاختلف العلماء في إباحتها" وحرمتها وكراهتها، "فذهب الشافعي والجمهور من السلف والخلف إلى أنه مباح لا كراهة فيه" صفة لازمة إن أريد بالمباح المستوي الطرفين.
ذكرت تصريحا بخلاف قائل الحرمة والكراهة ومخصصة إن أريد به مقابل الحرام، "وبه قال عبد الله بن الزبير، وأنس بن مالك وأسماء بنت أبي بكر" ذكرهم تقوية للقول بالإباحة وإن شملهم قوله من السلف والخلف، "وفي صحيح مسلم" لا وجه للقصر عليه، فقد رواه البخاري أيضا "عنها" أي أسماء بنت أبي بكر ذات النطاقين، "قالت: نحرنا" ضمير الفاعل عائد على مباشر النحر منهم وإنما أتى بضمير الجمع لكونه عن رضاهم، وللبخاري في رواية ذبحنا "فرسا" والاختلاف على هشام فلعله كان يرويه تارة نحرنا وتارة ذبحنا، وهو يشعر باستواء اللفظين في المعنى وإطلاق كل منهما على الآخر مجازا، وبعضهم حمله على التعدد لتغاير النحر والذبح(3/277)
على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكلناه ونحن بالمدينة، وفي رواية الدارقطني: فأكلناه نحن وآل بيت النبي صلى الله عليه وسلم.
قال في فتح الباري: ويستفاد من قولها: "ونحن بالمدينة" أن ذلك بعد فرض الجهاد، فيرد على من استند إلى منع أكلها لعلة أنها من آلات الجهاد.
ومن قولها: "وأهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم" الرد على من زعم أنه ليس فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم اطلع على ذلك، مع أن ذلك لو لم يرد لم يظن بآل أبي بكر أنهم يقدمون على فعل شيء في زمنه صلى اله عليه وسلم إلا وعندهم العلم بجوازه لشده اختلاطهم به صلى الله عليه وسلم وعدم مفارقتهم له، هذا مع توفر داعية الصحابة إلى سؤال عليه السلام عن الأحكام.
ومن ثم كان الراجح أن الصحابي إذا قال: كنا نفعل كذا على عهده صلى الله عليه وسلم كان له حكم الرفع، لأن الظاهر اطلاعه صلى الله عليه وسلم على ذلك وتقريره، وإذا كان ذلك في مطلق الصحابي فكيف بآل أبي بكر.
__________
"على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم", أي في زمنه المعهود "فأكلناه" أي الفرس يذكر ويؤنث "ونحن بالمدينة".
"وفي رواية الدارقطني فأكلناه نحن وآل بيت النبي صلى الله عليه وسلم قال: في فتح الباري" في كتاب الذبائح، "ويستفاد من قولها ونحن بالمدينة أن ذلك وقع بعد فرض الجهاد، فيرد على من استند إلى منع" تحريم "أكلها لعلة أنها من آلات الجهاد".
"ومن قولها: نحن وأهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم الرد على من زعم أنه ليس فيه" أي الحديث "أن النبي صلى الله عليه وسلم اطلع على ذلك، مع أن ذلك لو لم يرد" بفتح فكسر مبني للفاعل من الورود "لم يظن بآل أبي بكر أنهم يقدمون على فعل شيء في زمنه صلى الله عليه وسلم إلا وعندهم العلم بجوازه لشدة اختلاطهم به صلى الله عليه وسلم وعدم مفارقتهم له،" وليت شعري ما المانع أنهم قدموا على ذلك هم وآل بيت باجتهاد على الراجح من جواز الاجتهاد في العصر النبوي، فليس بصريح في رد من قال: إنه لم يطلع عليه المصطفى "هذا" المذكور من أنهم لا يفعلون إلا ما علموا جوازه "مع توفر داعية الصحابة إلى سؤاله عليه السلام عن الأحكام, ومن ثم كان الراجح أن الصحابي إذا قال: كنا نفعل كذا على عهده عليه الصلاة والسلام كان له حكم الرفع، لأن الظاهر اطلاعه صلى الله عليه وسلم على ذلك وتقريره، وإذا كان ذلك في مطلق الصحابي فكيف بآل أبي بكر".
لكن ذلك كله لا يمنع كونه باجتهادهم خصوصا وليس فيه تصريح باطلاع المصطفى على ذلك إنما هو ظاهره فقط ولو سلم فهي قضية عين محتملة.(3/278)
وقال الطحاوي: ذهب أبو حنيفة إلى كراهة أكل الخيل، وخالفه صاحباه وغيرهما, واحتجوا بالأخبار المتواترة في حلها. انتهى.
وقد نقل بعض التابعين: الحل عن الصحابة مطلقا من غير استثناء أحد، فأخرج ابن أبي شيبة بسند صحيح عن عطاء بن يسار قال: لم يزل سلفك يأكلونه. قال ابن جريج: قلت له أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: نعم.
وأما ما نقل في ذلك عن ابن عباس من كراهتها: فأخرجه ابن أبي شيبة وعبد الرزاق بسندين ضعيفين.
وقال أبو حنيفة في الجامع الصغير: أكره لحوم الخيل، فحمله أبو بكر الرازي على التنزيه، وقال: لم يطلق أبو حنيفة فيه التحريم، وليس هو عنده كالحمار الأهلي.
__________
"وقال الطحاوي ذهب أبو حنيفة إلى كراهة أكل الخيل وخالفه صاحباه" محمد بن الحسن وأبو يوسف يعقوب "وغيرهما، واحتجوا بالأخبار المتواترة في حلها. انتهى" قول الطحاوي.
وقد حاد للحمية عن سواء السبيل في دعوى التواتر فلم يرد حديث بذلك ينقله جمع عن جمع يستحيل تواطؤهم على الكذب في جميع الطبقات، ولا يصح الاعتذار عنه بأنه أراد التواتر المعنوي لكثرة طرقه، فإن مدار حديث أسماء من جميع طرقه على هشام عن زوجته فاطمة بنت المنذر عن أسماء فلم يخرج عن كونه خبر آحاده وإن كان صحيحا، "وقد نقل بعض التابعين الحل عن الصحابة مطلقا من غير استثناء أحد" منهم، "فأخرج ابن أبي شيبة بسند صحيح عن عطاء بن يسار، قال: لم يزل سلفك يأكلونه قال ابن جريج" رواية عن عطاء، "قلت له": تريد "أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: نعم" وعطاء من الطبقة الوسطى من التابعين فلم يدرك جميعهم، فإنما أخبر عمن أدركه منهم ولا حجة فيه فالمسألة ذات خلاف، "وأما ما نقل عن ابن عباس من كراهتها، فأخرجه ابن أبي شيبة وعبد الرزاق بسندين ضعيفين"، فلا يرد على نقل عطاء عن الصحابة مطلقا الضعف المسندين إليه، فهذا جواب سؤال نشأ من هذا كما هو ظاهر، فلا يعترض بأن لم يتقدم له ذكر، ويعتذر بأنه لعل المراد في الخارج.
"وقال أبو حنيفة في" كتاب "الجامع الصغير لمحمد بن الحسن تلميذه "أكره لحوم الخيل" ذكره وإن علم مما قدمه عن الطحاوي لبيان الكتاب الذي صرح فيه بالكراهة وتوطئة لقوله "فحمله أبو بكر الرازي على التنزيه" فخلاف ما هو عادة الإمام من أنه إذا أطلق الكراهة انصرفت للتحريم، "وقال: لم يطلق أبو حنيفة فيه التحريم وليس هو عنده كالحمار الأهلي،(3/279)
وصحح أصحاب المحيط والهداية والذخيرة عنه التحريم، وهو قول أكثرهم.
وقال القرطبي في شرح مسلم: مذهب مالك الكراهة، وقال الفاكهاني: المشهور عند المالكية الكراهة، والصحيح عند المحققين منهم التحريم.
وقال أبن أبي جمرة: الدليل على الجواز مطلقا واضح، لكن سبب كراهة مالك لأكلها لكونها تستعمل غالبا في الجهاد، فلو انتفت الكراهة لكثر استعماله، ولو كثر لأفضى إلى فنائها، فيؤول إلى النقص من إرهاب العدو الذي وقع الأمر به في قوله تعالى: {وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال: 60] فعلى هذا فالكراهة لسبب خارج، وليس البحث فيه، فإن الحيوان المتفق على إباحته لو حدث أمر يقتضي أن لو ذبح لأفضى إلى ارتكابه محظور لامتنع، ولا يلزم من ذلك القول بتحريمه. انتهى.
وأما قول بعض المانعين: لو كانت حلال لجازت الأضحية بها. فمنتقض بحيوان البر، فإنه مأكول ولم تشرع الأضحية.
__________
"و" لكن "صحح أصحاب المحيط والهداية والذخيرة عنه" أي أبي حنيفة.
"التحريم وهو قول أكثرهم" أي الحنفية، "وقال القرطبي" أبو العباس شيخ صاحب التفسير والتذكرة "في شرع مسلم مذهب مالك الكراهة" هذا ضعيف إلا أن تحمل على التحريم، "وقال الفاكهاني المشهور عند المالكية الكراهة والصحيح عند المحققين منهم التحريم" وهو المعتمد المشهور "وقال ابن أبي جمرة" بجيم وراء من المالكية "الدليل على الجواز مطلقا" اضطر إلى أكلها أم لا، "واضح" الصحة حديث أسماء وحديث رخص في الخيل، "لكن سبب كراهة مالك لأكلها لكونها تستعمل غالبا في الجهاد، فلو انتفت الكراهة لكثر استعماله،" أي لحم الخيل "ولو كثر لأفضى إلى فنائها فيؤول إلى النقص من إرهاب العدو الذي وقع الأمر به في قوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} الكفار، "فعل هذا فالكراهة لسبب خارج وليس البحث فيه، فإن الحيوان المتفق على إباحته", كالإبل "لو حدث أمر يقتضي أن لو ذبح لأفضى إلى ارتكابه محظور لامتنع، ولا يلزم من ذلك القول بتحريمه. انتهى" كلام ابن أبي جمرة وهو اختيار له ضعيف في المذهب، "وأما قول بعض المانعين لو كانت حلالا لحازت الأضحية بها، فمنتقض بحيوان البر، فإنه مأكول اللحم، ولم تشرع الأضحية به"(3/280)
به, وأما حديث خالد بن الوليد عند أبي داود والنسائي: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لحوم الخيل والبغال والحمير، فضعيف، ولو سلم ثبوته، لا ينهض معارضا لحديث جابر الدال على الجواز، وقد وافقه حديث أسماء. وقد ضعف حديث خالد بن الوليد أحمد والبخاري والدارقطني والخطابي وابن عبد البر وعبد الحق وآخرون.
وزعم بعضهم: أن حديث جابر دال على التحريم لقوله "رخص" لأن الرخصة استباحة المحظور مع قيام المانع، فدل على أنه رخص لهم بسبب المخمصة التي أصابتهم بخيبر، فلا يدل ذلك على الحل المطلق.
وأجيب: بأن أكثر الروايات جاء بلفظ الإذن، كما رواه مسلم، وفي رواية له: أكلنا زمن خيبر الخيل وحمر الوحش، ونهانا النبي صلى الله عليه وسلم عن الحمار الأهلي, وعند الدارقطني من حديث ابن عباس: نهانا صلى الله عليه وسلم عن الحمر الأهلية وأمر بلحوم الخيل.
__________
فالملازمة ممنوعة، "وأما حديث خالد بن الوليد" المروي "عند أبي داود والنسائي: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لحوم الخيل، والبغال, والحمير"، وتقديري المروي خير من تقدير الثابت لمنافاته لقوله: "فضعيف ولو سلم ثبوته لا ينهض معارضا لحديث جابر" السابق عند الشيخين وغيرهما: نهى صلى الله عليه وسلم عن لحوم الحمر ورخص في الخيل، "الدال على الجواز" لأنه ظاهر فيه بخلاف نهى فمحتمل للتحريم والكراهة، "وقد وافقه حديث أسماء" المروي عند الشيخين، "وقد ضعف حديث خالد بن الوليد" المذكور "أحمد، والبخاري، والدارقطني، والخطابي، وابن عبد البر، وعبد الحق، وآخرون، وزعم بعضهم أن حديث جابر دال على التحريم لقوله: رخص" في الخيل، "لأن الرخصة استباحة المحظور" الممنوع لعذر "مع قيام المانع" للحكم الأصلي.
"فدل على أنه رخص لهم بسبب المخمصة،" بمعجمة ثم مهملة المجاعة الشديدة "التي أصابتهم بخيبر فلا يدل ذلك على الحل المطلق" الذي هو محل النزاع. "وأجيب أن أكثر الروايات جاء بلفظ الإذن كما رواه مسلم".
"وفي رواية له أكلنا زمن خيبر الخيل، وحمر الوحش ونهانا النبي صلى الله عليه وسلم عن الحمار الأهلي", ولم يذكر الخيل فدل على إباحتها، وفيه ن عدم الذكر ليس دليلا، "وعند الدارقطني من حديث ابن عباس نهانا صلى الله عليه وسلم عن الحمر الأهلية وأمر بلحوم الخيل".
"فدل على أن المراد بقوله رخص أذن" وهذا لا يصلح جوابا، بل في تقوية للاحتجاج على(3/281)
فدل على أن المراد بقوله: "رخص" أذن. ونوقض أيضا بالإذن في أكل الخيل، ولو كان رخصة لأجل المخمصة لكانت الحمر الأهلية أولى بذلك لكثرتها وعزة الخيل حينئذ، فدل على أن الإذن في أكل الخيل إنما كان للإباحة العامة لا لخصوص الضرورة.
وقد نقل عن مالك وغيره من القائلين بالتحريم: أنهم احتجوا للمنع بقوله تعالى: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} [النحل: 8] وقرروا ذلك بأوجه:
أحدها: أن اللام للتعليل، فدل على أنها لم تخلق لغير ذلك؛ لأن العلة المنصوصة تفيد الحصر. فإباحة أكلها تقتضي خلاف ظاهر الآية.
ثانيها: عطف البغال والحمير، فدل على اشتراكها معهما في حكم التحريم، فيحتاج من أفرد حكم ما عطف عليه إلى دليل.
__________
التحريم؛ لأن لفظ أذن دون أباح وأحل دال على ذلك, وأما قوله: وأمر بلحوم الخيل فلا يصلح دليلا للجواز المطلق، لجواز أنه في هذا الوقت للمخمصة.
"ونوقض أيضا" الاحتجاج بحديث جابر على التحريم "بالإذن في أكل الخيل ولو كان رخصة لأجل المخمصة لكانت الحمر الأهلية أولى بذلك" الإذن في أكلها "لكثرتها وعزة" قلة "الخيل حينئذ، فدل على أن الإذن في أكل الخيل إنما كان للإباحة العامة لا لخصوص الضرورة".
وهذا مدفوع والملازمة ممنوعة، فإن سبب المناداة بتحريم الحمر قول الصحابي أفنيت الحمر كما مر عن الصحيح، فكأنه رخص لهم حين نهاهم عنها في الخيل لضرورة المخمصة لعلمه بعزتها عندهم، فلا يعودون إليها بعدها، فلا يدل قوله أمر على الإباحة العامة؛ لأنه يحمل على أنه أمر به زمن المخمصة، بدليل رواية رخص والأحاديث يفسر بعضها بعضا.
"وقد نقل عن مالك وغيره من القائلين بالتحريم، أنهم احتجوا للمنع بقوله تعالى: "و" خلق {الْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} مفعول له، "وقرروا ذلك بأوجه أحدها أن اللام للتعليل، فدل على أنها لم تخلق لغير ذلك؛ لأن العلة المنصوصة تفيد الحصر، فإباحة أكلها تقتضي خلاف ظاهر الآية" الذي هو أولى في الحجية من خبر الآحاد.
ولو صح "ثانيها عطف البغال والحمير" عليها، "فدل على اشتراكها" أي: الخيل "معهما في حك التحريم، فيحتاج من أفرد حكم ما عطف عليه إلى دليل", وحديث أسماء بعد(3/282)
ثالثها: أن الآية سيقت مساق الامتنان، فلو كان ينتفع بها في الأكل لكان الامتنان به أعظم، والحكيم لا يمتن بأدنى النعم ويترك أعلاها، ولا سيما وقد وقع الامتنان بالأكل في المذكورات قبلها.
رابعها: لو أبيح أكلها لفاتت المنفعة بها فيما وقع به الامتنان من الركوب للزينة.
وأجيب: بأن آية النحل مكية اتفاقا، والإذن في أكل الخيل كان بعد الهجرة من مكة بأكثر من ست سنين، فلو فهم النبي صلى الله عليه وسلم من الآية المنع لما أذن في الأكل.
وأيضا: فإن آية النحل ليست نصا في منع الأكل والحديث صريح في جوازه.
وأيضا: فلو سلمنا أن اللام للتعليل، لم نسلم إفادة الحصر في الركوب والزينة،
__________
تسليم اطلاع المصطفى عليه، وأنه ليس باجتهادهم قضية عين، وحديث جابر رخص أن سلم أنه لا يدل على التحريم، فلا يدل على التحليل لتقابل الاحتمالين.
"ثالثها أن الآية سيقت مساق الامتنان، فلو كان ينتفع بها في الأكل لكان الامتنان به" بالأكل "أعظم والحكيم لا يمتن بأدنى" أقل "النعم" وهو هنا الركوب والزينة، "ويترك أعلاها ولا سيما وقد وقع الامتنان بالأكل في المذكورات قبلها" في قوله في الأنعام ومنها تأكلون.
"رابعها لو أبيح أكلها لفاتت المنفعة بها فيما وقع الامتنان به من الركوب و" كونها "للزينة".
"وأجيب بأن آية النحل مكية اتفاقا والإذن في أكل الخيل كان بعد الهجرة من مكة بأكثر من ست سنين", لأنه سنة خيبر وهي في السابعة. "فلو فهم النبي صلى الله عليه وسلم من الآية المنع لما أذن في الأكل" وفيه أن محمل الإذن فيه للمخمصة، كما قال تعالى: {إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} في الممنوع منه نصا فإذنه في الأكل لا ينافي فهمه منها المنع، "وأيضا فإن آية النحل ليست نصا في منع الأكل" لكنه المتبادر منها، ويكفي ذلك في الاستدلال على ما علم في الأصول.
"والحديث" عن أسماء "صريح في جوازه" فيقدم الصريح على المحتمل وجوابه أنه ليس صريحا في اطلاع المصطفى بل فيه احتمال أنه عن اجتهادهم والمجتهد لا يقلد مجتهدا، ولا يرد أن من أصول مالك قول الصحابي لأن محله عند عدم التعارض.
"وأيضا فلو سلمنا أن اللام للتعليل لم نسلم إفادة الحصر في الركوب والزينة، فإنه(3/283)
فإنه ينتفع بالخيل في غيرهما، وفي غير الأكل اتفاقا، وإنما ذكر الركوب والزينة لكونهما أغلب ما يطلب له الخيل, ونظيره حديث البقرة المذكورة في الصحيحين حين خاطبت راكبها فقالت: لم أخلق لهذا وإنما خلقت للحرث، فإنه مع كونه أصرح في الحصر، ما يقصد به إلا الأغلب، وإلا فهي تؤكل وينتفع بها في أشياء غير الحرث اتفاقا.
وقال البيضاوي: واستدل بها -أي بآية النحل- على حرمة لحومها، ولا دليل فيها، إذ لا يلزم من تعليل الفعل بما يقصد منه غالبا أن لا يقصد منه غيره أصلا. انتهى.
وأيضا: فلو سلم الاستدلال للزم منه حمل الأثقال على الخيل والبغال والحمير ولا قائل به.
__________
ينتفع بالخيل في غيرهما وفي غير الأكل اتفاقا" كالحمل للأمتعة والاستقاء والطحن "وإنما ذكر الركوب، والزينة لكونهما أغلب ما يطلب له الخيل،" وجوابه أن معنى الحصر فيهما دون الأكل الممتن به في غير الخيل فهو إضافي فلا ينافي جواز الانتفاع بها فيما ذكر، "ونظيره حديث البقرة بالإضافة لأدنى ملابسة، كقولهم حديث الشفاعة وحديث هرقل وإلا فالحديث إنما يضاف للصحابي ونحوه أو لمن أخرجه في كتاب. "المذكورة في الصحيحين حين خاطبت راكبها، فقالت: لم أخلق لهذا" أي الركوب "وإنما خلقت للحرث".
روى الشيخان عن أبي هريرة رفعه: "بينا رجل يسوق بقرة قد حمل عليها إذ ركبها فضربها فالتفتت إليه فكلمته فقالت: لم أخلق لهذا وإنما خلقت للحرث". فقال الناس: سبحان الله بقرة تتكلم. فقال صلى الله عليه وسلم: "فإني أؤمن بذلك وأبو بكر، وعمر". "فإنه مع كونه أصرح في الحصر ما يقصد به إلا الأغلب، وإلا فهي تؤكل وينتفع بها في أشياء غير الحرث اتفاقا" فالحصر فيه غير مراد لقيام الإجماع على خلافه وأصله النص القرءاني، ثم المصنف لم يقصد بها الاستدلال، كما توهم بل التنظير بأن الحصر قد يقصد به أغلب الأحوال.
"وقال البيضاوي: واستدل بها أي آية النحل على حرمة لحومها ولا دليل فيها إذ لا يلزم من تعليل الفعل بما يقصد منه غالا أن لا يقصده منه غيره أصلا. انتهى".
ذكره مجرد تأكيد وإلا فقدم معناه ومر جوابه ولو سلمنا ذلك لم نسلم أن الأكل منه الذي هو محل النزاع، "وأيضا فلو سلم الاستدلال للزم منه حمل الأثقال على الخيل والبغال والحمير ولا قائل به" هذا على فهمه أن الحصر حقيقي وإلا فهو إضافي، والدليل عليه الإجماع فلا يلزم ما قاله، وهذا تقدم قريبا بمعناه في قوله سلمنا أن اللام ... إلخ.(3/284)
وأما عطف البغال والحمير، فدلالة العطف إنما هي دلالة اقتران وهي ضعيفة.
وأما أنها سيقت مساق الامتنان، فالامتنان إنما قصد به غالب ما كان يقع به انتفاعهم، فخوطبوا بما ألفوا وعرفوا، ولم يكونوا يعرفون أكل الخيل لعزتها في بلادهم، بخلاف الأنعام، فإن أكثر انتفاعهم بها كن لحمل الأثقال وللأكل، فاقتصر في كل من الصنفين على الامتنان بأغلب ما ينتفع به، فلو لزم من ذلك الحصر في هذا الشق لأضر.
وأما قولهم: لو أبيح أكلها لفاتت المنفعة بها ... إلخ.
فأجيب عنه: بأنه لو لزم من الإذن في أكلها أن تفنى، للزم مثله في البقر وغيرها مما أبيح أكله ووقع الامتنان به.
وإنما أطلت في ذلك.
__________
وإعادة تكثير للسواد فحاصله أنه أجاب عن الوجه الأول من تقرير دليل المنع من الآية بأوجه ثلاثة، وعن الثاني بقوله "وأما عطف البغال والحمير فدلالة العطف إنما هي دلالة اقتران وهي ضعيفة" عند الأصوليين.
وجوابه: إنا لم نستدل بها فقط بل مع الأخبار بأنه خلقها للركوب والزينة وامتنانه بالأكل من الأنعام دونها، "وأما" الوجه الثالث "إنها سيقت مساق الامتنان" فلو كان بالأكل لكان أعظم ... إلخ.
"فالامتنان إنما يقصد به غالب ما كان يقع به انتفاعهم" سواء كان خيلا أو أنعاما، "فخوطبوا بما ألفوا وعرفوا، ولم يكونوا يعرفون أكل الخيل لعزتها في بلادهم بخلاف الأنعام، فإن أكثر انتفاعهم بها كان لحمل الأثقال وللأكل، فاقتصر في كل من الصنفين على الامتنان بأغلب ما ينتفع به، فلو لزم من ذلك الحصر في هذا الشق لأضر", إذ الحصر في الركوب والزينة، فيه نوع مشقة وهذا ممنوع، وسنده أنه لا دليل على كون المقصود بالامتنان غالب ما ينتفع به ولا مشقة في الحصر في الركوب والزينة، فإنهما من أجل النعم الممتن بها، "وأما قولهم: لو أبيح أكلها لفاتت المنفعة بها ... إلخ، فأجيب عنه بأنه لو لزم من الإذن في أكلها أن تفنى للزم مثله في البقر وغيرها" من الإبل، والغنم "مما أبيح أكلها ووقع الامتنان به", وجوابه أن الفرق موجود؛ لأن ما وقع التصريح بالامتنان بأكله لا يقاس عليه ما وقع فيه الامتنان بأنه للركوب والزينة فاللازم ممنوع.
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه كان يكره لحوم الخيل، ويقرأ: {وَالْأَنْعَامَ(3/285)
لأمر اقتضاه، والله أعلم.
وفي هذه الغزوة أيضا نهى صلى الله عليه وسلم عن أكل كل ذي ناب من السباع، وعن بيع المغانم حتى تقسم، وأن لا توطأ جارية حتى تستبرأ.
__________
خَلَقَهَا لَكُمْ} الآية، ويقول: هذا للأكل, والخيل والبغال والحمير يقول: هذه للركوب، "وإنما أطلت في ذلك لأمر اقتضاه, والله أعلم" بحكمه فيها فإن هذه الأمور إنما هي تشحيذ للأذهان واطلاع على مدارك الأئمة رحمهم الله, وإلا فبعد تقرر المذاهب لا يبطلها شيء من ذلك.
"وفي هذه الغزوة أيضا" كما رواه إسحاق حدثني عبد الله بن أبي نجيع عن مكحول "نهى صلى الله عليه وسلم" يومئذ أي يوم خيبر عن أربع: عن أكل الحمار الأهلي، و"عن أكل كل ذي ناب من السباع" يتقوى به ويصول على غيره ويصطاد ويعدو بطبعه غالبا والنهي للتحريم عند قوم والكراهة عند آخرين, وهذا الحديث وإن أرسله ابن إسحاق فهو صحيح فقد أخرجه مالك في الموطأ والبخاري عن عبد الله بن يوسف عنه عن الزهري عن أبي إدريس، عن أبي ثعلبة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن أكل كل ذي ناب من السباع.
زاد مسلم من حديث ابن عباس وكل ذي مخلب من الطير، لكن لم يبين فيه وقت النهي المبين في مرسل مكحول، وقول شيخنا: لم يبين المصنف وقت النهي كان مراده خصوص اليوم الذي وقع فيه النهي، فلا ينافي أنه بينه بقوله: وفي هذه الغزوة. والمخلب بكسر الميم وسكون المعجمة وفتح اللام آخره موحدة للطبراني كالظفر لغيره لكنه أشد منه وأغلظ وأحد فهو كالناب للسبع.
"و" نهى يومئذ أيضا كما في مرسل مكحول "عن بيع المغانم" جمع مغنم وهو الغنيمة بمعنى، كما في المختار "حتى تقسم"، وأطلق البيع وأراد لازمه وهو التصرف فيها بغير المحتاج إليه كما روى الشيخان وغيرهما واللفظ لمجموعهم عن عبد الله بن مغفل أصبت جرابا من شحم يوم خيبر فالتزمته وقلت: لا أعطي أحدا منه شيئا، فالتفت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستحييت منه فاحتملته على عنقي إلى رحلي وأصحابي، فلقيني صاحب المغانم الذي جعل عليها فأخذ بناحيته، وقال: هلم حتى نقسمه بين المسلمين، قلت: لا والله لا أعطيكه، فجعل يجاذبني الجراب فرآنا صلى الله عليه وسلم فتبسم ضاحكا، ثم قال لصاحب المغانم: "لا أبا لك خل بينه وبينه". فانطلقت به إلى رحلي وأصحابي فأكلناه.
قال الحافظ: في الفتح وصاحب المغانم الذي نازعه هو كعب بن عمرو بن زيد الأنصاري، كما أخرجه ابن وهب بسند معضل. انتهى.
"وأن لا توطأ جارية حتى تستبرأ" وهذا مجمل فصله ما رواه ابن إسحاق عن رويفع بن ثابت: قام فينا صلى الله عليه وسلم يوم خيبر، فقال: "لا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسقي ماءه زرع(3/286)
وفي هذه الغزوة أيضا سمت النبي صلى الله عليه وسلم زينب بنت الحارث، امرأة سلام بن مشكم، كما في البخاري من حديث أبي هريرة ولفظه: لما فتحت خيبر أهديت للنبي صلى الله عليه وسلم شاة فيها سم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اجمعوا لي من كان ههنا من اليهود". فجمعوا له، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم:
__________
غيره -يعني إتيان الحبالى من السبايا- ولا أن يصيب امرأة من السبي حتى يستبرئها، ولا أن يبيع مغنما حتى يقسم، ولا أن يركب دابة حتى إذا أعجفها ردها، ولا أن يلبس ثوبا حتى إذا أخلقه رده". فكرر ذلك يوم أوطاس للتأكيد حيث قال: "ألا توطأ حامل حتى تضع، ولا حائل حتى تحيض". دفعا لتوهم اختصاص النهي بيوم خيبر لقرب المحل والغيبة بخلاف يوم أوطاس، فطالت غيبتهم وبعدوا عن ديارهم, قيل: وفي غزوة خيبر أيضا نهى عن متعة النساء تمسكا بما رواه البخاري، ومسلم عن علي أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن متعة النساء يوم خيبر وعن أكل لحم الحمر الأنسية، وأجيب بأن فيه تقديما وتأخيرا وأصله نهى يوم خيبر عن لحوم حمر الأنسية وعن متعة النساء، وليس يوم خيبر ظرفا لمتعة النساء، فالمعنى ونه عن المتعة بعد ذلك أو في غير هذا اليوم، وإنما جمع علي بينهما لأن ابن عباس كان يبيحهما فروى له تحريمهما عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإلا فقد قال الإمام السهيلي هذا شيء لا يعرفه أحد من أهل السير ورواة الأثر، وقال أبو عمر: إنه غلط فلم يقع في غزوة خيبر تمتع النساء، "وفي هذه الغزوة أيضا سمت النبي صلى الله عليه وسلم" أطلق المسبب وأراد السبب إذ لم توصل السم لشيء من جسده، لكنها لما جعلته في الشاة فكان وسيلة إلى أكله منها نسب إليها تجوزا "زينب بنت الحارث امرأة سلام بن مشكم" كما سماها ابن إسحاق، وموسى بن عقبة. "كما في البخاري" خبر السم لا بقيد تسمية السامة لأنه ليس فيه كما ترى، فالاستدلال على أغلب مشمول الترجمة "من حديث أبي هريرة ولفظه" في الجزية والطب من طريق الليث عن سعيد عن أبي هريرة أنه قال: "لما" بشد الميم "فتحت خيبر" واطمأن صلى الله عليه وسلم بعد فتحها، كما عند ابن إسحاق "أهديت" بضم الهمزة مبني للمفعول "للنبي صلى الله عليه وسلم شاة" بالرفع نائب الفاعل "فيها سم" مثلث السين، ولا ترد رواية أنها أهدتها لصفية على هذا لأن إهداءها لها بعد بنائه بها، كما أفاده قول ابن إسحاق اطمأن بعد فتح خيبر؛ لأنه أقام بعد بنائها ثلاثة أيام كما مر، "فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم" بعد أن لاك منها مضغة ثم لفظها حين أخبره العظم أنها مسمومة وازدراد بشر لقمته، وقوله لأصحابه: "ارفعوا أيديكم". كما عند ابن إسحاق وغيره: "اجمعوا لي" بلام رواية أبي ذر وابن عساكر ولغيرهما: "إليَّ".
قال الحافظ: لم أقف على تعيين المأمورين بذلك "من كان ههنا من اليهود" بالتعريف في الطب وفي الجزية من يهود بالتنكير، "فجمعوا له" بضم الجيم "فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم":(3/287)
"إني سائلكم عن شيء، فهل أنتم صادقوني عنه"؟. فقالوا: نعم يا أبا القاسم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أبوكم"؟. قالوا: أبونا فلان. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كذبتم، بل أبوكم فلان".
__________
لما اجتمعوا عنده "أني سائلكم" أي مريد سؤالكم "عن شيء فهل أنتم صادقوني عنه"؟ بضم القاف وسكون الواو فكسر نون الوقاية، هكذا في رواية أبي ذر والوقت والأصيلي، وابن عساكر في المواضع الثلاثة, قال ابن التين: وفي نسخ: "صادقي" بشد الياء وهو الصواب عربية؛ لأن أصله: صادقون, فحذفت النون للإضافة, فاجتمع حرفا علة سبق الأول بالسكون فقلبت الواو ياء وأدغمت، ومثله: {وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ} . وحديث بدء الوحي: "أومخرجيَّ هم". قال الحافظ: وإنكاره الرواية من جهة العربية ليس بجيد فقد وجهها غيره, قال ابن مالك: مقتضى الدليل أن تصحب نون الوقاية اسم الفاعل وأفعل التفضيل والأسماء المعربة المضافة إلى ياء المتكلم لتقيهم خفاء الإعراب، فلما منعت ذلك كانت كأصل متروك، فنبهوا عليه في بعض الأسماء المعربة المشابهة للفعل كقول الشاعر:
وليس الموافيني ليرتد خائبا ... فإن له أضعاف ماكان أملا
ومنه: "فهل أنتم صادقوني". والحديث الآخر: "غير الدجال أخوفني عليكم". والأصل فيه أخوف مخوفاتي عليكم, فحذف المضاف إلى الياء وأقيمت هي مقامه فاتصل أخوف بها مقرونة بالنون وذلك أن أفعل التفضيل شبيه بفعل التعجب.
وحاصل كلامه: أن النون الباقية هي نون الوقاية ونون الجمع حذفت، كما تدل عليه الرواية الأخرى بلفظ صادقي، قال: ويمكن تخريجه أيضا على أن النون الباقية هي نون الجمع فإن بعض النحاة أجاز في جمع المذكر السالم أن يعرب بالحركات على النون مع الواو ويحتمل أن الياء في محل نصب بناء على أن مفعول اسم الفاعل إذا كان ضميرا بارزا متصلا به كان في محل نصب وتكون النون على هذا أيضا نون الجمع. انتهى.
"فقالوا: نعم يا أبا القاسم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أبوكم"؟ قالوا: أبونا فلان" قال الحافظ لم أعرفه، انتهى.
فما في بعض الطرر إسماعيل، وقلدها الشارح إنما هو حدس وتخمين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كذبتم بل أبوكم فلان". أي: إسرائيل يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم الصلاة والسلام، كما جزم به المصنف كالحافظ ولا ينافيه قوله فيمن أبهمه اليهود لم أعرفه كما لا يخفى؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لا يقول إلا الحق، وأما اليهود فكاذبون نعم وقع في المقدمة في الجزية: "من أبوكم"؟. قالوا: فلان، قال: "كذبتم بل أبوكم فلان". ما أدري من عنى بذلك، انتهى.(3/288)
قالوا: صدقت وبررت، فقال: "هل أنتم صادقوني عن شيء إن سألتكم عنه"؟. فقالوا: نعم يا أبا القاسم، وإن كذبناك عرفت كذبنا، كما عرفته في أبينا. فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أهل النار"؟. فقالوا: نكون فيها يسيرا ثم تخلفوننا فيها. فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اخسؤا فيها, والله لن نخلفكم فيها أبدا". ثم قال لهم: "هل أنتم صادقوني عن شيء إن سألتكم عنه"؟. فقالوا: نعم. فقال: "هل جعلتم في هذه الشاة سما"؟.
__________
فظاهره أنه حتى فيمن عناه المصطفى وكان مراده عين السبط من أولاد يعقوب الذين هم من ذريته فلا ينافي أنه جزم في الطب من المقدمة والفتح، بأنه يعقوب, والله أعلم.
"قالوا: صدقت وبررت" بكسر الراء الأولى وحكى فتحها قاله المصنف فالرواية بالكسر، واقتصر عليه الكرماني، فقال: "هل أنتم صادقوني". كذا للأربعة أيضا ولغيرهم: صادقي بكسر الدل والقاف وشد التحتية على الأصل "عن شيء إن سألتكم عنه". قالوا: نعم يا أبا القسم وإن كذبناك" بخفة الذال المعجمة "عرفت كذبنا كما عرفته في أبينا" حين أخبرنا عنه بخلاف الواقع، "فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أهل النار". قالوا: نكون فيها" زمانا "يسيرا، ثم تخلفوننا فيها" بسكون الخاء وضم اللام مخففة وفي الجزية لغير أبي ذر تخلفونا بإسقاط النون لغير ناصب ولا جازم وهو لغة، قاله المصنف، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اخسؤا فيها". أي: اسكنوا سكون ذلة وهوان وانزجروا انزجار الكلاب عن هذا القول "والله لن نخلفكم فيها أبدا". لا تخرجون منها ولا نقيم فيها بعدكم؛ لأن من دخلها من عصاة المسلمين يخرج منها فلا خلافه قط, وعند الطبري عن عكرمة, قال: خاصمت اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فقالوا: لن ندخل النار إلا أياما معدودة ويستخلف إليها قوم آخرون يعنون محمدا وأصحابه, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده على رءوسهم: "بل أنتم خالدون مخلدون لا يخلفكم فيها أحد". فأنزل الله: {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً} الآية.
وأخرج عن ابن عباس أنهم قالوا: لن ندخل النار إلا تحلة القسم الأيام التي عبدنا فيها العجل أربعين ليلة فإذا انقضت انقطع عنا العذاب، فنزلت الآية.
وروى الطبراني في الكبير وابن جرير، وابن أبي حاتم بسند حسن عن ابن عباس قدم صلى الله عليه وسلم المدينة ويهود تقول: إنما مدة الدنيا سبعة آلاف سنة وإنما يعذب الناس بكل ألف سنة من أيام الدنيا يوما واحدا في النار من أيام الآخرة فإنما هي سبعة أيام، ثم ينقطع العذاب فنزلت الآية. ثم قال لهم: "هل" ولغير أبي ذر: فهل "أنتم صادقوني" كذا للأربعة أيضا ولغيرهم: صادقي "عن شيء إن سألتكم عنه". فقالوا -وفي رواية: قالوا. بحذف الفاء-: نعم، فقال: "هل جعلتم في هذه الشاة سما". نسب لهم الجعل لأنهم لما علموا به حين شاورتهم وأجمعوا لها على سم معين كأنهم جعلوه،(3/289)
فقالوا: نعم، فقال: "ما حملكم على ذلك"؟. قالوا: أردنا إن كنت كذابا أن نستريح منك، وإن كنت نبيا لم يضرك.
وفي حديث جابر عند أبي داود: أن يهودية من أهل خيبر سمت شاة مصلية ثم أهدتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكل منها، وأكل رهط من أصحابه معه، فقال رسول صلى الله عليه وسلم: "ارفعوا أيديكم". وأرسل إلى اليهودية فقال: "سممت هذه الشاة"؟. فقالت: من أخبرك؟ قال: "أخبرتني هذه في يدي". للذراع. قالت: نعم.
__________
ولذا أجابوا "فقالوا": وفي رواية بحذف الفاء "نعم، فقال: "ما حملكم على ذلك"؟. قالوا: أردنا إن كنت كذابا" بشد المعجمة، وفي رواية: كاذبا بألف بعد الكاف "أن تستريح", ولأبي ذر وابن عساكر بحذف أن. "منك وإن كنت نبيا لم يضرك".
وهذا الحديث أخرجه البخاري بطوله في الجزية في باب إذا غدر المشركون بالمسلمين هل يعفى عنهم؟ وفي الطب بطوله أيضا في باب ما يذكر في سم النبي صلى الله عليه وسلم واختصره في غزوة خيبر في باب الشاة التي سمت للنبي صلى الله عليه وسلم شاة فيه سم "وفي حديث جابر عند أبي داود" من طريق الزهري عنه.
قال الحافظ: وهو منقطع لأن الزهري لم يسمع من جابر، لكن له شاهد عند أبي داود مرسلا ووصله البيهقي عن أبي هريرة "أن يهودية من أهل خيبر" هي زينب، وفي أبي داود أنها أخت مرحب وبه جزم السهيلي.
وعند البيهقي في الدلائل بنت أخي مرحب "سمت شاة مصلية" بفتح الميم، وسكون المهملة, أي: مشوية "ثم أهدتها إلى النبي صلى الله عليه وسلم".
وعند الدمياطي لما صلى رسول الله صلى عليه وسلم المغرب بالناس انصرف وهي جالسة عند رحله فسأل عنها، فقالت: يا أبا القاسم هدية أهديتها لك. وفي رواية: أنها أهدتها لصفية كما مر، فإن صح فكأنها أهدتها لصفية وجلست عند رحله حتى أخبرته أنها هدية ليأكل منها، فقدمتها له صفية "فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكل منها", أي: مضغ منها مضغة، ثم لفظها على ما عند ابن إسحاق أو ازدردها على ما عند الدمياطي، ويأتي الجمع وأيا ما كان فلا يؤول أكل بأراد, إذ لم يقل أحد: إنه لم يتناول, إنما الخلف في الازدراد، "وأكل رهط من أصحابه معه", وكانوا ثلاثة على ما في الإمتاع للمقريزي, وسمى ابن إسحاق منهم بشر بن البراء, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ارفعوا أيديكم".
وفي رواية البيهقي: "أمسكوا فإنها مسمومة". وأرسل إلى اليهودية, فقال: "سممت هذه الشاة". فقالت: من أخبرك؟ قال: "أخبرتني هذه في يدي". مشيرا "للذراع، قالت: نعم" زاد في رواية(3/290)
قلت إن كان نبيا فلن يضره، وإن لم يكن نبيا استرحنا منه. فعفا عنها صلى الله عليه وسلم ولم يعاقبها، وتوفي أصحابه الذين أكلوا من الشاة، واحتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم على كاهله من أجل الذي أكل من الشاة.
وفي رواية غيره: جعلت زينب بنت الحارث امرأة ابن مشكم تسأل أي الشاة أحب إلى محمد, فيقولون: الذراع. فعمدت إلى عنز لها فذبحتها وصلتها، ثم عمدت إلى سم لا يطنئ -يعني لا يلبث أن يقتل من ساعته-.
__________
البيهقي: قال لها: "ما حملك على ذلك"؟ قالت: "قلت: إن كان نبيا فلا يضره وإن لم يكن نبيا استرحنا منه".
وفي رواية البيهقي: أردت إن كنت نبيا فيطلعك الله، وإن كنت كاذبا فأريح الناس منك.
ذكره التيمي في مغازيه وقد استبان لي أنك صادق، وأنا أشهدك، ومن حضر أني على دينك وأن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله. وعند ابن سعد عن الواقدي بأسانيد متعددة، أنها قالت: قتلت أبي وزوجي وعمي وأخي -وسمى عمها يسار وكان من أجبن الناس, وهو الذي أنزل من الرف، وأخوها زبير- ونلت من قومي, فقلت: إن كان نبيا فسيخبر الذراع وإن كان ملكا استرحنا منه، "فعفا عنها صلى الله عليه وسلم ولم يعاقبها" عطف مسبب على سبب، "وتوفي أصحابه الذين أكلوا من الشاة،" أي جنس أصحابه إذ لم يمت منهم غير بشر، ويروى أنهم وضعوا أيديهم، وما ازدردوا شيئا وأنه أمرهم بالاحتجام، وكأنه لمخالطة ريقهم، وقد ابتلعوا، "واحتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم على كاهله" أي بين كتفيه, حجمه أبو هند أو أبو طيبة بالقرن والشفرة، ويحتمل أنهما معا حجماه، فقد قيل: إنه احتجم بين كتفيه في ثلاثة مواضع "من أجل" الجزء "الذي أكل" بحذف العائد، أي: أكله "من الشاة" العنز المسمومة.
وذكر الواقدي أنه عليه السلام أمر بلحم الشاة، فأحرق ووقع عند البراز أنه عليه السلام بعد سؤاله لها واعترافها بسط يده إلى الشاة وقال لأصحابه: "كلوا بسم الله". فأكلنا وذكرنا اسم الل فلم يضر أحدا منا.
قال ابن كثير وفيه نكارة وغرابة شديدة. "وفي رواية غيره" أي غير أبي داود "جعلت زينب بنت الحارث" بن سلام "امرأة ابن مشكم تسأل: أي" أجزاء "الشاة أحب إلى محمد؟ فيقولون": أحبها "الذراع فعمدت إلى عنز لها".
ففي هذه الرواية تعيين أن الشاة عنز وتسمية المبهمة في الروايتين قبلها "فذبحتها وصلتها" شوتها، "ثم عمدت إلى سم لا يطنئ" بضم المثناة التحتية وسكون الطاء المهملة ونون بعدها همزة "يعني لا يلبث" بفتح الموحدة "أن يقتل من ساعته" أي سريعا، وهو المعروف عند العامة بسم(3/291)
وقد شاورت يهود في سموم فاجتمعوا لها على هذا السم بعينه، فسمت الشاة وأكثرت في الذراعين والكتف، فوضعت بين يديه ومن حضر من أصحابه، وفيهم بشر بن البراء، وتناول صلى الله عليه وسلم الذراع فانتهس منها، وتناول بشر بن البراء عظما آخر، فلما ازدرد صلى الله عليه وسلم لقمته، ازدرد بشر بن البراء ما في يده وأكل القوم، فقال صلى الله عليه وسلم: "ارفعوا أيديكم، فإن هذه الذراع تخبرني أنها مسمومة". وفيه: أن بشر بن البراء مات، وفيه: أنه دفعها صلى الله عليه وسلم إلى أولياء بشر بن البراء فقتلوها. رواه الدمياطي.
وقد اختلف: هل عاقبها صلى الله عليه وسلم؟
__________
ساعة، "وقد شاورت يهود في" اختيار سم من جملة "سموم" عينتها بأن سألت: أيها أسرع قتلا؟ "فاجتمعوا لها على هذا السم بعينه، فسمت الشاة، وأكثرت في الذراعين، والكتف".
وعند ابن إسحاق: وقد سألت: أي عضو من الشاة أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقيل لها: الذراع فأكثرت فيها من السم ثم سمت سائر الشاة، ثم جاءت بها "فوضعت بين يديه ومن حضر من أصحابه وفيهم بشر بن البراء" بن معرور -بمهملات- الأنصاري الخزرجي، الصحابي ابن الصحابي البدري، وشهد ما بعدها حتى مات. "وتناول صلى الله عليه وسلم الذراع فانتهس" بسين مهملة، أي أخذ بمقدم أسنانه "منها وتناول بشر بن البراء عظما آخر، فلما ازدرد صلى الله عليه وسلم لقمته" أي: ابتلع ما انفصل منها بريقه دون اللحمة، فلا ينافي رواية ابن إسحاق: أنه عليه السلام لم يسغها ولفظها. "ازدرد بشر بن البراء ما في يده وأكل القوم". في الإمتاع: أنهم كانوا ثلاثة وضعوا أيديهم في الطعام ولم يصيبوا منه شيئا، وأنه عليه السلام أمرهم بالحجامة، وكان معناه إن صح أنهم لم يبتلعوا لكنهم وضعوه في أفواههم فأثر قليلا، فأمرهم بالحجامة لإزالة ذلك الأثر، فقال صلى الله عليه وسلم: "ارفعوا أيديكم فإن هذه الذراع" يذكر ويؤنث، فلذا أنث ضميره "تخبرني أنها مسمومة". وهل بكلام يخلق فيها أصوات وأصوات يحدثها الله فيها وفي الحجر والشجر بلا حياة أو الحياة أولا ثم الكلام بعدها؟ قولان في الشفاء ومر له مزيد.
وعند الواقدي وغيره: أنه صلى الله عليه وسلم ما كان بعد أكلة خيبر يأكل من شيء حتى يأكل منه صاحبه الذي يحضره، "وفيه أن بشر بن البراء مات" من أكلته بعد حول كما جزم به السهيلي، وقيل: من ساعته "وفيه أنه دفعها صلى الله عليه وسلم إلى أولياء بشر بن البراء فقتلوها".
"رواه الدمياطي" الحافظ أبو محمد عبد المؤمن بن خلف له ألف وثلاثمائة شيخ، فهذا معارض لما فوقه من حديث جابر أنه عفا عنها ولم يعاقبها. لكن عند ابن سعد عن شيخه الواقدي بأسانيد متعددة أنه دفعها إلى ولاة بشر فقتلوها.
قال الواقدي: وهو الثبت "وقد اختلف: هل عاقبها" أي: أمر بعقابها بقتل أو غيره "صلى الله عليه وسلم", أم(3/292)
فعند البيهقي من حديث أبي هريرة: فأعرض لها، ومن حديث أبي نضرة عن جابر نحوه قال: فلم يعاقبها. وقال الزهري: أسلمت فتركها.
قال البيهقي: يحتمل أن يكون تركها أولا ثم لما مات بشر بن البراء من الأكلة قتلها, وبذلك أجاب السهيلي وزاد: أنه تركها؛ لأنه كان لا ينتقم لنفسه، ثم قتلها ببشر بن البراء قصاصا.
ويحتمل أن يكون تركها لكونها أسلمت, وإنما أخر قتلها حتى مات بشر؛ لأن بموته يتحقق وجوب القصاص بشرطه.
__________
لا بسبب اختلاف الأخبار، "فعند البيهقي من حديث أبي هريرة فأعرض لها" بفتح الراء مخففة أي ما تعرض لها بسوء. ونحوه عن جابر عند أبي داود كما مر، "و" عند البيهقي أيضا "من حديث أبي نضرة" بنون ومعجمة ساكنة مشهورة بكنيته واسمه المنذر بن مالك البصري الثقة.
روى له مسلم والأربعة مات سنة ثمان أو تسع ومائة "عن جابر نحوه" نحو قول أبي هريرة فما عرض لها حيث "قال" جابر آخر الحديث، "فلم يعاقبها" وليس فاعل قال البيهقي: أخذا مما رواه عن أبي هريرة وجابر كما زعما لأنه خلاف المروي عند البيهقي "وقال الزهري" فيما رواه عبد الرزاق عن معمر عنه "أسلمت فتركها" قال معمر: والناس يقولون: قتلها. انتهى.
قال الحافظ: ولم ينفرد الزهري بدعواه: إنها أسلمت. فقد جزم بذلك سليمان التميمي، في مغازيه وساق عبارته الآتية في المصنف.
"قال البيهقي: يحتمل" في طريق الجمع "أن يكون تركها أولا، ثم لما مات بشر بن البراء من الأكلة" بضم الهمزة، أي اللقمة "قتلها، وبذلك أجاب", أي: جمع "السهيلي" في الروض، "وزاد" حيث قال: وجه الجمع بين الحديثين "أنه" صلى الله عليه وسلم "تركها" أولا؛ "لأنه كان لا ينتقم لنفسه، ثم قتلها ببشر بن البراء قصاصا", وفيه حجة لمذهب مالك في وجوب القصاص بالسم بتقديم الطعام المسموم، وقال الحنفية والشافعية: فيه الدية لا القصاص؛ لأنه مختار باشر ما هلك به بغير الجاء، والدية للتغرير وتسفوا الجواب عن حديث قتلها بأنه لنقض العهد لا القصاص، وفيه: إن هذا إنما هو على أنها لم تسلم أما على إسلامها وهو الحق؛ لأن ناقله مثبت مع مزيد إتقانه وكونه لم ينفرد به فلا يصح الجواب؛ لأن ناقض العهد إذا أسلم عصم نفسه، "ويحتمل" كما قال الحافظ: بعد ذكر هذا الخلاف في قتلها والجمع "أن يكون تركها لكونها أسلمت، وإنما أخر قتلها حتى مات بشر لأن بموته يتحقق وجوب القصاص بشرطه".
قال شيخنا: فيه نظر لأن قصتها إن صحت على هذا الوجه كان فعلها قبل الإسلام وبعد(3/293)
وفي مغازي سليمان التيمي: أنها قالت: إن كنت كاذبا أرحت الناس منك، وقد استبان لي الآن أنك صادق وأنا أشهدك ومن حضر أني على دينك وأن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله، قال: فانصرف عنها حين أسلمت. وفيه: موافقة الزهري على إسلامها، فالله أعلم.
وفي هذه الغزوة أيضا: نام صلى الله عليه وسلم عن صلاة الفجر، لما وكل به بلالا كما في حديث أبي هريرة عند مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قفل من غزوة خيبر.
__________
الإسلام لا تؤاخذ بما صدر منها، "وفي مغازي سليمان" بن طرخان البصري أبي المعتمر، "التيمي" نزل في التيم فنسب إليهم, ثقة, عابد, عاش سبعا وتسعين سنة, ومات سنة ثلاث وأربعين ومائة.
روى له الستة "أنها قالت" لما قال لها: $"ما حملك على ذلك؟ ". قلت: إن كنت نبيا لم يضرك و"إن كنت كاذبا أرحت الناس منك، وقد استبان لي الآن" لما ظهرت معجزتك بنطق الذراع لك وعدم ضر السم لك "إنك صادق، وأنا أشهدك ومن حضر أني على دينك، وأن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله، قال: فانصرف عنها حين أسلمت وفيه" أي حديث التيمي، هذا "موافقة الزهري على إسلامها" وكفى بهما حجة، ومن ثم جزم في الإصابة بأنها صحابية, "والله أعلم".
"وفي هذه الغزوة" أطلق الغزوة مريدا السفر الذي هي فيه مجازا لانقضائها قبل النوم، أي وفي هذه السفرة وقعت غريبة "أيضا" فشاركت ما قبلها في الغرابة فلا يردان أيضا إنما تستعمل بين متشاركين ولا مشاركة بين سم الشاة والنوم.
"نام صلى الله عليه وسلم عن صلاة الفجر" أي الصبح اقتصر عليه؛ لأنه المقصود دون ناقلته وإن شاركته في الفوات "لما وكل" بالتشديد على الأكثر لتعديه بالباء في قوله "به" أي الفجر أو الرسول، والأول أقرب لأنه المأمور بمراقبته وبالتخفيف.
قال الحافظ: يقال: وكله بكذا، إذا استكفاه إياه وصرف أمره إليه. "بلالا كما في حديث أبي هريرة عند مسلم" وأبي داود، وابن ماجه، من طريق ابن وهب عن يونس عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب، عنه وأخرجه مالك في الموطأ, وابن إسحاق في السيرة عن ابن شهاب عن سعيد فأرسلاه.
لكن رواية الإرسال لا تضر في رواية من وصله لأن يونس من الحفاظ الثقات، حتى قال أحمد بن صالح لا تقدم عليه في الزهري أحدا واحتج به الجماعة "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قفل" أي رجع والقفول الرجوع من السفر ولا يقال لمن سافر مبتدئا: قفل إلا القافلة تفاؤلا "من غزوة خيبر" بالخاء المعجمة آخره راء قال الباجي، وابن عبد البر وغيرهما: هذا هو الصواب وقال(3/294)
سار ليلة حتى أدركه الكرا عرس، وقال لبلال: "اكلأ لنا الليل". فصلى بلال ما قدر له، ونام صلى الله عليه وسلم, فلما قارب الفجر استند بلال إلى راحلته مواجه الفجر، فغلبت بلالا عيناه وهو مستند إلى راحلته.
__________
الأصيلي إنما هو من حنين بمهملة ونون قال النووي: وهذا غريب ضعيف والمراد من خيبر وما اتصل بها من فتح وادي القرى، لأن النوم حين قرب من المدينة وعند الشيخين عن عمران كنا في سفر.
وكذا أخرجاه عن أبي قتادة بالإبهام ولمسلم، وأبي داود، والنسائي عن أبي مسعود أقبل من الحديبية ليلا وفي الموطأ من مرسل زيد بن مسلم بطريق مكة ولعبد الرزاق من مرسل عطاء بن يسار، والبيهقي عن عقبة بن عامر بطريق تبوك.
قال الحافظ: فاختلاف المواطن يدل على تعدد القصة وقد اختلف: هل كان نومهم عن الصبح أو أكثر فجزم الأصيلي أن القصة واحدة، ورده عياض بمغايرة قصة أبي قتادة قصة عمران، وهو كما قال: وحاول ابن عبد البر الجمع بأن زمان رجوعهم من خيبر قريب من زمان رجوعهم من الحديبية وطريق مكة يصدق بهما ولا يخفى تكلفه، ورواية غزوة تبوك ترد عليه. انتهى.
قال النووي اختلف: هل كان النوم مرة أو مرتين؟ ورجحه القاضي عياض "سار ليلة" ليست الأولى، وفي الموطأ: أسرى, وفي رواية أبي مصعب عنه: أسرع, ولأحمد من حديث ذي مخبر، وكان يفعل ذلك لقلة الزاد، فقال له قائل: يا نبي الله انقطع الناس وراءك فحبس وحبس الناس معه حتى تكاملوا إليه، فقال: "هل لكم أن نهجع هجعة"؟. فنزل ونزلوا "حتى أدركه الكرا" كعصا أي: النعاس, وقيل: هو أن يكون الإنسان بين النوم واليقظة، وفي الموطأ: حتى إذا كان آخر من الليل.
وي حديث ابن عمر وعند الطبراني حتى إذا كان مع السحر "عرس" بتشديد الراء, قال الخليل والجمهور: التعريس نزول المسافر آخر الليل للنوم والاستراحة ولا يسمى نزول أول الليل تعريسا, ويقال: لا يختص بزمن بل مطلق نزول المسافر للراحة ثم يرتحل ليلا كان أو نهارا.
وفي حديث عمران: حتى إذا كنا في آخر الليل وقعنا وقعة ولا قعة أحلى عند المسافر منها. وفي حديث أبي قتادة: أنه صلى الله عليه وسلم قال: "أخاف أن تناموا عن الصلاة". فقال بلال: أنا أوقظكم. وقال لبلال: "اكلأ" بالهمز. قال تعالى: {قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ} أي: يحفظكم. أي: احفظ وارقب "لنا الليل" بحيث إذا طلع الفجر توقظنا، "فصلى بلال ما قدر" بالبناء للمفعول، أي: ما يسره الله "له، ونام صلى الله عليه وسلم وأصحابه فلما قارب" أي قرب "الفجر استند بلال إلى راحلته مواجه الفجر" أي مستقبل الجهة التي يطلع منها، "فغلبت بلالا عيناه وهو مستند إلى راحلته،(3/295)
فلم يستيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا بلال ولا أحد من أصحابه حتى ضربتهم الشمس، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أولهم استيقاظا، فقال: "أي بلال"!. فقال بلال: إنه أخذ بنفسي الذي أخذ -بأبي أنت وأمي يا رسول الله-.
__________
فلم يستيقظ رسول الله ولا بلال ولا أحد من أصحابه" عليه السلام "حتى ضربتهم الشمس" قال عياض: أي أصابهم شعاعها وحرها "فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أولهم استيقاظا" أسقط من رواية مسلم، وهو في الموطأ: ففزع, قال النووي: أي أنتبه وقام.
وقال الأصيلي: ففزع لأجل عدوهم خوفا أن يكون اتبعهم فيجدهم بتلك الحال من النوم، وقال ابن عبد البر: يحتمل أن يكون تأسفا على ما فاتهم من وقت الصلاة. قال: وفيه دليل على أن ذلك لم يكن من عادته منذ بعث. قال: ولا معنى لقول الأصيلي؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يتبعه عدو في انصرافه من خيبر ولا من حنين ولا ذكر ذلك أحد من أهل المغازي بل انصرف من كلا الغزوتين ظافرا غانما. انتهى.
ففي حديث أبي هريرة هذا: أن المصطفى أول من استيقظ وأن الذي كلأ الفجر بلال، ومثله في حديث أبي قتادة عند الشيخين ولهما من حديث عمران بن حصين: أن أول من استيقظ أبو بكر ثم فلان، ثم فلان، ثم عمر بن الخطاب الرابع فكبر حتى استيقظ صلى الله عليه وسلم. وفي حديث أبي قتادة أن العمرين لم يكونا معه صلى الله عليه وسلم لما نام وفي قصة عمران أنهما معه.
وروى الطبراني شبيها بقصة عمران وفيه أن الذي كلأ لهم الفجر ذو مخبر وهو بكسر الميم وسكون الخاء المعجمة، وفتح الموحدة، وفي صحيح ابن حبان عن ابن مسعود أنه كلأ لهم الفجر.
قال الحافظ: فهذا كله يدل على تعدد القصة، ومع ذلك فالجمع ممكن ولا سيما مع ما وقع عند مسلم وغيره: أن عبد الله بن رباح راوي الحديث عن أبي قتادة ذكر أن عمران سمعه وهو يحدث الحديث بطوله، فقال: انظر كيف تحدث فإني كنت شاهدا القصة، فما أنكر عليه من الحديث شيئا، فهذا يدل على اتحادهما. لكن لمدعي التعدد أن يقول: يحتمل أن عمران حضر القصتين، فحدث بإحداهما وصدق ابن رباح لما حدث عن أبي قتادة بالأخرى, والله أعلم. انتهى.
فيتأمل الجمع بماذا مع هذا التغاير في الذي كلأ وأول من استيقظ، وأن العمرين معه في خبر عمران ولم يكونا في خبر أبي قتادة، وسبق اختلاف أيضا في محل اليوم فالمتجه ما رجحه عياض أن النوم وقع مرتين عن صلاة الصبح وإليه أومأ الحافظ قبلُ كما مر، "فقال: أي: بلال" مناديا, وفي رواية ابن إسحاق: فقال: "ماذا صنعت بنا يا بلال". "فقال بلال: إنه أخذ بنفسي الذي أخذ -بأبي أنت وأمي يا رسول الله-". هكذا ثبت في رواية مسلم وغيره، كما ترى وسقط في(3/296)
بنفسك. قال: "اقتادوا".
__________
رواية ابن إسحاق، الواقدي لكنها زيادة ثقة، فتقبل, وعجيب قول القائل: لعله ثبت في رواية غيره، أفلا تنبه لكون المتن عزاه لمسلم "بنفسك" صلة أخذ وما بينهما اعتراض.
قال ابن رشيق: أي أن الله استولى بقدرته عليَّ، كما استولى عليك مع منزلتك قال: ويحتمل أن المراد غلبني النوم كما غلبك، وقال ابن عبد البر: معناه قبض نفسي الذي قبض نفسك، فالباء زائدة أي توفاها متوفي نفسك, قال: وهذا قول من جعل النفس والروح شيئا واحدا؛ لأنه قال في الحديث الآخر: "إن الله قبض أرواحنا". فنص على أن المقبوض هو الروح وفي القرءان: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ} الآية. ومن قال: النفس غير الروح تأول: أخذ بنفسي من النوم الذي أخذ بنفسك منه.
زاد في رواية ابن إسحاق قال: "صدقت". وفي الموطأ من وجه آخر: ثم التفت صلى الله عليه وسلم إلى أبي بكر، فقال: "إن الشيطان أتى بلالا وهو قائم يصلي فأضجعه، فلم يزل يهديه كما يهدي الصبي حتى نام". ثم دعا بلالا فأخبر بلال رسول الله مثل الذي أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر، فقال أبو بكر: أشهد أنك رسول الله.
قال ابن عبد البر: أهل الحديث يروون: يهديه بترك الهمز وأصلها عند أهل اللغة الهمز، وقال في المطالع هو بالهمز أي يسكنه وينومه من هدأت الصبي، إذا وضعت يدك عليه لينام، وفي رواية بغير همز على التسهيل, ويقال فيه أيضا: يهدنه بالنون، وروي يتهدهده, هدهدت الأم ولدها لينام أي حركته. انتهى.
وفي هذا اعتذار عن بلال وأنه ليس باختياره وفيه تأنيس له، كما آنسهم لما عرض لهم من الأسف على خروج الصلاة عن وقتها بأنه لا حرج عليهم إذ لم يتعمدوا ذلك، ففي حديث عمران شكوا إليه الذي أصابهم قال: "لا ضير". أو: "لا يضيره". في مستخرج أبي نعيم: "لا يسوء ولا يضير". ولأحمد عن ابن مسعود مرفوعا: "وإن الله أراد أن لا تناموا عنها لم تناموا، ولكن أراد أن تكون لمن بعدكم فهكذا لمن نام أو نسي". وفي الموطأ وأبي داود: "إن الله قبض أرواحنا، ثم ردها إلينا فصلينا ولو شاء ردها إلينا في حين غير هذا".
قال: "اقتادوا" بالقاف، أي ارتحلوا كما قال في حديث عمران زاد مسلم في رواية أبي حازم عن أبي هريرة: "فإن هذا منزل حضرنا فيه الشيطان". قال ابن رشيق: قد علله صلى الله عليه وسلم بهذا ولا يعلمه إلا هو.
وقال القاضي عياض: هذا أظهر الأقوال في تعليله. قال الحافظ: وقيل لاشتغالهم بأحوال الصلاة، أو تحرزا من العدو، أو ليستيقظ النائم وينشط الكسلان، أو لأن الوقت وقت كراهة, يرده(3/297)
فاقتادوا رواحلهم شيئا، ثم توضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر بلالا فأقام الصلاة، فصلى بهم الصبح، فلما قضى الصلاة قال: "من نسي الصلاة فليصلها إذا ذكرها، فإن الله تعالى قال: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} ".
__________
قول الحديث: حتى ضربتهم الشمس، وفي حديث عمران: حتى وجدوا حر الشمس، وذلك لا يكون حتى يذهب وقت الكراهة.
وقال القرطبي: أخذ بهذا بعض العلماء فقال: من انتبه من نوم عن فائتة في حضر فليتحول عن موضعه، وإن كان واديا فليخرج عنه. وقيل: إنما يلزم في ذلك الوادي بعينه. وقيل: هو خاص به صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لا يعلم ذلك من حال ذلك الوادي ولا غيره إلا هو.
وقال غيره: يؤخذ منه إن من حصلت له غفلة في مكان عن عبادة استحب له التحول منه ومنه أمر الناعس في سماع الخطبة يوم الجمعة بالتحول من مكان إلى مكان آخر، "فاقتادوا رواحلهم شيئا" يسيرا.
وفي حديث عمران: فسار غير بعيد، ثم نزل وهذا يدل على أن هذا الارتحال وقع على خلاف سيرهم المعتاد، "ثم توضأ صلى الله عليه وسلم" زاد ابن إسحاق: وتوضأ الناس "وأمر بلالا فأقام الصلاة".
قال عياض: أكثر رواة الموطأ في هذا الحديث على: فأقام, وبعضهم قال: فأذن أو أقام على الشك. ولأحمد من حديث ذي مخبر: فأمر بلالا فأذن، ثم قام صلى الله عليه وسلم فصلى الركعتين قبل لصبح وهو غير عجل، ثم أمره فأقام الصلاة "فصلى بهم الصبح" زاد الطبراني من حديث عمران: فقلنا يا رسول الله أنعيدها من الغد لوقتها؟ قال: "نهانا الله عن الربا ويقبله منا"؟. وعند ابن عبد البر: "لا ينهاكم الله عن الربا ويقبله منكم". فلما قضى الصلاة، قال: "من نسي الصلاة". زاد القعنبي في روايته في الموطأ: "أو نام عنها". "فليصلها إذا ذكرها". وعند أبي يعلى والطبراني، وابن عبد البر من حديث أبي جحيفة: ثم قال صلى الله عليه وسلم: "إنكم كنتم أمواتا فرد الله إليكم أرواحكم فمن نام عن الصلاة فليصلها إذا استيقظ، ومن نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها". فعلم أن في الحديث اختصارا من بعض الرواة فزعم أنه أراد بالنسيان مطلق الغفلة عن الصلاة لنوم أو غيره، وأنه لم يذكر النوم أصلا لأنه أظهر في العموم الذي أراده فاسد نشأ من عدم الوقوف على الروايات, "فإن الله تعالى قال: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} " [طه: 14] .
قال القاضي عياض: قال بعضهم فيه تنبيه على ثبوت هذا الحكم وأخذه من الآية التي تضمنت الأمر لموسى عليه السلام وأنه مما يلزمنا اتباعه، وقال غيره: استشكال وجه أخذ الحكم من الآية فإن معنى: {لِذِكْرِي} ، إما لذكري فيها وإما لأذكرك عليها على اختلاف القولين في تأويلها وعلى كل فلا يعطى ذلك.(3/298)
وفيها قدم جعفر ومن معه من الحبشة.
__________
قال ابن جرير: ولو كان المراد حين تذكرها لكان التنزيل لذكرها، وأصح ما أجيب به أن الحديث فيه تغيير من الراوي، وإنما هو للذكرى بلام التعريف وألف القصر كما في سنن أبي داود وفيه وفي مسلم زيادة. وكان ابن شهاب يقرأها: "للذكرى" فبان بهذا أن استدلاله صلى الله عليه وسلم إنما كان بهذه القراءة فإن معناها للتذكر أي لوقت التذكر. قال عياض: وذلك هو المناسب لسياق الحديث. قال الجوهري: الذكرى نقيض النسيان. انتهى.
وقد جمع العلماء بين هذا الحديث وبين قوله صلى الله عليه وسلم: "إن عيني تنامان ولا ينام قلبي". بأن القلب إنما يدرك الحسيات المتعلقة به كالحدث والألم ونحوهما، ولا يدرك ما يتعلق بالعين لأنها نائمة والقلب يقظان. قال النووي: هذا هو الصحيح المعتمد. قال الحافظ: ولا يقال القلب وإن لم يدرك ما يتعلق بالعين من رؤية الفجر مثلا لكنه يدرك إذا كان يقظانا مرور الوقت الطويل، فإن من ابتداء الفجر إلى أن حميت الشمس مدة لا تخفى على من لم يستغرق، لأنا نقول يحتمل أن قلبه كان مستغرقا بالوحي ولا يلزم وصفه بالنوم، كما كان يستغرق حالة إلقاء الوحي يقظة.
والحكمة في ذلك بيان التشريع بالفعل؛ لأنه أوقع في النفس كما في سهوه في الصلاة، وقريب من هذا جواب ابن المنير بأن القلب قد يحصل له السهو في اليقظة لمصلحة التشريع، ففي النوم أولى أو على السواء وقيل: غير ذلك.
"وفيها قدم جعفر" بن أبي طالب الهاشمي الأمير المستشهد بمؤتة.
روى البيهقي عن جابر أن جعفرا لما قدم عليه صلى الله عليه وسلم تلقاه فقبل بهته.
ثم قال: "ما أدري بأيهما أفرح بفتح خيبر أم بقدوم جعفر"؟. وعنده أيضا بسند فيه من لا يعرف حاله عن جابر لما قدم جعفر تلقاه صلى الله عليه وسلم فلما نظر جعفر إليه حجل.
قال أحد رواته: يعني مشى على رجل واحدة إعظاما منه له فقبل صلى الله عليه وسلم بين عينيه "ومن معه" وهم ستة عشر رجلا، جعفر ومعه امرأته أسماء بنت عميس وابنه عبد الله ولدته بالحبشة، وخالد بن سعيد الأموي، مع امرأته أمينة بنت خلف وولداه سعيد وأمية ولدتهما بالحبشة وأخوه عمرو بن سعيد, ومعيقيب بن أبي فاطمة، وأبو موسى الأشعري، والأسود بن نوفل بن خويلد بن أسد، وجهم بن قيس معه ابنه عمرو وبنته خزيمة, وعامر بن أبي وقاص، وأبو حاطب ابن عمرو، ومالك بن ربيعة معه امرأته, والحارث بن عبد قيس، هكذا سماهم ابن إسحاق "من الحبشة" قال ابن إسحاق: بعث صلى الله عليه وسلم عمرو بن أمية الضمري إلى النجاشي فجعلهم في سفينتين فقدم بهم عليه وهو بخيبر ومعهم نساء من مات هناك من المسلمين.
وفي البخاري، ومسلم عن أبي موسى: بلغنا مخرج النبي صلى الله عليه وسلم ونحن باليمن، فخرجنا(3/299)
واختلف في فتح خيبر هل كان عنوة أو صلحا؟
وفي حديث عبد العزيز بن صهيب عن أنس التصريح بأنه كان عنوة، وبه جزم ابن عبد البر، ورد على من قال: فتحت صلحا. قال: وإنما دخلت الشبهة على من قال: فتحت صلحا بالحصنين اللذين أسلمهما أهلهما لتحقن دماؤهما، وهو ضرب من الصلح، لكن لم يقع ذلك إلا بحصار وقتال. انتهى.
__________
مهاجرين أنا وأخوان لي أنا أصغرهم أحدهما أبو بردة والآخر أبو رهم، إما قال: في بضع وإما قال: في ثلاثة أو اثنتين وخمسين رجلا من قومي فركبنا سفينة فألقتنا إلى النجاشي فوافقنا جعفر بن أبي طالب فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثنا هنا وأمرنا بالإقامة فأقيموا معنا، فأقمنا معه حتى قدمنا جميعا فوافقنا النبي صلى الله عليه وسلم حين افتتح خيبر فأسهم لنا ولم يسهم لأحد غاب عن فتح خيبر منها شيئا إلا لمن شهدها معه إلا أصحاب سفينتنا مع جعفر وأصحابه فإنه قسم لهم معنا.
وعند البيهقي أنه صلى الله عليه وسلم قبل أن يقسم لهم كلم المسلمين فأشركوهم. الحديث في الصحيح مطولا وفيه: أن عمر قال لأسماء بنت عميس: سبقناكم بالهجرة فنحن أحق برسول الله منكم. فغضبت وذكرته له صلى الله عليه وسلم فقال: "ليس بأحق بي منكم له ولأصحابه هجرة واحدة ولكم أنتم أهل السفينة هجرتان". وفيه أنه صلى الله عليه وسلم قال: "إني لأعرف أصوات رفقة الأشعريين بالقرآن حين يدخلون بالليل، وأعرف منازلهم من أصواتهم بالقرآن بالليل". "واختلف في فتح خيبر: هل كان عنوة؟ " كما قال أنس في الصحيح وابن شهاب عند ابن إسحاق وغيره "أو صلحا؟ " أو بعضها صلحا والباقي عنوة؟ كما رواه مالك عن الزهري، عن سعيد بن المسيب عند أبي داود، "وفي حديث عبد العزيز بن صهيب" بضم المهملة وفتح الهاء مصغرا, البناني بموحدة ونونين البصري, الثقة. المتوفى سنة ثلاثين ومائة. روى له الجميع "عن أنس" عند البخاري، وأبي داود، والنسائي "التصريح بأنه كان عنوة" ولفظه فأصبناها عنوة، "وبه جزم ابن عبد البر ورد على من قال: فتحت صلحا، قال: وإنما دخلت الشبهة على من قال: فتحت صلحا بالحصنين اللذين أسلمهما أهلهما" وهما الوطيح والسلالم "لتحقن دماؤهما وهو ضرب من الصلح لكن لم يقع ذلك إلا بحصار وقتال. انتهى".
قال الحافظ: والذي يظهر أن الشبهة في ذلك قول ابن عمران: النبي صلى الله عليه وسلم قاتل أهل خيبر فغلب على النخل وألجأهم إلى القصر، فصالحوه على أن يجلوا منها وله الصفراء والبيضاء، والحلقة، ولهم ما حملت ركابهم على أن لا يكتموا ولا يغيبوا ... الحديث وفي آخره: فسبى ذراريهم ونساءهم وقسم أموالهم للنكث الذي نكثوا، وأراد أن يجليهم، فقالوا: دعنا في هذه الأرض نصلحها ... الحديث.
أخرجه أبو داود، والبيهقي وغيرهما ما فعل هذا كان قد وقع الصلح ثم حدث النقض منهم فزال أثر الصلح، ثم من عليهم بترك القتل وأبقاهم عمالا بالأرض ليس لهم فيها ملك، لذلك أجلاهم عمر، فلو كانوا صولحوا على أرضهم لم يجلوا منها، وقد احتج الطحاوي على أن بعضها صلحا بما أخرجه هو وأبو داود أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قسم خيبر عزل نصفها لنوائبه وقسم نصفها بين المسلمين، وهو حديث اختلف في وصله وإرساله وهو ظاهر في أن بعضها فتح صلحا. انتهى.
لكن قال أبو عمر: هذا لو صح لكان معناه أن النصف له من سائر من وقع في ذلك النصف معه لأنها قسمت على ستة وثلاثين سهما، فوقع سهمه عليه السلام وطائفة معه في ثمانية عشر وسائر الناس في باقيها، وانتقده اليعمري بأن هذا تأويل ممكن لو احتمل الحديث هذ التفسير, والله أعلم.(3/300)
"فتح وادي القرى":
ثم فتح وادي القرى، في جمادى الآخرة.....................................
__________
فتح وادي القرى:
"ثم فتح وادي القرى" بضم القاف وفتح الراء مقصور موضع بقرب المدينة "في جمادى الآخرة" سنة سبع، كما اقتصر عليه اليعمري، ومغلطاي فتبعهما المصنف وكأنه, والله أعلم مبني على ما ذكره الحاكم، وابن سعد عن الواقدي أن خيبر كانت في جمادى الأولى، وقد تعقب ذلك الحافظ كما مر عنه بأن الذي في مغازي الواقدي أنها كانت في صفر، وقيل: في ربيع الأول، والذي قاله ابن إسحاق، والواقدي والبلاذري بأسانيده لما انصرف صلى الله عليه وسلم عن خيبر أتى الصهباء، سلك على برمة حتى انتهى إلى وادي القرى يريد من بها من يهود.
وقد روى مالك ومن طريقه البخاري، ومسلم عن أبي هريرة: افتتحنا خيبر ثم انصرفنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى وادي القرى، وأخرجه البيهقي من وجه آخر بلفظ: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم من خيبر إلى وادي القرى وبين هذا وكونها في جمادى تباين ظاهر؛ لأن خيبر كانت في المحرم سنة سبع أو في آخر سنة ست وحاصرها بضع عشرة ليلة حتى فتحها في صفر، ثم خرج إلى الصهباء وأقام حين بنى بصفية ثلاثة أيام بلياليها ومدة الذهاب والإياب ثمانية أيام فغاية المدة نحو شهر، فلا يكون وادي القرى في جمادى الآخرة غاية ما يفيده كلام الجماعة المعتضد بحديث أبي هريرة أنها في آخر صفر أو أول ربيع الأول.
نعم روى الطبراني في الأوسط عن ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم أقام بخيبر ستة أشهر يجمع الصلاة،(3/301)
بعد أن قام أربعا يحاصرهم، ويقال: أكثر من ذلك.
وأصاب "مدعما" مولاه سهم
__________
وهذا لو صح لرفع الإشكال يحمل قوله ستة على التقريب سيما على أنها في آخر سنة ست، أو على أن المراد بها وبما يتعلق بها من وادي القرى لكن سنده ضعيف، وعارضه رواية البيهقي بسند ضعيف عن ابن عباس أنه أقام بها أربعين يوما.
روى ابن إسحاق عن أبي هريرة: لما انصرفنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عن خيبر إلى وادي القرى نزلناها أصيلا مع غروب الشمس "بعد ما أقام بها أربعا" من الأيام "يحاصرهم ويقال: أكثر من ذلك".
قال الواقدي: عبَّى صلى الله عليه وسلم أصحابه للقتال وصفهم ودفع لواءه إلى سعد بن عبادة، وراية إلى الحباب بن المنذر وراية إلى سهل بن حنيف وراية إلى عباد بن بشر، ثم دعاهم إلى الإسلام وأخبرهم أنهم إن أسلموا أحرزوا أموالهم وحصنوا دماءهم وحسابهم على الله فبرز رجل منهم فقتله الزبير، ثم آخر فقتله الزبير، ثم آخر فقتله علي، ثم آخر فقتله أبو دجانة، ثم آخر فقتله أبو دجانة، حتى قتل منهم أحد عشر، كلما قتل رجلا دعا من بقي إلى الإسلام ولقد كانت الصلاة تحضر يومئذ فيصلي بأصحابه، ثم يعود فيدعوهم إلى الله ورسوله, فقاتلهم حتى أمسوا وغدا عليهم فلم ترتفع الشمس حتى أعطوا ما بأيديهم وفتحها صلى الله عليه وسلم عنوة، وغنمه الله أموالهم وأصابوا أثاثا ومتاعا كثيرا وأقام بها أربعة أيام وقسم ما أصاب على أصحابه بوادي القرى، وترك الأرض والنخيل بأيدي يهود وعاملهم عليها.
قال البلاذري: وولاها صلى الله عليه وسلم عمرو بن سعيد بن العاصي وأقطع جمرة بجيم ابن هوذة بفتح الهاء والمعجمة العذري رمية سوط من وادي القرى "وأصاب مدعما" بكسر الميم وسكون الدال وفتح العين المهملتين آخره ميم عبد أسود، كما في رواية الموطأ صحابي رضي الله عنه "مولاه" صلى الله عليه وسلم أهداه له رفاعة بن زيد أحد بني الضبيب كما في مسلم وهو بضم المعجة بصيغة التصغير.
وفي رواية ابن إسحاق رفاعة بن زيد الجذامي، ثم الضبني بضم المعجمة وفتح الموحدة بعدها نون وقيل: بفتح المعجمة، وكسر الموحدة نسبة إلى بطن من جذام.
قال الواقدي: كان رفاعة وفد على النبي صلى الله عليه وسلم في ناس من قومه قبل خروجه إلى خيبر فأسلموا وعقد له على قومه جاءه "سهم" فقتله.
روى مالك والشيخان من طريقه عن أبي هريرة: افتتحنا خيبر فلم نغنم ذهبا ولا فضة إنما غنمنا البقر، والإبل, والمتاع, والحوائط، ثم انصرفنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى وادي القرى ومعه عبد(3/302)
فقال صلى الله عليه وسلم: "إن الشملة التي غلها من خيبر تشتعل عليه نارا".
وصالحه أهل تيماء على الجزية، قاله الحافظ مغلطاي.
__________
له أسود يقال له: مدعم أهداه له أحد بني الضباب، فبينما هو يحط رحل رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاءه سهم عائر حتى أصاب ذلك البعد، فقال الناس: هنيئا له الشهادة، فقال صلى الله عليه وسلم: "كلا". هكذا في الموطأ، ومسلم, وفي البخاري: "بل". وللكشميهني: "بل" وهو تصحيف، والذي نفسي بيده "إن الشملة" كساء يلتف فيه وقيل إنما تسمى شملة إذا كان لها هدب وتقييد بعض بالغلظ إن ثبت أنه الواقع هنا وإلا فاللغة الإطلاق "التي غلها من خيبر".
وفي رواية التي أصابها يوم خيبر من المغانم لم تصبها المقاسم "تشتعل عليه نارا" قال الحافظ: يحتمل أن ذلك حقيقة بأن تصير الشملة نفسها نارا فيعذب بها ويحتمل أن المراد أنها سبب لعذاب النار وكذا القول في الشراك، يعني المذكور في بقية الحديث وهو: فجاء رجل حين سمع ذلك بشراك أو شراكين، فقال صلى الله عليه وسلم: "شراك -أو شراكان- من نار". وفيه تعظيم أمر الغلول، ونقل النووي الإجماع على حرمته وفي الصحيح عن عبد الله بن عمر، وقال: كان على ثقل النبي صلى الله عليه وسلم رجل يقال له: كركرة. فقال صلى الله عليه وسلم: "هو في النار في عباءة غلها"، وكلام عياض يشعر باتحاد قصته مع قصة مدعم والذي يظهر من عدة أوجه تغايرهم فإن قصة مدعم كانت بوادي القرى ومات بسهم وغل شملة، والذي أهداه للنبي صلى الله عليه وسلم رفاعة بخلاف كركرة، فأهداه هوذة بن علي أي: وغل عباءة ولم يمت بسهم فافترقا.
نعم روى مسلم عن عمر لما كان يوم خيبر.
قالوا: فلان شهيد, فقال صلى الله عليه وسلم: "كلا إني رأيته في النار في بردة غلها -أو عباءة-". فهذا يمكن تفسيره بكركرة "وصالحه" صلى الله عليه وسلم كما عند البيهقي في حديث أبي هريرة "أهل تيماء" لما بلغهم فتح وادي القرى "على الجزية".
زاد البلاذري فأقاموا ببلادهم وأرضهم في أيديهم وولاها صلى الله عليه وسلم يزيد بن أبي سفيان وكان إسلامه يوم فتحها، وروي أن عمر أجلى أهل فدك وخيبر، وتيماء وهو بفتح الفوقية وإسكان التحتية، والمد بلدة معروفة بين الشام والمدينة على نحو سبع مراحل أو ثمان من المدينة، قال: في المطالع من أمهات القرى على البحر من بلاط طيئ ومنها يخرج إلى الشام. "قاله الحافظ مغلطاي" تلخيصا للروايات كما ترى وصالحه أهل فدك حين أوقع بأهل خيبر على أن لهم نصفها وله صلى الله عليه وسلم نصفها فأقرهم على ذلك ولم يأتهم.
قال ابن إسحاق: فكانت له خالصة لأنه لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب. وقيل: صالحوه على حقن دمائهم والجلاء ويخلو بينه وبين الأموال ففعل.(3/303)
.........................
__________
قال الواقدي: والأول أثبت القولين، وقول الشارح قصة فدك في شعبان وهم, فالتي في شعبان إنما هي سرية بشير إلى بني مرة بفدك أي بقربها كما يأتي لا لنفس أهل فدك، وقد ذكر الشامي مصالحة أهل فدك عقب فتح خيبر قبل قصة وادي القرى وترجم ابن إسحاق أمر فدك في خيبر، ثم رجع صلى الله عليه وسلم إلى المدينة منصورا مؤيدا.
روى الشيخان وأصحاب السنن عن أبي موسى: قال أشرف الناس على واد فرفعوا أصواتهم بالتكبير الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله فقال صلى الله عليه وسلم: "أربعوا على أنفسكم, إنكم لا تدعون أصما ولا غائبا, إنكم لتدعون سميعا قريبا وهو معكم". وأنا خلف دابته فسمعني أقول: لا حول ولا قوة إلا بالله. فقال: "يا عبد الله بن قيس". قلت: لبيك يا رسول الله، قال: "ألا أدلك على كلمة من كنز الجنة". قلت: بلى. قال: "لا حول ولا قوة إلا بالله". أربعوا بكسر الهمزة وفتح الموحدة أي: أرفقوا وأمسكوا عن الجهر واعطفوا على أنفسكم بالرفق وكفوا عن الشدة, والله تعالى أعلم.(3/304)
"ذكر خمس سرايا بين خيبر والعمرة":
"الأولى: سرية عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى تربة":
ثم سرية عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى تربة في شعبان سنة سبع، ومعه ثلاثون رجلا، فخرج معه دليل من بني هلال، فكان يسير الليل ويكمن النهار، فأتى الخبر إلى هوازن فهربوا، وجاء عمر إلى محالهم فلم يلق منهم أحدًا، فانصرف راجعا إلى المدينة.
__________
ذكر خمس سرايا بين خيبر والعمرة:
"ثم سرية عمر بن الخطاب" الفاروق "رضي الله عنه إلى تربة" بضم الفوقية وفتح الراء، وبالموحدة، وتاء التأنيث. قال الحازمي: واد بقرب مكة على يومين منها.
قال ابن سعد: وتربة ناحية العبلاء، أي بفتح المهملة وسكون الموحدة والمد على أربع ليال من مكة طريق صنعاء ونجران، "في شعبان سنة سبع ومعه ثلاثون رجلا، فخرج" الأولى الواو إذ لا يتفرع على ما قبله فمر بهم حال كونه "معهه دليل من بني هلال" لم يسم، "فكان يسير الليل ويكمن" بضم الميم وفتحها يختفي "النهار، فأتى الخبر إلى هوازن،" أي: إلى الطائفة التي كانت منهم بتربة الذين قصدوا بالبعث "فهربوا وجاء عمر إلى محالهم فلم يلق منهم أحدا" بل وجدهم ترفعوا وأخذوا سائر مالهم من نعم وغيرها، "فانصرف راجعا إلى المدينة".
زاد ابن سعد وشيخه فلما كان بذي الجدر بفتح الجيم وسكون الدال، المهملة بالراء مسرح الغنم على ستة أميال من المدينة قال الهلالي لعمر: هل لك في جمع آخر تركته من خثعم(3/304)
"الثانية: سرية أبي بكر الصديق رضي الله عنه إلى بني كلاب":
ثم سرية أبي بكر الصديق رضي الله عنه إلى بني كلاب بنجد بناحية ضرية، سنة سبع، ويقال: إلى فزارة، فسبى منهم جماعة وقتل آخرين.
وفي صحيح مسلم: إلى فزارة، وهو الصحيح الصواب.
"الثالثة: سرية بشير بن سعد الأنصاري إلى بني مرة":
ثم سرية بشير بن سعد
__________
سائرين، قد أجدبت بلادهم، فقال عمر: لم يأمرني صلى الله عليه وسلم بهم إنما أمرني أعمد لقتال هوازن بتربة.
"الثانية: ثم سرية أبي بكر الصديق" أفضل الصحب بلا نزاع كما قام عليه من أهل السنة الإجماع وغيرهم محجوجون بما صح عن علي كرم الله وجهه أنه خير منه "رضي الله عنه إلى بني كلاب" بكسر الكاف وخفة اللام قبيلة "بنجد بناحية ضرية" بفتح الضاد المعجمة وكسر الراء فتحتية مشددة مفتوحة فتاء تأنيث. يقال: إنه اسم امرأة سمي به الموضع.
قال في الصحاح قرية لبني كلاب على طريق البصرة إلى مكة أقرب في شعبان "سنة سبع، ويقال: إلى" بني "فزارة فسبي منهم جماعة وقتل آخرين" هكذا رواه ابن سعد، والواقدي بإسنادين لهما عن سلمة، "وفي صحيح مسلم" عن سلمة بن الأكوع بعث صلى الله عليه وسلم أبا بكر "إلى فزارة" وخرجت معه حتى إذا صلينا الصبح أمرنا فشننا الغارة فوردنا الماء فقتل أبو بكر أي جيشه من قتل ورأيت طائفة منهم الذراري فخشيت أن يسبقوني إلى الجبل فأدركتهم ورميت بسهم بينهم وبين الجبل، فلما رأوا السهم وقفوا وفيهم امرأة وهي أم قرفة عليها قشع من أدم معها ابنتها من أحسن العرب. فجئت بهم أسوقهم إلى أبي بكر, فنفلني أبو بكر، ابنتها فلم أكشف لها ثوبا فقدمنا المدينة فلقيني صلى الله عليه وسلم فقال: "يا سلمة هب لي المرأة لله أبوك". فقلت: هي لك. فبعث بها إلى كة ففدى بها أسرى من المسلمين كانوا في أيدي المشركين.
ورواه ابن سعد أيضا مسندا ولم يلتفت المصنف إلى زعم من زعم أنه وهم، فقال: "وهو الصحيح الصواب" لصحة إسناده، نعم قيل: تسمية المرأة أم قرفة وهم من بعض الرواة لأن ابن سعد لم يسمها في روايته، بل قال: فإذا امرأة من فزارة لأن أم قرفة إنما كانت في السرية المختلف في أن أميرها الصديق أو زيد بن حارثة كما مر ذلك مبسوطا.
لكن قد تعقبت معارضة المصنف بحديث مسلم لما قبله هنا بأنهما سريتان مختلفتان سرية إلى فزارة بوادي القرى، وهي المختلف في أميرها وسرية إلى ضرية وهذا أميرها الصديق، فجمع بينهما تقليدا لليعمري وشيخه الدمياطي فوهم, والله أعلم.
"الثالثة: ثم سرية بشير" بفتح الموحدة، وكسر المعجمة وتحتية ساكنة "ابن سعد" بن ثعلبة(3/305)
الأنصاري إلى بني مرة بفدك، سنة سبع، ومعه ثلاثون رجلا، فقتلوا، وقاتل بشير حتى ارتث وضرب كعبه، وقيل: قد مات.
وقدم علبة بن زيد الحارثي بخبرهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم, ثم قدم بعده بشير بن سعد.
"السرية الرابعة: غالب بن عبد الله إلى الميفعة":
ثم سرية غالب بن عبد الله الليثي.
__________
"الأنصاري" الخزرجي، البدري، والد النعمان له ذكر في مسلم وغيره في قصة الهبة لولده وحديثه في النسائي استشهد بعين التمر مع خالد بن الوليد في خلافة أبي بكر سنة اثنتي عشرة، ويقال: إنه أول من بايع أبا بكر من الأنصار. "إلى بني مرة" بضم الميم وشد الراء "بفدك" بفتح الفاء والدال المهملة، وبالكاف موضع بخيبر بينه وبين المدينة -كما قال ابن سعد- ستة أميال جمع ميل فصحف من قال: ليال. "في شعبان سنة سبع ومعه ثلاثون رجلا، فقتلوا،" أي وقع القتل فيهم وهو لا يستلزم استئصالهم، فلا ينافي ما عند الواقدي وتلميذه ابن سبع لما وصلوا إليهم لقوا رعاء الشاء، فسألوا عن الناس، فقالوا: هم في نواديهم والناس يومئذ شاتون لا يحضرون الماء، فاستاق النعم والشاء وانحدر إلى المدينة فخرج الصريخ فأخبرهم فأدركه العدد الكثير منهم عند الليل، فباتوا يرامونه بالنبل حتى فنيت نبل أصحاب بشير فأصابوا أصحابه، وولى منهم من ولى "وقاتل بشير حتى ارتث" بضم أوله وسكون الراء وضم الفوقية ومثلثة مشددة أي جرح وصار به رمق، "وضرب كعبه" اختبار الحالة أهو ميت أم حي؟ "وقيل" لما لم يتحرك: "قد مات" ورجعوا بنعمهم وشائهم "وقدم علبة" بضم العين المهملة وإسكان اللام وفتح الموحدة فتاء تأنيث "ابن زيد" بن حارثة الأنصاري "الحارثي" الأوسي أحد البكائين في غزوة تبوك. روي أنه تصدق بعرضه على كل مسلم ناله.
"بخبرهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قدم بعده بشير بن سعد" وذلك أنه استمر في القتلى, فلما أمسى تحامل حتى انتهى إلى فدك، فأقام عند يهود بها أياما حتى ارتفع من الجراح، ثم رجع إلى المدينة فعلم من هذا أن بني مرة لم يكونوا بفدك فتسمحوا في قولهم إلى بني مرة بفدك لمجاورتها وكونها من أعمالها.
"السرية الرابعة: ثم سرية غالب بن عبد الله الليثي" الكناني، الكلبي كان على مقدمة النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح وله ذكر في فتح القادسية.
وهو الذي قتل هرمز ملك الباب وولي خراسان زمن معاوية سنة ثمان وأربعين، واسم جده مسعر بن جعفر، كما عند ابن الكلبي، لا فضالة بن عبد الله، كما في تاريخ الحاكم فابن الكلبي(3/306)
إلى الميفعة بناحية نجد من المدينة، على ثمانية برد، في شهر رمضان سنة سبع من الهجرة، في مائتين وثلاثين راجلا، فهجموا عليهم في وسط محالهم، فقتلوا من أشرف لهم، واستاقوا نعما وشاء إلى المدينة.
قالوا: وفي هذه السرية قتل أسامة بن زيد نهيك بن مرداس.
__________
أعرف بالنسب من غيره، كما أن غيره أعرف منه بالأخبار، إنما جاء اللبس من ذكر فضالة في نسبه وليس هو فيه، بل هو صحابي آخر اسمه غالب بن فضالة، كما في الإصابة "إلى" أهل "الميفعة" بكسر الميم وسكون التحتية وفتح الفاء والعين المهملة فتاء تأنيث والقياس فتح الميم، لأنه اسم لموضع أحد اليفاع وهو المرتفع من الأرض، كما في النور، أي لأنها في الأصل اسم موضع اليفع وهو الارتفاع سمي به ذلك الموضع، كما هو مفاد كلامه "بناحية نجد" وراء بطن نخل، كما نقله الفتح والعيون عن أهل المغازي فهي "من" أعمال "المدينة على ثمانية برد" وأهل الميفعة، كما في العيون بنو عول بضم العين وبنو عبد بن ثعلبة "في شهر رمضان سنة سبع من الهجرة" وسببها، كما في بعض الروايات عن ابن إسحاق عن يعقوب بن عقبة أنه صلى الله عليه وسلم قال له مولاه يسار: يا نبي الله إني قد علمت غرة من بني عبد ابن ثعلبة فأرسل معي إليهم، فأرسل غالبا في مائة وثلاثين راجلا وكان يسار دليلهم، واستشكل ذلك البرهان بأن يسار قتله العرنيون في شوال سنة ست، فلعل هذا غيره ولم أر له ذكرا في الموالي إلا أن يكون مولى لأحد من أقاربه عليه الصلاة والسلام نسب إليه، قلت: كلاهما مولاه والذي قتله العرنيون هو النوبي وهذا حبشي أصابه في غزوة بني ثعلبة، وقد فرق بينهما في الإصابة ورجح أنهما اثنان "في مائتين"، كذا في النسخ والذي عند ابن إسحاق كما ترى، وهو المنقول في العيون وغيرها في مائة بالأفراد "وثلاثين راجلا فهجموا عليهم" جميعا "في وسط محالهم" بشد اللام جمع محلة بفتح الحاء وهي المكان ينزله القوم، "فقتلوا مَن" بفتح الميم "أشرف لهم" بصيغة الماضي، كما هو المحفوظ ووقع في العيون من أشراف ورده البرهان "واستاقوا نعما وشاء إلى المدينة قالوا" أي أهل المغازي كابن إسحاق، والواقدي وابن سعد وتبرأ منه لأنه خلاف ظاهر حديث البخاري وما جزم به في الإكليل كما يأتي.
"وفي هذه السرية قتل أسامة بن زيد" الحب ابن الحب "نهيك" بفتح النون وكسر الهاء وسكون التحتية وبالكاف "ابن مرداس", كذا وقع عند الواقدي فاستدركه ابن فتحون على أبي عمر.
قال في الإصابة: وهو خطأ فإنه مقلوب قلبه بعض الرواة.
وإنما هو مرداس بن نهيك الضمري وقيل: ابن عمرو، وقيل: إنه أسلمي، وقيل: غطفاني(3/307)
بعد أن قال: لا إله إلا الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا شققت عن قلبه فتعلم أصادق هو أم كاذب"؟. فقال أسامة: لا أقاتل أحدًا يشهد أن لا إله إلا الله.
وفي الإكليل: فعل أسامة ذلك في سرية كان هو أميرا عليها سنة ثمان.
وفي البخاري.
__________
والأول أرجح ذكره ابن عبد البر وغيره في حرف الميم، "بعد أن قال لا إله إلا الله" زاد في رواية الثعلبي: محمد رسول الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أسامة من لك بلا إله إلا الله". فقال: يا رسول الله إنما قالها تعوذا من القتل. قال: "ألا". وللواقدي: هلا. "شققت عن قلبه" زاد السدي فنظرت إليه "فتعلم أصادق هو أم كاذب". "فقال أسامة: لا أقاتل أحدا" فضلا عن قتله "يشهد أن لا إله إلا الله" قال في الاستيعاب في تفسير السدي وابن جريج عن عكرمة وتفسير سعيد بن أبي عروبة عن أبي قتادة. وقاله غيرهم أيضا لم يختلفوا في أن المقتول الذي ألقى السلم. وقال: إنه مؤمن إنه مرداس واختلفوا في قاتله وفي أمير تلك السرية اختلافا كثيرا. انتهى.
ومراده لم يختلف من عزى لهم وإلا فعند أحمد، والطبراني وغيرهما عن عبد الله بن أبي حدرد وابن جرير عن ابن عمران، المقتول عامر بن الأضبط، الأشجعي والقاتل محلم بن جثامة وأن الآية نزلت في ذلك وعند الدارقطني، والبزار والطبراني، وصححه الضياء عن ابن عباس أن القاتل المقداد بن الأسود وأبهم اسم المقتول وأن فيه نزلت الآية.
وروى الثعلبي من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أن المقتول مرداس والقاتل أسامة، وأمير السرية غالب كما هنا، وأن قوم مرداس لما انهزموا بقي هو وحده وكان ألجأ غنمه لجبل فلما لحقوه. قال: لا إله إلا الله محمد رسول الله السلام عليكم. فقتله أسامة بن زيد لما رجعوا نزلت {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ} الآية، وأخرج ابن أبي حاتم عن جابر، وأبو نعيم عن أبي سعيد، نحوه. قال في الإصابة: فإن ثبت الاختلاف في تسمية القاتل مع الاختلاف في المقتول احتمل تعدد القصة. انتهى.
أي واحتمل أيضا تكرر نزول الآية تذكيرا بما سبق. "وفي الإكليل" للحاكم أبي عبد الله "فعل أسامة ذلك" المذكور من قتل الرجل "في سرية كان هو أميرا عليها في سنة ثمان" لا في هذه السرية التي في سنة سبع، كما قال أهل المغازي.
"وفي البخاري" ما يوافقه فإنه قال: بعد غزوة مؤتة باب بعث النبي صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد إلى الحرقات.
قال الحافظ: بضم الحاء المهملة وفتح الراء بعدها قاف نسبة إلى الحرقة وهو جهش بن عامر بن جهينة سمي الحرقة لأنه أحرق قوما بالقتل فبالغ في ذلك ذكره ابن الكلبي, ثم روى في(3/308)
عن أبي ظبيان قال: سمعت أسامة بن زيد يقول: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحرقة، فصبحنا القوم فهزمناهم، ولحقت أنا ورجل من الأنصار رجلا منهم، فلما غشيناه قال: لا إله إلا الله، فكف الأنصاري عنه، وطعنته.
__________
الباب وفي كتاب الديات ومسلم في الإيمان، وأبو داود في الجهاد، والنسائي في السير "عن أبي ظبيان" بفتح الظاء المعجمة وكسرها وسكون الموحدة فتحتية فألف فنون حصين بمهملتين مصغر بن جندب بن الحارث الجنبي بفتح الجيم وسكون النون، ثم موحدة نسبة إلى الجنب بلفظ شق الإنسان قبيلة من اليمن الكوفي الثقة التابعي الكبير روى له الستة وتوفي سنة تسعين وقيل: غير ذلك.
قال النووي: أهل العربية يفتحون الظاء من ظبيان وأهل الحديث يكسرونها، وكان منشأ الخلاف أن أهل العربية بنوا على مقتضى الاشتقاق في مثل هذه الصيغة، وأهل الحديث على أن ما ثبت وضعه وضع الأعلام لا يجب جريه على اللغة، "قال سمعت أسامة بن زيد" رضي الله عنهما "يقول: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحرقة" بضم الحاء المهملة وفتح الراء وبالقاف، وتاء تأنيث زاد في الديات من جهينة، قال المصنف: والجمع في الترجمة باعتبار بطون تلك القبيلة. انتهى.
قال في الفتح ليس في هذا الحديث ما يدل على أنه كان أمير الجيش كما هو ظاهر الترجمة، وقد ذكر أهل المغازي سرية غالب بن عبد الله الليثي إلى الميفعة في رمضان سنة سبع وقالا: إن أسامة قتل الرجل فيها، فإن ثبت أن أسامة كان أميرها فما صنعه البخاري هو الصواب لأنه ما أمر إلا بعد قتل أبيه بغزوة مؤتة، وذلك في رجب سنة ثمان وإن لم يثبت أنه كان أميرها رجح ما قال أهل المغازي. انتهى.
وذكر بعض شراح البخاري أن ما ذكره أهل المغازي مخالف لظاهر تجمة البخاري، ولعل المصير إلى ما في البخاري هو الراجح بل الصواب. انتهى.
وليس الترجي، من وجوه الترجيح نعم روى ابن جرير عن السدي: بعث صلى الله عليه وسلم سرية عليها أسامة بن زيد فذكر القصة.
وروى ابن سعد عن جعفر بن برقان قال: حدثني الحضرمي، قال: بلغني أنه صلى الله عليه وسلم بعث أسامة بن زيد على جيش فذكر القصة، فإن ثبتا ترجح صنيع البخاري "فصبحنا القوم" أتيناهم صباحا بغتة قبل أن يشعروا بنا فقاتلناهم "فهزمناهم ولحقت" بالواو ولأبي ذر الفاء "أنا ورجل من الأنصار" قال الحافظ: في مقدمة الفتح لم أعرف اسم الأنصاري ويحتمل أنه أبو الدرداء، ففي تفسير عبد الرحمن بن زيد ما يرشد إليه "رجلا منهم" هو مرداس كما مر "فلما غشيناه" بفتح الغين وكسر الشين المعجمتين "قال لا إله إلا الله فكف الأنصاري عنه وطعنته" وفي رواية بالفاء(3/309)
برمحي حتى قتلته. فلما قدمنا بلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "يا أسامة أقتلته بعد ما قال: لا إلا إلا الله"؟. قلت: كان متعوذا. فما زال يكررها حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم.
"الخامسة: سرية بشير بن سعد الأنصاري إلى يمن وجبار":
ثم سرية بشير بن سعد الأنصاري أيضا إلى يمن وجبار -بفتح الجيم- وهي أرض لغطفان، ويقال لفزارة وعذرة، في شوال سنة سبع من الهجرة، وبعث معه ثلاثمائة
__________
بدل الواو "برمحي حتى قتلته، فلما قدمنا" المدينة، "بلغ النبي صلى الله عليه وسلم" قتلي له بعد كلمة التوحيد، فقال: "يا أسامة! أقتلته" بهمزة الاستفهام الإنكاري "بعد ما" وفي رواية: "بعد أن". "قال: لا إله إلا الله"، وقد علمت قولي: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله". "قلت" زاد في الديات: يا رسول الله! إنما "كان متعوذا" بكسر الواو المشددة بعدها معجمة، أي لم يكن قاصدا للإيمان بل كان غرضه التعوذ من القتل "فما زال يكررها" أي: قوله: "أقتلته بعدما قال: لا إله إلا الله"؟. زاد في الديات: على شد الياء، وفي مسلم من حديث جندب: أنه صلى الله عليه وسلم قال له: "كيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة". "حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم" لآمن جريرة هذه الفعلة، ولم يتمن أن لا يكون مسلما قبل ذلك وإنما تمنى أن يكون إسلامه ذلك اليوم، لأن الإسلام يجب ما قبله.
قال القرطبي: وفيه إشعار بأنه استصغر ما سبق له قبل ذلك من عمل صالح في مقابلة هذه الفعلة لما سمعه من الإنكار الشديد وإنما قال أسامة ذلك على سبيل المبالغة لا الحقيقة قال الكرماني: أو عني إسلاما لا ذنب فيه.
وقال الخطابي: يشبه أنه تأول قوله، {فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا} ولم ينقل أنه صلى الله عليه وسلم ألزم أسامة دية ولا غيرها وفيه نظر فقد روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس: أمر صلى الله عليه وسلم لأهل مرداس بديته ورد ماله إليهم وقيل: قال له: "أعتق رقبة". والله أعلم.
"الخامسة: ثم سرية بشير" كأمير "ابن سعد الأنصاري أيضا إلى يمن" قال اليعمري: بفتح الياء آخر الحروف وقيل: بضمها وقيل: بالهمزة، مفتوحة ساكنة الميم أي مع فتح أوله وضمه كما في الشامي، ووقع في بعض نسخه الفوقية وهو تحريف، والذي في نسخه الصحيحة التحتية "وجبار بفتح الجيم" وبموحدة مخففة وبعدها ألف وراء "وهي أرض لغطفان" كما عند ابن سعد، "ويقال لفزارة" كما قال الحازمي: "وعذرة في شوال سنة سبع من الهجرة وبعث مع ثلاثمائة(3/310)
رجل لجمع تجمعوا للإغارة على المدينة، فساروا الليل وكمنوا النهار، فلما بلغهم مسير بشير هربوا.
وأصاب لهم نعما فغنمها، وأسر رجلين وقدم بهما المدينة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلما.
__________
رجل", وعقد له لواء "لجمع" من غطفان "تجمعوا" بالجناب بكسر الجيم من أرض غطفان، قد واعدهم عيينة بن حصن الفزاري "للإغارة على المدينة فساروا الليل وكمنوا" بفتح الميم، وكسرها "النهار، فلما بلغهم مسير بشير هربوا" فجاء الصحابة بمن وحبار، وهو نحو الجناب، والجناب معارض سلاح بسين وحاء مهملتين وخيبر ووادي القرى فنزلوا بسلاح, "وأصاب لهم نعما كثيرة فغنمها" ونفروا الرعاء فحذروا، وتفرقوا ونجعوا به عليا بلادهم بضم المهملة وسكون اللام والقصر نقيض السفلى.
وخرج بشير بن سعد في أصحابه حتى أتى محالهم، فلم يجد فيها أحدًا فلقوا عينا لعيينة فقتلوه، ثم لقوا جمع عيينة وهو لا يشعر بهم فناوشوهم ثم انكشف جمع عيينة وتبعهم المسلمون، "وأسر" منهم "رجلين وقدم بهما المدينة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلما", فأرسلهما ولم يسميا رضي الله عنهما، والمناوشة تداني الفريقين وأخذ بعضهم بعضا.(3/311)
"باب عمرة القضاء":
ثم عمرة القضية، وتسمى عمرة القضاء
__________
باب عمرة القضاء:
كذا ترجم به البخاري عند الأكثر وللمستملي وحده غزوة القضاء، والأول أولى ووجهوا كونها غزوة بأن موسى بن عقبة ذكر في المغازي عن ابن شهاب أنه صلى الله عليه وسلم خرج مستعدا بالسلاح والمقاتلة خشية أن يقع من قريش غدر، فبلغهم ذلك ففزعوا فلقيه مكرز، فأخبره أنه باق على شرطه وأن لا يدخل مكة بسلاح إلا السيوف في أغمادها، وإنما خرج في تلك الهيئة احتياطا فتوثق بذلك وأخر صلى الله عليه وسلم السلاح مع طائفة من أصحابه خارج الحرم حتى رجع ولا يلزم من إطلاق الغزوة وقوع المقاتلة.
وقال ابن الأثير أدخل البخاري عمرة القضاء في المغازي لكونها مسببة عن غزوة الحديبية. انتهى من الفتح. ولذا ترجمها المصنف بقوله: "ثم عمرة القضية، وتسمى" أيضا "عمرة القضاء", وتسمى أيضا عمرة القصاص ذكره ابن إسحاق, وعمرة الصلح ذكره الحاكم, فهي أربعة كما قال الحافظ. وقدم المصنف الأول؛ لأنه أبعد من إيهام كونه قضاء حقيقيا لا لأنه أشهر كما زعم. كيف وقد ترجم البخاري, وابن إسحاق، واليعمري, ومن لا يحصى بعمرة القضاء واختلف في سبب(3/311)
لأنه قاضى فيها قريشا؛ لا لأنها قضاء عن العمرة التي صد عنها؛ لأنها لم تكن فسدت حتى يجب قضاؤها, بل كانت عمرة تامة، لذا عدوا عمر النبي صلى الله عليه وسلم أربعا، كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
وقال آخرون: بل كانت قضاء عن العمرة الأولى. وعدوا عمرة الحديبية في العمر لثبوت الأجر فيها، لا لأنها كملت.
وهذا الخلاف مبني على الاختلاف في وجوب القضاء على من اعتمر فصد عن البيت.
__________
تسميتها بهما، فقال السهيلي: "لأنه قاضى" أي عاهد "فيها" أي: عليها أو بسببها أو في شأنها "قريشا" سنة الحديبية، فالمراد بالقضاء الفصل الذي وقع عليه الصلح، ولذا يقال لها: عمرة القضية.
قال أهل اللغة: قاضى فلانا عاهده وقاضاه عاوضه فيحتمل تسميتها بذلك للأمرين قاله عياض.
قال الحافظ: ويرجح الثاني تسميتها قصاصا قال الله تعالى: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ} .
قال السهيلي: تسميتها عمرة القصاص أولى بها لأن هذه الآية نزلت فيها. قال الحافظ: كذا رواه عبد بن حميد وابن جرير بإسناد صحيح عن مجاهد، وبه جزم سليمان التيمي في مغازيه، وقال ابن إسحاق: بلغنا عن ابن عباس، فذكره ووصله الحاكم في الإكليل عن ابن عباس، فذكره لكن في إسناده الواقدي "لا لأنها قضاء عن العمرة التي صد عنها؛ لأنها لم تكن فسدت حتى يجب قضاؤها" عند مالك والشافعي، وإن كانت نفلا لوجوب قضاء فاسد الحج والعمرة، ولو نفلا حتى عند الشافعي وإن لم يقل بوجوب قضاء النفل، "بل كانت عمرة تامة" أي في حكمها لثبوت الأجر فيها، وكونها لم يجب قضاؤها وإلا فلم يأتوا فيها بشيء من أعمالها سوى الإحرام، "لذا عدوا" أي الصحابة كأنس، وابن عمر في الصحيح "عمر النبي صلى الله عليه وسلم أربعا" عمرة الحديبية وعمرة القضاء وعمرة من الجعرانة وكلهن في ذي القعدة وعمرة مع حجته، "كما سيأتي إن شاء الله تعالى" في مقصد عبادته.
"وقال آخرون: بل كانت هذه "قضاء عن العمرة الأولى" التي صد عنها, ولذا سميت عمرة القضاء "و" إنما "عدوا عمرة الحديبية في العمر لثبوت الأجر فيها" وقبولها "لا لأنها كملت".
"وهذا الخلاف" في سبب التسمية "مبني على الاختلاف في وجوب القضاء على من اعتمر فصد عن البيت" سواء كان الصد عاما أو خاصا، وسواء عمرة الإسلام أو غيرها،(3/312)
فقال الجمهور: يجب عليه الهدي ولا قضاء عليه.
عن أبي حنيفة: عكسه.
وعن أحمد رواية: أنه لا يلزمه هدي ولا قضاء. وأخرى: يلزمه الهدي والقضاء.
فحجة الجمهور قوله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] .
وحجة أبي حنيفة: أن العمرة تلزم بالشروع، فإذا أحصر جاز له تأخيرها، فإذا زال الحصر أتى بها، ولا يلزم من التحلل بين الإحرامين سقوط القضاء.
وحجة من أوجبهما: ما وقع للصحابة، فإنهم نحروا الهدي حيث صدوا واعتمروا من قابل وساقوا الهدي.
وحجة من لم يوجبهما: أن تحللهم بالحصر لم يتوقف على نحر الهدي، بل أمر من معه هدي أن ينحر، ومن ليس معه هدي أن يحلق. انتهى.
__________
"فقال الجمهور" من العلماء: "يجب عليه الهدي ولا قضاء عليه. وعن أبي حنيفة عكسه" القضاء ولا هدي، "وعن أحمد رواية أنه لا يلزمه هدي ولا قضاء وأخرى يلزمه الهدي والقضاء, فحجة الجمهور قوله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} منعتم من إتمام الحج أو العمرة {فَمَا اسْتَيْسَرَ} تيسر {مِنَ الْهَدْيِ} عليكم شاة فأعلى, ففيه دليل على جواز التحلل بالإحصار، وأن فيه دما ولا قضاء لعدم ذكره في جواب الشرط. "وحجة أبي حنيفة: أن العمرة تلزم بالشروع، فإذا أحصر جاز له تأخيرها، فإذا زال الحصر أتى بها ولا يلزم من التحلل بين الإحرامين سقوط القضاء", وهو دليل عقلي "وحجة من أوجبهما" التثنية أي الهدي، والقضاء "ما وقع للصحابة فإنهم نحروا الهدي حيث صدوا واعتمروا، من قابل وساقوا الهدي".
وقد روى أبو داود عن أبي حاضر بحاء مهملة وضاد معجمة الأزدي، قال: اعتمرت، فأحصرت، فنحرت الهدي، وتحللت، ثم رجعت العام المقبل، فقال لي ابن عباس: أبدل الهدي، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه بذلك. "وحجة من لم يوجبهما" بالتنثية "أن تحللهم بالحصر لم يتوقف على نحر الهدي، بل أمر من معه هدي أن ينحره ومن ليس معه هدي أن يحلق" زاد الحافظ: وأسعد الكل بظاهر الأحاديث من أوجبهما. انتهى.
ويقع في نسخ: حجة من أوجبها، ثم حجة من لم يوجبها بالإفراد فيهما، ويمكن توجيهها بأن الضمير للخصلة المروية عن أحمد وهي وجوبهما أو عدمه. "انتهى".(3/313)
قال الحاكم في الإكليل: تواترت الأخبار أنه صلى الله عليه وسلم لما أهلّ ذو القعدة -يعني سنة سبع- أمر أصحابه أن يعتمروا قضاء لعمرتهم التي صدهم المشركون عنها بالحديبية، وأن لا يتخلف أحد ممن شهد الحديبية، فلم يتخلف منهم إلا رجال استشهدوا بخيبر ورجال ماتوا.
وخرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من المسلمين ألفان، واستخلف على المدينة أبا رهم الغفاري، وساق عليه الصلاة والسلام ستين بدنة
__________
هذا المبحث وهو في فتح الباري "قال الحاكم في الإكليل: تواترت الأخبار أنه صلى الله عليه وسلم لما أهل ذو القعدة يعني سنة سبع".
روى يعقوب ابن سفيان، في تاريخه بإسناد حسن عن ابن عمر قال: كانت عمرة القضية في ذي القعدة سنة سبع "أمر أصحابه أن يعتمروا لعمرتهم التي صدهم المشركون عنها بالحديبية" هذا ظاهر فيما قاله أبو حنيفة، ويجيب الجمهور عنه بأن معنى قضاء عوض عنها لا قضاء واجب "و" أمر "أن لا يتخلف أحد ممن شهد الحديبية فلم يتخلف منهم" أحد "إلا رجال استشهدوا بخيبر ورجال ماتوا".
وعند الواقدي: فقال رجال من حاضري المدينة من العرب: يا رسول الله! والله ما لنا من زاد وما لنا من يطعمنا, فأمر صلى الله عليه وسلم المسلمين أن ينفقوا في سبيل الله وأن يتصدقوا وأن يكفوا أيديهم فلا يهلكوا فقالوا: يا رسول الله بم نتصدق وأحدنا لا يجد شيئا، فقال صلى الله عليه وسلم: "ما كان ولو بشق تمرة".
وروى البخاري والبيهقي وغيرهما عن حذيفة ووكيع، والبيهقي عن ابن عباس، وابن جرير عن عكرمة ووكيع عن مجاهد، قالوا في قوله تعالى: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} . إن التهلكة ترك النفقة في سبيل الله وليس التهلكة أن يقتل ارجل في سبيل الله، ولكن الإمساك في سبيل الله أنفق ولو شقصا.
"وخرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من المسلمين ألفان" سوى النساء والصبيان "واستخلف على المدينة" فيما قال الواقدي، وابن سعد "أبا رهم" بضم الراء، وسكون الهاء كلثوم بن الحصين "الغفاري" الصحابي المشهور، وقال ابن هشام: عويف بن الأضبط الديلمي بضاد معجمة وطاء مهملة.
وقال البلاذري: أبا ذر، ويقال: عويفا وهو مصغر عوف، ويقال فيه: عويث بمثلثة بدل الفاء "وساق عليه الصلاة والسلام ستين بدنة" كما للواقدي عن محمد بن إبراهيم التيمي وعن ابن عباس أنه عليه الصلاة والسلام قلد هديه بيده وعن عبد الله بن دينار أنه جعل عليها ناجية بن جندب الأسلمي يسير بها أمامه يطلب الرعي في الشجر معه أربعة فتيان من أسلم رواهما الواقدي.(3/314)
وحمل السلاح والبيض والدروع والرماح، وقاد مائة فرس، فلما انتهى إلى ذي الحليفة قدم الخيل أمامه، عليها محمد بن مسلمة، وقدم السلاح واستعمل عليه بشير بن سعد.
وأحرم النبي صلى الله عليه وسلم ولبى، والمسلمون يلبون معه، ومضى محمد بن مسلمة في الخيل إلى مر الظهران، فوجد بها نفرا من قريش، فسألوه فقال: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يصبح هذا المنزل غدا إن شاء الله تعالى. فأتوا قريشا فأخبروهم ففزعوا.
__________
"و" عند الواقدي عن عاصم بن عمر أنه عليه السلام "حمل السلاح والبيض" بكسر الموحدة جمع بيضة وهي الواحدة من الحديد "والدروع" جمع درع، وفي نسخة الدرع بالأفراد على إرادة الجنس وضبطه بضمتين خلاف قول القاموس جمعه أدرع ودروع وأدراع "والرماح" وعطف الثلاثة على السلاح مباين إن أريد ما عداه كالسيوف، وخاص على عام إن أريد به ما ينفع في الحرب بمنع أو دفع، "وقاد مائة فرس" من الخيل يقع على الذكر والأنثى، والظاهر أنها كانت منهما، "فلما انتهى إلى ذي الحليفة قدم الخيل أمامه عليها محمد بن مسلمة" الأنصاري "وقدم السلاح" المذكور "واستعمل عليه بشير" كأمير "ابن سعد" والد النعمان، وبقية رواية عاصم فقيل: يا رسول الله حملت السلاح، وقد شرطوا أن لا تدخلها إلا بسلاح المسافر السيوف في القرب، فقال عليه السلام: "إنا لا ندخله عليهم الحرم ولكن يكون قريبا منا فإن هاجنا هيج من القوم كان السلاح قريبا منا". "وأحرم النبي صلى الله عليه وسلم" من باب المسجد؛ لأنه سلك طريق الفرع ولولا ذلك لأهل من البيداء.
رواه الواقدي عن جابر وذكره المحب الطبري عن جابر ولم يعزه لكتاب ومر أن الفرع بضم الفاء وسكون الراء أو ضمهما، "ولبى والمسلمون يلبون معه ومضى محمد بن مسلمة في الخيل إلى مر الظهران" واد قرب مكة يضاف إليه مر كما في القاموس، فظاهره أنه اسم لنفس الوادي.
وفي المصباح الظهران بلفظ التثنية واد قرب مكة نسب إليه قرية هناك فقيل: مر الظهران ويوافقه تأنيث الضمير العائد عليها من قوله "فوجد بها نفرا من قيش فسألوه" عن سبب مجيئه بالخيل، "فقال: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يصبح" بفتح الصاد وكسر الموحدة مشددة، أي يأتي "هذا المنزل غدا إن شاء الله تعالى"، وأما يصبح بسكون الصاد وخفة الموحدة فمعناه يدخل في الصباح، كما في اللغة وليس مرادا "فأتوا قريشا فأخبروهم ففزعوا" وقالوا: والله ما أحدثنا حدثا(3/315)
ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بمر الظهران وقدم السلاح إلى بطن يأجج -كيسمع وينصر ويضرب- موضع بمكة، حيث ينظر إلى أنصاب الحرم، وخلف عليه أوس بن خولى الأنصاري في مائتي رجل.
وخرجت قريش من مكة إلى رءوس الجبال.
وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم الهدي أمامه، فحبس بذي طوى، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على راحلته القصواء، والمسلمون متوشحون السيوف
__________
وإنا على كتابنا ومدتنا ففيم يغزونا محمد في أصحابه وبعثوا مكرزا في نفر من قريش حتى لقوه ببطن يأجج وهو في أصحابه والهدي والسلاح قد تلاحق، فقالوا: والله ما عرفت صغيرا ولا كبيرا بالغدر تدخل بالسلاح في الحرم على قومك وقد شرطت لهم أن لا تدخل إلا بسلاح المسافر، فقال: "إني لا أدخل عليهم بسلاح". فقال مكرز: هو الذي تعرف به البر والوفاء، ثم رجع بأصحابه إلى مكة، فقال: إن محمدًا على الشرط الذي شرط لكم.
رواه الواقدي "ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بمر الظهران وقدم السلاح إلى بطن يأجج" بتحتية فهمزة ساكنة فجيمين بتثليث الجيم "كيسمع وينصر ويضرب" هذا لفظ القاموس في فصل الهمزة من باب الجيم، وهو الذي سمعه شيخنا واقتصر في فصل الياء على أنه كيمنع. وهو الذي رآه صاحب النور، وقد ذكره المجد أيضا في كتاب المثلث له.
واقتصر ابن الأثير على كسر الجيم "موضع" بالجر بدل والرفع خبر محذوف، "بمكة" أي قربها أو نواحيها فلا ينافي قول ابن الأثير على ثمانية أميال من مكة، وأفاده قوله: "حيث" ظرف مكان "ينظر" من به "إلى أنصاب الحرم" أي أعلام حدوده "وخلف" بشد اللام أي أخر "عليه" حافظا له "أوس بن خولى" بفتح المعجمة وفتح الواو ضبطه العسكري في كتاب التصحيف.
واقتصر عليه في التبصير "الأنصاري" الخرجي البدري المتوفى في أواخر خلافة عثمان "في مائتي رجل،" قال ابن سعد، ثم خلفهم مثلهم حتى قضى الكل مناسك عمرتهم رضي الله عنهم، "وخرجت قريش" أي أكابرهم وأشرافهم، كما في العيون وغيرها "من مكة إلى رءوس الجبال" عداوة الله ولرسوله، ولم يقدروا على الصبر على رؤيته يطوف البيت هو وأصحابه.
وفي رواية خرجوا استنكافا أن ينظروا إليه صلى الله عليه وسلم وحنقا بفتح المهملة والنون وقاف أي: غيظا, فهو مساو, ونفاسة أي: حسدا يقال: نفس بالشيء بالكسر حسده عليه ولم يره أهلا له. "وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم الهدي أمامه، فحبس" أي ترك "بذي طوى" بتثليث الطاء واد بقرب مكة يصرف ولا يصرف إليه، كما في الشامية حتى يفرغ من عمرته ويحضره للنحر. "وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم" راكبا "على راحلته" ناقته "القصواء" كحمراء "والمسلمون متوشحون السيوف".(3/316)
محدقون برسول الله صلى الله عليه وسلم يلبون، فدخل من الثنية التي تطلعه على الحجون، وابن رواحة آخذ بزمام راحلته.
وفي رواية الترمذي في الشمائل، من حديث أنس أنه صلى الله عليه وسلم دخل مكة في عمرة القضاء وابن رواحة يمشي بين يديه وهو يقول:
خلوا بني الكفار عن سبيله ... اليوم نضربكم على تنزيله
ضربا يزيل الهام عن مقيله ... .........................
__________
قال الشامي: توشح السيف ألقى طرف علاقته على منكبه الأيمن من تحت يده اليسرى ويأخذ طرفه الذي ألقاه على منكبه الأيسر تحت يده اليمنى، ثم يعقدهما على صدره "محدقون" محيطون "برسول الله صلى الله عليه وسلم يلبون".
وفي الصحيح عن ابن أبي أوفى لما اعتمر صلى الله عليه وسلم سترناه من غلمان المشركين ومنهم مخافة أن يؤذوه "فدخل من الثنية" وهي كل عقبة مسلوكة "التي تطلعه على الحجون" بفتح المهملة وضم الجيم وبالواو، والنون جبل بمكة.
"وابن رواحة آخذ" بمد الهمزة وكسر الخاء المعجمة "بزمام راحلته" كما في رواية ابن إسحاق وغيره.
وفي رواية بغرزه أي ركابه فيحتمل أخذه تارة بالزمام وأخرى بالركاب وتارة يمشي بين يديه كما في الرواية الآتية.
"وفي رواية الترمذي في الشمائل" النبوية ولا داعي للتقييد، وكذا في سننه والنسائي, والبزار كلهم "من حديث" عبد الرزاق عن جعفر بن سليمان عن ثابت عن "أنس أنه صلى الله عليه وسلم دخل مكة في عمرة القضاء وابن رواحة" الخزرجي "يمشي" بالميم من المشي وفي نسخ ينشئ بالنون من الإنشاء أي يحدث نظم الشعر "بين يديه وهو يقول: خلوا" تنحوا يا "بني الكفار عن سبيله" طريقه، واغتر بعضهم بقوله السابق خرجت قريش من مكة إلى رءوس الجبال فأول قوله: خلوا باثبتوا على التخلية ولا حاجة إليه فلم يخرجوا كلهم، بل أشرافهم كما مر. "اليوم نضربكم" بسكون الباء للتخفيف كقراءة أبي عمر: "وأن الله يأمركم". وقوله: اليوم أشرب غير مستحقب. "على تنزيله" أي النبي مكة إن عارضتم، ولا نرجع كما رجعنا عام الحديبية أو على تنزيل القرآن، وإن لم يتقدم ذكره نحو: {حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} .
وأبعد من قال على تنزيل النبي أي إرسال الله له إليكم فهو كالأمر النازل من السماء. "ضربا يزيل الهام" جمع هامة بالتخفيف وهي الرأس. "عن مقيله" أي: محل نومه نصف النهار مستعار من موضع القائلة، فهو كناية عن محل الراحة إذ النوم أعظم راحة أو شبه به العنق بجمع(3/317)
..................... ... ويذهل الخليل عن خليله
فقال عمر: يابن رواحة بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم تقول شعرا؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "خل عنه يا عمر، فلهي أسرع فيهم من نضج النبل".
ورواه عبد الرزاق من حديث أنس أيضا من وجهين بلفظ.
خلوا بني الكفار عن سبيله ... قد أنزل الرحمن في تنزيله
بأن خير القتل في سبيله ... نحن قتلناكم على تأويله
كما قتلناكم على تنزيله
__________
أنه محل الاستراحة، أي يزيل الرأس عند العنق، وذكر الضمير نظر إلى أن الهام اسم جمع يفرق بينه وبين واحده بالتاء ولا ينافيه إطلاق النور وغيره أنه جمع لجواز أن المراد اللغوي "ويذهل الخليل عن خليله" لكونه يهلك أحد الخليلين فيذهل الهالك عن الحي والحي عن الهالك.
"فقال عمر: يابن رواحة بين" استفهام محذوف الأداة، وفي رواية بإثباتها: أبين "يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي حرم الله تقول شعرا".
وفي رواية: الشعر وذلك قد يحرك غضب الأعداء فيلتحم القتال في الحرم أو وهو مناف لما اعتدناه من رعاية كمال الأدب خصوصا في حال العبادة التي منها ما نحن فيه من العمرة بالحرم.
"فقال له صلى الله عليه وسلم" تسلية وإخبارا بأن الله عصمه ومن معه وأن ذلك لا يخل بالأدب: "خل عنه يا عمر" أي: لا محل بينه وبين ما سلكه من قول الشعر حينئذ "فلهى" أي: هذه الجملة أو الأبيات أو الكلمات واللام جواب قسم مقدر، أي لتأثيرها "فيهم" أي: في إيذائهم ونكايتهم وقهرهم "أسرع" وصولا وأبلغ نكاية "من" تأثير "نضح النبل" رمي السهام إليهم، فكما يبعدون منها يبعدون من سماع هذا، ومحال لهم أن يقربونا بعون الله وإلقاء الرعب، ثم هو من إضافة الصفة للموصوف أي النبل الذي يرمى به.
قال البزار: لم يروه عن ثابت إلا جعفر بن سليمان، وقال الترمذي: حديث صحيح غريب. "ورواه عبد الرزاق من حديث أنس من وجهين" أي طريقين أحدهما روايته عن جعفر عن ثابت عنه وهي المتقدمة، والثاني روايته عن معمر عن الزهري عن أنس "بلفظ" أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة في عمرة القضاء وعبد الله بن رواحة ينشد بين يديه "خلوا" يا "بني الكفار عن سبيله". "قد نزل الرحمن في تنزيله" القرآن "بأن" الباء زائدة "خير القتل في سبيله" أي جهاد أعدائه وفي السياق بمعنى الطريق المحسوس، فلا إبطاء "نحن قتلناكم على تأويله، أي على إنكاركم ما أول به، كما فهمنا منه، والمعنى نحن نقاتلكم على إنكار تأويله "كما قتلناكم على" إنكار "تنزيله".(3/318)
وأخرجه الطبراني والبيهقي في الدلائل وفيه:
اليوم نضربكم على تنزيله ... ضربا يزيل الهام عن مقيله
ويذهل الخليل عن خليله ... يا رب إني مؤمن بقيله
وعند بن عقبة في المغازي بعد قوله:
قد أنزل الرحمن في تنزيله ... في صحف تتلى على رسوله
لكنه لم يذكر أنسا، وزاد ابن إسحاق بعد قوله:
يا رب إني مؤمن بقيله ... إني رأيت الحق في قبوله
وقال ابن هشام: إن قوله:
نحن ضربناكم على تأويله
إلى آخر الشعر من قول عمار بن ياسر قاله
__________
مصدر بمعنى اسم المفعول، أي ما نزل عليه الدال على رسالته وصدقه في كل ما جاء به، أخرجه أبو يعلى من طريق عبد الرزاق، "وأخرجه الطبراني" عن عبد الله بن أحمد عن أبيه عن عبد الرزاق. قال الحافظ: وما وجدته في مسند أحمد. قال: وقد أخرجه الطبراني أيضا عاليا عن إبراهيم بن أبي سويد عن عبد الرزاق. "و" من هذا الوجه أخرجه "البيهقي في الدلائل" النبوية.
قال الحافظ: وأخرجه البيهقي أيضا من طريق أبي الأزهر فذكر القسم الأول من الرز "وفيه" بعده "اليوم نضربكم على تنزيله ضربا يزيل الهام عن مقيله" مستعار من موضع القائلة لموضع الرأس في الجسد استعارة تصريحية لذكره فيه الشبه به "ويذهل الخليل عن خليله. يا رب إني مؤمن بقيله" أي بقوله بمعنى مقوله تعالى {وَقِيلِهِ يَا رَبِّ} [الزخرف: 88] .
قال الدارقطني تفرد به معمر عن الزهري، وتفرد به عبد الرزاق عن معمر "و" رده الحافظ، بأنه "عند ابن عقبة في المغازي" عن شيخه الزهري. وفيه "بعد قوله قد أنزل الرحمن في تنزيله في صحف تتلى على رسوله لكنه لم يذكر أنسا" أي فيكون عبد الرزاق تفرد بوصله.
قال الحافظ: وقد صححه ابن حبان من الوجهين، وعجبت من الحاكم كيف لم يستدركه فإنه من الوجه الأول على شرط مسلم لأجل جعفر ومن الوجه الثاني على شرط الشيخين.
"وزاد ابن إسحاق" في روايته عن شيخه عبد الله بن أبي بكر بن حزم، قال: بلغني فذكره وزاد "بعد قوله: يا رب إني مؤمن بقيله، إني رأيت الحق في قوله" أي قبول قوله صلى الله عليه وسلم.
"وقال ابن هشام" عبد الملك: "أن قوله: نحن ضربناكم على تأويله إلى آخر الشعر من قول عمار بن ياسر قاله" في غير هذا اليوم.(3/319)
يوم صفين.
قالوا: ولم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبي حتى استلم الركن بمحجنه.
__________
قال السهيلي يعني "يوم صفين" فتسمح المصنف في العز، وقال ابن هشام والدليل على ذلك أن المشركين لم يقروا بالتنزيل وإنما يقاتل على التأويل من أقر بالتنزيل.
قال ابن كثير وفيه نظر فلم ينفرد به ابن إسحاق بل تابعه ابن عقبة وغيره وجاء من غير وجه عن عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن أنس، وقال الحافظ في الفتح: إذا ثبتت الرواية فلا مانع من إطلاق ذلك، فإن التقدير على رأي ابن هشام: نحن ضربناكم على تأويله أي حتى تذعنوا إلى ذلك التأويل، ويجوز أن التقدير نحن ضربناكم على تأويل ما فهمنا منه حتى تدخلوا فيما دخلنا فيه وإذا كان ذلك محتملا وثبتت الرواية سقط الاعتراض, نعم الرواية التي جاء فيها، فاليوم نضربكم على تأويله يظهر أنها قول عمار، ويبعد أن تكون قول ابن رواحة؛ لأنه لم يقع في عمرة القضاء ضرب ولا قتال، وصحيح الرواية نحن ضربناكم على تأويله كما ضربناكم على تنزيله، يشير بكل منهما إلى ما مضى، ولا مانع أن يتمثل عمار بهذا الرجز ويقول هذه اللفظة ومعنى قوله: نحن ضربناكم على تنزيله أي في عهد الرسول فيما مضى واليوم نضربكم على تأويله أي الآن.
هذا وقد وقع للترمذي أنه قال: وفي غير هذا الحديث إن هذه القصة لكعب بن مالك وهو أصح لأن عبد الله بن رواحة قتل بمؤنة وكانت عمرة القضاء بعد ذلك.
قال الحافظ وهو ذهول شديد وغلط مردود وما أدري كيف وقع الترمذي في ذلك مع وفور معرفته، ومع أن في قصة عمرة القضاء اختصام جعفر, وأخيه علي، وزيد بن حارثة في بنت حمزة كما يأتي، وجعفر وزيد وابن رواحة قتلوا في موطن واحد. فكيف يخفى على الترمذي مثل هذا؟ ثم وجدت عن بعضهم أن الذي عند الترمذي من حديث أنس أن ذلك كان في فتح مكة، فإن كان كذلك اتجه إعراضه لكن الموجود بخط الكروخي، راوي الترمذي هو ما تقدم, والله أعلم. انتهى.
وفيه جواز بل ندب إنشاد واستماع الشعر الذي فيه مدح الإسلام، والحث على صدق اللقاء ومبايعة النفس لله سبحانه، وعدم المبالاة بالعدو، وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم قال لما أنكر عمر، على ابن رواحة: "يا عمر إني أسمع". فسكت عمر.
وقال عليه السلام: "يابن رواحة قل: لا إله إلا الله وحده نصر عبده وأعز جنده وهزم الأحزاب وحده ". فقالها ابن رواحة, فقالها الناس، كما قالها وفي أمره بذلك زيادة إغاظة الكفار لتأذيهم بها أكثر من الشعر المذكور، لا سيما وقد قالوها كلهم معلنين بها "قالوا" ابن سعد وغيره: "ولم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبي حتى استلم الركن" الحجر الأسود "بمحجنه" بكسر(3/320)
مضطبعا بثوبه وطاف على راحلته، والمسلمون يطوفون معه وقد اضطبعوا بثيابهم.
وفي البخاري، عن ابن عباس: قال المشركون: إنه يقدم عليكم وفد
__________
الميم وسكون الحاء المهملة وفتح الجيم، عصا معوجة الرأس يلتقط بها الراكب ما سقط منه "مضطبعا بثوبه" أي جعل وسطه تحت الإبط اليمين وطرفه على الكتف اليسرى "وطاف على راحلته", كما ذكر ابن سعد، والواقدي وغيرهما وزادوا من غير علة.
وروى يونس بن بكير عن زيد بن أسلم أنه صلى الله عليه وسلم طاف على ناقته وعند ابن إسحاق وغيره عن ابن عباس أنه طاف ماشيا وهرول ثلاثة أشواط ومشى سائرها "والمسلمون يطوفون معه" مكة طاف، فطفنا معه وأتى الصفا والمروة وأتيناهما معه، قال: وكنا نستره من أهل مكة أن يرميه أحد. وفي رواية سترناه من غلمان المشركين ومنهم أن يؤذوه.
رواهما البخاري وفي رواية الإسماعيلي لما قدم صلى الله عليه وسلم مكة وطاف بالبيت في عمرة القضية كنا نستره من السفهاء والصبيان مخافة أن يؤذوه.
وروى البخاري عن إسماعيل بن أبي خالد أن رجلا سأل ابن أبي أوفى أدخل صلى الله عليه وسلم عام القضية الكعبة قال: لا.
وروى الواقدي عن داود بن الحصين، قال: لم يدخل صلى الله عليه وسلم الكعبة في القضية وقد أرسل إليهم، فأبوا وقالوا: لم يكن في شرطك.
ووقع للبيهقي من طريق الواقدي عن ابن المسيب أنه عليه السلام لما قضى طوافه في عمرة القضاء دخل البيت، فلم يزل فيه حتى أذن بلال الظهر فوق ظهر الكعبة بأمره صلى الله عليه وسلم ... الحديث وفيه: أن عكرمة وصفوان وخالد بن أسيد, كأمير, حمدوا الله على موت آبائهم ولم يروا هذا العبد ينهق فوق الكعبة وهو وهم، فالذي رواه أبو يعلى، وابن أبي شيبة، وابن هشام، والبيهقي نفسه من وجه آخر. وغيرهم من عدة طرق: أن دخول المصطفى الكعبة وأذان بلال على ظهرها إنما كان في فتح مكة كما يأتي. وصرح بعضهم بأنه المشهور والواقدي لا يحتج به إذا انفرد فكيف إذا خالف لا سيما ما في البخاري؟ وقد صرح الواقدي نفسه بأن القول بأنه لم يدخلها هو الثبت، والشامي رحمه الله أار إلى الترجيح بالعزو والتبري بقوله: كذا في هذه الرواية أنه دخل البيت وعقبه برواية البخاري أنه لم يدخله، وهذا مع ظهوره لم يتنبه له من زعم أنه لم يرجح شيئا.
"في البخاري" ومسلم "عن ابن عباس" قدم صلى الله عليه وسلم، وأصحابه "فقال المشركون: إنه" أي: الشأن "يقدم عليكم وفد" أي قوم وزنا ومعنى.(3/321)
وهنتهم حمى يثرب. فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يرملوا الأشواط الثلاثة، وأن يمشوا ما بين الركنين، ولم يمنعه أن يرملوا الأشواط كلها إلا الإبقاء عليهم.
__________
وفي رواية ابن السكن، بفتح القاف، وسكون الدال، وهو خطأ قاله الحافظ وصدر المصنف بأنه بالفاء الساكنة والرفع فاعل يقدم أي جماعة وعز الثانية لأبي الوقت، وتكلف توجيهها بأن ضمير أنه للنبي صلى الله عليه وسلم أي: يقدم والحال أنه قد "وهنتهم" أي الصحابة.
قال الحافظ: بتخفيف الهاء وتشديدها، أي: أضعفتهم قال المصنف: ولابن عساكر وهنهم بحذف الفوقية "حمى" فعلى غير منصرف لألف التأنيث كما في المصباح "يثرب" اسم المدينة النبوية في الجاهلية، ونهى صلى الله عليه وسلم عن تسميتها بذلك وإنما ذكر ابن عباس ذلك حكاية لكلام المشركين.
وروى أحمد عن ابن عباس لما نزل صلى الله عليه وسلم مر الظهران في عمرته بلغ أصحابه أن قريشا يصفونهم بالضعف، فقالوا: لو انتحرنا من ظهرنا فأكلنا من لحمه وحسونا من مرقه أصبحنا غدا حين ندخل على القوم وبنا جمامة وهو بفتح الجيم أي راحة، فقال صلى الله عليه وسلم: "لا تفعلوا ولكن اجمعوا لي من أزوادكم". فجمعوا وبسطوا الأنطاع فأكلوا حتى تركوا وحشا كل واحد منهم في جرابه.
وفي رواية الإسماعيلي فأطلعه الله على ما قالوا "فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يرملوا" بضم الميم مضارع رمل بفتح الراء، والميم وهو الإسراع، وقال ابن دريد: هو شبيه بالهرولة وأصله أن يحرك الماشي منكبيه في مشيته.
قال الحافظ: وهو في موضع مفعول أمرهم تقول: أمرته كذا، وبكذا. "الأشواط" بفتح الهمزة بعدها معجمة، جمع شوط بفتح الشين وهو الجري إلى الغاية. والمراد الطواف حول الكعبة وفيه جواز تسمية الطوافة شوطا، ونقل عن مجاهد والشافعي كراهته. انتهى.
"الثلاثة" ليرى المشركون قوتهم بهذا الفعل؛ لأنه أقطع في تكذيبهم وأبلغ في نكايتهم، ولذا قالوا كما في مسلم: هؤلاء الذين زعمتم أن الحمى وهنتهم لهؤلاء أجلد من كذا، وكذا. قال الحافظ: وفيه جواز المعاريض بالفعل، كما تجوز بالقول وربما كانت بالفعل أقوى، ولا يعد ذلك من الرياء المذموم. وأمرهم "أن يمشوا ما بين الركنين" اليمانيين حيث لا تراهم قريش إذ كانوا من قبل قعيقعان وهو لا يشرف عليهما إنما شرف على الركنين الشاميين.
وعند أبي داود فكانوا إذا تواروا عن قريش بين الركنين مشوا وإذا اطلعوا عليهم رملوا "ولم يمنعه" بالإفراد، وفي نسخ ولم يمنعهم بالجمع والأولى هي الصحيحة للعز، وللبخاري فإن روايته بالإفراد وأما بالجمع فرواية مسلم "أن يرملوا الأشواط كلها إلا الإبقاء عليهم" بكسر الهمزة وسكون الموحدة، بعدها قاف.(3/322)
وفي رواية، قال: "ارملوا" ليرى المشركون قوتهم, والمشركون من قبل قعيقعان.
ومعنى قوله: "إلا الإبقاء عليهم" أي لم يمنعه من أمرهم بالرمل في جميع الطوفات إلا الرفق بهم، والإشفاق عليهم.
ثم طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الصفا والمروة على راحلته، فلما كان الطواف السابع عند فراغه -وقد وقف الهدي عن المروة- قال: "هذا المنحر، وكل فجاج
__________
قال: القرطبي رويناه بالرفع على أنه فاعل يمنعهم وبالنصب على أنه مفعول من أجله. وفي يمنعهم ضمير عائد على رسول الله وهو فاعله ذكره الحافظ واقتصر المصنف هنا على الرفع.
وقال: في كتاب الحج أن العيني تبع ابن حجر وسبقهما الزركشي، وتعقبه الدماميني، بأن تجويز النصب مبني على أن لفظ البخاري لم يمنعهم وليس كذلك إنما فيه لم يمنعه فرفع الإبقاء متعين لأنه الفاعل، وكلام القرطبي إنما هو ظاهر في حديث مسلم لم يمنعهم فنقله إلى ما في البخاري غير متأت.
"وفي رواية" للبخاري أيضا عن ابن عباس لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم لعامه الذي استأمن "قال" لأصحابه: "ارملوا". "ليرى المشركون قوتهم" وفي رواية ابن إسحاق: أنه عليه الصلاة والسلام قال: "رحم الله امرأ أراهم اليوم من نفسه قوة". "والمشركون من قبل" بكسر ففتح جهة "قعيقعان" بضم القاف الأولى وكسر الثانية فعين في هذه الرواية مكانهم.
وزاد الإسماعيلي فلما رملوا قال المشركون: ما وهنتهم. "ومعنى قوله: إلا الإبقاء عليهم أي لم يمنعه" عليه الصلاة والسلام "من أمرهم بالرمل في جميع الطوافات إلا الرفق بهم والإشفاق" الخوف "عليهم" من النصب هكذا قاله الحافظ، والمحوج لهذا التأويل أن الإبقاء لا يناسب أن يكون هو الذي منعه من ذلك إذ الإبقاء معناه الرفق كما في الصحاح فلا بد من تأويله بالإرادة ونحوها.
قاله المصنف في الحج: "ثم" كما روى الواقدي عن ابن عباس "طاف" سعى "رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الصفا والمروة على راحلته" وسماه: طوافا اقتداء بقوله تعالى: {أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} وفيه الإشعار بأن السعي وإن لم يكن صورة عبادة لكنها مقصودة منه فليس الغرض منه مجرد الذهاب والعود وإن وقع مثله في سعي الناس، ثم إلى حوائجهم، "فلما كان الطواف السابع عند فراغه وقد وقف الهدي عند المروة" بعد أمره عليه الصلاة والسلام بإحضاره كما مر، أنه حبس بذي طوى. قال: "هذا المنحر" المستحب، "وكل فجاج" بكسر الفاء جمع فج بفتحها(3/323)
مكة منحر".
فنحر عند المروة. وحلق هناك، وكذلك فعل المسلمون.
وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ناسا منهم أن يذهبوا إلى أصحابه ببطن يأجج، فيقيمون على السلاح، ويأتي الآخرون يقضوا نسكهم ففعلوا.
وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ثلاثا.
وفي البخاري من حديث البراء. فلما دخلها -يعني مكة- ومضى الأجل، أتوا عليا فقالوا: قل لصاحبك اخرج عنا فقد مضى الأجل.
__________
وهو في الأصل الطريق الواسع فتجوز به عن بقاع "مكة منحر" كما تجوز بها عن جميع الحرم، "فنحر عند المروة وحلق هناك" ذكر صاحب الامتاع أنه حلقه معمر بن عبد الله العدوي "وكذلك فعل المسلمون".
قال الواقدي وكان قد اعتمر معه قوم لم يشهدوا الحديبية فلم ينحروا فأما من شهدها وخرج في القضية فاشتركوا في الهدي، وقال: "وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ناسا منهم،" أي: مائتين من أصحابه حين طافوا بالبيت وسعوا كما قال الواقدي: "أن يذهبوا إلى أصحابه ببطن يأجج فيقيمون على السلاح ويأتي الآخرون يقضوا نسكهم،" أي يفعلوه وإن لم يكن قضاه. يقال: قضى الدين أداه لصاحبه. "ففعلوا وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ثلاثا" كما اشترطه مع قريش في الهدنة، ولا ينافي هذا ما رواه الواقدي من مرسل عمر بن علي بن أبي طالب, وأبو الأسود عن عروة لما كان اليوم الرابع. لفظ عروة: وقال عمر لما كان عند الظهر يوم الرابع جاءه سهيل بن عمرو، وحويطب بن عبد العزى، فقالا: ننشدك الله والعهد إلا ما خرجت من أرضنا فرد عليه سعد بن عبادة فأسكته صلى الله عليه وسلم وأذن بالرحيل لقول الحافظ في الفتح: كأنه دخل في أوائل النهار فلم يكمل الثلاث إلا في مثل ذلك الوقت من النهار الرابع الذي دخل فيه بالتلفيق وكان مجيئهما قرب مجيء ذلك الوقت. انتهى. وكأنه لم يصح عنده مرسل الواقدي، فلم يذكره ولم يعول عليه في جمعه.
"وفي البخاري من حديث البراء" بن عازب الذي قدم المصنف صدره في الحديبية "فلما دخلها يعني مكة ومضى الأجل" أي الأيام الثلاثة، قال الكرماني: أي قرب مضيه ويتعين الحمل عليه لئلا يلزم الخلف. "أتوا" كفار قريش "عليا فقالوا: قل لصاحبك: اخرج عنا فقد مضى الأجل".
وفي رواية للبخاري، أيضا فقالوا: قل لصاحبك فليرتح فذكر ذلك علي له، فقال: نعم(3/324)
فخرج النبي صلى الله عليه وسلم فتبعته ابنة حمزة تنادي: يا عم يا عم, فتناولها علي فأخذ بيدها وقال لفاطمة: دونك ابنة عمك، فحملتها.
__________
فارتحل "فخرج النبي صلى الله عليه وسلم فتبعته ابنة حمزة", أمامة أو عمارة، أو سلمى، أو فاطمة، أو أمة الله، أو عائشة، أو يعلى؛ أقوال سبعة. قال الحافظ: وأمامة هو المشهور وترجم به في الإصابة وعزاه لأبي جعفر بن حبيب وابن الكلبي، والخطيب في المبهمات. قال: وصرح به في شعر لحسان، وسماها الواقدي: عمارة، وابن السكن: فاطمة فهذا كله صريح في أن المشهور أمامة كما في الفتح ومقدمته، وقول المصنف: عمارة أشهر فيه نظر.
وقد قال الخطيب: انفرد الواقدي بهذا القول وإنما عمارة ابن حمزة لابنته، وكذا القول بأن اسمها: يعلى وهم فإنه ابنه ولم يعقب حمزة إلا منه أعقب خمس بنين ثم ماتوا بلا عقب كما ذكره الزبير بن بكار، ولابن عساكر، بنت حمزة "تنادي: يا عم يا عم" مرتين، قال الحافظ: كأنها خاطبته بذلك إجلالا له، وإلا فهو ابن عمها، أو بالنسبة إلى أن حمزة وإن كان عمه من النسب فهو أخوه من الرضاعة "فتناولها علي فأخذ بيدها، وقال لفاطمة" زوجه: "دونك" أي خذي.
قال الحافظ: دون من أسماء الأفعال تدل على الأمر بأخذ الشيء المشار إليه "ابنة" ولابن عساكر بنت "عمك". وعند الحاكم من مرسل الحسن: فقال علي لفاطمة وهي في هودجها: أمسكيها عندك، وعند ابن سعد من مرسل محمد الباقر بإسناد صحيح بينما بنت حمزة تطوف في الرجال إذ أخذ علي بيدها فألقاها إلى فاطمة في هودجها.
وفي رواية أبي سعيد السكري أن فاطمة قالت لعلي: إنه صلى الله عليه وسلم شرط أن لا يصيب منهم أحدا إلا رده عليهم. فقال لها علي: إنها ليست منهم إنما هي منا "فحملتها" كذا في نسخ المصنف، والذي في البخاري: حملتها.
قال الحافظ: كذا للأكثر بصيغة الفعل الماضي، وكأن الفاء سقطت وقد ثبتت في رواية النسائي من الوجه الذي أخرجه منه البخاري، وكذا لأبي داود من طريق آخر، وكذا لأحمد من حديث علي ولأبي ذر عن السرخسي، والكشميهني: حمِّليها بتشديد الميم المكسورة، وبالتحتانية بصيغة الأمر، وللكشميهني في الصلح: احمليها بألف بدل التشديد. انتهى.
ونسبها المصنف للأصيلي هنا، ثم ظاهر حديث الصحيح أنها خرجت بنفسها، وفي مغازي سليمان التيمي أنه صلى الله عليه وسلم لما رجع إلى رحله وجد بنت حمزة، فقال لها: ما أخرجك؟ قالت: رجل من أهلك ولم يكن صلى الله عليه وسلم أمر بإخراجها، وفي حديث علي عند أبي داود أن زيد بن حارثة أخرجها من مكة، وفي حديث ابن عباس عند الواقدي أن بنت حمزة وأمها سلمى بنت عميس كانت بمكة، فلما قدمها صلى الله عليه وسلم كلمه علي، فقال: علام تترك ابنة عمنا يتيمة بين ظهراني(3/325)
فاختصم فيها علي وزيد وجعفر، قال علي: أنا أخذتها وهي ابنة عمي. وقال جعفر: ابنة عمي وخالتها تحتي، وقال زيد: ابنة أخي فقضى بها النبي صلى الله عليه وسلم لخالتها وقال: "الخالة بمنزلة الأم". الحديث.
__________
المشركين، فلم ينهه فخرج بها فيحتمل في طريق الجمع, والله أعلم, أنه صلى الله عليه وسلم لما لم ينهه خرج بها من البيت الذي كانت فيه بمكة، ثم دفعها إلى زيد، خوفا من أذى الكفار لمزيد قربه من المصطفى ومنها أو منهم ولذا جاءوه في طلب خروج النبي عنهم، فأتى بها زيد من مكة إلى الرحال فطافت فيها فأبصرت النبي صلى الله عليه وسلم فنادته: يا عم يا عم! فألقاها علي في هودج فاطمة، وهذا لم أره لغيري لكنه مقتضى الأحاديث "فاختصم فيها" بنت حمزة "علي، وزيد، وجعفر" رضي الله عنهم أي في أيهم تكون عنده، وكان ذلك بعد أن قدموا المدينة كما في حديث علي عند أحمد، والحاكم وفي مغازي أبي الأسود عن عروة فلما دنوا من المدينة كلمه فيها زيد وكان وصي حمزة وأخاه، وهذا لا ينفي أن المخاصمة وقعت بالمدينة فلعل زيدا سأله صلى الله عليه وسلم في ذلك ووقفت المنازعة بعد.
ولأبي سعيد السكري في ديوان حسان أن مخاصمتهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم كانت بعد أن وصلوا مر الظهران ذكره الحافظ، فإن صح فلعلهم اختصموا عنده مرتين وفي رواية أبي سعيد السكري اختصموا فيها حتى ارتفعت أصواتهم فأيقظوا النبي صلى الله عليه وسلم من نومه "قال" ولابن عساكر: فقال "علي: أنا أخذتها" وفي رواية: أنا أخرجتها من بين أظهر المشركين "وهي ابنة عمي" زاد أبو داود: وعندي ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي أحق به، "وقال جعفر": هي "ابنة" ولأبي ذر: بنت "عمي وخالتها" أسماء بنت عميس كما في حديث علي عند أحمد "تحتي" أي زوجتي.
وفي رواية الحاكم: عندي "وقال" بالواو ولأبي ذر: فقال "زيد: ابنة" ولأبي ذر، وابن عساكر: بنت "أخي" وكان صلى الله عليه وسلم آخى بينه وبين حمزة حين آخى بين المهاجرين، كما ذكره الحاكم في الإكليل وأبو سعد في شرف المصطفى.
وزاد في حديث علي عند أبي داود: أنا خرجت إليها. قال الحافظ: وكان لهؤلاء الثلاثة فيها شبهة أما زيد فللأخوة التي ذكرها ولكونه بدأ بإخراجها من مكة، وأما علي فلأنه ابن عمها وحملها مع زوجته، وأما جعفر فلكونه ابن عمها وخالتها عنده فترجح جانبه باجتماع قرابة الرجل والمرأة منها دونهما، "فقضى بها النبي صلى الله عليه وسلم لخالتها".
وفي حديث ابن عباس: فقال: "جعفر أولى بها". ولأبي داود، وأحمد: "أما الجارية فأقضي بها لجعفر". ولأبي سعيد السكري: "ادفعاها إلى جعفر فإنه أوسعكم". قال الحافظ: وهذا سبب ثالث، وقال: "الخالة بمنزلة الأم". أي: تقرب منها في الحنو والشفقة والاهتداء إلى ما يصلح الولد(3/326)
وإنما أقرهم النبي صلى الله عليه وسلم على أخذه مع اشتراط المشركين أن لا يخرج بأحد من أهلها أراد الخروج، لأنهم لم يطلبوها.
وقوله: "الخالة بمنزلة الأم". أي في هذا الحكم الخاص؛ لأنها تقرب منها في الحنو والشفقة والاهتداء إلى ما يصلح الولد. ويؤخذ منه أن الخالة في الحضانة مقدمة على العمة؛ لأن صفية بنت عبد المطلب كانت موجودة حينئذ، وإذا قدمت على العمة، مع كونها أقرب العصبات من النساء، فهي مقدمة على غيرها، ويؤخذ منه تقديم أقارب.
__________
"الحديث" بقيته، وقال لعلي: "أنت مني، وأنا منك". وقال لجعفر: "أشبهت خَلقي وخُلقي". وقال لزيد: "أنت أخونا ومولانا". وقال علي: ألا تتزوج بنت حمزة؟ قال: "إنها ابنة أخي من الرضاعة".
قال الحافظ: فطيب خواطر الجميع وإن كان قضى لجعفر، فقد بين وجهه وحاصله أن المقضي له في الحقيقة الخالة وجعفر تبع لأنه كان القائم في الطلب، وفي حديث علي عند أحمد، وكذا في مرسل الباقر، فقام جعفر فحجل حول النبي صلى الله عليه وسلم دار عليه، فقال صلى عليه وسلم: "ما هذا"؟. قال: شيء رأيت الحبشة يصنعونه بملوكهم، وفي حديث ابن عباس فقال: إن النجاشي كان إذا أرضى أحدا قام فحجل حوله. وهو بفتح المهملة وكسر الجيم، أي: وقف على رجل واحدة، وهو الرقص بهيئة مخصوصة.
وفي حديث علي المذكور: أن الثلاثة فعلوا ذلك. "وإنما أقرهم النبي صلى الله عليه وسلم على أخذها مع اشتراط المشركين أن لا يخرج بأحد من أهلها أراد الخروج لأنهم لم يطلبوها". قاله الحافظ، وزاد أيضا فالنساء المؤمنات لم يدخلن في ذلك, لكن إنما نزل القرآن في ذلك بعد رجوعهم إلى المدينة. انتهى.
وهو أظهر لاقتضاء الأول أنهم لو طلبوها ردها وهو ممتنع حيث لم يدخلن في الشرط، وقوله: "الخالة بمنزلة الأم". "أي: في هذا الحكم الخاص", وهو الحضانة "لأنها تقرب منها في الحنو والشفقة والاهتداء إلى ما يصلح الولد" كما دل عليه السياق, فلا حجة فيه لمن زعم أن الخالة ترث؛ لأن الأم ترث في حديث علي وفي مرسل الباقر، الخالة والدة، وإنما الخالة أم، وهي بمعنى قوله بمنزلة الأم لا أنها أم حقيقة "يؤخذ منه أن الخالة في الحضانة مقدمة على العمة؛ لأن صفية بنت عبد المطلب كانت موجودة حينئذ، وإذا قدمت على العمة مع كونها أقرب العصبات من النساء فهي" الخالة، "مقدمة على غيرها" العمة بالأولى "ويؤخذ منه تقديم أقارب(3/327)
الأم على أقارب الأب. انتهى.
قال ابن عباس: وتزوج صلى الله عليه وسلم ميمونة وهو محرم
__________
الأم على أقارب الأب. انتهى".
ما نقله من الفتح وزاد وعن أحمد رواية أن العمة مقدمة في الحضانة على الخالة، وأجيب له عن هذه القصة بأن العمة لم تطلب فإن قيل: والخالة لم تطلب. قيل: قد طلب لها زوجها، فكما أن لقريب المحضون أن يمنع الحاضنة إذا تزوجت فللزوج أيضا، أن يمنعها من أخذه فإذا وقع الرضا سقط الحرج، وفيه من الفوائد أيضا تعظيم صلة الرحم بحيث تقع المخاصمة بين الكبار في التوصل، إليها وأن الحاكم يبين دليل الحكم للخصم، وأن الخصم يدلي بحجته، وأن الحاضنة إذا تزوجت بقريب المحضون لا تسقط حضانتها إذا كانت المحضونة أنثى أخذا بظاهر هذا الحديث، قاله أحمد وعنه: لا فرق بين الأنثى والذكر ولا يشترط كونه محرما لكن مأمونا وأن الصغير لا يشتهى، ولا تسقط إلا إذا تزوجت بأجنبي وكل من طلبت حضانتها لها كانت متزوجة فرجح جانب جعفر بكونه زوج الخالة. انتهى.
لكن الحق في هذه الصورة عند مالك كان للعمة لأن من شرط عدم سقوط الحضانة بالتزويج أن لا يكون هناك حاضنة خلية من الزوج، عن هذه القصة بأنها لما لم تطلب، لم يكلفها النبي صلى الله عليه وسلم ذلك خصوصا وقد علمت بقدومها إذ الاختصام كان بالمدينة كما مر فلا يقال: لو كان الحق لها لأرسل لها، وإن لم تطلب.
وفي رواية أبي سعيد السكري فدفعناها إلى جعفر فلم تزل عنده حتى قتل فأوصى بها جعفر إلى علي فمكثت عنده، حتى بلغت فعرضها علي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "هي ابنة أخي من الرضاعة". وذكر الخطيب في المهمات أنه صلى الله عليه وسلم، زوجها من سلمة ابن أم سلمة، وقال حين زوجها منه: "هل جزيت سلمة"؟. وذلك أنه هو الذي كان زوج أمه أم سلمة منه صلى الله عليه وسلم، وذكر أبو جعفر بن حبيب في كتاب المخبر أنها لما قدمت المدينة طفقت تسأل عن قبر أبيها، فبلغ حسان فقال:
تسائل عن قرم هجان سميذع ... لدى الناس مغوار الصباح جسور
فقلت لها إن الشهادة راحة ... ورضوان رب يا أمام غفور
دعاه إله الحق ذو العرش دعوة ... إلى جنة فيها رضا وسرور
"قال ابن عباس": عند البخاري في مواضع "وتزوج صلى الله عليه وسلم ميمونة" ولابن حبان، والنسائي والطبراني عن ابن عباس: تزوج ميمونة بنت الحارث في سفره ذلك يعني عمرة القضاء، وكان الذي زوجها العباس "وهو محرم".(3/328)
وبنى بها وهو حلال.
وقد استدرك ذلك على ابن عباس وعد من وهمه، قال سعيد بن المسيب: وَهِلَ ابن عباس وإن كانت خالته، ما تزوجها صلى الله عليه وسلم إلا بعد ما حل. ذكره البخاري "وهل" بكسر الهاء أي: غلط.
__________
ولأبي الأسود عن عروة بعث صلى الله عليه وسلم جعفر بن أبي طالب إلى ميمونة ليخطبها له فجعلت أمرها إلى العباس وكانت أختها أم الفضل تحته فزوجه إياها.
زاد ابن هشام وأصدقها العباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعمائة درهم "وبنى" دخل "بها وهو حلال".
قال ابن إسحاق: وكانت قريش وكلت حويطبا بإخراجه صلى الله عليه وسلم من مكة، فقالوا: اخرج عنا، فقال صلى الله عليه وسلم: "وما عليكم لو تركتموني فأعرست بين أظهركم وصنعنا لكم طعاما فحضرتموه". فقالوا: لا حاجة لنا في طعامك فاخرج عنا.
وعند الواقدي: وكان صلى الله عليه وسلم لم ينزل بيتا إنما ضربت له قبة من أديم بالأبطح فكان فيها حتى خرج من مكة ولم يدخل تحت سقف بيت من بيوتها، فغضب سعد بن عبادة لما رأى من غلظ كلامهم، وقال سهيل بن عمرو: كذبت لا أم لك ليست بأرضك ولا أرض أبيك والله لا يبرح منها إلا طائعا راضيا، فتبسم صلى الله عليه وسلم وقال: "يا سعد، لا تؤذ قومنا، زارونا في رحالنا". وخرج وخلف أبا رافع على ميمونة، فأقام حتى أمسى فخرج بها ومن معها ولقيت من سفهاء مكة عناء فأتاه بها بسرف، ثم بقية حديث ابن عباس هذا عند البخاري وماتت بسرف أي بعد ذلك سنة إحدى وخمسين على الصحيح، وقيل: سنة ثلاث وستين وقيل: ست وستين. "وقد استدرك ذلك" أي تزوجها وهو محرم "على ابن عباس وعد من وهمه", وكفى المرء نبلا أن تعد معايبه.
"قال سعيد بن المسيب" أحد كبار التابعين المشهور: "وهل ابن عباس وإن كانت خالته ما تزوجها صلى الله عليه وسلم إلا بعدما حل، ذكره" أي رواه يعني قول ابن عباس وسعيد "البخاري ووهل بكسر الهاء، أي غلط" لمخالفته المروي عنها نفسها، وعن أبي رافع وكان الرسول بينهما وعن سليمان بن يسار، وهو مولاها فقد اتفقوا كلهم على أنه كان حلالا فتترجح روايتهم على رواية واحد، وأيضا فرواية من باشر الوقعة أرجح ممن لم يباشرها، ثم هذا المشهور عن ابن عباس.
وعند البزار عن عائشة نحوه وكذا للدارقطني بسند ضعيف عن أبي هريرة.
وأخرج الدارقطني من طريق أبي الأسود ومطر الوراق عن عكرمة عن ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهو حلال قال السهيلي، وهي غريبة جدا قلت: إن ثبت ذلك عنه، فكأنه رجع وإلا فالثابت عنه في الموطأ والصحيحين والسنن أنه تزوجها وهو محرم.(3/329)
وقال يزيد بن الأصم عن ميمونة: تزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن حلالان بسرف. رواه مسلم.
وسيأتي في.
__________
قال السهيلي: وتأول بعض شيوخنا قوله: وهو محرم بمعنى في الشهر الحرام والبلد الحرام وذلك أن ابن عباس عربي فصيح يتكلم بكلام العرب ولم يرد الإحرام بالحج، وقد قال الشاعر:
قتلوا ابن عفان الخليفة محرما ... فدعا فلم أر مثله مجدولا
فالله أعلم أراد ذلك ابن عباس أم لا؟ انتهى.
"وقال يزيد بن الأصم" واسمه عروة بن عبيد بن معاوية البكائي بفتح الموحدة والتشديد، أبو عون الكوفي, نزيل الرقة, ثقة، يقال له رؤية.
قال الحافظ: ولم تثبت مات سنة ثلاث ومائة، روى له مسلم والأربعة وهو ابن أخت ميمونة أم المؤمنين "عن" خالته "ميمونة: تزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن حلالان بسرف" بفتح السين المهملة وكسر الراء وبالفاء، ما بين التنعيم وبطن مرو وهو إلى التنعيم أقرب.
"رواه مسلم" وزاد عن يزيد: وكانت خالتي، وخالة ابن عباس، وأخرج الترمذي، وابن خزيمة، وابن حبان عن أبي رافع أنه صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهو حلال. وبنى بها وهو حلال وكنت أنا الرسول بينهما.
وروى مالك في الموطأ عن ربيعة عن سليمان بن يسار أنه صلى الله عليه وسلم بعث أبا رافع مولاه ورجلا من الأنصار، فزوجاه ميمونة وهو بالمدينة قبل أن يخرج.
قال البيهقي في المعرفة: وبهذا رد الشافعي رواية ابن عباس التي احتج بها الحنفية وأهل العراق على جواز نكاح المحرم وإنكاحه، وخالفهم الجمهور وأهل الحجاز محتجين بحديث مسلم عن عثمان رفعه: " المحرم لا يَنكِح ولا يُنكِح". وأما خبر ابن عباس وإن صح إسناده إليه فوهم كما قال سعيد.
قال الشافعي: لأن ابن أختها يزيد يقول: نكحها حلالا ومعه سليمان بن يسار عتيقها أو ابن عتيقها وخبر اثنين أكثر من خبر واحد مع رواية عثمان التي هي أثبت من هذا كله، قال: ولئن سلمنا أن الخبرين تكافآ نظرنا فيما فعل الصحابة بعد وقد رأينا عمر، وزيد بن ثابت يردان نكاح المحرم، ولا أعلم من الصحابة مخالفا لذلك وقد روينا عن الحسن أن عليا قال: من تزوج وهو محرم نزعنا منه امرأته ولم نجز نكاحه. انتهى.
"و" على تقدير أن يكون حديث ابن عباس محفوظا، فلا حجة فيه لما "سيأتي في(3/330)
الخصائص من مقصد معجزاته إن شاء الله تعالى: أن له -النبي صلى الله عليه وسلم- النكاح في حال الإحرام على أصح الوجهين عن الشافعية.
__________
الخصائص من مقصد معجزاته إن شاء الله تعالى أن له صلى الله عليه وسلم النكاح في حال الإحرام على أصح الوجهين عند الشافعية" وهو المعتمد وقول الجمهور من غيرهم، فلا حجة فيه للكوفيين، وقولهم أنه عقد معاوضة لا يمنع المحرم منه كشراء الجارية للتسري قياس في معرض النص فلا يعتبر به، وتأويلهم لا ينكح المحرم بلا يطأ تخصيص للعام بلا دليل, والله أعلم.(3/331)
"ذكر خمس سرايا قبل مؤتة":
ثم سرية ابن أبي العوجاء السلمي إلى بني سليم، في ذي الحجة سنة سبع، في خمسين رجلا، فأحدق بهم الكفار من كل ناحية، وقاتل القوم قتالا شديدا، حتى قتل عامتهم وأصيب ابن أبي العوجاء جريحا مع القتلى.
__________
ذكر خمس سرايا قبل مؤتة:
"ثم سرية" الأخرم بخاء معجمة وراء مفتوحة وميم "ابن أبي العوجاء السلمي", هكذا قال الزهري: وتلميذه ابن إسحاق، وابن سعد بإثبات لفظ ابن، وهو الذي عزاه في الإصابة والتجريد للزهري. قال الشامي: وأغرب الذهبي في الكنى فقال أبو العوجاء: ونقله عن الزهري. انتهى.
قال في الإصابة ويحتمل أن يكون هو أي الأخرم محرز بن نضلة، فارس المصطفى. انتهى.
وفيه نظر لأن محرز قتل في غزوة ذي قرد كما في مسلم، وهي قبل هذه قطعا لأن أقصى ما قيل: إن ذي قرد قبل خيبر بثلاثة أيام "إلى بني سليم" بضم السين المهملة وفتح اللام "في ذي الحجة سنة سبع"، كما عند ابن سعد "في خمسين رجلا".
قال ابن سعد فخرج إليهم وتقدمه عين لهم كان معهم فحذرهم فجمعوا له جمعا كثيرا فأتاهم ابن أبي العوجاء وهم معدون له فدعاهم إلى الإسلام فقالوا: لا حاجة لنا إلى ما دعوتنا إليه فتراموا بالنبل ساعة وأتتهم الأمداد، "فأحدق" أحاط "بهم الكفار من كل ناحية وقاتل القوم قتالا شديدا حتى قتل عامتهم" هذا لفظ ابن سعد، وأما الزهري فقال: بعث صلى الله عليه وسلم سرية عليها ابن أبي العوجاء السلمي فقتلوا جميعا وأما ابن إسحاق، فقال: غزوة ابن أبي العوجاء السلمي أرض بني سليم أصيب بها هو وأصحابه جميعا، فهذا نص في أن الأمير قتل معهم هو ظاهر قول ابن شهاب. وأما ابن سعد فيخالف ذلك فهذا الذي منعنا من تأويل قول عامتهم بجميعهم ولأن الأمير عند ابن سعد لم يقتل لقوله: "وأصيب" أي وجد "ابن أبي العوجاء جريحا مع القتلى" فظنوه قتل(3/331)
ثم تحامل حتى بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول صفر سنة ثمان.
ثم سرية غالب بن عبد الله الليثي إلى بني الملوح -بالحاء المهملة- بالكديد -بفتح الكاف- قال في القاموس: الكديد بفتح الكاف ما بين الحرمين شرفهما الله. والبطن الواسع من الأرض, والأرض الغليظة، كالكدة بالكسر، ويوم الكديد معروف.
في صفر سنة ثمان من مهاجره، فغنم.
__________
فتركوه "ثم تحامل حتى بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم" فقدموا المدينة "في أول" يوم من "صفر سنة ثمان", وقول ابن سعد فقدموا بالجمع يوهم أنه نجا منهم غير الأمير، فإما أنه اطلع على ذلك، وإما أن القادم معه اثنان أو أكثر رأوه جريحا، فعاونوه في الذهاب للمدينة والله أعلم.
"ثم سرية غالب بن عبد الله الليثي" الكناني، الكلبي كلب عوف بن ليث تقدم بعض ترجمته وأنه ولي إمرة خراسان زمن معاوية سنة ثمان وأربعين، واسم جده مسعر على الصحيح، ولغالب حديث أخرجه البخاري في تاريخه والبغوي عنه قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح بين يديه لأسهل له الطريق ولأكون له عينا، فلقيني على الطريق لقاح بني كنانة وكانت نحوا من ستة آلاف لقحة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم نزل فحلبت له فجعل يدعو الناس إلى الشراب فمن قال: إني صائم؟ قال: هؤلاء العاصون "إلى بني الملوح" بضم الميم وفتح اللام وكسر الواو المشددة و"بالحاء المهملة" آخره.
قال ابن سعد وهم من بني ليث "بالكديد بفتح الكاف" وكسر الدال المهملة وسكون التحتية آخره دال مهملة.
"قال في القاموس: الكديد بفتح الكاف ما بين الحرمين شرفهما الله" لكنه أقرب إلى مكة فإنه على اثنين وأربعين ميلا منها, وفي الصحيح هو ماء بين عسفان وقديد، "والبطن الواسع من الأرض، والأرض الغليظة كالكدة بالكسر ويوم الكديد معروف" إلى هنا كلام القاموس. ولم يثبت في جميع النسخ "في صفر سنة ثمان", كما أرخها ابن سعد "من مهاجره" بضم الميم، وفتح الجيم، مصدر ميمي بمعنى الهجرة أو اسم زمان الهجرة، لأن اسم المفعول من المزيد يستعمل بمعنى المصدر, واسم الزمان، واسم المكان. "فغنم" غالب بن عبد الله نعما.
روى الواقدي عن حمزة بن عمر الأسلمي قال: كنت معهم وكنا بضعة عشر رجلا وكان شعارنا: أمت أمت. ونقل ابن كثير عن الواقدي، أنهم كانوا مائة وثلاثين.
رده الشامي بأن ذاك في سرية لغالب غير هذه يعني التي تقدمت قبل عمرة القضاء.(3/332)
...............................................
__________
روى ابن إسحاق ومن طريقه أحمد، وأبو داود، وابن سعد كلهم عن جندب بن مكيث الجهني، قال: بعث صلى الله عليه وسلم غالب بن عبد الله الكلبي على سرية كنت فيها وأمره بشن الغارة على بني الملوح بالكديد، فخرجنا حتى إذا كنا بقديد لقينا الحارث بن مالك الليثي فأخذناه، فقال: إني جئت أريد الإسلام وما خرجت إلا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلنا له: إن تك مسلما فلن يضرك رباط يوم وليلة وإن تك على غير ذلك كنا قد استوثقنا منك فشددناه وثاقا. ثم خلفنا عليه رجلا من أصحابنا أسود، فقلنا له: إن غارك فاحتز رأسه. ثم سرنا حتى أتينا الكديد عند غروب الشمس، فكنا في ناحية الوادي وبعثني أصحابي ربيئة لهم، فخرجت حتى آتي تلا مشرفا على الحاضر، فاستندت فيه فعلوت على رأسه فنظرت إلى الحاضر، فوالله إني لمنبطح على التل إذ خرج رجل من خبائه، فقال لامرأته: إني لأرى على التل سوادا ما رأيته في أول يومي، فانظري إلى أوعيتك هل تفقدين شيئا لا تكون الكلاب جرت بعضها، قال: فنظرت، فقالت: لا والله لا أفقد شيئا، قال: فناوليني قوسي وسهمين فناولته فأرسل سهما فما أخطأ جنبي. لفظ ابن إسحاق: وقال ابن سعد: عنه فوالله ما أخطأ بين عيني فأنزعه وثبت مكاني، فأرسل الآخر فوضعه في منكبي فأنزعه فأضعه وثبت مكاني، فقال لامرأته: لو كنا ربيئة لقوم لقد تحرك لقد خالطه سهماي لا أبا لك إذا أصبحت فابتغيهما فخذيهما لا تمضغهما الكلاب، ثم دخل وأمهلناهم حتى إذا اطمأنوا وناموا وكان في وجه السحر شننا عليهم الغارة فقتلنا منهم واستقنا النعم وخرج صريخ القوم وجاءنا دهم لا قبل لنا به ومضينا بالنعم ومررنا بابن البرصاء وصحبه فاحتملناهما معنا وأدركنا القوم حتى قربوا منا فما بيننا وبينهم إلا وادي قديد، فأرسل الله الوادي بالسيل من حيث شاء تبارك وتعالى من غير سحابة نراها ولا مطر فجاء بشيء ليس لأحد به قوة، ولا يقدر أحد أن يجاوزه فوقفوا ينظرون إلينا وإن لنسوق نعمهم ما يستطيع رجل منهم أن يجيز إلينا ونحن نحدوها سراعا حتى فتناهم فلم يقدروا على طلبنا، فقدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال ابن إسحاق: وحدثني رجل من أسلم عن رجل منهم أن شعار الصحابة تلك الليلة: أمت أمت. فقال راجز من المسلمين يحدوها:
أبى أبو القاسم أن تعربي ... في خضل نباتة مغلولب
صفر أعاليه كلون المذهب
انتهى. وربيئة بفتح الراء وكسر الموحدة بعدها تحتية فهمزة أي طليعة، والحارث بن مالك هو المعروف بابن البرصاء وهي أمه وقيل: أم أبيه, صحابي سكن مكة، ثم المدينة وله حديث واحد وهو قوله: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح يقول: "لا تغزى مكة بعد اليوم، إلى يوم القيامة".(3/333)
وفي هذا الشهر قدم خالد بن الوليد وعثمان بن أبي طلحة وعمرو بن العاصي المدينة, فأسلموا.
__________
رواه الترمذي، وابن حبان، وصححاه والدارقطني، وعاش إلى أواخر خلافة معاوية "وفي هذا الشهر" صفر سنة ثمان "قدم خالد بن الوليد" بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم القرشي المخزومي أحد الأشراف كانت إليه أعنة الخيل في الجاهلية، وشهد مع قريش الحروب إلى عمرة الحديبية، كما في الصحيح أنه كان على خيل قريش طليعة، ثم صار سيف الله.
روى أبو يعلى مرفوعا: "لا تؤذوا خالدا فإنه سيف من سيوف الله صبه الله على الكفار". وأخرج الترمذي برجال ثقات، مرفوعا: "نعم عبد الله هذا سيف من سيوف الله". وروى أبو زرعة الدمشقي رفعه: "نعم عبد الله وأخو العشيرة خالد بن الوليد سيف من سيوف الله سله الله على الكفار". وروى سعيد بن منصور عن خالد قال: اعتمر صلى الله عليه وسلم فحلق رأسه فابتدر الناس شعره فسبقتهم إلى ناصيته فجعلتها في هذه القلنسوة, فلم أشهد قتالا وهي معي إلا تبين لي النصر. ورواه أبو يعلى بلفظ: فما وجهت في وجه إلا فتح. والأكثر أنه مات بحمص سنة إحدى وعشرين, وقيل: توفي بالمدينة النبوية.
روى ابن المبارك عنه أنه قال لما حضرته الوفاة: لقد طلبت القتل مظانه فلم يقدر لي إلا أن أموت على فراشي. "وعثمان بن أبي طلحة" واسمه عبد الله بن عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار العبدري حاجب البيت، ووقع في تفسير الثعلبي، بلا سند أنه أسلم يوم الفتح، بعد أن دفع له المفتاح.
قال في الإصابة: وهو منكر والمعروف أنه أسلم وهاجر مع عمرو وخالد وبه جزم غير واحد، ثم سكن المدينة وبها مات سنة ثنتين وأربعين.
قال الواقدي، وابن البرقي: وقيل: استشهد بأجنادين.
قال العسكري: وهو باطل. "وعمرو بن العاصي" بن وائل بن هاشم بن سعيد بالتصغير ابن سهم القرشي، السهمي أمير مصر أحد دهاة العرب في الإسلام الأربعة.
ذكر الزبير بن بكار أن رجا قال له: ما أبطأ بك عن الإسلام وأنت أنت في عقلك؟ قال: كنا مع قوم لهم علينا تقدم وكانوا ممن يوازي حلومهم الجبال فلذنا بهم، فلما ذهبوا صار الأمر إلينا، نظرنا وتدبرنا فإذا حق بين, فوقع في قلبي الإسلام. مات سنة ثلاث وأربعين على الصحيح عن نحو تسعين سنة.
وروى الخطيب مرفوعا: "يقدم عليكم الليلة رجل حكيم". فقدم عمرو مهاجرا "المدينة"، فأسلموا". ذكر الزبير بن بكار أنهم لما قدموا عليه صلى الله عليه وسلم(3/334)
وقال ابن أبي خيثمة: كان ذلك سنة خمس، وقال الحاكم: سنة سبع.
__________
قال عمرو: كنت أسن منهما فأردت أن أكيدهما فقدمتهما قبلي للبيعة فبايعا واشترطا أن يغفر لهما ما تقدم من ذنبهما فأضمرت في نفسي أن أبايع على أن يغفر لي ما تقدم من ذنبي وما تأخر، فلما بايعت ذكرت ما تقدم من ذنبي وأنسيت أن أقول وما تأخر.
"وقال" أحمد "ابن أبي خيثمة" زهير بن حرب الحافظ ابن الحافظ، أبو بكر النسائي، ثم البغدادي. قال الخطيب: ثقة, عالم, متقن, بصير بأيام الناس, راوية للأدب, لا أعرف أغزر من فوائد تاريخه, بلغ أربعا وتسعين سنة ومات سنة تسع وثمانين ومائتين: "كان ذلك سنة خمس" قال الحافظ: هو وهم، ففي الصحيح أن خالدا كان على خيل قريش بالحديبية.
"وقال الحاكم: سنة سبع" بعد خيبر، أخرج ابن إسحاق عن عمرو بن العاصي قال: لما انصرفنا عن الخندق جمعت رجالا من قريش كانوا يرون رأيي ويسمعون مني، فقلت لهم: تعلمون والله إن أمر محمد يعلو الأمور علوا منكرا, وقد رأيت أن تلحق بالنجاشي، فإن ظهر محمد فكوننا تحت يده أحب إلينا من يد محمد وإن ظهر قومنا فنحن من قد عرفوا فلا يأتينا منهم إلا خير، قالوا: إن هذا الرأي قلت: فاجمعوا ما يهدى وكان أحب ما يهدى إليه من أرضنا الأدم فجمعنا له أدما كثيرا، ثم خرجنا حتى قدمنا عليه فوالله إنا لعنده إذ جاءه عمرو بن أمية رسوله صلى الله عليه وسلم في شأن جعفر وأصحابه فدخل عليه، ثم خرج، فقلت لأصحابي: هذا عمرو بن أمية، لو دخلت على النجاشي فأعطانيه فضربت عنقه لرأت قريش أني أجمأت عنها بقتل رسول محمد فدخلت فسجدت له كما كنت أصنع، فقال: مرحبا بصديقي أهديت إليَّ من بلادك يئا قلت له: نعم أدما كثيرا وقربته إليه فأعجبه واشتهاه، ثم قلت له: إني رأيت رسول عدونا خرج من عندك فأعطنيه لأقتله فإنه أصاب من أشرافنا وخيارنا، فغضب ثم ضرب أنفه بيده ضربة ظننت أنه كسره فتمنيت أن لو انشقت بي الأرض لدخلت فيها فرقا منه، ثم قلت: أيها الملك! والله لو ظننت أنك تكره هذا ما سألته قال: أتسألني أن أعطيك رسول رجل يأتيه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى لتقتله؟ قلت: أكذلك هو؟ قال: ويحك يا عمرو أطعني واتبعه فإنه والله لعلى الحق وليظهرن على من خالفه، كما ظهر موسى على فرعون وجنوده، قلت: أفتبايعني له على الإسلام؟ قال: نعم. فبسط يده فبايعته على الإسلام، ثم خرج إلى أصحابي وقد حال رأيي عما كان عليه وكتمت أصحابي إسلامي، ثم خرجت عامدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلقيت خالد بن الوليد وذلك قبيل الفتح وهو مقبل من مكة، فقلت: أين يا أبا سليمان! فقال: والله لقد استقام الميسم, وإن الرجل لنبي, أذهب والله أسلم فحتى متى؟ فقلت: والله لقد جئت لأسلم, فقدمنا المدينة فتقدم خالد(3/335)
ثم سرية غالب أيضا إلى مصاب أصحاب بشير بن سعد بفدك في صفر سنة ثمان، ومعه مائتا رجل، فأغاروا عليهم مع الصبح.
__________
فأسلم، وبايع، ثم دنوت فقلت: يا رسول الله! إني أبايعك على أن تغفر لي ما تقدم من ذنبي وما تأخر، فقال صلى الله عليه وسلم: "يا عمرو! بايع فإن الإسلام يجب ما قبله وإن الهجرة تجب ما قبلها".
قال ابن إسحاق: وحدثني من لا أتهم أن عثمان بن طلحة بن أبي طلحة كان معهما أسلم حين أسلما.
قال في الروض: من رواه الميسم بالياء فهو العلامة أي قد تبين الأمر ومن رواه المنسم بفتح الميم وبالنون فمعناه استقام الطريق ووجبت الهجرة والمنسم مقدم خف البعير كنى به عن الطريق للتوجه به فيه. انتهى.
وفي إسلام عمرو على يد النجاشي لطيفة هي صحابي أسلم على يد تابعي ولا يعرف مثله, والله أعلم.
"ثم سرية غالب أيضا" لما رجع مؤيدا منصورا "إلى" موضع "مصاب أصحاب بشير" كأمير "ابن سعد" وكانوا ثلاثين "بفدك في صفر سنة ثمان".
وروى ابن سعد أنه صلى الله عليه وسلم هيأ الزبير، وقال له: "سر حتى تنتهي إلى مصاب أصحاب بشير فإن أظفرك الله بهم فلا تبق فيهم". وهيأ معه مائتي رجل وعقد له لواء, فقدم غالب من سرية الكديد قد ظفره الله عليهم، فقال صلى الله عليه وسلم للزبير: "اجلس". وبعث غالبا "ومعه مائتا رجل", سمى الواقدي، وابن سعد منهم علبة بن زيد الحارثي وأبا مسعود وكعب بن عجرة وأسامة وحويصة، وأبا سعيد الخدري "فأغاروا عليهم مع الصبح" وذلك أنه لما دنا منهم بعث الطلائع ومنهم علبة بضم المهملة وسكون اللام وفتح الموحدة في عشرة ينظرون إلى محالهم فأشرف على جماعة منهم، ثم رجع وأخبره الخبر.
وروى ابن سعد: عن حويصة: بعثني صلى الله عليه وسلم في سرية مع غالب إلى بني مرة فأغرنا عليهم مع الصبح وقد أوعز إلينا أميرنا أن لا نفترق وآخى بيننا وقال: لا تعصوني فإنه صلى الل عليه وسلم قال: "من أطاع أميري فقد أطاعني ومن عصاه فقد عصاني، وإنكم متى ما تعصوني فإنكم تعصون نبيكم". فآخى بيني وبين أبي سعيد الخدري فأصبنا القوم.
وروي أنه لما دنا من القوم حمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: أما بعد فإني أوصيكم بتقوى الله وحده لا شريك له وأن تطيعوني ولا تعصوني ولا تخالفوا لي أمرا فإنه لا رأي لمن لا يطاع ثم ألف بين كل اثنين، وقال لهم: لا يفارق أحد منكم زميله، وإذا كبرت فكبروا فلما أحاطوا بالقوم كبر غالب فكبروا معه وجردوا السيوف، فخرج الرجال فقاتلوا ساعة ووضع(3/336)
وقتلوا منهم قتلى وأصابوا نعما.
ثم سرية شجاع بن وهب الأسدي إلى بني عامر، بالسيء، ماء من ذات عرق إلى وجرة على ثلاثة مراحل من مكة إلى البصرة، وخمس من المدينة.
في شهر ربيع الأول سنة ثمان، ومعه أربعة وعشرون رجلا إلى جمع من هوازن، وأمره أن يغير عليهم فكان يسير الليل ويكمن النهار حتى صبحهم، فأصابوا نعما وشاء واستاقوا ذلك حتى قدموا المدينة، وكانت غيبتهم خمس عشرة ليلة، واقتسموا الغنيمة وكانت سهامهم خمسة عشر بعيرا وعدلوا البعير بعشر من الغنم.
ثم سرية كعب بن عمير الغفاري.
__________
المسلمون فيهم السيف وكان شعارهم: أمت أمت. "وقتلوا منهم قتلى وأصابوا نعما" وشاء وذرية فساقوها وكانت سهامهم عشرة أبعرة لكل رجل أو عدلها من الغنم لكل بعير عشرة.
"ثم سرية شجاع" بمعجمة مضمومة وجيم "ابن وهب" بن ربيعة بن أسد "الأسدي" أبو وهب البدري من السابقين الأولين، وهاجر إلى الحبشة واستشهد باليمامة "إلى بني عامر بالسيء" بكسر السين المهملة ثم همزة ممدودة، كذا ضبطه البرهان، وتبعه الشامي والذي في الصحاح القاموس والمراصد أنه بالكسر وتشديد الياء وكذا ضبطه أبو عبيد البكري، وقال: هو "ماء" بالرفع أو الجر بدل مما قبله "من ذات عرق إلى وجره" بفتح الواو وسكون الجيم وبالراء فهاء تأنيث موضع بين مكة والبصرة أربعون ميلا، كما في القاموس "على ثلاثة مراحل من مكة إلى البصرة وخمس من المدينة".
قال البكري: وزعم أن وجرة ماء لبني سليم على ثلاثة مراحل من مكة "في شهر ربيع الأول سنة ثمان ومعه أربعة وعشرون رجلا إلى جمع من هوازن" يقال لهم: بنو عامر "وأمره أن يغير عليهم فكان يسير الليل ويكمن" بضم الميم وفتحها "النهار حتى صبحهم" وهم غافلون، ونهى أصحابه أن يمنعوا في الطلب "فأصابوا نعما" كثيرا كما في الرواية "وشاء واستاقوا ذلك حتى قدموا المدينة، وكانت غيبتهم خمس عشرة ليلة، واقتسموا الغنيمة وكانت سهامهم خمسة عشر بعيرا وعدلوا البعير بعشر من الغنم".
رواه كله ابن سعد من مرسل عمرو بن الحكم.
"ثم سرية كعب بن عمير" بضم المهملة وفتح الميم وسكون التحتية فراء "الغفاري" بكسر المعجمة وخفة الفاء.(3/337)
إلى ذات أطلاح، وراء ذات القرى، في ربيع الأول سنة ثمان في خمسة عشر رجلا، فساروا حتى انتهوا إلى ذات أطلاح، فوجدوا جمعا كثيرا فقاتلهم الصحابة أشد القتال حتى قتلوا، وأفلت رجل جريح في القتلى. قال مغلطاي: قيل: هو الأمير. فلما برد عليه الليل تحامل حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره الخبر، فشق ذلك عليه، وهم بالبعث إليهم فبلغه أنهم ساروا إلى موضع آخر فتركهم.
__________
قال أبو عمر من كبار الصحابة "إلى ذات أطلاح" بفتح الهمزة وسكون الطاء، وبالحاء المهملتين من أرض الشام "وراء ذات القرى" الذي عند غيره: وراء وادي القرى، وقد مر له نظير ذلك في سرية حسمي والانتقاد عليه بأنه ليس ثم محل يقال له: ذات القرى، وأنه يمكن تأويله أنه لم يرد المعنى العلمي بل الإضافي بتقدير مضاف موصوف ذات هو وراء أرض ذات القرى "في ربيع الأول سنة ثمان" كما أرخها ابن سعد.
قال: حدثنا محمد بن عمر حدثني محمد بن عبد الله عن الزهري قال: بعث صلى الله عليه وسلم كعبا "في خمسة عشر رجلا فساروا حتى انتهوا إلى ذات أطلاح، فوجدوا جمعا كثيرا" وذلك أنه كان يكمن النهار ويسير الليل حتى دنا منهم فرآه عين لهم فأخبرهم بقلة الصحابة فجاءوا على الخيل، وفي حديث الزهري فدعوهم إلى الإسلام، فلم يستجيبوا لهم ورشقوهم بالنبل "فقاتلهم الصحابة أشد القتال حتى قتلوا".
قال أبو عمر: قتلوهم ببضاعة "وأفلت" أي تخلص ونجا "منهم رجل جريح في القتلى".
"قال مغلطاي: قيل: هو الأمير" قائله ابن سعد ونسبه الشامي للواقدي وفيه نظر. ففي الإصابة أن ابن سعد ذكر أن أصحابه قتلوا جميعا وتحامل هو حتى بلغ المدينة كذا قال، وقد ساق شيخه الواقدي القصة وأبهم الرجل الذي تحامل، وهكذا ذكره ابن إسحاق عن عبد الله ابن أبي بكر، وأن كعب بن عمير قتل يومئذ، وكذا ذكر ابن عقبة عن الزهري, وأبو الأسود عن عروة، وبه جزم أبو عمر. انتهى.
ولذا مرضه مغلطاي، وقال البرهان: هذا الرجل لا أعرف اسمه "فلما برد" بفتح الراء وضمها "عليه الليل تحامل حتى أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبره الخبر فشق ذلك عليه وهم بالبعث إليهم، فبلغه أنهم ساروا إلى موضع آخر فتركهم".
قال بعض ولم أقف على سبب هذه السرية والله سبحانه أعلم.(3/338)
"باب غزوة مؤتة":
ثم سرية مؤتة -بضم الميم وسكون الواو- بغير همز لأكثر الرواة، وبه جزم المبرد، وجزم ثعلب والجوهري وابن فارس بالهمز، وحكى غيرهم الوجهين.
وهي من عمل البلقاء بالشام، دون دمشق.
__________
باب غزوة مؤتة:
"ثم سرية مؤتة" ترجمها البخاري وابن إسحاق في طائفة غزوة مؤتة وفي بعض الروايات تسميتها غزوة جيش الأمراء وذلك لكثرة جيش المسلمين فيها وما لاقوه من الحرب الشديد مع الكفار، وسماها المصنف وغيره سرية لأنها طائفة من جيشه صلى الله عليه وسلم بعثها ولم يخرج معها، وموتة قال الحافظ: في الفتح "بضم الميم وسكون الواو بغير همز لأكثر الرواة، وبه جزم" من أهل اللغة "المبرد" أبو العباس محمد بن يزيد عبد الأكبر إمام العربية المشهور. ولد سنة عشر ومائتين ومات سنة اثنتين، وقيل: خمس وثمانين. قال السيرافي: لما صنف المازني كتاب الألف واللام، سأل المبرد عن دقيقه وعويصه فأجابه بأحسن جواب، فقال له: قم فأنت المبرد بكسر الراء المثبت للحق فغيره الكوفيون وفتحوا الراء. انتهى.
ومن الرواة من همزها "وجزم ثعلب" العلامة المحدث شيخ اللغة والعربية أبو العباس أحمد بن يحيى بن يزيد الشيباني مولاهم البغدادي المقدم في نحو الكوفيين ولد سنة مائتين.
قال الخطيب: كان ثقة دينا حجة صالحا مشهورا بالحفظ مات في جمادى الآخرة سنة إحدى وتسعين ومائتين المعدود في الحفاظ لقوله سمعت من عبيد الله القواريري مائة ألف حديث "والجوهري" الإمام أبو نصر إسماعيل بن حماد مات في حدود الأربعمائة "و" أحمد بن زكريا "ابن فارس" أبو الحسين الرازي اللغوي الفقيه المالكي الإمام في علوم شتى صاحب التصانيف، المتوفى سنة تسع وقيل: خمس وسبعين وثلاثمائة "بالهمز".
"وحكى غيرهم" وهو صاحب الوافي كما في الفتح "الوجهين وهي من عمل البلقاء" بفتح الموحدة وسكون اللام وبالقاف والمد مدينة معروفة "بالشام،" هكذا ضبطها البرهان بالمد وهو ظاهر القاموس، وفي الشامي أنها مقصورة "دون دمشق"، وفي الفتح قال ابن إسحاق: هي بالقرب من البلقاء، وقال غيره على مرحلتين من بيت المقدس.
قال: وأما المؤتة التي وردت الاستعاذة منها وفسرت بالجنون فهي بغير همز. انتهى.
وفي الروض مؤتة مهموزة الواو قرية من أرض البلقاء بالشام، وأما الموتة بلا همز فضرب من الجنون وفي الحديث أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول في صلاته: "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم من همزه(3/339)
في جمادى الأولى سنة ثمان.
وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أرسل الحارث بن عمير الأزدي بكتاب إلى ملك بصرى، فلما نزل مؤتة عرض له شرحبيل بن عمرو الغساني فقتله، ولم يقتل لرسول صلى الله عليه وسلم رسول غيره.
فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة.
__________
ونفخه ونفثه". وفسره الراوي، فقال: نفثه: الشعر, ونفخه: الكبر, وهمزه: الموتة. انتهى.
"في جمادى الأولى سنة ثمان" كما في مغازي أبي الأسود عن عروة، وكذا قال ابن إسحاق، وموسى بن عقبة وأهل المغازي لا يختلفون في ذلك إلا ما ذكر خليفة في تاريخه أنها كانت سنة سبع.
قاله الحافظ: ووقع في جامع الترمذي أنها كانت قبل عمرة القضاء.
قال البرهان وهو غلط بلا شك "و" سبب "ذلك" كما جزم به اليعمري ومرضه الحافظ، فقال: يقال: سببها "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أرسل الحارث بن عمير الأزدي"، ثم اللهبي بكسر اللام وسكون الهاء الصحابي "بكتاب إلى ملك بصرى،" أي أميرها من جهة هرقل وهو الحارث بن أبي شمر الغساني وعلى هذا اقتصر الفتح، وصدر العيون بأنه أرسله بالكتاب إلى ملك الروم، "فلما نزل موتة عرض" تصدى "له" ومنعه من الذهاب "شرحبيل" بضم الشين المعجمة وفتح الراء وسكون الحاء وكسر الموحدة اسم أعجمي لا ينصرف "ابن عمرو الغساني" بفتح المعجمة ومهملة مشددة كافر معروف من أمراء قيصر على الشام.
قال البرهان: والظاهر هلاكه على شركه، "فقتله" صبرا وذلك أنه قال أين تريد؟ فقال: الشام. قال: فلعلك من رسل محمد؟ قال: نعم. فأمر به فأوثق رباطه ثم قدمه فضرب عنقه "ولم يقتل لرسول الله صلى الله عليه وسلم رسول غيره فأمَّر" بشد الميم "رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة" بمهملة ومثلثة مولاه وحبه أبا أسامة البدري.
قال سلمة بن الأكوع: غزوت مع النبي صلى الله عليه وسلم سبع غزوات وغزوت مع زيد بن حارثة سبع غزوات يؤمره علينا.
أخرجه أبو مسلم الكجي، والإسماعيلي، وأبو نعيم والطبراني بهذا اللفظ وهو في الصحيح بإبهام عدد غزوه مع زيد.
قال الحافظ: وقد تتبعت ما ذكره أهل المغازي من سرايا زيد فبلغت سبعا كما قال سلمة: أولها في جمادى الآخرة سنة خمس، قبل نجد في مائة راكب، والثانية في ربيع الآخر سنة ست(3/340)
على ثلاثة آلاف وقال: "إن قتل فجعفر بن أبي طالب فإن قتل فعبد الله بن رواحة فإن قتل فليرتض المسلمون برجل من بينهم يجعلونه عليهم".
وفي حديث عبد الله بن جعفر عند أحمد والنسائي بإسناد صحيح: "إن قتل زيد فأميركم جعفر". الحديث.
__________
إلى بني سليم، والثالثة في جمادى الأولى منها في مائة وسبعين يلقى عيرا لقريش، والرابعة في جمادى الآخرة منها إلى بني ثعلبة, والخامسة إلى حسمى بكسر الحاء وسكون السين المهملتين مقصور في خمسمائة إلى جذام بطريق الشام كانوا قطعوا الطريق على دحية وهو راجع من عند هرقل، والسادسة إلى وادي القرى، والسابعة إلى ناس من بني فزارة وكان خرج قبلها في تجارة فخرج عليه ناس منهم فضربوه وأخذوا ما معه فجهزه إليهم فأوقع بهم. انتهى.
وهذه الثامنة التي استشهد فيها أميراه كما رواه ابن إسحاق عن عروة "على ثلاثة آلاف" وذلك لأنه لما بلغه قتل رسوله اشتد عليه الأمر وندب الناس، "وقال" كما في الصحيح عن ابن عمر: "إن قتل فجعفر بن أبي طالب" أميرهم، كما ثبت بهذا اللفظ عند ابن عقبة عن الزهري، "فإن قتل فعبد الله بن رواحة" الأمير، "فإن قتل فليرض المسلمون برجل من بينهم يجعلونه عليهم" أميرا، وفي نسخة: يجعلوه بحذف النون للتخفيف إذ ليس ثم ناصب ولا جازم.
وروى الواقدي أنه كان ثم يهودي اسمه النعمان، قال: يا أبا القاسم إن كنت نبيا فسميت من سميت قليلا أو كثيرا أصيبوا جميعا لأن أنبياء بني إسرائيل، كانوا إذا استعملوا الرجل على القوم، ثم قالوا: إن أصيب فلان فلو سمى مائة أصيبوا جميعا، ثم جعل يقول لزيد: اعهد فإنك لا ترجع إلى محمد إن كان نبيا، قال زيد: فأشهد أنه رسول صادق بار، "وفي حديث عبد الله بن جعفر" بن أبي طالب الهاشمي أحد الأجواد ولد بأرض الحبشة ومات سنة ثمانين وهو ابن ثمانين.
روى له الستة صحابي ابن صحابي رضي الله عنهما "عند أحمد والنسائي بإسناد صحيح: "إن قتل زيد فأميركم جعفر". الحديث. والغرض منه بيان المحذوف في الرواية الأولى، فأفاد هذا أن قوله فيها: فجعفر خبر مبتدأ محذوف للعمل به, وأفادت رواية الزهري التي أسلفناها أنه مبتدأ حذف خبره فأفادت الروايتان جواز الأمرين.
وروى أحمد، والنسائي وصححه ابن حبان من حديث أبي قتادة، قال: بعث صلى الله عليه وسلم جيش الأمراء، وقال: "عليكم زيد بن حارثة فإن أصيب زيد، فجعفر". الحديث، وفيه: فوثب جعفر وقال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله ما كنت أرهب أن تستعمل عليّ زيدا، قال: "امض فإنك لا تدري أي ذلك خير".(3/341)
قالوا: وعقد لهم صلى الله عليه وسلم لواء أبيض، ودفعه إلى زيد، وأوصاهم أن يأتوا مقتل الحارث بن عمير، وأن يدعوا من هناك إلى الإسلام، فإن أجابوا وإلا استعينوا عليهم بالله وقاتلوهم.
وخرج مشيعا لهم، حتى بلغ ثنية الوداع فوقف وودعهم.
__________
قال الحافظ: وفيه جواز تعليق الإمارة بشرط وتولية عدة أمراء بالترتيب، واختلف هل تنعقد ولاية الثاني في الحال أم لا والذي يظهر انعقادها في الحال لكن بشرط الترتيب وقيل: تنعقد لواحد لا بعينه وتتعين لمن عينه الإمام على الترتيب وقيل تنعقد للأول فقط، وأما الثاني فبطريق الاختيار واختيار الإمام يقدم على غيره لأنه أعرف بالمصلحة العامة وفيه جواز التآمر في الحرب بغير تأمير الإمام.
قال الطحاوي: وهذا أصل يؤخذ منه أن على المسلمين تقديم رجل إذا غاب الإمام يقوم مقامه إلى أن يحضر وجواز الاجتهاد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وعلم ظاهر من أعلام النبوة. انتهى.
"قالوا: وعقد لهم صلى الله عليه وسلم لواء أبيض ودفعه إلى زيد وأوصاهم أن يأتوا مقتل الحارث بن عمير" وهو مؤتة كما مر، وروي أنه صلى الله عليه وسلم نهاهم أن يأتوا مؤتة فركبتهم ضبابة فلم يبصروا حتى أصبحوا عليها، فإن صح احتمل أن المراد بمقتل الحارث الأرض التي قتل فيها لا خصوص المكان الذي قتل به، فلا ينافي النهي أوان موضع قتله ليس في خصوص مؤتة بل في جهتها "وأن يدعوا من هناك إلى الإسلام، فإن أجابوا وإلا" فأقول لكم "استعينوا" بصيغة الأمر فلا يرد وجوب الفاء في جواب الشرط الطلبي، وفي لفظ استعانوا "عليهم بالله وقاتلوهم" فأسرع الناس بالخروج وعسكروا بالجرف بضم الجيم والراء، وسكونها.
وروي بمعجمتين على ثلاثة أميال من المدينة لجهة الشام "وخرج" صلى الله عليه وسلم "مشيعا لهم حتى بلغ ثنية الوداع" بفتح الواو. سميت بذلك لتوديع المصطفى هذه السرية عندها، أو لأن المسافر كان يودع عندها قديما، وصححه عياض "فوقف وودعهم" وهذا أصل في الخروج مع المسافر إلى خارج البلد.
وروى الواقدي عن زيد بن أرقم رفعه: "أوصيكم بتقوى الله وبمن معكم من المسلمين خيرا اغزوا بسم الله في سبيل الله من كفر بالله، لا تغدروا ولا تغلوا ولا تقتلوا وليدا ولا امرأة ولا كبيرا فانيا ولا منعزلا بصومعة ولا تقربوا نخلا ولا تقطعوا شجرا ولا تهدموا بناء".
وعند ابن إسحاق من مرسل عروة، ودع الناس الأمراء فلما ودع ابن رواحة بكى، فقالوا: ما يبكيك؟ فقال: أما والله ما بي حب الدنيا ولا صبابة بكم ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ آية:(3/342)
فلما ساروا نادى المسلمون: دفع الله عنكم وردكم صالحين غانمين، فقال عبد الله بن رواحة:
لكنني أسأل الرحمن مغفرة ... وضربة ذات فرغ تقذف الزبدا
فلما فصلوا من المدينة سمع العدو بمسيرهم، فجمعوا لهم، وقام شرحبيل بن عمرو فجمع أكثر من مائة ألف، وقدم الطلائع أمامه.
وقد نزل المسلمون معان.
__________
{وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا} ، فلست أدري كيف لي بالصدر بعد الورود، قال: "فلما ساروا نادى المسلمون دفع الله عنكم وردكم صالحين غانمين، فقال عبد الله بن رواحة":
"لكنني أسأل الرحمن مغفرة ... وضربة ذات فرغ تقذف الزبدا"
أو طعنة بيدي حران مجهزة ... بحربة تنقذ الحشاء والكبدا
حتى يقال إذا مروا على جدثي ... يا أرشد الله من غاز وقد رشدا
وذات فرغ بفتح الفاء وسكون الراء وغين معجمة، أي واسعة يسيل دمها كما في العيون، والزبد فتح الزاي والموحدة وبمهملة رغوة الدم.
قال ابن إسحاق وأتى ابن رواحة رسول الله فودعه، ثم قال:
فثبت الله ما آتاك من حسن ... تثبيت موسى ونصر كالذي نصروا
إني تفرست فيك الخير نافلة ... فراسة خالفت فيك الذي نظروا
أنت الرسول فمن يحرم نوافله ... والوجه منه فقد أزرى به القدر
وروى غيره أنه صلى الله عليه وسلم قال له: قل شعرا تقتضبه اقتضابا وأنا أنظر إليك من غير روية، فقال: إني تفرست الأبيات حتى انتهى إلى قوله: فثبت الله. قال صلى الله عليه وسلم: "وأنت فثبتك الله يابن رواحة".
وعند أحمد، والترمذي عن ابن عباس أن ابن رواحة تخلف حتى صلى الجمعة معه صلى الله عليه وسلم فلما صلى رآه، فقال: "ما منعك أن تغدو مع أصحابك". قال: أردت أن أصلي معك الجمعة، ثم ألحقهم. فقال صلى الله عليه وسلم: "لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما أدركت غدوتهم".
وفي رواية: "لغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها". "فلما فصلوا من المدينة سمع العدو بمسيرهم فجمعوا لهم وقام شرحبيل بن عمرو فجمع أكثر من مائة ألف وقدم الطلائع أمامه" فلما نزل المسلمون وادي القرى بعث أخاه سدوس بن عمرو في خمسين من المشركين، فاقتتلوا وانكشف أصحاب سدوس وقد قتل، "وقد نزل المسلمون معان" لما ساروا من وادي القرى نزلوا بغار فبلغهم كثرة العدو فأقاموا على معان ليلتين "بفتح الميم" على ما(3/343)
بفتح الميم موضع من أرض الشام، وبلغ الناس كثرة العدو وتجمعهم، وأن هرقل نزل بأرض البلقاء في مائة ألف من المشركين, فأقاموا ليلتين لينظروا في أمرهم وقالوا: نكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنخبره الخبر، فشجعهم عبد الله بن رواحة على المضي، فمضوا إلى مؤتة.
ووافاهم المشركون فجاء منهم من لا قبل لأحد به من العَدد والعُدد والسلاح والكراع والديباج والحرير والذهب.
__________
صوبه الوقشي وغيره، وقال البكري: بضمها نقله عنه الروض وغيره ونقل عنه مغلطاي فتحها.
قال الشامي: فكان نسخ معجمة مختلفة والعين مهملة فألف فنون "موضع من أرض الشام" وفي الروض، قال البكري: هو اسم جبل والمعان أيضا حيث تحبس الخيل والركاب، ويجوز أنه من أمعنت النظر أو من الماء المعين فوزنه فعال أو من أمعنت النظر فوزنه مفعل، وقد جنس المعري به فقال:
معان من أحبثنا معان
تجيب الصاهلات بها القيان
"وبلغ الناس" الصحابة كثرة العدو وتجمعهم وأن هرقل نزل بأرض البلقاء في مائة ألف من المشركين" أي الروم كما عبر به ابن إسحاق، وزادوا تضم إليهم من لخم وجذم والقيس وبهراء وبلى مائة ألف منهم عليهم رجل من بلى، يقال له مالك بن رافلة. انتهى.
ولعل هؤلاء الذين جمعهم شرحبيل، "فأقاموا ليلتين" على معان "لينظروا في أمرهم، وقالوا: نكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنخبره الخبر".
زاد ابن إسحاق: فإما أن يمدنا بالرجال وإما أن يأمرنا بأمره فنمضي له "فشجعهم عبد الله بن رواحة على المضي" قال ابن إسحاق: وقال: يا قوم والله إن التي تكرهون للتي خرجتم إياها تطلبون الشهادة وما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة، ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به، فانطلقوا فإنما هي إحدى الحسنيين، إما ظهور وإما شهادة فقال الناس: قد والله صدق ابن رواحة، "فمضوا إلى مؤتة ووافاهم" أتاهم "المشركون فجاء منهم من لا قبل" طاقة "لأحد به من العَدد" الكثير الزائد على مائتي ألف "والعُدد" بضم العين "والسلاح والكراع" بضم الكاف جماعة الخيل خاصة "والديباج، والحرير، والذهب" إظهارا للشدة والقوة بكثرة أموالهم وآلات حروبهم، وفي هذا فرط شجاعة الصحابة وقوة قلوبهم وتوكلهم على ربهم وعدم مبالاتهم بأنفسهم، لأنهم باعوها لله سبحانه إذا قدم ثلاثة آلاف على أكثر من مائتي ألف أصحاب حروب وشدة إنما هو لما وقر في قلوبهم واطمأنت عليه نفوسهم.(3/344)
والتقى المسلمون والمشركون. فقاتل الأمراء يومئذ على أرجلهم، فأخذ اللواء زيد بن حارثة فقاتل وقاتل المسلمون معه على صفوفهم حتى قتل طعنا بالرماح.
ثم أخذ اللواء جعفر بن أبي طالب، فنزل عن فرس له شقراء وقاتل حتى قتل، ضربه رجل من الروم فقطعه نصفين، فوجد في أحد نصفيه بضعة وثمانون جرحا وفيما أقبل من بدنه اثنتان وسبعون ضربة بسيف وطعنة برمح.
قال في رواية البخاري: ووجدنا ما في جسده بضعا وتسعين من طعنة ورمية.
__________
إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا وإن جندنا لهم الغالبون، وكان حقا علينا نصر المؤمنين، "والتقى المسلمون والمشركون فقاتل الأمراء" الثلاثة "يومئذ على أرجلهم" قد يشعر تخصيصهم إن من عداهم قاتلوا على حالهم التي كانوا عليها من كونهم مشاة أو ركبانا، "فأخذ اللواء زيد بن حارثة" أي حمله على العادة من أن الحامل له أمير الجيش كما مر، وقد يدفعه لمقدم العسكر وإلا فهو معه من حين دفعه له صلى الله عليه وسلم، "فقاتل وقاتل المسلمون معه على صفوفهم".
ذكر ابن إسحاق أنهم جعلوا على الميمنة قطبة بن قتادة العذري وعلى ميسرتهم عباية بن مالك الأنصاري "حتى قتل طعنا بالرماح، ثم أخذ اللواء جعفر بن أبي طالب".
قال ابن إسحاق: وأتباعه فقاتل به على فرس فألحمه القتال أي أحاط به ولم يجد له مخلصا "فنزل عن فرس له شقراء وقاتل حتى قتل" قال بن هشام وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة.
قال اليعمري: أو أربع وثلاثين وفي الإصابة كان أسن من علي بعشر سنين، فاستوفى أربعين سنة وزاد عليها على الصحيح، وجزم ابن عبد البر بأن سنه كان إحدى وأربعين سنة "ضربه رجل من الروم" ضربة "فقطعه نصفين فوجد في أحد نصفيه بضعة وثمانون جرحا وفيما أقبل من بدنه اثنتان وسبعون" ليس فيه أنها زائدة على ما في أحد نصفيه فيجوز أنها من جملة ما كان فيه "ضربة بسيف وطعنة برمح" تمييز للعدد أي بعض جراحه بسيف وبعضها برمح.
"قال في رواية البخاري" من طريق عبد الله بن سعد عن نافع عن ابن عمر.
قال: كنت في تلك الغزوة فالتمسنا جعفر بن أبي طالب فوجدناه في القتلى "ووجدنا ما في جسده بضعا وتسعين من طعنة" برمح "ورمية" بسهم، وكذا أخرجه ابن سعد من طريق اليعمري عن نافع عنه.(3/345)
وفي رواية: أن ابن عمر قال وقفت على جعفر يومئذ وهو قتيل قال: فعددت به خمسين بين ضربة وطعنة ليس منها شيء في دبره.
وذكر ابن إسحاق بإسناد حسن، وهو عند أبي داود من طريقه عن رجل من بني مرة قال: والله لكأني أنظر إلى جعفر بن أبي طالب، حتى اقتحم عن فرس له شقراء فعقرها.
__________
"وفي رواية" للبخاري أيضا من طريق سعيد بن هلال عن نافع "أن ابن عمر" أخبره "قال: وقفت على جعفر يومئذ وهو قتيل، قال: فعددت به خمسين بين ضربة" بسيف "وطعنة" برمح "ليس منها" وللكشميهني فيها "شيء في دبره" بضم الموحدة بيان لفرط شجاعته وإقدامه.
زاد بعض الرواة في البخاري يعني في ظهره، أي لم يكن منها شيء في حال الإدبار، بل كلها في حال الإقبال لمزيد شجاعته.
وكذا رواه سعيد بن منصور عن أبي معشر عن نافع مثله خمسين.
قال الحافظ: وظاهرهما التخالف ويجمع بأن العدد قد لا يكون له مفهوم أو بأن الزيادة باعتبار ما وجد فيه من رمي السهام، فإن ذلك لم يذكر في الرواية الأخرى أو الخمسين مقيدة بأنها ليس فيها شيء في دبره، أي ظهره وقد يكون الباقي في بقية جسده ولا يستلزم ذلك أنه ولى دبره وإنما هو محمول على أن الرمي جاءه من جهة قفاه أو طنبه لكن يؤيد الأول أن في رواية اليعمري عن نافع فوجدنا ذلك فيما أقبل من جسده بعد أن ذكر أن العدد بضع وتسعون.
ووقع للبيهقي في الدلائل بضع وسبعون أي بسين فموحدة وأشار إلى أن بضعا وتسعين أي فوقية فسين أثبت, وللإسماعيلي عن الهيثم بن خلف عن البخاري بضعا وتسعين أو بضعا وسبعين بالشك ولم أر ذلك في شيء من نسخ البخاري. انتهى.
"وذكر" أي روى "ابن إسحاق بإسناد حسن" قال حدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه عباد. قال: حدثني أبي الذي أرضعني وكان أحد بني مرة بن عوف "وهو عند أبي داود من طريقه", فقال: حدثنا النفيلي قال: حدثنا محمد بن مسلمة عن محمد بن إسحاق، فذكره "عن رجل من بني مرة" وإبهام الصحابي لا يضر لعدالة جميعهم "قال والله لكأني أنظر إلى جعفر بن أبي طالب حين اقتحم" أي رمى بنفسه في هذا الأمر العظيم "عن فرس له شقراء فعقرها".
هكذا الرواية في السيرة وسنن أبي داود بفتح المهملة والقاف، وبالراء أي ضرب قوائمها وهي قائمة بالسيف وفي رواية لابن عقبة، والواقدي، وابن إسحاق أيضا فعرقبها أي قطع عرقوبها وهو الوتر الذي بين مفصل الساق والقدم.(3/346)
ثم قاتل حتى قتل.
قالوا: ثم أخذ اللواء عبد الله بن رواحة فقاتل حتى قتل.
فأخذ اللواء ابن أقرم.
__________
قال ابن إسحاق: فكان جعفر أول مسلم عقر في الإسلام.
قال في الروض: ولم يعب ذلك عليه أحد فدل على جوازه إذا خيف أن يأخذها العدو فيقاتل عليها المسلمين، فلم يدخل هذا في النهي عن تعذيب البهائم وقتلها عبثا غير أن أبا داود قال: ليس هذا الحديث بالقوي، وقد جاء فيه نهي كثير عن الصحابة. انتهى, وكأنه يريد ليس بصحيح وإلا فهو حسن كما جزم به الحافظ وتبعه المصنف، "ثم قاتل حتى قتل" وهو يقول كما في بقية ذا الحديث الحسن:
يا حبذا الجنة واقترابها ... طيبة وباردا شرابها
والروم روم قد دنا عذابها ... كافرة بعيدة أنسابها
علي إذ لاقيتها ضرابها
"قالوا: ثم أخذ اللواء عبد الله بن رواحة، فقاتل حتى قتل" قال ابن إسحاق: حدثني يحيى بن عباد عن أبيه قال: حدثني أبي الذي أرضعني أحد بني مرة بن عوف، فلما قتل جعفر أخذ عبد الله بن رواحة الراية, ثم تقدم بها وهو على فرسه، فجعل يستنزل نفسه ويتردد بعض التردد. ثم قال:
أقسمت يا نفس لتنزلنه ... لتنزلن أو لتكرهنه
أن أجلب الناس وشدوا الرنه ... ما لي أراك تكرهين الجنه
قد طالما قد كنت مطمئنه ... هل أنت إلا نطفة في شنه
وقال:
يا نفس ألا تقتلي تموتي ... هذا حمام الموت قد صليت
وما تمنيت قد أعطيتي ... أن تفعلي فعلهما هديت
يريد صاحبيه زيدا وجعفرا، فلما نزل أتاه ابن عمه بعرق من لحم، فقال: شد بهذا صلبك فإنك قد لقيت أيامك هذه، ما لقيت فأخذه من يده ثم انتهس منه نهسة ثم سمع الحطمة في الناس، فقال: وأنت في الدنيا ثم ألقاه من يده، ثم أخذ سيفه فقاتل حتى قتل.
وروى سعيد بن منصور عن سعيد بن أبي هلال قال: بلغني أنهم دفنوا يومئذ زيدا, وابن رواحة، وجعفرا في حفرة واحدة، وفي الصحيح وما يسرهم أنهم عندنا أي لما رأوا من فضل الشهادة "فأخذ اللواء" ثابت "بن أقرم" بفتح أوله وسكون القاف وبالراء، والميم(3/347)
العجلاني، إلى أن اصطلح الناس على خالد بن الوليد، فأخذ اللواء، وانكشف الناس فكانت الهزيمة فتبعهم المشركون فقتل من قتل من المسلمين.
وقال الحاكم: قاتلهم خالد بن الوليد فقتل منهم مقتلة عظيمة وأصاب غنيمة.
__________
ابن ثعلبة بن عدي بن العجلان "العجلاني" بفتح المهملة وسكون الجيم بطن من الأنصار.
قال في الإصابة البلوى حليف الأنصار.
ذكره ابن عقبة في أهل بدر.
قال في رواية ابن إسحاق: فقال: يا معشر المسلمين اصطلحوا على رجل منكم، قالوا: أنت، قال: ما أنا بفاعل، فاصطلحوا على خالد وعند بن سعد أن ثابتا مشى باللواء إلى خالد، فقال: لا آخذه منك أنت أحق به، فقال الأنصاري: والله ما أخذته إلا لك.
وروى الطبراني عن أبي اليسر قال: أنا دفعت الراية إلى ثابت بن أقرم لما أصيب ابن رواحة، فدفعها إلى خالد وقال: أنت أعلم بالقتال مني فحاصل هذه الروايات أن أبا اليسر أخذها ودفعها إلى ثابت فذهب بها لخالد فلم يقبلها فنادى يا معشر المسلمين فجاءوا "إلى أن اصطلح" اجتمع "الناس على خالد بن الوليد" وسلموها له "فأخذ اللواء".
وفي الصحيح حتى أخذ الراية سيف من سيوف الله حتى فتح الله عليهم، وفي رواية ثم أخذ اللواء خالد بن الوليد ولم يكن من الأمراء وهو أمير نفسه. ثم قال: قال صلى الله عليه وسلم: اللهم إنه سيف من سيوفك فأنت تنصره فمن يومئذ سمي سيف الله، وفي رواية فأخذها خالد من غير إمرة، والمراد نفي كونه منصوصا عليه وإلا، فقد ثبت أنهم اتفقوا عليه "وانكشف الناس، فكانت الهزيمة فتبعهم المشركون، فقتل من قتل من المسلمين" وهم اثنا عشر رجلا جعفر, وزيد، ومسعود بن أوس، ووهب بن سعد، وعبد الله بن رواحة، وعباد بن قيس، والحارث بن النعمان، وسراقة بن عمر ذكرهم ابن إسحاق.
زاد ابن هشام عن الزهري أبا كليب، وجابر بن عمر بن زيد، وعمرا وعامرا ابني سعد بن الحارث وزاد ابن الكلبي، والبلاذري، هو بجة بفتح الهاء وسكون الواو، وفتح الموحدة والجيم وتاء تأنيث الضبي، وأنه لما قتل فقد جده وفي هذا عناية من الله بالإسلام وأهله ومزيد إعزاز ونصر لهم إذ جيش عدته ثلاثة آلاف يلقون أكثر من مائتي ألف فلا يقتل منهم إلا ثلاثة عشر مع أنهم اقتتلوا مع المشركين سبعة أيام، كما رواه القراب في تاريخه عن بردع بن زيد.
كذا ذكر ابن سعد وغيره أن الهزيمة كانت على المسلمين، "وقال الحاكم: قاتلهم خالد بن الوليد، فقتل منهم مقتلة عظيمة وأصاب غنيمة"، فإنما كانت الهزيمة على المشركين،(3/348)