وأخواه قدامة وعبد الله، وعبيدة بن الحارث بن المطلب بن عبد مناف، وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، وامرأته فاطمة ابنة الخطاب.
وقال ابن سعد: أول امرأة أسلمت بعد خديجة أم الفضل زوج العباس، وأسماء بنت أبي بكر، وعائشة أختها. كذا قاله ابن إسحاق وغيره. وهو وهم، لأنه لم تكن عائشة ولدت بعد فكيف أسلمت. وكان مولدها سنة أربع من النبوة، قاله مغلطاي وغيره.
__________
ابنه إبراهيم، قال: "الحق بسلفنا الصالح عثمان بن مظعون".
"وأخواه قدامة" يكنى أبا عمر من السابقين الأولين، هاجر الهجرتين وشهد بدرًا وكانت تحبه صفية بنت الخطاب أخت عمر، واستعمله على البحرين فشرب فأحضره عمر، فلما أراد حده، قال: لو شربت كما قالوا، أي: الذين شهدوا عليه ما كان لكم أن تحدوني، قال الله: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ} [المائدة: 93] الآية، فقال عمر: أخطأت التأويل، إنك إذا اتقيت الله اجتنبت ما حرم ثم حده، فلما حجا وقفلا من الحج، قال عمر: عجلوا بقدامة، فوالله لقد أتاني آت من منامي، فقال لي: سالم قدامة، فإنه أخوك، فأبى قدامة أن يأتي عمر إن أبى فجروه، فأتى إليه فكلمه واستغفر له، رواه عبد الرزاق وغيره مطولا مات سنة ست وثلاثين أو ست وخمسين، وهو ابن ثمان وستين سنة.
"وعبد الله" يكنى أبا محمد هاجر إلى الحبشة وشهد بدرًا، "وعبيدة" بضم العين وفتح الموحدة، "ابن الحارث بن المطلب" أخي هاشم، "ابن عبد مناف" بن قصي المستشهد يوم بدر، "وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل" بضم النون القرشي العدوي أحد العشرة، "وامرأته فاطمة ابنة الخطاب" بن نفيل المذكور فهي ثانية النساء إسلامًا.
"وقال ابن سعد: أول امرأة أسلمت بعد خديجة أم الفضل" لبابة الكبرى بضم اللام وخفة الموحدتين بنت الحارث الهلالية، "زوج العباس" وأم بنيه الستة النجباء ورده في الفتح: بأنها وإن كانت قديمة الإسلام لكنها لا تذكر في السابقين فقد سبقتها سمية والدة عمار وأم أيمن. "وأسماء بنت أبي بكر" ذات النطاقين "وعائشة أختها" وهي صغيرة "كذا قاله ابن إسحاق وغيره" ممن تبعه، فلا يخالف قول العراقي:
كذا ابن إسحاق بذاك انفردا
"وهو وهم" غلط "لأنه لم تكن عائشة ولدت بعد" أي: في ذلك الزمن، وهو أول البعثة. "فكيف أسلمت، وكان مولدها سنة أربع" وبه جزم في العيون والإصابة، وقال ابن إسحاق: سنة خمس "من النبوة، قاله مغلطاي وغيره" وقد قالت: لم أعقل أبوي إلا وهما يدينان الدين؛ كما في(1/459)
ودخل الناس في الإسلام أرسالا من الرجال والنساء.
ثم أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يصدع بما جاءه، أي يواجه المشركين به.
وقال مجاهد: هو الجهر بالقرآن في الصلاة.
وقال أبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود:..............................
__________
الصحيح ولم يذكر بناته صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لا شك في تمسكهن قبل البعثة بهديه وسيرته، وقد روى ابن إسحاق عن عائشة: لما أكرم الله نبيه بالنبوة أسلمت خديجة وبناته، وكان أبو العاص زوج زينب عظيمًا في قريش فكلمته قريش في فراقها على أن يتزوج من أحب من نسائهم، فأبى. وفي الشامية أسلمت رقية حين أسلمت أمها خديجة وبايعت حين بايع النساء، وأم كلثوم حين أسلمت أخواتها وبايعت معهن. ا. هـ. فاطمة لا يسأل منها لولادتها بعد النبوة أو قبلها بخمس سنين.
والحاصل أنه لا يحتاج للنص على سبقهن للإسلام؛ لأنه معلوم هذا، ولا يشكل تزويج زينب بأبي العاصي ورقية وأم كلثوم بولدي أبي لهب مع صيانة النبي صلى الله عليه وسلم من قبل البعثة عن الجاهلية؛ لأن تحريم المسلمة على الكافر لم يكن ممنوعًا حتى نزل قوله تعالى: {وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا} [البقرة: 221] ، وقوله تعالى: {فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} بعد صلح الحديبية؛ كما صرح به العلماء، وقد كفاه الله ولدي أبي لهب فطلقاهما قبل الدخول، واستمرت زينب حتى أسر أبو العاصي ببدر فأرسلت في فدائه، فلما عاد بعثها إليه صلى الله عليه وسلم فلم تزل حتى أسلم وهاجر، فردها إليه صلى الله عليه وسلم.
ووقع في حديث عائشة عند ابن إسحاق: أن الإسلام فرق بينهما لكنه صلى الله عليه وسلم لم يقدر على نزعها منه حينئذ، "ودخل الناس في الإسلام" أي: تلبسوا به فالظرفية مجازية حال كونهم "أرسالا" جماعات متتابعين، "من الرجال والنساء" وقد عد العراقي وغيره من كل جملة صالحة، "ثم" بعد ذلك فشوة ذكره بمكة، وتحدث الناس به؛ كما عند ابن إسحاق، "أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يصدع بما جاءه" منه "أي: يواجه" يخاطب "المشركين" على وجه العموم فلا يخص بعضًا دون بعض؛ لأنه صلى الله عليه وسلم بلغ ما أمر به لمن ظن إجابته دون مبالغة في التعميم فآمن به من مر مع كثيرين، ثم أمر بالمبالغة في إظهار الدعوة، بقوله تعالى: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} [الحجر: 94] ، "وقال مجاهد: هو" أي: الصدع المفهوم من {فَاصْدَعْ} ، "الجهر بالقرآن في الصلاة" ومن لازمه المواجهة بما جاءه، وخص الصلاة؛ لأنها كانت أعظم ما يخفيه لكنه على طريق الدلالة والأول شفاها؛ كما صرح به قول ابن إسحاق: ينادي الناس بأمره ويدعوهم إليه، "وقال أبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود" الكوفي الثقة مشهور بكنيته، قال الحافظ: والأشهر أنه الاسم له غيرها، ويقال: اسمه عامر، والراجح أنه لا يصح سماعه من أبيه،(1/460)
ما زال النبي صلى الله عليه وسلم مستخفيًا حتى نزلت {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} [الحجر: 94] فجهر هو وأصحابه.
وقال البيضاوي: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} الآية، من صدع بالحجة إذا تكلم بها جهارًا أو أفرق به بين الحق والباطل، وأصله: الإبانة والتمييز. و "ما" مصدرية أو موصولة، "والعائد" محذوف، أي بما تؤمر به من الشرائع انتهى.
قالوا: وكان ذلك بعد ثلاث سنين من النبوة، وهي المدة التي أخفى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره إلى أن أمره الله تعالى بإظهاره.
فبادئ قومه بالإسلام وصدع به............................
__________
مات بعد سنة ثمانين.
"ما زال النبي صلى الله عليه وسلم مستخفيًا" هو والمسلمون في دار الأرقم، "حتى نزلت {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} [الحجر: 94] ، فجهر هو وأصحابه" ثم بعد بيان المراد من الآية ذكر مأخذها بقوله: "وقال البيضاوي" في تفسير قوله تعالى: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} الآية، فاجهر به "من صدع بالحجة إذا تكلم بها جهارًا" وعطف على فاجهر الذي حذفه المصنف من كلامه، قوله: "أو" يعني: وقيل معناه "افرق به بين الحق والباطل" لأن الصدع الفرق بين الشيئين، فالصدع بالحجة يفرق كلمة من ظهرت عليه وقهر بها وكأنه صدع على جهة البيان والتشبيه لظلمة الجهل والشرك بظلمة الليل، ولنور القرآن بنور الفجر؛ لأن الفرج يسمى صديعًا، قال الشاعر:
ترى السرحان مفترشًا يديه ... كأن بياض غرته صديع
"و" هو مجاز من صدع الشيء شقه إذ "أصله" لغة "الإبانة والتمييز" وفي القاموس: صدعه كمنعه شقه أو شقه نصفين أو شقه، ولم يفترق ولا منافاة لجواز أن يراد بالإبانة الشق مع الفصل وهو مستفاد من شقه، أي: مطلقًا وبالتميز الشق بلا فاصل، وهو مستفاد من الأول والثالث. "وما مصدرية" أي: بأمرنا لك، "أو موصولة والعائد" على أنها موصولة "محذوف، أي: بما تؤمر به من الشرائع، انتهى" ولا يشكل بأن شرط حذف عائد الموصول أن يجر بمثل ما جر به الموصول لفظًا ومتعلقًا، نحو: ويشرب مما تشربون، أي: منه؛ لأن الصداع بمعنى الأمر المؤثر ولا تشترط المناسبة اللفظية.
"قالوا: وكان ذلك بعد ثلاث سنين من النبوة" تبرأ منه لجزم الحافظ في سيرته بأن تزول الآية كان في السنة الثالثة، "وهي المدة التي أخفى رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره إلى أن أمره الله تعالى بإظهاره، فبادى" قال البرهان: الظاهر أنه بموحدة، أي: جاهر، "قومه بالإسلام و" لم يقتصر على مجرد المجاهرة بالدعوة بل كرر ذلك وأكده وبالغ في إظهار الحجة حتى كأنه "صدع به"(1/461)
كما أمره الله تعالى.
ولم يبعد منه قومه ولم يردوا عليه، حتى ذكر آلهتهم وعابها، وكان ذلك سنة أربع، كما قال العتقي. فأجمعوا على خلافه وعداوته إلا من عصم الله منهم بالإسلام. وحدب عليه عمه أبو طالب ومنعه وقام دونه.
فاشتد الأمر، وتضارب القوم، وأظهر بعضهم لبعض العداوة، وتذامرت قريش على من أسلم منهم يعذبونهم ويفتنونهم عن دينهم.
ومنع الله رسوله بعمه أبي طالب وببني هاشم -ما عدا أبا لهب-................
__________
قلوبهم بما أورده عليهم من الحجج والبراهين التي عجزوا عن دفعها "كما أمره الله تعالى و" مع ذلك "لم يبعد منه قومه، ولم يردوا عليه" بل كانوا؛ كما قال الزهري: غير منكرين لما يقول وكان إذا مر عليهم في مجالسهم يقولون: هذا ابن عبد المطلب يكلم من السماء واستمروا على ذلك، "حتى ذكر آلهتهم وعابها" لما دخل المسجد يومًا فوجدهم يسجدون للأصنام فنهاهم، وقال: "أبطلتم دين أبيكم إبراهيم"، فقالوا: إنما نسجد لها لتقربنا إلى الله، فلم يرض بذلك منهم وعاب صنعهم، "وكان ذلك في سنة أربع" من النبوة؛ "كما قاله العتقي" بضم المهملة وفتح الفوقية وقاف، وقيل: سنة خمس، وجمع بأن ابتداء الإظهار والمعاداة في الرابعة، وكماله واشتداده في الخامسة.
"فأجمعوا على خلافه" أي: عزموا على مخالفته وصمموا عليه "و" على "عداوته إلا من عصم الله منهم بالإسلام" وهم قليل مستخفون؛ كما في العيون، ولا ينافيه قول الزهري: استجاب له من أحداث الرجال وضعفاء الناس حتى كثر من آمن به "وحدب" بفتح الحاء وكسر الدال المهملتين فموحدة، أي: عطف "عليه عمه أبو طالب ومنعه" وأصل الحدب انحناء في الظهر، ثم استعير فيمن عطف على غيره ورق له؛ كما في الشامية. "وقام دونه" كناية عن منعهم من الوصول له، يقال: هذا دون ذلك، أي: أقرب منه، أي: قام في مكان قريب منه حاجزًا بينه وبينهم، "فاشتد الأمر وتضارب القوم" ضرب بعضهم بعضًا بالفعل؛ كما جاء أن سعد بن أبي وقاص كان في نفر من قريش يصلون في بعض شعاب مكة فظهر عليهم نفر من المشركين فعابوا صنعهم حتى قاتلوهم فضرب سعد رجلا منهم بلحى بعير فشجه، فهو أول دم أهريق في الإسلام، أو المعنى: أرادوا التضارب وعزموا عليه إشارة إلى ما كان بين أبي طالب وقومه.
"وأظهر بعضهم لبعض العداوة وتذامرت قريش" بذال معجمة: حض بعضهم بعضًا؛ كما في النور وغيره. وفي نسخة: توامرت بالواو، أي: تشاورت والأولى أنسب، بقوله: "على من أسلم منهم يعذبونهم ويفتنونهم عن دينهم ومنع الله رسوله بعمه أبي طالب، وببني هاشم(1/462)
وببني المطلب.
وقال مقاتل: كان صلى الله عليه وسلم عند أبي طالب يدعوه إلى الإسلام، فاجتمعت قريش إلى أبي طالب يريدون بالنبي صلى الله عليه وسلم سوءًا، فقال أبو طالب: حين تروح الإبل فإن حنت ناقة إلى غير فصيلها دفعته إليكم. وقال:
والله لن يصلوا إليك بجمعهم ... حتى أوسد في التراب دفينا
فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة ... وابشر وقر بذاك منك عيونا
ودعوتني وزعمت أنك ناصحي ... ولقد صدقت وكنت ثم أمينا
وعرضت دينًا لا محالة إنه ... من خير أديان البرية دينا
__________
ما عدا أبا لهب وببني المطلب" أخي هاشم بن عبد مناف بطلب أبي طالب لذلك منهم لما رأى ما صنعوا بالمسلمين، فاجتمعوا إليه وأقاموا معه. وفي بعض نسخ العيون: وببني عبد المطلب، قال النور: والصواب الأول.
"وقال مقاتل: كان صلى الله عليه وسلم عند أبي طالب يدعوه إلى الإسلام، فاجتمعت قريش إلى أبي طالب يريدون بالنبي صلى الله عليه وسلم سوءًا" هو أنهم أتوه بعمارة بن الوليد ليتخذه ولدًا ويعطيهم النبي صلى الله عليه وسلم ليقتلوه، "فقال أبو طالب" والله لبئس ما تسومونني، أتعطوني ابنكم أغذوه لكم، وأعطيكم ابني تقتلونه؟ هذا والله ما لا يكون أبدًا، وقال: "حين تروح الإبل" ترجع من مراعيها "فإن حنت ناقة إلى غير فصيلها دفعته إليكم" تعليق على محال على طريق إلزامهم إنها لا تحن إلى غيره مع كونها عجماء، فكيف أنا مع كوني من ذوي اللب والمعرفة؟ "وقال" شعرًا في النبي تطمينًا له:
والله لن يصلوا إليك بجمعهم ... حتى أوسد في التراب دفينا
"فاصدع بأمرك" جهرًا بالشيء الذي أمرت بتبليغه، أو الأمر مصدر بمعنى الطلب، أي: اصدع بسبب أمر الله لك، "ما عليك غضاضة" بفتح الغين وضادين معجمات: ذلة ومنقصة، "وابشر" بحذف الهمزة للضرورة، وأصله بقطع الهمزة؛ كقوله تعالى: {وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ} [فصلت: 30] ، "وقر بذاك منك عيونا" بفتح القاف من قرت عينه سكنت أو بردت، لكنه حول الإسناد من العين إلى ذاته الكريمة وجيء بـ"عيونًا" تمييزًا للنسبة، ولغة نجد كسر القاف وبهما قرئ: "وَقِرِّي عَينًا"، "ودعوتني" طلبت مني الدخول في دينك "وزعمت" ذكرت لي "أنك ناصحي" فلم يستعمل الزعم في معناه المشهور أنه القول الذي لا دليل عليه، بدليل قوله: "ولقد صدقت وكنت ثم" فيما دعوتني إليه "أمينًا" لم تزد فيما أمرت بتبليغه ولم تنقص، "وعرضت" أظهرت لنا "دينًا لا محالة" بفتح الميم: لا حيلة في دفع "إنه من خير أديان البرية دينًا" إذ هو حق ثابت(1/463)
لولا الملامة أو حذاري سبة ... لوجدتني سمحًا بذاك مبينا
وقد كفى الله تعالى نبيه المستهزئين. كما قال تعالى: {وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} أي لا تلتفت إلى ما يقولون: {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ} [الحجر: 95] يعني بقمعهم وإهلاكهم. وقد قيل للتحقيق لأن قول الجمهور: إنهم كانوا خمسة من أشراف قريش.
الوليد بن المغيرة.
والعاصي بن وائل.
والحارث بن قيس.
__________
بالحجج القاطعة، "لولا الملامة" العذل "أو حذاري" بكسر الحاء مصدر حاذر، أي: خوفي، "سبة" بضم السين عارًا وفتح الحاء تعسف؛ لأنه يكون اسم فعل أمر ولا يصح هنا إلا بتقدير أن خوفي من أن يقال لي حذار، أي: احذر العار مع جعل الياء للإشباع، "لوجدتني سمحًا بذاك" الذي دعوتني إليه، "مبينًا" ولما تكلم على المراد من آية الصدع جره ذلك إلى ذكر الآية الثانية، وإن كان اليعمري إنما ذكره بعد ذلك قبل انشقاق القمر، فقال على ما في بعض النسخ.
"وقد كفى الله تعالى نبيه المستهزئين؛ كما قال تعالى: {وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} [الحجر: 94] ، أي: لا تلتفت إلى ما يقولون" وهذا كان قبل الأمر بالجهاد، {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ} بك ومن استهزاء الحارث قوله عن محمد نفسه وصحبه إذ وعدهم أن يحيوا بعد الموت: والله ما يهلكنا إلا الدهر ومرور الأيام والحوادث، رواه ابن جرير عن قتادة. "يعني بقمعهم" مصدر قمع كمنع، أي: بقهرهم وإذلالهم "وإهلاكهم" حكم على المجوع، فلا ينافي أن من أسلم لم يهلك "وقد قيل للتحقيق؛ لأن قول الجمهور" ومنهم ابن عباس في أكثر الروايات عنه "إنهم كانوا خمسة من أشراف قريش الوليد بن المغيرة" بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، قال البغوي: وكان رأسهم، "والعاصي بن وائل" السهمي "والحارث بن قيس" بن عدي السهمي ابن عم العاصي كان أحد أشراف قريش في الجاهلية وإليه كانت الحكومة والأموال التي كانوا يسمونها، قال ابن عبد البر: أسلم وهاجر إلى الحبشة مع بنيه الحارث وبشر ومعمر، وتعقبه ابن الأثير بأن الزبير بن بكار وابن الكلبي ذكر أنه كان من المستهزئين.
وزاد الذهبي في التجريد: لم يذكر أحد أنه أسلم إلا أبو عمر ورده في الإصابة بأنه ذكره في الصحابة أيضًا أبو عبيد ومصعب والطبري وغيرهم، ولا مانع أن يكون تاب وصحب وهاجر، والآية ليست صريحة في عدم توبة بعضهم، انتهى. وأمه كنانية واسمها العيطلة، وينسب إليها.(1/464)
والأسود بن عبد يغوث.
والأسود بن المطلب.
وكانوا يبالغون في إيذائه صلى الله عليه وسلم والاستهزاء به. فقال جبريل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أمرت أن أكفيكهم. فأومأ إلى ساق الوليد، فمر بنبال فتعلق بثوبه سهم فلم ينعطف تعظيمًا لأخذه، فأصاب عرقًا في عقبه فمات، وأومأ إلى أخمص العاصي فدخلت فيه شوكة فانتفخت رجله حتى صارت كالوحي فمات، وأشار إلى أنف الحارث فامتخط قيحًا فمات، وإلى الأسود بن عبد يغوث وهو قاعد في أصل شجرة فجعل ينطح برأسه الشجرة ويضرب وجهه بالشوك حتى مات...........
__________
روى ابن جرير عن أبي بكر الهذلي، قال: قيل للزهري: إن سعيد بن جبير وعكرمة اختلفا في رجل من المستهزئين، فقال سعيد: الحارث بن عيطلة، وقال عكرمة: الحارث بن قيس، فقال: صدقا جميعًا، كانت أمه عيطلة وكان أبوه قيسًا، وما ذكر من أنه الحارث هو ما وقفت عليه. وفي نسخ صحيحة، وفي بعضها: وعدي بن قيس، وهو وإن قيل: بأنه منهم لكن يعين الأول قوله الآتي: فأشار إلى أنف الحارث.
"والأسود بن عبد يغوث" بن وهب بن زهرة الزهري ابن خاله صلى الله عليه وسلم, من استهزائه: أنه كان يقول: أما كلمت اليوم من السماء يا محمد؟ "والأسود بن المطلب" بن أسد بن عبد العزى "وكانوا يبالغون في إيذائه صلى الله عليه وسلم والاستهزاء به" فكان جبريل عليه السلام مع النبي صلى الله عليه وسلم فمروا بهما واحدًا بعد واحد فشكاهم إلى جبريل، "فقال جبريل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أمرت أن أكفيكهم، فأومأ إلى ساق الوليد، فمر بنبال" يريش نبله ويصلحها "فتعلق بثوبه سهم" وفي البغوي: فمرض، "فمات" كافرًا "وأومأ" جبريل "إلى أخمص" بفتح أوله وإسكان الخاء المعجمة فميم فصاد مهملة، "العاصي" فخرج يتنزه فنزل شعبًا، "فدخلت فيه شوكة" من رطب الضريع "فانتفخت رجله حتى صارت كالوحي" وفي البغوي: كعنق البعير، "فمات" مقامه.
"وأشار إلى أنف الحارث فامتخط قيحًا، فمات" وقيل: أكل حوتًا مملوحًا فما زال يشرب عليه حتى انقد بطنه، وقيل: أخذه الماء الأصفر في بطنه حتى خرج خرؤه من فيه، فمات. وعلى القول بإسلامه فمعنى: كفيناك بإسلامه وهو لذي يظهر من الإصابة ترجيح، فإنه أورده في القسم الأول ورد على من جزم بخلافه، "و" أشار جبريل "إلى الأسود بن عبد يغوث وهو قاعد في أصل شجرة فجعل ينطح برأسه الشجرة ويضرب وجهه بالشوك حتى مات" على(1/465)
وإلى عيني الأسود بن عبد المطلب فعمي.
وكان صلى الله عليه وسلم يطوف على الناس في منازلهم يقول: "إن الله يأمركم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئًا"، وأبو لهب...........................
__________
كفره، وقيل: أشار جبريل إلى بطنه بإصبعه فاستسقى بطنه فمات، رواه الطبراني بسند ضعيف. وقيل: خرج في رأسه قروح فمات، ويمكن أنها سبب نطحه الشجرة.
وروى الطبراني والبيهقي والضياء بإسناد صحيح: أن جبريل أومأ إلى رأسه فضربته الأكلة فامتخض رأسه قيحًا بخاء وضاد معجمتين، أي: تحرك شديدًا، وعند ابن أبي حاتم والبلاذري بسند صحيح عن عكرمة: أنه حنى ظهره حتى احقوقف صدره، فقال صلى الله عليه وسلم: "خالي خالي"، فقال جبريل: دعه عنك، فقد كفيته. احقوقف: انحنى، وقيل: خرج من عند أهله فأصابته السموم حتى صار حبشيًا، فأتى أهله فلم يعرفوه وأغلقوا دونه الباب فرجع وصار يطوف بشعاب مكة حتى مات عطشًا، ويقال: إنه عطش فشرب الماء حتى انشق بطنه وجمع باحتمال أن جميع ذلك وضع له.
"و" أشار جبريل "إلى عيني الأسود بن المطلب" قال ابن عباس: رماه بورقة خضراء، "فعمي" بصره كما عميت بصيرته فلم يميز بين الحسن والقبيح، ورجعت عينه فضرب برأسه الجدار حتى هلك، وهو يقول: قتلني رب محمد، وقال ابن عباس في رواية: كانوا ثمانية، وصححه في الغرر وجزم به ابن عبد البر والعراقي فزادوا أبا لهب هلك بالعدسة، وهي ميتة شنيعة بعد بدر بأيام كما يأتي، وعقبة ابن أبي معيط قتل صبرًا بعد انصرافه صلى الله عليه وسلم من بدر، والحكم بن العاصي بن أمية أسلم يوم الفتح، وتوفي في آخر خلافة عثمان. قال العراقي:
ثامنهم أسلم وهو الحكم ... فقد كفاه شره إذ يسلم
وأسقط الشامي ابن أبي معيط وأبدله بمالك بن الطلاطلة وهو خلاف ما في العيون ونظم السيرة على أن اليعمري سماه قبل ذكر المستهزئين بقليل في المجاهرين بالظلم الحارث بن الطلاطلة الخزاعي بطاءين مهملتين، الأولى مضمومة، والثانية مكسورة بينهما لام خفيفة، ثم لام مفتوحة، ثم تاء تأنيث، وهي لغة الداء العضال الذي لا دواء له. وعند ابن إسحاق: أن الحارث هذا مر به صلى الله عليه وسلم فأشار إلى رأسه فامتخض قيحًا فقتله كافرًا.
"وكان صلى الله عليه وسلم" كما رواه عبد الله في زوائد المسند والحاكم، وقال على شرطهما عن ربيعة بن عباد بكسر العين مخففًا الديلي الكناني الصحابي، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم "يطوف على الناس" في أول أمره "في منازلهم يقول: "إن الله يأمركم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئًا"، وأبو لهب عمه على المحفوظ ويروى أبو جهل قال ابن كثير: وقد يكون وهمًا ويحتمل أنهما تناوبا(1/466)
وراءه يقول: يا أيها الناس: إن هذا يأمركم أن تتركوا دين آبائكم.
ورماه الوليد بن المغيرة بالسحر، وتبعه قومه عن ذلك.
__________
على إيذائه صلى الله عليه وسلم، قال الشامي: وهو الظاهر.
"وراءه" يتبعه إذا مشى "يقول: يا أيها الناس! إن هذا يأمركم أن تتركوا دين آبائكم" وذلك عار عليكم، فانظر هذا الابتلاء في الله فلو كان من غير قريب كان أسهل؛ لأن العرب كانت تقول: قوم الرجل أعلم به، ولذا قال صلى الله عليه وسلم: "ما أوذي أحد ما أوذيت"، "ورماه الوليد بن المغيرة بالسحر" مع اعترافه بأنه باطل، لكنه لعنه الله لما ضاقت عليه المذاهب، قال إنه أقرب القول فيه تنفيرًا للناس عنه.
"وتبعه قومه عن ذلك" بعد التشاور فيما يرمونه به، فعند ابن إسحاق والحاكم والبيهقي بإسناد جيد أنه اجتمع إلى الوليد نفر من قريش وكان ذا سن فيهم، فقال لهم: يا معشر قريش، قد حضر هذا الموسم وإن وفود العرب ستقدم عليكم وقد سمعوا بأمر صاحبكم، فاجمعوا فيه رأيًا ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضًا، قالوا: فأنت فأقم لنا رأيًا نقوله فيه قال: بل أنتم فقولوا: أسمع، قالوا: نقول كاهن، قال: والله ما هو بكاهن، لقد رأينا الكهان فما هو بزمزمة الكاهن ولا بسجعه، قالوا: فنقول: مجنون، قال: والله ما هو بمجنون، لقد رأينا المجنون وعرفناه فما هو بخنقه ولا بخابخه ولا وسوسته، قالوا: شاعر، قال: ما هو بشاعر لقد عرفنا الشعر كله رجزه وهزجه وقريضه ومقبوضه ومبسوطه، قالوا: ساحر، قال: ما هو بساحر، لقد رأينا السحار وسحرهم فما هو بنفثه ولا عقده، قالوا: فما تقول؟ قال: والله إن لقوله لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أصله لعذق، وإن فرعه لجناه وما أنتم بقائلين من هذا شيئًا لا أعرف إنه باطل وأن أقرب القول فيه أن تقولوا: ساحر جاء بقول هو سحر يفرق به بين المرء وأبيه، وبين المرء وأخيه، وبين المرء وزوجه، وبين المرء وعشيرته، فتفرقوا عنه بذلك فجعلوا يجلسون لسبل الناس حين قدموا الموسم لا يمر بهم أحد إلا حذروه إياه، وذكروا لهم أمره فصدرت العرب من ذلك الموسم بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فانتشر ذكره في بلاد العرب كلها.
وفي سيرة الحافظ: فانتشر بذلك ذكره في الآفاق، وانقلب مكرهم عليهم حتى كان من أمر الهجرة ما كان وقدم عليه عشرون من نجران، فأسلموا فبلغ أبا جهل فسبهم وأقذع في القول، فقالوا له: سلام عليكم وفيهم نزل: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا} [القصص: 55] الآيات، انتهى.
قال السهيلي: رواه ابن إسحاق لعذق بفتح المهملة وسكون المعجمة استعارة من النخلة التي ثبت أصلها وهي العذق أفصح من رواية ابن هشام لغذق بفتح المعجمة وكسر المهملة من(1/467)
وآذته قريش ورموه بالشعر والكهانة والجنون.
ومنهم من كان يحثو التراب على رأسه، ويجعل الدم على بابه.
ووطئ عقبة بن أبي معيط على رقبته الشريفة وهو ساجد عند الكعبة حتى كادت عيناه تبرزان. وخنقوه خنقًا شديدًا، فقام أبو بكر دونه، فجذبوا رأسه ولحيته صلى الله عليه وسلم.............................
__________
الغذق وهو الماء الكثير، ومنه يقال: غيذق الرجل إذا كثر بصاقه؛ لأنها استعارة تامة يشبه آخر الكلام أوله، وإن فزعه لجناه استعارة من النخلة التي ثبت أصلها وقوي وطاب فرعها إذا جني، انتهى. وفي حواشي أبي ذر: لجناه، أي: فيه ثمر يجنى، انتهى.
فانظر هذا اللعين، كيف تيقنت نفسه الحق وحمله البطر والكبر على خلافه وقد ذمه الله ذمًا بليغًا، في قوله: {وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ} [القلم: 10] ، حتى قوله: على الخرطوم، وقوله: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ} [المدثر: 11] ، حتى قوله: {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} [المدثر: 26] .
"وآذته قريش" أشد الأذية "ورمته بالشعر والكهانة والجنون" وبرأه الله من جميع ذلك في الكتاب العزيز، "ومنهم من كان يحثو التراب على رأسه" روي أن فرعون هذه الأمة أبا جهل رآه صلى الله عليه وسلم عند الحجون فصب التراب على رأسه، ووطئ برجله على عاتقه، "ويجعل الدم على بابه" كما قال صلى الله عليه وسلم: "كنت بين شر جارين، بين أبي لهب وعقبة بن أبي معيط، إن كانا ليأتيان بالفروث فيطرحانها على بابي، حتى إنهم ليأتون ببعض ما يطرحونه من الأذى فيطرحوه على بأبي"، رواه ابن سعد عن عائشة.
"ووطئ عقبة بن أبي معيط على رقبته الشريفة، وهو ساجد عند الكعبة، حتى كادت عيناه تبرزان" وروى البخاري في كتاب خلق أفعال العباد وأبو يعلى وابن حبان، عن عمرو بن العاصي: ما رأيت قريشًا أرادوا قتل النبي صلى الله عليه وسلم إلا يوم أغروا به وهم في ظل الكعبة جلوس وهو يصلي عند المقام، فقام إليه عقبة فجعل رداءه في عنقه ثم جذبه حتى وجب لركبتيه وتصايح الناس، وأقبل أبو بكر يشتد حتى أخذ بضبع رسول الله صلى الله عليه وسلم من ورائه وهو يقول: أتقتلون رجلًا أن يقول ربي الله، ثم انصرفوا عنه فلما قضى صلاته مر بهم، فقال: "والذي نفسي بيده، ما أرسلت إليكم إلا بالذبح"، فقام له أبو جهل: يا محمد، ما كنت جهولا، فقال: "أنت منهم".
"وخنقوه خنقًا" بفتح الخاء وكسر النون وتسكن للتخفيف؛ كما في المصباح "شديدًا" قويًا ونسبه إليهم مع أن الفعل من عقبة فقط، كما في رواية البخاري الآتية على الأثر لإقرارهم عليه ومعاونتهم له إن لم نقل بتعدد القصة. "فقام أبو بكر دونه فجذبوا رأسه ولحيته صلى الله عليه وسلم" وسقطت(1/468)
حتى سقط أكثر شعره، فقام أبو بكر دونه وهو يقول: أتقتلون رجلًا أن يقول ربي الله.
وقال ابن عمرو -كما في البخاري: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بفناء الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبي معيط فأخذ بمنكب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلف ثوبه في عنقه فخنقه خنقًا شديدًا، فجاء أبو بكر فأخذه بمنكبه ودفعه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي رواية ثم قال: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ} [غافر: 28] .
وقد ذكر العلماء............................
__________
الصلاة في نسخة "حتى سقط أكثر شعره، فقام أبو بكر دونه، وهو" يبكي و"يقول: أتقتلون رجلا" لأجل "أن يقول ربي الله! " فقال صلى الله عليه وسلم: "دعهم يا أبا بكر، فوالذي نفسي بيده، إني بعثت إليهم بالذبح"، ففرجوا عنه عليه السلام.
"وقال" عبد الله "بن عمرو" بفتح العين ابن العاصي الصحابي ابن الصحابي "كما في البخاري" في مناقب أبي بكر، وفي باب ما لقي النبي صلى الله عليه وسلم من المشركين بمكة عن عروة بن الزبير، قال: سألت ابن عمرو بن العاصي، قلت: أخبرني بأشد شيء صنعه المشركون بالنبي صلى الله عليه وسلم قال: "بينا" بلا ميم، وفي رواية بالميم "رسول الله صلى الله عليه وسلم بفناء الكعبة" لفظ البخاري في الباب المذكور: يصلي في حجر الكعبة، "إذ أقبل عقبة بن أبي معيط فأخذ بمنكب النبي صلى الله عليه وسلم فلف ثوبه" أي: ثوب النبي صلى الله عليه وسلم "في عنقه" الشريف "فخنقه" بفتح النون "خنقًا" بكسرها وتسكن "شديدًا فجاء أبو بكر فأخذ بمنكبه" أي: بمنكب عقبة بفتح الميم وكسر الكاف "ودفعه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم" زاد ابن إسحاق: وهو يبكي، ثم جزم عبد الله بأن هذا أشد ما صنعه المشركون بالمصطفى يخالف ما في البخاري عن عائشة، قلت: هل أتى عليك يوم أشد من أحد؟ قال: "لقد لقيت من قومك"، فذكر قصته بالطائف مع ثقيف لما ذهب إليهم بعد موت أبي طالب ويأتي الحديث في محله. قال الحافظ: والجمع بينهما أن عبد الله استند إلى ما رآه ولم يكن حاضرا للقصة التي وقعت بالطائف.
"وفي رواية" للبخاري أيضًا "ثم قال" الصديق {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا} [غافر: 28] كراهية لـ {أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ} بقية الرواية في الباب الآتي، وفي المناقب: {وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ} [غافر: 28] استفهام إنكاري وفي الكلام ما يدل على حسن هذا الإنكار؛ لأنه ما زاد على أن قال: ربي الله وجاء بالبينات، وذلك لا يوجب القتل البتة.
"وقد ذكر العلماء" وفي شرحه للبخاري بعضهم فكان أصله لبعضهم وسكت الباقون(1/469)
أنا أبا بكر أفضل من مؤمن آل فرعون، لأن ذاك اقتصر حيث انتصر على اللسان، وأما أبو بكر رضي الله عنه فأتبع اللسان يدًا، ونصر بالقول والفعل محمدًا صلى الله عليه وسلم.
وفي رواية البخاري أيضًا: "كان عليه الصلاة والسلام يصلي عند الكعبة، وجمع من قريش في مجالسهم، إذ قال قائل منهم: ألا تنظرون إلى هذا المرائي،
__________
عليه، فنسب للعلماء "أن أبا بكر أفضل من مؤمن آل فرعون" رجل من أقاربه، وقيل: غريب بينهم يظهر دينهم خوفًا منهم وهو مؤمن باطنًا، قال الحافظ: اختلف في اسمه، فقيل: هو يوشع بن نون وهو بعيد؛ لأنه من ذرية يوسف لا من آل فرعون، وقد قيل: إن قوله من آل فرعون متعلق بيكتم إيمانه والصحيح أنه من آل فرعون، قال الطبري: لأنه لو كان من بني إسرائيل لم يصغ إليه فرعون ولم يسمعه، وقيل: اسمه شمعان بالشين المعجمة، وصححه السهيلي، وقيل: حيزر، وقيل: خرييل، وقيل: جالوت، وقيل: حبيب ابن عم فرعون، وقيل: حبيب النجار وهو غلط، وقيل: خونكة بن سود بن أسلم بن قضاعة. ا. هـ. باختصار. "لأن ذاك اقتصر حين انتصر" لموسى حين أراد فرعون قتله، "على لسان" فقال: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا} [غافر: 28] الآية.
"وأما أبو بكر رضي الله عنه، فاتبع اللسان يدًا ونصر بالقول والفعل محمدًا صلى الله عليه وسلم" والمراد أن هذا من جملة ما فضل به أبو بكر، لا أن فضله إنما جاء من هذه الحيثية ضرورة أن الحكم يدور مع العلة كذا أفاده بعض شيوخنا، وأصل هذا المنسوب للعلماء جاء عن علي كرم الله وجهه بمعناه، فقد روى البزار وأبو نعيم من رواية محمد بن علي عن أبيه: أنه خطب، فقال: من أشجع الناس؟ قالوا: أنت، قال: أما إني ما بارزني أحد إلا انتصفت منه، ولكنه أبو بكر لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذته قريش فهذا يجؤه وهذا يتلببه، ويقولون: أنت جعلت الآلهة إلهًا واحدًا، فوالله ما دنا منا أحد إلا أبو بكر يضرب هذا، ويدفع هذا، ويقول: ويلكم أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله، ثم بكى علي ثم قال: أنشدكم بالله أمؤمن من آل فرعون أفضل أم أبو بكر، فسكت القوم، فقال علي: والله لساعة من أبي بكر خير من مثل مؤمن آل فرعون، ذاك رجل يكتم إيمانه وهذا أعلن إيمانه.
"وفي رواية البخاري أيضًا" في الطهارة والصلاة والجزية والجهاد والمغازي، والمذكور هنا لفظه في الصلاة عن عبد الله يعني ابن مسعود، "كان عليه الصلاة والسلام" نقل بالمعنى، فلفظه: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم قائم "يصلي عند الكعبة وجمع من قريش في مجالسهم، إذ قال قائل منهم" هو أبو جهل؛ كما في مسلم.
وفي رواية: قالوا: ولا منافاة لجواز أنه قاله ابتداء وتبعوه عليه، "ألا تنظرون إلى هذا المرئي"(1/470)
أيكم يقوم إلى جزور آل فلان، فيعمد إلى فرثها ودمها وسلاها، فيجئ به ثم يمهله حتى إذا سجد وضعه بين كتفيه، فانبعث أشقاهم، فلما سجد عليه السلام وضعه بين كتفيه، وثبت النبي صلى الله عليه وسلم ساجدًا، وضحكوا حتى مال بعضهم على بعض من الضحك، فانطلق منطلق إلى فاطمة وهي جويرية، فأقبلت تسعى، وثبت النبي صلى الله عليه وسلم ساجدًا حتى ألقته عنه، وأقبلت عليهم تسبهم....................
__________
يتعبد في الملأ دون الخلوة "أيكم يقوم إلى جزور" بفتح الجيم وضم الزاي يقع على الذكر والأنثى، وفي الفائق الجزور بفتح الجيم قيل: النحر فإذا نحر، قيل: جزور بالضم "آل فلان" زاد مسلم: وقد نحرت جزور بالأمس، "فيعمد" بكسر الميم وتفتح مرفوع عطفًا على يقوم، وفي رواية بالنصب جوابًا للاستفهام، "إلى فرثها" بفتح الفاء وسكون الراء ومثلثة: ما في كرشها، "ودمها وسلاها" بفتح المهملة والقصر: وعاء جنين البهيمة كالمشيمة للآدميات، وبه يعلم أن الجزور كانت أنثى، قال في المحكم: ويقال: الآدميات أيضًا سلى، "فيجيء به ثم يمهله حتى إذا سجد وضعه بين كتفيه، فانبعث أشقاهم" وفي رواية الطهارة: أشقى القوم به، وبه يفسر هذا الضمير وهو عقبة بن أبي معيط؛ كما في الصحيحين، أي: بعثته نفسه الخبيثة من دونهم فأسرع السير، وإنما كان أشقاهم مع أن فيهم أبا جهل وهو أشد كفرًا وإيذاء للمصطفى منه لاشتراكهم في الكفر والرضا، وانفراد عقبة بالمباشرة ولذا قتلوا في الحرب وقتل هو صبرًا، وحكى ابن التين عن الداودي أنه أبو جهل، فإن صح احتال أن عقبة لما انبعث حمل أبا جهل شدة كفره فانبعث على أثره، والذي جاء به عقبة.
وفي رواية: فانبعث أشقى قوم بالتنكير وفيه مبالغة ليست في المعرفة؛ لأن معناه أشقى كل قوم من أقوام الدنيا، قال الحافظ: لكن المقام يقتضي التعريف؛ لأن الشقاء هنا بالنسبة إلى أولئك القوم فقط. "فلما سجد عليه السلام وضعه بين كتفيه، وثبت النبي صلى الله عليه وسلم ساجدًا" لا يرفع رأسه، كما في رواية "وضحكوا حتى مال بعضهم على" وفي رواية: إلى "بعض من الضحك" استهزاء لعنهم الله "فانطلق منطلق" قال الحافظ: يحتمل أن يكون هو ابن مسعود، انتهى، أي: وأبهم نفسه لغرض صحيح ولا ينافيه رواية فهبنا أن نلقيه عنه لما لا يخفى.
"إلى فاطمة" بنته سيدة نساء هذه الأمة ذات المناقب الجمة، "وهي" يومئذ "جويرية صغيرة" السن؛ لأنها ولدت سنة إحدى وأربعين من مولد أبيها صلى الله عليه وسلم على الصحيح، "فأقبلت تسعى وثبت النبي صلى الله عليه وسلم ساجدًا حتى ألقته" أي: الذي وضعوه، "عنه وأقبلت عليهم تسبهم" وفي رواية للشيخين: ودعت على من صنع ذلك زاد البزار فلم يردوا عليها شيئًا، قال: في الفتح وفيه قوة نفس فاطمة الزهراء من صغرها لشرفها في قومها ونفسها لكونها صرحت بشتمهم وهم رءوس(1/471)
فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة قال: "اللهم عليك بقريش"، ثم سمى فقال: "اللهم عليك بعمرو بن هشام, وعتبة بن ربيعة, وشيبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة، وأمية بن خلف، وعقبة بن أبي معيط،..........................
__________
قريش، فلم يردوا عليها "فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة، قال: "اللهم عليك بقريش، اللهم عليك بقريش، اللهم عليك بقريش"، هكذا كرره البخاري في الصلاة لفظًا، وذكره في غيره بلفظ: "اللهم عليك بقريش"، ثلاث مرات. وفي رواية مسلم: وكان إذا دعا دعا ثلاثًا، وإذا سأل سأل ثلاثًا، والمراد بإهلاك كفارهم على حذف المضاف أو الصفة بقريش الكفار أو من سيأتي منهم بعد فهو عام أريد به الخصوص.
وفي البخاري: فشق عليهم إذ دعا عليهم، وفي مسلم: فلما سمعوا صوته ذهب عنهم الضحك وخافوا دعوته، وصريح الحديث: أن الدعاء بعد الفراغ من الصلاة، وفي رواية: فسمعته يقول وهو قائم يصلي: "اللهم اشدد وطأتك على مضر سنين كسني يوسف"، فيمكن أنه دعا به في الصلاة وبعدها، وهذا خير من تجويز أن معنى قضى صلاته قارب الفراغ منها، وقوله: وهو قائم ثابت في صلاته وإن لم يكن في خصوص القيام؛ لأن فيه مع تعسفه إخراج المتبادر من لفظ كل من الحديثين مع إمكان الجمع بدون ذلك.
"ثم سمى" أي: عين في دعائه وفصل من أجمل فقال: "اللهم عليك بعمرو بن هشام" المخزومي الأحوال المأبو فرعون هذه الأمة كنته العرب بأبي الحكم وكناه الشارع بأبي جهل، ذكره غير واحد، وللبخاري أيضًا: "اللهم عليك بأبي جهل"، قال الحافظ: فلعله سماه وكناه. "وعتبة بن ربيعة و" أخيه "شيبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة" بن ربيعة ثاني المذكورين، قال الحافظ: لم تختلف الروايات في أنه بعين مهملة بعدها مثناة ساكنة، ثم موحدة لكن عند مسلم من رواية زكريا بالقاف بدل المثناة وهو وهم قديم نبه عليه ابن سفيان الراوي عن مسلم. ا. هـ.
قيل: وسبب الوهم أن الوليد بن عقبة بالقاف لم يكن حينئذ موجودًا، أو كان صغيرًا جدًا، قال في النور: ويوضح فساده أن الزبير وغيره من علماء السير والخبر ذكروا أن الوليد وعمارة ابني عقبة خرجا ليردا أختهما عن الهجرة بعد الحديبية ولا خلاف أن قوله تعالى: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ} [الحجرات: 6] نزلت فيه، فالظاهر أنه كان كبيرا؛ كما قال بعضهم، انتهى. يعني: فهو وهم بلا سبب.
"وأمية بن خلف" وفي بعض روايات البخاري: أبي بن خلف، قال في الفتح: وهو وهم والصواب: وهو ما أطبق عليه أصحاب المغازي أمية؛ لأنه المقتول ببدر. وأما أخوه أبي فإنما قتل بأحد، "وعقبة بن أبي معيط" أشقى القوم واسم والده أبان بن أبي عمرو واسمه ذكوان بن أمية بن(1/472)
وعمارة بن الوليد".
قال عبد الله: فوالله لقد رأيتهم صرعى يوم بدر، ثم سحبوا إلى القليب، قليب بدر، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وأتبع أصحاب القليب لعنة".
__________
عبد شمس، "وعمارة" بضم العين وخفة الميم "ابن الوليد" هكذا رواه البخاري في الصلاة جزمًا من طريق إسرائيل عن أبي إسحاق عن عمرو بن ميمون عن عبد الله، ورواه في الوضوء من رواية إسحاق وشعبة عن أبي إسحاق عن عمرو عن ابن مسعود، بلفظ: وعد السابع فلم يحفظه.
ولمسلم من رواية الثوري، قال أبو إسحاق: ونسيت السابع، قال الحافظ: ففيه أن فاعل عد عمرو بن ميمون، ولم يحفظه أبو إسحاق خلاف ترديد الكرماني في فاعل عد بين النبي وابن مسعود، وفاعل فلم يحفظه بين ابن مسعود وعمرو بن ميمون على أن أبا إسحاق تذكره مرة؛ كما عند البخاري في الصلاة وسماع إسرائيل منه في غاية الإتقان للزومه إياه؛ لأنه جده وكان خصيصًا به. قال ابن مهدي: ما فاتني الذي فاتني من حديث الثوري عن أبي إسحاق إلا اتكالا على إسرائيل؛ لأنه يأتي به أتم. وقال إسرائيل: كنت أحفظ حديث أبي إسحاق، كما أحفظ سورة الحمد، انتهى ملخصًا.
"قال عبد الله" بن مسعود "فوالله لقد رأيتهم" وفي رواية: فوالذي نفسي بيده، لقد رأيت الذين عد رسول الله صلى الله عليه وسلم "صرعى" موتى مطروحين على الأرض، "يوم بدر ثم سحبوا" أي: جروا، "إلى القليب" بفتح القاف وكسر اللام البئر قبل أن تطوى، أي: تبنى بالحجارة ونحوها أو العادية القديمة التي لا يعرف صاحبها، "قليب بدر" الرواية بالجر على البدل ويجوز الرفع بتقدير هو والنصب بأعني، كما أفاده المصنف وغيره. قال العلماء: وإنما أمر بإلقائهم فيه لئلا يتأذى الناس بريحهم، وإلا فالحربي لا يجب دفنه، والظاهر أن البئر لم يكن فيها ماء معين، قال الحافظ.
قال المصنف وتحقيرًا لشأنهم، "ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وأتبع أصحاب القليب لعنة" بضم الهمزة ورفع أصحاب إخبار منه صلى الله عليه وسلم بعد إلقائهم في القليب بأن الله أتبعهم، أي: كما أنهم مقتولون في الدنيا فهم مطرودون في الآخرة عن رحمة الله، ورواه أبو ذر بفتح الهمزة وكسر الموحدة ونصب أصحاب عطفًا على عليك بقريش؛ كأنه قال: أهلكهم في حياتهم وأتبعهم اللعنة في مماتهم، وهذا الحديث أخرجه أيضًا مسلم والنسائي والبزار وغيرهم.
قال الحافظ رحمه الله: وفيه جواز الدعاء على الظالم، لكن قال بعضهم: محله إذا كان كافرًا، فأما المسلم فيستحب الاستغفار له والدعاء بالتوبة، ولو قيل: لا دلالة فيه على الدعاء على الكافر ما بعد؛ لاحتمال إطلاعه صلى الله عليه وسلم على أن المذكورين لا يؤمنون، والأولى أن يدعى لكل أحد بالهداية، وفيه حلمه صلى الله عليه وسلم عمن آذاه.(1/473)
واستدل بهذا الحديث: على أن من عرض له في صلاته ما يمنع انعقادها ابتداء لا تبطل صلاته، فلو كانت نجاسة فأزالها في الحال، ولا أثر لها صحت صلاته اتفاقًا.
واستدل به أيضًا: على طهارة فرث، ما يؤكل لحمه، وعلى أن إزالة النجاسة ليست بفرض، وهو ضعيف.
وأجاب النووي: بأنه عليه السلام لم يعلم ما وضع على ظهره، فاستمر في سجوده، استصحابًا لأصل الطهارة.
__________
ففي رواية الطيالسي عن ابن مسعود: لم أره دعا عليهم إلا يومئذ وإنما استحقوا الدعاء حينئذ لما قدموا عليه من الاستخفاف به حال عبادة ربه، وفيه استحباب الدعاء ثلاثًا، وغير ذلك.
"واستدل بهذا الحديث على أن من عرض له في صلاته ما يمنع انعقادها ابتداء" لأن من شروطها طهارة الخبث عند الأكثرين، "لا تبطل صلاته، فلو كانت نجاسة فأزالها في الحال" أو لم تستقر عليه "ولا أثر لها، صحت صلاته اتفاقًا" وقال الخطابي: لم يكن إذ ذاك حكم بنجاسة ما ألقي عليه كالخمر، فإنهم كانوا يلاقون بثيابهم وأبدانهم الخمر قبل نزول التحريم، ورده ابن بطال بأنه لا شك أنها كانت بعد نزول قوله تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر: 4] ؛ لأنها أول ما نزل قبل كل صلاة، اللهم إلا أن يقال المراد بها طهارة القلب ونزاهة النفس عن الدنايا والآثام.
"واستدل به أيضًا على طهارة فرث ما يؤكل لحمه" وتعقب: بأن الفرث لم يفرد بل كان مع الدم؛ كما في رواية إسرائيل والدم نجس اتفاقًا، وأجيب بأن الفرث والدم كانا داخل السلى، وجلدة السلى الظاهرة ظاهرة فكان كحمل القارورة المرصصة ورد بأنها ذبيحة عبدة أوثان، فجميع أجزائها نجسة؛ لأنها ميتة، وأجيب بأن ذلك كان قبل التعبد بتحريم ذبائحهم وتعقب بأنه يحتاج إلى تاريخ ولا يكفي فيه الاحتمال.
"و" استدل به أيضًا "على أن إزالة النجاسة ليست بفرض" بل سنة، "وهو" أي: الاستدلال "ضعيف" لأنها قضية عين مع احتمال كون النجاسة داخل الجلدة، "وأجاب النووي" قائلا: إنه الجواب المرضي، "بأنه عليه السلام لم يعلم ما وضع على ظهره، فاستمر في سجوده استصحابًا لأصل الطهارة" ولا يرد عليه أنه كان صلى الله عليه وسلم يرى من خلفه كما ينظر أمامه؛ لجواز أن هذه الخصوصية إنما كانت بعد هذه الواقعة، ولكن تعقب بأنه يدل على علمه بما وضع عليه أن(1/474)
وتعقب: بأنه مشكل على قولنا بوجوب الإعادة، في مثل هذه الصورة.
وأجيب عنه، بأن الإعادة إنما تجب في الفريضة، فإن ثبت أنها فريضة فالوقت متسع فلعله أعاد.
وتعقب: بأنه لو أعاد لنقل، ولم ينقل، وبأن الله لا يقره على صلاة فاسدة.
وقد استشكل بعضهم عد عمارة بن الوليد في المذكورين، لأنه لم يقتل ببدر، بل ذكر أصحاب المغازي: أنه مات بأرض الحبشة، وله قصة مع النجاشي، إذ تعرض لامرأته فأمر النجاشي ساحرًا فنفخ في إحليل عمارة من سحره فتوحش، وصار مع البهائم............
__________
فاطمة ذهبت به قبل أن يرفع رأسه، وعقب هو في صلاته بالدعاء عليهم.
"وتعقب" أيضًا "بأنه مشكل على قولنا بوجوب الإعادة في مثل هذه الصورة" على الصحيح، "وأجيب عنه بأن الإعادة إنما تجب في الفريضة" فلعل صلاته كانت نافلة، "فإن ثبت أنها فريضة فالوقت متسع، فلعله أعاد" صلاته "وتعقب بأنه لو أعاد لنقل ولم ينقل وبأن الله لا يقره على صلاة فاسدة" وقد خلع نعليه وهو في الصلاة لما أخبره جبريل أن فيهما قذرًا، ويمكن الانفصال عنه هنا بأنه أقره لمصلحة إغاظة الكفار بإظهار ثباته وعدم التفاته إلى فعلهم؛ كما أقر على السلام من ركعتين لتشريع عدم بطلانها بالسلام سهوًا.
"وقد استشكل بعضهم عد عمارة بن الوليد في المذكورين؛ لأنه لم يقتل ببدر بل ذكر أصحاب المغازي أنه مات بأرض الحبشة وله قصة مع النجاشي، إذ تعرض لامرأته فأمر النجاشي ساحرًا فنفخ في إحليل" مجرى بول "عمارة من سحره عقوبة له فتوحش وصار مع البهائم" وذلك كما ذكره أبو الفرج الأموي الأصبهاني وغيره أن المسلمين لما هاجروا الهجرة الثانية إلى الحبشة بعثت قريش عمرًا وعمارة إلى النجاشي بهدية، فألقى الله بينهما العداوة في مسيرهما؛ لأن عمرا كان دميمًا ومعه امرأته وعمارة جميل، فهوى امرأة عمرو وهويته فعزما على دفع عمرو في البحر فدفعاه فسبح ونادى أصحاب السفينة فأخذوه فرفعوه إليها فأضمرها في نفسه ولم يبدها لعمارة، بل قال لامرأته: قبلي ابن عمك عمارة لتطيب نفسه، فلما أتيا الحبشة وردهما الله خائبين مكر عمرو بعمارة، فقال له: أنت جميل والنساء يحببن الجمال، فتعرض لامرأة النجاشي فلعلها أن تشفع لنا عنده في قضاء حاجتنا ففعل وتكرر تردده إليها وأخذ من عطرها فأتى عمرو للنجاشي، فأخبره فأدركته عزة الملك، وقال: لولا أنه جاري لقتلته، ولكن سأفعل به ما هو شر من القتل، فأمر الساحرات فنفحن في إحليله نفحة طار منها هائمًا على وجهه حتى(1/475)
إلى أن مات في خلافة عمر.
وأجيب: بأن كلام ابن مسعود -أنه رآهم صرعى في القليب- محمول على الأكثر، ويدل عليه: أن عقبة بن أبي معيط لم يصرع في القليب، وإنما قتل صبرًا بعد أن رحلوا عن بدر بمرحلة. وأمية بن خلف لم يطرح في القليب، كما هو بل مقطعًا كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
وقوله: ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وأتبع أصحاب القليب لعنة". يحتمل أن يكون من تمام الدعاء الماضي، فيكون فيه علم عظيم من أعلام النبوة ويحتمل أن يكون قاله -صلى الله عليه وسلم- بعد أن ألقوا في القلبيب
__________
لحق بالوحوش في الجبال، وكان إذا رأى آدميًا ينفر منه.
"إلى أن مات في خلافة عمر" لما جاءه ابن عمه عبد الله بن أبي ربيعة الصحابي بعد أن استأذن عمر بن الخطاب في السير إليه لعله يجده، فأذن له فسار إلى الحبشة فأكثر الفحص عنه حتى أخبر أنه في جبل يرد مع الوحوش ويصدر معها فسار إليه حتى كمن له في طريقه إلى الماء، فإذا هو قد غطاه شعره وطالت أظفاره وتمزقت عليه ثيابه حتى كأنه شيطان، فقبض عليه وجعل يذكره بالرحم ويستعطفه وهو ينتفض منه ويقول: أرسلني أرسلني حتى مات بين يديه، ذكره أيضًا أبو الفرج في كتاب الأغاني، وكان عمرو قال يخاطب عمارة:
إذ المرء لم يترك طعامًا يحبه ... ولم ينه قلبًا غاويًا حيث يمما
قضى وطرا منها وغادر سبة ... إذا ذكرت أمثالها تملأ الفما
"وأجيب بأن كلام ابن مسعود نه رآهم صرعى في القليب محمول على الأثر، ويدل عليه أن عقبة بن أبي معيط لم يصرع في القليب"؛ لأنه لم يقتل ببدر بل أسر، "وإنما قتل" أي: قتله عاصم بن ثابت، أو علي بأمر النبي صلى الله عليه وسلم "صبرًا" أي: بعد حبسه.
ففي المصباح كل ذي روح يوثق حتى يقتل، فقد قتل صبرًا، "بعد أن" أسروا "رحلوا عن بدر مرحلة" بمحل يقال له: عرق الظبية، "وأمية بن خلف لم يطرح في القليب كما هو بل مقطعًا" فإنه كان رجلا بادنًا قبل أن يبلغ به إليه؛ "كما سيأتي إن شاء الله تعالى" في غزوة بدر، وفي ذكره تبعًا للفتح أمية شيء؛ لأن كلام ابن مسعود يصدق على أنه رآه ولو مقطعًا إذ لم يقل رأيتهم فيه بلا تقطيع، "وقوله: ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وأتبع أصحاب القليب لعنة". يحتمل أن يكون من تمام الدعاء الماضي, فيكون عطفًا على قوله: "عليك بقريش"، "فيكون فيه علم عظيم من أعلام النبوة" هو أنه أطلع على أنهم سيلقون في القليب، وأخبر بذلك في ضمن دعائه، وجاء كما قال: وهذا على رواية أبي ذر أتبع بفتح الهمزة وكسر الموحدة ونصب أصحاب.(1/476)
"إسلام حمزة":
ثم أسلم حمزة بن عبد المطلب، وكان أعز فتى في قريش، وأشد شكيمة، وكان إسلامه -فيما قاله العتقي- سنة ست.....................
__________
"ويحتمل أن يكون قاله صلى الله عليه وسلم بعد أن ألقوا في القليب" فيكون إخبارًا بأن الله أتبعهم، وهذا على رواية الباقين: أتبع بالبناء للمفعول.
إسلام حمزة:
"ثم أسلم حمزة بن عبد المطلب" سيد الشهداء أسد الله وأسد رسوله خير أعمام المصطفى وأخوه من الرضاعة، أرضعتهما ثويبة؛ كما في الصحيح، ولا يشكل بأنه أسن من النبي صلى الله عليه وسلم بسنتين أو أربع؛ لأنها أرضعتهما في زمانين؛ كما قال البلاذري، وقريبه من أمة أيضًا؛ لأن أمه هالة بنت أهيب بن عبد مناف بن زهرة عم آمنة أم النبي صلى الله عليه وسلم، يكنى أبا عمارة بضم العين بابن له من امرأة من بني النجار، وقيل: هي بنت له كني بها، وقيل: كنيته أبو يعلى وقدمه بعضهم.
قال السهيلي: ولم يعش لحمزة ولد غير يعلى وأعقب خمسة بنين ثم انقرض عقبهم، فيما ذكر مصعب. "وكان" كما قال ابن إسحاق "أعز فتى" أي: أقوى شاب، "في قريش وأشده" أي أشد فتى، والمراد به الجنس؛ لأن اسم التفضيل بعض ما يضاف إليه فلا بد من حمل فتى على ما يشمله وغيره ليكون الأعز والأشد واحدًا منهم، "شكيمة" بفتح المعجمة وكسر الكاف، يقال؛ كما في الصحاح وغيره لمن كان عزيز النفس أبيًا قويًا، وأصله من شكيمة اللجام الحديدة المعترضة في فم الفرس التي فيها الفاس، ويقال: شكيم أيضًا، والجمع شكائم.
"وكان إسلامه فيما قاله العتقي" وابن الجوزي "سنة ست" من النبوة، وقيل: في السنة الثانية بالنون، قطع به في الإصابة، وصدر به في الاستيعاب، وتبعه المصنف في ذكر الأعمام وسببه أن أبا جهل آذى النبي صلى الله عليه وسلم وبالغ في تنقيصه وما جاء به عند الصفا؛ كما لابن إسحاق ولغيره عند الحجون ولا مانع من تكرره، فأخبرته مولاة ابن جدعان؛ كما عند ابن إسحاق ولغيره صفية أخته، ولا منافاة فعند ابن أبي حاتم: فأخبره امرأتان فغضب حمزة لما أراد الله من إكرامه فجاء المسجد فعلا رأس اللعين بقوسه فشجه شجة منكرة وقال: أتشتمه أنا على دينه، فرد ذلك علي إن استطعت، فقام رجال من بني مخزوم لنصره، فقال: دعوا أبا عمارة، فإني والله لقد سببت ابن أخيه سبًا قبيحًا، وعند ابن أبي حاتم: فقال حمزة: ديني دين محمد، إن كنتم صادقين(1/477)
فعز به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكفت عنه قريش قليلا، وقال حمزة حين أسلم:
حمدت الله حين هدى فؤادي ... إلى الإسلام والدين الحنيف
لدين جاء من رب عزيز ... خبير بالعباد بهم لطيف
__________
فامنعوني، فوثبت إليه قريش، فقالوا: يا أبا يعلى، يا أبا يعلى، أي ما هذا الذي تصنع؟ فأنزل الله تعالى: {إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ} [الفتح: 26] ، إلى قوله: {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى} [الفتح: 26] ، "فعز به رسول الله صلى الله عليه وسلم وكفت عنه قريش قليلا" أي: بعض ما كانوا ينالون منه؛ كما عبر به ابن إسحاق لشدته، وعلمهم أنه يمنعه، "وقال حمزة حين أسلم: حمدت الله حين هدى فؤادي إلى" الثبات على "الإسلام" بعد ترددي في البقاء عليه، فعند يونس بن بكير عن ابن إسحاق: ثم رجع حمزة؛ أي: بعد إسلامه وشجه أبا جهل إلى بيته، فقال: أنت سيد قريش اتبعت هذا الصابئ وتركت دين آبائك للموت، خير لك بما صنعت، وقال: اللهم إن كان هذا رشدًا، فاجعل تصديقه في قلبي، وإلا فاجعل لي مما وقعت فيه مخرجًا، فبات بليلة لم يبت مثلها من وسوسة الشيطان حتى أصبح فغدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يابن أخي، إني قد وقعت في أمر لا أعرف المخرج منه وإقامة مثلي على ما لا أدري أهو رشد أم لا؟ غي شديد، فحدثني حديثًا فقد اشتهيت يابن أخي أن تحدثني، فأقبل صلى الله عليه وسلم فذكره ووعظه وخوفه وبشره، فألقى الله في قلبه الإيمان بما قاله صلى الله عليه وسلم، فقال: أشهد أنك الصادق، فأظهر دينك، فوالله ما أحب أن لي ما ظلته السماء وأنا على ديني الأول، وتم حمزة إسلامه، وعلى ما بايع عليه النبي صلى الله عليه وسلم.
"والدين الحنيف" عطف تفسير بجعل الإسلام نفس الأحكام أو مغاير يحمله على الانقياد الباطني والدين على الأحكام المشروعة، والمعنى: حمدت الله حين دلني على حقيقة هذا الدين، فانقدت إليه باطنًا وتلبست به ظاهرًا فيكون جمع التصديق والإذعان والإقرار والانقياد الظاهري "لدين" بدل من قوله: إلى الإسلام، "جاء من رب عزيز" ممتنع لا يدرك ولا ينال أو غالب أو جليل القدر أو لا نظير له أو معز لغيره، وفي إتيانه بهذا اسم هنا لطاقة ومناسبة ظاهرة للإيماء إلى أن المشركين وإن عاندوا وجحدوا مآلهم إلى الذل بالقتل والأسر، ومآل هذا الدين الحنيف إلى العزة والظهور؛ لمجيئه من العزيز.
"خبير بالعباد" مطلع على حقيقة الشيء عالم به أو مخبر أنبياءه، ورسله بكلامه المنزل عليهم وعباده يوم القيامة بأعمالهم، إذ لا يعزب عن علمه شيء، وفي ذكره إيماء إلى أن سبهم للمصطفى وإيذاءهم سينالون عقابه من الخبير. "بهم" متعلق بقوله: "لطيف" مقدم عليه، أي: لطيف بعباده برهم وفاجرهم، حيث لم يهلكهم جوعًا وعطشًا بمعاصيهم، وفي ذكره رمز إلى أن المشركين لا يغتروا بالنعم، وقد كذبوا المرسلين؛ لأن هذا من لطف الله بهم في الدنيا ومتاعها(1/478)
إذا تليت رسائله علينا ... تحدر دمع ذي اللب الحصيف
رسائل جاء أحمد من هداها ... بآيات مبينة الحروف
وأحمد مصطفى فينا مطاع ... فلا تغشوه بالقول العنيف
فلا والله نسلمه لقوم ... ولما نقض فيهم بالسيوف
وعند مغلطاي: وسألوه -يعني: النبي صلى الله عليه وسلم- إن كنت تطلب الشرف فينا
__________
قليل، "إذا تليت رسائله" أي: أحكام الرب التي أمرنا بها "علينا" وسمى ما جاء به من الله رسالة؛ لأن جبريل بلغه إياه عن الله وأمره بتبليغه للناس، "تحدر" تساقط "دمع ذي اللب" العقل "الحصيف" بحاء وصاد مهملتين، أي: الكامل المحكم لينا إليها وتكفرًا وفي أحكامها بعجيب النظم وبديع المعاني وتفصيلها بالأحكام والقصص والمواعظ، "رسائل جاء أحمد من" أجل "هداها" أي: الرشاد بها أو الدلالة عليها "بآيات" ظاهرة "مبينة الحروف" يعني القرآن، "وأحمد مصطفى مختار من الخلق "فينا" متعلق بقوله: "مطاع" أي: واجب الطاعة لما ظهر على يديه من الآيات، فلا عبرة بمخالفة المنكرين ولا اتداد بها لظهور بطلانها، "فلا تغشوه" تغطوا ما جاء به من الحق "بالقول العنيف" الباطل الموقع في المشقة والتعب من العنف بالضم ضد الرفق، "فلا والله نسلمه لقوم" ولا نترك نصرته "ولما نقض" بالنون والبناء للفاعل: نحكم، "فيهم" أي: نستأصلهم قتلا "بالسيوف" بل نقاتل دونه إلى منتهى الطاقة، وهذا أولى من قراءة يقض بتحتية مبنيًا للمفعول، وبعده:
ونترك منهم قتلى بقاع ... عليها الطير كالورد العكوف
وقد خبرت ما صنعت ثقيف ... به فجزى القبائل من ثقيف
إله الناس شر جزاء قوم ... ولا أسقاهمو صوب الخريف
الورد بكسر الواو وسكون الراء العكوف بضم العين، أي: إن الطير مستديرة على القتلى كالقوم المجتمعين على الماء المستديرين حوله، "وعند مغلطاي" بضم الميم وسكون الغين، "وسألوه، يعني النبي صلى الله عليه وسلم" حين أسلم حمزة ورأوا الصحابة يزيدون؛ كما أخرجه ابن إسحاق عن ابن عباس رضي الله عنهما، وسمي السائلين أن عتبة وشيبة وابن حرب ورجلا من بني عبد الدار وأبا البختري والأسود بن المطلب وزمعة والوليد بن المغيرة وأبا جهل وعبد الله بن أبي أمية وأمية بن خلف والعاصي بن وائل ونبيها ومنبهًا اجتمعوا، فقالوا: يا محمد! ما نعلم رجلا من العرب أدخل على قومه ما أدخلت على قومك، لقد شتمت الآباء وعبت الدين وسفهت الأحلام وشتمت الآلهة، فما من قبيح إلا وقد جلبته فيما بيننا وبينك، فإن كنت إنما جئت بهذا تطلب مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا، "وإن كنت تطلب الشرف فينا،(1/479)
فنحن نسودك علينا، وإن كنت تريد ملكًا ملكناك علينا، وإن كان هذا الأمر الذي يأتيك رئيًا قد غلب عليك بذلنا أموالنا في طلب الطب لك حتى نبرئك منه أو نعذر.
__________
فنحن نسودك علينا" زاد في رواية: حتى لا نقطع أمرًا دونك، "وإن كنت تريد ملكًا ملكناك علينا" فانظر إلى حمقهم وجهلهم رضوه ملكًا مع أن الغالب من الملوك التجبر وسلب الأموال بغير حق، ولم يرضوا به نبيًا رسولا يدعوهم إلى الصراط المستقيم، ويوصلهم جنات النعيم.
"وإن كان هذا الأمر الذي يأتيك رئيًا قد غلب عليك بذلنا أموالنا في طلب الطب لك" مثلث الطاء العلاج في النفس والجسم؛ كما في النور والقاموس. "حتى نبرئك منه أو نعذر" بفتح النون وضمها من عذر وأعذر، أي: يرتفع عنا اللوم؛ كما في المصباح. وروى ابن أبي شيبة وغيره عن ابن عمر وأبو يعلى بسند جيد عن جابر: اجتمع نفر من قريش يومًا، فقالوا: انظروا أعلمكم بالسحر والكهانة والشعر، فليأت هذا الرجل الذي فرق جماعتنا وشتت أمرنا وعاب ديننا، فليكلمه ولينظر ماذا يرد عليه، قالوا: ما نعلم أحدًا غير عتبة بن ربيعة، وعند ابن إسحاق والبيهقي وغيرهما عن محمد بن كعب القرظي، قال: حدثت أن عتبة قال يومًا، وكان جالسًا في نادي قريش والنبي صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد وحده: يا معشر قريش، ألا أقوم إلى محمد فأكلمه وأعرض عليه أورًا لعله يقبل بعضها فنعطيه أيها شاء ويكف عنا، فقام حتى جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا ابن أخي، إنك منا حيث قد علمت من السلطة في العشيرة والمكان في النسب، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم، فرقت به جماعتهم وسفهت به أحلامهم وعبت به آلهتهم ودينهم، وكفرت به من مضي من آبائهم؛ فاسمع مني أعرض عليك أمورًا تنظر فيها لعلك تقبل منا بعضها، فقال صلى الله عليه وسلم: "قل يا أبا الوليد أسمع"، قال: يابن أخي! إن كنت ... فذكر الأمور الأربع، حتى إذا فرغ عتبة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يسمع منه، قال له: "أقد فرغت أبا الوليد"؟ قال: نعم، قال: "فاسمع مني"، قال: أفعل، قال صلى الله عليه وسلم: بسم الله الرحمن الرحيم {حم، تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [فصلت: 1-2] ، إلى قوله: {مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} [فصلت: 13] ، فأمسك عتبة على فيه وناشده الرحم أن يكف، ثم انتهى إلى السجدة سجد. ثم قال: "قد سمعت أبا الوليد ما سمعت، فأنت وذاك" الحديث، في عدم رجوع عتبة لقومه وظنهم إسلامه وذهابهم به وغضبه لذلك وحلفه لا يكلم محمدًا أبدًا، وقال: قد علمتم أنه لا يكذب فخفت نزول العذاب عليكم، فأطيعوني واعتزلوه فإن يصبه غيركم كفيتموه، وإن ظهر فملكه ملككم وعزه عزكم، فقال سحرك والله يا أبا الوليد، قال: هذا رأيي فيه، فاصنعوا ما بدا لكم، والظاهر أن هذه القصة في مرة ثانية قبل مجيء عتبة مع الجماعة أو بعده فأجابه المصطفى بما ذكر.(1/480)
فقال لهم عليه الصلاة والسلام: "ما بي ما تقولون، ولكن الله بعثني رسولا، وأنزل علي كتابًا، وأمرني أن أكون لكم بشيرًا ونذيرًا، فبلغتكم رسالات ربي، ونصحت لكم، فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم من الدنيا والآخرة، وإن تردوه علي أصبر لأمر الله بيني وبينكم".
والرئي -بفتح الراء، وقد تكسر، ثم همزة، فياء مشددة جني يرى فيحب، المكسورة للمحبوب منها. قاله في القاموس.
ثم إن النضر بن الحارث،............................
__________
وأما مع الجماعة، فأجابهم: فقال لهم عليه الصلاة والسلام: "ما بي ما تقولون" أي: ولا شيء منه، بدليل قوله: "ولكن الله بعثني إليكم رسولا وأنزل علي كتابًا وأمرني أن أكون لكم بشيرًا" بالجنة إن صدقتم "ونذيرًا" منذرًا بالنار إن كذبتم، "فبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم، فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه علي أصبر" بالجزم جواب الشرط، "لأمر الله بيني وبينكم".
وفي بقية حديث ابن عباس هذا، فقالوا له: فإن كنت غير قابل منا ما عرضنا عليك، فقد علمت أنه ليس أحد من الناس أضيق بلادًا ولا أقل مالا ولا أشد عيشًا منا، فسل ربك فليسير عنا هذه الجبال التي ضيقت علينا وليبسط لنا بلادنا وليجر فيها أنهارًا كالشام والعراق، ويبعث لنا من مضى من آبائنا ويكون فيهم قصي، فإنه كان شيخ صدق، فنسألهم عما تقول أهو حق أم باطل، وسله يبعث معك ملكًا يصدقك ويراجعنا عنك، ويجعل لك جنانًا وقصورًا وكنوزًا من ذهب وفضة يغنيك بها عن المشي في الأسواق والتماس المعاش، فإن لم تفعل؛ فأسقط السماء علينا كسفًا كما زعمت أن ربك إن شاء فعل، فإنا لن نؤمن لك إلا أن يفعل، فقام صلى الله عليه وسلم ... الحديث، وفيه: فأقسم أبو جهل ليرضخن رأسه بحجر غدا، فلم دنا منه رجع منهزمًا منتقعًا لونه مرعوبًا قد يبست يداه على حجره حتى قذفه من يده، وقال: عرض لي فحل إبل ما رأيت مثله، فهم أن يأكلني؛ قال ابن إسحاق: فذكر لي أنه صلى الله عليه وسلم قال: "ذاك جبريل لو دنا لأخذه".
"والرئي" بزنة كمي "بفتح الراء، وقد تكسر" لاتباعها ما بعدها، "ثم همزة فياء مشددة جني يرى فيحب" فعيل أو مفعول سمي به؛ لأنه يتراءى لمتبوعه أو هو من الرأي من قولهم، فلان رأى قومه إذا كان صاحب رأيهم؛ كما في النور.
"و" قيل الراء "المكسورة للمحبوب منها" أي: جماعة الجن إلا أن لفظ القاموس منهم وهو أصرح، "قاله في القاموس" اللغوي "ثم إن النضر" بنون وضاد معجمة ساكنة "ابن الحارث"(1/481)
وعقبة بن أبي معيط ذهبا إلى أحبار يهود، فسألاهم عنه عليه السلام فقالوا لهما: سلوه عن ثلاثة، فإن أخبركما بهن فهو نبي مرسل، وإن لم يجب فهو متقول...............
__________
ابن علقمة بن كلدة بفتح الكاف واللام العبدري المشتري لهو الحديث القائل: اللهم إن كان هذا هو الحق ... إلخ، أسر ببدر وقتل كافرًا بالصفراء بإجماع أهل السير، وهم ابن منده وأبو نعيم، فقالا: شهد حنينًا مع النبي صلى الله عليه وسلم وأعطاه مائة من الإبل وكان من المؤلفة وقلبا نسبه فقالا: كلدة بن علقمة، وأطنب الحافظ العز بن الأثير وغيره من الحفاظ في تغليظهما والرد عليهما، وتعقب باحتمال أن يكون له أخ سمي باسمه فهو الذي ذكراه لا هذا المقتول كافرًا؛ كذا في الإصابة، وفي مغازي ابن عبد البر ذكر في المؤلفة قلوبهم النضر بن الحارث بن علقمة بن كلدة أخو النضر بن الحارث المقتول ببدر صبرًا، انتهى. فجزم بأنه أخوه.
"وعقبة" بقاف "ابن أبي معيط" أحد رءوس الكفر لعنه الله قتل بعد بدر، "ذهبا" إلى المدينة ببعث قريش لهما بعد مراجعة بينهم وبين النضر؛ كما رواه ابن إسحاق والبيهقي، عن ابن عباس، قال: إن النضر كان من شياطين قريش، فقال: يا معشر قريش، والله قد نزل بكم أمر ما أتيتم له بحيلة بعد، قد كان محمد فيكم وأصدقكم حديثًا وأعظمكم أمانة حتى إذا رأيتم الشيب في صدغيه وجاءكم بما جاءكم به، قلتم: ساحر، لا والله ما هو بساحر، وقلتم: كاهن، لا والله ما هو بكاهن، وقلتم: شاعر، لا والله ما هو بشاعر، وقلتم: مجنون، لا والله ما هو بمجنون، فلما قال ذلك بعثوه مع عتبة "إلى أحبار" بفتح الهمزة جمع حبر بفتح الحاء وكسرها، أي: علماء "يهود" علم لمن دخل دين اليهودية غير مصروف للعلمية وزن الفعل ويجوز دخول أل فلا يمتنع التنوين لنقله من وزن الفعل إلى باب الأسماء، "فسألاهم عنه عليه السلام" بعد إخبارهما لهم بصفته وبعض قوله: وقولهما إنكم أهل الكتاب الأول، أي: التوراة، وعندكم علم ليس عندنا من علم الأنبياء، وقد أتيناكم لتخبرونا عن صاحبنا هذا؛ كما في حديث ابن عباس.
"فقالوا لهما: سلوه عن ثلاثة، فإن أخبركم بهن" على طريق الحقيقة والإجمال؛ لأنه لم يجب عن الروح إلا إجمالا، لأنها مما استأثر الله بعلمه. وفي بعض التفاسير: إن أجابكم عن البعض فهو نبي، وفي كتابهم: إن الروح من الله. وفي رواية: إن أجابكم عن حقيقة الروح فليس بنبي، وإن أجابكم بأنها من أمر الله، فهو نبي.
وفي رواية: إن أجاب عن كلها أو لم يجب عن شيء فليس بنبي، وإن أجاب عن اثنين ولم يجب عن واحد "فهو نبي مرسل" تأسيس إذ لا يلزم من النبوة الرسالة على المشهورة، "وإن لم يجب" عن شيء منها بأن سكت أو أجاب عن جميعها تفصيلا "فهو متقول" اسم فاعل من(1/482)
سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول، وعن رجل طواف، وعن الروح ما هو؟
فقال لهم عليه السلام: "أخبركم غدًا". ولم يقل إن شاء الله تعالى، فلبث الوحي أيامًا، ثم نزل قوله تعالى: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا، إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف: 23-24] وأنزل الله تعالى ذكر الفتية الذين ذهبوا،
__________
تقول، أي: ذاكر ما لا حقيقة له، "سلوه" أمر من سال مخفف سأل "عن فتية ذهبوا في الدهر الأول" أي: الزمان المتقدم، سموه أول بالنظر لتقدمه على زمانهم بمدة طويلة، وبقية الرواية: ما كان من أمرهم، فإنه كان لهم حديث عجيب "وعن رجل طواف" قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها ما كان نبؤه "وعن الروح" يذكر ويؤنث، ولذا قال: "ما هو" فأقبل النضر وعقبة، وقالا: قد جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمد، فجاءوا رسول الله فسألوه، "فقال لهم عليه السلام: "أخبركم غدًا" ولم يقل: إن شاء الله فلبث الوحي أيامًا" خمسة عشر يومًا؛ كما عند ابن إسحاق عن ابن عباس، وفي سير التيمي وابن عقبة: إنما أبطأ ثلاثة أيام"، وعن مجاهد: اثنا عشر، وقيل: أربعة، وقيل: أربعين، حتى أرجف أهل مكة، وقالوا: قد لاه ربه وتركه، وقالت حمالة الحطب: ما أرى صاحبك إلا وقد ودعك وقلاك. وفي رواية: فقالت امرأة قريش: أبطأ عليه شيطانه، حتى أحزنه ذلك صلى الله عليه وسلم.
وقد نزل في الرد عليهم: {وَالضُّحَى، وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى، مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} [الضحى: 1-3] ، وأفتاه الله تعالى في سورة الكهف والإسراء عن مسائلهم، "ثم نزل قوله تعالى" عتابًا لنبيه: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا، إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف: 23-24] استثناه من النهي، أي: لا تقولن لشيء تعزم عليه إني فاعله في المستقبل إلا ملتبسًا بمشيئة الله، قائلا: إن شاء الله، وقيل: المراد وقت أن يشاء الله أن تقوله بمعنى أن يأذن لك فيه، والأول أوفق بكونه عتابًا على عدم الاستثناء، "وأنزل الله تعالى ذكر الفتية" جمع قلة لفتى آثره على جمع الكثرة وهو فتيان لكونهم دون عشرة، "الذين ذهبوا" ولا يعلمهم إلا قليل، قال ابن عباس: أنا من القليل، وذكر أنهم سبعة، وفي رواية عنه: ثمانية، أخرجهما ابن أبي حاتم، وفي التلفظ بأسمائهم خلف تركته لقول الحافظ في النطق بها اختلاف كثير لا يقع الوثوق من ضبطها بشيء، انتهى.
وعن ابن عباس: لم يبق منهم شيء بل صاروا ترابًا قبل البعث، وقيل: لم تأكلهم الأرض ولم تغيرهم، وفي معجمات الأقران أكثر العلماء على أنهم كانوا بعد عيسى، وذهب ابن قتيبة إلى أنهم كانوا قبله، وأنه أخبر قومه خبرهم، وأن يقظتهم بعد رفعه زمن الفترة. وفي تفسير ابن مردويه، عن ابن عباس: أصحاب الكهف أعوان المهدي، قال الحافظ: وسنده ضعيف، فإن ثبت حمل على أنهم لم يموتوا بل هم في المنام إلى أن يبعثوا لإعانة المهدي، وقد ورد حديث آخر بسند واهٍ أنهم يحجون مع عيسى ابن مريم، انتهى.(1/483)
وهم أصحاب الكهف، وذكر الرجل الطواف. وهو ذو القرنين..................
__________
"وهم أصحاب الكهف" الغار الواسع في الجبل اسم الجبل أو الوادي الذي فيه كهفهم أو الصخرة التي أطبقت على الوادي، أو اسم قربتهم أو كلبهم أو لوح من رصاص كتب فيه أسماؤهم وجعل على باب الكهف، أو كتب فيه شرعهم الذي كانوا عليه، أو الدواة, واختلف في مكان الكهف، فالذي تظافرت به الأخبار أنه في بلاد الروم, وروى الطبري بإسناد ضعيف عن ابن عباس: أنه بالقرب من أيلة، وقيل: قرب طرسوس، وقيل: بين أيلة وفلسطين، وقيل: بقرب زايزا، وقيل: بغرناطة من الأندلس، انتهى ملخصًا من فتح الباري. وذكر غيره أن اسم البلد الذي هو بها بالروم وعريسوس، وفي الفتح أيضًا.
وقد روى عبد بن حميد بإسناد صحيح عن ابن عباس قصة أصحاب الكهف مطولة غير مرفوعة، وملخصها: أنهم كانوا في مملكة جبار يعبدون الأوثان فخرجوا منها فجمعهم الله على غير ميعاد فأخذ بعضهم على بعض العهود والمواثيق، فجاء أهاليهم يطلبونهم ففقدوهم فأخبروا الملك، فأمر بكتابة أسمائهم في لوح من رصاص وجعله في خزائنه، ودخل الفتية فضرب الله على آذانهم فناموا، فأرسل الله من يقلبهم ويحول الشمس عنهم، فلو طلعت عليهم لأحرقتهم، ولولا أنهم يقلبون لأكلتهم الأرض، ثم ذهب الملك وجاء آخر فكسر الأوثان وعبد الله وعدل، فبعث الله أصحاب الكهف فبعثوا أحدهم يأتيهم بما يأكلون، فدخل المدينة مستخفيًا فرأى هيئة وناسًا أنكرهم لطول المدة فدفع درهمًا لخباز فاستنكر ضربه، وهم بأن يرفعه إلى الملك، فقال. أتخوفني بالملك وأبي دهقانه؟ فقال: من أبوك؟ قال: فلان، فلم يعرفه فاجتمع الناس فرفعوه إلى الملك، فسأله قال: علي باللوح وكان قد سمع به فسمى أصحابه فرفعهم من اللوح، فكبر الناس وانطلقوا إلى الكهف وسبق الفتى، لئلا يخافوا من الجيش، فلما دخل عليهم عمى الله على الملك ومن معه المكان، فلم يدر أين ذهب الفتى، فاتفقوا على أن يبنوا عليهم مسجدًا، فجعلوا يستغفرون لهم ويدعون لهم، انتهى.
"وذكر الرجل الطواف وهو ذو القرنين" الأكبر الحميري المختلف في نبوته والأكثر وصح أنه كان من الملوك الصالحين، وذكر الأزرقي وغيره أنه حج وطاف مع إبراهيم وآمن به واتبعه وكان الخضر وزيره. وعن علي: لا نبيًا ولا ملكًا، ولكن كان عبدًا صالحًا دعا قومه إلى عبادة الله فضربوه على قرني رأسه ضربتين، وفيكم مثله -يعني نفسه- رواه الزبير بن بكار وابن عيينة في جامعه بإسناد صحيح وصححه الضياء في المختارة، وقيل: كان من الملائكة، حكاه الثعلبي، وقيل: من بنات آدم وأبوه من الملائكة، حكاه الجاحظ في كتاب الحيوان.
لقب بذي القرنين واسمه الصعب على الراجح؛ كما في الفتح، أو المنذر أو هرمس أو(1/484)
.................................................
__________
هردويس أو عبد الله أو غير ذلك، وفي اسم أبيه أيضًا خلاف لطوافه قرني الدنيا شرقها وغربها؛ كما في حديث، أو لانقراض قرنين من الناس في أيامه، أو لأنه كان له ضفيرتان من شعر، والعرب تسمي الخصلة من الشعر قرنًا، أو لأن لتاجه قرنين أو على رأسه ما يشبه القرنين، أو لكرم طرفيه أما وأبا، أو لرؤياه أنه أخذ بقرني الشمس، أو لغير ذلك أقوال. قال البيضاوي: ويحتمل لشجاعته، كما يقال الكبش للشجاع، لأنه ينطح أقرانه.
وأما ذو القرنين الأصغر فهو الإسكندر اليوناني قتل دارا وسلبه ملكه وتزوج ابنته، واجتمع له الروم وفارس ولذا سمي بذلك. قال السهيلي: ويحتمل أنه لقب به تشبيهًا بالأول، لملكه ما بين المشرق والمغرب فيما قبل أيضًا واستظهره الحافظ وضعف قول من زعم أن الثاني هو المذكور في القرآن، كما أشار إليه البخاري بذكره قبل إبراهيم؛ لأن الإسكندر كان قريبًا من زمن عيسى، وبين إبراهيم وعيسى أكثر من ألفي سنة، قال: والحق أن الذي قص الله نبأه في القرآن هو المتقدم، والفرق بينهما من وجوه:
أحدها: أن الذي يدل على تقدم ذي القرنين ما روى الفاكهي، طريق عبيد بن عمير أحد كبار التابعين حج ماشيًا فسمع به إبراهيم، فتلقاه. ومن طريق عطاء عن ابن عباس: أن ذا القرنين دخل المسجد الحرام فسلم على إبراهيم وصافحه، ويقال: إنه أول من صافح. ومن طريق عثمان بن ساج أنه سأل إبراهيم أن يدعو له، فقال: وكيف وقد أفسدتم بئري؟ فقال: لم يكن ذلك عن أمري، يعني أن بعض الجند فعل ذلك بغير علمه. وذكر ابن هشام في التيجان أن إبراهيم تحاكم إلى ذي القرنين في بئر فحكم له.
وروى ابن أبي حاتم من طريق علبا بن أحمر: قدم ذو القرنين مكة فوجد إبراهيم وإسماعيل يبنيان الكعبة، فاستفهمهما عن ذلك، فقالا: نحن عبدان مأموران، فقال: من يشهد لكما؟ فقامت خمسة أكبش فشهدت، فقال: صدقتما، قال: وأظن الأكبش المذكورة حجارة، ويحتمل أن تكون غنمًا، فهذه الآثار يشد بعضها بعضًا وتدل على قدم عهد ذي القرنين.
الوجه الثاني: قال الفخر الرازي: كان ذو القرنين نبيًا والإسكندر كافرًا ومعلمه أرسطاطاليس، وكان يأتمر بأمره وهو من الكفار بلا شك.
ثالثها: كان ذو القرنين من العرب والإسكندر من اليونان من ولد يافث بن نوح على الأرجح، والعرب كلها من ولد سام بن نوح باتفاق، وإن اختلف هل كلهم من ولد إسماعيل أم لا؟ فافترقا، وشبهة من قال: إن ذا القرنين هو الإسكندر.
ما أخرجه ابن جرير ومحمد بن الربيع الجيري: أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذي القرنين،(1/485)
وقال فيما سألوه عن الروح {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء: 85] الآية.
وفي البخاري من حديث عبد الله بن مسعود قال: بينا أنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في حرث، وهو متكئ على عسيب. إذ مر اليهود، فقال بعضهم لبعض: سلوه عن الروح، فقالوا: ما رابكم إليه.............................
__________
فقال: "كان من الروم فأعطي ملكًا فسار إلى مصر فبنى الإسكندرية فلما فرغ أتاه ملك فعرج به، فقال: انظر ما تحتك، فقال: أرى مدينتي ومدائن حولها، ثم عرج به فقال: انظر ما تحتك، قال أرى مدينة واحدة، قال: تلك الأرض كلها، وإنما أراد الله تعالى أن يريك، وقد جعل الله لك في الأرض سلطانًا، فسر فيها وعلم الجاهل وثبت العالم"، وهذا لو صح لرفع النزاع كله، لكنه ضعيف، انتهى. وذكر نحوه الحافظ ابن كثير وصوب أيضًا أن ذا القرنين غير الإسكندر فعض عليه بالنواجذ.
"وقال فيما سألوه" ما مصدرية، أي: في جواب سؤالهم "عن الروح" ولعل حكمة المغايرة بينه وبين ما قبله أنه بين فيه نفس المسئول عنه وهو الفتية والرجل، ولم يبينه هنا بل رد علمه إليه سبحانه، فقال تعالى: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء: 85] ، أي: علمه لا تعلمونه.
"وفي البخاري" في العلم والتفسير والاعتصام والتوحيد ما يعارض ما علم من أن السؤال من قريش بمكة، فإنه أخرج "من حديث عبد الله بن مسعود، قال بينا أنا" أمشي "مع النبي صلى الله عليه وسلم في حرث" بفتح الحاء وراء مهملتين فمثلثة، أي: زرع، وفي العلم: في خرب المدينة بمعجمة مفتوحة وراء مكسورة وموحدة، قال الحافظ: والأول أصوب لرواية مسلم في نخل، زاد في العلم: بالمدينة، وابن مردويه: للأنصار، "وهو متئ" معتمد، وفي العلم: وهو يتكئ "على عسيب" بفتح العين وكسر السين المهملتين وسكون التحتانية وموحدة، وهي الجريدة التي لا خوص فيها، ولابن حبان: ومعه جريدة، "إذ مر اليهود" كذا في التفسير بالرفع على الفاعلية في المواضع الثلاثة مر بنفر من اليهود، وكذا رواه مسلم، قال الحافظ فيحمل على أن الفريقين تلاقوا فيصدق أن كلا مر بالآخر، ولم أقف في شيء من الطرق على تسمية أحد من هؤلاء اليهود، "فقال بعضهم لبعض: سلوه عن الروح" وفي الاعتصام والتوحيد: وقال بعضهم: لا تسألوه، "فقالوا" وفي العلم والتفسير: قال بالإفراد، أي: بعضهم، "ما رابكم إليه" بلفظ الفعل الماضي بلا همز من الريب، قال عياض: أي ما شككم في أمر الروح، أو ما الريب الذي رابكم حتى احتجتم إلى معرفته والسؤال عنه، أو ما دعاكم إلى شيء يسوءكم عقباه، ألا ترى قوله: لا يستقبلكم ... إلخ، انتهى.(1/486)
وقال بعضهم: لا يستقبلكم بشيء تكرهونه، فقالوا: سلوه، فسألوه عن الروح، فأمسك فلم يرد عليهم شيئًا، فعلمت أنه يوحى إليه، فقمت مقامي، فلما نزل الوحي قال: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء: 85] الآية.
__________
وللحموي: ما رأبكم بهمزة مفتوحة وموحدة مضمومة من الرأب، وهو الإصلاح، يقال فيه: رأب بين القوم إذا أصلح بينهم، قال الحافظ: وفي توجيهه هنا بعد، وقال الخطابي: الصواب ما أربكم بتقديم الهمزة وفتحتين من الأرب وهو الحاجة، وهذا واضح المعنى لو ساعدته الرواية، نعم رأيته في رواية المسعودي عن الأعمش عند الطبري، كذلك قال. وفي رواية القابسي، قال المصنف: رأيته عن الحموي أيضًا، ما رأيكم بسكون الهمزة وتحتية بدل الموحدة من الرأي.
"وقال بعضهم: لا يستقبلكم" بالرفع على الاستئناف، أي: لا تسألوه لئلا يستقبلكم لا بالجزم لانتفاء شرطه وهو صحة وقوع إن الشرطية قبل أداة النهي مع استقامة المعنى، إذ لا يستقيم هنا أن لا تسألوه يستقبلكم، قال في الفتح: ويجوز السكون وكذا النصب أيضًا، انتهى. ولعل الجزم على النهي مبني على رأي من لا يشترط ذلك. "بشيء" وفي العلم: لا تسألوه لا يجيء بشيء "تكرهونه" إن لم يفسره؛ لأنهم قالوا: إن فسره فليس بنبي؛ لأن في التوراة أن الروح مما انفرد الله بعلمه ولم يطلع عليه أحدًا من عباده، فإذا لم يفسره دل على نبوته وهم يكوهونها، وقامت الحجة عليهم في نبوته. وفي الاتصام: لا يسمعكم ما تكرهون، "فقالوا: سلوه، فسألوه عن الروح، فأمسك فلم يرد عليهم شيئًا" وللكشميهني: عليه بالإفراد، أي: السائل. وفي العلم: فقال بعضهم: لنسألنه، فقام رجل منهم، فقال: يا أبا القاسم! ما الروح؟ فسكت.
وفي الاعتصام: فقاموا إليه فقالوا: يا أبا القاسم! حدثنا عن الروح، فأقام ساعة ينظر، قال ابن مسعود: "فعلمت" وفي التوحيد: فظننت، وفي الاعتصام: فقلت "إنه يوحى إليه" وهي متقاربة وإطلاق العلم على الظن مشهور، وكذا إطلاق القول على ما يقع في النفس؛ كما في الفتح. "فقمت مقامي" أي: مكثت بمحلي الذي كنت فيه.
وفي العلم: فقمت فقط، أي: حتى لا أكون مشوشًا عليه، أو فقمت حائلا بينه وبينهم؛ كما في المصنف. وفي الاعتصام: فتأخرت، قال الحافظ: أي أدبًا معه لئلا يتشوش بقربي منه، انتهى. ولا ينافيه رواية مقامي؛ لأنه تأخر قليلا فكأنه فيه، "فلما نزل الوحي" وفي العلم: فلما انجلى عنه، أي الكرب الذي كان يغشاه حال الوحي.
"قال" وفي الاعتصام حتى صعد الوحي، فقال: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} أي من الإبداعيات الكائنة يكن من غير مادة وتولد عن أصل، واقتصر على هذا الجواب؛ كما اقتصر موسى في جواب وما رب العالمين بذكر بعض صفاته؛ لكونها مما استأثر الله بعلمه،(1/487)
قال الحافظ ابن كثير: وهذا يقتضي -فيما يظهر من بادئ الرأي- أن هذه آية مدنية، وأنها إنما نزلت حين سأله اليهود عن ذلك بالمدينة، مع أن السورة كلها مكية.
وقد يجاب عن هذا: بأنه قد تكون نزلت عليه مرة ثانية بالمدينة، كما نزلت عليه بمكة قبل ذلك, ومما يدل على نزولها بمكة ما روى الإمام أحمد من حديث ابن عباس قال قالت قريش لليهود أعطونا شيئًا نسأل عنه هذا الرجل، فقالوا: سلوه عن الروح، فسألوه فنزلت. الحديث. انتهى.
وهذا الحديث رواه الترمذي أيضًا بإسناد رجاله رجال مسلم.
فيحمل على تعدد النزول كما أشار إليه ابن كثير...............................
__________
ولأن في عدم بيانها تصديقًا لنبوته، زاد البخاري في التوحيد: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلًا} [الإسراء: 85] ، فقال بعضهم لبعض: قد قلنا لكم لا تسألوه.
"قال الحافظ ابن كثير: وهذا يقتضي فيما يظهر من بادئ الرأي" بالهمز، أي: أوله من غير تثبت وتفكر فيه أو ظاهره دون تفكر فيه باطنًا، "أن هذه آية مدنية، وأنها إنما نزلت حين سأله اليهود عن ذلك بالمدينة مع أن السورة كلها مكية" وقيل: إلا قوله تعالى: {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ} [الإسراء: 73] ، إلى آخر ثمان آيات؛ كما في الأنوار، وبه جزم الجلال، "وقد يجاب عن هذا" الاختلاف "بأنه قد تكون نزلت عليه مرة ثانية بالمدينة؛ كما نزلت عليه بمكة قبل ذلك، ومما يدل على نزولها بمكة ما روى الإمام أحمد من حديث ابن عباس، قال: قالت قريش لليهود: أعطونا" بفتح الهمزة "شيئًا نسأل عنه هذا الرجل، فقالوا: سلوه عن الروح، فسألوه فنزلت. الحديث، انتهى".
"وهذا الحديث" الذي عزاه ابن كثير لأحمد، "رواه الترمذي أيضًا" وقال: إنه صحيح فقصر ابن كثير بل عليه معمر في غزوه لأحمد فقط؛ لأن الحديث إذا كان في أحد الستة لا ينقل من غيرها إلا لزيادة أو صحة؛ كما قال مغلطاي، فكيف وقد صرح الترمذي رواية بصحته وهو ظاهر؛ لأنه "بإسناد رجاله رجال مسلم" فهو من المرتبة السادسة من مراتب الصحيح؛ كما في الألفية، وإن كان لا يلزم أنه كصحة ما رواه مسلم نفسه، كما نبه على ذلك ابن الصلاح في مقدمة شرح مسلم، فقال: من حكم لشخص بمجرد رواية مسلم عنه في الصحيح بأنه من شرط الصحيح عند مسلم، فقد غفل وأخطأ، بل ذلك يتوقف على النظر في كيفية روايته عنه، وعلى أخرج حديثه؟ "فيحمل على تعدد النزول؛ كما أشار إليه ابن كثير" وكذا الحافظ ابن(1/488)
ويحمل سكوته في المرة الثانية على توقع مزيد بيان في ذلك.
وقد اختلف في المراد بالروح المسئول عنه في هذا الخبر:
فقيل: روح الإنسان. وقيل: جبريل. وقيل: عيسى: وقيل: ملك يقوم وحده صفا يوم القيامة. وقيل غير ذلك.
__________
حجر، وحيث قلنا بذلك فالعلم حاصل، فما وجه ترك المبادرة بالجواب؟ "و" جهه كما قال الحافظ أنه "يحمل سكوته في المرة الثانية على توقع مزيد بيان في ذلك" قال: أعني الحافظ، فإن ساغ هذا وإلا فما في الصحيح أصح.
وفي الإتقان: إذا استوى الإسنادان صحة رجح أحدهما بحضور رواية القصة ونحو ذلك من وجوه الترجيحات، ومثل بحديثي ابن مسعود وابن عباس المذكورين، ثم قال: وحديث ابن عباس يقتضي نزولها بمكة والأول خلافه، وقد يرجح بأن ما رواه البخاري أصح وبأن ابن مسعود كان حاضر القصة لكنه نقل في الإتقان نفسه بعد قليل عن الزركشي في البرهان: قد ينزل الشيء مرتين تعظيمًا لشأنه وتذكيرًا عند حدوث سببه خوف نسيانه، ثم ذكر منه آية الروح، فإن سورة الإسراء مكية وسبب نزولها يدل على أنها نزلت بالمدينة، ولذا أشكل ذلك على بعضهم ولا إشكال؛ لأنها نزلت مرة بعد مرة، انتهى.
"وقد اختلف في المراد بالروح المسئول عنه في هذا الخبر" لأن الروح جاء في التنزيل على معان، "فقيل: روح الإنسان" الذي يحيا به البدن، وقيل: روح الحيوان، "وقيل جبريل" كقوله: {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا} [مريم: 17] ، "وقيل: عيسى" كقوله: وروح منه. وقيل: القرآن؛ كقوله: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا} [الشورى: 52] . وقيل: الوحي؛ كقوله: {يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ} [غافر: 15] .
"وقيل: ملك يقوم وحده صفًا يوم القيامة، وقيل غير ذلك" فقيل: ملك له أحد عشر ألف جناح ووجه، وقيل: ملك له سبعون ألف لسان، وقيل: سبعون ألف وجه في كل وه سبعون ألف لسان، لكل لسان ألف لغة، يسبح الله بكلها فيخلق بكل تسبيحة ملكًا يطير مع الملائكة، وقيل: ملك رجلاه في الأرض السفلى ورأسه عند قائمة العرش. وقيل: خلق كخلق بني آدم، يقال لهم الروح يأكلون ويشربون لا ينزل ملك من السماء إلا ومعه واحد منهم. وقيل: خلق يرون الملائكة ولا تراهم الملائكة، كالملائكة لبني آدم؛ كذا ذكره ابن التين بزيادات من كلام غيره. قال الحافظ: وهذا إنما اجتمع من كلام أهل التفسير في معنى: لفنا الروح الوارد في القرآن، لا في خصوص هذه الآية، فمنه نزل به الروح، {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا} [الشورى: 52] ،(1/489)
وقال القرطبي: الراجح أنهم سألوه عن روح الإنسان لأن اليهود لا تعترف بأن عيسى روح الله، ولا تجهل أن جبريل ملك، وأن الملائكة أرواح.
وقال الإمام فخر الدين: المختار أنهم سألوه عن الروح الذي هو سبب الحياة، وأن الجواب وقع على أحسن الوجوه وبيانه: أن السؤال عن الروح يحتمل عن ماهيته، وهل هي متحيزة أم لا؟ وهل هي حالة في متحيز أم لا؟ وهل هي قديمة أم حادثة، وهل تبقى بعد انفصالها من الجسد...................
__________
{يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ} ، {وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} [المجادلة: 22] ، يوم يقوم الروح تنزل الملائكة والروح، فالأول جبريل، والثاني القرآن، والثالث الوحي، والرابع القوة، والخامس والسادس محتمل لجبريل ولغيره, وورد إطلاق روح الله على عيسى.
وروى إسحاق يعني ابن راهويه في تفسيره بإسناد صحيح، عن ابن عباس، قال: الروح من أمر الله، وخلق من خلق الله، وصور كبني آدم لا ينزل ملك إلا ومعه واحد من الروح، انتهى.
"قال القرطبي: الراجح" وهو قول الأكثر "أنهم سألوه عن روح الإنسان؛ لأن اليهود لا تعترف بأن عيسى روح الله" واضح، وأما قوله: "ولا تجهل أن جبريل ملك، وأن الملائكة أرواح" فغير واضح، إذ سؤالهم تعنت وامتحان لا استفهام، كما هو معلوم، وجنح ابن القيم في كتاب الروح إلى ترجيح أن الروح المسئول عنه، ما وقع في قوله تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا} [النبأ: 38] ، قال: فأما أرواح بني آدم فلم تسم في القرآن إلا نفسًا، قال الحافظ: ولا دلالة فيه لما رجحه بل الراجح الأول، فقد أخرج الطبري من طريق العوفي، عن ابن عباس، أنهم قالوا: أخبرنا عن الروح وكيف يعذب الروح الذي في الجسد، وإنما الروح من الله؟ فنزلت الآية.
"وقال الإمام فخر الدين" الرازي "المختار أنهم سألوه عن الروح الذي هو سبب الحياة، وأن الجواب وقع على أحسن الوجوه وبيانه أن السؤال عن الروح يحتمل" أنه عن "ماهيته" أي حقيقته، "وهل هي متميزة" منفصلة عن البدن غير حالة فيه، تتعلق به تعلق العاشق بالمعشوق وتدبر أمره على وجه لا يعلمه إلا الله؛ كما قال الغزالي والحكماء وكثير من الصوفية، "أم لا؟ " بل حالة فيه حلول الزيت في الزيتون؛ كما قال جمهور أهل السنة.
"وهل هي حالة في متحيز، أم لا؟ وهل هي قديمة" كما قال الزنادقة، "أم حادثة؟ " مخلوقة، كما أجمع عليه أهل السنة، وممن نقل الإجماع: محمد بن نصر المروزي وابن قتيبة، ومن الأدلة عليه قوله صلى الله عليه وسلم: "الأرواح جنود مجندة، والمجندة لا تكون إلا مخلوقة"، "وهل تبقى بعد انفصالها من الجسد" بالموت وهو الصحيح والأخبار به طافحة، ففي فنائها عند القيامة ثم(1/490)
وتفنى، وما حقيقة تعذيبها وتنعيمها، وغير ذلك من متعلقاتها.
قال: وليس في السؤال ما يخصص أحد هذه المعاني، إلا أن الأظهر أنهم سألوه عن الماهية. وهل الروح قديمة أو حادثة؟ والجواب يدل على أنها شيء موجود مغاير للطبائع والأخلاط وتركيبها، فهو جوهر بسيط مجرد لا يحدث إلا بمحدث، وهو قوله تعالى: {كُنْ} ، فكأنه قال: هي موجودة محدثة بأمر الله وتكوينه ولها تأثير في إفادة الحياة للجسد، ولا يلزم من عدم العلم بكيفيتها المخصوصة نفيه.
قال: ويحتمل أن يكون المراد بالأمر في قوله تعالى: {مِنْ أَمْرِ رَبِّي} :
__________
عودها توفية بظاهر قوله تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} [الرحمن: 26] ، وعدمه بل تكون مما استثنى الله في قوله: {إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} [النمل: 87، الزمر: 68] قولان، حكاهما السبكي في تفسيره، وقال الأقرب الثاني، "أو تفنى؟ " كما قال الفلاسفة وشرذمة قليلة من الأندلسيين وشدد عليهم النكير ورد عليهم بما أخرجه ابن عساكر عن سحنون أنه ذكر عنده رجل يذهب إلى أن الأرواح تموت بموت الأجساد، فقال: معاذ الله، هذا قول أهل البدع.
وقال ابن القيم: الصواب أنه إن أريد بذوقها للموت مفارقتها للجسد، فنعم هي ذائقة الموت بهذا المعنى، وإن أريد أنها تعدم فلا؛ بل هي باقية بإجماع في نعيم أو عذاب. "وما حقيقة تعذيبها وتنعيمها وغير ذلك من متعلقاتها؟ قال: وليس في السؤال ما يخصص أحد هذه المعاني؛ إلا أن الأظهر أنهم سألوه عن الماهية، وهل الروح قديمة أو حادثة؟ والجواب" الصادر من الله لنبيه "يدل على أنها شيء موجود مغاير للطبائع" جمع طبيعة، وهي مزاج الإنسان المركب من الأخلاط؛ كما في المصباح ونحوه في القاموس. "والأخلاط" جمع خلط، قال في القاموس: أخلاط الإنسان أمزجته الأربعة.
"وتركيبها، فهو جوهر بسيط مجرد لا يحدث إلا بمحدث، وهو قوله تعالى: {كُنْ} [يس: 82] ، قيل: هو عبارة عن سرعة الحصول، أي: متى تعلقت إرادته تعالى بشيء كان، وقيل: إذا أراد شيئًا قال قولا نفسانيًا له: {كُنْ فَيَكُونُ} [يس: 82] ، وعليه فكن علامة وسبب لوجود ما أراده تعالى؛ "فكأنه قال: هي موجودة محدثة بأمر الله وتكوينه" إيجاده فهو تفسير للأمر، "ولها تأثير في إفادة الحياة للجسد" بجعل الله تعالى إياها سببًا في وجود الحياة، فلا ينافي أن التأثير إنما هو بإرادته تعالى وخلقه "ولا يلزم من عدم العلم بكيفيتها المخصوصة نفيه، قال: ويحتمل أن يكون المراد بالأمر في قوله: {مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء: 85] ،(1/491)
الفعل، كقوله تعالى: {وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} [هود: 97] أي فعله. فيكون الجواب: أنها حادثة.
ثم قال: وقد سكت السلف عن البحث في هذه الأشياء والتعمق فيها.
انتهى.
وقال في فتح الباري: وقد تنطع قوم فتباينت أقوالهم.
فقيل: هي النفس الداخل الخارج.
وقيل: جسم لطيف، يحل في جميع البدن.
وقيل: هي الدم.
وقيل: إن الأقوال فيها بلغت المائة.
ونقل ابن منده عن بعض المتكلمين: أن لكل نبي خمسة أرواح، ولكل مؤمن ثلاثة............
__________
"الفعل؛ كقوله تعالى: {وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} [هود: 97] ، أي: مرشد أو ذي رشد، وإنما هو غي محض وضلال صريح، "أي: فعله فيكون الجواب: أنها حادثة، ثم قال: سكت السلف عن البحث في هذه الأشياء والتعمق فيها، انتهى" كلام الرازي.
"وقال في فتح الباري" في التفسير بعد نقله كلامي القرطبي والرازي المذكورين، "وقد تنطع قوم" من جميع الفرق؛ أي: تعمقوا وبالغوا في الكلام وخرجوا عن الحد في معرفة ماهية الروح، "فتباينت أقوالهم" قال بعضهم: وما ظفروا بطائل ولا رجعوا بنائل، "فقيل: هي النفس الداخل الخارج" وعزى للأشعري "وقيل: جسم لطيف يحل" بضم الحاء، "في جميع البدن" ويسري فيه سريان ماء الورد فيه، وهذا اعتمده عامة المتكلمين من أهل السنة؛ كما قال المصنف وهو أقرب الأقوال "وقيل: هي الدم" أسقط من الفتح، وقيل: هي عرض قبل قوله: "وقيل: إن الأقوال فيها بلغت المائة"، وقيل: هي أكثر من ألف قول، قال ابن جماعة: وليس فيها قول صحيح، بل هي قياسات وتخيلات عقلية.
"ونقل ابن منده عن بعض المتكلمين أن لكل نبي خمسة أرواح" فما به حياتهم روح، وما ثبت في قلوبهم من الإيمان روح، وما ترقوا به من معرفة الله وهدايتهم إلى الأعمال الصالحة واجتنابهم المناهي روح، ويشاركهم المؤمنون في الثلاثة، وهو المراد بقوله: "ولكل مؤمن ثلاثة" وأيدت الأنبياء زيادة عليهم بقبول وحي الله ويسمى روحًا لحياة القلوب به وبقوة خلقها الله(1/492)
ولكل حي واحدة.
وقال ابن العربي: اختلفوا في الروح والنفس، فقيل متغايران، وهو الحق، وقيل هما شيء واحد.....................
__________
فيهم، فيتمكنون بها من سماع كلامه تعالى بلا واسطة فيتحققون أنه ليس من جنس كلام البشر ذكر الخمسة هذه ابن القيم في كتاب الروح ملخصًا، ولا تشكل الأخيرة بأن الكلام لم يقع للجميع؛ لأنه لا يلزم من خلق القوة وقوعه بالفعل، وهذا أولى من تفسير ثلاثة:
المؤمن، بما ذكره الأنصاري في شرح الرسالة القشيرية أن في باطن الجسد روح اليقظة، وهي التي ما دامت فيه كان متيقظًا فإذا فارقته نام ورأى المرائي.
وروح الحياة: التي ما دامت فيه كان حيًا، فإذا فارقته مات فالنوم انقطاع الروح عن ظاهر البدن فقط.
والموت: انقطاعه عن ظاهره وباطنه، وروح الشيطان ومقرها الصدر؛ لقوله تعالى: {الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ} [الناس: 5] ، انتهى؛ لأن هذه الثلاثة لا تخص المؤمن بل يشاركه الكافر.
"ولكل حي واحدة" بقية، نقل ابن منده؛ كما في الفتح، وإن سقط في كثير من نسخ المصنف: ونقل ابن القيم عن طائفة أن للكافر والمنافق روحًا واحدة، وقال: أما الروح التي تتوفى وتقبض فواحدة، وما زاد عليها مما سمي روحًا مجاز، والمراد خاصة نسبتها لروح الحياة كنسبة الروح إلى الجسد، فإنه إنما يحس ويدرك ويقوى بحلولها فيه، فإذا فقدها كان بمنزلة الجسد إذا فقد روحه، قال: وتسمى قوى البدن روحًا، فيقال: الروح الباصر والسامع والشام ويطلق على أخص من هذا كله وهو قوة معرفة الله والإنابة إليه وانبعاث الهمة إلى طلبه وإرادته، فللعلم روح، وللأجساد روح، وللإخلاص روح، انتهى. زاد البقاعي: ولكل من التوكل والمحبة والصدق روح، والناس متفاوتون، فمن غلب عليه الأرواح صار روحانيًا، ومن فقدها أو أكثرها صار أرضيًا مهينًا.
"وقال" القاضي محمد أبو بكر "بن العربي" الحافظ المشهور "اختلفوا في الروح والنفس، فقيل: متغايران" كما عليه فرقة محدثون وفقهاء وصوفية، قال السهيلي: ويدل عليه {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} [الحجر: 29] ، وقوله: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} ، فإنه لا يصح جعل أحدهما موضع الآخر، ولولا التغاير لساغ ذلك، ولذا رجحه ابن العربي، فقال: "وهو الحق" فالنفس تخرج في النوم والروح في الجسد، والنفس لا تريد إلا الدنيا والشيطان معها، والروح تدعو إلى الآخرة والملك معها، وقيل: هما شيء واحد" قاله الأكثرون وهو الصحيح؛ كما قال ابن القيم والسيوطي وسبقهما الإمام أبو الوليد بن رشد أحد أئمة المالكية، فقال: إنه الصواب، وجزم به ابن السبكي وأقره شارحوه، وقيل: لابن آدم نفس مطمئنة(1/493)
قال وقد يعبر بالروح عن النفس وبالعكس.
وقال ابن بطال القرطبي حقيقتها مما استأثر الله بعلمه بدليل هذا الخبر.
قال: والحكمة في إبهامه، اختيار الخلق، ليعرفهم عجزهم عن علم ما لا يدركونه حتى يضطرهم إلى رد العلم إليه.
وقال القرطبي: الحكمة في ذلك إظهار عجز المرء، لأنه إذا لم يعلم حقيقة نفسه مع القطع بوجوده، كان عجزه عن إدراك حقيقة الحق من باب أولى.
وقال بعضهم: ليس في الآية دلالة على أن الله لم يطلع نبيه على حقيقة الروح بل يحتمل أن يكون أطلعه ولم يأمره أن يطلعهم. وقد قالوا في علم الساعة.
__________
ولوامة وأمارة، قال الصفوي: والتحقيق أنها واحدة لها تسمى باعتبار كل صفة باسم، "قال" أي ابن العربي، "وقد يعبر بالروح عن النفس وبالعكس" حقيقة على الثاني ومجازًا على الأول، قال ابن العربي: كما يعبر عن الروح وعن النفس بالقلب وبالعكس حتى يتعدى ذلك إلى غير العقلاء، بل الجماد مجازًا.
"قال" العلامة أبو الحسن علي بن خلف "بن بطال القرطبي" شارح البخاري أحد شيوخ ابن عبد البر كان من أهل العلم والمعرفة والفهم عنى بالحديث العناية التامة وأتقن ما قيد، ومات سنة أربع وأربعين وأربعمائة، "معرفة حقيقتها مما استأثر بعلمه بدليل هذا الخبر" كالقرآن وتلك الأقوال تنطع، "قال: والحكمة في إبهامه" أي: عدم بيان حقيقته، "اختبار" بموحدة "الخلق ليعرفهم عجزهم عن علم ما لا يدركونه حتى يضطرهم" يلجئهم "إلى رد العلم إليه" وأبدلت التاء طاء لوقوعها بعد الضاد.
"وقال القرطبي: الحكمة في ذلك إظهار عجز المرء؛ لأنه إذا لم يعلم حقيقة نفسه مع القطع بوجوده كان عجزه عن إدراك حقيقة الحق من باب أولى" ذكره بعد سابقه، إشارة إلى أن الاختبار إذا نسب إلى الحق كان مستعملا في لازمه وهو إظهار عجز المختبر؛ لأن الاختبار الامتحان والقصد به طلب بيان ما عليه المختبر، وإنما يكون ممن لا يعلم حقيقة الحال لا من العليم بما في الصدور.
"وقال بعضهم: ليس في الآية" ولا في الحديث "دلالة على أن الله لم يطلع نبيه على حقيقة الروح، بل يحتمل أن يكون أطلعه ولم يأمره أن يطلعهم" بل أمره بعدم إطلاعهم، وذكر في الأنموذج هذا الاحتمال قولا، قال شارحه: والصحيح خلافه، "وقد قالوا في علم الساعة"(1/494)
نحو هذا فالله أعلم. انتهى ملخصًا.
ولما كثر المسلمون، وظهر الإيمان................................................
__________
وباقي الخمس المذكورة في آية {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} [لقمان: 34] "نحو هذا" يعني: أنه أوتي علمها ثم أمر بكتمها، قال بعضهم: وظاهر الأحاديث يأباه، "فالله أعلم" بحقيقة ذلك "انتهى" كلام الفتح "ملخصًا" وفيه بعد هذا: وممن رأى الإمساك عن ذلك الأستاذ أبو القاسم القشيري، فقال بعد كلام الناس في الروح: وكان الأولى الإمساك عن ذلك والتأدب بأدبه صلى الله عليه وسلم، وقد قال الجنيد: إنها مما استأثر الله بعلمه ولم يطلع عليه أحدًا من خلقه، فلا تجوز العبارة عنه بأكثر من موجود، وعلى ذلك جرى ابن عطية وجمع من أهل التفسير. وأجاب من خاض في ذلك: بأن اليهود سألوا عنها سؤال تعجيز وتغليظ، لكونه يطلق على أشياء فأضمروا أنه بأي شيء أجاب، قالوا: ليس هذا المراد، فرد الله كيدهم، وأجابهم جوابًا مجملا كسؤالهم المجمل. وقال السهروردي: يجوز أن من خاض فيها سلك التأويل لا التفسير، إذ لا يسوغ إلا نقلا.
أما التأويل فتمتد العقول إليه بذكر ما تحتمل الآية من غير قطع بأنه المراد، وقد خالف الجنيد ومن تبعه جماعة من متأخري الصوفية فأكثروا من القول في الروح، وصرح بعضهم بمعرفة حقيقتها وعاب من أمسك عنها، انتهى. ثم ذكر المصنف بعض ما أوذي به المسلمون, سنة الله في الذين خلوا من قبل؛ كما قال تعالى: {الم، أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ، وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [العنكبوت: 1-3] الآية، يقال: نزلت في عمار. وفي البخاري عن خباب: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد برده في ظل الكعبة، ولقد لقينا من المشركين شدة شديدة، فقلت: يا رسول الله! ألا تدعو الله لنا؟ فقعد محمرًا وجهه، فقال: "إنه كان من قبلكم ليمشط أحدهم بأمشاط الحديد ما دون عظمه من لحم وعصب ما يصرفه ذلك عن دينه، ويوضع المنشار على مفرق رأس أحدهم فيشق ما يصرفه ذلك عن دينه، وليظهرن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله، والذئب على غنمه"، انتهى.
إلا أن المصنف يشعر بأنه بعد إسلام حمزة وبعث المشركين إلى اليهود وليس بمراد؛ لأن إسلام حمزة في السادسة والهجرة الأولى في الخامسة، نعم يأتي على أن إسلامه في الثانية، فقال:
"ولما كثر المسلمون وظهر الإيمان" لم يقل الإسلام مع أنه أنسب بالمسلمين إيماء إلى أن ما صدقهما واحد إذ لا اعتداد بأحدهما دون الآخر شرعًا؛ فالإسلام النافع هو الانقياد ظاهرًا وباطنًا لإجابة النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يتحقق بدون الإيمان، كما أن الإيمان الذي هو التصديق لاعتداد به(1/495)
أقبل كفار قريش على من آمن يعذبونهم ويؤذونهم ليردوهم عن دينهم.
حتى إنه مر عدو الله، أبو جهل، بسمية أم عمار بن ياسر، وهي تعذب فطعنها في فرجها فقتلها.
وكان الصديق إذا مر بأحد من العبيد يعذب اشتراه منهم وأعتقه، منهم بلال
__________
شرعًا بدون انقياد، "أقبل كفار قريش" أي: التفتوا وسعوا لا الإقبال بالوجه "على من آمن" بإغراء أبي جهل "يعذبونهم" بأنواع العذاب إن لم يكن لهم قوة ومنعة، "ويؤذونهم" بالتوبيخ بالكلام ونحوه لمن له منعة؛ كما روي أن أبا جهل كان إذا سمع برجل أسلم وله شرف ومنعة لامه، وقال: تركت دين أبيك وهو خير منك، لنسفهن حلمك ولنغلبن رأيك ولنضعن شرفك؛ وإن كان تاجرًا، قال: لنكسدن تجارتك ولنهلكن مالك؛ وإن كان ضعيفًا ضربه وأغرى به، واستمر الملعون في أذاه "حتى إنه" بكسر الهمزة "مر عدو الله أبو جهل بسمية" بضم المهملة مصغر، إحدى السابقات كانت سابع سبعة في الإسلام، "أم عمار بن ياسر وهي تعذب" هي وابناها عمار وعبد الله وأبوهما ياسر بن عامر؛ كما رواه البلاذري عن أم هانئ، قالت: فمر بهم النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "صبرًا آل ياسر، فإن موعدكم الجنة" فمات ياسر في العذاب وأعطيت سمية لأبي جهل "فطعنها في فرجها" بحربة وهي عجوز كبيرة "فقتلها" ورمى عبد الله فسقط، وقد روى ابن سعد بسند صحيح عن مجاهد أن سمية أول شهداء الإسلام.
وروى ابن عبد البر عن ابن مسعود: أن أبا جهل طعن بحربة في فخذ سمية أم عمار حتى بلغت فرجها فماتت، فقال عمار: يا رسول الله! بلغ منا أو بلغ منها العذاب كل مبلغ، فقال صلى الله عليه وسلم: "اصبر أبا اليقظان، اللهم لا تعذب من آل ياسر أحد بالنار" وأما عمار ففرج الله عنه بعد طول تعذيبه؛ فقد جاء أنه كان يعذب حتى لا يدري ما يقول، ورئي في ظهره أثر كالمخيط فسئل، فقال: هذا ما كانت تذبني قريش في رمضاء مكة، وجاء أنهم أحرقوه بالنار، فمر صلى الله عليه وسلم فأمر يده عليه، وقال: "يا نار كوني بردًا وسلامًا على عمار، كما كنت على إبراهيم"، "وكان الصديق إذا مر بأحد من العبيد يعذب" أراد ما يشمل الإناث لكونهن فيهم "اشتراه منهم" من سادتهم المعذبين لهم. "وأعتقه" ابتغاء وجه ربه الأعلى، "منهم" من العبيد الذين اشتراهم: "بلال" بن رباح براء مفتوحة فموحدة خفيفة فألف مهملة، الحبشي على المشهور، وهو ما رواه الطبراني وغيره عن أنس، وقيل: النوبي ذكر ابن سعد أنه كان من مولدي السراة، وكان مولى بعض بني جمح، ثم مولى الصديق. روى ابن أبي شيبة بسند صحيح عن قيس بن أبي حازم أن أبا بكر اشتراه(1/496)
وعامر بن فهيرة.
وعن أبي ذر: كان أول من أظهر الإسلام سبعة: رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر وعمار وأمه سمية وصهيب وبلال والمقداد......................
__________
بخمس أواق وهو مدفون بالحجارة، "وعامر بن فهيرة" بضم الفاء وفتح الهاء وإسكان التحتانية وفتح الراء فتاء تأنيث، أسلم قديمًا.
روى الطبراني عن عروة: أنه كان ممن يعذب في الله، فاشتراه أبو بكر وأعتقه، وكذا اشترى أبا فكيهة. ذكر ابن إسحاق: أنه أسلم حين أسلم بلال فعذبه أمية بن خلف، فاشتراه أبو بكر فأعتقه، واشترى أيضًا حمامة بفتح المهملة وخفة الميم، أم بلال وجارية بني المؤمل، قال في الإصابة: وردت في غالب الروايات غير مسماة وسماها البلاذري لبينة، أي: بلام وموحدة تصغير لبنة، والنهدية وابنتها وزبيرة وأمة بني زهرة.
"وعن أبي ذر: كان أول من أظهر الإسلام" إظهارًا تامًا لا خفاء معه بحيث لا يبالي بمن علم به "سبعة" فلا ينافي إسلام كثيرين غيرهم، وإظهار بعضهم لبعض خفاء "رسول الله صلى الله عليه وسلم" ودعا إلى الله وليس ثم من يوحده وهذا من أقوى شجاعته، "وأبو بكر" وكانت له اليد العليا في الإسلام وعادى قومه بعدما كان محببًا فيهم، ودفع عن المصطفى قولا ويدًا ودعا إلى الله، وحسبه أن فضلاء الصحابة أسلموا على يده. "وعمار" بن ياسر المملوء إيمانًا الصابر على البلوى أولا وآخرًا، المجاهد في الله حق جهاده.
وروى الطبراني في الكبير عنه: قاتلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الجن والإنس, أرسلني إلى بئر بدر فلقيت الشيطان في صورة الإنس فصارعني فصرعته، فجعلت أدقه بفهير أو حجر معي، فقال صلى الله عليه وسلم: "عمار لقي الشيطان عند البئر فقاتله"، فرجعت فأخبرته، فقال: "ذاك الشيطان". "وأمه سمية" بنت سلم، قاله ابن سعد. وقال شيخه الواقدي: بنت خاط بمعجمة مضمومة وموحدة ثقيلة، ويقال: بمثناة تحتية، وعند الفاكهي: بنت خبط بفتح أوله بلا ألف مولاة أبي حذيفة بن المغيرة، وكان ياسر حليفًا له فزوجه سمية فولدت عمارًا، فأعتقه.
"وصهيب" بضم الصاد المهملة وفتح الهاء وتحتية ساكنة فموحدة، ابن سنان الرومي مولى عبد الله بن جدعان أسلم هو وعمار في يوم واحد بعد بضع وثلاثين رجلا على يد المصطفى ومكثا عنده بقية يومهما، ثم خرجا مستخفين فدخل عمار على أبويه، فسألاه أين كان، فأخبرهما بإسلامه وقرأ عليهما ما حفظ من القرآن في يومه ذلك، فأعجبهما فأسلما على يده، فكان صلى الله عليه وسلم يسميه الطيب المطيب.
"وبلال" المؤذن "والمقداد" بن عمرو المعروف بابن الأسود؛ لأنه تبناه, شهد بدرًا(1/497)
فأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنعه الله بعمه أبي طالب، وأما أبو بكر فمنعه الله بقومه، وأما سائرهم فأخذهم المشركون ليعذبونهم فألبسوهم أدراع الحديد وصهروهم في الشمس، وإن بلالا هانت نفسه عليه في الله عز وجل، وهان على قومه، فأخذوه فأعطوه الولدان فجعلوا يطوفون به في شعاب مكة، وهو يقول: أحد أحد. رواه أحمد في مسنده.
وعن مجاهد مثله، وزاد في قصة بلال: وجعلوا في عنقه حبلا....................
__________
والمشاهد كلها. "فأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنعه الله" من أذية الكفار البالغة المتوالية، فلا ينافي وطء عتبة رقبته وسب أبي جهل، ونحو ذلك.
"بعمه أبي طالب" وبغيره كبعث جبريل في صورة فحل ليلتقم أبا جهل لما أراد أذاه، ورؤيته أفق السماء سد عليه لما نذر أن يطأ عنقه الشريف، ورؤيته رجالا عن يمينه وعن شماله معهم رماح، حتى قال: لو خالفته لكانت إياها، أي: لأتوا على نفسه لما أخذ صلى الله عليه وسلم بظلامة الزبيدي في جماله التي كان أكسدها عليه وظلمه، فأقبل إليه المصطفى، وقال: "يا عمرو، إياك أن تعود لمثل ما صنعت، فترى مني ما تكره" فجعل يقول: لا أعود لا أعود، كما بين في الأخبار، وكستر ملك له بجناحه لما أرادته امرأة أبي لهب فلم تره، وغير ذلك من الآيات البينات.
"وأما أبو بكر فمنعه الله بقومه" من الأذى المتوالي "وأما سائرهم" أي: باقيهم، "فأخذهم المشركون يعذبونهم فألبسوهم أدراع الحديد" جمع درع ولعل الإضافة للاحتراز عن نحو القمص، "وصهروهم" بفتح الهاء مخففًا طرحوهم، "في الشمس" لتؤثر حرارتها فيهم "وإن بلالا" بكسر الهمزة استئناف، "هانت نفسه عليه في الله عز وجل" فلم يبال بتعذيبهم، وصبر على أذاهم، "وهان على قومه" أي: مواليه، "فأخذوه فأعطوه الولدان" جمع وليد "فجعلوا يطوفون به في شعاب مكة، وهو يقول: أحد أحد" قال البرهان: مرفوع منون كذا أحفظه، وكذا هو في أصلنا من سنن ابن ماجه خبر مبتدأ محذوف، أي: الله أحد، كأنه يشير إلى أني لا أشرك بالله شيئا، ويحتمل أنه مرفوع غير منون، أي: يا أحد، قال شيخنا: وأما النطق به حكاية لكلام بلال، فالظاهر أنه بالسكون لكونه موقوفًا عليه غير موصول بما يقتضي تحريكه، "رواه أحمد في مسنده، وعن مجاهد مثله.
وفيه: أنه نزل فيهم {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ} [النحل: 110، 119] الآية، وأخرجه بقي بن مخلد في مسنده، لكنه أبدل المقداد بخباب، "وزاد" مجاهد "في قصة بلال، وجعلوا في عنقه حبلا(1/498)
ودفعوه إلى الصبيان يلعبون به حتى أثر الحبل في عنقه.
فانظر كيف فعل ببلال ما فعل من الإكراه على الكفر، وهو يقول: أحد أحد، فمزج مرارة العذاب بحلاوة الإيمان، وهذا كما وقع له أيضًا عند موته، كانت امرأته تقول: واحرباه وهو يقول: واطرباه. غدا ألقى الأحبة محمدًا وصحبه، فمزج مرارة الموت بحلاوة اللقاء. ولله در أبي محمد الشقراطسي حيث قال:
لاقى بلال بلاء من أمية قد ... أحله الصبر فيه أكرم النزل
إذ أجهدوه............... ... ........................
__________
ودفعوه إلى الصبيان يلعبون به حتى أثر الحبل في عنقه" ليرجع إلى الكفر والله يعيذه وحسبه بهذا منقبه، قال عمر: أبو بكر سيدنا وأعتق سيدنا، وقال صلى الله عليه وسلم لبلال: "سمعت دق نعليك في الجنة"، رواهما البخاري.
"فانظر كيف" تأمل صفته مع صبره، فليست كيف للاستفهام أو هي بتقدير مضاف، أي: انظر جواب السائل عن حاله، بقوله: كيف، "فعل ببلال ما فعل من الإكراه على الكفر" بيان لما "وهو يقول: أحد أحد، فمزج" خلط "مرارة العذاب" مشقته وألمه" بحلاوة الإيمان" أي: الراحة الحاصلة به فهو استعارة تصريحية فشبه تحمله ألم العذاب بمن خلط الصبر ونحوه بنحو سكر فسهل عليه تناوله على أن في كون هذه الحلاوة حقيقية لأولياء الله أو استعارة خلافًا بسطه المصنف في مقصد المحبة.
"وهذا كما وقع له أيضًا عند موته كانت امرأته تقول: واحرباه" روي بفتح الحاء والراء المهملتين والموحدة من الحرب بالتحريك، وهو كما في النهاية نهب مال الإنسان وتركه لا شيء له، وبفتح الحاء والزاي ونون وبضم الحاء وسكون الزاي، وروي: واحوباه بفتح الحاء وسكون الواو فموحدة من الحرب وهو الإثم، والمراد ألمها بشدة جزعها وقلقها في المصيبة أو من الحوبة بمعنى رقة القلب وهو تكلف، كما في النسيم.
"وهو يقول: واطرباه" أي: فرحاه، "غدا ألقى الأحبة" الذين طال شوقي إليهم، "محمدًا وصحبه فمزج مرارة الموت بحلاوة اللقاء، ولله در أبي محمد الشقراطسي، حيث قال" في قصيدته المشهورة: "لاقى بلال بلاء من أمية قد" وروى إذا "أحله" من الحلول بالمكان، "الصبر فيه" أي: أحله الصبر على البلاء الذي كان يعذب به لما أسلم ليرجع عن دينه فما أعطاهم كلمة مما يريدون، ففي بمعنى على، "أكرم" بالنصب على الظرف مواضع "النزل" وهو طعام الضيف الذي يكرم به إذا نزل وأكرم تلك المواضع هو الجنة، قال تعالى: {الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ} [فاطر: 35] ، وفسر ما لاقاه، بقوله: "إذ" ظرف لقوله: لاقى أو أحله، "أجهدوه" حملوه(1/499)
...... بضنك الأسر وهو على ... شدائد الأزل ثبت الأزر لم يزل
ألقوه بطحا برمضاء البطاح ... وقد عالوا عليه صخورًا جمة الثقل
فوحد الله إخلاصًا وقد ظهرت ... بظهره كندوب الطل في الطلل
إن قد ظهر ولي الله من دبر ... قد قد قلب عدو الله من قبل
__________
فوق طاقته من العذاب من الجهد وهو المشقة "بضنك" ضيق "الأسر وهو على شدائد الأزل" بفتح الهمزة وبالزاي واللام الحبس والتضييق، "ثبت" مصدر بمعنى اسم الفاعل "الأزر" بزاي فراء القوة، أي: ثابت القوة، "لم يزل" بفتح الزاي من زال أخت كان وبضمها، أي: لم يزل عن ذلك وبين سبب ذلك بقوله: "ألقوه بطحًا" مفعول مطلق، أي: إلقاء هو بطح على وجهه أو حال من ضمير الفاعل، أي: باطحين أو المفعول، أي: مبطوحًا "برمضاء" بفتح الراء وسكون الميم وضاد معجمة ممدود، أي: بأرض اشتد وقع الشمس فيها سواء كان بها رمل أو حصى أو غيرهما، قاله أبو شامة.
وفي النور الرمضاء الرمل إذا اشتدت حرارته، "البطاح" جمع بطحاء أبو أبطح على غير القياس إذ قياس أبطح وبطحاء بطحاوات والكل مستعمل والإضافة من الأعم إلى الأخص كشجر أراك، أي: في أرض شديدة الحر، هو أودية واسعة، "وقد عالوا" مثل أعلوا، أي: رفعوا، "عليه صخورًا جمة الثقل" أي: كثيرته وألقوها عليه.
وأخرج الزبير بن بكار وأبو الفتح اليعمري عن عروة، قال مر ورقة بن نوفل على بلال وهو يعذب يلصق ظهره برمضاء البطحاء في الحر، وهو يقول: أحد أحد، فقال: يا بلال صبرًا يا بلال صبرًا، لم تعذبونه فوالذي نفسي بيده لئن قتلتموه لأتخذنه حنانًا، يقول: لأتمسحن به واستأنف قوله: "فوحد الله" حال كون توحيده "إخلاصًا" أو هو مفعول مطلق في موضع توحيد إلا أنه بمعنى يوحد، قال أبو شامة: ويجوز أن يكون فوحد الله في موضع الحال من القوه أو من عليه، أي: في حال توحيده لله. ورده شيخنا بأن الحال لا تقع جملة إلا خبرية غير مصدرة بعلم استقبال مرتبطة بالواو والضمير أو بالواو فقط، كما هو مقرر.
"و" الحال أنه "قد ظهرت بظهره كندوب" جمع ندب بفتح الدال، أي: آثار، وقيل: أثر الجرح إذا لم يرتفع عن الجلد، "الطل" المطر الضعيف "في الطلل" ما شخص من آثار الديار على وجه الأرض وقد يعبر به عن محل القوم ومنزلهم وهو مراده هنا، فكأنه يقول: أثر التعذيب في ظهره؛ كما أثر المطر في الأطلال فخدد أرضها ومحا وسومها، قاله الطرابلسي.
قال أبو شامة: وإذا كان المطر ضعيفًا ظهرت آثار نقطه في الأرض. "إن قد ظهر ولي لله من دبر قد قد قلب عدو الله من قبل" فيه كما قال أبو شامة: من البديع اللفظي والمعنوي ذكر(1/500)
يعني إن كان ظهر ولي الله بلال قد ظهر فيه التعذيب بقده، فقد جوزي عدو الله أمية وقد قلبه ببدر، لأنه قتل يومئذ، وكان عبد الرحمن بن عوف قد أسره يومئذ وأراد استبقاء لأخوة كانت بينهما في الجاهلية، فرآه بلال معه فصاح بأعلى صوته يا أنصار الله رأس الكفر أمية بن خلف، لا نجوت إن نجا..................
__________
المتصفين في الآيتين إن كان قميصه قد من قبل وإن كان قميصه قد من دبر، وجعل صفة بلال الصفة التي كان عليها نبي الله يوسف، والصفة المكروهة صفة الكافر أمية، فأضاف إلى كل ما يليق بحاله والتجانس بين قد وقد، وبين قلب عدو الله ومن قبل، وذكره للقلب دون غيره من أعضاء الجسد مبالغة في تقطيعه بالسيوف، أي: أنها وصلت إلى قلبه فقدته، والمقابلة بين ولي الله وعدو الله وظهر وقلب إذ القلب من أعضاء الباطن والظهر بخلافه، والإشارة بقوله: من دبر إلى أن تعذيبه، كانت صورته صورة من أتى من ورائه غيلة؛ لأنه عذب بعد أن بطح وألقي عليه الصخر، وعدو الله أتى من قبل وجهه لا غيلة ولا خديعة. "يعني: إن كان ظهر ولي الله بلال قد ظهر فيه التعذيب بقده فقد جوزي عدو الله أمية وقد قلبه ببدر؛ لأنه قتل يومئذ" وكان السيف وصل إلى قلبه فقده؛ كما مر؛ وأشار إلى أن حذف الفاء للضرورة؛ لأنه من المواضع التي يجب اقتران الجواب فيها بالفاء؛ لأن الشرط ماض مقرون بقد، وبه جزم الطرابلسي.
وقال أبو شامة: أو هو جواب قسم محذوف، فلا تلزم الفاء نحو: وإن أطعتموهم إنكم لمشركون لكن حذف لام القسم، أي: لقد قد، فجواب الشرط محذوف؛ لأنه إذا قدر القسم قبله يكون ما اجتمع فيه الشرط والقسم فيحذف جواب المتأخر منهما؛ قال: ويجوز أنه عبر بقد قلبه عن همه ووجعه وتألمه وجزعه بإخبار سعد بن معاذ إياه بمكة أن النبي صلى الله عليه وسلم يقتله، ففزع لذلك فزعًا شديدًا ولم يخرج لبدر إلا كرهًا؛ كما في الصحيح. أو عبر بقد قلبه عن انفلاقه وتقطعه حسرة وغيظًا لمشاهدته قتل صناديدهم يوم بدر، واختلال أمرهم وعلو كلمة الإسلام وأسره هو ثم قتله وعذاب بلال كان غير مشعر بشيء من ذلك فكأنه من وراء وراء. وعذاب أمية مباشرة مواجهة، فقال فيه من قبل، وفي بلال من دبر، وهذا معنى دقيق، انتهى.
"وكان عبد الرحمن بن عوف قد أسره يومئذ وأراد استبقاءه لأخوة كانت بينهما في الجاهلية، فرآه بلال معه فصاح بأعلى صوته" وكان حسنًا نديًا فصيحًا، وما يروى سين بلال عند الله شين، أنكره الحافظ المزي وغيره، "يا أنصار الله" خصهم لمزيد اعتنائهم بالنصرة ومعاهدتهم المصطفى عليها، وخشية أن المهاجرين لا يعينونه عليه إكرامًا لعبد الرحمن، "رأس الكفر" قال السيوطي وغيره بالنصب على الإغراء والرفع على حذف المبتدأ، أي: هذا "أمية بن خلف لا نجوت إن نجا" وفي البخاري عن عبد الرحمن فلما خشيت أن يلحقونا خلفت لهم(1/501)
فنهسوه بأسيافهم حتى قتلوه.
وأخرج البيهقي عن عروة أن أبا بكر أعتق ممن كان يعذب في الله سبعة منهم: الزنيرة، فذهب بصرها، وكانت ممن تعذب في الله، فتأبى إلا الإسلام، فقال المشركون: ما أصاب بصرها إلا اللات والعزى فقالت: والله ما هو كذلك فرد الله عليها بصرها.
والزنيرة: بكسر الزاي وتشديد النون المكسورة، كسكينة: كما في القاموس.
__________
ابنه عليا لأشغلهم فقتلوه، ثم تبعونا وكان رجلا ثقيلا فلما أدركونا، قلت له: آبرك، فبرك فألقيت عليه نفسي لأمنعه "فنهسوه" تناولوه "بأسيافهم حتى قتلوه" ففيه استعارة تصريحية تبعية شبه ضربهم بالسيوف بالنهس بالمهملة أخذ اللحم بمقدم الأسنان للأكل وبالمعجمة أخذه بالأسنان والأضراس، وفي نسخة: فنهبوه بموحدة وهو استعارة أيضًا، شبه ما ذكر بالنهب وهو أخذ المال بالغلبة والقهر فظهر مصداق، وأعلم أن النصر مع الصبر صبر على تعذيبه له فكان قتله على يديه قبل، فهناه الصديق بأبيات منها:
هنيئًا زادك الرحمن فضلا ... فقد أدركت ثأرك يا بلال
"وأخرج البيهقي عن عروة: أنا أبا بكر أعتق ممن كان يعذب في الله سبعة" هم: بلال وعامر بن فهيرة وأم عنيس بعين مهملة مضمومة فنون، وقيل: بموحدة فتحتي فسين مهملة أمة لبني زهرة، كان الأسود بن عبد يغوث يعذبها، وزنيرة والنهدية وبنتها والمؤملية؛ كما في سيرة ابن هشام. وذكر ابن إسحاق أنه أعتق أبا فكيهة وابن عبد البر, وغيره أنه اعتق أم بلال، فاقتصار عروة على سبعة باعتبار ما بلغه فلا ينافي أنهم تسعة.
وأخرج الحاكم عن عبد الله بن الزبير، قال: قال أبو قحافة لأبي بكر: أراك تعتق رقابًا ضعافًا فلو أنك أعتقت رجالا جلدًا يمنعونك ويقومون دونك، فقال: يا أبة، إني إنما أريد له عند الله، فنزلت هذه الآية فيه: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى} [الليل: 5] ، إلى آخر السورة. "منهم الزنيرة" الرومية أمة عمر بن الخطاب أسلمت قبله، فكان يضربها "فذهب بصرها" عميت من شدة العذاب، "وكانت ممن يعذب في الله" وروى الواقدي أن عمر وأبا جهل كانا يعذبانها، "فتأبى إلا الإسلام" وكان أبو جهل يقول: ألا تعجبون إلى هؤلاء وأتباعهم لو كان ما أتى محمد خيرًا وحقًا ما سبقونا إليه، أفتسبقنا زنيرة إلى رشد.
وأخرج ابن المنذر عن عون أبي شداد، قال: كان لعمر أمة أسلمت قبله، يقال لها زنيرة فكان يضربها على إسلامها حتى يفتر، وكان كفار قريش يقولون: لو كان خيرًا ما سبقتنا إليه زنيرة، فأنزل الله في شأنها، {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا} [الأحقاف: 11] الآية، وروى نحوه ابن سعد عن الضحاك والحسن. "فقال المشركون: ما أصاب بصرها إلا اللات والعزى" وعند البلاذري، فقال لها أبو جهل: إنهما فعلا بك ما ترين، فيحتمل أنهم تبعوه(1/502)
"الهجرة الأولى إلى الحبشة":
ثم أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه في الهجرة للحبشة...............
__________
في قوله: "فقالت": وهي لا تبصر "والله ما هو كذلك" وما يدري اللات والعزى من يعبدهما، ولكن هذا أمر من السماء وربي قادر على أن يرد علي بصري، "فرد الله عليها بصرها" صبيحة تلك الليلة، فقالت قريش: هذا من سحر محمد، فاشتراها أبو بكر فأعتقها.
"والزنيرة بكسر الزاي وتشديد النون المكسورة" فتحتية فراء "كسكينة؛ كما في القاموس" قال الشامي: وهي لغة الحصاة الصغيرة، ويروى زنيرة بفتح الزاي وسكون النون فموحدة، انتهى.
وفي الإصابة: زنيرة بكسر الزاي وشد النون المكسورة بعدها تحتية ساكنة: الرومية ووقع في الاستيعاب زنيرة بنون وموحدة وزن عنبرة، وتعقبه ابن فتحون، وحكى عن مغازي الأموي بزاي ونون مصغرة من السابقات إلى الإسلام وممن يعذب في الله، انتهى. والله أعلم.
الهجرة الأولى إلى الحبشة:
"ثم أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه في الهجرة للحبشة" بالجانب الغربي من بلاد اليمن ومسافتها طويلة جدًا، وهم أجناس وجميع فرق السودان يعطون الطاعة لملك الحبشة ويقال أنهم من ولد حبش بن كوش بن حام، قال ابن دريد: جمع الحبش أحبوش بضم أوله، وأما قولهم الحبشة فعلى غير قياس، وقد قالوا أيضًا: حبشان وأحبش وأصل التحبيش التجميع، ذكره في فتح الباري.
وعند ابن إسحاق أن سبب الهجرة أنه صلى الله عليه وسلم لما رأى المشركين يؤذون أصحابه ولا يستطيع أن يكفهم عنهم، قال: "لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإن بها ملكًا لا يظلم عنده أحد، وهي أرض صدق حتى يجعل الله لكم فرجًا مما أنتم فيه". فخرجوا إليها مخافة الفتنة وفرارًا إلى الله بدينهم، فكانت أول هجرة في الإسلام.
وروى عبد الرزاق عن معمر عن الزهري، قال: لما كثر المسلمون وظهر الإسلام أقبل كفار قريش على من آمن من قبائلهم يعذبونهم ويؤذونهم ليردوهم عن دينهم فبلغنا أنه صلى الله عليه وسلم قال للمؤمنين: "تفرقوا في الأرض، فإن الله سيجمعكم"، قالوا: إلى أين نذهب؟ قال: "إلى هاهنا"، وأشار بيده إلى أرض الحبشة.(1/503)
وذلك في رجب سنة خمس من النبوة.
فهاجر إليها ناس ذوو عدد، منهم من هاجر بأهله، ومنهم من هاجر بنفسه، وكانوا أحد عشر رجلا, وقيل: اثنا عشر رجلا, وأربع نسوة, وقيل: وخمس نسوة، وقيل: وامرأتين.
__________
"وذلك في رجب" بالصرف ولو كان معينًا ففي المصباح رجب من الشهور مصروف، "سنة خمس من النبوة" كما قاله الواقدي، وزاد: فأقاموا شعبان وشهر رمضان وفيه كانت السجدة وقدموا في شوال من سنة خمس، "فهاجر إليها ناس ذوو عدد منهم من هاجر بأهله ومنهم من هاجر بنفسه، وكانوا أحد عشر رجلا" عثمان بن عفان، وعبد الرحمن، والزبير بن العوام، وأبو حذيفة بن عتبة هاربًا من أبيه بدينه، ومصعب، وأبو سلمة بن عبد الأسد، وعثمان بن مظعون، وعامر بن ربيعة، وسهيل بن بيضاء، وأبو سبرة بن أبي رهم، وحاطب بن عمر والعامريان، وابن مسعود، كذا قال الواقدي.
قال في الفتح: وهو غير مستقيم مع قوله أول كلامه: كانوا إحدى عشر، فالصواب ما قاله ابن إسحاق أنه اختلف في الحادي عشر هل هو أبو سبرة أو حاطب. وجزم ابن إسحاق بأن ابن مسعود إنما كان في الهجرة الثانية، ويؤيده ما عند أحمد بإسناد حسن عنه، قال: بعثنا النبي صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي ونحن نحو من ثمانين رجلا، انتهى. وقال أبو عمر: اختلف في هجرة أبي سبرة إلى الحبشة، ولم يختلف في شهوده بدرًا، قال في النور: ولم أر أحدًا سماه.
"وقيل: اثنا عشر رجلا" وجزم في العيون والحافظ في سيرته إلا أن الأول ترك الزبير وذكر سليط بن عمرو وأهمل الثاني حاطب بن عمرو وسهيل بن بيضاء، وذكر بدلهما حاطب بن الحارث وهاشم بن عمرو، "وأربع نسوة" السيدة رقية مع زوجها عثمان، وسهلة بنت سهيل مع زوجها أبي حذيفة مراغمة لأبيها فارة عنه بدينها فولدت له بالحبشة محمد بن أبي حذيفة، وأم سلمة مع زوجها، وليلى العدوية مع زوجها عامر بن ربيعة.
"وقيل: وخمس نسوة" هؤلاء الأربع وأم كلثوم بنت سهل بن عمرو زوج أبي سبرة، وبهذا جزم الحافظ اليعمري قائلا: لم يذكرها ابن إسحاق، وذكر ابن عبد البر وتبعه ابن الأثير في المهاجرات أم أيمن بركة الحاضنة. قال البرهان: وأظنها هاجرت مع رقية؛ لأنها جارية أبيها، انتهى. فلعل من أسقطها لكونها تبعًا.
"وقيل: وامرأتين" بالباء عطفًا على أحد عشر، وفي نسخة بالألف، أي: ومعهم امرأتان أو على لغة من يلزم المثنى الألف، وقيل: كانوا اثني عشر رجلا وثلاث نسوة، وقيل: عشرة رجال(1/504)
وأميرهم عثمان بن مظعون، وأنكر ذلك الزهري وقال: لم يكن لهم أمير، وخرجوا مشاة إلى البحر فاستأجروا سفينة بنصف دينار.
وكان أول من خرج عثمان بن عفان مع امرأته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخرج يعقوب بن سفيان بسند موصول إلى أنس قال: أبطأ على رسول الله صلى الله عليه وسلم خبرهما، فقدمت امرأة فقالت: قد رأيتهما وقد حمل عثمان امرأته على حمار، فقال:
__________
وأربع نسوة. "وأميرهم" قال ابن هشام: فيما بلغني "عثمان بن مظعون" بالظاء المعجمة "وأنكر ذلك الزهري" محمد بن مسلم "وقال: لم يكن لهم أمير" ويحتمل أنهم أمروه بعد سيرهم باختيارهم ولم يؤمر المصطفى عليهم أحدًا، فلا خلف. "وخرجوا" سرًا من مكة "مشاة" ثم عرض لبعضهم الركوب، وانتهوا في خروجهم "إلى البحر" فهو متعلق بمحذوف لا صلة مشاة أو غلب المشاة لكثرتهم على الراكبين، فلا تنافي بينه وبين قول العيون والمنتقى والسبل: فخرجوا متسللين سرًا حتى انتهوا إلى الشعبية منهم الراكب ومنهم الماشي، والشعبية بمعجمة مضمومة ومهملة مفتوحة ساكنة فموحدة فتاء تأنيث: واد، كما قال الصغاني والمجد؛ كما في النور وفي السبل: مكان على ساحل البحر بطريق اليمن، لكن وقع في بعض نسخة الشعبية بزيادة ياء بعد الموحدة وهو تحريف من النساخ لقوله تصغير شعبة، إذ تصغيره بلا ياء وهو الذي في الذيل والقاموس, "فاستأجروا سفينة" جزم به تبعًا لفتح الباري، والذي في العيون وغيرها: فوفق الله ساعة للمسلمين جاءوا سفينتين للتجارة حملوهم فيهما "بنصف دينار" وخرجت قريش في آثارهم حتى جاءوا البحر حيث ركبوا فلم يدركوا منهما أحدًا، ويحتمل الجمع بأنهم استأجروا سفينة واحدة لقلتهم فضاقت عنهم لشحنها بالتجار وتجارتهم، فحملوهم في اثنتين، واستئجار واحدة لا ينافي الحمل في اثنتين، وهذا أقرب من إمكان أنهم استأجروا صاحب السفينتين على حملهم إلى مقصودهم في السفينتين أو مجموعهما، فاتفق حملهم بواحدة، فالمصنف نظر إلى الحمل وغيره لما وقع عليه التوافق؛ لأن فيه قصر حملهم في واحدة وأتى به مع قولهم: حملوهم فيهما."وكان أول من خرج عثمان بن عفان مع امرأته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم" وقيل: حاطب بن عمرو، وقيل: سليط بن عمرو، حكاهما اليعمري هنا وذكر في أزواج المصطفى، وتبعه المصنف ثم أن أم سلمة وزوجها أول من هاجر، فهي أربعة أقوال.
"وأخرج يعقوب بن سفيان" الحافظ الفسوي بالفاء "بسند موصول إلى أنس" وأما بعده فمرسل صحابي "قال: أبطأ على رسول الله صلى الله عليه وسلم خبرهما فقدمت امرأة فقالت: قد رأيتهما وقد حمل عثمان امرأته على حمار، فقال" صلى الله عليه وسلم: "صحبهما الله"، كما في نفس رواية يعقوب قبل قوله: "إن عثمان لأول من هاجر بأهله بعد لوط" نبي الله هاجر من كوثي إلى حران ولما وصلوا الحبشة أقاموا عند النجاشي آمنين، وقالوا: جاورنا بها خير جار على ديننا وعبدنا الله لا نؤذى ولا(1/505)
إن عثمان لأول من هاجر بأهله بعد لوط.
فلما رأت قريش استقرارهم في الحبشة وأمنهم أرسلوا عمرو بن العاصي، وعبد الله بن أبي ربيعة بهدايا وتحف من بلادهم إلى النجاشي, واسمه أصحمة, وكان معهما عمارة بن الوليد، ليردهم إلى قومهم، فأبى ذلك وردهما خائبين ولم يقبل هديتهما.
__________
نسمع شيئًا نكرهه، "فلما رأت قريش استقرارهم في الحبشة وأمنهم أرسلوا عمرو بن العاصي" القرشي السهمي الصحابي أسلم بعد ذلك على يد النجاشي وهي لطيفة صحابي أسلم على يد تابعي، ولا يعلم مثله. "وعبد الله بن أبي ربيعة" عمر بن المغيرة المخزومي المكي أسلم بعد وصحب وكان حسن الوجه ولاه صلى الله عليه وسلم الجندي ومخالفيها فلما حوصر عثمان جاء لينصره فوقع عن راحلته بقرب مكة فمات. "بهدايا وتحف من بلادهم إلى النجاشي" بفتح النون وتكسر وخفة الجيم فياء ثقيلة وتخفف، لقب قديم لملك الحبشة، قال الحافظ. وأما اليوم فيقال له الحطي بفتح الحاء وكسر الطاء الخفيفة المهملتين وتحتانية خفيفة، "واسمه" كما في البخاري "أصحمة" بمهملتين بوزن أربعة، وفي مصنف ابن أبي شيبة: صحمة بحذف الهمزة، وحكى الإسماعيلي أصخمة بخاء معجمة، وقيل: أصحبة بموحدة بدل الميم، وقيل: صحبة بلا ألف، وقيل: مصحمة، بميم أوله بدل الهمزة ابن أبجر، وقيل: اسمه مكحول بن صصة، قال مغلطاي. ولقب ملك الترك خاقان، والروم قيصر واليمن تبع، واليونان بطليوس، واليهود القيطون، فيما قيل والمعروف مالخ، وملك الصابئة النمروذ ودهمز، وملك الهند يعفور، والزنج زغانة، ومصر والشام فرعون، فإن أضيف إليهما الإسكندرية سمي العزيز، ويقال المقوقس، ولملك العجم كسرى، ولملك فرغانة الأخشيد، ومل العرب من قبل العجم النعمان، وملك البربر جالوت.
"وكان معهما عمارة بن الوليد" بن المغيرة المخزومي، والذي في العيون: وكان عمرو بن العاصي رسولا في الهجرتين ومعه في أحداهما عمارة وفي الأخرى عبد الله، ثم قال في الهجرة الثانية ولم يذكر ابن إسحاق مع عمرو إلا عبد الله في رواية زياد. وفي رواية ابن بكير لعمارة ذكر. وفي الشامية: الصحيح أن في الأولى عمارة, وفي الثانية عبد الله، انتهى. وهو خلاف ما اقتصر عليه الحافظ في سيرته من أن عمرًا وعمارة ذهبا في الهجرة الثانية، انتهى. ورواه أحمد عن ابن مسعود "ليردهم" أي: ليرد النجاشي المهاجرين "إلى قومهم، فأبى ذلك وردهما" أي: عمرًا وعبد الله "خائبين" لم يجبهما إلى ما طلبا "ولم يقبل هديتهما" ولم يذكر عمارة لأنه تبع لهما، لا لما تقدم أنه توحش ولم يعد لأن المتقدم إنما هو في الهجرة الثانية، نعم على ما صححه الشامي إن ثبت يكون المعنى لم يجبهما، وزاد عمارة: خيبة بفعله ذلك معه.(1/506)
باب الفهرس:
3 ترجمة شهاب الدين أحمد بن محمد القسطلاني
6 التعريف بالمواهب اللدنية
8 ترجمة الزرقاني
9 المقدمة
11 شرح مقدمة المواهب
40 محتوى الكتاب: المقصد الأول
42 محتوى الكتاب: المقصد الثاني
43 محتوى الكتاب: المقصد الثالث
44 محتوى الكتاب: المقصد الرابع والخامس
45 محتوى الكتاب: المقصد السادس
46 محتوى الكتاب: المقصد السابع
47 محتوى الكتاب: المقصد الثامن والتاسع
48 محتوى الكتاب: المقصد العاشر
50 المقصد الأول في تشريف الله تعالى له عليه الصلاة والسلام
156 عام الفيل وقصة أبرهة
190 ذكر تزوج عبد الله آمنة
236 الاختلاف في شختنه
243 وقد اختلف في عام ولادته صلى الله عليه وسلم
257 وفي مدة حمله
258 ذكر رضاعة صلى الله عليه وسلم وما معه
289 ذكر خاتم النبوة
307 ذكر وفاة أمه وما يتعلق بأبويه صلى الله عليه وسلم
370 تزوجه عليه السلام خديحة
379 بنيان قريش الكعبة
385 باب مبعث النبي صلى الله عليه وسلم(1/509)
420 مراتب الوحي
444 ذكر أول من آمن بالله ورسوله
477 إسلام حمزة
503 الهجرة الأولى إلى الحبشة(1/510)
المجلد الثاني
تابع المقصد الأول في تشريف الله تعالى له عليه الصلاة والسلام
إسلام الفاروق
...
تابع المقصد الأول في تشريف الله تعالى له عليه الصلاة والسلام:
بسم الله الرحمن الرحيم
"إسلام الفاروق":
وأسلم عمر بن الخطاب بعد حمزة بثلاثة أيام فيما قاله أبو نعيم بدعوته صلى الله عليه وسلم: "اللهم أعز الإسلام بأبي جهل أو بعمر بن الخطاب"
__________
إسلام عمر الفاروق:
"وأسلم عمر بن الخطاب" بن نفيل بن عبد العزي بن رياح بكسر الراء وتحتية، وقيل: بكسرها وموحدة، وهو بعيد ابن عبد الله بن قرط بضم القاف وإسكان الراء وطاء مهملة، ابن رزاح بفتح الراء والزاي، كما قاله الدارقطني وابن ماكولا وخلق، وقيل: بكسر الراء ابن عدي بن كعب بن لؤي بن غالب يجتمع مع النبي صلى الله عليه وسلم في كعب، قال في الفتح: وعدد ما بينهما من الآباء متفاوت بواحد فبين المصطفى وكعب سبعة آباء، وبينه وبين عمر ثمانية، قال ابن إسحاق: أسلم عقب الهجرة الأولى إلى الحبشة، وذكر ابن سعد عن ابن المسيب في ذي الحجة سنة ست من المبعث، وحكى عليه ابن الجوزي في بعض كتبه الاتفاق
لكنه قال في التلقيح: سنة ست، وقيل: سنة خمس.
"بعد حمزة بثلاثة أيام" لا أشهر كما قيل، "فيما قاله أبو نعيم" لأنه قد رواه عن ابن عباس، قال: سألت عمر عن إسلامه، قال: خرجت بعد إسلام حمزة بثلاثة أيام فذكر القصة وهو موافق لما حكاه ابن سعد. أما على قول ابن إسحاق، فلا يجيء لأن الهجرة في الخامسة وإسلام حمزة في السادسة، كما أنه لا يأتي على القول بأن إسلام حمزة في الثانية بالنون "بدعوته صلى الله عليه وسلم" كما رواه الترمذي عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اللهم أعز الإسلام بأبي جهل" بن هشام "أو بعمر بن الخطاب"، قال: فأصبح فغدا عمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم، ورواه أبو نعيم من وجه آخر عن ابن عمر، قال: قال صلى الله عليه وسلم "اللهم أعز الإسلام بأحب الرجلين إليك عمر أو بأبي جهل"، وأخرجه خيثمة في فضل الصحابة من حديث علي به، والحاكم عن ابن مسعود بلفظ: أيد بدل جهل.
وفي حديث خباب عند البزار مرفوعا: "اللهم أيد الإسلام بأبي الحكم بن هشام أو(2/3)
وكان المسلمون إذ ذاك بضعة وأربعين رجلا، وإحدى عشرة إمرأة.
وكان سبب إسلامه -فيما ذكره أسامه بن زيد عن أبيه عن جده عن......
__________
بعمر بن الخطاب"، فيمكن أنه قال هذا مرة وهذا أخرى، ودعوى أن بأبي جهل رواية بالمعنى لا تصح؛ لأنها رد للروايات المتعددة الطرق لرواية واحدة. وأخرج الحاكم وصححه عن نافع عن ابن عمر عن ابن عباس رفعه: "اللهم أيد الإسلام بعمر بن الخطاب خاصة"، وأخرجه ابن ماجه وابن حبان والحاكم، وقال: صحيح على شرط الشيخين، وأقره الذهبي من حديث عائشة وجمع ابن عساكر لأنه صلى الله عليه وسلم دعا بالأول أولا، فلما أوحى إليه أن أبا جهل لن يسلم خص عمر بدعائه، انتهى. ثم بحديث عائشة هذا الصحيح يرد ما نقل عن الدارقطني أن عائشة قالت: إنما قال صلى الله عليه وسلم: "اللهم أعز عمر بالإسلام"؛ لأن الإسلام يعز ولا يُعز. وقد قال السخاوي: ما زعمه أبو بكر التاريخي أن عكرمة سئل عن قوله: "اللهم أيد الإسلام"، فقال: معاذ الله دين الإسلام أعز من ذلك، ولكنه قال: "اللهم أعز عمر بالدين، أو أبا جهل"، فأحسبه غير صحيح، انتهى.
وفي الدر قد اشتهر هذا الحديث الآن على الألسنة، بلفظ: "بأحب العمرين"، ولا أصل له في شيء من طرق الحديث بعد الفحص البالغ.
"وكان المسلمون إذ ذاك بضعة" بكسر الباء وقد تفتح من ثلاثة إلى سبعة ولا تستعمل فيما زاد على عشرين إلا عند بعض المشايخ، كما في المصباح. "وأربعين رجلا" كما قاله السهيلي، زاد: "وإحدى عشرة امرأة" لكنه مخالف لقول فتح الباري في مناقب عمر: روى ابن أبي خيثمة عن عمر: لقد رأيتني وما أسلم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا تسعة وثلاثون، فكملتهم أربعين فأظهر الله دينه وأعز الإسلام. وروى البزار نحوه من حديث ابن عباس، وقال فيه: فنزل جبريل، فقال: أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين، انتهى. اللهم إلا أن يكون عمر لم يطلع على الزائد؛ لأن غالب من أسلم كان يخفيه خوفا من المشركين لا سيما وقد كان عمر عليهم شديدا، فلذا أطلق أنه كملهم أربعين، ولم يذكر النساء؛ لأنه لا إعزاز بهن لضعفهن.
"وكان سبب إسلامه فيما ذكره أسامة بن زيد" بن أسلم العدوي مولاهم المدني ضعيف من قبل حفظه مات في خلافة المنصور وروى له ابن ماجه "عن أبيه" زيد بن أسلم العدوي مولاهم المدني أبو أسامة أو أبو عبد الله الفقيه العالم المفسر الثقة الحافظ التابعي المتوفى سنة ست وثلاثين ومائة.
روى له الستة، "عن جده" أسلم مولى عمر اشتراه سنة إحدى عشرة كنيته أبو خالد، ويقال: أبو زيد التابعي الكبير، قيل: إنه من سبي عين النمر، وقيل: حبشي روى عن مولاهم والصديق ومعاذ، قال أبو زرعة: ثقة مات سنة ثمانين وهو ابن أربع عشرة ومائة سنة، أخرج له الجماعة "عن(2/4)
عمر- أنه قال: بلغني إسلام أختي، فدخلت عليها، فقلت يا عدوة نفسها، قد بلغني عنك أنك صبوت، ثم ضربتها، فسال الدم، فلما رأت الدم بكت وقالت: يابن الخطاب ما كنت فاعلا فافعل فقد أسلمت.
قال: فدخلت وأنا مغضب، فإذا كتاب في ناحية.................
__________
عمر، أنه قال: بلغني" من نعيم بن عبد الله النجام القرشي الصحابي؛ كما في رواية ابن إسحاق، وجزم به ابن بشكواك، وقال: إن في كلام أبي القسم البغوي شاهده أو من سعد بن أبي وقاص؛ كما في الصفوة ويحتمل أن يكونا معا بلغاه ذلك في سيره مريدا قتل النبي، كما اتفق مع قريش على ذلك "إسلام أختي" فاطمة عند الأكثر، وقيل: أميمة، حكاه الدارقطني قال في الإصابة: فكأن اسمها فاطمة ولقبها أميمة وكنيتها أم جميل، وقيل: اسمها رملة لها حديث أخرجه الواقدي عن فاطمة بنت الخطاب أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: "لا تزال أمتي بخير ما لم يظهر فيهم حب الدنيا في علماء فساق وقراء جهال، وجوره فإذا ظهرت خشيت أن يعمهم الله بعقاب".
وحذف المصنف صدر حديث أسلم، فلفظه: قال لنا عمر: أتحبون أن أعلمكم كيف كان بدو إسلامي؟ قلنا: نعم، قال: كنت من أشد الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبينما أنا في يوم حار شديد الحر بالهاجرة في بعض طرق مكة، إذ لقيني رجل من قريش، فقال: أين تذهب؟ إنك تزعم أنك هكذا وقد دخل عليك هذا الأمر في بيتك، قلت: وما ذاك؟ قال: أختك قد صبأت، فرجعت مغضبا وقد كان صلى الله عليه وسلم يجمع الرجل والرجلين إذا أسلما عند رجل به قوة فيكونان معه ويصيبان من طعامه، وقد ضم إلى زوج أختي رجلين، فجئت حتى قرعت الباب، فقيل: من هذا؟ قلت: ابن الخطاب، قال: وكان القوم جلوسا يقرءون صحيف معهم فلما سمعوا صوتي تبادروا واختلفوا، أو قال: نسوا الصحيفة من أيديهم، فقامت المرأة معهم فلما سمعوا صوتي تبادروا واختفوا، أو قال: نسوا الصحيفة من أيديهم، فقامت المرأة ففتحت لي "فدخلت عليها، فقلت: يا عدو نفسها، قد بلغني عنك أنك صبوت" أي: خرجت من دينك "ثم ضربتها" وفي الصفوة: فوثب عمر على ختنه سعيد بن زيد وبطش بلحيته وضرب به الأرض وجلس على صدره، فجاءته أخته لتكفه عن زوجها فلطمها لطمة شج بها وجهها، "فسال الدم، فلما رأت الدم بكت" وغضب "وقالت" زاد في الصفوة: أتضربني يا عدو الله على أن أوحد الله، لقد أسلمنا على رغم أنفك، "يابن الخطاب، ما كنت فاعلا فافعل فقد أسلمت".
وفي رواية ابن عباس عن عمر عند ابن عساكر والبيهقي: فوجدت همهمة فدخلت فقلت: ما هذا؟ فما زال الكلام بيننا حتى أخذت برأس ختني فضربته وأدميته، فقامت إلي أختي فأخذت برأسي، وقالت: قد كان ذلك على رغم أنفك، فاستحييت حين رأيت الدماء "قال: فدخلت وأنا مغضب" زاد في الرواية: على السرير فنظرت "فإذا كتاب في ناحية" جانب من جوانب(2/5)
البيت، فإذا فيه {بسم الله الرحمن الرحيم} فلما مررت بالرحمن الرحيم ذعرت ورميت بالصحيفة من يدي، ثم رجعت فإذا فيها {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} حتى بلغت {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِه} [الحديد: 7] فقلت: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله.
__________
"البيت" أسقط من رواية أسلم: فقلت: ما هذا الكتاب؟ أعطينيه، فقالت: لا أعطيكه، لست من أهله أنت لا تغتسل من الجناية ولا تطهر، وهذا لا يمسه إلا المطهرون، قال: فلم أزل بها حتى أعطتنيه. وفي الصفوة: قال: أعطوني هذا الكتاب أقرؤه، وكان عمر يقرأ الكتب، قالت أخته: لا أفعل، قال: ويحك وقع في قلبي مما قلت، فأعطينيها أنظر إليها وأعطيك من المواثيق أن لا أخونك حتى تحوزها حيث شئت، قالت: إنك رجس، فانطلق فاغتسل أو توضأ فإنه كتاب لا يمسه إلا المطهرون فخرج ليغتسل، فخرج ليغتسل، فخرج خباب، فقال: أتدفعين كتاب الله إلى كافر، قالت: نعم، إني أرجو أن يهدي الله أخي، فدخل خباب البيت وجاء عمر فدفعته إليه "فإذا فيه: {بسم الله الرحمن الرحيم} ، فلما مررت بالرحمن الرحيم ذعرت" بضم الذال المعجمة وكسر المهملة أفزعت، زاد في رواية البزار: فجعلت أفكر من أي شيء اشتق "ورميت بالصحيفة من يدي، ثم رجعت" لفظ الرواية: ثم رجعت إلى نفسي، أي: فأخذت الصحيفة "فإذا فيها: {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [الحديد: 1] ، زاد البزار: فجعلت أقرأ وأفكر "حتى بلغت {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِه} كما في الروض. ولفظ رواية غيره: فإذا فيها {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الحديد: 7] ، هذا لفظ رواية البزار كما في الروض. ولفظ رواية غيره: فإذا فيها {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الحديد: 1] ، فكلما مررت باسم من أسماء الله ذعرت ثم ترجع إليَّ نفسي، حتى بلغت {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} [الحديد: 7] إلى قوله تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِين} [الحديد: 8] ، "فقلت: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله".
وفي رواية ابن عساكر وأبي نعيم عن ابن عباس والدارقطني عن أنس كلاهما عن عمر، فقلت: أروني هذا الكتاب، فقالوا: إنه لا يمسه إلا المطهرون، فقمت فاغتسلت فأخرجوا لي صحيفة فيها: بسم الله الرحمن الرحيم، فقلت: أسماء طيبة طاهرة، {طه، مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} [طه: 1، 2] إلى قوله تعالى: {لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [طه: 8] ، فعظمت في صدري، وقلت: من هذا فرت قريش، فأسلمت.
وعند الدارقطني: فقام فتوضأ ثم أخذ الصحيفة، وكذا ذكره ابن إسحاق: وأنه تشهد لما بلغ فلا يصدنك عنها. وزاد يونس عنه: أنه كان فيها مع سورة طه {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} [التكوير: 1] ، وأن عمر انتهى في قراءتها إلى قوله تعالى: {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَت} [التكوير:(2/6)
فخرج القوم يتبادرون بالتكبير استبشارا بما سمعوه مني، فجئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت في أسفل الصفا، فدخلت عليه وأخذ رجلان، بعضدي حتى دنوت.....................
__________
14] ، فيمكن أنه توضأ ثم اغتسل أو عكسه، وأنه وجد السور الثلاث في صحيفة أو صحيفتين فقرأها وتشهد عقب بلوغ كل من الآيتين.
وفي الصفوة: فلما بلغ {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} [طه: 14] ، قال: ما ينبغي لمن يقول هذا أن يعبد معه غيره!! دلوني على محمد، "فخرج القوم" الذين كانوا عند أخته، يعني زوجها سعيد بن زيد وخباب بن الأرت أحد الرجلين اللذين ضمهما المصطفى إلى سعيد، وكان خباب يقرؤهم القرآن والرجل الثاني، قال في النور: لا أعرفه، "يتبادرون بالتكبير استبشارا بما سمعوه مني" وحمدوا الله، ثم قالوا: يابن الخطاب! أبشر فإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دعا يوم الاثنين، فقال: "اللهم أعز الإسلام بعمرو أو عمر"، وإنا نرجو أن تكون دعوته لك فأبشر، فلما عرفوا مني الصدق، قلت: أخبروني بمكانه -صلى الله عليه وسلم- قالوا: هو في أسفل الصفا. "فجئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت في أسفل الصفا" هي دار الأرقم الصحابي، كان صلى الله عليه وسلم مختفيا فيها بمن معه من المسلمين، قال المحب الطبري: ويقال لها اليوم دار الخيزران، وفي الصفوة: فقال عمر: يا خباب، انطلق بنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام خباب وسعيد عه.
وفي حديث أسلم: فقرعت الباب، قيل: من هذا؟ قلت: ابن الخطاب، قال: وقد عرفوا شدتي على رسول الله ولم يعلموا بإسلامي، فما اجترأ أحد منهم أن يفتح الباب، فقال صلى الله عليه وسلم: "فافتحوا له فإن يرد الله بخيرا يهده"، وأخرجه ابن عائذ من حديث ابن عمر، وقال: وهذا وهم إنما الذي قال: " فإن يرد الله به خيرا يهده وإلا كفيتموه بإذن الله حمزة" وتجويز أن الوهم إنما هو في نسبة قوله: "وإلا كفيتموه" للنبي صلى الله عليه وسلم فلا ينافي ما في الشامي من أن: "فإن يرد الله به خيرا يهده" من كلام المصطفى فيه نظر، إذ كيف يأتي هذا مع قول ابن عائذ: إنما الذي ... إلى آخره، والشامي: إنما هو في مقام سياق الحديث الذي حكم ابن عائذ على هذه القطعة منه بالوهم، ولذا حسن من المصنف إسقاطهما.
وفي رواية: فلما رأى حمزة وجل القوم منه، قال فإنه يرد الله به خيرا يسلم ويتبع النبي صلى الله عليه وسلم، وأن يرد غير ذلك كان قتله علينا هينا، والنبي صلى الله عليه وسلم يوحى إليه، ففتح الباب "فدخلت عليه وأخذ رجلان" قال البرهان: لا أعرفهما ولعل حمزة أحدهما؛ لأنه الذي أذن في دخوله، "بعضدي" بشد الياء تثنية عضد، وفي هامش: إن حمزة أخذ بيمينه والزبير بيساره "حتى دنوت(2/7)
من النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "أرسلوه"، فأرسلوني فجلست بين يديه، فأخذ بمجمع ثيابي فجذبني إليه ثم قال: "أسلم يابن الخطاب، اللهم اهد قلبه"، قلت: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، فكبر المسلمون تكبيرة واحدة سمعت بطرق مكة.
وكان الرجل إذا أسلم استخفى ثم خرجت إلى رجل لم يكن يكتم السر،
__________
من النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "أرسلوه"،" يفتح الهمزة: "فأرسلوني، فجلست بين يديه فأخذ بمجمع ثيابي" لفظ رواية أسلم: بمجمع قميصي، وعند ابن إسحاق، بحجزته أو بمجمع ردائه، "فجذبني إليه" جذبه شديدة؛ كما في الرواية، وفي رواية: فاستقبله النبي صلى الله عليه وسلم في صحن الدار، فأخذ بمجامع ثوبه وحمائل سيفه، وفي لفظ: أخذه ساعة وهزه فارتعد عمر من هيبته وجلس.
وفي آخر: أخذ بمجامع ثيابه فنثره فما تمالك أن وقع عمر على ركبته، وقال له: "فما أنت بمنته يا عمر حتى ينزل الله بك ما أنزل بالوليد بن المغيرة"، يعني الخزي والنكال ولعله صلى الله عليه وسلم فعل معه ذلك ليثبته الله على الإسلام ويلقي حبه الطبيعي في قلبه، ويذهب عنه رجز الشيطان، فكان كذلك حتى كان الشيطان يفر منه وليكون شديدا على الكفار وفي الدين، فصار كذلك.
وعند ابن إسحاق، فقال: "ما جاء بك يابن الخطاب؟ فوالله ما أرى أن تنتهي حتى ينزل الله بك قارعة"، فقال: يا رسول الله! جئت لأؤمن بالله وبرسوله وبما جاء من عند الله، "ثم قال" صلى الله عليه وسلم بعد اخذه بمجامع ثوبه وهزه، وقوله ما ذكر "أسلم يابن الخطاب، اللهم اهد قلبه" لفظ رواية أسلم اهده؛ كما في العيون والإرشاد للمصنف، فلعه هنا بالمعنى أو جمع بينهما.
وفي رواية: "اللهم هذا عمر بن الخطاب اللهم أعز الدين بعمر بن الخطاب" "قلت: أشهد أن لا إله إلا الله وانك رسول الله، فكبر المسلمون" بعد تكبير النبي صلى الله عليه وسلم، كما في رواية "تكبير واحدة سمعت بطرق مكة، وكان الرجل إذا أسلم استخفى" بإسلامه، زاد أبو نعيم وابن عساكر في رواية ابن عساكر عن عمر، فقلت: يا رسول الله! ألسنا على الحق إن متنا وإن حيينا؟ قال: "بلى، والذي نفسي بيده، إنكم على الحق إن متم وإن حييتم"، فقلت: ففيهم الخفاء يا رسول الله؟ علام نخفي ديننا ونحن على الحق وهم على الباطل؟ فقال: "يا عمر، إنا قليل قد رأيت ما لقينا"، وقال: والذي بعثك بالحق نبينا لا يبقي مجلس جلست فيه بالكفر إلا جلست فيه بالإيمان، ثم خرج في صفين أنا في أحدهما وحمزة في الآخر، حتى دخلنا المسجد فنظرت قريش إلينا فأصابتهم كآبة لم يصبهم مثلها، فسماه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يومئذ الفاروق "ثم خرجت" فذهبت بعد كراهتي عدم ضربي كمن آمن وإخباري لخالي ورجل من عظماء قريش بإسلامي وقول رجل، قال في النور: لا أعرفه، ويظهر أنه مسلم: تحب أن يعلم إسلامك، فأرشدني "إلى رجل لم يكتم السر" هو جميل بفتح الجيم وكسر الميم، ابن معمر بفتح الميم بينهما مهملة(2/8)
فقلت له: إني صبوت، قال فرفع صوته بأعلاه: ألا إن ابن الخطاب قد صبأ، فما زال الناس يضربوني وأضربهم، فقال خالي: ما هذا؟ قالوا: ابن الخطاب، فقام على الحجر وأشار بكمه فقال: ألا إني قد أجرت ابن أختي، قال: فانكشف الناس عني؛
__________
ساكنه ثم راء، ابن حبيب الجمحي أسلم يوم الفتح وقد شاخ وشهد حنينا وفتح مصر، ومات في خلافة عمر فحزن عليه حزنا شديدا، "فقلت له" سرا "إني صبوت" ملت من دين إلى دين، "قال: فرفع صوته بأعلاه: ألا إن ابن الخطاب" عمر، وكأنه لم يسمه لشهرته فيهم "قد صبأ" وروى ابن إسحاق عن نافع عن ابن عمر، لما أسلم عمر قال: أي قريش أنقل للحديث، فقيل له: جميل، فغدا عليه وغدوت أتبع أثره وأنا غلام أعقل ما رأيت حتى جاءه فقال: أعلمت يا جميل أني قد أسلمت ودخلت في دين محمدا فوالله ما راجعه حتى قام يجر رداءه واتبعه عمر واتبعت أبي، حتى إذا قام على باب المسجد صرخ بأعلى صوته: يا معشر قريش! وهم في أنديتهم حول الكعبة، ألا إن ابن الخطاب قد صبا، ويقول عمر من خلفه، كذب، ولكني أسلمت وشهدت أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فتعبير عمر لجميل أولا بقوله: صبؤت، يعني على زعمكم "فما زال الناس يضربوني وأضربهم، فقال خالي" يحتمل أنه أبو جهل أو أخوه الحارث بن هشام؛ لأنهما خالاه مجازا لأن عصبة الأم أخوال، الابن وأمه حنتمة بفتح المهملة وسكون النون وفتح الفوقية فتاء التأنيث ابنه هاشم بن المغيرة المخزومي، وهاشم وهاشم أخوان فهما ابنا عم أمه، ومن قال: إنها بنت هشام فقد أخطأ وصحف هاشما بهشام؛ كما قاله ابن عبد البر والسهيلي والحافظ وغيرهم؛ ويحتمل أنه أراد غيرهما من بني مخزوم.
كما ال البرهان: فالجزم بأنه أبو جهل يحتاج لبرهان واختيار أنه خاله حقيقة مبني على خطأ مخالف، لما نبه عليه الحفاظ وأقره ختامهم في فتح الباري. "ما هذا؟ قالوا: ابن الخطاب فقام" خالي "على الحجر" بكسر الحاء وغلط من فتحها؛ كما في النور "وأشار بكمه، فقال: ألا إني قد أجرت ابن أختي" قال في النور، أي: هو في ذمامي وعهدي وجواري، "قال: فانكشف الناس عني" لجلالة خاله عندهم، وعند ابن إسحاق في حديث ابن عمر أن العاصي بن وائل أجاره منهم حينئذ، فيحتمل أنهما معا أجاراه.
وروى البخاري عن ابن عمر، قال: بينا عمر في الدار خائفا إذ جاءه العاصي بن وائل السهمي أبو عمرو، وعليه حلة حبرة وقميص مكفوف بحرير، فقال: ما بالك؟ قال: زعم قومك أنهم سيقتلونني لأنني أسلمت، قال: لا سبيل إليك، بعد أن قال آمنت، فخرج العاصي فلقي الناس قد سال بهم الوادي، فقال: أين تريدون؟ قالوا: نريد ابن الخطاب الذي قد صبا، قال: لا سبيل إليه، فكر الناس وانصرفوا عنه وطريق الجمع أن العاصي أجاره مرتين، مرة مع خاله والأخرى بعد(2/9)
فما زلت أضرب وأضرب حتى أعز الله الإسلام.
__________
كونه في الدار، والله أعلم. "فما زلت" بعد رد جواز خالي كراهة أن لا أكون كالمسلمين وقول خالي: لا تفعل يابن أختي، فقلت: بلى هو ذاك، قال: فما شئت؛ كما في حديث أسلم، قال: فما زلت "أضرب" بالبناء للفاعل "وأضرب" للمفعول "حتى أعز الله الإسلام".
روى حديث أسلم عن عمر هذا بطوله البزار والطبراني وأبو نعيم والبيهقي، ورواه الدارقطني من حديث أنس وابن عساكر، والبيهقي عن ابن عباس، وأبو نعيم عن طلحة وعائشة كلهم عن عمر نحوه، فهذه طرق يعضد بعضا، فانجيز ما فيه من ضعف أسامة. وفي فتح الباري ألمح البخاري بإيراد قصة سواد بن قارب في باب إسلام عمر إلى ما جاء عن عائشة وطلحة عن عمر، أن هذه القصة كانت سبيل إسلامه، انتهى.
ومن جملة القصة التي رواها البخاري آخر حديث سواد، قال عمر: بينا أنا عند آلهتهم إذ جاء رجل فصيح يقول: لا إله إلا أنت، فوثب القوم، قلت: لا أبرح حتى أعلم ما وراء هذا، ثم نادى: يا جليح أمر نجيح رجل فصيح يقول لا إله إلا الله فما نشبنا إن قيل هذا نبي.
وروى أبو نعيم في الدلائل عن طلحة وعائشة عن عمر: أن أبا جهل جعل لمن يقتل محمدا مائة ناقة حمراء أو سوداء وألف أوقية من فضة، فقلت له: يا أبا الحكم! الضمان صحيح، قال: نعيم، فخرجت متقلدا السيف متنكبا كنانتي أريد رسول الله صلى الله عليه وسلم فمررت على عجل وهم يريدون ذبحه فقمت أنظر إليه، فإذا صائح يصيح من جوف العجل: يا آل ذريح، أمر نجيح رجل يصيح بلسان فصيح يدعو إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فقلت في نفسي: إن هذا الأمر ما يراد به إلا أنا ثم مررت بصنم، فإذا هاتف من جوفه، يقول:
يا أيها الناس ذوو الأجسام ... ما أنتم وطائش الأحلام
ومسند الحكم إلى الأصنام ... أصبحتهم كراتع الأنعام
أما ترون ما أرى أمامي ... من ساطع يجلو دجى الظلام
قد لاح للناظر من تهام ... وقد بدا للناظر الشآمي
محمد ذو البر والإكرام ... أكرمه الرحمن من إمام
قد جاء بعد الشرك بالإسلام ... يأمر بالصلاة والصيام
والبر والصلات للأرحام ... ويزجر الناس عن الآثام
فبادروا سبقا إلى الإسلام ... بلا فتور وبلا إحجام
قال عمر: فقلت: والله ما أراه إلا أرادني، ثم مررت بالضمائر فإذا هاتف من جوفه، يقول:(2/10)
قال ابن عباس: لما أسلم عمر قال جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم يا محمد، لقد استبشر أهل
__________
أودي الضمار وكان يعبد مدة ... قبل الكتاب وقبل بعث محمد
إن الذي ورث النبوة والهدى ... بعد ابن مريم من قريش مهتدي
سيقول من عبد الضمار ومثله ... وليت الضمار ومثله لم يعبد
أبشر أبا حفص بدين صادق ... تهدي إليه وبالكتاب المرشد
واصبر أبا حفص فإنك آمر ... يأتيك عز غير عز بني عدي
لا تعجلن فأنت ناصر دينه ... حقا يقينا باللسان وباليد
قال عمر: فوالله لقد علمت أنه أرادني، فلقيني نعيم وكان يخفي إسلامه فرقا من قومه، فقال: أين تذهب؟ قلت: أريد هذا الصابي الذي فرق أمر قريش فأقتله، فقال نعيم: يا عمر أترى بني عبد مناف تاركيك تمشي على وجه الأرض وبالغ في منعه، ثم قال: ألا ترجع إلى أهل بيتك فتقيم أمرهم، فذكر دخوله على أخته ... القصة بطولها ولا تنافي بينهما فهو حديث واحد طوله مرة واختصره أخرى.
وفي رواية عند ابن إسحاق: أن سبب إسلامه أنه دخل المسجد يريد الطواف فرأى النبي صلى الله عليه وسلم يصلي، فقال: لو سمعت لمحمد الليلة حتى أسمع ما يقول، فقلت: إن دنوت منه استمع لأرد عنه فجئت من قبل الحجر فدخلت تحت ثيابه، أي: البيت، فجعلت أمشي حتى قمت في قبلته وسمعت قراءته، فرق له قبلي فبكيت وداخلني الإسلام فمكثت حتى انصرف، فتبعته فالتفت في أثناء طريقه فرآني، فظن إنما تبعته لأوذيه، فنهمني، ثم قال: "ما جاء بك في هذه الساعة"؟ قلت: جئت لأؤمن بالله ورسوله وبما جاء من عند الله، قال: فمحمد الله ثم قال: "قل هداك الله"، ثم مسح صدري ودعا لي بالثبات ثم انصرفت عنه، ودخل بيته.
نهمني بالنون، أي: زجرني، والنهم زجر الأسد، كما في الروض. ففيه من شجاعته صلى الله عليه وسلم ما لا يخفى. وروى ابن سنجر في مسنده عن عمر: خرجت أتعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن أسلم فوجدته قد سبقني إلى المسجد فقمت خلفه، فاستفتح سورة الحاقة فجعلت أتعجب من تأليف القرآن، فقلت: هو شاعر كما قالت قريش: فقرأ: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ، وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ} [الحاقة: 40، التكوير: 19] إلى آخر السورة، فوقع الإسلام في قلبي كل موقع، الواقعة تكفل شيخنا برده.
"قال ابن عباس: لما أسلم عمر، قال جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم: يا محمد لقد استبشر أهل(2/11)
السماء بإسلام عمر. رواه ابن ماجه.
__________
السماء بإسلامه عمر" لأن الله أعز به الدين ونصر به المستضعفين، قال ابن مسعود، كان إسلام عمر عزا وهجرته نصرا وإمارته رحمة، والله ما ستطعنا أن نصلي حول البيت ظاهرين حتى أسلم عمر، رواه ابن أبي شيبة والطبراني، وقال صهيب، لما أسلم عمر، قال المشركون: أنتصف القوم منا، رواه ابن سعد.
وروي: أنه لما أسلم، قال: يا رسول الله! لا ينبغي أن يكتم هذا الدين، أظهر دينك، فخرج ومعه المسلمون وعمر أمامهم معه سيف ينادي: لا إله إلا الله محمد رسول الله حتى دخل المسجد، فقالت قريش: لقد أتاكم عمر مسرورا، ما وراءك يا عمر؟ قال: ورائي لا إله إلا الله محمد رسول الله، فإن تحرك أحد منكم لأمكنن سيفي منه، ثم تقدم أمامه صلى الله عليه وسلم يطوف ويحميه حتى فرغ من طوافه.
"رواه ابن ماجه" أبو عبد الله محمد بن يزيد القزويني الثقة المتفق عليه المحتج به له معرفة بالحديث وحفظه ومصنفات في السنن والتفسير والتاريخ والسماع بعده أمصار مات سنة ثلاثة وثمانين ومائتين، ورواه أيضا الحاكم وصححه ورده الذهبي بأن فيه عبد الله بن خراش، ضعفه الدارقطني، انتهى. وضعفه أيضا غيره ورواه ابن سعد عن الزهري وداود بن الحصين مرسلا، والله أعلم(2/12)
"دخول الشعب وخبر الصحيفة":
ولما رأت قريش عزة النبي صلى الله عليه وسلم بمن معه، وإسلام عمر، وعزة أصحابه بالحبشة، وفشو الإسلام في القبائل، أجمعوا على أن يقتلوا النبي صلى الله عليه وسلم، فبلغ ذلك أبا طالب، فجمع بني هاشم وبني المطلب، فأدخلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم شعبهم..........
__________
دخول الشعب وخير الصحيفة:
"ولما رأت قريش" كما قال ابن إسحاق وابن عقبة وغيرهما بمعناه، "عزة النبي صلى الله عليه وسلم بمن معه وإسلام" بالجر، أي: ابن إسحاق ودخولهم في أول المحرم من السابعة، "وعزة أصحابه بالحبشة" يريد بهم أهل الهجرة الثانية، فإن عود الأولين كان في الخامسة؛ كما مر "وفشو الإسلام في القبائل أجمعوا على أن يقتلوا النبي صلى الله عليه وسلم" وقالوا: قد أفسد أبناءنا ونساءنا، وقالوا لقومه: خذوا منا دية مضاعفة ويقتل رجل من غير قريش فتريحوننا وتريحون أنفسكم، "فبلغ ذلك أبا طالب، فجمع بني هاشم، وبني" أخيه "المطلب" فأمرهم "فأدخلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم شعبهم" بكسر الشين كان(2/12)
ومنعوه ممن أراد قتله، فأجابوه لذلك حتى كفارهم، فعلوا ذلك حمية على عادة الجاهلية.
فلما رأت قريش ذلك أجمعوا وائتمروا أن يكتبوا كتابا يتعاقدون فيه على بني المطلب: أن لا ينكحوا إليهم ولا ينكحوهم، ولا يبيعون منهم شيئا، ولا يبتاعوات منهم، ولا يقبلوا منهم صلحا أبدا حتى يسلموا رسول الله صلى الله عليه وسلم للقتل.
وكتبوه في صحيفة بخط منصور بن عكرمة -وقيل بغيض بن عامر- فشلت
__________
منزل بني هاشم غير مساكنهم ويعرف بشعب ابن يوسف كان لهاشم، فقسمه عبد المطلب بين بنيه حين ضعف بصره وصار للنبي صلى الله عليه وسلم فيه خط أبيه؛ كذا في المطالع، وتعقبه في النور: بأن عبد الله مات في حياة أبيه وما أظنهم كانوا يخالفون شرعنا، قال: ويحتمل أنه وصل إليه حصة أبيه بطريق آخر، انتهى.
قال شيخنا في تقريره بجوار أن عبد المطلب قسمه في حياته على أولاده في حياة عبد الله، فلما مات صار للمصطفى حظ أبيه وهو حسن، وإن كان شيخنا البابلي يتوقف فيه بأن القسم لم ينقل عن عبد المطلب في حياة عبد الله؛ لأنه احتمال يكفي في الجواب، يمكن أنهم جعلوا له بعد موت جده حصة أبيه أن لو كان حيا، فهو ابتداء عطية من أعمامه وهذا حسن جدا، وكل هذا على تسليم ظن البرهان أنهم لا يخالفون شرعنا ومن أين ذاك الظن؟
"ومنعوه ممن أراد قتله" لما سألهم أبو طالب "فأجابوا لذلك حتى كفارهم فعلوا ذلك حمية على عادة الجاهلية، فلما رأت قريش ذلك أجمعوا وائتمروا" تشاوروا في "أن يكتبوا كتابا يتعاقدون فيه على بني المطلب أن لا ينكحوا إليهم" بفتح حرف المضارعة، أي: لا يتزوجوا المضارعة، أي: لا يتزوجوا منهم فإلى بمعنى من "ولا ينكحوهم" بضمها لا يزوجوهم "ولا يبيعوا منهم شيئا ولا يبتاعوا، ولا يقبلوا منهم صلحا أبدا" زاد في العيون ولا تأخذهم بهم رأفة "حتى يسلموا" من أسلم أو سلم مثقلا "رسول الله صلى الله عليه وسلم للقتل" أي: يخلو بينه وبينهم، "وكتبوه في صحيفة بخط منصور بن عكرمة" كما ذكره ابن إسحاق قائلا: فشلت يده فيما يزعمون، وصدر به في الفتح، قال في النور: والظاهر هلاكه على كفره، "وقيل" بخط "بغيض" بموحدة ومعجمتين بينهما تحتية "ابن عامر" بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي، قاله ابن سعد. "فشلت" بفتح الشين المعجمة واللام المشددة وضم الشين خطأ، أو قليل أو لغة ردية والشلل نقص في الكف وبطلان لعملها وليس معناه القطع؛ كما زعم بعضهم، قاله المصنف. وفي الفتح: يجوز ضمها في لغة، ذكر الجيلاني.(2/13)
يده، وعلقوا الصحيفة في جوف الكعبة، هلال المحرم سنة سبع من النبوة.
فانحاز بنو هاشم وبنو المطلب إلى أبي طالب فدخلوا معه في شعبه، إلا أبا لهب فكان مع قريش. فأقاموا على ذلك سنتن أو ثلاثا، وقال ابن سعد: سنتين حتى جهدوا وكان لا يصل إليهم شيء إلا سرا.
__________
وقال ابن درستويه: هي خطأ. "يده" أي: الكاتب سواء قيل منصور أو بغيض؛ لأن القائل بالأول، قال: شلت كالثاني، قال في النور: الظاهر أنه لم يسلم وهو بغيض كاسمه، قال ابن هشام: ويقال بخط النضر بن الحرث فدعا عليه صلى الله عليه وسلم فشلت بعض أصابعه، وقتل كافرا بعد بدر، وقيل: بخط هشام بن عمرو بن الحرث العامري وهو من الذين سعوا في نقضها، قاله ابن إسحاق وابن عقبة وغيرهما، أسلم وكان من المؤلفة، وقيل: طلحة بن أبي طلحة العبدري، حكاه في الفتح، وقيل: منصور بن عبد شرحبيل بن هاشم، حكاه الزبير بن بكار مع القول بأنه بغيض فقط، قال السهيلي والزبير: أعلم بالإنسان، وجمع البرهان وتبعه الشامي باحتمال أن يكون كتب بها نسخ.
"وعلقوا الصحيفة في جوف الكعبة" وتمادوا على العمل بما فيها، وكان ذلك "هلال المحرم سنة سبع من النبوة" قال ابن سعد وابن عبد البر وغيرهما، وبه جزم في الفتح، وقيل: سنة ثمان، حكاه الحافظ في سيرته وكان ذلك بخيف بني كنانة؛ كما في الصحيح وهو المحصب، "فانجاز بنو هاشم وبنو المطلب إلى أبي طالب، فدخلوا معه في شعبه" أضافه له لأنه كبيرهم؛ كذا نسبه في الفتح لابن إسحاق، وهو ظاهر في أن انحيازهم بعد كتابة الصحيفة للعطف بالفاء، وفي العيون: ودخلوا شعبهم مؤمنهم وكافرهم، فالمؤمن دينا والكافر حمية، فلما رأت قريش أنه قد منعه قومه أجمعوا على كتابة صحيفة، وهذا صريح في أن كتابتها بعد دخولهم.
"إلا أبا لهب فكان مع قريش" وأما المؤمنون من غير بني هاشم والمطلب، فظاهر العيون أنهم ذهبوا كلهم إلى الحبسة، "فأقاموا على ذلك سنتين أو ثلاثا" قاله ابن إسحاق: وأو تحتمل الشك والإشارة إلى قول وجزم موسى بن عقبة بأنها ثلاث سنين.
"وقال ابن سعد: سنتين حتى جهدوا" بالبناء للمفعول لقطعهم عنهم الميرة والمادة، "وكان لا يصل إليهم شيء إلا سرا" ولا يحجون إلا من موسم، وكان يصلهم فيه حكيم بن حزام وهشام بن عمرو والعامري وهو أوصلهم لبني هاشم، وكان أبو طالب مدة إقامتهم في الشعب يأمرهم صلى الله عليه وسلم فيأتي فراشه كل ليلة حتى يراه من أراد به شرا أو غائلة، فإذا نام أمر أحد بنيه أو إخوته أو بني عمه، فاضطجع على فرش المصطفى وأمره أن يأتي بعض فرشهم فيرقد(2/14)
وقدم نفر من مهاجرة الحبشة، حين قرأ عليه الصلاة والسلام: {النَّجْمِ إِذَا هَوَى} حتى بلغ {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى، وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} ألقى الشيطان في أمنيته، أي في قراءته: تلك الغرانيق العي وإن شفاعتهن لترتجى، فلما ختم السورة سجد صلى الله عليه وسلم وسجد معه المشركون،............................
__________
عليها، "وقدم" في شوال سنة خمس؛ كما مر.
"نفر من مهاجرة الحبشة" فخالف شرطه في الترتيب على السنين، ولو رعاه لذكرها قبل إسلام عمر؛ كما فعل اليعمري والشامي وغيرهما، وهذا مما يعطي أن الشرط أغلبي ثم كلامه يقتضي أنهم لم يقدموا كلهم، وهو خلاف قول اليعمري والحافظ وغيرهما كان سبب رجوع الاثني عشر، وفي لقظ: قدم أولئك الفقراء مكة، "حين قرأ عليه الصلاة والسلام" وهو يصلي أو خارج الصلاة على اختلاف الروايات، كما يأتي عن عياض، وأما ما عند ابن مردويه والبيهقي عن ابن عمر: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ النجم، فسجد بنا فأطال السجود فلم يذكر فيه هذه القصة فلا معنى لذكره هنا الموهم أن ابن عمر روى هذه القصة، ولا قائل به لما يأتي أنها لم ترو عن صحابي سوى عن ابن عباس،" {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} [النجم: 1] ، حتى بلغ: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى، وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} [النجم: 19، 20] ألقى الشيطان في أمنيته أي في قراءته" يقال تمنى إذا قرأ، قال حسان يمدح عثمان:
تمنى كتاب الله أول ليلة ... تمنى داود الزبور على رسل
لأن أصل معناه: تفعل من المنى بمعنى القدر، ومنه المنية وقوله إلا أماني، أي: تلاوة بلا معرفة، فأجرى مجرى التمني لما لا وجود له. "تلك الغرانيق العلا وإن شفاعتهن لترتجى"، ويروى لترتضى، ويروى أن شافعتها لترتجى وإنها لمع الغرانيق الأولى، وفي أخرى والغرانقة العلى، ذكره في الشفاء، "فلما ختم السورة سجد صلى الله عليه وسلم، وسجد معه المشركون" والجن والإنس؛ كما في الصحيحين غير أمية بن خلف؛ كما في تفسير سورة النجم من البخاري أخذ كفا من تراب فسجد عليه، وقال: يكفيني هذا، وقيل: الوليد بن المغيرة، وقيل: أبو لهب وفيهما نظر؛ لأنهما لم يقتلا، وقيل: عتبة بن ربيعة. قال المنذري: وما رواه البخاري أصح، وقول ابن بزيزة كان منافقا وهم.
قال في النور: لأن النفاق إنما كان بالمدينة، انتهى. وقيل: إنه المطلب بن أبي وداعة، وهو باطل؛ لأنه صحابي أسلم في الفتح؛ والجمع بأنه لا مانع أنهم فعلوه جميعا بعضهم تكبرا وبعضهم عجزا لا يصح فالمانع موجود، وهو قول راوي الحديث الذي شاهده وهو ابن مسعود: فما بقي أحد إلا سجد إلا رجلا، فلقد رأيته قتل كافرا بالله، يعني يوم بدر.(2/15)
لتوهمهم أنه ذكر آلهتهم بخير، وفشا ذلك في الناس، وأظهره الشيطان حتى بلغ أرض الحبشة، ومن بها من المسلمين، عثمان بن مظعون وأصحابه، وتحدثوا أن أهل مكة قد أسلموا كلهم، وصلوا معه صلى الله عليه وسلم، وقد أمن المسلمون بمكة، فأقبلوا سراعا من الحبشة.
__________
"لتوهمهم أنه ذكر آلهتهم بخير" كما ارتضاه الحافظ لا خوفا من مخالفة المسلمين في ذلك المجلس؛ كما جوزه الكرماني إذ لا يظهر له وجه بل الظاهر العكس، انتهى. فرضوا وقالوا: قد عرفنا أنه يحيى ويميت ويخلق ويرزق، ولكن آلهتنا هذه تشفع لنا عنده فأما إذا جعلت لها نصيبا فنحن معك، فكبر ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جلس في البيت.
"وفشا ذلك في الناس وأظهره الشيطان حتى بلغ أرض الحبشة و" بلغ "من بها من المسلمين عثمان بن مظعون وأصحابه، وتحدثوا أن أهل مكة قد أسلموا كلهم وصلوا مع النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أمن المسلمون بمكة" من الأذى، فقال القوم: عشائرنا أحب إلينا، "فأقبلوا" حال كونهم "سراعا" أي: مسرعين، "من الحبشة" حتى إذا كانوا دون مكة بساعة من نهار لقوا ركبا من كنانة فسألوهم عن قريش، فقالوا: ذكر محمد آلهتهم بخير فتابعه الملأ ثم عاد لشتم آلهتهم وعادوا له بالشر، فتركناهم على ذلك، فائتمر القوم في الرجوع إلى الحبشة، ثم قالوا: قد بلغنا مكة فندخل فننظر ما فيه قريش ويحدث عهدا من أراد بأهله، ثم نرجع؛ فدخلوها ولم يدخل أحد منهم إلا بجوار، إلا ابن مسعود، فإنه مكث يسيرا ثم رجع إلى الحبشة؛ كذا في العيون.
وروى ابن إسحاق عن صالح بن إبراهيم عمن حدثه عن عثمان بن مظعون أنه لما رجع من الهجرة الأولى إلى الحبشة دخل مكة في جوار الوليد بن المغيرة، فلما رأى المشركين يؤذون المسلمين وهو آمن رد عليه جواره، فبينما هو في مجلس لقريش وفد عليهم لبيد بن ربيعة قبل إسلامه فقعد ينشدهم من شعره، فقال لبيد:
إلا كل شيء ما خلا الله باطل
فقال عثمان، صدقت، فقال:
وكل نعيم لا محالة زائل
فقال: كذبت، نعيم الجنة لا يزول، فقال لبيد: متى كان يؤذي جليسكم يا معشر قريش، فقام رجل منهم فلطم عثمان فاخضرت عينه، فلامه الوليد على رد جواره، فقال: قد كنت في ذمة منيعة، فقال عثمان: إن عيني الأخرى إلى ما أصاب أختها في الله لفقيرة، فقال له الوليد: فعد إلى جوارك، فقال: بل أرضى بجوار الله تعالى.(2/16)
والغرانيق في الأصل: الذكور من طير الماء، وأحدها: غرنوق وغرنيق، سمي به لبياضه. وقيل: هو الكركي.
والغرنوق أيضا: الشاب الأبيض الناعم.
وكانوا يزعمون أن الأصنام تقربهم من الله، وتشفع لهم، فشبهت بالطيور التي تعلو في السماء وترتفع.
ولما تبين للمشركين عدم ذلك، رجعوا إلى أشد ما كانوا عليه.
وقد تكلم القاضي عياض -رحمه الله- في "الشفاء" على هذه القصة وتوهين أصلها بما يشفي ويكفي، لكن تعقب في بعضه كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
__________
"والغرانيق" بغين معجمة المراد بها هنا الأصنام، وهي "في الأصل الذكور من طير الماء" وقيل: طير الماء مطلقا إذا كان أبيض طويل العنق، وهي جمع "واحدها غرنوق" بضم الغين والنون وكسر الغين وإسكان الراء وفتح النون، ذكرهما في النور. "وغرنيق" بضم المعجمة وفتح النون؛ كما في النور والقاموس.
وفي الشامي: بكسر الغين وفتح النون، "سمي به لبياضه، وقيل: هو الكركي، والغرنوق أيضا الشاب الأبيض الناعم، وكانوا يزعمون أن الأصنام تقربهم من الله وتشفع لهم" عنده كما في التنزيل: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3] ، ونقل الحليمي في تفسير قوله تعالى: {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا} [الصافات: 158] ، أن مشركي العرب زعمت في اللات والعزى ومناة أنها بنات الله تقربهم له لسماعهم كلامها، وإنما كان يكلمهم شياطين الجن من أجوافها، "فشبهت" الأصنام "بالطيور التي تعلو في السماء وترتفع" تشبيها بليغا بحذف الأداة أو استعارة بحذف المشبه، والأصل تلك آلهة مرتفعة كالغرانيق في ارتفاعها، فحذف المشبه واستعمل اسم المشبه به فيه بجامع الارتفاع فيهما: المعنوي للأصنام الحسي للطيور، "ولما تبين للمشركين عدم ذلك" الذي توهموه من تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم لآلهتهم حاشاه "رجعوا إلى أشد ما كانوا عليه" من إيذائه وإيذاء أصحابه ولقي مهاجرو الحبشة منهم الأذى الشديد "وقد تكلم القاضي عياض في الشفاء على هذه القصة" لإشكالها إذ مدح إله غير الله كفر ولا يصح نسبته إلى نبي، فذكر لها محامل على تقدير الصحة.
"و" تكلم على "توهين" تضعيف "أصلها" من جهة الرواة "بما يشفي ويكفي لكن تعقب في بعضه" وهو دعواه بطلانها، وفي بعض المحامل "كما سيأتي إن شاء الله تعالى" قريبا.(2/17)
وقال الإمام فخر الدين الرازي -مما لخصته من تفسيره- هذه القصة باطلة موضوعة، لا يجوز القول بها. قال الله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3] وقال تعالى: {سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى} [الأعلى: 6] .
وقال البيهقي: هذه القصة غير ثابتة من جهة النقل، ثم أخذ يتكلم في أن رواة هذه القصة مطعونون.
وأيضا: فقد روى البخاري في صحيحه أنه عليه الصلاة والسلام قرأ سورة النجم وسجد معه المسلمون والمشركون والإنس والجن، وليس فيه حديث الغرانيق. بل روي هذا الحديث من طرق كثيرة، وليس فيها ألبتة حديث الغرانيق.
ولا شك أن من جوز على الرسول تعظيم الأوثان فقد كفر؛ لأن من المعلوم بالضرورة أن أعظم سعيه كان في نفي الأوثان، ولو جوزنا ذلك ارتفع الأمان عن شرعه، وجوزنا في كل واحد من الأحكام والشرائع أن يكون ...
__________
"وقال الإمام فخر الدين الرازي" نحو كلام عياض "مما لخصته من تفسيره: هذه القصة باطلة موضوعة، لا يجوز القول بها"، إلا مع بيان بطلانها كما هو شأن الموضوع. "قال الله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ} بما يأتيكم به {عَنِ الْهَوَى} هوى نفسه، {إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3] "، إليه "وقال تعالى: {سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى} [الأعلى: 6] "، فإنه كان صلى الله عليه وسلم إذا أتاه جبريل بالوحي لم يفرغ جبريل من الوحي حتى يتكلم صلى الله عليه وسلم بأوله مخافة أن ينساه فأنزل الله: {سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى} [الأعلى: 6] ، رواه الطبراني وابن أبي حاتم عن ابن عبس بإسناد ضعيف.
"وقال البيهقي: هذه القصة غير ثابتة من جهة النقل، ثم أخذ يتكلم في أن رواة هذه القصة مطعونون" من الحذف والإيصال، أي: مطعون، أي: مقدوح فيهم، "وأيضا فقد روى البخاري في صحيحه" وكذا مسلم عن ابن مسعود "أنه عليه الصلاة والسلام قرأ سورة النجم وسجد معه المسلمون والمشركون والإنس والجن، وليس فيه حديث الغرانيق" فدل على خطأ من ذكرها "بل روي هذا الحديث من طرق كثيرة، وليس فيها ألبتة" بهمزة قطع على غير قياس "حديث الغرانيق" فهذا دليل بطلانها من جهة الإسناد والرواية.
"و" أما من جهة النظر فإنه "لا شك أن من جوز على الرسول تعظيم الأوثان فقد كفر؛ لأن من المعلوم بالضرورة أن أعظم سعيه كان في نفي الأوثان ولو جوزنا ذلك ارتفع الأمان عن شرعه"، وعطف سببا على مسبب قوله: "وجوزنا في كل واحد من الأحكام والشرائع أن يكون(2/18)
كذلك. ويبطل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة: 67] فإنه لا فرق في الفعل بين النقصان في الوحي والزيادة فيه.
فبهذه الوجوه، عرفنا على سبيل الإجمال أن هذه القصة موضوعة. وقد قيل: إن هذه القصة من موضوع الزنادقة لا أصل لها. انتهى.
وليس كذلك. بل لها أصل.
فقد خرجها: ابن أبي حاتم، والطبري، وابن المنذر، من طرق عن شعبة عن ابن بشر، عن سعيد جبير.
__________
كذلك" أي: مما ألقاه الشيطان على لسانه، "ويبطل قوله تعالى" أي: فائدة قوله: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة: 67] "، أي: فلم تكن عاملا بالآية؛ إذ العمل بها تبليغ ما أنزل إليه، فلو زاد انتفى التبليغ؛ "فإنه لا فرق في الفعل بين النقصان في الوحي والزيادة فيه، فبهذه الوجوه" النقلية والعقلية "عرفنا على سبيل الإجمال أن هذه القصة موضوعة، وقد قيل: إن هذه القصة من موضوع الزنادقة لا اصل لها، انتهى". قال عياض: لا شك في إدخال بعض شياطين الإنس أو الجن هذا الحديث على بعض مغفلي المحدثين، ليلبس على ضعفاء المسلمين، انتهى.
"وليس كذلك بل لها أصل" قوي "فقد خرجها ابن أبي حاتم" الحافظ، أو محمد عبد الرحمن بن محمد بن إدريس بن المنذر التميمي الحنظلي الرازي، صاحب التصانيف الكثيرة الثقة، كان بحرا في العلوم ومعرفة الرجال وزاهدا يعد من الأبدال، توفي سنة سبع وعشرين وثلاثمائة وقد ناهز التسعين، "والطبري" محمد بن جرير البغدادي عالم الدنيا "و" محمد بن إبراهيم "ابن المنذر" النيسابوري نزيل مكة صاحب التصانيف الحافظ كان غاية في معرفة الخلاف والدليل فقيها مجهدا لا يقلد أحدا مات سنة تسع أو عشر أو ست عشرة أو ثمان عشرة وثلاثمائة، "من طرق عن شعبة" بضم المعجمة وسكون المهملة، ابن الحجاج الواسطي ثم البصري أمير المؤمنين في الحديث كان من سادات زمانه حفظا وإتقانا وورعا وفضلا، قال الشافعي: لولا شعبة ما عرف الحديث بالعراق، ولد سنة اثنتين وثمانين ومات بالبصرة سنة ستين ومائة. "عن أبي بشر" بكسر الموحدة وسكون المعجمة، جعفر بن أبي وحشية بفتح الواو وسكون المهملة وكسر المعجمة وشد التحتية، اسمه إياس بالكسر وخفة التحتية، الواسطي الثقة من رجال الصحيح توفي سنة ربع أو خمس أو ست وعشرين ومائة، "عن سعيد بن جبير"، التابعي المشهور(2/19)
وكذا ابن مردويه، والبزار، وابن إسحاق في السيرة، وموسى بن عقبة في المغازي، وأبو معشر في السيرة.
كما نبه عليه الحافظ عماد الدين بن كثير وغيره، لكن قال: إن طرقها كلها مرسلة وأنه لم يرها مسندة من وجه صحيح. وهذا متعقب بما سيأتي:
وكذا نبه على ثبوت أصلها شيخ الإسلام والحافظ أبو الفضل العسقلاني فال: أخرج ابن أبي حاتم والطبري وابن المنذر من طرق عن شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة والنجم،...............
__________
المقتول ظلما، "وكذا" خرجها الحافظ أبو بكر أحمد بن موسى "ابن مردوديه" بفتح الميم وتكسر، كما مر.
"والبزار" الحافظ العلامة الشهير أبو بكر أحمد بن عمر بن عبد الخالق البصري صاحب المسند الكبير المعلل مات بالرملة سنة اثنتين وتسعين ومائتين، "وابن إسحاق" محمد "في السيرة وموسى بن عقبة" بالقاف ابن أبي عياش القرشي مولاهم المدني التابعي الصغير الثقة الثبت الحافظ الفقيه، توفي سنة إحدى وأربعين ومائة "في المغازي" له التي كان تلميذه ملك إذا سئل عنها، قال: عليك بمغازي الرجل الصالح موسى بن عقبة فإنها أصح المغازي، وقال الشافعي: ليس في المغازي أصح من كتاب موسى مع صغره وخلوه من أكثر ما يذكر في كتب غيره، رواه الخطيب.
"وأبو معشر" بفتح الميم وإسكان المهملة وفتح المعجمة نجيح بن عبد الرحمن الهاشمي مولاهم السندي، قال أحمد: صدوق لا يقيم الإسناد، وابن معين ليس بالقوي، وابن عدي يكتب حديثه مع ضعفه، مات سنة سبعين ومائة. "في السيرة" وقد قال مغلطاي: أبو معشر من المعتمدين في السير "كما نبه عليه الحافظ عماد الدين بن كثير وغيره، لكن قال" ابن كثير "إن طرقها كلها مرسلة وإنه لم يرها مسندة" أي: موصولة، "من وجه صحيح وهذا متعقب بما سيأتي" قريبا من إخراج جماعة لها عن ابن عباس، وجوابه: أنه قيد عدم رؤيته بالصحة والآتي لم يبلغها فلا يتعقب به، "وكذا نبه على ثبوت أصلها شيخ السلام والحافظ أو الفضل" أحمد بن علي بن حجر "العسقلاني، فقال: أخرج ابن أبي حاتم" الحافظ الكبير ابن الحافظ الشهير. "والطبري" محمد بن جرير "وابن المنذر" بضم الميم وإسكان النون وكسر المعجمة ثم راء، "من طرق عن شعبة" ابن الحجاج بن الورد وليس الثقفي الظالم، "عن أبي بشر" جعفر بن إياس "عن سعيد بن جبير" تقدم الستة قريبا "قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة والنجم" في رمضان سنة خمس من المبعث، وكان خروج أهل الحبشة إليها في رجب وقدومهم في شوال، قاله الواقدي.(2/20)
فلما بلغ {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى، وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} ، ألقى الشيطان على لسانه: تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى، فقال المشركون: ما ذكر آلهتنا بخير قبل اليوم فسجد وسجدوا، فنزلت هذه الآية {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} [الحج: 52] الآية.
وأخرجه البزار وابن مردويه من طريق أمية بن خالد عن شعبة فقال: في إسناده عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، فيما أحسب، ثم ساق الحديث. وقال البزار: لا يروي متصلا إلا بهذا الإسناد. وتفرد بوصله أمية بن خالد وهو ثقة مشهور.
قال: إنما يروى هذا من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس. انتهى، والكلبي متروك لا يعتمد عليه.
__________
قال في النور: فهذا تباين لكن يحتمل أنه تحدث بذلك قبل وقوعه وفيه ما فيه، انتهى. وقد يقال: لا تباين؛ لأن الحبشة باليمن كما مر، فيمكن وصول الخبر في تلك المدة ولا سيما البحر قد يقطع فيه مسافات كثيرة في أيام قليلة، "فلما بلغ {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى، وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} [النجم: 19، 20] ، ألقى الشيطان على لسانه، تلك الغرانيق العلى إن شفاعتهن لترتجى، فقال المشركون: ما ذكر آلهتنا بخير قبل اليوم فسجد" لما ختم السورة "وسجدوا" معه وكبر ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم "فنزلت هذه الآية" تسلية له {وَمَا أَرْسلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} [الحج: 52] ، أي: في قراءته بين كلمات القرآن "الآية" أتلها "وأخرجه البزار وابن مردويه من طريق أمية بن خالد" ابن الأسود العنسي، أبي عبد الله البصري، مات سنة مائتين أو وإحدى "عن شعبة، فقال: في إسناده عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، فيما أحسب" أي: أظن، "ثم ساق الحديث" المذكور.
"وقال البزار" عقب تخريجه "لا يروى متصلا إلا بهذا الإسناد وتفرد بوصله أمية بن خالد وهو ثقة مشهور" أخرج له مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي، مع كون سعيد لم يجزم بوصله إنما ظنه كما علم، "وقال" البزار أيضا "إنما يروى هذا من طريق الكلبي عن أبي صالح" باذان بنون أو باذام بميم وذاله معجمة عن مولاته أم هانئ وعلي وعنه السدي وغيره، أخرج له أصحاب السنن، وقال أبو حاتم: لا يحتج به، وفي التقريب: إنه مقبول "عن ابن عباس، انتهى".
"والكلبي" وهو محمد بن السائب "متروك لا يعتمد عليه"، بل قال ابن الجوزي إنه من كبار الوضاعين، وشيخه أبو صالح فيه مقال، وقال ابن حبان يروي الكلبي عن أبي صالح عن ابن(2/21)
وكذا أخرجه النحاس بسند آخر فيه الواقدي.
وذكرها ابن إسحاق في السيرة مطولا، وأسندها عن محمد بن كعب، وكذلك موسى بن عقبة في المغازي عن ابن شهاب الزهري.
وكذا أبو معشر بالسيرة له عن محمد بن كعب القرظي ومحمد بن قيس وأورده من طريقه الطبري.
وأورده ابن أبي حاتم من طريق أسباط عن السدي.
ورواه ابن مردويه من طريق عباد بن صهيب............
__________
عباس، التفسير، وأبو صالح لم ير ابن عباس ولا سمع الكلبي من أبي صالح إلا الحرف بعد الحرف، فلما احتيج إليه أخرجت الأرض أفلاذ كبدها لا يحل ذكره في الكتب فكيف الاحتجاج به، "وكذا أخرجه النحاس" الحافظ الإمام الصدوق أبو العباس أحمد بن محمد بن عيسى المصري نزيل نيسابور ذو الرحلة الواسعة والمعرفة الجيدة، روى عنه الحاكم، وقال: حافظ يتحرى الصدق في مذاكراته مات سنة ست وسبعين وثلاثمائة عن خمس وثمانين سنة "بسند آخر فيه الواقدي" محمد بن عمر بن واقد الأسلمي المدني الذي استقر الإجماع على وهنه؛ كما في الميزان.
"وذكرها ابن إسحاق في السيرة" ذكرا "مطولا وأسندها عن محمد بن كعب" القرظي "وكذلك" ذكرها "موسى بن عقبة في المغازي عن" شيخه "ابن شهاب" محمد بن مسلم "الزهري" "وكذا أبو معشر بالسيرة له عن محمد بن كعب القرظي" بضم القاف وفتح الراء وظاء معجمة نسبة إلى بني قريظة، نزل الكوفة مدة ثقة عالم ولد سنة أربعين، ووهم من قال في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فقد قال البخاري: إن أباه كان ممن لم يثبت في سبي قريظة، مات محمد سنة عشرين ومائة، وقيل قبل ذلك.
"ومحمد بن قيس" شيخ أبي معشر ضعيف، ووهم من خلطه بمحمد بن قيس المدني القاص الثقة؛ كما في التقريب. "وأورده من طريقه" أي: أبي معشر، "الطبري" محمد بن جرير "وأورده ابن أبي حاتم من طريق أسباط" بن نصر الهمداني بسكون الميم، قال في التقريب: صدوق كثير الخطأ يغرب "عن السدي" بضم السين وشد الدال المهملتين إسماعيل بن عبد الرحمن "ورواه ابن مردويه من طريق عباد بن صهيب" قال البخاري والنسائي وأبو حاتم: متروك، وابن المديني ذهب حديثه، وقال ابن حبان: يروي المناكير عن المشاهير حتى يشهد المبتدئ في الصناعة أنها موضوعة، وقال زكريا الساجي: كانت كتبه ملأى من الكذب، وقال(2/22)
عن يحيى بن كثير، عن الكلبي عن أبي صالح، وعن أبي بكر الهذلي، وأيوب عن عكرمة وعن سليمان التيمي عمن حدثه، ثلاثتهم عن ابن عباس.
وأوردها الطبري أيضا من طريق العوفي عن ابن عباس. ومعناهم كلهم في ذلك واحد.
وكلها سوى طريق................
__________
أبو داود: هو صدوق فيما قد روى، وقال أحمد: ما كان بصاحب كذب، وجمع الحافظ في الأمالي بأنه كان لا يتعمد الكذب بل يقع ذلك في روايته من غلطه وغفلته، ولذا تركوه.
"عن يحيى بن كثير" أبي النضر ضعيف "عن الكلبي عن أبي صالح" البصري اشتهر بكنيته ومراسمه "وعن أبي بكر الهذلي" قيل: اسمه سلمى بضم السين المهملة ابن عبد الله، وقيل: روح الأخباري متروك الحديث؛ كما في التقريب مات سنة سبع وستين ومائة، روى له ابن ماجه.
"وأيوب" بن كيسان البصري التابعي الصغير، قال فيه شعبة: أيوب سيد الفقهاء ما رأيت مثله، وقال ابن سعد: كان ثقة ثبتا حجة عدلا جامعا، ولد سنة أربع وستين ومات سنة إحدى وثلاثين ومائة بالبصرة، ويقال له السختياني: بفتح المهملة على الصحيح وحكى ضمها وكسرها وفتح الفوقية؛ كما في اللباب، وكرها كما في المطالع نسبه إلى بيع السختيان، هو الجلد أو إلى عمله.
"عن عكرمة" بن عبد الله البربري ثم المدني مولى ابن عباس أحد الأعلام الكبار، كان بحرا من البحار ونسبته للكذب على سيده أو البدعة أو سوء العقيدة لا تثبت، كما بسطه الحافظ في مقدمة الفتح مات سنة ست أو سبع ومائة.
"و" رواه ابن مردويه أيضا عن "سليمان" بن بلال "التيمي" مولاهم المدني أحد علماء البصرة، قال ابن سعد: كان بربريا جميلا حسن الهيئة عاقلا ثقة كثير الحديث، مات سنة اثنتين وسبعين ومائة. "عمن حدثه ثلاثتهم" يعني أبا صالح وعكرمة والذي حدث سليمان "عن ابن عباس وأوردها الطبربي من طريق العوفي" بسكون الواو وبالفاء عطية بن سعد بن جنادة بجيم مضمومة فنون خفيفة، الجدلي بفتح الجيم والمهملة الكوفي أبي الحسن: صدوق شيعي مدلس يخطئ كثيرا؛ إلا أن الترمذي يحسن حديثه خصوصا مع الشاهد وهذا له شواهد كما ترى، مات سنة إحدى عشرة ومائة، أخرج له أبو داود والنسائي والترمذي وتجويز أن المراد سليمان بن يحيى قاضي مرو؛ لأنه يروي عن ابن عباس وابن عمر مردود، فقد جزم في الأنساب من التقريب بأن العوفي عطية بن سعد.
"عن ابن عباس ومعناهم كلهم في ذلك واحد، وكلها" أي: كل طريق منها "سوى طريق(2/23)
سعيد بن جبير إما ضعيف وإما منقطع. لكن كثرة الطرق تدل على أن للقصة أصلا.
مع أن لها طريقين آخرين مرسلين رجالهما على شرط الصحيح.
أحدهما: ما أخرجه الطبري من طريق يونس بن يزيد عن ابن شهاب: حدثني أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحرث بن هشام، فذكر نحوه.
والثاني: ما أخرجه أيضا من طريق المعتمر بن سليمان، وحماد بن سلمة كلاهما عن داود بن أبي هند، عن أبي العالية.
__________
سعيد بن جبير، إما ضعيف، وإما منقطع، لكن كثرة الطرق تدل على أن للقصة أصلا" وإن كان فيها ذلك "مع أن لها طريقين آخرين مرسلين رجالهما على شرط الصحيح أحدهما" أي: الطريقين، والطرق يذكر ويؤنث "ما أخرجه الطبري من طريق يونس بن يزيد" بتحتية وزاي، الأيلي الحافظ روى عن الزهري ونافع وغيرهما، وعنه الليث وابن وهب والأوزاعي وخلق، مات بمصر سنة سبع وخمسين ومائة على الصحيح، روى له الجميع ووثقه الجمهور مطلقا حتى بالغ أحمد بن صالح، فقال: لا نقدم على يونس في الزهري أحدا، "عن" محمد بن مسلم "بن شهاد" الزهري العلم الشهير، قال: "حدثني أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام" بن المغيرة المخزومي المدني الثقة أحد الفقهاء السبعة التابعي الكبير، كثير الحديث من سادات قريش، قيل: اسمه محمد، وقيل: المغيرة، وقيل: أبو بكر، وكنيته أبو عبد الرحمن، وقيل: اسمه وكنيته واحد، ولد في خلافة عمر، ومات سنة ثلاث أو أربع أو خمس وتسعين، "فذكر نحوه" وهذا رجاله على شرط الشيخين. "والثاني: ما أخرجه" ابن جرير" أيضا من طريق المعتمر بن سليمان" بن طرخان التيمي الثقة الحافظ البصري المتوفى بها سنة سبع وثمانين ومائة، روى له الستة.
"وحماد بن سلمة" بفتحات ابن دينار البصري أحد الأئمة الأثبات العابد الزاهد الحافظ مجاب الدعوة، كان يعد من الأبدال تزود سبعين امرأة، فلم يولد له؛ لأنه لا يولد للبدل، احتج به مسلم والأربعة والبخاري في التاريخ وعلق له في الصحيح، قال الحافظ: ولم يخرج له فيه احتجاجا ولا مقرونا ولا متابعة إلا في موضع واحد في الرقاق؛ لأنه ساء حفظه في الآخر، مات سنة سبع وستين ومائة.
"كلاهما عن داود بن أبي هند" القشيري مولاهم أبو بكر أو أبو محمد، ثقة متقن أخرج له مسلم والأربعة مات سنة أربعين ومائة، فهذا على شرط مسلم. "عن أبي العالية" بمهملة وتحتية، رفيع بضم الراء وفتح الفاء ابن مهران الرياحي براء وتحتية ومهملة، البصري التابعي الكبير أسلم(2/24)
قال الحافظ ابن حجر: وقد تجرأ ابن العربي -كعادته- فقال: ذكر الطبري في ذلك روايات كثيرة لا أصل لها. وهو إطلاق مردود عليه.
وكذا قول القاضي عياض:
"هذا الحديث لم يخرجه أهل الصحة، ولا رواه ثقة بسند سليم متصل، مع ضعف نقلته، واضطراب رواياته وانقطاع أسانيده".
وكذا قوله: "ومن حكيت عنه هذه القصة من التابعين والمفسرين لم يسندها أحد منهم ولا رفعها إلى صاحب، وأكثر الطرق عنهم في ذلك ضعيفة واهية".
__________
بعد الوفاة النبوية بسنتين، وقيل فيه: ليس بعد الصحابة أعلم منه بالقرآن مات سنة تسعين، وقيل: ثلاث، وقيل غير ذلك.
"قال الحافظ ابن حجر" أيضا إذ ما قبله كلامه: "وقد تجرأ ابن العربي" الحافظ المتجر في العلوم محمد بن عبد الله بن أحمد الإشبيلي المالكي القاضي، يكنى أبا بكر، له التصانيف الحسنة والمناقب الجمة والرحلة إلى عدة بلاد في طلب العلوم، توفي سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة. "كعادته" في التجرؤ "فقال: ذكر الطبري" يعني ابن جرير "في ذلك روايات كثيرة" باطلة؛ كما في الفتح عنه قبل طوله "لا أصل لها، وهو إطلاق مردود عليه" لكثرة الطرق مع المراسيل الثلاثة الصحيحة، "وكذا قول القاضي عياض" في الشفاء "هذا الحديث لم يخرجه أهل الصحة، ولا رواه ثقة بسند سليم" أي: سالم من الطعن فيه، "متصل" قال: وإنما أولع به ويمثله المفسرون والمؤرخون بكل غريب، المتلقفون من الصحف كل صحيح وسقيم، وصدق القاضي بكر بن العلاء المالكي، حيث قال: لقد بلي الناس ببعض أهل الأهواء والتفسير وتعلق بذلك الملحدون.
"مع ضعف نقلته واضطراب رواياته وانقطاع أسانيده" واختلاف كلماته، فقائل تقول في الصلاة وآخر في نادي قومه حين أنزلت عليه السورة، وآخر يقول بل حدث نفسها فسها، وآخر قالها الشيطان على لسانه، وأن النبي صلى الله عليه وسلم لما عرضها جبريل قال: ما هكذا أقرأتك، وآخر يقول: بل أعلمهم الشيطان أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأها فلما بلغ النبي ذلك، قال: "والله ما هكذا أنزلت"، إلى غير ذلك من اختلاف الرواة، "وكذا قوله" أي: ياض عقب ما زدته منه "ومن حكيت عنه هذه القصة من التابعين" كالزهري وابن المسيب وأبي بكر بن عبد الرحمن "والمفسرين" كابن جرير وابن أبي حاتم وابن المنذر، "لم يسندها أحد منهم" إلى النبي صلى الله عليه وسلم "ولا رفعها إلى صاحب" من أصحابه "وأكثر الطرق عنهم في ذلك ضعيفة واهية" ساقطة غير مرضية.(2/25)
قال: وقد بين البزار أنه لا يعرف من طريق يجوز ذكره، إلا طريق أبي بشر عن سعيد بن جبير، مع الشك الذي وقع في وصله.
"ثم رده من طريق النظر: بأن ذلك لو وقع لارتد كثير من أسلم. قال: ولم ينقل ذلك". انتهى.
وجميع ذلك لا يتمشى مع القواعد:
فإن الطرق إذا كثرت وتباينت مخارجها دل على أن لها أصلا.
وقد ذكرنا أن ثلاثة أسانيد منها على شرط الصحيح، وهي مراسيل يحتج بمثلها من يحتج بالمراسيل، وكذا من لا يحتج بها الاعتضاد.
وإذا تقرر ذلك: تعين تأويل ما وقع فيها مما يستنكر، وهو قوله: ألقى الشيطان على لسانه: تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى. فإن..........
__________
"قال" ابن عياض "وقد بين البزار أنه لا يعرف من طريق يجوز ذكره إلا طريق" شعبة عن "أبي بشر عن سعيد بن جبير مع الشك الذي وقع في وصله" من سعيد، وهو قوله: عن ابن عباس فيما أحسب، قال: ولم يسنده عن شعبة إلا أمية بن خالد وغيره يرسله عن سعيد وإنما يعرف عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس، قال القاضي: وأما الكلبي فلا تجوز الرواية عنه لقوة ضعفه وكذبه كما أشار إليه البزار، انتهى كلامه في الشفاء.
قال شارحه: وفي قوله: لقوة ضعفه طباق بديع جدا فهذا رده من حيث الإسناد، "ثم رده" أي: عياض، "من طريق النظر" أي: الفكر الصادر عن عقل سليم مستقيم "بأن ذلك لو وقع لارتد كثير ممن أسلم" أنهم إذا سمعوه مع قرب عهدهم بالإسلام اعتقدوا في الأصنام النفع فيميلون لها، "قال: ولم ينقل ذلك، انتهى".
قال الحافظ ابن ججر: "وجميع ذلك لا يتمشى على القواعد، فإن الطرق إذا كثرت وتباينت مخارجها" جمع مخرج، أي: محل خروجها "دل ذلك على أن لها أصلا" إذ يبعد اتفاق طوائف متباينين على ما لا أصل له، "وقد ذكرنا أن ثلاثة أسانيد منها على شرط الصحيح" ولو لأحدهما وهي طريق ابن جبير وطريق أبي بكر بن عبد الرحمن وطريق أبي العالية، "وهي مراسيل يحتج بمثلها من يحتج بالمراسيل" لصحتها "وكذا من لا يحتج بها الاعتضاد" بعضها ببعض فحصلت لها القوة فقامت بها الحجة عند الفريقين "وإذا تقرر ذلك تعين تأويل ما وقع فيها مما يستنكر، وهو قوله: ألقى الشيطان على لسانه تلك الغرانيق العلا وإن شفاعتهن لترتجى، فإن(2/26)
ذلك لا يجوز حمله على ظاهره؛ لأنه يستحيل عليه صلى الله عليه وسلم أن يزيد في القرآن عمدا ما ليس فيه، وكذا سهوا إذا كان مغايرا لما جاء به من التوحيد لمكان عصمته.
وقد سلك العلماء في ذلك مسالك:
فقيل: جرى ذلك على لسانه حين أصابته سنة، وهو لا يشعر، فلما علم الله بذلك أحكم آياته، وهذا أخرجه الطبري عن قتادة.
ورده القاضي عياض: بأنه لا يصح، لكونه لا يجوز على النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، ولا ولاية للشيطان عليه في النوم.
وقيل: إن الشيطان ألجأه إلى أن قال ذلك بغير اختياره.
ورده ابن العربي..........................
__________
ذلك لا يجوز" أي: يحرم بإجماع "حمله على ظاهره؛ لأنه يستحيل عليه صلى الله عليه وسلم أن يزيد في القرآن عمدا ما ليس فيه" كيف؟ وقد قال تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا} [الحاقة: 44] إلخ.
وقال: {إِذًا لَأَذَقْنَاكَ} الآية، "وكذا سهوا إذا كان مغايرا لما جاء به من التوحيد لمكان عصمته" وهذا يؤذن بجواز زيادته على ما في القرآن سهوا، إن وافق ما جاء به من التوحيد وفيه ما فيه، فلا يقع منه ذلك ولا سهوا وإجماعا حكاه عياض وغيره "وقد سلك العلماء في ذلك مسالك" عبر عن تلبسهم بالأجوبة المختلفة بالدخول في الطرق المختلفة مجازا، إذ سلوك الطريق الدخول فيه والمسالك الطرق التي يدخل فيها، وقد أنصف في الشفاء، حيث قال: وأجاب عن ذلك أئمة المسلمين بأجوبة، منها الغث والسمين.
"فقيل: جرى ذلك على لسانه حين أصابته" أي: عرضت له، "سنة" فتور مع وائل النوم قبل الاستغراق فيه، "وهو لا يشعر، فلما علم الله" أظهر علمه للناس "بذلك أحكم آياته، وهذا أخرجه الطبري عن قتادة" ونقله عياض عنه وعن مقاتل، "ورده القاضي عياض بأنه لا يصح" وقوعه منه "لكونه لا يجوز على النبي صلى الله عليه وسلم ذلك ولا ولاية للشيطان عليه في النوم" ولذا احتاجوا للجواب عن نومه في الوادي، وأجاب شارح الهمزية بأن هذا لا يثبت له الولاية عليه؛ غاية الأمر أن الشيطان لما رآه أصابته تلك السنة حكى قراءته بصوت يشبه صوته، ودفعه شيخنا بأن عياض لم يرد بالولاية عليه السلطنة، بحيث يصير فاعلا لما أمره به، بل مراده بنفي الولاية أنه لا تسلط له عليه في شيء مما يريد فعله بوجه ما، أعم من أن يكون بحمله موافقته أو بحكاية شيء عنه على وجه الكذب والبهتان.
"وقيل: إن الشيطان ألجاه إلى أن قال ذلك بغير اختياره ورده" محمد "ابن العربي بقوله(2/27)
بقوله تعالى، حكاية عن الشيطان: {وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ} الآية [إبراهيم: 22] ، قال: فلو كان للشيطان قوة على ذلك لما بقي لأحد قوة على طاعة.
وقيل: إن المشركين كانوا إذا ذكروا آلهتهم وصفوها بذلك، فعلق ذلك بحفظه صلى الله عليه وسلم فجرى على لسانه لما ذكرهم سهوا.
وقد رد ذل القاضي عياض فأجاد.
وقيل: لعله قال ذلك توبيخا للكفار.
قال القاضي عياض: وهذا جائز إذا كانت هناك قرينة تدل على المراد، ولا سيما وقد كان الكلام في ذلك الوقت في الصلاة جائز.
وإلى هذا نحا الباقلاني.
__________
تعالى حكاية عن الشيطان: {وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ} [إبراهيم: 22] الآية، قال: فلو كان للشيطان قوة على ذلك لما بقي لأحد قوة على طاعة" لأنه إذا قدر على إلجائه، وحاشاه من ذلك فما الناس بعده، فهذا الجواب أقبح من القصة. "وقيل: إن المشركين كانوا إذا ذكروا آلهتهم وصفوها بذلك فعلق ذلك" بكسر اللام، أي: تعلق "بحفظه صلى الله عليه وسلم فجرى على لسانه لما ذكرهم سهوا، وقد رد ذلك القاضي عياض، فأجاد" حيث قال: هذا إنما يصح فيما لم يغير المعاني ويبدل الألفاظ، وزيادة ما ليس من القرآن؛ بل الجائز عليه السهو عن إسقاط آية منه أو كلمة، ولكنه لا يقر عليه بل ينبه عليه ويذكر به للحين، انتهى.
"وقيل: لعله" صلى الله عليه وسلم "قال ذلك توبيخا للكفار" كقول إبراهيم: هذا ربي على أحد التأويلات، وقوله: بل فعله كبيرهم هذا بعد السكت، وبيان الفصل بين الكلامين ثم رجع إلى تلاوته، "قال القاضي عياض: وهذا جائز إذا كانت هناك قرينة تدل على المراد" مع بيان الفصل، وأنه ليس من المتلو "ولا سيما وقد كان الكلام في ذلك الوقت في الصلاة جائزا" لفظ عياض، ولا يعترض هذا بما روي أنه كان في الصلاة، فقد كان الكلام قبل فيها غير ممنوع.
"وإلى هذا نحا" مال القاضي أبو بكر محمد بن الطيب "الباقلاني" البصري ثم البغدادي الملقب بشيخ السنة ولسان الأمة الأصولي الأشعري المالكي مجدد الدين على رأس المائة الرابعة على الصحيح؛ كما قال الزناتي في طبقات المالكية. وفي الديباج: انتهت إليه رئاسة المالكية في وقته، وكان حسن الفقه عيم الجدل، وكان له بجامع المنصور حلقة عظيمة،(2/28)
وقيل: إنه لما وصل إلى قوله: {وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} خشى المشركون أن يأتي بعدها بشيء يذم آلهتهم به فبادروا إلى ذلك الكلام، فخلطوه في تلاوة النبي صلى الله عليه وسلم على عادتهم في قولهم: لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه ونسب ذلك للشيطان لكونه الحامل لهم على ذلك. أو المراد بالشيطان شيطان الإنس.
وقيل المراد بالغرانيق العلى، الملائكة، وكان الكفار يقولون: الملائكة بنات الله، ويعبدونها، فنسق ذكر الكل ليرد عليهم بقوله: {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى} فلما سمعه المشركون حملوه على الجميع، وقالوا: قد عظم آلهتنا ورضوا بذلك،
__________
وحدث عنه أبو ذر، وتوفي يوم السبت لسبع بقين من ذي القعدة سنة ثلاث وأوربعمائة "وقيل: أنه لما وصل إلى قوله: {وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} [النجم: 20] ، خشي المشركون أن يأتي بعدها بشيء يذم آلهتهم به" كعادته إذا ذكرها "فبادروا إلى ذلك الكلام فخلطوه في تلاوة النبي صلى الله عليه وسلم على عادتهم في قولهم: لا تسمعوا لهذا القرآن" إذا قرأ "والغوا فيه" أظهروا اللغو برفع الأصوات تخليطا وتشويشا عليه بما يشغل عنه الخواطر لعجزهم عن مثله؛ زاد في الشفاء وأشاعوا ذلك وأذاعوه، فحزن النبي صلى الله عليه وسلم من كذبهم عليه فسلاه الله بقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ} الآية [يوسف: 109] ، [الأنبياء: 25] ، وبين للناس الحق من ذلك الباطل، وحفظ القرآن وأحكم آياته ودفع ما ليس به العدو؛ كما ضمنه قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ} الآية [الحجر: 9] .
"ونسب ذلك للشيطان" إبليس "لكونه الحامل لهم على ذلك" كما جزم به عياض، "أو المراد بالشيطان شيطان الإنس" أي: جنسه، قال شيخنا: وهذا الجواب أقرب الأجوبة فيما ينبغي، وإن قال في شرح الهمزية: إنه تعسف.
"وقيل المراد" واستظهره عياض، والمراد: "بالغرانيق العلا الملائكة" كما قاله الكلبي بناء على رواية مجاهد، والغرانقة العلا؛ كما قال عياض، لا على رواية تلك: لأنه لم يتقدم للملائكة ذكر حتى يرجع إليه اسم الإشارة. "وكان الكفار يقولون: الملائكة بنات الله ويعبدونها" قال: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى، وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} [النجم: 19، 20] والغرانقة العلا وإن شفاعتهن لترتجى؛ "ليرد عليهم بقوله: {لَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى} [النجم: 21] ، فلما سمعه المشركون حملوه على الجميع" جهلا أو عنادا أو تلبيسا، "وقالوا: قد عظن آلهتنا ورضوا بذلك" مع أنه إنما يعود الغرانقة أي: الملائكة؛ لأن استعارة الطير لهم أظهر من استعارة الأصنام.(2/29)
فنسخ الله تينك الكلمتين وأحكم آياته.
وقيل: كان النبي صلى الله عليه وسلم يرتل القرآن، فارتصده الشيطان في سكته من تلك السكتات ونطق بتلك الكلمات محاكيا نغمة النبي صلى الله عليه وسلم بحيث سمعه من دنا إليه فظنها من قوله، وأشاعها.
وقال: وهذا أحسن الوجوه، ويؤيده ما ورد عن ابن عباس في تفسير "تمنى" بـ"تلا".
وكذا استحسن ابن العربي هذا التأويل وقال: معنى قوله: في أمنيته، أي في تلاوته، فأخبر الله تعالى أن سنة الله في رسله، إذا قالوا....
__________
قال عياض: ورجاء الشفاعة منهم صحيح "فنسخ الله تينك الكلمتين" اللتين وجد الشيطان بهما سبيلا للتلبيس، وهما: والغرانقة العلا وإن شفاعتهن لترتجى، عبر عنهما بالكلمتين مجازا من تسمية الكل باسم الجزء، "وأحكم آياته" كما نسخ كثير من القرآن، وكان في كل من إنزالهما ونسخهما حكمة ليضل به من يشاء ويهدي من يشاء، وما يضل به إلا الفاسقين، وليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض، والقاسية قلوبهم وإن الظالمين لفي شقاق بعيد، وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم، ذكره القاضي عياض.
"وقيل: كان النبي صلى الله عليه وسلم يرتل القرآن" ترتيلا ويفصل الآيات تفصيلا في قراءته، كما رواه عنه الثقات "فارتصده الشيطان في سكتة من تلك السكتات ونطق بتلك الكلمات محاكيا نغمة" أي: صوت "النبي صلى الله عليه وسلم" والنغمة في الأصل الصوت الخفي؛ كما في القاموس. "بحيث سمعه من دنا إليه فظنها من قوله" أي: مما تلاه من القرآن، "وأشاعها" ولم يقدح ذلك عند المسلمين لحفظ السورة قبل على ما أنزلت وتحققهم حال النبي صلى الله عليه وسلم في ذم الأوثان، بل حكى ابن عقبة أن المسلمين لم يسمعوها، وإنما ألقى الشيطان ذلك في أسماع المشركين وقلوبهم، ويكون حزنه صلى الله عليه وسلم لهذه الإشاعة والشبهة، وسبب هذه الفتنة، ذكره عياض مريدا به بيان القرينة القائمة على أنه ليس من قوله ولا مما أوحي إليه، فسقط الاعتراض عليه بأنه لا سبيل للشيطان عليه حتى يتمكن من إدخاله في كلامه ومتلوه ما ليس منه.
"وقال" أي: عياض ما معناه "وهذا أحسن الوجوه" وهو الذي يظهر ويترجح، "ويؤيده ما ورد عن ابن عباس في تفسير تمني بتلا" قال تعالى: {لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ} [البقرة: 78] ، أي: تلاوة، "وكذا استحسن ابن العربي" الحافظ محمد "هذا التأويل، وقال: معنى قوله في أمنيته، أي: في تلاوته فأخبر الله تعالى أن سنة الله في رسله" عليهم الصلاة والسلام "إذا قالوا(2/30)
قولا زاد الشيطان فيه من قبل نفسه، فهذا نص في أن الشيطان زاد في قول النبي صلى الله عليه وسلم لا أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله.
وقد سبق إلى ذلك الطبري، مع جلالة قدره وسعة علمه وشدة ساعده في النظر، فصوب هذا المعنى. انتهى.
__________
قولا زاد الشيطان فيه من قبل"، بكسر ففتح جهة "نفسه، فهذا نص في أن الشيطان زاد في قول النبي صلى الله عليه وسلم لا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال" حتى يحتاج للعذر بشيء مما سبق، "وقد سبق" عياضا وابن العربي "إلى ذلك" أبو جعفر بن جرير "الطبري مع جلالة قدره وسعة علمه" بحيث قال فيه إمام الأئمة ابن خزيمة: ما أعلم على أديم الأرض أعلم منه.
وقال الخطيب: كان أحد الأئمة يحكم بقوله ويرجع إلى رأيه لمعرفته وفضله، جمع من العلوم ما لم يشاركه فيه أحد من أهل عصره، حافظا للقرآن بصيرا بالمعاني فقيها في أحكام القرآن عالما بالسنن وطرقها وصحيحها وسقيمها ومنسوخها، عارفا بأقوال الصحابة والتابعين بصيرا بأيام الناس وأخبارهم، له تاريخ الإسلام والتفسير الذي لم يصنفه مثله.
"وشدة ساعده في النظر" وله في الأصول والفروع كتب كثيرة، وعده السيوطي في العشرة الذين دونت مذاهبهم وكان لهم أتباع يفتون بقولهم ويقضون، ولم ينقرضوا إلا بعد الخمسمائة لموت العلماء، لكن قال ابن فرحون في الديباج: انقطعت أتباع الطبري بعد الأربعمائة. "فصوب هذا المعنى، انتهى" كلام فتح الباري في التفسير، وكذا ارتضاه الإمام الرازي، وقال: إنه الجواب السديد، واختاره أيضا في المواقف والمدارك والأنوار وغيرها، والله أعلم.(2/31)
"الهجرة الثانية إلى الحبشة ونقض الصحيفة":
ثم هاجر المسلمون الثانية إلى أرض الحبشة وعدتهم ثلاثة وثمانون رجلا إن كان عمار بن ياسر فيهم،.........
__________
الهجرة الثانية إلى الحبشة ونقض الصحيفة:
"ثم هاجر المسلمون" الهجرة "الثانية إلى أرض الحبشة" بإذنه صلى الله عليه وسلم؛ كما في رواية: لما استقبلوهم حين رجعوا بالأذى والشر، فرجع الأولون ومعهم خلق سواهم، "وعدتهم ثلاثة وثمانون رجلا إن كان عمار بن ياسر فيهم" فقد شك فيه ابن إسحاق، وقال السهيلي: الأصح عند أهل السير كالواقدي وابن عقبة وغيرهما أنه لم يكن فيهم، انتهى. وجزم في الاستيعاب بهجرته،(2/31)
وثماني عشرة امرأة.
وكان منهم عبيد الله بن جحش مع امرأته أم حبيبة بنت أبي سفيان، فتنصر هناك................
__________
وكلام العيون كما في النور يقتضي اختياره؛ لأنه قال في تعدادهم: وعمار بن ياسر، وفيه خلاف، وقيل: إن أبا موسى كان فيهم، وليس كذلك، ولكنه خرج في طائفة من قومه إلى أرضهم باليمن يريدون المدينة فركبوا البحر فرمتهم الريح إلى الحبشة فأقام هناك حتى قدم مع جعفر، انتهى.
وروى أحمد بإسناد حسن عن ابن مسعود: بعثنا صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي ونحن نحو من ثمانين رجلا فيهم ابن مسعود وجعفر وعبد الله بن عرفطة وعثمان بن مظعون وأبو موسى الأشعري ... الحديث.
واستشكل ذكر أبي موسى؛ لأن الذي في الصحيحين عنه: بلغنا مخرج النبي صلى الله عليه وسلم ونحن باليمن، فركبنا سفينة فألقتنا إلى النجاشي بالحبشة فوافقنا جعفر بن أبي طالب قأقمنا معه حتى قدمنا المدينة فوافتنا النبي صلى الله عليه وسلم حين افتتح خيبر، فقال: "لكم أنتم يا أهل السفينة هجرتان"، قال الحافظ: ويمكن الجمع بأن موسى هاجر أولا إلى مكة، فأسلم، فبعثه صلى الله عليه وسلم مع من بعث إلى الحبشة، فتوجه إلى بلاد قومه وهم مقابل الحبشة من الجانب الشرقي، فلما تحققوا استقراره صلى الله عليه وسلم وأصحابه المدينة، هاجر هو ومن أسلم من قومه إلى المدينة فألقتهم السفينة لأجل هيجان الريح إلى الحبشة، فهذا محتمل وفيه جمع بين الأخبار، فليعتمد.
وعلى هذا فقول أبي موسى بلغنا مخرج النبي صلى الله عليه وسلم، أي: إلى المدينة لا بلغنا مبعثه؛ لأنه يبعد كل البعد أن يتأخر علم مبعثه إلى مضي نحو عشرين سنة، ومع الحمل على مخرجه إلى المدينة فلا بد من زيادة استقراره بها وانتصافه ممن عاداه ونحو ذلك؛ إذ يبعد أيضا أن يخفي عنهم خبر خروجه إلى المدينة ست سنين، ويحتمل أن إقامة أبي موسى بالحبشة طالت لتأخر جعفر عن الحضور إلى المدينة حتى يؤذنه صلى الله عليه وسلم بالقدوم، وذكر ابن مظعون فيهم، وإن كان مذكورا في الأولى؛ لأنهم رجعوا معهم، كما ذكره ابن إسحاق وابن عقبة وغيرهما.
"وثماني عشر امرأة" إحدى عشرة قرشيات وسبع غرباء؛ كما في العيون، فالجملة مائة أو واثنان إن عد عمار وأبو موسى، قال ابن إسحاق: فلما سمعوا بمهاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة رجع منهم ثلاثة وثلاثون رجلا وثمان نسوة، فمات منهم رجلان بمكة وحبس سبعة وشهد منهم بدرا أربعة وعشرون. "وكان منهم: عبيد الله" بضم العين "ابن جحش" أخو عبد الله بفتح العين المستشهد بأحد "مع امرأته أم حبيبة بنت أبي سفيان فتنصر هناك" روى ابن سعد عنها: رأيت في المنام كان زوجي عبيد الله بأسوأ صورة ففزعت فأصبحت فإذا به قد تنصر فأخبرته بالمنام(2/32)
ثم مات على دين النصرانية. وتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم أم حبيبة بنت أبي سفيان سنة سبع من الهجرة إلى المدينة، وهي بالحبشة كما سيأتي إن شاء الله تعالى في المقصد الثاني عند ذكر أزواجه صلى الله عليه وسلم.
وخرج أبو بكر الصديق رضي الله عنه مهاجرا إلى الحبشة....
__________
فلم يحفل به وأكب على الخمر حتى مات، فأتاني آت في نومي، فقال: يا أم المؤمنين! ففزعت فما هو إلا أن انقضت عدتي فما شعرت إلا برسول النجاشي يستأذن فإذا هي جارية يقال لها: أبرهة، فقالت: إن الملك يقول لك: وكلي من يزوجك، فوكلت خالد بن سعيد بن العاصي.. الحديث، "ثم مات على دين النصرانية، وتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم أم حبيبة" رملة على الأصح، وقيل: هند اشتهرت بابنتها حبيبة من عبيد الله المذكور، وهي صحابية ربيبة المصطفى اختلف هل ولدت بمكة أو الحبشة، "بنت أبي سفيان" صخر بن حرب رضي الله عنه "سنة سبع من الهجرة إلى المدينة" متعلق بالهجرة "وهي بالحبشة كما سيأتي إن شاء الله تعالى في المقصد الثاني عند ذكر أزواجه صلى الله عليه وسلم" وروى أحمد بإسناد حسن عن ابن مسعود، قال: بعثت قريش عمرو بن العاص وعمارة بن الوليد بهدية فقدما على النجاشي فدخلا عليه وسجدا له وابتدراه، فقعد واحد عن يمينه والآخر على شماله، فقالا: إن نفرا من بني عمنا نزلوا أرضك ورغبوا عنا وعن ملتنا، قال: وأين هم؟ قال: هم بأرضك، فأرسل في طلبهم، فقال جعفر: أنا خطيبكم اليوم، فاتبعوه فدخل فسلم فقالوا: ما لك لا تسجد للملك؟ فقال: إنا لا نسجد إلا لله عز وجل، قالوا: ولم ذلك؟ قال: إن الله أرسل فينا رسولا وأمرنا أن لا نسجد إلا لله، وأمرنا بالصلاة والزكاة، قال عمرو: فإنهم يخالفونك في ابن مريم وأمه، قال: فما تقول فيهما؟ قال: نقول كما قال الله تعالى: {رَوْحِ اللَّهِ} [يوسف: 87] وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول التي لم يمسها بشر ولم يعرضها ولد، فرفع النجاشي عودا من الأرض، فقال: يا معشر الحبشة والقسيسين والرهبان ما يزيد على ما تقولون أشهد أنه رسول الله، وأنه الذي بشر به عيسى في الإنجيل، والله لولا ما أنا فيه من الملك لأتيته فأكون أنا الذي أحمل نعليه وأوضئه، وقال: انزلوا حيث شئتم، وأمر بهدية الآخرين فردت عليهما؛ وتعجل ابن مسعود فشهد بدرا. وفي رواية: فقال النجاشي: مرحبا بكم وبمن جئتم من عنده، وأنا أشهد أنه رسول الله، وتوفي النجاشي بعد الهجرة سنة تسع عند الأكثر، وقيل: سنة ثمان قبل فتح مكة؛ كما ذكره البيهقي في الدلائل.
"وخرج أبو بكر الصديق" كما في الصحيح عن عائشة: لم أعقل أبوي إلا وهما يدينان الدين ولا يمر علينا يوم إلا يأتينا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفي النهار بكرة وعشية، فلما ابتلي المسلمون خرج أبو بكر "رضي الله عنه مهاجرا إلى الحبشة" ليلحق من سبقه من المهاجرين(2/33)
حتى بلغ برك الغماد، ورجع في جوار سيد القارة، ابن الدغنة -بفتح الدال المهملة وكسر الغين المعجمة، وتخفيف النون. وبضم الدال وتشديد النون-.............
__________
إليها "حتى بلغ برك" بفتح الموحدة وحكى كسرها وسكون الراء فكاف، "الغماد" بكسر المعجمة على المشهور ومن الروايات وجزم ابن خالويه بضمها، وخطأ الكسر، وجوز أبو عبيد وغيره الضم والكسر، والقزاز وغيره الفتح أيضا، وذكره ابن عديس في المثلث، وأغرب من حكى إهمال العين وميم خفيفة فألف فدال مهملة، قال الحازمي: موضع على خمس ليال من مكة إلى جهة اليمن. وقال البكري: هي أقاصي هجر، وقال الهمداني: في أقصى اليمن، قال الحافظ: والأول أولى، انتهى.
وعورض هذا بما رواه ابن إسحاق عن الزهري عن عروة عن عائشة: استأذن أبو بكر رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة فأذن له، فخرج أبو بكر مهاجرا حتى إذا سار يوما أو يومين لقيه ابن الدغنة. الحديث، وسنده حسن أو صحيح، وبين برك الغماد وبين يوم أو يومين تباين كثير، وجمع بأنها لم تعن المكان المخصوص بل مكانا بعيدا، فإنها تقال فيما تباعد كسعفان وهجر وحوض الثعلب، أو أرادت حتى بلغ أقصى المعمور من مكة، فإن برك الغماد فسرت بذلك أو حديث الصحيح فيه زيادة، فيؤخذ بها. "ورجع في جوار سيد القارة" بقاف وراء خفيفة قبيلة مشهورة من بني الهون بضم الهاء والتخفيف، ابن خزيمة من مدركة بن إلياس بن مضر، وكانوا حلفاء بني زهرة من قريش ويضرب بهم المثل في قوة الرمي، قال الشاعر:
قد أنصف القارة من راماها
"ابن الدغنة" قال في النور: لا أعلم له إسلاما، "بفتح الدال المهملة وكسر الغين المعجمة وتخفيف النون" كما نسبه الحافظ للرواة، وقال: قال الأصيلي: قرأه لنا المروزي بفتح الغين والصواب الكسر. "وبضم الدال والغين وتشديد النون" عند أهل اللغة وبه رواه أبو ذر في الصحيح، ولذا قال النووي: روي بهما في الصحيح، وفي الفتح: ثبت بالتخفيف والتشديد من طريق وهي أمه، وقيل أم أبيه، وقيل: دايته، وقيل: لاسترخاء كان في لسانه، ومعنى الدغنة المسترخية وأصلها الغمامة الكثيرة المطر، واختلف في اسمه: فعند البلاذري من طريق الواقدي عن معمر عن الزهري أنه الحارث بن يزيد حكى السهيلي أنه مالك، وقول الكرماني سماه ابن إسحاق ربيعة بن ربيع وهم، فالذي ذكره ابن إسحاق شخص غير هذا سلمي، وهذا من القارة وأيضا إنما ذكره في غزوة حنين وأنه صحابي ولم يذكر في قصة الهجرة وكان رجوعه بطلب ابن الدغنة، ففي الصحيح خرج أبو بكر مهاجرا نحو أرض الحبشة حتى بلغ برك الغماد لقيه ابن الدغنة وهو سيد القارة، فقال: أين تريد يا أبا بكر فقال أبو بكر: أخرجني قومي فأريد أن أسيح في(2/34)
يعبد ربه في داره، وابتنى مسجدا بفناء داره، وكان يصلي فيه ويقرأ القرآن فيتقصف عليه نساء المشركين وأبناؤهم، ويعجبون منه. وكان أبو بكر رجلا بكاء لا يملك عينيه إذا قرأ القرآن.
فأفزع ذلك أشراف قريش من المشركين فقالوا............
__________
الأرض وأعبد ربي، فقال ابن الدغنة: فإن مثلك يا أبا بكر لا تخرج ولا يخرج، إنك تكسب المعدوم وتصل الرحم وتحمل الكل وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق، فأنا لك جار، ارجع واعبد ربك ببلدك، فرجع وارتحل معه ابن الدغنة، فطاف عشية في أشراف قريش، فقال: إن أبا بكر لا يخرج مثله ولا يُخرج، أتخرجون رجلا يكسب المعدوم ويصل الرحم ويحمل الكل ويقري الضيف ويعين على نوائب الحق، فلم تكذب قريش بجوار ابن الدغنة، وقالوا له: مر أبا بكر، فليعبد ربه في داره فليصل فيها وليقرأ ما شاء ولا يؤذينا بذلك ولا يستعلن به، فإنا نخشى أن يفتن نساءنا وأبناءنا، فقال ذلك ابن الدغنة لأبي بكر، فلبث أبو بكر بذلك "يعبد ربه في داره" ولا يستعلن بصلاته ولا يقرأ في غير داره.
قال الحافظ: ولم يقع لي بيان المدة التي أقام فيها أبو بكر على ذلك، "وابتنى" لفظ عائشة: ثم بدا لأبي بكر فابتنى "مسجدا بفناء داره" بكسر الفاء وخفة النون والمد، أي: أمامها، "وكان يصلي فيه ويقرأ القرآن" أي: ما نزل منه كله أو بعضه، "فيتقصف" بتحتية ففوقية فقاف فصاد مهملة ثقيلة مفتوحتين، أي: يزدحم "عليه نساء المشركين وأبناؤهم" حتى يسقط بعضهم على بعض فيكاد ينكسر، قال الحافظ: وأطلق يتقصف مبالغة، يعني لأنهم لم يصلوا إلى هذه الحالة. وفي رواية المستملي والمروزي: ينقذف بتحتية مفتوحة فنون ساكنة فقاف مفتوحة فذال معجمة مكسورة ففاء.
قال الخطابي: ولا معنى له والمحفوظ الأول، إلا أن يكون من القذف أي يتدافعون فيقذف بعضهم بعضا بعضا فيتساقطون عليه فيرجع إلى معنى الأول، وفي رواية الكشميهني والجرجاني: فينقصف بنون ساكنة بدل الفوقية وكسر الصاد أي: يسقط، "ويعجبون منه وكان أبو بكر رجلا بكاء" بشد الكاف: كثير البكاء، "لا يملك عينيه" قال الحافظ: أي لا يطيق إمساكهما عن البكاء من رقة قلبه "إذا قرأ القرآن" إذا ظرفية والعامل فيه لا يملك أو شرطية والجزاء مقدر، "فأفزع ذلك" أي: أخاف ما فعله أبو بكر "أشراف قريش من المشركين" لما يعلمونه من رقة قلوب النساء والشباب أن يميلوا إلى الإسلام.
قال في الرواية: فأرسلوا إلى ابن الدغنة فقدم عليهم، "فقالوا" إنا كنا أجرنا أبا بكر بجوارك على أن يعبد ربه في داره، فقد جاوز ذلك فابتنى مسجدا بفناء داره فأعلن بالصلاة(2/35)
إنا قد خسينا أن يفتن نساءنا وأبناءنا، فإن أحب أن يقتصر على أن يعبد ربه في داره فعل، وإن أبى إلا أن يعلن فسله أن يرد إليك ذمتك، فإنا قد كرهنا أن نخفرك.
فقال أبو بكر لابن الدغنة: فإني أرد إليك جوارك وأرضى بجوار الله الحديث رواه البخاري.
ثم قام رجال في نقض الصحيفة،.............
__________
والقراءة فيه، و"إنا قد خشينا أن يفتن" بفتح أوله أبو بكر "نساءنا وأبناءنا" بالنصب مفعول كذا رواه أبو ذر، ورواه الباقون يفتن بضم أوله: نساؤنا بالرفع على البناء للمجهول، قال الحافظ. "فانهه" عن ذلك "فإن أحب أن يقتصر على أن يعبد ربه في داره فعل، وإن أبى إلا أن يعلن فسله" بفتح السين وسكون اللام بلا همز نسب هذا الحافظ للكشميهني وصدر بقوله: فسأله بالهمز "أن يرد إليك ذمتك" أمانك له، "فإنا قد كرهنا أن نخفرك" بضم النون وسكون المعجمة وكسر الفاء، يقال: خفره إذا حفظه وأخفره إذا غدر، أي: نغدرك.
قال في الرواية: ولسنا مقرين لأبي بكر الاستعلان، فأتى ابن الدغنة إلى أبي بكر، قال: قد علمت الذي عاقدت لك عليه، فإما أن تقتصر على ذلك وإما أن ترجع إلى ذمتي فإني لا أحب أن تسمع العرب أني أخفرت في رجل عقدت له "فقال أبو بكر لابن الدغنة: فإني أرد إليك جوارك" بكسر الجيم وضمها وراء "وأرضى بجوار الله" عز وجل، أي: بحمايته، "الحديث، رواه البخاري" في باب الهجرة إلى المدينة مطولا وليس في بقيته غرض يتعلق بما هنا، فإنما أراد المصنف إفادة أن ما ذكره قطعة منه، ورواه البخاري أيضا في مواضع مختصرا، قال الحافظ: وفيه من فضائل الصديق أشياء كثيرة قد امتاز بها عمن سواه ظاهرة لمن تأملها، قال: وفي موافقة ابن الدغنة في وصف الصديق لخديجة فيما وصفت به النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل على عظيم فضل الصديق واتصافه بالصفات البالغة في أنواع الكمال، انتهى.
ونحوه في النور، وزاد: وفي الحديث: كنت أنا وأبو بكر كفرسي رهان، فسبقته إلى النبوة، وقد خلق النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر من طينة واحدة، "ثم" في السنة العاشرة أو التاسعة "قام رجال في نقض الصحيفة" التي كتبت على بني هاشم والمطلب أشدهم في ذلك صنيعا هشام بن عمرو بن الحارث العامري أسلم بعد ذلك -رضي الله عنه، وكانت أم أبيه تحت هاشم بن عبد مناف قبل أن يتزوجها جده، وكان يصلهم في الشعب، أدخل عليهم في ليلة ثلاثة أحمال طعاما فعلمت قريش، فمشوا إليه حين أصبح فكلموه، فقال: إني غير عائد لشيء خالفكم،(2/36)
فأطلع الله نبيه عليه الصلاة والسلام على أن الأرضة أكلت جميع ما فيها من القطيعة والظلم، فلم تدع إلا أسماء الله فقط،..........
__________
فانصرفوا عنه ثم رد الثانية، فأدخل عليهم حملا أو حملين فغالظته قريش وهمت به، فقال أبو سفيان بن حرب: دعوه رجل وصل أهل رحمه أما إني أحلف بالله لو فعلنا مثل ما فعل لكان أحسن بنا، ثم مشى هشام إلى زهير بن أبي أمية وأسلم بعد وأمه عاتكة بنت عبد المطلب، فقال: يا زهير، أرضيت أن تأكل الطعام وتلبس الثياب وتنكح النساء، وأخوالك حيث قد علمت؟ فقال: ويحك يا هشام، فماذا أصنع فإنما أنا رجل واحد والله لو كان معي رجل آخر لقمت في نقضها، فقال: أنا معك. فقال: ابغنا ثالثا ومشيا جميعا إلى المطعم بن عدي، فقالا له: أرضيت أن يهلك بطنان من بني عبد مناف وأنت شاهد، فقالا: إنما أنا واحد، فقالا: أنا معك، فقال: ابغنا رابعا، فذهب إلى أبي البختري القاضي ابن هشام، فقال: ابغنا خامسا، فذهب إلى زمعة بن الأسود فقعدوا ليلا بأعلى مكة وتعاقدوا على ذلك، فلما جلسوا في الحجر تكلموا في ذلك وأنكروه، فقال أبو جهل: هذا أمر قضي بليل وفي آخر الأمر أخرجوا الصحيفة ومزقوها وأبطلوا حكمها، وهذا ملخص ما ذكر ابن إسحاق.
"فأطلع الله نبيه عليه الصلاة والسلام على أن الأرضة" بفتح الهمز والراء والضاد المعجمة: دويبة صغيرة كالعدسة تأكل الخشيب، "أكلت جميع ما فيها من القطيعة والظلم، فلم تدع إلا أسماء الله فقط" فيما ذكر ابن هشام، وأما ابن إسحاق وابن عقبة وعروة فذكروا عكس ذلك، وهو أن الأرضة لم تدع اسما لله إلا أكلته، وبقي ما يها من الظلم والقطيعة.
قال البرهان، ما حاصله: وهذا أثبت من الأول فعلى تقدير تساوي الروايتين يجمع بأنهم كتبوا نسختين فأبقت في إحداهما ذكر الله وفي الأخرى خلافه، وعلقوا إحداهما في الكعبة والأخرى عندهم، فأكلت من بعضها اسم الله ومن بعضها ما عداه لئلا يجتمع اسم الله مع ظلمهم، انتهى.
قال في الرواية: فذكر صلى الله عليه وسلم ذلك لعمه، فقال: أربك أخبرك بهذا، قال: "نعم"، قال: لا، والثواقب ما كذبتني قط، فانطلق في عصابة من بني هشام والمطلب حتى أتوا المسجد فأنكر قريش ذلك وظنوا أنهم خرجوا من شدة البلاء ليسلموا رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم، فقال أبو طالب: جرت بيننا وبينكم أمور لم تذكر في صحيفتكم فائتوا بها لعل أن يكون بيننا وبينكم صلح، وإنما قال ذلك خشية أن ينظروا فيها قبل أن يأتوا بها، فأتوا بها معجبين لا يشكون أنه صلى الله عليه وسلم يدفع إليهم فوضعوها بينهم، وقالوا لأبي طالب: قد آن لكم أن ترجعوا عما أحدثتم علينا وعلى أنفسكم، فقال: إنما أتيتكم في أمر هو نصف بيننا وبينكم، إن ابن أخي أخبرني ولم يكذبني أن الله بعث(2/37)
فلما أنزلت لتمزق وجدت كما قال عليه الصلاة والسلام. وكان ذلك في السنة العاشرة.
__________
على صحيفتكم دابة فلم تترك فيها اسما لله إلا لحسته، وتركت فيها غدركم وتظاهركم علينا بالظلم، فإن كان كما قال فأفيقوا فلا والله لا نسلمه حتى نموت من عند آخرنا، وإن كان باطلا دفعناه إليكم فقتلتم أو استحييتم، فقالوا: رضينا، ففتحوها فوجدوها كما قال -صلى الله عليه وسلم، فقالوا: هذا سحر ابن أخيك، وزادهم ذلك بغيا وعدوانا، والجمع بين هذا وبين ما مر من سعي رجال في نقضها باحتمال أنهم لما جلسوا في الحجر وتكالموا وافق قدوم أبي طالب وقومه عليهم بهذا الخبر، فزادهم ذلك رغبة فيما هم فيه.
"فلما أنزلت لتمزق" اللام للعاقبة "وجدت كما قال عليه الصلاة والسلام" لا للتعليل فلا يرد أنها لم تنزل وقت سؤال أبي طالب لتمزق بل لينظر ما فيها فقط، وإن القائمين في نقضها لم يستندوا إلى أخباره -صلى الله عليه وسلم. وأجاب شيخنا: بأن إنزالها لتمزق كان بفعل المجتهدين لإنزالها لا لسؤال أبي طالب. "وكان ذلك في السنة العاشرة" من النبوة بناء على ما صدر به فيه ما مر أن إقامتهم بالشعب ثلاث سنين، أما على قول ابن سعد سنتين، فيكون في التاسعة، والله أعلم.(2/38)
وفاة خديجة وأبي طالب:
ولما أتت عليه -صلى الله عليه وسلم- تسع وأربعون سنة وثمانية أشهر وأحد عشر يوما، مات عمه أبو طالب.
وقيل: مات في شوال من السنة العاشرة.
وقال ابن الجزار: قبل هجرته عليه الصلاة والسلام بثلاث سنين.
__________
وفاة خديجة وأبي طالب:
"ولما أتت عليه -صلى الله عليه وسلم- تسع وأربعون سنة وثمانية أشهر وأحد عشر يوما" كما حرره بعض المتقنين "مات عمه أبو طالب" بعد خروجهم من الشعب في ثاني عشر رمضان سنة عشر من النبوة، "وقيل: مات" بعد ذلك بقليل، "في شوال من السنة العاشرة" متعلق بكل من القولين؛ كما علم "وقال ابن الجزار قبل هجرته عليه الصلاة والسلام بثلاث سنين" وهذا يأتي على كلا القولين قبله؛ لأنه إذا مات في ذلك كان قبلها بثلاث. وفي الاستيعاب: خرجوا من الشعب في أول سنة خمسين وتوفي أبو طالب بعده بستة أشهر فتكون وفاته في رجب.
وفي سيرة الحافظ: مات في السنة العاشرة بعد خروجهم من الشعب بثمانية أشهر(2/38)
وروي أنه -صلى الله عليه وسلم- كان يقول له عند موته: يا عم قل لا إله إلا الله، كلمة أستحل لك بها الشفاعة يوم القيامة.
فلما رأى أبو طالب حرص رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال له: يابن أخي، لولا مخافة قريش أني إنما قلتها جزعا.........
__________
وعشرين يوما، "وروي" مرضه لأن مجموع رواية ابن إسحاق ضعيف، فلا يرد أن صدر الحديث إلى قوله: فلما رأى أبو طالب صحيح، فقد أخرجه البخاري في الجنائز والتفسير وبابه قصة أبي طالب عن سعيد بن المسيب عن أبيه، أي: المسيب بن حزن بفتح المهملة وسكون الزاي، "أنه -صلى الله عليه وسلم- كان يقول له عند موته" قبل الغرغرة "يا عم" وفي رواية: "أي عم"، وأي هنا لنداء القريب، "قل: لا إله إلا الله" أي: ومحمد رسول الله؛ لأن الكلمتين صارا كالكلمة الواحدة، ويحتمل أن يكون أبا طالب كان يتحقق أنه رسول الله، ولكن كان لا يقر بتوحيد الله ولذا قال في الأبيات النونية:
ودعوتني وعلمت أنك صادق ... ولقد صدقت وكنت ثم أمينا
فاقتصر على أمره له بقوله: لا إله إلا الله فإذا أقر بالتوحيد لم يتوقف على الشهادة له بالرسالة، قاله الحافظ.
"كلمة" نصب بدل من مقول القول وهو لا إله إلا الله أو على الاختصاص، قال الطبيبي: والأول أحسن ويجوز الرفع، أي: هي كلمة "أستحل لك بها الشفاعة" وفي الوفاة أحاج، وفي الجنائز أشهد لك بها عند الله، قال الطيبي: مجزوم على جواب الأمرن أي: أن تقل أشهد. وقال الزركشي: في موضع نصب صفة كلمة.
قال الحافظ: كأنه -صلى الله عليه وسلم- فهم امتناعه من الشهادة في تلك الحالة أنه ظن أن ذلك لا ينفعه لوقوعه عند الموت، أو لكونه لم يتمكن عن سائر الأعمال كالصلاة وغيرها، فلهذا ذكر له المحاجة، وأما لفظ الشهادة فيحتمل أن يكون ظن أن ذلك لا ينفعه إذا لم يحضره حينئذ أحد من المؤمنين مع النبي -صلى الله عليه وسلم- فطيب قلبه بأنه يشهد له بها، فينفعه "يوم القيامة" والشفاعة لا تستلزم أن تكون عن ذنب، بل تكون على نحو رفع الدرجات في الجنة فلا يشكل بأن الإسلام يجب ما قبله، فأي ذنب يشفع فيه لو أسلم ويتعسف الجواب بأنها فيما يحصل من الذنوب بتقدير وقوعها، "فلما رأى أبو طالب حرص رسول الله صلى الله عليه وسلم" على إيمانه "قال له يابن أخي، لولا مخافة" قول "قريش إني إنما قلتها جزعا" بجيم وزاي خوفا؛ كما نقله النووي عن جميع روايات المحدثين وأصحاب الأخبار، أو بخاء معجمة وراء مفتوحتين؛ كما قاله الهروي وثعلب وشمر(2/39)
من الموت لقلتها، لا أقولها إلا لأسرك بها، فلما تقارب من أبي طالب الموت نظر العباس إليه يحرك شفتيه، فأصغى إليه بأذنه فقال: يابن أخي، والله لقد قال أخي الكلمة التي أمرته بها. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: لم أسمع. كذا في رواية ابن إسحاق أنه أسلم عند الموت.
وأجيب بأن شهادة العباس لأبي طالب لو أداها بعد ما أسلم كانت مقبولة ولم ترد بقوله عليه الصلاة والسلام: "لم أسمع"، لأن الشاهد العدل إذا قال سمعت وقال من هو أعدل منه: لم أسمع أخذ بقول من أثبت السماع. ولكن العباس شهد بذلك قبل أن يسلم.
مع أن الصحيح من الحديث قد أثبت لأبي طالب الوفاة على الكفر والشرك، كما رويناه في صحيح البخاري من حديث سعيد بن المسيب..........
__________
واختاره الخطابي والزمخشري.
قال عياض: ونبهنا غير واحد من شيوهنا على أنه الصواب، أي: خوارا وضعفا، وقال شمر دهشا "من الموت لقلتها" ولو قلتها "لا أقولها إلا لأسرك بها" لا إذعانا حقيقة حكمة بالغة "فلما تقارب من أبي طالب الموت نظر العباس إليه يحرك شفتيه فأصغى إليه بأذنه، فقال: يابن أخي، والله لقد قال أخي الكملة التي أمرته بها" لم يصرح بها العباس؛ لأنه لم يكن أسلم حينئذ "فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "لم أسمع" وثبت في نسخة زيادة: ولم يكن العباس حينئذ مسلما، وهي وإن صحت في نفسها لكنها ليست عند ابن إسحاق، "كذا في رواية ابن إسحاق" عن ابن عباس بإسناد فيه من لم يسم "أنه" أي: إفادة أنه "أسلم عند الموت" من قول العباس، لقد قال: لم يروه بلفظ أنه أسلم عند الموت كما توهم، فقد ساق ابن هشام في السيرة والحافظ في الفتح لفظه، وما فيه ذلك وبهذا احتج الرافضة ومن تبعهم على إسلامه.
"وأجيب" كما قال الإمام السهيلي في الروض "بأن شهادة العباس لأبي طالب لو أداها بعد ما أسلم كانت مقبولة ولم ترد" شهادته "بقوله عليه السلام "لم أسمع لأن الشاهد العدل إذا قال: سمعت، وقال من هو أعدل منه: لم أسمع أخذ بقول من أثبت السماع" قال السهيلي لأن عدم السماح يحتمل أسبابا منع الشاهد من السمع، "ولكن العباس شهد بذلك قبل أن يسلم" فلا تقبل شهادته "مع أن الصحيح من الحديث قد أثبت لأبي طالب الوفاة على الكفر والشرك؛ كما رويناه في صحيح البخاري" في مواضع "من حديث سعيد بن المسيب" عن أبيه أن أبا طالب لما حضرته الوفاة دخل عليه النبي صلى الله عليه وسلم وعنده أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية بن(2/40)
حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم: على ملة عبد المطلب، وأبى أن يقول: لا إله إلا الله. قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "والله..............
__________
المغيرة، فقال: "أي عم قل لا إله إلا الله، كلمة أحاج لك بها عند الله"، فقال أبو جهل وعبد الله: يا أبا طالب، أترغب عن ملة عبد المطلب، فلم يزد لإيراد أنه "حتى قال أبو طالب: آخر" تصب على الظرفية "ما كلمهم" وفي رواية: آخر شيء كلمهم به" على ملة عبد المطلب" خبر مبتدأ محذوف، أي: هو وثبت ذلك في طريق أخرى، قاله الحافظ. قال السهيلي في الروض: ظاهر الحديث يقتضي أن عبد المطلب مات مشركا، وحكى المسعودي فيه خلافا، وأنه قيل مات مسلما لما رأى من دلائل نبوته -صلى الله عليه وسلم، وعلم أنه إنما يبعث بالتوحيد، لكن روى البزار والنسائي عن عبد الله بن عمرو أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لفاطمة: وقد عزت قوما من الأنصار عن ميتهم: "لعلك بلغت معهم الكدي"، قالت: لا، قال: "لو كنت بلغته معهم الكدي ما رأيت الجنة حتى يراها جد أبيك"، قال: وقد رواه أبو داود ولم يذكر فيه حتى يراها جد أبيك، وفي قوله: "جد أبيك"، ولم يقل جدك تقوية الحديث الضعيف إن الله أحيا أباه وأه وآمنا به، قال: ويحتمل أنه أراد تخويفهما بذلك؛ لأن قوله -صلى الله عليه وسلم- حق، وبلوغها معهم الكدي لا يوجب خلودا في النار، انتهى.
لكن يؤيد القول بإسلامه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- انتسب إليه يوم حنين، فقال: أنا ابن عبد المطلب، مع نهيه عن الانتساب إلى الآباء الكفار في عدة أحاديث وإن كان حديث البخاري المذكور مصادقا قويا لا يوجد له تأويل قريب، والبعيد يأباه أهل الأصول، ولذا وقف السهيلي عن الترجيح. قال السيوطي: وخطر لي في تأويله وجهان بعيدان فتركتهما، وأما حديث النسائي فتأويله قريب. وقد فتح السهيلي بابه ولم يستوفه انتهى.
قلت: التأويل وإن كان بعيدا لكنه قد يتعين هنا جمعا بينه وبين حديث البخاري عن أبي هريرة رفعه: بعثت من خير قرون بني آدم قرنا فقرنا حتى بعثت من القرن الذي كنت فيه، وفي مسلم: واصطفى من قريش بني هاشم ومعلوم أن الخيرية والاصطفاء من الله تعالى والأفضلية عنده لا تكون مع الشرك. وفي التنزيل: ولعبد مؤمن خير من مشرك وقد أورده في الإصابة، أعني عبد المطلب، وقال: ذكره ابن السكن في الصحابة لما جاء عنه أنه ذكر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- سيبعث؛ كما ذكروا بحيرا الراهب أنظاره ممن مات قبل البعثة، انتهى.
"وأبى أن يقول لا إله الله، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "والله" وفي رواية مسلم: "أما والله" بزيادة، أما قال النووي بألف ودونها وكلاهما صحيح، قال ابن الشجري في أماليه: ما الزائدة للتوكيد ركبوها مع همزة الاستفهام واستعملوا مجموعهما عن وجهين، أحدهما: أن يراد به معنى حقا في قولهم، أما والله لأفعلن، والآخر أن يكون افتتاحا للكلام بمنزلة ألا كقولك: أما إن زيدا(2/41)
لأستغفرن لك ما لم أنه عنك" فأنزل الله: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى} [التوبة: 113] .....
__________
منطلق وأكثر ما تحذف الألف إذا وقع بعدها القسم ليدل على شدة اتصال الثاني بالأول؛ لأن الكلمة إذا بقيت على حرف لم تقم بنفسها فعلم بحذف ألف ما افتقارها إلى الاتصال بالهمز، انتهى.
"لأستغفرن لك" كما استغفر إبراهيم لأبيه "ما لم أنه" بضم الهمزة وسكون النون مبني لمفعول، "عنك" أي: إن لم ينهني الله عن الاستغفار لك، "فأنزل الله {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى} [التوبة: 113] ، ما صح الاستغفار في حكم الله وحكمته من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم، أي: ظهر لهم أنهم ماتوا على الشرك فهو كالعلة للمنع من الاستغفار ولا يشكل بأن براءة من أواخر ما نزل بالمدينة وهذه القصة قبل الهجرة بثلاث سنين؛ لأن هذه الآية مستثناة من كون السورة مدنية؛ كما نقله في الإتقان عن بعضهم وأقره فلا حاجة لتجويز أنه كان يستغفر له إلى نزولها؛ لأن التشديد مع الكفار إنما ظهر في هذه السورة، ثم لفظ البخاري في التفسير: فأنزل الله بعد ذلك، فقال في الفتح الظاهر نزولها بعده بمدة لرواية التفسير، انتهى. وكأنه لم يقف على القول باستثنائها من كونها مدنية، فإن صح فلا يعارضه قوله بعد ذلك لكون المعنى بعد موته والاستغفار له بمكة أو بالمدينة فالبعدية محتملة، وأما قول السيوطي في التوشيح المعروف أنها نزلت لما زار -صلى الله عليه وسلم- قبر أمه واستأذن في الاستغفار لها، كما رواه الحاكم وغيره فتساهل جدالا يليق بمثله فإنها لا تعادل رواية الصحيح.
وقد رد الذهبي في مختصر المستدرك تصحيح الحاكم بأن في إسناده أيوب بن هانئ ضعفه ابن معين وتعجب السيوطي نفسه في الفوائد من الذهبي كيف أقر الحديث في ميزانه مع رده في مختصر المستدرك، قال وله علة ثانية وهي مخالفته للمقطوع بصحته في البخاري من نزلها عقب موت أبي طالب، ثم قال السيوطي بعد طعنه في جميع أحاديث نزولها في آمنة، فبان بهذا إن طرقه كلها معلولة، خصوصا قصة نزول الآية الناهية عن الاستغفار؛ لأنه لا يمكن الجمع بينها وبين الأحاديث الصحيحة في تقدم نزولها في أبي طالب، انتهى.
وقد تقدم ذلك مبسوطا بما يشفي، ثم هذه الآية وإن كان سببها خاصا عامة في حقه وحق غيره، ولذا استشكل قوله -صلى الله عليه وسلم- يوم أحد: "اللهم اغفر لقومي، فإنهم لا يعلمون"، وأجيب بأنه أراد الدعاء لهم بالتوبة من الشرك حتى يغفر لهم بدليل رواية من روى: "اللهم اهدي قومي"، وبأنه أراد مغفرة تصرف عنهم عقوبة الدنيا من مسخ وخسف.(2/42)
وأنزل الله في أبي طالب، فقال لرسول الله -صلى الله عليه وسلم: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص: 56] .
وفي الصحيح عن العباس أنه قال لرسول الله -صلى الله عليه وسلم: إن أبا طالب كان يحوطك وينصرك ويغضب لك، فهل ينفعه ذلك؟ قال: "نعم، وجدته في غمرات من النار فأخرجته إلى ضحضاح".
__________
"وأنزل الله في أبي طالب" أيضا "فقال لرسول الله -صلى الله عليه وسلم: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} ، هدايته أو لقرابة، أي: ليس ذلك إليك، {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} وإنما عليك البلاغ ولا ينافيه قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52] ؛ لأن الذي أثبته وأضافه إليه هداية الدعوة والدلالة والمنفي هداية التوفيق، "وفي الصحيح" للبخاري ومسلم "عن العباس، أنه قال لرسول الله -صلى الله عليه وسلم: إن أبا طالب كان يحوطك" بضم الحاء المهملة من الحياطة، وهي المراعاة وفي رواية: يحفظك، "وينصرك ويغضب لك" يشير إلى ما كان يرد به عنه من قول وفعل، وفيه تلميح إلى ما ذكره ابن إسحاق، قال: ثم إن خديجة وأبا طالب هلكا في عام واحد، وكانت خديجة وزيرة صدق له على الإسلام يسكن إليها وكان أبو طالب له عضدا وناصرا على قومه فلما هلك نالت قريش منه من الأذى ما لم تطمع به في حياته، حتى اعترضه سفيه من سهاء قريش فنثر على رأسه ترابا، فحدثني هشام بن عروة عن أبيه، قال: فدخل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بيته، يقول: "ما نالتني قريش شيئا أكرهه حتى مات أبو طالب"، ذكره في الفتح.
"فهل ينفعه ذلك؟ قال: "نعم، وجدته في غمرات من النار فأخرجته إلى ضحضاح" بضادين معجمتين مفتوحتين وحاءين مهملتين أولاهما ساكنة وأصله ما رق من الماء على وجه الأرض إلى نحو الكعبين فاستعير للنار، قاله المصنف وغيره. وفي الفتح: هو من الماء ما يبلغ الكعب، ويقال أيضا: لما قرب من الماء وهو ضد الغمر والمعنى أنه خفف عنه العذاب، انتهى.
زاد في رواية: "ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار"، وصريح هذا الحديث أنه خفف عنه عذاب القبر في الدنيا، كما يومئ إليه كلام الحافظ ويوم القيامة يكون في ضحضاح أيضا؛ كما في الحديث الآتي، ففي سؤال العباس عن حاله دليل على ضعف رواية ابن إسحاق؛ لأنه كانت تلك الشهادة عنده لم يسأل لعلمه بحاله، وقد قال الحافظ: هذا الحديث لو كان طريقه صحيحة لعارضه هذا الحديث الذي هو أصح منه فضلا عن أنه لا يصح، ويضعف ما ذكره السهيلي أنه رأى في بعض كتب المسعودي أنه أسلم، لا أن مثل ذلك لا يعارض ما في الصحيح.(2/43)
وفي الصحيح أيضا أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامة فيجعل في ضحضاح من النار يبلغ كعبيه يغلي منه دماغه".
وفي روية يونس عن ابن إسحاق زيادة فقال: "يغلي منه دماغه حتى يسيل على قدميه".
قال السهيلي: من باب النظر في حكمة الله تعالى، ومشاكلة الجزاء للعمل؛ أن أبا................
__________
وروى أبو داود والنسائي وابن الجارود وابن خزيمة من علي لما مات أبو طالب، قلت: يا رسول الله! إن عمك الشيخ الضال قد مات، قال: "اذهب فواره"، قلت: إنه مات مشركا، قال: "اذهب فواره"، فلما واريته رجعت إلى النبي -صلى الله عليه وسلم، فقال لي: "اغتسل"، وفي الحديث جواز زيارة القريب المشرك وعيادته وأن التوبة مقبولة ولو في شدة مرض الموت حتى يصل إلى المعاينة فلا تقبل؛ لقوله تعالى: {فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا} [غافر: 85] ، وأن الكافر إذا شهد شهادة الحق نجا من العذاب؛ لأن الإسلام يجب ما قبله وأن عذاب الكفار متفاوت والنفع الذي حصل لأبي طالب من خصائصه ببركة النبي -صلى الله عليه وسلم، وقد قال: "إن أهون أهل النار عذابا أبو طالب" رواه مسلم، انتهى ملخصا.
"وفي صحيح" للبخاري ومسلم "أيضا" عن أبي سعيد الخدري "أنه -صلى الله عليه وسلم، قال": وذكر عنده عمه أبو طالب "لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامة، فيجعل في ضحضاح من النار يبلغ كعبيه يغلي" بفتح أوله وسكون المعجمة وكسر اللام، "منه دماغه" وفي رواية أم دماغه، أ: رأسه من تسمية الشيء بما يقاربه ويجاوره وقد صرح العلماء بأن الرجاء من الله ومن نبيه للوقوع، بل في النور عن بعض شيوخه: إذا وردت عن الله ورسله وأوليائه معناها التحقيق.
"وفي رواية يونس" بن كبير الشيباني الحافظ، قال ابن معين: صدوق، وقال أبو داود: ليس بحجة لكن احتج به مسلم، وقال أبو حاتم: محله الصدق، وعلق له البخاري قليلا. "عن ابن إسحاق زيادة، فقال: "يغلي منه دماغه حتى يسل على قديمه" واستشكل الحديث بقوله تعالى: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدثر: 48] ، وأجاب البيهقي بأنه خص لثبوت الخبر، ولذا عد في الخصائص النبوية، والقرطبي بأن المنفعة في الآية الإخراج من النار، وفي الحديث بالتخفيف، وقيل: يجوز أن الله يضع عن بعض الكفار بعض جزاء معاصيهم تطييبا لقلب الشافع، وقيل: شفاعته -صلى الله عليه وسلم- في أبي طالب بالحال لا بالمقال.
"قال السهيلي من باب النظر في حكمة الله تعالى ومشاكلة الجزاء للعمل: أن أبا(2/44)
طالب كان مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بجملته متحيزا له، إلا أنه كان متثبتا لقدميه على ملة عبد المطلب، حتى قال عند الموت: أنا على ملة عبد المطلب، فسلط العذاب على قدميه خاصة لتثبيته إياهما على ملة آبائه. ثبتنا الله على الصراط المستقيم.
وفي شرح التنقيح للقرافي: الكفار على أربعة أقسام، فذكر منها من آمن بظاهره وباطنه وكفر بعدم الإذعان للفروع، كما حكي عن أبي طالب أنه كان يقول: إني لأعلم أن ما يقوله ابن أخي لحق، ولولا أخاف أن تعيرني نساء قريش لاتبعته. وفي شعره يقول:
لقد علموا أن ابننا لا مكذب ... يقينا ولا يعزى لقول الأباطل
__________
طالب كان مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بجملته متحيزا" ناصرا "له" وحده ويجمع بني هاشم والمطلب لمناصرته، "إلا أنه كان مثبتا لقدميه على ملة عبد المطلب حتى قال عند الموت" آخر كل شيء كلمهم "أنا على ملة عبد المطلب فسلط العذاب على قدميه خاصة لتثبيته إياهما على ملة آبائه" ولا يعارض هذا بقول الإمام الرازي آباء الأنبياء ما كانوا كفارا، وأيده السيوطي بأدلة عامة وخاصة، كما مر؛ لأن هذا بعد نسخ جميع الملل بالملة المحمدية فليس في الحديث ولا كلام السهيلي أن عبد المطلب وآباءه لها كانوا مشركين، "ثبتنا الله على الصراط المستقيم" قال في الفتح: ولا يخلو كلام السهيلي عن نظر، انتهى. فإن كان وجهه أن الثبات على الدين إنما هو بالقلب؛ لأنه اعتقاد فلا يحسن ما ذكر توجيها لتخصيص القدم بالعذاب، أجاب شيخنا بأنه لما لازم ما كان عليه ولم يتحول عنه شبه بمن وقف في محل ولم يتول عنه إلى غيره، وذلك يستدعي ثبوت القدم في المحل الذي وقف فيه خصت العقوبة بالقدم.
"وفي شرح التنقيح" في الأصول والمتن والشرح "للقرافي" العلامة شهاب الدين أبي العباس أحمد بن إدريس بن عبد الرحمن الصنهاجي البهنسي المصري البارع في العلوم ذي التصانيف الشهيرة كالقواعد والذخيرة وشرح المحصول، مات في جمادى الآخرة سنة أربع وثمانين وستمائة ودفن بالقرافة، "الكفار على أربعة أقسام فذكر منها من آمن بظاهره وباطنه وكفر بعدم الإذعان للفروع، كما حكي عن أبي طالب أنه كان يقول: إني لأعلم أن ما يقوله ابن أخي لحق، ولولا أخاف أن تعيرني نساء قريش لاتبعته، وفي شعره يقول" في قصيدته المشهورة:
لقد علموا أن ابننا لا مكذب ... يقينا ولا يعزى لقول الأباطل
وفي شعره من هذا النحو كثير.(2/45)
قال فهذا تصريح باللسان واعتقاد بالجنان غير أنه لم يذعن. انتهى.
وحكي عن هشام بن السائب الكلبي، أو أبيه أنه قال: لما حضرت أبا طالب الوفاة، جمع إليه وجوه قريش، فأوصاهم فقال:
يا معشر قريش، أنتم صفوة الله من خلقه.............
__________
"قال" القرافي: "فهذا تصريح باللسان واعتقاد بالجنان غير أنه لم يذعن" وحبه للمصطفى كان طبيعيا فكان يحوطه وينصره لا شرعيا فسبق القدر فيه، واستمر على كفره ولله الحجة البالغة "انتهى" والأربعة حكاها ابن الأثير في النهاية وكذا البغوي، وهي كفر إنكار وهو أن لا يعرف الله بقلبه ولا يعترف باللسان، وكفر جحود وهو من عرفه بقلبه دون لسانه كإبليس واليهود، وكفر نفاق وهو المقتر باللسان دون القلب، وكفر عناد وهو أن يعرفه بقلبه ويعترف بلسانه ولا يدين به كأبي طالب، قال البغوي: وجميع الأربعة سواء في أن الله لا يغفر لأصحابها إذا ماتوا، انتهى. وأقبحها على الراجح كفر النفاق لجمعه بين الكفر والاستهزاء بالإسلام؛ لذا كان المنافقون في الدرك الأسفل من النار، وقيل: أقبحها الكفر ظاهرا وباطنا، وقيل: الكفر صنفان، أحدهما الكفر بأصل الإيمان وهو ضده، والآخر الكفر بفرع من فروع الإسلام فلا يخرج به عن أصل الإسلام، وبهذا صدر في النهاية وقابله بقوله: وقيل الكفر على أربعة أنحاء، فذكرها.
"وحكى عن هشام بن السائب" نسبه لجده لأنه ابن محمد بن السائب "الكلبي" أبي المنذر الكوفي وثقه ابن حبان، وقال الدارقطني: هشام رافضي ليس بثقة مات سنة أربع وثمانين ومائة، "أو أبيه" محمد شك، "أنه قال: لما حضرت أبا طالب الوفاة جمع إليه وجوه قريش" وروى ابن إسحق عن ابن عباس: لما اشتكى أبو طالب وبلغ قريشا ثقله، قال بعضها لبعض: إن حمزة وعمر قد أسلما وفشا أمر محمد، فانطلقوا بنا إلى أبي طالب يأخذ لنا على ابن أخيه ويعطه منا، فمشى إليه عتبة وشبية وأبو جهل وأمية وابن حرب في رجال من أشرافهم فأخبروه بما جاءوا له، فبعث أبو طالب إليه -صلى الله عليه وسلم- فجاءه فأخبره بمرادهم، فقال عليه الصلاة والسلام: "نعم كلمة واحدة تعطونيها تملكون بها العرب وتدين لكم بها العجم"، فقال أبو جهل: نعم وأبيك، وعشر كلمات، فعرض عليهم الإسلام فصفقوا وعجبوا ثم قالوا: ما هو بمعطيكم شيئا، ثم تفرقوا، فيحتمل أن أبا طالب جمعهم بعد ذلك، أو قال لهم ما حكى الكلبي في هذه المرة قبل عرض الإسلام أو بعده وقبل تفرقهم.
"فأوصاهم، فقال: يا معشر قريش، أنتم صفوة الله من خلقه" وقلب العرب، فيكم السيد المطاع وفيكم المقدم الشجاع والواسع الباع، واعلموا أنكم لم تتركوا للعرب في المآثر نصيبا إلا أحرزتموه، ولا شرفا إلا أدركتموه، فلكم بذلك على الناس الفضلة ولهم به إليكم الوسيلة،(2/46)
إلى أن قال: وإني أوصيكم بمحمد خيرا، فإنه الأمين في قريش، والصديق في العرب، وهو الجامع لكل ما أوصيتكم به، وقد جاءنا بأمر قبله الجنان وأنكره اللسان مخافة الشنآن، وايم الله كأني انظر إلى صعاليك العرب، وأهل الأطراف، والمستضعفين من الناس قد أجابوا دعوته، وصدقوا كلمته، وعظموا أمره، فخاض بهم غمرات الموت، فصارت رؤساء قريش وصناديدها أذنابا، ودورها خرابا، وضعفاؤها أرباب، وإذا أعظمهم عليه أحوجهم إليه، وأبعدهم منه أحظاهم عنده، قد
__________
والناس لكم حرب وعلى حربكم ألب، وإني أوصيكم بتعظيم هذه البنية -يعني الكعبة- فإن فيها مرضاة للرب وقواما للمعاش وثباتا للوطأة، صلوا أرحامكم فإن في صلة الرحم منسأة -أي: فسحة في الأجل- وزيادة في العدد، واتركوا البغي والعقوق ففيهما هلكت القرون قبلكم، أجيبوا الداعي وأعطوا السائل، فإن فيهما شرف الحياة والممات، وعليكم بصدق الحديث وأداء الأمانة فإن فيهما محبة في الخاص ومكرمة في العام، "إلى أن قال" عقب ما ذكرته "وإني أوصيكم بمحمد خيرا فإنه الأمين في قريش والصديق" الكثير الصدق "في العرب" فلم يعرفوه من ابتداء نشأته إلا بالأمانة والصدق، ومن ثم لما كذبوه، قال بعضهم: والله قد ظلمنا محمدا.
"وهو الجامع لكل ما أوصيتكم به" من هذه الخصال الحميدة التي ذكرها في وصيته لهم ومدحهم بها "وقد جاءنا بأمر قبله الجنان" بالجيم "وأنكره اللسان مخافة الشنآن" أي: البغض لما تعيرونه به من تبعيته لابن أخيه تربيته، "وايم الله" بهمزة وصل عند الجمهور ويجوز القطع مبتدأ حذف خبره، اي: قسمي. وقال الهروي: بقطع الهمزة ووصلها وهي حلف ووهم الشارح، فقال: عبارة الشامي: أما والله، ثم قال: قال النووي: وقال الهروي بقطع الهمزة ووصلها وهي حلف ووهم الشارح، فقال عبارة الشامي: أما والله، ثم قال: قال النووي ... فذكر كلامه ظنا منه أنه في هذه الوصية مع أن ذاك اللفظ إنما ذكره الشامي كغيره شرحا لقوله -صلى الله عليه وسلم- في رواية مسلم: "أما والله لأستغفرن لك ما لم أنه عنك".
"كأني انظر إلى صعاليك" أي: فقراء "العرب" جمع صعلوك كعصفور؛ كما في القاموس. "وأهل الأطراف" النواحي جمع طرف بفتحتين، "والمستضعفين من الناس قد أجابوا دعوته وصدقوا كلمته وعظموا أمره فخاض بهم غمرات الموت" وقد وقع ذلك يوم بدر "فصارت رؤساء قريش وصناديدها أذنابا" أتباعا وسفلة جمع صنديد وهو السيد الشجاع أو الحليم أو الجواد أو الشريف؛ كما في القاموس. "ودورها خرابا" حيث قتل سبعون وأسر سبعون، "وضعفاؤها أربابا" ملوكا، قال القاموس: رب كل شيء مالكه ومستحقه أو صاحبه والجمع أرباب وربوب. "وإذا أعظمهم عليه أحوجهم إليه" كما وقع يوم فتح مكة، "وأبعدهم منه أحظاهم عنده قد(2/47)
محضته العرب ودادها، وأصفت له فؤادها، وأعطته قيادها، يا معشر قريش، كونوا له ولاة، ولحزبه حماة، والله لا يسلك أحد سبيله إلا رشد، ولا يأخذ أحد بهديه إلا سعد، ولو كان لنفسي مدة ولأجلي تأخير لكففت عنه الهزاهز، ولدفعت عنه الدواهي. ثم هلك.
ثم بعد ذلك بثلاثة أيام -وقيل: بخمسة- في رمضان، بعد البعث بعشر سنين، على الصحيح، ماتت...........
__________
محضته" بمهملة فمعجمة أخلصت له "العرب ودادها وأصفت" بالفاء "له فؤادها" أزالت ما فيه من حسد وبغض، وفي نسخة بالغين، أي: استمعوا بقلوبهم، أي: أمالوها له. "وأعطته قيادها" كما انقاد له العرب لما سار بهم إلى فتح مكة، وكما وقع في مجيء هوازن منقادين لحكمه فمن عليهم برد سباياهم.
"يا معشر قريش! " كذا في النسخ، وفيها سقط فلفظه كما في الروض عن الكلبي: دونكم يا معشر قريش ابن أبيكم "كونوا له ولاة" موالين ومناصرين "ولحزبه حماة" من أعدائهم وتأمل ما في قوله ابن أبيكم من الترقيق والتقريع والتصريح بأنه منهم فعزه عزهم ونصره نصرهم، فكيف يسعون في خذلانه فإنما هو خذلان لأنفسهم، وهذا من حيث النظر إلى مجرد القرابة فكيف وهو على الصراط المستقيم ويدعو إلى ما يوصل إلى جنات النعيم، كما أشار إليه مؤكدا بالقسم، فقال: "والله لا يسلك أحد سبيله إلا رشد" بكسر الشين وفتحها والكسر أولى بالسجع، "ولا يأخذ أحد بهديه إلا سعد" في الدارين "ولو كان لنفسي مدة ولأجلي تأخير لكففت عنه الهزاهز" بهاءين وزاءين منقوطين بعد أولاهما ألف، قال الجوهري: الهزاهز الفتن تهتز فيها الناس، وفي القاموس: الهزاهز تحريك البلايا والحروب في الناس، "ولدفعت عنه الدواهي، ثم هلك" على كفره، فانظر واعتبر كيف وقع جميع ما قاله من باب الفراسة الصادقة، وكف هذه المعرفة التامة بالحق وسبق فيه قدر القهار؛ إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار ولهذا الحب الطبيعي كان أهون أهل النار عذابا؛ كما في مسلم وفي فتح الباري تكملة من عجائب الاتفاق إن الذين أدركهم الإسلام من أعمام النبي -صلى الله عليه وسلم- أربعة لم يسلم منهم اثنان وأسلم اثنان، وكان اسم من لم يسلم ينافي أسامي المسلمين وهما أبو طالب واسمه عبد مناف وأبو لهب واسمه عبد العزى بخلاف من أسلم وهما: حمزة والعباس.
"ثم بعد ذلك بثلاثة أيام، وقيل: بخمسة" وقيل: بشهر، وقيل: بشهر وخمسة أيام، وقيل: بخمسين يوما، وقيل: بخمسة أشهر، وقيل: ماتت قبله "في رمضان بعد البعث بعشر سنين على الصحيح" كما قال الحافظ، وزاد: وقيل بعده بثمان سنين وقيل: بسبع، "ماتت" الصديقة الطاهرة(2/48)
خديجة رضي الله عنها.
وكان عليه الصلاة والسلام يسمى ذلك العام عام الحزن، فيما ذكره صاعد.
وكانت مدة إقامتها معه خمسا وعشرين سنة سنة على الصحيح.
ثم بعد أيام من موت خديجة تزوج عليه السلام بسودة بنت زمعة.
__________
"خديجة رضي الله عنها" ودخل عليها صلى الله عليه وسلم وهي في الموت، فقال: "تكرهين ما أرى منك، وقد يجعل الله في الكره خيرا"، رواه الزبير بن بكار، وأطعمها من عنب الجنة، رواه الطبراني بسند ضعيف وأسند الواقدي عن حكيم بن حزام أنها دفنت بالحجون ونزل صلى الله عليه وسلم في حفرتها وهي ابنة خمس وستين سنة، ولم تكن يومئذ الصلاة على الجنازة. "وكان عليه الصلاة والسلام يسمي ذلك العام" الذي ماتا فيه "عام الحزن" وقالت له خولة بنت حكيم: يا رسول الله! كأني أراك قد دخلتك خلة لفقد خديجة؟ قال: "أجل، كانت أم العيال وربة البيت"، وقال عبيد بن عمير: وجد عليها حتى خشي عليه حتى تزوج عائشة، رواهما ابن سعد "فيما ذكره صاعد" بن عبيد البجلي أبو محمد، وأبو سعيد الحراني مقبول من كبار العاشرة؛ كما في التقريب، يعني الطبقة التي أخذت عن تبع التابعين كما أفصح عنه في خطبته.
"وكانت مدة إقامتها معه خمسا وعشرين سنة على الصحيح" كما في الفتح، وزاد: وقال ابن عبد البر أربعا وعشرين سنة وأربعة أشهر.
"ثم بعد أيام ممن موت خديجة" الواقع في رمضان "تزوج عليه السلام" في شوال "بسودة بنت زمعة" بفتح الزاي وإسكان الميم وتفتح؛ كما في القاموس. وبه يرد قول المصباح: لم أظفر بسكونها في شيء من كتب اللغة. وفي سيرة الدمياطي: ماتت خديجة في رمضان وعقد على سودة في شوال ثم على عائشة وبنى بسودة قبل عائشة، والله أعلم.(2/49)
خروجه صلى الله عليه وسلم إلى الطائف:
ثم خرج عليه السلام إلى الطائف بعد موت خديجة بثلاثة أشهر، في ليال بقين من شوال سنة عشرة.................
__________
خروجه صلى الله عليه وسلم إلى الطائف:
"ثم خرج عليه السلام إلى الطائف" قال ابن إسحاق: يلتمس النصر من ثقيف والمنعة ورجاء أن يقبلوا منه ما جاء به من الله تعالى، قال المقريزي: لأنهم كانوا أخواله، قال غيره: ولم يكن بينه وبينهم عداوة. "بعد موت خديجة بثلاثة أشهر في ليال بقين من شوال سنة عشرة(2/49)
من النبوة. لما ناله من قريش بعد موت أبي طالب. وكان معه زيد بن حارثة.
فأقام به شهرا، يدعو أشارف ثقيف إلى الله فلم يجيبوه وأغروا به سفهاءهم وعبيدهم يسبونه.
__________
من النبوة" هذا على موتها في رجب، لا على ما جزم به أنه في رمضان، وعادة العلماء أنهم إذا مشوا في محل على قول وفي آخر على غيره، لا يعد تناقضا.
"لما ناله" صلة خرج واللام للتعليل، أي: خرج للأذى الذي ناله "من قريش بعد موت أبي طالب وكان معه زيد بن حارثة" فيما رواه ابن سعد عن جبير بن مطعم، وذكر ابن عقبة وابن إسحاق وغيرهما أن خرج وحده ماشيا، فيمكن أن زيدا لحقه بعد ولا يؤيده ما يأتي أنه صار يقيه بنفسه، ولم يحك فيه خلافا كما زعم؛ لأن الآتي إنما هو كلام ابن سعد وحده الذي روى أنه كان معه، "فأقام به شهرا" وقال ابن سعد: عشرة أيام، وجمع في أسنى المطالب بأن العشرة في نفس الطائف العشرين فيما حولها وطريقها وأقرب منه؛ كما قال شيخنا: إن الشهر كله في الطائف، لكنه مكث عشرين قبل اجتماعه بعبد ياليل وعشرة بعده؛ لأنه لم يرجع عقب دعائه بل مكث "يدعو أشراف ثقيف إلى الله" ويدور عليهم واحدا واحدا رجاء أن أحدا يجيبه "فلم يجيبوه" لا إلى الإسلام ولا إلى النصرة والمعاونة.
وعند ابن إسحاق والواقدي وغيرهما أنه صلى الله عليه وسلم عمد إلى عبد ياليل ومسعود وحبيب بني عمرو بن عوف وهم أشراف ثقيف وساداتهم، وعند أحدهم صفية بنيت معمر القرشي الجمحي فجلس إليهم وكلمهم بما جاء له من نصرته على الإسلام والقيام على من خالفه من قومه، فقال له أحدهم: هو يمرط ثياب الكعبة: إن كان الله أرسلك، والثاني: أما وجد الله أحدا يرسله غيرك، والثالث: والله لا أكلمك أبدا لئن كنت رسول الله، لأنت أعظم خطرا من أن أرد عليك الكلام، ولئن كنت تكذب على الله ما ينبغي لي أن أكلمك، فقال صلى الله عليه وسلم من عندهم وقد يئس من خيرهم، وقال: "إذ فعلتم ما فعلتم فاكتموا علي"، وكره أن يبلغ قومه عنه ذلك فيزيدهم عليه، فلم يفعلوا، وقد أسلم مسعود وحببيب بعد ذلك وصحبا؛ كما جزم به في الإصابة.
وفي عبد ياليل خلف يأتي فيحتمل أن المصنف أراد بأشرافهم هؤلاء الثلاثة، وكأنه لم يعتد بغيرهم أو لأنه دعاهم أولا لكونهم العظماء ثم عمم الدعوة. ففي رواية: إنه لم يترك أحدا من أشرافهم إلا جاء إليه وكلمه فلم يجيبوه وخافوا على أحداهم منه، فقالوا: يا محمد اخرج من بلدنا، والحق بمحابك من الأرض.
"وأغروا" بفتح الهمزة: سلطوا، "به سفهاءهم وعبيدهم يسبونه" زاد ابن إسحاق: ويصيحون(2/50)
قال موسى بن عقبة: ورموا عراقبيه بالحجارة حتى اختضبت نعلاه بالدماء، زاد غيره: وكان إذا أزلقته الحجارة قعد إلى الأرض؛ فيأخذون بعضديه فيقيمونه، فإذا مشى رجموه وهم يضحكون، وزيد بن حارثة يقيه بنفسه، حتى لقد شج في رأسه شجاجا.
وفي البخاري ومسلم من حديث عائشة أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: هل أتى عليك يوم أشد من يوم أحد؟ قال: "لقد لقيت من قومك، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على ابن عبد يا ليل بن عبد كلال،..........
__________
به حتى اجتمع عليه الناس "قال موسى بن عقبة: ورموا عراقيبه" جمع عرقوب لخفته لفظا كعريض الحواجب، "بالحجارة" فقعدوا له صفين على طريقه، فلما مر بين صفيهم جعل لا يرفع رجليه ولا يضعهما إلا رضخوهما بالحجارة، "حتى اختضبت نعلاه بالدماء، زاد غيره" وهو سليمان التيمي "وكان إذا أزلقته" بمعجمة وقاف: ألمته "الحجارة قعد إلى الأرض فيأخذون بعضديه فيقيمونه" مبالغة في أذاه إذ لم يمكنوه من القعود ليخف تعبه وليتمكنوا من إدامة رميه بالحجارة في المراق والمفاصل التي ألم إصابتها أشد من غيرها، "فإذا مشى رجموه وهم يضحكون" قال ابن سعد: "وزيد بن حارثة يقيه بنفسه حتى لقد شج" زيد، أي: جرح "في رأسه" احتراز عن الوجه إذ الجراحة إنما تسمى شجة إذا كانت في أحدهما، "شجاجا" بكسر المعجمة جمع شجة بفتحها، ويقال أيضا: شجات؛ كما في المصباح.
"وفي البخاري" في ذكر الملائكة من بدء الخلق تاما، وفي التوحيد: مختصرا، "ومسلم" في المغازي والنسائي في البعوث "من حديث عائشة، أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: هل أتى عليك يوم أشد من يوم" عزوة "أحد؟ قال: "لقد لقيت من قومك" قريش وسقط المفعول في رواية مسلم، وثبت في البخاري بلفظ: "لقيت من قوك ما لقيت"، وأبهمه تعظيما "وكان أشد" بالرفع، ولأبي ذر بالنصب خبر كان واسمه عائد إلى مقدر هو مفعول لقد لقيت، "ما لقيت منهم" من قومك قريش إذ كانوا سببا لذهابي إلى ثقيف، فهو من إضافة الشيء إلى سببه فلا يرد أن ثقيفا ليسوا قومها "يوم العقبة:" ظرف، جزم المصنف بأنها التي بمنى، وفيه ما فيه فأين منى والطائف؟ ولذا قال شيخنا: لعل المراد به هنا موضع مخصوص اجتمع فيه مع عبد يا ليل، لا عقبة منى التي اجتمع فيها مع الأنصار، "إذا" أي: حين "عرضت نفسي على ابن عبد يا ليل بن عد كلال" كذا في الحديث، والذي ذكره أهل المغازي أن الذي كلمه صلى الله عليه وسلم عبد يا ليل نفسه، وعند أهل النسب أن عبد كلال أخوه لا أبوه، قاله الحافظ وغيره.(2/51)
فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت -وأنا مهموم- على وجهي، فلم أستفق مما أنا فيه إلا وأنا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي، وإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل، فناداني فقال: إن الله قد سمع قول قومك، وما ردوا به عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت، فناداني ملك الجبال، فسلم علي ثم قال: يا محمد، إن الله قد سمع قول قومك وما ردوا عليك وأنا ملك الجبال، وقد بعثني إليك ربك لتأمرني بأمرك، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين............"
__________
"فلم يجبني إلى ما أردت" منه من النصرة والمعاونة والإسلام "فانطلقت وأنا مهموم على وجهي" قال المصنف: أي الجهة المواجهة لي. وقال الطيبي: أي انطلقت حيرانا هائما لا أدري أين أتوجه من شدة ذلك، "فلم أستفق" أي: أرجع "مما أنا فيه" من الغم "إلا وأنا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي وإذا أنا بسحابة قد أطلتني فنظرت" إليها "فإذا فيها جبريل" على غير صورته الأصلية، لما مر أنه لم يره عليها إلا بغار حراء وعند سدرة المنتهى، "فناداني، فقال: إن الله قد سمع قول قومك" لك، كما في الصحيحين فسقط من قلم المؤلف، والأحسن أنه يعني بقومه قريشا وغيرهم لا خصوص ثقيف؛ لأنهم وإن كانوا قومه؛ لأنه بعث إليهم كغيرهم، لكنهم ليسوا بمكة والأخشبان حيطان بها، "وما ردوا به عليك" ظاهر في إنه إخبار عما قاله أشراف ثقيف، ويحتمل أنه أراد قريشا لما دعاهم للإيمان، فقالوا ساحر شاعر كاهن مجنون، وغير ذلك.
"وقد بعث إليك" وفي رواية الكشميهني: وقد بعث الله إليك "ملك الجبال" الذي سخرت له وبيده أمرها، قال الحافظ: لم أقف على اسمه، "لتأمره بما شئت" فيهم، قال صلى الله علي وسلم: "فناداني ملك الجبال فسلم علي، ثم قال: يا محمد! إن الله قد سمع قول قومك وما ردوا عليك وأنا ملك الجبال وقد بعثني إليك ربك لتأمرني بأمرك" هذا لفظ مسلم، زاد الطبري: فما شئت، ولفظ البخاري: ثم قال: يا محمد! ذلك فيما شئت، قال المصنف: ذلك كما قال جبريل، أو كما سمعت منه فيما، ولأبي ذر عن الكشميهني: مما شئت، استفهام جزاؤه مقدر، أي: فعلت، وعزا المصنف لفظه هنا في شرح البخاري للطبراني مع أنه لفظ مسلم كما علمت؛ لأنه كما في الفتح أخرجه من طريق شيخ البخاري فيه: "إن شئت أن أطبق" بضم الهمزة وسكون الطاء وكسر الموحدة، "عليهم الأخشبين" بمعجمتين جبلي مكة: أبا قبيس ومقابله قعيقعان؛ كما جزم به المصنف وغيره، وبه صدر البرهان.
وفي الفتح: وكأنه قعيقعان. وقال الصغاني: بل هو الجبل الأحمر المشرف وجهه على قعيقعان، انتهى. وجرى ابن الأثير على الثاني. وقول الكرماني: ثور وهموه، سميا بذلك(2/52)
قال النبي صلى الله عليه وسلم: "بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا شريك له".
وعبد يا ليل؛ بتحتانية وبعدها ألف ثم لام مكسورة ثم تحتانية ساكنة ثم لام -ابن عبد كلال- بضم الكاف وتخفيف اللام آخره لام، وكان ابن عبد يا ليل من أكابر أهل الطائف من ثقيف.
__________
لصلابتهما وغلظ حجارتهما، ويقال: هما الجبلان اللذان تحت العقبة بمنى فوق المسجد. قال الحافظ: والمراد بإطباقهما أن يلتقيا على من بمكة، ويحتمل أن يصيرا طبقا واحدا وجزء إن مقدر، أي: فعلت.
"قال للنبي -صلى الله عليه وسلم" لا أشاء ذلك "بل أرجو" وللكشميهني: أنا أرجو "أن يخرج الله" بضم الياء من الإخراج "من أصلابهم من يعبد الله" يوحده قوله: "وحده لا شريك له" تفسيره وهذا من مزيد شفقته وحلمه وعظيم عفوه وكرمه، وعن عكرمة رفعه مرسلا: "جاءني جبريل، فقال: يا محمد! إن ربك يقرئك السلام وهذا ملك الجبال قد أرسله وأمره أن لا يفعل شيئا إلا بأمرك، فقل له إن شئت دممت عليهم الجبال، وإن شئت خسفت بهم الأرض، قال: يا ملك الجبال، فإني آتي بهم لعله أن يخرج منهم ذرية يقولون لا إله إلا الله، فقال ملك الجبال: أنت كما سماك ربك رءوف رحيم"، ولعل هذين الاسمين كانا معلومين له عند الملائكة قبل نزول الآية، فلا ينافي أنها من أواخر ما نزل، وبقي أنه قيد فيها بالمؤمنين وهؤلاء كفار فكيف قول الملك، ولعله باعتبار ما رجاه من ربه؛ لأنه محقق.
"وعبد يا ليل بتحتانية وبعدها ألف ثم لام مكسورة ثم تحتانية ساكنة ثم لام" بزنة هابيل؛ كما في القاموس. قال في الإصابة: عبد يا ليل بن عمرو الثقفي، قال ابن حبان: له صحبة ان من الوفد، وقال غيره: إنما هو ولده مسعود اختلف فيه كلام ابن إسحاق، وقال موسى بن عقبة: إن القصة لمسعود، انتهى. منه في النوع الرابع فيمن ذكره في الصحابة غلطا.
"ابن عبد كلال بضم الكاف وتخفيف اللام آخره لام" بعد الألف بوزن غراب "وكان ابن عبد ياليل" مسعود أو كنانة "من أكابر أهل الطائف من ثقيف" كأبيه وعميه، وقد روى عبد بن حميد عن مجاهد قوله تعالى: {عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف: 31] ، قال: نزلت في عتبة بن ربيعة وابن عبد ياليل الثقفي، ورواه ابن أبي حاتم عن مجاهد، وزاد: يعني كنانة، وقال قتادة: هما الوليد بن المغيرة وعروة بن مسعود، رواه عبد بن حميد. قال ابن عبد البر: وفد كنانة وأسلم مع وفد ثقيف سنة عشر، وكذا قال ابن إسحاق وموسى بن عقبة وغير واحد. وقال(2/53)
وقرن الثعالب: هو ميقات أهل نجد، ويقال له: قرن المنازل.
وأفاد ابن سعد: أن مدة إقامته عليه الصلاة والسلام بالطائف كانت عشرة أيام.
ولما انصرف عليه السلام عن أهل الطائف ولم يجيبوه، مر في طريقه بعتبة وشيبة ابني ربيعة وهما في حائط لهما، فلما رأيا ما لقي تحركت له رحمهما، فبعثا له مع عداس النصراني -غلامهما- قطف...........
__________
المدائني: وفد في قومه فأسلموا إلا كنانة فقالا: لا يرني رجل من قريش، وخرج إلى نجران ثم إلى الروم فمات بها كافرا. قال في الإصابة: ويقويه ما حكاه ابن عبد البر أن هرقل دفع ميراث أبي عامر الفاسق إلى كنانة بن عبد ياليل لكونه من أهل المدر كأبي عامر، انتهى. فقول النور: لا أعلم له إسلاما تقصير شديد.
"وقرن الثعالب" بفتح القاف وإسكان الراء اتفاقا، وحكى عياض أن بعض الرواة ذكره بفتح الراء، قال: وهو غلط، وذكر القابسي: أن من سكن الراء أراد الجبل ومن حركها أراد الطريق التي تتفرق منه. وغلط الجوهري في فتحها ونسبة أويس إليها وإنما هو إلى قرن بفتح الراء بطن من مراد "وهو ميقات أهل نجد" تلقاء مكة على يوم وليلة منها "ويقال له" أيضا "قرن المنازل" قال في النور والفتح: وأصله الجبل الصغير المستطيل المنقطع عن الجبل الكبير.
"وأفاد ابن سعد" محمد "أن مدة إقامته عليه الصلاة والسلام بالطائف كانت عشرة أيام" خلاف ما مر أنها شهر، ومر الجمع "ولما انصرف عليه السلام عن أهل الطائف ولم يجيبوه" ورجع عنه من كان يتبعه من سفهاء ثقيف؛ كما عند ابن إسحاق. "مر في طريقه بعتبه وشيبة ابني ربيعة" الكافرين المقتولين ببدر "وهما في حائطا" بستان إذا كان عليه عليه جدار؛ كما في النور وغيره، وأطلق المصباح "لهما" بشراء أو غيره وهو من بساتين الطائف المنسوبة إليه كما يفيده قول موسى بن عقبة، فخلص منهم ورجلاه تسيلان دما فعمد إلى حائط من حوائطهم، فاستظل في ظل حبلة منه وهو مكروب موجع، وكذا قول ابن إسحاق فاجتمعوا عليه وألجئوه إلى حائط لعتبة وسيبة والحيلة، بفتح الحاء والموحدة وتسكن الأصل أو القضيب، من شجر العنب؛ كما في النهاية وغيرها، ولا ينافي استظلاله قوله في الحديث: "فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب"؛ لجواز أنه لم يعد استظلاله مكروبا موجعا محزونا مفكرا فيما أصابه إفاقة.
"فلما رأيا ما لقي تحركت له رحمهما" قرابتهما؛ لأنهما من بني عبد مناف "فبعثا له مع عداس" بفتح العين وشد الدال فألف فسين مهملات "النصراني غلامهما قطف" بكسر القاف(2/54)
عنب، فلما وضع -صلى الله عليه وسلم- يده في القطف قال: "بسم الله، ثم أكل"، فنظر عداس إلى وجهه ثم قال: والله إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلدة، فقال له -صلى الله عليه وسلم: "من أي البلاد أنت. وما دينك"؟ قال نصراني من نينوى. فقال له -صلى الله عليه وسلم: "من قرية الرجل الصالح يونس بن متى"؟ قال: وما يدريك؟..............
__________
عنقود "عنب" وعند ابن عقبة: ووضعه عداس في طبق بأمرهما، وقالا له: اذهب إلى ذلك الرجل، فقال له يأكل منه، ففعل ولم يذكر زيد بن حارثة لأن هذا من كلام ابن عقبة، وهو ممن قال إنه خرج وحده، أو لأنه تابع والحامل على بعث القطف إنما هو المصطفى فخص بتقديمة له وخطابه، "فلما وضع -صلى الله عليه وسلم- يده في القطف" ليأكل قال: "بسم الله" فقط كما عند ابن عقبة وابن إسحاق، ووقع في الخميس: "الرحمن الرحيم"، "ثم أكل فنظر عداس إلى جهه، ثم قال: والله إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلدة، فقال له -صلى الله عليه وسلم: "من أي البلاد أنت؟ وما دينك"؟ قال: نصراني من نينوي" بكسر النون وسكون التحتية فنون مفتوحة على الأشهر. قال أبو ذر: وروي بضمها فواو مفتوحة فألف.
قال ياقوت: ممالة بلد قديم مقابل الموصل خرب وبقي من آثار مشي، وبه كان قوم يونس. وقال الصغاني: هي قرية يونس بالموصل. "فقال له -صلى الله عليه وسلم: "من قرية الرجل الصالح يونس بن متى"، بفتح الميم وشد الفوقية مقصور اسم أبيه.
وفي تفسير عبد الرزاق أنه اسم أمه وتبعه صاحب تاريخ حماة قائلا: لم يشتهر بأمه غيره وغير عيسى ورده الحافظ بحديث ابن عباس عند البخاري لا ينبغي لعبد أن يقول: إني خير من يونس بن متى ونسبه إلى أبيه، فإن فيه إشارة إلى الرد على من زعم أن متى اسم أمه، وهو محكي عن وهب بن منبه، وذكره الطبري وتبعه ابن الأثير في الكامل، والذي في الصحيح أصح، وقيل: سبب قوله: ونسبه إلى أبيه، أنه كان في الأصل يونس بن فلان، فنسي الراوي اسم أبيه وكنى عنه بفلان، فقال الذي نسي يونس بن متى وهي أمه ثم اعتذر، فقال: ونسبه أي شيخه إلى أبيه، أي: سماه فنسيته ولا يخفى بعد هذا التأويل وتكلفه، قال: ولم أقف في شيء من الأخبار على اتصال نسبه، وقد قيل: إنه كان في زمن ملوك الطوائف من الفرس، انتهى من فتح الباري. يؤيده ما نقله الثعلبي عن عطاء: سألت كعب الأحبار عن متى، فقال: هو أبو يونس واسم أمه برورة أي: صديقة بارة قانتة وهي من ولد هارون، انتهى. فقول السيوطي التأويل عندي أقوى وإن استبعده الحافظ، فيه نظر.
"فقال" عداس "وما يدريك" ما يونس بن متى؟ كما في الرواية، وعند التيمي: فقال عداس: والله لقد خرجت من نينوى وما فيها عشرة يعرفون ما متى، فمن أين عرفته وأنت أُمي في أمة(2/55)
قال: "ذاك أخي، وهو نبي مثلي". فأكب عداس على يديه ورأسه ورجليه يقبلها وأسلم.
__________
أمية؟ "قال: "ذاك أخي وهو نبي مثلي" وعند ابن عقبة والتيمي: "كان نبيا وأنا نبي"، "فأكب عداس على يديه ورأسه ورجليه يقبلها وأسلم" رضي الله عنه وهو معدود في الصحابة، وفي سير التيمي، أنه قال: أشهد أنك عبد الله ورسوله.
وعند ابن إسحاق: ونظر إليه ابنا ربيعة، فقال أحدهما للآخر: أما غلامك فقد أفسده عليك، فلما جاءهما عداس قالا له: ويلك ما لك تقبل رأس هذا الرجل ويديه وقدميه، قال: يا سيدي -بشد الياء مثنى- ما في الأرض شيء خير من هذا، لقد أعلمني بأمر لا يعلمه إلا نبي، قالا له: ويحك يا عداس، لا يصرفك عن دينك، فإنه خير من دينه. وفي الروض: ذكروا أن عداسا لما أراد سيداه الخروج إلى بدر أمراه بالخروج معهما، فقال: أقتال ذلك الرجل الذي رأيت بحائطكما تريدان؟ والله ما تقوم له الجبال، فقالا له: ويحك يا عداس، سحرك بلسانه. وفي الإصابة عن الواقدي: قيل قتل عداس بدر، وقيل: لم يقتل، بل رجع فمات.(2/56)
ذكر الجن:
ولما نزل نخلة -وهو موضع على ليلة من مكة- صرف إليه سبعة من جن نصيبين، مدينة بالشام............
__________
ذكر الجن:
"ولما نزل" صلى الله عليه وسلم، في منصرفه من الطائف سنة عشر، وهو ابن خمسين سنة تقريبا، "نخلة" غير مصروف للعلمية والتأنيث، وفي مسلم: بنخل، قال البرهان: والصواب نخلة، ويحتمل أن يقال الوجهان، انتهى. "وهو موضع على ليلة من مكة صرف إليه" بالبناء للمفعول للعلم به، قال الله تعالى: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ} [الأحقاف: 29] ، "سبعة" كما رواه الحاكم في المستدرك وابن أبي شيبة وأحمد بن منيع من طريق عاصم عن زر عن عبد الله، قال: هبطوا على النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو يقرأ ببطن نخلة، فلما سمعوه، قالوا: أنصتوا وكانوا سبعة أحدهم زوبعة وإسناده جيد، وقيل: تسعة، وقيل غير ذلك.
"من جن نصيبين" بنون مفتوحة وصاد مهملة مكسورة فتحتية ساكنة فموحدة مكسورة فتحتية ساكنة أيضا فنون، بلد مشهور يجوز صرفه وتركه، وفي خبر أن جبريل رفعها للنبي -صلى الله عليه وسلم- ورآها، قال: "فسألت الله أن يعذب ماؤها، ويطيب ثمرها ويكثر مطرها" وهي بالجزيرة، كما في مسلم وبه جزم غير واحد، قال البرهان: ووهم من قال باليمن، وقوله: "مدينة بالشام" تبع فيه ابن(2/56)
وكان عليه السلام قد قام في جوف الليل يصلي فاستعموا له وهو يقرأ سورة الجن.
وفي الصحيح أن الذي آذنه -صلى الله عليه وسلم- بالجن ليلة الجن شجرة، وأنهم سألوه الزاد فقال: "كل عظم ذكر اسم الله عليه يقع في يد أحدكم أو فرما كان لحما،..............
__________
التين السفاقسي، قال الحافظ: وفيه تجوز فإن الجزيرة بين الشام والعراق، انتهى. وفي تفسير عبد بن حميد أنهم من نينوى، وقيل: ثلاثة من نجران وأربعة من نصيبين، وعن عكرمة: كانوا اثني عشر ألفا من جزيرة الموصل.
"وكان عليه السلام قد قام في جوف الليل يصلي" كما ذكره ابن إسحاق ولا يعارضه ما في الصحيحين عن ابن عباس: وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر؛ لأنه كان قبل في أول مرة عند المبعث لما منعوا من استراق السمع، نعم وقع لبعض من ساق هذه القصة التي هنا وهو يصلي الفجر، فإن صح فيكون أطلق على وقت الفجر جوف الليل لاتصاله به، أو ابتدأ الصلاة في الجوف واستمر حتى دخل وقت الفجر، أو صلى فيهما وسمعوهما معا، والمراد بالفجر الركعتان اللتان كان يصليهما قبل طلوع الشمس، وإطلاق الفجر عليهما صحيح لوقوعهما بعد دخول وقته، فسقط اعتراض البرهان بأن صلاة الفجر لم تكن فرضت، وقال الحافظ في حديث ابن عباس وهو يصلي بأصحابه: لم يضبط من كان معه في تلك السفرة غير زيد بن حارثة، فلعل بعض الصحابة تلقاه لما رجع، انتهى. وكأنه بناه على تسليم اتحاد مجيء الجن.
"فاستمعوا له وهو يقرأ سورة الجن" قاله ابن إسحاق وأقره اليعمري ومغلطاي واعتراضه البرهان بما في الصحيح أنها إنما نزلت بعد استماعهم، وجوابه أن الذي في الصحيح كان في المرة الأولى عند المبعث كما هو صريحه، وهذه بعده بمدة فلا تعترض به.
"وفي الصحيح" عن ان مسعود "أن الذي آذنه" بالمد أعلمه -صلى الله عليه وسلم- "بالجن ليلة الجن شجرة" هي كما في مسند إسحاق بن راهويه سمرة فتح السن وضم الميم من شجر الطلح جمعه كرجل وفيه معجزة باهرة، "وأنهم سألوه الزاد" أي: ما يفضل من طعام الإنس، وقد يتعلق به من يقول الأشياء قبل الشرع على الخطر حتى ترد الإباحة، ويجاب عنه بمنع الدلالة على ذلك، بل لا حكم قبل الشرع على الصحيح، قاله في فتح الباري. وقال شيخنا: أي نوعا يخصهم به كما جعل للإنس في المطعوم حلالا وحراما ولعلهم قبل السؤال كانوا يأكلون ما اتفق لهم أكله بغير قيد نوع مخصوص أو ما لم يذكر اسم الله عليه من طعام الإنس. "فقال: "كل عظم ذكر اسم الله عليه" هو زادكم "يقع في يد أحدكم أو فرما كان لحما" ولأبي داود: "كل عظم(2/57)
وكل بعر علف لدوابكم".
وفي هذا رد على من زعم أن الجن لا تأكل ولا تشرب.
__________
لم يذكر اسم الله عليه"، وجمع بأن رواية مسلم في حق المؤمنين، وهذه في حق شياطينهم.
قال السهيلي: وهو صحيح يعضده الأحاديث. "وكل بعر علف لدوابكم" زاد في سلام في تفسيره: أن البعر يعود خضرا لدوابهم واعترض على المؤلف ومتبوعه السهيلي في سياق حديث الصحيح هنا بما صرح به الحافظ الدمياطي أنه -صلى الله عليه وسلم- لم يشعر بهم حين استمعوه في رجوعه من الطائف حتى نزل عليه {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا} [الأحقاف: 29] الآية، قال: وسؤالهم الزاد كان في قصة أخرى.
"وفي هذا" دليل على أن الجن يأكلون ويشربون و"رد على من زعم أن الجن لا تأكل ولا تشرب" لأن صيرورته لحما إنما تكون للأكل حقيقة، ثم اختلف هل أكلهم مضغ وبلع أو يتعذون بالشم، وقوله عليه الصلاة والسلام: "إن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله"، مجاز أي: يحبه الشيطان ويزينه ويدعو إليه، قال ابن عبد البر: وهذا ليس بشيء فلا معنى لحمل شيء من الكلام على المجاز إذا أمكنت فيه الحقيقة بوجه ما انتهى.
وهو الراجح عند جماعة من العلماء حتى قال ابن العربي: من نفى عن الجن الأكل والشرب فقد وقع في حبالة إلحاد وعدم رشاد، بل الشيطان وجميع الجان يأكلون ويشربون وينكحون ويولد لهم ويموتون وذلك جائز عقلا، وورد به الشرع، وتظافرت به الأخبار لا يخرج عن هذا المضمار إلا حمار، ومن زعم أن أكلهم شم فما شم رائحة العلم، انتهى. ورى ابن عبد البر عن وهب بن منبه: الجن أصناف، فخالصهم ريح لا يأكلون ولا يشربون ولا يتوالدون وصنف يفعل ذلك ومنهم السعالي والغيلان والقطرب، قال الحافظ: وهذا إن ثبت كان جامعا للقولين، ويؤيده ما روى ابن حبن والحاكم عن أبي ثعلبة الخشني مرفوعا: "الجن تلاثة أصناف: صنف لهم أجنحة يطيرون في الهواء، وصنف حيات وعقارب، وصنف يحلون ويظعنون ويرحلون".
وروى ابن بي الدنيا عن أبي الدرداء مرفوعا نحوه، لكن قال في الثالث: "وصنف عليهم الحساب والعقاب"، انتهى. قال السهيلي: ولعل هذا الصنف الطيار هو الذي لا يأكل ولا يشرب إن صح القول به، انتهى. وقال صاحب آكام المرجان: وبالجملة فالقائلون الجن لا تأكل ولا تشرب إن أرادوا جميعهم فباطل؛ لمصادمة الأحاديث الصحيحة وإن أرادوا صنفا منهم فمحتمل، لكن العمومات تقتضي أن الكل يأكلون ويشربون.(2/58)
وذكر صاحب الروض من أسماء السبعة الذين أتوه عليه السلام، عن ابن دريد: منشى وناشى وشاصر وماصر والأحقب. لم يزد على تسمية هؤلاء.
__________
"وذكر صاحب الروض" السهيلي فيه هنا "من أسماء السبعة الذين أتوه عليه السلام عن ابن دريد منشى" بميم فنون فمعجمة "وناشى" بنون "وشاصر" بشين معجمة فألف فصاد فراء "وماصر" بميم فألف فمعجمة ضبطهما في الإصابة، "والأحقب" قال في الروض "لم يزد" ابن دريد "على تسمية هؤلاء" الخمسة، وقد ذكرنا تمام أسمائهم فيما تقدم يعني قبيل المبعث، إذ قال وعمرو بن جابر وسرق، انتهى.
وفي الإصابة: الأرقم الجني أحد من استمع القرآن من جن نصيبين، ذكر إسماعيل بن زياد في تفسيره عن ابن عباس أنهم تسعة: سليط وشاصر وماضر وحسا ونسا وبجعم والأرقم والأدرس وخاضر، نقلته مجودا من خط مغلطاي، ثم ضبط في الإصابة خاضرا بخاء وضاد معجمتين وآخره راء، وسرق بضم السين وفتح الراء المشددة المهملتين وقاف، قال: وضبطه العسكري بتخفيف الراء على وزن عمر وأنكر على أصحاب الحديث شد الراء، انتهى. فهؤلاء أربعة عشر صحابة من الجن، وترجم في الإصابة أبيض الجني ذكره في كتاب السنن لأبي علي بن الأشعث أحد المتروكين المتهمين، فأخرج إسناده أنه صلى الله عليه وسلم قال لعائشة: "أخزى الله شيطانك" الحديث، وفيه: "ولكن الله أعانني عليه حتى أسلم واسمه أبيض وهو في الجنة، وهامة بن الهيم بن الأقيس بن إبليس في الجنة"، انتهى. وفي التجريد هامة بن الهيم حديثه موضوع، انتهى.
وسمحج بسين مهلمة أوله بوزن أحمر آخره جيم وسماه المصطفى عبد الله، رواه الفاكهي وغيره؛ كا في الإصابة، وعد أبو موسى المديني في الصحابة عمرو بن جابر المتقدم ومالك بن مالك وعمرو بن طارق وزوبعة ووردان.
قال الذهبي: وزوبعة إما لقب لواحد منهم أو اسم له والمذكور لقب، ولم يذكر ذلك صاحب الإصابة، بل ترجم لكل منهم، فاقتضى أن زوبعة اسم علم على جني غير الأربعة وهو الأصل، وذكر في عمرو بن طلق، ويقال ابن طارق، أخرج الطبراني في الكبير عن عثمان بن صالح، قال: حدثني عمر والجني، قال: كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم فقرأ سورة النجم فسجد وسجدت معه. وأخرج ابن عدي عن عثمان بن صالح، قال: رأيت عمرو بن طلق الجني، فقلت له: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: نعم وبايعته وأسلمت معه وصليت خلفه الصبح، فقرأ سورة الحج فسجد فيها سجدتين، وعثيم الجني وعرفطة بن سمراح الجني من بني نجاح ذكره الخرائطي في الهواتف عن سلمان الفارسي بسند ضعيف جدا، انتهى.
وعبد النور الجني، قال الذهبي: روى شيخنا ابن حمويه عن رجل عنه، وهذه خرفة(2/59)
قال الحافظ ابن كثير: وقد ذكر ابن إسحاق خروجه عليه السلام إلى أهل الطائف ودعاءه إياهم، وأنه لما انصرف عنهم بات بنخلة، فقرأ تلك الليلة من القرآن، فاستمعه الجن من أهل نصيبين.
قالك وهذا صحيح، لكن قوله إن الجن كان استماعهم تلك الليلة فيه نظر، فإن الجن كان استماعهم في ابتداء الإيحاء،............
__________
مهتوكة، انتهى. وامرأة اسمها رفاعة، وفي رواية عفراء، قال ابن الجوزي: حديثها موضوع، ولو صح لعدت في الصحابيات، ولم أر أحدا ذكرها لا في رفاعة ولا في عفراء، ثم ذكر الحديث من وجه آخر وسماها الفارعة بنت المستورد، وترجم لها في الإصابة الفارعة وذكر حديثها، وقال: في سنده من لا يعرف، وأورده ابن الجوزي في الموضوعات، وقال أعني صاحب الإصابة في ترجمة زوبعة: أنكر ابن الأثير على أبي موسى المديني ترجمة الجن في الصحابة، ولا معنى لإنكاره؛ لأنهم مكلفون وقد أرسل إليهم النبي -صلى الله عليه وسلم- وأما قوله كان الأولى أن يذكر جبريل، ففيه نظر؛ لأن الخلاف في أنه أرسل إلى الملائكة مشهور بخلاف الجن.
وفي فتح الباري الراجح دخول الجن؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- بعث إليهم قطعا وهم ملكفون، فيهم العصاة والطائعون، فمن عرف اسمه منهم لا ينبغي التردد في ذكره في الصحابة، وإن كان ابن الأثير عاب ذلك على أبي موسى فلم يستند في ذلك إلى حجة، وأما الملائكة فيتوقف عدهم فيهم على ثبوت بعثته إليهم، فإن فيه خلافا بين الأصوليين، حتى نقل بعضهم الإجماع على ثبوته وعكس بعضهم، انتهى.
"قال الحافظ ابن كثير: وقد ذكر ابن إسحاق خروجه عليه السلام إلى أهل الطائف ودعاءه إياهم وأنه لما انصرف عنهم بات بنخلة فقرأ تلك الليلة من القرآن" أي: بعضه، وهو كما مر سورة الجن، وقيل: اقرأ، وقيل: الرحمن وجمع بأن اقرأ في الأولى والرحمن في الثانية، أي: والجن في الثالثة. "فاستمعه الجن من أهل نصيبين" من العرب من يجعله اسما واحدا ويلزمه الإعراب كالأسماء المفردة الممنوعة الصرف، والنسبة نصيبين بإثبات النون، ومنهم من يجريه مجرى الجمع، والنسبة نصيبي بحذف النون، وعكس ذلك الجوهري فاعترض لأن المثنى والجمع وما ألحق بهما إن جعلا علمين وبقي إعرابها بالحروف ثم نسب إليهما ردا إلى مفردهما، وإن جعلا اسمين تامين أعربا بالحركات على النون ونسب إليهما على لفظهما بلا خلاف.
"وقال: وهذا صحيح لكن قوله: إن الجن كان استماعهم تلك الليلة فيه نظر، فإن الجن كان استماعهم تلك الليلة فيه نظر، فإن الجن كان استماعهم في ابتداء الإيحاء" ولا نظر، فهذه المرة بعد تلك، وقد جزم في فتح الباري بأن(2/60)
ويدل له حديث ابن عباس عند أحمد قال: كان الجن يستمعون الوحي فيسمعون الكلمة فيزيدون فيها عشرا، فيكون ما سمعوه حقا وما زادوه باطلا، وكانت النجوم لا يرمى بها قبل ذلك، فلما بعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان أحدهم لا يأتي مقعده إلا رمي بشهاب يحرق ما أصاب منه، فشكوا ذلك إلى إبليس، فقال: ما هذا إلا من أمر قد حدث، فبعث جنوده فإذا هم بالنبي -صلى الله عليه وسلم- يصلي بين جبلي نخلة فأخبروه فقال: هذا الحدث الذي حدث في الأرض.
ورواه النسائي وصححه الترمذي.
__________
كلام ابن إسحاق ليس صريحا في أولية قدوم بعضهم، قال: والذي يظهر من سياق الحديث الذي فيه المبالغة في رمي الشهب لحراسة السماء من استراق الجن السمع دال على أن ذلك عند المبعث النبوي وإنزال الوحي إلى الأرض، فكشفوا عن ذلك إلى أن وقفوا على السبب، ولذا لم يقيد البخاري الترجمة بقدوم ولا وفادة أي وإنما، قال باب ذكر الجن: لما انتشرت الدعوة وأسلم من أسلم، قدموا فسمعوا فأسلموا، وكان ذلك بين الهجرتين ثم تعدد مجيئهم حتى في المدينة، انتهى.
ونقله الشامي عن ابن كثير نفسه أيضا. "ويدل له حديث ابن عباس عند أحمد، قال: كان الجن يستمعون الوحي" هو ما كانت تسمعه الملائكة مما ينزل الأرض، فيتكلمون به، "فيسمعون الكلمة فيزيدون فيها عشرا فيكون ما سمعوه حقا، وما زادوه باطلا، وكانت النجوم لا يرمى بها قبل ذلك" البعث النوي "فلما بعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان أحدهم لا يأتي مقعده إلا رمي بشهاب يحرق ما أصابه منه" ولا يشكل هذا بما مر أن السماء حرست بمولده -صلى الله عليه وسلم- لجواز أنه بقي لهم بعض قدرة على الاستماع كاللص، فلما بعث زال ذلك، بل قال السهيلي: إنه بقي منه بقايا يسيرة بدليل وجوده نادرا في بعض الأزمنة وبعض البلاد. وقال البيضاوي: لعل المراد منعهم من كثرة وقوعه.
"فشكوا ذلك إلى إبليس، فقال: ما هذا إلا من أمر قد حدث فبث جنوده" في الأرض، وفي الصحيحين: فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها فمن النفر جماعة أخذوا نحو تهامة "فإذا هم بالنبي -صلى الله عليه وسلم- يصلي بين جبلي نخلة فأخبروه" أي: إبليس، "فقال: هذا الحدث الذي حدث في الأرض، ورواه النسائي وصححه الترمذي" ورواه الشيخان بنحوه، ولم يعزه لهما لزيادة فيما ذكر على روايتهما.(2/61)
قال: وخروجه علي السلام إلى الطائف كان بعد موت عمه.
وروى ابن أبي شيبة عن عبد الله بن مسعود قال: هبطوا على النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو يقرأ القرآن ببطن نخلة، فلما سمعوه قالوا: أنصتوا، فأنزل الله عز وجل: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ} الآية [الأحقاف: 29] .
فهذا مع حديث ابن عباس يقتضي أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يشعر بحضورهم في هذه المرة، وإنما استمعوا قراءته ثم رجعوا إلى قومهم، ثم بعد ذلك وفدوا إليه أرسالا، قوما بعد قوم وفوجا بعد فوج.
__________
"قال" ابن كثير "وخروجه عليه السلام إلى الطائف كان بعد موت عمه" أبي طالب الواقع في السنة العاشرة من النبوة، والاستماع كان عقب البعثة، فلا يصح ما في ابن إسحاق وقد علم جوابه، "وروى ابن أبي شيبة عن عبد الله بن مسعود، قال:" إن الجن "هبطوا على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ القرآن" وفي نسخة: وهو يقرأ الجن، أي: سورة الجن، لكن الأولى هي المعزوة في لباب النقول لابن أبي شيبة "ببطن نخلة فلما سمعوه، قالوا: أنصتوا" حذف من رواية ابن أبي شيبة بعد قوله: أنصتوا، قالوا: صه، وكانوا تسعة أحدهم زوبعة، "فأنزل الله عز وجل: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ} [الأحقاف: 29] الآية"، يريد جنسها، فلفظ ابن أبي شيبة فأنزل الله: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ} [الأحقاف: 29] إلى قوله: {ضَلَالٍ مُبِينٍ} [الأحقاف: 32] ، وقولهم من بعد موسى، قيل: لأنهم كانوا يهودا وفي الجن ملل كالإنس، وقيل: لم يسمعوا بعيسى واستبعد، وقيل: لأنهم كانوا يعلمون بشارة موسى به وكأنهم قالوا هذا الذي بشر به موسى ومن بعده.
"فهذا" أي: حديث ابن مسعود، "مع حديث ابن عباس" الذي قبله "يقتضي أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يشعر بحضورهم في هذه المرة، وإنما استمعوا قراءته ثم رجعوا إلى قومهم" وبهذا جزم الدمياطي، فقال: فلما انصرف من الطائف راجعا إلى مكة ونزل نخلة قام يصلي من الليل فصرف إليه نفر سبعة من أهل نصيبين، فاستمعوا إليه وهو يقرأ سورة الجن ولم يشعر بهم حتى نزل عليه: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْك} [الأحقاف: 29] ، انتهى. وبه تعقب قول من قال: لما وصل في رجوعه إلى نخلة جاءه الجن وعرضوا إسلامهم عليه. "ثم بعد ذلك وفدوا إليه أرسالا" بفتح الهمزة وأبدل منه قوله: "قوما بعد قوم وفوجا" أي: جماعة جمعه فؤوج وأفواج وجمع الجمح أفاوج وأفاويج؛ كما في القاموس.
"بعد فوج" كما تفيده الأحاديث العديدة، ففي حديث أنهم كانوا على ستين راحلة وآخر(2/62)
وفي طريقه -عليه السلام- هذه، دعا بالدعاء المشهورة:
"اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين،.........
__________
ثلاثمائة وآخر خمسة عشر، وعن عكرمة: اثني عشر ألفا، فهذا الاختلاف دليل على تكرر وفادتهم؛ كما أشار إليه البيهقي وابن عطية، وقال: إنه التحرير بمكة والمدينة، فالمتحصل من الأخبار أنهم وفدوا عليه لما خرجوا يضربون مشارق الأرض ومغاربها لاستكشاف الخبر عن حراسة السماء بالشهب، فوافوه -صلى الله عليه وسلم- بنخلة عامدا سوق عكاظ يصلي بأصحابه الفجر فسمعوا القرآن، وقالوا: هذا الذي حال بيننا وبين خبر السماء فرجعوا إلى قومهم فقالوا: يا قومنا إنا سمعنا قرآنا عجبا، فأنزل الله: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ} [الجن: 1] ، وما قرأ عليهم ولا رآهم؛ كما قاله ابن عباس في الصحيحين وغيرهما وأخرى بنخلة وهو عائد من الطائف وأخرى بالحجون.
وفي لفظ: بأعلى مكة بالجبال، لما أتاه داعي الجن فذهب معه وقرأ عليهم القرآن، ورجع لأصحابه من جهة حراء، وأخرى ببقيع الغرقد، وفي هاتين حضر ابن مسعود وخط عليه خطا بأمر المصطفى وأخرى خارج المدينة وحضرها الزبير، وأخرى في بعض أسفار لها وحضرها بلال بن الحارث؛ بل حديث أبي هريرة في الصحيح يحتمل أنهم أتوه حين حمل أبو هريرة للنبي صلى الله عليه وسلم الأدواة وإنما قدم أبو هريرة في سابعة الهجرة، وبهذا لا يبق تعارض بين الأخبار ويحصل الجمع؛ كا قال الحافظ بين نفي ابن عباس رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لهم، قال المصنف: وهو ظهر القرآن وبين ما أثبته غيره من رؤيته لهم، والله أعلم.
"وفي طريقه عليه السلام هذه" لما اطمأن في ظل الحيلة، أي: الكرمة، "دعا بالدعاء المشهور" المسمى كما قال بعضهم بدعاء الطائف، وهو: "اللهم إليك أشكو" قدم المعمول ليفيد الحصر، أي: لا إلى غيرك فإن الشكوى إلى الغير لا تنفع "ضعف قوتي" بضم الضاد أرجح من فتحها وهما لغتان؛ كما في الأنوار، وفي المصباح: الضم لغة قريش.
وفي القاموس: الضعف بالفتح والضم ويحرك ضد القوة. "وقلة حيلتي" في مخلص أتوصل به إلى القيام بما كلفني، "وهواني على الناس" احتقارهم واستهانتهم بي واستخفافهم بشأني واستهزاءهم، والشكوى إليه عز وجل لا تنافي أمره بالصبر في التزيل؛ لأن إعراضه عن الشكوى لغيره وجعلها إليه وحده هو الصبر، والله سبحانه يمقت من يشكوه إلى خلقه ويحب من يشكو ما به إليه، "يا أرحم الراحمين" أي: يا موصوفا بكمال الإحسان، "أنت أرحم الراحمين" وصف له تعالى بغاية الرحمة بعدما ذكر لنفسه ما يوجبها، واكتفى بذلك عن عرض المطلوب بصريح اللفظ تلطفا في السؤال وأدبا وأكد ذلك ولمح للمراد، فقال: "وأنت رب المستضعفين"(2/63)
إلى من تكلني إلى عدو بعيد يتجهمني أم إلى صديق قريب ملكته أمري، إن لم تكن غضبانا علي فلا أبالي، غير أن عافيتك أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات............
__________
في ذكر لفظ رب والإضافة إليهم مزيد الاستعطاف، فطوى في ضمن هذه الألفاظ العذبة البديعة نحو أن يقول: فقوني واجعل لي المخلص وأعزني في الناس، وعدل إلى الثناء على ربه بهاتين الجملتين الثابتتين عند ابن إسحاق الساقطتين في رواية الطبراني؛ لأن الكريم بالثناء يعطي المراج ولا أكرم منه سبحانه وتعالى.
"إلى من تكلني" تفوض أمري "إلى عدو بعيد" وسقط في رواية الطبراني لفظ بعيد "يتجهمني" بتحتية ففوقية فجيم فهاء مشددة مفتوحات والاستفهام للاستعطاف بحذف أداة، أي: اتكلني إلى عدو "أم إلى صديق قريب ملكته أمري" جعلته مسلطا على إيذائي ولا أستطيع دفعه، والجملة دالة على المدعو به، أي: لا تجعل لي ذلك.
"إن لم تكن غضبانا" وفي رواية: إن لم تكن ساخطا، وأخرى: إن لم يكن بك سخط وأخرى إن لم يكن بك غضب، "علي لا أبالي" بما تصنع بي أعدائي وأقاربي من الإيذاء طلبا لمرضاتك ووثوقا بما عندك، "غير أن عافيتك" وهي السلامة من البلايا والأسقام مصدر جاء على فاعله، "أوسع لي" فيه أن الدعاء بالعافية مطلوب محبوب ونحوه ل تمنوا لقاء العدو واسألوا الله العافية، وهكذا عادة الأنبياء عليهم السلام إنما يسألون بعد البلاء عنهم، "أعوذ بنور وجهك" أي: ذاتك، زاد الطبراني: الكريم، أي: الشريف والكريم يطلق على الشريف النافع الدائم نفعه، قال السهيلي: وأتى بالوجه إيذانا بأن بغيته الرضا والقبول والإقبال؛ لأن من رضى عنك أقبل عليك بوجهه لا صلة للتأكيد؛ كما زعم من غلظ طبعه ولو قال بنورك لحسن ولكنه توصل إليه بما أودع قلبه من نوره، فتوسل إلى نعمته بنعمته وإلى فضله ورحمته بفضله ورحمته، انتهى.
"الذي" زاد الطبراني الأضاءت له السماوات والأرض و "أشرقت" بالبناء للفاعل، أي: أضاءت "له الظلمات" أي: أزيلت، وعطفه عليه في رواية الطبراني مع أنه بمعناه؛ لأن اختلاف اللفظ سوغ العطف ولذا غاير في التعبير كراهة توالي لفظين بمعنى، ولم يسقطه للإطناب المطلوب في الدعاء، وضبط بعضهم أشرقت بالبناء للمفعول لقول الزمخشري في قراءة: واشرقت الأرض بنور ربها بالمفعول من شرقت بالضوء تشرق إذا امتلأت به مردود، فإنما هو ظاهر في الآية لا الحديث، إذ لا يظهر فيه امتلأت الظلمات بالضوء إلا بتعسف، قال في الروض: النور هنا عبارة من الظهور وانكشاف الحقائق الإلهية وأشرقت الظلمات، أي: محالها وهي القلوب التي كانت فيها ظلمات الجهالات والشكوك فاستنارت بنور الله تعالى، قال: وقد تكون الظلمات هنا أيضا(2/64)
وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، أن ينزل بي غضبك، أو يحل بي سخطك، ولك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك".
أورده ابن إسحاق، ورواه الطبراني في كتاب الدعاء عن عبد الله بن جعفر قال: لما توفي أبو طالب، خرج النبي -صلى الله عليه وسلم- ماشيا إلى الطائف،..............
__________
المحسوسة وإشراقها دلالتها على خالقها وكذلك الأنوار المحسوسة الكل دال عليه فهو نور النور، أي: مظهره ومنور الظلمات، أي: جاعلها نورا في حكم الدلالة عليه سبحانه، انتهى.
والحمل على ما يشمل الحسي والمعنوي أولى، وإن أخره وقلله، فيكون من استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه أو عموم المجاز، ثم لا يشكل الحديث بأن المعروف أنه لا ظلمة في الملأ الأعلى؛ لأنه إنما هو به تعالى وله وما أحسن قول صاحب الحكم الكون كله ظلمة وإنما أناره ظهور الحق فيه، فمن رأى الكون ولم يشهده فيه أو قبله أو عنده أو بعده فقد أعوزه وجود الأنوار وحجبت عنه شموس المعارف بسحب الآثار، انتهى.
"وصلح" بفتح اللام وتضم استقام وانتظم، "عليه أمر الدنيا والآخرة أن ينزل بي غضبك أو يحل" بكسر الحاء يجب وضمها، أي: ينزل وبهما قرئ: {فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي} [طه: 81] ، "بي سخطك" أي: غضبك فهو من عطف الرديف مرفوعان فاعل ينزل، ويحل بالتحتية ومنصوبان على المفعولية لكن بالفوقية في الفعلين مضمومة مع كسر حاء تحل فقط، وأفاد بعضهم أن الوجهين رواية في لفظ الطبراني أن يحل علي غضبك أو ينزل علي سخطك.
"ولك العتبى" بضم العين وألف مقصور أي: أطلب رضاك "حتى ترضى" قال في النهاية: استعتب طلب أن يرضى عنه، وقال الهروي: ويقال عتب عليه وجد فإذا فاوضه ما عتب عليه، قيل: عاتبه والاسم العتبى وهو رجوع المعتوب عليه إلى ما يرضي المعاتب، انتهى. ولا يظهر تفسير الشامي العتبى بالرضا لركة قولنا لك الرضا حتى ترضى.
"ولا حول" أي: تحول عن المعاصي، "ولا قوة" على فعل الطاعات "إلا بك" بتوفيقك واستعاذ بهما بعد الاستعاذة بذاته تعالى للإشارة إلى أنه لا توجد حركة ولا سكون في خير أو شر إلا بأمره تعالى التابع لمشيئته إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون، "وأورده ابن إسحاق" محمد في السيرة بلفظ: فلما اطمأن، قال فيما ذكره فساقه "ورواه الطبراني" سليمان بن أحمد بن أيوب "في كتاب الدعاء" وهو مجلد، وكذا رواه في معجمة الكبير "عن عبد الله بن جعفر" بن أبي طالب الصحابي ابن الصحابي، "قال" وهذا مرسل صحابي؛ لأنه ولد بالحبشة فلم يدرك ما حدث به لقوله: "لما توفي أبو طالب خرج النبي صلى الله عليه وسلم ماشيا إلى الطائف" بلد معروف سمي بذلك لأن رجلا من حضرموت أصاب دما في قومه وفر إليه، فقال لهم: ألا أبني لكم(2/65)
فدعاهم إلى الإسلام فلم يجيبوه، فأتى ظل شجرة فصلى ركعتين ثم قال: "اللهم إليك أشكو". فذكره.
وقوله: يتجهمني -بتقديم الجيم على الهاء- أي يلقاني بالغلظة والوجه الكريه.
ثم دخل عليه السلام مكة في جوار المطعم بن عدي.
__________
حائطا يطيف ببلدتكم، فبناه. أو لأن الطائف المذكور في القرآن وهو جبريل اقتلع الجنة التي كانت بصوران على فراسخ من صنعاء، فأصبحت كالصريم وهو الليل وأتى بها إلى مكة فطاف بها ثم وضعها به فكان الماء والشجر بالطائف دون ما حولها؛ أو لغير ذلك أقوال.
"فدعاهم إلى الإسلام" أو إلى نصره وعونه حتى يبلغ رسالة ربه، "فلم يجيبوه" لا إلى الإسلام ولا إلى غيره، "فأتى ظل شجرة" من عنب، فعند ابن إسحاق جلس إلى ظل حبلة بمهملة فموحدة مفتوحة، قال السهيلي: وسكونها ليس بالمعروف، أي: كرمة اشتق اسمها من الحبل؛ لأنها تحبل بالعنب، ولذا فتح حمل الشجرة والنخلة فقيل: حمل بفتح الحاء تشبيها بحمل المرأة وقد يقال حمل بكسرها تشبيها بالحمل على الظهر، انتهى. "فصلى ركعتين" قبل الدعاء ليكون أسرع إجابة وليزول غمه وهمه مناجاة ربه فيها، "ثم قال: "اللهم إليك أشكو" ... فذكره بنحو ما أورده ابن إسحاق، وقد بينا ألفاظه التي زادها ونقصها.
"وقوله: يتجهمني بتقديم الجيم على الهاء" المشددة "أي: يلقاني بالعلظة والوجه الكريه" قاله في النهاية، وقال الزمخشري: وجه جهم غليظ وهو البائس الكريه ويوصف به الأسد وتجهمت الرجل وجهمته استقبلته بوجه كريه، وقيل: هو أن يغلظ له في القول ومن المجاز الدهر يتجهم الكرام، وتجهمه: أمله إذا لم يصبه، "ثم دخل عليه السلام مكة في جوار المطعم بن عدي" بعد أن أقام بنخلة أيام، وقال له زيد بن حارثة: كيف دخل عليهم وهم قد أخرجوك؟ فقال: "يا زيد إن الله جاعل لما ترى فرجا ومخرجا، وإن الله مظهر دينه وناصر نبيه"، ثم انتهى إلى حراء، وبعث عبد الله بن الأريقط إلى الأخنس بن شريق ليجيره، فقال: أنا حليف والحليف لا يجير، فبعث إلى سهيل بن عمرو، فقال: إن بني عامر لا تجير على بني كعب، فبعث إلى المطعم بن عدي فأجابه فدخل صلى الله عليه وسلم فبات عنده، فلما أصبح تسلح المطعم هو وبنوه وهم ستة أو سبعة، فقالوا له -صلى الله عليه وسلم: "طف، واحتبوا بحمائل سيوفهم بالمطاف"، فقال أبو سفيان للمطعم: أمجير أم تابع، قال: بل مجير، قال: إذن لا تخفر قد أجرنا من أجرت فقضى -صلى الله عليه وسلم- طوافه وانصرفوا معه إلى منزله، ذكر ابن إسحاق هذه القصة مبسوطة، وأوردها الفاكهي بإسناد حسن مرسل، لكن فيه أنه أمر أربعة من أولاده فلبسوا السلاح وقام كل واحد عند ركن من الكعبة،(2/66)
وقت الإسراء:
ولما كان في شهر ربيع الأول أسرى بروحه وجسده يقظة من المسجد الحرام................
__________
فقالت له قريش: أنت الرجل الذي لا تخفر ذمتك، ويمكن الجمع بأن الأربعة عند الأركان والمطعم وباقيهم في المطاف، قال في النور: وفي جواب سهيل والأخنس نظر؛ لأنهما لو لم يكونا ممن يجير لما سألهما النبي صلى الله عليه وسلم، كيف وعامر الذي هو جد سهيل وكعب أخوان ولدا لؤي، انتهى.
قيل: ولذا قال -صلى الله عليه وسلم- في أسارى بدر: "لو كان المطعم بن عدي حيا ثم كلمني في هؤلاء النتنى لتركتهم له"، وقيل: لقيامه في نقض الصحيفة ولا مانع أنه لكليهما وسماهم نتنى لكفرهم؛ كما في النهاية وغيرها. وقول المصنف: المراد قتلى بدر الذين صاروا جيفا يرده قول الحديث في أسارى بدر وهذا من شيمه صلى الله عليه وسلم الكريمة تذكر وقت النصر والظفر للمطعم هذا الجميل، ولم يذكر قوله صبح الإسراء كل أمرك كان قبل اليوم أمما هو يشهد أنك كاذب، وقد قال واصفه: لا يجزي بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويصفح، ولما مات المطعم قبل وقعة بدر رثاه حسان بن ثابت؛ كما سأذكره إن شاء الله في غزوتها، ولا ضير فيه؛ لأن الرثاء تعداد المحاسن بعد الموت، ولا ريب أن فعله مع المصطفى من أجلها، فلا مانع منه ومن ذكر نحو كرم أصله وشرفهم هذا، وذكر ابن الجوزي في دخوله -صلى الله عليه وسلم- في جوار كافر، وقوله في المواسم: "من يؤويني حتى أبلغ رسالة ربي"، حكمتين، إحداهما: اختبار المبتلى، أي: معاملته معاملة من يختبر ليسكن قلبه إلى الرضا بالبلاء فيؤدي القلب ما كلف به من ذلك، والثانية: أن بت الشبهة في خلال الحجج لثبات المجتهد في دفع الشبهة، انتهى.
وقت الإسراء:
"ولما كان في شهر ربيع الأول" أو الآخر أو رجب أو رمضان أو شوال، أقوال خمسة "أسرى بروحه وجسده يقظة" لا مناما مرة واحدة في ليلة واحدة عند جمهور المحدثين والفقهاء والمتكلمين وتواردت عليه ظواهر الأخبار الصحيحة، ولا ينبغي العدول عنه، وقيل: وقع الإسراء والمعراج في مرتين مناما ويقظة، وقيل: الإسراء في ليلة والمعراج في ليلة، وقيل: الإسراء يقظة والمعراج منام، وقيل: الخلاف في أنه يقظة أو منام خاص بالمعراج لا بالإسراء، وقيل: الإسراء مرتان يقظة الأولى بلا معراج والثانية به، "من المسجد الحرام" عند البيت في الحطيم أو الحجز.(2/67)
إلى المسجد الأقصى، ثم عرج به من المسجد الأقصى إلى فوق سبع سماوات، ورأى ربه بعيني رأسه، وأوحى الله إليه ما أوحى، وفرض عليه الصلاة، ثم انصرف في ليلته إلى مكة.
فأخبر بذلك، فصدقه الصديق، وكل من آمن بالله.
وكذبه الكفار واستوصفوه مسجد بيت المقدس، فمثله الله له،............
__________
وفي رواية: فرج سقف بيتي، وفي أخرى أنه أسرى به من شعب أبي طالب، وفي أخرى: من بيت أم هانئ، وجمع الحافظ بأنه كان في بيت أم هانئ وهو عند شعب أبي طالب ففرج سقف بيته وأضافه إليه؛ لأنه كان يسكنه فنزل منه الملك فأخرجه منه حتى أتى المسجد وبه أثر النعاس ثم أخرجه إلى باب المسجد فأركبه البراق، "إلى المسجد الأقصى" وصرحت السنة بأن دخله، وإليه أشار بقوله: "ثم عرض به من المسجد الأقصى إلى فوق سبع سماوات" إلى حيث شاء العلي الأعلى "ورأى ربه بعيني رأسه" على ما رجحه جمع ونفتها عائشة وابن مسعود، ورجح في المفهم القول بالوقف وعزاه لجماعة من المحققين، وقول عائشة: ما فقدت جسده، إنما احتج به من قال إن الإسراء كان مناما؛ كما سيأتي بسط ذلك للمصنف في مقصده.
"وأوحى إليه ما أوحى" أيهم للتعظيم فلا يطلع عليه بل يتعبد بالإيمان به أو {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى} [الضحى: 6] الآية، ألخ أو الجثة حرام على الأنبياء حتى تدخلها وعلى الأمم حتى تدخلها أمتك أو تخصيصه بالكوثر أو الصلوات الخمس، أقوال.
"وفرض عليه الصلاة ثم انصرف في ليلته إلى مكة، فأخبر بذلك" الناس مؤمنهم وكافرهم "فصدقه الصديق" قيل: فلقب بذلك يومئذ، "وكل من آمن بالله" تعالى إيمانا قويا لا تعرض له الشكوك والأوهام فلا ينافي أنه ارتد كثيرا استبعادا للخبر "وكذبه الكفار" وزادوا عليه عتوا "واستوصفوه مسجد بيت المقدس" فسألوه عن أشياء لم يثبتها، قال صلى الله عليه وسلم: "فكربت كربا شديدا لم أكرب مثله قط"، ومن جملة اأشياء قولهم: كم للمسجد من باب، قال: ولم أكن عددتها، "فمثله الله له" وعند ابن سعد: "فخيل إلي بيت المقدس وطفقت أخبرهم عن آياته"، قال الحافظ: يحتمل أن المراد مثل قريبا منه كما قيل في حديث: "أريت الجنة والنار".
وفي البخاري: "فجلى الله لي بيت المقدس"، أي: كشف الحجب بيني وبينه حتى رأته ويحتمل أنه حمل حتى وضع حيث يراه ثم أعيد، ففي حديث ابن عباس عند أحمد والبزار: "فجيء بالمسجد وأنا انظر إليه"، وهذا أبلغ في المعجزة ولا استحالة فيه فقد أحضر عرش بلقيس في طرفة عين، انتهى ملخصا.(2/68)
فجعل ينظر إليه ويصفه.
قال الزهري: وكان ذلك بعد المبعث بخمس سنين. حكاه عنه القاضي عياض، ورجحه القرطبي والنووي. واحتج: بأنه لا خلاف أن خديجة صلت معه بعد فرض الصلاة، ولا خلاف أنها توفيت قبل الهجرة إما بثلاث أو بخمس، ولا خلاف أن فرض الصلاة كان ليلة الإسراء.
وتعقب: بأن موت خديجة عبد المبعث بعشر سنين على الصحيح في رمضان، وذلك قبل أن تفرض الصلاة. ويؤيده إطلاق حديث عائشة أن خديجة ماتت قبل أن تفرض الصلوات الخمس. ويلزم منه أن يكون موتها قبل الإسراء وهو المعتمد، وأما تردده في سنة وفاتها فيرده جزم عائشة بأنها ماتت قبل الهجرة بثلاث سنين قاله الحافظ ابن حجر.
__________
"فجعل ينظر إليه ويصفه" فيطابق ما عندهم ولكن من يضلل الله فما له من هاد، "قال الزهري" الأولى العطف بالواو؛ لأنه مقابل ما أفاده قوله في شهر ربيع الأول من أنه من سنة إحدى عشرة من المبعث؛ لأنه يرتب الوقائع على السنين. "وكان ذلك" الإسراء "بعد المبعث" كذا في النسخ والذي في الفتح عن الزهري قيل الهجرة "بخمس سنين" فيكون بعد المبعث بثمان؛ لأنه أقام بمكة ثلاث عشرة سنة، اللهم إلا أن يكون المصنف ألغى مدة الفترة على أنها ثلاث سنين وهذا إن أمكن به صحته لكن المنقول عن الزهري كما ترى خلافه "حكاه عنه القاضي عياض" ورجحه كما في الفتح عنه.
"و" كذا "رجحه القرطبي والنووي" تبعا لعياض ثلاثتهم في شرح مسلم "واحتج" عياض وتابعاه "بأنه لا خلاف أن خديجة صلت معه بعض فرض الصلاة ولا خلاف أنها توفيت قبل الهجرة، إما بثلاث أو بخمس ولا خلاف أن فرض الصلاة كان ليلة الإسراء وتعقب بأن موت خديجة بعد المبعث بعشر سنين على الصحيح في رمضان وذلك قبل أن تفرض الصلاة" فبطل قولهم: صلت معه الخمس اتفاقا "ويؤيده" أي: الصحيح، "إطلاق حديث عائشة أن خديجة ماتت قبل أن تفرض الصلوات الخمس ويلزم منه أن يكون موتها قبل الإسراء وهو المعتمد، وأما تردده" أي: عياض وتابعيه "في سنة وفاتها" بقوله: إما بثلاث أو بخمس "فيرده جزم عائشة" عند البخاري، "بأنها ماتت قبل الهجرة بثلاث سنين، قاله الحافظ ابن حجر" في فتح الباري، وقال فيه في باب المعراج في جميع ما نفاه أي: عياض وتابعاه من الخلاف نظر، أما أولا فقد حكى العسكري أنا ماتت قبل الهجرة بسبع سنين وقيل: بأربع، وعن ابن الأعرابي أنها ماتت عام(2/69)
وقيل: الهجرة بسنة وخمسة أشهر، قاله السيدي وأخرجه من طريقه الطبري والبيهقي، فعلى هذا كان في شوال.
وقيل: كان في رجب. حكاه ابن عبد البر، وقبله ابن قتيبة، وبه جزم النووي في الروضة.
وقيل: كان قبل الهجرة بسنة وثلاثة أشهر، فعلى هذا يكون في ذي الحجة، وبه جزم ابن فارس.
وقيل: قبل الهجرة بثلاث سنين، ذكر ابن الأثير.
__________
الهجرة، وأما ثانيا فإن فرض الصلاة اختلف فيه، فقيل: كان من أول البعثة وكان ركعتين بالغداة وركعتين بالعشي، وأما الذي فرض ليلة الإسراء، فالصلوات الخمس، وأما ثالثا: فقد جزمت عائشة بأن خديجة ماتت قبل أن تفرض الصلاة المكتوبة فالمعتمد أن مراد من قال بعد أن فرضت الصلاة ما فرض قبل الصلوات الخمس إن ثبت ذلك، ومراد عائشة الصلوات الخمس، فيجمع بين القولين بذلك، ويلزم منه أنها ماتت قبل الإسراء، انتهى.
"وقيل" كان الإسراء "قبل الهجرة بسنة وخمسة أشهر، قاله السدي، وأخرجه من طريقه" أي: عنه، "الطبري" ابن جرير "والبيهقي، فعلى هذا كان في شوال" لما يجيء أنه خرج إلى المدينة لهلال ربيع الأول وقدمها لاثنتي عشرة خلت منه، وقال الحافظ: فعلى هذا كان في رمضان أو شوال على إلغاء الكسرين، "وقيل: كان في رجب حكاه" أبو عمرو يوسف "بن عبد البر" النمري بفتحتين القرطبي الحافظ المشهور ساد أهل الزمان في الحفظ والاتقان ولد في ربيع الآخر سنة ثمان وستين وثلاثمائة، ومات سنة ثلاث وستين وأربعمائة، مر بعض ترجمته.
"و" حكاه "قبله" بسكون الباء ظرف أبو محمد عبد الله بن مسلم "بن قتيبة" الدينوري بفتح الدال وتكسر النحوي اللغوي مؤلف أدب الكاتب وغيره ولد سنة ثلاث عشرة ومائتين ومات سنة سبع وستين ومائتين، "وبه جزم النووي الروضة" تبعا للرافعي وقيل: قبل الهجرة بسنة واحدة قاله ابن سعد وغيره، وبه جزم النووي وقاله ابن حزم وبالغ وادعى فيه الإجماع قال الحافظ: وهو مردود، ففي ذلك خلاف يزيد على عشرة أقوال، "وقيل: قبل الهجرة بسنة وثلاثة أشهر فعلى هذا يكون في ذي الحجة" لما مر في خروجه من المدينة، "وبه جزم" أحمد "بن فارس" اللغوي أبو الحسين الرازي الإمام في علوم شتى المالكي الفقيه غل عليه علم النحو ولسان العرب فشهر به له مصنفات وأشعار جيدة مات سنة تسعين، وقيل: خمس وسبعين وثلاثمائة.
"وقيل: قبل الهجرة بثلاث سنين، ذكر ابن الأثير" وقيل: قبلها بثمانية أشهر، وقيل: بستة(2/70)
وقال الحربي: إنه كان في سابع عشري ربيع الآخر، وكذا قال النووي في فتاويه، لكن قال في شرح مسلم: في ربيع الأول.
وقيل: كان ليلة السابع والعشرين من رجب، واختاره الحافظ عبد الغني بن سرور المقدسي.
وأما اليوم الذي يسفر عن ليلتها، فقيل الجمعة، وقيل السبت،.............
__________
أشهر، حكاهما ابن الجوزي، وقيل: بسنة وشهرين، حكاه ابن عبد البر "وقال": إبراهيم بن إسحاق "الحربي" نسبة إلى محلة الحربية ببغداد، البغدادي شيخ الإسلام الإمام البارع في العلوم الزاهد، مات في ذي الحجة سنة خمس وسبعين ومائتين، "أنه كان في سابع عشري ربيع الآخر" قبل الهجرة بسنة واحدة، ورجحه ابن المنير في شرح سيرة ابن عبد البر كذا نسبه للحربي جمع منهم الحافظ في الفتح، وابن دحية في الابتهاج، والذي نقله ابن دحية في التنوير والمعراج الصغير، وأبو شامة في الباعث، والحافظ في فضائل رجل عن الحربي ربيع الأول.
"وكذا قال النووي في فتاويه" على ما في بعض نسخها "لكن قال في شرح مسلم" على ما في بعض نسخه "ربيع الأول" وفي أكثر نسخ الشرح ربيع الآخر والذي في النسخ المعتمدة من الفتاوى الأول، وهكذا نقله عنها الإسنوي والأذرعي والدميري، "وقيل: كان ليلة السابع والعشرين من رجب" وعليه عمل الناس، قال بعضهم: وهو الأقوى، فإن المسألة إذا كان فيها خلاف للسلف ولم يقم دليل على الترجيح واقترن العمل بأحد القولين أو الاقوال، وتلقى بالقبول فإن ذلك مما يغلب على الظن كونه راجحا.
"و" لذا "اختاره الحافظ عبد الغني" ابن عبد الواحد بن علي "بن سرور المقدسي" فنسبه لجد أبيه الحنبلي الإمام أوحد زمانه في الحديث والحفظ الزاهد العابد صاحب العمدة والكمال وغير ذلك، نزل مصر في آخر عمره وبها مات يوم الاثنين ثالث عشرى ربيع الآخر سنة ستمائة وله تسع وخمسون سنة، وقال ابن عطية بعد نقل الخلاف: والتحقيق أنه كان بعد شق الصحيفة، قبل بيعة العقبة، وقيل: كان قبل المبعث، قال الحافظ: وهو شاذ إلا أن حمل على أنه وقع حينئذ في المنام.
"وأما اليوم الذي يسفر" بفتح الياء وكسر الفاء من سفرت الشمس: طلعت، "عن ليلتها" أي: الذي يطلع فجره بعد ليلتها وبضمها من أسفر الصبح إسفارا أضاء، أي: الذي يضيء بعد ليلتها وعن بمعنى بعد عليهما، "فقيل" هو "الجمعة" أي: اليوم المسمى به، "وقيل": هو "السبت" أي: يومه.(2/71)
وعن ابن دحية: يكون إن شاء الله تعالى يوم الاثنين، ليوافق المولد والمبعث والهجرة والوفاة، فإن هذه أطوار الانتقالات: وجودا ونبوة ومعراجا وهجرة ووفاة.
وستأتي إن شاء الله تعالى قصة الإسراء والمعراج وما فيهما من المباحث والله الموفق والمعين.
__________
"وعن ابن دحية" الحافظ أبي الخطاب عمر بفتح الدال وكسرها نسبة إلى جده الأعلى دحية بن خليفة الكلبي الصحابي؛ لأنه كان يقول إنه من ولده، "يكون إن شاء الله تعالى يوم الاثنين ليوافق المولد والمبعث والهجرة والوفاة، فإن هذه أطوار الانتقالات وجودا ونبوة ومعراجا وهجرة ووفاة" لكن في عده المعراج شيء؛ لأنه محل النزاع فكيف يستدل به؟ وحاصله؛ كما قال الشامي أنه استنبطه بمقدمات حساب من تاريخ الهجرة وحاول موافقته لتلك الأطوار، وقال: يكون الاثنين في حقه كالجمعة لآدم، "وستأتي إن شاء الله تعالى قصة الإسراء والمعراج وما فيهما من المباحث" في المقصد الخامس، وإنما ذكر هنا زمن وقوعه مراعاة لالتزامه ترتيب الوقائع، "والله الموفق" للخير "والمعين" عليه لا غيره.(2/72)
ذكر عرض المصطفى نفسه على القبائل ووفود الأنصار:
ولما أراد الله تعالى إظهار دينه وإعزاز نبيه، وإنجاز موعده له، خرج -صلى الله عليه وسلم- في الموسم الذي لقي فيه الأنصار -الأوس والخزرج.
__________
ذكر عرض المصطفى نفسه على القبائل ووفود الأنصار:
"ولما أراد الله تعالى إظهار دينه" انتشاره بين الناس ودخولهم فيه، "وإعزاز نبيه" تصييره عزيزا معظما عند جميع الناس، ومنع من يريده بسوء بعدما لقي من قومه، "وإنجاز موعده" تعالى "له" صلى الله عليه وسلم، أي: نصره على أعدائه، فهو تفسير لما قبله، وقد قال تعالى: {وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ، هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة: 32، 33] ، وفي الصحيح: "إن الله روى ليس الأرض مشارقها ومغاربها وسيبلغ ملك أمتي ما روى لي منها".
"خرج صلى الله عليه وسلم في الموسم" وكان في رجب كما في حديث جابر عند أصحاب السنن "الذي لقي فيه الأنصار" جمع ناصر كأصحاب وصاحب على تقدير حذف ألف ناصر لزيادتها، فهو ثلاثي يجمع على أفعال قياسا، ويقال: جمع نصير كشريف وأشراف على القياس وجمعوا جمع قلة وإن كانوا ألوفا؛ لأن جمع القلة والكثرة إنما يعبتران في نكرات الجموع.(2/72)
فعرض -صلى الله عليه وسلم- نفسه على قبائل العرب كما كان يصنع في كل موسم،..........
__________
أما في المعارف فلا فرق بينهما وتسميتهم بالأنصار حينئذ باعتبار المآل وإلا فهو اسم إسلامي لما فازوا به دون غيرهم من نصره -صلى الله عليه وسلم- وإيوائه ومن معه ومواساتهم بأنفسهم وأموالهم. "الأوس والخزرج" بنصبهما على البدلية، وفي نسخة بواو عطف التفسير سموا باسم جديهما الأعليين الأوس والخزرج الأكبر، ولدى حارثة بن ثعلبة، قال السهيلي: الأوس في الأصل الذئب والعطية والخرزج الريح الباردة، وفي الصحاح الأوس العطية والذئب وبه سمي الرجل، وفيه أيضا الخزرج ريح، قال الفراء: الجنوب غير مجراة فلم يقيده بالباردة، وتبعه القاموس لكنه قال الأوس إلا عطاء، وبينه وبين العطية التي عبر بها فرق.
"فعرض -صلى الله عليه وسلم- نفسه على قبائل العرب" بأمر الله تعالى؛ كما في حديث علي الآتي، "كما كان يصنع في كل موسم" ذكر الواقدي أنه -صلى الله عليه وسلم- مكث ثلاث سنين مستخفيا، ثم أعلن في الرابعة فدعا الناس إلى الإسلام عشر سنين يوافي المواسم كل عام يتبع الحاج في منازلهم بعكاظ ومجنة وذي المجاز، يدعوهم إلى أن يمنعوه حتى يبلغ رسالات ربه، فلا يجد أحدا ينصره ولا يجيبه حتى إنه ليسأل عن القبائل ومنازلها قبيلة قبيلة فيردون عليه أقبح الرد ويؤذونه، ويقولون: قومك أعلم بك، فكان ممن سمي لنا من تلك القبائل بنو عامر بن صعصعة ومحارب وفزارة وغسان ومرة وحنيفة وسليم وعبس وبنو نصر والبكاء وكندة وكعب والحارث بن كعب وعذرة والحضارمة، وذكر نحوه ابن إسحاق بأسانيد متفرقة.
وقال موسى بن عقبة عن الزهري: كان قبل الهجرة يعرض نفسه على القبائل ويكلم كل شريف قوم لا يسألهم إلا أن يؤوه ويمنعوه، ويقول: "لا أكره أحد منكم بل أريد أن تمنعوا من يؤذيني حتى أبلغ رسالات ربي"، فلا يقبله أحد بل يقولون: قوم الرجل أعلم به، وأخرج أحمد والبيهقي وصححه ابن حبان عن ربيعة بن عباد بكسر المهملة وخفة الموحدة، قال: رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بسوق ذي المجاز يتبع الناس في منازلهم يدعوهم إلى الله تعالى.
وروى أحمد وأصحاب السنن وصححه الحاكم، عن جابر: كان -صلى الله عليه وسلم- يعرض نفسه على الناس بالموسم، فيقول: "هل من رجل يحملني إلى قومه، فإن قريشا قد منعوني أن أبلغ كلام ربي"، فأتاه رجل من همدان فأجابه ثم خشي أن لا يتبعه قومه فجاء إليه، فقال: آتي قومي فأخبرهم ثم أتيك من العام المقبل، فانطلق الرجل وجاء وفد الأنصار في رجب.
وأخرج الحاكم وأبو نعيم والبيهقي بإسناد حسن عن ابن عباس: حدثني علي بن أبي طالب، قال: لما أمر الله نبيه أن يعرض نفسه على قبائل العرب، خرج وأنا معه وأبو بكر إلى منى حتى دفعنا إلى مجلس من مجالس العرب، وتقدم أبو بكر وكان نسابة، فقال: من القوم؟ قالوا:(2/73)
فبينما هو عند العقبة، لقي رهطا من الخزرج، أراد الله بهم خيرا، فقال لهم: "من أنتم"؟ قالوا: نفر من الخزرج، قال: "أفلا تجلسون أكلمكم"؟ قالوا: بلى، فجلسوا معه، فدعاهم إلى الله، وعرض عليهم الإسلام، وتلا عليهم القرآن.
وكان من صنع الله، أن اليهود كانوا معهم في بلادهم، وكانوا أهل كتاب، وكان الأوس والخزرج أكثر منهم، فكانوا إذا كان بينهم شيء قالوا: إن نبيا سيبعث الآن، قد أظل زمانه، نتبعه فنقتلكم معه. فلما كلمهم النبي -صلى الله عليه وسلم- عرفوا النعت، فقال بعضهم لبعض:
__________
من ربيعة، قال: من أي ربيعة أنتم؟ قالوا: من ذهل، فذكر حديثا طويلا في مراجعتهم وتوقفهم أخيرا عن الإجابة، قال: ثم دفعنا إلى مجلس الأوس والخرزج وهم الذين سماهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الأنصار لكونهم أجابوه إلى إيوائه ونصره، قال: فما نهضنا حتى بايعوا النبي -صلى الله عليه وسلم.
"فبينما هو عند العقبة" الأولى كما في ابن إسحاق، أي: عقبة الجمرة كما جزم به غير واحد، واستظهره البرهان تبعا للمحب الطبري إذ ليس ثم عقبة أظهر منها، ويجوز أن المراد بها المكان المرتفع عن يسار قاصد منى، ويعرف عند أهل مكة مسجد البيعة، وعليه فالمعنى في مكان قريب من العقبة، "لقي رهطا" رجالا دون عشرة "من الخزرج" لا ينافي قوله: أولا الأوس والخرزج؛ لجواز أنه لقيهم من جملة القبائل قبل لقي أولئك الرهط من الخزرج، "أراد الله بهم خيرا" هو الهداية للدين القويم، "فقال لهم: "من أنتم"؟ قالوا: نفر" بفتحتين "من الخزرج" زاد ابن إسحاق: قال: "أمن موالي يهود"؟ قالوا: نعم، يعني من حلفائهم؛ لأنهم كانوا تحالفوا على التناصر والتعاضد، "قال: "أفلا تجلسون أكلمكم" بالجزم جواب الطلب وجازمه شرط مقدر على الصحيح، ويجوز الرفع على الاستئناف، "قالوا: بلى" زاد في رواية: من أنت؟ فانتسب لهم وأخبرهم خبره، "فجلسوا معه" وفي رواية: وجدهم يحلقون رءوسهم فجلس إليهم، "فدعاهم إلى الله" وبين المراد منه بقوله: "وعرض عليهم الإسلام وتلا عليهم القرآن" أي: بعضه، "وكان من صنع الله أن اليهود كانوا معهم" مع الأوس والخزرج "في بلادهم كانوا أهل كتاب" وعلم وكانوا هم أصحاب شرك أصحاب أوثان وكانوا قد عزوهم ببلادهم؛ كما عند ابن إسحاق "وكان الأوس والخزرج أكثر منهم، فكانوا إذا كان بينهم شيء" من خصومة أو محاربة "قالوا" أي: اليهود "إن نبيا سيبعث" السين لتخليص الفعل عن وقت التكلم فلا تنافي بينه وبين قوله: "الآن" أي: الزمان الذي فيه الحروب والمخالفة بينهم وإن امتد وأطلق اسم الآن عليه للعرف في مثله، ولفظ المصنف هو ما في الفتح عن ابن إسحاق، ولفظ العيون عنه أن نبيا مبعوث الآن "قد أظل" قرب "زمانه نتبعه فنقتلكم معه" قتل عاد وإرم؛ كما في ابن إسحاق، أي: نستأصلكم، "فلما كلمهم النبي -صلى الله عليه وسلم- عرفوا النعت" الوصف الذي كانوا يسمعونه قبل من اليهود، "فقال بعضهم لبعض"(2/74)
لا تسبقنا اليهود إليه.
فأجابوه إلى ما دعاهم إليه، وصدقوه وقبلوا منه ما عرض عليهم من الإسلام، فأسلم منهم ستة نفر وكلهم من الخزرج وهم:
أبو أمامة، أسعد بن زرارة.
وعوف بن الحارث بن رفاعة، وهو ابن عفراء.
ورافع بن مالك بن العجلان.
__________
بادروا لاتباعه "لاتسبقنا اليهود إليه" وفي رواية: فلما سمعوا قوله أيقنوا به واطمأنت قلوبهم إلى ما سمعوا منه وعرفوا ما كانوا يسمعون من صفته، فقال بعضهم لبعض: يا قوم تعلموا والله إنه للنبي الذي توعدكم به اليهود فلا يسبقونكم إليه، "فأجابوه إلى ما دعاهم إليه وصدقوه وقبلوا منه ما عرض عليهم من الإسلام" وكانوا من أسباب الخير الذي سبب له -صلى الله عليه وسلم، "فأسلم منهم ستة نفر" وقيل: ثمانية، ذكره غير واحد "وكلهم من الخزرج" أتى به مع علمه من قوله: لقي رهطا من الخزرج لما قد يتوهم أنه انضم إليهم وقت الإسلام بعض الأوس، أو لدفع توهم التغليب لما جرت به عادتهم من تغليب الخزرج على الأوس والخزرج معا، قال شيخنا البابلي: ولم يعكس ذلك فرارا من إشعار لفظ الأوس بالذم؛ لأنه معناه لغة الذئب ولزجر البقر والمعز بخلاف لفظ الخزرج، فإنما يشعر بالمدح لأنه الريح أو الريح الباردة.
"وهم أبو أمامة أسعد" بألف قبل السين الساكنة "ابن زرارة" بضم الزاي النجاري شهد العقبات الثلاث، وكان أول من صلى الجمعة على قول، وأول من مات من الصحابة بعد الهجرة، وأول ميت صلى عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- هذا قول الأنصار، أما المهاجرون، فقالوا: أول ميت صلى عليه عثمان بن مظعون، رواه الواقدي. قال في الإصابة: واتفق أهل المغازي والأخبار على أن أسعد مات في حياته -صلى الله عليه وسلم- بالمدينة سنة إحدى من الهجرة في شوال.
"وعوف بن الحارث بن رفاعة" بكسر الراء وبالفاء النجاري استشهد ببدر، "وهو ابن عفراء" بنت عيد النجارية الصحابية وهي أم معاذ ومعوذ وإليها ينسبون، "ورافع بن مالك بن العجلان" ضد المتاني الزرقي بزاي فراء فقاف العقبي اختلف في شهوده بدرا، قال ابن إسحاق: هو أول من قدم المدينة بسورة يوسف.
وروى الزبير بن بكار عن عمر بن حنظلة أن مسجد بني زريق أول مسجد قرئ فيه القرآن، وأن رافع بن مالك لما لقيه -صلى الله عليه وسلم- بالعقبة أعطاه ما أنزل عليه في العشر سنين التي خلت، فقدم به رافع المدينة ثم جمع قومه فقرأ عليهم في موضعه، قال: وتعجب -صلى الله عليه وسلم- من اعتدال قبلته،(2/75)
وقطبة بن عامر بن حديدة
وعقبة بن عامر بن نابي.
وجابر بن عبد الله بن رئاب، وليس بجابر بن عبد الله بن عمرو بن حزام.
__________
استشهد بأحد، "وقطبة" بضم القاف وسكون المهملة "ابن عامر بن جديدة" بفتح الحاء وكسر الدال المهملتين، أبو الوليد السلمي، حضر العقبات الثلاث وبدرا والمشاهد، قال أبو حاتم: مات في خلافة عمر، وقال ابن حبان: في خلافة عثمان. "وعقبة" بضم العين وسكون القاف "ابن عامر بن نابي" بنون فألف فموحدة منقوص كالقاضي، قال ابن دريد: من نبا ينبو إذا ارتفع؛ كما في النور، وفي سبل الرشاد بنون فألف فموحدة فتحتية، السلمي حضر بدرا وسائر المشاهد واستشهد باليمامة، "وجابر بن عبد الله بن رياب" بكسر الراء فتحتية خفيفة فألف فموحدة ضبطه ابن ماكولا وغيره ابن النعمان بن سنان السلمي شهد بدرا وما بعدها، له حديث عند الكلبي عن أبي صالح عنه رفعه في قوله تعالى: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} [الرعد: 39] ، قال: يمحو من الرزق، قال ابن عبد البر: لا أعلم له غيره، ورده في الإصابة بأن البغوي وابن السكن وغيرهما رووا عنه: أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "مر بي ميكائيل في نفر من الملائكة" الحديث، قال البغوي: لا أعرف له غيره، وهو مردود أيضا بالحديث قبله، وبأن البخاري في التاريخ روى عنه قصة أبي ياسر بن أخطب والأحاديث الثلاثة طرقها ضعيفة، انتهى ملخصا.
"وليس" جابر هذا "بجابر بن عبد الله بن عمرو بن حزام" بفتح المهملة الأنصاري الصحابي بن الصحابي، وجابر بن عبد الله في الصحابة خمسة، الثالث جابر بن عبد الله العبدي من عبد القيس، الرابع: جابر ن عبد الله الراسبي نزل البصرة، روى ابن منده عنه رفعه: "من عفا عن قاتله دخل الجنة"، قال ابن منده: غريب إن كان محفوظا.
وقال أبو نعيم: قوله الراسبي وهم، إنما هو الأنصاري. الخامس: جابر بن عبد الله الأنصاري استصغره النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم أحد فرده وليس بالذي يروى عنه الحديث، رواه ابن سعد عن زيد بن حارثة وذكره الطبري وكذا اليعمري في المغازي كما في الإصابة، فقصر البرهان في قوله: إنهم أربعة، فترك الخامس مع أن ممن ذكره اليعمري الذي حشاه هو ونبه على أنه غير راوي الحديث، لكن البرهان قال في غزوة أحد: هو إما الراسبي أو العبدي، انتهى.
وفيه نظر للتصريح بأنه أنصاري وأيضا فالعبدي من وفد عبد القيس وإنما وفدوا سنة تسع ولهم قدمة قبلها سنة خمس، وأُحد سنة ثلاث باتفاق. وقوله أيضا: لا أعلم رواية لغير جابر بن عبد الله بن عمرو تقصير، فقد علمت أن لابن رياب ثلاثة أحاديث وكذا العبدي، فقد روى أحمد(2/76)
ومن أهل العلم بالسير، من يجعل فيهم عبادة بن الصامت، ويسقط جابر بن رئاب، فقال لهم النبي -صلى الله عليه وسلم: "تمنعون ظهري حتى أبلغ رسالة ربي".
فقالوا: يا رسول الله، إنما كانت بعاث أول عام أول، يوم من أيامنا، اقتتلنا به،
__________
والبغوي عنه، قال: كنت في وفد عبد القيس مع أبي فنهاهم -صلى الله عليه وسلم- عن الشرب في الأوعية.. الحديث.
"ومن أهل العلم بالسير" كما قال أبو عمر "من يجعل فيهم عبادة بن الصامت" أبا الوليد البدري وحضر سائر المشاهد، مات بفلسطين ودفن ببيت المقدس عن الأشهر، وقيل: بالرملة سنة أربع وثلاثين، وحكى ابن سعد أنه بقي إلى خلافة معاوية وأمه قرة العين بنت عبادة أسلمت وبايعت. "ويسقط جابر بن رياب" نسبة لجده كما علم، ولكن الأول قول ابن إسحاق وتبعه جماعة وبه صدر في الفتح، ثم قال: وقال موسى بن عقبة عن الزهري وأبو الأسود عن عروة هم أسعد ورافع ومعاذ بن عفراء، ويزيد بن ثعلبة وأبو الهيثم بن التيهان وعويم بن ساعدة، ويقال كان فيهم عبادة بن الصامت وذكوان، انتهى.
واختلف في أول الأنصار إسلاما، فقال ابن الكلبي وغيره: أولهم رافع بن مالك، وقال ابن عبد البر: جابر بن عبد الله بن رياب، وقال مغلطاي: لما ذكر ابتداء إسلام الأنصار فأسلم منهم أسعد بن زرارة وذكوان بن عبد قيس، فلما كان من العام المقبل في رجب أسلم منهم ستة، وقيل: ثمانية فذكرهم، انتهى. ويمكن الجمع بأن أسعد ما أظهره إلا مع الخمسة أو السبعة المذكورين معه وإن رافعا وابن رياب أول من أظهره من الستة.
"فقال لهم النبي -صلى الله عليه وسلم: "تمنعون ظهري حتى أبلغ رسالة ربي"، فقالوا: يا رسول الله، إنما كانت بعاث" بضم الموحدة، وحكى القزاز فتحها وتخفيف المهملة فألف فمثلثة، وذكر الأزهري أن الليث صحفه عن الخليل بغين معجمة، وذكر عياض أن الأصيلي رواه بالمهملة والمعجمة، وأن رواية أبي ذر بالمعجمة فقط، ويقال: إن أبا عبيدة ذكره بالمعجمة أيضا وهو مكان، ويقال: حصن، يقال: مزرعة عند بني قريظة على ميلين من المدينة كانت به وقعة بين الأوس والخزرج قتل فيها كثير منهم وكان رئيس الأوس حضير والد أسيد الصحابي، ويقال له رئيس الكتاب، ورئيس الخزرج عمرو بن النعمان البياضي وقتلا يومئذ وكان النصر فيها أولا للخزرج، ثم ثبتهم حضير فرجعوا وانتصرت الأوس، ذكره الفتح، قال في المطالع: يجوز صرف بعاث وتركه. قال العيني: إذا كان اسم يوم صرف وإذا كان اسم بقعة منع للتأنيث والعلمية، انتهى. "أول عام أول" بالإضافة ومنعه ابن السكيت وأجازه غيره كالعام الأول، وهو "يوم من أيامنا اقتتلنا به" ذكر أبو الفرج الأصبهاني في الأغاني أن سبب ذلك أنه كان من قاعدتهم أن الأصيل(2/77)
فإن تقدم ونحن كذلك لا يكون لنا عليك اجتماع، فدعنا حتى نرجع إلى عشائرنا، لعل الله أن يصلح ذات بيننا، وندعوهم إلى ما دعوتنا، فعسى الله أن يجمعهم عليك، فإن اجتمعت كلمتهم عليك واتبعوك فلا أحد أعز منك، وموعدك الموسم العام القابل.
وانصرفوا إلى المدينة. ولم يبق دار من دور الأنصار إلا وفيها ذكر رسول الله -صلى الله عليه وسلم.
__________
لا يقتل بالحليف، فقتل أوسي حليفا للخزرج فأرادوا أنه يقتدوه فامتنعت فوقعت الحرب بينهم لأجل ذلك فقتل فيها من أكابر من كان لا يؤمن، أي: لا يتكبر ويأنف أن يدخل في الإسلام حتى لا يكون تحت حكم غيره، وإلى ذلك أشارت عائشة رضي الله عنها؛ بقولها في الصحيح: كان يوم بعاث يوما قدمه الله لرسوله -صلى الله عليه وسلم، فقدم رسول الله وقد افترق ملؤهم وقتلت سرواتهم وجرحوا، قال الحافظ: وقد كان بقي منهم من هذا النحو عبد الله بن أُبي ابن سلول وكانت هذه الوقعة قبل الهجرة بخمس سنين على الأصح، وقيل: بأربعين سنة، وقيل بأكثر.
"فإن تقدم ونحن كذلك لا يكون لنا عليك اجتماع فدعنا حتى نرجع إلى عشائرنا لعل الله أن يصلح ذات بيننا" وقد فعل كما أشار إليه -صلى الله عليه وسلم- يوم خطبهم، بقوله: "ألم أجدكم ضلالا فهداكم الله بي، وكنتم متفرقين فألفكم الله بي"، "وندعوهم" أي: عشائرنا، "إلى ما دعوتنا فعسى الله أن يجمعهم عليك فإن اجتمعت كلمتهم عليك واتبعوك فلا أحد" بالنصب اسم لا النافية للجنس، "أعز منك" بالرفع خبرها وهو أظهر من رفع أحد ونصب أعز على أنها نافية للوحدة لإفادة النافية للجنس التنصيص على العموم.
"وموعدك الموسم العام المقبل وانصرفوا إلى المدينة، ولم يبق دار من دور الأنصار إلا وفيها ذكر رسول الله -صلى الله عليه وسلم" لتحدثهم بما علموا منه فظهر وانتشر، "فلما كان العام المقبل لقيه اثنا عشر رجلا، وفي الإكليل" اسم كتاب للحكام بكسر الهمزة وسكون الكاف وهو في الأصل؛ كما في الفتح العصابة التي تحيط بالرأس وأكثر استعماله إذا كانت العصابة مكللة بالجوهر، وهي من سمات ملوك الفرس، وقيل: أصله ما أحاط بالظفر من اللحم ثم أطلق على كل ما أحاط بشيء ما.(2/78)
فلما كان العام المقبل لقيه اثنا عشر رجلا -وفي الإكليل: أحد عشر- وهي العقبة الثانية، فأسلموا فيهم خمسة من الستة المذكورين، وهم: أبو أمامة. وعوف بن عفراء، ورفع بن مالك وقطبة بن عامر بن حديدة، وعقبة بن عامر بن نابي، ولم يكن جابر بن عبد الله بن رياب لم يحضرها. والسبعة تتمة الاثني عشر هم:
معاذ بن الحارث بن رفاعة، وهو ابن عفراء أخو عوف المذكور.
وذكوان بن عبد قيس الزرقي، وقيل إنه رحل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى مكة فسكنها معه، فهو مهاجري أنصاري قتل يوم أحد.
__________
"أحد عشر وهي العقبة الثانية" وعدها أولى ابن إسحاق وغيره باعتبار المبايعة أو بالنسبة للثالثة؛ كما في نحو: ادخلوا الأول فالأول فسمى غير الأول أولا بالنسبة لمن بعده، "فأسلموا فيهم خمسة من الستة المذكورين" في الأولى "وهم أبو أمامة" أسعد بن زرارة "وعوف بن عفراء ورافع بن مالك وقطبة بن عامر بن حديدة وعقبة بن عامر بن نابي ولم يكن منهم جابر بن عبد الله بن رياب لم يحضرها" صفة لازمة لمجرد التأكيد "والسبعة تتمة الاثني عشر وهم معاذ بن الحارث بن رفاعة" كما في العيون وأقره البرهان وبه جزم في الإصابة، وأبدل الشامي معاذا بأخيه معوذ وضبطه بصيغة اسم الفاعل ولكن لم يذكر ذلك في الإصابة في ترجمة معوذ، "وهو" أي: معاذ المشهور بأنه "ابن عفراء" أمه "أخو عوف المذكور" وأخو معوذ أيضا الثلاثة أشقاء وأخوتهم لأمهم إياس وعاقل وخالد وعامر بنو البكير الليثي وشهد السبعة بدرا وهل جرح معاذ بأحد فمات بالمدينة من جراحته أو شهد جميع المشاهد، ومات في خلافة عثمان وفي خلافة علي أقوال حكاها أبو عمر. قال ابن الأثير: وزعم ابن الكلبي أنه استشهد ببدر لم يوافق عليه، "وذكوان" بفتح المعجمة وإسكان الكاف، "ابن عبد قيس" البدري "الزرقي" بتقديم الزاي المضمومة على الراء وكذا كل ما في نسب الأنصار، قاله ابن ماكولا وغيره نسبه إلى جده زريق الخزرجي يكنى أبا اليسع.
"وقيل: إنه رحل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى مكة فسكنها معه، فهو مهاجري أنصاري" وبه جزم أبو عمر وتبعه الذهبي وروى الواقدي عن حبيب بن عبد الرحمن، قال: خرج أسعد بن زرارة وذكوان بن عبد قيس إلى عتبة بن ربيعة بمكة فسمعا برسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأتياه فأسلما ولم يقربا عتبة وكانا أول من قدم المدينة بالإسلام، "قتل يوم أحد" قتله أبو الحكم بن الأخنس بن شريق فشد علي رضي الله عنه على أبي الحكم فقتله، وقال -صلى الله عليه وسلم: "من أحب أن ينظر إلى رجل يطأ بقدمه غدًا خضرة الجنة، فلينظر إلى هذا"، رواه ابن المبارك.(2/79)
وعبادة بن الصامت بن قيس.
وأبو عبد الرحمن، يزيد بن ثعلبة البلوي.
والعباس بن عبادة بن نضلة.
وهؤلاء من الخزرج، ومن الأوس رجلان:
أبو الهيثم بن التيهان، من بني عبد الأشهل.
__________
"وعبادة" بمهملة مضمومة فموحدة "ابن الصامت بن قيس" بن أصرم بن فهر بن ثعلبة بن غنم بن عوف بن الخزرج، "وأبو عبد الرحمن يزيد بن ثعلبة" بن خزمة بفتح المعجمتين ضبطه الدارقطني كالطبري، وقال ابن إسحاق والكلبي بسكون الزاي ابن أصرم بن عمرو بن عمارة بفتح العين وشد الميم ابن مالك بن فران بفتح الفاء وتخفيف الراء وتشديدها، ويقال فيه أيضا فاران بن بلى، "البلوي" بفتحتين نسبة إلى جده: بلى هذا حليف الخزرج، ذكر ابن إسحاق أنه شهد العقبة الثانية، وقال الطبري شهد العقبتين، "والعباس بن عبادة بن نضلة" بنون مفتوحة وضاد معجمة ابن مالك بن العجلان، روى ابن إسحاق أنه قال: إنكم تأخذون محمدا على حرب الأحمر والأسود، فإن كنتم ترون أنكم إذ أنهكتكم الحرب أسلمتموه، فمن الآن فاتركوه وإن صبرتم على ذلك فخذوه، قال عاصم بن عمر: والله ما قال ذلك إلا ليشد العقد، وقال عبد الله بن أبي بكر لحضور ابن سلول: وأقام العباس بمكة حتى هاجر معه -صلى الله عليه وسلم- فكان أنصاريا مهاجريا واستشهد بأحد، "وهؤلاء من الخزرج ومن الأوس رجلان أبو الهيثم" مالك، ويقال: عبد الله "ابن التيهان" بفتح الفوقية فتحتية مخففة عند أهل الحجاز مشددة عند غيرهم، قال السهيلي: واسمه أيضا مالك، لكن في الإصابة: يقال التيهان لقب واسمه مالك بن عتيك بن عمرو بن عبد الأعلم بن عامر بن زعوراء الأنصاري الأوسي، وزعوراء وأخو عبد الأشهل شهد العقبة وبدرا والمشاهد كلها وشهد صفين مع علي في قول الأكثر، ويقال: قتل بها سنة سبع وثلاثين، ويقال: مات سنة عشرين، ويقال: سنة إحدى وعشرين، قال أبو أحمد الحاكم: ولعلها أصوب، وقد قال الواقدي: لم أر من يعرف أنه قتل بصفين ولا يثبته، وقيل: مات في حياة النبي -صلى الله عليه وسلم، قال أبو عمر: هذا لم يتابع عليه قائله، انتهى ملخصا. "من بني عبد الأشهل" على حذف مضاف، أي: بني أخي عبد الأشهل، وفي الاستيعاب: حليف بني عبد الأشهل، ونسبه أوسيا، قال السهيلي: وأنشد فيه ابن رواحة:
فلم أر كالإسلام عزا لأهله ... ولا مثل أضياف الأراشي معشرا
فجعله أراشيا نسبة إلى أرأشه في خزاعة، وإلى أراش بن لحيان بن الغوث، وقيل: إنه بلوي من بني أرأشة بن فاران بن بلى والهيثم لغة العقاب وضرب من العشب، وبه أو بالأول سمي(2/80)
وعويم بن ساعدة.
فأسلموا وبايعوا على بيعة النساء، أي وفق بيعتهم التي أنزلت عند فتح مكة وهي: أن لا نشرك بالله شيئا، ولا نسرق، ولا نزني، ولا نقتل أولادنا ولا نأتي ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا، ولا نعصيه في معروف، والسمع والطاعة في العسر واليسر، والمنشط.............
__________
الرجل، انتهى.
"وعويم" بضم المهملة وفتح الواو وسكون التحتية فميم ليس بعدها راء، "ابن ساعدة" ابن عائش بتحتية وشين معجمة بن قيس بن النعمان شهد العقبتين وبدرا وباقي المشاهد، ومات في خلافة عمر عن خمس أو ست وستين سنة، ووقف عمر على قبره، وقال: لا يستطيع أحد أن يقول أنا خير من صاحب هذا القبر، ما نصبت لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- راية إلا وعويم تحت ظلها، أخرجه البخاري في التاريخ، وبه جزم غير واحد وهو أصح من قول الواقدي: مات عويم في حياته -صلى الله عليه وسلم؛ كما في الإصابة.
"فأسلموا وبايعوا" كما رواه ابن إسحاق عن عبادة، قال: كنت فيمن حضر العقبة وكنا اثني عشر رجلا فبايعنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "على بيعة النساء، أي: على وفق بيعتهم" أي: المذكورين من إضافة المصدر لمفعوله، أي: إن بيعة النساء "التي أنزلت عند فتح مكة" وفق بيعة هؤلاء النفر، وجعل بيعة النساء موافقة لتأخيرها عن هذه "وهي أن لا نشرك بالله شيئا" عام؛ لأنه نكرة في سياق النهي كالنفي وقدم على ما بعده؛ لأنه الأصل "ولا نسرق" بحذف المفعول ليدل على العموم كان فيه قطع أم لا، "ولا نزني ولا نقتل أولادنا" خصهم بالذكر؛ لأنهم كانوا غالبا يقتلونهم خشية الإملاق ولأنه قتل وقطيعة رحم فصرف العناية إليه أكثر، "ولا نأتي ببهتان" قال المصنف وغيره، أي: يكذب يبهت سامعه، أي: يدهشه لفظاعته، كالرمي بالزنا والفضيحة والعار "نفتريه" نختلقه "بين أيدينا وأرجلنا" أي: من قبل أنفسنا فكنى باليد والرجل عن الذات؛ لأن معظم الأفعال بهما أو إن البهتان ناشئ عما يختلقه القلب الذي هو بين الأيدي والأرجل ثم يبرزه بلسانه، أو المعنى لا نبهت الناس بالمعايب كفاحا مواجهة، انتهى.
"ولا نعصيه" -صلى الله عليه وسلم- "في معروف" قيد به، تطيبيا لقلوبهم إذ لا يأمر إلا به، أو تنبيها على أنه لا يجوز طاعة مخلوق في معصية الخالق، "و" نعطيه "السمع والطاعة" فهما بالنصب بفعل محذوف أو بالجر عطف على بيعة النساء أو على معروف، قال الباجي: السمع هنا يرجع إلى معنى الطاعة، "في العسر واليسر" أي: عسر المال ويسره "والمنشط" بفتح الميم والمعجمة(2/81)
والمكره، وأثره علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله، وأن نقول بالحق حيث كنا لا نخاف في الله لومة لائم. ثم قال عليه الصلاة والسلام: فإن وفيتم فلكم الجنة، ومن غشي من ذلك شيئا كان أمره إلى الله إن شاء عذبه، وإن شاء عفا عنه. ولم يفرض يومئذ القتال.
__________
بينهما نون ساكنة، أي: ما تنشط له النفوس مما يسرها "والمكره" ما تكرهه النفوس مما يشق عليها، والمراد أنهم يطيعونه -صلى الله عليه وسلم- في كل أمره ونهيه سهل أو شق، "وأثرة" بضم الهمزة وسكون المثلثة وبفتحهما وبكسر الهمزة وسكون المثلثة، كما ذكره المصنف في حديث: "ستلقون بعدي أثرة"، وهو بالجر والنصب أيضا، أي: وعلى أثرة أو نعطيه أثره "علينا" بأن نرضى بفعله استبد لنفسه أو لغيره لكن لم يقع استئثاره لنفسه أو لغيره، لكن لم يقع استئثار لنفسه الشريفة في الأمور الدنيوية عليهم ولا على غيرهم إلا في نحو الزوجات ولسن بدنيوية محضة، "وأن لا ننازع الأمر" الملك والإمارة "أهله" فلا نتعرض لولاة الأمور حيث كانوا على الحق، قال الباجي في شرح الموطأ: يحتمل أنه شرط على الأنصار ومن لبس من قريش أن لا ينازعوا قريشا ويحتمل عمومه في جميع الناس أن لا ينازعوا من ولاه الله الأمر منهم، وإن كان فيهم من يصلح له إذا صار لغيره، قال السيوطي: والصحيح الثاني، ويؤيده أن في مسند أحمد زيادة وإن رأيت أن لك في الأمر حقا ولابن حبان وإن أكلوا مالك وضربوا ظهرك، وزاد البخاري إلا أن تروا كفر بواحا، أي: ظاهرا باديا، انتهى.
"وأن نقول" ضمنه معنى نعترف فعداه بالباء، "بالحق" أي: "نعترف به" حيث كنا لا نخاف في الله لومة لائم" بل نتصلب في ديننا واللومة المرة من اللوم، وفيها: وفي تنكير لائم مبالغتان "ثم قال عليه الصلاة والسلام" بعد هذه المبايعة "فإن وفيتم فلكم الجنة" فضلا من الله "ومن غشى" بغين وشين معجمتين، أي: فعل، "من ذلك شيئا كان أمره مفوضا إلى الله إن شاء عذبه" بعدله، "وإن شاء عفا عنه" بفضله، "ولم يفرض يومئذ القتال" فلم يبايعهم عليه.
وهذا الحديث أخرجه الشيخان وغيرهما بألفاظ متقاربة لكن لم يقع في رواية الشيخين التصريح بأن المبايعة هذه ليلة العقبة، نعم إخراج البخاري الحديث في وفود الأنصار ظاهر في وقوعها ليلتئذ، وبه جزم عياض وغيره، لكن رجح الحافظ أن المبايعة ليلة العقبة، إنما كانت على الإيواء والنصر وما يتعلق بذلك، وأما على الصفة المذكورة فإنما هي بعد فتح مكة وبعد نزول آية الممتحنة بدليل ما في البخاري في حديث عبادة هذا أنه -صلى الله عليه وسلم- لما بايعهم قرأ الآية كلها، ولمسلم فتلا علينا آية النساء، وله أيضا أخذ علينا كما أخذ على النساء، وعند النسائي "ألا تبايعوني على ما أبايع عليه النساء".
وفي حديث أبي هريرة: ما أدري الحدود كفارة لأهلها أم لا وإسلام أبي هريرة متأخر عن(2/82)
ثم انصرفوا إلى المدينة فأظهر الله الإسلام.
وكان أسعد بن زرارة يجمع بالمدينة بمن أسلم.
وكتبت الأوس والخزرج إلى النبي -صلى الله عليه وسلم: ابعث إلينا من يقرئنا القرآن، فبعث إليهم مصعب بن عمير.
وروى الدارقطني عن ابن عباس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كتب إلى مصعب بن عمير أن
__________
ليلة العقبة عند ابن أبي خيثمة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، قال: قال -صلى الله عليه وسلم: "أبايعكم على أن لا تشركوا بالله شيئا"، فذكر نحو حديث عبادة ورجاله ثقات، فإذا كان عبد الله بن عمرو ممن حضر البيعة وليس أنصاريا ولا ممن حضر بيعتهم، وإنما أسلم قرب إسلام أبي هريرة وضح تغاير البيعتين، وإنما حصل الالتباس من جهة أن عبادة حضر البيعتين معا، وكانت بيعة العقبة من أجل ما يتمدح به فكان يذكرها إذا حدث تنويها بسابقيته؛ فلما ذكر هذه البيعة التي صدرت على مثل بيعة النساء، توهم من لم يقف على حقيقة الحال أن بيعة العقبة وقعت على ذلك، وإنما وقعت على الإيواء والنصر وما يتعلق بذلك، انتهى ملخصا.
وقال المصنف: الراجح أن التصريح بذلك، أي: بأن بيعة العبة وقعت على وفق بيعة النساء، وهم من بعض الرواة؛ والذي دل عليه الأحاديث أن البيعة ثلاثة العقبة، وكانت قبل فرض الحرب، والثانية بعد الحرب على عدم الفرار، والثالثة على نظير بيعة النساء، انتهى.
"ثم انصرفوا إلى المدينة فأظهر الله الإسلام وكان أسعد بن زرارة يجمع بالمدينة بمن أسلم" وروى أبو داود عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، قال: كان أبي إذا مسع الأذان للجمعة استغفر لأسعد بن زرارة، فسألته فقال: كان أول من جمع بنا بالمدينة.
"وكتب الأوس والخزرج إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- ابعث إلينا من يقرئنا القرآن فبعث إليهم مصعب بن عمير" وأمره أن يقرئهم القرآن ويعلمهم الإسلام ويفقههم في الدين وكان يسمى بالمدينة المقرئ والقارئ ونزل على أسد بن زرارة، وذلك أن الأوس والخزر كره بعضهم أن يؤمهم بعض، هكذا ذكرها ابن إسحاق في رواية وذكر في رواية أخرى أنه -صلى الله عليه وسلم- بعث مع الاثني عشر رجلا مصعب بن عمير العبدري، وهو الذي ذكره ابن عقبة. قال البيهقي وسياق ابن إسحاق أتم، انتهى. وجمع بجواز أنه أرسله معهم ابتداء واتفق أنهم كانوا كتبوا له قبل علمهم بإرساله وفيه بعد.
"وروى الدارقطني عن ابن عباس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كتب إلى مصعب بن عمير أن(2/83)
يجمع بهم.. الحديث، وكانوا أربعين رجلا.
فأسلم على يد مصعب بن عمير خلق كثير من الأنصار، وأسلم في جماعتهم سعد بن معاذ وأسيد بن حضير،.........
__________
يجمع بهم ... الحديث" ولفظه عن ابن عباس: أذن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالجمعة قبل أن يهاجر ولم يستطع أن يجمع بمكة ولا يبدي ذلك لهم فكتب إلى مصعب بن عمير:
أما بعد، فانظر اليوم الذي تجهر فيه اليهود بالزبور لسبتهم، فاجمعوا نساءكم وأبناءكم فإذا زال النهار عن شطره فتقربوا إلى الله بركعتين. قال: فهو أول من جمع حتى قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فجمع عند الزوال وأظهر ذلك، ولا تنافي بين هذا وبين قوله قبل كان أسعد يجمع بهم، الموافق لقول كعب بن مالك: أول من جمع بهم أسعد؛ لأن جمع مصعب بمعاونته لأنه لما نزل عليه وكان يقوم بأمره وسعى في التجميع نسب إليه لكونه سببا في الجمع.
"وكانوا أربعين رجلا" كما رواه أبو داود: وصريح هذا أنهم إنما جمعوا بأمره -صلى الله عليه وسلم؛ وروى عبد بن حميد بإسناد صحيح عن ابن سيرين، قال: جمع أهل المدينة قبل أن يقدم رسول الله المدينة وقبل أن ينزل بهم الجمعة، فقال الأنصار: إن اليهود يوما يجتمعون فيه كل سبعة أيام وللنصارى مثل ذلك، فهلم فلنجعل لنا يوما نجتمع فيه فنذكر الله تعالى ونصلي ونشكره، فجعلوه يوم العروبة، واجتمعوا إلى أسعد من زرارة فصلى بهم يومئذ وأنزل الله بعد ذلك: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ} [الجمعة: 9] الآية، قال الحافظ: فهذا يدل على أنهم اختاروه بالاجتهاد، وقال السهيلي: تجميع الصحابة الجمعة وتسميتهم إياها بهذا الاسم هداية من الله لهم قبل أن يؤمروا بها، ثم نزل سورة الجمعة بعد ن هاجر النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة فاستقر فرها واستمر حكمها، ولذا قال -صلى الله عليه وسلم: "أضلته اليهود والنهارى وهداكم الله له"، قال الحافظ: ولا يبعد أنه -صلى الله عليه وسلم- علم بالوحي وهو بمكة فلم يتمكن من إقامتها.
وقد ورد فيه حديث ابن عباس عند الدارقطني ولذا جمع بهم أول ما قدم المدينة؛ كما حكاه ابن إسحاق وغيره، وعلى هذا حصلت الهداية للجمعة بجهتي البيان والتوقيف، انتهى. يعني أنهم لما اجتهدوا فيه، وأجمعوا على فعله يوم الجمعة قدم عليهم الكتاب النبوي إلى مصعب بالجمع بهم فوافق اجتهادهم النص، فلذا قال: هداكم الله له، "فأسلم على يد مصعب بن عمير خلق كثير من الأنصاري الأوسي سيدهم وافق حكمه حكم الله واهتز عرش الرحمن لموته، "وأسيد" بضم الهمزة وفتح السين "ابن حضير" بضم المهملة وفتح(2/84)
وأسلم بإسلامهم جميع بني عبد الأشهل في يوم واحد، الرجال والنساء، ولم يبق منهم أحد إلا أسلم، حاشا الأصيرم وهو عمرو بن ثابت بن وقش، فإنه تأخر إسلامه إلى يوم أحد، فأسلم واستشهد ولم يسجد لله سجدة، وأخبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه من أهل الجنة. ولم يكن في بني عبد الأشهل منافق ولا منافقة، بل كانوا كلهم حنفاء مخلصين رضي الله عنهم.
ثم قدم على النبي -صلى الله عليه وسلم- في العقبة الثالثة في العام المقبل في ذي الحجة، أوسط أيام التشريق منهم سبعون رجلا وقال ابن سعد: يزيدون.............
__________
المعجمة ابن سماك بن عنيك الأنصاري الأوسي الأشهلي المتوفى في خلافة عمر سنة عشرين على الأصح وصلى عليه عمر، أسلما في يوم واحد أسيد أولا ثم سعد والقصة مبسوطة في السير.
"وأسلم بإسلامهما جميع بني عبد الأشهل" بفتح الهمزة والهاء بينهما معجمة ساكنة آخره لام ابن جشم بن الحارث بن الخزرج الأصغر بن عمرو بن مالك بن الأوس، قال ابن دريد: زعموا أن الأشهل صنم "في يوم واحد الرجال والنساء ولم يبق منهم أحد إلا أسلم" وذلك أن سعدا لما ذهب لمصعب وأسلم أقبل إلى نادي قومه ومعه أسيد، فقال: يا بني عبد الأشهل، كيف تعلمون أمري فيكم؟ قالوا: سيدنا وأفضلنا رأيا وأيمننا نقيبة، قال: فإن كلام رجالكم ونسائكم علي حرام حتى تؤمنوا بالله ورسوله، قال في الرواية: فوالله ما أمسى فيهم رجل ولا امرأة إلا مسلما أو مسلمة.
"حاشي الأصيرم" بصاد مهملة تصغير أصرم وبه يلقب أيضا وقدمه بعض على المصغر، "وهو عمرو" بفتح العين "ابن ثابت" بمثلثة "ابن وقش" بفتح الواو وسكون القاف وتفتح وشين معجمة، ويقال: أقيش، وقد ينسب إلى جده فيقال عمرو بن أقيش، "فإنه تأخر إسلامه إلى يوم أحد فأسلم واستشهد" بأحد "ولم يسجد لله سجدة وأخبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه من أهل الجنة" رواه ابن إسحاق بإسناد حسن مطولا عن أبي هريرة، أنه كان يقول: حدثوني عن رجل دخل الجنة لم يصل صلاة قط فإذا لم يعرفه الناس، قال: هو أصيرم بني عبد الأشهل ... فذكر الحديث.
"ولم يكن في" بني "عبد الأشهل منافق ولامنافقة، بل كانوا كلهم حنفاء مخلصين رضي الله عنهم" وهذه منقبة عظيمة "ثم قدم على النبي -صلى الله عليه وسلم- في العقبة الثالثة في العام المقبل في ذي الحجة أوسط أيام التشريق منهم" أي: الأنصار، "سبعون رجلا" كما ورد من حديث جابر وأبي مسعود الأنصاري وقطع به الحافظ في سيرته، وقدمه مغلطاي "وقال ابن سعد: يزيدون(2/85)
رجلا أو رجلين -وامرأتان.
وقال ابن إسحاق: ثلاث وسبعون وامرأتان.
وقال الحاكم: خمسة وسبعون نفسا.
فكان أول من ضرب على يده عليه السلام البراء بن معرور. ويقال أسعد بن زرارة،.........
__________
رجلا أو رجلين وامرأتان" عطف على سبعون "وقال ابن إسحاق: ثلاث وسبعون رجلا وامرأتان" وعينهما ابن إسحاق، فقال: نسيبة، أي: بفتح النون وكسر المهملة بنت كعب بن عمرو بن عوف المازني البخاري شهدت هذه العقبة مع زوجها زيد بن عاصم وولديها حبيب وعبد الله، والثانية، أسماء بنت عمرو بن عدي بن ناني، وقد صدر في الاستيعاب، يقول ابن إسحاق.
قال اليعمري: هذا العدد هو المعروف وإن زاد في التفصيل على ذلك فليس بزيادة في الجملة، وإنما هو بمحل الخلاف فيمن شهد، فبعض الرواة يثبته وبعضهم يثبت غيره بدله وقد وقع ذلك في أهل بدر وشهداء أحد وغير ذلك، انتهى. وبينهم هو وغيره بما يطول ذكره.
"وقال الحاكم: خمسة وسبعون نفسا" هو عين ما قبله إن لم يثبت أنه كان فيهم أكثر من امرأتين، "فكان" كما روى الحاكم من طريق ابن إسحاق عن عكرمة عن ابن عباس "أول من ضرب على يده عليه السلام" في البيعة ليلة العقبة "البراء" بفتح الباء الراء ممدود مخففا "ابن معرور" بميم مفتوحة فمهملة ساكنة فراء مضمومة فواو فراء ثانية.
قال السهيلي: معناه مقصود بن صخر الخزرجي السلمي، ابن عمة سعد بن معاذ، كان سيد قومه وأفضلهم، قدم في هذه العقبة مسلما وصلى في سفره ذلك إلى الكعبة مع نسخها باجتهاد منه، وخالفه غيره، فلما سأله -صلى الله عليه وسلم، قال له: "قد كنت على قبلة لو صبرت عليها"، ولم يأمر بالإعادة.
قال السهيلي: لأنه كان مأولا ثم أمره أن يستقبل المقدس فأطاع، فلما حضر موته أمر أهله أن يوجهوه قبل الكعبة، ومات في صفر قبل قدومه -صلى الله عليه وسلم- بشهر، قاله ابن إسحاق وغيره، وأوصى بثلث ماله إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقبله ثم رده على ولده وهو أول من أوصى بثلثه، "ويقال" كما نله ابن إسحاق عن بني عبد الأشهل "أسعد بن زرارة" ورواه العدني عن جابر، وزاد: وهو أصغر السبعين إلا أنا، وأخرج ابن سعد عن سليمان بن نجيم، قال: تفاخرت الأوس والخزرج فيمن ضرب على يد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليلة العقبة أول الناس، فقالوا: لا أحد أعلم به من العباس بن عبد المطلب فسألوه، فقال: ما أحد أعلم بهذا مني، أول من ضرب على يده -صلى الله عليه وسلم- تلك الليلة(2/86)
على أنهم يمنعونه مما يمنعون منه نساءهم وأبناءهم، وعلى حرب الأحمر والأسود.
وكانت أول آية نزلت في الإذن بالقتال {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ} [الحج: 39] وفي الإكليل {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ} [التوبة: 111] الآية. ونقب عليهم اثني عشر نقيبا.
وفي حديث جابر عند أحمد بإسناد صحيح، وصححه الحاكم وابن حبان: مكث -صلى الله عليه وسلم- عشر سنين يتتبع الناس في منازلهم بمنى وغيرها، يقول: "من يؤويني؟ من ينصرني حتى أبلغ رسالة ربي وله الجنة"؟ حتى يعثنا الله له من...........
__________
أسعد بن زرارة ثم البراء بن معرور ثم أسيد بن الحضير.
"على أنهم يمنعونه مما يمنعون منه نساءهم وأبناءهم وعلى حرب الأحمر والأسود" قال في النور: يعني العرب والعجم، والظاهر أنه يجيء فيه ما جاء في بعثه -صلى الله عليه وسلم- إلى الأسود والأحمر العجم والعرب أو الجن والإنس؛ لأنه مبعوث للكل بخلاف الحرب "وكانت أول آية نزلت في الإذن بالقتال": {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ} [الحج: 39] الآية"، كما قاله الزهري عن عروة عن عائشة أخرجه النسائي، "وفي الإكليل" أول آية نزلت في الإذن به، {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ} [التوبة: 111] الآية، وهذه فائدة استطرادية هنا، المناسبة المبايعة على الحرب، "ونقب عليهم اثني عشر نقيبا" قال السهيلي: اقتداء بقوله تعالى في قوم موسى: {وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا} [المائدة: 12] .
قال ابن إسحاق: تسعة من الخزرج: أسعد بن زرارة، وعبد الله بن رواحة، وسعد بن الربيع، ورافع بن مالك، وأبو جابر عبد الله بن عمرو، والبراء بن معرور، وسعد بن عبادة، والمنذر بن عمرو، وعبادة بن الصامت. وثلاثة من الأوس: أسيد بن حضير، وسعيد بن خيثمة، ورفاعة بن عبد المنذر، قال ابن هشام: وأهل العلم يعدون فيهم أبا الهيثم بن التيهان بدل رفاعة، وروى البيهقي عن الإمام مالك حدثني شيخ من الأنصار أن جبريل كان يشير له إلى من يجعله نقيبا، وقال ابن إسحاق: حدثني عبد الله بن أبي بكر بن حزم أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم، قال للنقباء: "أنتم كفلاء على قومكم ككفالة الحواريين لعيسى بن مريم"، قالوا: نعم.
"وفي حديث جابر" بن عبد الله "عند أحمد بإسناد صحيح وصححه الحاكم وابن حبان: مكث -صلى الله عليه وسلم" بمكة "عشر سنين يتبع الناس في منازلهم بمنى وغيرها، يقول: "من يؤويني، من ينصرني حتى أبلغ رسالة ربي وله الجنة"، أن أسلم "حتى بعثنا" معشر الأنصار "الله له من(2/87)
يثرب، فذكر الحديث. وفيه: "وعلى أن تنصروني إذا قدمت عليكم يثرب، فتمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم ولكم الجنة". الحديث.
وحضر العباس العقبة تلك الليلة متوثقا لرسول الله -صلى الله عليه وسلم، ومؤكدا على أهل يثرب، وكان يومئذ على دين قومه.
__________
يثرب" المدينة المنورة "فذكر الحديث" وهو فصدقناه فرحل إليه منا سبعون رجلا فواعدناه شعب العقبة، فقلنا: علام نبايعك، فقال: على السمع والطاعة في النشاط والكسل، وعلى النفقة في العسر واليسر، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
"وفيه" عقب هذا: "وعلى أن تنصروني إذا قدمت عليكم يثرب فتمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم، ولكم الجنة".. الحديث، ولأحمد من وجه آخر عن جابر، قال: كان العباس آخذ بيد رسول الله، فلما فرغنا، قال -صلى الله عليه وسلم: "أخذت وأعطيت"، وللبزار عن جابر، قال: قال -صلى الله عليه وسلم- للنقباء من الأنصار: "تؤوني وتمنعوني"، قالوا: نعم، فما لنا؟ قال: "الجنة".
وروى البيهقي بإسناد قوي عن الشعبي ووصله الطبري من حديث أبي مسعود الأنصاري، قال: انطلق -صلى الله عليه وسلم- معه العباس عمه إلى السبعين من الأنصار عند العقبة، فقال له أبو أمامة، يعني أسعد بن زرارة، سل يا محمد لربك ولنفسك ما شئت ثم أخبرنا ما لنا من الثواب قال: "أسألكم لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأسألكم لنفسي ولأصحابي أن تؤوونا وتنصرونا وتمنعونا مما تمنعون منه أنفسكم"، قالوا: فما لنا؟ قال: "الجنة"، قالوا: ذلك لك، وأخرجه أحمد من الوجهين جميعا وعند ابن إسحاق، فقال أبو الهيثم: يا رسول الله! إن بيننا وبين الرجال، أي: اليهود، حبالا وإنا قاطعوها فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا، فتبسم -صلى الله عليه وسلم- ثم قال: "بل الدم الدم، والهدم والهدم، أنا منكم وأنتم مني، أحارب من حاربتم، وأسالم من سالمتم".
"وحضر العباس العقبة تلك الليلة متوثقا لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومؤكدا على أهل يثرب وكان يؤمئذ على دين قومه" إلا أنه أحب أن يحضر أمر ابن أخيه، فلما جلس كان أول متكلم، فقال: إن محمدا منا حيث قد علمتم، وقد منعناه من قومنا ممن هو على مثل رأينا فيه، فهو في عز من قومه ومنعة في بلده، وإنه قد أبى إلا الانحياز إليكم واللحوق بكم، فإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه ومانعوه ممن خالفه فأنتم وما تحملتم، وإن كنتم ترون أنكم مسلموه وخاذلوه بعد الخروج فمن الآن فدعوه، فإنه في عز ومنعة من قومه وبلده، فقالوا: قد سمعنا ما قلت، فتكلم يا رسول الله، فخذ لربك ولنفسك ما أحببت.. الحديث، ذكره ابن إسحاق، والله أعلم.(2/88)
باب هجرة المصطفى وأصحابه إلى المدينة:
قال ابن إسحاق: ولما تمت بيعة هؤلاء لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليلة العقبة، وكانت سرا عن كفار قريش، أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من كان معه بالهجرة....
__________
باب هجرة المصطفى وأصحابه إلى المدينة:
قال -صلى الله عليه وسلم: "رأيت في المنام أني أهاجر من مكة إلى أرض بها نخل، فذهب وهلي إلى أنها اليمامة أو هجر، فإذا هي المدينة يثرب"، رواه الشيخان. وروى البيهقي عن صهيب رفعه: "رأيت دار هجرتكم سبخة بين ظهراني حرتين، فإما أن تكون هجر أو يثرب"، ولم يذكر اليمامة.
وأخرج الترمذي والحاكم عن جابر عن النبي -صلى الله عليه وسلم، قال: "إن الله أوحى إلي -أي هؤلاء الثلاثة- نزلت هي دار هجرتك المدينة أو الحرين أو قنسرين"، زاد الحكام: فاختار المدينة صححه الحاكم وأقره الذهبي في تلخيصه، لكنه قال في الميزان: ما في الصحيح من ذكر اليمامة؛ لأن قنسرين من الشام من جهة حلب واليمامة إلى جهة اليمن، إلا إن حمل على اختلاف المأخذ فالأول جرى على مقتضى الرؤية، والثاني خير بالوحي، فيحتمل أنه أُري أولا ثم خير ثانيا، فاختار المدينة.
وفي الصحيح مرفوعا: "أريت دار هجرتكم بين لابتين"، قال الزهري: وهما الحرتان. قال ابن التين: رأى -صلى الله عليه وسلم- دار هجرته بصفة تجمع المدينة وغيرا ثم رأى الصفة المختصة بالمدينة فتعينت، انتهى.
"قال ابن إسحاق: ولما تمت بيعة هؤلاء لرسول لله -صلى الله عليه وسلم- ليلة العقبة، وكانت سرا" عن كفار قومهم و"عن كفار قريش" هكذا عند ابن إسحاق أنها كانت سرا عن الفريقين فكأنه سقط من قلم المصنف أو لم يتعلق به غرضه، أي كفار الأنصار الذين قدموا معهم حجاجا، قال الحاكم: وكانوا خمسمائة، ثم ظهرت لهم بعد، ففي حديث عائشة وأبي أمامة ابن سهل: لما صدر السبعون من عنده -صلى الله عليه وسلم- طابت نفسه، وقد جعل الله له منعة أهل حرب ونجدة، وجعل البلاء يشتد على المسلمين من المشركين لما يعلنون من الخروج فضيقوا على أصحابه وأتعبوهم ونالوا منهم ما لم يكونوا ينالون من الشتم والأذى، فشكوا للنبي -صلى الله عليه وسلم، فقال: "قد أريت دار هجرتكم سبخة"، ثم مكث أياما ثم خروج مسرورا، فقال: "قد أخبرت بدار هجرتكم وهي يثرب، فمن أراد منكم أن يخرج فليخرج إليها"، فجعلوا يتجهزون ويترافقون ويتواسون ويخرجون ويخفون ذلك، وهذا معنى قوله: "أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من كان معه بالهجرة" بعد الأذى والشكوى، الرؤيا والإخبار بالوحي أنها يثرب، خلاف مقتضى جعله جواب لما من اتصاله بالبيعة، وأنهما في زمن واحد.(2/89)
إلى المدينة.
فخرجوا أرسالا، وأقام بمكة ينتظر أن يؤذن له في الخروج، فكان أول من هاجر من مكة إلى المدينة أو سلمة بن عبد الأسد، قبل بيعة العقبة بسنة، قدم من الحبشة لمكة، فآذاه أهلها، وبلغه إسلام من أسلم من الأنصار فخرج إليهم.
__________
"إلى المدينة" علم على النبوة بحيث إذا أطلق لا يتبادر إلى غيرها، سميت بذلك في القرآن، وبالدار ودار والإيمان في التوراة بطابة وطائب وطيبة والمسكينة والجابرة والمحبة والمحبوبة والقاصمة والمجبورة والعذراء والمرحومة، وفي مسلم: "إن الله سمى المدينة طابة". وفي الطبراني: "إن الله أمرني أن أسمي المدينة طيبة"، ومن أسمائها دار الأخيار والإسلام ودار الأبرار، وغير ذلك إلى نحو مائة اسم، وكثرة الأسماء آية شرف المسمى، وألف في ذلك المجد الشيرازي مؤلفا حافلا. "فخرجوا أرسالا" بفتح الهمزة، أي: أفواجا وفرقا متقطعة وأحدهم رسل بفتح الراء والسين؛ كما في النور.
قال شيخنا: وفيه تغليب فقد خرج كثير منهم منفردين مستخفين. "وأقام" صلى الله عليه وسلم "بمكة ينتظر أن يؤذن له في الخروج، فكان أول من هاجر من مكة إلى المدينة" بنصب أول خبر كان واسمها "أبو سلمة" عبد الله "بن عبد الأسد" بسين ودال مهملتين؛ كما في السبل، ابن هلال المخزومي البدري أخو المصطفى من الرضاعة وابن عمته برة، وقال فيه: أول من يعطي كتابه بيمينه أبو سلمة بن عبد الأسد، رواه ابن أبي عاصم توفي سنة أربع عند الجمهور، وهو الراجح. وفي الاستيعاب سنة ثلاث. وفي التجريد تبعا لابن منده سنة اثنتين.
"قبل: بيعة العقبة بسنة" وذلك أنه "قدم من الحبشة لمكة فآذاه أهلها وبلغه إسلام من أسلم من الأنصار" وهم الاثنا عشر أصحاب العقبة الثانية؛ كما قال ابن عقبة "فخرج إليهم" وكلام المصنف متناف؛ إذ أوله صريح في أن خروج أبي سلمة بعد العقبة الثالثة، وهذا صريح في أنه قبلها، إلا أن تكون الفاء بمنزلة الواو ليست مرتبة على أمره -صلى الله عليه وسلم- بل غرضه مجرد الإخبار عن أول من هاجر، وهذا قول ابن إسحاق وبه جزم ابن عقبة، وأنه أول من هاجر مطلقا. وفي الصحيح عن البراء: أول من قدم علينا مصعب بن عمير وابن أم مكتوم. قال الحافظ: فيجمع بينهم بحمل الأولية على صفة خاصة هي أن أبا سلمة خرج لا لقصد الإقامة بالمدينة، بل فرارا من المشركين بخلاف مصعب، فكان على نية الإقامة بها، وجمع شيخنا بأن خروج مصعب، لما كان لتعليم من أسلم بالمدينة لم يعده من الخارجين لأذى المشركين بخلاف أبي سلمة، انتهى.
وفي النور حاصل الأحاديث في أول من هاجر، هل هو مصعب وبعده ابن أم مكتوم، أو أبو سلمة، أو عبد الله بن جحش، وحاصلها في النسوة أم سلمة، أو ليلى بنت أبي حثمة، أو أم(2/90)
ثم عامر بن ربيعة وامرأته ليلى، ثم عبد الله بن جحش. ثم المسلمون أرسالا،
__________
كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، أو الفارعة بنت أبي سفيان.
"ثم عامر بن ربعية" المذحجي أو العنزي بسكون النون من عنز بن وائل أحد السابقين الأولين، هاجر إلى الحبشة بزوجته أيضا شهد بدرا وما بعدها، وروى عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في الصحيحين وغيرهما توفي سنة ثلاثا أو اثنتين وثلاثين، وقيل غير ذلك. "و" معه "امرأته ليلى" بنت أبي حثمة بفتح المهملة وسكون المثلثة ابن غانم، قال أبو عمر: هي أول ظعينة قدمت المدينة، وقال موسى بن عقبة وغيره: أولهن أم سلمة، وجمع بأن ليلى أول ظعينة مع زوجها وأم سلمة وحدها.
فقد ذكر ابن إسحاق: أن أهلها بني المغيرة حبسوها عن زوجها سنة ثم أذنوا لها في اللحاق به، فهاجرت وحدها حتى إذا كانت بالتنعيم لقيت عثمان بن طلحة العبدري، وكان يؤمئذ مشركا فشيعها حتى إذا أوفى على قباء، قال لها: زوجك في هذه القرية ثم رجع إلى مكة، فكانت تقول: ما رأيت صاحبا قط أكرم من عثمان، كان إذا بلغ المنزل أناخ بي ثم استأخر عني حتى إذا نزلت استأخر ببعيري فحط عنه ثم قيده بالشجر، ثم يضطجع تحت شجرة، فإذا دنا الرواح قام إلى البعير فرحله ثم استأخر عني، وقال: اركبي، فإذا استوت عليه أخذ بخطامه فقادني، قال البرهان: ويكفيه من مناقبه هذه التي يثاب عليها في الإسلام على الصحيح لحديث حكيم: "أسلمت على ما سلف لك من خير"، انتهى.
"ثم عبد الله بن جحش" بأهله وأخيه أبي أحمد عبد بلا إضافة، الصحيح؛ كما قاله السهيلي تبعا لابن عبد البر. وقيل: اسمه ثمامة ولا يصح، وقيل: عبد الله وليس وليس بشيء كان ضريرا يطوف أعلى مكة وأسفلها بلا قائد فصيحا شاعرا، وعنده الفارعة بمهملة بنت أبي سفيان، ومات بعد العشرين وكان منزلهما ومنزل أبي سلمة على مبشر بن عبد المنذر بقباء في بني عمرو بن عوف، قال أبو عمر: هاجر جميع بني جحش بنسائهم فعدا أبو سفيان على دارهم فتملكها، زاد غيره فباعها من عمرو بن علقمة العامري، فذكر ذلك عبد الله بن جحش لما بلغه لرسول الله -صلى الله عليه وسلم، فقال: "ألا ترضى يا عبد الله أن يعطيك الله بها دارا في الجنة خيرا منها"؟ قال: بلى، قال: "فذلك لك"، فلما فتح مكة كلمة أبو أحمد في دارهم فأبطأ عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فقال الناس: يا أبا أحمد، إنه -صلى الله عليه وسلم- يكره أن ترجعوه في شيء أصيب منكم في الله، فأمسك أبو أحمد عن كلام رسول الله، هكذا في العيون. وسقط في الشامية فاعل أمسك فأوهم أنه أمر وإنما هو فعل مات.
"ثم المسلمون أرسالا" ومنهم عمار بن ياسر وبلال وسعد بن أبي وقاص؛ كما في(2/91)
ثم عمر بن الخطاب وأخوه زيد وعياش بن أبي ربيعة في عشرين راكبا، فقدموا المدينة فنزلوا في العوالي.
__________
الصحيح أنهم هاجروا قبل عمر.
"ثم عمرو بن الحطاب" أمير المؤمنين تقدم قول ابن مسعود: كان إسلام عمر عزا وهجرته نصرا وأمارته رحمة، وأخرج ابن عساكر وابن السمان في الموافقة عن علي، قال: ما علمت أن أحدا من المهاجرين هاجر إلا مختفيا، إلا عمر بن الخطاب فإنه لما هم بالهجرة تقلد سيفه وتنكب قوسه وأنفض بدنة، أي: أخرج أسهما من كنانته وجعلها في يديه معدة للرمي بها، واختصر عترته، أي: حملها مضمومة إلى خاصرته، ومضى قبل الكعبة والملأ من قريش بفنائها فطاف بالبيت سبعا ثم أتى المقام فصلى ركعتين، ثم وقف على الحلق واحدة واحدة، فقال لهم: شاهت الوجوه لا يرغم الله إلا هذه المغاطس، من أراد أن تثلكه أمه أو يؤتم ولده أو ترمل زوجته فيلقني وراء هذا الوادي، فما تبعه أحد إلا قوم من المستضعفين علمهم ما أرشدهم إليه، ثم مضى لوجهه.
"وأخوه زيد" بن الخطاب أسن من عمر وأسلم قبله وشهد بدرا والمشاهد، واستشهد باليمامة وراية المسلمين بيده سنة اثنتي عشرة، وحزن عليه عمر شديدا، وقال: سبقني إلى الحسنيين أسلم قبلي واستشهد قبلي.
"وعياش" بفتح المهملة وشد التحتية وشين معجمة "ابن أبي ربيعة" واسمه عمرو، ويلقب ذا الرمحين بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن محزوم القرشي المخزومي من السابقين الأولين وهاجر الهجرتين، ثم خدعه أبو جهل إلى أن رجع من المدينة إلى مكة فحبسوه، فكان -صلى الله عليه وسلم- يدعو له في القنوت؛ كما في الصحيحين. وقول العسكري: شهد بدرا غلطوه، مات بالشام سنة خمس عشرة، وقيل: استشهد باليمامة، وقيل: باليرموك "في عشرين راكبا" كما في الصحيح عن البراء، وسمى ابن إسحاق منهم زيا وعياشا المذكورين وعمرا وعبد الله ابني سراقة بن المعتمر العدوي، وخنيس بن حذافة السهمي، وسعيد بن زيد، وواقد بن عبد الله، وخولي بن أبي خولي، ومالك بن أبي خولي، واسم أبي خولي عمرو بن زهير وبنو البكير أربعتهم إياس وعاقل وعامر وخالد، وزاد ابن عائذ في مغازيه: الزبير، قال في الفتح: فلعل بقية العشرين كانوا من أتباعهم.
"فقدموا المدينة فنزلوا" على رفاعة بن عبد المنذر بن زنبر بقباء؛ كما قاله ابن إسحاق وهو بيان قوله تبعا لأبي عمر، "في العوالي" جمع عالية، قال السمهودي: وهي ما كان في جهة قبلتها من قباء وغيرها على ميل فأكثر لما قالوه في السنح بضم المهملة وسكون النون وتضم وحاء مهملة أنه بالعوالي على ميل من المسجد النبوي، وهو أدناه وأقصاها عمارة ثلاثة أميال أو(2/92)
ثم خرج عثمان بن عفان، حتى لم يبق معه -صلى الله عليه وسلم- إلا علي بن أبي طالب وأبو بكر. كذا قال ابن إسحاق، قال مغلطاي وفيه نظر لما يأتي بعده.
وكان الصديق كثيرا ما يستأذن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الهجرة فيقول: لا تعجل لعل الله يجعل لك صاحبا، فيطمع أبو بكر أن يكون هو.
__________
أربعة وأقصاها مطلقا ثمانية أميال أو ستة.
"ثم خرج عثمان بن عفان" ذو النورين أمير المؤمنين وتتابع الناس بعده، "حتى لم يبق معه -صلى الله عليه وسلم- إلا علي بن أبي طالب وأبو بكر" الصديق؛ "كذا قال ابن إسحاق" وغيره "قال مغلطاي: وفيه نظر، لما يأتي بعده" في كلام ملغطاي من أنه لما رأى ذلك، أي: هجرة الجماعة من كان بمكة يطيق الخروج خرجوا، فطلبهم أبو سفيان وغيره فردوهم وسجنوهم، فافتتن منهم ناس، ولما ذكر ابن هشام وغيره أن صهيبا لما أراد الهجرة، قال له الكفار: أتينا صعلوكا حقيرا فكثر مالك عندنا وبلغت الذي بلغت، ثم تريد أن تخرج بمالك ونفسك!! والله لا يكون ذلك، فقال صهيب: أرأيتم إن جعلت لكم مالي أتخلون سبيلي؟ قالوا: نعم، قال: فإني جعلت لكم مالي، فتركوه فسار حتى قدم المدينة على رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فقال له: "ربح بيعك ثلاثا"، والجواب: أن المعنى لم يبق ممن قدر على الخروج، وقد عبر اليعمري وغيره بلفظ: لم يتخلف معه أحد من المهاجرين إلا من حبس بمكة أو افتتن إلا علي وأبو بكر، قال البرهان الحلبي: هذا صحيح لا اعتراض عليه.
"وكان الصديق كثيرا ما يستأذن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الهجرة" إلى المدينة بعد أن رد على ابن الدغنة جواره؛ كما في حديث عائشة في البخاري، قالت: وتجهز أبو بكر قبل المدينة، ولابن حبان عنها: استأذن أبو بكر النبي -صلى الله عليه وسلم- في الخروج من مكة، "فيقول: "لا تعجل، لعل الله أن يجعل لك صاحبا"، فيطمع أبو بكر أن يكون هو" وعند البخاري: فقال: له -صلى الله عليه وسلم: "على رسلك، فإني أرجو أن يؤذن لي" فقال أبو بكر: وهل ترجو ذلك؟ بأبي أنت وأمي، قال: "نعم"، فحبس أبو بكر نفسه على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليصحبه وعلف راحلتين كانتا عنده ورق السمر وهو الخبط أربعة أشهر، ورسلك بكسر الراء والرسل السير الرفيق.
وفي رواية ابن حبان: فقال: "اصبر"، ولفظ أنت مبتدأ خبره بأبي، ويحتمل أنه تأكيد لفاعل ترجو، وبأبي قسم، وحبس نفسه منعها. وفي رواية ابن حبان: فانتظره أبو بكر؛ والسمر بفتح المهملة وضم الميم، وقوله: وهو الخبط مدرج من تفسير الزهري، وفي قوله: أربعة أشهر بيان المدة التي كانت بين ابتداء هجرة الصحابة بين العقبة الأولى والثانية، وبين هجرة النبي -صلى الله عليه وسلم.(2/93)
ثم اجتمع قريش ومعهم إبليس، في صورة شيخ نجدي، في دار الندوة، دار قصي بن كلاب، وكانت قريش لا تقضي أمرا إلا فيها، يتشاورون فيما يصنعون في أمره عليه الصلاة والسلام..................،
__________
ومر أن بين العقبة الثانية وبين هجرته -صلى الله عليه وسلم- شهرين وبعض شهر على التحرير، انتهى من فتح الباري.
"ثم اجتمع قريش" قال ابن إسحاق: لما رأوا هجرة الصحابة وعرفوا أنه صار له أصحاب من غيرهم فحذروا خروجه وعرفوا أنه أجمع لحربهم، فاجتمعوا "ومعهم إبليس في صورة شيخ نجدي" وذلك أنه وقف على باب الدار في هيئة شيخ جليل عليه بت، بفتح الموحدة وشد الفوقية، قيل: كساء غليظ أو طيلسان من خز، قال في النور: والظاهر أنه فعل ذلك تعظيما لنفسه، فقالوا: من الشيخ؟ قال: من نجد، سمع بالذي اتعدتم له فحضر ليسمع ما تقولون، وعسى أن لا يعدمكم رأيا ونصحا، قالوا: ادخل، فدخل "في دار الندوة" بفتح النون والواو بينهما مهملة ساكنة ثم تاء تأنيث "دار قصي بن كلاب" قال ابن الكلبي: وهي أول دار بنيت بمكة. وحكى الأزرقي: أنها سميت بذلك لاجتماع الندى فيها يتشاورون، والندى الجماعة ينتدون، أي: يتحدثون، فلما حج معاوية اشتراها من الزبير العبدري بمائة ألف درهم ثم صارت كلها بالمسجد الحرام، وهي في جانبه الشمالي.
وقال الماوردي: صارت بعد قصي لولده عبد الدار فاشتراها معاوية عن عكرمة بن عامر بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار، وجعلها دار الإمارة. وقال السهيلي: صارت بعد بني عبد الدار إلى حكيم بن حزام فباعها في الإسلام بمائة ألف درهم زمن معاوية فلامه، وقال: أبعت مكرمة آبائك وشرفهم، فقال حكيم: ذهبت والله المكارم إلا التقوى، والله لقد اشتريتها في الجاهلية بزق خمر، وقد بعتها بمائة ألف وأشهدكم أن ثمنها في سبيل الله، فأينا المغبون، ذكر ذلك الدارقطني في رجال الموطأ، انتهى.
"وكان قريش لا تقضي أمرا إلا فيها" قيل: وكانوا لا يدخلون فيها غير قرشي إلا إن بلغ أربعين سنة بخلاف القرشي، وقد أدخلوا أبا جهل ولم تتكامل لحيته واجتمعوا يوم السبت ولذا ورد يوم السبت يوم مكر وخديعة، "يتشاورون فيما يصنعون في أمره عليه الصلاة والسلام" وكانوا مائة رجل كما في المولد لابن دحية، وزعم بن دريد في الوشاح أنهم كانوا خمسة عشر رجلا، فقال أبو البختري بفتح الموحد وسكون المعجمة وفتح الفوقية فراء فياء كياء النسب، ابن هشام المقتول كافرا ببدر: احبسوه في الحديد وأغلقوا عليه بابا، ثم تربصوا به ما أصاب أشباهه من الشعراء قبله، فقال النجدي: ما هذا برأي، والله لو حبستموه ليخرجن أمره من وراء(2/94)
فأجمع رأيهم على قتله وتفرقوا على ذلك.
فإن قيل: لم تمثل الشيطان في صورة نجدي؟
فالجواب: لأنهم قالوا -كما ذكره بعض أهل السير- لا يدخلن معكم في المشاورة أحد من أهل تهامة؛ لأن هواهم مع محمد، فلذلك تمثل في صورة نجدي. انتهى.
ثم أتى جبريل النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال:............
__________
الباب الذي أغلقتم دونه إلى أصحابه فلأوشكوا أن يثبوا عليكم فينتزعوه من أيديكم ثم تكاثروكم به حتى يغلبوكم على أمركم، ما هذا برأي، فانظروا في غيره، فقال أبو الأسود: ربيعة بن عمرو العامري، قال في النور: لا أعلم ماذا جرى له، نخرجه من بين أظهرنا فننفيه من بلادنا، فلا نبالي أين ذهب، فقال النجدي لعنه الله: والله ما هذا برأي، ألم تروا حسن حديثه وحلاوة منطقه وغلبته على قلوب الرجال بما يأتي به، والله لو فعلتم ذلك ما أمنت أن يحل على حي من العرب، فيغلب بذلك عليهم من قوله حتى يتابعوه عليكم، ثم يسير بهم إليكم حتى يطأكم بهم فيأخذ أمركم من أيديكم ثم يفعل بكم ما أراد، أديروا فيه رأيا غير هذا، فقال أبو جهل: والله إن لي فيه رأيا ما أراكم وقعتم عليه، أرى أن تأخذوا من كل قبيلة فتى شابا جلدا نسيبا وسيطا ثم يعطى كل فتى منهم سيفا صارما ثم يعمد إليه فيضربوه ضربة رجل واحد فيقتلوه فنستريح منه ويتفرق دمه في القبائل، فلا تقدر بنو عبد مناف على حرب قومهم جميعا فنعقله لهم، فقال النجدي لعنه الله: القول ما قال، لا أرى غيره.
"فأجمع رأيهم على قتله وتفرقوا على ذلك" هكذا رواه ابن إسحاق، وفي خلاصة الوفاء: وصوب إبليس قول أبي جهل: أرى أن يعطى خمسة رجال من خمس قبائل سيفا فيضربوه ضربة رجل واحد، انتهى. فلعلهم استبعدوا عليه قوله: من كل قبيلة؛ إذ لا يمكن عشرون مثلا أن يضربوا شخصا ضربة واحدة، فقال لهم: خمسة رجال.
"فإن قيل: لم تمثل الشيطان في صورة نجدي؟ فالجواب": كما قال السهيلي في الروض "لأنهم قالوا، كما ذكره بعض أهل السير: لا يدخلن معكم في المشاورة أحد من أهل تهامة؛ لأن هواهم" أي: ميلهم، "مع محمد، فلذلك تمثل في صورة نجدي، انتهى". ووقع له ذلك أيضا يوم وضع الحجر الأسود قبل النبوة، فصاح: يا معشر قريش! أقد رضيتم أن يليه هذا الغلام دون أشرافكم وذوي أسنانكم، فإن صح فلمعنى آخر "ثم أتى جبريل النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال:(2/95)
لا تبت هذه الليلة على فراشك الذي كنت تبيت عليه، فلما كان الليل اجتمعوا على بابه يرصدونه حتى ينام فيثبوا عليه، فأمر عليه السلام عليا فنام مكانه، وغطى ببرد أخضر، فكان أول من شرى نفسه في الله ووفى بها رسول الله وفي ذلك يقول علي.
وقيت بنفسي خير من وطئ الثرى ... ومن طاف بالبيت العتيق وبالحجر
رسول إله خاف أن يمكروا به ... فنجاه ذو الطول الإله من المكر
__________
لا تبت هذه الليلة على فراشك الذي كنت تبيت عليه، فلما كان الليل اجتمعوا على بابه يرصدونه"، بضم الصاد: يرقبونه، "حتى ينام فيثبوا عليه، فأمر عليه السلام عليا فنام مكانه وغطي ببرد" له -صلى الله عليه وسلم- بأمره بقوله كما رواه ابن إسحاق: "وتسج بردي هذا الحضري الأخضر فنم فيه، فإنه لن يخلص إليك شيء تكرهه منهم"، وكان -صلى الله عليه وسلم- ينام في برده ذلك إذا نام "أخضر" قيل: كان يشهد به الجمعة العيدين بعد ذلك عند فعلهما وعورض بقول جابر: كان يلبس رداء أحمر في العيدين والجمعة، وجمع باحتمال أن الخضرة لم تكن شديدة فتجوز من قا أحمر.
"فكان" علي "أول من شرى" باع "نفسه في الله، ووفى بها رسول الله -صلى الله عليه وسلم" واستشكل هذا بقوله عليه السلام: "أن يخلص إليك شيء تكرهه"؛ لأن بعد خبر الصادق تحقق أن لا يصيبه ضرر وأجيب بجواز أنه أخبره بذلك بعد أمره بالنوم وامتثاله فصدق أنه بالامتثال باع نفسه قبل بلوغ الخبر، ويحمل أنه فهم أنه لن يخلص إليك ما دام البرد عليك لجعله ذلك علة لأمره بتغطيه به والبرد لا يؤمن زواله عنه بريح أو انقلاب في نوم، فصدق مع هذا أنه باع نفسه.
وأما معارضة رواية ابن إسحاق: "لن يخلص إليك"، بأنه لم يذكرها المقريزي في الأمتاع، وإنما فيه أنه أمره ينام مكانه لأمر جبريل له بذلك، ففاسدة، إذ الترك لا يقضي على الذاكر مع أن روايته لا علة لها إلا إرسال الصحابي وليس بعلة وهب إن ما في الأمتاع رواية لا علة فيها، فزيادة الثقة مقبولة، ولكن القوس في يد غير باريها. "وفي ذلك يقول علي:
"وقيت بنفسي خير من طئ الثرى ... ومن طاف وبالبيت العتيق وبالحجر"
"رسول إله خاف أن يمكروا به ... فنجاه ذو الطول الإله من المكر"
وبعدهما في الشامية وغيرها:
وبات رسول الله في الغار آمنا ... موقى وفي حفظ الإله وفي ستر
وبت أراعيهم وما يتهمونني ... وقد وطنت نفسي على القتل والأسر
يتهمونني بضم التحتية من اتهمه بكذا إتهاما أدخل عليه التهمة؛ كما في القاموس. ومر(2/96)
ثم خرج -صلى الله عليه وسلم، وقد أخذ الله على أبصارهم، فلم يره أحد منهم، ونثر على رءوسهم كلهم ترابا كان في يده، وهو يتلو قوله تعالى: {يس} إلى قوله تعالى: {فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ} ...............
__________
ما صوبه الزمخشري أنه لم يقل إلا بيتين مرا في أول من أسلم، لكن في مسلم: فقال علي، أي: مجيبا لمرحب اليهودي يوم خيبر:
أنا الذي سمتني أمي حيدره ... كليث غابات كريه المنظره
أوفيهم بالصاع كيل السندره
إلا أن يقال لم يقل في غير الافتخار الجائز في الحرب، هذا وما في الإحياء أن الله أوحى إلى جبريل وميكائيل إني آخيت بينكما وجعلت عمر أحدكما أطول من عمر الآخر، فأيكما يؤثر صاحبه بحياة، فاختار كل منهما الحياة، فأوحى الله إليهما: أفلا كنتما مثل علي بن أبي طالب آخيت بينه وبين محمد فبات على فراشه يفديه بنفسه ويؤثره بالحياة، اهبطا إلى الأرض فاحفظاه من عدوه، فكان جبريل عند رأسه وميكائيل عند رجليه، ينادي: بخ بخ، من مثلك يابن أبي طالب يباهي الله بك الملائكة، وفيه نزل: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ} [البقرة: 207] الآية. فقال الحافظ ابن تيمية: إنه كذب، باتفاق علماء الحديث والسير.
وقال الحافظ العراقي في تخريج الإحياء: رواه أحمد مختصرا عن ابن عباس شرى علي نفسه فلبس ثوب النبي -صلى الله عليه وسلم- ثم نام مكانه.. الحديث، وليس فيه ذكر جبريل وميكائيل ولم أقف لهذه الزيادة على أصل، والحديث منكر، انتهى. ورد أيضا بأن الآية في البقرة وهي مدنية اتفاقا، وقد صحح الحاكم نزولها في صهيب.
"ثم خرج -صلى الله عليه وسلم" من الباب عليهم "وقد أخذ الله على أبصارهم فلم يره أحد منهم" وروى ابن منده وغيره عن مارية خادم النبي -صلى الله عليه وسلم- أنها طأطأت لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى صعد حائطا ليلة فر من المشركين، قال البرهان: والأولى أولى؛ لأن ابن إسحاق أسنده وما فيه إلا الإرسال، أي: إرسال الصحابي، وهو ابن عباس وحديث مارية فيه مجاهيل فإن صحا وفق بينهما، انتهى. بأن يكون صعد الحائط ليراهم ثم رجع وخرج من الباب أو يكون أراد ذلك أولا كراهة رؤيتهم، ثم ترك ذلك ثقة بالله تعالى، وخرج من الباب. "ونثر على رءوسهم كلهم ترابا كان في يده، وهو يتلو قوله تعالى: {يس} [يس: 1] ، إلى قوله: {فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ} [يس: 9] .
قال الإمام السهيلي: يؤخذ منه أن الشخص إذا أراد النجاة من ظالم أو من يريد به سوءا وأراد الدخول عليه يتلو هذه الآيات، وقد روى ابن أبي أسامة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه ذكر في فضل(2/97)
ثم انصرف حيث أراد.
فأتاهم آت ممن لم يكن معهم، فقال: ما تنتظرون ههنا؟ قالوا: محمدا، قال: قد خيبكم الله، قد والله خرج محمد عليكم، ثم ما ترك منكم رجلا إلا وضع على رأسه ترابا وانطلق لحاجته، أفما ترون ما بكم؟ فوضع كل رجل يده على رأسه، فإذا عليه تراب.
__________
يس إن قرأها خائف أمن، أو جائع أشبع، أو عار كسي أو عاطش سقي، أو سقم شفي، حتى ذكر خلالا كثيرة. "ثم انصرف حيث أراد" روى أحمد بإسناد حسن تشاورت قريش ... الحديث.
وفيه: فأطلع الله نبيه على ذلك فبات علي على فراشه، وخرج النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى لحق بالغار، أي: غار ثور؛ كما في رواية ابن هشام وغيره، فأفاد أنه توارى فيه حتى أتى أبا بكر منه في نحر الظهيرة، ثم خرج إليه هو وأبو بكر ثانيا، وبهذا علم الجواب عن قوله في النور: لم أقف على ما صنع من حين خروجه إلى أن جاء إلى أبي بكر في نحو الظهيرة، ووقع في البيضاوي، فبيت عليا على مضجعه وخرج مع أبي بكر إلى الغار.
وفي سيرة الدمياطي: أنه ذهب تلك الليلة إلى بيت أبي بكر، فكان فيه إلى الليلة، أي: المقبلة، ثم خرج هو وأبو بكر إلى جبل ثور، انتهى. وفيه أن الثابت في الصحيح أنه عليه السلام أتى أبا بكر في نحر الظهيرة. وفي رواية أحمد: جعل انتهاء خروجه بعد أن بيت عليا على فرشه لحوقه بالغار، فيفيد ما قلنا، والله أعلم.
"فأتاهم آت" قال في النور: لا أعرفه، "ممن لم يكن معهم، فقال: ما تنتظرون ههنا، قالوا: محمدا!! قال: قد خيبكم الله قد والله خرج محمد عليكم ثم ما ترك منكم رجلا إلا وضع على رأسه ترابا" قال البرهان: وحكمة وضع التراب دون غيره الإشارة لهم بأنهم الأرذون الأصغرون الذين أرغموا وألصقوا بالرغام وهو التراب، أو أنه سيلصقهم بالتراب بعد هذا.
"وانطلق لحاجته فما ترون ما بمكم فوضع كل رجل يده على رأسه، فإذا عليه تراب" بقية رواية ابن إسحاق: ثم جعلوا يطلعون فيرون عليا على الفراش متسجيا برد رول الله -صلى الله عليه وسلم، فيقولون: والله إن هذا لمحمد نائم عليه برده، فلم يزالوا كذلك حتى أصبحوا فقام علي عن الفراش، فقالوا: لقد صدقنا الذي كان حدثنا وعند أحمد، فبات المشركون يحرسون عليا يحسبونه النبي -صلى الله عليه وسلم- يعني ينتظرونه حتى يقوم فيفعلون به ما اتفقوا عليه فلما أصبحوا ورأوا عليا رد الله مكرهم، فقالوا: أين صاحبك؟ قال: لا أدري، وعند ابن عقبة عن الزهري: وباتت قريش يختلفون ويأتمرون أيهم يهجم على صاحب الفراش فيوثقه، فلما أصبحوا إذا هم بعلي.(2/98)
وفي رواية ابن أبي حاتم، مما صححه الحاكم من حديث ابن عباس: فما أصاب رجلا منهم حصاة إلا قتل يوم بدر كافرا.
وفي هذا نزل قوله تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ} [الأنفال: 30] الآية.
ثم أذن الله تعالى لنبيه -صلى الله عليه وسلم- في الهجرة. قال ابن عباس: بقوله تعالى: {وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ...............
__________
قال السهيلي: ذكر بعض أهل السير أنهم هموا بالولوج عليه فصاحت امرأة من الدار، فقال بعضهم لبعض: والله إنها للسبة في العرب أن يتحدث عنا أنا تسورنا الحيطان على بنات العم وهتكنا ستر حرمتنا، فهذا الذي أقامهم بالباب حتى أصبحوا.
"وفي رواية ابن أبي حاتم مما صححه الحاكم من حديث ابن عباس: فما أصاب رجلا منهم حصاة إلا قتل يوم بدر كافرا" لا يشكل على القول بأنهم كانوا مائة، وقتلى بدر سبعون لجواز أن التراب الذي كان بيده فيه حصى فمن أصابه الحصى قتل، ومن أصابه التراب لم يقتل "وفي هذا نزل" بعد ذلك بالمدينة يذكره الله نعمته عليه؛ كما في نفس رواية ابن أبي حاتم هذه قوله تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الأنفال: 30] الآية، وقد اجتمعوا للمشاورة في شأنك بدار الندوة "ليثبتوك" يوثقوك ويحبسوك إشارة لرأي أبي البختري فيه "أو يقتلوك" كلهم قتلة رجل واحد إشارة لرأي أبي جهل فيه الذي صوبه صديقه إبليس لعنهما الله، "أو يخرجوك" من مكة منفيا إشارة لرأي أبي الأسود: {اتْلُ} [النعكبوت: 45] ، الآية أي: بقيتها وهي ويمكرون ويمكر الله، أي: بهم بتدبير أمرك بأن أوحي إليك ما دبروه وأمرك بالخروج والله خير الماكرين أعلمهم به، زاد ابن إسحاق: ونزل قوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ، قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ} [الطور: 30، 31] .
هذا وروى ابن جرير عن المطلب بن أبي وداعة أن أبا طالب، قال للنبي -صلى الله عليه وسلم: ما يأتمر بك قومك؟ قال: "يريدون أن يسجنوني أو يقتلوني أو يخرجوني"، قال: من حدثك بهذا؟ قال: "ربي"، قال: نعم الرب ربك، فاستوص به خيرا، قال: "أنا أستوصي به هو يستوصي بي" فنزلت: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الأنفال: 30] الآية، قال الحافظ ابن كثير: ذكر أبي طالب فيه غريب بل منكر؛ لأن القصة ليلة الهجرة وذلك بعد موت أبي طالب بثلاث سنين.
"ثم أذن الله تعالى لنبيه -صلى الله عليه وسلم- في الهجرة، قال ابن عباس بقوله تعالى: {وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي} [الإسراء: 80] ، المدينة {مُدْخَلَ صِدْقٍ} [الإسراء: 80] " إدخالا مرضيا لا أرى فيه ما أكره، {وَأَخْرِجْنِي} [الإسراء: 80] من مكة {مُخْرَجَ صِدْقٍ} إخراجا لا ألتفت إليها(2/99)
وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا} [الإسراء: 80] أخرجه الترمذي وصححه الحاكم.
فإن قيل ما الحكمة في هجرته عليه السلام إلى المدينة وإقامته بها إلى أن انتقل إلى ربه عز وجل؟
أجيب: بأن حكمة الله تعالى قد اقتضت أنه عليه السلام تتشرف به الأشياء، لا أنه يتشرف بها، فلو بقي عليه السلام في مكة إلى انتقاله إلى ربه لكان يتوهم أنه قد تشرف بها، إذ إن شرفها قد سبق بالخليل وإسماعيل، فأراد الله تعالى أن يظهر شرفه عليه السلام فأمره بالهجرة إلى المدينة، فلما هاجر إليها تشرفت به، حتى وقع الإجماع على أن أفضل البقاع الموضع الذي ضم أعضاءه الكريمة صلوات الله وسلامه عليه.
__________
يقلبي {وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا} [الإسراء: 80] "، قوة تنصرني بها على أعدائك.
"أخرجه الترمذي وصححه" هو و"الحاكم" في المستدرك "فإن قيل: ما الحكمة في هجرته عليه السلام" من مكة "إلى المدينة وإقامته بها إلى أن انتقل إلى ربه عز وجل" وهلا أقام بها إذ هي دار أبيه إسماعيل التي نشأ ومات بها وفي حديث: "قبر إسماعيل في الحجر"، رواه الديلمي عن عائشة مرفوعا بسند ضعيف.
"أجيب بأن حكمة الله تعالى قد اقتضت أنه عليه السلام تتشرف به الأشياء" حتى الأزمنة والأمكنة "لا أنه يتشرف بها، فلو بقي عليه السلام في مكة إلى انتقاله إلى ربه لكان يتوهم أنه قد تشرف بها إذ إن شرفها قد سبق بالخليل وإسماعيل، فأراد الله تعالى أن يظهر شرفه عليه السلام فأمره بالهجرة إلى المدينة"، ولذا لم تكن إلى الأرض المقدسة مع أنها أرض المحشر والمنشر وموضع أكثر الأنبياء، لئلا يتوهم ما ذكر أيضا "فلما هاجر إليها تشرفت به" لحلوله فيها وقبره بها، "حتى وقع الإجماع" كما حكاه عياض والباجي وابن عساكر "على أن أفضل البقاع الموضع الذي ضم أعضاءه الكريمة صلوات الله وسلامه عليه" حتى من الكعبة لحلوله فيه، بل نقل التاج السبكي عن ابن عقيل الحنبلي أنه أفضل من العرض، وصرح الفاكهاني بتفضيله على السماوات، بل قال البرماوي: الحق أن مواضع أجساد الأنبياء وأرواحهم أشرف م كل ما سواها من الأرض والسماء.
ومحل الخلاف في أن السماء أفضل أو الأرض غير ذلك، كما كان شيخنا شيخ الإسلام البلقيني يقرره، انتهى.(2/100)
وذكر الحاكم أن خروجه عليه السلام كان بعد بيعة العقبة بثلاثة أشهر أو قريبا منها.
وجزم ابن إسحاق: بأنه خرج أول يوم من ربيع الأول. فعلى هذا يكون بعد البيعة بشهرين وبضعة عشر يوما، وكذا جزم الأموي....
__________
يعني: وأفضل تلك المواضع القبر الشريف بالإجماع، واستشكله العز بن عبد السلام بأن معنى التفضيل أن ثواب العمل في أحدهما أكثر من الآخر، وكذا التفضيل في الأزمان وموضع القبر الشريف لا يمكن العمل فيه؛ لأن العمل فيه يحرم فيه عقاب شديد، ورد عليه تلميذه العلامة الشهاب القرافي بأن التفضيل للمجاورة والحلول كتفضيل جلد المصحف على سائر الجلود، فلا يمسه محدث ولا يلابس بقذر، لا لكثرة الثواب وإلا لزمه أن لا يكون جلد المصحف بل ولا المصحف نفسه أفضل من غيره لتعذر العمل فيه، وهو خلاف المعلوم من الدين بالضرورة وأسباب التفضيل أعم من الثواب، فإنها منتهية إلى عشرين قاعدة وبينها في كتابه الفروق، ثم قال: بل إنها أكثر وإنه لا يقدر على إحصائها خشية الإسهاب.
وقال التقي السبكي: قد يكون التفضيل بكثرة الثواب، وقد يكون لأمر آخر وإن لم يكن عمل فإن القبر الشريف ينزل عليه من الرحمة والرضوان والملائكة وله عند الله من المحبة ولساكنه ما تقصر العقول عنه، فكيف لا يكون أفضل الأمكنة؛ وأيضا فباعتبار ما قيل كل أحد يدفن في الموضع الذي خلق منه وقد تكون الأعمال مضاعفة فيه باعبتار حياته -صلى الله عليه وسلم- به، وإن أعماله مضاعفة أكثر من كل أحد، قال السمهودي: والرحمات النازلات بذلك المحل يعم فيضها الأمة وهي غير متناهية لدوام ترقياته -صلى الله عليه وسلم، فهو منبع الخيرات، انتهى.
"وذكر الحاكم أن خروجه عليه السلام" من مكة "كان بعد بيعة العقبة بثلاثة أشهر أو قريبا منها، وجزم ابن إسحاق أنه خرج أول يوم من ربيع الأول فعلى هذا يكون بعد البيعة لشهرين وبضعة عشر يوما"؛ لأن البيعة كما مر في ذي الحجة ليلة ثاني أيام التشريق، فالباقي من الشهر ثمانية عشر يوما إن كان تاما وإلا فسبعة عشر، "وكذا جزم الأموي" بفتح الهمزة وضمها كما ضبطه في النور في أول من أسلم نسبة لبني أمية، قال الحافظ في تقريره يحيى بن سعيد بن إبان بن سعيد العاصي الأموي أبو أيوب الكوفي نزيل بغداد لقبه الجمل، صدوق يضطرب من كبار التاسعة مات سنة أربع وتسعين ومائتين، روى له الستة، انتهى.
فنسبه أمويا فليس هو الحافظ محمد بن خير الأموي بفتح الهمزة والميم بلا مد نسبة إلى أمة جبل بالمغرب كما ترجى من مجرد قول التبصير له برنامج حافل، فإنه فاسد نقلا كما علم وعقلا لأن التبصير، قال: إنه خال السهيلي، أي: أخو أمه وزمنه متأخر عن هذا بكثير فقد أرخوا(2/101)
-في المغازي- عن ابن إسحاق فقال: كان مخرجه من مكة بعد العقبة بشهرين وليال. وخرج لهلال ربيع الأول وقادم المدينة لاثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الأول.
قال في فتح الباري: وعلى هذا خرج يوم الخميس. وقال الحاكم: تواترت الأخبار أن خروجه كان يوم الاثنين، ودخوله المدينة كان يوم الاثنين، إلا أن محمد بن موسى الخوارزمي قال: إنه خرج من مكة يوم الخميس. ويجمع بينهما: بأن خروجه من مكة كان يوم الخميس وخروجه من الغار كان ليلة الاثنين؛ لأن أقام فيه ثلاث ليال: ليلة الجمعة وليلة السبت وليلة الأحد، وخرج أثناء ليلة الاثنين.
وكانت مدة مقامه بمكة من حين النبوة إلى ذلك الوقت بضع عشرة سنة.
__________
وفاة ابن خير في ربيع الأول سنة خمس وسبعين وخمسمائة، وقد قال المصنف "في المغازي" وهو يروي فيها عن أبيه وغيره "عن ابن إسحاق" وهو قد توفي سنة خمسين ومائة فلا يدرك ابن خير اتباعه، وفي الألقاب للحافظ في حرف الجيم جمل يحيى بن سعيد الأموي صاحب المغازي من الثقات، "فقال كان مخرجه من مكة بعد العقبة بشهرين وليال" أتى بنصه لفائدة فيه لم تستفد مما قبله، "وخرج" -صلى الله عليه وسلم- من مكة "لهلال ربيع الأول، وقدم المدينة لاثنتي عشرة خلت من ربيع الأول" على الراجح، قيل: لثمان خلت منه كما في الاستيعاب، وقيل: خرج في صفر وقدم في ربيع، حكاه في الصفوة.
"قال في فتح الباري: وعلى هذا خرج يوم الخميس، وقال الحاكم: تواترت الأخبار أن خروجه كان يوم الاثنين ودخوله المدينة كان يوم الاثنين، إلا أن محمد بن موسى الخوارزمي قال إنه خرج من مكة يوم الخميس"، وهذا يوافق نقل الأموي ويخالف ما تواترت به الأخبار، قال الحافظ: "ويجمع بينهما بأن خروجه من مكة كان يوم الخميس وخروجه من الغار كان ليلة الاثنين؛ لأنه أقام فيه ثلاث ليال ليلة الجمعة، وليلة السبت، وليلة الأحد، وخرج أثناء ليلة الاثنين" فقول الحاكم: تواترت الأخبار أن خروجه يوم الاثنين مجاز أطلق اليوم مريدا به الليلة لقربه منها، والمراد الخروج من الغار لا مكة.
وفي الاستيعاب عن الكلبي: قدم المدينة يوم الجمعة، والله أعلم. "وكانت مدة مقامه بمكة من حين النبوة إلى ذلك الوقت بضع عشرة سنة" ثلاث عشرة سنة؛ كما رواه البخاري عن ابن عباس. وروى مسلم عنه خمس عشرة، قال الحافظ: والأول أصح، انتهى، وهو قول الجمهور.(2/102)
ويدل عليه قول صرمة:
ثوى في قريش بضع عشرة حجة يذكر لو يلقى صديقا مواتيا وقيل غير ذلك.
وأمره جبريل أن يستصحب أبا بكر.
وأخبر عليه السلام عليا بمخرجه وأمره أن يتخلف بعده حتى يؤدي عنه الودائع التي كانت عنده للناس.
قال ابن شهاب قال عروة قالت عائشة:.............
__________
"ويدل عليه قول صرمة" بكسر الصاد ابن أنس، ويقال: ابن قيس، ويقال: ابن أبي أنس بن مالك بن عدي أبي قيس الأنصاري النجاري صحابي له أشعار حسان فيها حكم ووصايا وكان قوالا بالحق ولا يدخل بيتا فيه جنب ولا حائض، معظما في قومه إلى أن أدرك الإسلام شيخا كبيرا وعاش عشرين ومائة سنة. "ثوى" بمثلثة أقام -صلى الله عليه وسلم- "في قريش بضع" بكسر الباء وتفتح "عشرة حجة" بكسر الحاء على الراجح وتفتح "يذكر" الناس بما جاء به عند الله فيدعوهم إليه وحده ويتحمل مشاقه، ويود "لو يلقى صديقا مواتيا" موافقا ومطيعا، فلو للتمني فلا جواب لها، أو جوابها محذوف نحو لسهل عليه أمرهم وهذا البيت ثبت في بعض نسخ مسلم وهو من قصيدة لصرمة عند ابن إسحاق.
"وقيل غير ذلك" فعن عروة أنها عشرة سنين، ورواه أحمد عن ابن عباس والبخاري في باب الوفاة عنه وعن عائشة، لكن أول بأنهما لم يحسبا مدة الفترة بناء على قول الشعبي أنها ثلاث سنين لقولهما أقام عشرا ينزل عليه القرآن والأنافي ما رواه البخاري عقبه عن عائشة أنه توفي وهو ابن ثلاث وستين، "وأمره جبريل أن يستصحب أبا بكر" روى الحاكم عن علي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لجبريل: "من يهاجر معي"، قال أبو بكر الصديق، قال الحاكم: صحيح غريب.
"وأخبر عليه السلام عليا بمخرجه" بفتح فسكون مصدر ميمي بمعنى الخروج، أي: بإرادة خروجه "وأمره أن يتخلف بعده حتى يؤدي عنه الودائع التي كانت عنده للناس" قاله ابن إسحاق وزاد: وليس بمكة أحد عنده شيء يخلف عليه إلا وضعه عنده لما يعلم من صدقه وأمانته.
"قال ابن شهاب" الزهري فيما رواه عنه البخاري في الحديث الطويل المتقدم بعضه في إرادة أبي بكر الهجرة للحبشة ورجوعه في جوار ابن الدغنة ثم قال: قال ابن شهاب: قال الحافظ: هو بالإسناد المذكور أولا، "قال عروة" بن الزبير بن العوام أحد الفقهاء "قالت عائشة:(2/103)
فبينما نحن جلوس يوما في بيت أبي بكر في نحر الظهيرة قال قائل لأبي بكر: هذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- متقنعا في ساعة لم يكن يأتينا فيها. قال أبو بكر: فداء له أبي وأمي، والله ما جاء به في هذه الساعة إلا أمر، قالت: فجاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فاستأذن فأذن له فدخل، فقال -صلى الله عليه وسلم- لأبي بكر: "أخرج من عندك"، فقال أبو بكر: إنما هم
__________
فبينما" بالميم "نحن جلوس يوما في بيت أبي بكر في نحر" بفتح النون وسكون المهملة "الظهيرة" بفتح المعجمة وكسر الهاء، قال الحافظ: أي أول الزوال وهو أشد ما يكون من حرارة النهار والغالب في أيام الحر القيلولة فيها. وفي رواية ابن حبان: فأتاه ذات يوم ظهرا.
وفي حديث أسماء عند الطبراني: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يأتينا بمكة كل يوم مرتين بكرة وعشية، فلما كان يوم من ذلك جاءنا في الظهيرة، فقلت: يا أبت هذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم، "قال قائل": قال الحافظ في مقدمة الفتح: يحتمل أن يفسر بعامر بن فهيرة.
وفي الطبراني: أن قائل ذلك أسماء بنت أبي بكر، انتهى. أي: وهو لا يمنع الاحتما المذكور لجواز أنهما معا قالا "لأبي بكر: هذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- متقنعا" أي: مغطيا رأسه، قاله المصنف. وقال الحافظ: أي متطيلسا "في ساعة لم يكن يأتينا فيها". وفي رواية موسى بن عقبة، قال ابن شهاب: قالت عائشة: وليس عند أبي بكر إلا أنا وأسماء، قيل فيه جواز لبس الطيلسان وجزم ابن القيم بأنه -صلى الله عليه وسلم- لم يلبسه ولا أحد من الصحابة وأجاب عن الحديث بأن التقنع يخالف التطيلس، قال: ولم يكن يفعل التقنع عادة بل للحاجة، وتعقب بأن في حديث أنس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يكثر التقنع.
وفي طبقات ابن سعد مرسلا: وذكر الطيلسان لرسول الله -صلى الله عليه وسلم، فقال: هذا ثوب لا يؤدي شكره، انتهى. ويأتي بسط ذلك في اللباس، إن شاء الله تعالى.
"قال أبو بكر: فداء" بكسر الفاء والقصر، وللحموي والمستملي: فداء بالمد والهمز، "له أبي وأمي" في حجة لا لأصح القولين بجواز التفدية بهما، قال البرهان: وما أظن الخلاف إلا في غير النبي -صلى الله عليه وسلم، لأن كل الناس يجب عليهم بذل أنفسهم دون نفسه، "والله ما جاء به في هذه الساعة إلا أمر" وفي رواية يعقوب بن سفيان: إن جاء به بأن النافية بمعنى ما، وابن عقبة: فقال أبو بكر: يا رسول الله! ما جاء بك إلا أمر حدث، "قالت" عائشة: "فجاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فاستأذن، فأذن له" أبو بكر "فدخل" زاد في رواية: فتنحى أبو بكر عن سريره وجلس عليه رسول الله "فقال -صلى الله عليه وسلم- لأبي بكر: "أخرج" بهمزة قطع مفتوحة "من عندك" هكذا في البخاري في الهجرة وله في محل آخر ما عندك بما مرادا بها من يعلم نحو: لما خلقت بيدي {وَالسَّمَاءِ} [الشمس: 5] ، و {وَمَا بَنَاهَا} [الشمس: 5] ، {وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} [الكافرون: 3، 5] "فقال أبو بكر: إنما هم(2/104)
أهلك بأبي أنت وأمي.
قال السهيلي: وذلك أن عائشة قد كان أبوها أنكحها منه عليه الصلاة والسلام قبل ذلك.
فقال -صلى الله عليه وسلم: "فإنه قد أذن لي في الخروج".
فقال أبو بكر: الصحبة بأبي أنت وأمي يا رسول الله.
قال -صلى الله عليه وسلم: "نعم".
فقال أبو بكر: فخذ بأبي أنت وأمي يا رسول الله إحدى راحلتي هاتين.
قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "بل بالثمن".
__________
أهلك" يعني عائشة وأسماء، ففي رواية ابن عقبة، فقال: لا عين عليك إنما هما ابنتاي، وكذا في رواية هشام.
"بأبي أنت وأمي، قال السهيلي: وذلك" أي: وجه قوله هم أهلك "إن عائشة قد كان أبوها أنكحها منه عليه الصلاة والسلام قبل ذلك" وأسماء صارت بمنزلة أهله لنكاحه أختها فلا يخشى عليه منهما؛ كما يرشد إليه قوله: لا عين عليك، وقيل كما في النور: أطلق عليهما أهله، كقول الإنسان حريمي حريمك وأهلي أهلك، يعني: أنا وأنت كالشيء الواحد، وقول من قال كانت أمهما عنده وتركها سترا يرده قول عائشة: وليس عنده إلا أنا وأسماء وأيضا فأم عائشة غير أم أسماء، "فقال -صلى الله عليه وسلم: "فإنه" كذا رواه الكشميهني وللأكثر فإني "قد أذن" بالبناء للمفعول "لي في الخروج" من مكة إلى المدينة "فقال أبو بكر" أريد "الصحبة" ويجوز الرفع خبر مبتدأ محذوف، أي: مطلوبي، "بأبي أنت وأمي يا رسول الله! قال -صلى الله عليه وسلم: "نعم"، زاد ابن إسحاق: قالت عائشة: فرأيت أبا بكر يبكي وما كنت أحسب أن أحدا يبكي من الفرح، وفي رواية هشام: قال الصحبة: يا رسول الله! قال: "الصحبة"، "فقال أبو بكر: فخذ بأبي أنت وأمي يا رسول الله! إحدى راحلتي هاتين" إشارة للتين كان علفهما أربعة أسهر، لما قال المصطفى إنه يرجو الهجرة، "قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم": لا أخذها مجانا "بل بالثمن"، وعند ابن إسحاق، قال: "لا أركب بعيرا ليس هو لي"، قال: هو لك، قال: "لا ولكن بالثمن بالذي ابتعتها به"، قال: "أخذتها بكذا وكذا"، قال: هي لك.
وفي حديث أسماء عند الطبراني، فقال: "بثمنها يا أبا بكر"، فقال: بثمنها إن شئت، وأفاد الواقدي أن الثمن ثمانمائية درهم، وأن التي أخذها النبي -صلى الله عليه وسلم- هي القصواء وكانت من نعم بني(2/105)
فإن قلت: لم يقبلها إلا بالثمن، وقد أنفق عليه أبو بكر من ماله ما هو أكثر من هذا فقيل؟
أجيب: بأنه إنما فعل ذلك لتكون هجرته إلى الله بنفسه وماله رغبة منه عليه السلام في استكماله فضل الهجرة إلى الله تعالى، وأن تكون على أتم الأحوال، انتهى.
__________
قشير وعاشت بعده عليه السلام قليلا، وماتت في خلافة أبي بكر، وكانت مرسلة ترعى بالبقيع، وذكر ابن إسحاق: إنها الجدعاء وكانت من إبل بني الحريش.
وكذا في رواية ابن حبان عن هشام عن أبيه عن عائشة: أنها الجدعاء، ذكره في فتح الباري وعجب إبعاده النجعة بالعز. ولابن حبان فقد رواه البخاري في غزوة الرجيع من حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة بلفظ: فأعطى النبي -صلى الله عليه وسلم- أحدهما وهي الجدعاء والحريش بفتح الحاء وكسر الراء المهملتين وسكون التحتية وشين معجمة.
وفي سيرة عبد الغني وغيره: أن الثمن كان أربعمائة درهم؛ كما في المقدمة، فصدق حفظ البرهان إذ قال في النور: في حفظي أنه أربعمائة، انتهى. وكأنه مستند من قال الثمانمائة ثمن الراحلتين.
"فإن قلت: لم يقبلها إلا بالثمن، وقد أنفق عليه أبو بكر من ماله ما هو أكثر من هذا فقبل"، بموحدة وحذف المفعول، أي: فقبله. فقد روى ابن حبان عن عائشة، قال: أنفق أبو بكر على النبي -صلى الله عليه وسلم- أربعين ألف درهم. وروى الزبير بن بكار عنها أن أبا بكر لما مات ما ترك دينارا ولا درهما. وفي الصحيح قوله -صلى الله عليه وسلم: "ليس أحد من الناس أمن على نفسه وماله من أبي بكر". وروى الترمذي مرفوعا: "ما لأحد عندنا يدا إلا كافأناه عليها ما خلا أبا بكر، فإن له عندنا يدا يكافئه الله بها يوم القيامة".
"أجيب" كما ذكره السهيلي: حدثني بعض أصحابنا، قال ابن دحية، يعني ابن قرقول عن الفقيه الزاهد أبي الحسن بن اللوان "بأنه إنما فعل ذلك لتكون هجرته إلى الله بنفسه وماله رغبة منه عليه السلام في استكماله فض الهجرة إلى الله تعالى وأن تكون على أتم الأحوال"، قال السهيلي: وهو قول حسن. انتهى.
وهذا الحديث الصحيح يعارض ما رواه ابن عساكر عن أنس رفعه: "إن أعظم الناس علينا منا أبو بكر زوجني ابنته وواساني بنفسه، وإن خير المسلمين مالا أبو بكر أعتق منه بلال وحملني إلى دار الهجرة"، والمنكر منه آخره فقط، وهو حمله إلى الهجرة فإن كان محفوظا فالحمل مجاز عن المعاونة والخدمة في السفر وعلف الدابة أربعة أشهر حتى باعها للمصطفى بحيث لم يحتج(2/106)
قالت عائشة: فجهزناهما أحث الجهاز، وصنعنا لهما سفرة من جراب فقطعت أسماء بنت أبي بكر قطعة من نطاقها فربطت بها على فم الجراب فبذلك سميت بذات النطاقين.
قالت: ثم لحق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر بغار ثور -جبل بمكة.
__________
لتطلب شراء دابة فلا معارضة.
"قالت عائشة" عند البخاري بإسناد: "فجهزناهما احث" بمهملة ومثلثة: أسرع، وفي رواية: بموحدة، والأولى أصح "الجهاز" قال الحافظ: بفتح الجيم وتكسر ومنهم من أنكره وهو ما يحتاج إليه في السفر، وقال في النور: بكسر الجيم أفصح من فتحها، بل لحن من فتح والذي في الصحاح وأما جهاز العروس والسفر فيفتح ويكسر، انتهى.
"وصنعنا لهما سفرة من" كذا في النسخ، والذي في البخاري في "جراب" قال الحافظ سفرة، أي: زادا في جراب؛ لأن أصل السفرة لغة الزاد الذي يصنع للمسافر ثم استعمل في وعاء الزاد ومثله المزادة للماء وكذا الرواية فاستعملت هنا على أصل اللغة، وأفاد الواقدي أنه كان في السفرة شاة مطبوخة، انتهى. "فقطعت أسماء بنت أبي بكر قطعة من نطاقها" بكسر النون "فربطت بها على فم الجراب" بكسر الجيم وفتحها لغتان الكسر أفصح وأشهر وهو وعاء من جلد، قاله النووي تبعا لعياض، وفي القاموس: الجراب ولا يفتح أو هو لغة فيما ذكره عياض وغيره المزود أو الوعاء "فبذلك سميت بذات النطاقين" بالتثنية رواية الكشميهني، ورواية غيره النطاق بالإفراد، قال الحافظ: النطاق ما يشد به الوسط، وقيل: هو إزار فيه تكة، وقيل: ثوب تلبسه المرأة، ثم تشد وسطها بحبل ثم ترسل الأعلى على الأسفل، قاله أبو عبيد الهروي. قال: وسميت ذات النطاقين لأنها كانت تجعل نطاقا على نطاق، وقيل: كان لها نطاقان تلبس إحداهما وتحمل في الآخر الزاد، قال الحافظ والمحفوظ كما سيأتي بعد هذا الحديث، أي: في البخاري أنها شقت نطاقها نصفين فشدت بأحدهما الزاد واقتصرت على الآخر، فمن ثم قيل لها ذات النطاق وذات النطاقين بالثنية والإفراد بهذين الاعتبارين.
وعند ابن سعد في حديث الباب: شقت نطاقها فأوكت بقطعة منه الجراب وشدت فم القربة بالباقي فسميت ذات النطاقين، انتهى. "قالت" عائشة "ثم لحق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر بغار ثور" بمثلثة ولفظ البخاري: بغار في جبل ثور، فكمنا ثلاث ليال "جبل بمكة" بجره على البدلية ورفعه على الخبرية وهو أولى؛ لأنه من كلام المصنف لا من الحديث، قال في الأنوار: الغار ثقب في أعلى ثور في يمني مكة على مسيرة ساعة، وقيل: إنه من مكة على ثلاثة أميال.(2/107)
وكان من قوله -صلى الله عليه وسلم- حين خرج من مكة، لما وقف على الحزورة، ونظر إلى البيت: "والله إنك لأحب أرض الله إلي، وإنك لأحب أرض الله إلى الله، ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت".
وهذا من أصح ما يحتج به في تفضيل مكة على المدينة.
__________
وفي معجم: ما استعجم أنه منها على ميلين وارتفاعه نحو ميل وفي أعلى الغار الذي دخله النبي -صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر وهو المذكور في القرآن، والبحر يرى من أعلى هذا الجبل وفيه من كل نبات الحجاز وشجره، وفيه شجر البان. وفي القاموس: ثور جبل بمكة فيه الغار المذكور في التنزيل، ويقال له ثور أطحل واسم الجبل أطحل نزله ثور بن عبد مناف فنسب له، انتهى.
فقول النور: إنه كالثور الذي يحرث عليه، أي: في النطق ولم أر فيه أنه سمي به لأنه على صورة الثور كما تصرف عليه من زعمه، ثم فصل المؤلف بين أجزاء حديث الصحيح بجمل وسيعود إلى بقية منه، أولها: وكان يبيت عندهما عبد الله.. إلخ، فقال: "وكان من قوله -صلى الله عليه وسلم- حين خرج من مكة لما وقف على الحزورة" بفتح المهملة فزاي ساكنة فواو فراء، سوق كان بمكة أدخلت في المسجد، وعن الشافعي: الناس يشددونها وهي مخففة، "ونظر إلى البيت "والله إنك" بكسر الكاف خطاب لمكة "لأحب أرض الله إلي وإنك لأحب أرض الله إلى الله" من خطف العلة على المعلول، "ولولا أن أهلك أخرجوني" تسببوا في إخراجي، "ما خرجت منك" أخرجه أحمد والترمذي وصححه عن عبد الله بن عدي، بلفظ: رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على الحزورة، فقال: "والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أني أخرجت منك ما خرجت".
وروى الترمذي أيضا، وقال: حسن صحيح عن ابن عباس رفعه: "ما أطيبك من بلد وأحبك إلي، ولولا أن قومي أخرجوني منك ما سكنت غيرك"، و"وهذا من أصح ما يحتج به في تفضيل مكة على المدينة" وجوابه أن التفضيل إنما يكون بين شيئين يأتي بينهما تفضيل وفضل المدينة لم يكن حصل حتى يكون هذا حجة، ولو سلم ففي الحجج البينة هو مؤول بأنه قبل أن يعلم تفضيل المدينة أو بأنها خير الأرض ما عدا المدينة؛ كما قاله ابن العربي، وهو أحد التأويلين في قوله عليه السلام لمن قال له: "يا خير البرية، ذاك إبراهيم"، ومعارض بما في البخاري عن عائشة رفعته: "اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد"، ونحن نقطع بإجابة دعائه -صلى الله عليه وسلم- فقد كانت أحب إليه من مكة.
وفي الصحيحين مرفوعا: "اللهم اجعل بالمدينة ضعفي ما جعلت بمكة من البركة"، انتهى.(2/108)
..........................................................................................................
__________
وقال غيره: قد استجاب الله دعوة المصطفى للمدينة فصار يجبى إليها في زمن الخلفاء الراشدين من مشارق الأرض ومغاربها ثمرات كل شيء، وكذا مكة ببركة دعاء الخليل، وزادت المدينة عليها لقوله -صلى الله عليه وسلم: "اللهم إن إبراهيم عبدك وخليلك وإني عبدك ونبيك، وإنه دعاك لمكة وإني أدعوك للمدينة بمثل ما دعاك به لمكة ومثله معه"، أخرجه الترمذي عن أبي هريرة شيئان أحدهما في ابتداء الأمر وهو كنوز كسرى وقيصر وغيرهما وإنفاقها في سبيل الله على أهلها، وثانيهما في آخر الأمر وهو أن الإيمان يأرز إليها من الأقطار، انتهى.
وقد اختلف السلف، أي: البلدين أفضل فذهب الأكثر إلى تفضيل مكة، وبه قال الشافعي وابن وهب ومطرف وابن حبيب واختاره من متأخري المالكية ابن رشد وابن عرفة؛ كما قاله الأبي وذهب عمر بن الخطاب في طائفة وأكثر المدنين إلى تفضيل المدينة على مكة وهو مذهب مالك، ومال إليه من متأخري الشافعية السمهودي والسيوطي والمصنف في المقصد الأخير واعتذر عن مخالفة مذهبه بأن هوى كل نفس حيث حل حبيبها والأدلة الكثيرة من الجانبين، حتى قال الإمام ابن أبي جمرة بتساوي البلدين، والسيوطي: المختار الوقف عن التفضيل لتعارض الأدلة بل الذي تميل إليه النفس تفضيل المدينة، ثم قال: وإذا تأمل ذو البصيرة لم يجد فضلا أعطيته مكة إلا وأعطيت المدينة نظيره وأعلى منه، هكذا قال في الحجج البينة وجزم في أنموذجه بأن المختار تفضيل المدينة.
وأما التشبث بأن مكة حرمها الله يوم خلق السماوات والأرض والمدينة حرمها المصطفى وما حرمه الله أعظم، فشبهة فاسدة؛ لأن الأشياء كلها حرامها وحلالها حرم وأحل من القدم بخطابه تعالى القديم النفسي. وفي البخاري حرمت المدينة على لساني، فهذا صريح في أن الله حرمها، قال في الحجج: وأما كون مكة بها المشاعر والمناسك فقد عوض الله تعالى المدينة عن الحج والعمرة بأمرين وعد الثواب عليهما. وأما العمرة ففي الصحيح "صلاة في مسجد قباء كعمرة". وأما الحج، فعن أبي أمامة مرفوعا: "من خرج على طهر لا يريد إلا الصلاة في مسجدي حتى يصلي فيه كان بمنزلة حجة"، انتهى.
ومحل الخلاف كما مر، فيما عدا البقعة التي ضمت أعضاءه -صلى الله عليه وسلم، فإنها أفضل إجماعا ويليها الكعبة فهي أفضل من بقية المدينة اتفاقا، كما قال الشريف السمهودي. وذكر الدماميني: أن الروضة تنضم لموضع القبر في الإجماع على تفضيله بالدليل الواضح إذ لم يثبت لبقعة أنها من الجنة بخصوصها إلا هي، فلذا أورد البخاري حديث: "ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة"، تعريفا بفضل المدينة؛ إذ لا شك في تفضيل الجنة على الدنيا، كذلك، قال: ولا يخلو(2/109)
ولم يعلم بخروجه عليه السلام إلا علي وآل أبي بكر.
وروي أنهما خرجا من خوخة لأبي بكر في ظهر بيته ليلا إلى الغار.
ولما فقدت قريش رسول الله -صلى الله عليه وسلم- طلبوه بمكة، أعلاها وأسفلها، وبعثوا القافلة أثره في كل وجه، فوجد الذي ذهب قبل ثورا أثره..............
__________
من نظر لما فيه من الاحتجاج بالاحتمال؛ لأن في معنى روضة احتمالات كونها تنقل إلى الجنة، وكون العمل فيها يوجب لصاحبه روضة في الجنة وكون الموضع نفسه روضة من رياض الجنة الآن ويعود روضة كما كان، وإن كان لا مانع من الجمع بين الثلاثة؛ كما هو معلوم في محله هذا.
وكان من قوله -صلى الله عليه وسلم- أيضا لما خرج مهاجرا: "الحمد لله الذي خلقني ولم أك شيئا، اللهم أعني على هول الدنيا وبوائق الدهر ومصائب الليالي والأيام، اللهم أصحبني في سفري واخلفني في أهلي وبارك لي فيما رزقتني، ولك فذللني، وعلى صالح خلقي فقومني، وإليك رب فحببني، وإلى الناس فلا تكلني، أنت رب المستضعفين وأنت ربي، أعوذ بوجهك الكريم الذي أشرقت له السماوات والأرض وكشفت به الظلمات وصلح عليه أمر الأولين والآخرين أن يحل بي غضبك أو ينزل علي سخطك، أعوذ بك من زوال نعمتك وفجأة نقمتك وتحول عافيتك وجميع سخطك، لك العتبى عندي حيثما استطعت، ولا حول ولا قوة إلا بك"، رواه عن ابن إسحاق بلاغا.
"ولم يعلم بخروجه عليه السلام إلا علي" لكونه خلفه مكانه "وآل أبي بكر" لأن ذهب إليه فعلم به من عنده وآل الرجل لغة أهله وعياله، فشمل عامر بن فهيرة؛ لأنه مولاه. "وروى" عند الواقدي "أنهما خرجا من خوخة" بفتح المعجمتين بينهما واو ساكنة: باب صغير "لأبي بكر في ظهر بيته" بعد دخول عليه في نحر الظهيرة؛ كما مر، فخرجا "ليلا" ومضيا "إلى الغار" وروى أن أبا جهل لقيهما فأعمى الله بصره عنهما حتى مضيا، قالت أسماء: وخرج بو بكر بماله خمسة آلاف درهم.
قال البلاذري: وكان ماله يوم أسلم أربعين ألف درهم، فخرج إلى المدينة للهجرة وماله خمسة آلاف أو أربعة، فبعث ابنه عبد الله فحملها إلى الغار، "ولما فقدت" بفتح القاف "قريش رسول الله -صلى الله عليه وسلم- طلبوه بمكة أعلاها وأسفلها وبعثوا القافة" جمع قائف وهو الذي يعرف الأثر "أثره" بفتحتين وبكسر فسكون، أي: عقب خروجه "في كل وجه" وذكر الواقدي أنهم بعثوا في أثرهما قاصدين أحدهما كرز بن علقمة ولم يسم الآخر، وسماه أبو نعيم في الدلائل من حديث زيد بن أرقم وغيره سراقة بن جعشم، كما في الفتح. "فوجد الذي ذهب قبل" بكسر ففتح جهة، "ثورا(2/110)
هنالك، فلم يزل يتبعه حتى انقطع لما انتهى إلى ثور.
وشق على قريش خروجه وجزعوا لذلك، وجعلوا مائة ناقة لمن رده.
ولله در الشيخ شرف الدين الأبوصيري...............
__________
أثر هناك فلم يزل يتبعه حتى انقطع لما انهى إلى ثور" ويروى أنه قعد وبال في أصل الشجرة، ثم قال: ههنا انقطع الأثر، ولا أدري أخذ يمينا أم شمالا أم صعد الجبل.
وفي رواية: فقال لهم القائف: هذا القدم قدم ابن أبي قحافة، وهذا الآخر لا أعرفه إلا أنه يشبه القدم الذي في المقام -يعني مقام إبراهيم- فقالت قريش: ما وراء هذا شيء ولا يشكل هذا بما روي أنه عليه السلام كان يمشي على أطراف أصابعه لئلا يظهر أثرهما على الأرض، ويقول لأبي بكر: "ضع قدمك موضع قدمي، فإن الرمل لا يتم"، بفتح أوله وضم النون وكسرها، أي: لا يظهر أثر القدم حتى تضع قدمك موضع قدمي لجواز أنهما لما قربا من الغار مشيا ووضع المصطفى جميع قدمه فلما وصل القائف وجد أثر القدمين فأخبر بما رأى.
"وشق على قريش خروجه وجزعوا" بكسر الزاي لم يصبروا، "لذلك وجعلوا مائة ناقة لمن رده" عن سيره ذلك بقتل أو أسر، فلا ينافي ما في الصحيح: جعلوا الدية لمن قتله أو أسره.
"ولله در الشيخ شرف الدين" محمد بن سعيد بن حماد الدلاصي المولد المغربي الأصل البوصيري المنشأ ولد بناحية دلاص يوم الثلاثاء أول شوال سنة ثمان وستمائة، وبرع في النظم، قال فيه الحافظ ابن سيد الناس: هو أحسن من الجزار والوراق مات سنة خمس وتسعين وستمائة، ذكره السيوطي وقوله: "الأبوصيري" فيه نظر؛ لأن اسم القرى وهي أربعة بمصر بوصير بضم الموحدة وإسكان الواو وكسر الصاد المهملة وإسكان التحتية وراء والنسبة إليها بوصيري؛ كما في المراصد واللباب وإنه في باب الموحدة ولم يذكر واشيا في الهمزة.
قال ابن ججر الهيثمي: كان أحد أبوي المذكور من بوصير الصعيد والآخر من دلاص، أي: بفتح الدال المهملة قرية بالبهنسي، أي: كفر مصري كما في المراصد والقاموس، فركبت النسبة نهما، فقيل الدلاصيري: ثم اشتهر بالبوصيري، قيل: ولعلها بلد أبيه فغلبت عليه، انتهى. أو لنشأته بها كما مر عن السيوطي، ولو سلم أن القرية بلفظ الكنية فإنما يقال في النسبة صيري بحذف الجزء الأول كما يقال بكري في النسبة إلى أبي بكر؛ إذ لا ينسب إلى الاسمين معا المضاف والمضاف إليه؛ لأن إعراب أولهما بحسب العوامل، والثاني مخفوض بالإضافة كما بينه الشاطبي والرضي وغيرهما.(2/111)
حيث قال:
ويح قوم جفوا نبيا بأرض ... ألفته ضبابها والظباء
وسلوه وحن جذع إليه ... وقلوه ووده الغرباء
أخرجوه منها وآواه غار ... وحمته حمامة ورقاء
وكفته بنسجها عنكبوت ... ما كفته الحمامة الحصداء
يقال شجرة حصداء: أي كثيرة الورق، فكأنه استعاره للحمامة لكثرة ريشها.
__________
"حيث قال: ويح" نصب بفعل محذوف لا بالنداء كلمة ترحم لمن وقع في مهلكة لا يستحقها، فالترحم من حيث قرابتهم له عليه السلام وإنهم من عمود نسبه وجلدته ولا محظور فيه؛ لا لأن كثيرا منهم أسلم بعد، فالترحم باعتبار المآل إذ لم يقعوا في هلكة أصلا، فلا يقال فيهم ويح، "قوم جفوا نبيا" أبغضوه وآذوه أشد الأذى بل قصدوا قتله، "بأرض ألفته ضبابها" جمع ضب "والظباء" جمع ظبي ويأتي حديثهما في المعجزات، "وسلوه" أي: نفرت قلوبهم عنه حتى هجروه مع نشأته فيهم وعلمهم بغاية نزاهته وكماله، "و" الحال أنه قد "حن جذع إليه" كان يخطب عليه بالمدينة قبل أن يصنع له المنبر فصار يخور كما يخور الثور حتى نزل وضمه، كما يأتي إن شاء الله تعالى في المعجزات.
"وقلوه" أبغضوه "و" الحال أنه قد "وده الغرباء" كالأنصار الذين ليسوا من عشيرته ولا عرفوا في ابتداء ودادهم له ما عرفه قومه من كماله الظاهر، وفضله الباهر "أخرجوه" بدل من جفوه، أي: كانوا السبب في خروجه "منها"، من تلك الأرض التي هي وطنه ووطن آبائه "وآواه غار" بجبل ثور "وحمته" منهم "حمامة ورقاء" لونها أبيض يخالطه سواد فباضت عليه، "وكفته بنسجها عنكبوت" دويبة تنسج في الهواء يقع على الواحد والجمع والذكر والأنثى، والجمع العناكب "ما" أي: الأعداء الذين "كفته" إياهم "الحمامة الحصداء، يقال" لغة "شجرة حصداء أي: كثيرة الورق فكأنه استعارة للحمامة لكثرة ريشها"، أي: استعارة مصرحة حيث شبه كثيرة الريش بكثرة الورق، واستعار له اسمها ووصفها بورقاء وحصداء لاجتماعهما فيها، ومنع تعدد الوصف إنما هو إذا كان بمتضادين أو متماثلين، وزعم أن البيت حرفه شراحه والمصنف وإنما هو ما كفته الجنانة بجيم ونونين؛ لأنها تجن البدن، أي: تستره والحصداء المحكمة النسج كما في اللغة. رده شيخنا بأن المناسب للسياق والقصة ما ذكروه وهم ثقات وتلقوه بسندهم إلى الناظم، وأدري بكلامه، فلا وجه للعدول عنه إلى غيره وإن صح في نفسه لغة.(2/112)
وفي حديث مروي في الهجرة، أنه عليه السلام ناداه ثبير: اهبط عني، فإني أخاف أن تقتل على ظهري فأعذب، فناداه حراء: إلي يا رسول الله.
وذكر قاسم بن ثابت في الدلائل أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما دخل الغار وأبو بكر معه، أنبت الله على بابه الراءة. قال قاسم: وهي شجرة معروفة،................
__________
"وفي حديث مروي في الهجرة" وذكره عياض في الشفاء "أنه عليه السلام ناداه ثبير" لما صعده "اهبط عني، فإني أخاف أن تقتل على ظهري، فأعذب" بالنصب عطفا على تقتل، وإنما خاف العذاب؛ لأنه لو لم يذكر له ذلك مع علمه بأنه لا مكان فيه يستره كان غشا منه يستحق به العذاب، أو لأنه لو قتل على ظهره غضب الله على المكان الذي يقع فيه مثل هذا الأمر العظيم كما غضب على أرض ثمود، فلا يرد كيف يعذب بذنب غيره ولا تزر وازرة وزر أخرى، ويوجه بأن خوفه بمعنى حزنه وتأسف عليه، ونحو ذلك مما لا وجه له.
"فناداه حراء: إلي يا رسول الله! " وهو مقابل ثبير مما يلي شمال الشمس وبينهما الوادي وهما على يسار السالك إلى منى، ولم يذهب له لسبق عبده فيه فخشي طلبهم فيه لما عهدوه من ذهابه إليه، فذهب إلو ثور دون غيره لحبه الفال الحسن، فقد قيل: الأرض مستقرة على قرن الثور فناسب استقراره فيه تفاؤلا بالطمأنينة والاستقرار فيما قصده هو وصاحبه. قال السهيلي: وأحسب في الحديث أن ثورا ناداه أيضا لما قال له ثبير: اهبط عني، انتهى.
وذكر بعضهم: أنه ذهب إلى حنين فناداه: اهبط عني، فإني أخاف أن تقتل على ظهري فأعذب، فناداه ثور إلي: يا سول الله فإن صح ذلك كله فيحتمل أنه ذهب له أولا فلما قال ذلك وناداه حراء لم يذهب له لما ذكر فناداه ثور إن صح أو ذهب إليه دون نداء لكن الذي في الحديث الصحيح أنهما وعدا الدليل غار ثور بعد ثلاث ليال يقتضي أنهما ما خرجا إلا قاصدين إليه.
"وذكر قاسم بن ثابت" بن حزم أبو محمد العوفي السرقسطي الأندلسي المالكي الفقيه المحدث المقدم في المعرفة بالغريب والنحو والشعر المشارك لأبيه في رحلته وشيوخه، الورع الناسك مجاب الدعوة، سأله الأمير أن يلي القضاء فامتنع فأراد أبوه إكراهه فقال: أمهلني ثلاثة أيام فمات فيها سنة ستين وثلاثمائة، فكانوا يرون أنه دعا نفسه بالموت.
"في الدلائل" في شرح ما أغفل أبو عبيد وابن قتيبة من غريب الحديث: مات قاسم ولم يكمله فأتمه أبوه ثابت الحافظ المشهور، "أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما دخل الغار وأبو بكر معه أنبت الله على بابه الراءة" بالراء المهملة والمد والهمز والجمع الراء بلا هاء؛ كما في القاموس.
"قال" قاسم المذكور: "وهي شجرة معروفة" فحجبت عن الغار أعين الكفار، إلى هنا كلام(2/113)
وهي أم غيلان. وعن أبي حنيفة: تكون مثل قامة الإنسان لها خطيان وزهر أبيض يحشى به المخاد فيكون كالريش لخفته ولينه؛ لأنه كالقطن، فحجبت عن الغار أعين الكفار.
وفي مسند البزار: أن الله عز وجل أمر العنكبوت فنسجت على وجه الغار وأرسل حمامتين وحشيتين فوقفتا على وجه الغار، وأن ذلك مما صد المشركين عنه، وإن حمام الحرم من نسل تينك الحمامتين.
ثم.................
__________
قاسم؛ كما في النور. قال المصنف تبعا لابن هشام "وهي أم غيلان" بفتح المعجمة ضرب من العضاه، كما في المصباح. "وعن أبي حنيفة" الدينوري، كما في الشامية لا الإمام الراءة من أعلاث الشجر، و"تكون مثل قامة الإنسان لها خيطان وزهر أبيض يحشى به المخاد" بفتح الميم جمع مخدة بكسرها، "فيكون كالريش لخفته ولينه؛ لأنه كالقطن فحجبت عن الغار أعين الكفار" من كلام قاسم، كما علم. قال في النور: هذه الشجرة التي وصفها أبو حنيفة غالب ظني أنها العشار كذا رأيتها بأرض البركة خارج القاهرة وهي تنفق عن مثل قطن يشبه الريش في الخفة، ورأيت من يجعله في اللحف في القاهرة، انتهى.
"وفي مسند البزار" من حديث أبي مصعب المكي، قال: أدركت زيد بن أرقم والمغيرة بن شعبة وأنس بن مالك يتحدثون أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما كان ليلة بات في الغار أمر الله تعالى شجرة فنبتت في وجه الغار، فسترت وجه النبي -صلى الله عليه وسلم- و"إن الله عز وجل" أمر العنكبوت" "فنسجت على وجه الغار" هكذا أوله عند البزار ولو ساقه المصنف من أوله كان أولى؛ لأن فيه تقوية ما ذكره قاسم وما كان يزيد به الكتاب، وقد رواه أحمد عن ابن عباس، وفيه: ونسج العنكبوت على بابه، أي: فالشجرة لما نبتت على وجه الغار انتشرت أغصانها فغطت فمه، ونسج العنكبوت عليه فصار نسجها بين أغصانها وفتحه الغار، وقول بعض نسجت ما بين فروع الشجرة كنسج أربع سنين مخالف لرواية البزار، ولرواية أحمد أشد مخالفة، اللهم إلا أن يراد أنها نسجت على مقابل وجه فيصدق بالملتصق بفهمه وبما بين أغصان الشجرة المقابلة لفم الغار، كن فيه رد الروايات المسند إلى كلام لا يعلم حاله.
"وأرسل حمامتين وحشيتين فوقفتا على وجه الغار" فعششتا على بابه "وأن ذلك مما صد المشركين عنه، وإن حمام الحرم من نسل تينك الحمامتين" جزاء وفاقا لما حصل بهما الحماية جوز بابا لنسل وحمايته في الحرم فلا يتعرض له، وفي المثل: آمن من حمام الحرم، "ثم(2/114)
أقبل فتيان قريش من كل بطن بعصيهم وهراويهم وسيوفهم، فجعل بعضهم ينظر في الغار، فلم ير إلا حمامتين وحشيتين بفم الغار، فرجع إلى أصحابه فقالوا له: ما لك؟ فقال: رأيت حمامتين وحشيتين فعرفت أنه ليس فيه أحد. وقال آخر: ادخلوا الغار، فقال أمية بن خلف: وما أربكم إلى الغار، إن فيه لعنكبوتا أقدم من ميلاد محمد.
وقد روي أن الحمامتين باضتا في أسفل النقب ونسج العنكبوت، فقالوا لو دخلا لكسر البيض................
__________
أقبل فتيان من كل بطن بعصيهم وهراويهم" بفتح الهاء الأولى جمع هراوة، وهي العصا الضخمة فهو عطف خاص على عام، قال البرهان: وكان ينبغي أن يكتب بالألف وينطق بها، فيقال: هراواهم، أو أنه يقال هراوي وهراوى كصحاري وصحارى.
"وسيوفهم فجعل بعضهم ينظر في الغار، فرأى حمامتين وحشيتين بفم الغار" هذا ظاهر في قربه منه جدا، وفي الشامية: حتى إذا كانوا من الغار على أربعين ذراعا جعل بعضهم ينظر فيه والمنافاة. ففي الاكتفاء: حتى إذا كانوا من النبي -صلى الله عليه وسلم- على قدر أربعين ذراعا تقدم أحدهم فنظر فرأى الحمامتين، "فرجع إلى أصحابه، فقالوا له: ما لك؟ فقال حمامتين وحشيتين فعرفت أنه ليس فيه أحد" زاد في رواية: فسمع النبي -صلى الله عليه وسلم- ما قاله، فعرف أن الله قد درأ عنه. "وقال آخر: ادخلوا الغار، فقال أمية بن خلف": الكافر المقتول ببدر "وما أربكم؟ " بفتحتين وبكسر فسكون، أي: حاجتكم، "إلى الغار إن فيه لعنكبوتا أقدم من ميلاد محمد" تتمة الحديث: ثم جاء فبال.
وفي حديث أسماء عند الطبراني: وخرجت من قريش حين فقدوهما وجعلوا في النبي -صلى الله عليه وسلم- مائة ناقة، وطافوا في جبال مكة حتى انتهوا إلى الجبل الذي فيه -صلى الله عليه وسلم، فقال أبو بكر: يا رسول الله! إن هذا الرجل ليرانا وكان ماجهه، فقال: "كلا إن ثلاثة من الملائكة تسترنا بأجنحتها"، فجلس ذلك الرجل يبول مواجه الغار، فقال -صلى الله عليه وسلم: "لو كان يرانا ما فعل هذا"، ومر أن القائف قعد وبال، فيحتمل أنه هو أو أمية أو غيرهما.
"وقد روي أن الحمامتين باضتا في أصل النقب ونسج" بالجيم "العنكبوت" والنسج في الأصل الحياكة استعمل في فعل العنكبوت مجازا لما بينهما من المشابهة، وفي حياة الحيوان: العنكبوت دويبة تنسج في الهواء، ومنه نوع من حكمته أنه يمد السدى ثم يعمل اللحمة ويبتدئ من الوسط ونسجها ليس من جوفها بل من خارج جلدها، وفمها مشقوق بالطول، وهذا النوع ينسج بيته دائما مثلت الشكل وسعته بحيث يغيب فيه شخصها. "فقالوا: لو دخل لكسر البيض(2/115)
وتفسخ العنكبوت. وهذا أبلغ في الإعجاز من مقاومة القوم بالجنود.
فتأمل كيف أظلت الشجرة المطلوب وأضلت الطالب، وجاءت العنكبوت فسدت باب الطلب، وحاكت وجه المكان فحاكت ثوب نسجها، فحاكت سرا حتى عمي على القائف الطلب "ولله در القائل":
والعنكبوت أجادت حوك حلتها ... فما تخال خلال النسج من خلل
ولقد حصل للعنكبوت الشرف بذلك، وما أحسن قول ابن النقيب:
__________
وتفسخ" بمعجمة: تقطع، "العنكبوت وهذا أبلغ في الإعجاز من مقاومة القوم بالجنود" لأنها معتادة ونبات الشجرة وبيض الحكام ونسج العنكبوت في زمن يسير مع حصول الوقاية به خارق للعادة، "فتأمل" انظر بعين البصيرة، "كيف أظلت الشجرة المطلوب وأضلت" حيرت "الطالب وجاءت عنكبوت فسدت باب الطلب، وحاكت وجه المكان" أي: نزلت فيه وثبتت من قولهم حاك في صدري كذا إذا رسخ، "فحاكت ثوب نسجها" أي: أوجدت الثوب الذي نسجته وهو ما على فم الغار من نسجها، "فحاكت" أي: آثرت، "سترا" بما نسجته "حتى عمي على القائف الطالب" من قولهم: حاك الشيء إذا أثر، وأنشد لغيره بيتا هو: "والعنكبوت أجادت" أحكمت "حوك" نسج "حلتها" أي: ما نسجته والحلة لغة زار ورداء، فاستعار له اسمها، وأطلقه على ما نسجته "فما تخال" تظن "خلال النسج من خلل"، أي: فبسبب ذلك الإحكام لا ترى خللا فيما نسجته، وعبر عن الرؤية بالظن مجازا، "ولقد حصل للعنكبوت الشرف بذلك" وروي أن حمام مكة أظلته -صلى الله عليه وسلم- يوم فتح مكة فدعا لها بالبركة ونهى عن قتل العنكبوت، وقال: "هي جند من جنود الله". وقد روى الديلمي في مسند الفردوس مسلسلا بمحبة العنكبوت حديا، فقال: أخبرنا والدي، قال: وأنا أحبها، أخبرنا فلان: وأنا أحبها، حتى قال عن أبي بكر: لا أزال أحب العنكبوت منذ رأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- أحبها، ويقول: "جزى الله العنكبوت عنا خيرا، فإنها نسجت علي وعليك يا أبا بكر في الغار حتى لم يرنا المشركون ولم يصلوا إلينا"، وكذا رواه أبو سعد السمان البصري في مسلسلاته، قال في العمدة: إلا أن البيوت تظهر من نسجها، انتهى. وأسند الثعلبي وابن عطية وغيرهما عن علي، قال: طهروا بيوتكم من نسج العنكبوت، فإن تركه في البيت يورث الفقر. وأخرج ابن عدي عن ابن عمر رفعه: "العنكبوت شيطان مسخه الله، فاقتلوه"، وهو حديث ضعيف ورواه أبو داود مرسلا بدون مسخه الله.
"وما أحسن قول ابن النقيب" محمد بن الحسن الكناني من مشاهير الشعراء مات سنة سع وثمانين وستمائة عن تسع وسبعين سنة:(2/116)
ودود القز إن نسجت حريرا ... يجمل لبسه في كل شيء
فإن العنكبوت أجل منها ... بما نسجت على رأس النبي
وروي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "اللهم أعم أبصارهم"، فعميت عن دخوله، وجعلوا يضربون يمينا وشمالا حول الغار. وهذا يشير إليه قول صاحب البردة:
أقسمت بالقمر المنشق إن له ... من قلبه نسبة مبرورة القسم
وما حوى الغار من خير ومن كرم ... وكل طرف من الكفار عنه عم
فالصدق...........
__________
"ودود القز إن نسجت حريرا ... يجمل لبسه في كل شيء"
أي: في كل حال ن الأحوال للملابس، فليست أشرف من غيرها مطلقا.
"فإن العنكبوت أجل منها ... بما نسجت على رأس النبي
فهو علة لجواب الشرط المحذوف، وما مصدرية، أي: بنسجها.
"وروى أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "اللهم أعم" بهمزة قطع "أبصارهم" اجعلها كالعمياء الإدراك ولم يرد الدعاء عليهم بالعمى الحقيقي إذ لو أراده لعمو؛ لأنه مجاب الدعوة ولم يعموا، كما أفاده قوله: "فعميت عن دخوله" ويصرح به قوله: "وجعلوا يضربون يمينا وشمالا حول الغار وهذا يشير إليه قول صاحب البردة، أقسمت" حلفت "بالقمر المنشق" آية للنبي -صلى الله عليه وسلم- وجواب القسم "إن له" أي: للقمر المنشق، "من قلبه نسبة" شبها بقلب المصطفى في انشقاق كل منهما وما أحلى قوله في الهمزية:
شق عن قلبه وشق له البدر
"مبرورة القسم" صفة يمينا دل عليه أقسمت، قيل: والقسم جائز بالقمر، ويحتمل تقدير مضاف، أي: برب القمر. "وما" منصوب بتقدير اذكر أو مجرور عطفا على القمر وجوابه مقدر بما قبله، أي: أن له من قلبه نسبة، أي: واذكر من أو وأقسمت بمن "حوى" جمعه "الغار من خير ومن كرم" يعني المصطفى والصديق وصفهما بما هو من شأنهما وجوز بقاء ما على معناها، وحمل الخير والكرم على صفاتهما، أي: ما جمعه الغار من الخير والكرم الصادرين من النبي -صلى الله عليه وسلم- والصديق، وقال المصنف من خير بكسر الخاء، وقيل: بفتحها، فالكرم عطف خاص على عام، وقال غيره بفتح الخاء، وقيل: بكسرها والخطب سهل.
"وكل طرف" بصر "من الكفار عنه" عن المحوى "عمى" والجملة حال من ما وعمى يحتمل الفعل والاسم، ويمكن الياء على الأول للوقف، وردها على الثاني له أيضا على لغة. "فالصدق"(2/117)
في الغار والصديق لم ير ما ... وهم يقولون ما بالغار من أرم
ظنوا الحمام وظنوا العنكبوت على ... خير البرية لم تنسج ولم تحم
وقاية الله أغنت عن مضاعفة ... من الدروع وعم عال من الأطم
أي عموا عما في الغار مع خلق الله ذلك فيهم؛ لأنهم ظنوا أن الحمام لا يحوم حوله -صلى الله عليه وسلم- وأن العنكبوت لا تنسج عليه إسلام لما جرت العادة أن هذين الحيوانين متوحشان لا يألفان معمورا، فمهم أحسا بالإنسان فرا منه، وما علموا أن الله يسخر ما شاء عن خلقه لمن شاء من خلقه، وأن وقاية عبده بما شاء تغني
__________
أي: النبي -صلى الله عليه وسلم- مبالغة أوفذ والصدق وهو "في الغار الصديق" وهو فيه "لم ير ما" بكسر الراء: لم يبرحا، يقال: لا أريم مكانه، أي: لا أبرح وأصله يريما بياء قبل الميم حذفت تبعا لحذفها في إسناده إلى المفرد لالتقاء الساكنين، والمعروف في مثله إثبات الياء، نحو: استقيما.
"وهم" أي: الكفار، "يقولون ما بالغار من أرم" بفتح الهمزة وكسر الراء، أي: أحد نظرا إلى حوم الحمام حول الغار ونسج العنكبوت على فمه، كما أشار إليه قوله: "ظنوا الحمام وظنوا العنكبوت على خير البرية" الخلق "لم تنسج" بفتح التاء وكسر السين وضمها: العنكبوت، "ولم تحم" لم تدر الحمام حوله ففيه لف ونشر مقلوب، "وقاية الله" حفظه بهذين الضعيفين جدا من عدوه مع شدة بأسه، "أغنت" كفت "عن مضاعفة من الدروع" بمهملة، أي: من الدروع المضاعفة وهي المنسوجة حلقتين حلقتين تلبس للحفظ من العدو "وعن وعال من الأطم" بضم الهمزة والطاء: الحصون التي يتحصن فيها، "أي: عموا عما في الغار مع خلق الله ذلك" العمى المفهوم من قوله قبل فعميت عن دخوله، "فيهم" والمراد إن الله خلق في أعينهم هيئة منعتهم الرؤية مع سلامة أبصارهم، "لأنهم ظنوا أن الحمام لا تحوم حوله عليه السلام" لأن عادته النفرة "وأن العنكبوت لا تنسج عليه السلام لما جرت" به" العادة أن هذين الحيوانين متوحشان لا يألفان معمورا فهم أحسا بالإنسان فرا منه" وقد روي أن المشركين لما مروا على باب الغار طارت الحمامتان فنظروا بيضهما ونسج العنكبوت، فقالوا: لو كان هنا أحد لما كان هنا حمام، فلما سمع -صلى الله عليه وسلم- حديثهم علم أن الله حماهما بالحمام وصرف كيدهم بالعنكبوت، "وما علموا أن الله يسخر ما شاء من خلقه لمن شاء من خلقه" وقد سخر الأسد ولبوته ولدانيال في الجب حتى صارا يلحسانه، وسخر العصا ثعبانا لموسى وهارون إذا ناما تدور حولهما وتحميهما، ولكن ما هنا أبلغ في إذلال المشركين لما نالهم من شدة الحسرة لما علموا بعد ذلك وأنهم منعوا بشيء لا يضرهم لو أزالوه بزعمهم بخلاف الأسد والحية، "وأن وقاية الله عبده بما شاء تغني(2/118)
عبده عن التحصن بمضاعفة من الدروع، وعن التحصن بالعالي من الأطم، وهي الحصون، فلله در الأبوصيري شاعرا، وما أحسن قوله في قصيدته اللامية حيث قال:
وأغيرتا حين أضحى الغار وهو به ... كمثل قلبي معمور ومأهول
كأنما المصطفى فيه وصاحبه الـ ... ـصديق ليثان قد آواهما غيل
وجلل الغار نسج العنكبوت على ... وهن فيا حبذا نسج وتجليل
عناية ضل كيد المشركين بها ... وما مكائدهم إلا الأضاليل
إذ ينظرون وهم لا يبصرونهما ... كأن أبصارهم من زيغها حول
وفي الصحيح عن أنس قال أبو بكر: لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لرآنا،
__________
عبده عن التحصن بمضاعفة من الدروع وعن التحصن بالعالي من الأطم وهي الحصون، فلله در الأبوصيري من شاعر، وما أحسن قوله في قصيدته اللامية" التي أولها:
لى متى أنت باللذات مشغول ... وأنت عن كل ما قدمت مسئول
"حيث قال" في الجمع بين هذا وما قبله تسامح، "واغيرتا حين أضحى الغار وهو به" عبر بالندبة أسفا على ما فعله قومه معه حتى ألجئوه إلى دخول الغار، "مثل قلبي" صفة مصدر محذوف، أي: تعمير وتأهيل قلبي، "معمور ومأهول" والجملة خبر أضحى "كأنما المصطفى فيه وصاحبه الصديق ليثان" أسدان "قد آواهما غيل" بكسر المعجمة: أجمة أو شجر كثير ملتف فلا يستطاع الوصول إليهما، "وجلل" بجيم غطى "الغار نسج العنكبوت على وهن" ضعف "فيا حبذا نسج وتجليل" تغطية "عناية" بكسر العين وفتحاها مصدر عناه يعنيه ويعنوه، "ضل" من الضلالة ضد الرشاد، "كيد المشركين" مكرهم وخديعتهم "بها وما مكائدهم إلا الأضاليل" جمع أضليلة من الضلال، "إذ ينظرون" للحمام وبيضه ونسج العنكبوت "وهم لا يبصرونهما" أي: النبي -صلى الله عليه وسلم وصاحبه، "كأن أبصارهم من زيغها حول" وهذا من بقاء بصرهم أبلغ من عماهم.
"وفي" الحديث "الصحيح" الذي أخرجه البخاري في المناقب والهجرة والتفسير ومسلم في الفضائل، والترمذي في التفسير، والإمام أحمد كلهم "عن أنس" قال: "قال أبو بكر" وفي التفسير من البخاري: حدثنا أنس، قال: حدثني أبو بكر، قال: قلت للنبي -صلى الله عليه وسلم- ونحن في الغار، وزاد: في الهجرة فرفعت رأسي فرأيت أقدام القوم "لو أن أحدهم نظر إلى قدميه" بالتثنية "لرآنا" لأبصرنا، قال الحافظ: وفيه مجيء لو الشرطة للاستقبال خلافا للأكثر، واستدل من جوزه بمجيء الفعل المضارع بعدها؛ كقوله تعالى: {لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ} [الحجرات: 7] ، وعلى هذا فيكون قاله حاله وقوفهم على الغار، وعلى قول الأكثر يكون قاله بعد مضيهم شكرا(2/119)
فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "ما ظنك باثنين الله ثالثهما".
وروي أن أبا بكر قال: نظرت إلى قدمي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الغار وقد تقطرتا دما فاستبكيت وعلمت أنه -صلى الله عليه وسلم- لم يكن تعود الحفا والجفوة.
__________
لله تعالى على صيانتهما، "فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "ما ظن" استفهام تعظيم، أي: أي ظن تظنه، أي: لا تظن إلا أعظم ظن "باثنين الله ثالثهما"، أي: جاعلهما ثلاثة بضم ذاته تعالى إليهما في المعية المعنوية المشار إليها بقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة: 40] ، وهو من قوله ثاني اثنين إذ هما في الغار، ومن لازم ذلك الظن أنه لا يصل إليهما سوء وذكر بعض أهل السير أن أبا بكر لما قال ذلك قال له -صلى الله عليه وسلم: "لو جاءونا من ههنا لذهبنا من ههنا"، فنظر الصديق إلى الغار قد انفرج من الجانب الآخر وإذا البحر قد اتصل به وسفينة مشدودة إلى جانبه.
قال ابن كثير: وهذا ليس بمنكر من حيث القدرة العظيمة، ولكن لم يرد ذلك بإسناد قوي ولا ضعيف، ولسنا نثبت شيئا من تلقاء أنفسنا.
"وروي أن أبا بكر، قال: نظرت إلى قدمي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الغار وقد تقطرتا دما" أي: سال دمهما، فدما تمييز محول عن الفاعل، أي: أثر حفاة في قدميه حتى أسال دمهما، "فاستبكيت" اسين زائدة للتأكيد لا للطلب لما علم من رقة قلبه وشدة حبه للمصطفى المقتضي لغلبة البكاء بلا استجلاب له، "وعلمت أنه" بحذف مفعول علمت، أي: أن ما أصابه إنما هو لما ناله من المشقة؛ لأنه "لم يكن تعود الحفى" بفتح المهملة مقصور المشي بلا خف ولا نعل، "والجفوة" بفتح الجيم وتكسر، أي: الجفاء، أي: لم يتعود كونه مجفوا أو لم يتعود أن قومه جفوة له، قال في الرياض النضرة: ويشبه أن يكون ذلك من خشونة الجبل وكان حافيا وإلا فبعد المكان لا يحتمل ذلك أو لعلهم ضلوا طريق الغار حتى بعدت المسافة، ويدل عليه رواية: فمشى رسول الله ولا يحتمل ذلك مشي ليلة إلا بتقدير ذلك أو سلوك غير الطريق تعمية على الطالب، انتهى.
ويروى أنه عليه السلام خلع نعليه في الطريق، وعند ابن حبان أنهما ركبا حتى أتيا الغار فتواريا، ولا ينافي ذلك ما روي من تعب المصطفى وحمل أبي بكر إياه على كاهله؛ لاحتمال أن يكون ذلك في بعض الطريق، قال في الوفا: ولا ينافي ركوبهما مواعدتهما الدليل بأن يأتي بالراحلتين بعد ثلاث؛ لاحتمال أنهما ركبا غير الراحلتين أو هما، ثم ذهب بهما ابن فهيرة إلى الدليل ليأتي بعد ثلاث. وفي دلائل النبوة من مرسل ابن سيرين، وهو عند أبي القاسم البغوي من مرسل ابن أبي مليكة وابن هشام عن الحسن بلاغا: أن أبا بكر ليلة انطلق معه -صلى الله عليه وسلم- إلى الغار كان يمشي بين يديه ساعة ومن خلفه ساعة، فسأله فقال: أذكر الطلب فأمشي خلفك،(2/120)
وروي أيضا أن أبا بكر دخل الغار قبل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليقيه بنفسه، وأنه رأى جحرا فيه، فألقمه عقبه لئلا يخرج منه ما يؤذي رسول الله -صلى الله عليه وسلم فجعلت الحيات والأفاعي تضربنه وتلسعنه، فجعلت دموعه تتحدر. وفي رواية: فدخل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ووضع رأسه في حجر أبي بكر ونام، فلدغ أبو بكر في رجله من الجحر ولم يتحرك فسقطت دموعه على وجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "ما لك يا أبا بكر"؟ قال لدغت فداك أبي وأمي، فتفل عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فذهب ما يجده. رواه ابن رزين.
__________
وأذكر الرصد فأمشي أمامك، فقال: "لو كان شيء أحببت أن تقتل دوني"، قال: أي والذي بعثك بالحق، فلما انتهيا إلى الغار، قال: مكانك يا رسول الله حتى استبرئ لك الغار، فاستبرأه.
"وروي أيضا أن أبا بكر دخل الغار قبل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليقيه بنفسه، وإنه رأى جحرا" بضم الجيم وإسكان المهملة، "فيه فألقمه عقبه" بعد أن سد غيره بثوبه، فيروي أنه قال: والذي بعثك بالحق لا تدخله حتى أدخله قبلك، فإن كان فيه شيء نزل بي قبلك فدخله فجعل يلتمس بيده فكلما رأى جحرا قطع من ثوبه وألقمه الجحر حتى فعل ذلك بثوبه أجمع فبقي جحر فوضع عقبه عليه. وروي أن أبي شيبة وابن المنذر عن أبي بكر: أنهما لما انتهيا إلى الغار إذا جحر فألقمه أبو بكر رجليه، وقال: يا رسول الله! إن كانت لدغة أو لسعة كانت بي، وهو صريح في إلقامه رجليه جميعا فتحمل رواية عقبة على الجنس فتصدق بهما، وهي مبينة للمراد من رجليه؛ "لئلا يرج منه ما يؤذي رسول اله -صلى الله عليه وسلم" لاشتهاره بكونه مسكن الهوام، فدخل فرأى غارا مظلما فجلس وجعل يلتمس بيده كلما وجد جحرا أدخل فيه أصبعه حتى انتهى إلى جحر كبير فأدخل رجله إلى فخذه، كذا في البغوي. "فجعلت الحيات والأفاعي تضربنه وتلسعنه" عطف تفسير "فجعلت دموعه تنحدر" من ألم لسعها.
"وفي رواية" عن عمر بن الخطاب، ثم قال -أي بعد استبرائه الغار لرسول الله -صلى الله عليه وسلم: ادخل، فإني سويت لك مكانا، "فدخل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ووضع رأسه في حجر أبي بكر" بكسر الحاء وسكون الجيم، "ونام فلدغ" بمهملة فمعجمة لذوات السموم وعكسه للذع النار "أبو بكر في رجله من الجحر ولم يتحرك" لئلا يوقظ المصطفى "فسقطت دموعه على وجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: $"ما لك يا أبا بكر"؟ قال: لدغت، فداك أبي وأمي، فتفل" بالفوقية "عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فذهب ما يجده، رواه ابن رزين" بفتح الراء وكسر الزاي ابن معاوية أبو الحسن العبدري السرقسطي الأندلسي المالكي مؤلف تجريد الصحاح جمع فيه الموطأ والصحيحين(2/121)
وروي أيضا: أن أبا بكر لما رأى القافة اشتد حزنه على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقال إن قتلت أنا رجل............
__________
وسنن أبي داود والترمذي والنسائي، قال ابن بشكوال: كان صالحا فاضلا عالما بالحديث وغيره، جاور بمكة أعواما وبها مات سنة خمس وعشرين، وقيل: خمس وثلاثين وخمسمائة.
وفي الرياض النضرة: فلما أصبحا رأى على أبي بكر أثر الورم فسأله، فقال: من لدغة الحية، فقال: "هلا أخبرتني"، قال: كرهت أن أوقظك، فمسحه فذهب ما به من الورم. ولأبي نعيم عن أنس: فلما أصبح قال لأبي بكر: "أين ثوبك"، فأخبره بالذي صنع فرفع -صلى الله عليه وسلم- يديه، وقال: "اللهم اجعل أبا بكر معي في درجتي في الجنة"، فأوحى الله إليه قد استجبنا لك. وعن ابن عباس، فقاله -صلى الله عليه وسلم: "رحمك الله صدقتني حين كذبني الناس، ونصرتني حين خذلني الناس، وآمنت بي حين كفر بي الناس، وآنستني في وحشتي"، والظاهر كما قال شيخنا أنه كان عليه غير ثوبه مما يستر جميع البدن إذ لم ينقل طلبه لغيره ممن كان يأتي لهما بالغار كابنه وابن فهيرة. وروي ابن مردويه عن جندب بن سفيان، قال: لما انطلق أبو بكر مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى الغار، قال: يا رسول الله! لا تدخل الغار حتى أستبرئه لقطع الشبهة عني، فدخل أبو بكر الغار فأصاب يده شيء فجعل يمسح الدم عن أصبعيه، ويقول:
هل أنت إلا أصبع دميت ... وفي سبيل الله ما لقيت
وذكر الواقدي وابن هشام: إن ذا البيت للوليد بن المغيرة الصحابي لما رجع في صلح الحديبية إلى المدينة وعثر بحرتها، فانقطعت أصبعه. وروى ابن أبي الدنيا: إن جعفرا لما قتل بمؤتة دعا الناس بعبد الله بن رواحة فأقبل فأصيب أصبعه، فارتجز يقول:
هل أنت إلا أصبع دميت ... وفي سبيل الله ما لقيت
يا نفس ألا تقلتي تموتي ... هذا حياض الموت قد صليت
وما تمنيه فقد لقيت ... أن تفعلي فعلهما هديت
وروى الشيخان وغيرهما عن جندب: بينما نحن مع النبي -صلى الله عليه وسلم- إذ أصابه حجر فدميت أصبعه، فقال: هل أنت.. البيت والذي يظهر أنه من إنشاء الصديق وأن كلا من المصطفى والوليد تمثل به والممتنع على النبي عليه السلام إنشاء الشعر لا إنشاده وضمنه ابن رواحة شعره المذكور.
"وروي أيضا أن أبا بكر لما رأى القافة" أتوا على ثور وطلعوا فوقه، كما في رواية "اشتد حزنه" وبكى وأقبل عليه الهم والخوف والحزن، "على رسول الله -صلى الله علي وسلم، وقال: إن قتلت أنا رجل(2/122)
واحد، وإن قتلت أنت هلكت الأمة، فعندها قال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "لا تحزن إن الله معنا"، يعني بالمعونة والنصر، فأنزل الله سكينته -وهي أمنة تكن عندها القلوب- على أبي بكر لأنه كان منزعجا، وايده -يعني النبي -صلى الله عليه وسلم- بجنود لم تروها يعني الملائكة ليحرسوه في الغار، وليصرفوا وجوه الكفار وأبصارهم عن رؤيته.
انظر، لما رأى الرسول حزن الصديق قد اشتد لكن لا على نفسه، قوي قلبه ببشارة "لا تحزن إن الله معنا" وكان تحفة "ثاني اثنين" مدخرة له دون الجميع، فهو
__________
واجد" لا تهلك الأمة بقتلي فلا تفوتهم نفع ولا يلحقهم ضرر، "وإن قتلت أنت هلكت الأمة" بهلاك الدين "فعندها" وبعد فراغه من الصلاة "قال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "لا تحزن إن الله معنا" فروى عن الحسن البصري: جاءت قريش يطلبون النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو قائم يصلي وأبو بكر يرتقب، فقال: هؤلاء قومك يطلبونك، أما والله ما على نفسي أبكي ولكن مخافة أن أرى فيك ما أكره، فقال: "لا تحزن إن الله معنا".
"يعني بالمعونة والنصر" فالمراد المعنوية لاستحالة الحسية في حقه تعالى لا بالعلم فقط؛ إذ لا يختص بهما وهو معكم أينما كنتم، "فأنزل الله سكينته" عليه "وهي" أي السكينة، "أمنة" بفتحتين، أي: حالة للنفس، "تكن عندها القلوب" لا منها مما تكرهه "على أبي بكر" فالضمير في الآية عائد على صاحبه في قول الأكثر، قال البيضاوي: وهو الأظهر "لأنه كان منزعجا" لا على النبي -صلى الله عليه وسلم- لأنه لم تزل السكينة معه، قال ابن عباس كما رواه ابن مردويه والبيهقي وغيرهما. "وأيده -يعني النبي -صلى الله عليه وسلم- بجنود لم تروها -يعني الملائكة- ليحرسوه في الغار، وليصروا وجوه الكفار وأبصارهم عن رؤيته" عطف سبب على مسبب، أي: ليحرسوه بصرف وجوههم عنه. وفي نسخ بأو يعني أن القصد أحد الأمرين وإن لزم أولهما للثاني، وقيل: معناه لقوا العرب في قلوب الكفار حتى رجعوا، حكاهما البغوي مصدرا بما اقتصر عليه المصنف.
"انظر" تأمل بعين البصيرة في أمر المصطفى وشفقته على الصديق "لما رأى" علم "الرسول حزن الصديق" مفعول رأي الأول والثاني، "قد اشتد" ويجوز أنها بصرية مجازا؛ لأنه لما رأى ما علاه من الكآبة نزل الحزن القائم به منزلة المبصر حتى جعله مرئيا عليه، فالجملة حال. "لكن لا على نفسه قوي" الرسول عليه السلام "قلبه ببشارة لا تحزن إن الله معنا، وكانت تحفة" بفتح الحاء وتسكن، ما أتحفت به غيرك؛ كما في المصباح بمعنى الإتحاف، أي: كان(2/123)
الثاني في الإسلام والثاني في بذل النفس والعمر وسبب الموت لما وقى الرسول -صلى الله عليه وسلم- بماله ونفسه جوزي بمواراته معه في رمسه، وقام مؤذن التشريف ينادي على منائر الأمصار "ثاني اثنين إذ هما في الغار" ولقد أحسن حسان حيث قال:
وثاني اثنين في الغار المنيف وقد ... طاف العدو به إذ صاعد الجبلا
وكان حب رسول الله قد علموا ... من الخلائق لم يعدل به بدلا
وتأمل قول موسى لبني إسرائيل: {كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء: 62] وقول نبينا -صلى الله عليه وسلم- للصديق: "إن الله معنا".....
__________
إتحاف المصطفى لأبي بكر بكونه "ثاني اثنين مدخرة له دون الجميع" أي: جميع الصحابة، "فهو الثاني" من الرجال "في الإسلام والثاني في بذل النفس والعمر وسبب الموت" عطف تفسير، والمراد أنه لما جعل نفسه وقاية له كأنه بذل نفسه وعمره حفظا عليه السلام، "لما وقى الرسول -صلى الله عليه وسلم- بماله ونفسه" مستأنف استئنافا بيانيا كأنه قيل: ما كان جزاؤه فيما فعل؟ فقيل: "جوزي بمواراته معه في رمسه وقام مؤذن التشريف ينادي على منائر الأمصار" جمع منارة بفتح الميم، والقياس كسرها لأنها آلة، "ثاني اثنين إذ هما في الغار، ولقد أحسن حسان، حيث قال": يمدحه "وثاني اثنين في الغار المنيف" الزائد في الشرف على غيره بدخول أفضل الخلق فيه وإقامته به هو وصاحبه، "وقد طاف العدو به إذ" لمجرد الوقت "صاعد" بالألف لعله بمعنى صعد بالتشديد، لكن لم يذكر الجوهري والمجد ولا المصباح صاعد "الجبلا" نصب بنزع الخافض والألف للإطاق، والمعنى: إذ ارتقى العدو على الجبل، "وكان" الصديق "حب" بكسر الحاء محبوب "رسول الله قد علموا" أي عامة الناس العارفين بحال المصطفى والصديق مسلما أو غيره، "من الخلائق" متعلق بيعدل من قوله: "لم يعدل به بدلا" وأنشد الشامي رجلا، والتقدير: علم كل أحد أنه عليه السلام لم يعدل بأبي بكر أحد، أي: لم ينزل أحدا منزلته بحيث يجعله قائما مقامه.
وروى ابن عدي وابن عساكر عن أنس: أنه -صلى الله عليه وسلم- قال لحسان: "هل قلت في أبي بكر شيئا"؟ قال: نعم، قال: "قل، وأنا أسمع"، فقال: وثاني اثنين.. إلخ، فضحك -صلى الله عليه وسلم- حتى بدت نواجذه، ثم قال: "صدقت يا حسان، هو كما قلت". فصريح هذا أنه قالهما في حياته. وفي ينبوع الحياة الذي أعرف أنهما من أبيات رثى بها حسان أبا بكر، فهذا يخالف ذاك إذ الرثاء تعداد المحاسن بعد الموت وجمع باحتمال أنه مدحه بهما في حياته، ثم أدخلهما في مرئيته بعد وفاته.
"وتأمل" عطف على انظر "قول موسى لبني إسرائيل: {كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء: 62] ، وقول نبينا -صلى الله عليه وسلم- للصديق: "إن الله معنا"، قدم المسند إليه للإشارة إلى أنه(2/124)
فموسى خص بشهود المعية ولم يتعد إلى أتباعه، ونبينا تعدى منه إلى الصديق، ولم يقل "معي" لأنه أمد أبا بكر بنوره فشهد سر المعية، ومن ثم سرى سر السكينة إلى أبي بكر، وإلا لم يثبت تحت أعباء هذا التجلي والشهود، وأين معية الربوبية في قصة موسى عليه السلام من معية الإلهية في قصة نبينا -صلى الله عليه وسلم، قاله العارف شمس الدين بن اللبان.
وأخرج أبو نعيم في الحلية عن عطاء بن ميسرة، قال: نسجت العنكبوت مرتين، مرة على داود حين كان طالوت يطلبه،......
__________
لا يزول عن الخاطر لشدة التعلق به أو لأنه يستلذ به لكونه محبوبا للعباد إذ لا انفكاك لأحد عن الاحتياج إليه أو لتعظيمه بوصفه بالألوهية لأن سائر صفات الكمال تتفرع عليه، "فموسى خص" من ربه "بشهود المعية" له وحده "ولم يتعد" ذلك الشهود "إلى أتباعه ونبينا تعدى منه" شهوده" إلى الصديق" ولهذا "لم يقل معي لأنه أمد أبا بكر بنوره فشهد سر المعية، ومن ثم سرى سر السكينة إلى أبي بكر، وإلا لم يثبت تحت أعباء هذا التجلي والشهود" إذ ليس في طوق البشر إلا بذلك الإمداد "وأين" استفهام تعجب وتعظيم للفرق بين المقامين، "معية الربوبية في قصة موسى عليه السلام" حيث قال: إن معي ربي والرب من التربية وهي التنمية والإصلاح، "من معية الإلاهية في قصة نبينا -صلى الله عليه وسلم" حيث عبر بالاسم الجامع لصفات الكمال، "قاله العارف شمس الدين بن اللبان" محمد بن أحمد الدمشقي، ثم المصري الشافعي الفقيه الأصولي النحوي الأديب الشاعر قدم مصر من دمشق، فأكرمه ابن الرفعة إكراما كثيرا، اختصر الروضة ورتب الأم، مات بالطاعون في شوال سنة تسع وأربعين وسبعمائة، هذا وما نقله الشارح عن شرح الهمزية هو معنى ما نقله المصنف عن ابن اللبان.
"وأخرج أبو نعيم في الحلية عن عطاء بن ميسرة" الخراساني صدوق يهم ويرسل كثيرا روى له مسلم والأربعة ولم يصح أن البخاري أخرج له كما زعم المزي، مات سنة خمس وثلاثين ومائة. "قال: نسجت العنكبوت مرتين مرة على داود" عليه السلام "حين كان طالوت" بن قيس من ذرية بنيامين شقيق يوسف عليه السلام، يقال إنه كان سقاء، ويقال: كان دباغا، "يطلبه" لأن داود لما قتل جالوت رأس الجبارين وكان طالوت وعد من قتله أن يزوجه ابنته ويقاسمه الملك، فوفى طالوت لداود قتله، وعظم قدر داود في بني إسرائيل حتى استقل بالمملكة فتغيرت نية طالوت لداود وهم بقتله، فلم يتفق له ذلك، ثم رآه في برية، فقال: اليوم أقتله، ففر منه ووجد مغرة فتوارى بها، فنسجت العنكبوت عليه فمر به طالوت فلم يره فتاب وانخلع من الملك وخرج مجاهدا هو ومن معه من ولده حتى ماتوا كلهم شهداء، وكانت مدة ملك طالوت أربعين سنة، وانتقل ملكه إلى داود واجتمعت عليه بنو إسرائيل ولم تجتمع على ملك واحد إلا(2/125)
ومرة على النبي -صلى الله عليه وسلم- في الغار.
وكذا نسجت على الغار الذي دخله عبد الله بن أنيس لما بعثه -صلى الله عليه وسلم- لقتل خالد بن نبيح الهذلي بعرنة، فقتله ثم حمل رأسه ودخل في غار فنسجت عليه العنكبوت، فجاء الطلب فلم يجدوا شيئا فانصرفوا راجعين.
وفي تاريخ ابن عساكر: أن العنكبوت نسجت أيضا على عورة زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب لما صلب عريانا في سنة إحدى وعشرين ومائة.
__________
عليه ومدة ملكه سبع سنين في قصة طويلة مذكورة في المبتدأ لابن إسحاق، كما في فتح الباري.
"ومرة على النبي -صلى الله عليه وسلم- في الغار" لأن كل كرامة ومعجزة أوتيها نبي لا بد وأن يكون للمصطفى مثلا أو نظيرها أو أجل، فنسج عليه العنكبوت كداود وتعدى إلى بعض أصحابه وذريته، كما قال: "وكذا نسجت على الغار الذي دخله عبد الله بن أنيس" بن أسعد الجهني الأنصاري السلمي "لما بعثه -صلى الله عليه وسلم- لقتل خالد" بن سفيان "بن نبيح" بضم النون وفتح الموحدة وإسكان التحتية وحاء مهملة، "الهذلي" فنسبه المصنف لجده بناء على قول ابن إسحاق: أن البعث لخالد بن سفيان بن نبيح، وذكر ابن سعد نه سفيان بن خالد بن نبيح، وتبعه المصنف فيما يأتي واليعمري وغيرهما؛ لأنه كان يجمع الجموع للنبي -صلى الله عليه وسلم.
"بعرنة" بالنون وادي عرفة "فقتله ثم حمل رأسه ودخل في غار، فنسجت عليه العنكبوت فجاء الطلب فلم يجدوا شيئا فانصرفوا راجعين" ثم سار بالرأس فلما رآه -صلى الله عليه وسلم- قال: "أفلح الوجه"، قال: وجهك يا رسول الله، ووضع الرأس بين يديه وأخبره الخبر فدفع -صلى الله عليه وسلم- إليه عصا كانت بيده، وقال: "تحضر بهذه في الجنة"، فلما حضره الموت أوصى أهله أن يجعلوها في كفنه، ففعلوا "وفي تاريخ ابن عساكر أن العنكبوت نسجت أيضا على عورة زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب" رضي الله عنهم أبي الحسين المدني الثقة، ولد سنة ثمانين وروى عن أبيه وجماعة، وأخرج له أصحاب السنن.
"لما صلب عريانا" أربع سنين كما في تاريخ ابن عساكر وبه جزم غير واحد، وقيل: خمس سنين، وكان قد بايعه خلق كثير من أهل الكوفة، وقالوا: تتبرأ من أبي بكر وعمر فأبى، فقالوا: نرفضك فسموا الرافضة، وقالت طائفة: نتولاهما ونتبرأ ممن تبرأ منهما فسموا الزيدية فخرجوا معه وحارب متولي العراق لهشام بن عبد الملك وهو يوسف بن عمر ابن عم الحجاج الثقفي فظفر به يوسف فقتله وصلبه ووجهوه لغير القبلة، فاستدارت خشبته إلى القبلة، ثم أحرقوا جسده وخشبته وذري رماده في الرياح على شاطئ الفرات وكان قتله وصلبه "في" صفر "سنة إحدى وعشرين ومائة" فيما قاله سعيد بن عفير وأبو بكر بن أبي شيبة وخليفة وآخرون قائلين:(2/126)
وكان مكثه -صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر في الغار ثلاث ليال، وقيل بضعة عشر يوما. والأول هو المشهور.
وكان يبيت عندهما عبد الله بن أبي بكر، وهو غلام شاب ثقف -أي ثابت المعرفة بما يحتاج إليه لقن- فيدلج من عندهما بسحر، فيصبح مع قريش بمكة كبائت معهم، فلا يسمع بأمر يكادان به.........
__________
وبقي مصلوبا إلى سنة ست وعشرين، وقال ابن سعد: ومصعب في ثاني صفر سنة عشرين، وقال الليث بن سعد وهشام الكلبي والهيثم بن عدي والزبير بن بكار وآخرون، قتل يوم الاثنين ليومين مضيا من صفر سنة اثنين وعشرين ومائة، وقال ابن عساكر: صلب في سنة ست وعشرين، قال البرهان: وعليه يكون في خلافة الوليد بن يزيد؛ لأن هشاما مات سنة خمس وعشرين ومائة.
"وكان مكثه -صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر في الغار ثلاث ليال" كما في الصحيح: فكمنا فيه ثلاث ليال، "وقيل: بضعة عشر يوما" رواه أحمد والحاكم عن طلحة البصري مرسلا، قال: قال -صلى الله عليه وسلم: "لبثت مع صاحبي في الغار بضعة عشر يوما، ما لنا طعام إلا طعام البرير". "والأول هو المشهور" كما قال ابن عبد البر وغيره، وجمع الحاكم بأنهما كمنا في الغار وفي الطريق بضعة عشر يوما، لكن قال الحافظ: لم يقع في رواية أحمد ذكر الغار وهي زيادة في الخبر من بعض رواته، ولا يصح حمله على حال الهجرة لما في الصحيح كما تراه من أن عامر بن فهيرة كان يروح عليهما في الغار باللبن، ولما وقع لهما في الطريق من لقي الراعي ومن النزول بخيمة أم معبد وغير ذلك، فالذي يظهر أنها قصة أخرى، انتهى.
"وكان يبيت عندهما" في الغار "عبد الله بن أبي بكر" الصديق أصابه سهم في غزوة الطائف فاندمل جرحه ثم نقض بعد ذلك فمات في خلافة أبيه، قال الحافظ: وفي نسخة من البخاري عبد الرحمن وهو وهم. "وهو غلام شاب ثقف" بفتح المثلثة وكسر القاف ويجوز سكانها وفتحها، كما قال الحافظ، وتبعه المصنف وجوز البرهان ضمها وأسقطه الفتح، وبعدها فاء" أي" حاذق "ثابت المعرفة بما يحتاج إليه" تفسير من المصنف زائد على الحديث وهو من الفتح، وما ألطف قوله في مقدمته، أي: فطن وزنا ومعنى "لقن" بفتح اللام وكسر القاف وتسكن؛ كما في النور: فنون، أي: سريع الفهم، "فيدلج" بضم الياء وسكون الدال، ولأبي ذر بشد الدال بعدها جيم؛ كما قال المصنف، واقتصر الحافظ وتبعه الشامي على رواية أبي ذر، أي: يخرج "من عندهما بسحر" إلى مكة "فيصبح مع قريش بمكة كبائت" لشدة رجوعه بغلس يظنه من لا يعرف حقيقة أمره مثل البائت، "فلا يسمع بأمر يكادان به" بضم التحتية فكاف فألف، رواية(2/127)
إلا وعاه، حتى يأتيهما بخبر ذلك اليوم حين يختلط الظلام.
ويرعى عليهما عامر بن فهيرة -مولى أبي بكر- منحة من غنم، فيريحها عليهما حين تذهب ساعة من العشاء فيبيتان في رسل، وهو لبن منحتهما، يفعل ذلك في كل ليلة من تلك الليالي الثلاث.
واستأجر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر، عبد الله بن أريقط............
__________
الكشميهني ولغيره: يكتاد أنه بفتح أوله وفوقيه بعد الكاف، أي: يطلب لهما فيه المكروه وهو من الكيد، "إلا وعاه" حفظه "حتى يأتيهما بخبر ذلك اليوم حين يختلط الظلام، ويرعى عليهما عامر بن فهيرة" بضم الفاء مصغر "مولى أبي بكر" من السابقين الأولين، ذكر ابن عقبة عن ابن شهاب: أن أبا بكر اشتراه من الطفيل بن سخبرة فأسلم فأعتقه وهو مخالف لما رواه الطبراني عن عروة أنه كان ممن يعذب في الله فاشتراه أبو بكر فأعتقه، اشتهد ببئر معونة.
"منحة" بكسر الميم وسكون النون وفتح المهملة: شاة تحلب إناء بالغداة وإناء بالعشي، قال الحافظ: وتطلق أيضا على كل شاة، "من غنم" ذكر ابن عقبة عن الزهري أنها كانت لأبي بكر فكان يروح عليهما الغنم كل ليلة فيحلبان ثم يسرح بكرة، فيصبح في رعيان الناس فلا يفطن له. "فيريحها" بضم أوله، أي: يردها. قال المصنف: أي الشاة أو الغنم، "عليهما حين تذهب ساعة من العشاء" فيحلبان ويشربان "فيبيتان في رسل" بكسر الراء وسكون المهملة: لبن طري، "وهو لبن منحتهما" أسقط من الرواية: ورضيفهما حتى ينعق بها عامر بن فهيرة بغلس.
رضيف بفتح الراء وكسر المعجمة بزنة رغيف لبن فيه حجارة محماة بالشمس أو النار، لينعقد وتزول رخاوته وهو بالرفع ويجوز الجر. وينعق بكسر المهملة يصيح بغنمة ويزجرها. وفي رواية بهما بالتثنية، أي: يسمع المصطفى والصديق صوته إذا زجر غنمه. "يفعل ذلك في كل ليلة من تلك الليالي الثلاث" ولابن عقبة عن ابن شهاب: وكان عامر أمينا مؤتمنا حسن الإسلام وفي رواية: وكانت أسماء تأتيهما من مكة إذا أمست بما يصلحهما من الطعام. وعند ابن إسحاق: فإذا أمسى عامر أراح عليهما غنم أبي بكر فاحتلبا وذبحا، فإذا غدا عبد الله بن أبي بكر من عندهما تبع عامر أثره بالغنم حتى يعفي أثره وخرج معهما حتى قدم المدينة، ولا ينافي بيات ابن الصديق عندهما وتردد عامر وأسماء نسج العنكبوت على فم الغار؛ لأنه خارق فيجوز عدم نسج العنكبوت أو تكرّر النسج كل يوم أو غير ذلك.
"واستأجر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر" قبل خروجهما من مكة، بدليل: وغداة الغار، قال في الصحيح: رجلا من بني الدبل وبينه ابن عقبة وابن سعد، فقالا: استأجر "عبد الله بن أريقط"(2/128)
دليلا -وهو على دين كفار قريش، ولم يعرف له إسلام- فدفعا إليه راحلتيهما ووعداه غار ثور بعد ثلاث ليال.
فأتاهما براحلتيهما صبح ثلاث، وانطلق معهما عامر بن فهيرة والدليل، فأخذ بهم طريق السواحل،...........
__________
بالقاف والطاء مصغر وسماه ابن إسحاق في رواية ابن هشام: عبد الله بن أرقد، وفي رواية الأموي عنه: أريقد، بالدال بدل الطاء وبالطاء أشهر، وقال مالك في العيبة: اسمه رقيط، والديل بكسر الدال وسكون التحتية، وقيل: بضم أوله وكسر ثانيه مهموز، ذكره في الفتح.
"دليلا" حال منتظرة أو ليكون دليلا "وهو" أي: الرجل الذي استأجره، "على دين كفار قريش" من عبدة الأوثان لا من أهل الكتاب ومع ذلك سخره الله ليقضي أمره، وهذا من جملة الرواية. "ولم يعرف له إسلام" هكذا جزم به الحافظ عبد الغني المقدسي في سيرته وتبعه النووي، وقال السهيلي: لم يكن إذ ذاك مسلما ولا وجدنا من طريق صحيح أنه أسلم بعد ولا يعترض بأن الواقدي ذكر أنه أسلم؛ لأنه قيد بصحيح وضعّف الواقدي معلوم خصوصا مع الانفراد وكأنه سلف الذهبي في عده صحابيا، وقد قال في الإصابة: لم أر من ذكره في الصحابة إلا الذهبي في التجريد ووصفه في الرواية بأنه كان هاديا ضريتا، أي: ساديا للطريق، قال: والخريت، أي: بكسر الخاء المعجمة والراء الثقيلة وتحتية ساكنة ففوقية: الماهر بالهداية، أي: هداية الطريق، وهذا التفسير مدرج من كلام الزهري، كما بينه ابن سعد. قال الأصمعي: سمي خريتا لأنه يهتدي بمثل خرت الإبرة، أي: ثقبها. وقال غيره: لاهتدائه لآخرات المفازة وهي طرقها الخفية، قال في الرواية: فأمناه، بفتح الهمزة مقصورة كسر الميم، أي: ائتمناه، "فدفعا إليه راحلتيهما ووعداه" بمعنى التواعد، وهو الذي في البخاري بلفظ: ووعداه، "غار ثور بعد ثلاث ليال، فأتاهما براحلتيهما صبح ثلاث" وفي رواية موسى بن عقبة عن ابن شهاب: حتى إذا هدأت عنهما الأصوات جاء صاحبهما ببعيريهما، "وانطلق معهما عامر بن فهيرة" زاد ابن عقبة: يخدمهما ويعينهما يردفه أبو بكر ويعقبه ليس معهما غيره، "والدليل: فأخذ بهم طريق السواحل" بسين وحاء مهملتين، أسفل عسفان.
وفي رواية ابن عقبة: فأجازهما أسفل مكة ثم مضى بهما حتى جاء بهما الساحل أسفل من عسفان، ثم أجارهما حتى عارض الطريق، وقد بين الزبير بن بكار من حديث عائشة، وابن عائذ من حديث ابن عباس سيرهما منزلة منزلة إلى قبا، ثم فصل المصنف حديث الصحيح بذكره قصة أم معبد، وسنذكر منه بقية في خبر سراقة، وقد مروا قبل ذلك كما في الصحيح بصخرة فنام المصطفى في ظلها، ورأى أبو بكر راعيا معه غنم فاستحلبه فحلب له منها فبرده أبو بكر حتى(2/129)
فمروا بقديد علي أم معبد -عاتكة بنت خالد الخزاعية- وكانت برزة جلدة، تحتبي بفناء القبة، ثم تسقي وتطعم.
وكان القوم مرملين مسنتين، فطلبوا لبنا أو لحما يشترونه منها، فلم يجدوا عندها شيئا، فنظر -صلى الله عليه وسلم- إلى شاة في كسر الخيمة، خلفها الجهد عن الغنم، فسألها رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "هل بها لبن"؟ فقال: هي أجهد من ذلك،..........
__________
قام -صلى الله عليه وسلم- فسقاه ثم ارتحلوا، "فمروا" كما رواه الحاكم وصححه البيهقي وصاحب الغيلانيات ومن طريقه اليعمري عن أبي سليط الأنصاري البدري، وابن عبد البر وابن شاهين وابن السكن والطبراني وغيرهم، عن أخي أم معبد حبيش صاحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم، قالا: لما خرج -صلى الله عليه وسلم- في الهجرة ومعه أبو بكر وابن فهيرة وابن أريقط يدلهم على الطريق مروا "بقديد" بضم القاف وفتح الدال الأولى إسكان التحتية: موضع معروف، "على أم معبد" بفتح الميم وسكون المهملة وفتح الموحدة ودال مهملة "عاتكة" بكسر الفوقية وبالكاف "بنت خالد" ابن خليد مصغر آخره دال مهملة كما صدر به ابن الأثير في الجامع، وقيل: ابن خليف، بفاء بدل الدال مصغر وقيل: ابن منقذ بضم الميم وسكون النون وكسر القاف وذال معجمة وقال الطبراني: عاتكة بنت خليف، وقال: بنت خالد بن منقذ. وفي ثقات ابن حبان: أم معبد بنت خالد بن خليف بن منقذ بن ربيعة بن أصرم بن ضبيس.
وفي الإكمال: عاتكة بنت خليفة بن منقذ بن ربيعة بن أصرم بن ضبيس بن حزام بن حبشية، زاد السهيلي: ابن كعب بن عمرو الكعبية.
"الخزاعية" بضم الخاء والزاي المنقوطتين ومهملة، صحابية خرج لها أبو يعلى الموصلي وروى ابن السكن حديث نزول النبي -صلى الله عليه وسلم- عليها من حديثها نفسها من رواية أخيها حبيش عنها. "وكانت برزة" كضخمة عفيفة جليلة مسنة أو غيرها، وقيل: هي المسنة التي برزت فلم تنخدر لسنها وخرجت عن حد المحجوبات، حكاهما ابن المنير وغيره.
"جلدة" قوية أو عانية "تحتبي" تجلس "بفناء القبة" الخيمة والفناء سعة أمام البيت أو ما امتد من جوانبه، "ثم تسقي وتطعم" من يمر بها "وكان القوم مرملين مسنتين" بكسر النون والمثناة الفوقية، أي: أصابتهم السنة، "فطلبوا بنا أو لحما" وعند أبي عمر: سألوها لحما وتمرا فكأنهم طلبوا ما تيسر من الثلاثة، "يشترونه منها فلم يجدوا عندها شيئا" وقالت: والله لو كان عندنا شيء ما أعوزناكم القرى؛ كما في الرواية، أي: أحوجناكم، "فنظر -صلى الله عليه وسلم- إلى شاة في كسر الخيمة خلفها" بشد اللام "الجهد" بفتح الجيم، وضمها، أي: الهزال، "عن الغنم فسألها -صلى الله عليه وسلم: "هل بها من لبن"؟ فقالت: هي أجهد من ذلك" تريد أنها لضعفها وعدم طروق الفحل لها دون من(2/130)
فقال: "أتأذنين لي أن حلها"؟ فقالت: نعم بأبي أنت وأمي إن رأيت بها حلبا فاحلبها، فدعا بالشاة فاعتقلها ومسح ضرعها، وسمى الله، فتفاجت ودرت، ودعا بإناء يربض الرهط -أي يشبع الجماعة حتى يربضوا- فحلب فيه ثجا وسقى القوم حتى رووا، ثم شرب آخرهم، ثم حلب فيه مرة أخرى علا بعد نهل، ثم غادره عندما وذهبوا.
فلما لبث أن جاء أبو معبد زوجها...........
__________
لهما لبن، فكأنها قالت: هي على صفة دون المسئول عنه، "فقال: "أتأذنين لي أن أحلبها"؟ بضم اللام وكسرها؛ كما في القاموس.
"فقالت: نعم، بأبي أنت وأمي إن رأيت بها حلبا" بفتح اللام وسكونها، أي: لبنا في الضرع، "فاحلبها، فدعا بالشاة" طلبها أن تأتي إليه، فالباء زائدة فيكون معجزة، لكن في رواية: فبعث معبدا وكان صغيرا، فقال: "ادع هذه الشاة"، ثم قال: "يا غلام هات" فأحضرها إليه "فاعتقلها" أي: وضع رجلها بين ساقه وفخذه ليحلبها، "ومسح ضرعها" زاد في رواية: وظهرها "وسمى الله" زاد في رواية: ودعا لها في شاتها، "فتفاجت ودرت ودعا بإناء يربض الرهط" أي: طلب إناء موصوفا بذلك، كما يفيده العيون، لا أنه طلب مطلق إناء فأحضر بتلك الصفة، وفسره فقال: "أي: يشبع الجماعة حتى يربضوا" بكسر الموحدة "فحلب فيه ثجا" بمثلثة وجيم حلبا قويا "وسقى القوم" بعد أن سقى أم معبد حتى رويت؛ كما في رواية.
"حتى رووا ثم شرب آخرهم" وقال: "ساقي القوم آخرهم شربا"، "ثم حلب فيه مرة أخرى" فشربوا "علا" بفتح المهملة واللام والأولى "بعد نهل" بفتح النون والهاء وتسكن ولام، أي: شربا ثانيا بعد الأول، "ثم" حلب فيه آخر و"غادره" بغين معجمة: تركه، "عندها" زاد في رواية: قال لها: "ارفعي هذا لأبي معبد إذا جاءك"، ثم ركبوا "وذهبوا، فلما لبث" أي: ما لبث إلا قليلا "أن جاء أبو معبد زوجها" وهذا كله صريح في أنها لم تذبح لهم. ووقع في بعض الروايات عن أم معبد، قالت: طلع علينا أربعة على راحلتين فنزلوا بي، فجئت رسول الله بشاة أريد ذبحها فإذا هي ذات در، فأدنيتها منه فلمس ضرعها، وقال: "لا تذبحها"، وجئت بأخرى وذبحتها وطبختها فأكل هو وأصحابه وملأت سفرتهم منها، ما وسعت، وبقي عندنا لحمها أو أكثر، وبقيت الشاة التي مس ضرعها إلى زمن عمر، فإن صحت مع أنه لم يكن عندها إلا شاة واحدة، فيحتمل أنها لما أتته بها وشاهدت فيها الآية البينة تسلفت من جيرانها التي ذبحت إكراما(2/131)
قال السهيلي: ولا يعرف اسمه، وقال العسكري: اسمه أكثر بن أبي الجون، ويقال: ابن الجون يسوق أعنزا عجافا، يتساوكن هزلا، مخهن قليل.
فلما رأى أبو معبد اللبن عجب وقال: ما هذا يا أم معبد؟ أنى لك هذا والشاة عازب حيال، ولا حلوب بالبيت؟ فقالت: لا والله، إلا أنه مر بنا رجل مبارك من حاله كذا وكذا. فقال: صفيه يا أم معبد.
فقالت: رأيت رجلا ظاهر الوضاءة. مبلج الوجه حسن الخلق،...........
__________
للمعجزة الظاهرة فشاهدت فيها آية أخرى، والله أعلم.
"قال السهيلي: ولا يعرف اسمه، وقال العسكري": الحافظ الإمام أبو الحسن علي بن سعيد بن عبد الله نزيل الري صنف وجمع، ومات سنة خمس وثلاثمائة، "اسمه أكثر" بفتح الهمزة والمثلثة "ابن أبي الجون" بفتح الجيم وبالنون، قال السهيلي: له رواية عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وتوفي في حياته، وقال الذهبي: قيل اسمه حبيش. وقيل: أكثم، قديم الوفاة. "ويقال: ابن الجون" بإسقاط أبي حبيش بضم المهملة وفتح الموحدة وسكون التحتية وبالمعجمة على الأصح.
وقيل: بمعجمة مضمومة ونون مفتوحة وسين مهملة، وفي الإصابة أبو معبد الخزاعي ذكره ابن الأثير، وقال: تقدم في حبيش، والمتقدم إنما وصف بأنه أخو أم معبد، وأما زوجها فلم يسم وترجم ابن منده لمعبد بن أبي معبد ولم يسم أباه، وأخرج البخاري في التاريخ وابن خزيمة والبغوي قصة أم معبد من طريق الحر بن الصباح النخفي عن أبي معبد الخزاعي، قال: خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما هاجر وأبو بكر وعمر بن فهيرة ودليلهم عبد الله بن أريقط الليثي، فمروا بخيمة أم معبد.. الحديث، وفي آخره عند البغوي، قال عبد الملك: بلغني أن أم معبد هاجرت وأسلمت. قال البخاري: هذا مرسل، فأبو معبد مات قبل النبي -صلى الله عليه وسلم.
"يسوق أعنزا عجافا" بكسر المهملة جمع عجفاء، وهي المهزولة. "يتساوكن هزلا" بضم الهاء وسكون الزاي "مخهن قليل" بخاء معجمة، أي: الودك الذي في العظم. وسقط في نسخ لأنه مساو لعجاف، "فلما رأى اللبن أبو معبد عجب، وقال: ما هذا يا أم معبد؟ أنى لك هذا والشاة عازب" بمهملة فألف فزاي فموحدة "حيال" بكسر المهملة وتحتية "ولا حلوب بالبيت" أي: ليس فيه ذات لبن تحلب؛ كما في المصباح.
فليس للمبالغة، "فقالت: لا والله، إلا أنه مر بنا رجل مبارك من حاله كذا وكذا" أي: رأى الشاة ودعا لها، فحكت له القصة، فهي مركبة من كاف التشبيه وذا الأشاربة كنى بها عن غير عدد على أحد أوجهها، "فقال: صفية" يا أم معبد! فقالت: رأيت رجلا ظاهر الوضاءة" بفتح الواو وضاد معجمة ومد: الحسن والبهجة، "مبلج الوجه" مشرقة "حسن الخلق" بضم الخاء واللام(2/132)
لم تعبه ثجلة ولم تزر به صعلة، وسيم قسيم، في عينيه دعج، وفي أشفاره وطف، وفي صوته صحل، أحور أكحل، أزج أرقن، شديد سواد الشعر، في عنقه سطع، وفي لحيته كثاثة، إذا صمت فعليه الوقار، وإذا تكلم سما وعلاه البهاء، وكأن منطقه خرزات نظم طوال تحدرن، حلو المنطق، فصل لا نزر ولا هذر، أجهر الناس وأجمله من بعيد،..........
__________
عرفت ذلك من حاله مع رفقته، أو بفتح فسكون تأكيدا لما علم من أوصافها، والظاهر الأول. "لم تعبه ثجلة ولم تزر به صعلة" لعدم وجودهما فيه، وهو "وسيم قسيم" عطف مرادف إذ معناهما الحسن كما يجيء، "في عينيه دعج" بفتح الدال والعين المهملتين وجيم، "وفي أشفاره وطف" بفتح الواو والطاء المهملة وبالفاء، ويروي غطف بغين معجمة بدل الواو، ورجحها الحافظ عبد الغني المقدسي والقطب الحلبي ومعناهما طول، ويروي بعين مهملة، ويأتي بيانه.
"وفي صوته صحل" بفتح المهملتين ولام "أحور، أكحل، أزج" بفتح الهمزة والزاي وشد الجيم بصوف به الرجل والحاجب في المدح، "أقرن" مثله في حديث علي، وهو مخالف لما في حديث هند بن أبي هالة: أزج الحواجب سوابغ من غير قرن. قال ابن الأثير: وهو الصحيح، وقال غيره: إنه المشهور وإن قول راويه وكان هند وصافا رد لما خالفه، وأجيب بأن بينهما شعرا خفيفا جدا يظهر إذا وقع عليه الغبار في نحو سفر، وحديث أم معبد سفري، وبغير ذلك.
"شديد سواد الشعر، في عنقه سطع" طول "وفي لحيته كثاثة" بمثلثتين، "إذا صمت" بفتح الميم "فعلية الوقار" بفتح الواو: الحلم والرزانة، "وإذا تكلم سما وعلاه البهاء وكأنه منطقه خرزات نظم طوال يتحدرن" لعل وجه التشبيه التناسق بين كلماته وشدة اتصال بعضها ببعض، فأشبهت في تناسقها الكلمات، وفي تواليها الخرزات إذا تتابعت، "حلو المنطق" الحلو في المطعوم مستلذ، فاستعير لما يعجب السامع ويستلذ بماعه، "فصل" بفاء فصاد ساكنة بين الحق والباطل أو بين قاطع للشك لا لبس فيه، أو ذو فصل بين أجزائه؛ كقول عائشة: ما كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يسرد سردكم هذا.
"لا نزر ولا هذر، أجهر الناس" أرفعهم صوتا إذا تكلم من بعد "وأجمله" أحسنه، "من بعيد" يعني أن علو صوته لا ينقصه بل يزيد معه حسنا وكمالا، وهذا على ما في نسخ المصنف والذي في الشفاء: أجمل الناس من بعيد، ولغيره: أجمل الناس وأبهاه من الجمال الذي هو الحسن وجعل الجمال من بعيد؛ لأنه يحقق للناظر النظر فيه لمهابته بحيث لا يطيل القريب منه النظر له إلا الصغير أو المحرم أو الأعراب، فإذا فعل ذلك أدرك فوق الجمال مرتبة أخرى؛ كما قيل:(2/133)
وأحلاه وأحسنه من قريب، ربعة لا تشنؤه من طول، ولا تقتحمه عين من قصر، غصن بين غصنين، فهو أنضر الثلاثة منظرا وأحسنهم قدرا، له رفقاء يحفون به، إذا قال استمعوا لقوله، وإذ أمر تبادروا لأمره، محفود محشود، لا عابس ولا مفند.
فقال: هذا والله صاحب قريش، لو رأيته لاتبعته.
قالت أسماء بنت أبي بكر: لما خفي علينا أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم، أتانا نفر من قريش فيهم أبو جهل بن هشام، فخرجت إليهم، فقال: أين أبوك؟ فقلت: والله لا أدري أين............
__________
يزيدك وجهه حسنا ... إذا ما زدته نظرا
وإليه أشار قولها: "وأحلاه" من حلا بعينه وقلبه إذا أعجبه واستحسنه، فالعطف تفسيري في قولها: "وأحسنه من قريب" بإفراد الضمير فيها حملا على لفظ الناس، أو على الجنس، كأنها قالت: أحلى وأحسن هذا الجنس أو لسد واحد مسدهم، كما في التسهيل. ومثله في شرحه بقوله تعالى: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ} [المؤمنون: 21] ؛ لأن النعم تسد مسد الأنعام. "ربعة لا تشنؤه" بمعجمة ونون وهمزة مضمومة فهاء الضمير، "من طول، ولا تقتحمه عين من قصر، غصن" أي: كغصن "بين غصنين" تعني الصديق ومولاه؛ لأنهما المقصودان له بالصحبة، والدليل كان على دينه فلم تعنه، "فهو أنضر" بضاد معجمة "الثلاثة منظرا، وأحسنهم قدرا، له رفقاء يحفون" بضم الحاء: يطوفون "به" ويستدبرون حوله "إذا قال استمعوا لقوله، وإذا أمر تبادروا لأمره، محفود" أي: مخدوم، "محشود" أي: عنده قوم، "لا عابس ولا مفند" بكسر النون: كثير اللوم، كما يأتي.
"فقال" أبو معبد: "هذا والله صاحب قريش، لو رأيته لاتبعته" ولأجتهدن أن أفعل. وفي رواية: ولقد هممت أن أصحبه ولأفعلن إن وجدت إلى ذلك سبيلا. وفي الوفاء: فهاجرت هي وزوجها وأسلما. وفي خلاصة الوفاء: فخرج أبو معبد في أثرهم ليسلم، فيقال: أدركهم بطن ريم فبايعه وانصرف. وفي شرح السنة للبغوي: هاجرت هي وزوجها وأسلم أخوها حبيش واستشهد يوم الفتح، وكان أهلها يؤرخون بيوم نزول الرجل المبارك.
"قالت أسماء بنت أبي بكر" فيما رواه في الغيلانيات من طريق ابن إسحاق، قال: حدثت عن أسماء فهو منقطع، لكن رواه الحافظ أبو الفتح اليعمري متصلا، من طريق هشام بن عروة عن أبيه عن أسماء، قالت: "لما خفي علينا أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أتانا نفر من قريش فيهم أبو جهل بن هشام، فخرجت إليهم فقال: أين أبوك؟ " يابنة أبي بكر "فقلت: والله لا أدري أين(2/134)
أبي، قالت: فرفع أبو جهل يده -وكان فاحشا خبيثا- فلطم خدي لطمة خرج منها قرطي، ثم انصرفوا.
ولما لم ندر أين توجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم، أتى رجل من الجن يسمعون صوته ولا يرونه، وهو ينشد هذه الأبيات:
جزى الله رب الناس خير جزائه ... رفيقين حلا خيمتي أم معبد
هما نزلا بالبر ثم ترحلا ... فأفلح من أمسى رفيق محمد
فيما لقصي ما زوى.........
__________
أبي قالت: فرفع أبو جهل يده وكان فاحشا خبيثا فلطم خدي لطمة" واحدة "خرج منها" أي: بسبب اللطمة. وفي رواية: خرم. وفي أخرى: طرح منها "قرطي" بضم القاف وسكون الراء وبالطاء المهملة: نوع من حلي الأذن معروف، "ثم انصرفوا" قالت: "ولما لم ندر أين توجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أتى رجل" بعد ثلاث ليال، كما في رواية الغيلانيات. وفي رواية اليعمري: فلبثنا أياما ثلاثة أو أربعة أو خمسة ليال لا ندري أين وجه، ولا يأتينا عنه خبر، حتى أقبل رجل "من الجن" من مؤمنيهم ولا أعرف اسمه، قال في النور. وفي رواية عن أسماء: إذ أقبل رجل من الجن من أسفل مكة تغنى بأبيات غنى بها العرب، وإن الناس يتبعونه "يسمعون صوته ولا يرونه" وفي رواية الغيلانيات عن أبي سليط: حتى سمعوا هاتفا على أبي قبيس. واليعمري ذكر الروايتين. وعذر شيخنا أنه لم يقرأ له الرواية الأولى التي عن أبي سليط. "وهو ينشد هذه الأبيات: جزى الله رب الناس خير جزائه" هكذا رواية أسماء.
ورواية أبي سليط: جزى الله خيرا والجزاء يكفه، "رفيقين" مفعول جزى، "حلا" من الحلول، كما في نسخة صحيحة من الاستيعاب بالهامش. ورواه اليعمري، قال: من القيلولة، وضبب عليها في الاستيعاب كما في النور. "خيمتي أم معبد" تثنية خيمة بيت تبنيه العرب من عيدان الشجر، قال ابن الأنباري: لا تكون عندهم من ثياب بل من أربعة أعواد ثم تسقف بالثمام. وفي معجم: ما استعجم من قديد إلى المشلل ثلاثة أميال بينهما خيمتا أم معبد، "هما نزلا بالبر" ضد الإثم، "ثم ترحلا" وفي رواية: هما نزلا بالهدى واغتدوا به، "فأفلح" وفي رواية: هما رحلا بالحق وانتزلا به.
وفي أخرى: هما نزلاها بالهدى فاهتدت به فقد فاز "من أمسى رفيق محمد" فعيل يستوي فيه الواحد والمثنى والجمع، فيدخل في قوله: رفيقين عامر بن فهيرة، وقد ينافيه حلا إلا أن يكون ثنى نظرا للفظ. "فيالقصي" بضم القاف وفتح المهملة وشد التحتية، "ما زوى" بفتح(2/135)
................الله عنكم ... به من فعال لا تجارى وسؤدد
ليهن بني كعب مكان فتاتهم ... ومقعدهما للمؤمنين بمرصد
سلو أختكم عن شاتها وإنائها ... فإنكم إن تسألوا الشاة تشهد
دعاها بشاة حائل فتحلبت ... له بصريح ضرة الشاة مزيد
فغادرها رهنا لديها لحالب ... يرددها في مصدر ثم مورد
فلما سمعنا قوله عرفنا حيث توجه -صلى الله عليه وسلم.
__________
الزاي والواو أي: جمع وقبض، "الله عنكم به من فعال" قال البرهان وتبعه الشامي: الظاهر أنه بفتح الفاء وخفة العين وهو الكرم، ويجوز أن يكون بكسر الفاء جمعا، "لا تجاري" بالراء وفي رواية: بالزاي، "وسؤدد" بضم السين وإسكان الواو مصدر ساد "ليهنا" بفتح الياء وتثليث النون، أي: ليسر "بني كعب" هو ابن عمر وأبو خزاعة، "مكان" فاعل يهنأ. وفي نسخة: مقام بفتح الميم "فتاتهم ومقعدها للمؤمنين بمرصد" بفتح الميم والصاد، أي: مقعدها بمكان ترصد، أي: ترقب المؤمنين فيه لتواسيهم "سلو أختكم" أم معبد "عن" المعجزة التي شاهدتها في "شاتها" التي حلبها المصطفى ولم يطرقها فحل ولم تستطع الرعي من الهزال، و"إنائها" الذي حلب فيها منها مرارا، فإنها معجزة باهرة لا تنكر، "فإنكم إن تسألوا الشاة تشهد دعاها بشاة حائل" لا حمل بها "فتحلبت له" مطاوع احتلبها وضمنه معنى سمحت، فعداه بالياء في "بصريح" بصاد وحاء مهملتين: لبن خالص لم يخلط "ضرة" بفتح الضاد وشد الراء الفوقية: أصل الضرع؛ كما في النهاية مرفوع فاعل تحلبت، "الشاة مزبد" بضم الميم وإسكان الزاي وكسر الموحدة فدال مهملة: علاه الزبد، "فغادرها" تركها "رهنا لديها لحالب يرددها" الحالب" في مصدر ثم مورد" أي: يحلبها مرة ثم أخرى، والمعنى: ترك الشاة عندها ذات لبن مستمر، "يردد الحالب الحلب" عليها مرة بعد مرة لكثرة لبنها، "فلما سمعنا قوله عرفنا حيث توجه -صلى الله عليه وسلم" وفي الرواية: فلما سمع حسان الأبيات، قال يجاوب الهاتف، قال في النور: والظاهر أنه إنما قاله بعد إسلامه:
لقد خاب قوم زال عنهم نبيهم ... وقدس من يسري إليه ويغتدي
ترحل عن قوم فضلت عقولهم ... وحل على قوم بنور مجدد
هداهم به بعد الضلالة ربهم ... وأرشدهم من يتبع الحق يرشد
وهل يستوي ضلال قوم تسفهوا ... عمى وهداة يهتدون بمهتدي
وقد نزلت منه على أهل يثرب ... ركاب هدى حلت عليهم بأسعد
نبي يرى ما لا يرى الناس حوله ... ويتلو كتا الله في كل مشهد
وإن قال في يوم مقالة غائب ... فتصديقها في اليوم أو في ضحى غد(2/136)
وقوله: مرملين: أي نفدت أزوادهم.
ومسنتين: أي مجدبين، ويروى: مشتين: أي دخلوا الشتاء.
وكسر الخيمة: بكسر الكاف وفتحها، وسكون السين، جانبها.
وتفاجت: -بتشديد الجيم- فتحت ما بين رجليها.
ويربط الهرط: -بضم المثناة التحتية، وكسر الموحدة- أي يرويهم ويثقلهم حتى يناموا ويمتدوا على الأرض. من ربض بالمكان يربض: إذا لصق به وأقام.
والثج: السيلان. وفي رواية: فحلب ثجا حتى علاه الثمال -بضم المثلثة- الرغوة واحده: ثمالة. .............
__________
ليهنأ أبا بكر سعادة جده ... بصحبته من يسعد الله يسعد
"وقوله: مرملين، أي: نفدت" بالمهملة "أزوادهم ومسنتين، أي: مجدبين" بالمهملة، أي: أصابتهم سنة جدبة، "ويروى مشتين" بشين معجمة اسم فاعل من أشتى القوم، "أي: دخلوا في الشتاء" وحينئذ يقل طعامهم، "وكسر الخيمة بكسر الكاف وفتحها وسكون السين" المهملة "جانبها" وهذه رواية ابن عبد البر الحاكم والبيهقي، وفسرها ابن المنير وغيرها بما ذكر. ورواه اليعمري بلفظ، قال: ما هذه الشاة التي أرى لشاة رآها في كفاء البيت. قال البرهان: بكسر الكاف وبالفاء المخففة ممدود. قال المؤلف، يعني اليعمري، في الفوائد: كفاء البيت ستره من أعلاه إلى أسفله، من مؤخره، وقيل الكفاء: الشقة التي تكون في مؤخر الخباء، وقيل: كساء يلقى على الخبار كالآزرار حتى يبلغ الأرض، وقد أكفأ البيت، ذكره ابن سيده، انتهى. والجمع بين الروايتين سهل بأن تكون الشاة في جانب الخيمة تحت كفائها، فالمعبر بهذا أو ذاك صادق.
"وتفاجت بتشديد الجيم: فتحت ما بين رجليها، ويربط الرهط بضم المثناة التحتية وكسر الموحدة، أي: يرويهم ويثقلهم حتى يناموا ويمتدوا على الأرض من ربض بالمكان يربض إذا لصق به وأقام" ملازما له يقال: أربضت الشمس إذ اشتد حرها حتى تربض الوحوش في كياسها، أي: تجعلها تربض. ويروى بتحتية بدل الموحدة، أي: يرويهم بعض الري من أراض الحوض إذا صب فيه من الماء ما يواري أرضه، والمشهور الرواية الأولى بالموحدة، كما في النور، ولذا اقتصر عليها المصنف.
"والثج" بمثلثة وجيم "السيلان، وفي رواية: فحلب ثجا حتى علاه الثمال بضم المثلثة الرغوة" مثلث الراء: لبن الزبد "واحده ثمالة" لكن في تفيره الجمع بالمفرد نظر، والأظهر لو قال: الثمال واحدة ثمالة وهي الرغوة إلا أن يراد جنس الرغوة وإن كل جزء مما على وجه اللبن(2/137)
والبهاء أي بها اللبن: وهو وبيص رغوته.
وتساوكن هزالا: أي تمايلن، ويروي: تشاركن من المشاركة، أي في الهزال.
وغادره: -بالغين المعجمة- أي: أبقاه والشاة عازب، أي بعيدة المرعى.
والأبلح: -بالجيم- المشرق الوجه المضيئة.
والثجلة: -بفتح المثلثة، وسكون الجيم- عظم البطن، ويروى بالنون والحاء: أي نحول ودقة.
والصعلة: -بفتح الصاد- صغر الرأس، وهي أيضا الدقة والنحول في البدن.
__________
رغوة، "والبهاء بها اللبن وهو وبيص" بمهملة، أي: لمعان، "رغوته وتساوكن هزلا، أي: تمايلين" من الهزال "ويروى: تشاركن بمعجمة بدل المهملة والراء بدل الواو، "من المشاركة، أي: في الهزال، وغادره بالغين المعجمة، "أي: أبقاه" تفسر باللازم إذ هو الترك "والشاة عازب، أي: بعيدة المرعى" والحيال بكسر الحاء المهملة جمع حائل، وهي التي ليس بها حمل "والأبلج" بالموحدة و"الجيم المشرق الوجه المضيئة" وفي النور: مبلج الوجه مشرقه مسفره، ومنه تبلج الصبح وابتلج، فأما الأبلج فهو الذي وضح ما بين حاجبيه فلم يقترنا، والاسم البلج بفتح اللام ولم ترده أم معبد؛ لأنها وصفته بالقرن. "والثجلة بفتح المثلثة": كذا في النسخ، والذي في النور: والسبل بضم المثلثة، "وسكون الجيم" وفتح اللام آخره تاء، "عظم البطن" وسعته، يقال: رجل أثجل بين الثجل وامرأة ثجلاء، قال أبو ذر في حواشيه: فالثجلة عظم البطن، يقال: بطن أثجل، إذا كان عظيما. و"يروى بالنون والحاء" المهملة، "أي: نحول ودقة من الجسم الناحل وهو القليل اللحم، قاله أبو ذر. "والصعلة بفتح الصاد" وإسكان العين المهملتين، "صغر الرأس وهي أيضا الدقة والنحول في البدن"، كما قال ابن الأثير.
وفي رواية: سقلة بقاف وبسين معها على الإبدال من الصاد، وذكره ابن الأثير بالصاد السين مع القاف وبالعين المهملة، وكذا الهروي في الغربيين، لكن لم يذكر السين ومعناه نحل ودقة قال شمر: من صقلت الناقة ضمرتها وصقلها السير أضمرها، والسقل الخاصرة. وقال غيره: أرادت أنه لم يكن منتفخ الخاصرة جدا ولا ناحلا جدا، انتهى. وفي حاشي أبي ذر: لم تزر، أي: لم تقصر، والصقل والصقلة جلدة الخاصرة، تريد: أنه ناعم الخاصرة، وهذا من الأوصاف الحسنة انتهى. وعلا كلام غيره وهو نفي للأوصاف الغير الحسنة. وقال ابن المنير: الصعلة انتفاخ الأضلاع، وقيل: الرقة، وقيل: صغر الرأس واختير في هذه الكلمة فتح العين، ذكر الهروي.(2/138)
والوسيم: الحسن، وكذلك: القسيم.
وفي عينيه دعج: أي سواد.
والوطف: قال في القاموس: محركة كثرة شعر الحاجبين والعينين.
وفي صوته صحل: -بالتحريك- هو كالبحة -بضم الموحدة وأن لا يكون حاد الصوت.
وأحور: قال في القاموس: الحور -بالتحريك- أن يشتد بياض العين، وسواد سوادها.
والكحل: -بفتحتين- سواد في أجفان العين خلقة، والرجل: أكحل وكحيل.
والأزج: الدقيق طرف الحاجبين وفي القاموس: والزجج -محركة...........
__________
انتهى. ولم أر ذلك في الغربيين.
"والوسيم الحسن وكذلك القسيم وفي عينيه دعج، أي: سواد" شديد "والوطف، قال في القاموس: محركة" أي: مفتوح الطاء، "كثرة شعر الحاجبين والعينين" وفي الغربيين: في أشفاره وطف، أي: طول قد ووطف يوطف، انتهى. وفي حواشي أبي ذر: في أشفاره غطف أو عطف، ويروى وطف الوطف طول أشفار العين، وفي كتاب العين: الغطف بالغين المعجمة مثل الوطف، وإما بالمهملة فلا معنى له هنا، وفسره بعضهم بأن تطول أشفار العين حتى تنعطف، انتهى. واقتصر ابن المنير على المعجمة، وقال: لم يعرفه الرياشي بغيرها. "وفي صوته صحل" بالتحريك، أي: فتح الحاء وكذا الصاد المهملتين فلام، "هو كالبحة بضم الموحدة وأن لا يكون حاد الصوت" يقال: منه صحل الرجل، بالكسر يصحل صحلا بفتحها إذا صار أبح فهو صحل وصاحل، "وأحور، قال في القاموس: الحور بالتحريك" أي: فتح الواو، "أن يشتد بياض بياض العين وسواد سوادها"، وهو المحمود المحبوب، ولذا كان أغزل ما قالت العرب، قول جرير:
إن العيون التي في طرفها حور ... قتلتنا ثم لم يحيين قتلانا
يصرعن ذا اللب حتى لا حراك به ... وهن أضعف خلق الله إنسانا
"والحكل بفتحتين سواد في أجفان العين خلقة، والرجل أكحل وكحيل" والمرأة كحلاء وكثر تغزل المولدين بذلك؛ كقول ابن النبيه:
كحلاء نجلاء لها ناظر ... منزه عن لوثة المرود
"والأزج الدقيق طرف الحاجبين، وفي القاموس: والزج محركة" أي: مفتوحة الجيم(2/139)
دقة الحاجبين في طول.
والأقرن: المقرون الحاجبين.
وفي عنقه سطع: -بفتحتين- أي ارتفاع وطول.
وفي لحيته كثاثة: بمثلثتين الكثاثة في اللحية أن تكون غير دقيقة ولا طويلة، وفيها كثاثة، يقال: رجل كث اللحية -بالفتح- وقوم كث -بالضم..
وإذا تكلم سما وعلاه البهاء: أي ارتفع وعلا على جلسائه.
وفصل -بالصاد المهملة- لا نزر -بسكون المعجمة- ولا هذر -بفتحها: أي: بين ظاهر، يفصل بين الحق والباطل.
ولا تشنؤه من طول: كذا جاء في رواية، أي لا يبغض لفرط طوله، ويروى: لا يشنى من طول: أبدل من الهمزة ياء، يقال: شنئته أشنؤه، شنا........
__________
الأولى، "دقة الحاجبين في طول" أي: امتداد إلى مؤخر العين، والزجج خلقة والتزجيج ما كان يصنع كما قال: وزججن الحواجب والعيونا، أي: صنعن ذلك وهو ما تسميه العوام تخفيفا بمهملة، "والأقرن المقرون" الحاجبين" قال ثابت في كتاب خلق الإنسان: رجل أقرن وامرأة قرناء فإذا نسب إلى الحاجبين، قالوا: مقرون الحاجبين ولا يقال: أقرن الحاجبين، انتهى.
"وفي عنقه سطح بفتحتين، أي: ارتفاع وطول" كما قال الهروي، وزاد: يقال عنق سطعاء وهي المنتصبة الطويلة، ورجل أسطع، ومن هذا قيل للصبح أول ما ينشق مستطيلا قد سطع يسطع. "وفي لحيته كثاثة بمثلثتين الكثاثة في اللحية أن تكون غير دقيقة ولا طويلة وفيها كثاثة، يقال: رجل كث اللحية بالفتح"، للكاف "وقوم كث بالضم"، لها "وإذا تكلم سما وعلاه البهاء، أي: ارتفع وعلا على جلسائه، وفصل بالصاد المهملة، لا نزر بسكون المعجمة" التي هي الزاي، أي: قليل "ولا هذر بفتحها" أي المعجمة التي هي الذال، أي: كثير بل وسط، هكذا ضبطه الحافظ العلائي وغيره بالفتح وضبطه بعض شراح الشفاء بسكون الذال مصدر قال بفتحها الاسم وفي غريبي الهروي في وصف كلامه عليه السلام لا نزر ولا هذر، أي: لا قليل ولا كثير ورجل هذر وهذار مهذار وهذريان كثير الكلام، وقوله: "أي: بين ظاهر يفصل بين الحق والباطل"، تفسير لقولها فصل، وقال العلائي: يفسره قولها: لا نزر ولا هذر، "ولا تشنؤه من طول، كذا جاء في رواية، أي: لا يبغض لفرطه طوله، ويروى: لا يشنى من طول أبدل من الهمزة ياء" ثم قلبت ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها، "يقال: شنئته أشنؤه شنا" بوزن فلس، كما في المصباح.(2/140)
وشنأنا، قاله ابن الأثير.
ولا تقتحمه عين من قصر: أي لا تتجاوزه إلى غيره احتقارا له وكل شيء
ازدريته فقد اقتحمته.
ومحفود: أي مخدوم.
والمحشود: الذي عنده حشد وهم الجماعة.
ولا عابس: من عبوس الوجه.
والمنفد: الذي يكثر اللوم وهو التفنيد.
والضرة: لحمة الضرع.
وغادرها أي خلف الشاة عندها مرتهنة بأن تدر، انتهى.
وأخرج ابن سعد وأبو نعيم من طريق الواقدي: حدثني حزام ابن هشام عن أبيه..............
__________
"وشنأنا، قاله ابن الأثير" في النهاية "ولا تقتحمه عين من قصر، أي: لا تتجاوزه إلى غيره احتقارا له وكل شيء ازدريته فقد اقتحمته" قال أبو بكر بن الأنباري: كما في الغربيين، "ومحفود، أي: مخدوم والمحشود الذي عنده حشد" بفتح المهملة وسكون المعجمة وتفتح فدال مهملة، "وهم الجماعة ولا عابس من عبوس الوجه، والمنفذ الذي يكثر اللوم" فهو اسم فاعل، "وهو التنفيد والضرة لحمة الضرع"، وقال الهروي: أصل الضرع، "وغادرها، أي: خلف الشاة عندها مرتهنه بأن تدر" بضم الدال، "انتهى" ما أراده من شرح غريبه.
قال ابن المنير: وفي الحديث من الفقه أنه لا يسوغ التصرف في ملك الغير ولا إصلاحه وتنميته إلا بإذنه، ولهذا استأذنها في إصلاح شاتها وفيه لطيفة عجيبة، وهو أن اللبن المحتلب من الشاة لا بد أن يفرض مملوكا، والملك ههنا دائر بين صاحب الشاة وبين النبي -صلى الله عليه وسلم- وأشبه شيء بذلك المساقاة؛ فإنها تكرمة الأصل وإصلاحه بجزء من الثمرة، وكذلك فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- أكرم الشاة وأصلحها بجزء من اللبن، ويحتمل أن يقال: إن اللبن مملوك للنبي -صلى الله عليه وسلم- وسقاها تفضلا منه لأنه ببركته كان وعن دعائه وجد والفقه الأول أدق وألطف، انتهى.
"وأخرج ابن سعد وأبو نعيم من طريق الواقدي" محمد بن عمر بن واقد الأسلمي، أبي عبد الله المدني، قال: "حدثني حزام بن هشام" بكسر الحاء المهملة وبالزاي كما ضبطه الأمير وغيره، "عن أبيه" هشام بن خنيس بمعجمة ونون ومهملة مصغر عند إبراهيم بن سعد وسلمة بن(2/141)
عن أم معبد قالت: بقيت الشاة التي لمس عليه السلام ضرعها عندنا حتى كان زمان الرمادة، زمن عمر بن الخطاب، وكنا نحلبها صبوحا وغبوقا وما في الأرض لبن قليل ولا كثير.
__________
الفضل عن ابن إسحاق ولغيرهما عنه حبيش بضم المهملة وفتح الموحدة فياء فشين معجمة، قال في الإصابة: وهو الصواب ابن خالد الخزاعي، "عن" عمته "أم معبد، قالت: بقيت الشاة التي لمس عليه السلام ضرعها عندنا حتى كان زمن الرمادة" سنة ثمان أو سبع عشرة من الهجرة، قيل لها ذلك لأن الريح كانت إذا هبت ألقت ترابا كالرماد وأجدبت الأرض إلى الغابة حتى أوت الوحوش إلى الإنس، "زمن عمر بن الخطاب" رضي الله عنه وآلى أن لا يذوق لحما ولا سمنا ولا لبنا، حتى حيى الناس، أي: يأتي إليهم الحيا بالقصر ويمد: المطر، وقال: كيف لا يعنين شأن الرعية إذا لم يمسني ما مسهم حتى استسقى بالعباس بإشارة كعب فسقوا، وفي ذلك يقول عقيل:
بعمي سقى الله البلاد وأهلها ... عشية يستسقي بشيبته عمر
توجه بالعباس في الجدب داعيا ... فما حار حتى جاد بالديمة المطر
"وكنا نحلبها" بضم اللام وكسرها، كما في القاموس وما بالعهد من قدم، "صبوحا" بفتح المهملة وضم الموحدة: ما شرب بالغداة مما دون النائلة، "وغبوقا" بفتح الغين المعجمة الشرب بالعشي، "وما في الأرضي لبن قليل ولا كثير" في بقية حديث هشام هذا: وكانت أم معبد يوم نزل عليها النبي -صلى الله عليه وسلم- مسلمة. قال الواقدي: وقال غير هشام: قدمت بعد ذلك وأسلمت وبايعت؛ كما في الإصابة.
وذكر السهيلي عن هشام المذكور، قال: أنا رأيتها وإنها لتأدم أم معبد وجميع صرمها، أي: أهل ذلك الماء. وذكر الزمخشري في ربيع الأبرار عن هند بنت الجون، قالت: نزل -صلى الله عليه وسلم- خيمة خالتي أم معبد، فقام من رقدته فدعا بماء فغسل يديه ثم تمضمض ومج في عوسجة إلى جانب الخيمة فأصبحت كأعظم دوحة، وجاءت بتمر كأعظم ما يكون في لون الورس ورائحة العنبر وطعم الشهد ما أكل منها جائع إلا شبع، ولا ظمآن إلا روي، ولا سقيم إلا برئ، ولا أكل من ورقها بعير ولا شاة إلا در لبنها، فكنا نسميها المباركة حتى أصبحنا ذات يوم وقد تساقط ثمرها واصفر ورقها، ففزعنا فما راعنا إلا نعي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم بعد ثلاثين سنة أصبحت ذات شوك وذهبت صفرتها، فما شعرنا إلا بقتل أمير المؤمنين علي، فما أثمرت بعد ذلك، وكنا ننتفع بورقها، ثم أصبحنا وإذا بها قد نبع من أسفلها دم عبيط، وقد ذبل ورقها، فبينما نحن فزعون مهمومون إذ أتانا خبر قتل الحسين ويبست الشجرة على أثر ذلك وذهبت، والعجب كيف لم يشتهر أمر هذه الشجرة كالشاة، كذا ذكره وعهدته عليه، والله أعلم.(2/142)
قصة سراقة:
ثم تعرض لهما بقديد سراقة من مالك بن جعشم المدلجي، فبكى أبو بكر وقال: يا رسول الله أتينا، قال: "كلا"، ودعا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بدعوات،.........
__________
قصة سراقة:
"ثم" بعد رواحهم من عند أم معبد، كما عند مغلطاي، "تعرض" أي: تصدى، "لهما" يريد منعهما وردهما إلى قومهما. وذكر ابن سعد أن سراقة عارضهم يوم الثلاثاء، "بقديد" ولا يخالفه قول مغلطاي: فلما راحوا من قديد؛ لأن معناه: لما ساروا وإن لم ينفصلوا عنه تعرض لهما "سراقة بن مالك بن جعشم" بضم الجيم والشين المعجمة بينهما مهملة ساكنة ثم ميم، وحكى الجوهري فتح الجيم والشين، نقله النووي في التهذيب، والبرهان في النور، وإن انتقد بعدم وجوده في نسخ الصحاح؛ لأنهما حجة، أي: حجة "المدلجي" بضم الميم وسكون المهملة وكسر اللام ثم جيم من بني مدلج بن مرة بن عبد مناة بن كنانة، الكنان الحجازي أسلم سراقة عنده -صلى الله عليه وسلم- بالجعرانة منصرفة من حنين والطائف، وروى عنه ابن عباس وجابر وابن أخيه عبد الرحمن بن مالك بن جعشم وابن المسيب وطاوس، ومات سنة أربع وعشرين في أول خلافة عثمان، وقيل: مات بعده. والصحيح الأول، أخرج له البخاري والأربعة وأحمد، وسبب تعرضه لهما ما رواه البخاري عنه، قال: جاءنا رسل كفار قريش يجعلون في رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبي بكر دية كل واحد منهما لمن قتله أو أسره، فبينما أنا جالس في مجالس قومي بني مدلج أقبل رجل منهم حتى قام علينا ونحن جلوس، فقال: يا سراقة، إن قد رأيت آنفا أسودة بالسواحل، أراها محمدا وأصحابه، قال سراقة: فعرفت أنهم هم، فقلت له: أنهم ليسوا هم، ولكنك رأيت فلانا وفلانا، انطلقوا بأعيننا، ثم لبثت ساعة ثم قمت فدخلت فأمرت جاريتي أن تخرج بفرسي من وراء أكمة فتحبسها علي، أخذت رمحي فخرجت به من ظهر البيت..الحديث، وفيه: أنه لما دنا منهم سقط عن فرسه، واستقسم بالأزلام فخرج ما يكره لا يضرهم ثم ركبها ثانيا، وقرب حتى سمع قراءة النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو لا يلتفت وأبو بكر يكثر الالتفات فساخت يدا فرسه في الأرض إلى الركبتين فسقط عنها، ثم خلصها واستقسم بالأزلام فخرج الذي يكره فناداهم بالأمان. وفي رواية ابن عقبة: وكنت أرجو أن أرده فآخذ المائة ناقة.
وفي رواية عن أبي بكر: تبعنا سراقة ونحن في جلد من الأرض، فقلت هذا الطلب لقد لحقنا، فقال: "لا تحزن إن الله معنا"، فلما دنا منا وكان بيننا وبينه رمحان أو ثلاثة، قلت: هذا الطلب لقد لحقنا وبكيت، قال -صلى الله عليه وسلم: "ما يبكيك"؟ قلت: أما والله ما على نفسي أبكي ولكن عليك، "فبكى أبو بكر، وقال: يا رسول الله! أتينا، قال: "كلا" ودعا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بدعوات"(2/143)
فساخت قوائم فرسه، وطلب الأمان، فقال: أعلم أن قد دعوتهما علي، فادعوا لي ولكما أن أرد الناس عنكما ولا أضركما. قال: فوقفا لي، فركبت فرسي حتى جئتهما، قال: ووقع في نفسي حين لقيت ما لقيت أن سيظهر أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فأخبرتهما أخبار ما يريد بهما الناس، وعرضت عليهما الزاد والمتاع فلم يرزآني.
__________
وعند الإسماعيلي وغيره، فقال: "اللهم اكفناه بما شئت". وفي حديث أنس عند البخاري، فقال: "اللهم اصرعه"، فصرعه فرسه، "فساخت" بسين مهملة وخاء معجمة، أي: غاصت، "قوائم فرسه" حتى بلغت الركبتين، كما في حديث عائشة. في حديث أسماء عند الطبراني: فوقعت لمنخريها. وللبزار: فارتطمت به فرسه إلى بطنها.
وللإسماعيلي: فساخت في الأرض إلى بطنها. "وطلب الأمان، فقال": زاد ابن إسحاق: أنا سراقة، انظروني أكلمكم، فوالله لا يأتيكم مني شيء تكرهونه، "أعلم أن قد دعوتما علي، فادعوا لي" وللإسماعيلي: قد علمت يا محمد، أن هذا عملك فادع الله أن ينجيني مما أنا فيها، و"لكما" خبر مقدم "أن أرد الناس" في تأويل المصدر مبتدأ، أي: لكما علي رد الناس "عنكما"، وفي رواية: فالله لكما مبتدأ وخبر، أي: ناصر وعلي أن أرد، وبالجر على القسم والنصب بإسقاط حرف القسم كله، قال: أقسم بالله، فحذف فنصب "ولا أضركما" وفي حديث ابن عباس: وأنا لكم نافع غير ضار، ولا أدري لعل الحي يغني قومه فزعوا لركوبي وأنا راجع ورادهم عنكم، "قال: فوقفا لي" وفي حديث البراء، قال: ادع لي ولا أضرك، فدعا له -صلى الله عليه وسلم، "فركبت فرسي حتى جئتهما، قال: ووقع في نفسي حين لقيت ما لقيت" من الحبس عنهم؛ كما في حديث عائشة. "أن سيظهر" مرفوع وأن مخففة، أي: أنه سيظهر، "أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم" وفي رواية ابن إسحاق: أنه قد منع مني، قال: "فأخبرتهما خبر ما يريد بهما الناس" من الحرص على الظفر بهما وبذلك المال لمن يحصلهما.
وفي حديث ابن عباس: وعاهدهم أن لا يقاتلهم ولا يخبر عنهم وأن يكتم عنهم ثلاث ليال، "وعرضت عليهما الزاد والمتاع، فلم يرزآني" بفتح أوله وسكون الراء فزاي فهمزة، أي: لم ينقصاني مما معي شيئا. وللإسماعيلي: وهذه كنانتي فخذ منها سهما، فإنك تمر على إبلي وغنمي بمكان كذا وكذا فخذ منها حاجتك، فقال: لا حاجة لنا في إبلك ودعا له.
وفي حديث عائشة: ولم يسألاني شيئا إلا أن قال: أخف عنا، بفتح الهمزة وسكون المعجمة بعدها فاء: أمر من الإخفاء فسألته أن يكتب لي كتاب أمن فأمر عامر بن فهيرة فكتب في رقعة من أديم.(2/144)
واجتاز -صلى الله عليه وسلم- في وجهه ذلك بعبد يرعى غنما، فكان من شأنه ما رويناه من طريق البيهقي.........
__________
وفي حديث أنس، فقال: يا نبي الله مرني بما شئت، قال: تقف مكانك لا تتركن أحد يلحق بنا، فكان أول النهار جاهدا على نبي الله، وكان آخر النهار مسلحة له، رواهما البخاري، أي: حارسا له بسلاحه. وذكر ابن سعد: أنه لما رجع قال لقريش: قد عرفتم نظري بالطريق وبالأثر، وقد استبرأ لكم، لم أر شيئا، فرجعوا. وفي رواية ابن إسحاق وابن عقبة: فسألته كتابا يكون بيني وبينك آية، فأمر أبا بكر فكتب لي في عظم أو رقعة أو خرقة، ثم ألقاه إلي فأخذته فجعلته في كنانتي، ثم رجعت وجمع في النور بأن عامرا لما كتب طلب سراقة كتابة الصديق لشهرته وعظمته. وعند ابن عقبة وابن إسحاق: فلم أذكر شيئا مما كان حتى إذا فرغ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من حنين خرجت لألقاه ومعي الكتاب لقيته بالجعرانة حتى دنوت منه فرفعت يدي بالكتاب، فقلت: يا رسول الله! هذا كتابك، قال: "يوم وفاء وبردان"، فدنوت منه وأسلمت. وروى ابن مردويه وابن أبي حاتم عن الحسن عن سراقة: فبلغني أنه يريد أن يبعث خالد بن الوليد إلى قومه فأتيته، فقلت: أحب أن توادع قومي أسلموا، وإلا آمنت منهم، فأخذ -صلى الله عليه وسلم- بيد خالد، فقال: "اذهب معه، فافعل ما يريد"، فصالحهم خالد على أن لا يعينوا على رسول الله -صلى الله عليهوسلم- وإن أسلمت قريش أسلموا معهم، فأنزل الله: {إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} [النساء: 90] ، فكان من وصل إليهم كان معهم على عهدهم. قال ابن إسحاق: ولما بلغ أبا جهل ما لقي سراقة ولامه في تركهم، أنشده:
أبا حكم واللات لو كنت شاهدا ... لأمر جوادي إذ تسيخ قوائمه
عجبت ولم تشكك بأن محمدا ... نبي وبرهان فمن ذا يكاتمه
زاد بعضهم:
عليك بكف القوم عنه فإنني ... أرى أمره يوما ستبدو معالمه
وفي الحديث: أنه -صلى الله عليه وسلم- قال لسراقة: "كيف بك إذا لبست سواري كسرى". وذكر ابن المنير عليه السلام قال له، ذلك يوم لحقهما في الهجرة: "تعجب من ذلك"، فلما أتى بهما عمر وبتاجه ومنطقته دعا سراقة فألبسه السوارين، وقال: "ارفع يديك، وقل: الله أكبر الحمد لله الذي سلبهما كسرى بن هرمز وألبسهما سراقة بن مالك أعرابيا من بني مدلج"، ورفع عمر صوته ثم قسم ذلك بين المسلمين.
"واجتاز -صلى الله عليه سلم- في وجهه" أي: طريقه، "ذلك" الذي هو مار به "بعيد" قال في النور: أسود، ولا أعرفه ولم أر من ذكره في الصحابة، "يرعى غنما، فكان من شأنه ما رويناه من طريق البيهقي(2/145)
بسنده عن قيس بن النعمان قال: لما انطلق النبي -صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر مستخفيين، مرا بعبد يرعى غنما، فاستسقياه اللبن فقال: ما عندي شاة تحلب، غير أن ههنا عناقا حملت عام أول، وما بقي لها لبن، فقال: "ادع بها"، فاعتقلها -صلى الله عليه وسلم- ومسح ضرعها، ودعا حتى أنزلت، وجاء أبو بكر بمجن فحلب فسقى أبا بكر، ثم حلب فسقى الراعي، ثم حلب فشرب، فقال الراعي: بالله من أنت، فوالله ما رأيت مثلك. فقال: "أوتراك تكتم عليَّ حتى أخبرك"؟ قال: نعم، قال: "فإني رسول الله"، فقال: أنت الذي تزعم قريش أنك صابئ؟ قال: "إنهم ليقولون ذلك" قال: فأشهد أنك نبي، وأن ما جئت به حق، وأنه لا يفعل ما فعلت إلا نبي، وأنا متبعك، قال: "إنك لن تستطيع
__________
بسنده عن قيس بن النعمان" السكوني أحد وفد عبد القيس الكوفي، يقال: قرأ القرآن على عهد المصطفى وأحصاه على عهد عمر، له حديث في سنن أبي داود.
"قال: لما انطلق النبي -صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر" حال كونهما "مستخفين مرا بعبد يرعى غنما فاستسقياه اللبن، فقال: ما عندي شاة تحلب" بالبناء للمفعول، "غير أن ههنا عناقا" بفتح العين: الأنثى من ولد المعز قبل استكمال الحول، كذا في المصباح. فلعله عبر بالعناق جازا من تسمية الشيء بما يقرب منه، والأنا في قوله: "حملت عام أول وما بقي لها لبن"، فإنه ظاهر في أنه سبق لها حمل وولادة، لكن رواية البيهقي كما في العيون: حلمت أول بإسقاط عام، وزيادة: وقد أخدجت وما بقي لها لبن، وأخدجت بفتح الهمزة وإسكان المعجمة فمهملة فجيم مفتوحتين فتاء تأنيث، أي: ألقت ولدها ناقص الخلق وإن تم حملها، أو ألقته وقد استبان حمله، كما في أفعال ابن القطاع، ورواه أبو الوليد الطيالسي، بلفظ: حملت أول الشتاء، وقد أخدجت وما بقي لها حمل، "فقال: "ادع بها"، فدعا بها، كما في رواية البيهقي فكأنه سقط من قلم المصنف "فاعتقلها -صلى الله عليه وسلم- ومسح ضرعها ودعا" ربه "حتى أنزلت" اللبن "وجاء أبو بكر بمجن" بكسر الميم وفتح الجيم وشد النون: ترس سمي مجنا لأنه يواري حامله، أي: يستره، والميم زائدة. "فحلب سقى أبا بكر، ثم حلب فسقى الراعي، ثم حلب فشرب، فقال الراعي بالله من أنت؟ فوالله ما رأيت مثلك، قال: "أوتراك" الهمزة داخلة على محذوف، أي: أأخبرك وتراك "تكتم عليَّ حتى أخبرك"؟ قال: نعم، قال: "فإني محمد رسول الله"، قال: أنت الذي تزعم قريش أنه صابئ" بالهمز: خارج من دين إلى دين، سموه بذلك زعما منهم أنه خرج من دينهم إلى الإسلام مع أنه ما دخل دينهم قط إجماعا، ولذا "قال" -صلى الله عليه وسلم: "إنهم ليقولون ذلك" أي: وهم فيه كاذبون، "قال: فأشهد أنك نبي وإن ما جئت به حق، وإنه لا يفعل ما فعلت إلا نبي وأنا متبعك" أي: ذاهب معك إلى ما تريد على المتبادر، لا أنه أتبعه في الدين، "قال: "إنك لن تستطيع(2/146)
ذلك يومك، فإذا بلغك أني قد ظهرت فأتنا".
قال الحافظ مغلطاي -بعد ذكره لقصة أم معبد: وفي الإكليل قصة أخرى شبيهة بقصة أم معبد. قال الحاكم: فلا أدري أهي هي، أم غيرها. خاتمة.
__________
ذلك يومك" لعلمه أنه إذا ذهب معه تبعه قومه ومنعوه من ذهابه معه وعاقبوه، والمراد باليوم مطلق الزمن، لا خصوص اليوم الذي هو فيه، بدليل قوله: "فإذا بلغك أني قد ظهرت فأتنا"، وهو يرد احتمال: أنا متبعك فأظهر إيماني وإن نهيه خوفا عليه من الإيذاء، ثم هذا الحديث قطعا غير قصة الراعي الذي أتى يريد ظل الصخرة التي نام تحتها -صلى الله عليه وسلم؛ لأنه قال: إن في غنمه لبنا وحلب هو لأبي بكر وبرّد أبو بكر اللبن حتى استيقظ المصطفى كراهة أن يوقظه ثم سقاه، وأما هذا العبد فذكر أنه لا لبن معه وإنما أتى اللبن معجزة، والنبي -صلى الله عليه وسلم- وهو الذي حلب وسقاه بعد أبي بكر ثم شرب هو آخرهم، ففي ظن صاحب الخميس اتحادهما، فإنه ذكر قطعة من حديث الراعي وعقبها بخبر العبد، ثم قال: أورد في المواهب قصة العبد الراعي بعد قصة أم معبد نظر ظاهر، وقصة الراعي كانت قبل قصة سراقة، وهي بعد قصة أم معبد؛ كا أفاده في فتح الباري. فقال: قبل حديث سراقة في قوله: فأخذ بهم طريق الساحل تقدم في علامات النبوة، وفي مناقب أبي بكر ما اتفق لهما حين خرجا من الغار من لقى راعي الغنم وشربهما من اللبن، انتهى.
"قال الحافظ مغلطاي بعد ذكره لقصة أم معبد، وفي الإكليل" للحاكم أبي عبد الله "قصة أخرى شبيهة بقصة أم معبد، قال الحاكم: فلا أدري أهي هي أم غيرها"، وفي قوله: أخرى، وقوله شبيهة رد لتردد الحاكم فيها، وقد رواه تلميذه البيهقي بسند حسنه ابن كثير عن أبي بكر، قال: خرجت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من مكة فانتهينا إلى حي من أحياء العرب، فنزلنا على بيت منه لم يكن فيه إلا امرأة وذلك عند المساء، فجاء ابن لها بأعنز يسوقها فقالت له أمة: انطلق بهذه الشفرة والشاة لهذين الرجلين، وقل لهما: اذبحاها وكلا منها وأطعمانا، فرد النبي -صلى الله عليه وسلم- الشفرة، وقال له: "ائتني بقدح"، فقال له: إنها عزبة، أي: لم يطرقها الفحل، قال: "انطلق"، فانطلق فجاء بقدح، فمسح -صلى الله عليه وسلم- ضرعها ثم حلب ملء القدح وأرسلها لأم الغلام معه فشربت حتى رويت، ثم دعا -صلى الله عليه وسلم- بأخرى ففعل بها كذلك، ثم سقى أبا بكر، ثم دعا بأخرى ففعل بها كذلك وشرب -صلى الله عليه وسلم، فلبثنا ليلتين ثم انطلقنا، فكانت تسميه المبارك وكثرت غنمها حتى جلبت جلبا إلى المدينة، فمر أبو بكر عليها فعرفه ابنها، وقال لها: هذا الذي كان مع المبارك فسألته عنه، فقال لها: هو نبي الله -صلى الله عليه وسلم، فأدخلها عليه فأطعمها وأعطاها، قال: ولا أعلمه إلا قال: "أسلمت ".
قال البيهقي في الدلائل: وهذه القصة قريبة من قصة أم معبد ويشبه أن تكونا واحدة. وذكر ابن إسحاق ما يدل على أنهما واحدة، فيحتمل أنه رأى التي في كسر الخيمة أولا، ثم رجع(2/147)
ولما بلغ المسلمين بالمدينة خروج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من مكة، فكانوا يغدون كل غادة إلى الحرة ينتظرونه حتى............
__________
ابنها بأعنز ففعل بها ما مر، ثم لما أتى زوجها وصفته له، والله أعلم. انتهى.
والذي يظهر أنها غيرها كما أشار إليه مغلطاي، كيف وفي قصة أم معبد أن الشاة التي حلب، إنما هي التي في كسر الخيمة وسقى الجميع منها ثم شرب، وإن الآتي بالأعنز إنما هو زوجها بعدما ذهبوا، وأيضا فقد قال في هذه: فلبثنا ليلتين إذ لو لبثا هما لأدركهما زوجها على المبتادر ولا مانع من التعدد، إلى هذا جنح في فتح الباري فقال: أخرج البيهقي في الدلائل شبيها بأصل قصة أم معبد في لبن الشاة المهزولة دون ما فيها من صفته -صلى الله عليه وسلم- لكنه لم يسمها في هذه الرواية ولا نسبها، فاحتمل التعدد. والله أعلم.
خاتمة:
ومما وقع لهم في الطريق أنه -صلى الله عليه وسلم- لقي الزبير في ركب من المسلمين، كانوا تجارا قافلين من الشام، فكسى الزبير رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثيابا بيضاء، رواه البخاري عن عروة مرسلا، ووصله الحاكم عن عروة عن أبيه الزبير، وكذا لقيهما طلحة بن عبيد الله وكساهما، رواه ابن أبي شيبة وغيره، وأخرج البيهقي عن بريدة بن الحصين، قال: لما جعلت قريش مائة من الإبل لمن يرد النبي -صلى الله عليه وسلم- حملني الطمع فركبت في سبعين من بني سهم فلقيته، فقال: "من أنت"؟ قلت: بريدة، فالتقت -صلى الله عليه وسلم- إلى أبي بكر، وقال: "بردًا مرنًا وصلح"، ثم قال: "ممن أنت"؟ قلت: من أسلم، قال: "سلمنا"، ثم قال: "ممن"؟ قلت: من بني سهم، قال: "خرج سهمك يا أبا بكر"، فقال بريدة للنبي -صلى الله عليه وسلم: من أنت؟ قال: "أنا محمد بن عبد الله رسول الله"، فقال بريدة: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله، فأسلم بريدة وأسلم من كان معه جميعا، قال بريدة: الحمد لله الذي أسلم بنو سهم طائعين غير مكرهين، فلما أصبح قال بريدة: يا رسول الله! لا تدخل المدينة إلا ومعك لواء فحل عمامته ثم شدها في رمح ثم مشى بين يديه حتى دخلوا المدينة.
"ولما بلغ المسلمين" حال كونهم "بالمدينة خروج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من مكة" ولعله بلغهم لما سمع أهل مكة الهاتف أو نحو ذلك، فلا ينافي أنه لم يعلم بخروجه من مكة إلا علي وآل أبي بكر، "فكانوا" جواب لما دخلته الفاء على قلة "يغدون" بسكون المعجمة: يخرجون غدوة، وأتى بقوله: "كل غادة" أي: بكرة النهار مع قوله يغدون إشارة إلى تكرر ذلك منهم وهو أقوى من كان من المضارع؛ لأن منهم من صحح أنها لا تفيد التكرار أو لأنه لما استعمل الغدوة في الذهاب، أي: وقت كان، كان ذكره الأزهري أتى به ليعين المراد منه "إلى الحرة" بفتح المهملة وشد الراء: أرض ذات حجارة سود كانت بها الوقعة المشهورة أيام يزيد، "ينتظرونه حتى(2/148)
يردهم حر الظهيرة، فانقبلوا يوما بعد ما أطالوا انتظارهم، فلما أووا إلى بيوتهم أوفى رجل من يهود على أطم من آطامهم، فبصر برسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه مبيضين يزول بهم السراب، فلم يملك اليهودي نفسه فصاح فأعلى صوته يا بني قيلة هذا جدكم -أي حظكم ومطلوبكم- قد أقبل، فخرج إليه بنو قيلة -وهم الأوس والخزرج- سراعا بسلاحهم، فنزل بقباء على بني عمرو بن عوف.. الحديث رواه البخاري.
وفيه: أن أبا بكر قام للناس، وجلس.........
__________
يردهم حر الظهيرة" كما في حديث عائشة في البخاري، وعند ابن سعد: فإذا أحرقتهم الشمس رجعوا إلى منازلهم، وللحاكم عن عبد الرحمن بن عويم بن ساعدة عن رجل من قومه: كنا نخرج فنلجأ بظاهر الحرة نلجأ إلى ظل المدر حتى تغلبنا عليه الشمس، ثم نرجع إلى رحالنا، ولم أر عدة الأيام التي فعلوا ذلك فيها، ويحتمل أنها الثلاثة التي مكثها في الغار واليومان اللذان لبثهما عند المرأة، "فانقلبوا يوما بعدما طال انتظارهم" له عليه السلام، "فلما أووا إلى بيوتهم أوفى" بفتح الهمزة والفاء طلع، "رجل من يهود" قال الحافظ: لم أقف على اسمه "على أطم" بضم الهمزة والطاء، "من آطامهم" وهو الحصن، ويقال: إنه كان بناء من حجارة كالقصر، كما في الفتح.
"فبصر" بفتح الموحدة وضم المهملة، أي: علم "برسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه" كأبي بكر ومولاه، والدليل: وبريدة حال كونهم "مبيضين" أي: عليهم الثياب البيض التي كساها إياهم الزبير وطلحة، وقال ابن التين: يحتمل أن معناه مستعجلين، قال ابن فارس: يقال بائض، أي: مستعجلين ويدل عليه "يزول بهم" أي: يرفعهم ويظهرهم، "السراب" المرئي نصف النهار في شدة الحر كأنه ماء، وفي الفتح: أي يزول بسبب عروضهم له، وقيل: معناه ظهرت حركتهم فيه للعين، "فلم يملك اليهودي نفسه فصاح بأعلى صوته: يا بني قيلة" بفتح القاف وسكون التحتية: الجدة الكبرى للأنصار والدة الأوس والخرزج وهي بنت كاهل بن عذرة، "هذا جدكم" بفتح الجيم وشد المهملة، "أي: حظكم ومطلوبكم" وصاحب دولتكم الذي تتوقعونه، وفي رواية: هذا صاحبكم، "قد أقبل فخرج إليه بنو قيلة وهم الأوس والخزرج سراعا بسلاحهم" إظهارا للقوة والشجاعة لتطمئن نفسه -صلى الله عليه وسلم- بقدومه عليهم ويظهر صدقهم له في مبايعتهم إياه على أن يمنعوه مما يمنعون منه أبنائهم وأنفسهم، "فنزل بقباء على بني عمرو بن عوف" بن مالك من الأوس بن حارثة على فرسخ من المسجد النبوي، وكان نزوله على كلثوم بن الهدم، قيل: كان يومئذ مشركا، وجزم به محمد بن زبالة.
"الحديث رواه البخاري" من حديث عائشة "وفيه: أن أبا بكر قام للناس" يتلقاهم "وجلس(2/149)
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صامتا، فطفق من جاء من الأنصار ممن لم ير رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يحيي أبا بكر، حتى أصابت الشمس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأقبل أبو بكر حتى ظلل عليه بردائه، فعرف الناس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عند ذلك.
وظاهر هذا أنه عليه الصلاة والسلام كانت الشمس تصيبه، وما تقدم من تظليل الغمام والملك له كان قبل بعثه، كما هو صريح في موضعه.
قال موسى بن عقبة عن ابن شهاب: وكان قدومه عليه السلام لهلال ربيع الأول، أي أول يوم منه.
وفي رواية جرير بن حازم عن ابن إسحاق: قدمها لليلتين خلتا من شهر ربيع الأول، ونحوه عند أبي معشر،........
__________
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صامتا فطفق" بكسر الفاء وفتحها: جعل، "من جاء من الأنصار ممن لم ير رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يحيي أبا بكر" أي: يسلم عليه يظنه رسول الله -صلى الله عليه وسلم، كما في رواية ابن عقبة عن ابن شهاب، وهو ظاهر السياق خلافا لقول ابن اللتين لمعرفتهم أبا بكر لكثرة تردده لهم في التجارة إلى الشام، بخلاف المصطفى فلم يأتها بعد أن كبر، قاله الحافظ ملخصا، أي: وأما من رآه كاهل العقبات فإنهم يحيونه لمعرفتهم به، لكن لو وقع لعلمه غيرهم ممن لم يره بتحية الرأس، فلعلهم تأخروا ذلك الوقت لعذر، "حتى أصابت الشمس رسول -صلى الله عليه وسلم- فأقبل أبو بكر حتى ظلل عليه بردائه فعرف الناس رسول الله عند ذلك"، وعن ابن عقبة عن الزهري: فطفق من جاء من الأنصار ممن لم يكن رآه يحسبه إياه، حتى إذا أصابته الشمس أقبل أبو بكر بشيء أظله به، وعند ابن إسحاق عن عبد الرحمن بن عويم: أناخ إلى الظل هو وأبو بكر، والله ما أدري أيهما هو حتى رأينا أبا بكر ينحاز له عن الظل فعرفناه بذلك.
"وظاهر هذا أنه عليه الصلاة والسلام كانت الشمس تصيبه وما تقدم من تظليل الغمام والملك له كان قبل بعثته كما هو صريح في موضعه" فلا ينافي ما هنا "ال موسى بن عقبة عن ابن شهاب: وكان قدومه عليه السلام لهلال ربيع الأول، أي أول يوم منه" فليس دخوله مقارنا لطلوع الهلال، كما قد يتوهم من قوله لهلال إذ اللام بمعنى عند.
"وفي رواية جرير بن حازم" بن زيد بن عبد الله الأزدي البصري الثقة المتوفى سنة سبعين ومائة، "عن ابن إسحاق قدمها لليلتين خلتا من شهر ربيع الأول"، وهذا يجمع بينه وبين ما قبله بالاختلاف في رؤية الهلال كما يأتي قريبا، "ونحوه عند أبي معشر" نجيح بن عبد الرحمن الهاشمي مولاهم السندي بكسر المهملة وسكون النون فيه مقال، لكن قال مغلطاي: هو من(2/150)
لكنه قال: ليلة الاثنين.
وعن ابن سعد: قدمها لاثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الأول.
وفي "شرف المصطفى" من طريق أبي بكر بن حزم: قدم لثلاث عشرة من ربيع الأول.
وهذا يجمع بينه وبين الذي قبله بالحمل على الاختلاف في رؤية الهلال.
وقيل: كان حين اشتد الضحاء يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت منه. وبه جزم النووي في كتاب السير من الروضة.
وقال ابن الكلبي: خرج من الغار يوم الاثنين أول يوم ربيع الأول............
__________
المعتمدين في السير مر بعض ترجمته، "لكنه قال ليلة الاثنين" ومثله عن ابن البرقي، وثبت كذلك في أواخر مسلم، قال مغلطاي: وفيه نظر، والدمياطي: هو غير محفوظ ويأتي جمع الحافظ، "وعن ابن سعد" ليس هو محمد بن سعد كانت الواقدي كما هو المتبادر عند الإطلاق، وإنما هو هنا كما في فتح الباري إبراهيم بن سعد عن ابن إسحاق، "قدمها لاثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الأول" وإبراهيم هذا آخر من روى المغازي عن ابن إسحاق، كما في الروض.
"وفي" كتاب "شرف المصطفى" لأبي سعد النيسابوري "من طريق أبي بكر" بن محمد بن عمرو "بن حزم" بمهملة وزاي الأنصاري النجاري قاضي المدينة ثم أميرها، مات سنة عشرين ومائة عن أربع وثمانين سنة. "قدم لثلاث عشرة من ربيع الأول".
قال الحافظ في الفتح: "وهذا" أي: المذكور، "يجمع بينه وبين الذي قبله" من القولين الأولين وهما لهلال ولليلتين والأخيرين وهما لاثنتي عشرة ولثلاث عشرة، "بالحمل على الاختلاف في رؤية الهلال" زاد في الفتح: وعند أبي سعد في الشرف من حديث عمر: ثم نزل على بني عمرو بن عوف يوم الاثنين لليلتين بقيتا من ربيع الأول، كذا فيه ولعله كان خلتا ليوافق رواية جرير بن حازم. "وقيل: كان حين اشتد الضحاء" بالفتح والمد كما في النور، أي: قوي وكمل ببلوغه آخر وقته، فلا ينافي ما مر أن اليهود رآهم يزول بهم السراب. وأما الضحى بالضم والقص فالشمس، كما في القاموس "يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت منه، وبه جزم النووي في كتاب السير من الروضة"، وثنى به في الإشارة.
"وقال ابن الكلبي" هشام بن محمد "خرج من الغار يوم" الذي في الفتح عن ابن الكلبي: ليلة "الاثنين أول ربيع الأول"، قال الحافظ: ويوافقه جزم ابن حزم بأنه خرج من مكة ثلاث ليال بقين من صفر، فإن كان محفوظا فلعل قدومه قباء كان يوم الاثنين ثامن ربيع الأول، انتهى.(2/151)
ودخل المدينة يوم الجمعة لثنتي عشرة خلت منه، وقيل ليلتين خلتا منه.
وعند البيهقي: لاثنتين وعشرين ليلة.
وقال ابن حزم: خرجا من مكة وبقي من صفر ثلاث ليال.
وأقام علي بمكة بعد مخرج النبي -صلى الله عليه وسلم- ثلاثة أيام، ثم أدركه بقباء يوم الاثنين سابع -وقيل: ثامن- عشر ربيع الأول، وكان مدة مقامه مع النبي -صلى الله عليه وسلم- ليلة أو ليلتين.
وأمر -صلى الله عليه وسلم- بالتاريخ...........
__________
وهذا الذي ترجاه صدر به مغلطاي في الإشارة، قال الحافظ: وإن ضم إلى قول أنس أقام بقباء أربع عشرة ليلة خرج منه أن دخوله المدينة كان لاثنين وعشرين منه، لكنه قال: "ودخل المدينة يوم الجمعة لاثنتي عشرة خلت منه"، فعلى هذا تكون إقامته بقباء أربع ليال فقط، وبه جزم ابن حبان فإنه قال: أقام بها الثلاثاء والأربعاء والخميس، يعني: وخرج يوم الجمعة فلم يعد يوم الخروج، وكذا قال ابن عقبة: أنه أقام فيهم ثلاث ليال، فكأنه لم يعتد بيوم الخروج ولا الدخول، انتهى.
"وقيل: ليلتين خلتا منه" قاله ابن الجوزي. قال مغلطاي: وفيه نظر، وعند ابن الزبير عن الزهري: قدم في نصف ربيع الأول، وقيل: في سابعه، والأكثر أنه قدم نهارا. وفي مسلم: ليلا، وجمع الحافظ بأن القدوم كان آخر الليل فدخل فيه نهارا.
"وعند البيهقي: لاثنتين وعشرين ليلة" فيوافق قول أنس: أقام بقباء أربع عشرة ليلة، مع ضمه لقوله: "وقال ابن حزم: خرجا من مكة، وبقي من صفر ثلاث ليال" فيكون خروجهما يوم الخميس والإقامة بالغار ليلة الجمعة والسبت والأحد والخروج منه ليلة الاثنين، وهذا يوافق الجمع السابق. "وأقام علي بمكة بعد مخرج النبي -صلى الله عليه وسلم- ثلاثة أيام" حتى أدى للناس ودائعهم التي كانت عند المصطفى وخلفه لردها، "ثم أدركه بقباء يوم الاثنين سابع، وقيل: ثامن عشر ربيع الأول، وكانت مدة مقامه مع النبي -صلى الله عليه وسلم" بقباء "ليلة أو ليلتين" وفي روضة الأحباب: وكان علي يسير بالليل ويختفي بالنهار، وقد نقبت قدماه فمسحهما النبي -صلى الله عليه وسلم- ودعا له بالشفاء، فبرئتا في الحال، وما اشتكاهما بعد اليوم قط.
"وأمر -صلى الله عليه وسلم" وهو بقباء "بالتاريخ" قال الجوهري: هو تعريف الوقت والتوريخ مثله، يقال: أرخت وورخت، وقيل: اشتقاقه من الأخ، وهو الأنثى من بقر الوحش، كأنه شيء حدث كما يحدث الولد، وقيل: هو معرب، ويقال: أول ما أحدث التاريخ من الطوفان، قاله في الفتح.(2/152)
فكتب من حين الهجرة.
وقيل: إن عمر أول من أرخ وجعله من المحرم.
__________
واصطلاحا، قيل: توقيت الفعل بالزمان ليعلم ما بين مقدار ابتدائه وبين أي غاية وضعت له فإذا قلت: كتبت كذا في يوم كذا من شهر كذا، ثم قرئ بعد سنة مثلا علم أن ما بين القراءة والكتابة سنة، وقيل: هو أول مدة من شهر ليعلم به مقدار ما مضى، واختصت العرب بإنها تؤرخ بالسنة القمرية لا الشمسية، فلذا قدمت الليالي؛ لأن الهلال إنما يظهر ليلا.
"فكتب من حين الهجرة" رواه الحاكم في الإكليل عن الزهري وهو معضل والمشهور خلافه، وأن ذلك زمن عمر، كما قال الحافظ. "وقيل: إن عمر أول من أرخ" أخرج أبو نعيم الفضل بن دكين في تاريخه، ومن طريقه الحاكم عن الشعبي أن أبا موسى كتب إلى عمر أنه يأتينا منك كتب ليس لها تاريخ، فجمع عمر الناس، فقال بعضهم أرخ بالمبعث وبعضهم بالهجرة، فقال عمر: الهجرة فرقت بين الحق والباطل، فأرخوا بها وبالمحرم؛ لأنه منصرف الناس من حجهم، فاتفقوا عليه وذلك سنة سبع عشرة.
ورواه ابن أبي خيثمة عن ابن سيرين بنحوه، قال: ولك في سنة سبع عشرة، وقيل: ست عشرة في ربيع الأول، فلذا قال: "وجعله من المحرم"؛ لأن ابتداء العزم على الهجرة كان فيه، إذا البيعة وقعت أثناء ذي الحجة، وهي مقدمة الهجرة وأول هلال استهل بعدها، والعزم على الهجرة الهلال المحرم، فناسب أن يجعل مبتدأ؛ والمتحصل من مجموع آثار أن الذي أشار بالمحرم عمر وعثمان وعلي، وذكر السهيلي: أن الصحابة أخذوا التاريخ بالهجرة من قوله: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ} [التوبة: 108] ؛ لأن من المعلوم أنه ليس أول الأيام مطلقا فتعين أنه أضيف إلى شيء مضمر، وهو أول الزمن الذي عز فيه الإسلام وعبد النبي -صلى الله عليه وسلم- ربه آمنا وابتدأ فيه بناء المسجد، فوافق رأي الصحابة ابتداء التاريخ من ذلك اليوم وفهمنا من فعلهم أن قوله تعالى: {مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ} [التوبة: 108] ، أنه أول التاريخ الإسلامي، قال في الفتح: كذا قال والمتبادر أن معنى قوله: {مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ} [التوبة: 108] ، أي: دخل النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه المدينة، انتهى.
وقد قال ابن المنير: كلام السهيلي تكلف وتسعف وخروج عن تقدير الأقدمين فإنهم قدروه من تأسيس أول يوم، فكأنه قيل: من أول يوم وقع فيه التأسيس، وهذا تقدير تقتضيه العربية وتشهد له الآية، وقيل: أول من أرخ يعلى بن أبية حين كان باليمن، حكاه مغلطاي. ورواه أحمد بإسناد صحيح عن يعلى. قال الحافظ: لكن فيه انقطاع بين عمرو بن دينار ويعلى، ولم يؤرخوا بالمولد ولا بالمبعث؛ لأن وقتهما لا يخلو من نزاع من حيث الاختلاف فيهما، ولا بالوفاة النبوية(2/153)
وأقام عليه السلام بقباء في بني عمرو بن عوف اثنتين وعشرين ليلة.
وفي صحيح مسلم: أقام فيهم أربع عشرة ليلة.
ويقال: إنه أقام يوم الاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس.
وأسس مسجد قباء، الذي أسس على التقوى، على الصحيح،............
__________
لما يقع في تذكره من الأسف والتألم على فراقه، وقيل: بل أرخ بوفاته عليه السلام، حكاه مغلطاي.
"و" اختلف في قدر إقامته في قباء، فذكر موسى بن عقبة عن ابن شهاب عن مجمع بن جارية: أنه "أقام عليه السلام بقباء في بني عمرو بن عوف اثنتين وعشرين ليلة" وحكاه الزبير بن بكر عن قوم بن بني عمرو. "وفي صحيح مسلم" لا وجه لاقتصار عليه بل والبخاري كلاهما عن أنس، "أقام فيهم أربع عشرة ليلة" وبه يفسر قول عائشة: بضع عشرة ليلة، "ويقال: أنه أقام يوم الاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس"، قاله ابن إسحاق، وجزم به ابن حبان.
قال اليعمري: وهو المشهور عند أصحاب المغازي، قيل: أقام ثلاثا فقط، رواه ابن عائذ عن ابن عباس وابن عقبة عن الزهري، وقال إسحاق: أقام فيهم خمسا وبنو عمرو بن عوف يزعمون أكثر من ذلك. قال الحافظ: أنس ليس من بني عمرو فإنهم من الأوس وأنس من الخزرج، وقد جزم بما ذكر فهو أولى بالقبول من غيره انتهى. لا سيما مع صحة الطريق إليه لاتفاق الشيخين عليه، وفي ذخائر العقبى: أقام ليلة أو ليلتين.
"وأسس" -صلى الله عليه وسلم- "مسجد قباء" وصلى فيه، روى ابن زبالة: أنه كان لكلثوم بن الهدم مربد فأخذه -صلى الله عليه وسلم- فأسسه وبناه مسجدا. وأخرج عبد الرزاق والبخاري عن عروة وابن عائد عن ابن عباس: الذي بنى فيهم المسجد الذي أسس على التقوى هم بنو عمرو بن عوف. وروى يونس في زيادات المغازي عن الحكم بن عتيبة: لما نزل -صلى الله عليه وسلم- قباء، قال عمار بن ياسر: ما لرسول الله بد من أن نجعل له مكانا يستظل فيه ذا استيقظ، ويصلي فيه، فجمع حجارة فبنى مسجد قباء، فهو أول مسجد بني، يعني في الإسلام.
وروى ابن أبي شيبة عن جابر، قال: لقد لبثنا بالمدينة قبل أن يقدم علينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بسنتين نعمر المساجد ونقيم الصلاة، ولذا أقبل المتقدمون في الهجرة من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- والأنصار بقباء قد بنوا مسجدا يصلون فيه، فلما هاجر -صلى الله عليه وسلم- وورد بقباء صلى فيه إلى بيت المقدس ولم يحدث فيه شيئا، وجمع بينها بما حاصله: أنه لم يحدث فيه شيئا في أول بنائه لكن لما قدم وصلى فيه غير بناءه وقدم القبلة موضعها اليوم، كما في حديث عند ابن أبي شيبة أيضا.
"الذي أسس على التقوى على الصحيح" في تفسير الآية، وهو ظاهرها وقول الجمهور،(2/154)
وهو أول مسجد بني في الإسلام وأول مسجد صلى فيه عليه السلام بأصحابه جماعة ظاهرا، وأول مسجد بني لجماعة المسلمين عامة، وإن كان تقدم بناء غيره من المساجد لكن لخصوص الذي بناه.
__________
وبه جزم عروة بن الزبير عند البخاري وغيره، كما علم وذهب قوم منهم ابن عمر وأبو سعد وزيد بن ثابت إلى أنه مسجد المدينة وحجته قوية فقد صح مرفوعا نصا. أخرج مسلم عن أبي سعيد: سألت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن المسجد الذي أسس على التقوى، فقال: "وهو مسجدكم هذا". وروى أحمد والترمذي عن أبي سعيد: اختلف رجلان في المسجد الذي أسس على التقوى، فقال أحدهما: هو مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم، وقال الآخر: هو مسجد قباء، فأتيا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فسألاه عن ذلك، فقال: "هو هذا، وفي ذلك خير كثير"، وأخرجه أحمد عن سهل بن سعد نحوه.
وأخرجه من وجه آخر عن سهل عن أبي كعب مرفوعا، ولهذه الأحاديث وصحتها جزم الإمام مالك في العتيبة بأن الذي أسس على التقوى مسجد المدينة. وقال ابن رشد في شرحها: أنه الصحيح، قال الحافظ: والحق أن كلا منهما أسس على التقوى، وقوله تعالى في بقية {يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا} ، الآية يؤيد كون المراد مسجد قباء، وعند أبي داود بإسناد صحيح عن أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قالت: نزلت رجال يحبون أن يتطهروا في أهل قباء، وعلى هذا فالسر في جوابه -صلى الله عليه وسلم- بأن المسجد الذي أسس على التقوى مسجده رفع توهم أن ذلك خاص بمسجد قباء، قال الداودي وغيره: ليس هذا اختلافا؛ لأن كلامهما أسس على التقوى، وكذا قال السهيلي وزاد غيره: أن قوله من أول يوم يقتضي مسجد قباء؛ لأن تأسيسه في أول يوم حل النبي -صلى الله عليه وسلم- بدار الهجرة، انتهى.
"وهو" في التحقيق، كما قال الحافظ: "أول مسجد بني في الإسلام وأول مسجد صلى فيه عليه السلام بأصحابه جماعة ظاهرا، وأول مسجد بني لجماعة المسلمين عامة، وإن كان تقدم بناء غيره من المساجد" كبناء أبي بكر بفناء داره، "لكن لخصوص الذي بناه" فلا يعادل هذا، وقد روى الترمذي عن أسيد بن ظهير عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "الصلاة في مسجد قباء ركعتين أحب إليَّ من أن آتي بيت المقدس مرتين، لو يعلمون ما في قباء لضربوا إليه أكباد الإبل". وأخرج الشيخان عن ابن عمر: كان -صلى الله عليه وسلم- يزور قباء أو يأتي قباء راكبا أو ماشيا، وأخرجا عنه أيضا رفعه: "من صلى فيه كان كعدل عمرة". روى ابن ماجه عن سهل بن حنيف رفعه: "من تطهر في بيته ثم أتى مسجد قباء فصلى فيه صلاة، كان كأجر عمرة". وأخرج مالك وأحمد والبخاري والنسائي والحاكم عن ابن عمر: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يأتي مسجد قباء كل سبت راكبا أو(2/155)
ثم خرج عليه السلام من قباء يوم الجمعة حين ارتفع النهار، فأدركته الجمعة في بني سالم بن عوف فصلاها بمن كان معه من المسلمين، وهم مائة، في بطن وادي رانوناء -براء مهملة ونونين ممدودا، كعاشوراء وتاسوعاء- واسم المسجد "غبيب"، بضم الغين المعجمة، بتصغير غب، كما ضبطه صاحب المغانم المطابة،
__________
ماشيا وكان عبد الله يفعله. "ثم خرج عليه السلام من قباء يوم الجمعة" كما عند ابن عائذ وابن إسحاق، وإنما يأتي على أنه أقام بقباء أربعة أيام، كما قال زين الحافظ:
أقام أربعا لديه وطلع ... في يوم جمعة فصلى وجمع
في مسجد الجمعة وهو أول ... ما جمع النبي فيما نقلوا
وقيل بل أقام أربع عشرة ... فيهم وهم ينتحلون ذكره
وهو الذي أخرجه الشيخان ... لكن ما مر من الإتيان
لمسجد الجمعة يوم جمعة ... لا يستقيم مع هذي المدة
إلا على القول بكون القدمة ... إلى قبا كانت بيوم الجمعة
"حين ارتفع النهار فأدركته الجمعة" أي: صلاتها وتعبيره بيوم الجمعة مشعر بقدم تسميتها بذلك، وهو أحد الأقوال لجمع الخلائق فيه يوم القيامة، أو لأن خلق آدم جمع فيه، وقيل: أول من سماه بذلك كعب بن لؤي، وقيل: قصي، كما مر في النسب الكريم. وقيل: التسمية به إسلامية لاجتماع الناس للصلاة فيه، لما جمع أسعد بن زرارة بالناس قبل الهجرة النبوية.
"في" أرض أو مساكن "بني سالم بن عوف فصلاها" بمسجدهم "بمن كان معه من المسلمين، وهم مائة" وقيل: أربعون، ولا ينافيهما رواية: أنه حين قدم عليه السلام استقبله زهاء خمسمائة بقباء لجوا أنهم رجعوا بعد إلى المدينة، فلم يبق معه لما دخل بني سالم إلا هؤلاء. "في بطن وادي رانوناء، براء مهملة ونونين ممدودا كعاشوراء وتاسوعاء، واسم المسجد غبيب بضم الغين المعجمة" وفتح الموحدة وسكون التحتية فموحدة، "بتصغير غب، كما ضبطه صاحب المغانم المطابة" في فضائل طابة، وهو المجد الشيرازي صاحب القاموس، ويقع في بعض النسخ السقيمة زيادة.
وفي القاموس: الغبغب كجندب وكان أصله طرة معارضة لضبط المصنف؛ لأن تصغيره على هذا: غبيب، بشد الياء فألحقها من لا يميز وهي خطأ شنيع؛ لأن القاموس إنما ذكره في العين(2/156)
والودي: ذي صلب، ولذا سمي مسجد الجمعة، وهو مسجد صغير مبني بحجارة قدر نصف القامة، وهو على يمين السالك إلى مسجد قباء.
وركب -صلى الله عليه وسلم- على راحلته بعد الجمعة متوجها إلى المدينة.
وروى أنس بن مالك أنه -صلى الله عليه وسلم- أقبل إلى المدينة وهو مردف أبا بكر،.........
__________
المهملة، فقال: العب شرب الماء، إلى أن قال: والعيعب كجندب كثرة الماء وواد، وصرح في الغين المعجمة بمثل ما هنا، فقال: وكزبير موضع بالمدينة.
"الوادي" اسمه "ذي صلب" كذا في نسخ بالياء، وكان اسمه بالياء، فقصد حكايته. وفي نسخة: ذو صلب، وأخرى: والوادي صلب، وهما ظاهرتان.
وفي القاموس: الصلب بالضم وعسكر وأسير. "ولذا" أي: لصلاته عليه السلام فيه "سمي مسجد الجمعة" وهي أول جمعة صلاها، وأول خطبة خطبها في الإسلام؛ كما قال ابن إسحاق، وجزم به اليعمري، وقيل: كان يصلي الجمعة في مسجد قباء مدة إقامته. "وهو مسجد صغير مبني بحجارة قدر نصف القامة، وهو على يمين السالك إلى مسجد قباء" أي: وكان مختصا بني سالم، لما مر أن أول مسجد بني لعامة المسلمين مسجد قباء، وبكونه للعامة لا ينافيه قول جابر: لقد لبثنا بالمدينة قبل أن يقدم النبي -صلى الله عليه وسلم- سنتن نعمر المساجد، ولا يرد أن التحرير أن بين ابتداء هجرة الصحابة وبين الهجرة النبوية شهرين؛ وبعض شهر؛ لأن ابتداء الهجرة كان بعد العقبة الثالثة هجرة الصحابة وبين الهجرة النبوية شهرين؛ وبعض شهر؛ لأن ابتداء الهجرة كان بعد العقبة الثالثة بتلك المدة، وعمارة المساجد بعد الأولى، ودفع اتشكاله بزيادة المدة على سنتين بأنهم لم يعمروا بمجرد رجوع الستة الأولين إلى المدينة، بل بعد ظهور الإسلام بها.
"وركب -صلى الله عليه وسلم- على راحلته بعد" صلاة "الجمعة متوجها إلى المدينة. وروى أنس بن مالك: أنه -صلى الله عليه وسلم- أقبل إلى المدينة وهو مردف أبا بكر" خلفه على الراحلة التي هو عليها إكراما له، وإلا فقد كان له راحلة، كما مر. وفي فتح الباري، قال الداودي: يحتمل أنه مرتدف خلفه على راحلته، ويحتمل أن يكون على راحلة أخرى. قال الله تعالى: {بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ} [الأنفال: 9] ، أي: يتلو بعضهم بعضا. ورجح ابن التين الأول، وقال: لا يصح الثاني لأنه يلزم منه أن يمشي أبو بكر بين يدي النبي -صلى الله عليه وسلم.
قلت: إنما يلزم ذلك لو كان الخبر جاء بالعكس، كأن يقول: والنبي مرتدف خلف أبي بكر، فأما ولفظه: وهو مردف أبا بكر فلا، وسيأتي في الباب بعده، يعني في البخاري من وجه آخر عن أنس: فكأني انظر إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- على راحلته وأبو بكر ردفه، انتهى. وذكر ابن هشام: أنهم لما وصلوا إلى العرج أبطأ عليهم بعض ظهرهم، فحمل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أوس بن حجر(2/157)
وأبو بكر شيخ يعرف، والنبي صلى الله عليه وسلم شاب لا يعرف، قال: فيلقى الرجل أبا بكر فيقول: يا أبا بكر من هذا الذي بين يديك، فيقول: هذا الرجل يهديني السبيل، فيحسب الحاسب أنه إنما يعني الطريق، وإنما يعني سبيل الخير، الحديث رواه البخاري.
وقد روى ابن سعد أنه صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر: "أله عني الناس"، فكان إذا سئل من أنت؟ قال: باغي فإذا قيل: من هذا معك؟ قال: هذا يهديني السبيل.
وفي حديث الطبراني، من رواية أسماء: وكان أبو بكر رجلا معروفا في الناس، فإذا لقيه لاق يقول لأبي بكر: من هذا معك؟ فيقول: هذا يهديني الطريق يريد الهداية في الدين، ويحسبه الآخر دليلا.
__________
الأسلمي على جمل له إلى المدينة وبعث معه غلاما يقال له مسعود بن هنيدة، وأخرجه الطبراني وغيره عن أوس وفيه: أنه أعطاهما فحل إبله وأرسل معهما غلامه مسعودا، وأمره أن لا يفارقهما حتى يصلا المدينة.
"وأبو بكر شيخ" قد أسرع إليه الشيب "يعرف" لأنه كان يمر على أهل المدينة في سفر التجارة، كما في الفتح، "والنبي صلى الله عليه وسلم شاب" لا شيب فيه، "لا يعرف" لعدم تردده إليهم، فإنه كان بعيد العهد بالسفر من مكة. "قال" أنس: "فيلقى الرجل أبا بكر: فيقول: يا أبا بكر! من هذا الذي بين يديك؟ فيقول: هذا الرجل يهديني السبيل، فيحسب" بفتح السين في لغة جميع العرب، إلا بني كنانة فكسروها في المضارع والماضي على غير قياس، "الحاسب أنه إنما يعني الطريق" الحسية، "وإنما يعني" أبو بكر "سبيل الخير ... الحديث" ذكر في بقيته تعرض سراقة وتلقي الأنصار ثم ركوبه إلى أن وصل دار أبي أيوب، "رواه البخاري" في الهجرة.
"وقد روى" محمد "بن سعد" ما يبين سبب هذه التورية، وهو "أنه صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر: "أله" بفتح الهمزة وإسكان اللام "عني الناس، فكان إذا سئل من أنت، قال: باغي حاجة، فإذا قيل: من هذا معك؟ " حذف الموصول الاسمي وأبقى صلته، أي: الذي معك، وهو جائز عند الكوفيين، أو هو حال من ذا، "قال: هذا يهدين السبيل،" وهذا من معاريض الكلام المغنية عن الكذب جمعا بين المصلحتين: "وفي حديث الطبراني من رواية أسماء" بنت الصديق: "وكان أبو بكر رجلا معروفا في الناس، فإذا لقيه لاق، يقول لأبي بكر: من هذا" حال كونه "معك؟ " أو الذي معك، "فيقول: هذا يهديني الطريق، يريد الهداية في الدين" المتجددة المتكررة لتعبيره بالمضارع دون الماضي، "ويحسبه الآخر" الذي سأله، "دليلا" للطريق الحقيقي، وإلى هنا انتهى(2/158)
وإنما كان أبو بكر معروفا لأهل المدينة لأنه مر عليهم في سفره للتجارة، وكان صلى الله عليه وسلم لم يشب، وكان صلى الله عليه وسلم أسن من أبي بكر. وفي حديث: لم يكن في الذين هاجروا أشمط غير أبي بكر.
__________
ما نقله من رواية الطبراني.
وبين المصنف سبب قول أنس: يعرف ولا يعرف، فقال: "وإنما كان أبو بكر معروفا لأهل المدينة لأنه مر عليهم في سفره للتجارة" إلى الشام مرور تردد ومخالطة حتى عرفوه لا مجرد السير؛ إذ لا يستدعي المعرفة. وفي الفتح: لأنه كان يمر على المدينة في سفر التجارة بخلاف النبي صلى الله عليه وسلم في الأمرين، فإنه كان بعيد العهد بالسفر من مكة، أي: لأنه سافر مع عمه وهو صغير، كما مر.
"وكان صلى الله عليه وسلم لم يشب" حينئذ ثم شاب بعض شعرات في راسه ولحيته، كما يأتي في شمائله، "و" إلا ففي نفس الأمر، "كان صلى الله عليه وسلم أسن من أبي بكر" فإنه استكمل بمدة خلافته سن المصطفى، على الصحيح خلاف ما يتوهم من قوله شاب وأبو بكر شيخ. وقد ذكر أبو عمر من رواية حبيب بن الشهيد عن ميمون مهران عن يزيد بن الأصم: أنه صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر: "أيما أسن أنا أو أنت"؟ قال: أنت أكرم يا رسول الله مني وأكبر، وأنا أسن منك، قال أبو عمر: هذا مرسل، ولا أظنه إلا وهما. قال الحافظ: وهو كما ظن وإنما يعرف هذا الناس. وأما أبو بكر ففي مسلم عن معاوية أنه عاش ثلاثا وستين سنة، وعاش بعد المصطفى سنتين وأشهرا، فيلزم على الصحيح في سنة صلى الله عليه وسلم أن أبا بكر أصغر منه بأكثر من سنتين، انتهى. ولا يرد عليه قول أنس شيخ؛ لأنه من جاوز الأربعين كان في المصباح.
"وفي حديث أنس" عند البخاري "لم يكن في الذين هاجروا أشمط" بفتح الهمزة والميم بينهما معجمة ساكنة ثم طاء مهملة، أي: خالط سواد شعره بياضه، "غير أبي بكر" فغلفها بالحناء والكتم حتى قنأ لونها غلف، بفتح الغين المعجمة واللام الثقيلة، كما قال عياض: إنه الرواية وبالفاء قال الحافظ: أي خضبها، والمراد اللحية وإن يقع لها ذكر حتى قنأ بفتح القاف والنون والهمزة، أي: اشتدت حمرتها. ا. هـ. أي: حتى ضربت إلى السواد وإطلاق الشمط على شيب غير الرأس نقله في المغرب عن الليث وخصه غيره بشيب الرأس، والحديث شاهد للأول. والكتم فتح الكاف والمثناة الخفيفة، وحكي تثقيلها: ورق يخضب به كالآس ينبت في أصغر الصخور فيتدلى حيطانا لطافا ومجتناه صعب، ولذا قال. وقيل: إنه يخلط بالوسمة، وقيل: إنه الوسمة، وقيل: هو النيل، وقيل: حناء قريش وصبغه أصفر.(2/159)
وكان عليه الصلاة والسلام كلما مر على دار من دور الأنصار يدعوه إلى المقام عندهم: يا رسول الله، هلم إلى القوة والمنعة، فيقول: خلوا سبيله -يعني ناقته- فإنها مأمورة. وقد أرخى زمامها، وما يحركها، وهي تنظر يمينا وشمالا، حتى إذا أتت دار ابن مالك بن النجار، بركت على باب المسجد، وهو يومئذ مربد
__________
"وكان عليه الصلاة والسلام كلما مر على دار من دور الأنصار يدعونه إلى المقام" بضم الميم، أي: الإقامة، "عندهم" بقولهم: "يا رسول الله! هلم إلى القوة والمنعة" العز والجماعة الذي يمنعونك ويحمونك بحيث لا يقدر عليك، من استعمال المشترك في معنييه، فالمنعة بفتحتين: مشترك بين العز والجماعة الذين يحمونك وإن سكنت النون فبمعنى العز فقط، قال الحافظ: وسمي ممن سأله الزول عندهم: عنبان بن مالك في بني سالم، وفروة بن عمرو في بني بياضة، والمنذر بن عمرو وسعد بن عبادة وغيرهما في بني ساعدة، وأبو سليط وغيره في بني عدي. "فيقول:" لكل منهم: "خلو سبيلها"، يعني ناقته" القصواء أو الجدعاء، وفي إنهما ثنتان أو واحدة لها لقبان خلاف، وفي الألفية: عضباء جدعاء هما القصواء، لكن روى البزار عن أنس: خطبنا النبي صلى الله عليه وسلم على العضباء وليست الجدعاء. قال السهيلي: فهذا من قول أنس أنها غير الجدعاء، وهو الصحيح، "فإنها مأمورة" قال ابن المنير: الحكمة البالغة في إحالة الأمر على الناقة أن يكون تخصيصه عليه السلام لمن خصه الله بنزوله عند آية معجزة تطيب بها النفوس، وتذهب معها المنافسة، ولا يحيك ذلك في صدر أحد منهم شيئا. "وقد أرخى زمامها وما يحركها وهي تنظر يمينا وشمالا حتى إذا أتت دار ابن مالك بن النجار بركت" بفتح الراء "على باب المسجد" كذا عند ابن إسحاق، ولابن عائذ وسعيد بن منصور مرسلا: عند موضع المنبر من المسجد. وفي الصحيح عن عائشة: عن مسجد النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة وهو فيه يومئذ رجال من المسلمين.
وفي حديث البراء عن ابن بكر: فتنازعه القوم أيهم ينزل عليه، فقال: "إني أنزل على أخوال عبد المطلب"، أكرمهم بذلك. وقد قيل: يشبه أن يكون هذا أول قدومه من مكة قبل نزوله قباء لا في قدومه باطن المدينة، فلا يخالف قوله: "إنها مأمورة". "وهو يومئذ مربد" بكسر الميم وسكون الراء وفتح الموحدة: هو الموضع الذي يجفف فيه التمر. وقال الأصمعي: المربد كل شيء حبست فيه الإبل أو الغنم، وبه سمي مربد البصرة؛ لأنه كان موضع سوق الإبل، قاله الحافظ. وفي النور: أصله من ربد بالمكان إذا أقام فيه، وربده: حبسه، والمربد أيضا الذي يجعل فيه التمر لينشف كالبيدر للحنطة، انتهى. والمراد هنا التمر. ففي البخاري عن عائشة: وكان مربدا للتمر.(2/160)
لسهل وسهيل ابني رافع بن عمرو، وهما يتيمان في حجر معاذ بن عفراء -وقال أسعد بن زرارة وهو الراجح- ثم ثارت، وهو صلى الله عليه وسلم عليها حتى بركت على باب أبي أيوب الأنصاري، ثم ثارت منه وبركت في مبركها الأول،..........................
__________
"لسهل" مكبرا ذكره اليعمري في البدريين، وقال أبو عمر: لم يشهدها. وقال ابن منده: يقال: شهد أحدًا ومات في خلافة عمر، "وسهيل" مصغرا بدرا وما بعدها، وتوفي في خلافة عمر، قاله ابن عبد البر. قال في الإصابة: وزعم ابن الكلبي أنه قتل مع علي بصفين. "ابني رافع بن عمرو" كما عند ابن الكلبي، وتبعه الزبير بن بكار وابن عبد البر والذهبي وغيرهم، وقال الزهري وابن إسحاق: هما ابنا عمرو. وقال اليعمري: وهو الأشهر. والحافظ في الإصابة: هو الأرجح. وحاول السهيلي التوفيق، فقال: هما ابنا رافع بن عمرو، يعني كما صرح به الجماعة فنسبهما الزهري وابن إسحاق إلى جدهما، وهذا حسن. وابن عقبة في الإصابة بأن أرجح قول الزهري وتلميذه؛ لأنه ذكر في الفتح ما جمع به السهيلي عن نص الزبير بن بكار وهو ابن الكلبي إماما أهل النسب، فتعين جمع السهيلي.
"وهما يتيمان في حجر معاذ بن عفراء" كما عند ابن إسحاق وأبي عبيد في التقريب، "وقال: أسعد" بالألف "ابن زرارة" أبو أمامة من سباق الأنصار إلى الإسلام، ذكر ابن سعد أن أسعد كان يصلي فيه قبل أن يقدم النبي صلى الله عليه وسلم "وهو الراجح" إذ هو الثابت في البخاري وغيره. قال في الإصابة: ويمكن الجمع بأنهما كانا تحت حجرهما معا، ولذا وقع في الصحيح قوله صلى الله عليه وسلم: "يا بني النجار، ثامنوني". ووقع في رواية أبي ذر وحده للبخاري سعد بلا ألف، والصواب كما في الفتح والنور: أسعد، بالألف وهو الذي في رواية الباقين. قال الحافظ: وسعد تأخر إسلامه، انتهى. وذكره غير واحد في الصحابة، قال عياض: لم يذكره كثيرو؛ لأنه ذكر في المنافقين. وحكى الزبير أنهما كانا في حجر أبو أيوب.
قال في فتح الباري: وأسعد أثبت وقد يجمع باشتراكهم أو بانتقال ذلك بعد أسعد إلى من ذكروا واحدا بعد واحدا. "ثم ثارت وهو صلى الله عليه وسلم عليها" ومشت "حتى بركت على باب أبي أيوب" خالد بن زيد بن كليب "الأنصاري" من بني مالك بن النجار من كبار الصحابة، شهد بدرا والمشاهد ومات غازيا الروم سنة خمسين، وقيل: سنة إحدى، وقيل: اثنتين وخمسين، وهو الأكثر. "ثم ثارت" بمثلثة وفوقية: قامت "منه وبركت في مبركها الأول" عند المسجد إشارة إلى أن بروكها في الأول بطريق القصد لا الاتفاق، قاله الحافظ. أو إلى أنه منزله حي وميتا، وقد يكون مشيها قليلا ثم رجوعها إشارة إلى الاختلاف اليسير الذي وقع في دفنه، ثم الموافقة لرأي أبي بكر في أنه يخط له تحت الفرش الذي توفي عليه، قاله البرهان البقاعي.(2/161)
وألقت جرانها بالأرض -يعني باطن عنقها أو مقدمه من المذبح- وأرزمت -يعني صوتت من غير أن تفتح فاها- ونزل عنها صلى الله عليه وسلم وقال: "وهذا المنزل إن شاء الله".
واحتمل أبو أيوب رحله وأدخله في بيته، ومعه زيد بن حارثة، وكانت دار بني النجار أوسط دور الأنصار وأفضلها، وهم أخوال عبد المطلب، جده عليه السلام.
وفي حديث أبي أيوب الأنصاري، عند أبي يوسف يعقوب...........................
__________
"وألقت جرانها" بكسر الجيم "بالأرض، يعني باطن عنقها" كما قاله السهيلي "أو مقدمه من المذبح" إلى المنحر، وبه جزم المجد، وذكر السهيلي عن بعض السير: أنها لما ألقت جرانها في دار بني النجار جعل جبار بن صخر السلمي ينخسها بحديدة رجاء أن تقوم فتنزل في دار بني سلمة، فلم تفعل. "وأرزمت" بهمزة فراء ساكنة فزاي مفتوحة "يعني: صوتت من غير أن تفتح فاها" قاله أبو زيد، قال: وذلك على ولدها حين ترأمه، وقال صاحب العين: أرزمت بالألف معناه رغت ورجعت في رغائها، ويقال منه أرزم الرعد وأرزمت الريح، ويروى: رزمت بلا ألف، أي: نامت من الإعياء والهزال ولم تتحرك.
"ونزل عنها صلى الله عليه وسلم، وقال: "وهذا المنزل إن شاء الله" واحتمل أبو أيوب رحله" بإذنه صلى الله عليه وسلم "وأدخله بيته ومعه زيد بن حارثة، وكانت دار بني النجار أوسط دور الأنصار وأفضلها،" عطف تفسير لأوسط، كما في الصحيح مرفوعا: "خير دور الأنصار بنو النجار"، "وهم أخول عبد المطلب جده عليه السلام" ولذا أكرمهم بنزوله عليهم، كما مر. وروى ابن عائذ وسعيد بن منصور عن عطاف بن خالد: استناخت به أولا فجاءه ناس، فقالوا: المنزل يا رسول الله؟ فقال: "دعوها"، فانبعثت حتى أناخت عند موضع المنبر من المسجد، ثم تحلت فنزل عنها فأتاه أبو أيوب، فقال: إن منزلي أقرب المنازل، فائذن لي أن أنقل رحلك، قال: "نعم"، فنقله وأناخ الناقة في منزله. وذكر ابن سعد أن أبا أيوب لما نقل رحله، قال صلى الله عليه وسلم: "المرء مع رحله"، وأن أسعد بن زرارة جاء فأخذ ناقته فكانت عنده، قال: وهذا أثبت.
"وفي حديث أبي أيوب الأنصاري" النجاري "عند أبي يوسف يعقوب" ابن إبراهيم الأنصاري الإمام العلامة الحافظ فقيه العراق الكوفي، صاحب أبي حنيفة، وروى عن هشام بن عروة وأبي إسحاق الشيباني وعطاء بن السائب وطبقتهم، وعنه محمد بن الحسن وابن حنبل وابن معاوية وخلق: نشأ في طلب العلم وكان أبوه فقيرا، فكان أبو حنيفة يتعاهد أبو يوسف بمائة بعد مائة، قال ابن معين: ليس في أصحاب الرأي أكثر حديثا ولا أثبت من أبي يوسف وهو(2/162)
في كتاب الذكر والدعاء له قال: لما نزل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة فكنت في العلو، فلما خلوت إلى أم أيوب قلت لها: رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق بالعلو منا، تنزل عليه الملائكة وينزل عليه الوحي، فما بت تلك الليلة لا أنا ولا أم أيوب فلما أصبحت، قلت: يا رسول الله، ما بت الليلة أنا ولا أم أيوب، قال: "لِمَ يا أبا أيوب"؟ قال: قلت: كنت أحق بالعلو منا تنزل عليك الملائكة وينزل عليك الوحي، لا والذي بعثك بالحق لا أعلو سقيفة أنت تحتها أبدا. الحديث.....................
__________
صاحب حديث وسنة، مات في ربيع الآخر سنة وثمانين ومائة عن تسع وستين سنة. "في كتاب الذكر والدعاء له، قال" أبو أيوب: "لما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة فكنت في العلو" وفي رواية ابن إسحاق: لما نزل صلى الله عليه وسلم في بيتي نزل في السفل وكنت أنا وأم أيوب في العلو، فقلت: يا نبي الله! بأبي أنت وأمي، إني أكره وأعظم أن أكون فوقك وتكون تحتي، فأظهر أنت فكن في العلو وننزل نحن ونكون في السفل، فقال: "يا أبا أيوب، إن الأرفق بنا ومن يغشانا أن نكون في سفل البيت"، قال: فكان النبي صلى الله عليه وسلم في سفله وكنا فوقه في المسكن. "فلما خلوت إلى أم يوب" زوجته بنت خالة قيس بن سعد الأنصارية النجارية الصحابية، لم يذكر لها اسما في الإصابة. "قلت لها: رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق بالعلو منا، تنزل عليه الملائكة وينزل عليه الوحي، فما بت تلك الليلة لا أنا ولا أم أيوب" بحالة هنية بل بشر ليلة لتلك الفكرة، أو استعمل المبيت في النوم، كأنه قال: ما نمنا من اشتغال الفكر بذلك. وفي رواية: أن أبا بكر أيوب انتبه ليلا فقال: نمشي فوق رسول الله صلى الله عليه وسلم فتحول، فباتوا في جانب.
وفي رواية ابن إسحاق: فلقد انكسر لنا حب فيه ماء، فقمت أنا وأم أيوب لقطيفة لنا ما لنا لحاف غيرها، ننشف بها تخوفا أن يقطر على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم منه شيء، فيؤذيه، "فلما أصبحت، قلت: يا رسول الله! ما بت الليلة أنا ولا أم أيوب. قال: "لِمَ يا أبا أيوب"؟ قال: قلت: كنت" أنت "أحق بالعلو منا، تنزل عليك الملائكة وينزل عليك الوحي،" زاد في رواية: فقال صلى الله عليه وسلم: "الأسفل أرفق بنا"، فقلت: "لا،" يكون ذلك فهي داخلة على محذوف، فقوله: "والذي بعثك بالحق لا أعلو سقيفة أنت تحتها أبدا،" تأكيد لاشتماله على القسم.
زاد في رواية: فلم يزل أبو أيوب يتضرع إليه حتى تحول إلى العلو وأبو أيوب في السفل ... "الحديث" تمامه: وكنا نصنع له العشاء ثم نبعث به إليه، فإذا رد علينا فضلة تيممت أنا وأم أيوب موضع يده نبتغي بذلك البركة حتى بعثنا إليه بعشائه، وقد جلنا فيه بصلا أو ثوما، فرده ولم أر ليده فيه أثرا، فجئته فزعا، قال: "إني وجدت فيه ريح هذه الشجرة، وأنا رجل أناجي فأما أنتم فكلوه" فأكلنا ولن نصنع له تلك الشجرة بعد، أخرجه بتمامه ابن إسحاق في السيرة.(2/163)
رواه الحاكم أيضا.
وقد ذكر أن هذا البيت الذي لأبي أيوب، بناه له عليه الصلاة والسلام تبع الأول لما مر بالمدينة وترك فيها أربعمائة عالم، وكتب كتابا للنبي صلى الله عليه وسلم ودفعه إلى كبيرهم، وسألهم أن يدفعه للنبي صلى الله عليه وسلم فتداول الدار الملاك إلى أن صارت لأبي أيوب، وهو من ولد ذلك العالم..........................................................
__________
"وراه الحاكم أيضا" وغيرهم "وقد ذكر" في المبتدأ لابن إسحاق وقصص الأنبياء: "إن هذا البيت لأبي أيوب بناه عليه الصلاة والسلام، تبع الأول" ابن حسان الحميري، الذي قال صلى الله عليه وسلم فيه: "لا تسبوا تبعا، فإنه قد أسلم"، أخرجه الطبراني. وذكر ابن إسحاق في السيرة. أن اسمه تباب، بضم الفوقية وخفة الموحدة فألف فموحدة: ابن سعد، وفي مغاص الجوهري في أنساب حمير أنه كان تدين بالزبور.
"لما مر بالمدينة" في رجوعه من مكة، "وترك فيها أربعمائة عالم" روى ابن عساكر في ترجمته: أنه قدم مكة، وكسا الكعبة وخرج إلى يثرب، وكان في مائة ألف وثلاثين ألفا من الفرسان ومائة ألف وثلاثة عشر ألفا من الرجالة، ولما نزلها أجمع أربعمائة رجل من الحكماء والعلماء وتبايعوا أن لا يخرجوا منها، فسألهم عن الحكمة في مقامهم، فقالوا: إن شرف البيت وشرف هذه البلدة بهذا الرجل الذي يخرج يقال له محمد صلى الله عليه وسلم، فأراد تبع أن يقيم وأمر ببناء أربعمائة دار لكل رجل دار، واشترى لكل منهم جارية وأعتقها وزوجها منه وأعطاهم عطاء جزيلا وأمرهم بالإقامة إلى وقت خروجه، "وكتب كتابا للنبي صلى الله عليه وسلم" فيه إسلامه، ومنه:
شهدت على أحمد أنه ... رسول من الله باري النسم
فلو مد عمري إلى عمره ... لكنت وزيرا له وابن عم
وختمه بالذهب، "ودفعه إلى كبيرهم وسألهم أن يدفعه للنبي صلى الله عليه وسلم" وعند ابن عساكر: ودفع الكتاب إلى عالم عظيم فصيح كان معه يدبره، وأمره أن يدفع الكتاب لمحمد صلى الله عليه وسلم إن أدركه، وإلا من أدركه من ولده وولد ولده أبدا إلى حين خروجه، وكان في الكتاب: أنه آمن به وعلى دينه. وخرج تبع من يثرب، فمات بالهند، ومن موته إلى مولده صلى الله عليه وسلم ألف سنة سواء. "فتداول الدار" التي بناها تبع للنبي صلى الله عليه وسلم لينزلها إذا قدم المدينة كما في المبتدأ والقصص: "الملاك إلى أن صارت لأبي أيوب وهو من ولد ذلك العالم،" الذي دفع إليه الكتاب، ولما خرج صلى الله عليه وسلم أرسلوا إليه كتاب تبع مع أبي ليلى، فلما رآه صلى الله عليه وسلم، قال له: "أنت أبو ليلى ومعه كتاب تبع الأول" فبقي أبو ليلى متفكرا ولم يعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: من أنت؟ فإني لم أرَ في وجهك أثر السحر، وتوهم أنه ساحر، فقال: "أنا محمد، هات الكتاب"، فلما قرأه قال: "مرحبا(2/164)
قال: وأهل المدينة الذين نصروه عليه الصلاة والسلام من ولد أولئك العلماء. فعلى هذا: إنما نزل في منزل نفسه، لا في منزل غيره، كذا حكاه في تحقيق النصرة.
وفرح أهل المدينة بقدومه صلى الله عليه وسلم، وأشرقت المدينة بحلوله فيها، وسرى السرور إلى القلوب. قال أنس بن مالك: لما كان اليوم الذي دخل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أضاء منها كل شيء، وصعدت ذوات الخدور على الأجاجير عند قدومه يقلن:
طلع البدر علينا ... من ثنيات الوداع
وجب الشكر علينا ... ما دعا لله داع
__________
بتبع الأخ الصالح"، ثلاث مرات.
"قال: وأهل المدينة الذين نصروه عليه الصلاة والسلام من ولد أولئك العلماء" الأربعمائة، وفي رواية: أنهم كانوا الأوس والخزرج، "فعلى هذا" المذكور من أن تبعا بنى للمصطفى دارا "إنما نزل في منزل نفسه لا في منزل غيره، كذا حكاه في تحقيق النصرة،" في تاريخ دار الهجرة لقاضيها الشيخ زين الدين بن الحسين المراغي من مراغة الصعيد من فضلاء طلبة الجمال الإسنوي، "وفرح أهل المدينة بقدومه صلى الله عليه وسلم." روى البخاري عن البراء بن عازب: فما رأيت أهل المدينة فرحوا بشيء فرحهم برسول الله صلى الله عليه وسلم.
وروى أبو داود عن أنس: لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة لعبت الحبشة بحرابهم فرحا بقدومه، "وأشرقت المدينة بحلوله فيها، وسرى السرور إلى القلوب. قال أنس بن مالك: لما كان اليوم الذي دخل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: أضاء منها كل شيء" فلما كان اليوم الذي مات فيه أظلم منها كل شيء، وما نفضنا عن النبي صلى الله عليه وسلم الأيدي حتى أكرنا قلوبنا، أخرج الترمذي في المناقب، وقال: صحيح غريب، وابن ماجه في الجنائز، واقتصر المصنف على حاجته منه هنا. وروى ابن أبي خيثمة والدارمي عن أنس أيضا: شهدت يوم دخول النبي صلى الله عليه وسلم المدينة فلم أر يوما أحسن منه ولا أضوأ من يوم دخل علينا فيه صلى الله عليه وسلم المدينة، "وصعدت ذوات الخدور على الأجاجير" بجيمين جمع أجار، وفي لغة: الأناجير بالنون، أي: الأسطحة، "عند قدومه يقلن" تهنئة له حال دخوله:
"طلع البدر علينا ... من ثنيات الوداع"
"وجب الشكر علينا ... ما دعا لله داع"
زاد رزين:(2/165)
قلت: إنشاد هذا الشعر عند قدومه عليه السلام المدينة رواه البيهقي في الدلائل، وأبو بكر المقرئ في كتاب الشمائل له عن ابن عائشة، وذكره الطبري في الرياض عن ابن الفضل الجمحي قال: سمعت ابن عائشة يقول: أراه عن أبيه فذكره. وقال خرجه الحلواني على شرط الشيخين. انتهى.
وسميت ثنية الوداع لأنه عليه السلام ودعه بها بعض المقيمين بالمدينة في بعض أسفاره.
وقيل: لأنه عليه السلام شيع إليها بعض سراياه، فودعه عندها.
وقيل: لأن المسافر من المدينة كان يشيع إليها ويودع عندها قديما.
__________
أيها المبعوث فينا ... جئت بالأمر المطاع
"قلت: إنشاد هذا الشعر عند قدومه عليه السلام المدينة، رواه البيهقي في الدلائل" النبوية "وأبو بكر المقرئ" بضم الميم وسكون القاف الحافظ محمد بن إبراهيم بن علي بن عاصم الأصبهاني، صاحب المعجم الكبير وغيره، سمع أبا يعلى وعبدان، وعنه ابن مردويه، وأبو نعيم وأبو الشيخ، مات سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة، "في كتاب الشمائل له، عن ابن عائشة" عبيد الله بضم العين، ابن محمد بن حفص بن عمر بن موسى بن عبيد الله بن معمر التيمي، ثقة مات سنة ثمان وعشرين ومائتين، روى له أبو داود والترمذي والنسائي، قال الحافظ: ورمي بالقدر ولا يثبت، ويقال له: ابن عائشة، والعائشي والعيشي نسبة إلى عائشة بن طلحة؛ لأنه من ذريتها.
وذكر ابن أبي شيبة أنه أنفق على إخوانه أربعمائة ألف دينار، حتى التجأ إلى أن باع سقف بيته. "وذكره الطبري في الرياض" النضرة" عن ابن الفضل الجمحي، قال: سمعت ابن عائشة يقول: أراه" أظنه "عن أبيه" محمد بن حفص التيمي "فذكره، وقال" المحب الطبري: "خرجه الحلواني" بضم المهملة وسكون اللام نسبة إلى حلوان آخر العراق، الحسن بن علي بن محمد الهذلي، أبو علي الخلال نسبة إلى الخل نزيل مكة، ثقة حافظ له تصانيف شيخ الجماعة، خلا النسائي مات سنة اثنتين وأربعين ومائتين، "على شرط الشيخين، انتهى" كلام الطبري. وفيه معمر، فالشيخان لم يخرجا لابن عائشة، فلا يكون على شرطهما ولو صح الإسناد عليه، "وسميت ثنية الوداع؛ لأنه عليه السلام ودعه به بعض المقيمين بالمدينة في بعض أسفاره" هو غزوة تبوك، "وقيل: لأنه عليه السلام شيع إليها بعض سراياه،" هي سرية مؤتة "فودعه عندها" وهذان يعطيان أن التسمية حادثة، "وقيل: لأن المسافر من المدينة كان يشيع إليها ويودع عندها قديما،(2/166)
وصحح القاضي عياض الأخير، واستدل عليه بقول نساء الأنصار حين قدومه عليه السلام:
طلع البدر علينا ... من ثنيات الوداع
فدل على أنه اسم قديم.
وقال ابن بطال: إنما سميت ثنية الوداع لأنهم كانوا يشيعون الحاج والغزاة إليها، ويودعونهم عندها، وإليها كانوا يخرجون عند التلقي. انتهى.
قال شيخ الإسلام الولي بن العراقي: وهذا كله مردود، ففي صحيح البخاري وسنن أبي داود والترمذي عن السائب بن يزيد قال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من تبوك خرج الناس يتلقونه من ثنية الوداع. قال: وهذا صريح في أنها من جهة الشام، ولهذا لما نقل والدي رحمه الله في شرح الترمذي كلام ابن.................................
__________
وصحح القاضي عياض الأخير: واستدل عليه بقول نساء الأنصار حين قدومه عليه السلام:
"طلع البدر علينا ... من ثنيات الوداع"
"فدل على أنه اسم قديم"، وهي في الأصل: ما ارتفع من الأرض، وقيل: الطريق في الجبل، "وقال ابن بطال: إنما سميت بثنية الوداع؛ لأنهم كانوا يشيعون الحاج والغزاة إليها، ويودعونهم عندها، وإليها كانوا يخرجون عند التلقي. انتهى.
"قال شيخ الإسلام الولي بن العراقي: وهذا كله مردود، ففي صحيح البخاري" في الجهاد والمغازي "وسنن أبي داود والترمذي عن السائب بن يزيد" بن سعيد بن ثمامة الكندي، وقيل في نسبه غير ذلك، صحابي صغير له أحاديث قليلة ولاه عمر سوق المدينة، وهو آخر من مات بها سنة إحدى وتسعين أو قبلها، "قال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من تبوك خرج الناس" كلهم رجالا ونساء وصبيانا وولائد فرحا به وسرورا بضد ما أرجف به المنافقون إذ كانوا يخبرون عنه أخبار السوء في غيبته، ولأنهن ألفنه صلى الله عليه وسلم بخلاف الهجرة، صعدت المخدرات على الأسطحة؛ لأنهن لم يكن رأينه وإن فشا فيهم الإسلام، "يتلقونه من ثنية الوداع، قال" ابن العراقي: "وهذا صريح في أنها من جهة الشام" لا مكة، فظهر منه رد كلام ابن بطال، وأثر ابن عائشة ولم يظهر منه رد كلام عياض؛ لأنه لم يقل حين قدومه من مكة، فيحمل على أنه حين قدومه من تبوك، وكذا القولان قبله في سبب التسمية؛ لأن بعض أسفاره وسراياه مبهم، فيحمل على تبوك ومؤتة، ففي قوله: وهذا كله مردود، نظر بل بعضه.
"ولهذا لما نقل والدي" الحافظ عبد الرحيم "رحمه الله في شرح الترمذي كلام ابن(2/167)
بطال قال: إنه وهم، قال: وكلام ابن عائشة معضل لا تقوم به حجة. انتهى.
وسبقه إلى ذلك ابن القيم في الهدي النبوي فقال: هذا وهم من بعض الرواة؛ لأن ثنية الوداع إنما هي من ناحية الشام، لا يراها القادم من مكة ولا يمر بها إلا إذا توجه إلى الشام، وإنما وقع ذلك عند قدومه من تبوك.
لكن قال ابن العراقي أيضا: ويحتمل أن تكون الثنية التي من كل جهة يصل إليها المشيعون يسمونها بثنية الوداع.
__________
بطال، قال: إنه وهم" بفتحتين: غلط، "قال: وكلام ابن عائشة، معضل لا تقوم به حجة، انتهى" ونحوه قول الفتح هنا بعد أثر ابن عائشة، وعزوه لتخريج أبي سعد في الشرف، والخلعي في فوائد هذا سنده معضل، ولعل ذلك كان في قدومه من غزوة تبوك، انتهى. وأما قوله في الفتح: في تبوك، في شرح حديث السائب أنكر الداودي هذا، وتبعه ابن القيم وقال: ثنية الوداع من جهة مكة لا من جهة تبوك، بل هي مقابلها كالمشرق والمغرب، قال إلا أن يكون هناك ثنية أخرى في تلك الجهة. قلت: لا يمنع كونها من جهة الحجاز أن يكون خروج المسافر من جهتها وهذا واضح، كما في دخول مكة من ثنية والخروج منها من أخرى، وينتهي كلاهما إلى طريق واحدة، وقد روينا بسند منقطع في الخليعات قول النسوة لما قدم المدينة:
طلع البدر علينا ... من ثنيات الوداع
فقيل ذلك عند قدومه من غزوة تبوك، انتهى. فهو مع ما فيه من المخالفة لكلام شيخه العراقي وابنه، وكلامه نفسه هنا آخره مخالف لأوله، ونقله عن ابن القيم مخالف لقول المصنف.
"وسبقه إلى ذلك ابن القيم في الهدي النبوي،" أي: كتابه زاد المعاد في هدي خير العباد، "فقال: هذا وهم من بعض الرواة؛ لأن ثنية الوداع إنما هي من ناحية الشام لا يراها القادم من مكة ولا يمر بها إلا إذا توجه إلى الشام، وإنما وقع ذلك عند قدومه من تبوك" وأجاب الشريف السمهودي: بأن كونها شامي المدينة لا يمنع كون هذه الأبيات أنشدت عند الهجرة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم ركب ناقته وأرخى زمامها، وقال: " دعوها فإنها مأمورة" ومر بدور الأنصار من بني ساعدة، ودارهم شامي المدينة وقرب ثنية الوداع، فلم يدخل باطن المدينة إلا من تلك الناحية، فلا وهم وهو جواب حسن، وإن كان شيخنا البابلي رحمه الله يستبعده بأنه يلزم عليه أن يرجع ويمر على قباء ثانيا، فلا يعد فيه ولو لزم ذلك لإرخائه زمام الناقة، وكونها مأمورة.
"لكن قال ابن العراقي أيضا: ويحتمل" في دفع الوهم "أن تكون الثنية التي من كل جهة يصل إليها المشيعون يسمونها بثنية الوداع" قال الخميس: يشبه أن هذا هو الحق ويؤيده جمع(2/168)
وفي "شرف المصطفى" وأخرجه البيهقي عن أنس: لما بركت الناقة على باب أبي أيوب خرج جوار من بني النجار بالدفوف ويقلن:
نحن جوار من بني النجار ... يا حبذا محمد من جار
فقال صلى الله عليه وسلم: "أتحببنني"، قلن: نعم يا رسول الله. وفي رواية الطبراني في الصغير فقال عليه السلام: "الله يعلم أن قلبي يحبكم".
وقال الطبري: وتفرق الغلمان والخدم في الطرق ينادون جاء محمد، جاء رسول الله.
ووعك أبو بكر وبلال،....................................................................
__________
الثنيات؛ إذ لو كان المراد التي من جهة الشام لم تجمع، قال: ولا مانع من تعدد وقوع هذا الشعر مرة عند الهجرة، ومرة عند قدومه من تبوك، فلا ينافي ما في البخاري وغيره، ولا ما قاله ابن القيم، انتهى.
"وفي شرف المصطفى" لأبي سعد النيسابوري، "وأخرج البيهقي" وشيخه الحاكم "عن أنس: لما بركت الناقة على باب أبي أيوب خرج جوار" في الطرقات "من بني النجار" زاد الحاكم: يضربن "بالدفوف" جمع دف بضم الدال وفتحها. لغة، "ويقلن" عطف على يضربن، "نحن جوار" جمع جارية وهي الشابة أمة أو حرة، وهو المراد: لقولهن "من بني النجار" دون لبني النجار "يا" قومنا "حبذا" فدخل حرف النداء على مقدر؛ لأنه لا يدخل على الأفعال، وحب فعل ماض "محمد بن جار" تمييز، "فقال صلى الله عليه وسلم: "أتحبنني"؟ بضم التاء من أحب، وبفتحها وكسر الموحدة من حب، "قلن: نعم يا رسول الله. وفي رواية الطبراني في الصغير" زيادة "فقال عليه السلام: "الله يعلم إن قلبي يحبكم"، بالميم: يا معشر الأنصار أنتن منهم أو الميم للتعظيم، كقوله:
وإن شئت حرمت النساء سواكم
وفي رواية: فقال: "والله وأنا أحبكن"، قالها ثلاث مرات، فلعله قال الجميع، أو ذا لبعض وذا لبعض.
"وقال الطبري: وتفرق الغلمان" جمع غلام وهو الابن الصغير، "والخدم" جمع خادم ذكرا أو أنثى صغيرا أو كبيرا، "في الطريق ينادون" فرحا "جاء محمد جاء رسول الله" وهذا أخرجه الحاكم في الإكليل عن البراء، ولفظه: فخرج الناس حين قدم المدينة في الطرق والغلمان والخدم، يقولون: جاء محمد رسول الله، الله أكبر جاء محمد رسول الله، "و" لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة "وعك" بضم الواو وكسر العين، أي: حم "أبو بكر وبلال" قالت عائشة:(2/169)
وكان أبو بكر إذا أخذته الحمى يقول:
كل امرئ مصبح في أهله ... والموت أدنى من شراك نعله
وكان بلال إذا أقلعت عنه الحمى يرفع عقيرته ويقول:
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة ... بواد وحولي إذخر وجليل
وهل..........................
__________
فدخلت عليهما، فقلت: يا أبت، كيف تجدك؟ ويا بلال، كيف تجدك؟ كما في رواية للبخاري.
وأخرج ابن إسحاق والنسائي عنهما: لما قدم صلى الله عليه وسلم المدينة وهي أوبأ أرض الله، أصاب أصحابه منها بلاء وسقم وصرف الله ذلك عن نبيه، وأصابت أبا بكر وبلالا وعامر بن فهيرة، فاستأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في عيادتهم، وذلك قبل أن يضرب علينا الحجاب، فأذن لي فدخلت عليهم وهم في بيت واحدة، قالت: "وكان أبو بكر إذا أخذته الحمى، يقول:" وفي رواية ابن إسحاق والنسائي: فقلت: كيف تجدك يا أبت؟ فقال: "كل امرئ مصبح" بضم الميم وفتح المهملة والموحدة الثقيلة، أي: مصاب الموت صباحا، وقيل: يقال هـ: صبحك الله بالخير وهو منعم "في أهله والموت أدنى" أقرب إليه "من شراك" بكسر المعجمة وخفة الراء: سير، "نعله" الذي على ظهر القدم، والمعنى: أن الموت أقرب إلى الشخص من قرب شراك نعله إلى رجله، وذكر عمر بن شيبة في أخبار المدينة: أن هذا الرجز لحنظلة بن سيار قاله يوم ذي قار، وتمثل به الصديق رضي الله عنه. وفي رواية ابن إسحاق والنسائي: فقلت: إنا لله، إن أبي ليهذي وما يدري ما يقول: ثم دنوت إلى عامر فقلت: كيف تجدك يا عامر، فقال:
لقد وجدت الموت قبل ذوقه ... إن الجبان حتفه من فوقه
كل امرئ مجاهد بطوقه ... كالثور يحمي أنفه بروقه
فقلت: هذا والله ما يدري ما يقول، أي: لأنها سألتهم عن حالهم فأجابوها بما لا يتعلق به. والطوق: الطاقة. والروق: القرن يضرب مثلا في الحث على حفظ الحريم، قال السهيلي: ويذكر أن هذا الشعر لعمرو بن مامة.
"وكان بلال إذا أقلعت" بفتح الهمزة واللام، ولأبي ذر بضم الهمزة وكسر اللام، "عنه الحمى" أي: تركته، كما في رواية ابن إ سحاق والنسائي، وزادا: اضطجع بفناء البيت، ثم "يرفع عقيرته" بفتح المهملة وكسر القاف وسكون التحتية وفتح الراء وفوقية، أي: صوته بالبكاء، "ويقول: ألا" بخفة اللام أداة استفتاح "ليت شعري" أي: مشعوري، أي: ليتني علمت بجواب ما تضمنه قولي "هل أبيتن ليلة بواد" هو وادي مكة، "وحولي إذخر" بكسر الهمزة وسكون الذال وكسر الخاء المعجمتين: حشيش مكة ذو الرائحة الطيبة، "وجليل" بجيم: نبت ضعيف، "وهل(2/170)
...أردن يوما مياه مجنة ... وهل يبدون لي شامة وطفيل
اللهم العن شيبة بن ربيعة وأمية بن خلف كما أخرجونا من أرضنا إلى أرض الوباء.
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد، اللهم بارك لنا في صاعنا ومدنا، وصححه لنا..........................................
__________
أردن" بنون التوكيد الخفيفة "يوما مياه" بالهاء "مجنة" بفتح الميم والنون المشددة وتكسر الميم: موضع على أميال من مكة كان به سوق في الجاهلية، "وهل يبدون" بنون التأكيد الخفيفة: يظهرن، "لي شامة" بمعجمة وميم خفيفة على المعروف، "وطفيل" بفتح المهملة وكسر الفاء وسكون التحتية، قيل: وهذان البيتان ليسا لبلال بل لبكر بن غالب الجرهمي أنشدهما لما بعثهم خزاعة من مكة، فتمثل بهما بلالا "اللهم العن" عتبة بن ربيعة و"شيبة بن ربيعة ,وأمية بن خلف،" هكذا ثبت لعنه للثلاثة في البخاري، آخر كتاب الحج وسقط الأول من قلم المصنف سهوا، وبه يستقيم الجمع في "كما أخرجونا" فلا حاجة للاعتذار بأن المراد: ومن كان على طريقهما في الإيذاء ولذا جمع والكاف للتعليل وما مصدرية، أي: أخرجهم من رحمتك لإخراجهم إيانا "من أرضنا" التي توطناها، ولا يشكل بأن لعن المعين لا يجوز لإمكان أنه علم من النبي صلى الله عليه وسلم أنهم لا يؤمنون، وقد قيل في آية {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ} [البقرة: 6] ، أنها نزلت في معينين، كأبي جهل وأضرابه "إلى أرض الوباء" بالقصر والمد: المرض العام، وهو أعم من الطاعون. وقال المصنف في مقصد الطب: الدليل على مغايرة الطاعون للوباء أن الطاعون لم يدخل المدينة.
وقد قالت عائشة: دخلنا المدينة وهي أوبأ أرض الله، وقال بلال: أخرجونا من أرضنا إلى أرض الوباء، انتهى. فلا يعارض قدومه إليها وهي وبئة نهيه عن القدوم على الطاعون، لاختصاص النهي به وبنحوه من الموت السريع لا المرض، ولو عم "ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم" بعد أن أخبرته عائشة بشأنهما. ففي رواية البخاري هنا: قالت عائشة: فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته. وفي رواية ابن إسحاق والنسائي: فذكرت ذلك لرسول الله، فقلت: يا رسول الله! إنهم ليهذون وما يعقلون من شدة الحمى، فنظر إلى السماء، وقال: "اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة، أو أشد" فاستجاب الله له وكانت أحب إليه من مكة، كما جزم به السيوطي.
"اللهم بارك لنا في صاعنا ومدنا، وصححها لنا"، فاستجاب الله له فطيب هواءها وترابها وساكنها والعيش بها، قال ابن طبال وغيره: من أقام بها يجد من تربتها وحيطانها رائحة طيبة لا تكاد توجد في غيرها. قال العلامة الشامي: وقد تكرر دعاؤه عليه الصلاة والسلام بتحبيب(2/171)
وانقل حماها إلى الجحفة".
قالت -يعني عائشة: وقدمنا المدينة وهي أوبأ أرض الله،...................................
__________
المدينة والبركة في ثمارها، والظاهر أن الإجابة حصلت بالأول، والتكرير لطلب المزيد فيها من الدين والدنيا، وقد ظهر ذلك في نفس الكيل بحيث يكفي المد بها ما لا يكفيه بغيرها، وهذا أمر محسوس لمن سكنها.
"وأنقل حماها إلى الجحفة" بضم الجيم وسكون المهملة وفتح الفاء: قرية جامعة على اثنين وثمانين ميلا من مكة نحو خمس مراحل وثمانية من المدينة، وكانت تسمى مهيعة، وبه عبر هنا في رواية ابن إسحاق والنسائي بفتح الميم وسكون الياء على وزن جميلة، وكانت يومئذ مسكن اليهود، وهي الآن ميقات مصر والشام والمغرب، ففيه جواز الدعاء على الكفار بالأمراض والهلاك وللمسلمين بالصحة وإظهار معجزة عجيبة فإنها من يومئذ وبئة لا يشرب أحد من مائها إلا حم، ولا يمر بها طائر إلا حم وسقط.
وروى البخاري والترمذي وابن ماجه عن ابن عمر رفعه: "رأيت في المنام، كأن امرأة سوداء ثائرة الرأس خرجت من المدينة حتى نزلت مهيعة، فتأولتها أن وباء المدينة نقل إليها".
وفي رواية: قدم إنسان من طريق مكة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "هل لقيت أحدًا"؟ قال: يا رسول الله، إلا امرأة سوداء عريانة ثائرة الرأس فقال صلى الله عليه وسلم: "تلك الحمى، ولن تعود بعد اليوم"، ولا مانع من تجسم الأعراض خرقا للعادة، لتحصل الطمأنينة لهم بإخراجها. قال السمهودي: والموجود الآن من الحمى بالمدينة ليس من حمى الوباء بل رحمة ربنا، ودعوة نبينا للتكفير، قال: وفي الحديث: "أصح المدينة ما بين حرة بني قريظة، والعريض"، وهو يؤذن ببقاء شيء منها به، وأن الذي نقل عنها أصلا ورأسا سلطانها وشدتها ووباؤها وكثرتها بحيث لا يعد الباقي بالنسبة إليها شيئا، قال: ويحتمل أنها رفعت بالكلية ثم أعيدت خفيفة لئلا يفوت ثوابها، كما أشار إليه الحافظ ابن حجر، ويدل له ما رواه أحمد وأبو يعلى وابن حبان والطبراني عن جابر: استأذنت الحمى على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "من هذه"؟ فقالت: أم ملدم، فأمر بها إلى أهل قباء، فبلغوا ما لا يعلمه إلا الله فشكو ذلك إليه، فقال: "ما شئتم" إن شئتم دعوت الله ليكشفها عنكم، وإن شئتم تكون لكم طهورا؟ " قالوا: أوتفعل؟ قال: "نعم"، قالوا: فدعها، انتهى.
"قالت: يعني عائشة: وقدمنا المدينة" بعد ذلك والمسجد يبنى، كما يأتي "وهي أوبأ أرض الله" أي: أكثر وباء وأشد من غيرها، زاد ابن إسحاق: قال هشام بن عروة: وكان وباؤها معروفا في الجاهلية، وكان الإنسان إذا دخلها وأراد أن يسلم من وبائها، قيل: انهق، فينهق كما(2/172)
فكان بطحان يجري نجلا. تعني: ماء آجنا.
وقال عمر: اللهم ارزقني شهادة في سبيلك واجعل موتي في بلد رسولك. رواه البخاري.
__________
ينهق الحمار، وفي ذلك يقول الشاعر:
لعمري لئن غنيت من خيفة الردى ... نهيق حمار إنني لمروع
وفي حديث البراء عند البخاري: أن عائشة وعكت أيضا وكان أبو بكر يدخل عليها. وأخرج ابن إسحاق عن الزهري عن عبد الله بن عمرو بن العاصي، قال: أصابت الحمى الصحابة حتى جهدوا مرضا، وصرف الله تعالى ذلك عن نبيه حتى ما كانوا يصلون إلا وهم قعود، فخرج صلى الله عليه وسلم وهم يصلون كذلك، فقال: "اعلموا أن صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم، فتجشموا القيام" أي: تكلفوه على ما بهم من الضعف والسقم التماس الفضل، "فكان بطحان" بضم الموحدة وحكى فتحها وسكون الطاء المهملة: معهما، وقيل: بفتح أوله وكسر الطاء، وعزا عياض الأول للمحدثين، والثالث للغويين وبين واد بالمدينة.
روى البزار وابن أبي شيبة عن عائشة مرفوعا: "بطحان على ترعة من الجنة" بضم الفوقية، أي: باب أو درجة "يجري نجلا" بفتح النون وسكون الجيم، أي: ينزنز، أي: ماء قليلا، وقيل: هو الماء حين يسيل، وقيل: الغدير الذي لا يزال فيه الماء. وقال البخاري: "تعني" عائشة "ماء آجنا" أي: متغير الطعم واللون، وخطأه عياض ورده الحافظ: بأنها قالته كالتعليل لكون المدينة وبئة، ولا شك أن النجل إذا فسر بالماء الحاصل من النز فهو بصدد أن يتغير، وإذا تغير كان استعماله مما يحدث الوباء في العادة، انتهى.
"و" استجاب الله لرسوله فسكن محبة المدينة في قلوب صحبه، حتى "قال عمر: اللهم ارزقني شهادة في سبيلك واجعل موتي في بلد رسولك" لما في كل منهما من الفضل العظيم، فقد روى أحمد والترمذي وابن ماجه وابن حبان عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم: "من استطاع أن يموت بالمدينة فليمت بها، فإني أشفع لمن يموت بها"، أي: أخصه بشفاعة غير العامة زيادة في إكرامه. قال السمهودي: فيه بشرى لساكنها بالموت على الإسلام، لاختصاص الشفاعة بالمسلمين وكفى به مزية، فكل من مات بها مبشر بذلك، وقال ابن الحاج: فيه دليل على فضلها على مكة لإفراده إياها بالذكر، انتهى. واستجاب الله دعاء الفاروق فرزقه الشهادة بها على يد فيروز النصراني عبد المغيرة ودفن عند حبيبه.
"رواه" أي: هذا الحديث الذي أوله: ووعك أبو بكر "البخاري" عن عائشة في كتاب(2/173)
وقوله: يرفع عقيرته: أي صوته؛ لأن العقيرة الساق، وكان الذي قطعت رجله رفعها وصاح، ثم قيل لكل من صاح ذلك، حكاه الجوهري.
وشامة وطفيل: عينان بقرب مكة، والمراد بالوادي وادي مكة.
وجليل: نبت ضعيف.
__________
الحج وغيره، ورواه أيضا مسلم وأحمد وابن إسحاق والنسائي، "وقوله: يرفع عقيرته، أي: صوته؛ لأن العقيرة السابق" المقطوعة كما في القاموس فغيرها لا يسمى به. "وكان" فعل ماض "الذي قطعت رجله فرفعها" كما قال الأصمعي، أصله أن رجلا انعقرت رجله فرفعها "وصاح، ثم قيل لكل من صاح ذلك" وإن لم يرفع رجله، "حكاه الجوهري" قال ثعلب: وهذا من الأسماء التي استعملت على غير أصلها، انتهى. فجعله مأخوذا من العقيرة بمعنى الساق، إشارة إلى أنه الأصل لا أنه لا يمكن غيره، فإنه يمكن تفسيره بالصوت الكائن من ألم الحمى التي أصابته. ففي القاموس إطلاق العقيرة على صوت الباكي، "وشامة وطفيل عينان بقرب مكة" كما ارتضاه الخطابي، فقال: كنت أحسبهما جبلين حتى مررت بهما، ووقفت عليهما فإذا هما عينان من ماء، وقواه السهيلي بقول كثير:
وما أنس مشيا ولا أنس موقفا ... لنا ولها بالخب خب طفيل
والخب: منخفض الأرض، انتهى. وقيل: هما جبلان على نحو ثلاثين ميلا من مكة. وقال البكري: مشرفان على مجنة على بريد من مكة، وجمع باحتمال أن العينين بقرب الجبلين أو فيهما، إلا أن كلام الخطابي يبعد الثاني. وزعم القاموس أن شامة بالميم تصحيف من المتقدمين، والصواب: شابة، بالباء، قال: وبالميم وقع في كتب الحديث جميعها، كذا قال وأشار الحافظ لرده. فقال: زعم بعضهم أن الصواب بالموحدة، بدل الميم، والمعروف بالميم، انتهى. "والمراد بالوادي" في قول بلال: بواد "وادي مكة" وقد رواه النسائي وغيره بفج، وهو أيضا واد خارج مكة، يقول فيه الشاعر:
ماذا بفج من الأسواق والطيب ... ومن جوار نقيات عرابيب
"وجليل: نبت ضعيف" له خواص أو شيء يشبه الخوص يحشى به البيوت وغيرها، وهو الثمام بضم المثلثة. قال السهيلي رحمه الله: وفي هذا الخبر وما ذكر فيهم من حنينهم إلى مكة ما جلبت عليه النفوس من حب الوطن والحنين إليه، وقد جاء في حديث أصيل الغفاري، ويقال فيه الهذلي: أنه قدم من مكة فسألته عائشة: كيف تركت مكة يا أصيل؟ فقال: تركتها حين ابيضت أباطحها، وأحجن ثمامها، وأغدق إذخرها، وأبشر سلمها، فاغروقت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: "تشوقنا يا أصيل". ويروى أنه قال: "دع القلوب تقر" وقد قال الأول:(2/174)
وأقام صلى الله عليه وسلم عند أبي أيوب سبعة أشهر. وقيل: إلى صفر من السنة الثانية. وقال الدولابي: شهرا.
__________
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة ... بوادي الخزامى حيث ربتني أهلي
بلاد بها نيطت على تمائمي ... وقطعن عني حين أدركني عقلي
انتهى. وأصيل بالتصغير، كما في الإصابة. "وأقام صلى الله عليه وسلم عند أبي أيوب سبعة أشهر" قاله ابن سعد، وجزم به في الفتح. "وقيل: إلى صفر من السنة الثانية، وقال الدولابي:" أقام عنده "شهرا" حكى الأقوال الثلاثة مغلطاي، والله أعلم.(2/175)
"ذكر بناء المسجد النبوي وعمل المنبر":
وكان يصلي حيث أدركته الصلاة، ولما أراد عليه السلام بناء المسجد الشريف، قال: يا بني النجار ثامنوني بحائطكم، قالوا: لا نطلب ثمنه إلا إلى الله، فأبى ذلك صلى الله عليه وسلم...................................................................
__________
ذكر بناء المسجد النبوي وعمل المنبر:
"وكان" عليه الصلاة والسلام "يصلي حيث أدركته الصلاة" فأراد بناء مسجد جامع للمصلين معه، "ولما أراد عليه السلام بناء المسجد الشريف، قال" الأظهر: فلما، بالفاء كما عبر بها أنس. أخرج الشيخان وغيرهما عنه: كان صلى الله عليه وسلم يحب أن يصلي حيث أدركته الصلاة، ويصلي في مرابض الغنم، فأرسل إلى ملأ من بني النجار، فقال: "يا بني النجار ثامنوني" بالمثلثة، أي: اذكروا لي ثمنه لأشتريه منكم، قاله الحافظ في كتاب الصلاة. وقال هنا، أي: قرروا معي ثمنه أو ساوموني بثمنه، ثامنت الرجل إذا ساومته، واقتصر المصنف على الثاني، ونحوه قول الشامي، أي: بايعوني وقاولوني، انتهى.
وهو بالنظر إلى الصيغة فقط إذ ليس ثم مفاعلة، فالأول أولى وخاطب البعض بخطاب الكل؛ لأن المخاطبين أشرافهم "بحائطكم" أي: بستانكم، وتقدم أنه كان مربدا، فلعله كان أولا حائطا ثم خرب فصار مربدا، ويؤيده قوله أي أنس: أنه كان فيه نخل وحرث، وقيل: كان بعضه بستانا وبعضه مربدا، قاله الحافظ. ويؤيده أيضا حديث عائشة فساومهما بالمربد ليتخذه مسجدا، ولا ينافيه حديث أنس؛ لأنه لا مانع من وجود النخل والحرث في المربد وسماه حائطا باعتبار ما كان. وفي رواية ابن عيينة: فكلم عمهما، أي: الذي كانا في حجره أن يبتاعه منهما.
"قالوا: لا نطلب ثمنه إلا إلى الله" قال الحافظ: تقديره من أحد لكن الأمر فيه إلى الله، أو إلى بمعنى من، كما في رواية الإسماعيلي وزاد ابن ماجه: أبدا "فأبى" أي: كره "ذلك صلى الله عليه وسلم"(2/175)
وابتاعها بعشرة دنانير أداها من مال أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وكان قد خرج من مكة بماله كله.
قال أنس: وكان في موضع المسجد نخل وخرب...................................
__________
وامتنع من قبوله إلا بالثمن، "وابتاعها بعشرة دنانير أداها من مال أبي بكر الصديق رضي الله عنه" كما رواه الواقدي عن الزهري، أي: ابتاعها من اليتيم أو من وليهما، إن كنا بالغين، ولا ينافيه وصفهما باليتم؛ لأنه باعتبار ما كان أو كانا يتيمين وقت المساومة، وبلغا قبل التبايع.
وفي حديث عائشة عند البخاري، ثم دعا الغلامين فساومهما بالمربد ليتخذه مسجدا، فقالا: بل نهبه لك يا رسول الله، فأبى أن يقبله منهما هبة حتى ابتاعه منهما، ثم بناه مسجدا. قال الحافظ: ولا منافاة بينه وبين حديث أنس: فيجمع بأنهم لما قالوا: لا نطلب ثمنه إلا إلى الله، سأل عمن يختص بملكه منهم، فعينوا له الغلامين فابتاعه منهما، وحينئذ يحتمل أن القائلين: لا نطلب ثمنه إلا إلى الله، تحملوا عنه للغلامين بالثمن. وعند الزبير أن أبا يوب أرضاهما عن ثمنه، انتهى. وكذا عند أبي معشر. وفي رواية: أن أسعد بن زرارة عوضهما نخلا في بني بياضة، وفي أخرى: أن معاذ بن عفراء، قال: أنا أرضيهما. قال الشامي: ويجمع بأن كلا منهم أرضى اليتمين بشيء فنسب ذلك لكل منهم، ورغب أبو بكر في الخير فدفع العشرة زيادة على ما دفعه أولئك، أو أنه صلى الله عليه وسلم أخذ أولا بعض المربد في بنائه الأول سنة قدومه، ثم أخذ بعضا آخر؛ لأنه بناه مرتين. وزاد فيه: فكان الثمن من مال أبي بكر في إحداهما، ومن الآخرين في الأخرى، انتهى. وذكر البلاذري أن العشرة التي دفعها من مال أبي بكر كانت ثمن أرض متصلة بالمسجد لسهل وسهيل وعرض عليه أسعد أن يأخذها ويغرم عنه لهما ثمنهما، فأبى. وجمع البرهان بأنهما قضيتان وأرضان كلتاهما لليتيمين، فاشترى كل واحدة بعشرة إحداهما المسجد والأخرى زيادة فيه، وأدى ثمنهما معا أبو بكر والواحدة عاقده عليها أسعد، والأخرى معاذ، قال: وما ذكر من شراء أبي أيوب منهما فيحمل على المجاز أنه كان متكلما بينهما أو عقد معهما بطريق الوكالة أو الوصية، أو أنها أرض ثالثة وفيه بعد، انتهى.
"وكان قد خرج من مكة بماله كله" وهو أربعة آلاف أو خمسة، فأمره صلى الله عليه وسلم أن يعطيهما ثمنه عشرة دنانير، كره ابن سعد عن الواقدي عن معمر عن معمر وغيره عن الزهري وقبله لعموم نفع المسجد له ولغيره على عادته من قبول ماله في المصالح بخلاف الهجرة، فأحب كونها من ماله عليه السلام، كما مر. "قال أنس" بن مالك فيما رواه الشيخان وغيرهما: "وكان في موضع المسجد نخل وخرب" بفتح المعجمة وكسر الراء فموحدة جمع خربة ككلم وكلمة هكذا ضبط في سنن أبي داود، قال الخطابي: وهي رواية الأكثر. قال ابن الجوزي: وهو المعروف، وحكى(2/176)
ومقابر مشركين، فأمر بالقبور فنبشت وبالخرب فسويت وبالنخل فقطعت، ثم أمر باتخاذ اللبن فاتخذ، وبني المسجد وسقف بالجريد، وجعلت عمده خشب النخل،
__________
الخطابي: كسر أوله وفتح ثانيه جمع خربة كعنب وعنبة. وللكشميهني بفتح المهملة وسكون الراء ومثلثة وهو وهم؛ لأن البخاري أخرجه من طريق عبد الوارث. وبين أبو داود أن رواية عبد الوارث بمعجمة وموحدة، ورواية حماد بن سلمة بمهملة ومثلثة، ذكره الحافظ، فالوهم إنما هو في روايته في البخاري وإن ثبتت في رواية غيره فهي ثلاث روايات. وجوز الخطابي أنه حرب بضم المهملة وسكون الراء وموحدة وهي الخروق المستديرة في الأرض، أو حدب بمهملتين، أي: مرتفع من الأرض، أو جرب بكسر الجيم وفتح الراء: ما تجر فيه السيول وتأكله الأرض. قال: وهذا لائق بقوله: فسويت؛ لأنه إنما يسوى المكان المحدوب أو الذي جرفته الأرض. أما الخراب فيبنى ويعمر دون ن يصلح ويسوّى. ورده الحافظ، فقال: ما المانع من تسوية الخراب بأن يزال ما بقي منه وتسوى أرضه، ولا ينبغي الالتفات إلى هذه الاحتمالات مع توجيه الرواية الصحيحة، انتهى.
"ومقابر مشركين" زاد في رواية: من الجاهلية، "فأمر بالقبور فنبشت" زاد في رواية وبالعظام فغيبت، "وبالخرب فسويت" بإزالة ما كان فيها، "وبالنخل فقطعت،" وجعلت عمدا للمسجد فيه جواز التصرف في المقبرة المملوكة بالهبة والبيع ونبش القبور الدارسة إذا لم تكن محترمة، قال ابن بطال: لم أجد في نبش قبور المشركين لتتخذ مسجدا نصا عن أحد من العلماء، نعم اختلفوا هل تنبش لطلب المال، فأجازه الجمهور، ومنعه الأوزاعي. وهذا الحديث حجة للجواز؛ لأن امشرك لا حرمة حيا ولا ميتا فيه جواز الصلاة في مقابر المشركين، بعد نبشها وإخراج ما فيها وجواز بناء المساجد في أماكنها. قيل: وفيه جواز قطع الأشجار المثمرة للحاجة وفيه نظر، لاحتمال أن تكون مما لا يثمر.
واحتج من أجاز بيع غير المالك بهذه القصة؛ لأن المساومة وقعت مع غير الغلامين، وأجيب باحتمال أنهما كانا من بني النجار فساوهما واشترك معهما في المساومة عمهما الذي كانا في حجره، كما تقدم ذكره في فتح الباري في موضعين.
"ثم أمر باتخاذ اللبن" بفتح اللام وكسر الموحدة: الطوب النيء، "فاتخذ، وبني المسجد وسقف بالجريد، وجعلت عمده" بفتح أوله وثانيه، ويجوز ضمهما "خشب" بفتحتين وبضم فسكون، "النخل" الذي كان في الحائط. وفي حديث أنس: قصفوا النخل قبلة المسجد. وظاهر هذا الحديث الصحيح أن بناءه باللبن وتسقيفه بالجريد من يومئذ. وروى ابن الزبير بن بكار في أخبار المدينة عن أنس، قال: بنى صلى الله عليه وسلم مسجده أول ما بناه بالجريد، وإنما بناه باللبن بعد(2/177)
وعمل فيه المسلمون وكان عمار بن ياسر ينقل لبنتين، لبنة عنه ولبنة عن النبي صلى الله عليه وسلم فقال له عليه السلام: "للناس أجر ولك أجران،..................................
__________
الهجرة بأربع سنين، فإن صح أمكن أن معنى أول ما بناه، سقفه وإنما بناه، أي: طينه ويؤيده ما أخرجه رزين عن جعفر بن محمد أنه بنى ولم يلطخ وجعلوا خشبه وسواريه جذوعا وظللوا بالجريد، فشكوا الحر فطينوه بالطين، فإن ساغ هذا وإلا فما في الصحيح أصح، ولا سيما وقد اتفق عليه أنس وابن عمر وعائشة وأبو سعيد وأحاديثهم في الصحيح.
وروى محمد بن الحسن المخزومي وغيره عن شهر بن حوشب: لما أراد صلى الله عليه وسلم أن يبنى المسجد، قال: "ابنوا لي عريشا كعريش موسى ثمامات وخشبات وظلة كظلة موسى، والأمر أعجل من ذلك". قيل: ما ظلة موسى؟ قال: "كان إذا قام أصاب رأسه السقف"، فلم يزال المسجد كذلك حتى قبض صلى الله عليه وسلم، وثمامات بضم المثلث جمع ثمام واحده ثمامة نبت ضعيف، وذكر في الأوج أن قامة موسى وعصاه ووثبته سبعة أذرع، فهو تشبيه تام؛ لأنه جعل ارتفاع سقف المسجد سبعة. وعلى ما ذكر ابن كثير: إن قامة موسى وعصاه ووثبته عشرة، فالتشبيه في أن السقف يصيب رأسه لا يقيد الطول ثم مرسل ابن حوشب هذا، لا معارضة فيه الخبر الصحيح أصلا؛ لأن ذلك لا يمنع أن جدرانه باللبن، كما هو ظاهر. ووقع عند ابن عائذ عن عطاف بن خالد أنه عليه السلام صلى فيه وهو عريش اثني عشر يوما، ثم بناه وسقفه.
"وعمل فيه المسلمون" روى أبو يعلى رجال الصحيح عن عائشة والبيهقي عن سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قالا: لما بنى صلى الله عليه وسلم مسجد المدينة وضع حجرا، ثم قال: "ليضع أبو بكر حجره إلى جنب حجري، ثم ليضع عمر حجره إلى جنب حجر أبي بكر، ثم ليضع عثمان حجره إلى جنب حجر عمر، ثم ليضع علي" فسئل عن ذلك، فقال: "هؤلاء الخلفاء من بعدي". وأخرج أحمد عن طلق بن علي، قال: بنيت المسجد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان يقول: "قربوا اليمامي من الطين، فإنه أحسنكم له مسيسا". وروى أحمد عنه أيضا: جئت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يبنون المسجد، وكأنه لم يعجبه عملهم فأخذت المسحاة فخلطت الطين، فكأنه أعجبه فقال: "دعوا الحنفي والطين، فإنه أضبطكم للطين" وعند ابن حبان، فقلت: يا رسول الله أأنقل كما ينقولون؟ قال: "لا، ولكن أخلط لهم الطين، فأنت أعلم به".
"وكان" المسلمون يحملون لبنة لبنة، وكان "عمار بن ياسر ينقل لبنتين" كما في البخاري عن أبي سعيد وزاد معمر في جامعه عنه: "لبنة عنه ولبنة عن النبي صلى الله عليه وسلم" وفي رواية الإسماعيلي وأبي نعيم، فقال صلى الله عليه وسلم: "يا عمار، ألا تحمل كما يحمل أصحابك"؟، قال: إني أريد من الله الأجر. "فقال له عليه السلام" بعد مسح ونفض التراب عنه: "للناس أجر، ولك أجران"(2/178)
وآخر زادك من الدنيا شربة لبن، وتقتلك الفئة الباغية".
وروينا أنه صلى الله عليه وسلم كان ينقل معهم اللبن في بنائه ويقول وهو ينقل اللبن:
"هذا الحمال لا حمال......
__________
فيه جواز ارتكاب المشقة في عمل البر، وتوقير الرئيس والقيام عنه بما يتعاطاه من المصالح. "وآخر زادك من الدنيا شربة لبن" فكان كذلك، أخرج الطبراني في الكبير بإسناد حسن عن أبي سنان الدؤلي الصحابي، قال: رأيت عمار بن ياسر دعا غلاما له بشراب فأتاه بقدح من لبن فشرب منه، ثم قال: صدق الله ورسوله، اليوم ألقى الأحبة محمد، أو حزبه، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "إن آخر شيء تزوده من الدنيا صبحة لبن"، ثم قال: "والله لو هزمونا حتى بلغونا سعفات هجر لعلمنا أنا على الحق، وأنهم على الباطل، يعني لقوله صلى الله عليه وسلم: "وتقتلك الفئة الباغية" فقتل مع علي بصفين ودفن بها سنة سبع وثلاثين عن ثلاث أو أربع وتسعين سنة، تراجع
وروى البخاري في بعض نسخه ومسلم والترمذي وغيرهم مرفوعا: "ويح عمار تقتله الفئة الباغية، يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار"، أي: إلى سبب فيهما. واستشكل بأن معاوية كان معه جماعة من الصحابة، فكيف يجوز عليهم الدعاء إلى النار. وأجاب الحافظ، بما حاصله: إنهم ظنوا أنهم يدعونه إلى الجنة وهم مجتهدون لا لوم عليهم، وإن كان في نفس الأمر بخلاف ذلك فإن الإمم الواجب الطاعة إذ ذاك هو علي الذي كان عمار يدعوهم إليه كما أرشد له بقوله: "يدعوهم إلى الجنة" وبجعله قتلة عمار بغاة وقول ابن بطال تبعا للمهلب: إنما يصح هذا في الخوارج الذين بعث إليهم علي يدعوهم إلى الجماعة وهم إذ الخوارج إنما خرجوا على علي بعد عمار اتفاقا.
وأما الذين بعثه إليهم فإنما هم أهل الكوفة يستفزهم على قتال عائشة ومن معها قبل وقعة الجمل، وكان فيهم من الصحابة جماعة كمن كان مع معاوية وأفضل فما فر منه المهلب، وقع في مثل مع زيادة إطلاقه عليهم الخوارج وحاشهم من ذلك. وفي الحديث فضيلة ظاهرة لعلي وعمار ورد على النواصب الزاعمين أن عليا لم يكن مصيبا في حروبه، انتهى ملخصا.
"وروينا" في صحيح البخاري في حديث عائشة الطويل "أنه صلى الله عليه وسلم كان ينقل معهم اللبن" بفتح اللام وكسر الموحدة الطوب النيء "في بنائه" ولا يعارضه أن عمارا كان يحمل عنه؛ لأنه عليه السلام ابتدأ في النقل ترغيبا لهم في العمل، "ويقول: وهو ينقل اللبن" هذا هو الصواب المروي عنه البخاري، فما في بعض النسخ السقيمة الأحمال تصحيف، "هذا الحمال لإحمال"(2/179)
..........خيبر ... هذا أبر ربنا وأطهر
اللهم إن الأجر أجر الآخرة ... فارحم الأنصار والمهاجرة
قال ابن شهاب: ولم يبلغنا أنه صلى الله عليه وسلم تمثل ببيت شعر تام غير هذا. انتهى.
وقد قيل: إن الممتنع عليه صلى الله عليه وسلم إنشاء الشعر لا إنشاده، ولا دليل على منع إنشاده متمثلا.
__________
بالرفع ولا وجه لنصبه، قاله في النور. "خيبر هذا أبر" بموحدة وشد الراء يا "ربنا وأطهر" بمهملة، أي: أشد طهارة وهذا البيت لعبد الله بن رواحة، يقول: "اللهم إن الأجر أجر الآخرة فارحم الأنصار والمهاجرة" بكسر الجيم وهذا البيت لابن رواحة أيضا، كما قال ابن بطال، وتبعه في الفتح وغيره. وبعضهم نسبة لامرأة من الأنصار. وفي حديث أنس عند الشيخين:
اللهم لا خير إلا خيرة الآخرة ... فانصر الأنصار والمهاجرة
وزعم الكرماني في كتاب الصلاة: أنه كان يقف على الآخرة والمهاجرة بالتاء ليخرجه عن الوزن، قال الحافظ: ولم يذكر مستنده والكلام الذي بعد هذا، يعني كلام الزهري، يرده، انتهى. بل فيه الوقف على متحرك وليس عربيا، فكيف ينسب إلى سيد الفصحاء، وزعم الداودي أن ابن رواحة: إنما قال لا هم ... إلخ، فأتى به بعض الرواة على المعنى، وإنما يتزن هكذا، ورده الدماميني بأن توهيم للرواة بلا داعية فلا يمتنع أنه قاله بألف ولا على جهة الخزم بمعجمتين، وهو الزيادة على أول البيت حرفا فصاعدا إلى أربعة، وكذا على أول النصف الثاني حرفا أو اثنين على الصحيح، هذا لا نزاع فيه بين العروضيين، ولم يقل أحد بامتناعه، وإن لم يستحسنوه، وما قال أحد أن الخزم يقتضي إلغاء ما هو فيه على أن يعد شعرا، نعم الزيادة، لا يعتد بها في الوزن، ويكون ابتداء النظم ما بعدها فكذا ما نحن فيه، انتهى.
"قال ابن شهاب" محمد بن مسلم الزهري "ولم يبلغنا أنه صلى الله عليه وسلم تمثل بشعر تام غير هذا" البيت، كما هو بقية قوله في البخاري ولأبي ذر غير هذه الأبيات، أي: البيتين المذكورين، وزاد ابن عائذ عن الزهري التي كان يرتجز بهن، وهو ينقل اللبن لبنيان المسجد، "انتهى" قول الزهري. قال الحافظ: ولا اعتراض عليه ولو ثبت أنه صلى الله عليه وسلم أنشد غير ما نقله، لأنه نفى أن يكون بلغه ولم يطلق النفي، واستشكل هذا بقوله تعالى: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} [يس: 69] ، ولذا قال ابن التين: أنكر هذا على الزهري؛ لأن العلماء اختلفوا هل أنشد صلى الله عليه وسلم شعرا أم لا، وعلى الجواز هل ينشد بيتًا واحدًا أو يزيد، وقيل: البيت الواحد ليس بشعر، وفيه نظر.
"و" أجاب الحافظ وتبعه المصنف، بأنه "قد قيل: إن الممتنع عليه صلى الله عليه وسلم إنشاء الشعر لا إنشاده، ولا دليل على منع إنشاده متمثلا" فالمفهوم من الآية الكريمة منع إنشائه لا إنشاده،(2/180)
وقوله: هذا الحمال: -بكسر الحاء المهملة، وتخفيف الميم- أي المحمول من اللبن أبر عند الله من حمال خيبر، أي: التي تحمل منها من التمر والزبيب ونحو ذلك. وفي رواية المستملي بالجيم.
وفي كتاب "تحقيق النصرة" قيل: وضع عليه السلام رداءه فوضع الناس أوديتهم وهم يقولون:
لئن قعدنا والنبي يعمل ... ذاك إذا للعمل المضلل
__________
قال ابن التين أيضا: وأنكر على الزهري من جهة أنه رجز لا شعر ولذا يقال لقائله: راجز وأنشد رجز الأشاعر وأنشد شعرا، وأجاب الحافظ بأن الجمهور على أن الرجز الموزون من الشعر، وقد قيل: أنه صلى الله عليه وسلم كان لا يطلق القافية بل يقولها متحركة ولا يثبت ذلك، وسيأتي في الخندق من حديث سهل بلفظ: "فاغفر للمهاجرين والأنصار"، وهذا ليس بموزون، انتهى. وقال في المصابيح: لا نسلم أن هذا الحمال لإحمال البيت من الرجز، وإنما هو من مشطور السريع دخله الكشف والخبن، انتهى.
"وقوله: هذا الحمال، بكسر الحاء المهملة" وكذا في الإحمال. ولأبي ذر بفتحها فيهما ذكره المصنف، "وتخفيف الميم" وهو جمع، أي: هذا الحمل أو مصدر بمعنى المفعول، "أي:" هذا "المحمول من اللبن أبر عند الله" قال الحافظ: أي أبقر ذخرا وأكثر ثوابا وأدوم منفعة وأشد طهارة، "من حمال خيبر، أي: التي يحمل منها من التمر والزبيب ونحو ذلك" وتفسيره بهذا مراد المتمثل به صلى الله عليه وسلم. وقول القاموس، يعني تمر الجنة، وأنه لا ينفد مراد منشئ الشعر ان رواحة، "وفي رواية المستملي" أبي إسحاق إبراهيم البلخي المتوفى سنة ست وسبعين وثلاثمائة أحد رواة البخاري عن الفريري "بالجيم" المفتوحة على ما في بعض النسخ عنه كما في الفتح، ولذا قال في العيون: قيل: رواه المستملي بالجيم فيهما وله وجه، والأول أظهر. ونحوه في المطالع، أي: لأن وجه تخصيصها بالذكر كونها تأتي بما يحتاج إليه من تمر وزبيب ونحوهما.
"وفي كتاب تحقيق النصرة" للزين المراغي "قيل: وضع عليه السلام رداءه فوضع الناس أرديتهم" أي: ما كان على عواتقهم. ففي رواية: وضعوا أرديتهم وأكسيتهم "وهم" يعملون و"يقولون لئن قعدنا والنبي يعمل ذاك إذا" التنوين عوض عن المضاف إليه، أي: ذاك إذا فعلناه "للعمل المضلل" صاحبه ففيه حذف وإيثال، والذي رواه الزبير بن بكار عن مجمع بن يزيد ومن طريق آخر عن أم سلمة، قال قائل من المسلمين في ذلك، قال في النور، ولا أعرفه:
لئن قعدنا والنبي يعمل ... لذاك منا العمل المضلل(2/181)
وآخرون يقولون:
لا يستوي من يعمر المساجدا ... يدأب فيها قائما وقاعدا
ومن يرى عن التراب حائدا
وجعلت قبلته للقدس،............................................................................
__________
وهو كذلك في بعض نسخ المصنف. "وآخرون يقولون" ورواه ابن بكار عن أم سلمة بلفظ، وقال علي بن أبي طالب: "لا يستوي من يعمر المساجدا" بألف الإطلاق "يدأب" يجد في عمله، "فيها قائما وقاعدا، ومن يرى عن التراب حائدا" أي: مائلا، قال ابن هشام: سألت غير واحد من علماء الشعر عن هذا الرجز، فقالوا: بلغنا أن عليا ارتجز به فلا يدري أهو قائله أم غيره، قال: وإنما قال علي ذلك مباسطة ومطايبة كما هو عادة الجماعة إذا اجتمعوا على عمل وليس ذلك طعنا، انتهى.
وعند البيهقي عن الحسن: لما بنى صلى الله عليه وسلم المسجد أعانه أصحابه وهو معهم يتناول اللبن حتى اغبر صدره، وكان عثمان بن مظعون رجلا متنطعا بميم مضمومة ففوقية فنون مفتوحتين فطاء مكسورة فعين مهملتين: من تنطع إذا تغالى وتأتق، وكان يحمل اللبنة فيجافي بها عن ثوبه، فإذا وضعها نفض كمه ونظر إلى ثوبه فإن أصابه شيء من التراب نفضة، فنظر إليه علي بن أبي طالب فأنشد يقول: لا يستوي ... إلخ، فسمعها عمار بن ياسر فجعل يرتجزها ولا يدري من يعني بها، فمر بعثمان، فقال: يابن سمية، لأعرفن بمن تعرض ومعه حديدة، فقال: لتكفن أن لأعترضن بها وجهك، فسمعه صلى الله عليه وسلم فغضب، ثم قالوا لعمار: أنه قد غضب فيك، وناف أن ينزل فينا قرآن، فقال: أنا أرضيه كما غضب، فقال: يا رسول الله! ما لي ولأصحابك؟ قال: "ما لك ولهم" قال: يريدون قتلى يحملون لبنة ولبنة، ويحملون علي لبنتين، فأخذ صلى الله عليه وسلم بيده وطاف به المسجد وجعل يمسح وفرته، ويقول: "يابن سمية ليسوا بالذين يقتلونك، تقتلك الفئة الباغية" وقوله: يحملون ... إلخ، استعطاف ومباسطة ليزول الغضب، وإنما كان يحمل عن المصطفى إرادة للأجر، كما مر. وفي هذه الأحاديث جواز قول الشعر وأنواعه خصوصا الرجز في الحرب، وفي التعاون على سائر الأعمال الشاقة لما فيه من تحريك الهمم وتشجيع النفوس وتحريكها على معالجة الأمور الصعبة.
"وجعلت قبلته القدس" كما رواه النجار وغيره ووقع في الشفاء، رواه الزبير بن بكار عن نافع بن جبير وداود بن قيس وابن شهاب مرسلا رفعت له الكعبة حين بنى مسجده. وفي الروض روي عن الشفاء بنت عبد الرحمن الأنصارية، قال: كان صلى الله عليه وسلم حين بنى المسجد يؤمه جبريل إلى الكعبة ويقيم له القبلة، انتهى.(2/182)
وجعل له ثلاثة أبواب: باب في مؤخرة، وباب يقال له باب الرحمة، والباب الذي يدخل منه.
وجعل طوله مما يلي القبلة إلى مؤخره مائة ذراع،............................
__________
وأخرج الطبراني برجال ثقات عن الشموس بنت النعمان الأنصارية رضي الله عنها وإسماعيل الأزدي عن رجل من الأنصار والغرافي بغين معجمة وفاء من طريق مالك بن أنس عن زيد بن أسلم، عن ابن عمر أنه صلى الله عليه وسلم أقام رهطا على زاوية المسجد ليعدل القبلة فأتاه جبريل، فقال: ضع القبلة وأنت تنظر إلى الكعبة، لا يحول دون بصره شيء، فلما فرغ قال جبريل بيده هكذا، فأعاد الجبال والشجر والأشياء على حالها وصارت القبلة على الميزاب، واستشكل بأنه صلى الله عليه وسلم لما هاجر كان يستقبل القدس واستمر بعد الهجرة مدة كما يأتي، ولذا قال التجاني في شرح الشفاء أن ما فيها غريب والمعروف أن جبريل أعلمه بحقيقة القبلة وأراه سمتها لا أنه رفع له الكعبة حتى رآها، ولذا جاءت الآثار من غير تقييد. وقال أبو الوليد ابن رشدي في شرح قول مالك في العتيبة: سمعن أن جبريل هو الذي أقام لرسول الله صلى الله عليه وسلم قبلة مسجد المدينة، يعني أراه سمتها وبين لها جهتها، والصواب أن ذلك كان حين حولت القبلة لا حين بناء مسجده، وكون جبريل أراه سمتها لا يقتضي رفعها، انتهى.
وأجيب: بأنه لا مانع من أن يسأل جبريل أن يريه سمتها حتى إذا وقع استقبالها لم يتردد فيه، ولا يتحير. وفي الإصابة: خطر لي في جوابه أنه أطلق الكعبة وأراد القبلة أو الكعبة على الحقيقة، فإذا بين له جهتها كان إذا استدبرها استقبل بيت المقدس وتكون النكتة فيه أنه سيحول إلى الكعبة فلا يحتاج إلى تقويم آخر، قال: ويرجح الاحتمال الأول، رواية محمد بن الحسن المخزومي بلفظ تراءى له جبريل حتى أم له القبلة، انتهى. وأكثر الناس اأجوبة عن ذلك بما فيه نزاع، وهذا أحسنها.
"وجعل له ثلاث أبواب في مؤخره" وهو المعروف بباب أبي بكر "وباب يقال له باب الرحمة،" وكان يقال له باب عاتكة، "والباب الذي يدخل منه" وهو المعروف بباب آل عثمان، ولما حولت القبلة سد صلى الله عليه وسلم الباب الذي كان في مؤخره وفتح بابا حذاءه، ولم يبق من الأبواب إلا باب عثمان المعروف بباب جبريل، ذكره ابن النجار.
"وجعل طوله مما يلي القبلة إلى مؤخره مائة ذراع" كما رواه يحيى بن الحسن عن زيد بن حارثة، ورواه رزين عن محمد الباقر، روى ابن النجار وغيره عن خارجة بن ثابت، قال: بنى رسول الله صلى الله عليه وسلم مسجده مربعا وجعل قبلته إلى بيت المقدس وطوله سبعون ذراعا في ستين(2/183)
وفي الجانبين مثل ذلك أو دونه.
وجعلوا أساسه قريبا من ثلاثة أذرع،..............................................
__________
ذراعا، فيحتمل أنه كان كذلك ثم زاد فيه فبلغ المائة، ويؤيده قول أهل السير: بنى صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة أقل من مائة في مائة ثم بناه، وزدا فيه: "وفي الجانبين" أي: العرض "مثل ذلك" كما في خبر محمد الباقر وزيد بن حارثة فكان مربعا "أو دونه" إشارة للقول بأن عرضه كان أقل من مائة حكاه غير واحد، "وجعلوا أساسه" أي: طرفه الثابت عن الأرض، "قريبا من ثلاثة أذرع" بالحجارة ولم يسطح فشكوا الحر فجعل خشبه وسواريه جذوعا وظللوه بالجريد ثم بالجص، فلما وكف عليهم طينوه بالطين وجعلوا وسطه رحبة وكان جداره قبل أن يسقف قامة وشيئا، رواه رزين عن جعفر بن محمد. وذكر البلاذري ورواه يحيى بن الحسن عن النوار أم زيد بن ثابت: أنها رأت أسعد بن زرارة قبل أن يقدم النبي صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس الصلوات الخمس ويجمع بهم في مسجد بناه في مربد سهل وسهيل، قالت: فكأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم صلى بهم في ذلك المسجد وبناه هو فهو مسجده، فإن صح فكأنه هدم بناء أسعد وزاد فيه أو زاد بدون هدم لضيقه عن المسلمين أو نحو ذلك، وإلا فما في الصحيح أصح من أنه اشترى المربد وبناه، كما قالت عائشة، وقال: "يا بني النجار ثامنوني بحائطكم"، رواه أنس هذا وفي البخاري, وأبي داود عن ابن عمر: أن المسجد كان على عهده صلى الله عليه وسلم مبنيا اللبن وسقفه الجريد وعمده خشب النخل، فلم يزد فيه أبو بكر شيئا، وزاد فيه عمر وبناه على بنيانه في عهده صلى الله عليه وسلم وأعاد عمده خشبا ثم غيره عثمان فزاد فيه زيادة كثيرة وبنى جداره بالحجارة المنقوشة والقصة وجعل عمده جارة منقوشة وسقفه بالساج، قال ابن بطال وغيره: هذا يدل على أن السنة في بنيان المسجد القصد وترك الغلو في تحسينه، فقد كان عمر مع كثرة الفتوح في أيامه وسعة بيت المال عنده لم يغيره عما كان عليه وإنما احتاج إلى تجديد؛ لأن جريد النخل قد نخر في أيامه فكلم العباس في بيع داره ليزيدها فيه فوهبها العباس لله وللمسلمين فزادها عمر في المسجد، ثم كان عثمان والمال في زمانه أكثر فحسنه بما لا يقتضي الزخرفة، ومع ذلك أنكر عليه بعض الصحابة.
وأول من زخرف المساجد الوليد بن عبد الملك وذلك في أواخر عصر الصحابة، وسكت العلماء عن إنكار ذلك خوف الفتنة، ورخص فيه بعضهم وهو قول أبي حنيفة إذا وقع تعظيما للمساجد ولم يصرف عليه من بيت المال، وقال ابن المنير لما شيد الناس بيوتهم، وزخرفوها، ناسب أن يصنع ذلك بالمساجد صونا لها عن الاستهانة، وتعقب بأن المنع إن كان للحث على اتباع السلف في ترك الرفاهية، فهو كما قال: وإن كان لخشية شغل بال المصلي للزخرفة، فلا لبقاء العلة.(2/184)
وبنى بيوتا إلى جنبه باللبن وسقفها بجذوع النخل والجريد، فلما فرغ من البناء بنى لعائشة في البيت الذي يليه شارعا إلى المسجد، وجعل سودة بن زمعة في البيت الآخر الذي يليه إلى الباب الذي يلي آل عثمان.
__________
"وبنى بيوتا" أي: بيتين فقط، كما صرح به غير واحد، "إلى جنبه" أي: المسجد، "باللبن وسقفها بجذوع النخل والجريد،" ويفيد أنهما بيتان، قوله: "فلما فرغ من البناء" للمسجد "بنى لعائشة" لأنها كانت زوجه وإن تأخر دخوله بها "في البيت الذي يليه شارعا إلى المسجد" وكان باب عائشة مواجه الشام بمصراع واد من عرعر أو ساج، ذكره ابن زيالة عن محمد بن هلال "وجعل سودة بنت زمعة" بفتح الزاي وسكون الميم عند المحدثين وصدر به المجد، فقول المصباح: لم أظفر بالسكون في كتب اللغة قصور "في البيت الآخر الذي يليه إلى الباب الذي يلي" باب "آل عثمان" ثم بنى عليه السلام بقية الحجرات عند الحاجة إليها، قال الواقدي: كان لحارثة بن النعمان منازل قرب المسجد وحوله، فكلما أحدث صلى الله عليه وسلم أهلا نزل له حارثة عن منزل، أي: محل حجرة حتى صارت منازله كلها له عليه السلام، قال أهل السير: ضرب الحجرات ما بين عائشة وبين القبلة والشرق إلى المسجد، ولم يضربها في غربيه، وكانت خارجة من المسجد مديرة به إلا من المغرب، وكانت أبوابها شارعة من المسجد.
قال ابن الجوزي: كانت لها في الشق الأيسر إلى وجه الأمام المنبر إلى جهة الشام، وعن عطاء الخراساني ومحمد بن هلال: أدركنا حجر الزوجات من جريد على أبوابها مسوح من شعر أسود. وروى البخاري في الأدب عن داود بن قيس: رأيت الحجرات من جريد النخل مغشى من خارج بمسوح الشعر، وأظن أن عرض البيت من باب الحجرة إلى البيت نحوا من ستة أو سبعة أذرع، ومن داخل عشرة أذرع، وأظن السمك ما بين الثمان والسبع. وعند ابن سعد: وعلى أبوابها المسوح السود من الشعر. وكتب الويد بن عبد الملك بإدخالها في المسجد، فهدمت، فقال ابن المسيب: ليتها تركت ليراها من يأتي بعد فيزهد الناس في التكاثر والتفاخر. وقال أبو أمامة بن سهل بن حنيف: ليتها تركت ليرى الناس ما رضي الله لنبيه ومفاتيح خزائن الدنيا بيده. قال ابن سعد: أوصت سودة ببيتها لعائشة وباع أولياء صفية بيتها من معاوية بمائة ألف، وقيل: بثمانين ألفا، وتركت حفصة بيتها فورثه ابن عمر، فلم يأخذ له ثمنا، وأدخل المسجد.
قال ابن النجار: وبيت فاطمة اليوم جوف المقصورة وفيه محراب وهو خلف حجرة النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال السمهودي: المقصورة اليوم دائرة على بيت فاطمة وعلى حجرة عائشة من جهة(2/185)
ثم تحول عليه السلام من دار أبي أيوب إلى مساكنه التي بناها.
وكان قد أرسل زيد بن حارثة وأبا رافع مولاه إلى مكة، فقدما بفاطمة وأم كلثوم وسودة بنت زمعة وأسامة بن زيد وأم أيمن، وخرد عبد الله بن أبي بكر معهم بعيال أبيه.
وكان في المسجد موضع مظلل، تأوي إليه المساكين، يسمى الصفة، وكان أهله يسمون: أهل الصفة،.......................
__________
الزوراء، وبينهما موضع يحترمه الناس ولا يدوسونه بأرجلهم، ويذكر أنه قبر فاطمة على أحد الأقوال.
"ثم تحول عليه السلام من دار أبي أيوب إلى مساكنه التي بناها، وكان قد أرسل زيد بن حارثة" كما رواه الطبراني عن عائشة، قالت: لما هاجر صلى الله عليه وسلم وأبو بكر خلفنا بمكة، فلما استقر بالمدينة بعث زيد بن حارثة، "وأبا رافع مولاه إلى مكة" قال: وبعث أبو بكر عبد الله بن أريقط، وكتب إلى عبد الله بن أبي بكر أن يحمل معه أم رومان وأم أبي بكر وأنا وأختي أسماء، فخرج بنا وخرج زيد وأبو رافع، "فقدما بفاطمة وأم كلثوم" وأما رقية فسبقت مع زوجها عثمان وزينب أخرت عند زوجها أبي العاصي بن الربيع حتى أسر ببدر، فلما من عليه أرسلها إلى المدينة، "وسودة بنت زمعة وأسامة بن زيد وأم أيمن" وولدها أيمن، كما في رواية الطبراني. "وخرج عبد الله بن أبي بكر معهم بعيال أبيه" ومنهم عائشة، كما علم؛ لأنه إنما بنى بها بعد. قالت عائشة: واصطحبنا حتى قدمنا المدينة فنزلنا في عيال أبي بكر ونزل آل النبي صلى الله عليه وسلم عنده وهو يومئذ يبني مسجده وبيوته، فأدخل سودة أحد تلك البيوت، وكان يكون عندها، رواه الطبراني.
"وكان في المسجد موضع مظلل يأوي إليه المساكين، يسمى الصفة" بضم الصاد وشد الفاء، قال عياض: وإليها نسبوا على أشهر الأقاويل، وقال الذهبي: كانت القبلة قبل أن تحول في شمال المسجد، فلما حولت بقي حائط القبلة الأولى مكان أهل الصفة. وقال الحافظ: الصفة مكان في مؤخر المسجد مظلل أعد لنزول الغرباء فيه، ممن لا مأوى له ولا أهل وكانوا يكثرون فيه ويقلون بحسب من يتزوج منهم، أو يموت، أو يسافر. وفي الحلية من مرسل الحسن: بنيت صفة في المسجد لضعفاء المسلمين. "وكان أهله يسمون أهل الصفة" قال عبد الرحمن بن أبي بكر: كان أصحاب الصفة الفقراء. وقال أبو هريرة: أهل الصفة أضياف الإسلام لا يأوون على أهل، ولا مال، ولا على أحد إذا أتته صلى الله عليه وسلم صدقة بعث بها إليهم ولم يتناول منها شيئا، وإذا أتته هدية أرسل إليهم وأصاب منها وأشركهم فيها، رواهما البخاري.(2/186)
وكان عليه السلام يدعوهم بالليل، فيفرقهم على أصحابه، وتتعشى طائفة منهم معه عليه السلام.
وفي البخاري من حديث أبي هريرة: لقد رأيت سبعين من أصحاب الصفة، ما منهم رجل عليه رداء، إما إزار، وإما كساء، قد ربطوا في أعناقهم، فمنها ما يبلغ نصف الساق، ومنها ما يبلغ الكعبين، فيجمعه بيده كراهية أن ترى عورته.
وهذا يشعر بأنهم كانوا أكثر من سبعين، وهؤلاء الذين رآهم أبو هريرة غير السبعين الذين بعثهم في غزوة بئر معونة، وكانوا من أهل الصفة أيضا، لكنهم استشهدوا قبل إسلام أبي هريرة.
__________
"وكان عليه السلام يدعوهم بالليل فيفرقهم على أصحابه" لاحتياجهم وعدم ما يكفيهم عنده، "وتتعشى طائفة منهم معه عليه السلام" مواساة وتكرما منه وتواضعا لربه، وفي حديث: أن فاطمة طلبت منه، فقال: "لا أعطيك وأدع أهل الصفة تطوى بطونهم" , "وفي البخاري من حديث أبي هريرة: لقد" وفي رواية بحذف لقد، "رأيت سبعين من أصحاب الصفة ما منهم رجل عليه رداء" بكسر الراء: ما يستر أعالي البدن فقط، لشدة فقرهم لا يزيد الواحد منهم على ساتر عورته، كما أفاده بقوله: "إما إزار" فقط "وإما كساء" على الهيئة المشروحة، بقول: "قد ربطوا" الأكسية فحذف المفعول للعلم به، "في أعناقهم" لعدم تيسر عورتهم، وجمع؛ لأن المراد بالرجل الجنس، "فمنها" أي: الأكسية، قال المصنف: والجمع باعتبار أن الكساء جنس "ما يبلغ نصف الساق" وفي نسخة: آخر الساق، والذي في البخاري: نصف الساقين بالتثنية، وهو أنسب بقوله: "ومنها ما يبلغ الكعبين فيجمعه" الواحد منهم "بيده كراهية أن ترى عورته" لأنه لا يستمسك بنفسه وربطه على تلك الهيئة إنما يمنع سقوطه لا ظهور العورة.
قال الحافظ: وزاد الإسماعيلي أن ذلك في حال كونهم في الصلاة، ومحصله أنه لم يكن لأحد منهم ثوبان، انتهى. وفي شرح المصنف: الأصيلي بدل الإسماعيلي، وهو سبق قلم.
"وهذا" أي: قوله من أصحاب الصفة، "يشعر بأنهم كانوا أكثر من سبعين" لأن من للتبعيض على المتبادر. وقد روى ابن أبي الدنيا عن ابن سيرين، قال: كان أهل الصفة إذا أمسوا انطلق الرجل بالواحد، والرجل بالاثنين، والرجل بالجماعة فأما سعد بن عبادة فكان ينطلق بثمانين. "وهؤلاء الذين رآهم أبو هريرة غير السبعين الذين بعثهم" النبي صلى الله عليه وسلم "في غزوة بئر معونة" سنة ثلاث من الهجرة بعد أحد، "وكانوا من أهل الصفة أيضا، لكنهم استشهدوا قبل إسلام أبي هريرة" لأنه كان عام خيبر سنة سبع، وذكر المصنف قصتهم في المغازي، فذكر(2/187)
وقد اعتنى بجمع أصحاب الصفة ابن الأعرابي والسلمي، والحاكم وأبو نعيم، وعند كل منهم ما ليس عند الآخر، وفيما ذكروه اعتراض ومناقشته، قال في فتح الباري.
وكان صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة إلى جذع في المسجد قائما، فقال: $"إن القيام قد شق علي، فصنع له المنبر".
__________
ههنا تكثير للسواد، "وقد اعتنى بجمع أصحاب الصفة ابن الأعرابي،" الإمام الحافظ الزاهد أبو سعيد، أحمد بن محمد بن زياد البصري الورع الثقة الثبت العابد الرباني كبير القدر صاحب التصانيف، سمع أبا داود وخلقا عمل لهم معجما، وعنه ابن منده وغيره، ولد سنة ست وأربعين ومائتين، ومات سنة أربع وثلاثمائة.
"والسلمي" في كتاب تاريخ أهل الصفة بضم السين نسبة لجد له اسمه سليم، هو الإمام الزاهد محمد بن الحسين بن موسى النيسابوري، أبو عبد الرحمن الرحال سمع الأصم وغيره، وعنه الحاكم والقشيري والبيهقي، وحدث أكثر من أربعين سنة، وكان وافر الجلالة، وصنف نحو مائة، وقيل: نحو ألف، وفي اللسان كأصله ليس بعمدة ونسبه البيهقي للوهم، وقال القطان: كان يضع الصوفية الأحاديث، وخالفه الخطيب، وقال: إنه ثقة صاحب علم، وحال قال السبكي: وهو الصحيح، ولا عبرة بالطعن فيه، مات سنة اثنتي عشرة وأربعمائة.
"والحاكم" في الإكليل، "وأبو نعيم" في الحلية فزادوا عنده على مائة، "وعند كل منهم ما ليس عند الآخر، وفيما ذكروه اعتراض ومناقشة" لا يسعها هذا المختصر.
"قال في فتح الباري:" وقال ابن تيمية: جملة من أوى إلى الصفة مع تفرقهم، قيل: أربعمائة، وقيل أكثر. "وكان صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة إلى جذع" بمعجمة واحدة: الجذوع وهو ساق النخلة، قيل: ولا يسمى جذعا إلا بعد يبسه، وقيل: يسمى أخضر أو يابسا بعد قطعه. "في المسجد قائما، فقال: "إن القيام قد شق علي"، فصنع له المنبر" من إثل الغابة، كما في الصحيحين عن سهل بن سعد بفتح الهمزة وسكون المثلثة: شجر كالطرفاء لا شوك له وخشبه جيد يعمل منه القصاع والأواني، والغابة بمعجمة وموحدة موضع بالعوالي، واختلف في اسم صانعه، فروى قاسم بن أصبغ، وأبو سعد في الشرف عن سهل: أنه ميمون. قال الحافظ وغيره: وهو الأصح الأشهر والأقرب، وهو مولى امرأة من الأنصار، كما في الصحيح. وقيل: إنه مولى سعد بن عبادة، فكأنه في الأصل مولى امرأته، ونسب إلى سعد مجازا واسم امرأته فكيهه بنت عمه عبيد بن دليم أسلمت وبايعت، لكن عند ابن راهويه أنه مولى لبني بياضة.(2/188)
وكان عمه وحنين الجذع في السنة الثامنة -بالميم- من الهجرة، وبه جزم ابن النجار.........................................................
__________
وقول جعفر المستغفري، اسمها علاثة بمهملة ومثلثة تصحيف، كما قاله أبو موسى المديني. وعند الطبراني في الأوسط: اسمها عائشة، وإسناده ضعيف. وروى أبو نعيم: أن صانعه باقوم بموحدة فألف فقاف فواو فميم، الرومي مولى سعيد بن العاصي، أو باقوم بلام آخره، وهي رواية عبد الرزاق أو صباح بضم المهملة وخفة الموحدة، أو قبيصة المخزومي، أو مينا بكسر الميم، أو صالح مولى العباس، أو إبراهين، أو كلاب وهو أيضا مولى العباس، أو تميم الداري. روى أبو داود وغيره عن ابن عمر أن تميما الداري قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم، لما كثر لحمه: "ألا تتخذ لك منبرا يحمل عظامك؟ " قال: "بلى"، فاتخذ له منبرا ... الحديث، قال في الفتح: وليس في جميع الروايات التي سمي فيه النجار شيء قوي السند، إلا حديث ابن عمر فإن إسناده جيد، لكن لا تصريح فيه بأن صانعه تميم، بل بين ابن سعد في روايته من حديث أبي هريرة أن تميما لم يعمله، وأشبه الأقوال بالصواب القول بأنه ميمون، لكونه من طريق سهل بن سعد. وأما الأقوال الأخرة فلا اعتداد بها لوهائها، ويبعد جدا أن يجمع بينها بأن النجار كانت له أسماء متعددة.
وأما احتمال كون الجميع اشتركوا في عمله، فيمنع منه قوله في كثير من الروايات السابقة لم يكن بالمدينة إلا نجار واحد، يقال له ميمون، إلا أن حمل على المراد بالواحد في صناعته والبقية أعوانه، فيمكن. وكان ثلاث درجات إلى أن زاده مروان في خلافة معاوية ست درجات، وسبب ذلك أن معاوية كتب إليه أن يحمل إليه المنبر، فأمر بقلعه فقلع، فأظلمت المدينة وانكسفت الشمس، حتى رأوا النجوم، فخرج مروان فخطب، فقال: إنما أمرني أمير المؤمنين أن أرفعه، فدعا نجارا فزاد فيه ست درجات، وقال: إنما زدت فيه حين كثر الناس، أخرجه الزبير بن بكار في أخبار المدينة من طرق، واستمر على ذلك إلى أن احترق مسجد المدينة سنة أربع وخمسين وستمائة، فاحترق، فجدد المظفر صاحب اليمن سنة ست وخمسين منبرا، ثم أرسل الظاهر بيبرس بعد عشر سنين منبرا، فأزيل منبر المظفر فلم يزل منبر بيبرس إلى سنة عشرين وثمانمائة، فأرسل المؤيد شيخ منبرا فبقي إلى سنة سبع وستين وثمانمائة، فأرسل الظاهر خشقدم منبرا.
"وكان عمله" أي: المنبر النبوي "وحنين الجذع في السنة الثامنة، بالميم" والنون احترازا من الثانية بنون وياء، "من الهجرة" حكاه ابن سعد، "وبه جزم ابن النجار" الحافظ الإمام البارع المؤرخ أبو عبد الله محمد بن محمود بن الحسن بن هبة الله بن محاسن البغدادي الثقة الدين(2/189)
وعورض: بما في حديث الإفك في الصحيحين، قالت عائشة: فثار الحيان -الأوس والخزرج- حتى كادوا أن يقتتلوا ورسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر فنزل فخفضهم حتى سكتوا.
وجزم ابن سعد بأن عمل المنبر كان في السابعة: وعورض: بذكر العباس وتميم فيه، وكان قدوم العباس بعد الفتح في آخر سنة ثمان، وقدوم تميم سنة تسع.
وعن بعض أهل السير: أنه عليه السلام كان............................................................
__________
الورع الفهم، ولد سنة ثمان وسبعين وخمسمائة وسمع ابن الجوزي وطبقته وله ثلاثة آلاف شيخ وتصانيف، ومات سنة ثلاث وأربعين وستمائة، "وعورض بما في حديث الإفك في الصحيحين" لما رقى صلى الله عليه وسلم المبر، وقال: "يا معشر المسلمين!! من يعذرني في رجل قد بلغني أذاه في أهلي -يعني عبد الله بن أبي- والله ما علمت على أهلي إلا خيرا" فقام سعد بن معاذ، فقال: أنا يا رسول الله أعذرك، فإن كان من الأوس ضربت عنقه، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك، فقام سعد بن عبادة فقال لسعد: كذبت لعمر الله لا تقتله ولا تقدر على قتله، ولو كان من رهطك ما أحببت أن يقتل، فقام أسيد بن حضير فقال لابن عبادة: كذبت، لعمر الله لنقتلنه.
"قالت عائشة: فثار الحيان الأوس والخزرج" بمثلثة، أي: نهض بعضهم إلى بعض من الغضب، "حتى كادوا أن يقتتلوا ورسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر، فنزل فخفضهم" بالتشديد، أي: تلفط بهم "حتى سكتوا" وتركوا المخاصمة وسكت عليه السلام. وقصة الإفك كانت في سنة خمس، كما في مغازي ابن عقبة، ونقل البخاري عنه سنة أربع وهم كما قاله الحافظ وغيره، وقال ابن إسحاق: سنة ست فعلى كل لا يصح كون عمله في الثامنة، قال الحافظ: فإن حمل على التجوز في ذكر المنبر، ألا فهو أصح مما مضى، انتهى.
يعني القول بأنه سنة ثمان، وبأنه سنة سبع، ولولا ذكر تميم فيه لأمكن الجواب باحتمال أن المنبر الذي رقاه في قصة الإفك الجذع الذي كان يخطب عليه؛ ذ المنبر كما في الصحاح وغيره: كل ما ارتفع. وأما جواب شيخنا البابلي باحتمال أنه منبر آخر غير هذا، فيرده قول ابن سعد: إن هذا أول منبر عمل في الإسلام.
"وجزم ابن سعد بأن عمل المنبر كان في السابعة" بسين فألف فموحدة، "وعورض بذكر العباس" بن عبد المطلب "وتميم" الداري "فيه، وكان قدوم العباس" المدينة "بعد الفتح" لمكة "في آخر سنة ثمان وقدوم تميم سنة تسع" بفوقية فسين، "وعن بعض أهل السير أنه عليه السلام كان(2/190)
يخطب على منبر من طين قبل أن يتخذ المنبر الذي من خشب. وعورض. بأن الحديث الصحيحة أنه كان يستند إلى الجذع إذا خطب.
وستأتي قصة حنين الجذع إن شاء الله تعالى في مقصد المعجزات.
__________
يخطب على منبر من طين قبل أن يتخذ المنبر الذي من خشب" ولو صح لأمكن الجواب منه وسقط الإشكال، "و" لكن "عورض بأن الحديث الصحيحة" المروية في الصحيحين وغيرهما من عدة طرق، "أنه كان يستند إلى الجذع إذا خطب" قبل اتخاذه المنبر الذي من خشب "وستأتي قصة حنين الجذع إن شاء الله تعالى في مقصد المعجزات،" وهو الرابع.(2/191)
"ذكر المؤاخاة بين الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين":
__________
ذكر المؤاخاة بين الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين:
وكانت كما قال ابن عبد البر وغيره: مرتين، الأولى بمكة قبل الهجرة بين المهاجرين بعضهم بعضا على الحق والمواساة، فآخى بين أبي بكر وعمر وطلحة والزبير، وبين عثمان وعبد الرحمن، رواه الحاكم. وفي رواية له: بين الزبير وبين ابن مسعود، وبين حمزة وزيد بن حارثة، وهكذا بين كل اثنين منهم إلى أن بقي علي، فقال: آخيت بين أصحابك، فمن أخي؟ قال: "أنا أخوك". وجاءت أحاديث كثيرة في مؤاخاة النبي صلى الله عليه وسلم لعلي، وقد روى الترمذي وحسنه الحاكم وصححه عن ابن عمر: أنه صلى الله عليه وسلم قال لعلي: "أما ترضى أن أكون أخاك"؟ قال: بلى، قال: "أنت أخي في الدنيا والآخرة"، وأنكر ابن تيمية هذه المؤاخاة بين المهاجرين خصوصا بين المصطفى وعلي، وزعم أن ذلك من الأكاذيب وأنه لم يؤاخ بين مهاجري ومهاجري، قال: لأنها شرعت لإرفاق بعضهم بعضا، ولتتألف قلوب بعضهم على بعض، فلا معنى لمؤاخاته لأحد ولا لمؤاخاة المهاجرين، ورده الحافظ بأنه رد للنص بالقياس، وإغفال عن حكمة المؤاخاة؛ لأن بعض المهاجرين كان أقوى من بعض بالمال والعشيرة، فآخى بين الأعلى والأدنى، ليرتفق الأدنى بالأعلى ويستعين الأعلى بالأدنى، وبهذا تظهر حكمة مؤاخاته لعلي؛ لأنه هو الذي يقوم به من الصبا قبل البعثة واستمر، وكذا مؤاخاة حمزة وزيد لأن زيدا مولاهم فقد ثبتت أخوتهما وهما من المهاجرين.
وفي الصحيح في عمرة القضاء أن زيدا، قال: إن بنت حمزة ابنة أخي، وأخرج الحاكم وابن عبد البر بسند حسن عن ابن عباس: آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين الزبير وابن مسعود، وهما من المهاجرين، وأخرجه الضياء في المختارة، وابن تيمية يصرح بأن أحاديث المختارة أصح وأقوى(2/191)
ولما كان بعد قدومه بخمسة أشهر، آخى صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار، وكانوا تسعين رجلا، من كل طائفة خمسة وأربعون،...................................
__________
من أحاديث المستدرك، انتهى.
والثانية هي التي ذكرها المصنف، فقال: "ولما كان بعد قدومه بخمسة أشهر" كما قال أبو عمر، وقيل: بثمانية، وقيل: بسبعة، وقيل: بسنة وثلاثة أشهر قبل بدر، وقيل: والمسجد يبنى، وقيل: قبل بنائه، "آخى صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار" قال السهيلي: ليذهب عنهم وحشة الغربة ويؤنسهم من مفارقة الأهل والعشيرة ويشد أزر بعضهم ببعض، فلما عز الإسلام واجتمع الشمل وذهبت الوحشة أبطل المواريث وجعل المؤمنين كلهم أخوة، وأنزل {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَة} [الحجرات: 10] يعني: في التوادد وشمول الدعوة، انتهى. وقال العز بن عبد السلام: الأخوة حقيقية ومجازية، فالحقيقية المشابهة، يقال: هذا أخو هذا؛ لأنه شابهه في خروجه من البطن الذي خرج منه ومن الظهر أيضا، وآثارها المعاضدة والمناصرة، فتستعمل في هذه الآثار من التعبير بالسبب عن المسبب، ومنه قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَة} [الحجرات: 10] هو خبر معناه الأمر، أي، لينصر بعضهم بعضا، وقوله صلى الله عليه وسلم: "المؤمن أخو المؤمن" خبر أيضا، بمعنى الأمر، ولما انقسمت الحقيقية إلى أعلى المراتب كالشقيق وإلى ما دون ذلك، كالأخ للأب أو للأم كانت المجازية كذلك، فالأخوة الناشئة عن الإسلام هي الدنيا من المجازية، ثم إنها كملت بالأخوة التي سنها صلى الله عليه وسلم بمؤاخاته بين جماعة من أصحابه ومعناها أنه أمر ندب أن يعين كل واحد أخاه على المعروف ويعاضده وينصره، فصار المسلمان في هذه الأخوة الثانية في أعلى مراتب الأخوة المجازية كالشقيقين في الحقيقة، فإن قيل هذه الأخوة مستفادة من أصل الإسلام، فإنه يقتضي المعاونة على كل أمر جوابه، أن الأمر الثاني مؤكد لا منشئ لأم آخر؛ لأنه لا يستوي من وعدته بالمعروف من المسلمين ومن لم تعده، فإن الموعود قد وجد في حقه سببان الإسلام والمواعدة وهذه الأخوة هي التزام ومواعدة، ولا شك أن طلب الشارع للوفاء بالخير الموعود به أعلى رتبة من طلب الخير الذي لم يعد به، فقد تحقق طلب لم يكن ثابتا بأصل الإسلام وفيها فائدة أخرى، وهي أن هذه العزم المتجدد من هذا الوعد يترتب عليه من الثواب على عدد معلوماته لقوله صلى الله عليه وسلم: "ومن هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة"، ولا شك أن هذا ثواب عظيم، وكذلك كل من وعد بخير فإنه يثاب على عزمه ووعده ما لا يثاب على العزم المتلقى عن أصل الإسلام، انتهى.
"وكانوا تسعين رجلا من كل طائفة خمسة وأربعون" كما ذكره ابن سعد بأسانيد الواقدي، قائلا: وقيل مائة من كل طائفة خمسون. وروى ابن إسحاق: أنه صلى الله عليه وسلم قال لهم: "تآخوا في الله(2/192)
على الحق والمواساة والتوارث.
وكانوا كذلك إلى أن نزل بعد بدر {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} [الأنفال: 75] تتميم.
__________
أخوين أخوين"، ثم أخذ بيد علي فقال: "هذا أخي" وآخى بينهم في دار أنس بن مالك، كما في الصحيح. وعند أبي سعد في الشرف: آخى بينهم في المسجد، "على الحق والمواساة" وبذل الأنصار رضي الله عنهم في ذلك جهدهم حتى عرض سعيد بن الربيع على أخيه عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه نصف ماله، وكان له زوجان فقال: اختر إحداهما أطلقها وتزوجها، كما في الصحيح.
وروى أبو داود والترمذي عن أنس: لقد رأيتنا وما الرجل المسلم أحق بديناره ودرهمه من أخيه المسلم، وعزاه اليعمري لمسلم والترمذي والنسائي عن ابن عمر وتعقبه في النور بأنه لم يره فيهما بعد التفتيش. "و" على "التوارث" وشدد الله عقد نبيه بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا} [الأنفال: 72] ، إلى قوله: {وَرِزْقٌ كَرِيم} [الأنفال: 74] ، فاحكم الله بهذه الآيات العقد الذي عقده بينهما بتوارث الذين تآخوا دون من كان مقيما بمكة والقرابا. "وكانوا كذلك إلى أن نزل بعد بدر" حين أعز الله الإسلام وجمع الشمل وذهبت الوحشة، {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} [الأنفال: 75] الآية" فانقطعت المؤاخاة في الميراث، وبقيت في التوادد وشمول الدعوة والمناصرة "تتميم". روى البخاري عن عاصم، قلت لأنس: أبلغك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا حلف في الإسلام"، فقال: قد حالف النبي صلى الله عليه وسلم بين قريش والأنصار في داري، وأخرجه أبو داود بلفظ: حالف بين المهاجرين والأنصار في دارنا مرتين أو ثلاثا، وروى أبو داود عن جبير بن مطعم مرفوعا: "لا حلف في الإسلام، وأي حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة".
وروى أحمد والترمذي وحسنه عن عبد الله بن عمرو بن العاصي رفعه: "أوفوا بحلف الجاهلية، فإن الإسلام لم يزده إلا شدة، ولا تحدثوا حلفا في الإسلام".
قال في النهاية: أصل الحلف المعاقدة والمعاهدة على التعاضد والتساعد والإنفاق، فما كان منه في الجاهلية على الفتن والقتال والغارات فذاك الذي نهى عنه، بقوله: "لا حلف في الإسلام" وما كان منه على نصر المظلوم وصلة الأرحام كحلف المطيبين وما جرى مجراه فذاك الذي قال فيه: "وأي حلف ... " إلخ، يريد من المعاقدة على الخير ونصر الحق، انتهى. وقول سفيان بن عيينة: حمل العلماء قول أنس على المؤاخاة تعقبه الحافظ بأن سياق عاصم عنه يقتضي(2/193)
وبنى بعائشة على رأس تسعة أشهر, وقيل ثمانية، وقيل ثمانية عشر شهرا في شوال.
__________
أنه أراد المحالفة حقيقة، وإلا لما كان الجواب مطابقا. وقول البخاري باب الإخاء: والحلف ظاهر في المغايرة بينهما.
"وبنى بعائشة على رأس تسعة أشهر" من هجرته، "وقيل: ثمانية عشر شهرا" من الهجرة فيكون البناء في السنة الثانية، وبه صدر المصنف في الزوجات، وجزم به النووي في تهذيبه، قال الحافظ: ويخالفه ما ثبت أنه دخل بها بعد خديجة بثلاث سنين، "في شوال" كما في مسلم عنها، ولذا كانت تحب أن تدخل أهلها وأحبتها على أزواجهن في شوال، قاله أبو عمر. وقيل: بنى بها في الثامن والعشرين من ذي الحجة، والأول أصح. قال الحافظ: وإذ ثبت أنه بنى بها في شوال من السنة الأولى، قوي قول من قال دخل بها بعد الهجرة بسبعة أشهر، ووهاه النووي في تهذيبه وليس بواه إذا عددناه من ربيع الأول. انتهى.(2/194)
"باب بدء الأذان":
وكان الناس -كما في السير وغيرها- إنما يجتمعون إلى الصلاة لتحين مواقيتها،.......................................
__________
باب بدء الأذان:
هو لغة الأعلام، قال:
آذتنا ببينها أسماء ... ليت شعري متى يكون اللقاء
وشرعا الإعلام بوقت الصلاة المفروضة بألفاظ مخصوصة، وهو كالإقامة من خصائص الأمة المحمدية، واستشكل بما رواه لحاكم وابن عساكر وأبو نعيم بإسناد فيه مجاهيل: إن آدم لما نزل الهند استوحش فنزل جبريل فنادى بالأذان، وأجيب بأن مشروعيته للصلاة هو الخصوصية، واستطرد بعض هنا بعض خصائص سيذكرها المصنف في المقصد الرابع، واستأنف فقال:
"وكان الناس كما في السير وغيرها، إنما يجتمعون إلى الصلاة لتحين" بكسر اللام وفتح الفوقية وكسر الحاء المهملة وسكون التحتية مضافا إلى "مواقيتها" ففي المختار: الحين الوقت، وربما أدخلوا عليه التاء، فقالوا: تحين بمعنى حين، فضبطه بفتح الحاء وشد التحتية مضمومة يخالفه مع عدم ظهور المعنى؛ إذ التحيين ضرب الحين، أي: الوقت، إلا أن يوجه بأنهم لا يحضرونها حتى يطلبوا لها وقتا يعرفون به دخولها بمعنى: إن كان واحد منهم يتخذ له علامة(2/194)
من غير دعوة.
وأخرج ابن سعد في الطبقات، من مراسيل سعيد بن المسيب: أن بلالا كان ينادي للصلاة بقوله: الصلاة جامعة.
وشاور صلى الله عليه وسلم أصحابه فيما يجمعهم به للصلاة -ذلك فيما قيل في السنة الثانية-
__________
يهتدي بها لدخول الوقت "من غير دعوة" بل إذا عرفوا دخوله بعلامة أتوا المسجد، وقد أخرج البخاري ومسلم عن ابن عمر: كان المسلمون لما قدموا المدينة يجتمعون فيتحينون الصلاة ليس ينادى لها، فتكلموا يوما في ذلك، فقال بعضهم: نتخذ ناقوسا مثل ناقوس النصارى، وقال بعضهم: بل بوقا مثل قرن اليهود، فقال عمر: أولا تبعثون رجلا منكم ينادي بالصلاة، فقال صلى الله عليه وسلم: "يا بلال قم فناد بالصلاة".
"وأخرج ابن سعد في الطبقات" للصحابة والتابعين فمن بعدهم إلى وقته فأجاد فيه وأحسن، قاله الخطيب "من مراسيل سعيد بن المسيب" بفتح الياء على المشهور وبكسرها، قاله عياض وابن المديني ابن حزن القرشي المخزومي التابعي الكبير، فقيه الفقهاء ابن الصحابي، مات سنة أربع أو ثلاث وتسعين، "أن بلالا كان ينادي للصلاة" قبل التشاور والرؤيا وبعد قول عمر: تبعثون رجلا ينادي بالصلاة، فاستحسن عليه السلام ذلك فأمر بلالا أن ينادي: "الصلاة جامعة" بنصب الأول على الإغراء، والثاني على الحال ورفعهما على الابتداء والخبر، ونصب الأول ورفع الثاني، وعكسه قاله الحافظ وغيره.
وعن الزهري ونافع بن جبير وابن المسيب: وبقي، أي: بعد فرض الأذان ينادي في الناس الصلاة جامعة للأمر يحدث فيحضرون له يخبرون به وإن كان في غير وقت صلاة، "وشاور صلى الله عليه وسلم أصحابه فيما يجمعهم به للصلاة" لما كثر المسلمون، وروى أبو داود بإسناد صحيح: اهتم النبي صلى الله عليه وسلم للصلاة كيف يجمع الناس لها، "وذلك فيما قيل في السنة الثانية" مرضه لقول الحافظ الراجح: إنه شرع في السنة الأولى من الهجرة. وروي عن ابن عباس: أن فرض الأذان نزل مع قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ} [الجمعة: 9] ، رواه أبو الشيخ.
وذكر أهل التفسير: أن اليهود لما سمعوا الأذان، قالوا: يا محمد! لقد أبدعت شيئا لم يكن فيما مضى، فنزلت: {وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا} [المائدة: 58] ، الآية، وعدى النداء في الأولى باللام، وفي الثانية بإلى؛ لأن صلات الأفعال يختلف بحسب مقاصد الكلام، فقصد في الأولى معنى الاختصاص، وفي الثانية معنى الانتهاء، قاله الكرماني. ويحتمل أن اللام بمعنى إلى أو العكس، انتهى.(2/195)
فقال بعضهم: ناقوس النصارى، وقال آخرون: بوق كبوق اليهود، وقال بعضهم: بل نوقد نارا ونرفعه فإذا رآها الناس أقبلوا إلى الصلاة.
فرأى عبد الله بن زيد بن ثعلبة بن عبد ربه في منامه رجلا فعلمه الأذان والإقامة، فلما أصبح أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بما رأى،.......................................
__________
"فقال بعضهم" الذي يجمع به "ناقوس" وفي أبي داود: قيل له: أنصب راية فإذا رأوها أذن بعضهم بعض، فلم يعجبه ذلك، فذكر له ناقوس "كناقوس النصارى" الذي يعلمون به أوقات صلاتهم وهو خشبة طويلة تضرب بخشبة أصغر منها، فيخرج منهما صوت، كما في الفتح والنور وغيرهما. وقال في مقدمة الفتح وتبعه الشامي: آلة من نحاس أو غيره تضرب، فتصوت. ولأبي الشيخ في كتاب الأذان، فقالوا: لو اتخذنا ناقوسا، فقال عليه السلام: "ذلك للنصارى". ولأبي داود: فقال: "هو من أمر النصارى".
"وقال آخرون: بوق" بضم الموحدة قرن ينفخ فيه، "كبوق اليهود" ولأبي الشيخ فقالوا: لو اتخذنا بوقا، فقال: "ذاك اليهود". ولأبي داود: فذكر له القنع -يعني الشبور- فلم يعجبه ذلك، وقال: "هو من أمر اليهود"، القنع بضم القاف وسكون النون ومهملة، وروي بموحدة مفتوحة، وروي بفوقية ساكنة، وروي بمثلثة ساكنة بدل النون والنون أشهر. قال السهيلي: وهو أولى بالصواب، والشبور بفتح المعجمة وضم الموحة مشددة، كما في الفتح وغيره وقول النور بفتحهما سبق قلم ففي القاموس وكتنور البوق.
"وقال بعضهم: بل نوقد نارا ونرفعها، فإذا رآها الناس أقبلوا إلى الصلاة" ولأبي الشيخ فقالوا: لو رفعنا نارا، فقال: "ذاك للمجوس" وعند أبي داود: فانصرف عبد الله بن زيد وهو مهتم لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، "فرأى عبد الله بن زيد بن ثعلبة بن عبد ربه" أبو محمد الأنصاري العقبي البدري، قال الترمذي لا نعرف له عن النبي صلى الله عليه وسلم شيئا يصح إلا هذا الحديث الواحد في الأذان، وكذا قال ابن عدي: قال في الإصابة: وأطلق غير واحد أنه ما له غير وهو خطأ، فقد جاءت عنه أحاديث ستة أو سبعة جمعتها في جزء مفرد، مات سنة اثنتين وثلاثين وهو ابن أربع وستين، وصلى عليه عثمان، قاله ولده محمد بن عبد الله، نقله المدائني.
وقال الحاكم: الصحيح أنه قتل بأحد، فالروايات عنه كلها منقطعة وخالف ذلك في المستدرك، انتهى. "في منامه رجلا" يحمل ناقوسا "فعلمه الأذان والإقامة، فلما أصبح أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بما رأى" وفي حديث ابن عمر عند ابن ماجه: أن عبد الله بن زيد أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلا، وجمع باحتمال أن المراد: فلما قارب الصباح.(2/196)
وفي رواية معاذ بن جبل عند الإمام أحمد قال: يا رسول الله إني رأيت فيما يرى النائم -ولو قلت إني لم أكن نائما لصدقت- رأيت شخصا عليه ثوبان أخضران.
فاستقبل القبلة فقال: الله أكبر، الله أكبر، مثنى مثنى، حتى فرغ من الأذان.
الحديث، فقال عليه السلام: "إنها الرؤيا حق إن شاء الله تعالى، قم مع بلال فألق عليه ما رأيت فليؤذن به، فإنه أندى منك صوتا".........................................
__________
"وفي رواية معاذ بن جبل عند الإمام أحمد، قال" عبد الله بن زيد: ففيه من للطائف رواية صحابي عن صحابي فليس معاذ رائيا ولا قائلا "يا رسول الله، إني رأيت فيما" أي: الحالة التي "يرى النائم" فيها، أشار من أول كلامه إلى أنه غير حقيقي وأفصح بذلك في قوله: "ولو قلت إني لم أكن نائما لصدقت" لقرب نومه من اليقظة، فروحه كالمتوسطة بين النوم واليقظة، قال السيوطي: يظهر من هذا أن يحمل على الحالة التي تعتري أرباب الأحوال ويشاهدون فيها ما يشاهدون ويسمعون ما يسمعون، والصحابة رءوس أرباب الأحوال.
"رأيت شخصا عليه ثوبان أخضران" زاد في رواية ابن إسحاق الآتية: يحمل ناقوسا في يده، فقلت: يا عبد الله1 أتبيع الناقوس؟ قال: وما تصنع به؟ قلت: ندعو به إلى الصلاة؟ قال: أفلا أدلك على ما هو خير لك من ذلك؟ فقلت: بلى، "فاستقبل القبلة، فقال: الله أكبر الله أكبر" بكون الراء وضمها عامي، لأنه روي موقوفا، قاله ابن الأثير والهروي، وزاد: وكان المبرد يقول: الأولى مفتوحة والثانية ساكنة، والأصل إسكان الراء فحركت فتحة الألف من اسم الله في اللفظة الثانية لسكون الراء قبلها ففتحت، كقوله تعالى: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُو} [آل عمران: 1، 2] ، وفي المطالع: اختلف في فتح الراء الأولى وضمها وتسكينها، وأما الثانية فتضم أو تسكن "مثنى مثنى حتى فرغ من الأذان ... الحديث" وفيه:"فقال عليه السلام: "إنها الرؤيا حق" بالرفع صفة رؤيا والجر بإضافة رؤيا إليه لأدنى ملابسة: أي: إنها مخصوصة بكونها حقا لمطابقتها للواقع، "إن شاء الله قم مع بلال، فألق" بفتح الهمزة ثلاث مزيد "عليه ما رأيت فيؤذن به" ولأبي داود عن أبي بشر: فأخبرني أبو عمير أن الأنصار تزعم أن عبد الله بن زيد لولا أنه كان مريض لجعله صلى الله عليه وسلم مؤذنا وكأنه عبر بلفظ تزعم؛ لأنه مناف بحسب الظاهر لقوله: "فإنه أندى منك صوتا" بفتح الهمزة وسكون النون، أي: أرفع وأعلى أو أحسن وأعذب أو أبعد حكاها ابن الأثير، ولا مانع من إرادة الثلاثة. والظاهر كما قال شيخنا: تساوي الأول والثالث بحسب التحقيق؛ إذ يلزم من كونه أرفع وأعلى أن يكون أبعد. وفي هذا رد للحديث المشهور على الألسنة: "سين بلال عند الله شين"، وقد قال الحافظ المزي: لم نره في شيء من الكتب، وذكر بعضهم مناسبة اختصاص بلال بالأذان أنه لما عذب ليرجع عن الإسلام كان يقول: أحد أحد، فجوزي بولاية الأذان(2/197)
قال: فقمت مع بلال فجعلت ألقيه عليه ويؤذن.
قال: فسمع بذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو في بيته، فخرج يجر رداءه يقول: والذي بعثك بالحق يا رسول الله، لقد رأيت مثل ما أرى.
ووقع في الأوسط للطبراني: أن أبا بكر أيضا رأى الأذان.
وفي الوسيط للغزالي، أنه رآه بضعة عشر رجلا.
وعبارة الجيلي في شرح التنبيه: أربعة عشر.
وأنكره ابن الصلاح ثم النووي، وفي سيرة مغلطاي: أنه رآه سبعة من الأنصار.
__________
المشتمل على التوحيد من ابتدائه وانتهائه.
"قال: فقمت مع بلال فجعلت ألقيه عليه ويؤذن، قال: فسمع بذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو في بيته فخرج يجر رداءه" استعجالا فرحا بصحة منامه وموافقة غيره لرؤياه، "يقول: والذي بعثك بالحق يا رسول الله! لقد رأيت مثل ما أرى" وكأنه أخبر بذلك في طريقه قبل وصوله له عليه السلام، قال الحافظ: ولا يخالفه ما راه أبو داود بإسناد صحيح عن أبي عمير بن أنس عن عمومته من الأنصار، قال: وكان عمر قد رآه قبل ذلك، فكتمه عشرين يوما ثم أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له: "ما منعك أن تخبرني"؟ فقال له: ما صنعك أن تخبرني، فقال: سبقني عبد الله بن زيد فاستحييت؛ لأنه يحمل على أنه لم يخبر بذلك عقب إخبار عبد الله بن زيد بل متراخيا عنه لقوله: "ما منعك أن تخبرني"؟ أي: عقب إخبار عبد الله، فاعتذر بالاستحياء فدل على أنه لم يخبره على الفور، "ووقع في الأوسط للطبراني أن أبا بكر أيضا رأى الأذان" أخرجه من طريق زفر بن الهذيل عن أبي حنيفة عن علقمة بن مرثد عن ابن بريدة عن أبيه: أن رجلا من الأنصار مر برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو حزين لأمر الأذان بالصلاة، فبينما هو كذلك إذ نعس فأتاه آت في النوم، فقال: قد علمت ما حزنت له، فذكر قصة الأذان، فلما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أخبرنا بمثل ذلك أبو بكر"، فأمر بلالا بالأذان. قال الطبراني: لم يروه عن علقمة إلا أبو حنيفة.
"وفي الوسيط للغزالي أنه رآه بضعة عشر رجلا وعبارة الجيلي في شرح التنبيه،" رآه "أربعة عشر" فيمكن أن يفسر بها قول الغزالي ضعة عشر "وأنكره ابن الصلاح" فقال: لم أجد هذا بعد إمعان البحث، "ثم النووي" في تنقيحه فقال: هذا ليس بثابت ولا معروف وإنما الثابت خروج عمر يجر رداءه "وفي سيرة مغلطاي" عن بعض كتب الفقهاء، "أنه رآه سبعة من الأنصار،(2/198)
قال الحافظ أبو الفضل بن حجر رحمه الله: ولا يثبت شيء من ذلك إلا لعبد الله بن زيد، وقصة عمر جاءت في بعض الطرق.
قال السهيلي: فإن قلت: ما الحكمة التي خصت الأذان بأن يراه رجل من المسلمين في نومه. ولم يكن عن وحي من الله لنبيه كسائر العبادات والأحكام الشرعية. وفي قوله عليه السلام: "إنها لرؤيا حق". ثم بنى حكم الأذان عليها، وهل كان ذلك عن وحي من الله له أم لا؟
وأجاب: بأنه صلى الله عليه وسلم قد أريه ليلة الإسراء. فروى البزار عن علي قال: لما أراد الله تعالى أن يعلم رسوله الأذان جاءه جبريل عليه السلام بدابة يقال لها البراق فركبها حتى أتى الحجاب الذي يلي الرحمن، فبينما هو كذلك خرج ملك من الحجاب،
__________
قال الحافظ أبو الفضل بن حجر رحمه الله" في فتح الباري: "ولا يثبت شيء من ذلك إلا لعبد الله بن زيد وقصة عمر جاءت في بعض الطرق" في سنن أبو داود.
"قال السهيلي" في الروض: "فإن قلت: ما الحكمة التي خصت الأذان بأن يراه رجل من المسلمين في نومه، ولم يكن عن وحي من الله لنبيه كسائر العبادات والأحكام الشرعية" فإنها كلها عن وحي، قال تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3، 4] ، ولا يرد هذا على القول بأنه يجتهد؛ لأنه مأذون فيه من ربه، ولا يقول إلا حقا، فكأنه وحي "وفي قوله عليه السلام: "إنها لرؤيا حق"، ثم بنى حكم عليه السلام، وهل كان ذلك" أي: بناؤه حكم الأذان على الرؤيا، "عن وحي، من الله له" عليه السلام، يعني أن ابن زيد حين رأى ولم يكن عن وحي، هل أوحي إليه بعد حتى بنى حكم الأذان عليها، "أم لا؟ " فهذا الاستفهام راجع لابتناء حكم الأذان، فلا ينافي جزمه أولا بأنه لم يكن عن وحي؛ لأنه بخصوص الرؤيا وجدت من ابن زيد
"وأجاب بأنه صلى الله عليه وسلم قد أريه ليلة الإسراء، فروى البزار" في مسنده، فقال: حدثنا محمد بن عثمان بن مخلد، قال: حدثنا أبي علي بن المنذر عن محمد بن علي بن الحسين، عن أبيه، عن جده، "عن علي" بن أبي طالب، "قال: لما أراد الله أن يعلم رسوله الأذان جاءه جبريل عليه السلام بدابة يقال لها البراق،" بضم الموحدة، "فركبها حتى أتى الحجاب الذي يلي الرحمن" وهذا يأتي على أنه عرج به على البراق، كظاهر حديث البخاري.
والصحيح أن العروج إنما كان على المعراج، قال النعماني: ولا مانع أنه ركب البراق فوق المعراج، "فبينما هو كذلك إذ خرج ملك من الحجاب" بالنسبة للمخلوق، أما الخالق تبارك(2/199)
فقال: "يا جبريل من هذا" قال: والذي بعثك بالحق، إني لأقرب الخلق مكانا، وإن هذا الملك ما رأيته منذ خلقت قبل ساعتي هذه. فقال الملك: الله أكبر، الله أكبر، فقيل من وراء الحجاب: صدق عبدي، أنا أكبر، أنا أكبر.. وذكر بقية الأذان.
قال السهيلي: وهذا أقوى من الوحي لأنه سماع بواسطة وهذا بدونها، فلما تأخر فرض الأذان إلى المدينة وأراد إعلام الناس بوقت الصلاة تلبث الوحي حتى رأى عبد الله الرؤيا فوافقت ما رأى صلى الله عليه وسلم فلذلك قال: "إنها الرؤيا حق إن شاء الله تعالى"، وعلم حينئذ أن مراد الله بما رآه في السماء أن يكون سنة في الأرض وقوى ذلك عند موافقة رؤيا عمر للأنصاري. انتهى.
__________
وتعالى فلا يحجبه شيء، "فقال: "يا جبريل من هذا"؟ قال: والذي بعثك بالحق إني لأقرب الخلق مكانا" في العالم العلوي "وإن هذا الملك ما رأيته منذ خلقت قبل ساعتي هذه، فقال الملك: الله أكبر الله أكبر، فقيل من وراء الحجاب: صدق عبدي، أنا أكبر أنا أكبر ... وذكر بقية الأذان" وفي هذا أنه شرع بمكة قبل الهجرة، قال الحافظ: ويمكن على تقدير صحته أن يحمل على تعدد الإسراء، فيكون ذلك وقع بالمدينة. وأما قول القرطبي: لا يلزم من كونه سمعه ليلة الإسراء أن يكون مشروع في حقه، ففيه نظر، لقوله أوله: لما أراد الله أن يعلم رسوله الأذان، وكذا قول المحب الطبري يحمل الأذان ليلة الإسراء على المعنى اللغوي وهو الإعلام فيه نظر أيضا، لتصريحه بكيفيته المشروعة فيه، انتهى.
"قال السهيلي" بعد ميله إلى صحة هذا الخبر مائلا لما يعضده ويشاكله من حديث الإسراء: "وهذا أقوى من الوحي؛ لأنه سماع بواسطة وهذا بدونها، لما تأخر فرض" أو مشروعية "الأذان إلى المدينة وأراد إعلام الناس بوقت الصلاة تلبث الوحي،" أي: تأخر نزوله "حتى رأى عبد الله الرؤيا فوافقت ما رأى صى الله عليه وسلم، فلذلك قال: "إنها الرؤيا حق إن شاء الله" قاله تبركا أو قبل الوحي اعتمادا على رؤيته في السماء إن ثبت ولم يفهمه إنها وحي جبرا له ابتداء مع العزم على إخباره بحقيقة الأمر بعد لا تعليقا فينا في العلم بحقيقتها حيث كانت عن وحي "وعلم حينئذ" أي: حين أقر المصطفى رؤياه، وقال: "إنها لرؤيا حق" "إن مراد الله بما أراده" له، وفي نسخة: بما رآه، أي: النبي عليه السلام بإرادة الله تعالى إياه ذلك، "في السماء أن يكون سنة في الأرض، وقوى ذلك عند موافقة رؤيا عمر للأنصاري" قال السهيلي: لأن السكينة تنطق على لسان عمر، "انتهى" كلام السهيلي.(2/200)
وتعقب: بأن حديث البزار في إسناده زياد بن المنذر أبو الجارود، وهو متروك.
وقال في فتح الباري: وقد استشكل إثبات حكم الأذان برؤيا عبد الله بن زيد؛ لأن رؤيا غير الأنبياء لا ينبني عليها حكم شرعي:
وأجيب: باحتمال مقارنة الوحي لذلك. ويؤيده ما رواه عبد الرزاق وأبو داود في المراسيل، من طريق عبيد بن عمير الليثي -أحد كبار التابعين- أن عمر لما رأى الأذان جاء ليخبر النبي صلى الله عليه وسلم فوجد الوحي قد جاءه وفي نسخة قد ورد بذلك، فما راعه إلا أذان بلال، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "سبقك بذل الوحي".
__________
قال في الفتح: وحاول بذلك الجمع بين حديث كونه رؤيا وبين الأحاديث الدالة على أنه شرع بمكة قبل الهجرة، فتكلف وتعسف والأخذ بما صح أولى.
"وتعقب بأن حديث البزار" لا يصح الاحتجاج به؛ لأن "في إسناده زياد بن المنذر" وهو "أبو الجارود" الأعمى الكوفي الرافضي المتوفى بعد الخمسين ومائة، "وهو متروك" وإن خرج له الترمذي، بل قال ابن معين: هو كذاب عدو الله. وقال الذهبي وابن كثير: هذا الحديث من وضعه، قال السهيلي أيضا، ما ملخصه: والحكمة أيضا في إعلام الناس به على غير لسانه صلى الله عليه وسلم التنويه بقدره والرفع لذكره بلسان غيره ليكون أقوى لأمره وأفخر لشأنه. قال الحافظ: وهذا حسن بديع ويؤخذ منه حكمة عدم الاكتفاء برؤيا عبد الله بن زيد حتى أضيف عمر للتقوية التي ذكرها ولم يقتصر على عمر ليصير في معنى الشهادة.
"وقال في فتح الباري: وقد استشكل إثبات حكم الأذان برؤيا عبد الله بن زيد؛ لأن رؤيا غير الأنبياء لا ينبني عليها حكم شرعي" بل ورؤيا الشخص للنبي كذلك، وإن كان حقا؛ لأن النائم لا يضبط ما يقال له، "وأجيب باحتمال مقارنة الوحي لذلك" لم يجزم به لعدم وقوفه على التصريح به، "ويؤيده ما رواه عبد الرزاق" بن همام الحافظ الصنعاني "وأبو داود في المراسيل من طريق عبيد بن عمير" بن قتادة "الليثي أحد كبار التابعين" المكي قاضيها ولد في حياة النبوة، وقيل له رؤية ومات قبل ابن عمر، "أن عمر لما رأى الأذان جاء ليخبر النبي صلى الله عليه وسلم فوجد الوحي قد جاءه" وفي نسخة: قد ورد، بذلك، فما راعه إلا أذان بلال" أي ما أشعر عمر، أي: ما أعلمه، قال الشامي: فحقيقة الروع هنا منتفية واستعمل في البيان ففسره لغة ثم مرادا، "فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "سبقك بذلك الوحي"،" فهذا يؤيد احتمال المقارنة وليس نصا فيه، لجواز أن الوحي إنما جاء بعد إذنه في الأذان اعتمادا على ماظهر له عند الإخبار بالرؤيا، فيكون مقررا للأمر به.(2/201)
وهذا أصح مما حكى الداودي عن ابن إسحاق: أن جبريل أتى النبي صلى الله عليه وسلم بالأذان قبل أن يخبره عبد الله بن زيد بن عمر بثمانية أيام.
وقد عرفت رؤيا عبد الله بن زيد برواية ابن إسحاق وغيره وذلك أنه قال:
"طاف بي -وأنا نائم- رجل يحمل ناقوسا في يده، فقلت يا عبد الله أتبيع الناقوس؟ قال: وما تصنع به؟ قلت: ندعو به إلى الصلاة، قال: أفلا أدلك على ما هو خير لك من ذلك؟.........................................................................
__________
"وهذا" المرسل "أصح مما حكمى الداودي" أحمد بن نصر اليشكري، أبو جعفر الأسدي الطرابلسي وبها ألف شرح الموطأ، وسماه النامي العالم الفاضل المالكي الفقيه المفنن المجيد له حظ من اللسان، والحديث والنظر ثم انتقل إلى تلمسان وألف الواعي في الفقه وشرح البخاري وسماه النصيحة وغير ذلك، وحمل عنه أبو عبد الملك البوني وأبو بكر بن محمد بن أبي زيد وتوفي بتلمسان سنة ثلاثين وأربعمائة، "عن ابن إسحاق" محمد إمام المغازي "أن جبريل أتى النبي صلى الله عليه وسلم بالأذان قبل أن يخبره عبد الله بن زيد وعمر بثمانية أيام" ولو صح أمكن حمله، كما قال شيخنا: على أنه أوحي إليه بإعلام الناس بوقت الصلاة من غير بيان ما يعلم به، وبهذا الإجمال وقعت المشاورة فيما يعلم به، ثم بعدها جاء الوحي بخصوص كلمات الأذان ليلة الرؤيا فلما أخبر بها، قال: "سبقك الوحي بهذه الكلمات". وأجاب في الفتح أيضا عن الإشكال بأنه عليه السلام أمر بمقتضى الرؤيا لينظر: أيقر على ذلك أم لا؟ ولا سيما لما رأى نظمها يبعد دخول الوسواس فيه، وهذا ينبني على القول بجواز اجتهاده صلى الله عليه وسلم في الأحكام، وهو المنصور في الأصول. انتهى.
"وقد عرفت" بالبناء للمفعول زيادة على ما مر، "رؤيا عبد الله بن زيد برواية ابن إسحاق" وليس عرفت بالخطاب، كما ضبط بالقلم إذ لم تتقدم رواية ابن إسحاق "وغيره" كأبي داود والترمذي وابن ماجه، كلهم من طريقه "وذلك أن" أي: عبد الله، كما أخرجه ابن إسحاق، فقال: حدثني محمد بن إبراهيم التيمي، عن محمد بن عبد الله بن زيد، قال: حدثني أبي، "قال:" لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناقوس يعلم ليضرب به للناس لجمع الصلاة "طاف بي" أي: دار حولي "وأنا نائم رجل يحمل ناقوسا في يده، فقلت: يا عبد الله! " ليقال لمن لا يعرف اسمه على أصل معناه الحقيقي؛ لأن الكل عبيد الله، "أتبيع هذا الناقوس؟ قال: وما تصنع به؟ قلت: ندعو" أنا ومن معي من المسلمين "به" الناس "إلى الصلاة، قال: أفلا أدلك على ما هو خير لك من ذلك" ولم يقل أفاد لك مع أن القصد الدلالة لا عدمها لأنه لما رآه راغبا في طلب الناقوس نزله منزلة المعرض عن غيره الراغب في نفي إرادة الدلالة فاستفهمه عن النفي والهمزة داخلة على مقدر،(2/202)
فقلت: بلى، قال: تقول الله أكبر، الله أكبر، وذكر بقية كلمات الأذان. قال: ثم استأخر عني غير بعيد ثم قال: إذا قمت إلى الصلاة فقل: الله أكبر، الله أكبر، إلى آخر كلمات الإقامة". ورواه أبو داود بإسناد صحيح.
ولم تعرف كيفية رؤيا عمر حين رأى النداء، وقد قال: رأيت مثل الذي رأى.
وفي مسند الحارث: أول من أذن الصلاة جبريل أذن في سماء الدنيا فسمعه عمر وبلال، فسبق عمر بلالا إلى رسول الله صلى الله عيه وسلم فأخبره بها، فقال عليه السلام لبلال: "سبقك بها عمر"، وظاهره: أن عمر وبلالا سمعا النداء في اليقظة.
وقد وردت أحاديث تدل على أن الأذان شرح بمكة قبل الهجرة.
منها ما للطبراني من طريق سالم بن عبد الله بن عمر،...............................
__________
أي: أأعرض عنك فلا أدلك أم لا، فأدلك، ولذا أجاب بقوله: "فقلت: بلى" الذي هو لرد النفي "قال" بعد أن استقبل القبلة، كما مر، "نقول: الله أكبر الله أكبر، وذكر بقية كلمات الأذان، قال: ثم استأخر عني غير بعيد، ثم قال: إذا قمت إلى الصلاة فقل: الله أكبر الله أكبر، إلى آخر كلمات الإقامة، ورواه أبو داود" وفيه عند ابن إسحاق وهو ثقة يدلس، لكنه صرح هنا بالتحديث فانتفت تهمة تدليسه، ولذا قال: "بإسناد صحيح" وقال الترمذي بعد إخراجه من طريقه: حسن صحيح، وأخرجه من طريقه أيضا ابن حبان وابن خزيمة ناقلا عن الذهلي باللام أنه ليس في طرقه أصح منه، "ولم تعرف كيفية رؤيا عمر حين رأى النداء، وقد قال: رأيت مثل الذي رأى" وغاية ما تفيده المثلية المشاركة في أصل رؤيا الأذان ولا يستلزم أنه رأى رجلا يطوف، إلى آخر ما وقع لابن زيد.
"وفي مسند الحارث" بن أبي أسامة بسند واه عن كثير الحضرمي: "أول من أذن بالصلاة جبريل، أذن في سماء الدنيا فسمعه عمر وبلال، فسبق عمر بلالا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بها" ثم جاء بلال "فقال عليه السلام لبلال: "سبقك بها عمر" وهذا لو صح لم يدل على تقدمها على رؤيا عبد الله، لاحتمال سماعهما ذلك بعد رؤياه، "وظاهره: أن عمر وبلالا سمعا النداء في اليقظة" بفتحات: ضد النوم، ولا مانع من ذلك كرامة لهما، "وقد وردت أحايث تدل على أن الأذان شرع بمكة قبل الهجرة" لكن لا يصح منها شيء "منها ما للطبراني من طريق سالم بن عبد الله بن عمر" بن الخطاب أحد الفقهاء أشبه ولد أبيه به، مات في ذي القعدة(2/203)
عن أبيه، قال: لما أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم أوحي إليه الأذان فنزل به وعلمه بلالا.
وفي إسناده طلحة بن زيد وهو متروك.
ومنها: للدارقطني في "الأفراد" من حديث أنس أن جبريل أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالأذان حيث فرضت الصلاة. وإسناده ضعيف.
ومنها: حديث البزار عن علي، المتقدم.
قال في فتح الباري: والحق أنه لا يصح شيء من هذا الأحاديث.
وقد جزم ابن المنذر بأنه عليه الصلاة والسلام كان يصلي بغير أذان منذ فرضت الصلاة بمكة إلى أن هاجر إلى المدينة، إلى أن وقع التشاور في ذلك. والله أعلم.
__________
أو الحجة سنة ست أو خمس أو سبع أو ثمان ومائة، "عن أبيه، قال: لما أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم أوحي إليه الأذان فنزل" ملتبسا "به" حيث علمه "وعلمه بلالا، وفي إسناده طلحة بن زيد" القرشي، أبو مسكين أو أبو محمد الرقي، وأصله دمشقي، روى له ابن ماجه، "وهو متروك" كما في الفتح والتقريب، وزاد فيه: قال أحمد وعلي وأبو داود: كان يضع.
"ومنها: ما للدارقطني في الأفراد" بفتح الهمزة "من حديث أنس أن جبريل أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالأذان حين فرضت الصلاة وإسناده ضعيف" فلا حجة فيه. "ومنها: حديث البزار عن علي المتقدم" قريبا، وأن فيه زياد بن المنذر متروك، وغفل الشارح فنقل كلام ابن كثير في زياد هذا في قول المصنف في إسناده طلحة. ومنها حديث عائشة عند ابن مردويه مرفوعا: "لما أسري بي أذن جبريل فظنت الملائكة أنه يصلي بهم، فقدمني فصليت"، وفيه من لا يعرف، كما في الفتح.
ومنها: ما عند ابن شاهين عن زياد بن المنذر المتروك، قال: قلت لابن الحنفية: كنا نتحدث أن الأذان كان رؤيا، فقال: هذا والله باطل، لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما عرج به بعث إليه ملك علمه الأذان، قال الذهبي: هذا باطل.
"قال في فتح الباري" أيضا إذا الذي قبله كله منه: "والحق أنه لا يصح شيء من هذه الأحاديث" الدالة على مشروعية الأذان بمكة ومر قوله أيضا: لا يصح شيء من ذلك، أي: رؤيا الأذان لأحد من الصحابة إلا لعبد الله بن زيد وهذا غير ذاك، كما هو واضح جدا.
"وقد جزم ابن المنذر بأنه عليه الصلاة والسلام كان يصلي بغير أذان منذ فرضت الصلاة بمكة إلى أن هاجر إلى المدينة، إلى أن وقع التشاور في ذلك" فأمر به بعد رؤيا ابن زيد في السنة الأولى أو الثانية، فجزمه بذلك دليل على ضعف تلك الأحاديث عنده، "والله أعلم".(2/204)
فإن قلت: هل أذن عليه الصلاة والسلام بنفسه قط؟
أجاب السهيلي: بأنه قد روى الترمذي من طريق يدور على عمر بن الرماح، قاضي بلخ يرفعه إلى أبي هريرة، أنه صلى الله عليه وسلم أذن في سفر وصلى وهم على رواحلهم. الحديث. قال: فنزع بعض الناس بهذا الحديث إلى أنه عليه السلام أذن بنفسه. انتهى.
وليس هذا الحديث من حديث أبي هريرة، إنما هو من حديث يعلى بن مرة.
وكذا جزم النووي بأنه عليه السلام أذن مرة في السفر، وعزاه للترمذي وقواه.
ولكن روى الحديث الدارقطني وقال فيه: أمر بالأذان، ولم يقل: أذن. قال السهيلي والمفصل يقضي على المجمل المحتمل.
__________
يضعفها في نفس الأمر وعدمه، فإن الحكم إنما هو على ظاهر الأسانيد.
"فإن قلت: هل أذن عليه الصلاة والسلام بنفسه قط" فقد كثر السؤال عنه، "أجاب السهيلي بأن قد روى الترمذي من طريق يدور" يرجع وإن تعدد طرقه، "على عمر بن الرماح" هو ابن ميمون بن بحر بن سعد الرماح البلخي أبي علي، وسعد هو الرماح، كما في التقريب فنسبه لجده الأعلى "قاضي بلخ" المتوفى سنة إحدى وسبعين ومائة، روى الترمذي ووثقه ابن معين وأبو داود فلا يقصر حديثه عن درجة الحسن، ولو انفرد به؛ لأنه ثقة "يرفعه إلى أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم أذن في سفر وصلى وهم على رواحلهم..الحديث، قال" السهيلي: "فنزع بعض الناس بهذا الحديث إلى أنه عليه السلام أذن بنفسه" وتبع بهذا البعض النووي، "انتهى".
"وليس هذا الحديث من حديث أبي هريرة، إنما هو" عند الترمذي والدارقطني "من حديث يعلى بن مرة" بن وهب الثقفي ممن بايع تحت الشجرة، فسبق السهيلي حفظه أو سبق مستمليه قلمه؛ لأنه كان ضريرا، فقال أبو هريرة: "وكذا جزم النووي" في شرح المهذب وغيره "بأنه عليه السلام أذن مرة في السفر، وعزاه للترمذي وقواه" فقال في الخلاصة: حديث صحيح، وفي المجموع: قد ثبت فذكره، انتهى.
وقال الترمذي: غريب تفرد به عمر بن الرماح، ولا يعرف إلا من حديثه. "لكن روى الحديث الدارقطني" بسند الترمذي ومتنه" وقال في أمر بالأذان" وفيه بعده، فقام المؤذن فأذن "ولم يقل أذن،" كما قاله في رواية الترمذي، "قال السهيلي: والمفصل يقضي على المجمل المحتمل" فلا يصح تمسك بعض الناس به وجزمه، وإن تبعه النووي، وعجبت كيف لم يقف(2/205)
وفي مسند أحمد من الوجه الذي أخرج منه الترمذي هذا الحديث: فأمر بلالا فأذن، قال في فتح الباري: فعرف أن في رواية الترمذي اختصارا، وأن قوله أذن: أمر، كما يقال: أعطى الخليفة فلانا ألفا، وإنما باشر العطاء غيره، ونسب للخليفة لكونه أمر، انتهى.
__________
على كلام السهيلي مع أنه متأخر عنه، وجواب الشهاب الهيثمي بأن هذا إنما يصار إليه لو لم يحتمل تعدد الواقعة، أما إذا أمكن فيجب المصير إليه إبقاء الإذن على حقيقته عملا بقاعدة الأصول أنه يجب إبقاء اللفظ على حقيقته مردود بأن ذاك إنما يصح إذا اختلف سند الحديث ومخرجه، أما مع الاتحاد فلا، ويجب رجوع المجمل للمفصل، كما هو قاعدة المحدثين وأهل الأصول. وقد قال بعض الحفاظ: لو لم نكتب الحديث من ستين وجها ما عقلناه لاختلاف الرواة في إسناده وألفاظه، وليس كل احتمال يعمل به خصوصا في الحديث، فهذه قصة المعراج والإسراء وردت عن نحو أربعين صحابيا مع اختلاف أسانيدها ومتونها إلى الغاية، ومع ذلك فالجمهور على أنها واحدة، حتى قال ابن كثير وغيره: من جعل كل رواية خالفت الأخرى مرة على حدة فقد أبعد وأغرب وهرب إلى غير مهرب، وحديث الأذن من هذا القبيل، لقوله في رواية الدارقطني: فقام المؤذن فأذن.
"و" لقوله "في مسند أحمد من الوجه" أي: الطريق "الذي أخرج منه الترمذي هذا الحديث فأمر بلالا فأذن، قال في فتح الباري: فعرف" من روايتي أحمد والدارقطني "أن في رواية الترمذي اختصارا وأن قوله: أذن،" معناه: "أمر، كما يقال: أعطى الخليفة فلانا ألفا، وإنما باشر العطاء" اسم من الإعطاء ولم يعبر به؛ لأنه لا وجود لشيء من المصادر في الخارج بل آثارها، "غيره، ونسب للخليفة لكونه أمر، انتهى" كلام فتح الباري. وهذا سائغ شائع. نعم قال السيوطي في شرح البخاري: قد ظفرت بحديث آخر مرسل أخرجه سعيد بن منصور في سننه: حدثنا أبو معاوية، حدثنا عبد الرحمن بن أبي بكر القرشي عن ابن أبي مليكة، قال: أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة، فقال: "حي على الفلاح" وهذ رواية لا تقبل التأويل، انتهى.
فهذا الذي يجزم فيه بالتعدد لاختلاف سنده، وانظر ما أحسن قوله آخر، ولذا قال في شرحه للترمذي: من قال إنه صلى الله عليه وسلم لم يباشر هذه العبادة بنفسه وألغز في ذلك بقوله: ما سنة عمل بها ولم يفعلها فقد غفل، انتهى.
وفي التحفة: أذن مرة، فقال: "أشهد أن محمدًا رسول الله"، انتهى. هذا وإنما لم يواظب صلى الله عليه وسلم على الأذان مع فضله المنوه عليه، بنحو قوله صلى الله عليه وسلم: "المؤذنون أطول أعناقا يوم القيامة" أخرج مسلم. وفي شعب البيهقي عن داود السجستاني: "المؤذنون لا يعطشون يوم(2/206)
فإن قلت هل صلى النبي صلى الله عليه وسلم خلف أحد من أصحابه؟ قلت:
نعم، ثبت في صحيح مسلم وغيره أنه صلى الله عليه وسلم صلى خلف عبد الرحمن بن عوف، ولفظه: عن المغيرة بن شعبة أنه غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تبوك،...............................
__________
القيامة" فأعناقهم قائمة لاشتغاله، كما قال العز بن عبد السلام في الفتاوي الموصلية بالقيام بأعباء الرسالة ومصالح الشريعة، كالقتال والفصل بين الناس وغير ذلك التي هي خير من الأذان وأفضل. لذا قال عمر: لولا الخليفي لأذنت، ولأنه كان إذا عمل عملا أثبته وداوم عليه، وقول بعضهم مخافة أن يعتقد أن محمدًا غيره، إذا قال: أشهد أن محمدًا رسول الله، انتهى ملخصا.
وفي الفتح: اختلف في الجمع بين الإمامة والأذان، فقيل: يكره. وفي البيهقي عن جابر مرفوعا: "النهي عن ذلك"، لكن سنده ضعيف وصح عن عمر: لو أطيق الأذان مع الخليفي لأذنت، رواه سعيد بن منصور وغيره. وقيل: خلاف الأولى، وقيل: يستحب، وصححه النووي، انتهى. وقول الشيخ أبي الحسن الشاذلي في شرح الترغيب تبعا للنيسابوري وغيره؛ لأن فيه ثناء وتزكية وشهادة للنفس وهي غير مقبولة، ولأن في حي على الصلاة أمر إيجاب، فإن معناه: أقبلوا، فلو أذن لوجبت الإجابة مردود بأن النهي عن تزكية النفس إنما هو إذا كان افتخارا وهو منه عليه السلام ليس كذلك، بل تحدثا بالنعمة وعدم قبول الشهادة للنفس إنما هو في نحو حق ما لي على غيره، وهذا ليس منه، بل هي سهادة أريد بها طلب ما أوجبه الله على الناس إنقاذا لهم من الضلال، ولا يزيد قوله في الأذان: أشهد أن محمدا رسول الله، على قوله للناس: أدعوكم إلى وحدانية الله وشهادة أني رسوله، فلم يخرج عن قوله تعالى: {بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [المائدة: 67] على أن من خصائصه أن يشهد ويحكم لنفسه، وليس القصد بحي على الصلاة في الأذان خصوص لطلب الحضور، بل الإعلام بدخول الوقت؛ لأنه شرعا الإعلام بوقت الصلاة المفروضة.
"فإن قلت: هل صلى النبي صلى الله عليه وسلم خلف أحد من الصحابة؟ قلت: نعم،" كذا في نسخ، وهو حسن. وفي أكثرها إسقاط السؤال والاقتصار على نعم، وليس استدراكا على ما قبله، بل تقريرا لسؤال نشأ منه تقديره هذا ما تقرر في الأذان، ومعلوم أنه كان يؤم فهل أمه أحد، أو هو استدراك من جهة نفيه أذانه مع تقرر إمامته فقد يتوهم أنه لم يقتد بغيره، فنفاه بقوله: نعم، "ثبت في صحيح مسلم وغيره أنه صلى الله عليه وسلم صلى خلف عبد الرحمن بن عوف" وهذا السؤال سئل عنه الصحابي قديما، فأخرج ابن سعد في الطبقات بإسناد صحيح عن المغيرة بن شعبة: أنه سئل هل أم النبي صلى الله عليه وسلم أحد من هذه الأمة غير أبي بكر؟ قال: نعم فذكر الحديث.
"ولفظه" أي: مسلم "عن المغيرة بن شعبة أنه غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تبوك" بعدم(2/207)
فتبرز صلى الله عليه وسلم قبل الغائط، فحملت معه إدواة قبل صلاة الفجر ... الحديث إلى أن قال: فأقبلت معه حتى نجد الناس قد قدموا عبد الرحمن بن عوف فصلى بهم، فأدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم إحدى الركعتين، فصلى مع الناس الركعة الأخيرة، فلما سلم عبد الرحمن بن عوف قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يتم صلاته، فأفزع ذلك المسلمين، فأكثروا التسبيح،
__________
الصرف على المشهور للتأنيث والعلمية، كذا قال النووي وتبعه في الفتح، ورد بأنه سهو؛ لأن علة منعه كونه على مثال الفعل كنقول، والمذكر والمؤنث في ذلك سواء، ومن صرف أراد الموضع، "فتبرز" بالتشديد "صلى الله عليه وسلم" أي: خرج لقضاء حاجته، وعند ابن سعد: لما كنا بين الحجر وتبوك ذهب لحاجته "قبل" بكسر ففتح، أي: جهة "الغائط" أي: المكان المطمئن الذي تقضي فيه الحاجة، فاستعمل في أصل حقيقته اللغوية، فليس المراد الفضلة، والظاهر: أن تبرز معمول لقال مقدرة ليظهر قوله: "فحملت" وفي نسخة: فحمل، وهو أنسب بما قبله، "معه أدواة قبل صلاة الفجر" أي: الصبح، ولابن سعد: وتبعته بماء بعد الفجر ويجمع بأن خروجه كان بعد طلوع الفجر وقبل صلاة الصبح، "الحديث، إلى أن قال" أسقط منه: فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذت أهريق على يديه من الأدواة وغسل يديه ثلاث مرات، ثم غسل وجهه، ثم ذهب يخرج جبته عن ذراعيه فضاق كما جبته، فأدخل يديه على الجبة حتى أخرج ذراعيه إلى المرفقين، ثم توضأ على خفية، ثم اقبل قال المغيرة: "فأقبلت معه حتى نجد" بمعنى الماضي، أي: وسرنا إلى أن وجدنا "الناس قد قدموا عبد الرحمن بن عوف" ولابن سعد: فأسفر الناس بصلاتهم حتى خافوا الشمس، فقدموا عبد الرحمن "فصلى بهم" أي: أحرم، ولابن سعد: فانتهينا إلى عبد الرحمن وقد ركع ركعة، فسبح الناس له حين رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كادوا يفتنون فجعل عبد الرحمن يريد أن ينكص، فأشار إليه صلى الله عليه وسلم أن أثبت، فليس المراد فرغ من صلاته، والأنافي أيضا قوله: "فأدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم إحدى الركعتين" أي: الثاني، لقوله "فصلى مع الناس الركعة الآخرة" ودفع به توهم أن معنى أدرك: حضر، ولا يلزم منه الاقتداء، لجواز صلاته مفردا أو بجماعة لم يصلوا أو انتظر سلامه، فأتى بها كاملة.
وعند ابن سعد: فصلى خلف عبد الرحمن بن عوف ركعة، "فلما سلم عبد الرحمن بن عوف قام صلى الله عليه وسلم يتم صلاته فأفزع ذلك المسلمين" لسبقهم النبي صلى الله عليه وسلم "فأكثروا التسبيح" رجاء أن يشير لهم هل يعيدونها معه أم لا؟ وليس لظنهم أنه أدرك الصلاة من أولها وأن قيامه لأمر حدث، كأنهم ظنوا الزيادة في الصلاة لتصريحه في رواية ابن سعد بأنهم علموا بالنبي صلى الله عليه وسلم حين دخل معهم، فسبحوا حتى كادوا يفتتنون، ويحتمل أن الفاء في: فأفزع، بمعنى الواو، لرواية ابن سعد: أن التسبيح حين رأوا النبي، كما رأيت.(2/208)
فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم صلاته أقبل عليهم ثم قال: أحسنهم، أو قال: أصبتم يغبطهم أن صلوا لوقتها.
ورواه أبو داود في السنن بنحوه ولفظه: ووجدنا عبد الرحمن وقد ركع بهم ركعة من صلاة الفجر، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فصف مع المسلمين فصلى وراء عبد الرحمن بن عوف الركعة الثانية، ثم سلم عبد الرحمن، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاته. الحديث.
قال النووي: فيه جواز اقتداء الفاضل بالمفضول، وجواز صلاة النبي صلى الله عليه وسلم خلف بعض أمته.
وأما بقاء عبد الرحمن في صلاته وتأخر أبي بكر ليتقدم النبي صلى الله عليه وسلم، فالفرق بينهما أن عبد الرحمن كان قد ركع ركعة، فترك النبي صلى الله عليه وسلم التقدم لئلا يختل ترتيب صلاة القوم،...................................................
__________
"فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم صلاته أقبل عليهم، ثم قال: "أحسنتم"، أو قال: "أصبتم"، شك الراوي قال ذلك، "يغبطهم" بالتشديد، أي: يحملهم على الغبط لأجل "أن صلوا لوقتها" ويجعل هذا الفعل عندهم مما يغبط عليه، وإن رُوي بالتخفيف فيكون قد غبطهم لتقدمهم وسبقهم إلى الصلاة، قال في النهاية: "ورواه أبو داود" سليمان بن الأشعث السجستاني "في السنن بنحوه، ولفظه: ووجدنا" فأفاد هذا أن رواية مسلم: نجد، من استعمال المضارع بمعنى الماضي، "عبد الرحمن وقد ركع بهم ركعة من الفجر" الصبح، "فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فصف" نفسه "مع المسلمين" بأن دخل معهم في الصف، أو هو لازم بمعنى: اصطف، أي: دخل معهم فيه وصف جاء لازما ومتعديا، "فصلى وراء عبد الرحمن بن عوف الركعة الثانية" ففي هذا بيان للمعية في رواية مسلم وتصريح بأنه صلى خلفه، "ثم سلم عبد الرحمن فقام النبي صلى الله عليه وسلم في صلاته ... الحديث بنحوه، والمراد من سوق هذا منه إيضاح ما قد يخفى في رواية مسلم، فالروايات تفسر بعضها.
"قال النووي" في شرح مسلم "فيه" من الفوائد "جواز اقتداء الفاضل بالمفضول" وإن كان تقديم الفاضل أفضل "وجواز صلاة النبي صلى الله عليه وسلم خلف بعض أمته وأما بقاء عبد الرحمن بن وف في صلاته، وتأخر أبي بكر ليتقدم لنبي صلى الله عليه وسلم فالفرق بينهما أن عبد الرحمن كان قد ركع ركعة، فترك النبي صلى الله عليه وسلم التقدم لئلا يختل ترتيب صلاة القوم" قال شيخنا: لأنه إذا قام لإتمام(2/209)
كتاب المغازي
مدخل
...
"بسم الله الرحمن الرحيم"
"كتاب المغازي":
وأذن الله تعالى لرسوله عليه السلام بالقتال. قال الزهري: أول آية نزلت في الإذن بالقتال {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج: 39] أخرج النسائي بإسناد صحيح.
قال في البحر: والمأذون فيه -أي في الآية- محذوف، أي: في القتال، لدلالة الذين "يقاتلون" عليه، وعلل...............................................................
__________
بسم الله الرحمن الرحيم
كتاب المغازي:
"وأذن الله تعالى لرسوله عليه السلام بالقتال" لاثنتي عشرة ليلة مضت من صفر في السنة الثانية من الهجرة. "قال الزهري" محمد بن مسلم شيخ الإسلام: "أول آية نزلت في الإذن بالقتال" كما أخبرني عروة عن عائشة، {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج: 39] "أخرجه النسائي بإسناد صحيح" موقوفا عن عائشة، كما هو في النسائي وحكمه الرفع لا على الزهري كما أوهمه المصنف، نعم رواه ابن عائذ عن الزهري معضلا بإسقاط قوله: كما أخبرني عروة عن عائشة، وزاد تلاوة الآية التي تليها إلى قوله: {لَقَوِيٌّ عَزِيز} [الحج: 40] ، وأخرج أحمد والترمذي وحسنه، والنسائي وابن سعد والحاكم، وصححه عن ابن عباس، قال: لما خرج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة، قال أبو بكر: أخرجوا نبيهم ليهلكن، فنزلت: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} [الحج: 39] الآية قال ابن عباس: فهي أول آية أنزلت في القتال، وقيل: قوله تعالى: {قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} [البقرة: 19] ، أخرجه ابن جرير عن أبي العالية. وفي الإكليل للحاكم: أول آية نزلت فيه: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُم} [التوبة: 111] .
"قال في البحر" أي: التفسير الكبير لأبي حيان: "والمأذون فيه، أي: في الآية محذوف، أي في القتال لدلالة الذي يقاتلون عليه وعلل" في الآية فهو مبني للمفعول أو(2/218)
الإذن: بأنهم ظلموا، كانوا يأتون رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين مضروب ومشجوج، فيقول لهم: "اصبروا، فإني لم أؤمر بالقتال"، حتى هاجر فأذن له بالقتال بعدما نهي عنه في نيف وسبعين آية. انتهى.
وقال غيره: وإنما شرع الله الجهاد في الوقت اللائق به؛ لأنهم كانوا بمكة كان المشركون أكثر عددا، فلو أمر المسلمين -وهم قليل- بقتال الباغين لشق عليهم فلما بغى المشركون، وأخرجوه عليه السلام من بين أظهرهم وهموا بقتله، واستقر عليه السلام بالمدينة واجتمع عليه أصحابه، وقاموا بنصره، وصارت المدينة دار إسلام، ومعقلا يلجئون إليه، شرع الله تعالى جهاد الأعداء، فبعث عليه السلام البعوث والسرايا..................................................
__________
الفاعل، أي: الله "الإذن" لهم في القتال، "بأنهم ظلموا كانوا يأتون رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين مضروب ومشجوج، فيقول لهم: "اصبروا فإني لم أؤمر بالقتال" حتى هاجر فأذن له بالقتال، ولم يفرض عليهم، وظاهره: أنه لم يؤمر بالصبر بعد الهجرة مع أنه أمر بالصبر على أذى اليهود ووعد بالنصر عليهم، كما قال العلماء فيما نقله في الشامية لكنه نزله كالعدم بالنسبة لأذى أهل مكة، فإن كان بالمدينة في غاية العزة والقوة من أول يوم، وأذى اليهود غايته بالمجادلة والتعنت في السؤال، وكان جبريل يأتيه من ربه بغالب الأجوبة أو لقلة مدته أتى بالتعقيب، أي: فأذن له بعد صبر قليل على أذى اليهود لما قويت الشوكة واشتد الجناح، "بعدما نهي عنه في نيف وسبعين آية" غالبها بمكة، "انتهى" ثم فرض عليهم قتال من قاتلهم دون من لم يقاتل، ثم فرض عليهم قتال المشركين كافة، وبين المصنف في غزوة قينقاع أن الكفار بعد الهجرة كانوا معه ثلاثة أقسام.
"وقال غيره" في بيان حكمة تأخر مشروعية الجهاد حتى هاجر، "وإنما شرع لله الجهاد في الوقت الائق به؛ لأنهم كانوا بمكة كان المشركون أكثر عددا، فلو أمر" الله "المسلمين وهم قليل بقتال الباغين لشق عليهم، فلما بغى المشركون وأخرجوه عليه السلام من بين أظهرهم وهموا بقتله" عطف على بغي، "واستقر عليه السلام بالمدينة واجتمع عليه أصحابه" المهاجرون والأنصار، "وقاموا بنصره وصارت المدينة دار إسلام ومعقلا" بفتح الميم وكسر القاف: ملجأ "يلجئون إليه" تصريح بما علم من المعقل، وفي هامش تفسير المعقل بالحصن الكبير، "شرع الله جهاد الأعداء" جواب لما بغى، وفي نسخة: ولما استقر، بزيادة لما وحذفها أولى، لاحتياجها إلى تقدير جواب لما بغى، أي: هاجر "فبعث عليه السلام البعوث والسرايا(2/219)
وغزا وقاتل هو وأصحابه حتى دخل الناس في دين الله أفواجا أفواجا.
وكان عدد مغازيه عليه السلام التي خرج فيها بنفسه، سبعا وعشرين...............
__________
وغزا" بنفسه، وقد جرت عادة المحدثين وأهل السير واصطلاحاتهم غالبا أن يسموا كل عسكر حضره النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه الكريمة غزوة، وما لم يحضره بل أرسل بعضا من أصحابه إلى العدو سرية وبعثا، "وقاتل هو وأصحابه حتى دخل الناس في دين الله أفواجا أفواجا" جماعات بعد جماعات جاءوه بعد الفتح من أقطار الأرض طائعين، "وكان عدد مغازيه عليه السلام" قال في الفتح: جمع مغزى، يقال: غزا غزوا ومغزى، والأصل: غزو، والواحد غزوة وغزاة والميم زائدة.
وعن ثعلب: الغزوة المرة والغزاة عمل سنة كاملة، وأصل الغزو القصد، ومغزى الكلام مقصده، والمراد بالمغازي هنا ما وقع من قصد النبي صلى الله عليه وسلم الكفار بنفسه أو بجيش من قبله وقصدهم أعم من أن يكون إلى بلادهم أو إلى الأماكن التي حلوها حتى دخل مثل أحد والخندق، انتهى.
"التي خرج فيها بنفسه سبعا وعشرين" كما قاله أئمة المغازي موسى بن عقبة وابن إسحاق وأبو معشر والواقدي وابن سعد، وأسنده عن هؤلاء وجزم به الجوزي والدمياطي والعراقي وغيرهم. وقال ابن إسحاق في رواية البكائي عنه ستا وعشرين، وجزم به في ديباجة الاستيعاب، قائلا: وهذا أكثر ما قيل.
قال السهيلي: وإنما جاء الخلاف لأن غزوة خيبر اتصلت بغزوة وادي القرى، فجعلهما ابن إسحاق غزوة واحدة، وقيل: خمسا وعشرين، ولعبد الرزاق بسند صحيح عن ابن المسيب: أربعا وعشرين. وعند أبي يعلى بإسناد صحيح عن جابر: أنها إحدى وعشرين غزاة، وروى الشيخان والترمذي عن زيد بن أرقم: أنها تسع عشرة.
وفي خلاصة السير للمحب الطبري جملة، المشهور منها: اثنتان وعشرون، ويمكن الجمع على نحو ما قال السهلي بأن من عدها دون سبع وعشرين نظر إلى شدة قرب بعض الغزوات من غيره، فجمع بين غزوتين وعدهما واحدة، فضم للأبواء بواطا لقربهما جدا؛ إذ الأبواء في صفر، وبواط في ربيع الأول، وضم حمراء الأسد لأحد، لكونها صبيحتها. وقريظة للخندق، لكونها ناشئة عنها وتلتها. ووادي القرى لخيبر، لوقوعها في رجوعه من خيبر قبل دخول المدينة. والطائف لحنين، لانصرافه منها إليها، فبهذا تصير اثنتين وعشرين، وإلى هذا أشار الحافظ، فقال بعد نقل كلام السهيلي المار، وقول جابر: إحدى وعشرين، فلعل الستة الزائدة من هذا القبيل.
وأما من قال: تسع عشرة فلعله أسقط الأبواء وبواطا، وكان ذلك خفي عليه لصغره ويؤيد ما قلته: ما وقع عند مسلم، بلفظ: قلت: ما أول غزوة غزاها؟ قال: ذات العسير أو العسيرة،(2/220)
وقاتل في تسع منها بنفسه: بدر، وأحد، والمريسيع، والخندق، وقريظة، وخيبر، وفتح مكة، وحنين، والطائف. وهذا على قول من قال: فتحت مكة عنوة.
وكانت سراياه التي بعث فيها سبعا وأربعين سرية. وقيل: إنه قاتل في بني النضير.
__________
والعسيرة هي الثالثة، انتهى.
"وقاتل في تسع منها" قال ابن تيمية: لا يعلم أنه قاتل في غزاة إلا في أحد ولم يقتل أحد إلا أبي بن خلف فيها، فلا يفهم من قولهم: قاتل في كذا أنه بنفسه كما فهمه بعض الطلبة ممن لا اطلاع له على أحواله عليه السلام، انتهى. ففي قوله: "بنفسه" شيء وأجيب بأن المراد قتال أصحابه بحضوره فنسب إليه لكونه سببا في قتالهم، ولم يقع في باقي الغزوات قتال منه ولا منهم، قال في النور: قد يرد على ابن تيمية حديث. كنا إذا لقينا كتيبة أو جيشا أول من يضرب النبي صلى الله عليه وسلم ويمكن تأويله.
"بدر وأحد والمريسيع والخندق وقريظة وخيبر وفتح مكة وحنين والطائف" وقال ابن عقبة: قاتل في ثمان وأهمل عد قريظة؛ لأنه ضمها للخندق لكونها أثرها وأفردها غيره لوقوعها عقبة: قاتل في ثمان وأهمل عد قريظ؛ لأنه ضمها للخندق لكونها أثرها وأفردها غير لوقوعها مفردة بعد هزيمة الأحزاب، وكذا وقع لغيره وعد الطائف وحنين واحدة لكونهاكانت في أثرها، هكذا في الباري وأيما كان لا ينفي أنه قاتل في جميعها، غايته أنه على عد الاثنتين واحدة بالاعتبار المذكور يكون قاتل في موضعين منها.
"وهذا على قول من قال" وهم الجمهور "فتحت مكة عنوة" أي: بالقهر والغلبة. وأما على قول الأقل: فتحت صلحا، فيكون القتال في ثمان. "وكانت سراياه" أراد بها ما يشمل البعوث، لقوله الآتي: وكان أول بعوثه، ولقوله: "التي بعث فيها سبعا وأربعين سرية" كما رواه ابن سعد عن ذكر في عد المغازي، وبه جزم أول الاستيعاب فيما قال الشامي، والذي في النور: قال ابن عبد البر في ديباجة الاستيعاب: كانت بعوثه وسراياه خمسا وثلاثين من بعث النور: قال ابن عبد البر في ديباجة الاستيعاب: كانت بعوثه وسراياه خمسا وثلاثين من بعث وسرية، انتهى. وقال ابن إسحاق: رواية البكائي ثمانيا وثلاثين. وفي الفتح عن ابن إسحاق: ستا وثلاثين، والواقدي: ثمانيا وأربعين. وابن الجوزي: ستا وخمسين. والمسعودي: ستين ومحمد بن نصر المروزي سبعين. والحاكم في الإكليل: إنها فوق المائة. قال العراقي: ولم أجده لغيره، وقال الحافظ: لعله أراد بضم المغازي إليها وقرأت بخط مغلطاي أن مجموع الغزوات والسرايا مائة،، وهو كما قال، انتهى.
"وقيل:" وحكاه اليعمري بلفظ: وفي بعض رواياتهم "إنه قاتل في بني النضير" ولكن الله جعلها له نفلا خاصة وقاتل في غزوة وادي القرى، وقاتل في الغابة، انتهى. ولم يقدم هذا على(2/221)
وأفاد في فتح الباري: أن السرية -بفتح المهملة وكسر الراء وتشديد التحتانية- هي التي تخرج بالليل، والسارية: التي تخرج بالنهار.
قال: وقيل سميت بذلك -يعني السرية- لأنها تخفي ذهابها. وهذا يقتضي أنها أخذت من السر، ولا يصح، لاختلاف المادة.
وهي قطعة من الجيش تخرج منه وتعود إليه، وهي من مائة إلى خمسمائة، وما زاد على الخمسمائة يقال له: منسر، بالنون ثم المهملة.....................................
__________
عد السرايا؛ لأنه أراد حكاية المروي عن الجماعة على حدة ثم تذكر ما في بعض روايتهم، وأفاد صلى الله عليه وسلم حكمة بعوثه وسراياه، فقال: "والذي نفسي بيده، لولا أن أشق على المسلمين ما قعدت خلاف سرية تغزو في سبيل الله أبدا، ولكن لا أجد سعة فأحملهم ولا يجدون سعة فيتبعوني، ويشق أن يقعدوا بعدي، والذي نفسي بيده، لوددت أني أغزو في سبيل الله فأقتل ثم أحيا، ثم أقتل ثم أحيا، ثم أقتل ثم أحيا ثم أقتل"، رواه مالك وأحمد والشيخان عن أبي هريرة بتكرير ثم ست مرات.
"وأفاد في فتح الباري أن السرية بفتح المهملة وكسر الراء وتشديد التحتانية، هي: التي تخرج بالليل" وجمعها سرايا وسرايات، مثل: عطية وعطايات. "والسارية" بالتحتية أيضا وقراءته بموحدة غلط، "التي تخرج بالنهار" سموا بذلك لأنهم يكونون خلاصة العسكر وخيارهم من الشيء النفيس، كما في النهاية.
"قال" في الفتح: "وقيل سميت بذلك لأنها تخفي ذهابها" فتسري في خفية "وهذا يقتضي أنها أخذت من السر ولا يصح لاختلاف المادة" لأن لام السرراء وهذه ياء، قاله ابن الأثير. وأجاب شيخنا: بأن اختلاف المادة إنما يمنع الاشتقاق الصغير وهو رد فرع إلى أصل لمناسبة بينهما في المعنى والحروف الأصلية، ويجوز أنه أراد بالأخذ مجرد الرد للمناسبة والاشتراك في أكثر الحروف. "وهي قطعة من الجيش تخرج منه" فتغير "وتعود إليه" وكأنه أريد بالجيش عسكر الأمام، فيشمل ما إذا بعث طائفة مستقلة كسرية حمزة، "وهي من مائة إلى خمسمائة" قضيته أن ما دونها لا يسمى سرية وهو مخالف لقوله نفسه في مقدمة الفتح، قال ابن السكيت: السرية ما بين الخمسة إلى الثلاثمائة، وقال الخليل: نحو أربعمائة، انتهى.
ونحوه في القاموس، بل في النهاية: يبلغ أقصاها أربعمائة، "وما زاد على الخمسمائة، يقال له: منسر بالنون ثم المهملة" بوزن مجلس ومنبر، كما في القاموس.
وهذا لا يوافق المصباح ولا القاموس، فإنه حكى أقوالا أكثرها أن المنسر من المائة إلى المائتين، وصدر به المصباح وقابله بقول الفارابي جماعة من الخيل، ويقال: هو الجيش لا يمر(2/222)
فإن زاد على الثمانمائة سمي جيشا، فإن زاد على أربعة آلاف سمي جحفلا، والخميس: الجيش العظيم، وما افترق من السرية يسمى بعثا، والكتيبة ما اجتمع ولم ينتشر، انتهى ملخصا.
__________
بشيء إلا اقتلعه. "فإن زاد على الثمانمائة" الأولى حذف أل لقولهم: إنها لا تدخل على أول المتضايفين مع تجرد الثاني بإجماع كالثلاثة أثواب، قاله في الهمع إلا أن يقرأ مائة بالنصب بجراء أل في تصحيح المميز مجر التنوين، والنون كما في التصريح في نحوه. "سمي جيشا" وقال ابن خالويه: الجيش من ألف إلى أربعة آلاف، وأسقط والمصنف من الفتح قوله: وما بين المنسر والجيش يسمى هبطة؛ لأنه فسر الجيش بما زاد على ثمانمائة فلم يكن بين المنسر والجيش واسطة ثم حرر ضبط هبة، "فإن زاد على أربعة آلاف سمي جحفلا" بفتح الجيم والفاء بينهما مهملة ساكنة، وأسقط من الفتح قوله: فإن زد فجيش جرار بفتح الجيم وراء مهملتين الأولى مشددة.
"والخميس" بلفظ اليوم "الجيش العظيم" الكثير، وكذا المجير والمدهم والعرمرم، كما في سامي الأسامي. وقال ابن خالويه: الخميس من أربعة آلاف إلى اثني عشر ألفا، "وما افترق من السرية يسمى بعثا" وقدم أن مبدأها مائة، فظاهره: أن ما دون المائة يسمى بعثا لكن بقية كلام الفتح وهو فالعشرة فما بعدها تسمى حفيرة، والأربعون عصبة وإلى ثلاثمائة مقنب بقاف ونون وموحدة، أي: بكسر الميم وسكون القاف وفتح النون فإن زاد سمي جمرة بجيم مفتوحة وسكون الميم، انتهى. يفيد تخصيص البعث بما دون العشرة.
"والكتيبة" بفتح الكاف وكسر الفوقية وإسكان التحتية فموحدة فتاء تأنيث. "ما اجتمع ولم ينتشر" وفي القاموس: الكتيبة الجيش أو الجماعة المتحيزة من الخيل أو جماعة الخيل إذا أغارت من المائة إلى الف، "انتهى" كلام فتح الباري في قول البخاري في أواخر المغازي باب السرية التي قبل نجد "ملخصا" بمعنى أنه أسقط منه ما ذكرته عند لا التلخيص المتعارف، ومقتضاه: أن ما أرسله الإمام مستقلا وهو دون مائة لا يسمى بعثا ولا سرية. وفي القاموس: البعث، ويحرك الجيش جمعه بعوث.
وقال ابن خالويه: أقل العساكر الجريدة، وهي قطعة جردت من سائرها لوجه ما، ثم السرية أكثرها وهي من خمسين إلى أربعمائة، ثم الكتيبة من أربعمائة إلى ألف، ثم الجيش من ألف إلى أربعة آلاف، وكذلك الفيلق والجحفل، ثم الخميس من أربعة آلاف إلى اثني عشر ألفا، والعسكر يجمعها انتهى.
روى أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي، وحسنه عن صخر بن وداعة مرفوعا: "اللهم بارك لأمتي في بكورها" قال صخر: وكان صلى الله عليه وسلم إذا بعث سرية بعثها أول النهار، وكان صخر تاجرا وكان لا يبعث غلمانه إلا من أول النهار فكثر ماله حتى كان لا يدري أين يضعه. وروى الطبراني عن عمران عن عمران: كان صلى الله عليه وسلم إذا بعث سرية أغزاها أول النهار، وقال: "اللهم بارك لأمتي في بكورها".(2/223)
بعث حمزرة رضي الله عنه:
وكان أول بعوثه صلى الله عليه وسلم على رأس سبعة أشهر، في رمضان، وقيل في ربيع الأول سنة اثنتين. بعث عمه حمزة، وأمره على ثلاثين رجلا من المهاجرين.
وقيل من الأنصار، وفيه نظر؛ لأنه لم يبعث أحدا من الأنصار حتى غزا بهم بدرا؛ لأنهم شرطوا له أن يمنعوه في دارهم.
فخرجوا يعترضون عيرا لقريش،..............................................
__________
بعث حمزة رضي الله عنه:
"وكان أول بعوثه صلى الله عليه وسلم" حال كونه "على رأس سبعة أشهر في رمضان" قال ابن سعد، أي: تقريبا أو اعتبرت السبعة من أول تهيئته للخروج من مكة، فلا ينافي ما مر أن قدومه كان لاثنتي عشر ليلة خلت من ربيع الأول أو ثلاثة عشرة أو ثنتين وعشرين أو لليلتين، "وقيل: في ربيع الأول سنة اثنتين" قاله المدائني، وقال أبو عمر: بعد ربيع الآخر، "بعث عمه حمزة" كما رواه ابن عائذ عن عروة، وجزم به ابن عقبة والواقدي وأبو معشر وابن سعد في آخرين، وقيل: أولها بعث عبيدة، وقيل: عبد الله بن جحش، قال ابن البر: والأول أصح "وأمره على ثلاثين رجلا من المهاجرين" قاله ابن سعد وغيره، "وقيل: من الأنصار" كذا في النسخ، وصوابه: ومن الأنصار، بالواو إذ لم يقل أحد بخلوهم من المهاجرين.
وقد حكى مغلطاي وغيره القولين على ما صوب، وذكر بعضهم: أنهم كانوا شطرين من المهاجرين والأنصار، "وفيه نظر؛ لأنه" كما قال ابن سعد: "لم يبعث أحدا من الأنصار حتى غزا بهم بدرا؛ لأنهم شرطوا له" ليلة العقبة "أن يمنعوه في دارهم" ولذا لما أراد بدرا صار يقول: أشيروا علي، حتى قال الأنصاري: كأنك تريدنا يا رسول الله؟ قال في النور: وذكر ابن سعد في غزوة بواط أن سعد بن معاذ حمل اللواء وكان أبيض، فهذا تناقض منه. ويحتمل أن خروج سعد فيها من غير أن يندبه عليه السلام، إلا أن حمل اللواء يعكر على ذلك. والظاهر أن ابن سعد أراد أنه يبعث أحدا منهم، وتخلف عليه السلام إلى غزوة بدر، وبعدها جهزهم وقعد، لكن آخر الكلام يعكر على هذا التأويل، انتهى.
"فخرجوا يعترضون عيرا لقريش" جاءت من الشام تريد مكة، أي: يتعرضون لها ليمنعوها(2/224)
فيها أبو جهل اللعين، فلقيه في ثلاثمائة راكب فبلغوا سيف البحر من ناحية العيص، فلما تصافوا حجز بينهم مجدي بن عمرو الجهني، وكان عليه الصلاة والسلام قد عقد له لواء أبيض.
"واللواء هو العلم الذي يحمل في الحرب، يعرف به موضع صاحب الجيش، وقد يحمله أمير الجيش، وقد يدفعه لمقدم العسكر.
وقد صرح جماعة من أهل اللغة بترادف اللواء والراية، لكن روى أحمد والترمذي عن ابن عباس: كان راية رسول الله صلى الله عليه وسلم سوداء، ولواؤه أبيض، ومثله عند الطبراني عن بريدة،..........................................................
__________
من مقصدها باستيلائهم عليها، "فيها أبو جهل اللعين فلقيه في ثلاثمائة راكب،" قال ابن إسحاق وابن سعد. وقال ابن عقبة: في ثلاثين ومائة راكب من المشركين، "فبلغوا سيف" بكسر المهملة وسكون التحتية وبالفاء: ساحل "البحر من ناحية العيص" بكسر العين وسكون التحتية وصاد مهملتين، "فلما تصافوا" للقتال "حجز" بفتح الحاء والجيم وبالزاي: فصل "بينهم مجدي" بفتح الميم وسكون الجيم وكسر الدال المهملة وياء كياء النسب "ابن عمرو الجهني" وكان موادعا للفريقين: أي: مصالحا مسالما. قال في النور: ولا أعلم له إسلاما، فانصرف بعض القوم عن بعض ولم يكن بينهم قتال، وأفاد الواقدي أن رهط مجدي قدموا عليه صلى لله عليه وسلم فكساهم، وقال في مجدي: إنه ما علمت ميمون النقيبة مبارك الأمر، أو قال: رشيد الأمر، "وكان عليه الصلاة والسلام قد عقد له" أي: لحمزة، "لواء" بكسر اللام والمد.
روى أبو يعلى عن أنس رفعه: "إن الله أكرم أمتي بالألوية" وسنده ضعيف. "أبيض" زاد ابن سعد: وكان الذي حمله أبو مرثد البدري، أي: بفتح الميم وإسكان الراء وفتح المثلثة ودال مهملة: كناز بفتح الكاف وشد النون فألف فزاي، ابن الحصين بمهملتين مصغر الغنوي بفتح المعجمة والنون نسبة إلى غني بن يعصر فألف فزاي، ابن الحصين بمهملتين مصغر الغنوي بفتح المعجمة والنون نسبة إلى غني بن يعصر حليف حمزة. "واللواء" كما قال الحافظ في غزاة خيبر "هو العلم الذي يحمل في الحرب يعرف به موضع صاحب" أي: أمير "الجيش، وقد يحمله أمير الجيش وقد يدفعه لمقدم العسكر" وفي الفتح أيضا في الجهاد: اللواء الراية، ويسمى أيضا العلم وكان الأصل أن يمسكها رئيس الجيش ثم صارت تحلم على رأسه، "وقد صرح جماعة من أهل اللغة بترادف اللواء والراية" فقالوا: في كل منها علم الجيش، ويقال: أصل الراية الهمز وآثرت العرب تركه تخفيفا ومنهم من ينكر هذا القول، ويقول: لم يسمع الهمز.
"لكن روى أحمد والترمذي عن ابن عباس" قال: "كانت راية رسول الله صلى الله عليه وسلم سوداء ولواؤه أبيض، ومثله عند الطبراني عن بريدة" بن الحصيب بهملتين: مصغر الأسلمي، "و" مثله(2/225)
وعند ابن عدي عن أبي هريرة وزاد: مكتوب فيه لا إله إلا الله محمد رسول الله.
وهو ظاهر في التغاير، فلعل التفرقة فيه عرفية.
وذكر ابن إسحاق، وكذا أبو الأسود عن عروة: أن أول ما حدثت الرايات يوم خيبر، وما كانوا يعرفون قبل ذلك إلا الألوية" انتهى.
__________
"عند ابن عدي" الحافظ عبد الله أبي أحمد الجرجاني أحد الأعلام، مات سنة خمس وستين وثلاثمائة، "عن أبي هريرة، وزاد: مكتوب فيه: لا إله إلا الله محمد رسول الله" وروى أبو داود عن رجل: رأيت راية رسول الله صلى الله عليه وسلم صفراء، وجمع الحافظ بينهما باختلاف الأوقات، قال: وقيل: كانت له راية تسمى العقاب سوداء مربعة وراية تسمى الربية بيضاء، وربما جعل فيها شيء أسود. "وهو ظاهر في التغاير" بين اللواء والراية، وبه جزم ابن العربي، فقال: اللواء غير الراية، فاللواء: ما يعقد في طرف الرمح ويلوى عليه.
والراية: ما يعقد فيه ويترك حتى تصفقه الرياح. وقيل: اللواء دون الراية، وقيل: اللواء العلم الضخم والعلم علامة لمحل الأمير يدور معه حيث دار، والراية: يتولاها صاحب الحرب. "فلعل التفرقة فيه عرفية" فلا يخالف ما صرح به الجماعة من الترادف، وقد جنح الترمذي إلى التفرقة فترجم الألوية، وأورد حديث البراء: أنه صلى الله عليه وسلم دخل مكة ولواؤه أبيض، ثم ترجم الرايات. وأورد حديث البراء: كانت راية رسول الله صلى الله عليه وسلم سوداء مربعة، وحديث ابن عباس المذكور أولا.
"وذكر ابن إسحاق" محمد إمام المغازي "وكذا أبو الأسود" محمد بن عبد الرحمن بن نوفل بن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي القرشي الأسدي النوفلي المندين يتيم عروة، وثقه أبو حاتم والنسائي وأخرج له الجميع، "عن عروة" بن الزبير أحد الفقهاء: "إن أول ما حدثت الرايات" جمع راية "يوم خيبر، وما كانوا يعرفون قبل ذلك إلا الألوية" وهذا أيضا ظاهر في التغاير بينهما، "انتهى" لفظ فتح الباري في خيبر.(2/226)
"سرية عبيدة المطلبي":
ثم سرية عبيدة بن الحارث إلى بطن رابغ، في شوال، على رأس ثمانية أشهر،.............................................
__________
سرية عبيدة المطلبي:
"ثم سرية عبيدة" بضم العين وفتح الموحدة وإسكان التحتية فدال فهاء، "ابن الحارث" بن المطلب بن عبد مناف المستشهد ببدر، "إلى بطن رابغ" بموحدة مكسورة وغين معجمة، "في شوال على رأس ثمانية أشهر" من الهجرة تقريبا أو تحقيقا على ما مر، وأوردها ابن هشام وأبو(2/226)
في ستين رجلا، وعقد له لواء أبيض، حمله مسطح بن أثاثة، يلقى أبا سفيان بن حرب. وكان على المشركين -وقيل مكرز بن حفص، وقيل عكرمة بن أبي جهل- في مائتين، ولم يكن بينهم قتال، إلا أن سعد بن أبي وقاص رمى بسهم، فكان أول سهم رمي به في الإسلام.
__________
الربيع في الاكتفاء بعد غزوة الأبواء في السنة الثانية في ربيع الأول، ورواه ابن عائذ عن ابن عباس، وبه صرح بعض أهل السير، لكن ذكر غير واحد أن الراجح الأول، فلذا اقتصر عليه المصنف.
"في ستين رجلا" أو ثمانين كذا عند ابن إسحاق، فيحتمل أنه شك أو إشارة إلى قولين، ولفظه: في ستين أو ثمانين راكبا من المهاجرين ليس فيهم من الأنصار أحد، "وعقد" عليه السلام "له" لعبيدة "لواء أبيض حمله مسطح" بميم مكسورة وسين ساكنة وطاء مفتوحة وحاء مهملات، "ابن أثاثة" بضم الهمزة وخفة المثلثتين ابن عباد بن المطلب بن عبد مناف بن قصي المطلبي اسمه عوف ومسطح لقبه، أسلم قديما ومات سنة أربع وثلاثين في خلافة عثمان، ويقال: عاش إلى خلافة علي وشهد معه صفين، ومات تلك السنة سنة سبع وثلاثين. "يلقى أبا سفيان" صخر "بن حرب" أسلم في الفتح رضي الله عنه، "وكان على المشركين" كما قال الواقدي: إنه الثبت عندنا، وصدر به مغلطاي.
"وقيل:" أي: قال ابن هشام عن أبي عمرو بن العلاء المدني: يلقى "مكرز" بكسر الميم وإسكان الكاف وفتح الراء والزاي، كما ضبطه الغساني وغيره. قال السهيلي: وهكذا الرواية حيث وقع، قال ابن ماكولا: ووجدته بخط ابن عبدة النسابة بفتح الميم، قال الحافظ: وبخط يوسف بن خليل بضم الميم وكسر الراء والمعتمد الأول، "ابن حفص" بن الأخيف بفتح الهمزة وسكون المعجمة وفتح التحتية وبالفاء ابن علقمة العامري، وهو الذي جاء في فداء سهيل بن عمرو بعد بدر، وجاء أيضا في قصة الحديبية، قال في الإصابة والنور، ولم أرَ من ذكره في الصحابة إلا ابن حبان، فقال في ثقاته: يقال له صحبة.
"وقيل" أي: قال ابن إسحاق: يلقى "عكرمة بن أبي جهل" أسلم في الفتح "في مائتين ولم يكن بينهم قتال إلا أن سعد بن أبي وقاص" مالك "رمى" يومئذ "بسهم، فكان أول سهم رمي به في الإسلام" كذا عند ابن إسحاق، والمراد: جنس سهم، فلا ينافي قول الواقدي: إنه نثر كنانته وتقدم أمام أصحابه وقد تترسوا عنه فرمى بما في كنانته، وكان فيها عشرون سهما ما منها سهم إلا ويجرح إنسانا أو دابة. قال ابن إسحاق: ثم انصرف القوم عن القوم وللمسلمين حامية وفر من المشركين إلى المسلمين المقداد بن عمرو وعتبة بن غزوان، وكانا مسلمين ولكنهما خرجا(2/227)
قال ابن إسحاق: وكانت راية عبيدة -فيما بلغنا- أول راية عقدت في الإسلام، وبعض الناس يقول: راية حمزة. قال: وإنما أشكل أمرهما لأنه عليه السلام بعثهما معا، فاشتبه ذلك على الناس. انتهى.
وهذا يشكل بقولهم: إن بعث حمزة كان على رأس سبعة أشهر، لكن يحتمل أن يكون صلى الله عليه وسلم عقد رايتيهما معا، ثم تأخر خروج عبيدة إلى رأس الثمانية، لأمر اقتضاه، والله أعلم.
__________
ليتوصلا بالكفار.
"قال ابن إسحاق: وكانت راية عبيدة فيما بلغنا أول راية عقدت في الإسلام" قال: وبعض العلماء يزعم أنه صلى الله عليه وسلم بعثه حين أقبل من غزوة الأبواء قبل أن يصل إلى المدينة، قال: "وبعض الناس يقول" كانت "رواية حمزة " أول راية "قال: وإنما أشكل أمرهما؛ لأنه عليه السلام بعثهما معا، فاشتبه ذلك على الناس" فكل من قال ذلك في واحد منهما فهو صادق، "انتهى" قول ابن إسحاق بما زدته من سيرته.
"وهذا يشكل بقولهم إن بعث حمزة كان على رأس سبعة أشهر" في رمضان وبعث عبيدة على رأس ثمانية في شوال، فكيف يشتبه مع هذا؟ "لكن يحمل أن يكون صلى الله عليه وسلم عقد رايتيهما معا، ثم تأخر خروج عبيدة إلى رأس الثمانية لأمر اقتضاه" فيلتئم القولان، "والله أعلم" بحقيقة الحال.(2/228)
سرية سعد بن ملك
...
"سرية سعد بن مالك":
ثم سرية سعد بن أبي وقاص إلى الخرار -بخاء معجمة وراءين مهملتين، وهو واد يصب في الجحفة...................................
__________
سرية سعد بن مالك:
"ثم سرية سعد بن أبي وقاص" واسمه مالك الزهري آخر العشرة موتا من السابقين الأولين المختص بكثرة جمع المصطفى له أبويه يوم أحد حيث كرر له: "ارم فداك أبي وأمي"، رضي الله عنه. "إلى الخرار بخفاء معجمة" مفتوحة "وراءين مهملتين" الأولى ثقيلة، كما ذكره الصغاني في خزر المجد في فصل الخاء من باب الراء وهو الذي في النور في نسخة صحيحة مقروءة على ابن مصنفها، فما في نسخة محرفة منه ومن سيرة الشامي وتشديد الزاي الأولى لا يلتفت إليه، ولعلها كانت همزة عقب الألف فصحفت ياء فظنت زايا من تحريف النساخ. "وهو" كما في سيرة مغلطاي "واد في الحجاز يصب في الجحفة" وفي ذيل الصغاني: موضع قريب الجحفة.(2/228)
وكان ذلك في القعدة، على رأس تسعة أشهر، وعقد له لواء أبيض حمله المقداد بن عمرو، في عشرين رجلا، يعترض عيرا لقريش، فخرجوا على أقدامهم، فصبحوها صبح خامسة فوجدوا العير قد مرت بالأمس.
__________
وفي القاموس: عين قرب الجحفة. "وكان ذلك في القعدة" بكسر القاف وفتحها، "على رأس تسعة أشهر" عند ابن سعد وشيخه الواقدي، وجعلها ابن إسحاق في السنة الثانية، وتبعه أبو عمر، فقال: بعد بدر. "وعقد له لواء أبيض حمله المقداد" بكسر الميم وسكون القاف ودالين مهملتين،"ابن عمرو" بن ثعلبة الكندي البدري المعروف بابن الأسود؛ لأنه تبناه، "في عشرين رجلا" من المهاجرين، وقيل: ثمانية، "يعترض عيرا" إبلا تحمل الطعام وغيره من التجارات، ولا تسمى عيرا إلا إذا كانت كذلك، كما في النور. وكانت "لقريش فخرجوا على أقدامهم فصبحوها" أي: الخرار، وأنت لأنها اسم عين وهي مؤنثة، "صبح خامسة فوجدوا العير قد مرت بالأمس،" فرجعوا ولم يلقوا كيدا، والله أعلم.(2/229)
"أول المغازي: ودان":
ثم غزوة ودان، وهي الأبوء وهي أول مغازيه، كما ذكره ابن إسحاق وغيره.
__________
أول المغازي ودان:
قال الزهري: في علم المغازي خير الدنيا والآخرة. وقال زين العابدين علي بن الحسين بن علي: كنا نعلم مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم كما نعلم السور من القرآن، رواهما الخطيب وابن عساكر. وعن إسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقاص: كان أبي يعلمنا المغازي والسرايا، ويقول: يا بني هذه شرف آبائكم فلا تضيعوا ذكرها.
"ثم غزوة ودان" بفتح الواو وشد المهملة فألف فنون قرية جامعة من أمهات القرى من عمل الفرع، وقيل: واد في الطريق يقطعه المصعدون من حجاج المدينة. "وهي" أي: غزوة ودان، "الأبواء" بفتح الهمزة وسكون الموحدة والمد: قرية من عمل الفرع بينها وبين لجحفة من جهة المدينة وثلاثة وعشرون ميلا. قيل: سميت بذلك لما فيها من الوباء، وهو على القلب وإلا لقيل الأوباء، والصحيح كما قال قاسم بن ثابت: إنها سميت بذلك لتبوء السيول بها، ومراد المصنف أن منهم من أضافها لودان وبعضهم للأبواء لتقاربهما، فليس ضمير هي راجعة لودان، لاقتضائه أنه مكان واحد له اسمان، وهو خلاف الواقع كما يأتي. "وهي" أي: غزوة ودان، "أول مغازيه" صلى الله عليه وسلم "كما ذكره ابن إسحاق وغيره،" وآخرها تبوك، ولا يرجع ضمير هي للأبواء وإن كان(2/229)
وفي صحيح البخاري عنه: أوله الأبواء.
خرج صلى الله عليه وسلم في صفر على رأس اثني عشر شهرا من مقدمة المدينة، يريد قريشا، في ستين رجلا وحمل اللواء حمزة بن عبد المطلب. فكانت الموادعة -أي المصالحة- على أن بني ضمرة لا يغزونه ولا يكثرون عليه جمعا، ولا يعينون عليه عدوا.
واستعمل على المدينة سعد بن عبادة.
وليس بين ما وقع في سيرة ابن إسحاق وبين ما نقله عنه البخاري اختلاف، لأن الأبواء وودان مكانان متقاربان بينهما ستة أميال أو ثمانية.
__________
أقرب مذكور؛ لأنه لا يتخيل تناف حتى يحتاج للجواب الآتي.
"وفي صحيح البخاري عنه" أي: ابن إسحاق تعليقا: "أولها" أي: المغازي "الأبواء" ثم بواط ثم العشيرة، ولا تنافي كما يأتي، "خرج صلى الله عليه وسلم في صفر" لاثنتي عشرة مضت منه، كما عند بعض الرواة عن ابن إسحاق، "على رأس" أي: عند أول "اثني عشر شهرا" ففي المصباح: رأس الشهر: أوله، "من مقدمه المدينة يريد قريشا" زاد ابن إسحاق: وبني ضمرة، فكأنه قصره على قريش؛ لأنهم المقصودون بالذات والمراد غيرهم، "في ستين رجلا" من المهاجرين ليس فيهم أنصاري، "وحمل اللواء" قال أبو عمر: كان أبيض، "حمزة بن عبد المطلب" سيد الشهداء "فكانت الموادعة" أي: فكان الأثر المترتب على خروجه الموادعة "أي: المصالحة" مع بني ضمرة ولم يدرك العير التي أراد "على أن بني ضمرة" بفتح المعجمة وإسكان الميم: ابن بكر بن عبد مناة بن كنانة بن خزيمة "لا يغزونه ولا يكثرون عليه جمعا، ولا يعينون عليه عدوا" وإنه إذا دعاهم لنصر أجابوه، قال ابن إسحاق وابن سعد وأبو عمر: عقد ذلك معه سيدهم مخشي ابن عمرو الضمري.
وقال ابن الكلبي وابن حزم: عمارة بن مخشي بن خويلد، ومخشي بفتح الميم وسكون الخاء وكسر الشين المعجمتين ثم ياء مشددة كياء النسبة، قال البرهان: لا أعلم له إسلاما. وقال الشامي: لم أر من ذكر له إسلاما، وكتب بينهم بذلك كتابا، كما قال السهيلي، وسيذكره المصنف بعد بواط، والأولى تقديمه هنا. "واستعمل على المدينة سعد بن عبادة" كما ذكره ابن المصنف بعد بواط، والأولى تقديمه هنا. "واستعمل على المدينة سعد بن عبادة" كما ذكره ابن هشام وابن سعد وابن عبد البر: وغاب عنها خمسة عشر يوما ثم رجع ولم يلق كيدا. "و" أفاد في فت الباري أنه "ليس بين ما وقع في سيرة ابن إسحاق" من أن أول غزواته ودان "وبين ما نقله عنه البخاري" أن أولها الأبواء "اختلاف؛ لأن الأبواء وودان مكانان متقاربان بينهما ستة أميال" وبه جزم اليعمري، "أو ثمانية" كما قال غيره، زاد في الفتح: ولهذا وقع في حديث الصعب بن جثامة وهو بالأبواء أبو بودان، كما مر في الحج. وفي مغازي الأموي: حدثني أبي عن ابن إسحاق، قال: ثم خرج النبي صلى الله عليه وسلم غازيا بنفسه حتى انتهى إلى ودان وهي الأبواء. وعند ابن عائذ عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم وصل إلى الأبواء، انتهى. فكما وقع في العيون أنه سار حتى بلغ ودان وقع في غيره أنه سار حتى بلغ الأبواء.
وروى البخاري في التاريخ الصغير والطبراني عن عبد الله بن عمرو بن عوف، عن أبيه عن جده، قال: أول غزوة غزوناها مع النبي صلى الله عليه وسلم الأبواء.(2/230)
غزوو بواط:
ثم غزوة بواط -بفتح الموحدة وقد تضم وتخفيف الواو وآخره مهملة- غزاها صلى الله عليه وسلم في شهر ربيع الأول، على رأس ثلاثة عشر شهرا من الهجرة، حتى بلغها من ناحية رضوى -بفتح الراء وسكون المعجمة، مقصور- في مائتين من أصحابه،.....................................................................
__________
ثم غزوة بواط:
"بفتح الموحدة" عند الأصيلي والمستملي من رواة البخاري والعذري من رواة مسلم، وصدر به في الفتح فتبعه السيوطي والمصنف هنا، قائلين: "وقد تضم" صريح في قلته مع أنه الأعرف، كما قاله في المطالع، واقتصر عليه في المقدمة، والمصنف في الشرح، وصاحب القاموس. "وتخفيف الواو" فألف "وآخره" طاء "مهملة" جبل من جبال جهينة بقرب ينبع لعلى أرعة برد من المدينة. وقال السهيلي: بواط جبلان فرعان لأصل واحد، أحدهما جلسي والآخر غوري.
وفي الجلسي بنو دينار ينسبون إلى دينار مولى عبد الملك بن مروان "غزاها صلى الله عليه وسلم في شهر ربيع الأول" قاله ابن إسحاق، وقال أبو عمر وتلميذه ابن حزم في ربيع الآخر "على رأس ثلاثة عشر شهرا من الهجرة، حتى بلغها من ناحية رضوي بفتح الراء وسكون" الضاد "المعجمة مقصور" جبل بالمدينة والنسبة إليه رضوي، قاله الجوهري. وفي السبل: على أربعة برد من الميدنة وبه يفسر قول المجد على أبراد. وفي خلاصة الوفاء: رضوى كسكرى جبل على يوم من ينبغ وأربعة أيام من المدينة ذو شعاب وأودية وبه مياه وأشجار، هذا هو المعروف ومنه يقطع أحجار المنارة، قيل: هو أول تهامة، انتهى. وهو مباين لكلام أولئك بكثير، ويذكر أن رضوى من الجبال التي بني منها البيت، أنه من جبال الجنة.
وفي حديث رضوي رضي الله عنه: وقدس وتزعم الكيسانية أن محمدا ابن الحنفية مقيم به حي يرزق. "في مائتين من أصحابه" المهاجرين وحمل لواءه وكان أبيض سعد بن أبي وقاص، كما في الشامية وغيرها. وفي العيون: سعد بن معاذ، فيما ذكر ابن سعد. وتقدم مناقضة البرهان(2/231)
يعترض عيرا لقريش فيهم أمية بن خلف الجمحي.
واستعمل على المدينة السائب بن عثمان بن مظعون.
فرجع ولم يلق كيدا، أي حربا، قال ابن الأثير: والكيد الاحتيال والاجتهاد، وبه سميت الحرب كيدا.
ثم غزوة العشيرة -بالشين المعجمة، والتصغير، آخره هاء. لم يختلف أهل المغازي في ذلك، وفي البخاري..........................................................
__________
له وتأويله ولكن الأقرب أنه ابن أبي واقاص، للتصريح بأن الذين خرجوا من المهاجرين، نعم قيل إنه استخلف ابن معاذ على المدينة، قال شيخنا: فعله التباس للاستخلاف بالحمل.
"يعترض عيرا" لتجار قريش عدتها ألفان وخمسمائة بعير، قاله ابن سعد وشيخه الواقدي. "فيهم أمية بن خلف الجمحي" ومائة رجل من قريش، "واستعمل على المدينة" فيما قال ابن هشام وابن عبد البر ومغلطاي، "السائب بن عثمان بن مظعون" الجمحي أسلم قديما وهاجر إلى الحبشة وشهد بدرا في قول الجميع إلا ابن الكلبي، فقال: الذي شهدها عمه، ووهمه ابن سعد لمخالفته جميع أهل السير، واستشهد يوم اليمامة. وفي نسخة من سيرة ابن هشام، كما في الفتح: استخلف السائب بن مظعون وجرى عليه السهيلي. انتهى. وهو أخو عثمان شهد بدرا عند ابن إسحاق ولم يذكره موسى بن عقبة فيهم، وربما علم من أنهما نسختان عن ابن هشام سقط انتقد البرهان وتبعه الشامي على السهيلي بأن الذي في الهشامية السائب ابن الأخ لا عمه.
وقال الواقدي: استخلف عليها سعد بن معاذ. "فرجع" عليه السلام "ولم يلق كيدا، أي: حربا، قال ابن الأثير" في النهاية أبو السعادات المبارك بن أبي الكرم بن محمد الشيباني الجزري العالم النبيل أحد الفضلاء صاحب التصانيف الشهيرة، ولد في سنة أربع وأربعين وخمسمائة ومات بالموصل يوم الخميس سلخ ذي الحجة سنة ست وستمائة، "والكيد الاحتيال والاجتهاد وبه سميت الحرب كيدا" مجازا لاقترانها بالاشتهار فيه. وذكر القاموس من معاني الكيد الحرب، فمقتضاه اشتراكه فيه وفي غيره وضعا. وجمع شيخنا بأن القاموس أراد التنبيه على المعاني التي يصدق عليها الكيد أعم من أن يكون حققة أو مجازا، والله أعلم.
ثم غزوة العشيرة:
بالعين المهملة المضمومة "بالشين المعجمة والتصغير آخره هاء" قال السهيلي: واحدة العشيرة مصغر، "لم يختلف أهل المغازي في ذلك" الضبط، قال في المشارق: وهو المعروف. قال الحافظ: وهو الصواب، ووقع في الصحيحين خلافه، فنبه عليه فقال: "وفي البخاري" ومسلم(2/232)
العشيرة، أو العسيرة بالتصغير، والأولى بالمعجمة بلا هاء، والثانية: بالمهملة وبالهاء -وأما غزوة العسرة- بالمهملة بغيرة تصغير- فهي غزوة تبوك، وستأتي إن شاء الله تعالى.
ونسب هذه إلى المكان الذي وصلوا إليه، وهو موضع لبني مدلج بينبع. وخرج إليها صلى الله عليه وسلم في جمادى الأولى..................................
__________
والترمذي من طريق أبي إسحاق: سألت زيد بن أرقم ... الحديث، وفيه: فأيهم كانت أول؟ قال: "العشيرة أو العسيرة" هكذا ثبت في أصل الحافظ من البخاري، فقال في الفتح: "بالتصغير" فيهما "والأولى بالمعجمة بلا هاء والثانية بالمهملة وبالهاء" وفي أصل المصنف من البخاري: العسيرة أو العشير؟ فقال: بالتصغير فيهما وبالمهملة مع الهاء في الأولى والمعجمة بلا هاء في الثانية، ولأبي ذر: العسير بالمهملة بلا هاء والعشير بالمعجمة بلا هاء.
وللأصيلي: العشير أو العسير بالمعجمة في الأول والمهملة في الثاني مع حذف الهاء والتصغير في الكل. وفي نسخة عن الأصيلي: العشير بفتح العين وكسر الشين المعجمة بغير هاء، كذا رأيته في الفرع كأصله، انتهى.
وفي مسلم: العسير أو العشير، قال النووي: هكذا في جميع نسخ صحيح مسلم بضم العين، والأول بالسين المهملة والثاني بالمعجمة، انتهى. ورواية الترمذي كرواية مسلم كما أفاده الحافظ، وبهذا كله بأن خطّأ من زغم أنه بالهمز ومنشؤه قراءته العشيراء بالمد، والعسيرة بالواو.
"وأما غزوة السعرة بالمهملة بغير تصغير، فهي غزوة تبوك" قال الله تعالى: {الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَة} [التوبة: 117] ، "وستأتي إن شاء الله تعالى" سميت بذلك لما كان فيها من المشقة، كما يأتي بيانه. ولما كان يتوهم في هذه على ضبطه الثاني أنها سميت بذلك لما سميت به تبوك، وصغرت دفع هذا الوهم وخصها دون السابقين، فقال: "ونسبت هذه إلى المكان الذي وصلوا إليه، وهو موضع لبني مدلج بينبع" لس بينها وبين البلد إلا الطريق السالك، كما في النور وغيره.
وفي القاموس: موضع ناحية ينبع وفيه ينبع كينصر حصن له عيون ونخيل وزرع بطريق حاج مصر، فهو غير مصروف كيشكر. وفي الفتح: يذكر ويؤنث. قال ابن إسحاق: موضع ببطن ينبع.
وفي الروض: معنى العسير أو العسيرة أنه اسم مصغر من العسرى والعسر، إذا صغرت تصغير ترخيم، قيل: عسير وهي بقلة تكون أذنة، أي: عصيفة، ثم تكون سحاء، ثم يقال لها: العسري. "خرج إليها صلى الله عليه وسلم في جمادى الأولى" قاله ابن إسحاق وتبعه ابن حزم وغيره.(2/233)
-وقيل: الآخرة- على رأس ستة عشرة شهرا من الهجرة، في خمسين ومائة رجل -وقيل في مائتي رجلا- ومعهم ثلاثون بعيرا يعتقبونها، وحمل اللواء -وكان أبيض- حمزة، يريد عير قريش التي صدرت من مكة إلى الشام بالتجارة. فخرج إليها ليغنمها فوجدها قد مضت.
ووادع بني مدلج من كنانة. تتميم.
__________
"وقيل: الآخرة" قاله ابن سعد، أي: المتأخرة وفي نسخة الأخرى: وعبر به لمقابلتها بالأولى، فاندفع اللبس بالواحدة المتناولة للمتقدمة والمتأخرة. وقد ذكر السيوطي في الشماريخ ما حاصله: أنه إذا دلت قرينة على المراد ساغ التعبير بالآخر والأخرى، وفي نسخة: الأول. وقيل: الآخر بتذكيرهما ذهابا إلى معنى الشهر، وإن كان المصباح إنما نقل تأويله إذا وقع في شعره، وإلا فحمادان مؤنثان دون الشهور، ويخرج تذكير الآخر أيضا على مفاد الشماريخ.
"على رأس ستة عشر شهرا من الهجرة في خمسين ومائة رجل، وقيل:" في "مائتين" حكاهما ابن سعد، وزاد: من قريش من المهاجرين ممن انتدب ولم يكره أحدًا على الخروج، "رجلا" تمييز مائتين وهو شاذ، كقوله:
إذا عاش الفتى مائتين عاما ... فقد ذهب المسرة والغناء
ولا يقاس عليه عند الجمهور، والقياس في مائتي رجل بالإضافة.
"ومعهم ثلاثون بعيرا يعتقبونها" يركبها بعضهم ثم ينزل فيركب غيره، "وحمل اللواء، وكان أبيض حمزة" أسد الله وأسد رسوله، "يريد عير قريش التي صدرت من مكة إلى الشام بالتجار" وكانت قريش جمعت أموالها في تلك العير، ويقال: إن فيها خمسين ألف دينار وألف بعير، ولا يرد على هذا العير الإبل التي تحمل الميرة، لقول المصباح: إنها غلبت على كل قافلة. "فخرج إليها ليغنما فوجدها قد مضت" قبل ذلك بأيام، وهي العير التي خرج إليها حين رجعت من الشام فكان بسببها وقعة بدر الكبرى، كما في العيون وغيرها.
قال أبو عمر: فأقام هناك بقية جمادى الأولى وليالي من جمادى الآخرة وبه يعلم أن في قول اليعمري: فأقام بها جمادى الأولى ... إلخ، تجوزا بدليل قوله: أولا خرج في أثناء جمادى الأولى. "ووادع" في هذه السفرة "بني مدلج" زاد ابن إسحاق: وحلفاؤهم من بني ضمرة، وتقدم في ودان إنه وادع بن ضمرة فلعلها تأكيد للأولى، أو أن حلفاء بن يمدلج كانوا خارجين عن بني ضمرة لأمر ما، وبسببه حالفوا بني مدلج فكان ابتداء صلح لبني مدلج "من كنانة" هي تجمع بني مدلج وبني ضمرة؛ لأن كلا قبيلة من كنانة. وذكر الواقدي أن هذه السفرات الثلاث كان صلى الله عليه وسلم يخرج فيها لتلقي تجار قريش حين يمرون إلى الشام ذهابا وإيابا، وبسبب ذلك كانت(2/234)
وكانت نسخة الموادعة.................................................................
__________
وقد بدر وكذلك السرايا التي بعثها قبل بدر.
تتميم:
روى ابن إسحاق وأحمد من طريقه، عن عمار: أن النبي صلى الله عليه وسلم كنى عليا أبا تراب حين نام هو وعمار في نخل لبني مدلج مجتمع، ولصق بهما التراب، قال: فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فحركنا برجله وقد تتربنا، فيومئذ قال لعلي بن أبي طالب: "ما لك يا أبا تراب"؟، ويعارضه ما أخرجه الشيخان وغيرهما عن سهل بن سعد، قال: جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت فاطمة فلم يجد عليا، فقال صلى الله عليه وسلم لإنسان: "انظر أين هو"، فجاء فقال: يا رسول الله، هو في المسجد راقد، فجاء صلى الله عليه وسلم وهو مضطجع قد سقط رداؤه عن شقه وأصابه تراب، فجعل صلى الله عليه وسلم يمسحه عنه ويقول: "قم أبا تراب". وفي رواية: "اجلس أبا تراب" مرتين، قال سهل: وما كان له اسم أحب إليه منه. وغلط ابن القيم رواية السيرة، وقال: إنما كناه بذلك بعد بدر، وهو أول يوم كناه فيه. وقال السهيلي: ما في الصحيح أصح، إلا أن يكون كناه بها مرة في هذه الغزوة ومرة بعدها في المسجد، ومال الحافظ وصاحب النور إلى ذا الجمع، لكنهما قالا: فإن صح فيكون كناه ... إلخ، إشارة للتوقف فيه، فإن إسناده لا يخلو من مقال.
قيل: ولهذا اختص علي بقولهم كرم الله وجهه دون غيره من الصحابة والآل، وقيل: لأنه لم يسجد لصنم قط وقيل غير ذلك.
وروى الطبراني عن ابن عباس، وابن عساكر عن جابر: أنه صلى الله عليه وسلم لما آخى بين أصحابه ولم يؤاخ بين علي وبين أحد غضب فذهب إلى المسجد، فذكر نحو حديث الصحيح. قال الحافظ: ويمتنع الجمع بينهما؛ لأن المؤاخاة كانت أول ما قدم المدينة ودخول علي على فاطمة بعد ذلك بمدة. وما في الصحيح أصح، انتهى. ولم يظهر من تعليله امتناع الجم، فإنه ممكن بمثل ما جمعوا به بين الحديثين قبله، فيكون كناه ثلاث مرات، أولها: يوم المؤاخاة في المسجد. وثانيها: في هذه الغزوة في نخل بني مدلج. وثالثها: بعد بدر في المسجد لما غاضب الزهراء وإنما يمتنع لو قال في رواية الصحيح: إنه أول يوم كناه فيه، كما ادعى ابن القيم.
"وكانت نسخة الموادعة" بينه صلى الله عليه وسلم وبين بني ضمرة الواقعة في غزوة ودان، وذكر ههنا وإن كان الأولى تقديمها، ثم كان فعل السهيلي وأتباعه لأنه أراد ذكر الغزوات الثلاث على حدة ولم يخش لبس أنها لبني مدلج لتصريح الكتاب أنها لبني ضمرة، ولذا أسقط أولا قول ابن إسحاق(2/235)
فيما ذكره غير ابن إسحاق.
بسم الله الرحمن الرحيم. هذا كتاب من محمد رسول الله لبني ضمرة، بأنهم آمنون على أموالهم وأنفسهم، وأن لهم النصر على من رامهم أن لا يحاربوا في دين الله ما بل بحر صوفة، وأن النبي إذا دعاهم لنصر أجابوه، عليهم بذلك ذمة الله ورسوله.
قال ابن هشام: واستعمل على المدينة أبا سلم بن عبد الأسد.
__________
وحلفاؤهم من بني ضمرة، "فيما ذكر غير ابن إسحاق" كما أفاده السهيلي في الروض:
"بسم الله الرحم الرحيم" فيه ندب افتتاح الكتب بالبسملة فقط، وقد جمعت كتبه صلى الله عليه وسلم إلى الملوك وغيرهم فوجدت مفتتحة بها دون حمدلة وغيرها، "هذا كتاب من محمد رسول الله صلى لبني ضمرة بأنهم" بالباء الموحدة، كما هو المنقول في الروض وغيره، ويقع في نسخ: فإنهم، بالفاء وفي توجيهها عسر.
"آمنون على أموالهم وأنفسهم، وأن لهم النصر على من رامهم" أي: قصدهم بسوء بشرط "أن لا يحابوا" أي: يخالفوا "في دين الله" بإرادتهم إبطال ما جاء به الشرع أو المعنى على من قصدهم، يريد منهم: أن لا يحاربوا في نصرة دين الله "ما بل بحر صوفة" كناية عن تأييد مناصرتهم؛ إذ معلوم أن ماء البحر لا ينقطع، "وأن النبي" صلى الله عليه وسلم "إذا دعاهم لنصر أجابوه، عليهم بذلك ذمة الله" بكسر الذال المعجمة، أي: عهده "و" عهد "رسوله" وفسرها الشامي بأمانة، والأول أولى، وفي مقدمة الفتح: ذمة الله، أي: ضمانه، وقيل: الذمام الأمان، زاد في الروض: ولهم النصر على من بر منهم واتقى، وعلى بمعنى اللام، أي: لمن بر منهم واتقى النصر منا على عدوهم.
"قال ابن هشام" عبد الملك، ,واستعمل" صلى الله عليه وسلم "على المدينة" في خروجه للعشيرة "أبا سلمة" عبد الله "بن عبد الأسد" بسين ودال مهملتين المخزومي البدري أحد السابقين.(2/236)
غزوة بدر الأولى:
"ثم غزوة بدر الأولى":
قال ابن إسحاق: ولما رجع عليه الصلاة والسلام -أي: من غزوة العشيرة- لم يقم إلا ليالي، وقال ابن حزم: بعد العشيرة بعشرة أيام،.............................
__________
ثم غزوة بدر الأولى:
"قال ابن إسحاق: ولما رجع عليه الصلاة والسلام، أي: من غزوة العشيرة لم يقم إلا ليالي" قلائل لا تبلغ العشر، كما هو نص ابن إسحاق. "وقال ابن حزم: بعد العشيرة بعشرة أيام"(2/236)
حتى أغار كرز بن جابر الفهري على سرح المدينة فخرج صلى الله عليه وسلم في طلبه حتى بلغ سفوان -بفتح المهملة والفاء- موضع من ناحية بدر، ففاته كرز بن جابر. وتسمى بدرا الأولى.
قال ابن هشام: واستعمل على المدينة زيد بن حارثة، وحمل اللواء علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
__________
نقله عنه مغلطاي، ونقل الشامي عنه أنه عليه السلام خرج في ربيع الأول على رأس ثلاثة عشر شهرا، هو مبني على أن هذه قبل العشيرة، كما ذهب إليه ابن سعد ورزين وغيرهما، وابن إسحاق إلى أنها بعدها، "حتى " غاية للإثبات المستفاد من نقض النفي بألا، فكأنه قال: استمر إقامته إلى أن "أغار كرز" بضم الكاف وسكون الراء وبالزاي، "ابن جابر الفهري" نسبة إلى جده الأعلى فهر بن مالك بن النضر كان من رؤساء المشركين، ثم أسلم وصحب وأمر على سرية واستشهد في غزوة فتح مكة، "على سرح المدينة" بفتح السين وسكون الراء وبالحاء المهملات: الإبل والمواشي التي تسرح للرعي بالغداة، كما في النور والسبل، ولعل المراد بالمواشي المال السائم، كما في المختار في الشرح، وإن كان المواشي، كما في القاموس: الإبل والغنم.
وفي العيون: السرح ما رعوا من نعمهم، ويروى: أنه أغار عليهم من سعر، وفي خلاصة الوفاء: سعر كزفر جمع سعير الواردي جبل بأصل حمى أم خالد يهبط منه إلى بطن العتيق، كان يرعى بها السرح.
"فخرج صلى الله عليه وسلم حتى بلغ سفوان بفتح المهملة و" فتح "الفاء" وبالنون "موضع من ناحية بدر" ذكره في النهاية وتبعه السمهودي، فقال: سفوان بفتحات واد من ناحية بدر، وقيل: الفاء ساكنة "ففاته كرز بن جابر، وتسمى بدرا الأولى، قال ابن هشام واستعمل على المدينة زيد بن حارثة وحمل اللواء" وكان أبيض، كما في الشامية "علي بن أبي طالب رضي الله عنه" فرجع ولم يلق كيدا.(2/237)
سرية أمير المؤمنين عبد الله بن جحش:
ثم سرية أمير المؤمنين عبد الله بن جحش....................................................
__________
ثم سرية أمير المؤمنين عبد الله بن جحش:
ابن رباب براء مكسورة فتحتية فموحدة ابن معمر الأسدي أحد السابقين البدري، وهاجر إلى الحبشة واستشهد بأحد. وروى أبو القاسم البغوي عن سعد بن أبي وقاص: بعثنا صلى الله عليه وسلم في سرية، وقال: "لأبعثن عليكم رجلا أصبركم على الجوع والعطش"، فبعث علينا عبد الله بن جحش فكان أول أمير في الإسلام. قال اليعمري: سمي في هذه السرية أمير المؤمنين، وقال(2/237)
في رجب على رأس سبعة عشر شهرا، وكان معه ثمانية -وقيل اثنا عشر- من المهاجرين، إلى نخلة على ليلة من مكة، يترصد قريشا، فمرت به عيرهم تحمل زبيبا وأدما، فيها عمرو بن الحضرمي،...................................
__________
غيره: سماه صلى الله عليه وسلم أمير المؤمنين فهو أول من تسمى به في الإسلام، ولا ينافيه القول بأن أول من تسمى به عمر؛ لأن المراد من الخلفاء أو على العموم وهذا على من معه.
"في رجب" عند الأكثر, وقطع به الحافظ في سيرته وفي الفتح، وقيل: في جمادى الآخرة، "على رأس سبعة عشر شهرا، وكان معه ثمانية" كما رواه ابن إسحاق وسماهم، فقال: أبو حذيفة بن عتبة العبشمي، وعكاشة بن محصن الأسدي، وعتبة بن غزوان، وسعد بن أبي وقاص، وعامر بن ربيعة، وواقد بن عبد الله، وخالد بن البكير، وسهيل بن بيضاء.
"وقيل: اثنا عشر" فزيد: عامر بن إياس، والمقداد بن عمرو، وصفوان بن بيضاء، فلعل القائل بالثاني عد الأمير منهم، وهو ظاهر قول الحافظ في كتاب العلم: وكانوا اثني عشر رجلا، انتهى. وزيادة بعضهم وجابر السلمي خطأ لأنه أنصاري، وقد قال المؤلف كغيره "من المهاجرين" زاد ابن سعد: ليس فيهم من الأنصار أحد يعتقب كل اثنين منهم بعيرا، "إلى نخلة على ليلة من مكة" بين مكة والطائف، وفي المعجم: نخلة على يوم وليلة من مكة وهي التي ينسب إليها بطن نخلة التي استمعه الجن فيها.
روى ابن إسحاق عن عروة مرسلا ووصله الطبراني بإسناد حسن من حديث جندب البجلي: أنه صلى الله عليه وسلم بعث عبد الله بن جحش وكتب له كتابا وأمره أن لا ينظر فيه حتى يسير يومين ثم ينظر فيه فيمضي لما أمره به ولا يستكره من أصحابه أحدا، فلما سار يومين فتح الكتاب، فإذا فيه: "إذا نظرت في كتابي هذا، فامض حتى تنزل نخلة بين مكة والطائف فترصد بها قريشا وتعلم لنا من أخبارهم"، فقال: سمعا وطاعة، وأخبر أصحابه أنه نهاه أن يستكره أحدا منهم، فلم يتخلف منهم أحد وسلك على الحجاز حتى إذا كان ببحران بفتح الموحدة وضمها أضل سعد وعتبة بعيرهما الذي كانا يعتقبان عليه، فتخلفا في طلبه ومضى عبد الله وأصحابه حتى نزل بنخلة، "يرتصد قريش فمرت به عيرهم تحمل زبيبا وأدما" بفتح الهمزة والدال، أي: جلود، زاد ابن القيم وغيره: وتجارة من تجارة قريش، أي: مالا من أموالهم. وفي الفتح: لقوا أناسا من قريش راجعين بتجارة من الشام، "فيا عمرو بن الحضرمي" بمهملة ومعجمة ساكنة، واسمه عبد الله بن عباد أو ابن عمار له عمر، وهذا وعامر والعلاء وأختهم الصعبة أسلم، والعلاء كان من أفاضل الصحابة، وكذا الصعبة وهي أم طلحة بن عبيد الله وفيها أيضا عثمان ونوفل ابنا عبد الله المخزوميان والحكم بن كيسان فنزلوا قربهم فهابوهم فأرشدهم عبد الله إلى ما يزيل فزعهم،(2/238)
فتشاور المسلمون وقالوا: نحن في آخر يوم من رجب، فإن قتلناهم هتكنا حرمة الشهر، وإن تركناهم الليلة دخلوا حرم مكة، فأجمعوا على قتلهم فقتلوا عمرا واستأسروا عثمان بن عبد الله والحكم بن كيسان، وهرب من هرب، واستاقوا العير، فكانت أول غنيمة في الإسلام، فقسمها ابن جحش، وعزل الخمس من ذلك قبل أن يفرض، ويقال: بل قدموا بالغنيمة كلها.
__________
فحلق عكاشة رأسه، وقيل: واقد وأشرف عليهم فلما رأوهم آمنوا، وقالوا: عمار، بضم العين وشد الميم، أي: معتمرون، لا بأس عليكم منه، فقدوا ركابهم وسرحوها وصنعوا طعاما.
"فتشاور المسلمون، وقالوا: نحن في آخر يوم رجب" ويقال: أول يوم من شعبان، وقيل: في آخر يوم من جمادى الآخرة. وفي الاستيعاب: الأكثر أن سرية عبد الله في غرة رجب إلى نخلة وفيها قتل ابن الحضرمي لليلة بقيت من جمادى الآخرة. قال البرهان: وهو تباين ولعله غلط من الناسخ، صوابه: لليلة بقيت من رجب فيتفق الكلامان مع تأويل، أي: قوله في غرة رجب، وقوله: بقيت من رجب على ما صوب مع تأويل اليوم بالليلة لقربها منه أو الليلة باليوم، وقد يقال: لا تباين ولا غلط، بل هو إشارة للشك الذي وقع لهم، ففي حديث جندب عند الطبراني وغيره: ولم يدروا أذلك اليوم من رجب أو من جمادى، وحاصله: أنهم شكوا في اليوم أهو من الشهر الحرام أم لا؟ "فإن قتلناهم هتكنا حرمة الشهر" الحرام "وإن تركناهم الليلة دخلوا حرمة مكة" فامتنعوا به منا ثم شجعوا أنفسهم عليهم، "فأجمعوا على قتلهم" أي: قتل من قدروا عليه منهم، كما في الرواية:
"فقتلوا عمرا" الحضرمي وفيه تجوز؛ لأنه لما كان برضاهم نسب إليهم، وإلا فالقاتل له، كما في الرواية: واقد بن عبد الله رماه بسهم فقتله، "واستأسروا" أي: أسروا "عثمان بن عبد الله" بن المغيرة المخزومي "والحكم بن كيسان" بفتح الكاف وسكون التحتية وسين مهملة ونون. روى الواقدي عن المقداد قال: أنا الذي أسرت الحكم، فأرادوا قتله فأسلم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، "وهرب من هرب" وسمي في الرواية منه: نوفل بن عبد الله، "واستاقوا العير" أي: ساقوها فالمجرد والمزيد بمعنى، كما في القاموس، أي: أخذوها، "فكانت أول غنيمة في الإسلام" قال في الفتح: وأول قتل وقع في الإسلام، "فقسمها ابن جحش" بين أصحابه، "وعزل الخمس من ذلك" باجتهاد منه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، "قبل أن يفرض" الخمس، كما رواه ابن إسحاق عن بعض آل عبد الله. قال ابن سعد: فكان أول خمس خُمس في الإسلام.
"ويقال: بل قدموا بالغنيمة كلها" المدينة فقسمها صلى الله عليه وسلم بدر، ويقال: تسلمها منهم وخمسها ثم قسمها عليهم، ولم يحكه لمنابذته للمروي عند ابن إسحاق والطبراني، بلفظ: فقدموا(2/239)
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام"، فأخر الأسيرين والغنيمة حتى رجع من بدر فقسمها مع غنمائمها.
وتكلمت قريش: إن محمدًا سفك الدماء، وأخذ المال في الشهر الحرام، فأنزل الله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ} الآية [البقرة: 217] . وفي ذلك يقول عبد الله بن جحش:
__________
على رسول الله صلى الله عليه وسلم. "فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام"، فأخر الأسيرين والغنيمة" لتوقفه في حل ذلك، وأبى أن يأخذ شيئا من ذلك، وفيه أن شرع من قبلنا شرع لنا حتى يرد ناسخ. قال في الرواية: فلما قال صلى الله عليه وسلم ذلك سقط في أيدي القوم وظنوا أنهم هلكوا وعنفهم إخوانهم فيما صنعوا، "حتى رجع من بدر فقسمها مع غنمائمها" على غانميها فقط، لا إنه خلطها مع غنائم بدر وعم بها الجميع.
وذكر ابن وهب: أنه صلى الله عليه وسلم رد الغنيمة، وودى القتيل. قال ابن القيم: والمعروف في السير خلافه، "وتكلمت قريش أن محمدًا سفك الدماء وأخذ المال" أي: أمر بهما "في الشهر الحرام" أو هو حقيقة بأن علموا أو ظنوا أخذه عليه السلام الغنيمة من أصحابه، زاد ابن إسحاق في روايته: وأسر فيه الرجال، فقال: من يرد عليهم من المسلمين ممن كانوا بمكة إنما أصابوا ما أصابوا في شعبان، وقالت يهود: تفاءل بذلك عليه صلى الله عليه وسلم عمرو بن الحضرمي قتله واقد بن عبد الله عمر وعمرت الحرب، والحضرمي حضرت الحرب، وواقد وقدت الحرب، فجعل الله ذلك عليهم، لا لهم.
"فأنزل الله تعالى" بعد أن أكثر الناس القول: " {يَسْأَلُونَكَ} [البقرة: 217] ، قال البيضاوي: أي الكفار بعثوا يعيرون، وقيل: أصحاب السرية، {عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ} [البقرة: 217] ، بدل اشتمال "الآية" قال في الرواية: ففرج الله عن المسلمين وأهل السرية ما كانوا فيه، ولكنهم ظنوا أنه إنما نفى عنهم الإثم فلا أجر لهم فطمعوا فيه، فقالوا: يا رسول الله أنطمع أن تكون لنا غزوة نعطى فيها أجر المجاهدين. وفي رواية: إن لم يكونوا أصابوا وزرا فلا أجر لهم، فأنزل الله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 218] ، فوضعهم الله تعالى من ذلك على أعظم الرجاء.
"وفي ذلك يقول عبد الله بن جحش" كما قال ابن هشام. وقال ابن إسحاق: الصديق، ورجح البرهان الأول بما في الاستيعاب عن الزهري: أن أبا بكر لم يقل شعرا في الإسلام حتى مات، فإن صح فلا يعارضه كل امرئ مصبح في أهله ... البيت؛ لأنه تمثل به وإنما هو لحنظلة بن سيار، كما قاله عمر بن شبة، وقد ذكرها ابن إسحاق ستة أبيات اقتصر المصنف كاليعمري على(2/240)
تعدون قتلا في الحرام عظيمة ... وأعظم منه لو يرى الرشد راشد
صدودكم عما يقول محمد ... وكفر به والله راء وشاهد
سقينا من ابن الحضرمي رماحنا ... بنخلة لما أوقد الحرب واقد
وبعثت قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في فداء الأسيرين، وهما: عثمان بن عبد الله والحكم بن كيسان، ففداهما رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأما الحكم فأسلم وحسن إسلامه، وأقام عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قتل يوم بئر معونة شهيدا، وأما..................................
عثمان فلحق بمكة فمات بها كافرا.
__________
ثلاثة واذكر ما حذفه، فقال: "تعدون قتلا في" الشهر "الحرام عظيمة وأعظم" أكبر وأشد "منه" من القتل الواقع منافيه وجملة "لو يرى الرشد راشد"، معترضة وجواب لو محذوف، أي: لعلم إن فعلكم أعظم، "صدودكم" خبر أعظم، "عما يقول محمد، وكفر به والله راء وشاهد" جملة حالي، والثالث والرابع:
وإخراجكم من مسجد الله أهله ... لئلا يرى لله في البيت ساجد
فإنا وإن عيرتمونا بقتله ... وارجف بالإسلام باغ وحاسد
"سقينا من" عمرو "بن" عبد الله "الحضرمي رماحنا، بنخلة لما" حين "أوقد الحرب واقد" ابن عبد الله التميمي برميه ابن الحضرمي بسهم قتله به، ومفعول سقينا الثاني دماني البيت السادس، وهو:
دما وابن عبد الله عثمان بيننا ... ينازهه غل من القيد قاعد
وغل بضم المعجمة: طوق من حديد يجعل في العنق، وأما بكسرها فالحقد كما في المصباح، ولم يذكر الناظم الحكم مع أنه أسير أيضا، لجواز أنه بعد إسلامه أو قبله وصرفه الله عن ذلك لعلمه بأنه من السعداء الشهداء.
"وبعثت قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في فداء الأسيرين، وهما: عثمان بن عبد الله" المخزومي "والحكم بن كيسان" فقال صلى الله عليه وسلم: "لا نفديكموهما حتى يقدم صاحبانا -يعني سعدا وعتبة- فإنا نخشاكم عليهما، فإن تقتلوهما نقتل صاحبيكم"، فقدم سعد وعتبة بعدهم بأيام، "ففداهما رسول الله صلى الله عليه وسلم" كل واحد بأربعين أوقية، كما الشامية. "فأما الحكم" بن كيسان مولى عمرو المخزومي والد أبي جهل، "فأسلم وحسن إسلامه، وأقام عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قتل يوم بئر معونة شهيدا" ذكره ابن إسحاق وابن عقبة وعروة بن الزبير، وروى الهيثم بن عدي عن يونس عن ابن عباس، وعن أبي بكر بن أبي جهم، قال: تزوج الحكم بن كيسان مولى بني مخزوم وكان حجاما، آمنة بنت عفان أخت عثمان، وكانت ماشطة، ذكره في الإصابة. و"وأما عثمان فلحق بمكة، فمات بها كافرا" ومن يضلل الله فلا هادي له.(2/241)
"تحويل القبلة وفرض رمضان وزكاة الفطر":
ثم حولت القبلة إلى الكعبة، وكان صلى الله عليه وسلم يصلي إلى بيت المقدس بالمدينة ستة عشرا شهرا.
وقيل سبعة عشر،...........................
__________
تحويل القبلة وفرض رمضان وزكاة الفطر:
"ثم حولت القبلة" أي: الاستقبال لا ما يستقبله المصلي؛ إذ لا يتعلق به تحويل أو حول، أي: غير وجوب استقبال المقدس، "إلى الكعبة" الترتيب ذكري لا زماني، فلا يرد عليه جزمه أن السرية على رأس سبعة عشر شهرا في رجب، وحكايته الخلاف الآتي في التحويل. "وكان صلى الله عليه وسلم يصلي إلى" صخرة "بيت المقدس" التي كان موسى يصلي إليها بحذاء الكعبة، وهي قبلة الأنبياء كلهم، نقله القرطبي عن بعضهم. وأخرج ابن سعد عن محمد بن كعب القرظي، قال: ما خالف نبي نبيا في قبلة ولا سنة، إلا أنه صلى الله عليه وسلم استقبل بيت المقدس ثم تحول إلى الكعبة. وروى أبو داود في الناسخ والمنسوخ عن الحسن في قوله تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 96] الآية، قال: أعلم قبلته فلم يبعث نبي إلا وقبلته البيت، وهذا قواه الحافظ العلائي، فقال في تذكرته: الراجح عند العلماء أن الكعبة قبلة الأنبياء كلهم، كما دلت عليه الآثار. قال بعضهم: وهو الأصح، انتهى.
اختار ابن العربي وتلميذه السهيلي: أن قبلة الأنبياء بيت المقدس، قال بعض: وهو الصحيح المعروف. فعد صاحب الأنموذج من خصائص المصطفى وأمته استقبال الكعبة: إنما هو على أحد القولين المرجحين، نعم ذكر فيما اختص به على جميع الأنبياء والمرسلين أن الله جمع له بين القبلتين صلى الله عليه وسلم "بالمدينة" حال "ستة عشر شهرا" كما رواه مسلم عن أبي الأحوص، والنسائي عن زكريا بن أبي زائدة، وشريك وأبو عوانة عن عمار بن زريق بتقديم الراء مصغر، أربعتهم عن أبي إسحاق عن البراء بن عازب جزما.
ورواه أحمد بسند صحيح عن ابن عباس، ورجحه النووي في شرح مسلم، وفي رواية زهير عند البخاري وإسرائيل عنده، وعند الترمذي عن أبي إسحاق عن البراء ستة عشر شهرا، أو سبعة عشر شهرا بالشك.
"وقيل: سبعة عشر" شهرا، رواه البزار والطبراني من حديث عمرو بن عوف، والطبراي(2/242)
وقيل ثمانية عشر شهرا.
وقال الحربي: قدم عليه الصلاة والسلام المدينة في ربع الأول، فصلى إلى بيت المقدس تمام السنة وصلى من سنة اثنتين ستة أشهر. ثم حولت القبلة.
وقيل: كان تحويلها في جمادى، وقيل: كان يوم الثلاثاء في نصف شعبان،
__________
أيضا من حديث ابن عباس، وهو قول ابن المسيب ومالك وابن إسحاق. قال القرطبي: وهو الصحيح. قال الحافظ: والجمع بينها سهل بأن من جزم بستة عشر لفق من شهر القدوم وشهر التحويل شهرا وألغى الأيام الزائدة، ومن جزم بسبعة عشر عدهما معا، ومن شك تردد في ذلك، وذلك أن القدوم كان في شهر ربيع الأول بلا خلاف، وكان التحويل في نصف شهر رجب من السنة الثانية على الصحيح، وبه جزم الجمهور. ورواه الحاكم بسند صحيح عن ابن عباس، وقال ابن حبان: سبعة عشر شهرا وثلاثة أيام، وهو مبني على أن القدوم كان في ثاني ربيع الأول، انتهى. قال البرهان: ويمكن أن هذا مراد من قال سبعة عشر بإلغاء الكسر.
"وقيل: ثمانية عشر شهرا" رواه ابن ماجه من طريق أبي بكر بن عياش عن أبي إسحاق عن البراء، قال الحافظ: وهو شاذ، وأبو بكر سيئ الحفظ وقد اضطرب فيه، فعند ابن جرير من طريقه في رواية سبعة عشر، وفي آخر: ستة عشر، قال: ومن الشذوذ أيضا ثلاثة عشر شهرا، ورواية تسعة أشهر أو عشرة، ورواية: شهرين، ورواية: سنتين، ويمكن حمل الأخيرة على الصواب وأسانيد الجميع ضعيفة، والاعتماد على الثلاثة الأول، فجملة ما حكي تسع روايات، انتهى. وكأنه لم يعد رواية الشك، وإلا كانت عشرة، وكذا لم يعدها البرهان وعد الأقوال عشرة، فزاد القول بأنه بضعة عشر شهرا ولم يعده الحافظ؛ لأنه يمكن تفسيره بكل ما زاد على العشرة.
"وقال" إبراهيم "الحربي: قدم عليه الصلاة والسلام المدينة في ربيع الأول فصلى إلى بين المقدس تمام السنة، وصلى من سنة اثنتين ستة أشهر، ثم حولت القبلة" وهذا محتمل، لكون المراد أن مدة الصلاة لبيت المقدس دون سة عشر، ولذا قال في النور: هذا كاد أن يكون قولا، انتهى. ومحتمل لأن يكون مراده ستة عشر بشهر القدوم. "وقيل: كان تحويلها في جمادى" الآخرة، وبه جزم ابن عقبة "وقيل: كان يوم الثلاثاء في نصف شعبان" قاله محمد بن حبيب، وجزم به في الروضة مع ترجيحه في شرح مسلم رواية ستة عشر شهرا للجزم بها في مسلم، كما مر.
قال الحافظ: ولا يستقيم أنه في شعبان إلا بإلغاء شهري القدوم والتحويل، انتهى. نعم هو يوافق سبعة عشر بتلفيق واحد من شهري القدوم والتحويل، والقول الشاذ بأنه ثمانية عشر بإلغاء(2/243)
وقيل يوم الاثنين نصف رجب.
وظاهر حديث البراء في البخاري: أنها كانت صلاة العصر.
ووقع عند النسائي من رواية أبي سعيد بن المعلى: أنها الظهر.
وأما أهل قباء فلم يبلغهم الخبر إلى صلاة الفجر من اليوم الثاني، كما في الصحيحين عن ابن عمر أنه قال: بينما الناس بقباء في صلاة الصبح إذ جاءهم آت...................................
__________
الكسر واعتبار شهري التحويل والقدوم.
"وقيل: يوم الاثنين نصف رجب" رواه أحمد عن ابن عباس بإسناد صحيح. قال الواقدي: وهذا أثبت. قال الحافظ: وهو الصحيح، وبه جزم الجمهور، كما مر، وهو صالح لروايتي ستة عشر وسبعة عشر والشك، فالحاصل في الشهر ثلاثة أقوال، وفي اليوم قولان. "وظاهر حديث البراء" بتخفيف الراء والمد على الأشهر، ابن عازب الأنصاري الأوسي الصحابي ابن الصحابي "في البخاري أنها" أي: الصلاة التي وقع فيها التحويل، "كان صلاة العصر" لقوله وأنه، أي: النبي صلى الله عليه وسلم أول صلاة صلاها صلاة العصر، أي: متوجها إلى الكعبة. "ووقع عند النسائي من رواية أبي سعيد بن المعلى" بضم الميم وفتح المهملة وشد اللام، صحابي جليل اسمه سعيد، وقيل: رافع ووهاه ابن عبد البر، وقوى الأول. "أنها الظهر" وكذا عند الطبراني والبزار من حديث أنس، وعند ابن سعد: حولت في صلاة الظهر أو العصر، وجمع الحافظ فقال في كتاب الإيمان: التحقيق: أن أول صلاة صلاها في بني سلمة لما مات بشر بن البراء بن معرور الظهر الأول صلاة صلاها بالمسجد النبوي العصر.
"وأما أهل قباء فلم يبلغهم الخبر إلى صلاة الفجر" أي: الصبح، "من اليوم الثاني" وقال في كتاب الصلاة: لا منافاة بين الخبرين؛ لأن الخبر وصل وقت العصر إلى من هو داخل المدينة وهم بنو حارثة، ووصل وقت الصبح إلى من هو خارجها وهم أهل قباء، "كما في الصحيحين" البخاري في الصلاة والتفسير ومسلم في الصلاة، وكذا النسائي "عن ابن عمر" بن الخطاب "أنه قال: بينما الناس" المعهودون في الذهن "بقباء" بالمد والتذكير والصرف على الأشهر ويجوز القصر وعدم الصرف ويؤنث. موضع معروف ظاهر المدينة وفيه مجاز الحذف، أي: بمسجد قباء.
"في صلاة الصبح" ولمسلم في صلاة الغداة وهو أحد أسمائها ونقل بعضهم كراهة تسميتها بذلك، "إذ جاءهم آت" قال الحافظ: ولم يسم وإن كان ابن طاهر وغيره نقلوا أنه(2/244)
فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها، وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة.
وفي هذا أن الناسخ لا يلزم حكمه إلا بعد العلم به، وإن تقدم نزوله؛ لأنهم لم يؤمروا بإعادة العصر والمغرب والعشاء والله أعلم.
__________
عباد بن بشر ففيه نظر؛ لأن ذلك إنما ورد في حق بني حارثة في صلاة العصر، فإن كان ما نقلوه محفوظا فيحتمل أن عبادا أتى بني حارثة أولا وقت العصر ثم توجه إلى أهل قباء، فأعلمهم بذلك في الصبح، ومما يدل على تعددهما أن مسلما روى عن أنس: أن رجلا من بني سلمة مر وهم ركوع في صلاة الفجر، فهذا موافق لرواية ابن عمر في تعيين الصلاة، وبنو سلمة غير بني حارثة انتهى.
وكون مخبر بني حارثة عباد بن بشر رواه ابن منده وابن أبي خيثمة، وقيل: عباد بن نهيك، بتفح النون وكسر الهاء، ورجح أبو عمر الأول. وقيل: عباد بن نصر الأنصاري. قال الحافظ: والمحفوظ عباد بن بشر، انتهى. وقيل: عباد بن وهب. قال البرهان: ولا أعرفه في الصحابة إلا أن يكون نسب إلى جده أو جد له أعلى إلى خلاف الظاهر، انتهى.
"فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم" أسقط من الحديث ما ألفظه: قد أنزل عليه الليلة قرآن، قال الحافظ: فيه إطلاق الليلة على بعض اليوم الماضي وما يليه مجازا والتنكير لإرادة البعضية، والمراد قوله تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء} [البقرة: 144] الآية. "قد أمر" بضم الهمزة مبنيا للمفعول "أن" أي: بأن "يستقبل" بكسر الموحدة، أي: باستقبال "الكعبة، فاستقبلوها" بفتح الموحدة عن أكثر رواة الصحيحين على أنه فعل ماض، أي: تحول أهل قباء إلى جهة الكعبة، "وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة" وضمير استقبلوها ووجوههم لأهل قباء، ويحتمل أنه للنبي صلى الله عليه وسلم ومن معه.
وفي رواية الأصيلي للبخاري، والعذري لمسلم: فاستقبلوها بكسر الموحدة بصيغة الأمر، قال الحافظ: وفي ضمير وجوههم الاحتمالان المذكوران، وعوده إلى أهل قباء أظهر. وترجح رواية الكسر رواية البخاري في التفسير، بلفظ: وقد أمر أن يستقبل الكعبة ألا فاستقبلوها، فدخول حرف الاستفتاح يشعر بأن الذي بعده أمر لا أنه بقية الخبر الذي قبله، انتهى. وفي النور أن بعض الحفاظ، قال: الكسر أفصح وأشهر وهو الذي يقتضيه تمام الكلام بعده.
"وفي هذا" الحديث من الفوائد "أن الناسخ لا يلزم حكمه إلا بعد العلم به وإن تقدم نزوله؛ لأنهم لم يؤمروا بإعادة العصر والمغرب والعشاء" زاد الحافظ: واستنبط منه الطحاوي أن من لم تبلغه الدعوة ولم يمكنه استعلام فالفرض غير لازم له، وفيه جواز الاجتهاد في زمنه صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم لما تمادوا في الصالة ولم يقطعوها، دل على أنه رجح عندهم التمادي والتحول(2/245)
وروى الطبري عن ابن عباس: لما هاجر صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، واليهود أكثر أهلها يستقبلون بيت المقدس أمره الله تعالى أن يستقبل بيت المقدس، ففرحت اليهود، فاستقبلها سبعة عشر شهرا، وكان صلى الله عليه وسلم يحب أن يستقبل قبلة إبراهيم، فكان يدعو وينظر إلى السماء فنزلت الآية.
__________
على القطع والاستئناف، ولا يكون ذلك إلا عن اجتهاد، كذا قيل وفيه نظر، لاحتمال أن عندهم في ذلك يقينا سابقا لأنه عليه السلام كان مترقبا للتحويل، فلا مانع من تعليمهم ما صنعوا من التمادي والتحول، وفيه قبول خبر الواحد ووجوب العمل به ونسخ ما تقرر بطريق العلم به؛ لأن صلاتهم إلى بيت المقدس كانت عندهم بطريق القطع لمشاهدتهم صلاته صلى الله عليه وسلم إليه، وتحولوا إلى جهة الكعبة بخبر هذا الواحد، وأجيب: بأن الخبر المذكور احتفت به قرائن ومقدمات أفادت العلم عندهم بصدق المخبر، فلم ينسخ عندهم ما يفيد العلم إلا بما يفيد العلم. وقيل: كان النسخ بخبر الواحد جائزا في زمنه صلى الله عليه وسلم مطلقا، وإنما منع بعده ويحتاج إلى دليل. انتهى.
"وروى الطبري" محمد بن جرير من طريق علي بن أبي طلحة، "عن ابن عباس" قال: "لما هجر صلى الله عليه وسلم إلى المدينة واليهود أكثر أهلها يستقبلون" خبر ثان لليهود أو لمبتدأ محذوف، أي: وهم يستقبلون "بيت المقدس أمره الله تعالى أن يستقبل بيت المقدس" ليجمع له بين القبلتين، كما عده السيوطي من خصائصه على الأنبياء والمرسلين وتأليفا لليهود، كما قال أبو العالية "ففرحت اليهود" لظنهم أنه استقبله اقتداء بهم مع أنه كان لأمر ربه "فاستقبلها سبعة عشر شهرا، وكان صلى الله عليه وسلم يحب أن يستقبل قبلة إبراهيم" وعند الطبري أيضا من طريق مجاهد عن ابن عباس، قال: إنما أحب أن يتحول إلى الكعبة؛ لأن اليهود قالوا: يخالفنا محمد ويتبع قبلتنا. وعند ابن سعد: أنه صلى الله عليه وسلم قال: "يا جبريل، وددت أن الله صرف وجهي عن قبلة يهود"، فقال جبريل: إنما أنا عبد فادع ربك وسله.
وعند السدي في الناسخ والمنسوخ عن ابن عباس: كان صلى الله عليه وسلم يعجبه أن يصلي قبل الكعبة؛ لأنها قبلة آبائه إبراهيم وإسماعيل، فقال لجبريل: "وددت أنك سألت الله أن يصرفني إلى الكعبة"، فقال جبريل: لست أستطيع أن أبتدئ الله عز وجل بالمسألة ولكن إن سألني أخبرته. "فكان يدعو" دعاء محبة لذلك بالحال لا بالقال، ففي الفتح فيه بيان شرف المصطفى وكرامته على ربه لإعطائه له ما أحب من غير تصريح بالسؤال، وعليه فالعطف تفسيري في قوله: "وينظر إلى السماء" ينظر جبريل ينزل عليه، كما عند السدي وغيره، ولأنها قبلة الداعي "فنزلت الآية" يعني قوله تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 144] الآية، وبقية حديث ابن عباس هذا عند ابن جرير: فارتاب في ذلك(2/246)
قال في فتح الباري وظاهر حديث ابن عباس هذا أن استقبال بيت المقدس إنما وقع بعد الهجرة إلى المدينة. لكن أخرج أحمد من وجه آخر عن ابن عباس: كان النبي صلى الله عليه وسلم يصل بمكة نحو بيت المقدس، والكعبة بين يديه، قال: والجمع بينهما ممكن: بأن يكون أمر لما هاجر أن يستمر على الصلاة لبيت المقدس.
وأخرج الطبري أيضا من طريق ابن جريج قال: صلى النبي صلى الله عليه وسلم أول ما صلى إلى الكعبة، ثم صرف إلى بيت المقدس وهو بمكة، فصلى ثلاثة حجج، ثم هاجر، فصلى إليه بعد قدومه المدينة ستة عشر شهرا، ثم وجهه الله إلى الكعبة.
__________
اليهود، وقالوا: ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها، فأنزل الله: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115] الآية.
"قال في فتح الباري" في كتاب الصلاة "وظاهر حديث ابن عباس هذا أن استقبال بيت المقدس إنما وقع بعد الهجرة إلى المدينة، لكن أخرج أحمد من وجه آخر عن ابن عباس" قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يصل بمكة نحو بيت المقدس والكعبة بين يديه" فحصل تخالف بين حديثيه؛ إذ مقتضى الأول أنه إنما أمر به في المدينة، وهذا صريح في أنه كان بمكة. "قال" يعني في الفتح: "والجمع بينهما ممكن بأن يكون أمر" صلى الله عليه وسلم "لما هاجر أن يستمر على الصلاة لبيت المقدس" فالأمر بابتداء استقباله كان بمكة، والذي بالمدينة باستمراره، ثم نسخ باستقبال الكعبة، فلم يقع نسخ بيت المقدس إلا مرة واحدة.
"وأخرج الطبري" محمد بن جرير "أيضا من طريق ابن جريج" بجيمين مصغر عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج الأموي مولاهم المكي الثقة الفقيه الحافظ أحد الأعلام، مات سنة خمسين ومائة، "قال: صلى النبي صلى الله عليه وسلم أول ما صلى إلى الكعبة ثم صرف إلى بيت المقدس وهو بمكة، فصلى ثلاثة حجج" بكسر المهملة وفتح الجيم الأولى وكسر الثانية منون، أي: سنين بناء على أن الإسراء قبل الهجرة بخمس سنين. أما على أنه قبلها بسنة أو نحوها، فالمراد: ما كان يصليه قبل فرض الخمس، "ثم هاجر فصلى إليه بعد قدومه المدينة ستة عشر شهرا، ثم وجهه الله إلى الكعبة" فهذا الأثر صريح في الجمع المذكور، فلا بأس.
وقوله في حديث ابن عباس الثاني: والكعبة بين يديه يخالف قول البراء عند ابن ماجه صلين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو بيت المقدس ثمانية عشر شهرا، وصرفت القبلة إلى الكعبة بعد دخول المدينة، فإن ظاهره: أنه كان يصلي بمكة إلى بيت المقدس محضا.
وحكى الزهري خلافا في أنه كان بمكة يجعل الكعبة خلف ظهره أو يجعلها بينه وبين(2/247)
وقوله في حديث ابن عباس الأول: "أمره الله تعالى" يرد قول من قال: إنه صلى إلى بيت المقدس باجتهاد.
وعن أبي العالية: أنه صلى إلى بيت المقدس يتألف أهل الكتاب. وهذا لا ينفي أن يكون.................................................................
__________
بيت المقدس. قال الحافظ: فعلى الأول: كان يجعل الميزان خلفه. وعلى الثاني: كان يصلي بين الركنين اليمانيين وزعم ناس أنه لم يزل يستقبل الكعبة بمكة، فلما قدم المدينة استقبل بيت المقدس ثم نسخ، وحمل ابن عبد البر هذا على قول الثاني ويؤيده حمله على ظاهره إمامة جبريل ففي بعض طرقه: أن ذلك كان عند البيت.
وفي الفتح أيضا اختلفوا في الجهة التي كان يصلي إلى بيت المقدس، لكنه كان لا يستدبر الكعبة بل يجعلها بينه وبين بيت المقدس. وأطلق آخرون: أنه كان يصلي إليها بمكة. فقال ابن عباس وغيره: كان يصلي إلى بيت المقدس. وقال آخرون: كان يصلي إلى الكعبة، فلما هاجر استقبل المقدس. وهذا ضعيف، ويلزم منه دعوى النسخ مرتين، والأول أصح؛ لأنه يجمع به بين القولين وقد صححه الحاكم وغيره من حديث ابن عباس، انتهى.
ولا يخالفه قول ابن العربي: نسخ الله القبلة ونكاح المتعة ولحوم الحمر الأهلية مرتين مرتين ولا أحفظ رابعا.. وقال أبو العباس العزفي -بفتح المهملة والزاي وبالفاء: رابعها الوضوء مما مست النار، ونظم ذلك السيوطي؛ لأن مراد الحافظ أن خصوص نسخ بيت المقدس لم يتكرر، وما أثبته ابن العربي النسخ للقبلة في الجملة، بمعنى: أنه أمر باستقبال الكعبة ثم نسخ باستقبال بيت المقدس، ثم نسخ بالكعبة، كما هو مدلول كلاميهما، ودل عليه أثر ابن جريج.
"وقوله في حديث ابن عباس الأول: أمره الله يرد قول من قال" وهو الحسن البصري، "أنه صلى إلى بيت المقدس باجتهاد" وكذا قول الطبري: كان مخيرا بينه وبين الكعبة، فاختاره طمعا في إيمان اليهود، ويرده أيضا سؤاله لجبريل؛ إذ لو كان مخيرا لاختار الكعبة لما أحبها من غير سؤال.
قال شيخنا: إلا أن يقال بعد اختياره وجب عليه لكنه استبعد هذا بمجلسه؛ لأن فيه تضييقا عليه ولو خير كان كتخييره بين المسح على الخفين وغسل الرجلين، والذي عليه الجمهور، كما قال القرطبي: أنه إنما كان بأمر الله ووحيه.
"وعن أبي العالية" رفيع بضم الراء مصغر بن مهران بكسر الميم، الرماحي بكسر الراء وتحتية، مولاهم البصري التابعي الكبير، أخرج له الجميع. "أنه صلى إلى بيت المقدس يتألف أهل الكتاب" وعن الزجاج امتحانا للمشركين؛ لأنهم ألقوا الكعبة "وهذا لا ينفي أن يكون(2/248)
بتوقيف.
واختلفوا في المسجد الذي كان يصلي فيه:
فعند ابن سعد في الطبقات: أنه صلى ركعتين من الظهر في مسجده بالمسلمين، ثم أمر أن يتوجه إلى المسجد الحرام، فاستدار إليه ودار معه المسلمون.
ويقال: إنه عليه السلام زار أم بشر بن البراء بن معرور في بني سلمة، فصنعت له طعاما، وكانت الظهر، فصلى عليه السلام بأصحابه ركعتين، ثم أمر فاستداروا إلى الكعبة، واستقبل الميزاب، فسمي مسجد القبلتين...................
__________
بتوقيف" فقد يكون الأمر به لتأليفهم، "واختلفوا في المسجد الذي كان يصلي فيه" حين حولت القبلة، "فعند ابن سعد في الطبقات أنه" صلى الله عليه وسلم "صلى ركعتين من الظهر في مسجده" النبوي "بالمسلمين، ثم أمر أن يتوجه إلى المسجد الحرام" أي: الكعبة وعبر به كالآية دون الكعبة؛ لأنه كما قال البيضاوي: كان عليه السلام بالمدينة والبعيد يكفيه مراعاة الجهة، فإن استقبال عينها، أي: للبعيد، حرج عليه بخلاف القريب.
"فاستدار إليه ودار معه المسلمون" فصلى بهم ركعتين أخريين؛ لأن الظهر كانت يومئذ أربعا، فثنتان منها لبيت المقدس، وثنتان للكعبة، ووقع التحويل في ركوع الثالثة، كما في النور، فجعلت كلها ركعة للكعبة مع أن قيامها وقراءتها وابتداء ركوعها للقدس؛ لأنه اعتداد بالركعة إلا بعد الرفع من الركوع ولذا يدركها المسبوق قبله.
"ويقال: إنه عليه السلام زار أم بشر بن البراء بن معرور" بمهملات، يقال: اسمها خليدة، كما في التجريد. "في بني سلمة" بكسر اللام والنسبة إليها بفتحها على المشهور، وفي الألفية. والسلمي افتحه في الأنصاري. وفي اللب كسرها المحدثون في النسبة أيضا.
"فصنعت له طعاما، وكانت" أي: وجدت "الظهر" أي: دخل وقتها، فكان تامة، لكن المذكور في الفتح الذي هو ناقل عنه، وكذا العيون والسبل عن ابن سعد، بلفظ: وحانت الظهر بمهملة، أي دنا وقتها، "فصلى عليه السلام بأصحابه ركعتين ثم أمر" باستقبال الكعبة في ركوع الثالثة، "فاستدارواإلى الكعبة" بأن حول الإمام من مكانه الذي كان يصلي فيه إلى مؤخره، فتحولت الرجال حتى صاروا خلفه، وتحولت النساء حتى صرن خلف الرجال، ولا يشكل بأنه عمل كثير، لاحتمال أنه قبل تحريمه فيها كالكلام، أو اغتفر هذا العمل للمصلحة، أو لم تتوال الخطا عند التحويل بل وقعت متفرقة، "فسمي مسجد القبلتين" لنزول النسخ وتحويله عليه السلام(2/249)
قال ابن سعد قال الواقدي: هذا عندنا أثبت.
ولما حول الله القبلة حصل لبعض الناس من المنافقين والكفار واليهود ارتياب وزيغ عن الهدى وشك، وقالوا: ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها، أي: ما لهؤلاء تارة يستقبلون كذا، وتارة يستقبلون كذا، فأنزل الله جوابهم في قوله: {قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِب} أي الحكم والتصرف، والأمر كله لله، فحيثما وجهنا توجهنا فالطاعة في امتثال أمره، ولو وجهنا كل يوم مرات إلى جهات متعددة فنحن عبيده، وفي تصريفه وخدامه حيثما وجهنا توجهنا.
ولله تعالى بنبينا عليه الصلاة والسلام وبأمته عناية عظيمة؛ إذ هداهم إلى قبلة خليله إبراهيم................................
__________
فيه ابتداء فلا يرد أن التحويل وقع في مسجدي قباء وبني حارثة، ولم يسميا بذلك، وأيضا فحكمة التسمية لا يلزم اطرادها.
"قال ابن سعد: قال الواقدي: هذا عندنا أثبت" من القول الأول أن التحويل وقع في المسجد النبوي "ولما حول الله القبلة حصل لبعض الناس من المنافقين والكفار" المشركين من قريش، "واليهود ارتياب" شك "وزيغ" ميل "عن الهدى وشك" فيه، "وقالوا: ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها" على استقبالها في الصلاة "أي: ما لهؤلاء تارة يستقبلون كذا، وتارة يستقبلون كذا،" وصريحه أن هذا قول الطوائف الثلاث، وبه صرح البيضاوي وسيذكر المصنف مقابله أخيرا.
"فأنزل الله جوابهم في قوله:" {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} [البقرة: 142] ، أي: الجهات كلها؛ لأنهما ناحيتا الأرض، فيأمر بالتوجه إلى أي جهة شاء، لا اعتراض عليه، كما في الجلال، فحمله على الحقيقة، وحمله المصنف على المجاز، فقال: "أي الحكم والتصرف والأمر كله لله" لا يسأل عما يفعل، "فحيما وجهنا توجهنا، فالطاعة في امتثال أمره ولو وجهنا كل يوم مرات إلى جهات متعددة، فنحن عبيده. وفي تصريفه و" ونحن "خدامه حيثما وجهنا توجهنا" وقد قال تعالى: {لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِب} [البقرة: 142] ، فأينما تولوا فثم وجه الله، تقدم عن ابن عباس أن سبب نزولها إنكار اليهود.
قال السيوطي: وإسناده قوي فليعتمد. وفي سببها روايات أخر ضعيفة. "ولله تعالى بنبينا عليه الصلاة والسلام وبأمته عناية" أي: رعاية "عظيمة؛ إذ هداهم إلى قبلة خليله إبرهيم" وألقى(2/250)
قال عليه الصلاة والسلام فيما رواه أحمد عن عائشة: "إن اليهود لا يحسدوننا على شيء كما يحسدوننا على يوم الجمعة، التي هدانا الله إليها وضلوا عنها.....................
__________
حبها في قلب حبيبه عليه السلام، ولم يفعل ذلك بغير أمته بل تركوا على ضلالهم الذي وقعوا فيه مع أنها قبلة الأنبياء كلهم على أحد القولين، كما مر.
وربما يؤيد الحديث الذي ذكره بقوله: "قال عليه الصلاة والسلام، فيما رواه أحمد عن عائشة: "إن اليهود لا يحسدونا على شيء كما يحسدونا على يوم الجمعة التي هدانا الله إليها" قال الحافظ: يحتمل بأن نص لنا عليه، ويحتمل بالاجتهاد، ويشهد له أثر ابن سيرين في جمع أهل المدينة قبل قدوم المصطفى، فإنه يدل على أن أولئك الصحابة اختاروا يوم الجمعة بالاجتهاد، ولا يمنع ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم علمه بالوحي وهو بمكة، فلم يتمكن من إقامتها.
ثم قد ورد فيه حديث ابن عباس عند الدارقطني، ولذا جمع بهم أول ما قدم المدينة، كما حكاه ابن إسحاق وغيره، وعلى هذا فقد حصلت الهداية للجمعة بجهتي البيان والتوفيق، انتهى ملخصا.
"وضلوا عنها" لأنه فرض عليهم يوم الجمعة وكل إلى اختيارهم ليقيموا فيه شريعتهم، فاختلفوا في أي الأيام هو ولم يهتدوا ليوم الجمعة، قاله ابن بطال، ومال إليه عياض قواه. وقال النووي: يمكن أنهم أمروا به صريحا، فاختلفوا هل يلزم بعينه أن يسوغ إبداله بيوم آخر، فاجتهدوا فأخطئوا، قال الحافظ: ويشهد له ما للطبري عن مجاهد في قوله تعالى: {إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْت} [النحل: 124] ، قال: أرادوا الجمعة فأخطئوا وأخذوا السبت مكانه. وقد روى ابن أبي حاتم عن السدي التصريح بأنه فرض عليهم يوم الجمعة بعينه، ولفظه: "إن الله فرض على اليهود الجمعة، فأبوا"، وقالوا يا موسى: إن الله لم يخلق يوم السبت شيئا فاجعله لنا فجعل عليهم، وليس ذلك بعجيب من مخالفتهم كما وقع لهم في قوله تعالى: {ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ} [البقرة: 58] الآية، وغير ذلك، وكيف لا؟ وهم القائلون: سمعنا وعصينا، انتهى.
"وعلى القبلة التي هدانا الله إليها" بصريح البيان بالأمر المكرر، أولا لبيان تساوي حكم السفر وغيره، وثانيا للتأكيد، "وضلوا عنها" لأنهم لم يؤمروا باستقبال الصخرة، كما دل عليه هذا الحديث، وهو يؤيد ما رواه أبو داود في الناسخ والمنسوخ عن خالد بن يزيد بن معاوية قال: لم تجد اليهود في التوراة القبلة، ولكن تابوت السكينة على الصخرة، فلما غضب الله على بني إسرائيل رفعه، وكانت صلاتهم إلى الصخرة عن مشورة منهم.
وروى أبو داود أيضا: أن يهوديا خاصم أبا العالية في القبلة، فقال أبو العالية: كان موسى يصلي عند الصخرة ويستقبل البيت الحرام، فكانت قبلته، وكانت الصخرة بين يديه، وقال(2/251)
وعلى القبلة التي هدانا الله إليها وضلوا عنها، وعلى قولنا خلف الإمام: آمين".
وقال بعض المؤمنين: فكيف صلاتنا التي صليناها نحو بيت المقدس؟ وكيف من مات من إخواننا وهم يصلون إلى بيت المقدس؟ فأنزل الله {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: 143] .
__________
اليهودي: بيني وبينك مسجد صالح النبي عليه السلام، فقال أبو العالية: فإني صليت في مسجد صالح وقبلته إلى الكعبة وفي مسجد ذي القرنين وقبلته إليها. وفي البغوي في تفسير قوله تعالى: {وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَة} [يونس: 87] الآية، روى ابن جريج عن ابن عباس، قال: كانت الكعبة قبلة موسى ومن معه، انتهى. وبه قطع الزمخشري والبيضاوي.
"وعلى قولنا خلف الإمام: آمين" فإنها لم يعطها أحد ممن كان قبلكم إلا هارون فإنه كان يؤمن على دعاء موسى، كما قال صلى الله عليه وسلم في حديث أنس عند ابن مردويه وغيره.
"و" روى ابن إسحاق وغيره عن البراء، قال: "قال بعض المؤمنين:" لما حولت القبلة "فكيف صلاتنا التي صليناها نحو بيت المقدس؟ وكيف من مات من إخواننا" من المسلمين؟ قال في الفتح: وهم عشرة، فبمكه من قريش: عبد الله بن شهاب: والمطلب بن أزهر الزهريان، وسكران بن عمر، والعامري. وبأرض الحبشة: حطاب بالمهملة ابن الحارث الجمحي، وعمرو بن أمية الأسدي، وعبد الله بن الحارث السهمي، وعروة بن عبد العزى، وعدي بن نضلة العدويان. ومن الأنصار بالمدينة: البراء بن معرور بمهملات، وأسعد بن زرارة، فهؤلاء العشرة متفق عليهم، ومات في المدة أيضا: إياس بن معاذ الأشهلي، لكنه مختلف في إسلامه. "وهم يصلون إلى بيت المقدس، فأنزل اله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: 143] ، صلاتكم إلى بيت المقدس، انتهى.
وبهذا جزم الجلال، فلا عليك ممن قال إيمانكم بالقبلة المنسوخة.
وروى البخاري من طريق زهير عن أبي إسحاق عن البراء: مات على القبلة قبل أن تحول رجال وقتلوا، فلم ندر ما نقول فيهم، فأنزل الله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: 143] ، قال الحافظ: وباقي الروايات إنما فيها ذكر الموت فقط، وكذلك روى أبو داود والترمذي وابن حبان والحاكم صحيحا عن ابن عباس، ولم أجد في شيء من الأخبار أن أحدًا قتل من المسلمين قبل تحويل القبلة، لكن لا يلزم من عدم الذكر عدم الوقوع، فإن كانت هذه اللفظة محفوظة، فتحمل على أن بعض المسلمين ممن لم يشتهر قتل في تلك المدة في غير جهاد،(2/252)
وقيل قال اليهود: اشتاق إلى بلد أبيه، وهو يريد أن يرضي قومه، ولو ثبت على قبلتنا لرجونا أن يكون هو النبي الذي ننتظر أن يأتي. فأنزل الله تعالى: {وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة: 144] يعني أن اليهود الذين أنكروا استقبالكم الكعبة وانصرافكم عن بيت المقدس يعلمون أن الله سيوجهك إليه بما في كتبهم عن أنبيائهم.
ثم فرض صيام شهر رمضان...................................................
__________
ولم يضبط اسمه لقلة الاعتناء بالتاريخ إذ ذاك، ثم وجدت في المغازي رجلا اختلف في إسلامه.
فقد ذكر ابن إسحاق: أن سويد بن الصامت لقي النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يلقاه الأنصار في العقبة، فعرض عليه الإسلام، فقال: إن هذا القول حسن، وانصرف إلى المدينة فقتل به في وقعة بعاث، بضم الموحدة وإهمال العين ومثلثة، وكانت قبل الهجرة، قال: وكان قومه يقولون: قتل وهو مسلم. وذكر لي بعض الفضلاء أنه يجوز أن يراد من قتل بمكة من المستضعفين كأبوي عمار، فقلت: يحتاج إلى ثبوت أن قتلهما بعد الإسرار، انتهى.
"وقيل: قال اليهود" مقابل ما فهم من كلامه المتقدم أن ما ولاهم عن قبلتهم صدر عنهم وعن المنافقين والمشركين، "اشتاق إلى بلد أبيه،" مكة "وهو يريد أن يرضي قومه" قريشا "ولو ثبت عى قبلتنا لرجونا أن يكون هو النبي الذي ننتظر أن يأتي" وهذا القول نقله في العيون عن السدي، وزاد عنه: وقال المنافقون: ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها، وقال كفار قريش: تحير على محمد دينه، فاستقبل قبلتكم وعلم أنكم أهدى منه ويوشك أن يدخل في دينكم، "فأنزل الله تعالى" في اليهود: {وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [البقرة: 144] ، أي: التوراة، {لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة: 144] يعني أن اليهود الذين أنكروا استقبالكم الكعبة وانصرافكم عن بيت المقدس يعلمون أن الله تعالى سيوجهك إليها بما في كتبهم عن أنبيائهم" قال السدي: وأنزل فيهم: {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [البقرة: 145] الآيتين، قال: أي يعرفون أن قبلة النبي الذي يبعث من ولد إسماعيل قبل الكعبة كذلك هو مكتوب عندهم في التوراة وهم يعرفونه بذلك، كما يعرفون أبناءهم وهم يكتمون ذلك وهم يعلمون أنه الحق، يقول الله تعالى: {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} [البقرة: 147] ، أي الشاكين: وأنزل الله في المنافقين: {قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِب} [البقرة: 142] ، وفي المشركين: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّة} [البقرة: 150] الآية.
"ثم فرض صيام شهر رمضان" ذكر بعضهم حكمة كونه شهرا، فقال: لما تاب آدم من(2/253)
بعدما حولت القبلة إلى الكعبة بشهر، في شعبان على رأس ثمانية عشر شهرا من مقدمه عليه السلام.
وزكاة الفطر قبل العيد بيومين: أن يخرج عن الصغير والكبير والحر والعبد والذكر والأنثى صاع من تمر، أو صاع من شعير، أو صاع من زبيب، أو صاع من بر، وذلك قبل أن تفرض زكاة الأموال. وقيل إن زكاة الأموال فرضت فيها، وقيل: قبل الهجرة والله أعلم.
__________
أكل الشجرة تأخر قبول توبته لما بقي في جسده من تلك الأكلة ثلاثين يوما، فلما صفا جسده منها تيب عليه ففرض على ذريته صيام شهر، انتهى.
روى الواقدي عن عائشة وابن عمر وأبي سعيد الخدري، قالوا: نزل فرض شهر رمضان "بعدما حولت القبلة إلى الكعبة بشهر في شعبان،" أي: في نصفه بناء على أن التحويل في نصف رجب، أو في أوله بناء على أنه في آخر جمادى الآخرة، ولا يأتي هنا القول بأنها حولت في نصف شعبان؛ لأنه يلزم أن فرض الصوم في نصف رمضان، "على رأس" أي: أول، "ثمانية عشر شهرا، من مقدمة عليه السلام" المدينة تقريبا، فلا بد من التجوز إما في شهر أو في ثمانية عشر، "و" فرضت "زكاة الفطر" في هذه السنة، كما في حديث الثلاثة، وزاد المؤلف: تبعا لما في أسد الغابة. "قبل العيد بيومين" وهي كما في حديثهم "أن يخرج عن الصغير والكبير والحر والعبد والذكر والأنثى صاع من تمر، أو صاع من شعير" بفتح الشين وتكسر "أو صاع من زبيب، أو صاع من بر" أي: قمح، كذا في حديث الثلاثة، كرواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، عند أبي داود وأحمد والترمذي وحسنه. وذكر أبو داود: أن عمر بن الخطاب جعل نصف صاع من بر مكان هذه الأشياء.
وفي الصحيحين: أن معاوية هو الذي قوم ذلك. وعند الدراقطني عن عمر: أمر صلى الله عليه وسلم عمرو بن حزم بنصف صاع من حنطة، ورواه أبو داود والنسائي عن ابن عباس مرفوعا، وفيه: فقال علي: أما إذ وسع الله فأوسعوا، اجعلوه صاعا من بر وغيره، ويرى صاعا من دقيق، ولكنها وهم من سفيان بن عيينة نبه عليه أبو داد. "وذلك قبل أن تفرض زكاة الأموال" من جملة حديث عائشة وابن عمر وأبي سعيد، "وقيل: إن زكاة الأموال فرضت فيها" أي: السنة الثانية، وقيل: بعدها، وقيل: سنة تسع، "وقيل:" فرضت زكاة الأموال "قبل الهجرة" حكاه مغلطاي وغيره، واعترض بأنه لم يفرض بمكة بعد الإيمان إلا الصلاة كل الفروض بالمدينة، وإن قيل فرض الحج قبل الهجرة فالصحيح خلافه، والأكثر أن فرض الزكاة إنما كان بعد الهجرة "والله أعلم" بالصواب من ذلك، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه.(2/254)
"باب غزوة بدر العظمى":
ثم غزوة بدر الكبرى، وتسمى العظمى، والثانية، وبدر القتال.
وهي قرية مشهورة نسبت إلى بدر بن يخلد بن النضر بن كنانة، كان نزلها، وقيل: بدر بن الحارث، حافر بئرها، وقيل بدر اسم البئر التي بها سميت لاستدارتها، أو لصفائها ورؤية البدر فيها.
وقال ابن كثير: وهو يوم الفرقان، الذي أعز الله فيه الإسلام وأهله،.................
__________
باب غزوة بدر العظمى:
"ثم" بعد مجموع ما ذكر "غزوة بدر" أو في العطف تغليب أو الترتيب ذكرى، فلا يرد تأخر زكاة الفطر عن وقت بدر "الكبرى" نعت لغزوة لا لبدر، "وتسمى العظمى والثانية وبدر القتال" لوقوعه فيها دون الأولى والثالثة، وتسمى أيضا بدر الفرقان، "وهي قرية مشهورة" بين مكة والمدينة على نحو أربع مراحل من المدينة، قاله النووي، وفي معجم ما استعجم: على ثمانية وعشرين فرسخا من المدينة يذكر ولا يؤنث جعلوه اسم ماء، "نسبت إلى بدر بن يخلد" بفتح التحتية وإسكان الخاء المعجمة وضم اللام غير منصرف للعلمية ووزن الفعل هكذا في نسخة صحيحة، وهي المنقول فما في أكثر النسخ كبعض نسخ الفتح مخلد بالميم تحريف من النساخ "ابن النضر" بضاد معجمة جماع قريش، ولا يستعمل إلا باللام، فلا يلتبس بنصر بمهملة؛ لأنه بلا لام "ابن كنانة" لأنه "كان نزلها" وعلى هذا اقتصر اليعمري، وصدر به في الفتح.
"وقيل: بدر بن الحارث حافر بئرها" وبهذا صدر مغلطاي وأسقط الأول قائلا: وقيل بدر بن كلدة: "وقيل": نسبت القرية إلى "بدر" فهو مجرور منون، "اسم البئر التي بها سميت" البئر بدرا "لاستدارتها" كبدر السماء "أو" يعني، وقيل: كما في سيرة مغلطاي: سميت البئر بدرا "لصفائها" أي: صفاء مائها "ورؤية البدر فيها" وقال ابن قتيبة: كانت البئر لرجل يسمى بدرا من غفار، وقيل: بدر رجل من بني ضمرة. وحكى الواقدي إنكار ذلك كله عن غير واحد من شيوخ بني غفار: وإنما هي ماؤنا ومنازلنا وما ملكها أحد قط يقال له بدر، وإنما هو علم عليها كغيرها من البلاد. قال البغوي: وهذا قول الأكثر.
"قال ابن كثير: وهو" أي: يوم بدر، "يوم الفرقان" المذكور في قوله تعالى: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَان} [الأنفال: 41] الآية؛ لأن الله فرق فيه بين الحق والباطل، قاله ابن عباس رواه ابن جرير وابن المنذر وصححه الحاكم، "الذي أعز الله فيه الإسلام" قواه وأظهره، "و" قوى "أهله(2/255)
ودمغ فيه الشرك وخرب محله، وهذا مع قلة عدد المسلمين، وكثرة العدو مع ما كانوا فيه من سوابغ الحديد، والعدة الكاملة، الخيل المسومة، والخيلاء الزائد، أعز الله به رسوله وأظهر وحيه وتنزيله، وبيض وجه النبي صلى الله عليه وسلم وقبيله، وأخزى الشيطان وجيله، ولهذا قال تعالى ممتنا على عباده المؤمنين وحزبه المتقين:.........................
__________
ودمغ" الله "في الشرك أخفاه وأذهب شوكته، يقال: دمغه كسر عظم دماغه، فشبه الشرك بالدماغ المكسورة استعارة بالكناية، وأثبت الدمغ له تخييلا أو الاستعارة في الفعل فهي تبعية، "وخرب محله" أي: أهله الذين كانوا يعظمونه، أو خرب الأماكن التي كان ظاهرا فيها، والأول أظهر؛ لأن تخريب أماكنه إنما كان بعد فتح مكة بهدم العزى وتكسير هبل وإزالة جميع الأصنام. "وهذا" المذكور من عز الإسلام ودمغ الشرك حاصل "مع قلة عدد المسلمين وكثرة العدو" فهو آية ظاهرة على عناية الله تعالى بالإسلام وأهله، "مع ما" أي: حال "كانوا" أي: العدو "فيه من" القوة الحاصلة لهم بلبس "سوابغ الحديد" أي: الدروع الحديد السوابغ، أي: الواسعة من إضافة الصفة للموصوف وتقدير القوة إلخ؛ لأن السوابغ ليست حالا حتى يبين بها ما كانوا عليه.
"والعدة" بضم العين "الكاملة" أي: الاستعداد والتأهب، والعدة ما أعددته من المال والسلاح أو غير ذلك، كما في المصباح، فعطفه على ما قبله عطف عام على خاص على الثاني ومسبب على سبب على الأول. "والخيل" جمع لا واحد له من لفظه "المسومة" الراعية أو من السمة وهي العلامة أو البارعة الجمال، وذكره بعد العدة من الخاص بعد العام، "والخيلاء" بضم الخاء وكسرها الكبر "الزائد" فذكر رعاية لمعناه، وفي نسخة الزائدة بالهاء رعاية للفظة؛ لأن فيه ألف التأنيث، "أعز الله به رسوله وأظهر وحيه وتنزيله" أي: القرآن عطف أخص على أعم أو تفسير إن أريد الأعم على أن الوحي بمعنى الموحى والتنزيل بمعنى المنزل أعم من أن يكون لفظا أو معنى، "وبيض وجه النبي" كناية عن ظهور بهجة السرور، فأطلق البياض وأريد لازمه نحو يوم تبيض وجوه، أي: أظهر سرور النبي صلى الله عليه وسلم، "وقبيله" أي: أتباعه بالنصب عطف على رسوله أو على وجه بتقدير مضاف، أي: وبيض وجه قبيلة فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه.
"وأخزى الشيطان" إبليس وغيره من الشياطين "وجيله" أتباعه من أهل الضلال والزيغ نسبوا إليه لقبولهم ما وسوس به فضلوا عن الحق واتبعوه، أو المراد إبليس وأعوانه من الشياطين، والأول أولى لإفادته العموم في أنه أخرى شياطين الجن والأنس. "ولهذا قال تعالى ممتنا على عباده المؤمنين" قال شيخنا: أضافهم إليه تشريفا، فالمراد الكاملون في الإيمان، فقوله: "وحزبه" أي: أنصار دينه "المتقين" مساوٍ لما قبله بالنظر للتحقيق والوجود، وهو ما صدق عليه المؤمن والمتقي له في المفهوم، فإن العبد معناه الذي لا يملك لنفسه شيئا مع سيده، فكأنه قال: على(2/256)
{وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ} [آل عمران: 123] أي قليل عددكم، لتعلموا أن النصر إنما هو من عند الله لا بكثرة العدد والعدد. انتهى.
فقد كانت هذه الغزوة أعظم غزوات الإسلام، إذ منها كان ظهوره، وبعد وقوعها أشرق على الآفاق نوره، ومن حين وقوعها أذل الله الكفار، وأعز الله من حضرها من المسلمين، فهو عنده من الأبرار.
__________
عباده الذين لا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا، بل كانوا منقادين له بامتثال أوامره واجتناب نواهيه. {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ} حال من الضمير، ولم يقل ذلائل، ليدل على قتلهم، "أي: قليل عددكم" فهو من ذكر السبب وإرادة المسبب وإلا فأذلة جمع ذليل ضد عزيز، وقلة العدد سبب لذلك، أي: قليلون بالنسبة إلى من لقيتم من المشركين من جهة أنهم كانوا مشاة إلا قليلا وعارين من السلاح؛ لأنهم لم يأخذوا أهبة القتال كما ينبغي، وإنما خرجوا لتلقي الغير بخلاف المشركين، "لتعلموا أن النصر إنما هو من عند الله" كما قال تعالى: {إن ينصركم الله فلا غالب لكم} [آل عمران: 160] ، "لا بكثرة العدد" بفتح العين "والعدد" بضمها جمع عدة، كغرفة وغرف، "انتهى" كلام اب كثير.
"فقد كانت هذه الغزوة أعظم غزوات الإسلام" أي: أفضلها وأشرفها، قال في الاستيعاب: وليس في غزواته ما يصل لها في الفضل ويقرب منها غزوة الحديبية حيث كانت بيعة الرضوان، انتهى. فليس المراد العظم من حيث كثرة الجند والشدة؛ لأن في غيرها ما هو أقوى منها في ذلك، ويدل لهذا قوله: "إذ منها كان ظهوره" أي: كمال انتشار الإسلام وكثرة الداخلين فيه، "وبعد وقوعها أشرق على الآفاق" جمع أفق بضمتين وبسكون الفاء أيضا، كما مر في: وضاءت بنورك الأفق. وفي القاموس: الأفق بضمة وبضمتين الناحية، انتهى. أي: من الأرض والسماء "نوره" عدله وإصلاحه بعد الشدة التي كان فيها من المشركين، سماه نورا؛ لأنه يزين البقاع ويظهر الحقوق "ومن حين" أي: وقت "وقوعها أذل الله الكفار" بقتل صناديدهم وأسرهم، "وأعز الله من حضرها من المسلمين" والملائكة "فهو عنده من الأبرار" الأتقياء المقربين، فقد قال صلى الله عليه وسلم: "لعل الله أطلع على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم فقد وجبت لكم الجنة "، أو: "فقد غفرت لكم".
وقال في حارثة بن سراقة الأنصاري: وقد أصيب يومئذ وأنه في جنة الفردوس وجاءه جبريل، فقال: "ما تعدون أهل بدر فيكم؟ قال: من أفضل المسلمين، أو كلمة نحوها، قال: وكذلك من شهد بدرا من الملائكة"، رواها البخاري وهي بشارة عظيمة، وقد قال العلماء: الترجي في كلام الله ورسوله للوقوع، على أن أحمد وأبا داود وغيرهما، ورووه بلفظ: "إن الله أطلع على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم"، وقال صلى الله عليه وسلم: "لا يدخل النار من شهد(2/257)
وكان خروجهم يوم السبت لثنتي عشرة خلت من رمضان، على رأس تسعة عشر شهرا، ويقال: لثمان خلون منه. قاله ابن هشام.
واستخلف أبا لبابة.
وخرجت معه الأنصار، ولم تكن قبل ذلك خرجت معه.
وكان عدة من خرج معه ثلاثمائة......................................
__________
بدرا وا لحديبية"، رواه مسلم.
"وكان خروجهم يوم السبت" كما جزم به مغلطاي وعند ابن سعد: يوم الاثنين، وقالا: معا "لثنتي عشرة" ليلة "خلت من رمضان" وزاد مغلطاي: "على رأس تسعة عشر شهرا" لأن باقي سنة القدوم عشرة أشهر تقريبا والماضي من السنة الثانية ثمانية أشهر كاملة، وما مضى من رمضان في مقابله الماضي من ربيع الأول "ويقال: لثمان خلون منه، قاله" أي: هذا القول الثاني عبد الملك "بن هشام" تفسيرا لقول شيخ شيخه ابن إسحاق. خرج لليال مضت من رمضان، "واستخلف أبا لبابة" بشيرا، وقيل: رفاعة بن عبد المنذر الأوسي رده من الروحاء واليا على المدينة، كذا قاله ابن إسحاق.
قال الحاكم: لم يتابع على ذلك إنما كان أبو لبابة زميل النبي صلى الله عليه وسلم ورده مغلطاي بمتابعته له في المستدرك، قال: وبنحوه ذكره ابن سعد وابن عقبة وابن حبان، انتهى. فيكون زميل المصطفى حصل قبل رده إياه من الروحاء: قرية على ليلتين من المدينة والصلاة معا قبل رد أبي لبابة من الروحاء قبل رده إياه من الروحاء: قرية على ليلتين من المدينة، والصلاة معا قبل رد أبي لبابة من الروحاء، انتهى. أي: فبقي على الصلاة فقط. "وخرجت معه الأنصار ولم تكن قبل ذلك خرجت معه" وما ظنوا أنه يقع قتال؛ لأن خروجهم إنما كان لتلقي العير "وكان عدة" البدريين ثلاثمائة عشر، كما رواه أحم والبزار والطبراني عن ابن عباس، وهو المشهور عند ابن إسحاق وجماعة من أهل المغازي وللطبراني والبيهقي عن أبي أيوب، قال: خرج صلى الله عليه وسلم إلى بدر، فقال لأصحابه: "تعادوا" فوجدهم ثلاثمائة وأربعة عشر رجلا، ثم قال لهم: "تعادوا" فتعادوا مرتين فأقبل رجل على بكر له ضعيف وهم يتعادون فتمت العدة ثلاثمائة وخمسة عشر، وللبيهقي أيضا بسند حسن عن عبد الله بن عمرو بن العاصي، قال: خرج صلى الله عليه وسلم يوم بدر ومعه ثلاثمائة وخمسة عشر ولا تنافي، لاحتمال أن الأول لم يعد المصطفى ولا الرجل الآتي آخرا. وفي حديث عمر عند مسلم: ثلاثمائة وتسعة عشر، قال الحافظ: فيحمل على أنه ضم إليهم من استصغر ولم يؤذن له في القتال، كابن عمر والبراء وأنس وجابر وللبزار من حديث أبي موسى ثلاثمائة وسبعة عشر. وحكى السهيلي أنه حضر مع المسلمين سبعون نفسا من الجن كانوا أسلموا، وإذا تحرر هذا، فليعلم أن الجميع لم يشهدوا القتال، وإنما عدة "من خرج معه" واستمر حتى شهد القتال "ثلاثمائة(2/258)
وخمسة، وثمانية لم يحضروها، إنما ضرب لهم بسهمهم وأجرهم فكانوا كمن حضرها.
__________
وخمسة" قاله ابن سعد: ولابن جرير عن ابن عباس: وستة.
قال الحافظ: فكأن ابن سعد لم يعد النبي صلى الله عليه وسلم فيهم، قال ابن سعد: المهاجرون منهم أربعة وستون وسائرهم من الأنصار، وهو يفسر قول البراء عند البخاري: كان المهاجرون يوم بدر نيفا على ستين والأنصار نيفا وأربعين ومائتين. وفي البخاري عن الزبير، قال: ضربت يوم بدر للمهاجرين بمائة سهم، وجمع الحافظ بأن حديث البراء فيمن شهدها حسا وحكما، أو المراد بالعدد الأول الأحرار، والثاني: بانضمام مواليهم وأتباعهم.
وسرد ابن إسحاق أسماء من شهدها من المهاجرين، وذكر معهم خلفاءهم مواليهم، فبلغوا ثلاثة وثمانين رجلا، وزاد عليه ابن هشام ثلاثة. وسردهم الواقدي خمسة وثمانين. ولأحمد والبزار والطبراني عن ابن عباس: أن المهاجرين ببدر كانوا سبعة وسبعين، فلعله لم يذكر من ضرب له بسهم ممن لم يشهدها حسا. وقال الداودي: كانوا على التحرير أربعة وثمانين ومعهم ثلاثة أفراس فأسهم لهم بسهمين وضرب لرجال أرسلهم في بعض أمره بسهامهم، فصح أنها كانت مائة بهذا الاعتبار.
قال الحافظ: ولا بأس بما قاله، لكن ظهر لي أن إطلاق المائة إنما هو باعتبار الخمس وذلك أنه عزله ثم قسم ما عداه على ثمانين سهما عدد من شهدها ومن ألحق بهم، فإذا أضيف له الخمس كان ذلك من حساب مائة سهم، انتهى. وقد ينازع فيما ظهر له بأن الخمس لا يكون نسبته للمهاجرين فقط، وسرد اليعمري: المهاجرين أربعة وتسعين، والخزرج مائة وخمسة وتسعين، والأوس أربعة وسبعين، فلذلك ثلاثمائة وثلاثون وستون، قال: وإنما ذلك من جهة الخلاف في بعضهم. وفي الكواكب: فائدة ذكرهم معرفة فضيلة السبق وترجيحهم على غيرهم والدعاء لهم بالرضوان على التعيين. وقال العلاة الدواني: سمنا من مشايخ الحديث أن الدعاء عند ذكرهم في البخاري مستجاب وقد جرب.
"وثمانية لم يحضروها" لكنهم "إنما" تخلفوا للضرورات ولذا "ضرب لهم بسهمهم" بأن أعطاهم ما يخصهم من الغنيمة، "وأجرهم" بأن أخبرهم أن لهم أجر من شهدها، "فكانوا كمن حضرها" فعدوا في أهلها، وهم: عثمان بن عفان تخلف على زوجته رقية بنت النبي صلى الله عليه وسلم بإذنه وكانت مريضة مرض الموت، فقال له صلى الله عليه وسلم كما في البخاري: "إن لك لأجر رجل ممن شهدها وسهمه"، وطلحة وسعيد بن زيد بعثهما يتجسسان عير قريش، ومن الأنصار: أبو لبابة استخلفه على المدينة، وعاصم بن عدي على أهل العالية، والحارث بن حاطب على بني عمرو بن عوف(2/259)
وكان معهم ثلاثة أفراس: "بعزجة" فرس المقداد، وفرس الزبير وفرس لمرثد الغنوي، لم يكن لهم خيل يومئذ غير هذه، وكان معهم سبعون بعيرا.
__________
لشيء بلغن عنهم، والحارث بن الصمة وقع بالروحاء فكسر فرد هؤلاء من الروحاء وخوات بن جبير أصابه حجر في ساقه فرده من الصفراء هؤلاء الذين ذكرهم ابن سعد.
وذكر الواقدي عن سعد بن مالك الساعدي والد سهل، قال: تجهز ليخرج لبدر فمات فضرب له بسهمه وأجره، وممن اختلف فيه هل شهدها أو رد لحاجة سعد بن عبادة، وصبيح مولى أبي أحيحة رجع لمرضه، وفي المستدرك: أن جعفر بن أبي طالب ضرب له صلى الله عليه وسلم يومئذ بسهمه وأجره وهو بالحبشة، وأقره الذهبي، فهؤلاء اثنا عشر.
"وكان معهم ثلاثة أفراس بعزجة" بفتح الموحدة وإسكان المهملة فزاي فجيم مفتوحتين فتاء تأنيث، كما في النور. وحرف نساخ الشامية الزاي بالراء، فقد قال السهيلي: البعزجة شدة جري الفرس في مغالبة، كأنه منحوت من أصلين: من بعج إذا شق، وعز، أي غلب، انتهى. "فرس المقداد" بن عمرو الشهير بابن الأسود، كأنها سميت بذلك لشدة جريها، ويقال: اسمها سبحة، بفتح السين وإسكان الموحدة وبالحاء المهملتين وتاء تأنيث، وبه صدر الشامي، لكن صدر اليعمري بالأول، وجزم به في الروض، فلذا اقتصر المصنف عليه.
واليعسوب بفتح التحتية فعين فسين مضمومة مهملتين فواو ساكنة فموحدة "فرس الزبير" بن العوام، وقيل: اسمها السيل، وبه صدر الشامي وعلى الأول اقتصر اليعمري. "وفرس لمرثد" بفتح الميم وسكون الراء وفتح المثلثة ودال مهملة، ابن أبي مرثد كناز بن الحصين، "الغنوي" بفح المعجمة والنون نسبة إلى غنى بن يعصر، صحابي ابن صحابي، بدري ابن بدري، "لم يكن لهم يومئذ خيل غير هذه" الثلاثة وثبت ذكر فرس مرثد عند ابن سعد في روية، وجزم المصنف في المقصد الثامن بأنه لم يكن معهم غير فرسين للمقداد والزبير، وقال ابن عقبة: ويقال كان معه عليه السلام فرسان، واستشكل هذا بما رواه أحمد بإسناد صحيح عن علي، قال: ما كان فينا فارس يوم بدر غير المقداد، وأجيب بحمل النفي على بعض الأحوال دون الباقي، لكن في التقريب للحافظ: لم يثبت أنه شهدها فارس غير المقداد.
"وكان معهم" كما قال ابن إسحاق: "سبعون بعيرا" فاعتقبوها، فكان صلى الله عليه وسلم وعلي وزيد بن حارثة، ويقال: مرثد يعتقبون بعيرا هكذا. وقد روى الحارث بن أبي أسامة وابن سعد عن ابن مسعود: كنا يوم بدر كل ثلاثة بعير، وكان أبو لبابة وعلي زميل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان إذا كانت عقبة النبي صلى الله عليه وسلم، قالا: اركب حتى نمشي عنك، فيقول: "ما أنتما بأقوى مني على المشي، وما أنا بأغنى عن الأجر منكما" وعليه فجملة الذين يعتقبون مائتان وعشرة، فيحتمل أن الباقين لم(2/260)
وكان المشركون ألفا ويقال: تسعمائة وخمسون رجلا، معهم مائة فرس، وسبعمائة بعير.
__________
يركبوا، أو أن الثلاثة تركب مدة يدفعونه إلى غيرهم ليركبه مدة أخرى، والعقبة النوبة، كما في المصباح. فالمراد: أن كل واحد يركب مدة وركوب أبي لبابة معهم كان قبل رده من الروحاء وبعده أعقب مرثدا، كما عند ابن إسحاق، أو زيدا، كما عند غيره.
وذكر ابن إسحاق: أنه صلى الله عليه وسلم دفع اللواء وكان أبيض إلى مصعب بن عمير، قال: وكان أمامه عليه السلام رايتان سوداوان بن عمير، ولواء الخزرج مع الحباب بن المنذر ولواء الأوس مع سعد بن معاذ. قال اليعمري: والمعروف أن سعد بن معاذ كان على حرس لرسول الله صلى الله عليه وسلم في العريش، وأن لواء المهاجرين كان بيد علي ثم روى بسنده عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى عليا الراية يوم بدر، وهو ابن عشرين سنة. وأجيب عن الأول بأن هذا كان عند خروجهم وفي الطريق، فيحتمل أن سعد لغيره أدفعه لغيره بإذنه صلى الله عليه وسلم ليحرسه في العريش، إذ هو ببدر.
"وكان المشركون ألفا" كما رواه مسلم وأبو داود والترمذي عن ابن عباس عن عمر، ورواه ابن سعد عن ابن مسعود، "ويقال" هم "تسعمائة وخمسون رجلا" مقاتلا "معهم مائة فرس وسبعمائة بعير" قال ابن عقبة وابن عائذ، والتقييد بمقاتلا لفظهما، فيمكن الجمع بأن باقي الألف الخمسين غير مقاتلين. وعند ابن إسحاق: أنه صلى الله عليه وسلم بعث عليا والزبير وسعد بن مالك في نفر إلى ماء بدر يلتمسون له الخبر، فأصابوا رواية لقريش فيها أسلم غلام بني الحجاج وغريض أبو يسار غلام بني العاصي فأتوا بهما، والنبي صلى الله عليه وسلم يصلي فلما سلم، قال: "أخبراني عن قريش" قالا: هم وراء هذا الكثيب الذي تراه بالعدوة القصوى، قال: "كم القوم"؟ قالا: كثير، قال: "ما عدتهم"؟ قال: ما ندري قال: "كم ينحرون كل يوم" قالا: يوما تسعا ويوما عشرا، قال صلى الله عليه وسلم: "القوم ما بين التسعمائة والألف"، ثم قال: "فمن فيهم من أشرف قريش"، فسميا له خمسة عشر، فأقبل صلى الله عليه وسلم على الناس، فقال: "هذه مكة قد ألقت إليكم أفلاذ كبدها" أي: قطع كبدها، شبه أشرافهم بفلذة الكبد بفاء ومعجمة المستور في الجوف وهو أفضل ما يشوى من البعير عند العرب، وأمرؤ.
قال ابن عقبة: وزعموا أن أول من نحر لهم عشر جزائر حين خرجوا من مكة أبو جهل، ثم صفوان تسعا بسعفان، ثم سهيل عشرا بقديد، ومالوا منه إلى نحو البحر فضلوا، فأقاموا يوما فنحر شيبة تسعا، ثم أصبحوا بالأبواء فنحر مقيس الجمحي تسعا، ونحر العباس عشرا، والحارث تسعا، وأبو البختري على ماء بدر عشرا، ومقيس عليه تسعا، ثم شغلهم الحرب فأكلوا من أزوادهم.(2/261)
وكان قتالهم يوم الجمعة لسبع عشرة خلت من رمضان، وقيل يوم الاثنين وقيل غير ذلك.
وكانت من غير قصد من المسلمين إليها ولا ميعاد، كما قال تعالى: {وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا} [الأنفال: 42] .
وإنما قصد صلى الله عليه وسلم والمسلمون التعرض لعير قريش، وذلك أن أبا سفيان كان بالشام في ثلاثين راكبا منهم عمرو بن العاصي،..................
__________
"وكان قتالهم يوم الجمعة" عند الأكثرين، قال ابن عساكر: وهو المحفوظ، "لسبع عشرة خلت من رمضان" قاله ابن إسحاق، وتبعه في الاستيعاب والعيون والإشارة، ولا يوافق ما مر أن خروجهم يوم السبت لثنتي عشرة خلت من رمضان، إلا أن يكون وقع خلاف في هلاله، فالقائل بخروجهم ثاني عشرة بناء على أن أوله الثلاثاء، والقائل بأن القتال في سابع عشره بناء على أن أوله الأربعاء. "وقيل: يوم الاثنين" رواه ابن عساكر في تاريخه بإسناد ضعيف، قال أبو عمر: لا حجة فيه عند الجميع، "وقيل غير ذلك،" فقيل: لسبع عشرة بقيت من رمضان، وقيل: لثنتي حجة فيه عند الجميع، "وقيل غير ذلك" فقيل: لسبع عشرة بقيت من رمضان، وقيل: لثنتي عشرة خلت منه، ويقال: لثلاث خلون منه، حكاها كلها مغلطاي. وعلى الأخير فخروجهم قبل رمضان.
"وكانت من غير قصد من المسلمين إليها ولا ميعاد، كما قال تعالى: {وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ} أنتم وهم للقتال ثم علمتم حالهم وحالكم، {لَاخْتَلَفْتُم} ، أنتم وهم {فِي الْمِيعَاد} الآية، هيبة منه وبأسا من الظفر علهم ليتحققوا أن ما اتفق لهم من الفتح ليس إلا صنيعا من الله خارقا للعادة، فيزدادوا إيمانا وشكرا، {وَلَكِنْ} جمعكم بغير ميعاد {لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا} [الأنفال: 42] حقيقا بأن يفعل وهو نصر أوليائه وقهر أعدائه، "وإنما قصد صلى الله عليه وسلم والمسلمون التعرض لعير قريش" التي خرج عليه السلام في طلبها وهي ذاهبة. من مكة إلى الشام، حتى بلغ العشيرة فوجدها سبقته بأيام، فلم يزل مترقبا لرجوعها من الشام، "وذلك" كما أخرجه ابن إسحاق: حدثني يزيد بن رومان عن عروة: "أن أبا سفيان" صخر بن حرب المسلم في الفتح رضي الله عنه، "كان بالشام في ثلاثين راكبا" كذا نقله الفتح عن ابن إسحاق والذي في ابن هشام عن البكائي عنه في ثلاثين أو أربعين، وتبعه اليعمري وغيره، فإما أنه اقتصار على المحقق، أو رواية أخرى عنه.
"منهم:" مخرمة بن نوفل و"عمرو بن العاصي" أسلما بعد ذلك وصحبا رضي الله عنهما،(2/262)
فأقبلوا في قافلة عظيمة، فيها أموال قريش، حتى إذا كانوا قريبا من بدر، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، فندب أصحابه إليهم وأخبرهم بكثرة المال وقلة العدو، وقال: "هذه عير لقريش فيها أموال فأخرجوا إليها، لعل الله أن ينفلكموها".
فلما سمع أبو سفيان بسيره عليه السلام، استأجر ضمضم بن عمرو الغفاري أن يأتي قريشا بمكة، فيستغفرهم ويخبرهم أن محمدًا قد عرض لعيرهم في أصحابه.
فنهضوا في قريب من ألف مقنع ولم يتخلف أحد من أشراف قريش إلا أبا لهب، وبعث مكانه العاصي بن هشام بن المغيرة.
__________
وقال ابن عقبة: وابن عائذ في سبعين رجلا وكانت عيرهم ألف بعير، ولم يكن لحويطب بن عبد العزى شيء فلم يخرج معهم، "فأقبلوا في قافلة عظيمة فيها أموال قريش" يقال: كان فيها خمسون ألف دينار، وكأن لم يبق قرشي ولا قرشية له مثقال إلا بعث به في العير، "حتى إذا كانوا قريبا من بدر، فبلغ النبي صلى الله عليه ذلك" حذف الفاء أولى؛ لأن ما بعدها جواب إذا وهو ماض متصرف، فلا تقترن به الفاء "فندب أصحابه" أي: دعاهم "إليهم وأخبرهم بكثرة المال وقلة العدو" إذ غاية ما قيل: أنهم سبعون، "وقال: "هذه عير لقريش فيها أموال" كثيرة "فاخرجوا إليها لعل الله أن ينفلكموها" مثله في العيون، وفي نسخة: "يغنمكموها" ومثله في السبل.
وكل عزى لابن إسحاق والخطب سهل، قال في الرواية: فانتدب الناس فخف بعضهم وثقل بعضهم؛ لأنهم ظنوا أنهم لم يلقوا حربا، وكان أبو سفيان حين دنا من الحجاز يتجسس الأخبار ويسأل من لقي من الركبان، "فلما سمع أبو سفيان بسيره عليه السلام" عن بعض الركبان أن محمدا قد استنفر لك ولعيرك، "استأج ضمضم" بفتح المعجمة بعد كل ميم أولاهما ساكنة، "ابن عمرو الغفاري" بكسر المعجمة وتخفيف الفاء، قال في النور: الظاهر هلاكه على كفره، "أن يأتي قريشا بمكة" بعشرين مثقالا وأمره أن يجدع بعيره، أي: يقطع أنفه ويحول رحله ويشق قميصه من قبله ومن دبره إذا دخل مكة، "فيستنفرهم" يحثهم على الخروج بسرعة، "ويخبرهم أن محمد قد عرض" أي: ظهر "لعيرهم في" مع "أصحابه" فلما بلغ مكة فعل ما أمر به، وهو يقولك يا معشر قريش!! اللطيمة اللطيمة، أموالك مع أبي سفيان عقد عرض لها محمد في أصحابه لا أرى أن تدركوها، الغوث الغوث، فقالوا: أيظن محمد وأصحابه أن تكون كعير ابن الحضرمي، كلا والله ليعلمن غير ذلك، "فنهضوا في قريب من ألف مقنع" وكانوا ما بين رجلين إما خارج وإما باعث مكثه رجلا، "ولم يتخلف أحد من أشراف قريش، إلا أبا لهب" وفي نسخة: إلا أبا لهب، وكلاهما صحيح. "وبعث مكانه العاصي بن هشام بن المغيرة" أخا أبي(2/263)
وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه، حتى بلغ الروحاء، فأتاه الخبر عن قريش بمسيرهم ليمنعوا عن عيرهم، فاستشار النبي صلى الله عليه وسلم الناس في طلب العير، وحرب النفير، وقال: إن الله وعدكم إحدى الطائفتين: إما العير وإما قريش..............................................
__________
جهل كان له عليه أربعة آلاف درهم أفلس له بها فاستأجره بها على أن يجزئ عنه بعثه واشتد حذر أبي سفيان، فأخذ طريق الساحل وجد في السير حتى فات المسلمين، فلما أمن أرسل إلى قريش يأمرهم بالرجوع، فامتنع أبو جهل، "وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم" قال ابن إسحاق: وضرب عسكره ببئر أبي عنبة، كواحدة العنب المأكول على ميل من المدينة، فعرض "أصحابه" ورد من استصغر وسار "حتى بلغ الروحاء" بفتح الراء وسكون الواو وحاء مهملة ممدودة: قرية على نحو أربعين ميلا من المدينة. وفي مسلم: على ستة وثلاثين. وفي كتاب ابن أبي شيبة: على ثلاثين، ونزل صلى الله عليه وسلم سجسجا، يفتح السين المهملة وسكون الجيم بعدهما مثلهما، وهي بئر الروحاء سميت بذلك، قال السهيلي: لأنها بين جبلين، وكل شيء بين شيئين سجسج، انتهى.
وهو تفسير مراد، ففي اقاموس: السجسج: الأرض ليست بصلبة ولا سهلة، وما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، "فأتاه الخبر" بعد أن سار من الروحاء وقرب من الصفراء، كما عند ابن إسحاق. "فأتاه الخبر" بعد أن سار من الروحاء وقرب من الصفراء، كما عند ابن إسحاق. "عن قريش بمسيرهم ليمنعوا عن عيرهم" من رسوليه اللذين بعثهما يتجسسان الأخبار عن أبي سفيان، أحدهما: بسبس، بموحدتين مفتوحتين ومهملتين أولاهما ساكنة، ووقع لجميع رواة مسلم وبعض رواة أبي داود: بسبسة بضم الموحدة وفتح المهملة وإسكان التحتية وفتح السين وتاء تأنيث والمعروف، قال الذهبي وغيره: وهو الأصح الأول، وكذلك ذكره ابن إسحاق والدارقطني وابن عبد البر وابن ماكولا والسهيلي، قال في الإصابة: وهو الصواب، فقد قال ابن الكلبي: إنه الذي أراده الشاعر بقوله:
أقم لها صدورها يا بسبس ... إن مطايا القوم لا تجسس
وهو ابن عمرو الجهني، كما نسبه ابن إسحاق: قال السهيلي: ونسبه غيره إلى ذبيان الأنصاري حليف الخزرج، والثاني: عدي بن أبي الزغباء سنان الجهني حليف بني النجار، الزغباء بفتح الزاي وسكون المعجمة وموحدة ممدودة، فمضي حتى نزلا بدرا، فأناخا إلى تل قريب من الماء، وأخذا يستسقيان من الماء فسمعا جاريتين، تقول إحداهما لصاحبتها: إن أتاني الغير غدا أو بعد غد أعمل لهم ثم أقضك الذي لك، فانطلقا حتى أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبراه بما سمعا، "فاستشار النبي صلى الله عليه وسلم الناس" أصحابه رضي الله عنهم "في طلب العير و" في "حرب النفير" القوم النافرين للحرب، يعني: خيرهم بين أن يذهبوا للعير أو إلى محاربة النافرين لقتالهم، وأخبرهم عن قريش بمسيرهم، "وقال: "إن الله وعدكم إحدى الطائفتين، إما العير وإما قريش"(2/264)
وكانت العير أحب إليهم.
فقام أبو بكر فقال فأحسن، ثم قام عمر فقال فأحسن.
ثم قام المقداد بن عمرو، فقال: يا رسول الله امض لما أمرك الله فنحن معك، والله لا نقول لك كما قال بنو إسرائيل لموسى: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة: 24] ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، فوالذي بعثك بالحق لو سرت بنا برك...........................
__________
كما قال تعالى: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُم} [الأنفال: 7] ، "وكانت العير أحب إليهم" كما قال تعالى: {وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُم} [الأنفال: 7] ، والمراد بذات الشوكة: الطائفة التي فيها السلاح. قال أبو عبيدة في المجاز: يقال ما أشد شوكة بني فلان، أي: حدهم، وكأنها استعارة من واحدة الشوك.
وروى الطبري وأبو نعيم في الدلائل، عن ابن عباس: أقبلت عير لأهل مكة من الشام، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم يريدها، فبلغ ذلك أهل مكة فأسرعوا إليها فسبقت العير المسلمين، وكان الله وعدهم إحدى الطائفتين، وكانوا أن يلقوا العير أحب إليهم وأيسر شوكة وأخصر مغنما من أن يلقوا النفير، "فقام أبو بكر" وفي الشامية: استشار الناس فتكلم المهاجرون فأحسنوا، ثم استشارهم فقام أبو بكر "فقال فأحسن،" أي: جاء بكلام حسن، ولم أرَ من ذكره، "ثم قام عمر، فقال فأحسن" ذكر ابن عقبة وابن عائذ أنه قال: يا رسول الله! إنها قريش وعزها والله ما ذلت منذ عزت، ولا آمنت منذ كفرت، والله لتقاتلنك فتأهب لذلك أهبته وأعد لذلك عدته، وأعزها بالنصب مفعول معه أو مبتدأ حذف خبره، أي: ثابت لم يتغير، "ثم قام المقداد بن عمرو" وعند النسائي: جاء المقداد يوم بدر على فرس، "فقال: يا رسول الله! امضِ لما أمرك الله فنحن معك، والله لا نقول" بنون الجميع، أي: معاشر المسلمين "لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى".
وفي رواية البخاري: كما قال قوم موسى " {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُون} [المائدة: 24] الآية،" قالوه استهانة وعدم مبالاة بالله ورسوله، وقيل: تقدير اذهب أنت وربك يعينك، فإنا لا نستطيع قتال الجبابرة، وقال السمرقندي: أنت وسيدك هارون؛ لأنه أكبر من موسى بسنتين أو ثلاثة، "ولكن" نقول: "اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون" هذه رواية ابن إسحاق. ورواية البخاري: ولكنا نقاتل عن يمينك وعن شمالك وبين يديك وخلفك، زاد ابن إسحاق: "فوالذي بعثك بالحق، لو سرت بنا برك" بفتح الموحدة عند الأكثر. وفي رواية بكسرها، وصوبه بعض اللغويين لكن المشهور المعروف في الرواية الفتح والراء ساكنة، وحكى عياض عن الأصيلي فتحها، قال النووي: وهو غريب ضعيف آخره كاف.(2/265)
الغماد -يعني مدينة الحبشة- لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه.
فقال له صلى الله عليه وسلم خيرا، ودعا له بخير........................................
__________
"الغماد" بكسر المعجمة وتخفيف الميم، قال الحازمي: موضع على خمس ليال من مكة إلى جهة اليمن، وقال البكري: هي أقاصي هجر. وقال الهمداني: هو في أقصى اليمن. قال الحافظ: والأول أولى. وحكى ابن فارس ضم الغين، والقزاز فتحها، وأفاد النووي أن المشهور في الرواية الكسر، وفي اللغة الضم وفي فتح الباري: قال ابن خالويه. حضرت مجلس المحاملي وفيه زهاء ألف، فأملى عليهم حديثا فيه: لو دعوتنا إلى برك الغماد، قالها بالكسر، فقلت للمستملي: هي بالضم، فذكر له ذلك، فقال لي: وما هو فقلت: سألت ابن دريد عنه، فقال: هو بقعة في جهنم، فقال المحاملي: وكذا في كتاب أبي علي الغين ضمت. قال ابن خالويه: وأنشد ابن دريم:
وإذا تنكرت البلا ... فأولها كف البعاد
واجعل مقامك أو مقـ ... ـرك جانبي بكر الغماد
لست ابن أم القاطنيـ ... ـن ولا ابن عم للبلاد
وبعض المتأخرين قال القول بأنه موضع باليمن لا يثبت؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لا يدعوهم إلى جهنم وخفي عليه أن ذلك بطريق المبالغة، فلا يراد به الحقيقة على أنه لا يتنافي بين القولين، فيحمل قوله جهنم على مجاز المجاورة بناء على القول أن برهوت مأوى أرواح الكفار، وهم أهل النار، انتهى ملخصا.
وقد دلت رواية ابن عائذ في قصة سعد بن معاذ، بلظ: لو سرت بنا حتى تبلغ البرك من غمد ذي يمن على أنها من جهة اليمن، وذكر السهيلي أنه رأى في بعض كتب السهيلي أنه رأى في بعض كتب التفسير أنه "يعني مدينة الحبشة" قال الحافظ: وكأنه أخذه من قصة الصديق مع ابن الدغنة، فإن فيها: أنه لقيه ذاهبا إلى الحبشة ببرك الغماد، كما مر ويجمع بأنها من جهة اليمن مقابل الحبشة وبينهما عرض البحر، انتهى. ونقل عياض عن إبراهيم الحربي: برك الغماد وشعفات هجر، يقال فيما تباعد، ولذا قال شيخنا: الأولى تفسيره هنا بأقصى معمور الأرض، كما هو أحد معانيه في القاموس؛ لأنه أتم في امتثال أمره واتباعه. "لجالدنا" أي: لضاربنا "معك من دونه" أي: برك الغماد، يعني: لو طلبتنا له وعارضك قبله أحد جالدناه ومنعناه، "حتى تبلغه، فقال له صلى الله عليه وسلم "خيرا"، ودعا "له بخير" هذا لفظ رواية ابن إسحق.
وروى البخاري عن ابن مسعود: شهدت من المقداد مشهد لأن أكون صاحبه أحب إلي مما عدل به، الحديث، وفي آخره: فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم أشرق وجهه وسره، يعني قوله.(2/266)
ثم قال عليه الصلاة والسلام: "أيها الناس أشيروا عليَّ"، وإنما يريد الأنصار. لأنهم حين بايعوه بالعقبة قالوا: يا رسول الله إنا برآء من ذمامك حتى تصل إلى دارنا، فإذا وصلت إلينا فأنت في ذمامنا، نمنعك مما نمنع منه أنفسنا وأبناءنا ونساءنا. وكان صلى الله عليه وسلم يتخوف أن لا تكون الأنصار ترى عليها نصرته إلا ممن دهمه بالمدينة من عدوه، وأن ليس عليهم أن يسير بهم إلى عدو من بلادهم. فلما قال ذلك عليه الصلاة والسلام:
قال له سعد بن معاذ: والله لكأنك............................
__________
وروى ابن مردويه وابن أبي حاتم، عن أبي أيوب، قال: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن بالمدينة: "إني أخبرت عن عير أبي سفيان، فهل لكم أن تخرجوا إليها لعل الله يغنمناها ويسلمنا"، قلنا: نعم، فخرجنا فلما سرنا يوما أو يومين، قال: "قد أخبروا خبرنا فاستعدوا للقتال"، فقلنا: لا والله ما لنا طاقة بقتال القوم، فأعاد فقال المقداد: لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى، ولكن نقول: إنا معكما مقاتلون.
قال: فتمنينا معشر الأنصار، لو أنا قلنا كما قال المقداد، قال: فأنزل الله تعالى: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ} [الأنفال: 5] ، "ثم قال عليه الصلاة والسلام" ثالث مرة، "أيها الناس أشيروا عليَّ وإنما يريد الأنصار" كما ذكره سعد جوابا له، والمصنف تابع للفظ الرواية عند ابن إسحاق، فلذا لم يذكر جواب سعد، ثم يعلله بذلك وإن كان أولى على أنه ق يقال الأولى ما في الرواية للاهتمام بحكمة تكرير الاستشارة من سيد الحكماء مع حصول الجواب الكافي من المقداد بحضورهم وسكوتهم عليه وتمنيهم لو كانوا قالوا مثله، "لأنهم حين بايعوه بالعقبة، قالوا: يا رسول الله! إنا برآء من ذمامك" بكسر الذال، فسره البرهان بالحرمة، ويطلق على الضمان أيضا.
قال شيخنا: ولعله المراد، أي: من ضمان مناصرتك، "حتى تصل إلى دارنا فإذا وصلت إلينا فأنت في ذمامنا نمعنك مما نمنع منه أنفسنا وأبناءنا ونساءنا، وكان صلى الله عليه وسلم يتخوف" يخشى "أن لا تكون الأنصار ترى" تعتقد "عليها نصرته إلا ممن دهمه" بفتح الدال وكسر الهاء وفتحها، كما في المصباح. أي: نزل به وفحاه "بالمدينة من عدوه" وذكر ابن القوطية: أن اللغتين في دهمتهم الخيل، وأن دهمه الأمر بالكسر فقط، "وأن ليس عليهم أن يسير بهم إلى عدو من بلادهم، فلما قال ذلك عليه الصلاة والسلام، قال له سعد بن معاذ" السيد الذي هو في الأنصار بمنزلة الصديق في المهاجرين، صرح به البرهان في غير هذا الموضع: "والله لكأنك(2/267)
تريدنا يا رسول لله؟ قال: "أجل".
قال: قد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامض يا رسول الله ما أردت، فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن نلقي عدونا، إن لصبر عند الحرب، صدق عند اللقاء، ولعل الله أن يريك منا ما تقر به عينك، فسر على بركة الله تعالى.
فسر عليه السلام بقول سعد، ونشطه ذلك،........................................
__________
تريدنا يا رسول الله؟ قال: "أجل" أي: نعم، "قال: قد آمنا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودا ومواثيقا على السمع والطاعة، فامض يا رسول الله لما أردت".
وفي رواية: لما أمرت به وعند ابن عائذ من مرسل عروة، وابن أبي شيبة من مرسل علقمة بن وقاص عن سعد: ولعلك تخشى أن تكون الأنصار ترى عليها أن لا ينصروك إلا في ديارهم، وإني أقول عن الأنصار وأجيب عنهم، ولعلك يا رسول الله خرجت لأمر فأحدث الله غيره، فامض لما شئت وصل حبال من شئت، واقطع حبال من شئت، وسالم من شئت، وعاد من شئت، وخذ من أموالنا ما شئت، وأعطنا ما شئت، وما أخذت منا كان أحب إلينا مما تركت، وما أمرت به من أمر فمرنا نتبع لأمرك، لئن سرت حتى تأتي برك الغماد من ذي يمن، لفظ علمقة، ولفظ عروة: ولو سرت بنا حتى تبلغ البرك من غمد ذي يمن، وغمد بضم المعجمة وسكون الميم ودال مهملة، لنسيرن معك.
وفي رواية ابن إسحاق: "فوالذي بعثك بالحق، لو استعرضت" أي: طلبت أن تقطع "بنا" عرض "هذا البحر" أي: الملح "فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن نلقى عدونا أنا لصبر" بضم الصاد والموحدة "عند الحرب صدق" بضم الصاد والدال، "عند اللقاء" هكذا ضبطه البرهان وتبعه الشامي، وهو جمع صبور وصديق بزنة فعيل وفعول بالفتح، بمعنى فاعل على فعل بضمتين قياسا مطردا، "ولعل الله أن يريك" منا "ما تقر به عينك" وقد فعل، فأراه ذلك منهم في هذا اليوم وفي غير رضي الله عنهم، "فسر على بركة الله تعالى، فسر عليه السلام بقول سعد ونشطه" أي: صيره "ذلك" مسرعا في طلب العدو، ووقع عن ابن مردويه عن علمقة أن سعدا قال: فنحن عن يمينك وشمالك وبين يديك وخلفك، ولا نكونن كالذين قالوا لموسى: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ} [المائدة: 24] ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما(2/268)
ثم قال: "سيروا على بركة الله تعالى وأبشروا، فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين، والله لكأني أنظر الآن إلى مصارع القوم". قال ثابت عن أنس قال عليه الصلاة والسلام: "هذا مصرع فلان"، ويضع يده على الأرض، ههنا وههنا ... قال فما ماط أحدهم -أي ما تنحى- عن موضع يده عليه السلام.
تنبيه: قال ابن سيد الناس في "عيون الأثر": روينا من طريق مسلم أن الذي قال ذلك: سعد بن عبادة سيد الخزرج، وإنما يعرف ذلك عن سعد بن معاذ، كذا رواه
__________
متبعون. قال الحافظ: والمحفوظ أن هذا الكلام للمقداد وإن سعدا إنما قال ما ذكر عنه.
"ثم قال: "سيروا على بركة الله تعالى وأبشروا"، بفتح الهمزة وكسر الشين: أمر، "فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين" إما العير وإما النفير، وقد فاتت العير فلا بد من الطائفة الأخرى؛ لأن وعد الله لا يختلف وإلى هذا أرشد أيضا بقوله: "والله لكأني أنظر الآن إلى مصارع القوم" الذين سيقتلون ببدر وأقسامه على ذلك وهو الصادق المصدوق زيادة في تبشيرهم وطمأنينتهم.
"قال ثابت" البناني فيما رواه مسلم من طريقه، "عن أنس" بن مالك عن عمر، كما في مسلم: ففيه من لطائف الإسناد عن صحابي، "قال" عمر: إن النبي صلى الله عليه وسلم ليرينا مصارع أهل بدر، بقول النبي "عليه الصلاة والسلام: "هذا مصرع فلان" غدا إن شاء الله، وهذا مصرع فلان، "ويضع يده على الأرض ههنا وههنا" يشير إلى مواضع قتلهم إشارة محسوسة، "قال: فما ماط أحدهم، أي: ما تنحى" وفي شرح النووي: أي تباعد، "عن موضع يده عليه السلام" فهو معجزة ظاهرة. قال الحافظ: وهذا وقع وهم ببدر في الليلة التي التقوا في صبيحتها، انتهى. فقد بين الحديث أنه سمى وعين جماعة. وفي رواية: أنه أخر بمصارعهم قبل الواقعة بيوم أو أكثر. وفي أخرى: أخبر بذلك يوم الواقعة، وجمع ابن كثير بأنه لا مانع من أنه يخبر به في الورقتين.
تنبيه:
"قال ابن سيد الناس" الحافظ أبو الفتح اليعمري "في عيون الأثر" في فنون المغازي والشمائل والسير: "روينا من طريق مسلم أن الذي قال ذلك" المذكور عن سعد بن معاذ "سعد بن عبادة سيد الخزرج" ولفظه عن أنس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم شاور حين بلغه إقبال أبي سفيان، فتكلم أبو بكر فأعرض عنه، ثم تكلم عمر فأعرض عنه، فقام سعد بن عبادة، فقال: إيانا تريد يا رسول الله، والذي نفسي بيده، لو أمرتنا أن نخيضها البحر لأخضناها، ولو أمرتنا أن نضرب أكبادنا إلى برك الغماد لفعلنا ... الحديث، "وإنما يعرف ذلك" القول "عن سعد بن معاذ، كذا رواه(2/269)
ابن إسحاق وغيره.
واختلف في شهود سعد بن عبادة بدرا، ولم يذكره ابن عقبة ولا ابن إسحاق في البدريين، وذكره الواقدي والمدائني وابن الكلبي منهم انتهى.
ثم ارتحل صلى الله عليه وسلم قريبا من بدر، نزل قريش بالعدوة القصوى من الوادي، ونزل المسلمون على كثيب أعفر تسوخ فيه الأقدام وحوافر الدواب، وسبقهم المشركون إلى ماء.............................................
__________
ابن إسحاق وغيره" كابن أبي شيبة وابن عائذ وابن مردويه. قال الحافظ: ويمكن الجمع بأنه صلى الله عليه وسلم استشارهم مرتين، الأولى بالمدينة أول ما بلغه خبر العير، وذلك بين من لفظ مسلم: أنه شاور حين بلغه إقبال أبي سفيان، كانت بعد أن خرج، كما في حديث الجماعة. ووقع عند الطبراني أن سعد بن عبادة قال ذلك بالحديبية، وهذا أولى بالصواب، انتهى.
"واختلف في شهود سعد بن عبادة بدرا، ولم يذكره" موسى "ابن عقبة ولا ابن إسحاق في البدريين، وذكره الواقدي" محمد بن عمر بن واقد المدني أبو عبد الله الأسلمي الحافظ المتروك مع سعة علمه، "المدائني" أبو الحسن علي بن محمد بن عبد الله الأخباري صاحب تصانيف، وثقه ابن معين. وقال ابن عدي: ليس بالقوي، مات سنة أربع وخمسين ومائتين عن ثلاث وتسعين سنة. "وابن الكلبي منهم، انتهى" كلام العيون. وفي فتح الباري إشارة إلى أنه ليس بخلاف حقيقي؛ لأنه قال: لم يشهد سعد بن عبادة بدرا وإن عد منهم، لكونه ممن ضرب له بسهمه وأجره. وفي العيون بعد ما نقله المصنف عنه، وروين عن ابن سعد أنه كان يتهيأ للخروج إلى بدر، ويأتي دور الأنصار يحضهم على الخروج، فنهش قبل أن يخرج فأقام، فقال صلى الله عليه وسلم: "لئن كان سعد لم يشهدها لقد كان عليها حريصا". قال وروى بعضهم أنه عليه السلام ضرب بسهمه وأجره، انتهى. وهو أيضا إيماء إلى أن الخلاف بالاعتبار لا حقيقي.
"ثم ارتحل صلى الله عليه وسلم" من المكان الذي كان فيه وهو ذفران. بفتح المعجمة وكسر الفاء فراء فألف فنون: واد قرب الصفراء، وسار حتى نزل "قريبا من بدر ونزل قريش بالعدوة" بضم العين وكسرها وبهم قرئ في السبع، وقرئ شاذا بفتحها جانب الوادي وحافته. وقال أبو عمرو: المكان المرتفع، "القصوى" البعدي من المدينة تأنيث الأقصى وكان قياسه قلب الواو كالدنيا والعليا تفرقة بين الاسم والصفة فجاء على الاسم، كالقعود، وهو أكثر استعمالا من القصيا، كما في الأنوار.
"من الوادي، ونزل المسلمون على كثيب" بمثلثة: رمل مجتمع، "أعفر" أحمر أو أبيض ليس بالشديد ولعله المراد، "تسوخ فيه الأقدام وحوافر الدواب وسبقهم المشركون إلى ماء(2/270)
بدر فأحرزوه، وحفروا القلب لأنفسهم.
وأصبح المسلمون بعضهم محدث وبعضهم جنب، وأصابهم الظمأ، وهم لا يصلون إلى الماء، ووسوس الشيطان لبعضهم وقال: تزعمون أنكم على الحق، وفيكم نبي الله، وأنكم أولياء الله، وقد غلبكم المشركون على الماء وأنتم عطاش، وتصلون محدثين مجنبين، وما ينتظر أعداؤكم إلا أن يقطع العطش رقابكم ويذهب قواكم فيتحكموا فيكم كيف شاءوا.
فأرسل الله عليهم مطرا سال منه الوايد، فشرب المسلمون واغتسلوا وتوضئوا وسقوا الركاب وملئوا الأسقية، وأطفأ الغبار ولبد الأرض حتى ثبتت عليها الأقدام. ووالت عنهم وسوسة الشيطان، وطابت أنفسهم،.........................
__________
بدر، فأحرزوه وحفروا القلب" جمع قليب: البئر قبل أن تبنى بالحجارة ونحوها، "لأنفسهم" ليجعلوا فيها الماء من الآبار المعينة فيشربوا منها ويسقوا دوابهم، ومع ذلك ألقى الله عليهم الخوف حتى ضربوا وجوه خيلهم إذا صهلوا من شدة الخوف، وألقى الله الأمنة والنوم على المسلمين بحيث لم يقدروا على منعه، "وأصبح المسلمون بعضهم محدث وبعضهم جنب وأصابهم الظمأ" العطش، "وهم لا يصلون إلى الماء" لسبق المشركين له، ثم نهض المسلمون إلى أعدائهم فغلبوهم على الماء وعاروا القلب التي كانت تلي العدو فعطش الكفار وجاء النصر، قاله السهيلي ويأتي قريبا في حديث الحباب.
"ووسوس الشيطان لبعضهم، وقال: تزعمون أنكم على الحق وفيكم نبي الله وأنكم أولياء الله وقد غلبكم المشركون على الماء وأنتم عطاش وتصلون محدثين" الحدث الأصغر، "مجنبين" محدثين الحدث الأكبر؛ لأنهم لما ناموا احتلم أكثرهم، كما في الأنوار، ولم تكن آية التيمم نزلت، فرأى إبليس لعنه الله تلك الغرة، "وما ينتظر أعداؤكم إلا أن يقطع العطش رقابكم" قطعا مجازيا، فلذا عطف عليه عطف تفسير، "ويذهب قواكم" إذ لو كان حقيقة ما استقام قوله: "فيتحكموا فيكم كيف شاءوا" من قتل من أرادوا وسبي من أرادوا، "فأرسل الله عليهم مطرا سال منه الوادي فشرب المسلمون" واتخذوا الحياض على عدوة الوادي، "واغتسلوا وتوضئوا وسقوا الركاب" الإبل التي يسار عليها، الواحدة راحلة لا واحد لها من لفظها، كما في المختار.
"وملئوا الأسقية وأطفأ" المطر "الغبار ولبد الأرض" أيبسها "حتى ثبت عليه الأقدام" والحوافر "وزالت عنهم وسوسة الشيطان" ورد كيده في نحره، "وطابت أنفسهم" وضر ذلك(2/271)
فذلك قوله تعالى: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} أي من الأحداث والجناية {وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَان} بالصبر {ويثبت به الأقدام} [الأنفال: 11] حتى لا تسوغ في الرمل، بتلبيد الأرض.
وبني لرسول الله صلى الله عليه وسلم..........................................................
__________
بالمشركين لكون أرضهم كانت سهلة لينة وأصابهم ما لم يقدروا معه على الارتحال، "فذلك قوله تعالى: " {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} [الأنفال: 11] الآية، أي: من الإحداث والجنابة" وهو طهارة الظاهر، "ويذهب عنكم رجز الشيطان، أي: وسوسته" وتخويفه إياهم من العطش، وقيل: الجنابة؛ لأنها من تخييله وهو تطهير الباطن، "وليربط على قلوبكم بالصبر" والإقدام على مجالدة العدو وهو شجاعة الباطن، وفي الأنوار: بالوثوق على لطف الله بهم، "ويثبت به الأقدام" أي: بالمطر، حتى لا تسوخ في الرمل بتلبيد الأرض" وهو شجاعة الظاهر، وفي الأساس تلبد التراب والرمل ولبده المطر، ثم قال: ومن المجاز كذا فأفاد أنه هنا حقيقة، وقيل: ضمير به للربط على القلوب حتى تثبت في المعرفة، قال ابن إسحاق: فخرج صلى الله عليه وسلم يبادرهم إلى الماء حتى جاء أدنى ماء من بدر فنزل به، فقال الحباب بن المنذر بن الجموع: يا رسول الله! هذا منزل أنزلكه الله لا تتقدمه ولا تتأخر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة، فقال: "بل هو الرأي والحرب والمكيدة"، قال: فإن هذا ليس بمنزله فانهض بالناس حتى تأتي أدنى ماء من القوم، فننزل ثم نغور ما وراءه من القلب ثم نبني عليه حوضا، فنملئه ماء فنشرب ولا يشربون، فقال صلى الله عليه وسلم: "أشرت بالرأي"، وعند ابن سعد: فنزل جبريل فقال: الرأي ما أشار به الحباب، فنهض صلى الله عليه وسلم ومن معه من الناس فنزل حتى أتى أدنى ماء من القوم فنزل عليه ثم أمر بالقلب فغورت وبنى حوضا على القليب الذي نزل عليه، فملئ ماء ثم قذفوا فيه الآية، وقوله: نغور بالغين المعجمة وشد الواو، أي: ندفنها ونذهبها وبالعين المهملة بمعناه عند ابن الأثير، وقال أبو ذر: معنى المهملة نفسدها، انتهى.
والسهيلي ضبطه بضم المهملة وسكون الواو على لغة من يقول قول القوع وبوع المتاع، انتهى. "وبني لرسول الله صلى الله عليه وسلم" بإشارة سعد كما رواه ابن إسحاق: حدثني عبد الله بن أبي بكر أنه حدث أن سعد بن معاذ، قال: يا رسول الله! ألا نبني لك عريشا تكون فيه ونعد عندك ركائبك ثم نلقي عدونا، فإن أغزنا الله وأظهرنا كان ذلك ما أحببنا، وإن كانت الأخرى جلست على ركائبك فلحقت بمن وراءنا فقد تخلف عنك أقوام يا نبي الله ما نحن بأشد لك حبا منهم ولو ظنوا أنك(2/272)
عريش فكان فيه.
ثم خرج عتبة بن ربيعة بين أخيه شيبة بن ربيعة وابنه الوليد بن عتبة، ودعا إلى المبارزة، فخرج إليه فتية من الأنصار وهم: عوف ومعاذ ابنا الحارث - وأمهما عفراء-................................................................................
__________
تلقى حربا ما تخلفوا عنك يمنعك الله بهم يناصحونك ويجاهدون معك، فأثنى عليه صلى الله عليه وسلم خيرا ودعا له بخير. "عريش" شبه الخيمة يستظل به. "فكان فيه" قال السمهودي: مكانه الآن عند مسجد بدر، وهو معروف عند النخيل والعين قريبة منه، قال: وبقربه في جهة القبلة مسجد آخر يسميه أهل بدر مسجد النظر، ولم أقف فيه على شيء.
"ثم" لما عدل صلى الله عليه وسلم صفوف أصحابه وأقبلت قريش ورآها عليه السلام، فقال: "اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها تحادك وتكذب رسولك، اللهم فنصرك الذي وعدتني، اللهم احنهم الغداة" كما رواه ابن إسحاق. "خرج عتبة بن ربيعة" بن عبد شمس بن عبد مناف وقد رآه النبي صلى الله عليه وسلم في القوم على جمل أحمر، فقال: إن يكن في أحد من القوم خير فعند صاحب الجمل الأحمر أن يطيعوه ويرشدوا، وذكر ابن إسحاق أنه قام خطيبا، فقال: يا معشر قريش! والله ما تصنعوا بأن تلقوا محمدًا وأصحابه شيئا، والله لئن أصبتموه لا يزال الرجل ينظر في وجه رجل يكره النظر إليه قتل ابن عمه وابن خاله ورجلا من عشيرته، فارجعوا وخلوا بين محمد وسائر العرب فإن أصابه غيركم فذاك الذي أردتم، وإن كان غير ذلك ألقاكم ولم تعدموا منه ما تريدون، وأرسل بذلك حكيم بن حزام إلى أبي جهل فأخبره، فقال: والله ما بعتبه ما قال، ولكنه رأى أن محمدًا وأصحابه آكلة جزور وفيهم ابنه فتخوفكم عليه ثم أفسد على الناس رأي عتبة وبعث إلى عامر بن الحضرمي، فقال: هذا حليفك يريد الرجوع بالناس، وقد رأيت ثأرك بعينك فقم فانشده مقتل أخيك، فقام عامر فصرخ: واعمراه! واعمراه! فحميت الحرب وتعبوا للقتال والشيطان معهم لا يفارقهم، فخرج الأسود المخزومي وكان شرسا سيئ الخلق، فقال: أعاهد الله لأشربن من حوضهم أو لأهتد منه أو لأموتن دونه، فتبعه حمزة رضي الله عنه فضربه دون الحوض، ثم خرج بعده عتبة "بين أخيه شيبة بن ربيعة وابنه الوليد بن عتبة" حتى فصل من الصف، "ودعا إلى المبارزة فخرج إليه فتية من الأنصار، وهم: عوف" بالفاء قال ابن عبد البر: وسماه بعضهم عوذا أي بالذال وعوف أصح "ومعاذ" كذا في النسخ والذي في الرواية: معوذ "ابن الحارث" الأنصاريان النجاريان، "وأمهما عفراء" جملة استئنافية لشهرتهما بها لا أنها خرجت معهم وهي بنت عبيد بن ثعلبة الأنصاري الجارية الصحابية، قال في(2/273)
وعبد الله بن رواحة. فقالوا من أنتم؟ قالوا: رهط من الأنصار، قالوا: ما لنا بكم حاجة.
ثم نادى مناديهم: يا محمد، أخرج إلينا أكفاءنا من قومنا. فقال صلى الله عليه وسلم: "قم يا عبيدة بن الحارث، قم يا حمزة، قم يا علي".
فلما قاموا ودنوا منهم قالوا من أنتم؟ فتسموا لهم، قالوا: نعم أكفاء كرام، فبارز عبيدة -وكان أسن القوم- عتبة بن ربيعة، وبارز حمزة شيبة بن ربيعة، وبارز علي الوليد بن عتبة.
فقتل علي الوليد. هكذا ذكره ابن إسحاق.
وعند موسى بن عقبة -كما نقله في فتح الباري- برز حمزة لعتبه، وعبيدة لشيبة وعلي للوليد.
__________
الإصابة: لها خصوصية لا توجد لغيرها وهي أنها تزوجت بعد الحارث البكير بن ياليل الليثي فولدت له إياسا وعاقلا وخالدا وعامرا وأربعتهم شهدوا بدرا، وكذلك أخوتهم لأمهم بنو الحارث، يعني: عوفا ومعوذا ومعاذا، فانتظم من هذا أنها صحابية لها سبعة أولا شهدوا بدرا معه صلى الله عليه وسلم، "وعبد الله بن رواحة" النقيب البدري الأمير المستشهد بموتة، "فقالوا: من أنتم؟ قالوا: من الأنصار، قالوا: ما لنا بكم حاجة" وفي رواية لابن إسحاق: فقال عتبة: أكفاء كرام إنما نريد قومنا، "ثم نادى مناديهم" قال في النور: لا أعرف اسمه، والظاهر أنه أحد الثلاثة: "يا محمد أخرج" بقطع الهمزة "إلينا أكفاءنا من قومنا" وعند ابن عقبة وابن عائذ: أنه صلى الله عليه وسلم استحيا من خروج الأنصار؛ لأنه أول قتال التقى فيه المسلمون والمشركون وهو عليه السلام شاهد معهم، فأحب أن تكون الشوكة ببني عمه فنادهم أن ارجعوا إلى صافكم وليقم إليهم بنو عمهم، "فقال صلى الله عليه وسلم: "قم يا عبيدة بن الحارث، قم يا حمزة، قم يا علي"، فلما قاموا ودنوا منهم قالوا: من أنتم؟ " لأنهم كانوا متلثمين لما خرجوا فلا يرد أنهم يعرفونهم لولادتهم بمكة ونشأتهم بينهن، "فتسموا لهم" اختصار لقول ابن إسحاق: فقال عبيدة عبيدة، وقال حمزة حمزة، وقال علي علي، "قالوا: نعم أكفاء كرام فبارز عبيدة وكان أسن القوم" المسلمين "عتبة بن ربيعة" وكان أسن الثلاثة المشركين "وبارز حمزة شيبة بن ربيعة، وبارز علي الوليد بن عتبة فقتل علي الوليد"، وقتل حمزة شيبة واختلف عبيدة وعتبة بضربتين كلاهم أثبت صاحبه فكر حمزة وعلي بأسيافهما على عتبة فذففا عليه واحتملا صاحبهما فحازاه إلى أصحابه، "وهكذا ذكره ابن إسحاق" محمد في السيرة.
"وعند موسى بن عقبة كما في فتح الباري: برز حمزة لعتبة وعبيدة لشيبة وعلي للوليد ثم(2/274)
ثم اتفقنا: فقتل علي الوليد، وقتل حمزة الذي بارزه، واختلف عبيدة ومن بارزه بضربتين، فوقعت الضربة في ركبة عبيدة ومال علي وحمزة على الذي بارزه عبيدة فأعاناه على قتله.
وعند الحاكم، من طريق عبد خير عن علي: مثل قول موسى بن عقبة.
وعند أبي الأسود عن عروة مثله.
وأورد ابن سعد من طريق عبيدة السلماني: أن شيبة لحمزة، وعبيدة لعتبة، وعليا للوليد، ثم قال: الثبت أن عتبة لحمزة، وشيبة لعبيدة.
وأخرج أبو داود عن علي قال: تقدم عتبة وتبعه ابنه وأخوه، فنادى: من يبارزه فانتدب له شبان من الأنصار، فقال: من أنتم؟ فأخبروه، فقال:........................
__________
اتفقا" معا على قولهما "فقتل علي الوليد، وقتل حمزة الذي بارزه" وهو عتبة أو شيبة على الروايتين "بضربتين" بأن ضرب كل واحد منهما صاحبه ضربة أثخنه بها، "فوقعت الضربة في ركبة عبيدة،" فمات منها لما رجعوا بالصفراء كما في الفتح قبل قوله: "ومال حمزة وعلي على الذي بارزه عبيدة فأعاناه على قتله" فهو قاتله بإعانتهما، وعلى رواية ابن إسحاق: هما اللذان قتلاه، أي: عجلا موته وإلا فعبيدة كان أثخنه. "وعند الحاكم من طريق عبد خير" بن يزيد الهمداني اللذان قتلاه أي قال في التقريب: مخضرم ثقة لم يصح له صحبة، "عن علي مثل قول موسى بن عقبة وعند أبي الأسود" محمد يتيم عروة "عن عروة" بن الزبير "مثله" فقويت رواية ابن عقبة على ابن إسحاق، "وأورد ابن سعد من طريق عبيدة" بفتح العين وكسر الموحدة ابن عمرو وقيل: ابن قيس بن عمرو "السلماني" الكوفي التابعي الكبير أحد الأعلام أسلم قبل وفاته صلى الله عليه وسلم بسنتين ولم يلقه ومات سنة سبعين، وقيل: ثلاث وقيل أربع وسبعين "أن شيبة لحمزة وعبيدة لعتبة" مثل ما عند ابن إسحاق "وعليا للوليد، ثم قال" ابن سعد القول "الثبت" أي القوي: "أن عتبة لحمزة وشيبة لعبيدة" لوروده عن علي الذي هو أحد الثلاثة من طرق عدة ومن وجوه الترجيح حضورا لراوي القصة ثم اعتضد بمرسل عروة، وهو من كبار التابعين لا سيما أن كان حمله عن الترجيح حضور الراوي للقصة ثم اعتضد بمرسل عروة، وهو من كبار التابعين لا سيما أن كان حمله عن أبيه وهو من البدريين، وجزم به موسى بن عقب في مغازيه التي قال مالك والشافعي: إنها أصح المغازي.
قال في فتح الباري: قال بعض من لقيناه: اتفقت الروايات على أن عليا للوليد، وإنما اختلف في عتبة وشيبة أيهما لعبيدة وحمزة والأكثر أن شيبة لعبيدة، قلت: "و" في دعوى الاتفاق نظر فقد "أخرج أبو داود" من الحارث بن مضرب "عن علين قال: تقدم عتبة وتبعه ابنه وأخوه فنادى من يبارزه فانتدب له" أي: أجابه شبان من الأنصار، فقال: من أنتم؟ فأخبروه فقال:(2/275)
لا حاجة لنا فيكم، إنما أردنا بني عمنا، فقال صلى الله عليه وسلم: "قم يا حمزة، قم يا علي، قم يا عبيدة"، فأقبل حمزة إلى عتبة، وأقبلت إلى شيبة، واختلف بين عبيدة والوليد ضربتان، فاثخن كل واحد منهما صاحبه، ثم ملنا على الوليد فقتلناه واحتملنا عبيدة.
قال الحافظ ابن حجر: وهذا أصح الروايات، لكن الذي في السير من أن الذي بارزه علي هو الوليد هو المشهور وهو اللائق بالمقام؛ لأن عبيدة وشيبة كانا شيخين كعتبة وحمزة، بخلاف علي والوليد فكانا شابين.
وقد روى الطبراني بإسناد حسن عن علي قال: أعنت أنا وحمزة عبيدة بن الحارث على الوليد بن عتبة، فلم يعب النبي صلى الله عليه وسلم علينا ذلك. وهذا موافق لرواية أبي داود.
__________
لا حاجة لنا فيكم إنما أردنا بني عمنا، فقال صلى الله عليه وسلم: "قم يا حمزة، قم يا علي، قم يا عبيدة" فأقبل حمزة إلى عتبة" فهذا طريق ثان عن علي، أنه لا لشيبة، "وأقبلت إلى شيبة، واختلف بين عبيدة والوليد ضربتان فأثخن كل واحد منهما صاحبه" فصرح بأن الوليد لعبيدة وشيبة لعلي بخلاف ما ادعى عليه ذلك البعض الاتفاق مع صحته، "ثم ملنا على الوليد فقتلناه واحتملنا عبيدة" إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومخ ساقه يسيل، فقال: أشهيد أنا يا رسول الله، قال: "نعم"، قال: وددت والله أن أبا طالب كان حيا ليعلم إننا أحق منه، بقوله:
ونسلمه حتى نصرع حوله ... ونذهل عن أبنائنا والحلائل
ثم أنشأ يقول:
فإن يقطعوا رجلي فإني مسلم ... أرجى به عيشا من الله عاليا
وألبسني الرحمن من فضل منه ... لباسا من الإسلام غطى المساويا
هذا بقية رواية أبو داود.
"قال الحافظ ابن حجر: وهذا أصح الروايات" من جهة الإسناد؛ لأن إسناد أبي داود صحيح، "لكن الذي في السير من أن الذي بارزه علي هو الوليد هو المشهور، وهو اللائق بالمقام؛ لأن عبيدة وشيبة" مبارزة عند الأكثرين، "كانا شيخين" فإن سن عبيدة يومئذ ثلاث وستون سنة "كعتبة وحمزة" مبارزة على الأرجح، فإن سن حمزة حينئذ كان ثمانيا وخمسين سنة، "بخلاف علي والوليد فكانا شابين" إذ سن علي يومئذ عشرون سنة، "وقد روى الطبراني بإسناد حسن عن علي، قال: أعنت أنا وحمزة عبيدة بن الحارث على الوليد بن عتبة، فلم يعب النبي صلى الله عليه وسلم علينا ذلك،" ففيه جواز الإعانة لمن فرغ من قرنه، "وهذا موافق لرواية أبي داود" في(2/276)
والله أعلم. انتهى.
قال ابن إسحاق: ثم تزاحف الناس ودنا بعضهم من بعض.
ورسول الله صلى الله عليه وسلم في العريش............................................
__________
أن الوليد لعبيدة فكيف يقول ذلك البعض.
اتفقت الروايات على أن عليا للوليد "والله أعلم" بما كان من ذلك، "انتهى" كلام الحافظ، وفيه جواز المبارزة خلافا لمن أنكرها، كالحسن البصري وشرط الأوزاعي والثوري وأحمد وإسحاق للجواز إذن أمير الجيش وفضيلة ظاهرة لعبيدة وحمزة وعلي رضي الله عنهم، وقد أقسم أبو ذر أن {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} [الحج: 19] ، نزلت في الذين برزوا يوم بدر فذكر هؤلا الستة، وقال علي: أنا أول من يجثو بين يدي الرحمن للخصومة يوم القيامة فينا نزلت هذه الآية {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} [الحج: 19] رواهما البخاري. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس: أنها نزلت في أهل الكتاب، قالوا للمؤمنين نحن أولى بالله منكم، وأقدم كتابا، ونبينا قبل نبيكم، فقال المؤمنون: نحن أحق بالله آمنا بمحمد وبنبيكم وبما أنزل الله من كتاب.
وعن مجاهد: أنها مثل المؤمن والكافر اختصما في البعث، وهذا يشمل جميع الأقوال وينتظم فيه قصة بدر وغيرهما، فالمؤمنون يريدون نصرة دين الله، والكافرون إطفاء نور الإيمان وخذلان الحق وظهور الباطل، واختار ابن جرير هذا واستحسن، ولذا قال: فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار.
"قال ابن إسحاق و" لما قتل المبارزون وخرج صلى الله عليه وسلم من العريش لتعديل الصفوف ثم عاد إليه "تزاحف الناس" أي: مشى كل فريق جهة الآخر، "ودنا" قرب "بعضهم من بعض" وعند ابن إسحاق أيضا: أقبل نفر من قريش حتى وردوا حوضه صلى الله عليه وسلم، فقال: "دعوهم" فما شرب منه رجل يومئذ إلا قتل، إلا حكيم بن حزام ثم أسلم وحسن إسلامه، فكان إذا اجتهد في يمنه قال: لا والذي نجاني من يوم بدر، وأمر صلى الله عليه وسلم أصحابه أن لا يحملوا على المشركين حتى يأمرهم وإن أكثبوكم فانضحوهم عنكم بالنبل، ولا تسلوا السيوف حتى يغشوكم واستبقوا نبلكم، فقال أبو بكر: يا رسول الله! قد دنا القوم ونالوا منا، فاستيقظ وقد أراه الله إياهم في منامه قليلا فأخبر أصحابه فكان تثبيتا لهم.
وفي الصحيح عن أبي أسيد: قال لنا صلى الله عليه وسلم يوم بدر: "إذا أكثبوكم فارموهم واستبقوا نبلكم" قال ابن السكيت: أكثب الصيد إذا أمكن من نفسه، فالمعنى: إذا قربوا منكم فأمكنوكم فارموهم واستبقوا نبلكم في الحالة التي إذا رميتم لا تصيب غالبا. "ورسول الله صلى الله عليه وسلم في العريش(2/277)
ومعه أبو بكر، ليس معه فيه غيره، وهو عليه الصلاة والسلام يناشد ربه إنجاز ما وعده من النصر ويقول: "اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإيمان اليوم فلا تعبد في الأرض أبدا". وأبو بكر يقول: يا رسول الله، خل بعض مناشدتك ربك، فإن الله منجز لك ما وعدك.
وعند سعيد بن منصور من طريق عبيد الله بن عبد الله بن عتبة،...............
__________
ومعه أبو بكر ليس معه فيه غيره" وسعد بن معاذ متوشحا سيفه في نفر من الأنصار على باب العريش يحرسونه، "وهو عليه الصلاة والسلام يناشد" أي: يسأل "ربه إنجاز ما وعده من النصر" قال تعالى: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْن} [الأنفال: 7] {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِين} [الروم: 47] الآية، {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ، إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ، وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات: 171، 172، 173] ، "يقول" مع سؤال ذلك: "اللهم إن تهلك هذه العصابة". قال النووي: ضبطوه بفتح التاء وضمها فعلى الفتح العصابة بالرفع فاعل، وعلى الضم بالنص مفعول، والعصابة: الجماعة، انتهى. وجوز نصبها مع فتح التاء على أنه متعد والثلاثة مع سر اللام، وفي لغة بني تميم بفتح اللام مع فتح التاء ورفع ما بعده، فهي أربعة لكن الرواية بالأوليين فقط، كما أفاده النووي بقوله ضبطوه بل اقتصر الحافظ على فتح التاء وكسر اللام ورفع العصابة ففيه إشارة إلى أنه أشهر الروايتين. "من أهل الإيمان اليوم فلا تعبد في الأرض أبدا" لفظ ابن إسحاق الذي هو ناقل عنه: "اللهم إن تهلك هذه العصابة اليوم لا تعبد" وفي حديث ابن عباس عند البخاري: "اللهم إني أنشدك عهدك ووعدك، اللهم إن شئت لم تعبد".
وفي حديث عمر عند مسلم: "اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام، لا تعبد في الأرض"، والاعتذار للمصنف بأنه نقله بالمعنى إشارة إلى أن المراد من الإيمان والإسلام واحد، إنما يصح لو عزاه المصنف لمسلم، وهو إنما نقله عن ابن إسحاق، ولم يقع ذلك عنده، وفيه إشعار بأن من أسباب سؤاله ربه إنجاز وعده بقاء عبادته في الأرض.
"وأبو بكر يقول" شفقة عليه ومحبة: "يا رسول الله! خل" أترك "بعض مناشدتك" مصدر مضاف لفاعله و"ربك" مفعوله، وعلله بقوله: "فإن الله منجز" قاض أو معجل "لك ما وعدك" من النصر والظفر عليهم وغير ذلك.
"وعند سعيد بن منصور" بن شعبة، أبي عثمان الخراساني الحافظ الثقة أحد الأعلام صاحب السنن، أخذ عن مالك والليث وخلق، وعنه أحمد ومسلم وأبو داود وغيرهم، مات بمكة سنة سبع وعشرين ومائتين، وهو في عشر التسعين، "من طريق عبيد الله" بضم العين "ابن عبد الله" بفتحها "ابن عتبة" بضم العين وإسكان الفوقية ابن مسعود الهذلي، أبي عبد الله المدني(2/278)
قال: لما كان يوم بدر نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين، تكاثرهم وإلى المسلمين فاستقلهم، فركع ركعتين وقام أبو بكر عن يمينه، فقال عليه السلام وهو في صلاته: "اللهم لا تخذلني، اللهم إني أنشدك ما وعدتني".
وروى النسائي والحاكم عن علي قال: قاتلت يوم بدر شيئا من قتال، ثم جئت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في سجوده: "يا حي، يا قيوم". فرجعت وقاتلت ثم جئت فوجدته كذلك.
وفي الصحيح: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لماكان يوم بدر في العريش مع الصديق رضي الله عنه، أخذت رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة من النوم..................................
__________
التابعي الوسط الثقة الثبت الفقيه كثير العلم والحديث، أحد الفقهاء السبعة المتوفى سنة أربع أو ثمان أو خمس أو تسع وتسعين، "قال: لما كان" تامة، أي: حضر "يوم بدر نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين" إلى "تكاثرهم" وفي نسخة: فتكاثرهم بفتح المثلثة والراء من التفاعل، وهي أنسب بقوله: "وإلى المسلمين فاستقلهم" من القلة "فركع ركعتين" أي: أحرم بهما لا فرغ منهما لما بعده، "وقام أبو بكر عن يمينه" يحرسه لا يصلي معه، ويؤيده قول علي: قام أبو بكر شاهر السيف على رأسه صلى الله عليه وسلم لا يهوى إليه أحد إلا أهوى إليه، "فقال عليه السلام، وهو في صلاته:" لعله في سجودها إذ هو الأليق بمقام الدعاء لخبر أقرب ما يكون العبد من ربه، وهو ساجد "اللهم" أسقط من رواية من عزا له: "لا تودع مني، اللهم" "لا تخلني" بفتح التاء وضم المعجمة، أي: لا تترك عوني ونصري، "اللهم إني أنشدك" بفتح الهمزة وسكون النون وضم المعجمة والدال، أي: أطلب منك "ما وعدتني" وعند الطبراني بإسناد حسن عن ابن مسعود: ما سمعنا مناشدا ينشد ضالة أشد من مناشدة محمد لربه يوم بدر: "اللهم أنشدك ما وعدتني".
"وروى النسائي والحاكم عن علي: قال: قاتلت يوم بدر شيئا من قتال، ثم جئت" لاستكشاف حاله صلى الله عليه وسلم، "فإذ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في سجوده: "يا حي يا قيوم"،" أي: لا يزيد على ذلك، كذا قاله الشامي ولا يعارضه الحديث قبله المحتمل أنه قال ما فيه من سجوده؛ لأنه قاله قبل إتيان علي، "فرجعت فقاتلت، ثم جئته فوجدته كذلك" فعل ذلك أربع مرات، وقال في الرابعة: ففتح عليه.
"وفي الصحيح: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما كان يوم بدر في العريش مع الصديق رضي الله عنه، أخذت رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة من النوم" فتور يتقدم النوم، يحتمل بعد فراغه من صلاته، ويحتمل فيها. وعند ابن إسحاق: أنه عليه السلام خفق في العريش خفقة، قال في النور: بفتح(2/279)
ثم استيقظ متبسما، فقال: "أبشر يا أبا بكر، وهذا جبريل على ثناياه النقع" ثم خرج من باب العريش وهو يتلو {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُر} .
__________
المعجمة والقاف، أي: حرك رأسه وهو ناعس، انتهى. ففيه أنه لم يستغرق على أنه لو استغرق ما ضر؛ لأن نومه ليس بناقض. "ثم استيقظ متبسما، فقال: "أبشر" بقطع الهمزة "يا أبا بكر"، زاد ابن إسحاق: أتاك نصر الله، "هذا جبريل على ثناياه النقع" بفتح النون وسكون القاف وعين مهملة: الغبار إشارة للاهتمام بمناصرته صلى الله عليه وسلم ليدخل عليه وعلى أصحابه السرور.
وفي البخاري عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم بدر: "هذا جبريل آخذ برأس فرسه عليه أداة الحرب". قال الحافظ: وأخرج سعيد بن منصور تتمة لهذا الحديث مفيدة من مرسل عطية بن قيس: أن جبريل أتى النبي صلى الله عليه وسلم بعدما فرغ من بدر على فرس حمراء معقودة الناصية قد عصب الغبار ثنيته عليه درعه، وقال: "يا محمد إن الله بعثني إليك وأمرني أن لا أفارقك حتى ترضى، أفرضيت؟ قال: "نعم".
وروى البيهقي عن علي، قال: هبت ريح شديدة لم أر مثلها، ثم هبت شديدة، وأظنه ذكر ثالثة، فكانت الأولى جبرائيل، والثانية ميكائيل، والثالثة إسرافيل، فكان ميكائيل عن يمين النبي صلى الله عليه وسلم وفيها أبو بكر، وإسرافيل عن يساره، وأنا فيها، انتهى. ورواه ابن سعد وذكر الثلاثة جزما، وقال: فكانت الأولى جبريل في ألف من الملائكة مع النبي صلى الله عليه وسلم، والثانية ميكائيل في ألف عن يمينه، والثالثة إسرافيل في ألف عن يساره. وأخرج أحمد وأبو يعلى والحاكم وصححه والبيهقي عن علي، قال: قيل لي ولأبي بكر يوم بدر: مع أحدكما جبريل ومع الآخر ميكائيل وإسرافيل، مالك عظيم يحضر الصف ويشهد القتال. قال الحافظ: والجمع بينه وبين هبت ريح ... إلخ، ممكن.
"ثم خرج من باب العريش، وهو يتلو: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} [القمر: 45] الآية،" قال الزجاج: يعني الإدبار؛ لأن اسم الواحد يقع على الجمع، أي: سيفرق شملهم ويغلبون، وقيل: أفرد لأن كل واحد يولي دبره. وقيل: إشارة إلى أنهم في التولية والهزيمة كنفس واحدة ولا يثبت أحد فيهم دبر أحد. وقيل: لأجل رءوس الآي، وفي هذا علم من أعلام النبوة؛ لأن هذه الآية نزلت بمكة وأخبرهم بأنهم سيهزمون في الحرب، فكان كما قال. وأخرج الطبري وابن مردويه عن ابن عباس: لما نزلت {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} [القمر: 45] الآية، قال عمر: أن جمع يهزم فلما كان يوم بدر رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثبت في الدرع، وهو يقول: "سيهزم الجمع"، ولابن مردويه عن أبي هريرة عن عمر: لما نزلت هذه الآية، قلت: يا رسول الله! أي جمع؟ فذكره. ولابن أبي حاتم: فعرفت تأويلها يوم بدر.(2/280)
فإن قلت: كيف جعل أبو بكر يأمره عليه السلام بالكف عن الاجتهاد في الدعاء ويقوي رجاءه ويثبته، ومقام الرسول صلى الله عليه وسلم هو المقام الأحمد، ويقينه فوق يقين كل أحد؟
أجاب السهيلي نقلا عن شيخه: بأن الصديق في تلك الساعة كان في مقام الرجاء، والنبي صلى الله عليه وسلم في مقام الخوف؛ لأن الله تعالى أن يفعل ما يشاء، فخاف أن لا يعبد الله في الأرض، فخوفه ذلك عبادة انتهى.
وقال الخطابي: لا يتوهم أحد أن أبا بكر كان أوثق بربه من النبي صلى الله عليه وسلم في تلك الحالة، بل الحامل للنبي صلى الله عليه وسلم على ذلك شفقته على أصحابه وتقوية قلوبهم، فبالغ في التوجه والدعاء والابتهال لتسكن نفوسهم عند ذلك لأنهم كانوا يعملون أن وسيلته مستجابة، فلما قال له أبو بكر ما قال، كف عن ذلك وعلم أن استجيب له لما وجد أبا بكر في نفسه من القوة...............................
__________
"فإن قلت: كيف جعل" أي: شرع "أبو بكر يأمره عليه السلام" يسأله أو يلتمس منه على التسوية بين الأمر والدعاء والالتماس "بالكف عن الاجتهاد في الدعاء، ويقوي رجاءه ويثبته، ومقام الرسول صلى الله عليه وسلم هو المقام الأحمد" الذي لا يصل إليه أحد، ومقام الصديق رضي الله عنه دونه بمراحل، فإنه بعد النبيين، ومقام النبي صلى الله عليه وسلم فوق الجميع. "ويقينه فوق يقين كل أحد، أجاب السهيلي نقلا عن شيخه" القاضي أبي بكر بن العربي الحافظ: "بأن الصديق في تلك الساعة كان في مقام الرجاء" ثقة بوعد الله نبيه "والنبي صلى الله عليه وسلم في مقام الخوف" قال القاضي أبو بكر: وكلا المقامين سواء في الفضل.
قال السهيلي: لا يريد: يعني شيخه، أن النبي صلى الله عليه وسلم والصديق سواء، ولكن الخوف والرجاء مقامان لا بد للإيمان منهما، فكان الصديق في مقام الرجاء والنبي صلى الله عليه وسلم في مقام الخوف من الله، "لأن الله تعالى أن يفعل ما شاء فخاف أن لا يعبد الله في الأرض" بعدها "فخوفه ذلك عبادة، انتهى" ولا ريب أن خوفه أعلى من رجاء أبي بكر "وقال الخطابي: لا يتوهم" لفظه، لا يجوز أن يتوهم "أحد أن أبا بكر كان أوثق بربه من النبي صلى الله عليه وسلم في تلك الحالة بل الحامل للنبي صلى الله عليه وسلم على ذلك شفقته على أصحابه وتقوية قلوبهم، في تلك الحالة بل الحامل للنبي صلى الله عليه وسلم باطنا، "والدعاء" الطلب باللسان "والابتهال" التضرع والإخلاص في الدعاء "لتسكن نفوسهم عند ذلك؛ لأنهم كانوا يعلمون أن وسيلته مستجابة، فلما قال له أبو بكر ما قال كف عن ذلك" الاجتهاد في الدعاء "وعلم أنه استجيب له لما" حين "وجد أبا بكر في نفسه من القوة(2/281)
والطمأنينة، فلهذا عقبه بقوله: سيهزم الجمع ويولون الدبر.
وقال غيره: وكان النبي صلى الله عليه وسلم في تلك الحالة في مقام الخوف، وهو أكمل حالات الصلاة، وجاز عنده أن لا يقع النصر يومئذ، لأن وعده بالنصر لم يكن معينا لتلك الواقعة، وإنما كان مجملا. هذا هو الذي يظهر من بادئ الرأي.
وإنما قال عليه الصلاة والسلام: "اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام فلا تعبد بعد اليوم" لأنه علم أنه خاتم النبيين، فلو هلك هو ومن معه حينئذ، لا يبعث أحد ممن يدعو إلى الإيمان.
__________
والطمأنينة" اللتين هما علامة بحسب العادة الربانية مع المصطفى وصحبه على عدم ضررهم وحصول مطلوبهم، "فلهذ أعقبه بقوله: {سَيُهْزَمُ الْجَمْع} [القمر: 45] ،" الذين قالوا: نحن جميع منتصر، {وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} [القمر: 45] ،" قال في الفتح: وزل من لا علم عنده ممن ينسب إلى الصوفية في هذا الموضع زللا شديدا، فلا يلتفت إليه، ولعل الخطابي أشار إليه.
"وقال غيره: وكان النبي صلى الله عليه وسلم في تلك الحالة في مقام الخوف، وهو أكمل حالات الصلاة" الدعاء أو الشرعية، فإن وقوعها في الخوف أعلى الأحوال والدرجات، "وجاز عنده" عليه السلام "أن لا يقع النصر يومئذ؛ لأن وعده بالنصر لم يكن معينا لتلك الواقعة، وإنما كان مجملا" فبفرض تأخره مدة لا ينافي أنه أعطاه ما وعده به، "هذا هو الذي يظهر من بادئ الرأي" وهذا غير جواب السهيلي؛ لأن محلظه تجويز أن النصر لا يقع يومئذ ويتأخر مدة، وملحظ جواب السهيلي أنه خاف أن لا يعبد الله في الأرض، ويأتي ما قاله النووي عن العلماء.
وذهب قاسم بن ثابت في معنى الحديث إلى غير ذلك، فقال: إنما قال ذلك الصديق رة عليه صلى الله عليه وسلم لما رأى من نصبه في الدعاء والتضرع حتى سقط الرداء عن منكبيه، فقال له بعض هذا: يا رسول الله! أي: لم تتعب نفسك هذا التعب والله قد وعدم بالنصر، وكان رقيق القلب شديد الإشفاق عليه صلى الله عليه وسلم: "وإنما قال عليه الصلاة والسلام: "اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام" ساقه هنا بلفظ مسلم وفيما مر بمعناه "فلا تعبد بعد اليوم لأنه علم أنه خاتم النبيين فلو هلك هو ومن معه" أفاد أن العصابة هو وأصحابه لا هم فقط، لجواز أنه يدعو غيرهم أفيؤمنون ويعبدون، "لا يبعث أحد ممن يدعو إلى الإيمان" وذلك مستلزم عادة لعدم الإيمان، وإن كان الله قادرا على أن الناس يعبدونه بغير واسطة رسول تتعلق إرادته بعبادتهم، كما قال: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْء} [النحل: 40] الآية.(2/282)
وأما شدة اجتهاده عليه الصلاة والسلام ونصبه في الدعاء، فإنه رأى الملائكة تنصب في القتال وجبريل على ثناياه الغبار وأنصار الله يخوضون غمرات الموت. والجهاد على ضربين جهاد بالسيف وجهاد بالدعاء، ومن سنة الإمام أن يكون وراء الجند لا يقاتل معه، فكان الكل في جد واجتهاد، ولم يكن ليريح نفسه من أحد الجدين وأنصار الله وملائكته يجتهدون، ولا ليؤثر الدعة وحزب الله مع أعدائه يجتلدون. انتهى.
وفي صحيح مسلم عن ابن عباس قال عمر بن الخطاب: لما كان يوم بدر ونظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين وهم ألف وأصحابه ثلاثمائة وتسعة عشر رجلا دخل العريش فاستقبل القبلة ومد يديه، وجعل يهتف..............................
__________
"وأما شدة اجتهاده عليه الصلاة والسلام ونصبه" بفتحتين: تعبه، "في الدعاء، فإنه" كما قال السهيلي " رأى الملائكة تنصب" بفتح الصاد، "في القتال وجبريل على ثناياه الغبار وأنصار الله يخوضون" يقتحمون "غمرات الموت" شدائده "والجهاد على ضربين جهاد بالسيف، وجهاد بالدعاء. ومن سنة الإمام" عادته وطريقته "أن يكون وراء الجند" خلف الجيش، "لا يقاتل معه، فكان الكل في جد" بكسر الجيم "واجتهاد" عطف تفسير، "ولم يكن" مريدا "ليريح نفسه من أحد الجدين وأنصار الله وملائكته يجتهدون" جملة حالية، "ولا ليؤثر الدعة" الراحة، "وحزب الله" المؤمنون "مع أعدائه يجتلدون، انتهى" كلام السهيلي.
"وفي صحيح مسلم" وسنن أبي داود والترمذي "عن ابن عباس، قال": حدثني "عمر بن الخطاب،" قال: "لما كان يوم بدر ونظر رسول الله إلى المشركين وهم ألف" هذ أولى بالصواب لصحته وكونه عن عمرو، وافقه عليه ابن مسعود وهما بدريان، ومر قول ابن عقبة وابن عائذ أنهم تسعمائة وخمسون مقاتلا وأنه يمكن الجمع بأنه الخمسين باقي الألف غير مقاتلين، وهذا خير من تأويل الحديث بأنه في نظر الرائي؛ لأن فيه رد الحديث لصحيح المسند عمن حضر الواقعة إلى كلام أهل السير بلا إسناد على أن الرائي إنما كان يراهم قليلا، كما في القرآن وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا، "وأصحابه ثلاثمائة وتسعة عشر رجلا" بفوقية فسين مهملة، ونسخة وبضعة عشر بموحدة فضاد تحريف من النساخ للعز، ولمسلم: فإن بضعة رواية البخاري عن البراء.
أما رواية مسلم عن عمر فتسعة بفوقية وسين، وكذا نقله عنه اليعمري والحافظ جامعا بأنه ضم إلى الثلاثمائة عشر من لم يؤذن له في القتال، "دخل العريش، فاستقبل القبلة ومد يديه وجعل يهتف" بفتح أوله وكسر الفوقية، قال النووي: أي يصيح ويستغيث بالدعاء، وفيه(2/283)
بربه: "اللهم أنجر لي ما وعدتني" ... فمازال يهتف بربه مادا يديه حتى سقط رداؤه عن منكبيه، فأخذ أبو بكر رداءه فألقاه على منكبيه ثم التزمه من ورائه وقال: يا نبي الله كذاك مناشدتك ربك، فإنه سينجز لك ما وعدك. فانزل الله تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي....................
__________
استحباب استقبال القبلة ورفع اليدين في الدعاء، وأنه لا بأس برفع الصوت فيه، "بربه" بقول: رافعا صوته، "اللهم أنجز" بفتح الهمزة "لي ما وعدتني" أسقط من رواية مسلم: "اللهم آتني ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض"، "فما زال يهتف بربه مادا يديه" أسقط من الرواية مستقبل القبلة، "حتى سقط رداؤه عن منكبيه، فأخذ أبو بكر رداءه فألقاه على منكبيه ثم التزمه من ورائه، وقال: يا نبي الله كذاك" بالذال المعجمة، بمعنى: كفاك. قال قاسم بن ثابت: كذا يراد بها الإغراء والأمر بالكف عن الفعل، وهو المراد هنا. ومنه قول جرير:
تقول وقد ترامحت المطايا ... كذاك القول إن عليك عينا
أي: حسبك من القول، فاتركه. قال الحافظ: وخطأ من زعم أنه تصحيف وأن الأصل كفاك. ا. هـ.
وقال النووي: قوله كذاك بالذال. ولبعضهم، أي الرواة: كفاك بالفاء. وفي البخاري: حسبك، وكله بمعنى "مناشدتك" بالنصب على الأشهر بما فيه من معنى الفعل من الكف وبالرفع فاعل به، قاله عياض ثم النووي. "ربك" بالنصب، قال السهيلي: أتى بالمفاعلة والرب لا ينشد عبده؛ لأنها مناجاة للرب، ومحاولة لأمر يريده. وفي البخاري: فأخذ أبو بكر بيده، فقال: حسبك قد ألححت على ربك، "فإنه سينجز لك ما وعدك" من النصر، قال النووي: قال العلماء: إنما فعل صلى الله عليه وسلم هذه المناشدة ليراه أصحابه بتلك الحال يتقوى قلوبهم بدعائه وتضرعه مع أن الدعاء عبادة، وقد كان الله وعده إحدى الطائفتين إما العير وإما الجيش، والعير قد ذهبت فكان على ثقة من حصول الأخرى، ولكن سأل تعجيل ذلك من غير أذى يلحق المسلمين.
"فأنزل الله تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ} تطلبون منه الغوث بالنصر عليهم بدل من إذ يعدكم أو متعلق بقوله: ليحق الحق، أو على إضمار اذكر، وجمع وإن كان الدعاء من المصطفى وحده للتعظيم، أو لأنه يعم الجميع فكأنهم مشاركون له، أو لأن الصحابة كانوا يستغيثون أيضا، كما روى أنهم لما علموا أن لا محيص من القتال، قالوا: أي رب، انصرنا على عدوك، أغثنا يا غياث المستغيثين، {فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي} [الأنفال: 9] الآية، قال البيضاوي: أي بأني فحذف الجار وسلط عليه الفعل، وقرأ أبو عمرو بالكسر على إرادة القول، أو إجراء استيجاب(2/284)
مُمِدُّكُمْ} مرسل إليكم مددا لكم {بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِين} أي متتابعين بعضهم في أثر بعض. وعلى قراءة فتح الدال معناه: أردف الله عز وجل المسلمين وجاءهم بهم مددا.
وفي الآية الأخرى {بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِين} [آل عمران: 124] فقيل معناه: إن الألف أردفهم بثلاثة آلاف. فكان الأكثر مددا للأقل، وكان الألف مردفين بمن وراءهم. والألف هم الذي قاتلوا مع المؤمنين، وهم الذين قال لهم: {فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا} وكانوا في صور الرجال،.............................
__________
مجرى، قال: لأن الاستجابة من القول. {مُمِدُّكُم} [الأنفال: 9] ، أي: "مرسل إليكم مددا لك {بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِين} بكسر الدال اسم فاعل حال من الملائكة، "أي: متتابعين بعضهم في أثر" حكى تثليث الهمزة، كما في النور. "بعض" من أردفته إذا جئت بعده أو متبعين أنفسهم المؤمنين من أردفته إياه فردفه، "وعلى قراءة فتح الدال" وهي قراءة نافع ويعقوب اسم مفعول "معناه: أردف الله عز وجل المسلمين" بألف من الملائكة "وجاءهم بهم مددا" وهو حال من مفعول من يمدكم أو من الملائكة، والمعنى: أنهم مردفون بملائكة تعقبهم وتنضم إليهم، قال النحاس ومكي وغيرهما: وقراءة كسر الدال أولى؛ لأن أهل التأويل عليها ولأن عليه أكثر القراء، ولأن فيها معنى الفتح، قال القرطبي.
"وفي الآية الأخرى" في آل عمران: {أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ} [آل عمران: 124] "، قرأ جعفر بن محمد وعاصم الجحدري بألف بضم اللام جمع ألف، كفلس جمع فلس، فلا خلاف بين الآيتين، وعلى القراءة المشهور بالإفراد، "فقيل في معناه:" جمعا بينهما، "إن الألف أردفهم بثلاثة آلاف، فكان الأكثر مددا للأقل، وكان الألف مردفين" بفتح الدال "بمن وراءهم" والمعنى أن الثلاثة آلاف قوت الألف وزادتهم، "والألف هم الذين قاتلوا مع المؤمنين" والباقون كانوا عددا ومددا، فاتفقت الآيتان.
وقيل في الجمع أيضا: أن الألف كانوا على المقدمة أو الساقة أو هم وجوههم وأعيانهم، "وهم الذين قال لهم: {فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا} [الأنفال: 12] كالتفسير لقوله {إِنِّي مَعَكُمْ} [المائدة: 12، هود: 93] ، وفيه دليل على أنهم قاتلوا "وكانوا في صور الرجال" فكان الملك يمشي أمام الصف في صورة رجل، ويقول: أبشروا فإن الله ناصركم عليهم، ويظن(2/285)
ويقولون للمؤمنين: اثبتوا فإن عدوكم قليل وإن الله معكم.
وقال الربيع بن أنس: أمد الله المسلمين بألف ثم صاروا ثلاثة آلاف ثم صاروا خمسة آلاف.
وقال سعيد بن أبي عروبة عن قتادة: أمد الله المؤمنين يوم بدر بخمسة آلاف.
وعن عامر الشعبي: أن المسلمين بلغهم يوم بدر أن كرز بن جابر الفهري يمد المشركين فشق عليهم، فأنزل الله: {أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِين} ..........................................
__________
المسلمون أنه منهم، ذكره القرطبي.
"ويقولون للذين آمنوا اثبتوا"، وعللوا ذلك بقولهم: "فإن عدوكم قليل، باعتبار ما انضم إليهم من الملائكة، أو بخذلان الله لهم حتى قلوا في المعنى، وإن كثروا في العدد أو قليل في نظركم، كما قال: وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا، حتى قال ابن مسعود لمن بجنبه: أتراهم سبعين، فقال: أراهم مائة، "وإن الله معكم"، بالنصر والمعونة، وقد رأى المشركون الملائكة لتضعف قلوبهم وتنكسر، كما في عدة أخبار.
"وقال الربيع بن أنس" البكري أو الحنفي البصري نزيل خراسان، صدوق له أو هام ورمى بالتشيع مات سنة أربعين ومائة، وقيل: قبل الأربعين. "أمد الله المسلمين بألف" أو لا وهو الذي في الأنفال، "ثم صاروا ثلاثة آلاف ثم" لما صبروا واتقوا "صاروا خمسة آلاف" كما قال تعالى: {إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ} [آل عمران: 125] ، الآية قال في فتح الباري: كان الربيع جمع بذلك بين آيتي آل عمران والأنفال.
"وقال سعيد بن أبي عروبة" مهران اليشكري مولاهم البصري مما رواه ابن أبي حاتم عنه، "عن قتادة" بن دعامة الأكمه المفسر المشهور: "أمد الله المؤمنين يوم بدر بخمسة آلاف" من الملائكة، وهذا موافق للربيع.
"و" روى ابن أبي حاتم بسد صحيح، "عن عامر الشعبي" التابعي: "أن المسلمين بلغهم يوم بدر أن كرز" بضم الكاف وسكون الراء وزاي، "ابن جابر الفهري" صحب بعد واستشهد في الفتح، كما مر "يمد" بضم الياء وكسر الميم من الإمداد، أي: يعين "المشركين فشق عليهم، فأنزل الله تعالى: {أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِين} [آل عمران: 124] الآية، إنكار أن لا يكفيهم ذلك، وإنما جيء بلن إشعارا بأنهم كانوا كالآيسين من(2/286)
إلى قوله: {مُسَوِّمِين} [آل عمران: 125] ، قال: فبلغت كرر الهزيمة فلم يمد المشركين، ولم تمد المسلمون بالخمسة.
وعن ابن عباس: جاء إبليس يوم بدر في جند من الشياطين، في صورة سراقة بن مالك بن جعشم، فقال الشيطان للمشركين: لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم، فلما أقبل جبريل عليه السلام والملائكة كانت يده في يد رجل
__________
النصر لضعفهم وقلتهم وقوة العدو وكثرتهم، كذا في الأنوار.
قال شيخنا: وكان وجه الإشعار أنه لما أدخل همزة الاستفهام الإنكاري على النفي للكفاية في المستقبل أفاد أنهم كانوا لا يرجونه ولا يأملونه، "إلى قوله: مسومين" معلمين من التسويم وهو إظهار سيماء الشيء، وقيل: مرسلين من التسويم بمعنى الأسامة. وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم ويعقوب بكسر الواو.
"قال" الشعبي: "فبلغت كرز الهزيمة" للمشركين "فلم يمد المشركين ولم تمد المسلمون بالخمسة" وإنما أمدوا بالألف ثم بالثلاثة، وما ذكره من أن هذه الآية في قصة بدر، قال الحافظ: هو قول الأكثر، فهي متعلقة بقوله: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْر} [آل عمران: 123] الآية، وبه جزم الداودي، وعليه عمل البخاري، وأنكره ابن التين فذهل. وقيل: متعلقة بقوله: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِك} [آل عمران: 121] الآية، فهي في غزوة أحد، وهو قول عكرمة وطائفة. وقد لمح البخاري للاختلاف في النزول فذكر قوله تعالى: {وإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِك} [آل عمران: 121] الآية، فهي في غزوة أحد، وهو قول عكرمة وطائفة. وقد لمح البخاري للاختلاف في النزول قوله تعالى: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِك} ، وكذا {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْء} [آل عمران: 128] الآية، في أحمد، وذكر له غدا ذلك في بدر، وهو المعتمد. انتهى.
"و" روى البيهقي وغيره "عن ابن عباس" قال: "جاء إبليس يوم بدر في جند من الشياطين في صورة سراقة بن مالك بن جعشم" بضم الجيم وسكون المهملة وضم المعجمة على المشهور، وحكي فتحها، تقدم في الهجرة وكان جنده في صورة رجال من بني مدلج، وذلك كما عند ابن إسحاق أن قريشا لما فرغوا من جهازهم وأجمعوا السير ذكروا ما بينهم وبين بني بكر بن عبد مناة بن كنانة من الحرب، فقالوا: إنا نخشى أن نؤتى من خلفنا، فتبدى لهم إبليس في صورة سراقة بن مالك الكناني المدلجي، وكان من أشراف بني كنانة، "فقال الشيطان للمشركين: لا غالب لكم اليوم من الناس، "وإني جار" مجير "لكم". وفي رواية ابن إسحاق: وأنا جار لكم من أن تأتيكم كنانة من خلفكم بشيء تكرهونه، "فخرجوا سراعا، "فلما أقبل جبريل عليه السلام والملائكة" إلى إبليس، كما في رواية البيهقي، ورآه إبليس "كانت يده في يد رجل(2/287)
من المشركين فانتزع يده ثم نكص على عقيبه، فقال الرجل: يا سراقة أتزعم أنك لنا جار؟ فقال إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله والله شديد العقاب.
وروي أن جبريل نزل في خمسمائة وميكائيل في خمسمائة في صورة الرجال على خيل بلق، عليهم ثياب بيض، وعلى رءوسهم.....................................................
__________
من المشركين" هو عمير بن وهب أو الحارث بن هشام، ذكرهما ابن إسحاق، وأسلم كل منهما بعد ذلك وصحب، "فانتزع يده ثم نكص على عقبيه" أي: رجع بلغة سليم، قال:
ليس النكوص على الإدبار مكرمة ... إن المكارم إدبار على الأسل
وقال:
وما نفع المستأخرين نكوصهم ... ولا ضر أهل السابقات التقدم
وليس هنا قهقرى بل هو فرار، كما قال إذا سمع الأذن أدبروا له ضراط، قاله القرطبي.
قال في رواية البيهقي: ثم ولى هاربا هو وشيعته، "فقال الرجل: يا سراقة أتزعم أنك لنا جار" وقد خذلتنا وانهزمت لتكون سببا في هزيمتنا، "فقال: إني أرى ما لا ترون" من مجيء الملائكة لنصر المسلمين ولا ينافيه أن المشركين رأوا الملائكة لأنهم رأوهم في صورة الرجال فظنوهم رجالا، وإبليس عرف أنهم ملائكة، أو رأى جملتهم والمشركون بعضهم أو غير ذلك، "إني أخاف الله" قال الحسن: خاف أن يكون يوم بدر اليوم الذي أنظر إليه إذ رأى فيه ما لم ير قبله، وقال قتادة: كذب ما به من خوف ولكن علم أنه لا قوة له، فأوردهم وأسلمهم، وهذه عادته لمطيعه، وقيل غير ذلك. "والله شديد العقاب" قال البيضاوي: ويجوز أنه من كلامه وأنه مستأنف، وفي ذلك يقول حسان:
سرنا وساروا إلى بدر لحينهم ... لم يعلمون يقين العلم ما ساروا
دلاهمو بغرور ثم أسلمهم ... إن الخبيث لمن والاه غرار
وحمل الآية على تصوره بصفة سراقة، هو مذهب الجمهور. وقيل: المراد الوسوسة، وقوله: إني جار لكم مقالة نفسانية، وقال صلى الله عليه وسلم: "ما رأى الشيطان يوما هو أصغر ولا أحقر ولا أدحر ولا أغيظ منه في يوم عرفة"، وما ذلك إلا لما يرى من تنزل الرحمة وتجاوز الله عز وجل عن الذنوب العظام، إلا ما رأى يوم بدر. قيل: وما رأى يوم بدر يا رسول الله؟ قال: "أما إنه رأى جبريل والملائكة" رواه مالك في الموطأ.
"وروي أن جبريل نزل في خمسمائة وميكائيل في خمسمائة في صورة الرجال،" لا ينافي هذا أن كلا نزل في ألف، كما رواه ابن سعد وغيره، كما مر، لجواز أنه أردف كل بخمسمائة أو الخمسمائة بقيد كونهم "على خيل بلق عليهم ثياب بيض وعلى رءوسهم(2/288)
عمائم بيض، قد أرخوا أطرافها بين أكتافهم.
وقال ابن عباس رضي الله عنه: كان سيما الملائكة يوم بدر عمائم بيض، ويوم حنين: عمائم خضر.
وعن علي: كان سيما الملائكة يوم بدر الصوف الأبيض، وكانت سيماهم أيضا في نواصي خيلهم. رواه ابن أبي حاتم.
وروى ابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنهما يرفعه، في قوله تعالى: {مُسَوِّمِينَ} قال: معلمين، وكانت سيما الملائكة يوم بدر عمائم سود ويوم حنين عمائم خضر.
وروى ابن أبي حاتم عن الزبير: أن الملائكة نزلت وعليهم عمائم صفر.
__________
عمائم بيض" من نور، كما في الرواية: "قد أرخوا أطرافها بين أكتافهم" ففي كونها من نور إشارة إلى ذلك بالنظر لما تصوروا به إذ لم يكن عليهم شيء من العمائم المعروفة عليهم الصلاة والسلام، "وقال ابن عباس رضي الله عنهما: كان سيما" خبر مقدم، أي: علامات "الملائكة يوم بدر عمائم" اسم كان "بيض" صفته "وعن علي: كانت سيما الملائكة يوم بدر الصوف الأبيض" أي: النور المرئي للناظر، مثل الصوف الأبيض إذ الملائكة أجسام نورانية لا يليق بها الملابس الجسمانية "وكانت سيماهم أيضا في نواصي خيلهم" وأذناها، كما هو بقية الرواية عند من عزا له، بقوله: "رواه ابن أبي حاتم" عبد الرحمن بن محمد بن إدريس بن المنذر التميمي الحنظلي الرازي الحافظ ابن الحافظ.
"وروى ابن مردويه" بسند فيه عبد القدوس بن حبيب وهو متروك، "عن ابن عباس رضي الله عنهما يرفعه" لفظة استعملها المحدثون بدل قال صلى الله عليه وسلم "في" تفسير قوله تعالى {مُسَوِّمِينَ} قال: "معلمين"، بضم الميم وسكون العين اسم مفعول من أعلم الفارس جعل لنفسه علامة الشجعان، أو بفتح العين وشد اللام من علم، أو اللام مخففة من علم كنصر وضرب: وسم. "وكانت سيماء الملائكة يوم بدر عمائم سود" أي: بعضهم، فلا يخالف ما قبله لا ما بعده إشارة للمسلمين بالسؤدد والنصر، وأنهم يسودون عدوهم بالقتل والأسر، كما لبس صلى الله عليه وسلم العمامة السوداء يوم فتح مكة، "ويوم حنين عمائم خضر" موافق لما قبله.
"وروى ابن أبي حاتم، عن الزبير" بن العوام البدري الحواري "أن الملائكة نزلت" يوم بدر "وعليهم عمائم صفر" ورواه ابن جرير بإسناد حسن ع أبي أسيد الساعدي وهو بدري،(2/289)
قيل: ولم تقاتل الملائكة غير يوم بدر، وكانوا يكونون فيما سواه عددا ومددا، وبذلك صرح العماد بن كثير في تفسيره فقال: المعروف من قتال الملائكة إنما كان يوم بدر، ثم روى عن ابن عباس قال: لم تقاتل الملائكة إلا يوم بدر.
وقال ابن مرزوق: ولم تكن تقاتل في غيرها بل يحضرون خاصة على المختار من الأقوال عند بعضهم.
وفي نهاية البيان في تفسير التباين عند تفسير قوله تعالى: {وَيَوْمَ حُنَيْن} وهل قاتلت............................................................................................
__________
ولفظه: خرجت الملائكة يوم بدر في عمائم صفر قد طرحوها بين أكتافهم، وذلك إظهار لإمارات السرور للمسلمين، وإن هذا الحرب الذي هم فيه إنما هو فرح ينالهم لا ترح، وفي الأصفر من التفريح والسرور ما يشهد به قوله تعالى {تَسُرُّ النَّاظِرِين} [البقرة: 69] الآية، ولذا قيل: من لبس نعلا صفراء لم يزل في سرور ما دام لابسها، ورفعه كذب، كما قال أبو حاتم، فعلم من هذه الروايات أن عمائمهم اختلفت ألوانها. لكن قال السيوطي: الذي صح من الروايات في العمائم أنها صفر مرخاة بين الأكتاف ورواية البيض والسود ضعيفة، ثم هذا كله مع ما يأتي يرد قول عكرمة ومن وافقه أن نزول الملائكة في غزوة أحد، ويؤيد قول الأكثرين وهو المعتمد، كما مر عن الحافظ أنه في بدر. وقد قال البخاري في صحيحه باب شهود الملائكة بدرا، وقال مسلم في الصحيح باب الإمداد بالملائكة في غزوة بدر.
وفي مسند إسحاق بن راهويه عن جبير بن مطعم: رأيت قبل هزيمة القوم ببدر مثل البجاد الأسود أقبل من السماء كالنمل، فلم أشك أنها الملائكة، فلم يكن إلا هزيمة القوم والأخبار طافحة بقتالهم يوم بدر، وو ظاهر القرآن.
حتى "قيل: ولم تقاتل الملائكة غير يوم بدر، وكانوا يكونون فيما سواه عددا" بضم العين جمع عدة كغرف وغرفة، "ومددا" لا يضربون "وبذلك" بل وبترجيحه "صرح العماد بن كثير في تفسيره، فقال: المعروف من قتال الملائكة" على العموم "إنما كان يوم بدر، ثم روى" بإسناده "عن ابن عباس: قال: لم تقاتل الملائكة إلا يوم بدر،" وهذا حجة على من زعم أنهم لم يقاتلوا فيها. "وقال ابن مرزوق: ولم تكن تقاتل في غيرها، بل يحضرون خاصة على المختار من الأقوال" الثلاثة "عند بعضهم" التي هي قاتلت فيها دون غيرها قاتلت فيها، وفي غيرها لم تقاتل فيها ولا في غيرها، وإنما يكثرون السود ويثبتون المؤمنين وإلا فملك واحد يكفي في إهلاك أهل الدنيا، وهذه شبهة يدفعها ما يأتي عن السبكي.
"وفي نهاية البيان في تفسير التباين عند تفسير قوله تعالى، {وَيَوْمَ حُنَيْن} وهل قاتلت(2/290)
الملائكة أم لا؟ فيه قولان: أحدهما -وهو قول الجمهور- إنها لم تقاتل، انتهى.
وهذا يرده حديث مسلم في صحيحه عن سعد بن أبي وقاص أنه رأى عن يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن شماله يوم أحد رجلين عليهما ثياب بيض ما رأيتهما قبل ولا بعد -يعني جبريل وميكائيل عليهما الصلاة والسلام- يقاتلان كأشد القتال.
قال النووي: فيه بيان إكرامه صلى الله عليه وسلم بإنزال الملائكة تقاتل معه، وبيان أن قتالهم لم يختص بيوم بدر. قال: وهذا هو الصواب خلافا لمن زعم اختصاصه، فهذا صريح في الرد عليه. قال وفيه أن رؤية الملائكة لا تختص بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام بل يراهم الصحابة والأولياء. انتهى.
قال ابن الأنباري: وكانت الملائكة.............................................
__________
الملائكة" يوم حنين "أم لا؟ فيه قولان، أحدهما، وهو قول الجمهور: إنها لم تقاتل" لأن الله إنما قال: {وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا} [التوبة: 26] الآية، ولا دلالة فيه على قتال، "انتهى، وهذا" أي: القول بأنها لم قتال إلا ببدر "يرده حديث مسلم في صحيحه" في المناقب لا المغازي، "عن سعبد بن أبي وقاص أنه رأى عن يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن شماله يوم أحد رجلين" ملكين في صفة رجلين، "عليهما ثياب بيض ما رأيتهما قبل ولا بعد،" وفي رواية الطيالسي: لم أرهما قبل ذلك اليوم ولا بعده، "يعني جبريل وميكائيل عليهما الصلاة والسلام يقاتلان كأشد القتال" الكاف زائدة أو للتشبيه، أي: كأشد قتال بني آدم، وإنما عزاه لمسلم فقط مع أن البخاري أخرجه أيضا لزيادة مسلم: يعني جبريل وميكائيل.
"قال النووي: فيه" من الفوائد "بيان إكرامه صلى الله عليه وسلم بإنزال الملائكة تقاتل معه وبيان أن قتالهم لم يختص بيوم بدر، قال:" النووي "وهذا هو الصواب خلاف لمن زعم اختصاصه" أي: يوم بدر بقتال الملائكة، "فهذا" الحديث "صريح في الرد عليه" ولا صراحة فيه، وقد أجاب عنه البيهقي وغيره، بما حاصله: إن قتال الملائكة ببدر كان عاما عن جميع القوم، وأما في أحد فإنهما ملكان وقتالهما عن النبي صلى الله عليه وسلم دون غيره، على أنه لا يلزم من ذلك قتالهما بل يجوز أنهما كانا يدفعان عنه ما يرمى به من نحو السهام، وعبر عن ذلك بالقتال مجازا. "قال" النووي: "وفيه" أيضا "أن رؤية الملائكة لا تختص بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام بل يراهم الصحابة والأولياء" ولكن غير صورهم الأصلية، "انتهى". وقد يعلمون بأنهم ملائكة وقد لا يعلمون، كما في حديث: ولا يعرفه منا أحد، وقال صلى الله عليه وسلم: "هذا جبريل جاء يعلمكم دينكم".
"قال ابن الأنباري:" بفتح الهمزة وسكون النون نسبة إلى الأنبار بالعراق، "وكانت الملائكة(2/291)
لا تعلم كيف يتقتل الآدميون، فعلمهم الله تعالى بقوله: {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاق} أي الرءوس {وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} قال ابن عطية: كل مفصل.
قال السهيلي: جاء في التفسير أنه ما وقعت ضربة يوم بدر إلا في رأس أو مفصل، وكانوا يعرفون قتلى الملائكة ممن قتلوه بآثار سود في الأعناق والبنان.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: حدثني رجل من بني غفار قال: أقبلت أنا وابن عم لي حتى صعدنا على جبل يشرف على بدر -ونحن مشركان-
__________
لا تعلم كيف تقتل" بالبناء للمفعول. "الآدميون فعلمهم الله تعالى بقوله: {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاق} [الأنفال: 12] الآية، "أي: الرءوس" فالتعبير بالأعناق مجاز، فإنها الوصلة بين الرأس والجسد والضرب على الرأس أبلغ، لأن أدنى شيء يؤثر في الدماغ، وهذا قول عكرمة ويوافقه قول ابن عباس: كل هام وجمجمة. وقال الضحاك وعطية والأخفش: فوق زائدة، وخطأهم محمد بن يزيد؛ لأن فوق تفيد معنى، فلا تجوز زيادتها، ولكن المعنى أنه أبيح لهم ضرب الوجوه وما قرب منها. {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاق} قال ابن عطية، أي: "كل مفصل" وهو قول الضحاك. قال الزجاج: وواحده بنانة، وهي هنا الأصابع وغيرها من الأعضاء.
قال ابن فارس: البنان الأصابع، ويقال: الأطراف، وقيل: المراد بالبنان في الآية أطراف الأصابع من اليدين والرجلين؛ لأن ضربهما يعطل المضروب عن القتال بخلاف سائر الأعضاء، ويؤيد الأول قوله: "قال السهيلي: جاء في التفسير أنه ما وقعت ضربة يوم بدر إلا في رأس أو مفصل، وكانوا" كما رواه يونس بن بير في زيادات المغازي والبيهقي عن الربيع بن أنس، قال: كان الناس "يعرفون قتلى" جمع قتيل "الملائكة ممن قتلوه بآثار سود في الأعناق والبنان" مثل سمة النار قد احترق، كما هو بقية الرواية، ولعله الغالب عنه المصنف، قال أبو زميل: فحدثني ابن عباس، قال: بينما رجل من المسلمين يومئذ يشتد في أثر رجل من المشركين أمامه إذ سمع ضربة بالسوط فوقه، وصوت الفارس يقول: أقدم حيزوم، فنظر إلى المشرك أمامه فخر مستلقيا فنظر إليه، فإذا هو قد خطم أنفه وشق وجهه كضربة السوط، فاخضر ذلك أجمع، فجاء الأنصاري فحدث بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "صدقت ذلك من مدد السماء الثالثة".
"وعن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: حدثني رجل من بني غفار" قال البرهان: لا أعرف اسمه وهو مذكور في الصحابة. قال: أقبلت أنا وابن عم لي حتى صعدنا" أي: علونا، يقال: صعد وأصعد بمعنى، كما في المطالع، "على جبل يشرف على بدر، ونحن مشركان"(2/292)
ننظر الوقعة على من تكون الدبرة، فننهب مع من ينهب، فبينما نحن في الجبل إذ دنت منا سحابة فيها حمحمة الخيل فسمعت قائلا يقول: أقدم حيزوم، فأما ابن عمي فانكشف قناع قلبه فمات مكانه في الحال. وأما أنا فكدت أهلك ثم تماسكت. رواه البيهقي وأبو نعيم.
والدبرة: بفتح الموحدة وفي نسخه -بسكون الموحدة- الهزيمة في القتال. وحيزوم: اسم فرس جبريل. قاله في القاموس.
__________
أي: كافران، قال البرهان: ورأيت في نسخه من سيرة ابن هشام مشتركان بزيادة تا، وصحح عليها، انتهى.
فإن صحت فترد لما هنا، أي: مشتركان في الكفر وفي كوننا "ننظر الوقعة على من تكن الدبرة" بفتح الدال المهملة الهزيمة، "فننهب مع من ينهب، فبينا نحن في الجبل إذ دنت سحابة فيها حمحمة" بحاءين مهملتين بعد كل ميم: صوت "الخيل" دون الصهيل "فسمعت قائلا يقول: أقدم" بهمزة قطع مفتوحة وكسر الدال من الإقدام، كما رجحه ابن الأثير وصوبه الجوهري، وقال النووي: إنه الصحيح المشهور، أو بهمزة وصل مضمومة وضم الدال المهملة من التقدم، وقدمه ابن قرقول وبكسر الهمزة وفتح الدال، واقتصر عليه في البارع، قال أبو ذر: كلمة يزرج بها الخيل، "حيزوم" بحذف حرف النداء، أي: يا حيزوم، بحاء مهملة مفتوحة فتحتية ساكنة فزاي مضمومة فميم فيعول من الحزم، وتطلق أيضا على الصدر.
قال الشامي: فيجوز أنه سمي به لأنه صدر خيل الملائكة ومتقدم عليها، انتهى. ورواه العذري بالنون بدل الميم، قال عياض: والصواب الأول، وهو المعروف لسائر الرواة والمحفوظ. "فأما ابن عمي فانكشف قناع قلبه" بكسر القاف وتخفيف النون وعين مهملة: غشاؤه تشبيها بقناع المرأة، "فمات مكانه وأما أنا فكدت أهلك ثم تماسكت" مثله في العيون، وفي السبل: ثم انتعشت بعد ذلك، "رواه البيهقي وأبو نعيم" وابن إسحاق "والدبرة بفتح الموحدة وفي نسخة بسكون موحدة" وفي النور: بإسكان الموحدة ويجوز فتحها. وفي السبل بفتحتين وتسكن.
"الهزيمة في القتال" وفي تذكرة القرطبي: الدبرة ويروى الدابرة والمعنى متقارب. قال الأزهري: الدابرة الدولة تدول على الأعداء، والدبرة النصر والظفر، يقال لمن الدبرة، أي: الدولة. وعلي من الدبرة، أي: الهزيمة، انتهى.
"وحيزوم اسم فرس جبريل، قاله في القاموس" تبعا لجمع، ورده الشامي بما رواه البيهقي عن خارجه بن إبراهيم عن أبيه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لجبريل: "من القائل يوم بدر من الملائكة:(2/293)
وروى أبو أمامة بن سهل بن حنيف عن أبيه قال: لقد رأيتنا يوم بدر، وإن أحدنا يشير بسيفه إلى المشرك فيقع رأسه عن جسده قبل أن يصل إليه السيف. رواه الحاكم وصححه البيهقي وأبو نعيم.
قال الشيخ تقي الدين السبكي: سئلت عن الحكمة في قتال الملائكة مع النبي صلى الله عليه وسلم مع أن جبريل عليه السلام قادر على أن يدفع الكفار بريشة من جناحه.
__________
أقدم حيزوم"؟ فقال جبريل: ما كل أهل السماء أعرف"، وجوابه أن قائله غير جبريل خاطب به فرس جبريل، فلا ينافيه قوله: ما كل ... إلخ، على أن ذا الحديث دال لمن قال إنها فرس جبريل، لقوله: "من القائل"؟ ولم يقل: وما حيزوم. قال البرهان: ولجبريل فرس أخرى ويحتمل أن أحدهما اسم والآخر لقب الحياة، وهي التي قبض أثرها السامري فألقاها في العجل الذي صاغه، فكان له خوار.
"وروى أبو أمامة" أسعد، وقيل: سعد "بن سهل بن حنيف" الأنصاري المعروف بكنيته المعدود في الصحابة؛ لأن له رؤية ولم يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه ولد قبل وفاته بعامين، وأتى به النبي صلى الله عليه وسلم فحنكه وسماه اسم باسم جده لأمه أبي أمامة أسعد بن زرارة وكناه وبارك عليه، مات سنة مائة وله اثنتان وتسعون سنة، روى له الجميع، "عن أبيه" سهل بن حنيف بضم المهملة وفتح النون وسكون التحتية وبالفاء ابن واهب الأنصاري الأوسي شهد المشاهد كلها، وثبت يوم أحد وبايع يومئذ على الموت، استخلفه علي على البصرة بعد الجمل، ثم شهد معه صفين، ومات في خلافته سنة ثمان وثلاثين وصلى عليه وصح أنه كبر عليه خمسا، وفي رواية: ستا، وقال: إنه شهد بدرا، "قال: لقد رأيتنا يوم بدر وإن أحدنا يشير بسيفه إلى المشرك فيقع رأسه عن جسده قبل أن يصل إليه السيف" وما ذاك إلا من الملائكة ففيه حجة لى من أنكره.
"رواه الحاكم وصححه" تلميذه "البيهقي وأبو نعيم" أحمد بن عبد الله. وروى ابن إسحاق عن أبي واقد المازني، قال: إني لأتبع رجلا من المشركين يوم بدر لأضربه إذا وقع رأسه قبل أن يصل إليه سيفي، فعرفت أنه قتله غيري، لكن قال ابن عساكر: في سنده من لا يعرف، وهذه القصة إنما كانت لأبي واقد يوم اليرموك والصحيح قول الزهري عن سنان الديلي أن أبا واقد إنما أسلم عام الفتح، وقال أبو عمر: لا يثبت أنه شهد بدرا، وكذا قال أبو نعيم.
"قال الشيخ تقي الدين" علي بن عبد الكافي "السبكي: سئلت عن الحكمة في قتال الملائكة مع النبي صلى الله عليه وسلم مع أن جبريل عليه السلام قادر على أن يدفع الكفار" بأجمعهم "بريشة من جناحه" كما روي أنه رفع مدائن قوم لوط، وهي أربع مدائن في كل مدينة أربعمائة ألف(2/294)
فقلت: ذلك لإرادة أن يكون الفعل للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وتكون الملائكة مددا على عادة الجيوش، رعاية لصورة الأسباب وسنتها التي أجراها الله في عباده، والله فاعل الجميع انتهى.
ولما التقى الجمعان، تناول صلى الله عليه وسلم كفا من الحصباء، فرمى به في وجوههم وقال: شاهت الوجوه. فلم يبق مشرك إلا دخل في عينيه ومنخريه منها شيء فانهزموا
__________
مقاتل من الأرض السفلى على قوادم جناحه حتى سمع أهل السماء نباح كلابها وأصوات بنيها ودجاجها وقبلها، "فقلت:" في الجواب فعل "ذلك لإرادة أن يكون الفعل للنبي صلى الله عليه وسلم ولأصحابه وتكون الملائكة مددا على عادة مدد الجيوش رعاية لصورة الأسباب وسنتها التي أجراها الله في عباده والله فاعل الجميع، انتهى" وذكر ابن هشام أن شعار الملائكة كان يوم بدر: أحد، "ولما التقى الجمعان" بعد ما مر من الصلاة والابتهال النبوي، وقتال علي ورجوعه يجد المصطفى ساجدا، وتزاحف الناس ونزول الملائكة، وقول أبي جهل، كما عند ابن إسحاق: اللهم إينا كان أقطع للرحم وأتانا بما لا يعرف فاحنه الغداة، فكان هو المستفتح على نفسه.
"تناول صلى الله عليه وسلم كفا" أي: ملء كف بأمر جبريل، كما جاء عن ابن عباس "من الحصباء" بالمد صغار الحصى. وفي رواية: ثلاث حصيات، كما يأتي. وروى ابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني عن حكيم بن حزم: سمعنا صوتا من السماء يوم بدر وقع من السماء كأنه صوت حصاة وقعت في طست، ورمى رسول الله صلى الله عليه وسلم بتلك الحصاة فانهزمنا، فذلك قوله تعالى: {وَمَا رَمَيْت} [الأنفال: 17] الآية، الآية. وعن جابر: سمعت صوت حصيات وقعت من السماء يوم بدر كأنهن وقعن في طست.
وعن ابن عباس: أنه صلى الله عليه وسلم قال لعلي: "ناولني قبضة من الحصباء"، وعنه أيضا: أن جبريل قال له: خذ قبضة من تراب، والجمع بينها سهل بأن تكون الحصيات نزلت من المسلمين وبعض عبر عنها بحصاة، وبعض بحصيات بحسب ما تخيله، ثم تفتت فقال له جبريل: خذها، فقال لعلي: "ناولني قبضة من الحصباء"، فناوله "فرمى به" أي: بما تناوله فلذا ذكر الضمير؛ لأنه لو أراد الكف لأنثه لأنها مؤنثة، "في وجوههم، وقال: "شاهت الوجوه" أي: قبحت خبر بمعنى الدعاء، أي: اللهم تنح وجوههم، ويحتمل أنه خبر؛ لأن جبريل لما أمره برميهم بالحصباء تحقق ذلك، "فلم يبق مشرك إلا دخل في عينيه ومنخريه" وفمه كما في رواية: والمنخر بفتح الميم والخاء وكسرها وضمهما، وكمجلس وعصفور الأنف، كما في القاموس وغيره.
"منها شيء، فانهزموا" قال ابن عقبة وغيره: فكانت تلك الحصباء عظيما شأنها صار(2/295)
وقتل الله من قتل من صناديد قريش،.............................................................
__________
المشرك لا يدري أين يتوجه، يعالج التراب ينزعه من عينيه، فصاروا يقتلونهم ويأسرونهم. "فقتل الله من قتل" أسند إليه تعالى لكونه الخالق له والمميت حقيقة، وإن نسب الضرب للعبد. "من صناديد قريش" أشرافهم وشجعانهم فمنهم أمية بن خلف أسره عبد الرحمن بن عوف، وأراد استبقائه لصداقة كانت بينهما فنظره بلال، فنادى: يا أنصار الله! رأس الكفر أمية بن خلف، لا نجوت إن نجا، فهبروه أسيافهم. وذكر الواقدي أن الذي تولى قتله خبيب، بمعجمة وموحدة مصغر، ابن أساف بكسر الهمزة وخفة المهملة وفاء، الأنصاري، وقال ابن إسحاق: رجل من بني مازن من الأنصار.
وفي المستدرك: أن رفاعة طعنه بالسيف. وقال ابن هشام: اشترك في تقله معاذ بن عفراء، وخارجة بن زيد، وخبيب بن أساف، ويقال: قتله بلال، والجمع: أن الكل اشتركوا فيه، وكان أمية قد عذب بلالا بمكة في المستضعفين فجعل الله قتله على يده وفجعه قبل قتله يومئذ بقتل ابنه علي بن أمية قتله عمار بن ياسر حتى صاح أمية صيحة لم يسمع مثلها، قيل: وهنأ الصديق بلالا بقوله:
هنيئا زادك الرحمن فضلا ... فقد أدركت ثأرك يا بلال
ومنهم: عدو الله أبو جهل، قال ابن إسحاق: أقبل يرتجز، ويقول:
ما تنقم الحرب العوان مني ... بازل عامين حديث سني
لمثل هذا ولدتني أمي
فأذاقه الله الهوان بأن قتله حفزا في زعمه وجعل ذلك حسرة عليه، حتى قال: لو غير أكار قتلني، بشدة الكاف، أي: زارع، يعني أن الأنصار أصحاب زرع فأشار إلى تنقيص من قتله منهم، والمعنى: لو كان الذي قتلني غير أكار لكان أحب إلي وأعظم لشأني، ولم يكن علي نقص في ذلك.
وروى البخاري وغيره عن عبد الرحمن بن عوف، قال: إني لفي الصف يوم بدر إذ التفت فإذا عن يميني وعن يساري فتيان حديثا السن إذ قال لي أحدهما سرا من صاحبه، يا عم أرني أبا جهل، فقلت: يابن أخي، وما تصنع به؟ قال: عاهدت الله إن رأيته أقتله أن أموت دونه، فقال لي الآخر سرا مثل صاحبه، فما سرني أني بين رجلين مكانهما، فأشرت لهما إليه، فشدا عليه مثل الصقرين حتى ضرباه، وهما ابنا عفراء معاذ، ومعوذ في الصحيحين عن أنس، قال صلى الله عليه وسلم: "من ينظر ما فعل أبو جهل"؟ فانطلق ابن مسعود فوجده قد ضربه ابنا عفراء حتى برك فأخذ بلحيته، فقال: أنت أبا جهل فقال: فهل فوق رجل قتله قومه، أو قال: قتلتموه والرواية: أنت أبا جهل بالنصب(2/296)
.................................
__________
ولها توجيهات معلومة، من غريبها أنه خاطبه باللحن قصدا لإهانته.
وعند ابن إسحاق والحاكم: قال ابن مسعود: فوجدته بآخر رمق فوضعت رجلي على عنقه، فقلت: أخزاك الله يا عدو الله، قال: ولم أخزاني هل أعمد رجل قتلتموه؟ أي: أشرف، أي: إنه ليس بعار، أخبرني لمن الدبرة اليوم؟ أي: النصر والظفر، قلت: لله ورسوله، قال: وزعم رجال من بني مخزوم أنه قال لابن مسعود: لقد ارتقيت يا رويعي الغنم مرتقى صعبا، ثم احترزت رأسه. وعند ابن عقبة وأبي الأسود عن عروة، أنه أي بعد هذه المكالمة وجده لا يتحرك منه عضو، فأتاه من ورائه فتناول قائم سيف أبي جهل فاستله ورفع بيضته عن قفاه فوقع رأسه بين يديه. وعند ابن إسحاق والحاكم في حديث ابن مسعود: فجئت برأسه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: هذا رأس عدو الله أبي جهل، فقال: "الله الذي لا إله إلا هو" فحلفت له، ثم ألقيت رأسه بين يديه، فحمد الله.
وفي زيادات المغازي ليونس بن بكير: فأخذ صلى الله عليه وسلم بيد ابن مسعود: ثم انطلق حتى أتاه، فقام عنده، ثم قال: "الحمد لله الذي أعز الإسلام وأهله" ثلاث مرات.
وروى ابن عائذ من مرسل قتادة رفعه: "إن لكل أمة فرعونا، وإن فرعون هذه الأمة أبو جهل، قتله الله شر قتلة، قتله ابنا عفراء وقتلته الملائكة"، وتذافه ابن مسعود بفتح الفوقية والذال معجمة ومهملة وشد الفاء، أي: أجهز عليه. والحاصل: أن معاذا ومعوذا ابني عفراء وهي أمهما، كما مر، وأبوهما الحارث بلغا به بضربهما إياه بسيفهما منزلة المقتول حتى لم يبق به إلا مثل حركة المذبوح، وي تلك الحالة لقيه ابن مسعود فكالمه ثم ضرب عنقه بسيف نفسه.
لكن في الصحيحين من حديث عبد الرحمن بن عوف أنه قتله معاذ بن عمرو بن الجموح، ومعاذ بن عفراء، وأن النبي صلى الله عليه وسلم نظر في سيفيهما وقال: "كلاكما قتله" وقضى بسلبه لمعاذ بن عمرو بن الجموح.
قال ابن عبد البر وعياض: وأصح منه حديث الصحيحين عن أنس، أي: وعبد الرحمن أيضا، كما مر أن قاتله ابن عفراء، وجمع الحافظ باحتمال أن معاذ بن عفراء شد عليه مع معاذ بن عمرو ضربه بعد ذلك معوذ بن عفراء حتى أثبته ثم حز رأسه ابن مسعود، فتجتمع الأقوال كلها، انتهى. وسبقه إليه النووي، فقال: اشترك الثلاثة في قتله، لكن ابن الجموح أثخنه أولا، فاستحق السلب، وإنما قال: "كلاكما قتله"، تطييبا لقلب الآخر من حيث إن له مشاركا في قتله، وإن كان القتل الشرعي الذي يستحق السلب وهو الإثخان وإخراجه عن كونه ممتنعا إنما وجد من ابن الجموح، انتهى.
قال في النور: وهو صحيح لكن عطاء بن الجموح السلب يدل على أنه الذي أزال امتناعه.(2/297)
وأسر من أسر من أشرافهم.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال: 17] قال: هذا يوم بدر، أخذ صلى الله عليه وسلم ثلاث حصيات، فرمى بحصاة في ميمنة القوم وبحصاة في ميسرة القوم، وبحصاة بين أظهرهم، وقال: "شاهت
__________
قلت: هذا حاصل الجمع، وبه صرح النووي كما ترى، فلا معنى لاستدراكه، وجاء أنه قال لابن مسعود: احتز من أصل العنق ليرى عظيما مهابا في عين محمد، وقل له: ما زلت عدوا لله إلى سائر الدهر واليوم أشدة عدواة، فلما أتاه برأسه وأخبره قال: "كما أني أكرم النبيين على الله، وأمتي أكرم الأمم على الله، كذلك فرعون هذه الأمة أشد وأغلظ من فراعنة سائر الأمم، إذ فرعون موسى حين أدركه الغرق قال: آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل، وفرعون هذه الأمة ازداد عداوة وكفرا". وذكر عياض أن ابن مسعود إنما وضع رجله على عنقه ليصدق رؤياه. قال ابن قتيبة: ذكر أن أبا جهل قال لابن مسعود: لأقتلنك، فقال: والله لقد رأيت في النوم إني أخذت حدجة حنظل فوضعتها بين كتفيه ورأيتني أضرب كتفيك ولئن صدقت رؤياي لأطأن على رقبتك ولأذبحنك ذبح الشاة الحدجة -بفتح المهملتين والجيم وتاء تأنيث- الحنظلة الشديدة ومنهم ومنهم وقد أطلت لتشوف النفس لقتل هذا الفرعون، مع أنه ما خلا من فائدة.
"وأسر من أسر" وهم سبعون "من أشرافهم" جمع شريف، ويجمع أيضا على شرفاء، ولعله خصهم بهذا. والقتلى بالصناديد تنبيها على أن القتلى هم المعروفون بالشجاعة بينهم وإن كانوا شرفاء. وعند ابن إسحاق: أنهم لما جعلوا يأسرون، والنبي صلى الله عليه وسلم في العريش، وسعد بن معاذ على شرفاء. وعند ابن إسحاق: أنهم لما جعلوا يأسرون، والنبي صلى الله عليه وسلم في العريش، وسعد بن معاذ على بابه متوشح السيف في نفر من الأنصار يحرسونه يخافون كرة العدو، فرأى عليه السلام في وجه سعد الكراهة، فقال له: "والله لكأنك يا سعد تكره ما يصنع القوم"؟ قال: أجل والله يا رسول الله! كانت أول وقعة أوقعها الله بأهل الشرك فكأن الإثخان في القتل أحب إلي من استبقاء الرجل.
"وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم" العدوي مولاهم المدني "في" تفسير "قوله تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ} [الأنفال: 17] الآية، أتيت بصورة الرمي، " {وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال: 17] الآية" بإيصال ذلك إليهم؛ لأن كفا من الحصباء لا يملأ عيون الجيش الكثير برمية بشر، وقيل: ما رميت الفزع والرعب في قلوبهم إذ رميت بالحصباء فانهزموا، ولكن أعانك الله وظفرك وصنع ذلك، حكاه أبو عبيدة في المجاز عن ثعلب. "قال" عبد الرحمن وأعاده للفصل بين كلام الله وتفسيره: "هذا يوم بدر أخذ صلى الله عليه وسلم ثلاث حصيات" نزلت من السماء وأمره جبريل بأخذها فناولها له علي، كما مر. "فرمى بحصاة في ميمنة القوم" جهة يمينهم "وبحصاة في مسيرة القوم" جهة شمالهم، "وبحصاة بين أظهرهم" أي: بينهم فأظهر زائدة، "وقال: "شاهت"(2/298)
الوجوه" فانهزموا.
وقد روي عن غير واحد: أن هذ الآية نزلت في رميه صلى الله عليه وسلم يوم بدر، وإن كان فعل ذلك يوم حنين أيضا سيأتي إن شاء الله تعالى.
وقد اعتقد جماعة: أن المراد بالآية سلب فعل الرسول عنه، وإضافته إلى الرب تعالى، وجعلوا ذلك أصلا في الجبر، وإبطال نسبة الأفعال إلى العباد، وتحقيق نسبتها إلى الرب وحده!!
وهذا غلط.........................................................................................................
__________
قبحت "الوجوه" زاد في الرواية: "اللهم أرعب قلوبهم وزلزل أقدامهم"، "فانهزموا" لا يلوون على شيء، أي: لا يلتفتون وألقوا دروعهم.
"وقد روي عن غير واحد" كعمر عند الطبراني وحكيم بن حزام عنده، وعند ابن جرير وابن أبي حاتم وابن عباس كلاهما عند أبي الشيخ، وقاله الجمهور، قال القرطبي: وهو الصحيح، والسيوطي هو المشهور. "أن هذه الآية نزلت في رميه صلى الله عليه وسلم يوم بدر وإن كان قد فعل ذلك" أي: الرمي بالحصباء، "يوم حنين أيضا" ويوم أحد أيضا، كما عند الحاكم على شرط مسلم، "كما سيأتي إن شاء الله تعالى" في غزوتيهما، وقيل: نزلت في طعنة طعنها عليه السلام لأبي بن خلف يوم أحد بحربته فوقع عن فرسه، ولم يخرج منه دم، فجعل يخور حتى مات، رواه الحاكم بسند صحيح.
قال السيوطي: لكنه غريب، وقيل: في سهم يوم خيبر فسار في الهواء حتى أصاب ابن أبي الحقيق وهو على فراشه، رواه ابن جرير بإسناد مرسل جيد لكنه غريب، وقيل: في حصبه يوم خيبر. قال القرطبي، ما حاصله: وهذا كله ضعيف؛ لأن الآية نزلت عقب بدر، وأما قوله: فلم تقتلوهم، فروي أن الصحابة لما صدروا عن بدر، ذكر كل واحد منهم ما فعل: فعلت كذا فعلت كذا، فجاء من ذلك تفاخر ونحوه ذلك، فنزلت الآية إعلاما بأن الله هو المحيي المميت والمقدر لجميع الأشياء وأن العبد إنما يشارك بكسبه وقصده، انتهى.
"وقد اعتقد جماعة" كما قال العلامة ابن القيم في زاد المعاد في هدي خير العباد: أن المراد بالآية سلب فعل الرسول" صلى الله عليه وسلم "عنه وإضافته إلى الرب تعالى" لغرضهم الفاسد المشار له بقوله: "وجعلوا ذلك أصلا في الجبر" بجيم وموحدة ساكنة، أي: مذهب الجبريين الزاعمين جبر العبد على الفعل لا ينسب له منه شيء، كما فسره بقوله: "وإبطال نسبة الأفعال إلى العباد وتحقيق نسبتها إلى الرب وحده" تعالى عن ذلك علوا كبيرا، "وهذا" كما قال ابن القيم: "غلط(2/299)
منهم في فهم القرءان، ولو صح ذلك لوجب طرده، فيقال: ما صليت إذ صليت، ولا صمت إذ صمت، ولا فعلت كذا إذ فعلت ولكن الله فعل ذلك، فإن طردوا لزمهم في أفعال العباد طاعتهم ومعاصيهم إذ لا فرق، وإن خصوه بالرسول وحده وأفعاله جميعها، أو برميه وحده ناقضوا. فهؤلاء لم يوفقوا لفهم ما أريد بالآية.
ومعلوم أن تلك الرمية من البشر لا تبلغ هذا المبلغ، فكان منه صلى الله عليه وسلم مبدأ الرمي، وهو الحذف، ومن الرب تعالى نهايته وهو الإيصال، فأضاف إليه رمي الحذف الذي هو مبدؤه ونفى عنه رمي الإيصال الذي هو نهايته.
ونظير هذا في الآية نفسها قوله تعالى: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ
__________
منهم في فهم القرآن، ولو صح ذلك لوجب طرده، فيقال: ما صليت إذ صليت ولا صمت إذ صمت، ولا فعلت كذا إذ فعلت" بفتح التاء في الجميع خطابا على المتبادر أو بضمها للمتكلم، "ولكن الله فعل ذلك فإن طردوا ذلك لزمهم في أفعال العباد" وبينها بقوله: طاعتهم معاصيهم إذ لا فرق" فلا ينسب لهم منها شيء فلا يكونون ممتثلين لفعل مأمور به ولا ترك منهي عنه، فلا يثابون على طاعة ولا يعاقبون على معصية، وهذا هدم للشريعة وإبطال للآيات والأحاديث.
"وإن خصوه بالرسول وحده وأفعاله" أي: بأفعال الرسول "جميعها أو" خصوه "برميه وحده" دون باقي أفعال، "ناقضوا" أنفسهم حيث نفوا جملة الأفعال عن العباد ونسبوا بعضها إلى بعضهم، "فهؤلاء لم يوفقوا لفهم ما أريد بالآية و" إنما تأويلها مع الجواب أنه "معلوم أن تلك الرمية من البشر" وخصوصا من واحد "لا تبلغ هذا المبلغ، فكان منه صلى الله عليه وسلم مبدأ الرمي وهو الحذف" بمهملة ومعجمة الرمي بالحصباء "ومن الرب تعالى نهايته وهو الإيصال، فأضاف إليه رمي الحذف الذي هو مبدؤه" من إضافة الأعم إلى الأخص، أي: الرمي الذي هو الحذف وكذا يقال في "نفي عنه رمي الإيصال الذي هو نهايته،" وذهب ثعلب في معنى الآية إلى أن المنفي الرعب الذي ألقاه الله في قلوبهم حتى انهزموا، كما مر، ولكنه يقتضي انهزامهم بمجرد الرعب، وهو خلاف الواقع من تسليط الملائكة والمسلمين بالقتل والأسر، فأثر ذلك انهزامهم لا بمجرد الرعب، فما عليه ابن القيم في فهم الآية كغيره أولى.
"ونظير هذا في الآية نفسها" باعتبار المآل إذ ليس فيها نفي قتل عنهم وإثباته لهم، "قوله تعالى: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ} [الأنفال: 17] لم تزهقوا روحهم بقوتكم وضربكم، {وَلَكِنَّ اللَّهَ(2/300)
قَتَلَهُمْ} ثم قال: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} فأخبر أنه تعالى وحده هو الذي انفرد بإيصال الحصباء إلى أعينهم، ولم يكن برسوله صلى الله عليه وسلم، ولكن وجه الإشارة بالآية أنه سبحانه أقام أسبابا تظهر للناس، فكان ما حصل من الهزيمة والقتال والنصر مضافا إليه وبه {وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِين} .
قال ابن إسحاق: وقاتل عكاشة بن محصن الأسدي يوم بدر بسيفه حتى انقطع في يده، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاه جذلا فقال له: "قاتل به"، فهزه فعاد في يده سيفا طويل القامة، شديد المتن، أبيض الحديد، فقاتل به حتى فتح الله على المسلمين، وكان ذلك السيف يسمى العون،..................................................................
__________
قَتَلَهُمْ} [الأنفال: 17] ، إذ هو الذي أهلكهم وأماتهم، وقيل: قتلهم بتمكينكم منهم، وقيل: بالملائكة الذين أمدكم بهم، حكاهما القرطبي، ولم يقل إذ قتلتموهم، كما قال: إذ رميت لمشاركة الملائكة لهم في قتلهم بخلاف الرمي فلم يشاركه صلى الله عليه وسلم فيه أحد.
"ثم قال: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال: 17] ، فأخبر أنه تعالى وحده هو الذي تفرد بإيصال الحصباء إلى أعينهم، ولم يكن برسوله صلى الله عليه وسلم ولكن وجه الإشارة بالآية أنه سبحانه وتعالى أقام أسبابا تظهر للنا، فكان ما حصل من الهزيمة والقتل والنصر مضافا إليه" صلوات الله وحاصلا بفعله، ولا يرجع الضمير للأسباب لتذكيره، وبه {وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ} [آل عمران: 150] الآية، كما قال في الكتاب المبين.
"قال" محمد "بن إسحاق" بن يسار إمام المغازي: "وقاتل عكاشة" بضم العين وشد الكاف وتخفف "ابن محصن" بكسر الميم وفتح الصاد، ابن حرثان بضم المهملة وسكون الراء ومثلثة، "الأسدي" ممن يدخل الجنة بغير حساب، كما في الصحيحين.
"يوم بدر بسيفه حتى انقطع في يده، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاه جذلا" بكسر الجيم وفتحها وسكون الدال المعجمة واحد الأجذال وهي أصل الحطب، قال الشامي: والمراد هنا العرجون بضم المهملة أصل العذق بكسر العين الذي يفرج وينعطف ويقطع منه الشماريخ فيبقى على النخلة يابسا، "فقال له: "قاتل به" يا عكاشة، فأخذه منه "فهزه فعاد في يده سيفا طويل القامة شديد المتن" أي: الظهر من إضافة الوصف إلى فاعله، أي: شديدا متنه، أو المراد بالمتن هنا الذات تسمية للكل باسم جزئه، "أبيض الحديدة، فقاتل به حتى فتح الله على المسلمين وكان ذلك السيف يسمى العون" بفتح المهملة وإسكان الواو وبالنون، قاله البرهان وتبعه الشامي.(2/301)
ثم لم يزل عنده يشهد به المشاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قتل وهو عنده.
وجاءه عليه الصلاة والسلام يومئذ -فيما ذكره القاضي عياض عن ابن وهب- معاذ بن عمرو يحمل يده، ضربه عليها عكرمة، فبصق عليه الصلاة والسلام عليها فلصقت. قال ابن إسحاق: ثم عاش بعد ذلك حتى كان زمان عثمان.
__________
"ثم لم يزل" السيف "عنده يشهد به المشاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قتل وهو عنده" في قتال أهل الردة زمن الصديق قتله طليحة بن خويلد الأسدي، وروى الواقدي: حدثني أسامة بن زيد الليثي عن داود بن الحصين عن رجال من بني عبد الأشهل، قالوا: انكسر سيف سلمة بن أسلم بن الحريس يوم بدر فبقي أعزل لا سلاح معه فأعطاه صلى الله عليه وسلم قضيبا كان في يده من عراجين ابن طاب، فقال: اضرب به فإذا سيف جيد فلم يزل عنده حتى قتل يوم جسر أبي عبيد، ورواه البيهقي أيضا الحريس بفتح المهملة وكسر الراء وسين مهملة، قاله البرهان محتجا بقول الزبير: ليس في الأنصار حريش بمعجمة غير الحريش بن حجبي، وما سواه بالمهملة وضبطه الشامي بالمعجمة، وأعزل بفتح الهمزة وسكون المهملة فزاي، وابن طاب بمهملة فألف فموحدة نوع من تمر المدينة نسب إلى ابن طاب رجل من أهلها، وجسر أبي عبيد كان سنة أربع عشرة.
"وجاءه عليه الصلاة والسلام يومئذ" أي: يوم بدر "فيما ذكره القاضي عياض عن" عبد الله "بن وهب" بن مسلم الفهري مولاهم المصر الحافظ الإمام الزاهد من أجله الناس وثقاتهم ورجال الجميع، مات في شعبان سنة سبع وتسعين ومائة، "معاذ بن عمرو" قلد في ذلك اليعمري وانتقده محشيه البرهان بأن الذي في الشفاء معوذ بن عفراء، "يحمل يده ضربه عليها عكرمة" ابن أبي جهل أسلم بعد الفتح وقلد في ذلك اليعمري أيضا، ورده محشيه بأن الذي في الشفاء أن القاطع لها أبو جهل، "فبصق عليه الصلاة والسلام" بالصاد والزاي، أي: أخرج ريقه ورمى به "عليها فلصقت" بكسر الصاد وفيه علم من علم من أعلام النبوة باهر، نعم روى ابن إسحاق، ومن طريقه الحاكم عن ابن عباس، قال: قال معاذ بن عمرو بن الجموح أخو بني سلمة سمعتهم يقولون: وأبو جهل في مثل الحرجة أبو جهل يخلص إليه فجعلته من شأني فصمدت نحوه، فلما أمكنني حملت عليه فضربته ضربة أطنت قدمه بنصف ساقه، قال: فوالله ما شبهتها حين طاحت إلا بالنواة تطيح من تحت مرضخه حين يضرب بها، قال: وضربني ابنه عكرمة على عاتقي فطرح يدي فتعلقت بجلدة من جنبي وأجهضني القتال عنه، فلقد قاتلت عامة يومي وإني لأسحبها خلفي، فلما آذتني وضعت عليها قدمي ثم تمطيت عليها حتى طرحتها.
"قال ابن إسحاق" في بقية ذا الحديث الذي ذكرته: "ثم عاش بعد ذلك حتى كان زمان عثمان"(2/302)
وعن عروة بن الزبير، عن عائشة رضي الله عنها: لما أمر صلى الله عليه وسلم بالقتلى أن يطرحوا في القليب، فطرحوا فيه، إلا ما كان من أمية بن خلف فإنه انتفخ في درعه فملأها، فألقوا عليه ما غيبه من التراب والحجارة.
وإنما ألقوا في القليب ولم يدفنوا؛ لأنه عليه الصلاة والسلام كره أن يشق على أصحابه لكثرة جيف الكفار أن......................................................
__________
رضي الله عنه ولم يذكر في حديثه هذا أنه أتى بها المصطفى فتوهم اليعمري وتبعه المصنف أن كلام القاضي فيه فوهما؛ لأنها قصة أخرى، كما علم. والحرجة بفتح المهملة والراء الجيم وتاء تأنيث: شجر ملتف، كالغيصة، قاله في النهاية، وفي حواشي أبي ذر: الشجرة الكبيرة الأغصان، وفي العين: الحرجة الغيضة أطنت قدمه أسرعت قطعها، مرضخه بضاد وخاء معجمتين، كما في النهاية وفي الصحاح أنه بحاء مهملة أيضا، وأجهضني بجيم وهاء معجمة: شغلني، واشتد علي.
"و" روى ابن إسحاق: حدثني يريد بن رومان "عن عروة بن الزبير عن عائشة رضي الله عنها" قالت: "لما أمر صلى الله عليه وسلم بالقتلى" أي: بعظمائهم "أن يطرحوا في القليب" ففي الصحيح عن أنس عن أبي طلحة أن نبي الله صلى الله عليه وسلم أمر يوم بدر بأربعة وعشرين رجلا من صناديد قريش، فقدموا في طوى من إطواء بدر خبيث مخبث. وعند ابن عائذ: ببضعة وعشرين. قال الحافظ: ولا تنافي فالبضع يطلق على الأربع أيضا، قال: ولم أقف على تسمية الأربع والعشرين جميعهم بل تسمية بعضهم، ويمكن إكمالهم ممن سرده ابن إسحاق من قتلى الكفار ببدر بأن يقتصر على من كان يذكر بالرئاسة ولو تبعا لأبيه.
وفي حديث البراء في الصحيح أن قتلى بدر من الكفار سبعون، فكان المطروحين في القليب الرؤساء منهم، ثم من قريش وخصوا بالمخاطبة الآتية لما تقدم منهم من المعاندة وطرح باقي القتلى في أمكنة أخرى، وأفاد الواقدي أن هذا القليب كان حفره رجل من بني النار، فناسب أن يلقى فيه هؤلاء الكفار.
"فطرحوا فيه" بالفاء في جواب لما على رأي ابن مالك أو زائدة على رأي الجمال بن هشام، لكن الثابت عند ابن إسحاق بدون فاء فهي زائدة من قلم المصنف أو نساخه، "إلا ما كان من أمية بن خلف فإن انتفخ في درعه فملأها" أي: الدرع لأنها مؤنثة عند الأكثر، "فألقوا عليه ما غيبه من التراب والحجارة" قال السهيلي الله في الروض "وإنما ألقوا في القليب" لأنه كان من سنته عليه السلام في مغازيه إذ مر بجيفة إنسان أمر بدفنه لا يسأل عنه مؤمنا كان أو كافرا، كذا وقع في السنن للدارقطني فإلقاؤهم في القليب من هذا الباب.
"ولم يدفنوا؛ لأنه عليه الصلاة والسلام كره أن يشق على أصحابه لكثرة جيف الكفار أن(2/303)
يأمرهم بدفنهم، فكان جرهم إلى القليب أيسر عليهم.
وفي الطبراني عن أنس بن مالك قال: أنشأ عمر بن الخطاب يحدثنا عن أهل بدر فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرينا مصارع أهل بدر بالأمس من بدر، يقول: "هذا مصرع فلان غدا إن شاء الله" قال عمر: فوالذي بعثه بالحق ما أخطئوا الحدود التي حدها صلى الله عليه وسلم، حتى انتهى إليهم...............................................................
__________
يأمرهم بدفنهم، فكان جرهم إلى القليب أيسر عليهم" قال: ووافق أن القليب حفره رجل من بني النار اسمه بدر، فكان فألا مقدما لهم وهذا على أحد القولين في بدر، انتهى كلامه السهيلي برمته، ولا يرد على قوله؛ لأنه كان من سنته أن بدرا أول مغازيه التي وقع فيها القتل، لجواز أن المراد أنها طريقته التي كان يحبها في نفسه ويميزها على غيرها، ففعل ما سهل عليه في بدر، ثم داوم على ما يحبه في بقية مغازيه.
"وفي الطبراني عن أنس بن مالك": روى أحمد بسند صحيح عنه أنه سئل: هل شهدت بدرا؟ فقال: وأين أغيب عن بدر. قال الحافظ في الفتح: وكأنه كان في خدمة النبي صلى الله عليه وسلم لما ثبت عنه أنه خدمه عشر سنين، وذلك يقتضي أن ابتداء خدمته له حين قدومه المدينة، فكأنه خرج معه إلى بدر أو مع عمه زوج أمه أبي طلحة، وقال في الإصابة: إنما لم يذكروه في البدريين؛ لأنه لم يكن في سن من يقاتل. "قال: أنشا" بفتح أوله وهمزة أخره، أي: أبتدأ "عمر بن الخطاب" رضي الله عنه "يحدثنا عن أهل بدر، فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرين مصارع أهل بدر بالأمس من بدر" وهذا ظاهر في أنه كان ليلا، وبه صرح الحافظ، فقال: وقع هذا في الليلة التي التقوا في صبيحتها، كما مر، وإن في رواية أخبر بذلك قبل الواقعة بيوم أو أكثر.
وفي أخرى: يوم الواقعة، وجمع ابن كثير بأنه لا مانع أن يخبر بذلك في الوقتين وعلى أنه أراهم ليلا فيمكن أنه مراد رواية يوم الواقعة بإطلاق اليوم على ما يقرب منه الليل، ولا ينافيه قوله: "يقول: "هذا مصرع فلان" لجواز أن قوله ذلك ليلا وحينئذ فقوله "غدا" مستعمل في حقيقته "إن شاء الله" ويقع في أكثر النسخ. وفي الطبراني عن أنس بن مالك، قال: أنشا، فظاهره أن الحديث من مسند أنس وإنه شهد تحديث المصطفى بذلك، والذي في الطبراني إنما هو عن أنس عن عمر، كما سقناه، وكذا أخرجه مسلم بنحوه عنه عن عمر وتلك النسخ، فيها سقط، ويدل عليه قوله: "قال عمر: فوالذي بعثه بالحق، ما أخطئوا الحدود التي حدها صلى الله عليه وسلم حتى انتهى إليهم" غاية لمحذوف، صرح به في حديث أبي طلحة عند البخاري عقب قوله الذي قدمته قريبا عنه: خبيث مخبث، وكان إذا ظهر على قوم أقام بالعرصة ثلاث ليال، فلما كان ببدر اليوم الثالث أمر(2/304)
فقال: "يا فلان بن فلان، ويا فلان بن فلان، ويا فلان بن فلان، هل وجدتم ما وعدكم الله ورسوله حقا؟! فإني وجدت ما وعدني الله حقا".
وفي رواية فنادى: "يا عتبة بن ربيعة ويا شيبة بن ربيعة، ويا أمية بن خلف، ويا أبا جهل هشام"
__________
براحلته فشد عليها رحلها ثم مشى وتبعه أصحابه، فقالوا: ما نرى ينطلق إلا لبعض حاجته، حتى قام على شفة الركي فجعل يناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم، "فقال: "يا فلان بن فلان" جوز في النور ضم فلان وفتح ابن وفتحهما وضمهما، قال: وذكر الثالث في التسهيل، انتهى.
فضم الأول على الأصل وفتحه على الإتباع لفتحه ابن، واختاره البصريون والمبرد لخفته، وضمهما قال الدماميني على التسهيل: رواه الأخفش عن بعض العرب، قال: وكأن قائله راعى أن التابع ينبغي أن يتأخر عن المتبوع، ولم يراع أن الأصل الحامل على الإتباع قصد التخفيف.
وفي التصريح حكى الأخفش: أن بعض العرب يضم الابن إتباعا لضم المنادى نظير الحمد لله بضم اللام في تبديل حركة بأثقل منها للإتباع وفي كون ذلك من كلمتين وفي تبعية الثاني للأول لكنه مخالف في كونه إتباع معرب لمبني، والحمد لله بالعكس.
"ويا فلان بن فلان" كناية عن علم مذكر لعاقل، وأنثاه فلانة بزيادة تاء، وزادوا أل في علم ما لا يعقل فرقا بينه وبين العاقل، لكن في الهمع: إنه وقع في الحديث بغير لام فيما لا يعقل. أخرج ابن حبان والبيهقي وأبو يعلى عن ابن عباس، قال: ماتت شاة لسودة، فقالت: يا رسول الله فلانة تعني الشاة.
"هل وجدتم ما وعدكم الله ورسوله حقا؟ فإني وجدت ما وعدني الله حقا" وفي رواية عن أنس: إن وقوفه على شفة الركي ومناداته لهم بذلك كان ليلا، وشفة الركي طرف البئر. وللكشميهني: شفا بفتح المعجمة والفاء مقصور حرفه، والركي بفتح الراء وكسر الكاف وشد الياء: البئر أن تطوى والإطواء جمع طي، وهي البئر التي طويت وبنيت بالحجارة لتثبت ولا تنهار. قال الحافظ: ويجمع بأنها كانت مطوية فاستهدمت فعادت كالركي.
"وفي رواية" أخرجها ابن إسحاق وأحمد ومسلم وغيرهم، عن أنس: "فنادى: "يا عتبة بن ربيعة، ويا شيبة بن ربيعة، ويا أمية بن خلف، ويا أبا جهل بن هشام" فسمى أربعة من الأربعة والعشرين الذين ألقوا في القليب. قال الحافظ: ومن رؤساء قريش ممن يصح إلحاقه بمن سمي عبيدة والعاصي والدا أبي أحيحة سعيد بن العاصي بن أمية، وحنظلة بن أبي سفيان، والوليد بن عتبة، والحارث بن عامر، وطعيمة بن عدي وهؤلاء من بني عبد مناف. ومن سائر قريش: نوفل بن عبد، وزمعة وعقيل ابنا الأسود، والعاصي بن هشام أخو أبي جهل، وأبو قيس بن الوليد أخو(2/305)
وفي بعضه نظر؛ لأن أمية بن خلف لم يكن في القليب لأنه كان -كما تقدم- ضخما وانتفخ فألقوا عليه من الحجارة والتراب ما غيبه. لكن يجمع بينهما بأنه كان قريبا من القليب فنودي فيمن نودي لكونه كان من جملة رؤسائهم.
قال ابن إسحاق: حدثني بعض أهل العلم أنه عليه الصلاة والسلام قال: "يا أهل القليب: بئس العشيرة كنتم، كذبتموني وصدقني الناس".
فقال عمر بن الخطاب: كيف تكلم أجسادا لا أروح فيها،............................
__________
خالد، ونبيه ابنا الحجاج السهمي، وعلي بن أمية بن خلف، وعمرو بن عثمان عم طلحة أحد العشرة، ومسعود بن أبي أمية أخو أم سلمة، وقيس بن الفاكه بن المغيرة، والأسود بن عبد الأسد أخو أبي سلمة، وأبو العاصي بن قيس بن عدي السهمي، وأمية بن رفاعة، فهؤلاء عشرون تنضم إلى الأربعة فتكمل العدة، انتهى.
"وفي بعضه نظر؛ لأن أمية بن خلف لم يكن في القليب؛ لأنه كان كما تقدم ضخما وانتفخ فألقوا عليه من الحجارة والتراب ما غيبه" وقد أخرج ذلك ابن إسحاق حديث عائشة، كما مر. "ولكن" قال الحافظ في الفتح: "يجمع بينهم بأنه كان قريبا من القليب فنودي فيمن نودي لكونه كان من جملة رؤسائهم،" وخصت الرؤساء بالمخاطبة لما تقدم منهم من المعاندة، كما مر عن الحافظ فتخصيصهم زيادة في إذلالهم.
"قال ابن إسحاق: حدثني بعض أهل العلم أنه عليه الصلاة والسلام، قال: "يا أهل القليب! بئس العشيرة" أنتم، فالمخصوص بالذم محذوف "كنتم" ولفظ ابن إسحاق: بئس عشيرة النبي كنتم لنبيكم، "كذبتموني وصدقني الناس" وأخرجتموني وآواني الناس، وقاتلتموني ونصرني الناس، فجزاكم الله عني من عصابة شرا خونتموني أمينا وكذبتموني صادقا، إلى هنا رواية ابن إسحاق، وهو مرسل أو معضل.
وذكر ابن القيم في الهدي، أنه قال ذلك قبل أن يأمر بطرحهم في القليب، فإن كان مراده خصوص رواية ابن إسحاق هذه فمحتمل، ولا يرد قوله: "يا أهل القليب" لأنه سماهم أهله باعتبار الأول، وإلا فحديث أبي طلحة في الصحيح يرد عليه فإن صرح بأنه أمر بطرحهم فلما كان اليوم الثالث قام على شفا الركي فجعل يناديهم بأسمائهم وأسماء آبائه: "يا فلان بن فلان، ويا فلان بن فلان 1 أيسركم أنكم أطعتم الله ورسوله فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا، فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا" قال -أي أبو طلحة: فقال عمر: يا رسول الله! ما تكلم من أجساد لا أرواح لها، وفي بقية رواية الطبراني التي قدمها المصنف عن أنس، "فقال عمر بن الخطاب" مستفهما: "كيف تكلم أجسادا لا أرواح فيها؟ " وفي رواية مسلم: فسمع عمر صوته، فقال: يا رسول الله!(2/306)
فقال: "ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، غير أنهم لا يستطيعون أن يردوا شيئا".
وتأولت عائشة رضي الله عنها ذلك فقالت: إنما أراد النبي صلى الله عليه وسلم إنهم الآن ليعلمون أن الذي أقول لهم الحق. ثم قرأت {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} الآية، فقولها يدل على أنها كانت تنكر ذلك مطلقا، لقولها: إنهم الآن ليعلمون.
__________
أتناديهم بعد ثلاث، وهل يسمعون؟ ويقول الله: {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} [النمل: 80] الآية، "فقال" صلى الله عليه وسلم، زاد في رواية الصحيحين: "والذي نفسي بيده "، "ما أنتم بأسمع لما أقول منهم" بل هم أسمع منهم، قال الحافظ: بآذان رءوسهم على قول الأكثر، أو بآذان قلوبهم، انتهى.
وإن صدق النفي بالمساواة لغة، لكن خصه الاستعمال بأن المنفي عنه الحكم أقوى في ثبوت مدلوله ممن فضل عليه، ويؤيده رواية: "ما أنتم بأفهم لقولي منهم" ويؤيد المساواة قوله عند الطبراني بسند صحيح من حديث ابن مسعود: "يسمعون كما تسمعون، ولكن لا يجيبون"، "غير أنهم لا يستطيعون أن يردوا شيئا" هذه رواية الطبراني، ولفظ رواية مسلم: "لكن لا يستطيعون أن يجيبوا"، أي: لعدم الإذن لهم في إجابة أهل الدنيا، كقوله تعالى: {هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ، وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} هذا هو الأصل، فلا يقدح فيه ما اتفق من كلام بعض الموتى لبعض الأحياء لاحتمال الآذان لذلك البعض، "وتأولت عائشة رضي الله عنها ذلك، فقالت: إنما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أنهم الآن ليعلمون أن الذي أقول لهم" من استعمال المضارع بمعنى الماضي، أي: ليعلمون أن ما قلت لهم فيما مضى من التوحيد والإيمان وغيرهما هو "الحق، ثم قرأت" مستدلة لما ذهب إليه: {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} الآية،" وهذه عبارة اليعمري، والذي في الصحيح عن عروة عن ابن عمر، قال: وقف النبي صلى الله عليه وسلم على قليب بدر، فقال: "هل وجدتم ما وعد ربكم حقا" ثم قال: "إنهم الآن ليسمعون ما أقول"، فذكر لعائشة فقالت: إنما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنهم الآن ليعلمون أن الذي كنت أقول لهم هو الحق"، ثم قرأت {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} حتى قرأت الآية "فقولها يدل على أنها كانت تنكر ذلك مطلقا" أي في حالة استقرارهم في النار وغيرها خلاف قول عروة في البخاري، تقول: أي عائشة حين تبوءوا مقاعدهم من النار، قال الحافظ: مراده أن يبين مراد عائشة فأشار إلى أن الإطلاق في إنك لا تسمع الموتى مقيد باستقرارهم في النار، وعلى هذا فلا معاوضة بين إنكار عائشة وإثبات ابن عمر لكن قولها يدل على أنها كانت تنكر ذلك مطلقا، "لقولها" إن الحديث إنما هو بلفظ "إنهم الآن ليعلمون" وأن ابن عمر وهم في قوله: ليسمعون. ا. هـ.
فالمصنف أسقط من كلام الحافظ ما يبين الإطلاق فتحير شيخنا فيه، فقال: لعله في أهل القليب وغيرهم أولا بحالهم ولا بأحيائه في قبورهم وإنما يحيون بعد البعث، انتهى. قال(2/307)
وقال قتادة: أحياهم الله تعالى توبيخا وتصغيرا، ونقمة وحسرة.
وفيه رد على من أنكر أنهم يسمعون، كما روي عن عائشة رضي الله عنها.
ومن الغريب، أن في المغازي -لابن إسحاق- من رواية يونس بن بكير، بإسناد جيد عن عائشة حديثا وفيه: "ما أنتم بأسمع لما أقول منهم". وأخرجه الإمام أحمد بإسناد حسن. فإن كان محفوظا فكأنها رجعت عن الإنكار، لما ثبت عندها من رواية هؤلاء الصحابة، لكونها لم تشهد القصة.
__________
البيهقي: والعلم لا يمنع السماع والجواب عن الآية أنهم لا يسمعون وهم موتى، "و" لكن أحياهم حتى سمعوا كما "قال قتادة" بن دعامة فيما رواه البخاري عنه عقب حديث أبي طلحة السابق "أحياهم الله تعالى" زاد الإسماعيلي، بأعيانهم، وأسقط المصنف من قول قتادة: حتى أسمعهم قوله صلى الله عليه وسلم كما في البخاري قبل قوله: "توبيخا وتصغيرا" قال الحافظ: الصغار الذلة والهوان "ونقمة" بكسر النون وسكون القاف كما في الناصرية، وفي حاشية اليونينية بفتح النون وكسر القاف، قال المصنف.
"وحسرة" وندما كما هو بقية قول قتادة في البخاري: أي لأجل التوبيخ فالمنصوبات للتعليل، "وفيه" أي قول قتادة هذا "رد على من أنكر أنهم يسمعون" لأنه أثبت سماعهم غايته أنه بعد الإحياء "ما روي عن عائشة رضي الله عنها" إنكار ذلك، وفي التعبير بروي شيء لأنه في الضعيف وهذا ثابت عنها في الصحيح، ولذا عبر الحافظ بلفظ كما جاء عن عائشة، "ومن الغريب" أي خلاف المشهور عنها "أن في المغازي لابن إسحاق رواية يونس بن بكير بإسناد جيد،" أي مقبول كما قال السيوطي وللقبول يطلقون جيدا "عن عائشة رضي الله عنها حديثا" مثل حديث أبي طلحة السابق كما في الفتح، "وفيه: "ما أنتم بأسمع لما أقول منهم".
"وأخرجه الإمام أحمد" عنها "بإسناد حسن فإن كان" ذلك "محفوظا" عن عائشة، "فكأنها رجعت عن الإنكار لما ثبت عندها من رواية هؤلاء الصحابة" الذين رووا القصة وهم فصحاء عارفون بمواقع الكلام كيف وهم عمرو بن مسعود وعبد الله بن سيلان بكسر المهملة وسكون التحتية أخرج أحاديثهم الطبراني وأبو طلحة وابن عمر أخرجهما البخاري وغيره، "لكونها لم تشهد القصة" وهؤلاء شهدوها إلا ابن عمر وابن سيلان، فأما ابن عمر فاستصغر يوم بدر كما في الصحيح.
وأما ابن سيلان فلم يذكر فيمن شهدوها فأرسلا ذلك عن غيرهما ومرسل الصحابي حكمه الوصل وهو حج كما تقرر وهذا كما هو ظاهر إنما هو على رواية الصحيح عن عائشة أن(2/308)
وقال الإسماعيلي: كان عند عائشة رضي الله عنها من الفهم والذكاء وكثرة الرواية والغوص على غوامض العلم ما لا مزيد عليه، لكن لا سبيل إلى رد رواية الثقة إلا بنص مثله، يدل على نسخه أو تخصيصه أو استحالته، فكيف والجمع بين الذي أنكرته وأثبته غيرها ممكن؛ لأن قوله تعالى: {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} لا ينافي قوله صلى الله عليه وسلم: "إنهم الآن يسمعون"؛ لأن الإسماع هو إبلاغ الصوت من المسمع في أذن السامع، فالله تعالى هو الذي أسمعهم بأن أبلغهم صوت النبي صلى الله عليه وسلم بذلك. وأما جوابها بأنه إنما قال: "إنهم ليعلمون"، فإن كانت سمعت ذلك فلا ينافي رواية "يسمعون" بل يؤيدها.
__________
المصطفى إنما قال: "إنهم الآن ليعلمون" أما على ما قدمه المصنف أنها تأولت إنما أراد لنبي إلخ، فلا يتأتى هذا فإن نفي الإرادة لا ينافي أنه قاله بل التأويل فرع الثبوت، اللهم إلا أن يكون المراد أنها رجعت عن إنكارها بقاء اللفظ على ظاهره، وأن تأويله واجب وأبقته على ظاهره والمحوج لهذا التعسف عدول المصنف عن رواية الصحيح عنها إلى عبارة اليعمري كما مر، ثم أفتى بكلام الحافظ في شرح الصحيح.
"وقال الإسماعيلي: كان عند عائشة رضي الله عنها من الفهم والذكاء" سرعة الفطنة، كما في القاموس "وكثرة الرواية والغوص على غوامض العلم ما لا مزيد عليه" أتى بذلك تأدبا وتمهيدا للاستدراك لئلا يتوهم غبي منه أنه لم يعرف مقامها، "لكن لا سبيل" طريق "إلى رد رواية الثقة إلا بنص مثله" في كونه رواية عن الثقة أيضا "يدل على نسخه أو تخصيصه" ويصار لهما بالواية "أو استحالته" عطف على بنص أو على نسخه والأول أقرب وتدرك بالعقل والثلاثة منتفي هنا، "فكيف" يصار إلى إنكارها مع انتفاء الثلاثة، "والجمع بين الذي أنكرته وأثبته غيرها ممكن" وذلك "لأن قوله تعالى: {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} لا ينافي قوله صلى الله عليه وسلم: "إنهم الآن يسمعون" لأن الإسماع هو إبلاغ الصوت من المسمع في أذن السامع، فالله تعالى هو الذي أسمعهم بأن أبلغهم صوت النبي صلى الله عليه وسلم بذلك" ولم يسمعهم المصطفى فحصل التوفيق بين الآية والحديث.
"وأما جوابها بأنه إنما قال: "إنهم ليعلمون"، فإن كانت" بنته على فهمها الآية فقد علمت أن لا تنافي، وإن كانت "سمعت ذلك" من النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك أو غيره لأنا لم تشهد القصة، "فلا تنافي رواية: "يسمعون" إذ العلم لا يمنع السماع "بل تؤيدها" لأن علم المخاطب في العادة إنما يكون بما يسمعه.(2/309)
وقال السهيلي ما محصله: إن في نفس الخبر ما يدل على خرق العادة بذلك لنبيه صلى الله عليه وسلم لقول الصحابة له: أتخاطب أقواما قد جيفوا؟! فأجابهم بما أجابهم. قال: وإذا جاز أن يكونوا في تلك الحالة عالمين جاز أن يكونوا سامعين، وذلك إما بآذان رءوسهم إذا قلنا إن الروح تعاد إلى الجسد، أو إلى بعضه عند المسألة، وهو قول أكثر أهل السنة، وإما بآذان القلب أو الروح على مذهب من يقول بتوجه السؤال على الروح من غير رجوع إلى الجسد أو بعضه.
__________
"وقال السهيلي ما محصله: أن في نفس الخبر ما يدل على خرق العادة بذلك" من الله "لنبيه صلى الله عليه وسلم لقول الصحابة له" كما رواه مسلم في حديث أنس عن عمر: "أتخاطب أقواما قد جيفوا" بفتح الجيم وشد الياء، أي صاروا جيفا منتنين كما تفيده النهاية وغيرها وضبطه شيخنا في النسخ الصحيحة خلاف ما في بعضها من ضبطه بالبناء للمجهول، فإنه أمر بالضرب عليه وأثبت فتح الجيم كما قلنا "فأجابهم بما أجابهم" أجمله ليأتي على كل الروايات فيما أجابهم به، وإلى هنا ما تصرف فيه على السهيلي، ولذا احتاج أن يقول ما محصله: ولفظه في الروض: عائشة لم تحضر وغيرها ممن أحضر أحفظ للفظة صلى الله عليه وسلم، وقد قالوا له: يا رسول الله! أتخاطب أقواما قد جيفوا؟ فقال: "ما أنتم بأسمع لما أقول منهم"، "وقال" السهيلي تلو هذا ما لفظه: "وإذا جاز أن يكونوا في تلك الحالة عالمين" كما أثبتته عائشة "جاز أن يكونوا سامعين" كما أثبته عمر وابنه وأبو طلحة وغيرهم إذ لا فرق وأيضا فالعلم لا يمنع السماع كما قال البيهقي، "وذلك إما بآذان رءوسهم" على قول الأكثر، وأما بآذان قلوبهم هذا ما نقله الحافظ عن محصل كلام السهيلي وتبعه المصنف في الشر والشامي ولم ينقلوا ما زاده هنا عنه بقوله: "إذا قلنا إن الروح تعاد إلى الجسد" كله "أو إلى بعضه عند المسألة وهو قول أكثر أهل السنة. وأما بآذان القلب أو الروح على مذهب من يقول بتوجه السؤال على الروح من غير رجوع إلى الجسد أو بعضه" ولعلهم حذفوه من كلامه لإشكاله لأنه إذا قيل: لا تعاد الروح لشيء من الجسد لزم أن لا يكون السماع بإذن القلب، فالمناسب أن يقول: أما بآذان رءوسهم أو قلوبهم إذا قلنا ... إلخ، اللهم إلا أن يكون لم يرد بالقلوب الشكل الصنوبري بل الأحوال القائمة به فيحصل بها الإدراك كما قال غير واحد في معنى القلب.
وفي الفتح قال السهيلي: وقد تمسك بهذا الحديث من قال السؤال يتوجه على الروح والبدن ورده من قال: إنما يتوجه على الروح فقط بأن الأسماع لأذن الرأس لا لأذن القلب، فلم يبق فيه حجة. قلت: إذا كان الذي وقع حينئذ من خوارق العادة للنبي صلى الله عليه وسلم لم يحسن التمسك به في مسألة السؤال أصلا، انتهى.(2/310)
قال: وقد روي عن عائشة رضي الله عنها أنها احتجت بقوله تعالى: {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ، إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ} [فاطر: 22] وهذه الآية كقوله تعالى: {أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْي} [الزخرف: 40] أي إن الله هو الذي يهدي ويوفق ويوصل الموعظة إلى آذان القلوب لا أنت. وجعل الكفار أمواتا وصما على جهة التشبيه بالأموات وهم أحياء وبالصم، فالله هو الذي يسمعهم على الحقيقة إذا شاء، لا نبيه ولا أحد، فإذًا لا تعلق بالآية من وجهين:
أحدهما: أنها إنما نزلت في دعاء الكفار إلى الإيمان.
والثاني: أنه إنما نفى عن نبيه أن يكون هو المسمع لهم، وصدق الله فإنه لا يسمعهم إذا شاء إلا هو، يفعل ما يشاء وهو على كل شيء قدير.........................
__________
"قال" السهيلي: "وقد روي عن عائشة رضي الله عنها أنها احتجت بقوله تعالى: {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ، إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ} وفي الصحيح أنها احتجت أيضا بقوله: {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} ، "و" لا حجة فيه؛ لأن "هذه الآية كقوله تعالى: {أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْي} ، أي أن الله هو الذي يهدي ويوفق ويوصل الموعظة إلى آذان القلوب لا أنت" وإن أوصلتها إلى آذان الرءوس، "وجعل الكفار أمواتا" في {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} صريحا، و {أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُور} استلزاما "وصما" في {أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ} ، "على جهة التشبيه بالأموات وهم أحياء، وبالضم فالله هو الذي يسمعهم على الحقيقة إذا شاء لا نبيه ولا أحد، فإذًا لا تعلق بالآية من وجهين، أحدهما: أنها إنما نزلت" أي: وردت "في دعاء الكفار إلى الإيمان" فهو مجاز "والثاني" لو حملت على الحقيقة لم يكن فيها معارضة وذلك "أنه إنما نفى عن نبيه أن يكون هو المسمع لهم وصدق الله فإنه لا يسمعهم إذا شاء إلا هو يفعل ما يشاء وهو على كل شيء قدير" إلى هنا انتهى كلام السهيلي، كما يعلم من رؤية روضه لا كما زعمه من قال الفصل بأي في قوله: أي إن الله..إلخ، مشعر بأنه ليس من كلامه بل هو كله كلامه، وأتى بأي ليفسر المراد بالآية، وهذا ظاهر جدا، يعني: فحمل الحديث على أنه أسمعهم كلام نبيه صلى الله عليه وسلم لا ينافي الآية.
وفي فتح الباري اختلف أهل التأويل في المراد بالموتى وبمن في القبور، فحملته عائشة على الحقيقة وجعلته أصلا احتاجت معه إلى تأويل الحديث، وهذا قول الأكثر. وقيل: هو مجاز والمراد بالموتى وبمن في القبور: الكفار شبهوا بالموتى وهم أحياء، والمعنى: من هم في حال(2/311)
ولقد أحسن العلامة ابن جابر حيث قال:
بدا يوم بدر وهو كالبدر حوله ... كواكب في أفق الكواكب تنجلي
وجبريل في جند الملائك دونه ... فلم تغن أعداد العدو المخذل
رمى بالحصى في أوجه القوم رمية ... فشردهم مثل النعام بمجهل
__________
الموتى أو في حال من سكنوا القبور، وعلى هذا لا يبقى في الآية دليل على ما نفته عائشة، والله أعلم.
"ولقد أحسن العلامة" أبو عبد الله محمد بن أحمد بن علي، "بن جابر" فنسهب لجد أبيه لاشتهاره به الأندلسي الأعمى صاحب شرح الألفية الشهير بالأعمى والبصير، "حيث قال: بدا" ظهر صلى الله عيه وسلم "يوم بدر، وهو كالبدر" الواو للحال "حوله، كواكب" رجال كالكواكب في الظهور والإشراق تشبيه بليغ بحذف الأداة أو استعارة "في أفق" بسكون الفاء على إحدى اللغتين للوزن، أي: في ناحية "الكواكب" أو فيما يظهر من نوحي الفلك التي هي مطلع الكواكب ومظهرها، أو في مهب الرياح. ففي القاموس: الأفق بضمة وبضمتين الناحية جمعه آفاق أو ما ظهر من نواحي الفلك، أو هي مهب الجنوب والشمال والدبور والصبا، انتهى.
وفي نسخ المواكب بميم، وكذا أنشده الشامي، وقال: جمع موكب، أي: بكسر الكاف وهو جماعة ركاب يسيرون برفق وهم أيضا القوم الركاب للزينة والتنزه، "تنجلي" تظهر وتتميز ع غيرها "وجبريل في جند" أعوان وأنصار "الملائك" من إضافة الأعم إلى الأخص: أي: جندهم الملائك جمع ملك ويجمع أيضا على ملائكة، "دونه" أي: أمامه صلى الله عليه وسلم، وفرع على ما أثبته له ولصحبه من كثرة الملائك المناصرين له قوله: "فلم تغن" بالفوقية "أعداد" بفتح الهمزة جمع عدد، أي: كثرة "العدو" أي: الأعداء.
ففي القاموس: العدو ضد الصديق للواحد والجمع، ويحتمل قراءة يغن بتحتية وكسر همزة إعداد مصدر أعد الشيء هيأه، أي: لم تعن تهيئة العدو والسلاح وغيره شيئا "المخذل" اسم مفعول من خذله تخذيلا إذا حمله على الفشل وترك القتال، كما في المصباح، يعني: إن شدة المسلمين وقوتهم في أعينهم حملتهم على ذلك حتى انهزموا وتمكن المسلمون من قتلهم وأسرهم، "رمى بالحصى في أوجه القوم رمية، فشردهم" طردهم وبدد جمعهم، وفي حديث عمر عند الطبراني: لما كان يوم بدر وانهزمت قريش نظرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في آثارهم مصلتا بالسيف، يقول {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُر} [البقرة: 45] الآية، ورماهم فوسعتهم الرمية وملأت أعينهم حتى إن الرجل ليقتل وهو يقذى عينيه وفاه "مثل النعام" حال كونه "بمجهل" بفتح الميم والهاء بينهما جيم ساكنة، قال القاموس: أرض مجهل كمقعد لا يهتدى فيها ولا يثنى(2/312)
وجاد لهم بالمشرفي فسلموا ... فجاد له بالنفس كل مجندل
عبيدة سل عنهم وحمزة واستمع ... حديثهم في ذلك اليوم من علي
هم عتبوا بالسيف عتبة إذ غدا ... فذاق الوليد الموت ليس له ولي
وشيبة لما شاب خوفا تبادرت ... إليه العوالي بالخضاب المعجل
وجال أبو جهل.............
__________
ولا يجمع، انتهى.
وأما قوله: إنا لنصفح عن مجاهل قومنا، فمعناه زلاتهم الحاملة لنا على الجهل وهو جمع مجهل ما يحمل على الجهل وزعم ابن سيدة أنه اسم للأرض ورد بأنه لا يصح إذ لا يتأتى الصفح عن الأراضي إلا بتعسف. وفي نسخة المجفل بشد الفاء، أي: المبالغ في طرده وله ما يهتدي إليه، وفي أخرى بمجفل بفاء ساكنة دون أل، أي: بمحل يطرد منه والأولى أبلغ في المقام، "وجادلهم" من المجادلة خاصمهم وضاربهم، أو من الجود تهكما، أي: سمح لهم "بالمشرفي" بفتح الميم والراء: السيف نسبة لمشارف بالفاء، وهي كما في الصحاح وغيره: قرية من أرض العرب تدنو من الريف "فسلموا، فجاد" سمح "له بالنفس" وسلم فيها قهرا عليه، "كل مجندل" مصروع مطروح على الأرض، ولم يقل متجدل للوزن. وفي نسخ: كل مجدل بشد الدال، وهي أولى.
ففي المصباح: جدته تجديلا ألقيته إلى الجدالة وطعنه فجدله، "عبيدة" بضم أوله ابن الحارث المطلبي، "سل عنهم و" سل "حمزة" الهاشمي "واستمع، حديثهم في ذلك اليوم من علي" بن أبي طالب، وخصهم لأنهم الذين برزوا لعتبة وشيبة والوليد الذين طلبوا المبارزة وأظهروا من أنفسهم الشدة، وخص عليا بالاستماع منه؛ لأنه عاش وروى الحديث بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم بخلاف عبيدة، فاستشهد يومئذ، وحمزة ثاني عام، وزعم أنه على القدر، وهو المصطفى خلاف الظاهر المتبادر بل يأباه قوله: "هم عتبوا" بفوقية مخففا ومشددا للمبالغة، أي: ضربوا "بالسيف عتبة" بن ربيعة وهو مجاز عن اللوم أو مضمن معنى القطع، "إذ غدا" أتى مبادرا لطب البراز "فذاق" هو وابنه "الوليد الموت ليس له ولي" ناصر "وشيبه لما شاب" رأسه ولحيته "خوفا" من الخوف، كناية عن الحزن الذي أصابه بحيث حصل منه الشيب في غير أوان، "تباردت، إليه العوالي" جمع عالية، وهي السنن من القنا "بالخضاب المعجل" المنساق سريعا، والمعنى: أنهم أسالوا دمه بالرماح فشبهه بخضاب الحناء، واستعار له اسمه تهكما، "وجال" دار في مكن الحرب يظهر شدته، "أبو جهل"، فكان يقول في جولاته:
ما تنقم الحرب العوان مني ... بازل عامين حديث سني(2/313)
.........فحقق جهله ... غدة تردى بالردى عن تذلل
وأضحى قليبا في القليب وقومه ... يؤمونه فيه إلى شر منهل
وجاءهم خير الأنام موبخا ... ففتح من أسماعهم كل مقفل
وأخبر ما أنتم بأسمع منهم ... ولكنهم لا يهتدون لمقول
سلا عنهم يوم السلا إذا تضاحكوا ... فعاد بكاء عاجلا لم يؤجل
ألم يعلموا علم اليقين بصدقه ... ولكنهم لا يرجعون لمعقل
__________
كما مر.
"فحقق جهله،" فعمل بمقتضاه فقتله الله شر قتلة، "غداة" حين "تردى بالردى" الهلاك شبهه بالرداء فأثبت له ما هو من لوازمه، فقال: تردى، أي: تسربل "عن تذلل" هوان وحقارة "وأضحى قليبا" أي: صار ملقى "في القليب" حين جر وطرح فيه "وقومه، يؤمونه" يقصدونه "فيه" ويسيرون به "إلى شر منهل" مورد وهو عين ماء ترده الإبل في المراعي عبر به عن النار التي وردوها تهكما واستهزاء، "وجاءهم خير الأنام" صلى الله عليه وسلم "موبخا" لائما لهم حيث وقف ونادهم بأسمائهم وأسماء آبائهم، وقل: "يا أهل القليب! بئس عشيرة النبي كنتم لنبيكم"، إلى آخر ما مر. "ففتح من أسماعهم كل مقفل" مغلق من قولهم أقفلته إقفالا فهو مقفل، يعني: أنهم كانوا في غفلة وإعراض لما عليها من الختم المانع من حلول الحق فيها وأزيل بعد الموت، فعلموا الحق عيانا، كما أرشد لذلك صلى الله عليه وسلم قوله: "فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا" فوصل خطابه إلى أسماعهم على أكمل حالات السماع.
"وأخبر" عليه السلام من سأله مستفهما كيف تكلم أجسادًا لا أرواح فيها، بقوله: "ما أنتم بأسمع" لما أقول "منهم"، بل هم أسمع أو مساوون، على ما مر، "ولكنهم لا يهتدون لمقول" كمنبر، أي: لقول الجواب إذ هو إشارة لقوله عليه السلام: "غير أنهم لا يستطيعون أن يردوا شيئا"، "سلا عنهم"، فعل أمر لاثنين على عادة الشعراء من فرض اثنين يخاطبونهما "يوم" وضع "السلا" بفتح السين وعاء جنين البهيمة بين كتفيه صلى الله عليه وسلم وهو ساجد في صلاته عند الكعبة بإشارة عدو الله أبي جهل "إذ تضاحكون" مال بعضهم على بعض من الضحك، وثبت عليه السلام ساجدا حتى ألقته عنه فاطمة الزهراء "فعاد" ضحكهم "بكاء عاجلا لم يؤجل" ببركة دعائه صلى الله عليه وسلم: "اللهم عليك بقريش" ثلاث مرات وغيره ذلك، وقد مر شرح القصة مبسوطا في أوائل المبعث، "ألم يعلموا" استفهام تقريري، أي: قد علموا الآن "علم اليقين" ما يتيقن "بصدقه، ولكنهم لا يرجعون" لا يتمكنون من الرجوع، "لمعقل" ملجأ يخلصهم مما أصابهم، والمعنى، قد علموا صدقه فيما مضى علم اليقين، بما شاهدوه من الآيات البينات الشاهدات(2/314)
فيها خير خلق الله جاهك ملجئي ... وحبك ذخري في الحساب وموئلي
عليك صلاة يشكل الآل عرفها ... وأصحابك الأخيار أهل التفضل
وحكى العلامة ابن مرزوق أن ابن عمر رضي الله عنهما مر مرة ببدر فإذا رجل يعذب ويئن، فلما اجتاز به ناداه: يا عبد الله، قال ابن عمر، فلا أدري أعرف اسمي أم كما يقول الرجل لمن يجهل اسمه يا عبد الله، فالتفت إليه، فقال: اسقني، فأردت أن أفعل، فقال الأسود الموكل بتعذيبه: لا تفعل يا عبد الله، فإن هذا من المشركين الذين قتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ببدر. ورواه الطبراني في الأوسط.
__________
بصدقه، كما في شعر أبي طالب:
لقد علموا أن ابننا لا مكذب ... يقينا ولا يعزى لقول الأباطل
ولكنهم لم يرعووا وفعلوا ما فعلوا لعدم رجوعهم لملجأ يهتدون بما، وإنما اتبعوا الفخر والكبر. "فيا خير خلق الله جاهك ملجئي، وحبك ذخري" بضم الذال اعتمادي "في" يوم "الحساب وموئلي" مرجعي "عليك صلاة يشمل الآل عرفها" رائحتها الذكية، "و" يشمل "أصحابك الأخيار أهل التفضل" بالنفس والمال.
"وحكى العلامة" محمد بن محمد "بن مرزوق" التلمساني المتوفى في ربيع الأول سنة إحدى وثمانين وسبعمائة بمصر، ودفن بين ابن القاسم وأشهب مر بعض ترجمته أوائل الكتاب، "أن ابن عمر" عبد الله "رضي الله عنهما مر مرة ببدر فإذا رجل يعذب ويئن" من وجع العذاب، "فلما اجتاز به ناده: يا عبد الله! قال ابن عمر: فلا أدري أعرف اسمي أم كما يقول الرجل لمن يجهل اسمه عبد الله" على عادة العرب نظرا إلى المعنى الحقيقي؛ لأن الجميع عبيد الله، "فالتفت إليه، فقال: اسقني فأردت أن أفعل" أي: اسقيه، "فقال: الأسود" ولم يقل الملك "الموكل بتعذيبه" لاحتمال أنه لم يعلم بأنه ملك؛ لأنه إنما رأى شخصا فيجوز أنه عبد سلط عليه أو حيوان على صورته أو علم إنه ملك، ولكن عبر بالأسود تفظيعا له، "لا تفعل" لا تسقه "فإن هذا من المشركين الذين قتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ببدر" هو أبو جهل، فإن هذا الذي حكاه ابن مرزوق قد رواه الطبراني وابن أبي الدنيا وابن منده وغيرهم، عن ابن عمر قال: بينما أنا سائر بجنبات بدر إذ خرج رجل من حفرة في عنقه سلسله فناداني: "يا عبد الله! اسقني" فلا أدري أعرف اسمي أو دعاني بدعية العرب، وخرج رجل من تلك الحرة في يده سوط، فناداني: يا عبد الله، لا تسقه فإنه كافر، ثم ضربه بالسوط فعاد إلى حفرته، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم مسرعا فأخبرته بذلك، فقال لي: "قد رأيته"؟ قلت: نعم، قال: "ذاك عدو الله أبو جهل، وذاك عذابه إلى يوم القيامة".(2/315)
قال: ومن آيات بدر الباقية، ما كنت أسمعه من غير واحد من الحجاج أنهم إذا اجتازوا بذلك الموضع يسمعون هيئة الطبل طبل ملوك الوقت، ويرون أن ذلك لنصر أهل الإيمان، قال: وربما أنكرت ذلك، وربما تأولته بأنه الموضع لعله صلب فتستجيب فيه حوافر الدواب، وكان يقال لي: إنه دهس رمل غير صلب، وغالب ما يسير هناك الإبل وأخفافها لا تصوت في الأرض الصلبة، فكيف بالرمال؟ قال ثم لما من الله عليه بالوصول إلى ذلك الموضع المشرف، نزلت عن الراحلة أمشي وبيدي عود طويل من شجر السعدان المسمى بأم غيلان،........................................
__________
وروى ابن أبي الدنيا عن الشعبي: أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إني مررت ببدر فرأيت رجلا يخرج من الأرض فيضربه رجل بمقمعة معه حتى يغيب في الأرض ثم يخرج، فيفعل به مثل ذلك ففعل ذلك مرارا، فقال صلى الله عليه وسلم: "ذاك أبو جهل بن هشام يعذب إلى يوم القيامة"، كذلك والرجل الذي أبهمه الشعبي، الظاهر أنه ابن عمر ويحتمل أنه غيره فيكون الرائي لأبي جهل تعدد.
"قال" أي: ابن مرزوق في شرح البردة: "ومن آيات بدر" أضافها إليها لترتبها على غزوتها فهي لأدنى ملابسة "الباقية" على مدى الأزمان، وبه صرح الإمام المرجاني، فقال: وضربت طبل خانة النصر ببدر فهي تضرب إلى يوم القيامة، ونقله الشريف في تاريخيه وأقره، والشامي وأقره "ما كنت أسمعه من غير واحد من الحجاج أنهم إذا اجتازوا بذلك الموضع" أي: بدر، "يسمعون هيئة الطبل طبل ملوك الوقت ويرون" يعتقدون "أن ذلك لنصر أهل الإيمان، قال: وربما أنكرت ذلك وربما تأولته بأن الموضع صلب" بضم فسكون، أي: شديد لا سهولة فيه "فتستجيب" تجيب "فيه حوافر الدواب" أي: تقابل بصوت يشبه تصويتها في الأرض وهو الصدى الذي يجيب بمثل الصوت في الجبال وغيرها، "وكان يقال لي: إنه دهس" بمهملتين: سهل ليس يرمل ولا ترا ولا طين، كما في الصحاح والقاموس.
زاد في نسخة: "رمل" أي: أنه للينه يشبه المكان الذي به الرمل أو استعمل دهس في مجرد كون الأرض لينة لا تقتضي سماع الصوت، فقال: رمل "غير صلب" صفة كاشقة، "وغالب ما يسير هناك الإبل وأخفاقها لا تصوت في الأرض الصلبة فكيف بالرمال" فانتفى تأويلك "قال: ثم لما من الله علي بالوصول إلى ذلك الموضع المشرق" المضيء "نزلت عن الراحلة أمشي وبيدي عود طويل من شجر السعدان" بفتح المهملة، قال في القاموس: نبت من أفضل مراعي الإبل ومنه مرعى ولا كالسعدان وله شوك يشبه حلمه الثدي "المسمى بأم غيلان" بكسر المعجمة ولعله عند العوام فلا ينافي ما رأيت عن القاموس، وفيه أيضا: وأم غيلان من شجر(2/316)
وقد نسب ذلك الخبر كنت أسمع، فما راعني وأنا أسير في الهاجرة إلا واحد من عبيد الأعراب الجمالين يقول: أتسمعون الطبل، فأخذتني -لما سمعت كلامه- قشعريرة بينة وتذكرت ما كنت أخبرت به، وكان في الجو بعض ريح، فسمعت صوت الطبل، وأنا دهش مما أصابني من الفرح أو الهيبة، أو ما الله أعلم به، فشككت، وقلت: لعل الريح سكنت في هذا العود الذي في يدي أوجدت مثل هذا الصوت، وأنا حريص على طلب التحقيق لهذه الآية العظيمة، فألقيت العود من يدي، وجلست على الأرض، أو وثبت قائما، أو فعلت جميع ذلك، فسمعت صوت الطبل سماعا محققا، أو صوتا لا أشك فيه أنه صوت طبل، وذلك من ناحية اليمين ونحن سائرون إلى مكة المشرفة، ثم نزلنا إلى بدر، فظللت أسمع ذلك الصوت يومي أجمع، المرة بعد المرة.
قال: ولقد أخبرت أن ذلك الصوت لا يسمعه جميع الناس، انتهى.
__________
السمر، "وقد نسيت ذلك الخبر الذي كنت أسمع فما راعني وأنا أسير في الهاجرة" شدة الحر "إلا واحد" فاعل راعني؛ لأن الاستثناء مفرغ "من عبيد الأعراب الجمالين" وفي نسخة: إلا وواحد، بواوين لكن الفاعل لا يقترن بالواو فإن صحت ففيه حذف، أي: إلا أمر عرض لي وواحد، بواوين لكن الفاعل لا يقترن بالواو فإن صحت ففيه حذف، أي: إلا أمر عرض لي وواحد، فاللعطف تفسيري أو خبر مبتدأ محذوف، أي: وهو واحد أو مبتدأ أخبره "يقول: أتسمعون الطبل فأخذتني لما" حين "سمعت" أو اللام اللتعليل، أي: لسماعي "كلامه قشعريرية" بضم القاف وفتح الشين "بينة" قوية لا تلبس بغيرها "وتذكرت ما كنت أخبرت به وكان في الجو بعض ريح، فسمعت صوت الطبل وأنا دهش" متحير "مما أصابني من الفرح أو الهيبة، أو ما الله أعلم به" يعني حصل له حالة لم يتحقق ما هي حتى يعبر عنها، "فشككت وقلت لعل الريح سكنت في هذا العود الذي في يدي أوجدت مثل هذا الصوت، وأنا حريص على طلب التحقيق لهذه لآية العظيمة، فألقيت العود من يدي وجلست على الأرض، أو وثبت قائما أو فعلت جميع ذلك" شك فيما حصل له حين أخبر، "فسمعت صوت الطبل سماعا محققا أو صوتا لا أشك فيه أنه صوت طبل وذلك من ناحية اليمن ونحن سائرون إلى مكة المشرفة لم نزلنا بدر إلى فظللت" بكسر اللام الأولى وإسكان الثالثة، "أسمع ذلك الصوت يومي أجمع" بالنصب تأكيد ليومي، "المرة بعد المرة" بالنصب على الحال، أي: متتابعا جميع يومه من ابتداء سماعه من الهاجرة فاستعمل اليوم في بقيته مجازا، "قال: ولقد أخبرت أن ذلك الصوت لا يسمعه جميع الناس، انتهى" كلام ابن مرزوق. قال صاحب الخميس: ولما نزلت بدرا سنة ست وثلاثين وتسعمائة وصليت الفجر يوم(2/317)
وروى الطبراني من حديث أبي اليسر، أنه أسر العباس، وقيل للعباس -وكان جسيما- كيف أسرك أبو اليسر وهو دميم، ولو شئت لجعلته في كفك، فقال: ما هو إلا أن لقيته فظهر في عيني كالخندمة..................................
__________
الأربعاء أوائل شعبان، وأقمنا يوما، ابتكرت نحوذ لك الصوت يجيء من كثيب ضخم طويل مرتفع كالجبل شمالي بدر، فطلعت أعلاه وتتابع الناس لسماعه، وكانوا زهاء مائة من رجال ونساء، فما سمعت شيئا، فنزلت أسلفه فسمعت من سفح الكثيب صوتاكهيئة الطبل الكبير سماعا محققا بلا شك مرارا متعددة وسمعه الناس كلهم، كما سمعت، وكان الصوت يجيء تارة من تحتنا ثم ينقطع، وتارة من خلفنا ثم ينقطع، وتارة قدامنا، وتارة من شمالنا، فسمعنا سماعا محققا وكان الوقت صحوا رائفا لا ريح فيه، انتهى.
ولما ذكر ما أراد من الغزوة، في ذكر الأساري، فقال: "وروى الطبراني" والبزار "من حديث أبي اليسر" بفتح التحتية والسين المهملة وبالراء كعب بن عمرو الأنصاري السلمي بفتحتين مشهور باسمه وكنيته، شهد العقبة وبدرا والمشاهد، ومات سنة خمس وخسمين بالمدينة. وقول ابن إسحاق كان آخر من مات من الصحابة كأنه يعني أهل بدر، كما في الإصابة. "أنه أسر العباس" بن عبد المطلب رضي الله عنه. أخرج ابن إسحاق عن ابن عباس: أنه صلى الله عليه وسلم قال: "إني عرفت أن رجلا من بني هاشم وغيرهم قد أخرجوا كرها لا حاجة لهم بقتالنا فمن لقي منكم أحدًا من بني هاشم فلا يقتله، ومن لقي أبا البختري فلا يقتله، ومن لقي العباس بن عبد المطلب فلا يقتله، فإنما خرج مستكرها".
فقال أبو حذيفة بن عتبة: أنقتل آباءنا وإخواننا وعشيرتنا ونترك العباس، والله لئن لقيته لألجمنه السيف فبلغه صلى الله عليه وسلم، فقال لعمر: "يا أبا حفص"، قال عمر: والله إنه لأول يوم كناني فيه بأبي حفص "أيضرب وجه عم رسول الله صلى الله بالسيف"، فقال عمر: يا رسول الله! دعني فلأضرب عنقه بالسيف، فوالله لقد نافق فكان أبو حذيفة يقولك ما أنا بآمن من تلك الكلمة التي قلتها يومئذ، ولا أزال منها خائفا إلا أن تكفرها عني الشهادة فاستشهد يوم اليمامة رضي الله عنه.
"وقيل للعباس وكان جسيما" جميلا وسيما أبيض له ضفيرتان معتدلا. وقيل: طويلا والقائل ابنه. ففي رواية الطبراني وأبي نعيم عن ابن عباس، قال: قلت لأبي "كيف أسرك أبو اليسر وهو دميم" بدال مهملة قبيح المنظر صغير الجسم، "ولو شئت" أن تجعله في كفك، "لجعلته في كفك" فالمفعول محذوف دل عليه الجواب.
وفي رواية البزار: ولو أخذته بكفك لوسعته، "فقال:" زاد البزار: يا بني لا تقل ذلك، "ما هو إلا أن لقيته فظهر في عيني" بالتثنية أو الإفراد مرادا به الجنس، "كالخندمة" وفي رواية(2/318)
وهي بالخاء المعجمة -جبل من جبال مكة، قاله في القاموس.
ولما ولي عمر بن الخطاب رضي الله عنه وثاق الأسرى شد وثاق العباس، فسمعه النبي صلى الله عليه وسلم وهو يئن فلم يأخذه النوم، فبلغ الأنصار، فأطلقوا العباس، فكأن الأنصار فهموا رضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بفك وثاقه، وسألوه..................................
__________
أبي نعيم: لقيني وهو في عيني أعظم من الخندمة، وهذا قاله جوابا لسائله: كيف أسرك مع صغره وضعفه عنك جدا، وفي السياق إشعار بأنه بعد معرفة أبي اليسر؛ لأن السائل له ابنه ولم يشهد بدرا فلا تعارض بينه وبين ما في مسند أحمد في حديث طويل عن علي، فجاء رجل من الأنصار بالعباس أسيرا، فقال العباس: إن هذا والله ما أسرني، لقد أسرني رجل أجلح من أحسن الناس وجها على فرس أبلق ما أره في القوم، فقال الأنصاري: أنا أسرته يا رسول الله، فقال صلى الله عليه سلم: "اسكت فقد أيدك الله بملك كريم"؛ لأن هذا قاله أول ما رأى أبا اليسر بصورة خلقته، فنفى أن يكون أسره لأنه إنما رأى وقت الأسر الصورة التي وصفها في الملك، وفي أبي اليسر كالخندمة، ولذا قال له المصطفى صلى الله عليه وسلم: "اسكت" إلى آخره، إشارة إلى أنه لم يستقل بأسره، وقوله: "أنا أسرته رد لإنكار أسره من أصله، فلا يعارض ما جاء أنه صلى الله عليه وسلم سأله: "كيف أسرته"؟ فقال: "قد أعانني الله عليه ملك كريم".
"وهي" أي: الخندمة "بالخاء المعجمة" المفتوحة والنون الساكنة والدال المهملة المفتوحة فميم فتاء تأنيث "جبل من جبال مكة" شرفها الله تعالى، "قاله في القاموس" والعيون وغيرهما، ويقع في نسخ من جبال تهامة بدل مكة وهو وإن صح في نفسه؛ لأن مكة بعض تهامة غير صحيح للعزو فالذي في القاموس مكة لا تهامة، "ولما ولي عمر بن الخطاب رضي الله عنه" كما روى ابن عائذ في المغازي من طريق مرسل أن عمر لما ولي "وثاق" بالفتح والكسر: ما يوثق ويشد به، "الأسري شد وثاق العباس" رجاء إسلامه وإلا فقد علم تغيظ المصطفى ممن قال: لألجمنه السيف، "فسمعه النبي صلى الله عليه وسلم وهو يئن فلم يأخذه النوم فبلغ الأنصار" يحتمل من عمر "فأطلقوا العباس" كما جاء عن ابن عمر: لما كان يوم بدر جيء بالأسرى وفيهم العباس وعدته الأنصار أن يقتلوه فبلغ رجل النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "لم أنم الليلة من أجل عمي العباس، وقد زعمت الأنصار أنهم قاتلوه"، قال عمر: أفآتيهم، قال: "نعم"، فأتاهم فقال: أرسلوا العباس، فقالوا: والله لا نرسله، فقال عمر: فإن كان لرسول الله رضا، قالوا: فإن كان لرسول الله رضا فخذه، فأخذه عمر فلما صار في يده، قال له: يا عباس، أسلم فوالله لأن تسلم أحب إلي من أن يسلم الخطاب، وما ذاك إلا لما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يعجبه إسلامك، "فكأن الأنصار فهموا" بقرائن أو من تصريح عمر "رضا رسول الله صلى الله عليه وسلم بفك وثاقه" ففكوه، "وسألوه" أي: سأل بعض الأنصار(2/319)
أن يتركوا له الفداء طلبا لتمام رضاه فلم يجبهم.
وفي حديث أنس عند الإمام أحمد: استشار عليه الصلاة والسلام الناس في الأسرى يوم بدر فقال: "إن الله قد أمكنكم منهم"، فقام عمر بن الخطاب فقال: يا رسول الله، اضرب أعناقهم،...........................................................
__________
المصطفى، والمذكور في الفتح عقب رواية ابن عائذ لفظه، فكان الأنصار لما فهموا رضا رسول الله صلى الله عليه وسلم بفك وثاقه سألوه، "أن يترك له الفداء طلبا لتمام رضاه فلم يجبهم" كما أخرج البخاري من حديث ابن شهاب: حدثنا أنس بن مالك أن رجالا من الأنصار استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: ائذن لنا فلنترك لابن أختنا عباس فداءه، قال: "والله لا تذرون منه درهما"، قال الحافظ: وأم العباس ليست من الأنصار بل جدته أم عبد المطلب هي الأنصارية فسموها أختا لكونها منهم، وعلى العباس ابنها لأنها جدته وهي سلمى بنت عمر والخزرجية، قال: وإنما لم يجبهم؛ لأنه خشي أن يكون فيه محاباة لكونه عمه لا لكونه قريبهم من النساء، وفيه أيضا إشارة إلى أن القريب لا ينبغي له أن يتظاهر بما يؤذي قريبه، وإن كان في الباطن يكره ما يؤذيه، ففي ترك قبول ما تبرع له الأنصار به من الفداء تأديب لمن يقع منه مثل ذلك، انتهى. أو للتسوية بينهم حتى لا يبقى في نفوس أصحابه الذين لهم أقارب أسرى شيء بسبب مسامحته وأخذ الفداء منهم.
"وفي حديث أنس عند الإمام أحد استشار عليه الصلاة والسلام الناس في الأسرى يوم بدر" أي: زمنه "فقال: "إن الله قد أمكنكم" وفي نسخة: "مكنكم" وهما بمعنى "منهم" أسقط من رواية أحمد عن أنس: "وإنما هم إخوانكم بالأمس" "فقام عمر" ظاهره أنه تكلم قبل أبي بكر، وفي حديث عمر عند مسلم إن أبا بكر تكلم قبل عمر، ولفظه: استشار النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر وعمر وعلي، فقال أبو بكر: يا نبي الله، هؤلاء بنو العم والعشيرة والإخوان، وإني أرى أن تأخذ منهم الفدية، فيكون ما أخذناه منهم قوة لنا على الكفار، وعسى الله أن يهديهم فيكونوا لنا عضدا، فقال: "ما ترى يا عمر"؟ قال: والله ما أرى ما رأى أبو بكر.... الحديث مطولا.
وأخرجه بنحوه أحمد والترمذي وغيرهما، عن ابن مسعود وابن مردويه عن ابن عباس ويمكن الجمع بأنه صلى الله عليه وسلم استشار الناس عموما وخصوصا. فلما خص تكلم أبو بكر قبل عمر، ولما عم، بادر عمر في الجواب على عادته في الشدة في دين الله تعالى، "فقال: يا رسول الله، اضرب أعناقهم" أمر أو مضارع ويؤيد الأول رواية مسلم والجماعة بلفظ: ما أرى ما رأى أبو بكر، ولكن أرى أن تمكنني من فلان قريب لعمر فاضرب عنه، وتمكن عليا من عقيل فيضرب عنقه، وتمكن حمزة من فلان أخيه فيضرب عنقه حتى يعلم الله أنه ليس في قلوبنا مودة للمشركين،(2/320)
فأعرض عنه عليه السلام، ثم عاد صلى الله عليه وسلم فقال: "يا أيها الناس، إن الله قد أمكنكم منهم". فقال عمر: يا رسول الله، اضرب أعناقهم، فأعرض عنه عليه السلام، فعل ذلك ثلاثا، فقام أبو بكر فقال: يا رسول الله، أرى أن تعفو عنهم، وأن تقبل منهم الفداء، فذهب من وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان فيه من الغم، فعفا وقبل منهم الفداء...........................................................
__________
هؤلاء أئمة الكفر وصناديد قريش وأئمتهم وقادتهم، فاضرب أعناقهم، ما أرى أن يكون لك أسرى فإنما نحن راعون مؤلفون، "فأعرض عنه عليه الصلاة والسلام" لما جبل عليه من الرأفة والرحمة في حالة إيذائهم له، فكيف في حال قدرته عليهم؟
"ثم عاد صلى الله عليه وسلم فقال: "يا أيها الناس إن الله قد أمكنكم منهم" فيه ترقيقهم عليهم واستعطافهم؛ لأن العفو بعد القدرة من شيم الكرام، "فقال عمر: يا رسول الله، اضرب أعناقهم، فأعرض عنه عليه الصلاة والسلام، ففعل ذلك ثلاثا" وما تغير عمر عن رأيه، "فقام أبو بكر الصديق" رضي الله عنه "فقال: يا رسول الله أرى أن تعفو عنهم" بفتح الهمزة والواو، أي: فلا تقتلهم، هكذا في نسخ صحيحة، "وأن تقبل منهم الفداء" بالفتح أيضا، أي: رأى عدم القتل استبقاء للقرابة ورجاء لإسلامهم مع أخذ الفداء مراعاة للجيش ليقووا على الكفار، وفي نسخة: أن تعف بحذف الواو فالهمزة فيهما مكسورة والجواب محذوف، أي: أن تعف مجانا فلا بأس إذ هم بنو العم والعشيرة، وإن تقبل مهم الفداء فلا بأس لأنا نستعين به، ودعوى أنها أليق بأدب الصديق مع المصطفى، فلا، ينسب لنفسه أمرا مردودة بأنه لكل مقام مقال، والمقام هنا بيان الرأي الذي طلبه المصطفى خصوصا مع مخالفة عمر وإعراضه عنه، وأيضا فالكسر يقتضي أنه خيره في العفو مجانا والأحاديث تأباه، كيف وقد صرح الصديق في رواية مسلم، بقوله: أرى أن تأخذ منهم الفدية. وفي رواية الترمذي وغيره: استبقهم وإني أرى أن تأخذ الفداء منهم.
"فذهب من وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان" ظهر "فيه من" التغير الدال على "الغم" من قول عمر وهوى ما قال أبو بكر "فعفا عنهم" فلم يقتلهم "وقبل منهم الفداء" فلم يسترقهم ولم يضرب عليهم جزية هذا، ولم يذكر عن علي جواب مع أنه أحد الثلاثة المستشارين، كما في مسلم؛ لأنه لما رأى تغير المصطفى حين اختلف الشيخان عليه لم يجب، أو لم تظهر له مصلحة حتى يذكرها، ولهذا لما ظهر لعبد الله بن رواحة الجواب، وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرد تخصيص الثلاثة، قال -كما رواه الترمذي والجماعة: يا رسول الله! أنظر واديا كثير الحطب فأضرمه عليهم نارا، فقال العباس وهو يسمع ما يقول: قطعت رحمك.
وفي رواية: ثكلتك أمك، فدخل صلى الله عليه وسلم بيته فقال أناس: يأخذ بقول عمر، وأناس بقول أبو(2/321)
قال: وأنزل الله تعالى: {لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ، فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا} الآية..................................................
__________
بكر، وأناس بقول ابن رواحة، ثم خرج فقال: "إن الله تعالى ليلين قلوب أقوام فيه حتى تكون ألين ن اللبن، وإن الله ليشدد قلوب أقوام فيه حتى تكون أشد من الحجارة، مثلك يا أبا بكر في الملائكة كمثل ميكائيل ينزل بالرحمة ومثلك في الأنبياء مثل إبراهيم، قال: {فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيم} [إبراهيم: 36] الآية. ومثلك يا أبا بكر مثل عيسى بن مريم، قال: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ} [المائدة: 118] الآية. ومثلك يا عمر في الملائكة مثل جبريل ينزل بالشدة والبأس والنقمة على أعداء الله، ومثلك في الأنبياء مثل نوح، إذ قال: {رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} [نوح: 26] الآية، ومثلك في الأنبياء مثل موسى، إذ قال: {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ} [يونس: 88] الآية، لو اتفقتما ما خالفتكما أنتم عالة فلا يفلتن أحد منهم إلا بفداء أو ضرب عنق"، فقال عبد الله بن مسعود: يا رسول الله! إلا سهيل بن بيضاء فإني سمعته يذكر الإسلام، فسكت صلى الله عليه وسلم فما رأيتني في يوم أخاف أن تقع علي الحجارة من السماء مني في ذلك اليوم حتى قال صلى الله عليه وسلم: "إلا سهيل بن بيضاء" "قال: وأنزل الله تعالى: {لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَق} بإحلال الغنائم والأسرى لكم {لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ} من الفداء {عَذَابٌ عَظِيمٌ، فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا} [الأنفال: 68، 69] "الآية" يريد: واتقوا الله إن الله غفور رحيم، وهذه رواية أحمد عن أنس، وفي روايته وهو الترمذي والحاكم عن ابن مسعود، فنزل القرآن بقول عمر: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى} [الأنفال: 67] إلى آخهر الآيات.
وفي رواية مسلم عن عمر فهوى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما هوى أبو بكر ولم يهو، ما قلت: فلما كان من الغد غدوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا هو أبو بكر يبكيان، فقلت: يا رسول الله أخبرني ماذا يبكيك أنت وصاحبك فإن وجدت بكاء بكيت وإلا تباكيت لبكائكما، فقال صلى الله عليه وسلم: "أبكي للذي عرض على أصحابك من الفداء لقد عرض عليَّ عذابكم أدنى من هذه الشجرة" لشجرة قريبة منه صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} إلى قوله {عَظِيمٌ} [الأنفال: 68] الآية. وفي رواية: إن كاد ليسمنا في خلاف ابن الخطاب عذاب عظيم، ولو نزل العذاب ما أفلت منه إلا ابن لخطاب، زاد في رواية: وسعد بن معاذ، أي: لأنه كره يوم الوقعة والأسر وأحب الإثخان، كما مر ولم يقل وابن رواحة لأنه أشار بإضرام النار وليس بشرع، وهذه من جملة موافقات عمر المنتهية إلى نحو الثلاثين، وتحدث عمر ببعضها من باب وأما بنعمة ربك فحدث، فقال كما في الصحيح: وافقت ربي في ثلاث: في الحجاب، ومقام إبراهيم، وفي أسارى بدر، واستشكل هذا كله بأنه وافق رأي(2/322)
ويأتي الكلام عليها في النوع العاشر في إزالة الشبهات من الآيات المشكلات من المقصد السادس إن شاء الله تعالى.
وأخرج ابن إسحاق من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أنه صلى الله عليه وسلم قال: "يا عباس، افد نفسك وابني أخيك، عقيل بن أبي طالب ونوفل بن الحارث، وحليفك عتبة بن عمرو". قال: إني كنت مسلما ولكن القوم استكرهوني. قال: "الله أعلم بما تقول، إن يكن ما تقول حقا فإن الله يجزيك، ولكن ظاهر أمرك أنك كنت علينا".
وذكر موسى بن عقبة أن فداءهم.....................................................
__________
المصطفى ولا أجل منه ولا أسد من رأيه.
"ويأتي الكلام عليها في النوع العاشر في إزالة الشبهات عن الآيات المشكلات من المقصد السادس إن شاء الله تعالى" في نحو ورقة بما يشفي ويكفي. وفي فتح الباري هنا اختلف السلف، في أي الرأيين كان أصوب، فقال بعضهم: كان رأي أبي بكر؛ لأنه وافق ما قدر الله في نفس الأمر ولدخول كثير منهم في الإسلام، إما بنفسه وإما بذريته التي ولدت له بعد الواقعة، ولأنه وافق غلبة الرحمة على الغضب، كما ثبت ذلك عن الله تعالى في حق من كتب له، الرحمة, وأما من رجح الرأي الآخر فتمسك بما وقع من العتاب على أخذ الفداء وهو ظاهر، لكن الجواب عنه أنه لا يدفع حجة الرجحان عن الأول بل ورد للإشارة إلى ذم من آثر شيئا من الدنيا على الآخرة، ولو قل قال.
وروى الترمذي والنسائي وابن حبان والحاكم بإسناد صحيح عن علي، قال: جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر، فقال: خير أصحابك في الأسرى إن شاءوا القتل، وإن شاءوا الفداء على أن يقتل منهم عاما مقبلًا مثلهم، قالوا: الفداء ويقتل منا، انتهى. ورواه، ابن سعد من مرسل عبيد، وفيه فقالوا: بل نفاديهم فنقوى به عليهم ويدخل قابلا منا الجنة سبعون ففادوهم.
"وأخرج ابن إسحاق من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أنه صلى الله عليه وسلم، قال" هذا من مراسيل الصحابة،؛ لأن ابن عباس لم يشهد ذلك بل كان صغيرا مع أمه بمكة فكأنه حمله على أبيه أو غيره، "يا عباس افد" بفتح الهمزة وكسرها "نفسك وابني أخيك عقيل" بفتح العين وكسر القاف "ابن أبي طالب ونوفل بن الحارث" أكبر ولد عبد المطلب، "وحليفك عتبة بن عمر، وقال: إني كنت مسلما ولكن القوم استكرهوني" بسين للتأكيد أو زائدة، "قال الله أعلم بما تقول إن يكن ما تقول حقا فإن الله يجزيك" الثواب الأخروي والدنيوي، "ولكن ظاهر أمرك أنك كنت علينا" وشريعتنا العمل بالظاهر لا بما في نفس الأمر، وفيه رد على من قال: لو كان مسلما ما أسروه ولا أخذوا منه الفداء، "وذكر موسى بن عقبة أن فداءهم" أي: الأسرى لا العباس ومن ذكر معه، فلا(2/323)
كان أربعين أوقية ذهبا.
وعند أبي نعيم في الدلائل بإسناد حسن من حديث ابن عباس أنه جعل على العباس مائة أوقية وعلى عقيل ثمانين فقال له العباس: أللقرابة صنعت هذا؟ فأنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ} [الأنفال: 70] فقال العباس: وددت لو كنت أخذت مني أضعافه لقوله تعالى: {يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُم} [الأنفال: 70] .
__________
ينافي ما بعده، أي: كل واحد منهم "كان أربعين أوقية ذهبا" وقال قتادة: كان فداء كل أسير أربعة آلاف. وفي العيون: كان الفداء من أربعة آلاف إلى ثلاثة آلاف إلى ألفين إلى ألف درهم، وعارضه في النور بما في أبي داود والنسائي عن ابن عباس: أنه صلى الله عليه وسلم جعل فداءهم يوم بدر أربعمائة، قال: فبينهما تفاوت كبير، انتهى.
وروى ابن سعد من مرسل الشعبي، قال: كان صلى الله عليه وسلم يفاديهم على قد أموالهم، وكان أهل مكة يكتبون وأهل المدينة لا يكتبون، فمن لم يكن عنده فداء دفع إليه عشرة غلمان من غلمان المدينة يعلمهم فإذا حذقوا فهو فداؤه، وهذا يمكن أن يجمع به بين الأقوال، ومن ثم قال في الشامية: ومنهم من عليه؛ لأنه لا مال له.
"وعند أبي نعيم في الدلائل بإسناد حسن من حديث ابن عباس، أنه" قال: كان فداء الرجل أربعين أوقية، هذا أسقطه المصنف من الدلائل. والأوقية أربعون درهما فمجموع ذلك ألف وستمائة درهم، قال: وجعل لى العباس مائة أوقية، وعلى عقيل ثمانين أوقية" وبما أسقطه من الدلائل، أو كأنه اكتفى بما قبله عن موسى وإن كان لا يليق لأنه دليله، أو عم يتضح قوله: "فقال له" صلى الله عليه وسلم "العباس: اللقرابة صنعت هذا؟ " يعاتبه، إذ مقضتى القرابة التخفيف، وقد شددت وأخذت منا أزيد مما أخذ من غيرنا، وإنما فعل النبي صل الله عليه وسلم ذلك لثروة العباس حتى لا يكون في الدين محاباة، وقد كان يفاديهم على قدر أموالهم. وقيل: جعل عليه أربعمائة أوقية. وقيل: أربعين أوقية من ذهب، "فأنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى} [الأنفال: 70] "الآية،" هذا يفيد أن سبب النزول خاص واللفظ عام، لكن في الشامية: قال جماعة له صلى الله عليه وسلم منهم العباس: إنا كنا مسلمين وإنما خرجنا كرها، فعلام يؤخذ منا الفداء فأنزل الله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ} [الأنفال: 70] ، أي: إيمانا وإخلاصا {يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ} [الأنفال: 70] من الفداء بأن يضعفه لكم في الدنيا ويثيبكم في الآخرة، زاد في رواية: فقد آتاني الله خيرا منها مائة عبد. وفي لفظ: أربعين عبدا كل عبد في يده مال يضرب(2/324)
وكان قد استشهد يوم بدر من المسلمين أربعة عشر رجلا: ستة من المهاجرين،.................................
__________
به، أي: يتجر فيه، وإني لأرجو من الله المغفرة، أي: لقوله تعالى: {وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنفال: 70] الآية. وروى الطبراني في الأوسط عن ابن عباس، قال: قال العباس: في والله نزلت حين أخبرت رسول اله صلى الله عليه وسلم بإسلامي وسألته أن يحاسبني بالعشرين أوقية التي وجدت معني، فأعطاني الله بها عشرين عبدا كلهم تاجر بمالي في يده مع ما أرجو من مغفرة الله.
وفي الصحيح عن أنس: أتى النبي صلى الله عليه وسلم بمال من البحرين، فقال: "انثروه في المسجد"، وكان أكثر مال أتى به، فخرج إلى الصلاة ولم يلتفت إليه، فلما قضى الصلاة جلس إليه فما كان يرى أحدًا إلا أعطاه إذ جاءه العباس، فقال: أعطني فإني فاديت نفسي وفاديت عقيلا، فقال له: "خذ" فحثا في ثوب ثم ذهب يقله فلم يستطيع، فقال: يا رسول الله، مر بعضهم يرفعه إلي، قال: "لا"، قال: فارفعه أنت علي، قال: "لا"، فنثر منه ثم احتمله فألقاه على كاهله ثم انطلق وهو يقول: إنما أخذت ما وعد الله فقد أنجز، فما زال صلى الله عليه وسلم يتبعه بصره حتى خفى علينا عجبا من حرص، فما قام صلى الله عليه وسلم وثم منها درهم.
وعند ابن أبي شيبة: أن المال كان مائة ألف، وهذا كله صريح في أنه لم يفد إلا نفسه وعقيلا، قيل وفدى نوفلا لقوله صلى الله عليه وسلم: "فادِ نفسك وابني أخيك نوفلا وعقيلا"، ولما أسلم نوفل آخى بينه وبين العباس، ذكره ابن إسحاق. وقيل: بل فدى نوفل نفسه، فقد روى ابن سعد أنه صلى الله عليه وسلم قال لنوفل: "أفد نفسك"، قال: ليس لي مال أفتدي به، فقال: "أفد نفسك بأرماحك التي بجدة"، قال: والله ما علم أحد أن لي بجدة رماحا غير الله، أشهد أنك رسول الله، وفدى نفسه بها وكانت ألف رمح. ويمكن الجمع بأنه أمر العباس قبل أن يعلم أن لنوفل مالا فلما أعلمه الله بذلك أمر نوفلا بفداء نفسه ويؤيد ذلك قول العباس في الصحيح: فاديت نفسي وعقيلا ولم يذكر نوفلا وصدر السهيلي بأن نوفلا أسلم عام الخندق، وهاجر ومات بالمدينة سنة خمس عشرة وصلى عليه عمر.
"وكان قد استشهد يوم بدر من المسلمين أربعة عشر رجلا" قيل: وأسهم لهم صلى الله عليه وسلم "ستة من المهاجرين" عبيدة بن الحارث المطلبي قطعت رجله في المبارزة، فمات بالصفراء فدفنه صلى الله عليه وسلم بها، وقيل: مات بالروحاء. ومهجع بكسر الميم وإسكان الهاء وفتح الجيم وعين مهملة، مولى عمر. قال ابن إسحاق: وابن سعد كان أول قتيل من المسلمين وأول من جرح، قتله عامر بن الحضرمي بسهم أرسله إليه، وقال صلى الله عليه وسلم يومئذ: "مهجع سيد الشهداء". وروى الحاكم عن واثله رفعه: "خير السودان لقمان وبلال ومهجع" قاله البرهان. ونقل بعض مشايخي أنه أول من يدعى(2/325)
وثمانية من الأنصار، ستة من الخزرج،....................................................
__________
من شهداء هذه الأمة. وعمير بن أبي وقاص أخو سعد بن أبي وقاص الزهدي ذكر الواقدي أنه صلى الله عليه وسلم رده لأنه استصغره فبكى عمير، فلما رأى بكاءه أذن له في الخروج فقتل وهو ابن ست عشرة سنة، قتله العاصي بن سعيد، قاله السهيلي.
وفي الإصابة: يقال قتله عمرو بن عبدود العامري، وعاقل -بعين وقاف- ابن البكير بالتصغير الليثيي. وجزم ابن حبان بأنه مات سنة ثلاثين، والواقدي وتبعه أبو أحمد والحاكم بأنه مات ثمان وثلاثين، وقيل: مات في طاعون عمواس، ذكره في الإصابة.
وذو الشمالين عمير، وقيل: الحارث، ويقال: عمرو بن عبد عمرو بن نضلة الخزاعي وكان أعسر، وقيل: اسمه خلف بن أمية وهو غير ذي اليدين، فإن اسمه الخرباق، كما في مسلم ابن عمرو السلمي. قال العلماء: وهم الإمام ابن شهاب على جلالته، وتبعه ابن السمعاني، فقال: إنهما واحد، وخالفه غيره وجعلوهما اثنين، فإن ذا اليدين عاش بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وقد روى أبو هريرة أنه الذي نبه على السهو، وأبو هريرة إنما أسلم عام خيبر وذو الشمالين استشهد ببدر، نعم ذكر البرهان عن بعض الحفاظ أن ذا اليدين كان يقال له أيضا ذو الشمالين، وأنه ليس هذا المستشهد ببدر.
"وثمانية من الأنصار، ستة من الخزرج" عوف بن عفراء، ذكر ابن إسحاق أنه قال: يا رسول الله! ما يضحك الرب من عبده؟ قال: "غمسه يده في القوم حاسرا فنزع درعا عليه فقذفها ثم أخذ سيفه فقاتل القوم حتى قتل". وشقيقه معوذ، قال في الفتح: بشد الواو وبفتحها معاذا استشهد ببدر أيضا لم يوافق عليه.
وحارثة بن سراقة بحاء مهملة ومثلثة وكان في النظارة، أي: الذين لم يخرجوا لقتال فجاءه سهم غرب فوقع في نحره فقتله، فجاءت أمه الربيع -بضم الراء وفتح الموحدة وشد التحتية- فقالت: يا رسول الله! قد علمت مكان حارثة مني، فإن يكن في الجنة أصبر وأحتسب، وإلا فسترى ما أصنع!! فقال: "إنها ليست بجنة واحدة، ولكنها جنان كثيرة وإنه في جنة الفردوس"، كما في الصحيح، وقتله -كما في العيون: حبان بكسر المهملة وشد الموحدة، ابن العرقة بفتح المهملة وكسر الراء. ونقل الواقدي فتحها وفتح القاف فتاء تأنيث وهي أمة، وأبوه قيس. قال ابن إسحاق: وهو أول قتيل بعد مهجع، والروايات الصحيحة في البخاري وأحمد والترمذي والنسائي وغيرهم أن حارثة هذا قتل في بدر، ولم يختلف في ذلك أهل المغازي، وما في بعض(2/326)
واثنان من الأوس.
__________
الروايات أنه قتل في أحد وإن اعتمده ابن منده أنكره أبو نعيم، كما أوضح ذلك في الإصابة.
ويزيد بن الحارث بن قيس بن مالك، ورافع بن المعلى قتله عكرمة بن أبي جهل. وعمير بن الحمام، بضم المهملة وخفة الميم، ابن الجموح، ذكر ابن إسحاق أنه صلى الله عليه وسلم خرج على الناس فحرضهم، فقال: "والذي نفس محمد بيده، لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابرا محتسبا مقبلا غير مدبر إلا أدخله الله الجنة"، فقال عمير بن الحمام، وفي يده تمرات يأكلهن: بخ بخ، أفما بيني وبين أن أدخل الجنة إلا أن يقتلني هؤلاء، ثم قذف التمرات من يده وأخذ سيفه فقاتل القوم حتى قتل، وهو يقول:
ركضا إلى الله بغير زاد ... إلا التقى وعمل المعاد
والصبر في الله على الجهاد ... وكل زاد عرضة النفاد
غير التقى والبر والرشاد
وقتله خالد بن الأعلم العلقمي. وروى مسلم عن أنس: أنه صلى الله عليه وسلم قال: "قوموا إلى الجنة عرضها السموات والأرض"، فقال عمير بن الحمام: يا رسول الله! جنة عرضها السموات والأرض؟ قال: "عم"، قال: بخ بخ، فقال صلى الله عليه وسلم: "ما يحملك على قولك بخ بخ"؟ قال: لا والله يا رسول الله إلا رجاء أن أكون من أهلها، قال: "فإنك من أهلها"، فأخرج تمرات فجعل يأكل منهن، ثم قال: لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي إنها لحياة طويلة، فرمى بما كان معه من التمر ثم قاتلهم حتى قتل. قال ابن عقبة وهو أول قتيل قتل يومئذ، ومر قول ابن إسحاق وابن سعد: أولهم مهجع، وجمع في النور بأنه أول قتيل بسهم وعمير بغيره، أو من المهاجرين وعمير من الأنصار، ولا يعارضه ما حكاه ابن سعد: أول قتيل من الأنصار حارثة بن سراقة؛ لأنه أول قتيل من الفتيان، انتهى. وهو ظاهر لكن لا يعلم منه أول قتيل على الإطلاق.
"واثنان من الأوس" سعدبن خيثمة أحد النقباء بالعقبة الصحابي ابن الصحابي، الشهيد ابن الشهيد، قيل: قتله طعمية بن عدي، وقيل: عمرو بن عبدود، واستشهد أبوه يوم أحد، ومبشر بن عبد المنذر، وقيل: إنما قتل بأحد. قال السمهودي في الوفاء: يظهر من كلام أهل السير أنهم دفنوا ببدر ما عدا عبيدة لتأخر وفاته، فدفن بالصفراء أو الروحاء، انتهى. وروى الطبراني برجال ثقات عن ابن مسعود، قال: إن الذين قتلوا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر جعل الله أرواحهم في الجنة في طير خضر تسرح في الجنة، فبينما هم كذلك إذ طلع عليهم ربهم اطلاعه، فقال: يا عبادي ماذا تشتهون؟ فقالوا: يا ربنا هل فوق هذا من شيء؟ قال: فيقول: ماذا تشتهون؟ فيقولون في الرابعة: ترد أرواحنا في أجسادنا فنقتل كما قتلنا، موقوف لفظا مرفوع حكما؛ لأنه لا مدخل(2/327)
تنبيه: لا يقدح في وعد الله تعالى أن استشهد هؤلاء الصحابة رضي الله عنهم، وإنما هذا الوعد كقوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّه} إلى قوله: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] ، فقد نجز الموعود وغلبوا كما وعدوا، فكان وعد الله مفعولا ونصره للمؤمنين ناجزا والحمد لله.
وقتل من المشركين سبعون، وأسر سبعون،............................................
__________
للرأي فيه، والله أعلم.
تنبيه:
"لا يقدح في وعد الله تعالى" للمسلمين بالظفر بقوله سبحانه: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْن} [الأنفال: 7] الآية، "إن استشهد هؤلاء الصحابة رضي الله عنهم" لأنه وعدهم بالظفر بقريش وقد فعل ولم يعدهم أنه لا يقتل أحد منهم، فلا ينافي قتل هؤلاء، "إنما هذا الوعد، كقوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ} [التوبة: 29] الآية، إلى قوله {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ} [التوبة: 29] ،" حال، أي: منقادين أو بأيديهم لا يوكلون بها {وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] الآية، أذلاء منقدون لحكم الإسلام، ووجه التشبيه أن هذه الآية دلت على أمرهم بالقتال حتى يتمكنوا من عدوهم بإذلالهم وأخذ الجزية إن لم يؤمنوا، وآية {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ} [الأنفال: 7] الآية، تلد على الظفر بالأعداء من غير دلالة على عدم قتل أحمد منهم، "فقد نجز الموعود" به "وغلبوا" بالبناء للفاعل "كما وعدوا" بالبناء للمفعول "فكان وعد الله مفعولا"، أي: موعوده، "ونصره للمؤمنين ناجزا والحمد لله وقتل من المشركين سبعون وأسر سبعون" كما في حديث البراء عند البخاري وابن عباس، وعمر عند مسلم ووافقهم آخرون وبه جزم ابن هشام ونقله عن أبي عمر، وقال ابن كثير: وهو المشهور.
قال الحافظ: وهو الحق وأن أطبق أهل السير على إن القتلى خمسون قتيلا يريدون قليلا أو ينقصون وأطلق كثير من أهل المغازي أنهم بضعة وأربعون، وسرد ابن إسحاق أسماؤهم فبلغوا خمسين.
وزاد الواقدي ثلاثة أو أربعة، وسردهم ابن هشام فزادوا على الستين لكن لا يلزم من معرفة أسماء من قتل على التعيين أن يكونوا جميع من قتل، وقد قال الله تعالى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا} [آل عمران: 165] الآية. اتفق علماء التفسير على أن المخاطب بذلك أهل أحد، وإن المراد بإصابتهم مثليها يوم بدر، وبذلك جزم ابن هشام واستدل له بقول كعب بن مالك من قصيدة:(2/328)
وكان من أفضلهم العباس بن عبد المطلب، وعقيل بن أبي طالب،...............................
__________
فأقام بالعطن المعطن منهم ... سبعون عتبة منهم والأسود
يعني عتبة بن ربيعة ومر من قتله، والأسود بن عبد الاسد المخزومي قتله حمزة، انتهى.
وفي البخاري عن جبير بن مطعم: أنه صلى الله عليه وسلم قال في أساري بدر: "لو كان المطعم بن عدي حيا ثم كلمني في هؤلاء النتنى لتركتهم له"، والنتنى بنون وفوقية كزمنى جمع نتن سماهم بذلك لكفرهم، كما في النهاية وغيرها، وبه جزم الحافظ. وقول المصنف: المراد قتلى بدر الذي صاروا جيف يرده قول الحديث في أسارى بدر، قال الحافظ: أي لتركتهم له بغير فداء. وبين ابن شاهين من وجه آخر أن سبب ذلك اليد التي كانت له عند النبي صلى الله عليه وسلم حين رجع من الطائف ودخل في جواره، وقيل: اليد أنه كان من أشد القائمين في نقض الصحيفة التي كتبتها قريش على بني هاشم والمسلمين لما حصروهم في الشعب.
وروى الطبراني عن جبير بن مطعم، قال: قال المطعم بن عدي لقريش: إنكم قد فعلتم بمحمد ما فعلتم فكونوا أكف الناس عنه، وذلك بعد الهجرة، ثم مات المطعم قبل وقعة بدر وله بضع وتسعون سنة. وذكر الفاكهي بإسناد مرسل أن حسان بن ثابت رثاه لما مات مجازاة له على ما صنع مع النبي صلى الله عليه وسلم، انتهى. ونقل ابن إسحاق رثاء حسان، وهو:
عيني ألا أبكي سيد الناس واسفحي ... بدمع وإن أنزفته فاسكبي الدما
وبكى عظيم المشعرين كليهما ... على الناس معروفا له ما تكلما
فلو كان مجد يخلد الدهر واحدا ... من الناس أبقى مجده اليوم مطعما
أجرت رسول الله منهم فأصبحوا ... عبيدك ما لبى مهل وأحرما
لو سئلت عنه معد بأسرها ... وقحطان أو باقي بقية جرهما
لقالوا هو الموفي بخفرة جاره ... وذمته يوما إذا ما تذمما
فما تطلع الشمس المنيرة فوقهم ... على مثله فيهم أعز وأعظما
وأنأى إذا يأبى وألين شيمة ... وأنوم عن جار إذا الليل أظلما
ورثاء حسان رضي الله عنه له وهو كافر لأنه تعداد المحاسن بعد الموت، ولا ريب في أن فعله مع المصطفى من أقوى المحاسن، فلا ضير في ذكره، وقد كفن المصطفى عبد الله بن أبي المنافق بثوبه مجازاة له على إلباس العباس قميصه يوم بدر، لما كان في الأساري.
"وكان من أفضلهم العباس بن عبد المطلب، وعقيل بن أبي طالب" أسره عبيد بن أوس(2/329)
ونوفل بن الحارث بن عبد المطلب، وكل أسلم.
وكان العباس -فيما قاله أهل العلم بالتاريخ- قد أسلم قديما، وكان يكتم إسلامه، وخرج مع المشركين يوم بدر فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "من لقي العباس فلا يقتله، فإنه خرج مستكرها"،
__________
الذي يقال له مقرن؛ لأنه قرن أربعة أسرى يوم بدر، قاله ابن هشام، وأسلم قبل الحديبية، ويقال: عام الحديبية "ونوفل بن الحارث بن عبد المطلب" أسلم عام الخندق وهاجر، ويقال: بل أسلم حين أسر، قاله السهيلي. "وكل أسلم" رضي الله عنهم وهؤلاء من بني هاشم، وممن أسلم من الأسرى من سائر قريش: أبو العاصي بن الربيع زوج السيدة زينب ابنة النبي صلى الله عليه وسلم، أسلم قبيل الفتح وأثنى عليه المصطفى في مصاهرته ورد عليه زينب. وأبو عزيز بفتح العين وكسر الزاي الأولى وإسكان التحتية، واسمه زرارة بن عمير أخو مصعب أسلم يوم بدر وله صحبة وسماع من النبي صلى الله عليه وسلم وقول الزبير بن بكار: قتل كافرا يوم أحد، رده ابن عبد البر بأن ابن إسحاق عد من قتل من الكفار من بني عبد الدار أحد عشر رجلا ليس فيهم أبو عزيز، وإنما فيهم يزيد بن عمير.
وقال السهيلي: غلط الزبير فلا يصح هذا عند أحد من أهل الأخبار. وقد روى عنه نبيه بن وهب وغيره، ولعل المقتول بأحد كافرا أخ لهم غيره، انتهى. وقد علم من كلام أبي عمر أنه يزيد بن عمير فتوهم الزبير أنه اسم أبي عزيز فغلط، وإنما اسمه زرارة.
وقد رى الطبراني في الكبير عنه، قال: كنت في الأسارى يوم بدر، فقال صلى الله عليه وسلم: "استوصوا بالأسارى خيرا" قال الحافظ الهيثمي: إسناده حسن، والسائب بن عبيد أسلم يوم بدر بعد أن أسرى وفدى نفسه، نقله الذهبي عن أبي الطيب الطبري. وعدي بن الخيار، والسائب بن أبي حبيش، وأبو وداعة السهمي، وسهيب بن عمرو العامري أسلموا في فتح مكة، وخالد بن هشام المخزومي، وعبد الله بن السائب، والمطلب بن حنطب، وعبد الله بن أبي بن خلف أسلم يوم الفتح وقتل يوم الجمل، قاله أبو عمر، وعبد بن زمعة أخو سدوة، ووهيب بن عمير الجمحي، وقيس بن السائب المخزومي، ونسطائس مولى أمية بن خلف، ذكره السهيلي وقال: أسلم بعد أحد، والوليد بن الويد أسره عبد الله بن جحش فافتكوه وذهبوا به مكة فأسلم فحبسوه بها، فكان صلى الله عليه وسلم يدعو له في القنوت فنجا وهاجر إلى المدينة فمات بها في الحياة النبوية.
"وكان العباس فيما قاله أهل العلم بالتاريخ قد أسلم قديما، وكان يكتم إسلامه" قال ابن عبد البر: وذلك بين في حديث الحجاج بن علاط، أن العباس كان مسلما يسره ما يفتح الله على المسلمين، ثم أظهر إسلامه يوم الفتح. "وخرج مع المشركين يوم بدر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "من لقي العباس فلا يقتله فإنه خرج مستكرها" ولا ينافيه قوله عليه السلام له: "ظاهر أمرك كنت(2/330)
ففادى نفسه ورجع إلى مكة.
وقيل إنه أسلم يوم بدر، فاستقبل النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة بالأبواء، وكان معه حين فتح مكة، وبه ختمت الهجرة.
وقيل أسلم يوم فتح خيبر.
وقيل كان يكتم إسلامه وأظهره يوم فتح مكة، وكان إسلامه قبل بدر، وكان يكتب بأخبار المشركين إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يحب القدوم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فكتب إليه عليه الصلاة والسلام: "إن مقامك بمكة خير لك".
وقيل إن سبب إسلامه، أنه خرج لبدر بعشرين أوقية من ذهب ليطعم به المشركين، فأخذت منه في الحرب، فكلم النبي صلى الله عليه وسلم أن يحسب العشرين أوقية من فدائه، فأبى وقال: "أما شيء خرجت تستعين به
__________
علينا"؛ لأن كونه عليهم في الظاهر لا ينافي أنه مكره في الباطن. "ففادى نفسه ورجع إلى مكة" فأقام بها على سقايته والمصطفى عنه راض "وقيل: أنه أسلم يوم بدر" ولكنه كتمه حتى تمكن من إظهاره، "فاستقبل النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة بالأبواء" وأظهر إسلامه "وكان معه حين فتح مكة" فشهده وحنينا والطائف وثبت يوم حنين، "وبه ختمت الهجرة" كما قال عليه السلام. "وقيل: أسلم يوم خيبر" قبل فتحها، كما حكاه أبو عمر. "وقيل: كان يكتم إسلامه وأظهره يوم فتح مكة وكان إسلامه قبل بدر" وهذا حاصل القول الأول.
"وكان يكتب بأخبار المشركين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يحب القدوم على رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤده لإسلامه باطنا وعدم تمكنه من إظهاره، قال مولاه أبو رافع: لأنه كان يهاب قومه ويكره خلافهم، وكان ذا مال، رواه ابن إسحاق. "فكتب إليه عليه الصلاة والسلام: "إن مقامك بمكة خير لك" لما علمه من ضياع عياله وأمواله لو تركهم وهاجر، ولأنه كان عونا للمسلمين المستضعفين بمكة. "وقيل: إن سبب إسلامه أنه خرج لبدر بعشرين أوقية من ذهب ليطعم بها المشركين" لأنه كان من الأغنياء المشهورين بالكرم، وكانوا يذبحو لهم الجزائر فلو لم يفعل لعيب عليه ونسب للبخل، ولذا نحر لهم، كما مر، فلا ينافي هذا أن خروجه مكرها ولا يصح هنا أن يقال لا ينافي ذلك إسلامه باطنا؛ لأن صاحب هذا القول لا يقول به إذ هو قائل بأنه إنما أسلم بوم بدر، وأن ذلك سبب إسلامه. "فأخذت منه في الحرب فكلم النبي صلى الله عليه وسلم أن يحسب" بضم السين: يعد "العشرين أوقية من فدائه فأبى، وقال: "أما شيء خرجت تستعين به(2/331)
علينا فلا نتركه لك"، فقال العباس: تركتني أتكفف قريشا، فقال له عليه السلام: "فأين الذهب الذي دفعته إلى أم الفضل وقت خروجك من مكة"، فقال العباس: وما يدريك؟ قال: "أخبرني ربي"، فقال: "أشهد أنك صادق، فإن هذا لم يطلع عليه إلا الله، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأنك عبده ورسوله".
ولما فرغ صلى الله عليه وسلم من بدر في آخر رمضان وأول يوم من شوال، بعث زيد بن حارثة بشيرا فوصل المدينة ضحى، وقد نفضوا أيديهم من تراب رقية بنت النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا هو
__________
علينا" ظاهرا وإن كرهته باطنا، "فلا نتركه لك"، فقال العباس: تتركني أتكفف قريشا" أمد كفي إليهم بالمسألة أو أخذ الشيء منهم بكفي، كما في المصباح.
وفي رواية: تتركني فقير قريش ما بقيت، "فقال له عليه السلام: "فأين الذهب" استفهام إنكاري "الذي دفعته إلى أم الفضل" لبابة الكبرى زوجه رضي الله عنهما، "وقت خروجك من مكة"؟ فقال العباس: وما يدريك؟ قال: "أخبرني ربي" فقال: أشهد أنك صادق، فإن هذا لم يطلع عليه إلا الله، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأنك عبده ورسوله" وهذا القول كالشرح للقول الثاني في كلامه.
وفي رواية: فنزل في العباس: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ} [الأنفال: 70] الآية، قال العباس: فأبدلني الله عشرين عبدا كلهم تاجر يضرب بمال كثير أدناهم يضرب بعشرين ألف درهم مكان العشرين أوقية، وأعطاني زمزم وما أحب أن لي بها، أي: بدلها جميع أموال أهل مكة، وأنا أنتظر المغفرة من ربي.
"ولما فرغ صلى الله عليه وسلم من" جميع أمر "بدر في آخر" يوم من "رمضان، وأول يوم من شوال" قاله ابن إسحاق: وقد كان القتال يوم الجمعة لسبع عشرة خلت من رمضان على أرجح الأقوال المتقدمة، وقول المقريزي في إمتاع الأسماع: أنه صلى الله عليه وسلم دخل المدينة يوم الأربعاء الثاني والعشرين من رمضان مبني على أن الخروج منها كان لثلاث مضين من رمضان، "بعث زيد بن حارثة" حبه ومولاه "بشيرا" بما فتح الله عليه إلى أهل المسافلة وبعث عبد الله بن رواحة بشرا إلى أهل العالية، قاله ابن إسحاق وغيره. "فوصل المدينة" يوم الأحد "ضحى وقد نفضوا أيديهم من تراب رقية" بضم الراء وفتح القاف وشد التحتية "بنت النبي صلى الله عليه وسلم" بعد دفنها بالبقيع، وهي ابنة عشرين سنة. وروى ابن المبارك عن يونس عن الزهري: أنها كانت قد أصابها الحصبة، قال ابن إسحاق: ويقال إن ابنها عبد الله بن عثمان مات بعدها سنة أربع من الهجرة وله ست "وهذا هو(2/332)
الصحيح في وفاة رقية.
وقد روي أنه صلى الله عليه وسلم شهد دفن بنته رقية، فقعد على قبرها ودمعت عيناه، وقال: "أيكم لم يقارف الليلة" فقال أبو طلحة أنا، فأمره أن ينزلها قبرها.
وأنكر البخاري هذه الرواية، وخرج الحديث في الصحيح فقال فيه: عن أنس: شهدنا دفن بنت النبي صلى الله عليه وسلم وذكر الحديث ولم يسم رقية ولا غيرها.
وذكر الطبري أنها أم كلثوم فحصل في حديث الطبري التبيين. ومن قال: كانت رقية فقد وهم.
__________
الصحيح في وفاة رقية" كما قاله السهيلي وغيره.
"وقد روي" عند البخاري في التاريخ الأوسط، والحاكم في المستدرك من طريق حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس "أنه صلى الله عليه وسلم شهد دفن بنته رقية فقعد على قبرها ودمعت عيناه، وقال: "أيكم لم يقارف"، بقاف وفاء، يجامع "الليلة" أهله، كما صرح به في رواية وقول فليح بن سليمان يعني الذنب خطأ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان أولى بهذا، قاله السهيلي "فقال أبو طلحة" زيد بن سهل الأنصاري "أنا فأمره أن ينزلها قبرها" زاد في رواية: فقبرها، ففيه إيثار بعيد العهد بالملاذ بمواراة المبيت ولو امرأة على الزوج، وعلل بأنه حينئذ يأمن أن يذكره الشيطان ما كان منه تلك الليلة، "وأنكر البخاري هذه الرواية" في تاريخه، فقال: ما أدري ما هذا فإن رقية ماتت والنبي صلى الله عليه وسلم ببدر لم يشهدها، وهو وهم. قال الحافظ بن حماد في تسميتها فقط، "وخرج الحديث في الصحيح فقال فيه عن أنس: شهدنا دفن بنت النبي صلى الله عليه وسلم ... وذكر الحديث" وهو: وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم على القبر وعيناه تدمعان، وقال: $"هل فيكم من أحد لم يقارف الليلة؟ " فقال أبو طلحة: أنا، فقال: "أنزل قبرها" فنزل "ولم يسم رقية ولا غيرها. وذكر" أي: روى محمد بن جرير "الطبري" والطحاوي والواقدي وابن سعد والدولابي "أنها" أي: البنت التي شهد صلى الله عليه وسلم دفنها " أم كلثوم فحصل في حديث الطبري" والجماعة "التبيين و" إن "من قال كانت رقية فقد وهم،" بكسر الهاء غلط بلا شك، ووقع في مقدمة الفتح أن ابن بشكوال صحح أنها زينب، انتهى. لكنه لا يعادل رواية الجماعة.
وفي التاريخ والمستدرك: أنه صلى الله عليه وسلم قال: "لا يدخل القبر أحد قارف أهله البارحة" فتنحى عثمان. حكى ابن حبيب أنه جامع بعض جواريه تلك الليلة، قال ابن بطال: أحرم صلى الله عليه وسلم عثمان إنزالها في قبرها وكان أحق الناس لأنه بعلها لأنه لم يشغله الحزن بالمصيبة التي فقد فيها ما لا عوض لها منه وانقطاع صهره من النبي صلى الله عليه وسلم عن المقورفة، ولم يقل له شيئا؛ لأنه فعل حلالا، غير(2/333)
وكان عثمان رضي الله عنه قد تخلف لأجل رقية زوجته فضرب له رسول الله صلى الله عليه وسلم بسهمه وأجره.
وأمر صلى الله عليه وسلم عند انصرافه عاصم بن ثابت -وهو جد عاصم بن عمر بن الخطاب- بقتل عقبة بن أبي معيط، فقتله........................................................................
__________
أن المصيبة مع عظمها لم تبلغ عنده مبلغا يشغله، فحرم ما حرم بتعريض دون تصريح ولعله عليه السلام كان قد علم ذلك بالوحي، انتهى. وقال الحافظ: لعل مرض المرأة طال واحتاج عثمان إلى الوقاع ولم يظن موتها تلك الليلة وليس في الحديث ما يقتضي أنه واقع بعد موتها ولا حين احتضارها، انتهى.
"وكان عثمان رضي الله عنه قد تخلف" عن بدر "لأجل" مرض "رقية زوجته" بأمره صلى الله عليه وسلم ففي المستدرك: خلف النبي صلى الله عليه وسلم عثمان وأسامة بن زيد على رقية في مرضها لما خرج إلى بدر، فماتت حين وصل زيد بالبشارة، "فضرب له" لعثمان "رسول الله صلى الله عليه وسلم بسهمه وأجره" مع أحد عشر رجلا، كما مر، وجزم الخطابي وتبعه السيوطي بأن ذلك خاص بعثمان لما رواه أبو داود بإسناد صالح عن ابن عمر أنه صلى الله عليه وسلم ضرب لعثمان يوم بدر بسهم ولم يضرب لغائب غيره، والجواب: أن المراد غائب تخلف لأمر لا تعلق له بمصالح المسلمين ولم يمنعه العذر فلا يرد أولئك الذين ضرب لهم؛ لأن منهم من تخلف للعذر ومنهم للمصالح، كما مر بسطه.
"وأمر صلى الله عليه وسلم عند انصرافه" من بدر "عاصم بن ثابت" بن أبي الأقلح بفتح الهمزة واللام بينهما قاف ساكنة وحاء مهملة آخره، واسمه قيس بن عصمة بن النعمان من السابقين الأولين من الأنصار، وأصحاب العقبة وبدر والعلماء بالحرب، كما أنزلت بالنص النبوي "وهو جد عاصم بن عمر بن الخطاب" لأمه، قال في الفتح: هذا وهم من بعض رواية عاصم بن ثابت حال عاصم بن عمر أن أم عاصم جميلة بنت ثابت أخت عاصم كان اسمها عاصية فغيرها النبي صلى الله عليه وسلم جميلة، انتهى.
وعاصم بن عمر هذا، قال ابن عبد البر: مات النبي صلى الله عليه وسلم وله سنتا، وكان طوالا جسيما جميلا شاعرا، قال أخوه عبد الله: أنا وأخي عاصم لا نغتاب الناس، زوجه أبوه في حياته وأنفق عليه شهرا، ثم قال: حسبك، ومات سنة سبعين أو ثلاث وسبعين، ثم هذا قول ابن إسحاق. وقال ابن هشام. أمر علي بن أبي طالب "بقتل عقبة بن أبي معيط" أسير عبد الله بن سلمة بكسر اللام العجلاني، قال ابن إسحاق: فقال عقبة: يا محمد من للصبية؟ قال: "النار"، "فقتله" بعرق الظبية بكسر العين وسكون الراء المهملتين وقاف وبضم الظاء المعجمة وسكون الموحدة وفتح التحتية(2/334)
صبرا.
ثم أقبل عليه الصلاة والسلام قافلا إلى المدينة ومع الأساري من المشركين، واحتمل النفل، وجعل عليه عبد الله بن كعب من بني مازن. فلما خرج من مضيق الصفراء قسم النفل بين المسلمين...........................................................
__________
فتاء تأنيث، مكان على ثلاثة أميال من الروحاء مما يلي المدينة، وثَمَّ مسجد للنبي صلى الله عليه وسلم، ذكره الصغاني. وقال السهيلي: الظبية شجرة يستظل بها "صبرا" هو كل ذي روح يوثق حتى يقتل، كما في المصباح. ويروى أنه قال: يا معشر قريش، ما لي أقتل من بينكم صبرا؟ فقال عليه السلام: "بكفرك وافترائك على الله"، وإنه قال له: "لست من قريش، هل أنت إلا يهودي من أهل صفورية"، وذلك لأن أمية جد أبيه خرج إلى الشام فوقع على يهودية لها زوج من صفورية فولدت ذكوان المكنى أبا عمرو وهو والد أبي معيط على فراش اليهودي، فاستلحقه بحكم الجاهلية، قال الإسماعيلي: وهذا الطعن خاص بنسب عقبة من بني أمية، وفي نسب أمية نفسه مقالة أخرى، وهي أن أم أمية يقال لها الزرفاء، واسمها أرنب كانت في الجاهلية من ذوات الرايات لكن قد عفا الله عن أمر الجاهلية ونهى عن الطعن في الأنساب، ولو لم يجب الكف عن نسب أمية إلا لموضع عثمان لكفى، انتهى. وفي معجم البكري: صفورية بفتح أوله وثم ثانيه المشدد وكسر الراء المهملة وخفة الياء: موضع من ثغور الشام، وفي الميزان روى أبو الهيثم عن إبراهيم التيمي مرسلا أنه عليه السلام صلب عقبة إلى شجرة وأبو الهيثم لا يدري من هو.
"ثم أقبل عليه الصلاة والسلام قافلا" بقاف وفاء: "راجعا "إلى المدينة ومع الأساري من المشركين، واحتمل النفل" بفتح النون والفاء: الغنيمة والجمع الأنفال، "وجعل عليه عبد الله بن كعب" بن زيد بن عاصم "من بني مازن" بن النجار، كما قال ابن إسحاق. قال الواقدي: مات زمن عثمان سنة ثلاث وثلاين وكنيته أبو الحارث وتبع الواقدي المدائني وابن أبي خيثمة والعسكري وغيرهم، وأسقط ابن الكبي وابن سعد زيدا من نسبه وتبعهما البغوي وغيره، فجعلوا الكنية والوظيفة، أي: كونه على النفل والوفاة لعبد الله بن كعب بن عمرو بن عوف من بني مازن بن النجار أيضا، كما في الإصابة والمصنف محتمل لهما؛ لأنه لم يسم جده فيحتمل أنه زيد وأنه عمرو.
"فلما خرج من مضيق الصفراء قسم النفل بين المسلمين" وقد كانوا اختلفوا فيه، كما رواه ابن إسحاق وغيره عن عبادة بن الصامت، فقال من جمعه: هو لنا، وقال الذين كانوا يقاتلون العدو ويطلبونه: لولا نحن ما أصبتموه نحن شغلنا عنكم العدو فهو لنا، وقال الذين كانوا يحرسونه صلى الله عليه وسلم لقد رأينا أن نقتل العدو حين منحنا الله أكتافهم، ولقد رأينا أن نأخذ المتاع حين(2/335)
على السواء.
وأمر عليا رضي الله عنه بالصفراء بقتل النضر بن الحارث.
__________
لم يكن له من يمنعه ولكن خفنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم كرة العدو، فما أنتم بأحق به منا، فنزعه الله تعالى من أيديهم فجعله إلى رسوله وأنزل عليه: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَال} [الأنفال: 1] الآية، فقسمه بينهم "على السواء" لفظ الرواية عن بواء بفتح الموحد وخفة والواو وبالمد، أي: على السواء، فأتى المصنف بمعناها؛ لأنه لم يتقيد بها، ورواه أبو عبيد عن فواق، وقال: معناه جعل بعضهم فوق بعض في القسم ممن رأى تفضيله أو يعني سرعة القسم من فواق الناقة. قال السهيلي: ورواية ابن إسحاق أشهر وأثبت عند أهل الحديث، انتهى.
ويرد على تفسيره الأول للفواق ما جاء أن سعد بن معاذ، قال: يا رسول الله! أتعطي فارس القوم الذي يحميهم مثل ما تعطي الضعيف؟ فقال صلى الله عليه وسلم: $"ثكلتك أمك وهل تنصرون إلا بضعفائك"، "وأمر" صلى الله عليه وسلم "عليا رضي الله عنه بالصفراء" كما ذكره ابن إسحاق ومن لا يحصى، وغلط من قال بعرق الظبية؛ لأن ذاك إنما هو عقبة "بقتل النضر" بضاد معجمة "ابن الحارث" بن علقمة بن كلدة بفتحتين بن عبد مناف بن عبد الدر بن قصي هذا هو الصواب في نسبه، كما ذكره ابن الكلبي والزبير بن بكار وخلق لا يحصون، وغلط ابن منده وأبو نعيم فيه غلطين فاحشين، فقالا: كلدة بن علقمة، وأن النضر شهد حنينا، وأعطاه صلى الله عليه وسلم مائة من الإبل وكان مسلم من المؤلفة قلوبهم وعزيا ذلك لابن إسحاق، وهو غلط، فالذي قاله ابن إسحاق وأجمع عليه أهل المغازي والسير، أنه قتل كافرا بعد بدر صبرا، وقد أطنب الحافظ العز بن الأثير وغيره من الحفاظ في تغليظهما والرد عليهما، لكن تعقب كما في الإصابة باحتمال أن يكون له أخ سمي باسمه، فهو الذي ذكرها لا هذا المقتول كافرا، انتهى.
لكن إنما ينهض هذا الاحتمال لو وجد ما نسباه لابن إسحاق فيه، أما حيث لم يوجد فالمتبادر أنه غلط، كما قال الجماعة. نعم قال ابن عبد البر في كتاب المغازي: قد ذكر في المؤلفة النضر بن الحارث بن علقمة بن كلدة أخو النضر بن الحارث المقتول ببدر صبرا وذكر آخرون النضر بن الحارث فيمن هاجر إلى البحبشة، فإن كان منهم فمحال أن يكون من المؤلفة؛ لأنه ممن رسخ الإيمان في قلبه وقاتل دونه، لا ممن يؤلف عليه.
وفي قتله تقول قتيلة بضم القاف وفتح الفوقية وسكون التحتية وهي أخته في قول ابن هشام، وتبعه جمع منهم النووي واليعمري وبنته في قول الزبير بن بكار، وتبعه ابن عبد البر والجوهري والذهبي وغيرهم، قال السهيلي: وهو الصحيح وهو كذلك في الدلائل، وذكر أبو(2/336)
ثم مضى صلى الله عليه وسلم حتى دخل المدينة قبل الأساري بيوم
__________
عمر أنها أسلمت يوم الفتح وكانت شاعرة محسنة:
يا راكبا إن الأثيل مظنة ... من صبغ خامسة وأنت موفق
أبلغ بها ميتا بأن تحية ... ما أن تزال بها النجائب تخفق
مني إليك وعبرة مسفوحة ... جادت بواكفها وأخرى تحنق
هل يسمعني النضر إن ناديته ... أم كيف يسمع ميت لا ينطق
أمحمد يا خير ضن كريمة ... في قومها والفحل فحل معرق
ما كان ضرك لو مننت وربما ... من الفتى وهو المغيظ المحنق
أو كنت قابل فدية فلينفقن ... بأعز ما يغلو به ما ينفق
فالنضر أقرب من أسرت قرابة ... وأحقهم إن كان عتق يعتق
ظلت سيوف بني أبيه تنوشه ... لله أرحام هناك تشقق
صبرا يقاد إلى المنية متعبا ... رسف المقيد وهو عان موثق
فيقال إنه صلى الله عليه وسلم بكى حتى اخضلت لحيته، وقال: "لو بلغني هذا الشعر قبل قتله لمننت عليه". وفي رواية الزبير بن بكار: فرق صلى الله عليه وسلم حتى دمعت عيناه، وقال: "يا أبا بكر، لو سمعت شعرها ما قتلت أباها"، قال الزبير: سمعت بعض أهل العلم يغمز هذه الأبيات، ويقول: إنها مصنوعة. قال ابن المنير: وليس معنى كلامه صلى الله عليه وسلم الندم؛ لأنه لا يقول ولا يفعل إلا حقا والحق لا يندم على فعله، ولكن معناه: لو شفعت عندي بهذا القول لقلبت شفاعتها، ففيه تنبيه على حق الشافعة والضراعة ولا سيما الاستعطاف بالشعر، فإن مكارم الأخلاق تقتضي إجازة الشاعر وتبليغه قصده، انتهى.
والأثيل: بمثلثة مصغر أثل موضع. مظنة بفتح الميم وكسر المعجمة وفتح النون المشددة: تخفق تسرع، الواكف: السائل، تحنق بضم النون. والضن: الولد، معرى بفتح الراء وكسرها: العريق المغيظ بفتح الميم وكسر المعجمة وإسكان التحتية وظاء معجمة. وأقرب من أسرت، أي: من أقرب، وإلا فالعباس وغيره أقرب منه.
"ثم مضى صلى الله عليه وسلم حتى دخل المدينة قبل الأسارى بيوم" فدخلها من ثنية الوداع، مؤيدا منصورا قد خافه كل عدو له بها وحولها، فأسلم بشر كثير من أهل المدينة، ودخل عبد الله بن أبي في الإسلام ظاهرا، وقالت اليهود تيقنا: إنها لنبي الذي نجد نعته في التوراة، ولكن من يضلل الله فلا هادي له.(2/337)
فلما قدموا فرقهم بين أصحابه وقال: "استوصوا بهم خيرا".
وقد استقر الحكم في الأساري عند الجمهور أن الإمام مخير فيهم، إن شاء قتل إياهم كما فعل صلى الله عليه وسلم ببني قريظة، وإن شاء فادى بمال كما فعل بأسارى بدر، وإن شاء استرق من أسر. هذا مذهب الشافعي وطائفة من العلماء وفي المسألة خلاف مقرر في كتب الفقه والله أعلم.
و.........................
__________
"فلما قدموا فرقهم بين أصحابه، وقال: "استوصوا بهم خيرا" ذكره ابن إسحاق، وزاد: فكان أبو عزيز بن عمير شقيق مصعب بن عمير في الأساري، فقال: مر بي أخي ورجل من الأنصار يأسرني، فقال له: شد يديك به، فإن أمه ذات متاع لعلها تفديه منك، قال: فكنت في رهط من الأنصار حين أقبلوا بي من بدر، فكانوا إذا قدموا غداءهم وعشاءهم خصوني بالخبز وأكلوا التمر، لوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم إياهم بنا.
"وقد استقر الحكم في الأسارى عند الجمهور أن الإمام مخير فيهم إن شاء قتل إياهم، كما فعل صلى الله عليه وسلم ببني قريظة، وإن شاء فادى بمال كما فعل ببعض أسرى بدر، كأبي العاصي بن الربيع زوج بنته زينب بعثت بقلادة لهاكانت خديجة أدخلتها بها عليه حين بنى بها فلما رآها صلى الله عليه وسلم رق لها رقة شديدة، وقال: "إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها وتردوا عليها فافعلوا"، قالوا: نعم يا رسول الله، فأطلقوه وردوا عليها الذي لها، رواه أبو داود وغيره من حديث عائشة، وكذا من على المطلب بن حنطب وقد أسلم كأبي العاصي رضي الله عنهما، وصيفي بن أبي رفاعة، وأبي عزة الجمحي وأخذ عليه أن لا يظاهر عليه أحدًا أبدا، فلم يفعل فقتله صلى الله عليه وسلم يوم أحد صبرا، "هذا مذهب الشافعي وطائفة من العلماء، وفي المسألة خلاف مقرر في كتب الفقه، والله أعلم" بالحق.
وذكر أبو عبيد أنه صلى الله عليه وسلم لم يفد بعد بدر بمال إنما كان يمن أو يفادي أسيرا بأسير، قال السهيلي: وذلك والله أعلم، لقوله تعالى: {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا} [الأنفال: 67] الآية، يعني الفداء بالمال، وإن كان قد أحل ذلك وطيبه، ولكن ما فعله الرسول بعد ذلك أفضل من المن أو المفاداة بالرجال، ألا ترى إلى قوله تعالى: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} [محمد: 4] الآية، كيف قدم المن على الفداء، فلذلك اختاره رسول الله وقدمه، انتهى.
ومما يتصل بغزوة بدر هلاك أبي لهب فذكره المصنف كغيره، فقال: "و" روى ابن إسحاق(2/338)
لما قدم أبو سفيان بن الحارث، سأله أبو لهب عن خبر قريش. فقال: والله ما هو إلا أن لقينا القوم فمنحناهم أكتافنا يقتلوننا كيف شاءوا، ويأسروننا كيف شاءوا، وايم الله -مع ذلك- ما لمت الناس. لقينا رجال بيض على خيل بلق بين السماء والأرض، والله لا يقوم لها شيء.
قال أبو رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم
__________
من حديث عكرمة عن أبي رافع، قال: "لما قدم أبو سفيان بن الحارث" بن عبد المطلب أخو المصطفى من رضاع حليمة، لقي النبي صلى الله عليه وسلم وهو سائر إلى غزوة الفتح بالأبواء أو غيرها، فأسلم وشهدها معه وحنينا، وثبت يوم حنين اسمه وكنيته وذكر إبراهيم بن المنذر والزبير بن بكار وجماعة أن اسمه المغيرة، لكن جزم ابن قتيبة وابن عبد البر والسهيلي بأن المغيرة أخوه مات سنة عشرين.
"سأله أبو لهب" عبد العزى "عن خبر قريش" فقال: هلم إلي فعندك الخبر، "قال: والله ما هو" شيء فهو مبتدأ وشيء خبره وما بعد إلا بدل منه، لكن لما حذف الخبر أعطى ما بعد إلا حكمه فصار هو الخبر لفظا، وإن كان بدلا في الأصل، وكذا كل ما حذف فيه المستثنى منه وسبق ما يخرجه عن الإيجاب من نفي نحو: وما محمد إلا رسول، أو نهي نحو: لا تقولوا على الله إلا الحق، أو استفهام إنكاري نحو: فهل يهلك إلا القوم الفاسقون، ولا فرق بين الجملة الاسمية كهذه الأمثلة والفعلية، نحو: ما قام إلا زيد أصله ما قام أحد، حذف الفاعل وأعرب ما بعد إلا بأعرابه.
"إلا أن لقينا" بإسكان الياء "القوم" نصب مفعول ويجوز فتح الياء ورفع القوم، قال البرهان: الأول أحسن، لقوله: فمنحناهم أكتافنا" لينتسق الكلام، يقتلوننا كيف شاءوا ويأسروننا" بكسر السين "كيف شاءوا، وايم الله" بهمزة وصل أو قطع، أي: قسمي "مع ذلك ما لمت الناس، لقينا رجال بيض" هكذا رواية ابن إسحاق كما في العيون، وأوردها الشامي: رجالا بيضا، "على خيل بلق بين السماء والأرض، والله لا يقوم لها شيء" والمصنف تصرف في الرواية وحذف منها كثيرا؛ لأنه لم يتقيد بها ولفظها هنا: والله لا تليق شيئا ولا يقوم لها شيء، بضم الفوقية وكسر اللام وسكون التحتية وقاف، أي: ما تبقي، كما قال أبو ذر في الإملاء. "قال أبو رافع:" أسلم أو إبراهيم، أو صالح، أو هرمز، أو ثابت، أو سنان، أو يسار، أو عبد الرحمن، أو قزمان، أو يزيد، فتلك عشرة كاملة أشهرها الأول، كما قال أبو عمر "مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم" أسلم قبل بدر وشهد أحدًا وما بعدها، وفتح مصر وزوجه المصطفى مولاته سلمى فولدت له، ومات بالمدينة في أول خلافة علي، كما قال ابن حبان.(2/339)
وكان غلاما للعباس بن عبد المطلب قال: وكان الإسلام قد دخلنا فقلت له: والله تلك الملائكة. فرفع أبو لهب يده فضربني في وجهي ضربة، فقامت أم الفضل إلى عمود فضربت به في رأس أبي لهب وقالت: استضعفته أن غاب عنه سيده.
قال: فوالله ما عاش إلا سبع ليال، حتى رماه الله
__________
قال في التقريب: وهو صحيح، وقال الواقدي: مات قبل عثمان أو بعده بيسير. "وكان غلاما" مملوكا "للعباس بن عبد المطلب" فوهبه للنبي صلى الله عليه وسلم فأعتقه لما بشره بإسلام العباس، ومن الموالي النبوية آخر يقال له أبو رافع والد البهي، قيل: اسمه رافع كان عبد السعيد بن العاصي فلما مات أعتق كل بنيه العشرة نصيبه منه إلا خالد بن سعيد، فوهب حصته للنبي صلى الله عليه وسلم فأعتقه، فزعم جماعة أنه هو الأول. قال في الإصابة: وهو غلط بين، فالأول كان للعباس، فالصواب أنهما اثنان. "قال: وكان الإسلام قد دخلنا" أهل بيت فأسلم العباس وأسلمت أم الفضل وأسلمت أنا، وكان العباس يهاب قومه ويكره خلافهم فكان يكتم إسلامه وكان ذا مال، هذا كله قول أبي رافع عند ابن إسحاق.
"فقلت له" وقد سرنا ما جاءنا من الخبر: "والله تلك الملائكة، فرفع أبو لهب يده فضربني في وجهي ضربة" شديدة، قال: وثاورته فاحتملني فضرب بي الأرض ثم برك علي يضربني "فقامت أم الفضل" لبابة الكبرى بنت الحارث بن حزن الهلالية أخت ميمونة أم المؤمنين قديمة الإسلام، حتى قال ابن سعد: إنها أول امراة أسلمت بعد خديجة، لكن رده في الفتح بأنها وإن كانت قديمة الإسلام لكنها لا تذكر في السابقين، فقد سبقتهما سمية أم عمار وأم أيمن، انتهى. وجزم غيره بأن أول من أسلم بعد خديجة فاطمة بنت الخطاب أخت عمر، كما مر، أنجبت للعباس بنيه الستة النجباء: الفضل، وعبيد الله، وعبد الرحمن، وقثم، ومعبدا، وأختهم أم حبيب ويقال أم حبيبة بالهاء. ذكر ابن إسحاق في رواية يونس: أنه صلى الله عليه وسلم رآها وهي طفلة تدب بين يديه، فقال: "إن بلغت وأنا حي تزوجتها" فقبض قبل أن تبلغ فتزوجها سفيان بن الأسود المخزومي.
"إلى عمود" من عمد الخيمة وكانت جالسة عند أبي رافع بحجرة زمزم "فضربت به في رأس أبي لهب" لفظ الرواية: فضربته به ضربة فلغت في رأسه شجه منكرة، وفلغت بفتح الفاء واللام والغين المعجمة: شدخت، "وقالت: استضعفته أن" بفتح الهمزة، أي: لأن "غاب عنه سيده" وفي نسخة: إذ وهي للتعليل بلا تقدير، "قال" أبو رافع: فقام موليا ذليلا "فوالله ما عاش" صحيحا سليما "إلا سبع ليال" واستمر على ما هو عليه "حتى" إلى أن "رماه الله" ابتلاه(2/340)
بالعدسة، وهي قرحة كانت العرب تتشاءم بها. وقيل إنها تعدي أشد العدوى، فتباعد عنه بنوه حتى قتله الله، وبقي بعد موته ثلاثا لا تقرب جنازته ولا يحاول دفنه. فلما خافوا السبة في تركه حفروا له ثم دفعوه بعود في حفرته، وقذفوه بالحجارة من بعيد حتى واروه.
__________
"بالعدسة" بمهملات مفتوحات آخره تاء تأنيث، "وهي قرحة كان العرب تتشاءم بها، وقيل: إنها" كذا جعله قولا، والذي في تاريخ ابن جرير: كانت العرب تتشاءم بها ويرون أنها "تعدي" بضم أوله "أشد العدوى" أي: تجاوز صاحبها إلى من قاربه، وفي النور: العدسة بثرة تشبه العدسة تخرج في مواضع من الجسد من جنس الطاعون تقتل صاحبها غالبا.
وفي حواشي أبي ذر: قرحة قاتلة كالطاعون، فتباعد عنه بنوه "عتبة ومعتب أسلما يوم الفتح وثبتا يوم حنين، وأختهما درة لها صحبة وهي من المهاجرات، وأما عتيبة المصغر فقتله الأسد بالزرقاء من أرض الشام بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم، رواه الحاكم وصححه وكان ذلك في حياة أبي لهب، كما رواه أبو نعيم، فتردد البرهان في أنه هلك زمن أبيه أو بعده تقصير، "حتى قتله الله وبقي بخلاف ثأر بعد موته ثلاثا لا تقرب" بالبناء للمفعول ونائبه "جنازته" بكسر الجيم أفصح من فتحها، وهو من إضافة الأعم إلى الأخص، كشجر أراك، أي: لا يقرب هو فإطلاق الجنازة تجوز من تسمية المطلق باسم المقيد إذ هي الميت في النعش أو النعش وعليه الميت، وكلاهما لا يراد هنا؛ لأنه لم يكن على نعش "ولا يحاول دفنه" لا يفكر فيه ولا يشرع في أسبابه من الحيلة، "فلما خافوا السبة" بضم المهملة وشد الموحدة فتاء تأنيث، أي: العار الذي يلحقهم فيسبون به "في تركه" أي: بسببه، "حفروا له ثم دفعوه بعود في حفرته" وقيل: لم يحفروا له بل دفعوه إلى أن ألصقوه بالحائط، "وقذفوه بالحجار من بعيد حتى واروه" قال اليعمري: ويروى أن عائشة كانت إذا مرت بموضعه ذلك غطت وجهها، قال البرهان: الظاهر أن ذلك لنتنه، انتهى.
فكأنه كان يظهر من قبره إهانة له أبدا، ويحتمل أن فعلها ذلك لكونه محل عذاب، كما فعل صلى الله عليه وسلم حين مر بالحجر فغطى وجهه بثوبه واستحث راحلته إشارة إلى التباعد عنه، هذا والقبر الذي يرجم خارج باب شبيكة ليس بقبر أبي لهب، كما أفاده البرهان، وإنما هو قبر رجلين لطخا الكعبة بالعذرة في الدولة العباسية، فلما أصبح الناس ورأوها كمنوا لهما فأخذا ثم صلبا في هذا الموضع ودفنا واستمرا يرجمان إلى الآن، كما قاله المحب الطبري، وأنه لا أصل لما اشتهر عند المكيين أنه قبر أبي لهب، وقيل: إنه قبر أبي الطاهر القرمطي بكسر القاف والميم، عدو الله الذي قتل الحجيج في المسجد الحرام وطرح القتلى في زمزم واقتلع الحجر الأسود، فابتلي بالجدري فقطع جسده.(2/341)
وقال ابن عقبة: أقام النوح على قتلى قريش شهرا.
__________
"قال ابن عقبة" موسى الإمام الحافظ: "أقام النوح" أي: دام من النائحات "على قتلى قريش شهرا" واستعمال القيام بهذا المعنى مأخوذ من قامت السوق إذا نفقت، على حد ما ذكر البيضاوي في يقيمون الصلاة. وروى ابن إسحاق من مرسل عباد بن عبد الله بن الزبير، قال: ناحت قريش على قتلاهم، ثم قالوا: لا تفعلوا فيبلغ محمدًا وأصحابه فيشتموا بكم، وقد اقتصر المصنف في هذه الغزوة العظيمة على ما ذكر قصدا للاختصار، وإن كان بسطها يحتمل أضعاف ذلك، والله يهدينا إلى الصواب بجاه النبي صلى الله عليه وسلم.(2/342)
"قتل عمير عصماء":
ثم سرية عمير بن عدي الخطمي، وكانت لخمس ليال بقين من رمضان، على رأس تسعة عشر شهرا من الهجرة، إلى عصماء بنت مروان -زوج يزيد بن زيد الخطمي-
__________
قتل عمير عصماء:
"ثم سرية" إطلاقها على الواحد تجوز لأن فيه خلافا، مر أقله خمسة "عمير بن عدي" بن حرشة الأنصاري، ثم "الخطمي" بفتح المعجمة وسكون الطاء المهملة وميم، نسبة إلى جده خطمة بن جشم بن مالك بن الأوس الأعمى إمام بني خطمة، وقيل: إنه أول من أسلم منهم، وكان يدعى القارئ صحابي شهير كان صلى الله عليه وسلم يزوره، روى عنه ابن عدي وسماه ابن دريد غشمير بمعجمتين قبل الميم، وقال: إنه فعليل من الغشمرة وهي أخذ الشيء بالغلبة، قال الذهبي: وقيل غشمين بنون آخره. قال في الإصابة: صحفه ابن دريد ثم تكلف توجيهه، وإنما هو عمير لا شك فيه ولا ريب. انتهى.
"وكانت لخمس ليال بقين من" شهر "رمضان على رأس تسعة عشر شهرا من الهجرة" كذا قاله ابن سعد، وهو منابذ لما مر أن فراغه من بدر كان آخر يوم من رمضان وأول يوم من شوال، نعم هو يأتي على ما مر عن الإمتاع، أنه دخل المدينة ثاني عشر رمضان، وقد ذكره ابن إسحاق بعد قتل أبي عفك وتبعه أبو الربيع، وبعضهم ذكرها بعد قرقرة الكدر، "إلى عصماء" بفتح العين وسكون الصاد المهملتين والمد "بنت مروان" اليهودية "زوج" بلا هاء أفصح من زوجة، أي: امرأة يزيد بن زيد" بن حصن الأنصاري "الخطمي" الصحابي شهد أحدا وهو والد عبد الله الصحابي وجد عدي بن ثابت لأمه، وقول الاستيعاب في ترجمة عمير بن عدي قتل أخته لشتمها رسول الله صلى الله عليه وسلم.(2/342)
وكانت تعيب الإسلام، وتؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءها ليلا، وكان أعمى، فدخل عليها بيتها، وحولها نفر من ولدها نيام، منهم من ترضعه، فحبسها بيده، ونحى الصبي عنها، ووضع سيفه على صدرها، حتى أنقذه من ظهرها. وصلى الصبح معه صلى الله عليه وسلم بالمدينة وأخبره بذلك، فقال: "لا ينتطح فيها عنزان"، أي لا يعارض فيها معارض ولا يسأل عنها فإنها هدر.
__________
قال في الإصابة: وهم وخلط قصة بقصة، فإن قاتل أخته عمير بن أمية كما رواه الطبراني وغيره، ولم يقف البرهان على هذا فتوقف في كلام أبي عمر بأنها يهودية وعمير أنصاري، انتهى.
ولا يعارض كونها يهودية نسبة من نسبها إلى بني أمية بن زيد وهو في الأنصار لجواز أنها منهم بالحلف، أو لكون زوجها منهم، أو نحو ذلك.
"و" سبب ذلك أنها "كانت تعيب الإسلام" بفتح فكسر من عاب يستعمل لازما ومتعديا أو بضم ففتح وشد التحتية من عيبه إذا نسبه العيب أو أحدث فيه عيبا، "وتؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم" عطف لازم على ملزوم؛ لأن سب الإسلام يلزمه إيذاؤه أو أعم على أخص؛ لأن عيب الإسلام يكون بذكر خلل في الدين وإيذاء المصطفى يكون به وبغيره، وكانت تحرض عليه وتقول الشعر ونافقت لما قتل أبو عفك، وذكر ابن سعد أنه صلى الله عليه وسلم لما كان في بدر قالت في الإسلام وأهله أبياتا، فسمعها عمير بن عدي فنذر إذا رد الله رسوله من بدر سالما ليقتلنها، "فجاءها" لما قدم صلى الله عليه وسلم وسل سيفه ودخل عليها "ليلا، وكان أعمى" وسماه المصطفى البصير "فدخل عليها بيتها وحولها نفر" بفتحتين، والمراد هنا جماعة "من ولدها نيام" لا بقيد كونهم رجالا ولا ذكورا، لقوله: "منهم من ترضعه" إذ الرضيع لا يتبادر من الرجل وإن أطلق عليه على أحد قولين اللمس لا بقيد كونه باليد فيكون تأسيسا، "ونحى" أبعد"الصبي" الذي ترضعه "عنها" مخافة أن يصيبه شيء فيهلك، "ووضع سيفه على صدرها حتى أنقذه" أي: أخرجه "من ظهرها، ثم" رجع فأتى المسجد و"صلى الصبح معه صلى الله عليه وسلم بالمدينة وأخبره بذلك" لما قال له، كما رواه ابن سعد: "أقتلت ابنة مروان"؟ قال: نعم، فهل علي في ذلك من شيء؟ "فقال: "لا ينتطح فيها عنزان"، فكانت هذه الكلمة أول ما سمعت من النبي صلى الله عليه وسلم "أي: لا يعارض فيها معارض" ليأخذ بثأرها "ولا يسأل عنها" يطلب بدمها "فإنها هدر" وفي النور: أي أن قتلها هين لا يكون فيه طلب ثأر ولا اختلاف، انتهى.
وقد تحقق ذلك، فذكر ابن إسحاق وغيره: أن عميرا رجع إلى قومه بعد قتلها فوجد بنيها(2/343)
قالوا: وهذا من الكلام المفرد الموجز البليغ، الذي لم يسبق إليه عليه الصلاة والسلام، وسيأتي لذلك نظائر إن شاء الله تعالى.
وفي أول شوال صلى صلاة الفطر.
__________
وهم خمسة رجال في جماعة يدفنوها، فقال: أنا قتلتها فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون، فوالذي نفسي بيده، لو قلتم بأجمعكم ما قالت لضربتكم بسيفي هذا حتى أموت أو أقتلكم، فيومئذ ظهر الإسلام في بني خطمة وكان يستخفي بإسلامه فيهم من أسلم، وأسلم يومئذ رجال لما رأوا من عز الإسلام، ولكن يعارضه ما وقع في مصنف حماد بن سلمة أنها كانت يهودية وكانت تطرح المحايض في مسجد بني خطمة، فأهدر صلى لله عليه وسلم دمها ولم ينتطح فيها عنزان، فإن المسجد صريح في ظهور الإسلام قبل ذلك، إلا أن يقال ظهر كل الظهور. وإن المعنى كان الضعيف الذي لم يقدر على الإسلام يستخفي بإسلامه، وأثنى صلى الله عليه وسلم على عمير بعد قتله عصماء، فأقبل على الناس، وقال: "من أحب أن ينظر إلى رجل كان في نصرة الله ورسوله، فلينظر إلى عمير بن عدي"، فقال عمر بن الخطاب: انظروا إلى هذ الأعمى الذي يرى. وفي رواية: بات في طاعة الله، فقال صلى الله عليه وسلم: "مه يا عمر، فإنه بصير"، وسماه البصير لما رأى من كمال إيمانه وقوة قلبه في الله حتى قتلها وهدد بنيها وقومها مواجها لهم مع عجزه الظاهر، وكونه قاتلها هو المشهور. وفي الروض: أن زوجها قتلها. وفي رواية أنه عليه السلام، قال: "ألا رجل يكفينا هذه"؟ فقال رجل من قومها: أنا، فأتاها وكانت تبيع التمر، قال: أعندك أجود من هذا التمر؟ قالت: نعم، فدخلت البيت وانكبت لتأخذ شيئا فالتف يمينا وشمالا فلم ير أحدا فضرب رأسها حتى قتلها.
"قالوا" ليس للتبري بل للإشارة إلى شهرته حتى كأنه إجماع "وهذا من الكلام المفرد الموجز البليغ الذي لم يسبق إليه عليه الصلاة والسلام، وسيأتي لذلك نظائر إن شاء الله تعالى" في المقصد الثالث، وذكر صاحب النور هنا جملة منها: "وفي أول شوال صلى صلاة الفطر" وهذا مع ما مر يعطي أنه صلاها ببدر، وذكر ابن سعد بأسانيد الواقدي أنه صلى الله عليه وسلم خرج إلى المصلى وحملت العنزة بين يديه وغرزت في المصلى وصلى إليها صلاة الفطر، والله أعلم.(2/344)
"غزوة بني سليم وهي قرقرة الكدر":
وفي أول شوال أيضا -وقيل بعد بدر بسبعة أيام،
__________
غزوة بني سليم وهي قرقرة الكدر:
"وفي أول شوال أيضا، وقيل: بعد بدر بسبعة أيام" وبه جزم ابن إسحاق ومن تبعه، وتقدم(2/344)
وقيل في نصف المحرم سنة ثلاث -خرج عليه الصلاة والسلام يريد بني سليم. فبلغ ماء يقال له الكدر، وتعرف بغزوة قرقرة، وهي أرض ملساء.
والكدر: طير في ألوانها كدرة عرف بها ذلك الموضع.
فأقام بها عليه الصلاة والسلام ثلاثا، وقيل عشرا، فلم يلق أحدا
__________
قوله: فرغ من بدر في آخر رمضان وأول شوال، ويمكن أن لا تنافي بين القولين، "وقيل: في نصف المحرم سنة ثلاث" وبه جزم ابن سعد وابن هشام "خرج عليه الصلاة والسلام" في مائتي رجل "يريد بني سليم" بضم المهملة وفتح اللام، "فبلغ ماء يقال له الكدر" بضم الكاف وسكون المهملة؛ لأنه كما ذكر ابن إسحاق وابن سعد وابن عبد البر وابن حزم: بلغه صلى الله عليه وسلم أن بهذا الموضع جمعا من بني سليم وغطفان، "وتعرف" غزوة بني سليم بالكدر "بغزوة ذي قرقرة" بفتح القافين. وحكى البكري ضمهما، قال الدميري وغيره: والمعروف فتحهما بعد كل قاف راء أولاهما ساكنة، ثم تاء تأنيث. قال ابن سعد: ويقال قرارة الكدر، وفي الصحاح: قراقر، وإن عرف ما حكاه البكري يكون أربعة. "وهي أرض ملساء والكدر" كما قال السهيلي وابن الأثير وغيرهما "طير في ألوانها كدرة عرف بها ذلك الموضع" الذي هو قرقرة لاستقرار هذه الطيور به، فهما غزوة واحدة، وتبع المصنف على ذلك تلميذه الشامي، فقال: غزوة بني سليم بالكدر، ويقال لها: قرقرة الكدر، وجعلهما اليعمري غزوتين، وجعل شيخه الدمياطي غزوة بني سليم هي غزوة نجران الآتية، ويجي قول المصنف فيها وتسمى غزوة بني سليم.
"فأقام بها عليه الصلاة والسلام ثلاثا" قاله ابن إسحاق والجماعة "وقيل: عشرا، فلم يلق أحدًا" من سليم وغطفان الذين خرج يريدهم في المحال، وذكر ابن إسحاق والجماعة أنه أرسل نفرا من أصحابه في أعلى الوادي، واستقبلهم صلى الله عليه وسلم في بطن الوادي فوجد رعاة، بالكسر جمع راع فيهم غلام يقال له يسار، بتحتية ومهملة، فسأله عن الناس، فقال: لا علم لي بهم، إنما أرود لخمس وهذا يوم ربعي والناس قد ارتفعوا في المياه، ونحن عزاب في النعم، فانصرف صلى الله عليه وسلم وقد ظفر بالنعم فانحدر بها إلى المدينة واقتسموا غنمائهم بصرار على ثلاثة أميال من المدينة وكانت خمسمائة بعير، فأخرج خمسه وقسم أربعة أخماسه على المسلمين، فأصاب كل رجل منهم بكران، وكانوا مائتي رجل وصار يسار في سهمه صلى الله عليه وسلم فأعتقه لأنه رآه يصلي، أي: لأنه أسلم بعد الأسر وتعلم الصلاة من المسلمين، واستشكل بأنه لما أسلم لم يقم به رق، فلا يكون غنيمة فكيف وقع في سهم؟ وأجيب: بأن إسلامه إنما يعصم دمه ويخير الإمام فيه بين الرق والفداء(2/345)
وكانت غيبته عليه السلام خمس عشرة ليلة، واستخلف على المدينة سباع بن عرفطة، وقيل ابن أم مكتوم. وحمل اللواء علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
وذكرها ابن سعد بعد غزوة السويق.
__________
والمن بلا شيء، فيجوز أنه صلى الله عليه وسلم اختار رقه بعد علمه بإسلامه أو قبله ثم صار في سهمه حين القسمة، فأعتقه لرؤيته يصلي. وخمس بكسر المعجمة: من أظماء الإبل أن ترعى ثلاثة أيام وترد اليوم الرابع، وقد أخمس الرجل، أي: وردت إبله خمسا. ومياه بالهاء، وغلط فيه بعض المدرسين فقاله بالتاء. وصرار بكسر المهملة وراء مهملة مخففة فألف فراء ثانية، كما قيده الدارقطني وغيره للحموي والمستملي بضاد معجمة وهو وهم، كما في المطالع: موضع قريب من المدينة. وقيل: بئر قديمة على ثلاثة أميال منها من طريق العراق.
"وكانت غيبته عليه السلام" كما قال ابن إسحاق والجماعة: "خمس عشرة ليلة" قال ابن إسحاق وغيره: وأقام بالمدينة شوالا وذا القعدة وأفدى في إقامته تلك جل الأسارى من قريش "واستخلف على المدينة سباع" بمهملة مكسورة فموحدة فألف فمهملة "ابن عرفطة" بمهملة مضمومة فراء ساكنة ففاء مضمومة فطاء مهملة، الغفاري ويقال له الكناني، الصحابي الشهير، واستعمله عليها أيضا عام خيبر، فجاء أبو هريرة وصلى خلفه الصبح، "وقيل" وبه جزم ابن سعد وابن هشام: استخلف عليها "ابن أم مكتوم" عمرا على الأكثر، وقيل: عبد الله بن قيس بن زائدة القرشي العامري، والصحيح الأول.
ففي مسلم: أنه صلى الله عليه وسلم سماه عمرا في حديث فاطمة بنت قيس وأم مكتوم لم تسلم، واسمها عاتكة بنت عبد الله، وجمع بينهما بأنه استخلف سباعا للحكم، وابن مكتوم للصلاة على عادته في استخلافه للصلاة.
"وحمل اللواء" وكان أبيض، كما عند الجماعة "علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وذكرها ابن سعد بعد غزوة السويق" ضرورة جزمه بأنها في المحرم سنة ثلاث، وأن غزوة السويق في ذي الحجة، وكأنه وجه جعل اليعمري لهما غزوتين؛ لأن الكدر بعد بدر وقرقرة بعد السويق، فترجم هنا غزوة بني سليم، وذكر فيها ما حاصله: أنه بلغ ماء يقال له الكدر، فأقام عليه ثلاثا، ثم رجع ولم يلق كيدا، ثم بعد السويق ترجم غزوة قرقرة الكدر، وساق فيها القصة بتمامها من طريق ابن سعد، فعليه يكون غزا بني سليم مرتين، مرة وصل فيها لذلك الماء فلم يجد شيئا من النعم، ومرة وصل فيها تلك الأرض ووجد فيها النعم، والله أعلم.(2/346)
"قتل أبي عفك اليهودي":
ثم سرية سالم بن عمير إلى أبي عفك اليهودي -وكان شيخا كبيرا، قد بلغ عشرين ومائة سنة-وكان يحرض على النبي صلى الله عليه وسلم، ويقول فيه الشعر، فأقبل إليه سالم ووضع سيفه على كبده، ثم اعتمد عليه حتى خش في الفراش، فصاح عدو الله أبو عفك، فثار إليه أناس ممن هم على قوله، فأدخلوه منزله فقتل.
__________
قتل أبي عفك اليهودي:
"ثم" في شؤال أيضا "سرية سالم بن عمير" ويقال ابن عمرو، وقال ابن عقبة: سالم بن عبد الله بن ثابت الأنصاري الأوسي أحد بني عمرو بن عوف، العقبي شهد بدرا والمشاهد، أحد البكائين، مات في آخر خلافة معاوية رضي الله عنهما.
"إلى أبي عفك" بفتح المهملة والفاء الخفيفة وكاف، يقال: رجل أعفك بين العفك، أي: أحمق، "اليهودي" من بني عمرو بن عوف "وكان شيخا كبيرا قد بلغ" من السن "عشرين ومائة سنة، وكان يحرض" يحث ويحمل الناس "على" قتال "النبي صلى الله عليه وسلم ويقول فيه الشعر" يهجوه به، فقال صلى الله عليه وسلم كما عند ابن سعد وغيره: "من لي بهذا الخبيث"؟ فقال سالم: علي نذر أن أقتل أبا عفك أو أموت دونه، فأمهل يطلب له غرة، بكسر المعجمة وشد الراء المفتوحة: غفلة، حتى كانت ليلة صائفة، أي: حارة نام أبو عفك بفناء منزله وعلم سالم به، "فأقبل إليه سالم ووضع سيفه على كبده ثم اعتمد عليه حتى خش" دخل "في الفراش فصاح عدو الله أبو عفك فثار" بمثلثة وراء، كذا في النسخ.
والذي في العيون والسبل عن ابن سعد: فثاب بمثلثة وموحدة، أي: اجتمع وهو أولى؛ لأن ثاب لغة اجتمع ورجع فأطلق على أحد استعماليه فإنه لازم لمعنى ثاب لا مدلوله، "إليه أناس ممن هم على قوله" في موافقته على الكفر والتحريض "فأدخلوه منزله فقتل" أي: مات، ولفظ ابن سعد: فأدخلوه منزله وقبروه، وعند غير ابن سعد: فقالت أمامة المريدية في ذلك:
تكذب دين الله والمرء أحمدا ... لعمر والذي أمناك أن بئس ما يمنى
حباك حنيف آخر الليل طعنة ... أبا عفك خذها على كبر السن
أمامة بضم أوله، ويقال: أسامة المريدية بضم الميم وكسر الراء، كما في التبصير كأصله الذهبي. وقال في الألقاب: بفتحها فتحتية ساكنة فدال مهملة فتحتية مشددة نسبة إلى مريد بطن من بلى صحابية رضي الله عنهما، ولعمر والذي أمناك، أي: وحياة الذي أنشأك. وحباك بموحدة: أعطاك وحنيف: مسلم.(2/347)
وكانت هذه السرية في شوال على رأس عشرين شهرا من الهجرة.
__________
"وكانت هذه السرية" فيه تجوز، كما مر، "في شوال على رأس عشرين شهرا من الهجرة" قاله ابن سعد. قال اليعمري: وكان أبو عفك ممن نجم، أي: ظهر نفاقه حين قتل صلى الله عليه وسلم الحارث بن سويد بن الصامت، وتوقف فيه البرهان بأنه قتل بعد أحد، كما قال ابن إسحاق: قال: إلا أن هذا ليس عن ابن إسحاق، انتهى والله أعلم.(2/348)
غزوة بني قينقاع:
ثم غزوة بني قينقاع -بتثليث النون، والضم أشهر- بطن من يهود المدينة، لهم شجاعة وصبر.
وكانت يوم السبت نصف شوال، على رأس عشرين شهرا من الهجرة.
وقد كانت الكفار بعد الهجرة مع النبي صلى الله عليه وسلم على ثلاثة أقسام:
قسم وادعهم صلى الله عليه وسلم على أن لا يحاربوه ولا يؤلبوا عليه عدوه وهم طوائف اليهود الثلاثة: قريظة والنضير وبنو قينقاع.
وقسم حاربوه ونصبوا له العدواة كقريش.
__________
"ثم غزوة بني قينقاع":
بفتح القافين وسكون التحتية و"بتثليث النون" كما حكاه ابن قرقول وغيره، "والضم أشهر" كما أفاده الحافظ وغيره "بطن من يهود المدينة" قال في الوفاء: منازلهم عند جسر بطحان مما يلي العالية، وفي الصحيح عن ابن عمر: وهم رهط عبد الله بن سلام، "لهم شجاعة وصبر" هو لازم للشجاعة، قيل: كانوا أشجع اليهود وأكثرهم مالا وأشدهم بغيا، "وكانت" كما قال ابن سعد: "يوم السبت نصف شوال على رأس عشرين شهرا من الهجرة" النبوية "وقد كانت الكفار،" كما أفاده الحافظ في غزوة بني النضير "بعد الهجرة مع النبي صلى الله عليه وسلم على ثلاثة أقسام، قسم وادعهم" صالحهم "عليه الصلاة والسلام على أن لا يحاربوه ولا يؤلبوا" يحرضوا "عليه" على قتاله "عدوه"، وقيل: على أن لا يكونوا معه ولا عليه، وقيل: على أن ينصروه ممن دهمه من عدوه، "وهم طوائف اليهود الثلاثة: قريظة" بالظاء المعجمة المشالة، "والنضير، وبنو قينقاع،" فنقض الثلاثة العهد، فمكن الله رسوله منهم فقتل قريظة وأجلى الأخيرين.
"وقسم حاربوه ونصبوا له العداوة، كقريش" فنصره الله عليهم، فقتل سبعين وأسر سبعين ببدر، وقتل في أُحد اثنين وعشرين منهم أهل اللواء بنو عبد الدار وأبي بن خلف، وفي الخندق(2/348)
وقسم تركوه، وانتظروا ما يؤول إليه أمره، كطوائف من العرب، فمنهم من كان يحب ظهوره في الباطن كخزاعة. وبالعكس كبني بكر. ومنهم من كان معه ظاهرا ومع عدوه باطنا، وهم المنافقون.
وكان أول من نقض العهد من اليهود بنو قينقاع، فحاربهم عليه الصلاة والسلام في شوال بعد وقعة بدر. قال الواقدي بشهر.
وأغرب الحاكم، فزعم أن إجلاء بني قينقاع وإجلاء بني
__________
عمرو بن عبدود، وغيره، حتى فتح مكة فصار أعظمهم عليه أحوجهم إليه، ثم في حجة الوداع لم يبق قرشي إلا أسلم وصاروا كلهم أتباعه، ولله الحمد.
"وقسم تركوه وانتظروا ما يؤول إليه أمره" فإن آل إلى النصر والظفر بقريش تبعوه وإلا تبعوهم، "كطوائف من العرب" إلا أن هذا القسم ليسوا سواء بل "منهم من كان يحب ظهوره في الباطن، كخزاعة" ولذا دخلوا في عقده وعهده عام الهدنة ولما استنصروه صلى الله عليه وسلم حين غارت عليهم بنو بكر، قال: "لا نصر إن لم أنصركم"، "وبالعكس، كبني بكر" ولذا دخلوا في عهد قريش وعقدهم سنة الحديبية، "ومنهم من كان معه ظاهرا ومع عدوه باطنا، وهم المنافقون" فكانوا يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر، "وكان أول من نقض العهد من اليهود بنو قينقاع" ثم النضير، ثم قريظة، "فحاربهم عليه الصلاة والسلام في شوال" أي: نصفه على ما مر "بعد وقعة بدر" وهذا كله لفظ الحافظ في الفتح في أول غزوة بني النضير، ثم قال فيه بعد قليل: "قال الواقدي: "أجلاهم في شوال سنة اثنتين، يعني بعد بدر "بشهر" ويؤيده ما روى ابن إسحاق بسند حسن عن ابن عباس، قال: لما أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشا يوم بدر جمع يهود في سوق قينقاع، فقال: "يا معشر يهود! أسلموا قبل أن يصيبكم ما أصاب قريشا"، فقالوا: إنهم كانوا لا يعرفون القتال، ولو قتلناك لعرفت إنا الرجال، فأنزل الله عالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ} [آل عمران: 12] إلى قوله {لِأُولِي الْأَبْصَار} [آل عمران: 13] الآية، انتهى لفظ الفتح.
فأفاد أن المحاربة بعد بدر بنصف شهر، والإجلاء بعد بدر بشهر، وهو ظاهر؛ لأنه حاصرهم نصف شهر. وأما عبارة المصنف ففيها قلاقة، لجزمه بأنها نصف شوال وأن الفراغ من بدر أوله فينا في نقله هنا عن الواقدي أن الحرب بعد بدر بشهر، وأيضا فالواقدي لم يقل ذلك، إنما قال: أجلاهم في شوال سنة اثنتين. فقال الحافظ: يعني بدر بعد شهر، فاختلط على المصنف رحمه الله الحرب بالإجلاء.
"وأغرب الحاكم" جاء بقول غريب لا يعرف، زعم أن إجلاء بني قينقاع وإجلاء بني(2/349)
النضير كانا في زمن واحد، ولم يوافق على ذلك؛ لأن إجلاء بني النضير كان بعد بدر بستة أشهر، على قول عروة، أو بعد ذلك بمدة طويلة على قول ابن إسحاق.
وكان من أمر بني قينقاع، أن امرأة من العرب جلست إلى صائغ يهودي، فراودها على كشف وجهها، فأبت فعمد إلى طرف ثوبها فعقده إلى ظهرها، فلما قامت انكشفت سوأتها، فضحكوا منها فصاحت، فوثب رجل من المسلمين على الصائغ فقتله، فشدت اليهود على المسلم فقتلوه، ووقع الشر بين المسلمين وبين بني قينقاع.
فسار إليهم النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن استخلف أبا لبابة
__________
النضير كانا في زمن واحد" حيث قال: هذه وغزوة بني النضير واحدة، وربما اشتبها على من لا يتأمل، "ولم يوافق على ذلك؛ لأن إجلاء بني النضير كان بعد بدر بستة أشهر على قول عروة" بن الزبير وعمل عليه البخاري، "أو بعد ذلك بمدة طويلة على قول ابن إسحاق" أنها بعد أحد، ونصره ابن كثير بأن الخمر حرمت ليالي حصار بني النضير. وفي الصحيح: أنه اصطبح الخمر جماعة ممن قتل يوم أحد شهيدا، فدل على أنها كانت حلال حينئذ، وإنما حرمت بعد ذلك، ويأتي مزيد لذلك في غزوتها، إن شاء الله.
"وكان" كما رواه ابن هشام "من أمر بني قينقاع أن امرأة" قال البرهان: لا أعرف اسمها، "من العرب" وفي الإمتاع أنها كانت زوجة لبعض الأنصار، أي: من العرب فلا ينافي أن الأنصار بالمدينة. وفي الرواية: أنها قدمت بجلب لها فباعته بسوق بني قينقاع، "وجلست إلى صائغ يهودي" لا أعرف اسمه، والظاهر أنه من قينقاع، قاله البرهان.
"فراودها على كشف وجهها" أراد منها ذلك، ولفظ الرواية عند ابن هشام: فجعلوا يريدونها على كشف وجهها "فأبت فعمد" بفتح الميم وتكسر: الصائغ "إلى طرف" بفتح الراء "ثوبها" من ورائها "فعقده" ضمه "إلى ظهرها" وخله بشوكة "فلما قامت انكشفت سوأتها" هو لفظ رواية ابن هشام، أي: عورتها "فضحكوا منها فصاحت، فوثب رجل من المسلمين على الصائغ فقتله، فشدت اليهود على المسلم فقتلوه" فاستصرخ أهل المسلم المسلمين على اليهود، فغضب المسلمون "ووقع الشر بين المسلمين وبين بني قينقاع" وذكر ابن سعد أنهم لما كانت وقعة بدر أظهروا البغي والحسد ونبذوا العهد والمدة، فأنزل الله تعالى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} [الأنفال: 58] الآية، فقال صلى الله عليه وسلم: "أنا أخاف من بني قينقاع"!! "فسار إليهم النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن استخلف" على المدينة "أبا لبابة"(2/350)
ابن عبد المنذر.
فحاصرهم أشد الحصار، خمس عشرة ليلة إلى هلال ذي القعدة، وكان اللواء بيد حمزة بن عبد المطلب، وكان أبيض، فقذف الله في قلوبهم الرعب، فنزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، على أن له أموالهم، وأن لهم النساء والذرية.
فأمر عليه الصلاة والسلام المنذر بن قدامة بتكتيفهم.
وكلم عبد الله بن أبي سلول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم، وألح عليه من أجلهم.
__________
بشير بفتح الموحدة وكسر المعجمة، أو رفاعة، ووهم من سماه مروان "ابن عبد المنذر" الأنصاري الأوسي المدني أحد النقباء عاش إلى خلافة علي، فحاربوا وتحصنوا في حصنهم "فحاصرهم أشد الحصار خمس عشرة ليلة إلى هلال ذي القعدة،" بفتح القاف وكسرها "وكان اللواء بيد حمزة بن عبد المطلب وكان أبيض،" قال ابن سعد: ولم تكن الرايات يومئذ، "فقذف الله في قلوبهم الرعب" الخوف "فنزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن له أموالهم وأن لهم النساء والذرية، فأمر عليه الصلاة والسلام المنذر بن قدامة" السلمي الأوسي البدري "بتكتيفهم" مصدر كتفه بالتشديد للمبالغة، والأصل التخفيف، أي: بشد أيديهم خلف أكتافهم موثقا بحبل ونحوه، قال ابن هشام: فكتفوا وهو يريد قتلهم فمر بهم ابن أُبي فأراد أن يطلقهم، فقال له المنذر: أتطلق أقواما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بربطهم، والله لا يفعله أحد إلا ضربت عنقه.
"وكلم عبد الله بن أبي بن سلول" رأس المنافقين "رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم" لما أراد قتلهم وهذا مشكل؛ إذ مقتضى نزولهم على أن لهم النساء والذرية أنهم نزلوا بأمان، ولا يتصور من المصطفى غدر إلا أن يقال نزولهم على حكمه لا يقتضي موافقته لهم، كما نزل بنو قريظة على حكم سعد، فحكم فيهم بحكم الله. "وألح عليه من أجلهم" فقال، كما ذكر ان هشام وابن سعد وغيرهما: يا محمد! أحسن في موالي، وكانوا حلفاء الخزرج فأبطأ عليه صلى الله عليه وسلم،، فقال: يا محمد، أحسن في موالي، فأعرض عنه فأدخل يده في جيب درع رسول الله صلى الله عليه وسلم من خلفه وكان يقال لها ذات الفضول، فقال صلى الله عليه وسلم: "ويحك أرسلني" وغضب عليه السلام حتى رأوا وجهه ظلالا جمع ظلة وهي السحابة استعيرت لتغير وجهه الكريم لما اشتد غضبه، ويروى ظلالا جمع ظلة أيضا كبرمة وبرام ومهما بمعنى، كما في الروض، ثم قال: "ويحك أرسلني"، قال: والله لا أرسلك حتى تحسن في موالي، أربعمائة حاسر بمهملتين، أي: لا درع معه وثلاثمائة دراع وقد منعوني من الأحمر والأسود تحصدهم في غداة واحدة، إني والله امرؤ أخشى الدوائر،(2/351)
فأمر عليه الصلاة والسلام أن يحلوا من المدينة، وتركهم من القتل، وأمر أن يجلوا من المدينة، فلحقوا بأذرعات. فما كان أقل بقاءهم فيها. وأخذ من حصنهم سلاحا وآلة كثيرة.
وكانت بنو قينقاع حلفاء لعبد الله بن أبي، وعبادة بن الصامت، فتبرأ عبادة من حلفهم، فقال: يا رسول الله، أتبرأ إلى الله وإلى رسوله من حلفهم، وأتولى الله ورسوله والمؤمنين، وأبرأ من حلف الكفار وولايتهم. ففيه وفي عبد الله أنزل. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} إلى قوله: {فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الَْالِبُون} [المائدة: 56] .
__________
فقال صلى الله عليه وسلم: "وهم لك"، "فأمر عليه الصلاة والسلام أن يحلوا" من كتافهم، فقال: "حلوهم لعنهم الله ولعنه معهم"، "وتركهم من القتل، وأمر أن يجلوا" بالجيم مبني للمفعول، أي: يخرجوا "من المدينة" قال ابن سعد: وولى إخراجهم عبادة بن الصامت، وقيل: محمد بن مسلمة ولا مانع أنهما اشتركا في إخراجهم، "فلحقوا بأذرعات" بفتح الهمزة وسكون المعجمة وكسر الراء فمهملة وبالصرف: بلدة الشام "فما كان" زائدة "أقل بقاءهم فيها" قيل: لم يدر عليهم الحول "وأخذ من حصنهم سلاحا وآلة كثيرة" وكان الذي ولي قبض أموالهم محمد بن مسلمة، قاله ابن سعد، فأخذ صلى الله عليه وسلم خمسة وفض أربعة أخماسه على أصحابه، فكان أول ما خمس بعد بدر، ووقع عند ابن سعد: أخذ صفية الخمس، وتوقف فيه اليعمري بأن المعروف الصفي غير الخمس، فعند أبي داود عن الشعبي: كان له صلى الله عليه وسلم سهم يدعى الصفي قبل الخمس. وعن عائشة: كانت صفية من الصفي، قال: فلا أدري أسقطت الواو أو كان هذا قبل حكم الصفي، انتهى.
"و" أخرج ابن إسحاق وابن أبي حاتم والبيهقي عن عبادة بن الصامت، قال: "كانت بنو قينقاع حلفاء لعبد الله بن أبي وعبادة بن الصامت فتبرأ عبادة رضي الله عنه من حلفهم" بكسر المهملة وإسكان اللام، حين قال صلى الله عليه وسلم لما رأى من فعلهم القبيح: "ما على هذا أقررناهم"، "فقال: يا رسول الله أتبرأ إلى الله وإلى رسوله من حلفهم، وأتولى الله ورسوله والمؤمنين وأبرأ من حلف" جميع "الكفار وولايتهم" أو هو تأكيد لما قبله من إقامة الظاهر مقام المضمر، وفائدته التشنيع عليهم بالكفر، "ففيه وفي عبد الله" بن أبي "أنزل" الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ} [المائدة: 51] الآية، فلا تعتمدوا عليهم ولا تعاشروهم معاشرة الأحباب {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [المائدة: 51] ، إيماء إلى علة النهي، أي: فإنهم متفقون على خلافكم يولي بعضهم بعض لاتحادهم في الدين واجتماعهم على مضادتكم من يتولهم منكم فإنه منهم، تشديد في وجوب مجانبتهم "إلى قوله: {فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُون} " [المائدة: 56] الآية، أي: فإنهم هم الغالبون ولكن وضع الظاهر موضع المضمر تنبيها على البرهان عليه، وكأنه قيل: ومن يتول هؤلاء فهو حزب الله وحزب الله هم الغالبون وتنويها بذكرهم وتعظيما لشأنهم وتشريفا لهم بهذا الاسم، وتعريضا بمن يوالي غير هؤلاء بأنه حزب الشيطان، وأصل الحزب القوم يجتمعون لأمر حزبهم، قاله البيضاوي.(2/352)
غزوة السويق:
ثم غزوة السويق في ذي الحجة، يوم الأحد لخمس خلون منها، على رأس اثنين وعشرين شهرا، من الهجرة، وقال ابن إسحاق في صفر.
وسميت: غزوة السويق؛ لأنه كان أكثر زاد المشركين، وغنمه المسلمون. واستخلف أبا لبابة على المدينة.
وكان سبب هذه الغزوة أن أبا سفيان حين رجع بالعير من بدر إلى مكة نذر
__________
ثم غزو السويق:
هو قمح أو شعير يقلى ثم يطحن فيتزود به ملتوتا بماء أو سمن أو عسل أو وحده بالسين، قال ابن دريد: وبنو العنبر يقولونه بالصاد، وفي الجمهرة بنو تميم، ولا خلف فالعنبر هو عمرو بن تميم، وكانت "في ذي الحجة" بفتح الحاء وكسرها "يوم الأحد لخمس" من الليالي "خلون منها على رأس اثنين وعشرين شهرا من الهجرة" قاله ابن سعد، "وقال ابن إسحاق: في صفر" بمنع الصرف؛ لأنه أريد من سنة بعينها ففيه العلمية والعدل عن الصفر، وانتقد صاحب الخميس المصنف بأن الذي في ابن هشام عن البكائي عن ابن إسحاق أن رخوجه إنما كان في ذي الحجة، وهو كما قال، وكذا نقل عن اليعمري وغيره، يحمل أنها رواية غير البكائي؛ لأن رواة سيرة ابن إسحاق جماعة، وفيها اختلاف بالزيادة والنقص، وقد ذكر بعض أهل السير أن هذه الغزوة في سنة ثلاث، فيصح كونها في صفر.
"وسميت غزوة السويق لأنه كان أكثر زاد المشركين" فكانوا يلقونه للتخفيف "وغنمه" بفتح الغين وكسر النون "المسلمون" أي: استفادوه وأخذوه بلا عوض، لكن فيه مجاز إذ الغنيمة، كما قال أبو عبيدة: ما نيل من أهل الشرك والحرب قائمة، والفيء ما نيل منهم بعد أن تضع الحرب أوزارها. "واستخلف أبا لبابة" بشير أو رفاعة أو مبشر بن عبد المنذر بن زنبر بفتح الزاي والموحدة بينهما نون ساكنة آخره راء، "على المدينة، وكان سبب هذه الغزوة" كما عند ابن إسحاق وغيره: "أن أبا سفيان" صخر بن حرب "حين رجع بالعير من بدر إلى مكة" ورجع فل قريش من بدر بفتح الفاء وشد اللام، أي: منهزموهم "نذر" أن لا يمس رأسه ماء من جنابة، هكذا الرواية عن ابن إسحاق قال مغلطاي: كنى بحلفه عن أن لا يمس النساء والطيب، فاقتصر(2/353)
أن لا يمس النساء والدهن حتى يغزو محمدا -عليه الصلاة والسلام- فخرج في مائتي راكب من قريش ليبر يمينه، حتى أتوا العريض -ناحية من المدينة على ثلاثة أميال-
__________
المصنف على تفسير الرواية، فقال: "أن لا يمس النساء والدهن" لأنه لم يتقيد بها أو هي رواية أخرى وردت باللفظ أو بالمعنى، "حتى يغزو محمدًا عليه الصلاة والسلام" ليأخذ بثأر المشركين الذين قتلوا ببدر.
واستدل به السهيلي على أن غسل الجنابة كان في الجاهلية لبقية من دين إبراهيم وإسماعيل كالحج والنكاح، ولذا سموها جنابة لمجانبتهم البيت الحرام وموضع حرماتهم، أطلق في {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6] بخلاف الوضوء فلم يعرف قبل الإسلام، فبين بقوله: اغسلوا وجوهكم ... إلخ، "فخرج في مائتي راكب" وقيل: أربعين "من قريش ليبر" بضم التحتية النجدية حتى نزل صدر قناة إلى جبل يقال له نيب على بريد من المدينة أو نحوه، ثم خرج حتى أتى بني النضير تحت الليل، فأتى حيي بن أخطب فضرب عليه بابه فأبى أن يفتح له وخافه، فانصرف إلى سلام بن مشكم وكان سيد بني النضير في زمانه ذلك وصاحب كنزهم، فاستأذن عليه فأذن له وقراه وسقاه وبطن له من خبر الناس، ثم خرج في عقب ليلته حى أتى أصحابه فبعث رجالا من قريش، فساروا "حتى أتوا العريض" بضم المهملة وفتح الراء وإسكان التحتية وضاد معجمة: "ناحية من المدينة على ثلاثة أميال" وفي النور: إنه واد بالمدينة به أموال لأهلها، انتهى.
ففي سياق ابن إسحاق هذا الذي ذكرته أن أبا سفيان لم يأت العريض معهم خلاف ما يفيده المصنف، وقناة بفتح القاف وخفة النون: واد بالمدينة. ونيب بنون فتحتية فموحدة، قال البرهان: كذا في نسختي، أي: في العيون أصولها ولم أره فلعله تصحيف يتيب بفتح التحتية وكسر الفوقية وسكون التحتية فموحدة بوزن يغيب: جبل بالمدينة، ذكره القاموس، أو هو تيت بفوقيتين أولاهما مفتوحة بينهما تحتية ساكنة أو مشددة كميت جبل قرب المدينة، ذكره في الذيل والقاموس، انتهى ملخصا.
والذي يظهر أن ذا الأخير هو المراد لقوله على بريد أو نحوه من المدينة، أو لأن الرسم لا يخالفه يتيب الذي بزنة يغيب، وحيي بمهملة مصغر، وأخطب بخاء معجمة، وسلام بالتشديد ويخفف، ومشكم بكسر الميم وسكون المعجمة وفتح الكاف، وقراه: أضافه وسقاه، أي: الخمر، كما قال أبو سفيان:(2/354)
فحرقوا نخلا وقتلوا رجلا من الأنصار. فرأى أبو سفيان أن قد انحلت يمينه، فانصرف بقومه راجعين.
وخرج عليه الصلاة والسلام في طلبهم، في مائتين من المهاجرين والأنصار، وجعل أبو سفيان وأصحابه يلقون جرب السويق -وهي عامة أزوادهم- يتخففون للهرب، فأخذا المسلمون، ولم يلحقهم عليه الصلاة والسلام، فرجع إلى المدينة.
وكانت غيبته خمسة أيام.
__________
سقاني فرواني كميتا مدامة ... على ظمأ مني سلام بن مشكم
"فحرقوا" بخفة الراء وشدها مبالغة "نخلا" صغارا، كما دل عليه قوله في الرواية: فحرقوا في أصوار من نخل، بفتح الهمزة الصاد المهملة وراء: نخل مجتمع صغار، كما في الصحاح.
"وقتلوا رجلا من الأنصار" زاد في رواية: وحليفا لهم، قال البرهان: ولا أعرفهما وفيه تقصير فقد ذكر الواقدي أن الأنصاري معبد بن عمرو "فرأى أبو سفيان أن قد انحلت يمينه" بقتل الرجلين وحرق الأصور، "فانصرف بقومه راجعين" إلى مكة ونذر الناس، بفتح النون وكسر الذال المعجمة: علموا بهم "وخرج عليه الصلاة والسلام في طلبهم في مائتين من المهاجرين والأنصار" وعند مغلطاي: في ثمانين راكبا، وجمع البرهان بأن الركبان ثمانون وكل الجيش مائتان، "وجعل أبو سفيان وأصحابه يلقون جرب السويق" بضمتين جمع جراب، ككتاب وكتب، ولا يفتح مفرده أو هو لغية، فيما حكاه حياض وغيره، كما في القاموس، ويجمع أيضا على أجربه. "وهي عامة أزوادهم" أي: أكثرها أو جميعها من عمه بالعطاء إذا شمله، "يتخففون للهرب" خوفا ممن نصر بالرعب "فيأخذها المسلمون" ولذا سميت غزوة السويق، كما مر "ولم يلحقهم عليه الصلاة والسلام، فرجع إلى المدينة وكان غيبته خمسة أيام" بيومي الخروج والرجوع فدخوله يوم التاسع بدليل صلاة العيد وأن خروجه لخمس خلون من الحجة، أو دخل ليلا أو أول يوم العيد، وأدركه قبل الزوال، وعند ابن إسحاق: وقال المسلمون حين رجعوا: يا رسول الله!! أنطمع أن تكون لنا غزوة؟ قال: "نعم"، وأورد ابن هشام وتبعه أبو الربيع في الاكتفاء: هذه الغزوة قبل بني قينقاع، وعند بعض أهل العلم والسير أنها في سنة ثلاث.(2/355)
"ذكر بعض وقائع ثانية الهجرة":
وفي ذي الحجة صلى الله عليه وسلم العيد وأمر بالأضحية.
وفيه مات عثمان بن مظعون.
وفي أول شوال ولد عبد الله بن الزبير.
تم بعون الله الجزء الأول ويليه الجزء الثاني أوله ذكر تزويج علي بفاطمة رضي الله تعالى عنهما.
__________
ذكر بعض وقائع ثانية الهجرة:
"وفي ذي الحجة صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العيد" بالمصلى وضحى بكبشين، "وأمر" الناس "بالأضحية" وهو أول عيد أضحى رآه المسلمون، "وفيه مات عثمان بن مظعون" بالظاء المعجمة ابن حبيب القرشي الجمحي البدري، وقبله النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته وعيناه تذرفان ودفنه بالبقيع، وهو أول ميت من المهاجرين وأول من دفن به منهم، ولما مات ولده إبراهيم، قال: "الحق بسلفنا الصالح عثمان بن مظعون".
وقد علم أن غرض المصنف بيان بعض وقائع السنة الثانية وإن لم تتعلق بالمغازي، ولذا قال: "وفي أول شوال" سنة اثنتين بعد عشرين شهرا، فيما جزم به الواقدي وتبعه جمع، منهم: ابن الأثير والذهبي. "ولد عبد الله بن الزبير" قال الحافظ: والمعتمد أنه ولد في السنة الأولى؛ لأن هجرة أمه أسماء وعائشة وآل الصديق كانت بعد استقراره صلى الله عليه وسلم بالمدينة، فالمسافة قريبة جدا لا تحتمل تأخر عشرين شهرا، بل ولا عشرة أشهر، وقد ثبت في الصحيحين عن أسماء أنها هاجرت وهي حبلى به متم فولدته بقباء، ثم أتت به النبي صلى الله عليه وسلم فوضعه في حجره ثم دعا بتمرة فمضغها ثم تفل في فيه، فكان أول شيء دخل جوفه ريق رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم حنكه بتمرة ثم دعا له وبرك عليه، وكان أول مولود ولد في الإسلام.
وزاد الإسماعيلي: ففرح المسلمون فرحا شديدا؛ لأن اليهود كانوا يقولون: قد سحرناهم حتى لا يولد لهم. وللإسماعيلي أيضا: أنها لم ترضعه حتى أتت به النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر نحوه. وزاد: ثم صلى عليه، أي: دعا له، ثم سماه عبد الله، وهو أول مولود للمهاجرين بالمدينة، وولد لهم بالحبشة عبد الله بن جعفر، وأول مولود للأنصار بعد الهجرة مسلمة بن مخلد، رواه ابن أبي شيبة. وقيل: النعمان بن بشير، انتهى ملخصا.(2/356)
"ذكر تزويج علي بفاطمة رضي الله عنهما":
وفي هذه السنة تزوج علي رضي الله عنه، بفاطمة رضي الله عنها كما قاله الحافظ مغلطاي وغيره.
وقال الطبري في كتابه "ذخائر العقبى في مناقب ذوي القربى": تزوجها في صفر في السنة الثانية، وبنى بها في ذي الحجة على رأس اثنين وعشرين شهرا من التاريخ.
وقال أبو عمر بعد وقعة أحد، وقال غيره: بعد بنائه صلى الله عليه وسلم بعائشة
__________
ذكر تزويج علي بفاطمة رضي الله عنهما:
"وفي هذه السنة" الثانية من الهجرة، "تزوج علي رضي الله عنه بفاطمة رضي الله عنها" الزهراء البتول، أفضل نساء الدنيا، حتى مريم، كما اختاره المقريزي والزركشي والقطب الخيضري والسيوطي في كتابيه، شرح النقاية وشرح جمع الجوامع، بالأدلة الواضحة التي منها أن هذه الأمة أفضل من غيرها. والصحيح أن مريم ليست نبية، بل حكي الإجماع على أنه لم تنبأ امرأة، وقد قال صلى الله عليه ولسلم: "مريم خبير نساء عالمها وفاطمة خير نساء عالمها"، رواه الحارث في مسنده والترمذي، بنحوه. وقال صلى الله عليه وسلم: "يا بنية، ألا ترضين أنك سيدة نساء العالمين"؟، قالت: يا أبت، فأين مريم؟ قال: "تلك سيدة نساء عالمها"، رواه ابن عبد البر، وبسط ذلك يأتي إن شاء الله تعالى في المقصد الثاني.
وقد أخرج الطبراني بإسناد على شرط الشيخين. قالت عائشة: ما رأيت أحدا قط أفضل من فاطمة غير أبيها. "قاله الحافظ مغلطاي وغيره" وفيه إجمال بينه بقوله: "وقال الطبري" أحمد بن عبد الله الحافظ محب الدين المكي، "في كتابه ذخائر العقبى" بالمعجمة، جمع ذخيرة، "في مناقب ذوي القربى" للنبي صلى الله عليه وسلم: "تزوجها" أي: عقد عليها "في صفر". وفي الإصابة: في أوائل المحرم، "في السنة الثانية" وفي الخميس عقد عليها في رجب، على الأصح، وقيل: في رمضان. "وبنى بها في ذي الحجة على رأس اثنين وعشرين شهرا من التاريخ" للهجرة. "وقال أبو عمر" ابن عبد البر "بعد وقعة أحد": ووقعتها في شوال سنة ثلاث، اتفاقا ورده في الإصابة، بأن حمزة استشهد بأحد. وقد ثبت في الصحيحين قصة الشارفين لما ذبحهما حمزة، وكان علي أراد أن يبني بفاطمة، انتهى.
"وقال غيره": عقد عليها "بعد بنائه صلى الله عليه وسلم بعائشة"، الواقع في شوال سنة اثنين أو بعد سبعة(2/357)
بأربعة أشهر ونصف، وبنى بها بعد تزويجها بسبعة أشهر ونصف.
وتزوجها وهي ابنة خمس عشرة سنة وخمسة أشهر -أو ستة أشهر ونصف- وسنة يومئذ إحدى وعشرون سنة وخمسة أشهر. ولم يتزوج عليها حتى ماتت.
وعن أنس قال: جاء أبو بكر ثم عمر يخطبان فاطمة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسكت ولم يرجع إليهما شيئا
__________
أشهر من الهجرة، وقولان ذكرهما المصنف في الزوجات "بأربعة أشهر ونصف" فيكون العقد في نصف صفر سنة اثنين، أن حسب شهر بنائه بعائشة من المدة، "وبنى بها بعد تزويجها بسبعة أشهر ونصف" فيكون في شوال، فيوافق قول أبي عمر أنه بعد أحد، فهذا القول كما ترى غير قائل بأن البناء في الحجة، حتى يقال عليه العقد في أوائل جمادى الأولى كما وهم. "وتزوجها وهي ابنة خمس عشرة سنة وخمسة أشهر، أو ستة أشهر ونصف" شهر، والقولان مبنيان على نقل أبي عمر عن عبيد الله بن محمد بن جعفر الهاشمي، أنها ولدت سنة إحدى وأربعين من مولد أبيها صلى الله عليه وسلم.
أما على ما رواه الواقدي عن العباس، وجزم به المدائني وابن الجوزي، أنها ولدت قبل النبوة بخمس سنين، فتكون ابنة تسع عشر سنة وشهر ونصف "وسنة"، أي: "يومئذ إحدى وعشرين سنة وخمسة أشهر"، بناء على قول عروة الذي ضعفه أبو عمر، أنه أسلم وهو ابن ثمان سنين، أما على قول ابن إسحاق وهو الراجح، كما مر أنه أسلم وهو ابن عشر سنين، فيكون سنة يوم التزويج، أربعة وعشرين سنة وشهرا ونصف شهر.
ويقع في كثير من النسخ إحدى وعشرين بالجر، فقوله: وسنه اسم كان مقدرة وهو أظهر من تقدير نحو إحدى وعشرين؛ لأن العبارة تصير محتملة للزيد والنقص، "ولم يتزوج عليها".
ولما خطب ابنة أبي جهل، واسمها جويرية، في أشهر الأقوال قام صلى الله عليه وسلم على المنبر وقال: "لا آذن ثم لا آذن ثم لا آذن"، وقال: "والله لا تجتمع بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وبنت عدو الله عند رجل واحد أبدا، فترك علي الخطبة"، رواه الشيخان وغيرهما.
قال أبو داود: حرم الله على علي أن ينكح على فاطمة حياتها لقوله عز وجل: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} ، [الحشر: 7] ، وألحق بعضهم أخواتها بها، ويحتمل اختصاصها ويأتي إن شاء الله تعالى بسط ذلك في الخصائص، واستمر ذلك "حتى ماتت" فتزوج بعدها أمامة بنت أختها زينب بوصية من فاطمة بذلك، قاله الحافظ وغيره.
"وعن أنس قال: جاء أبو بكر ثم عمر يخطبان فاطمة" كل لنفسه "إلى النبي" غاية لجاء "صلى الله عليه وسلم، فسكت ولم يرجع إليهما شيئا" أي: لم يرد عليهما جوابا بشيء.(2/358)
فانطلقا إلى علي رضي الله عنه يأمرانه بطلب ذلك. قال علي: فنبهاني لأمر، فقمت أجر ردائي حتى أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: تزوجني فاطمة؟ قال: "وعندك شيء"؟ فقلت: فرسي وبدني، قال: "أما فرسك فلا بد لك منها وأما بدنك فبعها"، فبعتها بأربعمائة وثمانين، فجئته بها، فوضعتها في حجره، فقبض منها قبضة فقال: "أي بلال: ابتع بها لنا طيبا"
__________
وفي رواية أبي داود: أن أبا بكر خطبها فأعرض عنه، ثم عرم فأعرض عنه، ويروى أنه قال لكل منهما: أنتظر بها القضاء وأنها بكت لما خطباها، فلم يرد عليهما بشيء. "فانطلقا إلى علي رضي الله عنه يأمرانه بطلب ذلك" لرؤيتهما أنه أصلح لها من غيره، لقربه وخلوه من النساء، أو بطلب ذلك لهما على عادة الاستشفاع بالأقارب، وفيه بعد.
"قال علي: فنبهاني لأمر" بنون وموحدة ثقيلة، أوقفاني على أمر كنت عنه غافلا، وهو خطبتها، فتنبهت "فقمت أجر ردائي" فرحا بما تنبهت له وهو خطبة خير النساء، "حتى أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: تزوجني"، بحذف الهمزة المقدرة، أي: أتزوجني "فاطمة؟ قال:" "وعندك" فهو على تقدير همزة الاستفهام أيضا، "شيء" تصدقها به؟ "، "فقلت: فرسي وبدني" بفتح الباء والدال، درعي.
وروى ابن إسحاق في السيرة الكبرى، عن علي، أنه صلى الله عليه وسلم قال: "هل عندك شيء"؟ " قلت: لا، قال: "فما فعلت الدرع التي سلحتكها"، يعني من مغانم بدر، وروى أحمد عن علي، أردت أن أخطب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ابنته فقلت: والله ما لي من شيء، ثم ذكرت صلته وعائدته، فخطبتها إليه، فقال: "وهل عندك شيء"؟، قلت: لا، قال: "فأين درعك الحطيمة التي أعطيتك يوم كذا وكذا"؟ قلت: هي عندي، قال: "فأعطها إياها" وله شاهد عند أبي داود عن ابن عباس، ولا منافاة؛ لأنه فهم أولا أن مراده النقد، فنفاه، فلما سأله عن درعة علم أنه لا يريد خصوص النقد، فقال: فرسي وبدني، وفي النهاية: الحطيمة التي تحطم السيوف، أي: تكسرها، أو العريضة الثقيلة، أو نسبة إلى بطن من عبد القيس يقال لهم حطمة، كهمزة ابن محارب كانوا يعملون الدروع، وهذا أشبه الأقوال، انتهى. "قال: "أما فرسك فلا بد لك منها" للحروب، "وأما بدنك فبعها"، أي: الدرع وهي مؤنثة وتذكر، "فبعتها" عن عثمان بن عفان "بأربعمائة وثمانين" درهما، ثم إن عثمان رد الدرع إلى علي فجاء بالدرع والدراهم إلى المصطفى، فدعا لعثمان بدعوات، كما في رواية "فجئته بها، فوضعتها في حجره فقبض منها قبضة،" مفعول به بضم القاف أكثر من فتحها، ما قبضت عليه من شيء، كما في القاموس والصحاح، والمعنى أخذ بيده دراهم قبض عليها، "فقال -أي بلال-" بفتح الهمزة وسكون الياء حرف نداء: "ابتع" اشتر "بها لنا طيبا".(2/359)
وأمرهم أن يجهزوها، فجعل لها سرير مشروط، ووسادة من أدم حشوها ليف. وقال لعلي: إذا أتتك فلا تحدث شيئا حتى آتيك.
فجاءت مع أم أيمن حتى قعدت في جانب البيت وأنا في جانب، وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أههنا أخي"، قالت أم أيمن: أخوك وقد زوجته ابنتك؟ قال: "نعم". ودخل صلى الله عليه وسلم فقال لفاطمة: "ائتني بماء"، فقامت إلى قعب في البيت فأتت فيه بماء فأخذه ومج فيه ثم
__________
وفي رواية ابن أبي خيثمة، عن علي أمر صلى الله عليه وسلم أن يجعل ثلث الأربعمائة وثمانين في الطيب، وعلى هذا فهذه القبضة ثلثها، أو أقل، وكملها إلى الثلث. ووقع عند ابن سعد وأبي يعلى، بسند ضعيف عن علي، فقال صلى الله عليه وسلم: "اجعلوا ثلثين في الطيب وثلثا في الثياب" "وأمرهم أن يجهزوها، فجعل لها سريرا مشروطا" أي: مجعول فيه شرائط، أي: حبال.
وفي القاموس: الشريط خوص مفتول يشرط به السرير ونحوه، "ووسادة من أدم حشوها ليف" وعن جابر: كان فرشهما ليلة عرسهما إهاب كبش، رواه ابن فارس.
وفي رواية: كان لهما فراشان أحدهما محشو بليف، والآخر بحذاء الحذاءين وأربع وسائد، وسادتين من ليف وثنتين من صوف، ولا معارضة لجواز أن واحدة للنوم على السرير، والثلاثة في البيت. "وقال لعلي: إذا أتتك فلا تحدث شيئا" من جماع ولا مقدماته "حتى آتيك". زاد في رواية: فأرسل صلى الله عليه وسلم أسماء بنت عميس، فهيأت البيت، فصلى العشاء، وأرسل فاطمة، "فجاءت مع أم أيمن" بركة الحبشية مولاته عليه السلام، "حتى قعدت" فاطمة مع أم أيمن "في جانب البيت وأنا"، أي: علي، كما في الرواية، "في جانب" آخر من البيت، "وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم" بعدما صلى العشاء الآخرة، "فقال: أههنا أخي! " قالت أم أيمن" مباسطة له عليه السلام، لا مستفهمة إذ لا يخفى حال علي عليها، "أخوك وقد زوجته ابنتك، قال: "نعم" هو كأخي في المنزلة والمواخاة، التي سلفت بين وبينه في الدين لا في النسب والرضاع، فلا يمتنع علي تزويج إياه بنتي.
صح أنه صلى الله عليه وسلم قال له: "أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي" "ودخل صلى الله عليه وسلم" البيت "فقال لفاطمة: "ائتني بماء" فقامت" امتثالا لأمره، زاد في رواية: تعثر في ثوبها، وربما قال: في مرطها من الحياء، "إلى قعب" بقاف مفتوحة، فعين ساكنة فموحدة، قدح كبير، أو صغير، أو يروي الرجل، كما في القاموس، وفي مقدمة الفتح: هو إناء من خشب "في البيت فأتت فيه بماء فأخذه ومج فيه" أي: أخذ منه ماء ووضعه في فمه، ثم رمى به في القعب، "ثم(2/360)
قال لها: "تقدمي"، فتقدمت: فنضح بين ثديها وعلى رأسها وقال: " اللهم إني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم". ثم قال: "أدبري" فأدبرت فصب بين كتفيها. ثم فعل مثل ذلك بعلي رضي الله عنه. ثم قال له: "ادخل بأهلك بسم الله والبركة". خرجه أبو حاتم، وأحمد في المناقب بنحوه.
وفي حديث أنس عند أبي الخير القزويني الحاكمي: خطبها علي بعد أن خطبها أبو بكر ثم عمر................................
__________
قال لها: "تقدمي"، فتقدمت، فنضح" بفتحات رش "بين ثدييها وعلى رأسها وقال: "اللهم إني أعيذها بك" أجيرها بحفظك "وذريتها من الشيطان الرجيم" المطرود.
وقد استجاب الله تعالى دعاء أم مريم، فما بالك بدعاء سيد الخلق. "ثم قال: "أدبري" بفتح الهمزة، "فأدبرت، فصب بين كتفيها، ثم فعل مثل ذلك بعلي رضي الله عنه" اختصر الرواية فلفظ: من عزى له ثم قال لعلي: "ائتني بماء"، قال: فعلمت الذي يريده، فقمت فملأت القعب ماء فأتيته به، فأخذه فمج فيه، ثم صب على رأسي وبين ثديي، ثم قال لي: "أدبر"، فصب بين كتفي، ثم قال: "اللهم إني أعيذه بك وذريته من الشيطان الرجيم".
وفي حديث أسماء بنت عميس، عند الطبراني تقديم علي على فاطمة في ذلك، "ثم قال له: "ادخل بأهلك باسم الله والبركة"، خرجه أبو حاتم" بن حبان التميمي البستي، "وأحمد في المناقب"، وكذا خرجه أبو داود كلاهما "بنحوه،" من حديث أنس، وحكايته ليلة البناء من قوله: وجاء رسول الله.. إلى آخر الحديث.
أما عن مشاهدة بأن يكون دخل مع النبي صلى الله عليه وسلم لأنه خادمه، وكان ذلك قبل بلوغه، وقبل نزول الحجاب، وأما أن يكون حمله عن علي وهو ظاهر قوله، فعلمت الذي يريد.. إلخ، وروى النسائي عن علي: توضأ صلى الله عليه وسلم في إناء ثم أفرغه على علي وفاطمة، ثم قال: "اللهم بارك فيهما، وبارك لهما في شملهما"، وهو بالتحريك الجماع.
في رواية: في شبليهما قال: في الصواعق، قيل: وهي تصحيف، فإن صحت فالشبل ولد الأسد، فيكون ذلك كشفا وإطلاعا منه صلى الله عليه وسلم على أنها تلد الحسنين، فأطلق عليهما شبلين وهما كذلك، انتهى.
يروى عن علي أنه صلى الله عليه وسلم حين زوجه دعا بماء فمجه، ثم صبه، ثم رشه في جبينه وبين كتفيه، وعوذه بقل هو الله أحد والمعوذتين.
"وفي حديث أنس عند أبي الخير القزويني الحاكمي" وابن عساكر، وابن شاذان، بنحوه قال: "خطبها علي،" طلب تزويجها، "بعد أن خطبها أبو بكر، ثم عمر" وذكرهما ذلك(2/361)
فقال له عليه الصلاة والسلام: "قد أمرني ربي بذلك".
قال أنس: ثم دعاني عليه الصلاة والسلام بعد أيام فقال: "ادع لي أبا بكر وعمر وعثمان وعبد الرحمن وعدة من الأنصار"، فلما اجتمعوا وأخذوا مجالسهم وكان علي غائبا فقال صلى الله عليه وسلم:
"الحمد لله المحمود بنعمته، المعبود بقدرته، المطاع المرهوب من عذابه وسطوته، النافذ أمره في سمائه وأرضه، الذي خلق الخلق بقدرته، وميزهم بأحكامه، وأعزهم بدينه، وأكرمهم بنبيه محمد صلى الله عليه وسلم
__________
لعلي كما في حديثه السابق فوقه، "فقال له عليه الصلاة والسلام: "قد أمرني ربي بذلك"، التزويج المفهوم من خطبها.
وقد روى الطبراني برجال ثقات مرفوعا، "أن الله أمرني أن أزوج فاطمة من علي"، ولا يقال لم أخره حتى سأله علي لجواز أن الأمر ورد بعد سؤال علي، أو قبله بأن يزوجه إذا سأله. "قال أنس: ثم دعاني عليه الصلاة والسلام بعد أيام، فقال: "ادع لي أبا بكر وعمر وعثمان وعبد الرحمن" بن عوف رضي الله عنهم، "وعدة من الأنصار" جماعة بينهم له، لا أنه قال له: أدع عدة، ففي رواية ابن عساكر، عن أنس: بينا أنا عند النبي صلى الله عليه وسلم؛ إذ غشيه الوحي، فلما سرى عنه قال: "إن ربي أمرني أن أزوج فاطمة من علي، فانطلق فادع لي أبا بكر وعمر"، وسمي جماعة من المهاجرين وبعددهم من الأنصار، "فلما اجتمعوا وأخذوا مجالسهم"، أي: قعد كل واحد في مجلسه اللائق به، "وكان علي غائب" عن هذا المجلس، وما رواه ابن عساكر أنه عليه السلام أمر عليا أن يخطب لنفسه، فخطب، وأوجب له صلى الله عليه وسلم في حضوره فقبل، واستشهد على الصحابة الحاضرين على ذلك، فقال ابن كثير: هذا خبر منكر، "فقال صلى الله عليه وسلم: "الحمد لله المحمود" من أسماء الله تعالى، كما صرح به هذا الخبر، وعده بعض العلماء في أسمائه، وفي شعر حسان: فذو العرش محمود؛ لأنه تعالى حمد نفسه وحمده عباده "بنعمته" التي لا تتناهى ولا يستطاع حصرها ولا تضاهي، "المعبود بقدرته" إذ لا قدرة على عبادته إلا بأقداره، "المطاع" المتبع الذي ينقاد له فيما أراده وفي التنزيل: {أَطِيعُوا اللَّه} [الأنفال: 20] ، "المرهوب" الذي يخاف "من عذابه" وفي التنزيل: {وَإِيَّايَ فَارْهَبُون} [البقرة: 40] ، "وسطوته" قهره وإذلاله، "النافذ أمره في سمائه وأرضه" جنسهما، فالمراد جميع السموات والأرضين، "الذي خلق الخلق" قدرهم وأوجدهم "بقدرته، وميزهم بأحكامه، وأعزهم بدينه وأكرمهم" كلهم مؤمنهم وكافرهم، إنسهم وجنهم وملكهم، "بنبيه محمد صلى الله عليه وسلم". ودليل العموم قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107] فإرساله إكرام لجميع الخلائق.(2/362)
إن الله تبارك اسمه وتعالت عظمته جعل المصاهرة سببا لاحقا، أمرا مفترضا، أوشج به الأرحام، وألزم به الأنام"، فقال عز من قائل: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا} [الفرقان: 54] فأمر الله يجري إلى قضائه، وقضاؤه يجري إلى قدره، ولكل قضاء قدر، ولكل قدر أجل، ولكل أجل كتاب، يمحو الله ما يشاء ويثبت
__________
ويحتمل تخصيص الإكرام بالمؤمنين من الخلق، والأول أولى "إن الله تبارك اسمه، وتعالت عظمته، جعل المصاهرة"، المناكحة، "سببا" أمرا يتوصل به إلى اتصال بعض الأنساب ببعض "لاحقا" لازما لا يستغني عنه، ولا ينفك عن الناس. "وأمرا مفترضا" ثابتا، وهو قريب في المعنى مما قبله، فهو إطناب مستحسن في الخطب، "أوشج" بشين وجيم، أوصل "به الأرحام" القرابات، فإن من تزوج من قوم حصل بينه وبينهم قرابة بالنسل، ولم يذكر المجد، تعديته بالهمزة. وفي المغني: النقل بالهمزة قيل: كله قياسي، وقيل: سماعي في القاصر، والمتعدي إلى واحد. والحق أنه قياسي في القاصر، سماعي في غيره، وهذا ظاهر مذهب سيبويه، "وألزم" بلام وزاي، "به" بالتلبس بذلك السبب "الأنام"، وفي نسخة: بكاف وراء، من الإكرام "فقال عز من قائل: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا} " [الفرقان: 54] ، من المني إنسانا "فجعله نسبا"، أي: ذا نسب، "وصهرا" ذا صهر، بأن يتزوج ذكر أو أنثى طلبا للتناسل.
قال الكيا الهراسي: وهو يدل على أن الله جعل الماء سبب الاجتماع والتآلف والرضاع، وفيه إشارة إلى المحرمات بالنسب والسبب، وأن كل ذلك تولد من الماء، "فأمر الله يجري إلى قضائه"، هو إرادته إيجاد العالم على نظامه العجيب، كذا في شرح المشكاة للشهاب المكي، وفي شرحه للأربعين، هو عند الأشعرية إرادته الأزلية المتعلقة بالأشياء على ما هي عليه، وفي شرح المقاصد: هو عبارة عن وجود جميع الموجودات في العالم مجتمعة، ومجملة على سبيل الإبداع.
"وقضاؤه يجري إلى قدره" هو تعلق الإرادة بالأشياء في أوقاتها، كما في شرح المشكاة، وفي شرح الأربعين: إيجاده على ما يطابق العلم، وأنه يرحم من يشاء من خلقه فضلا، ويعذب من شاء عدلا، وفي شرح المقاصد: هو عبارة عن وجود مواد الموجودات الخارجية مفصلة واحدا بعد واحد، فيما لا يزال بشهادة وإن من شيء إلا عندنا خزائنه، وما ننزله إلا بقدر معلوم، "ولكل قضاء قدر، ولكل قدر أجل" مدة، "ولكل أجل كتاب" لكل وقت وأمد حكم مكتوب فيه تحديد، "يمحو" منه "ما يشاء ويثبت" بالتخفيف والتشديد، فيه ما يشاء من الأحكام وغيرها.(2/363)
وعنده أم الكتاب. ثم إن الله تعالى أمرني أن أزوج فاطمة من علي بن أبي طالب، فاشهدوا أني قد زوجته على أربعمائة مثقال فضة إن رضي بذلك علي".
ثم دعا صلى الله عليه وسلم بطبق من بسر ثم قال: "انتهبوا"، فانتهبنا.
ودخل علي فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم في وجهه ثم قال: "إن الله عز وجل أمرني أن أزوجك فاطمة على أربعمائة مثقال فضة، أرضيت بذلك"؟ فقال: قد رضيت بذلك يا رسول الله، فقال: عليه الصلاة والسلام
__________
واستدل به الحنفية على تبدل السعادة والشقاوة، وأجاب الأشعرية: بأن ذلك التبديل في غير الكتاب الأزلي لقوله: "وعنده أم الكتاب"، أي: أصله الذي لا يغير منه شيء، وهو ما كتبه في الأزل. وقيل: أصل الكتب وهو اللوح المحفوظ؛ إذ ما من كائن إلا وهو مكتوب فيه وذكر هذا في هذا المقام للإلماج إلى أن من سنن المرسلين النكاح؛ لأن صدر الآية: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً} ، وقد أخرج ابن أبي حاتم عن سعد بن هشام، قال: قلت لعائشة: إني أريد أن أتبتل، قالت: لا تفعل، أما سمعت الله يقول: وتلت الآية. "ثم" أقول: "إن الله تعالى أمرني أن أزوج فاطمة من علي بن أبي طالب، فاشهدوا أني قد زوجته" إياها "على أربعمائة مثقال فضة".
وفي الحديث السابق: أنه باع بدنه بأربعمائة وثمانين درهما، فيجوز أن الدراهم كانت مقدرة بما تساوي المثاقيل وزنا، أو أنه زاد على ما باع به الدرع، "إن رضي بذلك علي" وفي ذخائر العقبى: اختلف في صداقها كيف كان، فقيل: كان الدرع ولم يكن إذ ذاك بيضاء ولا صفراء، وقيل: كان أربعمائة وثمانين، وورد ما يدل لكلا القولين. ويشبه أن العقد وقع على الدرع، وأنه صلى الله عليه وسلم أعطاها عليا ليبيعها فباعها، وأتاه بثمنها، فلا تضاد بين الحديثين، انتهى ملخصا. وهذا الجمع مدلول الحديث السابق، ثم إياك أن تفهم أن هذا الصداق يماثلها.
وقد ذكر السيوطي، أنه رأى في بعض المجاميع عن التكريتي: أن مهر المثل لا يتصور في حق فاطمة؛ لأنه لا مثل لها، قال وهو قول حسن بالغ: "ثم دعا صلى الله عليه وسلم بطبق" أي: طلب طبقا، على التوسع، أدخلت عليه الباء أو الباء سببية، والمفعول محذوف تقديره: دعا رجلا بسبب إحضار طبق "من بسر، ثم قال: "انتهبوا" أمر من الانتهاب، وهو أخذ الجماعة الشيء على غير اعتدال، "فانتبهنا، ودخل علي" بعد ذلك، "فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم في وجهه" تبشيرا له، بأن الله رضيها لمن خطبها قبل، كما أرشد له قوله، "ثم قال: "إن الله عز وجل أمرني أن أزوجك فاطمة" فلا تنافي بين هذا وبين السابق، أن عليا خطبها وركن له المصطفى "على أربعمائة مثقال فضة، أرضيت بذلك"؟ فقال: قد رضيت بذلك يا رسول الله، فقال عليه الصلاة والسلام:(2/364)
"جمع الله شملكما وأعز جدكما، وبارك عليكما، وأخرج منكما كثيرا طيبا".
قال أنس: فوالله لقد أخرج الله منهما الكثير الطيب.
والعقد لعلي وهو غائب محمول على أنه كان له وكيل حاضر، أو على أنه لم يرد به العقد، بل إظهار ذلك، ثم عقد معه لما حضر،
__________
"جمع الله شملكما وأعز جدكما"، بفتح الجيم، حظكما، "وبارك عليكما" ودعا لهما أيضا بنحو ذلك ليلة البناء كما مر، "وأخرج منكما" نسل "كثيرا طيبا".
وفي رواية أبي الحسن بن شاذان: أنه لما زوجه وهو غائب قال: "جمع الله شملهما، وأطاب نسلهما، وجعل نسلهما مفاتيح الرحمة، ومعادن الحكمة، وأمن الأمة" فلما حضر علي تبسم صلى الله عليه وسلم وقال: "إن الله أمرني أن أزوجك فاطمة، وإن الله أمرني أن أزوجكها على أربعمائة مثقال فضة"، فقال: رضيتها يا رسول الله، ثم خر علي ساجدا لله شكرا، فلما رفع رأسه قال صلى الله عليه وسلم: "بارك الله لكما، وبارك فيكما، وأعز جدكما، وأخرج منكما الكثير الطيب".
"قال أن" بن مالك: راوي الحديث رضي الله عنه مشيرا إلى أن الله تعالى أجاب دعاءه صلى الله عليه وسلم، مؤكدا ذلك بالقسم، "فوالله لقد أخرج" الله "منهما الكثير الطيب" الطاهر، وجعل فيهم علماء وأولياء وكرماء، وملأ بهم الأرض ولله الحمد، وهم نسل النبوة.
وقد روى الطبراني والخطيب، عن ابن عباس، قال صلى الله عليه وسلم: "إن الله لم يبعث نبيا قط إلا جعل ذريته من صلبه غيري، فإن الله جعل ذريتي من صلب علي"، ثم حديث أنس هذا، قال ابن عساكر: غريب فيه مجهول، وأقره الحافظ في اللسان، وإشارة صاحب الميزان إلى أنه كذب مردوده، كيف وله شاهد عند النسائي بإسناد صحيح عن بريدة: أن نفرا من الأنصار قالوا لعلي: لو كانت عندك فاطمة، فدخل على النبي صلى الله عليه وسلم ليخطبها، فسلم عليه فقال: "ما حاجة ابن أبي طالب"؟ قال: فذكرت فاطمة، فقال صلى الله عليه وسلم: "مرحبا وأهلا" فخرج إلى الرهط من الأنصار ينتظرونه، فقالوا: ما وراءك؟ قال: ما أدري غير أنه قال لي: "مرحبا وأهلا"، قالوا: يكفيك من رسول الله صلى الله عليه وسلم، أحدهما قد أعطاك الأهل، وأعطاك الرحب، فقلما كان بعدها زوجة، قال: "يا علي لا بد للعرس من وليمة"، قال سعد: عندي كبش، وجمع له رهط من الأنصار آصعا من ذرة، فلماكان ليلة البناء، قال: "يا علي لا تحدث شيئا حتى تلقاني"، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم بماء فتوضأ، ثم أفرغه على علي وفاطمة، فقال: "اللهم بارك فيهما، وبارك عليهما، وبارك لهما في نسلهما"، "والعقد لعلي وهو غائب محمول، على أنه كان له وكيل حاضر" قبل العقد من المصطفى فورا، "أو على أنه لم يرد به العقد، بل إظهار ذلك ثم عقد معه لما حضر" وقد يرد على هذا قوله: "اشهدوا أني قد زوجته"، ثم لم ينقل عقده له بعد حضوره، إلا أن يقال قوله له:(2/365)
أو على تخصيصه بذلك، جمعا بينه وبين ما ورد، مما يدل على شرط القبول على الفور.
وأخرج الدولابي، عن أسماء قالت: لقد أولم علي على فاطمة، فما كان وليمة في ذلك الزمان أفضل من وليمته، رهن ردعه عند يهودي بشطر من شعير، وكانت وليمته آصعا، من شعير وتمر وحيس. والحيس: التمر والأقط.
__________
"أمرني الله أزوجك فاطمة"، وإن كان إخبارا تضمن العقد لقوله: "أرضيت"؟، فقال علي: "قد رضيت"، "أو على تخصيصه بذلك" لأن له صلى الله عليه وسلم أن يزوج من شاء لمن شاء، "جمعا بينه وبين ما ورد مما يدل على شرط القبول على الفور.
وقد ذهب المالكية إلى أن التفريق اليسير لا يضر، فلعل غيبة علي كانت قريبة جدا، وقد يفهم من ظاهر الحديث أنه أتى في المجلس وهم ينتهبون البسر أو بعده، وأجاز أبو حنيفة التفريق مطلقا، ومنعه الشافعي مطلقا، هذا وأخذ بعضهم من هذا الخبر، أن نكاح القرابة القريبة ليس خلاف الأولى، كما تقول الشافعية، وأجيب بأن عليا قريب بعيد؛ إذ المراد بالقرابة القريبة من هي في أول درجات الخؤلة والعمومة، وفاطمة بنت ابن عم، فهي بعيدة، ونكاحها أول من الأجنبية، وأما الجواب بأن عليا لم يكن كفئا حينئذ لفاطمة سواه، فرد بأن أباه كافر، وأبوها سيد الخلق، "وأخرج الدولابي" بفتح الدال وضمها، الحافظ أبو بشر محمد بن أحمد الرازي، "عن أسماء قالت: لقد أولم علي على فاطمة، فما كان" وجد "وليمة في ذلك الزمان أفضل من وليمته" لتقللهم حينئذ "رهن درعه عند يهودي" لا ينافي أنه باعها؛ لأن عثمان ردها له، كما مر أو أنها غيرها لتخلل مدة بين العقد والبناء.
ولم أر تسمية اليهودي "بشطر من شعير" قيل: أراد نصف مكوك، وقيل: صف وسق، قاله في النهاية، "وكانت وليمته آصعا" بفتح الهمزة وضم الصاد ومد "من شعير وتمر وحيس" وكبش من عند سعد، وآصع ذرة من عند جماعة من الأنصار.
كما في حديث بريدة "والحيس"، بفتح الحاء المهملة، وسكون التحتية وسين مهملة، "التمر والأقط" فعطفه على التمر من عطف الكل على الجزء، وهو بفتح الهمزة وكسر القاف.
قال عياض: هو جبن اللبن المستخرج زبده، وقيل: لبن مجفف مستحجر يطبخ به، وفي القاموس: الحيس: تمر يخلط بسمن، وأقط يعجن شديدا، ثم يندر منه نوه. قال الحافظ: وقد يخلط مع هذه الثلاثة غيرها، كالسويق انتهى، ولا ينافي هذا قول الشاعر:
التمر والسمن جميعا والأقط ... الحيس إلا أنه لم يختلط
لأنه أراد أنه لم يختلط فيما حضره، وأنها حيس بالقوة لوجود الأجزاء دون الخلط.(2/366)
وأخرج أحمد في المناقب عن علي: كان جهاز فاطمة رضي الله عنها خميله وقربة ووسادة من أدم حشوها ليف.
__________
"وأخرج" الإمام "أحمد في المناقب عن علي" قال: "كان جهاز فاطمة رضي الله عنها، خميله" باللام والهاء، بساط له خمل، أي: هدب رقيق، والجمع خميل بحذف الهاء، "وقربة ووسادة،" بكسر الواو، مخدة "من أدم" جلد "حشوها ليف،" أي: وسريرا مشروطا، كما في الرواية السابقة، ومر أن في رواية: أربع وسائد، وأنه يجمع بأن واحدة على السرير، وثلاثة في البيت، ومر أن فرشهما ليلة عرسهما كان جلد كبش، وأنه كان لهما فراشان، ولا معارضة؛ لأن الجهاز مجموع ذلك، فبعض الرواة ذكر ما لم يذكر الآخر.
وروي عن الحسن البصري قال: كان لعلي وفاطمة قطيفة، إذا لبسوها انكشفت ظهورهما، وإذا لبسوها بالعرض انكشفت رءوسهما، وجاء أنه صلى الله عليه وسلم مكث ثلاثة أيام لا يدخل عليهما بعد البناء، ثم دخل في الرابع في غداة باردة وهما في لحاف واحد، فقال: "كما أنتما"، وجلس عند رأسهما، ثم أدخل قدميه وساقيه بينهما، فأخذ علي أحدهما فوضعها على صدره وبطنه، ليدفيهما، وأخذت فاطمة الأخرى فوضعتها على صرها وبطنها لتدفيهما، وطلبت خادما فأمرها بالتسبيح والتحميد والتكبير.
وروي عن الحسن البصري قال: كان لعلي وفاطمة قطيفة، إذا لبسوها انكشفت ظهورهما، وإذا لبسوها بالعرض انكشفت رءوسهما، وجاء أنه صلى الله عليه وسلم مكث ثلاثة أيام لا يدخل عليهما بعد البناء، ثم دخل في الرابع في غداة باردة وهما في لحاف واحد، فقال: "كما أنتما"، وجلس عند رأسهما، ثم أدخل قدميه وساقيه بينهما، فأخذ علي أحدهما فوضعها على صدره وبطنه، ليدفيهما، وأخذت فاطمة الأخرى فوضعتها على صدرها وبطنها لتدفيهما، وطلبت خادما فأمرها بالتسبيح والتحميد والتكبير.
وعن أنس قال: جاءت فاطمة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، إني وابن عمي، ما لنا فراش إلا جلد كبش ننام عليه بالليل، ونعلف ناضحنا بالنهار، فقال: "يا بنية، اصبري، فإن موسى بن عمران أقام مع امرأته عشر سنين ما لهما فراش إلا عباءة قطوانية"، أي: بيضاء قصيرة الخمل، كما في النهاية، وهو بفتحتين نسبة إلى موضع بالكوفة كما في القاموس، وفي الصحيحن ومسند أحمد عن علي أن فاطمة شكت ما تلقى من أثر الرحى مما تطحن، فأتى النبي صلى اله عليه وسلم سبي، فانطلقت فلم تجده، فأخبرت عائشة، فلما جاء صلى الله عليه وسلم، أخبرته عائشة بمجئيء فاطمة، فجاء صلى الله عليه وسلم إلينا، وقد أخذنا مضاجعنا، فذهبت لأقوم فقال: "على مكانكما" فقعد بيننا حتى وجدت برد قدميه على صدري، وقال: "ألا أعلمكما خيرا مما سألتماني"؟، قلنا: بلى، قال: "كلمات علمنيهن جبريل، إذ أخذتما مضاجعكما من الليل، فكبرا ثلاثا وثلاثين وسبحا ثلاثا وثلاثين، وأحمد ثلاثا وثلاثين، فهو خير لكما من خادم"، ويأتي إن شاء الله تعالى من مناقبهما في الأولاد والكتب النبوية، والله تعالى أعلم.(2/367)
"قتل كعب بن الأشرف وهي سرية محمد بن مسلمة":
ثم سرية محمد بن مسلمة وأربعة معه إلى كعب بن الأشرف اليهودي، لأربع عشرة ليلة مضت من ربيع الأول، على رأس خمسة وعشرين شهرا من الهجرة.
روى أبو داود والترمذي من طريق الزهري عن عبد الرحمن بن عبد الله بن
__________
قتل كعب بن الأشرف:
"ثم سرية محمد بن مسلمة،" بفتح الميم واللام، الأنصاري الأوسي، أبو عبد الرحمن، وقيل: أبو عبد الله شهد بدرا والمشاهد كلها، وكان من فضلاء الصحابة، وهو أكبر من اسمه محمد فيهم، ولد قبل البعثة باثنتين وعشرين سنة في قول الواقدي، وهو ممن سمي محمدا في الجاهلية ومات بالمدينة في صفر سنة ثلاث وأربعين. والإضافة بيانية، أي: السرية التي هي محمد، "وأربعة معه،" سيأتي أسماؤهم، وخص بالذكر لأنه الأمير عليهم والملتزم لقتل كعب، وإطلاق السرية عليهم، على قول ابن السكيت وغيره، أن مبدأها خمسة، كما مر "إلى كعب بن الأشرف،" بفتح الهمزة، وسكون المعجمة، وفتح الراء وبالفاء "اليهودي" حلفا.
قال ابن إسحاق وغيره: كان عربيا من بني نبهان، وكان أبوه أصاب دما في الجاهلية، فأتى المدينة، فحالف بني النضير، فشرف فيهم، وتزوج عقيلة بنت أبي الحقيق، فولدت له كعبا، وكان طويلا جسيما ذا بطن وهامة، شاعرا مجيدا، ساد يهود الحجاز بكثرة ماله، فكان يعطي أحبار يهود ويصلهم، فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، جاءه أحبار اليهود من بني قينقاع، وبني قريظة لأخذ صلته على عادتهم، فقال لهم: "ما عندكم من أمر هذا الرجل؟ "، قالوا: هو الذي كنا ننتظر، ما أنكرنا من نعوته شيئا، فقال لهم: "قد حرمتم كثيرا من الخير، ارجعوا إلى أهليكم، فإن الحقوق في مالي كثير"، فرجعوا عنه خائبين، ثم رجعوا إليه وقالوا له: إنا أعجلنا فيما أخبرناك به أولا، ولما استنبانا علمنا أنا غلطنا، وليس هو المنتظر، فرضي عنهم ووصلهم، وجعل لكل من تابعهم من الأحبار شيئا من ماله، وكانت كما قال ابن سعد: "لأربع عشرة ليلة" أي: في الليلة الرابعة عشر، لما يأتي أن قتله كان ليلا "مضت من ربيع،" بالتنوين، "الأول" وصف تابع له في الإعراب، وتجوز الإضافة من إضافة الشيء إلى نفسه لاختلاف اللفظين، نحو: حب الحصيد، واستعماله بدون شهر مخالف لقول الأزهري: العرب تذكر الشهور كلها مجردة من لفظ شهر إلا شهري ربيع ورمضان، للفرق بين ربيع الشهور والزمان، لاشتراك ربيع بين الشهر والفصل. فالتزموا لفظ شهر في الشهر، وحذفوه في الفصل للفصل، ولم يبال المصنف بذلك تبعا للحافظ، لأمن اللبس هنا لا سيما مع قوله: "على رأس خمسة وعشرين شهرا من الهجرة" النبوية، "روى أبو داود والترمذي من طريق الزهري" محمد بن مسلم بن شهاب، "عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك" الأنصاري، أبي الخطاب المدني، الثقة العالم من رجال الصحيحين، مات في إمارة هشام، "عن أبيه" عبد الله أحد الإخوة الأنصاري، الشاعر المدني الثقة، يقال له: رؤية،(2/368)
كعب بن مالك عن أبيه: أن كعب بن الأشرف كان شاعرا، وكان يهجو رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحرض عليه كفار قريش. وكان النبي صلى الله عليه وسلم قدم المدينة وأهلها أخلاط، فأراد استصلاحهم، وكان اليهود والمشركون يؤذون المسلمين أشد الأذى، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصبر.
فلما أبى كعب بن الأشرف أن ينزع عن أذاه
__________
مات سنة سبع، أو ثمان وتسعين. "أن كعب بن الأشرف كان شاعرا، وكان يهجو رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحرض عليه كفار قريش،" واستأنف قوله: "وكان النبي صلى الله عليه وسلم قدم المدينة وأهلها أخلاط،" جمع خلط كأحمال وحمل، أي: مجتمعون، من قبائل شتى، "فأراد" لاختلاف عقائدهم وأحوالهم "استصلاحهم" بجمعهم على كلمة الإسلام، "وكان اليهود والمشركون يؤذون المسلمين أشد الأذى،" كما قال تعالى: {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا} [آل عمران: 186] ، "فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم،" لفظ الرواية كما في الفتح، فأمر الله رسوله والمسلمين، "بالصبر" قال تعالى: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [آل عمران: 186] .
قال البيضاوي: من معزوماتها التي يجب العزم عليها، أو مما عزم الله عليه، أي: أمر به وبالغ فيه، "فلما أبى كعب بن الأشرف أن ينزع عن أذاه" وقد كان عاهد النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن لا يعين عليه أحد، فنقض كعب العهد، وسبه وسب أصحابه، وكان من عداوته، أنه لما قدم البشير أن يقتل من قتل ببدر، وأسر من أسر، قال كعب: أحق هذا؟ أترون أن محمدًا قتل هؤلاء الذين يسمى هذان الرجلان فهؤلاء أشراف العرب، وملوك الناس، والله لئن كان محمد أصاب هؤلاء القوم لبطن الأرض خير من ظهرها، فلما أيقن الخبر، ورأى الأسرى، مقرنين كبت وذل، وخرج إلى قريش يبكي على قتلاهم ويحرضهم على قتاله صلى الله عليه وسلم فنزل بمكة على المطلب بن أبي وداعة السهمي، وعنده زوجه عاتكة بنت أسيد بن أبي العيص، فأنزلته وأكرمته، فجعل يحرض على النبي، وينشد الأشعار، فبلغه ذلك، فدعا حسان فهجا المطلب وزوجته، وأسلما بعد رضي الله عنهما، فلما بلغ ذلك عاتكة ألقت رحله وقالت: ما لنا ولهذا اليهودي، فخرج من عندها وصار يتحول من قوم إلى قوم، فيفعل مثل ما فعل عند عاتكة ويبلغ خبره النبي صلى الله عليه وسلم، فيذكره لحسان، فيهجوه فيفعلون معه كما فعلت عاتكة، ثم رجع إلى المدينة فشبب بنساء المسلمين حتى آذاهم. ذكر ابن إسحاق وغيره قال في الإملاء، أي: تغزل فيهن وذكرهن بسوء، قال السهيلي: وكان قد شبب بمكة بأم الفضل زوج العباس فقال:
أراحل أنت لم ترحل بمنقبة ... وتارك أنت أم الفضل بالحرم(2/369)
أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم سعد بن معاذ أن يبعث رهطا ليقتلوه.
وفي رواية قال صلى الله عليه وسلم: "من يتكفل لنا بابن الأشرف"؟ وفي أخرى: "من لكعب بن الأشرف" أي من ينتدب لقتله، "فقد استعلن بعداوتنا وهجانا، وقد خرج إلى قريش فجمعهم على قتالنا، وقد أخبرني الله بذلك". ثم قرأ على المسلمين {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا، أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ
__________
في أبيات رواها يونس عن ابن إسحاق. "أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم سعد بن معاذ أن يبعث رهطا ليقتلوه" ففعل كما يأتي، "وفي رواية:" عند ابن عائذ، من طريق أبي الأسود عن عروة، "قال عليه الصلاة والسلام: "من يتكفل لنا بابن"، أي: يقتل ابن "الأشرف"، فإنه قد آذى الله ورسوله"، قال في الفتح: "أي: من" الذي "ينتدب لقتله،" أي: يتوجه له، وجمع شيخنا بين هذه الروايات، بأنه سأل خصوص سعد مرة، ثم قال: "من لنا بابن الأشرف"؟ مرة ثانية، وفي أخرى: "من لكعب بن الأشرف"؟، وفي رواية ابن عائذ عن عروة، "فقد استعلن" الفاء تعليلية، والسين للتأكيد، أي: أعلن بعداوتنا" أو للطلب، والياء زائدة، أي: طلب إظهار عداوتنا حتى من غيره، "وهجانا، وقد خرج إلى المشركين" بمكة "فجمعهم" حملهم "على قتالنا" بقوله الشعر لهم، وتذكيرهم قتلى بدر. وعند ابن عائذ أيضا عن الكلبي: أنه خالف قريشا عند أستار الكعبة على قتال المسلمين، ثم لفظ ابن عائذ عن عروة: "فأجمعهم على قتالنا"، وتوقف فيه الجمال ابن هشام النحوي، بقول اللغويين أجمع في المعاني، خاصة نحو: فأجمعوا أمركم، وأما جمع، ففي المعاني كجمع كيده، والإجرام كجمع مالا، قال: فإن صح لفظ الحديث وجب تأويله على حذف مضاف، أي: فاجمع رأيهم، انتهى. "وقد أخبرني الله بذلك".
حذف من الرواية ما لفظه: ثم قدم أخبث ما كان ينتظر قريشا تقدم فيقاتلنا، ثم قرأ على المسلمين" ما أنزل الله عليه فيه، {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} [النساء: 51] .
قال الجلال: صنمان لقريش، وقال البيضاوي: الجبت الصنم في الأصل، واستعمل في كل ما يعبد من دون الله، وقيل: أصله الجبس، وهو الذي لا خير فيه، فقلبت سينه تاء، والطاغوت الباطل من معبود أو غيره. {وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا} لأجلهم وفيهم {هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا} أقوم دينا، وأرشد طريقه، {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ} طردهم،(2/370)
وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا} [النساء: 51، 52] .
وفي الإكليل: "فقد آذانا بشعره، وقوى المشركين".
__________
{وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا} ، مانعا من عذابه، ذكر ابن عائذ في صدر هذه الرواية عن أبي الأسود، عن عروة قال: أنبعث عدو الله يهجو رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ويمتدح عدوهم، ويحرضهم عليهم، فلم يرض بذلك حتى ركب إلى قريش فاستقواهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له أبو سفيان والمشركون: أديننا أحب إليك أم دين محمد وأصحابه، وأي ديننا أهدى في رأيك وأقرب إلى الحق؟، فقال: أنتم أهدى سبيلا وأفضل، إلى أن قال: فأنزل الله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَاب} [آل عمران: 23] الآية، وخمس آيات فيه وفي قريش، فجزم عروة بأنها نزلت في كعب، ونحوه ما روى أحمد وغيره، عن ابن عباس قال: لما قدم كعب مكة قالت قريش: ألا ترى إلى هذا المنبصر المنبتر من قومه، يزعم أنه خير منا ونحن أهل الحجيج، وأهل السقاية، قال: أنتم خير، فنزل فيهم: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَر} [الكوثر: 3] ، ونزلت: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ} إلى {نصيرا} [آل عمران: 23] .
وأخرج ابن إسحاق عن ابن عباس، كان الذين خربوا الأحزاب من قريش وغطفان وبني قريظة حيي بن أخطب، وسلام بن أبي الحقيق، وأبو رافع، والربيع، وعمارة، وهوذة، فلما قدموا على قريش قالوا: هؤلاء أحبار يهود، وأهل العلم بالكتب الأولى، فسلوهم أدينكم خير أم دين محمد؟ فسألوهم، فقالوا: دينكم خير من دينه، وأنتم أهدى منه وممن اتبعه، فأنزل الله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ} [آل عمران: 23] ، إلى قوله: {مُلْكًا عَظِيمًا} [النساء: 54] ، ولذا قال الجلال والبيضاوي: أنها نزلت في كعب، وفي جمع من اليهود خرجوا إلى مكة وساقا نحو القصة، وزاد البيضاوي: إنهم سجدوا لآلهة الكفار، ليطمئنوا إليهم.
وقوله في صدر عبارته نزلت في يهود، قالوا: عبادة الأصنام أرضى عند الله مما يقول محمد، وقيل: في حيي وكعب في جمع من اليهود.. إلخ، ليس بخلاف محقق، لإمكان حمل الأول المبهم على الثاني المبين، خصوص من نزلت فيه كما هو الواقع.
"وفي الإكليل" لأبي عبد الله الحاكم من حديث جابر: "فقد آذانا بشعره وقوى المشركين" علينا، قال الحافظ: ووجدت لقتل كعب بن الشرف سببا آخر في فوائد عبد الله بن إسحاق الخراساني، بسند ضعيف من مرسل عكرمة، وهو أنه صنع طعاما وواطأ جماعة من اليهود، أنه يدعو النبي صلى الله عليه وسلم إلى الوليمة، فإذا حضر فتكوا به، ثم دعاه فجاء ومعه بعض أصحابه، فأعلمه جبريل بما أضمروا بعد أن جالسه، فقام يستره جبريل بجناحه، فلما فقدوه تفرقوا، فقال حينئذ: "من ينتدب لقتل كعب؟ "، ويمكن الجمع بتعدد الأسباب، انتهى.(2/371)
وفي رواية ابن إسحاق: فقال محمد بن مسلمة، أخو بني عبد الأشهل: أنا لك به يا رسول الله، أنا أقتله، قال: "فافعل إن قدرت على ذلك". قال: يا رسول الله إنه لابد لنا أن نقول، قال: "قولوا ما بدا لكم فأنتم في حل من ذلك".
__________
"وفي رواية ابن إسحاق" عن شيخه عبد الله بن أبي المغيث بن أبي بردة، "فقال محمد بن مسلمة، أخو بني عبد الأشهل: أنا" أتكفل "لك به يا رسول الله، أنا أقتله، قال: "فافعل إن قدرت على ذلك"، قال: "وفي البخاري عن جابر، فقال: أي محمد: يا رسول الله أتحب أن أقتله؟ قال: "نعم".
وعند الحاكم، عن جابر فقال صلى الله عليه وسلم: ""أنت له"، وفي رواية ابن عائذ، عن عروة، فسكت صلى الله عليه وسلم، فقال محمد بن مسلمة: أقر صامت ومثله في فوائد سمويه، قال الحافظ: فإن ثبت احتمل أنه سكت أولا، ثم أذن له، فإن في رواية عروة أيضا أنه قال له: "إن كنت فاعلا فلا تعجل حتى تشاور سعد بن معاذ"، قال: فشاروه، فقال له: توجه إليه، وأشك إليه الحاجة، وسله أن يسلفكم طعاما، انتهى.
وعند ابن إسحاق: فرجع محمد بن مسلمة ثلاثا لا يأكل ولا يشرب إلا ما تعلق به نفسه، فذكر ذلك له صلى الله عليه وسلم، فدعاه فقال: "لم تركت الطعام والشراب"؟، قال: يا رسول الله قلت لك قولا لا أدري هل أفين لك به أم لا؟، قال: "إنما عليك الجهد".
وعند ابن عبد البر: فمكث أياما مشغول النفس بما وعده من قتل ابن الأشرف، فأتى أبا نائلة، وعباد بن بشر، والحارث بن أوس، وأبا عبس بن جبر فأخبرهم بما وعد به رسول الله صل الله عليه وسلم من قتله، فأجابوه وقالوا: كلنا نقتله، ثم أتوا رسول صلى الله عليه وسلم فقالوا: "يا رسول الله، لا بد لنا أن نقول" قولا غير مطابق للواقع، يسر كعبا لنتوصل به إلى التمكن من قتله، وقال المبرد: حقه أن يقول نتقول، يريد نفتعل قولا نحتال به، "قال: "قولوا مابدا لكم فأنتم في حل من ذلك" فأباح لهم الكذب؛ لأنه من خدع الحرب.
وفي البخاري: قال محمد: فأذن لي أن أقول شيئا، قال: "قل"، فكأنه قال له ذلك، ثم قاله للجماعة. قال الحافظ: وظهر من سياق ابن سعد للقصة أنهم استأذنوه في أن يشكوا منه وأن يعيبوا دينه، انتهى.
قال ابن المنير: هنا لطيفة هي أن النيل من عرضه كفر، ولا يباح إلا بإكراه لمن قلبه مطمئن بالإيمان، وأين الإكراه هنا، وأجاب أن كعبا كان يحرض على قتل المسلمين، وكان في قتله خلاصهم، فكأنه أكره الناس على النطق بهذا الكلام، بتعريضه إياهم للقتل، فدفعوا عن أنفسهم بألسنتهم، مع أن قلوبهم مطمئنة، بالإيمان، انتهى. وهو حسن نفيس.(2/372)
فاجتمع في قتله محمد بن مسلمة وأبو نائلة -بنون وبعد الألف تحتية-
__________
وفي البخاري ومسلم: فأتاه محمد بن مسلمة، فقال: إن هذا الرجل قد سألنا صدقة، زاد الواقدي: ونحن ما نجد ما نأكل، وفي مرسل عكرمة: إن نبينا أراد منا الصدقة، وليس مال نصدقه. انتهى. وأنه قد عنانا، وإني قد أتيتك أستسلفك، قال كعب: وأيضا والله لتملنه، قال: إنا قد اتبعناه فلا يجب أن ندعه حتى ننظر إلى أي شيء يصير شأنه، وقد أردنا أن تسلفنا وسقا أو وسقين.
وفي رواية عروة: وأحب أن تسلفنا طعاما، قال: وأين طعامكم؟ قالوا: أنفقناه على هذا الرجل وعلى أصحابه، قال: ألم يأن لكم أن تعرفوا ما أنتم عليه من الباطل، انتهى. قال: نعم ارهنوني، قالوا: أي شيء تريد؟، قال: ارهنوني نساءكم، قالوا: كيف نرهنك نساءنا وأنت أجمل العرب؟ زاد ابن سعد من مرسل عكرمة: ولأنا منك، وأي امرأة تمتنع منك لجمالك.
وفي رواية الخراساني: وأنت رجل حسان يعجب النساء، وحسان بضم الحاء، وشد السين المهملتين، ولعلهم قالوا له: أنت أجمل العرب تهكما، وإن كان هو في نفسه جميلا كما قال الحافظ، انتهى. قال: فارهنوني أبناءكم، قالوا: كيف نرهنك أبناءنا، فيسب أحدهم، فيقال رهن بوسق أو وسقين، هذا عار علينا ولكنا نرهنك اللأمة، يعني السلاح. وفي مرسل عكرمة: ولكنا نرهنك سلاحنا مع علمك بحاجتنا إليه، قال: نعم.
وفي رواية الواقدي: وإنما قالوا له ذلك لئلا ينكر عليهم مجيئهم إليه بالسلاح، انتهى. فواعده أن يأتيه هكذا في الصحيح: أن الذي خاطب كعبا بذلك، هو محمد بن مسلمة، وعند ابن إسحاق وغيره من أهل المغازي: أنه أبو نائلة جاءه وقال له: ويحك يابن الأشرف، إني قد جئتك لحاجة أريد أن أذكرها لك فاكتم عني، قال: أفعل، قال: كان قدوم هذا الرجل علينا بلاء من البلاء، عادتنا العرب ورمتنا عن قوس واحدة وقطعت عنا السيل حتى جاع العيال، وجهدت الأنفس، وأصبحنا قد جهدنا وجهد عيالنا، فقال كعب: أنا ابن الأشرف، فأما والله لقد كنت أخبرك يابن سلامة أن الأمر سيصير إلى ما أقول، فقال: إني أردت أن تبيعنا طعاما لك، ونرهنك ونوثق لك، وتحسن في ذلك وإن معي أصحابا على مثل رأيي، وقد أردت أن آتيك بهم، فتبيعهم وتحسن نرهنك من الحلقة ما فيه وفاء، فقال: إن في الحلقة لوفاء، وأومأ الدمياطي إلى ترجيحه، قال الحافظ: ويحتمل أن كلا منهما كلمه في ذلك لأن أبا نائلة أخوه من الرضاعة، ومحمد بن مسلمة ابن أخيه، "فاجتمع في قتله،" أي: الذهاب له، "محمد بن مسلمة وأبو نائلة، بنون بعد الألف تحتية،" وهذا لفظ الفتح. وفي شرح المصنف: وبعد الألف همزة، ويمكن الجمع أنه يكتب بالياء، وينطق بالهمزة،(2/373)
سلكان بن سلامة -وكان أخا كعب من الرضاعة- وعباد بن بشر، والحارث بن أوس بن معاذ، وأبو عبس بن جبر. وهؤلاء الخمسة من الأوس.
__________
"سلكان،" بكسر السين المهملة، وإسكان اللام اسمه، وقيل: لقبه واسمه سعد، وقيل: سعد أخوه "ابن سلامة" بن وقش، بسكون القاف وفتحها، الأوسي الأشهلي.
شهد أحدًا وغيره، وكان شاعرا ومن الرماة المذكورين كما في الإصابة، "وكان أخا كعب من الرضاعة" كما في البخاري.
وذكروا أنه كان نديمه في الجاهلية فكان يركن إليه. وعند الواقدي: أن محمد بن مسلمة كان أيضا أخاه، ووقع في جميع نسخ مسلم إنما هو محمد بن مسلمة ورضيعه، وأبو نائلة، ونقل عياض عن شيخه القاضي الشهيد، يعني الحافظ أبا علي بن سكرة، أن صوابه أبو نائلة بلا واو، كما ذكر أهل السير: أن أبا نائلة كان رضيعا لابن مسلمة، انتهى فتحصل أن أبا نائلة رضيع لمحمد وكعب "وعباد" بفتح العين وشد الموحدة.
"ابن بشر" بكسر الموحدة وإسكان المعجمة، الأشهلي الأوسي البدري، من كبار الصحابة، استشهد يوم اليمامة، وله خمس وأربعون سنة.
قال البرهان: ورأيت بخط ابن الجوزي في جامع الترمذي ابن بشير بزيادة يا ولا أعلم ذلك في الصحابة، "والحارث بن أوس بن معاذ" بن النعمان بن امرئ القيس، ابن أخي سعد بن معاذ.
ووقع في رواية الحميدي الحارث بن معاذ، نسبه إلى جده ومن قال: الحارث بن أوس بن النعمان، نسبه إلى جده الأعلى، وذكر ابن عائذ: أن عمه سعدا بعثه مع ابن مسلمة، وقول ابن الكلبي وتبعه أبو عمر، استشهد يوم أحد، وهو ابن ثمان وعشرين سنة. قال في الإصابة: وهم؛ لأن أحدًا قبل الخندق بمدة.
وقد روى أحمد وصححه ابن حبان عن عائشة قالت: خرجت يوم الخندق، فسمعت حسا فالتفت فإذا أنا بسعد بن معاذ، ومعه ابن أخيه الحارث بن أوس، نعم ذكر ابن إسحاق في شهداء أحد الحارث بن أوس بن معاذ، لكن لم يقل إنه ابن أخي سعد، فهو غيره، انتهى ملخصا.
"وأبو عبس" بمهملتين بينهما موحدة، عبد الرحمن على الصحيح كما قل النووي وغيره، وقيل: عبد الله "بن جبر" بفتح الجيم، وإسكان الموحدة، وقيل: ابن جابر بن عمرو بن زيد الأنصاري الأوسي الحارثي البادري، المتوفى سنة أربع وثلاثين عن سبعين سنة، وصلى عليه عثمان. له في الكتب الستة ومسند أحمد حديث واحد وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "من أغبرت قدماه في سبيل الله حرمه الله على النار". "وهؤلاء الخمسة من الأوس" فتفردت الأوس بقتل كعب، كما(2/374)
....................................
__________
تفردت الخزرج بقتل سلام بن أبي الحقيق، قاله عبد الغني الحافظ، وفي البخاري عن سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار: أن ابن مسلمة جاء معه برجلين، قال سفيان: وقال غير عمرو، وأبو عبس بن جبر والحارث بن أوس، وعباد بن بشر.
قال الحافظ: فعلى هذا كانوا خمسة، وكذا سماهم في رواية ابن سعد، ويؤيده قول عباد بن بشر، وكان الله سادسنا، وهو أولى مما وقع في رواية الحاكم وغيره، إنهم ثلاثة فقط، ويمكن الجمع بأنهم كانوا مرة ثلاثة، وفي الأخرى خمسة، انتهى.
ووقع في الشامية عدهم ستة، فزاد الحارث بن عبس، وفيه نظر، فليس في الصحابة من سمي بذلك إلا الحارث بن عيسى، وقيل: ابن عبس، بالموحدة العبدي أحد وفد عبد القيس، كما في الإصابة وقدوم عبد القيس سنة تسع ولهم قدمة قبل ذلك سنة خمس وأياما كان، فهذه القصة سابقا على القدمتين؛ لأنها في الثالثة، وأيضا فليس أوسيا، والذاهبون لقتله أوسيون، باتفاق. وأخرج ابن إسحاق بإسناد حسن.
عن ابن عباس قال: مشى معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بقيع الغرقد، ثم وجههم وقال: "انطلقوا على اسم الله، اللهم أعنهم" ثم رجع صلى الله عليه وسلم إلى بيته وهو في ليلة مقمرة، وأقبلوا حتى انتهوا إلى حصنه، وكان حديث عهد بعرس، فهتف به أبو نائلة، فوثب على ملحفته فأخذته امرأته بناحيتها وقالت: إنك امرؤ تحارب، وإن أصحاب الحروب لا ينزلون في مثل هذه الساعة، قال: إنه أبو نائلة لو وجدني نائما ما أيقظني، فقالت: والله إني لأعرف في صوته الشر، ولم تسم امراة كعب كما في مقدمة الفتح.
وقوله في الفتح: تقدم أن اسمها عقيلة سهو، وإذ المتقدم أن عقيلة أمه، وفي البخاري قالت: أسمع صوته كأنه يقطر منه الدم، قال: إنما هو أخي محمد بن مسلمة، ورضيعي أبو نائلة، إن الكريم لو دعي إلى طعنة بليل لأجاب، انتهى. فنزل فتحدث معهم ساعة، وتحدثوا معه وقالوا: هل لك يابن الأشرف أن تمشي إلى شعب العجوز، فنتحدث به بقية ليلتنا، فقال: إن شئتم، فخرجوا يتماشون، فمشوا ساعة، ثم إن أبا نائلة شام يده، بمعجمة وميم مخففا، أدخلها في فود رأسه، ثم شد يده، فقال: ما رأيت كالليلة طيبا أعطر، ثم مشى ساعة، ثم عاد لمثلها حتى اطمأن، ثم مشى ساعة، ثم عاد لمثلها، فأخذ بقود رأسه وقال: اضربوا عدو الله.
وفي البخاري: أن ابن مسلمة قال لأصحابه: إذا ما جاء كعب فإني قائل بشعره، أي: آخذ به من إطلاق القول على الفعل مجازا وأشمه، فإذا رأيتموني استمكنت من رأسه فدونكم فاضربوه، فنزل إليهم متوشحا وهو ينفح منه ريح الطيب، فقال: ما رأيت كاليوم ريحا، أي: أطيب، فقال: عندي أعطر نساء العرب، وأكمل العرب، فقال ابن مسلمة: أتأذن لي أن أشم(2/375)
وفي رواية ابن سعد: فلما قتلوه وبلغوا بقيع الغرقد
__________
رأسك؟ قال: نعم، فشمه، ثم أشم أصحابه، ثم قال: أتأذن لي؟ قال: نعم، فيحتمل أن كلا من محمد بن مسلمة وأبي نائلة استأذنه في ذلك.
وفي رواية الواقدي: وكان كعب يدهن بالمسك المفتت والعنبر حتى يتلبد في صدغيه، انتهى. فضربوه، فاختلفت عليه أسيافهم فلم تغن شيئا. قال محمد بن مسلمة: فذكرت مغولا في سيفي حين رأيت أسيافنا لا تغني شيئا، فأخذته وقد صاح عدو الله صيحة لم يبق حولنا حصن إلا أوقدت عليه نار، فوضعته في ثنته، ثم تحاملت عليه حتى بلغت عانته، فوقع عدو الله. إلى هنا رواية ابن إسحاق، وميزت الزائد عليها بعزو، أوله وقول انتهى آخره، وثنته، بضم المثلثة وشد النون المفتوحة، أي: سرته، كما هو رواية ابن سعد، والمغول، بكس الميم وسكون الغين المعجمة، وفتح الواو، شبه سيف قصير تغطيه الثياب، أو حديدة دقيقة لها حد ماض، وقفا أو سوط دقيق يسده الفاتك على وسطه ليغتال به الناس، كما في النهاية.
وعند ابن عائذ عن الكلبي: فضربوه حتى برد وصاح عند أول ضربة، واجتمعت اليهود، فأخذوا على غير طريق الصحابة ففاتوهم.
وعند ابن سعد: أنه صاح، وصاحت امرأته: يا آل قريظة والنضير مرتين، واستشكل قتله على هذا الوجه. وأجاب المازري: بأنه إنما قتله كذلك؛ لأنه نقض عهد النبي صلى الله عليه وسلم وهجه وسبه، وكان عاهده أن لا يعين عليه أحدا، ثم جاءه مع أهل الحرب معينا عليه، قال عياض: وقدر لأن محمد بن مسلمة لم يصرح له بالأمان في شيء من كلامه، وإنما كلمه في أمر البيع والشراء، واشتكى إليه وليس في كلامه عهد ولا أمان، قال: ولا يح لأحد أن يقول إن قتله كان غدرا. وقد قال ذلك إنسان في مجلس علي بن أبي طالب، فأمر به فضربت عنقه، وإنما يكون الغدر بعد أمان، موجود وكعب كان قد نقض عهده صلى الله عليه وسلم ولم يؤمنه محمد ورفقته، لكنه استأنس بهم، فتمكنوا منه من غير عهد ولا أمان.
قال: وأما ترجمة البخاري على هذا الحديث، باب الفتك فليس معناه الغدر، بل الفتك هو القتل على غرة وغفلة، والغيلة نحوه، انتهى.
وأقره النووي وقال السهيلي في هذه القصة: قتل المعاهد إذا سب الشارع، خلافا لأبي حنيفة، ونظر فيه الحافظ بأن صنيع البخاري في الجهاد يعطي أن كعبا كان محارب حيث ترجم الفتك بأهل الحرب، وترجم له أيضا الكذب في الحرب، وفيه قتل المشرك بغير دعوة، إذا كانت الدعوة العامة قد بلغته، وجواز الكلام المحتاج إليه في الحرب، ولو لم يقصد قائله إلى حقيقته.
"وفي رواية ابن سعد: فلما قتلوه وبلغوا بقيع الغرقد،" قال عياض في المشارق بالموحدة، بلا خلاف، سميت به مقبرة المدينة لشجرات غرقد وهو العوسج، كان فيه، انتهى.(2/376)
كبروا، وقد قام عليه الصلاة والسلام تلك الليلة يصلي، فلما سمعوا تكبيرهم كبر وعرف أن قد قتلوه، ثم انتهوا إليه فقال: "أفلحت الوجوه". قالوا وجهك يا رسول الله، ورموا برأسه بين يديه، فحمد الله تعالى على قتله.
وفي كتاب "شرف المصطفى" أن الذين قتلوا كعبا حملوا رأسه في مخلاة إلى المدينة، فقيل إنه أول رأس حمل في الإسلام.
وأصاب ذباب السيف الحارث بن أوس بن معاذ فجرح ونزف الدم فتفل عليه
__________
وفي القاموس: الغرقد شجر عظام، أو العوسج إذا عظم، وسمى به مقبرة المدينة لأنه كان منبتها، وهذا صريح في قدم تسميته بذلك، وذكر الأصمعي أنه سمي لقطع غرقدات دفن فيها ابن مظعون، ومران موته في السنة الثانية، "كبروا وقد قام عليه الصلاة والسلام تلك الليلة يصلي، فلما سمعوا تكبيرهم كبر، وعرف أن" أي: أنهم "قد قتلوه، ثم انتهوا إليه".
وفي رواية ابن إسحاق: ثم جئنا رسول الله صلى الله عليه وسلم آخر الليل، وهو قائم يصلي، فسلمنا عليه، فخرج إلينا، فأخبرناه بمقتل عدو الله، "فقال: "أفلحت الوجوه"، قالوا: وجهك" وفي الفتح: والسبل، قالوا: ووجهك "يا رسول الله،" بواوين وحذفها أمس بالأدب؛ لأنها تثبت فلاح وجهه مع وجوههم، إلا أن كلا عزاه لابن سعد، "ورموا برأسه بين يديه، فحمد الله تعالى على قتله"، لعنه الله.
"وفي كتاب شرف المصطفى" لأبي سعد النيسابوري: "أن الذين قتلوا كعبا، حملوا رأسه في مخلاة إلى المدينة، فقيل: إنه أول رأس حمل في الإسلام" وقيل: بل رأس أبي عزة الجمحي الذي قال له صلى الله عليه وسلم: "لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين"، فقتل، واحتمل رأسه في رمح إلى المدينة، قاله السهيلي في الروض.
قال البرهان في غزوة بدر: فإن صح ما قال، فمراده من بلدة إلى بلدة، أو من مكان بعيد إلى المدينة فلا ينافي ما رواه ابن ماجه بسند جيد عن عبد الله بن أبي أوفى، لما قتل أبو جهل، حمل رأسه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه عليه السلام كان قريبا جدا من مكان الوقعة. انتهى.
وفي مبهمات ابن بشكوال: أن عصماء جيء برأسها إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقتلها قبل كعب.
"و" في حديث ابن عباس عند ابن إسحاق: "أصاب ذباب السيف الحارث بن أوس بن معاذ، فجرح" في رأسه، أو في رجله أصابه بعض أسيافنا، كذا فيه على الشك، "ونزف الدم،" قال: فجرحنا حتى سلكنا عن نبي أمية بن زيد، ثم على بني قريظة، ثم على بعاث، حتى استندنا في حرة العريض، وقد أبطأ علينا صاحبنا، فوقفنا له ساعة، ثم أتانا يتبع آثارنا، فاحتملناه فجئنا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم آخر الليل "فتفل عليه الصلاة والسام على جرحه" زاد في رواية الواقدي:(2/377)
الصلاة والسلام على جرحه فلم يؤذه بعد.
__________
"فلم يؤذه بعد،" وبقية رواية ابن إسحاق: ورجعنا إلى أهلنا، وقد خافت يهود لوقعتنا بعدو الله، فليس بها يهودي إلا وهو يخاف على نفسه.
وفي رواية: فلما أصبح صلى الله عليه وسلم قال: "من ظفرتم به من رجال يهود فاقتلوه"، فخافت اليهود، فلم يطلع من عظمائهم أحد، ولم ينطقوا وخافوا أن يبيتوا كما بيت.
وفي مرسل عكرمة عند ابن سعد: فأصبحت يهود مذعورين، فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: قتل سيدنا غيلة، فذكرهم صنيعه وما كان يحرض عليه، ويؤذي المسلمين، فخافوا، فلم ينطقوا، ثم دعاهم إلى أن يكتبوا بينه وبينهم صلحا، فكان ذلك الكتاب مع علي بعد، وروى الحاكم القصة في المستدرك بنحو رواية ابن إسحاق، وزاد: وقال عباد بن بشر في ذلك شعرا:
صرخت به فلم يعرض لصوتي ... وأوفى طالعا من رأس خدر
فعدت له فقال: من المنادي؟ ... فقلت: أخوك عباد بن بشر
وهذي درعنا هنا فخذها ... لشهران وفي أو نصف شهر
فقالوا: معاشر سغبوا وجاعوا ... وما عدموا الغني من غير فقر
فأقبل نحونا يهوي سريعا ... وقال لنا: لقد جئتم لأمر
وفي أيماننا بيض حداد ... مجربة بها الكفار نفري
فعانقه ابن مسلمة المردي ... به الكفار كالليث الهزبر
وشد بسيفه صلتا عليه ... فقطره أبو عبس بن جبر
وكان الله سادسنا فأبنا ... بأنعم نعمة وأعز نصر
وجاء برأسه نفر كرام ... هم ناهيك من صدق وبر(2/378)
غزوة غطفان:
غزوة غطفان، وهي غزوة ذي أمر -بفتح الهمزة والميم-
__________
غزوة غطفان:
بفتح المعجمة، والطاء المهملة، قبيلة من مضر، أضيفت لها الغزوة؛ لأن بني ثعلبة الذين قصدهم من غطفان، "وهي" كما قال ابن إسحاق: "غزوة ذي أمر" أي: المسماة بهذا كالأول، فدفع توهم الواقف على العبارتين أنهما غزوتان، "بفتح الهمزة والميم" وشد الراء، موضع من ديار غطفان، قاله ابن الأثير وغيره.
وقال ابن سعد: بناحية النخيل، وأفاد قول البكري في معجمه: أفعل من المرارة أنه ممنوع(2/378)
وسماها الحاكم غزوة أنمار. وهي بناحية نجد.
كان لثنتي عشرة مضت من ربيع الأول على رأس خمسة وعشرين شهرا من الهجرة.
وسببها: أن جمعا من بني ثعلبة ومحارب تجمعوا يريدون الإغارة، جمعهم دعثور.
ابن الحارث المحاربي، وسماه الخطيب: غورث،....................................
__________
الصرف، "وسماها الحاكم غزوة أنمار"، فلها ثلاثة أسماء، "وهي بناحية نجد" عند واسط الذي بالبادية، كما في معجم البكري، "وكانت لثنتي عشرة مضت من" شهر "ربيع الأول على رأس خمسة وعشرين شهرا من الهجرة.
كذا قاله ابن سعد، ولا ينتظم مع قوله: إن قتل كعب، كان لأربع عشرة ليلة مضت من ربيع، وأنهم جاءوا برأسه تلك الليلة للنبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة، فإن ما هنا يقتضي أنه لم يكن تلك الليلة بالمدينة. نعم قال ابن إسحاق: أقام بنجد صفر كله، أو قريبا من ذلك، وجزم أبو عمر بأنه أقام صفر كله، وعليهما يصح كون السرية في التاريخ المذكور؛ إذ من لازم إقامته صفر بنجد، أن خروجه قبل ربيع، وعلى هذا يكون ابن سعد متبوع المصنف بني كلامه هنا على قول غير الذي مشى عليه في السرية، والعلماء إذا مشوا في محل على قول، وعلى غيره في آخر، لا يعد تناقضا، "وسببها" كما عند ابن سعد، "أن جمعا من بني ثعلبة" بن سعد بن قيس، بسكون العين، ابن ذبيان، بمعجمة، فموحدة، فتحتية، فألف فنون، ابن بغيض، بفتح الموحدة، وكسر المعجمة، وإسكان التحتية وضاد معجمة، ابن ريث، براء مفتوحة، وتحتية ساكنة ومثلثة، ابن غطفان بن سعد بن قيس عيلان، "و" من بني "محارب" بضم الميم وحاء مهملة وراء، فموحدة، ابن خصفة، بمعجمة، فمهملة، ففاء مفتوحات، ابن قيس عيلان، بفتح العين المهملة، وسكون التحتية، فغطفان ومحارب ابنا عم، "تجمعوا، يريدون الإغارة" ولفظ ابن سعد: يريدون أن يصيبوا من أطراف رسول الله صلى الله عليه وسلم، "جمعهم دعثور،" بضم الدال وسكون العين المهملتين، وضم المثلثة وإسكان الواو فراء.
"ابن الحارث المحاربي" نسبة لمحارب المذكور، هكذا سماه ابن سعد ونسبه، "وسماه الخطيب غورث" بفتح المعجمة، وعن المستملي والحموي: إهمالها، لكن قال عياض الواب بمعجمة وإسكان الواو وفتح الراء ومثلثة، وبعضهم ضم أوله.
قال القرطبي: والفتح أصح مأخوذ من الغرث وهو الجوع، وقال الخطابي: يقال له غويرث، أي: بمعجمة، أو عويرث، أي: بمهملة على التصغير، والصحيح بالغين المعجمة، انتهى.(2/379)
وغيره: عورك -وكان شجاعا.
فندب رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين وخرج في أربعمائة وخمسين فارسا، واستخلف على المدينة عثمان بن عفان رضي الله عنه. فلما سمعوا بمهبطه صلى الله عليه وسلم هربوا في رءوس الجبال، فأصابوا رجلا منهم من بني ثعلبه يقال له: حبان، فأدخل
__________
"وغيره عورك" بكاف آخر بدل المثلثة مع إعجام أوله وإهماله، وظاهر كلام ابن بشكوال أن دعثورا غير غورث، وفي الإصابة قصة دعثور، تشبه قصة غورث المخرجة في الصحيح من حديث جابر، فيحتمل التعدد أو أحد الاسمين، لقب أن ثبت الإتحاد، انتهى. بل يمكن كما قال شيخنا: إن دعثورا يقال له غورث، وأحدهما اسم، والآخر لقب، غايته أنه شارك المذكور في الصحيح، في التسمية بغورث، "وكان شجاعا فندب،" أي: دعا "رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين" للخروج، أو حثهم عليه، "وخرج في أربعمائة وخمسين فارسا" أي: شجاعا أو تناوبوا ما معهم من الأفراس، فعدوا فرسانا فلا ينافي قول ابن سعد في أربعمائة وخمسين رجلا، ومعهم أفراس.
قال البرهان: ولا أعلم عدتها، "واستخلف على المدينة عثمان بن عفان رضي الله عنه" ذا النورين أمير المؤمنين، "فلما سمعوا بمهبطه صلى الله عليه وسلم" أي: المسلمون، لما كانوا بذي القصة كما في الرواية، بفتح القاف والصاد المهملة الثقيلة، وتاء تأنيث، موضع على أربعة وعشرين ميلا من المدينة، "رجلا منهم من بني ثعلبة" زاد في نسخة: كالعيون، "يقال له حبن" بكسر الحاء وبالموحدة، بالقلم، ولا أعلم له ترجمة في الصحابة، ولا التصريح بإسلامه، فينبغي أن يستدرك على من لم يذكره للتصريح، بأنه أسلم.
كذا قاله البرهان بناء على هذا التصحيف الواقع من النساخ، والصواب ما في الشامية أنه جبار، بالجيم وشد الموحدة، وبعد الألف راء، فقد ذكره كذلك أبو بكر بن فتحون في ذيل الاستيعاب، وصاحب الإصابة كلاهما في حرف الجيم، فقالا: جبار الثعلبي أسره الصحابة في غزوة ذي أمر، فادخلوه على النبي صلى الله عليه وسلم فدعاه إلى الإسلام فأسلم، ذكره الواقدي.
زاد في الإصابة، وذكر، أي الواقدي، في موضع آخر أنه كان دليل النبي صلى الله عليه وسلم إلى غطفان، فهربوا، انتهى.
غلط بعض المتأخرين لما رأى كلامي البرهان والشامي، فحكاهما قولين في اسمه، وما درى أن الحافظ في التبصير استوفى حبان، بالمهملة والنون، وما ذكره فيهم، ولكن القوس في يد غير باريها، "فأدخل" أي: أدخله الصحابة بعد أن قالوا له: أين تريد؟، قال: يثرب لأرتاد(2/380)
على رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاه إلى الإسلام فأسلم، وضمه إلى بلال.
وأصاب النبي صلى الله عليه وسلم مطر فنزع ثوبيه ونشرهما على شجرة ليجفا، واضطجع تحتهما، وهم ينظرون، فقالوا لدعثور: قد انفرد محمد فعليك به، فأقبل ومعه سيف حتى قام على رأسه عليه الصلاة والسلام فقال: من يمنعك مني اليوم؟ فقال له النبي: "الله". فدفع جبريل في صدره، فوقع السيف من يده، فأخذه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "من يمنعك مني"؟ قال: لا أحد يمنعني منك، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله. ثم أتى قومه فدعاهم إلى الإسلام وأنزل الله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ} الآية. [المائدة: 1] .
__________
لنفسي وأنظر "على رسول الله صلى الله عليه وسلم" فأخبره من خبرهم، وقال: لن يلاقوك، سمعوا بمسيرك هربوا في رءوس الجبال، وأنا سائر معك، "فدعاه إلى الإسلام، فأسلم" رضي الله عنه، "وضمه" النبي صلى الله عليه وسلم "إلى بلال" ليعلمه الشرائع، "وأصاب النبي صلى الله عليه وسلم" وأصحابه "مطر، فنزع ثوبيه، ونشرهما على شجرة ليجفا، واضطجع تحتهما وهم،" أي: المشركون "ينظرون" إليه صلوات الله وسلامه عليه؛ لأنهم كانوا بمرأى منه، وقد اشتغل المسلمون في شئونهم، "فقالوا لدعثور:" لشجاعته "قد انفرد محمد فعليك به".
وفي رواية: لما رآه قال: قتلني الله إن لم أقتل محمدا. "فأقبل ومعه سيف، حتى قام على رأسه عليه الصلاة والسلام، فقال: "من يمنعك مني اليوم؟ "." وفي رواية: الآن، "فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "الله" يمنعني منك"، "فدفع جبريل في صدره، فوقع السيف من يده" بعد وقوعه على ظهره، "فأخذه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "من يمنعك مني"؟ قال: لا أحد يمنعني منك، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأنك"، وفي العيون، وأن محمدا "رسول الله".
زاد ابن فتحون في الذيل: فأعطاه صلى الله عليه وسلم سيفه، ثم أقبل بوجهه فقال: أما والله لأنت خير مني، فقال صلى الله عليه وسلم: "أنا أحق بذلك منك"، "ثم أتى قومه"، فقالوا له: ما لك، ويلك، فقال: نظرت إلى رجل طويل أبيض، قد دفع في صدري، فوقعت لظهري، فعرفت أنه ملك، وشهدت بأن محمدًا رسول الله لا أكثر عليه جمعا، "فدعاهم إلى الإسلام".
قال في رواية الواقدي: فاهتدى به خلق كثير، "وأنزل الله تعالى" على ما ذكر الواقدي، وابن سعد في طائفة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ} [المائدة: 11] بالقتل والإهلاك، يقال: بسط إليه يده، إذا بطش، "الآية" وقال قتادة ومجاهد وغيرهما: نزلت في بني النضير، وقيل: والمصطفى بعسفان، لما أراد المشركون الفتك بالمسلمين وهم في الصلاة، فأنزل الله صلاة الخوف.(2/381)
ويقال كان ذلك في ذات الرقاع.
ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يلق كيدا، وكانت غيبته إحدى عشرة ليلة.
__________
قال القشيري: وقد تنزل الآية في قصة، ثم تنزل في أخرى، لإذكار ما سبق، "ويقال كان ذلك،" أي: قصة السيف ونزول الآية، "في" غزوة "ذات الرقاع،" واستظهره اليعمري إذ قال: هناك الظاهر أن الخيرين واحد، لكن قال غيره من المحققين: الصواب أنهما قصتان في غزوتين، نقله المصنف ثمة، وقال ابن كثير: إن كانت هذه القصة التي هنا محفوظة، فهي غيرها قطعا؛ لأن ذلك الرجل اسمه غورث، ولم يسلم، بل استمر على دينه، لكن عاهد النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يقاتله، انتهى.
نعم، ذكر الذهبي أن غورث صاحب ذات الرقاع أسلم، وعزاه للبخاري وانتقده في الإصابة، بأنه ليس في البخاري تصريح بإسلامه، وباقتضائه الجزم، باتحاد القصتين مع احتمال التعدد، "ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يلق كيدا،" أي: حربا، "وكانت غيبته إحدى عشرة ليلة" كما قال ابن سعد، وقيل: خمس عشرة ليلة، ومر قولان آخران، والله أعلم.(2/382)
"غزوة بحران":
وتسمى غزوة بني سليم، من ناحية الفرع -بفتح الفاء والراء- كما قيده السهيلي،
__________
غزوة بحران:
بضم الموحدة، وسكون المهملة، فراء فألف فنون، وبعضهم فتح الباء. قال المنذري: والمشهور الضم، انتهى. لكن قدم الصغاني والمجد الفتح، وسوى بينهما في النهاية والدرر، ويحتمل أنه أكثر لغة، والضم المشهور بين المحدثين، "وتسمى غزوة بني سليم،" بضم السين وفتح اللام؛ لأن الذين اجتمعوا وبلغ خبرهم النبي صلى الله عليه وسلم منهم.
وبحران موضع "من ناحية الفرع، بفتح الفاء والراء، كما قيده السهيلي" تبع اليعمري، وقد اعترضه محشيه البرهان، بأن الذي في الروض الفرع، بضمتين، من ناحية المدينة يقال هي أول قرية مارت إسماعيل وأمه التمر بمكة، وفيها عينان يقال لهما: الربض والنخف، يسقيان عشرين ألف نخلة.
كانت لحمزة بن عبد الله بن الزبير، والربض منابت الإراك في الرمل، والفرع، بفتحتين، موضع بين الكوفة والبصرة، فانتقل نظر المصنف، أو سقط بعض الكلام من نسخته بالروض، أو سقط من ميرته، أي: من الكتبة، انتهى.(2/382)
وقال في القاموس: وبحران موضع بناحية الفرع، كذا رأيته بخطه بضم الفاء لا غير.
وسببها: أنه بغله عليه الصلاة والسلام أنه به جمعا كبيرا من بني سليم، فخرج في ثلاثمائة رجل من أصحابه، فوجدهم قد تفرقوا في مياههم، فرجع ولم يلق كيدا.
وكان قد استتعمل على المدينة ابن أم مكتوم، قاله ابن هشام، وكانت غيبته عشر ليال.
__________
"وقال في القاموس" في باب الراء: "وبحران،" ويضم، "موضع بناحية الفرع، كذا رأيته بخطه بضم الفاء لا غير".
وبذلك صرح في باب العين فقال: الفرع، بالضم، موضع من أضخم أعراض المدينة، أي: والراء ساكنة كما هو عادته، والذي قال السهيلي كما ترى ضم الراء، وبه جزم عياض في المشارق، وقال في كتابه التنبيهات: هكذا قيده الناس، وكذا رويناه، وحكى عبد الحق عن الأحول: إسكان الراء، ولم يذكره غيره، انتهى.
ونقل مغلطاي في الزهر، أن الحازمي وافق الأحول، وبه صرح في النهاية، والنووي في تهذيبه لكنه مرجوح كما علم، "وسببها أنه بلغه عليه الصلاة والسلام أن بها جمعا كثيرا، من بني سليم" لم نر سبب اجتماعهم، "فخرج" لست خلون من جمادى الأولى.
قاله ابن سعد: "في ثلاثمائة رجل من أصحابه" ولم يظهر وجها للسير، حتى إذا كان دون بحران بليلة، لقي رجلا من بني سليم، فأخبره أن القوم افترقوا فحبسه مع رجل، وسار حتى ورد بحران، "فوجدهم قد تفرقوا في مياههم، ولم يلق كيدا،" أي: حربا، ولا وجد به أحدا. "وكان قد استعمل على المدينة" عمرا، أو عبد الله "بن أم مكتوم قاله ابن هشام" وظاهره للقضاء الأحكام، ويحتمل للصلاة فقط "وكانت غيبته عشر ليال" عند ابن سعد، ومر عنه وقت خروجه، فيكون رجوعه لستة عشر من جمادى الأولى.
وقال ابن إسحاق: فخرج صلى الله عليه وسلم يريد قريشا حتى بلغ بحران بالحجاز من ناحية الفرع، فأقام به شهر ربيع الآخر وجمادى الأولى، ثم رجع إلى المدينة، ولم يلق كيدا، انتهى. فلم يوافقه في سبب الغزوة ولا مقدار الغيبة، والله أعلم.(2/383)
"سرية زيد إلى القردة":
سرية زيد بن حارثة إلى القردة -بالقاف المفتوحة وسكون الراء، وقيل بالفاء وكسر الراء، كما ضبطه ابن الفرات- اسم ماء من مياه نجد.
وسببها: -كما قال ابن إسحاق- أن قريشا خافوا من طريقهم التي يسلكون إلى الشام، حين كان من وقعة بدر ما كان، فسلكوا طريق العراق، فخرج منهم تجار فيهم أبو سفيان بن حرب،
__________
سرية زيد إلى القرد:
"سرية زيد" حب رسول الله صلى الله عليه وسلم والد حبه "ابن حارثة" الطبراني، أحد السابقين الأولين، ابن الصحابي، ووالد الصحابي، وأخو الصحابي، الخليق هو وابنه للإمارة بالنص النبوي المختص، بأن الله لم يصرح في كتابه العزيز باسم أحد من الصحب سوى زيد البدري، ثم السجل أن ثبت "إلى القردة بالقاف المفتوحة وسكون الراء" كما ضبطه أبو نعيم، "وقيل: بالفاء" المفتوحة "وكسر الراء، كما ضبطه" الحافظ البارع أبو الحسن محمد بن العباس بن محمد "بن الفرات" بضم الفاء ومد التاء في الخط وصلا ووقفا البغدادي سمع ابن مخلد وطبقته، وجمع فأوعى.
قال الخطيب: كان غاية في ضبطه حجة في نقله، مات سنة أربع وثمانين وثلاثمائة، وهذا نقله عنه الحموي، وقال أيضا: أنه رآه بخط ابن الفرات في غير موضع، بفتح القاف وفتح الراء، وصدر اليعمري، بأنه بفتح الفاء وسكون الراء، فهي أربعة، "اسم ماء من مياه نجد،" قاله ابن إسحاق وغيره.
زاد ابن سعد: بين الربذة والغمزة ناحية ذات عرق، "وسببها، كما قال ابن إسحاق" محمد المشهور: "أن قريشا خافوا من طريقهم التي يسلكون إلى الشام حين كان من وقعة بدر ما كان فسلكوا طريق العراق، فخرج منهم تجار" بكسر الفوقية وخفة الجيم، وبضم الفوقية وشد الجيم، كما ضبطه الشامي كالبرهان، "فيهم أبو سفيان" صخر "بن حرب" بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، المسلم في الفتح رضي الله عنه.
روى ابن أبو حاتم، عن السدي قال: مر النبي صلى الله عليه وسلم على أبي جهل وأبي سفيان وهما يتحدثان، فلما رآه أبو جهل ضحك، وقال لأبي سفيان: هذا نبي بني عبد مناف، فغضب أبو سفيان، وقال: ما تنكرون أن يكون لبني عبد مناف نبي، فسمعها النبي صلى الله عليه وسلم، فرجع إلى أبي جهل، فوقع به وخوفه، فنزلت: {وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا} [الأنبياء: 36] ،(2/384)
ومعهم فضة كثيرة.
وعند ابن سعد: بعثه صلى الله عليه وسلم لهلال جمادى الآخرة على رأس ثمانية وعشرين شهرا من الهجرة، في مائة راكب يعترض عيرًا لقريش فيها صفوان بن أمية وحويطب بن عبد العزى، ومعهم مال كثير وآنية فضة. فأصابوها وقدموا بالعير على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخمسها وبلغ الخمس قيمة عشرين ألف درهم.
__________
"ومعهم فضة كثيرة" بقية كلام ابن إسحاق، وهي عظم، بضم فسكون، أي: أكثر تجاراتهم واستأجروا فرات بن حيان دليلا، وبعث صلى الله عليه وسلم زيدا، فلقيهم على ذلك الماء، فأصاب العير وما فيها، وأعجزه الرجال فقدم بها، فقال حسان في غزوة بدر الأخيرة: يؤنب قريشا في أخذها تلك الطريق:
دعوا فلجات الشام قد حال دونها ... جلاد كأفواه المخاض الأوارك
بأيدي رجال هارجوا نحو ربهم ... وأنصاره حقا وأيدي الملائك
إذا سلكت للغور من بطن عالج ... فقولا لها ليس الطريق هنالك
"وعند ابن سعد" أنها أول سرية خرج فيها زيد أميرا، وأنه "بعثه صلى الله عليه وسلم، لهلال جمادى الآخر، على رأس ثمانية وعشرين شهرا من الهجرة في مائة راكب يعترض عيرا،" بكسر العين، الإبل التي تحمل الميرة، بكسر الميم، ثم غلب على كل قافلة كما مر، "لقريش فيها صفوان بن أمية" بن خلف القرشي الجمحي، أسلم بعد حنين، وصحب رضي الله عنه.
"وحويطب" بضم المهملة وفتح الواو، وسكون التحتية، وكسر الطاء المهملة، وموحدة، "ابن عبد العزى" القرشي العامري، أسلم في الفتح، وكان من المؤلفة وشهد حنينا، وحسن إسلامه، وصحب رضي الله عنه، وعاش مائة وعشرين سنة، ومات سنة أربع وخمسين.
وأسقط المصنف من كلام ابن سعد، وعبد الله بن أبي ربيعة، وقد أسلم بعد رضي الله عنه، "ومعهم مال كثير وآنية فضة"، عطف خاص على عام.
قال ابن سعد: وزنها ثلاثون ألف درهم، "فأصابوها، وقدموا بالعير على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخمسها وبلغ الخمس قيمة عشرين ألف درهم،" إضافة بيانية، أي: قيمة، هي عشرون ألف درهم، والأولى أن يقول بلغ قيمة الخمس عشرين ألف درهم، لكنه أتى بلفظ ابن سعد؛ لأنه ناقل عنه، والخطب سهل.
"وعند مغلطاي خمسة وعشرين ألف درهم،" فزاد خمسة آلاف، لكن بالأول جزم الحافظ في سيرته حيث قال: فحصلوا مائة ألف غنيمة، وذكر في ديباجتها، أنه اقتصر على الأصح، مما اختلف فيه، انتهى. وبقية كلام ابن سعد: وأسر الدليل فرات بن حيان، فأتى به النبي صلى الله عليه وسلم، فقيل(2/385)
وعند مغلطاي: خمسة وعشرين ألف درهم.
وذكرها محمد بن إسحاق قبل قتل كعب بن الأشرف.
__________
له: "إن تسلم تترك"، فأسلم، فتركه النبي صلى الله عليه وسلم من القتل وحسن إسلامه، وفيه قال صلى الله عليه وسلم: "إن منكم رجالا نكلهم إلى إسلامهم منهم فرات بن حيان"، انتهى.
وهذا الحديث رواه أبو داود في الجهاد منفردا به، من حديث فرات المذكور، وهو بضم الفاء، وأبوه بفتح المهملة وشد التحتية، ابن ثعلبة بن عبد العزى الربعي البكري، حليف بني سهم. روى له أبو داود، وأحمد في المسند، وروى عنه حارثة بن مضرب، وقيس بن زهير، والحسن البصري، وعند الواقدي: وأسروا رجلين، أو ثلاثة فيهم فرات بن حيان، وكان أسر يوم بدر فأفلت على قدميه، فكان الناس عليه أحنق شيء، وكان الذي بينه وبين أبي بكر حسنا، فقال له: أما آن لك أن تقصر، أي بضم الفوقية، وكسر الصاد، من أقصر عن الشيء إذا أمسك عنه مع القدرة عليه، قال: إن أفلت من محمد هذه المرة لم أفلت أبدا، فقال له أبو بكر: فأسلم، فأتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأسلم، فتركه. قال في الروض: وأرسله النبي صلى الله عليه وسلم إلى ثمامة بن أثال في شأن مسليمة وردته ومر به عليه السلام وهو مع أبي هريرة والرحال بن عنفوة، فقال: "ضرس أحدكم في النار مثل أحد"، فما زال فرات وأبو هريرة خائفين حتى بلغهما ردة الرحال وإيمانه بمسيلمة، فخرا ساجدين والرحال لقبه واسمه نهار، انتهى.
"وذكرها"، أي: هذ السرية "محمد بن إسحاق" في السيرة، "قبل قتل كعب بن الأشرف" ومر أن قتله لأربع عشرة ليلة من ربيع الأول، فهذه السرية قبل ذلك فيخالف قول ابن سعد، أنها لهلال جمادى الآخرة، لكنه تبع شيخه الواقدي، وجزم به الحافظ في سيرته، وقد التزم الاقتصار على الأصح والله أعلم.(2/386)
"غزوة أحد":
ثم غزوة أحد وهو جبل مشهور بالمدينة على أقل من فرسخ منها.
__________
ثم غزوة أحد:
بضم الهمزة والحاء وبالدال المهملتين: قال المصباح: مذكر مصروف، وقيل: يجوز تأنيثه على توهم البقعة فيمنع، وليس بالقوي، "وهو جبل مشهور بالمدينة على أقل من فرسخ منها" لأن بين أوله وبين بابها المعروف بباب البقيع ميلين وأربعة أسباع ميل تزيد يسيرا.
كما حرره الشريف السمهودي قائلا: تسمح النووي في قوله: على نحو ميلين، قلت: لكن عادتهم في مثل ذلك عدم الجزم بالتحديد للاختلاف في قدر الميل، فيقولون: على نحو،(2/386)
وسمي بلك لتوحده وانقطاعه عن جبال آخر هناك، ويقال له: ذو عينين، قال في القاموس: بكسر العين وفتحها مثنى، جبل بأحد. انتهى.
وهو الذي قال فيه عليه الصلاة والسلام: "أحد جبل يحبنا ونحبه"
__________
وشبهه "وسمي بذلك لتوحده وانقطاعه" تفسيري، "عن جبال آخر هناك" كما قاله السهيلي.
قال: أو لما وقع من أهله من نصر التوحيد، وقال ياقوت في معجم البلدان: هو اسم مرتجل لهذا الجبل، وهو أحمر "ويقال له: ذو،" أي: صاحب "عينين"، لمجاورته لجبل يسمى عينين.
"قال في القاموس" ما نصه: وعينين، "بكسر العين" المهملة "وفتحها مثنى" على كل منهما لا بفتح العين، وسكون الياء وكسر النون الأولى، كما قال المطرزي وعليه فليس مثنى "جبل بأحد" وقف عليه إبليس، فنادى: أن محمدًا قد قتل، "انتهى".
نص القاموس بقوله وقف إلى آخره، وفي البخاري ومسلم: وعينين، جبل بجبال أحد بينه وبينه واد. قال في الفتح: حيال بحاء مهملة مكسورة بعدها تحتية خفيفة، أي: مقابله، وهو تفسير من بعض الرواة، لقول وحشي خرج الناس عام عينين، والسبب في نسبه وحشي العام إليه دون أحد، أن قريشا نزلوا عنده.
قال ابن إسحاق: فنزلوا بعينين جبل ببطن السبخة على شفير الوادي، مقابل المدينة، انتهى. و"هو" أي: أحد، كما قال في الفتح والعيون والنور وغيرها لا عينين، كما زعم من وهم، "الذي قال فيه عليه الصلاة والسلام" كما أخرجه الشيخان عن أنس والبخاري عن سهل بن سعد "أحد".
وفي رواية لهما أيضا عن أنس: أن أحدا، "جبل" خبر موطئ لقوله: "يحبنا،" حقيقة كما رجحه النووي وغيره، وقد خاطبه صلى الله عيه وسلم مخاطبة من يعقل فقال لما اضطرب: "أسكن أحد.." الحديث، فوضع الله الحب فيه، كما وضع التسبيح في الجبال مع داود، وكما وضع الخشية في الحجارة التي قال فيها: {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّه} وكما حن الجذع لمفارقته صلى الله عليه وسلم، حتى سمع الناس حنينه فلا ينكر وصف الجماد بحب الأنبياء، وقد سلم عليه الحجر والشجر، وسبحت الحصاة في يده، وكلمه الذراع، وأمنت حوائط البيت وأسكفه الباب على دعائه، إشار إلى حب الله إياه صلى الله عليه وسلم، حتى أسكن حبه في الجماد، وغرس محبته في الحجر مع فضل يبسه وقوة صلابته، "ونحبه" حقيقة؛ لأن جزاء من يحب أن يحب، ولكونه كما قال الحافظ: من جبال الجنة، كما في حديث أبي عبس بن جبر مرفوعا: "أحد جبل يحبنا ونحبه، وهو من جبال الجنة"، أخرجه أحمد، انتهى.(2/387)
تنبيه:
وقيل: وفيه قبر هارون، أخي موسى، عليهما السلام.
__________
وروى البزار والطبراني: "أحد هذا جبل يحبنا ونحبه، على باب من أبواب الجنة"، أي: من داخلها، كما في الروض، فلا ينافي رواية الطبراني أيضا: "أحد ركن من أركان الجنة"؛ لأنه ركن بجانب داخل الباب، بدليل رواية ابن سلام في تفسيره: أنه ركن باب الجنة، وقيل: هو على الحال، إذا قدم من سفر بقربه من أهله ولقائهم، وذلك فعل المحب بمن يحب، وضعف بما للطبراني عن أنس، فإذا جئتموه فكلوا من شجره ولو من عضاهه، بكسر المهملة وبالضاد معجمة، كل شجرة عظيمة ذات شوك، فحث على عدم إهمال الأكل حتى لو فرض أنه لا يوجد إلا ما لا يؤكل، كالعضاة يمضغ منه تبركا ولو بلا ابتلاع.
قال في الروض: ويقوى على الأول قوله صلى الله عليه وسلم: "المرء مع من أحب"، مع أحاديث أنه في الجنة، فتناسبت هذه الآثار وشد بعضها بعضا، وقد كان عليه السلام يحب الاسم الحسن، ولا أحسن من اسم مشتق من الأحدية، وقد سماه الله تعالى بهذا الاسم تقدمة لما أراده مشاكلة اسمه لمعناه، إذا هله وهم الأنصار نصروا التوحيد، والمبعوث بدين التوحيد، واستقر عنده حيا وميتا، وكان من عادته صلى الله عليه وسلم أن يستعمل الوتر، ويحبه في شأنه كله استشعارا للأحدية، فقد وافق اسمه أغراضه ومقاصده عليه السلام قال: ومع أنه مشتق من الأحدية، فحركات حروفه الرفع، وذلك يشعر بارتفاع دين الأحد وعلوه، فتعلق الحب به منه صلى الله عليه وسلم اسما ومسمى، فخص من بين الجبال، بأن يكون معه في الجنة إذا بست الجبال بسا انتهى. وأخذ من هذا أنه أفضل الجبال، وقيل: عرفة، وقيل: أبو قيس، وقيل: الذي كلم الله عليه موسى، وقيل: قاف.
"تنبيه:" علق الشارح بجد المؤلف، ما لم يقله أحد، فرجع ضمير قوله وهو الذي قال فيه لعينين لا لأحد؛ لأنه لو كان كذلك لحتج للبيان؛ لأن أحا نص فيه وهو عجب كيف يتوهم ذلك الصادق المصدوق، يقول أحد والمتعلق بالضمائر يقول عينين، مع أن جبل آخر مقابل له، كما علمت، ولذا لم يبال المصنف تبعا لمغلطاي بإيهام ذلك؛ لأنه غير متوهم، بل قصد كغيره من أصحاب المغازي وغيرهم، تشريف الجبل الذي أضيفت إليه هذه الغزوة بالحديث الصحيح.
"وقيل: وفيه قبر هارون،" بفتح القاف وسكون الباء اسما لا بضمها، وكسر الباء لقوله: "أخي موسى عليهما السلام" وفيه: قبض، وقد كانا مرا حاجين أو معتمرين. روي هذا المعنى في حديث أسنده الزبير بن بكار في كتاب فضل المدينة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا في الروض.
قال في الفتح: وسند الزبير في ذلك ضعيف جدا، ومنقطع وليس بمرفوع انتهى. بل في(2/388)
وكانت عنده الوقعة المشهورة، في شوال سنة ثلاث بالاتفاق، يوم السبت لإحدى عشرة ليلة خلت منه -وقيل لسبع ليال خلون منه، وقيل وفي نصفه.
وعن مالك: بعد بدر بسنة، وعنه أيضا: كانت على أحد وثلاثين شهرا من الهجرة.
وكان سببها، كما ذكره ابن إسحاق عن شيوخه، وموسى بن عقبة عن ابن شهاب، وأبو الأسود
__________
النور عن ابن دحية أنه باطل بيقين، إنما مات بنص التوراة في موضع على ساعة من مدينة جبلة من مدن الشام، انتهى. وبه تعلم أنه لا يصح الجمع، بأنه يقول للمدينة شامية، وقيل: قبره بجبل مشرف قبلي بين المقدس، يقال له: طور هارون، حكاه ياقوت في المشترك، وفي الأنوار الأكثر أن موسى وهارون ماتا في التيه، وأن موسى مات بعد هارون بسنة انتهى. وفي النور: بنحو خمسة أشهر. وقال المصنف وغيره: مات هارون قبل موسى بنحو أربعين سنة، "وكانت عنده الوقعة المشهورة في شوال سنة ثلاث بالاتفاق" أي: باتفاق الجمهور، كما عبر به في الفتح قائلا، وشذ من قال سنة أربع، ولعله لشذوذه لم يعتد به فحكى الاتفاق "يوم السبت لإحدى عشرة ليلة خلت منه،" عند ابن عائذ، كما في العيون وابن إسحاق، كما في الفتح، "وقيل: لسبع ليال خلون منه" قاله ابن سعد.
زاد في الفتح، وقيل: لثمان، "وقيل": لتسع، "وفي نصفه" جزم به إسحاق في رواية ابن هشام، عن زياد عنه قال: وكان يوم السبت.
"وعن مالك" الإمام كانت "بعد بدر بسنة" قال الحافظ: وفيه تجوز؛ لأن بدرا كانت في رمضان باتفاق، فهي بعدها بسنة وشهر، ولم يكمل "و" لذا روى "عنه أيضا: كانت على أحد وثلاثين شهرا من الهجرة" لكن قال شيخنا: قد مر أن انصرافه من بدر كان أول شوال، فمن لازمه أن أحدًا بعدها بسنة، كما قال مالك في شوال، وكذا قوله الآخر لا يخالف أن أحدًا في شوال؛ لأن دخول المدينة كان في ربيع الأول، الأحد وثلاثون، إذا كان ابتداؤها من دخوله عليه السلام المدينة، كان نهايتها آخر رمضان من السنة الثالثة، إذا ألغى كسر ربيع الأول، وإلا فنهايتها في أثناء شوال، فاتفقت الأقوال على أن أحدً في شوال، "وكان سببها كما ذكره ابن إسحاق عن شيوخه" الذين عين منهم أربعة، فقال: حدثني الزهري ومحمد بن يحيى بن حبان، وعاصم بن عمر بن قتادة، والحصين بن عبد الرحمن بن عمر بن سعد بن معاذ وغيرهم، "وموسى بن عقبة" بالقاف، "عن ابن شهاب" الزهري، "وأبو الأسود" المدني، يتيم عروة، ومحمد بن عبد الرحمن بن نوفل بن خويلد بن أسد بن عبد العزى، الأسدي الثقة، المتوفى سنة بضع وثلاثين(2/389)
عن عروة، وابن سعد، قالوا -أو من قال منهم- ما حاصله:
إن قريشا لما رجعوا من بدر إلى مكة، وقد أصيب أصحاب القليب، ورجع أبو سفيان بعيره، قال عبد الله بن أبي ربيعة، وعكرمة بن أبي جهل، في جماعة ممن أصيب آباؤهم وإخوانهم وأبناؤهم يوم بدر: يا معشر قريش، إن محمدًا قد وتركم، وقتل خياركم، فأعينونا بهذا المال على حربه -بعنون عير أبي سفيان، ومن كانت له في تلك العير تجارة- لعلنا أن ندرك به ثأرنا
__________
ومائة، "عن عروة" بن الزبير، "و" كما ذكره "ابن سعد، قالوا:" أرسله الجميع، "أو من قال منهم:" هذا لفظ ابن إسحاق، وهو بمعنى قول المحدثين: دخل حديث بعضهم في بعض، ومعناه: أن اللفظ لجميعهم، فعند كل ما ليس عند الآخر، وهو جائز، إن كان الجميع ثقات، كما هنا، وقد فعله الزهري في حديث الإفك، "ما حاصله" من كلام المصنف، إشارة إلى أنه لم يتقيد بلفظ واحد من الأربعة، "أن قريشا لما رجعوا من بدر إلى مكة، وقد أصيب أصحاب القليب" خصهم لكونهم أشرافهم، وهم أربعة وعشرون، وجملة قتلى بدر سبعون، "ورجع أبو سفيان" المسلم في الفتح "بعيره".
"قال عبد الله بن أبي ربيعة" عمرو أو يقال حذيفة بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم القرشي المخزومي، أسلم في فتح مكة، وصحب، "وعكرمة بن أبي جهل" أسلم بعد الفتح، وصحب، "في" أي: "مع "جماعة" منهم: الحارث بن هشام، وحويطب بن عب العزى، وصفوان بن أمية، وأسلموا كلهم بعد ذلك رضي الله عنهم، "ممن أصيب آباؤهم" كعرمة، وصفوان، "وإخوانهم" كالحارث، وأبي جهل، "وأبناؤهم"، كأبي سفيان أصيب ابنه حنظلة "يوم بدر".
والمراد من القوم الذين أصيبوا بمن ذكر سواء كانت بالبعض أو الكل، "يا معشر قريش" إضافة حقيقية، أي: يا هؤلاء الجماعة المنسوبون إلى قريش أو بيانية أطلق على الحاضرين لأنهم أشرافهم، فلا يخالفهم غيرهم ثم القول من الجميع أو بعضهم، ونسب لهم لسكوتهم عليه، "أن محمدا قد وتركم" بفتح الواو والفوقية، قال أبو ذر: قد ظلمكم، والموتور الذي قتل له قتيل فلم يدرك دمه.
قال الشامي كالبرهان ويطلق على النقص كقوله تعالى: {وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 35] ، تصح إرادته، أي: نقصكم بقتل أشرافكم، "وقتل خياركم، فأعينونا بهذا المال" أي: بربحه، "على حربه، يعنون عير أبي سفيان، ومن كانت له في ذلك تلك العير تجارة" وكانت موقوفة بدار الندوة، كما عند ابن سعد، "لعلنا أن ندرك منه ثأرنا" بمثلثة وهمزة، وتسهل الحقد،(2/390)
فأجابوا لذلك، فباعوها وكانت ألف بعير، والمال خمسين ألف دينار.
وفيهم -كما قال ابن إسحاق وغيره- أنزل الله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ} [الأنفال: 36] .
واجتمعت قريش لحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكتب العباس بن عبد المطلب كتابا يخبر
__________
أي: ما يذهب حقدنا على من قتل منا بأخذ جماعة في مقابلتهم، "فأجابوا لذلك".
وعند ابن سعد: مشت أشراف قريش إلى أبي سفيان، فقالوا: نحن طيبو أنفس إن تجهزوا بربح هذه العير جيشا إلى محمد، فقال أبو سفيان: فأنا أول من أجاب إلى ذلك، وبنو عبد مناف. قال البلاذري: ويقال بل مشى أبو سفيان إلى هؤلاء الذين سمعوا "فباعوها" قال ابن سعد: فصارت ذهبا، قال: "وكانت" أي: الإبل الحاملة للتجارة، "ألف بعير والمال خمسين ألف دينار" فسلموا إلى أهل العير رءوس أموالهم، وأخرجوا أرباحهم، وكانوا يربحون في تجاراتهم لكل دينار دينارا، قاله ابن سعد، وهو ظاهر في أن الربح خمسون ألفا، لكن حمله النور وتبعه الشامي، على أنهم أخرجوا خمسة وعشرين ألفا لمسيرهم لحربه صلى الله عليه وسلم وعليه ففي قوله: وأخرجوا أرباحهم، تجوز، أي: نصف أرباحهم، وقوله: وكانوا ... إلخ، مجرد أخبار.
"وفيهم كما قال اب إسحاق" عن بعض أهل العلم: قال في النور: لا أعرفه، ووقع في لباب النقول، وعن ابن إسحاق، ففيهم كما ذكر عن ابن عباس، ولعله في رواية غير البكائي عنه "وغيره أنزل الله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ} [الأنفال: 36] ، أي: يريدون إنفاقها في حرب النبي صلى الله عليه وسلم: {لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا} بالفعل، {ثُمَّ تَكُونُ} في عاقبة الأمشر {عَلَيْهِمْ حَسْرَةً} ندامة أو غما، لفواتها وفوات ما قصدوه، جعل ذاتها حسرة وهي عاقبة إنفاقها مبالغة، {ثُمَّ يُغْلَبُونَ} في الدنيا آخر الأمر، وإن كان الحرب بينهم سجالا قبل ذلك.
وأخرج ابن أبي حاتم عن الحكم بن عتيبة، تصغير عتبة الباب، قال: نزلت في أبي سفيان: أنفق على المشركين أربعين أوقية من ذهب، وأخرج ابن جرير عن ابن أبزى، وسعيد بن جبير قالا: نزلت في أبي سفيان: استأجر يوم أحد ألفين من الأحابيش، ليقاتل بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل: نزلت في المطمعين يوم بدر، وهم اثنا عشر رجلا من قريش، أطعم كل واحد منهم كل يوم عشرة حزر. "واجتمعت قريش لحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم".
قال ابن إسحاق: بأحابيشها، ومن أطاعها من قبل كنانة، وأهل تهامة، وكان خروجهم من مكة لخمس مضين من شوال، "وكتب" كما قال ابن سعد "العباس بن عبد المطلب كتابا يخبر(2/391)
رسول الله صلى الله عليه وسلم بخبرهم، وسار بهم أبو سفيان حتى نزلوا ببطن الوادي من قبل أحد مقابل المدينة.
وكان رجال من المسلمين أسفوا على ما فاتهم من مشهد بدر.
ورأى صلى الله عليه وسلم ليلة الجمعة رؤيا، فلما أصبح قال: "والله إني قد رأيت خيرا، رأيت بقرا تذبح، ورأيت في ذباب سيفي ثلما، ورأيت أني أدخلت يدي في درع
__________
رسول الله صلى الله عليه وسلم بخبرهم" وبعثه مع رجل من بني غفار، وشرط عليه أن يأتي المدينة في ثلاثة أيام بلياليها، فقدم عليه وهو بقباء، فقرأه عليه أبي بن كعب، واستكتم أبيا، ونزل صلى الله عليه وسلم على سعد بن الربيع، فأخبره بكتاب العباس، فقال: والله إني لأرجو أن يكون خيرا، فاستكتمه، "وسار بهم أبو سفيان حتى نزلوا ببطن الوادي من قبل أحد مقابل المدينة.
قال ابن إسحاق: حتى نزلوا بعينين جبل ببطن السبخة من قناة على شفير الوادي، مقابله المدينة. وقال المطرزي: فنزلوا بدومة من وادي العقيق، يوم الجمعة، وقال ابن إسحاق والسدي: يوم الأربعاء ثاني عشر شوال، فأقاموا بها الأربعاء والخميس والجمعة، وقال ابن إسحاق والسدي: يوم الأربعاء ثاني عشر شوال، فأقاموا بها الأربعاء، والخميس والجمعة، فخرج إليهم صلى الله عليه وسلم فأصبح بالشعب من أحد يوم السبت للنصف من شوال، هكذا نقله البغوي عنهما، ولعله في رواية غير البكائي، عن ابن إسحاق أو هو مما انفرد به السدي عنه، "وكان رجال من المسلمين أسفوا على ما فاتهم من مشهد بدر" لما سمعوه من أخباره صلى الله عليه وسلم، بفضل من شهدها وعظيم ثوابه، فودوا غزوة ينالون بها مثل ما ناله البدريون، وإن استشهدوا.
"ورأى" وفي نسخة: وأرى بالبناء للمفعول "صلى الله عليه وسلم ليلة الجمعة" كما عند ابن عقبة وابن عائذ، "رؤيا" بلا تنوين، "فلما أصبح، قال: "والله إني قد رأيت خيرا".
وفي الصحيح: "ورأيت فيها بقرا، والله خير". قال الحافظ: مبتدأ وخبر، بتقدير وصنع الله خير، وقال السهيلي: معناه والله عنده خير، وهو من جملة الرؤيا، كما جزم به عياض وغيره، انتهى. ولذا فسره صلى الله عليه وسلم، فقال: "وإذا الخير ما جاء الله به من الخير"، كما رواه البخاري.
وفي رواية ابن إسحاق: "رأيت والله خيرا"، "رأيت بقرا"، بفتح الموحدة والقاف، جمع بقرة، استئناف بياني، كأنه قيل: ماذا رأيت؟، فقال: رأيت بقرا "تذبح ورأيت في ذباب" بمعجمة فموحدة، طرف "سيفي" الذي يضرب به، وفي مغازي أبي الأسود، عن عروة: "رأيت سيفي ذا الفقار قد انفصم صدره"، وكذا عند ابن سعد، وأخرجه البيهقي في الدلائل من حديث أنس قاله في الفتح، "ثلما" بمثلثة مفتوحة فلام ساكنة، أي: كسرا، "ورأيت أني أدخلت يدي في درع حصينة" أنث الصفة؛ لأن الدرع مؤنثة، وبقي من الرؤيا شيء لم يذكر هنا، وهو ما رواه أحمد عن أنس رفعه: "طرأيت فيما يرى النائم كأني مردف كبشا"، وكان ضبطة سيفي انكسرت، فأولت يأني(2/392)
حصينة، فأما البقر فناس من أصحابي يقتلون، وأما الثلم الذي رأيت في سيفي فهو رجل من أهل بيتي يقتل".
وقال موسى بن عقبة، ويقول رجال: كان الذي بسيفه ما أصاب وجهه، فإن العدو أصابوا وجهه الشريف صلى الله عليه وسلم، يومئذ، وكسروا رباعيته، وجرحوا شفته.
__________
أقتل صاحب الكتيبة، وكبش القوم سيدهم، فصدق الله رسوله الرؤيا، فقتل علي رضي الله عنه طلحة بن عثمان، صاحب لواء المشركين يومئذ، "فأما البقر" جواب لقولهم، كما في رواية قالوا: ما أولتها؟ قال: البقر، "فناس من أصحابي يقتلون".
وفي الصحيح: "ورأيت فيها بقرا، خير"، فإذا هم المؤمنون يوم أحد. قال السهيلي: البقر في التعبير بمعنى رجال متسلحين يتناطحون. قال الحافظ: وفيه نظر، فقد رأى الملك بمصر البقر، وأولها يوسف بالسنين. وفي حديث ابن عباس ومرسل عروة: فأولت البقر الذي رأيت بقرا يكون فينا، قال: فكان أول من أصيب من المسلمين، وقوله: بقرا، بسكون القاف، وهو شق البطن، وهذا أحد وجوه التعبير أن يشتق من الاسم معنى يناسب، ويمكن أن يكون ذلك لوجه آخر من وجوه التأويل، وهو التصحيف، فإن لفظ: بقر، مثل لفظ: نفر، بالنون والفاء خطأ.
وعند أحمد والنسائي، وابن سعد من حديث جابر بسند صحيح في هذا الحديث، "ورأيت بقرا منحورة"، وقال فيه: فأولت الدرع المدينة والبقر نفر، هكذا فيه بنون وفاء، وهو يؤيد الاحتمال المذكور، انتهى. وخالفه المصنف، فضبط بقرا الثاني، بسكون القاف، فلا أدري لم خالفه، ثم لا تعارض بين الأحاديث في التأويل بالقتل أو البقر كما هو ظاهر.
"وأما الثلم"، الكسر، "الذي رأيت في" ذباب "سيفي فهو رجل من أهل بيتي يقتل" فكان حمزة سيد الشهداء رضي الله عنه، هكذا قال ابن هشام عن بعض أهل العلم مرفوعا معضلا. "وقال موسى بن عقبة: ويقول رجال" منهم عروة "كان الذي بسيفه ما أصاب وجهه الشريف، فإن العدو أصابوا وجهه الشريف صلى الله عليه وسلم يومئذ وكسروا رباعيته" بتخفيف الياء، أي: تثنيته اليمنى، "وجرحوا شفته" السفلى، ولعل هذا تفسير للكسر الذي أصاب صدر سيفه، وتفسيره صلى الله عليه وسلم للثلم الذي بطرفه فيكون في سيفه خلل في موضعين، فسر عليه السلام واحدًا منهما، وهؤلاء الرجال فسروا الموضع الآخر.
وفي الصحيح: "رأيت في رؤياي أني هززت سيفا فانقطع صدره"، فإذا هو ما أصيب من المؤمنين يوم أحد. قال المهلب: لما كان صلى الله عليه وسلم يصول بأصحابه، عبر عن السيف بهم وبهزه عن أمره لهم بالحرب، وعن القطع فيه بالقتل فيهم.(2/393)
وفي رواية قال عليه الصلاة والسلام: "وأولت الدرع الحصينة المدينة فامكثوا، فإن دخل القوم المدينة قاتلناهم، ورموا من فوق البيوت".
فقال أولئك القوم، يا رسول الله، كنا نتمنى هذا اليوم، اخرج بنا إلى أعدائنا لا يرون أنا جبنا عنهم.
__________
"وفي رواية" عند أحمد والنسائي وابن سعد بسند صحيح، عن جابر قال: "قال عليه الصلاة والسلام:" "رأيت كأني في درع حصينة، ورأيت بقرا تنحر" "وأولت الدرع الحصينة المدينة" نصب بنزع الخافض، أي: بالمدينة، ووجه التأويل أنهم كانوا شبكوا المدينة بالبنيان من كل ناحية، وجعلوا فيها الآطام والحصون، فهي حصن، ولذا قال: "فامكثوا فإن دخل القوم المدينة".
وفي نسخة: الأزقة، أي: أزقة المدينة، "قاتلناهم ورموا"، بالبناء للمفعول، "من فوق البيوت" وعند ابن إسحاق: "فإن رأيت أن تقيموا بالمدينة وتدعوهم حيث نزلو، فإن أقاموا أقاموا بشر مقام، وإن هم دخلوا علينا قاتلناهم فيها"، وكان رأي عبد الله بن أبي بن سلول مع رأية صلى الله عليه وسلم، وكان عليه السلام يكره الخروج إليهم، "فقال أولئك القوم" أي: الرجال الذين أسفوا على ما فاتهم من مشهد بدر، وغالبهم أحداث، لم يشهدوا بدرا وأحبوا لقاء العدو، وطلبوا الشهادة، فأكرمهم الله يومئذ، "يا رسول الله، إنا كنا نتمنى هذا اليوم، اخرج بنا إلى أعدائنا لا يرون أنا جبنا" بفتح الجيم وضم الموحدة وشد النون، فعل ماض وفاعله "عنهم".
زاد ابن إسحاق: وضعفنا، فقال ابن أبي: يا رسول الله، أقم بالمدينة لا تخرج إليهم، فوالله ما خرجنا منها إلى عدو لنا قط إل أصاب منا، ولا دخلها علينا إلا أصبنا منهم، فدعهم يا رسول الله، فإن أقاموا بشر مجلس، وإن دخلوا قاتلهم الرجال في وجوههم، ورماهم النساء والصبيان بالحجارة من فوقهم، وإن رجعوا رجعواخائبين كما جاءوا، فلم يزل أولئك القوم به صلى الله عليه وسلم وعند غيره، فقال حمزة وسعد بن عبادة، والنعمان بن مالك، وطائفة من الأنصار: إنا نخشى يا رسول الله أن يظن عدونا أن كرهنا الخروج جبنا عن لقائهم، فيكون هذا جراءة منهم علينا.
زاد حمزة: والذي أنزل عليك الكتاب لا أطعم اليوم طعاما حتى أجالدهم بسيفي خارج المدينة، وقال النعمان: يا رسول الله، لا تحرمنا الجنة، فوالذي نفسي بيده لأدخلنها، فقال صلى الله عليه وسلم: "لمه" فقال: لأني أحب الله ورسوله، وفي لفظ: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمد رسول الله، ولا أفر يوم الزحف، فقال صلى الله عليه وسلم: "صدقت"، فاستشهد يومئذ فإن قيل لم عدل صلى الله عليه وسلم عن رأيه الذي(2/394)
فصلى عليه الصلاة والسلام بالناس الجمعة، ثم وعظهم وأمرهم بالجد والاجتهاد، وأخبرهم أن لهم النصر ما صبروا، وأمرهم بالتهيؤ لعدوهم، ففرح الناس بذلك.
ثم صلى بالناس العصر وقد حشدوا، وحضر أهل العوالي، ثم دخل عليه الصلاة والسلام بيته ومعه صاحباه أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، فعمماه وألبساه.
وصف الناس ينتظرون خروجه عليه الصلاة والسلام، فقال لهم سعد بن معاذ
__________
لا أسد منه، وقد وافقه عليه أكابر المهاجرين والأنصار وابن أبي، وإن كان منافقا، لكنه من الكبار المجربين للأمور، ولذا أحضره عليه السلام واستشاره إلى رأي هؤلاء الأحداث، قلت: لأنه صلى الله عليه وسلم مأمور بالجهاد خصوصا، وقد فاجأهم العدو، فلما رأى تصميم أولئك على الخروج، لا سيما وقد وافقهم بعض الأكابر من المهاجرين، كحمزة والأنصار، كابن عبادة، ترجح عنده موافقة رأيهم، وإن كرهه ابتداء ليقضي الله أمرا كان مفعولا، وهذا ظهر لي ولم أره لأحد. "فصلى عليه الصلاة والسلام بالناس الجمعة، ثم وعظهم وأمرهم بالجد" بكسر الجيم، وشد الدال، ضد الهزل "والاجتهاد" في التأهب للقتال وإعداد الجيش، "وأخبرهم أن لهم النصر ما صبروا" مدة صبرهم على أمره، بأن لا يبرحو من مكانهم، فلما تأولوا وفارقوه، استشهدوا ليتخذ الله منهم شهداء، "وأمرهم بالتهيؤ لعدوهم، ففرح الناس بذلك" لأنهم لا غرض لهم في الدنيا وزهرتها لما وقر في قلوبهم، وارتاحت له نفوسهم من حب لقاء الله، والمسارعة إلى جنات النعيم.
وعند ابن إسحاق: وقد مات ذلك اليوم مالك بن عمرو النجاري، فصلى عليه صلى الله عليه وسلم ويقال: بل هو محرر بمهملات، قال الأمير: بوزن محمد، وقال الدارقطني: آخره زاي معجمة، بوزن مقبل ابن عامر النجاري "ثم صلى بالناس العصر وقد حشدوا" بفتح المعجمة، ومضارعة بكسرها، أي: اجتمعوا، "وحضر أهل العوالي" جمع عالية، وهي القرى التي حل المدينة من جهة نجد على أربعة أميال، وقيل: ثلاثة، وذلك أدناها وأبعدها ثمانية، وما دون ذلك من جهة تهامة، فالسافلة كما في النور، "ثم دخل عليه الصلاة والسلام بيته" الذي فيه عائشة، كما عند الواقدي وغيره، "ومعه صاحباه" دنيا وبرزخا وموقفا وحوضا وجنة، "أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، فعمماه وألبساه".
قال شيخنا: الظاهر أن المراد عاوناه في لبس عمامته, ثيابه والتقليد بسيفه، غير ذلك مما تعاطاه عند إراد الخروج، "وصف" لازم بمعن اصطف "الناس" مرفوع فاعل، كما في النور ما بين حجرته إلى منبره، "ينتظرون خروجه عليه الصلاة وا لسلام، فقال لهم سعد بن معاذ" سيد(2/395)
وأسيد بن حضير: استكرهتم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الخروج، فردوا الأمر عليه، فخرج صلى الله عليه وسلم وقد لبس لأمته -وهي بالهمز وقد يترك تخفيفا: الدرع- وتقلد سيفه، فندموا جميعا على ما صنعوا،
__________
الأوس وهو في الأنصار بمنزلة الصديق في المهاجرين، فهو أفضل الأنصار، قاله البرهان "وأسيد" بضم الهمزة وفتح السين المهملة، "ابن حضير" بضم الحاء المهملة، وفتح الضاد المعجمة، ويقال: الحضير باللام.
روى البخاري في تاريخه، وأبو يعلى، وصححه الحاكم، عن عائشة قالت: ثلاثة من الأنصار لم يكن أحد يعقد عليهم فضلا، كلهم من بني عبد الأشهل، سعد بن معاذ، وأسيد بن حضير، وعباد بن بشر، "استكرهتم" بسين التأكيد، لا الطلب، أي: أكرهتم "رسول الله صلى الله عليه وسلم على الخروج".
زاد في رواية: وقلتم له ما قلتم، والوحي ينزل عليه من السماء، "فردوا الأمر إليه" لأنه أعلم منكم بما فيه المصلحة ولا ينطق عن الهوى، ولا يفعل إلا بأمر الله، "فخرج" عطف على مقدر، أي: وانتظروه فخرج "صلى الله عليه وسلم، وقد لبس لامته وهي بالهمز، وقد يترك تخفيفا" وجمعها لام، كتمرة وتمر، ويجمع أيضا على لؤم بوزن نغر، على غير قياس؛ لأنه جمع لؤمة، قاله الجوهري، أي: بضم اللام. "الدرع" وقيل: السلاح ولامة الحرب أداته، كما في الصحاح.
وروى أبو يعلى والبزار بسند حسن، عن سعد وطلحة: أنه ظاهر بين درعين يوم أحد، قال البرهان: بالظاء المعجمة، أي: لبس درعا فوق درع، وقيل: طارق بينهما، أي: جعل ظهر إحداهما لظهر الأخرى، وقيل: عاون والظهير العوين، أي: قوي إحدى الدرعين بالأخرى في التوقي، ومنه تظاهرون ولم يظاهر بين درعين إلا في أحد وفي حنين. ذكر مغلطاي أنه ظاهر فيها بين درعين.
وفي سيرة عبد الغني روى عن محمد بن مسلمة، رأيت على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد درعين درعه ذات الفضول، ودرعه فضة، ورأيت عليه يوم نين درعين، درعه ذات الفضول، والسعدية، وكان سيفه ذو الفقار، تقلده يوم بدر، وهو الذي رأى فيه الرؤيا يوم أحد، انتهى. "وتقلد سيفه" أي: جعل علاقته على كتفه الأيمن وهو تحت إبطه الأيسر.
وعند ابن سعد: أظهر الدرع وخرم وسطها بمنطقة من أدم، من حمائل سيفه، وتقلد السيف ألقى الترس في ظهره. وقول ابن تيمية: لم يبلغنا أنه صلى الله عليه وسلم شد على وسطه منطقة، يرد برواية ابن سعد فإنه ثقة حافظ، وقد أثبته وأقره عليه اليعمري، فهو حجة على من نفاه، لا سيما وإنما نفى أنه بلغه ولم يطلق النفي، "فندموا جميعا على ما صنعوا" الطالبون للخروج على فعله، ومن لم(2/396)
فقالوا: ما كان لنا أن نخالفك فاصنع ما شئت. فقال: "ما ينبغي لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يحكم الله بينه وبين عدوه".
وفي حديث ابن عباس عند أحمد والنسائي والطبراني، وصححه الحاكم: نحو حديث ابن إسحاق، وفيه إشارة النبي صلى الله عليه وسلم إليهم أن لا يبرحوا من المدينة، وإيثارهم الخروج طلبا للشهادة، ولبسه لأمته، وندامتهم على ذلك وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا ينبغي لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يقاتل" وفيه: "إني رأيت أني في درع حصينة" الحديث.
وعقد عليه الصلاة والسلام ثلاثة ألوية:
__________
يطلب على الموافقة، أو هو قاصر على الطالبين، "فقالوا: ما كان" ينبغي "لنا أن نخالفك، فاصنع ما شئت،" ولابن سعد: ما بدا لك، وعند ابن إسحاق: فإن شئت فاقعد، "فقال: "ما ينبغي" قال الشامي: "أي: ما يحسن، أو ما يستقيم "لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يحكم الله بينه وبين عدوه".
وعند ابن إسحاق حتى يقاتل، زاد في رواية: "أو يحكم الله بينه وبين أعدائه"، وروى البيهقي عن ابن عباس، والإمام أحمد عن جابر رفعاه: "لا ينبغي لنبي إذا أخذ لامة الحرب، وأذن في الناس بالخروج إلى العدو أن يرجع حتى يقاتل"، وعلقه البخاري قال البرهان: وظاهره أن ذلك حكم جميع الأنبياء عليهم السلام، ولم أر فيه نقلا، قال: وفيه دليل على حرمة ذلك، وهو المشهور خلافا لمن قال بكراهته.
"وفي حديث ابن عباس عند أحمد" بن حنبل، "والنسائي" أحمد بن شعيب، "والطبراني" سليمان بن أحمد بن أيوب، "وصححه الحاكم" محمد بن عبد الله، "نحو حديث ابن إسحاق" هذا الذي سقناه مع من ذكرناه معه أولا.
ولما كان قوله نحو: قد يقتضي خروج بعض ما ذكره من غير تعيين نص على أن فيه ما ذكره بقوله، "وفيه إشارة الني صلى الله عليه وسلم إليهم أن لا يبرحوا" لا يخرجوا "من المدينة، وإيثارهم الخروج طلبا للشهادة، ولبسه لأمته وندامتهم على ذلك، وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا ينبغي لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يقاتل" إن وجد من يقاتله، "وفيه: "أني رأيت أني في درع حصينة"، الحديث" وغرضه من هذا تقوية رواية ابن إسحاق، ومن ذكر معه؛ لأنها مرسلة بالحديث الموصل حكما؛ لأن ابن عباس، ما شاهد ذلك، فهو مرسل صحابي، وحكمه الموصل إلى الصواب، وقد أخرج حديث الرؤيا بنحوه الشيخان وغيرهما. "وعقد عليه الصلاة والسلام ثلاثة ألوية، لواء" للأوس، "بيد أسيد بن الحضير" باللام، للمح الأصل المنقول عنه، "ولواء(2/397)
- لواء بيد أسيد بن حضير.
- ولواء للمهاجرين بيد علي بن أبي طالب وقيل بيد مصعب بن عمير.
- ولواء الخزرج بيد الحباب بن المنذر وقيل بيد سعد بن عبادة.
وفي المسلمين مائة دارع. وخرج السعدان أمامه يعدوان: سعد بن معاذ وسعد بن عبادة، دارعين.
واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم، وعلى الحرس تلك الليلة محمد بن مسلمة.
__________
للمهاجرين بيد علي بن أبي طالب، وقيل: بيد مصعب بن عمير" وليس بخلاف حقيقي، فإنه كان بيد علي، ثم بيد مصعب؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قال: "من يحمل لواء المشركين"؟، فقيل: طلحة بن أبي طلحة، فقال: "نحن أحق بالوفاء منهم" فأخذه من علي، ودفعه إلى مصعب بن عمير، أي: لأنه من بني عبد الدار بن قصي، وكان بكر قصي، فجعل إليه اللواء، والحجابة، والسقاية، والرفادة، وكان قصي مطاعا في قومه، لا يرد عليه شيء صنعه، فجرى ذلك في عبد الدار وبنيه حتى قام الإسلام. كما أسنده ابن إسحاق، عن علي فيما مر فإلى هذا أشار عليه السلام، أي: بوفاء عهد قصي؛ لأنه لم يخالف شرعه، "ولواء الخزرج بيد الحباب" بضم الحاء المهملة، وتخفيف الموحدة، فألف فموحدة، "ابن المنذر، وقيل: بيد سعد بن عبادة" سيدهم، "وفي المسلمين مائة دارع"، أي: لابس الدرع، وهو الزردية، وركب صلى الله عليه وسلم فرسه السكب على إحدى الروايتين، والأخرى أنه خرج من منزل عائشة على رجليه إلى أحد، "وخرج السعدان" القائل فيهما الهاتف بمكة، فإن يسلم السعد أن يصبح محمد بمكة، لا يخشى خلاف المخالف "أمامه يعدوان" بعين مهملة، أي: يمشيان مشيا مقارب الهرولة ودون الجري، "سعد بن معاذ وسعد بن عبادة" رضي الله عنهما، حال كونهما "دارعين" مثنى دارع بوزن فاعل، والناس عن يمينه وشماله، "واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم" أي: على الصلاة بالناس، كما قاله هشام وتبعه جمع، ومقتضاه أنه لم يول أحدا للقضاء بين الناس، وكأنه لقرب المسافة، أو لأنه لم يبق فيها إلا القليل، اذين لا يتخاصمون، "وعلى الحرس تلك الليلة" التي باتها بالشيخين، تثنية شيخ موضع بين المدينة وأحد على الطريق الشرقي إلى أحد مع الحرة، "محمد بن مسلمة" الأنصاري، أكبر من اسمه محمد في الصحابة، في خمسين رجلا يطوفون بالعسكر، وعين المشركون لحراستهم.
عكرمة بن أبي جهل في جماعة، وروى أنه عليه السلام بعدما صلى العشاء قال: "من يحرسنا الليلة"؟ فقال ذكوان بن عبد قيس: أنا، قال: "اجلس" ثم قال: "من يحرسنا"؟، فقال(2/398)
وأدلج عليه الصلاة والسلام في السحر، وقد كان صلى الله عليه وسلم لما عسكر رد جماعة من المسلمين لصغرهم، منهم: أسامة، وابن عمر،
__________
رجل: أنا، ثم قال: "من يحرسنا"، فقال رجل: أنا، قال: "اجلس" فأمر بقيام الثلاثة، فقام ذكوان وحده، فسأله عن صاحبيه، فقال: يا رسول الله، أنا كنت المجيب في كل مرة، قال: "اذهب حفظك الله"، فلبس لامته، وأخذ قوسه، وحمل سلاحه وترسه، فكان يطوف بالعسكر ويحرس خيمته صلى الله عليه وسلم.
"وأدلج عليه الصلاة والسلام" قال البرهان: اختلف اللغويون في أن أدلج مخففا ومثقلا لغتان، في سير الليل كله أو بينهما فرق، وهو قول الأكثر فأدلج بالتشديد، سار آخر الليل، وأدلج، بسكون الدال، سار الليل كله، وسار دلجة من الليل، أي: في ساعة، انتهى.
فإن قرئ المصنف بالتشديد، فقوله "في السحر" وهو قبيل الفجر، بيان للمراد من آخر الليل، وإن خفف كان بيانا لوقت السير، ويؤخذ من كلام ابن إسحاق، أنهم خرجوا من ثنية الوداع شامي المدينة.
وقد روى الطبراني في الكبير والأوسط، برجال ثقات، عن أبي حميد الساعدي، أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج يوم أحد، حتى إذا جاوز ثنية الوداع، فإذ هو بكتيبة خشناء، فقال: "من هؤلاء"؟ قالوا: عبد الله بن أبي في ستمائة من مواليه من اليهود، فقال: "وقد أسلموا"؟، قالوا: لا يا رسول الله، قال: "مروهم فليرجعوا" فإنا لا نستعين بالمشركين على المشركين". قال ابن إسحاق: وكان دليله صلى الله عليه وسلم أبو خيثمة الحرثي، بخاء معجمة، وياء ومثلثة، ووهمه اليعمري ومغلطاي بأن الذي ذكره الواقدي، وابن سعد، أنه أبو حتمة، والد سهل بن أبي حتمة، يعني بحاء مهملة ففوقية، زاد مغلطاي: وقول ابن أبي حاتم، كان الدليل سهل بن أبي حتمة غير صحيح، لصغر سنه عن ذلك، انتهى, "وقد كان صلى الله عليه وسلم لما عسكر" بالشيخين قال السمهودي: بلفظ تثنية شيخ اطمأن بجهة الوالج، سميا بشيخ وشيخة، كانا هناك هيأ مسجدا له صلى الله عليه وسلم صلى به في مسيره لأحد وعسكر هناك، "رد جماعة من المسلمين لصغرهم".
قال الإمام الشافعي: رد صلى الله عليه وسلم سبعة عشر صحابيا، عرضوا عليه وهم أبناء أربع عشرة سنة؛ لأنه لم يرهم بلغوا، وعرضوا عليه وهم أبناء خمس عشرة، فأجازهم. قال البرهان: يحتمل أن يريد ردهم في أحد، ويحتمل مجموع من رده في هذا السن في غزواته وكل منهما فائدة. وظاهر الشامي احتمال الأول فإنه عد من رده في أحد سبعة عشر، ثم أجاز اثنين منهم، "منهم: أسامة" بن زيد، "و" عبد الله "بن عمر" بن الخطاب، وما وقع في نسخة سقيمة من الشامية عمر، وبزيادة واو خطأ، لا يعول عليه، فإن ابن عمرو بن العاص لم يكن أسلم حينئذ، وكان مع أبيه.(2/399)
وزيد بن ثابت، وأبو سعيد الخدري. والنعمان بن بشير. قال مغلطاي: وفيه نظر.
وكان المسلمون الخارجون ألف رجل، ويقال: تسعمائة، والمشركون ثلاثة آلاف رجل
__________
والحديث عند أحمد، والبخاري، وأبي داود والنسائي، لابن عمر بن الخطاب، "وزيد بن ثابت" الأنصاري، "وأبو سعيد الخدري، والنعمان بن بشير. قال مغلطاي: وفيه نظر" لأنه ولد في السنة الثانية قبل أحد بسنة، زاد اليعمري وغيره، وأسيد بن ظهير، وعرابة بن أوس، والبراء بن عازب، وزيد بن أرقم، وسعد بن عقيب، وسعد بن حبتة، وزيد بن جارية، بجيم وراء، الأنصاري، وجابر بن عبد الله: وليس بالذي يروي الحديث.
قال البرهان: وهو إما الراسبي البصري، وإما العبدي، وعمرو بن حزم ذكره مغلطاي، ورافع بن خديج ذكره الواقدي، وأوس بن ثابت الأنصاري، كذا رواه ابن فتحون، عن ابن عمر بن الخطاب، وسمرة بن جندب، ثم أجاز رافع بن خديج لما قيل له: إنه رام، فقال سمرة لزوج أمه: أجاز رافعا وردني وأنا أصرعه، فأعلمه صلى الله عليه فقال: "تصارعا"، فصرع سمرة رافعا فأجازه، وعقيب، بصم المهملة، وفتح القاف، وسكون التحتية، والموحدة، وحبتة، بفتح المهملة، وسكون الموحدة، وفتح الفوقية، فتاء تأنيث، هي أمه، واسم أبيه بجير، بضم الموحدة، وفتح الجيم عند ابن سعد، وبفتحها، وكسر الحاء المهملة عند الدارقطني.
"وكان المسلمون الخارجون" معه حقيقة وظاهرا "ألف رجل"، كما عند ابن إسحاق وغيره. "ويقال: تسعمائة" حكاه مغلطاي وغيره، فلما انخذل ابن أبي بالمنافقين الثلاثمائة صاروا سبعمائة على الأول، وستمائة على الثاني، كما في النور، فغلط من زعم أن تسعمائة مصحف عن سبعمائة؛ إذ الكلام في الخارجين أولا هل ألف أو إلا مائة. قال ابن عقبة: وليس في المسلمين إلا فرس واحد، وقال الواقدي: لم يكن معهم من الخيل إلا فرسه صلى الله عليه وسلم، وفرس بي بردة.
وفي الاستيعاب، في ترجمة عباد بن الحارث بن عدي: أنه شهد أحدا، والمشاهد كلها معه عليه السلام على فرسه ذي الحزق. قال الحافظ في الفتح: وقع في الهدى، أنه كان معهم خمسون فرسا، وهو غلط بين، وقد جزم موسى بن عقبة، بأنه لم يكن معهم في أحد شيء من الخيل، ووقع عند الواقدي، كان معهم فرس له عليه السلام، وفرس لأبي بردة، انتهى بلفظه. "والمشركون ثلاثة آلاف رجل" كما جزم ابن إسحاق، وتبعه اليعمري. قال البرهان: وقال بعض الحفاظ: فجمع أبو سفيان قريبا من ثلاثة آلاف من قريش، والحلفاء والأحابيش، انتهى.
وعطف الأحابيش على الحلفاء مساو هنا؛ لأن المراد بهم، كما في العيون وغيرها بنو(2/400)
فيهم سبعمائة دارع ومائتا فرس، وثلاثة آلاف بعير وخمس عشرة امرأة.
ونزل عليه الصلاة والسلام بأحد ورجع عنه عبد الله بن أبي في ثلاثمائة ممن تبعه من قومه من أهل النفاق
__________
المصطلق وبنو الهون بن خزيمة وبنو الحارث بن عبد مناة، الذين حالفوا قريشا بذنبة حبشي، جبل بأسفل مكة، فسموا به، ويقال: هو واد بمكة، ويقال: سموا بذلك، لتجمعهم على أنهم يد واحدة على غيرهم أبدا. "فيهم سبعمائة دارع" لابس الدرع، وهكذا ذكره ابن سعد. "ومائتا فرس" قاله ابن إسحاق، "وثلاثة آلاف بعير وخمس عشرة امرأة" من أشرافهم. قال ابن إسحاق: خرجوا معهم بالظعن التماس الحفيظة، وأن لا يفروا، بفتح الحاء المهملة، وكسر الفاء، فتحتية ساكنة، ثم ظاء معجمة مفتوحة، ثم تاء تأنيث.
قال السهيلي: أي الغضب للحرم، وقال أبو ذر: الأنفة والغضب، وسمي ابن إسحاق منهن هند بنت عتبة، خرجت مع أبي سفيان، وأم حكيم بنت الحارث بن هشام مع زوجها عكرمة بن أبي جهل، وفاطمة بنت الوليد بن المغيرة مع زوجها الحارث بن هشام، وبرزة بنت مسعود الثقفية مع زوجها صفوان بن أمية، وريطة بنت منبه السهمية مع زوجها عمرو بن العاص، وهي أم ابنة عبد الله، وسلافة بنت سعد الأنصارية مع زوجها طلحة الحجبي، وخناس بنت مالك مع ابنها أبي عزيز بن عمير أخي مصعب شقيقه، وخرجت عميرة بنت علقمة، ولم يسم الباقين، ونقله عنه الفتح، ولم يزد عليه.
وكذا ذكر في النور الثمانية فقط، وقد أسلمن بعد ذلك وصحبن الأخناس، وعميرة بنت مالك، فلم أر لما ذكرا في الإصابة، وقد صرح في النور، بأنه لا يعلم لهما إسلاما، "ونزل عليه الصلاة والسلام بأحد، ورجع عنه عبد الله بن أبي" بن سلول "في ثلاثمائة ممن تبعه من قومه من أهل النفاق" وقال: كما عند ابن سعد عصاني، وأطاع الوالدان ومن لا رأي له ولإبن إسحق قال: أطاعهم وعصاني، علام نقتل أنفسنا، فأتبعهم عبد الله بن عمرو بن حرام، وكان خزرجيا كابن أبي، فقال: أذكركم الله أن تخذلوا قومكم ونبيكم بعدما حضر من عدوهم، فقالوا: لو نعلم أنكم تقاتلون لما أسلمناكم، ولكنا لا نرى أنه يكون قتال، فلما أبوا، قال: أبعدكم الله فسيغني الله عنكم نبيه، واعتذاره لعبد الله، بما ذكر، وإن كان كاذبا فلا ينافي قوله أطاعهم وعصاني، كما توهم؛ لأنه خطاب لقومه الذين هم منافقون مثله. قال ابن عقبة: فلما انخزل ابن أبي بمن معه، سقط في أيدي طائفتين من المسلمين، وهما أن يقتتلا، وهما بنو حارثة من الخزرج، وبنو سلمة، بكسر اللام، من الأوس.
وفي الصحيح، عن جابر، نزلت هذه الآية فينا: {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا} [آل(2/401)
ويقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم بالانصراف لكفرهم، بمكان يقال له الشوط، ويقال بأحد.
__________
عمران: 122] ، بني سلمة وبني حارثة، وما أحب أنها لم تنزل، والله يقول: والله وليهما. قال الحافظ: أي: أن الآية وإن كان في ظاهرها غض منهم، لكن في آخرها غاية الشرف لهم. قال ابن إسحاق: قوله والله وليهما، أي الدافع عنهما ما هموا به من الفشل؛ لأن ذلك كان من وسوسة الشيطان من غير وهن منهم في دينهم.
وفي الصحيح أيضا عن عبد الله بن زيد، لما خرج صلى الله عليه وسلم إلى غزوة أحد، رجع ناس ممن خرج معه، وكان أصحابه صلى الله عليه وسلم فرقتين، فرقة تقول نقاتلهم، وفرقة تقول لا نقاتلهم. فنزل: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا} [النساء: 88] ، وقال: إنها طيبة تنفي الذنوب، كما تنفي النار خبث الحديد، وهذا هو الأصح في سبب نزولها، وقوله: الذنوب، كذا رواه البخاري في المغازي، وفي الحج بلفظ: تنفي الرجال، وفي التفسير: تنفي الخبث، وهو المحفوظ قاله في الفتح: "ويقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم بالانصراف لكفرهم"، حكاه مغلطاي وغيره.
والتنظير فيه بأن الذين ردهم لكفرهم، حلفاء ابن أبي اليهود، وكان رجوعهم قبل الشوط لا يلتفت إليه، فنقل الحفاظ لا يدفع بالتوهمات العقلية، وأيضا فهؤلاء ثلاثمائة، واليهود ستمائة، كما مر. والجواب: بأن المعنى أمر بالكف عنهم ونهي عن طلب رجوعهم، فكأنه أمرهم "بمكان يقال له: الشوط" بشين معجمة مفتوحة، فواو ساكنة، فطاء مهملة، اسم حائط بالمدينة، كما في النور. وفي ابن إسحاق: بين المدينة وأحد.
"ويقال:" انخزلوا "بأحد"، وبالأول جزم ابن إسحاق، ثم قال: قال صلى الله عليه وسلم لأصحابه: "من يخر بنا على القوم من كثب" أي: "من قرب من طريق لا يمر بنا عليهم" فقال أبو خيثمة: أنا يا رسول الله، فنفذ به في حرة بني حارثة بوبين أمواله، حتى سلك في مال لمربع بن قيظي، وكان منافقا ضريرا، فلما سمع حس المصطفى والمسلمين، قام يحثي في وجوههم التراب، ويقول: إن كنت رسول الله، فإني لا أحل لك أن تدخل في حائطي، وقد ذكر لي، أنه أخذ وجهك، فابتدره القوم ليقتلوه، فقال صلى الله عليه وسلم: "لا تقتلوه، فهذا الأعمى أعمى القلب، أعمى البصر"، وقد بدر إليه سعد بن زيد الأشهلي قبل النهي، فضربه بالقوس في رأسه فشجه، ومضى صلى الله عليه وسلم حتى نزل الشعب من أحد في عدوة الوادي إلى الجبل، فجعل ظهره وعسكره إلى أحد.
وفي رواية: أنه لما وصل إلى أحد صلى به الصبح صفوفا عليهم سلاحهم وغلط من(2/402)
ثم صف المسلمون بأصل أحد، وصف المشركون بالسبخة.
قال ابن عقبة: وكان على ميمنة خيل المشركين خالد بن الوليد، وعلى ميسرتها عكرمة بن أبي جهل.
وجعل صلى الله عليه وسلم على الرماة -وهم خمسون رجلا- عبد الله بن جبير، وقال: "إن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا من مكانكم هذا حتى أرسل إليكم، وإن رأيتمونا هزمنا القوم
__________
زعم أنه بات بأحد ومربع، بكسر الميم، وسكون الراء، وفتح الموحدة، وعين مهملة، وقيظي، بفتح القاف، وسكون التحتية، وظاء معجمة، وياء مشددة، ويحثي بالياء، على إحدى اللغتين. ففي القاموس: حثى التراب، يحثوه ويحثيه وحثيا، "ثم صف" أي: اصطف "المسلمون بأصل أحد" أي: سفحه، "وصف المشركون بالسبخة" بفتح السين المهملة، وفتح الموحدة، وسكونها، الأرض المالحة وجمعها سباخ، فإذا وصفت بها الأرض قلت: سبخة بالكسر، كما في النور.
"قال" موسى "بن عقبة: وكان على ميمنة خيل المشركين خالد بن الوليد" سيف الله الذي سله على المشركين بعد، "وعلى ميسرتها عكرمة بن أبي جهل" زاد غيره: وجعلوا على المشاة صفوان بن أمية، ويقال: عمرو بن العاص، وعلى الرماة وكانوا مائة عبد الله بن أبي ربيعة، وأسلموا كلهم.
"و" في البخاري "جعل الله على الرماة" بضم الراء بالنبل، "وهم خمسون رجلا" هذا هو المعتمد.
وفي الهدي: أن الخمسين عدد الفرسان، وهو غلط بين، كما في الفتح، وقد قدمته، وقيل: ما في الهدى انتقال حفظ من الرماة إلى الفرسان، قال البرهان: والظاهر أنه ليس بانتقال؛ لأنه ذكرهم فيما يليه، فقال: واستعمل على الرماة، وكانوا خمسين، انتهى، أي: فهو غلط محض.
"عبد الله بن جبير" بن النعمان، أخا بني عمرو بن عوف الأنصاري الأوسي العقبي البدري، المستشهد يومئذ، وهو أخو خوات بن جبير "وقال: "إن رأيتمونا تخطفنا الطير" قال المصنف، بفتح الفوقية، وسكون الخاء المعجمة، وفتح المهملة مخففا، ولأبي ذر تخطفنا، بفتح الخاء وشد الطاء، وأصله تتخطفنا بتاءين إحداهما، أي: إن رأيتمونا قد زلنا من مكاننا وولينا، أو إن قتلنا، أو أكلت الطير لحومنا "فلا تبرحوا من مكانكم هذا، حتى أرسل إليكم".
وعند ابن إسحاق: انضحوا الخيل عنا النبل، لا يأتوننا من خلفنا، "وإن رأيتمونا هزمنا القوم(2/403)
وأوطأناهم فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم". كذا في البخاري من حديث البراء.
وفي حديث ابن عباس عند أحمد والطبراني والحاكم: أن صلى الله عليه وسلم أقامهم في موضع ثم قال: "احموا ظهورنا، فإن رأيتمونا نقتل فلا تنصرونا وإن رأيتمونا قد غنمنا فلا تشركونا".
قال ابن إسحاق: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من يأخذ هذا السيف بحقه"، فقام إليه رجال، فأمسكه عنهم، حتى قام إليه أبو دجانة سماك، فقال: وما حقه يا رسول الله؟ قال: "أن تضرب به في وجه العدو حتى ينحني"،
__________
وأوطأناهم" بهمزة مفتوحة، فواو ساكنة، فطاء فهمزة ساكنة، أي: مشينا عليهم، وهم قتلى "فلا تبرحوا" أي: من مكانكم "حتى أرسل إليكم، كذا في البخاري" في الجهاد، بهذا اللفظ. وفي المغازي بتغيير قليل "من حديث البراء" بن عازب.
وفي حديث ابن عباس، عند أحمد والطبراني والحاكم، أنه صلى الله عليه وسلم أقامهم في موضع، ثم قال لهم: "احموا ظهورنا؛ لا يأتونا من خلفنا، فإن رأيتمونا نقتل فلا تنصرونا، وإن رأيتمونا قد غنمنا فلا تشركونا" بفتح التاء والراء، أي: لا تكونوا مشاركين لنا.
زاد في رواية: "وارشقوهم بالنبل، فإن الخيل لا تقوم على النبل، إنا لن نزال غالبين ما ثبتم مكانكم، اللهم إني أشهدك عليهم"، وكان أول من أنشب الحرب أبو عامر الفاسق كما يأتي. "قال ابن إسحاق: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من يأخذ هذا السيف"؟ ذكر أبو الربيع في الاكتفاء، أنه كان مكتوبا في إحدى صفحتيه:
في الجبن عار وفي الأقدام مكرمة ... والمرء بالجبن لا ينجو من القدر
وروى أحمد ومسلم عن أنس، والطبراني عن قتادة بن النعمان وابن راهويه، والبزار عن الزبير، قالوا: عرض صلى الله عليه وسلم سيفا يوم أحد، فأخذه رجال ينظرون إليه. وفي لفظ: فبسطوا أيديهم، كل إنسان يقول: أنأ، فقال: "من يأخذه بحقه" فأحجم القوم، "فقام إليه رجال" سمى منهم عمرو الزبير، كما عند ابن عقبة، وعلي كما في الطبراني، وأبو بكر كما في الينابيع، "فأمسكه عنهم".
ولابن راهويه، أن الزبير طلبه ثلاث مرات، كل ذلك يعرض عنه، "حتى قام إليه أبو دجانة" بضم الدال المهملة، وبالجيم والنون، "سماك" بسين مهملة، ابن خرشة وقيل: ابن أوس بن خرشة الأنصاري المتفق على شهود بداره، وعلى أنه استشهد باليمامة، "فقال: وما حقه يا رسول الله؟ قال: "أن تضرب به في وجه العدو حتى ينحني".(2/404)
قال: أنا آخذه بحقه يا رسول الله، فأعطاه إليه وكان رجلا شجاعا يختال عند الحرب، فلما رآه عليه الصلاة والسلام، يتبختر قال: "إنها لمشية يبغضها الله إلا في مثل هذا الموطن".
__________
وروى الدولابي في الكنى عن الزبير، قال عليه السلام: "لا تقتل به مسلما، ولا تفر به من كافر". "قال: أنا آخذه بحقه يا رسول الله" أي: بما يقابله من الثمن، وهو الصفة التي ذكرتها، وجعل القتال به ثمنه مجازا.
وعند الطبراني قال: "لعلك إن أعطيتكه تقاتل به في الكيول"، قال: لا، "فأعطاه إليه،" ولعله علم بالوحي أنه لا يقوم به حق القيام إلا هو وهي مزية.
"وكان رجلا شجاعا يختال عند الحرب" قال في النور: الخيلاء والمخيلة والاختيال، كله التكبر، "فلما رآه عليه الصلاة والسلام يتبختر قال: "إنها لمشية يبغضها الله" بضم الياء وكشر الغين، من أبغض لا بفتحها، وضم الغين من بغض؛ لأنه لغة رديئة، كما في المصباح والقاموس، وقد وهم في ذلك بعضهم، "إلا في مثل هذا الموطن" لدلالتها على احتقار العدو، وعدم مبالاته بهم على حد قوله:
جاء شقيق عارضا رمحه
فينكسر قلب العدو، ويداخله مزيد الرعب. "قال الزبير بن العوام فيما قاله" عبد الملك "بن هشام" الحميري المعافري المصري، وأصله من البصرة، العلامة في النسب والنحو، المشهور بحمل العلم، مهذب سيرة ابن إسحاق التي رواها عن زيادة البكائي، عنه المتوفى بمصر سنة ثلاث عشرة ومائتين. ولفظه: حدثني غير واحد من أهل العلم، أن الزبير بن العوام قال: وجدت في نفسي حين سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم السيف، فمنعنيه، وأعطاه أبا دجانة، وقلت: أنا ابن صفية عمته ومن قريش، وقد قمت إليه وسألته إياه قبله، فأعطاه أبا دجانة وتركني "فقلت: والله لأنظرن ما يصنع أبو دجانة فاتبعته" لأشاهد الآية الباهرة في منع المصطفى لي ولغيري فيزداد يقيني.
وقوله: وجدت، أي غضبت، أو حزنت، كما في النور وغيره، أي: على نفسه، خوفا أن المنع بسبب فيه يقتضيه، "فأخذ" لفظ ابن هشام، فأخرج. وفي الينابيع ثم أهوى إلى ساق خفه، فأخرج منها "عصابة له حمراء" مكتوبا في أحد طرفيها نصر من الله وفتح قريب، وفي طرفها الآخر الجبانة في الحرب عار، ومن فر لم ينج من النار، انتهى. "فعصب" قال البرهان: مخفف(2/405)
بها رأسه، فقالت الأنصار: أخرج عصابة الموت فخرج وهو يقول:
أنا الذي عاهدني خليلي ... ونحن بالسفح لدى النخيل
أن لا أقوم الدهر في الكيول ... أضرب بسيف الله والرسول
فجعل لا يلقى أحدًا من المشركين إلا قتله.
__________
ومشدد، "بها رأسه فقالت الأنصار: أخرج عصابة الموت" في ابن هشام، وهكذا كانت تقول له: إذا تعصب بها، "فخرج وهو يقول: أن الذي" وأنشده الجوهري بلفظ: إني امرؤ "عاهدني" أراد قوله: لعلك إن أعطيتكه تقاتل به في الكيول فقال: "لا "خليلي" قال: في الروض أنكره عليه بعض الصحابة، وقالوا له: متى كان خليلك؟ وإنما أنكره لقوله صلى الله عليه وسلم: "لو كنت متخذا خليلا غير ربي لأتخذت أبا بكر خليلا، ولكن إخوة الإسلام" قال: وليس في الحديث ما يدفع أن يقول الصحابي خليلي؛ لأنهم يريدون به معنى الحبيب، ومحبتهم له تقتضي هذا وأكثر منه، ما لم يكن غلوا وقولا مكروها، وإنما فيه أنه عليه السلام لم يكن يقولها لأحد، ولا خص بها أحدًا دون أن يمنع أصحابه أن يقولوها له، انتهى.
"ونحن بالسفح،" قال في النور: رأى جانب الجبل عند أصله، "لدى" بفتح اللام والمهملة، أي: عند "النخيل" اسم جنس نخلة، "أن لا أقوم الدهر في الكيول اضرب" بضم الموحدة، قال الجوهري: وإنما سكنه لكثرة الحركات، قال شيخنا: أو لإرادة الإدغام؛ لأن النظم لا يستقيم بدونه، "بسيف الله والرسول" وأنشده الجوهري، بدون الشطر الثاني، ولكن مثله لا يعترض به لأنه زيادة ثقة، "فجعل لا يلقى أحدا من المشركين إلا قتله".
وفي مسلم من حديث أنس: ففلق أبو دجانة بالسيف هام المشركين.
وعند ابن هشام عن الزبير، وكان في المشركين رجل لا يدع لنا جريحا إلا دفف عليه، فجعل كل واحد منهما يدنو من صاحبه، فدعوت الله أن يجمع بينهما فالتقيا، فاختلفا ضربتين، فضرب المشرك أبو دجانة فأتقاه بدرقته، فعضت بسيفه، وضربه أبو دجانة فقتله، ثم رأيته حمل بالسيف على رأس هند بنت عتبة، ثم عدل السيف عنها.
قال ابن إسحاق، وقال أبو دجانة: رأيت إنسانا يحمس الناس حمسا شديدا، فصمدت إليه، فلما حملت عليه السيف ولول فأكرمت سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أضرب به امرأة، وعن الزبير خرج أبو دجانة بعدما أخذ السيف وأتبعته، فجعل لا يمر بشيء إلا أفراه وهتكه وفلق به المشركين، وكان إذا كل شحذه بالحجارة، ثم يضرب به العدو كأنه منجل، حتى أتى نسوة في سفح الجبل ومعهن هند، وهي تغني، تحرض المشركين فحمل عليها، فنادت: يا لصخر، فلم يجبها أحد، فانصرف عنها فقلت له: كل سيفك رأيته فأعجبني، غير أنك لم تقتل المرأة، قال: كرهت(2/406)
وقوله: في الكيول -بفتح الكاف وتشديد المثناة التحتية- مؤخر الصفوف. وهو: فيعول من كال الزند يكيل كيلا إذا كبا ولم يخرج نارا، فشبه مؤخر الصفوف به لأن من كان فيه لا يقاتل. قال أبو عبيدة: ولم يسمع إلا في هذا الحديث.
__________
أن أضرب بسيف رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة لا ناصر لها.
ذفف، بالذال المعجمة وشد الفاء الأولى، مفتوحات أسرع قتله، ويحمس حمسا، بحاء مهملة، يروى بالسين المهملة، يشجعهم من الحماسة، وبالشين المعجمة، من أحمشت النار أوقدتها، قاله السهيلي وغيره.
وصمدت إليه قصدته، والمعروف صمدته، لكن ضمن معنى قصد فعداه بإلى؛ لأن قصد يتعدى بإلى وبنفسه، وولولت قالت: يا ويلها هذا قول أكثر اللغويين.
وقال ابن دريد: الولولة، رفع المرأة صوتها في فرح أو حزن، قاله أبو ذر في حواشيه. "وقوله في الكيول، بفتح الكاف وتشديد المثناذة التحتية" مضمومة ثم واو ساكنة ثم لام، "مؤخر الصفوف" كما قاله الجوهري، وأبو عبيد والهروي، وقالا: ما معناه: "وهو فيعول من كال الزند يكيلك يلا إذا كبا ولم يخرج نارا" وذلك شيء لا نفع فيه، "فشبه مؤخر الصفوف به لأن من كان فيه لا يقاتل" وقيل: الكيول الجبان، وقيل: ما أشرف من الأرض بريد تقوم فوقه فتنظر ما يصنع غيرك، كما في النهاية وغيرها، والأول أنسب بالمقام، ولذا اقتصر عليه المصنف تبعا للجماعة، وأما الجبان فلا معنى له هنا إلا بتكلف، وكذا الثالث بعيد من السياق، فإنه وإن كان له معنى لا يناسب قوله: تقاتل به في الكيول، وقال أبو ذر في حواشيه: الكيول، بالتشديد والتخفيف، آخر الصفوف في الحرب.
وقال ابن سراج: من رواه بالتخفيف، فهو من قولهم: كال الزند، إذا نقص، انتهى.
وفي الصحاح: كال الزند يكيل، إذا لم يخرج نارا. قال البرهان: وفي نسخة بهذه السير، يعني العيون في الهامش الكبول، بضم الكاف والموحدة بالقلم جمع كبل، وهو القيد الضخم. وهذا إن صح رواية فله معنى، وفي صحته نظر، انتهى.
"قال أبو عبيدة" معمر بن المثنى: ولد سنة اثنتي عشرة ومائة، ومات سنة تسع أو ثمان، أو عشر أو إحدى عشرة ومائتين، "ولم يسمع" لفظ الكيول، "إلا في هذا الحديث" قال شخنا: لعل المراد لم يسمع في حديث غيره، وإلا فهو منقول عن اللغة، كما يدل عليه الخلاف المتقدم في معناه.
وعند ابن سعد: وكان أول من أنشب الحرب بينهم أبو عامر، وذكر ابن إسحاق عن(2/407)
وقاتل حمزة بن عبد المطلب حتى قتل أرطأة بن شرحبيل بن هاشم بن عبد مناف.
والتقى حنظلة الغسيل وأبو سفيان فضربه شداد بن أوس فقتله فقال صلى الله عليه وسلم: "إن حنظلة لتغسله الملائكة"،
__________
عاصم بن عمر قتادة أنه حين خرج إلى مكة مباعدا له صلى الله عليه وسلم معه خمسون غلاما من الأوس، وقيل: خمسة عشر، كان يعد قريشا لو لقي قومه لم يختلف عليه منهم رجلان، فلقيهم في الأحابيش، وعبدان أهل مكة فنادى: يا معشر الأوس، أنا أبو عامر، فقالوا: لا أنعم الله بك عينا يا فاسق.
وكان يسمى في الجاهلية الراهب، فسماه صلى الله عليه وسلم الفاسق، فلما سمع ردهم عليه قال: لقد أصاب قومي بعدي شر، ثم قاتلهم قتالا شديدا.
قال ابن سعد: ثم تراموا بالحجارة حتى ولى أبو عامر وأصحابه، وجعل نساء المشركين يضربن بالدفوف والغرابيل، ويحرضن ويذكرنهم قتلى بدر، ويقلن شعرا.
قال ابن إسحاق: فاقتتل الناس حتى حميت الحرب، وقاتل أبو دجانة حتى أثخن في الناس كما مر، "وقاتل حمزة بن عبد المطلب،" فأثخن خصوصا في الرؤساء، "حتى قتل أرطأة بن شرحبيل" بضم الشين "ابن هاشم بن عبد مناف" بن عبد الدار بن قصي، كما في ابن إسحاق، ولو زادهما المصنف، كان أحسن لئلا يوهم أنهما اللذان في النسب الشريف، وكان أحد النفر الذين يحملون اللواء، ولذا خصه بالذكر وكونه قاتله، جزم به ابن إسحاق، وقال ابن سعد وغيره: قتله علي وصححه، "والتقى حنظلة الغسيل" بن أبي عامر الفاسق، واسمه عبد عمرو بن صيفي بن مالك بن النعمان الأوسي.
قال البرهان: ووقع في العيون عبد بن عمرو، والصواب حذف ابن، "وأبو سفيان" بن حرب، فعلاه حنظلة، "فضربه شداد بن أوس" ابن شعوب، قاله ابن سعد، وقال ابن إسحاق والواقدي وغيرهما: شداد بن الأسود، وهو ابن شعوب الليثي، قال في الإصابة: قال المرزباني: شعوب أمه، والأسود أبوه أسلم بعد ذلك وصحب، انتهى. فقصر البرهان في قوله: لا أعلم لشداد إسلاما.
وفي تفسير الحميدي، كما قاله السهيلي: مكان شداد جعونة ابن شعوب الليثي، وهو مولى نافع القاري، وجعونة هو أخو شداد له إدراك، كما في الإصابة في قسم المخضرمين، "فقتله، فقال صلى الله عليه وسلم: "إن حنظلة لتغسله الملائكة".
وعند ابن سعد: "رأيت الملائكة تغسل حنظلة بماء المزن، في صحافي الفضة بين السماء(2/408)
فسألوا امرأته جميلة أخت عبد الله بن أبي فقالت: خرج وهو جنب فقال عليه الصلاة والسلام: "لذلك غسلته الملائكة".
وبذلك تمسك من قال من العلماء: إن الشهيد يغسل إذا كان جنبا.
وقتل علي رضي الله عنه طلحة بن أبي طلحة لواء المشركين،
__________
والأرض"، "فسألوا امرأته جميلة، أخت عبد الله بن أبي" ابن سلول المنافق، وكان ابتني بها تلك الليلة، وكان عرسوا عنده، فرأت في المنام تلك الليلة كأن بابا من السماء، قد فتح له، فدخله، ثم أغلق دونه، فعلمت أنه ميت من غده، فدعت رجالا حين أصبحت من قومها، فأشهدتهم على الدخول بها خشية أن يكون في ذلك نزاع، ذكره الواقدي، كما في الروض، "فقالت: خرج وهو جنب" حين سمع الهاتفة، "فقال عليه الصلاة والسلام: "لذلك غسلته الملائكة".
قال في الروض: وذكر أنه التمس في القتلى، فوجدوه يقطر رأسه ماء، وليس بقربة ماء تصديقا لقوله صلى الله عليه وسلم انتهى.
والهاتفة، بالتاء والفاء، عند ابن إسحاق أي: الذات الصائحة، قال ابن هشام: ويقال الهائعة، يعني بتحتية، فعين مهملة. قال: والهائعة الصيحة التي فيها فزع، قال: وفي الحديث: "خير الناس رجل ممسك بعنان فرسه، كلما سمع هيعة طار إليها". قال الطرماح:
أنا ابن حماة المجد من آل هاشم ... إذا جعلت خور الرجال تهيع
"وبذلك" أي: إخبار المصطفى أن الملائكة غسلته، "تمسك من قال من العلماء" كالحنابلة: "أن الشهيد يغسل إذا كان جنبا".
والجواب عن الجمهور: أن تغسيل الملائكة إكرام له، وهو من أمور الآخرة لا يقاس عليه، ولم يثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه أمر بتغسيل أحد ممن استشهد جنبا، "وقتل علي رضي الله عنه طلحة بن أبي طلحة" عثمان، أخو شيبة بن عثمان، "صاحب لواء المشركين" أحد بني عبد الدار لما صاح: من يبارز؟ فبرز له علي، فقتله وهو كبش، أي: سيد الكتيبة، الذي رآه صلى الله عيه وسلم في رؤياه، هكذا ذكر ابن سعد وابن عائذ.
وعند ابن إسحاق: لما قتل مصعب بن عمير أعطى صلى الله عليه وسلم اللواء عليا.
قال ابن هشام: وحدثني مسلمة بن علقمة المازني، قال: لما اشتد القتال يوم أحد، جلس صلى الله عليه وسلم تحت راية الأنصار، وأرسل إلى علي أن قدم الراية، فتقدم وقال: أنا أبو القصم بالقاف والفاء" فناداه أبو سعد بن أبي طلحة، صاحب لواء المشركين: أن هل لك يا أبا القصم في البراز من حاجة؟، قال: نعم، فبرز بين الصفين، فاختلقا ضربتين، فضربه علي فصرعه، ثم انصرف عنه،(2/409)
ثم حمل لواءهم عثمان بن أبي طلحة، فحمل عليه حمزة رضي الله عنه فقطع يديه وكتفيه.
ثم أنزل الله نصره على المسلمين فحسوا الكفار بالسيوف حتى كشفوهم عن العسكر وكانت الهزيمة، فولى الكفار لا يلوون على شيء ونساؤهم يدعون بالويل، وتبعهم المسلمون حتى أجهضوهم. ووقعوا ينتهبون العسكر ويأخذون ما
__________
ولم يجهز عليه، فقال له أصحابه: "أفلا أجهزت عليه؟ قال: إنه استقبلني بعورته فعطفتني عليه الرحم، وعرفت أن الله قتله.
ويقال: إن أبا سعد بن أبي طلحة خرج بين الصفين فنادى: أين قاصم، من يبارز مرارا، فلم يخرج إليه أحد، فقال: يا أصحاب محمد، زعمتم أن قتلاكم في الجنة وأن قتلانا في النار، كذبتم واللات والعزى لو تعلمون ذلك حقا لخرج إلي بعضكم، فخرج إليه علي فقتله.
وقال ابن إسحاق: قتله سعد بن أبي وقاص، "ثم حمل لواءهم عثمان بن أبي طلحة" وهو يقول:
إن علي أهل اللواء حقا ... أن يخضبوا الصعدة أو تندقا
"فحمل عليه حمزة رضي الله عنه، فقطع يديه وكتفيه" أي: ثم مات.
زاد ابن سعد: ثم حمله أبو سعد بن أبي طلحة، فقتله سعد بن أبي وقاص، أي: أو علي كما رأيت، ثم حمله مسافع بن طلحة فرماه عاصم فقتله، ثم حمله الحارث بن طلحة فقتله عاصم، ثم حمله كلاب بن طلحة فقتله الزبير، ثم حمله الجلاس بن طلحة فقتله طلحة بن عبيد الله، ثم حمله أرطأة بن شرحبيل فقتله علي، ثم حمله شريح بن قارظ فلا يدرى قاتله، ثم حمله صواب غلامهم، فقيل: قتله علي، وقيل: سعد، وقيل: قزمان، وهو أثبت الأقاويل، انتهى.
وجزم به ابن إسحاق كما جزم، بأن قاتل أرطأة حمزة كما مر، "ثم أنزل الله نصره على المسلمين" وصدقهم وعده، "فحسوا الكفار" بفتح الحاء وضم السين مشددة المهملتين، أي: لاستأصلوهم قتلا "بالسيوف، حتى كشفوهم عن العسكر، وكانت" تامة، أي: وقعت "الهزيمة" لا شك فيها، "فولى الكفار لا يلوون"، يعرجون "على شيء ونساؤهم يدعون بالويل.
روى ابن إسحاق: عن الزبير قال: والل لقد رأيتني أنظر إلى خدم هند بنت عقبة وصواحبها مشمرات هوارب، ما دون أخذهن قليل، ولا كثير، وأصبنا أصحاب اللواء حتى ما يدنو منه أحد، "وتبعهم المسلمون حتى أجهضوهم،" بجيم وضاد معجمة.
قال البرهان: أي: نحوهم وأزالوهم، ووقعوا"، أي شرعا، "ينتهبون العسكر، ويأخذون ما(2/410)
فيه من الغنائم.
وفي البخاري: قال البراء: فقال أصحاب عبد الله بن جبير: أي قوم الغنيمة، ظهر أصحابكم فما تنتظرون، فقال عبد الله بن جبير: أنسيتم ما قال لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: والله لنأتين الناس فلنصيبن من الغنيمة، فلما أتوهم صرفت وجوههم، فأقبلوا منهزمين.
__________
فيه من الغنائم" واشتغلوا عن الحرب.
قال الزبير: فخلوا ظهورنا للخيل، فأتينا من خلفنا، وصرخ صارح: ألا إن محمدًا قد قتل، فانكفأنا وانكفأ علينا قوم.
قال ابن إسحاق، وحدثني بعض أهل العلم: أن اللواء لم يزل صريعا حتى أخذته عمرة بنت علقمة الحارثية، فرفعته لقريش، فلاثوا به، بمثلثة، أي: استداروا حوله. قال البرهان: ولا أعلم لها إسلاما، والظاهر هلاكها على دينها.
"وفي البخاري:" عقب ما قدم المصنف عنه قريبا، "قال البراء:" فأنا والله رأيت النساء يشتددن، قد بدت خلاخلهن وأسواقهن رافعات ثيابهن، "فقال أصحاب عبد الله بن جبير" وهم الرجالة، الغنيمة، "أي: قوم" أي: يا قوم، "الغنيمة" نصب على الإغراء فيهما، قاله المصنف "ظهر،" أي: غلب "أصحابكم" المؤمنون الكافرين، "فما تنتظرون؟ " أي: فأي شيء تنتظرون بعد ظفر أصحابكم وهزمهم العدو؟، "فقال عبد الله بن جبير:" إنكارا عليهم، "أنسيتم ما قال لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم".
وفي المغازي من البخاري، فقال عبد الله عهد إلي النبي صلى الله عليه وسلم أن لا تبرحوا فأبوا. "قالوا: والله لنأتين الناس فلنصيبن من الغنيمة".
وعند ابن سعد: وثبت أميرهم عبد الله بن جبير، في نفر يسير دون العشرة مكانه، وقال: لا أجاوز أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: لم يرد هذا، قد انهزم المشركون فما مقامنا ههنا، فانطلقوا يتبعون العسكر، وينتهبون معهم، وخلو الخيل، "فلما أتوهم صرفت وجوههم".
قال المصنف: أي: قلبت وحولت إلى الموضع الذي جاءوا منه، قال شيخنا: ولعل سببه أن المشركين كروا عليهم، "فأقبلوا" حال كونهم "منهزمين" عقوبة لهم لمخالفتهم قوله صلى الله عليه وسلم "لا تبرحوا".
قال الحافظ: وفيه شؤم ارتكاب النهي، وأنه يعم ضرره من لم يقع منه، كما قال تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} وأن من آثر دنياه أضر بأمر آخرته ولم تحصل له دنياه.(2/411)
وفي حديث عائشة رضي الله عنها عند البخاري أيضا: لما كان يوم أحد هزم المشركون هزيمة بينة، فصاح إبليس أي عباد الله أخراكم، فرجعت أولادهم فاجتلدت مع أخراهم.
وعند أحمد والحاكم من حديث ابن عباس: أنهم لما رجعوا اختلطوا بالمشركين والتبس العسكران فلم يتميزوا، فوقع القتل في المسلمين بعضهم في بعض.
وفي رواية غيرهما: ونظر خالد بن الوليد إلى خلاء الجبل وقلة أهله فكر بالخيل، وتبعه عكرمة بن أبي جهل فحملوا على من بقي من النفر الرماة
__________
"وفي حديث عائشة رضي الله عنها عند البخاري أيضا" أنها قالت: "لما كان يوم" وقعة "أحد، هزم المشركون هزيمة بينة" ظاهرة، "فصاح إبليس" وفي رواية: فصرخ إبليس، لعنة الله عليه، "أي: عباد الله" يعني المسلمين، "أخراكم".
قال الحافظ: أي: احترزوا من جهة أخراكم، وهي كلمة تقال لمن يخشى أن يؤتى عند القتال من ورائه. وكان ذلك لما ترك الرماة مكانهم، ودخلوا ينتهبون عسكر المشركين كما سبق، انتهى.
"فرجعت أولادهم فاجتلدت" بالجيم، اقتتلت، "مع أخراهم" هي رواية الكشميهني في المناقب ولغيره، فرجعت أخراهم على أولاهم فاجتلدت أخراهم. قال الدماميني: أي: وأولاهم، ففيه حذف عاطف ومعطوف، مثل سرابيل تقيكم الحر، أي: والبرد ومثله كثير.
وفي المغازي: فاجتلدت هي وأخراهم، أي: لظنهم أنهم من العدو، "وعند أحمد والحاكم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أنهم لما رجعوا، اختلطوا بالمشركين والتبس" اختلط "العسكران فلم يتميزوا" لشدة ما دهشهم، صاروا لا يعرفون المسلم من الكافر، وتركوا شعارهم الذي يتميزون به، وهو أمت أمت. قال الشامي: أمر بالموت، والمراد التفاؤل بالنصر، يعني الأمر بالإماتة مع حصول الغرض للشعار، فإنهم جعلوا هذه الكلمة علامة بينهم يتعارفون بها، انتهى.
"فوقع القتل في المسلمين بعضهم في بعض" فكان ممن قتلوه خطأ اليمان، والد حذيفة، فقال: غفر الله لكم وترك ديته لهم.
"وفي رواية غيرهما" يعني ابن سعد، "ونظر خالد بن الوليد" المخزومي، أسلم بعد الحديبية، وصحب وصار سيف الله صبه على المشركين، وسيأتي إن شاء الله تعالى في أمراء المصطفى، "إلى خلاء الجبل" بفتح الخاء والمد، "وقلة أهله" عطف سبب على مسبب، "فكر" رجع "بالخيل وتبعه عكمة بن أبي جهل، فحملوا على من بقي من النفر الرماة" الذين(2/412)
فقتلوهم وأميرهم عبد الله بن جبير.
وفي البخاري: أنهم لما اصطفوا للقتال، خرج سباع فقال: هل من مبارز، فخرج إليه حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه فشد عليه فكان كأمس الدابر، وكان وحشي كامنا تحت صخرة، فلما دنا منه رماه بحريته حتى خرجت من بين
__________
دون العشرة، "فقتلوهم، و" قتلوا "أميرهم عبد الله بن جبير" رضي الله عنهم.
"وفي البخاري" في حديث وحشي الطويل: "أنهم لما اصطفوا للقتال خرج سباع" بكسر المهملة بعدها موحدة خفيفة، ابن عبد العزى الخزاعي، الغبشاني بضم المعجمة، وسكون الموحدة، ثم معجمة، ذكر ابن إسحاق أن كنيته أبو نيار، بكسر النون وتخفيف التحتانية، وليس المراد أنه خرج في ابتداء الحرب؛ لأن حمزة قاتل قبله، وقتل عدة، وهذا آخر من قتله، بل المراد خرج في زمن اصطفاف القوم، "فقال: هل من مبارز؟ فخرج إليه حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه".
وللطيالسي: فإذا حمزة جمل أو رق، ما وقع له أحد إلا قمعه بالسيف، ولابن إسحاق: فجعل يهد الناس بسيفه، ولابن عائذ: رأيت رجلا إذ حمل لا يرجع حتى يهزمنا، فقلت: من هذا؟، قالوا: حمزة، فقلت: هذا حاجتي.
وفي البخاري، فقال: يا سباع، يابن أم أنمار، مقطعة البظور اتحاد الله ورسوله، "فشد" حمزة "عليه" على سباع، "فكان كأمس الذاهب".
قال الحافظ: كناية عن قتله، أي: صيره عدما، وفي رواية ابن إسحاق: فكأنما أخطأ رأسه، وهذا يقال عند المبالغة في الإصابة. "وكان وحشي" بن حرب الحبشي مولى جبير بن مطعم "كامنا" مختفيا، وهذا نقل بالمعنى، ولفظ البخاري قال: أي: وحشي، وكمنت لحمزة "تحت صخرة" لأن مولاه جبير أو عده بالعتق إن قتله، فصدر هذا الحديث عند البخاري. قال وحشي: إن حمزة قتل طعيمة بن عدي ببدر، فقال لي مولاي جبير بن مطعم: إن قتلت حمزة بعمي فأنت حر، فلما إن خرج الناس عام عينين، جبل بحيال أحد، بينه وبينه واد، خرجت مع الناس إلى القتال، فلما اصطفوا للقتال خرج سباع، فذكر ما نقله المصنف.
وفي رواية الطيالسي: فانطلقت يوم أحد معي حربتي وأنا رجل من الحبشة ألعب لعبهم، قال: وخرجت ما أريد أن أقتل، ولا أقاتل إلا حمزة.
وعند ابن إسحاق: وكان وحشي يقذف بالحربة قذف الحبشة قلما يخطئ، "فلما دنا منه رماه بحربته"، لفظ البخاري: فلما دنا مني رميته بحربتي فأضعها في ثنته، "حتى خرجت من بين(2/413)
وركيه وكان آخر العهد به. انتهى.
وكان مصعب بن عمير قاتل دون رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قتل، وكان الذي قتله ابن قمئة، وهو يظنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فصاح ابن قمئة أن محمدًا قد قتل. ويقال كان ذلك أزب العقبة،
__________
وركيه" وعند ابن عائذ: أنه كمن عند شجرة، وعند ابن أبي شيبة من مرسل عمير بن إسحاق: أن حمزة عثر، فانكشف الدرع عن بطنه، فرماه في ثنته، بضم المثلثة، وشد النون، أي: عانته، وقيل: ما بين السرة والعانة.
وللطيالسي: فجعلت ألوذ من حمزة بشجرة، ومعي حربتي حتى إذا استمكنت منه هززت الحربة حتى رضيت منها، ثم أرسلتها فوقعت بين ثندوتيه، وذهب ليقوم فلم يستطع، والثندوة بفتح المثلثة، وسكون النون وضم المهملة بعدها واو خفيفة هي من الرجل، موضع الثدي من المرأة، والذي في الصحيح أن الحربة أصابت ثنته أصح، انتهى من الفتح.
"وكان" ذلك، أي: الرمي بالحربة، "آخر العهد به" كناية عن موته رضي الله عنه، "انتهى" ما نقله من حديث الباري عن وحشي، وذكر في بقيته ضيق مكة والطائف عليه، لما فشا الإسلام ثم قدومه على المصطفى وإسلامه، وقوله: "غيب وجهك عني"، ثم مشاركته في قتل مسيلمة بتلك الحربة. "وكان مصعب بن عمير" الذي أطلق عبد الرحمن بن عوف أنه خير منه، كما في الصحيح. "قاتل دون رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قتل".
قال ابن سعد: وكان حامل اللواء فأخذه ملك في صورته، وعند غيره فلما قتل أعطى صلى الله عليه وسلم الراية عليا، "وكان الذي قتله ابن قمئة" بفتح القاف وكسر الميم بعدها همزة، واسمه عبد الله كما قاله ابن هشام، "وهو يظنه رسول الله صلى الله عليه وسلم" لأنه كان إذ لبس لامته يشبه النبي صلى الله عليه وسلم كما قال بعضهم، "فصاح ابن قمئة" لظنه الخائب ولله الحمد "أن محمدًا قد قتل".
روى ابن سعد، عن محمد بن شرحبيل: أن مصعبا حمل اللوء يوم أحد، فقطعت يده اليمنى، فأذه بيده اليسرى وهو يقول: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} [آل عمران: 144] الآية، ثم قطعت يده اليسرى فحتى على اللواء، أي: أكب عليه، وضمه بعضديه إلى صدره وهو يقول: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ} [آل عمران: 144] الآية.
قال محمد بن شرحبيل: وما نزلت هذه الآية يومئذ حتى نزلت بعد، "ويقال" وبه جزم ابن هشام، "كان ذلك" الصارخ بأن محمدا، قد قتل، "أزب" أي: عامر، "العقبة" وجاء في حديث مرفوع أنه صلى الله عليه وسلم قال: "هذا إزب العقبة".(2/414)
ويقال: إبليس لعنه الله تصور في صورة جعال.
وقال قائل: أي عباد الله أخراكم، أي: احترزوا من جهة أخراكم فعطف المسلمون يقتل بعضهم بعضا وهم لا يشعرون، وانهزمت طائفة منهم إلى جهة المدينة، وتفرق سائرهم، ووقع فيهم القتل.
__________
قال السهيلي: قيد هنا بكسر الهمزة، وسكون الزاي، وابن ماكولا قيده بفتح الهمزة. وحديث ابن الزبير يشهد للأول إذا رأى رجلا طوله شبران على برذعة رحله، فقال: ما أنت؟ قال: إزب، قال: ما إزب؟ قال: رجل من الجن، فضربه على رأسه بعود السوط حتى باض، أي: هرب.
وقال يعقوب بن السكيت في الألفاظ: الإزب القصير، فالله أعلم، أي الضبطين أصح هل الإزب والأزب شيطان واحد أو اثنان، انتهى. وظاهره سكون الزاي، وخفة الباء مع كسر الهمزة وفتحها، ومقتضى القاموس، أي: مفتوحها بفتح الزاي وشد الموحدة، وبعض المتأخرين جعلهما قولين.
"ويقال إبليس لعنه الله" كما جزم به ابن سعد، "تصور في صورة جعال"، ويقال له جعيل بن سراقة الضمري، أو الغفاري، أو الثعلبي. قال في الاستيعاب: وكان رجلا صالحا دميما أسلم قديما وشهد معه عليه السلام أحدًا، ويقال: إنه الذي تصور إبليس في صورته يوم أحد، انتهى. فصرخ ثلاث صرخات أن محمدا قد قتل ولم يشك فيه أنه حق، وكان جعال إلى جنب أبي بردة بن نيار، وخوات بن جبير يقاتل أشد القتال، ثم ليس هذا بخلاف محقق، فالثلاثة صاحوا ابن قمئة لظنه، والأزب وإبليس لمحاولة ما لم يصلا إليه.
"وقال قائل" هو إبليس لعنه الله، كما في البخاري، وقدمه المصنف قريبا، فنقله عن غيره عجب، "أي: عباد الله أخراكم، أي: احترزوا من جهة أخراكم".
قال المصنف: أي: احترزوا من الذين وراءكم متأخرين عنكم، وهي كلمة تقال لمن يخشى أن يؤتى عند القتال من ورائه، وغرض اللعين أن يغلطهم ليقتل المسلمون بعضهم بعضا، "فعطف" أي: رجع "المسلمون يقتل بعضهم بعضا وهم لا يشعرون" من العجلة والدهش، "وانهزمت طائفة" قليلة "منهم"، واستمروا "إلى جهة المدينة، وتفرق سائرهم ووقع فيهم القتل".
قال الحافظ: والواقع أنهم صاروا ثلاث فرق، فرقة استمروا في الهزيمة إلى قرب المدينة، فما رجعوا حتى انفض القتال وهم قليل، وهم الذين نزل فيهم: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ} [آل عمران: 155] ، وفرقة صاروا حيارى لما سمعوا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد قتل، فصارت غاية الواحد منهم أن يذب عن نفسه، أو يستمر على بصيرته في القتال إلى أن يقتل وهم أكثر(2/415)