ـ[شرح العلامة الزرقاني على المواهب اللدنية بالمنح المحمدية]ـ
المؤلف: أبو عبد الله محمد بن عبد الباقي بن يوسف بن أحمد بن شهاب الدين بن محمد الزرقاني المالكي (المتوفى: 1122هـ)
الناشر: دار الكتب العلمية
الطبعة: الأولى 1417هـ-1996م
عدد الأجزاء: 12
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي](/)
المجلد الأول
باب مقدمة
ترجمة شهاب الدين أحمد بن محمد القسطلاني مؤلف المواهب اللدنية
...
بسم الله الرحمن الرحيم
ترجمة شهاب الدين أحمد بن محمد القسطلاني 1 مؤلف المواهب اللدنية:
هو الحافظ شهاب الدين أبو العباس، أحمد بن محمد، بن أبي بكر، بن عبد الملك، بن أحمد، بن محمد، بن حسين، بن علي القسطلاني المصري الشافعي، الإمام العلامة، الحجة الرحالة، الفقيه المقرئ المسند.
قال السخاوي: مولده ثاني عشر ذي القعدة سنة إحدى وخمسين وثمانمائة بمصر، ونشأ بها وحفظ القرآن، وتلا السبع وحفظ الشاطبية والجزرية والوردية وغير ذلك، وذكر له عدة مشايخ منهم: الشيخ خالد الأزهري النحوي، والفخر المقدسي، والجلال البكري وغيرهم، وأنه قرأ صحيح البخاري في خمسة مجالس على الشاوي، وتلمذ له أيضًا, وأنه قرأ عليه أعني السخاوي بعض مؤلفاته، وأنه حج غير مرة، وجاور سنة أربع وثمانين وسنة أربع وتسعين، وأنه أخذ بمكة عن جماعة، منهم: النجم بن فهد، وولي مشيخة مقام سيدي الشيخ أحمد الحرار بالقرافة الصغرى، وعمل تأليفًا في مناقب الشيخ المذكور سماه نزهة الأبرار في مناقب الشيخ أبي العباس الحرار، وكان يعظ بالجامع العمري، وغيره ويجتمع عنده
__________
1 انظر ترجمته في السخاوي: الضوء اللامع 2/ 103-104، ابن العماد، شذرات الذهب 8/ 121-123، الغزي: الكواكب السائرة 1/ 126-127، العيدروسي: النور السافر 113-115، الشوكاني: البدر الطالع 1/ 102-103، الكناني: فهرس الفهارس 2/ 318-320، حاجي خليفة: كشف الظنون 69, 166, 366, 552, 558, 647, 867, 919, 960, 2090, 1232, 1235, 1236, 1235, 1519, 1534, 1551, 1552, 1568, 1662, 1663, 1688, 1799, 1847, 1869, 1938, 1965، العش: فهرس مخطوطات الظاهرية 6/ 58-60، البغدادي: إيضاح المكنون 2/ 484-684، سركيس: معجم المطبوعات العربية والمصرية 1511، كحالة: معجم المؤلفين 2/ 85.(1/3)
الجم الغفير، ولم يكن له نظير في الوعظ، وكتب بخطه شيئًا كثيرًا لنفسه ولغيره وأقرأ الطلبة وتعاطى الشهادة، ثم انجمع وأقبل على التأليف، وذكر من تصانيفه: العقود السنية في شرح المقدمة الجزرية، والكنز في وقف حمزة وهشام على الهمز، وشرحًا على الشاطبية زاد فيه زيادات ابن الجزري مع فوائد غريبة، وشرحًا على البردة سماه الأنوار المضية، وكتاب نفائس الأنفاس في الصحبة واللباس، والروض الزاهر في مناقب الشيخ عبد القادر، وتحفه السامع والقاري بختم صحيح البخاري ورسائل في العمل بالربع المجيب. انتهى ما ذكره السخاوي ملخصًا.
وقال في النور: ارتفع شأنه بعد ذلك فأعطي السعادة في قلمه وكَلِمِه، وصنف التصانيف المقبولة التي سارت بها الركبان في حياته، ومن أجلها شرح على صحيح البخاري مزجًا في عشرة أسفار كبار، لعله أجمع شروحه وأحسنها وألخصها، ومنها المواهب اللدنية بالمنح المحمدية، وهو كتاب جليل المقدار عظيم الواقع كثير النفع ليس له نظير في بابه، ويحكى أن الحافظ السيوطي كان يغض منه ويزعم أنه يأخذ من كتبه ويستمد منها ولا ينسب النقل إليها، وأنه ادعى عليه بذلك بين يدي شيخ الإسلام زكريا، فألزمه بيان مدعاه، فعدد مواضع قال: إنه نقل فيها عن البيهقي، وقال: إنه للبيهقي عدة مؤلفات فليذكر لنا ذكره في أي مؤلفاته لنعلم أنه نقل عن البيهقي، ولكنه رأى في مؤلفاتي ذلك النقل عن البيهقي فنقله برمته، وكان الواجب عليه أن يقول: نقل السيوطي عن البيهقي.
وحكى الشيخ جار الله بن فهد، أن الشيخ رحمه الله قصد إزالة ما في خاطر الجلال السيوطي، فمشى من القاهرة إلى الروضة إلى باب السيوطي ودق الباب فقال له: من أنت؟ فقال أنا القسطلاني جئت إليك حافيًا مكشوف الرأس ليطيب خاطرك عليّ، فقال له: قد طاب خاطري عليك، ولم يفتح له الباب ولم يقابله، قال في النور: وبالجملة فإنه كان إمامًا حافظًا متقنا جليل القدر، حسن التقرير والتحرير، لطيف الإشارة بليغ العبارة، حسن الجمع والتأليف، لطيف الترتيب والترصيف، زينة أهل عصره ونقاوة ذوي دهره، ولا يقدح فيه تحامل معاصريه عليه، فلا زالت الأكابر على هذا في كل عصر.
توفي في ليلة الجمعة سابع المحرم سنة ثلاث وعشرين وتسعمائة بالقاهرة(1/4)
ودفن بالمدرسة العينية جوار منزله، انتهى.
وقال في الكواكب: كان موته بعروض فالحج نشأ له من تأثره ببلوغه قطع رأس إبراهيم بن عطاء الله المكي، بحيث سقط عن دابته وأغمي عليه، فحمل إليه منزله ثم مات بعد أيام.(1/5)
التعريف بالمواهب اللدنية بالمنح المحمدية:
قال حاجي خليفة في كشف الظنون: المواهب اللدنية في السيرة النبوية في مجلد، للشيخ الإمام شهاب الدين أبي العباس، أحمد بن محمد القسطلاني المصري، المتوفى سنة 923 ثلاث وعشرين وتسعمائة، وهو كتاب جليل القدر كثير النفع ليس له نظير في بابه، رتبه على عشرة مقاصد:
الأول: في تشريف الله تعالى نبيه بسبق نبوته وطهارة نسبه وولادته ورضاعه ومغازيه وسراياه مرتبًا على السنين إلى وفاته عليه الصلاة والسلام.
الثاني: في أسمائه وأولاده وأزواجه وأعمامه وخدمه.
الثالث: فيما منحه الله تعالى من كمال خلقته؛ وفيه ثلاثة فصول.
الرابع: في معجزاته وخصائصه.
الخامس: في خصائص المعراج.
السادس: فيما ورد من آي التنزيل في رفعة ذكره.
السابع: في وجوب محبته واتباع سنته.
الثامن: في طبه وتعبيره الرؤيا.
التاسع: في لطيفه من حقائق عباداته.
العاشر: في إتمامه سبحانه وتعالى نعمته عليه بوفاته, وفيه ثلاثة فصول.
وذكر في كشف الظنون عن القسطلاني أنه فرغ من تأليفه في شوال سنة 898 ثمان وتسعين وثمانمائة ومن تبييضه في شعبان سنة 899 تسع وتسعين وثمانمائة.
وقال الغزي في الكواكب: وأقام عند النبي -صلى الله عليه وسلم- فحصل له جذب فصنف(1/6)
المواهب اللدنية لما صحا ... وقال: وكان له اعتقاد تام في الصوفية وأكثر في المواهب من الاستشهاد بكلام سيد وفا ... واختار مذهب مالك -رضي الله عنه- في تفضيل المدينة على مكة؛ قلت: -أي الغزي- وأول دليل على قبول أعماله وإخلاصه في تأليفه، عناية الناس بكتابه المواهب اللدنية، ومغالاتهم في ثمنه مع قلة الرغبات. ا. هـ. وفي كشف الظنون، ترجمه المولى الفاضل عبد الباقي بن ... 1 الشاعر الرومي المشهور أحسن ترجمة وسماه معالم اليقين2، وتوفي سنة 1088هـ.
وعلى المواهب حاشية لمولانا نور الدين على القاري المكي المشهور المتوفى سنة 1014 أربع عشر وألف.
وللعلامة لالشيخ إبراهيم بن محمد الميموني المصري الشافعي المتوفى سنة 1079 تسع وسبعين وألف، حاشية أيضًا.
وشرح المواهب المولى العلامة خاتمة المحدثين محمد بن عبد الباقي بن يوسف الزرقاني المصري المالكي، المتوفى سنة 1122 اثنتين وعشرين ومائة وألف، شرحًا حافلا في أربع مجلدات، جمع فيه أكثر الأحاديث المروية في شمائل المصطفى -صلى الله عليه وسلم- وسيره وصفاته الشريفة جزاه الله خيرًا ورحمه رحمة واسعة.
وللشيخ أبي الضياء علي بن علي الشبراملسي المتوفى سنة 1087 سبع وثمانين، وألف حاشية على المواهب في خمس مجلدات ضخام، نقلها الأميني في خلاصة السير.
__________
1 كذا في المطبوع من كشف الظنون.
2 أي أن المؤلف ترجم المواهب إلى الرومية حسب ما يظهر أو شرحه. ا. هـ.(1/7)
ترجمة الزرقاني شارح المواهب:
هو محمد الزرقاني بن عبد الباقي بن يوسف بن أحمد بن علوان المصري، الأزهري المالكي، الشهير بالزرقاني الإمام المحدث، الناسك النحرير، الفقيه العلامة. وقال الزركلي أبو عبد الله: خاتمة المحدثين بالديار المصرية، مولده ووفاته بالقاهرة، ونسبته إلى زرقان من قرى منوف بمصر. وقال كحالة: محدث فقيه أصولي.
أخذ عن والده، وعن النور علي الشبراملسي، وعن الشيخ محمد البابلي وغيرهم، كما أخذ عن الشيخ محمد خليل العجلوني الدمشقي والجمال عبد الله الشبراوي:
وله من المؤلفات:
- شرح على الموطأ. ذكره كحالة1 باسم: أبهج المسالك بشرح موطأ الإمام مالك.
- شرح على المواهب اللدنية. قال سركيس: وهو شرح حافل جمع فيه أكثر الأحاديث المروية في شمائل المصطفى وسيره وصفاته الشريفة.
- وذكره كحالة2 باسم: إشراق مصابيح السيرة المحمدية بمزج أسرار المواهب اللدنية.
- شرح المنظومة البيقونية.
- مختصر3 المقاصد الحسنة في الأحاديث المشتهرة.
- وصول الأماني في الحديث.
__________
1 ذكر الزركلي في الأعلام 6/ 184: تلخيص المقاصد الحسنة.
2 انظر معجم المؤلفين 10/ 124.
3 مصادر ترجمته: معجم المؤلفين 10/ 124، الجبرتي: عجائب الآثار 1/ 69، المرادي: سلك الدرر 4/ 32-33، الكناني: فهرس الفهارس 1/ 342-343، البغدادي: هدية العارفين 2/ 311، الزركلي: الأعلام 6/ 184.(1/8)
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة:
الحمد لله الذي جعلنا خير أمة أخرجت للناس، ورفع منابر تشريفنا على منابر صفحات الدهور ثابتة الأساس، ووضع عنا الإصر والأغلال، ومنعنا الاجتماع على الضلال، وقدمنا تقديم البسملة في القرطاس، فنحن الآخرون السابقون تبجيلًا وتكريمًا لمن أرسله فينا رؤوفًا رحيمًا، فأقام دعائم الدين بعد طول تناس؛ وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، تعالى عما يقول الظالمون الأرجاس، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده وسوله، وحبيبه وخليله، الأمين المأمون الطيب الأنفاس، ألا وهو أجل من أن يحيط به وصف، وأشرف من أن يضم جواهره نظم أو وصف، زكي المنابت، طيب الأغراس، أضاءت قبل كونه وإرهاصاته المقباس، وأزهرت في حمله وولادته ورضاعه زهراءي، اقتبس منها النبراس، وأشرقت أعلام نبوته، ولمعت لوامع براهين رسالته، فشيدت منار الهدى بعدما كان في إبلاس، وبهر بالآيات البينات، فشق له البدر في دجى الأغلاس، وغلب بمعجزات بدروها في التمام، وجواهرها تروق في الترصيع والانتظام، ورياضها تتأرج بنسمات سماته، وتنشق عن نور زهر شمائله، ونور زهر صفاته التي كل عن إحصاء راموزها المقياس؛ صلى الله وسلم عليه وعلى إخوانه من الأنبياء والمرسلين, وعلى آله وصحابته وأزواجه وذريته الطيبين الطاهرين الأكياس، الناهضين بأعباء المناقب، في علياء المناصب، البالغين في نصر الدين, النجوم الثواقب، الهادين من الكفر الجبال الرواس، حتى نسفوها نسفًا، وحكموا بالعدل وأقاموا القسطاس.
أما بعد: فهذا الكتاب لم يطلبه مني طالب، ولا رغب إلي من تصنيفه راغب، وإنما تطلبت نفسي فيه مزج المواهب، فأودعته نفائس بها يتنافس في شرح السنة النبوية، وعرائس استجليتها من مخدرات خدور السيرة المحمدية، وجواهر استخرجتها من قاموس الحكم المصطفوية، وزواهر اقتبستها من أرقعة السيرة الهاشمية، وزهور اجتثيتها من جنات وجنات الروضة المدنية، يبهر من عقد نظامها الناظر، وينادي من أي هذا القاصر، فيجيبه حال اللسان الوهاب، قوي قادر، أما العيوب وإن كثرت، فما لا سبيل إلى السلامة منها لغير المعصوم، وقد قال:
من ذا الذي ما ساء قط ... ومن له الحسنى فقط
وقد قال ابن عبدوس النيسابوري: لا أعلم في الدنيا كتابًا سلم إلى مؤلفه ولم يتبعه من يليه، فكيف وفهمي فاتر، ونظري قاصر، ووجودي في الزمان الآخر مع ما أقاسيه من تلاطم أمواج(1/9)
الهموم وأقلامه من ترادف جيوش الغموم، لكني أنتظر الفرج من الحي القيوم، مستعيذًا به من حسود ظلوم، والله أسال العون على إتمامه، والتوفيق من امتنانه وهو حسبنا ونعم الوكيل.
هذا؛ وجامعه الحقير الفاني، محمد بن عبد الباقي الزرقاني، قد أخذ الكتاب رواية ودراية, عن علامة الدنيا؛ الآخذ من بحار التحقيق بالغايتين: القصوى والدنيا، الأصول النحوي النظار الفقيه النحرير الجهبذ الفهامة النبيه الشيخ علي الشمرلسي شيخ الإسلام، فسح الله له وأدام به نفع الأنام. وكم بحمد الله صغى لي وسمع ما أقول وكتب أنقالي وحثني على إحضار ما أراه من النقول، إذا رأى ملالي، ولم أزل عنده من نعم الله بالمحل الأرفع العالي، والله يعلم أني لم أقل ذلك للفخر، وأي فخر لمن لا يعلم ما حاله في القبر، بل امتثالا للأمر بالتحدث بالنعمة، كشف الله عنا كل غمة، بحق روايته له عن شيخ الإسلام أحمد بن خليل السبكي، إجازة عن السيد يوسف الأرميوني عن المؤلف، وعن البرهان إبراهيم اللقاني، عن العرافين المحمدين: البنوفري, وابن الترجمان، عن العارف الشعراني، عن مؤلفها، وعن الفقيه النور الأجهوري, عن البدر القرافي والبنوفري، عن عبد الرحمن الأجهوري، عن مؤلفه. وقد وضع عليه حال القراءة، هاتيك الحاشية الرقيقة، الحاوية لجواهر أبحاثه الدقيقة، وبدور الأنقال الأنيقة. وهو مرادي بشيخنا في الإطلاق، وربما عبرت عنه بالشارح لغرض صحيح لدى الحذاق.
ح وأخبرنا به إجازة أبو عبد الله الحافظ محمد العلائي البابلي، قال: أخبرنا بها سماعًا لبعضها وإجازة لباقيها، شيخ الإسلام علي الزيادي, عن قطب الوجود أبي الحسن البكري، عن مؤلفها وهو أحمد بن محمد بن أبي بكر بن عبد الملك بن أحمد القسطلاني القتيبي المصري الشافعي، ولد كما ذكره شيخه الحافظ السخاوي، في الضوء بمصر عشر ذي القعدة سنة إحدى وخمسين وثمانمائة، وأخذ عن الشهاب العبادي، والبرهان العجلوني والفخر لمقدسي، والشيخ خالد الأزهري النحوي، والسخاوي وغيرهم.
وقرأ البخاري على الشهاوي في خمسة مجالس وحج مرارًا، وجاور بمكة مرتين وروى عن جمع منهم النجم بن فهد، وكان يعظ بالعمري وغيره الجم الغفير، ولم يكن له في الوعظ نظيرًا انتهى. وتوفي ليلة الجمعة بالقاهرة، سابع محرم سنة ثلاث وعشرين وتسعمائة، وصلي عليه بعد صلاة الجمعة بالأزهر، ودفن بمدرسة العيني، وله عدة مؤلفات أعظمها هذه المواهب اللدنية، التي أشرقت من سطورها أنوار الأبهة والجلالة، وقطرت من أديمها ألفاظ النبوة والرسالة، أحسن فيها ترتيبًا وصنعًا، وأحكمها ترصيعًا، وكساه الله فيها رداء القبول، ففاقت على كثير مما سواها عند ذوي العقول.(1/10)
شرح مقدمة المواهب
مدخل
...
بسم الله الرحمن الرحيم
شرح مقدمة المواهب:
__________
قال رحمه الله: "بسم الله الرحمن الرحيم" بدأ بها عملا بقوله -صلى الله عليه وسلم: "كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم، فهو أقطع". رواه الخطيب وغيره من حديث أبي هريرة وأصله في سنن أبي داود، وابن ماجه، والنسائي في عمل يوم وليلة، وابن حبان في صحيحه، بلفظ بالحمد، وفي لفظ أبتر، وآخر أجذم بجيم وذال معجمة، تشبيه بليغ في العيب المنفر.
واقتداء بأشرف الكتب السماوية، فإن العلماء متفقون على استحباب ابتدائه بالبسلمة في غير الصلاة وإن لم يقل بأنها منه، كما قاله الخطاب، فسقط اعتراض مالكي على من قال ذلك من المالكية، والأصح أنها بهذه الألفاظ العربية، على هذا الترتيب من خصائص المصطفى وأمته المحمدية، مما في سورة النمل جاء على جهة الترجمة عما في ذلك الكتاب، فإنه لم يكن عربيًا، كما أتقنه بعض المحققين وعند الطبراني عن بريدة رفعه: "أنزل عليّ آية لم ينزل على نبي بعد سليمان غيري {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 1] ".
وحديث: " {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} كل كتاب"، رواه الخطيب في الجامع معضلا فيه وجهان أحدهما: لفظ البسملة قد افتتح به كل كتاب من الكتب السماوية المنزلة على الأنبياء، والثاني: إن حقها أن تكون في مفتتح كل كتاب، استعانة وتيمنا بها وهذا أقرب، وإن زعم أن المتبادر الأول، فلا ينافي الخصوصية، ولئن سلم فهو معضل لا حجة فيه.
وفي الاسم لغات معلومة، وفي أنه عين المسمى أو غيره كلام سيجيء إن شاء الله تعالى في أول المقصد الثاني، وإضافته إلى الله من إضافة العام للخاص كخاتم حديد، واتفق على أنه أعرف المعارف، وإن كان علمًا انفرد به سبحانه فقال: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم: 65] وهو عربي، ونطق غير العرب به من توافق اللغات، مرتجل جامد عند المحققين وقيل مشتق، وعليه جمهور النحاة وهو اسم الله العظيم، كما قاله جماعة، لأنه الأصل في الأسماء الحسنى، لأن سائر الأسماء تضاف إليه، وعدم إجابة الدعاء به لكثير, لفقد شروط الدعاء التي منها أكل الحلال البحت وحفظ اللسان والفرج.
والرحمن المبالغ في الرحمة والإنعام، صفة الله تعالى؛ وعورض بوروده غير تابع لاسم قبله. قال تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] , {الرَّحْمَنُ، عَلَّمَ الْقُرْآنَ} [الرحمن: 1/ 2] ، وأجيب بأنه وصف يراد به الثناء، وقيل عطف بيان، ورده السهيلي، بأن اسم الجلالة الشريفة غير مفتقر، لأنه أعرف المعارف كلها؛ ولذا قالوا: "وما الرحمن"، ولم يقولوا: وما الله.
والرحيم: فعيل, حول من فاعل للمبالغة، والاسمان مشتقان من الرحمة، وقرن بينهما(1/11)
الحمد لله................................................................
__________
للمناسبة، ومعناهما واحد عند المحققين، إلا أن الرحمن مختص به تعالى، ولذا قدم على الرحيم لأنه صار كالعلم من حيث إنه لا يوصف به غيره, وقول بني حنيفة في مسيلمة: رحمان اليمامة، وقول شاعرهم: لا زلت رحمانا. عنت في الكفر أو شاذ، أو المختص بالله تعالى، أو المعرف باللام، فالرحمن خاص لفظًا لحرمة إطلاقه على غير الله، عام معنى من حيث إنه يشمل جميع الموجودات، والرحيم عام من حيث الاشتراك في التسمي به خاص معنى لرجوعه إلى اللطف والتوفيق، وقد قال -صلى الله عليه وسلم: "الله رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما". رواه الحاكم. وقيل: اسم الله الأعظم هو الأسماء الثلاثة: الله الرحمن الرحيم.
وروى الحاكم في المستدرك وصححه عن ابن عباس، أن عثمان بن عفان سأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم عن: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} فقال: "هو اسم من أسماء الله تعالى، وما بينه وبين اسم الله الأكبر إلا كما بين سواد العين وبياضها من القرب". ولكون الحمد من أفرادها اقتصر عليها إمامنا في الموطأ والبخاري وأبو داود، ومن لا يحصى، وأيده الحافظ بأن أول ما نزل: {قْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق: 1] ، فطريق التأسي به الافتتاح بها والاقتصار عليها، وبأن كتبه -صلى الله عليه وسلم- إلى الملوك وغيرهم مفتتحة بها دون حمدلة وغيرها، لكن المصنف كالأكثر أردفها به، لأن المقتصر عليها لا يسمى حامدًا عرفًا، فقال: "الحمد لله" وللاقتداء بالكتاب العزيز ولقوله -صلى الله عليه وسلم: "إن الله عز وجل يحب أن يحمد"، رواه الطبراني وغيره.
وروى الشيخان وغيرهما مرفوعًا: لا أحد أحب إليه الحمد من الله عز وجل، وقوله -صلى الله عليه وسلم: "فإن الله يحب الحمد يحمد به ليثيب حامده، وجعل الحمد لنفسه ذكرًا ولعباده ذخرًا". رواه الديلمي عن الأسود بن سريع. وقوله -صلى الله عليه وسلم: "كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد لله فهو أقطع". رواه أبو داود وابن ماجه وغيرهما، وصححه ابن حبان وأبو عوانة، وإن كان في سنده قرة بن عبد الرحمن تكلم فيه، لأنه لم ينفرد به، بل تابعه سعيد بن عبد العزيز، وأخرجه النسائي. وفي رواية أحمد: لا يفتتح بذكر الله فهو أبتر أو أقطع. تشبيه بليغ في العيب المنفر بحذف الأداة والأصل هو كالأبتر أو الأقطع في عدم حصول المقصود منه، أو استعارة ولا يضر الجمع فيه بين المشبه والمشبه به، لأن امتناعه إذا كان على وجه ينبئ عن التشبيه لا مطلقًا للتصريح بكونه استعارة في نحو:
قد زر ازراره على القمر
على أن المشبه في هذا التركيب محذوف، والأصل هو ناقص، كالأقطع، فحذف المشبه وهو الناقص وعبر عنه باسم المشبه به، فصار المراد من الأقطع الناقص، وعليه فلا جمع بين(1/12)
الذي أطلع في سماء الأزل شمس أنوار معارف النبوة المحمدية، وأشرق من أفق أسرار مظاهر الرسالة تجلي صفات.................................................
__________
الطرفين بل المذكور اسم المشبه به فقط.
"الذي أطلع" نعت لله، والجملة الفعلية صلة الموصول، وهو وصلته كالشيء الواحد، وهما في معنى المشتق؛ لأن الصلة هي التي حصلت بها الفائدة، وترتيب الحكم على المشتق يؤذن بعلية ما منه الاشتقاق، فكأنه قال الاطلاع إلى آخره، فيكون حمده تعالى لذاته ولصفاته فهو واجب، أي يثاب عليه ثوابه لا أنه يأثم بتركه لا لفظًا ولا نية. وقد قام البرهان عقلا ونقلا على وجوب حمده سبحانه، لأن شكر المنعم واجب به للآيات والأخبار الآمرة بالتدبر الموجبة للتفكر, وهو سبحانه وتعالى، قد أفاض نعمه على كل موجود ظاهره وباطنه وإن كان قد فاوت بينهم فيها، ولذا قيل: نعمتان ما خلا موجود عنهما: نعمة الإيجاد، ونعمة الإمداد.
"في سماء الأزل،" بالتحريك القدم؛ فهو استعارة بالكناية شبه الأزل من حيث وجوده قبل العالم بمكان يعلوه سماء، وأثبت له السماء استعارة تخييلية، والسماء المظلة للأرض. قال بن الأنباري: تذكر وتؤنث، وقال الفراء: التذكير قليل، وهو على السقف وكأنه جمع سماوة كسحاب، وسحابة وجمعت على سموات.
"شمس الأنوار:" جمع نور، أي: أضواء.
"معارف النبوة المحمدية،" ولكونها قبل العالم عبر باطلع المشعر بأنها لم تكن موجودة، ثم كانت لانتفاء القدم لغير الباري، ثم بعد وجوده وإشراقه، بمظاهر الصفات، وهي كائنة في عالم المشاهدة عبر بالإشراق الذي هو الإضاءة لهذا العالم، فقال: "وأشرق" أي: أضاء، وهو لازم؛ كما قال تعالى: {وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا} ويعد في كلام المولدين حملا على أضاء، لأنه بمعناه والشيء يحمل على نظيره وضده. وأضاء جاء متعديًا وازمًا بتضمين معناه، أو بمعنى التصيير كما قيل به في ثلاثة: تشرق الدنيا ببهجتها، واستعماله مزيدًا أكثر، وثبت ثلاثية، فقيل هما بمعنى، وقيل أشرقت: أضاءت، وشرقت، طلعت.
"من أفق" بضم فسكون وبضمتين؛ كما في القاموس وغيره، أي: ناحية.
"أسرار مظاهر الرسالة" جمع مظهر، اسم موضع الظهور، وقال في لطائف الأعلام: الأفق في اصطلاح القوم، يكنى به عن الغاية التي ينتهي إليها سلوك المقربين، وكل من حصل منهم إلى الله على مرتبة قرب إليه، فتلك المرتبة هي أفقه ومعراجه.
"تجلي الصفات" هو عند الصوفية ما يكون مبدؤه من الصفات، من حيث تعيينها وامتيازها عن الذات، كذا في التوقيف. وقال صاحب لطائف الأعلام في إشارات أهل الإلهام،(1/13)
الأحمدية، أحمده على أن وضع أساس نبوته على سوابق أزليته، ورفع دعائم رسالته
__________
يعنون بالتجلي تجريد القوى والصفات عن نسبتها إلى الخلق بإضافتها إلى الحق، وذلك أن العبد إذا تحقق بالفقر الحقيقي، وهو انتفاء الملك بشهود العز له تعالى، صار قبلة للتجلي الصفاتي، بحيث يصير هذا القلب التقي النقي مرآة ومجلى للتجلي الوحداني الصفاتي الشامل حكمه لجميع القوى والمدارك، كما إليه الإشارة بالحديث القدسي: "فإذا أحببته كنت سمعه" الحديث، وأطال في بيان ذلك.
"الأحمدية" المنسوبة إلى أحمد -صلى الله عليه وسلم- وهو اسم لم يتسم به أحد قبله، قال الحافظ: والمشهور أن: "أول من سمي به بعده -صلى الله عليه وسلم- والد الخليل بن أحمد". لكن زعم الواقدي أنه كان لجعفر بن أبي طالب ابن اسمه أحمد. وحكى ابن فتحون في ذيل الاستيعاب أن اسم أبي حفص بن المغيرة الصحابي أحمد، ويقال في والد أبي السفر أن اسمه أحمد. قال الترمذي: أبو السفر هو سعيد بن يحمد، ويقال: ابن أحمد، انتهى.
"أحمده على أن وضع أساس" أصل "نبوته"، أي: النبي المفهوم من نبوة أو نبوة محمد -صلى الله عليه وسلم- المستفاد من المحمدية "على سوابق أزليته"، أي: على الأمور التي اعتبرها في الأزل سابقة على غيرها. قال محمد بن أبي بكر بن عبد القادر الرازي: "وليس هو الفخر" صاحب التفسير في كتابه -مختار الصحاح- الأزل: القدم يقال أزلي: ذكر بعض أهل العلم أن أصل هذه الكلمة قولهم للقديم لم يزل، ثم نسب إلى هذا فلم يستقم الأب باختصار، فقالوا: يزلي ثم أبدلت الباء ألفًا؛ لأنها أخف، فقالوا: أزلي، كما قالوا في الرمح المنسوب إلى ذي يزن أزني.
"ورفع دعائم رسالته" أي: المعجزات عبر عنها بذلك لمشابهتها لها في إثبات رسالته وتقويتها، كتقوية الجدار بما يدعم به، ثم هو استعارة تصريحية شبه المعجزات بالدعائم واستعار اسمها لها، أو مكنية شبه الرسالة المؤيدة، بالمعجزة ببيت مشيد الأركان مدعم بما يمنع تطرق الخلل له، وأثبت الدعائم تخييلا، ولم تزل البلغاء تستعير الدعائم، كقول ابن زيدون:
أين البناء الذي أرسوا قواعده ... على دعائم من عز ومن ظفر
ويقال للسيد في قومه: هو دعامة القوم، كما يقال: هو عمادهم، قال الراغب الرسالة سفارة العبد بين الله وبين خلقه. وقيل: إزاحة علل ذوي العقول فيما تقصر عنه عقولهم من مصالح المعاش والمعاد، وجمع بعض المحققين بينهما، "فقال سفارة بين الله وبين ذوي الألباب لإزاحة عللهم فيما يحتاجونه من مصالح الدراين" وهذا حد كامل جامع بين المبدأ المقصود بالرسالة(1/14)
على لواحق أبديته.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الفرد المنفرد في فردانيته بالعظمة والجلال.................
__________
وهي الخصوصية، وبين منتهاها وهو إزاحة عللهم، انتهى.
"على لواحق أبديته"، أي: دهوره التي لا انقضاء لها؛ فالأبد الدهر الذي لا نهاية له أو الدهر، وعبر هنا بلواحق، لأنه محل المعجزات وهي إنما تكون بعد وجوده في ذا العالم، فناسب أن تكون على الأمور اللاحقة الخارقة للعادة. وفيما قيل بسوابق؛ لأنه مظهر لأساس النبوة وهو معتبر قبل وجود العالم.
"وأشهد" أقر وأعلم وأبين، والشهادة الإخبار عن أمر متيقن قطعًا، "أن لا إله إلا الله" لا معبود بحق، إلا الله، أتى به لخبر أبي داود والترمذي والبيهقي، وصححه مرفوعًا، كل خطبة ليس فيها تشهد فهي كاليد الجذماء، أي: القليلة البركة، وأن المخففة من الثقيلة لا الناصبة للفعل إذ لا فعل هنا، ولأن أشهد من أفعال اليقين فيجب أن يكون بعدها أن المؤكدة لتناسب اليقين.
"وحده:" نصب على الحال بمعنى متوخذًا، وهو توكيد لتوحيد الذات. "لا شريك" لا مشارك "له" تأكيدًا لتوحيد الأفعال ردًا على نحو المعتزلة. وقد روى مالك وغيره مرفوعًا: "أفضل ما قلته أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله وحده لا شريك له".
"الفرد:" قال الراغب: الفرد الذي لا يختلط بغيره، وهو أعم من الوتر وأخص من الواحد، وجمعه فرادى. قال تعالى: {لا تَذَرْنِي فَرْدًا} [الأنبياء: 89] أي: وحيدًا. ويقال في الله فرد تنبيها على أنه مخالف للأشياء كلها في الازدواج، المنبه عليها بقوله تعالى: {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ} [الذاريات: 49] ، معناه أنه المستغني عما عداه، فهو كقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [العنكبت: 6] ، فإذا قيل هو فرد فمعناه منفرد بوحدانيته، مستغن عن كل تركيب مخالف للموجودات كلها.
"المنفرد" من باب الانفعال للمطاوعة، والمراد بدون صنع بل بذاته، وإطلاقه على الله، إما لثبوته كما يشعر به كلامهم، أو للاكتفاء بورود ما يشاركه في مادته ومعناه، أو بناء على جواز إطلاق ما لا يوهم نقصًا مطلقًا، أو على سبيل التوصيف دون التسمية كما ذهب إليه الغزالي.
"في فرادنيته بالعظمة والجلال" مرادف، فجلال الله: عظمته، والعظمة هي جلاله وكبرياؤه. لكن قال الرازي: الجليل الكامل في الصفات، والكبير الكامل في الذات، والعظيم الكامل فيهما. فالجليل يفيد كمال الصفات السلبية والثبوتية. وقد ذهب الأصمعي إلى أن(1/15)
الواحد المتوحد في وحدانيته باستحقاق الكمال، وأشهد أن سيدنا وحبيبنا محمدًا عبده ورسوله...................................
__________
الجلال لا يوصف به غير الله لغة. وأكثر اللغوين على خلافه، وأنه يوصف به غيره، كقوله:
ألمم على أرض تقادم عهدها ... بالجذع واستلب الزمان جلالها
وكقول هدبة:
فلا ذا جلال هبنه لجلاله ... ولا ذا ضياع هن يتركن للعقد
"الواحد" في ذاته وصفاته وأفعاله، من الأسماء الحسنى؛ كما في رواية الترمذي، وفي رواية ابن ماجه: الأحد. قال الأزهري: الفرق بينهما أن الأحد بني لنفي ما يذكر معه من العدد، تقول: ما جاءني أحد، والواحد اسم بني لمفتتح العدد، ما جاءني واحد من الناس، ولا تقول: جاءني أحد، فالواحد منفرد بالذات في عدم المثل والنظير والأحد منفرد بالمعنى. وقال غيره: الأحد الذي ليس بمنقسم ولا متحيز، فهو اسم لمعنى الذات فيه سلب الكثرة عن ذاته، والواحد وصف لذاته فيه سلب النظير والشريك عنه، فافترقا. وقال السهيلي: أحد أبلغ وأعم، ألا ترى أن ما في الدار أحد، أعم وأبلغ من ما فيها واحد, وقال بعضهم: قد يقال: إنه الواحد في ذاته وصفاته وأفعاله، والأحد في وحدانيته إذ لا يقبل التغيير ولا التشبيه بحال.
"المتوحد" فيه ما مر في المنفرد ولو أبدله بالأحد لكان فيه تلميح بالروايتين. "في وحدانيته باستحقاق الكمال" إذ الكمال الخالص المطلق ليس إلا له فلا يتغير سبحانه وتعالى.
ولما كان الواسطة في وصول الفيض من الله إلينا هو النبي -صلى الله عليه وسلم- وتطابق العقل والنقل على وجوب شكر المنعم عقب الشهادة لله، بالشهادة لرسوله، فقال: "وأشهد أن سيدنا وحبيبنا" طبعًا وشرعًا لحب الله "محمدًا عبده ورسوله" -صلى الله عليه وسلم- ولدخوله في قوله: "كل خطبة ... "، الحديث. قال تعالى: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح: 4] أي: لا أذكر إلا وتذكر معي، كما ورد مفسرًا عن جبريل عن الله تعالى.
والمصطفى هو الذي علمنا شكر المنعم، وكان السبب في كمال هذا النوع إذ لا بد من القابل والمفيد، وأجسامنا في غاية الكدورة وصفات الباري في غاية العلو والصفاء والضياء.
فاقتضت الحكمة الإلهية توسط ذي جهتين تكون له صفات عالية جدًا وهو من جنس البشر ليقبل عن الله بصفاته الكمالية، وتقبل عنه بصفاته البشرية، فلذا استوجب قرن شكره بشكره؛ و"محمدًا" عطف بيان لا صفة لتصريحهم بأن العلم ينعت ولا ينعت به، ولا بدل؛ لأن البدلية وإن جوزت في {ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا} ، لكن القصد الأصلي، هنا إيضاح الصفة السابقة وتقرير النسبة تبع، والبدلية تستدعي العكس، وقدم العبودية المضافة لله، لكونها أشرف أوصافه(1/16)
أشرف نوع الإنسان، وإنسان عيون الأعيان، المستخلص من خالص خلاصة ولد عدنان، الممنوح ببدائع الآيات، والمخصوص بعموم الرسالة وغرائب المعجزات، السر الجامع الفرقاني، والمخصص بمواهب القرب من النوع الإنساني، مورد الحقائق الأزلية ومصدرها، وجامع جوامع مفرداتها ومنبرها، وخطيبها إذا حضر في حظائر......................
__________
وله بها كمال اختصاص، ولأن العبد يتكفله مولاه بإصلاح شأنه، والرسول يتكفل لمولاه بإصلاح شأن الأمة، وكم بينهما، وإيماء إلى أن النبوة وهبية، ولأن العبودية في الرسول لكونها انصرافًا من الخلق إلى الحق أجل من رسالته؛ لكونها بالعكس.
"أشرف" أفراد "نوع الإنسان" ذاتا وصفات والإضافة بيانية؛ "وإنسان" أي حدقة "عيون الأعيان المستخلص" المنتخب "من خالص خلاصة" قال في المصباح خلاصة الشيء بالضم ما صفا منه، مأخوذ من خلاصته السمن، وهو ما يلقى فيه تمر أو سويق ليخلص به من بقايا اللبن، انتهى.
"ولد" بفتحتين وبضم فسكون يكون واحدا وجمعا "عدنان" أحد أجداده "الممنوح" المخصوص، وأصل المنحة العطية، ويتعدى بنفسه وضمنه هنا بمعنى المخصوص فعداه بالباء في قوله: "ببدائع الآيات" جمع آية، ولها معان منها العلامة الدالة على نبوته -صلى الله عليه وسلم, "المخصوص بعموم الرسالة" للعالمين، ومنهم الملائكة على ما رجحه جمع محققون، وردوا على من حكى الإجماع على انفكاكهم عن شرعه، بل زاد بعضهم والجمادات كما سيأتي إن شاء الله تعالى تفصيله في محله.
"وغرائب المعجزات" من إضافة الصفة للموصوف، والآية والمعجزة مشتركان في الدلالة على صدقه، لكن الآية أعم؛ لأنه لا يشترط فيها مقارنة النبوة، والتحدي، فكل معجزة آية ولا عكس. فشق صدره وتسليم الحجر عليه قبل البعثة ونحوه آية لا معجزة؛ "السر الجامع" بين ما تفرقه في غيره وبين الحكم بالظاهر والباطن والشريعة والحقيقة، ولم يكن للأنبياء إلا أحدهما دليل قصة موسى مع الخضر. وقد نص عليه البدر ابن الصاحب في تذكرته وأيد بحديث السارق والمصلي الذي أمر بقتلهما.
"الفرقاني" نسبة إلى الفرقان لفرقه بين الحق والباطل، "والمخصص بمواهب القرب" من ربه تبارك وتعالى قرب مكانه، زيادة من سواه "من النوع الإنساني" فإن المقربين منه لهم قرب دون قربه عليه السلام، "مورد الحقائق الأزلية" جمع حقيقة، وهي عند أرباب السلوك العلوم، المدركة بتصفية الباطن "ومصدرها"، يعني: أن ذاته محل لورود الحقائق عليها من الحق، ومحل لصدورها عنها على الخلق، "وجامع جوامع مفرداتها ومنبرها وخطيبها إذا حضر في حظائر(1/17)
قدسها ومحضرها، بيت الله المعمور الذي اتخذه لنفسه، وجعله ناظمًا لحقائق أنسه، مدة مداد نقطة الأكوان، ومنبع ينابيع الحكم والعرفان، الممد من بحر مدد الوفاء على القائل من أهل المعارف والاصطفاء حيث خاطب.....................
__________
قدسها"، بضمتين وتسكن داله، أي: مواضع جمع حظيرة وهي في الأصل ما حظرته على الغنم وغيرها من الشجر للحفظ, والقدس، أصل معناه الطهر سمي به جبل المقدس لطهارته بالعبادة فيه، وقدس الله وحظيرة قدسه الجنة. قال التبريزي في شرح ديوان الحماسة: واسم الجبل يقال أنه غير منصرف، وأنشدوا الكثير كالمصرخي غدًا فأصبح واقفًا في قدس بين مجاثم الأوعال. "ومحضرها،" أي: محل حضورها.
"بيت الله المعمور" بما أورده عليه فوعاه مما لا يطيقه غيره، ولم ينزله على أحد قبله وسماه بيتا على التشبيه، وما يروى: القلب بيت الرب. لا أصل له كما في المقاصد، "الذي اتخذه لنفسه" مجاز عن إدخال علومه فيه، وأطلق النفس على الله؛ كقوله: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} ، وقوله: "أنت كما أثنيت على نفسك"، وقيل: إنما يراد للمشاكلة، كقوله تعالى: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} [المائدة: 116] , "وجعله ناظمًا" أي: جامعًا "لحقائق أنسه"، جمع حقيقة وهي ما أقر في الاستعمال واشتقاقه على أصل وضعه في اللغة، قاله ابن جني وابن فارس، وزاد من قولنا حق الشيء إذا وجب، واشتقاقه من الشيء المحقق وهو المحكم، وقال المرزوقي: هي في كلام العرب الأور التي يحق حمايتها، والأنفة من تركها عن الرؤساء، وقال الخليل: هي ما يصير إليه حق الأمر ووجوبه. كما قيل:
ألم ترى أني قد حميت حقيقتي ... وباشرت حد الموت والموت دونها
"مدة" بالنصب والرفع، أي: أصل؛ "مداد نقطة الأكوان؛" أي: مركزه الذي يدور عليه.
ومنبع؛" بفتح الميم والباء مخرج "ينابيع" جمع ينبوع؛ وهي في الأصل العين التي يخرج منها الماء فشبه بها. "الحكم؛" جمع حكمة، وهي تحقيق العلم وإتقان العمل، كما في الأنوار. وقال النووي: فيها أقوال كثيرة صفا لنا منها إنها العلم المشتمل على المعرفة بالله، مع نفاذ البصيرة وتهذيب النفس وتحقيق الحق للعمل به والكف عن ضده. والحكيم من جاز ذلك، انتهى ملخصًا، قال الحافظ، وقد تطلق الحكمة على القرءان، وهو مشتمل على ذلك كله وعلى النبوة كذلك، وقد تطلق على العلم فقط وعلى المعرفة فقط، انتهى.
"والعرفان" أي: العلم مصدر عرف "الممد" اسم فاعل، "من بحر مدد الوفاء على القائل من أهل المعارف والاصطفاء" الاختيار، وعلل كونه من أهلهما بقوله "حيث خاطب" القائل(1/18)
ذاته، بالمنح الأنفسية بشعر من بحر الطويل:
فأنت رسول الله أعظم كائن ... وأنت لكل الخلق بالحق مرسل
عليك مدار الخلق إذ أنت قطبه ... وأنت منار الحق تعلو وتعدل
فؤادك بيت الله دار علومه ... وباب عليه منه للحق يدخل
ينابيع علم الله منه تفجرت ... ففي كل حي منه لله منهل
منحت بفيض كل مفضل ... فكل له فضل به منك يفضل
نظمت نثار الأنبياء فتاجهم ... لديك بأنواع الكمال مكلل
__________
"ذاته" -صلى الله عليه وسلم- "بالمنح" العطايا؛ "الأنفسية" أي: الشريفة "بشعر من بحر الطويل" أحد بحور الشعر المعروفة، "فأنت رسول الله" نداء والخبر، "أعظم كائن" موجود "وأنت لكل الخلق بالحق" أي: الأمور المطابقة للواقع، "مرسل" من الله "عليك مدار" مصدر ميمي، أي: دوران، "الخلق إذ أنت قطبه" أي: أصل الخلق الذي يرجع إليه، "وأنت منار الحق تعلو" ترتفع على غيرك "وتعدل" في قضاياك بين الناس "فؤادك" قلبك أو غشاؤه وقوي بحديث: "أرق أفئدة وألين قلوبًا".
"بيت الله" إضافة لامية على مجاز الحذف، أي: بيت علوم الله كما أوضحه بقوله "دار علومه" وهي لامية أيضًا وقد أعلمه الله تعالى ما عدا مفاتيح الغيب الخمسة، وقيل: حتى هـ وأمره بكتمها؛ كما في الخصائص "و" أنت "باب عليه منه للحق" أي: للأمور المطابقة للواقع فحذف الموصوف أولا وأمر الله، فحذف المضاف. "يدخل ينابيع" جمع ينبوع، وهو في الأصل العين التي تورد:
"علم الله منه تفجرت ... ففي كل حي منه لله منهل"
بفتح الميم والهاء، أي: عين تورد "منحت" أي: خصصت:
"بفيض الفضل كل مفضل ... فكل له فضل"
أي: كل إنسان ثبت له فضل فهو "به منك يفضل"؛ فالبيت على حد قول البوصيري:
وكلهم من رسول الله ملتمس ... غرفًا من البحر أو رشفًا من الديم
"نظمت نثار" بكسر النون بعدها مثلثة بمعنى المنثور، ككتاب بمعنى مكتوب، "الأنبياء" أي: شرائعهم. "فتاجهم" مفرد تيجان، وهو ما يصاغ للملوك من الذهب والجوهر وقد توجته إذا ألبسته التاج، كما في النهاية. "لديك" أي: عندك "بأنواع الكمال مكلل" بلامين خبر تاج، أي: مرصع, و"في" نسخة مكمل بالميم يأباها الطبع.(1/19)
فيما مدة الإمداد نقطة خطه ... ويا ذروة الإطلاق إذ يتسلسل
محال يحول القلب عنك وإنني ... وحقك لا أسلو ولا أتحول
عليك صلاة الله منه تواصلت ... صلاة اتصال عنك لا تتنصل
شخصت أبصار بصائر سكان سدرة المنتهى لجلال جماله، وحنت أرواح رؤساء الأنبياء إلى مشاهدة كماله.........................
__________
"فيا مدة" أي: زيادة "الإمداد نقطة خطه ويا ذروة الإطلاق إذا يتسلسل محال": باطل غير ممكن الوقوع أنه "يحول" يتغير "القلب عنك وإنني وحقك لا أسلو" أصبر "ولا أتحول" عن حبك "عليك صلاة الله منه" متعلق بقوله: "تواصلت صلاة اتصال" مفعول مطلق "عنك لا تتنصل" أي: لا تزول عنك "شخصت" بفتحات نظرت "أبصار بصائر" جمع بصيرة، وهي للنفس كالعين للشخص "سكان سدرة المنتهى" بفتحات نظرت "أبصار بصائر" جمع بصيرة، وهي للنفس كالعين للشخص "سكان سدرة المنتهى" وهم الملائكة الكرام. روى أبو يعلى، والبزار وابن جري، وابن ماجه، عن أبي سعيد، رفعه في حديث المعراج وغشيها من الملائكة، أمثال الغربان حين يقعن على الشجر. وعند الحاكم وغيره عن أبي هريرة رفعه: ونزل على كل ورقة ملك من الملائكة "لجلال" عظمة "جماله" حسنه وفي جعله الشخوص لجلال الجمال دون الجمال نفسه لطف وإيماء إلى أن هؤلاء وإن كانوا مقربين ما استطاعوا النظر لنفس الحسن، بل شخصوا في الجلال الحاجب له فكيف بغيرهم، ولذا قال علي يقول ناعته، أي: عند العجز عن وصفه، لم أر قبله ولا بعده مثله، ومن ثم يفتتن به مع أنه أوتي كل الحسن؛ كما قال:
بجمال حجبته بجلال ... طاب واستعذب العذاب هناكا
"وحنت" اشتاقت، "أرواح رؤساء الأنبياء" أكابرهم، وهم الذين رأوه في السماوات ليلة المعراج "إلى مشاهدة" أي: رؤية "كماله" هو التمام فيما يفضل به الشيء على غيره؛ فيشمل الظاهر؛ والباطن، لكن المراد هنا الظاهر لأنه المشاهد بالحاسة لا الباطن، لعدم تعلقها به، وإن تعلقت بما دل عليه, وتخصيص الأرواح بالذكر لأن الإدراك بها وإن نسب للجسد فهو بواسطتها فلا يشكل بما في تنوير الحلك، من أنه لا يمتنع رؤية ذاته عليه السلام بجسده وروحه، وذلك لأنه وسائر الأنبياء صلى الله عليه وسلم ردت إليهم أرواحهم بعدما قبضوا، وأذن لهم في الخروج من قبورهم للتصرف في الملكوت العلوي والسفلي، انتهى. ونحوه يأتي للمصنف في غير موضع من هذا الكتاب، وقد روى الحاكم في تاريخه، والبيهقي في حياة الأنبياء، عن أنس، أن النبي -صلى الله عليه وسلم، قال: "إن الأنبياء لا يتركون في قبورهم أربعين ليلة، ولكن يصلون بين يدي الله تعالى حتى ينفخ في الصور". قال البيهقي: فعلى هذا يصيرون، أي: يكونون حيث ينزلهم الله تعالى، انتهى. وهذا لا يشكل بأن الأنبياء في قبورهم، وأن المصطفى أول من تنشق عنه الأرض، وأول من يقوم من(1/20)
وتلفتت لفتات أنفس الملأ الأعلى إلى نفائس نفحاته، وتطاولت أعناق العقول إلى أعين لمحاته ولحظاته، فعرج به إلى المستوى الأقدس، وأطلعه على السر الأنفس، في إحاطته الجامعة، وحضرات حظيرة قدسه الواسعة، فوقفت أشخاص الأنبياء في حرم الحرمة، على أقدام الخدمة، وقامت أشباح الملائكة في معارج الجلال، على أرجل
__________
قبره. لأن معناه لا يتركون على حالة بحيث لا يقوى تعلق روحهم بجسدهم، على وجه يمنع من ذهاب الروح بعد تعلقها بالجسد حيث شاءت متشكلة بصورة الجسد، وإن بقي الجسد نفسه إلى يوم القيامة في القبر، وبهذا لا تعارض بين الأخبار؛ وطاح زعم من أدعي بطلان كونهم لا يتركون في نفسه.
"وتلفتت لفتات أنفس الملأ الأعلى" أي: ذواتهم وأرواحهم "إلى نفائس نفحاته" أي: روائحه الطيبة "وتطاولت" امتدت "أعناق" ذوي "العقول"؛ فهو مجاز بالحذف أو مرسل باستعمال العقول في أهلها، أو شبه العقول بالذوات المدركة استعارة بالكناية. وأثبت لها ما هو من خواصها وهي الأعناق تخييلا، وقد جوزت الأوجه الثلاثة في نحو: واسأل القرية "إلى أعين لمحاته" من إضافة الموصوف إلى صفته، أي: الأعين اللامحة واللمح: النظر باختلاس البصر، ولمح البصر امتد إلى الشيء ويمكن تنوين أعين. ولمحاته "ولحظاته" بدل اشتمال واللحظ: المراقبة أو النظر بمؤخر العين عن يمين وشمال. "فعرج به إلى المستوى" بفتح الواو: الموضع المشرف وهو المصعد، وقيل: المكان المستوي؛ "الأقدس وأطلعه على السر الأنفس" كما قال: "فأوحى إلى عبده ما أوحى"، فأبهمه للتعظيم في أحد الأقوال فلا يطلع عليه بل يتعبد بالإيمان به؛ كما قيل:
بين المحبين سر ليس يفشيه ... قول ولا قلم في الكون يحكيه
"في إحاطته الجامعة": متعلق باطلع، أي: فيما تتعلق إحاطته، أي: علمه به؛ "وحضرات" بالضاد المعجمة "حظيرة" بالظاء المعجمة المشالة "قدسه الواسعة" وليس المراد بها هنا الجنة، فإن اطلاعه على السر كان حين العروج إلى المستوى كما كلمه ربه، وهو بعد رفعه إلى السدرة، ورفعه إليها كان بعد دخوله الجنة، وعرض النار عليه؛ كما فصل في المعراج. "فوقفت أشخاص الأنبياء" صورهم "في حرم الحرمة" التعظيم "على أقدام" جمع قدم مؤنث، "الخدمة وقامت أشباح الملائكة" إضافة بيانية، جمع شبح وهو الشخص؛ كما في المصباح، فغاير تفننًا، وللإشارة إلى مغايرتها لأجسام البشر، وإنما هي أجسام لطيفة نورانية على الصحيح.
"في معارج الجلال" جمع معرج ومعراج وهو المصعد والمرقى كلها بمعنى؛ "على أرجل" جمع رجل الإنسان التي يمشي بها، مؤنثة ولا جمع لها غيره؛ كما في المصباح.(1/21)
الإجلال، وهامت أرواح العشاق في معاناة الأشواق:
كل إليك بكله مشتاق ... وعليه من رقبائه أحداق
يهواك ما ناح الحمام بأيكة ... أو لاح برق في الدجى خفاق
شوقي إليه لا يزال يديره ... فجميعه لجميعه عَشاق
اشتاق القمر.............................................
__________
"الإجلال وهامت أرواح العشاق" خرجت على وجهها فلم تدر أين تتوجه، "في معاناة الأشواق" جمع شوق، وهو نزاع النفس إلى الشيء والحنين، وشوقني إلى كذا هيجني وأنشد لغيره قوله "كل" استغراقية؛ كقوله: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة: 282] . "وكل راع مسئول عن رعيته". ولا يستعمل إلا مضافًا لفظًا كما رأيت، أو تقديرًا؛ كقوله: {كُلٌّ يَجْرِي} [الرعد: 2، لقمان: 29، فاطر: 13، الزمر: 5] .
قال الأخفش: المعنى كلهم يجري كما تقول كل منطلق، أي: كلهم، ومنه ما هنا، أي: كل الشاخصين ومن بعدهم. "إليك بكله" بجملته روحًا وجسمًا "مشتاق وعليه من رقبائه" جمع رقيب "أحداق" عيون, "يهواك" تميل نفسه إليك "ما ناح الحمام بأيكة" مفرد أيك، كتمر وتمرة شجر، كما في المصباح، أو هو مضاف للضمير لأدنى ملابسة، فيكون جمعًا "أو لاح برق" ما يلمع من السحاب، مصدر "في الدجى" والظلم "خفاق" والدجى لا يكاد ينفك عن برق إن لم يعم فإن فقد في مكان وجد في غيره، "شوقي" فاعل يهوي "إليه" بإشباع الهاء للوزن، وفيه التفات عن الخطاب، وفي نسخ إليك "لا يزال يديره" يحرك الهوى "فجميعه" أي: كل أو الشوق، والأول أولى؛ لأنه المحدث عنه، ولفظ كل واحد ومعناه متعدد، فيجوز عود الضمير على اللفظ وعلى المعنى "لجميعه" أي: النبي -صلى الله عليه وسلم، وإن لم يتقدم له ذكر لدلالة الكلام عليه فكأنه مذكور؛ كقوله: "ولأبويه, لكل واحد منهما السدس"، أي: الميت، أي: كل محب "عشاق" بفتح المهملة، أي: كثير العشق لجميع أجزاء المصطفى، فجميع متعلق به مقدم عليه "اشتاق القمر" سمي بذلك لبياضه. قال الفارابي وتبعه الجوهري: الهلال ثلاث ليال أول الشهر ثم هو قمر بعد ذلك. وقال الأزهري: القمر يسمى ليلتين أول الشهر هلالا، كليلتي ست وسبع وعشرين، ويسمى قمرًا فيما بين ذلك. وقال غيره: الهلال ثلاث ليال، ثم هو قمر إلى ثلاثة عشر، ثم يستوي ليلة ثلاثة عشر فتسمى تلك الليلة ليلة السواء، ثم تليها ليلة البدر؛ لأنه إذا بدرت الشمس بالغروب بادرها بالطلوع. وقيل: من البدرة، وهي ألف دينار لتمام عدده، ثم يسمى ليلة النصف قمرًا وزبرقانًا بكسر الزاي، ومنه:(1/22)
لمشاهدته فانشق، فشق مرائر الأشقياء الشاقين، وحن لمفارقته الجذع، فتصدع فانصدعت قلوب الأغبياء المنافقين وبرقت من مشكاة بعثته بوارق طلائع الحقائق، وانقادت لدعوته العامة خاصة خلاصة الخلائق، ولم يزل يجاهد في الله بصدق عزماته، وينظم أشتات الإسلام بعد افتراق جهاته، حتى كملت كمالات دينه..........
__________
تضيء بك المنابر حين ترقى ... عليها مثل ضوء الزبرقان
"لمشاهدته فانشق" لما سأله أهل مكة آية قبل الهجرة بنحو خمس سنين فرقتين، فرقة فوق الجبل وفرقة دونه، "فشق مرائر الأشقياء" الكفار "الشاقين" عليه باقتراح الآيات، وفي جعله انشقاقه مفرعًا على اشتياقه وقفة، إذ الثابت أنه انشق لطلب الكفار آية، وقد تدفع الوقفة "وحن" اشتاق، "لمفارقته الجذع" الذي كان يخطب عليه قبل اتخاذ المنبر "فتصدع" الجذع وانشق، كما في حديث أبي بن كعب عند الشافعي وغيره بلفظ، فلما صنع، أي: المنبر، وضعه موضعه الذي هو فيه فكان إذا بدا لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخطب عليه، تجاوز الجذع الذي كان يخطب عليه، فلما جاوزه خار حتى تصدع وانشق فنزل، فلما سمع صوت الجذع فمسحه بيده.
وفي حديث أنس عند الموصلي: لما قعد على المنبر خار كخوار الثور، وارتج المسجد لخواره حزنًا عليه، فنزل إليه فالتزمه وهو يخور فسكت. فقال -صلى الله عليه وسلم: "والذي نفس محمد بيده، لو لم ألتزمه لما زال هكذا حتى تقوم الساعة"، فأمر به فدفن. وفي حديث أحمد والدارمي وابن ماجه: فأخذ أبي بن كعب ذلك الجذع لما هدم المسجد، فلم يزل عنده حتى بلي واد رفاتًا، قال الجاحظ: وهذا لا ينافي أنه دفن لاحتمال أنه ظهر بعد الهدم عند التنظيف، انتهى.
كان الحسن البصري إذا حدث هذا الحديث بكى، وقال: يا عباد الله، الخشبة تحن إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شوقًا إليه لمكانه من الله، فأنتم أحق أن تشتاقوا إلى لقائه. "فانصدعت قلوب الأغبياء" الجهال، جمع غبي؛ "المنافقين" غيظًا من هذه المعجزة الباهرة، التي قال فيها الشافعي: إنها أعظم من إحياء عيسى الموتى.
"وبرقت" لمعت، "من مشكاة" هي القنديل أو موضع القتيلة منه، أو معلاقه أو كوة غير نافذة، والكوة بفتح الكاف وضمها اسم ما لا ينفذ، قيل: إنها معربة من الحبشية "بعثته بوارق طلائع الحقائق وانقادت لدعوته العامة" بالجر نعت وفاعل انقاد "خاصة خلاصة الخلائق" ما صفا منهم "ولم يزل يجاهد في الله" بالسيف والحجة "يصدق عزماته وينظم" يجمع "أشتات الإسلام بعد افتراق جهاته حتى كملت" بتثليث الميم والكسر أردأها؛ كما في الصحاح، "كمالات دينه(1/23)
وحججه البالغة، وتمت على سائر أمته نعمته السابغة، وخير فاختار الرفيق الأعلى، وآثر الآخرة على الأولى، فنقله الله قائمًا على قدم السلامة، إلى دار السلام
__________
وحججه البالغة" بيناته الواضحة التي بلغت غاية المتانة والقوة "وتمت على سائر" أي: جميع "أمته" والأكثر استعماله بمعنى الباقي مطلقًا على الأصح، أو الباقي القليل مشتق من السؤر بالهمز البقية. حتى قال الأزهري: اتفق أهل اللغة على أن سائر الشيء باقيه قل أو كثر، واستعماله بمعنى الجميع ذهب إليه الجوهري والجواليقي وجماعة وخطأهم فيه كثير، كابن قتيبة والحريري في الدرة؛ لأنه مخالف للسماع.
ففي الحديث: "أمسك أربعًا وفارق سائرهن": أي: باقيهن، والاشتقاق فإنه من السؤر فلا يصح كونه بمعنى الجميع، وقال الصغاني: سائر الناس: باقيهم، وليس معناه جميعهم، كما زعم من قصر في اللغة باعه، وجعله بمعنى الجميع من لفظ العوام، انتهى. ولكن انتصر للجوهري والجماعة قوم بأنه سمع من الصحفاء؛ كقوله:
ألزم العالمون حبك طرا ... فهو فرض في سائر الأديان
وقول عنترة:
إني امرؤ من خير عبس منصبا ... شطري وأحمي سائري بلمنصل
وقول ذي الرمة:
معرسًا في بياض الصبح وقعته ... وسائر السير إلا ذلك السير
واشتقاقه عندهم من اليسير، أي: يسير فيه هذا الاسم ويطلق عليه، لا البقية.
"الأمية" المنسوبة إلى النبي الأمي -صلى الله عليه وسلم, "نعمته السابغة" الكثيرة التامة، وهو في الأصل صفة للدرع والثوب الطويل استعير من الطول والسعة لما ذكر، ثم صار حقيقة فيه لشيوعه، "وخير" بين الحياة والممات، "فاختار الرفيق الأعلى" أي: الجماعة من الأنبياء الذين يسكنون أعلى عليين، اسم جاء على فعيل كصديق وخليط، أو الله تعالى فإنه الرفيق بعباده، وعند مسلم مرفوعًا: "إن الله رفيق يحب الرفق". فهو فعل بمعنى فاعل، أو المراد حظيرة القدس، وعند النسائي وصححه ابن حبان، فقال -صلى الله عليه وسلم: "أسأل الله الرفيق الأسعد مع جبريل وميكائيل وإسرافيل" وظاهره: أن الرفيق: المكان الذي يحصل فيه المرافقة مع المذكورين.
"وآثر الآخرة على الأولى" أي: الدنيا؛ لأنها أحق بالإيثار منها، كما قال بعض الأماجد: لو كانت الدنيا من ذهب يفنى، والآخرة من خزف يبقى، لآثر العاقل الباقي على الفاني، فكيف والنعيم السرمدي الذي لم يخطر على قلب بشر، إنما هو في الأخرى.
"فنقله الله قائمًا على قدم السلامة" حسا ومعنى "إلى دار السلام" الجنة لسلام الله(1/24)
وفردوس الكرامة، وبوأه أسنى مراقي التكريم في دار المقامة، ومنحه أعلى مواهب الشرف في اليوم المشهود، فهو الشاهد المشهود، المحمود بالمحامد التي يلهمها للحامد المحمود، والمنزلة العلية، والدرجة السنية، في حظائر القدس الأقدسية، والمشاهد الأنفسية، واصل الله عليه فضائل الصلوات.................
__________
وملائكته على من يدخلها، أو لسلامتهم من الآفات، "وفردوس الكرامة" التكريم والتبجيل له -صلى الله عليه وسلم، "وبوأه أسنى" أنزله أشرف "مراقي التكريم في دار المقامة" بالضم الإقامة، وقد تكون بمعنى القيام لأنك إذا جعلته من قام يقوم فمفتوح، أو من أقام يقيم، فمضمون وقوله تعالى: {لَا مُقَامَ لَكُمُ} [الأحزاب: 13] ، أي: لا موضع لكم وقرئ: {لَا مُقَامَ لَكُمُ} [الأحزاب: 13] ، بالضم، أي: لا إقامة لكم.
قال الجوهري: "ومنحه" أعطاه "أعلى مواهب الشرف في اليوم المشهود" يوم القيامة بحضرة جميع الخلائق "فهو الشاهد"؛ كما قال تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا} [الأحزاب: 45، الفتح: 8] ، أي: على أمته بتبليغه إليهم، وعلى الأمم بأن أنبياءهم بلغتهم "المشهود" المنظور إليه من جميع الرسل، "المحمود" الذي يحمد "بالمحامد التي يلهمها" بالبناء للفاعل في ذلك اليوم، ولم يلهمها قبل "للحامد" الذي هو النبي -صلى الله عليه وسلم, "المحمود" أي: الله سبحانه وتعالى، فاعل يلهمها, "و" بوأه ومنحه "المزلة" المرتبة "العلية" كقيامه عن يمين العرش، وفي نسخ ذو المنزلة "والدرجة السنية" واحدة الدرجات وهي الوسيلة، التي هي أعلى درجة في الجنة؛ "في حظائر القدس الأقدسية" الجنة "والمشاهد الأنفسية" ولما ذكر أن المصطفى وصل إلى أعلى مراتب الكمال في الدارين، وكمال غيره، إما بهدايته والاقتباس من نور شريعته، ناسب أن يعظمه ويدعو له، أداء لبعض حقه وتوسلا إلى الله تعالى في قبول حمده وإتمام قصده.
فقال: "واصل الله عليه فضائل الصلوات" قال السهيلي: أصل الصلاة انحناء وانعطاف من الصلوين وهما عرقان في الظهر، ثم قالوا: صلى عليه، أي: انحنى له رحمة له، ثم سموا الرحمة حنوا وصلاة إذا أرادوا المبالغة فيها، فقوله -صلى الله عليه وسلم- أرق وأبلغ من رحمة في الحنو والعطف، فالصلاة أصلها من المحسوسات، ثم عبر بها عن هذا المعنى للمبالغة، ومنه قيل: صليت على الميت، أي: دعوت له دعاء من يحنو عليه ويعطف. ولهذا لا تكون الصلاة بمعنى الدعاء على الإطلاق، انتهى. والصلاة من الله رحمة، ومن العبد دعاء، ومن الملائكة استغفار. كما جاء عن الحبر ترجمان القرءان واعتراضه بقوله: {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ} [البقرة: 157] ، رد بأنه أخص من مطلق الرحمة، وعطف العام على الخاص مفيد، وخص المعصوم بلفظها تعظيمًا له وتمييزًا.(1/25)
وشرائف التسليم، ونوامي البركات، وعلى آله الأطهار، وأصحابه الأبرار، صلاة وسلامًا لا ينقطع عنهما أمد الأمد، ولا يحصيهما العدد أبد الأبد.
وبعد:
__________
"وشرائف التسليم" مصدر، وجمع بين الصلاة والسلام للآية. ولما رواه أحمد والحاكم وصححه عن عبد الرحمن بن عوف، قال: خرج صلى الله عليه وسلم فأتبعته حتى دخل نخلًا، فسجد فأطال السجود، حتى خفت أو خشيت أن يكون الله قد توفاه، قال: فجئت أنظر، فرفع رأسه، فقال: "ما لك يا عبد الرحمن"؟ قال: فذكرت ذلك له، فقال: "إن جبريل قال لي: ألا أبشرك أن الله تعالى قال: من صلى عليك صليت عليه، ومن سلم عليك سلمت عليه"، والأحاديث في هذا الباب كثيرة جدًا.
"ونوامي البركات" زوائد: والإضافة بيانية، فالبركة الزيادة "وعلى آله الأطهار" أصل معناه الأتباع، ولم يضف في الأكثر المطرد إلا إلى العقلاء الأشراف، وزيد قيد الذكور والكل أغلبي؛ لقولهم: آل الله وآل البيت، قال:
وانصر على آل الصليـ ... ـب وعابديه اليوم آلك
وفي أنهم بنو هاشم، أو والمطلب أو عترته وأهل بيته، أو بنو غالب أو أتقياء أمته، واختبر في مقام الدعاء، وأيد بأنه إذا أطلق في التعاريف، شمل الصحب والتابعين لهم بإحسان أقوال: ويجوز إضافته إلى الضمير على الأصح؛ وإن زعم المبرد أنه من لحن العامة، "وأصحابه" جمع قلة لصاحب وإن كانوا ألوفًا؛ لأن جمع القلة والكثرة إنما يعتبران في نكران الجموع، أما في المعارف فلا فرق بينهما. "الأبرار" روى البخاري في الأدب المفرد والطبراني في الكبير عن ابن عمر رفعه: "إنما سماهم الله تعالى الأبرار، لأنهم بروا الآباء والأمهات والأبناء"، كما أن لوالديك عليك حقًا كذلك لولدك، "صلاة وسلامًا" اسمان مصدران منصوبان على المفعولية المطلقة، مفيدان لتقوية عاملهما مؤكدان لمعناه؛ "لا ينقطع عنهما أمد الأمد" أي: زمانه، والأمد الغاية، "ولا يحصيهما" يطيقهما "العدد" لكثرتهما "أبد الأبد" أي: آخر الدهر؛ كما في الصحاح. قال الراغب: والمد والأبد متقاربان، لكن الأبد عبارة عن مدة الزمان التي لا حد لها ولا تتقيد ولا يقال أبد كذا. والأمد لها حد مجهول إذا أطلق وقد ينحصر فيقال: أمد كذا، كما يقال زمن كذا، والفرق بين الزمان والأمد: أن الأمد يقال باعتبار الغاية، والزمن عام في المبدأ والغاية، ولذا قيل: المدى والأمد متقاربان.
"وبعد" ظرف مبني على الضم كغيره من الظروف المقطوعة عن الإضافة، وأجاز هشام فتحه من غير تنوين، وقال ابن النحاس: إنه غير معروف. وروي عن سيبويه رفعها ونصبها ظرف(1/26)
فهذه لطيفة من لطائف نفحات العواطف الرحمانية، ومنحة من منح مواهب العطايا الربانية، تنبئ عن نبذة من كمال شرف نبينا محمد -عليه أفضل الصلوات وأنمى التسليم وأسنى الصلات............................
__________
زمان كثيرًا كجاء زيد بعد عمرو، ومكان قليلا كدار زيد بعد دار عمرو، وهي هنا كما قيل صالحة للزمان باعتبار اللفظ، وللمكان باعتبار الرقم.
"فهذه" الفاء على توهم الناظر وجود، أما في الكلام البليغ لأن الشيء إذا كثر الإتيان به ترك وتوهم وجوده؛ كقوله:
بدا لي أني لست مدرك ما مضى ... ولا سابق شيئًا إذا كان جائيًا
وقد كثر مصاحبة أما لبعد فإذا تركت توهم وجودها، أو على تقديرها في نظم الكلام، والواو عوض عنها او دون تعويض. أو لإجراء الظرف مجرى الشرط. قيل -وهو الوجه الوجيه- فلا يشكل بأن الفاء إنما تدخل في جواب الشرط. وذكر الدماميني أن بعد معمول لمحذوف تقديره وأقول بعد هذا الكلام، ومقول القول محذوف، أي: تنبه لكذا، فالفاء سببية، وهي هنا فصيحة والإشارة إلى موجود ذهنًا إن كانت قبل التأليف.
هذا، وقد ثبت أنه -صلى الله عليه وسلم، كان يقول أما بعد في خطبه وشبهها، كما روى ذلك أربعون صحابيًا كما أفاده الرهاوي في أربعينه المتباينة الأسانيد, وما أدري ما وجه اقتصار كثيرين على الظرف كالمصنف ولا يكفي الاعتذار بأن المدار عليه أو روما للاختصار؛ لأن المطلوب اتباع ما جاءت به السنة، لاسيما والإطناب مطلوب في الخطب، وكون المدار عليه يحتاج لوحي يسفر عنه؛ وفي أن أول من نطق بأما بعد، داود؛ وكانت له فصل الخطاب؛ أو كعب أو يعرب أو ق أو سحبان أو يعقوب أو أيوب أقوال: وفي غرائب مالك للدارقطني أن يعقوب أول من قالها.
قال الحافظ: فإن ثبت وقلنا: إن قحطان من ذرية إسماعيل فيعقوب أول من قالها مطلقًا، وإن قلنا: إن قحطان قبل إبراهيم فيعرب أول من قالها، انتهى.
"لطيفة" من اللطافة ضد الكثافة، "من لطائف نفحات" عطايا "العواطف الرحمانية" المنسوبة إلى الرحمن تبارك وتعالى، "ومنحة" عطية "من منح مواهب" من إضافة الأعم إلى الأخص "العطايا" بمعنى الإعطاءات، فكأنه قيل منحة: هي بعض المنح التي هي مواهب حاصلة بإعطاء الله "الربانية" المنسوبة إلى الرب المربي لعباده بنعم لا تحصى، "تنبئ": تخبر "عن نبذة" بضم النون وقد تفتح، يقال: ذهب ماله وبقي منه نبذة، أي قليل، لأن القليل ينبذ, أي: يطرح ولا يبالي به لقلته، أي: عن خواص قليلة "من كمال شرف نبينا محمد عليه أفضل الصلوات وأنمى التسليم وأسنى" أرفع "الصلات" بكسر الصاد، جمع صلة بمعنى الإحسان من(1/27)
وسبق نبوته في الأزمان الأزلية، وثبوت رسالته في الغايات الأحدية، والتبشير بأحمديته في الأزمان الخالية، والتذكير بمحمديته في الأمم الماضية، وإشراق بوارق لوامع أنوار آيات ولادته التي سار ضوء فجرها...................................
__________
وصل، والهاء عوض من الواو المحذوفة، كما في النهاية، وهذه النبذة وإن كانت قليلة في نفسها، لكنها محيطة في نوعها فريدة في فنها جامعة في شأنها.
"و" تنبئ عن "سبق نبوته في الأزمان الأزلية" القديمة وآدم بين الروح والجسد "وثبوت رسالته في الغايات الأحدية" المنسوبة للأحد، قال الكاشي في لطائفه: الغايات يعني بها ما يتم به ظهور الكمال المختص بكل شيء بالنسبة إلى ما كان له من ذلك الكمال في حضرة العلم الأزلي، كما هو الحال من كون الغاية من السرير الجلوس عليه، والقلم الكتابة به.
قال: وهكذا لكل موجود إنسانًا أو غيره غايات، انتهى. "والتبشير بأحمديته" أي: صفاته المحمودة، ومنها أن اسمه أحمد "في الأزمان الخالية" وقد روى أبو نعيم والطبراني أن في التوراة عبدي أحمد المختار, وفي التنزيل عن عيسى {وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} "والتذكير بمحمديته في الأمم الماضية" المتبادر بأن اسمه محمد عليه السلام.
"و" تنبئ عن "إشراق بوارق" جمع بارق، قال المجد: سحاب ذو برق، "لوامع أنوار آيات ولادته" من نار ينور إذا نفر ومنه نوار للظبية، وبه سميت المرأة فوضع له لانتشاره أو لإزالة الظلام كأنه ينفر منه، ويطلئق على الله والمصطفى والقرءان "التي سار ضوء فجرها" قيل: الضوء أبلغ من النور؛ لقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا} [يونس: 5] ، وعليه الزمخشري إذ قال: الإضاءة فرط الإنارة، ورد بأن ابن السكيت سوى بينهما، وأجيب بأن كلامه بحسب أصل الوضع، وما ذكر بحسب الاستعمال، كما في الأساس.
والتحقيق ما في الكشف: أن الضوء فرع النور وهو الشعاع المنتشر، ولذا أطلق النور على الذوات دون الضوء، وفي الروض الأنف في قول ورقة:
ويظهر في البلاد ضياء نور ... يقيم به البرية أن يموجا
ما يوضح الفرق بينهما، وأن الضياء الشعاع المنتشر عن النور، فالنور أصله ومنه مبدؤه وعنه يصدر، قال تعالى: {فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} [البقرة: 17] ، {جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً} لأن القمر لا ينتشر عنه ما ينتشر عنها، لا سيما في طرفي الشهر, ولذا سمى الله القمر نورًا دون ضياء فعلم أن بينهما فرقًا لغة واستعمالا، وأصل الفجر الشق الواسع، قال الراغب: ومنه قيل للصبح فجر لكونه فاجر الليل.(1/28)
في سائر بريته، ودار بدر فخرها في أقطار ملته، وعواطف لطائف رضاعه وحضانته، وينابيع أسرار سر مسراه وبعثته وهجرته، وعوارف معارف عبوديته الساري عرف شذاها في آفاق قلوب أهل ولايته، ونفائس أنفاس أحواله الزكية، ودقائق حقائق سيرته العلمية، إلى حين نقلته لروضة قدسه الأحدية، وتشريفه بشرائف الآيات، وتكريمه بكرائم المعجزات، وترفيعه في آي التنزيل برفعه ذكره، وعلو خطره، وتعظيم محاسن................
__________
"في سائر بريته" خليقته من برأ النسمة فيجوز همزه وتخفيفه وهو أفصح وأكثر، وهو يدل على أنه غير معتل من البري بمعنى التراب، كما ذهب إليه بعض اللغويين. "ودار بدر" اسم القمر ليلة الرابع عشر لمبادرته بالطلوع غروب الشمس، أو لتمام عدده من البدرة، كما مر "فخرها" بفاء وخاء معجمة، مصدر كالفخار، أي: المباهاة.
"في أقطار" نواحي "ملته" قال الراغب: هي اسم لما شرعه الله تعالى لعباده على لسان أنبيائه، ليتوصلوا به إلى جواره، والفرق بينها وبين الدين: أن الملة لا تضاف إلى الذي تستند إليه، ولا تكاد توجد مضافة إلى الله ولا إلى آحاد الأمة ولا تستعمل إلا في جملة الشرائع دون آحادها. كذا قال، "و" تنبئ عن "عواطف لطائف رضاعه وحضانته" بفتح الحاء وكسرها؛ كما في المصباح، "وينابيع" عيون "أسرار سر مسراه وبعثته وهجرته" من مكة إلى طيبة، "وعوارف معارف عبوديته الساري عرف" أي: ريح "شذاها" جمع شذاة، وهو في الأصل كسر العود بكسر ففتح، أي: العود الذي يتبخر به وهو مكسر لكونه أقوى في الرائحة، ويطلق على الرائحة نفسها. والمراد هنا المعنى الأول لئلا يتحد المضاف والمضاف إليه.
"في آفاق" نواحي "قلوب أهل ولايته" الموالين له باتباع أوامره واجتناب نواهيه واقتباس هداه. "و" تنبئ عن "نفائس" جمع نفيس، أي: جلائل "أنفاس أحواله الزكية" التي لا يدانيه فيها مخلوق "ودقائق" جمع دقيقة من الدقة خلاف الغلظة أو صغر الجرم "حقائق سيرته العلية" هي هيئة السير جمعها سير، ثم خصت بحاله في غزواته ونحوها "إلى حين نقلته لروضة قدسه" الجنة "ألأحدية" المنسوبة للأحد سبحانه، لابتداعه لها وجعلها مختصة بالموحدين محرمة على غيرهم.
"و" تنبئ عن "تشريفه بشرائف الآيات" العلامات الدالة على نبوته -صلى الله عليه وسلم، "و" عن "تكريمه بكرائم المعجزات" المور المعجزة للبشر الخارقة للعادة "وترفيعه في آي التنزيل" بمد الهمزة وتخفيف الباء، جمع آية أو اسم جنس جمعي لها "برفعة ذكره وعلو خطره" بفتح الخاء المعجمة وفتح الطاء المهملة: قدره ومنزلته، "وتعظيم" توفير وتكريم "محاسن" جمع حسن على(1/29)
شمائله وخلائقه، وتخصيصه بعموم رسالته، ووجوب محبته واتباع طريقته وسيادته الجامعة لجوامع السؤدد في مشهد مشاهد المرسلين، وتفضيله بالشفاعة العظمى، العامة لعموم الأولين والآخرين، إلى غير ذلك من عجائب آياته ومنحه، وغرائب أعلام نبوته وحججه.
أوردتها حججًا قاهرة على الملحدين، وذكرى نافعة للموحدين..................
__________
خلاف القياس، أو جمع مفرد مقدر لم يسمع كمحسن بزنة مقعد أو لا واحد له، وهي الأمر الحسن مطلقًا، أو الحسن الخفي، "شمائله" جمع شمال بالكسر، أي: أخلاقه وصفاته المحمودة "وخلائقه" جمع خلق؛ كقول حسان:
إن الخلائق فاعلم شرها البدع
ولم يذكره صاحب القاموس في جموع خليقة.
"وتخصيصه بعموم رسالته" مع الجواب عن نوح وآدم عليهما السلام، "و" تنبئ عن "وجوب محبته و" وجوب "اتباع طريقته" في غير ما اختص به "و" تنبئ عن "سيادته الجامعة لجوامع السؤدد" بالضم أنواع السيادة "في مشهد مشاهد المرسلين" في الدنيا كاقتدائهم به ليلة الإسراء، والأخرى فآدم فمن سواه تحت لوائه، "وتفضيله بالشفاعة العظمى" في فصل القضاء بين الخلق "العامة لعموم الأولين والآخرين" التي يتنصل منها رؤساء الأنبياء، حتى يقوم لها "إلى غير ذلك من عجائب آياته" جمع آية، وهي العلامة، "ومنحه" بكسر ففتح جمع، أي: عطاياه، "وغرائب أعلام" جمع علم بفتحتين، العلامة المنصوبة في الطريقة ليعرف بها، ولذا سميت نصبًا، ويكون بمعنى الجبل أيضًا لأنه يهتدي به؛ كما قالت الخنساء:
إن صخرا لتأتم الهداة به ... كأنه علم في رأسه نار
وفي قولها: صخر، وهو اسم أخيها لطيفة اتفاقية لمناسبة الجبل. "نبوته" عرفها إمام الحرمين بأنها صفة كلامية، هي قول الله تعالى: هو رسولي وتصديقه بالأمر الخارق، ولا تكون عن قوة في النفس كما قاله الحكماء، ولا عن رياضة يحصل بها الصفاء فيحصل التجلي في النفس، كما قاله بعض الصوفية، ولا عن قربان الهياكل السبعة كما زعمه المنجمون، ولا هي بالإرث، كما قال بعض أهل البيت وأتباعهم، ولا هي علم الإنسان بربه لأنه عام، ولا علم النبي بكونه نبيًا لتأخره بالذات، انتهى.
"وحججه" براهينه "أوردتها حججًا قاهرة" صفة لحجج، أي: مانعة لهم من المعارضة، "على الملحدين" متعلق بحجج فلا حاجة لدعوى التضمين في قاهرة "وذكرى نافعة" أي: أسبابًا مذكرة "للموحدين" خصهم بالذكر لأنهم المنتفعون بها كما في قوله: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى(1/30)
وتنبيهًا لعزائم المهتدين، ولم أكن -والله- أهلًا لذلك، ولم أر نفسي فيما هنالك، لصعوبة هذا المسلك، ومشقة السير في طريق لم يكن لمثلي يسلك، وإنما هو نكتة سر قراءتي كتاب "الشفا" بحضرة التخصيص والاصطفا.............
__________
ت َنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات: 55] ، "وتنبيها" إيقاظًا "لعزائم" جمع عزيمة وعزمة اجتهاد "المهتدين" جمع مهتدي.
"ولم أكن والله أهلًا" أي: مستحقًا، "لذلك" التأليف من قولهم هو أهل للإكرام، أي مستحق له "ولم أر نفسي فيما هنالك لصعوبة" مصدر صعب، "هذا المسلك ومشقة السير في طريق" يذكر في لغة نجد وبه جاء القرءان في قوله تعالى: {فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا} [طه: 77] ، ويؤنث في لغة الحجاز، "لم يكن لمثلي يسلك" يقال سلكه وأسكله، قال:
وهم سلكوك في أمر عصيب
وهذا من تواضع المصنف، وإلا فهو من العلماء العاملين أصحاب التصانيف المفيدة والباع العالي واليد المديدة، إلا أن عادتهم جرت بمثل هذا في التأليف خصوصًا، في باب السنة "وإنما هو نكتة" كنقطة جمعها نكت، كنقط، ويجمع أيضًا على نكات كبقعة وبقاع، وعليه اقتصر القاموس.
وسمع أيضًا نكات بالضم، وهي في الأصل فعلة من النكت وهو النبش الخفيف في التراب بعود ونحوه، وتفعل إذا فكر في أمر خفي فنقلت للمعنى الدقيق النادر والكلام القليل الحسن لتأثيره في النفس أو احتياجه لفكر وتأمل، "سر" أي: خالص، "قراءتي كتاب الشفا" بتعريف حقوق المصطفى للإمام الشهير الجهبذ العلامة الفقيه المفسر الحافظ البليغ الأديب: عياض بن موسى بن عياض اليحصبي البستي المالكي، وشهرته تغني عن ترجمته رحمه الله.
وكتابه هذا ذكر ابن المقري اليمني في ديوانه أنه شوهد بركته حتى لا يقع ضرر لمكان هو فيه، ولا تغرق سفينة كان فيا، وإذا قرأه مريض شفي.
وقال غيره: إنه جرب قراءته لشفاء الأمراض، وفك عقد الشدائد، وفيه أمان من الغرق والحرق والطاعون ببركة المصطفى، وإذا صح الاعتقاد حصل المراد "بحضرة" ذي "التخصيص" قال الراغب: هو تفرد بعض الشيء بما لا تشاركه فيه الجملة.
"والاصطفا" صلى الله عليه وسلم افتعال من الصفوة بالفتح والكسر، وهي: الاختيار، قال في النهاية حضرة الرجل قربه، وتكون بمعنى المجلس والفناء.
وفي النسيم استعمله الكتاب في الإنشاء للتعظيم كالمقام العالي وحضرة الخليفة تأدبًا(1/31)
في مكتب التأديب والتعليم في مشهد مشاهد المؤانسة والتكريم، مستجليًا في مجالي تجليات الأنوار الأحمدية، محاسن صفات خلقته، وعظم أخلاقه الزكية، سائرًا بسر سيرته في منهاج ملته إلى سماء هديه الأسنى، رائعًا في رياض روضة سننه النزهة الحسنى، مستمدًا من فتح الباري..............
__________
بإضافة ماله لمحله "في مكتب التأديب والتعليم" قال شيخنا: أي بين روضة النبي صلى الله عليه وسلم ومنبره, وكان المصنف يقرأه للناس هناك "في مشهد مشاهد المؤانسة والتكريم" ولقد صدق المصنف رحمه الله فإنه في هذا الكتاب اقتبس من أنوار الشفا، وتعلق بأذياله في غالب التقسيم والأبواب، حتى إنه اقتفى في صدر الخطبة، فقال المنفرد مع ما فيه من النزاع، منشدًا بلسان حال الاتباع.
وهل أنا إلا من غزية إن غوت ... غويت وإن ترشد غزية أرشد
"مستجليًا" أي: مستكشفًا، "في مجالي تجليات الأنوار الأحمدية محاسن صفات خلقته وعظم أخلاقه الزكية" فإنها قاطعة بأنه حائز لجميع صفات الحسن متصفًا بها على أكمل وجه، يليق به خَلقًا وخُلقًا وما بعد قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4] ، مطلب "سائرًا بسر سيرته" طريقته وهيئته وحالته "في منهاج ملته" النهج والمنهج والمنهاج الطريق الواضح، "إلى ساء هديه الأسنى" الأرفع "رائعًا" منبسطًا أو لاهيًا أو متسعًا من الرتعة، قال الهروي: بسكون التاء وفتحها اتساع في الخصب، وكل مخصب مرتع، يقال: رتعت الإبل وأرتعها صاحبها، وقوله تعالى: "نَْتَعْ وَنَلْعَبْ"، قال أبو عبيد: نلهو، وابن الأنباري: أي هو مخصب لا يعدم ما يريده وغيره نسعى وننبسط، وقيل: نأكل، انتهى ملخصًا.
"في رياض روضة" هو الموضع المعجب بالزهور، وجمعها ما أضيف إليها، وروضات بسكون الواو للتخفيف؛ كما في قوله تعالى: {فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ} [الشورى: 22] ، وهذيل بفتح الواو على القياس، قيل: سميت بذلك لاستراضة المياه السائلة إليها، أي: لسكونها بها, وفي الغريبين الروضة، أي: في الأصل الموضع الذي يستنقع فيه الماء، ويقال للماء نفسه روضة، قال:
وروضة سقيت منها نضرتي
أراد ما اجتمع في غدير، انتهى.
"سننه" جمع سنة، وهي الطريقة والسيرة حميدة كانت أو ذميمة "النزهة" قال الزمخشري: أرض نزهة ذات نزهة، وخرجوا يتنزهون: يطلبون الأماكن النزهة والنزه مثل غرفة وغرف، ذكره في المصباح. "الحسنى" تأنيث الأحسن، "مستمدًا من فتح" مصدر فتح،(1/32)
فيض فضله الساري، فمنحني صاحب هذه المنح من مصون حقائقه، وأبرز لي مما أكنه من مكنون رقائقه، فانفتحت بالفتح المحمدي عين بصيرة الاستبصار، وتنزه الناظر في رياض ارتياض رقائق الأسرار، فاستجليت من أبكار مخدرات السنة النبوية من كل صورة معناها، واقتبست من تلألؤ مصباح مشكاة المعارف من كل بارقة أضواها،
..............
__________
"الباري" أي: من عطاء الله تعالى وفيه تورية بذكر اسم الكتاب الذي هو شرح الحافظ ابن حجر على البخاري، فالأخذ منه من جملة عطاء الله ولا يشك من أحاط بهذا الكتاب. وبشرح البخاري للحافظ أن نحو نصف هذا الكتاب منه بعزو ودونه "فيض" مصدر فاض الماء، كثر حتى سال كالوادي. "فضله الساري فمنحني صاحب هذه المنح من مصون"، وزنه مفعول نقص العين كما في المصباح، أي: محفوظ.
"حقائقه" جمع حقيقة وقد مر معناها لغة، وإنها عند أرباب السلوك العلوم المدركة بتصفية الباطن "وأبرز" أظهر ظهورًا تامًا، وأصله جعله على براز بالفتح، أي: مكان مرتفع، "لي مما أكنه" أخفاه "من مكنون رقائقه" جمع رقيقة، وهي اللطيفة الروحانية، وتطلق على أواسطة اللطيفة الرابطة بين الشيئين، كالمدد الواصل من الحق إلى العبد، وتطلق الرقائق على علوم الطريقة والسلوك، وما يلطف به سر العبد وتزول كثافة النفس، "فانفتحت بالفتح المحمدي عين بصيرة الاستبصار"، قال ابن الكمال: البصيرة قوة للقلب المنور بنور القدس، ترى حقائق الأشياء وبواطنها بمثابة البصر للعين ترى به صورة الأشياء وظاهرها. وقال الراغب: البصر الجارحة كلمح البصر والقوة التي فيها، ويقال لقوة القلب المدركة بصيرة وبصر، ولا يكاد يقال للجارحة بصيرة، انتهى.
"وتنزه الناظر في رياض" أصل التنزه التباعد عن المياه الأرياف، ومنه فلان يتنزه عن الأقذار، أي: يباعد نفسه عنها، ولذا قال ابن السكيت: قول الناس إذا خرجوا إلى البساتين خرجنا نتنزه غلط قال ابن قتيبة: وليس بغلط، لأن البساتين في كل بلدة إنما تكون خارج البلد، فإذا أراد أحد أن يأتيها فقد أراد البعد عن المنازل والبيوت، ثم كثر هذا حتى استعملت النزهة في الخضر والجنان، انتهى. "ارتياض رقائق الأسرار" جمع سر وهو الحديث المكتتم في النفس، وكنى به عن النكاح السر من حيث إنه يكتم، واستعير للخالص، فقيل: هو في سر قومه.
"فاستجليت من أبكار" جمع بكر خلاف الثيب رجلا كان أو امرأة، كما في المصباح "مخدرات" مستورات، "السنة النبوية من كل صورة" تمثال، "معناها واقتبست" أصبت "من تلألؤ مصباح" القنديل أو الفتيلة مأخوذة من الصباح أو الصباحة "مشكاة المعارف من كل بارقة أضواها" أكثرها ضوءا والبارقة، لغة كل ما لمع، والسيف للمعانه وفي اصطلاح الصوفية لائحة(1/33)
واستنشقت من كل عبقة صوفية شذاها، واجتنيت من أفنان لطائف تأويل أي الكتاب العزيز من كل ثمرة مشتهاها، ولازلت في جنات لطائف هذه المنح أغدو وأروح، في غبوق وصبوح، حتى انهلت غمائم المعاني على أرباض.............
__________
ترد من جانب القدس وتنطفئ سريعًا، وهو من أوائل الكشف ومبادئه، ذكره في التوقيف.
"واستنشقت" شممت "من كل عبقة" أي: نكتة تشبه الطيب "صوفية" كلمة مولدة، كما في المصباح. "شذاها" رائحتها. وفي المصباح: قالوا ولا يكون العبق إلا الرائحة الطيبة الذكية، انتهى. منسوبة إلى التصوف، وهو تجريد القلب لله، واحتقار ما عداه بالنسبة لعظمته، وإلا فاحتقار نبي كفر، وقيل فيه غير ذلك، مما عبر فيه كل على مقداره، وقد ألف الأستاذ أبو منصور البغدادي كتابًا في معنى التصوف والصوفي، جمع فيه من أقوال الطريق زهاء ألف قول، مرتبة على حروف المعجم.
"واجتنيت" بمعنى جنيت الثمرة، كما في المصباح، "من أفنان" أغصان جمع فتن محركة، وجمع الجمع أفانين، كما في القاموس.
"لطائف تأويل"، قال ابن الكمال: هو صرف الآية عن معناها الظاهر إلى معنى يحتمله، إذا كان المحتمل الذي يراه موافقًا للكتاب والسنة؛ كقوله: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ} [الأنعام: 95، يونس: 31، الروم: 19] ، إن أريد به إخراج الطير من البيضة كان تفسيرًا، أو إخراج المؤمن من الكافر، أو العالم من الجاهل كان تأويلا، انتهى.
"آي الكتاب العزيز" القوي الغالب على كل كتاب بمعانيه وإعجازه، ونسخه أحكامها، أو العظيم الشريف، أو الذي لا نظير له في الكتب، أو الممتنع من مضاهاته لإعجازه أو التغيير والتحريف لحفظ الله له، "من كل ثمرة" مؤنثة مفردة ثمرات مثل قصبة وقصبات "مشتهاها" مشتاقها.
"ولا زلت" معناه ملازمة الشيء، "في جنات" جمع جنة على لفظها، وتجمع أيضًا على جنان، أي: حدائق.
"لطائف هذه المنح" العطايا "أغدو" أذهب وقت الغداوة، وفي الأصل: ما بين صلاة الصبح وطلوع الشمس، ثم كثر حتى استعمل في الذهاب والانطلاق أي وقت كان، ومنه الحديث: "اغد يا أنيس"، أي: انطلق "وأروح"، قال ابن فاس: الرواح رواح العشي وهو من الزوال إلى الليل. "في غبوق" بمعجمة، قال في القاموس: كصبور ما يشرب بالعشي، "وصبوح" بالفتح شرب الغداة "حتى انهلت غمائم" جمع غمامة، أي: سحائب "المعاني على أرباض" جمع ربض بفتحتين، وهو ما حول المدينة.(1/34)
رياض المباني، فأينعت أزهارها، وتكللت بنفائس جواهر العلوم أوراقها، وطابت لمجتني رقائق الحقائق ثمارها، وتدفقت حياض بدائع ألفاظها، بزلال كلماتها، وخطب خطيب قلوب أبناء الهوى، على منبر الغرام الأقدس، يدعو لكمال محاسن الحبيب الأرأس، فترنحت بسلاف راح الارتياح نفائس الأرواح، وتمايلت بمطربات ألحان الحنين إلى جمال المحبوب كرائم الأشباح، وزمزم مزمزم الصفا، بحضرة خلاصة أولي الوفا، منشدًا مرددًا:
__________
وفي نسخة: على أرض "رياض المباني" ونسخة أرض أنسب بقوله: "فأينعت" بالألف أكثر استعمالا من ينعت، أي: أدركت "أزهارها" جمع زهر، قالوا: ولا يسمى زهرا حتى يتفتح. وقال ابن قتيبة: حتى يصفر. "وتكللت بنفائس جواهر" جمع جوهر على زنة فوعل "العلوم أوراقها" جمع ورق بفتحتين "وطابت" لذة وحلت "لمجتني رقائق الحقائق ثمارها" جمع ثمر بفتحتين مذكر وجمع الجمع أثمار "وتدفقت" انصبت بشدة "حياض" جمع حوض الماء، ويجمع أيضًا على أحواض، وأصل حياض الواو ولكن قلبت ياء للكسرة قبلها، كما في المصباح.
"بدائع ألفاظها بزلال كلماتها" في القاموس ماء زلال كغراب إلى أن قال سريع المر في الحلق بارد عذب صاف سهل، "وخطب" بابه قتل وعظ "خطيب" مفرد خطباء "قلوب أبناء الهوى" بالقصر مصدر هويته إذا أحببته وعلقت به "على منبر" بكسر الميم على التشبيه باسم الآلة من النبر، قال ابن فارس: النبر في الكلام الهمز وكل شيء رفع فقد نبر ومنه المنبر لارتفاعه، "الغرام" وهو ما يصيب الإنسان من شدة ومصيبة "الأقدس" الأطهر "يدعو" ينادي ويطلب الإقبال، "لكمال محاسن الحبيب" في المصباح يستعمل الكمال في الذوات وفي الصفات، يقال: كمل إذا تمت أجزاؤه، وكملت محاسنه، "الأرأس" بالهمز، أي: الشريف القدر "فترنحت" تمايلت "بسلاف" بالضم بخمر "راح" هو أيضًا الخمر، فالإضافة بيانية "الارتياح" الراحة "نفائس الأرواح" جمع روح يذكر ويؤنث، قاله ابن سيده والجوهري، وقال ابن الأعرابي وابن الأنباري: الروح والنفس واحد، غير أن العرب تذكر الروح وتؤنث النفس، "وتمايلت بمطربات" من الطرب، وهو الخفة لشدة حزن أو سرور، "ألحان" جمع لحن، قال في القاموس: من الأصوات المصوغة الموضوعة، ويجمع أيضًا على لحون، "الحنين" المشتاق، "إلى جمال المحبوب كرائم" جمع كريمة، أي: نفائس، "الأشباح" الأشخاص.
"وزمزم" في القاموس الزمزمة، الصوت البعيد له دوي، "مزمزم الصفا" الخلوص من الكدر "بحضرة خلاصة" بالضم "أولي الوفا منشدًا" إنشاد الشعر قراءته، "مرددًا:(1/35)
حضر الحبيب وغاب عنه رقيبه ... حبسي نعيم زال عنه حسيبه
داوى فؤادي الوصل من أدوائه ... طوبى لقلبي والخبيب طبيبه
صدق المحب حبيبه في حبه ... فحباه صدق الحب منه حبيبه
لباه لب فؤاده فأجابه ... لما دعاه إلى الغرام وجيبه
ولجامع الأهواء حيعل حبه ... ........................
__________
"حضر الحبيب وغاب عنه رقيبه"
هو الحافظ، إما لمراعاة رقبة المحفوظ، وإما لرفعة رقبته وغيبته من أجل المنح ونهاية الصفاء، فإن ملازمته أمر يضني ومرض يفني، مع أنه هو المبتلي؛ لأنه سهر وتعب وضاع زمانه وذاب فؤاده، بلا فائدة والعاشق يجد في الغرام لذة عليه عائدة، ولذا قال:
أحب العذول لترديده ... حديث الحبيب على مسمعي
وأهوى الرقيب لأن الرقيب ... أراه إذا كان حبي معي
"حسبي" كافي "نعيم زال" ذهب "عنه حسيبه" عاده، "داوى فؤادي الوصل" ضد الهجر، "من أدوائه" متعلق بفؤادي جمع داء مثل باب وأبواب "طوبى" فعلى من الطبيب أي فرح وقرة عين "لقلبي والحبيب طبيبه" مداويه "صدق المحب حبيبه في حبه" بضم الحاء، قال الحرالي: هو إحساس بوصلة، لا يدرى كنهها "فحباه" أعطاه، "صدق الحب منه حبيبه" فاعل حبي "لباه لب" خالص "فؤاده" في المصباح لب كل شيء خالصه ولبابه مثله، "فأجابه لما دعاه إلى الغرام وجيبه" بالجيم، أي: سببه القوي وهو ميل قلبه ومحبته، "ولجامع الأهواء" جمع هوى مقصور وجمع الممدود أهوية، وقد تطرف من قال:
جمع الهواء مع الهوى في أضلعي ... فتكاملت في مهجتي ناران
فقصرت بالممدود عن وصل الظبا ... ومددت بالمقصور في أكفاني
"حيعل حبه" الحاء والعين لا يجتمعان في كلمة واحدة، إلا أن تؤلف من كلمتين كالحيعلة، قاله الدميري، ونقل المازري عن المطرز في كتاب المواقيت وغيره: أن الأفعال التي أخذت من أسمائها سبعة: بسمل إذا قال باسم الله، وسبحل إذا قال سبحان الله، وحوقل إذا قال لا حول ولا قوة إلا بالله، وحيعل إذا قال حي على الفلاح، وحمدل إذا قال الحمد لله، وهيلل إذا قال لا إله إلا الله، وجعفل إذا قال جعلت فداك، زاد الثعلبي طبقل إذا قال أطال الله بقاك، ودمعز إذا قال أدام الله عزك. انتهى.
وفي قصيدة الشاطبي حسبل، وقبله شراحه وظاهرهم أنها مسموعة، وقول المازري حيصل(1/36)
........................... ... ولحسنه خطب القلوب خطيبه
فلما سمعت هذه المواهب آذان قلوب أولي الألباب، تلفتت عيون أعيانهم لتلخيص خلاصة جوهر هذا الخطاب، في سفر يسفر عن وجه المنح النبوية منيع النقاب،
__________
إذا قال حي على الصلاة قياسًا على حيعل، رده عياض بأن حيعل يطلق عليهما معًا لأنها من حي على كذا ولو صح قياسه لقيل في حي على الفلاح الحيفلة، فكيف وهذا باب مسموع لا يقاس عليه، انتهى.
"ولحسنه خطب القلوب خطيبه "
"فلما سمعت هذه المواهب آذان" جمع أذن بضمتين ويسكن تخفيفًا مؤنثة، "قلوب" ذكر ابن العماد في كشف الأسرار أن للقلب أذنين يسمع بهما، كما في الرأس أذنان "أولي الألباب" جمع لب، قال الراغب: وهو العقل الخالص من الشوائب سمي به لكونه خالص ما في الإنسان من قواه كاللباب من الشيء، وقيل: هو ما زكا من العقل، فكل لب عقل ولا عكس، ولهذا علق الله الأحكام التي لا يدركها إلا العقول الزكية بأولي الألباب نحو: {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ} [البقرة: 269] ، إلى {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} [البقرة: 269, آل عمران: 7] ، وقال الحر: إلى اللب باطن العقل الذي شأنه أن يلحظ الحقائق من الملحوظات، وقال ابن الكمال: هو العقل المنور بنور القدس الصافي عن قشور الأوهام والتخيلات، واللب عند الصوفية، قال بعضهم: ما صين من العلوم عن القلوب المعلقة بالكون، "تلفتت" عطفت وصرفت، قال الزمخشري: لفت رداءه على عنقه عطفه، "عيون أعيانهم" جمع عين، أي: أعين القلوب، فللقلب عين كما أن للبدن عينًا، قاله الراغب.
"لتلخيص" هو استيفاء المقاصد بكلام وجيز. "خلاصة جوهر هذا الخطاب" وهو القول الذي يفهم المخاطب بالكسر المخاطب به شيئًا، وأما أحسن جعله تلفت العيون بعد السماع، فهو على حد قوله:
يا قوم أذني لبعض البحي عاشقة ... والأذن تعشق قبل العين أحيانًا
قالوا بمن لا ترى تهوى فقلت لهم ... الأذن كالعين تؤتي القلب ما كانا
"في سفر" بالكسر، كتاب كبير جمعه أسفار، وسفر الكتاب كتبه، والسفرة الكتبة، ذكره الزمخشري. وقال الراغب: السفر الكتاب الذي يسفر عن الحقائق، انتهى. "يسفر" من أسفر كشف مطلقًا، وقول القاموس: سفرت المرأة تمثيل لا تقييد، كما في النسيم، أي: يكشف "عن وجه المنح النبوية" الوجه الذي به المواجهة، ويكون بمعنى الجهة المقصودة، ويستعار لخيار الشيء وأوله ورأسه ومفعول يسفر، هو "منيع النقاب"؛ ككتاب جمعه نقب ككتب من إضافة(1/37)
فأطلقت عنان القلم إلى تحصيل مآربهم، وتسطير مطالبهم، جانحًا صوب الصواب، مودعًا ما كان مستودعًا لي في غيابات الغيب في هذا الكتاب..................
__________
الصفة للموصوف، أي: النقاب المنيع.
"فأطلقت" من أطلقت الأسير إذا خليت عنه فذهب في سبيله، أي: أرسلت "عنان" ككتاب لجام الدابة من عن يعن اعترض، سمي به لأنه يعن، أي: يعترض الفم فلا يدخله إلا بمحاولة الإدخال. ويقال: جاء ثانيًا عنانه، إذا قضى وطره، وهو ذليل العنان منقاد؛ وفلان طويل العنان، إذا لم يرد عما يرومه لشرفه، "القلم" الذي يكتب فعل بمعنى مفعول؛ كحفر ونقض وخبط، ولذا قالوا: لا يسمى قلما إلا بعد البري وقبله قصبة. قال الأزهري: وسمي السهم قلما لأنه يقلم، أي يبرى، وكل ما قطعت منه شيئًا بعد شيء فقد قلمته، انتهى.
وفي كثير النسخ بدل فأطلقت فثنيت، وفي المصباح ثنيته عن مراده إذا صرفته، فالمعنى هنا صرفت عنان القلم عما كان مشغولا به، "إلى تحصيل" قال ابن فارس: أصل التحصيل استخراج الذهب من المعدن، انتهى. وقال أبو البقاء: التحصيل الإدراك من حصلت الشيء أدركته، وقال غيره: هو إخراج اللب من القشر ومنه: {حُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ} ، أي: أظهر ما فيها.
"مآربهم" حاجتهم جمع مأربة بفتح الراء وضمها وهي الأرب بفتحتين، والأرب بالكسر: الحاجة، "وتسطير" كتابة "مطالبهم" جمع مطلب في المصباح، يكون المطلب مصدرًا وموضع الطلب "جانحًا" مائلا "صوب" هو المطر تسمية بالمصدر، وصابه المطر صوبًا من باب قال، كما في المصباح.
وفي غيره صوب الشيء جهته "الصواب" قال الدماميني: كان المراد به الاستقامة من صاب السهم إذا قصد ولم يحد عن الغرض، والصواب المطر أو نزوله ويمكن أن يرادا هنا على الاستعارة، فأما أن الصواب مشبه بالسحاب فهو استعارة بالكناية وإثبات الصواب له استعارة تخييلية، وأما أنه مشبه بالمطر وأثبت له الصوب المراد به نزول المطر، ووجه التشبيه حصول النفع المبهج للنفوس. وفي صوب الصواب ما يشبه جناس الاشتقاق، انتهى.
"مودعًا" بالكسر "ما كان مستودعًا" بالفتح "لي في غيابات" القاموس غيابة: كل شيء ما سترك منه، ومنه غيابات الجب، انتهى. أي: في مستورات "الغيب" وهو ما غاب عنك جمعه غيوب وغياب، كما في القاموس. "في هذا الكتاب" الحاضر في الذهن إن كانت الخطبة قبل تأليفه، والكتاب لغة يدور على الضم، والجمع من جميع وجوهه، وسمى الخط كتابة لجمع الحروف وضم بعضها إلى بعض، ويطلق على اسم الفاعل واسم المفعول.
قال الأردبيلي: يطلق الكتاب على مطلق الخط وعلى الكلام المكتوب تسمية لاسم(1/38)
مستعينًا في ذلك بالقوي الوهاب، حتى أتاح الله لي ذلك، وتمم ما هنالك، فأوضحت ما خفي من الدليل، ومهدت ما توعر من السبيل.
وسميته: "المواهب اللدنية بالمنح المحمدية" ورتبته على عشرة مقاصد تسهيلا للسالك والقاصد:
__________
المفعول بالمصدر، وعلى مطلق الكلام اتساعًا، كما في قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} [النساء: 105] ، ثم شاع استعماله في التعارف، فيما جمع فيه الألفاظ الدالة على نوع من المعنى أو أكثر لما بين المصدر والمكان من التعلق الخاص، فيقال: أتأتي كتاب عن فلان وسيرت إلى فلان كتابًا ومنه اذهب بكتابي هذا، وأما في عرف المؤلفين فيطلق تارة على مكتوب مشتمل على حكم أمر مستقل منفرد عن غيره، وعن آثاره ولواحقه وتوابعه وأسبابه وشروطه، وتارة على مكتوب مشتمل على مسائل علم أو أكثر، وقد يسمى ذلك المكتوب باسم خاص وهو المراد هنا، "مستعينًا في ذلك بالقوي" الذي لا يلحقه ضعف في ذاته ولا صفاته ولا أفعاله ولا يمسه نصب ولا لغب ولا يدركه قصور ولا تعب، "الوهاب" كثير النعم ذي العطايا سبحانه، من الهبة، وهي العطية بلا سبب سابق ولا استحقاق ولا مقابلة ولا جزاء.
"حتى أتاح" بفتح الهمزة الفوقية فألف فحاء مهملة، أي: يسر "الله لي ذلك وتمم ما هنالك فأوضحت" كشفت وجليت "ما خفي" استتر، "من الدليل" اسم فاعل وهو في الأصل المرشد والمكاشف "ومهدت" سلت "ما توعر" صعب "من السبيل" الطريق يذكر ويؤنث.
"وسميته المواهب اللدنية" المنسوبة للدن، أي: المواهب التي هي من الله لا ينسب منها لغيره شيء لأن ما جرت العادة بحصول مثله من كسب العبد ينسب له، وما كان بالغًا في النفاسة ينسب إلى الله إشارة إلى أنه لا يمكن حصوله من غيره عادة لعزته، على نحو قول العرب لله دره. قال تعالى: {وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا} [الكهف: 65] ، أي: من عندنا، وهذا هو متعلق الصوفية وأهل السلوك في إثبات العلم اللدني نسبة إلى لدن، وهو إلهام المعرفة بالحقائق الغيبية وغيرها، وقال غيره: العلم اللدني يراد به العلم الحاصل بلا كسب ولا عمل للعبد فيه، سمي لدنيًا لحصوله من لدن ربنا لا من كسبنا. وقد صنف الغزالي كتابًا في بيان هذا وبين فيه كيفية حصوله، وأنه لا يمكن أن يحصل بكسب، وذكر فيه قول علي: لو طويت لي وسادة لحكمت بين أهل التوراة بتوراتهم، وبين أهل الإنجيل بإنجيلهم، ولقلت في الباء من بسم الله وقر سبعين جملا. قال: ومعلوم أن عليًا -كرم الله وجهه- إنما أخذه من لدن ربه لا من تعليم بشر، انتهى.
ولا يشكل بقوله صلى الله عليه وسلم: "إنما العلم بالتعلم"، رواه ابن أبي عاصم والطبراني والعسكري وغيرهم، وسنده حسن. كما قال الحافظ وجزم به البخاري تعليقًا لجواز أن المراد علم الأحكام والقرآن والأحاديث النبوية، إذ لا طريق إلى معرفتها إلا بالتعليم، فأل، عهدية ولا شك أن عليًا(1/39)
المقصد الأول:
في تشريف الله تعالى له عليه الصلاة والسلام بسبق نبوته في سابق أزليته،
__________
كان قد تعلم القرآن والسنة والأحكام قبل أن يقول ذلك "بالمنح" الكاملة "المحمدية" فأل، للكمال، فالتعبير بها أولى بالمدح، فلا يرد أنه يوهم استيعابه جميعها هنا، ولا كذلك "ورتبته" أي: الكتاب، أي المقصود منه بالذات فلا ينافي أن الخطبة مقصودة والترتيب لغة جعل كل شيء في مرتبته، وعرفا جعل الأشياء الكثيرة بحيث يطلق عليها اسم الواحد، ويكون لبعض أجزائه نسبة إلى بعضها بالتقدم والتآخر، والمراد ألفته مرتبا فأل كونه مشتملا "على عشرة مقاصد" جمع مقصد بالكسر، المقصود من مكان أو غيره، وبما ذكر لا يرد أن ترتيبه عليها يفيد أنه غيرها ضرورة أن المرتب على شيء يغاير ما رتب عليه، "تهسيلا" تليينًا "للسالك والقاصد" اسم فاعل، أي: الآتي، أي: الشارع في قراءة "هذا" الكتاب والطالب للوقوف عليه.
"المقصد الأول في" بيان "تشريف الله تعالى" حال لازمة، أي: متعاليًا عما لا يليق بعلى جناب قدسه، قال العكبري: وهو تفاعل من علو القدر والمنزلة هنا، وأصل تفاعل لتعاطي الفعل كتخاشع، وكذا تفعل كتكبر وهما في حقه تعالى بمعنى التفرد لا بمعنى التعالي، انتهى.
"له عليه الصلاة والسلام" أي: فيما يدل على شرفه من الأحاديث وغيرها، "بسبق نبوته" أي: تقدمها ولم يشتغل الأكثر بتعريف النبوة والرسالة، بل بالنبي والرسول وقد عرفها إمام الحرمين بأنها صفة كلامية هو قول الله تعالى: هو رسولي، وتصديقه بالأمر الخارق، كما مر.
وقال الغزالي: النبوة عبارة عما يختص به النبي ويفارق به غيره، وهو يختص بأنواع من الخواص، أحدها: أنه يعرف حقائق الأمور المتعلقة بالله وصفاته وملائكته والدار الآخرة، علمًا مخالفًا لعلم غيره، بكثرة المعلومات وزيادة الكشف والتحقيق، ثانيها: أن له في نفسه صفة، بها تتم الأفعال الخارقة للعادة، كما أن لنا صفة تتم بها الحركات المقرونة بإرادتنا وهي القدرة ثالثها: أن له صفة بها يبصر الملائكة ويشاهدهم، كما أن للبصير صفة بها يفارق الأعمى، رابعها: أن له صفة بها يدرك ما سيكون في الغيب، فهذه كمالات وصفات ينقسم كل منها إلى أقسام, انتهى.
"في سابق أزليته" قال في التوقيف الأزل: القدم، ليس له ابتداء ويطلق مجازا على ما آل عمره، والأزل: استمرار الوجود في أزمنة مقدرة غير متناهية في جانب الماضي، كما أن يد استمراره كذلك في المآل، والأزلي ما ليس مسبوقًا بالقدم وللوجود ثلاثة لا رابع لها، أزلي(1/40)
ونشره منشور رسالته في مجلس مؤانسته، وكتبه توقيع عنايته في حظائر قدس كرامته، وطهارة نسبه وبراهين أعلام آيات حمله وولادته ورضاعه وحضانته، ودقائق حقائق بعثته وهجرته، ولطائف معارف مغازيه وسراياه وبعوثه وسيرته، مرتبًا على السنين من حين نشأته إلى وقت وفاته ونقلته لرياض روضته صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأزواجه وأصحابه.
__________
أبدي وهو الحق سبحانه وتعالى، ولا أزلي ولا أبدي وهو الدنيا، وأبدي غير أزلي وهو الآخرة، وعكسه محال، إذ ما ثبت قدمه استحال عدمه، انتهى.
"ونشره" بوزن نصر مصدر نشر، أي: إظهاره "منشور رسالته" أي: أثرها من الأحكام التي هي حياة للعالم، وبهذا التفسير لا يرد أن نشر المنشور من تحصيل الحاصل أو يراد بالمنشور ما من شأنه أن ينشر، فنشره عبارة عن إخراجه من القوة إلى الفعل "في مجلس مؤانسته" أي: مقام رحمته لعباده في الملأ الأعلى، بجعلهم آمنين غير مستوحشين، فالمراد لازم المؤانسة وبالمجلس أيضًا لازمه، وهو مطلق الوجود لتعاليه سبحانه عن الحسي وهو موضع الجلوس، جمعه مجالس ويطلق على أهله مجازًا تسمية للحال باسم المحل، "وكتبه" أي: إثباته، "توقيع" تعلق "عنايته", ومنه قولهم مواقع الغيث مساقطه "في حظائر قدس كرامته" أي: مواضع طهارته، "وطهارة نسبه" عما كان في الجاهلية من نحو السفاح "وبراهين" حجج "أعلام آيات" إضافة بيانية "حمله وولادته" وضعه "ورضاعه" بفتح الراء كرضاعة مصدر أرضع يرضع بفتحتين لغة، كما في المصباح. قال: ولغة نجد رضع رضعًا من باب تعب، ولغة تهامة من باب ضرب، وأهل مك يتكلمون بها.
"وحضانته ودقائق حقائق بعثته وهجرته" من مكة إلى طابة بكسر الهاء لغة، مفارقة بلد إلى غيره فإن كانت قربة لله فهي الشرعية، كما وقع لكثير من الأنبياء. "ولطائف معارف مغازيه" جمع مغزاة "وسراياه" جمع سرية وتجمع أيضًا على سريات؛ كعطية وعطايا وعطيات، وهي قطعة من الجيش تخرج منه وتعود إليه. "وبعوثه" جمع بعث تسمية بالمصدر، وهو الجيش، كما في القاموس وغيره. وفي كلام المصنف الآتي أنه ما افترق من السرية.
"وسيرته" أي: طريقته وهيئته لا ما اصطلح عليه لكونه قدمه حال كوني. "مرتبًا" بالكسر اسم فاعل أو حال كونه مرتبًا بالفتح اسم مفعول أو هو مفعول ثان لجعل مقدرة، أي: وجعلته مرتبًا "على السنين" فيقدم ما وقع في الأولى ثم الثانية وهكذا، وإن كان الأنسب ذكره من حيث ما ينضم إليه في غيره -وهذا أغلبي- لذكره كفاية المستهزئين بعد الأمر بالصدع، لمناسبة كون آيته بعد تلك الآية، وإن كان غيره إنما ذكره قبل انشقاق القمر وكذكره بعض ما وقع للمسلمين من أذى الكفار بعد إسلام حمزة وبعث المشركين إلى اليهود، "من حين نشأته" أي: وجوده، "إلى وقت" زمن "وفاته" أي: موته، "ونقلته" تحوله "لرياض روضته صلى الله عليه وسلم وعلى آله(1/41)
المقصد الثاني:
في ذكر أسمائه الشريفة المنبئة على كمال أخلاقه المنيفة، وأولاده الكرام الطاهرين وأزواجه الطاهرات أمهات المؤمنين، وأعمامه وعماته، وإخوته من الرضاعة، وجداته وخدمه ومواليه وحرسه، وكتابه وكتبه إلى أهل الإسلام في الشرائع والأحكام، ومكاتباته إلى الملوك وغيرهم من الأنام ومؤذنيه وخطبائه وحدائه وشعرائه، وآلات حروبه، ودوابه، والوافدين إليه صلى الله عليه وسلم وفيه عشرة فصول.
__________
وأزواجه" جمع زوج على اللغة العالية التي جاء بها القرآن، نحو {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} [البقرة: 35، الأعراف: 19] ، وبالهاء لغة نجدية تكلم بها أهل الحرم، قال أبو حاتم وغيره، وجمعها زوجات، وقول ابن السكيت: أهل الحجاز بلا هاء، وباقي العرب بالهاء فيه نظر، فقد قال الأصمعي: لا تكاد العرب تقول زوجة. "وأصحابه" كذا في النسخ، والمناسب للسجع وصحابته.
"المقصد الثاني: في ذكر أسمائه" في الفصل الأول منه "الشريفة" مع شرح بعضها "المنبئة" صفة لازمة بين بها دلالة جميعها "على" وفي نسخة عن "كمال أخلاقه" سجاياه، "المنيفة" الزائدة في الكمال على غيرها من قولهم أنافت الدراهم على المائة زادت، ووجه إثباتها من الأسماء التي هي صفات إن أريد بها معنى الوصفية، كالمزمل والمتوكل ظاهر، وأما الأعلام المنقولة كمحمد فباعتبار المعنى اللغوي لا سيما وقد لوحظ ذلك في الوضع، إذ جعل سبب التسمية أو باعتبار أنه يفهم ذلك المعنى منها عند الاستعمال، بالنظر لخصوص أسماء المصطفى، وإن كانت الأعلام بحسب الوضع إنما تدل على مجرد الذات.
"و" الفصل الثاني في ذكر "أولاده الكرام الطاهرين" صفتان كاشفتان "وأزواجه الطاهرات أمهات المؤنين" مع بيان هل يقال لهن أمهات المؤمنات وهو الفصل الثالث، وفيه ذكر سراريه أيضًا، "وأعمامه" جمع عم "وعماته" جمع عمة "وإخوته" آثر جمع المذكر تغليبًا؛ كما في قوله: وإن كان له إخوة، إذ المراد ما يشمل الإناث، كما يأتي في كلامه. "من الرضاعة" قيد لبيان الواقع إذ ليس له أخ ولا أخت من النسب، وقد قال الواقدي: المعروف عندنا وعند أهل العلم أن آمنة وعبد الله لم يلدا غير رسول الله صلى الله عليه وسلم، انتهى.
"وجداته" وهو الفصل الرابع، "وخدمه" جمع خادم، غلامًا كان أو جارية وبالهاء فيها قليل، "ومواليه وحرسه" وهو الفصل الخامس، "وكتابه" جمع كاتب، "وكتبه إلى أهل الإسلام في الشرائع"، جمع شريعة سميت باسم الشريعة، وهي مورد الناس للاستقاء لوضوحها وظهورها، "والأحكام ومكاتباته إلى الملوك وغيرهم من الأنام" وهو الفصل السادس وفيه ذكر(1/42)
المقصد الثالث:
فيما فضله الله تعالى به من كمال خلقته، وجمال صورته، وكرمه به من الأخلاق الزكية وشرفه به من الأوصاف المرضية، وما تدعو ضرورة حياته إليه صلى الله عليه وسلم وفيه ثلاثة فصول.
__________
أمرائه ورسله. "و" في ذكر "مؤذنيه وخطبائه وحدائه وشعرائه" وهو الفصل السابع، "وآلات حروبه" جمع آلة وهو الفصل الثامن. "و" في ذكر "دوابه" وهو التاسع، "والوافدين إليه صلى الله عليه وسلم" وهو الفصل العاشر، "وفيه عشرة فصول" قد علمتها واستحرت من الكشف.
"المقصد الثالث: فيما فضله الله تعالى به"، أي: في صفات صيره بها أفضل من غيره، من فضل مخففًا على غيره زاد. "من كمال خلقته"، إيجاد أجزاء بدنه تامة معتدلة المقادير "وجمال صورته" أي: حسنها الظاهر في جسده بتناسب أعضائه وصفاء لونه واعتدال قده، وقيل: المراد حسن وجهه وحسن الصورة أمر محمود يدل على حسن السريرة ويمدح به كمل الرجال، ولذا خطأ الآمدي من اعترض على أبي تمام في وصف ممدوحه بالجمال؛ لأنه يليق بالغزل لما ذكر، فقال في كتاب الموازنة: جمال الوجه وحسنه مما يتمدح به، لأنه يتميز به ويدل على الخصال الممدوحة ويزيد في الهيبة، والدمامة يذم بها لعكس ذلك، وقد غلط فيه من توهم أنه لا يدخل في مدح العظماء، انتهى. وهذا هو الفصل الأول.
"و" الثاني: فيما "كرمه" أي: عظمه وميزه على غيره، "سبحانه به من الأخلاق الزكية" جمع خلق وهو الموصوف الذي طبع عليه واكتسبه وجمعه بناء على تعدده، كما صار إليه كثيرون، أو باعتبار ما ينشأ عنه من حميد الأوصاف، "وشرفه" أعلاه "به" على غيره في الكتاب العزيز وغيره، "من الأوصاف المرضية" القائمة به مساوٍ في المعنى لما قبله.
"و" الفصل الثالث في "ما تدعو ضرورة حياته إليه" متعلق بتدعو أو بضرورة أو بهما على التنازع، والضرورة شدة الاحتياج باعتبار العادة البشرية، وفي عبارة لطف لإيمائه إلى أنه ليس مضطرًا إليه كغيره، وإنما الضرورة هي التي دعته وطلبته، كما قال البوصيري:
وكيف تدعو إلى الدنيا ضرورة من ... لولاه لم تخرج الدنيا من العدم
"صلى الله عليه وسلم، وفيه ثلاثة فصول" علمت.(1/43)
المقصد الرابع، المقصد الخامس
...
المقصد الرابع:
في معجزاته الدالة على ثبوت نبوته وصدق رسالته وما خص به من خصائص آياته وبدائع كراماته. وفيه فصلان:
المقصد الخامس:
في تخصيصه عليه الصلاة والسلام بلطائف المعراج والإسراء، وتعميما بعموم لطائف التكريم في حضرة التقريب بالمكالمة والمشاهدة والآيات الكبرى.
__________
"المقدمة الرابعة في معجزاته الدالة على ثبوت نبوته" صفة لازمة لا مخصصة؛ لأن معجزاته كلها دالة على ثبوت، "وصدق رسالته" أي: قوتها، في القاموس الصدق بالكسر الشدة فهو مساوٍ للثبوت فغاير تفننا، أو المراد صدقه في ادعاء الرسالة وهذا الفصل الأول، "و" الثاني في "ما خص به" أي: ثبت له دون غيره من الأنبياء أو أممهم وهو عطف على معجزاته عطف عام على خاص، "من خصائص آياته" من إضافة الصفة للموصوف، أي: آياته الخاصة به أي: الفاضلة في الشرف على غيرها فلا يرد أن شرط المبين أن يزيد على المبين اسم مفعول، "وبدائع كراماته" أي: كراماته البديعة التي تفرد بها من بين المكرمات فالصفة مضافة لموصوفها، والمكرمات أمر أكرم الله به من اصطفاه من عباده المتقين بدون تحد ودعوى نبوة، فتكون للنبي والولي، وأعم من المعجزة لاشتراط مقارنة النبوة والتحدي بالقوة أو بالفعل، فخرج بقولهم أكرم ... إلخ السحر وما يصدر عن الكهنة والشياطين. "وفيه فصلان" علمًا.
"المقصد الخامس: في تخصيصه عليه الصلاة والسلام بلطائف" وفي نسخة بخصائص والتخصيص، قال الراغب: تفرد بعض الشيء بما لا تشاركه فيه الجملة. والأصوليون، قصر العام على بعض أفراده بدليل مستقل مقترن به وحمله عليه شيخنا، فقال: أي قصره عليها يعني قصرًا إضافيًا دون غيره من الأنبياء فلا يشكل عليه بكثرة المعجزات، فالصواب التعبير بقصرها عليه لأن يجعله إضافيا يساوي ذلك "المعراج" بكسر الميم وتفتح، المصعد مفعال من العروج، "والإسراء" قال الحافظ الدمياطي الإسراء عبارة عن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم من مكة للمسجد الأقصى، والمعراج سلم من نور أو من جوهر تصعد فيه الأرواح إلى السماء ويطلق كل منهما على ما يشمل الآخر "ونعيمه" تسويده من عمم الرجل بالبناء للمفعول سود، أي: جعل سيدًا لأن العمائم تيجان العرب، كما في الصحاح، وهو لفظ حديث مرفوع أخرجه الديلمي عن ابن عباس، والقضاعي عن علي بزيادة: والاحتباء حيطانها، وجلوس المؤمن في المسجد رباطه، وهو ضعيف.
وفي نسخة: تكريمه، "بعموم" أي: كثرة "لطائف الكريم في حضرة التقريب" هي عند(1/44)
المقصد السادس:
فيما ورد في آي التنزيل من عظم قدره، ورفعة ذكره، وشهادته تعالى له بصدق نبوته، وثبوت بعثته، وقسمه تعالى على تحقيق رسالته، وعلو منصبه الجليل ومكانته، ووجوب طاعته واتباع سنته وأخذه تعالى له الميثاق على سائر النبيين فضلا ومنة إن أدركوه ليؤمنن به ولينصرنه، والتنويه به في الكتب السالفة كالتوراة والإنجيل، بأنه صاحب الرسالة والتبجيل، وفيه عشرة أنواع.
__________
الصوفية مقام للكامل المكمل بغير واسطة بشر، وهو النبي يأخذ عن الحق ما به يحصل كمال الحق المخلوق، كما في لطائف الكاشي "بالمكالمة والمشاهدة" لله سبحانه على القول بأنه رآه وهما من أعظم الآيات، فعطفه "والآيات الكبرى" عام على خاص، وأتى بهذا لئلا يتوهم غبي أن المراد القرب المكاني.
"المقصد السادس: فيما ورد في آي التنزيل" القرآن، جمع آية، وهي ألفاظ منه ذات مقطع ومبدأ مندرجة في سورة، "من عظم قدره" أي: مقداره وشرف رتبته وتكون بمعنى التعظيم كما في قوله: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الأنعام: 91] ، أي: عظموه حق تعظيمه في أحد الوجوه فيه "ورفعة" بكسر الراء آخر تاء تأنيث مضاف إلى "ذكره" وإن قرئ رفع بفتح الراء، والضمير للتنزيل فذكره بالنصب "وشهادته تعالى" عما لا يليق بعلى كماله "له بصدق نبوته" والشهادة خبر قاطع، كما في القاموس.
"وثبوت بعثته وقسمه" بفتحتين "تعالى على تحقيق رسالته وعلو منصبه" بفتح الميم وكسر الصاد المهملة في كلام العرب، بمعنى: الحسب والشرف، كما ذكره اللغويون واستفاض في كلام الفصحاء، وفي المصباح يقال له منصب وزان مسجد، أي: علو ورفعة، وفلان له منصب صدق يراد به المنبت والمحتد، وامرأة ذات منصب، انتهى. وأما المنصب بمعنى الولايات ففي النسيم أنه مولد لم يرد في كلامهم أصلا؛ كقوله:
نصب المنصب أوهى جلدي ... وعنائي من مداراة السفل
فكأنه للنصب فيه للنظر في الأمور، أو هو من النصب والحيلة وكذا إطلاقه على ما يوضع عليه القدر مولد. "الجليل" العظيم "ومكانته" عظمته عنده من قولهم كما في المصباح: مكن فلان عند السلطان مكانة، وزان ضخم ضخامة، عظم عنده وارتفع فهو مكين، انتهى. أو استقامته، يقال الناس على مكانتهم، أي: على استقامتهم كما في المختار، وفي النسيم: المكان معروف، فإن زيد فيه الهاء أريد به المرتبة المعنوية؛ كالمنزل والمنزلة. "ووجوب طاعته واتباع سننه"(1/45)
المقصد السابع:
في وجوب محبته واتباع سنته، والاهتداء بهديه وطريقته، وفرض محبة آله وأصحابه، وقرابته وعترته وحكم الصلاة والتسليم عليه، زاده الله فضلا وشرفًا لديه، وفيه ثلاثة فصول.
__________
طريقته "وأخذه تعالى له الميثاق على سائر النبيين فضلا منه إن أدركوه ليؤمنن به ولينصرنه والتنويه به" بالجر، أي: يذكره، يقال: ناه بالشيء نوها من باب قال ونوه به تنويهًا رفع ذكره وعظمه، وفي حديث عمر: أنا أول من نوه بالعرب، أي: رفع ذكرهم بالديوان والإعطاء، كما في المصباح. "في الكتب السالفة" الماضية؛ "كالتوراة والإنجيل" قيل: مشتقان من الورى والنجل، ووزنهما تفعلة وأفعيل ورد بأنه تعسف لأنهما أعجميتان، ويؤيده أنه قرئ الإنجيل بفتح الهمزة، وهو ليس من أبنية العرب.
"بأنه صاحب الرسالة" العامة على وجه لم يوجد لغيره، "والتبجيل" التعظيم والتوقير، "وفيه عشرة أنواع" الأول: في آيات تتضمن عظم قدره إلى آخره، والثاني: في أخذ الله له الميثاق على النبيين فضلا، والثالث: في وصفه له بالشهادة وشهادته له بالرسالة، والرابع: في التنويه به في الكتب السالفة، والخامسة: في أقسامه على تحقيق رسالته وفيه خمسة فصول، والسادس: في وصفه له بالنور والسراج المنير، والسابع: في وجوب طاعته، والثامن: فيما يتضمن الأدب معه، والتاسع: في رده تعالى على عدوه، والعاشر: في إزالة الشبهات عن آيات وردت في حقه متشابهات. وهذا وإن لم يكن شيئًا، ففيه إراحة للخاطر ولئلا يتوهم أنه على نسق ما قبله وعبر هنا، وفي التاسع بأنواع تفننا إذ المراد من الأنواع والفصول واحد.
"المقصد السابع: في وجوب محبته, و" وجوب اتباع سنته, و" وجوب "الاهتداء بهديه" ومعنى الوجوب اعتقاد حقية ما أمر به عن الله تعالى، وأما مباشرة الفعل فتختلف في الوجوب والندب والإباحة، ولا يشكل بأن المندوب يجب بالنذر لأمره صلى الله عليه وسلم بالوفاء بالنذر، كالقرآن فهو من سنته وهديه، "وطريقته" وهذا هو الفصل الأول "وفرض محبة آله وأصحابه وقرابته وعترته" بكسر العين وسكون الفوقية، أي: نسله.
قال الأزهري: وروى ثعلب عن ابن الأعرابي أن العترة ولد الرجل وذريته وعقبه من صلبه ولا تعرف العرب م العترة غير ذلك، ويقال: رهطه الأدنون، ويقال: أقرباؤه، ومنه قول أبي بكر(1/46)
المقصد الثامن، المقصد التاسع
...
المقصد الثامن:
في طلبه صلى الله عليه وسلم لذوي الأمراض والعاهات، وتعبيره الرؤيا، وإنبائه بالأنباء المغيبات، وفيه ثلاثة فصول.
المقصد التاسع:
في لطيفة من حقائق عبادته، ويشتمل على سبعة أنواع.
__________
نحن عترة رسول الله التي خرج منها، وبيضته التي تفقأت عنه.
وعليه قول ابن السكيت: العترة والرهط بمعنى، ورهط الرجل قومه وقبيلته الأقربون، وكأنه ذكر فرض للاهتمام بطول الفصل، وغاير في التعبير فلم يقل وجوب تفننًا؛ لأنهما بمعنى عند الأكثرين، ولا يصح حمله هنا على مذهب الفارقين، لأن المقام يأباه، إذا يصير معناه محبة المصطفى بدليل ظني، وآله وما عطف عليه بدليل قطعي وهذا الفصل الثالث باللام، "و" الفصل الثاني بالنون في "حكم الصلاة والتسليم عليه" فرضية وسنية وفضيلة وصفة ومحلا "زاده الله فضلا وشرفًا لديه" عنده, "وفيه ثلاثة فصول".
"المقصد الثامن: في طبه صلى الله عليه وسلم لذوي الأمراض" جمع مرض، وهو كما في المصباح حالة خارجة عن الطبع، ضارة بالفعل، ويعلم من هذا أن الآلام والأورام أعراض عن المرض. وقال ابن فارس: المرض كل ما خرج به الإنسان عن حد الصحة من علة أو نفاق أو تقصير في أمر.
"والعاهات" جمع عاهة في تقدير فعلة -بفتح العين- أو الآفات، وهذا الفصل الأول، "و" الثاني في "تعبيره" تفعيل من عبرت الرؤيا مشددًا للمبالغة وأنكرها الأكثرون، وقالوا الوارد التخفيف؛ كما في قوله: {إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ} [يوسف: 43] ، لكن أثبتها الزمخشري اعتمادًا على بيت أنشده المبرد في الكامل، حيث قال:
رأيت رؤيا ثم عبرتها ... وكنت للأحلام عبارا
أي: تفسيره "الرؤيا" بوزن فعلى، وقد تسهل الهمزة، ما يراه الشخص في منامه، "و" الفصل الثالث في "إنبائه بالأنباء" إخبار الأخبار "المغيبات" بإلهام أو وحي، "وفيه ثلاثة فصول.
"المقصد التاسع: في لطيفة" من لطف بالضم صغر جسمه لا بالفتح إذا رفق "من حقائق عباداته ويشتمل عى سبعة أنواع" الطهارة والصلاة والزكاة والصوم والاعتكاف والحج، والسابع نبذة من أدعيته وذكره وقراءته.(1/47)
المقصد العاشر:
في إتمامه تعالى نعمته عليه بوفاته ونقلته إليه، وزيارة قبره الشريف، ومسجده المنيف، وتفصيله في الآخرة بفضائل الأوليات الجامعة لمزايا التكريم، والدرجات العمليات، وتشريفه بخصائص الزلفى في مشاهد الأنبياء والمرسلين، وتحميده بالشفاعة والمقام المحمود، وانفراده السؤدد في مجمع مجامع الأولين والآخرين، وترقيه في جنة عدن أرقى معارج السعادة، وتعاليه في يوم المزيد أعلى معالي
__________
"المقصد العاشر: في إتمامه تعالى نعمته عليه" قال الإمام الرازي: النعمة المنفعة على جهة الإحسان إلى الغير، فخرج بالمنفعة المضرة المحضة والمنفعة المفعولة لا على جهة الإحسان إلى الغير، كأن قصد الفاعل نفسه كمن أحسن إلى جاريته ليربح فيها، أو أراد استدراجه بمحبوب إلى ألم أو أطعم غيره نحو سكر أو خبيص مسموم ليهلك فليس بنعمة. وقال الراغب: النعمة ما قصد به الإحسان والنفع، "بوفاته" موته وأصله من توفيت الشيء إذا أخذته كله، قاله أبو البقاء.
"ونقلته إليه" وهو الفصل الأول "و" الثاني في "زيارة قبره" هو مقر الميت، وهو في الأصل مصدر قبرته إذا دفنته، وهو هنا بمعنى المقبور فيه، كما في التوقيف. "الشريف" شرفًا ما ناله غيره بحيث صار أفضل البقاع إجماعًا، "ومسجده المنيف" المرتفع في الشرف على غيره، حتى المسجد الحرام أو إلا المسجد الحرام على القولين، "و" الفصل الثالث في "تفضيله" في الآخرة بفضائل الأوليات" أي: بالأمور التي يتقدم وصفه بها على جمع الخلق، ككونه أول من تنشق عنه الأرض، وأول شافع، وأول من يقرع باب الجنة "الجامعة لمزايا" فضائل "التكريم والدرجات" جمع درجة، أي: المراتب، "العليات وتشريفه بخصائص الزلفى" فعلى من أزلف، أي: القربى، "في مشاهد الأنبياء والمرسلين وتحميده بالشافعة" العظمى العامة، "والمقام المحمود" وهو مقام يقوم فيه للشفاعة العظمى فيحمده فيه الأولون والآخرون، ولا شك أنه مغاير للشفاعة وإن احتوى عليها على كلام فيه مبين.
"وانفراده بالسؤدد" بالضم المجد والشرف "في مجمع" بكسر الميم وفتحها، وجمعه "مجامع" يطلق على الجمع وعلى موضع الاجتماع، كما في المصباح. "الأولين والآخرين وترقيه في جنة عدن" إقامة "أرقى معارج" جمع معرج ومعراج، كما مر. "السعادة" وهي كما في التوقيف معاونة الأمور الإلهية للإنسان على نيل الخير ويضادها الشقاوة، "وتعاليه في يوم المزيد" وهو يوم الجمعة في الجنة، كما في مسند الشافعي عن المصطفى عن جبريل "أعلى معالي(1/48)
الحسنى وزيادة. وفيه ثلاثة فصول.
والله تعالى جل جده وعز مجده أسأل بوجاهة وجهه الوجيه ونبيه النبيه أن يمدني في هذا الكتاب بمدد الإقبال والقبول، وينيلني ومن كتبه أو قرأه أو سمعه والمسلمين من لطائف العواطف المحمدية لطائف السول، ونهاية المأمول، وعلى الله قصد السبيل وهو حسبنا ونعم الوكيل.
__________
"الحسنى وزيادة".
قال الراغب: الزيادة أن ينضم إلى ما عليه الشيء في نفسه شيء آخر، وقد تكون زيادة مذمومة كالزيادة على الكفاية، كزائد الأصابع، أو قوائم الدابة، وقد تكون محمودة نحو للذين أحسنوا الحسنى وزيادة وهي النظر إلى وجه الله.
"وفيه ثلاثة فصول" قد علمتها "والله تعالى جل جده" بفتح الجيم وشد الدال تكون بمعنى الحظ والغنى ومنه: ولا ينفع ذا الجد منك الجد، يقال: جد بمعنى عظم، وإسناد التعالي للمبالغة، كجد جده فهو إسناد مجازي أو استعارة مكنية. "وعز" غلب "مجده" المجد: العز والشرف، ففي إسناد العز له المبالغة والله بالنصب قدم على عامله للتخصيص عند البيانيين، والحصر عند النحاة، أي: والله لا غيره.
"أسأل بوجاهة" هو الحظ والرتبة "وجهه الوجيه" قال بعض العلماء: وجه الله مجاز عن ذاته عز وجل. تقول العرب: أكرم الله وجهك بمعنى. وفي التوقيف: الوجيه من فيه خصال حميدة من شأنه أن يعرف ولا ينكر، "ونبيه النبيه" الشريف في المصباح، نبه بالضم نباهة شرف، فهو نبيه، "أن يمدني" يعينني "في هذا الكتاب بمدد" بزيادة "الإقبال والقبول" بفتح القاف وضمها لغة حكاها ابن الأعرابي، وهو كما في التوقيف ترتب الغرض المطلوب من الشيء على الشيء.
"وينيلني" يبلغني، "ومن كتبه أو قرأه أو سمعه والمسلمين" وإن لم يقع منهم ذلك "من لطائف العواطف المحمدية لطائف السول ونهاية المأمول" قال أبو البقاء: النهاية ما به يصير الشيء ذا كمية، أي: حيث لا يوجد وراءه شيء منه. وقيل: نهاية الشيء آخره أصلا من النهي وهو المنع، والشيء إن بلغ آخره امتنع من الزيادة، فإن قيل: قد قال صلى الله عليه وسلم: "لا يسل بوجه الله إلا الجنة". رواه أبو داود، وقال: "ملعون من سأل بوجه الله"، رواه الطبراني.
قلت: لما كان ما سأله يرجع إلى سؤال الجنة ساغ له ذلك، وقد استظهر أن النهي للتنزيه "وعلى الله قصد السبيل" بيان مستقيم الطريق الموصل إلى الحق، أو إقامة السبيل وتعديلها رحمة وفضلا، "وهو حسبنا" محسبنا وكافينا من أحسبه إذا كفاه، ويدل على أنه بمعنى المحسب(1/49)
المقصد الأول: في تشريف الله تعالى له عليه الصلاة والسلام
مدخل
...
المقصد الأول: في تشريف الله تعالى له عليه الصلاة والسلام
بسبق نبوته في سابق أزليته......
__________
أنه لا يستفيد بالإضافة تعريفًا في قولك هذا رجل حسبك، "ونعم الوكيل" ونعم الموكول إليه هو، ذكره في الأنوار، وهذا اقتباس، وهو جائز عند المالكية والشافعية بإتفاق غير أنهم كرهوه في الشعر خاصة هكذا.
حكى اتفاق المذهبين الشيخ داود الشاذلي الباهلي وقد نص على جوازه القاضي عياض وابن عبد البر وابن رشيق والباقلاني وهم من أجلة المالكية، والنووي شيخ الشافعية، ورواه الخطيب البغدادي وغيره بالإسناد إلى الإمام مالك أنه كان يستعمله.
قال السيوطي: هذه أكبر حجة على من يزعم أن مذهب مالك تحريمه، وقد نفى الخلاف في مذهبه الشيخ داود وهو أعرف بمذهبه، وأما مذهبنا فأنا أعرف أن أئمته مجمعون على جوازه والأحاديث الصحيحة والآثار عن الصحابة والتابعين تشهد لهم، فمن نسب إلى مذهبنا تحريمه فقد فسر وأبان عن أنه أجهل الجاهلين، انتهى. وهذا منه يقضي بغلطه فيما أورده في عقود الجمعان.
المقصد الأول:
اعلم: أن في أسماء الكتب وألفاظ التراجم احتمالات أقربها أن المراد بها الألفاظ والمعروف أنها ظروف وقوالب للمعاني، فإذا عكس كما هنا فهو بتقدير مضاف، أي: "في" بيان "تشريف الله تعالى له عليه الصلاة والسلام"، وبيان بمعنى مبين، أي: ما من شأنه أن يبين به، ولا شك أن ما ذكره بعض ما يمكن به البيان، فهو من ظرفية الكل لجزئه ويجوز أنه استعارة أو تشبيه للمعاني بالظروف، بجامع أن الألفاظ لا تزيد المظروف على ظرفه المشتمل عليه، أو -في- بمعنى على والتقدير هذه ألفاظ مخصوصة دالة على تشريف، أو بمعنى اللام والمراد بكونه فيه: أنه مقصود منه فلا ينافي ذكر غيره بطريق التبع، "بسبق" تقدم "نبوته" وذلك السبق موجود "في سابق أزليته" أي: ما هو قبل خلق الأشياء، فلا يقال السبق لا يكون مظروفًا في السبق، أو جعل الأزلية ظرفًا يستدعي عدم مسبوق تقدم نبوته بالأولية, فيلزم أن لا أول لتقدم نبوته، كما أنه لا أولى للأزلي، كذا قال شيخنا قال في المجمل: الأزل: القدم، يقال: هو أزلي، والكلمة ليست بمشهورة في كلام العرب، وأحسب أنهم قالوا في القديم: لم يزل ثم نسب إليه، فلم يستقم إلا باختصار، فقالوا: يزلي ثم أبدلوا الياء ألفًا، وقيل: الأزل اسم لما يضيق القلب عن(1/50)
ونشره منشور رسالته في مجلس مؤانسته، وكتبه توقيع عنايته في حظائر قدس كرامته.
وطهارة نسبه. وبراهين أعلام آيات حمله وولادته. ورضاعه وحضانته. ودقائق حقائق بعثته. وهجرته. ولطائف معارف مغازيه وسراياه وبعوثه. وسيرته.
مرتبًا على السنين من حين نشأته إلى وقت وفاته ونقلته لرياض روضته.
اعلم يا ذا العقل.........................
__________
بدايته من الزل وهو الضيق فهمزته أصلية.
"ونشره" إظهاره وإذاعته "منشور رسالته في مجلس مؤانسته" أي الله سبحانه أو النبي صلى الله عليه وسلم "وكتبه" إثباته "توقيع" تعلق "عنايته في حظائر قدس كرامته" أي: في المواضع التي تظهر فيها كرامته المنزهة عن النقائص، ككتبها على كل موضع في الجنة وعلى نحو العين، وساق العرش كما يجيء، "وطهارة نسبه" نزاهته عن دنس الجاهلية وسفاف الأمور تعاطيه الهمم العلية "وبراهين" جمع برهان وهو الدليل القوي الذي يحصل به اليقين لا المنطقي ليماوانيا، وإن شمله "أعلام آيات" إضافة بيانية، أي: براهين الأعلام التي هي آيات دالة على "حمله" وإضافة براهين إلى أعلام حقيقة، أي: البراهين الدالة على أن ما أدركته أمة من الآيات، هي أمارات على الحمل حقيقة "وولادته ورضاعه وحضانته ودقائق حقائق بعثته", أراد بها ما لا يفهم أنه من آثار الرسالة إلا بعد النظر الدقيق كرؤية الملك في ابتداء الوحي، فإنه إنما يدل على ذلك بعد التأمل وإمعان النظر فيه.
"وهجرته" هي في اللغة: الترك، ثم خصت بترك مكان لا آخر، وغالب الأنبياء وقع لهم الهجرة لعداوة الناس لهم، "ولطائف معارف مغازيه وسراياه وبعوثه وسيرته" هيئته وحالته وطريقته، لا ما غلب في لسان الفقهاء من أنها المغازي لكونه قدمها "مرتبًا على السنين" غالبًا، "من حين نشأته إلى وقت وفاته ونقلته لرياض روضته".
"اعلم" أمر من العلم يصدر به ما يعتني به من الكلام تقوية وتأكيدًا وحثًا على إلقاء البال لما بعده، تنبيهًا على أنه مما ينبغي أن يعلم ولا يترك, وقد ورد في القرآن وكلام العرب. كقوله: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد: 19] ، اعلموا {إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} [محمد: 36] ولذا التزم بعده في الغالب أن المؤكدة؛ كقوله:
فاعلم فعلم المرء ينفعه ... أن سوف يأتي كل ما قدرا
"يا ذا العقل"، مشتق من العقل مبعنى المنع، ومنه العقال لمنعه الإنسان عما لا يليق, ولذا تطرف في التلميح لأصله القائل:(1/51)
السليم، والمتصف بأوصاف الكمال والتتميم وفقني الله وإياك بالهداية إلى الصراط المستقيم.................................
__________
قد عقلنا والعقل أي وثاق ... وصبرنا والصبر مر المذاق
"السليم" من شوائب الكدورات، وإنما خص ذوي العقول بالنداء، لأن شرف الإنسان إنما هو بالعقل، وبه يميز الحسن من القبيح، قال أبو الطيب:
لولا العقول لكان أدنى ضيغم ... أدنى إلى شرف من الإنسان
وفي حقيقته ومحله كلام ألم المصنف فيما يأتي بشيء منه، "والمتصف" بالنصب؛ لأن تابع المناوي المعرب منصوب لا غير، سواء كان التابع معرفة أم نكرة، محلى باللام أم لا، وأجاز الأخفش رفعه "بأوصاف الكمال" لنفسه، "والتتميم" لغيره وغاير تفننا ورعاية للسجع وإلا فهما بمعنى، كما في الصحاح والقاموس وغيرهما.
وقال الزركشي: تفسير الكمال بالتمام خطأ؛ لقوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} [المائدة: 3] ، وقد فرق بينهما الشيخ عبد القاهر: بأن الإتمام لإزالة نقصان الأصل، والإكمال لإزالة نقصان العوارض بعد تمام الأصل، وأيضًا التمام يشعر بحصو نقص قبل ذلك والكمال لا يشعر به.
وتعقب بأن الإكمال في الآية للدين، والإتمام للنعمة التي من جعلتها ذلك الإكمال والنصر العام على كل معاند؛ فلم يتعاورا على شيء واحد، ووظيفة اللغوي بيان أصل اللغة، وأهل التفسير والمعاني النظر إلى كل مقام يحسبه ولو معنى مجازيًا, وقد جزم ابن أبي الأصبع بأنه قد يطلق كل منهما على الآخر، ومنه {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ} الآية.
"وفقني الله وإياك" جملة دعائية والتوفيق الهداية إلى وفق الشيء وقدره وما يوافقه، قاله أبو البقاء، وفيه تفاسير معلومة "بالهداية" الثبات عليها أو زيادتها أو حصول المراتب المرتبة عليها، إذ المسلم مهتد، والمراد خلق الاهتداء لا الدلالة هنا، والباء للتصوير والتحقيق، أي: وفقنا بهدايتنا أو السببية، أي: رزقنا مباشرة الطاعات بسبب هدايته لنا "إلى الصراط المستقيم" المستوى، يعني: طريق الخير أو دين الإسلام, قال صاحب الأنوار: والهداية دلالة بلطف ولذلك تستعمل في الخير، وقوله تعالى: {فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ} [الصافات: 23] ، وأراد على التهكم ومنه الهدية، وهو أدى الوحش مقدماتها والفعل منه هدى، وهداية الله تعالى تتنوع أنواعًا لا يحصيها عد لكنها تنحصر في أجناس مترتبة:
الأول: إفاضة القوى التي بها يتمكن المرء من الاهتداء إلى مصالحه؛ كالقوة العقلية والحواس الباطنة والمشاعر الظاهرة.(1/52)
أنه لما تعلقت إرادة الحق بإيجاد خلقه، وتقدير رزقه..................................
__________
والثاني: نصب الدلائل الفارقة بين الحق والباطل والصلاح والفساد وإليه أشار، حيث قال: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد: 10] ، وقال: فهديناه فاستحبوا العمى على الهدى.
والثالث: الهداية بإرسال الرسل وإنزال الكتب، وإياه عنى بقوله: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} ، وقوله: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: 9] .
والرابع: أن يكشف على قلوبهم السرائر ويريهم الأشياء كما هي، بالوحي أو الإلهام والمنامات الصادقة، وهذا قسم يختص بنيله الأنبياء والأولياء، وإياه عنى بقوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام: 90] ، وقوله: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِيَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69] ، فالمطلوب إما زيادة ما منحوه من الهدى، أو الثبات عليه، أو حصول المراتب المترتبة عليه، فإذا قاله العارف الواصل عنى به أرشدنا طريق السير فيك لتمحو عنا ظلمات أحوالنا، وتميط به غواشي أبداننا، لنستضيء بنور قدسك فنراك بنورك، انتهى.
وفي الأساس يقال: هداه للسبيل وإلى السبيل هداية وهدى، وظاهره عدم الفرق بين المتعدى بنفسه والمتعدى بالحرف، قال ابن كمال: ومنهم من فرق بينهما بأن هداه لكذا أو إلى كذا، إنما يقال إذا لم يكن في ذلك فيصل بالهداية إليه، وهداه كذا لمن يكون فيه فيزداد ويثبت، ولمن لا يكون فيصل.
والقول بأن ما تعدى بنفسه معناه الإيصال إلى المطلوب ولا يكون إلا فعل الله تعالى فلا يسند إلا إليه؛ كقوله: {لَنَهْدِيَنَّهُمْ} [العنكبوت: 69] ، وما تعدى بالحرف، معناه الدلالة على ما توصل إليه، فيسند تارة إلى القرآن؛ كقوله تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: 9] ، وتارة للنبي، كقوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيم} [الشورى: 52] ، ليس بتام لمجيء المتعدى بنفسه في القرآن كثيرًا مستندًا إلى غير الله تعالى؛ كقوله: {يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ} [غافر: 38] ، وقوله تعالى: {وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ} [غافر: 29] ، انتهى.
وفي البيضاوي: وأصله أن يعدى باللام أو إلى فعومل في اهدنا الصراط، معاملة اختار في قوله: {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ} [الأعراف: 155] ، انتهى. والخلاف في أنها الدلالة على ما يوصل إلى المطلوب، وإن لم يصل، وهو مذهب أهل السنة أو الموصلة عند المعتزلة مشهور كأدلتهم، "أنه لما تعلقت إرادة الحق" الثابت الوجود على وجه لا يقبل الزوال ولا العدم، ولم يقل: لما أراد؛ لأن الإرادة أزلية والحادث إنما هو التعلق، "بإيجاد خلقه" أي: مخلوقه؛ لأنه الذي يتعلق به الإيجاد نحو: هذا خلق الله، أي: مخلوقه "وتقدير رزقه" أي: الله أو الخلق، فالمصدر مضاف(1/53)
أبرز الحقيقة المحمدية من الأنوار الصمدية، في الحضرة الأحدية، ثم سلخ منها العوالم كلها، علوها وسفلها، على صورة حكمه، كما سبق في سابق إرادته وعلمه، ثم أعلمه بنبوته، وبشره برسالته، هذا وآدم لم يكن إلا -كما قال- بين الروح والجسد، ثم انبجست منه صلى الله عليه وسلم عيون الأرواح............................
__________
للفاعل أو المفعول، قال السمين: والرزق لغة العطاء وهو مصدر، قال تعالى: {وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا} [النحل: 75] ، وقيل: يجوز أنه فعل بمعنى مفعول كذبح بمعنى مذبوح، وقيل: الرزق بالفتح مصدر وبالكسر اسم للمرزوق، واقتصر على الثاني في المختار والمصباح.
"أبرز الحقيقة المحمدية" هي الذات مع النعت الأول، كما في التوقيف؛ وفي لطائف الكاشي يشيرون بالحقيقة المحمدية إلى الحقيقة المسماة بحقيقة الحقائق الشاملة لها، أي: للحقائق والسارية بكليتها في كلها سريان الكلي في جزئياته، قال: وإنما كانت الحقيقة المحمدية هي صورة لحقيقة الحقائق؛ لأجل ثبوت الحقيقة المحمدية في خلق الوسيطة والبرزخية والعدالة، بحيث لم يغلب عليه صلى الله عليه وسلم حكم اسمه أو وصفه أصلا، فكانت هذه البرزخية الوسطية هي عين النور الأحمدي المشار إليه بقوله عليه الصلاة والسلام: "أول ما خلق الله نوري"، أي: قدر على أصل الوضع اللغوي، وبهذا الاعتبار سمي المصطفى بنور الأنوار، وبأبي الأرواح ثم إنه آخر كل كامل إذ لا يخلق الله بعده مثله، انتهى.
"من الأنوار الصمدية" المنسوبة للصمد والإضافة للتشريف، كما في حديث جابر عند عبد الرزاق مرفوعًا: يا جابر إن الله قد خلق قبل الأشياء نور نبيك من نوره، "في الحضرة الأحدية" هي أول تعينات الذات وأول رتبها، الذي لا اعتبار فيه لغير الذات، كما هو المشار إليه بقوله عليه الصلاة والسلام: "كان الله ولا شيء معه"، ذكره الكاشي "ثم سلخ" أخرج "منها العوالم كلها" بكسر اللام جمع عالم، بفتحها سماعًا وقياسًا "علوها" بضم العين وكسرها وسكون اللام، "وسفلها" بضم السين وكسرها وسكون الفاء، أي: عاليها وسافلها، يشير إلى العالم العلوي والسفلي، فهو مجاز من إطلاق اسم الكل وإرادة اسم الجزء "على صورة حكمه" أي: التي تعلق بها خطابه الأزلي لا صورة نفس الحكم؛ لأنه قديم.
وفي نسخ حكمته، أي: على الصورة التي اقتضتها حكمته وإرادته والأولى أنسب بالسجعة في قوله: "كما سبق في سابق إرادته وعلمه" على ما سيجيء بيانه في حديث عبد الرزاق "ثم أعلمه بنبوته وبشره برسالته هذا وآدم" الواو للحال "لم يكن إلا كما قال" صلى الله عليه وسلم، "بين الروح والجسد ثم انبجست" تفجرت "منه صلى الله عليه وسلم عيون الأرواح" أي: خالصها، كأرواح الأنبياء والمراد بالعيون الكمالات المفرغة من نوره على أرواح الأنبياء، عبر عنها بالعيون مجازًا لمشابهتها بعيون(1/54)
فظهر بالملأ الأعلى، وهو بالنظر الأجلى، وكان له المورد الأحلى، فهو صلى الله عليه وسلم الجنس العالي على جميع الأجناس، والأب الأكبر لجميع الموجودات والناس.
ولما انتهى الزمان بالاسم الباطن في حقه صلى الله عليه وسلم إلى وجود جسمه، وارتباط الروح به، انتقل حكم الزمان إلى الاسم الظاهر، فظهر محمد صلى الله عليه وسلم بكليته جسمًا وروحًا..........................
__________
الإنسان للكمال، فلا يرد تأخر الأعلام والبشارة عن سلخ العوالم منه، "فظهر" عليه السلام، أي: حقيقته "بالملأ" أي: الخلق "الأعلى" وصفهم به إشارة إلى أن المراد المقربون "وهو بالمنظر الأجلى" بالجيم، أي: الأتم في الظهور "وكان له المورد" وزن مسجد تشبيه بليغ، أي: كالمورد الذي يرده الناس ليرتووا منه "الأحلى" بالحاء، الأعذب.
"فهو صلى الله عليه وسلم الجنس" أي: كالجنس "العالي" المرتفع "على جميع الأجناس" لتقدمه خلقًا على غيره، "والأب الأكبر لجميع الموجودات والناس" من حيث أن الجميع خلقوا من نوره، على ما يأتي في حديث عبد الرزاق، وأما ما ذكر أن الله قبض من نور وجهه قبضة ونظر إليها فعرفت وذلقت، فخلق الله من كل نقطة نبيًا، وأن القبضة كانت هي النبي صلى الله عليه وسلم وأنه كان كوكبًا دريًا، وأن العالم كله خلق منه، وأنه كان موجودًا قبل أن يخلق أبواه، وأنه كان يحفظ القرآن قبل أن يأتيه جبريل وأمثال هذه الأمور, فقال الحافظ أبو العباس أحمد بن تيمية في فتاويه، ونقله الحافظ ابن كثير في تاريخه وأقره: كل ذلك كذب مفترى باتفاق أهل العلم بحديثه، والأنبياء كلهم لم يخلقوا من النبي صلى الله عليه وسلم، بل خلق كل واحد من أبوابه، انتهى.
"ولما انتهى" أي: بلغ النهاية، "الزمان" الحال التي كان عليها قبل خلق السماوات والأرض، "بالاسم" متعلق بانتهى، "الباطن، أي: عالم الملكوت المشار إليه بقوله: إبراز الحقيقة ... إلخ، "في حقه صلى الله عليه وسلم" متعلق بباطن "إلى وجود جسمه وارتباط الروح به" متعلق بانتهى أيضًا. "انتقل حكم الزمان إلى الاسم الظاهر" يعني: عالم الملك وهو الموجود في العناصر، والباطن والظاهر وصفان للمصطفى، ويجوز -وهو المناسب هنا- أنهما وصفان لله، أي: الظاهر وجوده لكثرة دلائله، أو الغالب على كل شيء من ظهر إذا غلب.
والباطن حقيقة ذاته فلا يعرف أصلا؛ كما قال الصديق: غاية معرفته القصور عن وصفه أو العالم بالخفيات، والمعنى: أنه تعالى تصرف فيه بمقتضى علمه الخفي على جميع الكائنات الذي هو صفة الباطن إلى تعلق الإرادة بظهوره إلى عالم العناصر فربط روحه الشريفة بجسمه، فأظهره "فظهر محمد صلى الله عليه وسلم بكليته" أي: بجملته "جسمًا وروحًا" تمييز أو حال، قال شيخنا: ولو(1/55)
فهو صلى الله عليه وسلم وإن تأخرت طينته، فقد عرفت قيمته، فهو خزانة السر، وموضع نفوذ الأمر، فلا ينفذ أمر إلا منه، ولا ينقل خير إلا عنه.
ألا بأبي من كان ملكًا وسيدا ... وآدم بين الماء والطين واقف
فذاك الرسول الأبطحي......
__________
قال بكله كان أوضح، فإن الكل هو الذات المجتمعة من الأجزاء، والكلية إمكان الاشتراك وهي صفة الكلي، وهو ما لا يمنع تصور مفهومه من وقوع الشركة فيه، ويمكن توجيهه بأنه من نسبة الفرد إلى كله من جهة تحقق الكل، من حيث هو كل في الواحد للشخص من حيث تشخصه فيساوي التعبير به التعبير بالكل.
"فهو صلى الله عليه وسلم وإن تأخرت طينته" أي: خلقته "فقد عرفت قيمته" أي: اعتداله وحسن قوامه وطوله حسًا ومعنى في الجميع، ففي الفاموس القيمة الشطاط، وفيه أيضا الشطاط كسحاب وكتاب الطول وحسن القوام أو اعتداله، "فهو خزانة" بكسر الخاء "السر" أي: محل لأسراره تعالى وكمالاته، حيث أفاض الله عليه ما لا يوجد في غيره من الخلق "وموضع نفوذ الأمر" أي: الموضع الذي يظهر منه الكمالات التي تفاض على خاصة خلقه، "فلا ينفذ أمر" شيء، جمعه أمور "إلا منه، ولا ينقل خير" مفرد خيور وخيار، أو هو بموحدة مفرد أخبر "إلا عنه" إذ هو واسطة العقد، وأنشد المؤلف لغيره "ألا" بفتح الهمزة والتخفيف حرف استفتاح يؤتى به للتنبيه والدلالة على تحقق ما بعده: "بأبي" بكسر الباءين بينهما همزة مفتوحة.
قال ابن الأنباري: معناها بأبي هو فحذف هو لكثرة الاستعمال، وأصله أفدية بأبي، "من كان ملكًا" بفتح الميم وسكون اللام تخفيفًا؛ لأن البيت لا يتزن إلا به. في المصباح: ملك على الناس أمرهم، إذا تولى السلطنة فهو ملك بكسر اللام وتخفف بالسكون، انتهى وكذا كل ما كان على وزن فعل، وتوهم إنها لغة قرئ بها غلط؛ لأن ذاك في مصدر مالك: {قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا} [طه: 87] ، قرئ بتثليث الميم، وهو في الأصل لغات في مصدر ملكت الشيء، "وسيدًا وآدم بين الماء والطين" أي: بين العلم والجسم، كذا في أنوار المشكاة.
"واقف" ولما لم يستقم للناظم لفظ الوارد بتمامه عدل إلى معناه الذي اشتهر، فإن معناهما واحد؛ كما جزم به صاحب النسيم. فلا يقال: لو قال بين الروح والجسم طابقه، "فذاك الرسول" فعول بمعنى مفعل وهو المرسل، أي: المبعوث إلى غيره وقد يأتي بمعنى الرسالة؛ كقوله:
ألا أبلغ أبا عمرو رسولا ... فدى لك من أخي ثقة إزاري
"الأبطحي" المنسوب إلى بطحاء مكة على ما يفيده الجوهري، أو إلى أبطح مكة، وهو مسيل واد بها وهو ما بين مكة ومنى ومبتدؤه المحصب، كما صرح به غيره، وهو القياس.(1/56)
.............. محمد ... له في العلاء مجد تليد وطارف
أتى بزمان السعد في آخر المدى ... وكان له في كل عصر مواقف
أتى لانكسار الدهر يجبر صدعه ... فأثنت عليه ألسن وعوارف
إذا رام أمرًا لا يكون خلافه ... وليس لذاك الأمر في الكون صارف
أسبقية نبوته صلى الله عليه وسلم:
أخرج مسلم في صحيحه، من حديث عبد الله بن عمرو بن العاصي............
__________
"محمد له في العلا" الارتفاع "مجد" عز وشرف "تليد" قديم "وطارف" حادث، "أتى بزمان السعد" الباء للآلة، "في آخر المدى" بفتحتين، يعني: الزمان الأخير من أزمنة الأنبياء، وهو زمن عيسى وبعثة المصطفى في آخر زمان عيسى، فالإضافة حقيقية فلا يشكل إضافة آخر المدى مع أن الغاية أو مطلق الزمان، مجازًا من تسمية الكل باسم الجزء، "وكان له في كل عصر مواقف" أحوال لتقدم خلقه، "أتى لانكسار الدهر" وفي نسخة: الدين من إضافة الصفة للموصوف، أي: الدين أو الدهر المنكسر بعبادة غير الله، "يجبر صدعه" شقه، أي: يصلحه ويزيل فساده، "فأثنت عليه ألسن" جمع لسان مذكر وهو الأكثر لغة وبه جاء القرآن، قاله أبو حاتم.
"وعوارف" جمع عارفة، ومعناه: أن الأمور المعروفة في الشرع أثنت عليه لإظهاره لها وذبه عن معارضتها، وهو استعارة مكنية، شبه أمور الشرع في دلالتها على صدقه وكاله بنفوس ناطقة، وأثبت لها ما هو من لوازم النفوس الناطقة إذا فعل معهم الجميل وهو الثناء تخييلا "إذا رام أمرًا لا يكون" يوجد "خلافه وليس لذاك الأمر في الكون" أراد الوجود وله تعاريف معلومة "صارف" مانع، ثم شرع في المقصود وحسن معه تصديره بحديث صحيح، فقال: "خرج مسلم" بن الحجاج بن مسلم القشيري النيسابوري، أحد الأعلام مناقبه شهيرة، أخذ عن البخاري وشاركه في كثير من شيوخه، وأحمد وخلق وروى عنه كثيرون، وروى له الترمذي حديثًا واحدًا، مات سنة إحدى وستين ومائتين في رجب، "في صحيحه" الذي صنفه من ثلاثمائة ألف حديث كما نقلوه عنه وهو يلي صحيح البخاري، وتفضيله عليه مردود؛ وفي ألفية السيوطي:
ومن يفضل مسلمًا فإنما ... ترتيبه وصنعه قد أحكما
"من حديث" أحد العبادلة "عبد الله بن عمرو بن العاصي" بن وائل السهمي الصحابي ابن الصحابي أبي محمد عند الأكثر، أو أبي عبد الرحمن الزاهد العابد أحد المكثرين الفقهاء، أسلم قبل أبيه، قيل: بين مولدهما اثنتا عشرة سنة، ويقال: عشرون سنة.
روى ابن سبع والعسكري عنه، أنه قال: حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم ألف مثل. ومن ثم(1/57)
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إن الله عز وجل كتب مقادير الخلق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة................
__________
ذكر العسكري في كتاب الأمثال ألف مثل عن المصطفى، وحسبك أن أحفظ الصحابة أبا هريرة شهد له بأنه أكثر حديثًا منه؛ لأنه كان يكتب وأبا هريرة لا يكتب، ولا يشكل أن المروي عنه دون المروي عن أبي هريرة بكثير، لأنه سكن مصر والواردون إليها قليل، وأبو هريرة سكن المدينة والمسلمون يقصدونها من كل وجهة, وفي أنه مات بالشام أو مكة أو الطائف أو بمصر أقوال، وهل عام خمس وستين أو ثمان وستين أو تسع وستين أو ثنتين وسبعين أو تسع وسبعين خلاف بسطه في الإصابة.
وقال في تقريبه: مات في ذي الحجة ليالي الحرة على الأصح بالطائف على الراجح، والعاصي بالياء وحذفها، والصحيح الأول عند أهل العربية وهو قول الجمهور كما قال النووي وغيره. وفي تبصير المنتبه، قال النحاس: سمعت الأخفش يقول: سمعت المبرد يقول: هو بالياء لا يجوز حذفها وقد لهجت العامة بحذفها.
قال النحاس: هذا مخالف لجميع النحاة، يعني: أنه من الأسماء المنقوصة فيجوز فيه إثبات الياء وحذفها، والمبرد لم يخالف النحويين في هذا وإنما زعم أنه سمي العاصي لأنه أعيص بالسيف، أي: أقام السيف مقام العصا، وليس هو من العصيان؛ كذا حكاه الآمدي، عنه قلت: وهذا إن مشي في العاصي بن وائل لكنه لا يطرد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم غير اسم العاصي بن الأسود والد عبد الله فسماه مطيعًا، فهذا يدل على أنه من العصيان، وقال جماعة: لم يسلم من عصاة قريش غيره، فهذا يدل لذلك أيضًا، انتهى.
"عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الله عز وجل كتب مقادير الخلق"" , قال البيضاوي في شرح المصابيح، أي: أجرى القلم على اللوح المحفوظ، وأثبت فيه مقادير الخلائق ما كان وما يكون وما هو كائن إلى الأبد، وعلى وفق ما تعلقت به إرادته أزلا، وقال الأبي: المقادير بمعنى القدر وهو عبارة عن تعلق علم الله وإرادته أزلا بالكائنات قبل وجودها، وهو سبحانه وتعالى بجميع صفاته أزلي لا يتقيد وجوده بزمان، "قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة" قال القاضي عياض: حد لكتب ذلك في اللوح المحفوظ، أو فيما شاء الله لا للمقادير فإن ذلك أزلي لا أول له وهي كناية عن الكثرة؛ كقوله: {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} [الصافات: 147] ، قال: ويحتمل أنها حقيقة، ورده القرطبي وتبعه الأبي بأنه لا يتقرر كونها حقيقة بوجه؛ لأن السنين يقدر بها الزمان، والزمان تابع لخلق السماوات لأنه عبارة عن حركات الأفلاك وسير الشمس فيها، فقيل: خلق الزمان لا سماوات، فالخمسون ألف سنة تقديرية، أي:(1/58)
وكان عرشه على الماء.
__________
بمدة في علم الله لو كانت السماوات موجودة فيها لعدت بذلك العدد، انتهى.
وهو متعقب بقول البيضاوي وغيره في شرح المصابيح، معناه: أن طول الأمد وتمادي الأزمان بين التقدير والخلق من المدة خمسون ألف سنة مما تعدون، فإن قيل: كيف يحمل على الزمان وهو مقدار حركة الفلك الذي لم يخلق حينئذ؟ أجيب بأنه إن سلم أن الزمان ذلك، فإن مقدار حركة الفلك الأعظم الذي هو العرش موجود حينئذ، بدليل قوله: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} [هود: 7] ، أي: ما كان تحته قبل خلق السماوات والأرض إلا الماء، والماء على متن الريح، كما روي عن ابن عباس، وهو يدل على أن العرش والماء كانا مخلوقين قبل خلق السماوات والأرض، انتهى.
وفي حديث أبي رزين الآتي: أن الماء قبل خلق العرش، وروى أحمد والترمذي وحسنه، وابن ماجه عن أبي رزين العقيلي، أنه قال: يا رسول الله، أين كان ربنا قبل أن يخلق السماوات والأرض؟ قال: ""كان" في ماء ما تحته هواء وما فوقه هواء، ثم خلق عرشه على الماء". وحكى في الفهم أن أول ما خلق الله ياقوتة حمراء ونظر إليها بالهيبة فصارت ماء، فوضع عرشه على الماء، وروى ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن سعد الطائي، قال: "العرش ياقوتة حمراء".
وأخرج أبو الشيخ عن حامد، قال: "خلق الله العرش من زمردة خضراء، وخلق له أربع قوائم من ياقوتة حمراء، وخلق له ألف لسان وخلق في الأرض ألف أمة، كل أمة تسبح بلسان من ألسن العرش"، وذكر الحافظ محمد بن أبي شيبة في كتاب صفة العرش، عن بعض السلف: أن العرش مخلوق من ياقوتة حمراء، بعد ما بين قطريه مسيرة خمسين ألف سنة، واتساعه خمسون ألف سنة، وبعد ما بين العرش إلى الأرض السابعة مسيرة خمسين ألف سنة، وذهبت طائفة من أهل الكلام إلى أن العرش فلك مستدير من جميع جوانبه، محيط بالعالم من كل جهة، وربما سموه الفلك التاسع والفك الأطلس.
قال ابن كثير: وليس بجيد؛ لأنه قد ثبت في الشرع أن له قوائم تحمله الملائكة، والفلك لا يكون له قوائم ولا يحمل، وأيضًا فالعرش في اللغة سرير الملك وليس هو فلكًا، والقرآن إنما نزل بلغة العرب فهو سرير، وقوائم تحمله الملائكة كالقبة على العالم وهو سقف المخلوقات، انتهى. والصحيح كما قال النعماني: أنه غير الكرسي، وما روي عن الحسن أنه عينه فضعيف، بل الصحيح عنه وعن غيره من الصحابة والتابعين أنه غيره، انتهى.
كيف! وقد روى ابن جرير، وابن مردويه، وأبو الشيخ، عن أبي ذر قال: قال صلى الله عليه وسلم: "يا أبا(1/59)
ومن جملة ما كتب في الذكر أن محمدًا خاتم النبيين.
__________
ذر، ما السماوات السبع في الكرسي، إلا كحلقة ملقاة في أرض فلاة، وفضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على تلك الحلقة".
"ومن جملة ما كتب في الذكر" وبينه بقوله: وهو {أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد: 39، آل عمران: 7] ، أصل الكتب وهو اللوح المحفوظ، إذ ما من كائن إلا وهو مكتوب فيه وفي أنه حقيقي أو تمثيل، والمراد علم الله، قولان، الأكثر أنه حقيقي وهو الأسعد بصريح الأحاديث والآثار، فقد أخرج الطبراني بطريقين رجال إحداهما ثقات والحاكم والحكيم الترمذي عن ابن عباس، عنه صلى الله عليه وسلم: "أن الله خلق لوحًا محفوظا من درة بيضاء، صفحاتها من ياقوتة حمراء، قلمه نور وكتابه نور". وفي الطبراني أيضًا: أن عرشه ما بين السماء والأرض. وفي كنز الأسرار: أن طوله كذلك. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ بسند جيد عن ابن عباس، قال: خلق الله اللوح المحفوظ كمسيرة مائة عام, وأخرج أبو الشيخ عن أنس رفعه: "أن لله لوحًا أحد وجهيه ياقوتة، والوجه الثاني من زمردة خضراء". وأخرج أيضًا عن ابن عباس رفعه: "خلق الله لوحًا من ندرة بيضاء وقفاه من زبرجدة خضراء كتابه نور، يلحظ إليه في كل يوم ثلاثمائة وستين لحظة يحيي ويميت ويخلق ويرزق ويفعل ما يشاء".
وأخرج ابن أبي الدنيا في مكارم الأخلاق، وأبو الشيخ في العظمة، والبيهقي في الشعب، عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن لله لوحًا من زبرجدة خضراء تحت العرش، يكتب فيه إني أنا الله لا إله إلا أنا أرحم وأترحم، جعلت بضعة عشر وثلاثمائة خلق من جاء بخلق منها مع شهادة أن لا إله إلا الله دخل الجنة". وقد جمع بين هذا الاختلاف في لونه بجواز أنه يتلون والبياض لونه الأصلي.
"أن محمدًا خاتم النبيين" في الوجود، فإن قيل: الحديث يفيد، سبق العرش على التقدير، وعلى كتابة محمد خاتم النبيين فيشكل بأن نوره صلى الله عليه وسلم خلق قبل العرش وغيره. أجاب شيخنا بجواز أن نوره خلق قبل العرش وكتابته لذلك، وإظهاره كان وقت التقدير وهو بعد خلق العرش وقبل خلق السماوات، انتهى.
وفي هذا الحديث إشارة إلى أن الماء والعرش مبتدأ العالم لكونهما خلقا قبل كل شيء وعند أحمد وابن حبان والحاكم وصححاه، عن أبي هريرة: قلت: يا رسول الله! إني إذا رأيتك طابت نفسي وقرت عيني، أنبئني عن أصل كل شيء، قال: "كل شيء خلق من الماء". وهذا يدل على أن الماء أصل لجميع المخلوقات ومادتها، وأنها كلها خلقت منه، وقال الله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ} [النور: 45] قال في اللطائف: والقول بأن المراد النطفة التي(1/60)
وعن العرباض بن سارية عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إني عند الله لخاتم النبيين" وإن آدم لمنجدل في طينته". رواه أحمد..........................
__________
بخلق منها الحيوانات بعيدة؛ لأن النطفة لا تسمى ماء مطلقًا بل مقيدًا نحو: من ماء دافق، وقوله: {أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ} [المرسلات: 20] ، وأيضًا من الحيوانات ما يتولد من غير نطفة كدود الخل والفاكهة، فليس كل حيوان مخلوقًا من نطفة. فدل القرآن على أن كل ما يدب وكل ما فيه حياة من الماء، ولا ينافي هذا قوله تعالى: {وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ} [الحجر: 27] ، وقوله صلى الله عليه وسلم: "وخلقت الملائكة من نور" لأن أصل النور والنار الماء" ولا يستنكر خلق النار من الماء، فقد جمع الله بقدرته بين الماء والنار في الشجر الأخضر.
وذكر الطبائعيون أن الماء بانحداره يصير بخارًا والبخار ينقلب هواء، والهواء ينقلب نارًا. وزعم مقاتل: أن الماء خلق من النور، وهو مردود بحديث أبي هريرة المتقدم وبغيره، انتهى. ملخصًا، وذكر نحوه المؤلف في الإرشاد.
"وعن العرباض" بكسر العين وسكون الراء بعدها موحدة فألف فمعجمة "ابن سارية" السلمي، قديم الإسلام جدًا من البكائين ومن أهل الصفة، ونزل حمص، وروى عنه خالد بن معدان وأبو أمامة الباهلي وخلق، مات سنة خمس وسبعين، وقيل قبلها زمن فتنة ابن الزبير رضي الله عنهم.
"عن النبي صلى الله عليه وسلم" أنه "قال: "إني عند الله لخاتم النبيين وإن آدم" قال الطيبي: الواو وما بعدها في محل نصب على الحال من المكتوب، والمراد الإخبار عن كون ذلك مكتوبًا في أم الكتاب في ذلك الحال، قبل نفخ الروح في آدم لا أنه حينئذ كتب في أم الكتاب ختمه للنبيين، انتهى. وبه اندفع ما يرد أن هذا ينافي رواية مسلم بخمسين ألف سنة المفيد سبق نبوته على جميع الموجودات. "لمنجدل" بضم الميم وسكون النون مطاوع جدله مخففًا، نائبًا عن جدله مشددًا، أي: ألقاه على الجدالة وهي الأرض الصلبة لا مطاوع جدل مخففًا لفساد المعنى، إذ معناه أخذه من الجدالة وليس بمراد هنا، أشار له الطيبي قائلا: "في طينته" خبر ثان؛ لأن لا متعلق بمنجدل، والألزم أن دم مظروف في طينته مع أنه ظرف له وهو حاصل فيه، "رواه" الإمام "أحمد" بن محمد بن حنبل الشيباني أبو عبد الله المروزي، ثم البغداي أحد كبار الأئمة الحفاظ الطوافين الصابر على البلوي، الذي من الله به على الأمة، ولولاه لكفر الناس في المحنة ذو المناقب الشهيرة. وحسبك قول الشافعي شيخه: خرجت من بغداد فأخلفت بها أفقه ولا أزهد ولا أورع ولا أعلم منه.
وقال أبو زرعة الرازي: كان أحمد يحفظ ألف ألف حديث، قيل: وما يدريك؟ قال: ذاكرته. ولد سنة أربع وستين ومائة ومات سنة إحدى وأربعين ومائتين.(1/61)
والبيهقي، والحاكم، وقال: صحيح الإسناد.
وقوله عليه الصلاة والسلام لمنجدل، يعني: طريحًا ملقى على الأرض قبل نفخ الروح فيه.
وعن ميسرة الضبي...................................
__________
قال ابن خلكان: وحزر من حضر جنازته من الرجال فكانوا ثمانمائة ألف، ومن النساء ستون ألفًا، وأسلم يوم موته عشرون ألفًا من اليهود والنصارى والمجوس، انتهى. وفي تهذيب النووي: أمر المتوكل أن يقاس الموضع الذي وقف الناس للصلاة فيه على أحمد، فبلغ مقام ألفي ألف وخمسمائة، ووقع المأتم في أربعة أصناف من المسلمين واليهود والنصارى والمجوس.
"والبيهقي" نسبة إلى بيهق قرية بناحية نيسابور، أحمد بن الحسين الإمام الحافظ المشهور بالفصاحة والبراعة سمع الحاكم وغيره، وتصانيفه نحو ألف.
قال الذهبي: ودائرته في الحديث ليست كبيرة بل بورك له في مروياته وحسن تصرفه فيها، لحذفه وخبرته بالأبواب والرجال، وأفتى بجميع نصوص الشافعي، وخرج أحاديثها، حتى قال إمام الحرمين: ما من شافعي إلا وللشافعي عليه منة إلا البيهقي فله على الشافعي منة. ولد سنة أربع وثمانين وثلاثمائة، وتوفي سنة ثمان وخمسين وأربعمائة.
"والحاكم" الإمام الحافظ الكبير محمد بن عبد الله الضبي، أبو عبد الله النيسابوري الثقة الثبت المجمع على صدقه، ومعرفته بالحديث حق معرفته، أكثر الرحلة والسماع حتى سمع بنيسابور من نحو ألف شيخ وفي غيرها أكثر، ولد سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة، ومات بنيسابور سنة خمس وأربعمائة، وتصانيفه نحو خمسمائة، قال الذهبي، أو ألف قاله عبد الغافر الفارسي، وقال غيرهما ألف وخسمائة، وعنه شربت ماء زمزم وسألت الله أن يرزقني حسن التصنيف.
"وقال" الحاكم فيه "صحيح الإسناد" ورواه ابن حبان في صحيحه أيضًا، "وقوله صلى الله عليه وسلم: "لمنجدل" يعني طريحًا ملقى على الأرض قبل نفخ الروح فيه" لا مأخوذ من الأرض كما قد بادر من بقاء منجدل على أصله، كما مر. "وعن ميسرة" بفتح الميم وسكون التحتية، "الضبي" كذا في النسخ، والذي في العيون والإصابة والسبل كالنور، والمقاصد عن مسند أحمد ميسرة الفجر بفتح الفاء وسكون الجيم، جزم به في السبل، وقاله في النور كذا ضبط في نسخة صحيحة من الاستيعاب بالقلم، لكن بهامشه بخط ابن الأمين الفجر بفتح الجيم، قيده البخاري في التاريخ وهو العطاء، وفي الصحاح الفجر بالفتح: الكرم.
قال الذهبي: صحابي من أعراب البصرة, وزعم ابن الفرض أن ميسرة لقبه واسمه عبد الله بن أبي الجدعاء، والذي أفاده صنيع الحسيني أنه غيره وهو الظاهر، انتهى. فيحتمل أنه(1/62)
قال: قلت يا رسول الله، متى كنت نبيًا؟ قال: "وآدم بين الروح والجسد". هذا لفظ رواية الإمام أحمد. ورواه البخاري في تاريخه وأبو نعيم في الحلية، وصححه الحاكم.
__________
ضبي ويلقب بالفجر فعدل المصنف عما في المسند لبيان نسبته.
وقول الشارح ينافيه قول الإصابة أنه تميمي، وما ذكر في اللب: أن ضبة في تميم فيه أنه لم يذكر أن ميسرة تميمي إنما قاله في ابن أبي الجدعاء، وذكر في ميسرة ما يفيد أنهما اثنان؛ لأنه ترجم به ثم قال: وقيل إنه ابن أبي الجدعاء الماضي فحكاه مقابلا أو أنه ضبي خلفًا، ونحو ذلك.
"قال: قلت: يا رسول الله، متى كنت نبيًا؟ قال: "وآدم بين الروح والجسد" فإن ورد أن حقيقة آدم هذا الهيكل المخلوق من طين المنفوخ فيه الروح، فمجموعهما هو آدم فما معنى البينية؟ أجيب بأنه مجاز عما قبل تمام خلقه قريبًا منه، كما يقال: فلان بين الصحة والمرض، أي: في حالة تقرب منهما، وقال في النسيم: الظاهر أنه ظرف زمان بمعنى أن نبوته محكوم بها ظاهرة بين خلق روح آدم وخلق جسده حيث نبأه في عالم الأرواح، وأطلعها على ذلك، وأمرها بمعرفة نبوته والإقرار بها, وهذا المعنى يفيده قوله بين الماء والطين، أي: بعد خلق عناصره غير مركبة ولا منفوخ فيها الروح، فهو بمعنى الحديث الذي صححوه فتكون رواية بالمعنى إذا لم يثبت بهذا اللفظ، وهذا مما لم يحم أحد حول حماه، انتهى.
"هذا لفظ رواية الإمام أحمد" في المسند من طريق بديل بن ميسرة، عن عبد الله بن شقيق، عن ميسرة الفجر وأخرجه من وجه آخر بلفظ متى جعلت، "ورواه البخاري" إمام الفن محمد بن إسماعيل الجعفي مناقبه كالشمس، "في تاريخه" الكبير صنفه وعمره ثمان عشرة سنة عند قبره صلى الله عليه وسلم، قال ابن عقدة: لو كتب الرجل ثلاثين ألفًا ما استغنى عن تاريخ البخاري. وال السبكي: تاريخه لم يسبق إليه ومن ألف بعده في التاريخ أو الأسماء أو الكنى، فعيال عليه.
"وأبو نعيم" بالتصغير أحمد بن عبد الله الأصفهاني الحافظ المكثر، أخذ عن الطبراني وغيره وعنه الخطيب وغيره، مات بأصفهان سنة ثلاثين وأربعمائة عن أربع وتسعين سنة، ذكره الذهبي "في الحلية" أي: في كتاب حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، قالوا: لما صنفه بيع في حياته بأربعمائة دينار, ورواه البغوي وابن السكن وغيرهم كلهم من هذا الوجه.
"وصححه الحاكم" وفي الإصابة سنده قوي، لكن اختلف فيه على بديل بن ميسرة، فرواه منصور بن سعد عنه هكذا، وخالفه حماد بن زيد فرواه عن بديل عن عبد الله بن شقيق، قال: قيل: يا رسول الله! ولم يذكر ميسرة، وكذا رواه حماد عن والده وعن خالد الحذاء كلاهما عن(1/63)
وأما ما اشتهر على الألسنة بلفظ: كنت نبيًا وآدم بين الماء والطين. فقال شيخنا العلامة الحافظ أبو الخير السخاوي في كتابه "المقاصد الحسنة": لم نقف عليه بهذا اللفظ. انتهى.
وقال العلامة الحافظ ابن رجب، في اللطائف: وبعضهم يرويه: متى كتبت نبيًا................
__________
عبد الله بن شقيق، أخرجه البغوي، وكذا رواه حماد بن سلمة عن خالد عن عبد الله بن شفيق، عن رجل، قال: قلت: يا رسول الله! وأخرجه من هذا الوجه أحمد وسنده صحيح، انتهى. قلت: هذا اختلاف لا يقدح في الحديث؛ لأن راويه حماد بن زيد وموافقيه المرسلة غير قادحة في رواية من وصله لصحة الإسناد، وقد تابع منصورًا على وصله عن بديل إبراهيم بن طهمان أخرجه ابن نجيد، وهي متابعة تامة، وتابعه أيضا في شيخه خالد الحذاء عند أحمد، ورواية ابن سلمة غاية ما فيها إبهام الصحابي، ولا ضير فيه لعدالة جميعهم، واستظهر البرهان في النور أنه ميسرة، قائلا: لم يذكره الحسيني في مبهمات المسند.
"وأما ما اشتهر على الألسنة" ألسنة من لا خبرة له بالحديث من أنه مروي "بلفظ: "كنت نبيًا وآدم بين الماء والطين" فقال شيخنا العلامة الحافظ أبو الخير" محمد بن عبد الرحمن "السخاوي" نسبة إلى سخا قرية من أعمال مصر على غير قياس، "في كتابه المقاصد الحسنة" في بيان كثير من الأحاديث المشتهرة على الألسنة "لم نقف عليه بهذا اللفظ، انتهى" ما نقله من كلام شيخه وبقيته فضلا عن زيادة: "وكنت نبيًا ولا آدم ولا ماء ولا طين". وقد قال شيخنا -يعني الحافظ ابن حجر- في بعض الأجوبة عن الزيادة أنها ضعيفة والذي قبلها قوي، انتهى. ولعله أراد بالمعنى، وإلا فقد صرح السيوطي في الدرر بأنه لا أصل لهما، والثاني من زيادة العوام وسبقه لذلك الحافظ ابن تيمية فأفتى ببطلان اللفظين وأنهما كذب وأقره في النور.
والسخاوي نفسه في فتاويه أجاب باعتماد كلام ابن تيمية في وضع اللفظين، قائلا: ونهايك به اطلاعًا وحظًا، أقر له بذلك المخالف والموافق، قال: وكيف لا يعتمد كلامه في مثل هذا وقد قال فيه الحافظ الذهبي: ما رأيت أشد استحضارًا للمتون وعزوها منه، وكانت السنة بين عينيه وعلى طرف لسانه بعبارة رشيقة وعين مفتوحة، انتهى.
"وقال العلامة الحافظ" زين الدين عبد الرحمن بن أحمد، "بن رجب" الحنبلي الواعظ المحدث الفقيه البغدادي ثم الدمشقي، أكثر الاشتغال حتى مهر وشرح الترمذي والعلل له وقطعة من البخاري وله طبقات الحنابلة، مات في رجب سنة خمس وتسعين وسبعمائة.
"في اللطائف وبعضهم يرويه" أي: حديث ميسرة "متى كتبت نبيًا؟ " أي: متى كتبت(1/64)
من الكتابة، انتهى.
قلت: وكذا رويناه في جزء من حديث أبي عمرو، إسماعيل بن نجيد، ولفظه: متى كتبت نبيًا؟ قال: "كتبت نبيًا وآدم بين الروح والجسد".
فتحمل هذه الرواية مع رواية العرباض على وجوب نبوته وثبوتها، فإن الكتابة تستعمل فيما هو واجب، قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: 183] و {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ} [المجادلة: 21] .
وعن أبي هريرة..............................................
__________
نبوتك؟ أي: ثبتت وحصلت "من الكتابة" لا من الكون، "انتهى. قلت: وكذا رويناه في جزء من حديث أبي عمرو" بفتح العين وزيادة واو كما في النور، "وإسماعيل بن نجيد" بضم النون وفتح الجيم فتحتية ساكنة فدال مهملة، ابن أحمد بن يوسف النيسابوري السلمي أحد الأئمة، الفصيح البارع الصوفي الشافعي، حدث عن محمد بن أيوب الرازي وأبي مسلم الكجي والإمام أحمد وغيرهم، وصحب من أئمة الحقائق الجنيد والخيري، حدث عنه خلق منهم سبطه أبو عبد الرحمن السلمي والحاكم والقشيري، ومات سنة ست وستين وثلاثمائة عن ثلاث وتسعين سنة، "ولفظه" يعني بإسناده إلى ميسرة، وهو: حدثنا محمد بن أيوب الرازي، أنبأنا أبو محمد بن سنان العوقي، حدثنا إبراهيم بن طهمان عن بديل عن عبد الله بن شقيق، عن ميسرة الفجر، قال: قلت: يا رسول الله! "متى كنت نبيًا؟ قال: "كتبت نبيًا وآدم بين الروح والجسد". كذا ساقه على أنه من الكتابة، والمذكور في العيون عنه: متى كنت، قال: "كنت من الكون كالأول لا الكتابة".
وهو الذي وقع لنا في جزء ابن نجيد، وهو ستة وخمسون حديثًا بخط جرامرد التركي الناصري الحنفي تلميذ السيوطي وعليه خط السيوطي ولكن مثل هذا لا يرد على المصنف؛ لأن روايته هو وقعت، كما قال: ألم تر قوله رويناه، "فتحمل هذه الرواية مع رواية العرباض على وجوب نبوته وثبوتها" عطف تفسير وعلل الحمل بقوله: "فإن الكتابة تسعمل فيما هو واجب" أما شرعًا؛ كما "قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: 182] ، وإما تقديرًا؛ كقوله: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ} [المجادلة: 21] أي: قدر.
"وعن أبي هريرة" تصغير هرة، قيل كناه بها المصطفى لأنه رآه وفي كمه هرة، وقيل المكنى له غيره، قال ابن عبد البر: لم يختلف في اسم في الجاهلية والاسم مثل ما اختلف في اسمه على عشرين قولا، وسرد ابن الجوزي في التلقيح منها ثمانية عشر، وقال النووي: تبلغ أكثر(1/65)
أنهم قالوا: يا رسول الله، متى وجبت لك النبوة قال: "وآدم بين الروح والجسد". رواه الترمذي وقال: حديث حسن.
ورويناه في جزء من أمالي أبي سهل القطان عن سهل بن صالح الهمداني، قال: سألت أبا جعفر، محمد بن علي، كيف صار محمد صلى الله عليه وسلم يتقدم الأنبياء وهو آخر من بعث؟ قال: إن الله تعالى لما أخذ الميثاق من بني آدم من.................
__________
من ثلاثين، قال الحافظ في الفتح: وقد جمعتها في تهذيب التهذيب فلم تبلغ ذلك، فيحمل كلامه على الخلاف في اسمه واسم أبيه معًا، انتهى.
واختلف في أرجحها فذهب جمع إلى أنه عمرو بن عامر، وذهب كثيرون وصححه النووي إلى أنه عبد الرحمن بن صخر الدوسي، أسلم عام خيبر وشهد بعضها مع المصطفى ثم لزمه وواظبه حتى كان أحفظ أصحابه وأكثر المكثرين. ذكر بقي بن مخلد أنه روى عنه صلى الله عليه وسلم خمسة آلاف حديث وثلاثمائة وأربعة وسبعين حديثًا، وتوفي بالمدينة سنة تسع أو ثمان أو سبع وخمسين، وأمه اسمها ميمونة، قال الطبراني، وقال أبو موسى المديني: أميمة، وقال ابن قتيبة في المعارف: أميمة بنت صفيح بن الحارث بن دوس أسلمت، فدعا لها المصطفى، وحديث إسلامها مشهور.
"إنهم قالوا: يا رسول الله! متى وجبت لك النبوة؟ " أي: حصلت وثبتت "قال: "وآدم بين الروح والجسد". أي: وجبت في هذه الحالة فعامل الحال وصاحبها محذوفان، قال الطيبي "رواه الترمذي" بكسر التاء والميم وضمهما وبفتح التاء وكسر الميم، أبو عيسى محمد بن عيسى أحد أوعية العلم والحفاظ الكبار، كان يضرب به المثل في الحفظ, أخذ عن البخاري وشاركه في شيوخه، بل قال ابن عساكر: كتب عنه البخاري وحسبه بذلك فخرا، مات سنة تسع وثمانين ومائتين. "وقال: حديث حسن وروينا في جزء من أمالي أبي سهل القطان عن سهل بن صالح الهمداني"، بفتح الهاء وسكون الميم وفتح الدال المهملة، نسبة إلى همدان شعب بن قحطان، قال في التبصير: منها الصحابة والتابعون وتابعوهم.
"قال: سألت أبا جعفر محمد بن علي" بن الحسين بن علي بن أبي طالب الملقب بالباقر، قال النووي: لأنه بقر العلم، أي: شقه. فعرف أصله وخفيه، ولد سنة ست وخمسين، وروى عنه خلق كالزهري وعمرو بن دينار، وكان سيد بني هاشم في زمانه علمًا وفضلا وسؤددًا ونبلا، قال ابن سعد: ثقة كثير الحديث مات سنة ثمان عشرة ومائة. "كيف صار محمد صلى الله عليه وسلم يتقدم الأنبياء وهو آخر من بعث، قال: إن الله تعالى لما أخذ الميثاق" في عالم الذر "من بني آدم من(1/66)
ظهورهم ذرياتهم وأشهدهم على أنفسهم: ألست بربكم؟ كان محمد صلى الله عليه وسلم أول من قال: بلى، ولذلك صار محمد صلى الله عليه وسلم يتقدم الأنبياء، وهو آخر من بعث.
فإن قلت: إن النبوة وصف ولا بد أن يكون الموصوف به موجودًا، وإنما يكون بعد بلوغ أربعين سنة.................................
__________
ظهورهم" بدل اشتمال مما قبله بإعادة الجار "ذرياتهم" بأن أخرج بعضهم من صلب بعض من صلب آدم نسلا بعد نسل؛ كنحو ما يتوالدون كالذر بنعمان بفتح النون يوم عرفة، ونصب لهم دلائل على ربوبيته، وركب فيهم عقلا، والأخبار والآثار شاهد بهذا فتعسف من جعل الآية للتمثيل: {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} [الأعراف: 172] ، قالوا: بلى "كان محمد صلى الله عليه وسلم أول من قال: بلى" أنت ربنا "ولذلك صار محمد صلى الله عليه وسلم يتقدم الأنبياء وهو آخر من بعث".
وأورد على قوله وآدم بين الروح والجسد، فالمراد بالوصف الأثر، وهو في الأصل مصدر يقوم بالمحل وهو كونه موحى إليه بأمر يعمل به، فالمراد بالوصف الأثر، وهو في الأصل مصدر، "ولا بد أن يكون الموصوف به موجودًا وإنما يكون" الوصف بالنبوة "بعد بلوغ" الموصوف بها "أربعين سنة" إذ هو سن الكمال ولها تبعث الرسل، ومفاد هذا الحصر الشامل لجميع الأنبياء حتى يحيى وعسى هو الصحيح, ففي زاد المعاد ما يذكر أن عيسى رفع وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة لا يعرف به أثر متصل يجب المصير إليه. قال الشامي: وهو كما قال فإن ذلك إنما يروى عن النصارى، والمصرح به في الأحاديث النبوية أنه إنما رفع وهو ابن مائة وعشرين سنة.
أخرج الطبراني في الكبير بسند رجاله ثقات، عن عائشة أنه صلى الله عليه وسلم، قال في مرضه الذي توفي فيه لفاطمة: "إن جبريل كان يعارضني القرآن في كل عام مرة، وإنه عارضني بالقرآن العام مرتين وأخبرني أنه لم يكن نبي إلا عاش نصف الذي قبله، وأخبرني أن عيسى ابن مريم عاش عشرين ومائة سنة، ولا أراني إلا ذاهبًا على رأس الستين". انتهى ملخصًا.
وروى أبو يعلى عن فاطمة مرفوعًا، أن عيسى ابن مريم مكث في بني إسرائيل أربعين سنة، فهذا مما يؤيد ذاك ولا يرد عليه قوله تعالى في حق عيسى: {وَجَعَلَنِي نَبِيًّا} [مريم: 30] ، لأن معناه جعلني مباركًا، نفاعًا للخير، والتعبير بلفظ الماضي باعتبار ما سبق في قضائه، أو لجعل المحقق وقوعه كالواقع. ولا قوله في يحيى: {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا} [مريم: 12] ، لأن معناه الحكمة وفهم التوراة، ومن فسره بالنبوية فهو مجاز لأنه لظهور آثارها كأنه أوتيها، ولا ما في تهذيب النووي وعرائس الثعلبي أن صالحًا بعثه الله إلى قومه وهو شاب، وأقام فيهم عشرين سنة، وتوفي بمكة وهو ابن ثمان وخمسين سنة، لجواز أنه على التقريب بإسقاط عامي الولادة والموت، فلا ينافي أنه أرسل على رأس الأربعين، وكونه في ذلك السن، لا ينافي إطلاق الشاب عليه، كما(1/67)
مهمة أيضًا، فكيف يوصف به قبل وجوده وإرساله؟
__________
أطلق أنس لفظ الشاب على المصطفى في حديث الهجرة، وهو ابن ثلاث وخمسين سنة. وقد روى ابن مردويه والضياء في المختارة، عن ابن عباس رفعه: "ما بعث الله نبيًا إلا شابًا".
مهمة:
وقع للحافظ الجلال السيوطي في تكملة تفسير المحلى، وشرح النقابة وغيرهما من كتبه الجزم، بأن عيسى رفع وهو ابن ثلاث وثلاثين، ويمكث بعد نزوله سبع سنين، وما زلت أتعجب منه مع مزيد حفظه وإتقانه وجمعه للمعقول والمنقول، حتى رأيته في مرقاة الصعود رجع عن ذلك.
فقال في شرح حديث: فيمكث في الأرض أربعين سنة، قال ابن كثير يشكل عليه ما في مسلم أنه يمكث سبع سنين إلا أن يحمل على إقامته بعد نزوله، ويكون ذلك مضافًا إلى مكثه قبل رفعه إلى السماء، وكان عمره حينئذ ثلاثًا وثلاثين سنة على المشهور. قلت: وقد أقمت سنين أجمع بذلك، ثم رأيت البيهقي قال في كتاب البعث والنشور، هكذا في هذا الحديث: أن عيسى يمكث في الأرض أربعين سنة.
وفي صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمرو في قصة الدجال: فيبعث الله عيسى ابن مريم فيطلبه فيهلكه، ثم يلبث الناس بعده سبع سنين ليس بين اثنين عداوة، قال البيهقي: ويحتمل أن قوله: ثم يلبث الناس بعده، أي: بعد موته، فلا يمكن مخالفًا للأول، انتهى. فترجح عندي هذا التأويل لوجوه أحدها. إن حديث مسلم ليس نصًا في الإخبار عن مدة لبث عيسى وذلك نص فيها، والثاني: أن ثم تؤيد هذا التأويل لأنها للتراخي. والثالث: قوله يلبث الناس بعده فيتجه أن الضمير فيه لعيسى؛ لأنه أقرب مذكور، والرابع: أنه لم يرد في ذلك سوى هذا الحديث المحتمل، ولا ثاني له. وورد مكث عيسى أربعين سنة في عدة أحاديث من طرق مختلفة منها هذا الحديث الذي أخرجه أبو داود وهو صحيح.
ومنها ما أخرجه الطبران عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "ينزل عيسى ابن مريم، فيمكث في الناس أربعين سنة"، ومنها ما أخرجه أحمد في الزهد عن أبي هريرة، قال: "يلبث عيسى ابن مريم في الأرض أربعين سنة لو يقول للبطحاء سيلي عسلا لسالت"، ومنها ما أخرجه أحمد في مسنده عن عائشة مرفوعًا في حديث الدجال: "فينزل عيسى ابن مريم فيقتله، ثم يمكث عيسى في الأرض أربعين سنة إمامًا عادلا وحكمًا مقسطًا". ورد أيضًا من حديث ابن مسعود عند الطبراني، فهذه الأحاديث الصريحة أولى من ذلك الحديث الواحد المحتمل، انتهى.
"أيضًا" أي: كما أنه لا بد للنبوة من محل تقوم به والمتعاطفات هنا اتفقا في الاشتراط فصح لفظ أيضًا، "فكيف يوصف به"، أي: بوصف النبوة "قبل وجوده" صلى الله عليه وسلم في الخارج "وإرساله؟ " في(1/68)
أجاب العلامة الغزالي رحمه الله في كتابه "النفخ والتسوية" عن هذا، وعن قوله: كنت أول الأنبياء خلقًا وآخرهم بعثًا: بأن المراد بـ"الخلق" هنا: التقدير دون الإيجاد..............
__________
ذكره مع أن فرض السؤال في النبوة إشعار بأنهما متقاربان وهو الصحيح، وقيل: نبوته سابقة على إرساله.
"أجاب": كذا في نسخ بلا فاء، وفي أخرى بها, والأولى أولى إذ الفعل هنا ماض متصرف، وليس مما تدخل عليه الفاء، فإنها تدخل في سبعة مواضع جمعها القائل:
اسمية طلبية وبجامد ... وبما وقد وبلن وبالتنفيس
وقد اشتهر أن ذا البيت للفقيه العلامة الأجهوري، وله عزاه شيخنا لكنه قال لنا في قراءة المعنى أنه رآه لأقدم منه، وهو كما قال فقد ذكره الشيخ عمر بن نجيم الحنفي في شرح الكنز في باب تعليق الطلاق، فقال: جواب الشرط يجب اقترانه بالفاء، حيث لم يصلح جعله شرطًا، وذلك في مواضع جمعت في قوله طلبية واسمية ... إلخ. فلعله من توافق الخاطر "العلامة" أبو حامد حجة الإسلام محمد بن محمد "الغزالي" بفتح الغين المعجمة وشدة الزاي على المشهور، كما قال ابن الأثير وفي التبيان عن الغزالي أنه أنكر التشديد، وقال: إنما أنا بالتخفيف، نسبة إلى غزالة من قرى طوس.
وفي المصباح عن بعض ذريته أخطأ الناس في تشديد جدنا، لكن قال ابن الأثير أنه خلاف المشهور، قال: وأظن أنه نسبة إلى الغزالي على عادة أهل جرجان وخوارزم كالعصاري إلى العصار. قال: وحكى لي بعض من ينسب إليه من أهل طوس، أنه منسوب إلى غزالة بنت كعب الأحبار، انتهى. وفي طبقات السبكي كان والده يغزل الصوف ويبيعه بدكان بطوس. "رحمه الله" ذكر له الأسنوي في المهمات ترجمة حسنة منها هو قطب الوجود والبركة الشاملة لكل موجود، وروح خلاصة أهل الإيمان والطريق الموصل إلى رضا الرحمن يتقرب به إلى الله تعالى كل صديق ولا يبغضه إلا ملحد أو زنديق. قد انفرد في ذلك العصر الزمان، كما انفرد في هذا الباب فلا يترجم معه فيه لإنسان، انتهى. وله كتب نافعة مفيدة خصوصًا الإحياء فلا يستغنى عنه طالب الآخرة، مات بطوس سنة خمس وخمسمائة. "في كتابه النفخ والتسوية عن هذا"، المتقدم وهو وقوله: كنت نبيًا وآدم ... إلخ.
"وعن قوله" صلى الله عليه وسلم " "كنت أول الأنبياء خلقًا وآخرهم بعثًا"" , رواه بهذا اللفظ ابن أبي حاتم في تفسيره، وأبو إسحاق الجوذقاني, في تاريخه عن أبي هريرة، رفعه بلفظ، كنت، وما يقع في نسخ بلفظ أنا فتحريف أو رواية بالمعنى، "بأن المراد بالخلق هنا التقدير دون الإيجاد" إذ هو(1/69)
فإن قيل إن ولدته أمه لم يكن موجودًا مخلوقًا، ولكن الغايات والكمالات سابقة في التقدير لاحقة في الوجود".
قال: وهو معنى قولهم: "أول الفكرة آخر العمل، أول الفكرة" وبيانه: أن المهندس المقدر للدار، أول ما يمثل في نفسه صورة الدار، فيحصل في تقديره دار كاملة، وآخرة ما يوجد من أعماله هي الدار الكاملة، فالدار الكاملة هي أول الأشياء في حقه تقديرًا، وآخرها وجودًا، لأن ما قبلها من ضرب اللبنات وبناء الحيطان، وتركيب الجذوع، وسيلة إلى غاية وكمال وهي الدار الكاملة، فالغاية هي الدار ولأجلها تقوم الآلات والأعمال.
ثم قال: وأما قوله عليه الصلاة والسلام: كنت نبيًا فإشارة إلى ما...................
__________
خلاف الواقع، "فإن قيل: إن ولدته أمه لم يكن موجودًا مخلوقًا، ولكن الغايات والكمالات سابقة في التقدير، لاحقة في الوجود. قال: وهو معنى قولهم" أي: المتقدمين، "أول الفكرة آخر العمل أول الفكرة"، كذا في النسخ الفكرة بالهاء في الموضعين، والمذكور في كتاب الغزالي المزبور بدون هاء فيهما، ونظمه القائل:
نعم ما قال زمرة الدول ... أول الفكر آخر العمل
"وبيانه" أي: إيضاح قولهم المذكور، "أن المهندس" قال الجوهري: المهندز الذي يقدر مجاري القنا والأبنية، والعرب صيروا زايه سينا، فقالوا مهندس في كلام العرب زاي قبلها دال، وفي القاموس: هندوس الأمر بالضم العالم به، جمعه هنادسة، والمهندس مقدر مجاري القنا حين تحفر، والاسم الهندسة مشتق من الهنداز معرب اندازه، فأبدلت الزاي لأنهم ليس لهم دال بعده زاي، انتهى. "المقدر للدار أول ما يمثل في نفسه صورة الدار، فيحصل في تقديره دارًا كاملة وآخرة" وزان قصبة كما في المصباح وغيره، وحكى في القاموس ضم أوله، أي: آخر "ما يوجد في أعماله هي الدار الكاملة، فالدار الكاملة هي أول الأشياء في حقه تقديرا وآخرها وجودًا؛ لأن ما قبلها من ضرب اللبنات" بكسر الموحدة جمع لبنة بالكسر وتسكن للتخفيف ما يعمل من الطين ويبنى به، "وبناء الحيطان" جمع حائط الجدار، قال القاموس: والقياس حوطان، "وتركيب الجذوع" جمع جذع، وهو ساق النخلة "وسيلة إلى غاية" أي: نهاية، "وكمال" عطف تفسير، "وهي الدار الكاملة فالغاية هي الدار، ولأجلها تقوم" بضم الفوقية وفتح القاف والواو المشددة، أي: توجد "الآلات والأعمال ثم قال" الغزالي بعد كلام وأما قوله عليه الصلاة والسلام: "كنت نبيًا وآدم بين الروح والجسد" "فإشارة" أي: فهو إشارة "إلى ما(1/70)
ذكرناه، وأنه كان نبيًا في التقدير قبل تمام خلقه آدم عليه الصلاة والسلام، لأنه لم ينشأ خلق آدم إلا لينتزع من ذريته محمد صلى الله عليه وسلم ويستصفى تدريجًا إلى أن يبلغ كمال الصفات".
"قال: ولا تفهم هذه الحقيقة إلا بأن يعلم أن للدار وجودين: وجودًا في ذهن المهندس ودماغه، والوجود الثاني أنه ينظر إلى صورة الدار خارج الذهن في الأعيان، والوجود الذهني سبب الوجود الخارج للعين، فهو سابق لا محالة. كذلك فاعلم أن الله تعالى يقدر ثم يوجد على وفق التقدير ثانيًا"، انتهى.
__________
ذكرنا، وأنه كان نبيًا في التقدير قبل تمام خلقه" بكسر فسكون "آدم عليه الصلاة والسلام، لأنه" أي: الحال والشأن "لم ينشأ خلق آدم إلا لينتزع من ذريته محمد صلى الله عليه وسلم" وقد قال الله تعالى لآدم: لولاه ما خلقتك، "ويستصفى" أي: يستخلص من الكدورات كإخراج العلقة وشق الصدر، "تدريجًا" أي: شيئًا فشيئًا، "إلى أن يبلغ كمال الصفات" من إضافة الصفة للموصوف، أي: الصفات الكاملة أو بمعنى الكامل من الصفات وهو أعلاها، وهذا على ما في النسخ الصفات بالتاء والذي في كتاب الغزالي المذكور الصفا بلا تاء.
"قال: ولا تفهم هذه الحقيقة إلا بأن يعلم أن للدار وجودين: وجودًا" بالنصب بدل مفصل من مجمل "في ذهن المهندس ودماغه" عطف تفسير لبيان محله عند الحكماء إذ الذهن القوي المدركة الباطنة، وهي حاصلة في مقدم الدماغ، وذكره لبيان تصويره في حد ذاته، فلا ينافي أن الغزالي كغيره من أهل السنة لا يقول به.
"والوجود الثاني: أنه" أي: المهندس "ينظر إلى صورة الدار خارج الذهن في الأعيان والوجود الذهني سبب الوجود الخارج للعين، فهو سابق لا محالة" بفتح الميم، أي: لا بد كما في المختار "كذلك" مبتدأ حذف خبره، أي: كهذين الوجودين فعل الله وتصرفه في خلقه؛ كما أشار إليه بقوله "فاعلم" وهذا جواب شرط مقدر نشأ من قوله وكذلك، أي وإذا أردت معرفة ذلك في حقه تعالى وفيه إشارة إلى استحالة الوجود الذهني في حقه تعالى وأن الشبيه إنما هو من حيث سبق التقدم ثم الإيجاد فقط، "إن الله تعالى يقدر" الأشباء قبل إيجادها، "ثم يوجد" ذلك الذي قدره "على وفق التقدير ثانيًا، انتهى".
واقتصر على هذين الوجودين؛ لأنهما الصالحان في مادة جوابه، وإلا فللشيء من حيث هو وجودان آخران: وجود في الكتابة ووجود في العبارة. صرح به الجعبري مقدمًا العيني على الذهني، نظرًا إلى الإخبار بالشيء بعد تحصيله وتعقله عند المخبر بالكسر، والغزالي قدم الذهني(1/71)
وهو متعقب بقول الشيخ تقي الدين السبكي: "إنه قد جاء أن الله خلق الأرواح قبل الأجساد، فقد تكون الإشارة بقوله: كنت نبيًا إلى روحه الشريفة، أو إلى حقيقة من الحقائق، والحقائق تقصر عقولنا عن معرفتها، وإنما يعلمها خالقها ومن أمده الله بنور إلهي، ثم إن تلك الحقائق يؤتي الله كل حقيقة منها ما يشاء في الوقت الذي يشاء، فحقيقة النبي صلى الله عليه وسلم قد تكون من حين خلق آدم..................
__________
نظرًا إلى صورة تحصيل الشيء في نفسه، وللقرافي في شرح تنقيحه قال الغزالي المختار: عندي أن للشيء في الوجود أربع مراتب حقيقية في نفسه، وثبوت مثاله في الذهن. ويعبر عنه بالعلم التصوري، الثالثة تأليف أصوات بحروف تدل عليه، الرابعة تأليف رقوم تدرك بحاسة البصر دالة على اللفظ، وهي الكتابة؛ فالكتابة تبع للفظ إذ تدل عليه، واللفظ تبع للعلم، والعلم تبع للمعلوم، فهذه الأربعة متطابقة متوازنة إلا أن الأولين وجودان حقيقيان لا يختلفان في الأعصار والأمم واللفظ والكتابة، مختلفان فيهما لوضعهما بالاختيار.
"وهو" أي: ما قاله الغزالي، "متعقب" أي: مردود "بقول الشيخ" الإمام العلامة أبي الحسن علي بن عبد الكافي الملقب "تقي الدين السبكي" الفقيه الحافظ المفسر الأصولي المتكلم النحوي اللغوي الجدلي الخلافي، النظار شيخ الإسلام، بقية المجتهدين. ولد بسبك من أعمال المنوفية في صفر سنة ثلاث وثمانين وستمائة، وبرع في العلوم، وانتهت إليه الرئاسة بمصر، وصنف تصانيف عديدة، وتوفي بجزيرة الفيل على شاطئ النيل يوم الاثنين رابع جمادى الآخرة سنة ست وخمسين وسبعمائة "إنه جاء أن الله خلق الأرواح قبل الأجساد" وإذا كان كذلك "فقد تكون الإشارة بقوله" صلى الله عليه وسلم: "كنت نبيًا لى روحه الشريفة أو إلى حقيقة من الحقائق" فيكون لنبوته محل قامت به.
وهذا جواب قول السائل لا بد للوصف من محل يقوم به، وترك جواب أنها إنما تكون بعد الأربعين. وأجاب شيخنا بجواز أن محله في النبوة المتعلقة بالجسد بعد ارتباط الروح به، فلا ينافي أن إفاضة النبوة على الروح ووصفها به حقيقة لعدم اشتراط المحل الذي تقوم به النبوة خارجًا عن هذا.
قال: وقد يؤخذ ذلك من إقصاره على إفاضة النبوة على روحه، إذ من لازم حصولها على الروح عدم اشتراط وجود الجسد في الأعيان، فضلا عن بلوغ أربعين، ولما استشعر سؤال: ما تلك الحقائق؟ قال مجيبًا: "والحقائق تقصر عقولنا عن معرفتها وإنما يعلمها خالقها ومن أمده الله بنور إلهي" يدرك ما يخفي من لم يمده، "ثم إن تلك الحقائق يؤتي الله كل حقيقة منها ما في الوقت الذي يشاء، فحقيقة النبي صلى الله عليه وسلم قد تكون من حين خلق آدم", أي: من وقت(1/72)
آتاها الله ذلك الوصف، بأن يكون خلقها متهيئة لذلك، وأفاضه عليها من ذلك الوقت، فصار نبيًا، وكتب اسمه على العرش، وأخبر عنه بالرسالة ليعلم ملائكته وغيرهم كرامته عنده.
فحقيقته موجودة من ذلك الوقت وإن تأخر جسده الشريف المتصف بها، واتصاف حقيقته بالأوصاف الشريفة المفاضة عليه من الحضرة الإلهية، وإنما يتأخر البعث والتبليغ.... ...................
__________
ابتدائه وقبل تمامه، "آتاها الله" بالمد أعطاها "ذلك الوصف" وصور الإعطاء بقوله: "بأن يكون خلقها متهيئة لذلك" أي: لقبول النبوة، "وأفاضه" أي: ذلك الوصف "عليها من ذلك الوقت" فحقيقته سابقة على خلق آدم وحصول النبوة عند خلقه, وفي اللطائف والسبل: وهذه، أي: الصفة التي هي النبوة الثابتة، مرتبة ثالثة وهي انتقاله من مرتبة العلم والكتابة إلى مرتبة الوجود العيني الخارجي.
قال شيخنا: فأفاد أن نبوته مقدره في العلم أولا، ثم تعلق بها الكتابة، ثم تعلق بها الإبراز والإيجاد للملائكة في الوجود العيني, وقضية ما مر من إبراز حقيقته قبل سائر الموجودات، أن المراتب أربع تعلق العلم بأنه يصير نبيًا، ثم خلق نوره، ثم كتب في أم الكتاب، ثم إظهاره الملائكة، وقد يشعر بهذا قوله: وهي انتقاله ... إلخ.
"فصار" عليه السلام، أي: حقيقته أو روحه "نبيًا وكتب" الله تعالى "اسمه" عليه السلام، "على العرش وأخبر" الله "عنه بالرسالة ليعلم ملائكته وغيرهم" من العالم الموجود حينئذ، أو الذي سيوجد من بني آدم "كرامته عنده، فحقيقته موجودة من ذلك الوقت، وإن تأخر جسده الشريف" أي: إيجاده "المتصف بها" وقوله: "واتصاف حقيقته" مبتدأ "بالأوصاف الشريفة المفاضة عليه" صفتان للأوصاف، "من الحضرة الإلهية" متعلقة بمفاضة بلا ريب وجعله خبر اتصاف يمجه السمع ويأباه الطبع، فليس القصد الإخبار بأن اتصافه كائن من الحضرة، بل حصوله من ذلك الوقت وإنما سقط خبر المبتدأ من قلم المصنف سهوًا.
وهو ثابت في كلام السبكي الناقل عنه لمصنف، ولفظه واتصاف حقيقته بالأوصاف الشريفة المفاضة عليه من الحضرة الإلهية، حاصل من ذلك الوقت؛ "وإنما يتأخر البعث والتبليغ" فلا حاجة أيضًا لجعل اتصاف عطفًا على جسده، أي: تأخر اتصافه بالأوصاف في الوجود العيني لجسده وأنه أقرب، بل هو تعسف أيضًا يأباه قوله بعد وإنما المتأخر تكونه وتنقله ويبعده الحصر في قوله: إنما يتأخر ... إلخ. يصير معناه عسرًا، ولكن قد علمت أن منشأ هذا التحمل سقوط الخير، وأنه موجود في كلام من عزا إليه، فلا معدل عنه وبه استقام الكلام، بلا تعسف.(1/73)
وكل ما له من جهة الله ومن جهة أهل ذاته الشريفة وحقيقته معجل لا تأخر فيه, وكذلك استنباؤه وإيتاؤه الكتاب والحكم والنبوة، وإنما المتأخر تكونه وتنقله إلى أن ظهر صلى الله عليه وسلم.
وقد علم من هذا: أن من فسره بعلم الله بأنه سيصير نبيًا لم يصل إلى هذا المعنى، لأن علم الله محيط بجميع الأشياء، ووصف النبي صلى الله عليه وسلم بالنبوة في ذلك الوقت ينبغي أن يفهم منه أنه أمر ثابت له في ذلك الوقت, ولو كان المراد بذلك مجرد العلم بما سيصير في المستقبل لم يكن له السلام خصوصية بأنه نبي وآدم بين الروح والجسد، لأن جميع الأنبياء يعلم الله تعالى نبوتهم في ذلك الوقت وقبله، فلا بد من خصوصية للنبي صلى الله عليه وسلم لأجلها أخبر بهذا الخبر إعلامًا لأمته ليعرفوا قدره عند الله تعالى.
__________
"وكل ما له من جهة الله، ومن جهة أهل ذاته الشريفة وحقيقته، معجل لا تأخر فيه" جملة خبرية كالمفسرة لما قبلها؛ كقوله: "وكذلك استنباؤه", أي: جعله نبيًا، فالسين للتوكيد لا للطلب. "وإيتاؤه الكتاب والحكم والنبوة" متقدم على ذاته، "وإنما المتأخر تكونه وتنقله إلى أن ظهر صلى الله عليه وسلم، وقد علم من هذا" الخبر الذي هو أن الله خلق الأرواح قبل الأجساد، "أن من فسره" أي: الكون نبيًا وآدم بين الروح والجسد، كالغزالي.
"بعلم الله بأنه سيصير نبيًا لم يصل إلى هذا المعنى؛ لأن علم الله محيط بجميع الأشياء، ووصف النبي صلى الله عليه وسلم بالنبوة في ذلك الوقت، ينبغي أن يفهم منه أنه أمر ثابت له في ذلك الوقت، ولو كان المراد بذلك مجرد العلم" أي: علم الله، "بما سيصير في المستقبل".
"لم يكن له" عليه "السلام خصوصية" بضم الخاء وفتحها، وهو أفصح، كذا في المختار كأصله الصحاح، وفي المصباح والفتح: لغة، وكذا أفاده القاموس بقوله: وتفتح "بأنه نبي وآدم بين الروح والجسد؛ لأن جميع الأنبياء، يعلم الله تعالى نبوتهم في ذلك الوقت وقبله، فلا بد من خصوصية" أمر ثابت "للنبي صلى الله عليه وسلم" دون غيره؛ "لأجلها أخبر بهذا الخبر إعلامًا لأمته، ليعرفوا قدره عند الله تعالى".
إلى هنا كلام السبكي بتقديم وتأخير حسبما ذكره في رسالة لطيفة سماها التعظيم والمنة في لتؤمنن به ولتنصرنه، وفهمه المصنف ردًا على الغزالي بقوله وهو متعقب، وفيه أنه إنما عبر بالتقدير وهو مرتبة غير العلم، فيجوز أنه أمر اختص به قبل خلق آدم، دون بقية الأنبياء فلا يتم رده به, ويحتمل أن مراد السبكي الرد على غير الغزالي، وهو ظاهر قوله. ومن فسر دون من(1/74)
وعن الشعبي قال رجل: يا رسول الله، متى استنبئت؟ قال: "وآدم بين الروح والجسد، حين أخذ مني الميثاق". رواه ابن سعد من رواية جابر الجعفي فيما ذكره ابن رجب.
فهذا يدل على أنه من حين صور آدم طينًا استخرج منه محمد صلى الله عليه وسلم.........
__________
قدر، وفي نسيم الرياض قد يقال من فسره بالعلم مراده علم أظهره الله لغيره من الملائكة والأرواح، تشريفًا له وتعظيمًا، وكونه إشارة إلى حقيقته إن أراد به روحه، رجع إلى ما قبله وإن أراد غيره، فلا يعقل عند من خلع ربقة التقليد من جيده، انتهى.
"وعن الشعبي" بفتح المعجمة وسكون المهملة، فموحدة، نسبة إلى شعب بطن من همدان بسكون الميم كما في الكواكب، وصدر به في اللب, وقال ابن الأثير: بطن من حمير عامر بن شراحيل الكوفي، أبي عمرو التابعي الوسط، ولد لست مضين من خلافة عمر على المشهور، وروي عن علي والسبطين وسعد وسعيد وابني عباس وعمر وغيرهم، وقال: أدركت خمسمائة صحابي، وما كتبت سوداء في بيضاء قط، ولا حدثني أحد بحديث إلا حفظته. مر به ابن عمر وهو يحدث بالمغازي، فقال: شهدت القوم فلهو أحفظ لها وأعلم بها مني قال مكحول: ما رأيت أفقه منه، وابن عيينة كان أكبر الناس في زمانه، مات بالكوفة سنة ثلاث ومائة أو أربع أو سبع أو عشر ومائة.
"قال رجل" يحتمل أنه عمر: "يا رسول الله، متى استنبئت؟ قال: "وآدم بين الروح والجسد حين أخذ مني الميثاق" ", وعند أبي نعيم عن الصنابحي عن عمر بن الخطاب، أنه قال: يا رسول الله، متى جعلت نبيًا؟ قال: "وآدم بين الروح والجسد"، "رواه" أبو عبد الله محمد "بن سعد" بن منيع الهاشمي، مولاهم البصري كاتب الواقدي روى عنه كثيرًا، وعن هشيم وابن عيينة وابن علية وطبقتهم، وكتب الفقه والحديث والغريب والعربية، وصنف الطبقات الكبير والصغير والتاريخ.
قال أبو حاتم وغيره: صدوق مات في جمادى الآخرة سنة ثلاثين أو خمس وثلاثين ومائتين عن اثنتين وستين سنة, "من رواية جابر" بن يزيد بن الحارث "الجعفي" بضم الجيم وسكون العين، أي عبد الله الكوفي، عن الشعبي وأبي الطفيل، وعنه شعبة والسفيانان ضعيف شيعي تركه الحفاظ ووثقه شعبة، فشذ, قال أبو داود: ليس له في كتابي حديث سوى السهو، مات سنة ثمان وعشرين ومائة.
"فيما ذكره ابن رجب" الحافظ عبد الرحمن، "فهذا" أي: مرسل الشعبي على ضعفه المعتضد بحديث عمر السابق، "يدل على أنه من حين صور آدم طينًا، استخرج منه محمد صلى الله عليه وسلم(1/75)
ونبئ وأخذ منه الميثاق، ثم أعيد إلى ظهر آدم حتى يخرج وقت خروجه الذي قدر الله خروجه فيه فهو أولهم خلقًا.
لا يقال: يلزم خلق آدم قبله، لأن آدم كان حينئذ مواتًا لا روح فيه، ومحمد صلى الله عليه وسلم كان حيًا حين استخرج ونبئ وأخذ منه الميثاق، فهو أول النبيين خلقًا وآخرهم بعثًا.
فإن قلت إن استخراج ذرية آدم منه كان بعد نفخ الروح فيه، كما دل عليه أكثر الأحاديث، والذي تقرر هنا: أنه استخرج ونبئ وأخذ منه الميثاق قبل نفخ الروح في آدم عليه الصلاة والسلام.
أجاب بعضهم: بأنه صلى الله عليه وسلم خص باستخراجه من ظهر آدم قبل نفخ الروح, فإن محمدا صلى الله عليه وسلم هو المقصود من خلق النوع الإنساني، وهو عينه وخلاصته وواسطة
__________
ونبئ، وأخذ منه الميثاق، ثم أعيد إلى ظهر آدم حتى يخرج وقت خروجه الذي قدر الله خروجه فيه، فهو أولهم خلقًا لا يقال يلزم" على ما تقدم "خلق آدم قبله" لأنه استخرج من طينته فينا في خبر كنت أول الأنبياء خلقًا, "لأن آدم" تعليل لنفي القول لا للقول المنفي، فهو نفس الجواب.
"كان حينئذ"، أي: حين نبئ النبي وأخذ منه الميثاق، "مواتًا" بفتح الميم" "لا روح فيه" صفة كاشفة، ففي الصحاح: الموات بالضم الموت، وبالفتح ما لا روح فيه. "ومحمد صلى الله عليه وسلم كان حيًا حين استخرج" من طينة آدم "ونبئ وأخذ منه ميثاقه، فهو أول النبيين خلقًا وآخرهم بعثًا" كما قال: "فإن قلت إن استخراج ذرية آدم منه كان بعد نفخ الروح فيه؛ كما دل عليه أكثر الأحاديث" وأقلها أنه استخراج قبل نفخ الروح. روي عن سلمان وغيره، قال في اللطائف: ويدل له ظاهر قوله: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ} [الأعراف: 11] ، الآية على ما فسر به مجاهد وغيره، أن المراد إخراج ذرية آدم من ظهره، قبل أمر الملائكة بالسجود له، ويحتمل أن يدل له أيضًا قول آدم بين الروح والجسد جوابًا لمتى استنبئت.
"والذي تقرر هنا أنه استخرج ونبئ وأخذ منه الميثاق قبل نفخ الروح في آدم عليه الصلاة والسلام"، هذه خصوصية للمصطفى؟ أم مبني على خلاف ما دل عليه أكثر الأحاديث؟ "أجاب بعضهم بأنه صلى الله عليه وسلم خص باستخراجه من ظهر آدم قبل نفخ الروح فيه، فإن محمدًا صلى الله عليه وسلم هو المقصود من خلق النوع الإنساني"، إذ لولاه ما خلق. "وهو عينه وخلاصته(1/76)
عقده. والأحاديث السابقة صريحة في ذلك، والله أعلم.
وروي عن علي بن أبي طالب أنه قال: لم يبعث الله تعالى نبيًا من آدم فمن بعده إلا أخذ عليه العهد في محمد صلى الله عليه وسلم لئن بعث، وهو حي، ليؤمنن به ولينصرنه، ويأخذ العهد بذلك على قومه.
وهو مروي عن ابن عباس أيضًا, كما ذكره العماد بن كثير في تفسيره.
__________
وواسطة عقده" بكسر العين، أي: الجوهر الذي في وسط القلادة، وهو أجودها، "والأحاديث السابقة صريحة في ذلك" الذي قلنا: إنه خصوصية له، "والله أعلم".
قال العلامة الشهاب القرافي: لفظ والله أعلم لا ينبغي أن توضع هي ونحوها إلا وينوي بها ذكر الله، فإن استعمال ألفاظ الأذكار لا على وجه الذكر والتعظيم، قلة أدب مع الله تعالى ينهى عنه، بل ينوي بها معناها الذي وضعت له لغة وشرعًا، انتهى.
"وروي" عند ابني جرير وكثير، "عن علي بن أبي طالب" أمير المؤمنين، زوج البتول الزهراء، تربية من خص بالنظر ليلة الإسراء القائل في حقه: "من كنت مولاه فعلي مولاه". رواه الترمذي والنسائي وغيرهما بأسانيد صحيحة.
وعند مسلم وأحمد: "ولا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق"، مناقبه شهيرة كثيرة جدًا، حتى قال أحمد والنسائي وإسماعيل القاضي ولم يرد في حق أحد من الصحابة بالأسانيد الجياد أكثر مما جاء في حق علي رضي الله عنه، "أنه قال" في تفسير قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ} [آل عمران: 81] الآية، "لم يبعث الله نبيًا من آدم فمن بعده" إلى عيسى، إن قلنا بالمشهور من أنه ليس بينه وبين المصطفى نبي أو إلى من بعده أيضًا؛ كخالد بن سنان، "إلا أخذ عليه العهد في محمد صلى الله عليه وسلم لئن بعث وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه ويأخذ العهد بذلك على قومه" المبعوث فيهم الرواية بنصب يأخذ عن عياض؛ كما أفاده الشمني والمصنف في حواشيهما للشفاء، قائلين عطفًا على يؤمنن نون التوكيد الخفيفة ورد بأنه حينئذ يكون من جزاء الشرط فيلزم أن الأخذ من الأمة بعد بعثه المصطفى وليس المراد؛ فالعطف على جملة: لئن بعث ... إلخ، على أنها في موضع مفرد، والوجه أو التقدير وأمر أن يأخذ نحو علفتها تبنًا، "وهو مروي عن ابن عباس أيضًا" موقوف عليها لفظًا، مرفوع حكمًا؛ لأنه لا مجال للرأي فيه، "كما ذكره العماد" الحافظ ذو الفضائل إسماعيل بن عمر "ابن كثير" القيسي المفتي المحدث البارع المتقن كثير الاستحضار، سارت تصانيفه في البلاد في حياته، مات سنة أربع وسبعين وسبعمائة عن أربع وسبعين سنة. "في تفسيره" الذي لم يؤلف على نمطه مثله، ورواه ابن عساكر والبغوي(1/77)
وقيل: إن الله تعالى لما خلق نور نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أمره أن ينظر إلى أنوار الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فغشيهم من نوره ما أنطقهم الله به وقالوا: يا ربنا، من غشينا نوره؟ فقال الله تعالى: هذا نور محمد بن عبد الله، إن آمنتم به جعلتكم أنبياء، قالوا: آمنا به وبنبوته فقال الله تعالى: أشهد عليكم؟ قالوا: نعم. فذلك قوله تعالى:............
__________
بنحوه، ووقع للزركشي وابن كثير والحافظ في الفتح عزوه لصحيح البخاري. قال الشامي: ولم أظفر به فيه، انتهى.
وقال البغوي: اختلف في معنى الآية، فقيل: أخذ الميثاق من النبيين أن يبلغوا كتاب الله ورسالاته وأن يصدق بعضهم بعضًا، وأخذ العهد على كل نبي أن يؤمن بمن يأتي بعده وينصره إن أدركه، وأن يأمر قومه بنصره فأخذ الميثاق من موسى أن يؤمن بعيسى، ومن عيسى أن يؤمن بمحمد، وقيل: إنما أخذ الميثاق عليهم في محمد صلى الله عليه وسلم، واختلف على هذا فقيل: الأخذ على النبيين وأممهم كلهم، واكتفى بذكر الأنبياء؛ لأن العهد على المتبوع عهد على التابع وهو معنى قول علي وابن عباس.
وقال مجاهد والربيع: أخذ الميثاق إنما هو على أهل الكتاب الذين أرسل منهم النبيون، ألا ترى قوله: {ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ} [آل عمران: 81] ... إلخ، وإنما كان مبعوثًا لأهل الكتاب دون النبيين, يدل عليه قراءة ابن مسعود وأبي: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [آل عمران: 187] ، وأما القراءة المعروفة، فالمراد منها أن الله أخذ عهد النبيين أن يأخذوا الميثاق على أممهم بذلك، انتهى ملخصًا.
"وقيل: إن الله تعالى لما خلق نور نبينا محمد صلى الله عليه وسلم" أي: أكمل خلقه بإفاضة الكمالات والنبوة على نوره "أمره أن ينظر إلى أنوار الأنبياء عليهم الصلاة والسلام" لا خلق نفس النور فلا يرد اقتضاؤه خلق نور الأنبياء قبل نوره؛ لأن تعليق الحكم على شيء يستدعي وجوده قبله، أو المراد لما خلق نوره أخرج منه أنوار بقية الأنبياء، ثم أمرهم بذلك، ولو قبل إفاضة النبوة على ذلك النور، لكن الأول أوفق بقولهم: آمنا به وبنبوته، إذ المتبادر إفاضة النبوة عليه بالفعل.
"فغشيهم من نوره ما" أي: الذي "أنطقهم الله به، وقالوا: يا ربنا من غشينا نوره؟ فقال الله تعالى: هذا نور محمد بن عبد الله إن آمنتم به جعلتكم أنبياء، قالوا: آمنا به وبنبوته، فقال الله تعالى" لهم: "أشهد عليكم" بحذف همزة الاستفهام المقدرة، "قالوا: نعم" أشهد علينا، "فذلك قوله تعالى" واذكر " {وَإِذْ} " حين " {أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ} " [آل عمران: 81] ، عهدهم.(1/78)
{وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ} إلى قوله: {وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران: 81] .
قال الشيخ تقي الدين السبكي: في هذه الآية الشريفة من التنويه بالنبي صلى الله عليه وسلم وتعظيم قدره العلي ما لا يخفى، وفيه مع ذلك: أنه على تقدير مجيئه في زمانهم يكون مرسلا إليهم، فتكون نبوته ورسالته عامة لجميع الخلق، من آدم إلى يوم القيامة، ويكون الأنبياء وأممهم كلهم من أمته، ويكون قوله: "وبعثت إلى الناس كافة". لا يختص به الناس من زمانه إلى يوم القيامة، بل يتناول من قبلهم أيضًا.
__________
"لما" بفتح اللام للابتداء وتوكيد معنى القسم الذي في أخذ الميثاق وكسرها متعلق بأخذ، وما موصولة على الوجهين، أي: للذي "ءاتيتكم" إياه وقرئ: "آتَيْنَاكُمْ "من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم"" [آل عمران: 81] ، من الكتاب والحكمة، وهو محمد صلى الله عليه وسلم {لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ} [آل عمران: 81] ، جواب القسم وأممهم تبع لهم في ذلك، إلى قوله: {وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران: 81] عليكم وعلى أممكم.
"قال الشيخ تقي الدين السبكي" في رسالة صغيرة له سماها التعظيم والمنة، في {لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ} [آل عمران: 81] ،"في هذه الآية الشريفة من التنويه بالنبي صلى الله عليه وسلم وتعظيم قدره العلي ما لا يخفى، وفيه" كأنه ذكر على معنى نظم الآية، وإلا فقياس سابقه وفيها: "مع ذلك أنه على تقدير مجيئه في زمانهم يكون مرسلا إليهم فتكون نبوته ورسالته عامة لجميع الخلق من آدم إلى يوم القيامة" بهذا التقدير، "ويكون الأنبياء وأممهم كلهم من أمته" مع بقاء الأنبياء على نبوتهم، "ويكون قوله" صلى الله عليه وسلم في أثناء حديث رواه الشيخان وغيرهما: ""وبعثت إلى الناس كافة"" قومي وغيرهم من العرب والعجم والأسود والأحمر.
وفي رواية لمسلم: "إلى الخلق كافة"، وهو يتناول الجن إجماعًا والملائكة في أحد القولين، ورجحه ابن حزم والبارزي والسبكي وغيرهم، ويأتي بسطه إن شاء الله في الخصائص، "لا يختص به الناس" الكائنون "من زمنه إلى يوم القيامة، بل يتناول من قبلهم أيضًا" ونحوه للبارزي في توثيق عرا الإيمان، وادعى بعضهم أن ما ذكره السبكي غريب لا يوافقه عليه من يعتد به، فالجمهور على أن المراد بالكافة ناس زمنه فمن بعدهم إلى يوم القيامة، ودفعه شيخنا لما ذكرته له بأنه لا ينافي كلام الجمهور إلا إذا أريد التبليغ بالفعل. أما إذا أريد(1/79)
ويتبين بذلك معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "كنت نبيًا وآدم بين الروح والجسد".
ثم قال: فإذا عرف هذا فالنبي صلى الله عليه وسلم نبي الأنبياء، ولهذا ظهر في الآخرة جميع الأنبياء تحت لوائه، وفي الدنيا كذلك ليلة الإسراء صلى بهم. ولو اتفق مجيئه في زمن آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى صلوات الله وسلامه عليهم وجب عليهم وعلى أممهم الإيمان به ونصرته. وبذلك أخذ الله عليهم الميثاق. انتهى وسيأتي إن شاء الله تعالى لذلك في المقصد السادس.
__________
بالبعث اتصافه صلى الله عليه وسلم بكونهم مأمورين في الأزل بتبعيته إذا وجد؛ كما هو صريح كلامه، فلا يخالفه واحد فضلا عن الجمهور.
"ويتبين بذلك" وفي نسخة بهذا، أي: المذكور من أنه نبي وأخذ الميثاق عليهم باتباعه وأن الأرواح قبل الأجساد، "معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "كنت نبيًا وآدم بين الروح والجسد" " فقد يكون إشارة إلى روحه أو حقيقة من الحقائق إلى آخر ما مر، ومعناه: أن حقيقته ظهرت بالنبوة قبل خلق آدم وحلول الروح في جسده. "ثم قال" بعد نحو ورقة من جملتها ما قدمه عنه قريبًا، "فإذا عرف هذا، فالنبي صلى الله عليه وسلم نبي الأنبياء" أي: مرسل إلى الجميع مع بقائهم على نبوتهم، "ولهذا" أي: كونه نبي الأنبياء "ظهر في الآخرة جميع الأنبياء تحت لوائه" كما قال صلى الله عليه وسلم في حديث أنس عند أحمد: "وبيدي لواء الحمد آدم فمن دونه تحت لوائي"، وهو معنوي. وهو انفراده بالحمد يوم القيامة وشهرته به على رءوس الخلائق؛ كما جزم به الطيبي والسيوطي أو حقيقي مسمى بذلك وعند الله علم حقيقته ودونه تنتهي جميع المقامات، ولما كان المصطفى أحمد الخلق في الدارين أعطيه ليأوي إليه الأولون والآخرون، ولذا قال آدم فمن دونه ... إلخ؛ كما قاله التوربشتي والطبري.
وأما ما رواه ابن منيع والطبري وغيرهما في صفته، فقال الطبري: موضوع بين الوضع. "وفي الدنيا كذلك ليلة الإسراء صلى بهم" إمامًا "ولو اتفق مجيئه في زمن آدم ونوح" سمي به لنوحه على ذنوب أمته، واسمه عبد الجبار؛ كما في حياة الحيوان، أو عبد الغفار؛ كما في الأنس الجليل، أو يشكر أو لكثرة بكائه على نفسه من قوله في كلب ما أوحشه فأوحى إليه: أخلق أنت أحسن منه، فكان يبكي اعتذارًا من تلك المقالة، فأوحى الله إليه: يا نوح إلى كم تنوح، فسماه بذلك الله؛ كما في تفسير القشيري.
وفي ربيع الأبرار بكى نوح ثلاثمائة سنة على قوله: إن ابني من أهلي. "وإبراهيم وموسى وعيسى صلوات الله وسلامه عليهم وجب عليهم وعلى أممهم الإيمان به ونصرته، وبذلك أخذ الله عليهم الميثاق، انتهى، وسيأتي إن شاء الله تعالى مزيد لذلك في المقصد السادس".(1/80)
وذكر العارف الرباني عبد الله بن أبي جمرة في كتابه "بهجة النفوس" ومن قبله ابن سبع في "شفاء الصدور" عن كعب الأحبار..................................
__________
وهو نقل رسالة السبكي برمتها، ومن جملتها أن الأنبياء نواب له بشرائعهم، وأنه شرعه لأولئك القوم، وقد عاب عليه وشنع صاحب نسيم الرياض، بأن النصوص العقلية والنقلية ناطقان بخلافه؛ كقوله: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} [النساء: 163] ، وما في معناها من الآيات، والأنبياء مع تعظيمهم له ومحبتهم غير مكلفين بأحكام شرعه، وإلا لم يكونوا أصحاب شرع، فما تبجح به السبكي واستحسنه هو ومن بعده لا وجه له عند من له أدنى بصيرة، وكيف يتأتى قوله مع قوله تعالى: {أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [النحل: 123] ، فإنه عكسه، وقد طلب موسى أن يكون من أمته فأجابه الله بقوله: استقدمت واستأخر ولكن سأجمع بينك وبينه في دار الجلال، انتهى. وتعسفه لا يخفى فإن قوله ذلك من جملة مدخول لو في قوله: لو اتفق مجيئه ... إلخ؛ كما هو صريح رسالته فسقط جميع ما قاله. ومن أقوى تعسفه قوله: غير مكلفين بأحكام شرعه، فإنه لم يدع تكليفهم به، بل إن شرائعهم على تقدير وجوده في أزمانهم شرع له فيهم، فاعتبروا يا أولي الأبصار.
"وذكر" الإمام "العارف الرباني" بشد الموحدة، فألف فنون ينسب هذه النسبة من يوصف بسعة العلم والديانة، قاله في التبصير "عبد الله بن أبي جمرة" المقري المالك العالم البارع الناسك، قال ابن كثير: كان قوالا بالحق، أمارًا بالمعروف، مات بمصر في ذي القعدة سنة خمس وتسعين وستمائة. وفي التبصير في تعداد من هو بجيم وراء ما لفظه والشيخ أبو محمد عبد الله بن أبي جمرة المغربي نزيل مصر، كان عالمًا عابدًا خيرًا شهير الذكر، شرح منتخبًا له من البخاري، نفع الله ببركته، وهو من بيت كبير بالمغرب شهير الذكر، انتهى.
"في كتابه بهجة النفوس" وتحليها بمعرفة ما لها وعليها، وهو اسم شرحه على ما انتخبه من البخاري، "ومن قبله" الإمام أبو الربيع "بن سبع" بإسكان الموحدة وقد تضم؛ كما في التبصير. "في شفاء الصدور" ورواه أبو سعد في شرف المصطفى وابن الجوزي في الوفاء، "عن كعب الأحبار" جمع حبر بفتح الحاء وكسرها، وإليه يضاف؛ كالأول لكثرة كتابته بالحبر، حكاه أبو عبيد والأزهري عن الفراء.
وقال ابن قتيبة وغيره: كعب الأحبار العلماء واحدهم حبر، كما في مشارق القاضي وتهذيب النووي ومثلثات ابن السيد والنور وغيرهم، وأغرب صاحب القاموس في قوله كعب الحبر ولا تقل الأحبار، فإنها دعوى نفي غير مسموعة مع مزيد عدالة المثبتين، بل إضافته إلى الجمع سواء قلنا أنه المداد، أو العلماء، أي: ملجؤهم أقوى في المدح، وهو كعب بن مانع(1/81)
قال: لما أراد الله تعالى أن يخلق محمدًا، أمر جبريل أن يأتيه بالطينه التي هي قلب الأرض وبهاؤها ونورها، قال: فهبط جبريل في ملائكة الفردوس وملائكة الرقيع الأعلى، فقبض قبضة رسول الله صلى الله عليه وسلم من موضع قبره الشريف، وهي بيضاء منير، فعجنت بماء التسنيم في معين أنهار الجنة، حتى صارت كالدرة البيضاء لها شعاع عظيم، ثم طافت بها الملائكة حول العرش والكرسي، وفي.......................
__________
بالفوقية أبو إسحاق الحميري التابعي المخضرم، أدرك المصطفى وما رآه؛ المتفق على علمه وتوثيقه، سمع عمر وجماعة، وعنه العبادلة الأربعة، وأبو هريرة وأنس ومعاوية، وهذا من رواية الأكابر عن الأصاغر وكان يهوديًا يسكن اليمن، وأسلم زمن الصديق، وقيل عمر، وشهر، وقيل: زمن المصطفى على يد علي، حكاه المصنف. وسكن الشام وتوفي فيما ذكره ابن الجوزي والحافظ سنة اثنين وثلاثين في خلافة عثمان، وقد جاوز المائة، وما وقع في الكشاف وغيره من أدرك زمن معاوية فلا عبرة به، روى له الستة إلا البخاري، فإنما له فيه حكاية لمعاوية عنه.
"قال: لما أراد الله أن يخلق محمدًا صلى الله عليه وسلم أمر جبريل أن يأتيه بالطينة التي هي قلب الأرض وبهاؤها" هو الحسن؛ كما في القاموس. "ونورها، قال: فهبط جبريل في ملائكة الفردوس وملائكة الرقيع" بالراء والقاف: السماء السابعة كما أشار إليه بقوله: "الأعلى" لأنها العليا وذكر مع أن السماء مؤنثة لانتفاء علامة التأنيث في الرقيع فكأنه قال: الجرم أو المكان الأعلى، "فقبض قبضة رسول الله صلى الله عليه وسلم من موضع قبره الشريف، وهي بيضاء منيرة فعجنت بماء التسنيم" وهو أرفع شراب الجنة، ويقال تسنيم: عين تجري من فوقهم تسنمهم في منازلهم، أي: تنزل عليهم من عال.
يقال: سنم الفحل الناقة إذا علاها، قال العزيزي بضم العين المهملة وزاءين معجمتين صاحب غريب القرآن، هكذا سار في الآفاق ومر الكلام فيه في الأسماء، قال في التبصير. وملخص الغريب المشهور، ضبطه الدارقطني وخلق بزاي مكررة، وتعقبهم ابن ناصر وخلق بأنه بزاي فراء مهملة، لكنهم لم يستندوا إلى ضبط بالحروف، وإنما عولوا على الخط وضبط القلم ولا يفيد القلم بأن آخره راء إذ الكاتب قد يذهل عن نقط الزاي فكيف يقطع بالوهم على الدارقطني مع أنه لقيه وأخذ عنه، ثم قال: وبالفتح، فذكر جماعة فلا يتوهم أحد أنه لم يتعرض لكونه مكبرًا أو مصغرًا، وإنما نشأ من عدم استيفاء الكلام. وفي القاموس: أن كونه بالراء تصحيف. "في معين أنهار الجنة حتى صارت كالدرة" بضم الدال المهملة: اللؤلؤة العظيمة، "البيضاء لها شعاع عظيم، ثم طافت بها الملائكة حول العرش" وحول "الكرسي، وفي(1/82)
السماوات والأرض والجبال والبحار، فعرفت الملائكة وجميع الخلق سيدنا محمدًا وفضله قبل أن تعرف آدم عليه الصلاة والسلام.
وقيل: لما خاطب الله تعالى السماوات والأرض بقوله: {اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت: 11] . أجاب موضع الكعبة الشريفة، ومن السماء ما يحاذيها. وقد قال ابن عباس: أصل طينة رسول الله صلى الله عليه وسلم من سرة الأرض بمكة. فقال بعض العلماء: هذا يشعر بأن ما أجاب من الأرض إلا درة المصطفى محمد صلى الله عليه وسلم، ومن موضع الكعبة دحيت الأرض فصار رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الأصل في التكوين...........................
__________
السماوات والأرض والجبال والبحار" التي في الأرض وغيرها. "فعرفت الملائكة وجميع الخلق" عطف عام على خاص، "سيدنا محمدا صلى الله عليه وسلم وفضله قبل أن تعرف آدم عليه الصلاة والسلام" قال بعض العلماء: وهذا لا يقال من قبل الرأي، انتهى. يعني: فهو إما عن الكتب القديمة لأنه حبرها، أو عن المصطفى بواسطة، فهو مرسل، وتضعيف بعض المتأخرين جدًا له باحتمال أنه من الكتب القديمة وقد بدلت غير مسموع، فإن التضعيف إنما هو من جهة السند لأنه المرقاة كما هو معلوم عند من له أدنى إلمام بالفن، وليس كل ما ينقل من الكتب القديمة مردودًا بمثل هذا الاحتمال.
"وقيل: لما خاطب الله تعالى السماوات والأرض بقوله: {اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا} " [فصلت: 11] ، إلى مرادي منكما " {قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} " [فصلت: 11] ، بمن فينا "طائعين، أجاب" أي: كان المجيب من الأرض. "موضع الكعبة الشريفة ومن السماء ما يحاذيها" ووافقهما على الجواب البقية، فلا ينافي أتينا طائعين.
وقال السهيلي: لم يجبه إلا أرض الحرم، أي: من الأرض، وهو أعم مما هنا، ووجه ذكره لهذا قوله: "وقد قال ابن عباس" عبد الله الحبر البحر ترجمان القرآن. كان الفاروق يجله ويدخله مع أشياخ بدر، "أصل طينة رسول الله صلى الله عليه وسلم من سرة الأرض بمكة" وهذا حكمه الرفع إذ لا يقال رأيًا، "فقال بعض العلماء": هو السهروردي صاحب العوارف "هذا" الذي قاله ابن عباس مع ما قبله، "يشعر بأن ما أجاب من الأرض إلا درة" بضم الدال المهملة: اللؤلؤة العظيمة جمعها در ودرر ودرات؛ كما في القاموس عبر بها عن طينة "المصطفى محمد صلى الله عليه وسلم" لنفاستها وقراءتها بذال معجمة تصحيف غير لائق بالمقام، فإنها النملة الصغيرة جدًا، وقد مر قريبًا قوله: "صارت كالدرة البيضاء"، ويجيء التعبير عنها بجوهرة. "ومن موضع الكعبة دحيت" مدت "الأرض، فصار رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الأصل في التكوين"، أي: الإحداث. القاموس، كونه أحدثه والله الأشياء(1/83)
والكائنات تبع له. وقيل: لذلك سمي أميًا لأن مكة أم القرى، ودرته أم الخليفة.
فإن قلت: تربة الشخص مدفنه، فكان مقتضى هذا أن يكون مدفنه عليه الصلاة والسلام بمكة، حيث كانت تربته منها.
فقد أجاب عنه صاحب عوارف المعارف -أفاض الله علينا من عوارفه، وتعطف علينا بعواطفه- بأنه قيل: إن الماء لما تموج رمى الزبد إلى النواحي، فوقعت جوهرة النبي صلى الله عليه وسلم.............................
__________
أوجدها، "والكائنات تبع له" حذف من كلام السهروردي ما لفظه: وإليه والإشارة بقوله: "كنت نبيًا وآدم بين
الماء والطين"، وفي رواية: "بين الروح والجسد"، قال: "وقيل لذلك" الذي قاله ابن عباس "سمي أميًا؛ لأن مكة أم القرى ودرته أم الخليفة" وإنما حذف ذلك من كلامه؛ لأنه قدم إنه لم يرو اللفظ الأول، "فإن قلت: تربة الشخص مدفنه، فكان مقتضى هذا أن يكون مدفنه عليه الصلاة والسلام بمكة حيث كانت تربته منها" فلا تقل ذلك وتذهل عن جوابه. "فقد أجاب عنه صاحب عوارف المعارف" هو العلامة عمر شهاب الدين بن محمد بن عمر السهروردي، بضم السين المهملة وسكون الهاء وضم الراء وفتح الواو وسكون الراء الثانية فدال مهملة، نسبة إلى سهرورد بلد عند زنجان كما في التبصير وغيره، الفقيه الشافعي الزاهد الإمام الورع الصوفي أخذ عن الكيلاني وغيره، وسمع الحديث من جماعة، وقرأ الفقه والخلاف ثم انقطع ولازم الخلوة والصوم والذكر، ثم تكلم على الناس عند علو سنه ثم كف وأقعد، ومع ذلك ما أخل بذكر ولا حضور جمع، ولازم الحج لى أن دخل في عشر المائة ووصل إلى الله به خلق كثير، وتاب على يديه كثيرون من العصاة، وكانت محفته تحمل على أعناق الرجال من العراق إلى البيت الحرام، ورأى من الجاه عند الملوك ما لم يره أحد ولما حج آخر حجاته ورأى ازدحام الناس عليه في المطاف واقتداءهم بأقواله وأفعاله، قال في سره: يا ترى أنا عند الله كما يظن هؤلاء فيّ، فكاشفه ابن الفارض وخاطبه بقوله:
لك البشارة فاخلع ما عليك فقد ... ذكرت ثم على ما فيك من عوج
فصرخ وخلع ما عليه وألقاه، فخلع المشايخ والفقراء ما عليهم وألقوه وكان أربعمائة خلعة، ولد سنة تسع وثلاثين وخمسمائة، وتوفي ببغداد مستهل محرم سنة اثنتين وثلاثين وستمائة.
"أفاض الله علينا من عوارفه" أي: الله أو السهروردي فهو من التوجيه، "وتعطف علينا بعواطفه بأنه قيل: إن الماء" الذي كان عليه العرش "لما تموج رمى الزبد إلى النواحي فوقعت جوهرة" واحدة جوهر معرب؛ كما في الصحاح. أي: طينة "النبي صلى الله عليه وسلم وفي القاموس الجوهر: كل حجر يستخرج منه شيء ينتفع به، انتهى. وبه يعلم حسن تسميته الطينة الشريفة جوهرة، كما(1/84)
إلى ما يحاذي تربته بالمدينة، فكان صلى الله عليه وسلم مكيًا مدنيًا، حنينه إلى مكة وتربته بالمدينة. انتهى.
وفي "المولد الشريف" لابن طغربك: ويرى أنه لما خلق الله تعالى آدم، ألهمه أن قال: يا رب، لم كنيتني أبا محمد، قال الله تعالى: يا آدم ارفع رأسك، فرفع رأسه فرأى نور محمد في سرادق العرش..................
__________
لا يخفى. "إلى ما يحاذي تربته بالمدينة" أي: وبقي منها بمكة ما أخذه جبريل حين أراد الله إبراز المصطفى، "فكان صلى الله عليه وسلم مكيًا" لأن طينته من مكة، "مدنيًا" لدفنه بالمدينة، كما أشار له بقوله: "حنينه" أي: شوقه، "إلى مكة وتربته بالمدينة، انتهى".
ووقع لبعض بعد نحو هذا، فهبط جبريل في ملائكة الفردوس والرقيع الأعلى، فقبضها من محل قبره الشريف وأصلها من مكة موجها الطوفان إلى هناك، فعجنت بماء التسنيم، ويتعين أن المراد بالطوفان الماء الكثير الذي كان عليه العرش، فإنه يطلق لغة على المطر الغالب والماء الغالب يغشى كل شيء؛ كقوله تعالى في قوم موسى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ} [الأعراف: 133] ، إلا الكائن في زمن نوح؛ لأن أمر جبريل كان قبل وجود آدم.
"وفي" كتاب "المولد الشريف" المسمى بالدر النظيم في مولد النبي الكريم "لابن طغربك" بطاء مهملة مضمومة وغين معجمة ساكنة وراء مضمومة وفتح الموحدة، وكأنه علم مركب من طغر وبك، لقب للإمام العلامة المحدث سيف الدين أبي جعفر عمر بن أيوب بن عمر الحميري التركماني الدمشقي الحنفي، لم أر له في ابن خلكان ترجمة، إنما فيه آخر من الأمراء بهذا الضبط وزيادة لام ساكنة بعد الراء.
"ويرى أنه لما خلق الله تعالى آدم ألهمه" قبل أن يناديه أحد من الملائكة به، فيكون ألهمه القول والكنية معًا أو بعد علمه بأنه كني بذلك بطريق آخر على ما يشعر به ألهمه، "أن قال" إذ معناه قول "يا رب لم كنيتني أبا محمد؟ " بالتشديد والتخفيف؛ كما في القاموس, واقتصر المختار على أن الكنية بالتشديد لا غير، وأن المخفف إنما هو فيمن تكلم بشيء مريدًا غيره، "قال الله تعالى: يا آدم ارفع رأسك فرفع رأسه فرأى نور محمد"، أي: النور الذي هو صورته، فالإضافة بيانية، لما مر من جعل نوره صورة روحانية "في سرادق العرش" شبهه من حيث الدلالة على كمال العظمة بسرادق حول الخباء مثلا دلالة على عظمة صاحبه، فالمعنى، رأى نوره في العرش الذي هو كالسرادق فهو من إضافته المشبه به إلى المشبه، أو هي بيانية، أو المعنى رأى نوره حول العرش. وسمي ما حوله سرادقًا على التشبيه، فشبه المحيط به بمحيط بخباء، فسماه باسمه؛ كما قال القاضي في أحاط بهم سرادقها فسطاطها، شبه به ما يحيط بهم(1/85)
فقال: يا رب، ما هذا النور؟ قال: هذا نور نبي من ذريتك اسمه في السماء أحمد، وفي الأرض محمد، لولاه ما خلقتك ولا خلقت سماء ولا أرضًا.
ويشهد لهذا، ما رواه الحاكم في صحيحه أن آدم عليه الصلاة والسلام رأى اسم محمد مكتوبًا على العرش، وأن الله تعالى قال لآدم لولا محمد ما خلقتك.
ولله در من قال:
وكان لدى الفردوس في زمن الصبا ... .................................
__________
من النار، قال شيخنا: والأول أقرب.
"فقال: يا رب ما هذا النور؟ قال: هذا نور نبي من ذريتك اسمه" المشهور به "في السماء" بين الملائكة "أحمدو" اسمه المشهور به "في الأرض" بين أهلها "محمد" فلا ينافي أن كتابه محمد على قوائم العرش واطلاع الملائكة عليها، كما يجيء صريح في تسميته في السماء بمحمد أيضًا، "لولاه ما خلقتك ولا خلقت سماء ولا أرضًا ويشهد لهذا" المروي المنقول من المولد من أوله في الجملة، أي: يقويه، "ما رواه الحاكم في صحيحه" المستدرك عن عمر رفعه، "أن آدم عليه الصلاة والسلام رأى اسم محمد مكتوبًا على العرش، وأن الله تعالى قال لآدم: لولا محمد ما خلقتك".
وروى أبو الشيخ في طبقات الأصفهانيين والحاكم عن ابن عباس: أوحى الله إلى عيسى آمن بمحمد ومر أمتك أن يؤمنوا به، فلولا محمد ما خلقت آدم ولا الجنة ولا النار، ولقد خلقت العرش على الماء فاضطرب، فكتبت عليه لا إله إلا الله محمد رسول الله، فسكن. صححه الحاكم وأقره السبكي في شفاء السقام والبلقيني في فتاويه، ومثله لا يقال رأيًا فحكمه الرفع.
وقال الذهبي: في سنده عمرو بن أوس لا يدرى من هو، وعند الديلمي: عن ابن عباس رفعه: "أتاني جبريل" فقال: إن الله يقول لولاك ما خلقت الجنة وللاك ما خلقت النار"، وذكر ابن سبع والعزفي بمهملة وزاي مفتوحتين وفاء؛ عن علي: أن الله قال لنبيه: من أجلك أسطح البطحاء وأموج الموج وأرفع السماء وأجعل الثواب والعقاب، قيل وهذا ليس لغيره من نبي ولا ملك:
وما عجب إكرام ألف لواحد ... لعين تفدى ألف عين وتكرم
"ولله در" أي: عمل مجازًا استعمل في المدح تعظيمًا، أي: أن اللبن الذي ربي به لا ينسب لغير الله، لخروج كمال الممدوح به عن العادة، "من قال" مضمنًا هذا الخبر وتوسل آدم بالمصطفى في قبول توبته، وهو صالح بن حسين الشاعر، قال بعض ما عمل مثلها في عصره.
"وكان" آدم "لدى الفردوس في زمن الصبا" أي: في أول أمره بعد ارتباط الروح بجسده(1/86)
......................... ... وأثواب شمل الأنس محكمة السدى
يشاهد في عدن ضياء مشعشعا ... يزيد على الأنوار في الضوء والهدى
فقال إلهي ما الضياء الذي أرى ... جنود السما تعشو إليه ترددا
فقال نبي خير من وطئ الثرى ... وأفضل من في الخير راح أو اغتدى
تخيرته من قبل خلقك سيدا ... وألبسته قبل النبيين سؤددا
__________
لا المعنى اللغوي، وفي نسخ كالشامي الرضا، أي: زمن كونه في الجنة قبل هبوطه، "وأثواب شمل الأنس محكمة السدى" كناية عن قربه من الله، والسدى وزان الحصى من الثوب خلاف اللحمة، "يشاهد" آدم "في عدن" الجنة وعبر به، وفي سابقه بالفردوس إشارة لتعدد أسمائها، والجار والمجرور حال من فاعل يشاهد أو من ضياء بناء على أنه في الأصل نعت له، ونعت المنكرة إذا قدم عليها أعرب حالا، "ضياء" أي: نورًا قويًا، "مشعشعًا" أي: منتشرًا؛ كما في الشامي.
"يزيد على الأنوار" المتعارفة "في الضوء والهدى" أي: زيادة النور والاهتداء، فلا ينافي أن الضوء من جملة النور؛ كما في الأنوار. "فقال" آدم "إلهي ما" هذا "الضياء" بالنسبة لبقية الأضواء، "الذي أرى، جنود السما" بالقصر للوزن، "تعشو" بعين مهملة تقصده للاستضاءة به، "إليه ترددًا" مترددين إليه مرة بعد أخرى، "فقال" الله تعالى هو "نبي" أي: ضياؤه "خير من وطئ الثرى" بمثلثة التراب الندى، فإن لم يكن نديًا فتراب لكن المراد هنا الأرض مطلقًا، وسماها ثرى من إطلاق الجزء على الكل.
"وأفضل من في" طرق "الخير راح أو اغتدى" أي: أخذ فيه وحصله، أي وقت ليلا أو نهارًا لاستعمال العرب الغدو والرواح في السير مطلقًا على نقل الأزهري، أي مجازًا. "تخيرته من قبل خلقك" يا آدم، "سيدا" حال من المفعول في تخيرته، "وألبسته قبل النبيين سؤددًا" بالضم سيادة فذكره بعد سيدًا إطناب، إذا حيث ثبتت قبل آدم علم ثبوتها قبل الأنبياء، أو المراد اخترته بتقديم السيادة له قبل خلقك، ثم ألبستها له بالفعل قبل النبيين، فهو كما مر في أن إفاضة النبوة عليه بعد النقل من التقدير إلى الكتابة ثم إلى النبوة وبقي من القصيدة أبيات، وهي:
وأعددته يوم القيامة شافعًا ... مطاعًا إذا ما الغير حاد وحيدا
فيشفع في إنقاذ كل موحد ... ويدخله جنات عدن مخلدا
وإن له أسماء سميته بها ... ولكنني أحببت منها محمدًا
فقال إلهي امنن علي بتوبة ... تكون على غسل الخطيئة مسعدا
بحرمة هذا الاسم والزلفة التي ... خصصت بها دون الخليفة أحمدا(1/87)
فإن قلت: مذهب الأشاعرة: أن أفعال الله تعالى ليست معللة بالأغراض، فكيف تكون خلقة محمد علة في خلق آدم عليه السلام؟
أجيب: بأن الظاهر من الأدلة تعليل بعض الأفعال بالحكم والمصالح التي هي غايات ومنافع لأفعاله تعالى، لا بواعث على إقدامه، ولا علل مقتضية لفاعليته، لأن ذلك محال في حقه تعالى، لما فيه من استكمال بغيره. والنصوص شاهدة بذلك، كقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] أي: قرنت الخلق بالعبادة، أي خلقتهم وفرضت عليهم العبادة، فالتعليل لفظي لا حقيقي،
__________
أقلني عثاري يا إلهي فإن لي ... عدوًا لعينًا جار في القصد واعتدى
فتاب عليه ربه وحماه من ... جناية ما أخطاه لا متعمدًا
ذكرها بتمامها صاحب مصباح الظلام وغيره، ثم أورد على قوله: لولاه ما خلقتك، "فإن قلت: مذهب الأشاعرة" يعني أهل السنة القائلين بما عليه إمامهم أبو الحسن الأشعري، من ذرية أبي موسى نسبة إلى أشعر، وهو نبت بن أدد بن زيد بن يشجب بن عريب بن زيد بن كهلان بن سبالان، أمه ولدته والشعر على بدنه، "أن أفعال الله تعالى ليست معللة بالأغراض فكيف تكون خلقة محمد" اسم مصدر، أي: وجود.
وفي نسخة: خلقه محمد، أي: إيجاده. "علة في خلق آدم صلى الله عليه وسلم" إذ لولا حرف امتناع لوجود، فتدل على امتناع جوابها لوجود شرطها، وجوابها هنا، وهو ما خلقتك نفي وامتناعه ثبوت، فكأنه قال: خلقتك لأجل خلق محمد، قلت: "أجيب: بأن الظاهر من الأدلة تعليل بعض الأفعال بالحكم والمصالح التي هي غايات" أي: ثمرات، "ومنافع" عطف تفسير "لأفعاله تعالى" أي: تترتب عليها، فاللام بمعنى على والغاية بمعنى الترتب "لا بواعث على إقدامه" أي: أسباب حاملة على الفعل، "ولا علل مقتضية" مستلزمة "لفاعليته" بحيث يلزم من وجودها كونه فاعلا؛ "لأن ذلك محال في حقه تعالى" علة لقوله: لا بواعث ... إلخ، وعلل الاستحالة بقوله: "لما فيه من استكماله" أي: الله، أي: التكمل بمعنى صيرورته كاملا أو طلب الكمال "بغيره" وهو محال، "والنصوص شاهدة بذلك" أي: بتعليل بعض الأفعال بالحكم والمصالح يعني على سبيل الظهور، فلا يخالف قوله: بأن الظاهر، وذكره توطئة لقوله: " {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} " [الذاريات: 56] ، ولا ينافيه أن كثيرًا لا يعبدون؛ لأنها عام خص بمؤمنيهم؛ كما قيل أو لما ذكره بقوله: "أي: قرنت الخلق بالعبادة، أي: خلقتهم وفرضت عليهم العبادة" ولا يلزم من الفرض قيامهم بها، "فالتعليل لفظي لا حقيقي" وحاصله تسليم كونها لا تعلل بالمعنى السابق،(1/88)
لأن الله تعالى مستغن عن المنافع، فلا يكون فعله لمنفعة راجعة إليه ولا إلى غيره، لأن الله تعالى قادر على إيصال المنفعة إلى الغير من غير واسطة العمل.
وروى عبد الرزاق بسنده عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال: قلت يا رسول الله، بأبي أنت وأمي، أخبرني عن أول شيء خلقه الله تعالى قبل الأشياء. قال صلى الله عليه وسلم: "يا جابر، إن الله تعالى قد خلق قبل الأشياء نور نبيك................
__________
وما وقع من صورة تعليل ليس المراد به ذلك؛ "لأن الله تعالى مستغن عن المنافع"علة لقوله: لا حقيقي، "فلا يكون فعله" تعالى" لمنفعة راجعة" أي: واصلة، "إليه ولا إلى غيره؛ لأن الله تعالى قادر على إيصال المنفعة إلى الغير من غير واسطة العمل", فلا يتوقف عليه وصول المنفعة.
وفي نسخة: فلا يكون فعله لمنفعته؛ لأن الله قادر بإسقاط راجعة إليه ولا إلى غيره، والظاهر أنه ضمير منفعته عائد للعبد المفهوم من {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ} [الذاريات: 56] ، كما يدل عليه؛ لأن الله قادر ... إلخ.
"وروى عبد الرزاق" بن همام بن نافع الحميري مولاهم الحافظ أبو بكر الصنعاني، أحد الأعلام روى عن معمر وابن جريج ومالك والسفيانين والأوزاعي وخلق، وعنه أحمد وإسحاق وغيرهما, مات سنة إحدى عشرة ومائتين ببغداد عن خمس وثمانين سنة، "بسنده" إيضاح وإلا فهو مدلول.
روى "عن جابر بن عبد الله" بن عمرو بن حرام، بمهملة وراء، الأنصاري الخزرجي السلمي بفتحتين الصحابي ابن الصحابي غزا تسع عشرة غزوة، ومات بالمدينة بعد السبعين وهو ابن إحدى وتسعين سنة.
"قال: قلت: يا رسول الله" أفديك "ببي أنت وأمي" كلمة تستعملها العرب لتعظيم المفدى بهما، "أخبرني عن أول شيء خلقه الله تعالى قبل الأشياء، قال" صلى الله عليه وسلم: "يا جابر، إن الله تعالى قد خلق قبل الأشياء نور نبيك", لم يقل نوري، وإن كان مقتضى الظاهر للتفخيم، ولا
__________
1 حديث جابر هذا المنسوب إلى عبد الرزاق موضوع لا أصل له، وقد عزاه غير واحد إلى عبد الرزاق خطأ فهو غير موجود في مصنفه ولا جامعه ولا تفسيره, ومن الذين نسبوه إلى عبد الرزاق ابن العربي الحاتمي في "تلقيح الأذهان" والديار بكري في كتاب "الخميس في تاريخ أنفس نفيس" والعجلوني في "كشف الخفاء" وفي "الأوائل العجلونية". وقال السيوطي في الحاوي في الفتاوى 1/ 325: أما حديث أولية النور المحمدي فلا يثبت. وقد حكم الشيخ عبد الله بن الصديق في رسالة "مرشد الحائر لبيان وضع حديث جابر" على هذا الحديث بالوضع وقد سبقه إلى ذلك أخوه أحمد بن الصديق فليتنبه إلى ذلك، فقد ساق المؤلف هنا عدة روايات بأسانيدها كلها لا تثبت والله سبحانه وتعالى أعلم.(1/89)
من نوره، فجعل ذلك النور يدور بالقدرة حيث شاء الله، ولم يكن في ذلك الوقت لوح ولا قلم، ولا جنة ولا نار، ولا ملك ولا سماء، ولا أرض ولا شمس ولا قمر، ولا جني ولا إنسي، فلما أراد الله تعالى أن يخلق الخلق قسم ذلك النور أربعة أجزاء، فخلق من الجزء الأول القلم........................
__________
يشكل بأن النور عرض لا يقوم بذاته؛ لأن هذا من خرق العوائد. "من نوره" إضافة تشريف وإشعار بأنه خلق عجيب، وأن له شأنًا له مناسبة ما إلى الحضرة الربوبية على حد قوله تعالى: {وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ} [السجدة: 9] ، وهي بيانية، أي: من نور هو ذاته، لا بمعنى إنها مادة خلق نوره منها، بل بمعنى تعلق الإرادة به بلا واسطة شيء في وجوده، وهذا أولى من احتمال أن المراد من سبق مخلوق له تعالى قبل خلق نور المصطفى، وأضافه إليه لتوليه خلقه وإيجاده لما يلزم عليه من سبق مخلوق على نور المصطفى، وهو خلاف المنصوص.
والمراد ومن تجويز أنه معنى عبر عنه بالنور مشابهة، أي: خلق نور المصطفى من معنى يشبه النور موجود أزلا؛ كوجود الصفات القديمة القائمة به تعالى فإنها لا أول لوجودها لما فيه من إثبات ما لم يرد والقلاقة بإيهامه تعد القدماء، وإن كان المراد التشبيه في مطلق الوجود.
"فجعل ذلك النور يدور بالقدرة حيث شاء الله، ولم يكن في ذلك الوقت لوح ولا قلم ولا جنة ولا نار" وإنما خلقوا بعد وخلقت الجنة قبل النار؛ كما رواه أبو الشيخ عن ابن عباس موقوفًا، وحكمه الرفع "ولا ملك" بفتح اللام، "ولا سماء ولا أرض ولا شمس ولا قمر ولا جني ولا إنسي" ولم يقل: ولم يكن في ذلك الوقت شيء وإن شمل المذكورات وغيرها، لئلا يتوهم اختصاصه ببعضها، فأدار النص على سبق وجوده على جميعها، ولأن الشيء يشمل صفاته تعالى وهي موجودة قائمة بذاته، لا أول لها "فلما أراد الله أن يخلق الخلق، قسم ذلك النور أربعة أجزاء" أي: زاد فيه؛ لا أنه قسم ذلك النور الذي هو نور المصطفى، إذ الظاهر أنه حيث صوره بصورة مماثلة لصورته التي سيصير عليها لا يقسمه إليه وإلى غيره.
"فخلق من الجزء الأول القلم" فهو من نور وبه صرح في غير ما حديث؛ كخبر ابن عباس: "قلمه نور" وعند أبي الشيخ عن مجاهد: أول ما خلق الله اليراع القصب، ثم خلق من ذلك اليراع القلم، فقال: اكتب ما يكون إلى يوم القيامة، فإن صح فلعل تجسمه من نور على صفة اليراع، وإلا فما في المرفوع أولى بالقبول وطوله خمسمائة عام، رواه أبو الشيخ عن ابن عمر، وعنده أيضًا بسند رواه أن عرضه كذلك وسنه مشقوقة ينبع منه المداد ولا يعارضه ما في خبر مرسل أنه من لؤلؤ طوله سبعمائة عام؛ لأن الإخبار بالأقل لا ينفي الأكثر، وكونه من لؤلؤ لعله على التشبيه لشدة بياضه، إذ هو نور.(1/90)
ومن الثاني اللوح، ومن الثالث العرش. ثم قسم الجزء الرابع أربعة أجزاء، فخلق من الأول حملة العرش، ومن الثاني الكرسي، ومن الثالث باقي الملائكة، ثم قسم الرابع أربعة أجزاء، فخلق من الأول السماوات، ومن الثاني الأرضين، ومن الثالث الجنة والنار، ثم قسم الرابع أربعة أجزاء، فخلق من الأول نور أبصار المؤمنين، ومن الثانين نور قلوبهم -وهي المعرفة بالله- ومن الثالث نور أنسهم، وهو التوحيد، لا إله إلا الله محمد رسول الله ... الحديث.
__________
"ومن الثاني: اللوح، ومن الثالث: العرش، ثم قسم الجزء الرابع أربعة أجزاء" مقتضى ثم تأخر خلق العرش عن اللوح والقلم. وفي المشكاة: تقديمه، ثم الكرسي عليهما فلعلها بمعنى الواو، مردويه وابن خزيمة والحاكم وصححه وغيرهم، عن العباس موقوفًا. ورواه ابن المنذر وغيره من حسان بن عطية وهارون بن رياب بلفظ: "حملة العرش ثمانية"، وكذا رواه عبد بن حميد عن الربيع وهو معضل عن الثلاثة، وقد روى ابن جرير عن ابن زيد رفعه مرسلا: "يحمله اليوم أربعة ويوم القيامة ثمانية"، وأخرجه أبو الشيخ من طريقين عن وهب معضلا، وعند ابن جرير وغيره، عن ابن عباس في قوله تعالى: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} [الحاقة: 17] ، قال: ثمانية صفوف من الملائكة لا يعلم عدتهم إلا الله.
"ومن الثاني الكرسي" فيه حجة للقول الصحيح أنه غير العرش، "ومن الثالث باقي الملائكة" وهم أكثر المخلوقات. وحديث عبد الرزاق هذا مفسر لقوله صلى الله عليه وسلم في مسلم: "خلقت الملائكة من نور". وعند أبي الشيخ عن عكرمة، قال: "خلقت الملائكة من نور العزة" وعنده عن يزيد بن رومان أنه بلغه أن الملائكة خلقت من روح الله.
"ثم قسم الرابع أربعة أجزاء، فخلق من الأول السماوات" السبع، "ومن الثاني الأرضين" السبع وهي سابقة على خلق السماوات؛ كما فصل في فصلت. وأما قوله: {وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} [النازعات: 30] ، فمعناه: بسطها؛ كما قال ابن عباس وغيره، وكانت مخلوقة قبلها من غير دحو "ومن الثالث الجنة والنار، ثم قسم الرابع أربعة أجزاء، فخلق من الأول نور أبصار" بمعنى بصائر "المؤمنين" أو الأعم منها ومن الحسية ولم يعتبر أبصار الكفار؛ لأنهم لما فقدوا نفعها كانت ضرورة عليهم لا منفعة لهم. "ومن الثاني نور قلوبهم وهي المعرفة بالله، ومن الثالث نور أنسهم، وهو التوحيد" وبينه بقوله: "لا إله إلا الله محمد رسول الله" الحديث. ولم يذكر الرابع من هذا الجزء فليراجع من مصنف عبد الرزاق مع تمام الحديث، وقد رواه البيهقي ببعض مخالفة.(1/91)
وقد اختلف: هل القلم أول المخلوقات بعد النور المحمدي؟
فقال الحافظ أبو يعلى الهمداني: الأصح أن العرش قبل القلم، لما ثبت في الصحيح عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قدر الله مقادير الخلق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء، فهذا صريح أن التقدير وقع بعد خلق العرش, والتقدير وقع عند أول خلق القلم لحديث عبادة بن الصامت، مرفوعًا: أول ما خلق الله القلم قال له اكتب، قال:...............
__________
"وقد اختلف" في جواب قول السائل "هل القلم أول المخلوقات بعد النور المحمدي؟ فقال الحافظ أبو يعلى الهمداني" بفتح الحاء وسكون الميم فمهملة العلامة شيخ الإسلام الحسن بن أحمد المتقن المتفنن في عدة علوم، البارع على حفاظ عصره، الذي لا يغشى السلاطين ولا يقبل منهم شيئًا ولا مدرسة ولا رباطًا ولا تأخذه في الله لومة لائم، توفي سنة تسع وستين وخمسمائة. "الأصح" وهو مذهب الجمهور "أن العرش" خلق "قبل القلم، لما ثبت في الصحيح" أي: صحيح مسلم، "عن عبد الله بن عمرو" بن العاصي، أنه "قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله قدر مقادير الخلق قبل أن يخلق السماوات والأرض" أي: شيئًا منهما فلا يرد صدقه بخلقه بين خلقهما، "بخمسين ألف سنة" كناية عن الكثرة أو حقيقة، كما مر.
"وكان عرشه على الماء فهذا صريح" في "أن التقدير وقع بعد خلق العرش والتقدير" للأشياء المذكورة في قوله: "قدر الله"، "وقع عند أول خلق القلم لحديث عبادة" بضم العين، "ابن الصامت" بن قيس الأنصاري الخزرجي أبي الوليد المدني النقيب البدري كان طويلا جسيمًا جميلا فاضلا خيرًا، قال سعيد بن عفير: كان طوله عشرة أشبار. وفي الاستيعاب: وجهه عمر إلى الشام قاضيًا ومعلمًا، فأقام بحمص ثم انتقل إلى فلسطين وبها مات، وقيل: بالرملة سنة أربع وثلاثين ودفن ببيت المقدس، وقبره به معروف.
"مرفوعًا" لفظة استعملها المحدثون بدل قال صلى الله عليه وسلم، "أول ما" أي: شيء "خلق الله القلم" بالرفع كما أفاده كلام الحافظ وغيره على الخبرية والأولية نسبية، أي: أول ما خلق الله بعد العرش القلم، ويجوز نصبه مفعول خلق، فالخبر قوله: "قال له: اكتب" لكن قال السيوطي في حواشي الترمذي عن ابن السيد البطليوسي: الوجه الرفع، وما أعلم أحدًا رواه بالنصب وهو خطأ؛ لأن المراد أن القلم أول مخلوق لله، كما دلت عليه الأحاديث، فإن ثبت رواية صحيحة بنصبه خرجت على لغة نصب أن الجزأين، يعني في رواية: "إن أول، كما يجيء قريبًا على وجه أنه مفعول خلق لفساده في المعنى والإعراب، انتهى.
"قال": القلم بخلق الله له قوة النطق، كما خلقها في الأعضاء ومحبة أحد وبغض غير(1/92)
رب، وما أكتب، قال: اكتب مقادير كل شيء رواه أحمد، والترمذي.
ورويا أيضًا من رواية أبي رزين العقيلي مرفوعًا: "إن الماء خلق قبل العرش".
وروى السدي...................................
__________
وغير ذلك، فاحتمال غيره خروج عن المتبادر بلا دليل ولا طائل، يا "رب، وما أكتب؟ قال: "اكتب مقادير كل شيء" أسقط منه عند من عزاه لهما ما كان وما هو كائن إلى الأبد، أي: ما كان قبل القلم؛ لأن أوليته نسبية كما علم، فلا يرد تصريحه بأن أول مخلوق. والمراد: "بما هو كائن" انقضاء هذا العالم وما بعده مما يمكن تناهيه دون نعيم الآخرة وجحيمها، إذ لا نهاية له فلا يدخل تحت الكتابة، وبه صرح في أبي داود بلفظ: اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة.
"رواه أحمد" بلفظه، "والترمذي" بلفظ: "إن أول ما خلق الله القلم، فقال له: اكتب، قال: وما أكتب؟ قال: اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة، من مات على غير هذا فليس مني"، قال شيخنا: وفي الاستدلال به على أن التقدير وقع عند أول خلق القلم نظرًا لجواز أنه إنما قال له: اكتب مقادير الأشياء التي قد أبرزت تقديرها في الوجود الخارجي، وإن كانت مقدرة في علمه في الأزل.
"ورويا أيضًا" وفي نسخ: وروى أحمد والترمذي، وصححه أيضًا "من رواية أبي رزين" بفتح الراء وكسر الزاي وسكون التحتية وبنون لقيط بفتح اللام وكسر القاف بن عامر "العقيلي" بضم العين وفتح القاف نسبة إلى عقيل بن كعب صحابي مشهور غير لقيط بن صبرة عند الأكثر؛ كما في التقريب، وعزاه في الأصابة لابن المديني وخليفة وابن أبي خيثمة وابن سعد ومسلم والبغوي والدارمي والبارودي وابن قانع وغيرهم، وبه جزم المزي في الأطراف، وقيل: هو لقيط بن صبرة بن عامر فنسب لجده، قاله ابن معين وأحمد. ومال إليه البخاري، وجزم به ابن حبان وابن السكن، وعبد الغني وابن عبد البر ضعفًا كونه غيره، وجزم به المزي في التهذيب، ورجح في الإصابة الأول بأن ابن عامر معروف بكنيته وابن صبرة لا كنية له إلا ما شذ به ابن شاهين، فكناه أبا رزين أيضًا وبأن الرواة عن أبي رزين جماعة، وابن صبرة لا يعرف له راوٍ إلا ابنه.
"مرفوعًا: إن الماء خلق قبل العرش" فهذا صريح أن القلم ليس أول المخلوقات إذ الماء قبل العرش الذي هو قبل القلم، "وروى" إسماعيل بن عبد الرحمن "السدي" الكبير المفسر المشهور عن أنس وابن عباس وعنه شعبة والثوري وزائدة، ضعفه ابن معين، ووثقه أحمد، واحتج(1/93)
بأسانيد متعددة: أن الله تعالى لم يخلق شيئًا مما خلق قبل الماء. فيجمع بينه وبين ما قبله، بأن أولية القلم بالنسبة إلى ما عدا النور النبوي المحمدي والماء والعرش، انتهى. وقيل: الأولية في كل بالإضافة إلى جنسه، أي أول ما خلق الله من الأنوار نوري، وكذا في باقيها.
وفي أحكام ابن القطان، فيما ذكره ابن مرزوق.................
__________
به مسلم وفي التقريب أنه صدوق يهم ويتشيع، مات سنة سبع وعشرين ومائة، روى له الجماعة إلا البخاري، وهو بضم السين وشد الدال المهملتين، قال الذهبي: تبعًا لعبد الغني في الكمال لقعوده في باب جامع الكوفة، وفي اللب كأصله لبيعه عند سدته، أي: بابه. وفي صحاح الجوهري، وسمي إسماعيل السدي لأنه كان يبيع الخمر والمقانع في سدة مسجد الكوفة، وهي ما يبقى من الطاق المسدودة، وتبعه القاموس مقتصرًا على المقانع فقعوده عند السدة كان للبيع. وأغرب الحافظ أبو الفتح اليعمري، فقال: كان يجلس بالمدينة في مكان يقال له السد، فنسب إليه.
"بأسانيد متعددة أن الله لم يخلق شيئًا مما خلق" أي: من جميع المخلوقات، "قبل الماء، فيجمع بينه وبين ما قبله" من حديثي جابر وأبي رزين، "بأن أولية" خلقه "القلم بالنسبة إلى ما عدا النور المحمدي والماء والعرش، انتهى. وقيل": في الجمع أيضًا "الأولية في كل" من المذكرات "بالإضافة إلى جنسه، أي: أول ما خلق الله من الأنوار نوري" الضمير له صلى الله عليه وسلم، "وكذا" يقال "في باقيها" أي: وأول ما خلق مما يكتب القلم الذي كتب المقادير، وأول ما خلق مما يصدق عليه العرش عرش الله إذ العرش يطلق على معان، كما في القاموس وغيره. وقيد البيضاوي الأولية بأولية الأجرام لا مطلقًا، قال في قوله: {رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [التوبة: 129] ، الذي هو أول الأجرام وأعظمها والمحيط بجملتها.
"وفي أحكام ابن القطان" الحافظ الناقد أبي الحسن علي بن محمد بن عبد الملك الحميري الكناني الفاسي، سمع أبا ذر الخشني وطبقته، وكان من أبصر الناس بصناعة الحديث وأحفظهم لأسماء رجاله، وأشدهم عناية في الرواية معروفًا بالحفظ والإتقان، صنف الوهم والإيهام على الأحكام الكبرى لعبد الحق، ومات سنة ثمان عشرة وستمائة.
"فيما ذكره" أي: نقله عنه العلامة محمد بن أحمد بن محمد بن محمد بن أبي بكر "بن مرزوق" التلمساني، عرف بالخطيب ولد عام عشرة وسبعمائة ومهر وبرع وشرح العمدة والشفاء والبردة والأحكام الصغرى لعبد الحق ومختصر ابن الحاجب الفرعي ومحلات من مختصر الشيخ خليل، ومات في ربيع الأول سنة إحدى وثمانين وسبعمائة بمصر، ودفن بين ابن القاسم وأشهب(1/94)
عن علي بن الحسين عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كنت نورًا بين يدي ربي قبل خلق آدم بأربعة عشر ألف عام".
__________
"عن علي بن الحسين" بن علي بن أبي طالب الملقب زين العابدين التابعي الوسط، قال الزهري: ما رأيت قرشيًا أفضل منه ولا أفقه. وقال ابن المسيب: ما رأيت أورع منه. وقال ابن سعد: كان ثقة مأمونًا كثير الحديث عالمًا عابدًا، ولم يكن في أهل البيت مثله، وكان إذا توضأ يصفر لونه فإذا قام يصلي أرعد من الخوف، فقيل له في ذلك: فقال: أتدرون بين يدي من أقوم ولمن أناجي، وكان يصلي كل يوم وليلة ألف ركعة، وكثير الصدقات سيما ليلا، وإذا خرج من منزله قال: اللهم إني أتصدق أو أهب عرضي اليوم لمن يغتابني، ولد سنة ثلاث وثلاثين، وتوفي أول سنة أربع وتسعين عند الجمهور، أو سنة اثنتين أو ثلاث أو أربع أو خمس أو تسع وتسعين، وأغرب المدائني، فقال سنة مائة ودفن في قبر عمه بالبقيع ابن عساكر، ومسجده بدمشق معروف، وهو الذي يقال له مشهد علي بجامع دمشق ابن تيمية كون قبره بمصر كذب، إنما مات بالمدينة.
"عن أبيه" الحسين السبط أشبه الناس بجده، كما قال أنس عند البخاري المقتول ظلمًا وعدوانًا يوم عاشوراء سنة إحدى وستين بكربلاء، ودفن جسده حيث قتل، وأما رأسه ففي المشهد الحسيني بالقاهرة عند بعض المصريين، ونفاه بعضهم، قال الحافظ فيما نقله السخاوي. وقال ابن تيمية: اتفق العلماء كلهم على أن المشهد الذي بقاهرة مصر المسمى مشهد الحسين باطل ليس فيه رأسه ولا شيء منه، وإنما حدث بمصر في دولة بني عبيد القداح ملوك مصر المدعين أنهم من ولد فاطمة، والعلماء يقولون: لا نسب لهم بها في أثناء المائة الخامسة بناه طلائع بن رزيك الرافضي، ونقل من عسقلان زعمًا أنه كان في مشهد بها وهو باطل، فإن بني أمية مع ما أظهروه من القتل والعداوة لا يتصور أن يبنوا على الرأس مشهدًا للزيارة، وحجة العلماء ما ذكره عالم النسب الزبير بن بكار أن الرأس حمل إلى المدينة ودفن بها، قال ابن دحية: لم يصح سواه، انتهى ملخصًا.
"عن جده" علي كرم الله وجهه، "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كنت نورًا بين يدي ربي" " أي؛ في غاية القرب المعنوي منه، فاستعار لهذا اليدين؛ لأن من قرب من إنسان وقابله يكون بين يديه، "قبل خلق آدم بأربعة عشر ألف عام" لا ينافي ما مر أن نوره مخلوق قبل الأشياء، وأن الله قدر مقادير الخلق قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة؛ لأن نوره خلق قبل الأشياء وجعل يدور بالقدرة حيث شاء الله، ثم كتب في اللوح، ثم جسم صورته على شكل أخص من ذلك النور؛ ولأن التعبير بين اليدين إشارة لزيادة القرب، فالمقدر بهذه المدة مرتبة أظهرت له لم تكن(1/95)
وفي الخبر: لما خلق الله تعالى آدم جعل ذلك النور في ظهره فكان يلمع في جبينه، فيغلب على سائر نوره، ثم رفعه الله تعالى على سرير مملكته وحمله على أكناف ملائكته وأمرهم فطافوا به في السماوات ليرى عجائب ملكوته.
قال جعفر بن محمد: مكث الروح في رأس أدم مائة عام، وفي...............
__________
قبل، وروى محمد بن عمر العدني شيخ مسلم في مسنده عن ابن عباس أن قريشًا، أي: المسعدة بالإسلام كانت نورًا بين يدي الله قبل أن يخلق آدم بألفي عام، يسبح ذلك النور وتسبح الملائكة بتسبيحه، قال ابن القطان: يجتمع من هذا مع ما في حديث علي، يعني المذكور في المصنف أن النور النبوي جسم قبل خلقه باثني عشر ألف عام، وزيد فيه سائر قريش وأنطق بالتسبيح.
"وفي الخبر: لما خلق الله تعالى آدم جعل" أودع "ذلك النور" نور المصطفى "في ظهره فكان" لشدته "يلمع في جبينه فيغلب على سائر" باقي "نوره" أي: نور آدم الذي في بدنه أو يغلب على بقية النور الذي خلقه في غير آدم؛ كأنوار الأنبياء. "ثم "رفعه" أي آدم "الله تعالى على سرير مملكته" روى الحكيم الترمذي: لما أكمل الله خلق آدم رفعه على أكناف جبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل على سرير من ذهب أو ياقوت أحمر له تسعمائة قائمة، فقال: طوفوا به في سمواتي ليرى عجائبها، ثم أمرهم أن يحولوا وجوههم إلى العرش ليسجدوا قبالته ففعلوا، ولذلك يحمل جنازة أولاده أربعة، انتهى. وكان هذا السرير مسمى فيما بينهم سرير المملكة، فقول الشارح أنه من باب التمثيل، أي: رفعه إلى مكان عال وعظمه فجعل حالته تلك كحالة من مكن على سرير وطيف به في جهات غير ظاهرة، فالأصل الحقيقة.
"وحمله على أكناف ملائكته" بالنون، أي: أجنحتهم. وفي القاموس: الكنف من الطائر جناحه، ويحتمل أنه بالفوقية جمع كتف؛ لأن لهم قوة التشكل. "وأمرهم" أي: أمر الله ملائكته، "فطافوا به في السماوات ليرى" آدم "عجائب ملكوته" أي: ملكه العظيم، وتاؤه للمبالغة وسئل كعب: كم طاف الملائكة بآدم في السماوات مكرمًا؟ قال: ثلاث مرات، أولها على سرير الكرم، والثاني: على أكناف الملائكة، والثالث: على الفرس الميمون وهو مخلوق من المسك الأذفر وله جناحان من الدر والمرجان، وجبريل آخذ بلجامها وميكائيل عن يمينه، وإسرافيل عن يساره، فطافوا به في السماوات كلها، وهو يسلم على الملائكة عن يمينه وشماله، فيقول: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته فيردون عليه كذلك، فقيل: هذه تحيتك وتحية ذريتك إلى يوم القيامة.
"قال جعفر بن محمد: مكثت الروح في رأس آدم مائة عام" من أعوام الدنيا، "وفي صدره مائة عام، وفي ساقيه وقدميه مائة عام" لعل المراد بالرأس ما فوق الصدر وبه ما فوق(1/96)
صدره مائة عام وفي ساقيه وقدميه مائة عام، ثم علمه الله تعالى أسماء جميع المخلوقات، ثم أمر الملائكة بالسجود له فسجدوا إلا إبليس، فطرده الله تعالى وأبعده وخزاه.
__________
الساقين، أو المراد بالساقين ما تحت الصدر فيدخل البطن وما يتصل به في الصدر على الأول، وفي الساقين على الثاني. قال شيخنا: ولعل المراد بذا العد التكثير فلا ينافي أن المدة من ابتداء خلقه إلى نزوله إلى الدنيا ثلاث وثمانون سنة، انتهى.
قلت: هذا قول ابن جرير ونقص منه وأربعة أشهر، وقال غيره: إن المدة فوق ذلك بكثير، وقد تكلف الشيخ فيما يجيء للتوفيق بينه وبين ما هنا عن جعفر بأنه مبني على أن مدة كونه طينًا كانت قبل دخول الجنة، أو أنه إنما أخرج منها بعد اليوم الذي ابتدأ خلقه فيه، وأن خلقه لم يتم إلا بعد مدة طويلة، وفيه أنه قد لا يقول جعفر يقول ابن جرير ولا يرضاه، فقد قال ابن عباس، مكث في الجنة خمسمائة عام، وقيل: مكثت الملائكة في سجودهم كذلك، وقيل أكثر، فهي أقوال متباينة؛ فاللائق الترجيح لا تعسف الجمع بتجويز عقلي.
"ثم علمه الله تعالى" بإلهام أو بخلق علم ضروري فيه أو إلقاء في خاطره، أو على لسان ملك، قال القرطبي: وهو جبريل، "أسماء جميع المخلوقات" كلها روى وكيع في تفسيره عن ابن عباس، في قوله تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة: 31] ، قال: علمه اسم كل شيء حتى القصعة والقصيعة والفسوة والفسية، "ثم أمر" الله "الملائكة بالسجود له" أي: كلهم لعموم اللفظ وعدم المخصص أو ملائكة الأرض أو إبليس ومن كان معه في محاربة الجن، فإن تعالى أسكنهم الأرض أولا فأفسدوا فيها فبعث لهم إبليس في جند من الملائكة فدمرهم في الجزائر والجبال، وظاهر إتيان المصنف بثم اختيار القول بتراخي الأمر بالسجود عن التعليم وإنبائهم بالأسماء وإظهار فضله عليهم وإيجاب خدمتهم له بسبب العلم، وظاهر نظم البقرة يدل عليه، وقيل: سجدوا لما نفخ فيه الروح لقوله: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} [الحجر: 29] ، والفاء للتعقيب، والأظهر كما قال ابن عقيل وصاحب الخميس الأول: والفاء تكون للتعقيب مع التراخي؛ كقوله: {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ} [البقرة: 36] ، وذلك بعد مدة. والقول بأنهم سجدوا مرتين للآيتين رده النقاش بأنه لم يقل به أحد وإنما سجدوا مرة واحدة.
"فسجدوا إلا إبليس" أبي "فطرده الله تعالى" عن رحمته، "وأبعده" عن جنته "وخزاه" في الدارين بعدما كان من الملائكة من طائفة يقال لهم الجن عند ابن عباس وابن مسعود وغيرهما، وعزاه القرطبي للجمهور، وصححه النووي بأنه لم ينقل أن غيرهم أمر بالسجود، والأصل أن(1/97)
وكان السجود لآدم سجود تعظيم وتحية، لا سجود عبادة، كسجود أخوة يوسف له، فالمسجود له في الحقيقة هو الله تعالى، وآدم كالقبلة.
وروي عن جعفر الصادق..........................
__________
الاستثناء من الجنس ولكن ذهب الأكثرون؛ كما قال عياض: إلى أنه لم يكن منهم طرفة عين وهو أصل الجن، كما أن آدم أصل الإنس وإنما كان من الجن الذين ظفر بهم الملائكة فأسره بعضهم صغيرًا، وذهب به إلى السماء؛ فالاستثناء منقطع عياض والاستثناء من غير الجنس شائع في كلام العرب، قال تعالى: {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ} [النساء: 157] ، ورجحه السيوطي بأنه الذي دلت عليه الآثار.
وقول النووي: لم ينقل أمر غيرهم مردود بحكاية ابن عقيل في تفسيره والخميس قولا بأن الملائكة وجميع العالم حينئذ أمروا وخصوا بالخطاب دون غيرهم لكونهم الأشرف حينئذ، وكان من عداهم تبعًا واختلف في كيفية السجود لآدم، فقال الجمهور: هو أمر للملائكة بوضع الجباه على الأرض؛ كسجود الصلاة، لأنه الظاهر من السجود شرعًا وعرفًا ويدل له آية فقعوا له ساجدين، وعن أبي وابن عباس هو الانحناء لا الخرور على الأرض، أي: كما يفعل في لقاء العظماء. وقال قوم: إنما هو اللغوي من التذلل والانقياد، فإن الله سخرهم لآدم وذريته في إنزال المطر وحفظ آثارهم وكتب أعمالهم والعروج بها إلى السماء.
"وكان السجود لآدم سجود تعظيم وتحية" وإظهار الفضلة وطاعة لله "لا سجود عبادة" لأنه لا عبادة إلا لله تعالى، "كسجود أخوة يوسف له" فإنه ما كان سجود عبادة، "فالمسجود له في الحقيقة هو الله تعالى" تفريع على المنفي "وآدم؛ كالقبلة" وهذا ظاهر في أن المراد الشرعي، ففيه إشارة لمذهب الجمهور، وقال قتادة: كان خدمة لله وحرمة لآدم كصلاة الجنازة عبادة لله ودعاء للميت، وقال الحسن: والأصح أنه كان تحية لآدم على الخصوص، ولو كان عبادة لله وآدم قبله لما تكبر إبليس، انتهى.
وفيه نظر، فقد حكى القرطبي الاتفاق على أنه لم يكن سجود عبادة واللازم ممنوع؛ لأن تكبره من حيث أنه لم يكن هو قبله لظنه فضله عليه وعلى غيره، قال الشعبي: ومعنى {اسْجُدُوا لِآدَمَ} [البقرة: 34] ، إلى آدم، كما يقال: صلى للقبلة ورد بأنه يقال: صلى إلى القبلة لا لها ودفع بقوله في علي.
أليس أول من صلى لقبلتكم ... وأعرف الناس بالقرآن والسنن
"وروي عن جعفر الصادق" لقب به لصدقه في مقاله ابن محمد الباقر بن علي بن الحسين بن علي رضي الله عنهم، كان من سادات أهل البيت ولد سنة ثمانين أو ثلاث وثمانين،(1/98)
أنه قال: كان أول من سجد لآدم جبريل ثم ميكائيل ثم إسرافيل ثم عزرائيل ثم الملائكة المقربون.
وعن أبي الحسن النقاش: أول من سجد إسرافيل، قال: ولذا جوزي بتولية اللوح المحفوظ.
__________
وتوفي سنة ثمان وأربعين ومائة، قال ابن خلكان وابن قتيبة في أدب الكاتب: وكتاب الجفر جلد كتبه جعفر الصادق كتب فيه لآل البيت كل ما يحتاجون إلى علمه، وكل ما يكون إلى يوم القيامة، قال الدميري ونسبه الجفر إلى علي وهم، والصواب لجعفر الصادق.
"أنه قال: كان أول" بالنصب خبر، "من سجد لآدم جبريل ثم ميكائيل، ثم إسرافيل، ثم عزرائيل" ملك الموت القباض لجميع أرواح الجن والإنس والبهائم والمخلوقات، خلافًا لقول المبتدعة إنما يقبض أرواح الجن والإنس صرح به الجزولي في شرح الرسالة، وكأنهم تمسكوا بما أخرجه أبو الشيخ والعقيلي في الضعفاء، والديلمي عن أنس مرفوعًا: "آجال البهائم وخشاش الأرض والقمل والبراغيث والجراد والخيل والبغال والدواب كلها والبقر وغير ذلك في التسبيح، فإذا انقضى تسبيحها قبض الله أرواحها وليس إلى ملك الموت منها شيء"، وهو حديث ضعيف جدًا، بل قال العقيلي: لا أصل له، وابن الجوزي موضوع ولا حجة فيه إذ لا حجة بضعيف، ولا سيما مع معارضته لعموم القاطع وهو الله يتوفى الأنفس حين موتها، ولذا لم يلتفت الإمام مالك إلى هذا الحديث بل احتج بالآية لما سأله رجل عن البراغيت: أملك الموت يقبض روحها؟ فأطرق طويلا، ثم قال: ألها نفس؟ قال: نعم، قال: فإن ملك الموت يقبض أرواحها، الله يتوفى الأنفس حين موتها، أخرجه الخطيب وأيد بما أخرجه الطبراني وابن منده وأبو نعيم أن عزرائيل قال للنبي صلى الله عليه وسلم: والله لو أردت أن أقبض روح بعوضة ما قدرت حتى يأذن الله بقبضها.
"ثم الملائكة المقربون" أي: ثم بقة الملائكة ونحوه قول وهب بن منبه أول من سجد لآدم جبريل، فأكرمه الله بإنزال الوحي على النبيين خصوصًا على سيد المرسلين، ثم ميكائيل، ثم إسرافيل، ثم عزرائيل، ثم سائر الملائكة. "و" روي "عن أبي الحسن النقاش أن أول من سجد إسرافيل" وهذا رواه ابن أبي حاتم عن ضمرة والسلفي عن عمر بن عبد العزيز، "قال: ولذا" أي: لكونه أول من سجد "جوزي" أي: جازاه الله، "بتولية اللوح المحفوظ" بأن جعل مطلعًا عليه ومتصرفًا فيه بنقل ما فيه مثلا إلى الملائكة، وقيل: رفع رأسه وقد ظهر القرآن كله مكتوبًا على جبهته كرامة له على سبقه فهذا يعارض ما روي عن جعفر، وجمع شيخنا بأن أول من سجد بالفعل إسرافيل، وأول من سجد بامتثال الأمر جبريل، قال: ولعل الحكمة في عدم سجودهم دفعة واحدة أن الساجد أولا فهم بالإشارة أنه المخاطب به أولا، وفي الجمع وقفة.(1/99)
وعن ابن عباس: كان السجود يوم الجمعة من وقت الزوال إلى العصر.
ثم خلق الله تعالى له حواء زوجته من ضلع من أضلاعه اليسرى، وهو نائم، وسميت حواء لأنها خلقت من حي، فلما استيقظ ورآها سكن إليها....................
__________
"وعن ابن عباس: كان" زمن "السجود" لآدم "يوم الجمعة من وقت الزوال إلى العصر" لو فرض من أيام الدنيا فلا يشكل بخبر أنه خلق في آخر ساعة من يوم الجمعة المقدر بألف سنة، "ثم خلق الله تعالى له حواء" بفتح الحاء وشد الواو والمد "زوجته" كذا في نسخ بالهاء على لغة قليلة حكاها الفراء، وشاهدها قول عمار بن ياسر عند البخاري: والله إني لأعلم أنها زوجته في الدنيا والآخرة -يعني عائشة- وقول الفرزدق:
وإن الذي يسعى ليفسد زوجتي ... كساع إلى أسد الشرى يستبيلها
أي: يطلب بولها، وقيل: يأخذ أولادها، والكثير وهو لغة القرآن زوج بلا هاء، حتى قال الأصمعي: لا تكاد العرب تقول زوجة. "من ضلع" بكسر المعجمة وفتح اللام وتسكن مذكر، وقيل: مؤنث، وقيل: يذكر ويؤنث. "من أضلاعه اليسرى" قال في الفتح: أي: أخرجت منه كما تخرج النخلة من النواة، وجعل مكانه لحم، وقال القرطبي: يحتمل أن معناه أنها خلقت من ضلع فهو كالضلع، أي: عوجاء، "وهو نائم" لم يشعر بذلك ولا تألم، والألم يعطف رجل على امرأته، قال القرطبي وغيره. "وسميت حواء؛ لأنها خلقت من حي" وفي القرطبي: أول من سماها آدم لما انتبه قيل: من هذه؟ قال: امرأة، قيل: وما اسمها؟ قال: حواء، قيل: ولم سميت امرأة؟ قال: لأنها من المرء أخذت، قيل: ولم سميت حواء؟ قال: لأنها خلقت من حي. وروي: أن الملائكة سألته عن ذلك لتجرب علمه.
وفي الفتح: قيل سميت حواء بالمد لأنها أم كل شيء. "فلما استيقظ ورآها سكن" اطمأن ومال "إليها"، بإلهام الله تعالى، واختلف في أنها خلقت في الجنة، فقال ابن إسحاق خلقت قبل دخول آدم الجنة لقوله تعالى: {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} [البقرة: 35] ، روي عن ابن عباس وقطع به السيوطي في التوشيح: وقيل: بل خلقت في الجنة بعد دخول آدم؛ لأنه لما أسكن الجنة مشى فيها مستوحشًا، فلما نام خلقت من ضلعه القصرى من شقه الأيسر ليسكن إليها ويأنس بها، فلما انتبه رآها، قال: من أنت؟ قالت: امرأة خلقت من ضلعك لتسكن إلي وأسكن إليك، قاله ابن عباس وابن مسعود وغيرهم من الصحابة، واقتصر عليه القرطبي والخازن.
قال ابن عقيل: ونسب لأكثر المفسرين، وعلى هذا قيل: قال الله: {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} [البقرة: 35] ، بعد خلقها وهما في الجنة، وقيل: قبل خلقها وتوجه الخطاب للمعدوم لوجوده في علم الله، انتهى.(1/100)
ومد يده إليها فقالت الملائكة مه يا آدم، قال: ولم وقد خلقها الله لي؟ فقالوا: حتى تؤدي مهرها، قال: وما مهرها؟ تصلي على محمد صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات.
وذكر ابن الجوزي في كتابه "سلوة الأحزان": أنه لما رام القرب منها طلبت منه المهر، فقال: يا رب، وماذا أعطيها، فقال: يا آدم صل على حبيبي محمد بن عبد الله عشرين مرة، ففعل.
__________
"ومد يده إليها" يريد جماعها أو التلذذ بلا جماع، "فقالت الملائكة: مه يا آدم، قال: ولم وقد خلقها الله لي؟ " وكأنه علم ذلك بإلهام أو علم ضروري أو من إخبارها بأنها خلقت له، "فقالوا: حتى تؤدي مهرها، قال: وما مهرها؟ قالوا: تصلي على محمد صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات".
والظاهر: أن علمهم بذلك بالوحي، "وذكر ابن الجوزي" العلامة أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الحافظ البكري الصديقي البغدادي الحنبلي الواعظ صاحب التصانيف السائرة في الفنون، قال في تاريخ الحافظ: ما علمت أحدًا صنف ما صنف، وحصل له من الحظوة في الوعظ ما لم يحصل لأحد قط، قيل: حضرة في بعض المجالس مائة ألف وحضرة ملوك ووزراء وخلفاء، وقال على المنبر كتبت بإصبعي ألف مجلد وتاب على يدي مائة ألف وأسلم على يدي عشرون ألفًا، مات يوم الجمعة ثالث رمضان سنة سبع وتسعين وخمسمائة، وقيل له الجوزي لجوزة كانت في دراهم لم يكن بواسط سواها، انتهى.
وكأن من قال إلى الجوز ببيع أو غيره لم يحرره "في كتابه سلوة الأحزان أنه لما رام القرب منها طلبت منه المهر" لسماعها قول الملائكة أو ألهمت أو بعلم ضروري، "فقال: يا رب، وماذا أعطيها؟ قال" الله وحيًا أو شفاها، والظاهر الأول: "يا آدم صل على حبيبي محمد بن عبد الله عشرين مرة" وكأنه رام زيادة البيان من الله تعالى فسأله يعطيها ماذا، فلا ينافي إخبار الملائكة بما يعطيها أو فهم أنهم قالوه اجتهادا فطلب أمر الله والإخبار بالقليل لا ينفي الكثير، أو قول الملائكة بأمر منهم مقدمة لحصول الألفة، وقوله تعلى كان حين إرادة القرب، كما هو ظاهر قوله لما رام فجملة المهر الثلاثة والعشرون لكن الأخير على أن مد يده كان للتلذذ لا الجماع، وصح كون الصلاة مهرًا؛ لأنه لما قالها بقصده كان ثوابها لحواء لكونها في مقابلة آدم ما أمر به من الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم، وفي رواية: قالت الملائكة: مه يا آدم، حتى تنكحها، فزوجه الله إياها وخطب، فقال: الحمد لله والعظمة إزاري والكبرياء ردائي والخلق كلهم عبيدي وإمائي، اشهدوا يا ملائكتي وحملة عشري وسكان سماواتي أني زوجت حواء أمتي عبدي آدم بديع(1/101)
ثم إن الله تعالى أباح لهما نعيم الجنة، ونهاهما عن شجرة الحنطة، وقيل: شجرة العنب، وقيل: التين، فحسدهما إبليس، فهو أول من حسد وتكبر......................
__________
قطرتي وصنيع يدي على صداق تقديسي وتسبيحي وتهليلي، يا آدم {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} [البقرة: 35] ، الآية، كذا في الخميس، والعلم عند الله.
"ثم إن الله تعالى أباح لهما نعيم الجنة" فقال: يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة، قال القرطبي: وفيه تنبيه على الخروج؛ لأن السكنى لا تكون ملكًا بل مدة ثم تنقطع فدخولهما في الجنة كان دخول سكنى لا دخول ثواب، انتهى.
وقال ابن عطية في الحظر بقوله: {لَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ} [البقرة: 35] ، دليل على أن سكناهما بها لا تدوم، فالمخلد لا يخطر عليه شيء ولا يؤمر ولا ينهى. "ونهاهما عن شجرة الحنطة" في قول ابن عباس والحسن وعطية وقتادة والقرظي ومحارب ومقاتل، قال وهب: وهي التي جعلها الله رزق أولاده في الدنيا وكانت كل حبة ككلى البقر أحلى من العسل، وألين من الزبد. "وقيل" عن "شجرة العنب" وهو قول ابن مسعود وابن جبير والسدي وجعدة بن هبيرة، قالوا: ولذلك حرمت الخمر على بنيه ونسبه مكي لأكثر المفسرين.
"وقيل: التين" عند قتادة وابن جريج وحكاه عن بعض الصحابة. قال السهيلي: ولذلك تعبر في الرؤيا بالندامة لآكلها لندم آدم على أكلها، وعن علي: هي الكافور والدينوري شجرة العلم وهي علم الخير والشر من أكلها علم الأشياء، وابن إسحاق: شجرة الحنظل، وأبي مالك، هي النخلة، وقيل: شجرة من أكل منها أحدث، وقيل غير ذلك مما يطول جلبه. وقد قال ابن عطية: ليس في شيء من هذا التعيين ما يعضده خبر، وإنما الصواب أن يعتقد أن الله نهى آدم عن شجرة فخالف وأكل منها، وقال أبو نصر القشيري: كان والدي يقول نعلم على الجملة أنها كانت شجرة المحنة، وقال ابن جرير: الأولى أن لا تبين، فإن العلم بها علم لا ينفع وجهل لا يضر.
قال السيوطي: وقد يقال إن فيها نفعًا ما إذا قلنا إنها الكرم، فإن فيها إشارة إلى أن الخمر أم الخبائث أولا، فتجتنب لئلا يكون مانعًا من العود إليها في الآخرة، انتهى.
"فحسدهما إبليس" وزن إفعيل مشتق من الإبلاس وهو اليأس من رحمة الله فلم ينصرف؛ لأنه معرفة ولا نظير له في الأسماء فشبه بالأعجمية، قاله أبو عبيدة وغيره, وقال الزجاج وغيره: هو أعجمي لا اشتقاق له، فلم يصرف للعجمة والتعريف. قال النووي: وهو الصحيح. وحكى الثعلبي عن ابن عباس، قال: كان اسمه بالسريانية عزازيل وبالعربية الحرث، وفي الدميري: قال أكثر أهل اللغة والتفسير: إنما سمي إبليس؛ لأنه أبلس من رحمة الله. "فهو أول من حسد وتكبر".(1/102)
فأتى إلى باب الجنة فاحتال حتى دخل الجنة، وأتى إلى آدم وحواء، فوقف وناح نياحة أحزنتهما، فهو أول من ناح، فقالا: ما يبكيك؟ قال: عليكما، تموتان وتفقدان النعيم، ألا أدلكما على شجرة الخلد، فكلا منها، وحلف لهما أنه ناصح.........
__________
قال القرطبي: وسبب تكبره أنه كان رئيس ملائكة سماء الدنيا وسلطانها وسلطان الأرض، وكان من أشد الملائكة اجتهادًا وأكثرهم علمًا، وكان يسوس ما بين السماء والأرض، فرأى لنفسه بذلك شرفًا وعظمة، فذلك الذي دعاه إلى الكبر فعصى فمسخه الله شيطانًا رجيمًا، فإذا كانت خطيئة الرجل في كبر فلا ترجه، وإن كانت في معصية فارجه، وقيل: إنه عبد الله ثمانين ألف سنة وأعطي الرئاسة والخزانة على الجنة استدراجًا كما أعطي المنافقون الشهادة على طرف لسانهم، وكما أعطي بلعام الاسم الأعظم على طرف لسانه، وكان في رئاسته والكبر متمكن في نفسه. قال ابن عباس: كان يرى لنفسه فضيلة على الملائكة، فلذا قال: أنا خير منه.
"فأتى إلى باب الجنة" فجلس في صورة شيخ يعبد ثلاثمائة سنة من الدنيا انتظارًا لأن يخرج منها أحد يأتيه بخبر آدم، فخرج الطاوس، فقال له: من أين؟ قال: من حديقة آدم وبستانه، قال: ما الخبر عنه؟ قال: هو في أحسن الحال وأطيب العيش هنأت له الجنان ونحن من خدامه، فقال: هل تستطيع أن تدخلني عليه؟ قال: من أنت؟ قال: من الكروبيين عندي له نصيحة، قال: اذهب إلى رضوان فإنه لا يمنع أحد من النصيحة، قال: أريد أن أخفيها عنهم، قال: المخفية لا تكون نصيحة، قال: نحن معاشر الكروبيين لا نقول الأسرار إن فعلت ما أقول أعلمك دعاء لن تشيب بعده أبدًا، فقال: ما أقدر ولكن أدلك على الحية، فخرجت إليه فقالت: كيف أدخلك ورضوان لا يمكنني، فقال: أنا أتحول ريحًا فاجعليني بين أنيابك، ففعلت وأطبقت فاها، فقال: اذهبي إلى شجرة البر فذهبت، هكذا في العرائس وغيرها وإياه عنى بقوله: "فاحتال حتى دخل" باب "الجنة، وأتى إلى آدم وحواء، فوقف" عند شجرة البر وغنى بمزمار وهو في فم الحية، فجاء آدم وحواء يسمعان المزمار ظنًا أن الحية هي التي تغني، فقال لهما إبليس: تقدما فقالا: نهينا عن قرب هذه الشجرة، فبكى "وناح نياحة أحزنتهما" بها "فهو أول من ناح، فقالا" أي آدم وحواء، وفي رواية: فقال له آدم "ما يبكيك؟ قال: "أبكي "عليكما" لأنكما "تموتان وتفقدان" بكسر القاف هذا "النعيم" فقالا له: وما الموت؟ فقال: تذهب الروح والقوة وتعدم حركة الأعضاء ولا يبقى للعين رؤية ولا للأذن سماع، فوقع ذلك في أنفسهما واغتما، فقال لعنه الله: "ألا أدلكما على شجرة الخلد" وملك لا يبلى، "فكلا منها" فقالا: نهينا عنها، فقال: {مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا} [الأعراف: 20] ، الآية، "وحلف لهما أنه ناصح" أي: أقسم لهما على ذلك والمفاعلة في الآية للمبالغة، وقيل: أقسما عليه بالله أنه(1/103)
فهو أول من حلف كاذبًا، وأول من غش.
فأكلت حواء منها، ثم زينت لآدم حتى أكل، وظنا أن أحدًا لا يتجاسر أن يحلف بالله كاذبًا، فقال الله تعالى: يا آدم، ألم يكن فيما أبحت لك من الجنة مندوحة
__________
ناصح، فأقسم لهما فجعل ذلك مقاسمة، "فهو أول من حلف كاذبًا وأول من غش" ولما قاسمهما الله، قال: أيكما بادر إلى الأكل فله الغلبة على صاحبه، "فأكلت حواء منها" حبة واحدة "ثم زينت لآدم حتى أكل" فأتت له بثلاث حبات، وقالت: أنا أكلت منها واحدة فكانت طيبة الطعم، وما أصابني منها مضرة، فمكث آدم مائة سنة بعد أكلها لم يأكل، ثم ناول وأخذ منها الحبات وجعل منها حبة في فيه، فقبل أن يصل طعمها إلى حلقة وجرمها إلى جوفه طار من رأسه تاجه المكلل بالدر والياقوت والجوهر ينادي: يا آدم طالت حسرتك وتزحزح السرير من تحتهما، وقال: أستحيي من الله أن أكون سريرًا لمن عصاه، وتساقط ما عليهما من سوار ودملج وخلخال ومنطقة مرصعة ونزع عنهما لباسهما، وكان على آدم سبعمائة حلة وكان من أمرهما ما كان. "و" إنما أكلا منها لأنهما "ظنا أن أحدًا لا يتجاسر" لا يجترئ على "أنه يحلف بالله كاذبًا" لعظمته سبحانه وتعالى في قلوبهما، بل لم يكن الكذب مطلقًا معروفًا، وظاهر سياق المصنف: أن اللعين شافههما بالإغواء، قال القرطبي: وهو قول ابن مسعود وابن عباس والجمهور، لقوله تعالى: {وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ} [الأعراف: 21] ، والمقاسمة ظاهرها المشافهة، وقيل: بل وسوس لهما وأغواهما بشيطانه وسلطانه الذي أعطاه الله؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: "إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم"، انتهى.
واختلف في صفة توصله إلى إزلالهما بعدما قيل له: {اخرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ} [الحجر: 34] ، فقيل: منع دخول التكرمة لا الوسوسة ابتلاء، وروي أنه قصد الدخول فمنعته الخزنة فدخل في فم الحية، وقيل: لم يدخلها بعد إخراجه منها، قال الحسن: رآهما ببابها وكان يخرجان، وقيل: كانا يدنوا من السماء فيكلمهما، وقيل: قام عند الباب فناداهما، وقيل: نادى من الأرض فسمعاه من الجنة، حكاه في التعليق الوجيز، وقال قبله: الصحيح أنه لم يدخلها بل وقف بالباب وردته الخزنة عن الدخول، لكن قال السيوطي الوارد عن ابن مسعود وابن عباس وأبي العالية ووهب بن منبه ومحمد بن قيس أنه دخل في فم الحية وقاولهما بذلك، كما أسنده عنهم ابن جرير ولم يسند شيئًا من الأقوال المذكورة عن أحد، انتهى. وفيه: أن كونه لم يسندها لا ينفي ورودها، والله أعلم.
"قال الله تعالى": ابتلاء وعتابًا، "يا آدم ألم يكن فيما أبحت لك من الجنة مندوحة".(1/104)
عن هذه الشجرة؟! قال: بلى يا رب وعزتك، ولكن ظننت أن أحدًا لا يحلف بك كاذبًا، قال الله: وعزتي وجلالي، لأهبطنك إلى الأرض، لا تنال العيش إلا كدا، فأهبط من الجنة.
__________
بفتح الميم سعة وفسحة، "عن هذه الشجرة، قال: بلى يا رب وعزتك، ولكن ظننت أن أحدًا لا يحلف بك كاذبًا" فهذا الذي حملني على الأكل منها، "قال الله: وعزتي وجلالي لأهبطنك إلى الأرض لا تنال العيش" الكسب "إلا كدًا" بفتح الكاف ودال مهملة مشددة، أي: تعبا فتضرع آدم واعتذر، فقال: لا يجاورني من عصاني اخرج، فسأله بحق محمد أن يغفر له، فقال: قد غفرت لك بحقه ولكن لا يجاورني من عصاني، فبكى وودع كل من في الجنة حتى بكت عليه أشجارها إلا العود، فقيل له: لم تبك؟ قال: أبكي على عاص، فنودي: كما عظمت أمرنا عظمناك، ولكن هيأناك للإحراق، فقال: ما هذا؟ فنودي: أنت عظمتنا فكذلك يعظمونك لكن لم يحترق قلبك على محبينا فلذلك يحرقونك، فلما انتهى لباب الجنة ووضع إحدى رجليه خارج الباب، قال: بسم الله الرحمن الرحيم، فقال له جبريل: تكلمت بكلمة عظيمة، فقف ساعة فربما يظهر من الغيب لطف، فنودي: أن دعه يخرج، فقال: إلهي دعاك رحيمًا فارحمه، فقال: إن أرحمه لا ينقص من رحمتي شيء وإن يذهب لا يعاب عليه شيء، فخل عنه يذهب ثم يرجع في مائة ألوف من أولاده عصاة حتى يشاهد فضلنا على أولاده ويعلم سعة رحمتنا، هذا ملخص ما ساقه أصحاب القصص.
"فأهبط من الجنة" بسرنديب بسين وراء مهملتين فنون فدال مهملة فتحتية فموحدة من الهند بجبل نوذ بفتح النون وذال معجمة، ومعه ريح الجنة فعلق بشجرها وأوديتها فامتلأ ما هنالك طيبًا وأهبطت حواء بجدة، وقيل: بعرفة، وقيل: بالمزدلفة، وإبليس بالأبلة بضم الهمزة والموحدة وشد اللام، بلد بقرب البصرة، وقيل: أهبط بجدة والحية ببيسان، وقيل: بسجستان، وقيل: بأصفهان، وقيل غير ذلك. واختلف في قدر مكثه في الجنة. فعن ابن عباس مكث فيها نصف يوم من الآخرة وهو خمسمائة عام، وهذا قول الكلبي.
وقال الضحاك: دخلها ضحوة وخرج بين الصلاتين، وقال الحسن البصري: لبث فيها ساعة من نهار وهي مائة وثلاثون سنة من سني الدنيا. وعن وهب وابن جرير: مكث ثلاثة وأربعين عامًا من أعوام الدنيا، وقيل: بعض يوم من أيامها. وروى أحمد ومسلم والنسائي في حديث أبي هريرة مرفوعًا، "وخلق آدم في آخر ساعة من يوم الجمعة" قال ابن كثير: فإن كان يوم خلقه يوم إخراجه وقلنا الأيام الستة كهذه الأيام، فقد أقام في الجنة بعض يوم من أيام الدنيا وفيه نظر، وإن كان إخراجه في غير اليوم الذي خلق فيه، وقلنا: بأن كل يوم بألف سنة؛ كما قال ابن عباس(1/105)
وعن ابن عباس: قال الله تعالى: يا آدم، ما حملك على ما صنعت؟ قال: زينته لي حواء، قال: فإني أعقبها أن لا تحمل إلا كرهًا، ولا تضع إلا كرهًا، ولأدمينها في الشهر مرتين.
وقال وهب بن منبه:........................
__________
ومجاهد والضحاك واختاره ابن جرير، فقد لبث هناك مدة طويلة، انتهى. وهذا الحديث تكلم فيه البخاري وشيخه ابن المديني وغيرهما من الحفاظ وجعلوه من قول كعب، وإنما سمعه أبو هريرة منه فاشتبه على بعض رواته فرفعه.
"وعن ابن عباس: قال الله تعالى: يا آدم ما حملك على ما صنعت، قال: زينته لي حواء" وقد ورد النساء حبائل الشيطان، "قال فإني أعقبها" بضم الهمزة وسكون المهملة وكسر القاف أجازيها "أن لا تحمل إلا كرهًا ولا تضع إلا كرهًا" أي: بمشقة "ولأدمينها في الشهر مرتين" قال الشارح: لعل المراد أن يدميها بحصول ذلك لها في مرة أو بإمكانه لها واستحقاقها إياه وأن تخلف؛ كما في العفو عن المعاصي المستحقة للعقوبة، انتهى. ولا يتم إلا أن ثبت أنه لم يداومها كل شهر مرتين وأنى به، وقيل: إنما عوقبت به لكونها أدمت الشجرة وقيل: بكسرها قوائم الحية ويحتمل أنه لذلك كله.
وقد روى الحاكم وابن المنذر بإسناد صحيح عن ابن عباس: أن ابتداء الحيض كان على حواء بعد أن أهبطت من الجنة، وروى عبد الرزاق بسند صحيح عن ابن مسعود قال: كان الرجال والنساء في بني إسرائيل يصلون جميعًا، فكانت المرأة تتشوف للرجل فألقى الله عليهن الحيض ومنعهن المساجد، وعنده عن عائشة نحوه، وظاهره: أن أول إرساله على نساء بني إسرائيل، قال البخاري: وحديث النبي صلى الله عليه وسلم: "إن هذا أمر كتبه الله على بنات آدم"، أكثر بمثلثة أشمل وبموحدة أعظم.
وجمع الحافظ بأن المرسل على بنات إسرائيل طول مكثه بهن عقوبة لهن لا ابتداء بوجوده. وقد روى الطبراني وغيره عن ابن عباس وغيره: أن قوله تعالى في قصة إبراهيم: {وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ} [هود: 71] ، أي حاضت، والقصة متقدمة على بني إسرائيل بلا ريب، انتهى. وثم أجوبة أخر لا يقال إن على بنات آدم مخرج لحواء؛ لأنها لما خلقت من ضلعه نزلت منزلة بناته مجازًا أو أنه ليس قصرًا حقيقيًا، بل اقتصر على بنات آدم لكونهن من الجنس المشارك للمخاطبة بهذا الحديث، وهي عائشة تسلية لها.
"وقال وهب بن منبه" بضم الميم وفتح النون وشد الموحدة المكسورة، ابن كامل الحافظ أبو عبد الله الصنعاني العلامة الأخباري الصدوق ذو التصانيف أخوهما، روى عن ابن(1/106)
لما أهبط آدم إلى الأرض مكث يبكي ثلاثمائة سنة لا يرقأ له دمع.
وقال المسعودي: لو أن دموع أهل الأرض جمعت لكانت دموع آدم أكثر حين أخرجه الله من الجنة.
وقال مجاهد: بكى آدم مائة عام لا يرفع رأسه إلى السماء، وأنبت الله من دموعه العود الرطب والزنجبيل والصندل وأنواع الطيب، وبكت حواء حتى أنبت الله من دموعها القرنفل والأقاوى.
__________
عباس وابن عمر وعنه آله، وسماك بن الفضل مات سنة أربع عشرة ومائة، "لما أهبط آدم إلى الأرض مكث يبكي ثلاثمائة سنة لا يرقأ" بالهمز والقاف، أي: لا يسكن ولا يجف "له دمع" على ما أصابه، "وقال المسعودي" عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة بن مسعود الكوفي الحافظ، قال ابن نمير: ثقة اختلط آخرًا، وقال ابن مسعر: ما أعلم أحدًا أعلم بعلم ابن مسعود منه، مات سنة ستين أو خمس وستين ومائة. "لو أن دموع أهل الأرض جمعت" وجمعت دموع آدم؛ "لكانت دموع آدم أكثر" من دموع أهل الأرض "حين أخرجه الله من الجنة" حزنًا على فراقها وفراق أهلها وعلى أكله من الشجرة وإن غفر له قبل الخروج؛ كما جزم به القرطبي وغيره لشدة الخشية وكمال عظمة الله في قلبه، وقول شيخنا: لعل المراد إلى وقت التوبة مبني على أنه لم يتب عليه إلا بعد خروجه بمدة.
"وقال مجاهد" بن جبير بفتح الجيم وسكون الموحدة، وقيل: جبير بالضم مصغرًا والأول أكثر المخزومي مولاهم المكي الثقة الحافظ الإمام في التفسير، وفي العلم أحد الأعلام المجتمع على إمامته. وذكر ابن حبان له في الضعفاء: مردود مات بمكة وهو ساجد سنة ثلاث ومائة، وقيل غير ذلك، خرج له في الستة. "بكى آدم مائة عام لا يرفع رأسه" حياء من ربه عز وجل، "إلى السماء" وبهذا القيد لا ينافي قول وهب فهذه المائة بعض الثلاثمائة وخصت بالذكر للقيد، "وأنبت الله من دموعه العود الرطب" لعل المراد الذي يتبخر به، قال شيخنا: وقد ذكروا أنه مما نزل معه من الجنة، فإن صح ما ترجاه، فيحتمل أنه ما نبت في الأرض إلا بدموعه، "والزنجبيل" عرق يسري في الأرض ونباته كالقصب والبردي، له قوة مخنة يسيرًا باهية مذكية وإن خلط برطوبة كبد المعز وجفف وسحق واكتحل به أزال الغشاوة وظلمة البصر، "والصندل" خشب معرف أجوده الأحمر أو الأبيض محلل للأورام نافع للخفقان والصداع ولضعف المعدة الحارة والحميات، قاله وما قبله القاموس. "وأنواع الطيب" عام على خاص أي: الذي له رائحة وإن استعمل لغيرها، "وبكت حواء حتى أنبت الله من دموعها القرنفل والأقاوى" الطيب، وتطلق على(1/107)
يا بني آدم، انظروا كيف بكى أبوكم على فعله واحدة ثلثمائة سنة، فكيف بكم يا أصحاب الكبائر العظيمة؟ فاعتبروا يا أولي الأبصار، كان آدم كلما رأى الملائكة تصعد وتهبط ازداد شوقًا إلى الأوطان، وتذكر العهد والجيران، يا أصحاب الذنوب احذروا زلة يقول فيها الحبيب: هذا فراق بيني وبينك، فياذا العقل السليم، انظر كيف جلس أبوك آدم على سرير المملكة........................................
__________
توابل الطعام؛ كما في المصباح.
وفي القاموس: الأفواه التوابل الواحد فوه كسوق وجمع الجمع أفاويه، ونحوه في المصباح. فسقوط الهاء من المصنف تخفيف أو لغة قليلة ثم وشح المؤلف تلك القصة بمنزع صوفي على عادته، فقال: "يا بني آدم، انظروا كيف بكى أبوكم على فعلة واحدة" بفتح الفاء اسم للمرة من الفعل، وفي نسخة على صغيرة واحدة ولا يناسب ترديده الآتي، كذا قيل وأنت خبير بأن الترديد إنما هو على لسان السائل مع الجزم بأنها صغيرة في الجواب، فكلتاهما مناسبة "ثلاثماة سنة" مع النسيان والتأويل، "فكيف بكم يا أصحاب الكبائر العظيمة"؟ العمد "فاعتبروا" اتعظوا وقيسوا حالكم في استحقاق العقوبة بالذنب على حال أبيكم في إخراجه من الجنة بفعلة "يا أولي الأبصار" البصائر، "كان آدم" عليه السلام "كلما رأى الملائكة تصعد" بفتح العين مضارع صعد بكسرها، "وتهبط، ازداد شوقًا إلى الأوطان" جمع وطن، أي: أماكن الجنة سماها بذلك؛ لأنه أبيح له نعيمها بلا تخصيص محل منها دون آخر، وفيه إشعار بتكرر رؤيته للملائكة وأنها حقيقة وهل على صورهم الأصلية أو غيرها محل نظر، وقد ذكروا أن من خصائص المصطفى رؤية جبريل على صورته مرتين، "وتذكر العهد" الأمان الذي كان فيه قب هبوطه أو المنزل، فهو كالتفسير للأوطان أوائل عهدية، أي: تذكر عهد الله الذي نسيه فصار في هذه الحالة، "والجيران" جمع جار وهو المجاور في السكن والمراد الملائكة وغيرهم من الحيوان سماهم جيرانًا، لكونهم معه في الجنة، "يا أصحاب الذنوب، احذروا زلة يقول فيها الحبيب" لمحبه "هذا فراق بيني وبينك" تلميح بقصة موسى مع الخضر؛ لأن آدم لما أكل تباعد عنه أحبابه وما أواه أحد فكأنهم قالوا له ذلك، "فيا ذا العقل السليم، انظر" بعقلك "كيف جلس أبوك آدم على سرير المملكة" مر قول الحكيم أنه من ذهب أو ياقوت أحمر له سبعمائة قائمة، ونحوه في المشكاة وذلك يأبى ادعاء أنه تمثيل من حيث جعله سرير المملكة، وإن سلم فهو صورة جعلت لآدم اجلس عليها تكريمًا، وعبر عنها بذلك مجازًا، فإن الأصل الحقيقة وإثبات الصورة يمنع التمثيل وغاية الأمر أن التجوز في الإضافة للمملكة مع أنه مسمى بذلك عندهم؛ كما أفاده الخبر وما به ضرر، فليس أقوى من إضافة العرش والكرسي لله في التنزيل مع تنزهه(1/108)
فمد يده إلى لقمة نهى عنها فأخرج من الجنة، فاحذروا يا بنيه عواقب المعاصي فإنها من نزلت به نزلت به وحطته عن مرتبته.
فإن قلت: هذه الفعلة التي أهبط بها آدم من الجنة، إن كانت كبيرة فالكبيرة لا تجوز على الأنبياء، وإن كانت صغيرة فلم جرى عليه بسببها ما جرى من نزع اللباس والإخراج من الجنة وغير ذلك؟
أجاب الزمخشري: بأنها ما كانت إلا صغيرة، مغمورة بأعمال قلبه من الإخلاص والأذكار الصالحة التي هي أجل الطاعات، وأعظم الأعمال، وإنما جرى عليه ما..................
__________
سبحانه عن الحلول والجسم، "فمد يده إلى لقمة نهى عنها، فأخرج من الجنة، فاحذروا يا بنيه عواقب المعاصي فإنها من نزلت به" أي: أصابته، "نزلت به" أي: خفضته، "وحطته عن مرتبته" عطف تفسير، "فإن قلت: هذه الفعلة" بفتح الفاء للمرة كما مر، وبكسرها اسمًا للهيئة، أي: ما هيئة هذه الفعلة؟ "التي أهبط بها آدم من الجنة" أبالغة في المخالفة، فتكون كبيرة أم لا؟ "إن كانت كبيرة، فالكبيرة لا تجوز على الأنبياء" إجماعًا لا قبل النبوة ولا بعدها، "وإن كانت صغيرة" وقلتم بجوازها عليهم، فالصغائر مغفورة باجتناب الكبائر لآحاد الأمة فكيف بنبي ولد الأنبياء؟ "فلم جرى عليها بسببها ما جرى من نزع اللباس" بمجرد تعلق الإرادة لا بفعل فاعل لما مر أنه بمجرد وضع الحية في فيه طار عنه تاجه وتهافتت ثيابه، "والإخراج من الجنة، وغير ذلك" من المعاتبة بنحو قوله: ألم أنهكما عن تلكما الشجرة والفضيحة يبدو السوأة وتهافت اللباس ووهن الجلد، بعدما كان الظفر والإخراج من الجنة مع النداء: لا يجاورني من عصاني، والفرقة بينه وبين حواء مدة والعداوة بعضكم لبعض عدو، والنداء بالنسيان: فنسي ولم نجد له عزمًا، وتسليط العدو على ولده وأجلب عليهم بخيلك ورجلك، وجعل الدنيا سجنًا له وولده والتعب والشقاء فلا يخرجنكما من الجنة فتشقا، فهذه خصال ابتلي بها آدم عليه السلام وبها ابتليت حواء مع خمس عشرة معها تطلب من التواريخ.
قلت: "أجاب الزمخشري" أبو القاسم محمود العلامة جار الله المعتزلي، قال ابن خلكان وغيره: كان يتظاهر به وإذا استأذن على صاحب له بالدخول يقول أبو القسم المعتزلي بالباب وأول ما صنف الكشاف، توفي ليلة عرفة سنة ثلاث وثلاثين وخمسمائة. "بأنها ما كانت إلا صغيرة مغمورة" بغين معجمة، مستورة "بأعمال قليلة من الإخلاص والأذكار الصالحة، التي هي أجل الطاعات وأعظم الأعمال" والصغيرة إذا غلبتها الطاعات لا يؤاخذ بها، "وإنما جرى عليه ما(1/109)
جرى تعظيمًا للخطيئة، وتفظيعًا لشأنها وتهويلا، ليكون ذلك لطفًا له ولذريته في اجتناب الخطايا، واتقاء المآثم.
يا هذا، انظر كم لله من لطف وحكمة في إهباط آدم من الجنة إلى الأرض، لولا نزوله لما ظهر جهاد المجتهدين، واجتهاد العابدين، ولا صعدت زفرات أنفاس التائبين، ولا نزلت قطرات دموع المذنبين...................
__________
جرى تعظيمًا للخطيئة وتفظيعًا" بفاء معجمة، إظهارًا "لشأنها" أي: قبحها، وفي القاموس: الشأن: الخطب والأمر، فلعل الإضافة بيانية ولم يقل لها قصد للمبالغة كما هو عادتهم، "وتهويلا" تخويفًا لمرتكب الخطيئة؛ "ليكون ذلك لطفًا" بضم اللام، رفقًا "له ولذريته في اجتناب الخطايا" لأن ذلك كان سببًا لما حصل له من الكمالات في الدنيا المفيدة لكثرة الثواب وعظم المنزلة في الآخرة، "واتقاء المآثم" جمع مأثم عطف تفسير، وصريح ذا الجواب جواز وقوع الصغيرة من الأنبياء.
قال القرطبي: وهو مذهب الأكثرين، والمراد نسيانًا إلا الدالة على خسة كسرقة لقمة، بل قال الطبري وغيره من الفقهاء المتكلمين والمحدثين: تقع الصغائر منهم خلافًا للرافضة، لكن قال جمهور الفقهاء من أصحاب مالك وأبي حنيفة والشافعي: إنهم معصومون من الصغائر كلها، انتهى.
والأخير رأي الإسفراييني وعياض والشهرستاني والتقي السبكي: لكرامتهم على الله أن يصدر منهم ذنب وقد استدل الأولون بظواهر من الكتاب والسنة إن التزموها أفضت بهم إلى الكفر وخرق الإجماع، وما لا يقول به مسلم فكيف وكل ما احتجوا به مما اختلفت فيه وتقابلت الاحتمالات في معناه؛ كما بسطه عياض في الشفاء، ولذا قال شيخنا: الأولى، والجواب بأن محل عصمتهم من الصغائر إن لم يترتب عليها تشريع ونحوه، فجاز وقوع ما هو صورة صغيرة من آدم لما ترتب عليها من المنافع له ولذريته، فلا ينافي أنها لا تقع منهم لا عمدًا ولا سهوًا.
"يا هذا انظر كم لله من لطف وحكمة في إهباط آدم من الجنة إلى الأرض" الظاهر: أن الحكمة هنا الفائدة المترتبة على هبوطه، كما يشير إليه قوله: "لولا نزوله لما ظهر جهاد المجتهدين واجتهاد العابدين" وإن كانت الحكمة في الأصل تحقيق العلم وإتقان العمل، "وا صعدت" بكسر العين، "زفرات" بفتح الزاي والفاء وتسكن للشعر جمع زفرة، أي: أصوات "أنفاس التائبين، ولا نزلت قطرات دموع المذنبين" وفي تفسير القرطبي: لم يكن إخراج الله آدم من(1/110)
يا آدم إن كنت أهبطت من دار القرب فإني قريب مجيب، أجيب دعوة الداعي، إن كان حصل لك من الإخراج كسر فأنا عند المنكسرة قلوبهم من أجلي، وإن كان فاتك في السماء زجل المسبحين فقد تعوضت في الأرض أنين المذنبين، أنين المذنبين أحب إلينا من تسبيحهم، زجل المسبحين ربما يشوبه الافتخار، وأنين المذنبين يزينه الانكسار، "لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون ثم يستغفرون فيغفر لهم".
__________
الجنة عقوبة له؛ لأنه أهبطه بعد أن تاب عليه وقبل توبته، وإنما أهبطه تأديبًا أو تغليظًا للمحنة، والصحيح في إهباطه وسكناه في الأرض ما قد ظهر من الحكمة الأزلية في ذلك وهي نشر نسله فيها ليكلفهم ويمتحنهم، ويترتب على ذلك ثوابهم وعقابهم الأخروي إذ الجنة والنار ليستا داري تكليف، فكانت تلك الأكلة سبب إهباطه ولله فعل ما شاء، وقد قال: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30] ، وقال أرباب المعاني، في قوله تعالى: {وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَة} [البقرة: 35، الأعراف: 19] ، إشعار بالوقوع في الخطيئة والخروج من الجنة، وأن سكناه لا تدوم؛ لأن المخلد لا يحظر عليه شيء ولا يؤمر ولا ينهى، والدليل عليه: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30] ، انتهى.
وفي الأحوذي: خروج منها سبب لوجود الذرية وهذا النسل العظيم، ووجود الأنبياء والمرسلين والصالحين ولم يخرج منها طردًا بل لقضاء أوطاره ثم يعود إليها، انتهى. ولما تاب الله على آدم بين له بالوحي والإلهام ما اطمأنت به نفسه، وذهب به روعه، حتى كأنه قال له: "يا آدم إن كنت أهبطت من دار القرب" فلا تحزن "فإني قريب مجيب" فقربي لك في الجنة، كهو في الأرض "أجيب دعوة الداعي، إن كان حصل لك من الإخراج كسر" وهو الواقع "فأنا عند المنكسرة قلوبهم" اسم فاعل من انكسر مطاوع كسر من باب ضرب، ووصف القلب به تجوزا كأنه شبه ضعفه وذلته بتفرق أجزاء شيء منكسر، "من أجلي" وليس هذا بحديث قدسي، فغاية ما في المقاصد حديث أنا عند المنكسرة قلوبهم من أجلي، جرى في البداية للغزالي.
"وإن كان فاتك في السماء زجل" بفتح الزاي والجيم ولام: أصوات "المسبحين، فقد تعوضت في الأرض أنين المذنبين" ولا تقل فرق بينهما فـ"أنين المذنبين أحب إلينا من تسبيحهم" أي: المسبحين، وإذا أحب إلينا فأنت تحب ما نحب، "زجل المسبحين" من حيث هم لا مسبحي السماء، "ربما يشوبه الافتخار" فيفسده "وأنين المذنبين يزينه الانكسار" فبواسطته فاق الثلاثة ثم رشح هذا الوارد الصوفي المساق عن الحق جل جلاله على طريق الصوفية، بقوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم من حديث أبي هريرة بلفظ: "والذي نفسي بيده " لو لم(1/111)
سبحان من إذا لطف بعبده في المحن قلبها منحا، وإذا خذل عبدًا لم ينفعه كثرة اجتهاده، وكان عليه وبالا، لقن الله آدم حجته، وألقى عليه ما تقبل به توبته، وطرد إبليس اللعين بعد طول خدمته.........................
__________
تذنبوا لذهب الله بكم" أي: لأماتكم بانقضاء آجالكم "ولجاء بقوم يذنبون ثم يستغفرون" الله تعالى "فيغفر لهم" ليكونوا مظهرًا للمغفرة التي وصف بها ذاته؛ كقوله: {فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيم} [النمل: 11] ، فالغفار يستدعي مغفورًا، والرحيم مرحومًا، أي: فلا تمنعكم ذنوبكم من التوبة والإنابة ليأسكم من روح الله فليس إذنا في الذنب ولا حثًا عليه، بل المقصود منه مجرد التنبيه على عظم الفضل وسعة المغفرة والحث على التوبة.
قال الطيبي: لم يرد به ونحوه قلة الاحتفال بمواقعة الذنوب، كما توهمه أهل الغرة، بل كما أنه أحب الإحسان إلى المحسن أحب التجاوز عن المسيء، فمراده لم يكن ليجعل العباد كالملائكة منزهين عن الذنوب بل خلق فيهم من يميل بطبعه إلى الهوى، ثم كلفه توقيه وعرفه التوبة بعد الابتلاء، فإن وفى فأجره على الله، وإن أخطأ فالتوبة بين يديه، وسر ذلك إظهار صفة الكرم والحلم والغفران، ولو لم يوجد لانثلم طرف من صفة الألوهية، والله يتجلى لعبده بصفات الجلال والإكرام في القهر واللطف، انتهى.
"سبحان من إذا لطف بعبده في المحن" بكسر ففتح جمع محنة، أي: البلايا "قلبها" صيرها أو أبدلها "منحا" بكسر ففتح: عطايا، "وإذا خذل عبدًا لم ينفعه كثرة اجتهاده، وكان عليه" اجتهاد "وبالا" فقد "لقن الله آدم حجته" حيث قال: ما ظننت أن أحدًا يحلف بك كاذبًا وقد قال قوم: إن آدم وحواء ما أكلا من الشجرة المنهي عنها، وإنما أكلا من جنسها تأولا أن المراد العين، وكان المراد الجنس، حكاه القرطبي.
"وألقى عليه ما تقبل به توبته" هو كما قال ابن عباس والحسن وابن جبير الضحاك وابن مجاهد: ربنا ظلمنا أنفسا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين. وعن مجاهد أيضًا: سبحانك اللهم لا إله إلا أنت ظلمت نفسي فاغفر لي إنك أنت الغفور الرحيم، وقيل: رأى مكتوبًا على سابق العرش محمد رسول الله، فتشفع به، وقيل: المراد البكاء والحياء والدعاء والندم والاستغفار، ذكره القرطبي.
"وطرد إبليس اللعين بعد طول خدمته" مر عن القرطبي أنه عبد الله ثمانين ألف سنة، وفي منتهى النقول: تسعة آلاف سنة، وفي الخميس: مائتين وأربعين ألف سنة، ولم يبق في السماوات والأرضين السبع موضع شبر إلا سجد فيه، فقال: إلهي هل بقي موضع لم أسجد فيه؟ فقال:(1/112)
فصار عمله هباء منصورًا، قال: أخرج منها {فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ، وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ} [الحجر: 34-35] إذا وضع عدله على عبد لم يبق له حسنة، وإذا بسط فضله على عبد لم يبق له سيئة.
انظر......................................
__________
اسجد لآدم، فقال: أتفضله عليّ؟ قال أفعل ما أشاء ولا أسأل عما أفعل، فأبى فطرد ولعن.
وفي المشكاة: قال الحسن: عبد الله في السماء سبعمائة ألف وسبعين ألفًا وخمسة آلاف سنة، وعبد الله في الأرض فلم يترك موضع قدم إلا سجد فيه سجدة. "فصار عمله هباء منثورًا" هو ما يرى في الكوى التي عليها الشمس؛ كالغبار المفرق، أي: مثله في عدم النفع به لعدم شرطه.
"قال" تعالى: "اخرج" التلاوة فاخرج، وصرح الدماميني عن ابن السبكي بجواز حذف العاطف في الاستدلال بل والإتيان بواو وفاء؛ لأنه ليس المراد إلا ما بعده، وقد كتب صلى الله عليه وسلم لهرقل: "ويا أهل الكتاب" "منها" أي: في الجنة لا السماء إذ لم يمنع منها إلا بعد البعثة، "فإنك رجيم" مطرود من الخير والكرامة، فإن من يطرد يرجم بالحجارة أو شيطان يرجم بالشهب، "وإن عليك اللعنة" هذا الطرد والإبعاد "إلى يوم الدين" يوم القيامة، وإنما غيابه لانتهاء التكليف الذي هو مظنة الفعل سبب التوبة، ومعلوم أنه حيث انتفى سبب التوبة تأبد الطرد، أو لكونه أبعد ما يتعارفه الناس فجرى على أسلوب كلامهم أو لأنه لشدة العذاب يوم القيامة يذهل عن كونه مطرودًا عن الرحمة بخلاف الدنيا، فإن بالعيان عالم بالطرد.
"وإذا وضع عدله على عبد" أي: إذا جازاه على فعله بمقتضى عدله، "لم يبق" بضم الياء أي الله وفتحها، "له حسنة" بالنصب والرفع؛ لأن العبد لا يخلو من أفعال مقتضية للمؤاخذة، قال تعالى: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ} [فاطر: 45] ، أي: من يدب عليها بشؤم المعاصي، وقيل: المراد بالدابة الإنس فقط. "وإذا بسط فضله على عبد" أي: عامله بالرحمة والمغفرة، "لم يبق له سيئة" أي: لم يؤاخذه بذنوبه، والمراد: أن حسناته وسيئاته تمحيان من صحف الملائكة ليكون ذلك بالنسبة للحسنة أشد في إدخال الأسف والحزن عليه لتفريطه حتى ذهبت حسناته، وبالنسبة للسيئة أبلغ في الستر عليه؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: "إذا تاب العبد أنسى الله الحفظة ذنوبه وأنسى ذلك جوارحه ومعالمه من الأرض حتى يلقى الله، وليس عليه شاهد من الله بذنب" رواه الأصبهاني في الترغيب، والحكيم الترمذي في النوادر، وابن عساكر. وعبر في الأول بوضع لمناسبته للوزن والمحاسبة. وفي الثاني: بالبسط؛ لأنه المناسب للعفو والستر.
"انظر" من النظر، بمعنى إعمال الفكر ومزيد التدبر والتأمل، قال الراغب: النظر إجالة الخاطر(1/113)
لما ظهرت فضائل آدم عليه الصلاة والسلام على الخلائق بالعلم، وكان العلم لا يكمل إلا بالعمل بمقتضاه، والجنة ليست دار عمل ومجاهدة، إنما هي دار نعيم ومشاهدة، قيل له: يا آدم اهبط إلى أرض الجهاد، وصابر جنود الهوى بالجد والاجتهاد، وكأنك بالعيش الماضي وقد عاد على أكمل من ذلك المعتاد.
ولما أظهر إبليس -عليه اللعنة- الحسد، سعى في الأذى، حتى كان سببًا في إخراج السيد آدم من الجنة، وما فهم الأبله..................
__________
نحو المرئي لإدراك البصيرة إياه، فللقلب عين، كما أن للبدن عينًا. "لما ظهرت فضائل آدم عليه الصلاة والسلام على الخلائق" من الملائكة وغيرهم "بالعلم" المشار إليه بقوله تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة: 31] ، وبما آتاه الله من قوة العقل. قال أبو أمامة: لو أن أحلام بني آدم منذ خلق الله الخلق إلى يوم القيامة، وضعت في كفة ميزان ووضع حلم آدم في كفة أخرى أرجحهم. قال القرطبي: يحتمل أن يخص من عمومه المصطفى فإنه أوفر الناس حلمًا، ويحتمل من المعنى غير الأنبياء.
"وكان العلم لا يكمل إلا بالعمل بمقتضاه والجنة ليست دار عمل ومجاهدة، وإنما هي دار نعيم ومشاهدة" فيه إشارة إلى جنة المأوى، "قيل له: يا آدم اهبط إلى أرض الجهاد" إضافة بيانية، أي هي جهاد النفس "وصابر جنود الهوى" بالقصر، أي: هوى النفس، أي: ميلها إلى مشتهياتها "بالجد" بالكسر ضد الهزل، "والاجتهاد" بذل الوسع فهو مغاير للجد مفهومًا مقاربة ما صدق على مقتضى المختار والمصباح يقتضي تساويهما. "وكأنك بالعيش الماضي" أي: نعيم الجنة الذي فارقته، "وقد عاد" إليك بانتقالك للدار الآخرة والنعيم المقيم، وفيه إشارة إلى أن الدنيا وإن طالت لا تعد شيئًا بالنسبة لنعيم الآخرة؛ لبقائها وفناء الدنيا، والفاني كالعدم بالنسبة للباقي. "علي" حال "أكمل من ذلك" الحال "المعتاد" لك أولا في الجنة. "ولما أظهر" عطف على لما ظهرت "إبليس عليه اللعنة" كذا في كثير من النسخ بالواو، ووقع في نسخة شيخنا بدونها، فقال: ينبغي تقديرها "الحسد" لآدم "سعى في الأذى" له "حتى كان سببًا في إخراج السيد آدم من الجنة" في حديث رواه اليافعي في نفحات الأزهار عن علي رفعه: "هبط علي جبريل، فقال: إن لكل شيء سيدًا فسيد البشر آدم، وسيد ولد آدم أنت" فإن صح ففي الفتح السيادة لا تقتضي الأفضلية، فقد قال عمر: أبو بكر سيدنا وأعتق سيدنا، وقال ابن عمر: ما رأيت أسود من معاوية، مع أنه رأى العمرين.
"وما فهم الأبله" بفتح الهمزة، عديم المعرفة الأحمق الخالي من التمييز، ووصفه بذلك(1/114)
أن آدم إذا خرج من الجنة كملت فضائله، ثم عاد إلى الجنة على أكمل من الحال الأول.
قالوا: وفيه إشارة، كأنه تعالى يقول: لو غفرت في الجنة لما تبين كرمي، بأني أغفر لنفس واحدة، بل أؤخره إلى الدنيا، وآتي بألوف من العصاة حتى أغفر لهم وله ليتبين جودي وكرمي. وأيضًا: علم الله تعالى أن في صلبه الأولاد، والجنة ليست دار توالد.................
__________
مشعر بأنه سلب العلم عند كفره، قال القرطبي: لا خلاف أنه كان عالمًا بالله قبل كفره، فمن قال: كفر جهلا، قال: سلب العلم عند كفره، ومن قال عنادًا، قال: كفر ومعه علمه. قال ابن عطية: والكفر مع بقاء العلم مستبعدًا؛ إلا أنه جائز عندي جائز لا يستحيل مع خذل الله لمن يشاء، قال: واختلف هل كان قبله كافر؟ فقيل: لا، وهو أول من كفر، وقيل: كان قبله قوم كفار وهم الجن الذين كانوا في الأرض، وهل كفر جهلا أو عنادًا، قولان لأهل السنة.
"إن آدم إذا أخرج من الجنة كملت فضائله، ثم عاد إلى الجنة على أكمل من الحال الأول" ولو فهم ذلك ما سعى فيه، قال القرطبي: لم يقصد إبليس إخراجه منها وإنما أراد إسقاطه عن مرتبته وإبعاده كما أبعده هو، فلم يبلغ مقصده ولا أدرك مراده بل ازداد غبنًا وغيظ نفس وخيبة ظن، قال تعالى: {ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ} [طه: 122] ، فتاب عليه وهدي فصار خليفة الله في أرضه بعد أن كان جاره في داره. ا. هـ.
"قالوا" أي الصوفية ونسبة للكل كأنه لظهوره صدر عن الجميع، فليس المراد التبرى، "وفيه" أي: إخراج آدم من الجنة، "إشارة" هي شيء يدل على النطق فهي مرادفة له؛ "كأنه تعالى يقول: لو غفرت في الجنة لما تبين كرمي بأني أغفر" الباء سببية علة للنفي، أي: لانتفى تبين كرمي؛ لأني إنما غفرت "لنفس واحدة" والغفر لها لا يستدعي سعة الكرم، وفي نسخة: بأن أغفر، أي: بسبب المغفرة، "ب أؤخره" بهمزتين أولاهما مضمومة "إلى الدنيا، وآتي بألوف من العصاة حتى أغفر لهم وله" يوم القيامة "ليتبين" له ولغيره، "جودي وكرمي" وكان هؤلاء الذين جعلوا هذا إشارة واستنبطوه لم يقفوا عليه منصوصًا, وفي الخميس: كغيره؛ كما مر قول الله تعالى لجبريل: إن رحمته لا ينقص من رحمتي شيء، وإن يذهب لا يعاب عليه شيء، فخل عنه حتى يذهب ثم يرجع غدًا في مائة ألوف من أولاده عصاة حتى يشاهد فضلنا على أولاده ويعلم سعة رحمتنا.
"وأيضًا علم الله تعالى أن في صلبه الأولاد والجنة ليست دار توالد" أي: تكثر فيه الأولاد، فلا ينافي ما حكاه ابن إسحاق عن بعض أهل الكتاب إن صح أن آدم كان يغشي حواء في الجنة قبل أن يأكل من الشجرة فحملت بقابيل وتوأمته فلم تجد عليهما وجعًا ولا طلقًا حين(1/115)
وأيضًا: ليخرج من ظهره في الدنيا من لا نصيب له في الجنة.
يا هذا، الجنة إن شاء الله إقطاعنا. وقد وصل منشور الإقطاع مع جبريل عليه الصلاة والسلام إلى نبينا صلى الله عليه وسلم {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [البقرة: 25] ، إنما يخرج الإقطاع عمن خرج عن الطاعة، نسأل الله التوفيق.
وقد اختلف في الجنة التي سكنها........................
__________
ولدتهما ولم تر معهما دمًا. "وأيضًا ليخرج" الله "من ظهره في الدنيا من لا نصيب له في الجنة" وهم الكفار لما سبق منه سبحانه وتعالى: أن فريقًا في الجنة وفريقًا في السعير. وقال الأستاذ التاج في التنوير: فكأن مراد الحق من آدم الأكل من الشجرة لينزله إلى الأرض ويستخلفه فيها، فكان هبوطًا في الصورة رقيًا في المعنى، ولذا قال الشيخ أبو الحسن الشاذلي: والله ما أنزل الله آدم إلى الأرض لينقصه، إنما أنزله إلى الأرض ليكمله ثم قال: فما أنزل إلى الأرض إلا ليكمل له وجود التعريف ويقيمه بوظائف التكليف، فتكاملت في آدم العبد عبودية التعريف وعبودية التكليف، فعظمت منه الله عليه وتوافر إحسانه إليه. ا. هـ.
"يا هذا الجنة إن شاء الله إقطاعنا" أي: معطاة لنا لنرتفق بها ونتنعم فيها بأنواع النعم أطلق الإقطاع عليها استعارة أو تشبيهًا، والمعنى: أنها لنا كالإقطاع وهو ما يعطيه الإمام من أرض الخراج، "وقد وصل منشور الإقطع" أي: وصل خبرها إلينا، "مع جبريل عليه السلام إلى نبينا صلى الله عليه وسلم" والدليل على وصوله قوله تعالى: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا} ، صدقوا بالله " {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} " من الفروض والنوافل، "أن" أي: بأن "لهم جنات" حدائق ذات شجر ومساكن "تجري من تحتها" أي: تحت أشجارها وقصورها، "الأنهار" [البقرة: 25] أي: المياه فيها والنهر الموضع الذي يجري فيه الماء؛ لأن الماء ينهره، أي: يحفره وإسناد الجري إليه مجاز، "إنما يخرج الإقطاع" بتحتية نظرًا للفظ الإقطاع فإنه مذكر وفوقية نظرًا لمعناه، وهي الأرض إذ هي مؤنثة إن أرضي واسعة، "عمن خرج عن الطاعة نسأل الله التوفيق" وأتى بهذا تأكيدًا لاستحقاق المؤمنين نعيم الجنة بمقتضى الوعد وتنبيهًا على استحقاقهم لذلك مشروط ببقائهم على الطاعة وامتثال الأوامر واجتناب النواهي، وأنهم إذا خالفوا ذلك استحقوا العذاب بمقتضى الوعيد، وقرب ذلك بما هو مشاهد من معاملة السلطان لرعاياه فيما لو أنعم على بعضهم بسبب نصحه في الخدمة، فإنه إذا خرج عنها عاقبه ومنعه ما أولاه من أرض ونحوها.
"وقد اختلف في الجنة" بالفتح واحدة الجنات، قال القرطبي: وهي البساتين سميت جنات؛ لأنها تجن من فيها، أي: يستره شجرها، ومنه المجن والجنين والجنة،"التي سكنها(1/116)
آدم.
فقيل: هي جنة الخلد.
وقيل: غيرها، جعلها الله دار ابتلاء، لأن جنة الخلد إنما يدخل إليها يوم القيامة، ولأنها دار ثواب وجزاء لا دار تكليف وأمر ونهي، ودار سلامة لا دار ابتلاء وامتحان، ودار قرار لا دار انتقال.
واحتج القائلون بأنها جنة الخلد...............................
__________
آدم" حين قيل له: {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} [البقرة: 35] ، "فقيل: هي جنة الخلد" وهو قول جمهور الأشاعرة، بل حكى ابن بطال عن بعض المشايخ إجمال أهل السنة عليه؛ لأن اللام للعهد ولا معهود غيرها، ولقوله تعالى: {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى، وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى} ، وذلك صفة جنة الخلد؛ ولقوله: اهبطوا منها، والهبوط يكون من علو إلى سفل ولا يستقيم ذلك في بستان مخلوق على الأرض، ولأن موسى لما لقى آدم عليهما السلام وقال له: أنت أتعبت ذريتك وأخرجتهم من الجنة لم ينكر ذلك آدم، وإنما قال: أتلومني على أمر قدره الله علي قبل أن أخلق. الحديث الصحيح، ولو كانت غيرها لرد على موسى. "وقيل" هي "غيرها" حكاه منذر بن سعيد زاعمًا كثرة الأدلة عليه، وحكاه الماوردي والرازي وابن عقيل والقرطبي والرماني وغيرهم، واختلف القائلون به، فقال أبو القاسم البلخي وأبو مسلم الأصبهاني، وحكاه الثعلبي عن القدرية هي بستان بالأرض، أي: بأرض عدن؛ كما في القرطبي، أو بأرض فلسطين، أو بين فارس وكرمان؛ كما في البيضاوي. قال الرازي وابن عقيل: ويحمل هؤلاء الهبوط على الانتقال من بقعة إلى بقعة، كما في: اهبطوا مصرا، وقيل: هي جنة أخرى كانت فوق السماء السابعة، وهو قول أبي هاشم، ورواية عن الجبائي. قال ابن عقيل: وهي دعوى بلا دليل فلم يثبت أن في السماء غير بساتين جنة الخلد. ا. هـ.
"جعلها الله دار ابتلاء" لآدم وواء؛ "لأن جنة الخلد إنما يدخل إليها يوم القيامة" وهذه قد دخلت قبله، "ولأنها دار ثواب وجزاء لا دار تكليف وأمر ونهي" فلو كانت هي ما وجدوا فيها، "ودار سلامة" من الآفات وكل خوف وحزن، "لا دار ابتلاء وامتحان" وقد وجدا فيها "ودار قرار" لقوله تعالى: {وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ} [الحجر: 48] ، "لا دار انتقال" وقد انتقلوا منها، فدل ذلك كله على أنها غيرها. "واحتج القائلون بأنها جنة الخلد" قيل: هي واحدة لها أسماء، وقيل: سبع، ورجح جماعة أنها أربع؛ لما في سورة الرحمن وتحتها أفراد كثيرة لحديث الصحيح: "إنها جنان كثيرة" وعليهما فإطلاق المصنف مجاز من تسمية الكل باسم الجزء، أي:(1/117)
بأن الدخول العارض قد يقع قبل يوم القيامة، وقد دخلها نبينا صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء، وبأن ما ذكره من أن الجنة لا يوجد فيها ما وجده آدم من الحزن والنصب فإنما هو إذا دخلها المؤمنون يوم القيامة، كما يدل عليه سياق الآيات كلها، فإن نفي ذلك مقرون بدخول المؤمنين إياها، والله أعلم.
وروي أنه لما خرج آدم من الجنة رأى مكتوبًا على ساق العرش وعلى كل موضع في الجنة............
__________
أجابوا عن تلك الشبه التي احتج بها القائلون بأنها غيرها، وإلا فلم يظهر مما ذكره المصنف دليل على أنها جنة الخلد، فأجابوا عن الشبهة الأولى: "بأن الدخول العارض قد يقع قبل يوم القيامة و" دليل ذلك أنه "قد دخلها نبيًا صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء" ثم خرج منها، وأخبر بما فيها وأنها جنة الخلد حقًا، "وبأن ما ذكره" القائلون بأنها غيرها، "من أن الجنة لا يوجد فيها ما وجده آدم من الحزن" بنحو تساقط اللباس "والنصب" التعب، بنحو طلب ورق الجنة يستر به سوأته، "فإنما" الأولى حذف الفاء لأنه خبر أن، أو هي تعليلية لمحذوف، أي: ما ذكروه من كذا لا يصح، فإنما "هو إذا دخلها المؤمنون يوم القيامة؛ كما يدل عليه سياق الآيات كلها، فإن نفي ذلك مقرون بدخول المؤمنين إياها" يوم القيامة، وسكت عن جواب الأخير لعلمه من هذا وهو أن كونها دار قرار، إنما هو يوم القيامة، "والله أعلم. ا. هـ".
وظاهر المصنف بل صريحة تساوي القولين وليس كذلك، فقد قال القرطبي: هي جنة الخلد، ولا التفات إلى ما ذهب إليه المعتزلة والقدرية من أنه لم يكن فيها وإنما كان في جنة بعدن، وذكر أدلتهم وردها بما يطول, ورجح أبو القاسم الرماني في تفسيره أنها جنة الخلد أيضًا، وقال: هو قول الحسن وعمر ووصل، وعليه أهل التفسير.
"وروي أنه لما خرج آدم من الجنة" أي: لما أراد الخروج لما في الخميس إن الله لما قال له: اخرج لا يجاورني من عصاني رفع آدم طرفه إلى العرش فإذا هو مكتوب عليه: لا إله إلا الله محمد رسول الله، فقال: يا رب بحق محمد اغفر لي، فقال: قد غفرت لك بحقه، ولكن لا يجاورني من عصاني، ويأتي للمصنف في المقصد الثاني ما يصرح بأن آدم رأى كتابة اسمه على العرش قبل تمام خلقه، ومر الخلاف في قدر مكثه في الجنة.
"رأى مكتوبًا على ساق العرش" وكانت الكتابة قبل خلق السماوات والأرض بألفي سنة، كما روي عن أنس. "وعلى كل موضع في الجنة" من قصر وغرفة ونحور حور عين، وورق شجرة طوبى وورق سدرة المنتهى وأطراف الحجب وبين أعين الملائكة، رواه ابن عساكر عن(1/118)
اسم محمد صلى الله عليه وسلم مقرونًا باسم الله تعالى، فقال يا رب هذا محمد من هو؟ فقال تعالى: هذا ولدك الذي لولاه ما خلقتك. فقال: يا رب بحرمة هذا الولد ارحم هذا الوالد، فنودي: يا آدم، لو تشفعت إلينا بمحمد في أهل السماوات والأرض لشفعناك.
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لما اقترف آدم الخطيئة قال: يا رب، أسألك بحق محمد لما غفرت لي، فقال الله: يا آدم، وكيف عرفت محمدًا ولم أخلقه؟ قال: يا رب لأنك لما خلقتني بيدك، ونفخت في من روحك، رفعت رأسي فرأيت علي قوائم العرش مكتوبًا: لا إله إلا الله محمد رسول الله، فعلمت أنك لم تضف إلى اسمك إلا أحب الخلق إليك
__________
كعب الأحبار نقله المصنف في المقصد الثاني.
"اسم محمد" إضافة بيانية فلا يرد أن لفظ محمد، وضع له اسم دال عليه، فالمرئي ذلك الاسم لا لفظ محمد صلى الله عليه وسلم حال كونه "مقرونًا باسم الله تعالى" وهو لا إله إلا الله محمد رسول الله، "فقال" آدم: "يا رب، هذا" الاسم الذي هو "محمد من هو؟ " من الذات المسماة به، "فقال الله تعالى: هذا ولدك والذي لولاه ما خلقتك، فقال" آدم: "يا رب، بحرمة هذا الولد، ارحم هذا الوالد، فنودي" على لسان ملك أمره الله بالنداء، "يا آدم" قد قبلنا دعاءك و"لو تشفعت إلينا بمحمد في أهل السماوات والأرض لشفعناك" قبلنا شفاعتك "وعن عمر بن الخطاب" القرشي العدوي أمير المؤمنين ثاني الخلفاء ضجيع المصطفى مناقبه شهيرة كثيرة "رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لما اقترف" بقاف وآخره فاء أتى وفعل "آدم الخطيئة، قال: يا رب أسألك بحق محمد إلا ما غفرت لي" وفي نسخة لما بفتح اللام وشد الميم بمعنى إلا الاستثنائية؛ كقوله تعالى: {لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ} [الطارق: 4] ، في قراءة شد الميم، "فقال الله تعالى: يا آدم وكيف عرفت محمدًا ولم أخلقه" أي: جسده فلا ينافي أنه خلق نوره قبل جميع الكائنات، وفيه إظهار فضيلة آدم حيث تنبه وسأل عن صاحب الاس بعد رؤيته مكتوبًا، "قال: يا رب لأنك لما خلقتني بيدك" أي: من غير واسطة كأم وأب، "ونفخت" أجريت "في من روحك" فصيرتني حيًا، وإضافة الروح إلى الله تشريف لآدم.
"رفعت رأسي فرأيت على قوائم العرش مكتوبًا لا إله إلا الله محمد رسول الله، فعلمت أنك لم تضف إلى اسمك إلا أحب الخلق إليك" وهذا من وفور عقل آدم وبديع استنباطه،(1/119)
فقال الله تعالى: صدقت يا آدم، إنه لأحب الخلق إليّ، وإذا سألتني بحقه قد غفرت لك، ولولا محمد ما خلقتك" رواه البيهقي من دلائله من حديث عبد الرحمن بن زيد بن أسلم وقال تفرد به عبد الرحمن ورواه الحاكم وصححه، وذكره الطبراني وزاد فيه: وهو آخر الأنبياء من ذريتك.
وفي حديث سلمان عند ابن عساكر قال: هبط جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن ربك يقول: إن كنت اتخذت إبراهيم خليلا، فقد اتخذتك حبيبًا........
__________
"فقال الله تعالى: صدقت يا آدم إنه لأحب الخلق إليّ، وإذا سألتني" تعليلية، أي: ولسؤالك إياي "بحقه قد غفرت لك ولولا محمد ما خلقتك، رواه البيهقي" ونقلته "من دلائله"، أي: كتابه دلائل النبوة الذي قال فيه الحافظ الذهبي: عليك به فإنه كله هدى ونور، "من حديث عبد الرحمن بن زيد بن أسلم" المدني عن أبيه وابن المنكدر، وعنه أصبغ وقتيبة وهشام ضعفوه له تفسير توفي سنة اثنتين وثمانين ومائة. "وقال" البيهقي: "تفرد به عبد الرحمن" أي: لم يتابعه عليه غيره فهو غريب مع ضعف روايه، "ورواه الحاكم وصححه وذكره" أي: رواه "الطبراني" الإمام أبو القاسم سليمان بن أحمد بن أيوب اللخمي الشامي مسند الدنيا الحافظ المكثر صاحب التصانيف الكثيرة أخذ عن أكثر من ألف شيخ؛ كأبي زرعة الرازي وطبقته، وعنه أبو نعيم وغيره.
قال الذهبي: ثقة صدوق واسع الحفظ بصير بالعلل والرجال والأبواب إليه المنتهى في الحديث وعلومه، مات بمصر سنة ستين وثلاثمائة عن مائة سنة وعشرة أشهر. "وزاد فيه" أي: في آخره "وهو آخر الأنبياء من ذريتك. وفي حديث سلمان" الفارسي الذي تشتاق له الجنة شهد الخندق وما بعدها، وعاش دهرًا طويلا حتى قيل: إنه أدرك حواري عيسى، ويأتي إن شاء الله تحقيق ذلك في خدمه صلى الله عليه وسلم.
"عند ابن عساكر" الحافظ أبي القاسم علي بن الحسين بن هبة الله الدمشقي الشافعي صاحب تاريخ دمشق وغيره من المصنفات الثقة الثبت الحجة المتقن غزير العلم كثير الفضل دين خير، ولد سنة تسع وتسعين وأربعمائة ورحل إلى بغداد وغيرها وسمع من نحو ألف وثلاثمائة شيخ ونيف، وثمانين امرأة، وروى عنه من لا يحصى ثناء الناس عليه كثير مات سنة إحدى وسبعين وخمسمائة "قال: هبط جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم" أرسله سلمان فيحمل على أنه حمله على المصطفى أو عمن سمعه منه.
"فقال" له: "إن ربك يقول" لك "إن كنت اتخذت إبراهيم خليلا" كما علمته تحقيقًا، "فـ" علم وتحقق إني "قد اتخذت حبيبًا" فأبشر وطب نفسًا، فإني بصورة الشك تطمينًا له أو(1/120)
وما خلقت خلقًا أكرم علي منك، ولقد خلقت الدنيا وأهلها لأعرفهم كرامتك ومنزلتك عندي، ولولاك ما خلقت الدنيا وما أحسن قول سيدي علي وفى في قصيدته الدالية التي أولها:
سكن الفؤاد فعش هنيئًا يا جسد ... هذا النعيم هو المقيم إلى الأبد
روح الوجود حياة من هو واجد ... لولاه ما تم الوجود لمن وجد
عيسى وآدم والصدور جميعهم ... ............................
__________
إن بمعنى إذ، فلا يرد أن استعمال إن إنما هو في المشكوك فيه، ولا شك هنا.
"وما خلقت خلقًا أكرم علي منك، ولقد خلقت الدنيا وأهلها لأعرفهم كرامتك ومنزلتك عندي، ولولاك ما خلقت الدنيا وما أحسن قول" وفي نسخة: ولله در، "سيدي علي وفي" الشاذلي العارف الكبير أبي الحسن ابن العارف الكبير، ولد بالقاهرة سنة تسع وخمسين وسبعمائة، وكان يقظًا حاد الذهن، ومالكي المذهب وله نظم كثير، وكان أبوه معجبًا به، وأذن له في الكلام على الناس وهو دون العشرين، مات في ذي الحجة سنة سبع وثمانمائة، كذا ترجمه الحافظ ابن حجر، وتبعه السخاوي والسيوطي، ولا يشكل بأن أباه مات وهو ابن سنة، وقيل: ابن ست سنين، كما ادعى النجم ابن فهد؛ لجواز أن أباه أذن له حال الطفولية في ذلك إذا بلغ هذا السن لما اطل عليه فيه من الأسرار الربانية "في قصيدته الدالية" نسبة إلى الدال؛ لوقوعها آخر كل بيت، كما هو اصطلاح العروضين "التي أولها":
"سكن الفؤاد فعش هنيئًا يا جسد ... هذا النعيم هو المقيم إلى الأبد"
وبعد هذا البيت:
أصبحت في كنف الحبيب ومن يكن ... جار الكريم فعيشه العيش الرغد
عش في أمان الله تحت لوائه ... لا خوف في هذا الجناب ولا نكد
لا تختشي فقرًا وعندك بيت من ... كل المنى لك من أياديه مدد
رب الجمال ومرسل الجدوى ومن ... هو في المحاسن كلها فرد أحد
قطب النهى غوث العالم كلها ... أعلى على سار أحمد من حمد
ومقول قوله: ما أحسن قول هو قوله: "روح الوجود حياة من هو واجد" بالجيم، أي: هو صلى الله عليه وسلم سبب لحياة من وجدهم من الخلق، أي: علمهم موجودين منهم؛ لأنه "لولاه ما تم الوجود لمن وجد" فهو كالعلة لما قبله "عيسى وآدم" خصهما؛ لأن عيسى آخر الرسل قبله وآدم أولهم "والصدور جميعهم" أي: العظماء الذين يصدرون ويعظمون في المجالس من صدره في(1/121)
....................... ... هم أعين هو نورها لما ورد
لو أبصر الشيطان طلعة نوره ... في وجه آدم كان أول من سجد
أو لو رأى النمرود نور جماله ... عبد الجليل مع الخليل ولا عند
لكن جمال الله جل فلا يرى ... إلا بتخصيص من الله الصمد
ولما خلق الله تعالى حواء لتسكن إلى آدم ويسكن إليها، فحين وصل إليها فاضت بركاته عليها، فولدت له في تلك الأعوام الحسناء...........................
__________
المجلس فتصدر "هم أعين" و"هو" صلى الله عليه وسلم "نورها، لما ورد" أتى "لو أبصر الشيطان" نظر بعين البصيرة، لما روي عن ابن عباس أنه لما نفخ في آدم الروح صار نور محمد صلى الله عليه وسلم يلمع من جبهته؛ كالشمس المشرقة، ويحتمل الحقيقة بأن يكون حجب الله بصره مع شدة ظهوره عن أن يرى "طلعة نوره، في وجه آدم كان أول من سجد" له، لكنه لم يبصر ذلك لخذلان الله عز وجل له، "أو لو رأى النمرود" بضم النون آخره دال مهملة، كما في القاموس وبالمعجمة نقله ثعلب عن أهل البصرة وهو الموافق للضابط الذي نظمه الفارابي فرقًا بينهما في لغة الفرس، حيث قال:
احفظ الفرق بين دال وذال ... فهو ركن في الفارسية معظم
كل ما قبله سكون بلا وا ... ي فدال وما سواه فمعجم
واختصره القائل:
إن تلت الدال صحيحًا ساكنًا ... أهملها الفرس وإلا أعجموا
"نور جماله" في وجه إبراهيم عليهما السلام، "عبد الجليل" بالجيم "مع الخليل" إبراهيم "ولا عند" بفتح العين والنون، أي: خالف ورد الحق مع معرفته به. وأما عند الطريق بمعنى عدل عنها فمثلث النون، كما في الراموز. "لكن جمال الله" كماله ونوره الحامل على الطاعة، "جل" عن الأبصار والبصائر "فلا يرى" بالبصائر "إلا بتخصيص" بإعطاء "من الله الصمد" لمن شاء فلذا لم يره إبليس، وبقي من القصيدة ثلاثة أبيات:
فأبشر بمن سكن الجوانح منك يا ... أنا قد ملأت من المنى عينا وبد
عين الوفا معنى الصفا سر الندى ... نور الهدى روح النهى جسد الرشد
هو للصلاة من السلام المرتضى ... الجامع المخصوص ما دام الأبد
"ولما خلق الله تعالى حواء لتسكن إلى آدم ويسكن إليها، فحين وصل" وفي نسخة صار "إليها" أي: واقعًا وكان ذلك بعد هبوطهما بمائة سنة، وقيل: مائة وعشرين حكاهما الخميس، "فاضت بركاته عليها فولدت له في تلك الأعوام الحسناء" قد بينا لك عدة الأعوام فإنه عاش ألف سنة، فأسقط منها مقدار مكثه في الجنة الذي تقدم الخلاف فيه، وهذه المائة أو(1/122)
أربعين ولدا في عشرين بطنًا، ووضعت شيثا وحده، كرامة لمن أطلع الله بالنبوة سعده.
ولما توفي آدم..................................
__________
وعشرين بعد الهبوط تعرف عدة هذه الأعوام.
"أربعين ولدًا في عشرين بطنًا" كما اقتصر عليه البغوي، قائلا: وكان أولهم قابيل وتوأمته إقليميا، ونقل ابن إسحاق عن بعض أهل الكتاب أنهما ولدا في الجنة وآخرهم عبد المغيث وتوأمته أمة الغيث. ا. هـ. وفي النسفي: أولهم الحارث "ووضعت شيثا" بكسر المعجمة فتحتية ساكنة فمثلثة مصروف، وفي سيرة مغلطاي ويقال: شاث، ومعناه هبة الله، ويقال: عطية الله، وقال السهيلي: وهو بالسريانية: شاث، وبالعبرانية: شيث، وقال ابن كثير وغيره: سماه هبة الله؛ لأنهما رزقاه بعد قتل هابيل بخمس سنين ووضعته على شكل هابين لا يغادر منه شيئًا، وقيل: ولد بعده بأربعين سنة، وقيل غير ذلك هذا ووقع في الشامية يقال: شاث، بإمالة الشين ورده شيخنا: بأن الشين مكسورة فلا تمال، وقيل: لا يصرف بناء على أن الثلاثي الأعجمي الساكن الوسط يجوز صرفه وعدمه، قال في الهمع وهو فساد إذ لم يحفظ. "وحده" ولا أخت معه على المشهور، وقيل: كان معه أخته؛ كما في الخميس.
وفي بحر النسفي: أول ولد آدم الحارث ولا أخت معه، ثم قابيل وأخته، ثم هابيل وأخته، ثم أسوت وأخته، ثم شيث وحده، ثم أثنى بعده في بطن فزوجها منه، ثم كذا وكذا إلى تمام الأربعين بطنًا عند ابن إسحاق. وقال وهب بن منبه: مائة وعشرين بطنًا، وقيل: خمسمائة بطن لتمام ألف ولد. ا. هـ.
"كرامة لمن أطلع الله بالنبوة سعده" وهو المصطفى فكان في وجه شيث نور نبينا صلى الله عليه وسلم وجاءت الملائكة مبشرة لآدم به، "ولما توفي آدم" عليه الصلاة والسلام وسنه ألف سنة؛ كما في حديث أبي هريرة وابن عباس مرفوعًا، وقيل: إلا سبعين، وقيل: إلا ستين، وقيل: إلا أربعين بمكة يوم الجمعة، وصلى عليه جبريل، واقتدى به الملائكة وبنو آدم. وفي رواية صلى عليه شيث بأمر جبريل ودفن بمكة في قبر بغار أبي قبيس، ذكرهما الثعلبي وغيره. وعن ابن عباس: لما فرغ آدم من الحج رجع إلى الهند، فمات.
وعن ثابت البناني حفروا لآدم ودفنوه بسرنديب في الموضع الذي أهبط فيه وصححه الحافظ ابن كثير، وقيل: دفن بين بيت المقدس ومسجد إبراهيم، رأسه عند الصخرة ورجلاه عند مسجد الخليل، وقيل: دفن عند مسجد الخيف.
وقال ابن إسحاق وغيره: دفنته الملائكة وشيث وأخوته في مشارق الفردوس عند قرية هي(1/123)
كان شيث -عليه الصلاة والسلام- وصيًا لآدم على ولده، ثم أوصى شيث ولده بوصية آدم: أن لا يضع هذا النور إلا في المطهرات من النساء، ولم تزل هذه الوصية جارية، تنتقل من قرن إلى قرن.......................
__________
أول قرية كانت في الأرض وكسفت الشمس والقمر عليه أسبوعًا وعاشت حواء بعده سنة, وقيل: ثلاثة أيام ودفنت بجنبه. "كان شيث عليه الصلاة والسلام وصيًا لآدم على ولده" أي: أولاده ومر أن يكون واحدًا وجمعًا، وأطاعه أولاد أبيه، وروي عن ابن عباس: لم يمت آدم حتى بلغ أولاده وأحفاده أربعين ألفًا الصلبية منهم أربعون.
وفي مسند الفردوس عن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن آدم عليه الصلاة والسلام قام خطيبًا في أربعين ألفًا من ولده وولد ولده، وقال: إن ربي عهد إلي، فقال: يا آدم أقلل كلامك ترجع إلى جواري، وكان شيث أجمل أولاده وأشبههم به وأحبهم إليه وأفضلهم، وعلمه الله الساعات والعبادة في كل ساعة منها، وأنزل عليه خمسين صحيفة، وزوجه الله أخته التي ولدت بعده وكانت جميلة كأمها حواء، وخطب جبريل وشهدت الملائكة، وكان آدم وليها ورزقه الله أولادًا في حياة أبيه وعمر تسعمائة واثنتي عشرة سنة، وقيل: عشرين ومات لمضي ألف واثنتين وأربعين سنة من هبوط آدم، ودفن في غار أبي قيس"، "ثم" بعد ما أوحى الله إلى شيث أن اتخذ ابنك أنوش صفيًا وصيًا علم أنه نعيت إليه نفسه، "أوصى شيث" واستخلف "ولده" هو أنوش بفتح الهمزة فنون مضمومة آخره شين معجمة، ويقال: يانش بتحتية فنون مفتوحة فمعجمة، وقيل: أنش.
قال السهيلي: ومعنى أنوش الصادق وهو بالعربية أنش. وقال مغلطاي: يانش ومعناه الصادق، ذكره النور وانتقلت إليه رئاسة الخلق بعد أبيه وقام مقامه، وكان على طوله وبياضه وجماله وعاش تسعمائة وخمسين أو عشرين أو خمسًا وستين سنة.
"بوصية آدم" وهي "أن لا يضع هذا النور" الذي كان في وجه آدم كالشمس "إلا في المطهرات من النساء، ولم تزل هذه الوصية جارية تنتقل من قرن إلى قرن" أي: من طائفة إلى أخرى، فإن النور إذا كان في شيث مثلا كان موجودًا في مجموع من عاصره، فإذا مات وانتقل لولده انتقل النور من مجموع تلك الطائفة إلى مجموع طائفة ابنه وهكذا، أو المراد من واحد إلى واحد وسماه قرنًا تجوزًا، قال الحافظ: والقرن أهل زمان واحد متقارب اشتركوا في أمر من الأمور المقصودة، ويقال: ذلك مخصوص بما إذا اجتمعوا في زمن نبي أو رئيس يجمعهم على ملة أو مذهب أو عمل، قال: ويطلق القرن على مدة من الزمان اختلف في تحديدها من عشرة أعوام إلى مائة وعشرين، لكن لم أر من صرح بالتسعين ولا بمائة وعشرة وما عدا ذلك فقد قال به(1/124)
إلى أن أدى الله النور إلى عبد المطلب وولده عبد الله، فطهر الله تعالى هذا النسب الشريف من سفاح الجاهلية، كما ورد عنه صلى الله عليه وسلم في الأحاديث المرضية.
قال ابن عباس -فيما رواه البيهقي في سننه- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما ولدني من سفاح الجاهلية شيء، ما ولدني
__________
قائل. وفي حديث عبد الله بن بسر عند مسلم ما يدل على أن القرن مائة وهو المشهور، وفي المحكم: هو القدر المتوسط من أعمال أهل كل زمن وهذا أعدل الأقوال، وبه صرح ابن الأعرابي، وقال: إنه مأخوذ من الأقران، ويمكن حمل المختلف عليه من الأقوال ممن قال: القرن أربعون فصاعدًا. أما من قال: إنه دون ذلك، فلا يلتئم على هذا القول. ا. هـ.
"إلى أن أدى" أوصل "الله النور إلى عبد المطلب وولده عبد الله" أي: ثم وعبر بالواو لظهوره إذ الاشتراك في وقت واحد لم يقع، أي: ثم أسعد الله آمنة بذلك النور ولم يوص عبد المطلب ولده بذلك لتعاطيه تزويجه من آمنة مع علمه بمكانها من النسب، وإن نكاحه لها لا أثر فيه من الجاهلية فكفاه ذلك عن الوصية هذا، وزعم أن هذا ظاهر فيمن ظهر فيه النور، أما من لم يظهر فيه فمن أين وصلت إليه الوصية؟ فيه نظر، ففي الخميس كغيره: وذلك النور كان ينتقل من جبهة إلى جبهة، وكان يؤخذ في كل مرتبة عهد وميثاق، أنه لا يوضع إلا في المطهرات، فأول من أخذه آدم من شيث وهو من ابنه وهكذا. ا. هـ. فلو لم يظهر في الجميع لما قالوا: كان ينتقل من جبهة إلى جبهة، ويفرض تسليمه فقد أجاب عنه شيخنا: بأن ذلك إما بعلم ضروري أودعه الله في الموصي أو بأن عدم ظهوره فيمن كان من أصوله ليس نفيًا للنور من أصله بل يجوز تفاوته فيهم في ذاته، فمنهم من يظهر فيه تامًا بحيث يدركه من رآه بلا مزيد تأمل، ومنهم من يوجد فيه أصل النور فلا يدرك إلا بمزيد تأمل. "فطهر الله تعالى هذا النسب الشريف من سفاح الجاهلية" هي ما قبل البعثة سموا بذلك لكثرة جهالاتهم، ويقال: هي ما قبل الفتح وهو الظاهر، فقد خطب صلى الله عليه وسلم بهدم أمر الجاهلية، وما كانت عليه في الفتح. وقد قال ابن عباس: سمعت أبي يقول في الجاهلية: اسقنا كأسًا دهاقًا، وابن عباس ولد في الشعب بعد المبعث، قاله في النور.
"كما ورد عنه صلى الله عليه وسلم في الأحاديث المرضية" عند العلماء وهي الصحيحة والحسنة، كالضعيفة المعتضدة، وفيه إشعار بوجه اقتصاره على ما ذكر من الأحاديث والإعراض عن غيرها مع كثرته، فكأنه قال: اقتصرت عليها لثبوتها على غيرها.
"قال ابن عباس فيما رواه البيهقي في سننه" قال السبكي: لم يصنف أحد مثله تهذيبًا وجوده، "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما ولدني" " أي: مسني، "من سفاح الجاهلية، شيء ما ولدني(1/125)
إلا نكاح الإسلام".
والسفاح -بكسر السين المهملة- الزنا، والمراد به هنا: أن المرأة تسافح رجلا مدة، ثم يتزوجها بعد ذلك.
وروى ابن سعد وابن عساكر، عن هشام بن محمد بن السائب الكلبي، عن أبيه محمد قال: كتبت للنبي صلى الله عليه وسلم خمسمائة أم........................
__________
إلا نكاح الإسلام" أي: نكاح كنكاحه في كونه بعقد صحيح يبيح الوطء، وإن لم يجمع شرائط الإسلام الآن فلا يرد أن نكاح الأخت كما وقع لشيث ليس من نكاح الإسلام الآن إذ المقصود نفي الفجور، فشمل الزواج وغيره، ودخل فيه أم إسماعيل، فإنها كانت ملكًا لإبراهيم بإتفاق المؤرخين وهبتها لها سارة، "والسفاح، بكسر السين المهملة" والفاء فألف فحاء مهملة، "الزنا" من سفحت الماء إذا صببته، فكأنه أراق ماءه وأضاعه وسواء كان جهرًا أو سرًا، كما هو ظاهر إطلاقه؛ كالقاموس والنور والمصباح. وفي الأنوار تفسيره بالمجاهرات.
"والمراد به هنا" في الحديث: "أن المرأة تسافح رجلا مدة، ثم" إذا أعجبته وأعجبها "يتزوجها بعد ذلك" والأولى كما قال شيخنا: أن يراد به ما هو أعم من الزنا، فإن جملة الأحاديث دلت على نفي جميع نكاح الجاهلية عن نسبه من نكاح زوجة الأب لأكبر بنيه، والجمع بين الأختين، ونكاح البغايا وهو أن يطأ البغي جماعة متفرقون فإذا ولدت ألحق بمن غلب عليه شبهه منهم. ونكاح الاستبضاع وهو أن المرأة إذا طهرت من الحيض قال لها زوجها: أرسلي لفلان استبضعي منه ويعتزلها زوجها حتى يبين حملها منه، فإن بان أصابها زوجها إن أحب. ومن نكاح الجمع وهو أن يجتمع رجال دون عشرة ويدخلوا على بغي ذات راية كلهم يطؤها، فإذا وضعت ومر لها ليال بعده أرسلت لهم فلا يتخلف رجل منهم، فتقول: قد عرفتم الذي كان من أمركم، وقد ولدت فهو ابنك يا فلان تسمي من أحبت فيلحق به لا يستطيع نفيه وإن لم يشبهه. ا. هـ. ملخصًا.
"وروى ابن سعد وابن عساكر، عن هشام بن محمد بن السائب الكلبي" أبي المنذر المتوفى سنة أربع وثمانين ومائة؛ كما قال المسعودي. قال الدارقطني: هشام رافضي ليس بثقة، وذكره ابن حبان في الثقات. "عن أبيه محمد" بن السائب بن بشر الكلبي، أبي النضر الكوفي المفسر النسابة الأخباري، روى عن الشعبي وعنه ابنه وأبو معاوية متروك متهم بالكذب، مات سنة ست وأربعين ومائة، "قال: كتبت للنبي صلى الله عليه وسلم خمسمائة أم" استشكل بأن أمهاته لا تبلغ هذا العدد، فقال الشامي: يريد الجدات وجدات الجدات من قبل أبيه وأمه. ا. هـ. وفي نسيم الرياض ما محصله: إذا تأملت قولهم لم يكن قبيلة من العرب إلا ولها على رسول الله صلى الله عليه وسلم ولادة أو قرابة(1/126)
فما وجدت فيهن سفاحًا ولا شيئًا مما كان في أمر الجاهلية.
وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خرجت من نكاح، ولم أخرج من سفاح من لدن آدم إلى أن ولدني أبي وأمي، لم يصبني من نكاح أهل الجاهلية شيء". رواه الطبراني في الأوسط, وأبو نعيم وابن عساكر.
وروى أبو نعيم، عن ابن عباس، مرفوعًا: "لم يلتق أبواي قط على سفاح، لم يزل الله ينقلني من الأصلاب الطيبة إلى الأرحام الطاهرة، مصفى مهذبًا، لا تتشعب شعبتان
__________
عرفت المراد، فإنك إذا نظرت لقبيلة، فجميع ذكورهم آباء له، وجميع نسائهم جدات أو عمات أو خالات، فعمد قرابتهم ولادة له، والمراد أن نسبه بحواشيه وأطرافه جميل لم يمسه دنس.
"فما وجدت فيهن سفاحًا" زنا، "ولا شيئًا مما كان في أمر الجاهلية" عطف خاص على عام لا عكسه، كما زعم فإنهم كانت لهم أنكحه لا يعونها سفاحًا فحرمها الشارع؛ كنكاح المصافحة ونكاح المقت هو نكاح زوجة الأب، وانتقد بأن النضر خلف على زوج أبيه ورد بأن هذا على تسليمه لم يكن محرمًا في شرع من قبلنا، كما سيأتي إيضاحه في النسب الشريف.
"و" ورد "عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خرجت من نكاح ولم أخرج من سفاح" " وذلك "من لدن آدم" أي: من عند أول وَلَد وُلِد له هو في أصوله عليه السلام، واستمر ذلك ممتدًا "إلى أن ولدني أبي وأمي" فهو متعلق بمحذوف، "لم يصبني من نكاح أهل الجاهلية" أي: ما كانوا عليه من زنا وغيره "شيء"، رواه الطبراني.
قال الهيثمي الحافظ: بسند رجاله ثقات إلا محمد بن جعفر تكلم فيه وصحح له الحاكم "في" معجمه "الأوسط" الذي ألفه في غرائب شيوخه، يقل: ضمنه ثلاثين ألف حديث، وفي تاريخ ابن عساكر وغيره: أن الطبراني كان يقول: هذا الكتاب روحي؛ لأنه تعب عليه. "وابن عساكر" وكذا ابن عدي. "وروى أبو نعيم" أحمد بن عبد الله الحافظ "عن ابن عباس مرفوعًا" له صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لم يلتق أبواي قط على سفاح" " أي: أحد من آبائي مع واحدة من أمهاتي، لا خصوص أبيه وأمه الدال عليهما لفظ التثنية، بدليل أنه رتب على ذلك قوله: "لم يزل الله ينقلني من الأصلاب الطيبة إلى الأرحام الطاهرة" حال كونه "مصفى مهذبًا" صفة لازمة لتقارب التصفية والتهذيب.
ففي القاموس: هذبه يهذبه هذبًا، قطعه ونقاه وأصلحه وأخلصه؛ كهذبه والهذب محركة الصفاء والخلوص. وفي نسخة: مصطفى مهذبًا بزيادة طاء من الاصطفاء، "لا تتشعب شعبتان"،(1/127)
إلا كنت في خيرهما".
وعنه، في قوله تعالى: {وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} [الشعراء: 129] . من نبي إلى نبي حتى أخرجتك نبيًا. رواه البزار.
وعنه أيضًا في الآية قال: ما زال النبي صلى الله عليه وسلم يتقلب في أصلاب الأنبياء حتى ولدته أمه. رواه أبو نعيم.
وعن جعفر بن محمد عن أبيه، في قوله تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} [التوبة: 128] قال: لم يصبه شيء من ولادة الجاهلية، قال: وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "خرجت من نكاح غير سفاح".
وعن أنس قال: قرأ النبي صلى الله عليه وسلم: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} -بفتح الفاء- وقال: "أنا أنفسكم نسبًا وصهرًا".
__________
أي: لا تتفرع، أي: لا يولد من أصل طائفتان، "إلا كنت في خيرهما" ورد "عنه" أي: عن ابن عباس "في" تفسير "قوله تعالى: {وَتَقَلُّبَكَ} تفعل، أي: انتقالك {فِي السَّاجِدِينَ} [الشعراء: 129] أن المراد بهم "من" صلب "نبي إلى نبي" ولو مع الوسائط وفعلت ذلك معك، "حتى أخرجتك نبيًا" فلا يرد أن المطابق للآية حتى أخرجك، وهذا أحد تفاسير في الآية يأتي الكلام عليها إن شاء الله تعالى في ذكر الأبوين حيث تعرض المصنف لذلك.
"رواه البزار" الحافظ العلامة الشهير أبو بكر أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البصري، صاحب المسند الكبير المعلل، مات بالرملة سنة اثنتين وتسعين ومائتين، وكذا رواه ابن سعد وأبو نعيم في الدلائل بسند صحيح، والطبراني ورجاله ثقات. "و" ورد "عنه" أي: عن اب عباس "أيضًا في" تفسير "الآية، قال: ما زال النبي صلى الله عليه وسلم يتقلب" ينتقل "في أصلاب الأنبياء حتى" إلى أن "ولدته أمه" آمنة "رواه أبو نعيم," ورد "عن جعفر" الصادق "بن محمد عن أبيه" محمد الباقر "في" تفسير قوله تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} [التوبة: 128] ، "قال: لم يصبه شيء من ولادة الجاهلية، قال" محمد "وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "خرجت من نكاح غير سفاح" " وهذا مرسل؛ لأن محمدًا تابعي.
"و" ورد "عن أنس" بن مالك بن النضر الأنصاري الخزرجي الصحابي الشهير خادم المصطفى مات سنة اثنتين، وقيل: ثلاث وتسعين، "قال: قرأ النبي صلى الله عليه وسلم" قوله تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} [التوبة: 128] ، بفتح الفاء، وقال: "أنا أنفسكم نسبًا" " مصدر مطلق الوصلة بالقرابة، "وصهرًا" أي من جهة الآباء والأمهات قال ابن السكيت: كل من كان من قبل(1/128)
وحسبا -بفتحتين- ليس في آبائي من لدن آدم سفاح، كلنا نكاح". رواه ابن مردويه.
وفي الدلائل لأبي نعيم، عن عائشة عنه صلى الله عليه وسلم عن جبريل قال:........
__________
الزوج من أبيه أو أخيه أو عمه فهو أحماء، ومن قبل المرأة ويجمع الصنفين الأصهار، وفي الأنوار في قوله تعالى: {فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا} [الفرقان: 54] ، أي: قسمه قسمين ذوي نسب، أي: ذكورًا ينسب إليه وذوات صهر، أي: إناثًا يصاهر بهن؛ كقوله: وجعل منه الزوجين الذكر والأنثى. "وحسبا -بفتحتين" أي: شرفًا ثابتًا لي ولآبائي؛ كما قال الأزهري.
وقال ابن السكيت: الحسب يكون في الإنسان وإن لم يكن في آبائه. ا. هـ. والواقع هنا أنه فيه وفي آبائه، وفي الصحاح: الحسب ما يعده الإنسان من مفاخر آباه، أي: أنا أنفسكم آباء وأمهات ومفاخر آباء" "ليس في آبائي من لدن آدم سفاح، كلنا" أي: أنا وآبائي "نكاح"، إسناده إليهم بتأويل، أي: ذوو نكاح، أو على التجوز في الإسناد كأنهم تجسموا من النكاح؛ كقوله:
فإنما هي إقبال وإدبار
وفي رواية: كلها نكاح بالتأنيث باعتبار الجماعة، أي: كل جماعة آبائي نكاح فلا يرد أنهم عقلاء، فكان يقال كلهم، أو الضمير للوطآت، وقضية ذا الحديث أنه: لا سفاح في آبائه مطلقًا، واستظهر محقق أن المراد طهارة سلسلته فقط، واستشهد بالخبر المار: "لم يلتق أبواي قط على سفاح" وعندي أن الصواب: خلاف هذا التحقيق العقلي؛ لظهور إطلاق نفي السفاح عنهم في هذا الحديث، ويؤيده استقراء الكلبي المحمول على الحواشي؛ كما مر، فإذا انتفى عن حواشيه فكيف يحتمل وقوعه في نفس الآباء والأمهات في غير السلسلة الشريفة، وأما الاستشهاد بالخبر فضعيف، كما لا يخفى.
"رواه" أبو بكر الحافظ أحمد بن موسى "بن مردويه" الأصبهاني اللبيب العلامة، ولد سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة، وصنف التاريخ والتفسير المسند والمستخرج على البخاري، وكان فهمًا بهذا الشأن بصيرًا بالرجال طويل الباع مليح التصنيف، مات لست بقين من رمضان سنة عشر وأربعمائة، قال الحافظ ابن ناصر في مشتبه النسبة: مردويه بفتح الميم، وحكى ابن نقطة كسرها عن بعض الأصبهانيين، والراء ساكنة، والدال المهملة مضمومة، والواو ساكنة، والمثناة تحت مفتوحة تليها هاء. ا. هـ.
"وفي الدلائل لأبي نعيم" أحمد بن عبد الله الحافظ "عن عائشة" الصديقة بنت الصديق المكثرة ذات المناقب الجمة، يأتي ذكرها في الزوجات إن شاء الله تعالى. قال المصنف: وعائشة بالهمزة وعوام المحدثين يبدلونها ياء، "عنه صلى الله عليه وسلم، عن جبريل" بلفظ: "قال" لي جبريل(1/129)
قلبت مشارق الأرض ومغاربها، فلم أر رجلا أفضل من محمد عليه الصلاة والسلام، ولم أر بني أب أفضل من بني هاشم. وكذا أخرجه الطبراني في الأوسط. قال الحافظ شيخ الإسلام ابن حجر: لوائح الصحة ظاهرة على صفحات هذا المتن.
وفي البخاري عن أبي هريرة، عنه صلى الله عليه وسلم: "بعثت من خير قرون بني آدم قرنًا فقرنًا، حتى كنت من القرن الذي كنت منه".
وفي مسلم عن واثلة بن الأسقع............................
__________
"قلبت مشارق الأرض ومغاربها"، أي: فتشتهم وبحثت عن أحوالهم، سماه تقليبًا تشبيهًا له بتحريك الشيء ظهر البطن وعكسه، وفي القاموس: قلب الشيء حوله ظهر البطن؛ كقلبه والتحريك يلزمه الإحاطة بالشيء ومعرفة أحواله عرفًا، فأطلق التقليب وأراد لازمه. "فلم أر رجلا أفضل من محمد عليه الصلاة والسلام، ولم أر بني أب أفضل من بني هاشم".
قال الحكيم الترمذي: إنما طاف الأرض ليطلب النفوس الطاهرة الصافية المتزكية بمحاسن الأخلاق، ولم ينظر للأعمال؛ لأنهم كانوا أهل جاهلية، إنما نظر إلى أخلاقهم فوجد الخير في هؤلاء، وجواهر النفوس متفاوتة بعيدة التفاوت. ا. هـ. "وكذا أخرجه الطبراني في الأوسط" والإمام أحمد والبيهقي والديلمي وابن لال وغيرهم. "قال الحافظ" أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن محمد بن علي "بن حجر" الكناني العسقلاني ثم المصري الشافعي، ولد سنة ثلاث وسبعين وسبعمائة، وعانى أولا الأدب وتعلم الشعر فبلغ الغاية, ثم طلب الحديث فسمع الكثير ورحل وبرع فيه وتقدم في جميع فنونه وانتهت إليه الرحلة والرئاسة في الحديث في الدنيا بأسرها، فلم يكن في عصرها حافظ سواه وألف كتبًا كثيرة، وأملى أكثر من ألف مجلس، وتوفي في ذي القعدة سنة اثنتين وخمسين وثمانمائة، قال السيوطي: وختم به الفن "لوائح الصحة لائحة" ظاهرة "على صفحات هذا المتن" الحديث والصفحة لغة من كل شيء: جانبه، ففيه استعارة بالكناية شبه المتن بمكان له جوانب وأثبت له الصفحات تخييلا.
"وفي" صحيح "البخاري" في صفة النبي صلى الله عليه وسلم "عن أبي هريرة، عنه صلى الله عليه وسلم: "بعثت من خير قرون بني آدم قرنًا فقرنًا" ". حال تفصيل والفاء للترتيب في الوجود أو الفضل نحو الأكمل فالأكمل، ومنه: {وَالصَّافَّاتِ صَفًّا، فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا} [الصافات: 1, 2] ، "حتى كنت من القرن الذي كنت" أي: وجدت "منه". وفي مسلم عن واثلة" بمثلثة "ابن الأسقع" بالقاف ابن عبد العزى الكناني الليثي من أهل الصفة غزا تبوكًا، وعنه مكحول ويونس بن ميسرة عاش ثمانيًا(1/130)
قال صلى الله عليه وسلم: "إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشًا من كنانة واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم". رواه الترمذي.
وعن العباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله خلق الخلق، فجعلني في خير فرقهم، وخير الفريقين
__________
وتسعين سنة، ومات سنة خمس وثمانين وأبوه صحابي أيضًا؛ كما في الإصابة.
"قال صلى الله عليه وسلم: "إن الله اصطفى" اختار "كنانة" عدة قبائل أبوهم كنانة ابن خزيمة "من ولد إسماعيل" وفي رواية الترمذي: "إن الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل، واصطفى من ولد إسماعيل بني كنانة" فكان في رواية مسلم اختصارًا. "واصطفى قريشًا من كنانة" ورواية الترمذي: "واصطفى من بني كنانة قريشًا" وهو قريب وفيه إبطال للقول بأن جماع قريش مضر وللآخر أنه الياس، "واصطفى من قريش بني هاشم" غاير أسلوب ما قبله للتعظيم. "واصطفاني من بني هاشم" زاد ابن سعد من مرسل أبي جعفر الباقر ثم اختار بني هاشم من قريش، ثم اختار ابن عبد المطلب من بني هاشم، قال الحليمي: أراد تعريف منازل المذكورين ومراتبهم؛ كرجل يقول: كان أبي فقيهًا، لا يريد الفخر؛ بل تعريف حاله دون ما عداه، وقد يكون أراد به الإشارة بنعمة الله عليه في نفسه وآبائه على وجه الشكر، وليس ذلك من الاستطالة والفخر في شيء. ا. هـ. ونقله عنه البيهقي في الشعب وأقره، وقال الحافظ: ذكره لإفادة الكفاءة والقيام بشكر النعم والنهي عن التفاخر بالآباء، موضعه مفاخرة تفضي إلى تكبر أو احتقار مسلم.
"رواه" أي: حديث واثلة "الترمذي" أتم منه، كما علم، وقال: حديث حسن صحيح غريب. ا. هـ. وفيه فضل إسماعيل على جميع ولد إبراهيم حتى إسحاق، وفضل العرب على العجم. قال ابن تيمية: وليس فضل العرب فقريش فبني هاشم، بمجرد كون النبي صلى الله عليه وسلم منهم وإن كان هذا من الفضل، بل هم في أنفسهم أفضل، أي: باعتبار الأخلاق الكرام والخصال الحميدة واللسان العربي، قال: وبذلك يثبت للنبي صلى الله عليه وسلم أنه أفضل نفسًا ونسبًا، وإلا لزم الدور.
"و" روى الترمذي "عن العباس" بن عبد المطلب عم المصطفى وصنو أبيه، كان يجله ويعظمه ويأتي إن شاء الله تعالى في الأعمام، "قال" قلت يا رسول الله! إن قريشًا تذاكروا أحسابهم، فجعلوا مثلك مثل نخلة في كبوة، أي: كناسة، فـ"قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله خلق الخلق" " أي: المخلوقات وأل للاستغراق فتدخل الملائكة فهو نص في أفضلية جنس البشر على جنس الملك، أو المراد الثقلان، أو المراد بنو آدم فرقًا، "فجعلني" صيرني "في خير فرقهم" جمع فرقة، أي: أشرفها.
وفي نسخة: فرقتهم، أي: فرقة منهم. "و" جعلني "خير الفريقين" فهو بالنصب عطف على(1/131)
ثم تخير القبائل فجعلني في خير القبيلة، ثم تخير البيوت فجعلني في خير بيوتهم، فأنا خيرهم نفسًا، وخيرهم بيتا أي أصلا".
وفي حديث رواه الطبراني عن ابن عمر قال: إن الله اختار خلقه...........
__________
محل في خير، كذا أعربه الواعظ، فإن كان رواية وإلا فيجوز جره عطفًا على مجرور في عطف تفسير، واقتصر عليه شيخنا. والمراد بالفرق الذين هو خيرهم العرب. "ثم تخير القبائل" من العرب، أي: اختار خيارهم فضلا، "فجعلني في خير القبيلة" منهم وهي قريش، أي: قدر إيجادي في خير قبيلة، "ثم تخير البيوت" أي: اختارهم شرفًا، "فجعلني في خير بيوتهم" أي: أشرفها وهم بنو هاشم وإذا كان كذلك، "فأنا خيرهم نفسًا" أي: روحًا وذاتًا، "وخيرهم بيتًا" وفسره بقوله: "أي أصلا". إذ جئت من طيب إلى طيب إلى صلب أبي بفضل الله علي ولطفه في سابق علمه، ولم يقل: ولا فخر، كما في خبر: "أنا سيد ولد آدم"؛ لأن هذا بحسب حال المخاطبين في صفاء قلوبهم بما يعلمه من حالهم أو هذا بعد ذاك.
وفي حديث أبي هريرة مرفوعًا: "إن الله حين خلق الخلق بعث جبريل، فقسم الناس قسمين، فقسم العرب قسمًا، وقسم مضر قسمًا، وقريشًا قسمًا، وكانت خيرة الله في قريش، ثم أخرجني من خير من أنا منهم"، رواه الطبراني وحسن العراقي إسناده، وهو شاهد الخبر المصنف وكالشرح له الجنة قال بعض العلماء: والتفاضل في الأنساب والقبائل والبيوت باعتبار حسن خلقه الذات، والتفاضل فيما قام بها من الصفات حتى في الأقوات والله فضل بعضكم على بعض في الرزق، وهذا جار في سائر المخلوقات فضل الله يؤتيه من يشاء، فلا اتجاه لما عساه يقال: الإنسان كله نوع، فما معنى التفاضل في الأنساب. ا. هـ.
"و" قال صلى الله عليه وسلم "في حديث رواه الطبراني" في الأوسط، "عن" عبد الله "بن عمر" الخطاب أبي عبد الرحمن العالم المجتهد العابد: "لزوم السنة الفرور من البدعة الناصح للأمة", روى ابن وهب عن مالك: بلغ ابن عمر ستًا وثمانين سنة وأفتى ستين سنة، وقال نافع: ما مات حتى أعتق أكثر من ألف وشهد الخندق وما بعدها، قال الحافظ ولد في السنة الثانية أو الثالثة من المبعث؛ لأنه ثبت أن كان يوم بدر ابن ثلاث عشرة سنة، وهي بعد المبعث بخمس عشرة، ومات في أوائل سنة ثلاث وسبعين.
"قال" أي: المصطفى كما علم لا ابن عمر؛ لأنه مرفوع عند الطبراني لا موقوف. "إن الله اختار" أي: اصطفى "خلقه" مميزًا لهم على غيرهم ممن لو تعلقت بهم الإرادة ووجدوا(1/132)
فاختار منهم بني آدم، ثم اختار من بني آدم العرب، ثم اختارني من العرب، فلم أزل خيارًا من خيار، ألا من أحب العرب فبحبي أحبهم، ومن أبغض العرب فببغضي أبغضهم.
ثم أعلم أنه عليه الصلاة والسلام لم يشركه في ولادته من أبويه أخ ولا أخت، لانتهاء صفوتهما إليه، وقصور نسبهما عليه، ليكون مختصًا بنسب جعله الله تعالى للنبوة غاية................
__________
كانوا دونهم في الفضل لكونهم لم يختاروا، فلا يرد أن الاختيار إنما يكون فيما يختار من شيء، ولا يقال اختار شيئًا، إذ لا بد من مختار ومختار منه، ومحصل الجواب اختيارهم ممن يقدر وجودهم، "فاختار منهم بني آدم، ثم اختار من بني آدم العرب" كذا في نسخ وهي ظاهرة، وفي أخرى:"ثم اختار بني آدم، فاختار منهم العرب"، والمراد: نظر إليهم فاختار ... إلخ. فلا يقال لا حاجة له بل لا يصح؛ لأنه عين ما قبله. "ثم اختارني من العرب، فلم أزل خيارًا من خيار، ألا من أحب العرب، فبحبي" أي: فبسبب حبه لي "أحبهم، ومن أبغض العرب" أظهر للتعليم "فببغضي" بسبب بغضه لي "أبغضهم" وقد روى الترمذي، وقال: حسن غريب عن سلمان رفعه: "يا سلمان لا تبغضني، فتفارق دينك"، قلت: يا رسول الله كيف أبغضك وبك هداني الله؟ قال: "تبغض العرب فتبغضني"، وروى الطبراني عن علي رفعه: "لا يبغض العرب إلا منافق".
"ثم اعلم أنه عليه الصلاة والسلام لم يشركه" بفتح الياء والراء بينهما شين ساكنة، "في ولادته من أبويه أخ ولا أخت" المراد أنهما لم يلدا غيره؛ كما قال الواقدي: أنه المعروف عند العلماء. قال سبط ابن الجوزي: لم يتزوج عبد الله قط غير آمنة ولم تتزوج آمنة غيره. قال: وأجمع العلماء على أن آمنة لم تحمل بغيره صلى الله عليه وسلم، قال: وقولها: لم أحمل حملا أخف منه، المفيد حملها بغيره خرج على وجه المبالغة.
وقال الحافظ ابن حجر: جازف سبط ابن الجوزي كعادته في نقل الإجماع ولا يمتنع أن تكون أسقطت من عبد الله سقطًا، فأشارت بقولها المذكور إليه. ا. هـ. وما رده بنقل كما ترى، بل بتجويز إنما يصح على ضعيف، وهو تأخر موت والده بعد ولادته؛ لأنها حملت بالمصطفى عقب التزوج؛ كما هو صريح في الأخبار الآتية. ولم تسقط قبله شيئًا ولم يتفوه به متفوه، فأين المجازفة؟ وإنما لم يلدا غيره.
"لانتهاء صفوتهما" أي: خالصهما "إليه وقصور نسبهما عليه" أي: عدم مجاوزته إلى غيره تكريمًا، "ليكون مختصًا بنسب جعله الله للنبوة غاية" أي: خاتمًا للنبوة بحيث لا يولد بعده(1/133)
ولتمام الشرف نهاية، وأنت إذا اختبرت حال نسبه، وعلمت طهارة مولده تيقنت أنها سلالة آباء كرام.
فهو صلى الله عليه وسلم النبي العربي الأبطحي الحرمي الهاشمي القرشي، نخبة بني هاشم، المختار المنتخب من خير بطون العرب وأشرفها في الحسب وأعرقها في النسب، وأنضرها عودًا، وأطولها عمودًا، وأطيبها أرومة، وأعزها جرثومة، وأفصحها لسانًا، وأوضحها بيانًا، وأرجحها..............
__________
نبي، "ولتمام الشرف نهاية" لا غاية بعدها "وأنت إذا اختبرت حال نسبه وعلمت طهارة مولده تيقنت أنها" أي: ذاته الشريفة "سلالة آباء كرام، فهو صلى الله عليه وسلم النبي" بالهمز وتركه وهو لغته صلى الله عليه وسلم.
وفي المستدرك: عن أبي ذر أن رجلا قال: يا نبي الله، بالهمز، فقال صلى الله عليه وسلم: "لست نبي الله"، قال الزركشي: أنكر الهمز لأنه لم يكن لغته. وقال الجوهري والصغاني: إنما أنكره لأن الرجل أراد يا من خرج من مكة إلى المدينة، يقال: نبأت من أرض إلى أرض إذا خرجت منها إلى أخرى. ا. هـ. وهذا هو الأحسن؛ لأن المصطفى يخاطب كل إنسان بلغته، ألا ترى إلى خبر: "ليس من امبر امصيام في امسفر".
"العربي" نسبة إلى العرب خلاف العجم، وهم عاربة وهم الخلص وهم سبع قبائل ومتعربة، وهم بنو قحطان وليسوا بخلص ومستعربة وليسوا بخلص أيضًا، قال ابن دحية: وهم بنو إسماعيل، قال الشامي ملخصًا. "الأبطحي" نسبة إلى أبطح مكة وهو مسيل واديها، وهو ما بين مكة ومنى ومبتدؤه لمحصب، قال الشامي. وفي المختار البطحاء كالأبطح ومنه بطحاء مكة وعليه فهو نسبة إلى بطحاء مكة، ولكن القياس الأول.
"الحرمي" إلى الحرمين "الهاشمي القرشي" عام بعد خاص، "نخبة" بالرفع نعت النبي "بني هاشم" وفي القاموس: النخبة بالضم وكهمزة المختار وانتخبه اختاره، فقوله: "المختار المنتخب" لعل مراده من جميع الخلق، وفي الكلام حذف هو ومعلوم أنهم خير العرب، فهو المختار من جمع الناس، "من خير بطون العرب، وأشرفها في الحسب" أي: المفاخر، "وأعرقها" بالقاف: أثبتها وأقواها "في النسب، وأنضرها" أحسنها "عودًا" أي: طيبًا وأصلا، كأنه مأخوذ من عهود البخور شبه أصله من ظهوره بالعود واستعار له اسمه، "وأطولها عمودًا" أعظمها أصلا يستند إليه ويتقوى به، "وأطيبها أرومة" بفتح الهمزة وتضم، أي: أصلا؛ كما في القاموس.
"وأعزها جرثومة" بضم الجيم أصلا؛ كما في القاموس، فالجمع بين هذا وما قبله للإطناب إذا المراد منهما واحد، "وأفصحها لسانًا" لغة، "وأوضحها بيانًا" تبيينًا وإظهارًا للمراد، "وأرجحها(1/134)
ميزانًا وأصحها إيمانًا، وأعزها نفرًا، وأكرمها معشرًا، من قبل أبيه وأمه، ومن أكرم بلاد الله على الله وعباده.
فهو محمد بن عبد الله، الذبيح, ابن عبد المطلب، واسمه شيبة الحمد، في قول محمد بن إسحاق، وهو الصحيح، وقيل..............................
__________
ميزانًا" عملا يفتخر به عبر عنه بميزان؛ لأنه آلة يميز بها الوافي من غيره، "وأصحها إيمانًا" تصديقًا بما يوافق الحق في كل زمن، "وأعزها نفرًا" بفتحتين حشمًا وأعوانًا تمييز محول عن المضاف، والأصل نفره أعز، فحذف المضاف وأضيف أعز إلى الضمير فحصل الإبهام، فبين بذلك المضاف، "وأكرمها معشرًا" طائفة وجماعة ينسب إليهم "و" أكرمها "من قبل" جهة "أبيه وأمه" أكرمها من قبل كونه "من أكرم بلاد الله على الله" يعني مكة، "و" من أكرم "عباده" عليه وهم العرب، "فهو محمد" اسم مفعول على الصفة للتفاؤل بأنه يكثر حمده، وسيأتي إن شاء الله تعالى ما يتعلق به في المقصد الثاني. قال في الفتح: المحمد الذي حمد مرة بعد أخرى أو الذي تكاملت فيه الخصال المحمودة، قال الأعشى:
إليك أبيت اللعن كان وجيفها ... إلى الماجد القرم الجواد المحمد
"ابن عبد الله" قال الحافظ: لم يختلف في اسمه. ا. هـ. قال ابن الأثير: وكنيته أبو قثم بقاف فمثلثة، وهو من أسمائه صلى الله عليه وسلم مأخوذ من القثم وهو الإعطاء، أو من الجمع، يقال للرجل الجموع للخير قثوم وقثم، وقيل أبو محمد، وقيل: أبو أحمد. ا. هـ. فإن قلنا بالمشهور من وفاته والمصطفى حمل فلعله كني بالإلهام، وإن قلنا بعد ولادته، فظاهر.
"الذبيح" بالجر نعت لعبد الله "ابن" شيخ البطحاء، "عبد المطلب" مجاب الدعوة محرم الخمر على نفسه، قال ابن الأثير: وهو أول من تحنث بحراء كان إذا دخل شهر رمضان صعده وأطعم المساكين، وقال ابن قتيبة: كان يرفع من مائدته للطير، والوحوش في رءوس الجبال، فكان يقال له الفياض لجوده ومطعم طير السماء؛ لأنه كان يرفع من مائدته للطير "واسمه شيبة الحمد" مركب إضافي، قال:
على شيبة الحمد الذي كان وجهه ... يضيء ظلام الليل كالقمر البدري
"في قول محمد بن إسحاق" بن يسار المطلبي مولاهم المدني نزيل العراق، الحافظ إمام المغازي صدوق، لكنه يدلس ورمي بالتشيع والقدر توفي سنة خمسين ومائة، "وهو" كما قال السهيلي "الصحيح" وعزاه في النور والفتح للجمهور، "وقيل" في سبب تسميته بشيبة الحمد،(1/135)
سمي به لأنه ولد في رأسه شيبة.
وقيل: اسمه عامر، وهو قول ابن قتيبة، وتابعه على ذلك المجد الشيرازي، وكنيته أبو الحارث، بابن له أكبر ولده.
قيل: إنما قيل له عبد المطلب، لأن أباه هاشمًا قال لأخيه المطلب، وهو بمكة، حين حضرته الوفاة: أدرك عبدك بيثرب، فمن ثم سمي عبد المطلب..................
__________
"سمي به لأنه ولد في رأسه شيبة" واحدة الشيب، وأقل ما تصدق به شعرة؛ لأنها أقل ما يتحقق فيه البياض.
وفي رواية: وكانت ظاهرة في ذوائبه وأخرى وكان وسط رأسه أبيض، وقيل: لأن أباه أوصى أمه بذلك، وبالأول جزم المصنف في شرح البخاري وسوى بينهما الشامي، ولعل وجه إضافته إلى الحمد رجاء أنه يكبر ويشيخ ويكثر حمد الناس له وقد حقق الله ذلك فكثر حمدهم له؛ لأنه كان مفزع قريش في النوائب، وملجأهم في الأمور، وشريفهم وسيدهم كمالا وفعالا.
"وقيل: اسمه عامر وهو قول" أبي محمد عبد الله بن مسلم "بن قتيبة" بقاف مصغر الدينوري بفتح الدال وتكسر النحوي اللغوي مؤلف أدب الكتاب وغيره، ولد سنة ثلاث عشرة ومائتين ومات سنة سبع وستين، وهذا حكاه في الفتح بلفظ زعم ابن قتيبة، وقد قال أبو عمر: إنه لا يصح، "وتابعه" أي: تبعه "على ذلك المجد" مجد الدين محمد بن يعقوب "الشيرازي" بكسر الشين المعجمة وفتح الراء وزاي نسبة إلى شيراز قرية بنواحي سرخس، مؤلف القاموس وغيره، مجدد اللغة على رأس المائة الثامنة ومهر فيها وهو شاب وتفقه وطلب الحديث وجال في البلدان، وكان له فيها الحظوة التامة، حتى عند الملوك وفي شيوخه كثرة وأخذ عنه الحافظ وغيره، ومات سنة سبع عشرة وثمانمائة وقد جاوز التسعين ممتعًا بحواسه.
"وكنيته" أي: عبد المطلب "أبو الحارث بابن" لفظ مختص بالذكر إجماعًا حكاه الفكهاني في شرح العمدة، "له أكبر ولده" أي: أولاده وهو يكون واحد وجمعًا، وقيل: أبو البطحاء، "قيل: وإنما قيل له عبد المطلب؛ لأنه أباه هاشمًا قال لأخيه المطلب" بن عبد مناف "وهو بمكة حين حضرته الوفاة: أدرك عبدك" استعطافًا أو على عادة العرب في قولهم لليتيم المربى في حجر شخص عبده فسماه عبدًا باعتبار الأول؛ لأنه رأى نفسه مختصرًا وأنه لا يقوم على ابنه غيره، "بيثرب" اسم المدينة المنورة قبل الإسلام، وقد غيره النبي صلى الله عليه وسلم إلى طيبة وسماها لأنها طابة، رواه مسلم في آخر الحج. "فمن ثم" أي: من هنا، أي: من أجل قول هاشم لأخيه أدرك عبدك "سمي عبد المطلب" ولا شك أن هذا قول غير القول بأنه مات بغزة، فلا وجه(1/136)
وقيل: إن عمه المطلب جاء به إلى مكة رديفه -وهو بهيئة بذة- فكان يسأل عنه فيقول: هو عبدي، حياء أن يقول: ابن أخي، فلما أدخله وأحسن من حاله، أظهر أنه ابن أخيه، فلذلك قيل له: عبد المطلب.
وهو أول من خضب بالسواد من العرب، وعاش مائة وأربعين سنة.
__________
لإيراده عليه، "وقيل: إن عمه المطلب جاء به إلى مكة رديفه وهو بهيئة بذة" بفتح الموحدة والذال المعجمة المشددة، أي: رثة، وفي المنتقى: كان عليه أخلاف ثياب وأثرت فيه الشمس، "فكان يسأل عنه فيقول: هو عبدي" يقول ذلك "حياء من أن يقول ابن أخي" فيعترض عليه بكونه على تلك الهيئة، وكان بها مع أنه كان عند أمه بالمدينة؛ لأنه أخذه بغير علمها وهو يلعب، وقيل: إنما أخذه بعلمها فلعله استعجل لئلا تمنعه أمه بعد، "فلما أدخله" مكة "وأحسن من حاله أظهر أنه ابن أخيه، فلذلك" أي: قول المطلب هو عبدي، "قيل له" لشيبة الحمد "عبد المطلب، وبهذا القول جزم في شرح البخاري وجزم الحافظ بما نصبه: سمي عبد المطلب واشتهر بها لأن أباه لما مات بغزة، وكان خرج إليها تاجرًا، ترك أمه بالمدينة، فأقامت عند أهلها من الخزرج فكبر عبد المطلب فجاء عمه المطلب فأخذه ودخل به مكة، فرآه الناس مردفه، فقالوا: هذا عبد المطلب؛ فغلبت عليه في قصة طويلة ذكرها ابن إسحاق وغيره. ا. هـ.
وقيل: سمي به على عادة العرب في قولهم لليتيم المربى في حجر إنسان عبده، وأتى بقوله: "وهو" كما قال السهيلي "أول من خضب" بابه ضرب "بالسواد من العرب" للإشعار باستمراره على إظهار الصفات الدالة على قوته وشجاعته إلى وفاته. روى ابن سعد عن المسور بن مخرمة، قال: أول من خضب بالوسمة ن قريش بمكة عبد المطلب، كان إذا ورد اليمن ورد على عظيم من حمير، فقال: هل لك من تغيير هذا البياض فتعود شابًا، فقال: ذلك إليك، فأمره به فخضب بحناء ثم علا بالوسمة، فقال له عبد المطلب: زودنا من هذا، فزوده فأكثر فدخل مكة بليل ثم خرج عليهم بالغد، كان شعره حلك الغراب، فقالت له نثيلة: لو دام لك هذا لكان حسنًا، فقال عبد المطلب:
لو دام لي هذا السواد حمدته ... وكان بديلا من شباب قد انصرم
تمتعت منه والحياة قصيرة ... ولا بد من موت نثيلة أو هرم
وماذا الذي يجدي علي بحفظه ... ونعمته يومًا إذا عرشه انهدم
فموت جهير عاجلا لا سوى له ... أحب إلي من مقالهم حكم
قال: فخضب أهل مكة بالسواد، "وعاش مائة وأربعين سنة" فيما قاله عالم النسب الزبير بن بكار، كما حكاه سيد الناس عن أبي الربيع بن سالم عنه، قائلا: إنها أعلى ما قيل في سنه،(1/137)
ابن هاشم، واسمه عمرو، وإنما قيل له هاشم لأنه كان يهشم الثريد لقومه في الجدب.
__________
وحكاه مغلطاي، وجزم به السهيلي، وتبعه المصنف في شرح البخاري؛ فالتوقف فيه بأن الشامي لم يذكره عجيب، فلا يلزم من ترك مكثر الأنفال لشيء عدم وجود ما لم يحكه في غيره، فمن حفظ حجة بل أخشى أن زيادة أربعة في قول الشامي، يقال: بلغ مائة وأربعة وأربعين من تحريف النساخ لقولهم أعلى ما قيل مائة وأربعين، وقيل: عاش مائة وعشرين سنة، صدر به مغلطاي والمصنف فيما يأتي في وفاة عبد المطلب، ويأتي له مزيد ثم "ابن هاشم واسمه عمرو" قاله مالك والشافعي: منقول من العمر الذي هو العمر، أو العمر الذي هو من عمور الأسنان، أو العمر الذي هو طرف الكم، يقال: سجد على عمريه، أي: كميه، أو العمر الذي هو القرط؛ كما قال:
وعمر هند كان الله صوره ... عمرو بن هند يسوم الناس تعنيتا
وزاد أبو حنيفة وجهًا خامسًا، فقال: من العمر الذي هو اسم لنحل السكر، ويقال فيه عمر أيضًا، انتهى من الروض.
"وإنما قيل له" لعمرو "هاشم؛ لأنه كان يهشم الثريد" بمثلثة: ما اتخذ من لحم وخبز، قال:
إذا ما الخبز تأدمه بلحم ... فذاك أمانة الله الثريد
"لقومه في الجدب" بجيم مفتوحة ودال مهملة ساكنة خلاف الخصب، وفي فتح الباري؛ لأنه أول من هشم الثريد بمكة لأهل الموسم ولقومه أولا في سنة المجاعة، وفيه يقول الشاعر:
عمرو العلا هشم الثريد لقومه ... ورجال مكة مسنتون عجاف
وأشعر إتيان المصنف بحرف المضارعة مع كان المفيد للتكرار بتكرر ذلك منه، وهو كذلك. ففي السبل: لما أصاب أهل مكة جهد وشدة، رحل إلى فلسطين، فاشترى منها دقيقًا كثيرًا وكعكًا، وقدم به مكة فأمر به فخبز ثم نحر جزورًا، وجعلها ثريدًا عم به أهل مكة ولا يزال يفعل ذلك بهم، حتى استقلوا. ا. هـ.
وفي المنتقى كان هاشم أفخر قومه وأعلاهم وكانت مائدته منصوبة لا ترفع لا في السراء ولا في الضراء، وكان يحمل ابن السبيل ويؤدي الحقائق، وكان نور رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجهه يتوقد شعاعه ويتلألأ ضياؤه، ولا يراه حبر إلا قبل يده، ولا يمر بشيء إلا سجد إليه، تغدو إليه قبائل العرب ووفود الأحبار، يحملون بناتهم يعرضون عليه أن يتزوج بهن، حتى بعث إليه هرقل ملك الروم، وقال: إن لي ابنة لم تلد النساء أجمل منها، ولا أبهى وجهًا، فأقدم علي حتى أزوجكها، فقد بلغني جودك وكرمك، وإنما أراد بذلك نور المصطفى الموصوف عندهم في الإنجيل، فأبى هاشم. قال ابن إسحاق: وهو أول من مات من بني عبد مناف. واختلف في سنه،(1/138)
ابن عبد مناف، واسمه المغيرة.
ابن قصي تصغير قصي، أي بعيد، لأنه بعد عن عشيرته في بلاد قضاعة، حين احتملته أمه فاطمة، واسمه مجمع، قال الشاعر:
أبوكم قصي كان يدعي مجمعًا ... به جمع الله القبائل من فهر
وقيل زيد......................................
__________
فقيل: عشرون، وقيل: خمس وعشرون سنة.
"ابن عبد مناف" بفتح الميم وخفة النون من أناف ينيف إنافة إذا ارتفع، وقيل: الإنافة الأشراف والزيادة لقب بذلك؛ لأن أمه حبى بضم الحاء المهملة وموحدة مشددة ممالة أخدمته صنمًا عظيمًا لهم يسمى مناة، ثم نظر أبوه فرآه يوافق عبد مناة بن كنانة فحواه عبد مناف، "واسمه" كما قال الشافعي "المغيرة" منقول من الوصف والهاء للمبالغة سمي به تفاؤلا أنه يغير على الأعداء وساد في حياة أبيه، وكان مطاعًا في قريش ويدعى القمر لجماله، قال الواقدي: وكان فيه نور رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي يده لواء نزار وقوس إسماعيل. وذكر الزبير عن موسى بن عقبة أنه وجد كتابة في حجر: أنا المغيرة بن قصي آمر بتقوى الله وصلة الرحم، وإياه عنى القائل:
كانت قريش بيضة فتفلقت ... فالمح خالصه لعبد مناف
قال ابن هشام: ومات بغزة. "ابن قصي" بضم القاف، "تصغير قصي" بفتح فكسر فياء ساكنة من قصا يقصو إذا بعد، قال المصنف تبعًا للسهيلي: وصغر على فعيل؛ لأنهم كرهوا اجتماع ثلاث ياءات فحذفوا لثالثة التي تكون في فعيل، فبقي على وزن فعيل مثل فليس. ا. هـ. وفسر المصغر بقوله: "أي: بعيد؛ لأنه بعد عن عشيرته" أي: قبيلته. وفي القاموس: عشيرة الرجل بنو أبيه الأدنون، أو قبيلة جمعه عشائر. "في بلاد قضاعة" بضم ففتح "حين احتملته أمه فاطمة" بنت سعد العذري في قصة طويلة ذكرها ابن إسحاق. "واسمه مجمع" اسم فاعل من جمع "قال الشاعر:
أبوكم قصي كان يدعى مجمعا
ذكر ثعلب في أماليه أنه كان يجمع قومه يوم العروبة، فذكرهم ويأمرهم بتعظيم الحرم ويخبرهم أنه سيبعث فيهم نبي، "به جمع" بالتثقيل للمبالغة، "الله القبائل من" بني "فهر" في مكة بعد تفرقهم في البلدان، فجمعهم وأدخلهم مكة في قصة طويلة عند ابن إسحاق، "وقيل" اسمه "زيد" وجزم به في السبل والتوشيح والعيون والعراقي، واقتصر عليه في الفتح، فقال: روى السراج في تاريخه من طريق أحمد بن حنبل: سمعت الشافعي يقول: اسم المطلب شيبة الحمد، واسم هشام عمرو، واسم عبد مناف المغيرة، واسم قصي زيد.(1/139)
وقال الشافعي، كما حكاه عنه الحاكم أبو أحمد يزيد.
ابن كلاب، وهو إما منقول من المصدر الذي في معنى المكالبة، نحو: كالبت العدو مكالبة، وإما من الكلاب: جمع كلب، كأنهم يريدون الكثرة، كما يسمون بسباع.
__________
"وقال" الإمام "الشافعي" محمد بن إدريس المطلبي المكي، نزيل مصر، عالم قريش، مجدد الدين على رأس المائتين، حفظ القرآن ابن سبع، والموطأ ابن عشر، وأفتى وهو ابن خمس عشرة، وكان يحيى الليل إلى أن مات في رجب سنة أربع ومائتين عن أربع وخمسين سنة، مناقبه جمة أفردها العلماء بالتصانيف.
"كما حكاه عنه الحاكم" الكبير "أبو أحمد" كنية الحاكم محمد بن محمد بن إسحاق النيسابوري الإمام الحافظ الجهبذ محدث خراسان، سمع ابن خزيمة والباغندي والسراج، وسمع منه السلمي والحاكم أبو عبد الله، والمشهور الموافق له في الاسم واللقب والنسبة، وإنما افترقا في الكنية ووصفه بأنه إمام عصره في الحديث، كثير التصانيف، مقدم في معرفة شروط الصحيح والأسامي والكنى، وكان صالحًا ماشيًا على سنن السلف، مات في ربيع الأول سنة ثمان وسبعين وثلاثمائة عن ثلاث وتسعين سنة.
"يزيد" بزيادة ياء أوله، وهذا مقول قول الشافعي، قول ثان له، لكنه لا يساوي ما حكاه أحمد عنه؛ لأنه أجل تلامذته، ثم اقتصار المذكورين عليه يفيد أنه الأصح، فكان حق المصنف تقديمه وفي الخميس قصي هو الذي جمع الله به قريشًا، وكان اسمه زيد فسمي مجمعًا لما جمع من أمرها، وأنشد بيت المصنف فعليه مؤاخذة في مقابلته بزيد؛ لأن مجمعًا ليس اسمه الأصلي ولا هو مقابل لكونه زيدًا، كيف وبعد هذا البيت كما حكاه الماوردي وغيره:
وأنتم بنو زيد وزيد أبوكم ... به زيدت البطحاء فخرًا على فخر
وكان مصي أول بني كعب أصاب ملكًا طاعله به قومه، وكانت إليه الحجابة والسقاية والرفادة والندوة واللواء، وحاز شرف مكة جميعًا وكان رجلًا جلدًا وعالم قريش وأقومها بالحق.
"ابن كلاب" بكسر الكاف وتخفيف الام، "وهو" كما قال السهيلي "إما منقول من المصدر الذي في معنى المكالبة، نحو: كالبت العدو مكالبة" وكلابًا القاموس المكالبة المشاورة والمضايقة والتكالب التواثب، "إما من الكلاب، جمع كلب" الحيوان المعروف، "كأنهم" أي: العرب "يريدون الكثرة كما يسمون بسباع" وأنمار وغير ذلك.(1/140)
وسئل أعرابي: لم تسمون أبناءكم بشر الأسماء، نحو كلب وذئب، وعبيدكم بأحسن الأسماء، نحو رزق ومرزوق ورباح؟ فقال: إنما نسمي أبناءنا لأعدائنا وعبيدنا لأنفسنا, يريدون أن الأبناء عدة للأعداء، وسهام في نحورهم، فاختاروا لهم هذه الأسماء.
واسم كلاب: حكيم، وقيل: عروة.
ابن مرة.
__________
"وسئل أعرابي" هو كما في الروض: أبو الدقيش، وفي الصحاح: قال يونس لأبي الدقيش الشاعر: ما الدقيش؟ قال: لا أدري، هو أسماء نسمعها نتسمى بها, وفي حياة الحيوان: الدقش -بضم الدال المهملة وفتح القاف-: طائر صغير، "لم تسمون أبناءكم بشر الأسماء نحو كلب وذئب، وعبيدكم بأحسن الأسماء، نحو: رزق ومرزوق ورباح" بموحدة "فقال: إنما نسمي أبناءنا لأعداءنا وعبيدنا لأنفسنا، يريد" الأعرابي "أن الأبناء عدة للأعداء" بضم العين: ما أعد لحوادث الدهر من مال وسلاح؛ كما في المختار. "وسهام في نحورهم" جمع نحر: موضع القلادة من الصدر، ويطلق على الصدر أيضًا عطف خاص على عام على أن معنى العدة ما صدق عليه مفهوم ما أعددته ... إلخ. أو عطف جزء على كل إن أريد بالعدة مجموع ما يدخر من مال وسلاح، وعلى كل هو تشبيه بليغ، أي: كعدة أو استعارة على نحو زيد أسد. "فاختاروا لهم هذه الأسماء" دون عبيدهم؛ لأنهم لا يقصد منهم قتال غالبًا بل كان عارًا عند العرب، "واسم كلاب حكيم" بفتح الحاء وكسر الكاف وقدمه مغلطاي في الإشارة، وصححه المحب بن الشهاب بن الهائم، ويقال: الحكيم بزيادة أل، "وقيل: عروة" حكاه مغلطاي وغيره الفتح.
ذكر ابن سعد: أن اسمه المهذب، وزعم محمد بن أسعد: أن اسمه حكيم، وقيل: عروة، فحكى ما قدمه المصنف بلفظ زعم وصدر بغيره، فكأنه اعتمد تصحيح ابن الهائم وتقديم مغلطاي، قال الحافظ: ولقب بكلاب لمحبته كلاب الصيد، وكان يجمعها فمن مرت به فسأل عنها، قيل هذه كلاب ابن مرة، وقال المصنف: لمحبته الصيد، وكان أكثر صيده بالكلاب، قاله المهلب وغيره: "ابن مرة" بضم الميم منقول من وصف الرجل بالمرارة، وقواه السهيلي فالتاء للمبالغة أو من وصف الحنظلة والعلقمة فالتاء للتأنيث، كذا في السبل. وفي المختار: العلقم شجر مر، ويقال للحنظل ولكل مر علقم.
قال شيخنا: فالمناسب أن يقول من وصف الحنظل والعلقم بغير تاء أو بالتاء فلا يكون للتأنيث بل للوحدة، أو من اسم نبات مخصوص وهو بقلة تقطع فتؤكل بالخل أو من قولهم: مر(1/141)
ابن كعب، وهو أول من جمع العروبة، وكانت تجتمع إليه قريش في هذا اليوم، فيخطبهم ويذكرهم بمبعث النبي صلى الله عليه وسلم ويعلمهم بأنه من ولده، ويأمرهم باتباعه والإيمان به، وينشد في ذلك أبياتًا منها قوله:
يا ليتني شاهد فحواء دعوته
.........................
__________
الشيء، إذا اشتد مرارته أو من القوة، وعليهما فالظاهر: أن الهاء للمبالغة فمرجعهما والأول واحد، وله ثلاثة أولاد كلاب وتيم ومن نسله الصديق وطلحة ويقظة، وبه يكنى.
"ابن كعب" قال السهيلي: سمي بذلك لستره على قومه ولين جانبه لهم، منقول من كعب القدم، وقال ابن دريد وغيره: من كعب القناة سمي بذلك لارتفاعه وشرفه فيهم، فكانوا يخضعون له حتى أرخوا بموته، قال الفتح، أي: إلى عام الفيل فأرخوا به، ثم بموت عبد المطلب، وقيل: من الكعب الذي هو قطعة السمن الجامد. "وهو" أي: كعب "أو من جمع" الناس لمجرد الوعظ، "العروبة" بفتح المهملة وضم الراء وبالموحدة، ولم يكن ثم صلاة يجمعهم إليها من الإعراب التحسين لتزين الناس فيه، قال النحاس: لا يعرفه أهل اللغة بالألف واللام، وإلا شاذًا، قال: ومعناه المبين المعظم من أعرب إذا بين، ولم يزل يوم الجمعة معظمًا عند أهل كل ملة. ا. هـ.
وقال أبو موسى في ذيل الغريبين: الأفصح أن لا تدخله أل وكأنه ليس بعربي. ا. هـ. وهو اسم يوم الجمعة في الجاهلية اتفاقًا اختلف في أن كعبًا سماه الجمعة لاجتماع الناس إليه فيه، وبه جزم الفراء وثعلب وغيرهما وصحح، أو إنما سمي بعد الإسلام، وصححه ابن حزم، وقيل: أول من سماه به أهل المدينة لصلاتهم الجمعة قبل قدومه صلى الله عليه وسلم مع أسعد بن زرارة أخرجه عبد بن حميد عن ابن سيرين، وقيل غير ذلك.
"وكانت تجتمع إليه قريش في هذا اليوم فيخطبهم" يعظمهم، وكان فصيحًا خطيبًا وكان يأمرهم بتعظيم الحرم ويخبرهم سيبعث فيهم نبي، أخرجه الزبير بن بكار عن أبي سلمة بن عبد الرحمن مقطوعًا، وفي أمالي ثعلب: أنه قصيًا كان يجمعهم؛ كما مر ولا خلاف. "ويذكرهم بمبعث النبي صلى الله عليه وسلم ويعلمهم بأنه من ولده" وعلمه هو به من الوصية المستمرة من آدم أن من كان فيه ذلك النور لا يضعه إلا في المطهرات؛ لأن ختام الأنبياء منه، وقد علمه ظاهرًا فيه قائمًا به أو من الكتب القديمة: أن من كان بصفة كذا كان محمد من ولده، ووجد تلك الصفة فيه، والأول أظهر. "ويأمرهم باتباعه" إن أدركوه "والإيمان به" عطف تفسير، فاتباعه الإيمان به، "وينشد في ذلك" أي معه "أبياتًا منها قوله: يا ليتني شاهد" حاضر "فحواء" بفاء فحاء مهملة ممدود فقط للوزن وفيه القصر أيضًا، أي: معنى "دعوته" الناس إلى الإيمان، وفي نسخة: نجواء بنون وجيم والمد للضرورة من إضافة الصفة للموصوف، أي: دعوته السر إشارة إلى ما وجد في ابتداء(1/142)
....................... ... إذا قريش تبغي الحق خذلانا
ابن لؤي، تصغير اللأي بوزن عصا، وهو الثور, ابن غالب, بن فهر، واسمه قريش، وإليه تنسب قريش، فما كان فوقه فكناني لا قرشي
__________
الدعوة من الخفاء قبل الأمر بالصدع، وفي نسخة: فحواء؛ كالأولى طلعته بطاء ولام وعين. "إذا قريش تبغي" بضم الفوقية. وفتح الموحدة وكسر الغين المعجمة من بغاه الشيء بالتخفيف طلبة شدد مبالغة، وفي نسخة: حين العشيرة تبغي بفتح فسكون فكسر مخففًا من بغاه الشيء، طلبه له.
"الحق خذلانا" والمراد: أنه يتمنى إدراك زمن دعوته صلى الله عليه وسلم للناس، وقريش يعارضونه ويطلبون خذلان دينه، لينصره ويظهر دينه وهذا الذي أورده المؤلف في كعب, رواه أبو نعيم في الدلائل عن كعب الأحبار مطولا، وفي آخره: وكان بين موت كعب ومبعث النبي صلى الله عليه وسلم خمسمائة سنة وستون سنة. "ابن لؤي" بضم اللام والهمزة ويسهل بإبدال همزته واوًا، وفي النور والإرشاد: الهمز أكثر عند الأكثرين. "تصغير اللأي" قال ابن الأنباري: تصغير لأي "بوزن عصا" واللأي الثور، قال: ويحتمل أنه تصغير لأي بوزن عبد وهو البطء بالهمز ضد العجلة، ويؤيده قوله:
فدونكمو بني لأي أخاكم ... ودونك مالكًا يا أم عمرو
انتهى. واختار السهيلي الثاني، وقد قال الأصمعي: هو تصغير لوا الجيش زيدت فيه الهمزة، وقيل: منقول من لوى الرمل مقصورًا، وفي القاموس: ولأي اسم تصغير لؤي ومنه لؤي بن غالب. قال شيخنا: اقتصر عليه؛ لأن النقل عن الاسم أولى من اسم الجنس وإلا فكل تلك الألفاظ صالح للتصغير. "وهو" كما قال ابن الأنباري وجماعة "الثور" الوحشي، وقال أبو حنيفة: اللأي البقرة وكنيته أبو كعب، وكان له سبعة ذكور. "ابن غالب" بالمعجمة وكسر اللام منقول من اسم فاعل مشتق من الغلب بفتحات أو فتح فسكون، ويقال: غلبة بهاء وله تيم وبه يكنى، ولؤي "ابن فهر" بكسر الفاء وسكون الهاء فراء، منقول من الفهر الحجر الطويل، قال السهيلي: وقال الخشني: الفهر حجر ملء الكف يذكر ويؤنث وخطأ الأصمعي من أنثه، وفي الفتح: الفهر الحجر الصغير، وفي الإرشاد: الطويل والأملس. "واسمه قريش" وفي الفتح والإرشاد: قيل اسمه قريش، ونقل عن الزهري: أن أمه سمته به وأبوه سماه فهرًا، وقيل: فهر لقبه، وقيل: بالعكس. "وإليه تنسب قريش" فيما قاله جماعة ونسب للأكثر، قال الزهري: وهو الذي أدركت عليه من أدركت من نساب العرب: إن من جاوز فهرًا فليس من قريش. "فما كان فوقه فكناني" نسبة إلى كنانة بن مدركة، "لا قرشي" نسبة إلى قريش، ويقال: قريش أيضًا على(1/143)
على الصحيح.
__________
القياس. "على الصحيح" صححه الدمياطي والعراقي وغيرهما، والحجة لهم حديث مسلم والترمذي مرفوعًا: "إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشًا من كنانة" الحديث، وذهب آخرون إلى أن أصل قريش النضر، وبه قال الشافعي وعزاه العراقي للأكثرين، فقال:
أما قريش فالأصح فهر ... جماعها والأكثرون النضر
قال النووي: وهو الصحيح المشهور، وأيضًا صححه الحافظ العلائي وعزاه للمحققين، واحتجوا بحديث الأشعث بن قيس: قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في وفد كندة، فقلت: ألستم منا يا رسول الله؟ قال: "لا نحن بنو النضر بن كنانة" رواه ابن ماجه وابن عبد البر وأبو نعيم في الرياضة، وزاد: قال أشعث: والله لا أسمع أحدًا نفى قريشًا من النضر بن كنانة إلا جلدته، والاحتجاج بهذا ظاهر لا خفاء فيه. قال الحافظ في سيرته: وعندي أنه لا خلاف في ذلك؛ لأن فهو إجماع قريش ثم إن أباه مالكًا ما أعقب غيره، فقريش ينتهي نسبها كلها إلى مالك بن النضر، وكذلك النضر ليس له عقب إلا من مالك، فاتفق القولان بحمد الله تعالى. ا. هـ. ومن خطه نقلت: وقيل: إن قريشا هو الياس، وقيل: مضر، وحكى الماوردي وغيره: إنه قصي، قال البرهان: وهو قول باطل وكأنه قول رافضي؛ لاقتضائه أن أبا بكر وعمر ليسا من قريش فإمامتهما باطلة، وهو خلاف إجماع المسلمين. ا. هـ. ونقله عنه الشامي بلفظه وكثيرًا ما سمعت شيخنا حافظ العصر أبا عبد الله محمد البابلي يجزم بأنه قول الرافضة اخترعوه للطعن في الشيخين، ولم أر الجزم به الآن لكنه كان واسع الاطلاع واختلف في سبب تسميتها بقريش، فقيل: منقول من تصغير قرش، وهو دابة في البحر عظيمة من أقوى دوابه سميت به لقوتها؛ لأنها تأكل ولا تؤكل، وتعلو ولا تعلى، وكذلك قريش. أخرج ابن النجار في تاريخه عن ابن عباس: أنه دخل على معاوية وعنده عمرو بن العاصي، فقال عمرو: إن قريشًا تزعم أنك أعلمها فلم سميت قريش قريشًا؟ فقال: بأمر بين، فقال: ففسره لنا، ففسره قال: هل قال فيه أحد شعرًا؟ قال: نعم، سميت قريشًا بدابة في البحر، وقد قال الشمرخ بن عمرو الحميري:
وقريش هي التي تسكن البحـ ... ـر بها سميت قريش قريشا
تأكل الغث والسمين ولا تتـ ... ـرك فيه لدى الجناحين ريشا
هكذا في البلاد حي قريش ... يأكلون البلاد أكلا كميشا
ولهم آخر الزمان نبي ... يكثر القتل فيهمو والخموشا
يملأ الأرض خيله ورجال ... يحشرون المطي حشرًا كشيشا(1/144)
ابن مالك.
ابن النضر، واسمه قيس.
__________
وأخرجه ابن عساكر إلا أنه ذكر أن السائل معاوية، ووصف ابن عباس الدابة بأنها أعظم دواب البحر، وعزا هذه الأبيات للجمحي. ا. هـ.
وأكلا كميشًا، أي: سريعًا. والخموش: الخدوش، كما في القاموس وغيره. وقيل: من التقريش وهو التفتيش؛ لأنهم كانوا يفتشون عن خلة الناس وحاجاتهم فيسدونها بمالهم، وقيل: بقريش بن بدر بن يخلد بن النضر بن كنانة، وقيل: لأنهم كانوا يتجرون ويأخذون ويعطون من قرش الرجل يقرش كيضرب إذا اتجر، وقيل: من الأقراش، وهو وقوع الرايات والرماح بعضها على بعض، وقيل: من التقريش وهو التحريش. قال الزجاجي: وهو بعيد؛ لأن المعروف لغة أن التحريش هو الترقيش بتقديم الراء، وقيل غير ذلك. وقد حكى ابن دحية في سبب تسمية قريش، ومن أول من سمي بها عشرين قولا, هذا وقريش فرقتان بطاح وظواهر، فالبطاح من دخل مكة مع قصي، والظواهر من أقام بظاهر مكة ولم يدخل الأبطح.
"ابن مالك" اسم فاعل من ملك يملك، فهو مالك والجمع ملاك، ويكنى أبا الحارث، قال الخميس: سمي مالكًا لأنه كان ملك العرب، ويقع في نسخ ابن مالك قريش وإليه تنسب قريش، فما فوقه فكناني لا قريش على الصحيح، وكأنه كان بهامش مسودة المصنف فتحرف على الناسخ فخرجه في غير موضعه، وعلى تقدير صحته، فقوله: قريش، صفة لفهر بعد صفة، لا صفة لمالك "ابن النضر" بفتح النون وإسكان الضاد المعجمة فراء "واسمه قيس" ولقب بالنضر لنضارة وجهه وإشراقه وجماله، منقول من النضر اسم الذهب الأحمر، وله من الذكور مالك والصلت ويخلد بفتح التحتية وسكون المعجمة وضم اللام فدال مهملة، وبه يكنى أبوه ولكن لم يعقب إلا من مالك، كما مر.
وأم النضر برة بنت أد بن طابخة تزوجها كنانة بعد أبيه خزيمة، فولدت له النضر على ما كانت الجاهلية تفعله إذا مات الرجل خلف على زوجته أكبر بنيه من غيرها، كذا قاله الزبير بن بكار، وتبعه السهيلي وزاد: ولذلك قال تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء: 22] ، أي: من تحليل ذلك قبل الإسلام، قال: وفائدة الاستثناء هنا لئلا يعاب نسب النبي صلى الله عليه وسلم، وليعلم أنه لم يكن في أجداده سفاح، ألا ترى أنه لم يقل في شيء نهى عنه في القرآن إلا ما قد سلف إلا في هذه الآية، وفي الجمع بين الأختين، فإن الجمع بينهما كان مباحًا في شرع من قبلنا، وقد جمع يعقوب بين أختين وهما أجيل، أي: بجيم، كما في السبل، أو حاء مهملة كما في القاموس، وليا، فقوله: إلا ما قد سلف، التفات إلى هذا المعنى، وهذه(1/145)
ابن كنانة.
ابن خزيمة، تصغير خزمة.
__________
النكتة من الإمام أبي بكر بن العربي، إلى هنا كلامه. وتعقبه الحافظ القطب عبد الكريم الحلبي ثم المصري في شرح السيرة لعبد الغني بما حاصله: أن هذا غلط نشأ من اشتباه، وذلك أن أبا عثمان الجاحظ قال: إن كنانة خلف على زوجة أبيه فماتت ولم تلد له ذكرا ولا أنثى، فنكح ابنة أخيها وهي برة بنت مرة بن أد بن طابخة فولدت لها النضر، قال الجاحظ: وإنما غلط كثيرًا لما سمعوا أن كنانة خلف على زوجة أبيه؛ لاتفاق اسمهما وتقارب نسبهما، قال: وهذا الذي عليه مشايخنا من أهل العلم والنسب، ومعاذ الله أن يكون أصاب نسبه صلى الله عليه وسلم نكاح مقت، وقد قال: "ما زلت أخرج من نكاح كنكاح الإسلام" ومن قال غير هذا فقد أخطأ وشك في هذا الخبر، والحمد لله الذي طهره من كل وصم تطهيرًا. ا. هـ.
قال الدميري: وهذا أرجو به الفوز للجاحظ في منقلبه، وأن يتجاوز عنه فيما سطره في جميع كتبه. ا. هـ. وقد صوب مغلطاي كلام الجاحظ وأن خلافه غلط ظاهر، قال: وهذا الذي يثلج به الصدر ويذهب وحره ويزيل الشك ويطفئ شرره، قال الشامي: وهو من النفائس التي يرحل إليها والسهيلي تبع الزبير بن بكار، والزبير كأنه تبع الكبي -وهو متروك- بل لو نقله ثقة لم يقبل لعبد الزمان، ومخالفة الأحاديث الناطقة بخلافه. ا. هـ. وكذا ما قيل: إن هاشمًا خلف على واقدة زوجة أبيه بفرض صحته، فليست جدة للنبي صلى الله عليه وسلم، فإن أم عبد المطلب أنصارية؛ ولذا كانت الأنصار أخوال المصطفى.
"ابن كنانة" بكسر الكاف ونونين مفتوحتين بينهما ألف ثم هاء، منقول من الكنانة التي هي الجعبة بفتح الجيم وسكون العين المهملة، سمي بذلك تفاؤلا بأنه يصير كالكنانة الساترة للسهام، فكان سترًا على قومه، قال في السبل. وفي الخميس: إنما سمي كنانة؛ لأنه لم يزل في كن من قومه. وفي الفتح: هو بلفظ وعاء السهام إذا كانت من جلد. ونقل عن أبي عامر العدواني، أنه قال: رأيت كنانة بن خزيمة شيخنا مسنًا عظيم القدر يحج إليه العرب لعلمه وفضله بينهم.
"ابن خزيمة تصغير خزمة" بمعجمتين مفتوحتين، وهي مرة واحدة من الحزم وهو شد الشيء وإصلاحه، وقال الزجاجي: يجوز أنه من الخزم بفتح فسكون، تقول: خزمته فهو مخزوم إذا أدخلت في أنفه الخزام، قال في الفتح، وقيل: تصغير خزمة بكسر فسكون، فقيل: هي برة في أنف البعير يشد فيها الزمان، وقيل: الحلقة التي تجعل في أنف البعير من شعر ونحوه، قال في الغر: ولم أر من تعرض لوجه المناسبة للنقل مما ذكر، وقد يقال: الانتقال لا يقال فيه ذلك بخلاف الألقاب. وفي الخميس: إنما سمي خزيمة تصغير خزمة؛ لأنه اجتمع فيه نور آبائه وفيه نور(1/146)
ابن مدركة.
ابن إلياس، بكسر الهمزة في قول ابن الأنباري، وبفتحها في قول قاسم بن ثابت، ضد الرجاء، واللام فيه للتعريف والهمزة للوصل، قال السهيلي:................
__________
رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي القاموس: الخزامة كتابة للبرة، ثم قال: والخزمة محركة خوص المقل، قال شيخنا: فيجوز جعل خزيمة مصغر خزامة وخزمة، قال ابن عباس: مات خزيمة على ملة إبراهيم "ابن مدركة" بضم فسكون فكسر ففتح ثم هاء مبالغة، منقول من اسم فاعل من الإدراك، لقب به لإدراكه كل عز وفخر، كان في آبائه وكان فيه نور المصطفى ظاهرًا بينًا واسمه عمر، وعند الجمهور وهو الصحيح، وقال ابن إسحاق: عامر، وضعف.
"ابن إلياس" بتحتية والمعروف أنه اسمه، وفي سيرة مغلطاي اسمه حبيب، وفي الخميس: إنما سمي إلياس؛ لأن أباه كبر ولم يولد له، فولد على الكبر واليأس فسمي إلياس، وكنيته أبو عمرو وله أخ يقال له الناس بنون، ذكره ابن ماكولا والجوهري، وإلياس "بكسر الهمزة" وهي همزة قطع تثبت في الابتداء والتدرج "في قول" الحافظ أبي بكر محمد بن القاسم "ابن الأنباريط بفتح الهمزة وسكون النون وفتح الموحدة نسبة إلى الأنبار بلدة قديمة على الفرات على عشرة فراسخ من بغداد، صاحب التصانيف العلامة في النحو واللغة والأدب، المعدود في حفاظ الحديث, كان من أفراد الدهر في سعة الحفظ مع الصدق والدين ومن أهل السنة، مات ببغداد ليلة عيد النحر سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة، وقد وافقه على كسر الهمزة طائفة. قال ابن الأنباري: وهو أفعال من قولهم: أليس للشجاع الذي لا يفر، قال الشاعر:
أليس كالنشوان وهو صاحي
"وبفتحها في قول قسم بن ثابت" جزم العوفي الأندلسي المالكي الفقيه المحدث المشارك لأبيه في رحلته وشيوخه، الورع الناسك مجاب الدعوة المتوفى سنة اثنتين وثلاثمائة، قال: وهو "ضد الرجاء، واللام فيه للتعريف، والهمزة للوصل" وأنشد قسم على ذلك قول قصي:
أمهتي خندف واليأس أبي
وصححه المحققون، كما قال بعض مشايخ البرهان.
"قال" الإمام الحافظ العلامة ذو الفهم الدقيق والمعاني الرائقة، عبد الرحمن بن عبد الله بن أحمد بن أصبغ "السهيلي" الخثعمي الأندلسي المالقي، أبو القسم، واسع المعرفة، غزير العلم النحوي اللغوي، الإمام في لسان العرب، العالم بالتفسير وصناعة الحديث ورجاله وأنسابه، وبالتاريخ وعلم الكلام وأصوله وأصول الفقه الذكي النبيه، عمي وهو ابن سبع عشرة سنة، ولد سنة ثمان وخمسمائة، وصنف كتبًا منها الروض الآنف، ذكر فيه أنه استخرجه من مائة وعشرين(1/147)
وهذا أصح. وهو أول من أهدى البدن إلى البيت الحرام، ويذكر أنه كان يسمع في صلبه تلبية النبي صلى الله عليه وسلم بالحج؟!
__________
مصنفًا، ومات في شعبان سنة إحدى وثمانين وخمسمائة، وهو منسوب إلى سهيل قرية قرب مالقة سميت سهيل بالكوكب؛ لأنه لا يرى في جميع بلاد الأندلس، إلا من جبل مطل على هذه القرية، يرتفع نحو درجتين ويغيب.
"وهذا" الذي قاله قسم "أصح" من قول ابن الأنباري وصدق المصنف، فلفظ السهيلي والذي قاله غير ابن الأنباري أصح، وقد سقط لفظ غير من بعض نسخ النور، فأوهم اعتراضًا على المصنف مع أنه خطأ نشأ عن سقط. "وهو أول من أهدى البدن إلى البيت الحرام" جمع بدنة، وهي: البعير ذكرًا كان أو أنثى، والهاء فيها للوحدة لا للتأنيث، وحكى ابن التين عن مالك أنه كان يتعجب ممن يخص البدنة بالأنثى. وقال الأزهري: البدنة لا تكون إلا من الإبل، وأما الهدي فمن الإبل والبقر والغنم، هذا لفظه في التهذيب. وحكى النووي عنه: أن البدنة تكون من الإبل والبقر والغنم، وهو خطأ نشأ عن سقط، وفي الصحاح: البدنة ناقة أو بقرة تنحر بمكة، سميت بذلك لأنهم كانوا يسمنونها، قال الحافظ ابن حجر وفي حياة الحيوان، وهو أيضًا أول من وضع مقام إبراهيم للناس بعد غرق البيت وانهدامه زمن نوح، فكان إلياس أول من ظفر به فوضعه في زاوية البيت، كذا قال.
والذي في الاكتفاء: وهو أول من وضع الركن للناس بعد هلاكه حين غرق البيت، ومن الناس من يقول: إنما هلك الركن بعد إبراهيم وإسماعيل وهو الأشبه، ولما مات أسفت عليه زوجته خندف أسفًا شديدًا، ونذرت أن لا تقيم في بلد مات فيه ولا يأويها بيت، فتركت بنيها منه، وساحت حتى هلكت حزنًا، ومات يوم الخميس فنذرت أن تبكيه كلما طلعت شمس يوم الخميس حتى تغيب الشمس، وضربت الأمثال بحزنها عليه. "ويذكر" كما في الروض "أنه كان يسمع في صلبه تلبية النبي صلى الله عليه وسلم بالحج" وفي المنتقى: كان يسمع من ظهره أحيانًا دوي تلبية النبي صلى الله عليه وسلم بالحج، ولم تزل العرب تعظمه تعظيم أهل الحكمة؛ كلقمان وأشباهه، وكان يدعى كبير قومه وسيد عشيرته، ولا يقطع أمر ولا يقضي بينهم دونه، قال الزبير بن بكار: ولما أدرك إلياس أنكر على بني إسماعيل ما غيروا من سنن آبائهم وسيرهم، وبأن فضله عليهم ولأن جانبه لهم حتى جمعهم رأيه ورضوا به، فردهم إلى سنن آبائهم وسيرهم, قال ابن دحية، وهو وصي أبيه، وكان ذا جمال بارع، قال السهيلي: ويذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم لا تسبوا إلياس، فإنه كان مؤمنًا، قال البرهان، ولا أدري أنا حال هذا الحديث.(1/148)
ابن مضر. وهو أول من سن الحداء للإبل، وكان من أحسن الناس صوتًا.
ابن نزار -بكسر النون- من النزر، وهو القليل، قيل: إنه لما ولده، ونظر أبوه إلى نور محمد صلى الله عليه وسلم بين عينيه فرح فرحًا شديدًا، وأطعم وقال: إن هذا كله نزر، أي قليل لحق هذا المولود، فسمي نزارًا لذلك.
ابن معد.
__________
"ابن مضر" بضم الميم وفتح الضاد المعجمة غير مصروف للعلمية والعدل، قال الحافظ: قيل سمي به لأنه كان يحب شرب اللبن الماضر وهو الحامض، وفيه نظر؛ لأنه يستدعي أنه كان له اسم غيره قبل أن يتصف بهذه الصفة، نعم يمكن أن يكون هذا اشتقاقه، ولا يلزم أن يكون متصفًا بهذه الصفة، وقيل: لبياضه، وقيل: لأنه كان يمضر القلوب لحسنه وجماله، وفي الخميس: لأنه أخذ بالقلوب ولم يكن يراه أحد إلا أحبه، وفي السبل: اسمه عمرو وكنيته أبو إلياس، ومن حكمه من يزرع شرًا يحصد ندامة، وخير الخير أعجله، فاحملوا أنفسكم على مكروهها، واصرفوها عن هواها فيما أفسدها، فليس بين الصلاح والفساد إلا صبر فواق، بضم الفاء وتفتح ما بين الحلبتين؛ كما في القاموس.
"وهو أول من سن الحداء للإبل" بضم الحاء والمد: الغناء. قال البلاذري: وذلك أنه سقط عن بعيره وهو شاب فانكسرت يده، فقال: يا يداه يا يداه، فأبت إليه الإبل من المرعى، فلما صح وركب حدا، "وكان من أحسن الناس صوتًا" وقيل: بل كسرت يد مولى له فصاح فاجتمعت إليه الإبل، فوضع الحداء وزاد الناس فيه، انتهى كلام البلاذري وأخرج ابن سعد في الطبقات من مرسل عبد الله بن خالد: قال صلى الله عليه وسلم: "لا تسبوا مضر، فإنه كان قد أسلم".
"ابن نزار، بكسر النون" فزاي فألف فراء: مأخوذ "من النزر، وهو القليل، قيل" سبب ذلك "أنه لما ولد ونظر أبوه إلى نور محمد صلى الله عليه وسلم بين عينيه" وهو نور النبوة الذي كن ينتقل في الأصلاب "فرح فرحًا شديدًا" ونحر "وأطعم، وقال: إن هذا كله نزر، أي: قليل لحق هذا المولود، فسمي نزارًا لذلك" وبهذا القيل جزم السهيلي وتبعه النور والخميس، وزاد: أنه خرج أجمل أهل زمانه وأكبرهم عقلا، وقال أبو الفرج الأصبهاني: سمي بذلك لأنه كان فريد عصره، وعليه اقتصر الفتح والإرشاد، وقيل: لقب به لنحافته. قال الماوردي: كان اسمه خلدان وكان مقدمًا وانبسطت إليه اليد عند الملوك، وكان مهزول البدن، فقال له ملك الفرس: ما لك يا نزار؟ قال: وتفسيره في لغة الفرس يا مهزول، فغلب عليه هذا الاسم وكنيته أبو إياد، وقيل: أبو ربيعة، وفي الوفاء: يقال إن قبر نزار بذات الجيش قرب المدينة.
"ابن معد" بفتح الميم والمهملة وشد الدال ابن الأنباري، يحتمل أنه مقعل من العد، أو(1/149)
ابن عدنان.
قال ابن دحية: أجمع العلماء -والإجماع حجة- على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما انتسب إلى عدنان ولم يتجاوزه.
ولله در القائل:
#ونسبة عز هاشم من أصولها ... ومحتدها...................
__________
من معد في الأرض إذا أفسد، وقيل غير ذلك. قال الفتح: وسمي معدًا، قال الخميس: لأنه كان صاحب حروب وغارات على بني إسرائيل ولم يحارب أحدًا إلا يرجع بالنصر والظفر، وكنيته أبو قضاعة، وقيل: أبو نزار.
"ابن عدنان" بزنة فعلان من المعدن، أي: الإقامة، قال الحافظ وغيره. وفي الخميس: سمي به لأن أعين الجن والإنس. كانت إليه وأرادوا قتله، وقالوا: لئن تركنا هذا الغلام حتى يدرك مدرك الرجال ليخرجن من ظهره من يسود الناس، فوكل الله به من يحفظه انتهى.
وروى أبو جعفر بن حبيب في تاريخه عن ابن عباس قال: كان عدنان ومعد وربيعة وخزيمة وأسد على ملة إبراهيم فلا تذكروهم إلا بخير، وروى الزبير بن بكار مرفوعًا: "لا تسبوا مضر ولا ربيعة، فإنهما كانا مسلمين". وله شاهد عند ابن حبيب من مرسل سعيد بن المسيب، وحكى لزبير أن عدنان أول من وضع أنصاب الحرم، وأول من كسا الكعبة، أو كسيت في زمنه. والبلاذري: أول من كساها الإنطاع عدنان، وفي أول من كساها خلاف ليس هذا موضعه، ولما استشعر المصنف قول سئل: لِمَ لَمْ توصل النسب إلى آدم؟ قال: "قال" الإمام الحافظ المتقن أبو الخطاب عمر بن حسن بن علي بن محمد المشهور بأنه "ابن دحية" لأنه رحمه الله كان يذكر أنه من ولد الصحابي دحية الكلبي، بفتح الدال وكسرها، قال النور: لغتان مشهورتان الكرماني اختلف في الراجحة منهما، والجوهري اقتصر على الكسر، والمجد قدمه الأندلسي السبتي البصير بالحديث المعتنى به ذو الحظ الوافر من اللغة والمشاركة في العربية صاحب التصانيف وطن مصر وأدب الملك الكامل ودرس بدار الحديث الكاملية، مات رابع عشر ربيع الأول سنة ثلاث وثلاثين وستائة عن نيف وثمانين سنة.
"أجمع العلماء، والإجماع حجة" لعصمة الأمة عن الخطأ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تجتمع أمتي على ضلالة" "على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما انتسب إلى عدنان ولم يتجاوزه. ا. هـ. ولله در القائل: ونسبة عز هاشم من أصولها، ومحتدها" بفتح الميم وسكون الحاء المهملة وكسر الفوقية أصلها؛ كما في القاموس.(1/150)
......................... ... ...... المرضي أكرم محتد
سميت رتبة علياء أعظم بقدرها ... ولم تسم إلا بالنبي محمد
ويرحم الله القائل:
وكم أب قد علا بابن ذوي شرف ... كما علا برسول الله عدنان
وعن ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا انتسب لم يجاوز معد بن عدنان، ثم يمسك ويقول: كذب النسابون مرتين أو ثلاثًا، رواه في مسند الفردوس. لكن قال السهيلي: الأصح في هذا الحديث أنه من قول ابن مسعود.
__________
"المرضى أكرم محتد" كمجلس "سميت" بفتحتين مخفف الميم ارتفعت "رتبة" تمييز محول عن الفاعل، أي: منزلة، "علياء" أي: مرتفعة، وفي القاموس: العلياء كل ما علا من شيء، فالمعنى ارتفعت منزلة هذه النسبة المرتفعة، فكأنه قال: زادت رفعة، "أعظم بقدرها" فعل تعجب، أي: ما أعظم قدرها، "و" الحال أنها "لم تسم إلا بالنبي محمد" أي: بوجوده فيها، "ويرحم الله القائل" غاير تفننًا وكراهة لتوارد الألفاظ، وهو أبو العباس علي بن الروم:
قالوا أبو الصقر من شيبان قلت لهم ... كلا لعمري ولكن منه شيبان
"وكم أب قد علا بابن ذوي شرف ... كما علا برسول الله عدنان"
ذرى بضم الذال المعجمة وخفة الراء المهملة، أي: أعالي شرف الواحدة ذروة بكسر الذال وضمها وأنشده المغني بلفظ: ذرى حسب لكن شرف أنسب، كما لا يخفى. قال ابن عصفور، يريد أن المتقدم قد يأتيه الشرف من جهة المتأخر.
"وعن ابن عباس: أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا انتسب لم يجاوز" من انتسابه "معد بن عدنان، ثم يمسك" توطئة لقوله: "ويقول: كذب النسابون" بقولها: "مرتين أو ثلاثًا" شك من الراوي، "رواه في مسند الفردوس" بمأثور الخطاب المخرج على كتاب الشهاب والفردوس للإمام عماد الإسلام أبي شجاع الديلمي ألفه محذوف الأسانيد مرتبًا على الحرف ليسهل حفظه، وعلم بإزائها بالحروف للمخرقين ومسنده لولده الحافظ أبي منصور شهردار بن شهرويه المتوفى سنة تسع وخمسمائة، خرج سند كل حديث تحته، وكذا رواه ابن سعد في الطبقات.
"لكن قال السهيلي: الأصح في هذا الحديث" المروي مرفوعًا "أنه من قول" عبد الله "بن مسعود" بن غافل بمعجمة وفاء قديم الإسلام أحد القراء هاجر الهجرتين وصلى للقبلتين وشهد بدرًا والحديبية وجمع القرآن على العهد النووي، وشهد له المصطفى بالجنة مات سنة اثنتين(1/151)
وقال غيره: كان ابن مسعود إذا قرأ قوله تعالى: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللَّهُ} [إبراهيم: 9] قال: كذب النسابون، يعني أنهم يدعون علم الأنساب ونفى الله علمها عن العباد.
وروي عن عمر أنه قال: إنما ينسب إلى عدنان وما فوق ذلك لا يدرى ما هو.
وعن ابن عباس: بين عدنان وإسماعيل ثلاثون أبا لا يعرفون.
__________
وثلاثين، وقد جاوز الستين وصلى عليه عثمان ودفن بالبقيع، "وقال غيره: كان ابن مسعود إذا قرأ قوله تعالى: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ} خبر {الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ} قوم هود {وَثَمُودَ} قوم صالح {وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللَّهُ} [إبراهيم: 9] لكثرتهم "قال" احتجاجًا "كذب النسابون يعني" ابن مسعود بذلك "أنهم يدعون علم الأنساب، ونفى الله علمها عن العباد" بقوله: {لا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللَّهُ} [إبراهيم: 9] ، "وروي عن عمر" بن الخطاب القرشي العدوي أمير المؤمنين، وعند ابن إسحاق أنه صلى الله عليه وسلم كناه أبا حفص، وأخرج ابن أبي شيبة، عن ابن عباس، عن عمرو بن سعد، عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم لقبه بالفاروق، وقال الزهري: لقبه به أهل الكتاب، رواه ابن سعد، وقيل: جبريل، ورواه البغوي.
وفي البخاري عن ابن مسعود: "ما زلنا أعزة"، أي في الدين "منذ أسلم عمر". "أنه قال: إنما ينسب" بتحتية فنون النب صلى الله عليه وسلم أو بنونين، أي: معاشر قريش، "إلى عدنان وما فوق ذلك" من عدنان إلى إسماعيل، ومن إبراهيم إلى آدم "لا يدرى" بباء ونون "ما هو" أي: ما عدته، أو ما اسمه، وكلام الحافظين اليعمري والعسقلاني والمصنف وغيرهم صريح في ثبوت الخلاف فيمن بين إبراهيم وآدم، فلا عبرة بمن نفاه، وقال: إنه ثابت بلا خلاف ولفظ سيرة العسقلاني اختلف فيما بين عدنان وإسماعيل اختلافا كثيرًا، ومن إسماعيل إلى آدم متفق على أكثره وفيه خلف يسير في عدد الآباء، وفيه خلف أيضًا من ضبط بعض الأسماء، انتهى. ومن خطه نقلت، وقد التزم فيها الاقتصار على الأصح فلا يصح زعم أن الخلاف ضعيف جدًا لم يعتد به من نفاه، بمجرد تجويز عقلي.
"وعن ابن عباس بين عدنان وإسماعيل ثلاثون أبًا لا يعرفون" بأسمائهم، فلا ينافي قوله: ثلاثون، وقيل: بينهما أربعة أو سبعة أو ثمانية أو تسعة أو عشرة أو خمسة عشر أو عشرون أو ثمانية وثلاثون أو تسعة وثلاثون أو أربعون أو واحد وأربعون أو غير ذلك أقوال.(1/152)
وقال عروة بن الزبير: ما وجدنا أحدًا يعرف بعد معد بن عدنان.
وسئل مالك عن الرجل يرفع نسبه إلى آدم، فكره ذلك، وقال من أخبره بذلك؟ وكذا روي عنه في رفع نسب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
فالذي ينبغي لنا، الإعراض عما فوق عدنان، لما فيه من التخليط والتغيير للألفاظ، وعواصة تلك الأسماء، مع قلة الفائدة.
وقد ذكر الحافظ أبو سعيد النيسابوري..................................
__________
"وقال عروة بن الزبير" بن العوام القرشي الأسدي المدني التابعي الكبير أحد فقهاء المدينة السبعة الحافظ، المتوفى سنة أربع وسبعين وقيل غير ذلك. "وما وجدنا أحدًا يعرف بعد معد بن عدنان" هذا لا ينافي وجدان غيره من يعرف ذلك، "وسئل مالك" بن أنس بن مالك أبي عامر بن عمرو الأصبحي، أبو عبد الله المدني عالم المدينة نجم الأثر العابد الزاهد الورع إمام المتقين وكبير المتثبتين، حتى قال البخاري: أصح الأسانيد كلها مالك عن نافع عن ابن عمر، روى الترمذي وحسنه واللفظ له، والحاكم وصححه والنسائي عن أبي هريرة رفعه: "يوشك أن يضرب الناس آباط المطي في طلب العلم، فلا يجدون عالمًا أعلم من عالم المدينة"، قال النووي: قال سفيان ابن عيينة: هو مالك بن أنس. وفي الحلية: عن مالك: ما بت ليلة إلا رأيت فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، توفي سنة تسع وسبعين ومائة.
أفرد مناقبه بالتأليف جمع من العلماء؛ كالدينوري وعياض والذهبي وغيرهم. "عن الرجل يرفع نسبه إلى آدم، فكره ذلك" قيل له: فإلى إسماعيل، فكره ذلك أيضًا، "وقال" على سبيل الإنكار، "من أخبره بذلك" حتى يعتمد عليه، "وكذا روي عنه" أنه كره ذلك "في رفع نسب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام" إلى آدم، قال السهيلي: وقع هذا الكلام لمالك في الكتاب الكبير المنسوب إلى المعيطي وإنما أصله لعبد الله بن محمد بن جبير وتممه المعيطي فنسب إليه، وإذا كان كذلك، "فالذي ينبغي لنا الإعراض عما فوق عدنان لما فيه من التخلي والتغيير للألفاظ، وعواصة" بعين وصاد مهملتين، أي: صعوبة؛ كما في القاموس.
"تلك الأسماء مع قلة الفائدة" في ذكرها "وقد ذكر الحافظ أبو سعيد" عبد الرحمن بن الحسن الأصبهاني الأصل "النيسابوري" بفتح النون نسبة إلى نيسابور أشهر مدن خراسان صاحب المسند وكتاب شرف المصطفى الثقة المتوفى سنة سبع وثلاثمائة، وقلد المصنف في قوله أبو سعيد بالياء السهيلي، وقد تعقبه مغلطاي بأنه: إنما هو سعد بسكون العين، انتهى، وكذا قال صاحب رونق الألفاظ، وقال: إن الذهبي ذكره، أي: بوصف الحافظ في تاريخه وأغفله من طبقات الحافظ.(1/153)
عن أبي بكر بن أبي مريم عن سعد بن عمرو الأنصاري عن أبيه عن كعب الأحبار: أن نور النبي صلى الله عليه وسلم لما صار إلى عبد المطلب وأدرك، نام يومًا في الحجر فانتبه مكحولًا مدهونًا، قد كسي حلة البهاء والجمال، فبقي متحيرًا لا يدري من فعل به ذلك، فأخذه أبوه بيده ثم انطلق به إلى كهنة قريش فأخبرهم بذلك، فقالوا له: اعلم أن إله السماوات قد أذن لهذا الغلام أن يتزوج، فزوجه قيلة فولدت له الحارث ثم ماتت، فزوجه بعدها هند بنت عمرو...........................
__________
"عن أبي بكر" اسمه بكير، وقيل: عبد السلام، "بن أبي مريم" نسبة لجده للشهرة، واسم أبيه عبد الله الغساني عن خالد بن معدان ومكحول وعنه ابن المبارك وأبو اليمان، قال الذهبي: ضعفوه له علم وديانة، توفي سنة ست وخمسين ومائة، وقال العراقي: ضعفه غير واحد، وسرق له حلي فأنكر عقله ولم يتهمه أحد بكذب.
"عن سعد بن عمرو" ابن شرحبيل "الأنصاري" السعدي من ذرية سعد بن عبادة ثقة، روى عنه مالك والدراوري "عن أبيه" عمرو بن شرحبيل بن سعيد بن سعد بن عبادة الأنصاري الخزرجي مقبول، روى عنه ابنه "عن كعب الأحبار" أي: ملجأ العلماء الحميري، "أن نور النبي صلى الله عليه وسلم لما صار" أي: انتقل، "إلى عبد المطلب وأدرك" أي: بلغ "نام يومًا" أي: في يوم "في الحجر، فانتبه" حال كونه: "مكحولا مدهونًا قد كسي حلة البهاء والجمال، فبقي متحيرًا لا يدري من فعل به ذلك، فأخذه أبوه بيده" أي: عمه المطلب إذ العرب تسمي العم أبا حقيقة أو على التشبيه لقيامه مقامه في تربيته فلا يرد ما مر عن الفتح وغيره من موت أبيه بغزة وهو حمل، أو بمكة على أثر ولادته على ما حكى المصنف، "ثم انطلق به إلى كهنة قريش" قال عياض: كانت الكهانة في العرب ثلاثة أضرب أحدها أن يكون للإنسان ولي من الجن يخبره بما يسترق من السمع عن السماء، وهذا بطل حين البعثة الثاني أن يخبره بما يطرأ أو يكون في أقطار الأرض وما خفي عنه مما قرب أو بعد، وهذا لا يبعد وجوده، ونفت المعتزلة وبعض المتكلمين هذين الضربين وأحالوهما، ولا استحالة ولا بعد في وجودهما الثالث المنجمون وهذا الضرب يخلق الله فيه لبعض الناس قوة ما، لكن الكذب فيه أغلب ومنه العرافة وصاحبها عراف، وقد نهى الشارع عن تصديقهم كلهم والإتيان لهم، "فأخبرهم بذلك، فقالوا له: اعلم أن إله السماوات قد أذن لهذا الغلام أن يتزوج، فزوجه قيلة" بفتح القاف وسكون التحتية فلام فهاء، "فولدت له الحارث" لا ينافي هذا ما في المقصد الثاني للمصنف كالسبل، والخميس من أن أم الحارث صفية بنت جندب لجواز أنه اسمها، وقيلة لقبها "ثم ماتت، فزوجه بعدها هند بنت عمرو" الظاهر: أن هند تحريف صوابه فاطمة، فقد نقل الخميس أن زوجات عبد المطلب خمس: صفية(1/154)
وكان عبد المطلب يفوح منه رائحة المسك الأذفر، ونور رسول الله صلى الله عليه وسلم يضيء في غرته، وكانت قريش إذا أصابها قحط شديد تأخذ بيد عبد المطلب فتخرج به إلى جبل ثبير فيتقربون به إلى الله، ويسألونه أن يسقيهم الغيث، فكان يغيثهم ويسقيهم ببركة نور رسول الله صلى الله عليه وسلم غيثًا عظيمًا.
__________
بنت جندب من بني عامر بن صعصعة، ونثيلة بنت جناب بن كليب بن مالك بن عمرو بن عامر، وهالة بنت وهيب بن عبد مناف بن زهرة، وآمنة بنت هاجر الخزاعي، وفاطمة بنت عمرو بن عائذ بن عمرو ابن مخزوم أمهرها مائة ناقة كومًا وعشرة أواق من ذهب، فولدت له أولادًا منهم عبد الله والده صلى الله عليه وسلم فهي مخزومية وجدة أولى للمصطفى، ذكره ابن قتيبة في المعارف ونحوه في المقصد الثاني.
"وكان عبد المطلب يفوح منه رائحة المسك" بكسر الميم والمشهور أنه دم يتجمد في خارج سرة ظباء معينة في أماكن مخصوصة وينقلب بحكمة الحكيم أطيب الطيب، "الأذفر" بذال معجمة، أي: المذكى ويطلق على النتن وليس مرادًا هنا، وبالمهملة خاص بالنتن؛ كما في المختار. "وكان نور رسول الله صلى الله عليه وسلم يضيء في غرته" أي: جبهته بينًا واضحًا، "وكانت قريش إذا أصابها قحط شديد تأخذ بيد عبد المطلب فتخرج به إلى جبل ثبير" بمثلثة فموحدة، كأمير "فيتقربون به إلى الله" لما جربوه من قضاء الحوائج على يده ببركة نوره صلى الله عليه وسلم، ولما جعله الله فيه من مخالفة ما كان عليه الجاهلية بإلهام من الله، وكان يأمر أولاده بترك الظلم والبغي، ويحثهم على مكارم الأخلاق وينهاهم عن دنيات الأمور، ويؤثر عنه سنن جاء بها القرآن والسنة كالوفاء بالنذر، والمنع من نكاح المحارم، وقطع يد السارق، والنهي عن قتل الموءودة وتحريم الخمر والزنا، وأن لا يطوف بالبيت عريان، حكاه سبط ابن الجوزي في مرآة الزمان.
"ويسألونه أن يسقيهم الغيث" المطر، "فكان" الله "يغيثهم ويسقيهم ببركة نور رسول الله" الكائن في غرة جده "صلى الله عليه وسلم غيثًا عظيمًا" أو ببركة وجوده نفسه بعد ولادته، فإن عبد المطلب كان يخرج به. روى البلاذري وابن سعد عن مخرمة بن نوفل الزهري الصحابي، قال: سمعت أمي رقيقة بنت أبي صفي بن هاشم بن عبد مناف، تقول: تتابعت عن قريش سنون ذهبن بالأموال وأشقين على الأنفس، قالت: فسمعت قائلا يقول في المنام: يا معشر قريش، إن هذا النبي المبعوث منكم، وهذا أبان خروجه وبه يأتيكم الحيا والخصب، فانظروا رجلا من أوسطكم نسبًا، طوالا عظامًا، أبيض مقرون الحاجبين، أهدب الأشفار، جعد، أسيل الخدين، رقيق العرنين، فليخرج هو وجميع ولده، وليخرج منكم من كل بطن رجل فتطهروا وتطيبوا، ثم استلموا الركن، ثم ارقوا إلى رأس أبي قبيس، ثم يتقدم هذا الرجل فيستقي وتؤمنون فإنكم ستسقون، فأصبحت(1/155)
"عام الفيل وقصة أبرهة":
__________
فقصت رؤياها عليهم فنظروا فوجدوا هذه الصفة صفة عبد المطلب، فاجتمعوا إليه وأخرجوا من كل بطن منهم رجلا وفعلوا ما أمرتهم به، ثم علوا على أبي قبيس ومعهم النبي صلى الله عليه وسلم وهو غلام فتقدم عبد المطلب، وقال لهم: هؤلاء عبيدك وبنو عبيدك وإماؤك وبنو إمائك، وقد نزل بنا ما ترى وتتابعت علينا هذه السنون، فذهبت بالظلف والخف وأشقت على الأنفس، فاذهب عنا الجدب، وائتنا بالحيا والخصب، فما برحوا حتى سالت الأودية، وبرسول الله صلى الله عليه وسلم سقوا، فقالت رقيقة:
بشيبة الحمد أسقى الله بلدتنا ... وقد فقدنا الحيا واجلوذ المطر
فجاد بالماء جوني له سبل ... دان فعاشت به الأنعام والشجر
منا من الله بالميمون طائره ... وخير من بشرت يومًا به مضر
مبارك الأمر يستسقى الغمام به ... ما في الأنام عدل ولا خطر
اجلوذ بجيم ساكنة فلام مفتوحة فواو مشددة فذال معجمة: امتدت وقت تأخره وانقطاعه. وجوني بفتح الجيم وسكون الواو فنون فتحتية مشددة: مطر هاطل، وسبل بفتح السين والموحدة وباللام: المطر. وبشرت بالبناء للفاعل.
قصة الفيل:
أورد المصنف منها طرفًا تنبيهًا على أن دفعهم من أجل النعم على قريش ببركته صلى الله عليه وسلم على يد جده، وحاصلها: أنه لما كان المحرم والنبي صلى الله عليه وسلم حمل في بطن أمه على الصحيح، حضر أبرهة بن الصباح الأشرم يريد هدم الكعبة؛ لأنه لما غلب على اليمن وملكها من قبل النجاشي، رأى الناس يتجهزون أيام الموسم للحج، فقال: أين يذهبون؟ فقيل: يحجون بيت الله بمكة، قال: وما هو؟ قيل: من الحجارة، قال: وما كسوته؟ قيل: ما يأتي من هنا من الوصائل، فقال: والمسيح لأبنين لكم خيرًا منه، فبنى لهم كنيسة بصنعاء بالرخام الأبيض والأصفر والأحمر والأسود، وحلاها بالذهب والفضة وأنواع الجواهر، وأذل أهل اليمن على بنائها وكلفهم فيها أنواعًا من الشجر ونقل لها الرخام المجزع والحجارة المنقشة بالذهب والفضة من قصر بلقيس، وكان على فرسخ من موضعها ونصب فيها صلبانًا من ذهب وفضة ومنابر من عاج وأبنوس وغيره، وكان يشرف منها على عدن لارتفاع بنائها وعلوها، ولذا سماها القليس -بضم القاف- وفتح اللام مشددة ومخففة فتحتية ساكنة فسين مهملة، أو بفتح القاف وكسر اللام؛ لأن الناظر لها تسقط قلنسوته عن رأسه، وقيل: إنما سماها بذلك العرب فيحتمل أنهم تبعوه، واحتمال عكسه(1/156)
...............................................................................
__________
بعيد إذا لا تطيب نفسه بتبعيتهم في تسمية ما بناه افتخارًا عليهم، فلما أراد صرف الحج إليها كتب للنجاشي: إني بنيت كنسية باسم الملك لم يكن مثلها قبلها، أريد صرف حج العرب إليها وأمنع الناس من الذهاب لمكة، فلما اشتهر الخبر عند العرب خرج رجل من كنانة مغضبًا فتغوط فيها، ثم خرج فلحق بأرضه، فأغضبه ذلك؛ هذا قول ابن عباس.
وقيل: أججت فتية من العرب نارًا وكان في عمارة القليس خشب مموه فحملتها الريح فأحرقتها فحلف ليهدمن الكعبة، وهو قول مقاتل. وقيل: كان نفيل الخثعمي يتعرض لأبرهة بالمكروه فأمهله حتى إذا كانت ليلة من الليالي لم ير أحدًا يتحرك فجاء بعذرة فلطخ بها قبلتها، وجمع جيفًا فألقاها فيها فأخبر بذلك فغضب غضبًا شديدًا وحلف لينقضن الكعبة حجرًا حجرًا، وكتب إلى النجاشي يخبره بذلك وسأله أن يبعث إليه فيله محمودًا، فلما قدم الفيل إليه خرج في ستين ألفًا.
وفي سيرة ابن هشام: فلما سمعت العرب بخروجه قطعوه ورأوا جهاده حقًا عليهم، فخرج إليه رجل من ملوك اليمن يقال له: ذو نفر وهو بنون ففاء فراء، فقاتله فهزم هو وأصحابه وأتي به أسيرًا فأراد قتله ثم تركه وحبسه عنده في وثاق ثم مضى، حتى إذا كان بأرض خثعم عرض له نفيل بن حبيب الخثعمي في قبيلته ومن تبعه من العرب فقاتله، فهزم وأخذ نفيل أسيرًا فهم بقتله، فقال: لا تقتلني فإني دليلك بأرض العرب، فتركه وخرج به يدله حتى إذا مر على الطائف خرج مسعود بن معتب الثقفي في رجال ثقيف، فقالوا: أيها لملك، إنما نحن عبيدك سامعون لك مطيعون، ولست تريد هذا البيت -يعنون بيت اللات- إنما تريد الذي بمكة، ونحن نبعث معك من يدلك عليه، فبعثوا معه أبا رغال فخرج حتى إذا بلغ المغمس بطريق الطائف مات أبو رغال فرجمت العرب قبره، فهو القبر الذي يرجم إلى اليوم، ثم أرسل أبرهة خيلا له إلى مكة فأخذت إبلا لعبد المطلب فذهب له فردها عليه، ثم انصرف إلى قريش فأمرهم بالخروج من مكة إلى الجبال والشعاب، ثم قام عبد المطلب فأخذ بحلقة باب الكعبة، ومعه نفر من قريش يدعون الله ويستنصرونه على أبرهة وجنده، فقال عبد المطلب:
لا هم أن المرء يمـ ... ـنع رحله فامنع رحالك
وانصر على آل الصليـ ... ـب وعابديه اليوم آلك
لا يغلبن صليبهم ... ومحالهم أبدًا محالك
وزاد بعضهم، بعد البيت الثاني:
جروا جميع بلادهم ... والفيل كي يسبوا عيالك(1/157)
ولما قدم أبرهة ملك اليمن من قِبَل أصحمة النجاشي..................
__________
عمدوا حماك بكيدهم ... جهلًا وما رقبوا جلالك
وأنشد ابن هشام البيت الأول والثالث فقط، وقال: هذا ما صح عندي له منها، ثم أرسل حلقة الباب وانطلق هو ومن معه من قريش إلى الجبال ينظرون ما أبرهة فاعل بمكة، فمنعه الله من دخولها؛ كما يجيء. وقيل: لم يخرج عبد المطلب من مكة بل أقام بها، وقال: لا أبرح حتى يقضي الله قضاءه، ثم صعد هو وأبو مسعود الثقفي على مكان عال لينظر ما يقع، وأبو رغال بكسر الراء وخفة المعجمة واللام وحكمة تقبيح حاله وإظهار شناعة أمره حتى صار يرجم بعد موته دون نفيل أنه إنما جعل نفسه دليله وقاية من القتل؛ فكان كالمكره على ذلك بخلاف أبي رغال، فإن قومه تلقوا أبرهة بالسلم واختاروه دليلا، وقول الشارح دون ذي نفر ونفيله سبق قلم، فما كان ذو نفر دليلا إنما كان أسيرًا معه في الوثاق، كما تلي عليك.
"ولما قدم أبرهة" بفتح الهمزة وسكون الموحدة وفتح الهاء، "ملك اليمن" بكسر اللام بدل من أبرهة "من قبل" بكسر القاف وفتح الموحدة جهة، "أصحمة" بوزن أربعة وحاؤه مهملة، وقيل معجمة، وقيل: بموحدة بدل الميم، وقيل: صحمة بغير ألف، وقيل كذلك لكن بتقديم الميم على الصاد، وقيل: بميم في أوله بدل الألف عن ابن إسحاق في المستدرك للحاكم، والمعروف عن ابن إسحاق الأل ويتحصل من هذا الخلاف في اسمه ستة ألفاظ، لم أرها مجموعة.
"النجاشي" بفتح النون على المشهور، وقيل: تكسر عن ثعلب وتخفيف الجيم، وأخطأ من شددها وتشديد آخره. وحكى المطرزي التخفيف، ورجحه الصغاني، قاله في الإصابة. وفي قوله: على المشهور رد للثاني من قول القاموس تكسر نونه أو هو الأفصح، قيل: أصحمة هذا ومعناه بالعربية، عطية، كما قاله ابن قتيبة وغيره: جد النجاشي الذي كان في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وسبب ولايته اليمن أن بعض أهلها من أصحاب الأخدود لما أكثر القتل فيهم ملكهم وهو ذو نواس آخر ملوك اليمن من حمير فر إلى قيصر ملك الشام يستغيث به، فكتب له إلى النجاشي ملك الحبشة ليغيثه، فأرسل معه أميرين أرياط وأبرهة بجيش عظيم فدخلوا اليمن وقتلوا ملكه واستولوا عليه، ثم اختلفا وتقاتلا فقتل أرياط بعد أن شرم أنف أبرهة وحاجبه وعينه وشفته، فبذلك سمي الأشرم فداوى جراحه فبرئ، واستقل بالملك فبلغ النجاشي فغضب وأراد البطش به فترفق له أبرهة وتحيل بإرسال تحف حتى رضي عنه، وأقره في قصة طويلة عند ابن إسحاق هذا، حاصلها: وفي حواشي البيضاوي للسيوطي: قال الطيبي: سمي الأشرم؛ لأن أباه ضربه بحربة فشرم أنفه وجبينه، انتهى. وكذا جزم به الأنصاري، دون عز وللطيبي، لكن معلوم أن ابن إسحاق مقدم على الطيبي في مثل هذا.(1/158)
لهدم بيت الله الحرام، وبلغ عبد المطلب ذلك، فقال: يا معشر قريش، لا يصل إلى هدم البيت، لأن لهذا البيت ربًا يحميه ويحفظه.
ثم جاء أبرهة فاستاق إبل قريش وغنمها، وكان لعبد المطلب فيها أربعمائة ناقة.
فركب عبد المطلب في قريش حتى طلع جبل ثبير، فاستدارت دارة غرة رسول الله صلى الله عليه وسلم........................
__________
"لهدم بيت الله الحرام" غضبًا من تغوط الكناني بكنيسته وتلطيخ الخثعمي قبلتها بالعذرة وإلقاء الجيف فيها واحتراقها بنار أججها بعض العرب، فحلف ليهدمن الكعبة، فهدمه الله وملكه. "وبلغ عبد المطلب ذلك، فقال: يا معشر قريش" لا تفزعوا؛ لأنه "لا يصل إلى هدم البيت، لأن لهذا البيت ربًا يحميه" بفتح أوله يدفع عنه من يريد فسادًا كأبرهة، "ويحفظه" بفعل ما هو سبب في بقائه؛ كعمارته، وهذا أولى من جعل يحفظه عطف تفسير. "ثم جاء أبرهة" أي: رسوله؛ كبني الأمير المدينة، فعند ابن إسحاق فلما نزل أبرهة المغمس أمر رجلا من الحبشة، يقال له الأسود بن مفصود بفاء وصاد مهملة على خيل له وأمره بالغارة فمضى حتى انتهى إلى مكة، فساق أموال تهامة وغيرها من قريش وأصاب فيها مائتي بعير لعبد المطلب وهو يومئذ كبير قريش وسيدها، "فاستاق" أبرهة، أي: رسوله، "إبل قريش وغنمها".
قال ابن إسحاق: فهمت قريش وكنانة وهذيل ومن كان بالحرم بقتاله، ثم عرفوا أنهم لا طاقة لهم به فتركوه، "وكان لعبد المطلب فيها أربعمائة ناقة" ظاهره: أن الكل إناث، والظاهر: أن فيها ذكورًا فغلبت الإناث لكثرتها، ثم هو مخالف لما عند ابن إسحاق وتبعه ابن هشام، وجزم به البغوي واليعمري والدميري والشامي من قولهم: فأصاب فيها مائتي بعير لعبد المطلب، فيجوز أن الخاص به مائتان وباقيها لبعض خواصه، فنسبت إليه والبعير يقع على الذكر والأنثى فلا مخالفة، ولم يذكر المصنف كغيره الغنم، فيجوز أن عبد المطلب لم يكن له غنم أوله، ولم تذكر لخستها بالنسبة للإبل، "فركب عبد المطلب في قريش، حتى طلع بل ثبير" بمثلثة مفتوحة فموحدة مكسورة فتحتية، جبل بمكة، "فاستدارت دارة غرة" بضم الغين المعجمة، أي: بياض، أي: نور "رسول الله صلى الله عليه وسلم" وفي المختار: الغرة بالضم: بياض في جبهة الفرس فوق الدرهم، وفي المصباح: الدارة دارة القمر وغيره، سميت بذلك لاستدارتها، فالمعنى، هنا: فحصلت دارة غرة المصطفى على سبيل التجريد، وإلا فالدارة هي المحيطة بالغرة فلا يصح إسناد الفعل لها؛ لاقتضائه تعلق الاستدارة بالدارة، ولا يصح.(1/159)
على جبهته كالهلال واشتد شعاعها على البيت الحرام مثل السراج، فلما نظر عبد المطلب إلى ذلك قال: يا معشر قريش: ارجعوا فقد كفيتم هذا الأمر، فوالله ما استدار هذا النور مني إلا أن يكون الظفر لنا، فرجعوا متفرقين.
ثم إن أبرهة أرسل رجلا من قومه ليهزم الجيش، فلما دخل مكة ونظر إلى وجه عبد المطلب خضع وتلجلج لسانه وخر مغشيًا عليه، فكان يخور كما يخور الثور عند ذبحه، فلما أفاق خر ساجدًا لعبد المطلب، وقال: أشهد أنك سيد قريش حقًا.
__________
"على جبهته" متعلق باستدارت، وفي نسخة: على جبينه "كالهلال" وجعلت على جبينه؛ لأن الغرة في الجبهة والدائرة حولها إذا وجدت تكون نازلة عن الغر بالجنبين المحيطين بالجبهة، "واشتد شعاعها" حتى صار "على البيت الحرام مثل السراج" أي: الشمس مجازًا على مقتضى البيضاوي وحقيقة على مقتضى قول القاموس: السراج معروف والشمس، "فلما نظر" أي: أبصر "عبد المطلب إلى ذلك" أي: استدارة النور في جبهته، وكونه على البيت مثل السراج ولا يشكل بأن الشخص لا يبصر جبهته؛ لأنه لما استدار كالهلال أبصر شعاعه وعلم استدارته من أحواله السابقة، ويحتمل قصر اسم الإشارة على الشعاع وأخبر عنه بالاستدارة لعله من الحاضرين، أو من سابق أحواله أنه متى وجد مستديرًا، "قال: يا معشر قريش، ارجعوا" فرحين مستبشرين "فقد كفيتم هذا الأمر، فوالله ما استدار هذا النور مني إلا" كان سببًا وعلامة على "أن يكون الظفر لنا" وأقسم عليه لوثوقه به بناء على ما اعتاده قبل، أو لرؤيته على هذه الصورة الزائدة الإشراق غلب على ظنه، فحلف "فرجعوا متفرقين، ثم إن أبرهة أرسل" إلى مكة "رجلا من قومه" هو حناطة -بحاء مهملة مضمومة ونون وطاء مهملة- الحميري، "ليهزم الجيش" أي: يكون سببًا في هزمه بإدخال الرعب على قريش، أو سماهم جيشًا وإن لم ينصبوا القتال، ومر أنه لما جاء رسوله وساق الإبل همت طائفة بقتاله ثم تركوا لعدم طاقتهم له، فيجوز أن من نقل أن عبد المطلب جهز جيشًا لحرب أبرهة أراد هذا، "فلما دخل مكة ونظر إلى وجه عبد المطلب خضع" أي: ذل "وتلجلج" بلامين وجيمين: تردد "لسانه" في الكلام لعجزه "وخر مغشيًا عليه، فكان" أي: صار "يخور" يصوت؛ "كما يخور الثور عند ذبحه" تشبيه لبيان صفة فعله من الصياح واحترز به عن صوت غيره، ففي القاموس: الخوار بالضم: صوت البقر والغنم والظباء والبهائم، "فلما أفاق خر ساجدًا لعبد المطلب" أي: وضع جبهته على الأرض؛ كدأبهم في التعظيم وتجويز غير هذا في ذا المقام عجيب، "وقال: أشهد أنك سيد قريش حقًا" وعند ابن إسحاق:(1/160)
وروي: أنه لما حضر عبد المطلب عند أبرهة أمر سائس فيله الأكبر الأبيض العظيم الذي كان لا يسجد للملك أبرهة كما تسجد سائر الفيلة..................
__________
بعث أبرهة حناطة الحميري إلى مكة، وقال له: اسأل عن سيد أهل البلد وشريفهم، ثم قل له: إن الملك يقول: لم آت لحربكم إنما جئت لهدم هذا البيت، فإن لم تعرضوا دونه بحرب فلا حاجة لي بدمائكم، فإن هو لم يرد حربًا فائتني به، فدخل فسأل، فقيل له: عبد المطلب، فقال ما أمره به أبرهة، فقال عبد المطلب: والله ما نريد حربه وما لنا بذلك من طاقة، هذا بيت الله الحرام وبيت خليله إبراهيم، فإن يمنعه فهو بيته وحرمه، وإن يخل بينه وبينه فوالله ما عندنا دفع عنه، قال حناطة: فانطلق إليه، فإنه أمرني أن آتيه بك، فانطلق معه عبد المطلب ومعه بعض بنيه فتكلم أنيس سائس فيل أبرهة، فقال: أيها الملك، هذا سيد قريش ببابك يستأذن عليك، وهو صاحب عزة مكة ويطعم الناس في السهل والوحوش والطير في رؤوس الجبال، فأذن له أبرهة وكان عبد المطلب أوسم الناس وأجملهم وأعظمهم فعظم في عين أبرهة فأجله وأكرمه عن أن يجلس تحته، وكره أن تراه الحبشة يجلس معه على سرير ملكه، فنزل عن سريره فجلس على بساطه وأجلسه معه إلى جنبه، ثم قال لترجمانه: قل له: ما حاجتك؟ فقال له: حاجتي أن يرد الملك علي مائتي بعير أصابها، فقال لترجمانه: قل له: كنت أعجبتني حين رأيتك، ثم قد زهدت فيك أتكلمني في مائتي بعير وتترك بيتًا هو دينك ودين آبائك، قد جئت لهدمه لا تكلمني فيه، فقال عبد المطلب: إني أنا رب الإبل، وإن للبيت ربًا سيمنعه، قال ما كان ليمتنع مني، قال: أنت وذاك، فرد عليه إبله، زاد ابن الكلبي: فقلدها وأشعرها وجللها وجعلها هديًا للبيت وبثها في الحرم، انتهى. وانصرف إلى قريش وأخبرهم الخبر وأمرهم بالخروج من مكة والتحرز في شعف الجبال والشعاب تخوفًا عليهم من معرة الحبشة، انتهى.
فظاهر هذا السياق: أن حناطة لم يأت لهزم جيش؛ كما ساق المصنف، بل مخبرًا بمراد أبرهة وطريق الجمع حمله على التسبب، كما مر. وأنه لما شاهد شيبة الحمد حصل له ما ذكر المؤلف، ثم لما أفاق أخبره بمراد أبرهة، قال ابن هشام: وكان فيما يزعم بعض أهل العلم قد ذهب مع عبد المطلب إلى أبرهة حناطة بن عمرو بن نباتة بن عدي بن الديل بن بكر بن كنانة، وهو يومئذ سيد بني بكر وخويلد بن واثلة الهزلي وهو يومئذ سيد هزيل، فعرضوا على أبرهة ثلث أموال تهامة على أن يرجع عنهم ولا يهدم البيت، فأبى؛ فالله أعلم كان ذلك أم لا.
"وروي أنه لما حضر عبد المطلب عند أبرهة أمر سائس فيله" هو أنيس بضم الهمزة وفتح النون وسكون المثناة التحتية، "الأكبر الأبيض العظيم" بالجر صفات فيله، "الذي كان لا يسجد للملك أبرهة، كما تسجد سائر" أي: باقي "الفيلة" جمع فيل، ويجمع أيضًا على أفيال(1/161)
أن يحضره بين يديه، فلما نظر الفيل إلى وجه عبد المطلب، برك كما يبرك البعير، وخر ساجدًا، وأنطق الله تعالى الفيل، فقال: السلام على النور الذي في ظهرك يا عبد المطلب، كذا في النطق المفهوم.
ولما دخل جيش أبرهة.................................
__________
وفيول؛ كما في القاموس. "أن يحضره بين يديه" ليرهب به شيبة الحمد أو لعلمه من أخبارهم أو كهانهم أن الفيل يهابه، وينطق له، فأحضره، "فلما نظر الفيل إلى وجه عبد المطلب برك، كما يبرك البعير" قال السهيلي: فيه نظر؛ لأن الفيل لا يبرك، فيحتمل أن بروكه سقوطه إلى الأرض، ويحتمل أنه فَعَل فِعْل البارك الذي يلزم موضعه ولا يبرح، فعبر بالبارك عن ذلك، وسمعت من يقول في الفيل صنف يبرك، كما يبرك الجمل، فإن صح وإلا فتأويله ما قدمناه، انتهى.
"وخر ساجدًا" وفي الدر المنظم: فتعجب أبرهة من ذلك، ودعا بالسحرة والكهان فسألهم عن ذلك، فقالوا: إنه لم يسجد له وإنما سجد للنور الذي بين عينيه، "وأنطق الله تعالى الفيل فقال: السلام على النور الذي في ظهرك يا عبد المطلب" ألهم الفيل أن أصله في ظهره فلم يقل بين عينيك؛ لأنه فاض مما في ظهره، فنوره صلى الله عليه وسلم حين صار إلى جده فاض حتى ظهر في جبهته مع بقائه في ظهره. وأما السحرة والكهان فنظروا للمشاهد إذ لم يلهموا، وهذا والله أعلم إنما يأتي على القول المردود الموهون: أن ولادته صلى الله عليه وسلم بعد الفيل بأربعين أو بخمسين سنة، ولذا ساقه المصنف بصيغة التمريض وتبرأ منه، بقوله: "كذا في" كتاب "النطق المفهوم" لابن طغربك.
وقول الخميس: كان عبد الله موجودًا؛ فالنور منتقل إليه مبني على أن ولادة المصطفى بعد الفيل بسنتين، فأما على المشهور من أنه كان حملا في بطن أمه فشكل؛ لأن النور انتقل إلى آمنة وأجيب بأن الله أحدث في عبد المطلب نورًا يحاكي ذلك النور المستقر في آمنة مع زيادة حتى صار في جبهته؛ كالشمس، وبنور آخر وجده في صلبه وأطلع عليه الفيل فسجد إكرامًا له؛ كما يدل عليه سياق القصة حين احتاج إلى كرامة تخلصه وماله من الجبابرة، وبأن النور لم ينتقل كله بل انتقل ما هو مادة المصطفى وبقي أثره في صلب أصوله تشريفًا لهم، وما رآه أبرهة والفيل منه غايته أن زاد إشراقه علامة على ظفرهم وذلك من إرهاصته صلى الله عليه وسلم إعزازًا لقومه.
قلت: الأول أظهر، فإن ظاهر كلامهم أن النور ينتقل كله، ألا ترى قصة التي عرضت نفسها على الأب الشريف.
"ولما دخل جيش أبرهة" المغمس بضم الميم وفتح الغين المعجمة وفتح الميم الثانية مشددة وبكسرها، قال في الروض عن ابن دريد وغيره، وهو أصح، وهو على ثلثي فرسخ من مكة، انتهى. وفي القاموس: المغمس كمعظم ومحدث: موضع بطريق الطائف، فظاهره تساوي(1/162)
ومعهم الفيل لهدم الكعبة الشريفة برك الفيل: فضربوه في رأسه ضربًا شديدًا ليقوم فأبى، فوجهوه راجعًا إلى اليمن فقام.
__________
اللغتين، فاقتصار الشامي على الثاني مراعاة لمن صححه، "ومعهم الفيل" محمود وكنيته أبو العباس، حكاه السمرقندي، وقيل: أبو الحجاج، وقدمه الدميري في منظومته؛ فقال:
وفيلهم محمود دليل داجي ... وكان يكنى بأبي الحجاج
وقال قوم بأبي العباس ... وكان معروفًا بعظم الباس
وظاهره: أنهم لم يكن معهم سواه، وهو ما نقله الماوردي عن الأكثر، ويقال: كان معهم ثلاثة عشر فيلا هلكت كلها، حكاه ابن جرير، وجزم به في الروض. وعن الضحاك: ثمانية أفيلة حكاهما البغوي وقال: إنما وجد في الآية؛ لأنه نسبهم إلى الفيل الأعظم، وقيل: لو فاق رؤوس الآي ونقل، أعني البغوي عن الواقدي أن محمودًا نجا لكونه ربض ولم يتجرأ على الحرم، انتهى. فقول ابن جرير: هلكت كلها يريد إلا محمودًا، وقيل: كان معهم ألف فيل، حكاهما الخميس.
"لهدم الكعبة الشريفة" قال بعضهم: بأن تجعل السلاسل في أركان البيت وتوضع في عنق الفيل ثم يزجر ليلقي الحائط جملة واحدة، وقال مقاتل: كان القصد أن يجعل الفيل مكان الكعبة ليعبد ويعظم كتعظيمها، وهو بعيد من السياق. "برك" بفتح الراء "الفيل" وعند ابن إسحاق فأصبح أبرهة متهيئًا لدخول مكة وهيأ فيله محمودًا وعبأ جيشه وأجمع على هدم البيت ثم الانصراف إلى اليمن، فلما وجهوا الفيل إلى مكة أقبل نفيل بن حبيب، كذا عند ابن هشام.
وقال السهيلي: عن البرقي كيونس عن ابن إسحاق: نفيل بن عبد الله بن جزي بن عامر بن مالك حتى قام إلى جنب الفيل، ثم أخذ بأذنه، فقال له: ابرك محمودًا وارجع راشدًا من حيث جئت، فإنك في بلد الله الحرام، ثم أرسل أذنه فبرك الفيل فضربوه ليقوم، فأبى "فضربوه في رأسه ضربًا شديدًا ليقوم، فأبى" نحوه قول ابن إسحاق: فضربوا رأسه بالطبرزين ليقوم فأبى، فأدخلوا محاجن لهم في مراقه فبزغوه بها ليقوم، فأبى الطبرزين، بفتح الطاء المهملة والباء الموحدة وسكونها: آلة عوجاء من حديد, والمحاجن جمع محجن: عصا معوجة وقد يجعل في طرفها حديد. والمراق: أسفل البطن. وبزغوه، بفتح الموحدة وزاي مشددة فغين معجمة: شرطوه بحديد المحاجن "فوجهوه راجعًا إلى اليمن فقام" قال ابن إسحاق: يهرول ووجهوه إلى الشام ففعل مثل ذلك، ووجهوه إلى المشرق ففعل مثل ذلك، ووجهوه إلى مكة فبرك، قال أمية بن أبي الصلت:
إن آيات ربنا بينات ... ما يماري بهن إلا الكفور(1/163)
ثم أرسل الله عليهم طيرًا أبابيل من البحر، مع كل طائر منها ثلاثة أحجار، حجر في منقره وحجران في رجليه كأمثال العدس، لا تصيب أحدًا منهم إلا أهلكته، فخرجوا هاربين........................
__________
جلس الفيل بالمغمس حتى ... ظل يحبو كأنه معقور
وفي معاني القرآن للزجاج: لم تسر دوابهم نحو البيت، فإذا عطفوها راجعين سارت, وفي رواية يونس عن ابن إسحاق، كما في الروض: أن الفيل ربض، فجعلوا يقسمون بالله أنهم رادوه إلى اليمن فيحرك لهم أذنيه، كأنه يأخذ عليهم عهدًا، فإذا أقسموا له قام يهرول فيردونه إلى مكة فيربض فيحلفون له فيحرك أذنيه كالمؤكد عليهم القسم، ففعلوا ذلك مرارًا. "ثم" بعد بروك الفيل "أرسل الله عليهم طيرًا أبابيل".
قال الشامي: أي: جماعات أمام كل جماعة طائر يقودها أحمر المنقار أسود الرأس طويل العنق، قيل لا واحد له، وقيل: واحدة أبول كعجول بكسر العين والتشديد مع الفتح أو إبال؛ كمفتاح أو أبيل كسكين البيضاوي، جمع إبالة وهي الحزمة الكبيرة شبهت بها الجماعة من الطير في تضامها. "من البحر" قال ابن إسحاق: أمثال الخطاطيف والميلسان، وعن عبد المطلب: أمثال اليعاسيب. ابن عباس: لها خراطيم كخراطيم الطير وأكف كأكف الكلاب. عكرمة: لها رؤوس السباع، واختلفوا في ألوانها، فقال عكرمة وسعيد بن جبير: كانت خضراء، وقال عبيد بن عمير: سوداء، وقال قتادة: بيضاء، حكاه ابن الجوزي في زاد المسير.
وروى سعيد بن منصور عن عبيد بن عمير: أنها بلق، والجمع بينها إنها كانت مختلفة فأخبر كل بحسب ما رأى أو سمع، في الشرح جمع آخر فيه تكلف. "مع كل طائر منها ثلاثة أحجار، حجر في منقره، وحجران في رجليه" وعلى كل حجر اسم من يقع عليه واسم أبيه، كما جاء عن أم هانئ. "كأمثال العدس" تقريبًا، فلا ينافي قول الشامي: أكثر الأحاديث تدل على أنها أكبر من العدسة ودون الحمصة، وفي بعضها: كانت أكبر وكأنها كان فيها الكبير والصغير، فحدث كل بما رأى أو سمع.
وعن ابن عباس: أنه رأى منها عند أم هانئ نحو قفيز حمر مخططة كالجزع الظفاري، بفتح الجيم وتكسر وسكون الزاي، خرز يمان فيه سواد وبياض؛ كما في القاموس، فأراد بالتشبيه أن حمرتها غير صافية، أو في المقدار والشكل فلا يشكل التشبيه مع قوله: حمر والظفاري، قال في الفتح: نسبة إلى ظفار مدينة بسواحل اليمن، وحكى ابن التين في ضبط ظفار: كسر أوله وصرفه أو فتحه، والبناء بوزن قطام، انتهى. "لا تصيب أحدًا منهم إلا أهلكته" وكان الحجر يقع على رأس الرجل فيخرج من دبره، فإن كان راكبًا خرج من أسفل مركبه، "فخرجوا هاربين(1/164)
يتساقطون بكل طريق.
وأصيب أبرهة في جسده بداء، وتساقطت أنامله أنملة أنملة، وسال منه الصديد والقيح والدم، وما مات حتى انصدع قلبه.
__________
يتساقطون بكل طريق" ويهلكون على كل منهل وليس كلهم أصيب، ووجهوا هاربين يبتدرون الطريق الذي جاءوا منه يسألون عن نفيل ليدلهم على الطريق إلى اليمن، فقال نفيل:
أين المفر والإله الطالب ... والأشرم المغلوب ليس الغالب
قاله ابن إسحاق: وروى أبو نعيم عن عطاء بن يسار، قال: حدثني من كلم قائد الفيل وسائسه، أنه قال لهما: هل نجا أحد غيركما، قالا: نعم، ليس كلهم أصابه العذاب، وقالت عائشة: لقد رأيت قائد الفيل وسائسه أعميين مقعدين يستطعمان الناس بمكة، رواه ابن إسحاق مسندًا، وإنما بقي منهم بقية على حالة غير مرضية تذكيرًا لمن رأى، وإعلامًا لمن لم ير فيزداد البيت تعظيمًا ويكون سببًا في تصديقه صلى الله عليه وسلم، والعلم بمنزلته عند الله.
وفي زاد المسير: بعث عبد المطلب ابنه عبد الله على فرس ينظر إلى القوم فجعل يركض ويقول: هلك القوم، فخرج عبد المطلب وأصحابه فغنموا أموالهم. وفي الروض عن تفسير النقاش: أن السيل احتمل جثثهم وألقاها في البحر. "وأصيب أبرهة في جسده بداء" هو الجدري، وهو أول جدري ظهر، قاله عكرمة، أي: بأرض العرب، فلا ينافي ما قيل أول من عذب بالجدري قوم فرعون، وقال ابن إسحاق: حدثني يعقوب بن عتبة أنه حدث: أن أول ما رؤيت الحصباء والجدري بأرض العرب ذلك العام، انتهى. وبهذا القيد لا يرد قوم فرعون؛ لأنهم لم يكونوا بها.
"وتساقطت أنامله أنملة أنملة" أي: انتثر جسمه، والأنملة طرف الإصبع لكن قد يعبر بها عن طرف غيره ون الجزء الصغير، ففي مسند الحارث بن أبي أسامة مرفوعًا: "أن في الشجر شجرة هي مثل المؤمن لا يسقط لها أنملة"، ثم قال: "هي النخلة، وكذلك المؤمن لا يسقط له دعوة" قال السهيلي. "وسال منه الصديد" القيح وهو المدة الرقيقة، "والقيح" يعني به المدة الغليظة، "والدم" وعند ابن إسحاق كلما سقطت منه أنملة تبعها مدة تمصي قيحًا ودمًا، وظاهر المصنف كغيره أنه لم يصب بحجر، والظاهر: أن الداء الذي أصابه بعد وقوع حجر عليه ولم يعجل هلاكه به زيادة في عقوبته والمثلة به ويؤيده أن الذين أصيبوا بالحجارة لم يموتوا كلهم سريعًا بل تأخر موت جمع منهم.
"وما مات حتى انصدع" أي: انشق "قلبه" وفي ابن إسحاق وغيره: حتى انصدع صدره فرقتين عن قلبه بصنعاء، وفي رواية: كلما دخل أرضًا وقع منه عضو حتى انتهى إلى بلاد خثعم(1/165)
إلى هذه القصة أشار سبحانه وتعالى بقوله لنبيه صلى الله عليه وسلم: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} [الفيل: 1] السورة إلى آخرها.
فإن قلت: لم قال تعالى له عليه الصلاة والسلام: {أَلَمْ تَرَ} مع أن هذه القصة كانت قبل البعث بزمان طويل؟
فالجواب أن المراد من الرؤية هنا: العلم والتذكر، وهو إشارة إلى أن الخبر به متواتر، فكأن العلم الحاصل به ضروري، مساوٍ في القوة للرؤية.
__________
وليس عليه غير رأسه فمات فيجوز أنه مات بها وحمل إلى صنعاء ميتًا، أو عبر بذلك مجاز القربة منه أو لظن المخبر موته لرؤيته وصل لهذه الحالة لا سيما وهم مشغولون بأنفسهم وانفلت وزيره أبو يكسوم وطائره يحلق فوق رأسه، وهو لا يشعر به حتى بلغ النجاشي فأخبره بما أصابهم، فلما أتم كلام رماه الطائر فوقع عليه الحجر ميتًا، فرأى النجاشي كيف كان هلاك أصحابه.
"وإلى هذه القصة أشار سبحانه وتعالى بقوله لنبيه صلى الله عليه وسلم" مما عد على قريش من نعمة عليهم وفضله لبقاء أمرهم ومدتهم، قال ابن إسحاق. {أَلَمْ تَرَ} [الفيل: 1] ، استفهام تقرير، أي: ألم تعلم قرره على وجود علمه بما ذكر، وبه جزم في النهر، وقيل: تعجب لنقله نقل المتواتر، وبه جزم الجلال؛ أي: قد علمت أو تعجب {كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} [الفيل: 1] ، عبر بكيف دون ما؛ لأن المراد تذكير ما فيها من وجوه للدلالة على كمال علم الله وقدرته وعزة بيته وشرف رسوله، اقرأ "السورة إلى آخرها" وقد تلاها والتي بعدها معًا ابن إسحاق وجعلها متعلقة بها، كما هو أحد الأوجه. وفي الكشاف وحياة الحيوان: وإلى هذه القصة أشار صلى الله عليه وسلم في الصحيح، بقوله: "إن الله حبس عن مكة الفيل وسلط عليها رسوله والمؤمنين". انتهى. وهو بيان لحالهم إذا خالفوا الله ورسوله والسورة أنسب في تعظيم جد المصطفى وقومه لأجله صلى الله عليه وسلم، فلذا اقتصر عليها المصنف.
"فإن قلت: لم قال تعالى له عليه الصلاة والسلام: {أَلَمْ تَرَ} مع أن هذه القصة كانت قبل البعث بزمان طويل" إذ هي عام ولادته على أصح الأقوال وهو قول الأكثر، وقال مقاتل: قبل مولده بأربعين سنة، وقال الكلبي؛ بثلاث وعشرين سنة، وقيل: بثلاثين، وقيل: بخمسين، وقيل: بسبعين، وقيل غير ذلك.
"فالجواب: أن المراد من الرؤية هنا العلم والتذكر" أي: قد علمت فهو تقريري. "وهو إشارة إلى أن الخبر به" أي: بالواقع لأصحاب الفيل؛ "متواتر، فكان العلم الحاصل به ضروري مساوٍ في القوة للرؤية" كما هو شأن المتواتر.(1/166)
وقد كانت هذه القصة دالة على شرف سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وتأسيسًا لنبوته وإرهاصًا لها، وإعزازًا لقومه بما ظهر عليهم من الاعتناء حتى دانت لهم العرب، واعتقدت شرفهم وفضلهم على سائر الناس، بحماية الله لهم، ودفعه عنهم مكر أبرهة، الذي لم يكن لسائر العرب بقتاله قدرة، وكان ذلك كله إرهاصًا لنبوته عليه الصلاة والسلام.
قال الرازي: ومذهبنا أنه يجوز تقديم المعجزات على زمان البعثة تأسيسًا، قال: ولذلك قالوا: كانت الغمامة تظله عليه الصلاة والسلام، يعني قبل بعثته.
__________
"وقد كانت هذه القصة دالة على شرف سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وتأسيسًا لنبوته وإرهاصًا لها" هما متساويان، والمراد: أنها توطئة وتقوية لنبوته، "وإعزازًا لقومه" أي: تقوية لهم بعد الذل بما أصابهم من أبرهة واستعمال العز فيمن لم يسبق له ذل مجاز؛ كقوله: {إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} [يونس: 65] ، "بما ظهر عليهم من الاعتناء" أي: اعتناء الناس "حتى دانت" أي: خضعت وذلك "لهم العرب واعتقدت شرفهم وفضلهم على سائر الناس" بقيتهم، "بحماية الله لهم ودفعه عنهم" عطف تفسير، فالحماية الدفع فقالت العرب، كما في ابن إسحاق: أهل الله قاتل عنهم وكفاهم مؤنة عدوهم، وقالوا في ذلك أشعارًا كثيرة.
"مكر أبرهة" أي: إرادته السوء بهم سماه مكرًا مع أنه الاحتيال من حيث لا يعلم الممكور به، وأبرهة جاء مجاهرًا لحربهم نظرًا لعزمه على تخريب الكعبة وهم لا يشعرون، "الذي لم يكن للعرب جميعًا" وفي نسخة لسائر العرب، وهي أيضًا بمعنى الجميع عند الجوهري في جماعة، وإن خطّئوه فيها؛ لأنها لغة قليلة حكاها القاموس وغيره، وقد مر بسطه في الديباجة.
"بقتاله" أي: عليه متعلق بقوله: "قدرته" قدم عليه لأنه ظرف، "وكان ذلك كله إرهاصًا لنبوته عليه الصلاة والسلام" وهو فائدة ذكر القصة هنا، لا لتعظيم ما كانت عليه قريش، فإن أصحاب الفيل كانوا نصارى أهل كتاب، وكان دينهم حينئذ أقرب حالا مما كان عليه أهل مكة؛ لأنهم كانوا عباد أوثان فنصرهم الله نصرًا لا صنع لبشر فيه، فكأنه يقول: لم أنصركم لخير بكم ولكن صيانة للبيت العتيق الذي سيشرفه خير الأنبياء صلى الله عليه وسلم.
"قال" الإمام العلامة فخر الدين محمد بن عمر بن الحسين البكري الطبرستاني الأصل "الرازي" المولد المعروف بابن الخطيب، فاق أهل زمانه في علم الكلام والأوائل، وتوفي سنة ست وستمائة بمدينة هراة، "ومذهبنا أنه يجوز تقديم المعجزات على زمان البعثة تأسيسًا" تقوية لها، قال: "ولذلك قالوا: كانت الغمامة تظله عليه الصلاة والسلام، يعني قبل بعثته" وأنت خبير(1/167)
وخالفه العلامة السيد في شرح المواقف -تبعًا لغيره- فاشترط في المعجزات أن لا تتقدم على الدعوة بل تكون مقارنة لها. كما سيأتي إن شاء الله في المقصد الرابع.
فإن قلت: إن الحجاج خرب الكعبة ولم يحدث شيء من ذلك!!
فالجواب: أن ذلك وقع إرهاصًا لأمر نبينا صلى الله عليه وسلم والإرهاص إنما يحتاج إليه قبل قدومه، فلما ظهر عليه.....................
__________
بأن قولهم ذلك لا يلزم منه أنهم سموها معجزة الذي هو محل النزاع. "وخالفه العلامة السيد" المحقق على الجرجاني، "في شرح المواقف تبعًا لغيره", وهو الجمهور "فاشترط في المعجزات أن لا تتقدم على الدعوة" إلى كلمة الإسلام؛ "بل تكون مقارنة لها" فالخوارق الواقعة قبل الرسالة إنما هي كرامات، والأنبياء قبل النبوة لا يقصرون عن درجة الأولياء، فيجوز ظهورها عليهم أيضًا، فتسمى إرهاصًا، صرح به السيد وهو مذهب جمهور أئمة الأصول وغيرهم، "كما سيأتي إن شاء الله تعالى في المقصد الرابع".
"فإن قلت" إهلاك الله أصحاب الفيل إعزازًا لنبيه وحرمه، "وإن الحجاج" بن يوسف الثقفي الظلوم المختلف في كفره، واختار الإمام أبو عبد الله بن عرفة أنه كافر، قال الأبي رحمه الله: فأوردت عليه صلاة الحسن البصري، فأجاب بأنها تتوقف على صحة الإسناد إليه، انتهى.
وفي الكامل للمبرد: مما كفر به الفقهاء الحجاج أنه رأى الناس يطوفون حول حجرته صلى الله عليه وسلم، فقال: إنما يطوفون بأعواد برمة، قال الدميري: كفروه بهذه لأنه تكذيب لقوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء"، رواه أبو داود.
"خرب الكعبة" لما أرسله عبد الملك بن مروان إلى قتال عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما لينزع منه الخلافة فتحصن عبد الله منه في البيت، فرمى الكعبة بالمنجنيق ثم ظفر به فقتله سنة ثلاث وسبعين، ووقع قبله في زمن يزيد بن معاوية حين أرسل الحصين بن نمير السكوني لقتال ابن الزبير لامتناعه من مبايعة يزيد فنصب المنجنيق على أبي قبيس وغيره من جبال مكة، ورمى الكعبة وكس الحجر الأسود واحترقت الكعبة حتى انهدم جدارها وسقط سقفها، ثم ورد لهم الخبر بموت يزيد عامله الله بعدله، فرجعوا إلى الشام. "ولم يحدث شيء من ذلك" الذي وقع لأصحاب الفيل، فما الفرق؟ "فالجواب: أن ذلك وقع إرهاصًا" أي: تأسيسًا "لأمر نبينا صلى الله عليه وسلم، إرهاص إنما يحتاج إليه قبل قدومه" أي: ظهوره وثبوت نبوته، "فلما" أي: حيث "ظهر عليه(1/168)
الصلاة والسلام، وتأكدت نبوته بالدلائل القطعية فلا حاجة إلى شيء من ذلك، ذكر حفر زمزم والذبيحين ولما فرج الله عن عبد المطلب، ورجع أبرهة خائبًا، فبينما هو نائم يومًا في الحجر، إذ رأى منامًا عظيمًا......................
__________
الصلاة والسلام وتأكدت نبوته بالدلائل القطعية، فلا حاجة إلى شيء من ذلك" جواب لما, ودخلته الفاء على قبله، وإيضاح هذا جواب الشامي بأنه إنما لم يمنعوا؛ لأن الدعوة قد تمت والكلمة قد بلغت والحجة قد ثبتت، فأخر الله أمرهم إلى الدار الآخرة، وقد أخبر صلى الله عليه وسلم بوقوع الفتن وأن الكعبة ستهدم. ا. هـ. أي: فكان عدم منعهم مظهرًا لمعجزته من الإخبار بالغيب.
وأجاب النجم: بأن أبرهة قصد التخريب بالكلية وعدم عودها، فلذا عوجل بالعقوبة، والحجاج إنما قصد بالتخريب إذهاب صورة بناء ابن الزبير وإعادتها على حالتها الأولى، فلم يحدث له شيء وفيه نظر، فإنه حين قتاله لابن الزبير لم يكن قصده إذهاب صورة بنائه وإنما أراد ذلك بعد قتله، فكتب إلى عبد الملك مستشيره، كما قالوه في بناء الكبة، ولك أن تقول: لا يرد الإشكال من أصله؛ لأن جيش يزيد والحجاج إنما قاتلوا على الملك، ولم يقصدوا هدم الكعبة ولم يسيروا إليه كأبرهة، وما وقع من التخريب أدى إليه القتال، ثم أعاده ابن الزبير بعد ذهاب جيش يزيد واستقراره في الخلافة بمكة وبعض البلاد على قواعد إبراهيم على ما حدثته به خالته عائشة، ثم لما غزاه الحجاج وتهدم البيت أعاده الحجاج بأمر عبد الملك على ما كان عليه في الجاهلية وهو صفته اليوم.
"ذكر حفر زمزم والذبيحين، ولما فرج الله تعالى عن عبد المطلب ورجع أبرهة خائبًا، فبينما هو نائم يومًا" أراد به مطلق الزمان، فلا ينافي قول عبد المطلب: رأيت الليلة؛ كقوله تعالى: {مَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ} [الأنفال: 16] , {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] , {إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ} [القيامة: 30] ، لا مقابل الليلة، نحو: {سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ} [الحاقة: 7] ، ولا مدة القتال، نحو: {يَوْمَ حُنَيْنٍ} [التوبة: 25] ، ولا الدولة، كقوله: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران: 140] ، "في الحجر إذا رأى منامًا عظيمًا"، هو كما رواه أبو نعيم من طريق أبي بكر بن عبد الله بن أبي الخيثم، عن أبيه عن جده، قال: سمعت أبا طالب يحدث عن عبد المطلب، قال: بينما أنا نائم في الحجر إذ رأيت رؤيا هالتني ففزعت منها فزعًا شديدًا، فأتيت كاهنة قريش، فقلت لها: إني رأيت الليلة كأن شجرة نبتت قد نال رأسها السماء وضربت بأغصانها المشرق والمغرب، وما رأيت نورًا أزهر منها أعظم من نور الشمس سبعين ضعفًا، ورأيت العرب والعجم لها ساجدين، وهي تزداد كل ساعة عظمًا ونورًا وارتفاعًا ساعة تخفى وساعة تظهر، ورأيت رهطًا من قريش قد تعلقوا بأغصانها، ورأيت قومًا من قريش يريدون قطعها، فإذا دنوا منها(1/169)
فانتبه فزعًا مرعوبًا، وأتى كهنة قريش، وقص عليهم رؤياه، فقالت له الكهنة: إن صدقت رؤياك ليخرجن من ظهرك من يؤمن به أهل السماوات والأرض وليكونن في الناس علمًا مبينًا. فتزوج فاطمة، وحملت في ذلك الوقت بعبد الله الذبيح
__________
أخذهم شاب لم أر قط أحسن منه وجهًا ولا أطيب ريحًا، فيكسر أظهرهم ويقلع أعينهم فرفعت يدي لأتناول منها نصيبًا، فلم أنل؛ فقلت: لمن النصيب؟ فقال: النصيب لهؤلاء الذين تعلقوا بها وسبقوك، فانتبهت مذعورًا فرأيت وجه الكاهنة قد تغير، ثم قالت: لئن صدقت رؤياك ليخرجن من صلبك رجل يملك المشرق والمغرب وتدين له الناس، فقال عبد المطلب لأبي طالب: لعلك أن تكون هو المولود، فكان أبو طالب يحدث بهذا الحديث والنبي صلى الله عليه وسلم قد خرج، أي: بعث، ويقول: كانت الشجرة والله أبا القاسم الأمين، فيقال له: ألا تؤمن به؟ فيقول: السبة والعار، أي: أخشى أو يمنعني فهما منصوبان أو مرفوعان، أو المراد بالمنام ما في الروض في سبب تسميته محمدًا عن علي القيرواني العابر في كتابه البستان، قال: زعموا أن عبد المطلب رأى في منامه كأن سلسلة من فضة خرجت من ظهره لها طرف في السماء، وطرف في الأرض وطرف في المشرق، وطرف في المغرب، ثم عادت كأنها شجرة على كل ورقة منها نور وإذا أهل المشرق والمغرب كأنهم يتعلقون بها، فقصها فعبرت له بمولود يكون من صلبه يتبعه أهل المشرق والمغرب ويحمده أهل السماء وأهل الأرض.
"فانتبه" حال كونه "فزعًا مرعوبًا" والمراد بهما واحد، فالفزع والرعب، الخوف، "وأتى كهنة قريش وقص عليهم رؤياه" وهذا مخالف لقوله في رواية أبي نعيم: فأتيت كاهنة قريش فقلت لها، إلا أن يقال اللام في الكهنة للجنس، والمعنى: أنه لما خرج قصد جملة الكهنة، فاتفق أنه اختار هذه للسؤل.
"فقالت له الكهنة" اللام للجنس، أو اشتهر قولها وبلغهم وأقروه فنسب لهم "إن صدقت رؤياك ليخرجن من ظهرك من يؤمن به أهل السماوات والأرض، وليكونن في الناس علمًا مبينًا" أي: كالراية الظاهرة، فالعلم بفتحتين، الراية؛ كما في المختار. "فتزوج فاطمة" بنت عمرو بن عائذ بن عمرو بن مخزوم، "وحملت في ذلك الوقت بعبد الله الذبيح" فيه نظر؛ لأن عبد الله أصغر أولاد فاطمة، وقد ذكر اليعمري وغيره أن أبا طالب والزبير وعبد الكعبة أشقاء لعبد الله، اللهم إلا أن يكون تجوز في قوله في ذلك الوقت مبالغة في قرب حملها به، ثم هذا الذي ذكره المصنف من أن الرؤيا وحفر زمزم كانا بعد الفيل، إنما يأتي على أنه قبل المولد النبوي بأربعين أو سبعين سنة.
أما على المشهور أنها كانت عامة فلا يتصور إلا أن يكون مراده مجرد الإخبار(1/170)
وقصته في ذلك مشهورة مخرجة عند الرواة مسطورة.
وكان سببها حفر أبيه عبد المطلب زمزم، لأن الجرهمي.................
__________
بقصة بعد أخرى، والمعنى: بعدما ذكرنا أن الله فرج عن عبد المطلب، نقول: بينما هو نائم والتزامه الترتيب على السنين إنما هو من حين نشأة المصطفى؛ كما قال في الديباجة، فلا يرد هذا عليه لكن هذا في غاية التعسف بل لا يصح مع قوله: لما خرج وخاب أبرهة نام فرأى فتزوج، فجعله جواب لما. "وقصته" أي: وصفه بالذبيح "في ذلك مشهورة مخرجة عند الرواة مسطورة، وكان سببها حفر أبيه عبد المطلب زمزم" أي: إظهارها وتجديدها، كما يعلم من قوله بعد وبالغ في طمها.
وذكر البرقي عن ابن عباس: سميت زمزم؛ لأنها زمت بالتراب لئلا تأخذ يمينًا وشمالا، ولو تركت لساحت على الأرض حتى تملأ كل شيء، وقال الحربي: لزمزمة الماء، وهي صوته. وقال أبو عبيد: لكثرة مائها، وقيل غير ذلك، وليس بخلاف حقيقي فقد تكون التسمية لجميع ذلك، وحكى المطرزي أن اسمها زمازم وزمزم. قال السهيلي: وتسمى أيضًا همزة جبريل بتقديم الميم على الزاي، ويقال أيضًا: هزمة جبريل، أي: بتقديم الزاي، لأنها هزمته في الأرض، وتسمى أيضًا: طعام طعم وشفاء سقم. ا. هـ.
والأخير لفظ حديث مرفوع عند الطيالسي عن أبي ذر وأصله في مسلم، كما ذكره السخاوي. وروى الدارقطني والحاكم عن ابن عباس رفعه: "ماء زمزم لما شرب له، إن شربته لتستشفي شفاك الله، وإن شربته لشبعك أشبعك الله، وإن شربته لقطع ظمئك قطعه الله، هي هزمة جبريل وسقيا الله إسماعيل". وفي سيرة ابن هشام: "هي بين صنمي قريش، إساف ونائلة عند منحر قريش، كان جرهم دفنها حين ظعن من مكة، وهي بئر إسماعيل التي سقاه حين ظمئ، وهو صغير، فالتمست له أمه فلم تجده فقامت على الصفا تدعو الله وتستسقيه لإسماعيل، ثم أتت المروة ففعلت مثل ذلك فبعث الله جبريل فهمزها بعقبه في الأرض، وظهر الماء وسمعت أمه أصوات السباع فخافت عليه، فأقبلت نحوه فوجدته يفحص بيده عن الماء تحت خده ويشرب".
قال السهيلي: حكمة همز جبريل بعقبه دون يده أو غيرها الإشارة إلى أنها لعقبه، أي: إسماعيل ووارثه وهو محمد صلى الله عليه وسلم وأمته؛ كما قال تعالى: {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} [الزخرف: 28] . ا. هـ. وإنما حفرها عبد المطلب؛ "لأن الجرهمي" بضم الجيم وسكون الراء وضم الهاء نسبة إلى جرهم حي من اليمن سموا باسم جرهم بن قحطان ابن نبي الله هود؛ كما في التيجان.(1/171)
عمرو بن الحارث لما أحدث قومه بحرم الله الحوادث، وقيض الله لهم من أخرجهم من مكة، فعمد عمرو إلى نفائس فجعلها في زمزم وبالغ في طمها، وفر إلى اليمن بقومه، فلم تزل زمزم من ذلك العهد مجهولة.........................
__________
"عمرو بن الحارث" بن مضماض بكسر الميم وضمها، "لما أحدث قومه" جرهم وكانوا ولاة البيت والحاكم بمكة لا ينازعهم بنو إسماعيل لخولتهم وقرابتهم وإكرامًا لمكة، أي: يكون بها بغي أو قتال، "يحرم الله الحوادث" فبغوا بمكة وظلموا من دخلها من غير أهلها وأكلوا مال الكعبة الذي يهدى لها فساءت حالهم، "وقيض الله لهم من أخرجهم من مكة".
قال القاضي تقي الدين الفاسي في شفاء الغرام: اختلف أهل الأخبار فيمن أخرج جرهمًا من مكة اختلافًا يعسر معه التوفيق، فقيل: بنو بكر بن عبد مناف بن كنانة، وغيشان بن خزاعة لمنعهم بني عمرو بن عامر الإقامة بمكة حتى يصل إليهم رواؤهم، وقيل: عمرو بن ربيعة بن حارثة لطلبهم حجابة البيت.
وقيل: بنو إسماعيل بعد أن سلط الله على جرهم آفات من رعاف ونمل حتى فني به من أصابهم بمكة، وقيل: سلط على ولاة البيت منهم دواب، فهلك منهم في ليلة واحدة ثمانون كهلا سوى الشبان حتى رحلوا من مكة، والقول الأول ذكره ابن إسحاق، فقال: إن بني بكر وغبشان لما رأوا بغيهم، أجمعوا لحربهم وإخراجهم من مكة فأذنوا بالحرب، فاقتتلوا فغلبهم بنو بكر وغبشان. فنفوهم من مكة، وكانت مكة في الجاهلية لا تقر فيها بغيًا ولا ظلمًا لا يبغي فيها أحد إلا أخرجته فكانت تسمى الناشة ولا يريدها ملك يستحل حرمتها، إلا هلك مكانه، فيقال: سميت بكة لأنها تبك أعناق الجبابرة.
"فعمد" بفتح الميم ومضارعه بكسرها، كذا المنقول، ورأيت في بعض الحواشي أن في بعض شروح الفصيح وأظنه عزاه للسبكي أنه يجوز فيه العكس، قاله في النور، أي: قصد "عمرو إلى نفائس" هي غزالان من ذهب وسيوف وأدراع وحجر الركن كما عند ابن هشام وغيره، "فجعلها في زمزم" بمنع الصرف للتأنيث والعلمية، قاله المصباح. "وبالغ في طمها" بفتح الطاء المهملة وكسر الميم المشددة بعدها هاء، قال القاموس: طم الركية دفنها وسواها، وفيه أيضًا الركية البئر. "وفر إلى اليمن بقومه" فحزنوا على ما فارقوا من أمر مكة وملكها حزنًا شديدًا، وقال عمرو:
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا
الأبيات بتمامها في ابن إسحاق، قيل: كانت ولاية جرهم مكة ثلاثمائة سنة وقيل: خمسمائة، وقيل: ستمائة سنة. "فلم تزل زمزم من ذلك العهد مجهولة" وفي رواية: بقيت(1/172)
إلى أن رفعت عنها الحجب برؤيا منام رآها عبد المطلب، دلته على حفرها بأمارات عليها.
فمنعته قريش من ذلك.................................
__________
مطمومة بعد جرهم زهاء خمسمائة سنة لا يعرف مكانها، "إلى أن رفعت" أزيلت "عنها الحجب" الموانع التي منعت من معرفتها، "برؤيا منام رآها عبد المطلب دلته على حفرها بأمارات عليها" روى ابن إسحاق بسنده عن علي، قال: قال عبد المطلب: إني لنائم في الحجر إذ أتاني آت، فقال: احفر طيبة، قلت: وما طيبة؟ فذهب عني؛ فلما كان الغد رجعت إلى مضجعي فنمت فيه فجاءني، فقال: احفر برة، فقلت: وما برة؟ فذهب عني؛ فلما كان الغد رجعت إلى مضجعي فنمت فيه فجاءني، فقال: احفر المضنونة، فقلت: وما المضنونة؟ فذهب عني؛ فلما كان الغد رجعت إلى مضجعي فنمت فيه، فجاءني وقال: احفر زمزم، قلت: وما زمزم؟ قال: لا تنزف أبدًا ولا تذم تسقي الحجيج الأعظم بين الفرث والدم عند نقرة الغراب الأعصم عند قرية النمل.
برة بفتح الموحدة وشد المهملة سميت بذلك لكثرة منافعها وسعة مائها، قال في الروض، هو اسم صادق عليها؛ لأنها فاضت للأبرار وغاضت عن الفجار. والمضنونة بضاد معجمة ونونين: لأنها ضن بها على غير المؤمن فلا يتضلع منها منافق، قاله وهب ابن منبه. وروى الدارقطني مرفوعًا: "من شرب زمزم فليتضلع، فإنه فرق ما بيننا وبين المنافقين لا يستطيعون أن يتضلعوا منها" وفي رواية الزبير بن بكار: أن عبد المطلب قيل له: احفر المضنونة ضننت بها على الناس إلا عليك. ولا ينزف، بكسر الزاي: لا يفرغ ماؤها ولا يلحق قعرها. ولا تذم بمعجمة لا توجد قليلة الماء من قول العرب: بئر ذمة، أي: قليل ماؤها وهذا لأنه نفي مطلق وخبر صادق أولى من الحمل على نفي ضد المدح؛ لأنها مذمومة عند المنافقين، قاله السهيلي. قل: والغراب الأعصم فسره صلى الله عليه وسلم: "بأنه الذي إحدى رجليه بيضاء"، رواه ابن شيبة وأطال في الروض في وجه تأويل هذه الرؤيا بما يحسن كتبه بالعسجد، لكن الرهبة من التطويل تمنع من جلبه.
"فمنعته قريش من ذلك" ظاهره: أنها منعته من أصل الحفر ونازعته ابتداء، والذي رواه ابن إسحاق عن علي عقب ما مر: فلما بين له شأنها ودل على موضعها وعرف أنه صدق، غدا بمعوله ومعه ولده الحارث ليس له يومئذ ولد غيره فجعل يحفر ثلاثة أيام، فلما بدا له الطي كبر، وقال: هذا طي إسماعيل، فقاموا إليه فقالوا: إنها بئر أبينا إسماعيل وإن لنا فيها حقًا، فأشركنا معك فيها، قال: ما أنا بفاعل، إن هذا الأمر قد خصصت به دونكم وأعطيته من بينكم، قالوا له: فأنصفنا، فإنا غير تاركيك حتى نخاصمك فيها، قال: فاجعلوا بيني وبينكم من شئتم أحاكمكم إليه، قالوا:(1/173)
ثم آذاه من السفهاء من آذاه، واشتد بذلك بلواه، ومعه ولده الحارث ولم يكن له ولد سواه، فنذر لئن جاءه عشرة بنين وصاروا له أعوانًا ليذبحن أحدهم لله قربانًا. ثم احتفر عبد المطلب زمزم........................
__________
كاهنة سعد بن هذيم، قال: نعم، وكانت بأشراف الشام بالفاء، فركب عبد المطلب ومعه نفر من بني عبد مناف، وركب من كل قبيلة من قريش نفر فخرجوا حتى إذا كانوا بمفازة بين الحجاز والشام ظمئ عبد المطلب وأصحابه، وغيره حتى أيقنوا بالهلكة، فاستسقوا من معهم من قبائل قريش فأبوا، وقالوا: إنا بمفازة نخشى على أنفسنا مثل ما أصابكم، فلما رأى ما صنع القوم وما يتخوف على نفسه وأصحابه، قال: ماذا ترون؟ قالوا: ما رأينا إلا تبع لرأيك، فمرنا بما شئت، فأمرهم فحفروا قبورهم، وقال: من مات واراه أصحابه حتى يكون الآخر فضيعته أيسر من ركب؛ وقعدوا ينتظرون الموت عطشًا، ثم قال: والله إن إلقاءنا بأيدينا للموت عجز، لنضربن في الأرض عسى الله أن يرزقنا ماء ببعض البلاد، وركب راحلته فلما انبعثت به انفجرت من تحت خفها عين ماء عذب، فكبر عبد المطلب وأصحابه ثم نزل فشربوا واستقوا حتى ملئوا أسقيتهم، ثم دعا قبائل قريش، فقال لهم: هلم إلى الماء فقد سقانا الله، فاستقوا وشربوا، ثم قالوا: قد والله قضي لك علينا يا عبد المطلب، والله لا نخاصمك في زمزم أبدًا إن الذي أسقاك هذا الماء بهذه الفلاة لهو أسقاك زمزم، فارجع إلى سقايتك راشدًا، فرجع ورجعوا معه ولم يصلوا إلى الكاهنة، وخلوا بينه وبينها.
"ثم آذاه من السفهاء من آذاه" هو عدي بن نوفل بن عبد مناف قال له: يا عبد المطلب تستطيل علينا وأنت فذ، لا ولذلك! فقال: أبا القلة تعيرني، فوالله لئن آتاني الله عشرة من الولد ذكورا لأنحرن أحدهم عند الكعبة، رواه ابن سعد والبلاذري. وفي الخميس: سفه عليه وعلى ابنه ناس من قريش ونازعوهما وقاتلوهما، "واشتد بذلك بلواه، وكان معه ولده الحارث ولم يكن له ولد سواه، فنذر" مر أنه حلف، فيحتمل أنه المراد بالنذر، أو أن صورة الالتزام تكررت مرة بالنذر، وأخرى بالحلف. "لئن جاء له عشر بنين وصاروا له أعوانًا" أي: بلغوا أن يمنعوه، وبه عبر ابن إسحاق وأتباعه "ليذبحن أحدهم قربانًا" لله عند الكعبة، واحتفر عبد المطلب زمزم" في عامه ذلك هو وابنه الحارث فقط، فعند ابن إسحاق، فإذا عبد المطلب ومعه الحارث فوجد قرية النمل ووجد الغراب ينقر عندها بين إساف ونائلة الذين كانت قريش تنحر عندهما ذبائحها، فجاء بالمعول وقام يحفر حيث أمر، فقامت إليه قريش، فقالوا: والله ما نتركك تحفر بين وثنينا اللذين ننحر عندهما، فقال لابنه: رد عني حتى أحفر، فوالله لأمضين لما أمرت به؛ فلما عرفوا أنه غير تارك خلوا بينه وبين الحفر وكفوا عنه، فلم يحفر إلا يسيرًا حتى بدا له الطين، فكبر وعرف أنه قد صدق، فلما تمادى به الحفر وجد الغزالين والأسياف والأدراع التي دفنتها جرهم، فقالت قريش:(1/174)
فكانت له فخرًا وعزًا.
فلما تكامل بنوه عشرة وهم: الحارث والزبير وحجل وضرار والمقوم..................
__________
إنا معك في هذا شرك، قال: لا، ولكن هلم إلى أمر نصف بيني وبينكم نضرب عليها القداح، قالوا: كيف نصنع؟ قال: أجعل للكعبة قدحين ولي قدحين ولكم قدحين، فمن خرج قدحاه على شيء كان له, ومن تخلف قدحاه فلا شيء له، قالوا: أنصفت، فجعل قدحين أصفرين للكعبة، وأسودين له وأبيضين لقريش، فخرج الأصفران على الغزالين للكعبة، والأسودين على الأسياف والأدراع له، وتخلف قدحًا قريش فضرب الأسياف بابًا للكعبة وضرب بالباب الغزالين من ذهب، فكان أول ذهب حليته الكعبة فيما يزعمون، ثم أتم حفر زمزم وأقام سقايتها للحاج، "فكانت له فخرًا وعزًا" على قريش وعلى سائر العرب، ذكر الزهري في سيرته: أنه اتخذ عليها حوضًا يستقي منه، فكان يخرب بالليل حسدًا له، فلما أهمه ذلك قيل له في النوم قل: لا أحلها لمغتسل، وهي للشارب حل وبل، فلما أصبح قالها فكان من أرادها بمكروه رمي بداء في جسده، حتى انتهوا عنه.
حل بكسر الحاء، أي: من الحرام. وبل، بكسر الموحدة: مباح، وقيل: شفاء. وعند ابن إسحاق: فعفت زمزم على آبار كانت قبلها وانصرف الناس إليها لمكانها من المسجد الحرام وفضلها على ما سواها؛ ولأنها بئر إسماعيل وافتخر بها بنو عبد مناف على قريش كلها وعلى سائر العرب، وعند غيره: فكان منها شرب الحاج، وكان لعبد المطلب إبل كثيرة يجمعها في الموسم ويسقي لبنها بالعسل في حوض من أدم عند زمزم، ويشتري الزبيب فينبذه بماء زمزم ويسقيه الحاج ليكسر غلظها وكانت إذ ذاك غليظة، فلما توفي قام بالسقاية العباس وان له كرم بالطائف؛ فكان يحمل زبيبه إليها ويسقيه الحاج أيام الموسم، فلما دخل صلى الله عليه وسلم مكة يوم الفتح قبض السقاية منه، ثم ردها إليه.
"فلما تكامل بنوه عشرة" بعد حفره زمزم بثلاثين سنة، كما عند ابن سعد والبلاذري، زاد في نسخ "وهم الحارث" وأمه صفية بنت جندب "والزبير" بفتح الزاي عند البلاذري، وأبي القسم الوزير وضمها عند غيرهما, وهو مفاد التبصير وأمه فاطمة بنت عمرو، "وحجل" بفتح المهملة فجيم ساكنة عند الدارقطني، وتبعه النووي والذهبي والعسقلاني، وهو في الأصل القيد والخلخال، وضبطه اليعمري تبعًا لابن إسحاق بتقديم الجيم على الحاء الساكنة، وصدر به المصنف فيما يأتي وهو السقاء الضخم، وذكر المصنف: ثم إن اسمه المغيرة وتبع فيه الذهبي، ووهمه الحافظ، وقال: الذي اسمه مغيرة ابن أخيه حجل بن الزبير بن عبد المطلب، انتهى. وأمه هالة بنت وهيب. "وضرار" بضاد معجمة وراءين بينهما ألف، وهو شقيق العباس، "والمقوم" بفتح الواو مشددة اسم مفعول وكسرها مشددة اسم فاعل، كذا يخطي ولا أدري الآن من أين(1/175)
وأبو لهب والعباس وحمزة وأبو طالب وعبد الله، وقر الله عينه بهم، نام ليلة عند الكعبة المطهرة فرأى في المنام قائلا يقول: يا عبد المطلب: أوف بنذرك لرب هذا البيت، فاستيقظ فزعًا مرعوبًا، وأمر بذبح كبش وأطعمه للفقراء والمساكين. ثم نام فرأى: أن قرب ما هو أكبر من ذلك، فاستيقظ من نومه وقرب ثورًا، ثم نام فرأى: أن قرب ما هو أكبر من ذلك، فانتبه وقرب جملا، وأطعمه للمساكين، ثم نام فنودي: أن قرب ما هو أكبر من ذلك، فقال: ما أكبر من ذلك وقال: قرب أحد أولادك الذي نذرته.
فاغتم غمًا شديدًا، وجمع أولاده، وأخبرهم بنذره، ودعاهم إلى الوفاء، فقالوا: إنا نطيعك، فمن تذبح منا؟ قال: ليأخذ.............................
__________
هو، قاله في النور، وأمه هالة. "وأبو لهب" عبد العزى وأمه آمنة بنت هاجر، "والعباس" رضي الله عنه، وأمه نتلة بفتح النون وسكون الفوقية، ويقال: نتيلة بضم النون وفتح الفوقية مصغرًا، واقتصر عليه التبصير. "وحمزة" سيد الشهداء رضي الله عنه، وأمه هالة بنت وهيب. "وأبو طالب وعبد الله" والده صلى الله عليه وسلم وأمهما فاطمة بنت عمرو بن عائذ بن عمر بن مخزوم، قال شيخنا: وهذه النسخة لا تناسب ما يأتي أن حمزة والعباس إنما ولدا بعد الوفاء بالنذر، فلعلها غير صحيحة، انتهى. أما الأول: فواضح، وأما ترجي عدم صحتها فلا إذ من المعلوم القول بأن أولاده عشرة فقط فيحتمل أن المراد بحمزة والعباس هنا اثنان من ولد ولده موافقًا اسم ابنيه. "وقر الله عينه بهم" كذا في نسخ وسقطت الجلالة من أخرى، وهي التي عند شيخنا، فقال: العين حاسة الرؤية مؤنثة ذكر الفعل؛ لأن تأنيثها غير حقيقي.
"نام ليلة عند الكعبة المطهرة فرأى في المنام قائلا يقول" له: "يا عبد المطلب، أوف" بهمزة قطع "بنذرك لرب هذا البيت، فاستيقظ" حال كونه "فزعًا مرعوبًا" أي: خائفًا وهما بمعنى كما مر، "وأمر ببح كبش وأطعمه للفقراء والمساكين، ثم نام فرأى: أن قرب ما هو أكبر من ذلك، فاستيقظ من نومه وقرب ثورًا" ذكر البقر سمي ثورًا؛ لأنه يثير الأرض، كما سميت البقرة بقرة؛ لأنها تبقرها، "ثم نام، فرأى: أن قرب ما هو أكبر من ذلك، فانتبه وقرب جملا" نحره، "وأطعمه للمساكين" والفقراء؛ لأنهما إذا افترقا اجتمعا، "ثم نام، فنودي: أن قرب ما هو أكبر من ذلك، فقال: وما هو أكبر من ذلك؟ وقال: قرب أحد أولادك الذي نذرته" أي: نذرت ذبحه، "فاغتم غمًا شديدًا" أي: أصابه كرب وحزن، "وجمع أولاده وأخبرهم بنذره ودعاهم إلى الوفاء" بالنذر "فقالوا: إنا نطيعك، فمن تذبح منا؟ " أي: فأي واحد تريد ذبحه لنعينك عليه، "قال: ليأخذ(1/176)
كل واحد منكم قدحًا -والقدح: سهم بغير نصل- ثم ليكتب فيه اسمه، ثم ائتوا به، ففعلوا، وأخذوا قداحهم ودخلوا على هبل -اسم صنم عظيم- وكان في جوف الكعبة، وكانوا يعظمونه، ويضربون بالقداح عنه، ويستقسمون بها، أي يرتضون بما يقسم لهم، ثم يضرب بها القيم الذي لها قال: فدفع عبد المطلب إلى ذلك القيم القداح وقام يدعو الله تعالى، فخرج على عبد الله، وكان أحب ولده إليه.
فقبض عبد المطلب على يد ولده عبد الله.......................................
__________
كل واحد منكم قدحًا" قال المصنف: "والقدح" بكسر القاف وسكون الدال وحاء مهملة، "سهم بغير نصل" ولفظ القاموس القدح بالكسر: السهم قبل أن يراش وينصل، "ثم ليكتب فيه اسمه، ثم ائتوا به، ففعلوا وأخذوا قداحهم" بكسر القاف جمع قدح ويجمع أيضًا على أقداح أقاديح؛ كما في القاموس.
"ودخلوا على هبل" بضم الهاء وفتح الموحدة فلام، "اسم صنم عظيم" من عقيق أحمر على صورة الإنسان مكسور اليد اليمنى أدركته قريش كذلك، فجعلوا له يدًا من ذهب كذا ذكر ابن الكلبي في كتاب الأصنام: أنه بلغه "وكان في جوف الكعبة" وكان تحته بئر يجمع فيها ما يهدى للكعبة، قاله ابن إسحاق وغيره. "وكانوا يعظمونه ويضربون بالقداح عنده" قال ابن إسحاق: كان عنده قداح سبعة كل قدح فيه كتاب قدح العقل، إذا اختلفوا من يحمله، وقدح فيه نعم للأمر إذا أرادوه، وقدح فيه لا، وقدح فيه منكم، وقدح فيه ملصق، وقدح فيه من غيركم، وقدح فيه المياه إذا أرادوا حفرها، فكانوا إذا أرادوا الختان أو النكاح أو دفن ميت أو شكوا في نسب، ذهبوا إلى هبل بمائة درهم وجزور فأعطوها الذي يضرب بها ثم ما خرج عملوا به، انتهى، ملخصًا، ففسرها كلها وأقره عبد الملك بن هشام.
وأما ابن الكلبي، فقال: مكتوب في أولها صريح والآخر ملصق، وإذا شكوا في مولود أدوا له هدية ثم ضربوا بالقداح، فإن خرج صريح الحقوه وإن كان ملصقًا دفعوه، وقدح على الميتة، وقدح على النكاح، وثلاثة لم تفسر لي على ما كانت، فإذا اختصموا في أمر أو أرادوا سفرًا أو عملا، أتوه، فاستقسموا بالقداح عنده، فما خرج عملوا به، وانتهوا إليه. وفسر ضرب القداح بقوله: "ويستقسمون بها، أي: يرتضون بما يقسم لهم، ثم يضرب بها القيم الذي لها" والمعنى: كانوا يتفقون عند القيم بالرضا بما خرج، فكل من خرج اسمه على شيء رضي به، "قال: فدفع عبد المطلب إلى ذلك القيم القداح، وقام" عبد المطلب "يدعو الله تعالى" ويقول: اللهم إني نذرت لك نحر أحدهم وإني أقرع بينهم، فأصب بذلك من شئت، ثم ضرب السادن القدح "فخرج على عبد الله، وكان أحب ولده إليه، فقبض عبد المطلب على يد ولده عبد الله(1/177)
وأخذ الشفرة ثم أقبل إلى إساف ونائلة -صنمين عند الكعبة تذبح وتنحر عندهما النسائك- فقام إليه سادة قريش فقالوا: ما تريد أن تصنع؟ فقال: أوفي بنذري، فقالوا: لا ندعك أن تذبحه حتى تعذر فيه إلى ربك، ولئن فعلت هذا لا يزال الرجل يأتي بابنه فيذبحه وتكون سنة. وقالوا: له: انطلق إلى فلانة الكاهنة. قلت:
__________
وأخذ الشفرة" بفتح الشين المعجمة وسكون الفاء، وهي السكين العظيم؛ كما في القاموس. أو العريض؛ كما في المصباح. ولا خلف "ثم أقبل إلى إساف" بكسر الهمزة وفتح المهملة مخففة، "ونائلة" بنون فألف فتحتية، "صنمين عند الكعبة" قال هشام الكلبي في كتاب الأصنام: إساف رجل من جرهم، يقال له: إساف بن يعلى ونائلة بنت زيد من جرهم، وكان يتعشقها في أرض اليمن فحجا فدخلا الكعبة فوجدا غفلة من الناس وخلوة من البيت ففجر بها فيه فمسخا فأصبحوا فوجدوهما ممسوخين فوضعوهما ليتعظ بهما الناس، فلما طال مكثهما وعبدت الأصنام عبدا معها، "تذبح وتنحر عندهما النسائك، فقام إليه سادة قريش" وعند ابن إسحاق وغيره: فقامت إليه قريش في أنديتها، "فقالوا: ما تريد أن تصنع؟ " فلعل السادة هم الذين بدءوا بالقيام والقول فتبعوهم، وفي ابن إسحاق، فقالت له قريش وبنوه: والله لا تذبحه أبدًا حتى تعذر، ولا يشكل بقوله قبله: فأطاعوه؛ كقول المصنف: إنا نطيعك فمن تذبح منا؛ لأنهم وافقوه أولا ثم وافقوا قريشًا في طلب الأعذار، ووقع في الشامية أن العباس جذب عبد الله من تحت رجل أبيه حين وضعها عليه ليذبحه، فيقال: إنه شبح وجهه شبحة لم تزل فيه حتى مات. ا. هـ. ولا يصح؛ لأن العباس إنما ولد بعد هذه القصة، إلا أن يقال على بعد شاركه في اسمه غيره من بني إخوته.
"فقال: أوفي بنذري" بضم الهمزة وسكون الواو ففاء خفيفة، أو بفتح الواو وشدة الفاء، يقال: أوفى ووفى بمعنى، "فقالوا: لا ندعك تذبحه حتى تعذر" بضم فسكون من الإعذار، يقال: أعذر إذا أبدى العذر، والمراد حتى تطلب عذرًا "فيه" في ذبحه "إلى ربك" بأن تسأل الكاهنة، فإنها إن ذكرت أنه يذبح كان عذرًا عندهم، "ولئن فعلت هذا لا يزال الرجل يأتي بابنه فيذبحه" فما بقاء الناس على هذا، وقال المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم: وكان عبد الله بن أخت القوم، والله لا تذبحه أبدًا حتى تعذر فيه، فإن كان فداؤه بأموالنا فديناه، هكذا في ابن إسحاق. "وتكون سنة" أي: طريقة مستمرة في قومك؛ لأنك رئيسهم فيقتدون بك "وقالوا له: انطلق إلى فلانة الكاهنة" وعند ابن إسحاق وأتباعه: وانطلق إلى الحجاز فإن به عرافة لها تابع من الجن وهو بتقدير مضاف، أي: أحد أرض الحجاز، فلا يخالفه قول القاموس الحجاز مكة والمدينة والطائف.(1/178)
قيل اسمها: قطبة، كما ذكره الحافظ عبد الغني في كتاب المبهمات، وذكر ابن إسحاق أن اسمها: سبجاج -فلعلها أن تأمرك فيه فرج لك.
فانطلقوا حتى أتوها بخيبر، فقص عليها عبد المطلب القصة، فقالت: كم الدية عندكم؟ فقالوا: عشرة من الإبل، فقالت: ارجعوا إلى بلادكم ثم قربوا صاحبكم ثم قربوا عشرة من الإبل، ثم اضربوا عليها وعليها القداح، فإن خرجت القداح على صاحبكم فزيدوا في الإبل ثم اضربوا أيضًا، هكذا حتى يرضي ربكم. ويخلص صاحبكم فإذا خرجت على الإبل فانحروها فقد رضي ربكم ونجا صاحبكم.
فرجع القوم إلى مكة، وقربوا عبد الله، وقربوا عشرة................
__________
"قيل: كان اسمها قطبة، كما ذكره الحافظ عبد الغني" بن سعيد بن علي الأزدي الإمام المتقن النسابة إمام زمانه في علم الحديث وحفظه، قال البرقاني: ما رأيت بعد الدارقطني أحفظ منه له مؤلفات منها المبهمات، ولد سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة ومات في سابع صفر سنة تسع وأربعمائة، "في كتاب" الغوامض و"المبهمات، وذكر ابن إسحاق" في رواية يونس عنه "أن اسمها سبجاج".
كذا في النسخ، والذي في الروض: سجساج، "فلعلها أن تأمرك بأمر فيه فرج لك" لفظ رواية ابن إسحاق: إن أمرتك بذبحه ذبحته، وإن أمرتك بأمر لك وله فيه فرج قبلته، "فانطلقوا حتى" قدموا المدينة فوجدوها بخيبر، فركبوا حتى "أتوها بخيبر، فقص عليها عبد المطلب القصة" فقالت لهم، كما في ابن إسحاق: ارجعوا عني حتى يأتيني تابعي فأسأله، فرجعوا من عندها؛ فلما خرجوا عنها قام عبد المطلب يدعو الله، ثم غدوا عليها "فقالت" لهم: قد جاءني الخبر "كم الدية عندكم؟ فقالوا: عشرة من الإبل، فقالت: ارجعوا إلى بلادكم ثم قربوا صاحبكم" أي: أحضروه إلى موضع ضرب القداح "ثم قربوا عشرة من الإبل، ثم اضربوا عليه وعليها القداح، فإن خرجت القداح على صابحكم فزيدوا في الإبل" عشرة أخرى، وهكذا على ما يظهر من أن الزيادة بإشارتها أو أطلقت.
وزاد عبد المطلب اجتهادًا نظرًا لأن الدية عشرة فأريد تضعيفها، "ثم اضربوا أيضًا هكذا حتى يرضى ربكم ويخلص صاحبكم، فإذا خرجت على الإبل فانحروها فقد رضي ربكم ونجا صاحبكم" وكأنه غلب على ظنها أن القداح لا محالة تخرج على الإب مرة، فسكتت عن حكم ما لو لم تخرج عليها لعلمه عندهم، "فرجع القوم إلى مكة وقربوا عبد الله وقربوا عشرة(1/179)
من الإبل، وقام عبد المطلب يدعو، فخرجت القداح على ولده، فلم يزل يزيد عشرًا عشرًا حتى بلغت مائة فخرجت القداح على الإبل. فنحرت وتركت، لا يصد عنها إنسان ولا طائر ولا سبع.
ولهذا روي -على ما عند الزمخشري في الكشاف- أنه صلى الله عليه وسلم قال: "أنا ابن الذبيحين".
وعند الحاكم في المستدرك، عن معاوية بن أبي سفيان قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم........................
__________
من الإبل، وقام عبد المطلب يدعو" الله تعالى "فخرجت القداح" أي: جنسها إذ الخارج في كل مرة قدح أحد "على ولده، فلم يزل يزيد عشرًا عشرًا حتى بلغت الإبل مائة، فخرجت القداح على الإبل" زاد ابن إسحاق: فقالت قريش ومن حضر: قد انتهى رضا ربك يا عبد المطلب، فزعموا أنه قال: لا والله حتى أضرب عليها بالقداح ثلاث مرات، فضربوا على عبد الله وعلى الإبل فقام عبد المطلب يدعو فخرجت على الإبل، ثم عادوا الثانية وهو قائم يدعو فضربوا فخرجت على الإبل، ثم الثالثة وهو قائم يدعو فخرجت على الإبل،"فنحرت وتركت لا يصد عنها إنسان" ذكر أو أنثى، قال لمجد المرأة إنسان وبالهاء عامية، وسمع في شعر كأنه مولد:
لقد كستني في الهوى ... ملابس الصب الغزل
إنسانة فتانة ... بدر الدجى منها خجل
إذا زنت بها عيني ... من الدموع تغتسل
"ولا طائر ولا سبع" بضم الموحدة وفتحها وسكونها: المفترس من الحيوان، قاله القاموس. وعند مغلطاي: أول من سن الدية مائة عبد المطلب، وقيل: العلمس أو سيارة. ا. هـ.
"ولهذا" الواقع في قصة عبد الله "روى على ما عند الزمخشري في الكشاف" في سورة: {وَالصَّافَّاتِ} [الصافات: 1] ، استدلالا على أن الذبيح إسماعيل، "أنه صلى الله عليه وسلم، قال: "أنا ابن الذبيحين" قال الزيلعي في تخريج أحاديثه: غريب، ثم ساق حديث الأعرابي المذكور في المتن ونحوه للحافظ، فحاصل كلامهما أنهما لم يجداه بهذا اللفظ؛ كما عزاه لهما الشامي.
"وعند الحاكم في المستدرك" وابن جرير وابن مردويه والثعلبي في تفاسيرهم، "عن معاوية بن أبي سفيان" صخر ابن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف القرشي الأموي أمير المؤمنين أسلم هو وأبواه وأخوه يزيد في فتح مكة وكان هو وأبوه من المؤلفة قلوبهم، ثم حسن إسلامهما ومعاوية من الموصوفين بالحلم توفي بدمشق سنة ستين، "قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم(1/180)
فأتاه أعرابي، فقال: يا رسول الله، خلفت البلاد يابسة، والماء يابسًا وخلفت المال عابسًا، هلك المال وضاع العيال، فعد علي ما أفاء الله عليك يا ابن الذبيحين. قال: فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ينكر عليه. الحديث. وتأتي تتمته إن شاء الله تعالى قريبًا.
ويعني بالذبيحين: عبد الله وإسماعيل بن إبراهيم.
وإن كان قد ذهب بعض العلماء إلى أن الذبيح إسحاق.
فإن صح هذا.................................
__________
فأتاه أعرابي، فقال: يا رسول الله! خلفت البلاد يابسة" مجدبة لا خصب فيها، "والماء" أي: محلاته التي يصيبها "يابسًا" لعدم الماء, وفي نسخة: خلفت الكلأ يابسًا، أي: العشب وصفه باليبس لبيان صفته التي تركه عليها، فالكلأ العشب رطبًا كان أو يابسًا؛ كما في المختار، وزعم أن هذه النسخة هي التي في غيره والأولى تصحيف عجيب باطل، فالأولى هي الثابتة في المقاصد عن المستدرك، "وخلفت المال عابسًا" أي: كالحًا، أي: متغيرًا مهزولا؛ وكأنه أراد بالمال الماشية، "هلك المال وضاع العيال فعد علي" أعطني شيئًا أستعين به "مما أفاء الله عليك يا ابن الذبيحين، قال" معاوية "فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ينكر عليه" فأفاد أنه إسماعيل، وهذا احتج به معاوية على من قال: إنه إسحاق، فإن أول الحديث عند الحاكم عن الصنابحي: حضرنا مجلس معاوية فتذاكر القوم إسماعيل وإسحاق، فقال بعضهم: إسماعيل الذبيح، وقال بعضهم: بل إسحاق، فقال معاوية، سقطتم على الخبير، وذكره "الحديث، وتأتي تتمته إن شاء الله تعالى قريبًا" جدًا، "ويعني بالذبيحين: عبد الله وإسماعيل بن إبراهيم" كما قاله جماعة من الصحابة والتابعين وغيرهم ورجحه جماعة، وقال أبو حاتم: إنه الصحيح، والبيضاوي: إنه الأظهر.
"وإن كان قد ذهب بعض العلماء إلى أن الذبيح إسحاق" بل عزاه ابن عطية والمحب الطبري والقرطبي للأكثرين، وأجمع عليه أهل الكتابين وقال به من الصحابة، كما قال البغوي وغيره العباس وابنه، وعمر وابنه، وعلي وجابر وهو الصحيح عن ابن مسعود، ومن التابعين: علقمة، والشعبي، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وكعب الأخبار، وقتادة، ومسروق، وعكرمة، والقاسم بن أبي برة، وعطاء، ومقاتل، وعبد الرحمن بن سابط، والزهري، والسدي، وعبد الله بن أبي الهذيل، والقاسم بن زيد، ومكحول، والحسن. وذهب إليه مالك واختاره ابن جرير، وجزم به عياض والسهيلي، ومال إليه السيوطي في علم التفسير.
"فإن صح هذا" في نفس الأمر وإلا فكيف لا يصح، وقد قال به من ذكر والحجة لهم(1/181)
فالعرب تجعل العم أبًا، قال الله تعالى إخبارًا عن بني يعقوب عليهم الصلاة والسلام: {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ} [البقرة: 133] .
وفي حديث معاوية -الموعود بتتمته قريبًا-....................
__________
قوله صلى الله عليه وسلم: "الذبيح إسحاق" رواه الدارقطني عن ابن مسعود وابن مردويه والبزار عن العباس، وفيه المبارك بن فضالة ضعفه الجمهور، لكن رواه الحاكم من طرق عن العباس، وقال: صحيح علي شرطهما. وقال الذهبي: صحيح.
ورواه ابن مردويه عن أبي هريرة قال ابن كثير: وفيه الحسن بن دينار متروك، وشيخه منكر وقد رواه ابن أبي حاتم مرفوعًا ثم رواه عن مبارك بن فضالة موقوفًا وهو أشبه وأصح، وتعقبه السيوطي بأن مباركًا قد رفعه مرة فأخرجه البزار عنه مرفوعًا، وله شواهد عنده وعند الديلمي عن العباس مرفوعًا في حديث بلفظ: "وأما إسحاق فبذل نفسه للذبح"، والطبراني وابن أبي حاتم عن أبي هريرة مرفوعًا نحوه بسند ضعيف، وللطبراني أيضًا بسند ضعيف عن ابن مسعود: سئل صلى الله عليه وسلم من أكرم الناس؟ قال: "يوسف بن يعقوب بن إسحاق ذبيح الل"، وأخرج في الكبير عن أبي الأحوص، قال: افتخر رجل عند ابن مسعود، وفي لفظ: فاخر أسماء بن خارجة رجلا، فقال: أنا ابن الأشياخ الكرام، فقال عبد الله: ذاك يوسف بن يعقوب بن إسحاق ذبيح الله ابن إبراهيم خليل الله وإسناده صحيح موقوف. ا. هـ. ملخصًا.
فهذه أحاديث يعضد بعضها بعضًا، فأقل مراتب الحديث الأول أنه حسن، فكيف وقد صححه الحاكم والذهبي وهو نص صريح لا يقبل التأويل بخلاف حديث معاوية فإنه قابل له.
"فالعرب تجعل العم أبا، قال الله تعالى إخبارًا عن بني يعقوب عليهم الصلاة والسلام" جمعها وإن كان فيهم غير أنبياء لجوازها تبعًا وهو استدلال على جعل العم أبا، {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ} [البقرة: 133، الأنعام: 144] ، حضورًا والخطاب لليهود، فإنه نزل ردًا عليهم لما قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: ألست تعلم أن يعقوب يوم مات أوصى بنيه باليهودية، " {إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ} " [البقرة: 133] ، إذ بدل من إذ قبله: " {قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي} " بعد موتي، " {قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ} " [البقرة: 133] ، فجعل إسماعيل أبا وهو عم لأنه بمنزلته، في حمل حديث معاوية على ذلك جمعًا بين الحديثين.
وأما القول بأنهما عبد الله وهابيل فغريب، وإن نقله مغلطاي ولا يصح إلا بجعل العم أبا أيضًا، فإن المصطفى من ولد شيث "وفي حديث معاوية الموعود بتتمته قريبًا" قال: راويه(1/182)
قال معاوية: إن عبد المطلب لما أمر بحفر زمزم نذر لله إن سهل الأمر بها أن ينحر بعض ولده، فأخرجهم فأسهم بينهم فخرج السهم لعبد الله، فأراد ذبحه فمنعه أخواله من بني مخزوم، وقالوا أرض ربك، وافد ابنك، ففداه بمائة ناقة، فهو الذبيح الأول وإسماعيل الذبيح الثاني.
قال ابن القيم: "ومما يدل على أن الذبيح إسماعيل، أنه لا ريب أن الذبيح كان بمكة، ولذلك جعلت القرابين يوم النحر بها، كما جعل السعي بين الصفا والمروة ورمي الجمار بها تذكيرًا لشأن إسماعيل وأمه وإقامة لذكر الله تعالى، ومعلوم أن إسماعيل وأمه هما اللذان كانا بمكة دون إسحاق وأمه".
__________
الصنابجي، فقلنا: وما الذبيحان؟ "قال معاوية: إن عبد المطلب لما أمر" بالبناء للمفعول "بحفر زمزم" وعير بقلة الولد "نذر لله إن سهل" الله "الأمر بها" وجاءه عشرة بنين "أن ينحر بعض ولده" أي: واحدًا منهم؛ كما مر، والأخبار يفسر بعضها ببعض، "فأخرجهم فأسهم بينهم، فخرج السهم لعبد الله، فأراد ذبحه فمنعه أخواله من بني مخزوم" من ذبحه حتى يعذر فيه إلى ربه، ومر عن ابن إسحاق أن المغيرة المخزومي قال له: والله لا تذبحه أبدًا حتى يعذر فيه إلى ربه، ومر عن ابن إسحاق أن المغيرة المخزومي قال له: والله لا تذبحه أبدًا حتى تعذر فيه، فإن كان فداؤه بأموالنا فديناه ومثله في الشامية، وليس فيه أن المخاطب له بذلك منهم؛ كما ادعي، ولا اللفظ يقتضي ذلك فنقل كلام عن واحد لا ينفي أن غيره قال مثله، حتى يزعم الحصر "وقالوا: أرض ربك" بهمزة قطع مفتوحة "وافد ابن" بهمزة وصل "ففداه بمائة ناقة، فهو الذبيح الأول" من أبويه صلى الله عليه وسلم، سماه أولا لقربه منه وأنه أبوه بلا واسطة، "وإسماعيل الذبيح الثاني" وهذا لم يرفعه معاوية، وإنما قاله استنباطًا من تبسمه صلى الله عليه وسلم بعد قول الأعرابي: يا ابن الذبيحين، ومعلوم أن صريح المرفوع مقدم على الاستنباط، فيرد المحتمل إلى الصريح جمعًا بين الدليلين.
"قال ابن القيم: ومما يدل على أن الذبيح إسماعيل، أنه لا ريب" لا شك "أن الذبيح كان بمكة ولذلك جعلت القرابين" بفتح القاف جمع قربان بضمها، وهو ما تقرب به إلى الله،؛ كما في المختار "يوم النحر بها، كما جعل السعي بين الصفا والمروة" وكما جعل "رمي الجمار بها تذكيرًا لشأن إسماعيل وأمه، وإقامة لذكر الله تعالى، ومعلوم أن إسماعيل وأمه هما اللذان كانا بمكة دون إسحاق وأمه" وقد أجيب عن هذا بقول سعيد بن جبير: أري إبراهيم ذبح إسحاق في المنام فسار به من بيت المقدس مسيرة شهر في غدوة واحدة حتى أتى به المنحر بمنى، فلما صرف الله عنه الذبح وأمره أن يذبح الكبش فذبحه وسار به مسيرة شهر في روحة واحدة على البراق، ويؤيده ما رواه الإمام أحمد بسند صحيح عن ابن عباس، قال: قال صلى الله عليه وسلم: "إن(1/183)
ثم قال: "ولو كان الذبيح بالشام -كما يزعم أهل الكتاب، ومن تلقى عنهم- لكانت القرابين والنحر بالشام لا بمكة".
"وأيضًا فإن الله سمى الذبيح حليمًا، لأنه لا أحلم ممن سلم نفسه للذبح طاعة لربه، ولما ذكر إسحاق سماه: عليمًا".
"وأيضًا: فإن الله تعالى أجرى العادة البشرية: أن بكر الأولاد أحب إلى الوالدين ممن بعده، وإبراهيم لما سأل ربه الولد، ووهبه له تعلقت شعبة من قلبه
__________
جبريل ذهب بإبراهيم إلى جمرة العقبة، فعرض له الشيطان فرماه بسبع حصيات فساخ، ثم أتى به الجمرة الوسطى فعرض له الشيطان فرماه بسبع حصيات فساخ، فلما أراد إبراهيم أن يذبح إسحاق، قال لأبيه: يا أبت، أوثقني لا أضطرب فينتضح دمي عليك إذا ذبحتني، فشده فلما أخذ الشفرة وأراد ذبحه نودي من خلفه: يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا"، "ثم قال" ابن القيم: "ولو كان الذبيح بالشام، كما يزعم أهل الكتاب ومن تلقى عنهم لكانت القرابين والنحر بالشام لا بمكة" لأنه هو المحل الذي أمر فيه بذبحه على هذا القول وأنت خبير بأن هذا مع ما فيه من الظن لسوء بأكثر العلماء، وهو أنه لا سلف لهم إلا التلقي عن أهل الكتاب لا يصح دليل إذ لا تلازم، وأيضًا فالدليل ما سلمه الخصم وابن عطية، حكى قولين، أحدهما: أنه أمر بذبحه في الشام، والثاني: أنه إنما أمر بذبحه في الحجاز، فجاء به معه على البراق. ا. هـ. ومر نقله عن ابن جبير وتأييده بالمرفوع.
"وأيضًا" مما يدل على أنه إسماعيل ظاهر القرآن الكريم، "فإن الله سمى الذبيح حليمًا" في قوله: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ} [الصافات: 101] ، "لأنه لا أحلم ممن سلم نفسه للذبح طاعة لربه" مع كونه مراهقًا ابن ثمان سنين أو ثلاث عشرة سنة، حكاهما الجلال. "ولما ذكر إسحاق سماه عليمًا" في قوله: {إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ} [الحجر: 53] ، وقوله: {وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ} [الذاريات: 28] ، وهذا غير ظاهر، فلا ريب أن إسحاق حليم أيضًا، فأي مانع من جمعه الصفتين؟
"وأيضًا" دليل عقلي، "فإن الله تعالى أجرى العادة البشرية أن بكر الأولاد" بكسر الموحدة وسكون الكاف: أول ولد الأبوين، "أحب إلى الولدين ممن بعده" لكونه أول فيتمكن حبه قبل رؤية غيره، لكن لا ينافي أنه إذا حصلت مزية لمن بعده زاد بسببها حبه؛ كما أحب عبد المطلب الأب الشريف لرؤيته نور المصطفى في وجهه.
"وإبراهيم لما سأل ربه الولد ووهبه له تعلقت شعبة" بضم الشين الغصن لغة "من قلبه(1/184)
بمحبته، والله تعالى قد اتخذه خليلا، والخلة منصب يقتضي توحيد المحبوب بالمحبة، وأن لا يشارك فيها، فلما أخذ الولد شعبة من قلب الوالد جاءت غيره الخلة تنزعها من قلب الخليل، فأمر بذبح المحبوب، فلما قدم على ذبحه، وكانت محبة الله عنده أعظم من محبة الولد خلصت الخلة حينئذ من شوائب المشاركة، فلم يبق في الذبح مصلحة، إذ كانت المصلحة إنما هي في العزم وتوطين النفس، وقد حصل المقصود، فنسخ الأمر وفدي الذبيح، وصدق الخليل الرؤيا". انتهى.
وقد أنشد بعضهم:
إن الذبيح هديت إسماعيل ... ظهر الكتاب بذاك والتنزيل
__________
بمحبته" فشبه القلب بشجرة استعارة بالكناية، والتعلق الحاصل به أغصانها وإثبات الغصن استعارة تخييلية، ولم يقل: تعلق قلبه بمحبته لئلا يتوهم تعلق قلبه بجملته بمحبة ولده، فلم يكن فيه محل لغيره مع أن قلبه إنما هو متعلق بربه غايته أن ثمة نوع تعلق بالولد.
"والله تعالى قد اتخذه خليلا، والخلة" بضم الخاء وتفتح الصداقة المحضة التي لا خلل فيها؛ كذا في القاموس. "منصب" بكسر الصاد: أصل "يقتضي توحيد المحبوب بالمحبة، وأن لا يشارك فيها" عطف تفسير "فلما أخذ الولد شعبة من قلب الوالد جاءت غيره" بفتح الغين "الخلة تنزعها من قلب الخليل" ليتمحض للجليل "فأمر بذبح المحبوب" ولا ريب أن هذا يأتي على أنه إسحاق أيضًا، فلا شك أن في قلبه شعبة محبة له، غايته: أن محبة إسماعيل أكثر. "فلما قدم على ذبحه وكانت محبة الله عنده أعظم من محبة الولد خلصت الخلة حينئذ" أي: حين إذ قدم على ذبحه، "من شوائب المشاركة، فلم يبق في الذبح مصلحة إذا كانت المصلحة إنما هي العزم وتوطين النفس، وقد حصل المقصود" أي: إظهاره إذ الله عالم به: "فنسخ الأمر، وفدى الذبيح، وصدق الخليل الرؤيا. ا. هـ." كلام ابن القيم، وهي أدلة إقناعية.
"وأنشد بعضهم: أن الذبيح هديت إسماعيل ظهر" وفي نسخة: نطق، أي: دل "لكتاب بذاك والتنزيل" عطف صفة على موصوفها أو تفسيري؛ كأنه يشير به إلى قوله تعالى: {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ} [الصافات: 112] ، ولا حجة فيه، فقد قال ابن عباس: هي بشارته بنبوته؛ كما قال تعالى في موسى: {وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا} [مريم: 53] ، وهو قد كان وهبه له(1/185)
شرف به خص الإله نبينا
وأبانه التفسير والتأويل
وروي مما ذكره المعافى بن زكريا، أن عمر بن عبد العزيز سأل رجلا أسلم من علماء اليهود: أي ابني إبراهيم أمر بذبحه؟ فقال: والله يا أمير المؤمنين، إن اليهود ليعلمون أنه إسماعيل.........................
__________
قبل ذلك فإنما أراد النبوة فكذلك هذه، قاله ابن عطية وغيره. وبه يعلم: أن قول العلامة التقي السبكي يؤخذ من تعدد البشارة بهما مع وصف إسحاق بأنه عليم، والذبيح بأنه حليم، القطع بأن الذبيح إسماعيل مردود، فكيف يكون قطعيًا مع فهم ترجمان القرآن "شرف به خص الإله نبينا" أي: قصره عليه لا يتجاوزه إلى غيره. "وأبانه" أظهره، وفي نسخة: وأتى به "التفسير والتأويل" عطف مساوٍ هنا.
"وروي فيما ذكره المعافى ابن زكريا" بن يحيى بن حميد الحافظ العلامة المفسر الثقة النهرواني الجريري، كان على مذهب ابن جرير مات سنة تسع وثلاثمائة، "أن عمر بن عبد العزيز" بن مروان بن الحكم بن أبي العاصي بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف القرشي الأموي الثقة، الحافظ الورع المأمون التابعي الصغير أمير المؤمنين خامس أو سادس الخلفاء الراشدين على عد مدة البسط وعدمه؛ لأنها كالتتمة لولاية أبيه.
روى أنس: وصلى أنس خلفه، وقال: ما رأيت أحدًا أشبه صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا الفتى، ولي إمرة المدينة للوليد وكان مع سليمان كالوزير، ثم ولي بعده باستخلافه الخلافة سنتين وخمسة أشهر ونصفًا، فملأ الأرض عدلا ورد المظالم وزاد الخراج في زمنه، وأبدل ما كان بنو أمية تذكر به عليًا كرم الله وجهه على المنبر بآية: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ} [النحل: 90] ، ومناقبه كثيرة شهيرة مات مسمومًا يوم الجمعة لعشر بقين من رجب سنة إحدى ومائة، وأمه أم عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب.
"سأل رجلا أسلم من علماء اليهود" قال الطبري: وحسن إسلامه "أي: ابني إبراهيم أمر بذبحه، فقال: والله يا أمير المؤمنين إن اليهود" بالدال مهملة ومعجمة؛ كما في القاموس، "ليعلمون أنه إسماعيل" لأن في التوراة على ما في تفسير ابن كثير: أن الله أمر إبراهيم أن يذبح ابنه وحيده، وفي نسخة: بكره، فحرفوا وحيده، فقالوا: إن إسحاق كان مع أبيه وحده وإسماعيل كان مع أمه بمكة، قال ابن كثير: وهذا تأويل وتحريف باطل، فلا يقال وحيدًا إلا لمن ليس له غيره. ا. هـ. وفيه نظر، ففي فتح الباري ذكر ابن إسحاق: إن هاجر لما حملت بإسماعيل غارت سارة فحملت بإسحاق فولدتا معًا، ثم نقل عن بعض أهل الكتاب خلاف ذلك وأن بين مولديهما ثلاث عشرة سنة، والأول أولى. ا. هـ. وتبعه السيوطي.(1/186)
ولكنهم يحسدونكم معشر العرب أن يكون أباكم، للفضل الذي ذكره الله عنه، فهم يجحدون ذلك ويزعمون أنه إسحاق لأن إسحاق أبوهم.
فانظر أيها الخليل ما في هذه القصة من السر الجليل، وهو أن الله تعالى يرى عباده الجبر بعد الكسر، واللطف بعد الشدة، فإنه كان عاقبة صبر هاجر وابنها على البعد والوحدة والغربة والتسليم لذبح الولد، آلت إلى ما آلت إليه من جعل آثارهما ومواطئ أقدامهما مناسك لعباده المؤمنين، ومتعبدات لهم إلى يوم الدين، وهذه
__________
"ولكنهم يحسدونكم" بضم السين، وحكى الأخفش كسرها "معشر" أي: يا جماعة "العرب" والإضافة بيانية على "أن يكون" إسماعيل "أباكم" فيتمنون زوال نسبة ذلك إليكم، ونقلها إليهم وقيل: الحسد تمني زوال نعمة الغير وإن لم تصل للحاسد وهذا أقبح ولا يعد في حمل حسدهم عليه "للفضل الذي ذكره الله عنه" كقوله: {إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ} [مريم: 54] ، الآيتين، "فهم يجحدون ذلك" ينكرونه مع العلم به، كما هو معنى الجحد "ويزعمون أنه إسحاق" عطف تفسير؛ "لأن إسحاق أبوهم" إذ هم من أولاد يهوذا قال السمين بمعجمة وألف مقصورة غيرته العرب إلى المهملة على عادتها في التلاعب بالأسماء الأعجمية ابن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم الصلاة والسلام، وهذا المروي الذي ساقه المصنف ممرضًا، فأفاد ضعفه ذكره تقوية؛ لأنه إسماعيل. والحاصل، كما قال السيوطي: أن الخلاف فيه مشهور بين الصحابة فيمن بعدهم، ورجح كل منهما.
"فانظر أيها الخليل" الكامل في الحب والصداقة لله ورسوله "ما في هذه القصة" قصة إسماعيل مع أمه "من السر" هو لغة ما يكتم، أطلق على هذه القصة لما فيها من بدائع الحكم التي خفيت على العباد، "الجليل" بالجيم العظيم، وبين ذلك السر بقوله: "وهو أن الله تعالى يرى عباده الجبر بعد الكسر، واللطف بعد الشدة، فإنه كان عاقبة صبر هاجر" بفتح الجيم، وقد تبدل الهاء همزة اسم سرياني، وكان أبوها من ملوك القبط من قرية بمصر تسمى حفنى بفتح الحاء المهملة وسكون الفاء من عمل انصنا بالبر الشرقي من الصعيد، قاله في التوشيح تبعًا لغيره.
"وابنها على البعد" عن مواطنهم التي كانوا بها وهي بيت المقدس وأرض الشام و"الوحدة" بمكة مدة, فإن إبراهيم حين أسكنهما لم يكن بها أحد "والغربة والتسليم" منها لإبراهيم بمعنى صبرها "لذبح الولد" وصبره هو بتسليم نفسه، وهذا صريح في وجود أمه حين ذلك، بل لم تمت حتى تزوج زوجة ثم أخرى، "آلت" رجعت "إلى ما آلت إليه من جعل آثارهما ومواطئ أقدامهما" أي: مواضع وطئهما بأقدامهما، "مناسك لعباده المؤمنين" أي: متعبدات، فالعطف في قوله: "ومتعبدات لهم إلى يوم الدين" تفسيري "وهذه" الحالة من إرادته تعالى الجبر بعد الكسر(1/187)
سنة الله تعالى فيمن يريد رفعته من خلقه بعد استضعافه وذله وانكساره وصبره، وتلقيه القضاء بالرضا فضلا منه، قال الله تعالى: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} [القصص: 5] .
وقد استشكل بعض الناس: أن عبد المطلب نذر نحر أحد بنيه إذا بلغوا عشرة، وقد كان تزويجه هالة أم ابنه حمزة بعد وفائه بنذره، فحمزة والعباس ولدا عبد المطلب إنما ولدا بعد الوفاء بنذره، وإنما كان أولاده عشرة بهما.
قال السهيلي: ولا إشكال في هذا، فإن جماعة من العلماء قالوا: كان أعمامه عليه الصلاة والسلام اثني عشر، فإن صح هذا، فلا إشكال في الخبر، وإن صح قول من قال: كانوا عشرة لا يزيدون.......................
__________
"سنة الله تعالى" عدته "فيمن يريد رفعته من خلقه بعد استضعافه وذله وانكساره وصبره وتلقيه القضاء بالرضا فضلا منه" متصل بقوله: هذا سنة، واستظهر عليه بقوله: قال الله تعالى: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ} ، نتفضل {عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ} , بإنقاذهم من البأس {وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً} , متقدمين في أمر الدين، {وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} [القصص: 5] ، وقد استشكل بعض الناس أن عبد المطلب نذر نحر أي: ذبح "أحد بنيه" وفي نسخة: بعض بنيه، وأخرى: نحر بنيه وهي بتقدير مضاف، أي: أحد أو بعض "إذا بلغوا عشرة، وقد كان تزويجه هالة" من إضافة المصدر إلى المفعول، أي: تزويج ولي هالة له فلا يرد أن الأولى تزوجه؛ لأن التزويج فعل الولي، أي: إيجابه النكاح والتزوج قبول الزوج.
"أم ابنه حمزة بعد وفائه بنذره" كما ذكره ابن إسحاق والعباس: ولد قبل المصطفى بثلاثة أعوام، كما يأتي. "فحمزة والعباس ولدا عبد المطلب، إنما ولدا بعد الوفاء بنذره" ولا نفهم أنهما شقيقان؛ لأنه سيذكر أن أم العباس نتلة أو نثيلة "وإنما كان أولاده عشرة بهما، قال السهيلي: ولا إشكال في هذا، فإن جماعة من العلماء قالوا: كان أعمامه عليه الصلاة والسلام اثني عشر" التسعة السابقة والغيداق وقثم وبعد الكعبة ووالده صلى الله عليه وسلم فأولاده شيبة الحمد ثلاثة عشر، "فإن صح هذا، فلا إشكال في الخبر" لحمل العشرة على من عدا حمزة والعباس، لكن يشكل عليه ما صرح به اليعمري: أن حمزة والمقوم وحجلا، وأراد بعضهم: والعوام من هالة المفيد وجود حمزة قبل النذر. "وإن صح قول من قال: كانوا عشرة لا يزيدون" ويقول الغيداق: وهو حجان وعبد الكعبة هو المقوم، وقثم لا وجود له؛ فالأعمام تسعة فقط، ولم يذكر ابن قتيبة ولا ابن إسحاق ولا ابن سعد غيره، فلا إشكال أيضًا.(1/188)
فالولد يقع على البنين وبنيهم حقيقة لا مجازًا، فكان عبد المطلب قد اجتمع له من ولده وولد ولده عشرة رجال حين وفى بنذره.
ويقع أيضًا في بعض السير أن عبد الله كان أصغر بني أبيه عبد المطلب. وهو غير معروف. ولعل الرواية أصغر بني أمه، وإلا فحمزة كان أصغر من عبد الله، والعباس أصغر من حمزة.
وروي عن العباس أنه قال: أذكر مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا ابن ثلاثة أعوام أو نحوها، فجيء به حتى نظرت إليه، وجعل النسوة يقلن لي: قبل أخاك، فقبلته.
فكيف يصح أن يكون عبد الله هو الأصغر؟!
ولكن رواه البكائي ولروايته وجه: وهو أن يكون أصغر ولد أبيه حين أراد نحره، ثم ولد له بعد ذلك حمزة والعباس.
__________
"فالولد يقع على البنين وبنيهم حقيقة لا مجازًا وكان عبد المطلب، قد اجتمع له من ولده وولد ولده عشرة رجال حين وفى" بخفة الفاء وشدها "بنذره" وهذا أحسن لسلامته من الإشكال، "ويقع أيضًا في بعض السير" يعني: سيرة ابن إسحاق رواية ابن هشام عن البكائي عنه، وأبهمها لعدم اتفاق رواة ابن إسحاق عليها. "أن عبد الله كان أصغر بني أبيه عبد المطلب وهو" كما قال الإمام السهيلي في الروض، "غير معروف" مشهور بينهم "ولعل الرواية أصغر بني أمه وإلا" يكن كذلك لا يصح "فحمزة كان أصغر من عبد الله، والعباس أصغر من حمزة" ويأتي له الجواب أن معناه كان أصغر بني أبيه حين أراد ذبحه.
"وروي عن العباس، أنه قال: أذكر مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا ابن ثلاثة أعوام أو نحوها، فجيء به" بالنبي صلى الله عليه وسلم إلي "حتى نظرت إليه وجعل النسوة يقلن لي: قبل أخاك" للتأليف على العادة بين الصغار، وإن كان ابن أخيه "فقبلته" وحيث روى هذا عن العباس "فكيف يصح أن يكون عبد الله هو الأصغر، ولكن رواه" أي: كونه أصغر بني أبيه زياد بن عبد الله بن الطفيل العامري، أبو محمد الكوفي أحد رواة المغازي عن ابن إسحاق، صدوق ثبت في المغازي، أثبت الناس في ابن إسحاق.
قال الحافظ: وفي حديثه عن غيره لين، ولم يثبت أن وكيعً كذبه، روى له البخاري حديثًا واحدًا في الجهاد مقرونًا بغيره. وروى له مسلم والترمذي وابن ماجه، مات سنة ثلاث وثمانين ومائة، ويقال له "البكائي" بفتح الموحدة وشد الكاف وبعد الألف همزة نسبة إلى البكاء، وهو ربيعة بن عمرو بن عامر بن ربيعة بن عامر بن صعصعة؛ كما في التبصير وغيره.
قال في النور: وإنما لقب ربيعة بالبكاء؛ لأنه دخل على أمه وهي تحت أبيه فبكى وصاح(1/189)
"ذكر تزوج عبد الله آمنة":
ولما انصرف عبد الله مع أبيه من نحر الإبل، مر على امرأة من بني أسد بن عبد العزى، وهي عند الكعبة، واسمها قتيلة -بضم القاف وفتح المثناة الفوقية- ويقال رقيقة بنت نوفل، فقالت له حين نظرت إلى وجهه، وكان أحسن رجل رئي في قريش: لك مثل الإبل التي نحرت عنك وقع عليّ الآن، لما رأت في وجهه من نور النبوة، ورجت أن تحمل بهذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم.............................
__________
وقال: إنه يقتل أمي "ولروايته وجه وهو أن يكون" عبد الله "أصغر ولد أبيه حين أراد نحره، ثم ولد له بعد ذلك حمزة" من هالة "والعباس" من نثلة أو نثيلة، قال الخميس: وهذا أيضًا على تقدير أن أولاد عبد المطلب اثنا عشر. ا. هـ. أي: فتكون أعمامه حين أراد نحره تسعة وأبوه عاشرهم. وقد سبق السهيلي إلى ذا الجمع أبو ذر الخشني، فقال له قوله: أصغر بني أبيه، يعني في ذلك الوقت. قال شيخنا: وهو لا يأتي على أن الأعمام اثنا عشر، فأولاده ثلاثة عشر، فالموجودون حينئذ أحد عشرة لا عشرة، إلا أن يكون المراد دفع النقص عن العشرة، فلا ينافي ولادة واحد بعدهم غير حمزة والعباس.
ذكر تزوج عبد الله آمنة:
"ولما انصرف" أي: فرغ "عبد الله مع أبيه من نحر الإبل مر على امرأة من بني أسد بن عبد العزى، وهي عند الكعبة واسمها" فيما صدر به مغلطاي "قتيلة بضم القاف وفتح المثناة الفوقية" فتحتية ساكنة فلام فهاء تأنيث، "ويقال" اسمها "رقيقة بنت نوفل" صدر به السهيلي، قال: وهي أخت ورقة بنت نوفل وتكنى أم قتال، وبهذه الكنية ذكرها ابن إسحاق في رواية يونس. قال في العيون: وكانت تسمع من أخيها أنه كائن في هذه الأمة نبي "فقالت له حين نظرت إلى وجهه" وفيه نور المصطفى، وظنت أن النبي الكائن في هذه الأمة منه، "وكان أحسن رجل رئي" بكسر الراء ثم همزة مفتوحة ويجوز ضم الراء وكسر الهمزة ثم ياء، أي: شوهد "في قريش" أدفع "لك مثل الإبل التي نحرت عنك وقع علي الآن" أي: جامعني، ولعله كان من شرعهم أن المرأة تزوج نفسها بلا ولي وشهود؛ لأنها لم تكن زانية ولا مريدة له بل كانت عفيفة. قالت ذلك "لما رأت في وجهه من نور النبوة ورجت أن تحمل بهذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم" فأبى الله أن(1/190)
فقال لها: أنا مع أبي، ولا أستطيع خلافه ولا فراقه، وقيل: أجابها بقوله:
أما الحرام فالممات دونه ... والحل لا حل فأستبينه
فكيف بالأمر الذي تبغينه ... يحمي الكريم عرضه ودينه
وعند أبي نعيم والخرائطي وابن عساكر من طريق عطاء عن ابن عباس: لما خرج عبد المطلب بابنه عبد الله ليزوجه، مر به على كاهنة من تبالة متهودة قد قرأت الكتب، يقال لها: فاطمة بنت مر..............................
__________
يجعله إلا حيث شاء، "فقال لها: أنا مع أبي ولا أستطيع خلافه ولا فراقه" ولو لم أكن معه لوقعت عليك لوجه جائز كتزوجي بك أو مراده دفع كلامها، وإن لم يرد البغي بها ولا هم بها فلا يفهم أن المانع له مجرد كونه مع أبيه، "وقيل: أجابها بقوله: أما الحرام فالممات" وأنشده السهيلي بلفظ فالحمام "دونه" ومعرفته كالحلال مما بقي عندهم من شرائع إبراهيم؛ كغسل الجنابة والحج، فلا يرد أنهم كانوا في جاهلية لا يعرفون حلالا ولا حرامًا.
"والحل لا حل" موجود لعدم تزوجي بك "فأستبينه" بالنصب في جواب النفي، أي: أطلب ظهوره وأعمل بمقتضاه، "فكيف بالأمر الذي تبغينه" أي: تطلبينه لا يكون ذلك، فاستعمل كيف بمعنى النفي وهو أحد مواقعها، "يحمي الكريم عرضه" هي أموره كلها التي يحمد بها ويذم من نفسه وأسلافه وكل ما لحقه نقص يعيبه خلافًا لابن قتيبة في قوله: عرض الإنسان هو نفسه لا أسلافه؛ لأن حسان ذكر عرض وأسلافه بالعطف في قوله:
فإن أبي ووالده وعرضي ... لعرض محمد منكم وقاء
"ودينه" يصونهما فلا يفعل شيئًا يدنسهما، "وعند أبي نعيم والخرائطي وابن عساكر، من طريق عطاء" ابن أبي رباح أسلم الجمحي مولاهم المكي أبي محمد التابعي الوسط الحافظ الثقة العالم الفقيه إليه انتهت فتوى أهل مكة وكان أسود أفطس أشل أعرج أعور، ثم عمي وشرفه الله بالفقه وكثرة الحديث وإدراك مائتين من الصحابة، قدم ابن عمر مكة فسألوه، فقال: تسألوني وفيكم ابن أبي رباح، مات سنة إحدى أو خمس أو سبع ومائة.
"عن ابن عباس: لما خرج عبد المطلب" من مكة بعد نحر الإبل على ظاهر سياق المصنف، "بابنه عبد الله ليزوجه مر به على كاهنة من تبالة" بفتح الفوقية فموحدة خفيفة وألف فلام مفتوحة فتاء تأنيث: موضع باليمن وآخر بالطائف، فيحتمل إرادته هذه وإرادة تلك، قاله البرهان وتبعه الشامي في الضبط، وجزم بأنه موضع باليمن وضبط بعضهم تبالة بضم التاء، سبق قلم، "متهودة" متمسكة بدين اليهود، "قد قرأت الكتب، يقال لها: فاطمة بنت مر" بضم الميم(1/191)
الخثعمية، فرأت نور النبوة في وجه عبد الله فقالت له ... وذكر نحوه.
ثم خرج به عبد المطلب، حتى أتى به وهب بن عبد مناف بن زهرة -وهو يومئذ سيد بني زهرة نسبًا وشرفًا- فزوجه ابنته آمنة، وهي يومئذ أفضل امرأة في قريش نسبًا وموضعًا.
فزعموا: أنه دخل..................................................
__________
وراء مهملة ثقيلة، زاد البرقي عن هشام الكلبي: وكانت من أجمل النساء وأعفهن "الخثعمية" بفتح المعجمة وسكون المثلثة فعين مهملة نسبة إلى خثعم؛ كجعفر جبل وابن أنمار أبو قبيلة من معد، ذكره المجد. وظاهره: أن هذه الأوصاف وهي أنها من تبالة ومتهودة وخثعمية لامرأة واحدة، ووقع في سيرة مغلطاي اسمها قتيلة، وقيل: رقيقة، ويقال: فاطمة بنت مر، ويقال: ليلى العدوية، ويقال: امرأة من تبالة، ويقال: من خثعم، ويقال: كانت يهودية، "فرأت نور النبوة في وجه عبد الله، فقالت له وذكر نحوه" نحو ما تقدم من دعائه إلى نكاحها وإبائه، زاد البرقي عن هشام الكلبي: فلما أبى، قالت:
إني رأيت مخيلة نشأت ... فتلألأت بجناثم القطر
فسماتها نور يضيء به ... ما حوله كإضاءة الفجر
ورأيت سقياها حيا بلد ... وقعت به وعمارة القفر
ورأيتها شرفًا ينوء به ... ما كل قادح زنده يوري
لله ما زهرية سلبت ... منك الذي استلبت وما تدري
وفي غريب ابن قتيبة: أن التي عرضت نفسها عليه ليلى العدوية, ذكره في الروض.
"ثم خرج به عبد المطلب حتى أتى به وهب بن عبد مناف بن زهرة" بضم الزاي وسكون الهاء زعم ابن قتيبة والجوهري أنها أمه وأبوه كلاب. قال السهيلي: وهذا منكر غير معروف، وفي الفتح المشهور عند جميع أهل النسب أن زهرة اسم الرجل، وشذ ابن قتيبة فزعم أنه اسم امرأته وأن ولدها غلب عليهم النسبة إليها، وهو مردود بقول إمام أهل النسب هشام الكلبي اسم زهرة المغيرة، "وهو يومئذ سيد بني زهرة نسبًا وشرفًا، فزوجه ابنته آمنة" قاله ابن عبد البر وجماعة منهم عبد الملك بن هشام عن البكائي عن ابن إسحاق، وقيل: كانت في حجر عمها وهيب وهو المزوج لها. قاله ابن إسحاق في رواية واقتصر عليه اليعمري. "وهي يومئذ أفضل امرأة في قريش نسبًا" من جهة الأب، "وموضعًا" من جهة الأم، فأمها بنت عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار بن قصي وأم أمها أم حبيب بنت عوف بن عبيد بن عويج بن عدي بن كعب بن لؤي؛ كما فصله ابن إسحاق، فليس قوله: وموضعًا عطف تفسير، كما زعم. "فزعموا" كما قال ابن إسحاق "أنه دخل(1/192)
عليها عبد الله حين ملكها مكانه، فوقع عليها يوم الاثنين من أيام منى، في شعب أبي طالب عند الجمرة، فحملت برسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم خرج من عندها فأتى المرأة التي عرضت عليه ما عرضت، فقال لها: ما لك لا تعرضين علي اليوم ما عرضت عليّ بالأمس؟ فقالت: فارقك النور الذي كان معك بالأمس، فليس لي بك اليوم حاجة، إنما أردت أن يكون النور فيّ فأبى الله، إلا أن يجعله حيث شاء.
تنبيه...............................................
__________
عليها عبد الله حين ملكها" أي: تزوج بها "مكانه فوقع عليها" جامعها، زاد الزبير بن بكار "يوم الاثنين من أيام منى" وقيل من شهر رجب، "في شعب أبي طالب عند الجمرة" أي: الوسطى، كما هو المنقول عن الزبير، قال النجم: وهذا موافق لمن ذهب إلى أن ميلاده في رمضان، وأما القول بأنه في رجب، فمنطبق على أن ميلاده في ربيع، "فحملت برسول الله صلى الله عليه وسلم" وزعم الحاكم أبو أحمد أن سن عبد الله حينئذ كان ثلاثين سنة، ويأتي أن الصحيح خلافه، وقد جزم السهيلي بما لفظه: وكان بينه صلى الله عليه وسلم وبين أبيه ثمانية عشر عامًا. ا. هـ. "ثم خرج من عندها" بعدما أقام عندها ثلاثًا، وكان بينه صلى الله عليه وسلم وبين أبيه ثمانية عشر عامًا. ا. هـ. "ثم خرج من عندها" بعدما أقام عندها ثلاثًا، وكانت تلك السنة عندهم إذا دخل الرجل على امرأته في أهلها، نقله اليعمري عن محمد بن السائب الكلبي، "فأتى المرأة التي عرضت عليه ما عرضت" قال في النور: تقدم الكلام على هذه المرأة. ا. هـ. فهو صريح في أنها المختلف فيها الاختلاف السابق. "فقال لها: ما لك لا تعرضين علي اليوم ما عرضت علي بالإمس؟ قالت: فارقك النور الذي كان معك بالأمس، فليس لي بك" بوقاعك "اليوم حاجة" لأنني "إنما أردت أن يكون النور في" بشد الياء، "فأبى الله إلا أن يجعله حيث شاء" وقد روي عن العباس: أنه لما بنى عبد الله بآمنة أحصوا مائتي امرأة من بني مخزوم وبني عبد مناف متن ولم يتزوجن أسفًا على ما فاتهن من عبد الله، وأنه لم تبق امرأة في قريش إلا مرضت ليلة دخل عبد الله بآمنة.
تنبيه:
ما أفاده ظاهر المصنف من أن تزوجه بآمنة عقب انصرافه من نحر الإبل هو مفاد ابن إسحاق. وفي تهذيب ابن هشام واليعمري في العيون هنا. لكن روى ابن سعد وابن البرقي والطبراني والحاكم عن ابن عباس عن أبيه: أن عبد المطلب لما سافر إلى اليمن في رحلة الشتاء، نزل على حبر من اليهود يقرأ الزبور، فقال: يا عبد المطلب بن هشام ائذن لي أنظر إلى بعضك، قلت: انظر ما لم تكن عورة، قال: ففتح إحدى منخريه فنظر فيه ثم نظر في الآخر، فقال: أشهد أن في إحدى يديك ملكًا وفي الأخرى نبوة، وإنا نجد ذلك في بني زهرة، قال:(1/193)
ولما حملت آمنة برسول الله صلى الله عليه وسلم ظهر لحمله عجائب، ووجد لإيجاده غرائب.
فذكروا أنه لما استقرت نطفته الزكية، ودرته المحمدية في صدفة آمنة القرشية نودي في الملكوت.............................
__________
ألك زوجة؟ قلت: أما اليوم فلا، فقال: فإذا رجعت فتزوج منهم، فلما رجع تزوج بهالة فولدت له حمزة وصفية، وزوج عبد الله بآمنة، أي: ابنة عمها، فولدت له رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت قريش: فلج عبد الله على أبيه، وهو بفتح الفاء واللام والجيم، أي: ظفر بما طلب، وفيه شيئان: أحدهما ظاهره قوله: نجد ذلك في بني زهرة، ورجوع اسم الإشارة للملك والنبوة مع أن الملك إنما كان في بني العباس وأمه ليست بزهرية، بل من بني عمرو بن عامر؛ كما مر، فيتعين عود الإشارة إلى النبوة فقط.
الثاني: قوله: أما اليوم فلا، مع ما ذكره اليعمري وغيره أن ضرارًا كان شقيق العباس المفيد وجود أمه قبل قصة الذبح، فيمكن أن قوله: أما اليوم، أي: هذا الزمن فلا زوج معي بهذه الأرض، فلا ينافي أن له زوجة بغيرها، ثم لا ينافي هذا مفاد المصنف والجماعة لجواز أنه لما رجع من اليمن رأى الرؤيا ووقعت قصة الذبيح، فلما انصرف منها تزوج وزوج ابنه، والعلم عند الله.
ولما ذكر المصنف أنه حين بنى بها حملت به صلى الله عليه وسلم، أراد ذكر بعض ما حصل في حملها إظهارًا لشرف المصطفى مصدرًا ذلك بشذا عقبة صوفية، فقال: "ولما حملت آمنة برسول الله صلى الله عليه وسلم ظهر لحمله" اللام للتوقيت، أي: في مدته كلها "عجائب" فليس المراد عند ابتدائه فقط "و" لما وجد "وجد لإيجاده" أي: ظهوره في العالم بولادته وغاير تفننًا "غرائب" وإذا أردت معرفتها "فـ" نقول: "ذكروا أنه لما استقرت نطفته" التي خلق منها، فالإضافة لأدنى ملبسة "الزكية" الطاهرة النامية الممدوحة "ودرته" بضم الدال عطف تفسير إشارة إلى أن نطفته كالدرة التي هي اللؤلؤة العظيمة في النفاسة، ووصفها بقوله: "المحمدية" بمعنى المحمودة مبالغة في كمالها "في صدفة" بفتحتين غشاء الدر جمعها صدف، أي: رحم "آمنة القرشية" فشبه رحمها لاشتماله على نطفته بالصدفة المشتملة على اللؤلؤ استعارة تصريحية، وفي نسخة: صدف بدون هاء، فجعل كل جزء من أجزاء نطفته درة وكل جزء من أجزاء محلها صدفة مبالغة وتعظيمًا، أو جعل محل الولد لكونه مبدأ أو محلا لمن هو بمنزلة جميع العالم بل أعظم أرحامًا كثيرة فشبهها بالصدف، واستعار لها اسمه استعارة تصريحية.
"نودي" المنادي ملك على ما يأتي "في الملكوت" اسم مبني من الملك؛ كالجبروت والرهبوت من الجبر والرهبة، قاله في النهاية. وقال الراغب: أصل الجبر إصلاح الشيء يضرب من(1/194)
ومعالم الجبروت، أن عطروا جوامع القدس الأسني، وبخروا جهات الشرف الأعلى، وافرشوا سجادات العبادات في صفف الصفاء لصوفية الملائكة المقربين، أهل الصدق والوفاء، فقد انتقل النور المكنون إلى بطن آمنة ذات العقل الباهر، والفخر المصون، قد خصها الله تعالى القريب المجيب بهذا السيد المصطفى الحبيب، لأنها أفضل قومها حسبًا، وأنجب وأزكاهم أخلاقًا وفرعًا وأطيب.
__________
القهر، وقد يقال الجبر في الإصلاح المجرد؛ كقول علي: يا جابر كل كسير ومسهل كل عسير، وتارة في القهر المجرد، ولعل الثالث مراد قول النهاية من الجبر.
"ومعالم" جمع معلم "الجبروت" فعلوت من التجبر، قاله الراغب. والمراد: نودي في أفق السماء بذلك؛ لأنها الذي يظهر فيها كمال ملك الله وقهره؛ لأن أهلها الملائكة عالمون بذلك فهم دائمًا في مقام الخشية والإجلال؛ كما قال تعالى: {لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ} [الأنبياء: 19] ، "أن عطروا جوامع القدس" بضمتين وسكون الدال الطهارة "الأسنى" الأشرف من السناء بالمد الرفعة، والمعنى: طيبوا أماكن الطهارة الشريفة، "وبخروا جهات الشرف الأعلى" عطف تفسير على سابقه، والمراد منهما: أظهروا علامات التعظيم في السماوات وما حولها فرحًا بمحمد صلى الله عليه وسلم. "وأفرشوا" بضم الراء وكسرها، كما في المصباح "سجادات" جمع سجادة، قال الجوهري: خمرة بالضم صغيرة تعمل من سعف النخل وترمل بالخيوط، "العبادات في صفف" بضم الصاد وفتح الفاء جمع صفة "الصفاء" بالمد، ضد الكدر "لصوفية" كلمة مولدة؛ كما في المصباح، نسبة للتصوف وهو تجريد القلب لله واحتقار ما سواه بالنسبة لعظمته سبحانه، وإلا فاحتقار نحو نبي كفر، وقيل غير ذلك حتى أوصلها بعضهم زهاء ألف قول، "الملائكة المقربين أهل الصدق والوفاء" والمراد: تهيئوا للعبادة وإظهار السرور بالمصطفى؛ لأنه يظهر الحق ويبطل الباطل "فقد" الفاء تعليلية، أي: افعلوا ذلك؛ لأنه قد انتقل النور المكنون" المستور المخفي عن الأعين المدخر في الأصلاب من آدم إلى عبد الله "إلى بطن آمنة ذات العقل الباهر" الظاهر الغالب لغيره، بحيث قيل: أعطاها الله من الجمال والكمال ما كانت تدعي به حكيمة قومها، "والفخر" المباهاة بالمكارم من حسب ونسب، "المصون" بوزن مفعول على نقص العين؛ كما في المصباح، أي: المحفوظ عما يشينه "قد خصها الله تعالى القريب المجيب" من بين النساء التي تعلقن بتزويج عبد الله "بهذا السيد المصطفى الحبيب" وعلل تخصيصها بذلك؛ "لأنها أفضل قومها حسبًا وأنجب وأزكاها أخلاقًا وفرعًا وأطيب" فلم تنجب امرأة قط مضارع من أنجبت، ولا فرعت في نساء الدنيا مشابه من فرعت:
من لحواء أنها حملت أحمـ ... ـد أو أنها به نفساء(1/195)
وقال سهل بن عبد الله التستري فيما رواه الخطيب البغدادي الحافظ: لما أراد الله تعالى خلق محمد صلى الله عليه وسلم في بطن آمنة، ليلة رجب، وكانت ليلة جمعة، أمر الله تعالى في تلك الليلة رضوان خازن الجنان، أن يفتح الفردوس..................................
__________
وحاصل المعنى: أنه تعالى لما اختار لصفوة خلقه من أصوله في كل عصر أشرفه، وكانت آمنة أفضل قومها جعلها معدنًا لظهور نوره وتكونه.
وقال" بواو الاستئناف المبينة لما أخبر به في قوله: فذكروا، فلا يرد أنه دليل على ما قدمه فيجب حذف الواو؛ لأن الدليل لا يعطف. "سهل ابن عبد الله" بن يونس بن عبد الله بن رفيع "التستري" الصالح المشهور الذي لم يسمع بمثله الدهر علمًا وورعًا، صاحب الكرامات الشهرية المتوفى سنة ثلاث وسبعين ومائتين بالبصرة، وولد سنة مائتين أو إحدى ومائتين بتستر بضم الفوقية الأولى وفتح الثانية بينهما مهملة ساكنة آخره راء مهملة، كما ضبطه النووي وغيره، وحكي ضم الفوقيتين، وفتح الأولى وضم الثانية بالأهواز أو بجوزستان، ويقال أيضًا: شيشتر بمهملتين ومعجمتين.
"فيما رواه الخطيب البغدادي الحافظ" أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت صاحب التصنيف الإمام الكبير محدث الشام والعراق المتقن الضابط العالم بصحيح الحديث وسقيمه المتعنت في علله وأسانيده، ولد سنة اثنتين وتسعين وثلاثمائة وعني بالحديث ورحل فيه إلى الأقاليم، وسمع أبا الصلت الأهوازي وأبا عمر بن مهدي وخلقًا، وحدث عنه البرقاني أحد شيوخه وابن ماكولا وخلق وقرأ البخاري على كريمة بمكة في خمسة أيام، وعلى إسماعيل الحيري في ثلاثة مجالس ذكره الذهبي، وقال: هو أمر عجب، وتوفي ببغداد سابع ذي الحجة سنة ثلاث وستين وأربعمائة، ودفن عند بشر الحافي؛ لأنه شرب ماء زمزم على ذلك، وإملائه بجامع المنصور، وتحديثه بتاريخ بغداد، فقضي له بالثلاثة.
"لما أراد الله تعالى خلق حمد صلى الله عليه وسلم في بطن آمنة ليلة" أول "رجب"، وهذا كما مر عن النجم منطبق على أن ميلاده في ربيع، يعني: على أحد الأقوال الآتية أن مدة الحمل ثمانية أشهر، ورجب من الشهور مصروف؛ كما في المصباح، وذكر التفتازاني منعه أن أريد به معين كصفر ووجه بأنه معدول عن الصفر والرجب فمنعا للعلمية والعدل أو العلمية والتأنيث باعتبار المدة. "وكانت ليلة جمعة" لا ينافي ذلك أن أطواره يوم الاثنين؛ لأن ذلك في الأطوار الظاهرة، كالولادة وما هنا فيما قبلها.
"أمر الله تعالى في تلك الليلة رضوان خازن الجنان أن يفتح الفردوس" الذي هو أعلى(1/196)
ونادى مناد في السماوات والأرض: ألا إن النور المخزون المكنون الذي يكون منه النبي الهادي، في هذه الليلة يستقر في بطن آمنة الذي يتم فيه خلقه ويخرج إلى الناس بشيرًا ونذيرًا.
وفي رواية كعب الأحبار: أنه نودي تلك الليلة في السماء وصفاحها، والأرض وبقاعها، أن النور المكنون الذي منه رسول الله صلى الله عليه وسلم في بطن آمنة، فيا طوبى لها ثم يا طوبى، وأصبحت يومئذ أصنام الدنيا منكوسة، وكانت قريش في جدب شديد، وضيق عظيم، فاخضرت الأرض وحملت الأشجار، وأتاهم الرفد من كل جانب، فسميت تلك السنة التي حمل فيها برسول الله صلى الله عليه وسلم سنة الفتح والابتهاج.
وطوبى: الطيب والحسنى والخير والخيرة......................
__________
درجات الجنة، وأعلاه الوسيلة إظهارًا لكرامته صلى الله عليه وسلم، "ونادى مناد في السماوات والأرض: ألا إن النور المخزون المكنون" صفة لازمة "الذي يكون منه النبي الهادي" بإثبات الياء أصح من حذفها، "في هذه الليلة يستقر في بطن آمنة الذي يتم فيه خلقه" أي: في البطن وهو خلاف الظهر مذكر؛ كما في القاموس. "ويخرج إلى الناس بشيرًا ونذيرًا" أي: موصوفًا بهما عند الله وإن تأخر وقوعهما في الخارج إلى بعثته أو حال منتظرة، فلا يرد أنهما إنما يكونان بعد البعثة وليست مقارنة لخروجه.
"وفي رواية كعب الأحبار: أنه نودي تلك الليلة" التي حمل فيها بالمصطفى "في السماء وصفاحها" أي: جوانبها، "والأرض وبقاعها" أي: أجزائها وكأن الغرض من عطف الصفاح والبقاح الإشارة إلى تعميم مواضع النداء، "أن النور المكنون الذي منه رسول الله"، أي: تصور منه جسده "صلى الله عليه وسلم" انتقل "في بطن أمه، فيا طوبى لها، ثم يا طوبى" تأكيد لما قبله، "وأصبحت يومئذ أصنام الدنيا" جميعها "منكوسة" أي: مقلوبة على رءوسها "وكانت قريش في" زمن "جدب" بدال مهملة ضد الخصب، "شديد وضيق عظيم" شدة وكرب عطف مسبب على سبب، أي: إن عدم الخصب كان سببًا في شدة أمرهم، "فاخضرت الأرض وحملت الأشجار وأتاهم" بالقر "الرفد" بكسر الراء: الخير الكثير، "من كل جانب، فسميت تلك السنة التي حمل فيها برسول الله صلى الله عليه وسلم سنة الفتح" وسنة "الابتهاج" أي: السرور "وطوبى" في قوله: فطوبى لها ثم يا طوبى، المراد بها هاهنا "الطيب" فواوها بدل من الياء، "والحسنى والخير والخيرة" قال المصباح: بكسر الخاء وفتح الياء التخير، وبفتح الخاء وسكون الياء الفاضلة من كل شيء، وبكسر الخاء وسكون الياء:(1/197)
قاله في القاموس.
وقال غيره: فرح وقرة عين.
وقال الضحاك: عطية.
وقال عكرمة: نعم.
وفي الحديث: "طوبى للشام فإن الملائكة باسطة أجنحتها عليها". فالمراد بها هنا: "فعلى" من الطيب وغيره مما ذكر، لا الجنة ولا الشجرة.
وفي حديث ابن إسحاق: أن آمنة كانت تحدث: أنها أتيت............................
__________
الاختيار، "قاله في القاموس" المحيط، أي: البحر في جملة معان ذكرها، اقتصر منها المصنف على ما نقله؛ لأنه المناسب عنده.
"وقال غيره" المراد بها "فرح وقرة عين وقال الضحاك" بن مزاحم الهلالي البلخي نسبة إلى بلخ مدينة بخراسان المفسر ضعفه يحيى بن سعد ووثقه أحمد وابن معين وأبو زرعة وغيرهم، وفي التقريب: صدوق كثير الإرسال، روى له أصحاب السنن الأربعة توفي سنة خمس، وقيل: ست ومائة. "عطية، وقال عكرمة" بن عبد الله البربري مولى ابن عباس، أبو عبد الله المدني المفسر الحافظ المتوفى سنة خمس أو ست أو سبع ومائة، "نعم" جمع نعمة، "وفي الحديث" الذي رواه الترمذي عن زيد بن ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم: "طوبى للشام" بهمزة ساكنة يخفف بحذفها وفي لغة شآم بالمد، حكاها جماعة. قال في المطالع: وأباها أكثرهم والمشهور أنه مذكر، وقال الجوهري: يذكر ويؤنث.
وفي تاريخ ابن عساكر: دخل الشام عشرة آلاف عين رأت النبي صلى الله عليه وسلم "فإن الملائكة باسطة أجنحتها عليها" استدلال على أن طوبى تطلق على غير الجنة والشجرة؛ "فالمراد بها هنا" في قوله: فيا طوبى لها "فعلى من الطيب، وغيره مما ذكر" من فرح وقرة عين وعطية ونعم "لا الجنة ولا الشجرة" لأنها كانت زمن حملها في جاهلية، وإنما الجنة والشجرة للمؤمنين، قال صاحب الخميس: ويحتمل أن تفسر بالجنة والشجرة، انتهى. أي: لأنها من أهل الفترة وليسوا كلهم بمعذبين، ولأن المختار أن أبويه صلى الله عليه وسلم ناجيان، فما آل أمرهما إلى الجنة والشجرة وهذه البشارة من الملك فلا مانع أن الله أعلمه بمآل أمرها، فبشرها بذلك.
"وفي حديث ابن إسحاق" إمام المغازي في سيرته بلفظ: ويزعمون فيما يتحدث الناس "أن آمنة كانت تحدث أنها أتيت" بضم الهمزة مبني لما لم يسم فاعله، أي: رأت في امنام، قاله في النور ونحوه قول الشامي هي رؤيا منام وقعت في الحمل، وأما ليلة المولد فرأت ذلك(1/198)
حين حملت به صلى الله عليه وسلم فقيل لها: إنك قد حملت بسيد هذه الأمة، وقالت: ما شعرت بأني حملت به، ولا وجدت له ثقلا، ولا وحمًا، كما تجد النساء إلا أني أنكرت رفع حيضتي، وأتاني آت وأنا بين النائمة واليقظانة فقال: هل شعرت بأنك قد حملت بسيد الأنام، ثم أمهلني حتى إذا دنت ولادتي أتاني فقال لي: قولي:
أعيذه بالواحد ... من شر كل حاسد
ثم سميه محمدًا.
وفي رواية غير ابن إسحاق: وعلقي عليه هذه التميمة..........................
__________
رؤية عين. "حين حملت بالنبي صلى الله عليه وسلم، فقيل لها: إنك حملت بسيد هذه الأمة" بل بسيد الأولين والآخرين وقصره على هذه الأمة؛ لأن سيادته بالأمر والنهي إنما وجدت فيها، "وقالت" آمنة أيضًا مما رواه ابن إسحاق مسندًا لا من تتمة ما قبله، ومن ثم لم يعطفه المصنف بالفاء، "ما شعرت" قال النور: بفتح أوله وثانيه، أي: علمت "بأني حملت به ولا وجدت له ثقلا" بكسر المثلثة وفتح القاف وتسكن للتخفيف؛ كما في المصباح والقاموس، وعند الواقدي كما في العيون: ثقلة، قال في النور: بفتح المثلثة والقاف، تقول: وجدت ثقلة في جسدي: أي: ثقلا وفتورًا، حكاه الكسائي. "ولا وحمًا" بفتحتين مصدر وحم بسكر الحاء؛ كما في المختار، أي: شهوة الحبلى. "كما تجد النساء إلا أني أنكرت رفع حيضتي" بكسر الحاء هنا الاسم من الحيض والحالة التي تلزمها الحائض من التجنب والتحيض كالجلسة، وأما بالفتح فالمرة الواحدة من دفع الحيض ونوه به، قاله البرهان وتبعه الشامي وهو ظاهر؛ لأن الإنكار للهيبة الحاصلة للحائض عند نزول الدم من الضعف المقارن لنزوله أو المتقدم عليه الدال على حصوله، "وأتاني آت وأنا بين النائمة واليقظانة" بفتح الياء وسكون القاف، والذي عند ابن إسحاق: وأنا بين النوم واليقظة، أو قالت: بين النائمة واليقظانة، ورواه الواقدي كما في العيون بلفظ: بين النائم واليقظان، قاله الشامي تبعًا للبرهان: ذكرت آمنة اللفظين على إرادة الشخص. "فقال: هل شعرت" علمت "بأنك قد حملت بسيد الأنام، ثم أمهلني حتى إذا دنت" قربت "ولادتي أتاني، فقال لي: قولي" إذا وضعتيه "أعيذه" أطلب عصمته وحفظه "بالواحد" في ذاته وأسمائه وصفاته "من شر كل حاسد، ثم سميه محمدًا" ولا يلزم من أمرها بالتسمية أن لها ولايتها بل وافقها جده حين أخبرته؛ كما صرح به المصنف في المقصد الثاني تبعًا للسهيلي هنا، فقال ما حاصله: سماه جده محمدًا لرؤيا رآها مع ما حدثته به أمه حين قيل لها: إذا وضعتيه فسميه محمدًا، ثم هذا الذي قلناه كله رواية ابن إسحاق.
"وفي رواية غير ابن إسحاق: وعلقي عليه هذه التميمة" سماها تميمة لمشابهتها لها في(1/199)
قالت فانتبهت وعند رأسي صحيفة من ذهب مكتوب فيها هذه النسخة.
أعيذه بالواحد ... من شر كل حاسد
وكل خلق رائد ... من قائم وقاعد
عن السبيل حائد ... على الفساد جاهد
من نافث وعاقد ... وكل خلق مارد
يأخذ بالمراصد ... في طرق الموارد
قال الحافظ عبد الرحيم العراقي:.......................................
__________
التعليق وإلا فأصلها كما في القاموس: خرزة رقطاء تنظم في السير ثم تعقد في العنق، جمعها تمائم وتميم. "قالت: فانتبهت وعند رأسي صحيفة" قطعة "من ذهب مكتوب فيها هذه النسخة" هي لغة الكتاب المنقول، لكن المراد هنا مكتوب فيها أحرف قوله: "أعيذه بالواحد من شر كل حاسد، وكل خلق" مخلوق "رائد" طالب للسوء، وأصله المرسل لطلب الكلأ "من قائم وقاعد" تعميم لرائد "عن السبيل" الطريق السوي "حائد" مائل صفة ثانية الخلق "على الفساد" صفة ثالثة "جاهد" متحمل للمشقة في تحصيله، حتى كأنه استعلى عليه "من نافث" ساحر "وعاقد" يعقد عقدًا في خيط وينفخ فيها بشيء يقوله بلا ريق أو معه، وهذا بيان لجاهد فلا يرد أن الأولى الإتيان بالواو، أي: وأعيذه من كل نافث، "و" أعيذه من "كل خلق مارد" عاب متجبر "يأخذ بالمراصد" جمع مرصد كمذهب موضع الرصد والراصد للشيء الراقب له، وبابه نصر كما في المختار والجملة صفة مارد أو خلق، "في طرق الموارد" المواضع التي يجتمع فيها الناس وطرق المياه المقصودة للاستقاء.
"وقال الحافظ عبد الرحيم العراقي" أبو الحسين الأثري الإمام الكبير العلم الشهير، ولد في جمادى الأولى سنة خمس وعشرين وسبعمائة، وعني بالفن فبرع فيه وتقدم بحيث كان شيوخ عصره يبالغون في الثناء عليه بالمعرفة؛ كالسبكي وابن كثير والعلائي وغيرهم، ونقل عنه الجمال الإسنوي في المهمات ووصفه بحافظ العصر وله مؤلفات في الفن بديعة، قال تلميذه الحافظ ابن حجر: وشرع في إملاء الحديث من سنة ست وتسعين فأحيا الله به السنة بعد أن كانت دائرة، فأملى أكثر من أربعمائة مجلس غالبها من حفظه متقنة مهذبة، محررة كثيرة الفوائد الحديثية، قال: وكان جميل الصورة، منور الشيبة، كثير الوقار، نزر الكلام، سليم الصدر، كثير الحياء لا يواجه أحدًا بما يكره ولو آذاه، صالحًا متواضعًا، ضيق المعيشة، كثير التلاوة إذا ركب، حسن النادرة والفكاهة، لا يترك قيام الليل بل صار له كالمألوف، مات في شعبان سنة ست(1/200)
هكذا ذكر هذه الأبيات بعض أهل السير، وجعلها من حديث ابن عباس ولا أصل لها. انتهى.
نعم عند البيهقي من حديث ابن إسحاق أعيذه بالواحد من شر كل حاسد في كل بر عاهد وكل عبد رائد يرود غير رائد فإنه عبد حميد ماجد حتى أراه أثر المشاهد.
وعن شداد بن أوس أن رجلا من بني عامر سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما حقيقة أمرك، فقال: "بدو شأني أني دعوة "أبي" إبراهيم، وبشرى أخي عيسى، وأني كنت بكر أبي وأمي
__________
وثمانمائة. "هكذا ذكر هذه الأبيات بعض أهل السير وجعلها من حديث ابن عباس، ولا أصل لها" يعتد به "انتهى".
وقد رواه أبو نعيم وزاد عقب الأبيات: أنها هم عنه بالله الأعلى، وأحوطه منهم باليد العليا، والكنف الذي لا يرى، يد الله فوق أيديهم، وحجاب الله دون عاديهم، لا يطردونه ولا يضرونه في مقعد، ولا في منام، ولا مسير، ولا مقام أول الليل وآخر الأيام. قال الشامي: وسنده واه جدًا، وإنما ذكرته لأنبه عليه لشهرته في كتب المواليد. ويقع في بعض النسخ زيادة هي:
"نعم عند البيهقي من حديث ابن إسحاق: أعيذه بالواحد من شر كل حاسد في كل بر" ضد بحر "عاهد" اسم فاعل من عهد صفة لحاسد، أي: يتعهده بالحسد أينما سار كأنه لا ينفك عن حسده "و" أعيذه من "كل عبد رائد" طالب السوء "يرود" يطلبه له "غيره رائد" غير طالب له الكلأ كناية عن أنه لا ينفعه بوجه، "فإنه عبد حميد ماجد" اسمان له سبحانه "حتى أراه أثر المشاهد" وهو استدراك على قوله السابق.
وفي رواية غير ابن إسحاق: كأنه قال: لكن جاء قريب منه عن ابن إسحاق في غير السيرة عند البيهقي: "وعن شداد بن أوس" بن ثابت الأنصاري، أبي يعلى الصحابي ابن أخي حسان بن ثابت المتوفى بالشام قبل الستين، وقيل: بعدها رضي الله عنه: "أن رجلا من بني عامر سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم" فقال له: "ما حقيقة أمرك؟ " حالك "فقال: "بدو شأني" ظهور أمري "أني دعوة أبي إبراهيم" في قوله تعالى حكاية عنه وعن إسماعيل: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ} [البقرة: 129] ، ولعله خص إبراهيم بالذكر لمزيد شرفه، أو لأنه الأصل أو الداعي، وإسماعيل أمن "وبشرى أخي عيسى" قال تعالى: {وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} [الصف: 6] ، "وأني كنت بكر أبي وأمي" أول أولادهما، ومقصوده: أنهما ما ولدا قبله ولا يلزم منه وجود ثان،(1/201)
وأنها حملت بي كأثقل ما تحمل النساء، وجعلت تشتكي إلى صواحبها ثقل ما تجد، ثم إن أمي رأت في منامها أن الذي في بطنها نور". الحديث.
ففيه: أن أمه -عليه الصلاة والسلام- وجدت الثقل في حمله، وفي سائر الأحاديث أنها لم تجد ثقلا وجمع أبو نعيم الحافظ بينهما بأن الثقل به كان في ابتداء علوقها به، والخفة عند استمرار الحمل به، فيكون على الحالين خارجًا عن المعتاد المعروف، انتهى.
وروى أبو نعيم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان من دلالة حمل آمنة برسول الله صلى الله عليه وسلم أن كل دابة لقريش نطقت تلك الليلة...................
__________
فلا ينافي أنهما لم يلدا غيره، "وأنها حملت بي كأثقل ما تحمل النساء، وجعلت تشتكي إلى صواحبها ثقل ما تجد" من ذلك الحمل "ثم إن أمي رأت في منامها أن الذي في بطنها نور" الحديث، ففيه" تصريح "أن أمه عليه الصلاة والسلام وجدت الثقل في حمله، وفي سائر الأحاديث أنها لم تجد ثقلا" فحصل التعارض، "وجمع أبو نعيم الحافظ" أحمد بن عبد الله الأصفهاني الصوفي "بينهما" بين حديث شداد وبين سائر الأحاديث، "بأن الثقل به كان في ابتداء علوقها به" ولعلها حملته على أنه مرض أصابها، فلا ينافي أنها ما علمت به أو الابتداء نسبي وهو ما قرب من أول مدة الحمل لا حقيقي، ولم يفهم هذا من اعترض جمعه بأن عدم علمها به يقتضي أن الثقل لم يكن في ابتدائه، "والخفة عند استمرار الحمل به، فيكون" أمر حمله "على الحالين خارجًا عن المعتاد المعروف" عند النساء، فإنه في ابتدائه خفيف، فإذا استمر اشتد، "انتهى".
جمع أبي نعيم: وبه يشعر قولها السابق كما تجد النساء، فإن الكلام إذا اشتمل على قيد زائد كان هو المقصود، كما قال عبد القاهر: فكأنها قالت: وجدت له ثقلا ليس كالثقل الذي تجده النساء، وجمع غيره: بأن المنفي الثقل المعنوي وهو الوجع والألم الحاصل للحوامل والمثبت لحسي وهو رزانته وزيادة مقداره من غير ألم ولا تعب؛ لأنه صلى الله عليه وسلم وزن بجميع أمته فرجحهم، وعندي: أن هذا تعسف لا دليل عليه وعلته لا تفيد دعواه، وإن زعم صاحبه أنه خير من جمع أبي نعيم.
"وروى أبو نعيم" المذكور في الدلائل "عن ابن عباس رضي الله عنهما" أنه "قال: كان من دلالة حمل آمنة برسول الله صلى الله عليه وسلم" وهذا موقوف لفظًا وحكمه الرفع، إذ لا يقال رأيًا "أن كل دابة لقريش نطقت تلك الليلة" وتخصيص دوابهم بالنطق لعله لإعلامهم فضله من أول الأمر فلا يكون لهم شبهة ولا عذر وقت دعوته لكن لا تتم هذه النكتة إلا إن كانوا سمعوا نطق الدواب(1/202)
وقالت: حمل برسول الله صلى الله عليه وسلم ورب الكعبة، وهو إمام الدنيا وسراج أهلها، ولم يبق سرير لملك من ملوك الدنيا إلا أصبح منكوسًا، وفرت وحوش المشرق إلى وحوش المغرب بالبشارات، وكذلك أهل البحار يبشر بعضهم بعضًا، وله في كل شهر من شهور حمله نداء في الأرض ونداء في السماء: أن أبشروا فقد آن أن يظهر أبو القاسم صلى الله عليه وسلم ميمونًا مباركًا ... الحديث. وهو شديد الضعف.
__________
"وقالت: حمل برسول الله صلى الله عليه وسلم ورب الكعبة" وقالت: "هو" صلى الله عليه وسلم "إمام الدنيا" بالميم: قدوة أهلها، ورأيته في خصائص السيوطي الكبرى عن أبي نعيم أمان بالنون، أي: أمانها من العاهات العامة، {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107] ، "و" قالت: هو "سراج أهلها" فهذا من جملة نطق الدواب الذي أخبر به ابن عباس، وتجويز أن الضمير له وأن المصنف قصد به جواب سؤال هو: أن ابن عباس ما شاهد ذلك ولا نقله، فمن أين علمه حتى أخبر به؟ خطأ باطل، فهذا موجود في كتاب أبي نعيم الدلائل، ونقله عنه السيوطي وغيره، وتشبث مجوزه بأن شيخه اقتصر على قوله: ورب الكعبة، وعقبه بقوله: ومثله لا يقال رأيًا لا يجدي، فلا حجة في الترك.
وأما جواب السؤال، فهو قوله: لا يقال رأيًا، فقصد بذلك أن حكمة الرفع؛ كما قدمنا ومن العجيب أني لما أوردت على مبدئ هذا الاحتمال قول المصنف بعد الحديث، قال: نعم، لكن يجوز أن جملة معترضة بين أجزاء الحديث وهو فاسد نشأ من الاحتمال العقلي، فليس الإدراك بالتشهي؛ كما صرح به في فتح الباري. وإنما يعرف بورود رواية أخرى مبنية للقدر المدرج أو بالنص عليه من الراوي، أو من إمام مطلع؛ كما في شرح النخبة وغيرها على أن هذا مغلطة؛ لأن الإدراك من قول راو، والدعوى أنه من كلام المصنف، ثم لا يصح إطلاق أن ابن عباس إمام الدنيا وسارج أهلها، فإنهما هما وصفان للنبي صلى الله عليه وسلم.
"ولم يبق سرير ملك" بكسر اللام "من ملوك الدنيا إلا أصبح منكوسًا" مقلوبًا عن الهيئة التي كان عليها بأن صار أعلاه أسفله فهو مجاز إذ نكس قلبه على رأسه على ظاهر المختار إن لم يكن تجوز بالرأس عن الأعلى، وفي الخميس: وكلت الملوك حتى لم يقدروا في ذلك اليوم على التكلم، "وفرت" حقيقة، ولا مانع منه "وحوش" جمع وحش حيوان البر "المشرق إلى وحوش المغرب بالبشارات" بما حصل لها من الفرح والسرور، وكأنها لقربها من موضع الحمل علمت ذلك بنداء الملائكة أو سماع دواب قريش أو بما شاء الله. "وكذلك أهل البحار" صار "يبشر بعضهم بعضًا، وله في كل شهر من شهور حمله نداء في الأرض ونداء في السماء" هو "أن أبشروا فقد آن" قرب "أن يظهر أبو القاسم صلى الله عليه وسلم" حال كونه "ميمونًا مباركًا ... الحديث، وهو شديد الضعف(1/203)
وعن غيره: لم يبق في تلك الليلة دار إلا أشرقت ولا مكان إلا دخله النور، ولا دابة إلا نطقت.
وعن أبي زكريا يحيى بن عائذ: بقي صلى الله عليه وسلم في بطن أمه تسعة أشهر كملا، لا تشكو وجعًا ولا مغصًا ولا ريحًا ولا ما يعرض لذوات الحمل من النساء، وكانت تقول: والله ما رأيت من حمل هو أخف منه ولا أعظم بركة.
ولما تم لها من حملها شهران توفي عبد الله.....................
__________
و" روي "عن غيره" عن غير ابن عباس "لم يبق في تلك الليلة دار إلا أشرقت" أضاءت. "ولا مكان" أعم من الدار "إلا دخله النور" لهذه الزيادة أتى به "ولا دابة" ظاهره: عموم الدواب إلا أن يحمل على قوله في الرواية السابقة من دواب قريش "إلا نطقت" ولم يبين في هذه الرواية ما نطقت به، وبينه في السابقة، بقوله: وقالت: حمل برسول الله ... إلخ.
ومن العجائب نقله من كلام غير المتن مع كونه قطعة منه، وينادي على ناقله بإبطال ذلك الاحتمال. "وعن أبي زكريا يحيى" بن مالك "بن عائذ" بتحتية وذال معجمة نسبة لجده لشهرته به الحافظ الكبير الأندلسي سمع أبا سهل القطان ودعلج بن أحمد وابن قانع، وأملى الحديث بجامع قرطبة، صعد المنبر يوم الجمعة ليخطب فمات في الخطبة فجأة في شعبان سنة ست وتسعين وثلاثمائة، فأنزل وطلب في الحال من يخطب.
"بقي صلى الله عليه وسلم في بطن أمه تسعة أشهر كملا" بفتحتين مخفف الميم، أي: كاملة، وهذا أحد أقوال خمسة في مدة الحمل تأتي في المصنف، وذكره هنا لما بعده لا مقصود "لا تشكو وجعًا" في رأسها من نحو الدوخة التي تعرض للحامل ولا في بدنها من استرخاء الأعضاء والمفاصل "ولا" تشكو "مغصًا ولا ريحًا" في بطنها "ولا ما يعرض لذوات الحمل من النساء" من حب بعض المأكول وبغض بعضه؛ كما مر في قولها: لم أجد لحمله وحمًا فليس فسيريًا، كما زعم "وكانت تقول: والله ما رأيت" ما علمت "من حمل" لواحدة من النساء؛ لأنها ما حملت بغيره صلى الله عليه وسلم "هو أخف منه، ولا أعظم بركة" كناية عن كونه أخف ما يوجد من الحمل بناء على الاستعمال لا اللغة، فلا يرد أنه لا ينفي رؤيتها من يساويه مع أن قصدها أنه أخف ما يوجد، فهو كقولهم: ليس في البلد أعلم من زيد، يريدون أنه أعلم أهلها، ثم ذكر المصنف وفاة والده صلى الله عليه وسلم توطئة لما يأتي من امتناع الرضعاء من أخذه لموت أبيه، فقال: "ولما تم لها" لآمنة "من حملها شهران" وقيل: قبل ولادته بشهرين "توفي عبد الله" بن عبد المطلب عن خمس وعشرين سنة، قال الواقدي: وهو الأثبت أو عن ثلاثين سنة، قاله أبو أحمد الحاكم، أو عن ثمان وعشرين، أو عن ثمان عشرة سنة، وهو الذي صححه الحافظ العلائي، والحافظ ابن حجر، واختاره السيوطي(1/204)
وقيل: توفي وهو في المهد، قاله الدولابي.
وعن ابن أبي خيثمة: وهو ابن شهرين.
وقيل: وهو ابن سبعة أشهر وقيل: وهو ابن ثمانية وعشرين شهرًا.
والراجح المشهور: الأول.
__________
"وقيل توفي" عبد الله "وهو" صلى الله عليه وسلم "في المهد".
قال السهيلي: وهو قول أكثر العلماء، واحتج له بقول عبد المطلب لأبي طالب: أوصيك يا عبد مناف بعدي بمؤتم بعد أبيه، فرد: فارقه وهو ضجيع المهد، انتهى. قال السمين: المهد ما يمهد للصبي ليربى فيه من مهدت له المكان، أي: وطأته ولينته، وفيه احتمالان:
أحدهما: أن أصله المصدر فسمي به المكان وأن يكون بنفسه اسم مكان من غير مصدر، وقد قرئ مهدًا ومهادًا في طه. "قاله" الحافظ أبو بشر محمد بن أحمد بن حامد بن سعيد الأنصاري الرازي "الدولابي" سمع محمد بن بشار وهارون بن سعيد وطبقتهما، ورحل وصنف، وعنه ابن أبي حاتم وابن عدي وابن حبان والطبراني وغيرهم.
قال الدارقطني: تكلموا فيه وما يظهر من أمره الأخير، وقال ابن يونس: ضعيف ولد سنة أربع وعشرين ومائتين ومات بالعرج بين مكة والمدينة سنة عشر وثلاثمائة، قال في اللب: كأصله الدولابي صوابه بفتح أوله والناس يضمونه إلى عمل الدولاب، ودولاب قرية بالري، قال ابن السمعاني: وظني أن بعض أجداده نسب إلى عمل الدولاب، قال: وأصله من الري، فيمكن أن يكون من قرية دولاب، انتهى.
وفي النور والقاموس: الدولاب القرية بالضم والذي كالناعورة بالضم ويفتح، "و" على كونه توفي وهو في المهد اختلف كم كان سنه صلى الله عليه وسلم، فنقل "عن" الحافظ أحمد "بن أبي خيثمة" زهير بن حرب الحافظ ابن الحافظ الإمام الثابت أبي بكر النسائي ثم البغدادي، قال الخطيب: ثقة عالم متقن حافظ بصير بأيام الناس، راوية للأدب، أخذ علم الحديث عن أحمد وابن معين، وعلم النسب عن مصعب، وأيام الناس عن المدائني، والأدب عن محمد بن سلام الجمحي، ولا أعرف أغزر فوائد من تاريخه بلغ أربعًا وتسعين سنة، ومات في جمادى الأولى ستة تسع وسبعين ومائتين؛ "وهو ابن شهرين، وقيل" مات "وهو" عليه الصلاة والسلام "ابن سبعة أشه" بموحدة بعد السين، حكاه في العيون، وقيل: ابن تسعة "وقيل" مات "وهو" صلى الله عليه وسلم "ابن ثمانية وعشرين شهرًا" فكل هذه الأقوال مبنية على أنه مات وهو في المهد، وهو صريح العيون والسبل، "والراجح المشهور" كما قال ابن كثير ورجحه الواقدي وابن سعد والبلاذري والذهبي: هو(1/205)
وكان عبد الله قد رجع ضعيفًا مع قريش لما رجعوا من تجارتهم، ورموا بالمدينة يثرب، فتخلف عند أخواله بني عدي بن النجار، فأقام عندهم مريضًا شهرًا، فلما قدم أصحابه مكة سألهم عبد المطلب عنه فقالوا: خلفناه مريضًا، فبعث إليه أخاه الحارث فوجده قد توفي، ودفن في دار التابعة، وقيل دفن بالأبواء.
وقالت آمنة زوجته ترثيه:
عنا جانب البطحاء من آل هاشم ... وجاور لحدًا خارجًا في الغماغم
__________
"الأول" يعني أنه مات وهو حمل، والحجة له ما في المستدرك عن قيس بن مخرمة: توفي أبو النبي صلى الله عليه وسلم وأمه حبلى به، قال الحاكم: على شرط مسلم، وأقره الذهبي.
"وكان عبد الله" فيما رجحه الواقدي، وقال: هو أثبت الأقاويل، "قد رجع" من غزة "ضعيفًا مع قريش لما رجعوا من تجارتهم ومروا بالمدينة يثرب" بدل أتى به لدفع توهم أن المراد غيرها؛ لأنها حينئذ ما كانت معروفة إلا بيثرب لا المدينة، سميت بيثرب بن قابل بن إرم بن سام بن نوح؛ لأنه أول من نزلها، وقد غيره صلى الله عليه وسلم إلى طيبة وسماها الله طابة، رواه مسلم، قال عيسى بن دينار: من سماها يثرب كتبت عليه خطيئة، وفي مسند أحمد عن البراء بن عازب، قال: قال صلى الله عليه وسلم: "من سمى المدينة بيثرب فليستغفر الله عز وجل، وهي طابة وإنما سميت في القرآن حكاية".
"فتخلف عن أخواله بني عدي بن النجار" أي: أخوال أبيه؛ لأن هاشمًا تزوج من بني عدي فولدت له عبد المطلب، أما أخوال عبد الله فإنما هم من قريش من بني مخزوم "فأقام عندهم مريضًا شهرًا، فلما قدم أصحابه مكة سألهم عبد المطلب عنه، فقالوا: خلفناه مريضًا" عند أخواله "فبعث" عبد المطلب "إليه أخاه" أخا عبد الله "الحارث" وقال ابن الأثير: الزبير، "فوجده قد توفي" بالمدينة "ودفن" بها "في دار التابعة" بفوقية فموحدة فعين مهملة؛ كما في الزهر الباسم، قال الخميس: وهو رجل من بني عدي بن النجار. "وقيل: دفن بالأبواء" بفتح أوله ومد آخره قوية من عمل الفرع من المدينة، بينها وبين الجحفة مما يلي المدينة ثلاثة وعشرون ميلا، والصحيح: أنها سميت بالأبواء لتبويء السيول بها، قاله ثابت بن حزم الحافظ، وقيل: لما فيها من الوباء.
قال البرهان وغيره: ولو كان كذلك لقيل الأوباء، أو يكون مقلوبًا منه. "وقالت: آمنة زوجته ترثيه" شعرًا "عنا جانب البطحاء" المختار: عفا المنزل درس وضمنته معنى خلا، فعدته بمن في "من آل هاشم" وجعلت خلوها منه خلوا من آل هاشم مبالغة لعدم قيام غيره منهم مقامه، أو الإضافة عهدية والمعهود زوجها أطلقت عليه آل؛ لأنه اسم لأهل الرجل وعياله، فيطلق على الكثير الواحد. "وجاور" من المجاورة "لحدًا خارجًا في الغماغم" بغينين معجمتين وميمين، أي:(1/206)
دعته المنايا دعوة فأجابها ... وما تركت في الناس مثل ابن هاشم
عشية راحوا يحملون سريره ... تعاوره أصحابه في التزاحم
فإنك تك غالته المنون وريبها ... فقد كان معطاء كثير التراحم
ويذكرعن ابن عباس، أنه لما توفي عبد الله قالت الملائكة إلهنا وسيدنا، بقي نبيك يتيمًا، فقال الله تعالى: أنا له حافظ ونصير.
وقيل لجعفر الصادق: لم يتم النبي صلى الله عليه وسلم قال: لئلا...................
__________
الأغطية، قاله الشامي.
وكان المراد الأكفان التي لف فيها؛ فكأنها قالت: جاور حال كونه مدرجًا في أكفانه لحدًا بعيدًا عن أماكن أهله، "دعته المنايا" جمع منية بشد الياء: الموت، "دعوة" ويروى بغتة "فأجابها" وإسناد الدعوة إلى المنايا تجوز؛ وكأنها أرادت: ناداه ملك الموت حيث أراد قبض روحه، فأجابه بمعنى قام به الموت أو أسبابه حتى توفي، "وما تركت" المنايا "في الناس مثل ابن هاشم" عبد الله؛ لأنه كان يتلألأ نورًا في قريش وكان أجملهم فشغفت به نساؤهم وكدن أن تذهل عقولهن، قال أهل السير، فلقي عبد الله في زمنه من النساء ما لقي يوسف في زمنه من امرأة العزيز، "عشية راحوا" أي: ذهب المشيعون له حال كونهم "يحملون" في الوقت المسمى عشية، وهي آخر النهار، "سريره" النعش الذي هو عليه "تعاوره" تداوله "أصحابه في التزاحم" أي: مع التزاحم عليه، ففي بمعنى: مع؛ كقوله: ادخلوا في أمم "فإن تلك غالته" أي: أخذته على غفلة، أي أهلكته "المنون وريبها" أي: حوادثها، أي: الأسباب المؤدية للموت، وعبرت بأن التي للشك لاستبعاد وقوع الموت به استعظامًا له، وجواب الشرط محذوف، أي: أسف الناس لموته، والفاء للتعليل في قولها: "فقد كان معطاء" كثير الإعطاء، "كثير التراحم".
"ويذكر عن ابن عباس: أنه لما توفي عبد الله، قالت الملائكة" يا "إلهنا" ويا "سيدنا بقي نبيك يتيمًا" لا أب له، قال الخميس: أعلى اليتم ما توفي الوالد والولد في بطن الأم، "فقال الله تعالى" جوابًا لهم: "أنا له حافظ ونصير" ومن كنت له كذلك لا يضيع، وهذا حكمه الرفع لو صح، لكن مرضه المصنف على عادتهم في نقل التضعيف بيروى ويذكر، وفي لفظ: قالت الملائكة: صار نبيك بلا أب، فبقي من غير حافظ ومرب، فقال الله؛ أنا وليه وحافظه وحاميه وربه وعونه ورازقه وكافيه، فصلوا عليه وتبركوا باسمه.
"وقيل لجعفر الصادق" لقب به لأنه ما كذب قط، "لم يتم" بكسر التاء؛ كما اقتصر عليه الجوهري، وزاد المجد فتحها، والمصباح ضمها، "النبي صلى الله عليه وسلم" أي: ما حكمة ذلك "قال: لئلا(1/207)
يكون عليه حق لمخلوق. نقله عنه أبو حيان في البحر.
وروى أبو نعيم عن عمرو بن قتيبة قال: سمعت أبي -وكان من أوعية العلم- قال: لما حضرت آمنة الولادة قال للملائكة: افتحوا أبواب السماء كلها، وأبواب الجنان، وألبست الشمس يومئذ نورًا عظيمًا، وكان قد أذن الله تعالى تلك السنة لنساء الدنيا أن يحملن ذكورًا.
__________
يكون عليه حق لمخلوق" ولا يرد عليه بقاء أمه حتى بلغ ست سنين أو أكثر؛ لأن تعلق الحقوق إنما هو بعد البلوغ "نقله عنه أبو حيان" الإمام أثير الدين محمد بن يوسف بن علي بن يوسف الأندلسي الغرناطي نحوي عصره ولغويه ومقريه، ولد في شوال سنة أربع وخمسين وستمائة، وأخذ عن ابن الصائغ وابن النحاس وغيرهما، وتقدم في النحو في حياة شيوخه واشتهر اسمه وألف الكتب المشهورة، وأخذ عنه أكابر عصره مات في صفر سنة خمس وأربعين وسبعمائة.
"في البحر" هو تفسيره الكبير، وقال ابن العماد في كشف الأسرار: إنما رباه يتيمًا؛ لأن أساس كل صغير كبير، وعقبى كل حقير حظير، ولينظر صلى الله عليه وسلم إذا وصل إلى مدارج عزه إلى أوائل أمره ليعلم أن العزيز من أعزه الله تعالى، وأن قوته ليست من الآباء والأمهات ولا من المال، بل قوته من الله تعالى وأيضًا ليرحم الفقير والأيتام.
"وروى أبو نعيم عن عمرو بن قتيبة" الصوري الصدوق، روى عن الوليد بن مسلم وغيره وعنه النسائي وأحمد بن المعلى، "قال سمعت أبي وكان من أوعية العلم، قال: لما حضرت آمنة الولادة" وفي نسخة: حضرت ولادة آمنة، أي: دخل وقت ولادتها، "قال للملائكة" أي: للخزان، وفي نسخ: قال الله لملائكته "افتحوا أبواب السماء كلها" هو ظاهر في أنها مغلقة وإنما تفتح لأسباب وهو ما صرحت به النصوص وبه تشهد الأخبار، "و" افتحوا "أبواب الجنان" السبع، وهي على ما روي عن ابن عباس: جنة الفردوس، وجنة عدن، وجنة النعيم، ودار الخلد، وجنة المأوى، ودار السلام، وعليون؛ لكن قال السيوطي: لم أقف عليه، يعني مسندًا عن ابن عباس، فلا ينافي ذكره في البدور عن القرطبي أنها سبع وعد هذا، إلا أنه قال بدل عليون: دار الجلال، وقيل: الجنة واحدة مسماة بهذه الأسماء، وقيل: أربع، ورجح بما في سورة الرحمن، وقال السبكي: هذه الأربع أنواع تحتها أفراد كثيرة؛ كما في الحديث: أنها جنان كثيرة.
"وألبست الشمس يومئذ" أي: زادت "نورًا عظيمًا" على نورها، "وكان قد أذن الله تعالى" أراد "تلك السنة" التي حمل فيها بالنبي صلى الله عليه وسلم "لنساء الدنيا" أي: الحاملات منهن "أن يحملن ذكورًا" وليس المراد: أن جميع نساء الدنيا حملن إذ فيهن العزباء والكبيرة والصغيرة،(1/208)
كرامة لمحمد صلى الله عليه وسلم، الحديث وهو مطعون فيه.
وذكر أبو سعيد عبد الملك النيسابوري في كتابه المعجم الكبير كما نقله عنه صاحب كتاب السعادة والبشرى عن كعب في حديثه الطويل، ورواه أبو نعيم من حديث ابن عباس قال: كانت آمنة تحدث وتقول: أتاني آت حين مر بي من حملي ستة أشهر في المنام وقال لي يا آمنة إنك حملت بخير العالمين فإذا ولدته فسميه محمدًا واكتمي شأنك قالت ثم أخذني ما يأخذ النساء ولم يعلم بي أحد لا ذكر ولا أنثى، وإني لوحيدة في المنزل وعبد المطلب في طوافه، فسمعت وجبة عظيمة وأمرًا عظيمًا هالني، ثم رأيت كأن جناح طائر أبيض قد مسح على فؤادي فذهب عني الرعب وكل وجع أجده، ثم التفت فإذا أنا بشربة بيضاء
__________
ومن لم تتزوج أصلا، ومن زوجها غائب عنها. كل ذلك "كرامة لمحمد صلى الله عليه وسلم" فهو راجع لجميع ما قبله "الحديث وهو مطعون فيه، وذكر أبو سعيد عبد الملك النيسابوري" مر أنه بفتح النون نسبة إلى نيسابور أشهر مدن خراسان، "في كتابه المعجم الكبير" وصريح المصنف أنه غير صاحب شرف المصطفى، فإن اسمه عبد الرحمن كما مر، والمصنف سماه عبد الملك؛ "كما نقله عنه صاحب كتاب السعادة، والبشرى عن كعب في حديثه الطويل، ورواه" أي: روى ما ذكره أبو سعيد عن كعب، "أبو نعيم من حديث ابن عباس" أنه "قال: كانت آمنة تحدث، وتقول" ومعلوم أنه ما سمعها، فيحتمل على أنه سمعه ممن سمعها. "أتاني آت حين مر بي من حملي ستة أشهر في المنام، وقال لي: يا آمنة، إنك قد حملت بخير العالمين" الماضين والموجودين والآتين، "فإذا ولدته" بتاء وهاء، وفي نسخة بينهما ياء على لغة قليلة للإشباع، "فسميه محمدًا واكتمي شأنك" حتى تضعي، فلا ينافي إخبارها به. "قالت: ثم أخذني ما يأخذ النساء" من الطلق "ولم يعلم بي أحد، لا ذكر ولا أنثى" أتت به بعد أحد لدفع توهم أن المراد الذكور فقط، "وإني لوحيدة" منفردة "في المنزل وعبد المطلب في طوافه" بالبيت الحرام، "فسمعت وجبة" بسكون الجيم وفتح الموحدة، أي: هدة "عظيمة" وهي سقوط وقع نحو الحائط "وأمرًا عظيمًا هالني" أفزعني، وهو تفسيري "ثم رأيت" رؤية عين بصرية شيئًا، "كأن جناح طائر أبيض قد مسح على فؤادي" هو القلب عند الجوهري وغشاؤه عند غيره، قال الزركشي: وهو أحسن لحديث: "ألين قلوبًا وأرق أفئدة"، "فذهب عني الرعب" الخوف الحاصل من تلك الوجبة، "وكل وجع أجده" بسبب الطلق فلا ينافي أنها لم تشك ما يعرض للحوامل، "ثم التفت، فإذا أنا بشربة بيضاء" أي: بآنية شربة أو أطلق الشربة على محلها وهو المشربة بكسر الميم(1/209)
فتناولتها فأصابني نور عال، ثم رأيت نسوة كالنخل طوالا كأنهن من بنات عبد مناف، يحدقن بي فبينما أتعجب وأنا أقول واغوثاه من أين علمن بي. قال في غير هذه الرواية فقلن لي نحن آسية امرأة فرعون ومريم ابنة عمران وهؤلاء من الحور العين واشتد بي الأمر وإني أسمع الوجبة في كل ساعة أعظم وأهول مما تقدم فبينما أنا كذلك إذ بديباج أبيض قد مد بين السماء والأرض، وإذ بقائل يقول خذاه عن أعين الناس، قالت ورأيت رجالا قد وقفوا في الهواء بأيديهم أباريق من فضة، ثم نظرت فإذا أنا بقطعة من الطير قد أقبلت حتى غطت حجرتي، مناقيرها............
__________
مجازًا من تسمية المحل باسم الحال فيه، إذ الشربة المرة من الشرب، "فتناولتها" فشربتها، وفي رواية: فإذا أنا بشربة بيضاء ظننتها لبنًا، وكنت عطشى فشربتها، فإذا هي أحلى من العسل، "فأصابني نور عال، ثم رأيت نسوة كالنخل طوالا" بكسر الطاء جمع طويلة وأما بضمها ففرد كرجل طوال، وقال ابن الأثير: جمع طولى مثل الكبر في الكبرى، وهذا البناء يلزمه أل أو الإضافة؛ "كأنهن من بنات عبد مناف" شبهت بهن لاشتهارهن بين النساء بالطول والجمال، "يحدقن" بضم الياء وكسر الدال مخففة فقاف ساكنة، وبفتح الياء وكسر الدال، أي: يحطن بي "فبينما أتعجب وأنا أقول: واغوثاه! من أين علمن بي؟ قال في غير هذه الرواية: فقلن لي" أي: اثنتان منهن على أن أقل الجمع اثنان، أو مجاز "نحن آسية" بالمد وكسر السين المهملة؛ كما في التبصير بنت مزاحم، قيل: إنها إسرائيلية، وإنها عمة موسى، وقيل: إنها ابنة عم فرعون وإنها من العمالقة، "امرأة فرعون" ذات الفراسة الصادقة في موسى حين قالت: قرة عين لي ومن فضائلها: أنها اختارت القتل على الملك وعذاب الدنيا على النعيم الذي كانت فيه، "ومريم ابنة عمران" أم عيسى عليه السلام، قيل: إنهما نبيتان، بل قال القرطبي: الصحيح أن مريم نبية، لكن قال عياض: الجمهور على خلافه، وبعضهم نقل الإجماع على عدم نبوة النساء، وعن الأشعري: نبئ منهن ست: هاتان، وحواء، وسارة، وهاجر، وأم موسى واستعمال نحن فيهما حقيقة؛ لأنها للمتكلم ومعه غيره واحد أو أكثر. "وهؤلاء من الحور العين" ولعل حكمة شهودهم كثرة الحور له في الجنة، كما أن مريم وآسية من نسائه في الجنة؛ كما في الحديث، "واشتد بي الأمر، وإني أسمع الوجبة في كل ساعة أعظم وأهول مما تقدم، فبينما أنا كذلك إذ بديباج" بكسر الدال ويجوز فتحها: نوع من الحرير، قاله في التوشيح "أبيض قد مد بين السماء والأرض" تعظيمًا لولادته عليه السلام، "وإذا بقائل يقول: خذاه" إذا ولد "عن عين الناس، قالت: ورأيت رجلا قد وقفوا في الهواء" أي: ملائكة تشكلوا بصورة الرجال، "بأيديهم أباريق من فضة، ثم نظرت، فإذا أنا بقطعة" جماعة "من الطير قد أقبلت حتى غطت حجرتي" لكثرتها "مناقيرها"(1/210)
من الزمرد وأجنحتها من الياقوت فكشف الله عن بصري فرأيت مشارق الأرض ومغاربها، ورأيت ثلاثة أعلام مضروبات، علمًا بالمشرق وعلمًا بالمغرب، وعلمًا على ظهر الكعبة فأخذني المخاض فوضعت محمدًا صلى الله عليه وسلم فنظرت إليه فإذا هو ساجد قد رفع أصبعيه إلى السماء كالمتضرع المبتهل، ثم رأيت سحابة بيضاء قد أقبلت من السماء حتى غشيته فغيبته عني، ثم سمعت مناديًا ينادي طوفوا به مشارق الأرض ومغاربها وأدخلوه البحار ليعرفوه باسمه ونعته وصورته، ويعلمون أنه سمي فيها الماحي، لا يبقي شيء من الشرك إلا محي في زمنه.......................
__________
مبتدأ خبره "من الزمرد" بزاي معجمة فميم فراء مضمومات فدال معجمة؛ كما صوبه الأصمعي، وجزم به المجد، وقال ابن قتيبة: مهملة الزبرجد فارسي معرب، "وأجنحتها من الياقوت، فكشف الله عن بصري، فرأيت مشارق الأرض ومغاربها، ورأيت أعلام مضروبات علمًا بالمشرق وعلمًا بالمغرب وعلمًا على ظهر الكعبة" ولعل حكمة ذلك الإشارة إلى أن شرعه يعم المشارق والمغارب ويعلو على مكة ويصير بينا واضحًا؛ كالأعلام، "فأخذني المخاض" قال البيضاوي: بفتح الميم وكسرها مصدر مخضت المرأة إذا تحرك الولد في بطنها للخروج، "فوضعت محمدًا صلى الله عليه وسلم" الظاهر أن الصلاة من الراوي "فنظرت إليه فإذا هو ساجد" حقيقة "قد رفع أصبعيه" أي: سبابتيه قابضًا بقية أصابعه؛ كما يأتي في رواية الطبراني "إلى السماء؛ كالمتضرع" المتذلل "المبتهل، ثم رأيت سحابة بيضاء قد أقبلت من السماء حتى غشيته فغيبته عني، ثم سمعت مناديًا ينادي: طوفوا به مشارق الأرض ومغاربها" خصت الأرض بذلك دون السماء؛ لأنها محل بعثته وظهور رسالته، والمناسب لقوله السابق: خذاه أن يقال طوفا به، فيحتمل أن معهما غيرهما تعظيمًا له، أو على أن الجمع ما فوق الواحد، "وأدخلوه البحار" جميعها وهي سبعة، أخرجه أبو الشيخ عن ابن عباس ووهب، وأخرج أيضًا عن حسان بن عطية، قال: بلغني أن مسيرة الأرض خمسمائة سنة بحورها منها مسيرة ثلاثمائة سنة، والخراب منها مسيرة مائة سنة, والعمران مسيرة مائة سنة. "ليعرفوه باسمه" فيها وهو الماحي؛ كما يأتي على الأثر، ولا تفهم أنه عام فتتعب، "ونعته وصورته" أي: لتعرفه البحار نفسها ولا مانع، فالله على كل شيء قدير، أو أهلها أو هما جميعًا، "و" حين إذ عرفوه بالثلاثة "يعلمون" قالوا: واستئنافية بدليل النون، "أنه سمي فيها" في البحار "الماحي" لأنه "لا يبقى شيء من الشرك إلا محي في زمنه" قال المصنف في أسمائه صلى الله عليه وسلم: ولما كانت البحار هي الماحية للأدران كان اسمه فيها(1/211)
ثم انجلت عنه في أسرع وقت. الحديث. وهو مما تكلم فيه.
وروى الخطيب البغدادي بسنده كما ذكره صاحب كتاب السعادة والبشرى أيضًا أن آمنة قالت لما وضعته عليه الصلاة والسلام رأيت سحابة عظيمة لها نور أسمع فيها صهيل الخيل وخفقان الأجنحة وكلام الرجال، حتى غشيته وغيب عني فسمعت مناديًا طوفوا بمحمد صلى الله عليه وسلم في مشارق الأرض ومغاربها وأدخلوه البحار ليعرفوه باسمه ونعته وصورته في جميع الأرض واعرضوه على كل روحاني من الجن والإنس والملائكة والطيور والوحوش وأعطوه خلق آدم، ومعرفة شيث، وشجاعة نوح، وخلة إبراهيم.............................
__________
الماحي، انتهى. وهي مناسبة لطيفة، "ثم انجلت عنه" تلك السحابة "في أسرع وقت ... الحديث، وهو مما تكلم فيه" فذكره لينبه عليه؛ لشهرته في المواليد.
"وروى" الخطيب "البغدادي" الحافظ أحمد بن علي بن ثابت "بسنده" إيضاح فهو عندهم مدلول، روى "كما ذكره صاحب كتاب السعادة والبشرى أيضًا" كما ذكر الأول: "أن آمنة قالت: لما وضعته عليه الصلاة والسلام" الظاهر: أن التصلية من الراوي؛ كما مر، "رأيت سحابة عظيمة لها نور أسمع فيها صهيل الخيل" كأمر أصواتها كما في القاموس.
"وخفقان الأجنحة" مصدر خفق؛ كضرب، أي: اضطرابها "وكلام الرجال" الملائكة المتشكلين بصفتهم "حتى غشيته" تلك السحابة متعلق بمقدر، أي: أقبلت "وغيب عني، فسمعت مناديًا ينادي: طوفوا بمحمد صلى الله عليه وسلم في مشارق الأرض ومغاربها وأدخلوه البحار ليعرفوه باسمه ونعته وصورته في جميع الأرض" متعلق بيعرفوه "واعرضوه" بهمزة وصل: أظهروه "على كل روحاني" بضم الراء، أي: من فيه روح بدليل قوله: "من الجن والإنس والملائكة والطيور والوحوش، وأعطوه خلق آدم" بفتح الخاء وسكن اللام ففي حديث: "أنا أشبه الناس بأبي آدم، وكان أبي إبراهيم خليل الرحمن أشبه الناس بي خَلقًا وخُلقًا"، "ومعرفة شيث" بن آدم. نقل الثعلبي وغيره: أن الله علمه ساعات الليل والنهار، وعلمه عبادة الحق في كل ساعة منها، فلعل هذا هو المراد بالمعرفة هنا، "وشجاعة نوح" ولو لم يكن من شجاعته إلا مكثه في قومه ألف سنة إلا خمسين مع تعنتهم عليه، وكفرهم وقلة من آمن معه، وهو لا يبالي بهم ويقاومهم كلهم ومواطن شجاعة نبينا صلى الله عليه وسلم لا تحصر، "وخلة" بشد اللام "إبراهيم" لله عز وجل في قوله: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} [النساء: 125] ، وفي الصحيح: قوله صلى الله عليه وسلم: "لو كنت متخذًا خليلا غير ربي، لاتخذت أبا بكر خليلا" وأخرج أبو يعلى في حديث المعراج: "فقال له ربه: اتخذتك خليلا وحبيبًا"،(1/212)
ولسان إسماعيل، ورضا إسحاق، وفصاحة صالح، وحكمة لوط، وبشرى يعقوب، وشدة موسى، وصبر أيوب، وطاعة يونس............................
__________
فثبت أنه خليل كإبراهيم، وزاد كونه حبيبًا "و" أعطوه "لسان إسماعيل" أي: لغته، نحو: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} [إبراهيم: 4] ، أخرج الزبير بن بكار بسند جيد عن علي مرفوعًا، "أول من فتق الله لسانه بالعربية البينة إسماعيل"، وقد كان نبينا صلى الله عليه وسلم أفصح الخلق على الإطلاق.
وقد روى أبو نعيم في تاريخ أصبهان عن ابن عمر، قال: قال عمر: يا نبي الله! ما لك أفصحنا ولم تخرج من بين أظهرنا؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "كانت لغة إسماعيل قد درست، فجاءني بها جبريل فحفظتها" بل زاد على ذلك فكان يخاطب كل ذي لغة بلغته، اتساعًا في الفصاحة.
"ورضا إسحاق" بالذبح على أنه الذبيح في حديث: "أن داود سأل ربه مسألة، فقال: اجعلني مثل إبراهيم وإسحاق ويعقوب، فأوحى الله إليه: إني ابتليت إبراهيم بالنار فصبر، وابتليت إسحاق بالذبح فصبر، وابتليت يعقوب فصبر" الحديث، وقد رضي نبينا صلى الله عليه وسلم بما هو أقوى من ذلك، فقد أدمى الكفار رجليه، وكسروا رباعيته، وشجوا وجهه، واجتمعوا على قتله، وحاربوه وهو مع ذلك كله راض، ويقول: "اللهم اغفر لقومي، فإنهم لا يعلمون".
"وفصاحة صالح" ذكر الثعلبي أنه كان من أفصح أهل زمانه وأحسنهم منطقًا، قال: وكان له من الحسن والجمال ما لا يقدر أحد أن يتمتع بالنظر إليه من نور وجهه، وكان أشبه الناس بشيث، وأعطاه الله من العلم والحلم والوقار والسكينة شيئًا كثيرًا، وكان لباسه الصوف، ونعلاه من خوص النخل، انتهى. والمصطفى لا يدانيه في الفصاحة أحد.
"وحكمة لوط" المشار لها بقوله تعالى: {وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء: 74] ، قال البيضاوي: أي حكمة أو نبوة أو فصلا بين الخصوم، واقتصر الجلال على الثالث، وما بلغه نبينا من ذلك لا مضارع له فيه.
"وبشرى يعقوب" لعلها بسلامة ولده أو بالفوز بدعوة أبيه دون أخيه عبصو، وقد بشر نبينا صلى الله عليه وسلم من ربه بأمور كثيرة.
"وشدة موسى" في دين الله وفي القوة، فقد حكي عنه قتل ذلك الرجل بوكزة وغير ذلك، ونبينا أعطي فوق ذلك فقد قتل أبي بن خلف بأدنى شيء حتى عيره قومه، فقال: لو بصق علي محمد لقتلني، وصارع بمكة رجلا كان لا يقدر على صرعه أحد فصرعه، إلى غير ذلك.
"وصبر أيوب" الممدوح عليه بقوله: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا} [ص: 44] ، وأحوال المصطفى في الصبر لا يضبطها الحصر.
"وطاعة يونس" لله تعالى من الصغر، روي: أنه لما بلغ سبع سنين قال لأمه: أريد كسوة(1/213)
وجهاد يوشع، وصوت داود وحب دانيال ووقار إلياس وعصمة يحيى...............
__________
الصوف حتى ألحق بالعباد، فلم تجبه فلم يزل بها حتى كسته، وكان معهم حتى تم خمس عشرة سنة، ذكره الثعلبي، وطاعة المصطفى لربه من قبل السبع، فكان يخرج هو وأخوه من الرضاعة في بني سعد، فيمران بالغلمان يلعبون فيلعب أخوه، فإذا رآهم عليه الصلاة والسلام أخذ بيد أخيه، وقال: "إنا لم نخلق لهذا".
"وجهاد يوشع" بن نون قاتل الجبارين بعد موسى يوم الجمعة، ووقفت له الشمس ساعة حتى فرغ من قتالهم، وقد جاهد صلى الله عليه وسلم الجبارين ببدر يوم الجمعة ونصره الله عليهم، ثم استمر مجاهدًا في الله حق جهاد حتى توفاه الله، واستمر في شرعه الجهاد إلى يوم القيامة، ولله الحمد.
"وصوت داود" المشار له بحديث: "لقد أوتي أبو موسى مزمارًا من مزامير آل داود"، يعني: داود نفسه، ولا ريب في أن المصطفى فاقه لما رواه الترمذي من حديث أنس: "ما بعث الله نبيًا إلا حسن الوجه حسن الصوت، وكان نبيكم أحسنهم وجهًا وأحسنهم صوتًا".
"وحب دانيال" آتاه الله النبوة والحكمة، روى ابن أبي الدنيا: "أن بختنصر ضرى أسدين وألقاهما في جب وأمر بدانيال فألقي عليهما" الحديث. وروى البيهقي: "أن دانيال طرح في الجب وألقيت عليه السباع، فجعلت تلحسه وتبصبص إليه، وأرسل الله له ملكًا بطعام" وروى ابن أبي الدنيا: "أن الملك الذي كان دانيا في سلطانه، قال له منجموه: يولد ليلة كذا وكذا غلام يفسد ملكك، فأمر بقتل من يولد تلك الليلة، فلما ولد دانيال ألقته أمه في أجمة أسد فبات الأسد ولبوته يلحسانه ونجاه الله"، وأقوى من ذلك: مكث نبينا صلى الله عليه وسلم في الغار ليلة الهجرة, وحفظ اللهِ له من الكفار الذين هم أشد من الأسد مع أن أحدهم لو نظر إلى عقبه لرآه وقد حفظه الله حين ولد من اليهودي ومكره به وتحريضه على قتله، بقوله: "يا معشر قريش، ليسطون بكم سطوة يخرج خبرها من المشرق والمغرب"؛ كما يأتي قريبًا.
"ووقار إلياس" من ذرية هارون كان على صفة موسى في الغضب والقوة، ونشأ نشأة حسنة يعبد الله وجعله الله نبيًا ورسولا وآتاه آيات، وسخر له الجبال والأسود وغيرها، وأعطاه قوة سبعين نبيًا، ذكره الثعلبي. والمصطفى صلى الله عليه وسلم لا يقارنه أحد في الوقار، وقد كان أصحابه لا يستطيعون إمعان النظر فيه لقوة مهابته ومزيد وقاره، ومن ثم لم يصفه إلا صغارهم أو من كان في تربيته قبل النبوة؛ كهند وعلي.
"وعصمة يحيى" بن زكريا من اللعب ونحوه من الصغر، قال الثعلبي: روي في قوله تعالى: {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا} [مريم: 12] ، قيل: تعلم التوراة في صغره، وقيل: نزل عليه الوحي لثلاثين(1/214)
وزهد عيسى، واغمسوه في أخلاق النبيين قالت: ثم انجلي عني فإذا به قد قبض على حريرة خضراء مطوية طيًا شديدًا ينبع من تلك الحريرة ماء وإذا قائل يقول: بخ بخ قبض محمد على الدنيا كلها لم يبق خلق من أهلها إلا دخل طائعًا في قبضته، قالت ثم نظرت إليه صلى الله عليه وسلم فإذا هو كالقمر ليلة البدر وريحه يسطع..............
__________
سنة، وقيل: إن صبيانًا دعوه في صغره للعب، فقال: "أو للعب خلقنا"، وقد حكي أن زكريا قال: إن كان هذا الولد يريد الدنيا فلا حاجة لنا فيه، وإن كان يريد الآخرة فمرحبًا به، فقال جبريل: إنه لا يريد إلا الآخرة، فظهر يحيى ونشأ نشوأ حسنًا، انتهى. وقد عصم نبينا من كل شيء من أول أمره ومر اجتنابه اللعب عقب فطامه، وقوله: "إنا لم نخلق لهذا" وكانت همته وإرادته كلها في مرضاة ربه.
"وزهد عيسى" ابن مريم المشهور، وقد فاق المصطفى كل زاهد حتى منع بعضهم من إطلاق الزهد عليه معللا بأنه لا قيمة للدنيا عنده حتى يزهد فيها، وقد عرض عليه أن تسير معه الجبال ذهبًا وفضة فأبى، وخير بين الملك والعبودية، فاختار العبودية.
"واغمسوه في أخلاق النبيين" كلها ليجتمع فيه ما تفرق في غيره، كيف وقد كان خلقه القرآن.
"قالت" آمنة: "ثم انجلى عني" ما رأيته من السحابة وما فيها، "فإذا به" صلى الله عليه وسلم "قد قبض على حريرة خضراء مطوية طيًا شديدًا ينبع" مثلث الموحدة؛ كما في القاموس والإرشاد وغيرهما، أي: يخرج "من تلك الحريرة ماء، وإذا بقائل يقول: بخ بخ" الأول منون والثاني مسكن، وبتسكينهما وبتنوينهما وبتشديدهما، وتفرد ساكنة ومكسورة ومنونة مضمومة، كلمة تقال عند الرضا، أي: عظم الأمر وفخم؛ كما في القاموس. "قبض محمد على الدنيا كلها" والإشارة إلى ذلك قبضه على الحريرة بيده، "لم يبق خلق من أهلها إلا دخل طائعًا في قبضته" حقيقة أو حكمًا؛ لظهور ما معهم من البراهين الدالة على أن امتناعهم من الإيمان مجرد عناد وظلم، فلا يرد أن كثر ما آمنوا به، أو باعتبار مبدأ الخلق لولادة الجميع على الفطرة.
"قالت: ثم نظرت إليه صلى الله عليه وسلم، فإذا هو كالقمر" كذا في نسخة وهي ظاهرة؛ لأن إذا الفجائية تختص بالجمل الاسمية، ولا تحتاج لجواب، ولا تقع في الابتداء ومعناها الحال لا الاستقبال؛ كما في المغني. وفي نسخة: فإذا به كالقمر فيه خبر مقدم، وكالقمر صفة لمحذوف، أي: نور، والكاف اسم، بمعنى: مثل، فهو من الوصف بمفرد أو الباء مزيدة في المبتدأ على أن زيادتها فيه مقيسة، والأصل: فإذا هو كالقمر، فانقلب الضمير. "ليلة البدر ريحه يسطع"(1/215)
كالمسك الأذفر، وإذا بثلاثة نفر في يد أحدهم إبريق من فضة، وفي يد الآخر طست من زمرد أخضر وفي يد الثالث حريرة بيضاء فنشرها فأخرج منها خاتمًا تحار أبصار الناظرين دونه فغسله من ذلك الإبريق سبع مرات، ثم ختم بين كتفيه بالخاتم ولفه في الحريرة ثم احتمله فأدخله بني أجنحته ساعة ثم رده إلي ورواه أبو نعيم عن ابن عباس وفيه نكارة.
وروى الحافظ أبو بكر بن عائذ في كتابه المولد -كما نقله عنه الشيخ بدر الدين الزركشي في شرح بردة المديح- عن ابن عباس: لما ولد صلى الله عليه وسلم قال في أذنه رضوان خازن الجنان: أبشر يا محمد فما بقي لنبي علم إلا وقد أعطيته، فأنت أكثرهم
__________
بفتح الطاء يظهر "كالمسك الأذفر" بذال معجمة الذكي "وإذا بثلاثة نفر" بالتنوين، ونفر بدل منه وبالإضافة بيانية عند البصرة، أو من إضافة الصفة لموصوفها عند الكوفة؛ كما صرح به الرضي خلافًا لزعم أبي البقاء: أن الصواب التنوين في مثله.
"في يد أحدهم إبريق من فضة، وفي يد الآخر طست" بفتح الطاء وكسرها وسكون السين المهملة وبمثناة، وقد تحذف وهو الأكثر، وإثباتها لغة طيئ، وأخطأ من أنكرها قاله الحافظ: "من زمرد" بضمات والراء مشددة والذال معجمة على الأفصح، وقد مر. "أخضر، وفي يد الثالث حريرة بيضاء، فنشرها" أي: فردها، "فأخرج منها خاتمًا تحار أبصار الناظرين دونه" أي: في مكان أقرب منه، والمراد: تتحير فيما دون ذلك الخاتم لصفته الخارقة للعادة. "فغسله" أي: غسل الملك النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه المحدث عنه "من ذلك الإبريق سبع مرات، ثم ختم بين كتفيه بالخاتم، ولفه" أي: لف الملك النبي صلى الله عليه وسلم "في الحريرة، ثم احتمله فأدخله بين أجنحته ساعة" الظاهر: أن المراد مدة من الزمن لا الفلكية، "ثم رده إلي، وراه" أي: هذا الحديث "أبو نعيم عن ابن عباس، وفيه نكارة، وروى الحافظ أبو بكر ابن عائذ في كتابه المولد؛ كما نقله عنه الشيخ بدر الدين" محمد بن عبد الله "الزركشي" الشافعي العلامة البارع، ولد سنة خمس وأربعين وسبعمائة، وأخذ عن الأسنوي ومغلطاي وابن كثير وغيرهم، وألف تصانيف كثيرة في عدة فنون، مات في رجب سنة أربع وتسعين وسبعمائة، ودفن بالقرافة الصغرى. "في شرح بردة المديح" للبوصيري التي أولها:
أمن تذكر جيران بذي سلم
"عن ابن عباس" رضي الله عنه، أنه قال: "لما ولد صلى الله عليه وسلم قال في أذنه رضوان خازن الجنان: أبشر يا محمد فما بقي لنبي علم إلا وقد أعطيته" وإذا كان كذلك "فأنت أكثرهم(1/216)
علمًا، وأشجعهم قلبًا.
وروى محمد بن سعد من حديث جماعة منهم عطاء وابن عباس: أن آمنة بنت وهب قالت: لما فصل مني -تعني النبي صلى الله عليه وسلم- خرج معه نور أضاء له ما بين المشرق والمغرب، ثم وقع إلى الأرض معتمدًا على يديه، ثم أخذ قبضة من التراب فقبضها ورفع رأسه إلى السماء.
وروى الطبراني: أنه لما وقع إلى الأرض وقع مقبوضة أصابع يديه مشيرًا بالسبابة كالمسبح بها.
__________
علمًا وأشجعهم قلبًا" وهذا أرسله ابن عباس ومرسل الصاحب وصل في الأصل وحكمه الرفع إذ لا مجال فيه للرأي.
"وروى محمد بن سعد" بن منيع الهاشمي مولاهم البصري، الصدوق، الحافظ، نزيل بغداد، كاتب الواقدي، مات سنة ثلاثين ومائتين، وهو ابن اثنتين وستين سنة. "من حديث جماعة منهم عطاء" بن أبي رباح، "وابن عباس: أن آمنة بنت وهب" بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب والدته صلى الله عليه وسلم، "قالت: لما فصل" أي: خرج "مني، تعني" تريد آمنة "النبي صلى الله عليه وسلم خرج معه نور أضاء له ما بين المشرق والمغرب، ثم وقع" عليه السلام "إلى الأرض" زاد ابن سعد عن الواقدي: جاثيًا على ركبتيه، "معتمدًا على يديه، ثم أخذ قبضة من التراب فقبضها" إشارة إلى أنه يغلب أهل الأرض، ويكون التراب من جملة معجزاته، ألا ترى أنه حثا في وجوه أعدائه قبضة من تراب ليلة الهجرة ويوم بدر وأحد وحنين، وللإشارة إلى الإعراض عن الدنيا؛ فكأنه حين رفع رأسه يقول: لا ألتفت إلى الدنيا وما فيها، فإنها كهذا التراب.
"ورفع رأسه إلى السماء" ينظر ببصره إليها، قال الجوهري: وفيه إشارة دائمًا إلى ارتفاع شأنه وقدره وأنه يسود الخلق أجمعين، وكان هذا من آياته، وهو أنه أول فعل وجد منه في أول ولادته، وفيه إشارة وإيماء لمن تأمل إلى أن جميع ما يقع له من حين ولد إلى حين يقبض دال على العقل، فإنه لا يزال متزايد الرفعة في كل وقت وحين، عالي الشأن على المخلوقات، وفي رفعه رأسه إشارة وإيماء إلى كل سؤدد، وأنه لا يتوجه قصده إلا إلى جهات العلو دون غيرها، مما لا يناسب قصده.
"وروى الطبراني" سليمان بن أحمد بن أيوب الحافظ "أنه" صلى الله عليه وسلم "لما وقع إلى الأرض" حال كونه "مقبوضة أصابع يديه ميرًا بالسبابة" اللام للاستغراق أو الجنس، فشمل السبابتين ليوافق قوله السابق أصبعيه، "كالمسبح بها" وفي السابقة: كالمتضرع المبتهل.(1/217)
وروي عن عثمان بن أبي العاصي عن أمه أم عثمان الثقفية -واسمها فاطمة بنت عبد الله- قالت: لما حضرت ولادة رسول الله صلى الله عليه وسلم رأيت البيت حين وقع قد امتلأ نورًا، ورأيت النجوم تدنو حتى ظننت أنها ستقع عليّ. رواه البيهقي.
وأخرج أحمد والبزار والطبراني والحاكم والبيهقي عن العرباض بن سارية. أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إني عند الله لخاتم النبيين، وإن آدم لمنجدل في طينته، وسأخبركم عن ذلك، إني دعوة أبي إبراهيم، وبشارة عيسى، ورؤيا أمي التي رأت, وكذلك أمهات النبيين يرين"..........................
__________
"وروي عن عثمان بن أبي العاص" الثقفي ولي الطائف لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقره أبو بكر، ثم عمر، ثم استعمله عمر على عمان والبحرين سنة خمس عشرة، ثم سكن البصرة حتى مات بها سنة خمس أو إحدى وخمسين. "عن أمه أم عثمان الثقفية" الصحابية "واسمها فاطمة بنت عبد الله" ذكرها أبو عمر وغيره في الصحابة: أنها "قالت: لما حضرت ولادة رسول الله صلى الله عليه وسلم رأيت البيت" الذي ولد فيه "حين وقع" أي: نزل من بطن أمه "قد امتلأ نورًا، ورأيت النجوم تدنو" تقرب مني "حتى ظننت أنها ستقع علي، رواه البيهقي" والطبراني وابن عبد البر، قال في الفتح: وشاهده حديث العرباض فذكره وتبعه المصنف، فقال: "وأخرج أحمد" بن محمد ب حنبل الإمام المشهور "والبزار والطبراني والحاكم والبيهقي، عن العرباض" بكسر العين "ابن سارية" السلمي رضي الله عنه: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "إني عند الله" بالنون مكتوب "لخاتم النبيين" باللام، ويقع محرفًا في بعض نسخ: "إني عبد الله وخاتم النبيين" , بباء وواو وهو تحريف لا شك فيه، فقد قدم المصنف نفسه الحديث في أول الكتاب على الصواب، وكذا الشامي، وليس القصد الإخبار في هذا الحديث بأنه عبد الله بل بأنه مكتوب عنده خاتم النبيين "و" الحال "إن آدم لمنجدل" أي: مطروح على الأرض "في طينته" خبر ثان؛ لأن لا متعلق بمنجدل، كما مر.
"وسأخبركم عن ذلك: إني دعوة أبي إبراهيم" في قوله: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ} [البقرة: 129] ، "وبشارة" قال في النور: بكسر الموحدة وضمها: الاسم، "عيسى" هي قوله: {وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} [الصف: 6] ، "ورؤيا أمي التي رأيت"، رؤي2ة عين بصيرة، قال مغلطاي: وذكر ابن حبان أن ذلك كان في المنام، وفيه نظر "وكذلك أمهات النبيين" جمع نبي "يرين" ذلك الذي رأته أمه صلى الله عليه وسلم، فهو من خصائصه على الأمم لا على الأنبياء، كما نصوا عليه. وفي نسخة: وكذلك أمهات الأنبياء، وفي بعض النسخ من المصنف ومن الشامية: وكذلك أمهات المؤمنين، وهو تحريف لا شك فيه ولا ريب، فالحديث في(1/218)
وإن أم رسول الله صلى الله عليه وسلم رأت حين وضعته نورًا أضاءت له قصور الشام. قال الحافظ ابن حجر: صححه ابن حبان والحاكم.
وأخرج أبو نعيم عن عطاء بن يسار عن أم سلمة عن آمنة: قالت: لقد رأيت ليلة وضعته نورًا أضاءت له قصور الشام حتى رأيتها.
وأخرج أيضًا، عن بريدة عن مرضعته في بني سعد أن آمنة قالت: رأيت كأنه خرج من فرجي شهاب........................................
__________
الجامع الكبير والخصائص وغيرهما من الدواوين: أمهات النبيين، وذكر ما رأته أمه، بقوله: "وإن أم رسول الله صلى الله عليه وسلم رأت حين وضعته نورًا أضاءت له قصور الشام" أي: أضاء النور وانتشر حتى رأيت قصور الشام، وأضاءت تلك القصور من ذلك النور. "قال الحافظ" أبو الفضل "ابن حجر: صححه" أي: الحديث "ابن حبان" بكسر الحاء المهملة وفتح الموحدة المشددة الإمام الحافظ أبو حاتم محمد بن حبان التميمي البستي بضم الموحدة وسكون السين المهملة نسبة إلى بست بلد كبير من بلاد الغور بطرف خراسان؛ كما في التبصير، العلامة صاحب التصانيف، قال الحاكم: كان من أوعية العلم. "والحاكم" أبو عبد الله الحافظ زاد في الفتح وفي حديث أبي أمامة عند أحمد نحوه، وأخرجه ابن إسحاق عن ثور بن يزيد، عن خالد بن معدان، عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم نحوه، وقال فيه: "أضاءت له قصور بصرى من أرض الشام".
"وأخرج أبو نعيم عن عطاء بن يسار" ضد يمين الهلالي الثقة، كثر الحديث، القاص، مولى ميمونة عن مولاته، وأبي ذر وزيد بن ثابت وأبي وعدة، وعنه زيد بن أسلم وشريك بن أبي نمر وخلق، قال في الكاشف: كان من كبار التابعين وعلمائهم وخالف ذلك في طبقات الحافظ، فعده في أواسط التابعين مات سنة أربعمائة، وقيل: سنة أربع وتسعين، وقيل: تسع وتسعين، عن أربع وثمانين سنة، قيل: بالإسكندرية.
"عن أم سلمة" هند بنت أبي أمية أم المؤمنين، ستأتي في الزوجات. "عن آمنة" والدته صلى الله عليه وسلم "قالت: لقد رأيت" رؤية عين بصرة "ليلة وضعه" عليه السلام "نورًا أضاءت له قصور الشام، حتى رأيتها. وأخرج" أبو نعيم "أيضًا" وكذا ابن سعد "عن بريدة" تصغير بردة ابن الحصيب بحاء وصاد مهملتين فتحتية فموحدة مصغر، قال الغساني: وصحف من قاله بخاء معجمة الصحابي الأسلمي شهد خيبر، وروى عنه ابناه والشعبي وعدة، توفي سنة اثنتين وستين.
"عن مرضعته في بني سعد" هي امرأة مبهمة غير حليمة المشهورة، قاله الشامي. "أن آمنة، قالت: رأيت" رؤيا نوم "كأنه خرج من فرجي شهاب" ككتاب شعلة من نار، ساطعة؛ كما(1/219)
أضاءت له الأرض حتى رأيت قصور الشام.
وعن همام بن يحيى عن إسحاق بن عبد الله أن أم رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: لما ولدته خرج من فرجي نور أضاء له قصور الشام، فولدته نظيفًا ما به قذر، رواه ابن سعد.
وإلى هذا أشار العباس بن عبد المطلب في شعره، حيث قال:
وأنت لما ولدت أشرقت الـ ... أرض وضاءت بنورك الأفق
__________
في القاموس. "أضاءت له الأرض، حتى رأيت قصور الشام" فأول ولد يخرج منها تنور به الدنيا ويحرق أعاديه، قال في شرح الخصائص: بعدما قرر أن الرؤية الواقعة في الأحاديث الأول بصرية، ما لفظه: وأما الرؤيا الواقعة في رواية ابن سعد، يعني هذا فرؤيا منام؛ لأنها حين حملت به كانت ظرفًا للنور المنتقل إليها من أبيه، وقد خلط من جعل كلا منهما في النوم وجعل كلا منهما في اليقظة، انتهى.
"وعن همام بن يحيى" بن دينار العوذي الحافظ البصري: قال أبو حاتم: ثقة صدوق، في حفظه شيء، مات سنة ثلاث وستين ومائة، "عن إسحاق بن عبد الله" بن أبي طلحة الأنصاري، أو هو ابن الحارث بن نوفل الهاشمي أو غيرهما "أن أم رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت لما ولدته خرج من فرجي نور أضاء له قصور الشام، فولدته نظيفًا ما به قذر" صفة موضحة للمبالغة في نظافته، إذ القذر ضد النظافة.
"رواه ابن سعد" محمد قال ابن إسحاق: فلما وضعته أمه أرسلت إلى جده أنه ولد لك غلام، فائته فانظر إليه فأتاه فنظر إليه وحدثته بما رأت حين حملت، وما قيل لها: وما أمرت أن تسميه؟ فيزعمون أن جده أخذه فدخل به الكعبة وقام يدعو الله ويشكر له ما أعطاه ثم خرج به فدفعه إلى أمه، وذكر ابن دريد: أنه ألقيت عليه جفنة لئلا يراه أحد قبل جده، فجاء جده والجفنة قد انفلقت عنه.
"وإلى هذا" الواقع ليلة الميلاد من إضاءة القصور، وامتلاء البيت بالنور "أشار العباس بن عبد المطلب" عمه صلى الله عليه وسلم على الصحيح، وقيل: حسان بن ثابت ذكره ابن عساكر في حديث ضعيف جدًا، ووهم من زعم أنه العباس بن مرداس الأسلمي؛ كما أشار له المصنف "في شعره" الذي سيذكره المصنف كله في غزوة تبوك، "حيث قال" يخاطبه صلى الله عليه وسلم: "وأنت لما ولدت" ويروى: وأنت لما ظهرت "أشرقت الأرض" من إشراق نورك "وضاءت بنورك الأفق" بضم الفاء وسكونها: الناحية جمعه آفاق مذكر أنثه العباس على تأويله بالناحية، فاعتبر معناه دون لفظه ولا(1/220)
فنحن في ذاك الضياء وفي النو ... ر وسبل الرشاد نخترق
قال في اللطائف: "وخروج هذا النور عند وضعه، إشارة إلى ما يجيء به من النور الذي اهتدى به أهل الأرض، وزال به ظلمة الشرك. قال تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ، يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ} الآية: [المائدة: 15, 16] ، وأما إضاءة قصور بصرى................................
__________
يبعد أنه جمع فيكون للمفرد والجمع كالفلك، وأن يكون مضموم الفاء جمعًا لساكنها، وكل هذا احتمال؛ كذا قال أبو شامة، وفيه: أن اللغة لا تثبت بالاحتمال، فتعين الأول.
"فنحن في ذلك الضياء، وفي النور وسبل الرشاد نخترق" والبيتان، من المدرج عند العروضيين، أي: الذي أدرج عجزه في الكلمة التي فيها آخر الصدر فلم ينفرد أحدهما من الآخر بكلمة تخصه ويمتاز بها، "قال" الحافظ عبد الرحمن بن رجب "في اللطائف" أي: في كتاب لطائف المعارف: فهو من التصرف في العلم والراجح جوازه.
"وخروج هذا النور" الحسي المدرك بالبصر حال كونه "عند وضعه إشارة إلى ما يجيء به من النور" أي الأحكام والمعارف، سميت نورًا مجازًا للاهتداء بها؛ كالنور الحسي "الذي اهتدى به أهل الأرض" حقيقة؛ كالمؤمنين أو حكمًا بمعنى أنهم عرفوا الحق وامتنعوا منه عنادًا؛ كما قال تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ} [النمل: 14] والجاهلون منهم تابعون لكبرائهم المعاندين أو نزول المشركين منزلة العدم.
"وزال به ظلمة الشرك" جهالاته؛ لأن الجهل يطلق عليه الظلمة مجازًا لأن الجاهل متحير في أمره لا يعلم ما يذهب إليه، كما أن الماشي في ظلمه متحير لا يهتدي لما بين يديه وخص الشرك لشدة قبحه أو لغلبته بمكة حين البعث أو أراد به الكفر؛ لأنه إذا أفرد أريد مطلق الكفر وإذا جمع أريد به عبارة الأوثان نحو لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين، فهما كالفقير والمسكين.
"كما قال تعالى" إخبارًا عما جاء به من الأحكام حيث جعله نورًا {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ} [المائدة: 15] قال البيضاوي: يعني القرآن، فإنه الكاشف لظلمات الشك والضلال والكتاب الواضح الإعجاز، وقيل: يريد بالنور محمدًا صلى الله عليه وسلم، انتهى. فما ذكره بناء على الأول والصحيح الثاني، كما قال المصنف كغيره.
" {يَهْدِي بِهِ} " بالكتاب " {اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ} " بأن آمن به " {سُبُلَ السَّلَامِ} " طريق السلامة " {وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ} " الكفر " {إِلَى النُّورِ} " الإيمان " {بِإِذْنِهِ} " إرادته "الآية" أتلها "وأما إضاءة قصور بصرى".(1/221)
بالنور الذي خرج معه فهو إشارة إلى ما خص الشام من نور نبوته، فإنها دار ملكه -كما ذكر كعب: أن في الكتب السالفة: محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم مولده بمكة ومهاجره بيثرب وملكه بالشام- فمن مكة بدت نبوة نبينا عليه الصلاة والسلام، وإلى الشام انتهى ملكه، ولهذا أسري به صلى الله عليه وسلم إلى الشام، إلى بيت المقدس، كما هاجر قبله إبراهيم عليه السلام إلى الشام، وبها ينزل عيسى بن مريم عليه السلام، وهي أرض المحشر والمنشر.
__________
بضم الموحدة وسكون الصاد المهملة وراء فألف مقصورة بلد بالشام من أعمال دمشق وهي حوران، قاله السيوطي. وفي الفتح: مدينة بين المدينة ودمشق، وقيل: هي حوران. "بالنور الذي خرج معه" فيما رواه ابن إسحاق عن ثور بن يزيد عن خالد بن معدان عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما مر.
ورواه ابن سعد عن أبي العجفاء مرفوعًا: "رأت أمي حين وضعتني سطع منها نور أضاء له قصور بصرى"، فهو "إشارة إلى ما خص الشام من نور نبوته" وفي تخصيص بصرى لطيفة هي أنها أول موضع من بلاد الشام، دخله ذلك النور المحمدي، ولذا كانت أول ما فتح من الشام، قاله في المسكة الفائحة. وقال غيره إشارة إلى أنه ينور البصائر، ويحيي القلوب الميتة. "وأنها دار ملكه، كما ذكر كعب" بن مانع المعروف بكعب الأحبار، "أن في الكتب السالفة" ثابت من جملة ما يميزه عن غيره ويحقق نبوته، لفظ: "محمد رسول الله مولده" يكون "بمكة، ومهاجره" أي: هجرته "بيثر" الباء بمعنى إلى، وفي نسخة حذف الباء، أي: مكان هجرته هو يثرب؛ لأنه اسم مكان من هاجر بزنة اسم المفعول من المزيد يشترك فيه اسم المفعول والمصدر الميمي واسم الزمان والمكان، وهو المناسب هنا.
"وملكه بالشام" وروى البيهقي في الدلائل عن أبي هريرة رفعه: "الخلافة بالمدينة والملك بالشام"، "فمن مكة بدت" ظهرت "نبوة نبينا عليه الصلاة والسلام، وإلى الشام انتهى ملكه" أي: أولا، قاله النجم وغيره زاد شيخنا أو إنه صار مقرًا له؛ لأنه كان محلا للخلفاء والأول أولى، لأنه لم يكن محل الملوك إلا في مدة بني أمية، ثم انتقل في البلدان بحسب الملوك "ولهذا أسري" به "صلى الله عليه وسلم إلى الشام إلى بيت المقدس" وقيل غير ذلك في حكمة الإسراء؛ كما تقرر.
"كما هاجر قبله إبراهيم عليه السلام" من حران بتشديد الراء آخره نون، "إلى الشام" إلى بيت المقدس منها، ففي تاريخ ابن كثير ولما كان عمر تأرخ خمسًا وسبعين سنة ولد إبراهيم بأرض بابل على الصحيح المشهور عند أهل السير، ثم هاجر إبراهيم إلى حرام ومات بها أبوه، ثم إلى بيت المقدس واستقر بها. "وبها ينزل عيسى ابن مريم عليه السلام، وهي أرض المحشر" بكسر الشين وتفتح موضع الحشر؛ كما في القاموس وغيره وسوى بينهما في العين، قال شيخنا: والقياس الفتح؛ لأن فعله كنصر وضرب. "والمنشر" بالفتح اسم مكان من نشر الميت فهو ناشر(1/222)
وأخرج أحمد وأبو داود وابن حبان والحاكم في صحيحيهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "عليكم بالشام، فإنها خيرة الله من أرضه، يجتبي إليها خيرته من عباده" انتهى ملخصًا.
__________
إذا عاش بعد الموت، والمراد هنا خروج الموتى من قبورهم وانتشارهم إلى الشام، أي: أنها التي يساق إليها الموتى ويجتمعون بها.
"وأخرج أحمد" بن محمد بن حنبل الإمام المشهور، قال ابن راهويه: هو حجة بين الله وبين عباده في أرضه، "وأبو داود "سليمان بن الأشعث بن شداد بن عمرو الأزدي السجستاني الحافظ الكبير والعلم الشهير، روى عن أحمد والقعنبي وابن الحديد، وقال ابن حبان: أبو داود أحد أئمة الدنيا فقهًا وحفظًا وعلمًا وإتقانًا ونسكًا وورعًا جمع وصنف وذب عن السنن، وقال ابن داسه: سمعته يقول كتبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسمائة ألف حديث انتخبت منها ما تضمنه هذا الكتاب، يعني السنن، ولد سنة اثنتين ومائتين وتوفي لأربع عشرة بقيت من شوال سنة خمس وسبعين ومائتين بالبصرة، وقيل غير ذلك.
"ابن حبان" الحافظ العلامة أبو حاتم محمد بن حبان بن أحمد بن حبان التميمي البستي، قيل: كتب عن أكثر من ألفي شيخ منهم النسائي وأبو يعلى والحسن بن سفيان، قال تلميذه الحاكم: كان من أوعية العلم في الفقه والحديث واللغة والوعظ ومن عقلاء الرجال وكانت إليه الرحلة، زاد غيره: وكان عالمًا بالطب والنجوم وفنون العلم، وقال الخطيب: كان ثقة نبيلا فهمًا مات في شوال سنة أربع وخمسين وثلاثمائة، وهو في عشر الثمانين.
"والحاكم" أبو عبد الله الحافظ مر بعض ترجمته دخل الحمام بنيسابور ثم خرج، فقال: آه وقبض وهو متزر ولم يلبس قميصه في صفر سنة خمس وأربعمائة. "في صحيحيهما" أي: صحيح ابن حبان وصحيح الحاكم المستدرك كلهم عن عبد الله بن حوالة الصحابي.
"عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: "عليكم بالشام" " أي: الزموا سكناها "فإنها خيرة الله من أرضه" , على معنى من خيرته أو من حيث الخصب ونمو البركات فيطلب سكناها، قيل: مطلقًا لكونها أرض المحشر والمنشر، وهو ظاهر سوق المصنف هنا لهذا الحديث، وقيل: المراد آخر الزمان عند اختلال أمر الدين وغلبة الفساد؛ لأن جيوش الإسلام تنزوي إليها، وفي حديث واثلة عند الطبراني فإنها صفوة بلاد الله، "يجتبي" يفتعل من جبوت الشيء وجبيته جمعته، أي: يجمع، "إليها خيرته من عباده" فهي أفضل البلاد بعد الحرمين ومسجد القدس يلي الحرمين في الفضل حتى المساجد المنسوبة له صلى الله عليه وسلم، "انتهى" كلام اللطائف "ملخصًا" حال.(1/223)
وأخرج أبو نعيم عن عبد الرحمن بن عوف عن أمه الشفا قالت: لما ولدت آمنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقع على يدي فاستهل، فسمعت قائلا يقول: رحمك الله، قالت الشفاء: وأضاء لي ما بين المشرق والمغرب، حتى نظرت إلى بعض.................
__________
"وأخرج أبو نعيم عن عبد الرحمن بن عوف" بن عبد مناف بن عبد الحارث بن زهرة بن كلاب بن مرة القرشي الزهري أحد العشرة ذي الهجرتين البدري الذي صلى خلفه المصطفى المتصدق بأربعين ألف دينار الحامل على خمسمائة فرس في سبيل الله وخمسمائة راحلة، أخرجه ابن المبارك عن معمر عن الزهري، وفي الحلية لأبي نعيم: أنه أعتق ثلاثين ألف نسمة، المتوفى سنة اثنتين وثلاثين على الأشهر، وله اثنتان وسبعون سنة على الأثبت، مناقبه جمة رضي الله عنه.
"عن أمه الشفا" بنت عوف بن عبد الحارث بن زهرة، وهي بنت عم أبيه، قاله ابن الأثير؛ أي: عم أبي ابنها عبد الرحمن أسلمت وهاجرت قال ابن سعد: ماتت في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، فقال عبد الرحمن: يا رسول الله! أعتق عن أمي، قال: "نعم" فأعتق عنها وهي بكسر الشين المعجمة وتخفيف الفاء والقصر؛ كما صرح به البرهان في المقتفى والحافظ في التبصير. وقال ابن الأثير في الجامع: بالتخفيف والمد، وقال الدلجي بفتح المعجمة وشد الفاء ومد، وجرى عليه البوصيري في قوله: وشفتنا بقولها الشفاء.
"قالت: لما ولدت آمنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقع على يدي" لا تعارضه الرواية السابقة، ثم وقع على الأرض لجواز أن ذاك بعد هذه بقرينة ثم "فاستهل" أي: صاح، وزعم الدلجي أن المراد عطس لا صاح بشهادة جواب لما، وهو "فسمعت قائلا" أي: ملكًا "يقول: رحمك الله" ونحا نحوه الجوجري، وهو مردود يقول الحافظ السيوطي في فتاويه: لم أقف في شيء من الأحادث على أنه صلى الله عليه وسلم لما ولد عطس بعد مراجعة أحاديث المولد من مظانها، كطبقات ابن سعد والدلائل للبيهقي، ولأبي نعيم، وتاريخ ابن عساكر على بسطه واستيعابه، والمستدرك للحاكم، وإنما الحديث الذي روته الشفاء فيه لفظ يشبه التشميت لكن لم يصرح فيه بالعطاس، والمعروف في اللغة: أن الاستهلال صياح المولود أول ما يولد فإن أريد به هنا العطاس فمحتمل، وحمل القائل على الملك ظاهر، انتهى. فلا دلالة في رحمك الله على أنه عطس كما زعم الدلجي؛ لأنه يشبه التشميت ولا يلزم أنه تشميت بالفعل حتى يخرج به اللفظ عن مدلوله اللغوي لشيء محتمل، فتبين أن قوله رحمك الله ليس تشميتًا بل تعظيمًا بقرينة فاستهل؛ لأنه صياح المولود، كما علم.
"قالت الشفاء: وأضاء لي ما بين المشرق والمغرب حتى نظرت إلى" بلاد "بعض(1/224)
قصور الروم، قالت: ثم ألبسته وأضجعته، فلم أنشب أن غشيتني ظلمة ورعب وقشعريرة ثم غيب عني، فسمعت قائلا يقول: أين ذهبت به؟ قال: إلى المشرق، قالت: فلم يزل الحديث مني على بال حتى بعثه الله فكنت في أول الناس إسلامًا.
ومن عجائب ولادته عليه السلام ما أخرجه البيهقي وأبو نعيم عن حسان بن ثابت قال: إني لغلام ابن سبع سنين أو ثمان، أعقل ما رأيت وسمعت، إذا.....................
__________
قصور الروم، قالت: ثم ألبسته" بموحدة فسين مهملة، أي: ألبست النبي صلى الله عليه وسلم ثيابه هكذا في نسخ ولم يقف عليها الشارح فأبعد النجعة، وفي نسخ: ثم ألبنته بنون بعد الباء، أي: سقيته اللبن، لكنهم عدوا مرضعاته عشرًا وما ذكروها مع أنها كانت أولى بالذكر؛ لأنها أول من دخل جوفه لبنها ويمكن صحتها بأن معناها سقيته لبن أمه، بمعنى: قربته إلى ثديها ليشرب منه ويناسب الأولى أيضًا، قولها: "وأضجعته فلم أنشب" أي: ألبث إلا قليلا "أن غشيتني ظلمة" والمعنى أنها رأت هذا عقب ذاك وتجوزت بأنشب عن ألبث؛ لأن من لبث في مكان فقد اتصل به فكأنه أدخل نفسه فيه "ورعب" خوف "وقشعريرة" بضم القاف وفتح الشين "ثم غيب عني، فسمعت قائلا" أي: ملكًا: "يقول: أين ذهبت به؟ قال: إلى المشرق" وحذف من خبر أبي نعيم ما لفظه: وقشعريرة عن يميني، فسمعت قائلا يقول: أين ذهبت به؟ قال: إلى المغرب، وأسفر عني ذلك، أي: انكشف ثم عاودني الرعب والقشعريرة عن يساري، فسمعت قائلا يقول: أين ذهبت به؟ قال: إلى المشرق، "قالت: فلم يزل الحديث مني على بال حتى" أي: إلى أن "بعثه الله، فكنت في أول الناس إسلامًا" أي: في جملة السابقين له، ثم لا ينافي وجود الشفاء وفاطمة الثقفية عند الولادة قول آمنة المار: وإني لوحيدة في المنزل؛ لجواز وجودهما عندها بعد تأخر خروجه عليه السلام عن القول المذكور حتى نزل على يدي الشفاء؛ لقولهم: وقع على يدي، جمعًا بين الخبرين.
"ومن عجائب ولادته عليه السلام ما أخرجه البيهقي وأبو نعيم، عن حسان بن ثابت" بن المنذر بن عمرو بن حرام الأنصاري شاعر المصطفى المؤيد بروح القدس، سيأتي ذكره إن شاء الله تعالى في شعرائه عليه السلام، وجوز الجوهري فيه الصرف وعدمه بناء على أنه من الحس أو الحسن. قال ابن مالك: والمسموع فيه منع الصرف، نقله السيوطي في حواشي المغني.
"قال: إني لغلام ابن سبع سنين أو ثمان" سنين على التقريب، فقد ذكروا أنه عاش مائة وعشرين سنة كأبيه وجده وأبي جده، ومات سنة أربع وخمسين، "أعقل ما رأيت وسمعت إذا(1/225)
يهودي يصرخ ذات غداة: يا معشر يهود، فاجتمعوا إليه، وأنا أسمع، قالوا: يا ويلك ما لك؟ قال: طلع نجم أحمد الذي ولد به في هذه الليلة.
وعن عائشة قالت: كان يهودي قد سكن مكة، فلما كانت الليلة التي ولد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يا معشر قريش: هل ولد فيكم الليلة مولود، قالوا: لا نعلم، قال: انظروا، فإنه ولد في هذه الليلة نبي هذه الأمة. بين كتفيه علامة. فانصرفوا فسألوا، فقيل لهم قد ولد لعبد الله بن عبد المطلب غلام، فذهب اليهودي معهم إلى أمه، فأخرجته لهم فلما رأى اليهودي العلامة خر مغشيًا عليه، وقال: ذهبت النبوة من بني.........................
__________
يهودي يصرخ" بالمدينة، ففي رواية ابن إسحاق، يصرخ على أطمة يثرب، "ذات غداة" أي: في ساعة ذات غداة "يا معشر يهود" بمنع الصرف للعلمية ووزن الفعل كما في المصباح، وفي نسخة: اليهود أقبلوا "فاجتمعوا إليه، وأنا أسمع" أي: أقصد سماع ما يتكلمون به، "قالوا: يا ويلك" كلمة عذاب صرفهم الله عن كلمة الترحم. "ما" اسم استفهام مبتدأ خبره "لك" أي: أي شيء عرض لك استنكروا صراخه، "قال: طلع نجم أحمد الذي ولد به" عنده أو سببية لاعتقاد اليهودي تأثير النجم، "في هذه الليلة" والغرض من سوقه كالذي بعده أن البشارة بالنبي صلى الله عليه وسلم جاءت من كل طريق، وعلى لسان كل فريق من كاهن أو منجم محق أو مبطل، إنسي أو جني، "و" من عجائب ولادته أيضًا ما ورد "عن عائشة، قالت: كان يهودي قد سكن مكة" زاد في رواية الحاكم يتجر فيها وهو غير اليهودي الذي أخبر عنه حسان بلا ريب؛ لأن حسان كان بالمدينة فلا تغفل "فلما كانت الليلة التي ولد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال" اليهودي ومعلوم أنها ما أدركته فهو مما روته عن غيرها، ومعلوم أنها إنما تروي عن الثقات، فيحتمل أنها سمعته من الشفاء، أو أم عثمان أو غيرهما، "يا معشر قريش! هل ولد فيكم الليلة مولود؟ قالوا: لا نعلم، قال: انظروا" أي: فتشوا وتأملوا، يقال: نظرت في الأمر تدبرت، أي: انظروا في أهاليكم ونسائكم، "فإنه ولد في هذه الليلة نبي هذه الأمة" زاد الحاكم: الأخيرة "بين كتفيه علامة" زاد الحاكم: فيها شعرات متواترت كأنهن عرف الفرس، وأسقط المصنف من رواية يعقوب هذه، ما لفظه: لا يرضع ليلتين؛ لأن عفريتًا من الجن وضع يده على فمه، هكذا ساقه في الفتح متصلا، بقوله: "فانصرفوا فسألوا، فقيل لهم: قد ولد لعبد الله بن عبد المطلب غلام فذهب اليهودي معهم" ليستكشفوا الخبر ويتحققوه بالعلامة، "إلى أمه" زاد الحاكم فقالوا: أخرجي المولود ابنك "فأخرجته لهم" زاد الحاكم وكشفوا عن ظهره، أي: ورأوا العلامة "فلما رأى اليهودي العلامة خر مغشيًا عليه، وقال" وفي رواية الحاكم: فلما أفاق، قالوا: يا ويلك! ما لك؟ قال: "ذهبت النبوة من بني(1/226)
إسرائيل، يا معشر قريش: أما والله ليسطون بكم سطوة يخرج خبرها من المشرق والمغرب. رواه يعقوب بن سفيان بإسناد حسن كما قاله في فتح الباري.
ومن عجائب ولادته أيضًا: ما روي من ارتجاس إيوان كسرى وسقوط أربع عشرة شرفة من شرفاته................................
__________
إسرائيل" قال: ذلك لما هو عندهم في الكتب أنه خاتم النبيين، "أما" بتخفيف الميم كلمته يفتتح بها الكلام، وتدل على تحقق ما بعدها، وهي من مقدمات اليمين؛ كقوله: أم والذي لا يعلم الغيب غيره، وقوله هنا: "والله ليسطون بكم سطوة" أي: ليقهرنكم ببطشه بكم، "يخرج خبرها من المشرق والمغرب" أي: ينشر في جميع الأرض حتى يتكلم به أهل المشرق والمغرب، "ورواه يعقوب بن سفيان" الفارسي الثقة المتقن الخير الصالح الحافظ، أبو يوسف الفسوي، بفاء وسين مهملة مفتوحتين فواو نسبة إلى فسا من بلاد فارس، عن القعنبي وسليمان بن حرب وأبي عاصم وأبي نعيم والفضل وغيرهم وعنه الترمذي والنسائي وعبد الله بن درستويه وخلق، قال ابن حبان: ثقة، والنسائي: لا بأس به، مات سنة سبع وسبعين ومائتين، وقيل بعدها. "بإسناد حسن، كما قاله في فتح الباري" بشرح البخاري ورواه الحاكم أيضًا عن عائشة، كما سيذكره المصنف، وقد بينا ألفاظه الزائدة.
"ومن عجائب ولادته: ما روي من ارتجاس" بالسين، وهو: الصوت الشديد من الرعد ومن هدير البعير، كما ضبطه البرهان، وهو مأخوذ من كلام الجوهري والمجد في باب السين والمهملة، وفي نسخ: ارتجاج بجيم آخره، وفي القاموس: الرج التحريك والتحرك والاهتزاز، فإن صحت تلك النسخ فكأنه لما صوت تحرك واهتز، إذ المراد هنا تصويت "إيوان" كديوان، ويقال: إوان بوزن كتاب بناء أزج غير مسدود الوجه، والأزج بفتح الهمزة والزاي بالجيم بيت يبنى طولا، "كسرى" بفتح الكاف وكسرها اسم ملك الفرس، حتى سمع صوته وانشق لا لخلل في بنائه، فقد كان بناؤه بالمدائن من العراق محكمًا مبنيًا بالآجر الكبار والجص، سمكه مائة ذراع في طول مثلها، وقد أراد الخليفة الرشيد هدمه لما بلغه أن تحته مالا عظيمًا، فعجز عن هدمه، وإنما أراد الله أن يكون ذلك آية باقية على وجه الدهر لنبيه صلى الله عليه وسلم، ومن ثم أفزع ذلك كسرى ودعا بالكهنة. "وسقوط أربع عشرة" هكذا في نسخ وهو الصواب، وفي نسخة: أربعة عشر وهو تحريف؛ لأن لفظ العدد من ثلاثة إلى عشرة يؤنث مع المذكر ويذكر مع المؤنث، ولفظ العشر يجري على القياس والمعدود هنا مؤنث.
"شرفة" بضم الشين وسكون الراء "من شرفاته" بضم الراء وفتحها وسكونها جمع قلة(1/227)
وغيض بحيرة طبرية، وخمود نار فارس. وكان لها ألف عام لم تخمد، كما رواه البيهقي وأبو نعيم والخرائطي في "الهواتف" وابن عساكر وابن جرير.
وفي سقوط الأربع عشرة شرفة إشارة إلى أنه يملك منهم ملوك وملكات
__________
لشرفه جمع سلامة، قال الشامي: إما تحقيرًا لها أو أن جمع القلة قد يقع موقع جمع الكثرة، وفي الصحاح: وشرفة وشرف، كغرفة وغرف. قال الخميس: وكانت اثنتين وعشرين، "وغيض" بغين وضاد معجمتين، أي: نقص، "بحيرة طبرية" مصغر بحرة ممنوعة من الصرف للعلمية والتأنيث، قال في ترتيب المطالع: هي بالشام لزمتها الهاء، وإنما هي تصغير بحرة لا بحر؛ لأن تصغيره بحير وهي بحيرة عظيمة يخرج منها نهر بينها وبين الصخرة ثمانية عشر ميلا، قال البكري: طولها عشرة أميال وعرضها ستة أميال، انتهى.
لكن المعروف بالغيض إنما هي بحيرة ساوة بسين مهملة وبعد الألف واو مفتوحة فهاء ساكنة من قرى بلاد فارس، كانت بحيرة كبيرة بين همذان وقم. قال الخميس: وكانت أكثر من ستة فراسخ في الطول والعرض، وكانت تركب فيها السفن، ويسافر إلى ما حولها من البلدان. انتهى. فأما بحيرة طبرية فباقية إلى اليوم وغيضها علامة لخروج الدجال، تيبس حتى لا يبقى فيها قطرة، وأجيب: بأن غيض كليهما ثابت في الأحاديث التي نقلها السيوطي وغيره.
غاية الأمر: أن بحيرة ساوة نشف ماؤها بالكلية فأصبحت يابسة كأن لم يكن بها شيء من غيضها أراد أنه ما نشف بالكلية كساوة ومن أثبته أراد أنها نقصت نقصًا لا ينقص مثله في زمان طويل، أو أن ماءها غار ثم عاد لما فيها من العيون النابعة التي تمدها الأمطار، وهو جمع حسن إلا أن المذكور في رواية من عزا له المؤلف ساوة؛ كما في الشامية، فتم الاعتراض على المصنف ووقع لبعض المتأخرين، وغاضت بحيرة ساوة وتسم بحيرة طبرية، وكان مراده الجمع أن تسمى في بعض الأحاديث بحيرة طبرية فهي واحدة، فلا يعترض عليه بأن ساوة بفارس، وطبرية بالشام.
"وخمود" مصدر خمد؛ كنصر وسمع، خمدًا وخمودًا، كما في النور. "نار فارس" التي كانوا يعبدونها "وكان لها ألف عام لم تخمد" بضم الميم وفتحها، "كما رواه البيهقي وأبو نعيم والخرائطي في الهواتف وابن عساكر وابن جرير" في تاريخه كلهم من حديث مخزوم بن هانئ عن أبيه، وأتت عليه مائة وخمسون سنة، قال: لما كانت الليلة التي ولد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتجس إيوان كسرى وسقطت منه أربع عشرة شرفة، وخمدت نار فارس ولم تخمد قبل ذلك بألف عام وغاضت بحيرة ساوة، ورأى الموبذان، فذكر الحديث بطوله: "وفي سقوط الأربع عشرة شرفة إشارة إلى أنه يملك منهم" من الفرس "ملوك وملكات" هذا على أن(1/228)
بعدد الشرفات، وقد ملك منهم عشرة في أربع سنين، ذكره ابن ظفر زاد ابن سيد الناس: وملك الباقون إلى خلافة عثمان رضي الله عنه.
ومن ذلك أيضًا: ما وقع من زيادة حراسة السماء بالشهب.....................
__________
الجمع ما فوق الواحد، فإنه ما ملك منهم سوى امرأتين موران وأزد ميدخت؛ كما قاله البدر بن حبيب في جهينة الأخبار، "بعدد الشرفات، وقد ملك منهم عشرة في أربع سنين" وأسماؤهم مذكورة في التواريخ، ولا حاجة لنا بذكرهم، "ذكره" محمد بن محمد "بن ظفر" بفتح الظاء المعجمة والفاء بعدها راء الصقلي المولود بها أحد الأدباء الفضلاء صاحب التصانيف المليحة من أهل القرن السادس، ذكر ما نقله عنه المصنف في كتاب البشر، قائلا: وملك الباقون إلى أواخر خلافة عمر، هكذا رأيته فيه في آخر حديث سطيح، وكأنه لم يقع للمصنف فيه، فقال: "زاد ابن سيد الناس" الإمام العلامة الحافظ الناقد أبو الفتح محمد بن محمد بن محمد بن أحمد اليعمري الأندلسي الأصل المصري، ولد في ذي القعدة سنة إحدى وسبعين وستمائة ولازم ابن دقيق العيد وتخرج به وسمع من خلائق يقاربون الألف، وأخذ العربية عن البهاء بن النحاس، كان أحد أعلام الحفاظ أديبًا شاعرًا بليغًا صحيح العقيدة وحسن التصنيف، ولي درس الحديث بالظاهرية وغيرها وألف السيرة الكبرى والصغرى وشرح الترمذي، ولم يكمله فأتمه أبو الفضل العراقي، مات في شعبان سنة أربع وثلاثين وسبعمائة. "وملك الباقون إلى خلافة عثمان" ذي النورين المختص بأنه لم يتزوج أحد بنتي نبي غيره، مناقبه جمة، "رضي الله عنه" وآخر ملوكهم يزدجر هلك في سنة إحدى وثلاثين، كذا في تاريخ حماة، وفي كلام السهيلي: أنه قتل في أول خلافة عثمان، قاله في النور. فعلى الثاني: لا مخالفة بين كلام ابن ظفر وابن سيد الناس؛ لأن آخر خلافة عمر قريب من أول خلافة عثمان. أما على الأول: فبينهما خلف كبير، والله أعلم.
"ومن ذلك" أي: عجائب ولادته "أيضًا: ما وقع من زيادة حراسة السماء بالشهب" بسبب رميهم بها، وقد اختلف في أن المرجوم يتأذى فيرجع أو يحرق به لكن قد تصيب الصاعد مرة، وقد لا تصيب كالموج لراكب السفينة، ولذلك لا يرتدعون عنه رأسًا ولا يرد أنهم من النار فلا يحترقون؛ لأنهم ليسوا من النار الصرفة، كما أن الإنسان ليس من التراب الخالص مع أن النار القوية إذا استولت على الضعيفة أهلكتها، قال البيضاوي. وأشعر قوله زيادة: بأنها حرست قبل ولادته، وقد جاء عن ابن عباس: أن الجن كانوا لا يحجبون عن السماوات فلما ولد عيسى منعوا من ثلاث سماوات، فلما ولد محمد صلى الله عليه وسلم منعوا من السماوات كلها، نقله المصنف في المعجزات. وروى الزبير بن بكار في حديث طويل: أن إبليس كان يخترق السماوات ويصل إلى أربع، فلما ولد صلى الله عليه وسلم حجب من السبع، ورميت الشياطين(1/229)
وقطع رصد الشياطين، ومنعهم من استراق السمع.
ولقد أحسن الشقراطسي حيث قال:
ضاءت لمولده الآفاق واتصلت ... بشرى الهواتف في الإشراق والطفل
وصرح كسرى تداعى من قواعده ... وانقص منكسر الأرجاء ذا ميل
__________
بالنجوم، "وقطع رصد الشياطين" بسكون الصاد وفتحها مصدر رصد؛ كنصر، أي: ترقبهم، "ومنعهم من استراق السمع" أي: استراقهم لاستماع ما تقول الملائكة، فيخبرون به غيرهم فيقع، وقضيته منعهم منه رأسًا بحيث لم يقع ذلك من أحد منهم، لكن قال السهيلي: أنه بقي من استراق السمع بقايا يسيرة بدليل وجودهم على الندور في بعض الأزمنة وفي بعض البلاد، ونحوه قول البيضاوي؛ لعل المراد كثرة وقوعه أو مصيره دحورًا. "ولقد أحسن" أبو محمد عبد الله بن أبي زكريا يحيى بن علي "الشقراطسي" نسبة إلى شقراطسة ذكر لي أنها بلدة من بلاد الجريدة بأفريقيا، قاله أبو شامة في شرحه لهذه القصيدة: "حيث قال: يمدح النبي صلى الله عليه وسلم من جملة قصيدة كبيرة "ضاءت" أشرقت "لمولده" لأجل ولادته أو اللام للتوقيت؛ كقولك: جئت ليوم كذا، أي: فيه يريد ضاءت أيام مولده "الآفاق" جمع أفق بضم الفاء وسكونها وهي نواحي الأرض وأطرافها، وكذلك آفاق السماء وهي أطرافها التي يراها الرائي مع وجه الأرض، يعني بذلك ما ظهر معه عليه السلام من النور حين ولد. "واتصلت" بنا "بشرى" مصدر كالبشارة "الهواتف" جمع هاتف وهو الصالح، أو اتصل إلينا خبر ذلك أو اتصل إلينا خبر ذلك أو اتصل بعضها ببعض لكثرتها فما يبلغنا خبر إلا ويعقبه مثله، أي: كثرت وتواترت، يعني بذلك ما سمع من الجن وغيرهم من بعد ولادته إلى مبعثه من تبشيرهم به ونعيهم الكفر وإنذارهم بهلاكه يهتفون بذلك في كل ناحية، أي: ينادون به وكثر ذلك قبيل المبعث.
"في الإشراق" أول النهار عند انتشار ضوء الشمس، "والطفل" وذلك إذا اطفلت الشمس للغروب، أي: دنت منه، وهو عبارة عن كثرة الأزمان التي وقع فيها، ذلك لأنه يعبر بذلك وما في معناه عن الدوام؛ كقوله تعالى: {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} [مريم: 62] ، "وصرح" القصرة، قيل: البناء المتسع الذي لا يخفى على الناظر، وإن بعد "كسرى تداعى" تساقط كأن بعضه دعًا بعضًا للوقوع "من قواعده" أساسه ومن لابتداء الغاية مبالغة كأن الانهدام ابتدأ من القواعد، "وانقص" بصاد مهملة سقط من أصله وبمعجمة أسرع سقوطه، "منكسر الأرجاء" النواحي "ذا ميل" بفتح الياء ما كان خلقة، قال ابن سيده: الميل في الحادث والميل في الخلقة والبناء، وهو على الثاني ظاهر. أما الأول فلأنه لما لم يكن بفعل فاعل ولا مسببًا عن خلل بناء نزله منزلة الخلق الطبيعي.(1/230)
ونار فارس لم توقد وما خمدت ... مذ ألف عام ونهر القوم لم يسل
خرت لمبعثه الأوثان وانبعث ... ثواقب الشهب ترمي الجن بالشعل
__________
"ونار فارس" اسم علم كالفرس لطائفة من العجم كانوا مجوسًا يعبدون النار، وكان لبيوتها سدنة يتناوبون إيقادها فلم يخمد لها لهب في ليل ولا نهار، إلى ليلة مولده عليه السلام، فإنه حين أوقدوها "لم توقد" بضم التاء وفتح القاف مبني للمفعول، لكنه وإن صح استعمالا إلا أنه لم ينتف إيقادهم لها بل إيقادها في نفسها مع تعاطيهم الإيقاد، فهذا موضع الآية العجيبة وأجيب بأنه لما لم تحصل فائدة إيقادها لها كأنها لم توقد؛ لأن خمودها من غير سبب يطفئها لا يكون إلا لعدم الإيقاد، ويحتمل فتح التاء وكسر القاف من وقدت النار هاجت، لكنه أصل رفضته العرب فلم تستعمله إلا أن ابن السراج ذكر أن أحسن ما استعمله الشاعر لضرورة ما رد فيه الكلام إلى أصله، فاللفظ ضعيف المخرج صحيح، قوي المعنى.
"وما خمدت" بفتح الميم وكسرها "مذ ألف" بالرفع والجر بناء على أن مد حرف ج أو اسم ملتزم حذف المضاف إليه معه وتقديره مدة عدم الخمود، ألف "عام" قبل تلك الليلة، وذلك مدة عبادتهم النار، ولا ينافيه أن مدة ملكهم ثلاثة آلاف سنة ومائة وأربع وستون سنة؛ لأنهم لم يعبدوها أول ملكهم، "ونهر القوم" يعني بحيرة ساوة عبر عنها بنهر القوم، أي: الفرس؛ لأنها في أرضهم ومن جملة أرض عراق العجم الذي هو في ملك كسرى، "لم يسل" أي ماؤه؛ لأنه غاض، أي: غار وكأنه عنى بالسيلان تحركه واضطرابه وإلا فماء البحيرة راكد غير جار، وكانت هذه الأمور أمارات لخمود دولتهم ونفاد ملكهم وظهور الحق عليهم، "خرت" سقطت "لمبعثه" لأجله "الأوثان" الأصنام على وجوهها "وانبعثت" مطاوع بعثه، "ثواقب" جمع ثاقب، وهي النجوم المتوقدة المضيئة، "الشهب" بسكون الهاء للتخفيف جمع شهاب، أي: المصابيح التي أخبر الله أنه زين بها السماء وجعلها رجومًا للشياطين والإضافة من باب سحق عمامة لقول الله: {شِهَابٌ ثَاقِبٌ} [الصافات: 10] ، والمصابيح: النجوم، جعلت راجمة للشياطين بالشهب؛ لا أن النجوم تنقض بأنفسها خلف الشياطين، ولذا قال: "ترمي الجن بالشعل" أي: المنفصلة منها ولم يجعلها رامية بأنفسها، وقد قال الحليمي: ليس في كتاب الله أن الشياطين ترمى بالكواكب أو بالنجوم، ثم أطال في تقرير: أن الرمي إنما هو بالشهب وهو شعل النار وجعل المصابيح كناية عن الشعل لا عن النجوم، قال أبو شامة، وما جاء في الأحاديث وشعر العرب القديم من التصريح بأن الرمي بالنجوم يمكن تأويله، إما بأنه على تقدير مضاف أو استعمل النجم في الشهاب مجازًا، انتهى. ولا ينافيه ما ذكره المصنف في الخصائص عن البغوي، قيل: إن النجم كان ينقض ويرمي الشياطين ثم يعود إلى مكانه، انتهى. لجواز أن صورة الشعلة النازلة رجعت إلى مكانها التي(1/231)
وولد صلى الله عليه وسلم معذورًا أي مختونًا مسرورًا -أي مقطوع السرة- كما روي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم عند ابن عساكر.
وروى الطبراني في الأوسط وأبو نعيم والخطيب وابن عساكر من طرق، عن أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من كرامتي على ربي أني ولدت مختونًا، ولم ير أحد سوأتي" وصححه الضياء في المختارة.
وعن ابن عمر قال: ولد النبي صلى الله عليه وسلم مسرورًا مختونًا، رواه ابن عساكر.
قال الحاكم في....................................
__________
جاءت منه وهو النجم، والله أعلم.
"وولد صلى الله عليه وسلم معذورًا" هذا هو الواقع في حديث أبي هريرة وفسره المصنف، بقوله: "أي: مختونًا" لأن العذرة الختان، يقال: عذر الغلام يعذره بالكسر وأعذره بالألف، لغة إذا ختنه؛ كما في المصباح والنور وغيرهما وفيه حسن، كما في "مسرورًا" من التورية؛ لأنه من السرور أو من قطع السرة؛ كما فسره بقوله: "أي مقطوع السرة" الأولى حذف التاء إذ السر بالضم: ما تقطعه القابلة من سرة الصبي؛ كما في النهاية وغيرها، إلا أن يكون سمي السرسرة مجاز العلاقة المجاورة، أو فيه حذف، أي: مقطوعًا منه ما يتصل بالسرة؛ "كما روي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم" أي: أنه قال ذلك ورفعه إليه، وأغرب زاعم أن هذا إخبار عن صفته من غيره، "عند ابن عساكر" وابن عدي.
"وروى الطبراني في الأوسط، وأبو نعيم والخطيب وابن عساكر من طرق" متعددة "عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من كرامتي على ربي أني ولدت مختونًا" أي: على صورة المختون إذ هو القطع، ولا قطع هنا؛ كما يأتي. "ولم ير أحد سوأتي" عورتي لا لختان ولا غيره، على ظاهر عموم أحد فتدخل حاضنته ويكون عدم رؤيتها مع احتياجها لذلك من جملة كرامته على ربه، "وصححه" العلامة الحجة الحافظ "الضياء" أي: ضياء الدين أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد بن أحمد السعدي المقدسي الحنبلي الثقة الجبل الدين الزاهد الورع، المتوفى سنة ثلاث وأربعين وستمائة، "في" الأحاديث "المختارة" مما ليس في الصحيحين. وقد قال الزركشي وغيره أن تصحيحه أعلى مزية من تصحيح الحاكم، انتهى. وحسنه مغلطاي، قال: ورواه أبو نعيم بسند جيد عن ابن عباس.
"و" ورد "عن ابن عمر، قال: ولد النبي صلى الله عليه وسلم مسرورًا مختونًا، رواه ابن عساكر" وقد صرح الحافظ بأن أحاديث الصفات النبوية والشمائل داخلة في قسم المرفوع، "قال الحاكم في(1/232)
المستدرك: تواترت الأخبار أنه عليه السلام ولد مختونًا. انتهى.
وتعقبه الحافظ الذهبي فقال: ما أعلم صحة ذلك؟! فكيف يكون متواترًا؟ وأجيب: باحتمال أن يكون أراد بتواتر الأخبار اشتهارها وكثرتها في السير، لا من طريق السند المصطلح عليه.
"القول بغير ذلك":
حكى الحافظ زين الدين العراقي، أن الكمال بن العديم ضعف أحاديث كونه ولد مختونًا، وقال: إنه لا يثبت في هذا شيء من ذلك.
وأقره عليه، وبه صرح ابن القيم....................
__________
المستدرك: تواترت الأخبار أنه عليه السلام ولد مختونًا، انتهى. وتعقبه" الإمام "الحافظ" أبو عبد الله محمد بن عثمان "الذهبي" نسبة إلى الذهب؛ كما في التبصير، الدمشقي المتوفى بها سنة ثمان وأربعين وسبعمائة، "فقال" في مختصر المستدرك، وفي ميزانه في ترجمة الحاكم: "ما أعلم صحة ذلك" لعله أراد على شرط الشيخين، وإلا فقد صححه الضياء وحسنه مغلطاي، كما ترى.
"فكيف يكون متواترًا؟ وأجيب باحتمال أن يكون" الحاكم "أراد بتواتر الأخبار اشتهارها وكثرتها في السير، لا من طريق السند المصطلح عليه" وهو أن المتواتر عدد كثير أحالت العادة توافقهم على الكذب ورووا ذلك عن مثلهم من الابتداء إلى الانتهاء، وكان مستند انتهائهم الحسن، وصحب خبرهم إفادة العلم لسامعه؛ كما في شرح النخبة، وقد استبعد بعضهم هذا الجواب؛ لأنه خلاف المتبادر ولكنه أولى من التخطئة.
"وحكى الحافظ زين الدين" عبد الرحيم "العراقي: أن الكمال بن العديم" عمر بن أحمد بن هبة الله الصاحب كمال الدين الحلبي الكاتب البليغ الحنفي، ولد بحلب سنة ثمان وثمانين وخمسمائة، وبرع وساد وصار أوحد عصره فضلا ونبلا ورئاسة، وألف في الفقه والحديث والأدب وتاريخ حلب، وتوفي بمصر، "ضعف أحاديث كونه" عليه السلام "ولد مختونًا" في مؤلف صنفه في الرد على الكمال بن طلحة حيث وضع مصنفًا في أنه ولد مختونًا، وجلب فيه من الأحاديث التي لا خطام لها ولا زمام؛ كما في النور، "وقال: لا يثبت في هذا شيء، وأقره عليه وبه" أي: بتضعيف أحاديث ولادته مختونًا "صرح ابن القيم" في الهدي النبوي وليس بسديد من الثلاثة؛ لأن منها ما هو صحيح أو حسن، ومنها ما إسناده جيد؛ كما مر. اللهم إلا أن يكون حكمًا على المجموع على أنها وإن كانت ضعيفة، فقد وردت من طرق يقوي(1/233)
ثم قال: ليس هذا من خصائصه صلى الله عليه وسلم، فإن كثيرًا من الناس ولد مختونًا.
وحكى الحافظ ابن حجر: أن العرب تزعم أن الغلام إذا ولد في القمر فسخت قلفته -أي اتسعت- فيصير كالمختون.
وفي "الوشاح" لابن دريد: قال ابن الكلبي: بلغني أن آدم خلق مختونًا واثني عشر نبيًا من بعده خلقوا مختونين..................
__________
بعضها بعضًا، وفي مولد الحافظ ابن كثير ذكر ابن إسحاق في السيرة أنه عليه السلام ولد مسرورًا مختونًا، وقد ورد ذلك في أحاديث، فمن الحفاظ من صححها، ومنهم من ضعفها، ومنهم من رآها من الحسان.
"ثم قال" ابن القيم: "وليس هذا من خصائصه صلى الله عليه وسلم فإن كثيرًا من الناس" الأنبياء وغيرهم، "ولد مختونًا" وظاهره: أن كونه مسرورًا من خصائصه وهو مقتضى كلام السيوطي وغيره. "وحكى الحافظ ابن حجر" ما فيه الجمع بين إثبات الختان ونفيه ذلك، "أن العرب تزعم أن الغلام إذا ولد في القمر" كالنبي صلى الله عليه وسلم فإنه ولد في سلطانه على القول أنه لاثنتي عشرة "فسخت قلفته" بضم القاف وسكون اللام وبفتحهما: جلدته التي تقطع في الختان، "أي: اتسعت" فتقلصت عن موضعها بحيث تصير الحشفة مكشوفة "فيصير كالمختون" كما في عبارة غيره أن أصل قول العرب ختنه القمر، أن الطفل إذا ولد في ليلة مقمرة واتصل بحشفته ضوء القمر أثر فيها فتقلصت وإن محقت، فإن ضوءه يؤثر في اللحم وغيره، إلا أنه لا يكون قاطعًا لها بالكلية، قال الشاعر:
إني حلفت يمينًا غير كاذبة ... لأنت أقلف إلا ما جنى القمر
فغرض الحافظ من سوقه أنه بتقدير صحته في حقه صلى الله عليه وسلم يكون سببًا لوصفه بذلك؛ لكونها شابهة في ارتفاع القلفة وتقلصها أو خلقه بلا قلفة، وعبر بتزعم إشارة إلى أنه لا أصل له، فهو القول الذي لم يقم على صحته دليل، وقد قال ابن القيم: الناس يقولون لمن ولد كذلك ختنه القمر، وهذا من خرافاتهم. "وفي الوشاح لابن دريد" أبي بكر محمد بن الحسن اللغوي الثقة المتحري صاحب التصانيف المولود سنة ثلاث وعشرين ومائتين، المتوفى بعمان في رمضان سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة، قال في المزهر: ولا يقبل فيه طعن نفطويه؛ لأنه كان بينهما منافرة عظيمة بحيث أن كلا منهما هجا الآخر، قال: وقد تقرر في علم الحديث أن كلام الأقران في بعضهم لا يقدح.
"قال ابن الكلبي: بلغني" وفي السبل: نقل ابن دريد في الوشاح وابن الجوزي في التلقيح، عن كعب الأحبار أنهم ثلاثة عشر، فيجوز أنه الذي بلغ ابن الكلبي "ان آدم خلق مختونًا" أي: وجد على هيئة المختون، "واثني عشر نبيًا من بعده خلقوا مختونين" أي: ولدوا(1/234)
آخرهم محمد صلى الله عليه وسلم: شيث وإدريس ونوح وسام ولوط ويوسف وموسى، وسليمان وشعيب ويحيى وهود صلوات الله وسلامه عليهم أجميعن.
وفي هذه العبارة تجوز، لأن الختان هو القطع، وهو غير ظاهر، لأن الله تعالى يوجد ذلك على هذه الهيئة من غير قطع، فيحمل الكلام باعتبار أنه على صفة المقطوع.
__________
كذلك، ولعل هذا حكمة إفراد آدم بالذكر، "آخرهم محمد صلى الله عليه وسلم" وهم "شيث" بن آدم عليهما السلام، "وإدريس" قيل عربي مشتق من الدراسة لكثرة درسه الصحف، وقيل: سرياني ابن يارد بن مهلائيل بن قنان بن أنوش بن شيث، قال ابن إسحاق: الأكثرون أن أخنوخ هو إدريس وأنكره آخرون، وقالوا: إنما إدريس هو إلياس، وفي البخاري يذكر عن ابن مسعود وابن عباس: أن إدريس هو إلياس، واختاره ابن العربي وتلميذه السهيلي؛ لقوله ليلة الإسراء مرحبًا بالأخ الصالح، ولم يقل بالابن الصالح، وأجاب النووي باحتمال أنه قال تلطفًا وتأدبًا وهو أخ وإن كان ابنًا والأبناء أخوة والمؤمنون أخوة، وقال ابن المنير: أكثر الطرق أنه خاطبه بالأخ الصالح، وقال لي ابن أبي الفضل: صحت لي طريق أنه خاطبه بالابن الصالح، قال بعض: وفي صحتها نظر.
"ونوح" بن لمك بفتح اللام وسكون الميم بعدها كاف، ابن متوشلخ بفتح الميم وشدة الفوقية المضمومة وسكون الواو وفتح المعجمة واللام بدها معجمة ابن خنوخ، وهو إدريس، قال المازري: كذا ذكره المؤرخون: أن إدريس جد نوح، فإن قام دليل على أنه أرسل لم يصح قولهم: أنه قبل نوح لما في الصحيحين: ائتوا نوحًا فإنه أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض، وإن لم يقم دليل جازم، قالوا: وحمل على أن إدريس كان نبيًا ولم يرسل، انتهى.
قال السهيلي: وحديث أبي ذر الطويل، أي: المروي عند ابن حبان يدل على أن آدم وإدريس رسولان، انتهى. وأجيب بأن المراد أول رسول بعثه الله بالإهلاك وإنذار قومه، فأما رسالة آدم فكانت كالتربية لأولاده، قال القاضي عياض: لا يرد على الحديث رسالة آدم وشيث؛ لأن آدم إنما أرسل إلى بنيه ولم يكونوا كفارًا بل أمر بتبليغهم الإيمان وطاعة الله، وكذلك خلفه شيث بعده فيهم بخلاف رسالة نوح إلى كفار أهل الأرض، انتهى.
"و" ابنه "سام" نبي على ما في هذا الخبر، وكذا رواه الزبير وابن سعد عن الكلبي، وقال: به أبو الليث السمرقندي، ومن قلده، والصحيح أنه ليس بنبي؛ كما قاله البرهان الدمشقي وغيره ولا حجة في أثر الكلبي؛ لأنه مقطوع مع أنه متروك متهم بالوضع.
"ولوط" ابن هاران بن تارخ ابن أخي إبراهيم.
"ويوسف" بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الكريم ابن الكرام، قال بعضهم: هو مرسل؛ لقوله تعالى: {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ} [غافر: 34] وقيل: ليس هو يوسف بن يعقوب، بل يوسف بن افرايم بن يوسف بن يعقوب، وحكى النقاش والماوردي: أن يوسف المذكور في الآية من الجن بعثه الله رسولا إليهم، وهو غريب جدًا، قاله في الإتقان.(1/235)
وقد حصل من الاختلاف في ختنه ثلاثة أقوال:
الأول: أنه ولد مختونًا كما تقدم.
__________
"وموسى" بن عمران، "وسليمان" بن داود، "وشعيب، ويحيى، وهود صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين" وزاد محمد بن حبيب: زكريا وصالحًا وعيسى وحنظلة بن صفوان، فاجتمع من ذلك سبعة عشر نظمهم الحافظ السيوطي في قلائد الفوائد فقال:
وسبعة مع عشر قدروا خلقوا ... وهم ختان فخذ لا زلت مأنوسا
محمد آدم إدريس شيث ونو ... ح سام هود شعيب يوسف موسى
لوط سليمان يحيى صالح زكريْ ... يَا وحنظلة الرسى مع عيسى
"وفي هذه العبارة" وهي تسمية من ولد بلا قلفة مختونًا "تجوز؛ لأن الختان هو القطع وهو غير ظاهر" هنا "لأن الله تعالى يوجد ذلك على هذه الهيئة من غير قطع" فيما مضى ويأتي. قال ابن القيم: حدثنا صاحبنا أبو عبد الله محمد بن عثمان الخليلي المحدث ببيت المقدس، أنه ولد كذلك وأن أهله لم يختنوه، انتهى. ولذا عبر بيوجد المضارع دون الماضي إشارة إلى أن الإيجاد لا يقصر على من كان قبل المصطفى، فلا يقال الأولى التعبير بالماضي؛ لأنهم وجدوا كذلك وتم أمرهم. "فيحمل الكلام" على المجاز "باعتبار أنه على صفة المقطوع" فهو علة لمقدور وحاصله أنه لما كانت صورته صورة لمختون أطلق عليه اسمه مجازًا لعلاقة المشابهة في الصورة، "وقد حصل من الاختلاف" المذكور في كلامهم "في ختنه" صلى الله عليه وسلم "ثلاثة أقوال:
"الأول": منها في الذكر "أنه ولد مختونًا، كما تقدم" وقال الحاكم، وبه تواترت الأخبار، وابن الجوزي: لا شك أنه ولد مختونًا، قال القطب الخيضري: وهو الأرجح عندي، وأدلته مع ضعفها أمثل من أدلة غيره، انتهى. وقد مر أن طريقًا جيدا صححه الضياء، وحسنه مغلطاي، مع أنه أوضح من جهة النظر؛ لأنه في حقه صلى الله عليه وسلم كما قال الخيضري: غاية الكمال؛ لأن القلفة قد تمنع كمال النظافة والطهارة واللذة، فأوجده ربه مكملا سالمًا من النقائص والمعايب، ولأن(1/236)
الثاني: أنه ختنه جده عبد المطلب يوم سابعه، وصنع له مأدبة وسماه محمدًا. رواه الوليد بن مسلم بسنده إلى ابن عباس وحكاه ابن عبد البر في التمهيد.
__________
الختان من الأمور الظاهرة المحتاجة إلى فعل آدمي فخلق سليمًا منها لئلا يكون لأحد عليه منة، وبهذا لا ترد العلقة التي أخرجت بعد شق صدره؛ لأن محلها القلب ولا إطلاع عليه للبشر، فأظهره الله على يد جبريل ليتحقق الناس كمال باطنه كظاهره، انتهى ملخصًا.
"الثاني: أنه خنته جده عبد المطلب" الظاهر: أن المراد أمر بختنه وأنه بالموسى إذ لو ختن بغيره لنقل لخرقه للعادة، والخوارق إذا وقعت توفرت الدواعي على نقلها، "يوم سابعه" لأن العرب كانوا يختنون؛ لأنها سنة توارثوها من إبراهيم وإسماعيل لا لمجاورة اليهود؛ كما أشار له في قوله في حديث هرقل: "أرى ملك الختان قد ظهر"، "وصنع له مأدبة" بضم الدال وفتحها اسم لطعام الختان، كما أفاده القاموس والمصباح، وأفاد الثاني: أنه يسمى إعذارًا أيضًا، "وسماه محمدًا.
وفي الخميس: روى أنه لما ولد صلى الله عليه وسلم أمر عبد المطلب بجزور فنحرت ودعا رجالا من قريش فحضروا وطعموا، وفي بعض الكتب: كان ذلك يوم سابعه، فلما فرغوا من الأكل قالوا: ما سميته فقال سميته محمدًا، فقالوا: رغبت عن أسماء آبائه، فقال: أردت أن يكون محمودًا في السماء لله وفي الأرض لخلقه، وقيل: بل سمته بذلك أمه لما رأته، وقيل لها في شأنه ويمكن الجمع بأن أمه لما نقلت ما رأته لجده سماه، فوقعت التسمية منه، وإذا كان بسببها يصح القول بأنها سمته به، انتهى.
"رواه الوليد بن مسلم" القرشي مولاهم أبو العباس الدمشقي عن مالك والأوزاعي والثوري وابن جريج وخلق، وعنه الليث أحد شيوخه وابن وهب وأحمد وابن راويه وابن المديني متفق على توثيقه، وإنما عابوا عليه كثرة التدليس والتسوية، أخرج له الستة مات أول سنة خمس وتسعين ومائة "بسنده إلى ابن عباس وحكاه" شيخ الإسلام أبو عمر الحافظ يوسف بن عبد الله بن محمد "بن عبد البر" بن عاصم النمري، بفتح النون والميم القرطبي الفقيه المكثر العالم بالقراءات والحديث والرجال والخلاف الدين الصين، صاحب السنة والاتباع والتصانيف الكثيرة، ساد أهل الزمان في الحفظ والإتقان وانتهى إليه مع إمامته علو الإسناد. توفي ليلة الجمعة سلخ ربيع الآخر سنة ثلاث وستين وأربعمائة عن خمس وتسعين سنة وخمسة أيام، "في" كتاب "التمهيد" لما في الموطأ من المعاني والأسانيد، ولمؤلفه فيه شعر:(1/237)
الثالث: أنه ختن عند حليمة، كما ذكره ابن القيم والدمياطي ومغلطاي وقالا: إن جبريل عليه السلام ختنه حين طهر قلبه.
وكذا أخرجه الطبراني في الأوسط وأبو نعيم من حديث أبي بكرة.
قال الذهبي: وهذا منكر.
__________
سمير فؤادي مذ ثلاثين حجة ... وصقيل ذهني والمفرج عن همي
بسطت لكم فيه كلام نبيكم ... لأني معانيه من الفقه والعلم
وفيه من الآثار ما يهتدى به ... إلى البر والتقوى وينهى عن الظلم
"الثالث: أنه ختن عند حليمة" السعدية مرضعته صلى الله عليه وسلم، "كما ذكره ابن القيم" مع القولين السابقين، "والدمياطي" بكسر الدال المهملة وبعضهم أعجمها وسكون الميم وخفة التحتية نسبة إلى دمياط بلد مشهور بمصر؛ كما في اللب الحافظ الإمام العلامة الحجة الفقيه النسابة شيخ المحدثين شرف الدين، أبو محمد عبد المؤمن بن خلف الشافعي. ولد سنة ثلاث عشرة وستمائة، وتفقه وبرع وطلب الحديث فرحل وجمع فأوعى وألف وتخرج بالمنذري، وبلغت شيوخه ألفًا وثلاثمائة شيخ ضمنهم معجمه، قال المزي: ما رأيت في الحديث أحفظ منه، وكان واسع الفقه رأسًا في النسب جيد العربية غزيرًا في اللغة، مات فجأة سنة خمس وسبعمائة.
"ومغلطاي" الإمام الحافظ علاء الدين بن قليج بن عبد الله بن الحنفي، ولد سنة تسع وثمانين وستمائة وكان حافظًا عارفًا بفنون الحديث، علامة في الأنساب وله أكثر من مائة مصنف؛ كشرح البخاري، وشرح ابن ماجه، وشرح أبي داود ولم يتما، مات سنة اثنتين وستين وسبعمائة وهو بضم الميم وسكون الغين وفتح اللام، كما ضبطه الحافظ بالقلم في كلام نثر، وأما ابن ناصر فضبطه بفتح الغين وسكون اللام في قوله:
ذلك مغلطاي فتى قليجي ... ولعله للضرورة فلا تخالف
وقليجي بقاف وجيم نسبة إلى القليج: السيف، بلغه الترك.
"وقالا: إن جبريل عليه السلام ختنه" بآلة ولم يتألم منها على الظاهر، "حين طهر قلبه" بعد شقه، "وكذا أخرجه الطبراني في الأوسط وأبو نعيم من حديث أبي بكرة" نفيع بن الحارث الثقفي رضي الله عنه، "قال الذهبي: وهذا" الحديث "منكر" وهو ما رواه غير الثقة مخالفًا لغيره؛ كما في النخبة، ولا يعود اسم الإشارة على القول الثالث؛ لأنه إخراج لألفاظ الحفاظ عن معناها عندهم، وقد احتج للقول بأنه لم يولد مختونًا بأنه الأليق بحاله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه من الكلمات التي ابتلي بها إبراهيم فأتمهن وأشد الناس بلاء الأنبياء والابتلاء به مع الصبر عليه مما يضاعف الثواب، فالأليق بحاله أن لا يسلب هذه الفضيلة، وأن يكرمه الله بها كما أكرم خليله، وأجيب بأنه إنما(1/238)
واعلم أن الختان: هو قطع القلفة التي تغطي الحشفة من الرجل، وقطع بعض الجلدة التي في أعلى الفرج من المرأة، ويسمى ختان الرجل: إعذارًا -بالعين المهملة والذال المعجمة والراء- وختان المرأة خفاضًا -بالخاء المعجمة والفاء والضاد المعجمة أيضًا.
واختلف العلماء: هل هو واجب؟
فذهب أكثرهم إلى أنه سنة وليس بواجب، وهو قول مالك وأبي حنيفة وبعض أصحاب الشافعي.
وذهب الشافعي إلى وجوبه، وهو مقتضى قول سحنون من المالكية.
وذهب بعض أصحاب الشافعي إلى أنه واجب في حق الرجال، سنة في حق النساء.
__________
ولد مختونًا لئلا يرى أحد عورته؛ كما صرح به في الخبر.
واعلم: أن الختان هو قطع القلفة التي تغطي الحشفة من الرجل، وقطع بعض الجلدة التي في أعلى الفرج من المرأة، ويسمى ختان الرجل إعذارًا بالعين المهملة" الساكنة قبلها ألف وحذفها في بعض النسخ تحريف، لا يوافق القاموس.
"والذال المعجمة والراء" بعدها ألف ويسمى أيضًا عذرًا، كما في القاموس. "وختان المرأة خفاضًا" كذا في نسخ "بالخاء المعجمة" المكسورة "والفاء والضاد المعجمة أيضًا" فهو كقول القاموس: خفاض كختان وزنا، ومعنى فما في نسخ ختان المرأة خفضًا تحريف، "واختلف العلماء" في جواب قول السائل "هل هو" أي: الختان، لكل من الرجل والمرأة "واجب" أو سنة "فذهب أكثرهم إلى أنه سنة وليس بواجب" أتى به لدفع توهم أن المراد بالسنة الطريقة، "وهو قول مالك وأبي حنيفة وبعض أصحاب الشافعي، وذهب الشافعي إلى وجوبه" لكل من المرأة والرجل، "وهو مقتضى قول سحنون" بفتح السين وضمها "من" أئمة "المالكية" واسمه عبد السلام بن سعيد التنوخي القيرواني لقب باسم طائر حديد الذهن ببلاد المغرب، لكونه كان كذلك، ولد في شهر رمضان سنة ستين ومائة، وتلمذ لابن القاسم وغيره وصنف المدونة التي عليها العمل ومات في رجب سنة أربعين ومائتين.
"وذهب بعض أصحاب الشافعي إلى أنه واجب في حق الرجال، سنة في حق النساء" وهو مذهب أحمد، وعنه الوجوب فيهما، وعن أبي حنيفة: واجب ليس بفرض، وعنه أيضًا: سنة يأثم بتركه، وعن الحسن: الترخيص فيه.(1/239)
واحتج من قال: إنه سنة، بحديث أبي المليح بن أسامة عن أبيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الختان سنة للرجال مكرمة للنساء". رواه أحمد في مسنده والبيهقي.
وأجاب من أوجبه بأن ليس المراد بالسنة هنا خلاف الواجب، بل المراد الطريقة، واحتجوا على وجوبه بقوله تعالى: {أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل: 123] وثبت في.......................
__________
"واحتج من قال: إنه سنة، بحديث أبي المليح" بفتح الميم وكسر اللام وتحتية وحاء مهملة عامر، وقيل: زيد، وقيل: زياد "بن أسامة" التابعي عن أبيه، وابن عمر وجابر وأنس وعائشة وبريدة وغيرهم، وعنه أبو قلابة وقتادة وأيوب وخلق، وثقه أبو زرعة وغيره، وروى له الستة، مات سنة ثمان وتسعين أو أربع ومائة، أو اثنتي عشرة ومائة، أقوال:
"عن أبيه" أسامة بن عمير بن عامر الهذلي البصري، صحابي تفرد بالرواية عنه ولده، أخرج له أصحاب السنن الأربعة "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الختان سنة للرجال، مكرمة للنساء" أي: إنه في حقهن دونه في حق الرجال فهو فيهم متأكد، "رواه أحمد في مسنده والبيهقي" وفي مسنده الحجاج بن أرطاة ضعيف لكن له شواهد، فرواه الطبراني في كبيره من حديث شداد بن أوس، وابن عباس، وأبو الشيخ، والبيهقي عن ابن عباس من وجه آخر، والبيهقي أيضًا عن أبي أيوب، فالحدث حسن، فقامت به الحجة.
"وأجاب من أوجبه بأنه ليس المراد بالسنة هنا" في هذا الحديث "خلاف الواجب، بل المراد الطريقة" زاعمين أن ذلك المراد في الأحاديث، ورد بأنه لما وقعت التفرقة بين الرجال والنساء، دل على أن المراد افتراق الحكم ودفعه بأنه في حق الرجال للوجوب والنساء للإباحة لما لا يسمح إذ ينبو عنه اللفظ على أنه قد ورد إطلاق السنة على خلاف الواجب في أحاديث كثيرة؛ كقوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله افترض رمضان وسننت لكم قيامه". رواه النسائي والبيهقي. وقوله صلى الله عليه وسلم: "ثلاث هن علي فرائض ولكنه سنة: الوتر والسواك وقيام الليل". فهذا الحديث من جملتها والتبادر آية الحقيقة، ويقويه خبر الصحيحين وغيرهما مرفوعًا: "خمس من الفطرة: الختان، والاستحداد، وقص الشارب، وتقليم الأظفار، ونتف الإبط". فإن انتظامه مع هذه الخصال التي ليست واجبة إلا عند بعض من شذ يفيد أن الختان ليس بواجب، إذ المراد بالفطرة بالكسر: السنة، بدليل بقية الحديث وحمله على الوجوب في الختان والسنة في باقيه تحكم بلا دليل.
"واحتجوا على وجوبه، بقوله تعالى: {أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل: 123] والأمر للوجوب، ومن ملته الختان، "و" ذلك لأنه "ثبت في(1/240)
الصحيحين من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اختتن إبراهيم النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثمانين سنة بالقدوم..........................
__________
الصحيحين من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اختن" بهمزة وصل "إبراهيم النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثمانين سنة". وعند مالك في الموطأ والبخاري في الأدب المفرد، وابن حبان عن أبي هريرة موقوفًا، وابن السماك وابن حبان أيضا عنه مرفوعًا: "وهو ابن مائة وعشرين"، وزادوا: "وعاش بعد ذلك ثمانين سنة"، وأعل بأن عمره مائة وعشرون, ورد بأنه مثله عند ابن أبي شيبة وابن سعد والحاكم والبيهقي وصححاه، وأبي الشيخ في العقيقة من وجه آخر، وزادوا أيضًا: "وعاش بعد ذلك ثمانين" فعلى هذا عاش مائتين. قال الحافظ في الفتح وتبعه السيوطي: وجمع بعضهم بأن الأول حسب من منذ نبوته، والثاني حسب من مولده، انتهى. ونحوه قال الحافظ في موضع آخر: يجمع بأن المراد بقوله: وهو ابن ثمانين من وقت فراق قومه وهجرته من العراق إلى الشام، وقوله: وهو ابن مائة وعشرين، أي: من مولده، وبأن بعض الرواة رأى مائة وعشرين، فظنها إلا عشرين أو عكسه، انتهى.
والأول أولى، إذ الثاني توهيم للرواة بلا داعية مع أن الجمع أمكن بدون توهيمهم، وأم الجمع بأنه عاش ثمانين غير مختون، وعشرين ومائة مختونًا؛ فرده ابن القيم بأنه قال: أختتن وهو ابن مائة وعشرين، ولم يقل: لمائة وعشرين، وبينهما فرق.
"بالقدوم" بالتخفيف عند أكثر رواة البخاري. وقال النووي ولم يختلف فيه رواة مسلم اسم آلة البخار، يعني: الفأس؛ كما في رواية ابن عساكر، ورواه الأصيلي والقابسي بالتشديد وأنكره يعقوب بن شيبة، وقيل: ليس المراد الآلة بل المكان الذي وقع فيه الختان، وهو أيضًا بالتخفيف والتشديد قرية بالشام، والأكثر على أنه بالتخفيف، وإرادة الآلة؛ كما قاله يحيى بن سعيد أحد رواته وأنكر النضر بن شميل الموضع ورجحه البيهقي والقرطبي والزركشي والحافظ مستدلا بحديث أبي يعلى: "أمر إبراهيم بالختان فاختتن بقدوم فاشتد عليه، فأوحى الله إليه: عجلت قبل أن نأمرك بآلته، قال: يا رب كرهت أن أؤخر أمرك"، انتهى. وذكر الحافظ أبو نعيم نحوه، وقال: قد يتفق الأمران فيكون قد اختتن بالآلة وفي الموضع، انتهى هذا.
والاستدلال بما ذكر على وجوب الختان لا يصح؛ لأن معنى الآية كما ذكر البيضاوي والرازي وغيرهما؛ أن اتبع ملة إبراهيم في التوحيد والدعوة إليه برفق وإيراد الدلائل مرة بعد أخرى، والمجادلة، مع كل أحد بحسب فهمه، أي: لا في تفاصيل أحكام الفروع وإلا لم يكن صاحب شرع مستقل بل داعيًا إلى شرع إبراهيم كأنبياء بني إسرائيل، فإنهم كانوا داعين إلى شرع موسى، وهذا خلاف الإجماع على أنهم قد وقعوا بهذا الاستدلال في محذور، وهو أنهم لا يرون(1/241)
وبما روى أبو داود من قوله عليه الصلاة والسلام للرجل الذي أسلم: "ألق عنك شعر الكفر واختتن".
واحتج القفال لوجوبه: بأن بقاء القلفة يحبس النجاسة، ويمنع صحة الصلاة، فيجب إزالتها.
وقال الفخر الرازي: "الحكمة من الختان، أن الحشفة قوية الحبس، فما دامت مستورة بالقلفة تقوي اللذة عند المباشرة، فإذا قطعت القلفة تصلبت الحشفة فضعفت اللذة، وهو اللائق بشريعتنا تقليلا للذة لا قطعًا لها، كما تفعل المانوية،
__________
أن شرع من قبلنا شرع لنا، وإن ورد في شرعنا ما يقرره ولا يرد هذا على مالك القائل به ما لم يرد ناسخ؛ لأنه ليس معنى الآية، كما علمت. وعلى التنزل لو سلمنا أنه من شمولها، فالأمر فيه لغير الوجوب، بدليل الحديث الناطق بالنسبة.
"و" احتجوا أيضًا "بما روى أبو داود" وأحمد والواقدي "من قوله عليه الصلاة والسلام للرجل الذي أسلم" وهو كليب الحضرمي أو الجهني: "ألق" ندبًا "عنك شعر الكفر" أزله بحلق أو غيره كقص ونورة من رأس وشارب وإبط وعانة، "واختتن" بالواو، وفي رواية: "ثم بدلها" روى الإمام أحمد وأبو داود عن ابن جريج، قال: أخبرت عن عثيم، وهو مصغر عثمان بن كثير بن كليب عن أبيه عن جده، أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: قد أسلمت، فقال: "ألق عنك شعر الكفر واختتن". فأفاد الأمر الوجوب؛ لأنه الأصل فيه، والجواب: أن سنده ضعيف، صرح به الحافظ وقال الذهبي: منقطع، وقال ابن القطان: عثيم وأبوه مجهولان فلا حجة فيه، وعلى فرض حجته فليس الأمر للوجوب للحديث الناطق بالسنية؛ ولأن أوله محمول على الندب، بلا ريب.
"واحتج القفال لوجوبه بأن بقاء القلفة يحبس النجاسة ويمنع صحة الصلاة، فتجب إزالتها" وهذا ممنوع مع قصوره على ختان الرجل دون المرأة، "وقال الفخر الرازي: الحكمة في الختان" سواء قلنا: بوجوبه أو سنيته "أن الحشفة قوية الحبس، فما دامت مستورة بالقلفة تقوي اللذة" أي: لذة الجماع، "عند المباشرة، فإذا قطعت القلفة تصلبت الحشفة فضعفت اللذة" وهذا يخالفه ما مر عن الخيضري: أن القلفة تمنع كمال اللذة، إلا أن يريد على بعد ما يدركه المجامع من اللذة بالفعل، ويراد بها عند الفخر قوة الشهرة المقتضية لإطالة الفعل، وكأنه لعدم ملاقاة حشفة محل الجماع يتأخر الإنزال، "وهو اللائق بشريعتنا تقليلا للذة لا قطعًا لها، كما تفعل المانوية" من تحريم النكاح وهو قطع لها، وهم أصحاب ماني بن فاتك الزنديق الذي ظهر في زمن سابور بن أردشير بعد عيسى عليه السلام، وادعى النبوة وأن للعالم أصلين النور فذلك إفراط وإبقاء القلفة تفريط، فالعدل الختان". انتهى.
وإذا قلنا بوجوب الختان، فمحل الوجوب بعد البلوغ على الصحيح من مذهبنا، لما روى البخاري في صحيحه عن ابن عباس أنه سئل: مثل من أنت حيث قبض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "وأنا يؤمئذ مختون وكانوا لا يختنون الرجل حتى يدرك". وقال بعض أصحابنا: يجب على الولي أن يختن الصبي قبل البلوغ، والله أعلم.(1/242)
وقد اختلف في عام ولادته صلى الله عليه وسلم:
فالأكثرون على أنه عام الفيل، وبه قال ابن عباس...................
__________
خالق الخير، والظلمة خالق الشر، وأنهما قديمان حيان دراكان، فقيل سابور قوله: فلما ملك بهران بن هرمز بن سابور سلخه وحشا جلده تبنًا وقتل أصحابه، وبعضهم هرب إلى الصين، وقد أجاد أبو الطيب في قوله:
وكم لظلام الليل عندي من يد
تخبر أن المانوية تكذب
"فذلك" أي: فعل المانوية "إفراط" إسراف ومجاوزة حد، "وإبقاء القلفة تفريط" تضييع وتقصير، "فالعدل" فالوسط بينهما، "الختان، انتهى" كلام الرازي.
"وإذ قلنا بوجوب الختان فمحل الوجوب بعد البلوغ على الصحيح من مذهبنا" يعني الشافعية ويندب عندهم في اليوم السابع بعد يوم الولادة "لما روى البخاري في صحيحه" من طريق إسرائيل عن أبي إسحاق عن سعيد "عن ابن عباس أنه سئل مثل" بكسر الميم وسكون المثلثة "من أنت حين قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: وأنا يومئذ مختون" قال أبو إسحاق: أو إسرائيل أو من دونه، "وقد كانوا لا يختنون" بفتح التحتية وكسر الفوقية؛ كما اقتصر عليه المصنف، وظاهره: أن الرواية وإن جاز ضم الفوقية لغة، أي: كانت عادتهم لا يختنون "حتى يدرك" الحلم، فأفاد نفي الختان قبله، إذ لو طلب قبله لما أطبقوا على تركه قبل البلوغ، قال السخاوي في البستان والمحفوظ الصحيح أن ابن عباس ولد بالشعب قبل الهجرة بثلاث سنين، فتكون له عند الوفاة النبوية ثلاث عشرة سنة وبذلك قطع أهل السير، وصححه ابن عبد البر، انتهى.
"وقال بعض أصحابنا: يجب على الولي أن يختن الصبي قبل البلوغ" مقابل لما قدم أنه الصحيح "والله أعلم" بحقيقة الحكم فيه، "وقد اختلف في عام ولادته صلى الله عليه وسلم، فالأكثرون" من العلماء "على أنه ولد عام الفيل، وبه قال ابن عباس" على المحفوظ عنه، ووقع عند البيهقي والحاكم عن ابن عباس، قال: ولد صلى الله عليه وسلم يوم الفيل، لكن المراد مطلق الوقت(1/243)
ومن العلماء من حكى الاتفاق عليه وقال: كل قول يخالفه وهم.
والمشهور: أنه ولد بعد الفيل بخمسين يومًا، وإليه ذهب السهيلي في جماعة.
وقيل: بعده بخمسة وخمسين يومًا، وحكاه الدمياطي في آخرين.
وقيل: بشهر، وقيل بأربعين يومًا.
وقيل: بعد الفيل بعشر سنين وقيل: قبل الفيل بخمس عشرة سنة، وقيل: وغير ذلك.
والمشهور أنه بعد الفيل، لأن قصة الفيل كانت....................
__________
لقول يحيى بن معين يعني عام الفيل انتهى كما يقال يوم الفتح ويوم بدر، ويحتمل حقيقة اليوم فهو أخص من الأول وبه صرح ابن حبان في تاريخه، فقال ولد عام الفيل في اليوم الذي بعث الله فيه الطير الأبابيل على أصحاب الفيل، ذكره الحافظ في شرح الدرر.
"ومن العلماء من حكى الاتفاق عليه" كابن الجوزي، حيث قال في الصفوة: اتفقوا على أنه ولد عام الفيل، وكذا ابن الجزار، "وقال: كل قول يخالفه" فهو "وهم" بفتح الهاء، أي: غلط، لكن قال مغلطاي: فيه نظر، يعني: لكثرة الخلاف وعلى الأول اختلفوا فيما مضى من ذلك العام. "والمشهور: أنه ولد بعد الفيل بخمسين يومًا، وإليه ذهب السهيلي في جماعة" أي: معهم، "وقيل بعده بخمسة وخمسين يومًا، وحكاه الدمياطي في" أي: مع "آخرين" منهم أبو جعفر محمد بن علي، قال: ولد صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين لعشر خلون من ربيع الأول، وكان قدوم الفيل للنصف من المحرم، فبين الفيل ومولده خمس وخمسون ليلة نقله في المنتقى، وفي العيون ذكر الخوارزمي وغيره: أن قدوم الفيل مكة يوم الأحد لثلاث عشرة ليلة بقيت من المحرم، وكان أول المحرم تلك السنة يوم الجمعة. "وقيل" ولد بعده "بشهر" واحد، "وقيل: بأربعين يومًا" حكاهما مغلطاي واليعمري، "وقيل": بل ولد "بعد" عام "الفيل" واختلفوا في مدته، فقيل: بعده بسنتين، وقيل: بعد الفيل "بعشر سنين".
قال مغلطاي: يروى هذا القول عن الزهري، ولا يصح. "وقيل" بل ولد "قبل الفيل" لا بعده "بخمس عشرة سنة" وسيأتي رده "وقيل غير ذلك" فقيل: بعده بثلاثين عامًا، وقيل: بأربعين عامًا، وقيل: بسبعين عامًا، وقيل: بثلاثة وعشرين عامًا، حكاها كلها مغلطاي، ثم رد المصنف القول بأنه ولد قبل الفيل، بقوله: "والمشهور: أنه ولد بعد الفيل" لا قبله؛ "لأن قصة الفيل كانت(1/244)
توطئة لنبوته، وتقدمة لظهوره وبعثته، وإلا فأصحاب الفيل -كما قاله ابن القيم- كانوا نصارى أهل كتاب، وكان دينهم خيرًا من دين أهل مكة إذ ذاك، لأنهم كانوا عباد، أوثان، فنصرهم الله تعالى على أهل الكتاب نصرًا لا صنع للبشر فيه، إرهاصًا وتقدمة للنبي صلى الله عليه وسلم الذي خرج من مكة، وتعظيمًا للبلد الحرام.
واختلف أيضا في الشهر الذي ولد فيه.
والمشهور: أنه ولد في شهر ربيع الأول، وهو قول جمهور العلماء، ونقل ابن الجوزي الاتفاق عليه.
وفيه نظر؛ فقد قيل في صفر، وقيل في ربيع الآخر.
وقيل: في رجب، ولا يصح.
وقيل: في شهر رمضان................................
__________
توطئة" تمهيدًا "لنبوته وتقدمه لظهوره" لوجوده "وبعثته" وقد وجد قبل وجوده خوارق كثيرة؛ ككثرة الهواتف، وأخبار الأحبار والكهان، فلا يرد ما قيل الإرهاص إنما يكون بما يوجد بعد مولده وقيل البعثة، إما لأن التعبير بالإرهاص مجاز، وإما لمنع تخصيص الإرهاص بما بعد الوجود، بل هو شامل لكل ما تقدمه البعث من خوارق قبل وجوده أم بعده. "وإلا" يكن توطئة له بل لشرف أهل مكة كان القياس العكس، "فأصحاب الفيل" أي: القوم الذين جاءوا به.
"كما قال ابن القيم: كانوا نصارى أهل كتاب" وهو الإنجيل "وكان دينهم خيرًا من دين أهل مكة إذ ذاك" ألم تر أنه صلى الله عليه وسلم كان يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه بشيء؛ كما في الصحيح "لأنهم كانوا عباد أوثان" أصنام لا كتاب لهم، "فنصرهم الله تعالى على أهل الكتاب" مع كونهم خيرًا منهم "نصرًا لا صنع للبشر فيه إرهاصًا وتقدمة للنبي صلى الله عليه وسلم الذي خرج" وجد "من مكة، وتعظيمًا للبلد الحرام" لا لما كان عليه أهله "واختلف أيضًا في الشهر الذي ولد فيه" أهو ربيع أم غيره؟ "والمشهور: أنه ولد في ربيع الأول، وهو قول جمهور العلماء" بضم الجيم معظمهم وجلهم، ونقل التلمساني فتح الجيم أيضًا وأتى به بعد المشهور؛ لأن مجرد الشهرة لا تستلزم كثرة القائل لجواز أن يشتهر عن واحد مع مخالفة غيره له أو سكوته عنه.
ونقل" العلامة الحافظ أبو الفرج عبد الرحمن "ابن الجوزي الاتفاق عليه" فقال في الصفوة: اتفقوا على أنه صلى الله عليه وسلم ولد بمكة يوم الاثنين في شهر ربيع الأول عام الفيل، "وفيه" أي: نقل الاتفاق "نظر، فقد قيل: في صفر، وقيل: في ربيع الآخر" حكاهما مغلطاي وغيره، "وقيل: في رجب، ولا يصح" هذا القول، "وقيل: في شهر رمضان" حكاه اليعمري ومغلطاي.(1/245)
وروي عن ابن عمر بإسناد لا يصح، وهو موافق لمن قال: إن أمه حملت به في أيام التشريق.
وأغرب من قال: ولد في عاشوراء.
وكذا اختلف أيضًا في أي يوم من الشهر:
فقيل إنه غير معين، إنما ولد يوم الاثنين من ربيع الأول من غير تعيين، والجمهور على أنه يوم معين.
فقيل: لليلتين خلتا منه.
وقيل: لثمان خلت منه، قال الشيخ قطب الدين القسطلاني: وهو اختيار أكثر أهل الحديث، ونقل عن ابن عباس وجبير بن مطعم......................
__________
"وروي" هذا القول بأنه في شهر رمضان "عن ابن عمر بإسناد لا يصح، وهو موافق لمن قال: إن أمه حملت به أيام التشريق" هي ثلاثة أو يومان بعد يوم النحر، سميت بذلك لأنهم يشرقون، أي: يقطعون فيها لحوم الأضاحي أو لصلاة العيد بعد وقت شروق الشمس، يعني: يوافقه على أن الحمل تسعة أشهر.
"وأغرب من قال" جاء بقول غريب لا يعرف، "ولد في يوم عاشوراء" فشهر الولادة المحرم، وحكاه مغلطاي فحصل في شهر الولادة ستة أقوال، "وكذا اختلف أيضًا في أي يوم من الشهر" ولد، "فقيل: إنه" أي: اليوم الذي ولد فيه "غير معين" بأنه آخر الشهر أو غيره، "إنما" ثبت عند صاحب هذا الفيل أنه "ولد يوم الاثنين من ربيع الأول من غير تعيين" لكونه ثانية أو ثامنة أو غيرهما، "والجمهور على أنه معين" لكن اختلفوا في تعيينه، "فقيل" ولد "لليلتين خلتا منه" من ربيع الأول؛ فيوم ولادته ثانيه، وبه صدر مغلطاي "وقيل: لثمان خلت منه".
"قال الشيخ قطب الدين" أبو بكر محمد بن أحمد بن علي المصري "القسطلاني" الشافعي، جمع بين العلم والعمل وألف في الحديث والتصوف وتاريخ مصر، ولد بمصر سنة أربع عشرة وستمائة، ومات في محرم سنة ست وثمانين وستمائة نسبة إلى قسطلينة من إقليم أفريقية؛ كما قال هو رحمه الله في تاريخ مصر، ونقله عنه ابن فرحون في الديباج في ترجمة أحمد بن علي المصري المالكي المعروف بابن القسطلاني ولم يضبطه، وقال القطب الحلبي في تاريخه: كأنه منسوب إلى قسطلينة بضم القاف من أعمال أفريقية بالمغرب، انتهى، وبعضهم ضبطه بفتح القاف وشد اللام، "وهو اختيار أكثر أهل الحديث، ونقل عن ابن عباس وجبير بن مطعم"(1/246)
وهو اختيار أكثر من له معرفة بهذا الشأن، واختاره الحميدي، وشيخه ابن حزم، وحكى القضاعي في "عيون المعارف" إجماع أهل الزيج عليه، ورواه الزهري عن محمد بن جبير بن مطعم، وكان عارفًا..............................
__________
النوفلي "وهو اختيار أكثر من له معرفة بهذا الشأن" يعني التاريخ "واختاره" الحافظ أبو عبد الله محمد بن أبي نصر فتوح بن عبد الله بن فتوح بن حميد الأزدي "الحميدي" بضم الحاء مصغرا نسبة لجده الأعلى حميد المذكور الأندلسي الظاهري من كبار تلامذة ابن حزم صاحب الجمع بين الصحيحين فريد عصره علمًا غزيرًا وفضلا ونبلا وحفظًا وورعًا، الثبت الإمام في الحديث والفقه والأدب والعربية والترسل عن الخطيب وطبقته وسمع بالأندلس ومصر والشام والعراق والحجاز، وعنه ابن ماكولا وغيره مات سنة ثمان وثمانين وأربعمائة ومن نظمه، كما قال شيخ الإسلام:
لقاء الناس ليس يفيد شيئا ... سوى الهذيان من قيل وقال
فأقلل من لقاء الناس إلا ... لأخذ العلم أو إصلاح حال
"وشيخه" الحافظ أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد "بن حزم" الأموي مولاهم اليزيدي القرطبي الظاهري الإمام العلامة الزاهد الورع له المنتهى في الذكاء والحفظ مع توسعه في علوم اللسان والبلاغة والشعر والسير والأخبار، توفي سنة سبع وخمسين وأربعائة، "وحكى القضاعي" بضم القاف وضاد معجمة وعين مهملة نسبة إلى قاضعة شعب من معد أو من اليمن، أو عبد الله محمد بن سلامة بن جعفر الفقيه الشافعي قاضي مصر صاحب الشهاب والخطط وغيرهما، روى عنه الخطيب البغدادي، قال ابن ماكولا: كان متفننًا في عدة علوم، توفي بمصر ليلة الخميس سابع عشر ذي القعدة سنة أربع وخمسين وأربعمائة.
"في عيون المعارف إجماع أهل الزيج" بزاي مكسورة فتحتية ساكنة فجيم، أي: الميقات، "عليه" وهو لغة خيط البناء ثم نقل وجعل لقب العمل الميقات لقولهم علا الخيط في أخذ استواء النجوم القاموس الزيج خيط البناء معرب ومقتضاه فتح الزاي؛ لأنه إذا أطلق أراد الفتح إلا فيما اشتهر بخلافه؛ كما قال في خطبته وقد ضبطه بعضهم بكسرها فلعله مما اشتهر، "ورواه" الإمام أبو بكر محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب القرشي، "الزهري" المدني أحد الأعلام نزيل الشام التابعي الصغير المتفق على إمامته وحفظه وإتقانه وفقهه الموصوف بأنه جمع علم جميع التابعين، القائل: ما استودعت قلبي شيئًا قط فنسيه المتوفى سابع عشر شهر رمضان سنة خمس أو ثلاث أو أربع وعشرين ومائة عن اثنتين وتسعين سنة، "عن محمد بن جبير بن مطعم" النوفلي الثقة أحد رجال الستة المتوفى على رأس المائة، "وكان" محمد "عارفًا(1/247)
بالنسب وأيام العرب، أخذ ذلك عن أبيه جبير.
وقيل لعشر، وقيل لاثني عشر، وعليه عمل أهل مكة في زيارتهم موضع مولده في هذا الوقت، وقيل لسبع عشرة وقيل لثمان عشرة، وقيل لثمان بقين منه.
وقيل: إن هذين القولين غير صحيحين عمن حكيا عنه بالكلية.
والمشهور: أنه ولد "يوم الاثنين" ثاني عشر ربيع الأول، وهو قول ابن إسحاق وغيره.
وإنما كان في شهر ربيع الأول على الصحيح ولم يكن في المحرم، ولا في رجب، ولا في رمضان، ولا غيرها من الأشهر ذوات الشرف، لأنه عليه الصلاة والسلام لا يتشرف بالزمان، وإنما الزمان يتشرف به كالأماكن........................
__________
بالنسب وأيام العرب" وقائعهم وسيرهم، فيدل على قوة هذا القول وترجيحه ومعرفة ذلك مما به يتفاخرون "أخذ ذلك" الذي عرفه من النسب وأيام العرب "عن أبيه جبير" بضم الجيم مصغر بن مطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف القرشي النوفلي الصحابي العارف بالأنساب المتوفى سنة ثمان أو تسع وخمسين، "وقيل: لعشر" مضين من ربيع، حكاه مغلطاي والدمياطي وصححه، "وقيل" ولد "لاثني عشر" من ربيع الأول "وعليه عمل أهل مكة" قديمًا وحديثًا، "في زيارتهم موضع مولده في هذا الوقت" أي: ثاني عشر ربيع "وقيل: لسبع عشرة" ليلة خلت من ربيع، "وقيل: لثمان عشرة" بفتح النون ويجوز كسرها؛ كما في الهمع والتوضيح واقتصر المصباح على الفتح حذف الياء كما هنا، وهو لغة أما مع ثبوتها في اللغة الأخرى فتسكن وتفتح وهو أفصح، "وقيل: لثمان بقين منه، وقيل: إن هذين القولين" الأخيرين "غير صحيحين عمن حكيا عنه بالكلية" فتحصل في تعيين اليوم سبعة أقوال، "والمشهور أنه" صلى الله عليه وسلم "ولد يوم الاثنين ثاني عشر ربيع الأول"، وهو القول الثالث في كلام المصنف، "وهو قول" محمد "بن إسحاق" بن يسار إمام المغازي، "و" قول "غيره" قال ابن كثير: وهو المشهور عند الجمهور، وبالغ ابن الجوزي وابن الجزار فنقلا فيه الإجماع وهو الذي عليه العمل، "وإنما كان" مولده "في شهر ربيع" الأول "على الصحيح" من الأقوال "ولم يكن في المحرم، ولا في رجب" بالصرف، ولو أريد به معين، ففي المصباح: رجب من الشهور مصروف، "ولا رمضان ولا غيرها من الأشهر ذوات الشرف" كبقية الأشهر الحرم وليلة نصف شعبان؛ "لأنه" كما ذكر ابن الحاج في المدخل "عليه الصلاة والسلام لا يتشرف بالزمان، وإنما الزمان يتشرف به؛ كالأماكن" لا يتشرف بها ومن ثم لم يولد في جوف الكعبة، وإنما الأماكن تتشرف به؛ كالمدينة تشرفت به حتى(1/248)
فلو ولد في شهر من الشهور المذكورة، لتوهم أنه تشرف به، فجعل الله تعالى مولده عليه السلام في غيرها ليظهر عنايته به وكرامته عليه.
وإذا كان يوم الجمعة الذي خلق فيه آدم عليه السلام خص بساعة لا يصادفها عبد مسلم يسأل الله فيها خيرًا إلا أعطاه إياه، فما بالك بالساعة التي ولد فيها سيد المرسلين. ولم يجعل الله تعالى في يوم الاثنين -المخلوق فيه آدم- من الجمعة والخطبة وغير ذلك، إكرامًا لنبيه عليه الصلاة والسلام بالتخفيف عن أمته......................
__________
صارت أفضل من مكة عند كثيرين وصار فيها بقعة روضة من رياض الجنة، وأخرى خير البقاع بإجماع، "فلو ولد في شهر من الشهور المذكورة لتوهم أنه تشرف به، فجعل الله تعالى مولده عليه السلام في غيرها ليظهر عنايته به وكرامته عليه" وهذا وجه كونه لم يولد في تلك الأشهر وحكمة كونه في شهر ربيع ما في شرعه من شبه زمن الربيع، فإنه أعدل الفصول وشرعه أعدل الشرائع، ولأن في ظهوره فيه إشارة لمن تفطن لها بالنسبة إلى اشتقاق لفظة ربيع؛ لأن فيه تفاؤلا حسنًا ببشارة أمته، فالربيع تنشق الأرض عما في بطنها من نعم الله، ومولده في ربيع إشارة ظاهرة إلى التنويه بعظيم قدره، وأنه رحمة للعالمين، وقد قال أبو عبد الرحمن الصقلي: لكل إنسان من اسمه نصيب، هذا حاصل ما ذكر ابن الحاج.
"وإذا كان يوم الجمعة الذي خلق فيه آدم عليه السلام، خض بساعة" في تعيينها أقوال كثيرة، "لا يصادفها عبد مسلم يسأل الله فيها خيرًا، إلا أعطاه إياه" وأخرج بالخير غيره، وفي رواية أحمد: "ما لم يسأل إثمًا أو قطيعة رحم"، "فما بالك بالساعة التي ولد فيها سيد المرسلين" وهي في يوم الاثنين، وأقرب ما قيل: إنها في أوله فينبغي الاجتهاد فيها رجاء مصادفتها لكن المصنف في عهدة أن فيه ساعة كساعة يوم الجمعة؛ لأنه إن أراد أن ذلك اليوم ومثله إلى يوم القيامة كساعة يوم الجمعة أو أفضل، فدليله هذا لا ينتج ذلك، وإن أراد عين تلك الساعة فساعة الجمعة لم تكن موجودة حينئذ، وإنما جاء تفضيلها في الأحاديث الصحيحة بعد ذلك بمدة، فلم يمكن اجتماعهما حتى يفاضل بينهما وتلك انقضت وهذه باقية إلى اليوم، وقد نص الشارع عليها ولم يتعرض لساعة مولده ولا لأمثالها، فوجب علينا الاقتصار على ما جاءنا عنه ولا نبتدع شيئًا من عند نفوسنا القاصرة عن إدراكه، إلا بتوقيف.
"ولم يجعل الله تعالى في يوم الاثنين يوم مولده" بالجر بدل "عليه السلام من التكليف بالعبادات ما جعل في يوم الجمعة المخلوق فيه آدم من" صلاة "الجمعة والخطبة وغير ذلك" من نحو الغسل وحلق العانة، "إكرامًا لنبيه عليه الصلاة والسلام بالتخفيف عن أمته(1/249)
بسبب عناية وجوده قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107] ، ومن جملة ذلك: عدم التكليف.
واختلف أيضًا في الوقت الذي ولد فيه.
والمشهور أنه يوم الاثنين، فعن أبي قتادة الأنصاري: أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن صيام يوم الاثنين فقال: "ذاك يوم ولدت فيه، وأنزلت علي فيه النبوة". رواه مسلم، وهذا يدل على أنه صلى الله عليه وسلم ولد نهارًا.
وفي المسند، عن ابن عباس قال: ولد صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين، واستنبئ يوم الاثنين، وخرج مهاجرًا من مكة إلى المدينة يوم الاثنين، ودخل المدينة يوم الاثنين، ورفع الحجر يوم.............................
__________
بسبب عناية وجوده، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107] مؤمنهم وكافرهم، قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} [الأنفال: 33] ، "ومن جملة ذلك عدم التكليف" وأبدى ابن الحاج حكمة تخصيصه بيوم الاثنين وهي خلق الأشجار فيه ومنها أرزاق العباد وأقواتهم، فوجوده فيه قرة عين بسبب ما وجد من الخير العظيم لأمته، "واختلف أيضًا في الوقت الذي ولد فيه" أهو الليل أم النهار؟ "والمشهور: أنه يوم الاثنين" كما مر، فأفاد أنه بالنهار "فعن أبي قتادة الأنصاري" الخزرجي السلمي المدني ارس رسول الله صلى الله عليه وسلم حضر سائر المشاهد إلا بدرًا، ففيه خلف وليس في الصحابة من يكنى بكنيته غيره، واسمه الحارث بن ربعي بكسر الراء أو النعمان بن ربعي أو النعمان بن عمرو، وبالأول جزم في التبصير، مات بالمدينة سنة ثمان وثلاثين، أو أربع وخمسين عن سبعين سنة، "أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن صيام يوم الاثنين، قال: "ذاك يوم ولدت فيه، وأنزلت علي فيه النبوة" أي: أنه أول يوم أوحي إلي فيه "رواه مسلم" من طريق شعبة عن غيلان، عن عبد الله بن معبد، عن أبي قتادة في حديث طويل، وفيه ما لفظه، وسئل عن صوم يوم الاثنين، قال: "ذاك يوم ولدت فيه، ويوم بعثت فيه، أو أنزل علي فيه"، فالمصنف نقله بمعناه ويقع في بعض نسخ المواهب عن قتادة بحذف أبي وهو تحريف، فالذي في مسلم عن أبي قتادة، كما رأيت وقتادة هو ابن النعمان الأوسي صحابي آخر. "وهذا" الحديث "يدل" صريحًا "على أنه صلى الله عليه وسلم ولد نهارًا" لقوله: "ذاك يوم ولدت فيه".
"و" روى أحمد "في المسند عن ابن عباس، قال: ولد صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين، واستنبئ" أي: نبئ فالسين للتأكيد، "يوم الاثنين، وخرج مهاجرًا من مكة إلى المدينة يوم الاثنين، ودخل المدينة يوم الاثنين، ورفع صلى الله عليه وسلم "الحجر" الأسود إلى موضعه فوضعه فيه بيده المباركة "يوم(1/250)
الاثنين. انتهى.
وكذا فتح مكة ونزول سورة المائدة يوم الاثنين.
وقد روي أنه ولد "يوم الاثنين" عند طلوع الفجر، فعن عبد الله بن عمرو بن العاصي قال: كان بمر الظهران راهب يسمى عيصا، من أهل الشام، وكان.......................
__________
الاثنين" حين بنت قريش الكعبة سنة خمس وثلاثين من مولده صلى الله عليه وسلم، واختصموا فيمن يرفع الحجر إلى موضعه حتى أعدوا للقتال، ثم اجتمعوا في المسجد وتشاوروا، قال ابن إسحاق: فزعم أهل الرواية أن أبا أمية بن المغيرة، وكان أسنهم يومئذ، قال: يا معشر قريش، اجعلوا بينكم فيما تختلفون فيه أول داخل من باب هذا المسجد يقضي بينكم، فكان صلى الله عليه وسلم أول داخل، فقالوا: هذا الأمين رضينا، وأخبروه الخبر، فقال: "هلم إلي ثوبًا" فأتي به فأخذ الركن فوضعه فيه بيده ثم قال: "لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب، ثم ارفعوه جميعًا"، ففعلوا حتى إذا بلغوا به موضعه وضعه هو بيده صلى الله عليه وسلم، "انتهى" ما في المسند، وفيه إرسال صحابي؛ لأنه لم يدرك ذلك وكان في الهجرة ابن ثلاث سنين؛ كما مر.
"وكذا فتح مكة" عند بعضهم، والمعروف ما رواه البيهقي أنه كان يوم الجمعة واقتصر عليه المصنف في غزوة الفتح، "ونزول سورة المائدة" أي قوله فيها: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3] ، الآية، كان ذلك "يوم الاثنين" ففي بعض الطرق عند ابن عساكر وأنزلت سورة المائدة يوم الاثنين: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3] ، وكانت وقعة بدر يوم الاثنين، قال ابن عساكر: المحفوظ أن وقعة بدر ونزول {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3] ، يوم الجمعة. "وقد روي: أنه صلى الله عليه وسلم ولد عند طلوع الفجر" من يوم الاثنين "فعن عبد الله بن عمرو بن العاصي" بن وائل القرشي السهمي، قال النووي: الجمهور على كتابة العاصي بالياء، وهو الصحيح عند أهل العربية ويقع في كثير من كتب الحديث وغيرها بحذف الياء، وهي لغة قرئ بها في السبع كالكبير المتعال والداع ونحوهما، وقال في موضع آخر: الصحيح في العاصي وابن أبي الموالي والهادي واليماني إثبات الياء، انتهى.
ومر له مزيد أول الكتاب "قال: كان بمر الظهران" موضع على مرحلة من مكة "راهب يسمى عيصا" كذا في نسخ؛ كفتح الباري: بألف منونًا سواء قلنا: إنه أعجمي أو عربي لأنه ثلاثي ساكن الوسط كنوح وهو مصروف، وفي نسخ: عيصي بالياء، وفي الشامية: عيص بلا ألف ولا ياء فهو ممنوع الصرف، "من أهل الشام" زاد في رواية ابن عساكر: آتاه الله علمًا كثيرًا،(1/251)
يقول: يوشك أن يولد فيكم يا أهل مكة مولود تدين له العرب ويملك العجم، هذا زمانه، فكان لا يولد بمكة مولود إلا يسأل عنه، فلما كان صبيحة اليوم الذي ولد فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج عبد المطلب حتى أتى عيصا فناداه، فأشرف عليه، فقال له عيصا: كن أباه، فقد ولد ذلك المولود الذي كنت أحدثكم عنه يوم الاثنين، ويبعث يوم الاثنين، ويموت يوم الاثنين. قال: ولد لي الليلة مع الصبح مولود، قال: فما سميته؟ قال: محمدًا، قال: والله لقد كنت أتشهى أن يكون هذا المولود فيكم أهل هذا البيت، بثلاث خصال تعرفه، فقد أتى عليهن منها: أنها طلع نجمه البارحة، وأنه ولد.....................
__________
وجعل فيه منافع كثيرة لأهل مكة يدخل كل سنة إليها فيلقى الناس "وكان يقول: يوشك" يقرب "أن يولد فيكم يا أهل مكة مولود تدين له العرب" تنقاد وتخضع وتذل "ويملك العجم، هذا زمانه؛ فكان لا يولد بمكة مولود إلا يسأل" بالبناء للمفعول "عنه" ذلك الراهب؛ لقوله لهم ذلك، وفي رواية ابن عساكر: وكان لا يولد بها مولود إلا سألوه عنه. "فلما كان صبيحة" أي: أول "اليوم الذي ولد فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج عبد المطلب حتى أتى عيصا" ليسأله عن هذا المولود: أهو الذي قال فيه ما قال؟ "فناداه" أي: فنادى عبد المطلب عيصا، "فأشرف عليه، فقال له عيص: كن أباه" أي: اتصف بكونك أباه بأن تعتقد ذلك، وتسمية الجد أبا حقيقة، ووقع في رواية ابن عساكر عن ابن عمر: والمذكور خرج عبد الله بن عبد المطلب حتى أتى عيصا ... إلخ، وإنما يجيء على أن أباه مات وهو في المهد، لكن المخرج متحد، فلعلها شاذة.
"قد ولد ذلك المولود الذي كنت أحدثكم عنه يوم الاثنين، ويبعث" بعد ذلك إلى الناس بشيرًا ونذيرًا "يوم الاثنين، ويموت يوم الاثنين، قال" عبد المطلب "ولد لي الليلة مع الصبح مولود" فأفادت المعية أنه ولد عند طلوع الفجر، وهو محل الشاهد من هذا الحديث، "قال" الراهب "فما سميته؟ قال: محمدًا" أي: عزمت على تسميته فلا ينافي ما مر أنه سماه يوم سابعه، "قال" الراهب: "والله لقد كنت أتشهى" أتمنى أن يكون "هذا المولود فيكم" يا "أهل هذا البيت" الكعبة، لما رأيته فيكم من تميزكم على غيركم من العرب بالخصال الحميدة ومكارم الأخلاق، وقد علمت وجوده مطابقًا لما كنت أتمناه، "بثلاث" أي: بسبب ثلاث "خصال تعرفه" بضم الفوقية فعين مفتوحة فراء مشددة، أي: تميزه تلك الخصال وتدل على أنه ذلك المولود، وفي نسخة: نعرفه، وكذا عند ابن عساكر بفتح النون، أي: نعرفه نحن بها "فقد أتى" مشتملا "عليهن" وهو مجاز عن أتى بكذا إذا مر عليه، ففي المصباح: أتى عليه: مر به، فكأنه لقيام الصفات به مر بها، "منها" أي: الخصال التي علم وجوده بها "أنه طلع نجمه البارحة، وأنه ولد(1/252)
اليوم، وأن اسمه محمد. رواه أبو جعفر بن أبي شيبة، وخرجه أبو نعيم في الدلائل بسند ضعيف.
وقيل: كان مولده عليه الصلاة والسلام عند طلوع الغفر، وهو ثلاثة أنجم صغار ينزلها القمر، وهو مولد النبيين، ووافق ذلك من الشهور الشمسية نيسان، وهو برج الحمل، وكان لعشرين مضت منه.
وقيل ولد ليلا فعن عائشة قالت: كان بمكة يهودي يتجر فيها، فلما كانت الليلة التي ولد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يا معشر قريش هل ولد فيكم الليلة مولود قالوا لا نعلمه قال ولد في هذه الليلة نبي هذه الأمة الأخير بين كتفيه علامة فيها
__________
اليوم، وإن اسمه محمد، رواه أبو جعفر بن أبي شيبة" محمد بن عثمان العبسي الكوفي محدثها الحافظ البارع، صنف وجمع، وثقه صالح جزرة وابن عدي وعبدان، وقال عبد الله بن أحمد: كذاب، وقال ابن خراش: يضع وقال مطين: هو عصا موسى تلقف ما يأفكون، وقال ابن البرقاني: لم أزل أسمع أنه مقدوح فيه، مات في جمادى الأولى سنة سبع وتسعين ومائتين، وما يقع في نسخ أبو جعفر وابن أبي شيبة بزيادة واو غلط من الجهلة.
"وخرجه أبو نعيم في الدلائل" أي: في كتاب دلائل النبوة، وكذا رواه ابن عساكر "بسند ضعيف" ومن ثم عبر أولا بروي تمريضًا على العادة، "وقيل: كان مولده عليه الصلاة والسلام عند طلوع الغفر" بفتح الغين المعجمة وسكون الفاء ثم راء مهملة، كما ضبطه ابن باطيش وهو مقتضى القاموس. "وهو ثلاثة أنجم صغار ينزلها القمر، وهو مولد النبيين" أي: وقت مولدهم، "ووافق ذلك من الشهور الشمسية نيسان" بفتح النون وهو سابع الأشهر الرومية؛ كما في القاموس. "وهو برج الحمل" وفي النور عن الدمياطي ولد في برج الحمل، وهو يحتمل أن يكون في نيسان وأن يكون في آذار، انتهى. لكن ما جزم به المصنف نقله في روضة الأحباب عن أبي معشر البلخي.
"وكان" ذلك، أي: مولده، "لعشرين مضت منه" من نيسان، قال الخزارومي "وقيل: ولد ليلا" من غير تعيين وقت ولادته؛ ككونه عند طلوع الغفر فغايره ما قبله، "فعن عائشة" أنها "قالت: كان بمكة يهودي يتجبر فيها، فلما كانت الليلة التي ولد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال" اليهودي -وهذا مما تلقته عن غيرها؛ لأن ولادتها بعد ذلك بمدة وهي لا تحدث إلا عن ثقة: "يا معشر قريش، هل ولد فيكم الليلة مولود؟ قالوا: لا نعلمه، قال" زاد في رواية يعقوب بن سفيان السابقة انظروا فإنه "ولد في هذه الليلة نبي هذه الأمة الأخيرة، بين كتفيه علامة" هي: خاتم النبوة "فيها(1/253)
شعرات متواترات كأنهن عرف الفرس فخرجوا باليهودي حتى أدخلوه على أمه فقالوا: أخرجي المولود ابنك فأخرجته وكشفوا عن ظهره فرأى تلك الشامة فوقع اليهودي مغشيًا عليه فلما أفاق قالوا ما لك ويلك قال: ذهبت والله النبوة من بني إسرائيل، رواه الحاكم.
قال الشيخ بدر الدين الزركشي: "والصحيح أن ولادته عليه الصلاة والسلام كانت نهارًا، قال: وأما ما روي من تدلي النجوم فضعفه ابن دحية لاقتضائه أن الولادة ليلا. قال: وهذا لا يصح أن يكون تعليلا، فإن زمان النبوة صالح للخوارق، ويجوز أن تسقط النجوم نهارًا" انتهى.
__________
شعرات متواترات" أي: مجتمعات؛ كما في رواية في صفة الخاتم، وفي أخرى: متراكمات "كأنهن عرف الفرس" وفي رواية يعقوب: فانصرفوا فسألوا، فقيل لهم: قد ولد لعبد الله بن عبد المطلب غلام "فخرجوا باليهودي حتى أدخلوه على أمه، فقالوا: لها: "أخرجي المولود ابنك فأخرجته" أمه لهم "وكشفوا عن ظهره، فرأى تلك الشامة فوقع اليهودي مغشيًا عليه، فلما أفاق قالوا: ما لك؟ " أي: أي شيء حصل لك "ويلك، قال: ذهبت والله النبوة من بني إسرائيل" يعقوب عليه السلام "رواه الحاكم" ورواه يعقوب بن سفيان عن عائشة أيضًا؛ كما قدم المصنف قريبًا في عجائب ولادته، وأعاده هنا استدلالا على أنه ولد ليلا مع إفادة أنه رواه غير من عزاه له هناك، فلا تكرار وإن كانت القصة واحدة؛ لأن المخرج بفتح الميم متحد وهو عائشة رضي الله عنها، ولا يضر اختلاف بعض الألفاظ بالزيادة والنقص؛ لأنه من اختلاف الرواة.
"قال الشيخ بدر الدين الزركشي: والصحيح أن ولادته عليه الصلاة والسلام كانت نهارًا" لا ليلا "قال: وأما ما روي من تدلي النجوم" ليلة مولده، كالذي رواه البيهقي في حديث فاطمة بنت عبد الله الثقفية: ورأيت النجوم تدنو حتى ظننت أنها ستقع علي، "فضعفه ابن دحية لاقتضائه أن الولادة ليلا" وإنما كانت نهارًا على الصحي، "قال" الزركشي: "وهذا لا يصلح أن يكون تعليلا" لتضعيف المروي من تدلي النجوم لا لكونه ولد ليلا، بدليل قوله: "فإن زمان النبوة صالح للخوارق، ويجوز أن تسقط النجوم نهارًا، انتهى" كلام الزركشي على أن في تضعيفه بتلك العلة شيئًا على مقتضى الصناعة، فالمحدثون إنما يعللون الحديث من جهة الإسناد الذي هو المرقاة، لا بمخالفة ظاهر القرآن فضلا عن معارضته بأحاديث آخر؛ كما صرح به الحافظ ابن طاهر وغيره، قال النجم: وقد يقال: إن الولادة عقب الفجر وللنجوم حينئذ سلطان كما في الليل، فلا ينافي سقوطها، انتهى.(1/254)
فإن قلت: إذا قلنا بأنه عليه السلام ولد ليلا، فأيما أفضل: ليلة القدر أو ليلة مولده عليه السلام؟
أجيب: بأن ليلة مولده عليه السلام أفضل من ليلة القدر من وجوه ثلاثة:
أحدها: أن ليلة المولد ليلة ظهوره صلى الله عليه وسلم، وليلة القدر معطاة له، وما شرف بظهور ذات المشرف من أجله أشرف مما شرف بسبب ما أعطيه، ولا نزاع في ذلك، فكانت ليلة المولد أفضل من ليلة القدر.
الثاني: أن ليلة القدر شرفت بنزول الملائكة فيها، وليلة المولد شرفت بظهوره صلى الله عليه وسلم. ومن شرفت به ليلة المولد أفضل ممن شرفت بهم ليلة القدر، على الأصح المرتضى، فتكون ليلة.......................
__________
"فإن قلت: إذا قلنا بأنه عليه السلام ولد ليلا" على القول المرجوح، "فأيما أفضل ليلة القدر أو ليلة مولده عليه السلام" الأصل: أليلة القدر بالهمزة؛ لأنه بدل من اسم الاستفهام وحكم المبدل منه أنه يلي الهمز، قال ابن مالك رحمه الله تعالى:
وبدل المضمن الهمز يلي ... همزًا كمن ذا أسعيد أم علي
قلت: "أجيب بأن ليلة مولده عليه السلام أفضل من ليلة القدر من وجوه ثلاثة، أحدها: أن ليلة المولد ليلة ظهوره صلى الله عليه وسلم، وليلة القدر معطاة له، وما" أي: والذي "شرف بظهور ذات المشرف من أجله أشرف مما شرف بسبب ما أعطيه ولا نزاع في ذلك" الذي ذكرناه من أن ما شرف ... إلخ، وحيث لا نزاع "فكانت ليلة المولد أفضل من ليلة القدر" بهذا الاعتبار، "الثاني" من الوجوه الثلاثة "أن ليلة القدر شرفت بنزول الملائكة فيها" على أحد الأقوال في سبب تسميتها بذلك، والثاني: لنزول القرآن فيها، والثالث: أن الذي يراها يصير ذا قدر، والرابع: لما يكتب فيها من الأقدار فيها يفرق كل أمر حكيم.
"وليلة المولد شرفت بظهوره صلى الله عليه وسلم، ومن شرفت به ليلة المولد أفضل ممن شرفت بهم ليلة القدر" وهم الملائكة، "على الأصح المرتضى" عند جمهور أهل السنة من أن النبي أفضل من الملك، وأما نبينًا صلى الله عليه وسلم فأفضل من جميع العالمين إجماعًا، حكاه الإمام الرازي وابن السبكي والسراج البلقيني، قال الزركشي: واستثنوه من الخلاف في التفضيل بين الملك والبشر، فهو أفضل حتى من أمين الوحي خلافًا لما وقع في الكشاف، ولذا قال بعض المغاربة جهل الزمخشري مذهبه، فقد أجمع المعتزلة على استثناء المصطفى من الخلاف، انتهى. نعم، زعم أن طائفة منهم كالرماني خرقوا الإجماع فتبعهم الزمخشري، وحيث كان كذلك "فتكون ليلة(1/255)
المولد أفضل.
الثالث: أن ليلة القدر وقع فيها التفضيل على أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وليلة المولد الشريف وقع التفضل فيها على سائر الموجودات، فهو الذي بعثه الله عز وجل رحمة للعالمين، فعمت به النعمة على جميع الخلائق، فكانت ليلة المولد أعم نفعًا، فكانت أفضل.
فيا شهرًا ما أشرفه وأوفر حرمة لياليه، كأنها لآلئ..........................
__________
المولد أفضل" وهو المدعي.
"الثالث: أن ليلة القدر وقع فيها التفضيل على أمة محمد صلى الله عليه وسلم" فقط؛ لأنها مختصة بهم ولم تكن لمن قبلهم على الصحيح المشهور الذي قطع به جمهور العلماء؛ كما قال النووي. "وليلة المولد الشريف وقع التفضيل فيها على سائر" جميع "الموجودات" أمته وغيرهم، من حيث الأمن من العذاب العام؛ كالخسف والمسخ، "فهو الذي بعثه الله عز وجل رحمة للعالمين" كما قال في الكتاب المبين "فعمت به" بمولده "النعمة على جميع الخلائق، فكانت ليلة المولد أعم نفعًا، فكانت أفضل" من ليلة القدر بهذا الاعتبار، وهذا الذي ساقه المصنف وأقره متعقب، قال الشهاب الهيثمي: فيه احتمال واستدلال بما لا ينتج المدعي؛ لأنه إن أريد أن تلك الليلة ومثلها من كل سنة إلى يوم القيامة أفضل من ليلة القدر، فهذه الأدلة لا تنتج ذلك كما هو جلي، وإن أريد عين تلك الليلة، فليلة القدر لم تكن موجودة إذ ذاك، وإنما أتى فضلها في الأحاديث الصحيحة على سائر ليالي السنة بعد الولادة بمدة، فلم يمكن اجتماعهما حتى يتأتى بينهما تفضيل وتلك انقضت وهذه باقية إلى اليوم، وقد نص الشارع على أفضليتها ولم يتعرض لليلة مولده ولا لأمثالها بالتفضيل أصلا فوجب علينا أن نقتصر على ما جاء عنه ولا نبتدع شيئًا من عند نفوسنا القاصرة عن إدراكه إلا بتوقيف منه صلى الله عليه وسلم على أنا وسلمنا أفضلية ليلة مولده لم يكن له فائدة في تفضيل الأزمنة إلا بفضل العمل فيها وأما تفضيل ذات الزمن الذي لا يكون العمل فيه فليس له كبير فائدة إلى هنا انتهى كلامه، وو وجيه.
ثم إذا قلنا بما قال المصنف، وقلنا: إن الولادة نهارًا فهل الأفضل يوم المولد أو يوم البعث، والأقرب كما قال شيخنا: أن يوم المولد أفضل لمن الله به فيه على العالمين، ووجوده يترتب عليه بعثه فالوجود أصل والبعثة طارئة عليه، وذلك قد يقتضي تفضيل المولد، لأصالته.
"فيا شهرًا ما أشرفه" بالفاء، "وأوفر حرمة لياليه، كأنها" لشدة لمعانها وضوئها "لآلئ"(1/256)
في العقود، ويا وجهًا ما أشرقه من مولود، فسبحان من جعل مولده للقلوب ربيعًا وحسنه بديعًا.
يقول لنا لسان الحال منه ... وقول الحق يعذب للسميع
فوجهي والزمان وشهر وضعي ... ربيع في ربيع في ربيع
واختلف أيضًا في مدة الحمل به. فقيل: تسعة أشهر وقيل عشرة وقيل ثمانية وقيل سبعة وقيل ستة.
وولد عليه السلام في الدار التي كانت لمحمد بن يوسف أخي الحجاج ويقال بالشعب، ويقال بالردم، ويقال بعسفان.
__________
جمع لؤلؤة "في العقود" جمع عقد، "ويا وجهًا ما أشرقه" بالقاف، "من" وجه "مولود فسبحان من جعل مولده للقلوب ربيعًا وحسنه بديعًا" وأنشد المصنف لغيره بيتين هما: "يقول لنا لسان الحال منه" صلى الله عليه وسلم "وقول الحق يعذب" يحلو "للسميع" إن سألت عن صفاتي وأحوالي، "فوجهي والزمان وشهر وضعي" فالفاء جواب شرط مقدر "ربيع" المراد به وجهه صلى الله عليه وسلم بالربيع في اعتداله وحسنه ورونقه، "في ربيع" أي: زمن الربيع "في ربيع" أي: شهر ربيع المولود فيه صلى الله عليه وسلم، وقد قال أهل المعاني كما في السبل: كان مولده في فصل الربيع وهو أعدل الفصول ليله ونهاره معتدلان بين الحر والبرد، ويسميه معتدل بين اليبوسة والرطوبة، وشمسه معتدلة في العلو والهبوط، وقمره معتدل في أول درجة من الليالي البيض، وينعقد في سلك هذا النظام ما هيأ الله تعالى له من أسماء مريبه، ففي الوالدة والقابلة الأمن والشفاء، وفي اسم الحاضنة البركة والنماء، وفي مرضعتيه الآتي ذكرهما الثواب والحلم والسعد.
"واختلف أيضًا في" قدر "مدة الحمل به" صلى الله عليه وسلم، "فقيل: تسعة أشهر" كاملة وبه صدر مغلطاي، قال في الغرر: وهو الصحيح، "وقيل: عشرة" أشهر "وقيل: ثمانية، وقيل: سبعة، وقيل: ستة" حكى الأقوال الخمسة مغلطاي وغيره، "وولد عليه السلام" بمكة على الصحيح الذي عليه الجمهور، ولكن اختلف في مكانه منها على أقوال، فقيل: ولد "في الدار التي كانت" صارت بعد "لمحمد بن يوسف" الثقفي "أخي الحجاج" الظالم المشهور وهي بزقاق المدكك بدال مهملة، وكانت قبل ذلك بيد عقيل بن أبي طالب، قال ابن الأثير: قيل إن المصطفى وهبها له فلم تزل بيده حتى توفي عنها, فباعها ولده من محمد بن يوسف أخي الحجاج، وقيل: إن عقيلا باعها بعد الهجرة تبعًا لقريش حين باعوا دور المهاجرين، وفي الخميس: فأدخل محمد بن يوسف ذلك البيت الذي ولد فيه صلى الله عليه وسلم في داره التي يقال لها البيضاء، ولم تزل كذلك حتى حجت خيزران جارية المهدي أم هارون الرشيد، فأفردت ذلك(1/257)
"ذكر رضاعه صلى الله عليه وسلم وما معه":
وأرضعته صلى الله عليه وسلم ثويبة، عتيقة أبي لهب..........................
__________
البيت وجعلته مسجدًا يصلي فيه، وفي النور تبعًا للروض: وأما الدار التي لمحمد بن يوسف فقد بنتها زبيدة -يعني زوجة هارون الرشيد- مسجدًا حين حجت وهي عند الصفا.
"ويقال: بالشعب" بكسر الشين، أطلقه تبعًا لمغلطاي، وفي العيون: بشعب بني هاشم، وظاهر المصنف كغيره مغايرة هذا القول لما قبله، ووقع في الخميس عن بعضهم: ولد بمكة في الدار التي تعرف بدار محمد بن يوسف في زقاق معروف بزقاف المدكك في شعب مشهور بشعب بني هاشم من الطرف الشرقي لمكة، تزار ويتبرك بها إلى الآن، انتهى. وفيه ما فيه: فبين الصفا والشعب مسافة بعيدة. "ويقال: بالردم" بفتح الراء وسكون الدال المهملتين، قال في النور: أي ردم بني جمح بمكة، وهو لبني قراد. "ويقال" لم يولد بمكة بل "بعسفان" حكاه مغلطاي، قال في النور: وهي قرية جامعة على ستة وثلاثين ميلا من مكة، انتهى، لكن ذا القول شاذ لا يعول عليه، كما في شرح الهمزة.
ذكر رضاعه صلى الله عليه وسلم وما معه:
"وأرضعته صلى الله عليه وسلم ثويبة" بضم المثلثة وفتح الواو وسكون التحتية، فباء موحدة فتاء تأنيث، توفيت بمكة سنة سبع من الهجرة، قال: ابن منده: اختلف في إسلامها، وقال أبو نعيم: لا أعلم أحدا ذكره إلا ابن منده، وقال ابن الجوزي: لا نعلم أنها أسلمت والبرهان في النور لم يذكرها أبو عمر في الصحابة. وقال الذهبي: يقال: إنها أسلمت، فإذًا الراجح عنده أنها لم تسلم، وقال الحافظ في طبقات ابن سعد ما يدل على أنها لم تسلم لكن لا يدفع به نقل ابن منده، قال: ولم أقف في شيء من الطرق على إسلامها مع ابنها مسروح وهو محتمل، انتهى. وذكر الحافظ أبو بكر بن العربي في سراج المريدين: أنه لم ترضعه مرضعة إلا أسلمت. ونقل السيوطي عن بعضهم، ولعله عناه. "عتيقة أبي لهب" لبن ابنها مسروح بفتح الميم وسكون السين المهملة فراء مضمومة فحاء مهملتين، قال البرهان: لا أعلم أحدًا ذكره بإسلام أيامًا قبل أن تقدم حليمة بعد إرضاع أمه له، وما رواه ابن سعد أول من أرضعه ثويبة فالأولية نسبية، أي: غير أمه وقد ذكر العلماء أن مرضعاته صلى الله عليه وسلم عشر:
أمه أرضعته تسعة أيام، ذكره صاحب المورد والغرر وغيرهما، وقيل: ثلاثة أيام، وقيل: سبعة أيام، حكاهما الخميس عن أهل السير، ووقع لبعضهم سبعة أشهر، وهو وهم كأنه اشتبه عليه سبعة أيام بأشهر، أو تحرف ذلك على الناقل عنه.(1/258)
أعتقها حين بشرته بولادته عليه السلام.
__________
وثويبة أيامًا قلائل قبل قدوم حليمة، وأرضعت قبله حمزة وبعده أبا سلمة المخزومي، رواه ابن سعد.
وحليمة السعدية التي فازت بجناية سعدها منه، قاله ابن المنذر وابن الجوزي وعياض وغيرهم، وخولة بنت المنذر زيد أم بردة الأنصارية، ذكرها ابن الأمين في ذيل الاستيعاب عن العدوي وتبعه في التجريد والمورد والعيون، قال الشامي: وهو وهم، وإنما أرضعت ولده إبراهيم، كما ذكر ابن سعد وابن عبد البر وغيرهما، وهو الذي في الإصابة بخطه وقد صرح ابن جماعة بأن ابن الأمين ذكرها في المراضع فوهم، قال: وتبعه على ذلك بعض العصريين وكأنه عنى به اليعمري.
وامرأة من بني سعد غير حليمة أرضعته وهو عند حليمة، ذكره في الهدى وتجويز البرهان في النور أنها خولة التي قبلها لا يصح، فخولة أنصارية، وهذه سعدية.
وأم أيمن بركة الحبشية، ذكرها القرطبي، والمشهور: أنها من الحواضن لا المراضع.
وأم فروة ذكرها جعفر المستغفري.
وثلاث نسوة من بني سليم، قال في الاستيعاب: مر به صلى الله عليه وسلم على نسوة أبكار من بني سليم فأخرجن ثديهن فوضعنها في فيه فدرت، قال بعضهم: ولذا قال: أنا ابن العواتك من سليم، انتهى. لكن قال السهيلي: عاتكة بنت هلال أم عبد مناف عمة عاتكة بنت مرة أم هاشم وعاتكة بنت الأوقص أم وهب جده صلى الله عليه وسلم لأمه هن عواتك ولدته صلى الله عليه وسلم، ولذا قال: ابن العواتك من سليم، وقيل: في تأويل هذا الحديث أن ثلاث نسوة من بني سليم أرضعنه كل تسمى عاتكة، والأول أصح، انتهى.
واقتصر المصنف هنا، وفي المقصد الثاني على ثويبة وحليمة؛ لأنه أراد من استقلت بإرضاعه وهؤلاء لم يتصفن بذلك، وللنزاع في خولة وأم أيمن والعواتك سلمنا إرضاع العواتك، فإنما هو اتفاقي خصوصًا وقد كن أبكارًا وثويبة، وإن قلت: أيام رضاعها مستقلة له فيها، وأما أمه وإن أرضعته تلك المدة فهي في معرض دفعه لمرضعة فلم تستقل به.
"أعتقها" أبو لهب "حين بشرته بولادته عليه السلام" على الصحيح، فقالت له: أشعرت أن آمنة قد ولدت غلامًا لأخيك عبد الله، فقال لها: اذهبي فأنت حرة، كما في الروض. وقيل: إنما أعتقها بعد الهجرة، قال الشامي: وهو ضعيف، والجمع بأنه أعتقها حينئذ ولم يظهره إلا بعد الهجرة مما لا يسمع فإنه لما هاجر كان عدوًا، فلا يتأتى منه إظهارًا أنه كان فرح بولادته وأيضًا فالقائل بالثاني لا يقول: إنه أعتقها للبشارة بالولادة، وقد روي أنه أعتقها قبل ولادته بدهر طويل.(1/259)
وقد رؤي أبو لهب بعد موته في النوم فقيل له ما حالك؟ قال: في النار، إلا أنه خفف عني كل ليلة اثنين، وأمص من بين أصبعي هاتين ماء، وأشار برأس أصبعه وأن ذلك بإعتاقي لثويبة عندما بشرتني بولادة النبي صلى الله عليه وسلم وبإرضاعها له.
__________
"وقد رؤي" بالبناء للمفعول "أبو لهب بعد موته في النوم" والرائي له أخوه العباس بعد سنة من وفاة أبي لهب بعد وقعة بدر ذكره السهيلي وغيره، "فقيل له: ما حالك؟ قال: في النار، إلا أنه خفف عني" بعض العذاب بسبب ما أسقاه من الماء "كل ليلة اثنين" وذلك أني "أمص" بفتح الميم أفصح من ضمها من بابي تعب وقتل؛ كما في المصباح. "ومن بين أصبعي هاتين ماء" والظاهر أنهما السبابة والإبهام وحكمة تخصيصهما إشارته لها بالعتق بهما، وحملناه على أن التخفيف بسبب الماء ليلتئم مع ما رواه البخاري وعبد الرزاق الإسماعيلي عن قتادة أن ثويبة مولاة أبي لهب: كان أبو لهب أعتقها، فأرضعت النبي صلى الله عليه وسلم، فلما مات أبو لهب أريه بعض أهله بشرحيبة، فقال: ماذا لقيت؟ قال: لم ألق بعدكم، زاد عبد الرزاق: راحة. ولفظ الإسماعيلي: رخاء. قال ابن بطال: سقط المفعول من جميع رواة البخاري، ولا يستقيم إلا به غير أني سقيت في هذه، زاد عبد الرزاق وأشار إلى النقرة التي تحت إبهامه، بعتاقتي ثويبة حبيبة بحاء مهملة مكسورة وتحتية ساكنة وموحدة مفتوحة أي: سوء حال وأصلها حوبة، وهي المسكنة والحاجة قلبت واوها ياء لإنكسار ما قبلها. وذكر البغوي: أنها بفتح الحاء، وللمستملي بخاء معجمة مفتوحة، أي: في حالة خائبة، وقال ابن الجوزي: أنه تصحيف وروي بالجيم، قال السيوطي: وهو تصحيف باتفاق.
"وأشار" أبو لهب إلى تقليل ما يسقاه "برأس أصبعه" إلى النقرة التي تحت إبهامه؛ كما مر في رواية عبد الرزاق، قال ابن بطال: يعني أن الله سقاه ماء في مقدار نقرة إبهامه لأجل عتقها، وقال غيره: أراد بالنقرة التي بين إبهامه وسبابته إذ مد إبهامه فصار بينهما نقرة يسقى من الماء بقدر ما تسعه تلك النقرة، وبهذا علم أن النقرة التي أشار إليها على صورة خلقته في الدنيا، لا على صورة الكفار في جهنم، والمراد بقوله: سقيت من الماء، أنه وصل إلى جوفه بسبب ما يمصه من أصابعه، لا أنه يؤتى له به من خارج جمعًا بين الروايتين، وقد تعسف من قال: ما يسقاه ليسمن الجنة؛ لأن الله حرمها على الكافرين، فإنه لا يتوهم أحد أنه من الجنة سواء قلنا أنه يسقى مما يمصه أو يؤتى له به من خارج حتى ينص عليه.
"و" أشار إلى "أن ذلك بإعتاقي لثويبة" وتقدمت رواية الجماعة بعتاقتي بفتح العين، قال في شرح العمدة: عبر به دون إعتاق وإن كان هو المناسب؛ لأنها أثره فلذا أضافها إلى نفسه. وعلى نقل المصنف فمعنى الإضافة ظاهر؛ لأن الإعتاق فعله والعتاقة أثر يترتب عليه. "حين بشرتني بولادة النبي صلى الله عليه وسلم وبإرضاعها له" أي: بأمره فلا يرد أنه ليس فعله حتى يجازى عليه،(1/260)
قال ابن الجزري: فإذا كان هذا الكافر، الذي نزل القرآن بذمه جوزي في النار بفرحه ليلة مولد النبي صلى الله عليه وسلم به، فما حال المسلم الموحد من أمته عليه السلام يسر بمولده، ويبذل ما تصل إليه قدرته في محبته صلى الله عليه وسلم، لعمري إنما يكون جزاؤه من الله الكريم أن يدخله بفضله العميم جنات النعيم.
ولا زال أهل...................................
__________
ولا يعارضه قوله تعالى: {فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان: 23] ، لأنه لما لم ينجهم من النار ويدخلهم الجنة، كأنه لم يفدهم أصلا؛ كما أشار إليه البيهقي أو لأنه هباء بعد الحشر، وهذا قبله. وقال السهيلي: هذا النفع إنما هو نقصان من العذاب، وإلا فعمل الكافر كله محبط بلا خلاف، أي: لا يجده في ميزانه ولا يدخل به الجنة، انتهى. وجوز الحافظ تخفيف عذاب غير الكفر بما عملوه من الخير بناء على أنهم مخاطبون بالفروع. وفي التوشيح قيل هذا خاص به إكرامًا للنبي صلى الله عليه وسلم، كما خفف عن أبي طالب بسببه، وقيل: لا مانع من تخفيف العذاب عن كل كافر عمل خيرًا.
"قال" الحافظ أبو الخير شمس الدين "ابن الجزري" محمد بن محمد بن محمد الدمشقي الإمام في القراءات الحافظ للحديث صاحب التصانيف التي منها النشر في القراءات العشر لم يصنف مثله، ولد سنة إحدى وخمسين وسبعمائة، ومات سنة ثلاث وثلاثين وثمانمائة. "فإذا كان هذا الكافر الذي نزل القرآن بذمه جوزي في النار بفرحه" هو "ليلة مولد" وضع "النبي صلى الله عليه وسلم به" أي: بالمولد "فما حال المسلم الموحد من أمته عليه السلام" حال كونه "يسر" وفي نسخة الذي يسر "بمولده ويبذل" بضم الذال: يعطى بسماحة "ما تصل إليه قدرته في محبته صلى الله عليه وسلم" من الصدقات، وهو استفهام تفخيم، أي: فحاله بذلك أمر عظيم، ولله در حافظ الشام شمس الدين محمد بن ناصر، في قوله:
إذا كان هذا كافرا جاء ذمه ... وتبت يداه في الجحيم مخلدا
أتى أنه في يوم الاثنين دائما ... يخفف عنه للسرور بأحمدا
فما الظن بالعبد الذي كان عمره ... بأحمد مسرورًا ومات موحدًا
وقوله في يوم الاثنين على حذف مضاف، أي: في ليلة يوم الاثنين فلا يرد عليه حديث المصنف: كل ليلة اثنين الصريح في أن التخفيف ليلا فلا وجه لدعوى أنه يخفف نهارًا بسبب سقيه ليلا، لاحتياجه لبرهان ومجرد النظم لا دلالة فيه لما علم من كثرة حذف المضاف.
"لعمري" بالفتح، أي: لحياتي، فسمي كما في القاموس لغة في العصر يختص به القسم لإيثار الأخف فيه لكثرة دوره على ألسنتهم؛ كما في الأنوار. "إنما يكون جزاؤه من الله الكريم أن يدخله بفضله العميم جنات النعيم" ويمتعه فيها برؤية وجهه العظيم، "ولا زال" أي: استمر "أهل(1/261)
الإسلام يحتفلون بشهر مولده عليه الصلاة والسلام، ويعملون الولائم، ويتصدقون في لياليه بأنواع الصدقات، ويظهرون السرور، ويزيدون في المبرات، ويعتنون بقراءة مولده الكريم، ويظهر عليهم من بركاته كل فضل عميم.
ومما جرب من خواصه أنه أمان في ذلك العام، وبشرى عاجلة بنيل البغية والمرام، فرحم الله امرأ اتخذ ليالي شهر مولده المبارك أعيادًا، ليكون أشد علة
__________
الإسلام" بعد القرون الثلاثة التي شهد المصطفى صلى الله عليه وسلم بخيريتها، فهو بدعة. وفي أنها حسنة، قال السيوطي: وهو مقتضى كلام ابن الحاج في مدخله فإنه إنما ذم ما احتوى عليه من المحرمات مع تصريحه قبل بأنه ينبغي تخصيص هذا الشهر بزيادة فعل البر وكثرة الصدقات والخيرات وغير ذلك من وجوه القربات، وهذا هو عمل المولد المستحسن والحافظ أبي الخطاب بن دحية. ألف في ذلك التنوير في مولد البشير النذير، فأجازه الملك المظفر صاحب أربل بألف دينار، واختاره أبو الطيب السبتي نزيل قوص وهؤلاء من أجلة المالكية أو مذمومة وعليه التاج الفاكهاني وتكفل السيوطي، لرد ما استند إليه حرفًا حرفًا، والأول أظهر، لما اشتمل عليه من الخير الكثير.
"يحتفلون" يهتمون "بشهر مولده عليه الصلاة والسلام، ويعملون الولائم ويتصدقون في لياليه بأنواع الصدقات، ويظهرون السرور" به "ويزيدون في المبرات ويعتنون بقراءة" قصة "مولده الكريم، ويظهر عليهم من بركاته كل فضل عميم" وأول من أحدث فعل ذلك الملك المظفر أبو سعيد صاحب أربل، قال ابن كثير في تاريخه: كان يعمل المولد الشريف في ربيع الأول ويحتفل فيه احتفالا هائلا وكان شهمًا شجاعًا بطلا عاقلا عالمًا عادلا، وطالت مدته في الملك إلى أن مات وهو محاصر الفرنج بمدينة عكا في سنة ثلاثين وستمائة محمود السيرة والسريرة، قال سبط بن الجوزي في مرآة الزمان: حكى لي بعض من حضر سماط المظفر في بعض المواليد أنه عد فيه خمسة آلاف رأس غنم شواء وعشرة آلاف دجاجة، ومائة فرس، ومائة ألف زبدية، وثلاثين ألف صحن حلوى، وكان يحضر عنده في المولد أعيان العلماء والصوفية فيخلع عليهم، ويطلق لهم البخور وكان يصرف على المولد ثلاثمائة دينار، انتهى.
"ومما جرب من خواصه" أي: عمل المولد "أنه أمان في ذلك العام وبشرى عاجلة بنيل البغية" بكسر الباء وضمها لغة الحاجة التي تبغيها، وقيل: بالكسر الهيئة وبالضم الحاجة، قاله المصباح "والمرام" أي: المطلوب فهو تفسيري، إلى هنا كلام ابن الجوزي في مولده المسمى عرف التعريف بالمولد الشريف.
"فرحم الله امرأ اتخذ ليالي شهر مولده المبارك أعيادًا" جمع عيد "ليكون" الاتخاذ "أشد علة" بكسر العين في أكثر النسخ، أي: مرضًا، وفي بعضها بغين معجمة مضمومة، أي:(1/262)
على من في قلبه مرض وأعيى داء.
ولقد أطنب ابن الحاج في "المدخل" في الإنكار على ما أحدثه الناس من البدع والأهواء والغناء بالآلات المحرمة عند عمل المولد الشريف، فالله تعالى يثيبه على قصده الجميل، ويسلك بنا سبيل السنة، فإنه حسبنا ونعم الوكيل.
__________
احتراق قلب، فكلاهما صحيح. "على من في قلبه مرض، وأعيى" بفتح الهمزة وسكون العين مضافًا إلى "داء" المقصور للسجع، وأصله المد عطف على أشد علة، أي بما يصيبه من الغيظ الحاصل له بمولده صلى الله عليه وسلم. "ولقد أطنب ابن الحاج" أبو عبد الله محمد بن محمد العدبري الفارسي أحد العلماء العاملين المشهورين بالزهد والصلاح من أصحاب ابن أبي حمزة، كان فقيهًا عارفًا بمذهب مالك وصحب جماعة من أرباب القلوب، مات بالقاهرة سنة سبع وثلاثين وسبعمائة. "في" كتاب "المدخل" إلى تنمية الأعمال بتحسين النيات والتنبيه على كثير من البدع المحدثة والعوائد المنحلة، قال ابن فرحون: وهو كتاب حفيل جمع فيه علمًا غزيرًا، والاهتمام بالوقوف عليه متعين ويجب على من ليس له في العلم قدم راسخ أن يهتم بالوقوف عليه، انتهى.
"في الإنكار على ما أحدثه الناس" البشر، وقد يكون من الإنس والجن، قيل: مشتق من ناس ينوس إذا تحرك، وقيل: من النسيان وإلى ترجيحه يومئ كلام المنجد، قال أبو تمام:
لا تنسين تك العود فإنما ... سميت إنسانًا لأنك ناسي
"من البدع والأهواء" أي: المفاسد التي تميل إليها النفس، فهو مساوٍ للبدع المرادة هنا، "والغناء" مثل كتاب الصوت وقياسه الضم؛ لأنه صوت وغني بالتشديد: ترنم بالغناء؛ كذا في المصباح. "بالآلات المحرمة" كالعود والطنبور "عند عمل المولد الشريف، فالله تعالى يثيبه على قصده الجميل" الجنة ونعيمها "ويسلك بنا سبيل السنة" أي: الطريق الموصلة إليها من فعل الطاعات واجتناب المعاصي، والمراد: طلب الهداية إلى ذلك، وفي نسخة: بنا وبه والمراد بسلوكها بالنسبة لابن الحاج جعله في زمرة المتقين في الآخرة، "فإنه" سبحانه "حسبنا" كافينا "ونعم الوكيل" الموكول إليه هو، والحاصل: أن عمله بدعة لكنه اشتمل على محاسن وضدها، فمن تحرى المحاسن واجتنب ضدها كانت بدعة حسنة، ومن لا فلا.
قال الحافظ ابن حجر في جواب سؤال: وظهر لي تخريجه على أصل ثابت، وهو ما في الصحيحين: أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم المدينة فوجد اليهود يصومون يوم عاشوراء فسألهم، فقالوا: هو يوم أغرق الله فيه فرعون ونجى موسى ونحن نصومه شكرًا، قال: فيستفاد منه فعل الشكر على ما من به في يوم معين، وأي نعمة أعظم من بروز نبي الرحمة والشكر يحصل بأنواع العبادة؛ كالسجود والصيام والصدقة والتلاوة، وسبقه إلى ذلك الحافظ ابن رجب. قال السيوطي: وظهر(1/263)
وقد ذكروا أنه لما ولد صلى الله عليه وسلم، قيل: من يكفل هذه الدرة اليتيمة، التي لا يوجد لمثلها قيمة؟ قالت الطيور: نحن نكفله ونغتنم خدمته العظيمة، وقالت الوحوش: نحن أولى بذلك ننال شرفه وتعظيمه، فنادى لسان القدرة: أن يا جميع المخلوقات: إن الله كتب في سابق حكمته القديمة أن نبيه الكريم يكون رضيعًا لحليمة الحليمة.
__________
لي تخريجه على أصل آخر وهو ما رواه البيهقي عن أنس: أنه صلى الله عليه وسلم عق عن نفسه، ولا تعاد العقيقة مرة ثانية، فيحمل على أنه فعله شكرًا، فكذلك يستحب لنا إظهار الشكر بمولده بالاجتماع وإطعام الطعام ونحو ذلك من وجوه القربات، وتعقبه النجم بأنه حديث منكر؛ كما قاله الحافظ، بل قال في شرح المهذب: إنه حديث باطل، فالتخريج عليه ساقط، انتهى.
"وقد ذكروا" زعم من المراد أهل الإشارة من الصوفية، فأما الفقهاء والمحدثون فلم يذكروا شيئًا من ذلك وفيه نظر، ففي الخميس روي عن مجاهد، قلت لابن عباس: تنازعت الطيور في إرضاع محمد صلى الله عليه وسلم، قال: أي والله، وكل نساء، وذلك لما نادى الملك في السماء الدنيا هذا محمد سيد الأنبياء، طوبى لثدي أرضعه، فتنافست الجن والطير في إرضاعه، فنوديت أن كفوًا فقد أجرى الله ذلك على أيدي الإنس، فخص الله بتلك السعادة وشرف بذلك الشرف حليمة، انتهى.
"أنه لما ولد صلى الله عليه وسلم، قيل: من يكفل هذه الدرة اليتيمة؟ " أي: نادى ملك بمعنى هذا الكلام في سماء الدنيا، حيث قال: طوبى لثدي أرضعه؛ كما مر. "التي لا يوجد لمثلها" أي: لنفي ما يماثلها، "قيمة" فليس المراد أن له مثلا لكن لا قيمة له لنفاسته، بل المراد نفي القيمة والمثل معًا، "قالت الطيور" بلسان القال على الظاهر، ولا مانع منه "نحن نكفله ونغتنم خدمته العظيمة، وقالت الوحوش" حيوان البر "نحن أولى بذلك" منكم أيها الطيور لكونه في الأرض ونحن بها بخلافكم "ننال شرفه وتعظيمه" العائدين على من يكفله "فنادى لسان القدرة" شبه القدرة بذي لسان يأمر به وينهى استعارة بالكناية وإثبات اللسان تخييل والنداء ترشيح، "أن: يا جميع المخلوقات إن الله كتب في سابق حكمته القديمة" والمراد: أن قدرته تعلقت بإعلامهم بذلك "أن نبيه الكريم يكون رضيعًا لحليمة الحليمة" من الحلم، وقد ذكر العزفي أن عبد المطلب سمع وقت دخول حليمة هاتفًا، يقول:
إن ابن آمنة الأمين محمدا ... خير الأنام وخيرة الأخيار
ما أن له غير الحليمة مرضع ... نعم الأمينة هي على الأبرار
مأمونة من كل عيب فاحش ... ونقية الأثواب والأزرار(1/264)
قالت حليمة: فيما رواه ابن إسحاق وابن راهويه......................
__________
لا تسلمنه إلى سواها إنه ... أمر وحكم جاء من الجبار
"قالت حليمة" بنت أبي ذؤيب عبد الله بن الحارث، وقيل: الحارث بن عبد الله, السعدية، قال في الاستيعاب: روى زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار، قال: جاءت حليمة بنت عبد الله أم النبي صلى الله عليه وسلم من الرضاعة إليه يوم حنين، فقام إليها وبسط لها رداء، فجلست عليه وروت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنها عبد الله بن جعفر. قال في الإصابة: وحديث عبد الله بن جعفر عنها بقصة إرضاعها أخرجه أبو يعلى وابن حبان في صحيحه، وصرح فيه بالتحديث بين عبد الله وحليمة، انتهى. وقول ابن كثير: لم تدرك البعثة رده الحافظ بأن عبد الله بن جعفر حدث عنها عند أبي يعلى والطبراني وابن حبان، وهو إنما ولد بعد البعثة.
وزعْم الدمياطي وأبي حيان النحوي أنها لم تسلم مردود، فقد ألف مغلطاي فيها جزأ حافلا سماه التحفة الجسيمة في إثبات إسلام حليمة وارتضاه علماء عصره، فأما أبو حيان فليس من فرسان ذا الميدان يذهب إلى زيده وعمره. وأما الدمياطي فحسبنا في الرد عليه قوله: وقد وهل غير واحد فذكروها في الصحابة؛ لأنهم مثبتون لذلك، فمن أين له الحكم عليهم، وقد ذكرها في الصحابة ابن أبي خيثمة في تاريخه، وابن عبد البر، وابن الجوزي في الحداء، والمنذري في مختصر سنن أبي داود، وابن حجر في الإصابة، وغيرهم، وحسبك بهم حجة.
"فيما رواه ابن إسحاق" محمد في السيرة، فقال: حدثني جهم مولى الحارث بن حاطب الجمحي عن عبد الله بن جعفر، أو عمن حدثه عنه، قال: كانت حليمة أم رسول الله صلى الله عليه وسلم التي أرضعته تحدث أنها خرجت. فذكر الحديث، كما يأتي. "وابن راهويه" إسحاق بن إبراهيم بن مخلد التميمي، أبو يعقوب الحنظلي المروزي ساكن نيسابور أحد الأئمة الأعلام، اجتمع له الحديث والفقه والحفظ والصدق والورع. روى عن ابن عيينة وابن مهدي وابن علية وغيرهم، وعنه الأئمة الستة إلا ابن ماجه، قال ابن حنبل: هو أمير المؤمنين في الحديث، أملى المسند والتفسير من حفظه، وما كان يحدث إلا من حفظه، وقال: ما سمعت شيئًا إلا حفظته، ولا حفظت شيئًا فنسيته، مات ليلة نصف شعبان بنيسابور سنة ثمان وثلاثين ومائتين، وراهويه براء فألف فهاء مضمومة فتحتية مفتوحة عند المحدثين، قال الحافظ أبو العلاء بن العطار: لأنهم لا يحبون ويه، وبفتح الهاء والواو وسكون التحتية قال الكرماني: وهو المشهور، والنووي: هو مذهب النحويين وأهل الأدب، وفي الكواكب: قال عبد الله بن طاهر لإسحاق: لم قيل لك ابن راهويه؟ فقال: اعلم أيها الأمير أن أبي ولد في طريق مكة، فقال المراوزة راهويه؛ لأنه ولد في الطريق، وهو بالفارسية راه.(1/265)
وأبو يعلى والطبراني والبيهقي وأبو نعيم: قدمت مكة في نسوة من بني سعد بن بكر، نلتمس الرضعاء في سنة شهباء، على أتان لي ومعي صبي لنا.......................
__________
"وأبو يعلى" الحافظ الثبت محدث الجزيرة أحمد بن علي بن المثنى التميمي الموصلي صاحب المسند الكبير، سمع ابن معين وطبقته، وعنه ابن حبان وغيره ذو صدق وأمانة وعلم وحلم، وثقه ابن حبان والحاكم، ولد في شوال سنة عشر ومائتين، وعمر وتفرد ورحل الناس إليه، ومات سنة سبع وثلاثمائة.
"والطبراني" سليمان بن أحمد بن أيوب، "والبيهقي" أحمد بن الحسين بن علي، "وأبو نعيم" أحمد بن عبد الله مر بعض ترجمة الثلاثة، "قدمت مكة" أي: أردت قدومها "في" أي: مع "نسوة" عشرة، فيما ذكر "من بني سعد بن بكر" على عادة نساء القبائل التي حول مكة ونواحي الحرم من أنهن يأتينها كل عام مرتين ربيعًا وخريفًا للرضعاء، ويذهبن بهم إلى بدلاهم حتى تتم الرضاعة؛ لأن عادة نساء قريش دفع أولادهن إلى المراضع، قال العزفي: كن يرين رضاع أولادهن عارًا، وقال غيره: لينشأ الولد عربيًا فيكون أنجب ولسانه أفصح؛ كما في الحديث: "أنا أعربكم، أنا من قريش واسترضعت من بني سعد بن بكر". وكانت مشهورة في العرب بالكمال وتمام الشرف، وقيل: لتفرغ النساء للأزواج لكنه منتف في آمنة لموت زوجها وهي حامل على الصحيح.
"نلتمس الرضعاء" جمع رضيع، قال عبد الملك بن هشام: إنما هو المراضع، قال تعالى: {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ} [القصص: 12] .
قال السهيلي: وما قاله ظاهر؛ لأن المراضع جمع مرضع والرضعاء جمع رضيع، لكن للرواية مخرج من وجهين، أحدهما: حذف المضاف، أي: ذوات الرضعاء، الثاني: أن يكون المراد بالرضعاء الأطفال على حقيقة اللفظ؛ لأنهم إذا وجدوا له مرضعة ترضعه فقد وجدوا له رضيعًا يرضع معه، فلا بد أن يقال: التسموا له رضيعًا علمًا بأن الرضيع لا بد له من مرضع.
"في سنة شهباء" ذات قحط وجدب، والشهباء: الأرض البيضاء التي لا خضرة فيها لقلة المطر من الشهبة وهي البيضاء، سميت بذلك لبياض الأرض لخلوها من النبات.
"على أتان لي" بفتح الهمزة والفوقية: الأنثى من الحمير خاصة. قال الجوهري وابن السكيت: ولا يقال إتانة بالهاء، قال ابن الأثير: وإن كان قد جاء في بعض الحديث، لكن في القاموس: إنها لغة سليمية، أي: لبني سليم. "ومعي صبي لنا" هو عبد الله بن الحارث الذي كانت ترضعه حينئذ، لا أعلم له إسلامًا ولا ترجمة؛ كذا في النور، وهو تقصير.
ففي الإصابة: سماه بعضهم عبد الله، ذكره في الصحابة، وكذا سماه ابن سعد لما ذكر أسماء أولاد حليمة، قال: وروى ابن سعد من مرسل إسحاق بن عبد الله، قال: كان(1/266)
وشارف لنا، والله ما تبض بقطرة، وما ننام ليلنا ذلك أجمع مع صبينا ذاك، لا يجد في ثديي ما يغذيه، ولا في شارفنا ما يغديه.
فقدمنا مكة، فوالله ما علمت منا امرأة إلا وقد عرض عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فتأباه، إذ قيل إنه يتيم من الأب.......................
__________
رسول الله صلى الله عليه وسلم أخ من الرضاعة، فقال للنبي -يعني بعد النبوة- أترى أن يكون بعث؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "أما والذي نفسي بيده، لآخذن بيدك يوم القيامة، ولأعرفنك"، قال: فلما آمن بعد النبي صلى الله عليه وسلم كان يجلس فيبكي ويقول: أنا أرجو أن يأخذ النبي صلى الله عليه وسلم بيدي يوم القيامة فأنجو، هكذا أورده في ترجمة والده الحارث ثم أعاده في المخضرمين من حرف العين. فقال عبد الله بن الحارث: سماه الواقدي ولم يزد على ذكر خبر ابن سعد هذا، إلا أنه قال: هذا مرسل صحيح الإسناد.
"وشارف لنا" بشين معجمة فألف فراء مكسورة ففاء، أي: ناقة مسنة، وعن الأصمعي: يقال: للذكر والأنثى شارف، والمراد هنا: الأنثى لا غير، والجمع الشرف بضم الراء وتسكن، قاله النور. "والله ما تبض" بفتح الفوقية وكسر الموحدة وشد الضاد المعجمة: ما تدر، "بقطرة" وقال أبو ذر في حواشيه: ما تبض بضاد معجمة: ما تسيل ولا ترشح، ومن رواه بصاد مهملة، فمعناه: ما يبرق عليها أثر لين من البصيص وهو البريق واللمعان. "وما ننام ليلنا ذلك أجمع" من شدة الجوع "مع صبينا ذاك" عبد الله لا ينام، قال في الرواية عند ابن إسحاق: من بكائه من الجوع؛ لأنه "لا يجد في ثديي ما يغذيه" أي: يكفيه، "ولا في شارفنا ما يغديه" بدال مهملة عند ابن إسحاق، ومعجمة عند ابن هشام، قال السهيلي: وهو أتم من الاقتصار على الغداء دون العشاء، وعند بعض الرواة يعذبه بعين مهملة وذال منقوطة وموحدة، أي: ما ينقعه حتى يرفع رأسه، وينقطع عن الرضاع، يقال منه: عذبته وأعذبته إذا قطعته عن الشرب ونحوه، قال: والذي في الأصل -يعني الروايتين المذكورتين- أصح في المعنى والنقل، انتهى من الروض.
"فقدمنا مكة" أي: دخلناها "فوالله ما علمت منا امرأة" أنا واللاتي قدمت معهن، "إلا وقد عرض عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم" هذا صريح في إسلامها حيث قالت رسول الله وصلت عليه "فتأباه" أي: أخذه، "إذ" تعليلية "قيل: إنه يتيم" زاد ابن إسحاق، وذلك أنا كنا إنما نرجو المعروف من أبي الصبي، فكنا نقول يتيم ما عسى أن تصنع أمه وجده، فكنا نكرهه لذلك، أي: أخذه "من الأب" صفة كاشفة، فاليتيم من لا أب له، وإن كان له جد. وفي نسخ حذف من الأب، وهنا فائدة حسنة.
سئل الحافظ عما يقع من بعض الوعاظ في الموالد في مجالسهم الحفلة المشتملة على الخاص والعام من الرجال والنساء من ذكر الأنبياء بما يخل بكمال التعظيم حتى يظهر للسامعين(1/267)
فوالله ما بقي من صواحبي امرأة إلا أخذت رضيعًا غيري، فلما لم أجد غيره، قلت لزوجي: والله إني لأكره أن أرجع من بين صواحبي ليس معي رضيع، لأنطلقن إلى ذلك اليتيم فلآخذنه، فذهبت فإذا به مدرج في ثوب صوف..................
__________
لها حزن ورقة، فيبقى في حيز من يرحم لا من يعظم؛ كقوله: لم تأخذه المراضع لعدم ماله، إلا حليمة رغبت في رضاعه شفقة عليه، وأنه كان يرعى غنمًا وينشد:
لأغنامه سار الحبيب إلى المرعى ... فيا حبذا راع فؤادي له مرعى
وفيه:
فما أحسن الأغنام وهو يسوقها
وكثير من هذا المعنى المخل بالتعظيم، فأجاب بما نصه: ينبغي لمن يكون فطنًا أن يحذف من الخبر ما يوهم في المخبر عنه نقصًا ولا يضره ذلك، بل هذا جوابه بحروفه، نقله عنه السيوطي. "فوالله ما بقي من صواحبي امرأة إلا أخذت رضيعًا غيري" فلم آخذ لأني لم أعط لما أنا عليه من الضيق.
"فلما لم أجد غيره" يعطى لي "قلت لزوجي" الحارث بن عبد العزى بن رفاعة السعدي يكنى أبا ذؤيب، أدرك الإسلام وأسلم، رواه يونس بن بكير، قال: حدثنا ابن إسحاق، حدثني والدي عن رجال من بني سعد بن بكر، قالوا قدم الحارث أبو رسول الله من الرضاعة عليه الصلاة والسلام بمكة حين أنزل عليه القرآن فقالت له قريش: ألا تسمع يا حارث ما يقول ابنك؟ قال: وما يقول؟ قالوا: يزعم أن الله يبعث من في القبور، وأن لله دارين يعذب فيهما من عصاه ويكرم فيهما من أطاعه، فقد شتت أمرنا وفرق جماعتنا، فأتاه فقال: أي بني! ما لك ولقومك يشكونك ويزعمون أنك تقول إن الناس يبعثون بعد الموت، ثم يصيرون إلى جنة ونار، فقال صلى الله عليه وسلم: "أنا أزعم ذلك، ولو قد كان ذلك اليوم يا أبت لقد أخذت بيدك حتى أعرفك حديثك اليوم". فأسلم الحارث بعد ذلك فحسن إسلامه، وكان يقول حين أسلم: لو أخذ ابني بيدي فعرفني ما قال لم يرسلني إن شاء الله حتى يدخلني الجنة. قال ابن إسحاق: وبلغني أنه إنما أسلم بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، هكذا في رواية يونس. قال السهيلي: ولم يذكر ذلك البكائي في روايته عن ابن إسحاق ولا ذكره كثير ممن ألف في الصحابة، وقد ذكره فيهم صاحب الإصابة، وذكر هذا الخبر وعقبه بخبر ابن سعد المتقدم في ابنه، وقال: يحتمل أن يكون ذلك وقع للأب والابن.
"والله إني لأكره أن أرجع من بين صواحبي ليس معي رضيع، لأنطلقن إلى ذلك اليتيم" الذي عرض جده علي وسألني أخذه، وقلت له: ألا تذرني أراجع صاحبي، فأذن لها وانتظرها حتى راجعته وعادت، "فلآخذنه" زاد ابن إسحاق، قال: لا عليك أن تفعلي، عسى الله أن يجعل لنا فيه بركة، قالت: "فذهبت" إليه "فإذا به مدرج في ثوب صوف" بالإضافة والتنوين(1/268)
أبيض من اللبن، يفوح منه المسك، وتحته حريرة خضراء، راقد على قفاه، يغط، فأشفقت أن أوقظه من نومه لحسنه وجماله، فدنوت منه رويدًا فوضعت يدي على صدره فتبسم ضاحكًا، وفتح عينيه لينظر إليّ، فخرج من عينيه نور حتى دخل خلال السماء وأنا أنظر، فقبلته بين عينيه، وأعطيته ثديي الأيمن، فأقبل عليه بما شاء من لبن، فحولته إلى الأيسر فأبى، وكانت تلك حاله بعد. -قال أهل العلم: ألهمه الله تعالى أن له شريكًا فألهمه العدل- قالت: فروي وروي أخوه.
ثم أخذته، بما هو إلا أن جئت به رحلي، فأقبل عليه ثدياي بما شاء من لبن، فشرب حتى روي وشرب أخوه حتى روي.............................
__________
حال كون الثوب "أبيض من اللبن يفوح منه المسك وتحته حريرة خضراء راقد على قفاه يغط" بكسر المعجمة من باب ضرب، أي: يردد نفسه صاعدًا إلى حلقه حتى يسمعه من حوله؛ كما في المصباح. "فأشفقت أن أوقظه" أي: خفت من إيقاظه "من نومه" شفقة عليه "لحسنه وجماله، فدنوت منه رويدًا" قليلا بتأن، "فوضعت يدي على صدره فتبسم ضاحكًا وفتح عينيه لينظر إليّ فخرج من عينيه نور حتى دخل خلال السماء" لشدة انتشاره "وأنا أنظر، فقبلته بين عينيه وأعطيته ثديي الأيمن، فأقبل" الثدي أي: در "عليه بما شاء من لبن، فحولته إلى الأيسر، فأبى" أن يشربه "وكانت تلك" الصفة "حاله بعد" وفيها أنها فعلت ذلك معه في مجلسها الذي وضعت فيه يدها على صدره، وهذا من أول قوله: فإذا به مدرج إلى قوله الآتي قريبًا: ثم أخذته، زائد على ما في ابن سيد الناس؛ لأنه اقتصر على رواية ابن إسحاق، ولم يقع ذلك فيها. وأما المصنف فقد نقل الحديث عن ستة من الحفاظ، فلا يعترض عليه بما في اليعمري.
"قال أهل العلم" في حكمة امتناعه صلى الله عليه وسلم من الثدي الأيسر "ألهمه الله تعالى أن له شريكًا فألهمه العدل" فلذا امتنع وأخذ الأيمن؛ لأنه كان يحب التيمن في أموره كلها، "قالت" حليمة في بقية حديثها الذي رواه من تقدم وأعاد، قالت: لفصله بقول أهل العلم "فروي وروي أخوه" ابنها عبد الله ووقع للبيهقي أن اسمه ضمرة، وتوقف فيه الشامي، فقال: فالله أعلم. "ثم أخذته بما هو" مشتمل عليه من كونه مدرجًا ... إلخ ما مر "إلى أن جئت به" وفي نسخة: فما هو إلا أن جئت به، أي: فما الشأن، فما مبتدأ، وما بعد إلا هو الخبر. وفي رواية: فقالت آمنة: يا حليمة، قيل لي ثلاث ليال استرضعي ابنك في بني سعد بن بكر، ثم في آل أبي ذؤيب، قالت حليمة: فإن زوجي أبو ذؤيب، فجئت به "رحلي" بحاء مهملة مسكن الشخص وما يستصحبه من الأثاث والمنزل والمأوى، قاله البرهان وتبعه الشامي.
"فأقبل عليه ثدياي بما شاء" الله "من لبن، فشرب حتى روي، وشرب أخوه حتى روي،(1/269)
فقام صاحبي -تعني زوجها- إلى شارفنا تلك، فإذا أنها لحافل، فحلب ما شرب وشربت حتى روينا، وبتنا بخير ليلة، فقال صاحبي: يا حليمة، والله إني لأراك قد أخذت نسمة مباركة، ألم تري ما بتنا به الليلة من البركة والخير حين أخذناه، فلم يزل الله يزيدنا خيرًا.
قالت في رواية ذكرها ابن طغر بك في "النطق المفهوم": فلما نظر صاحبي إلى هذا قال: اسكتي واكتمي أمرك، فمن ليلة ولد هذا الغلام أصبحت الأحبار قوامًا على أقدامها، لا يهنؤها عيش النهار ولا نوم الليل.
قالت حليمة: فودعت النساء بعضهن وودعت أنا أم النبي صلى الله عليه وسلم، ثم ركبت أتاني وأخذت محمدًا صلى الله عليه وسلم بين يدي، قالت: فنظرت...................
__________
فقام صاحبي- تعني" حليمة بقولها صاحبي "زوجها" الحارث "إلى شارفنا تلك" التي ما كانت تبض بقطرة "فإذا" فجائية "أنها لحافل" بمهملة وفاء: ممتلئة الضرع من اللبن، "فحلب ما" لبنًا "شرب" هو "وشربت" أنا "حتى روينا وبتنا بخير ليلة، فقال صاحبي" حين أصبحنا؛ كما في ابن إسحاق "يا حليمة، والله إني لأراك" بالفتح: أعتقدك، بدليل رواية ابن إسحاق: تعلمي والله يا حليمة، أي: اعلمي؛ كقوله صلى الله عليه وسلم: "تعلموا أن ربكم ليس بأعور" أي: اعلموا. "قد أخذت نسمة" بفتحات ذاتًا "مباركة".
زاد ابن إسحاق: قلت: والله إني لأرجو ذلك، "ألم تري ما بتنا به الليلة من البركة والخير حين أخذناه" قالت حليمة "فلم يزل الله يزيدنا خيرًا" ببركته صلى الله عليه وسلم "قالت" حليمة. وفي نسخة: بتذكير الفعل على معنى الشخص. "في رواية ذكرها ابن طغربك" بضم الطاء والراء المهملتين بينهما معجمة ساكنة؛ كان علم مركب من طغر وبك، "في" ككتاب "النطق المفهوم، فلما نظر صاحبي إلى هذا قال: اسكتي واكتمي أمرك" فلا تبديه لأحد، خشي عليها الحسد، وعلى المصطفى الناس. "فمن ليلة ولد هذا الغلام أصبحت الأحبار" جمع حبر "قواًا على أقدامها لا يهنؤها" بالهمز من هنأ الطعام لذ، أي: لا يلذ لهم "عيش النهار، ولا نوم الليل" وإخباره بذلك عنهم لما بلغه أو شاهده من بعضهم.
"قالت حليمة" فلما ذهبت بمحمد إلى منزلي مكثنا بمكة ثلاث ليال؛ كذا في شواهد النبوة. قالت: "فودعت النساء بعضهن" بليل، أي: ودع بعض النساء بعضًا. وفي نسخة: فودعت النساء بعضهم بالتذكير، والأول أنسب، بقوله: "وودعت أنا أم النبي صلى الله عليه وسلم، ثم ركبت. أتاني" حماري الأنثى، ويقال: حمارة بالهاء على قلة، "وأخذت محمدًا صلى الله عليه وسلم بين يدي، قالت: فنظرت(1/270)
إلى الأتان وقد سجدت نحو الكعبة ثلاث سجدات ورفعت رأسها إلى السماء مشت حتى سبقت دواب الناس الذين كانوا معي، وصار الناس يتعجبون مني ويقلن النساء لي وهن ورائي: يا بنت أبي ذؤيب أهذه أتانك التي كنت عليها وأنت جائية معنا تخفضك طورًا وترفعك أخرى؟ فأقول: تالله إنها هي فيتعجبن منها ويقلن إن لها لشأنًا عظيمًا، قالت: فكنت أسمع أتاني تنطق وتقول: والله إن لي لشأنًا ثم شأنًا بعثني الله بعد موتي ورد لي سمني بعد هزالي، ويحكن..................
__________
إلى الأتان وقد سجدت" خفضت رأسها أو وضعت وجهها على الأرض وهو الظاهر، فلا مانع "نحو" أي: جهة "الكعبة ثلاث سجدات، ورفعت رأسها إلى السماء" ألهمها الله فعل ذلك شكرًا له أن خصها بكونه صلى الله عليه وسلم على ظهرها، "ثم مشت حتى سبقت دواب الناس الذين كانوا معي، وصار الناس يتعجبون مني" وفي رواية ابن إسحاق: فوالله لقد قطعت بالركب حتى ما يقدر علي شيء من حمرهم، "ويقلن النساء لي" هذا نحو: أسروا النجوى يتعاقبون فيكم ملائكة، وسموها لغة أكلوني البراغيث، وجوزوا في نحوه أن النون فاعل، والاسم الظاهر بدل منه حتى لا يكون من تلك اللغة. "وهن ورائي: يا بنت أبي ذؤيب" بذال معجمة كنية أبيها، واسمه عبد الله بن الحارث بن شجنة بكسر الشين المعجمة فجيم ساكنة فنون مفتوحة ثم تاء التأنيث، هكذا في النور. ووقع في الشامية بسين مهملة ابن جابر بن رزام بكسر الراء ثم زاي فألف فميم ابن ناصر بن سعد بن بكر بن هوازن هكذا في الاستيعاب، وقيل في نسبها غير ذلك.
"أهذه أتانك التي كنت عليها وأنت جائية معنا، تخفضك طورًا" بفتح الطاء مرة "وترفعك" مرة "أخرى" فأنت على معنى الطور لضعفها وعجفها، "فأقول: تالله إنها هي، فيتعجبن منها، ويقلن: إن لها لشأنًا عظيمًا، قالت" حليمة "فكت أسمع أتاني تنطق، وتقول: والله إن لي لشأنًا ثم لشأنًا" وكأنه قيل: ماذا الشأن؟ فقالت: "بعثني الله بعد موتي" أعطاني قوة قدر بها على سرعة السير بعدما كنت كالميتة من الضعف، "ورد لي سمني بعد هزالي" بضم الهاء ضد السمن، وفي نسخة: بعد هزلي، بفتح الهاء وتضم وسكون الزاي بلا ألف بمعنى الأول أيضًا. ففي القاموس: الهزال بالضم نقيض السمن هزل، كعنى وهزل كنصر هزلا وبضم، انتهى. وأما نقيض الجد فبابه ضرب وفرح؛ كما فيه أيضًا، وليس مرادًا هنا، كما هو معلوم. والجملتان تفسير للشأن على الاستئناف البياني، كما قررنا.
"ويحكن" بالنصب بإضمار فعل كلمة ترحم، وويل كلمة عذاب. وقال اليزيدي: هما بمعنى واحد، تقول: ويح لزيد وويل له، فترفعهما على الابتداء ولك نصبهما كأنك قلت: ألزمه.(1/271)
يا نساء بني سعد إن كن لفي غفلة وهل تدرين من على ظهري، على ظهري خيار النبيين وسيد المرسلين وخير الأولين والآخرين وحبيب رب العالمين.
قالت -فيما ذكره ابن إسحاق وغيره: ثم قدمنا منازل بني سعد، ولا أعلم أرضًا من أرض الله أجدب -بدال مهملة- منها، فكانت غنمي تروح على حين قدمنا به شباعًا لبنًا، فنحلب ونشرب، وما يحلب إنسان قطرة لبن ولا يجدها في ضرع، حتى كان الحاضر من قومنا يقولون لرعيانهم: اسرحوا حيث تسرح غنم بنت أبي ذؤيب، فتروح أغنامهم جياعًا ما تبض بقطرة لبن، وتروح أغنامي شباعًا لبنًا.
__________
الله ويحًا وويلا، ولك إضافتهما فنصبهما بإضمار فعل؛ كذا ذكر العلامة الشمني، ومقتضاه: أنه ليس لويح فعل من لفظه، وقد ذكر ابن عصفور في شرح الجمل: أن من الناس من ذهب إلى أنه قد استعمل من ويح فعل فهو على مذهبه منصوب بفعل من لفظه، تقديره واح ويحًا.
"يا نساء بني سعد، إن كن لفي غفلة وهل تدرين" بكسر الراء "من" أي: الذي "على ظهري" وقوله: على ظهري خبر مبتدؤه "خيار النبيين، وسيد المرسلين, وخير الأولين والآخرين، وحبيب رب العالمين" وكأنها فرضت أنهن كلمنها بما قلنه لحليمة، فإجابتهن بذلك وفي نطقها وسجودها قبل إرهاص للنبي صلى الله عليه وسلم وكرامة لحليمة، "قالت، فيما ذكره ابن إسحاق" مسندًا في بقية الحديث السابق.
"وغيره ثم قدمنا منازل بني سعد، ولا أعلم أرضًا من أرض الله أجدب" بجيم "فدال مهملة" فموحدة ضد الخصب. "منها، فكانت غنمي تروح علي" أي: ترجع بعشي "حين قدمنا به" صلى الله عليه وسلم "شباعًا لبنًا" بضم اللام وكسرها لغتان؛ حكاهما الجوهري وشد الموحدة أي كثيرة اللبن جمع لبون "فنحلب" بضم اللام وكسرها لغتان كما في النور. "ونشرب وما يحلب إنسان" غيرنا "قطرة لبن، ولا يجدها في ضرع حتى كان الحاضر" هم القوم النزول على ما يقيمون به ولا يرحلون عنه، ويقولون للمناهل المحاضر للاجتماع والحضور، ذكره البرهان. "من قومنا يقولون لرعيانهم" جمع راع. وفي نسخة: لرعاتهم، جمع ثان.
قال القاموس: كل من ولي أمر قوم جمعه رعاة ورعيان ورعاء، ويكسر، انتهى. زاد ابن إسحاق: ويلكم "اسرحوا حيث تسرح" ظرف مكان، أي: اذهبوا إلى المكان الذي تذهب إليه "غنم بنت أبي ذؤيب" ولفظ ابن إسحاق: حيث يسرح راعي بنت أبي ذؤيب، "فتروح أغنامهم جياعًا ما تبض" بالضاد معجمة ومهملة "بقطرة لبن، وتروح" ترجع "أغنامي شباعًا لبنًا" مع أن(1/272)
فلله درها من بركة كثرت بها مواشي حليمة ونمت وارتفع قدرها به وسمت فلم تزل حليمة تتعرف الخير والسعادة وتفوز منه بالحسنى وزيادة.
لقد بلغت بالهاشمي حليمة ... مقامًا علا في ذروة العز والمجد
وزادت مواشيها وأخصب ربعها ... وقد عم هذا السعد كل بني سعد
قال ابن الطراح رأيت في كتاب الترقيص لأبي عبد الله بن المعلى الأزدي
__________
مسرحها واحد، قالت في رواية ابن إسحاق: فلم نزل نتعرف من الله الزيادة والخير حتى مضت سنتاه وفصلته، قال المصنف.
"فلله درها من بركة" تمييز للنسبة في درها؛ لأن مرجع الضمير هنا معلوم. "كثرت بها مواشي حليمة ونمت" زادت "وارتفع قدرها به، وسمت" أي: علت، فهو مساوٍ؛ "فلم تزل حليمة تتعرف الخير والسعادة، وتفوز منه بالحسنى وزيادة" وأنشد لغيره: "لقد بلغت بالهاشمي" محمد صلى الله عليه وسلم "حليمة مقامًا علا" ارتفع "في ذروة" بكسر الذال المعجمة: أعلى، "العز والمجد" مستعار من ذروة الجبل: أعلاه، "وزادت مواشيها وأخصب ربعها" بفتح الراء وسكون الموحدة: محلها ومنزلها، ويطلق على القوم مجازًا.
"وقد عم هذا السعد كل بني سعد" وذلك أن حليمة، قالت لما دخلت به منزلي: لم يبق منزل من منازل بني سعد إلا شممنا منه ريح المسك، وألقيت محبته في قلوب الناس حتى إن أحدهم كان إذا نزل به أذى من جسده أخذ كفه صلى الله عليه وسلم فيضعها على موضع الأذى فيبرأ بإذن الله سريعًا، وكذا إذا اعتل لهم بعير أو شاه، ولو لم يكن من سعدهم إلا أنهم لما سبوا في وقعة هوازن ثم جاءوا إليه صلى الله عليه وسلم، وقالوا له: نحن أهل وعشيرة وقام خطيبهم، وقال: يا رسول الله! إن اللواتي في الحظائر من السبايا خالاتك وعماتك وحواضنك اللاتي كن يكفلنك وأنت خير مكفول، ثم قال:
امنن علينا رسول الله في كرم
الأبيات المشهورة الآتية في كلام المصنف. فقال صلى الله عليه وسلم: $"ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم". وقالت قريش: ما كان لنا فهو لله ورسوله، وقالت الأنصار: ما كان لنا فهو لله ورسوله، فرد عليهم سبيهم.
"قال ابن الطراح: رأيت في كتاب الترقيص لأبي عبد الله بن المعلى الأزدي" البصري، ونقله أيضًا عن كتاب الترقيص مغلطاي في الزهر، والحافظ في الإصابة، وأبو المظفر المقرئ(1/273)
أن من شعر حليمة ما كانت ترقص به النبي صلى الله عليه وسلم.
يا رب إذ أعطيته فأبقه ... وأعله إلى العلا وأرقه
وادحض أباطيل العدا بحقه
وعند غيره وكانت الشيماء أخته من الرضاعة تحضنه وترقصه وتقول:
هذا أخ لم تلده أمي ... وليس من نسل أبي وعمي
فديته من مخول معمي ... ....................
__________
الواعظ في أربعينه، "أن من شعر حليمة ما كانت ترقص" بضم التاء وشد القاف المكسورة من الترقيص "به النبي صلى الله عليه وسلم: يا رب إذ أعطيته فأبقه وأعله إلى العلا ورقه" بدون ألف؛ كما في نسخ، وهو ما نقله أبو المظفر. وفي نسخ: وأرقه بألف، وكذا في السبل. والأولى أنسب؛ كما يفيده القاموس. "وادحض" بكسر الحاء حذفت همزته للضرورة، أي: أذل، "أباطيل العدا بحقه، وعند غيره" أي: غير ابن الطراح، فإن الزهر والإصابة وأبا المظفر نقلوه كله عن كتاب الترقيص المذكور لابن المعلى، فليس ضمير غيره عائدًا عليه؛ كما زعم.
"وكانت الشيماء" بفتح الشين المعجمة وسكون التحتية، ويقال: الشماء بلا ياء ابنة الحارث بن عبد العزى السعدية، ذكرها أبو نعيم وغيره في الصحابة، واسمها جدامة بضم الجيم وبالدال المهملة والميم، جزم به ابن سعد. وقيل: حذافة بضم الحاء المهملة وفتح الذال المعجمة، ذكره السهيلي مع الثاني فقط، واقتصر في الإصابة على الأولين. "اخته من الرضاعة" من جهة أنه عليه السلام رضع أمها حليمة بلبن أخيها "تحضنه" بضم الضاد ومن ثم تدعى أم النبي صلى الله عليه وسلم أيضًا؛ كما في النور.
"وترقصه، وتقول: هذا أخ لي لم تلده أمي" من أبي ولا غيره "وليس من نسل أبي" من غير أمي، "و" من نسل "عمي" فاسمه أخي لشدة قربه، ومرادها: تعميم نفي أخوة النسب ولو بسبب رضاعه أمها. "فديته من مخول" بضم الميم وكسرها الواو ومن أخول على الأصل، وتفتح الواو على أن غيره جعله ذا أخوال كثيرة ورجل معم مخول، أي: كريم الأعمال والأخوال، ومنع الأصمعي الكسر فيهما، وقال: كلام العرب الفتح، قال المصباح.
"معمي" بكسر الميم الثانية اسم فاعل أنسب بالشعر من فتحها اسم مفعول وإن جاز، قال(1/274)
................. ... فأنمه اللهم فيما تنمي
وأخرج البيهقي والصابوني في المائتين والخطيب وابن عساكر في تاريخيهما وابن طغر بك السياف في النطق المفهوم عن العباس بن عبد المطلب قال: قلت يا رسول الله دعاني إلى الدخول في دينك أمارة لنبوتك رأيتك في المهد تناغي القمر وتشير إليه بأصبعك فحيث أشرت إليه مال قال: إني كنت أحدثه
__________
المصباح: أعم الرجل إذا كرم أعمامه يروى مبنيًا للمفعول والفاعل وجرت من التمييز مع أنه تمييز لنسبة الفعل إلى المفعول؛ لأنه ليس محولا عنه فيجوز زجره، نحو: ما أحسنه من رجل.
"فانمه" بفتح الهمزة من أنماه "اللهم فيما تنمي" بضم الفوقية المصباح نمى من باب رمى كثر، وفي لغة: من باب قعد ويتعدى بالهمز والتضعيف فعبر بانمه مجاز لغوي من إطلاق السبب، وإرادة المسبب، فالكثرة يلزمها القوة؛ فكأنها قالت: قوة فيمن قويتهم، وزد رفعته، أو مجاز بالنقص بحذف المضاف، أي: أنم أتباعه وذريته، وقد زاد الجماعة عن كتاب الترقيص المذكور، وقالت الشيماء أيضًا:
يا ربنا أبق أخي محمدا ... حتى أراه يافعًا وأمردا
ثم أراه سيد مسودًا ... واكبت أعاديه معا والحسدا
وأعطه عزًا يدوم أبدا
قال الأزدي: ما أحسن ما أجاب الله دعاءها، يعني: لرؤيتها ياه بجميع ما طلبت.
"وأخرج البيهقي و" أبو عثمان إسماعيل بن عبد الرحمن بن أحمد بن إسماعيل بن إبراهيم "الصابوني" شيخ الإسلام الإمام المفسر المحدث الفقيه الواعظ الخطيب، وعظ المسلمين ستين سنة، ولد سنة ثلاث وسبعين وثلاثمائة، وتوفي في المحرم سنة سبع أو أربع وأربعين وأربعمائة.
"في" كتاب "المائتين والخطيب" البغدادي "وابن عساكر" الدمشقي "في تاريخيهما" لبغداد ودمشق "وابن طغربك السياف في" كتاب "النطق المفهوم عن العباس بن عبد المطلب" رضي الله عنه "قال: قلت: يا رسول الله! دعاني إلى الدخول في دينك" أي: حملني عليه، واستعماله بهذا المعنى مجاز؛ لأن الدعاء النداء.
"أمارة لنبوتك" علامة عليها، فشبه الأمارة بالداعي استعارة بالكناية وإثبات الدعاء لها تخييل، "رأيتك في المهد تناغي القمر وتشير إليه بإصبعك. فحيث أشرت إليه مال" إلى جهتك، أي: ففي أي وقت فحيث هنا للزمان مجازًا على مقتضى القاموس والمصباح، وبه صرح المغني، فقال: وهي للمكان اتفاقًا، قال الأخفش: وقد ترد للزمان. "قال: إني كنت أحدثه(1/275)
ويحدثني ويلهيني عن البكاء وأسمع وجبته حين يسجد تحت العرش قال البيهقي تفرد به أحمد بن إبراهيم الحلبي وهو مجهول وقال الصابوني: هذا حديث غريب الإسناد والمتن وهو في المعجزات حسن.
والمناغاة: المحادثة، وقد ناغت الأم صبيها: لاطفته وشاغلته بالمحادثة والملاعبة.
وفي فتح الباري عن سيرة الواقدي:....................
__________
ويحدثني، و" كان بتحديثه لي "يلهيني عن البكاء و" كنت "أسمع وجبته" أي: سقطته؛ كقوله تعالى: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} [الحج: 36] ، "حين يسجد تحت العرش، قال البيهقي" عقب إخراجه: "تفرد به أحمد بن إبراهيم" أي: لم يتابعه عليه أحد.
"الحلبي" نسبة إلى حلب البلدة الشهيرة، قال في الميزان: قال أبو حاتم: أحاديثه باطلة تدل على كذبه ويقع في نسخ الجيلي بجيم وياء ولام، وهو تحريف فقد استوفى الحافظ في التبصير من ينسب هذه النسبة، وما ذكره فيهم. "وهو مجهول" وهو ثلاثة أنواع: مجهول العين من له راو فقط. ومجهول الحال، وهما مردودان عند الجمهور. مجهول العدالة، وفيه خلف. وظاهر كلام أبي حاتم المار: أن هذا من النوع الثاني.
"وقال الصابوني" نسبة إلى الصابون، قال في اللباب: لعله لأن أحد أجداده عمله فعرفوا به، "هذا حديث غريب الإسناد" لأن راويه أحمد بن إبراهيم لم يتابع عليه، فهو كقول البيهقي: تفرد به، وزاد عليه قوله: "والمتن" أي: لفظ الحديث، ولعل غرابته لأن العباس أصغر الأعمام، فحمزة أكبر منه، وحمزة كان أسن من النبي صلى الله عليه وسلم بسنتين، كما رواه البكائي عن ابن إسحاق، فرؤية العباس لذلك وروايته غريب.
"و" لكن الخوارق لا يقاس عليها فـ "هو في المعجزات حسن" ذكره لأن عادة المحدثين التساهل في غير الأحكام والعقائد ما لم يكن موضوعًا، وأيضًا فإنه يتمشى على القول بأن العباس ولد قبل الفيل بثلاث سنين، وبه جزم المصنف فيما يأتي، ومر له أيضًا: روي عن العباس، أنه قال: أذكر مولد النبي صلى الله عليه وسلم وأنا ابن ثلاثة أعوام أو نحوها، فحمزة والعباس متقاربان غايته أن حمزة أسن منه بيسير. "والمناغاة المحادثة، وقد ناغت الأم صبيها" أي: "لاطفته وشاغلته بالمحادثة والملاعبة" مصدر لاعب.
"وفي فتح الباري" في كتاب الأنبياء في قوله صلى الله عليه وسلم: "لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة"، نقلا "عن سيرة" محمد بن عمرو بن واقد "الواقدي" أبي عبد الله الأسلمي مولاهم المدني الحافظ،(1/276)
أنه صلى الله عليه وسلم تكلم في أوائل ما ولد. وذكر ابن سبع في الخصائص أن مهده كان يتحرك بتحريك الملائكة.
وأخرج البيهقي وابن عساكر عن ابن عباس قال كانت حليمة تحدث بأنها أول ما فطمت رسول الله صلى الله عليه وسلم تكلم فقال: "الله أكبر كبيرًا والحمد لله كثيرًا وسبحان الل هـ.........................................
__________
روى عن مالك والثوري عن ابن جريج وغيرهم، وعنه الشافعي وابن سعد كاتبه وخلق، كذبه أحمد، وتركه ابن المبارك وغيره، وقال في الميزان، استقر الإجماع على وهنه، وفي التقريب: متروك مع سعة علمه. مات سنة سبع، وقيل: تسع ومائتين، روى له ابن ماجه. "أنه صلى الله عليه وسلم تكلم في أوائل ما ولد" وعند ابن عائذ: أول ما تكلم به حين خرج من بطن أمه: الله أكبر كبيرًا، والحمد لله كثيرًا، وسبحان الله بكرة وأصيلا. وفي الروض عن الواقدي: أول ما تكلم به لما ولد: جلال ربي الرفيع. وفي شواهد النبوة: روى أنه صلى الله عليه وسلم لما وقع على الأرض رفع رأسه, وقال بلسان فصيح: "لا إله إلا الله، وإني رسول الله"، وطريق الجمع أنه قال جميع ذلك، ثم الكلام في المهد ليس من خصائصه، بل ولا من خصائص الأنبياء، فقد تكلم فيه ابن ماشطة بنت فرعون وشاهد يوسف وصاحب جريج، رواه أحمد والحاكم مرفوعًا، وعند مسلم في قصة أصحاب الأخدود: أن امرأة جيء بها لتلقى في النار لتكفر ومعها صبي فتقاعست، فقال لها: يا أماه اصبري، فإنك على الحق. وفي زمنه صلى الله عليه وسلم مبارك اليمامة وقصته من دلائل البيهقي، فهؤلاء خمسة تكلموا وليسوا بأنبياء، ونظم جملة من تكلم السيوطي، فقال:
تكلم في المهد النبي محمد ... ويحيى وعيسى والخليل ومريم
ومبري جريج ثم شاهد يوسف ... وطفل لدى الأخدود يرويه مسلم
وطفل عليه مر بالأمة التي ... يقال لها تزني ولا تتكلم
وماشطة في عهد فرعون طفلها ... وفي زمن الهادي المبارك يختم
قال بعضهم: وكلام الصبي في مهده يحتمل كونه بلا تعقل؛ كما خلق الله التكلم في الجماد ويحتمل كونه عن معرفة بأن خلق الله فيه الإدراك ولعل كلام النبي كان كذلك. "وذكر ابن سبع" بإسكان الموحدة وقد تضم؛ كما في التبصير. "في الخصائص: أن مهده" أي: ما هيئ له لينام فيه "كان يتحرك بتحريك الملائكة" له. قال بعض: ولم ينقل مثل ذلك لأحد من الأنبياء.
"وأخرج البيهقي وابن عساكر عن ابن عباس" أنه "قال: كانت حليمة تحدث بأنها أول ما فطمت رسول الله صلى الله عليه وسلم تكلم، فقال: "الله أكبر كبيرًا، والحمد لله كثيرًا، وسبحان الله(1/277)
بكرة وأصيلا"، فلما ترعرع كان يخرج فينظر إلى الصبيان يلعبون فيتجنبهم. الحديث.
وقد روى ابن سعد وأبو نعيم وابن عساكر، عن ابن عباس قال: كانت حليمة لا تدعه يذهب مكانًا بعيدًا، فغفلت عنه، فخرج مع أخته الشيماء في الظهيرة إلى البهم، فخرجت حليمة تطلبه، حتى تجده مع أخته فقالت: في هذا الحر؟ قالت أخته: يا أمه ما وجد أخي حرًا رأيت غمامة تظل.........................
__________
بكرة وأصيلا" وأفاد هذا مع ما مر عن ابن عائذ قريبًا أنه تكلم بهذا في الوقتين، "فلما ترعرع" قوي على الخروج والاختلاط بالصبيان، "كان يخرج فينظر إلى الصبيان يلعبون فيتجنبهم الحديث" وروي أنه كان يخرج هو وأخوه فيلعب أخوه مع الغلمان فيتجنبهم عليه السلام ويأخذ بيد أخيه، ويقول: "إنا لم نخلق لهذا".
"وقد روى محمد بن سعد وأبو نعيم وابن عساكر عن ابن عباس، قال: كانت حليمة لا تدعه" لا تترك النبي صلى الله عليه وسلم "يذهب مكانًا بعيدًا "خوفًا عليه وشفقة، أي: في غالب الأحوال أو في ابتداء الأمر، فلا ينافي ما روي أنه قال لها: يا أماه مالي لا أرى إخوتي بالنهار، قالت: يرعون غنمًا لنا فيروحون من الليل إلى الليل، فقال: ابعثيني معهم، فكان يخرج مسرورًا ويعود مسرورًا. "فغفلت عنه، فخرج مع أخته الشيماء في الظهيرة" أول الزوال وهو أشد ما يكون من حر النهار "إلى البهم" بفتح الموحدة جمع بهيمة وهي ولد الضأن، كذا في النهاية. وفي القاموس: البهيمة أولاد الضأن والبقر والمعز وجمعه بهم ويحرك. وفي النور: يطلق على الذكر والأنثى لكن يرد عليه حيث أنه عليه السلام قال للراعي: "ما ولدت"؟. قال: بهمة، قال: "اذبح مكانها شاة". فهذا يدل على أن البهمة اسم للأنثى؛ لأنه إنما سأله ليعلم أذكر م أنثى، لعلمه أن المولود أحدهما "فخرجت حليمة تطلبه حتى تجده" غالبًا للطلب أو تعليل له، أي: إلى أن تجده أو لتجده فوجدته "مع أخته" وعلى التقديرين فحتى جارة لوقوع المضارع بعدها منصوبًا. وفي نسخة: فوجدته وهي ظاهرة، "قالت في هذا الحر" الهمزة فيه مقدرة، أي: أفيه تخرجين به؛ كقول الكميت:
طربت وما شوقًا إلى البيض أطرب ... ولا لعبًا مني وذو الشيب يلعب
أراد أو ذو الشيب، "قالت أخته: يا أمه" الهاء بدل من تاء التأنيث، والأصل: يا أمة بلا تاء عند جمهور البصريين، "ما وجد أخي حرًا" لأن الشمس لم تصبه، فقد "رأيت غمامة" سحابة "تظل(1/278)
عليه، إذا وقف وقفت وإذا سار سارت حتى انتهى إلى هذا الموضع الحديث.
وكان صلى الله عليه وسلم يشب شبابًا لا يشبه الغلمان.
قالت حليمة: فلما فصلته قدمنا به على أمه، ونحن أحرص شيء على مكثه فينا، لما نرى من بركته، فكلمنا أمه وقلنا: لو تركتيه عندنا حتى يغلظ، فإنا نخشى عليه وباء مكة..............................
__________
عليه إذا وقف وقفت، وإذا سار سارت" معه تظلله "حتى انتهى إلى هذا الموضع" الذي نحن فيه "الحديث" وفيه إظلال الغمام له صلى الله عليه وسلم، فهو حجة على من أنكره.
قال ابن جماعة من ذهب إلى أن حديث إظلال الغمام لم يصح بين المحدثين فهو باطل، نعم لم يكن كما قال السخاوي وغيره دائمًا في حديث الهجرة: إن الشمس أصابته صلى الله عليه وسلم وظلله أبو بكر بردائه، وثبت أنه كان بالجعرانة ومعه ثوب قد أظل عليه، وأنهم كانوا إذا أتوا على شجرة ظليلة تركوها له صلى الله عليه وسلم، وغير ذلك.
"وكان صلى الله عليه وسلم يشب" بكسر الشين من باب ضرب "شبابًا لا يشبه" أي: لا يشب مثله: "الغلمان" كذا في رواية ابن إسحاق محملا، وفي شواهد النبوة: روي أنه صلى الله عليه وسلم لما صار ابن شهرين كان يتزحلف مع الصبيان إلى كل جانب، وفي ثلاثة أشهر كان يقوم على قدميه، وفي أربعة كان يمسك الجدار ويمشي، وفي خمسة حصل له القدرة على المشي، ولما تم له ستة أشهر كان يسرع في المشي، وفي سبعة أشهر كان يسعى ويغدو إلى كل جانب، ولما مضى له ثمانية أشهر شرع يتكلم بكلام فصيح، وفي عشرة أشهر كان يرمي السهام مع الصبيان.
"قالت حليمة: فلما فصلته" بعد مضي عامين "قدمنا به على أمه" على عادة المراضع في إتيانهن بالأولاد إلى أمهاتهم بعد تمام الرضاع، فأتت به موافقة لهن، ثم حاولت الرجوع به لنصل إلى مقصودها؛ كما أفاده قولها: "ونحن أحرص شيء على مكثه فينا لما نرى من بركته" أي: حرصنا على مكثه فينا أشد من حرص كل حريص على شيء يحرص عليه، فلا يرد أن أفعل التفضيل عض ما يضاف إليه، ومعلوم أن حليمة وزوجها وابنتها لم يشاركهم جميع الناس في الحرص على مكثه فيهم. "فكلمنا أمه" وبيان الكلام "وقلنا" نود "لو تركتيه عندنا حتى يغلظ" أي: يعظم جسمه وتزيد قوته، فلو للتمني أو جوابها محذوف، أي: لكان خيرًا له بدليل "فإنا نخشى عليه وباء مكة" بالهمز مقصورًا وممدودًا؛ كما في النهاية والصحاح والقاموس. وفسره بأنه الطاعون أو كل مرض عام، والظاهر أن المراد هنا الثاني، ومن ثم فسره الشامي بأنه كثرة الموت والمرض.(1/279)
ولم نزل بها حتى ردته معنا فرجعنا به.
فوالله إنه لبعد مقدمنا بشهرين أو ثلاثة مع أخيه من الرضاعة، لفي بهم لنا خلف بيوتنا، جاء أخوه يشتد، فقال: ذاك أخي القرشي، قد جاءه رجلان عليهما ثياب بيض، فأضجعاه وشقا بطنه، فخرجت أنا وأبوه نشتد نحوه، فنجده قائمًا منتقعًا لونه، فاعتنقه أبوه وقال: أي بني، ما شأنك، قال: "جاءني رجلان عليهما ثياب بيض فأضجعاني وشقا بطني، ثم استخرجا منه شيئًا فطرحاه، ثم رداه كما كان". فرجعناه معنا، فقال أبوه: يا حليمة خشيت أن يكون ابني قد أصيب، فانطلقي بنا نرده إلى أهله قبل أن يظهر به..........................
__________
"ولم نزل" نتلطف" بها حتى ردته معنا، فرجعنا به فوالله إنه لبعد مقدمنا بشهرين أو ثلاثة" شكت "مع أخيه من الرضاعة" عبد الله "لفي بهم لنا خلف بيوتنا جاء أخوه يشتد" يسرع في المشي "فقال: ذاك أخي القرشي، قد جاء رجلان" ملكان في صورة رجلين "عليهما ثياب بيض فأضجعاه وشقا بطنه" بعد أن صعدا به ذروة الجبل؛ كما في رواية البيهقي الآتية. "فخرجت أنا وأبوه" من الرضاعة وهو زوجها "نشتد نحوه، فنجده قائمًا" من استعمال المضارع موضع الماضي ففي الكلام حذف، أي: وما زلنا نسرع إلى أن وجدناه قائمًا "منتقعًا لونه" بنون ففوقية فقاف مفتوحة، أي: متغيرًا، قال الكسائي: انتقع مبنيًا إذا تغير من حزن أو فزع، قال: وكذا ابتقع بالموحدة، وامتقع بالميم أجود، قال الجوهري: أي: مبنيًا للمفعول وبه صرح المجد، واقتصر البرهان والشامي.
وفي المصباح: ما يفيد بناءه للفاعل. "فاعتنقه أبوه، وقال: أي بني! ما شأنك" ما حالك "قال: "جاءني رجلان" ", هما جبريل وميكائيل؛ كما في النور، "عليهما ثياب بيض فأضجعاني وشقا بطني" ولا ينافي هذا قوله الآتي قريبًا: "فعمد أحدهم فأضجعني على الأرض"؛ لجواز أنه نسب الإضجاع إلى مجموعهما وإن كان في الحقيقة من واحد مجازًا أو نزل فعل المشارك له في الغسل ونحوه منزلة المشارك في نفس الإضجاع، فأطلق عليه اسمه.
"ثم استخرجا منه شيئًا" هو مضغة سوداء؛ كما في الحديث الآتي على الأثر، "فطرحاه ثم رداه كما كان" قالت حليمة: "فرجعناه معنا، فقال أبوه: يا حليمة، قد خشيت" خفت "أن يكون ابني قد أصيب من الجن، وأصل الخشية الخوف مع الإجلال، لكنها هنا في مجرد الخوف؛ لأن المعنى: نخاف عليه ما يصيبه من الجن. "فانطلقي بنا نرده إلى أهله قبل أن يظهر به(1/280)
ما نتخوف، قالت حليمة فاحتملناه حتى قدمنا به مكة على أمه، فقالت: ما ردكما به، فقد كنتما حريصين عليه؟ قلنا نخشى عليه الإتلاف والإحداث، فقالت: ما ذاك بكما، فاصدقاني شأنكما، فلم تدعنا حتى أخبرناها خبره، قالت: أخشيتما عليه الشيطان، كلا والله ما للشيطان عليه سبيل، وإنه لكائن لابني هذا شأن عظيم فدعاه عنكما.
__________
ما نتخوف" أي: ما نتخوفه، فالمفعول محذوف "قالت حليمة: فاحتملناه حتى قدمنا به مكة على أمه" بعد أن ضل منا في باب مكة حين نزلت لأقضي حاجتي، فأعلمت عبد المطلب بذلك فطاف بالبيت أسبوعًا، ودعا الله برده، فسمع مناديًا ينادي: معاشر الناس، لا تضحوا فإن لمحمد ربا لا يضيعه ولا يخذله، قال عبد المطلب: يا أيها الهاتف، من لنا به؟ وأين هو؟ قال بوادي تهامة، فأقبل عبد المطلب راكبًا متسلحًا، فلما صار في بعض الطريق لقي ورقة بن نوفل، فسارا جميعًا فوجدوه صلى الله عليه وسلم تحت شجرة، وفي رواية: بينا أبو مسعود الثقفي وعمرو بن نوفل على راحلتيهما إذ هما به قائمًا عند شجرة الموز يتناول من ورقها، فأقبل إليه عمرو، وهو لا يعرفه، فقال: من أنت؟ قال: أنا محمد بن عبد المطلب بن هاشم، فاحتمله بين يديه على الراحلة حتى أتى به عبد المطلب، وعن ابن عباس: لما رد الله محمدًا صلى الله عليه وسلم على عبد المطلب تصدق بألف ناقة كوماء وخمسين رطلا من ذهب، وجهز حليمة أفضل الجهاز؛ كذا في الخميس.
"فقالت" أمه: ما ردكما" أي شيء ردكما "به، فقد كنتما حريصين عليه" أي: على مقامه عندكما، "قلنا: نخشى عليه الإتلاف والإحداث" أي: الأسباب العارضة المقتضية لإتلافه أو حصول الأمراض له، "فقالت: ما ذاك؟ " بكسر الكاف خطاب لحليمة، أي: ما خوف الإتلاف والإحداث حملكما على رده، أو بفتح الكاف على أنه خطاب لزوج حليمة، أو على أن الكاف المتصلة باسم الإشارة مفتوحة أبدًا، "فاصدقاني شأنكما" حالكما الحامل لكما على رده، "فلم تدعنا" تتركنا "حتى أخبرناها خبره، قالت" إنكارًا عليهما، "أخشيتما عليه الشيطان" إبليس أو الجنس وهو أظهر، زاد في رواية ابن إسحاق عن حليمة، قلت: نعم، قالت: آمنة "كلا" ردع لهما عن خشية الشيطان عليه، "والله ما للشيطان عليه سبيل" طريق يتوصل له منها "وإنه لكائن لابني هذا شأن" أمر "عظيم" قالت ذلك لما شاهدته في حملها به وعند ولادته؛ كما صرحت به لحليمة، فقالت كما في حديث ابن إسحاق: أفلا أخبرك خبره، رأيت حين حملت به خرج مني نور أضاء له قصور بصرى من أرض الشام، ثم حملت به، فوالله ما رأيت من حمل قط كان أخف منه ولا أيسر منه، ووقع حين ولدته وإنه لواضع يديه بالأرض رافع رأسه إلى السماء.
"فدعاه عنكما" وظاهر هذا السياق، بل صريحه: أن شق الصدر ورجوعه إلى أمه كانا في(1/281)
وفي حديث شداد بن أوس عن رجل من بني عامر، عند أبي يعلى وأبي نعيم وابن عساكر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "كنت مسترضعًا في بني سعد بن بكر، فبينما أنا ذات يوم في بطن واد، مع أتراب لي من الصبيان، إذ أنا برهط ثلاثة
__________
السنة الثالثة لقوله فيه بشهرين أو ثلاثة، وقد قال ابن عباس: رجع إلى أمه وهو ابن خمس سنين، وقال غيره: وهو ابن أربع؛ حكاهما الواقدي. وقال ابن عبد البر: ردته بعد خمس سنين ويومين. وقال الأموي: وهو ابن ست سنين. وحاول في النور الجمع بتعدد الواقعة مستدلا بأن صدره شق مرارًا، وفيه ما فيه. وأيضًا يعكر عليه أن الأموي ذكر أن حليمة لم تره بعد إلا مرتين بعد تزويج خديجة جاءته تشكو السنة، وأن قومها أسنتوا كلهم فكلم خديجة فأعطتها عشرين من الغنم وبكرات، والثانية يوم حنين. والراجح أنه صلى الله عليه وسلم رجع إلى أمه وهو ابن أربع سنين، وإن شق الصدر إنما كان في الرابعة؛ كما جزم به الحافظ العراقي في نظم السيرة وتلميذه الحافظ ابن حجر في سيرته وهي صغيرة مفيدة، وذكر أنه التزم فيها الاقتصار على الأصح مما اختلف فيه، قال العراقي:
أقام في سعد بن بكر عندها ... أربعة الأعوام تجني سعدها
وحين شق صدره جبريل ... خافت عليه حدثا يئول
ردته سالما إلى آمنة
ولفظ سيرة ابن حجر: أقام عندها أربع سنين أرضعته حولين كاملين، ثم أحضرته إلى أمه وسألتها أن تتركه عندها إلى أن يشب ففعلت، فأتاه جبريل فشق صدره وأخرج منه علقة، فقال: هذا خط الشيطان منك، فخافت عليه حليمة فرجعته إلى أمه، انتهى.
ومن خطه نقلت: "وفي حديث شداد بن أوس عن رجل من بني عامر" لا يضر إبهامه؛ لأن الصحابة كلهم عدول ولا سيما وهو من رواية صحابي عن صحابي، عند أبي يعلى وأبي نعيم وابن عساكر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "كنت مسترضعًا" بصيغة اسم الفاعل وسين التأكيد لا الطلب، وإن كان الأصل فيها وليس اسم مفعول؛ لأن فعله لازم، "في بني سعد بن بكر، فبينما أنا ذات يوم" تأنيث ذي بمعنى صاحب، أي: في ساعة ذات يوم، أي: منه، فحذف ذلك لوضوح المراد؛ كقول امرئ القيس:
إذا قامتا تضوع المسك منها ... نسيم الصبا جاءت بريا القرنفل
أي: مثل تضوع نسيم الصبا، "في بطن واد مع أتراب لي من الصبيان" جمع ترب، وهو من ولد معه؛ كما في القاموس بأن كان في سنه. "إذ أنا برهط" بسكون الهاء أفصح من فتحها "ثلاثة" وسمى الملائكة رهطًا لمجيئهم على صورة الرجال، إذ الرهط لغة ما دون العشرة من(1/282)
معهم طست من ذهب، مليء ثلجًا، فأخذوني من بين أصحابي، وانطلق الصبيان هربًا مسرعين إلى الحي، فعمد أحدهم فأضجعني على الأرض إضجاعًا لطيفًا، ثم شق ما بين مفرق صدري إلى منتهى عانتي وأنا أنظر إليه، لم أجد لذلك مسًا، ثم أخرج أحشاء بطني ثم غسلها بذلك الثلج، فأنعم غسلها، ثم أعادها مكانها، ثم قام الثاني فقال لصاحبه تنح، ثم أدخل يده في جوفي وأخرج قلبي وأنا أنظر إليه وصاعه ثم أخرج منه مضغة سوداء فرمى بها ثم قال بيده...........................
__________
الرجال ليس فيهم امرأة؛ كما في النهاية وغيرها. "معهم طست من ذهب مليء" نعت للطست على معنى الإناء، لا اللفظ؛ لأنها مؤنثة. "ثلجًا، فأخذوني من بين أصحابي" أترابي الذين كنت معهم، "وانطلق الصبيان هربًا" بكسر الهاء وتخفيف الراء جمع هارب، ويجوز ضم الهاء مع شد الراء "مسرعين" صفة لازمة، ففي الصحاح هرب الرجل إذا جد في الذهاب مذعورًا، "إلى الحي" بفتح الميم، ونقل في النور عن الليلي كسرها؛ كما مر، "فعمد أحدهم فأضجعني على الأرض إضجاعًا لطيفًا" لم يشق عليّ "ثم شق ما بين مفرق" كمسجد وتكسر ميمه أيضًا؛ كما في الصحاح. "صدري" والمراد منه الموضع الذي يفترق فيه عظم الصدر وهو رأس المعدة، "إلى منتهى عانتي".
قال الأزهري وجماعة: هي منبت الشعر فوق قبل المرأة وذكر الرجل، والشعر النابت عليها يسمى الشعرة.
"وأنا أنظر إليه، لم أجد لذلك مسًا" أي: أثرًا؛ كأنه لم يمس، ولا ينافيه وجدانه منتقعًا لجواز أنه من الفزع الحاصل من مجرد رؤية الملك وشق الصدر، "ثم أخرج أحشاء بطني" جمع حشى بالقصر، وهي المصارين "ثم غسلها بذلك الثلج، فأنعم غسلها" أحسنه مجاز عن جعل الشيء ناعمًا، "ثم أعادها مكانها".
قال السهيلي في حكمه: الثلج لما يشعر به من ثلج اليقين وبرده على الفؤاد، ولذا حصل له اليقين بالأمر الذي يراد به بوحدانية ربه، انتهى. "ثم قام الثاني، فقال لصاحبه: تنح" فتنحى فوقف مكانه، "ثم أدخل يده في جوفي وأخرج قلبي، وأنا أنظر إليه وصاعه " شقه، "ثم أخرج منه مضغة سوداء، فرمى بها" وعند مسلم وأحمد من حديث أنس: فأخرج علقة، فقال: هذا حظ الشيطان منك ولا منافاة فقد تكون العلقة لكبرها تشبه المضغة. "ثم قال بيده" أشار بها من إطلاق القول على الفعل مجازًا لغويًا، فقد قال ثعلب وغيره: العرب تطلق القول على جميع الأفعال، قال ابن بطال: سمي الفعل قولا؛ كما سمي القول فعلا في حديث: "لا حسد إلا في اثنتين" حيث قال في الذي يتلو القرآن: لو أوتيت مثل ما أوتي لفعلت مثل ما فعل، وتقول(1/283)
يمنة ويسرة كأنه يتناول شيئًا فإذا بخاتم في يده من نور يحار الناظر دونه فختم به قلبي فامتلأ نورًا وذلك نور النبوة والحكمة ثم أعاده مكانه فوجدت برد ذلك الخاتم في قلبي دهرًا، ثم قال الثالث لصاحبه تنح، فأمر يده بين مفرق صدري إلى منتهى عانتي فالتأم ذلك الشق بإذن الله تعالى، ثم أخذ بيدي فأنهضني من مكاني إنهاضًا لطيفًا ثم قال الأول للثالث: زنه بعشرة من أمته فوزنني فرجحتهم ثم قال زنه بمائة من أمته فرجحتهم ثم قال زنه بألف فرجحتهم فقال: دعوه فلو وزنتموه بأمته كلها لرجحهم، ثم ضموني إلى صدورهم وقبلوا رأسي وما بين عيني ثم قالوا: يا حبيب لم ترع إنك لو تدري ما يراد بك من الخير لقرت عيناك" ...
__________
العرب: قل لي برأسك، أي: أمله.
"يمنة ويسرة، كأنه يتناول شيئًا فإذا بخاتم في يديه من نور يحار الناظر دونه" أي: في مكان أقرب منه، والمراد يتحير فيما دون ذلك الخاتم لصفته الخارقة للعادة، "فختم به قلبي وامتلأ" قلبي "نورًا، وذلك نور النبوة والحكمة" قال النووي: فيها أقوال كثيرة مضطربة صفا لنا منها أنها العلم المشتمل على المعرفة بالله مع نفاذ البصيرة وتهذيب النفس وتحقيق الحق للعمل به، والكف عن ضده والحكيم من حاز ذلك، انتهى ملخصًا قاله الحافظ. "ثم أعاده" أي: قلبي "مكانه فوجدت برد ذلك الخاتم في قلبي دهرًا" أي: مدة طويلة واستمر.
ففي رواية: "فأنا الساعة أجد برده في عروقي ومفاصلي"، قاله الشامي. "ثم قال الثالث لصاحبه: تنح، فأمر يده بين مفرق صدري إلى منتهى عانتي، فالتأم ذلك الشق بإذن الله تعالى، ثم أخذ بيدي فأنهضني" أقامني "من مكانه" الذي كان أضجعني فيه "إنهاضًا لطيفًا، ثم قال الأول للثالث: زنه بعشرة من أمته فوزنني فرجحتهم، ثم قال: زنه بمائة من أمته فرجحتهم، ثم قال: زنه بألف" فوزنني "فرجحتهم، فقال" يخاطب صاحبيه: "دعوه" اتركوه فهو من استعمال الجمع موضع المثنى، ويجوز أنه كان معهم غيرهم، "فلو وزنتموه بأمته كلها لرجحهم، ثم ضموني إلى صدورهم وقبلوا رأسي وما بين عيني" تبركًا وإيناسًا، "ثم قالوا: يا حبيب" الله والمؤمنين "لم ترع" بضم أوله وفتح الراء فمهملة مجزوم، أي: لم تخف بعد ولم يقصد به الأمر. وفي نسخة: لن تراع، بزيادة ألف منصوب بلن وهي أولى، إذ المقصود بشارته والتسهيل عليه حتى لا يحصل له الروع في المستقبل، وبمثل النسختين ورد حديث رؤيا ابن عمر في الصحيح، وروي فيه أيضا: لن ترع، ووجه ابن مالك بوجهين لا داعي لإيرادهما هنا.
"إنك لو تدري ما يراد بك من الخير لقرت عيناك" سكنت وبردت كناية عن السرور،(1/284)
الحديث.
وفي رواية ابن عباس، عند البيهقي، قالت حليمة: إذا أنا بابني ضمرة يعدو فزعًا، وجبينه يرشح باكيًا ينادي: يا أبت، يا أمت، الحقا محمدًا فما تلحقانه إلا ميتًا. أتاه رجل فاختطفه من أوساطنا، وعلا به ذروة الجبل، حتى شق صدره إلى عانته، وفيه: أنه عليه السلام قال: "أتاني رهط ثلاثة، بيد أحدهم إبريق من فضة، وفي يد الثاني طست من زمردة خضراء". الحديث.
فإن قلت: هل غسل قلبه الشريف في الطست خاص به، أو...........
__________
قال في الفتح: قرت العين يعبر بها عن المسرة ورؤية ما يحبه الإنسان ويوافقه؛ لأن عينه قرت، أي: سكنت حركتها عن التلفت لحصول غرضها فلا تستشرف لشيء آخر وكأنه مأخوذ من القرار، وقيل: معناه أنام الله عينك وهو يرجع إلى هذا، وقيل: بل هو مأخوذ من القر، وهو البرد، أي: إن عينه باردة لسروره، ولذا قيل: دمعة السرور باردة ودمعة الحزن حارة، ومن ثم قيل في ضده: أسخن الله عينه، انتهى. "الحديث".
"وفي رواية ابن عباس عند البيهقي: قالت حليمة: إذا أنا بابني ضمرة" مر أن اسمه عبد الله، وأنه وقع في رواية البيهقي هذه: ضمرة، وأن الشامي توقف، فقال والله أعلم. "يعدو فزعًا" بفتح الزاي مفعول لأجله وبكسرها حال، "وجبينه يرشح باكيًا ينادي: يا أبت، يا أمت" وفي نسخة: يا أماه، ولعل الأصل يا أمتا بإشباع الفتحة فتولد منها ألف ثم قدم الألف على التاء للقلب المكاني فصار: يا أمات، ثم قلبت التاء هاء؛ كما قيل بمثله في: يا أبات.
"الحقا محمدًا فما تلحقانه إلا ميتًا، أتاه رجل" وتقدم أنه قال: رجلان، الموافق لقول المصطفى فيه: "جاءني رجلان" فيجوز أن المختطف الصاعد واحد فقط؛ كما قد يدل له قوله: "فاختطفه من أوساطنا وعلا" صعد "به ذروة" بكسر الذال وضمها: أعلى "الجبل، حتى شق صدره إلى عانته، وفيه" أي: حديث ابن عباس هذا, أنه عليه السلام، قال: "أتاني رهط ثلاثة" وهو موافق لما في حديث شداد عنه عليه السلام: "لماء فوق هذا" ... الحديث، ومخالف كما ترى لقول ضمرة: رجل أو رجلان، فلعله لم ير سوى اثنين، وأما المصطفى، فرأى الثلاثة "بيد أحدهم إبريق من فضة، وفي يد الثاني طست من زمردة خضراء" ... الحديث بطوله وغرضه أيضًا من سياقه التنبيه على ما فيه من مخالفة الحديث فوقه في أن الطست من ذهب، فيحتمل والله أعلم أن الزمرد مرصع فوق الذهب، "فإن قلت: هل غسل قلبه الشريف في الطست خاص به، أو(1/285)
فعل بغيره من الأنبياء عليهم السلام؟
أجيب: بأنه ورد في خبر التابوت والسكينة: أنه كان فيه الطست الذي غسلت فيه قلوب الأنبياء، ذكره الطبري، وعزاه العماد ابن كثير في تفسيره لرواية السدي عن أبي مالك عن ابن عباس.
فإن قلت: ما الحكمة في ختم قلبه المقدس؟
أجيب: بأنه إشارة إلى ختم............................
__________
فعل بغيره من الأنبياء عليهم السلام" قلت: "أجيب بأنه ورد في خبر التابوت" الصندوق الذي كان فيه صور الأنبياء، أنزله الله على آدم قاله الجلال، وقال البيضاوي: هو صندوق التوراة وكان من خشب الشمشار مموهًا بالذهب نحوًا من ثلاثة أذرع في ذراعين، انتهى. ولا منافاة بينهما "والسكينة" الطمأنينة الحاصلة من ذلك التابوت، وقيل: إنها ريح هفافة لها وجه كوجه إنسان، أخرجه ابن جرير عن علي، زاد مجاهد: ورأس كرأس الهر، وزاد ابن أبي الربيع عن أنس: لعينيها شعاع.
زاد أبو الشيخ: إذا التقى الجمعان أخرجت يديها ونظرت إليها، فيهزم الجيش من الرعب، "أنه كان فيه الطست الذي غسلت فيه قلوب الأنبياء" فليس خاصًا بنبينا صلى الله عليه وسلم، "ذكره الطبري" يعني محمد بن جرير أحد الأعلام، وحكاه عنه السهيلي والحافظ في الفتح، وأقره قائلا: هذا يشعر بالمشاركة، وذكر البرهان أنه رأى بهامش الروض عن ابن دحية أن هذا أثر باطل، انتهى. وهو مردود، فقد رواه سعيد بن منصور وابن جرير بسند ضعيف عن السدي عن ابي مالك عن ابن عباس. "و" هو الذي "عزاه" العماد "بن كثير في تفسيره لرواية السدي عن أبي مالك، عن ابن عباس" فحيث وجد مسندًا وليس فيه وضاع ولا كذاب، فمن أين يجيء بطلانه خصوصًا وقد أخرجه ابن جرير وسعيد بن منصور بإسناد صحيح عن السدي الكبير، في قوله تعالى: {فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 248] ، قال: طست من ذهب الجنة كان يغسل فيه قلوب الأنبياء.
وفي الفتح: اختلف هل كان شق صدره وغسله مختصًا به أو وقع لغيره من الأنبياء، فذكر المنقول عن الطبري، قال الشامي: والراجح المشاركة، وما صححه الشيخ -يعني السيوطي- في خصائصه الصغرى من عدم المشاركة لم أر ما يعضده بعد الفحص الشديد، انتهى. "فإن قلت: ما الحكمة في ختم قلبه المقدس" صلى الله عليه وسلم "أجيب" وفي نسخة بالفاء وحذفها أولى، كما مر "بأنه إشارة إلى ختم الرسالة به؟ " الأولى النبوة، لأن ختم الرسالة لا يستلزم ختم النبوة بخلاف(1/286)
الرسالة به، وهذا مسلم، إن كان الختم خاصا به، أما إذا ورد أنه ليس خاصًا به بل بكل نبي فتكون الحكمة أنه علامة يمتاز بها عن غيره ممن ليس بنبي وسيأتي قريبًا إن شاء الله تعالى ما في الخاتم الشريف من المباحث.
والمراد بالوزن: في قوله: "زنه بعشرة ... إلخ" الوزن الاعتباري، فيكون المراد به الرجحان في الفضل، وهو كذلك.
وفائدة فعل الملكين، ذلك، ليعلم الرسول عليه السلام ذلك، حتى يخبر به غيره ويعتقده، إذ هو من الأمور الاعتقادية.
__________
العكس، "وهذا مسلم إن كان الختم" أي: خاتم النبوة "خاصًا به، أما إذا" أي: حيث "ورد أنه ليس خاصًا به، بل بكل نبي، فتكون الحكمة أنه علامة يمتاز بها النبي عن غيره ممن ليس بنبي، ويأتي قريبًا" جدًا "إن شاء الله تعالى، ما في الخاتم الشريف من المباحث" ولما كان المتبادر من الوزن في الحديث الحقيقي، وليس مرادًا بين المراد بقوله: "والمراد بالوزن في قوله" أي: الملك "زنه بعشرة إلخ" يريد وزنه بألف "الوزن الاعتباري" لا الحقيقي؛ فكأنه قال: اعتبره بعشرة، "فيكون المراد به الرجحان" وفي نسخة والرجحان، أي: المراد بالرجحان الرجحان، "في الفضل وهو كذلك" ووقع في حديث ساقه الشامي، ثم قال: "زنه بألف فوزنوني فرجحتهم" فجعلت أنظر إلى الألف، فوقي أشفق أن يخر علي بعضهم، وهذا كالصريح في أنه حسي، اللهم إلا أن يقال فيه: تجوز، والمراد: رأيت زيادة رجحان في الاعتبار لو كانت محسوسة لكادت أن يسقط علي بعضها.
"وفائدة فعل الملكين ذلك: ليعلم الرسول عليه السلام ذلك حتى يخبر به غيره، ويعتقده إذ هو من الأمور الاعتقادية" ولما نقل الشامي من أول قوله: والمراد إلى هنا عن بعض العلماء قال: وسألت شيخ الإسلام برهان الدين بن أبي شريف عن هذا الحديث قبل وقوفي على الكلام السابق، فكتب لي بخطه: هذا الحديث يقتضي أن المعاني جعلها الله تعالى ذواتًا، فعند ذلك قال الملك لصاحبه: اجعله في كفة واجعل ألفًا من أمته في كفة، فلعل ترجح ماله صلى الله عليه وسلم رجحانًا طاش معه ما للألف بحيث يخيل إليه أنه يسقط بعضهم، ولما عرف الملكان منه لرجحان، وأنه معنى: لو اجتمعت المعاني كلها التي للأمة ووضعت في كفة ووضع ماله صلى الله عليه وسلم لرجح على الأمة، قالوا: لو أن أمته وزنت به مال بهم؛ لأن مآثر خير الخلق وما وهبه الله تعالى له من الفضائل يستحيل أن يساويها غيرها.(1/287)
وقد وقع شق صدره الشريف واستخراج قلبه مرة أخرى عند مجيء جبريل له بالوحي في غار حراء. ومرة أخرى عند الإسراء.
وروى الشق أيضًا، وهو ابن عشر أو نحوها، مع قصة له مع عبد المطلب، أبو نعيم في الدلائل.
وروي خامسة، ولا تثبت.
والحكمة في شق صدره الشريف في حال صباه، واستخراج العلقة منه، تطهيره عن حالات الصبا حتى يتصف في سن الصبا بأوصاف الرجولية، ولذلك نشأ على أكمل الأحوال من العصمة.
__________
"وقد وقع شق صدره الشريف، واستخرج قلبه مرة أخرى" هي ثالثة "عند مجيء جبريل له بالوحي في غار حراء" كما أخرجه أبو نعيم والبيهقي في دلائلهما والطيالسي والحارث في مسنديهما من حديث عائشة، وسأذكر الحديث إن شاء الله تعالى هناك، قال الحافظ: والحكمة فيه زيادة الكرامة ليتلقى ما يوحى إليه بقلب قوي في أكمل الأحوال من التطهير.
"ومرة أخرى" وهي رابعة "عند الإسراء" رواه الشيخان وأحمد من حديث قتادة عن أنس عن مالك بن صعصعة: أن نبي الله صلى الله عليه وسلم حدثهم، فذكره الشيخان والترمذي والنسائي من طريق الزهري، عن أنس عن أبي ذر مرفوعًا، ورواه البخاري من طريق شريك عن أنس رفعه، ومسلم والبرقاني وغيرهما من طريق ثابت عن أنس رفعه بلا واسطة، فلا عبرة بمن نفاه؛ لأن رواته ثقات مشاهير. قال الحافظ: والحكمة فيه الزيادة في إكرامه ليتأهب للمناجاة، قال ويحتمل أن تكون الحكمة في هذا الغسل لتقع المبالغة في الإسباغ بحصول المرة الثالثة؛ كما تقرر في شرعه، انتهى. وفيه: أن هذه رابعة؛ كما أشار له بقوله.
"وروي" بالبناء للفاع "الشق أيضًا وهو ابن عشر" من السنين "أو نحوها" يعني أشهرًا؛ كما في رواية في الزوائد وهي المرة الثانية، وقد جزم بها الحافظ في كتاب التوحيد "مع قصة له مع عبد المطلب أبو نعيم" فاعل روى "في الدلائل" ورواها أيضًا عبد الله بن أحمد في زوائد المسند بسند رجاله ثقات وابن حبان والحاكم وابن عساكر والضياء في المختارة، عن أبي بن كعب: أنا أبا هريرة، قال: يا رسول الله! ما أول ما ابتدئت به من أمر النبوة؟ قال: "إن لفي صحراء ابن عشر حجج إذا أنا برجلين فوق رأسي، يقول أحدهما لصاحبه: أهو هو؟ قال: نعم، فأخذاني فاستقبلاني بوجوه لم أرها لخلق قط، وأرواح لم أجدها من خلق قط، وثياب لم أرها على خلق قط فأقبلا إلي يمشيان حتى أخذ كل واحد منهما بعضدي، لا أجد لأخذهما مسا، فقال أحدهما لصاحبه: أضجعه، فأضجعاني".
وفي لفظ: "فقال أحدهما لصاحبه: افلق صدره، ففلقاه فيما أرى بلا دم ولا وجع، فكان أحدهما يختلف بالماء في طست من ذهب والآخر يغسل جوفي، ثم قال: شق قلبه، فشق قلبي فأخرج الغل والحسد منه، فأخرج شبه العلقة فنبذ به" فذكر الحديث. قال الشامي: والحكمة فيه(1/288)
"ذكر خاتم النبوة":
وقد روي أنه ختم بخاتم النبوة......................
__________
أن العشر قريب من سن التكليف فشق قلبه وقدس حتى لا يتلبس بشيء مما يعاب على الرجال، قال: لكن هل كان في هذه المرة بختم لم أقف عليه في شيء من الأحاديث. وأما الثلاث المرات، ففي كل مرة يختم؛ كما هو مقتضى الأحاديث، انتهى ملخصًا.
"وروي" شق صدره مرة "خامسة" وهو ابن عشرين سنة، فيما قيل: "ولا تثبت" فلا تذكر إلا مقرونة ببيان عدم الثبوت، "والحكمة في شق صدره الشريف في حال صباه" وهو عند ظئره، كما مر. قال البرهان: وهو متفق عليه عند الناس. "واستخراج العلقة منه" هي كما قال الحافظ: "تطهيره عن حالات الصبا حتى يتصف في سن الصبا بأوصاف الرجولية، ولذلك نشأ على أكمل الأحوال من العصمة" من الشيطان وغيره، وخلقت هذه العلقة؛ لأنها من جملة الأجزاء الإنسانية، فخلقت تكملة للخلق الإنساني ولا بد ونزعها كرامة ربانية طرأت بعده، فإخراجها بعد خلقها أدل على مزيد الرفعة وعظيم الاعتناء والرعاية من خلقه بدونهما، قاله العلامة السبكي. وقال غيره: لو خلق سليمًا منها لم يكن للآدميين اطلاع على حقيقته، فأظهره الله على يد جبريل ليتحققوا كمال باطنه، كما برز لهم مكمل الظاهر.
ذكر خاتم النبوة:
"وقد روي أنه ختم بخاتم النبوة" قال القرطبي في المفهم: سمي بذلك لأنه أحد العلامات التي يعرفه بها علماء الكتب السابقة، ولذا لما حصل عند سلمان من علامات صدقه ما حصل كموضع مبعثه ومهاجره جد في طلبه، فجعل يتأمل ظهره فعلم صلى الله عليه وسلم أنه يريد الوقوف على خاتم النبوة، فأزال الرداء عنه، فلما رأى سلمان الخاتم أكب عليه فقبله، وقال: أشهد أنك رسول الله. وفي قصة بحيراء الراهب: وإني أعرفه بخاتم النبوة، وقال غيره: إضافته للنبوة لكونه من آياتها أو لكونه ختمًا عليها لحفظها، أو ختمًا عليها لإتمامها كما تكمل الأشياء، ثم يختم عليها قال السهيلي: وحكمة وضعه أنه لما شق صدره وأزيل منه مغمز الشيطان ملئ قلبه حكمة وإيمانًا، فختم عليه كما يختم على الإناء المملوء مسكًا، انتهى.(1/289)
بين كتفيه، وكان ينم مسكًا.
وأنه مثل زر الحجلة، ذكره البخاري.
وفي مسلم: جمع عليه خيلان، كأنها الثآليل السود عند نغض كتفه، ويروى: غضروب كتفه اليسرى.
__________
وروى الحربي في غريبة وابن عساكر في تاريخه عن جابر، قال أردفني صلى الله عليه وسلم خلفه، فالتقمت خاتم النبوة بفمي فكان ينم علي مسكًا. ومر في حديث شداد: أنه من نور يحار الناظر دونه، قال شيخنا: فلعل المراد أن الذي ختم به شديد اللمعان حتى كأنه جسم من نور، قلت: بقاؤه على ظاهره أولى.
"بين كتفيه" وفي مسلم: إلى جهة كتفه اليسرى، فالبينية تقريبية إذا الصحيح كما يأتي في المتن عن السهيلي أنه عند كتفه الأيسر، "وكان ينم مسكًا" روي بضم النون وكسرها، أي: تظهر منه رائحة المسك، قال في المقتفى: من قولهم نمت الريح إذا جلبت الرائحة، انتهى، وهو مستعار من النميمة، ومنه سمي الريحان نمامًا لطيب رائحته، وهي استعارة لطيفة شائعة.
"وأنه مثل زر" بزاي فراء على المشهور، وقيل بالعكس. "الحجلة" بفتحتين، وقيل: بسكون الجيم مع ضم الحاء، وقيل: مع كسرها ذكره غير واحد. وفي المطالع: أن بعضهم ضبطه بضم الحاء وفتح الجيم على أنه من حجل الفرس. "ذكره" أي: رواه "البخاري" وكذا مسلم كلاهما من حديث السائب بن يزيد.
"وفي" صحيح "مسلم" ومسند أحمد من حديث عبد الله بن سرجس وهو بفتح المهملة وسكون الراء وكسر الجيم، فمهملة: أنه "جمع عليه خيلان؛ كأنها" أي: الخيلان "الثآليل السود" فالتشبيه في لونها لا صورتها "عند نغض" بضم النون وفتحها وسكون المعجمة آخره ضاد معجمة؛ كما ضبطه المصنف بشرح البخاري. "كتفه" اليسرى، "ويروى" بدل نغض "غضورف" بضم الغين وسكون الضاد المعجمتين فراء مضمومة فواو ساكنة ففاء، ويقال: غضروف بتقديم الراء أيضًا، وهو رأس لوح "كتفه اليسرى" محذوف من الأول لدلالة الثاني، وهذا نقل لما في مسلم بالمعنى، ولفظه من حديث المذكور؛ ثم درت خلفه، فنظرت إلى خاتم النبوة بين كتفيه عندنا غض كتفه اليسرى جمعًا عليه خيلان كأمثال الثآليل، ودرت من الدوران وجمعًا نصب على الحال.
قال السهيلي: وحكمة وضعه عند النغض؛ لأنه معصوم من وسوسة الشيطان، وذلك الموضع منه يدخل الشيطان، وقد روى ابن عبد البر بسند قوي عن عمر بن عبد العزيز: أن رجلا(1/290)
وفي كتاب أبي نعيم: الأيمن.
وفي مسلم أيضًا: كبيضة الحمامة.
وفي صحيح الحاكم: شعر مجتمع.
وفي البيهقي: مثل السلعة.
__________
سأل ربه أن يريه موضع الشيطان من ابن آدم، فأرى جسدًا ممهى يرى داخله من خارجه، وأرى الشيطان في صورة ضفدع عند كتفه حذاء قلبه له خرطوم كخرطوم البعوضة، وقد أدخله في منكبه الأيسر إلى قلبه يوسوس إليه، فإذا ذكر الله تعالى العبد خنس، قال في الفتح: وهو مقطوع وله شاهد مرفوع عن أنس عند أبي يعلى وابن عدي، ولفظه: "أن الشيطان واضع خطمه على قلب ابن آدم" الحديث، وممهى بضم الميم الأولى وسكون الثانية وتخفيف الهاء اسم مفعول من أمهاه، أي: مصفى. وفي النهاية: أنه رأى ذلك منامًا قال: والمها البلور، وكل شيء صفى فهو ممهى تشبيهًا به زاد في الفائق أو مقلوب من مموه وهو مفعل من أصل الماء، أي: مجعول الماء.
"وفي كتاب أبي نعيم" عند نغض أو غضروف كتفه "الأيمن" ولا شك في شذوذ هذا لمباينته ما في الصحيح الواجب تقديمه، وعلم من تعبيره أولا باليسرى، وثانيًا بالأيمن، أن الكتف يذكر ويؤنث، وبه صرح ابن مالك. "وفي مسلم أيضًا" عن جابر بن سمرة أثناء حديث بلفظ: ورأيت الخاتم عند كتفه، "كبيضة" نقل بالمعنى، ولفظه: مثل بيضة "الحمامة" يشبه جسده، وأخرجه عنه أيضًا من وجه آخر مختصرًا بلفظ: رأيت خاتمًا في ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنه بيضة حمام، ووقع في رواية لابن حبان: كبيضة نعامة. قال الحافظ الهيثمي: والصواب ما في الصحيح. وقال الحافظ ابن حجر: قد تبين من رواية مسلم أنها غلط من بعض رواته.
"وفي صحيح الحاكم" المستدرك: وكذا في الترمذي وأبي يعلى والطبراني كلهم من حديث عمرو بن أخطب، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ادن فامسح ظهري"، فدنوت ومسحت ظهره ووضعت أصابعي على الخاتم، فقيل له: وما الخاتم؟ قال: "شعر مجتمع" عند كتفه، أي: ذو شعر أو فيه شعر، فلا ينافي حديث أبي سعيد عن البخاري في تاريخه، والبيهقي: أنه لحمة ناتئة، وكأنه رآه على استعجال فلم ير إلا الشعر فأخبر عنه.
"وفي البيهقي" وأحمد وابن سعد من طرق عن أبي رمثة بكسر الراء وسكون الميم فثاء مثلثة، قال: انطلقت مع أبي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنظرت إلى "مثل السلعة" بين كتفيه بكسر فسكون فمهملة مفتوحة، أي: خراج كهيئة الغدة تتحرك بالتحريك، ورواه قاسم بن ثابت من(1/291)
وفي الشمائل: بضعة ناشزة.
وفي حديث عمرو بن أخطب: كشيء يختم به.
وفي تاريخ ابن عساكر: مثل البندقة.
وفي الترمذي ودلائل البيهقي: كالتفاحة.
وفي الروض: كأثر المحجمة القباضة على اللحم.
وفي تاريخ ابن أبي خيثمة: شامة خضراء محتفرة في اللحم.
__________
حديث قرة بن إياس.
"وفي الشمائل" للترمذي عن أبي سعيد الخدري، قال: الخاتم الذي بين كتفي رسول الله صلى الله عليه وسلم "بضعة" بفتح الموحدة، وحكي كما في الفتح ضمها وكسرها أيضًا وسكون المعجمة، أي: قطعة لحم "ناشزة" بنون وشين مكسورة، فزاي معجمتين مرتفعة ولأحمد عنه لحم ناشز بين كتفيه، وللبيهقي والبخاري في التاريخ عنه لحمة ناتئة وكلتا الروايتين تفسر رواية بضعة. "وفي حديث" ابن أبي شيبة عن "عمرو بن أخطب" بفتح الهمزة وسكون المعجمة صحابي بدري خرج له مسلم والأربعة، "كشيء يختم به" لفظ ابن أبي شيبة عنه: رأيت الخاتم على ظهره صلى الله عليه وسلم هكذا؛ كأنه يختم به، أي: على صورة الآلة التي يختم بها. وفي الشمائل عنه: "شعرات مجتمعات، ومر لفظ الجماعة عنه: شعر مجتمع، فيحمل على أن مراده أن الشعرات على صورة الشيء الذي يختم به بلا منافاة.
"وفي تاريخ ابن عساكر" وتاريخ الحاكم وصحيح ابن حبان عن ابن عمر: "مثل البندقة" من اللحم "وفي" جامع "الترمذي ودلائل البيهقي" عن أبي موسى الأشعري"كالتفاحة" ولفظه: كان خاتم النبوة أسفل من غضروف كتفه مثل التفاحة.
"وفي الروض" الأنف على قول ابن هشام كان كأثر المحجم، يعني: "كأثر المحجمة" بكسر الميم "القابضة على اللحم" حتى يكون ناتئًا، انتهى كلام الروض. قال الشامي: هي الآلة التي يجتمع بها دم الحجامة عند المص، والمراد من أثرها اللحم الناتئ من قبضها عليه ويأتي أنه غير ثابت، أي: ضعيف. وقد رواه أحمد والبيهقي عن التنوخي رسول هرقل في حديثه الطويل بلفظ: فإذا أنا بخاتم في موضع غضروف الكتف، مثل المحجمة الضخمة.
"وفي تاريخ" أبي بكر "بن أبي خيثمة" عن بعضهم "شامة خضراء محتفرة" بالراء، أي: غائرة "في اللحم" مغطاة بالجلد.(1/292)
وفيه أيضًا: شامة سوداء تضرب إلى الصفرة حولها شعرات متراكمات كأنها عرف الفرس.
وفي تاريخ القضاعي: ثلاث شعرات مجتمعات.
وفي كتاب الترمذي الحكيم: كبيضة حمام، مكتوب في باطنها: الله وحده لا شريك له، وفي ظاهرها: توجه حيث كنت فإنك منصور.
وفي كتاب المولد لابن عائذ: كان نورًا يتلألأ.
وفي سيرة ابن أبي عاصم: عذرة كعذرة الحمام....................
__________
"وفيه أيضًا" عن عائشة، قالت: كان خاتم النبوة "شامة سوداء تضرب إلى الصفرة حولها شعرات متراكمات" مجتمعات "كأنها عرف" بضم العين شعر عنق "الفرس" أي: في الاجتماع، ويأتي أنهما غير ثابتين.
"وفي تاريخ" أبي عبد الله محمد بن سلامة "القضاعي" بضم القاف وضاد معجمة وعين مهملة مر بعض ترجمته "ثلاث شعرات مجتمعات" بجره نعت لشعرات، ورفعه نعت لثلاث.
"وفي كتاب" نوادر الأصول للإمام الحافظ محمد بن علي "الترمذي الحكيم" الصوفي سمع الكثير من الحديث بالعراق ونحوه، وهو من طبقة البخاري حدث عن قتيبة بن سعيد وغيره، وحسبك فيه قول الحافظ ابن النجار في تاريخه: كان إمامًا من أئمة المسلمين له المصنفات الكبار في أصول الدين ومعاني الحديث، لقي الأئمة الكبار وأخذ عنهم. وقول أبي نعيم في الحلية: له التصانيف الكثيرة في الحديث، مستقيم الطريقة تابع للأثر له حكم عليه الشأن، وقول ابن عطاء الله: كان الشاذلي والمرسي يعظمانه جدًا، ولكلامه عندهما الحظوة التامة، ويقولان: هو أحد الأوتاد الأربعة. وأطال القشيري وغيره الثناء عليه، مات سنة خمس وتسعين ومائتين. "كبيضة حمامة مكتوب في باطنها" أي: البيضة، قال شيخنا: ولعل المراد ما يلي جسده الشريف. "الله وحده لا شريك له، وفي ظاهرها" قال شيخنا: لعل المراد ما يقابل الجهة التي خلفه "توجه حيث كنت" أي: إلى أي جهة أردت، فلا تفرق بين مكان ومكان، "فإنك منصور" ورواه أبو نعيم أيضًا ويأتي أنه غير ثابت، وقال في المورد: هو حديث باطل، انتهى. ولا يقدح في جلاله من خرجه؛ لأن المحدثين عندهم إذا أبرزوا الحديث بسنده برءوا من عهدته.
"وفي كتاب المولد" النبوي "لابن عائذ" بمهملة فتحتية فمعجمة عن شداد بن أوس "كان نورًا يتلألأ" أي: صورة ذات نور كأنه لشدته ما يمكن من وصفه بصورة يعبر بها عنه، "وفي سيرة ابن أبي عاصم عذرة كعذرة الحمام" في النهاية العذرة بالضم وجع في الحلق يهيج من الدم أو(1/293)
قال أبو أيوب: يعني قرطمة الحمامة. وهي نقطة على أصل منقارها كما يأتي فليس المراد بالعذرة حقيقتها.
وفي تاريخ نيسابور: مثل البندقة من لحم مكتوب فيه باللحم: محمد رسول الله.
وعن عائشة: كتينة صغيرة تضرب إلى الدهمة، وكان مما يلي الفقار قالت: فلمسته حين توفي فوجدته قد رفع.
__________
قرحة تخرج في الخرم الذي بين الأنف والحلق.
"قال أبو أيوب: يعني قرطمة الحمامة وهي نقطة على أصل منقارها، كما يأتي فليس المراد بالعذرة حقيقتها وفي تاريخ نيسابور" بفتح النون لأبي عبد الله الحاكم، وكذا في صحيح ابن حبان من طريق إسحاق بن إبراهيم قاضي سمرقند: حدثنا ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عمر، قال: كان خاتم النبوة على ظهره صلى الله عليه وسلم "مثل البندقة من اللحم مكتوب فيه باللحم" يحتمل أن اللحم بارز أو غائر بحروف "محمد رسول الله" ولا يتوهم أحد أنه بمداد مع قوله: باللحم، ويأتي أنه ضعيف وإنما قصر عزوه لتاريخ الحاكم لزيادته على ابن حبان لفظًا باللحم، ولقوله: "و" فيه أيضًا "عن عائشة" رضي الله عنها "كتينة صغيرة تضرب إلى الدهمة" بضم الدال السواد، "وكان مما يلي الفقار" بفتح الفاء وكسرها؛ كما في القاموس.
واقتصر المصباح على الفتح، فقال جمع فقارة كسحاب جمع سحابة عظام الظهر. "قالت فالتمسته حين توفي فوجدته قد رفع" أي: ظهوره، فاختفى في جسده كما تتقلص الأنثيان عند الوفاة، لا أنه نزع من جسده فلا ينافي قول شيخ الإسلام الولي ابن العراقي في جواب سؤال، وأما دفنه معه فلا شك فيه؛ لأنه قطعة من جسده، انتهى. وعليه: فهل يبعث به يوم القيامة ظاهرًا في جسده كالدنيا إظهارًا لشرفه بتلك العلامة التي لم تكن لغيره، فإن شامات الأنبياء كانت في أيديهم أم لا؟ فإن قيل: النبوة والرسالة باقيتان بعد الموت، كما هو مذهب الأشعري وعامة أصحابه؛ لأن الأنبياء أحياء في قبورهم فلم رفع ما هو علامة على ذلك؟
أجيب: بأنه لما وضع لحكمة هي تمام الحفظ والعصمة من الشيطان، وقد تم الأمن منه بالموت، لم يبق لبقائه من جسده فائدة، لكن توقف العلامة الشامي في رفعه عند الوفاة المروي هنا عن عائشة، قال: لا أظنه صحيحًا، فينظر سنده.
قال: وروى أبو نعيم والبيهقي من طريق الواقدي عن شيوخه، قالوا شكوا في موته صلى الله عليه وسلم، فقال بعضهم: مات، وبعضهم لم يمت، فوضعت أسماء بنت عميس يدها بين كتفيه صلى الله عليه وسلم،(1/294)
حكى هذا كله الحافظ مغلطاي.
لكن قال في فتح الباري: ما ورد من أن الخاتم كان كأثر المحجم، أو الشامة السوداء أو الخضراء، أو المكتوب عليها: محمد رسول الله، أو: سر فإنك المنصور. لم يثبت منها شيء. قال: ولا تغتر بشيء مما وقع منها في صحيح ابن حبان، فإنه غفل حيث صحح ذلك.
وقال الهيثمي.................................
__________
فقالت: قد مات قد رفع الخاتم من بين كتفيه، قال: والواقدي متروك، بل كذبه جماعة.
"حكى هذا" الذي ساقه المصنف من اختلاف الروايات في قدر الخاتم "كله الحافظ مغلطاي" في الزهر الباسم مقرًا له ومن قبله الحافظ القطب الحلبي، وبقي من الروايات: أنه كركبة عنز، رواه الطبراني وابن عبد البر وأبو نعيم في المعرفة من حديث عباد بن عبد عمرو، وزاد: وكان صلى الله عليه وسلم يكره أن يرى الخاتم، وسنده ضعيف. ورواه ابن عساكر من طريق أبي يعلى، وقال: كركبة البعير. قال في الإصابة: وفي سنده من لا يعرف، وقال الشامي: هو وهم من بعض رواته؛ كأنه تصحف عليه كركبة عنز بركبة بعير، وأنه بين كتفيه كدارة القمر مكتوب فيها سطران، الأول: لا إله إلا الله، وفي السطر الأسفل: محمد رسول الله؛ رواه أحمد بن إسماعيل الدمشقي، قال في المورد والغرور: وهو باطل بين البطلان، وأنه كبيضة نعامة، رواه ابن حبان، ومر أنه غلط.
"لكن قال" شيخ الإسلام الحافظ ابن حجر "في فتح الباري: ما ورد من أن الخاتم كان كأثر المحجم" كما في الروض وغيره "أو الشامة السوداء أو الخضراء" كما في تاريخ ابن أبي خيثمة "أو المكتوب عليها محمد رسول الله"؛ كما في تاريخ الحاكم وغيره "أو سر فإنك المنصور" كما في النوادر، "لم يثبت منها شيء" بل بعضها باطل، وبعضها ضعيف، فلا معنى لذكرها مع السكوت عليها، قال -أعني الحافظ: وقد أطنب الحافظ قطب الدين في استيعابها في شرح السيرة، وتبعه مغلطاي ولم يبينا شيئًا من حالها، والحق ما ذكرته.
قال: ولا تغتر بشيء مما وقع منها في صحيح ابن حبان، فإنه غفل" بفتح الفاء وتكسر، ذكره الأنصاري، "حيث صحح ذلك" بإيراده في صحيحه المسمى بالأنواع والتقاسيم، "وقال" الحافظ نور الدين أبو الحسن علي بن أبي بكر بن سليمان "الهيثمي" رفيق أبي الفضل العراقي ولد سنة خمس وثلاثين وسبعمائة، ورافق العراقي في سماع الحديث ولازمه، وألف وجمع ومات في تاسع عشر رمضان سنة سبع وثمانمائة.(1/295)
في "مورد الظمآن" بعد أن أورد الحديث ولفظه: مثل البندقة من اللحم مكتوب عليه: محمد رسول الله. اختلط على بعض الرواة خاتم النبوة بالخاتم الذي كان يختم به.
وبخط الحافظ ابن حجر على الهامش: البعض المذكور هو إسحاق ابن إبراهيم قاضي سمرقند وهو ضعيف.
وقوله: زر الحجلة -بالزاي والراء- والحجلة -بالحاء المهملة والجيم- قال النووي: هي واحدة الحجال، وهي بيت كالقبة، لها أزرار كبار وعرًا، هذا هو الصواب. وقال بعضهم: المراد بالحجلة: الطائر المعروف. وزرها بيضها، وأشار إليه الترمذي
__________
وفي نسخة: وقال شيخه الهيثمي: والضمير لصاحب فتح الباري؛ لأنه شيخه وذكره في مشايخه "في مورد الظمآن" إلى زوائد ابن حبان "بعد أن أورد الحديث، ولفظه: مثل البندقة من اللحم مكتوب عليه محمد رسول الله، اختلط على بعض الرواة خاتم النبوة بالخاتم الذي كان يختم به" صلى الله عليه وسلم "وبخط" تلميذه "الحافظ ابن حجر على الهامش: البعض المذكور هو إسحاق بن إبراهيم" راويه عن ابن جريج "قاضي سمرقند" بفتح المهملة والميم وسكون الراء وفتح القاف وسكون النون ودال مهملة: مدينة عظيمة، يقال لها اثنا عشر بابًا بين كل بابين فرسخ وهو معرب شمركند بالمعجمة والكاف، قال المجد: وإسكان الميم وفتح الراء لحن، "وهو ضعيف" فلا يعول على مروياته، ثم أخذ في تفسير بعض ما مر على عادتهم، فقال: "وقوله: زر الحجلة بالزاي والراء" بعدها في المشهور، وبه جزم عياض وغيره، وقيل قبلها: حكاه الخطابي، وفسره بأنه البيض، يقال: رزت الجرادة بفتح الراء وشد الزاي غرزت ذنبها في الأرض لتبيض، قال التوربشتي: وهو أوفق بظاهر الحديث، لكن الرواية لا تساعده. وقال في المفهم، العرب لا تسمي البيضة رزة ولا تؤخذ اللغة قياسًا والمصنف محتمل للقولين، "والحجلة بالحاء المهملة والجيم" المفتوحتين أو بسكون الجيم مع ضم الحاء أو كسرها.
"قال النووي" في شرح مسلم "هي واحدة الحجال، وهي بيت كالقبة لها أزرار كبار وعرا" جمع عروة، قال السيوطي وغيره: هي المعروفة الآن بالبخانة، "هذا هو الصواب" في تفسيرها، وبه جزم الأزهري، فقال في التهذيب: الحجلة بيت كالقبة يستر بالثياب ويجعل له باب من جنسه فيه زر وعروة تشد إذا أغلقت، قال القرطبي: وهو المشهور والأشبه بالمعنى، وبه جزم السهيلي، فالزر على هذا حقيقة؛ لأنها ذات أزرار وعرا.
"وقال بعضهم: المراد بالحجلة الطائر المعروف وزرها بيضها، وأشار إليه الترمذي"(1/296)
وأنكره عليه العلماء.
وقوله: جمع -بضم الجيم وإسكان الميم- أي كجمع الكف، وصورته: أن تجمع الأصابع وتضمها.
وقوله: خيلان -بكسر الخاء المعجمة وإسكان التحتية- جمع خال، وهو الشامة على الجسد.
وقوله: نغض -بالنون والغين والضاد، المعجمتين- قال النووي: النُّغْض والنَّغْض والناغض: أعلى الكتف، وقيل هو العظم الرقيق الذي على طرفه، وقيل: ما يظهر منه............
__________
فقال في جامعه: المراد بالحجلة هذا الطائر وزرها بيضها "وأنكره عليه العلماء"؛ لأن اللغة لا تساعد على الزر بمعنى البيض وحمله على الاستعارة تشبيهًا لبيضها بأزرار الحجال إنما يصار إليه إذا ورد ما يصرف اللفظ عن ظاهره، لكن قال ابن الأثير: يشهد له حديث مثل بيضة الحمامة، وقيل: المراد بالحجلة من حجل الفرس، نقله البخاري في الصحيح عن محمد بن عبيد الله، واستبعده السهيلي بأن التحجيل إنما يكون في القوائم؛ وأما الذي في الوجه، فهو الغرة.
قال الحافظ: وهو كما قال: إلا أن منهم من يطلقه على ذلك مجازًا، وكأنه أراد أنها قدر الزور إلا فالغرة لا زر لها، انتهى. وفيه ما قد يجاب به عن قول ابن قرقول: إن كان سمى البياض بين عيني الفرس حجلة لكونها بياضًا؛ كما سمي بياض القوائم تحجيلا، فما معنى الزر؟ مع هذا لا يتجه لي فيه وجه. "وقوله: جمع، بضم الجيم" جزم به ابن الأثير وغيره وحكى ابن الجوزي وابن دحية كسرها، وجزم به في المفهم. "وإسكان الميم، أي: كجمع الكف، وهو صورته بعد أن تجمع الأصابع وتضمها" أي: الأصابع إلى باطن الكف؛ كالقابض على شيء هذا المتبادر، واحتمال أن ذلك مع انتشارها بعيد جدًا، بل يمنعه جواب عياض الآتي في المتن، وتفسير المصنف هذا حكاه في الروض عن القتيبي، وصدر بقوله: يعني كالمحجمة لا كجمع الكف، ومعناه كمعنى الأول، أي: كأثر الجمع، كذا قال: وهو تكلف والمتبادر تفسير ابن قتيبة، وقد تبعه عليه عياض والنووي والمصنف وغيرهم، الآتي.
"وقوله خيلان بكسر الخاء المعجمة وإسكان التحتية جمع خال، وهو الشامة على الجسد" جمعها شام وشامات، "وقوله: نغض، بالنون" تضم وتفتح "والغين" الساكنة "والضاد المعجمتين، قال النووي: النغض" بضم النون "والنغض" بفتحها "والناغض" بألف بين النون والغين، "أعلى الكتف" وهو رأس لوحه، "وقيل: هو العظم الرقيق الذي على طرفه، وقيل: ما يظهر منه.(1/297)
عند التحرك بأعضاء التحرك، سمي ناغضًا للحركة.
وقوله: بضعة ناشزة -بالمعجمة والزاي- قطعة لحم مرتفعة على جسده. وبيضة الحمامة: معروفة. انتهى.
والثآليل -بالمثلثة- جمع ثؤلول: وهو حب يعلو ظاهر الجسد، واحدته كالحمصة فما دونها.
وفي القاموس: وقرطمتا الحمام -أي بكسر القاف- نقطتان على أصل منقاره.
وقال بعض العلماء: اختلفت أقوال الرواة في خاتم النبوة، وليس ذلك باختلاف، بل كل شبه بما سنح له، وكلها ألفاظ مؤداها واحد، وهو: قطعة لحم، ومن قال: شعر، فلأن الشعر حوله متراكم عليه، كما في الرواية الأخرى.
__________
عند التحرك بأعضاء التحرك"، وفي شرح مسلم للآبي، قال المازري: قال شمر: الناغض من الإنسان أصل العنق حيث ينغض رأسه ونغض الكتف هو العظم الرقيق على طرفه. وقال غيره: الناغض فرع الكتف، "سمي نغضًا للحركة" ومنه قيل للظلم ناغض؛ لأنه يحرك رأسه إذا عدا، أي: جرى. وقال النووي: ناغض الكتف ما رق منه، سمي بذلك لنغوضه، أي: لتحركه، نغض رأسه حركه، ومنه قوله تعالى: {فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ} [الإسراء: 51] ، أي: يحركونها استهزاء.
"وقوله: بضعة ناشزة بالمعجمة" المكسورة "والزاي قطعة لحم مرتفعة على جسده وبيضة الحمامة معروفة، انتهى" كلام النووي. "والثآليل بالمثلثة، جمع ثؤلول" بهمزة ساكنة وزان عصفور، ويجوز تخفيف الهمزة بإبدالها واوًا، "وهو حب يعلو ظاهر الجسد، واحدته كالحمصة فما دونها" وفي المفهم الخيلان جمع خال، وهي نقط سود كانت على الخاتم شبهها لسعتها بالثآليل، لا أنها كانت ثآليل، انتهى.
"وفي القاموس: وقرطمتا الحمام" قال المصنف "أي: بكسر القاف" لأن صاحب القاموس عطفه على قوله: وقرطمة بالكسر بلدة بالأندلس، وقرطمتا الحمام. "نقطتان على أصل منقاره، وقال بعض العلماء: اختلفت أقوال الرواة في خاتم النبوة" على نحو عشرين قولا، "وليس ذلك باختلاف" حقيقي "بل كل شبه بما سنح" ظهر "له" لأنه صلى الله عليه وسلم كان يستهر وواصفه أما رآه من غير قصد؛ كما في حديث عمرو بن أخطب: أو أراه له عليه السلام كما في قصة سلمان مع مزيد ما حواه صلى الله عليه وسلم من المهابة، "وكلها ألفاظ مؤداها واحد، وهو طعة لحم" بارزة عليها شعرات، "فمن قال: شعر فلأن الشعر حوله متراكم" مجتمع "عليه؛ كما في الرواية الأخرى" عن(1/298)
وقال القرطبي: الأحاديث الثابتة دالة على أن خاتم النبوة كان شيئًا بارزًا أحمر عند كتفه الأيسر، إذا قلل، قدر بيضة الحمامة، وإذا كثر: جمع اليد.
وقال القاضي عياض: وهذه الروايات متقاربة، متفقة على أنه شاخص في جسده، قدر بيضة الحمامة، وزر الحجلة. وأما رواية جمع الكف فظاهرها المخالفة، فتتأول على وفق الروايات الكثيرة............................
__________
عائشة، فإن أشكل برواية محتفرة في اللحم، أجيب: بأنها إن صحت يجوز أن حولها احتفار ليزداد ظهورها وتميزها عن الجلد.
"وقال" أبو العباس أحمد بن عمر بن إبراهيم الأنصاري "القرطبي" المالكي الفقيه المحدث نزيل الإسكندرية ومدرسها، ولد سنة ثمان وسبعين وخمسمائة، وتوفي في ذي القعدة سنة ست وخمسين وستمائة، واختصر الصحيحين، وصنف المفهم في شرح صحيح مسلم، فقال فيه: "الأحاديث الثابتة دالة" وفي نسخة: تدل "على أن خاتم النبوة كان شيئًا بارزًا أحمر عند كتفه الأيسر إذا قلل" قيل فيه: هو "قدر بيضة الحمامة، وإذا كثر" قيل فيه: هو "جمع اليد" أي: قدره فقدر وجمع مرفوعان ويجوز النصب بتقدير كان، وحاصله: أن اختلافه باختلاف الأحوال، وكذا يقال في الاختلاف في لونه.
"قال القاضي" أبو الفضل "عياض" بن موسى بن عياض السبتي الدار والبلاد الأندلسي الأصل، حافظ مذهب مالك الأصولي العلامة الحافظ إمام المحدثين وأعرف الناس بعلومه وبالتفسير وفنونه وبالنحو واللغة وكلام العرب وأيامهم وأنسابهم، شاعر بليغ حليم صبور جواد كثير الصدقة صاحب التصانيف المشهورة؛ كشرح مسلم والشفاء والأعلام والمشارق، وهو كتاب لو وزن بالجوهر أو كتب بالذهب كان قليلا فيه، وفيه أنشد:
مشارق أنوار تبدت بسبتة ... ومن عجب كون المشارق بالغرب
ولد بسبتة سنة ست وسبعين وأربعمائة، وتوفي متغربًا عن وطنه في شهر رمضان أو جمادى الآخر سنة أربع وأربعين وخمسمائة، ودفن بمراكش، وقيل مات مسمومًا سمه يهودي. "وهذه الروايات" الإشارة إلى جملة روايات ذكرها في شرح مسلم: هي مثل بيضة الحمامة وبضعة ناشزة ومثل السلعة وزر الحجلة، عند ناغض كتفه اليسرى جمعًا، ثم قال: وهذه الروايات كلها "متقاربة" في المعنى "متفقة على أنه شاخص" بارز مرتفع "في جسده قدر بيضة الحمامة، وزر الحجلة" أي: وعليه شعر، ولما كان ذا الجمع شاملا للروايات السابقة، كلها ذكره المصنف عقبها، ولم يبال بأن عياضًا إنما ذكره عقب الروايات المذكورة عنه.
"وأما رواية جمع الكف، فظاهرها المخالفة. فتتأول" تحمل "على وفق الروايات الكثيرة،(1/299)
ويكون معناه: على هيئة جمع الكف، لكنه أصغر منه في قدر بيضة الحمامة. قال: وهذا الخاتم هو أثر شق الملكين بين كتفيه.
قال النووي: هذا الذي قاله ضعيف، بل باطل، لأن شق الملكين إنما كان في صدره وبطنه. انتهى.
ويشهد له قول أنس في حديث عند مسلم, يأتي في ذكر قلبه الشريف، من المقصد الثالث، إن شاء الله تعالى: فكنت أرى أثر المخيط في صدره.
لكن أجيب: بأن في حديث عتبة بن عبد السلمى -عند أحمد والطبراني- أن الملكين لما شقا صدره قال أحدهما..................................
__________
ويكون معناه على هيئة جمع الكف، لكنه أصغر منه في قدر بيضة الحمامة" وتبعه على ذا الجمع النووي، "قال" يعني عياضًا: "وهذا الخاتم هو أثر شق الملكين بين كتفيه، قال النووي: هذا الذي قاله ضعيف بل باطل؛ لأن شق الملكين إنما كان في صدره وبطنه، انتهى" وفي المفهم: هذا غلط من عياض؛ لأن الشق إنما كان في صدره وأثره إنما كان خطأ واضحًا من صدره إلى مراق بطنه؛ كما في الصحيح، ولم يرد قط في رواية أنه بلغ بالشق حتى نفذ من وراء ظهره، ولو ثبت لزم عليه أن يكون مستطيلا من بين كتفيه إلى أسفل بطنه؛ لأنه الذي يحاذي الصدر من مسيرته إلى مراق البطن، قال: فهذه غفلة من القاضي، قال: ولعل هذا الغلط وقع من بعض الناسخين لكتابه، فإنه لم يسمع عليه فيما علمت، انتهى.
"ويشهد له قول أنس في حديث عند مسلم يأتي في ذكر قلبه الشريف من المقصد الثالث إن شاء الله تعالى، فكنت أرى أثر المخيط" بكسر الميم: ما يخاط به، "في صدره" صلى الله عليه وسلم، وظاهره: أنه كان بآلة كالشق وبدل له قول الملك في حديث أبي ذر: خط بطنه فخاطه، صلى الله عليه وسلم وظاهره: أنه كان بآلة كالشق ويدل له قول الملك في حديث أبي ذر: خط بطنه فخاطه، وقوله في حديث عتبة بن عبد حصه فحاصه، وقد وقع السؤال عن ذلك ولم يجب عنه أحد، ولم أر من تعرض له بعد التتبع.
وأما قوله: "وأتيت بالسكينة فوضعت في صدري"، فالصواب كما قال ابن دحية: تخفيف السكينة لذكرها بعد شق البطن، خلافًا للخطابي ذكره الشامي.
"لكن أجيب" عن عياض؛ كما ذكره الحافظ متبرئًا من الاعتراض عليه، "بأن في حديث عتبة بن عبد" بلا إضافة "السلمى" أبي الوليد صحابي شهير أول مشاهده قريظة، مات سنة سبع وثمانين، ويقال: بعد السبعين، وقد قارب المائة رضي الله عنه. "عند أحمد والطبراني" وغيرهما ويأتي لفظه قريبًا، "أن الملكين لما شقا صدره" صلى الله عليه وسلم، وهو في بني سعد بن بكر، "قال أحدهما(1/300)
للآخر: خطه، فخاطه وختم عليه بخاتم النبوة، فلما ثبت أن خاتم النبوة بين كتفيه حمل القاضي عياض ذلك على أن الشق لما وقع في صدره، ثم خيط حتى التأم كما كان، ووقع الختم بين كتفيه كان ذلك أثر الختم. وفهم النووي وغيره منه: قوله بين كتفيه متعلق بالشق وليس كذلك، بل هو متعلق بأثر الختم، وحينئذ فليس ما قاله القاضي عياض باطلا، انتهى،
__________
للآخر: خطه فخاطه" نقل بالمعنى، وإلا فالرواية حصه فحاصه، قال الشامي: بمهملة مضمومة، أي: خطه يقال حاص الثوب يحوصه حوصًا، إذا خاطه. "وختم عليه بخاتم النبوة، فلما ثبت أن خاتم النبوة كان بين كتفيه، حمل القاضي عياض ذلك على أن الشق لما وقع في صدره، ثم خيط حتى التأم" عاد "كما كان، ووقع الختم بين كتفيه كان ذلك أثر" عقب "الختم، وفهم النووي وغيره" كالقرطبي "منه قوله: بين كتفيه، متعلق بالشق" فغلطوه "وليس كذلك" أي: كما فهموه "بل هو متعلق بأثر الختم".
قال الحافظ: ويؤيده ما في حديث شداد عند أبي يعلى وأبي نعيم: أن الملك لما أخرج قلبه وغسله ثم أعاده ختم عليه بخاتم في يده من نور، فامتلأ نورًا وذلك نور النبوة والحكمة، فيحتمل أن يكون ظهر من وراء ظهره عند كتفه الأيسر؛ لأن القلب في تلك الجهة. وفي حديث عائشة عند الطيالسي والحارث وأبي نعيم: "أن جبريل وميكائيل لما تراءيا له عند المبعث هبط جبريل فسبقني لحلاوة القفا، ثم شق عن قلبي فاستخرجه ثم غسله في طست من ذهب بماء زمزم، ثم أعاده مكانه لأمه، ثم ألقاني وختم في ظهري حتى وجدت مس الخاتم في قلبي، وقال: "اقرأ" وذكر الحديث، فهذا مسند القاضي. "وحينئذ فليس ما قاله القاضي عياض باطلا انتهى" جواب الحافظ رحمه الله.
وأجاب أبو عبد الله الآبي بأنه نص في حديث أبي ذر أن وضع الخاتم كان بعد الشق، قال: فلفظة أثر في كلام القاضي ليست بفتح الهمزة والثاء، وإنما هي بكسر الهمزة وسكون الثاء، ويتخرج الكلام على حذف مضاف تتعلق به لفظة بين، أي: وضع هذا الخاتم بين كتفيه أثر شق الصدر والكلام مستقيم دون غلط، ولا بطلان وإنما جاء ما فهماه من قبيل التصحيف، انتى. وفي نسيم الرياض: حديث أبي ذر المذكور موافق لكلام عياض سواء قرئ أثر بفتحتين أو بكسر فسكون. أما الثاني فظاهر، وأما على الأول، فلأنه لما وقع بعده وبسببه جعل أثرًا، انتهى.
وأجاب بعضهم بأن قوله بين كتفيه خبر بعد خبر؛ لقوله هو فقد تحامل من اعترض عياضًا؛ لأن مثل هذا ظاهر جدًا.(1/301)
وقال السهيلي: والصحيح أنه -يعني خاتم النبوة- كان عند نغض كتفه الأيسر.
واختلف هل ولد وهو به؟ أو وضع بعد ولادته؟ على قولين.
وقد وقع التصريح بوقت وضع الخاتم، وكيف وضع، ومن وضعه، في حديث أبي ذر.....................................
__________
"قال السهيلي: والصحيح أنه يعني خاتم النبوة كان عند نغض كتفه الأيسر" كما في مسلم، ففيه رد رواية الأيمن ووقع في حديث شداد في مغازي ابن عائذ في قصة شق صدره، وهو في بلاد بني سعد بن بكر، وأقبل الملك وفي يده خاتم له شعاع فوضعه بين كتفيه وثدييه، قال الحافظ: وتبعوه وهذا قد يؤخذ منه أن الختم وقع في موضعين من جسده، ومنعه شيخنا بجواز أن الختم وقع بين كتفيه في مقابلة ما بين الثديين فيكون الغرض تعيين موضعه عنده، قلت: وهو وجيه، لولا مباينته لما في مسلم أنه نغض كتفه المفسر بأعلى الكتف.
"واختلف" في جواب قول السائل: "هل ولد وهو به أو وضع بعد ولادته على قولين؟ " فقيل: ولد به، نقله ابن سيد الناس، ورده في الفتح بأن مقتضى الأحاديث السابقة أن الخاتم لم يكن موجودًا حين ولادته، قال: ففيها تعقب على من زعم أنه ولد به، واختلف القائلون بالثاني، فقيل: حين ولد، نقله مغلطاي عن يحيى بن عائذ، وورد به حديث ابن عباس عند أبي نعيم وغيره وفيه نكارة، قيل: عند شق صدره وهو في بني سعد. وورد في حديث عتبة بن عبد عند أحمد والطبراني وقطع به عياض.
قال الحافظ: وهو الأثبت. وفي حديث عائشة المار قريبًا أنه عند المبعث، وعند أبي يعلى وابن جرير الحاكم في حديث المعراج من حديث أبي هريرة: ثم ختم بين كتفيه بخاتم النبوة وطريق الجمع أن الختم تكرر ثلاث مرات في بني سعد، ثم عند المبعث، ثم ليلة الإسراء؛ كما دلت عليه الأحاديث، ولا بأس بهذا الجمع، فإن فيه إعمال الأحاديث كلها إذ لا داعي لرد بعضها وإعمال بعضها، لصحة كل منها، وإليه أشار الشامي؛ كما مر. وأما رواية بعد الولادة فضعيفة، وأما أنه ولد به، فضعيف أيضًا بطلب زاعمه، بدليله.
"وقد وقع التصريح بوقت وضع الخاتم، وكيف وضع، ومن وضعه في حديث أبي ذر" جندب بن جنادة أو يزيد ابن جنادة أو جندب بن سكن أو خلف بن عبد الله الغفاري قديم الإسلام، ذي الزهد الزائد والفضل المنوه عليه بقول خير شاهد: "ما أظلت الخضراء وما أقلت الغبراء بعد النبيين امرأ أصدق لهجة من أبي ذر"، وأخرجه أحمد والترمذي وابن ماجه.(1/302)
عند البزار وغيره قال: قلت يا رسول الله: كيف علمت أنك نبي، وبم علمت أنك نبي حتى استيقنت؟ قال: $"أتاني آتيان، وفي رواية ملكان، وأنا ببطحاء مكة، فوقع أحدهما بالأرض، وكان الآخر بين السماء والأرض، فقال أحدهما لصاحبه: أهو هو؟ قال: هو هو، قال: زنه برجل" ... الحديث............................
__________
وذكر ابن الربيع أنه سكن مصر مدة ثم خرج منها لما رأى اثنين تنازعا في موضع لبنة؛ كما أمره صلى الله عليه وسلم وحديثه في مسلم وغيره، مات بالربذة في ذي الحجة سنة اثنتين وثلاثين، "عند البزار وغيره" كالدارمي وابن أبي الدنيا وابن عساكر والروياني والضياء في المختارة، "قال: قلت: يا رسول الله! " أخبرني "كيف علمت أنك نبي وبم؟ " بأي دليل "علمت أنك نبي حتى استيقنت" أي: تيقنت، أي: علمت، "أتاني آتيان"، وفي رواية: "ملكان" هما جبريل وميكائيل كما في النور، أتياه في صورة طائرين، فروى أحمد والدارمي والحاكم وصححه والطبراني والبيهقي وأبو نعيم عن عتبة بن عبد: أنه صلى الله عليه وسلم قال: "كانت حاضنتي من بني سعد بن بكر، فانطلقت أنا وابن لها في بهم لنا ولم نأخذ معنا زاد، فقلت: يا أخي اذهب فأتنا بزاد من عند أمنا، فانطلق أخي ومكثت عند البهم، فأقبل إليّ طيران كأنهما نسران، فقال أحدهما لصاحبه: أهو هو؟ قال: نعم، فأقبلا يبتدراني فأخذاني فبطحاني للقفا فشقا بطني ثم استخرجا قلبي فشقاه، فأخرجا منه علقتين سوداوين، فقال أحدهما لصاحبه: ائتني بماء ثلج فغسلا به جوفي، ثم قال: ائتني بماء برد، فغسلا به قلبي، ثم قال: ائتني بالسكينة فذراها في قلبي، ثم قال أحدهما لصاحبه: حصه، فحاصه وختم عليه بخاتم النبوة" الحديث.
ولابن إسحاق ورواه البيهقي عن يحيى بن جعدة مرسلا يرفعه: "أن ملكين جاءاني في صورة كركيين معهما ثلج وبرد وماء بارد، فشق أحدهما بمنقاره صدري ومج الآخر بمنقاره فيه فغسله" قلت: فإن صحت هذه الرواية أفادت آلة الشق في هذه المرة، لكن قال السهيلي: هي رواية غريبة ذكرها يونس عن ابن إسحاق.
"وأنا ببطحاء مكة" أي: بنواحيها؛ لأنه كان في بني سعد وليست بمكة إذ الأبطح بمكة المحصب، ولعله قال ذلك ليبين أنه في ابتداء أمره، إذ جوابه لأبي ذر كان بالمدينة وبهذا اندفع قول السهيلي: أنه وهم من بعض الرواة، ولم يقع في رواية البزار بطحاء مكة، انتهى.
"فوقع" نزل "أحدهما بالأرض، وكان الآخر بين السماء والأرض، فقال أحدهما لصاحبه: أهو هو؟ قال: هو هو، قال: زنه برجل" ... الحديث, أسقط منه ما لفظه: "فوزنني برجل فرجحته، ثم قال: زنه بعشرة فوزنني بعشرة فرجحتهم، ثم قال: زنه بألف فوزنني فرجحتهم، فجعلوا ينثرون علي من كفة الميزان؛ فقال أحدهما للآخر: لو وزنته بأمته رجحها".(1/303)
وفيه: "ثم قال أحدهما لصاحبه: شق بطنه، فشق بطني فأخرج قلبي فأخرج منه مغمز الشيطان".
__________
"وفيه" عقب هذا، "ثم قال أحدهما لصاحبه: شق بطنه، فشق بطني فأخرج قلبي فأخرج منه مغمز الشيطان" بفتح الميمين وإسكان الغين المعجمة هكذا ضبطه البرهان وضبطه الشامي بكسر الميم الثانية، فالله أعلم. قال في العيون: وهو الذي يغمزه الشيطان من كل مولود إلا عيسى وأمه؛ لقول أمها حنة: {إِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} .
ولأنه لم يخلق من مني الرجال وإنما خلق من نفخة روح القدس.
قال السهيلي: ولا يدل هذا على فضله على المصطفى صلى الله عليه وسلم؛ لأنه عند نزع ذلك منه ملئ حكمة وإيمانا بعد أن غسله روح القدس بالثلج والبرد، زاد البرهان: وقوله: "مغمز الشيطان" محل نظر، فإن جاء بسند صحيح فمؤول. وقد رواه مسلم، وقال: "هذا حظ الشيطان منك" انتهى. قلت: لا شك في صحة إسناده فقد صححه الضياء، وقد قال العلماء: إن تصحيحه أعلى من تصحيح الحاكم، وتأويله سهل هو أن هذا محل الغمز والغمز عبارة عما يؤلمه ويؤذيه، فهو من الأمراض الحسية التي الأنبياء فيها كغيرهم. وقد قال السهيلي: إنما كان ذلك المغمز فيه لموضع الشهوة المحركة للمني، وذلك المغمز راجع إلى الأب دون الابن المطهر صلى الله عليه وسلم، انتهى.
وقوله: وقد رواه: أي: الحديث من حيث هو لا حديث أبي ذر؛ كما قد يوهمه فإن مسلمًا إنما رواه من حديث أنس: أنه صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل وهو يلعب مع الغلمان فأخذه وصرعه فشق عن قلبه واستخرج القلب ثم شق القلب، فاستخرج منه علقة، فقال: هذا حظ الشيطان منك، ثم غسله في طست من ذهب بماء زمزم ثم لأمه، فأعاده مكانه وجعل الغلمان يسعون إلى أمه -يعني ظئره- فقالوا: إن محمدًا قد قتل، فجاءوا وهو منقطع اللون، قال أنس: فلقد كنت أرى أثر المخيط في صدره؛ ورواه أحمد أيضًا عنه. وفي الصحيحين عن أبي هريرة، عنه صلى الله عليه وسلم: "فلقد كنت أرى أثر المخيط في صدره"، ورواه أحمد أيضًا عنه. وفي الصحيحين عن أبي هريرة، عنه صلى الله عليه وسلم: "ما من مولد يولد إلا نخسه الشيطان، فيستهل صارخًا من نخسة الشيطان، إلا ابن مريم وأمه"، قال أبو هريرة: اقرءوا إن شئتم: {إِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} ، قال عياض: يريد أن الله قبل دعاءها مع أن الأنبياء معصومون. وفي رواية: فذهب ليطعن في خاصرته فطعنه من الحجاب، قال النووي: أشار عياض إلى أن جميع الأنبياء يشاركون عيسى في هذه الخصوصية، انتهى. وقد تعقب الآبي عياضًا بأن هذا الطعن من الأمراض الحسية والأنبياء فيها كغيرهم، فيحمل الحديث على العموم إلا فيما استثني ولا يحتاج لقوله: الأنبياء معصومون, انتهى.(1/304)
وعلق الدم فطرحهما، فقال أحدهما لصاحبه: اغسل بطنه غسل الإناء، واغسل قلبه غسل الملاء، ثم قال أحدهما لصاحبه: خط بطنه، فخاط بطني وجعل الخاتم بين كتفي كما هو الآن، ووليا عني، وكأني أرى الأمر معاينة".
__________
قال الطيبي: النخس عبارة عما يؤلمه ويؤذيه، لا كما زعمت المعتزلة أنه تخييل واستهلاله صارخًا منه تصوير لطعمه فيه، انتهى. وقول الزمخشري: المراد بالمس الطمع في إغوائه واستثناء مريم وابنها لعصمتهما، ولما لم يخص هذا المعنى بهما عم الاستثناء كي من يكون على صفتهما شنع عليه التفتازاني بأنه إما تكذيب للحديث بعد صحته، وإما قول بتعليل الاستثناء والقياس عليه وليت شعري من أين ثبت تحقق طمع الشيطان ورجائه في أن هذا المولود محل لإغوائه ليلزمنا إخراج كل ما لا سبيل له إلى إغوائه فلعله يطمع في إغواء من سوى مريم وابنها ولا يتمكن منه، وقال قبل ذلك: طعن الزمخشري في الحديث بمجرد أنه لم يوافق هواه وإلا فأي مانع من أن يمس الشيطان المولود حين يولد بحيث يصرح كما يرى ويسمع، وليست تلك المسة للإغواء، انتهى.
"وعلق الدم فطرحهما" صريح في أنه غير المغمز، وفي حديث عتبة بن عبد: "ثم استخرجا قلبي فشقاه، ثم أخرجا منه علقتين سوداوين" قال الشامي: فتكون إحداهما محل غمز الشيطان والأخرى منشأ الدم الذي قد يحصل منه إضرار في البدن، وعلى هذا فلا حاجة لما أجيب به عن حديث العلقتين؛ باحتمال أنها علقة واحدة انقسمت عند خروجها قسمين، فسمي كل جزء منها علقة مجازًا. "فقال أحدهما لصاحبه: اغسل بطنه غسل الإناء، واغسل قلبه غسل الملاء" جمع ملاءة بالضم والمد: الثوب الذي يتغطى ب، وأسقط المصنف من حديث أبي ذر هذا، ما لفظه: ثم دعا بسكينة كأنها برهرة بيضاء، فأدخلت قلبي.
قال السهيلي: البرهرة بصيص البشرة، وزعم الخطابي: أنه أراد بها سكينة بيضاء صافية الحديد، متمسكًا بأنه عثر على رواية فيها، فدعا بسكينة كأنها درهمة بيضاء، قال ابن الأنباري: هي السكينة المعوجة الرأس، التي تسميها العامة: المنجل بالجيم، قال ابن دحية: والصواب السكينة بالتخفيف لذكرها بعد شق البطن، فإنما عنى بها فعلية من السكون وهي أكثر ما تأتي في القرآن بمعنى السكون والطمأنينة.
"ثم قال أحدهما لصاحبه: خط بطنه، فخاط بطني" هذا لفظ حديث أبي ذر، وحديث عتبة: حصه فحاصه؛ كما مر. "وجعل الخاتم بين كتفي، كما هو الآن" فصرح بأنه ما ولد بالخاتم، وإن واضعه الملك وكيفية وضعه، "ووليا عني وكأني أرى الأمر" الآن "معاينة" أي: عيانًا إشارة إلى شدة استحضاره، وهذا الحديث وإن أورده الشامي في أحاديث فيها ذكر شق(1/305)
وعند أبي نعيم في الدلائل: أنه صلى الله عليه وسلم لما ولد، ذكرت أمه أن الملك غمسه في الماء الذي أنبعه ثلاث غمسات، ثم أخرج سرقة من حرير أبيض، فإذا فيها خاتم فضرب على كتفه كالبيضة المكنونة، تضيء كالزهرة.
وقيل: ولد به.
روى الحاكم في المستدرك عن وهب بن منبه قال: لم يبعث الله نبيًا إلا وقد كان عليه شامات النبوة في يده اليمنة، إلا أن يكون نبينا فإن شامة النبوة كانت بين كتفيه.
وعلى هذا: فيكون وضع الخاتم بين كتفيه بإزاء قلبه مما اختص به على سائر الأنبياء والله أعلم.
__________
الصدر من غير تعيين زمان، لكن سياق الحديث يدل على أنه كان في بني سعد، وبه صرح في حديث عتبة بن عبد، فيحمل انطلق على المقيد، فإن قيل: فكيف جعله صلى الله عليه وسلم علامة على النبوة، وإنما كانت بعد الأربعين؟ أجاب شيخنا: بجواز أنه صلى الله عليه وسلم لما رأى تلك الحالة العجيبة في صغره علم أنه يكون له شأن وصار مطمئنًا لم يرد عليه، فلما جاءه الوحي علم بالمقدمات المستقرة في نفسه أن هذا أمر من الله، ليس للشيطان فيه سبيل.
"وعند أبي نعيم في الدلائل" في حديث طويل مر في ولادته عن ابن عباس، "أنه صلى الله عليه وسلم لما ولد ذكرت أمه أن الملك غمسه في الماء الذي أنبعه" أي: أحضره الملك ذلك الوقت في الإبريق الفضة؛ كما مر في حديث أبي نعيم: "ثلاث غمسات، ثم أخرج سرقة" بفتح المهملة والراء والقاف، أي: قطعة.
"من حرير أبيض" قال القاموس في باب القاف: السرقة محركة شقق الحرير الأبيض أو الحرير عامة الواحدة بهاء، انتهى. وبالقاف ضبط به الحافظ والمصنف والسيوطي وغيرهم، قوله صلى الله عليه وسلم لعائشة: "أريتك في المنام في سرقة من حرير". فأبعد من ضبط ما هنا بالفاء ناقلا قول القاموس في بابه السرف بضمتين شيء أبيض؛ كأنه نسج دود اقز فجعلها من حرير مجاز لمشابهتها له في الهيئة، انتهى. لاحتياجه إلى دعوى المجاز الذي لا قرينة له، إلا الوقوف مع النقطة "فإذا فيها خاتم" زاد فيما مر: يحار أبصار الناظرين دونه، "فضرب على كتفه" فأثر فيه ما صورته "كالبيضة المكنونة تضيء كالزهرة" بضم الزاي وفتح الهاء: النجم، قاله النووي وغيره، فأفاد في ذا الخبر أن الخاتم وضع عقب الولادة، فهو دليل القائل به لكن فيه نكارة؛ كما قدم المصنف كغيره.
"وقيل ولد به" كذا يوجد في نسخ، والصواب: حذفه الاستغناء عنه؛ لقوله المار قريبًا، واختلف ... إلخ "وروى الحاكم في المستدرك عن وهب بن منبه" بضم الميم ففتح النون فشد الموحدة المكسورة، أنه "قال: لم يبعث الله نبيًا إلا وقد كان عليه شامات" علامات "النبوة في(1/306)
"ذكر وفاة أمه وما يتعلق بأبويه صلى الله عليه وسلم":
ولما بلغ صلى الله عليه وسلم أربع سنين -وقيل: خمسًا، وقيل: ستًا، وقيل: سبعًا، وقيل: تسعًا، وقيل: اثنتي عشرة سنة وشهرًا وعشرة أيام- ماتت أمه بالأبواء وقيل: بشعب أبي ذئب بالحجون. وفي القاموس: ودار رائعة بمكة فيه مدفن آمنة أم النبي صلى الله عليه وسلم.
__________
يده اليمنى، إلا أن يكون" النبي المبعوث "نبينا، فإن شامة النبوة كانت بين كتفيه" صلى الله عليه وسلم، "وعلى هذا فيكون وضع الخاتم بين كتفيه بإزاء" أي: حذاء، "قلبه مما اختص به على سائر الأنبياء" وبه جزم الجلال، فقال: وجعل خاتم النبوة بظهره بإزاء قلبه حيث يدخل الشيطان، وسائر الأنبياء كان الخاتم في يمينهم، "والله أعلم".
باب وفاة أمه وما يتعلق بأبويه صلى الله عليه وسلم:
"ولما بلغ صلى الله عليه وسلم أربع سنين" فيما حكاه العراقي، وصدر به مغلطاي، فتبعه المصنف. "وقيل: خمسًا" حكاه مغلطاي ومثله في بعض نسخ الشامي، ويأتي دليله. وفي بعضها بدله عشرًا، وما أراه إلا تحريفًا. "وقيل: ستًا" وبه قطع ابن إسحاق، ويأتي قريبًا دليله، ووقع في نقل الخميس عن المصنف التصدير به وهو الأولى، فقد قدمه العراقي واقتصر عليه الحافظ وقد التزم الاقتصار على الأصح، غير أن الأول قال: ومائة يوم، والثاني: وثلاثة أشهر، فالمراد ستًا ونحوها.
"وقيل: سبعًا" حكاه ابن عبد البر، "وقيل: تسعًا" حكاه مغلطاي ويقع في بعض النسخ خمس ست سبع تسع بدون ألف، وذكر أن خط المصنف كذلك فيخرج على أنه بالفتح على نية حذف المضاف إليه وإبقاء المضاف، أي: خمس سنين أو كتب بصورة المرفوع على لغة ربيعة.
"وقيل: اثنتي عشرة سنة وشهرًا وعشرة أيام" حكاه مغلطاي، وبقي قول محمد بن حبيب وهو ابن ثمان سنين، حكاه أبو عمر.
"ماتت أمه بالأبواء" بفتح الهمزة والمد: وادٍ بين مكة والمدينة، "وقيل: بشعب" بكسر المعجمة: ما انفرج بين جبلين أو الطريق في الجبل، قاله المصنف وغيره.
"أبي ذئب" رجل من سراة بني عمرو، "بالحجون" بفتح المهملة وضم الجيم، قال المجد: جبل بمعلاة مكة، "وفي القاموس" في فصل الراء من باب العين المهملتين في روع "ودار رائعة" براء وبعد الألف تحتية، "بمكة فيه مدفن آمنة أم النبي صلى الله عليه وسلم" وفي ذخائر العقبي قال(1/307)
روى ابن سعد عن ابن عباس وعن الزهري، وعن عاصم بن عمرو بن قتادة دخل حديث بعضهم في بعض قالوا: لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ست سنين خرجت به أمه إلى أخواله بني عدي بن النجار بالمدينة تزورهم، ومعه أم أيمن، فنزلت به دار التابعة.
__________
ابن مسعود: دفنت أمه صلى الله عليه وسلم بمكة وأهل مكة يزعمون أن قبرها في مقابر أهل مكة في الشعب المعروف بشعب أبي ذئب رجل من سراة بني عمرو، وقيل: في دار رائعة في المعلاة. ا. هـ.
"وروى ابن سعد" محمد "عن ابن عباس" عبد الله، "وعن الزهري" محمد بن مسلم بن شهاب، "وعن عاصم بن عمرو بن قتادة" بن النعمان المدني الأنصاري الأوسي العالم الثقة كثير الحديث العلامة بالمغازي، مات سنة عشرين ومائة، خرج له الجماعة. "دخل حديث بعضهم في بعض".
قال السيوطي تبعًا لغيره: معناه أن اللفظ لمجموعهم، فعند كل منهم ما انفرد به عن الآخر، انتهى. "قالوا" أرسله الثلاثة، إلا أن مرسل ابن عباس في حكم الموصول؛ لأنه مرسل صحابي.
"لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ست سنين خرجت به أمه إلى أخواله بني عدي بن النجار" بإضافة الأخوال إليه مجازًا؛ لأنهم أخوال جده عبد المطلب؛ لأن أمه سلمى بنت عمرو بن زيد بن لبيد بن خداش بن عامر بن عدي بن النجار النجارية. "بالمدينة تزورهم" نسب الزيارة لها؛ لأنها المرادة لها وهي المباشرة، وعند ابن إسحاق تزيره إياهم بضم الفوقية وكسر الزاي وسكون الياء من أزاره إذا حمله على الزيارة، أي: إنها قصدت بزيارتها نقل المصطفى إليهم وإراءته لهم. "ومعه" أضافها إليه لكونها حاضنته. وفي نسخة ومعها "أم أيمن" بركة الحبشية بنت ثعلبة بن حصن أعتقها أبو المصطفى وقيل: بل هو صلى الله عليه وسلم، وقيل: كانت لأمه أسلمت قديمًا وهاجرت الهجرتين مناقبها كثيرة.
وفي صحيح مسلم وابن السكن عن الزهري: أنها ماتت بعده صلى الله عليه وسلم بخمسة أشهر، وقيل: بستة، قال البرهان: وبه يرد قول الواقدي ماتت في خلافة عثمان، وقد صرح بعضهم: بأنه شاذ منكر، انتهى. لكن أيده في الإصابة بما رواه ابن سعد بسند صحيح عن طارق بن شهاب لما قتل عمر بكت أم أيمن، فقيل لها: فقالت اليوم وهي الإسلام، وهذا موصول فهو أقوى من خبر الزهري المرسل واعتمد ابن منده وغيره قول الواقدي، وزاد ابن منده: أنها ماتت بعد عمر بعشرين يومًا، وجمع ابن السكن بين القولين بأن التي ذكرها الزهري هي مولاة النبي صلى الله عليه وسلم، والتي ذكرها طارق هي مولاة أم حبيبة واسم كل منها بركة، ويكنى أم أيمن، وهو محتمل على بعده، انتهى.
"فنزلت به دار التابعة" بفوقية فموحدة فمهملة، رجل من بني عدي بن النجار؛ كما مر.(1/308)
فأقامت به عندهم شهرًا، فكان صلى الله عليه وسلم يذكر أمورًا كانت في مقامه ذلك، ونظر إلى الدار فقال: "ها هنا نزلت بي أمي، وأحسنت العوم في بئر بني عدي بن النجار، وكان قوم من اليهود يختلفون ينظرون إليّ". قالت أم أيمن فسمعت أحدهم يقول: هو نبي هذه الأمة، وهذه دار هجرته، فوعيت ذلك كله من كلامهم، ثم رجعت به أمه إلى مكة، فلما كانت بالأبواء توفيت.
__________
"فأقامت به عندهم شهرًا، فكان صلى الله عليه وسلم يذكر أمورًا كانت في مقامه" بضم الميم، "ذلك" الخطاب لكل من صلح له أو للجماعة المخاطبين به لتأويلهم بنحو القبيل أو الجمع أو القوم أو هو يجري على أن الكاف المتصلة باسم الإشارة تفتح مطلقًا، "ونظر" صلى الله عليه وسلم "إلى الدار" وهو بالمدينة بعد الهجرة، وهذا قد يشعر بأن ابن عباس حمل الحديث هذا عنه صلى الله عليه وسلم، ويحتمل أنه حمله عن غيره وحدث به.
فقال: "هاهنا نزلت بي أمي" وفي الرواية: "وفي هذه الدار قبر أبي عبد الله". "وأحسنت العوم في بئر بني عدي بن النجار" استدل به السيوطي على أنه صلى الله عليه وسلم عام رادًا على القائل من معاصريه، الظاهر أنه لم يعم؛ لأنه لم يثبت أنه سافر في بحر ولا بالحرمين بحر، قال السيوطي: وروى أبو القاسم البغوي وابن عساكر مرسلا وابن شاهين موصولا عن ابن عباس: سبح صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه في غدير، فقال: "ليسبح كل رجل إلى صاحبه"، فسبح صلى الله عليه وسلم إلى أبي بكر حتى عانقه، وقال: "أنا وصاحبي، أنا وصاحبي". "وكان قوم من اليهود يختلفون ينظرون إليّ"، قالت أم أيمن: فسمعت أحدهم يقول: هو نبي هذه الأمة، وهذه الدار، وهي المدينة "دار هجرته، فوعيت" حفظت "ذلك كله من كلامهم" عبر بالجمع؛ لأن اليهود لما خاطب به أصحابه وأقروه نسب إليهم.
وفي نقل الشامي: فوعيت ذلك منه، وهي ظاهرة؛ لأن الضمير للأحد. "ثم رجعت به أمه" قاصدة "إلى مكة" سريعًا خوفًا عليه صلوات الله عليه من اليهود، ففي رواية أبي نعيم: قال صلى الله عليه وسلم: "فنظر إلي رجل من اليهود يختلف ينظر إلي، فقال: يا غلام ما اسمك؟ قلت: أحمد، ونظر إلي ظهري فأسمعه يقول: هذا نبي هذه الأمة، ثم راح إلى إخوانه فأخبرهم فأخبروا أمي فخافت علي فخرجنا من المدينة". وقدرنا قاصدة ليلاقي قوله: "فلما كانت بالأبواء توفيت" ودفنت فيها على المشهور، وهو قول ابن إسحاق، وجزم به العراقي وتلميذه الحافظ، ويعارضه ما مر؛ كالأحاديث من أنها بالحجون، وجمع بعض؛ كما في الخميس: بأنها دفنت أولا بالأبواء، وكان قبرها هناك، ثم نبشت ونقلت بمكة.(1/309)
وروى أبو نعيم من طريق الزهري عن أسماء بنت رهم عن أمها قالت: آمنة أم النبي صلى الله عليه وسلم في علتها التي ماتت بها، ومحمد عليه السلام غلام يفع له خمس سنين عند رأسها، فنظرت أمه إلى وجهه ثم قالت:
بارك فيك الله من غلام ... يابن الذي من حومة الحمام
نجا بعون الملك العلام ... فودي غداة الضرب بالسهام
بمائة من إبل سوام ... إن صح ما أبصرت في المنام
__________
"وروى أبو نعيم" في دلائل النبوة بسند ضعيف "من طريق" محمد "الزهري" ابن شهاب "عن أسماء بنت رهم" بضم الراء، وفي نسخة: بنت أبي رهم، وفي كتب السيوطي نقلا عن أبي نعيم عن أم سماعة بنت أبي رهم، فلعل اسمها أسماء وكنيتها أم سماعة، فتصرف المصنف لإفادة اسمها. "عن أمها، قالت آمنة أم النبي صلى الله عليه وسلم في علتها التي ماتت بها" بسببها صورة، وفي نسخة فيها "ومحمد عليه الصلاة والسلام غلام" هو الطار الشارب أو من حين يولد إلى أن يشب؛ كما في القاموس وغيره، والمراد هنا الثاني، وفي الأساس الغلام الصغير إلى حد الالتحاء، فإن قيل له بعد الالتحاء غلام فهو مجاز. "يفع" بفتح الفاء؛ كما في القاموس وغيره، أي: مرتفع. "له خمس سنين" هذا دليل القول به؛ كما قدمنا. وإن أبيت إلا الجمع بينه وبين الحديث فوقه، فقل المراد خمس ونحوها، ولعلها جمعت بين هذا ولفظ غلام، مع أن هذا يغني عنه إشارة إلى ما كان عليه صلى الله عليه وسلم من النجابة الظاهرة، فإن غلام يشعر بذلك بخلاف مجرد ذكر السن. "عند رأسها فنظرت أمه إلى وجهه، ثم قالت:
"بارك فيك الله من غلام ... يابن الذي من حومة الحمام"
وفي القاموس: حومة القتال وغيره معظمه أو أشد موضع فيه، والحمام الموت، وقيل: قدر الموت، وقضاؤه من حم كذا، أي: قدر، انتهى. والمعنى: هنا يابن الذي من سبب الموت.
"نجا بعون الملك العلام" وفي نسخة المنعام، وهو ما أنشده السيوطي. "فودي" بالواو من فاداه مزيد، أقلبت الألف واوًا لانضمام ما قبلها حين بني للمجهول. وفي نسخة: فدى بلا واو من فداه مجردًا، أي: أعطى فداءه "غداة" صبيحة "الضرب بالسهام" والمراد بعد الضرب بالقداح بينه وبين إخوته حين أراد عبد المطلب وفاء نذره "بمائة من إبل سوام" بالفتح جمع سام أو سامية، بمعنى مرتفع أو مرتفعة، أي: فدي حين خرج عليه السهم بمائة إبل مرتفعة القيامة ثم سوام بدون ياء في أكثر النسخ، وهو الذي في كتب السيوطي، وفي بعضها ثبوت الياء، قال شيخنا: وهو القياس؛ لأن الياء أصلية. "إن صح ما أبصرت في المنام" خصته لتقدمه وتحققه(1/310)
فأنت مبعوث إلى الأنام ... تبعث في الحل وفي الحرام
تبعث في التحقيق والإسلام ... دين أبيك البر إبراهام
فالله أنهاك عن الأصنام ... أن لا تواليها مع الأقوام
ثم قالت: كل حي ميت، وكل جديد بال، وكل كبير يفنى، وأنا ميتة
__________
عندها حتى كان ما رأته يقظة بعد؛ كالدليل على صحة المنام فلا يرد أنها رأت ما يدل على ذلك يقظة، فكان ذكره أولى لقوته على المنام، وعبرت بإن دون إذا لأن المقصود تعليق ما أولت به الرؤيا، ولا يلزم من كونها محققة أن ما أولت به محقق، وهذا من كمال فطنتها وفهمها حيث لم تجزم في التعليق بصحة ما رأته.
"فأنت مبعوث إلى الأنام" الجن والإنس أو جميع من على وجه الأرض، ولعله المراد هنا لكونه أبلغ في التعظيم، وقد بعث صلى الله عليه وسلم إلى الإنس والجن إجماعًا وإلى الملائكة عند كثير، واختاره جمع محققون. "تبعث في" بيان "الحل" أي: الحلال، "وفي" بيان "الحرام" أو تبعث في أرض الحل والبلد الحرام؛ فكأنها قالت: تبعث في جميع الأرض وليست بعثتك قاصرة على بلدة دون بلدة؛ كما كانت الرسل. "تبعث في" أي: لبيان، "التحقيق" الحق من الباطل، وبهذا يجاب عن قول السيوطي، كذا هو في النسخة وعندي أنه تصحيف وإنما هو بالتخفيف، انتهى.
فحيث صح المعنى لا تصحيف "و" بيان "الإسلام" وأنه الدين "دين" بالجر بدل من الإسلام "أبيك البر" المحسن المطيع "إبراهام" بدل من أبيك وهو لغة في إبراهيم، قرأ بها ابن عامر في مواضع والصرف لمناسبة القوافي لا لقصد تنكيره لعدم صحته؛ لأنها إنما أرادت معينًا وهو الخليل بنص قولها: أبيك. "فالله أنهاك" نصب على التوسع، أي: فأنهاك مقسمة عليك بالله "عن" عبادة "الأصنام أن لا تواليها" لا تناصرها من الموالاة ضد المعاداة، أي: لا تعظمها بنحو عبادتها والذبح إليها والاستقسام عندها.
"مع الأقوام" جمع قوم: الجماعة من رجال ونساء معًا في أحد الأقوال وبه صدر المجد، وهو المراد هنا؛ لأنه كان يواليها من الفريقين. "ثم قالت: كل حي ميت" بالتشديد، أي: سيموت. وأما بالتخفيف فمن حل به الموت؛ كما في القاموس وغيره، وليس مرادًا هنا. "وكل جديد بال وكل كبير" بالموحدة "يفنى" وفي نسخة بالمثلثة، قال شيخنا: وهي أظهر لدلالتها على فناء جميع الأشياء، "وأنا ميتة" بالتشديد، أي: سأموت. قال الخليلي: أنشد أبو عمرو:
أيا سائلي تفسير ميت وميت ... فدونك قد فسرت إن كنت تعقلي
فمن كان ذا روح فذلك ميت ... وما الميت إلا من إلى القبر يحمل(1/311)
وذكري باق، وقد تركت خيرًا، وولدت طهرًا، ثم ماتت. فكنا نسمع نوح الجن عليها فحفظنا من ذلك:
نبكي الفتاة البرة الأمينه ... ذات الجمال العفة الرزينه
زوجة عبد الله والقرينه ... أم نبي الله ذي السكينه
__________
"وذكري باق وقد تركت خيرًا" عظيمًا كثيرًا، أي: خير وهو المصطفى وكأنه كالتعليل لبقاء ذكرها، "وولدت طهرًا" أي: طاهرًا أطلق المصدر على اسم الفاعل، مبالغة وهذا أولى من تقدير ذا طهر، ومن استعماله بمعنى اسم الفاعل. "ثم ماتت" رضي الله عنها، وهذا القول منها صريح في أنها موحدة إذ ذكرت دين إبراهيم، وبعث ابنها صلى الله عليه وسلم بالإسلام من عند الله ونهيه عن الأصنام وموالاتها، وهل التوحيد شيء غير هذا التوحيد الاعتراف بالله وإلهياته وأنه لا شريك له، والبراءة من عبادة الأصنام ونحوها، وهذا القدر كاف في التبري من الكفر وثبوت صفة التوحيد في الجاهلية قبل البعثة، وإنما يشترط قدر زائد على هذا بعد البعثة، وقد قال العلماء في حديث: "الذي أمر بنيه عند موته أن يحرقوه ويسحقوه ويذروه في الريح" وقوله: "إن قدر الله عليّ فيعذبني" إن هذه الكلمة لا تنافي الحكيم بإيمانه، ولكن جهل فظن أنه إذ فعل ذلك لا يعاد ولا يظن بكل من كان في الجاهلية أنه كافر فقد تخلف فيها جماعة، فلا بدع أن تكون أمه صلى الله عليه وسلم منهم، كيف وأكثر من تحنف إنما كان سبب تحنفه ما سمعه من أهل الكتاب والكهان قرب زمنه صلى الله عليه وسلم من أنه قرب بعث نبي من الحرم صفته كذا، وأمه صلى الله عليه وسلم سمعت من ذلك أكثر مما سمعه غيرها، وشاهدت في حمله وولادته من آياته الباهرة ما يحمل على التحنف ضرورة، ورأت النور الذي خرج منها أضاء له قصور الشام، حتى رأتها كما ترى أمهات النبيين، وقالت لحليمة حين جاءت به وقد شق صدره: أخشيتما عليه الشيطان، كلا والله ما للشيطان عليه سبيل، وأنه لكائن لابني هذا شأن في كلمات أخر من هذا النمط، وقدمت به المدينة عام وفاتها، وسمعت اليهود فيه وشهادتهم له بالنبوة ورجعت به إلى مكة، فماتت في الطريق فهذا كله مما يؤيد أنها تحنفت في حياتها، ذكره العلامة الحافظ السيوطي في كتاب الفوائد، وهو المسمى أيضًا التعظيم والمنة، شكر الله مسعاه.
"فكنا نسمع نوح" مصدر ناح، أي: صياح "الجن عليها" أسفًا، "فحفظنا من ذلك" أبياتًا هي: "نبكي الفتاة" الشابة فإنها ماتت في حدود العشرين تقريبًا، ذكره السيوطي. "البرة" المحسنة، "المطيعة، "الأمينة" كيف وهي قرشية أما وأبا "ذات الجمال" البارع "العفة" بفتح العين وشد الفاء، "الرزينة" أي: ذات الوقار، "زوجة عبد الله والقرينة" عطف تفسير، ومنه قوله تعالى: {وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ} [الدخان: 54، الطور: 20] ، أي: قرناهم لهن، "أم نبي الله ذي السكينة" الثبات(1/312)
وصاحب المنبر بالمدينه ... صارت لدى حفرتها رهينه
وقد روي أن آمنة آمنت به صلى الله عليه وسلم بعد موتها.
فروى الطبري بسنده عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم نزل الحجون كئيبًا حزينًا، فأقام به ما شاء الله عز وجل، ثم رجع مسرورًا، قال: "سألت ربي فأحيا لي أمي، فآمن بي ثم ردها".
ورواه أبو حفص بن شاهين..........................................
__________
والطمأنينة، "وصاحب المنبر بالمدينة صارت لدى" أي: في "حفرتها" قبرها "رهينة" مرهونة، زاد في رواية:
لو فوديت لفوديت ثمينه ... وللمنايا شفرة سنينه
لا تبق ظعانًا ولا ظعينه ... إلا أتت وقطعت وتينه
أما حللت أيها الحزينه ... عن الذي ذو العرش يعلي دينه
فكلنا والهة حزينه ... تبكيك للعطلة أو للزينه
وللضعيفات وللمسكينه
ولما ذكر وفاة أمه وما يدل على موتها على التوحيد جره ذلك إلى حديث إحيائها وإحياء أبيه، لكن قدمها لكثرة الروايات فيها، فقال: "وقد روي أن آمنة آمنت به صلى الله عليه وسلم بعد موتها" أتى به ممرضًا لضعفه، أي: روى ذلك جماعة فصلهم بقوله: "فروى" الحافظ محب الدين أحمد بن عبد الله بن محمد، أبو العباس المكي "الطبري" الإمام المحدث الصالح، الزاهد الشافعي، فقيه الحرم ومحدث الحجاز، المتوفى في جمادى الآخرة سنة أربع وتسعين وستمائة، "بسنده" فقال في سيرته: أنبأنا أبو إسحاق بن المقير، أنبأنا الحافظ أبو الفضل محمد بن ناصر السلامي إجازة، أنبأنا أبو منصور محمد بن أحمد بن علي بن عبد الرزاق الحافظ الزاهد، أنبأنا القاضي أبو بكر محمد بن عمر بن محمد بن الأخضر، حدثنا أبو غزية محمد بن يحيى الزهري، حدثنا عبد الوهاب بن موسى الزهري عن عبد الرحمن بن أبي الزناد عن هشام بن عروة عن أبيه "عن عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم نزل الحجون كتيبًا حزينًا" صفة لازمة لكئيبًا، "فأقام به ما شاء الله عز وجل ثم رجع مسرورًا، قال" يخاطب عائشة بعد سؤالها له عن اختلاف حاليه؛ كما في الحديث التالي: "سألت ربي" إحياء أمي بدليل الحديث الآتي، ولا محيص عن هذا فخير ما فسرته بالوارد، "فأحيا لي أمي فآمنت بي، ثم ردها" إلى ما كانت عليه من الموت.
"ورواه" أي: حديث عائشة هذا بنحوه، "أبو حفص بن شاهين" الحافظ الكبير الإمام(1/313)
في كتاب "الناسخ والمنسوخ" له، بلفظ: قالت عائشة: حج بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع، فمر بي على عقبة الحجون، وهو باك حزين مغتم، فبكيت لبكائه، ثم أنه نزل فقال: "يا حميراء.............................
__________
المفيد عمر بن أحمد بن عثمان البغدادي، الثقة المأمون، صنف ثلاثمائة وثلاثين مصنفًا منها التفسير الكبير ألف جزء، والمسند ألف وثلاثمائة جزء، مات في ذي الحجة سنة خمس وثمانين وثلاثمائة. "في كتاب الناسخ والمنسوخ له" بعد أن أورد قبله حديث الزيارة والنهي عن الاستغفار وجعله منسوخًا، وروى بعده هذا الحديث، فقال: حدثنا محمد بن الحسين بن زياد مولى الأنصار، حدثنا أحمد بن يحيى الحضرمي بمكة، حدثنا أبو غزية محمد بن يحيى الزهري، حدثنا عبد الوهاب بن موسى الزهري عن عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن هشام بن عروة عن أبيه، عن عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم نزل إلى الحجون كئيبًا حزينًا، فأقام به ما شاء الله عز وجل، ثم رجع مسرورًا، فقلت: يا رسول الله! نزلت إلى الحجون كئيبًا حزينًا فأقمت به ما شاء الله ثم رجعت مسرورًا، قال: "سألت الله ربي فأحيا لي أمي فآمنت بي، ثم ردها". هذا لفظ ابن شاهين، كما في كتب السيوطي وغيرها.
وأما قوله: "بلفظ، قالت عائشة" فإنما عزاه القرطبي والسيوطي وغيرهما للخطيب فلعله سقط من قلم المؤلف والخطيب في السابق واللاحق، قال -أعني الخطيب- أنبأنا أبو العلاء الواسطي، حدثنا الحسين بن محمد الحلبي، حدثنا أبو طالب عمر بن الربيع الزاهد، حدثنا علي بن أيوب الكعبي، حدثنا محمد بن يحيى الزهري عن أبي غزية، حدثنا عبد الوهاب ابن موسى، حدثنا مالك بن أنس، عن أبي الزناد، عن هشام بن عروة، عن عائشة، قالت: "حج بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع فمر بي علي عقبة الحجون" أي: الطريق الموصل إلى الحجون، أو الإضافة بيانية "وهو باك حزين مغتم، فبكيت لبكائه" لفظ الخطيب: لبكاء رسول الله صلى الله عليه وسلم, ثم إنه نزل، فقال: "يا حميراء" تصغير حمراء، أي: بيضاء للتحبب؛ كقولهم: يا بني يا أخي، وروى النسائي من طريق أبي سلمة عن عائشة: دخلت الحبشة المسجد يلعبون، فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم: "يا حميراء! أتحبين أن تنظري إليهم" فقلت: نعم، قال الحافظ: إسناده صحيح، ولم أر حديثًا صحيحًا فيه ذكر الحميراء غيره، انتهى.
وروى الحاكم عن أم سلمة، قالت: ذكر النبي صلى الله عليه وسلم خروج بعض أمهات المؤمنين، فضحكت عائشة: فقال: "انظري يا حميراء، أن لا تكوني أنت"، ثم التفت إلى علي فقال: "إن وليت من أمرها شيئًا، فارفق بها" قال الحاكم: صحيح على شرطهما. قال الذهبي: لكن عبد الجبار لم يخرجا له، قال في الفلك المشحون: هذا حديث فيه يا حميراء صحيح، انتهى.(1/314)
استمسكي"، فاستندت إلى جنب البعير، فمكث مليًا، ثم عاد إليّ وهو فرح متبسم فقال: "ذهبت لقبر أمي فسألت ربي أن يحييها، فأحياها فآمن بي وردها الله".
__________
أي: وإن لم يكن على شرط الشيخين؛ لأن الصحيح مراتب.
"استمسكي" أي: تمسكي بشيء يمنعك السقوط "فاستندت إلى جنب البعير، فمكث مليًا" بشد الياء زمانًا طويلا، ولفظ الخطيب: فمكث عني طويلا "ثم عاد إلي وهو فرح متبسم" أسقط من لفظ ابن شاهين ما تلي عليك، ومن رواية الخطيب، ما لفظه: فقلت له: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، نزلت من عندي وأنت باك حزين مغتم فبكيت لبكائك، ثم إنك عدت إلي وأنت فرح متبسم، فمم ذاك يا رسول الله؟ فقال: "ذهبت لقبر أمي فسألت ربي" ولفظ الخطيب: فسألت الله، "أن يحييها فأحياها، فآمنت بي، وردها الله" إلى الموت.
وأخرج الدارقطني هذا الحديث من هذا الوجه، وقال: باطل وابن عساكر، وقال منكر وهشام لم يدرك عائشة فلعله سقط من كتابي عن أبيه، قال في اللسان: ثبت في رواية عن أبيه التي ظن أنها سقطت، فهو كما ظن يشير إلى روايتي الطبري وابن شاهين الثابت فيهما عن أبيه، كما قدمنا.
وذكره ابن الجوزي في الموضوع ولم يتكلم على رجاله. وفي الميزان: أن عمر بن الربيع كذاب ورده في اللسان بأن الدارقطني ضعفه فقط، وقال مسلمة بن قاسم: تكلم فيه قوم ووثقه آخرون، وكان كثير الحديث.
والكعبي، قال الذهبي: لا يكاد يعرف وكأنه تبع قول ابن عساكر مجهول، ورده في اللسان بأن الدارقطني عرفه وسماه علي بن أحمد ويأتي الكلام على باقي رجاله، فلا يتصور كونه موضوعًا بل هو ضعيف فقط.
وكذا أورد رواية ابن شاهين في الموضوعات، وقال محمد بن زياد هو النقاش ليس بثقة، ومحمد بن يحيى وأحمد بن يحيى مجهولان. ورده السيوطي بأن محمد بن يحيى ليس مجهولا، فقد قال الدارقطني: متروك والأزدي ضعيف ومن ترجم بهذا إنما يكون حديثه ضعيفًا لا مضوعًا وكذا أحمد بن يحيى ليس بمجهول، فقد ذكره في الميزان، وقال: روى عن حرملة التجيبي وكنيته أبو سعيد ومن ترجم بهذا إنما يعتبر بحديثه، قال: وأما محمد بن زياد فإن كان هو النقاش، كما ذكر فهو أحد علماء القراءات وأئمة التفسير، قال في الميزان: صار شيخ المقرئين في عصره على ضعف فيه، أثنى عليه أبو عمرو الداني، وحدث بمناكير ومع ذلك لم ينفردا به، فله طريقان آخران عن أبي غزية، فذكر طريق الطبري وطريق الخطيب، قال: وأعله الذهبي بجهالة عبد الوهاب بن موسى وليس كما قال، بل هو معروف من رواة مالك، وقد وثقه الدارقطني وأقره(1/315)
وكذا روي من حديث عائشة أيضًا إحياء أبويه صلى الله عليه وسلم حتى آمنا به. أورده السهيلي، وكذا الخطيب في السابق واللاحق.
وقال السهيلي: إن في إسناده مجاهيل.
وقال ابن كثير: إنه حديث منكر جدًا، وسنده مجهول.
__________
الحافظ ابن حجر، ولم ينقل عن أحد فيه جرح، فتلخص أن الحديث غير موضوع قطعًا؛ لأنه ليس في رواية من أجمع على جرحه فإن مداره على أبي غزية بن عبد الوهاب، وقد وثق ومن فوقه من مالك فصاعدًا، لا يسأل عنهم لجلالتهم والساقط بين هشام وعائشة وهو عروة؛ كما ثبت في طريق آخر وأبو غزية، قال فيه الدارقطني: منكر الحديث، وابن الجوزي: مجهول، وترجمه ابن يونس ترجمة جيدة أخرجته عن حد الجهالة والكعبي أكثر ما قيل فيه مجهول، وقد عرف وعمر بن الربيع نقل مسلمة توثيقه عن آخرين، وأنه كان كثير الحديث، فهذا الطريق بهذا الاعتبار ضعيف لا موضوع على مقتضى الصنعة، فكيف وله متابع أجود منه وهو طريق أحمد الحضرمي عن أبي غزية من حديث أن طريق الكعبي فيها رجال على الولاء، تكلم فيهم بخلاف طريق الحضرمي حيث اقتصر فيه عليه، وقد عرف لما نسب باللين، وهي من ألفاظ التعديل الذي يحكم لصاحبه بالحسن إذا توبع، فالحديث إذن مداره على أبي غزية وهو من أفراده ولولا تفرده به لحكمت له بالحسن، انتهى ملخصًا، فلله دره.
"وكذا روي من حديث عائشة أيضًا إحياء أبويه صلى الله عليه وسلم" معًا "حتى آمنا به، أورده السهيلي" في الروض، فقال: روي حديث غريب لعله يصح، وجدته بخط جدي القاضي أحمد بن الحسن بسند فيه مجهولون. ذكر أنه نقله من كتاب انتسخ من كتاب معوذ الزاهد، يرفعه إلى أبي الزناد عن عروة عن عائشة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل ربه أن يحيي أبويه فأحياهما له فآمنا به، ثم أماتهما. قال السهيلي: والله قادر على كل شيء وليس يعجز رحمته وقدرت عن شيء، ونبيه صلى الله عليه وسلم أهل أن يختصه بما شاء من فضله، وينعم عليه بما شاء من كرامته.
"وكذا الخطيب في السابق واللاحق" أي: المتقدم والمتأخر، بمعنى المنسوخ والناسخ، "وقال السهيلي: إن في إسناده مجاهيل" وهو يفيد ضعفه فقط، وبه صرح في موضع آخر من الروض وأيده بحديث ولا ينافي هذا ترجيحه صحته، كما مر عنه؛ لأن مراده من غير هذا الطريق إن وجد أو في نفس الأمر؛ لأن الحكم بالضعف وغيره إنما هو في الظاهر.
"وقال ابن كثير: إنه حديث منكر جدًا وسنده مجهول" وإن كان ممكنًا بالنظر إلى قدرة الله تعالى، لكن الذي ثبت في الصحيح يعارضه هذا كله كلام ابن كثير، وهو أيضًا صريح في(1/316)
وقال ابن دحية: هذا الحديث موضوع يرده القرآن والإجماع. انتهى.
وقد جزم بعض العلماء: بأن أبويه صلى الله عليه وسلم ناجيان، وليسا في النار، تمسكًا بهذا الحديث وغيره.
__________
أنه ضعيف فقط، فالمنكر من قسم الضعيف، ولذا قال السيوطي بعدما أورد قول ابن عساكر: منكر هذا حجة لما قلته من أنه ضعيف لا موضوع؛ لأن المنكر من قسم الضعيف وبينه وبين الموضوع فرق معروف في الفن، فالمنكر ما انفرد به الراوي الضعيف مخالفًا لرواته الثقات، وهذا كذلك إن سلم مخالفته لحديث الزيارة ونحوه، فإن انتفت كان ضعيفًا فقط وهي مرتبة فوق المنكر أصلح حالا منه.
"وقال ابن دحية: هذا الحديث موضوع يرده القرآن والإجماع" قال تعالى: {وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ} [النساء: 18] ، وقال: {فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ} [البقرة: 217] ، فمن مات كافرا لم ينفعه الإيمان بعد الرجعة، بل لو آمن عند المعاينة لم ينفعه، فكيف بعد الإعادة؟ وفي التفسير أنه عليه السلام، قال: "ليت شعري ما فعل أبواي"، فنزل: {وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ} [البقرة: 119] ، "انتهى" كلام ابن دحية بما زدته؛ كما نقله كله القرطبي عنه. وقد عابه السيوطي بأن تعليله بمخالفة ظاهر القرآن ليس طريق المحدثين؛ لأن الحفاظ إنما يعللون الحديث من طريق الإسناد الذي هو المرقاة إليه؛ كما صرح به الحافظ ابن طاهر المقدسي، انتهى.
وهذا مراد الشامي بقوله: لو اقتصر أبو الخطاب على قوله موضوع وسكت عن قوله: يرده القرآن والإجماع، لكان جيدًا وتأدبًا مع النبي صلى الله عليه وسلم، انتهى. أي: لكان جيدًا من حيث أن له دعوى وضعه سلفًا وإن لم تسلم دعواه وكان فيه زيادة هي التأدب، فليس قوله: وتأدبًا عطف علة على معلول؛ كما زعم، قال في الفرائد: وأما حديث ليست شعري فمعضل ضعيف، لا تقوم به حجة.
"وقد جزم بعض العلماء بأن أبويه" صلى الله عليه وسلم "ناجيان وليسا في النار" بل في الجنة، "تمسكًا بهذا الحديث وغيره" ظاهره: أن البعض واحد ونحوه، ويصرح به قوله الآتي: وتعقبه عالم آخر مع أن القائل بنجاتهما قوم كثير، فأما الذين تمسكوا بالحديث، فقال السيوطي في سبل النجاة: مال إلى أن الله أحياهما حتى آمنا به طائفة من الأئمة وحفاظ الحديث، واستندوا إلى حديث ضعيف لا موضوع؛ كما قال ابن الجوزي: وقد نص ابن الصلاح وأتباعه على تسامحه في الموضوعات، فأورد أحاديث ضعيفة فقط، وربما تكون حسنة أو صحيحة، قال الحافظ العراقي:
وأكثر الجامع فيه إذ خرج ... لمطلق الضعف عني أبا الفرج
وحديثنا هذا خالفه فيه كثير من الحفاظ، فذكروا أنه ضعيف تجوز روايته في الفضائل(1/317)
................................................
__________
والمناقب لا موضوع؛ كالخطيب، وابن عساكر، وابن شاهين، والسهيلي، والمحب الطبري، والعلامة ناصر الدين بن المنير، وابن سيد الناس، ونقله عن بعض أهل العلم ومشى عليه الصلاح الصفدي في نظم له، والحافظ بن ناصر في أبيات له قال: وأخبرني بعض الفضلاء أنه وقف على فتيا بخطه شيخ الإسلام ابن حجر أجاب فيها بهذا مع أن الحديث الذي أورده السهيلي لم يذكره ابن الجوزي، وإنما أورد حديثًا آخر من طريق آخر في إحياء أمه فقط، وفيه قصة بلفظ غير لفظ الحديث الذي أورده السهيلي، فعلم أنه حديث آخر مستقل، قال: وقد جعل هؤلاء الأئمة هذا الحديث ناسخًا للأحاديث الواردة بما يخالفه ونصوا على أنه متأخر عنها فلا تعارض بينه وبينها، انتهى.
وقال في الدرج المنيفة: جعلوه ناسخًا ولم يبالوا بضعفه؛ لأن الحديث الضعيف يعمل به في الفضائل والمناقب، وهذه منقبة؛ هذا كلام هذا الجهبذ وهو في غاية التحرير، وأغرب الشهاب الهيثمي فقال في مولده بعدما ذكر قول ابن كثير منكر، وليس كما قال؛ لأن حافظ الشام ابن ناصر أثبت منه وقد حسنه، بل صححه وسبقه إلى تصحيحه القرطبي، وارتضى ذلك بعض الحفاظ الجامعين بين المعقول والمنقول، انتهى.
وما في تذكرة القرطبي ولا مولد ابن ناصر ما نقله عنهما، فإن الذي في التذكرة هو ما سينقله المصنف قريبًا والذي في مولد ابن ناصر، إنما هو التصريح بضعف الحديث في الأبيات الآتية التي آخرها وإن كان الحديث به ضعيفًا، وأغرب من ذلك قوله في شرح الهمزية، صححه غير واحد من الحفاظ ولم يتلفتوا للطعن فيه، انتهى.
وليت شعري من أين يصح وهو ما بلغ درجة الحسن ومن الحفاظ والسيوطي غاية ما وصل إلى القول بضعفه، والذي يظهر لي أن مراده أنهم صححوا العمل به في الاعتقاد، وإن كان ضعيفًا لكونه في منقبه فيرجع لكلام السيوطي ووقع للتلماسني في حواشيه، روى إسلام أمه بسند صحيح، وروى إسلام أبيه وكلاهما بعد الموت تشريفًا له حتى أسلما، فإن أراد إسناد الحديث المتقدم، فلا يسلم له وإن أراد غيره فعليه البيان، ولولا قوله بسند لأولته كالسابق، هذا وفي الدرج المنيفة أيد بعضهم ذا الحديث بالقاعدة المتفق عليها أنه ما أوتي نبي معجزة إلا وأوتي صلى الله عليه وسلم مثلها، وقد أحيا الله لعيسى الموتى من قبورهم، فلا بد أن يكون لنبينا مثل ذلك، ولم يرد من هذا النوع إلا هذه القصة، فلا يبعد ثبوتها وإن كان له من هذا النمط نطق الذراع وحنين الجذع، لكنه غير ما وقع لعيسى فهو أشبه بالمماثلة، ولا شك أن من الطرق التي يعتضد بها الحديث الضعيف موافقته للقواعد المقررة، انتهى. وهو منابذ لما قاله القرطبي إن الله أحيا على(1/318)
وتعقبه عالم آخر: بأنه لم ير أحدًا صرح بأن الإيمان بعد انقطاع العمل بالموت ينفع صاحبه، فإن ادعى أحد الخصوصية فعليه الدليل. انتهى.
وقد سبقه لذلك، أبو الخطاب بن دحية، وعبارته: فمن مات كافرًا لم ينفعه الإيمان بعد الرجعة، بل لو آمن عند المعاينة لم ينفعه ذلك، فكيف بعد الإعادة انتهى.
وتعقبه القرطبي.................................
__________
يد المصطفى جماعة، وقد أقره هو -أعني السيوطي- وغيره، وذكر المصنف في المعجزات أن الله أحيا على يده خمسة منهم الأبوان ويمكن أن لا ينابذه؛ لأن غاية ما صرح به أن الله أحيا على يده والمؤيد به أن الله أحياهم لعيسى من قبورهم، وهذا لم يرد لنبينا منه إلا هذه القصة؛ كما قال مع قصة أخرى تأتي قريبًا لكنها مرسلة، فكأنه لم يعتبرها أو اعتبرها لكنها واحدة، ومراده: أزيد ليوافق ما اتفق لعيسى.
"وتعقبه" أي القائل بنجاتهما لأنهما آمنا بعد الموت، "عالم آخر" رأيت بهامش أنه أراد به السخاوي شيخه، وبالبعض الذي أبهمه أولا السيوطي، "بأنه لم ير أحدًا صرح بأن الإيمان بعد انقطاع العمل بالموت ينفع صاحبه، فإن ادعى أحد الخصوصية فعليه الدليل، انتهى" ويلزمه إما أن يقول بوضع الحديث فيرد بأن أكثر الحفاظ، قالوا: ليس بموضوع وهو الحق الأبلج الذي أسفر عنه النظر في أسانيده، كما مر تفصيله أو بضعفه ولا يعمل به فيرد بأن طريق الحفاظ العمل به؛ لأنه في منقبه أو يبقى التعارض بين الأحاديث، وليس شأن أهل الفن ولا أهل الأصول.
وأما الدليل على الخصوصية فواضح من سياق الأحاديث لقوله: "سألت ربي أن يحييها فأحياها، فآمنت بي"، وقد صرح في فتح الباري بأنه لا يلزم التنصيص على لفظ الخصوصية. "وقد سبقه" أي: هذا المتعقب "لذلك" التعقب بمعناه، "أبو الخطاب الحافظ عمر "ابن دحية وعبارته" عقب قوله السابق: يرده القرآن والإجماع وتلاوة الآيتين، "فمن مات كافرًا لم ينفعه الإيمان بعد الرجعة بل لو آمن عند المعاينة" لأسباب العذاب "لم ينفعه ذلك، فكيف بعد الإعادة انتهى" وقدمت ذلك تتميمًا لعبارته ولبيان أن قوله: فمن ... إلخ، تفسير لقوله: والإجماع.
"وتعقبه" تعقب ابن دحية ومن لازمه تعقب من وافقه "القرطبي" الإمام المفسر محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح بإسكان الراء وبالحاء المهملة، كما في الديباج، أبو عبد الله الأنصاري الورع الزاهد، صاحب التصانيف العديدة، المشغول بما يعنيه، أوقاته معمورة ما بين توجه وعبادة وتصنيف، سمع أبا العباس القرطبي صاحب المفهم وأبا علي الحسن بن محمد البكري(1/319)
في "التذكرة" بأن فضائله صلى الله عليه وسلم وخصائصه لم تزل تتوالى وتتابع إلى حين مماته، فيكون هذا مما فضله الله به وأكرمه، قال: وليس إحياؤهما وإيمانهما بممتنع عقلا ولا شرعًا، فقد ورد في الكتاب العزيز إحياء قتيل بني إسرائيل، وإخباره بقاتله، وكان عيسى عليه السلام يحي الموتى
__________
وغيرهما، واستقر بمنية ابن خصيب، وبها توفي ودفن في شوال سنة إحدى وسبعين وستمائة.
"في" كتاب "التذكرة" بأمور الآخرة "بأن فضائله صلى الله عليه وسلم وخصائصه لم تزل تتوالى وتتابع عطف تفسير إلى حين مماته فيكون هذا" أي إحياؤهما "مما فضله الله به وأكرمه"، فلا يرد حديث إحيائهما قرآن ولا إجماع؛ لأن محلهما في غير الخصوصية.
وقد أخرج ابن شاهين والحاكم عن ابن مسعود، قال: جاء ابنا مليكة فقالا: يا رسول الله! إن أمنا كانت تكرم الضيف وقد وأدت في الجاهلية، فأين أمنا؟ فقال: "أمكما في النار" فقاما وقد شق عليهما فدعاهما صلى الله عليه وسلم، فقال: "إن أمي مع أمكما"، فقال منافق: ما يغني هذا عن أمه إلا ما يغني ابنا مليكة عن أمهما، فقال شاب من الأنصار: لو أن أبويك، فقال صلى الله عليه وسلم: "ما سألتهما ربي فيعطيني فيهما، وإني لقائم المقام المحمود". ففيه كما قال السيوطي إن قوله: "أمي مع أمكما"، كان قبل أن يسأل ربه فيهما فلا ينافي حديث إحيائهما وإيمانهما وأنه جوز صلى الله عليه وسلم أنه إذا سأل ربه يعطيه وأن أصحابه جوزوا ذلك عليه، واعتقدوا أن من خصائصه ما يقتضيه، وقال بعد أن أورد أحاديث امتحان أهل الفترة: وبها يرد على ابن دحية؛ لأن الإيمان إذا كان ينفع أهل الفترة في الآخرة التي ليست دار تكليف، وقد شاهدوا جهنم بشهادة الأحاديث، فلأن ينفعهم بالإحياء عن الموت من باب أولى، انتهى. فقد حصل للمطالب بدليل الخصوصية أدلة كالنهار.
"قال" القرطبي "وليس إحياؤهما وإيمانهما بممتنع عقلا"، لأنه يجوز مثل ذلك فلا يدعي وضع الحديث؛ لأن العقل يخيله، "ولا شرعًا فقد ورد في الكتاب العزيز إحياء قتيل بني إسرائيل وإخباره بقاتله" وذلك أنه قتل لهم قتيل لا يدري قاتله، فسألوا موسى أن يدعو الله يبينه لهم فأوحى الله إليه أن يأمرهم بذبح بقرة، فذبحوها بعدما قضى الله وضربوها ببعضها، أي: لسانها أو عجب ذنبها أو بالبضعة التي بين كتفيها أو بفخذيها أبو بالعظم الذي يلي الغضروف أو بذنبها أو بعظم من عظامها، أقوال حكاها في المبهمات فحيي، وقال: قتلني فلان وفلان، لابني عمه أو ابني أخيه، ومات فحرما الميراث وقتلا. "وكان عيسى عليه السلام يحيي الموتى" بنص القرآن، فأحيا العازر بفتح الزاي، صديقًا له بعد موته ودفنه بثلاثة أيام، وابن العجوز وهو محمول على نعشه في أكفانه وابنة العاشر فعاشوا مدة وولد لهم وعزيرًا وسام بن نوح ومات في الحال.(1/320)
وكذلك نبينا صلى الله عليه وسلم أحيا الله على يده جماعة من الموتى. قال وإذا ثبت هذا فما يمتنع إيمانهما بعد إحيائهما، ويكون ذلك زيادة في كرامته وفضيلته.
قال: فقوله: من مات كافرًا إلى آخر كلامه، مردود بما روي في الخبر أن الله رد الشمس على نبيه صلى الله عليه وسلم بعد مغيبها, ذكره الطحاوي وقال: إنه حديث ثابت، فلو لم يكن رجوع الشمس نافعًا، وأنه لا يتجدد الوقت لما ردها عليه، فكذلك يكون إحياء أبوي النبي صلى الله عليه وسلم نافعًا لإيمانهما...................................
__________
"وكذلك نبينا صلى الله عليه وسلم أحيا الله على يده جماعة من الموتى" فأحيا ابنة الرجل الذي قال: لا أؤمن بك حتى تحيي لي ابنتي، فجاء إلى قبرها وناداها، فقالت: لبيك وسعديك، رواه البيهقي في الدلائل، وأباه وأمه، وتوفي شاب من الأنصار فتوسلت أمه وهي عجوز عمياء بهجرتها لله ورسوله فأحياه الله، رواه البيهقي وابن عدي وغيرهما، ولما مات زيد بن حارثة من سراة الأنصار كشفوا عنه، فسمعوا على لسانه قائلًا يقول: "محمد رسول الله" الحديث، رواه ابن أبي الدنيا في كتاب من عاش بعد الموت، وأخرج ابن الضحاك: أن أنصاريًا توفي فلما كفن وحمل، قال محمد رسول الله، هذا ملخص ما ذكره المصنف في المعجزات.
"قال وإذا" أي: حيث "ثبت هذا فما يمتنع إيمانهما بعد إحيائهما ويكون ذلك زيادة في كرامته وفضيلته" مع ما ورد من الخبر في ذلك، ويكون ذلك مخصوصًا بمن مات كافرًا، هذا أسقطه المصنف من كلام القرطبي "قال: فقوله: من مات كافرًا ... إلخ، كلامه مردود بما روي في الخبر أن الله رد الشمس على نبيه صلى الله عليه وسلم بعد مغيبها، ذكره" أي: رواه الإمام العلامة الحافظ، صاحب التصانيف البديعة، أبو جعفر أحمد بن محمد بن سالم الأزدي "الطحاوي" المصري الحنفي، الثقة الثبت الفقيه، ولد سنة تسع وثلاثين ومائتين، ومات مستهل ذي القعدة سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة، "وقال: إنه حديث ثابت" أي: صحيح أو حسن، قال السيوطي:
وهل يخص بالصحيح الثابت ... أو يشمل الحسن نزاع ثابت
ووجه الرد: أنه كما أن إحياء الموتى وانتفاعهم بالحياة بعد موتهم بعيد عقلا لعدم وقوعه، كذلك عود الشمس بعد غروبها وحصول الانتفاع بها كما كانت قبل الغروب بعيد غير متوقع، وقد أعيدت وحصل الانتفاع بها مع استحالة مثله عادة، فلا مانع من جواز إحياء الميت وانتفاعه بحياته بعده خرقًا للعادة، وإلى هذا أشار بقوله: "فلو لم يكن رجوع الشمس نافعًا، وأنه" لو لم يكن "لا يتجدد الوقت" بل استمر عدم تجدده، "لما ردها عليه" وفي نسخة: وأنه يتجدد بدون لا، عطفًا على نافعًا تفسيرًا، "فكذلك يكون إحياء أبوي النبي صلى الله عليه وسلم نافعًا لإيمانهما(1/321)
وتصديقهما بالنبي صلى الله عليه وسلم انتهى.
__________
وتصديقهما النبي صلى الله عليه وسلم" قال في التعظيم والمنة واستدلاله على عدم تجدد الوقت بقصة رجوع الشمس في غاية الحسن، ولهذا حكم يكون الصلاة أداء وإلا لم يكن لرجوعها فائدة إذ كان يصح قضاء العصر بعد الغروب، وقد ظفرت باستدلال أوضح منه وهو ما ورد أن أصحاب الكهف يبعثون آخر الزمان ويحجون ويكونون من هذه الأمة تشريفًا لهم بذلك، وروى ابن مردويه عن ابن عباس مرفوعًا: "أصحاب الكهف أعوان المهدي" فقد اعتد بما يفعله أهل الكهف بعد إحيائهم عن الموت، ولا بدع في أن يكون الله تعالى كتب لأبوي النبي صلى الله عليه وسلم عمرًا، ثم قبضهما قبل استيفائه، ثم أعادهما لاستيفاء تلك اللحظة الباقية وآمنا فيها فيعتد به ويكون تأخير تلك اللحظة الباقية بالمدة الفاضلة بينهما لاستدراك الإيمان من جملة ما أكرم الله به نبيه كما أن تأخير أصحاب الكهف هذه المدة من جملة ما أكرموا به ليحوزوا شرف الدخول في هذه الأمة، "انتهى" ما نقله من كلام القرطبي. وبقيته: وقد قبل الله إيمان قوم يونس وتوبتهم مع تلبسهم بالعذاب، كما هو أحد الأقوال، وهو ظاهر القرآن.
وأما الجواب عن الآية فيكون ذلك قبل إيمانهما وكونهما من العذاب، انتهى. ومراده بالآية ما روي فيها من التفسير الذي احتج به ابن دحية، وكأنه يفرض التسليم للمروي وإلا فقد مر قول السيوطي في الفوائد أنه معضل ضعيف لا تقوم به حجة، وصرح في مسالك الحنفاء بأنه لم يخرج في شيء من كتب الحديث المعتمدة، وإنما ذكر في بعض التفاسير بسند منقطع لا يحتج به ولا يعول عليه، قال: ثم إن هذا السبب مردود من وجوه آخر من جهة الأصول والبلاغة وأسرار البيان وأطال في بيان ذلك، قال شيخنا: ولعل المصنف أسقط إشارة القرطبي لقصة قوم يونس لعدم صراحتها في نفع الإيمان، بعد الأسباب المحققة للعذاب؛ كصراحة إحياء الموتى ورد الشمس، انتهى. وعلى كل حال هي شاهد حسن في المدعي، وإن لم تكن صريحة.
وقد نقل الحافظ ابن سيد الناس نحو ما أشار له القرطبي من الخصوصية، فقال في العيون بعد أن ذكر رواية ابن إسحاق، في أن أبا طالب أسلم عند الموت، ما نصه: وقد روي أن عبد الله بن عبد المطلب وآمنة بنت وهب أبوي النبي صلى الله عليه وسلم أسلما أيضًا، وأن الله أحياهما له فآمنا به، وروي ذلك في حق جده عبد المطلب وهو مخالف لما أخرجه أحمد عن أبي رزين العقيلي، قال: قلت: يا رسول الله! أين أمي؟ قال: "أمك في النار" قلت فأين من مضى من أهلك؟ قال: "أما ترضى أن تكون أمك مع أمي". وذكر بعض أهل العلم في الجمع بين هذه الروايات، ما حاصله: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يزل راقيًا في المقامات السنية صاعدًا إلى الدرجات العلية إلى أن قبض الله روحه الطاهرة إليه، وأزلفه بما خصه به لديه من الكرامات إلى حين القدوم عليه،(1/322)
وقد طعن بعضهم في حديث رد الشمس. كما سيأتي إن شاء الله تعالى في مقصد المعجزات.
وقد تمسك القائل بنجاتهما أيضًا بأنهما ماتا قبل البعثة، في زمن الفترة، ولا تعذيب قبلها لقوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15] قال: وقد أطبقت الأئمة الأشاعرة من أهل الأصول والشافعية من الفقهاء على أن من مات ولم تبلغه الدعوة يموت ناجيًا.
__________
فمن الجائز أن تكون هذه درجة حصلت له صلى الله عليه وسلم بعد أن لم تكن، وأن يكون الإحياء والإيمان متأخرًا عن تلك الأحاديث فلا تعارض، انتهى. وهو حسن، إلا أن ما ذكره في عبد المطلب باطل، كما يأتي.
"وقد طعن بعضهم في حديث رد الشمس" الذي أشار له القرطبي وهو الإمام أحمد، فقال: لا أصل له وتبعه ابن الجوزي فأورده في الموضوعات وكذا صرح ابن تيمية بوضعه، "كما سيأتي إن شاء الله تعالى في مقصد المعجزات" لكن رد مغلطاي والحافظ ابن حجر القطب والخيضري والسيوطي وغيرهم على ابن الجوزي، وقالوا: إنه أخطأ فقد أخرجه ابن منده وابن شاهين من حديث أسماء بنت عميس وابن مردويه من حديث أبي هريرة وإسنادهما حسن، ومن ثم صححه الطحاوي والقاضي عياض، قال العلامة الشامي: وأما قول الإمام أحمد وجماعة من الحفاظ بوضعه، فالظاهر أنه وقع لهم من طريق بعض الكذابين، وإلا فطرقه السابقة، أي: في كلامه يتعذر معها الحكم عليه بالضعف فضلا عن الوضع، انتهى.
وأما المتمسكون بغير الحديث، فإليهم أشار بقوله: "وقد تمسك القائل بنجاتهما أيضًا، بأنهما ماتا قبل البعثة في زمن الفترة" التي عم الجهل فيها طبق الأرض، وفقد فيها من بليغ الدعوة على وجهها خصوصًا وقد ماتا في حداثة السن، فإن والده صلى الله عليه وسلم صحح الحافظ صلاح الدين العلائي، أنه عاش من العمر نحو ثمان عشرة سنة، ووالدته ماتت وهي في حدود العشرين تقريبًا، ومثل هذا العمر لا يسع الفحص عن المطلوب في مثل ذلك الزمان، وحكم من لم تبلغه الدعوة، أنه يموت ناجيًا ولا يعذب ويدخل الجنة، قاله في سبل النجاة.
"ولا تعذيب قبلها" أي: البعثة؛ "لقوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15] "، يبين لهم الحجج ويمهد لهم الشرائع، ففيه دليل على أن لا وجوب قبل الشرع. "قال: وقد أطبقت الأئمة الأشاعرة من أهل الأصول والشافعية من الفقهاء على أن من مات ولم تبلغه الدعوة يموت ناجيًا" ويدخل الجنة.
قال السيوطي هذا مذهب لا خلاف فيه بين الشافعية في الفقه والأشاعرة في الأصول،(1/323)
...........................................................
__________
ونص على ذلك الشافعي في الأم والمختصر وتبعه سائر الأصحاب، فلم يشر أحد منهم لخلاف، واستدلوا على ذلك بعدة آيات منها: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15] ، وهي مسألة فقهية مقررة في كتب الفقه، وهي فرع من فروع قاعدة أصولية متفق عليها عند الأشاعرة، وهي قاعدة شكر المنعم وأنه واجب بالسمع لا بالعقل، ومرجعها إلى قاعدة كلامية هي التحسين والتقبيح العقليين، وإنكارهما متفق عليه بين الأشاعرة؛ كما هو معروف في كتب الكلام والأصول وأطنب الأئمة في تقرير هاتين القاعدتين والاستدلال عليهما. والجواب عن حجج المخالفين إطنابًا عظيمًا خصوصًا إمام الحرمين في البرهان، والغزالي في المستصفى، والمنخول والكيا الهراسي في تعليقه، والرازي في المحصول، وابن السمعاني في القواطع والباقلاني في التقريب وغيرهم من أئمة لا يحصون كثرة، وترجع مسألة من لم تبلغه الدعوة ثانية أصولية، وهي أن الغافل لا يكلف، وهذا هو الصواب في الأصول؛ لقوله تعالى: {ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ} [الأنعام: 131] ، ثم اختلف عبارة الأصحاب فيمن لم تبلغه الدعوة فأحسنها من قال إنه ناج، وإياها اختار السبكي، ومنهم من قال على الفترة، ومنهم من قال مسلم.
قال الغزالي: والتحقيق أن يقال في معنى مسلم، وقد مشى على هذا السبيل في والدي رسول الله صلى الله عليه وسلم قوم من العلماء فصرحوا بأنهما لم تبلغهما الدعوة، حكاه عنهم سبط ابن الجوزي في مرآة الزمان وغيره. ومشى عليه الآبي في شرح مسلم، وكان شيخنا شيخ الإسلام شرف الدين المناوي يعول عليه ويجيب به إذا سئل عنهما، قال: وقد ورد في أهل الفترة أحاديث أنهم موقوفون إلى أن يمتحنوا يوم القيامة، فمن أطاع منهم دخل الجنة، ومن عصى دخل النار، وهي كثيرة. والمصحح منها ثلاثة:
الأول: حديث الأسود بن سريع وأبي هريرة معًا مرفوعًا: "أربعة يحتجون يوم القيامة: رجل أصم لا يسمع شيئًا، ورجل أحمق، ورجل هرم، ورجل مات في فترة" الحديث، أخرجه أحمد وابن راهويه والبيهقي وصححه، وفيه: "وأمال الذي مات في الفترة، فيقول: رب ما أتاني لك رسول، فيأخذ مواثيقهم ليطيعنه فيرسل إليهم أن ادخلوا النار، فمن دخلها كانت عليه بردًا وسلامًا، ومن لم يدخلها سحب إليها".
والثاني: حديث أبي هريرة موقوفًا، وله حكم الرفع؛ لأن مثله لا يقال من قبل الرأي، أخرجه عبد الرزاق وابن جرير وابن أبي حاتم وابن المنذر في تفاسيرهم إسناده صحيح على شرط الشيخين.
والثالث: حديث ثوبان مرفوعًا، أخرجه البزار والحاكم في المستدرك، وقال: صحيح على(1/324)
.........................................
__________
شرط الشيخين، وأقره الذهبي. ورابع عند البزار وابن أبي حاتم عن أبي سعيد مرفوعًا، وفيه عطية العوفي وفيه ضعف، إلا أن الترمذي يحسن حديثه خصوصًا إذا كان له شاهد وهذا له عدة شواهد؛ كما ترى.
وخامس عند البزار وأبي يعلى عن أنس مرفوعًا. وسادس عند الطبراني وأبي نعيم عن معاذ وسند كل منهما ضعيف، والعمدة على الثلاثة الأول الصحيحة. قال: وهذا السبيل نقل حافظ العصر ابن حجر عن بعضهم أنه مشى عليه فيما نحن فيه، ثم قال: والظن بآله صلى الله عليه وسلم كلهم الذين ماتوا في الفترة أن يطيعوا عند الامتحان لتقربهم عينه. وذكر الحافظ ابن كثير قضية الامتحان في والديه صلى الله عليه وسلم وسائر أهل الفترة، وقال: منهم من يجيب، ومنهم من لا يجيب، إلا أنه لم يقل الظن في الوالدين أن يجيبا، ولا شك أن الظن أن الله يوفقهما للإجابة بشفاعته؛ كما رواه تمام في فوائده بسند ضعيف عن ابن عمر: أنه صلى الله عليه وسلم قال: "إذا كان يوم القيامة شفعت لأبي وأمي" الحديث.
وأخرج الحاكم وصححه عن ابن مسعود أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن أبويه، فقال: "ما سألتهم ربي فيعطيني فيهما، وإني لقائم يومئذ المقام المحمود" فهذا تلويح بأنه يرتجى أن يشفع لهما في ذلك المقام ليوفقا للطاعة عند الامتحان، وينضم إلى ذلك ما أخرجه أبو سعد في شرف النبوة وغيره عن عمران مرفوعًا: "سألت ربي أن لا يدخل النار أحد من أهل بيتي فأعطاني ذلك" وما أخرجه ابن جرير عن ابن عباس، في قوله: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى: 5] ، قال: من رضا محمد صلى الله عليه وسلم أن لا يدخل أحد من أهل بيته النار، فهذه الأحاديث يشد بعضها بعضًا؛ لأن الحديث الضعيف إذا كثرت طرقه أفاد ذلك قوة، كما تقرر في علوم الحديث.
وأمثلها حديث ابن مسعود فإن الحاكم صححه، قال: وهذا السبيل قد يعد مغايرًا للأول، يعني أنهما لم تبلغهما الدعوة كما مشيت عليه هنا، وفي الكتاب المطول؛ لأن مقتضى الأول الجزم بنجاة من لم تبلغه الدعوة ودخوله الجنة من غير توقف على الامتحان، وقد يعد مراد قاله: كما مشيت عليه في مسالك الحنفاء، وفي الدرج المنيفة وفي المقامة السندسية، وهو أقرب إلى التحقيق ويكون معنى قولهم: أنه ناج، أي: بشرط لا مطلقًا وقولهم: لا يعذب، أي: ابتداء كما يعذب من عاند بل يجري فيه الامتحان ويكون امتحانه في الآخرة منزلا منزلة بلوغه دعوة الرسل في الدنيا وعصيانه في الآخرة بمنزلة مخالفته للرسل، ويؤيد ذلك أن أبا هريرة راوي حديث أهل الفترة استدل في آخره بالآية التي استدل بها الأئمة على انتفاء التعذيب قبل البعثة.
ولفظه فيما أخرجه عبد الرزاق وابن جرير وابن أبي حاتم وابن المنذر الثلاثة من طريق(1/325)
قال: وقال الإمام فخر الدين الرازي في كتابه "أسرار التنزيل" ما نصه: "قيل إن آزر لم يكن والد إبراهيم، بل كان عمه، واحتجوا عليه بوجوه، منها: أن آباء الأنبياء ما كانوا كفارًا، ويدل عليه وجوه منها: قوله تعالى: {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ، وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} [الشعراء: 218، 219] قيل معناه: أنه كان ينتقل نوره من ساجد
__________
عبد الرزاق، عن معمر عن ابن طاوس عن أبيه عن أبي هريرة، قال: "إذا كان يوم القيامة جمع الله أهل الفترة والمعتوه والأصم والأبكم والشيوخ الذين لم يدركوا الإسلام، ثم أرسل إليهم رسلا أن ادخلوا النار، فيقولون: كيف ولم تأتنا رسل؟ قال: وايم الله، لو دخلوها لكانت عليهم بردًا وسلامًا، ثم يرسل إليهم فيطيعه من كان يريد أن يعطيه".
ثم قال أبو هريرة: اقرءوا إن شئتم: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15] ، ففهم رضي الله عنه من الآية ما هو أعم من رسل الدنيا والرسول المبعوث إليهم يوم القيامة أن ادخلوا النار ولا تستنكر هذا الفهم العظيم من مثله، وعلى هذين السبيلين؛ فالجواب عن الأحاديث الواردة في أطفال المشركين أنهم في النار بأنها قبل ورود قوله تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164، الإسراء: 15، فاطر: 18] ، وسائر الأحاديث المخالفة لتلك.
وقال بعض أئمة المالكية في الجواب عن تلك الأحاديث الواردة في الأبوين: إنها أخبار آحاد، فلا تعارض القاطع، وهو قله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15] ، ونحوها من الآيات في معناها.
قلت: مع ضميمة أن أكثرها ضعيف الإسناد، والصحيح منها قابل للتأويل، إلى هنا كلام هذا الإمام، إذا قالت: حذام، ولا تقل: طولت بنقله فكله طائل ولا أكثرت، فكم رجعت منه بنائل.
"قال: وقال الإمام فخر الدين الرازي في كتابه أسرار التنزيل" اسم تفسير ما يصرح بأنهما كانا على الحنيفية دين إبراهيم، كما كان زيد بن عمرو بن نفيل وأضرابه وهو سبيل آخر ثالث في نجاتهما، فإنه قال "ما نصه: قيل: إن آزر لم يكن والد إبراهيم بل كان عمه واحتجوا عليه بوجوه، منها: أن آباء الأنبياء ما كانوا كفارًا" تشريفًا لمقام النبوة وكذلك أمهاتهم، كما جزم به الفوائد واستدل عليه بالاستقراء وذكر أدلة ذلك تفصيلا وإجمالا.
"ويدل عليه" أي: على أن آزر لم يكن والد إبراهيم "وجوه، منها قوله تعالى: {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ، وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} [الشعراء: 218, 219] ، قيل: معناه أنه كان ينتقل نوره من ساجد(1/326)
إلى ساجد، قال ففيه دلالة على أن جميع آباء محمد كانوا مسلمين".
ثم قال: ومما يدل على أن آباء محمد صلى الله عليه وسلم ما كانوا مشركين، قوله عليه الصلاة والسلام: "لم أزل أنقل من أصلاب الطاهرين إلى أرحام الطاهرات" وقال تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة: 28] فوجب أن لا يكون أحد من أجداده مشركًا.............................
__________
إلى ساجد"، من آدم إلى أن ظهر صلى الله عليه وسلم، ولهذا يتضح قوله: "قال" أي: الرازي، "ففيه دلالة" وإنما قال: فالآية دالة "على أن جميع آباء محمد كانوا مسلمين" وإلا فمجرد انتقاله من ساجد إلى ساجد لا يقتضي ذلك لجواز كونه في بعض أصوله، "ثم قال" أشار إلى أنه حذف منه ولفظه، وحينئذ يجب القطع بأن والد إبراهيم ما كان من الكافرين، أقصى ما في الباب أن يحمل قوله تعالى: {وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} [الشعراء: 219] ، على وجوه أخرى، وإذا وردت الروايات بالكل ولا منافاة بينها، وجب حمل الآية على الكل، ومتى صح ذلك ثبت أن والد إبراهيم ما كان من عبدة الأوثان.
"ومما يدل على أن آباء محمد صلى الله عليه وسلم ما كانوا مشركين، قوله عليه الصلاة والسلام" فيما رواه أبو نعيم عن ابن عباس: "لم أزل أنقل من أصلاب الطاهرين إلى أرحام الطاهرات". وقال تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة: 28] ، وإذا قيل: إن فيهم مشركًا نافى الحديث، "فوجب أن لا يكون أحد من أجداده مشركًا" وقد ارتضى ذلك العلامة المحقق السنوسي والتلمساني محشى الشفاء، فقالا: لم يتقدم لوالديه صلى الله عله وسلم شرك، وكانا مسلمين؛ لأنه عليه الصلاة والسلام انتقل من الأصلاب الكريمة إلى الأرحام الطاهرة، لا يكون ذلك إلا مع الإيمان بالله تعالى، وما نقله المؤرخون قلة حياء وأدب، انتهى.
وهذا لازم في جميع الآباء وإن قصراه على الأبوين والإلزام المحذور، قال السيوطي: وقد وجدت لكلام الرازي أدلة قوية ما بين عام وخاص، فالعام مركب من مقدمتين، إحداهما: أنه ثبت في الأحاديث الصحيحة أن كل جد من أجداده صلى الله عليه وسلم خير قرنه؛ كحديث البخاري: "بعثت من خير قرون بني آدم قرنًا حتى بعثت من القرى الذي كنت فيه".
والثانية: أنه قد ثبت أن الأرض لم تخل من سبعة مسلمين، فصاعدا يدفع الله بهم عن أهل الأرض، أخرج عبد الرزاق وابن المنذر بسند صحيح على شرط الشيخين عن علي: قال: "لم يزل على وجه الدهر سبعة مسلمون فصاعدًا، فلولا ذلك هلكت الأرض ومن عليها".
وأخرج أحمد في الزهد والخلال في كرامات الأولياء بسند صحيح على شرط الشيخين،(1/327)
.....................................................
__________
عن ابن عباس، قال: "ما خلت الأرض من بعد نوح من سبعة يدفع الله بهم عن أهل الأرض" وإذا قرنت بين هاتين المقدمتين أنتج ما قاله الإمام؛ لأنه إن كان كل جد من أجداده من جملة السبعة المذكورين في زمانه فهو المدعي، وإن كانوا غيرهم لزم أحد أمرين: إما أن يكون غيرهم خيرًا منهم، وهو باطل لمخالفته الحديث الصحيح. وإما أن يكونوا خيرًا، وهم على الشرك وهو باطل بالإجماع. وفي التنزيل: {وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنُ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ} فثبت أنهم على التوحيد ليكونوا خير أهل الأرض في زمانهم.
وأما الخاص، فأخرج ابن سعد عن ابن عباس، قال: ما بين نوح إلى آدم من الآباء، كانوا على الإسلام، وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن المنذر والبزار والحاكم، وصححه عن ابن عباس، قال: "كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على شريعة من الحق، فاختلفوا فبعث الله النبيين" قال: وكذلك هي في قراءة عبد الله كان الناس أمة واحدة، فاختلفوا.
وفي التنزيل حكاية عن نوح: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا} وسام بن نوح مؤمن بنص القرآن والإجماع، بل ورد في أثر أنه نبي وولده أرفخشذ صرح بإيمانه في أثر عن ابن عباس، أخرجه ابن عبد الحكم في تاريخ مصر وفيه: أنه أدرك جده نوحًا ودعا له أن يجعل الله الملك والنبوة في ولده. وروى ابن سعد من طريق الكلبي: أن الناس ما زالوا ببابل وهم على الإسلام من عهد نوح إلى أن ملكهم نمروذ فدعاهم إلى عبادة الأوثان، وفي عهد نمروذ كان إبراهيم وآزر, وأما ذرية إبراهيم، فقد قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ، إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ، وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} [الزخرف: 26، 27، 28] .
أخرج عبد بن حميد عن ابن عباس ومجاهد في الآية: أنها لا إله إلا الله باقية في عقب إبراهيم، وأخرج عن قتادة في الآية: قال شهادة أن لا إله إلا الله والتوحيد لا يزال في ذريته من يقولها من بعده، وقال تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ} [إبراهيم: 35] ، الآية، أخرج ابن جرير عن مجاهد فيها، قال: فاستجاب الله لإبراهيم دعوته في ولده فلم يعبد أحد من ولده صنمًا بعد دعوته.
وأخرج ابن أبي حاتم عن سفيان بن عيينة أنه سئل هل عبد أحد من ولد إسماعيل الأصنام؟ قال: لا، ألم تسمع قوله: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} [إبراهيم: 35] ، قيل: فكيف ما يدخل ولد إسحاق وسائر ولد إبراهيم؟ قال: لا لأنه دعا لأهل البلد أن لا يعبدوا إذا أسكنهم إياه، قال: {اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا} [إبراهيم: 35] ، ولم يدع لجميع البلدان، بذلك فقال: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} [إبراهيم: 35] ، فيه وقد خص أهله، وقال: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي(1/328)
كذا قال.
وهو متعقب:
بأنه لا دلالة في قوله تعالى: {وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} على ما ادعاه، وقد ذكر البيضاوي -في تفسيره- أن معنى الآية: وترددك في تصفح أحوال المتهجدين،
__________
ب ِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ} [إبراهيم: 37] ، وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج، في قوله: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} [إبراهيم: 40] ، قال: "فلن تزال من ذرية إبراهيم ناس على الفطرة يعبدون الله"، وقد صحت الأحاديث في البخاري وغيره، وتظافرت نصوص العلماء بأن العرب من عهد إبراهيم على دينه لم يكفر أحد منهم إلى أن جاء عمرو بن عامر الخزاعي، وهو الذي يقال له عمرو بن لحي فهو أول من عبد الأصنام، وغير دين إبراهيم، وكان قريبًا من كنانة جد النبي عليه السلام، ثم ساق أدلة تشهد بأن عدنان ومعد وربيعة ومضر وخزيمة وأسد وإلياس وكعبًا على ملة إبراهيم، ثم قال: فتلخص من مجموع ما سقناه أن أجداده من آدم إلى كعب وولد مرة مصرح بإيمانهم إلا آزر، فإنه مختلف فيه، فإن كان والد إبراهيم فإنه يستثنى، وإن كان عمه كما هو أحد القولين، فهو خارج عن الأجداد وسلمت سلسلة النسب، وبقي بين مرة وعبد المطلب أربعة لم أظفر فيهم بنقل وعبد المطلب فيه خلاف، حكاه السهيلي عن المسعودي. والأشبه فيه أنه لم تبلغه الدعوة، وإلى هذا أشار الحافظ شمس الدين ابن ناصر الدمشقي، فقال:
تنقل أحمد نورًا عظيما ... تلألأ في جباه الساجدين
تنقل فيهم قرنًا فقرنا ... إلى أن جاء خبر المرسلينا
انتهى كلامه في سبل النجاة. وذكر في الفوائد أدلة تشهد بأن عبد المطلب كان على الحنيفية والتوحيد وكذا في الدرج المنيفة، وزاد فيه قوله ساقط: أن الله أحياه حتى آمن به صلى الله عليه وسلم، حكاه ابن سيد الناس وغيره، وهو مردود لا أعرفه عن أحد من أئمة السنة، إنما يحكى عن بعض الشيعة، وهو قول لا دليل عليه، ولم يرد فيه قط حديث لا ضعيف ولا غيره، انتهى.
وأغرب المصنف فتبرأ من كلام الإمام، بقوله: "كذا قال" الرازي "وهو متعقب بأنه لا دلالة في قوله تعالى: {وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} [الشعراء: 219] ، على ما" الذي "ادعاه" الحال أنه "قد ذكر البيضاوي" ما يعارضه "في تفسيره أن معنى الآية: وترددك في تصفح" تأمل "أحوال المتهجدين" في العبادة ببحثك عنها مرة بعد أخرى مأخوذ من تصفحت الكتاب إذا قلبت وجوه(1/329)
كما روى أنه لما نسخ فرض قيام الليل طاف تلك الليلة ببيوت أصحابه لينظر ما يصنعون، حرصًا على كثرة طاعاتهم، فوجدها كبيوت الزنابير لما سمع لها من دندنتهم بذكر الله تعالى.
وقد ورد النص بأن أبا إبراهيم عليه الصلاة والسلام مات على كفر، كما صرح به البيضاوي وغيره، قال تعالى: {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ} [التوبة: 114] ، وأما قوله إنه كان عمه فعدول عن الظاهر من غير دليل. انتهى.
__________
أوراقه لتنظر إليها، "كما روى أنه لما نسخ فرض قيام الليل طاف تلك الليلة ببيوت أصحابه لينظر ما يصنعون حرصًا على كثرة طاعتهم، فوجدها كبيوت الزنابير" جمع زنبور بضم الزاي، أي: الدبابير، "لما سمع لها من دندنتهم" أصواتهم الخفية وما موصول، والعائد محذوف ومن دندنتهم بيان لما، أي: للأصوات التي سمعها، "بذكر الله تعالى" وهذا التعقب بيت العنكبوت إذ ليس في كلام البيضاوي نفي لغير ما ذكره من التفسير، ولا حكاية إجماع عليه بل ذكر بعده تفسيرًا آخر أن المراد بهم المصلون والرازي أيضًا لم ينف غير التفسير الذي ذكره، بل قال أقصى ما في الباب حمل الآية على وجوه أخرى لا منافاة بينها، فتعقبه بأحد تفاسير اعترف هو بها، وأشار إلى الجمع بينها مما لا يليق تسطيره على أن ما فسر به الرازي هو الأولى بالقبول، فقد أخرج ابن سعد والبزار والطبراني وأبو نعيم عن ابن عباس في قوله تعالى: {وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} [الشعراء: 219] ، قال: من نبي إلى نبي، ومن نبي إلى نبي حتى أخرجتك نبيًا، ففسر تقلبه في الساجدين بتقلبه في أصلاب الأنبياء، ولو مع الوسائط، قال في الفوائد: وحمل الآية على أعم منهم، وهم المصلون الذين لم يزالو في ذرية إبراهيم أوضح؛ لأنه ليس في أجداده صلى الله عليه وسلم أنبياء بكثرة بل إسماعيل وإبراهيم ونوح وشيث وآدم وإدريس في قول، انتهى.
"وقد ورد النص بأن أبا إبراهيم عليه الصلاة والسلام مات على كفر، كما صرح به البيضاوي وغيره" ممن استروح وتساهل وذكر ما زعم أنه النص، بقوله: قال تعالى: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ} [التوبة: 114] بالموت على الكفر أو أوحي إليه أنه لن يؤمن ذكرهما البيضاوي واقتصر الجلال على الأول، "تبرأ منه" وترك الاستغفار له، واستشعر نقض قوله النص بأنه ليس نصًا؛ لأن العرب تسمي العم أبا وبلغتهم جاء القرآن، فقال: "وأما قوله: إنه كان عمه" وفيه: أنه لم يقله بل نقله وهو إمام ثبت حجة في النقل، ثم قال وجد عن السلف، "فعدول عن الظاهر من غير دليل" بل دليله كالشمس، فقد صرح الشهاب الهيثمي بأن أهل الكتابين والتاريخ أجمعوا على أنه لم يكن أباه حقيقة، وإنما كان عمه والعرب تسمي العم أبا؛ كما جزم به الفخر بل في القرآن ذلك. قال تعالى: {وَإِلَهَ(1/330)
وأجاب صاحب العقائق بأنهم كانوا ساجدين، بعضهم للصمد، وبعضهم للصنم.
ونقل أبو حيان في "البحر" عند تفسير قوله تعالى: {وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} أن الرافضة هم القائلون أن آباء النبي صلى الله عليه وسلم كانوا مؤمنين مستدلين بقوله تعالى: {وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} وبقوله عليه الصلاة والسلام: "لم أزل أنقل من أصلاب الطاهرين" انتهى.
__________
آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ} [البقرة: 133] ، مع أنه عم يعقوب، بل لو لم يجمعوا على ذلك وجب تأويله بهذا جمعًا بين الأحاديث. قال: وأما من أخذ بظاهره كالبيضاوي وغيره فقد استروح وتساهل، انتهى.
وقال في الدرج المنيفة: الأرجح أن آزر عم إبراهيم؛ كما قال الرازي لا أبوه، وقد سبقه إلى ذلك جماعة من السلف، فروينا بالأسانيد عن ابن عباس ومجاهد وابن جريج والسدي، قالوا: ليس آزر أبا إبراهيم إنما هو إبراهيم بن تارخ ووقفت على أثر في تاريخ ابن المنذر صرح فيه بأنه عمه، "انتهى" وبه تعلم ما تحامل به بعض المتأخرين جدًا، فخطأ من قال: إنه عمه وزعم أنه تبع الشيعة، وأنه مخالف للكتاب والسنة وأهلها وغيرهم، وزعم اتفاق المفسرين وغيرهم على أن والد إبراهيم كان كافرًا، وإنما الخلاف في اسمه وأطال في بيان ذلك بما لا طائل تحته. وحاصله: أنه احتجاج فقيه بمحل النزاع وتخطئته هي الخطأ وحصره القول به للشيعة هو صنو قول أبي حيان: أنهم الرافضة، ويأتي رده ولا دخل للرفض ولا للتشيع في ذلك، وزعمه الاتفاق باطل، كيف وقد قال أولئك السلف أنه عمه، وحكاه الرازي ونقله حافظ السنة في عصره وأقصره وأيده بما لا محيص عنه إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار.
"وأجاب صاحب العقائق" عن احتجاج الرازي بالآية، "بأنهم كانوا ساجدين بعضهم للصمد" الذي لا جوف له أو المقصود في الحوائج على الدوام سبحانه وتعالى، "وبعضهم للصنم" كذا رأيت هذا الجواب في بعض نسخ المتن العتيقة وأكثرها سقوطه، وهو لا يساوي فلسًا ولا ينبغي كتبه، فإن سياق الآيات للامتنان على النبي صلى الله عليه وسلم واطلاع ربه على تنقله حالا وماضيًا، فكيف يليق أن يمتن عليه بأنه رأى تقلبه في بعض آبائه الساجدين للصنم، إن هذا لجمود عظيم.
"ونقل أبو حيان في البحر عند تفسير قوله تعالى: {وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} [الشعراء: 219] ، أن الرافضة هم القائلون أن آباء النبي صلى الله عليه وسلم كانوا مؤمنين مستدلين بقوله تعالى: {وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} [الشعراء: 219] ، وبقوله عليه الصلاة والسلام: "لم أزل أنقل من أصلاب الطاهرين، انتهى" ومراده من نقله: تقوية تعقبه على الرازي، وقد عرض به وشدد عليه النكير الشهاب الهيثمي، فقال: وقول بعضهم أبو حيان ... إلخ سوء تصرف منه؛ لأنه أعني ناقل(1/331)
وقد روى ابن جرير عن علقمة بن مرثد عن سليمان بن بريدة عن أبيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم مكة أتى رسم قبر، فجلس إليه فجعل يخاطب ثم قام مستعبرًا فقلنا يا رسول الله إنا رأينا ما صنعت، قال: "إني استأذنت ربي في زيارة قبر أمي فأذن لي، استأذنته في الاستغفار لها فلم يأذن لي"، فما رؤي باكيًا أكثر من يومئذ.
__________
هذا الكلام عن أبي حيان، لو كان له أدنى مسكة من علم أو فهم، لتعقب قوله: إن الرافضة هم القائلون بذلك، وقال له: هذا الحصر باطل منك أيها النحوي البعيد عن مدارك الأصول والفروع، كيف والأئمة الأشاعرة من الشافعية وغيرهم على ما مر التصريح به في نجاة سائر آبائه صلى الله عليه وسلم كبقية أهل الفترة، فلو كنت ذا إلمام بذلك لما حصرت نقله الرافضة، وزعمت أنهم المستدلون بالآية والحديث، وهذا الفخر من أكابر أئمة أهل السنة قد استدل بهما ونقل ذلك عن غيره، فليتك أيها الناقل عن أبي حيان سكت عن ذلك، ووقيت عرضه وعرضك من رشق سهام الصواب فيهما، انتهى.
وقد وافقه على الاستدلال بالآية لهذا المعنى: الماوردي من أئمة الشافعية، وناهيك بهما ثم أيد المصنف تعقبه بأحاديث، وقبل أخذك الجواب عنها واحدًا واحدًا مفصلا، فقد علمت أنا أسلفنا لك عنها جوابين أنها أخبار آحاد، فلا تعارض القاطع؛ كقوله: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15] ، مع ضعف أكثرها وقبول صحيحها للتأويل، وأنها منسوخة بما ورد في الأبوين مما يخالفها، فلا تغفل.
فقال: "وقد روى" محم "بن جرير" بن يزيد بن كثير الإمام الحافظ الفرد، أبو جعفر الطبري، أحد الأعلام المجتهد المطلق، صاحب التصانيف، المتوفى سنة عشر وثلاثمائة، "عن علقمة بن مرثد" بفتح الميم وسكون الراء وفتح المثلثة الحضرمي، أبي الحارث الكوفي الثقة، "عن سليمان بن بريدة" بن الحصيب الأسلمي المروزي، قاضيها الثقة المتوفى سنة خمس ومائة عن تسعين سنة.
"عن أبيه" بريدة بن الحصيب بحاء وصاد مهملتين مصغر، قال الغساني: وصحف من قاله بخاء معجمة، "أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم مكة" سنة الفتح؛ كما رواه ابن سعد وابن شاهين من هذا الوجه، أتى رسم قبر" أثره لانمحاء صورته "فجلس إليه" عنده "فجعل يخاطب" بكسر الطاء، وفي حديث ابن مسعود: فناجاه طويلا، "ثم قام مستعبرًا" بموحدة: جاري الدمع، "فقلنا: يا رسول الله! إنا رأينا ما صنعت؟ قال: "إني استأذنت ربي في زيارة قبر أمي، فأذن لي ثم استأذنته في الاستغفار لها فلم يأذن لي"، فما رؤي باكيًا أكثر من يومئذ".
ورواه ابن سعد وابن شاهين عن بريدة بنحوه، وابن جرير من وجه آخر عنه، بلفظ: لما قدم(1/332)
وروى ابن أبي حاتم في تفسيره عن عبد الله بن مسعود، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أومأ إلى المقابر فاتبعناه، فجاء حتى جلس إلى قبر منها فناجاه طويلا، ثم بكى فبكينا لبكائه، ثم قام فقام إليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فدعاه ثم دعانا، فقال: ما أبكاكم؟ قلنا: بكينا لبكائك، فقال: إن القبر الذي جلست عنده قبر آمنة، وإني استأذنت ربي في زيارتها فأذن لي، وإني استأذنته في الدعاء لها فلم يأذن لي، وأنزل عليّ: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى} [التوبة: 113] فأخذني ما يأخذ الولد للوالد.........................
__________
مكة وقف على قبر أمه حتى سخنت عليه الشمس رجاء أن يؤذن له فيستغفر لها، فنزلت الآية، قاله السيوطي وله علتان مخالفته الحديث الصحيح في نزول الآية في أبي طالب، والثانية: قال ابن سعد في الطبقات: هذا غلط ليس قبرها بمكة، قبرها بالأبواء، انتهى. ويأتي قريبًا الجواب عن عدم الإذن في الاستغفار عن البكاء.
"وروى ابن أبي حاتم" الإمام الحافظ الناقد عبد الرحمن بن الحافظ الكبير محمد بن إدريس بن المنذر بن داود الرازي الحنظلي التميمي، الثقة الزاهد الذي يعد في الإبدال البحر في العلوم ومعرفة الرجال، كساه الله بهاء نور يسر به من نظر إليه، مات في محرم سنة سبع وعشرين وثلاثمائة "ي تفسيره" وكذا الحاكم "عن عبد الله بن مسعود: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أومأ" أشار "إلى المقابر" أنه يريد الذهاب إليها، "فاتبعناه فجاء حتى جلس إلى" جانب "قبر منها" وفي رواية الحاكم: خرج ينظر في المقابر وخرجنا معه، فأمرنا فجلسنا ثم تخطى القبور، حتى انتهى إلى قبر منها، "فناجاه طويلا، ثم بكى" وفي رواية الحاكم: ثم ارتفع نحيبه باكيًا، "فبكينا لبكائه، ثم قام فقام إليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فدعاه ثم دعانا، فقال: "ما أبكاكم"؟. فقلنا: بكينا لبكائك".
وفي رواية الحاكم: ثم أقبل إلينا، فتلقاه عمر، فقال: يا رسول الله! ما الذي أبكاك؟ فقد أبكانا وأفزعنا، فجاء فجلس إلينا، فقال: "أفزعكم بكائي"؟ قلنا: نعم، فقال: "إن القبر الذي جلست عنده قبر آمنة". زاد الحاكم: بنت وهب، "وإني استأذنت ربي في زيارتها فأذن لي وإني استأذنته في الدعاء". وفي رواية الحاكم: في الاستغفار، "لها فلم يأذن لي وأنزل عليّ: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى} [التوبة: 113] ، فأخذني ما يأخذ الولد للوالد". من الرقة والشفقة.
قال الحاكم: هذا حديث صحيح ورده الذهبي في اختصار المستدرك بأن فيه أيوب بن(1/333)
ورواه الطبراني من حديث ابن عباس.
وفي مسلم: "استأذنت ربي أن استغفر لأمي فلم يأذن لي، واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي فزوروا القبور، فإنها تذكر الآخرة".
__________
هانئ ضعفه ابن معين، قال السيوطي: فهذه علة تقدح في صحته والعجب من الذهبي كيف صححه في الميزان اعتمادًا على تصحيح الحاكم، مع أنه خالفه في مختصره، قال: وله علة ثانية هي مخالفته لما في البخاري وغيره من أن هذه الآية نزلت بمكة عقب موت أبي طالب واستغفار النبي صلى الله عليه وسلم له، ووردت أحاديث أخر في الترمذي وغيره فيها سبب غير قصة آمنة، فإن كان الذهبي رد حديث الإحياء لمخالفته هذا الحديث، فهذا الحديث يرد لمخالفته المقطوع بصحته في صحيح البخاري وغيره، انتهى.
"ورواه الطبراني من حديث ابن عباس" بلفظ: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أقبل من غزوة واعتمر هبط من ثنية عسفان، فنزل على قبر أمه، فذكر نحو حديث ابن مسعود وفيه نزول الآية، قال السيوطي: وله علتان مخالفة الحديث الصحيح كما سبق وإسناده ضعيف، ثم قال: فبان بهذا أن طرق الحديث كلها معلولة خصوصًا قصة نزول الآية الناهية عن الاستغفار؛ لأنه لا يمكن الجمع بينها وبين الأحاديث الصحيحة في تقدم نزولها في قصة أبي طالب وغيره، وأصح طرق هذا الحديث ما أخرجه الحاكم وصححه على شرط الشيخين عن بريدة: أن النبي صلى الله عليه وسلم زار قبر أمه في ألف مقنع، فما رؤي باكيًا أكثر من يومئذ هذا القدر، لا علة له وليس فيه مخالفة لشيء من الأحاديث ولا نهي عن الاستغفار، وقد يكون البكاء لمجرد الرقة التي تحصل لزيارة الموتى من غير سبب تعذيب ونحوه، انتهى.
والحافظ ابن حجر لما أبدى احتمالا أن لنزول الآية سببين متقدم وهو أمر آمنة رده بأن الأصل عدم تكرار النزول، ثم لا يشكل بأن موت أبي طالب قبل الهجرة بنحو ثلاث سنين، وبراءة من أواخر ما نزل بالمدينة؛ لأن هذه الآية مستثناة من كون السورة مدنية، كما نقله في الإتقان عن بعضهم وأقره، فلا حاجة لجواب الطيبي ونحوه بجواز أنه صلى الله عليه وسلم كان يستغفر له إلى نزولها، فإن التشديد مع الكفار إنما ظهر في هذه السورة؛ لأنه مجرد تجويز مبني على أن جميع السورة مدني.
"وفي مسلم" من حديث أبي هريرة مرفوعًا "استأذنت ربي أن أستغفر لأمي فلم يأذن لي، واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي، فزوروا القبور فإنها تذكر الآخرة" وكذا رواه ابن ماجه، إلا أنه قال: "فإنها تذكركم الموت"، فهذا حديث صحيح معارض لحديث إحيائهما وكلام الرازين وهذا الذي أراده المصنف أورده في الفوائد بطريق السؤال، فقال: كيف قررت(1/334)
قال القاضي عياض: بكاؤه عليه السلام على ما فاتها من إدراك أيامه والإيمان به.
__________
أنها كانت موحدة في حياتها ومتحنفة؟ وهذا الحديث في أنه استغفر لها فلم يؤذن له، وقوله في الحديث الآخر، أي: "مع أمكما"، يؤذنان بخلاف ذلك وهبك أجبت عنهما فيما يتعلق بحديث الإحياء بأنهما متقدمان في التاريخ وذاك متأخر وكان ناسخًا، فما تقول في هذا فإن الموت على التوحيد ينفي التعذيب البتة.
وأجاب: بأن حديث عدم الإذن في الاستغفار لا يلزم منه الكفر بدليل أنه صلى الله عليه وسلم كان ممنوعًا في أول الإسلام من الصلاة على من عليه دين لم يترك له وفاء، ومن الاستغفار له وهو من المسلمين، وعلل بأن استغفاره مجاب على الفور، فمن استغفر له وصل عقب دعائه إلى منزله في الجنة، والمديون محبوس عن مقامه حتى يقضي دينه؛ كما في الحديث، فقد تكون أمه مع كونها متحنفة كانت محبوسة في البرزخ عن الجنة لأمور أخرى غير الكفر اقتضت أن لا يؤذن له في الاستغفار إلى أن أذن الله له في بعد ذلك، قال: وأما حديث "أمي مع أمكما" على ضعف إسناده فلا يلزم منه كونها في النار؛ لجواز أنه أراد بالمعية كونها معها في دار البرزخ أو غير ذلك وعبر بذلك تورية وليها ما تطييبا لقلوبهما، قال: وأحسن منه أنه صدر ذلك منه قبل أن يوحى إليه أنها من أهل الجنة؛ كما قال في تبع: "لا أدري تبعًا ألعينًا كان أم لا"؟. أخرجه الحاكم وابن شاهين عن أبي هريرة، وقال بعد أن أوحي إليه في شأنه: "لا تسبوا تبعًا، فإنه كان قد أسلم"، أخرجه ابن شاهين في الناسخ والمنسوخ عن سهل وابن عباس، فكأنه أولا لم يوح إليه في شأنها ولم يبلغه القول الذي قالته عند موتها، ولا تذكره، فأطلق القول بأنها مع أمها جريًا على قاعدة أهل الجاهلية، ثم أوحي إليه أمرها بعد ويؤيد ذلك أن في آخر الحديث نفسه: "ما سألتهما ربي"، قال: ويمكن الجواب عن الحديثين: بأنها كانت موحدة غير أنها لم يبلغها شأن البعث والنشور، وذلك أصل كبير فأحياها الله له حتى آمنت بالبعث وبجميع ما في شريعته، ولذا تأخر إحياؤها إلى حجة الوداع حتى تمت الشريعة: ونزل: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3] ، فأحييت حتى آمنت بجميع ما أنزل عليه، قال: وهذا معنى نفيس بليغ.
"قال القاضي عياض: بكاؤه عليه السلام" ليس لتعذيبها إنما هو أسف "على ما فاتها من إدراك أيامه والإيمان به" وقد رحم الله تعالى بكاءه فأحياها له حتى آمنت به، وما ألطف هذه العبارة من القاضي، فإنها صريحة في أن البكاء إنما هو لكونها لم تحز شرف الدخول في هذه الأمة، لا لكونها على غير الحنيفية.(1/335)
وفي مسلم أيضًا: أن رجلا قال: يا رسول الله! أين أبي؟ قال: "في النار"، فلما قفا دعاه، قال: "إن أبي وأباك في النار".
__________
"وفي مسلم أيضًا" وأبي داود كلاهما من طريق حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس "أن رجلا" هو أبو رزين العقيلي، فيما قاله ابن أبي خيثمة أو حصين بن عبيد والد عمران فيما ذكره ابن رشيد وتعقب البرهان الأول بأن والد أبي رزين أسلم، واسمه عامر بن صبرة، قال: يا رسول الله! أين أبي؟ قال: "في النار". وفي مسند أحمد: أن أبا رزين سأل عن أمه أين هي؟ فقال: كذلك، وجمع البرهان بأنه سأل عن أبيه مرة وعن أمه أخرى، ويتأكد ما قدمه أن أباه أسلم، "فلما قفا" بقاف ففاء مخففة، أي: انصرف عنه وولى بأن جعل قفاه إلى جهته صلى الله عليه وسلم ولا يرد أن قفا، إنما هو بمعنى تبع على مقتضى الصحاح؛ لأنه هنا بمعنى اتبع الجهة التي جاء منها منصرفًا إليها ومن لازمها توليه عن المصطفى.
دعاه، فقال: "إن أبي وأباك في النار". فهذا صريح في رد حديث الإحياء، وكلام الرازي ومن قال إنهما أهل فترة لم تبلغهما دعوة، والجواب: أنه منسوخ بالآيات والأحاديث الواردة في أهل الفترة وأراد بأبيه عمه أبا طالب؛ لأن العرب تسمي العم أبا حقيقة، ولأنه رباه والعرب تسمي المربي أبا، أو أنه خبر آحاد فلا يعارض القاطع وهو نص: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15] ، واستظهر في شرح الهمزية الثاني فلم يتم ماد المصنف من سوقه على أن حديث مسلم هذا، كما قال السيوطي: لا يصح للاحتجاج به فإنه انفرد به عن البخاري، وفي إفراده أحاديث تكلم فيها يوشك أن هذا منها، وذلك أن ثابتًا وإن كان إمامًا ثقة فقد ذكره ابن عدي في الضعفاء، وقال: وقع في أحاديثه نكرة من الرواة عنه؛ لأنه روى عنه ضعفاء.
وقد أعل السهيلي هذا الحديث بأن معمر بن راشد في روايته عن ثابت عن أنس خالف حمادًا، فلم يذكر أن أبي وأباك في النار، بل قال: إذا مررت بقبر كافر فبشره بالنار، وهو كما قال فمعمر أثبت في الرواية من حماد؛ لاتفاق الشيخين على تخريج حديثه، ولم يتكلم في حفظه ولم ينكر عليه شيء من حديثه، وحماد وإن كان إمامًا عالمًا عابدًا فقد تكلم جماعة في روايته، ولم يخرج له البخاري شيئًا في صحيحه، وما خرج له مسلم في الأصول إلا من حديثه عن ثابت، وأخرج له في الشواهد عن طائفة، صرح به الحاكم في المدخل.
وقال الذهبي: حماد ثقة له أوهام ومناكير كثيرة، وكانوا يقولون: إنها دست في كتبه من ربيبه ابن أبي العوجاء، وكان حماد لا يحفظ فحدث بها فوهم، ومن ثم لم يخرج له البخاري فحديث معمر أثبت وقد وجدناه ورد بمثل رواية معمر عن ثابت عن أنس، ومن حديث سعد بن(1/336)
.........................................
__________
مالك، ومن حديث ابن عمر.
أخرج البيهقي والبزار والطبراني في الكبير بسند رجاله رجال الصحيح، عن سعد بن أبي وقاص: أن أعرابيًا أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! أين أبي؟ قال: "في النار"، قال: فأين أبوك؟ قال: "حيثما مررت بقبر كافر فبشره بالنار"، زاد الطبراني: فأسلم الأعرابي بعد، فقال: لقد كلفني رسول الله صلى الله عليه وسلم تعبًا، ما مررت بقبر كافر إلا بشرته بالنار.
وروى ابن ماجه عن ابن عمر، قال: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن أبي كان يصل الرحم وكان وكان، فأين هو؟ قال: "في النار" فكأنه وجد من ذلك، فقال: أين أبوك أنت؟ فقال: "حيثما مررت بقبر كافر، فبشره بالنار" فأسلم الأعرابي بعد، فقال: لقد كلفني رسول الله صلى الله عليه وسلم تعبًا، ما مررت بقبر كافر إلا بشرته بالنار، فبين أن السائل أعرابي وهو مظنة خشية الفتنة والردة والمصطفى كان إذا سأله أعرابي وخاف من إفصاح الجواب له فتنته واضطراب قلبه، أجاب بجواب فيه تورية وإيهام وهذا كذلك إذا لم يصرح فيه بالأدب الكريم، إنما قال: حيثما مررت ... إلخ، وهذه جملة لا تدل بالمطابقة على ذلك فكره صلى الله عليه وسلم أن يفصح له بحقيقة الحال ومخالفة أبيه لأبيه في المحل الذي هو فيه خشية ارتداده لما جلبت عليه النفوس من كراهة الاستئثار عليها، ولما كانت عليه العرب من الجفاء وغلظ القلوب، فأورد له جوابًا موهمًا تطمينًا لقلبه، فتعين الاعتماد على هذا اللفظ وتقديمه على غيره وقد أوضحت الزيادة، بلا شك أن هذا اللفظ العام هو الصادر من النبي صلى الله عليه وسلم ورآه الأعرابي بعد إسلامه أمرًا مقتضيًا للامتثال فلم يسعه إلا امتثاله، ولو كان الجواب باللفظ الأول لم يكن فيه أمر بشيء البتة، فعلم أنه تصرف الرواة وأن هذه الطريق في غاية الإتقان.
ولذا قال بعض الحفاظ: لو لم نكتب الحديث من ستين وجهًا ما عقلناه، أي: لاختلاف الرواة في إسناده وألفاظه، فهذا الحديث معلل من هذه الحيثية وليس ذلك قد حافى صحته من أصله بل في هذه اللفظة فقط، ثم لو فرض اتفاق الرواة على لفظ مسلم كان معارضًا بالأدلة القرآنية والأدلة الواردة في أهل الفترة والحديث الصحيح إذا عارضه أدلة أخرى وجب تأويله وتقديم تلك الأدلة عليه؛ كما هو مقرر في الأصول، انتهى ملخصًا.
وقد تقدم تأويله، فإن قيل: حيث قررت أن أهل الفترة لا يقضى عليهم بشيء حتى يمتحنوا، فكيف حكم صلى الله عليه وسلم على أبي السائل بأنه في النار؟ أجاب السوطي: بجواز أنه يعصي عند الامتحان وأوحى إليه بذلك فحكم بأنه من أهل النار وبأن حديثه متقدم على أحاديث أهل الفترة، فيكون منسوخًا بها وبجواز أنه عاش حتى أدرك البعثة، وبلغه وأصر ومات في عهده وهذا لا عذر(1/337)
قال النووي: فيه أن من مات على الكفر فهو في النار، ولا ينفعه قرابة المقربين. وفيه: أن من مات في الفترة على ما كانت عليه العرب من عبادة الأوثان فهو في النار، وليس في هذا مؤاخذة قبل بلوغ الدعوة، فإن هؤلاء كانت بلغتهم دعوة إبراهيم وغيره من الأنبياء.
__________
له البتة، انتهى.
وفي الثالث نظر؛ لأنه لو كان كذلك لما كان السؤال عن الأب الكريم وجه إذ الفرق لائح؛ لأن أباه بلغته البعثة والأب الشريف لم تبلغه، اللهم إلا أن يجاب بأن الأعرابي توهم أنه لا يكفي بلوغ البعثة حتى يشاهد النبي ولا ينكر هذا منه؛ لأنه لم يكن حينئذ تفقه في الدين بل لم يكن أسلم؛ كما صرح به في حديث سعد وابن عمر.
"قال النووي فيه" أي: حديث مسلم، إفادة " أن من مات على الكفر، فهو في النار ولا ينفعه قرابة المقربين" قال السيوطي: ينبغي عندي أن النووي أراد الحكم على أبي السائل وكلامه ساكت عن الحكم على الأب الشريف، "وفيه" أيضًا إفادة أن من مات في الفترة على ما كانت عليه العرب من عبادة الأوثان، فهو في النار" ووجه استفادة هذا منه أن أبا الأعرابي كان في الفترة بدليل سؤاله عن الأب الكريم، "وليس في هذا مؤاخذة قبل بلوغ الدعوة، فإن هؤلاء كانت بلغتهم دعوة إبراهيم وغيره من الأنبياء" وهذا خلاف ما أطبقت عليه الأشاعرة من أهل الكلام والأصول والشافعية من أن أهل الفترة لا يعذبون؛ كما تقدم بسطه وقد ورد السيوطي كلام النووي هذا، بما محصله: أنا لو اعتبرنا مطلق وجود بعثة الأنبياء لاستحال وجود من تبلغهم الدعوة إذ ما من فترة إلا وقبلها نبي إلى آدم وهو أول الأنبياء، ولسقطت الأحاديث والآثار الواردة في أهل الفترة بأسرها على كثرتها وصحتها، ولحكم عليهم أجمعين بأنهم في النار من غير امتحان.
وفي هذا إلغاء ورد للأحاديث الصحيحة بلا دليل كيف وفي حديث ثوبان: "إذا كان يوم القيامة جاء أهل الجاهلية يحملون أوثانهم على ظهورهم"، وذكر بقية الحديث في الامتحان، فهذا نص في المسألة وإذا لم يكن أهل الفترة هم الذين لم تبلغهم الدعوة، فليت شعري من هم وهل يمكن أن يوجد في الأرض من لم يبلغها، أن الله بعث نبيًا لدن آدم وبعثة أنبياء الله ووقائعهم مع أممهم وإهلاكاتهم مشهورة، ولو لم يكن إلا بعثة نوح وإقامته ألف سنة، والطوفان الذي غرق أهل الأرض جميعًا لكفى على أن العرب ما كانوا مكلفين بشريعة إبراهيم ولا غيره؛ كما دلت عليه الأحاديث وبه صرح القرآن، قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15] ، وقال تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ} [الأنعام: 92، 155] الآيتين. أخرج ابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ عن مجاهد، قال: الطائفتين اليهود(1/338)
وقال الإمام فخر الدين: من مات مشركًا فهو في النار، وإن مات قبل البعثة، لأن المشركين كانوا قد غيروا الحنيفية دين إبراهيم، واستبدلوا بها الشرك وارتكبوه، وليس معهم حجة من الله به، ولم يزل معلومًا من دين الرسل كلهم، من أولهم إلى آخرهم، قبح الشرك والوعيد عليه في النار، وأخبار عقوبات الله لأهله متداولة بين الأمم قرنًا بعد قرن، فلله الحجة البالغة على المشركين، في كل وقت وحين، ولو لم يكن إلا ما فطر الله عباده عليه من توحيد ربوبيته، وأنه يستحيل في كل فطرة وعقل أن يكون معه إله آخر، وإن كان سبحانه لا يعذب بمقتضى هذه الفطرة وحدها، فلم تزل دعوة الرسل إلى التوحيد في الأرض معلومة لأهلها، فالمشرك مستحق للعذاب في النار لمخالفته دعوى الرسل، وهو مخلد فيها دائمًا.......................
__________
والنصارى خاف أن تقوله قريش، انتهى.
وحكى في شرح الهمزية الاتفاق على أن العرب ما كانوا مكلفين بشرع أحد، ورد به كلام النووي هذا وكلام الرازي الذي ذكره المصنف، بقوله: "وقال الإمام فخر الدين: من مات مشركًا فهو في النار، وإن مات قبل البعثة؛ لأن المشركين كانوا قد غيروا" الملة "الحنيفية" أي: المائلة إلى الحق "دين إبراهيم" بدل من الحنيفية "واستبدلوا بها الشرك" أي: أخذوه بدلها، فالباء داخلة على المتروك. وقول الشارح على المأخوذ سبق قلم؛ لأن مادة استبدل وتبدل إنما تدخل الباء فيهما على المتروك؛ كقوله تعالى: {أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ} [البقرة: 61] ومن يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضل.
"وارتكبوه وليس معهم حجة من الله به، ولم يزل معلومًا من دين الرسل كلهم من أولهم إلى آخرهم قبح الشرك والوعيد عليه" بالتذيب "في النار، وأخبار عقوبات الله" عليه "لأهله متداولة بين الأمم قرنًا بعد قرن، فلله الحجة البالغة" التامة "على المشركين، في كل وقت وحين، ولو لم يكن إلا ما فطر الله عباده" أي: خلقهم مشتملين "عليه من توحيد ربوبيته وأنه يستحيل في كل فطرة وعقل" عطف تفسير "أن يكون معه إله آخر" أي: أنه خلقهم قابلين لذلك، وجواب لو محذوف، أي: لكفى ذلك في الحجة "وإن كان سبحانه وتعالى لا يعذب بمقتضى هذه الفطرة وحدها" لأن الصحيح أن الإيمان إنما يجب بالشرع لا العقل، فهم وإن أدركوا بعقولهم لكن لا يعذبهم على عدم الجري على مقتضى ما أدركوه.
"فلم تزل دعوة الرسل إلى التوحيد في الأرض معلومة لأهلها، فالمشرك" بعبادة الأوثان "مستحق للعذاب في النار لمخالفته دعوى الرسل، وهو مخلد فيها دائمًا" لكن بعد الامتحان(1/339)
كخلود أهل الجنة في الجنة. انتهى.
وقد تعقب العلامة أبو عبد الله الأبي من المالكية فيما وضعه على صحيح مسلم قول النووي الماضي وفيه "أن من مات في الفترة على ما كانت عليه العرب من عبادة الأوثان في النار، إلى آخره" بما معناه:
تأمل ما في كلامه من التنافي، فإن من بلغتهم الدعوة ليسوا بأهل فترة، لأن أهل الفترة هم: الأمم الكائنة بين أزمنة الرسل الذين لم يرسل إليهم الأول، ولا أدركوا الثاني، كالأعراب الذين لم يرسل إليهم عيسى ولا لحقوا النبي صلى الله عليه وسلم. والفترة بهذا التفسير تشمل ما بين كل رسولين، كالفترة بين نوح وهود، لكن الفقهاء إذا تكلموا في الفترة فإنهم يعنون التي بين عيسى ونبينا عليهما الصلاة والسلام.
__________
فمن عصى خلد فيها، ومن أطاع ففي الجنة؛ كما صرحت به الأحاديث وإن كانت عبارته لا تؤدي ذلك "كخلود أهل الجنة في الجنة، انتهى" كلام الرازي.
"وقد تعقب العلامة أبو عبد الله" محمد بن خلف "الأبي، من" أجل علماء "المالكية" المتأخرين أخذ عن ابن عرفة واشتهر في حياته بالمهارة والتقدم في العلوم وكثر انتقاده لشيخه مشافهة وربما رجع؛ إليه كما قال أحمد بابا في ذيل الطبقات، وقال الحافظ في التبصير: الأبي بالضم منسوب إلى أبة من قرى تونس عصرينا بالمغرب محمد بن خلف الأبي الأصولي عالم المغرب بالمعقول، سكن تونس، انتهى.
"فيما وضعه على صحيح مسلم" يعني شرحه المسمي بإكمال الإكمال، "قوله النووي الماضي، وفيه: "أن من مات في الفترة على ما كانت عليه العرب من عبادة الأوثان في النار ... إلخ"، بما معناه: تأمل ما في كلامه من التنافي، فإن من بلغتهم الدعوة ليسوا بأهل فترة" وهو قد صرح أولا بأنهم أهل فترة، فهو تنافٍ "لأن أهل الفترة هم الأمم الكائنة بين أزمنة الرسل الذين لم يرسل إليهم الأول، ولا أدركوا الثاني؛ كالأعراب الذين لم يرسل إليهم عيسى عليه السلام ولا لحقوا النبي" محمد صلى الله عليه وسلم وأجيب عن التنافي بأن النووي كمن وافقه وإن كان مرجوحًا يكتفى في وجوب الإيمان على كل أحد ببلوغه دعوة من قبله من الرسل، وإن لم يكن مرسلا إليه، وإنما يتأتى التنافي لو ادعى أن الخليل وغيره أرسلوا إليهم وهو لم يدع ذلك، "والفترة بهذا التفسير تشمل ما بين كل رسولين؛ كالفترة" التي "بين نوح وهود، لكن الفقهاء إذا تكلموا في الفترة" وأطلقوا "إنما يعنون" الفترة "التي بين عيسى ونبينا عليهما الصلاة والسلام".(1/340)
وذكر البخاري عن سلمان أنها كانت ستمائة سنة.
ولما دلت القواطع على أنه لا تعذيب حتى تقوم الحجة، علمنا أنهم غير معذبين، فإن قلت قد صحت أحاديث بتعذيب أهل الفترة، كحديث: "رأيت عمرو بن لحي يجر قصبه في النار ورأيت صاحب المحجن في النار"، وهو الذي يسرق الحاج بمحجنه، فإذا بصر به، قال: إنما تعلق بمحجني.
أجيب بأجوبة: أحدها: أنها أخبار آحاد........................
__________
"وذكر" أي: روى "البخاري عن سلمان" الفارسي موقوفًا عليه "أنها كانت ستمائة سنة" قال ابن كثير: وهو المشهور، وقال قتادة: خمسمائة وستون، والكلبي: وأربعون، وغيرهما: أربعمائة، "ولما دلت القواطع" القرآنية نحو أن تقولوا: إنما أنزل الكتاب {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15] ، "على أنه لا تعذيب حتى تقوم الحجة" ببعث الرسل "علمنا أنهم غير معذبين" إذ لا يجب إيمان ولا يحرم كفر، "فإن قلت" يرد على هذا أنه "قد صحت أحاديث بتعذيب" بعض "أهل الفترة؛ كحديث" البخاري ومسلم عن أبي هريرة مرفوعًا: "ورأيت عمر بن لحي" بضم اللام وفتح الحاء المهملة وشد الياء، وفي رواية لهما أيضًا: "رأيت عمرو بن عامر الخزاعي"، قال عياض: والمعروف في نسبته الأول، وأجاب الأبي أخذًا من كلام ابن عبد البر السهيلي بأن عامرًا اسم أبيه، ولحي لقب عرف به، قال: وكونه خزاعيًا لا ينافي أنه من ولد إلياس بن مضر؛ لأن خزاعة من مضر ومضر أبو خزاعة وعزو الشارح لكتاب المناقب من البخاري عمرو بن عامر المخزومي سبق قلم، فالذي فيه إنما هو الخزاعي وضبطه المصنف في شرحه بضم الخاء وفتح الزاي المخففة وبالمهملة، "يجر قصبه" قال النووي: بضم القاف وسكون الصاد، قال الأكثرون: يعني أمعاءه، "في النار". بقية الحديث: "وكان أول من سيب السائبة".
"و" كحديث مسلم والإمام أحمد عن جابر مرفوعًا، في حديث أوله: "يا أيها الناس، إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله". فذكر الحديث، وفيه: "ورأيت صاحب المحجن في النار". وزان مقود خشبة في طرفها اعوجاج مثل الصولجان، قال ابن دريد: كل عود معطوف الرأس، فهو محجن والجمع المحاجن، قاله المصباح. "وهو الذي يسرق الحاج" أي: متاعه، "بمحجنه فإذا بصر" بضم الصاد وتكسر، أي: علم "به" أحد فالضمير في به لصاحب، وفي بصر للحاج، أي: جنسه، "قال: إنما تعلق بمحجني" لينفي عن نفسه السرقة، ولفظ الحديث عند أحمد ومسلم: "ورأيت فيها صاحب المحجن يجر قصبه في النار، كان يسرق الحاج بمحجنه فإن فطن به قال: إنما تعلق بمحجني، وإن غفل عنه ذهب به"، "أجيب بأجوبة، أحدها: أنها أخبار آحاد" إنما تفيد(1/341)
فلا تعارض القطع.
الثاني: قصر التعذيب على هؤلاء، والله أعلم بالسبب.
الثالث: قصر التعذيب المذكور في هذه الأحاديث على من بدل وغير من أهل الفترة، بما لا يعذر به من الضلال كعبادة الأوثان وتغيير الشرائع، فإن أهل الفترة ثلاثة أقسام:
الأول: من أدرك التوحيد ببصيرته، ثم من هؤلاء من لم يدخل في شريعة، كقس بن ساعدة................................
__________
الظن "فلا تعارض القطع" بأنهم غير معذبين وهو القرآن، فوجب تقديمه عليها، وإن صحت "الثاني: قصر التعذيب على هؤلاء" اتباعًا للوارد ولا نقيس غيرهم عليهم، فلا تنافي القاطع "والله أعلم بالسبب" الموقع لهم في العذاب، وإن كنا نحن لا نعلمه.
"الثالث: قصر التعذيب المذكور في هذه الأحاديث على من بدل وغير من أهل الفترة" كابن لحي "بما لا يعذر به من الضلال؛ كعبادة الأوثان وتغيير الشرائع، فإن أهل الفترة ثلاثة أقسام، الأول: من أدرك التوحيد ببصيرته" أي: بعلمه وخبرته فمنعه هذا التبصر عن عبادة غير الله ولا يلزم الاتصاف بالصحة ولا بالأجزاء ولا بغيرهما، "ثم من هؤلاء من لم يدخل في شريعة" بل طلب التوحيد وعبادة الله وانتظر خروج النبي صلى الله عليه وسلم، "كقس بن ساعدة" الأيادي أول من آمن بالبعثة من أهل الجاهلية، وأول من اتكأ على عصا في الخطبة، وأول من قال: أما بعد، وأول من كتب من فلان إلى فلان، وعاش ثلاثمائة وثمانين سنة، وذكر كثير من أهل العلم أنه عاش ستمائة سنة، وكان خطيبًا حكيمًا عاقلا له نباهة وفضل ذكره المرزباني.
وأخرج أبو نعيم في الدلائل عن ابن عباس أن قس بن ساعدة كان يخطب قومه في سوق عكاظ، فقال في خطبته، سيعلم حق من هذا الوجه، وأشار بيده نحو مكة، قالوا له: وما هذا الحق؟ قال: رجل من ولد لؤي بن غالب يدعوكم إلى كلمة الإخلاص وعيش الأبد ونعيم لا ينفد، فإن دعاكم فأجيبوه، ولو علمت أني أعيش إلى مبعثه لكنت أول من يسعى إليه، وروى الأزدي وغيره من طرق عن أبي هريرة رفعه: رحم الله قسا كأني أنظر إليه على جمل أورق تكلم بكلام له حلاوة ولا أحفظه، فقال بعض قومه: نحن نحفظه، فقال: هاتوه، فذكروا خطبته المشحونة بالحكم والمواعظ، وروى ابن شاهين عن ابن عباس: أنه صلى الله عليه وسلم قال: "رحم الله قسا كأني أنظر إليه على جمل أورق تكلم بكلام لا أحفظه"، فقال أبو بكر: أنا أحفظه، قال: "اذكره". فذكره.(1/342)
وزيد بن عمرو بن نفيل. ومنهم من دخل في شريعة حق قائمة الرسم، كتبع وقومه من حمير وأهل نجران، ورقة بن نوفل، وعمه عثمان بن الحويرث.
القسم الثاني من أهل الفترة: وهم من بدل وغير، فأشرك ولم يوحد، وشرع لنفسه
__________
وأخرج عبد الله بن أحمد في زيادات الزهد لما قدم وفد بكر بن وائل على النبي صلى الله عليه وسلم، قال لهم: "ما فعل قس بن ساعدة الأيادي"؟ قالوا: مات يا رسول الله، قال: "كأني أنظر إليه في سوق عكاظ على جمل أحمر" ... الحديث، قال في الإصابة: قال الجاحظ في كتاب البيان لقس وقومه فضيلة ليست لأحد من العرب؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم روى كلامه وموقفه على جمله بعكاظ وموعظته وعجب من حسن كلامه وأظهر تصويبه، وهذا شرف تعجز عنه الأماني وتنقطع دونه الآمال، وإنما وفق الله ذلك القس لتوحيده وإظهاره الإخلاص وإيمانه بالبعث، ومن ثم كان قس خطيب العرب قاطبة.
"وزيد بن عمرو بن نفيل" بضم النون وفتح الفاء والد سعيد بن زيد أحد العشرة، وعم عمر بن الخطاب فإنه كان ممن طلب التوحيد وخلع الأوثان وجانب الشرك، ومات قبل المبعث، فروى ابن سعد والفاكهي عن عامر بن ربيعة حليف بني عدي بن كعب، قال: قال لي زيد بن عمرو: إني خالفت قومي واتبعت ملة إبراهيم وإسماعيل وما كانا يعبدان، وكان يصليان إلى هذه القبلة، وأنا أنتظر نبيًا من بني إسماعيل يبعث، ولا أراني أدركه وأنا أؤمن به وأصدقه وأشهد أنه نبي، وإن طالت بك حياة فأقرئه مني السلام، قال عامر: فلما أعلمت النبي صلى الله عليه وسلم بخبره رد عليه السلام وترحم عليه، وقال: رأيته في الجنة يسحب ذيولا، وروى الزبير بن بكار، عن عروة، قال: بلغنا أن زيدًا كان بالشام فبلغه مخرج النبي صلى الله عليه وسلم، فأقبل يريده فقتل بأرض البلقاء، وقال ابن إسحاق: لما توسط بلاد لخم قتلوه، وقيل: مات قبل المبعث بخمس سنين.
وفي حديث البزار والطبراني عن سعيد بن زيد: سألت أنا وعمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "غفر الله له ورحمه فإنه مات على دين إبراهيم"، انتهى من فتح الباري ملخصًا. وكذا عامر بن الظرب العدواني وقيس بن عاصم التميمي، وصفوان بن أبي أمية الكناني، وزهير ابن أبي سلمى في جماعة ذكرهم الشهرستاني فلا بدع أن يكون الأبوان الشريفان كذلك بل هما أولى؛ كما تقدم.
"ومنهم من دخل في شريعة حق قائمة الرسم" أي: الأثر، "كتبع وقومه من حمير وأهل نجران" بفتح النون وسكون الجيم: بلد قريب من اليمن. "وورقة بن نوفل وعمه عثمان بن الحويرث" فإنهم تنصروا في الجاهلية قبل نسخ دين النصرانية.
"القسم الثاني من أهل الفترة وهم من بدل وغير، فأشرك ولم يوحد وشرع لنفسه،(1/343)
فحلل وحرم، وهم الأكثر، كعمرو بن لحي، أول من سن للعرب عبادة الأصنام وشرع الأحكام، فبحر البحيرة وسيب السائبة، ووصل الوصيلة وحمى الحام..................
__________
فحلل وحرم وهم الأكثر" من العرب: "عمرو بن لحي" بن قمعة بن إلياس بن مضر "أول من سن للعرب عبادة الأصنام" روى الطبراني عن ابن عباس مرفوعًا أو من غير دين إبراهيم عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف، أبو خزاعة وخندف بكسر الخاء المعجمة آخره فاء، هي زوج إلياس كما مر في النسب الشريف فنسب قمعة لأمه وقد ذكر ابن إسحاق في سبب ذلك أنه خرج إلى الشام، وبها يومئذ العماليق وهم يعبدون الأصنام فاستوهبهم واحدًا منها وجاء به إلى مكة فنصبه إلى الكعبة، وهو هبل؛ وذكر محمد بن حبيب عن ابن الكلبي أن سبب ذلك أنه كان له تابع من الجن، يقال له: أبو ثمامة، فأتاه ليلة، فقال: أجب أبا ثمامة، فقال: لبيك من تهامة، أدخل بلا ملامة، فقال: ائت سيف جدة تجد آلهة معدة فخذها ولا تهب وادع إلى عبادتها تجب، قال فتوجه إلى جدة فوجد الأصنام التي كانت تعبد زمن نوح فحملها إلى مكة ودعا إلى عبادتها، فانتشرت بسبب ذلك عبادة الأصنام في العرب، ذكره في فتح الباري.
وقال السهيلي في الروض: كان عمرو بن لحي، حين غلبت خزاعة على البيت ونفت جرهما من مكة جعلته العرب ربًا لا يبتدع لهم بدعة إلا اتخذوها شرعة؛ لأنه كان يطعم الناس ويكسو في الموسم، فنحر في موسم عشرة آلاف بدنة، وكسا عشرة آلاف حلة، وقد ذكر ابن إسحاق أنه أول من أدخل الأصنام الحرم وحمل الناس على عبادتها، قال: وكانت التلبية من عهد إبراهيم: لبيك اللهم لبيك، لا شريك لك لبيك، حتى كان عمرو بن لحي فبين هو يلبي تمثل له الشيطان في صورة شيخ يلبي معه، فقال عمرو: لبيك لا شرك لك، فقال الشيخ: إلا شريكًا هو لك، فأنكر ذلك عمرو، فقال: ما هذا؟ فقال: قل: تملكه وما ملك فإنه لا بأس بهذا، فقالها عمرو: فدانت بها العرب.
"وشرع الأحكام فبحر البحيرة، وسيب السائبة، ووصل الوصيلة، وحمى الحام" روى البخاري من طريق الزهري عن سعيد بن المسيب، قال: البحيرة التي يمنع درها للطواغيت فلا يحلبها أحد من الناس، والسائبة التي كانوا يسيبونها لآلهتهم لا يحمل عليها شيء. والوصيلة الناقة البكر تبكر في أول نتاج الإبل بأنثى ثم تثني بعد بأنثى فكانوا يسيبوها بعد بأنثى فكانوا يسيبونها بعد لطواغيتهم إن وصلت إحداهما بالأخرى ليس بينهما ذكر.
والحام فحل الإبل يضرب الضراب المعدود، فإذا قضى ضرابه ودعوه للطواغيت وأعفوه من الحمل فلم يحمل عليه شيء وسموه الحام، وفي الأنوار إذا أنتجت الناقة خمسة أبطن آخرها ذكر بحروا أذنها، أي: شقوها وخلوا سبيلها فلا تركب ولا تحلب.(1/344)
وتبعته العرب في ذلك وغيره مما يطول ذكره.
القسم الثالث من أهل الفترة، وهم من لم يشرك ولم يوحد، ولا دخل في شريعة نبي، ولا ابتكر لنفسه شريعة، ولا اخترع دين، بل بقي عمره على حين غفلة من هذا كله. وفي الجاهلية من كان على ذلك.
وإذا انقسم أهل الفترة إلى الثلاثة أقسام، فيحمل من صح تعذيبه على أهل القسم الثاني لكفرهم بما تعدوا به من الخبائث، والله تعالى قد سمى جميع هذا القسم كفارًا ومشركين، فإنا نجد القرآن....................
__________
زاد في المدارك: ولا تطرد من ماء ولا مرعى وسموها البحيرة، وكان الرجل منهم يقول: إن شفيت من مرضي أو قدمت من سفري فناقتي سائبة، ويجعلها كالبحيرة في تحريم الانتفاع بها، وقيل: كان الرجل إذا أعتق عبدًا، قال هو سائبة فلا عقل بينهما ولا ميراث.
وفي الصحاح: السائبة الناقة التي كانت تسيب في الجاهلية إذا ولدت عشرة أبطن كلها أناث فلا تركب ولا يشرب لبنها إلا ولدها، والضيف حتى تموت فإذا مات أكلها الرجال والنساء جميعًا. وبحرت، أي: شقت أذن بنتها الأخيرة فتسمى البحيرة، وهي بمنزلة أمها في أنها سائبة.
وفي القاموس: الناقة كانت تسيب في الجاهلية لنذر ونحوه أو كانت إذا ولدت عشرة أبطن كلهن أناث سيبت، أو كان الرجل إذا قدم من سفر بعيد أو نجت دابته من مشقة أو حرب، قال: هي سائبة، أو كان ينزع من ظهرها فقارة أو عظما وكانت لا تمنع عن ماء، ولا كلأ، ولا تركب. وفي الأنوار: وإذا ولدت الشاة أنثى فهي لهم وذكرًا فهو لآلهتهم، وإن ولدتهما وصلت الأنثى أخاها فلا يذبح لها الذكر، وإذا أنتجت من صلب الفحل عشرة أبطن حرموا ظهره ولم يمنعوه من ماء ولا مرعى، وقالوا: قد حمى ظهره. وفي المدارك: إذا ولدت الشاة سبعة أبطن، والسابع ذكر أو أنثى، قالوا وصلت أخاها، فهي معنى الوصيلة.
"وتبعته العرب في ذلك و" في "غيره مما يطول ذكره" كعبادة الجن والملائكة وخرق البنين والبنات، واتخذوا بيوتًا لها سدنة وحجاب يضاهون بها الكعبة؛ كاللات والعزى ومنات.
"القسم الثالث من أهل الفترة: وهم من لم يشرك ولم يوحد، ولا دخل في شريعة نبي ولا ابتكر لنفسه شريعة ولا" ابتكر "اختراع دين بل بقي عمره" أي: مدته "على حين غفلة من هذا كله، وفي الجاهلية من كان على ذلك، وإذا" وحيث "انقسم أهل الفترة إلى الثلاثة الأقسام، فيحمل من صح تعذيبه على أهل القسم الثاني لـ"أجل" "كفرهم بما" بسبب ما "تعدوا به من الخبائث، والله تعالى قد سمى جميع هذا القسم كفارًا ومشركين، فإنا نجد القرآن(1/345)
كلما حكى حال أحدهم سجل عليهم بالكفر والشرك، كقوله تعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ} ثم قال: {وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} الآية [المائدة: 103] .
والقسم الثالث هم أهل الفترة حقيقة، وهم غير معذبين.
وأما أهل القسم الأول: كقس وزيد بن عمرو، فقد قال عليه السلام في كل منهما: "إنه يبعث أمة وحده".
__________
كلما حكى حال أحدهم سجل عليهم بالكفر والشرك؛ كقوله تعالى: في مقام الرد والإنكار لما ابتدعوه {مَا جَعَلَ} ما شرع {اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ} [المائدة: 103] ، ثم قال تعالى: {وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} الآية [المائدة: 103] ، يريد: يفترون على الله الكذب وأكثرهم لا يعقلون، أي: يفترون عليه في ذلك ونسبته إليه، ولا يعقلون أن ذلك افتراء؛ لأنهم قلدوا فيه آباءهم.
"والقسم الثالث هم أهل الفترة حقيقة، وهم غير معذبين" اتفاقًا، ومنه: والده صلى الله عليه وسلم فنهما لم تبلغهما دعوة لتأخر زمانهما وبعد ما بينهما وبين الأنبياء السابقين، وكونهما في زمن جاهلية عم الجهل فيها شرقًا وغربًا، وفقد فيها من يعرف الشرائع ويبلغ الدعوة على وجهها إلا نفرًا يسيرًا من أحبار أهل الكتاب مفرقين في أقطار الأرض؛ كالشام وغيرها، وما عهد لهما تقلب في الأسفار سوى المدينة، ولا أعطيا عمرًا طويلا يسع الفحص عن المطلوب مع زيادة أن أمه صلى الله عليه وسلم مخدرة مصونة محجبة عن الاجتماع بالرجال لا تجد من يخبرها، وإذا كان النساء اليوم مع فشو الإسلام شرقًا وغربًا لا يدرين غالب أحكام الشريعة لعدم مخالطتهن الفقهاء فما ظنك بزمان الجاهلية والفترة الذي رجاله لا يعرفون ذلك فضلا عن نسائه، ولهذا لما بعث صلى الله عليه وسلم تعجب أهل مكة، وقالوا: أبعث الله بشرًا رسولا؟ وقالوا: لو شاء ربنا لأنزل ملائكة، فلو كان عندهم علم من بعثة الرسل، ما أنكروا ذلك وربما كانوا يظنون أن إبراهيم عليه السلام بعث بما هم عليه، فإنهم لم يجدوا من يبلغهم شريعته على وجهها لدثورها، وفقد من يعرفها إذ كان بينهم وبينه أزيد من ثلاثة آلاف سنة، قاله في مسالك الحنفاء والدرج المنفية ملخصًا، وتقدم له مزيد.
وأما أهل القسم الأول؛ كقس وزيد بن عمرو، فقد قال عليه السلام في كل منهما: "إنه يبعث أمة وحده". فأخرج الطيالسي عن سعد بن زيد أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إن أبي كان كما رأيته وكما بلغك فاستغفر له، قال: "نعم، فإنه يبعث يوم القيامة أمة وحده" وروى اليعمري عن ابن عباس مرفوعًا: "رحم الله قسًا، إني أرجو أن يبعثه الله أمة وحده" وصرح العلماء بأن الرجاء من الله ومن نبيه واقع. وروى الطبراني في كبيره وأوسطه بسند رجاله ثقات عنه صلى الله عليه وسلم: "رحم الله قسًا"، قيل: يا رسول الله! تترحم على قس، قال: "نعم، إنه كان على دين أبي إسماعيل بن إبراهيم".(1/346)
وأما عثمان بن الحويرث، وتبع وقومه وأهل نجران، فحكمهم حكم أهل الدين الذين دخلوا فيه، ما لم يلحق أحدهم الإسلام الناسخ لكل دين. انتهى ملخصًا وسيأتي ما قيل في ورقة في حديث المبعث إن شاء الله تعالى.
فهذا ما تيسر في مسألة والديه، وقد كان الأولى ترك ذلك، وإنما جرنا إليه ما وقع من المباحثة فيه بين علماء العصر.
ولقد أحسن الحافظ شمس الدين بن ناصر.......................
__________
وأخرج البزار عن جابر، قال: سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن زيد بن عمرو بن نفيل، فقلنا: يا رسول الله! إنه كان يستقبل القبلة ويقول: ديني إبراهيم، وإلهي إله إبراهيم، قال: "ذاك أمة وحده، يحشر بيني وبين يدي عيسى ابن مريم"، وقد عدا في الصحابة، لكن قال الذهبي: فتأكد من أورد قسًا في الصحابة كعبدان وابن شاهين، وأما زيد فذكره ابن منده والبغوي وغيرهما في كتب الصحابة، قيل: وإيراد البخاري يميل إليه ورده البرهان، بما حاصله: أن الثابت أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة ومات قبلها، فلم ينطبق عليه حد الصحابي. وقال في الإصابة: فيه نظر؛ لأنه مات قبل البعثة بخمس سنين، ولكنه يجيء على أحد الاحتمالين في تعريف الصحابي، وهو من رأى النبي صلى الله عليه وسلم مؤمنًا به، هل يشترط كون رؤيته بعد البعثة، فيؤمن به حين يراه أو بعد ذلك، أو يكفي كونه مؤمنًا بأنه سيبعث؛ كما في قصة هذا وغيره، انتهى.
"وأما عثمان بن الحويرث وتبع وقومه وأهل نجران، فحكمهم حكم أهل الدين الذين دخلوا فيه ما لم يلحق أحدهم الإسلام الناسخ لكل دين" يريد غير تبع فإنه لم يدرك الإسلام، فقد تقدم حديث: "لا أدري تبعًا، ألعينا كان أم لا"، وحديث: "لا تسبوا تبعًا، فإن كان قد أسلم" وأخرج أبو نعيم عن عبد الله بن سلام، قال: لم يمت تبع حتى صدق النبي صلى الله عليه وسلم لما كانت ليهود يثرب يخبرونه، "انتهى" كلام الأبي "ملخصًا، وسيأتي ما قيل في ورقة في حديث المبعث إن شاء الله تعالى" من أنه صحابي وأنه أول من أسلم مطلقًا.
"فهذا ما تيسر من البحث في مسألة والديه" ولما قوي عند المؤلف توقفه، قال: "وقد كان الأولى ترك ذلك" تبعًا لقول شيخه السخاوي الذي أراه الكف عن ذلك إثباتًا أو نفيًا، "وإنما جرنا إليه ما وقع من المباحثة فيه مع علماء العصر" وقد أحسن الإمام السيوطي في قوله: ثم إني لم أدع أن المسألة إجماعية، بل هي مسألة ذات خلاف، فحكمها كحكم سائر المسائل المختلف فيها، غير أني اخترت أقوال القائلين بالنجاة؛ لأنه الأنسب بهذا المقام.
"ولقد أحسن الحافظ شمس الدين" محمد "بن ناصر" أي: ناصر "الدين" أبي بكر بن(1/347)
الدين الدمشقي حيث قال:
حبا الله النبي مزيد فضل ... على فضل وكان به رءوفا
فأحيا أمه وكذا أباه ... لإيمان به فضلا لطيفا
فسلم فالقديم بذا قدير ... وإن كان الحديث به ضعيفا
والحذر الحذر، من ذكرهما بما فيه نقص، فإن ذلك قد يؤذي النبي صلى الله عليه وسلم، فإن العرف جار بأنه إذا ذكر أبو الشخص بما ينقصه، أو وصف بوصف به، وذلك الوصف فيه نقص تأذى ولده بذكر ذلك له عند المخاطبة. وقد قال عليه السلام: "لا تؤذوا الأحياء بسبب الأموات". رواه الطبراني في الصغير، ولا ريب.......
__________
عبد الله بن محمد "الدمشقي" بكسر الدال وفتح الميم وبكسرهما، ولد سنة سبع وسبعين وسبعمائة، وطلب الحديث وصنف تصانيف حسنة، وصار محدث البلاد الدمشقية، ومات في ربيع الآخر سنة اثنتين وأربعين وثمانمائة، "حيث قال" في كتابه مورد الصادي بمولد الهادي، بعد أن خرج الحديث في إحياء أمه من طريق الخطيب:
حبا الله النبي مزيد فضل ... على فضل وكان به رءوفا
فأحيا أمه وكذا أباه ... لإيمان به فضلا لطيفا
فسلم فالقديم بذا قدير ... وإن كان الحديث به ضعيفا
فصرح بضعف الحديث ولم يلتفت لزعم وضعه وكفى به حجة، وحبا بمهملة فموحدة: أعطى والباء في بذا قدير بمعنى على، كما تفيده اللغة. ولما ساق المصنف تلك الأحاديث خاف أن يستروح منها انتقاصهما، فقال: "والحذر الحذر من ذكرهما بما فيه نقص، فإن ذلك قد يؤذي النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن العرف جار بأنه إذا ذكر أبو الشخص بما ينقصه" بفتح أوله وسكون النون أفصح من ضم الياء وفتح النون وشد القاف، "أو وصف بوصف" قائم "به، وذلك الوصف فيه نقص تأذى ولده بذكر ذلك له عند المخاطبة" كيف؟ وقد روى ابن منده وغيره عن أبي هريرة، قال: جاءت سبيعة بنت أبي لهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله! إن الناس يقولون: أنت بنت حطب النار، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو مغضب، فقال: "ما بال أقوام يؤذونني في قرابتي، ومن آذاني فقد آذى الله".
وقد قال عليه السلام: "لا تؤذوا الأحياء بسب الأموات"، رواه الطبراني في معجمه "الصغير" وهو عن كل شيخ له حديث واحد من شيوخه، وقد أبعد المصنف النجعة، فقد رواه أحمد والترمذي عن مغيرة بن شعبة رفعه، بلفظ: "لا تسبوا الأموات، فتؤذوا الأحياء"، "ولا ريب(1/348)
أن أذاه عليه السلام كفر يقتل فاعله -إن لم يتب- عندنا. وستأتي مباحث ذلك إن شاء الله تعالى في الخصائص من مقصد المعجزات.
__________
أن أذاه عليه السلام كفر يقتل فاعله، إن لم يتب عندنا" أي: الشافعية احترازًا ممن يحتم قتله، ولو تاب كالمالكية؛ لأن حده فإن أنكر ما شهد به عليه أو تاب غسل وصلي عليه ودفن في مقابر المسلمين، وإلا قتل كفرًا ودفن بمقابر الكفار، بلا غسل وصلاة، هذا وقد بينا لك أيها المالكي حكم الأبوين فإذا سئلت عنهما، فقل: هما ناجيان في الجنة، إما لأنهما أحييا حتى آمنا؛ كما جزم به الحافظ السهيلي والقرطبي وناصر الدين بن المنير، وإن كان الحديث ضعيفًا؛ كما جزم به أولهم ووافقه جماعة من الحفاظ؛ لأنه في منقبة وهي يعمل فيها بالحديث الضعيف. وإما لأنههما ماتا في الفترة قبل البعثة ولا تعذيب قبلها؛ كما جزم به الأبي. وإما لأنهما كانا على الحنيفية والتوحيد لم يتقدم لهما شرك؛ كما قطع به الإمام السنوسي والتلمساني المتأخر محشي الشفاء، فهذا ما وقفنا عليه من نصوص علمائنا ولم نر لغيرهم ما يخالفه إلا ما يشم من نفس ابن دحية، وقد تكفل برده القرطبي.
"وسيأتي مباحث ذلك إن شاء الله تعالى في الخصائص من مقصد المعجزات" وقد قال السيوطي: ومن العلماء من لم تقو عندهم هذه المسالك، فأبقوا أحاديث مسلم ونحوها على ظاهرها من غير عدول عنها بنسخ ولا غيره، ومع ذلك قالوا: لا يجوز أحد أن يذكر ذلك. قال السهيلي، بعد إيراد حديث مسلم: وليس لنا نحن أن نقول ذلك في أبويه صلى الله عليه وسلم؛ لقوله: "لا تؤذوا الأحياء بسب الأموات"، والله تعالى يقول: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الأحزاب: 57] الآية، وسئل القاضي أبو بكر أحد أئمة المالكية عن رجل قال: إن أبا النبي صلى الله عليه وسلم في النار، فأجاب بأنه ملعون؛ لقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا} [الأحزاب: 57] ، ولا أذى أعظم من أن يقال: أبوه في النار.
ومن العلماء من ذهب إلى الوقف، روى التاج الفاكهاني في الفجر المنير: الله أعلم بحال أبويه، وأخرج ابن عساكر وأبو نعيم والهروي في ذم الكلام أن رجلا من كتاب الشام استعمل رجلا على كورة من كوره وكان أبوه يزن بالمنانية، فبلغ ذلك عمر بن عبد العزيز، فقال: ما حملك على أن تستعمل رجلا على كورة من كور المسلمين، وكان أبوه يزن بالمنانية؟ فقال: أصلح الله أمير المؤمنين، وما عليّ من كان أبوه، كان أبو النبي صلى الله عليه وسلم مشركًا، فقال عمر: آه، ثم سكت ثم رفع رأسه، ثم قال: أأقطع لسانه! أأقطع يده ورجله! أأضرب عنقه؟ ثم قال: لا تل لي شيئًا ما بقيت، وعزله عن الدواوين.(1/349)
ولقد أطنب بعض العلماء في الاستدلال لإيمانهما، فالله يثيبه على قصده الجميل.
__________
"ولقد أطنب بعض العلماء في الاستدلال لإيمانهما، فالله يثيبه على قصده الجميل" وقد بذل السيوطي في ذلك جهده، فألف فيه ست مؤلفات حفلة، ولذا قيل: لعل المصنف أراده فإن ذلك عادته في النقل عنه، قال في مسالك الحنفاء: وقد سئلت أن أنظم في هذه المسألة أبياتًا أختم بها هذا التأليف، فقلت:
إن الذي بعث النبي محمدا ... أنجى به الثقلين مما يجحف
ولأمه وأبيه حكم شائع ... أبداه أهل العلم فيما صنفوا
فجماعة أجروهما مجرى الذي ... لم يأته خبر الدعاة المسعف
والحكم فيمن لم تجئه دعوة ... أن لا عذاب عليه حكم مؤلف
فبذاك قال الشافعية كلهم ... والأشعرية ما بهم متوقف
وبسورة الإسراء فيه حجة ... وبنحو ذا في الذكرى آي تعرف
ولبعض أهل الفقه في تعليله ... معنى أرق من النسيم وألطف
ونحا الإمام الفخر رازي الورى ... منحى به للسامعين تشنف
إذ هم على الفطر الذي ولدوا ولم ... يظهر عناد منهم وتخلف
قال الأولي ولدوا النبي المصطفى ... كل من التوحيد إذ يتحنف
من آدم لأبيه عبد الله ما ... فيهم أخو شرك ولا يستنكف
فالمشركون كما بسورة توبة ... نجس وكلهم بطهر يوصف
وبسورة الشعراء فيه تقلبا ... في الساجدين فكلهم متحنف
هذا كلام الشيخ فخر الدين في ... أسراره هبطت عليه الذرف
فجزاه رب العرش خير جزائه ... وحباه جنات النعيم تزخرف
فلقد تدين في زمان الجاهليـ ... ـة فرقة دين الهدى وتحنفوا
زيد بن عمرو وابن نوفل هكـ ... ـذا الصديق ما شرك عليه يعكف
قد فسر السبكي بذاك مقالة ... للأشعري وما سواه مزيف
إذ لم تزل عين الرضا منه على الصـ ... ـديق وهو بطول عمر أحنف
عادت عليه صحبة الهادي فما ... في الجاهلية للضلالة يعرف
فلأُمّه وأبوه أحرى سيما ... ورأت من الآيات ما لا يوصف(1/350)
وقد قال الحافظ ابن حجر في بعض كتبه: والظن بآله صلى الله عليه وسلم -يعني الذين ماتوا قبل البعثة- أنهم يطيعون عند الامتحان........................
__________
وجماعة ذهبوا إلى إحيائه ... أبويه حتى آمنوا لا تخرفوا
وروى ابن شاهين حديثًا مسندا ... في ذاك لكن الحديث مضعف
هذي مسالك لو تفرد بعضها ... لكفى فكيف بها إذا تتألف
وبحسب من لا يترضيها صمته ... أدبًا ولكن أين من هو منصف
صلى الإله على النبي محمد ... ما جدد الدين الحنيف محنف
وعلى صحابته الكرام وآله ... أوفى رضاه يدوم لا يتوقف
"وقد قال الحافظ ابن حجر في بعض كتبه والظن بآله صلى الله عليه وسلم، يعني الذين ماتوا قبل البعثة أنهم يطيعون عند الامتحان" يوم القيامة. أخرج البزار وأبو يعلى عن أنس، قال: قال صلى الله عليه وسلم: "يؤتى بأربعة يوم القيامة: بالمولود والمعتوه، ومن مات في الفترة، والشيخ الفاني؛ كلهم يتكلم بحجته، فيقول الرب تعالى لعنق من النار: ابرز، ويقول لهم: إني كنت أبعث إلى عبادي رسلا من أنفسهم وإني رسول نفسي إليكم، ادخلوا هذه؛ فيقول من كتب عليه الشقاء: يا رب أندخلها ومنها كنا نفر؟ ومن كتبت عليه السعادة يمضي فيقتحم فيها مسرعًا، فيقول الله: قد عصيتموني فأنتم لرسلي أشد تكذيبًا ومعصية، فيدخل، هؤلاء الجنة وهؤلاء النار".
وأخرج أحمد وابن راهويه والبيهقي، صححه عن الأسود بن سريع وأبي هريرة معًا، رفعاه: "أربعة يحتجون يوم القيامة: رجل أصم لا يسمع شيئًا، ورجل أحمق، ورجل هرم، ورجل مات في فترة, فأما الأصم، فيقول: رب لقد جاء الإسلام وما أسمع شيئًا, وأما الأحمق، فيقول: رب لقد جاء الإسلام والصبيان يحذفونني بالبعر, وأما الهرم، فيقول: رب لقد جاء الإسلام، وما أعقل شيئًا, وأما الذي مات في الفترة، فيقول: رب ما أتاني لك رسول فيأخذ مواثيقهم ليطيعنه فيرسل إليهم: أن ادخلوا النار، فمن دخلها كانت عليه بردًا وسلامًا، ومن لم يدخلها يسحب إليها".
وأخرج البزار عن أبي سعيد رفعه: "الهالك في الفترة والمعتوه والمولود، يقول الهالك في الفترة: لم يأتني كتاب، ويقول المعتوه: رب لم تجعل لي عقلا أعقل به خيرًا ولا شرًا، ويقول المولود: رب لم أدرك العقل؛ فترفع لهم نار فيردها من كان في علم الله سعيدًا ويمسك عنها من كان في علم الله شقيًا لو أدرك العمل".
وروى البزار عن ثوبان والطبراني وأبو نعيم عن معاذ رفعاه: "إذا كان يوم القيامة جاء أهل الجاهلية يحملون أوثانهم على ظهورهم فيسألهم ربهم، فيقولون: ربنا لم ترسل لنا رسولا ولم يأتنا لك أمر، ولو أرسلت إلينا رسولا لكنا أطوع عبادك، فيقول لهم ربهم: أرأيتم إن أمرتكم بأمر(1/351)
إكرامًا له صلى الله عليه وسلم لتقر عينه.
وقال في الأحكام: ونحن نرجو أن يدخل عبد المطلب الجنة في جملة من يدخلها طائعًا فينجو، إلا أبا طالب فإنه أدرك البعثة ولم يؤمن.
__________
أتطيعوني؟ "، وذكر نحو ما تقدم.
وفي الباب أحاديث آخر كما مرت الإشارة إليه، فإذا أطاع جماعة؛ كما هو صريح الأحاديث فما الظن بالآل إلا أنهم يطيعون ويدخلون الجنة. "إكرامًا له صلى الله عليه وسلم" وكفى بظن هذا الحافظ حجة إذ لايقوله إلا عن أدلة كالنهار، "وقال في الأحكام" وكذا في الإصابة "ونحن نرجو أن يدخل عبد المطلب وآل بيته الجنة في جملة من يدخلها طائعًا، فينجو" لأنه ورد ما يدل على أنه كان على الحنيفية والتوحيد حيث تبرأ من الصليب وعابديه، فقد روى ابن سعد عن ابن عباس، أنه قال لما قدم أصحاب الفيل:
لا هم إن المرء يمـ ... ـنع رحله فامنع رحالك
لا يغلبن صليبهم ... ومحالهم عدوا محالك
وأورده جماعة بلفظ:
وانصر على آل الصليـ ... ـب وعابديه اليوم آلك
وفي طبقات ابن سعد بأسانيده أن عبد المطلب، قال: لأم أيمن: يا بركة لا تغفلي عن ابني فإني وجدته مع غلمان قريبًا من السدرة وإن أهل الكتاب يقولون: إن ابني نبي هذه الأمة، وقال الشهرستاني: مما يدل على إثباته المعاد والمبدأ أنه كان يضرب بالقداح على ابنه، ويقول:
يا رب أنت الملك المحمود ... وأنت ربي الملك المعيد
من عند الطارف والتليد
ومما يدل على معرفته بحال الرسالة وشرف النبوة أن أهل مكة لما أصابهم ذلك الجدب أمر أبا طالب أن يحضر بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو صغير، فاستقى به.
"إلا أبا طالب" لا ينجو "فإنه أدرك البعثة ولم يؤمن" وقد ثبت في الصحيح: أنه أهون أهل النار عذابًا، قال السيوطي: فهذا مما يدل على أن أبوي النبي صلى الله عليه وسلم ليسا في النار، إذ لو كانا فيها أهون عذابًا، منه؛ لأنها أقرب منه مكانًا وأبسط عذرًا فإنهما لم يدركا البعثة ولا عرض عليهما الإسلام فامتنعا بخلافه، وقد أخبر الصادق المصدوق أنه أهون أهل النار عذابًا فليس أبواه من أهلها، وهذا يسمى عند أهل الأصول دلالة الإشارة، ولم يقل وإلا أبا لهب للقطع بكفره فلا يحتاج لإخراجه.(1/352)
وقد كانت أم أيمن، بركة، دابته وحاضنته بعد موت أمه، وكان عليه السلام يقول لها: أنت أمي بعد أمي.
ومات جده عبد المطلب كافله، وله ثمان سنين -وقيل ثمان سنين وشهر وعشرة أيام، وقيل تسع، وقيل عشر، وقيل ست، وقيل ثلاث وفيه نظر- وله عشر ومائة سنة، وقيل مائة وأربعون سنة.
__________
"وقد كانت أم أيمن" بفتح الهمزة وسكون التحتية وفتح الميم وبالنون ابن عبيد الخزرجي المستشهد يوم حنين، "بركة" الحبشية "دايته وحاضنته بعد موت أمه، وكان عليه السلام يقول لها: "أنت أمي بعد أمي" أي: كأمي في رعايتك لي وتعظيمي والشفقة عليّ أو في رعايتي لك واحترامك، وقد كانت تدل عليه صلى الله عليه وسلم وكان العمران يزورانها بعده، وكانت تبكي وتقول: أنا أبكي لخبر السماء كيف انقطع عنا.
ومن مناقبها الشريفة ما رواه ابن سعد، قال: حدثنا أبو أسامة حماد بن أسامة عن جرير بن حازم، قال: سمعت عثمان بن القاسم يحدث، قال: هاجرت أم أيمن أمست بالمنصرف دون الروحاء فعطشت فدلي عليها من السماء دلو من ماء برشاء أبيض، فأخذته فشربته حتى رويت، فكانت تقول: ما أصابني بعد ذلك عطش، ولقد تعرض للصوم في الهواجر فما عطشت بعد تلك الشربة.
"ومات جده عبد المطلب كافله" بعد أمه، روى أنها لما ماتت ضمه جده إليه ورق عليه رقة لم يرقها على ولده، وكان يقربه ويدخل عليه إذا خلا وإذا نام ويجلس على فراشه وأولاده لا يجلسون عليه، وذكر ابن إسحاق: أنه كان يوضع لعبد المطلب فراش في ظل الكعبة، وكان لا يجلس عليه من بنيه أحد إجلالا له، وكان صلى الله عليه وسلم يأتي حتى يجلس عليه فتذهب أعمامه يؤخرونه، فيقول عبد المطلب: دعوا ابني ويمسح على ظهره بيده، ويقول: إن لابني هذا لشأنا، "وله" صلى الله عليه وسلم "ثمان سنين" فيما جزم به ابن إسحاق وتبعه العراقي وتلميذه الحافظ.
"وقيل" مات وله "ثمان سنين وشهر وعشرة أيام، وقيل" وله "تسع، وقيل: عشر، وقيل: ست" حكاها مغلطاي وغيره. "وقيل: ثلاث" حكاه ابن عبد البر ومغلطاي، قائلا: "وفيه نظر" لأن أقل ما قيل أنه كان في موت أمه ابن أربع سنين، واتفقوا على أجده كفله بعدها فكيف يتأتى أن يكون ابن ثلاث، "وله" لعبد المطلب "عشر ومائة سنة" قدمه مغلطاي فتبعه المصنف هنا.
"وقيل: مائة وأربعون سنة" قاله الزبير بن بكار عالم النسب، وقال: إنها على ما قيل في(1/353)
وكفله أبو طالب، واسمه عبد مناف، وكان عبد المطلب قد أوصاه بذلك لكونه شقيق عبد الله.
__________
سنه، وجزم به السهيلي والمصنف فيما مر، وقيل: وله مائة وعشرون، لكن قال الواقدي: ليس ذلك يثبت، وقيل: خمس وتسعون، وقيل: اثنتان وثمانون، وقيل: خمس وثمانون، وعمي قبل موته ودفن على ما ذكر ابن عساكر بالحجون.
"وكفله أبو طالب، واسمه عبد مناف" عند الجميع وشذ من قال عمران، بل هو قول باطل نقله ابن تيمية في كتاب الرد على الروافض، فقال: زعم بعض الروافض في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ} [آل عمران: 33] ، أن آل عمران هم آل أبي طالب، وأنه اسمه عمران ذكره الحافظ في الفتح، وقال الحاكم: تواترت الأخبار أن اسمه كنيته، قال: ووجدت بخط علي الذي لا شك فيه، وكتب علي بن أبي طالب، قال البرهان: وقد رأيت بحلب بحارة المغاربة في مسجد يقال له مسجد غورث فيه عمود أسود مكتوب عليه: كتبه علي بن أبي طالب وقد ذكر هذا العمود الكمال بن العديم في أوائل تاريخ حلب، وأنه خط علي رضي الله عنه، انتهى.
"وكان عبد المطلب أوصاه بذلك؛ لكونه شقيق عبد الله" والده دون الحارث ونحوه، فالقصر إضافي فلا يرد أن الزبير شقيقه أيضًا، وقد قيل: شاركه في كفالته وخص أبو طالب بالذكر لامتداد حياته، فإن الزبير لم يدرك الإسلام، وقيل: أقرع عبد المطلب بينهما فخرجت القرعة لأبي طالب.
وفي أسد الغابة للحافظ عز الدين بن الأثير: كفله أبو طالب؛ لأنه شقيق أبيه وكذلك الزبير لكن كفالة أبي طالب إما لوصية عبد المطلب، وإما لأن الزبير كفله حتى مات، ثم كفله أبو طالب، وهذا غلط؛ لأن الزبير شهد حلف الفضول وللمصطفى نيف وعشرون سنة، وأجمع العلماء على أنه شخص مع أبي طالب إلى الشام بعد موت عبد المطلب بأقل من خمس سنين، فهذا يدل على أن أبا طالب هو الذي كفله، انتهى.
وذكر الواقدي أن عيال أبي طالب كانوا إذا أكلوا جميعًا أو فرادى لم يشبعوا، وإذا أكل المصطفى معهم شبعوا، فكان أبو طالب إذا أراد أن يغديهم أو يعشيهم، يقول: كما أنتم حتى يأتي ابني، فيأتي فيأكل معهم فيفضل من طعامهم، وإذا كان لبنًا شرب أولهم ثم يشربون فيروون كلهم من قعب واحد، وإن كان أحدهم ليشرب قعبًا وحده، فيقول أبو طالب: إنك لمبارك.
وروى أبو نعيم وغيره، عن ابن عباس، قال: كان بنو أبي طالب يصبحون عمشًا رمصًا(1/354)
وقد أخرج ابن عساكر عن جلهمة بن عرفطة قال: قدمت مكة وهم في قحط، فقالت قريش: يا أبا طالب، أقحط الوادي وأجدب العيال، فهلم فاستسق، فخرج أبو طالب، ومعه غلام كأنه شمس دجن، تجلت عنه سحابة قتماء، وحوله أغيلمة فأخذه أبو طالب، فألصق ظهره بالكعبة، ولاذ الغلام بأصبعه.........................
__________
ويصبح محمد صلى الله عليه وسلم صقيلا دهينًا كحيلا، وكان أبو طالب يحبه حبًا شديدًا لا يحب أولاده كذلك، ولذا لا ينام إلا إلى جنبه ويخرج به متى خرج.
وذكر ابن قتيبة في غريب الحديث: أنه كان يوضع له الطعام ولصبية أبي طالب فيتطاولون إليه ويتقاصر هو وتمتد أيديهم وتنقبض يده تكرمًا منه واستحياء ونزاهة نفس وقناعة قلب، ويصبحون عمصًا رمصًا مصفرة ألوانهم ويصبح هو صلى الله عليه وسلم صقيلا دهينًا كأنه في أنعم عيش وأعز كفاية لطفًا من الله به.
"وقد أخرج ابن عساكر عن جلهمة" بضم الجيم وتفتح؛ كما في القاموس "ابن عرفطة" بضم العين والفاء، "قال: قدمت مكة وهم في قحط" بسكون الحاء، وحكى الفراء فتحها، أي: وأهل مكة في زمن شدة لاحتباس المطر عنهم، "فقالت قريش" بعد أن تشاوروا، فلفظ الحديث عند ابن عساكر: قدمت مكة وقريش في قحط، فقائل منهم يقول: أعمدوا اللات والعزى، وقائل منهم: أعمدوا منات الثالثة الأخرى، فقال شيخ وسيم حسن الوجه جيد الرأي: أنى تؤفكون، وفيكم باقية إبراهيم وسلالة إسماعيل؟ قالوا: كأنك عنيت أبا طالب، قال: أيها، فقاموا بأجمعهم فقمت فدققنا عليه الباب فخرج إلينا فثاروا إليه، فقالوا: "يا أبا طالب، أقحط" بالبناء للفاعل والمفعول "الوادي" أصابه القحط، "وأجدب العيال، فهلم" اسم فعل يستعمل متعديًا؛ كقوله تعالى: {هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمْ} [الأنعام: 150] ، ولازمًا كما هنا "فاستسق، فخرج أبو طالب ومعه غلام" هو النبي صلى الله عليه وسلم، "كأنه شمس دجن" بضم الدال المهملة والجيم وشد النون على مفاد قول القاموس: كعتل الظلمة والغيم المطبق الريان المظلم لا مطر فيه، ثم يحتمل تنوين دجن على الوصف؛ أي: كأنه شمس كسيت ظلمة والإضافة، أي: شمس ذات يوم ظلمة أو ذات يوم دجن، أي: مظلم، "تجلت عنه سحابة قتماء" بفتح القاف وسكون الفوقية والمد تأنيث أقتم، أي: سحابة يعلوها سواد غير شديد وهذا من بديع التشبيه، فإن شمس يوم الغيم حين ينجلي سحابها الرقيق تكون مضيئة مشرقة مقبولة للناس ليست محرقة، "وحوله أغيلمة" تصغير أغلمة جمع غلام، ويجمع أيضًا على غلمة وغلمان؛ كما في القاموس وصغر إشارة إلى صغرهم؛ لأنه الغلام قد يطلق على البالغ؛ كما مر "فأخذه" أي: الغلام، "أبو طالب فألصق ظهره" أي: ظهر الغلام "بالكعبة ولاذ" التجأ "الغلام بأصبعه" أي: أصبع نفسه السبابة على الظاهر؛ لأن الذي يشار(1/355)
وما في السماء قزعة، فأقبل السحاب من هاهنا وهاهنا، وأغدق وأغدوق، وانفجر له الوادي، وأخصب النادي والبادي. وفي هذا يقول أبو طالب:
وأبيض يستقي الغمام بوجهه ... ثمال اليتامى عصمة للأرامل
__________
به غالبًا، ولعل المعنى: أشار به إلى السماء كالمتضرع الملتجئ. وفسر الشامي: لاذ بطاف والأول أولى وأغرب من رجع ضمير أصبعه لأبي طالب؛ أي: أمسك المصطفى أصبعه؛ لأنه خلاف الظاهر من معنى لاذ، لأنه إنما جاء بمعنى التجأ ودنا وطاف.
"وما في السماء قزعة" بقاف فزاي فعين مهملة مفتوحات فهاء، أي: قطعة من السحاب كما في القاموس. "فأقبل السحاب من هاهنا وهاهنا" أي: من جميع الجهات لا من جهة دون أخرى، "وأغدق" السحاب، أي: كثر ماؤه والإسناد مجازي، "واغدودق" مرادف، ففي القاموس: أغدق المطر واغدودق كثر قطره، "وانفجر له" للسحاب "الوادي" أي: جرى الماء فيه وسال، "وأخصب النادي" بالنون أهل الحضر "والبادي" بالموحدة أهل البادية، أي: أخصبت الأرض للفريقين، "وفي هذا يقول أبو طالب" يذكر قريشًا حين التمالؤ عليه صلى الله عليه وسلم يده وبركته عليهم من صغره، "وأبيض" بفتح الضاد مجرور برب مقدرة؛ كما صدر به الحافظ كالكراماني والسيوطي، وجزم به في المغني أو منصوب، قال الحافظ: بإضمار أعني أو أخص، قال: والراجح أنه بالنصب عطفًا على سيد المنصوب في البيت قبله، وهو:
وما ترك قوم لا أبا لك سيدا ... يحوط الذمار غير ذرب موكل
انتهى. وبه قطع الدماميني في مصابيحه ورد به على ابن هشام، واستظهره في شرح المغني، وقال: هو من عطف الصفات التي موصوفها واحد أو مرفوع خبر مبتدأ محذوف، وقاله الكرماني وأفاده المصنف عن ضبط الشرف اليونيني في نسخته من البخاري، أي: هو أبيض فقوله: سيدًا معمول ترك بسكون الراء، والذمار بكسر الذال المعجمة: ما يحق على الإنسان حمايته. والذرب بذال معجمة وموحدة على زنة كتف سكنت راؤه تخفيفًا، وهو الحاد. والمواكل المتكل على غيره. وفي رواية بدل وأبيض وأبلج من البلج بفتحين وهو نقاء ما بين الحاجبين من الشعر.
"يستسقى" بالبناء للمفعول "الغمام" السحاب "بوجهه" أي: يطلب السقي من الغمام بوجهه، والمراد ذاته، أي: يتوسل إلى الله به، "ثمال اليتامى عصمة للأرامل" قال الدماميني: بنصب ثمال وعصمة ويجوز رفعهما على أنهما خبر محذوف، زاد المصنف: وبجرهما على أن أبيض مجرور.(1/356)
يلوذ به الهلاك من آل هاشم ... فهم عنده في نعمة وفواضل
والثمال -بكسر المثلثة: الملجأ والغياث، وقيل: المطعم في الشدة.
وعصمة للأرامل: أي يمنعهم من الضياع والحاجة. والأرامل: والمساكين من رجال ونساء، ويقال لكل واحد من الفريقين على انفراده: أرمل، وهو بالنساء أخص، وأكثر استعمالا، والواحد أرمل وأرملة.
__________
"يلوذ" يلتجئ "به الهلاك" جمع هالك، أي: المشرفون على الهلاك، "من آل هاشم" وإذا التجأ إليه هؤلاء السراة فغيرهم أولى، "فهم عنده في نعمة" يد ومنة على حذف مضاف، أي: في ذوي نعمة، أي: سعة وخير أو جعل النعمة ظرفًا لهم مبالغة، "وفواضل" عطف خاص على عام، ففي القاموس الفواضل الأيادي الجسيمة أو الجميلة، إذ المراد بالنعمة النعم الكثيرة الشاملة للنعم العظيمة والدقيقة، وثبت البيت الثاني في بعض النسخ وأكثرها بحذفه ويدل له قوله الآتي: وهذا البيت حيث لم يقل، وهذان البيتان "والثمال بكسر المثلثة" وتخفيض الميم هو "الملجأ والغياث" اسم مصدر من أغاثه، أي: أعانه ونصره، والمراد: أنه يلتجأ إليه ويستعان به فهما متساويان معنى، "وقيل: المطعم في الشدة" ويصح إرادتهما معًا هنا، ومن ثم قال الحافظ الثمال: العماد والملجأ والمطعم والمغيث والمعين والكافي قد أطلق على كل من ذلك، "و" قوله: "عصمة للأرامل" أي: "يمنعهم من الضياع والحاجة" عطف تفسير، أي: الاحتياج وما ألطف قول الفتح، أي: يمنعهم مما يضرهم، "والأرامل المساكين من رجال ونساء" قاله ابن السكيت، قال: ويقال لهم وإن لم يكن فيهم نساء، "ويقال لكل واحد من الفريقين على افنراده: أرمل" قال جرير:
هذي الأرامل قد قضيت حاجتها ... فمن لحاجة هذا الأرمل الذكر
"وهو بالنساء أخص" أليق "وأكثر استعمالا" عطف تفسير، "والواحد أرمل و" الواحدة "أرملة" بالهاء، وفي الفتح: الأرامل جمع أرملة، وهي الفقيرة التي لا زوج لها، وقد يستعمل في الرجل أيضًا مجازًا ومن ثم لو أوصى للأرامل خص النساء دون الرجال، انتهى.
وفي هذا الحديث من الفوائد أن أبا طالب منشئ البيت، وأنه قال: يستسقى الغمام بوجهه عن مشاهدة فلا يرد أن الاستسقاء إنما كان بعد الهجرة وهو قد مات قبلها، وقد شاهده مرة أخرى قبل ذلك فروى الخطابي حديثًا فيه: أن قريشًا تتابعت عليهم سنو جدب في حياة عبد المطلب، فارتقى هو ومن حضره من قريش أبا قبيس، فقام عبد المطلب واعتضده صلى الله عليه وسلم فرفعه على عاتقه وهو يومئذ غلام قد أيفع أو قرب، ثم دعا فسقوا في الحال فقد شاهد أبو طالب(1/357)
وهذا البيت من أبيات في قصيدة لأبي طالب، ذكرها ابن إسحاق بطولها، وهي أكثر من ثمانين بيتًا. قالها لما تمالأت قريش على النبي صلى الله عليه وسلم، ونفروا عنه من يريد الإسلام، وأولها:
لما رأيت القوم لا ود عندهم ... ..........................
__________
ما دله على ما قال، ذكره السهيلي في الروض.
وقول الفتح: يحتمل أنه مدحه بذلك لما رأى من مخايل ذلك فيه، وإن لم يشاهد وقوعه عجيب؛ كما قال في شرح الهمزية وغفلة عن رواية ابن عساكر هذه إذ لو استحضرها لم يبد هذا الاحتمال، انتهى. وأعجب منه جزم السيوطي به، وبنحو هذا لوح المصنف في المقصد التاسع، فقال بعد ذكره: احتمال الحافظ، قلت: قد أخرج ابن عساكر، فذكره.
"وهذا البيت من أبيات في قصيدة لأبي طالب" على الصواب، وقول الدميري وتبعه جماعة أنه لعبد المطلب غلط، فقد أخرج البيهقي عن أنس، قال: جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! أتيناك وما لنا صبي يغط ولا بعير يئط، وأنشد أبياتًا، فقام صلى الله عليه وسلم يجر رداءه حتى صعد المنبر، فرفع يديه إلى السماء ودعا، فما رد يديه حتى التقت السماء بأبراقها وجاءوا يضجون الغرق، فضحك صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه، ثم قال: "لله د أبي طالب، لو كان حيًا لقرت عيناه، من ينشدنا قوله". فقال علي: يا رسول الله كأنك تريد قوله: وأبيض يستقى. وذكر أبياتًا، فقال صلى الله عليه وسلم: "أجل"، فهذا نص صريح من الصادق بأن أبا طالب منشئ البيت نبه عليه في شرح الهمزية، وقد ساق المصنف خبر البيهقي بتمامه في المقصد التاسع.
"ذكرها ابن إسحاق بطولها وهي" عنده "أكثر من ثمانين بيتًا" بثلاثة أبيات في رواية ابن هشام عن البكائي عنه، قائلا: هذا ما صح له من هذه القصيدة وبعض علماء الشعر ينكر أكثره، وفي شرح المصنف للبخاري وعدة أبياتها مائة بيت وعشرة أبيات.
وفي المزهر: قال محمد بن سلام زاد الناس في قصيدة أبي طالب التي فيها: وأبيض يستقي الغمام بوجهه وطولت بحيث لا يدري أين منتهاها، وقد سألني الأصمعي عنها، فقلت: صحيحة، فقال: أتدري منتهاها؟ قلت: لا، وذكر ابن إسحاق أنه "قالها: لما تمالأت" اجتمعت "قريش على" أذى "النبي صلى الله عليه وسلم ونفروا عنه من يريد الإسلام" لا عقب استسقائه في صغره به، ولذا قلت في قوله السابق: وفي ذلك يقول أبو طالب، يذكر قريشًا حين التمالؤ عليه يده وبركته من صغره ليلتئم مع كلام ابن إسحاق هذا، فلا يصح زعم أنه أنشد البيت أثر هذه الواقعة، ثم أكملها بعد البعث إذ مجرد قوله: وفي ذلك يقول: لا يستلزم كونه قال عقب الاستسقاء.
"وأولها" عند ابن إسحاق وتبعه في الفتح، "لما رأيت" علمت "القوم" قريشًا "لا ود عندهم"(1/358)
............................ ... وقد قطعوا كل العرى والوسائل
وقد جاهرونا بالعداوة والأذى ... وقد طاوعوا أمر العدو المزايل
أعبد مناف أنتم خير قومكم ... فلا تشركوا في أمركم كل واغل
فقد خفت إن لم يصلح الله أمركم ... تكونوا كما كانت أحاديث وائل
أعوذ برب الناس من كل طاعن ... علينا بسوء أو ملح بباطل
وثور ومن أرسى ثبيرًا مكانه ... وراقٍ لبر في حراء ونازل
__________
لنا ولفظ ابن إسحاق فيهم، وهو ما في الفتح "وقد قطعوا كل العرا" جمع عروة، قال الشامي: أراد بها العهود "والوسائل" جمع وسيلة وهي القربة، يقال: وسل إلى ربه وسيلة إذا تقرب بعمل إليه، والوسيلة المنزلة عند الملك، انتهى.
"وقد جاهرونا" معشر بني هاشم "بالعداوة والأذى، وقد طاوعوا" فينا "أمر العدو المزايل" قال الشامي: هو المحاول المعالج، وقال شيخنا: هو المفارق ففي المختار المزايلة المفارقة، وبعد هذين البيتين:
وقد حالفوا قومًا علينا أظنه ... يغضون غيظًا حلفنا بالأنامل
صبرت لهم نفسي بسمراء سمحة ... وأبيض عضب من تراث المقاول
فقوله: صبرت ... إلخ، جواب لما، ومر الناظم في غرضه إلى أن قال ما أنشده المصنف، وهو: "أعبد" الهمزة للنداء بتقدير مضاف، أي:
يا آل عبد "مناف أنتم خير قومكم ... فلا تشركوا في أمركم كل واغل"
هو الضعيف النذل الساقط المقصر في الأشياء والمدعي نسبًا كاذبًا والداخل على القوم في طعامهم وشرابهم؛ كما في القاموس. وفيه النذل، أي: بذال معجمة الخسيس من الناس المحتقر في جميع أحواله. "فقد خفت إن لم يصلح الله أمركم" بالإيمان به صلى الله عليه وسلم "تكونوا كما كانت" تصيروا كما صارت، "أحاديث وائل أعوذ برب الناس" خالقهم ومالكهم، وخصوا بالذكر في التنزيل وكلام العرب تشريفًا لهم، "من كل طاعن علينا بسوء أو ملح" أي: متماد "بباطل" يقال: ألح على الشيء، إذا واظب عليه وبعد هذا البيت عند ابن إسحاق:
ومن كاشح يسعى لنا بعبية ... ومن ملحق في الدين ما لم يحاول
وبعده قوله: "وثور" بمثلثة مفتوحة فواو فراء: جبل: "ومن أرسى" أثبت "ثبيرًا" بمثلثة مفتوحة فموحدة مكسورة فتحتية فراء "مكانه وراق" صاعد "لبر" بموحدة ضد الإثم، "في حراء" بالمد "ونازل" فيه من النزول، هكذا رواه ابن إسحاق وغيره.
وأما ابن هشام، فقال: وراق ليرقى من الرقي، قال السهيلي: وهو وهم منه أو من شيخه(1/359)
وبالبيت حق البيت في بطن مكة ... وبالله إن الله ليس بغافل
كذبتم وبيت الله نبزي محمدا ... ولما نطا عن دونه ونناضل
ونسلمه حتى نصرع حوله ... ونذهل عن أبنائنا والحلائل
ومعنى نناضل: نجادل ونخاصم وندافع.
ونبزي: هو بالباء الموحدة والزاي نقهر ونغلب.
__________
البكائي، وقد قال البرقي وغيره: الصواب الأول وفي الشامي أنه تصحيف ضعيف المعنى، فمعلوم أن الراقي يرقى، فإنما أقسم بطالب البر يصعد في حراء للتعبد فيه وبالنازل فيه، "وبالبيت" الكعبة "حق البيت في بطن بكة" بموحدة لغة جاء بها التنزيل، "وبالله" كرر القسم به تأكيدًا فإنه أقسم به في قوله: ومن أرسى "إن الله ليس بغافل" عما تعملون من عداوتكم لنا وللنبي صلى الله عليه وسلم وتمالئكم عليه وتنقيركم من يريد الإسلام فيجازيكم على ذلك أشد النكال إن لم ترجعوا، وبعد هذا البيت عند ابن إسحاق أربعة عشر بيتًا، وبعدها قوله: "كذبتم وبيت الله" في قولكم "نبزي" بضم النون وسكون الموحدة وفتح الزاي: نقهر ونغلب "محمدا" كذا ضبطه الشامي، لكن في النهاية أنه بالتحتية بدل النون ورفع محمد على أنه نائب فاعل يبزي، ولفظه يبزى، أي: يقهر ويغلب، أراد لا يبزي فحذف لا من جواب القسم وهي مراده، أي: لا يقهر، "ولما نطا عن" مجزوم بلما وحذف المفعول ليعتم، أي: نطا عنكم وغيركم "دونه ونناضل" بنونين وضاد معجمة، "ومنها" قوله بلصق هذا البيت: فاللائق حذف، ومنها كما هو في نسخ "ونسلمه" لكم معشر قريش تفعلون به ما شئتم، كما قلتم لا "حتى نصرع حوله" وحتى "نذهل" نغفل "عن أبنائنا والحلائل" الزوجات، واحدها حليلة "ومعنى نناضل نجادل ونخاصم وندافع" عنه، وقال الشامي: نرامي بالسهام، "ونبزي هو بالباء الموحدة، والزاي: نقهر", وقال الشامي: معناه نسلب "ونغلب"، انتهى. وما أحل قوله في ختامها عند ابن إسحاق.
لعمري لقد كلفت وجد أبا أحمد ... وأحببته دأت المحب المواصل
فمن مثله في الناس أي مؤمل ... إذا قاسه الحكام عند التفاضل
حليم رشيد عاقل غير طائش ... يوالي إلها ليس عنه بغافل
فوالله لولا أن أجيء بسبة ... تجر على أشياخنا في المحافل
لكنا اتبعناه على كل حالة ... من الدهر جدًا غير قول التهازل
لقد علموا أن ابننا لا مكذب ... لدينا ولا يعني بقول الأباطل
فأصبح فينا أحمد في أرومة ... تقصر عنها سورة المتطاول(1/360)
قال ابن التين: إن في شعر أبي طالب هذا دليلا على أنه كان يعرف نبوة النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعث، لما أخبره به بحيرى وغيره من شأنه.
وتعقبه الحافظ أبو الفضل بن حجر: بأن ابن إسحاق ذكر أن إنشاء أبي طالب لهذا الشعر كان بعد المبعث، ومعرفة أبي طالب بنبوته عليه السلام جاءت في كثير من الأخبار.
وتمسك بها الشيعة في أنه كان مسلمًا.
قال: ورأيت لعلي بن حمزة البصري جزءًا فيه شعر أبي طالب، وزعم أنه كان مسلمًا، وأنه مات على الإسلام، وأن الحشوية.........................
__________
حديث بنفسي دونه وحميته ... ودافعت عنه بالذرى والكلاكل
"قال" الإمام عبد الواحد "بن التين" السفاقسي في شرح البخاري، قال البرهان في مبحث انشقاق القمر، والنطق به كالنطق بالتين المأكول، "إن في شعر أبي طالب هذا دليلا على أنه كان يعرف نبوة النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعث لما أخبره به بحيرًا" الراهب "وغيره من شأنه" وكأنه أخذ ذلك من كون الاستسقاء به في صغره وليس بلازم؛ كما مر.
"و" لذا "تعقبه الحافظ أبو الفضل بن حجر" في الفتح؛ "بأن ابن إسحاق ذكر أن إنشاء أبي طالب لهذا الشعر، كان بعد المبعث" ووصفه فيه بما شاهده من أحواله ومنها الاستسقاء به في صغره، "ومعرفة أبي طالب بنبوته عليه السلام جاءت في كثير من الأخبار" فلا حاجة إلى أخذها من شعره هذا "وتمسك بها الشيعة" بكسر الشين اسم لطائفة من الفرق الإسلامية شايعوا عليًا رضي الله عنه، وقالوا: إنه الإمام بعده صلى الله عليه وسلم بالنص إما جليًا وإما خفيًا، واعتقدوا أن الإمامة لا تخرج عنه وعن أولاده وإن خرجت، فإما بظلم من غيرهم، وإما بتبعية منه ومن أولاده، وهم اثنتان وعشرون فرقة بكفر بعضهم بعضًا أصولهم ثلاث فرق غلاة وزيدية وإمامية، قاله في المواقف وشرحها، وفي مقدمة فتح الباري التشيع محبة علي وتقديمه على الصحابة، فمن قدمه على أبي بكر وعمر، فقال في تشيعه ويطلق عليه رافضي وإلا فشيعي، فإن انضاف إلى ذلك السب أو التصريح بالبغض، فقال في الرفض: وإن اعتقد الرجعة إلى الدنيا، فأشد في الغلو، انتهى.
"في أنه كان مسلمًا" وهو تمسك واهٍ؛ لأن مجرد المعرفة بالنبوة لا يستلزم الإسلام، "قال: ورأيت لعلي بن حمزة البصري" الرافضي "جزءًا جمع فيه شعر أبي طالب، وزعم أنه كان مسلمًا وأنه مات على الإسلام" وزعم "أن الحشوية" بفتح الحاء والشين وبضم الحاء وسكون(1/361)
تزعم أنه مات كافرًا، واستدل لدعواه بما لا دلالة فيه. انتهى.
ولما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم اثنتي عشرة سنة خرج مع عمه أبي طالب إلى الشام، حتى بلغ بصري، فرآه بحيرى الراهب، واسمه جرجيس............................
__________
الشين، وهم المنتمون للظاهر، قيل: سموا بذلك لقول الحسن البصري لما رأى سقوط كلامهم وكانوا يجلسون في حلقته ردوا هؤلاء إلى حشا الحلقة، أي: جانبها. "تزعم أنه مات كافرًا" وأنهم بذلك يستجيزون لعنه ثم بالغ في سبهم والرد عليهم، "واستدل لدعواه بما لا دلالة فيه" قال: وقد بينت فساد ذلك كله في الإصابة، "انتهى" كلام الحافظ في كتاب الاستسقاء، وقال في باب قصة أبي طالب: إنه وقف على جزء جمعه بعض أهل الرفض أكثر فيه من الأحاديث الواهية الدالة على إسلام أبي طالب، ولا يثبت من ذلك شيء، انتهى.
"ولما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم اثنتي عشرة سنة" قاله الأكثر، وقيل: تسع سنين، قاله الطبري وغيره. وقيل: ثلاثة عشر، حكاه أبو عمر. وقال ابن الجوزي: قال أهل السير والتواريخ: لما أتت عليه صلى الله عليه وسلم اثنتا عشرة سنة وشهران وعشرة أيام، وفي سيرة مغلطاي: وشهر، ويمكن حمل القول الأول عليه بأن المراد: وما قاربها، "خرج مع عمه أبي طالب" قاصدًا "إلى الشام" وسبب ذلك؛ كما في ابن إسحاق: أن أبا طالب لما تهيأ للرحيل صب به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرق له أبو طالب، وقال: والله لأخرجن به معي ولا يفارقني ولا فارقه أبدًا، فخرج به معه. وصب بصاد مهملة فموحدة، قال السهيلي: الصبابة رقة الشوق، يقال: صببت بكسر الباء أصب وقرئ: أصب إليهن، وعند بعض الرواة: خبث به، أي: لزمه. قال الشاعر:
كان فؤادي في يد خبثت به ... محاذرة أن يقضب الحبل قاضبه
انتهى. وفي النور: خبث بفتح الضاد المعجمة والموحدة وبالمثلثة، انتهى. فهما روايتان فقصر من اقتصر على الثانية.
وسار "حتى بلغ بصري" بضم الموحدة مدينة حوران فتحت صلحًا لخمس بقين من ربيع الأول سنة ثلاث عشرة وهي أول مدينة فتحت بالشام، ذكره ابن عساكر، وردها عليه السلام مرتين. "فرآه بحيرا الراهب" وكان إليه علم النصرانية، قال ابن إسحاق: "واسمه جرجيس" بكسر الجيمين بينهما راء وبعد الثانية تحتية فسين مهملة، هكذا رأيته بخط مغلطاي في الزهري وصحح عليه، وكذا في الإصابة غيره مصروف للعجمة والعلمية وهو في الأصل اسم نبي، قاله الشامي، قال السهيلي وصاحب الإصابة: وقع في سيرة الزهري أن بحيرا كان حبرًا من أحبار اليهود تيمًا. وفي مروج الذهب للمسعود: إنه كان نصرانيًا من عبد القيس واسمه سرجس. قال البرهان: هكذا في نسخة صحيحة من الروض وأخرى قريبة من الصحة، وفي الشامية، قال(1/362)
فعرفه بصفته فقال وهو آخذ بيده: هذا سيد العالمين، هذا يبعثه الله رحمة للعالمين. فقيل له: وما علمك بذلك؟ قال: إنكم حين أشرفتم من العقبة، لم يبق شجر ولا حجر إلا خر ساجدًا، ولا يسجدان إلا لنبي، وإني أعرفه بخاتم النبوة، في أسفل من غضروف كتفه، مثل التفاحة، وإنا نجده في كتبنا، وسأل أبا طالب أن يرده خوفًا عليه من اليهود. والحديث رواه ابن أبي شيبة، وفيه: أنه صلى الله عليه وسلم أقبل وعليه غمامة تظله.
__________
المسعود: اسمه جرجس، كذا فيما وقفت عليه من نسخ الروض.
"فعرفه بصفته، فقال: وهو آخذ بيده" كما رواه الترمذي والبيهقي في الدلائل والخرائطي وابن أبي شيبة عن أبي موسى، قال: خرج أبو طالب إلى الشام ومعه النبي صلى الله عليه وسلم في أشياخ من قريش، فلما أشرفوا على الراهب يعني بحيرا، هبطوا فحلوا رحالهم، فخرج إليهم وكان قبل ذلك يمرون به فلا يخرج إليهم ولا يلتفت، قال: فنزل وهم يحلون رحالهم فجعل يتخللهم حتى جاء فأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "هذا سيد المرسلين، هذا سيد العالمين" ذكره لإفادة تعميم السيادة نصا، وإن استلزمه ما قبله، "هذا يبعثه الله رحمة للعالمين". كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107] ، ففيه أن معنى الآية كان عندهم في الكتب القديمة، "فقيل له" وفي رواية الترمذي والجماعة، فقال له الأشياخ من قريش: "وما علمك بذلك" أي: علم لك به، نحو، وما علمي بما كانوا يعملون، "قال: إنكم حين أشرفتم من العقبة لم يبق شجر ولا حجر إلا خر ساجدًا، ولا يسجدان إلا لنبي وإني أعرفه بخاتم النبوة في أسفل من غضروف كتفه" بضم الغين وسكون الضاد المعجمتين فراء مضمومة فواو ساكنة، وهو رأس لوح الكتف، ويقال: غضروف بتقديم الراء. وقدمه الجوهري. "مثل التفاحة، وإنا نجده في كتبنا، وسأل أبا طالب أن يرده خوفًا عليه من اليهود، رواه ابن أبي شيبة" عن أبي موسى الأشعري. قال السخاوي: وهو إما أن يكون تلقاه من النبي صلى الله عليه وسلم فيكون أبلغ، أو من بعض كبار الصحابة، أو كان مشهورا أخذه بطريق الاستفاضة.
"وفيه: أنه صلى الله عليه وسلم أقبل وعليه غمامة تظله" ولفظه ثم رجع يصنع لهم طعامًا، فلما أتاهم به وكان هو في رعية الإبل، فقال: أرسلوا إليه، فأقبل وغمامة تظله ... الحديث، وتأتي بقيته في كلام المصنف. وساق ابن إسحاق: الحديث بلفظ: أنه صنع إليهم طعامًا وأرسل إليهم أن احضروا كلكم صغيركم وكبيركم وعبدكم وحركم، فقال له رجل منهم: والله يا بحيرا إن لك يوم لشأنا ما كنت تصنع هذا بنا وقد كنا نمر بك كثيرًا، فما شأنك اليوم؟ قال له بحيرًا: صدقت، ولكنكم ضيف وقد أحببت أن أكرمكم وأصنع لكم طعامًا فتأكلوا منه كلكم، فاجتمعوا إليه(1/363)
و "بحيرى"، بفتح الموحدة وكسر المهملة وسكون المثناة التحتية آخره راء مقصورة. قال الذهبي في تجريد الصحابة: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل المبعث وآمن به، وذكره ابن منده، وأبو نعيم في الصحابة. وهذا ينبني على تعريفهم الصحابي: بمن رآه صلى الله عليه وسلم، هل المراد حال النبوة، أو أعم من ذلك حتى يدخل من رآه قبل النبوة ومات قبلها على دين الحنيفية.......................
__________
وتخلف صلى الله عليه وسلم من بين القوم لحداثة سنه في رحالهم، فلما نظر بحيرا في القوم لم ير الصفة التي يعرف ويجد عنده، فقال: يا معشر قريش! لا يتخلفن منكم أحد عن طعامي، فقال له: يا بحيرا! ما تخلف عن طعامك أحد ينبغي له أن يأتيك إلا غلام أحدث القوم سنًا فتختلف في رحالهم، فقال: لا تفعلوا ادعوه فليحضر معكم، فقال رجل من قريش: إن كان للؤما بنا أن يتخلف ابن عبد الله بن عبد المطلب عن طعام من بيننا، فقام الحارث بن عبد المطلب فأتى به الحديث، وفيه: أنه أحضرهم للطعام وأن المصطفى تخلف لحداثته.
وفي السابق: أنه أتى لهم بالطعام وأن النبي عليه السلام كان في رعية الإبل، وإسناده صحيح فوجب تقديمه على خبر ابن إسحاق؛ لأنه معضل وعلى تقدير ثبوته، فيحتمل على بعد أنه صنع فلهم الطعام مرتين. "وبحيرا بفتح الموحدة وكسر" الحاء "المهملة وسكون المثناة التحتية آخره راء مقصورة" قاله غير واحد. قال الشامي: ورأيت بخط مغلطاي والمحب بن الهائم وغيرهما: عليها مدة، وقال البرهان: رأيته ممدودًا بخط الإمام شهاب الدين بن المرحل.
"قال الذهبي في تجريد الصحابة: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل المبعث وآمن به" كما أفاده هذا الخبر، وأصرح منه ما في الإصابة عن أبي سعد في شرف المصطفى أنه صلى الله عليه وسلم مر ببحيرا أيضًا لما خرج في تجارة خديجة ومعه ميسرة، وإن بحيرا قال له: قد عرفت العلامات فيك كلها إلا خاتم النبوة، فاكشف لي عن ظهرك، فكشف له عن ظهره، فرآه، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنك رسول الله النبي الأمي الذي بشر به عيسى ابن مريم، ولا يشكل على ما مر أنه رأى الخاتم وهو ابن عمه؛ لاحتمال أنه نسىي صورة ما رآه أو تردد في أنه الخاتم، فأراد التثبت.
"وذكره ابن منده" بفتح الميم والدال المهملة بينهما نون ساكنة، كما ضبطه ابن خلكان، "وأبو نعيم في الصحابة" لهما "وهذا" الذي قاله الذهبي "ينبني على تعريفهم الصحابي بمن رآه صلى الله عليه وسلم، هل المراد حال النبوة" وهو ظاهر كلامهم، وعليه صاحب الإصابة، إذ قال: لا ينطبق عليه تعريف الصحابي وهو مسلم لقى النبي صلى الله عليه وسلم مؤمنًا به ومات على ذلك، فقولنا: مسلم، أظن أنه يخرج من لقيه مؤمنًا به قبل أن يبعث؛ كبحيرا هذا، ولا أدري أدرك البعثة أم لا؟.
"أو أعم من ذلك حتى يدخل من رآه قبل النبوة، ومات قبلها على دين الحنيفية"(1/364)
وهو محل نظر، وسيأتي البحث فيه إن شاء الله في المقصد السابع.
وخرج الترمذي وحسنه، والحاكم وصححه أن في هذه السفرة أقبل سبعة من الروم يقصدون قتله عليه السلام، فاستقبلهم بحيرى، فقال: ما جاء بكم؟ قالوا: إن هذا النبي خارج في هذا الشهر، فلم يبق طريق إلا بعث إليها بأناس، فقال: أفرأيتم أمرًا أراد الله أن يقضيه، هل يستطيع أحد من الناس رده؟ قالوا: لا قال: فبايعوه وأقاموا معه، ورده أبو طالب............................
__________
كزيد بن عمرو بن نفيل وأضرابه، "وهو محل نظر" أي: بحث بينهم، "وسيأتي البحث فيه إن شاء الله تعالى في المقصد السابع. وخرج الترمذي وحسنه" فقال: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، "والحاكم وصححه" فقال على شرطهما، وكذا خرجه البيهقي وأبو نعيم والخرائطي وابن عساكر.
في حديث أبي موسى السابق صدره، وكان المناسب لو أتى بالحديث دون تقطيع، ثم عقبه بالتكلم على بحيرا وعلى إشكاله الآتي.
"أن في هذه السفرة أقبل سبعة من الروم يقصدون قتله عليه السلام" ولفظه عقب قوله السابق: فأقبل وعليه غمامة تظله، فلما دنا من القوم وجدهم قد سبقوه إلى فيء الشجرة، فلما جلس مال فيء الشجرة عليه، فقال: انظروا إلى فيء الشجرة مال عليه، قال: فبينا هو قائم عليهم وهو ينشادهم أن لا يذهبوا به إلى الروم، فإن الروم إن عرفوه بالصفة فيقتلونه، فالتفت فإذا سبعة قد أقبلوا من الروم، "فاستقبلهم بحيرا، فقال: ما جاء بكم؟ فقالوا: إن هذا النبي" الذي بشر به في كتبنا، فاللام للعهد "خارج في هذا الشهر" أي: إلى السفر لا إلى النبوة؛ لأنه حينئذ كان صغيرًا "فلم يبق طريق إلا بعث" بالبناء للمفعول، أي: بعث ملكهم، "إليها بأناس" وأسقط من الحديث ما لفظه: وأنا مذ أخبرنا خبره بعثنا إلى طريقك هذا، فقال: هل خلفكم أحد هو خير منكم؟ قالوا: إنما أخبرنا خبره بطريقك هذا، "فقال: أفرأيتم أمرًا أراد الله أن يقضيه هل يستطيع أحد من الناس رده؟ قالوا: لا، قال: فبايعوه" بفتح الياء خبر لا أمر، قال ابن سيد الناس: إن كان المراد فبايعوا بحيرا على مسالمة النبي صلى الله عليه وسلم فقريب، وإن كان غير ذلك فلا أدري ما هو.
قال المحب بن الهائم: الأول هو الظاهر، لتوافق الضمير فيه، وفي "وأقاموا معه" ومعناه: بايعوه على أن لا يأخذوا النبي صلى الله عليه وسلم ولا يؤذوه على حسب ما أرسلوا فيه، وأقاموا مع بحيرا خوفًا على أنفسهم إذا رجعوا بدونه، قال: وهذا وجه حسن جدًا، انتهى. وخفي هذا على الحافظ الدمياطي، فقرأه بكسر الياء أمرًا وحكم بأنه وهم.
"ورده" أي: النبي صلى الله عليه وسلم "أبو طالب" بأمر بحيرا، ففي حديث الترمذي والجماعة بعده:(1/365)
وبعث معه أبو بكر بلالا.
قال البيهقي: هذه القصة مشهورة عند أهل المغازي. انتهى.
وضعف الذهبي الحديث لقوله في آخره: "وبعث معه أبو بكر بلالا" فإن أبا بكر إذ ذاك لم يكن متأهلا، ولا اشترى بلالا.
قال الحافظ ابن حجر في الإصابة: الحديث رجاله ثقات، وليس فيه منكر سوى هذه اللفظة، فتحمل على أنها مدرجة فيه مقتطعة من حديث آخر..............
__________
فأقاموا معه، فقال: أنشدكم بالله! أيكم؟ قالوا: أبو طالب، فلم يزل يناشده حتى رده أبو طالب، "وبعث معه أبو بكر بلالا" بقية الحديث، وزوده الراهب من الكعك والزيت، "قال البيهقي: هذه القصة مشهورة عند أهل المغازي، انتهى.
"وضعف" الحاف محمد بن أحمد "الذهبي الحديث؛ لقوله في آخره، وبعث معه أبو بكر بلالا، فإن أبا بكر إذ ذاك لم يكن متأهلا" قال ابن سيد الناس: لأنه حينئذ لم يبلغ عشر سنين، فإن المصطفى أزيد منه بعامين وكان له يومئذ تسعة أعوام على ما قاله الطبري وغيره، أو اثنا عشر عامًا، على ما قاله آخرون. "ولا اشترى بلالا" قال اليعمري: لأنه لم ينتقل لأبي بكر إلا بعد ذلك بأزيد من ثلاثين عامًا؛ فإنه كان لبني خلف الجمحيين وعندما عذب في الله اشتراه أبو بكر رحمة له، واستنقاذًا له من أيديهم، وخبره بذلك مشهور، انتهى.
ولفظ الذهبي في الميزان في ترجمة عبد الرحمن بن غزوان: كان يحفظ وله مناكير، وأنكر ما له حديث عن يونس بن أبي إسحاق، عن أبي بكر بن أبي موسى، عن أبي موسى في سفر النبي صلى الله عليه وسلم وهو مراهق مع أبي طالب إلى الشام، وقصة بحيرا ومما يدل على أنه باطل، قوله: وبعث معه أبو بكر بلالا، وبلال لم يكن خلق وأبو بكر كان صبيًا. وقال في تلخيص المستدرك، بعد ما ذكر قول الحاكم على شرطهما: قلت أظنه موضوعًا، فبعضه باطل، انتهى. ورد قوله: بلال لم يكن خلق بأن ابن حبان قال في الثقات: إن بلالا كان ترب الصديق، أي: قرينه في السن.
"قال الحافظ ابن حجر في الإصابة: الحديث رجاله ثقات" من رواة الصحيح وعبد الرحمن بن غزوان ممن خرج له البخاري، ووثقه جماعة من الأئمة والحفاظ. قال السخاوي: ولم أر لأحد فيه جرحًا، "وليس فيه منكر سوى هذه اللفظة، فتحمل على أنها مدرجة" ملحقة "فيه" من أحد رواته من غير تمييز له من الحديث، "مقتطعة من حديث آخر،(1/366)
وهما من أحد رواته.
وفي حديث عند البيهقي وأبي نعيم: أن بحيرى رأى -وهو في صومعته- في الركب حين أقبلوا، وغمامة بيضاء تظلله من بين القوم، ثم أقبلوا حتى نزلوا بظل شجرة قريبًا منه، فنظر إلى الغمامة حين أظلت الشجرة، وتهصرت أغصان الشجرة على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى استظل تحتها. الحديث.
وفيه: أن بحيرى قام فاحتضنه وأنه جعل يسأله عن أشياء من حاله: ونومه وهيئته وأموره. ويخبره صلى الله عليه وسلم فيوافق ذلك ما عند بحيرى من صفته، ورأى خاتم النبوة بين كتفيه على موضعه من صفته التي عنده.
__________
وهما" بفتح الهاء غلطًا "من أحد رواته" فلا يحكم على جميع الحديث بالضعف ولا بغيره لأجلها بل عليها فقط؛ لكون رجال ثقات.
"وفي حديث عند البيهقي" في الدلائل "وأبي نعيم" في حديث أبي موسى السابق "أن بحيرا رأى" تأمل "وهو في صومعته في الركب" لعلمه بخروج المصطفى للسفر حينئذ من الكتب القديمة، وهذا أولى من تقدير المفعول وجعل رأى بصرية، وفي نسخة: رآه، أي: رأى بحيرا النبي عليه السلام، والصومعة منزل الراهب.
قال البرهان: يقال أتانا بثريد مصمعة إذا دققت وحدد رأسها وصومعة النصارى فوعلة من هذا؛ لأنها دقيقة الرأس "حين أقبلوا وغمامة بيضاء تظله من بين القوم، ثم أقبلوا حتى نزلوا بظل شجرة قريبًا منه" من بحيرا، "فنظر إلى الغمامة حين أظلت الشجرة وتهصرت".
قال البرهان: بالصاد المهملة المشددة، أي: مالت وتدلت "أغصان الشجرة على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى استظل تحتها الحديث"، وفي الزهر الباسم عن الواقدي أنه صلى الله عليه وسلم لما فارق تلك الشجرة التي كان جالسًا تحتها وقام انقلعت من أصلها حين فارقها، "وفيه: أن بحيرا قام فاحتضنه" صلى الله عليه وسلم "وأنه جعل يسأله عن أشياء" وعند ابن إسحاق، أنه قال له: يا غلام أسألك بحق اللات والعزى، إلا ما أخبرتني عما أسألك عنه، فقال صلى الله عليه وسلم: "لا تسألني بهما شيئًا، فوالله ما أبغضت شيئًا قط بغضهما". فقال له بحيرا: فبالله إلا ما أخبرتني عما أسألك عنه، فقال له: "سلني عما بدا لك" فجعل يسأله عن أشياء "من حاله ونومه وهيئته وأموره" ليعلم: هل هو أو غيره، "ويخبره صلى الله عليه وسلم فيوافق ذلك" الذي يخبره به "ما عند بحيرا من صفته" وإنما سأله بحق اللات والعزى اختبارًا؛ كما في الشفاء، وهو أنسب من قول ابن إسحاق؛ لأنه سمع قومه يحلفون بهما.
"ورأى خاتم النبوة بين كتفيه على موضعه من صفته التي عنده" وعند ابن إسحاق: فلما(1/367)
وتقدم أن أخته الشيماء بنت حليمة رأته في الظهيرة، وغمامة تظله، إذا وقف وقفت، وإذا سار سارت، رواه أبو نعيم وابن عساكر. ولله در القائل:
إن قال يومًا ظللته غمامة ... هي في الحقيقة تحت ظل القائل
ونقل الشيخ بدر الدين الزركشي عن بعض أهل المعرفة: أنه صلى الله عليه وسلم كان معتدل الحرارة والبرودة، فلا يحس بالحر ولا بالبرد، وأنه كان في ظل غمامة من اعتداله. كذا نقل رحمه الله.
__________
فرغ أقبل على عمه، فقال له: ما هذا الغلام منك؟ قال: ابني، قال: ما هو ابنك، وما ينبغي لهذا الغلام أن يكون أبوه حيًا، قال: فإنه ابن أخي، قال: فما فعل أبوه؟ قال مات وأمه حبلى به، قال: صدقت، فارجع بابن أخيك إلى بلده واحذر عليه اليهود، فوالله لئن رأوه أو عرفوا منه ما عرفت ليبغنه شرًا، فإنه كائن لابن أخيك هذا شأن عظيم فأسرع به إلى بلاده، فخرج به أبو طالب سريعًا حتى أقدمه مكة حين فرغ من تجارته بالشام.
"وتقدم" في حديث إقامته صلى الله عليه وسلم في بني سعد بعد الفطام، "أن أخته الشيماء بنت حليمة رأته في الظهيرة" هي انتصاف النهار مطلقًا، أو إنما ذلك في القيظ، حكاهما المجد. "وغمامة تظله إذا وقف وقفت، وإذا سار سارت، رواه أبو نعيم وابن عساكر، ولله در القائل إن قال يومًا" المراد: إن دخل في وقت القيلولة وإن لم ينم فيه سائرًا أو غير سائر، "ظللته غمامة" سحابة "هي في الحقيقة تحت ظل القائل" أي: في كنفه وستره من قولهم: فلان يعيش في ظل فلان، أي: كنفه، والمعنى أن الغمامة هي المحتاجة له للتبرك به، وليس هو محتاجًا لها.
"ونقل الشيخ بدر الدين الزركشي عن بعض أهل المعرفة: أنه صلى الله عليه وسلم كان معتدل الحرارة والبرودة، فلا يحس" بضم الياء من أحس بالشيء، إذا شعر "بالحر ولا بالبرد، وإنه كان في ظل غمامة" ناشئة "من اعتداله" كأنها أخذت منه والقصد المبالغة في كماله حتى صلح لأن تؤخذ الغمامة منه، ثم تظله فلا يعترض عليه بأن كلامه يقتضي أنه تمثيل، فيخالف ما شوهد من تظليل الغمام، أو من بمعنى إلى، أي: إلى كمال اعتداله بالنبوة دون ما بعدها، أو المعنى أنها ظللته لكمال الاعتدال فيه إكرامًا له لا لاحتياجه إليها.
"كذا قال رحمه الله" تبرأ منه؛ لأنه بعد هذا العنايات في فهمه منابذ لما تشهد به الأحاديث من أنه عليه السلام كان يحس بالبرد والحر، ففي حديث الهجرة عند البخاري أن الشمس أصابته صلى الله عليه وسلم وظلله أبو بكر بردائه, وفي البخاري أيضًا: أنه كان بالجعرانة وعليه ثوب قد أظل به، وروى ابن منده والبيهقي مرفوعًا لا نصبر على حر ولا برد. وروى أحمد بسند جيد:(1/368)
وأخرج ابن منده، بسند ضعيف عن ابن عباس: أن أبا بكر الصديق صحب النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثمان عشرة، والنبي صلى الله عليه وسلم ابن عشرين سنة، وهم يريدون الشام في تجارة، حتى نزلا منزلا فيه سدرة، فقعد في ظلها، ومضى أبو بكر إلى راهب يقال له بحيرى، يسأله عن شيء، فقال له: من الرجل الذي في ظل الشجرة، قال: محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، قال: هذا والله نبي، ما استظل تحتها بعد عيسى عليه السلام إلا محمد. ووقع في قلب أبي بكر الصديق، فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم اتبعه.
قال الحافظ أبو الفضل بن حجر في الإصابة: إن صحت هذه القصة فهي سفرة أخرى بعد سفرة أبي طالب. انتهى.
__________
أنه صلى الله عليه وسلم وضع يده في طعام حار فاحترقت أصابعه، فقال: حس.
"وأخرج" أبو عبد الله محمد بن إسحاق بن محمد بن يحيى "بن منده" الأصبهاني الحافظ الجوال ختام الرحالين وفرد المكثرين مع الحفظ والمعرفة والصدق وكثرة التصانيف، سمع ألفًا وسبعمائة، وعاد من رحلته، وكتبه أربعون جملا، قال المستغفري: ما رأيت أحفظ منه، مات سنة خمس وخمسين وثلاثمائة. "بسند ضعيف عن ابن عباس: أن أبا بكر الصديق صحب النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثمان عشرة" سنة، "والنبي صلى الله عليه وسلم ابن عشرين سنة" فهو أسن منه بعامين، وهذا قول الجمهور.
وما رواه حبيب بن الشهيد عن ميمون بن مهران عن يزيد بن الأصم مرسلا أنه صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر: "من أكبر أنا أو أنت"؟ فقال: أنت أكبر وأكرم وخير مني، وأنا أسن منك، فقال في الاستيعاب: لا نعرفه إلا بهذا الإسناد وأحسبه وهما لقول جمهور أهل العلم بالأخبار والسير والآثار: أنا أبا بكر استوفى بمدة خلافته سن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
"وهم يريدون الشام في تجارة، حتى نزلا منزلا فيه سدرة، فقعد" عليه السلام "في ظلها ومضى أبو بكر إلى راهب يقال له بحيرا، يسأله عن شيء، فقال له: من الرجل الذي في ظل الشجرة؟ قال:" هو "محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، قال" بحيرا "هذا والله نبي! ما استظل تحتها بعد عيسى عليه السلام إلا محمد" وكأنه علم ذلك من رؤيته في كتبهم أو بقرائن قوية ويأتي قريبًا مزيد لذلك عن السهيلي.
"ووقع في قلب أبي بكر الصديق، فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم اتبعه" سريعًا، فكان أول الناس إيمانًا. "قال الحافظ أبو الفضل بن حجر في الإصابة إن صحت هذه القصة" في نفس الأمر أو(1/369)
تزوجه عليه السلام من خديجة:
ثم خرج صلى الله عليه وسلم أيضًا ومعه ميسرة غلام خديجة بنت خويلد بن أسد، في تجارة لها...............................
__________
بورودها من طريق آخر، قال: ذلك لضعف إسنادها، "فهي سفرة أخرى بعد سفرة أبي طالب، انتهى" وفيه توهين قول بعضهم: هذا السفر هو الذي كان مع أبي طالب، فإن أبا بكر حينئذ كان معه، انتهى. للاتفاق على أنه في ذلك السفر ما بلغ هذا السن وقاربه، فإن غاية ما قيل: إنه كان في الثالثة عشرة.
تزوجه عليه السلام من خديجة:
"ثم خرج صلى الله عليه وسلم أيضًا" إلى الشام مرة ثانية وسبب ذلك؛ كما رواه الواقدي وابن السكن: أن أبا طالب، قال: يابن أخي! أنا رجل لا مال لي، وقد اشتد الزمان علينا وألحت علينا سنون منكرة وليس لنا مادة ولا تجارة وهذه عير قومك قد حضر خروجها إلى الشام، وخديجة تبعث رجالا من قومك يتجرون في مالها ويصيبون منافع، فلو جئتها لفضلتك على غيرك لما يبلغها عنك من طهارتك، وإن كنت أكره أن تأتي الشام، وأخاف عليك من يهود، ولكن لا نجد من ذلك بدًا، فقال صلى الله عليه وسلم: "لعلها ترسل إليّ في ذلك"، فقال أبو طالب: إني أخاف أن تولي غيرك، فبلغ خديجة ما كان من محاورة عمه له، وقبل ذلك صدق حديثه وعظم أمانته وكرم أخلاقه، فقالت: ما علمت أنه يريد هذا، وأرسلت إليه، وقالت: دعاني إلى البعثة إليك ما بلغني من صدق حديثك وعظم أمانتك وكرم أخلاقك، وأنا أعطيك ضعف ما أعطي رجلا من قومك، فذكر ذلك صلى الله عليه وسلم لعمه، فقال: إن هذا الرزق ساقه الله إليك.
فخرج "ومعه ميسرة غلام خديجة" قال في النور: لا ذكر له في الصحابة فيما أعلمه وظاهر أنه توفي قبل البعث، ولو أدركه لأسلم، وفي الإصابة: لم أقف على رواية صحيحة صريحة في أنه بقي إلى البعثة، فكتبته على الاحتمال، وفيه: أن الصحبة لا تثبت بالاحتمال، بل كما قاله هو في شرح نخبته بالتواتر والاستفاضة أو الشهرة أو بإخبار بعض الصحابة أو بعض ثقات التابعين، أو بإخباره عن نفسه بأنه صحابي إذا دخل تحت الإمكان.
"بنت خولد بن أسد في تجارة لها" وعند الواقدي وغيره: وكانت خديجة تاجرة ذات شرف ومال كثير، وتجارة تبعث بها إلى الشام، فتكون عيرها كعامة عير قريش، وكانت تستأجر الرجال وتدفع إليهم المال مضاربة، وكانت قريش قومًا تجارًا، ومن لم يكن منهم تاجرًا فليس(1/370)
حتى بلغ سوق بصرى، وقيل سوق حباشة بتهامة، وله إذ ذاك خمس وعشرون سنة، لأربع عشرة ليلة بقيت من ذي الحجة، فنزل تحت ظل شجرة، فقال نسطورا الراهب: ما نزل تحت هذه الشجرة إلا نبي، وفي رواية بعد عيسى................
__________
عندهم بشيء، فسار صلى الله عليه وسلم "حتى بلغ سوق بصرى" رواه الواقدي وابن السكن وغيرهما، "وقيل: سوق حباشة" بحاء مهملة مضمومة فموحدة فألف فشين معجمة فتاء تأنيث، قال في الروض: سوق من أسواق العرب، انتهى.
وهذا القول رواه الدولابي عن الزهري، ولفظه: استأجرته خديجة إلى سوق حباشة، وهو سوق "بتهامة" بكسر التاء اسم لكل ما نزل عن نجد إلى بلاد الحجاز ومكة من تهامة، قال ابن فارس في مجمله، سميت تهامة من التهم بفتح التاء والهاء وهو شدة الحر وركود الريح. وفي المطالع: سميت بذلك لتغير هوائها، يقال: تهم الدهن إذا تغير، وذكر الحازمي في مؤتلفه أنه يقال في أرض تهامة تهائم، انتهى.
وقيد بذلك؛ لأن حباشة مشترك، ففي القاموس: حباشة كثمامة سوق تهامة القديمة، وسوق آخر كان لبني قينقاع. "وله" صلى الله عليه وسلم "خمس وعشرون سنة" فيما رواه الواقدي وابن السكن وصدر به ابن عبد البر وقطع به عبد الغني، قال في الغرر: وهو الصحيح الذي عليه الجمهور، وقيل غير ذلك؛ كما يأتي. "لأربع عشرة ليلة بقيت من ذي الحجة، فنزل تحت ظل شجرة" في سوق بصرى قريبًا من صومعة نسطورا الراهب، فاطلع إلى ميسرة وكان يعرفه، "فقال نسطورا الراهب" بفتح النون وسكون السين وضم الطاء المهملتين، قال في النور: وألفه مقصورة كذا نحفظه، ولم أر أحدًا ضبطه ولا تعرض لعدة في الصحابة، وينبغي أن الكلام فيه كالكلام في بحيرا, وعند الواقدي وابن إسحاق، فقال: يا ميسرة من هذا الذي تحت هذه الشجرة؟ فقال: رجل من قريش من أهل الحرم، فقال له لراهب: "ما نزل تحت هذه الشجرة" زاد ابن إسحاق: قط، "إلا نبي".
"وفي رواية: بعد عيسى" قال السهيلي: يريد ما نزل تحتها هذه الساعة، ولم يرد: ما نزل تحتها قط إلا نبي لبعد العهد بالأنبياء قبل ذلك، وإن كان في لفظه: قط، فقد تكلم بها على جهة التوكيد للنفي، والشجر لا يعمر في العادة هذا العمر الطويل حتى يدري أنه لم ينزل تحتها إلا عيسى أو غيره من الأنبياء، ويبعد في العادة أيضًا أن تخلو شجرة من نزول أحد تحتها نبي إلا أن تصح رواية من قال في هذا الحديث: أحد بعد عيسى ابن مريم، وهي رواية عن غير ابن إسحاق، فالشجرة على هذه مخصوصة بهذه الآية، انتهى, وأقره مغلطاي والبرهان وتعقبه العز بن جماعة؛ بأنه مجرد استبعاد لا دلالة فيه على امتناع ولا استحالة؛ وبأنه استبعاد يعارضه ظاهر(1/371)
وكان ميسرة يرى في الهاجرة ملكين يظلانه في الشمس، ولما رجعوا إلى مكة في ساعة الظهيرة، وخديجة في علية لها، رأت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على بعيره وملكان يظلان عليه. رواه أبو نعيم.
وتزوج صلى الله عليه وسلم خديجة بعد ذلك بشهرين وخمسة وعشرين يومًا.........
__________
الخبر، وكون متعلقات الأنبياء مظنة خرق العادة، فلا يكون ذلك حينئذ من طول البقاء وصرف غير الأنبياء عن النزول تحتها بعيدًا، وذلك واضح، انتهى.
وأيد بما ذكره أبو سعد في الشرف: أن الراهب دنا إليه صلى الله عليه وسلم وقبل رأسه وقدميه، وقال: آمنت بك وأنا أشهد أنك الذي ذكر الله في التوراة، فلما رأى الخاتم قبله، وقال: أشهد أنك رسول الله النبي الأمي الذي بشر بك عيسى، فإنه قال: لا ينزل بعدي تحت هذه الشجرة إلا النبي الأمي الهاشمي العربي المكي صاحب الحوض والشفاعة ولواء الحمد. وعند الواقدي وابن السكن: ثم قال له: في عينيه حمرة، قال: ميسرة نعم، لا تفارقه أبدًا.
قال الراهب: هو هو، وهو آخر الأنبياء، ويا ليت إني أدركه حين يؤمر بالخروج، فوعى ذلك ميسرة ثم حضر صلى الله عليه وسلم سوق بصرى فباع سلعته التي خرج بها واشترى، وكان بينه وبين رجل اختلاف في سلعة، فقال الرجل: أحلف باللات والعزى، فقال: "ما حلفت بهما قط". فقال الرجل: القول قولك، ثم قال لميسرة وخلا به: هذا نبي، والذي نفسي بيده إنه لهو الذي تجده أحبارنا منعوتًا في كتبهم، فوعى ذلك ميسرة ثم انصرف أهل العير جميعًا.
"وكان ميسرة يرى في الهاجرة ملكين يظلانه في الشمس" فيه جواز رؤية الملائكة وبه وبرؤية الجن، صرح في الحديث الصحيح: وأما قوله: إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم، فمحمول عل الغالب ولو كانت رؤيتهم محالة، لما قال صلى الله عليه وسلم في الشيطان: "لقد هممت أن أربطه حتى تصبحوا تنظروا إليه كلكم".
"ولما رجعوا إلى مكة في ساعة الظهيرة وخديجة في علية" بكسر العين، والضم لغة؛ كما في المصباح. وسوى بينهما في النور، أي: غرفة، والجمع العلالي بالتشديد والتخفيف. "لها، رأت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على بعير وملكان يظلان عليه، رواه أبو نعيم" زاد غيره: فأرته نساءها فعجبن لذلك، ودخل عليهما صلى الله عليه وسلم فأخبرها بما ربحوا فسرت، فلما دخل عليها ميسرة أخبرته بما رأت، فقال: قد رأيت هذا منذ خرجنا من الشام، وأخبرها بقول نسطورًا، وقول الآخر الذي خالفه في البيع، وقدم صلى الله عليه وسمل بتجارتها فربحت ضعف ما كانت تربح، وأضعفت له ما كانت سمته له، "وتزوج صلى الله عليه وسلم خديجة بعد ذلك" أي: قدومه من الشام، "بشهرين وخمسة وعشرين يومًا"(1/372)
وقيل: كان سنة إحدى وعشرين سنة، وقيل ثلاثين -وكانت تدعى في الجاهلية بالطاهرة، وكانت تحت أبي هالة بن زرارة التميمي، فولدت له هندًا وهالة، وهما ذكران، ثم تزوجها عتيق بن عابد....................
__________
قاله ابن عبد البر، وزاد: إن ذلك عقب صفر سنة ست وعشرين، "وقيل: كان سنه" صلى الله عليه وسلم "إحدى وعشرين سنة" قال الزهري، "وقيل: ثلاثين" سنة، حكاه ابن عبد البر عن أبي بكر بن عثمان وغيره، وقال ابن جريج: كان سبعًا وثلاثين سنة، وقال البرقي: تسعًا وعشرين قد راهق الثلاثين، وقيل غير ذلك. "وكانت تدعي في الجاهلية بالطاهرة" لشدة عفافها وصيانتها. وفي الروض: كانت تسمى الطاهرة في الجاهلية والإسلام.
وفي سير التميمي: كانت تسمى سيدة نساء قريش، "وكانت تحت أبي هالة بن زرارة التميمي" بميمين نسبة إلى تميم؛ كما صرح به اليعمري وغيره، واختلف في اسم أبي هالة، فقيل ملك، حكاه الزبير والدارقطني وصدره به في الفتح، وقيل: زرارة حكاه ابن منده والسهيلي، وقيل: هند جزم به العسكري، واقتصر عليه في العيون وصدر به في الروض، وقيل: اسمه النباش، قطع به أبو عبيد وقدمه مغلطاي، واقتصر عليه المصنف في الزوجات، وهو بفتح النون فموحدة ثقيلة فشين معجمة، وفي فتح الباري: مات أبو هالة في الجاهلية.
"فولدت له هندًا" الصحابي راوي حديث صفة النبي صلى الله عليه وسلم شهد بدرًا، وقيل: أحدًا، روى عنه الحسن بن علي، فقال: حدثني خالي؛ لأنه أخو فاطمة لأمها وكان فصيحًا بليغًا وصافًا، وكان يقول: أنا أكرم الناس أبا وأما وأخًا وأختًا، أبي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخي القاسم وأختي فاطمة وأمي خديجة رضي الله عنهم، قتل مع علي يوم الجمل، قاله الزبير بن بكار والدارقطني. وقيل: مات بالبصرة في الطاعون، قال التجاني: والصحيح أن الذي مات في الطاعون ولده واسمه هند كأبيه، انتهى. وهو المذكور في الروض عن الدولابي. وفي فتح الباري: ولهند هذا ولد اسمه هند، ذكره الدولابي وغيره، فعلى قول العسكري أن اسم أبي هالة هند، فهو ممن اشترك مع أبيه وجده في الاسم، انتهى.
"وهالة" التميمي، قال أبو عمر: له صحبة، وأخرج المستغفري عن عائشة: قدم ابن لخديجة يقال له هالة والنبي صلى الله عليه وسلم قائل فسمعه، فقال: "هالة هالة هالة"، وأخرج الطبراني عن هالة بن أبي هالة: أنه دخل على النبي صلى الله عليه وسلم وهو راقد فاستيقظ فضم هالة إلى صدره، وقال: "هالة هالة هالة". "وهما ذكران" خلافًا لمن وهم، فزعم أن هالة أنثى.
"ثم" بعد أن هلك عنها أبو هالة "تزوجها عتيق بن عابد" بالموحدة والدال المهملة؛ كما في الإكمال، وتبعه التبصير، وقال اليعمري: إنه الصواب، ووقع في جامع ابن الأثير أنه بتحتية(1/373)
المخزومي فولدت له هند.
وكان لها -حين تزوجها بالنبي صلى الله عليه وسلم- من العمر أربعون سنة وبعض أخرى. وكانت عرضت نفسها عليه.................................
__________
وذال معجمة وهو مردود، فإنه عتيق بن عابد بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، وقد صرح علامة النساب الزبير بن بكار بأن من كان من ولد عمر بن مخزوم فهو عابد، يعني بموحدة ودال مهملة، ومن كان من ولد أخيه عمران بن مخزوم فعائد، يعني بتحتية وذال معجمة، نقله الأمير في إكماله، والحافظ في تبصيره، وأقراه.
"المخزومي" نسبة إلى جده مخزوم المذكور، "فولدت له هندًا" أسلمت وصحبت ولم ترو شيئًا، قاله الدارقطني، فهو أنثى وبه صرح المصنف في الزوجات وغيره تبعًا للزبير، وروى الدولابي عن الزهري أنها أم محمد بن صيفي المخزومي وهو ابن عمه، قال ابن سعد: ويقال لولد محمد: بنو الطاهرة؛ لمكان خديجة. وفي النور عن بعضهم: ولدت لعتيق عبد الله، وقيل عبد مناف، وهذا ثم ما ذكره المصنف من أن عتيقًا بعد أبي هالة، هو ما نسبه ابن عبد البر للأكثر وصححه، ولذا جزم به هنا وصدر به في المقصد الثاني. وقال قتادة وابن شهاب وابن إسحاق، في رواية يونس عنه: تزوجها وهي بكر عتيق بن عابد، ثم هلك عنها، فتزوجها أبو هالة. واقتصر عليه في العيون والفتح، وحكى القولين في الإصابة.
"وكان لها حين تزوجها بالنبي صلى الله عليه وسلم" مصدر مضاف لمفعوله، أي: حين تزويج مزوجها إياها منه. وفي نسخة: تزوجها بإضافة المصدر لفاعله، "من العمر أربعون سنة" رواه ابن سعد، واقتصر عليه اليعمري، وقدمه مغلطاي والبرهان. قال في الغرز: وهو الصحيح، وقيل: خمس وأربعون، وقيل: ثلاثون، وقيل: ثمانية وعشرون، حكاه مغلطاي وغيره.
وأم قول المصنف هنا: وفي المقصد الثاني أربعون، "وبعض أخرى" فينظر ما قدر البعض، "وكانت عرضت نفسها عليه" بلا واسطة، فعند ابن إسحاق فعرضت عليه نفسها، فقالت: يا ابن عم! إني قد رغبت فيك لقرابتك وسلطتك في قومك وأمانتك وحسن خلقك وصدق حديثك، أو بواسطة؛ كما رواه ابن سعد من طريق الواقدي عن نفيسة بنت منية، قالت: كانت خديجة امرأة حازمة جلدة شريفة مع ما أراد الله بها من الكرامة والخير، وهي يومئذ أوسط قريش نسبًا وأعظمهم شرفًا وأكثرهم مالا، وكل قومها كان حريصًا على نكاحها لو قدر على ذلك، طلبوها وبذلوا لها الأموال، فأرسلتني دسيسًا إلى محمد صلى الله عليه وسلم بعد أن رجع في عيرها من الشام، فقلت: يا محمد! ما يمنعك أن تتزوج؟ فقال: "ما بيدي ما أتزوج به"، قلت: فإن كفيت ذلك ودعيت إلى المال والجمال والشرف والكفاءة، ألا تجيب؟ قال: "فمن هي"؟ قلت: خديجة، قال: "وكيف(1/374)
فذكر ذلك لأعمامه، فخرج معه منهم حمزة حتى دخل على خويلد بن أسد فخطبها إليه.
فتزوجها عليه السلام، وأصدقها عشرين بكرة.............................
__________
لي بذلك"؟. فذهبت فأخبرتها فأرسلت إليه: أن ائت لساعة كذا، "فذكر ذلك لأعمامه" والجمع ممكن بأنها بعثت نفيسة أولا لتعلم هل يرضى، فلما علمت ذلك كلمته بنفسها، قال الشامي، وسبب عرضها ما حدثها به غلامها ميسرة مع ما رأته من الآيات.
وما ذكره ابن إسحاق في المبتدأ، قال: كان لنساء قريش عيد يجتمعن فيه، فاجتمعن يومًا فيه، فجاءهن يهودي، فقال: يا معشر نساء قريش! إنه يوشك فيكن نبي، فأيتكن استطاعت أن تكون فراشًا له فلتفعل، فحصبنه وقبحنه وأغلظن له وأغضت خديجة على قوله؛ ولم تعرض فيها عرض فيه النساء، وقر ذلك في نفسها، فلما أخبرها ميسرة بما رآه من الآيات، وما رأته هي، قالت: إن كان ما قال اليهودي حقًا، ما ذاك إلا هذا، انتهى. وحصبنه: رمينه بالحصباء، وأغضت بغين وضاد معجمتين: سكتت.
"فخرج معه منهم حمزة" كذا عند ابن إسحاق، ونقل السهيلي عن المبرد: أن أبا طالب هو الذي نهض معه، وهو الذي خطب خطبة النكاح. قال في النور: فلعلهما خرجا معه جميعًا والذي خطب أبو طالب؛ لأنه أسن من حمزة. "حتى دخل على" أبيها "خويلد" بضم الخاء مصغر "ابن أسد" بن عبد العزى بن قصي بن كلاب، "فخطبها إليه" أي: فخطبها من خويلد له صلى الله عليه وسلم، "فتزوجها عليه السلام" وظاهر سياقه هذا: أنه عليه السلام ذكر ذلك لأعمامه من غير طلبها حضور واحد بعينه وعند ابن سعد في الشرف، أنها قالت له: اذهب إلى عمك، فقل له: عجل إلينا بالغداة، فلما جاء، قالت: يا أبا طالب، ادخل على عمي، فقل له: يزوجني من ابن أخيك، فقال: هذا صنع الله ... فذكر الحديث.
ولا منافاة أصلا فذكره عرضها لأعمامه لا ينافي كونها عينت له واحدًا منهم. وفي الروض: ذكر الزهري في سيرته وهي أول سيرة ألفت في الإسلام: أنه صلى الله عليه وسلم قال لشريكه الذي كان يتجر معه في مال خديجة: هلم فلنتحدث عند خديجة، وكانت تكرمهما وتتحفهما، فلما قاما من عندها جاءت امرأة، فقالت له: جئت خاطبًا يا محمد، قال: كلا، فقالت: ولم!! فوالله ما في قريش امرأة وإن كانت خديجة إلا تراك كفؤًا لها، فرجع صلى الله عليه وسلم خاطبًا لخديجة مستحيًا منها، وكان أبوها خويلد سكران من الخمر، فلما كلم في ذلك أنكحها، فألقت عليه خديجة حلة وضمخته بخلوق، فلما صحا من سكره، قال: ما هذه الحلة والطيب، فقيل: إنك أنكحت محمدًا خديجة وقد ابتنى بها، فأنكر ذلك ثم رضيه وأمضاه، وقال راجز من أهل مكة في ذلك:(1/375)
وحضر أبو طالب ورؤساء مضر، فخطب أبو طالب فقال:
الحمد لله الذي جعلنا من ذرية إبراهيم، وزرع إسماعيل، وضئضئ معد، وعنصر مضر، وجعلنا حضنة بيته، وسواس حرمه، وجعل لنا بيتًا محجوجًا، وحرمًا آمنًا، وجعلنا الحكام على الناس، ثم إن ابن أخي هذا، محمد بن عبد الله، لا يوزن برجل إلا
__________
لا تزهدي خديج في محمد ... نجم يضيء كما ضياء الفرقد
"وأصدقها عشرين بكرة" من ماله صلى الله عليه وسلم زيادة على ما دفعه أبو طالب ويأتي له مزيد قريبًا. "وحضر أبو طالب" هذا هو الصواب المذكور في الروض وغيره، وما في نسخ أبو بكر رضي الله عنه لا أصل له، وقد صرح المصنف نفسه بالصواب في المقصد الثاني، فقال: وزاد ابن إسحاق من طريق آخر: وحضر أبو طالب "ورؤساء مضر، فخطب أبو طالب" لا ينافيه قوله السابق: فخرج معه منهم حمزة؛ لما مر عن النور، "فقال: الحمد لله الذي جعلنا من ذرية إبراهيم" خصه دون نوح؛ لأنه شرفهم وأسكنهم البيت الحرام، أما نوح وآدم فيشاركهم فيه جميع الناس، "وزرع إسماعيل" والد العرب الذي هم أشرف الناس لا زرع إسحاق ولا مدين، ولا غيرهما من ولد إبراهيم، أي: مزروعة والمراد ذريته غاير تفننًا وكراهة لتوارد الألفاظ، وأطلق عليها اسم الزرع لمشابهتها له في النضارة والبهجة أو لتسببه في تحصيلها بفعل الزرع من إلقاء الحب وفعل ما يحتاج لتحصيل الإنبات، "وضئضئ معد" بكسر الضادين المعجمتين وبهمزتين الأولى ساكنة، ويقال: ضيضئ بوزن قنديل وضؤضؤ بوزن هدهد وضؤضوء بوزن سرسور، ويقال أيضًا بصادين وسينين مهملتين، وهو في الجميع الأصل والمعدن، ذكره الشامي.
"وعنصر مضر" بضم العين المهملة وسكون النون وضم الصاد المهملة وقد تفتح الأصل أيضًا وغاير تفننا والإضافة فيهما بيانية، أي: أصل هو معد ومضر وخصهما لشرفهما وشهرتهما أو لما ورد أنهما ماتا على ملة إبراهيم، لكن وروده كان بعد ذلك بمدة فلعله كان مشهورًا في الجاهلية، قال شيخنا: ويجوز أن المراد بالأصل الشرف والحسب، والمعنى: من أشراف معد ومضر.
"وجعلنا حضنة بيته" الكعبة "وسواس حرمه" مدبريه القائمين به، "وجعل له بيتًا محجوجًا" أي: مقصودًا بالحج إليه، "وحرمًا آمنًا" لا يصيبنا فيه عدو؛ كما قال تعالى: {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ} [القصص: 57] ، "وجعلنا الحكام على الناس" حكم معروف وطوع وانقياد لمكارم أخلاقهم وحسن معاملاتهم، لا حكم ملك وقهر فلا ينافي قول صخر لقيصر ليس في آبائه من ملك، "ثم إن ابن أخي هذا محمد بن عبد الله، لا يوزن برجل إلا(1/376)
رجح به، فإن كان في المال قل، فإن المال ظل زائل، وأمر حائل، ومحمد ممن قد عرفتم قرابته، وقد خطب خديجة بنت خويلد وبذل لها ما آجله وعاجله من مالي كذا، وهو -والله- بعد هذا له نبأ عظيم وخطر جليل جسيم، فزوجها.
__________
رجح به" زاد في رواية: شرفًا ونبلا وفضلا وعقلا، وعداه بالباء وفيما مر عداه صلى الله عليه وسلم بنفسه في قوله: فوزنوني بهم فرجحتهم فيفيد جواز الأمرين، "فإن" وفي نسخة: وإن بالواو، وهي أولى؛ لأن ما ذكر لا يتفرع على ما قبله، "كان في المال" اللام عوض عن المضاف إليه، أي: ماله "قل" بضم القاف مشترك بين ضد الكثرة، وهو الوصف والشيء القليل؛ كما في القاموس.
"فإن المال ظل زائل" تشبيه بليغ، أي: كالظل السريع الزوال، "وأمر" أي: شيء "حائل" لا بقاء له لتحوله من شخص لآخر ومن صفة إلى أخرى فمال زائل وحائل واحد، زاد في رواية: وعارية مسترجعة، "ومحمد ممن" من الذين "قد عرفتم قرابته" أفراد ضميره رعاية للفظ من، وفي نسخ إسقاط من أي ومحمد الذي قد عرفتم قرابته لهاشم وعبد المطلب والآباء والكرام، فالحسب أعظم من كثرة المال، "وقد خطب خديجة بنت خويلد" أي: جاء لها خاطبًا، "وبذل" أعطى بسماحة "لها ما آجله وعاجله من مالي".
"كذا" هو ما يأتي عن الدولابي، ففي رواية: إن أبا طالب قال: وقد خطب إليكم راغبًا كريمتكم خديجة وقد بذل لها من الصداق ما حكم عاجله وآجله اثنتا عشرة أوقية ذهبًا ونشا، وقال المحب الطبري في السمط الثمين في أزواج الأمين: أصدقها المصطفى عشرين بكرة، ولا تضاد بين هذا وبين ما يقال أبو طالب أصدقها؛ لجواز أنه صلى الله عليه وسلم زاد في صداقها فكان الكل صداقًا وذكر ادولابي وغيره: أنه صلى الله عليه وسلم أصدقها اثنتي عشرة أوقية من ذهب، وفي المنتقى: الصداق أربعمائة دينار، فيكون ذلك أيضًا زيادة على ما تقدم ذكره الخميس.
"وهو والله بعد هذا" الذي قلته فيه "له نبأ" خبر "عظيم" لا تعلمونه إشارة إلى ما شاهده من بركته عليه في أكله مع عياله، وما أخبر به بحيرا وغير ذلك، "وخطر جليل" عظيم "جسيم" فزوجها بالبناء للمفعول، وفي رواية: فتزوجها صلى الله عليه وسلم.
وفي المنتقى: فلما أتم أبو طالب الخطبة تكلم ورقة بن نوفل، فقال: الحمد لله الذي جعلنا كما ذكرت، وفضلنا على ما عددت فنحن سادة العرب وقادتها، وأنتم أهل ذلك كله لا تنكر العشيرة فضلكم ولا يرد أحد من الناس فخركم وشرفكم، وقد رغبنا في الاتصال بحبلكم وشرفكم فاشهدوا عليّ يا معاشر قريش بأني قد زوجت خديجة بنت خويلد من محمد بن عبد الله على أربعمائة دينار، ثم سكت، فقال أبو طالب: قد أحببت أن يشركك عمها، فقال عمها: اشهدوا علي يا معاشر قريش أني قد أنكحت محمدًا بن عبد الله خديجة بنت خويلد،(1/377)
والضئضئ: الأصل.
وحضنة بيته: أي الكافلين له والقائمين بخدمته.
وسواس حرمه: أي متولوا أمره.
قال ابن إسحاق: وزوجها أبوها خويلد.
وقد ذكر الدولابي وغيره: أن النبي صلى الله عليه وسلم أصدق خديجة اثنتي عشر أوقية ذهبًا ونشًا. قالوا: وكل أوقة أربعون درهمًا، قال المحب الطبري والنش: نصف أوقية تتميم.
ولما بلغ صلى الله عليه وسلم خمسًا وثلاثين سنة........................
__________
وشهد على ذلك صناديد قريش.
"والضئضئ" بجميع وجوهه المتقدمة معناه: "الأصل وحضنة بيته، أي: الكافلين له والقائمين بخدمته" أي: هم المعروفون بذلك وإلا فالأولى الرفع؛ لأن حضنة مبتدأ فهو مرفوع وإن قصد حكاية ما سبق، "وسواس حرمه، أي: متولو أمره" من ساس الرعية، "قال ابن إسحاق: وزوجها أبوها خويلد" للنبي صلى الله عليه وسلم أعاده للغزو، وهذا جزم به ابن إسحاق هنا، وصدر به في آخر كتابه وقابله بقوله: ويقال أخوها عمرو، وفي الفتح: زوجه إياها أبوها خويلد، ذكره البيهقي من حديث الزهري بإسناده عن عمار بن ياسر، وقيل: عمها عمرو بن أسد ذكره الكلبي، وقيل: أخوها عمرو بن خويلد، ذكره ابن إسحاق، انتهى.
وكأنه لم يعتبر قول الواقدي الثبت عندنا المحفوظ من أهل العلم أن أباها مات قبل حرب الفجار، وإن عمها عمرًا هو الذي زوجها لمزيد حفظ الثبت وهو الزهري خصوصًا، وقد رواه عن صحابي من السابقين، لكن قال الشامي الذي ذكره أكثر علماء السير: أن الذي زوجها عمها.
قال السهيلي: وهو الصحيح لما روى الطبري: أن عمرو بن أسد هو الذي أنكح خديجة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن خويلدًا كان قد مات قبل حرب الفجار، ورجحه الواقدي وغلط من قال بخلافه، وحكى عليه المؤملي الاتفاق.
"وقد ذكر" الحافظ أبو بشر بموحدة مكسورة فشين معجمة محمد بن أحمد الأنصاري، "الدولابي" قال في اللب: كأصله بفتح الدال المهملة والناس يضمونها نسبة إلى عمل الدولاب شبه الناعورة، لكن في النور والقاموس: أن القرية دولاب بالضم والذي كالناعورة بالضم وقد يفتح وقد مر ذلك مع بعض ترجمته.
"وغيره: أن النبي صلى الله عليه وسلم أصدق خديجة" من مال أبي طالب على ما مر فنسب إليه لوقوع النكاح له، "اثنتي عشرة أوقية ذهبًا ونشًا" وظاهر كلام الطبري حمله على ظاهره وأن الذي من أبي طالب غيره، "قالوا وكل أوقية أربعون درهمًا قال المحب الطبري" فتكون جملة الصداق خمسمائة درهم شرعي، انتهى. أي: ذهبًا ولا ينافيه تعبيره بدرهم؛ لأنه بيان للوزن فلا يستلزم كونه فضة فأراد الشرعي وزنًا وهو خمسون وخمسًا حبة من مطلق الشعير، أي: لا طبري ولا بغلي ثم هذا لا ينافي أن صداق الزوجات لم يزد على خمسمائة درهم فضة لحمله على ما بعد البعثة، أو على ما إذا كان منه عليه السلام، أما هذا فشاركه فيه أبو طالب.
"والنش" بفتح النون وبالشين المعجمة "نصف أوقية" لأن النش لغة نصف كل شيء، روى مسلم عن عائشة: كان صداقه صلى الله عليه وسلم لأزواجه اثنتي عشرة أوقية ونشا، أتدري ما النش؟ قلت: لا، قالت: نصف أوقية فذلك خمسمائة درهم، وهذا أولى من قول ابن إسحاق: صداقه لأكثر زوجاته أربعمائة درهم؛ لأن فيه زيادة، ومن ذكر الزيادة معه زيادة علم، ولصحته "تتميم" ذكر الملأ في سيرته أنه صلى الله عليه وسلم لما تزوجها ذهب ليخرج، فقالت له: إلى أين يا محمد؟ اذهب وانحر جزورًا أو جزورين وأطعم الناس، ففعل وهو أول وليمة أولمها صلى الله عليه وسلم.
وفي المنتقى: فأمرت خديجة جواريها أن يرقصن ويضربن الدفوف، وقالت: مر عمك ينحر بكرًا من بكراتك، وأطعم الناس وهلم فقل مع أهلك، فأطعم الناس ودخل صلى الله عليه وسلم فقال: "معها فقر الله عينه"، وفرح أبو طالب فرحًا شديدًا وقال: الحمد لله الذي أذهب عنا الكرب ودفع عنا الهموم، وسيأتي شيء من فضائلها إن شاء الله من المقصد الثاني، وقبله في المبعث.(1/378)
بنيان قريش الكعبة:
"ولما بلغ صلى الله عليه وسلم خمسًا وثلاثين سنة" فيما جزم به ابن إسحاق وغير واحد من العلماء وقيل: خمسًا وعشرين سنة، رواه ابن عبد البر عن محمد بن جبير وعبد الرزاق عن ابن جريج عن مجاهد، وجزم به موسى بن قبة في معاوية ويعقوب بن سفيان في تاريخه، قال الحافظ: والأول أشهر، ويمكن الجمع بأن الحريق تقدم وقته على الشروع في البناء.
وحكى الأزرقي: أنه كان غلامًا، قال الحافظ: ولعل عمدته ما رواه عبد الرزاق عن معمر عن الزهري، قال: لما بلغ صلى الله عليه وسلم الحلم أجمرت الكعبة امرأة فطارت شرارة من مجمرها في ثياب الكعبة فاحترقت، فذكر القصة، وقيل: ابن خمس عشرة سنة، حكى الأخير المصنف ولعله غلط قائله.
وأما قول الشامي ما حاصله: وسن المصطفى خمس وثلاثون سنة، وقيل: قبل المبعث بخمس عشرة سنة، وقيل: ابن خمس وعشرين وغلط قائله فعجيب، فإن الثالث هو عين الثاني،(1/379)
خافت قريش أن تنهدم الكعبة من السيول، فأمروا باقوم -بموحدة فألف فقاف مضومة فواو ساكنة فميم- القبطي مولى سعيد بن العاصي..........................
__________
وليس بغلط بل هو قوي، ولذا احتاج الحافظ للجمع بينه وبين الأول كما ترى، وممن ذكر جمعه الشامي. وأما ما رواه ابن راهويه عن علي: أنه صلى الله عليه وسلم كان حينئذ شابًا فهو يأتي على جميع الأقوال.
"خافت قريش أن تنهدم الكعبة من السيول" فيما حكاه في العيون والفتح عن موسى بن عقبة، قال: إنما حمل قريشًا على بنائها أن السيل أتى من فوق الردم الذي بأعلى مكة فأخربه فخافوا أن يدخلها الماء، وقيل سبب ذلك احتراقها، فروى يعقوب بن سفيان بإسناد صحيح عن الزهري: أن امرأة أجمرت الكعبة فطارت شرارة في ثيابها فأحرقتها، وروى الفاكهي عن عبد الله بن عبيد بن عمير، قال: كانت الكعبة فوق القامة فأرادت قريش رفعها وتسقيفها، وروى ابن راهويه عن علي في حديث: فمر عليه الدهر فبنته قريش، حكاه في الفتح، وقيل: إن السيل دخلها وصدع جدرانها بعد توهينها.
وقيل: إن الأنفر أسرقوا حلي الكعبة وغزالين من ذهب، وقيل: غزالا واحدًا مرصعًا بدر وجوهر، وكان في بئر في جوف الكعبة، فأرادوا أن يشيدوا بنيانها ويرفعوه حتى لا يدخلها إلا من شاءوا، وجمع بأنه لا مانع أن سبب بنائهم ذلك كله.
وقال شيخنا: يجوز أن خشية هدم السيل حصل من الحريق حتى أوهن بناءها ووجدت السرقة بعد ذلك أيضًا، "فأمروا باقوم بموحدة فألف فقاف مضمومة فواو ساكنة فميم" ويقال: باقول باللام الصحابي؛ كما في الإصابة، "القبطي" بالقاف نسبة إلى القبط نصارى مصر، "مولى سعيد بن العاصي" بن أمية، وفي الإصابة روى ابن عيينة في جامعه عن عمرو بن دينار عن عبيدة بن عمير، قال: اسم الرجل الذي بنى الكعبة لقريش باقوم، وكان روميًا وكان في سفينة حبسها الريح فخرجت إليها قريش وأخذوا خشبها، وقالوا له: ابنها على بناء الكنائس، رجاله ثقات مع إرساله، انتهى.
فيحتمل أنهما اشتركا جميعًا في بنائها أو أحدهما بنى والآخر سقف وإنهما واحد وهو رومي في الأصل ونسب إلى القبط حلفًا ونحوه، وهذا هو الظاهر من كلام الإصابة، فإنه بعدما جزم بأنه مولى بني أمية، وذكر الرواية التي صرحت بأنه مولى سعيد منهم ذكر روايتي بنائه الكعبة وعمله المنبر، وقال في آخره: يحتمل أنه الذي عمل المنبر بعد ذلك ولم يقع عنده أنه قبطي وهو يؤدي ما في بعض نسخ المصنف النبطي بفتح النون والموحدة.
قال في الفتح: هذه النسبة إلى استنباط الماء واستخراجه وإلى نبيط بن هانب بن أميم بن(1/380)
وصانع المنبر الشريف، بأن يبني الكعبة المعظمة.
__________
لاود بن سام بن نوح، انتهى.
فيحتمل أنه كان يستخرج الماء فنسب إليه وإن كان روميًا، ويؤيده قول بعضهم وكان نجارًا بناء فإن من جملة حرف البناء معرفة استخراج الماء من المواضع بأن يقول: الماء يوجد هنا أقرب من هنا فليست بتحريف.
"وصانع المنبر الشريف" النبوي المدني في أحد الأقوال كما يجيء إن شاء الله تعالى، وأخرج أبو نعيم بسند ضعيف عن صالح مولى التوءمة: حدثني باقوم مولى سعيد بن العاص، قال: صنعت لرسول الله صلى الله عليه وسلم منبرًا من طرفاء الغابة ثلاث درجات المقعد ودرجتين. "بأن يبني الكعبة المعظمة" وذلك أنه كان بسفينة ألقاها الريح بجدة فتحطمت فخرج الوليد بن المغيرة في نفر من قريش إليها، فابتاعوا خشبها وأعدوه لتسقيف الكعبة وكلموا باقوم الرومي في بنائها فقدم معهم.
قال ابن إسحاق: وكان بمكة رجل قبطي نجار فهيأ لهم بعض ما يصلحها، قال: فهاب الناس هدمها وفرقوا منه، فقال الوليد بن المغيرة: أنا أبدؤكم في هدمها، فأخذ المعول ثم قام وهو يقول: اللهم لم ترع، بفوقية مضمومة فراء مفتوحة، أي: لم تفزع الكعبة فأضمرها التقدم ذكرها، وهذا أولى من إعادة السهيلي الضمير لله قائلا: لا روع هنا، فينبغي لكن الكلمة تقتضي إظهار قصد البر فيجوز التكلم بها في الإسلام، واستشهد بحديث: "فاغفر فدا لك ما أبقينا"، قال: وفي رواية: لم نزغ، أي: بفتح النون وكسر الزاي وغين معجمة، قال: وهو جلي لا يشكل، أي: لم نمل عن دينك ولا خرجنا عنه، اللهم لا نريد إلا الخير، ثم هدم من ناحية الركنين الأسود واليماني وتربص الناس تلك الليلة، وقالوا: ننظر، فإن أصيب لم نهدم منها شيئًا ورددناها كما كانت وإن لم يصبه شيء هدمنا فقد رضي الله ما صنعنا فأصبح الوليد من ليلته عائدًا إلى عمله فهدم وهدم الناس معه، حتى إذا انتهى الهدم بهم إلى الأساس أساس إبراهيم أفضوا إلى حجارة خضر كالأسمنة جمع سنام، وهو أعلى الظهر للبعير، ومن رواه كالأسنة جمع سنان شبهها بالأسنة في الخضرة أخذ بعضها ببعض فأدخل رجل ممن كان يهدم عتلته بين حجرين منها ليقلع بها بعضها، فلما تحرك الحجر تنغصت مكة بأسرها وأبصر القوم برقة خرجت من تحت الحجر كادت تخطف بصر الرجل، فانتهوا عن ذلك الأساس وبنوا عليه.
وفي رواية: لما شرعوا في نقض البناء خرجت عليهم الحية التي كانت في بطنها تحرسها سوداء البطن، فمنعتهم من ذلك فاعتزلوا عند مقام إبراهيم فتشاوروا، فقال لهم الوليد: ألستم تريدون بها الإصلاح؛ قالوا: بلى، قال: فإن الله لا يهلك المصلحين ولكن لا تدخلوا في(1/381)
وحضر صلى الله عليه وسلم وكان ينقل معهم الحجارة، وكانوا يضعون أزرهم.........
__________
بيت ربكم إلا طيب أموالكم، وتجنبوا الخبيث فإن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا.
وعند موسى بن عقبة، أنه قال: لا تجعلوا فيها مالا أخذه غصبًا ولا قطعت فيه رحم، ولا
انتهكت فيه حرمة.
وعند ابن إسحاق: أن الذي أشار عليهم بذلك هو أبو وهب بن عمر بن عامر بن عمران بن مخزوم ففعلوا ودعوا، وقالوا: اللهم إن كان لك في هدمها رضى فأتمه وأشغل عنا هذا الثعبان، فأقبل طائر من جو السماء كهيئة العقاب ظهره أسود وبطنه أبيض ورجلاه صفراوان والحية على جدار البيت فأخذها ثم طار بها، فقالت قريش: إنا لنرجو أن الله قبل عملكم ونفقتكم.
وفي التمهيد عن عمرو بن دينار: لما أرادت قريش بناء الكعبة خرجت منها حية فحالت بينهم وبينها فجاء عقاب أبيض، فأخذها ورمى بها نحو أجياد، انتهى.
وعن ابن عباس: أنها الدابة التي تخرج في آخر الزمان تكلم الناس اختطفها العقاب، فألقاها الحجون فابتلعتها الأرض، وقيل: الخارجية فصيل ناقة صالح وهما غريبان.
وروى ابن راهويه في حديث عن علي: فلما أرادوا أن يضعوا الحجر الأسود اختصموا فيه، فقالوا: نحكم بيننا أول من يخرج من هذه السكة، فكان صلى الله عليه وسلم أول من خرج فحكم بينهم أن يجعلوه في ثوب ثم يرفعه من كل قبيلة رجل.
وذكر الطيالسي، أنهم قالوا: نحكم أول من يدخل من باب بني شيبة، فكان صلى الله عليه وسلم أول من دخل منه، فأخبروه فأمر بثوب فوضع الحجر في وسطه، وأمر كل فخذ أن يأخذوا بطائفة من الثوب فرفعوه ثم أخذه فوضعه بيده.
وذكر الفاكهي وابن إسحاق أن الذي أشار عليهم أن يحكموا أول داخل أبو أمية المخزومي أخو الوليد، وعند موسى بن عقبة أن المشير أخوه الوليد.
قال السهيلي: وذكر أن إبليس كان معهم في صورة شيخ نجدي، فصاح بأعلى صوته، يا معشر قريش، أقد رضيتم أن يضع هذا الركن وهو شرفكم غلام يتيم دون ذوي أسنانكم، فكاد يثير شرًا بينهم، ثم سكتوا.
وحكى في الروض: أنها كانت تعة أذرع من عهد إسماعيل، يعني طولا، ولم يكن لها سقف فلما بنتها قريش زادوا فيها تسعة أذرع ورفعوا بابها على الأرض، فكان لا يصعد إليها إلا في درج أو سلم. وقال الأزرقي: كان طولها سبعة وعشرين ذراعًا، فاقتصرت قريش منها على ثمانية عشر، ونقصوا من عرضها أذرعًا أدخلوها في الحجر.
"وحضر صلى الله عليه وسلم" بناءها "وكان ينقل معهم الحجارة" من أجياد "وكان يضعون أزرهم" جمع(1/382)
على عواتقهم، ويحملون الحجارة، ففعل ذلك صلى الله عليه وسلم فلبط به -بالموحدة، كعنى أي سقط من قيامه كما في القاموس- ونودي: عورتك، فكان ذلك أول ما نودي.
__________
إزار، يذكر ويؤنث، "على عواتقهم ويحملون الحجارة، ففعل ذلك صلى الله عليه وسلم" بأمر العباس، فروى الشيخان عن جابر، قال: لما بنيت الكعبة ذهب النبي صلى الله عليه وسلم والعباس ينقلان الحجارة، فقال العباس للنبي صلى الله عليه وسلم: اجعل إزارك على رقبتك يقيك من الحجارة، ففعل فخر إلى الأرض وطمحت عيناه إلى السماء ثم أفاق، فقال: "إزاري إزاري"، فشد عليه إزاره، فما رئي بعد ذلك عريانًا. "فلبط به بالموحدة، كعنى" فهو من الأفعال التي جاءت بصيغة المبني للمفعول، وهي بمعنى المبني للفاعل، "أي: سقط من قيامه؛ كما في القاموس، ونودي" يا محمد، غط "عورتك" روى عبد الرزاق والطبراني والحاكم عن أبي الطفيل، قال: كانت الكعبة في الجاهلية مبنية بالرضم ليس فيها مدور وكانت ذات ركنين، فأقبلت سفينة من الروم حتى إذا كانوا قريبًا من جدة انكسرت فخرجت قريش ليأخذوا خشبها فوجدوا الرومي الذي فيها نجارًا فقدموا به وبالخشب ليبنوا به البيت، فكانوا كلما أرادوا القرب لهدمه بدت لهم حية فاتحة فاها، فبعث الله طيرًا أعظم من النسر فغرز مخالبه فيها، فألقاها نحو أجياد، فهدمت قريش الكعبة وبنوها بحجارة الوادي فرفعوها في السماء عشرين ذراعًا، فبينما النبي صلى الله عليه وسلم يحمل الحجارة من أجياد وعليه نمرة فضاقت عليه النمرة، فذهب يضعها على عاتقه فبدت عورته من صغرها، فنودي: يا محمد خمر عورتك، فلم ير عريانًا بعد ذلك.
ففي قول السراج بن الملقن في شرح البخاري: لعل جزعه لانكشاف جسده، وليس في الحديث، يعني حديث جابر المتقدم أنه انكشف شيء من عورته تقصير؛ لأنه وإن لم يكن فيه فقد ورد في غيره، وخير ما فسرته بالوارد نعم ليس المراد العورة المغلظة.
"فكان ذلك أول ما نودي" زاد في رواية أبي الطفيل: فما رأيت له عورة قبل ولا بعد، وذكر ابن إسحاق في المبعث: وكان صلى الله عليه وسلم يحدث عما كان الله يحفظه في صغره أنه قال: "لقد رأيتني في غلمان من قريش ننقل الحجارة لبعض ما يلعب به الغلمان كلنا قد تعرى وأخذ إزاره فجعله على رقبته يحمل عليه الحجارة، فإني لأقبل معهم لذلك وأدبر، إذ لكمني لاكم ما أراه لكمة وجيعة، ثم قال: شد عليك إزارك، فشددته عليّ، ثم جعلت أحمل وإزاري عليّ من بين أصحابي".
قال السهيلي: إنما وردت هذه القصة في بنيان الكعبة، فإن صح أن ذلك كان في صغره فهي قصة أخرى، مرة في الصغر، ومرة بعد ذلك، قلت: قد يطلق على الكبير غلام إذا فعل فعل الغلمان فلا يستحيل اتحاد القصة اعتمادًا على التصريح بالأولية في حديث أبي الطفيل، كذا في(1/383)
فقال له أبو طالب أبو العباس: يابن أخي اجعل إزارك على رأسك، فقال: "ما أصابني ما أصابني إلا من التعري". خاتمة.
__________
فتح الباري. وجمع في كتاب الصلاة بحمل ما عند ابن إسحاق على غير الضرورة العادية، وما في حديث جابر على الضرورة العادية، والنفي فيها على الإطلاق، أو يتقيد بالضرورة الشرعية؛ كحالة النوم مع الأهل أحيانًا، انتهى.
"فقال له أبو طالب أو العباس" شك من الراوي "يابن أخي، اجعل إزارك على رأسك" وكأنه توهم أن سقوطه من جعله على رقبته، لا من كشف عورته ولا يشكل أنه نودي عورتك؛ لجواز أنه لم يسمع النداء وإنما سمعه المصطفى، فقال: "ما" نافية "أصابني ما" الذي "أصابني" من السقوط "إلا من التعري".
خاتمة:
اختلف في أول من بنى الكعبة، فذكر المحب الطبري في منسكه قولا: أن الله وضعه أولا لا ببناء أحد، وروى الأزرقي عن علي بن الحسين: أن الملائكة بنته قبل آدم. وروى عبد الرزاق عن عطاء، قال: أول من بنى البيت آدم. وعن وهب بن منبه: أول من بناه شيث بن آدم. وفي الكشاف: أول من بناه إبراهيم، وجزم به ابن كثير، زاعمًا أنه أول من بناه مطلقًا إذ لم يثبت عن معصوم أنه كان مبنيًا قبله.
قلت: ولم يثبت عن معصوم أنه أول من بناه. وقد روى البيهقي في الدلائل عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قصة بناء آدم لها، ورواه الأزرقي وأبو الشيخ وابن عساكر، عن ابن عباس موقوفًا وحكمه الرفع، إذ لا يقال رأيًا، وأخرج الشافعي عن محمد بن كعب القرظي، قال: حج آدم فلقيته الملائكة، فقالوا: بر نسكك يا آدم. وقد روى ابن أبي حاتم، من حديث ابن عمر: أن البيت رفع في الطوفان فكان الأنبياء بعد ذلك يحجونه ولا يعلمون مكانه حتى بوأه الله لإبراهيم فبناه على أساس آدم وجعل طوله في الساء سبعة أذرع بذراعهم، وذرعه في الأرض ثلاثين ذراعًا بذراعهم، وأدخل الحجر في البيت ولم يجعل له سقفًا وجعل له بابًا وحفر به بئرًا عند بابه يلقى فيها ما يهدى للبيت؛ فهذه الأخبار وإن كان مفرداتها ضعيفة، لكن يقوي بعضها بعضًا ثم العمالقة ثم جرهم، رواه ابن أبي شيبة وابن راهويه وابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي في الدلائل، عن علي: أن بناء إبراهيم لبث ما شاء الله أن يلبث ثم انهدم فبنته العمالقة ثم انهدم، فبنته جرهم ثم قصي بن كلاب نقله الزبير بن بكار وجزم بن الماوردي، ثم قريش فجعلوا ارتفاعها ثمانية عشر ذراعًا وفي رواية: عشرين، ولعل راويها جبر بالكسر ونقصوا من طولها ومن عرضها أذرعًا أدخلوها(1/384)
باب مبعث النبي صلى الله عليه وسلم
مدخل
...
"بسم الله الرحمن الرحيم"
"باب مبعث النبي صلى الله عليه وسلم":
ولما بلغ صلى الله عليه وسلم أربعين سنة وقيل: وأربعين يومًا، وقيل: وعشرة أيام، وقيل: وشهرين...............................
__________
في الحجر لضيق النفقة بهم، ثم لما حوصر ابن الزبير من جهة يزيد تضعضعت من الرمي بالمنجنيق فهدمها في خلافته وبناها على قواعد إبراهيم، فأعاد طولها على ما هو عليه الآن، وأدخل من الحجر الأذرع المذكورة، وجعل له بابًا آخر، فلما قتل ابن الزبير شاور الحجاج عبد الملك في نقض ما فعله ابن الزبير فكتب إليه: أما ما زاده في طولها فأقره، وأما ما زاده في الحجر فرده إلى بنائه وسد بابه الذي فتحه، ففعل ذلك؛ كما في مسلم عن عطاء.
وذكر الفاكهي: أن عبد الملك ندم على إذنه للحجاج في هدمها، ولعن الحجاج.
وفي مسلم نحوه من وجه آخر: واستمر بناء الحجاج إلى الآن وقد أراد الرشيد أو أبوه أو جده أن يعيده على ما فعله ابن الزبير فناشده مالك، وقال: أخشى أن يصير ملعبة للملوك، فتركه ولم يتفق لأحد من الخلفاء ولا غيرهم تغيير شيء ممخا صنعه الحجاج إلى الآن إلا في الميزاب والباب وعتبته: وكذا وقع الترميم في الجدار والسقف وسلم السطح غير مرة، وجدد فيها الرخام.
قال ابن جريج: أول من فرشها بالرخام الوليد بن عبد الملك، فالمتحصل من الآثار؛ كما أفاده الفتح والإرشاد والسبل وشفاء الغرام: أنها بنيت عشر مرات وقد علمتها وذكر بعضهم أن عبد المطلب بناها بعد قصي وقبل بناء قريش، قال الفاسي: ولم أر ذلك لغيره وأخشى أن يكون وهمًا، قال: واستمر بناء الحجاج إلى يومنا هذا وسيبقى على ذلك إلى أن تخر بها الحبشة وتقلعها حجرًا حجرًا؛ كما في الحديث، وقد قال العلماء: إن هذا البنيان لا يغير، انتهى. والله أعلم.
بسم الله الرحمن الرحيم
باب مبعث النبي صلى الله عليه وسلم:
"ولما بلغ صلى الله عليه وسلم أربعين سنة" قاله جمهور العلماء. السهيلي: هو الصحيح عند أهل السير والعلم بالأثر. النووي هو الصواب وهو المروي في الصحيحين عن ابن عباس وأنس، وروي أيضًا عن عطاء وابن المسيب وجبير بن مطعم، وقباث بن أشيم الصحابي. "وقيل: أربعين يومًا، وقيل: وعشرة أيام، وقيل: وشهرين" حكاه في الروض ممرضًا بلفظ: روي، وقيل: ويوم واحد، حكاه المنتقى.(1/385)
يوم الاثنين لسبع عشرة خلت من شهر رمضان, وقيل: لسبع، وقيل: لأربع وعشرين ليلة.
وقال ابن عبد البر: يوم الاثنين لثمان من ربيع الأول سنة إحدى وأربعين من الفيل. وقيل: في أول ربيع:
بعثه الله رحمة للعالمين........................
__________
وفي تاريخ يعقوب بن سفيان وغيره عن مكحول: أنه بعث بعد اثنتين وأربعين سنة.
وقال الواقدي وابن عاصم والدولابي: وهو ابن ثلاث وأربعين. وفي كتاب العتقي: ابن خمس وأربعين، قال مغلطاي: وجمع بأن ذلك حين حمى الوحي وتتابع.
وقال البهران: هما شاذان، والثاني أشد شذوذًا. وفي الفتح حديث ابن عباس: فمكث بمكة ثلاث عشرة أصح مما عند أحمد من وجه آخر عنه أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثلاث وأربعين فمكث بمكة عشرًا، وأصح مما أخرجه مسلم من وجه آخر عنه: أنه أقام بمكة خمس عشرة سنة. "يوم الاثنين لسبع عشرة خلت من شهر رمضان" رواه ابن سعد واقتصر عليه المصنف في إرشاده، "وقيل: لسبع" منه، "وقيل: لأربع وعشرين ليلة" من رمضان على ما في حديث واثلة الآتي، ثم كون البعث فيه هو قول الأكثر والمشهور عند الجمهور، قال الحافظان ابنا كثير وحجر وصححه الحافظ العلائي، قال في الفتح: فعلى الصحيح المشهور أن مولده في ربيع الأول يكون حين أنزل عليه ابن أربعين سنة وستة أشهر، وكلام ابن الكلبي يؤذن بأن ولد في رمضان، وبه جزم الزبير بن بكار وهو شاذ، انتهى.
"وقال ابن عبد البر" والمسعودي بعث "يوم الاثنين لثمان من ربيع الأول سنة إحدى وأربعين، من" عام "الفيل" وبه صدر ابن القيم، وعزاه للأكثرين، ثم حكى أنه كان في رمضان عكس النقل الأول، فعلى هذا يكون له أربعون سنة سواء، قاله الفتح.
وجمع بين النقلين: بما في حديث عائشة: أول ما بدئ به من الوحي الرؤيا الصالحة.
وحكى البيهقي: إن مدتها ستة أشهر فيكون نبئ بالرؤيا في ربيع الأول ثم أتاه جبريل في رمضان وحمل عليه بعضهم الرؤيا جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة؛ لأن مدة الوحي كانت ثلاثًا وعشرين سنة فيها ستة أشهر منام وذلك جزء من ستة وأربعين.
وأما الجمع بأن نزول {اقْرَأْ} [العلق: 1] في رمضان، وأول المدثر في ربيع، فاعترض بأن نزول المدثر بعد ثلاث سنين.
"وقيل: في أول ربيع بعثه الله رحمة للعالمين" أوحى إليه وأمره بتبليغ ما أوحاه فنزل ذلك(1/386)
ورسولا إلى كافة الثقلين أجمعين.
ويشهد لبعثه يوم الاثنين ما رواه مسلم عن أبي قتادة أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن صوم الاثنين فقال: "فيه ولدت وفيه أنزل عليّ".
وقال ابن القيم في "الهدى النبوي": واحتج القائلون بأنه كان في رمضان بقوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة: 185] . قالوا: أول ما أكرمه الله تعالى بنبوته أنزل عليه القرآن.
__________
منزلة الإرسال، فعبر عنه بالبعث مجازًا وإلا فحقيقة إرسال شخص من مكان لآخر يتعدى إليه الفعل بنفسه وإن وصل بنفسه كما هنا، وإلا فبالياء كبعثت بالكتاب عند أكثر اللغويين، وبه قطع المصباح.
"ورسولا إلى كافة الثقلين" الإنس والجن "أجمعين" وكأنه اقتصر عليهما؛ لأن آثار الإرسال إنما يتعلق بهما، والملائكة وإن كان مرسلا إليهم في الراجح غير مكلفين بشرعة وأشعر المصنف بتقارن الرسالة والنبوة، قال شيخنا: وهو الصحيح كما قال بعض مشايخنا، وقيل: النبوة متقدمة على الرسالة، وعليه ابن عبد البر وغيره، واقتصر عليه المصنف فيما يجيء.
"ويشهد لبعثه يوم الاثنين، ما رواه مسلم" مختصرًا من طريق مهدي بن ميمون عن غيلان عن عبد الله بن معبد، "عن أبي قتادة" الخزرجي السلمي الحارث بن ربعي بكسر الراء، شهد المشاهد، إلا بدرًا ففيها خلف "أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن صوم" يوم "الاثنين، فقال: "فيه ولدت، وفيه أنزل عليّ" ورواه مسلم قبل ذلك في حديث طويل من طريق شعبة عن غيلان عن ابن معبد عن أبي قتادة، بلفظ: وسئل عن صوم يوم الاثنين، فقال: "ذاك يوم ولدت فيه، ويوم بعثت فيه" أو قال: "أنزل عليّ فيه"، فصدق كل من المصنف والشامي في العزو لمسلم؛ لأنهما روايتان فيه.
"وقال ابن القيم في الهدي" بفتح الهاء وسكون الدال، "النبوي" يعني: كتابه زاد المعاد في هدي خير العباد؛ لأن تراجمه كلها يقول: هديه عليه السلام في كذا "واحتج القائلون بأنه كان في رمضان" وإن اختلفوا في تعيين، أي: يوم منه على ما مر.
وأما حديث واثلة: وأنزل الله القرآن لأربع وعشرين خلت من رمضان على تسليم أن المراد على المصطفى، فإنما هو دليل للقائل به إذ المعنى: احتج المتفقون على أنه كان في رمضان، "بقوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة: 185] ، أي: ابتدئ فيه إنزاله، "قالوا: أو ما أكرمه الله تعالى بنبوته أنزل عليه القرآن" وهو إنما أنزل في رمضان(1/387)
وقال آخرون: إنما نزل القرآن جملة واحدة في ليلة القدر إلى بيت العزة، ثم نزل نجومًا بحسب الوقائع في ثلاث وعشرين سنة.
__________
فيكون ابتداء نزوله فيه، "وقال آخرون: إنما أنزل القرآن جملة واحدة" من اللوح المحفوظ "في ليلة القدر إلى بيت العزة" في سماء الدنيا؛ كما جاء عن ابن عباس، فلا دلالة على الآية على أن ابتداء نزوله على المصطفى في رمضان ولا أن ابتداء نبوته فيه، لكن روى أحمد وابن جرير والطبراني والبيهقي عن واثلة مرفوعًا: "أنزلت صحف إبراهيم في أول ليلة من رمضان، وأنزلت التوراة لست مضين من رمضان، وأنزل الإنجيل لثلاث عشرة خلت من رمضان، وأنزل الزبور لثمان عشرة خلت من رمضان، وأنزل الله القرآن لأربع وعشرين خلت من رمضان"، قال الحافظ في الفتح: هذا الحديث مطابق لقوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة: 185] ، ولقوله: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر: 1] ، فيحتمل أن تكون ليلة القدر في تلك السنة كانت تلك الليلة فأنزل فيها جملة إلى سماء الدنيا، ثم أنزل في اليوم الرابع والعشرين، أي: صبيحتها إلى الأرض أول {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق: 1] ، انتهى. قال في الإتقان: لكن يشكل على ذا الحديث ما عند ابن أبي شيبة عن أبي قلابة، قال: أنزلت الكتب كاملة ليلة أربع وعشرين من رمضان، انتهى. ولا إشكال فالمقطوع لا يعارض المرفوع.
"ثم نزل نجومًا" قطعًا متفرقة؛ لأن كل جزء منه يسمى نجمًا، "بحسب الوقائع" خمس آيات وعشر أو أكثر وأقل، وصح نزول عشر آيات في قصة الإفك جملة، وصح نزول عشر آيات من أول المؤمنين جملة، وصح نزول {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} [النساء: 95] ، وحدها وهي بعض آية، وكذا: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً} [التوبة: 28] إلى آخر الآية، نزول بعد نزول أول الآية وذلك بعض آية، وأخرج ابن أبي شيبة عن عكرمة: أنزل الله القرآن نجومًا ثلاث آيات وأربع آيات وخمس آيات وما عند البيهقي عن عمر: تعلموا القرآن خمس آيات، خمس آيات؛ فإن جبريل كان ينزل بالقرآن على النبي صلى الله عليه وسلم خمسًا خمسًا.
ومن طريق ضعيف عن علي: أنزل القرآن خمسًا خمسًا إلا سورة الأنعام، فمعناه: إن صح إلقاؤه إلى النبي صلى الله عليه وسلم هذا القدر حتى يحفظه ثم يلقي الباقي لا إنزاله بهذا القدر خاصة، ويوضح ذلك ما عند البيهقي عن أبي العالية: كان صلى الله عليه وسلم يأخذ القرآن من جبريل خمسًا خمسًا، قاله في الإتقان.
"في ثلاث وعشرين سنة" على قول الجمهور: أنه صلى الله عليه وسلم بعث لأربعين وعاش ثلاثًا وستين، ولا ينافيه أن الفترة التي لم ينزل فيها القرآن بعد نزول {اقْرَأ} [العلق: 1] ثلاث سنين؛ لأنه نزل قبلها أول اقرأ فصدق أنه نزل ثلاث وعشرين سنة؛ لأنه لم يقل كان ينزل عليه كل يوم ولا كل(1/388)
....................................................................
__________
شهر، وقيل: نزل في عشرين بناء على أنه عاش ستين أو على إلغاء الفترة.
قال الأصفهاني: اتفق أهل السنة والجماعة على أن كلام الله منزل، واختلفوا في معنى الإنزال، فقيل: إظهار القراءة، وقيل: ألهم الله تعالى كلامه جبريل وهو في السماء وهو عال من المكان وعلمه قراءته، ثم جبريل أداه في الأرض وهو يهبط في المكان. وقال القطب الرازي: المراد بإنزال الكتب على الرسل أن يتلقفها الملك من الله تلقفًا روحانيًا أو يحفظها من اللوح المحفوظ وينزل بها فيلقيها عليهم، وقال غيره في المنزل على النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أقوال:
أحدها: اللفظ والمعنى وأن جبريل حفظ القرآن من اللوح المحفوظ كل حرف منها بقدر جبل قاف، وتحت كل حرف منها معان لا يحيط بها إلا الله.
الثاني: أن جبريل نزل بالمعاني خاصة وعلم صلى الله عليه وسلم تلك المعاني، وعبر عنها بلغة العرب لظاهر قوله: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ، عَلَى قَلْبِكَ} [الشعراء: 193، 194] .
الثالث: أن جبريل ألقى عليه المعنى وعبر بهذه الألفاظ بلغة العرب، وأن أهل السماء يقرءونه بالعربية، ثم نزل به كذلك بعد. ويؤيد الأول ما رواه الطبراني عن النواس بن سمعان مرفوعًا إذا تكلم الله بالوحي أخذت السماء رجفة شديدة من خوف الله فإذا سمع أهل السماء صعقوا وخروا سجدًا فيكون أولهم يرفع رأسه جبريل فيكلمه الله من وحيه بما أرادوا، وينتهي به على الملائكة كلما مر بسماء سأله أهلها: ماذا قل ربنا؟ قال: الحق، فينتهي به حيث أمر.
وقال البيهقي: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر: 1] ، يريد والله أعلم إنا أسمعنا الملك وأفهمناه إياه وأنزلناه بما سمع فيكون الملك متنقلا من علو إلى سفل، قال أبو ثمامة: هذا المعنى مطرد في جميع ألفاظ الإنزال المضافة إلى القرآن أو إلى شيء منه يحتاج إليه أهل السنة المعتقدون قدم القرآن وأنه صفة قائمة بذاته تعالى.
وقال العلامة الخوي، بضم الخاء المعجمة: كلام الله المنزل قسمان، قسم قال الله لجبريل: قل للنبي الذي أنت مرسل إليه إن الله يقول لك كذا وكذا، وأمر بكذا وكذا، ففهم جبريل ما قاله ربه ثم نزل على ذلك النبي، وقال له ما قال ربه ولم تكن العبارة تلك العبارة؛ كما يقول الملك لمن يثق به: قل لفلان يقول لك الملك: اجتهد في الخدمة واجمع جندك للقتال، فإن قال الرسول: يقول لك الملك لا تتهاون في خدمتي ولا تترك الجند يتفرق وحثهم على المقاتلة لا ينسب إلى كذب وتقصير في أداء الرسالة. وقسم آخر، قال الله لجبريل: اقرأ على النبي هذا الكتاب، فنزل بكلام الله من غير تغيير كما يكتب الملك كتابًا ويسلمه إلى أمين، ويقول: اقرأه على فلان، فهو لا يغير منه كلمة ولا حرفًا، انتهى.(1/389)
وقيل: كان ابتداء المبعث في رجب.
وروى البخاري في "التعبير" من حديث عائشة: "أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي....................................
__________
والقرآن هو القسم الثاني، والأول هو السنة، كما ورد أن جبريل كان ينزل بالسنة؛ كما ينزل بالقرآن. وقد رأيت ما يعضد كلامه، فروى ابن أبي حاتم عن الزهري أنه سئل عن الوحي، فقال: الوحي ما يوحي الله إلى نبي من أنبيائه فيثبته في قلبه فيتكلم به ويكتبه، وهو كلام الله ومنه ما لا يتكلم به ولا يكتبه لأحد ولا يأمر بكتابته ولكنه يحدث به الناس حديثًا ويبين لهم أن الله أمره أن يبينه للناس ويبلغهم إياه، قاله في الإتقان ببعض اختصار. وذكر في فتاويه عن شيخه الكافيجي أن التلقف الروحاني لا يكيف.
"وقيل: كان ابتداء المبعث في رجب" حكى مغلطاي وغيره من العتقي أنه بعث وهو ابن خمس وأربعين سنة لسبع وعشرين من رجب، قال شيخنا: فيحتمل أن هذا اليوم هو المراد لصاحب هذا القول وهو وضاح وإن ثبت أنه يقول: سنة خمس وأربعون سنة.
"وروى البخاري في" كتاب "التعبير" من صحيحه، وفي التفسير، وفي بدء الوحي والإيمان لكنه اختار ما في التعبير؛ لأن سياقه فيه أتم فذكر الحزن والتردي إلى آخر الحديث إنما هو فيه دون تلك المواضع ودون كتاب مسلم ولذا لم يعزه لهما.
وأما جعل نكتة ذلك أنه كان بصدد ما وقع له يقظة والآن بصدهه أوقع له قبل ذلك فناسب نقله من التعبير، فبادرة لا محصل لها والتعبير تفعيل من عبرت مشددًا، قال المصنف: وعبرت الرؤيا بالتخفيف هو الذي اعتمده الإثبات وأنكروا التشديد لكن أثبته الزمخشري اعتمادًا على بيت أنشده المبرد في الكامل لبعض الأعراب:
رأيت رؤيا ثم عبرتها ... وكنت للأحلام عبارًا
وقال غيره: يقال عبرت الرؤيا بالتخفيف إذا فسرتها وعبرتها بالتشديد للمبالغة، انتهى. وهو تفسير الرؤيا؛ لأنه يعبر من ظاهرها إلى باطنها والعبر والعبور الدخول والتجاوز، وقيل: لأنه ينظر فيها، ويعتبر بعضها ببعض حتى تفهم فهو من الاعتبار وسيأتي بسط القول فيه إن شاء الله تعالى في مقصد الرؤيا بحول الله وقوته.
"من حديث عائشة" مرسلا؛ لأنها لم تدرك ذلك الوقت فإنما سمعته من النبي صلى الله عليه وسلم أو صحابي آخر عنه، قال الحافظ تبعًا للطيبي: ويؤيد سماعها له منه قولها في أثناء الحديث، قال: فأخذني فغطني. "أول ما بدئ" بضم الموحدة وكسر المهملة فهمزة "به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي" أي: من أقسامه فمن للتبعيض، وقول القزاز لبيان الجنس: كأنها قالت: من جنس الوحي(1/390)
الرؤيا الصادقة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح. وكان يأتي حراء...................................
__________
وليست منه، أي: فهي مجاز علاقته المشابهة للوحي في أنه لا دخل للشيطان فيها رده عياض بحديث: "إنها جزء من النبوة".
"الرؤيا الصادقة" هكذا في التعبير والتفسير، أي: لا كذب فيها أو لا تحتاج لتعبير، أو ما يقع بعينه، أو ما يعبر في المنام، أو يخبر به صادق، وفي بدء الوحي ومسلم الصالحة، قال المصنف: وهما بمعنى بالنسبة إلى الآخرة في حق الأنبياء. وأما بالنسبة إلى أمور الدنيا، فالصالحة في الأصل أخص فرؤيا الأنبياء كلها صادقة، وقد تكون صالحة وهي الأكثر، وغير صالحة بالنسبة للدنيا كرؤيا يوم أحد، انتهى.
"في النوم" زيادة للإيضاح أو لتخرج رؤية العين يقظة مجازًا، قاله الحافظ وغيره ويأتي إن شاء الله تعالى. الخلاف فيه في الإسرء حيث تكلم فيه المصنف، ثم فلا نطيل به هنا. قال الحافظ: وبدء بذلك ليكون توطئة وتمهيدًا لليقظة، ثم مهد له في اليقظة أيضًا رؤية الضوء وسماع الصوت وسلام الحجر، انتهى.
"فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت" في بياتها، وللحموي والمستملي: إلا جاءته مجيئًا "مثل" فنصب نعت مصدر محذوف، "فلق" بفتحتين "الصبح" أي: شبيهة له في الضياء والوضوح أو التقدير مشبهة ضياء الصبح، فالنصب على الحال، وقدمه الفتح واقتصر عليه النور، وأكثر الشراح. وقال العيني: الأول أولى؛ لأنه مطلق والحال مقيد.
قال الحافظ: وخص بالشبه لظهوره الواضح الذي لا يشك فيه، أو للتنبيه على أنه لم يكن في باعث البشر أو كون ذلك من باعث الأفهام.
وقال المصنف: لأن شمس النبوة كانت مبادئ أنوارها الرؤيا إلى ظهور أشعتها وتمام نورها. وقال البيضاوي: شبه ما جاء في اليقظة ووجده في الخارج طبقًا لما رآه في المنام بالصبح في إنارته ووضوحه، والفلق: الصبح، لكنه لما استعمل في ذا المعنى وغيره أضيف إليه للتخصيص والبيان إضافة العام للخاص.
"وكان يأتي حراء" بكسر الحاء المهملة وتخفيف الراء والمد والتذكير والصرف على الصحيح، وحكى الفتح والقصر، وهي لغة مصروف على إرادة المكان ممنوع على إرادة البقعة، فيذكر ويؤنث جبل بينه وبين مكة نحو ثلاثة أميال على يسار الذاهب إلى منى، وزعم الخطابي خطأ المحدثين في قصره وفتح حائه والأربعة في قباء أيضًا، وجمعهما القائل:
حرا وقبا ذكر وأنثهما معا ... ومد أو اقصر واصرفن وامنع الصرفا(1/391)
فيتحنث فيه -وهو التعبد- الليالي ذوات العدد، ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فتزوده لمثلها، حتى فجأه..........................................
__________
"فيتحنث فيه" بحاء مهملة آخره مثلثة، أي: يتجنب الحنث، أي: الإثم فهو من الأفعال التي معناها السلب، وهو اجتناب فاعلها لمصدرها مثل تأثم وتحوب إذا اجتنب الإثم والحوب بضم المهملة، أي: الذنب العظيم أو هو بمعنى رواية ابن هشام في السيرة يتحنف بفاء خفيفة، أي: يتبع الحنيفية دين إبراهيم والفاء تبدل ثاء في كثير من كلامهم وقدمه الفتح.
وفي كتاب الأضداد للصغاني: تحنث إذا أتى الحنث وإذا تجنبه. "وهو التعبد" من تسمية المسبب باسم السبب على التفسير الأول؛ لأن التعبد سبب لإزالة الإثم وليس نفسه. وعلى الثاني ظاهر "الليالي" نصب على الظرفية متعلق بيتحنث لا بالتعبد؛ لأنه لا يشترط فيه الليالي بل مطلق التعبد، "ذوات العدد" مع أيامهن واقتصر عليهن تغليبًا؛ لأنهن أنسب للخلوة ووصفها بذلك للتقليل كما في دراهم معدودة أو للتكثير لاحتياجها إلى العدد، وهو المناسب للمقام والتفسير للزهري أدرجه في الخبر؛ كما جزم به الطيبي.
قال الحافظ: ورواه البخاري في التفسير تدل عليه وأبهم العدد لاختلافه بالنسبة إلى المدد التي يتخللها مجيئه إلى أهله، وللبخاري ومسلم جاورت بحراء شهرًا، ولابن إسحاق: أنه شهر رمضان، ولم يصح عنه أكثر منه. وروى سوار بن معصب: أربعين يومًا لكنه متروك الحديث، قال الحاكم وغيره. وفي تعبده قبل البعثة بشريعة أم لا قولان، الجمهور على الثاني. واختار ابن الحاجب والبيضاوي الأول ففي أنه بشريعة إبراهيم أو موسى أو عيسى أو نوح أو آدم أو بشريعة من قبله دون تعيين، أو بجميع الشرائع. ونسب للمالكية أو الوقف أقوال، ولم يأت تصريح بصفة تعبده بحراء، فيحتمل أنه أطلق على الخلوة بمجردها تعبد، فإن الانعزال عن الناس، ولا سيما من كان على باطل عبادة، وعن ابن المرابط وغيره كان يتعبد بالفكر، وهذا على قول الجمهور.
"ويتزود" بالرفع عطفًا على يتحنث، أي: يتخذ الزاد، "لذلك" أي: للتعبد، "ثم يرجع إلى خديجة، فتزوده لمثلها" أي: الليالي؛ كما اقتصر عليه الفتح في بدء الوحي ورجحه في التعبير وإن رجح غيره في التفسير لأن مدة الخلوة كانت شهرًا، فكان يتزود لبعض ليالي الشهر، فإذا نفد رجع إلى أهله فيتزود قدر ذلك، ولم يكونوا في سعة بالغة من العيش وكان غالب أدمهم اللبن واللحم ولا يدخر منه كفاية شهر لسرعة فساده، لا سيما وقد وصف بأنه كان يطعم من يرد عليه، وفيه أن الانقطاع الدائم عن الأهل ليس من السنة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم ينقطع بالغار بالكلية بل كان يرجع إلى أهله لضروراتهم، ثم يرجع لتحنثه.
"حتى" على بابها من انتهاء الغاية، أي: واستمر بفعل ذلك حتى "فجأه" بفتح الفاء وكسر(1/392)
الحق وهو في غار حراء.
فجاءه الملك فيه، فقال: اقرأ، $"فقلت ما أنا بقارئ...............................
__________
الجيم وتفتح؛ كما في الديباج فهمزة، أي: جاءه؛ كما في رواية بدء الوحي بغتة، فإنه لم يكن متوقعًا له "الحق" بالرفع صفة لمحذوف، أي: الأمر حق، وهو الوحي سمي حقًا لمجيئه من عند الله أو رسول الحق وهو جبريل فأصله الجر بتقديم مضاف لكنه حذف وأقيم مقامه، فأعطى على الإعراب، "وهو في غار حراء" فترك ذلك التحنث والجملة حالية، "فجاءه الملك" جبريل اتفاقًا "فيه" واللام لتعريف الماهية لا العهد، إلا أن يكون المراد: ما عهده عليه السلام لما كلمه في صباه أو اللفظ لعائشة وقصدت به ما يعهده من تخاطبه به.
قال الإسماعيلي: هي عبارة عما يعرف بعد أنه ملك وإنما الأصل فجاءه جاء وكان الجائي ملكًا فأخبر عنه المصطفى صلى الله عليه وسلم يوم أخبر بحقيقة جنسه، والحامل عليه أنه لم يتقدم له معرفة به، انتهى. وهو ظاهر ولا ينافيه أن اللفظ لعائشة؛ لأنها حكت ما سمعته وفاء، فجاءه تفسيرية؛ كقوله: {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 54] ، لا تعقيبية، قال الحافظ: لأن مجيء الملك ليس بعد مجيء الوحي حتى يعقب به بل هو نفسه ولا يلزم منه تفسير الشيء بنفسه بل التفسير عين المفسر به من جهة الإجمال وغيره من جهة التفصيل، انتهى. ولا سببية؛ لأن المسبب غير المسبب.
"فقال" له: "اقرأ" أمر لمجرد التنبيه والتيقظ لما سيلقى إليه أو على بابه من الطلب، فهو دليل على تكليف ما لا يطاق في الحال وإن قدر عليه بعد. قال الحافظ: وهل سلم قبل قوله: اقرأ، أم لا؟ وهو الظاهر؛ لأن المقصود حينئذ تفخيم الأمر وتهويله وابتداء السلام متعلق بالبشر لا الملائكة، وتسليمهم على إبراهيم؛ لأنهم كانوا في صورة البشر، فلا يرد هنا ولا سلامهم على أهل الجنة؛ لأن أمور الآخرة مغايرة لأمور الدنيا غالبًا نعم.
في رواية الطيالسي: أن جبريل سلم أولا لكن لم يرد أنه سلم عند الأمر بالقراءة، انتهى. "فقلت" هذه رواية الأكثر في البخاري في التعبير. وفي رواية أبي ذر فيه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: وفي بدء الوحي قال بدون فاء. وفي رواية: فيه، أي: بدء الوحي، قلت: بلا فاء أيضًا.
"ما أنا بقارئ" وجعل المصنف في التعبير متنه الأحمر رواية أبي ذر، وعقبها بقوله: ولغير أبي ذر، فقلت: "ما أنا بقارئ ما أحسن أن أقرأ"، انتهى. فلم ينتبه لذلك الشارح فوهم حيث أشار للاعتراض على المصنف هنا، بما حاصله: أن لفظ فقلت لما يقع في التعبير ولا بدء الوحي مع أنك قد علمت أن رواية الأكثر، وما نافية، وقيل: استفهامية وضعفه عياض وابن قرقول بدخول الباء في خبرها، وهي لا تدخل على ما الاستفهامية، وأجيب: بأن رواية أبي الأسود عن(1/393)
فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني، فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني، فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق: 1] " -حتى.......................
__________
عروة: "كيف أقرأ"؟. وابن إسحاق عن عبيد بن عمير: "ماذا أقرأ"؟. دلتا على أنها استفهامية وقد جوز الأخفش دخول الباء على الخبر المثبت، وجزم به ابن مالك في: بحسبك زيد، فجعل الخبر حسبك، والباء زائدة.
"فأخذني فغطني" بغين معجمة فطاء مهملة مشددة، أي: ضمني وعصرني. وفي رواية الطبري وابن إسحاق: "فغتني" بالتاء الفوقية، وهو حبس النفس، وللطيالسي بسند جيد: "فأخذ بحلقي" , "حتى بلغ مني الجهد". قال الحافظ: روي بالفتح والنصب، أي: بلغ الغط مني غاية وسعي، وروى بالضم والرفع، أي: بلغ مني الجهد مبلغه، "ثم أرسلني" أي: أطلقني "فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ" أي: حكمي كسائر الناس من أن حصول القراءة إنما هو بالتعلم وعدمه بعدمه فلذا كرر عظمه ليخرجه عن حكم سائر الناس، ويستفرغ منه البشرية ويفرغ فيه من صفات الملكية، قاله شارح المشكاة الطيبي.
"فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني، فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذن فغطني". كذا رواه الكشميهني ولغيره بحذف: فأخذني، "الثالثة، حتى بلغ مني الجهد" كذا ثبت الغلط ثلاثًا في التعبير والتفسير، وسقطت في بدء الوحي الثالثة، قال الحافظ: ولعل الحكمة في تكرير اقرأ، الإشارة إلى انحصار الإيمان الذي ينشأ عنه الوحي بسببه في ثلاث: القول والعمل والنية، وأن الوحي يشتمل على ثلاث التوحيد والأحكام والقصص، ويأتي حكمة الغط في كلام المصنف.
قال في الروض: وانتزع شريح القاضي التابعي أن لا يضرب الصبي إلا ثلاثًا على القرآن؛ كما غط جبريل محمدًا صلى الله عليه وسلم ثلاثًا، "ثم أرسلني، فقال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق: 1] "، استدل به القائل بأن البسملة ليست آية من كل سورة، فهذه أول سورة نزلت وليست فيها. وقال السهيلي: نزلت بعد ذلك مع كل سورة لا منها، وقد ثبتت في المصحف بإجماع الصحابة وما ذكره البخاري عن مصحف الحسن البصري شذوذ ولا نلتزم قول الشافعي: أنها آية من كل سورة، ولا أنها آية من الفاتحة بل آية من القرآن مقترنة مع السورة، وهو قول داود وأبي حنيفة، وهو قول بين لمن أنصف، انتهى. وهو اختيار له مخالف للمعتمد من مذهب مالك.
" {الَّذِي خَلَقَ} " وصف مناسب مشعر بعلية الحكم بالقراءة، "حتى" هي رواية أبي ذر ولغيره(1/394)
بلغ- {مَا لَمْ يَعْلَمِ} [العلق: 5] .
فرجع بها ترجف بوارده فؤاده، حتى دخل على خديجة، فقال: "زملوني زملوني". فزملوه حتى ذهب عنه الروع، فقال: "يا خديجة، ما لي"؟. وأخبرها الخبر، وقال: "قد خشيت على نفسي".
فقالت له: كلا.................................
__________
ثم "بلغ {مَا لَمْ يَعْلَمْ} فرجع بها" قال الحافظ: أي: بالآيات أو بالقصة، "ترجف" بضم الجيم تضطرب "بوارده" بفتح الموحدة وخفة الواو فألف فدال مهملة قراء، قال المصنف: جمع باردة وهي اللحمة بين العنق والمنكبين، وقال ابن بري: ما بين المنكب والعنق، أي: لا تختص بعضو واحد وذلك لما فجأه من الأمر المخالف للعادة إذ النبوة لا تزيل طباع البشرية كلها وفي بدء الوحي يرجف "فؤاده"، قال المصنف: أي قلبه أو باطنه أو غشاؤه، انتهى.
فعلى الثالث عدل عن القلب؛ لأن الغشاء إذا حصل له الرجفان حصل للقلب، ففي ذكره من تعظيم الأمر ما ليس في ذكر القلب.
"حتى دخل على خديجة" التي ألف تأنيسها له فأعلمها بما وقع له، "فقال: "زملوني زملوني" بكسر الميم مع التكرار مرتين من التزميل، وهو التلفيف، أي: غطوني بالثياب ولفوني بها، قال ذلك لشدة ما لحقه من هول الأمر والعادة جارية بسكون الرعدة بالتلفيف، "فزملوه" بفتح الميم، أي: لفوه، أي: خديجة ومن معها فلذا لم يؤنث أو خديجة وحدها وعبر بجمع الذكور للتعظيم؛ كقوله:
وإن شئت حرمت النساء سواكم
وقوله:
وكم ذكرتك لو أجزى بذكركم ... يا أشبه الناس كل الناس بالقمر
"حتى ذهب عنه الروع" بفتح الراء: الفزع، فقال: "يا خديجة ما" استفهام تعجب، أي: أي شيء ثبت "لي" حتى حصل لي ما حصل "وأخبرها الخبر" جملة حالية، وقال: "قد خشيت عليّ". بتشديد الياء في رواية الحموي والمستملي للصحيح في التعبير ولغيرهما كالتفسير وبدء الوحي على "نفسي". فقالت له, وفي بدء الوحي، فقالت خديجة: "كلا" نفي وإبعاد، أي: لا تقل ذلك أو لا خوف عليك بدليل رواية: فقالت: معاذ الله، قال الشامي: ومن اللطائف أن هذه الكلمة التي ابتدأت خديجة النطق بها عقب ما ذكر لها من القصة هي التي وقعت عقب الآيات،(1/395)
أبشر، فوالله لا يخزيك الله أبدًا، إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق.
__________
فجرت على لسانها اتفاقًا؛ لأنها لم تنزل إلا بعد في قصة أبي جهل على المشهور.
"أبشر" بقطع الهمزة أمر أيد به الخبر، والمقصود منه، تعجيل المسرة بالبشرى، أي: إني مبشرة لك بخير أو بأنك رسول الله، "فو الله لا يخزيك الله أبدًا" بضم أوله وسكون المعجمة وكسر الزاي فتحتية ساكنة، أي: لا يفضحك. وللكشميهني: يحزنك، بفتح أوله وسكون الحاء وضم الزاي؛ كما اقتصر عليه الحافظ، زاد المصنف وغيره: أو بضم أوله مع كسر الزاي وبالنون، يقال: حزنه وأحزنه أوقعه في بلية.
"إنك" بكسر الهمزة لوقوعها في الابتداء، قال الدماميني: فصلت هذه الجملة عن الأولى؛ لكونها جوابًا عن سؤال اقتضته، وهو عن سبب خاص، فحسن التأكيد وذلك أنها لما أثبتت القول بانتفاء الخزي عنه وأقسمت عليه، انطوى ذلك على اعتقادها أن ذلك بسبب عظيم فيقدر السؤال عن خصوصه حتى كأنه قيل هل سبب ذلك الإنصاف بمكارم الأخلاق ومحاسن الأوصاف؛ كما بشر إليه كلامك؟ فقالت: إنك "لتصل الرحم" أي: القرابة بالإحسان إليهم على حسب حال الواصل والموصول إليه، فتارة بالمال والخدم وبالزيارة وبالسلام وغير ذلك، "وتصدق الحديث" فما كذب قط ولا اتهم به قبل النبوة؛ كما اعترف به أو سفيان عند هرقل وكان حينئذ عدوه وثبتت هذه الخصلة في التعبير والتفسير وسقطت في بدء الوحي، وهي من أشرف الخصال. "وتحمل الكل" بفتح الكاف وشد اللام من لا يستقل بأمره كما قال تعالى: {وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ} [النحل: 76] ، أو الثقل بكسر المثلثة وسكون القاف.
وقال الداودي: الكل المنقطع ويدخل فيه الاتفاق على الضعيف واليتيم والعيال وغير ذلك من الكلال وهو الإعياء، زاد هنا في بدء الوحي؛ كمسلم وتكسب المعدوم بفتح التاء في الأشهر، وروي بضمها، أي: تعطي الناس ما لا يجدونه عند غيرك، فحذف أحد المفعولين، يقال: كسبت الرجل مالا وأكسبته بمعنى، أو ما يعجز عنه غيرك تصيبه وتكسبه ثم تجود به في الوجود التي ذكرت، وعلى رواية ضم التاء، قال الخطابي: الصواب المعدم بلا واو، ورده الحافظ بأنه لا يمتنع أن يطلق على المعدم المعدوم لكونه كالميت الذي لا تصرف له، فكأنها قالت: إذا رغب غيرك أن يستفيد مالا موجودًا رغبت أنت أن تستفيد رجلا عاجزًا فتعاونه، "وتقري الضيف" بفتح الفوقية من غير همز ثلاثيًا، قال الأبي: وسمع بضمها رباعيًا، أي: تهيئ له طعامه وتنزله، قال المصنف في بدء الوحي، وفيه إفادة أن الرواية الأول ولذا اقتصر عليه في التعبير. "وتعين على نوائب الحق" جمع نائبة، أي: حوادثه، وهذه جامعة لإفراد ما سبق ولغيره وقيدت بالحق؛(1/396)
ثم انطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى بن قصي، وهو ابن عم خديجة أخو أبيها -وكان امرأ تنصر في الجاهلية.................
__________
لأنها تكون فيه، وفي الباطل قال لبيد:
نوائب من خير وشر كلاهما ... فلا الخير ممدود ولا الشر لازب
أي: فلا يصيبك مكروه، لما جمع الله فيك من مكارم الأخلاق ومحاسن الشمائل، وفيه دلالة على أن ذلك سبب للسلامة من مصارع السوء ومدح الإنسان في وجهه لمصلحة تطرأ، وأما خبر: "احثوا في وجوه المداحين التراب"، ففي مدح بباطل أو يؤدي إلى باطل وتأنيس من حصلت له مخافة وتبشيره وذكر أسباب السلامة له، وكمال خديجة وجزالة رأيها وعظم فقهها فقد جمعت كل أنواع المحاسن وأمهاتها فيه عليه السلام؛ لأن الإحسان إما إلى الأقارب، وإما إلى الأجانب، وإما بالمال أو البدن، وإما لمن يستقل بأمره أو غيره، وإجابته بجواب فيه قسم وتأكيد بأن، واللام لتذهب حيرته ودهشته، واستدلت على ذلك بأمر استقرائي جامع لأصول المكارم.
"ثم" قبل أن تأتي به ورقة، انطلقت خديجة على ما عند سليمان التيمي وموسى بن عقبة حتى أتت غلامًا لعتبة بن ربيعة نصرانيًا من أهل نينوى بكسر النون وفتحها وتحتية ساكنة فنون، يقال عداس بفتح العين وشد الدال وبسين مهملات، فقالت له: أذكرك الله! إلا ما أخبرتني هل عندكم علم من جبريل؟ فقال عداس: قدوس قدوس يا سيدة نساء قريش، ما شأن جبريل يذكر بهذه الأرض التي أهلها أهل الأوثان؟ فقالت: أخبرني بعلمك فيه، قال: هو أمين الله بينه وبين النبيين وهو صاحب موسى وعيسى، فرجع من عنده، ثم "انطلقت به" أي: مضت معه فالباء للمصاحبة، قاله الحافظ، وسارت به "خديجة" مصاحبة له "حتى أتت به ورقة" بفتح الواو والراء والقاف.
"ابن نوفل" بفتح النون والفاء "ابن أسد بن عبد العزى" تأنيث الأعز، وهو الصنم "ابن قصي" بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي، وأنهى الحديث نسبة إلى قصي؛ لأنه الذي يشترك فيه مع المصطفى عليه السلام توفي ولم يعقب، ويأتي قريبًا الكلام في أنه صحابي عند قول المتن، وقيل: أول من أسلم ورقة. "وهو ابن عم خديجة" لأنها بنت خويلد بن أسد، وهو "أخو أبيها" بالرفع خبر مبتدأ محذوف ولابن عساكر أخي بالجر صفة لعم. وفائدته: رفع المجاز في إطلاق العم.
"وكان امرأ"ترك عبادة الأوثان و"تنصر" قال الحافظ: أي صار نصرانيًا، "في الجاهلية" وذلك أنه خرج هو وزيد بن عمرو بن نفيل لما كرها عبادة الأوثان إلى الشام وغيرها يسألون عن الدين، فأعجب ورقة النصرانية وكأنه لقي من بقي من الرهبان على دين عيسى ولذا أخبر(1/397)
وكان يكتب الكتاب العربي، فيكتب بالعربية من الإنجيل ما شاء الله أن يكتب -وكان شيخًا كبيرًا قد عمي- فقالت له خديجة: أي ابن عمي! اسمع من ابن أخيك، فقال ورقة: ابن أخي! ماذا ترى؟ فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم ما رأى، فقال له ورقة: هذا
__________
بشأنه صلى الله عليه وسلم والبشارة به إلى غير ذلك مما أفسده أهل التبديل، انتهى.
وذكر ابن عبد البر أنه تهود، ثم تنصر "وكان يكتب الكتاب العربي، فيكتب بالعربية" أي: باللغة العربية، "من الإنجيل ما شاء الله أن يكتب" أي: الذي شاء الله كتابته، فحذف العائد هكذا في التعبير؛ كمسلم. وفي بدء الوحي العبراني وبالعبرانية، فرجح الزركشي الرواية الأولى؛ لاتفاقهما. وجمع النووي وتبعه الحافظ بأنه تمكن من دين النصارى وكتابهم بحيث صار يتصرف في الإنجيل، فيكتب إن شاء بالعربية وإن شاء بالعبرانية انتهى. فعلم أن الإنجيل ليس عبرانيًا، قال الكراماني: وهو المشهور خلافًا للتيمي، انتهى. وإنما هو سرياني والتوراة عبرانية بكسر العين، قال الحافظ: وإنما وصفته بكتابة الإنجيل دون حفظه؛ لأن حفظ التوراة والإنجيل لم يكن متيسرًا كتيسر حفظ القرآن الذي خصت به هذه الأمة فلهذا جاء في صفتها أناجيلها في صدورها، انتهى.
"وكان شيخًا كبيرًا قد عمي، فقالت له خديجة: أي ابن عم! " نداء على حقيقته، ووقع في مسلم: أي عم، قال الحافظ: وهو وهم؛ لأنه وإن صح بجواز إرادة التوقير لكن القصة لم تتعدد ومخرجها متحد فلا يحمل على أنها قالت ذلك مرتين فتعين الحمل على الحقيقة، وإنما جوزنا ذلك في العبراني والعربي، لأنه من كلام الراوي في وصف ورقة، انتهى.
وفي اديباج: وعندي أنها قالت: ابن عم على حذف حرف النداء، فتصحفت ابن بأي، انتهى. "اسمع" بهمزة وصل "من ابن أخيك" تعني النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الأب الثالث لورقة وهو عبد العزى، هو الأخ للأب الرابع للمصطفى، وهو عبد مناف، كأنها قالت: من ابن أخي جدك، فهو مجاز بالحذف، قال الحافظ: أو لأن والده عبد الله في عدد النسب إلى قصي الذي يجتمعان فيه سواء، فكان من هذه الحيثية في درجة أخوته، أو قالته على سبيل التوقير لسنه، قال: وفيه إرشاد إلى أن صاحب الحاجة يقدم بين يديه من يعرف بقدره ممن يكون أقرب منه إلى المسئول، وذلك مستفاد من قولها، أرادت أن يتأهب لسماع كلامه، وذلك أبلغ في التعظيم.
"فقال ورقة: ابن أخي" بالنصب منادى مضاف، "ماذا ترى" قال الحافظ: فيه حذف دل عليه السياق، وصرح به في دلائل أبي نعيم بسند حسن بلفظ: فأتت به ورقة ابن عمها، فأخبرته بالذي رأى، فقال: ماذا ترى؟ "فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم ما رأى" وفي بدء الوحي خبر ما رأى، فهنا مضاف مقدر "فقال ورقة: هذا" أي: الملك الذي ذكره عليه السلام نزله منزلة القريب لقرب(1/398)
الناموس الذي أنزل على موسى، يا ليتني فيها جذعًا..........................
__________
ذكره؛ كما في الفتح.
"الناموس" بنون وسين مهملة وهو صاحب السر؛ كما جزم به البخاري في أحاديث الأنبياء، أي: مطلقًا عند الجمهور وهو الصحيح خلافًا لمن زعم أن صاحب سر الشر، يقال له الجاسوس، وقال ابن دريد: وهو صاحب سر الوحي، والمراد جبريل وأهل الكتاب يسمونه الناموس الأكبر "الذي أنزل" بالبناء للمفعول في التعبير والتفسير، وفي بدء الوحي: نزل الله، وللكشميهني: أنزل الله، "على موسى" لم يقل عيسى مع أنه كان نصرانيًا تحقيقًا للرسالة؛ لأن نزول جبريل على موسى متفق عليه بين أهل الكتاب بخلاف عيسى، فكثير من اليهود ينكر نبوته أو لاشتمال كتاب موسى على أكثر الأحكام؛ ككتاب نبينا بخلاف الإنجيل فأمثال ومواعظ، أو لأن النصارى يتبعون أحكام التوراة ويرجعون إليها.
قال الحافظ: أو لأن موسى بعث بالنقمة على فرعون وأتباعه بخلاف عيسى وكذلك وقعت النقمة على يده صلى الله عليه وسلم لفرعون هذه الأمة ومن معه ببدر، قال: وأما ما تمحل به السهيلي من أن ورقة كان على اعتقاد النصارى في عدم نبوة عيسى، ودعواهم أنه أحد الأقانيم فهو محال لا يعرج عليه في حق ورقة وأشباهه ممن لم يدخل في التبديل، أو أخذ عمن لم يبدل على أن قد ورد عند الزبير بن بكار بلفظ عيسى، ولا يصح نعم لأبي نعيم في الدلائل بسند حسن: أن خديجة أتت ابن عمها ورقة فأخبرته الخبر، فقال: إن كنت صدقتني، إنه ليأتيه ناموس عيسى الذي لا يعلمه بنو إسرائيل أبناءهم فعلى هذا فكان ورقة يقول تارة ناموس موسى، فعند إخبار خديجة له بالقصة، قال لها: ناموس عيسى، بحسب ما هو فيه من النصرانية، وعند إخبار النبي صلى الله عليه وسلم، قال له ناموس موسى، والكل صحيح، انتهى.
"يا ليتني" أكون "فيها" أي: مدة النبوة أو الدعوة، "جذعًا" بفتح الجيم والمعجمة شابًا، فالنصب وهو المشهور في الصحيحين خبر أكون المقدرة، كذا أعربه الخطابي والمازري وابن الجوزي على رأي الكوفيين في نحو: انتهوا خيرًا لكم وضعف بأن كان لا تضمر إلا إذا كان في الكلام لفظ يقتضيها، نحو: إن خيرًا فخير، أو على الحال من الضمير المستكن في خبر ليت، وهو فيها، أي: كائن فيها حال التشبيه والقوة لأبالغ في نصرك، ورجحه عياض ثم النووي وعزاه للمحققين.
قال السهيلي: والعامل في الحال ما يتعلق به الخبر من معنى الاستقرار أو على أن ليت تنصب الجزأين؛ كقوله:
يا ليت أيام الصبا رواجعًا(1/399)
ليتني أكون حيًا حين يخرجك قومك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أو مخرجي هم"؟. فقال
__________
وقال ابن بري: بفعل محذوف، والتقدير: يا ليتني جعلت، ورواه الأصيلي في البخاري وابن ماهان في مسلم بالرفع خبر ليت. قال ابن بري: المشهور عند أهل اللغة: والحديث جذع بسكون العين، قال السيوطي: هو رجز مشهور عندهم يقولون:
يا ليتني فيها جذع ... أخب فيها واضع
"ليتني أكون حيًا حين يخرجك قومك" هكذا هو في التعبير بلفظ: حين، وفي بدء الوحي: إذ بدلها باستعمال إذا في المستقبل تنزيلا له منزلة الماضي؛ لتحقق وقوعه، كقوله: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ} [مريم: 39] ، قال الحافظ: فيه دليل على جواز تمني المستحيل إذا كان في خير؛ لأن ورقة تمنى أن يعود شابًا وهو مستحيل عادة ويظهر لي أن التمني ليس على بابه بل المراد التنبيه على صحة ما أخبر به، والتنويه بقوة تصديقه فيما يجيء به، انتهى.
وقيل: هو تحسر لتحققه عدم عود الشباب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أو" بفتح الواو "مخرجي" بشد الياء مفتوحة خبر مقدم لقوله "هم" جمع مخرج، قاله ابن مالك، وأصله مخرجون لي حذفت اللام تخفيفًا ونون الجمع للإضافة إلى ياء المتكلم، فصار: أو مخرجي اجتمعت الواو والياء وسبقت الواو بالسكون، فقلبت ياء، ثم أدغمت في ياء المتكلم وقلبت الضمة كسرة لمناسبة الياء والهمزة للاستفهام، ولم يقل: أو مخرجي مع أن الأصل أن يجاء بالهمزة بعد العاطف، نحو: فأين تذهبون لاختصاص الهمزة بتقديمها على العاطف تنبيهًا على أصالتها، نحو: أو لم يسيروا، هذا مذهب سيبويه والجمهور.
وقال الزمخشري وجماعة: الهمزة في محلها الأصلي والعطف على جملة مقدرة بينها وبين العاطف، والتقدير: أمعادي هم ومخرجي هم، وإذا دعت الحاجة لمثل هذا التقدير فلا يستنكر وعطفه مع أنه إنشاء على قول ورقة: حين يخرجك قومك، وهو خبر؛ لأن الأصح كما قال المصنف: جوازه عند النحويين وإنما منعه البيانيون، فاحتاجوا للتقدير المذكور فالتركيب سائغ عند الجميع. وأما كونه عطف جملة على جملة والمتكلم مختلف، فسائغ معروف في القرآن والكلام الفصيح: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} [البقرة: 124] ، ثم الاستفهام إنكاري؛ لأنه استبعد صلى الله عليه وسلم إخراجه من الوطن لا سيما حرم الله وبلد أبيه إسماعيل من غير سبب يقتضيه، فإنه كان جامعًا لأنواع المحاسن المقتضية لإكرامه وإنزاله منهم منزلة الروح من الجسد ويؤخذ منه؛ كما قال السهيلي: إن مفارقة الوطن(1/400)
ورقة: نعم، لم يأت رجل قط بما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرًا مؤزرًا.
ثم لم ينشب ورقة أن توفي..............................................
__________
على النفس شديدة لإظهاره الانزعاج لذلك، بخلاف ما سمعه من ورقة من إيذائهم وتكذيبهم له، ففي مرسل عبيد بن عميران ورقة قال له: لتكذبنه ولتؤذينه ولتقاتلنه، بهاء السكت.
"فقال ورقة: نعم لم يأت رجل قط" بفتح القاف وشد الطاء مضمومة في أفصح اللغات ظرف لاستغراق الماضي، فتختص بالنفي "بما" وللكشميهني في التعبير كبدء الوحي: بمثل ما "جئت به إلا عودي" وفي التفسير: إلا أوذي، ذكر ورقة أن علة ذلك مجيئه لهم بالانتقال عن مألوفهم، ولأنه علم من الكتب أنهم لا يجيبونه وأنه يلزم ذلك منابذتهم فتنشأ العداوة، وفيه دليل على أنه يلزم المجيب إقامة الدليل على جوابه إذا اقتضاه المقام.
"وإن يدركني" بالجزم بأن الشرطية، "يومك" فاعل يدرك، أي: يوم انتشار نبوتك، زاد في التفسير: حيًا، "أنصرك" بالجزم جواب الشرط "نصرًا" بالنصب على المصدرية، ووصفه بقوله: "مؤزرًا" بضم الميم وفتح الزاي المشددة آخره راء مهموز من الأزر، أي: قويًا بليغًا وإنكار القزاز الهمز لغة رد بقول الجوهري، أزرت فلانًا عاونته، والعامة تقول: وأزرته، وقال أبو شامة: يحتمل أنه من الإزار إشارة إلى تشميره في نصرته، قال الأخطل:
قوم إذا حاربوا شدوا مآزرهم
البيت. وفي رواية ابن إسحاق من مرسل عبيد بن عميران: أدرك ذلك اليوم. قال السهيلي: والقياس رواية الصحيح؛ لأن ورقة سابق بالوجود والسابق هو الذي يدركه من يأتي بعده، كما جاء: أشقى الناس من أدركته الساعة وهو حي، قال: ولرواية ابن إسحاق وجه؛ لأن المعنى إن أر ذلك اليوم فسمى روايته إدراكًا، وفي التنزيل: لا تدركه الأبصار رأى لا تراه على أحد القولين، انتهى.
"ثم لم ينشب" بفتح التحتية والمعجمة، أي: لم يلبث "ورقة" بالرفع فاعل ينشب، "أن توفي" بفتح الهمزة وخفة النون بدل اشتمال من ورقة، أي: لم تتأخر وفاته، وتجويز أن محله جر بجار مقدر، أي: عن الوفاة أو نصب بنزع الخافض لا يلتفت إليه إذ الأول شاذ، والثاني مقصور على السماع، فلا يخرج عليه كلام الفصحاء، قال الحافظ: وأصل النشوب التعلق، أي: لم يتعلق بشيء من الأمور حتى مات، وهذا يخالف ما في سيرة ابن إسحاق: إن ورقة كان يمر ببلال وهو يعذب ذلك يقتضي تأخيره إلى زمن الدعوة ودخول بعض الناس في الإسلام، فإن تمكنا بالترجيح(1/401)
وفتر الوحي فترة حتى حزن النبي صلى الله عليه وسلم فيما بلغنا حزنًا غدا منه مرارًا كي يتردى من رءوس شواهق الجبال، فكلما أوفى بذروة جبل لكي يلقي نفسه منه، تبدى له جبريل فقال: "يا محمد إنك رسول الله حقًا، فيسكن لذلك جأشه، وتقر نفسه
__________
فما في الصحيح أصح، وأن لحظنا الجمع أمكن أن الواو في: وفتر الوحي، ليست للترتيب ولعل الراوي لم يحفظ لورقة ذكرًا بعد ذلك في أمر من الأمور فجعل هذه القصة انتهاء أمره بالنسبة إلى علمه لا إلى ما هو الواقع، انتهى.
واعتمد هذا في الإصابة، وأول قوله: أن توفي بأن معناه قبل اشتهار الإسلام والأمر بالجهاد، انتهى. وقد أرخ الخميس موت ورقة في السنة الثالثة من النبوة، وقيل: الرابعة. وأما قول الواقدي إنه قتل ببلاد لخم وجذام بعد الهجرة فغلط بين، فإنه دفن مكة؛ كما نقله البلاذري وغيره.
"وفتر الوحي" أي: احتبس جبريل عنه بعد أن بلغه النبوة، "فترة" سيذكر المصنف قدرها، حتى حزن" بكسر الزاي "النبي صلى الله عليه وسلم فيما بلغنا" جزم عياض بأن هذا قول معمر وخالفه السيوطي والمصنف تبعًا للحافظ، وقالوا: هو شيخه الزهري، "حزنًا غدا" بغين معجمة من الذهاب، وبمهملة من الغدو وهو الذهاب بسرعة "منه" أي: الحزن "مرارًا كي يتردى" يسقط "من رءوس شواهق الجبال" أي: طوالها جمع شاهق وهو العالي الممتنع.
وعند ابن سعد من حديث ابن عباس: مكث أيامًا بعد مجيء الوحي لا يرى جبريل فحزن حزنًا شديدًا حتى كان يغدو إلى ثبير مرة وإلى حراء أخرى يريد أن يلقي نفسه، "فكلما أوفى" بفتح الهمزة وسكون الواو: أشرف، "بذروة" بكسر الذال المعجمة وتفتح وتضم: أعلى، "جبل لكي يلقي نفسه" إشفاقًا أن تكون الفترة لأمر أو سبب "منه" فخشي أن تكون عقوبة من ربه، ففعل ذلك بنفسه ولم يرد بعد شرع بالنهي عنه فيعترض به أو لما أخرجه من تكذيب من بلغه؛ كما قال تعالى: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ} [الكهف: 6] الآية، ذكرهما عياض.
وقول المصنف: أو حزن على ما فاته من بشارة ورقة، ولم يخاطب عن الله بأنه رسول الله ومبعوث إلى عباده فيه أن في مرسل عبيد بن عمير عند ابن إسحاق: أنه ناداه: أنت رسول الله وأنا جبريل بعد الغط، وقبل أن يأتي إلى خديجة. "تبدى له جبريل، فقال: يا محمد، إنك رسول الله حقًا" وفي حديث ابن عباس عند ابن سعد: فبينما هو عامد لبعض تلك الجبال إذ سمع صوتًا فوقف فزعًا ثم رفع رأسه فإذا جبريل على كرسي بين السماء والأرض متربعًا، يقول: يا محمد، أنت رسول الله حقًا وأنا جبريل، "فيسكن لذلك جأشه" بجيم فهمزة ساكنة، ويجوز تسهيلها فشين معجمة، أي: اضطراب قلبه، "وتقر" بفتح الفوقية والقاف، "نفسه"(1/402)
فيرجع، فإذا طالت عليه فترة الوحي غدا لمثل ذلك، فإذا أوفى بذروة جبل تبدى له جبريل، فقال له مثل ذلك".
وقد تكلم العلماء في معنى قوله عليه السلام لخديجة: "قد خشيت علي" فذهب الإسماعيلي إلى أن هذه الخشية كانت منه قبل أن يحصل له العلم الضروري بأن الذي جاءه ملك من عند الله. وكان أشق شيء عليه أن يقال عليه مجنون.
__________
والعطف تفسيري "فيرجع، فإذا طالت عليه فترة الوحي غدا لمثل ذلك، فإذا أوفى بذروة جبل تبدى".
وفي رواية: بدا في الموضعين بدل تبدى "له جبريل، فقال له مثل ذلك" يا محمد، إنك رسول الله حقًا، وهذا البلاغ ليس بضعيف؛ كما ادعى عياض متمسكًا بأنه لم يسنده؛ لأن عدم إسناده لا يقدح في صحته بل الغالب على الظن أنه بلغه من الثقات؛ لأنه ثقة ثم إن معمرًا لم ينفرد به عن الزهري بل تابعه عليه يونس بن يزيد عند الدولابي، ورواه ابن سعد من حديث ابن عباس بنحوه، وفي بعض النسخ السقيمة هنا، وفي رواية أبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني، قال: جاورت بحراء شهرًا، فذكر حديث جابر الآتي إلى قوله: ولم تكن الرجفة هي خطأ محض لتكررها مع الآتي وقصر عزوها لأبي داود مع أنه أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي، والذي في النسخ الصحيحة المقروءة: إنما هو ما يأتي لا ما هنا ولم يتعرض شيخنا لهذا إنما كتب على الآتي وأيضًا فالمناسب ذكره، ثم لأنه شرع هنا يتكلم على بعض حديث البخاري، فقال: "وقد تكلم العلماء في معنى قوله عليه السلام لخديجة: "قد خشيت علي" لأن ظاهره مشكل لاقتضائه الشك في أن ما أتاه من الله ولا يجوز بمقامه صلى الله عليه وسلم فهو محتاج للتكلم في معناه، فاختلفوا فيه على اثني عشر قولا، "فذهب" الإمام الحافظ الثبت، أبو بكر أحمد بن إبراهيم بن إسماعيل بن العباس "الإسماعيلي" الجرجاني، قال الحاكم: كان واحد عصره وشيخ المحدثين والفقهاء وأجلهم رئاسة ومروءة وسخاء، علا إسناده وتفرد ببلاد العجم، ومات في رجب سنة إحدى وسبعين وثلاثمائة.
"إلى" حمله على ظاهره ولا ضير فيه لجواز "إن هذه الخشية كانت منه قبل أن يحصل له العلم الضروري بأن الذي جاءه ملك من عند الله" وأما بعد وصوله فلا "وكان أشق" بالنصب خبر "شيء عليه" والاسم "أن يقال" أي: قولهم، "عليه مجنون" فكان يكره ذلك في نفسه، وإن لم يقل عليه حينئذ، فإنهم إنما قالوه بعد دعائهم إلى الإيمان تنفيرًا للناس عنه، أو علم بنور أودعه الله في قلبه، أنه يقال عليه.(1/403)
وقيل: إن خشيته كانت من قومه أن يقتلوه، ولا غرو، فإنه بشر يخشى من القتل والأذية، كما يخشى البشر.
وقوله: "ما أنا بقارئ" أي: أنا أمي فلا أقرأ الكتب.
__________
وحاصل هذا القول ما لخصه الحافظ، بقوله: أولها أنه خشي الجنون وأن يكون ما جاءه من جنس الكهانة جاء مصرحًا به في عدة طرق، وأبطله أبو بكر بن العربي وحق له أن يبطل، لكن حمله الإسماعيلي على ذلك، انتهى.
قال السهيلي: ولم ير الإسماعيلي أن هذا محال في مبدأ الأمر؛ لأن العلم الضروري لا يحصل دفعة واحدة وضرب مثلا بالبيت من الشعر تسمع أوله فلا تدري أنظم هو أم نثر، فإذا استمر الإنشاد علمت قطعًا أنه قصد به الشعر، كذلك لما استمر الوحي واقترنت به القرائن المقتضية للعلم القطعي، وقد أثنى الله عليه بهذا العلم، فقال: {آمَنَ الرَّسُولُ} [البقرة: 285] إلى قوله: {وَرُسُلِهِ} [البقرة: 285] .
"وقيل: إن خشيته كانت من قومه أن يقتلوه" وإن كان عالمًا بأن ما جاءه من ربه، "ولا غرو" بغين معجمة مفتوحة فراء فواو: ولا عجب في خشيته ذلك، وإن كان سيد أهل اليقين؛ لأن ذلك مما يرجع للطبع. "فإنه بشر يخشى من القتل والأذية كما يخشى البشر" ثم يهون عليه الصبر في ذات الله كل خشية ويجلب إلى قلبه كل شجاعة وقوة قاله في الروض.
ثالثها: خشي الموت من شدة الرعب. رابعها: تعييرهم إياه، قال الحافظ: وهذان أَولى الأقوال بالصواب، وأسلمها من الارتياب وما عداهما معترض؛ خامسها خشي المرض، وبه جزم ابن أبي جمرة. سادسها: دوامه. سابعها: العجز عن رؤية الملك من الرعب. ثامنها: مفارقة الوطن. تاسعها: عدم الصبر على أذى قومه. اشرها: تكذيبهم إياه. حادي عشرها: مقاومة هذا الأمر وحمل أعباء النبوة، فتزهق نفسه أو ينخلع قلبه لشدة ما لقيه أولا عند لقاء الملك. ثاني عشرها: إنه هاجس، قال الحافظ: وهو باطل؛ لأنه لا يستقر وهذا استقر وحصلت بينهما المراجعة. وأما قول عياض: هذا أول ما رأى التباشير في النوم واليقظة وسمع الصوت قبل لقاء الملك وتحقق رسالة ربه، أما بعد أن جاءه بالرسالة، فلا يجوز عليه الشك فضعفه النووي بأنه خلاف تصريح الحديث، بأن هذا بعد الغط وإتيانه: {اقْرَأْ} [العلق: 1] ، وأجاب العيني: بأن مراده إخبارها بما حصل له؛ لأنه خاف حال الإخبار فلا يكون ضعيفًا.
وقوله: "ما أنا بقارئ". أي: إني أمي، فلا أقرأ الكتب, فما نافية لا استفهامية لوجود الباء في الخبر، وإن جوزه الأخفش فهو شاذ والباء زائدة لتأكيد النفي، أي: ما أحسن القراءة. قال السهيلي: فلما قال ذلك ثلاثًا، قيل له: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق: 1] ، أي: لا بقوتك ولا(1/404)
وقال القاضي عياض: إنما ابتدئ عليه السلام بالرؤيا، لئلا يفجأه الملك ويأتيه صريح النبوة بغتة فلا تحتملها قوى البشر، فبدئ بأوائل خصال النبوة وتباشير الكرامة. انتهى.
فإن قلت: فلم كرر قوله: "ما أنا بقارئ" ثلاثًا؟
فأجاب أبو شامة كما في فتح الباري: بأن يحمل قوله أولا على الامتناع، وثانيًا: على.........................................................
__________
بمعرفتك لكن بحول ربك وإعانته، فهو يعلمك كما خلقك وكما نزع علق الدم ومغمز الشيطان منك في الصغر بعدما خلقه فيك كما خلقه في كل إنسان؛ فالآيتان المتقدمتان لمحمد صلى الله عليه وسلم والأخريان لأمته، وهما: {الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 4، 5] ؛ لأنها كانت أمة أمية لا تكتب، فصاروا أهل كتاب وأصحاب قلم، فتعلموا القرآن بالقلم وتعلمه نبيهم تلقيا من جبريل عليهما السلام.
"وقال القاضي عياض وغيره: إنما ابتدئ عليه السلام بالرؤيا لئلا يفجأه الملك ويأتيه صريح النبوة بغتة، فلا تحتملها قوى البشر، فبدئ بأوائل خصال النبوة وتباشير الكرامة" من المرائي الصادقة الصالحة الدالة على ما يئول إليه أمره.
وقد روى ابن إسحاق في مرسل عبيد بن عمير: "جاءني جبريل وأنا نائم بنمط من ديباج فيه كتاب، قال: اقرأ، فقلت: ما أقرأ، فغتني حتى ظننت أنه الموت". وذكر أنه فعل به ذلك ثلاث مرات، وهو يقول: "ما أقرأ ما أقول ذلك إلا افتداء منه أن يعود لي بمثل ما صنع، فقال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق: 1] إلى قوله: {مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 5] ، فقرأتها ثم انصرف عني، وهببت من نومي، فكأنما كتبت في قلبي كتابًا". فذكر الحديث. وذكر السهيلي عن بعض المفسرين: أن الإشارة في قوله تعالى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ} [البقرة: 2] ، للذي جاء به جبريل حينئذ، "انتهى".
واعترض على المصنف بأن الأولى تقديم هذا على قوله تكلم العلماء، ورده شيخنا بأن الغرض منه بيان ما يوهم خلاف المراد، فكان الاعتناء ببيانه أهم. "فإن قلت: فلم كرر قوله: "ما أنا بقارئ" ثلاثًا، فأجاب" الأولى حذف الفاء؛ كما في الفتح.
"أبو شامة" الإمام الحافظ العلامة أبو القاسم عبد الرحمن بن إسماعيل بن إبراهيم بن عثمان المقدسي ثم الدمشقي، الشافعي المقرئ النحوي المتوفى تاسع عشر رمضان سنة خمس وستين وستمائة، ومولده سنة تسع وتسعين وخمسمائة.
"كما في فتح الباري" بأن ذلك لحكمة "بأن يحمل قوله أولا على الامتناع، وثانيًا: على(1/405)
الإخبار بالنفي المحض، وثالثًا: على الاستفهام.
والحكمة من الغط ثلاثًا، شغله عن الالتفات لشيء آخر، وإظهاره الشدة والجد في الأمر، تنبيهًا على ثقل القول الذي سيلقى إليه.
وقيل: إبعادًا لظن التخيل والوسوسة، لأنهما ليسا من صفات الجسم، فلما وقع ذلك بجسمه علم أنه من أمر الله.
فإن قلت: من أين عرفه صلى الله عليه وسلم أن جبريل ملك من عند الله، وليس من الجن؟ فالجواب من وجهين:
أحدهما: أن الله تعالى أظهر على يدي جبريل عليه السلام معجزات عرفه بها............
__________
الإخبار بالنفي المحض، وثالثًا: على الاستفهام" بدليل روايتي: "كيف أقرأ"؟. "وماذا أقرأ"؟. كما مر، فهو حجة للأخفش في جواز دخول الباء في الخبر المثبت، وبه جزم بعض الشراح ومرت حكمة تكرير اقرأ، "والحكمة من الغط ثلاثًا شغله عن الالتفات لشيء آخر، وإظهاره الشدة والجد في الأمر" وأن يأخذ الكتاب بقوة "تنبيهًا على ثقل القول" القرآن "الذي سيلقى إليه" فإنه لما فيه من التكاليف ثقيل على المكلفين، سيما النبي صلى الله عليه وسلم فإنه كان يتحملها ويحملها أمته، قاله البيضاوي.
"وقيل: إبعادًا لظن التخيل والوسوسة" اللذين ظنهما عليه الصلاة والسلام قبل؛ كما في رواية يونس عن ابن إسحاق بسنده إلى أبي ميسرة عمرو بن شرحبيل: أنه صلى الله عليه وسلم قال لخديجة: "إني إذا خلوت وحدي سمعت نداء، وقد خشيت والله أن يكون لهذا أمر"، قالت: معاذ الله، ما كان الله ليفعل بك ذلك، إنك لتؤدي الأمانة وتصل الرحم وتصدق الحديث. "لأنهما ليسا من صفات الأجسام، فلما وقع ذلك" الغط ثلاثًا "بجسمه علم أنه من أمر الله" فاطمأن، وقيل: الغطة الأولى للتخلي عن الدنيا، والثانية: لما يوحى إليه، والثالثة: للمؤانسة.
وقيل: إشارة إلى الشدائد الثلاث التي وقعت له وهي الحصر في الشعب وخروجه إلى الهجرة وما وقع يوم أحد، وفي الإرسالات الثلاث إشارة إلى حصول الفرج والتيسير له عقب الثلاث أو في الدنيا والبرزخ والآخرة. وقيل: للمبالغة في التنبيه، ففيه أنه ينبغي للمعلم الاحتياط في تنبيه المتعلم وأمره بإحضار قلبه. "فإن قلت: من أين عرف صلى الله عليه وسلم أن جبريل ملك من عند الله، وليس من الجن" وبم عرف أنه حق لا باطل؟ "فالجواب من وجهين أحدهما" يجوز "أن الله تعالى أظهر على يدي جبريل عليه السلام معجزات عرفه بها" ولم تذكر لأنها مما لا تحيط(1/406)
كما أظهر الله تعالى على يدي محمد صلى الله عليه وسلم معجزات عرفناه بها.
وثانيهما: أن الله خلق في محمد صلى الله عليه وسلم علمًا ضروريًا بأن جبريل من عند الله ملك لا جني ولا شيطان، كما أن الله تعالى خلق في جبريل علمًا ضروريًا بأن المتكلم معه هو الله تعالى، وأن المرسل له ربه تعالى لا غيره.
وقول ورقة: يا ليتني فيها جذعًا. الضمير للنبوة، أي: ليتني كنت شابًا عند ظهورها حتى أبالغ في نصرتها وحمايتها. وأصل الجذع:.........................
__________
بها عقولنا أو لا يتعلق لنا بها غرض.
"كما أظهر الله تعالى على يدي محمد صلى الله عليه وسلم معجزات عرفناه بها" وعلى هذا اقتصر في الكوكب وعمدة القارئ "وثانيهما: أن الله خلق في محمد صلى الله عليه وسلم علمًا ضروريًا بأن جبريل من عند الله ملك لا جني ولا شيطان" عطف مباين بالصفة على ما ذكر الحافظ: أن من كان كافرًا سمي شيطانًا وإلا فهو جني أو بالذات على ما في المقاصد أن الغالب على الجن عنصر الهواء وعلى الشياطين عنصر النار، "كما أن الله تعالى خلق في جبريل علمًا ضروريًا بأن المتكلم معه هو الله تعالى، وأن المرسل له ربه تعالى لا غيره" ولعل الثاني أولى "وقول ورقة: يا ليتني فيها جذعًا الضمير للنبوة" أي: مدة النبوة، زاد الحافظ: أو الدعوة والعيني أو الدولة، واستشكل هذا النداء، بأن لا منادى ثم يطلب إقباله بيا وبأن ليت حرف النداء، لا يدخل على، فجعل أبو البقاء والأكثر المنادى محذوفًا، أي: يا محمد! وضعفه ابن مالك بأن قائل ليتني قد يكون وحده، فلا يكون معه منادى؛ كقول مريم: {يَا لَيْتَنِي مِتُّ} ، وأجيب بأنه يجوز أن يجرد من نفسه نفسًا يخاطبها كأن مريم قالت: يا نفسي ليتني، فكذا يقدر هنا.
وضعف ابن مالك دعوى الحذف أيضًا؛ بأنه إنما يجوز إذا كان الموضع الذي ادعى فيه حذفه مستعملا فيه ثبوته كحذف المنادى قبل أمر، نحو: "ألا يا اسجدوا". في قراءة الكسائي، أي: يا قوم أو دعاء، نحو: ألا يا سلمى، أي: ألا يا دار فحسن حذف المنادى قبلها اعتياد ثبوته، نحو: {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ} ، {يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ} ، بخلاف ليت فلم تستعمله العرب ثابتًا قبلها، فادعاء حذفه باطل ورده العيني بأنه لا ملازمة بين جواز الحذف وبين ثبوت استعماله، قلت: وهو رد لين والذي اختاره ابن مالك أن يا هذه لمجرد التنبيه مثل: ألا في: ألا ليت شعري، هو الوجيه.
وفسر جذعًا بقوله: "أي: ليتني كنت شابًا عند ظهورها حتى أبالغ في نصرتها وحمايتها" بنصرك وحمايتك، وفي مرسل عبيد بن عمير: لئن أنا أدركت ذلك اليوم لأنصرن الله نصرًا يعلمه، "وأصل الجذع" قال ابن سيده: مفرد جذعان وجذاع بالكسر والضم وأجذاع، قال(1/407)
من أسنان الدواب، وهو ما كان منها شابًا فتيا.
وأخرج البيهقي من طريق العلاء بن جارية الثقفي عن بعض أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أراد الله كرامته وابتداءه بالنبوة كان لا يمر بحجر ولا شجر إلا سلم عليه وسمع منه، فيلتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم خلفه وعن يمينه وعن شماله فلا يرى إلا الشجر وما حوله من الحجارة، وهي تحية بتحية النبوة: السلام عليك يا رسول الله. الحديث.
__________
الأزهري: ويسمى الدهر جذعًا؛ لأنه شاب لا يهرم. "من أسنان الدواب" واستعير للإنسان، ومعناه على التشبيه حيث أطلق الجذع الذي هو الحيوان المنتهي إلى القوة، وأراد به الشاب الذي فيه قوة الرجل وتمكنه من الأمور، "وهو ما كان منها شابًا فتيًا" قال ابن سيده: قيل الجذع من المعز الداخل في السنة الثانية، ومن الإبل فوق الحق، وقيل: منها لأربع، ومن الخيل لسنتين، ومن الغنم لسنة، وقيل معناه: يا ليتني أدرك أمرك فأكون أول من يقوم بنصرك؛ كالجذع الذي هو أول الأسنان، قال صاحب المطالع: والقول الأول أبين.
"وأخرج البيهقي من طريق العلاء بن جارية" بجيم وراء وتحتية "الثقفي" صحابي؛ كما في الإصابة وغيرها، لكن الراوي هنا إنما هو حفيده فالذي عند البيهقي من طريق ابن إسحاق، قال: حدثني عبد الملك بن عبد الله بن أبي سفيان العلاء بن جارية الثقفي وكان واعية، أي: للعلم فسقط على المصنف اسمه واسم أبيه وكنية جده المسمى بالعلاء وأتى باسمه وليس هو الراوي؛ لأن ابن إسحاق ليس تابعيًا بل من صغار الخامسة، وقد قال: حدثني، فإنما الراوي حفيد العلاء وهو عبد الملك.
"عن بعض أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أراد الله كرامته وابتداءه" عطف تفسير "بالنبوة كان لا يمر بحجر ولا شجر إلا سلم عليه وسمع منه" ذكره لأنه لا يلزم من السلام أن يسمعه وكان ابتداء ذلك قبل النبوة بسنتين على ما روى ابن الجوزي، عن ابن عباس، قال: أقام صلى الله عليه وسلم بمكة خمس عشرة سنة سبعًا يرى الضوء والنور ويسمع الصوت، وثمان وستين يوحى إليه، قال الخازن: وهذا إن صح يحمل على سنتين قبل النبوة فيما كان يراه من تباشيرها وثلاث سنين بعدها قبل إظهار الدعوة، وعشر سنين معلن بالدعوة بمكة، انتهى. وهو حمل مناف لقوله ثمانية، اللهم إلا أن يقال الحق سنتين من ابتداء العشر بما قبلها؛ لعدم ظهور الدعوة فيهما كل الظهور.
"فيلتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم خلفه وعن يمينه وعن شماله، فلا يرى إلا الشجر وما حوله من الحجارة، وهي تحية بتحية النبوة" التي لم تكن معروفة قبلها إكرامًا وإعلامًا بأنه سيوحى إليه بالرسالة، تقول: "السلام عليك يا رسول الله ... الحديث" وأفاد المصنف فيما يأتي استمرار.(1/408)
وعن جابر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "جاورت بحراء شهرًا، فلما قضيت جواري هبطت، فنوديت فنظرت عن يميني فلم أر شيئًا ونظرت عن شمالي فلم أر شيئًا، ونظرت خلفي فلم أر شيئًا، فرفعت رأسي فرأيت شيئًا فلم أثبت له, فأتيت خديجة فقلت: دثروني دثروني وصبوا عليّ ماء باردًا" , فنزلت: {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ، قُمْ
__________
السلام بعد النبوة، قال السهيلي: الأظهر أنهما نطقا بذلك حقيقة وليست الحياة والعلم والإرادة شرطًا له؛ لأنه صوت وهو عرض عند الأكثر لا جسم؛ كما زعم النظام، وإن قدر الكلام صفة قائمة بنفس الشجر والحجر فلا بد من شرط الحياة والعلم مع الكلام فيكونان مؤمنين به، ويحتمل أنه مضاف في الحقيقة إلى ملائكة يسكنون تلك الأماكن، فهو مجاز؛ كاسأل القرية، وفي كلها علم على النبوة لكن لا يسمى معجزة إلا ما تحدى به الخلق، فعجزوا عن معارضته، انتهى ملخصًا.
"وعن جابر" بن عبد الله الأنصاري الخزرجي الصحابي ابن الصحابي، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "جاورت بحراء" أقمت فيه، والفرق بينه وبين الاعتكاف أنه لا يكون إلا داخل المسجد، والجوار قد يكون خارجه، قاله ابن عبد البر وغيره ولذا لم يسمه اعتكافًا؛ لأن حراء ليس من المسجد. "شهرًا" في مدة الفترة غير الشهر الذي نزل عليه فيه جبريل بسورة {اقْرَأْ} [العلق: 1] ، ففي مرسل عبيد بن عمير عند البيهقي أنه كان يجاور في كل سنة شهرًا وهو رمضان، فلا حجة في الحديث على أن أول ما نزل المدثر.
"فلما قضيت جواري" بكسر الجيم وخفة الواو، أي: مجاورتي، "هبطت" وفي مسلم: "نزلت، فاستبطنت بطن الوادي"، أي: صرت في باطنه، "فنوديت فنظرت عن يميني فلم أر شيئًا، ونظرت عن شمالي فلم أر شيئًا، ونظرت خلفي فلم أر شيئًا، فرفعت رأسي فرأيت شيئًا" هو جبريل؛ كما قال في بدء الوحي. والتفسير: فرفعت بصري فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض، وهو معنى رواية التفسير أيضًا: وهو جالس على عرش بين السماء والأض، "فلم أثبت له" وفي بدء الوحي: فرعبت منه، قال الحافظ: فدل على بقية بقيت معه من الفزع الأول، ثم زالت بالتدريج، "فأتيت خديجة، فقلت: دثروني دثروني" مرتين هكذا في الصحيحين في التفسير. وفي البخاري في بدء الوحي: "زملوني زملوني" والأول أولى، لاتفاقهما عليه ولأنها، كما قال الزركشي: أنسب بنزول المدثر.
"وصبوا علي ماء باردًا" أي: على جميع بدني على ظاهره "فنزلت" أيناسا له وإعلامًا بعظيم قدره وتلطفًا، {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} [المدثر: 1] ، بثيابه، قاله الجمهور. وعن عكرمة: بالنبوة وأعبائها، {قُمْ} [المدثر: 2] من مضجعك أو هو مجاز، أي: قم مقام تصميم،(1/409)
فَأَنْذِرْ، وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} الآية, وذلك قبل أن تفرض الصلاة. رواه البخاري ومسلم والترمذي.
ولم يكن جواره عليه الصلاة والسلام لطلب النبوة، لأنها أجل من أن تنال بالطلب أو الاكتساب، وإنما هي موهبة من الله، وخصوصية يخص بها من يشاء من عباده، والله أعلم حيث يجعل رسالاته.
__________
{فَأَنْذِرْ} [المدثر: 2] ، حذر من العذاب من لم يؤمن بك، وحذف المفعول تفخيمًا، وفيه: أنه أمر بالإنذار عقب نزول الوحي للإتيان بفاء التعقيب، واقتصر على الإنذار وإن كان بشيرًا ونذيرًا؛ لأن التبشير إنما يكون لمن دخل في الإسلام ولم يكن حينئذ من دخل فيه.
{وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} [المدثر: 3] ، عظمه ونزهه عما لا يليق به، وقيل: المراد تكبير الصلاة واعترض. "الآية" أل للجنس، بدليل رواية بدء الوحي: فأنزل الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ، قُمْ فَأَنْذِرْ} [المدثر: 1، 2] إلى قوله: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [المدثر: 5] يعني: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} من النجاسة أو قصرها أو طهر نفسك من كل نقص، أي: اجتنب النقائص، {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} ، الرجز: لغة العذاب وفسر في الحديث بالأوثان؛ لأنها سبب العذاب، وقيل: الشرك، وقيل: الظلم، وكلها أفراد، فالمراد ما ينافي التوحيد ويئول إلى العذاب.
"وذلك قبل أن فرض الصلاة" التي هي ركعتان بالغداة وركعتان بالعشي؛ لأنها المحتاجة للتنبيه عليها، وأما الخمس فمتأخرة عن ذلك؛ لكونها ليلة الإسراء، "رواه البخاري" في التفسير والأدب وبدء الوحي، "ومسلم" في التفسير "والترمذي والنسائي ولم يكن جواره عليه الصلاة والسلام لطلب النبوة" لأنه ولو علم بالبشارات الحاصلة قبل ولادته، وإخبار الكهنة وبحيرا وغيرهم بأنه نبي آخر الزمان لكن صانه الله سبحانه عن اعتقاد ما يخالف ما عنده تعالى من أنها لا تنال بطلب فإنه صلى الله عليه وسلم قبل النبوة منشرح الصدر بالتوحيد والإيمان وكذلك الأنبياء فإنهم، كما قال عياض: معصومون قبلها من الشك في ذلك والجهل به اتفاقًا، فإنما كان جواره مجرد عبادة وانعزال عن الناس واقتفاء لآثار جده، فإنه كما مر أول من تحنث بحراء لا للنبوة؛ "لأنها أجل من أن تنال بالطلب والاكتساب" عطف تفسير "وإنما هي موهبة" بكسر الهاء "من الله وخصوصية يخص بها من يشاء من عباده" ولو كانت تنال بذلك لنالها كثير من العباد سنين كثيرة.
"و" قد قال سبحانه: "الله أعلم حيث يجعل رسالاته" أي: المكان الذي يضعها فيه، وغرض المصنف دفع ما يتوهم أن الجواز للنبوة التي الكلام فيها: فأين إشعاره بأن الولاية مكتسبة حتى يعترض عليه بنص بعض المحققين على امتناع اكتساب الولاية أيضًا، لكن لا يكفر إلا(1/410)
ولم تكن الرجفة المذكورة خوفًا من جبريل عليه السلام، فإنه صلى الله عليه وسلم أجل من ذلك وأثبت جنانًا، وإنما رجف غبطة بحاله وإقباله على الله عز وجل، فخشي أن يشغل بغير الله عن الله.
وقيل: خاف من ثقل أعباء النبوة.
وفي رواية البيهقي في الدلائل: أن خديجة قالت لأبي بكر: يا عتيق اذهب به إلى ورقة، فأخذه أبو بكر، فقص عليه ما رأى، فقال عليه الصلاة والسلام: "إذا خلوت وحدي سمعت نداء: يا محمد، فأنطلق هاربًا" , فقال: لا تفعل إذا قال: فاثبت
__________
مجوزًا اكتساب النبوة، نعم لا يقصر كما قال بعض المتأخرين شأن مجوز اكتساب الولاية عن التبديع، "ولم تكن الرجفة المذكورة" في قوله: فلم أثبت له، وفي رواية: فرعبت منه، وفي أخرى: فجئت بضم الجيم وكسر الهمزة وسكون المثلثة ففوقية، وفي أخرى: فجثثت بمثلثتين من جثى كعنى، وفيه روايات أخر والكل في الصحيح. "خوفًا من جبريل عليه السلام، فإنه صلى الله عليه وسلم أجل من ذلك وأثبت جنانًا" بفتح الجيم، أي: قلبًا، "وإنما رجف" بفتحتين "غبطة" بكسر الغين: فرحًا، "بحاله" وهي في الأصل حسن الحال؛ كما في القاموس. "وإقباله على الله عز وجل فخشي أن يشغل بغير الله عن الله" وقد أمن الله خوفه فلم يكن يشغله عن الله شيء، "وقيل" لم يخش ذلك بل "خاف من ثقل أعباء النبوة" أثقالها جمع عبء مهموز، فالإضافة بيانية.
"وفي رواية البيهقي في الدلائل أن خديجة قالت لأبي بكر" الصديق، قال الزمخشري: لعله كنى بذلك لابتكاره الخصال الحميدة، "يا عتيق" ظالهر في القبول بأنه اسمه الأصلي؛ لأن أمه استقبلت به الكعبة لما ولد وقالت: اللهم هذا عتيقك من الموت؛ لأنه كان لا يعيش لها ولد، وقيل: سمي به لقول المصطفى: "من أراد أن ينظر إلى عتيق من النار، فلينظر إلى أبي بكر"، وبينهما تناف، فإن قول خديجة قبل ظهور النبوة وقد يتعسف التوفيق بأنه اسمه ابتداء لكن لم يشتهر به إلا بعد قول المصطفى، والصحيح ما جزم به البخاري وغيره أن اسمه عبد الله بن عثمان. "اذهب به إلى ورقة، فأخذه أبو بكر فقص عليه ما رأى" ووفق العيني بين هذا ونحوه وبين ما في الصحاح: أنها ذهبت معه إلى ورقة بأنها أرسلته مع الصديق مرة وذهبت به أخرى، وسألت عداسًا بمكة وسافرت إلى بحيرا؛ كما رواه التيمي كل ذلك من شدة اعتنائها به صلى الله عليه وسلم ورضي عنها، انتهى.
وبين ما قصه بقوله: فقال عليه الصلاة والسلام: "إذا خلوت وحدي سمعت نداء: يا محمد فأنطلق هاربًا" , خوفًا أن يكون من الجن، "فقال: لا تفعل، إذا قال" المنادي ذلك "فاثبت(1/411)
حتى تسمع، ثم ائتني فأخبرني، فلما خلا ناداه يا محمد فثبت فقال: قل: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ, الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 1، 2] إلى آخرها. ثم قال: قل لا إله إلا الله ... الحديث.
واحتج بذلك من قال بأولية نزول الفاتحة.
والصحيح أن أول ما نزل عليه صلى الله عليه وسلم من القرآن {اقْرَأْ} كما صح ذلك عن عائشة، وروي عن أبي موسى الأشعري وعبيد بن عمير.
قال النووي: وهو الصواب الذي عليه الجماهير من السلف والخلف.
وأما ما روي عن جابر وغيره: أن أول ما نزل {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} فقال النووي: ضعيف، بل باطل، وإنما نزلت بعد فترة الوحي.
__________
حتى تسمع" ما بعد يا محمد، "ثم ائتني فأخبرني، فلما خلا ناداه" على عادته التي كان يفعلها معه، "يا محمد، فثبت فقال: قل: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ, الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 1، 2] إلى آخرها" أي: الفاتحة، "ثم قال: قل: لا إله إلا الله ... الحديث" وغرضه من سياقه أنه معارض بحديث الصحيح في أن أول ما نزل اقرأ، كما أرشد إلى ذلك قوله الآتي، فقال البيهقي: هذا منقطع ... إلخ، وكذا قوله: "واحتج بذلك من قال بأولية نزول الفاتحة" أولية مطلقة، "والصحيح أن أول ما نزل عليه صلى الله عليه وسلم من القرآن" أول سورة {اقْرَأْ} [العلق: 1] ، إلى قوله: {مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 5] ، "كما صح ذلك عن عائشة" مرفوعًا.
"وروي عن أبي موسى الأشعري وعبيد بن عمير" بن قتادة بن سعد، أبي عاصم الليثي المكي قاضيها الثقة الحافظ أحد كبار التابعين، "قال النووي: وهو الصواب الذي عليه الجماهير من السلف والخلف، وأما ما روي عن جابر وغيره أن أول ما نزل" مطلقًا أول سورة {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} [المدثر: 1] ، إلى قوله: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [المدثر: 5] ، "فقال النووي: ضعيف بل باطل" بطلانًا ظاهرًا ولا تغير بجلالة من نقل عنه فإن المخالفين له هم الجماهير ثم ليس إبطالنا قوله تقليد للجماهير بل تمسكًا بالدلائل الظاهرة، ومن أصرحها حديث عائشة. "وإنما نزلت" {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} [المدثر: 1] ، "بعد فترة الوحي" بعد نزول {اقْرَأْ} [العلق: 1] ؛ كما صرح به في مواضع من حديث جابر نفسه؛ كقوله وهو يحدث عن فترة الوحي إلى أن قال: فأنزل الله {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} [المدثر:1] ، وقوله: "فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسيه بين السماء والأرض". وقوله: "فحمى الوحي وتتابع"، أي: بعد فتراته، انتهى كلام النووي كله في شرحه للبخاري، وهو قطعة من أوله فلا حجة في حديث جابر على الأولية المطلقة، وإن استدل(1/412)
وأما حديث البيهقي أنه الفاتحة -كقول بعض المفسرين- فقال البيهقي: هذا منقطع، فإن كان محفوظًا فيحتمل أن يكون خبرًا عن نزولها بعدما نزلت عليه {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق: 1] و {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} [المدثر: 1] .
وقال النووي -بعد ذكر هذا القول- بطلانه أظهر من أن يذكر. انتهى.
__________
به جابر عليه. ففي البخاري ومسلم من طريق يحيى بن أبي كثير، قال: سألت أبا سلمة ابن عبد الرحمن: أي القرآن أنزل أول؟ فقال: {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} [المدثر: 1] ، فقلت: أنبئت أنه {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق: 1] ، فقال أبو سلمة: سألت جابر بن عبد الله أي القرآن أنزل أول؟ فقال: {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} [المدثر: 1] ، فقلت: أنبئت أنه {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق: 1] ، قال: لا أخبرك إلا بما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "جاورت بحراء" الحديث المتقدم في المصنف، ولذا قال الكرماني: استخرج جابر أن أول ما أنزل {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} [المدثر: 1] باجتهاده، وليس هو من روايته، فالصحيح ما في حديث عائشة: من أول ما نزل {اقْرَأْ} [العلق: 1] ، انتهى.
لأنها رفعته والمرفوع مقدم على الاستنباط ولا سيما مع قبوله للتأويل، بل هو الظاهر منه وبهذا علمت صعوبة قول السيوطي والمصنف مراد جابر أولية مخصوصة بما بعد فترة الوحي، أو بالأمر بالإنذار، أو بقيد السبب، وهو ما وقع من التشديد. وأما {اقْرَأْ} [العلق: 1] فنزلت ابتداء بغير سبب، انتهى. لأن هذا إنما يصح لو لم يقل له السائل أنبئت أن أوله: {اقْرَأْ} [العلق: 1] ، نعم هي أجوبة عن دليله.
فإن قلت: كيف حكم النووي وغيره بالضعف بل بالبطلان على المروي عن جابر مع صحة الطريق إليه، كيف وهو أرفع الصحيح مروي الشيخين؟
قلت: حكمه إنما هو على نفس القول الذي صحت نسبته لقائله بصحة إسناده، ونظير هذا في القرآن كثير، وقالوا: يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون، فلا شك أن قولهم باطل، ولا في القطع بأنهم قالوه.
"وأما حديث البيهقي" المار "أنه الفاتحة؛ كقول بعض المفسرين، فقال البيهقي: هذا منقطع", فلا حجة فيه؛ لأنه من أقسام الضعيف، "فإن كان محفوظًا" من غير هذا الوجه، "فيحتمل أن يكون خبرًا عن نزولها بعد ما نزلت عليه: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق: 1] و {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} [المدثر: 1] ، فلا حجة فيه للأولية المطلقة، وبهذا يسقط زعم أن رواية البيهقي قبل أن يرى المصطفى جبريل بالمرة. "وقال النووي: بعد ذكر هذا القول: بطلانه أظهر من أن يذكر لمخالفته للمرفوع مع صحته وعدم تطرق الاحتمال إليه لصراحته، ولذا جزم به الجمهور، "انتهى".
فتحصل ثلاثة أقوال في أول ما نزل: {اقْرَأْ} ، "المدثر"، "الفاتحة"، وقيل:(1/413)
وقد روي أن جبريل عليه السلام أول ما نزل على النبي صلى الله عليه وسلم بالقرآن أمره بالاستعاذة، كما رواه الإمام أبو جعفر بن جرير عن ابن عباس قال: أول ما نزل جبريل على محمد صلى الله عليه وسلم قال: يا محمد، استعذ، قال: أستعيذ بالسميع العليم من الشيطان الرجيم، قال: قل {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 1] ، ثم قال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق:1] . قال عبد الله: وهي أول سورة أنزلها على محمد صلى الله عليه وسلم.
قال الحافظ عماد الدين بن كثير بعد أن ذكره: وهذا الأثر غريب، وإنما ذكرناه ليعرف، فإن في إسناده ضعفًا وانقطاعًا، والله أعلم.
وقد أورد ابن أبي جمرة سؤالا، وهو أنه: لم اختص صلى الله عليه وسلم بغار حراء، فكان يخلو فيه ويتحنث دون غيره من المواضع؟
وأجاب: بأن هذا الغار له فضل زائد على غيره من جهة أنه منزو مجموع
__________
"المزمل"، وقيل: {ن وَالْقَلَمِ} ، وهما ضعيفان أيضًا.
"وقد روي أن جبريل عليه السلام أول ما نزل على النبي صلى الله عليه وسلم بالقرآن أمره بالاستعاذة؛ كما رواه الإمام" المجتهد المطلق "أبو جعفر" محمد "بن جرير" الطبري البغدادي الحافظ، "عن ابن عباس، قال: أول ما نزل جبريل على محمد صلى الله عليه وسلم، قال: يا محمد، استعذ، قال: أستعيذ بالسميع العليم من الشيطان الرجيم" يحتمل أنه فهم منه هذا اللفظ أو قال له: قال ذلك، كما "قال" له "قل: بسم الله الرحمن الرحيم" فقالها: "ثم قال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق: 1] ، "قال عبد الله" بن عباس: "وهي أول سورة أنزلها على محمد صلى الله عليه وسلم"، ولو صح لكان حكمه الرفع، إذ لا مجال للرأي فيه، لكن "قال الحافظ عماد الدين بن كثير، بعد أن ذكره: وهذا الأثر غريب، وإنما ذكرناه ليعرف فإن في إسناده ضعفًا وانقطاعًا" ولا يقدح ذلك في جلالة مخرجه ابن جرير؛ لأن المحدثين إذا أرادوا الحديث بسنده برئوا من عهدته، "والله أعلم بصحته في نفس الأمر وضعفه".
"وقد أورد" الإمام "ابن أبي جمرة" بجيم وراء "سؤالا وهو أنه: لم اختص صلى الله عليه وسلم بغار حراء" الباء داخلة على المقصور عليه، أي: لم قصر نفسه على الخلوة به دون غيره؟ وفي نسخة: لم خص غار حراء؟، أي: لم ميزه؟ والمعنى واحد. "فكان يخلو فيه ويتحنث دون غيره من الواضح وأجاب بأن" المصطفى خصه لأن "هذا الغار له فضل زائد على غيره من جهة أنه منزو مجموع" صفة كاشفة، ففي المختار: زوى الشيء جمعه، ولعل المعنى هنا منعطف مائل عن(1/414)
لتحنثه وهو يبصر بيت ربه، والنظر إلى البيت عبادة، فكان له فيه اجتماع ثلاث عبادات: الخلوة والتحنث والنظر إلى البيت. وغيره ليس فيه هذه الثلاث.
ولله در المرجاني حيث قال في فضائل حراء وما اختص به:
تأمل حراء في جمال محياه ... فكم من أناس من حلا حسنه تاهوا
فمما حوى من جا لعلياه زائرا ... ..............................
__________
مرور الناس عليه فيتمكن من عدم مخالطتهم، فيتخلى للعبادة صالح "لتحنثه" فهو متعلق بمحذوف أو بمجموع على أنه نعت سببي، أي: مجموع حواس من يختلى به، "وهو يبصر" فيه "بيت ربه" الكعبة "والنظر إلى البيت عبادة" كما في الخبر: "إن الله ينزل عليه عشرين رحمة" "فكان له فيه اجتماع ثلاث عبادات: الخلوة" هي أن يخلو عن غيره بل وعن نفسه بربه، وعند ذلك يكون خليقًا بأن يكون قالبه ممر الواردات من علوم الغيب وقلبه مقرًا لها، قاله المصنف.
"والتحنث والنظر إلى البيت، وغيره ليس فيه هذه الثلاث" وناهيك بالخلوة من عبادة؛ لأنها فراغ القلب والانقطاع عن الخلق والراحة من أشغال الدنيا والتفرغ لله فيجد الوحي فيه متمكنًا؛ كما قيل:
وصادف قلبًا خاليًا فتمكنا ... ولذا حببت للمصطفى
ثم هذا الجواب أولى من قول المصنف في شرح البخاري، إنما كان يخلو بحراء دون غيره؛ لأن جده عبد المطلب أول من كان يخلو فيه من قريش وكانوا يعظمونه لجلالته وسنه، فتبعه على ذلك فكان يخلو بمكان جده وكان الزمن الذي يخلو فيه شهر رمضان فإن قريشًا كانت تعظمه، كما كانت تصوم شهر عاشوراء، انتهى.
"ولله در المرجاني" عبد الله بن محمد القرشي الإمام القدوة الواعظ المفسر أحد الأعلام في الفقه والتصوف، قدم مصر ووعظ بها واشتهر في البلاد وامتحن وأفتى العلماء بتكفيره ولم يؤثروا فيه، فعملوا عليه الحيلة فقتل بتونس سنة تسع وستمائة، ذكره في اللواقح "حيث قال في فضائل حراء وما اختص به" أبياتًا، هي: "تأمل حراء" بالمد على اللغة الفصحى فيه، ولا يقصر هنا للوزن، "في جمال محياه" هو الوجه، "فكم من أناس من حلا" بضم الحاء، "حسنه تاهوا" بإشباع الهاء للروي.
"فمما حوى" الظاهر: أنه مبتدأ بمعنى بعض على حد ما قيل في نحو قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ} [البقرة: 8] ، وما موصول وصلته جملة حوى والعائد محذوف، أي: فبعض الذي حواه، "من" فاعل حوى "جا" صلته "لعلياه" متعلق به "زائرًا" حال من الفاعل للتبرك(1/415)
........................ ... يفرج عنه الهم في حال مرقاه
به خلوة الهادي الشفيع محمد ... وفيه له غار له كان يرقاه
وقبلته للقدس كانت بغاره ... وفيه أتاه الوحي في حال صبراه
وفيه تجلى الروح بالموقف الذي ... به الله في وقت البداءة سواه
وتحت تخوم الأرض في السبع أصله ... ومن بعد هذا اهتز بالسفل أعلاه
ولما تجلى الله قدس ذكره ... لطور تشظى فهو إحدى شظاياه
ومنها ثبير................... ... ............................
__________
بحلول المصطفى وجبريل فيه؛ كما نزل صلى الله عليه وسلم في أماكن حل بها أنبياء ليلة الإسراء، والخبر هو قوله: "يفرج عنه الهم في حال مرقاه" بالبناء للمفعول، أي: يفرج الله كل همه في حال صعوده ذلك الجبل فضائله أنه كانت "به خلوة الهادي الشفيع محمد" قبل النبوة وبعدها في مدة الفترة، "وفيه له غار له" كررها للتقوية والإشارة إلى اختصاصه به حتى كأنه ملكه "كان يرقاه" فجاءه فيه جبريل "وقبلته للقدس كانت بغاره" فه نظر، فإنه إنما صلى للقدس بعد الإسراء وفرض الصلاة، وأول ما صلى إلى الكعبة؛ كما يجيء مبينًا في تحويل القبلة، ويحتمل أنه بناه على أنه صلى الله عليه وسلم كان متعبدًا قبل النبوة بشرع موسى وكانت قبلته للقدس.
"وفيه أتاه الوحي في حال صبراه" من الصبر حبس النفس على الخلوة به والتعبد فيه، وفي نسخ: مبدأه، والأولى أحسن؛ لعدم الإيطاء فإنه سيقول مبدأه رابع بيت بعد هذا: "وفيه تجلى الروح بالموقف الذي به الله في وقت البداءة سواه وتحت تخوم الأرض" جمع تخم كفلس وفلوس، وهو منتهى كل قرية أو أرض أو حدودها، وقال ابن السكيت: تخوم مفرد، وجمعه: تخم، مثل صبور وصبر؛ كما في الصحاح وغيره.
"في السبع أصله" أي: أن أصله تحت الأرض السابعة، "ومن بعد هذا اهتز" تحرك طربًا بمن علاه "بالسفل" أي: بسبب تحرك أسفله وفاعل اهتز "أعلاه" معجزة، روى مسلم عن أبي هريرة: أنه صلى الله عليه وسلم كان على حراء هو وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير فتحركت الصخرة، فقال صلى الله عليه وسلم: "اسكن حراء، فما عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد" ووقع ذلك لأحد وثبير أيضًا، ويأتي إن شاء الله تفصيله في المعجزات.
"ولما تجلى الله قدس ذكره" أي: أظهر من نوره قدر نصف أنملة الخنصر؛ كما في حديث صححه الحاكم. "لطور تشظى" أي: تفلق وتطاير منه قطع فصارت جبالا، "فهو إحدى شظاياه" جمع شظى وهو كل فلقة من شيء، وتشظى العود: تطاير شظا؛ كما في القاموس "ومنها" أي: شظاياه، "ثبير" بمثلثة فموحدة فتحتية فراء بوزن أمير، جبل مقابل حراء، وبينهما(1/416)
........... ثم ثور بمكة ... كذا قد أتى في نقل تاريخ مبداه
وفي طيبة أيضًا ثلاث فعدها ... فعيرًا وورقانًا وأحدًا رويناه
ويقبل في ساعة الظهر من دعا ... به وينادي من دعانا أجبناه
وفي أحد الأقوال في عقبة حرا ... أتى ثم قابيل لهابيل غشاه
__________
الوادي وهما على يسار السالك إلى منى، حراء قبلى ثبير مما يلي شمال الشمس. "ثم ثور" بمثلثة جبل "بمكة" به الغار المذكور في التنزيل دخله صلى الله عليه وسلم في الهجرة "كذا قد أتى في نقل تاريخ مبداه" أي: حراء والله أعلم بصحته.
"وفي طيبة أيضًا" تشظى الطور، "ثلاث فعدها فعيرا" أي: فتشظى عيرا بفتح العين وسكون التحتية وراء مهملة بلفظ مرادف الحمار جبلي قبلي المدينة قرب ذي الحليفة، قال فيه صلى الله عليه وسلم "وعير يبغضنا ونبغضه، وإنه على باب من أبواب النار"، ورواه البزار وغيره ولكن الناظم في عهدة: إن عيرًا منها، فالذي رواه الواحدي مرفوعًا كما يأتي، وحكاه البغوي عن بعض التفاسير بدل عير رضوى وهو بفتح الراء وسكون الضاد المعجمة جبل بالمدينة على ما في الصحاح.
وفي حديث رضوى رضي الله عنه: وقدس، فهذا المناسب؛ لكونه من شظايا الطور مع أنه الوارد، لا عير المبغوض. "وورقانا" بفتح الواو وكسر الراء وسكنها للنظم فقاف، قال في القاموس: ورقان بكسر الراء جبل أسود بين العرج والرويثة بيمين المصعد من المدينة إلى مكة حرسهما الله تعالى، "وأحدًا" بضم الهمزة والحاء وسكنها للوزن، الجبل المشهور الذي قال فيه المصطفى: "أحد جبل يحبنا ونحبه".
"رويناه" أخرج الواحدي عن أنس رفعه: "لما تجلى ربه للجبل جعله دكا طار لعظمته ستة أجبل فوقعت ثلاثة بالمدينة: أحد وورقان ورضوى، ووقع بمكة: ثور وثبير وحراء". وقال البغوي: وفي بعض التفاسير فذكره، ولم يرفعه في فتح الباري. أخرجه ابن أبي حاتم عن أبي مالك رفعه، وهو غريب مع إرساله.
"ويقبل فيه" في حراء "ساعة الظهر" دعاء "من دعا به وينادي من دعانا أجبناه وفي أحد الأقوال في عقبة حرا" بالقصر والصرف وسكون قاف عقبة للشعر، قال القاموس: العقبة بالتحريك، أي: بفتح العين والقاف مرقى صعب من الجبال والجمع عقاب، "أتى ثم" جاء هناك "قابيل" بن آدم "لهابيل" أخيه "غشاه" أي: قتله، قال الثعلبي: كان لهابيل يوم قتل عشرون سنة، واختلفوا في مصرعه وموضع قتله، فقال ابن عباس: على جبل ثور، وقال بعضهم: على عقبة حراء، وقال جعفر الصادق: بالبصرة في المسجد الأعظم، انتهى.(1/417)
ومما حوى سرًا حوته صخوره ... من التبر إكسيرا يقام سمعناه
سمعت به تسبيحها غير مرة ... وأسمعته جمعًا فقالوا سمعناه
به مركز موضع النور الإلهي مثبتًا ... فلله ما أحلى مقامًا بأعلاه
وروى أبو نعيم أن جبريل وميكائيل شقا صدره وغسلاه ثم قال: {اقْرَأْ بِاسْمِ
__________
وذكر السدي بأسانيده أن سبب قتله أن آدم كان يزوج ذكر كل بطن من ولده بأنثى الآخر، وكانت أخت قابيل أحسن من أخت هابيل، فأراد قابيل أن يستأثر بأخته فمنعه آدم فلما ألح عليه به أمرهما أن يقربا قربانًا، فقرب قابيل حزمة من زرع، وكان صاحب زرع، وقرب هابيل جذعة سمينة وكان صاحب مواش، فنزلت نار فأكلت قربان هابيل دون قابيل، فكان ذلك سبب الشر بينهما، قال في فتح الباري: هذا هو المشهور.
ونقل الثعلبي بسنده عن جعفر الصادق أنه أنكر أن يكون آدم زوج ابنا له بابنة له، وإنما زوج قابيل جنية وزوج هابيل حورية، فغضب قابيل، وقال له: يا بني ما فعلته إلا بأمر الله، فقربا قربانًا وهذا لا يثبت عن جعفر ولا عن غيره ويلزم منه أن بني آدم من ذرية إبليس؛ لأنه أبو الجن كلهم أو من ذرية الحور العين وليس لذلك أصل ولا شاهد، انتهى.
"ومما حوى" حراء "سرًا" هو لغة ما يكتم ويستعار للشيء النفيس، "حوته صخوره" أي: حراء، "من التبر" بالكسر: الذهب والفضة أو فتاتهما قبل أن يصاغا فإذا صيغا فهما ذهب وفضة، أو ما استخرج من المعدن قبل أن يصاغ، قال القاموس.
"إكسيرا" بالكسر: الكيمياء؛ كما في القاموس. "يقام" يصاغ، ومعنى البيت "سمعناه" أي: روينا عن غيرنا تسبيحًا ويصدقه أنني "سمعت به" بحراء "تسبيحها" أي: صخوره "غيره مرة وأسمعته جمعًا فقالوا سمعناه" أي: نفس التسبيح بآذاننا فاندفع الإيطاء بوجه بديعي، "به مركز موضع النور الإلهي مثبتًا" ثابتًا "فلله ما أحلى" أعذب "مقامًا" بضم الميم وفتحها على ما في القاموس، أي: إقامة، "بأعلاه" وجعل الجوهري الضم للإقامة من أقام يقيم، والفتح للموضع، قال: وقوله تعالى: {لَا مُقَامَ لَكُمُ} [الأحزاب: 13] ، أي: لا موضع لكم وقرئ بالضم، أي: لا إقامة لكم، انتهى.
واعلم: أن قوله: ولله در المرجاني إلى هنا ساقط في أكثر النسخ؛ لكنه ثابت في بعض النسخ القديمة المقروءة.
"وروى أبو نعيم" أحمد بن عبد الله الأصبهاني في دلائل النبوة من حديث عائشة، "أن جبريل وميكائل شقا صدره وغسلاه، ثم قال" جبريل {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق: 1] .(1/418)
رَبِّكَ} ، الآيات، الحديث، وفيه: فقال ورقة: أبشر، أشهد بأنك الذي بشر بك المسيح ابن مريم، وأنك على مثل ناموس موسى، وأنك نبي مرسل.
وكذا روى شق صدره الشريف هنا أيضًا الطيالسي والحارث في مسنديهما. والحكمة فيه: ليتلقى النبي صلى الله عليه وسلم ما يوحى إليه بقلب قويي من أكمل الأحوال من التطهير.
قال ابن القيم وغيره: وكمل الله تعالى له من الوحي مراتب عديدة:
إحداها: الرؤيا الصادقة، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح.
الثانية: مال كان يلقيه الملك في روعه وقلبه من غير أن يراه،......
__________
وفي نسخة: قالا: فإن كان محفوظًا فلعله نسبة لهما وإن كان القائل جبريل لإقرار ميكائيل مقالة جبريل ورضاه بها، "الآيات" إلى قوله: {مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 5] ، "الحديث، وفيه: فقال ورقة: أبشر أشهد بأنك الذي بشر بك المسيح ابن مريم" في قوله: {وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} ، "وأنك على مثل" أي: صفة مماثلة لصفة "ناموس موسى" من مجيء الوحي لك كما جاء له، "وأنك نبي مرسل" وفيه دلالة ظاهرة على إيمانه.
"وكذا روى شق صدره الشريف هنا" عند مجيء الوحي، "أيضًا" وفاعل روى "الطيالسي" أبو داود سليمان بن الجارود البصري الحافظ الثقة كثير الحديث، روى عن ابن عون وشعبة وخلق، وعنه أحمد وابن المديني وغيرهما، علق له البخاري، وأخرج له مسلم والأربعة توفي سنة ثلاث أو أربع ومائتين عن اثنتين وسبعين سنة، "والحارث" بن محمد بن أبي أسامة واسمه داهر الحافظ أبو محمد التميمي البغدادي ولد سنة ست وثمانين ومائة، وسمع يزيد بن هارون وغيره وعنه ابن جرير والطبري وعدة، وثقه ابن حبان والحربي مع علمه بأنه يأخذ على الرواية، وضعفه الأزدي وابن حزم، وقال الدارقطني: صدوق، وأما أخذه على الرواية فكان فقيرًا كثير البنات، توفي يوم عرفة سنة اثنتين وثمانين ومائتين.
"في مسنديهما" والبيهقي وأبو نعيم في دلائلهما كلهم عن عائشة: "أنه صلى الله عليه وسلم نذر أن يعتكف شهرًا هو وخديجة فوافق ذلك شهر رمضان، فخرج ذات ليلة، فقال: "السلام عليك، قال: فظننت أنها فجأة الجن، فجئت مسرعًا حتى دخلت على خديجة، فقالت: ما شأنك؟ فأخبرتها فقالت: أبشر فإن السلام خير، ثم خرجت مرة أخرى فإذا أنا بجبريل على الشمس جناح له بالمشرق وجناح له بالمغرب، فهلت منه فجئت مسرعًا؛ فإذا هو بيني وبين الباب، فكلمني حتى أنست منه، ثم وعدني موعدًا فجئت له فأبطأ عليّ، فأردت أن أرجع فإذا أنا به وبميكائيل قد سد الأفق، فهبط جبريل وبقي ميكائيل بين السماء والأرض فأخذني جبريل فألقاني لحلاوة القفا، ثم شق عن قلبي فاستخرجه ثم استخرج منه ما شاء الله أن يستخرج، ثم غسله في طست من ماء زمزم، ثم أعاده مكانه، ثم لأمه ثم كفأني كما يكفأ الإناء، ثم ختم في ظهري حتى وجدت مس الخاتم في قلبي".
"والحكمة فيه" أي: الشق، حينئذ هي كما قال في الفتح "ليتلقى النبي صلى الله عليه وسلم ما يوحي إليه بقلب قوي في أكمل الأحوال من التطهير." وهذا الشق ثالث مرة، والأولى: عند حليمة، والثانية: وهو ابن عشر سنين، والرابعة: ليلة الإسراء، ولم تثبت الخامسة، كما مر ذلك مبسوطًا.(1/419)
مراتب الوحي:
"قال ابن القيم وغيره: وكمل الله تعالى له" أي: أعطاه "من الوحي مراتب" جمع مرتبة، أي: منازل، أي: أنواعًا انحصرت في مراتب "عديدة" هي هذه المراتب لا ما يتبادر من لفظ كمل وهو حصول وحي قبلها لعدم وجود شيء من الوحي قبل نزوله، وعبر بمراتب دون أنواع وإن عبر به الشامي إشارة لشرفها، وتعبير الحافظ كاليعمري بحالات يوهم أنها غير الوحي ضرورة أن المضاف غير المضاف إليه، إلا أن تكون الإضافة بيانية، ومن في الوحي ابتدائية أو بيانية فلا وحي غير المراتب أو تبعيضية؛ لأنه عليه السلام لم يقع له مما يروى أن من الأنبياء من يسمع صوتًا ولا يراه فيكون نبيًا، ففي أنه صوت ليس بحرف يخلق في الجو ويخلق في سامعه علم ضروري يعلم به المراد أو بحرف يسمعه من قصدت نبوته مع خلق علم ضروري أنه من الله احتمالان وأيضًا فهو لم يستوف المراتب لقوله الآتي: ويزاد ... إلخ.
"إحداها" أي: المراتب، وفي نسخة: أحدها بالتذكير نظرًا إلى أن المراد بالمراتب الأنواع والتأنيث فيما بعدها نظرًا للفظ، والأولى أنسب. "الرؤيا الصادقة" بعد النبوة أو قبلها لأنها مقررة لما بعدها. نعم، المختص بما بعدها الوحي بالأحكام التي يعمل بها، "فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح" كما مر عن عائشة واستدل السهيلي وغيره على أنها من الوحي، يقول إبراهيم {يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} [الصافات: 102] ، فدل على أن الوحي يأتيهم منامًا كما يأتيهم يقظة، وبرواية ابن إسحاق: أن جبريل أتاه ليلة النبوة وغطه ثلاثًا وقرأ عليه أول سورة {اقْرَأْ} [العلق: 1] ، ثم أتاه وفعل ذلك معه يقظة، وفي الصحيح عن عبيد بن عمير: رؤيا الأنبياء وحي، وقرأ {يَا بُنَيَّ} الآية.
"الثانية: ما كان يلقيه الملك في روعه وقلبه" وإطلاق الوحي على ذلك مجاز من إطلاق المصدر بمعنى اسم المفعول وحقيقة الوحي هنا الإعلام في خفاء أو الإعلام بسرعة، وشرعًا الإعلام بالشرع، قاله الشامي. "من غير أن يراه" وعلم أنه وحي دون الإلهام الذي لا يستلزم(1/420)
كما قال صلى الله عليه وسلم: "إن روح القدس نفث في روعي، لن تموت نفسي حتى تستكمل رزقها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب" ... الحديث رواه ابن أبي الدنيا.........
__________
الوحي بعلم ضروري أنه وحي لا مجرد إلهام، كما خلق في جبريل أن المخاطب له الحق تعالى وأنه أمره بتبليغ من أراد، على نحو ما مر.
"كما قال صلى الله عليه وسلم: "إن روح القدس نفث" بفاء مثلثة "في روعي" أي: ألقى الوحي في خلدي وبالي أو في نفسي أو قلبي أو عقلي من غير أن أسمعه ولا أراه، ومفعول نفث قوله: "لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها" الذي كتبه لها الملك وهي في بطن أمها، فلا وجه للوله والكد والتعب والحرص فإنه سبحانه قسم الرزق وقدره لكل أحد بحسب إرادته لا يتقدم ولا يتأخر، ولا يزيد ولا ينقص، بحسب علمه القديم الأزلي، {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ} [الزخرف: 32] فلا يعارض هذا ما ورد الصبحة تمنع الرزق، والكذب ينقص الرزق، وإن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه وغير ذلك مما في معناه، أو أن الذي يمنعه وينقصه هو الحلال أو البركة فيه لا أصل الرزق، وفي حديث أبي أمامة عند الطبراني وأبي نعيم: "إن نفسا لن تمون حتى تستكمل أجلها وتستوعب رزقها".
وفي حديث جابر عند ابن ماجه: "أيها النس، اتقوا الله وأجملوا في الطلب، فإن نفسا لن تموت حتى تستوفي رزقها، وإن أبطأ عنها؛ فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، خذوا ما حل ودعوا ما حرم". وقال صلى الله عليه وسلم: "إن الرزق ليطلب أحدكم كما يطلبه أجله". رواه البيهقي وغيره وقال عليه السلام: "والذي بعثني بالحق إن الرزق ليطلب أحدكم كما يطلبه أجله". رواه العسكري. وقال صلى الله عليه وسلم: "لا تستبطئوا الرزق فإنه لم يكن عبد يموت حتى يبلغ آخر الرزق، فأجملوا في الطلب". رواه البيهقي وغيره.
"فاتقوا الله" أي: ثقوا بضمانه لكنه أمرنا تعبدًا بطلبه من حله، فقال: "وأجملوا في الطلب" بأن تطلبوه بالطرق الجميلة المحللة بلا كد ولا حرص ولا تهافت على الحرام والشبهات، أو غير منكبين عليه مشتغلين عن الخالق الرازق به، أو بأن تعينوا وقتًا ولا قدرًا؛ لأنه تحكم على الله أو ما فيه رضا الله لا حظوظ الدنيا، أو لا تستعجلوا الإجابة وقد أبدى العلامة العارف ابن عطاء الله في التنوير في معناه وجوهًا عديدة هذه منها، وفي أن طلب نحو المغفرة يمنع تعيينه نظر، استظهر شيخنا المنع لجواز أنه تعالى يريد مغفرته على سبب لم يوجد وعلم أنه سيوجد، فطلب تعيينها تحكم. "الحديث"، بقيته: "ولا يحملن أحدكم استبطاء الرزق أن يطلبه بمعصية الله، فإن الله تعالى لا ينال ما عنده إلا بطاعته".
"رواه" بتمامه "ابن أبي الدنيا" عبد الله بن محمد بن عبيد بن سفيان بن قيس الأموي(1/421)
في القناعة، وصححه الحاكم.
والروع -بضم الراء- أي نفسي، وروح القدس: جبريل عليه السلام.
__________
مولاهم، أبو بكر البغدادي الحافظ صاحب التصانيف المشهورة المفيدة، وثقه أبو حاتم وغيره، مات سنة إحدى وثمانين ومائتين. "في" كتاب "القناعة" والحاكم من حديث ابن مسعود "وصححه الحاكم" من طرق، ورواه ابن ماجه عن جابر ومر لفظه، والطبراني وأبو نعيم في الحلية من حديث أبي أمامة الباهلي بنحوه.
قال الطيبي: والاستبطاء بمعنى الإبطاء، والسين للمبالغة، وفيه: أن الرزق مقدر مقسوم لا بد من وصوله إلى العبد لكنه إذا سعى وطلب على وجه مشروع فهو حلال وإلا فحرام، فقوله: ما عنده، إشارة إلى أن الرزق كله من عنده الحلال والحرام، وقوله: أن يطلبه بمعصية الله، إشارة إلى أن ما عنده إذا طلب بها سمي حرامًا، وقوله: إلا بطاعته، إشارة إلى أن ما عنده إذا طلب بطاعته مدح وسمي حلالا، وفيه دليل ظاهر لأهل السنة أن الحرام يسمى رزقًا والكل من عند الله خلافًا للمعتزلة، انتهى. وفيه: أن الطلب لا ينافي التوكل.
وأما حديث ابن ماجه والترمذي والحاكم وصححاه عن عمر رفعه: "لو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصًا وتروح بطانًا" فقال الإمام أحمد: فيه ما يدل على الطلب لا القعود، أراد: لو توكلوا على الله في ذهابهم ومجيئهم وتصرفهم وعلموا أن الخير بيده ومن عنده لم ينصرفوا إلا سالمين غانمين كالطير، لكنهم يعتمدون على قوتهم وكسبهم، وهذا خلاف التوكل. وفي الإحياء أن أحمد قال في القائل: أجلس لا أعمل شيئًا حتى يأتيني رزقي: هذا رجل جهل العلم، أما سمع قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله عل رزقي تحت ظل رمحي"، وقوله: "تغدو خماصًا وتروح بطانًا"، وكان الصحابة يتجرون في البر والبحر ويعملون في نخيلهم، وبهم القدوة.
"والروع بضم الراء" لا بفتحها؛ لأن معناه الفزع ولا دخل له هنا، ورعى لفظ الحديث، فقال: "أي نفسي" وإلا فالظاهر، والروع النفس فهو مجاز شبه إلقاء جبريل بالنفث الذي هو دون التفل بالفوقية لعدم ظهروه، ولا ينافيه قول المصباح: نفث الله الشيء في القلب: ألقاه؛ لأنه بيان للمعنى المجازي إذا أسند لله لاستحالة الحقيقة عليه، وهذا يقتضي أن المراد به غير القلب، قال شيخنا: والظاهر أن المراد بهما واحد، وهو محل الإدراك وقد يشعر به لفظ الحديث.
"وروح القدس جبريل عليه السلام" سمي به لأنه يأتي بما فيه حياة القلوب، فإنه المتولى لإنزال الكتب الإلهية التي بها تحيا الأرواح الربانية والقلوب الجسمانية كالمبدأ لحياة القلب؛ كما أن الروح مبدأ لحياة الجسد، وأضيف إلى القدس لأنه مجبول على الطهارة والنزاهة من(1/422)
الثالثة: كان يتمثل له الملك رجلا، فيخاطبه حتى يعي عنه ما يقول له، فقد كان يأتيه في صورة دحية الكلبي، رواه النسائي بسند صحيح من حديث ابن عمر.
وكان دحية جميلا وسيما، إذا قدم لتجارة خرجت الظعن لتراه.
فإن قلت: إذا لقي جبريل النبي صلى الله عليه وسلم في صورة دحية، فأين تكون روحه؟ فإن كانت في الجسد الذي له ستمائة جناح.........................
__________
العيوب، وخص بذلك وإن كانت جميع الملائكة كذلك؛ لأن روحانيته أتم وأكمل، ذكره الإمام الرازي وعليه يحمل قول الشامي: سمي به لأنه خلق من محض الطهارة. وقال الراغب: خص بذلك لاختصاصه بنزوله بالقدس من الله، أي بما يطهر به نفوسنا من القرآن والحكمة والفيض الإلهي.
المرتبة "الثالثة" خطاب الملك له حين "كان يتمثل له الملك رجلا فيخاطبه" ويديم خطابه "حتى يعي" أي: يفهم. "عنه ما يقول له" فحتى غائية، "فقد" ثبت أنه "كان يأتيه في صورة دحية" بكسر الدال وفتحها لغتان مشهورتان؛ كما في النور. واقتصر الجوهري على الكسر وقدمه المجد. وفي التبصير اختلف في الراجحة منهما، وهو بلسان أهل اليمن رئيس الجند ابن خليفة بن فضالة بن فروة "الكلبي" شهد المشاهد كلها بعد بدر.
"رواه النسائي" أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب بن علي الخراساني ثم المصري، الحافظ أحد الأئمة المبرزين والأعلام الطوافين والحفاظ المتقنين، حتى قال الذهبي: هو أحفظ من مسلم، مات سنة ثلاث وثلاثمائة.
"بسند صحيح من حديث ابن عمر" وزعم أن مجيء جبريل على صورة دحية كان بعد بدر، إذ يبعد مجيئه على صورته قبل إسلامه ممنوع وسند أنه لا ضير في التمثل بصورته لجمالها، وإن قبل إسلامه لعلم الله أزلا بأنه من السعداء وخير القرون، فكان يأتي على صفته، فلما رأى المصطفى دحية أخبر بأنه يأتيه في صورته، والأمور النقلية لا دخل فيها للعقول.
"وكان دحية جميلا وسيما" أي: حسن الوجه، ولذا كان "إذا قدم لتجارة خرجت الظعن" بضم الظاء المعجمة والعين المهملة جمع ظعينة، سميت بذلك لأن زوجها يظعن بها "لتراه". وفي النور حكوا أنه كان إذا قدم من الشام لم تبق معصر إلا خرجت تنظر إليه، والمعصر: التي بلغت سن المحيض، "فإن قلت: إذا لقي جبريل النبي صلى الله عليه وسلم في صورة دحية" مثلا والمراد في غير صورته التي خلق عليها "فأين تكون روحه فإن كانت في الجسد الذي له ستمائة جناح"(1/423)
فالذي أتى لا روح جبريل ولا جسده، وإن كانت في هذا الذي هو في صورة دحية فهل يموت الجسد العظيم أم يبقى خاليًا من الروح المنتقلة عنه إلى الجسد المشبه بجسد دحية.
فأجيب -كما ذكره العيني- بأنه لا يبعد أن لا يكون انتقالها موجبًا موته، فيبقى الجسد حيًا، لا ينقص من معارفه شيء، ويكون انتقال روحه إلى الجسد الثاني كانتقال أرواح الشهداء إلى أجواف طيور خضر، وموت الأجساد بمفارقة الأرواح ليس بواجب عقلا، بل بعادة أجراها الله تعالى في بني آدم، فلا تلزم في غيرهم. انتهى.
__________
حقيقة من لؤلؤ، أخرجه ابن منده.
وقول السهيلي: إنها في حقهم صفة ملكية وقوة روحانية، لا كأجنحة الطير. قال الحافظ: ممنوع فلا مانع من الحمل على الحقيقة إلا قياسه الغائب على المشاهد وهو ضعيف، وقال غيره: هذا التأويل لا يليق بالإمام السهيلي بل هو أشبه بكلام الفلاسفة والحشوية ولا ينكر الحقيقة إلا من ينكر وجود الملائكة.
"فالذي أتى لا روح جبريل"؛ لأن الفرض أنها في جسده الأصلي، "ولا جسده" لأنه لم يأت، "وإن كانت في هذا الجسد الذي هو صورة دحية" بقي جسده الأصلي بلا روح، "فهل يموت" ذلك "الجسد العظيم أم" لا يموت ولكن "يبقى خاليًا من الروح المنتقلة عنه إلى الجسد المشبه بجسد دحية" ولا يلزم من انتقالها موت الجسد العظيم، "فأجيب" باختيار ما بعد أم؛ كما سيقرره "كما ذكره العيني" بدر الدين محمود بن أحمد بن موسى الحنفي ولد في رمضان سنة اثنتين وستين وسبعمائة، وتفقه واشتغل بالفنون وبرع وولي الحسبة مرارًا وقضاء الحنفية وغير ذلك، ومات في ذي الحجة سنة خمس وخمسين وثمانمائة، وفي بناء أجيب للمفعول إشعار بأن الجواب ليس له بل نقله فقط، وهو كذلك، فقد نقله بمعناه عن العز الحافظ في الفتح ونقل السؤال بعينه، والجواب أصحاب الحبائك عنه، أي: الشيخ عز الدين بن عبد السلام.
"بأنه لا يبعد أن يكون انتقالها موجبًا موته فيبقى الجسد حيًا لا ينقص من معارفه شيء ويكون انتقال روحه إلى الجسد الثاني كانتقال أرواح الشهداء إلى أجواف طيور خطر" مع اتصالها بقبورها، "وموت الأجساد بمفارقة الأرواح ليس بواجب عقلا" لتجويزه ذهاب الروح، ولا الجسد "بل بعادة أجراها الله تعالى في بني آدم، فلا تلزم في غيرهم، انتهى".(1/424)
الرابعة: كأن يأتيه في مثل صلصلة الجرس، وكان أشده عليه...................
__________
وحاصله: أنه يزول الزائد دون فناء. وقال إمام الحرمين: معناه أن الله أفنى الزائد من خلقه أو أزاله عنه ثم يعيده إليه بعده، والسراج البلقيني يجوز أن الآتي هو جبريل بشكله الأول إلا أنه انضم فصار على قدر هيئة الرجل ومثال ذلك القطن إذا جمع بعد نفشه، وهذا على سبيل التقريب. قال في فتح الباري: والحق أن تمثل الملك رجلا ليس معناه أن ذاته انقلبت رجلا، بل معناه: أنه ظهر بتلك الصورة أنيسًا لمن يخاطبه. والظاهر: أن القدر الزائد لا يزول ولا يفنى بل يخفى على الرائي فقط، انتهى.
وفي الحبائك أجاب العلاء القونوي بجواز أن خصه بقوة ملكية يتصرف فيها بحيث تكون روحه في جسده الأصلي مدبرة له ويتصل أثرها بجسم آخر يصير حيًا بما اتصل به من ذلك الأثر، وقد قيل: إنما سمي الأبدال أبدالا؛ لأنهم قد يرحلون إلى مكان ويقيمون في مكانهم شبحًا آخر شبيهًا بشبحهم الأصلي بدلا عنهم، وأثبت الصوفية عالمًا متوسطًا بين عالم الأجساد والأرواح سموه عالم المثال، وقالوا: إنه ألطف من عالم الأجساد وأكثف من عالم الأرواح وبنوا على ذلك تجسد الأرواح وظهورها في صورة مختلفة من عالم المثال، وقد يستأنس لذلك بقوله تعالى: {فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا} [مريم: 17] ، ويجوز أن جسمه الأول بحاله لم يتغير وقد أقام شبحًا آخر وروحه متصرفة فيهما جميعًا في وقت واحد، قال: والجواب بأنه كان يندمج إلى أن يصغر حجمه فيصير بقدر دحية ثم يعود كهيئته الأولى تكلف، وما ذكره الصوفية أحسن.
وقال القاضي أبو يعلى الحنبلي: لا قدرة للملائكة والجن على تغيير خلقهم والانتقال في الصورة، وإنما يجوز أن يعلمهم الله كلمات وضربًا من ضروب الأفعال إن فعلوه وتكلموا به نلهم الله من صورة إلى صورة.
الحالة "الرابعة: كان يأتيه" مخاطبًا له بصوت "في مثل" أي: صفة، "صلصلة" بمهملتين مفتوحتين بينهما لام ساكنة، "الجرس" بجيم ومهملتين: الجلجل الذي يعلق في رءوس الدواب، قال الحافظ والمصنف. وقال الشامي: الجرس مثال يشبه الجلجل الذي يعلقه الجهال في رءوس الدواب، انتهى.
قال في الفتح: والصلصلة المذكورة قيل صوت الملك بالوحي. وقال الخطابي: صوت متدارك يسمعه ولا يثبته أول ما يسمعه حتى يفهمه بعد، وقيل: صوت حفيف، أي: بمهملة وفاءين، دوي أجنحة الملك.
والحكمة في تقدمه أن يقرع سمعه الوحي، فلا يبقى فيه مكان لغيره. "وكان أشده عليه" لأنه يرد فيه من الطباع البشرية إلى الأوضاع الملكية، فيوحي إليه كما يوحي إلى الملائكة؛ كما(1/425)
...........................................................
__________
يأتي في حديث أبي هريرة، ولأن الفهم من كلام مثل الصلصلة أثقل من كلام الرجل بالتخاطب المعهود، ودل اسم التفضيل على أن الوحي كله شديد.
قال الحافظ: وفائدة هذه الشدة ما يترتب على المشقة من زيادة الزلفى ورفع الدرجات، وقال شيخنا شيخ الإسلام، يعني البلقيني: سبب ذلك أن الكلام العظيم له مقدمات تؤذن بتعظيمه للاهتمام به؛ كما في حديث ابن عباس: وكان يعالج من التنزيل شدة. وقال بعضهم: إنما كان شديدًا عليه ليستجمع قلبه فيكون أوعى لما سمع، وقيل: نزوله هكذا إذا نزلت آية وعيد، وفيه نظر.
والظاهر: أنه لا يختص بالقرآن؛ كما في قصة المتضمخ بالطيب بالحج، ففيه: أنه رآه صلى الله عليه وسلم حالة نزول الوحي عليه وأنه ليغط، فإن قيل صوت الجرس مذموم لصحة النهي عنه والتنفير من مرافقة ما هو معلق فيه، والإعلام بأن الملائكة لا تصحبهم؛ كما في مسلم وأبي داود وغيرهما. والمحمود -وهو الوحي- هنا لا يشبه بالمذموم، إذ حقيقة التشبيه إلحاق ناقص بكامل، فالجواب: أنه لا يلزم من التشبيه تساوي المشبه بالمشبه به في الصفات كلها، بل ولا في أخص وصف له، بل يكفي اشتراكهما في صفة ما، والمقصود هنا بيان الجنس فذكر ما ألف السامعون سماعه تقريبًا لإفهامهم.
والحاصل؛ أن للصوت جهتين: جهة قوة وبها وقع التشبيه، وجهة طنين وبها وقع التنفير عنه وعلل بكونه مزمار الشيطان، انتهى ببعض اختصار. وقال التوربشتي: لما سئل عليه السلام عن كيفية الوحي، وكان من المسائل العويصة التي لا يماط نقاب التغور عن وجهها لكل أحد، ضرب لها في الشاهد مثلا بالصوت المتدارك الذي يسمع ولا يفهم منه شيء، تنبيها على أن إتيانها يرد على القلب في هيئة الجلال وأبهة الكبرياء، فتأخذ هيبة الخطاب حين ورودها بمجامع القلب، وتلاقي من ثقل القول ما لا علم له به مع وجود ذلك، فإذا سري عنه وجد القول المقول بينا ملقى في الروع واقعًا موقع المسموع، وهذا الضرب من الوحي شبيه بما يوحى إلى الملائكة على ما رواه أبو هريرة مرفوعًا "إذا قضى الله في السماء أمرًا ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانًا"؛ لقوله: كأنها سلسلة على صفوان فإذا فزع عن قلوبهم، قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا: الحق وهو العلي الكبير، انتهى.
هذا وقد روى أحمد والحاكم وصححه، والترمذي والنسائي عن عمر، قال: "كان صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحي سمع عنده دوي كدوي النحل" الحديث، فأفهم قوله عنده أن ذلك بالنسبة للصحابة، ولذا قال الحافظ: إنه لا يعارض صلصلة الجرس؛ لأنه سماع الدوي بالنسبة للحاضرين،(1/426)
حتى إن جبينه ليتفصد عرقًا في اليوم الشديد البرد، حتى إن راحلته لتبرك به في الأرض، ولقد جاءه الوحي مرة كذلك وفخذه على فخذ زيد بن ثابت، فثقلت عليه حتى كادت ترضها.
__________
كما شبهه عمر، والصلصلة بالنسبة إليه، كما شبهه به صلى الله عليه وسلم بالنسبة إلى مقامه، انتهى. وجزم به في فتح القريب بأن سماعه كدوي النحل حين كان يتمثل له رجلا، انتهى. وبه تعلم الصفة التي كان عليها حين خطابه بذلك الصوت.
"حتى" ابتدائية غائية متعلقة بمحذوف، أي: فتناوله مشقة عظيمة حتى "إن" بكسر الهمزة "جبينه ليتفصد" بفاء وصاد مهملة مشددة، أي يسيل، "عرقًا" بفتح الراء والنصب على التمييز، شبه جبينه بالعرق المفصود مبالغة في كثرة العرق من كثرة معاناة التعب والكرب عند نزوله لطروه على طبع البشر، وذلك ليبلو صبره فيرتاض لما كلفه من أعباء النبوة وقراءته بالقاف تصحيف، قاله العسكري وغيره.
قال الدماميني: والجبين غير الجبهة وهو فوق الصدغ، والصدغ ما بين العين والأذن، فالإنسان جبينان يكتفيان الجبهة، والمراد والله أعلم أن جبينيه معًا يتفصدان، وأفراده لجواز أنه يعاقب التثنية في كل اثنين بغنى أحدهما عن الآخر كالعينين والأذنين، تقول: عين حسنة، وتزيد عينيه معًا.
"في اليوم الشديد البرد" قال المصنف: الشديد صفة جرت على غير من هي له؛ لأنه صفة البرد لا اليوم. "حتى" الأولى بالواو كما في الشامية؛ لأنه عطف غاية على غاية لا غاية للغاية. "إن راحلته لتبرك" بضم الراء "به في" أي: على "الأرض" كما رواه البيهقي في الدلائل في حديث عائشة، بلفظ: "وإن كان ليوحى إليه وهو على ناقته فتضرب جرانها من ثقل ما يوحى إليه".
"ولقد اءه الوحي مرة كذلك وفخذه" بكسر الخاء وتسكن تخفيفًا، "على فخذ زيد بن ثابت" الأنصاري النجاري أحد كتاب الوحي ومن كان يفتي في العصر النبوي، وروى أحمد بسند صحيح: "أفرضكم زيد"، مات سنة اثنتين أو ثلاث أو خمس وأربعين. "فثقلت" بضم القاف "عليه، حتى كادت ترضها" بفتح الفوقية وشد المعجمة تكسرها؛ كما رواه البخاري عن زيد: "أنزل الله على رسوله وفخذه على فخذي فثقلت عليّ حتى خفت أن ترض فخذي".
لما ذكر ابن القيم دليل المرتبتين الأولتين، وكانت الثالثة والرابعة غير محتاجين لذكر الدليل لشهرته في الصحيحين والموطأ عن عائشة: أن الحارث بن هشام سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف يأتيك الوحي؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "أحيانًا يأتيني مثل صلصلة الجرس وهو أشد علي، فيفصم عني، وقد وعيت عنه ما قال وأحيانًا يتمثل لي الملك رجلا فيكلمني فأعي ما يقول". قالت عائشة: ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقًا،(1/427)
قلت: وروى الطبراني عن زيد بن ثابت قال: كنت أكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان إذا نزل عليه أخذته برحاء شديدة، وعرق عرقًا شديدًا مثل الجمان، ثم سري عنه. وكنت أكتب وهو يملي عليّ، فما أفرغ حتى تكاد رجلي تنكسر من ثقل الوحي، حتى أقول: لا أمشي على رجلي أبدًا.
ولما نزلت عليه سورة المائدة، كادت أن ينكسر عضد ناقته من ثقل السورة، ورواه أحمد والبيهقي في الشعب.
الخامسة: أن يرى الملك في صورته التي خلق عليها له ستمائة جناح، فيوحي إليه ما شاء الله أن يوحيه، وهذا وقع له مرتين............................
__________
ولم يذكر دليل قوله: حتى إن راحلته تبرك به المصنف تقوية لابن القيم، فقال:
"قلت: وروى الطبراني عن زيد بن ثابت، قال: كنت أكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم وكان إذا نزل عليه" الوحي "أخذته برحاء" بضم الباء وفتح الراء وحاء مهملة والمد: شدة أذى الحمى وغيرها، "شديدة وعرق" بكسر الراء، "عرقًا" بفتحها، أي: رشح جلده رشحًا "شديدًا مثل الجمان" بضم الجيم وخفة الميم، قال في الدر: اللؤلؤ الصغار، وقيل: خرز يتخذ من الفضة مثله، "ثم سري" بضم السين المهملة وكسر الراء الثقيلة، أي: انكشف الوحي، "عنه، وكنت أكتب وهو يملي علي" وربما وضع فخذه على فخذي حال الكتابة، "فما أفرغ حتى تكاد رجلي تنكسر من ثقل الوحي، حتى أقول: لا أمشي على رجلي أبدًا" لظني كسرها، "ولما نزلت عليه سورة المائدة" لعل المراد بعضها، نحو: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} الآية [المائدة: 3] ، فإنه نزلت وهو صلى الله عليه وسلم واقف بعرفة على راحلته؛ كما في الصحيح.
"كادت" هي: أي: ناقته، "أن ينكسر والأصل كادت ناقته، أي: ينكسر عضدها، لكنه لما حول الإسناد عن الاسم الظاهر إلى الضمير لم يبق له مرجع نبه عليه، بقوله: "عضد ناقته" فلا يرد أن المناسب كاد بالتذكير لتأويل الفعل بعده بمصدر، أي: كاد انكسار على أنه اسم كاد، "من ثقل السورة، ورواه أحمد والبيهقي في الشعب"، وهذه المراتب ثلاث من صفات الوحي، وواحدة من صفات حامله، وهي تمثّله رجلا.
المرتبة "الخامسة" وهي من صفات حامله أيضًا "أن يرى الملك" جبريل "في صورته التي خلق عليها له ستمائة جناح" كل جناح منها يسد أفق السماء حتى ما يرى في السماء شيء "فيوحي" يوصل "إليه ما شاء الله أن يوحيه، وهذا وقع له مرتين" إحداهما في الأرض حين سأله أن يريه نفسه، فرآه في الأفق الأعلى، قال الحافظ ابن كثير: كأنك والنبي بغار حراء(1/428)
كما في سورة النجم.
السادسة: ما أوحاه الله إليه، وهو فوق السماوات من فرض الصلوات وغيرها.
__________
أوائل البعثة بعد فترة الوحي، والثانية عند سدرة المنتهى.
"كما" دل عليه قوله تعالى: "في سورة النجم" {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى، عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى} [النجم: 13-14] ، وروى أحمد وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن مسعود: لم ير صلى الله عليه وسلم جبريل في صورته الأصلية إلا مرتين، أما واحدة فإنه سأله أن يريه نفسه فأراه نفسه سد الأفق، وأما الأخرى فليلة الإسراء عند السدرة. قال في الفتح: وهو مبين لما في صحيح مسلم عن عائشة: لم يره -يعني جبريل- على صورته التي خلق عليها إلا مرتين. وللترمذي من طريق مسروق عن عائشة: لم ير محمد جبريل في صورته إلا مرتين، مرة عند سدرة المنتهى، ومرة في أجياد. وهو يقوي رواية ابن لهيعة عن أبي الأسود عن عروة عن عائشة: كان صلى الله عليه وسلم أول ما رأى جبريل بأجياد وصرخ: يا محمد فنظر يمينًا وشمالا فلم ير شيئًا فرفع بصره فإذا هو على أفق السماء فقال جبريل: يا محمد فهرب فدخل في الناس فلم ير شيئًا ثم خرج عنهم فناداه فهرب ثم استعلن له جبريل من قبل حراء، ذكر قصة إقرائه: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق: 1] ، ورأى حينئذ جبريل له جناحان من ياقوت يخطفان البصر، فتكون هذه المرة غير المرتين وإنما لم تضمها عائشة إليهما؛ لاحتمال أن لا يكون رآه فيها على تمام صورته، والعلم عند الله تعالى، انتهى.
ووقع عند أبي الشيخ، عن عائشة: أنه صلى الله عله وسلم، قال لجبريل: "وددت أني رأيتك في صورتك الأصلية". قال: وتحب ذلك؟ قال: "نعم". قال: موعدك كذا وكذا من الليل ببقيع الغرقد، فلقيه موعده فنشر جناحًا من أجنحته فسد أفق السماء حتى ما يرى في السماء شيء".
وفي مرسل الزهري عند ابن المبارك في الزهد: أنه سأله أن يتراءى له في صورته الأصلية، قال: إنك لن تطيق ذلك، قال: "إني أحب أن تفعل". فخرج إلى المصلى في ليلة مقمرة فأتاه جبريل في صورته فغشي عليه حين رآه، ثم أفاق" الحديث، فإن صحا فيمكن أنه أراه بعض صورته الأصلية؛ كما هو صريح قوله: فنشر جناحًا ... إلخ؛ لأنها مرة ثالثة على تمام الصفة، فلا يخالف ما في الصحيح ولا ما عدوه من خصائصه من رؤيته له مرتين على صورته الأصلية، وقد كنت أبديت هذا قبل وقوفي على كلام الفتح، الذي سقته فحمدت الله على الموافقة.
المرتبة "السادسة" وهي واللتان بعدها من صفات الوحي: "ما أوحاه الله إليه وهو فوق السماوات من فرض الصلوات وغيرها" كالجهاد، والهجرة، والصدقة، وصوم رمضان، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ كما صرح به في حديث أبي سعيد عند البيهقي: أن الله قال له(1/429)
السابعة: كلام الله تعالى له منه إليه بلا واسطة ملك، كما كلم موسى.
قال: وقد زاد بعضهم مرتبة ثامنة وهي تكليم الله له كفاحًا بغير حجاب. انتهى.
قال شيخ الإسلام الولي ابن عبد الرحيم العراقي: وكأن ابن القيم أخذ ذلك من روض السهيلي لكنه لم يذكر نزول إسرافيل إليه بكلمات من الوحي قبل جبريل.
__________
ذلك ليلة الإسراء، وساقه المصنف في المقصد السادس. وفي نسخة وغيره، قال شيخنا: وهي أولى لشمولها السنن وفرض غير الصلوات.
المرتبة "السابعة: كلام الله تعالى منه إليه بلا واسطة، كما كلم موسى" ولا ينافي ذلك قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا} [الشورى: 51] ؛ لأن معناه كما "قال" البيضاوي: كلامًا خفيًا يدرك بسرعة؛ لأنه ليس في ذاته مركبًا من حروف مقطعة يتوقف على متموجات متعاقبة، أو هو ما يعم المشافهة به؛ كما في حديث المعراج. وما وعد به في حديث الرؤية والمهتف، كما اتفق لموسى في طوى والطور، ولكن عطف قوله: {أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الشورى: 51] عليه يخصه بالأول، فالآية دالة على جواز الرؤية لا على امتناعها، انتهى.
"وزاد بعضهم مرتبة ثامنة، وهي: تكليم الله له كفاحًا" بكسر الكاف، أي: مواجهة، "بغير حجاب، انتهى" كلام ابن القيم.
"قال شيخ الإسلام" عبر به على عادتهم أن من ولي قاضي القضاة يطلقون عليه ذلك، "الولي" أي: ولي الدين فهو من التطرف في العلم والراجح جوازه، واسمه أحمد "بن عبد الرحيم" بن الحسين "العراقي" المصري قاضيها الإمام العلامة الحافظ ابن الحافظ الأصولي الفقيه ذو الفنون والتصانيف النافعة المشهورة، تخرج في الفن بأبيه واعتنى به أبوه، فأسمعه الكثير من أصحاب الفخر وغيره، واستعلى على أبيه، ولازم البلقيني في الفقه وأملى أكثر من ستمائة مجلس، توفي في سابع عشرين شعبان سنة ست وعشرين وثمانمائة.
"وكأن ابن القيم أخذ ذلك" المذكور من المراتب الخمسة الأولى، "من روض السهيلي" فإنه عدها سبعًا فذكر الخمسة وكلام الله من وراء حجاب، إما في اليقظة أو المنام ونزل إسرافيل؛ فدع عنك احتمالات العقول لا تغتر بها في روض النقول. "كنه لم يذكر نزول إسرافيل إليه بكلمات من الوحي" بعدما أوحى إليه جبريل أول سورة اقرأ و"قبل" تتابع مجيء "جبريل" مع(1/430)
فقد ثبت في الطرق الصحاح عن عامر الشعبي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكل به إسرافيل فكان يتراءى له ثلاث سنين ويأتيه بالكلمة والشيء، ثم وكل به جبريل فجاءه بالقرآن.
وأما قوله -أعني ابن القيم: السادسة، ما أوحاه الله إليه فوق السماوات، يعني ليلة المعراج، السابعة كلام الله بلا واسطة. فإن أراد ما أوحاه إليه جبريل فهو داخل فيما تقدم، لأنه إما أن يكون جبريل في تلك الحالة على صورته الأصلية، أو على صورة الآدمي، وكلاهما قد تقدم ذكره...............................
__________
أنه ذكره في الروض، بقوله: "فقد ثبت في الطرق الصحاح" بفتح الصاد وكسرها، "عن عامر الشعبي" التابعي "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكل به" أي: قرن، كما هو المنقول عن الشعبي فيما يأتي، بلفظ: فقرن بنبوته، "إسرافيل" على الثابت عن الشعبي لا ميكائيل وإن جزم به ابن التين، قاله الشامي: كالحافظ.
"فكان يتراءى" أي: يظهر، "له" بحيث يراه النبي صلى الله عليه وسلم "ثلاث سنين" بناء على الظاهر من الرؤية، وقيل: كان يسمعه ولا يراه فإن صح، فيحتمل أنه قبل النبوة وأنه بعدها، ولا يلزم من الترائي الرؤية بل مجرد الالتقاء نحو: فلما تراءت الفئتان، أي: التقت، "ويأتيه بالكلمة" أي: اللفظ الذي يخاطبه به "والشيء" الأفعال والآداب التي يعلمه إياها وهذا أولى من أن الشيء تفسيري، "ثم وكل" قرن "به جبريل" ليوحي إليه ما يؤمر بتبليغه له "فجاءه بالقرآن" والوحي هكذا بقية كلام الروض، وكان المصنف حذفه؛ لأنه لم يقع في المسند عن الشعبي، كما يأتي فعله اقتصر على القرآن؛ لأنه الذي انفرد به جبريل، ولأنه أعظم المعجزات، وظاهر هذا الأثر: أن جبريل لم يأته تلك المدة وقد ورد أنه لم ينقطع عنه، وجمع بأنه كان يأتيه فيها أحيانًا، وإسرافيل قرن به ليفعل معه كل ما يحتاج له، فقد اجتمعا في المجيء إليه فيا لكن أثر الشعبي هذا وإن صح إسناده إليه مرسل أو معضل وقد عارضه ما هو أصح منه؛ كما يأتي قريبًا. وقد أنكر الواقدي كون غير جبريل وكل به، قال الشامي: وهو المعتمد، انتهى. فلذا لم يذكره ابن القيم.
"وأما قوله -أعني ابن القيم- السادسة ما أوحاه الله إليه فوق السماوات، يعني: ليلة المعراج" مع قوله: "السابعة: كلام الله بلا واسطة" فلا يظهر التغاير بينهما حتى يجعلهما مرتبتين فلا يخلو من إرادة أحد أمرين، "فإن أراد ما أوحاه إليه جبريل" أي: ما أوحاه الله إليه على لسانه "فهو داخل فيما تقدم" له من المراتب وذلك "لأنه إما أن يكون جبريل في تلك الحالة على صورته الأصلية، أو على صورة الآدمي وكلاهما قد تقدم ذكره" في كلامه، فلا يصح كونها(1/431)
وإن أراد وحي الله إليه بلا واسطة -وهو الظاهر- فهي الصورة التي بعدها.
وأما قوله: وقد زاد بعضهم مرتبة ثامنة: وهي تكليم الله له كفاحًا بغير حجاب، فهذا على مذهب من يقول أنه عليه السلام رأى ربه تعالى، وهي مسألة خلاف يأتي الكلام عليها إن شاء الله تعالى.
ويحتمل أن ابن القيم رحمه الله أراد بالمرتبة السادسة وحي جبريل، وغاير بينه وبين ما قبله باعتبار محل الأحياء، أي كونه فوق السماوات، بخلاف ما تقدم، فإن كان في......................
__________
مرتبة مستقلة. "وإن أراد وحي الله إليه بلا واسطة" ملك "وهو الظاهر" المتبادر من قوله: أوحاه الله إليه، "فهي الصورة التي بعدها" وهي السابعة، وأجاب شيخنا: بأنه أراد الشق الأول ويمنع دخوله فيما قبله لجواز أنه أوحاه إليه بصفة من صفات الملائكة وليست صفته الأصلية، فإنه كما هو متمكن من مجيئه على صورة بني آدم، متمكن من مجيئه على صورة ليست مألوفة، ولا هي صورته الأصلية.
"وأما قوله: وزاد بعضهم مرتبة ثامنة، وهي: تكليم الله له كفاحًا بغير حجاب، فهذا" بناه "على مذهب من يقول: أنه عليه السلام رأى ربه تعالى" وأما على مذهب من قال: لم يره، فلا يصح عدها مرتبة زائدة لدخولها في السابعة، هذا تقريره.
قال شيخنا: ولا يتعين لجواز أنهما حالتان، وإن قلنا: بمنع الرؤية بأن يكون سمع الكلام بمجرده لكن مرة على وجه على غاية القرب اللائق به من كونه بعد مجاوزة الرفرف، ومرة فيما دون ذلك، قال: ويجوز التغاير أيضًا.
وإن قلنا: رآه بأن يكون كلمة مرة بدون واسطة ملك بلا رؤية، ومرة بعد مجاوزة الرفرف برؤية. "وهي مسألة خلاف" الراجح منه عند أكثر العلماء أنه رآه؛ كما قال النووي. "يأتي الكلام عليها إن شاء الله تعالى" في المقصد الخامس، ويأتي فيه ذكر الحجب، وكم هي في نفس كلام المصنف، وأنها بفرض صحتها، إنما هي بالنسبة إلى المخلوقين، أما هو تعالى فلا يحجبه شيء، ولذا قال ابن عطية ونقله عنه السبكي: معنى: {مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} أن يمع كلامه من غير أن يعرف له جهة ولا خبرًا، أي: من خفاء عن المتكلم لا يجده السامع ولا يتصور بذهنه، وليس كالحجاب الشاهد، انتهى.
"ويحتمل" في وجه التغاير بين السادسة والسابعة، "أن ابن القيم رحمه الله أراد بالمرتبة" السادسة وحي جبريل" لا ما هو الظاهر منه، "و" لكنه "غاير بينه وبين ما قبله" من المراتب الخمسة، "باعتبار محل الأحياء، أي: كونه فوق السماوات بخلاف ما تقدم، فإن كان في(1/432)
الأرض، ولا يقال، يلزم عليه أن تتعدد أقسام الوحي باعتبار البقعة التي جاء فيها إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو غير ممكن، لأنا نقول: الوحي الحاصل في السماء باعتبار في تلك المشاهد من الغيب نوع غير نوع الأرض على اختلاف بقاعها. انتهى.
قلت: ويزاد أيضًا:
كلامه تعالى له في المنام، كما في حديث الزهري: "أتاني ربي في أحسن صورة فقال: يا محمد أتدري فيم يختصم الملأ الأعلى".....................
__________
الأرض" والأولى جواب شيخنا المار: أنه باعتبار الصفة، "ولا يقال: يلزم" على هذا الاحتمال "أن تتعدد أقسام" أي: أنواع "الوحي باعتبار البقعة" بضم الباء أكثر من فتحها: القطعة من الأرض وجمعها على الضم بقع كغرف، وعلى الفتح بقاع ككلاب وأول جنسية فيصدق بجميع الأماكن التي نزل عليها فيها، فلا يرد أن الأولى التعبير بالجمع، "التي جاء فيها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو غير ممكن" لكثرة نزوله عليه في أماكن لا تحصى، "لأنا نقول: الوحي الحاصل في السماء باعتبار ما في تلك المشاهد من الغيب نوع غير الأرض على اختلاف بقاعها، انتهى" كلام الولي العراقي، ومحصله: أن جميع بقاع الأرض نوع واحد، وما في السماء نوع واحد، فلم يلزم تعدد أنواعه باعتبار البقعة.
"قلت: ويزاد أيضًا كلامه تعالى له في المنام" فقد عده في الروض منها، قال في الإتقان: وليس في القرآن من هذا النوع شيء فيما أعلم، نعم يمكن أن يعد منه آخر سورة البقرة وبعض سورة الضحى، و {أَلَمْ نَشْرَحْ} ، واستدل على ذلك بأخبار. "كما في حديث الزهري" نسبة إلى جده الأعلى زهرة بن كلاب القشي من رهط آمنة أم النبي صلى الله عليه وسلم اتفقوا على إتقانه وإمامته بسنده عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "أتاني" الليلة "ربي" تبارك وتعالى "في أحسن صورة" أي: صفة هي أحسن الصفات، وفي رواية: أحسبه قال: في المنام، "فقال: يا محمد، أتدري" وفي رواية: هل تدري، "فيم يختصم الملأ الأعلى" قال في النهاية: أي: فيم تتقاول الملائكة المقربون سؤالا وجوابًا فيما بينهم؟ وقال التوربشتي: المراد بالاختصام التقاول الذي كان بينهم في الكفارات والدرجات، شبه تقاولهم في ذلك وما يجري بينهم من السؤال والجواب بما يجري بين المتخاصمين، انتهى. أي: واستعير له اسمه ثم اشتق منه يختصم، فهو استعارة تصريحية تبعية.
وقال البيضاوي: هو إما عبارة عن تبادرهم إلى كتب تلك الأعمال والصعود بها إلى السماء، وإما عن تقاولهم في فضلها وشرفها وإنافتها على غيرها، وإما عن اغتباطهم الناس بتلك الفضائل لاختصاصهم بها وتفضيلهم على الملائكة بسببها مع تفاوتهم في الشهوات وتماديهم في(1/433)
الحديث.
ثم مرتبة أخرى، وهي العلم الذي يلقيه الله تعالى في قلبه وعلى لسانه عند الاجتهاد في الأحكام، لأنه اتفق على أنه عليه الصلاة والسلام إذا اجتهد أصاب قطعًا، وكان معصومًا من الخطأ، وهذا خرق للعادة في حقه دون الأمة، وهو يفارق النفث في الروع من حيث حصوله بالاجتهاد، والنفث بدونه.
ومرتبة أخرى: وهي مجيء جبريل في صورة رجل غير دحية................
__________
الجنايات، انتهى. "الحديث" تمامه: "قلت: لا، فوضع يده بين كتفي حتى وجدت بردها بين ثديي فعلمت ما في السماوات وما في الأرض، فقال: يا محمد، هل تدري فيم يخاصم الملأ الأعلى؟ قلت: نعم، في الكفارات والدرجات. فالكفارات: المكث في المساجد بعد الصلوات والمشي على الأقدام إلى الجماعات وإسباغ الوضوء في المكاره، قال: صدقت يا محمد، ومن فعل ذلك عاش بخير ومات بخير، وكان في خطيئته كيوم ولدته أمه، وقال: يا محمد! إذا صليت فقل: اللهم إني أسألك فعل الخيرات وترك المنكرات وحب المساكين وأن تغفر لي وترحمني وتتوب عليّ، وإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضني إليك غير مفتون، والدرجات: إفشاء السلام، وإطعام الطعام، والصلاة بالليل والناس نيام". رواه بتمامه عبد الرزاق وأحمد والترمذي والطبراني، عن ابن عباس مرفوعًا. والترمذي وابن مردويه والطبراني من حديث معاذ.
"ثم مرتبة أخرى، وهي العلم الذي يلقيه الله تعالى في قلبه وعلى لسانه عند الاجتهاد في الأحكام" على القول بأنه يجتهد، وإنما عد اجتهاده من مراتب الوحي؛ "لأنه اتفق على أنه عليه الصلاة والسلام إذا اجتهد أصاب قطعًا" إما لظهور الحق له ابتداء، وإما بالتنبيه عليه إن فرض خلافه فلا يقدح فيه القول بجواز وقوع الخطأ في اجتهاده، لكن لا يقر عليه. "وكان معصومًا من الخطأ" فلا يقع منه أصلا على الصحيح، "وهذا خرق لعادة في حقه دون الأمة، وهو" أي: العلم الحاصل بالاجتهاد، "يفارق النفث" أي: ما يحصل به، "في الروع" فالمشبه به ليس نفي النفث؛ لأنه إلقاء الملك في الروع ولا يحسن تشبيه العلم به.
"من حيث حصوله بالاجتهاد و" حصول "النفث" أي: أثره؛ لأنه الحاصل في الروع "بدونه" أي: الاجتهاد، "ومرتبة أخرى، وهي: مجيء جبريل في صورة رجل غير دحية" كما في الصحيحين عن أبي هريرة: كان النبي صلى الله عليه وسلم بارز للناس فأتاه رجل فقال: ما الإيمان ... الحديث، وفي رواية: فأتاه جبريل، وفي آخره: "هذا جبريل جاء يعلم الناس دينهم". ورواه مسلم أيضًا عن عمر، بلفظ: بينا نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم إذا طلع علينا رجل شديد بياض الثياب(1/434)
لأن دحية كان معروفًا عندهم، ذكره ابن المنير، وإن كانت داخلة في المرتبة الثالثة التي ذكرها ابن القيم.
وذكر الحليمي أن الوحي كان يأتيه على ستة وأربعين نوعًا، فذكرها، وغالبها -كما قال في فتح الباري- من صفات حامل الوحي، ومجموعها يدخل فيما ذكر والله أعلم.
__________
شديد سواد الشعر لا يرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منا أحد، فهذا صريح في أنه تمثل بصورة رجل غير دحية؛ "لأن دحية كان معروفًا عندهم، ذكره" أي: هذا النوع "ابن المنير" والأوفق ذكرها بالتأنيث؛ لقوله: مرتبة، ولقوله: "وإن كانت داخلة في المرتبة الثالثة التي ذكرها ابن القيم" لأنه صدرها بقوله: كان يتمثل له الملك رجلا، ولا ترد هذه على قول السبكي في تائيته:
ولازمك الناموس إما بشكله ... وإما بنفث أو بحلية دحية
لأن هذه الأحوال الثلاثة لما غلبت لم يعتد بغيرها، ولذا قال: ولازمك، على أنه أراد لازمك على الصورة التي تعلم منها حين المجيء أنه وحي، وأما هذه فلم يعلم أنه جبريل حتى ولي؛ كما دل عليه قوله في الصحيح: ثم أدبر، فقال: "ردوه". فلم يروا شيئًا، وصرح به في حديث أبي عامر، بلفظ: "والذي نفس محمد بيده، ما جاءني قط إلا وأنا أعرفه إلا أن تكون هذه المرة" وفي رواية سليمان التيمي وابن حبان: "والذي نفسي بيده، ما شبه عليّ منذ أتاني قبل مرتي هذه، وما عرفت به حتى ولى".
"وذكر الحليمي" بالتكبير نسبة إلى جد أبيه، فإنه العلامة البارع المحدث القاضي أبو عبد الله، الحسين بن الحسن بن محمد بن حليم الشافعي الفقيه صاحب اليد الطولى في العلم والأدب المفيدة، مات في ربيع الأول سنة ثلاث وأربعمائة.
"أن الوحي كان يأتيه على ستة وأربعين نوعًا، فذكرها وغالبها كما قال في فتح الباري: من صفات حامل الوحي، ومجموعها" أي: جملتها، "ويدخل فيما ذكر، والله أعلم" ومنها ما في الإتقان: أن الملك يأتيه في النوم، وهل نزل عليه فيه قرآن أم لا؟ والأشبه أنه نزل كله يقظة، وفهم فاهمون من خبر مسلم وأبي داود والنسائي، عن أنس: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا إذ غفى إغفاءة ثم رفع رأسه متبسمًا، فقلنا: ما أضحكك يا رسول الله؟ فقال: "أنزل علي آنفًا سورة"، فقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر: 1] إلى آخرها، إن الكوثر نزلت في تلك الإغفاءة؛ لأن رؤيا الأنبياء وحي. وأجاب الرافعي: بأنه خطر له في النوم سورة الكوثر المنزلة في اليقظة أو عرض عليه الكوثر الذي نزلت فيه السورة، فقرأها عليهم وفسرها لهم، أو الإغفاءة ليست نومًا بل هي البرحاء التي كانت تعتريه عند الوحي، قال صاحب الإتقان: والأخير أصح من(1/435)
وذكر ابن المنير أن الحال كان يختلف في الوحي باختلاف مقتضاه، فإن نزل بوعد وبشارة نزل الملك بصورة الآدمي، وخاطبه من غير كد، وإن نزل بوعيد ونذارة كان حينئذ كصلصلة الجرس. انتهى.
__________
الأول؛ لأن قوله: "أنزل علي آنفًا" يدفع كونها نزلت قبل ذلك، انتهى.
ووهم من ذكر هذا عند قوله الماهر كلامه تعالى له في المنام؛ لأنه في الإتقان إنما ذكره في مجيء الملك منامًا، وما ذكر في تلك المرتبة إلا ما قدمته عنه، ومنها: تصوره بصورة فحل من الإبل فاتحًا فاه ليلتقم أبا جهل لما أراد أن يلقي على النبي صلى الله عليه وسلم حجرًا كبيرًا وهو يصلي، وأخبر عليه السلام أنه جبريل، وما اقتضى منه دين الإراشي الذي مطله بثمن إبله وشكى لقريش فدلوه على المصطفى استهزاء لعلمهم بشدة عداوته، فلما أتاه قال: لا تبرح حتى يأخذ حقه، فعيره قريش؛ فقال: رأيت فحلا من الإبل لو امتنعت لأكلني، ذكرهما ابن إسحاق.
"وذكر" القاضي ناصر الدين أحمد بن محمد بن منصور المعروف بأنه "ابن المنير" الجروي الجذامي الإسكندري قاضيها وخطيبها المصقع الإمام العلامة البارع الفقيه الأصولي المفسر المتبحر في العلوم، ذو التصانيف الحسنة المفيدة والباع الطويل في التفسير والقراءات والبلاغة والإنشاء، توفي أول ربيع الأول سنة ثلاث وثمانين وستمائة عن ثلاث وستين سنة، قال العز بن عبد السلام: الديار المصرية تفتخر برجلين في طرفيها ابن دقيق العيد بقوص، وابن المنير بالإسكندرية.
"أن الحال كان يختلف في الوحي باختلاف مقتضاه، فإن نزل بوعد" خاص بالخير حيث أطلق كالعدة؛ كما قال الفراء ولذا عطف عليه، "وبشارة" بكسر الباء وتضم مختصة بالخير، حيث أطلقت أيضًا لبيان المراد به، ولعله أراد بها ما قابل التخويف بالعذاب، فشمل القصص والأحكام وغيرها مما لم يصرح فيه بالعذاب، على أن القصص باعتبار ما سيقت له، فيها إيماء بأن من لم يؤمن ربما يصيبه ما أصاب من فيهم القصص.
"نزل الملك بصورة الآدمي، وخاطبه من غير كد" إتعاب في تلقي الوحي، "وإن نزل بوعيد" بشر لاختصاصه به كالإبعاد، "ونذارة كان حينئذ كصلصلة الجرس" وظاهره: أنه لا فرق في انقسام ما نزل به إلى القسمين بين القرآن وغيره، ولعله أشار إلى أن هذا مراد ابن المنير، وإلا فالذي في كلامه تقسيم ما جاء به من القرآن إلى هذين ونظر فيه الحافظ بأن الظاهر: أنه لا يختص بالقرآن، ولما ذكر مراتب الوحي ناسب أن يذكر عدد مراته، وذكر غير المصطفى بيانًا لزيادة كرامته على ربه، وهذا أولى من جعله استطرادًا ولوقوعه في كلام الناقل عنه، فقال:(1/436)
وقد ذكر ابن عادل، في تفسيره: أن جبريل عليه السلام نزل على النبي صلى الله عليه وسلم أربعة وعشرين ألف مرة، ونزل على آدم اثنتي عشرة مرة، وعلى إدريس أربع مرات وعلى نوح خمسين مرة، وعلى إبراهيم اثنتين وأربعين مرة، وعلى موسى أربعمائة مرة، وعلى عيسى عشر مرات. كذا قال رحمه الله.
وقد روي: أن جبريل بدى له صلى الله عليه وسلم في أحسن صورة وأطيب رائحة فقال: يا محمد إن الله يقرئك السلام ويقول لك: أنت رسولي إلى الجن والإنس، فادعهم إلى قول لا إله إلا الله......................................
__________
"وقد ذكر ابن عادل في تفسيره أن جبريل عليه السلام نزل على النبي صلى الله عليه وسلم أربعة وعشرين ألف مرة، ونزل على آدم اثنتي عشرة مرة، ونزل على إدريس أربع مرات، وعلى نوح خمسين مرة، وعلى إبراهيم اثنتي وأربعين مرة" وفي كلام الحافظ عثمان الديمي أربعين فقط، "وعلى موسى أربعمائة مرة، وعلى عيسى عشر مرات" قال بعضهم: ثلاث مرات في صغره، وسبع مرات في كبره.
وزاد الحافظ الديمي، كما نقله عنه تلميذه الشمس التتائي في شرح الرسالة: وعلى يعقوب أربعًا، وعلى أيوب ثلاثًا. وظاهره، كابن عادل: أنه لم يبلغهما عدد في غيرهم، وظاهرهما أيضًا: أن نزوله على المذكورين يقظة، وفي الإتقان عن بعضهم: أن الوحي إلى جميعهم منامًا، إلا أولي العزم المصطفى ونوحًا وإبراهيم وموسى وعيسى، فإنه كان يأتيهم يقظة ومنامًا. وقال بعض: للملك صورتان: حقيقية ومثالية، فالحقيقية لم تقع إلا للمصطفى، والمثالية هي الواقعة لبقية الأنبياء، بل شاركهم فيها بعض الصحابة، انتهى.
"كذا قال، رحمه الله" تبرأ منه؛ لأنه لم يسنده ومثله يحتاج لتوقيف. "وقد روى" مرضه؛ لأن له طرقًا لا تخلو من مقال لكنها متعددة يحصل باجتماعها القوة، واعتضاد بعضها ببضع فيفيد أن للحديث أصلا. "أن جبريل بدا" أي: ظهر، وفي نسخة: تبدى، والأولى أوفق باللغة. "له صلى الله عليه وسلم" وهو بأعلى مكة؛ كما عند ابن إسحاق، أي: بجبل حراء؛ كما في الخميس، وهو يفسر قول زيد بن حارثة عند ابن ماجه وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول ما أوحي إليه أتاه جبريل فعلمه الوضوء، "في أحسن صورة وأطيب رائحة، فقال: يا محمد! إن الله يقرئك" بضم الياء والهمزة: من أقرأ، "السلام، ويقول لك: أنت رسولي إلى الجن والإنس" لعله اقتصر عليهما؛ لقوله: "فادعهم إلى قول لا إله إلا الله" أي: ومحمد رسول الله، فلا ينافي أنه مبعوث إلى الملائكة أيضًا على الأصح عند جمع محققين، منهم: البارزي وابن حزم والسبكي، أو لاختصاص الدعوة(1/437)
ثم ضرب برجله الأرض فنبعت عين ماء فتوضأ منها جبريل ثم أمره أن يتوضأ وقام جبريل يصلي وأمره أن يصلي معه فعلمه الوضوء والصلاة ثم عرج إلى السماء ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يمر بحجر ولا مدر ولا شجر إلا وهو يقول السلام عليك يا رسول الله، حتى أتى خديجة فأخبرها فغشي عليها من الفرح ثم أمرها فتوضأت وصلى بها كما صلى به جبريل فكان ذلك أول فرضها ركعتين ثم إن الله تعالى أقرها في السفر كذلك وأتمها في الحضر.
__________
في الابتداء بهما، ويأتي إن شاء الله تعالى بسط ذلك في الخصائص. "ثم ضرب برجله الأرض" من إطلاق الكل على الجزء، بدليل رواية ابن إسحاق وغيره، فهمز بعقبه بفتح السين وكسر القاف: مؤخر القدم.
"فنبعت عين ماء فتوضأ منها جبريل" زاد ابن إسحاق: ورسول الله ينظر إليه ليريه كيف الطهور إلى الصلاة, "ثم أمره أن يتوضأ" كما رآه يتوضأ، وروى أحمد وابن ماجه والحارث وغيرهم، عن أسامة بن زيد عن أبيه: أن جبريل أتى النبي صلى الله عليه وسلم في أول ما أوحى إليه فأراه الوضوء والصلاة، فلما فرغ من الوضوء أخذ غرفة من ماء فنضح بها فرجه، "وقام جبريل يصلي وأمره أن يصلي معه" زاد في رواية أبي نعيم عن عائشة: فصلى ركعتين نحو الكعبة، "فعلمه الوضوء والصلاة، ثم عرج إلى السماء ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يمر بحجر ولا مدر" محركة جمع مدرة: قطع الطين اليابس أو العلك الذي لا رمل فيه والمدن والحضر؛ كما في القاموس.
"ولا شجرة، إلا وهو يقول: السلام عليك يا رسول الله" يحتمل أنه صلى الله عليه وسلم كان يرد عليها مكافأة وإن لم يكن واجبًا، قال الدلجي: ورد بأن السلام شرع للتحية وليست من أهلها وبأنه يتوقف على بقل وفيه نظر، فإن المكافأة تكون ولو لغير الأهل، وهو لم يجزم به حتى طالب بنقل إنما أبداه احتمالا وهو كاف في مثل هذا.
وسار صلى الله عليه وسلم "حتى أتى خديجة، فأخبرها فغشي عليها من الفرح" زاد في رواية: ثم أخذ بيدها وأتى بها إلى العين فتوضأ ليريها الوضوء، "ثم أمرها فتوضأت وصلى بها كما صلى به جبريل" وزاد في رواية: وكانت أول من صلى. وفي رواية أبي نعيم، فقالت: أرني كيف أراك، فأراها فتوضأت ثم صلت معه، وقالت: أشهد أنك رسول الله، "فكان ذلك أول فرضها" أي الصلاة من حيث هي لا الخمس؛ لأن فرضها إنما كان صبح الإسراء، وهذه وقعت عقب الوحي؛ كما مر. والمراد: أول تقديرها، "ركعتين" فلا يخالف ما يجيء عن النووي من أنه لم يفرض قبل الخمس إلا قيام الليل، "ثم إن الله تعالى أقرها" أي: شرعها على هيئة ما كان يصليها قبل "في السفر كذلك" ركعتين، "وأتمها في الحضر" أربعًا وبهذا التقرير اندفع الإشكال.(1/438)
وقال مقاتل: كانت الصلاة أول فرضها ركعتين بالغداة وركعتين بالعشي، لقوله تعالى: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ} [غافر: 55] .
قال في فتح الباري: كان صلى الله عليه وسلم قبل الإسراء يصلي قطعًا، وكذلك أصحابه، ولكن اختلف: هل افترض قبل الخمس شيء من الصلاة أم لا؟ فقيل: إن الفرض كان صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها، والحجة فيه قوله تعالى: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} [طه: 130] . انتهى.
وقال النووي: أول ما وجب الإنذار والدعاء إلى التوحيد.............
__________
"وقال مقاتل" بن سلميان البلخي المفسر: قال ابن المبارك: ما أحسن تفسيره لو كان ثقة. وقال وكيع: كان كذابًا. وقال النسائي: يضع الحديث، مات سنة خمس ومائة، وقيل بعدها. "كانت الصلاة أول فرضها ركعتين بالغداة" وهي أول النهار، والمتبادر أنه كان يصليها قبل طلوع الشمس؛ كما يأتي عن الفتح. "وركعتين بالعشي" قبل غروبها، ويحتمل أنه كان يصليها قبل طلوع الشمس؛ كما يأتي عن الفتح. "وركعتين بالعشي" قبل غروبها، ويحتمل أنه كان يقرأ فيهما بما أتاه من سورة {اقْرَأ} [العلق: 1] ، حتى نزلت افاتحة، "لقوله تعالى: {وَسَبِّحَ} [غافر: 55] صل ملتبسًا {بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ} [غافر: 55] ، قيل: يرده ما جاء أن تاجرًا قدم الحج في الجاهلية، فأتى العباس ليبتاع منه فرأى النبي صلى الله عليه وسلم وخديجة وعليًا خرجوا من خباء، وصلى بهم حين زالت الشمس، وسأل التاجر العباس: فأخبره بهم وإن هذا الفعل صلاة مشروعة لهم ولا رد فيه، فقد قيل: العشي ما بين الزوال إلى الغروب، ومنه قيل للظهر والعصر: صلاتا العشي، وقيل: هو آخر النهار، وقيل: من الزوال إلى الصباح، وقيل: من الغرب إلى العتمة.
"قال في فتح الباري: كان صلى الله عليه وسلم قبل الإسراء يصلي قطعًا وكذلك أصحابه، ولكن اختلف هل افترض قبل الخمس شيء من الصلاة، أم لا؟ فقيل: إن الفرض كان صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها، والحجة فيه" أي: الدليل له، "قوله تعالى: {وَسَبِّحْ} " [طه: 130] ، أي: صل حال كونك ملتبسًا {بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا} [طه: 130] ، "انتهى".
"وقال النووي" الإمام الفقيه الحافظ الأوحد القدوة المتقن البارع الورع الزاهد الآمر بالمعروف الناهي عن المنكر التارك ملاذ الدنيا حتى الزواج المهاب عند الملوك شيخ الإسلام علم الأولياء: محيي الدين أبو زكريا يحيى بن شرف بن سرى المبارك له في علمه وتصانيفه لحسن قصده، المتوفى في رابع عشري رجب سنة ست وسبعين وستمائة عن ست وأربعين سنة، "أول ما وجب الإنذار والدعاء إلى التوحيد" لقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ، قُمْ فَأَنْذِرْ} ، [المدثر: 1، 2](1/439)
ثم فرض الله تعالى من قيام الليل ما ذكره في أول سورة المزمل، ثم نسخه بما في آخرها، ثم نسخه بإيجاب الصلوات الخمس ليلة الإسراء بمكة، وأما ما ذكره في هذه الرواية من أن جبريل علمه الوضوء وأمره به فيدل على أن فريضة الوضوء كانت قبل الإسراء.
ثم فتر الوحي فترة حتى شق عليه صلى الله عليه وسلم وأحزنه.
وفترة الوحي: عبارة عن تأخره مدة من الزمان، وكان ذلك ليذهب عنه ما كان يجده عليه السلام من الروع، وليحصل له التشوق إلى العود.
__________
"ثم فرض الله تعالى من قيام الليل" عليه وعلى أمته، "ما ذكره في أول سورة المزمل" بقوله: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ، قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا} [المزمل: 1، 2] ، نصفه أو أنقص منه قليلا أو زد عليه، "ثم نسخه بما في آخرها" من قوله: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} [المزمل: 20] ، إذ المراد: صلوا ما تيسر لكم، "ثم نسخه بإيجاب الصلوات الخمس ليلة الإسراء بمكة" فقد حكى الشيخ أبو حامد عن نص الشافعي: أن قيام الليل كان واجبًا أول الإسلام عليه وعلى أمته، ثم نسخ عنه بما في آخر سورة المزمل وعن أمته بالصلوات الخمس، قال النووي: وهو الأصح، أو الصحيح.
وفي مسلم عن عائشة ما يدل عليه، انتهى. لكن الذي عليه الجمهور وأكثر أصحاب الشافعي وغيرهم: أنه لم ينسخ؛ لقوله تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ} [الإسراء: 79] ، أي: عبادة زائدة في فرائضك، نعم نسخ الوجوب في حق الأمة وبقي الندب لأحاديث كثيرة.
"وأما ما ذكره في هذه الرواية من أن جبريل علمه الوضوء وأمره به، فيدل على أن فرضية الوضوء كانت قبل الإسراء" قال السهيلي: فالوضوء على هذا الحديث مكي بالفرض مدني بالتلاوة؛ لأن آية الوضوء مدنية، وإنما قالت عائشة: فأنزل الله آية التيمم، ولم تقل آية الوضوء وهي هي؛ لأن الوضوء كان مفروضًا قبل، غير أنه لم يكن قرآنًا يتلى حتى نزلت آية المائدة، انتهى. ثم عقب المصنف هذا المبحث بفترة الوحي لبيان أن الوضوء والصلاة كانا عقب الوحي قبل الفترة، خلافًا لمن توهم أنهما بعد نزول المدثر، فقال: "ثم فتر الوحي فترة حتى شق عليه صلى الله عليه وسلم وأحزنه" خوفًا أن يكون لتقصير منه، أو لما أخرجه من تكذيب من بلغه؛ كما مر عن عياض.
"وفترة الوحي كما قال في الفتح "عبارة عن تأخره مدة من الزمان، وكان ذلك ليذهب عنه ما كان يجده عليه السلام من الروع" بفتح الراء: الفزع، "وليحصل له التشوق إلى العود" فقد روى البخاري من طريق معمر ما يدل على ذلك، انتهى كلام الفتح. يعني: البلاغ(1/440)
وكانت مدة فترة الوحي ثلاث سنين، كما جزم به ابن إسحاق وفي تاريخ الإمام أحمد ويعقوب بن سفيان عن الشعبي: أنزل عليه النبوة وهو ابن أربعين سنة، فقرن بنبوته إسرافيل ثلاث سنين، وكان يعلمه الكلمة والشيء ولم ينزل عليه القرآن على لسانه، فلما مضت ثلاث سنين قرن بنبوته جبريل عليه السلام، فنزل عليه القرآن على لسانه عشرين سنة، وكذا رواه ابن سعد والبيهقي.
__________
المذكور آخر الحديث السابق.
"وكانت مدة فترة الوحي ثلاث سنين" قال السهيلي: جاء في بعض الأحاديث المسندة أنها سنتان ونصف، وفي رواية أخرى: أن مدة الرؤيا ستة أشهر، فمن قال: مكث بمكة عشرًا حذف مدة الرؤيا والفترة، ومن قال: ثلاث عشرة أضافهما، قال في الفتح: ولا يثبت وقد عارضه ما جاء عن ابن عباس أن مدة الفترة كانت أيامًا، انتهى. وقال مغلطاي في الزهر: يخدش فيه ما في تفسير ابن عباس إنها كانت أربعين يومًا.
وفي تفسير ابن الجوزي ومعاني الزجاج: خمسة عشر. وفي تفسير مقاتل: ثلاثة أيام، ولعل هذا هو الأشبه بحاله عند ربه، لا ما ذكره السهيلي، وجنح لصحته، انتهى. وعلى فرض الصحة جمع بأنها كانت سنتين ونصفًا، فمن قال: ثلاثة جبر الكسر، ومن قال: سنتان ألغاه، والمراد بأربعين فما دونها: إن مدة الانقطاع بحيث لا يأتيه فيها إسرافيل ولا جبريل اختلفت؛ فأقلها ثلاثة أيام وأكثرها أربعون، وفي بعضها: خمسة عشر، وبعضها: اثنا عشر.
وقوله: "كما جزم به" أي: بأنها ثلاث سنين، "ابن إسحاق" مخالف لقول العيون تبعًا للروض وفترة الوحي لم يذكر لها ابن إسحاق مدة معينة، انتهى.
وهو الصواب، وتبع المصنف في ذلك الحافظ كما تبعه السيوطي ورد على الثلاثة جميعًا بالصراحة الشامي، فقال: هذا وهم بلا شك وعزو ذلك بالجزم لابن إسحاق أشد، انتهى. "و" دليل كونها ثلاث سنين ما "في تاريخ الإمام أحمد" بن حنبل "ويعقوب بن سفيان" الحافظ "عن الشعبي" عامر بن شراحيل التابعي، أنه قال: "أنزل عليه" صلى الله عليه سلم "النبوة وهو ابن أربعين سنة، فقرن بنبوته إسرافيل ثلاث سنين، وكان يعلمه الكلمة" اللفظ الذي يخاطبه به، "والشيء" لأفعال الآداب التي يعلمها له، "ولم ينزل عليه القرآن على لسانه" لأن إنزال الكتب الإلهية من خصائص جبريل.
"فما مضت ثلاث سنين قرن بنبوته جبريل عليه السلام، فنزل عليه القرآن" وغيره "على لسانه" ومر أنه خص القرآن بالذكر لاختصاص جبريل به، "عشرين سنة، وكذا رواه" أي: أثر الشعبي "ابن سعد والبيهقي" وأثر الشعبي هذا وإن صح إسناده إليه مرسل أو معضل وكلاهما(1/441)
قد تبين أن نبوته عليه الصلاة والسلام كانت متقدمة على إرساله، كما قال أبو عمر..................
__________
من أقسام الضعيف وقد أنكره الواقدي، وقال: لم يكرم به من الملائكة إلا جبريل، قال الشامي: وهو المعتمد، انتهى.
وتوقف الحافظ فيه بأن المثبت مقدم على النافي إن لم يصحبه دليل نفيه، وجوابه قول الحافظ السيوطي: قد ورد ما يوهي أثر الشعبي، وهو ما أخرجه مسلم والنسائي والحاكم عن أبي عباس، قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس وعنده جبريل إذ سمع نقيضًا من السماء من فوق فرفع جبريل طرفه إلى السماء، فقال: يا محمد! هذا ملك قد نزل لم ينزل إلى الأرض قط، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسلم عليه، فقال: أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك، فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة.
قال جماعة من العلماء: هذا الملك إسرافيل، وأخرج الطبراني عن ابن عمر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لقد هبط علي ملك من السماء ما هبط على نبي قبلي ولا يهبط على أحد بعدي، وهو إسرافيل، فقال: أنا رسول ربي إليك، أمرني أن أخبرك إن شئت نبيًا عبدًا وإن شئت نبيًا ملكًا، فنظرت إلى جبريل فأومأ إلي أن تواضع، فلو أني قلت: نبيًا ملكًا لسارت معي الجبال ذهبًا"، قال: وهاتان القضيتان بعد ابتداء الوحي بسنين كما يعرف من سائر طرق الأحاديث وهما ظاهرتان في أن إسرافيل لم ينزل إليه قبل ذلك، فكيف يصح قول الشعبي أنه اتاه في ابتداء الوحي؟ انتهى.
وفي شرح البخاري للمصنف تبعًا للفتح قول الشعبي: معارض بما روي عن ابن عباس أن الفترة المذكورة كانت أيامًا قلائل فلا يحتج بمرسله لا سيما مع ما عارضه، انتهى. فلم تكن الفترة إلا أيامًا؛ كما قال مغلطاي: أنه الأشبه وصريح قوله في حديث البخاري المار: وفتر الوحي فترة حتى حزن حزنًا غدا منه مرارا كي يتردى من رءوس شواهق الجبال فكلما أوفى بذروة جبل تبدى له جبريل ... إلخ، وورد أنه لم ينقطع عنه كما مر، أي إلا أيامًا على أنه لو صح أن إسرافيل أتاه في الابتداء لم يمنع مجيء جبريل فكانا يختلفان في المجيء إليه زيادة إكرام له من ربه، وقد صرح في فتح الباري بأنه ليس المراد بفترة الوحي المقدرة بثلاث سنين بين نزول {اقْرَأْ} [العلق: 1] ، و {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} [المدثر: 1] ، عدم مجيء جبريل إليه بل تأخر نزول القرآن فقط. ا. هـ.
"فقد تبين" من جملة ما ساقه "أن نبوته عليه الصلاة والسلام كانت متقدمة على إرساله" لأن نزول {قُمْ فَأَنْذِرْ} [المدثر: 2] ، إنما كان بعد الفترة الواقعة بعد النبوة، "كما قال أبو عمر" بن(1/442)
وغيره، كما حكاه أبو أسامة بن النقاش. وكان في نزول سورة {اقْرَأْ} نبوته، وفي سورة المدثر إرساله بالنذارة والبشارة والتشريع، وهذا قطعًا متأخر عن الأول، لأنه لما كانت سورة {اقْرَأْ} متضمنة لذكر أطوار الآدمي: من الخلق والتعليم والإفهام، ناسب أن تكون أول سورة أنزلت، وهذا هو الترتيب الطبيعي، وهو أن يذكر سبحانه وتعالى ما أسداه إلى نبيه عليه الصلاة والسلام من العلم والفهم والحكمة والنبوة، ويمن عليه بذلك في معرض تعريف عباده بما أسداه إليهم من نعمة البيان الفهمي والنطقي والخطي، ثم يأمره سبحانه وتعالى أن يقوم فينذر عباده.
__________
عبد البر "وغيره؛ كما حكاه أبو أسامة بن النقاش، وكان" الأول الفاء؛ لأنه بيان لسبق نبوته، "في نزول سورة {اقْرَأْ} نبوته، وفي سورة المدثر إرساله بالنذارة والبشارة والتشريع، وهذا قطعًا متأخر عن الأول" فيفيد المدعي، وهو سبق النبوة؛ "لأنه لما كانت سورة اقرأ متضمنة لذكر أطوار" جمع طور، أي: أحوال، "الآدمي من الخلق والتعليم والإفهام ناسب أن تكون أول سورة أنزلت، وهذا هو الترتيب الطبيعي وهو أن يذكر سبحانه وتعالى ما أسداه إلى نبيه عليه الصلاة والسلام من العلم والفهم والحكمة والنبوة، ويمن عليه بذلك في معرض" بفتح الميم وكسر الراء، أي: موضع ظهوره "تعريف عباده بما أسداه" أوصله "إليهم من نعمة البيان الفهمي والنطقي والخطي، ثم يأمره سبحانه وتعالى أن يقوم فينذر عباده" فلهذه النكتة كانت النبوة سابقة، وقيل: هما متقارنان.
وذكر شيخنا فيما مر عن بعض شيوخه أنه الصحيح، قال: ويؤيده أن الوضوء والصلاة كانا أول الوحي مع نزول {اقْرَأْ} [العلق: 1] ، فإن مفاده أنه لم يأمر خديجة وعليًا بهما إلا بعد الوحي إليه بذلك، وهذا عين الرسالة وتأخر إظهارها لا يضر؛ لجواز أنه أمر بالتبليغ حالا لمن علم ابنه وعدم إبائه؛ كما كان يصلي مستخفيًا، "والله أعلم" بحقيقة ذلك.(1/443)
"ذكر أول من آمن بالله ورسوله":
وكان أول من آمن بالله وصدق صديقة النساء خديجة، فقامت بأعباء الصديقية. قال لها عليه الصلاة والسلام: $"خشيت على نفسي". فقالت له: أبشر فوالله لا يخزيك الله أبدًا. ثم استدلت بما فيه من الصفات والأخلاق والشيم على أن من كان كذلك لا يخزى أبدًا.
__________
ذكر أول من آمن بالله ورسوله:
"وكان أول" بالنصب "من آمن بالله وصدق" عطف تفسير، فالإيمان التصديق، "صديقة" بالرفع اسم كان ويجوز عكسه، الأول أولى إذ المجهول الأولية وأضافها لقوله: "النساء" أي: الدائمة الصدق منهن مع اختصاص الصديقة بالنساء دفعًا لتوهم أنها صديقة الأمة فيوهم تميزها على أبي بكر، "خديجة" قاله ابن إسحاق وموسى بن عقبة والواقدي والأموي وغيرهم، قال النووي: عند جماعة من المحققين، وحكى الثعلبي وابن عبد البر والسهيلي عليه الاتفاق.
وقال ابن الأثير؛ لم يتقدمها رجل ولا امرأة بإجماع المسلمين، "فقامت بأعباء" أي: بالمشاق التي يطلب تحملها وفاء بحقوق "الصديقية" والأعباء في الأصل: الثقل، فشبه الأحوال بها مبالغة ودليل قيامها بتلك الحقوق أنه "قال لها عليه الصلاة واللام" لما رجع يرجف فؤاده بعد مجيء جبريل له: "خشيت على نفسي". فقالت له: أبشر. بهمزة قطع "فوالله لا يخزيك الله أبدًا، ثم استدلت" على ذلك "بما فيه من الصفات" الحميدة كقرى الضيف وحمل الكل، "والأخلاق" الزكية المرضية، أي: الملكات الحاملة على الأفعال الحسنة، "والشيم" بمعنى الأخلاق، فالعطف مساوٍ وعطفهما على الصفات عطف سبب على مسبب، "على أن من كان كذلك لا يخزى أبدًا" وهو من بديع علمها وقوة عارضتها.
قال ابن إسحاق: وآزرته على أمره فخفف الله بذلك عنه، فكان لا يسمع شيئًا يكرهه من رد وتكذيب إلا فرج الله عنه بها إذا رجع إليها تثبته وتخفف عنه وتصدقه وتهون عليه أمر الناس، ولهذا السبق وحسن المعروف جزاها الله سبحانه فبعث جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو بغار حراء كما في رواية الطبراني، وقال له: "اقرأ عليها السلام من ربها ومني وبشرها ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب"؛ كما في الصحيح.
وفي الطبراني: فقالت هو السلام ومنه السلام وعلى جبريل السلام. وفي النسائي: وعليك يا رسول الله السلام ورحمة الله وبركاته، وهذا من وفور رفقها حيث جعلت مكان رد السلام على الله الثناء عليه، ثم غايرت بين ما يليق به وما يليق بغيره. قال ابن هشام: والقصب هنا اللؤلؤ المجوف، وأبدى السهيلي لنفي الصخب والنصب لطيفة هي أنه صلى الله عليه وسلم ما عاد إلى الإيمان أجابت طوعًا ولم تحوجه لرفع صوت ولا منازعة ولا نصب، بل أزالت عنه كل تعب وآنسته من كل وحشة وهونت عليه كل عسير، فناسب أن تكون منزلتها التي بشرها بها وبها بالصفة المقابلة لفعلها وصورة حالها رضي الله عنها، واقرأ السلام من ربها خصوصية لم تكن لسواها ولم تسؤه صلى الله عليه وسلم قط، ولم تغاضبه وجازاها فلم يتزوج عليها مدة حياتها وبلغت منه ما لم تبلغه امرأة قط من زوجاته.(1/444)
وكان أول ذكر آمن بعدها صديق الأمة، وأسبقها إلى الإسلام أبو بكر، فآزره في الله. وعن ابن عباس أنه أول الناس إسلامًا، واستشهد بقول حسان بن ثابت:
إذا تذكرت شجوى من أخي ثقة ... فاذكر أخاك أبا بكر بما فعلا
خير البرية أتقاها وأعدلها ... بعد النبي.............
__________
"وكان أول" بالنصب والرفع على ما مر رجل "ذكر آمن بعدها صديق الأمة" لسبقه بتصديق النبي صلى الله عليه وسلم، وروى الطبراني برجال ثقات: أن عليًا كان يحلف بالله أن الله أنزل اسم أبي بكر من السماء الصديق وحكمه الرفع فلا مدخل فيه للرأي، وقيل: كان ابتداء تسميته بذلك صبيحة الإسراء، "وأسبقها" أي: الأمة بعد خديجة "إلى الإسلام أبو بكر" بدل أو عطف بيان لصديق على أنه اسم كان، وعلى أنه خبرها فهو خبر مبتدأ محذوف، أي: وهو أبو بكر عبد الله بن عثمان أبي قحافة على المشهور، ويقال: كان اسمه قبل الإسلام عبد الكعبة، قاله الفتح.
وفي جامع الأصول يقال: كان اسمه في الجاهلية عبد رب الكعبة، فغيره صلى الله عليه وسلم إلى عبد الله، وينافيه ما روى ابن عساكر عن عائشة أن اسمه الذي سماه به أهله عبد الله ولكن غلب عليه اسم عتيق، إلا أن يكون سمي بهما حين الولادة، لكن اشتهر في الجاهلية بذاك وفي الإسلام بعبد الله، فمعنى سماه النبي صلى الله عليه وسلم قصر اسمه على عبد الله.
قال في الفتح: وكان يسمى أيضًا عتيقًا واختلف في أنه اسم أصلي له، أو لأنه ليس في نسبة ما يعاب به أو لقدمه في الخبر ولسبقه إلى الإسلام، أو لحسنه، أو لأن أمه استقبلت به البيت، وقالت: اللهم هذا عتيقك من الموت؛ لأنه كان لا يعيش لها ولد، أو لأن النبي صلى الله عليه وسلم بشره بأن الله أعتقه من النار؛ كما في حديث عائشة عند الترمذي، وصححه ابن حبان، انتهى. قال الزمخشري: ولعله كني بأبي بكر لابتكاره الخصال الحميدة، انتهى. ولم أقف على من كناه به هل المصطفى أو غيره.
"فآزره" بالهمز، أي: واساه وعاونه، وبالواو شاذ؛ كما في القاموس. "في" نصر دين "الله" بنفسه وماله، "وعن ابن عباس: أنه أول الناس إسلامًا، واستشهد" ابن عباس، وفي لفظ: وتمثل، "يقول حسان بن ثابت" الأنصاري "إذا تذكرت شجوًا" أي: همًا وحزنًا يريد ما كابده أبو بكر، فأطلق عليه شجوًا لاقتضائه ذلك، أو أراد حزنه مما حرى على المصطفى "من أخي ثقة" أي: صديق أو صاحب ائتمان، والمعنى: إذا تذكرت من يقتدي به في تحمل المشاق القلبية والبدنية لأجل صديقه، "فاذكر أخاك أبو بكر بما فعلا" صلة اذكر، وما مصدرية، أي: تذكر بفعله الجميل "خير البرية" بالنصب بدل من "أبا بكر" أو صفة له "أتقاها" صفة بعد صفة والعاطف مقدم، "وأعدلها بعد النبي" تنازعه خير البرية وما عطف عليه وأل للعهد وهو المصطفى، فالمراد بالبرية(1/445)
........................... ... ......... وأوفاها بما حملا
والثاني التالي المحمود مشهده ... وأول الناس قدمًا صدق الرسلا
رواه أبو عمر.
__________
أمته، وبالبعدية في رتبة الفضل لا الزمانية، فإن خيريته وما بعدها كان ثابتًا في حياته صلى الله عليه وسلم، هكذا نبهنا عليه شيخنا العلامة البابلي لما قرأ قول البخاري باب فضل أبي بكر بعد النبي صلى الله عليه وسلم، أو أل للاستغراق فالمراد بها من عدا الأنبياء.
"وأوفاها" اسم تفضيل من وفى بالعهد، أي: أحفظها "بما حملا" أي: بالذي حمله عنه عليه السلام من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والقيام بحقوق الله وآدابه، وعطف على خير، قوله: "والثاني" للنبي صلى الله عليه وسلم في الغار و"التالي" التابع له باذلا نفسه مفارقًا أهله وماله ورئاسته في طاعة الله ورسوله وملازمته ومعاديًا للناس فيه جاعلا نفسه وقاية عنه، وغير ذلك من سيره الحميدة التي لا تحصى، بحيث قال صلى الله عليه وسلم: "إن من أمن الناس علي في صحبته وماله أبا بكر"، وقال: "ما أحد أعظم عندي يدًا من أبي بكر، واساني بنفسه وماله"، رواه الطبراني. وقال: "إن أعظم الناس علينا منًّا أبو بكر زوني ابنته وواساني بنفسه" رواه ابن عساكر.
وقال الشعبي: عاتب الله أهل الأرض جميعًا في هذه الآية، أي آية: {إِلَّا تَنْصُرُوهُ} [التوبة: 40] ، غير أبي بكر، وقد جوزي بصحبة الغار الصحبة على الحوض؛ كما في حديث ابن عمر رفعه: "أنت صاحبي على الحوض وصاحبي في الغار" فيا نعم الجزاء "المحمود مشهده" بفتح الهاء، أي: الممدوح مكان حضوره من الناس؛ لأنه كما قال ابن إسحاق: كان رجلا مؤلفًا لقومه محببًا سهلا، وكان أنسب قريش لقريش وأعلمهم بها، وبما كان فيها من خير وشر، وكان تاجرًا ذا خلق حسن ومعروف، وكان رجال من قومه يأتونه ويألفونه لعلمه وتجارته وحسن مجالسته، فجعل يدعو إلى الإسلام من وثق به من قومه ممن يغشاه ويجلس إليه، فأسلم بدعائه جماعة عدهم كما يأتي.
"وأول الناس قدمًا" بكسر القاف وسكون الدال تخفيفًا، وأصلها الفتح، أي: قديمًا، أو بضم القاف وسكون الدال، أي: تقدمًا، وهو معمول لقوله: "صدق الرسلا" بالجمع؛ لأن تصديقه تصديق لجميعهم؛ كما في نحو: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء: 105] ، وفي نسخة منهم بذل قدمًا، أي: حال كونه معدودًا منهم لمهماتهم فصرح بأنه أول من بادر لتصديق المرسلين، وهو محل الاستشهاد من الأبيات والألف في آخر كل منها للإطلاق، وهو إشباع حركة الروي فيتولد منها حرف مجانس لها. "رواه أبو عمر" بن عبد البر، وكذا الطبراني في الكبير.(1/446)
وممن وافق ابن عباس وحسانا على أن الصديق أول الناس إسلامًا، أسماء بنت أبي بكر، والنخعي وابن الماجشون ومحمد بن المنكدر والأخنس.
__________
وروى الترمذي عن أبي سعيد، قال: أبو بكر: ألست أول من أسلم "وممن وافق ابن عباس وحسانًا" بالصرف ومنعه على أنه من الحسن أو الحسن، قال الجوهري، لكن قال ابن مالك: المسموع فيه منع الصرف. "على أن الصديق أول الناس إسلامًا أسماء بنت أبي بكر" ذات النطاقين زوج الزبير المتوفاة بمكة سنة ثلاث وسبعين، وقد بلغت المائة ولم يسقط لها سن، ولم يتغير لها عقل.
"و" إبراهيم بن يزيد بن قيس "النخعي" بفتح النون والخاء المعجمة نسبة إلى النخع قبيلة الكوفي الفقيه الحافظ التابعي الوسط المتوفى وهو مختف من الحجاج سنة ست وتسعين، "وابن الماجشون" بفتح الجيم وكسرها وضم الشين، لفظ: فارسي لقب به؛ لأنه تعلق من الفارسية بكلمة: إذ لقي الرجل يقول: شوني شوني، قاله الإمام أحمد، أو لأنه لما نزل المدينة كان يلقى الناس ويقول: جوني جوني، قاله ابن أبي خيثمة أو لحمرة وجنتيه، سمي بالفارسية المايكون فعربه أهل المدينة بذلك، قاله الحربي.
وقال الغساني: هو بالفارسية الماهكون فعرب، ومعناه: المورود، ويقال: الأبيض الأحمر. وقال الدارقطني: لحمرة وجهه، ويقال: أن سكينة بالتصغير بنت الحسين بن علي لقبته بذلك، وقال البخاري في تاريخه الأوسط: الماجشون هو يعقوب بن أبي سلمة أخو عبد الله، فجرى على بنيه وبني أخيه.
"ومحمد بن المنكدر" بن عبد الله التيمي التابعي الصغير كثير الحديث عن أبيه، وجابر وابن عمر وابن عباس وأبي أيوب وأبي هريرة وعائشة وخلق، وعنه الزهري ومالك وأبو حنيفة وشعبة والسفيانان، قال ابن عيينة: كان من معادن الصدق ويجتمع إليه الصالحون، مات سنة ثلاثين، وقيل: إحدى وثلاثين ومائة.
"والأخنس" بفتح الهمزة وخاء معجمة ساكنة ونون مفتوحة وسين مهملة، ابن شريق بفتح المعجمة وكسر الراء وتحتية وقاف الثقفي، واسم الأخنس أبي حليف بني زهرة صحابي من مسلمة الفتح، وشهد حنينًا وأعطي مع المؤلفة وتوفي أول خلافة عمر، ذكره الطبري وابن شاهين هذا على ما في النسخ.
والذي عند البغوي بدله والشعبي، وكذا رواه عنه في المستدرك ووقوع إسلام الصديق عقب خديجة؛ لأنه كان يتوقع ظهور نبوته عليه السلام لما سمعه من ورقة، وكان يومًا عند حكيم بن حزام إذ جاءت مولاة له، فقالت: إن عمتك خديجة تزعم في هذا اليوم أن زوجها نبي(1/447)
.............................................
__________
مرسل مثل موسى، فانسل أبو بكر حتى أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأسلم.
وروى ابن إسحاق بلاغًا: ما دعوت أحدا إلى الإسلام إلا كانت عنده كبوة ونظر وتردد، إلا ما كان من أبي بكر ما عكم عنه حين ذكرت له، قال ابن هشام قوله: ما عكم، أي: تلبث. قال في الروض: وكان من أسباب توفيق الله له أنه رأى القمر نزل مكة ثم تفرق على جميع منازلها وبيوتها فدخل في كل بيت منه شعبة، ثم كان جمعه في حجرة فقصها على بعض الكتابيين فعبرها له بأن النبي المنتظر الذي قد أطل زمانه يتبعه ويكون أسعد الناس به، فلما دعاه صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام لم يتوقف.
وذكر ابن الأثير في أسد الغابة وابن ظفر في البشر عن ابن مسعود: أن أبا بكر خرج إلى اليمن قبل البعثة، قال: فنزلت على شيخ قد قرأ الكتب وعلم من علم الناس كثيرًا, فقال: أحسبك حرميًا؟ قلت: نعم، وأحسبك قرشيًا؟ قلت: نعم، وأحسبك تيميًا؟ قلت: نعم، قال: بقيت لي فيك واحدة، قلت: وما هي؟ قال: تكشف لي عن بطنك، قلت: لا أفعل، أو تخبرني لم ذاك، قال: أجد في العلم الصحيح الصادق أن نبيًا يبعث في الحرم يعاونه على أمره فتى وكهل، أما الفتى فخواض غمرات ودفاع معضلات، وأما الكهل فأبيض نحيف على بطنه شامة وعلى فخذه اليسرى علامة، وما عليك إلا أن تريني ما سألتك، فقد تكاملت لي فيك الصفة إلا ما خفي علي، فكشفت له بطني فرأى شامة سوداء فوق سرتي، فقال: أنت هو ورب الكعبة! وإني متقدم إليك في أمره، قلت: وما هو؟ قال: إياك والميل عن الهدى وتمسك بالطريق الوسطى، وخف الله فيما خولك وأطاك فقضيت باليمن أربي، ثم أتيت الشيخ لأودعه، فقال: أحامل أنت مني أبياتًا إلى ذلك النبي؟ قلت: نعم، فذكر أبياتًا، فقدمت مكة، وقد بعث صلى الله عليه وسلم فجاءني صناديد قريش، فقلت: نابكم أو ظهر فيكم أمر؟ قالوا: أعظم الخطب يتيم أبي طالب يزعم أنه نبي، ولولا أنت ما انتظرنا به والكفاية فيك، فصرفتهم على أحسن شيء وذهبت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقرعت عليه الباب فخرج إلي، فقلت: يا محمد! قدحت منازل أهلك وتركت دين آبائك؟ فقال: "إني رسول الله إليك وإلى الناس كلهم، فآمن بالله"، قلت: وما دليلك؟ قال: "الشيخ الذي لقيته باليمن"، قلت: وكم لقيت من شيخ باليمن، قال: "الذي أفادك الأبيات"، قلت: ومن أخبرك بهذا يا حبيبي؟ قال: "الملك المعظم الذي يأتي الأنبياء قبلي" قلت: مد يدك، فأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، فانصرفت وقد سر صلى الله عليه وسلم بإسلامي. وفي سياقه نكارة، فإن كان محفوظًا أمكن الجمع بأن سفره لليمن قبل البعثة؛ كما صرح به ورجوعه عقب إسلام خديجة، واجتمع بحكيم وسمع الخبر عنده ولقيه الصناديد، وقالوا له ما ذكر، فأتاه صلى الله عليه وسلم وآمن به(1/448)
وقيل: إن علي بن أبي طالب أسلم بعد خديجة، وكان في حجر النبي صلى الله عليه وسلم. فعلى هذا يكون أول من أسلم من الرجال أبو بكر، ويكون علي أول صبي أسلم، لأنه كان صبيًا لم يدرك، ولذا قال:
__________
بعد حصول الأمرين.
وأما الجمع بأنه آمن به أولا ثم سافر إلى اليمن ولم يظهر إسلامه لقومه، فلما رجع وأخبروه بذلك أتى المصطفى وأظهر إسلامه بين يديه ثنيًا، ففاسد لتصريحه بأن سفره قبل البعثة، ولأنه لو كان آمن ما خاشنه في الخطاب، بقوله: يا محمد! قدحت ... إلخ، على أنه مما لا يليق التفوه به في هذا المقام، كيف وقد صرح غير واحد، منهم ابن إسحاق بأنه لما أسلم أظهر إسلامه، ودعا إلى الله ورسوله.
"وقيل: إن علي بن أبي طالب" الهاشمي "أسلم بعد خديجة" قبل الصديق، قطع به ابن إسحاق وغيره محتجين بحديث أبي رافع: "صلى النبي صلى الله عليه وسلم أول يوم الاثنين، وصلت خديجة آخره، وصلى علي يوم الثلاثاء"، رواه الطبراني، وبما في المستدرك: نبئ النبي يوم الاثنين، وأسلم علي يوم الثلاثاء، وروى ابن عبد البر: أن محمد بن كعب القرظي سئل عن أولهما إسلامًا، فقال: سبحان الله علي أولهما إسلامًا، وإنما اشتبه على الناس؛ لأن عليًا أخفى إسلامه عن أبيه وأبو بكر أظهره، "وكان" مما أنعم الله به عليه؛ كما قال ابن إسحاق: أنه كان "في حجر" مثلث الحاء، أي: منع "النبي صلى الله عليه وسلم" وكفالته وحفظه مما لا يليق به، وذلك أن قريشًا أصابتهم أزمة شديدة، وكان أبو طالب ذا عيال كثيرة، فقال صلى الله عليه وسلم للعباس، وكان من أيسر بني هاشم: "يا عباس، إن أخاك أبا طالب كثير العيال، وقد أصاب الناس ما ترى هذه الأزمة، فانطلق بنا إليه فلنخفف من عياله، آخذ من بنيه رجلا، وتأخذ أنت رجلا، فنكفهما عنه" قال العباس: نعم، فانطلقا حتى أتياه وأخبراه بما أراد، فقال: إذا تركتماني عقيلا، ويقال: وطالبًا، فاصنعا ما شئتما، فأخذ المصطفى عليًا، فلم يزل معه حتى بعثه الله فاتبعه وآمن به وصدقه، وأخذ العباس جعفرًا فلم يزل عنده حتى أسلم، واستغنى عنه.
"فعلى هذا" المذكور من كونه في حجر النبي لا تنافي بين القولين في أيهما بعد خديجة لإمكان الجمع؛ كما قال السهيلي بأنه "يكون أول من أسلم من الرجال" البالغين "أبو بكر، ويكون عليّ أول صبي أسلم، لأنه كان صبيًا لم يدرك" أي: لم يبلغ، "ولذا قال" علي: ما حكى أن معاوية كتب إليه: يا أبا حسن، إن لي فضائل أنا صهر رسول الله صلى الله عليه وسلم وكاتبه، فقال علي: والله ما أكتب إليه إلا شعرًا، فكتب:
محمد النبي أخي وصهري ... وحمزة سيد الشهداء عمي(1/449)
سبقتكم إلى الإسلام طرًا ... صغيرًا ما بلغت أوان حلمي
وكان سن علي إذ ذاك عشر سنين، فيما حكاه الطبري.
وقال ابن عبد البر: وممن ذهب إلى أن عليًا أول من أسلم من الرجال:
__________
وجعفر الذي يضحى ويمسي ... يطير مع الملائكة ابن أمي
وبنت محمد سكني وعرسي ... مشوب لحمها بدمي ولحمي
وسبطا أحمد ابناي منها ... فمن منكم له سهم كسهمي
"سبقتكم إلى الإسلام طرا ... صغيرًا ما بلغت أوان حلمي"
فلما قرأ معاوية الكتاب، قال: مزقه يا غلام لا يراه أهل الشام، فيميلوا إلى ابن أبي طالب. قال البيهقي: هذا الشعر مما يجب على كل متوان في علي حفظه ليعلم مفاخره في الإسلام. وطرا بضم الطاء المهملة وفتحها، أي: جميعًا وما بلغت بيان للمراد من صغيرًا؛ لأن الصغر يتفاوت. وحلمي بضم المهملة وسكون اللام على إحدى اللغتين والثانية بضمهما، أي: احتلامي، أي: خروج المني. وزعم المازني، وصوبه الزمخشري: أنه لم يقل غير بيتين هما:
تلكم قريش تمناني لتقتلني ... فلا وربك ما بروا ولا ظفروا
فإن هلكت فرهن ذمتي لهم ... بذات ودقين لا يعفو لها أثر
وذات ودقين الداهية كأنها ذات وجهين، ذكره القاموس. وهو مردود بما في مسلم، فقال علي، أي: مجيبًا لمرحب اليهودي:
أنا الذي سمتني أمي حيدره ... كليث غابات كريه المنظره
أوفيهم بالصاع كيل السندره
وروى الزبير بن بكار في عمارة المسجد النبوي، عن أم سلمة, وقال علي بن أبي طالب:
لا يستوي من يعمر المساجدا ... بدأت فيها قائمًا وقاعدا
ومن يرى عن التراب حائدا
"وكان سن علي إذا ذاك عشر سنين، فيما حكاه الطبري" وهو قول ابن إسحاق: واقتصر المصنف عليه لقول الحافظ أنه أرجح الأقوال، وروى ابن سفيان بإسناد صحيح عن عروة، قال: أسلم علي وهو ابن ثمان سنين، وصدر به في العيون، لكن ابن عبد البر بعد أن حكاه عن أبي الأسود يتيم عروة، قال: لا أعلم أحدًا قال كقوله، وقيل: اثنتي عشرة، وقيل: خمس عشرة، وقيل: ست، وقيل: خمس، حكاهما العراقي.
"وقال ابن عبد البر: وممن ذهب إلى أن عليًا أول من أسلم من الرجال" أي: الذكور(1/450)
سلمان وأبو ذر والمقداد وخباب وجابر وأبو سعيد الخدري، وزيد بن الأرقم، وهو قول ابن شهاب وقتادة وغيرهم.
قال: واتفقوا على أن خديجة أول من أسلم مطلقًا.
وقيل: أول رجل أسلم ورقة بن نوفل. ومن يمنع، يدعى أنه أدرك نبوته عليه السلام لا رسالته......................................
__________
وإن كان صبيًا، "سلمان" الفارسي "وأبو ذر" جندب بن جنادة الغفاري الزاهد أحد السابقين، روى الطبراني عنهما، قالا: أخذ صلى الله عليه وسلم بيد علي، فقال: "إن هذا أول من آمن بي"، "وخباب" بفتح المعجمة وشد الموحدة فألف فموحدة ابن الأرت بشد الفوقية التميمي البدري أحد السباق، روى عنه علقمة وقيس بن أبي حازم، توفي سنة سبع وثلاثين. "وجابر" بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما، "وأبو سعيد" سعد بن مالك بن سنان، "الخدري" بدال مهملة، "وزيد بن الأرقم" بن زيد بن قيس الخزرجي أول مشاهده الخندق، وأنزل الله تصديقه في سورة المنافقين، مات سنة ست أو ثمان وستين، والروايات عن هؤلاء بكونه أول من أسلم عند الطبراني بأسانيده، ورواه، أعني الطبراني بسند صحيح عن ابن عباس موقوفًا، وبسند ضعيف عنه مرفوعًا، ورواه الترمذي من طريق آخر عنه موقوفًا. "وهو قول" محمد بن مسلم بن عبد الله بن عبيد الله "ابن شهاب" نسب إلى جد جده لشهرته، "وقتادة" بن دعامة الأكمه "وغيرهم" بالرفع، أي: غير سلمان، ومن عطف عليه كأبي أيوب ويعلى بن مرة وعفيف الكندي وخزيمة بن ثابت وأنس؛ كما أسنده عنهم الطبراني، "قال" الحافظ في التقريب: ورجحه جمع، وجملة: وهو قول معترضة ويصح جر غير بناء على أن الجمع ما فوق الواحد، ونشد المرزبان لخزيمة في علي:
أليس أول من صلى لقبلتكم ... وأعلم الناس بالقرآن والسنن
وقال كعب بن زهير من قصيدة يمدحه بها:
إن عليًا لميمون نقيبته ... بالصالحات من الأفعال مشهور
صهر النبي وخير الناس مفتخرا ... فكل من رامه بالفخر مفخور
صلى الطهور مع الأمي أولهم ... قبل المعاد ورب الناس مكفور
"واتفقوا على أن خديجة أول من أسلم مطلقًا" من جملة كلام ابن عبد البر، ووافقه على حكاية الاتفاق الثعلبي والسهيلي، "وقيل: أول رجل" خرجت خديجة؛ لأنها آمنت قبل ذهابها بالمصطفى إليه، "أسلم ورقة بن نوفل" قال جماعة ومنعه آخرون، "و" لكن "من يمنع" إنه أول من أسلم "يدعى" تأخر الرسالة عن النبوة و"أنه أدرك نبوته عليه السلام لا رسالته" التي لا يحكم(1/451)
لكن جاء في السير، وهي رواية أبي نعيم المتقدمة أنه قال: أبشر، فأنا أشهد أنك الذي بشر به ابن مريم وأنك على مثل ناموس موسى، وأنك نبي مرسل، وأنك ستؤمر بالجهاد، وإن أدرك ذلك لأجاهدن معك, فهذا تصريح منه بتصديقه برسالة محمد صلى الله عليه وسلم.
__________
بالإسلام إلا لمن آمن بعدها "لكن" لا تسلم له هذه الدعوى، فقد "جاء في السير" كما في زيادات المغازي من رواية يونس بن بكير، عن ابن إسحاق عن عمرو بن أبي إسحاق عن أبيه، عن أبي ميسرة التابعي الكبير مرسلا "وهي رواية أبي نعيم المتقدمة" قريبًا قبل مراتب الوحي مسندة عن عائشة: "أنه" أي: ورقة، "قال: ابشر فأنا أشهد" أقر وأذعن "أنك" الرسول "الذي بشر به ابن مريم، وإنك على مثل" أي: صفة مماثلة لصفة "ناموس موسى، وإنك نبي مرسل" تأكيد زيادة في تطمينه، "وإنك ستؤمر بالجهاد" علم ذلك من الكتب القديمة لتبحره في علم النصرانية، "وإن أدرك ذلك لأجاهدن معك" وفي آخر هذا الحديث: فلما توفي، قال صلى الله عليه وسلم: "لقد رأيت القس في الجنة عليه ثياب الحرير؛ لأنه آمن بي وصدقني". وأخرجه البيهقي في الدلائل أيضًا، وروى ابن عدي عن جابر مرفوعًا: "رأيت ورقة في بطنان الجنة عليه السندس"، ورواه ابن السكن بلفظ: "رأيت ورقة على نهر من أنهار الجنة".
"فهذا تصريح منه بتصديقه، برسالة محمد صلى الله عليه وسلم" لكن يجوز أنه قاله قبل الرسالة؛ لعلمه بالقرائن الدالة على ذلك، فيكون كبحيرا سيما وقد مر أن ذهاب خديجة لورقة كان عقب نزول {اْرَأْ} [العلق: 1] ، ولم تتأخر وفاته وإلى هذا أشار الحافظ، فقال: حديث الصحيح ظاهر في أنه أقر بنبوته، ولكنه مات قبل أن يدعو الناس إلى الإسلام، فيكون مثل بحيرا، وفي إثبات الصحبة له نظر. وتعقبه تلميذه البرهان البقاعي، فقال: هذا من العجائب، كيف يماثل من آمن بأنه قد بعث بعدما جاءه الوحي فانطبق عليه تعريف الصحابي الذي ذكره في نخبته بمن آمن أنه سيبعث، ومات قبل أن يوحى إليه.
قال العلامة البرماوي: ليس ورقة من هذا النوع؛ لأنه اجتمع به بعد الرسالة لما صح في الأحاديث أنه جاء له بعد مجيء جبريل وإنزال اقرأ، وبعد قوله: أبشر يا محمد، أنا جبريل أرسلت إليك وإنك رسول هذه الأمة، وقول ورقة: أبشر ... وذكر ما ساقه المصنف، وقال بعده: ورؤيته عليه السلام لورقة في الجنة وعليه ثياب خضر، وجاء أنه قال: "لا تسبوه، فإني رأيت له جنة أو جنتين". رواه الحاكم في المستدرك. وأما قول الذهبي في التجريد، قال ابن منده: اختلف في إسلامه والأظهر أنه مات بعد النبوة، وقيل: الرسالة، فبعيد لما ذكرناه فهو صحابي قطعًا بل أول الصحابة كما كان شيخنا شيخ الإسلام يعني البلقيني يقرره، انتهى.(1/452)
قال البلقيني: بل يكون بذلك أول من أسلم من الرجال. وبه قال العراقي في نكته على ابن الصلاح. وذكره ابن منده في الصحابة.
وحكى العراقي: كون علي أول من أسلم عن أكثر العلماء، وحكى ابن عبد البر الاتفاق عليه.
وادعى الثعلبي..........................................
__________
ونقل كلام البلقيني، بقوله: "قال" شيخ الإسلام علامة الدنيا سراج الدين، أبو حفص عمر بن رسلان بن نصر "البلقيني" الحافظ الفقيه البارع المجتهد المفنن المصنف، المتوفى سنة خمس وثمانمائة بضم الموحدة وسكون اللام والياء وكسر القاف، نسبة إلى قرية بمصر قرب المحلة؛ كما في اللب والمراصد والنسخ المعتمدة من القاموس، خلاف ما في بعضها من أن بلقين كغرنيق، "بل يكون بذلك أول من أسلم من الرجال" وذكره وإن استفيد مما قدمه؛ لأنه على أنه بعد الرسالة ولم يتقدم تصريح به "وبه قال العراقي" الحافظ أبو الفضل عبد الرحيم "في نكته على" كتاب "ابن الصلاح" في علوم الحديث وبه جزم في نظم السيرة، حيث قال: فهو الذي آمن بعد ثانيًا، وكان برًا صادقًا مواتيًا، "وذكره ابن منده في الصحابة" حاكيًا الخلاف؛ كما مر، وذكره فيهم أيضًا الطبري والبغوي وابن قانع وابن السكن وغيرهم كما في الإصابة، وحسبك بهم حجة، ومر أن الصحيح أن النبوة والرسالة متقارنان.
وروى الزبير بن بكار عن عروة: أن ورقة مر ببلال وهو يعذب برمضاء مكة ليشرك، فيقول: أحد أحد، فقال ورقة: أحد أحد يا بلال، والله لئن قتلتموه لأتخذنه حنانًا، قال في الإصابة: وهذا مرسل جيد، يدل على أن ورقة عاش إلى أن دعا النبي صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام، والجمع بينه وبين قوله عائشة: فلم ينشب ورقة أن توفي، أي: قبل أن يشتهر الإسلام ويؤمر المصطفى بالجهاد، قال: وما روي في مغازي ابن عائد، عن ابن عباس: أنه مات على نصرانيته، فضعيف، انتهى باختصار. وقد أرخ الخميس وفاة ورقة في السنة الثالثة من النبوة، قال: وفي المنتقى في السنة الرابعة، قلت: وما وقع في الخميس من قوله، وفي الصحيحين عن عائشة: أن الوحي تتابع في حياة ورقة، فغلط إذ الذي فيهما عنها: فلم ينشب ورقة أن توفي.
"وحكى العراقي كون علي أول من أسلم عن أكثر العلماء" وقال الحاكم: لا أعلم فيه خلافًا بين أصحاب التواريخ، قال: والصحيح عند الجماعة أن أبا بكر أول من أسلم الرجال البالغين؛ لحديث عمرو بن عبسة، يعني: حيث قال للنبي صلى الله عليه وسلم: من معك على هذا؟ قال: "حر وعبد" يعني أبا بكر وبلالا، رواه مسلم ولم يذكر عليًا لصغره. "وحكى ابن عبد البر الاتفاق عليه" فقال: اتفقوا على أن خديجة أول من آمن ثم علي بعدها، "وادعى الثعلبي" أحمد بن(1/453)
اتفاق العلماء على أن أول من أسلم خديجة، وأن اختلافهم إنما هو فيمن أسلم بعدها.
قال ابن الصلاح: والأورع أن يقال:
أول من أسلم من الرجال الأحرار أبو بكر.
ومن الصبيان أو الأحداث علي.
ومن النساء خديجة.
ومن الموالي زيد بن حارثة.
__________
محمد بن إبراهيم، أبو إسحاق النيسابوري صاحب التفسير والعرائس في قصص الأنبياء.
قال الذهبي: وكان حافظًا رأسًا في التفسير والعربية متين الديانة والزهادة، مات سنة سبع وعشرين أو سبع وثلاثين وأربعمائة، ويقال له: الثعلبي والثعالبي، "اتفاق العلماء على أن أول من أسلم خديجة، وأن اختلافهم إنما هو فيمن أسلم بعدها" هل الصديق أو علي أو ورقة؛ لأنها آمنت قبل مجيئها بالمصطفى له لما أخبرها عن صفة ما رأى في الغار لما ثبت عندها قبل ذلك عن بحيرا وغيره أنه النبي المنتظر، وقيل: زيد بن حارثة ذكره معمر عن الزهري، وقدمه ابن إسحاق على الصديق، فقال: أول من آمن خديجة، ثم علي، ثم زيد، ثم أبو بكر، انتهى. وقيل: بلال وذكر عمر بن شيبة أن خالد بن سعيد بن العاصي أسلم قبل علي، وذكر ابن حبان أنه أسلم قبل الصديق.
"قال" شيخ الإسلام تقي الدين أبو عمر وعثمان "بن الصلاح" بن عبد الرحمن بن عثمان الكردي الشهروري الإمام الحافظ المتبحر في الأصول والفروع والتفسير والحديث، الزاهد وافر الجلالة المتوفى سنة ثلاث وأربعين وستمائة.
"والأورع" أي: الأدخل في الورع والأسلم من القول، بما لا يطابق الواقع "أن" لا يطابق القول في تعيين أول المسلمين على الحقيقة؛ لكونه هجومًا على عظيم وتعارض الأدلة فيه وعدم وجود قاطع يستند عليه بل يذكر قول يشمل جمع الأقوال، بأن "يقال أول من أسلم من الرجال الأحرار أبو بكر، ومن الصبيان أو الأحداث" تنويع في العبارة، "علي، ومن النساء خديجة" وسبق ابن الصلاح لهذا الجمع إلى هنا الخبر، فأخرج ابن عساكر عن ابن عباس، قال: أول من أسلم من الرجال أبو بكر، ومن الصبيان علي، ومن النساء خديجة، فتبعه العسكري وابن الصلاح، وزاد العبيد والموالي، فقال: "ومن الموالي زيد بن حارثة" حب المصطفى ووالد حبه أسر في الجاهلية فاشتراه حكيم بن حزام لعمته خديجة بأربعمائة درهم فاستوهبه النبي صلى الله عليه وسلم منها فوهبته(1/454)
ومن العبيد بلال. والله أعلم، انتهى.
وقال الطبري: الأولى التوفيق بين الروايات كلها وتصديقها فيقال:
أول من أسلم مطلقًا خديجة.
وأول ذكر أسلم علي بن أبي طالب، وهو صبي لم يبلغ، وكان مستخفيًا بإسلامه.
وأول رجل عربي بالغ أسلم وأظهر إسلامه أبو بكر بن أبي قحافة.
وأول من أسلم من الموالي زيد.
قال: هو متفق عليه لا اختلاف فيه، وعليه يحمل قول من قال: أول من أسلم من الرجال البالغين الأحرار، ويؤيد هذا ما روي عن الحسن أن علي بن أبي طالب قال: إن أبا بكر سفيان إلى أربع لم أؤتهن: سبقني إلى إفشاء الإسلام، وقدم الهجرة،
__________
له، وجاء أبوه وعمه كعب مكة وطلبا أن يفدياه، فخيره عليه السلام بين أن يدفعه إليهما أو يثبت عنده، فاختار أن يبقى عنده، فلاماه فما رجع، وقال: لا اختيار عليه أحد، فقام صلى الله عليه وسلم إلى الحجر، وقال: "اشهدوا أن زيدًا ابني، يرثني وأرثه"، فطابت نفسهما وانصرفها، فدعي زيد بن محمد حتى جاء الله بالإسلام فصدقه وأسلم في قصة مطولة، ذكرها ابن الكلبي وابن إسحاق هذا حاصلها.
"ومن العبيد بلال" المؤذن "والله أعلم" بحقيقة الأولية المطلقة، "انتهى. وقال" نحوه الحافظ المحب "الطبري" بفتح الطاء والموحدة وراء نسبة إلى طبرستان على غير قياس، "الأولى التوفيق بين الروايات كلها وتصديقها، فيقال: أول من أسلم مطلقًا خديجة" لكنه خالف فيها ابن الصلاح لقوة الأدلة، كيف وقد قال ابن الأثير: لم يتقدمها رجل ولا امرأة بإجماع المسلمين.
"وأول ذكر أسلم علي بن أبي طالب وهو صبي لم يبلغ الحلم، وكان مستخفيًا بإسلامه" من أبيه "وأول رجل عربي بالغ أسلم وأظهر إسلامه أبو بكر بن أبي قحافة" عبد الله بن عثمان، "وأول من أسلم من الموالي زيد" بن حارثة بن شرحبيل بن كعب الكلبي، "قال: وهو متفق عليه لا اختلاف فيه" إطناب للتأكيد، "وعليه يحمل قول من قال: أول من أسلم من الرجال البالغين الأحرار" لا مطلقًا "ويؤيد هذا ما روي عن الحسن: أن علي بن أبي طالب، قال" لما جاءه رجل، فقا: يا أمير المؤمنين، كيف سبق المهاجرون والأنصار إلى بيعة أبي بكر، وأنت أسبق سابقة، وأورى منه منقبة، فقال علي: ويلك "إن أبا بكر سبقني إلى أربع لم أؤتهن" ولم أعتض منهن بشيء؛ كما في الرواية "سبقني إلى إفشاء الإسلام" هذا محل التأييد، وقد يمنع بأن السبق على إفشائه لا يلزم منه السبق على الإسلام نفسه، "وقدم الهجرة" لأنه هاجر(1/455)
ومصاحبته في الغار، وإقام الصلاة، وأنا يومئذ بالشعب يظهر إسلامه وأخفيه ... الحديث، خرجه صاحب فضائل أبي بكر وخيثمة بمعناه.
وأما ما روي: من صحبة الصديق للنبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثماني عشرة سنة، وهم يريدون الشام في تجارة، وحديث بحيرى، وأنه وقع في قلب أبي بكر اليقين، وقول ميمون بن مهران: والله لقد آمن أبو بكر بالنبي صلى الله عليه وسلم زمن بحيرى، فالمراد بهذا الإيمان اليقين بصدقه، وهو ما وقر في قلبه.............................
__________
مع المصطفى وتأخر علي بعده، حتى أدى عنه الودائع التي كانت عنده صلى الله عليه وسلم ثم لحقه بقباء "ومصاحبته في الغار، وأقام الصلاة وأنا يومئذ بالشعب" بالكسر شعب بني هاشم بمكة، "يظهر إسلامه وأخفيه ... الحديث" تتمته: يستحقرني قريش وتستوفيه، والله لو أن أبا بكر زال عن مزيته ما بلغ الدين العبرين -يعني الجانبين- ولكان الناس كرعة ككرعة طاولت، ويلك إن الله ذم الناس ومدح أبا بكر، فقال: {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ} [التوبة: 40] ، الآية كلها. "خرجه صاحب فضائل أبي بكر وخيثمة" ابن سليمان بن حيدرة الإمام الحافظ أبو الحسن القرشي الطبرابلسي أحد الثقات الرحالة جمع فضائل الصحابة، ولد سنة خمس وأربعين وثلاثمائة، قال ابن منده: كتبت عنه بطرابلس، ألف جزء "بمعناه" ورواه الدارقطني في الغرائب وضعفه.
قال في الرياض النضرة، بعد سوق الحديث تامًا: وأورى من ورى الزند خرجت ناره وظهرت، أي: أظهر منقبة وأنور. وتستوفيه، أي: توفيه حقه من الإعظام والإكرام. والمزية: الفضيلة، أي: زال عن فضيلته بالتقديم على الناس إمامًا. وكرعة جمع كارع كركبة وراكب من كرع بالفتح يكرع إذا شرب الماء من فيه دون إناء، ولعله أراد: لولا أبو بكر لخالف الناس الدين كما خالفه كرعة طالوت بالشرب من النهر الذي نهوا عنه، انتهى.
"وأما ما روي" عند ابن منده بسند ضعيف عن ابن عباس "من صحبة الصديق للنبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثماني عشرة سنة، وهم يريدون الشام في تجارة وحديث بحيرا" أي: سؤاله لأبي بكر: من الذي تحت الشجرة؟ وقوله: هو محمد بن عبد الله، فقال: هذا نبي "وأنه وقع في قلب أبي بكر اليقين" من ذلك "وقول ميمون بن مهران" بكسر فسكون الكوفي أبي أيوب الجزري نزيل الرقة الثقة الفقيه التابعي الوسط كثير الحديث والي الجزيرة لعمر بن عبد العزيز المتوفى سنة سبع عشرة ومائة، وله سبع وسبعون سنة.
"والله لقد آمن أبو بكر بالنبي صلى الله عليه وسلم زمن بحيرا، فالمراد بهذا الإيمان" اللغوي، وهو "اليقين صدقه، وهو ما وقر" ثبت "في قلبه" فلا ينافي أنه أول المسلمين أو ثانيهم أو ثالثهم بعد النبوة.(1/456)
وإلا فالنبي صلى الله عليه وسلم تزوج خديجة وسافر إلى الشام قبل المبعث.
ثم أسلم بعد زيد بن حارثة، وعثمان بن عفان، والزبير بن العوام، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وطلحة بن عبيد الله......................
__________
"وإلا فالنبي صلى الله عليه وسلم تزوج خديجة وسافر" مع غلامها ميسرة "إلى الشام قبل المبعث" بعد تلك السفرة التي كان فيها أبو بكر وكان ذلك سبب التزوج بها وسنه صلى الله عليه وسلم خمس وعشرون سنة؛ كما مر فالواو عطفت سابقًا على لاحق على أنه لا يصح إيراد قصة صحبته له في تلك السفرة؛ لأن في بقية خبرها؛ كما مر. ووقع في قلب أبي بكر الصديق، فلما بعث النبي اتبعه.
"ثم أسلم بعد زيد بن حارثة وعثمان بن عفان" أمير المؤمنين ذو النورين؛ لأنه كما قال المهلب: لم يعلم أحد تزوج ابنتي نبي غيره، أو لأنه كان يختم القرآن في الوتر؛ فالقرآن نور وقيام الليل نور، أو لأنه إذا دخل الجنة برقت له برقتين، أخرج أبو سعد في الشرف عنه: كنت بفناء الكعبة، فقيل: أنكح محمد عتبة ابنته رقية، فدخلتني حسرة أن لا أكون سبقت إليها، فانصرفت إلى منزلي فوجدت خالتي سعدى بنت كريز، أي: الصحابية العبشمية فأخبرتني أن الله أرسل محمدًا وذكر حثها له على اتباعه مطولا، قال: وكان لي مجلس من الصديق، فأصبته فيه وحده فسألني عن تفكري، فأخبرته بما سمعت من خالتي فذكر حثه له على الإسلام، قال: فما كان بأسرع من أن مر صلى الله عليه وسلم ومعه علي يحمل له ثوابًا، فقام أبو بكر فساره فقعد صلى الله عليه وسلم، ثم أقبل عليّ، فقال: "أجب الله إلى جنته، فإني رسول الله إليك وإلى جميع خلقه" فوالله ما تمالكت حين سمعته أن أسلمت، ثم لم ألبث أن تزوجت رقية.
"والزبير بن العوام" بن خويلد القرشي الأسدي الحواري وهو ابن اثنتي عشرة سنة عند الأكثر، وقيل: خمس عشرة، وقول عروة وهو ابن ثمان سنين أنكره ابن عبد البر، وكان عمه يعلقه في حصير ويدخن عليه بالنار، ويقول: ارجع، فيقول: لا أكفر أبدًا. "وعبد الرحمن بن عوف" القرشي الزهري أحد العشرة والثمانية والستة، "وسعد بن أبي وقاص" مالك الزهري أحد العشرة وآخرهم موتًا، وأحد الستة والثمانية أسلم بعد ستة هو سابعهم، وهو ابن تسع عشرة سنة؛ كما قاله ابن عبد البر وغيره.
وأما قوله: لقد رأيتني وأنا ثالث الإسلام، أخرجه البخاري فحمل على ما اطلع هو عليه. "وطلحة بن عبيد الله" التيمي أحد العشرة والثمانية السابقين إلى الإسلام والستة أصحاب الشورى، ويقال: إن سبب إسلامه ما أخرجه ابن سعد عنه، قال: حضرت سوق بصرى فإذا راهب في صومعته يقول: سلوا أهل هذا الموسم أفيهم أحد من أهل الحرم؟ قال طلحة: نعم أنا، فقال: هل ظهر أحمد؟ قلت: من أحمد؟ قال: ابن عبد الله بن عبد المطلب هذا شهره الذي يخرج فيه(1/457)
بدعاء أبي بكر الصديق، فجاء بهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين استجابوا له، فأسلموا وصلوا.
ثم أسلم أبو عبيدة عامر بن عبد الله بن الجراح، وأبو سلمة عبد الله بن عبد الأسد بعد تسعة أنفس. والأرقم بن أبي الأرقم المخزومي، وعثمان بن مظعون الجمحي.................
__________
وهو آخر الأنبياء، ومخرجه من الحرم ومهاجره إلى نخيل وحرة وسباخ، فإياك أن تسبق إليه، فوقع في قلبي فخرجت سريعًا حتى قدمت مكة، فقلت: هل كان من حدث؟ قالوا: نعم، محمد الأمين تنبأ وقد تبعه ابن أبي قحافة فخرجت حتى أتيت أبا بكر فخرج بي إليه، فأسلمت فأخبرته بخبر الراهب، "بدعاء أبي بكر الصديق" لأنه كان محببًا في قومه فجعل يدعو من وثق به فأسلموا بدعائه، "فجاء بهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى استجابوا له" أي: أجابوا دعاءه إياهم، "فأسلموا وصلوا" أي أظهروا إسلامهم عند المصطفى على ما أفادته الفاء في قوله فجاء بهم من أنه كان عقب إسلامهم والأظهر أن المراد انقاد والدعائة فأسلموا حين جاء بهم لقصة عثمان وطلحة، "ثم أسلم" أمين هذه الأمة، "أبو عبيدة عامر بن عبد الله بن الجراح" القرشي الفهري اشتهر بجده، "وأبو سلمة عبد الله بن عبد الأسد" القرشي المخزومي البدري توفي في حياته صلى الله عليه وسلم فخلفه على زوجه أم سلمة وأولاده منها، وهم أربعة حال كون إسلامهما جميعًا، "بعد تسعة أنفس" فيكون أبو سلمة الحادي عشر؛ كما قال ابن إسحاق وهم خديجة وعلي وزيد والصديق والخمسة المسلمون على يده، وأبو عبيدة وأبو سلمة.
"والأرقم بن أبي الأرقم" عبد مناف بن أسد بن عبد الله بن عمر بن مخزوم القرشي "المخزومي" البدري وشهد أحدًا والمشاهد كلها، وأقطعه صلى الله عليه وسلم دارًا بالمدينة، قيل: أسلم بعد عشرة. وفي المستدرك: أسلم سابع سبعة وتوفي سنة خمس أو ثلاث وخمسين وهو ابن خمس وثمانين سنة، وأوصى أن يصلي عليه سعد بن أبي وقاص، فصلى عليه، "وعثمان بن مظعون" بظاء معجمة وغفل من أهملها؛ كما في النورين حبيب بن وهب بن حذافة بن جمع القرشي، "الجمحي" بضم الجيم وفتح الميم وحاء مهملة نسبة إلى جده المذكور، قال ابن إسحاق: أسلم بعد ثلاثة عشر رجلا، وهاجر إلى الحبشة.
روى ابن شاهين والبيهقي عنه، قلت: يا رسول الله! إني رجل يشق علي العزبة في المغازي، فتأذن لي في الخصي؟ فقال: $"لا، ولكن عليك يابن مظعون بالصوم"، وشهد بدرًا، وتوفي بعدها في السنة الثانية، وأول مهاجري مات بالمدينة، وأول من دفن بالبقيع منهم. روى الترمذي عن عائشة: قبل صلى الله عليه وسلم عثمان بن مظعون وهو ميت وهو يبكي وعيناه تذرفان، فلما توفي(1/458)