عجبت لقلبي أنْ رآها ولم يطر ... ويخرق شغافاً قد حواه وأضلعا
عراه خيال فاستقر ولم يطر ... إليها وشيكاً حين بالأمر طولعا
عسى من أراني نعله أو مثلها ... يرني ضريحاً للمكارم مطلعا
قافية الغين
غليلي لا يطفا وشجوي لا يفنى ... ودمعي لغير المزن ليس بمنبغي
غسلت به رين الجوى وهو نكتة ... بخدي وقلت اسفك نجيعك واصبغِ
غداة بدت نعل لأكرم مرسلٍ ... رفيع شفيعٍ ذي مكارم سبعِ
غيور شكور راحمٍ متلطفٍ ... كريمٍ منيلٍ واسع السيب مسبغِ
غلامك يا مولاي يبغي شفاعةً ... وذلك أمر ما لغيرك ينبغي
قافية الفاء
فؤادي لا تشك البعاد فهذه ... نعالهم فاستشفين بها تشفى
فمن قبلها مثل نعل كريمةٍ ... بتقبيلها يشفي سقام من استشفى
فليت يميني والشمال ومسمعي ... قلبن شفاهاً تحسن اللثم والرشفا
فأصطفي بالتقبيل والرشف جمرةً ... قد أشعلها شوق على الهلك بي أشفى
فأقسم يا نعل الحبيب لأنت من ... شراب بطون النحل للمشتكي أشفى
قافية القاف
قلبي لا تقنط فهذي نعال من ... علقت به من قبل مرتبة العلقْ
قد أبصرتها في أفق كفي كأنها ... هلال منير للعيون قد ائتلقْ
قفا في السنى آثاره القمر الذي ... للابسه كالبردة انشق وانفلقْ(3/235)
قرأت حذار العين لمّا رايته ... بأفق يميني طالعاً سورة الفلق
قست مهجة قد أبصرته وما جرت ... مسابقةً شهب المدامع في طلق
قافية السين
سموت أيا نعل الرسول برجله ... على قمم الشهبان والبدر والشمسِ
سرى ليلة المعراج فوق براقه ... ليسمى أقطار السموات باللمسِ
سماء به فلتفخري بدر سؤددٍ ... سليم السنى يضحى منيراً مكا يمسي
سراج به طلنا الذين تقدموا ... ولا عجب أنْ يفضل اليوم للأمسِ
سلمنا بفضل الله لكننا وهم ... حروف ومت الإطباق في الحرف كالهمسِ
قافية الشين
شمخت أيا نعلا لأكرم سيدٍ ... رسولٍ على السبع السموات قد مشى
شريفٍ له قد أسجد البدر والتفت ... إليه تجده بالترب منمشا
شغى مبصري القلب والطرف نوره ... وقد منت أعشى القلب والطرف أعمشا
شفاعته نرجو امتداد ظلالها ... إذا ما الرجا فيما سواها تكمشا
شققت جيوب الكتم وجداً وقلت يا ... يدي وهى حبل التصبر فاخمشا
قافية الهاء
هي النعل قد كانت سماء ورجله ... هلالاً غما أسنى وأضوأ أفقها
هيا منكراً تقبيلها بعد بدرها ... على دنف ما أنت منه بأفقها
هل القصد إلاّ رجل لابسها الذي ... سيسمعني يوم القيامة خفقها(3/236)
هلالي وشمسي في دجى الحشر سيدي ... مبلغ نفسي ما يوافق وفقها
همت عبرتي شوقاً له إذ رأيتها ... فما ترجى الأجفان من بعد رفقها
انتهى ما ألفته من هذه القطع ولم أجد تكملة الحروف؛ وقد كمل ما بقي منها على نمطها، صاحبنا الفقيه الأصيل أبو الحسن الشامي، حفظه الله، وسيأتي ذلك قريباً.
وألفيت أيضاً بخط هذا الشيخ محمّد بن الفرج السبتي، رحمه الله عدة قصائد ومقاطع في هذا الغرض، منها قوله رحمه الله:
ولق رأيت مثال نعل محمدٍ ... فاشتد شوقي عند ذاك وهاجا
فظللت أمسح وجنتي بشسعه ... مسحاً وأجله برأسي تاجا
يا نعل أكرم مرسل لمّا أني ... دخل الورى في دينه أفواجا
كرمت من نعلٍ حوت رجلاً مشت ... بأجل بادٍ في الظلام سرجا
شرفت بموطي نعله السبع العلا ... لمّا ارتقاها عارجاً ليناجى
ومنها قوله رحمه الله:
نثرت محاجر مقلتي من سلكها ... دراً وشذاً مفرغاً من سلكها
شوقاً لمبعوثٍ أتي فاستبشرت ... مهج الورى بنجاتها من هلكها
عاينت مثل نعاله ومحمّد ... هو خاتم الأرسال وسطى سلكها
فوجدت فيها ريحه ولربما ... فاح النوافج بعد فرقة مسكها
أشرف بها نعلاً عمائم كل ذي ... شرفٍ تقر بأنها من ملكها
فلق وعت قدماً سعت في فلكها ... من راحتي كفرانها أو شركها(3/237)
جعلت موطئها الملائك عندما ... أسرى به ليلاً مواضع نسكها
يا ليت أعضائي شفاه كلها ... فمتى تقبلها شفاهي تحكها
قد كنت ذا خوفٍ ووحشةٍ أبدلا ... رغد المسرة للفؤاد بضنكها
فكأنها صك أتى عبداً وقد ... تعطى المولى أمنها في صكها
وهلال أطلع فانجلى من وحشتي ... ما قد تراكم من سحائب حلكها
فأنا العتيق وأنْ تشك النفس في ... عتقي يمط للحين عارض شكها
يا منجي الحوباء من بحر الردى ... ولقد غدا لولاك معصب فلكها
شكوى غريق ذنوبه مهما شكت ... حوباؤه لسواك لم يشكها
ولقد أمرت بترك أسباب بها ... تقوى الذنوب فما أخذت بتركها
ولئن هدمت مبانياً مستورةً ... بستور لطف لا سبيل لهلكها
فلقد بنيت من الرجاء مبانياً ... ردت فواتك خيفتي عن فتكها
وجعلت حبك يا محمّد أسها ... علما بأن الأس ممسك سمكها
صلى عليك إلهنا ما طل ان ... فٌ ذكرك العطر الشذا مستنكها
ومن ذلك قوله رحمه الله:
أقول وهجراني سيعقبه الوصل ... فعقد الهوى الشرعي ما أنْ له حلُ
غداة رأت عيني مثال نعال من ... بدا فهدى أهل السعادة إذ ضلوا
تمنيت لو أني ظفرت بتربةٍ ... عليها مشت نعل بلابسها نعلو
فأكحل عيناً أرمدت ببعاده ... وليس سوى ذاك التراب لها كحلُ
هو الكحل يجلو ما بعيني من قذى ... وكم كحل أنْ تكحل به العين لا يجلو
فطوباك طوبى ثم طوبى وحق أنْ ... أردد طوبى ثم طوبى أيا نعلُ(3/238)
فإنك قد أودعت رجلاً علت على ... بساط عُلا لم تعله قبلها رجل
فأقسم لو تؤتي العمائم سؤلها ... لمّا كان غير النعل كان لها سؤل
وناهيك من رجل مشت بمحمدٍ ... مفضل رسل الله إنَّ عدت الرسل
أبو القاسم الأسمى وطئ السما ... فنودي من فيها ألا خلقه صلوا
ولو لم تطأها رجله كان للثرى ... على الفلك الأعلى بموطئها الفضل
فيا مرسلا ما في النبيين مثله ... رسولا وهل للشمس من جنسها مثل
أثرت ظلام الجهل فالقلب نير ... محا العلم منه أحرفا خطها الجهل
فكان كمثل السيف أصبح صادئاً ... وأمسى وقد جلى مضاربه الصقل
يلوح به الإيمان شكلا لناظرٍ ... ولولاك لم يطلع به ذلك الشكل
فحق لذي عقل بأن يقطع المدى ... مدى غمره ما دام يصحبه العقل
وما شغله إلاّ امتداح جلالكم ... فتعم الفتى من شغله ذلك الشغل
أمولاي يا مولاي ألفا وبعده ... كذلك ألف ثم ألف له قبل
عديد الحصى والرمل بل عد ما إذا ... بدا فالحصى جزء بدا منه والرمل
فحبكم كهفي الذي مذ حللته ... إذا اشتد بي الكرب على الفور ينحل
وسيفي السريجي الذي مذ سللته ... رأيت خطوب الجهل عني تنسل
ورمحي الرديني الذي مذ شرعته ... صرعت به ثكلى فلا نعش الثكل
وقوسي التي مذ سدد الصدق نبلها ... أصابت أسى ما خاب له نبل
فها أنا في ظل من الأمن قاطعٍ ... على الأمن أنَّ يتدلى ذلك الظل
ومن يدري ما أدري من افضالك الذي ... هو الباب والأفضال أجمعه فصل
أو الأصل والإفضال بعض فروعه ... وما يستوي في الرتبة الفرع والأصل(3/239)
ينم آمنا من جور دهر صروفه ... سواهر واستقضى وليس له عدل
محمّد يا غوثي وغيثي كلما ... تجهمت الأيام أو أحجف المحل
محمّد يا حزري وعزي كلما ... تفاقمت الأهوال أو طرق الذل
أكرر في أحوالي اسمك أنَّه ... كالشهد ما كررته في فمي يحلو
أما أنَّه أحلى وأيمن مجتنى ... فكم مجتن للشهد تلسعه النحل
وإنَّ كان في الشهد الشفاء لمشتكٍ ... بعلة جسم أصلها الشرب والأكل
فباسمك يشفي كل قلب إذا اشتكى ... إليك بداء جره القول والفعل
وما جسد الإنسان مثل فؤاده ... فمنزل ذا علو ومنزل ذا سفل
فبالفضل يا ذا الفضل والبذل إنَّ عدت ... خطوب ولمّا يلف فضل ولا بذل
أجرى من نار ضريع طعامها ... ومهل وما يغني ضريع ولا مهل
ومن أهلها العاصي أوامر ربه ... وإني لها أو يغفر الله لي أهل
أما إنني أرجو النجاة وإنَّ تكن ... ذنوبي حملا لا يطاق لها حمل
فإني قد أعددت أي ذخيرةٍ ... تخفف من ثقل الذنوب فلا ثقل
هواك الذي للمعضلات خبأته ... فمن مهجتي حق ومن غيرتي قفل
ألا هكذا فليخبإ الحب مدنف ... إذا ما سلا أهل المحبة لا يسلو
وإنَّ يعتلل وقتا غرام فيختلل ... فما حبه يعتل وقتا فيختل
فكم بين من قد تيم الفضل والعلا ... وبين الذي قد تيم الغنج والدل
لبينهما ما بين وصل وقطعة ... وهيهات ما بالقطع يشتبه الوصل
وإنَّ غرست كفهما شجر الهوى ... فمغروس ذا شرى ومغروس ذا نخل
فيا قلبي أحلل من هواك بجنةٍ ... بها أحتل قلب حبه ليس يعتل(3/240)
وناد الورى إني احتللت بجنة ... بها كل من يهوى هواي سيحتل
أدير بها كأسا دهاقاً وما سوى ... سروري بمحبوبي مدام ولا نقل
هي الخمر لم يتلف بها عقل شاربٍ ... وتلك حرام في الكتاب وذي حل
ويا فكري الرامي المصيب بنبله ... مقاتل أغراض أراها له النبل
وفي قتلها عند اللبيب حياتها ... ومن أعجب الأشياء أنَّ يحيي القتل
بتأليف شمل المدح في المصطفى اشتغل ... يعنك على تأليفه ذلك الشمل
فذاك محل المدائح قابل ... إذا انحصرت فيه مدائح من قبل
محل يسمى في علاه مقصراً ... أديب وفي الأمداح من طبعه يغلو
محل علا فوق السماء ولم يكن ... لأعلى محل ذلك العلو إنَّ يعلو
فقل للأديب المكثر القول في حلى ... علاه: كثير القول في مجده قل
فضائله بحر وسجل كلامنا ... وليس يغيض البحر دلو ولا سجل
وتالله ما البحر الغطامط مشبها ... فضائله أو يشبه الوابل الطل
ولكنها الأمثال تضرب للورى وليس من المشروط أنَّ يفعل الكل
وقد ضرب الله الأقل لنوره ... فقال كمشكاةٍ وليس له مثل
أخير رسول جاء للخلق هادياً ... وقد درست سبل النجاة فلا سبل
وكلهم نشوان من خمرة الهوى ... فمعبودهم نسر ومدعوهم بعل
فما منهم إلاّ أمير ضلالةٍ ... ففي جيده غل وفي رجله كبل
فدلوا على سبل النجاة بنوره ... جميعا ولولا ذلك النور ما دلوا
فأعقب ذلك النور مدلوله حلى ... ففي جيده عقد وفي رجله حجل
وقفت بباب الجود والكرم الذي ... غمامته وطفا وعارضه وبل
فما كرم يروق عن الجود واهبا ... مواهبه تترى ونائله جزل(3/241)
وقيس بذا إلاّ وقال أولو النهى ... ألا إنَّ ذاك الجود في جنب ذا بخل
ولي حاجة عنت إليك، قضاؤها ... عليك بفضل الله يا سيدي سهل
زيارة أرض طيب الله تربها ... فما المسك مفضوض الختام لها شكل
هي البلدة الغراء طيبة التي ... بها ديم الرحمى مدى الدهر تنهل
فمن حل مثوى أنت فيه مخيم ... ويا طيب أقوام بطيبة قد حلوا
يكن آمنا من كل حزن وخيفة ... ويعظم له جاه ويكرم له نزل
فما داخل عدنا يخاف مثال الردى ... وتشهد آيات الكتاب الذي نتلو
ولا فرق ما بين الجنان وبينها ... لدى من له عقل من الناس أو نقل
وصلى عليك الله ما هبت الصبا ... وما كان للزمن التي أعصرت هطل
ومما له أيضاً رحمه، ملتزما تشبيه النعل المختصة بالشرف والرفعة، وقد أبصرها مرسومة بالحبر في رقعة:
أشفي برؤيتها يا نفسي الدنفه ... نعلا لرجل رسول الله مكتنفه
كأنَّ طرسا به بالحبر قد رسمت ... برد من الحبرات البيض ذو صنفه
ومما له أيضاً نفعه الله بها، ورسم مثال النعل الكريمة إثرها:
يا سائلا أفتيه إثر سؤاله ... عما يرى إنَّ يشك من إشكاله
تراه سواد القلب والعينين في ... شكل هلال الأفق من أشكاله
أخطأت لست بعائد ولكم مصيب مخطي في البعض من أقواله
فالبدر يكسف في منازل سعده ... ويصيبه النقصان إثر كماله
وكلاهما شين وهذا قد وفى ... من كل شين يدر سر جماله(3/242)
أو ليس تمثال النعال نعال من ... وطئ السموات العلى بنعاله
نعل بلابسها بأت ويحق أنَّ ... تبأى به لجلاله وخلاله
فلقد حوت رجلاً مشت بالصفوة المختار عند الله من أرساله
فالثمه تمثالا لها لثم أمرئ ... باللثم يروى من صدى بلباله
فلرب مشتاق رأى آثار من ... يشتاقه فشفته من أوجاله
أو ما ترى يعقوب عاد بثوب من ... يهودي سنى عينيه بعد زواله
وهوى في مولاي يفضل حب يعقوب على المروى من أحواله
فمحمد هو معتقي من ملك شر ... كٍ كنت طوع يمينه وشماله
قطعت هدايته حبال ضالتي ... بحسامها الجالي الردى بصقاله
فغدوت معتقلا ورحت مسرحاً ... متمسكا من هديه بحباله
يرتاح في عدن الهدى قلبي ولا ... يخشى الإعادة من جحيم ضلاله
أصل النداء معرفا بعوارفٍ ... بلغ الفؤاد بها مدى آماله
يا قوم إقرار أمري بفضائلٍ ... عظمت على لأحمد ولآله
كنت الذليل فمذ تملك مجده ... نفسي بما قد كان من إفضاله
ما زال يسعى في عزازة عبده ... حتى محا بالعز نقطة ذاله
فأنا الدليل لأعبدٍ ذلوا على ... أنَّ يصبحوا مثلي عبيد جلاله
مولاي يا مولاي ألفا مردفا ... بمثاله ومثاله ومثاله
أضعاف أضعافِ الذي في البحر من ... نقطٍ: أجاج الماء أو سلساله
أنا عبدك القن الذي أطلقته ... من جهل أوثق مهجتي بعقاله
فبما على لكم من الفضل الذي ... ضعفت قوي شكري عن استقلاله
إلاّ حملت إليَّ الأساة بطيبة ... جسما سكا بفراق قلب واله(3/243)
وأظنه والظن يصدق هاهنا ... عندي وإني للخبير بحاله
قد حل من فلك العلى الحلى ... شهب تحف بشمسه وهلاله
بلداً يذود المارقين جلاله ... بسيوفه ولدانه ونباله
فكأنه كير نفي خبشا وأبقى من رضي الرحمن باستعماله
أربي على أمثاله ووحقه ... لأفنكت في قولي على أمثاله
فالأرض مثل ذبالة وهو السنى ... منها وكم بين السنى وذباله
هو طيبة الغراء أشرف موطن ... حث النهى شرعا على إجلاله
حرم متى ما حله ذو خيفةٍ ... يأمن به في حاله ومآله
أمر الملائك بالدعاء لأهله ... أهل الفخار نسائه ورجاله
وأرى ثراه من لأجل سناه خر ... الملك للمخلوق من صلصاله
ونجا ابن لأمك في السفين إذا استوى ... ماء الدرى بسهوله وجباله
ونجا ابن آرز من لظى الإشراك إذ ... نال الذي قد نال من تمثاله
وفدى ابن هاجر حين تل وإنَّه ... لمسلم لأبيه في أفعاله
وأحتل إدريس مكاناً في السما ... أسمى، منال النجم دون مناله
والمرء يخلق من ثرى القبر الذي ... سيكون منطبقا على أوصاله
هذا حديث صح عنه لدى الألى ... نظموا عقود مقاله وفعاله
ولذلك قال بفضل طيبة مالك ... وهو الإمام المقتدي بمقاله
إذ لا تراب اجل من تراب نشا ... منه حبيب الله من أرساله
فنهاك ينحى الجسم متصلا بمن ... أشجاه وهو القلب يوم فصاله
أسعد بمجتمعين في دار بها ... شخص الذي قنعا بطيف خياله
مولاي إنَّ لم تؤب عبدك سؤله ... ورددت خائبةً يمين سؤاله(3/244)
لا عتب بل عتبي فما هو صالح ... بك للذي قد ساء من أعماله
لكن سنة سيدي في عبده ... إسعافه ما دام من سؤاله
والصفح عن زلاته ولو أنها ... كالرمل عدا في جميع رماله
ومتى يجد فالغيث إلاّ أنه ... عم الخليقة كلها بنواله
ومتى يجر فالليث إلاّ إنّه ... يضحى المجار لديه من أشباله
فالخائفون المعسرون مؤمنو ... ن وموسرون بجاهه وبماله
هذى خصال من خصال جمة ... ومن الذي يحصى شريف خصاله
صلي عليه إلهنا من مرسل ... وجد الوجود الخير في إرساله
ومما له أيضاً تقبل الله منه، ولا صرف وجه وقايته بمنه وكرمه عنه:
خذه أيا صاح خذ ... تمثال نعل قد حذى
على نعال أحمدٍ ... منجى الأنام المنقذ
السيد المختار من ... قبيلة وفخذ
ذي الطول ذي الفضل الذي ... حلاه لا تحصى بذي
وانظر إليه نظرة ... يجلى بها طرف قذى
وقبلنه دائما ... تقبيل ذي تلذذ
وقل إذا قبلته ... ذي قبل تلذذ
وناده يا سيداً ... بغيره لم ألذ
شكوى محب ما درى ... غير الهوى من مأخذ
رمى بنبل للنوى ... صوائب لم تشحذ
لكنها مهما رمى ... بها فليس تنفذ(3/245)
فقلبه من رشقها ... كمثل جلد القنفذ
وقد رجوت والرجا ... نهجي الذي قد أحتذى
إدالتي بالقرب من ... هذا النوى المستحوذ
وبالجلال النبوي ... الهاشمي تعوذي
من أنْ يضيع لي هوى ... به فؤادي يغتذي
فيا فؤادي بالعرا ... أفعى المخافة أنبذ
وإنْ تسر للسع من ... زمرد الدجى خذ
وأره لمقلتي ... ها كي تسيل ذي وذي
فذاك من الأفاعي من ... عوائد الزمرذ
ومما له أيضاً رحمه الله تعالى:
يا مغرما برسول ... لك يخلق الله مثله
هذا مثال نعال ... شراكها ضم رجله
أشرف بها ثم أشرف ... نعلا تماثل نعله
فقلبن فيه مثلي ... تقبيل صب موله
لرب شاكي اشتياقي ... نال الشفاء بقبله
يا رب أشكوك شوقي ... والشوق أعضل عله
فقرب الدار ممن ... ابنت في الرسل فضله
فهو الذي بنواه ... فؤاد عبدك وله
صلى الإله عليه ... من شارع خير قبله(3/246)
وفاسخ كل حكم ... وناسخ كل ملة
ما حرك الوجد قلبا ... وأرق البعد مقلة
ومما له أيضاً تقبل الله عمله وبلغه أمله:
انظر إلى هلالا ... فاق البدور جمالا
أستغفر الله ربي ... فقد أفكت مقالا
فالمحق ليس مصيبي ... وقد يصيب الهلالا
لكن حكيت نعالا ... لسيد قد تعالى
شأى النبيين جاها ... وحظوة وخلالا
فإن شكوت بشوق ... فؤادك الصب نالا
فلتلثمني فلثمي ... يشق اشتياقا توالى
نعم لثمتك شوقا ... لمّا حكيت النعالا
ومن يظن بنعل ... شغفت ظن المحالا
بلابس النعل همنا ... ومنه نبغي الوصالا
يا رب يشكوك قلبي ... يشكوك صادا ودالا
فقرب الدار ممن ... برأت فاء وذالا
فما لأحمد ندري ... في المرسلين مثالا
هذا وإنْ كان منهم ... والكل حاز الكمالا
ففي السما نيراب ... وكلها يتلالا
وليس منها مضاه ... للشمس في النور لالا(3/247)
صلى عليه إله ... به أزال الضلالا
ما لحق الجزم فعلا ... أو لزم النصب حالا
ثم سلام عبيد ... ما إنْ عن الرق حالا
يخص مولى كريما ... عم العبيد نوالا
وآله خير آل ... إنْ عدد الخلق آلا
ما أطلع الأفق شمسا ... وأنشأ الجو آلا
ومن قوله أيضاً رحمه الله وهي من أول ما قاله:
بكيت وقد رأيت مثال نعله ... بكاء هو عن الأحباب وله
وما حب النعال أسال دمعي ... ولكن حب من كرمت برجله
محمّدا الرفيع القدر أعني ... حبيب الله أحمد خير رسله
عليه السلام ذي مقة مشوق ... إليه ظل معتصما بحبله
مدى افتخرت سموات وأرض ... على حر الخدود بوطء نعله
وله رحمه الله قصيدة مطولة نحا منحى رائية أبي الربيع بن سالم وهي:
تبدت لنا والشوق يقدح زنده ... بقلب شج لا وجد يشبه وجده
نعال رسول الله أشرف بنعل من ... قد اختص بين الرسل بالسر وحده
وإلاّ تكن نعل الرسول فإنها ... مثال وكم ند يذكر نده
فيا ناظرا منها حديقا تعاهدت ... عهدا الحيا تروي رباه ووهده
فلله ما أذكى وأطيب نفحه ... إذا حركت ريح الصبابة رنده(3/248)
وأطلق شوق الحب بدرا بهاره ... وشمسا تروم الغروب في الصيف ورده
على الفور قبل فيه تقبيل فاخر ... بمولى أعز الله في الخلق عبده
ونزه به طرفا جفا النوم جفنه ... ومرغ به خدا دم الجفن خده
فربت ذي وجد رأي أثرا لمن ... له وجده يوما فأطفأ وجده
أمولاي يا أعلى النبيين منزلا ... لدى الله والمختص بالفضل عنده
نداء عبيد أضرم الشوق وجده ... فباح بحب أبرم الصدق عقده
وإنْ الهوى مالم يبن لكخمرة ... بعنقود والسقط لازم زنده
بحق هواي المحض فيك الذي متى ... يقس بهوى في الدهر ألفي وحده
أنلي ما أبغيه منك وإنَّه ... زيارة قبر شرف الله لحده
بأشرف جثمان لأشرف روح من ... وقي الله مما يوهن المجد مجده
هو المجد لا مجد يماثله وهل ... يماثل صفح السيف في القطع حده
سكرت وما خمري سوى حبه ومن ... حسا خمر هذا الحب لم يخش حده
فيا طيبة الغراء أسعد منزل ... تود النجوم الزهر تنزل وهده
إلاّ فاحملي بند الفخار وحققي ... بأنك قد شرفت بالحمل بنده
ونوطي على جيد العلا عقده ترى ... مشرفة أيضاً بذلك عقده
بأعضاء مختار من الخلق مرسل ... إليهم بدين أوثق الله عهده
به نسخت أديان من كان قبله ... ولا دين يأتي الخلق للحشر بعده
به شاد أبراج العلا الله ربه ... وثل به عرش الضلال وهده
ورد به عنا الردى وهو مقبل ... وما كان لولا جاهه ليرده
رسول على الأرسال فضله الذي ... حباه بما لا يبلغ النطق عده(3/249)
وإنْ كان رسل الله صلى عليهم ... وسلم ما ضد ينافر ضده
حكوا سور القرأن نورا وحكمة ... فأحمد قد أضحى من الرسل حمده
وفي الحمده ما فيها من الشرف الذي ... يبين لمهدي من الناس رشده
وحسبك أنْ يبدا ويختم قارئ ... بها ومصل فرضه ثم ورده
كذاك رسول الله أول آخر ... له المنزل الأعلى الذي لن نحده
أمولاي ذا قصدي إليك وأنت من ... يبلغ ذا الشوق المبرح قصده
فيا طيب عبد واصل أرض طيبة ... يمرغ في تلك المعاهد خده
معاهد أمسنى الأنس منها بظهرها ... لذي وحشة قد قرب الله بعده
وأصبح منقولا إلى بطنها فيا ... وجاهة بطن قد وعاه وسعده
سعيد صعيد منه أنشى أحمد ... وفيه الذي أنشا به الفضل رده
فكان كمثل الورد فارق ورده ... لمنفعة ما ثم عاود ورده
أخيرا كريم ليس تطرق آفة ... فتى حبه للطارقات أعده
عليك وأنت السيد العلم الذي ... أفاد الثنا بهر السنى ومعده
بل العالم الإنسى عموما ومنهم ... خصوصا فريق أكمل الله جده
هي الأمة العليا التي هديت ومن ... أريد به خير من الخلق يهده
صلاة وتسليم ورحمة مدى انتمى ... لك الفضل يا فذلك الوجود وفرده
عديد صنوف الخلق علوا وأسفلا ... صموتا وذا نطاق جمادا وضده
ولست مجيزا أنْ أضيف إلى كذا ... بعدى فيأتي ما لساني حده
كشمس الضحى كالمسك كالقطر لم ينط ... به برقه الأفق الصقيل ورعده
أجاعل تشبيهي حقيقة التفت ... غلطت فللباب المجازي رده
فشمس الضحى المسك والقطر عابها ... أخو النقد والبرهان يعضد نقده(3/250)
بكسف وإمساك وهذا دليله ... على ذاك الإيضاح لم يتعده
وتلك التي شبهتها سلمت سنى ... فجاءت كما شاء الكمال ووده
صلاة وتسليما ورحمى على الذي ... سنى وحي ذي العرش المجيد أمده
على العورة الوثقى على القمر الذي ... على الخلق ظل الأمن والمن مده
على منقذ الإنسان من حفر الردى ... ولولا سناه كان فيها يدهده
على من له الخلق العظيم على الذي ... أبان جميع الرسل والكتب جده
على من له المجد الصميم على الذي ... به شرف الرحمن آدم جده
على أحمد المعروف في ظهر آدم ... بترديده شكر الإله وحمده
على مجتبى قد نور الله قلبه ... على مصطفى قد طهر الله برده
له المعجزات اللإء لحن لطرف من ... نفى نومه سعد وأثبت سهده
فمنها انشقاق البدر ثم نزوله ... رآه الذي التوفيق وافق رصده
ومنها حنين الجذع بالمسجد الذي ... بطيبة لمّا آنس الجذع فقده
ومنها طلوع القرص بعد غروبه ... وما بسوى دعوى دعاها استرده
ومنها سقوط السيف من كف غورث ... وقد كان مقدام الضلال ونجده
ومنها انفجار الماء من بين أنمل ... تقسم في ابناء آدم رفده
إلى أنْ روى منه الخميس فيا له ... خميسا أطاب الله ذو الفضل ورده
ومنها نماء التمر حتى قضى به ... ديون أبيه جابر حين جده
ومنها كلام الشاة تنهى عن أكلها ... فلم يبلغ السمام بالسم قصده
ومنها كلام الضب والجمل الذي ... شكا كده الموهى قواه وجلده
وكيف مواليه يريدون نخوة ... ولمّا يرعوا فيه بالأمس كده(3/251)
ومنها البعير المبطئ السير ساطعه ... فما وخدت من بعد ذا النجب وخده
إلى غيرها من معجزات بواهر ... فضحن عدوا باغيا رام جحده
تكاثر رمل الأرض عدا ونبتها ... وتفضل سلك الدر حسنا وعقده
وتزري سنى بالنيرين توصلا ... من الفلك المجلو بالصحو كبده
ومما به قد خصه الله رحمة ... وفضلا وفخرا قد قضى الله خلده
صحابته الغر الألي سعدوا ففي ... قلوبهم قد أسكن الله وده
هم نصروا دين الهدى بسيوفهم ... كما خذلوا نسر الضلال ووده
وأولهم سبقا وحيدهم حلى ... وأوجههم عند الإله وعنده
مقربه محبوب مصطفاه من ... جميعهم لا خلق يعلم نده
خليفته في المسلمين الذي له ... مناقب عود الطيب تنسى ونده
ميمم ضلال اليمامة غازيا ... ليروى دما قضب الحديد وملده
فما سلم الكذاب منها رئيسهم ... مسيلم خنزير الضلال وقرده
أقاويله الزورية اللاء قد دجت ... ورأس الدجى لا شك بالنور يشده
مقاتل أهل الردة الرجس الألى ... نحو سد باب حرم الله سده
أبو بكر الصديق أصدق صاحب ... وأبدلهم في نصرة الدين جهده
الموصوف بالشدة التي ... بها دينه قوي الإله وشده
........الدهر منه بعزة ... تحل من الخطب الكرية أشده
.........................بالقنا ... مددن بالعود يظهر زهده(3/252)
مواصل أسباب الهدى الندس الذي ... عن الحق ما شيء من الدهر صده
أميرهم فاروقهم عمر الذي ... مدى العمر لم يفرق من الأمر آده
وثالثهم ذو الهجرتين الفتى الذي ... شكا هجره شخص النعيم وصده
مجمع ما في الذكر من سور ومن ... متى رد داع قد دعا يرده
مجهز جيش العسرة الفاضل الذي ... تردى رداء غيره لم يرده
فذلك عثمان الشهيد بداره ... بسيف شقي في لظى يتدهده
أبو عمرو المعمور قلبا بذكر من ... له من ضروب الصخر أنطق صلده
فسبحت الحصباء من كفه كما ... أتى في حديث أكثر الناس سرده
ورابعهم من ألبسته يد العلا ... أجل قميص للعلا وأجده
ووشحه إيمانه وجنانه ... أجذ حسام للطلى وأحده
تسمى لتفريق الفقار به بذي الْ ... فقار فما أفرى وأقطع حده
هو السيف لم تجل الصياقل صفحه ... ولا رقمت أيدي القوين فرنده
تزوج بنت الموت بكرا صداقها ... أجل صداق أحكم الحب عقده
وليس سوى الأرواح أشركن بالذي ... براهن ما أكلا وعجل نقده
ومن جنة الفردوس كان خروجه ... لهذي وتلك الدار كانت مرده
فيا عظم ما أبلى به في مواطن ... تشيب رأس الطفل لم يعد مهده
إمام همام قاسر كل قسور ... ومدركه لو كانت الريح نهده
به فتح الرحمن خبير عنوة ... وسد به ما قبله لم يسده(3/253)
وكان رسول الله قال لأعطين ... غدا راية الفتح المبين وبنده
فتى وده خلاقه وأوده ... كما ودنا والله ينصر وده
فلم يك يعطاها سواه كرامة ... بها اختصه من شد بالعضد عضده
وقد كان مشدود المحاجر أرمدا ... ففتح ريق الحب ما الداء سده
فهب هبوب الريح قسور جحفل ... تولى به رب البرية عضده
وبالباب باب الحصن يسراه ترست ... فلله منه قسور ما أشده
هو الآية العظمى التي طفئت به ... من الكفر ما قد أضرم الجهل وقده
ومن كان مولاه الرسول فإنه ... كذلك مولاه فطوباك عبده
أبوه الذي ربي النبي ولم يزل ... له حاميا في السر والجهر جهده
متى خاصمت فيه قريش تلقهم ... خصم اللسان الهاشمي ملده
ومن قوله فيه يعظم شأنه ... وينشر ما الرحمن أودع مجده
وأبيض يستسقي الغمام بوجهه ... ثمال يتيم كدر اليتيم ورده
فياحسرتا إنْ مات لم يجن زهرة ... قد أبرزها الإيمان بالله وحده
ولكنها الأقدار تنفذ بالذي ... نود وقد تجرى بما لن نوده
فينأى الذي أدنى ويدنى الذي نآى ... وكل بعلم يجهل العبد قصده
ونجلاه سبطا المصطفى السيدان من ... بني المجد لا ضيم ينال معده
جبيباه في الدارين ريحانتاه لم ... يزل منهما يستنشق الورد ورده
وأمهما من أحمد بضعة ومن ... يكن من رسول الله جزءا يمده
أفاطم لم يبلغ نصيفك فاضل ... من الخلق لم يبلغ أولو الفضل مده
فيا صاح قل لا مجد يشبه مجده ... وصوتك مهما قلت لا فلتمده
أبو الحسن الأسمي على العلا الذي ... مو البحر لم يدرك يد الجزر مده(3/254)
وخامسهم بحر الندى الأسد الذي ... يبذ ليوث الباس أيدا وأسده
مفدى رسول الله بالوالدين إذ ... ملا قلبه المغسول بردا وكبده
وبشر من قد حز بالسيف رأسه ... لئم زمان كان فيه ووغده
بنار لها غيض على كل قاتل ... فما أردى وأشأم عمده
حواريه من قد حوى زينه سنى ... سنى العلم بالرحمن كان ممده
أبو عابد الله الزبير الذي امتطى ... مطهمة المجد الأثيل وجرده
وسادسهم ذو الجود والسودد الذي ... يعد الصدى اللهفان للغوث عده
موقي رسول الله بالكف جودها ... يحل من العيش المهنا رغده
فشلت وقد سلت من الهند مرهفا ... محلى صقيلا أكسب الفخر هنده
فطوبى لها يمنى جنت ثمر المنى ... وقد حليت قلب النعيم وقلده
فقل طلحة ذو المجد طلح ثقاية ... لسان بيان الشرع أحكم نضده
وسابعهم ذو الفضل أقصد سالك ... أدل طريق للهدى وأسده
ومفرغ قطر الزهد يجعل بينه ... وما بين يأجوج الزخارف سده
أمير أولى الإيمان عامرهم أبو ... عبيدة ذو الخير الذي لن نعده
وثامنهم ذو المجد في المال والتقى ... فلله ما أجدى وأبرك وجده
ملا ذكره بطن السماء وماله ... ملا بطن هذي الأرض غورا ونجدة
وكم بات لم يطعم وأطعم غيره ... وقام ولم يترك من الجوع ورده
ومعمم خير الرسل فاتح دومة ... كما ود خير المرسلين ووده(3/255)
فذاك ابن عوف مقلة المجد طرفة ... أجل فتى يثني عليه ويمده
وتاسعهم ذو الرمي بالنبل والدعا ... فمن يرم من قوس وفيه يوده
له السيرة الحسنى له النجدة التي ... رمت فارس الكفر الصراح وكرده
فعوضهم من عيشهم واعتزازهم ... بموت وذل يعذب الموت عنده
فكم فرس قد راح أشهب واغتدى ... من الدم يحكى أشقر اللون ورده
وكم فارس من فارس بشماله ... عنان فقدت منه يمناه قده
فيا بن أبي العاص انك واقص ... من الكفر جيلا أوجب الله طرده
ويا سعد يا خال النبي لقد سمت ... فروع نجار ثابت كنت سعده
وعاشرهم ذو النسك كالمسك ذكره ... سعيد ولا سعد يماثل سعده
فتى المكرمات الأكارم الماجد الذي ... يزيزن جمع المجد طرا ووفده
سلالة زيد الفجر أرشد مهتد ... عن الشرك جد سابق قد أصده
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يبعث زيد بن عمرو بن نفيل أمة وحده.
ومما به أيضاً حبا الله أحمدا ... وعزز ذا الدين العزيز وجنده
ذوو المجد عماه وجعفر الذي ... ملائكة الرضوان وارته لحده
فحمزة ليث الله لا ليث غابة ... يصادره إنْ هاجت الحرب جرده
له الفتكات البيض سودت العدا ... وزادت سنى بدر الجهاد وأحده(3/256)
وكان إذا ما قارب الطرف وامتطى ... قراه بريش الرأل يعلم برده
ولا برد إلاّ نثرة عربية ... لأمثالها داود قدر سدره
فيرعد منه القرن حتى كأنما ... به نافض قد قرب الروع ورده
إلى أنْ أراد الله منه شهادة ... تبوئه عدن الجزاء وخلده
على يد أشقى الزنج راميه قدرة ... بحربته شل المهيمن زنده
فنادى الذي قد ألحف قلبه ... بأسود مما ألحف الرب جلده
بقتلك يا وحشي سامي سامها ... أصاب سواد الجلد حاما وولده
وعباس العم الأعم مكارما ... تقصر من فخر الكرام أمده
أبو الخلفا ساي الحجيج أجل من ... به يصرف الصرف الجليل وينده
وجعفر الطيار ذو المشهد الذي ... ملائكة الرحمى غدت فيه شهده
محمرا رايات الهدى بدم العدا ... بني الأصفر الأسد الألي لم يدهدهوا
مقدم يمناه ويسراه قربة ... إلى منزل في دار عدن أعده
وأمسك بالعضدين بعدهما اللوا ... لواء الهدى يبغي من الله عضده
وبعدهم الأنصار والكل أنجم ... قد أطلعها مولاه تكلأ مجده
بهم خضد الإشراك شرقا ومغربا ... ولولاه ما كان أعوض خضده(3/257)
ذوابلهم قضبان بان نواعم ... قد انبتن سوسان الحديد وورده
تصيب قلوب الشرك طعنا كأنها ... يحب القضا الجاري فتقصد قصده
وإلاّ فبين الشرك حقد وبينها ... فتطلب منه موضعا ضم حقده
وأسيافهم زرق رقاق كأنها ... نطاف بها قد عين الموت ورده
ذكور ويعروها المحيض كأنها ... إناث ولا غسل عليهن بعده
فيا معشر السادات والكل منكم ... يرى الصبر في نصر الهدى هو شهده
كأن عداة الدين زرع محطم ... توليتهم بالبيض والسمر حصده
فأقررتم عين الرسول وحسبكم ... بذا قرة تهدي إلى الطرف برده
ولله من أزواجه أمهاتنا ... فرائد علاء قد أسر بن وده
وأكرمهن الدرة الفذة التي ... بها زين المجد المؤثل عقده
خديجة ذات الجاه إنْ ينشد أمرؤ ... به الله في أمر تقبل نشده
لها الأثر المحمود والأثر التي ... متى مر عرف الطيب عنه ترده
بنو المصطفى ما دون إبراهيم الذي ... رداه رداء الصبر بالثكل قده
بنوها وكل أشمس وأهلة ... كوامل رسم الفخر حازوا وحده
وفيها رسول الله قال مكرما ... خليتها والدمع يخضل خده
إلاّ إنها كانت تزور خديجة ... ومن خلق ذي الإيمان يحفظ عهده
فبشرها جبريل عن ربها بما ... لها الله في دار النعيم أعده(3/258)
وعائشة بنت الحبيب عتيق ال ... مصدق إيعاد الرسول ووعده
فريدة بسوان الوجود مناقبا ... متى يبل ذكر صالح تستجده
هليمة أهل العلم التي ... جلت سدف الجهل المضل وسده
وجفصة ذات الصيت والمنصب الذي ... هو الطود لا ترفي السوابق مهده
مواصلة الأرواد والصوم دائما ... مواصلة القلب الموحد عقده
وفذة مخزوم جلالا مبلغا ... قصي المنى في المنزلين معده
وزينب ذات الطول والطول أنملا ... مواهبها تنسي الغمام وعهده
وزينب ذات الفضلى بنت خزيمة ... لقد وصلت بالجود ما البخل جده
وسودة ذات السودد العد والتقي ... متى صد عن قلب تقي لم يصدهو
وميمونة الميومونة البرة التي ... لها الفضل لم ترق الفواضل نجده
وبنت حيي ربة الصون والحيا ... صفية من أصفى لها السعد وده
ورملة رمل الأرض يمكن عده ... لنا والذي خصت به لن نعده(3/259)
وجارية العليا جورية التي ... تقد سناما أختها لم تقده
هنا منتهى الأزواج والكل أشمس ... سناها أسداف الجهالة يشده
وما رئ من ترب لمّارية التي ... هوها له لا صرد يشبه صرده
سرية سرياته أي منزل ... يرقى من الطود الفخاري فنده
فسرية الإنسان تسمو بمن لها ... تسري وهذا المجد تعلم جده
وإنْ لم تكن أما لنا فهي أم من ... لفقدانه أيدي حبيبك وحده
حبيبي حبيبي فطرة وشريعة ... قد احكمتا من حبل حبي مسده
مدحتك والأزواج والصحب والألي ... بقربك شهب الفخر أكروا وورده
فعاد مجلى كل فخر قدامس ... سكيتا تولى القرد بالسوط جلده
هو المدح ما كررته زاد طيبه ... فينسي مشور الأري طعما وقنده
فصله أيا فكري لعلك بالغ ... من البحر ذي الماء الروي العذب ثمده
ولازم جناب المجد ذا المجد مادحا ... ودع جانبا هند الجمال ودعده
ولا تطلبي يا نفس غير شفاعة ... ووصل كريم لا أحاذر صده
وعافية شهبانها كلما عرا ... بلاء تولت عن جنابي لهده(3/260)
وقمع عداة لم يخافوا إلههم ... فباروا ذئاب الفقر ضرا وعقده
مذاهبهم ظلم العباد فإن يقل ... لهم ناصح كفوا عن الظلم يزدهوا
وعبدك بالإيثار دان فلم يكن ... ليختص دون الغير بالخير وحده
فعم بهذا الخير كل موحد ... هواك لديه علق أعده
وسلم رب العرش بدءا وعودة ... عليك أيا فذلك الوجود وفرده
سلاما أيضاً هي هدى من قد ذكرته ... وتصلية جاءت كذلك بعده
انتهى ما أردت جلبه من كلام هذا الإمام في تمثال نعل المصطفى عليه الصلاة السلام.
قلت: وقد اعتنى الناس والأئمة بتمثال النعل الكريمة وكيف لا وحتى على كل مؤمن أنْ فلى لمشاهدته الفلا فإذا شاهدها قبلها ألفا وألفا وتوسل بصاحبها إلى الله الكريم زلفى ولثم ثراها لثما وأزاح به عن نفسه حوبا وإمثا وجعلها فوق رأسه تاجا واستغنى بالتوسل بمن لبسها فلم يك إلى غابر الدهر محتاجا. وقد أفردها أبو اليمن بن عساكر بالتأليف وصنف فيها جزءا مفردا وكذلك أفردا بالتأليف أبو إسحاق إبراهيم بن محمّد بن خلف السلمي الشهير بابن الحاج من أهل المرية وكذا غيرهما.(3/261)
ومن بعض ما ذكر في فضلها وجرب من نفعها وبركتها ما ذكره أبو جعفر أحمد بن عبد المجيد وكان شيخا صالحا ورعا قال: حذوت هذا المثال لبعض الطلبة فجاءني يوما فقال لي: رأيت البارحة من بركة هذه النعل عجبا أصاب زوجي وجع شديد كاد يهلكها فجعلت النعل في موضع الوجع وقلت اللهم أرني بركة هذا النعل فشفاها الله للحين.
وقال أبو إسحاق: قال محمّد أبو القاسم بن محمّد: ومما جرب من بركته أنَّ من أمسكه عنده متبركا به كان له أمانا من بغي البغاة وغلبة العداة وحرز من كل شيطان مارد وعين كل حاسد وإنْ أمسكته المرأة الحامل بيمينها وقد اشتد عليها الطلق تيسر عليها أمرها بحول الله وقوته.
ولله در الأمام الشيخ أبي اليمن بن عساكر رحمه الله حيث قال:
يا منشدا في رسم ربع خالي ... ومناشدا لدوارس الأطلال
دع ندب آثار وذكر مآثر ... لأحبة بانوا وعصر خالي
والثم ثرى الأثر الكريم فحبذا ... أنْ فزت منه بلثم ذا التمثال
أثر له بقلوبنا أثر لها ... شغل الخلى بحب ذات الخال
قبل لك الإقبال نعلي أخمص ... حل الهلال بها محل قبال
ألصق بها قلبا يقلبه الهوى ... وجلا على الأوصاب والأوجال
صافح بها خدا وعفر وجنة ... في تربها وجدا وفرط تغال
تشفيك حر جوى ثوى بجوانح ... في الحب ما جنحت إلى الإبلال
يا شبه نعل المصطفى روحي الفدا ... لمحلك الأسمى الشريف العالي
هملت لمرآك العيون وقد نأى ... مرآي العيان بغير ما إهمال
وتذكرت عهد العقيق فناثرت ... شوقا عقيق المدمع الهطال(3/262)
وصبت فواصل الحنين إلى الذي ... ما زال بالي منه في بلبال
أذكرتني قدما لها قدم العلا ... والجود والمعروف والإفضال
أذكرتني من لم يزل ذكري له ... يعتاد في الأبكار والآصال
لو أنْ خدي يحتذي لمثالها ... لبلغت من نيل المنى آمالي
ولها المفاخر والمآثر في الدنا ... والدين في الأقوال والأفعال
أو أنَّ أجفاني لوطء نعالها ... أرض سمت عزا بذا الإذلال
وما أحسن قصيدة نسبها الشيخ أبو إسحاق بن الحاج للأديب العلامة أبي الحكم مالك بن المرحل رحمه الله تعالى وهي قوله:
بوصف حبيبي طرز الشعر ناظمه ... ونمنم خد الطرس بالنقش راقمه
رؤوف عطوف أوسع الناس رحمة ... وجادت عليهم بالنوال غمائمة
له الحسن والإحسان في كل مذهب ... فآثاره محبوبة ومعالمه
بخ ختم الله النبيين كلهم ... وكل فعال صالح فهو خاتمه
أحب رسول الله حبا لو أنه ... تقاسمه قومي كفتهم مقاسمه
كأن فؤادي كلما مر ذكره ... من الورق خفاق أصيبت قوادمه
أهيم إذا هبت نواسم أرضه ... ومن لفؤادي أنْ تهب نواسمه
فأنشق مسكا طيبا فكأنما ... نوافجه جاءت به ولطائمه
ومما دناني والدواعي كثيرة ... إلى الشوق أنَّ الشوق مما أكاتمه
مثال لنعلي من أحب حديثه ... فها أنا في يومي وليلي لاثمه
أجر على رأسي ووجهي أديمه ... وألثمه طورا وطورا ألازمه(3/263)
أمثله في رجل أكرم من مشي ... فتبصره عيني وما أنا حالمه
أحرك من خدي أحسب رفعه ... على وجنتي خطوا هناك يداومه
ومن لي بوقع النعل في حر وجنتي ... لماش فوق النجوم براجمه
سأجعل فوق الترائب عودة ... لقلبي لعل القلب يبرد جامحه
وأربطه فوق الشئون تميمة ... لجفني لعل الجفن يرقا ساجمه
إلاّ بأبي تمثال نعل محمّد ... لطاب محاذي وقدس خادمه
يود هلال الأفق لو أنه هوى ... يزاحمنا في لثمة ونزاحمه
وما ذاك إلاّ أنْ حب نبيينا ... يقوم بأجسام الخليفة لازمه
سلام عليه كلما هبت الصبا ... وغنت بأغصان الأراك حمائمه
وللشيخ أبي بكر أحمد بن الإمام أبي محمّد عبد الله القرطبي في ذلك:
ونعل خضعنا هيبة لهائها ... وأنا متى نخضع لها أبدا نعل
فضعنا على أعلى المفارق إنها ... حقيقتها تاج وصورتها نعل
بأخمص خير الخلق حازت مرية ... على التاج حتى باهت المفرق الرجل
معاني الهدى عنها استنارت لمبصر ... وإنَّ بحار الجود من فيضها تحلو
سلونا ولكن عن سواها وإنما ... يهيم بمغناها الغريب وما يسلو
فما شاقنا مذ راقنا رسم عزها ... حميم ولا مال كريم ولا أهل
شفاء لذي سقم رجاء لبائس ... أمان لذي خوف كذا يحسب الفضل(3/264)
ورأيت في بعض تماثيل النعل الكريمة مكتوبا بطرفها الشريف ما نصه:
مثال نعل الرسول ... خذه بحن القبول
ففضله ليس يحصى ... لدفع كل مهول
وفي وسطها ما نصه:
أمرغ في المثال بياض وجهي ... فقد عقد النبي لها قبولا
وما حب المثال شغفن قلبي ... ولكن حب من لبس المثالا
ورأيت مكتوبا بدائرتها ما نصه: ما كان هذا المثال الكريم في دار فسرقت ولا في سفينة فغرقت وفيه خواص عجيبة. انتهى.
وقد حكى غير واحد أنَّ سراج الدين سيدي عمر الفاكهاني شارح العمدة والرسالة لمّا أبصر تمثال النعال المطهرة أغمي عليه ساعة ثم أنشد حين أفاق متمثلا:
ولو قيل لمجنون ليلى ووصلها ... تريد أم الدنيا وما في زواياها
لقال غبار من تراب نعالها ... أحب إلى نفسي وأشفى لبلواها
وقد ذكر أنَّ السراج الفاكهاني أما أحتضر أغمي عليه ساعة فلقنه بعض من حضره ففتح عينيه وأنشد:
وغدا يذكرني عهودا بالحمى ... ومتى نسيت العهد حتى أذكره(3/265)
ثم أدخل عليه تمثال النعل الطيبة فحين شاهدها أغمي عليه ساعة ثم أنشد البيتين المذكورين حين أفاق.
وقال الشيخ الرحال أبو عبد الله بن رشيد الفهري: لمّا دخلت دار الحديث الأشرفية برسم رؤية النعل الكريمة للمصطفى صلى الله عليه وسلم ولثمتها حضرتني هذه الأبيات فقلت:
هنيئا لعيني أنْ رأت نعل أحمد ... فيا سعد جدي قد ظفرت بمقصدي
وقبلتها أشفي الغليل فزادني ... فيا عجبا زاد الظما عند موردي
فلله ذاك اللثم لهو ألذ من ... لمى شفة لميا وخد مورد
ولله ذاك اليوم عيدا ومعلما ... بتاريخه أرخت مولدا أسعد
عليه صلاة نشرها طيب كما يحب ويرضى ربنا لمحمد
ولا بد أنْ نرسم تمثال النعل الكريمة تبركا بصاحبها عليه الصلاة والسلام:(3/266)
رسم النعل ص267 تمثال النعل النبوية في دار الحديث الأشرفية بدمشق كما رسمته النسخة التيمورية.(3/267)
ما كتب في المثال الأيمن
وكتبت في داخله ما نصه من نظم المؤلف رحمه الله تعالى:
يا ناظرا تمثال نع ... لْ المصطفى سر الوجود
عظم علاه ففضله ... ملأ التهائم والنجود
واجعله خير وسيلة ... فالله ذو كرم وجود
صلى عليه الله ما ... أحيا الحيا الروض المجود
ولغيره:
يا مبصرا تمثال نعل نبيه ... قبل مثال نعاله متذللا
واذكر به قدما علت في ليلة الْ ... إسراء به فوق السموات العلا
واخضع له وامسح جبينك ولتكن ... متبركا أبدا به متوسلا
وللمؤلف رحمه الله تعالى:
يا مبصرا تمثال نعل قد علا ... طالع محاسنه وكن متوسلا
واخضع له وامسح جبينك ولتكن ... متبركا أبدا به متوسلا
واسأل به متضرعا مستمطرا ... ألطاف رب لم يزل متفضلا
فهو الوسيلة والملاذ إذا عرا ... خطب وأضحى الكرب أمرا مذهلا
فلكم أغاث بجاهه ... أناله أقصى المرام مسهلا(3/268)
يا خير خلق الله دعوة حائر ... لم يتخذ إلاّ جنابك موئلا
صلى عليك الله يا نور الهدى ... والآل والصحب الكرام ومن تلا
ما حن مشتاق لذكرك أو غدا ... لمثال نعلك لازما ومقبلا
وللشامي الفقيه منن أهل العصر:
أيا ناظرا متع جفونك ساعة ... بأزهار هذا الروض من حيث ما تخطو
وقف الإذلال لله واطلبن ... بها نعمة الرضوان إنْ راعك السخط
فلو لم تكن مقبولة عند ربنا ... لمّا كان من هذا النعال بها وخط
وللمؤلف:
يا ناظرا تمثال نع ... لْ المصطفى قبله ألفا
واجعله خير وسيلة ... تدني إلى الحمن زلفى
واحفظه فهو ذخيرة ... ما مثلها في الدهر يلفى
وللشامي أيضاً:
أيا نعل الرسول سموت قدرا ... وفخري غير خفي للبيب
أقول لمن بحبي ذات شوقا ... وأعيا داؤه طب الطبيب
تنشق مسك أنفاسي لتشفي ... بهذا الطيب من عرف الحبيب
وللمؤلف أيضاً:
بشرف المختار قد شرفت ... نعاله حتى سما ذا المثال
فاسأل له الرحمن جل أسمه ... فما به يسأل إلاّ أنال
وكيف لا يدرك مستمسك ... بالعروة الوثقى المنى بالسؤال(3/269)
وجاه خير الخلق أعظم به ... ملاذنا في حالنا والمآل
صلى عليه الله مع صحبه ... وآله أجل صحب وآل
انتهى ما كتب في المثال الأيمن.
ما كتب في المثال الأيسر
وفي الآخر ما نصه: وللمؤلف:
يا ناظرا تمثال نع ... لْ المصطفى في ذا الكتاب
قبله ألف ثم زد ... ما شئت لا تخش العتاب
واسأل به رب الورى ... سبحانه حسن المآب
وله أيضاً مما قاله بديهة:
حاز هذا المثال كل المزايا ... إذا حكى نعل رجل خير البرايا
أحمد المصطفى الملاذ إذا ما ... طرق الدهر أهله بالبلايا
فلجإ العالمين طرا إذا ما ... جمع الناس يوم تخشى الرزايا
خيرة الله مجتباه ومن حا ... ز خلالا حميدة وعطايا
فعليه الصلاة ما قبل النعل ... مشوق يروم محو الخطايا
وللكاتب المكلاتي من أهل العصر يشير إلى هذا المثال الكريم:
انظر إلى البدر وتكليفه ... بين شراك يا لها من قبال
ما صار كالعرجون من تمة ... إلاّ محاكاة لهذا المثال(3/270)
وللمؤلف أيضاً في ذلك:
يا ناظرا في مثال ... أضحى هنا ذا ارتسام
يحكى نعال تناهت ... في الحسن دون مسامي
قبله تقبيل صب ... موله مستهام
وضعه من فوق راس ... تاجا لمفرق هام
وابسط له حر وجه ... ولا تخف من ملام
ففضله ليس يحصى ... بنثر أو بنظم
واحفظ علاه وصنه ... وكن له ذا احترام
أمان حرف وخوف ... تيسير كل مرام
لا يطرق الدهر دارا ... غدت به في اتسام
والفلك إنْ كان فيها ... لم يخش من هول طامي
فيا لها بركات ... شهيرة في الأنام
وكيف لا وهو ينمي ... للهاشمي التهامي
خير البرية طرا ... إمام كل إمام
أسخى الخليفة كفا ... أرعاهم لذمام
إنسان عين النعالي ... وذو السجايا الجسام
عليه صلاة ... بطيبة وسلام
والصحب والآل طرا ... والتابعين الكرام
ما استنشقت نسمات ... من عرف مسك الختام
انتهى ما في النعل الكريمة واتصل به ما نصه:(3/271)
ومما قيل في النعل الكريمة قول الإمام المحدث الرحال أبي عبد الله محمّد بن جابر الوادي آش ونظمها بدار الحديث الأشرقية من دمشق وقد رأى فيها تمثال نعل النبي صلى الله عليه وسلم فقبله وقال:
دار الحديث الأشرفية للشفا ... فيها رأت عيناي نعل المصطفى
ولثمته قنعت وقلت يا ... نفس أنعمي أكفاك قال لي: كفى
لله أوقات وصلت بها المنى ... من بعد طيبة ما أجل وأشرفا
لك يا دمشق على البلاد فضيلة ... أيامك الأعياد لازمها الصفا
ولكم بجيرون جررت ولم أخف ... ذيلا وبرح هواى فيها ما اختفى
قلت ومما أنشدني الفقيه الأريب العلامة الأديب الحاج الرحال أبو الحسن صاحبنا سيدي عليّ بن أحمد الشامي الخزرجي لنفسه في تمثال النعل الكريمة قوله نفعه الله بقصده وكتبه لي بخطه وكنت طلبت منه ذلك لأثبته في هذا الموضوع:
دعوا شفة المشتاق من سقمها تشفي ... وترشف من آثار ترب الهدى رشفا
وتلثم تمثلا لنعل كريمة ... بها الدهر يستسقي الغمام ويستشفى
ولا تصرفوها عن هواها وسؤالها ... بعدلكم فالعدل يمنعها الصرفا
ولا تعتبوها فالعتاب يزيدها ... هياما ويسقيها مدام الهوى صرفا
جفتها بكتم الدمع بخلا جفونها ... فمن لامها في اللثم فهم لها أجفى(3/272)
لئن حجبت بالبعد عنهم فهذه ... مكارمهم لم يبق ستراً ولا سجفا
وإنْ كان ذاك الخيف موعد وصلهم ... فها نفحة الإفضال قربت الخيفا
واغنت بفضل عن مشقة شقةٍ ... نكابد مسراها شتاء يلي صيفا
فحركت الأشواق منا لروضةٍ ... أباح لنا الإسعاد من زهرها قطفا
تولى كمثل الطيف إذ زار في الكرى ... وإلاّ كمثل البرق إذ سارع الخطفا
تقضي وما قضى بلبنى لبانةً ... لقيس الهوى والحب منا وما استوفى
فزلنا وما زلنا نعلل باللقا ... نفوساً وما تجدي لعل ولا سوفا
كأنا وما كنا نجوب منازلاً ... يود بها المشتاق لو راهق الحتفا
ولم تبصر الأبصار منها محاسناً ... ولم تسمع الآذان من ذكرها هتفا
كذاك الليالي لم تحل عن طباعها ... متى واصلت يوماً تصل قطعها ألفا
فلا عسش لي أرجوه من بعد بعدهم ... وهيهات يرجى العيش من فارق الإلفا
ويا حبذا قتل إذ العيش لم تزل ... سيوف الهوى تفري به القلب والجوفا
ومن لي بقتل في سبيل الهوى التي ... وعنا عليها بالجنان ومن أوفى
أيا من نأت عنه ديار أحبةٍ ... فمن بعدهم مثلي على الهلك قد أشفى
لئن فاتنا وصل بخيف مناهم ... فها نفحة من عرفهم للحشا أشفى
وهاتيك أزهار الرياض تنفست ... بأنفاسهم فاستشفين بها تشفى
وقل للألي هاموا اشتياقاً لبانهم ... هلموا لعرق ألبان نستنشق العرفا
فصفخة هذا الطرس أبدت نعالهم ... وصارت لها ظرفا فيا حسنه ظرفا
تعالوا تغالوا في مديح علائها ... فرب غلوٍلم يعب ربه عرفا
ولله قوم في هواها تنافسوا ... وقد غرفوا من بحر أمدادها غرفا(3/273)
وإنا وإنْ كنا على الكل لم نطق ... نحاول بعض البعض من بعض ما يلفي
لئن قبلوا ألفا نزد نحن بعدهم ... على الألف ما يستغرق العد والألفا
وإنَّ وصفوا واستغرقوا الوصف حسبنا ... نجيل بروض الحسن من وصفهم طرفا
ونقبس من أنوارهم وسعنا ... ونركض في مضمار آثارهم طرفا
فمن قال بدر ألتم أو طلعة الضحى ... أو الروض يحكيها فما انصف الوصفا
فما الشمس إلاّ من محاسن ضوئها استنارت ولولاها للازمت الكسفا
وما البدر إلاّ من مشارق نورها استمد ولولاها لمّا فارق الخسفا
وما طاب نشر الروض إلاّ لأنه ... يمد مدى الأيام من نشرها عرفا
وما أخضر ترب الأرض إلاّ لأنها ... تخطته فاختط النبات به حرفا
فحلوا بها أعلى المفارق واكحلوا ... بها مقلة العينين أو عطروا الأنفا
فآثارها تبرى الجوى وترابها ... لسقم الحشا انفع أو أنفى
لها الفخر أنَّ سارت بها رجل من سرى ... إلى حضرة التقديس والقرب والزلفى
وودي لا تخلع نعالك واقربن ... وألفي بها من نفحة الحب ما ألفي
وأدناه قرباً قاب قوسين ربه ... وناداه قل تسمع وسل تعط عد تكفي
نبي به نلنا المنى وتوا كفت ... علينا من الرحمن سحب الرضا وكفا
تعلى على العلياء حتى أنار من ... علاه العلا والغور والنجد والخيفا
وقاتل في إظهار أنوار دينه ... جميع العدى حتى زوى الضيم والحيفا
وكان إلى الهيجاء أوّل سابق ... وما فارق الغضب المنهد والسيفا
هواه هدى الهادين منه إلى الهدى ... وحبه أهدى الوارد المورد الأصفي
وآياته كالزهر والزهر نفحة ... وعدا فمن ذا يستطيع لها وصفا
كفت كفه الجيش اللهام عن الحيا ... وكفت جيوش الكفر عن غيها كفا(3/274)
وردت له الشمس المنير شعاعها ... كذا البدر بعد التم صار له نصفا
وجوده أجدى من رياح عواصف ... ومن ذا يباري الريح إنَّ رامت العصفا
أمولاي يا مولاي يا خير سيد ... تسامى على الأشباه طرا مع الأكفا
نأت بي عنكم موبقات جنيتها ... وعفوكم من كل كلف بها أكفى
وهأنا عند الباب راج وخائف ... دموعي لا ترقا وشجوى لا يطفا
أناديك يا خير البرية كلها ... نداء عبيد يرتجى العفو والعطفا
وإني محق في هوى حبك الذي ... يفل جيوش الهم إنَّ أقبلت زحفا
وما أنا فيه كالذي قال هازلاً ... " أليلتنا إذ أرسلت واردا وحفا "
فآها لنفسي ثم آها إذا أنا ... طردت ويا لهفا ارددها لهفا
وواحسرتا يا حسرتا ثم حسرتا ... إذا لم تكن في موقف الحشر لي كهفا
ولعلكن لي ظنا جميلا بنسبتي ... لأنصاركم يا خير من راقب الحلفا
كما أنَّ لي أيضاً متاتاً بمدحي ... نعالا بها نيل العلى والمنى يلفي
أبي النظم يستوفي حلاها وهل يفي ... روى بآثارها الهدى ألف أوفا
عليك صلاة ما بدا بدر تمكم ... وما اشتاق مشتاق إليَّ وعدك الأوفى
ومما أنشدنيه أيضاً لنفسه في ذلك قوله:
مثال النعل في القرطاس خطا ... بسمر الشوق في الأحشاء خطا
ولمّا أنَّ لثمت ندى ثراه ... وغشي نوره جفني وغطى
شممت الورد من رياه يندى ... وشمت البدر من علياه حطا
ففجر لي من العينين بحرا ... ونثر من لآلي الدمع سمطا(3/275)
وروى من جماد الجفن جسمي ... وأروى من زناد الشوق سقطا
وهز من أهوى غطف ارتياحي ... لأرض لم تزل تزداد شخطا
وذكراني معاهد لست انسى المزار بها ولو بالبعد شطا
معاهد خير من ركب المطايا ... واكرم من خطا نعلا وأوطا
بأخمص رجله الحسناء حازت ... مفاخر لم يطقها الوصف ضبطا
سمت فسعت لها زهر الدراري ... لتلثم وتطوف شوطا
فكلت دونها وسط عليها ... ولا بدعا بذاك الفخر يسطى
فمن قال الهلال لها مثال ... لعمر الله في التمثيل أخطا
ولكن البدور لها نعال ... تود بها تدارس علا وتخطى
وما طلعت عيون الشمس إلاّ ... لطلعتها تروم بها محطا
وما رقصت غصون النبت إلاّ ... لعلياء تحط الراس حطا
وما غنت طيور الأيك إلاّ ... عليها تعتلى الأغصان حوطا
وما حنت حداة العيس إلاّ ... إليها تبتغي أثلا وخمطا
وما هبت نسيم المسك إلاّ ... لريها تنال بذاك خلطا
ولو يوما تخطت أرض جدب ... لمّا ألفت بها في الدهر قحطا
يحق لنا نعظمها جلالا ... ونربط طرسها بالقلب ربطا
وننتعل الوجوه بها جمالا ... ونجعلها على الآذان قرطا
وتعتصب المفارق من ثراها ... وتكتحل العيون بذاك شرطا
نعفر وجنة فيها وخدا ... ونخضب من سواد الرأس شمطا
وننشد من يعاتب في هواها ... " إليك خبط من عشواء خبطا "
ودعنا والهوى أنا أناس ... يزيد غرامنا بالعتب فرطا(3/276)
وأنا معشر العشاق ممن يرى جور النوى والبعد قسطا
ونقنع بالجيال مدى الليالي ... وإنَّ طال التباعد أو تشطا
ولا سيما المثال وقد تبدى ... يجر على علا الجوزاء مرطا
وما نعلا نريد ولا مثالا ... ولكن من بها العلياء تخطى
نبي إنَّ أتيت إلى حماه ... وجدت سماحة في الخلق بسطا
أتى والدين أصبح في انقباضٍ ... فعاناه إلى أنَّ نال بسطا
وقاتل في سبيل الله حتى ... أزال عن الورى قنطا وضغطا
وعمت دعوة منه وغمت ... بآبيات الهدى فرسا وقبطا
فطوبى للذي لبى سريعا ... ويا ويل الذي عن ذاك أبطا
سما لسما العلاء فنال قربا ... وهم بنعله نزعا وكشطا
ونودى طأ ولا تخلع نعالا ... وأبدل من مقام الروع بسطا
وأيده الإله بروح قدسٍ ... ومد له من التقديس بسطا
وعظمه على الأرسال طرا ... ونظمه بذاك العقد وسطى
هناك حباه فرضا من صلاة ... بها عنا الذنوب تصيب حبطا
وسدده إلى إنَّ جاء موسى ... وردده إليه يروم حطا
إلى أنَّ يصير الخمسين خمسا ... وأبقى أجرها والإضر حطا
وأعطاه الشفاعة يوم حشر ... يقول أنا لها والناس قنطى
وتعجز دونها الأرسال طرا ... وتأتى الناس سبطا ثم سبطا
إذ الجبار يبرز بانتقام ... ويبدي للورى غضبا وسخطا
فيدنيه ويلهمه بفضل ... محامد مثلها ما قط أعطى
ومهما رام يشرع في سجود ويضرع بالدعا ويخر هبطا(3/277)
يناد ارفع تطلع وأشفع تشفع ... وقل يسمع وسل ما شئت تعطى
فيحظى بالمراد قرير عينٍ ... بما أولاه تكرمة وغبطا
ويصدر شافعا في كل عاصٍ ... مصر دنس الأعمال وخطا
ويخرج من له أدنى نواةٍ ... من الأيمان والنيران فرطا
جزاه الله عنا كل خير ... وحاط به ديار الدين حوطا
ولا زالت صلاة الله تترى ... عليه ما بدا بدر وغطى
تفوح وختمها مسك عبيق ... يعم عبيره آلا ورهطا
وأنشدني أيضاً لنفسه في ذلك، مكملا ما سقط من الحروف من كلام ابن فرج السبتي المتقدم الذكر قوله جاريا على طريقته:
قافية الواو
وقفت على تمثال نعل كريمةٍ ... فأحييت برسم الشوق مني ما أقوى
وأيقنت إني إذ ظفرت بلثمها ... تمسكت في أخرى بالسبب الأقوى
وناديتها يا نعل عذراً فإنني ... على مدح بعض من معاليك لا أقوى
وطئت ربوعا للهدى ومغنيا ... علاها على الرضوان أسس والتقوى
ولامست وجلا لو يطاوع تربها ... ثريا السما شدت لتقبيله حقوا
قافية لام الألف
لآلي نعال المجد أهلا بها أهلا ... وشكرا لأن كنا لتقبيلها أهلا
لآلى رسول مسها جلد رجله ... بها ورد فخر مذب العل والنهلا
لآدم هذا الفخر أيضاً لأننا ... بذي النعل أنقذنا الغواية والجهلا(3/278)
لأقسم يا من لآم فيها عليك لا ... تعذب بتعاذلي ومهلا به مهلا
لأني غريق في هوى حبها وكم ... محب يرى التعذيب في حبها سهلا
قافيه الياء
يود لساني أنَّ يؤدي مدحها ... نعالا فيعينني علاها وحرف اليا
يؤدي ولكن لا يطيق كمالها ... ولو أنَّه يفعل بيان الورى فليا
يمينا وإني في يميني صادق ... لحليتها صيغت من الجنة العليا
يواقيت سر الكون والجود رصت ... بها وطأة التقديس فانتظمت حليا
يواري علا رجل على من مشى بها ... سلام مدى ما ازداد من ربه وليا
وأنشدني أيضاً لنفسه في ذلك قوله:
هذى نعال أحمد ... مولى المقام الأحمد
فاشكر أخي إذ شمت من ... برق سناها وأحمد
واكتحلن بتبرها ... فهو شفاء الأرمد
وارشف ثراها أنَّه ... يجلى صدا القلب الصدي
وألمس بها طرسها ... تنل كمال المقصد
واقبس سنى من نورها ... فهي سراج المهتدي
وضمها لصدره ... ضمة ذي تودد
من لم تزل في بيته ... يحظى بعيش رغد(3/279)
يضحى ويمسي آمنا ... في كل يوم أو غد
لا يمترى في فضلها ... سوى غبيٍ أو غد
أو جاهلٍ بقدرها ... أو جاحد أو ملحد
كم أبرأت من علة ... من كل داء مجهد
وكم أبانت من هدى ... بنورها المؤيد
وكم أبادت من عدي ... بسيفها المهند
وكم أجارت من حمى ... بركانها المشيد
فهي أمان خائف ... وهي رجاء القاصد
وهي عماد الملتجي ... وهي مراد الرود
بالغ أخي في مدحها ... واشدد بأزري وأعضد
وانسب لها ما شئت من ... فخر ولا تفند
وقف هنا هنيهة ... وقفة صبٍ مسعد
وانهض إلى نقبيلها ... نهضة خلٍ منجد
وقل إذا قبلتها ... مقالة المستنجد
يا أكرم الخلق الذي ... قد حاز كل سودد
يا مصطفى آثاره ... بها الأنام تهتدي
ويا مجير خائفٍ ... من كل سوء يعتدي
ويا محب سائل ... إذا أتاه يجتدي
عبيدكم ببابكم ... حيران ذا تردد
وافي علاك تائبا ... من ذنبه المعدد(3/280)
يرفع من مديحه ... إلى علاك الأمجد
عقائلا تنسق من ... در ومن زبرجد
تحكي عقود جوهر ... أقسامها من عسجد
فامنن له بعطفه ... من فضلك الممجد
ونهلة من حوضظ الْ ... عذب اللذيذ المورد
ووقفة بروضك ... الغض الندى المورد
وزورة لقبرك ... المرضي الزكي الملحد
وأوبة له عسى ... يكون ثم مرقدى
صلى عليك الله ما ... بدا ضياء الفرقد
والآل والصحب الألى ... فازوا بكل الأسعد
ومن أتى من بعدهم ... من كل حبر أوحد
ومن تلا جميعهم ... ما زم ركب أو حدى
ورددت من منشد ... هذي نعال أحمد
وأنشد أيضاً لنفسه في ذلك الغرض:
نعال بها يشفى العليل من الجوى ... وتجلي بها عنه المصائب والبلوى
هي البرء إلاّ أنَّ شرب دوائها ... لذائقه أحلى من المن والسلوى
هلموا نقبل تربها فعسى به ... نخمد جمرا من لظاها الحشي تكوى
فرب عليل جاءه من طبيبه ... بشير فخفت عنه من حينه الشكوى(3/281)
وأنشد أيضاً لنفسه في ذلك الغرض:
أتت شمس السماء تحط راسا ... لهذي النعل من دون النعال
وتلثم تربها ذلا لتحظى ... بما رامته من رتب المعالي
فقال لها الهلال وقد رآها ... أنخضع لا محالة للنعال؟
فنادته أبتدرها لا تؤخر ... فيفتضح المعالي بالمعالي
وخاطبني في هذا الغرض مشيرا إلى إثبات هذه المنظومات التي سمحت بها ريحته في هذا الموضوع:
أمفتي فاس زند شوقي قد ورى ... بخير الورى فانقاد طوع عنان
وهبت صبا نجد فهاجت صبابتي ... وساعد بلبالي بيان بناني
وصالت على أوصال فكري فأقلعت ... عرائس غرس من جنان جناني
وقد ذوت الأغصان وانتثرت بها ... أزهارها تحكي نثير جمان
وهذا أوان الغرس جودوا بنقلها ... لروضكم تحظى بنيل أمان
ولنرجع بعد هذا المقدار إلى ما كنا بصدده فإن مثل هذا الغرض لا سبيل لحصر عدده فنقول:
بين القاضي عياض والزمخشري
وممن استجاره القاضي أبو الفضل عياض رحمه الله ولم يجزه الزمخشري صاحب الكشاف سامحه الله.(3/282)
وسمعت غير واحد ممن لقيته يخبر أنَّ القاضي عياض لمّا بلغه امتناع الزمخشري من إجازته قال: الحمد لله الذي لم يجعل علي يدا لمبتدع أو فاسق أو نحو هذا من العبارات والله اعلم.
وإمامة الزمخشري في العلوم معروفة ولكن أعنة القلوب إلى من بيده التوفيق وضده مصروفة. ولا بد من الإلمام ببعض أحوال هذا الرجل الذي اختلفت في أمره الآراء وآنس من جانب البيان والنحو نارا وأنكر الحق وقد وضح النهار وذكر يعضهم أنه تاب ويأبى ذلك تصريحه في كشافه بما خالف السنة جهارا فإنه لو صح ذلك لمحاه أو أشهد على نفسه بالرجوع عما قصده فيه وانتحاه وكثير من الأئمة أغضى عن اعتزاله وانتفع بكشافه مع قطر النظر عن موضع التهمة واختزاله.
بين الحافظ السلفي والزمخشري
وممن استجاره فأجازه الإمام الحافظ أبو الطاره السلفي الأصبهاني المتقدم الذكر رحمه الله فإنه خاطبه في ذلك بما نصه بعد البسملة: إنَّ رأي الشيخ الأجل العالم العلامة أدام الله توفيقه أنْ يجبز جميع سماعاته ورواياته وما ألفه في فنون العلم وأنشأه من المقامات والرسائل والشعر لأحمد بن محمّد بن أحمد السلفي الأصبهاني يذكر مولده ونسبه إلى أعلى أب يعرف ويثبت كل ذلك بخطه تحت هذا الاستدعاء مضافا إليه ذكر ما صنفه وذكر شيوخه الذين أخذ عنهم وما سمع عليهم من أمهات المهمات حديثا كان أو لغة فعل مثاب وإنْ تمم إنعامه بإثبات أبيات قصار ومقطوعات في الحكم والأمثال والزهد وغير ذلك(3/283)
من نظمه ومما أنشده شيوخه من قلبهم أو من قبل شيوخهم بعد تسمية كل منهم وإضافة شعره إليه والشرط في كل هذا أنْ يكون بالإسناد المتصل إلى قائله كان له الفضل وكذلك إنْ صحبه أصحبه بشيء من رواياته أنعم بكتب أحاديث عاليه والله تعالى يوفقه ويحسن جزاءه ويطيل لنشر العلم والإفادة بقاءه.
ويعلم وقه الله أنَّه قد وقع إلينا كتاب من يعقوب بن شرين الجندي رحمه الله وفيه قصيدة يرثي بها البرهان البخاري والحاجة داعية إلى معرفة اسمه ونسبه وضبطه هل هو ابن شرين بالسين المهملة أو المعجمة وكذلك الجندي بفتح الجيم والنون أو ضم الجيم وإسكان النون بعدها.
والحمد لله حق حمده وصلواته على سيدنا محمّد نبيه وعبده وعلى آله وصحبه أجمعين من بعده.
فكتب إليه الزمخشري ما نصه:
بسم الله الرحمن الرحيم. أسأل الله أنْ يطيل بقاء الشيخ العالم ويديمه لعلم يغوص على جواهره ويفتق الأصداف عن ذخائره ويوفقه للعمل الصالح الذي هو مرى أغراض أولى العقل ومطمح أبصار المرتكضين إلى غاية الفضل ولقد عثرت من مقاطر قلمه على جملة تنادي على غزارة بحره وتطبي القلوب إليَّ التزين بسموط دره. وأما ما طلب عندي وخطب إلي من العلوم والدرايات والسماعات والروايات فبنات خلعت على تربيتهن الشباب ثن دفنهن وحثوت عليهن التراب وذلك حين آثرت الطريقة الأويسية على بنيات الطرائق وأخذت الحجب والعوائق ونقلت كتبي كلها(3/284)
إلى مشهد أبي حنيفة رحمه الله وأصفرت منها يدي إلاّ دفترا واحدا قد تركته تميمة في عضدي وهو كتاب الله المبين والحبل المتين والصراط المستقيم لأهب لمّا قعدت بصدده كلي وألقى عليه وده كلي لا يشغلني عنه بعض مثال يجعل الرأي مشتركا ويرد القلب مقتسما ولذت بحرم الله المعظم وبيته المحرم وطلقت ما وزرني بتا وكفت ذيلي عنه كفتا ما بي هم إلاّ خويصت وما يلهيني إلاّ النظر في قصتي أنتظر داعي الله صباح مساء وكأني به وقد امتطيت الآلة الحدباء قد وهنت العظام ووهنت القوى وقلت الصحة وكثر الجوى وما أنا ذماء يتردد في جسد هو هامة اليوم أو غد فما لمثلي وليس له من الآخرة شيء. ولقد أجزت له يروى.
محمود الخوارزمي ثم الزمخشري منسوب إلى قرية منها هي مسقط رأسي ولبعض أفاضل المشرق:
فلو وازن الدنيا تراب زمخشر ... لأنك منها زاده الله رجحانا
وللشريف الأجل الإمام عليّ بن عيسى ببن حمزة بن وهاس الحسني:
جميع قرى الدنيا سوى القرية التي ... تبوأها دارا فداء زمخشرا
وأحر بأن تزهي زمخشر بامرئ ... إذا عد في أسد الشرى زمخ الشرى
فلولا ما طن البلاد بذكرها ... ولا ظار فيها منجدا ومغمورا
فليس ثناها بالعراق وأهله ... بأعرف منه في الحجاز وأشهر
ومن المقطوعات التي اخترعتها من فبلي:
ومروعة بمشيب رأسي أقبلت ... تبكي فقلت لها ودمعي جاري(3/285)
هذا المشيب لهيب نار أوقدت ... في القلب موقدها حذار النار
أخرى:
إليك إلهي المشتكى نفس مشته ... إلى الشر تدعوني عن الخير تنهاني
وما يشتكي الشيطان إلاّ مغفل ... إلاّ إنْ نفس المشتهى ألف شيطان
أخرى:
شكوت إلى الأيام سوء صنيعها ... ومن عجب باك تشكي إلى المبكى
فما زادت الأيام إلاّ شكاية ... ومازالت الأيام تشكي ولا تشكى
أخرى:
مسرة أحقاب تلقيت بعدها ... مساءة يوم أريها شبة الصاب
وكيف بأن تلقي مسرة ساعة ... وراء تقضيها مساءة أحقائب
أخرى:
الخوض في دول الدنيا يلج بكم ... كأنها لجج خواضها لجج
كم خلصت لجج البحر الرجال وما ... أقل من خلصته هذه اللجج
أخرى:
مبالاة مثلى بالرزايا غضاضة ... أباها وثيق العقدين حصيف
إذا أقبلت يوما على صروفها ... لأنيابها في مسمعي صريف
عتاب لها حتى أشقى نحورها ... أسنة عزم حدهن رهيف
يمسحن أركاني وهن قوافل ... صفا صادرات النبل عنه مصيف(3/286)
والقاضي أديب الملوك أبو إسماعيل يعقوب بن شرين الجندي أفضل الفتيان في عصره وأعقلهم وأذكاهم وأدهاهم وكان كاتب سلطان خوارزم فاستعفى وهو يكتب باللسانين العربية والفارسية ويحسن وهو ممن رببت وخرجت وبلغت تلك الذروة وهو أوثق سهم من كنانتي.
والحمد لله أولا وآخرا والصلاة على نبينا محمّد وآله والطيبين.
ثم غن الشيخ السلفي عاوده الاستجازة في السنة الثانية من إسكندرية كأنه ما وصلته إجازته فقال:
بسم الله الرحمن الرحيم. المسئول من كرم الشيخ الأجل العلامة أدام الله بهجته وحرس مهجته أنْ يجيز لأحمد بن محمّد السلفي الأصبهاني جميع مسموعاته ومجموعاته في جميع الفنون ويثبت بخطه أساميها تحت هذا الخط ويضيف إلى ذلك ذكر شيوخه الأعلام الذين أخذ عنهم الحديث واللغة ويذكر جملا مما سمعه عليهم ويتمم تفضيله بإثبات أحاديث قصار من رواياته عنهم وكتب شيء من شعر من رآه وأنشده من قبله بعد المبالغة في التعريف به ولا يذكر من الأبيات إلاّ القصار التي تصلح لأصاب الحديث ويتصور إخراجها في الأمالي وأواخر الفوائد ويذكر متفضلا مولده والسنة التي ولد فيها فالحاجة داعية إلى كل ذلك ويبين ذكر الموتلف والمختلف الذي ألفه في أي فن هو وعلى أي شيء يجوز؟ أعلى ذكر الفقهاء أو الأدباء(3/287)
أم أهل الحديث؟ ولا يحوج أدام الله توفيقه إلى المراجعة فالمسافة بعيدة وقد كتب في السنة الماضية ولم يجبه بما يشفي الغليل وله في ذلك الثواب الجزيل إنْ شاء الله تعالى وبه الثقة.
فأجاب فجر خوارزم بما نصه: بسم الله الرحمن الرحيم ما مثلي مع أعلام العلماء إلاّ كمثل السها مع مصابيح السماء والجهام الصفر والرهام مع الغوادي الغامرة للقيان والإكام والسكيت المخلف مع خيل السباق والبغاث مع الطير العتاق وما التلقيب بالعلامة إلاّ شبه الرقم بالعلامة كما قال العرب وقيل له لم سميت نعامة: الأسماء علامة وليست بكرامة ولو كانت كرامة لاشتراك الناس في اسم واحد. والعلم مدينة أحد بابيها الرواية والثاني الدراية وأنا في كلا البابين ذو بضاعة مزجاه ظلي فيه أقلص من ظل حصاه وأما الرواية فحديثة الميلاد قريبة الإسناد لم تستند إلى علماء نحارير ولا إلى أعلام مشاهير وأما الدراية فثمد لا يبلغ أفواها وبرض لا يبل شفاها ولا يغرنكم قول الوزير مجير الدولة:
وجولت فكرى في البلاد فلم يقع ... على رجل في علمه غير راجل
إلى أنْ جرى الطير السنيح فدلني ... على فخر خوارزم ورأس الأفاضل
ولا قول المنتخب محمّد بن أرسلان:
وما ناصر الإسلام إلاّ ابن بجدة ... يحيط بعلم لا يحيط به الورى(3/288)
أبو القاسم المحمود محمود الذي ... به تفخر الدنيا وناهيك مفخرا
ولا قول الشريف الأجل ذي المناقب أبي الحسن عليّ بن حمزة بن وهاس الحسني المدني.
قال أحمد المقري وفقه الله: هو عليّ بضم أوله وفتح ثانيه ابن عيسى ابن حمزة بن وهاس الحسني العلوي وقيل إنَّ الكشاف برسمه صنعه الزمخشري رحم الله الجميع.
رجع إلى قول الزمخشري:
وكم للإمام الفرد عندي من يد ... وهانيك مما قد أطاب وأكثر
أخي العزمة البيضاء والهمة التي ... أنافت به علامة العصر والورى
جميع قرى الدنيا سوى القرية التي ... تبوأها دارا فداء زمخشرا
وأحر بأن تزهي زمخشر بامرئ ... إذا عد أسد الشر زمخ الشرى
فلولا ما ظن البلاد بذكرها ... ولا طار فيها منجدا ومغمورا
فليس ثناها بالعراق وأهله ... بأعرف من في الحجاز وأشهرا
إمام فلينا من فلينا وكلما ... طبعناه سبكا كان أنضر جوهرا
ومكة راووق الرجال فهاكه ... مصفى وخذ من شئت منهم مكدرا
رسا طود تقوى فاض بحر فضائل ... فكم أذل أطوادا وغيض أبحرا
وتحت علاق الصدق سر مطهر ... يمدان دينا كالمجرة نيرا(3/289)
فلولا سماء أشمست ثم أقمرت ... كفى بمعاليه شموسا وأقمرا
ولا قوله رحمه الله:
لقد شجى في أم رأسي عزمه ... فأصبحت من عزم الإمام أمما
تمنيت لو لم ألقه وجهلته ... ولم يخشى قلبي بالفراق كلوما
فديت أمرا يحشو الفؤاد فراقه ... كلوما ولقياه حشته علوما
وكائن رأينا من أولى العلم والتقى ... رجالا أناخوا بالحجاز قروما
فأخمد أستاذ الزمان ضياءهم ... وكان وكانوا شارقا ونجوما
ولا قوله رحمه الله:
أتى حرم الله العظيم مجاورا ... فلله ما أدنت جمال وأينق
فمن حوضه عنت ظماء ذوي النهى ... فآبت رواء وهو ملآن يفهق
ولا قول العميدي رحمه الله:
ولو وازن الدنيا تراب زمخشر ... لأنك منها زاده الله رجحانا
ولا قول بعض فتيانها المجيدين:
دعوك بحار الله والله عالم ... بأنك جار الله حقا كما وجب
لعمري لقد فاضت وأنت مفيضها ... على حرم الله الصنائع والقرب
رقبت ذمام الله من كل مؤمن ... وواسيتهم بالعلم طرا وبالنشب
وأنت الإمام الزاهد الورع الذي ... أبيت أغترارا باللجين وبالذهب
وإنك للعلامة الجامع الذي ... جمعت أفنين العلوم إلى الأدب
وما نصر الإسلام غيرك أهله ... وإنْ طار أعلى المنازل والرتب
ومن طالع التفسير أيقن أنه ... من الفلك الأعلى أتى اللقب(3/290)
وإنك أستاذ الزمان وكلهم ... تلامذة جاثون ضغرا على الركب
وسمتك إذ فرقت في كل بلدة ... جواهر علم شيخها العجم والعرب
فما لخوارزم التي أنت فخرها ... علتها الثريا إنَّ ذاك من العجب
ولا قول ابن القرطبي:
قسما بلغ تحياتي إلى ... شيخنا العلامة الحبر العلم
ليس قس عنده قسا ولا ... سيبويه الشهم يدري ما الكلم
أي آداب وعلم وتقى ... منه فارقت وحلم وحكم
قل إذا ما الدهر أمسى عابسا ... إنَّ محمودا لك ابن يبتسم
لو جعلت اليم حبرا والفيلا ... مهرقا كانت معاليه أطم
إنْ من جراه لولا المصطفى ... كنت فضلت على العرب العجم
كل موجود سواه حيث لم ... أر ذاك الفضل في عيني عدم
ولا قول الخطيب الموفق:
لسانك غواص ولفظك لؤلؤ ... وفكرك بحر للفضائل طامي
لسان يود الحاسدون لو أنه ... سنان قناة أو غرار حسام
ولا قوله أيضاً:
أفخر خوارزم مالي عنك منحرف ... ما دام يختلف الأنوار والسدف
ألست أنت الذي خولتني نعما ... تطوي وتنشر في تعدادها الصحف
ألست أنت الذي أوليتني رتبا ... بفضل رفعتها الإيوان يعترف
ألست أنت الذي من ورد نعمته ... وورد حكمته أجنى وأغترف
أعداؤك استنشر فوني من جهالتهم ... في وصفها وهي عندي فوق ما أصف(3/291)
ولا قول أديب الملوك يعقوب بن شرين الجندي:
فتى سار الآفاق ركبان ذكره ... مغربة طورا وطورا مشرقة
إذا حل في أرض أتاه فحولها ... تفيد علوما حوله متحلقة
وإنْ خاض في شرح العلوم رأيتها ... لفرط احتشام من معاليه مطرقة
فليس له في كل شرق ومغرب ... نظير بنو الدنيا على ذاك مطبقة
ولا قول البديع الخوارزمي:
أمكة هل تدرين ماذا تضمنت ... يمقدم جار الله منك الأباطح
به وإليه العلم ينمي وينتمي ... وفيه لأرباب العلوم المناجح
محاط رحال الفاضلين فلم يزل ... يحط إليه الرحال غاد ورائح
إذا انتابه الوطاب رأيته ... تحول عنه وهو ملآن طافح
بمته الكرام الغر من خير أسرة ... هم قدوة الدنيا الكهول الجحاجح
أدلاء ضلال البرايا جباههم ... مصابيح رهبان فدتها المصابح
فإن ذلك اغترار منهم بالظاهر المموه وجهل بالباطن المشوه.
ولعل الذي غرهم مني ما رأوا من النصح للمسلمين وبليغ الشفقة على المستفيد وقطع المطامع عنهم وإفادة المبار والصنائع عليهم وعزة النفس والرب بها عن الإسفاف للدنيات والإقبال على خويصتي والإعراض عمالا يعنيني فجللت في عيونهم وغلطوا فيّ ونسبوني إلى ما لست في قبيل ولا دبير.(3/292)
وما أنا فيما أقول بهاضم لنفسي كما قال الحسن رحمه الله في أبي بكر الصديق رضي الله عنه وقوله: " وليتكم ولست بخيركم " إنَّ المؤمن ليهضم نفسه وإنما صدقت الفاحص عني وعن كنه روايتي ودرايتي ومن لقيت وأخذت عنه وما مبلغ علمي وقصاري فضلي وأطلعته طلع أمري وأفضيت إليه بخبيئة وألقيت إليه عجزي وبجرئ وأعلمته نجمي وشجري.
وأما المولد فقرية مجهولة من قرى خوارزم تسمى زمخشر وسمعت أبي رحمه الله يقول: اجتاز بها أعرابي فسأل عن أسمها واسم كبيرها فقيل له مخشر والرداد. فقال: لا خير في شر ورد ولم يلمم بها.
ووقت الميلاد شهر الله الأصم في عام سبع وستين وأربع مائة.
والحمد لله المحمود والمصلى عليه محمّد صلى الله عليه وسلم. انتهى.
قلت: وإنما أوردت ذلك مع ما في بعضه من الغلو وعد التأدب مع الشرع في بعض الألفاظ كي تعلم فضل أهل السنة رضي الله عنهم حيث انتصروا على من هذه صفته على زعمه بالحجج البالغة وكسروا أم رأسه ورأس شيعته بالحجارة الدامغة ولم يغن عنه شيء من اعتقاد هؤلاء الغلاة فيه ولمتنفعه ألستنهم التي تأتي بالباطل في صور الحق وتستفضي مطلوبها وتستوفيه اللهم إلاّ أنْ يكونوا غير عالمين باعتقاده فلهم عذر عند اعتراض المعارض وانتقاده وأيا ما كان فقد هدم أهل السنة رضي الله عنهم له ولأحزابه أساسا وكلما حمى حوزته البدعية كليب من شيعته قيض الله له جساسا فظهر الحق وأهله وارتفع غي البتدع وجهله.(3/293)
ومن بديع نظم الزمخشري المذكور قوله:
هو النفس الصعاد عن كبد حرى ... إلى أنْ أرى أم القرى مرة أخرى
سريت بشخصي لا بنفسي وهمتي ... وهيهات ما للأخشبين وللمسرى
مقيمان عند البيت ما ذر شارق ... منيخان بالبطحاء ما ذكت الشعرى
وله من قصيدة:
مليح ولكن عند كل جفوة ... ولم أر في الدنيا صفاء بلا كدر
ولم أنس إذ غازلته قرب روضة ... إلى جنب حوض فيه للماء منحدر
فقلت له جئني بورد وإنما ... أردت به ورد الخدود وما شعر
فقال انتظر رجع طرف أجئ به ... فقلت له: هيهات ما لي منتظر
فقال ولا ورد سوى الخد حاضر ... قلت له إني قنعت بما حضر
وقوله:
إذا التصقت بالبحث في العلم ركبتي ... بركة نحري على الجد دأب
فإن دام لي عون الإله على الذي ... أعانيه من فضل وبر وأداب
وإنْ نظرت عيني على الد والصفا ... مع البر والتقوى نواظر أحباب
فقل لملوك الأرض يلهوا ويلعبوا ... فذلك أهوى ما حييت وتلعابي
وقوله أيضاً:
أربعة للدين أركان ... حبهم يمن وإيمان
أربعة أول أسمائهم ... عين وهم في الناس أعيان
عتيق والفاروق والجتبى ... منهم ذو النورين عثمان(3/294)
وقال السيوطي في لطبقات الصغرى ما نصه: محمود بن عمر بن محمّد بن أحمد الزمخشري أبو القاسم جار الله كان واسع العلم كثير الفضل غاية في الذكاء وجودة القريحة متفننا يقال كل علم معتزليا قويا في مذهبه مجاهرا به حنفيا.
ولد في رجب سنة سبع وستين وأرب مائة وور بغداد غير مرة وأخذ الأدب عن أبي الحسن عليّ بن المظفر النيسابوري وأبي مضر الأصبهاني وسمع من أبي سعد الشقاني وشيخ الإسلام أبي منصور الحارثي وجماعة وجاور بمكة وتلقب بجار الله وفخر خوارزم أيضاً. وكتب إليه الحافظ السلفي يستجيزه وأصابه خراج في رجله فقطعها وصنع عوضا عنها رجلاً من خشب وكان إذا مشى ألقى عليها ثيابا الطوال فيظن من يراه أنَّه أعرج.
وله من التصانيف: الكشاف في التفسير الفائقد في غري الحديث المفصل في النحو المقامات المستقضي في الأمثال ربيع الأبار أطواق الذهب صميم العربية شرح أبيات الكتاب الأنموذج في النجو الرائض في الفرائض شرح بعض مشكلات المفصل الكلم النوابغ القسطاس في العروض الأحاجي النحوية وغير ذلك.
مات يوم عرفة سنة ثمان وثلاثين وخمس مائة.
أسندنا حديثه في الطبقات الكبرى وتكرر في جمع الجوامع.(3/295)
وله:
إنَّ التفاسير في الدنيا بلا عدد ... وليس فيها لعمري مثل كشافي
إنْ كنت تبغي الهدى فالزم قارءته ... فجهل كالداء والكشاف كالشافي
انتهى كلام السيوطي.
وقال ابن خلكان فيه ما نصه:
محمود بن عمر بن حتى الخوارزمي الزمخشري أبو القاسم الإمام له الكتب في التفسير والحديث والنحو واللغة وعلم البيان. إمام عصره غير مدافع تشد إليه الرحال في فنونه وصنف التصانيف الشريفة منا الكشاف لم يصنف قبله مثله والمفضل في النحو وغير ذلك. وسافر إلى مكة وأقام مجاورا زمانا فصار يقال له جار الله لذلك وكان هذا الاسم علما عليه وكانت إحدى رجليه ساقطة وكان يمشي في جارن خشب وسبب سقوطها أنَّه أصابه في بعض أسفاره ببلاد خوارزم ثلج وبرد شديد فسقطت رجله وكان بيده محضر فيه شهادة خلق كثير ممن أطلعوا على حقيقة ذلك خوفا من أنْ يظن به أنها قطعت لريبة وقيل إنَّه سئل عن قطع سبب رجله فقال: دعاء الوالدة وذلك أني في صباي أمسكت عصفورا وربطت خيطا في رجله فأفلت من يدي فأركته وقد دخل في خرق فجذبته فانقطعت رجله في الخيط فتألمت والدتي لذلك وقالت قطع الله رجل الأبعد كما قطعت رجله. فلما دخلت إلى بخارى لطلب العلم سقطت من الدابة وانكسرت الرجل وعملت على عملا أوجب قطعها. وكان الزمخشري معتزلي الاعتقاد متظاهرا به وكان إذا قصد صاحبا(3/296)
له واستأذن عليه في الدخول يقول له: أبو القاسم العتزلي بالباب.
وأول من صنف الكشاف كتب استفتاح الخطبة: " الحمد لله الذي خلق القرآن " فقيل له: متى تركته على هذه الهيئة هجره الناس ولا يرغب أحد فيه فغيره وقال: " الحمد لله الذي جعل القرآن " وجعل عندهم: بمعنى خلق. ورئي في كثير من النسخ: " الحمد لله الذي أنزل القرآن " وهذا إصلاح الناس لا إصلاح المصنف.
ومن شعره يرثي شيخه أبا مضر محمودا:
وقائلة ما هذه الدرر التي ... تساقط من عينيك سمطين سمطين
فقلت لها الدر الذي كان قد حشا ... أبو مضر أذنى تساقط من عيني
وأنشد في كتابه الكشاف لبعضهم:
يا من يرى مدينة البعوض جناحها ... في ظلمة الليل البهيم الأليل
ويرى عروق نياطها في نحرها ... والمخ في تلك العظام النحل
اغفر لعبد تاب من فرطته ... ما كان منه في الزمان الأول
ويروى أنَّ الزمخشري أوصى أنْ تكتب هذه الأبيات على لوح قبره.
وقال غير ابن خلكان في البيت الأخير:
أمنن على بتوبة أمحو بها ... ما كان مني في الزمان الأول
وهذا لا يناسب الكتب على لوح القبر وإنما يناسبه ما روي ابن خلكان فتأمله.(3/297)
ثم قال ابن خلكان: وحدث بعض الأصحاب أنه رأى بجزيرة سواكن تربة ملكها عزيز الدولة ريحان وعلى قبره مكتوب:
يا أيها الناس كان لي أمل ... قصر بي عن بلوغه الأجل
فليتق الله ربه رجل ... أكنه قبل موته العمل
ما أنا وحدي نقلت حيث ترى ... كل إلى ما نقلت ينتقل
توفي الزمخشري ليلة عرفة سنة ثمان وثلاثين وخمس مائة.
انتهى كلام ابن خلكان.
وقد تقدم في التأليف الذي نقلناه عن الشيخ ابن غازي رحمه الله بعض إلمام بحال الزمخشري سامحه الله.
ومن نظم الزمخشري قوله يمدح كتاب سيبويه رحمه الله:
ألا صلى الإله صلاة حق ... على عمرو بن عثمان بن قنبر
فإنَّ كتابه لم يغن عنه ... بنو قلم ولا ابناء منبر
بين الزمخشري وأهل السنة
وأنشد الزمخشري في كشافه لبعض العدلية يعرض بأهل السنة والجماعة المفلحين وينصر مذهبه الفاسد:
لجماعة سموا هواهم سنة ... وجماعة حمر لعمري موكفة(3/298)
قد شبهوه بخلقه وتخوفوا ... شنع الورى فتستروا بالبلكفة
ود تصدى للرد عليه من أهل السنة رضي الله عنهم جم وافر وأبدوا ما يؤيد مذهبهم الظافر وتركوا المبتدع يحك رأسه بغير أظافر.
ولنذكر الآن ما حضرنا من ذلك كقول صاحب الانتصاف من لكشاف وهو ناصر الدين بن المنير الإسكندراني رحمه الله تعالى:
وجماعة كفروا برؤية ربهم ... هذا ووعد الله ما أنْ يخلفه
وتلقبوا عدلية قلنا أجل ... عدلوا بربهم فحسبهم سفه
وتلقبوا الناجين كلا انهم ... إنْ لم يكونوا في لظى فعلى شفه
وكقوله أيضاً أعني أصحاب الانتصاف:
عجبا لقوم ظالمين تلقبوا ... بالعدل ما فيهم لعمري معرفة
قد جاءهم من حيث لا يدرونه ... تعطيل ذات الله مع نفي الصفة
وكقول الشيخ الإمام أبي عليّ عمر بن محمّد خليل السكوني الأصولي رحمه الله:
سميت جهلا صدر أمة أحمد ... وذوي البصائر بالحمير المؤكفة
ورميتهم عن نبعة سويتها ... رمي الوليد غدا يمزق مصحفة
وزعمت إنْ قد شيهوه بخلقه ... وتخوفوا فتستروا بالبلكفة
نطق الكتاب وأنت تنطق بالهوى ... فهو الهوى بك في المهاوي المتلفة
وجب الجسار عليك فانظر منصفا ... في آية الأعراف فهي المنصفة(3/299)
أترى الكليم أتى بجهل ما أتى ... وأتى شيوخك ما أتوا عن معرفة
وقول القاضي أبي عمر بن عبد الرفيع:
جورية وتلقبت عدلية ... وعن الصواب عدولها للسفسفه
نفوا الصفات وعطلوا وتمجسوا ... ويكابرون وشأنهم جلب السفه
هكذا وجد بخط الإمام أبي عبد الله بن مرزوق ورأيته بخط بعض الأصحاب: وشأنهم حال السفه، والأمر في ذلك قريب.
وقول الإمام القاضي أبي عبد الله محمّد بن عليّ الأجمي التونسي قاضي الأنكحة رحمه الله تعالى:
لهواتف هتفوا وظنوا هتفهم ... عدلا لقد بلغوا النهاية في السفه
زعموا بأن الذات قام بغيرها ... صفة وفيها أوجبوا حكم الصفة
خرقوا سياجا شاده سلف الهدى ... وتمذهبوا بمذاهب مستنكفة
وأتى الأخير الغمر من أتباعهم ... يبغي الحجاج معرضا بالبلكفة
أعني الخوارزمي ذا الصلفال ... لم يتئد من جهله بالمعرفة
بل تاه في بيدا الجهالة معرضا ... كحمار وحش في مهامة متلفة
وقول الفقيه أبي زكريا يحيى بن منصور التونسي قال الشيخ ابن مرزوق رحمه الله: وفي جوابه تعريض بجواب الأجمي فوقه:
عجبا لحبر في البلاغو ذائق ... علم الفصاحة فرده ومؤلفه
جمع المعاني والبيان مكشفا ... أسرار قرآن بأكمل معرفة
وأضل الله العظيم فراغ عن ... سنن الصواب وحاد عنه وحرفه
فأحق قدرة حادث وأحال رؤ ... ية واجب أو أنْ تكون له صفة
ما ذاك إلاّ فعل قهار به ... قوم ذوو رشد وقوم في سفه(3/300)
والله أسأل رحمة لجميعنا ... ودخولنا فيمن حباه وشرفه
متوسلين بأحمد خير الورى ... صلى عليه الله ما نطقت شفة
وقوله الفقيه أبي محمّد عبد الواحد اليفرني:
قل للذي جمع النظام وخلفه ... من بعده لك موعد لن تخلفه
أثبت عدل جماعة في جورهم ... والجور أثبته لهم نفي الصفة
ستكون من تلك الجماعة يوم هم ... حمر لغي أو لكي موقفه
وقوله شيخ الإسلام أبي عبد الله بن عرفة رحمه الله:
لحثالة سموا هواهم معدلا ... وحثالة حمر لكي موقفه
قد شهوه بالمحال وعطلوا ... وتستروا باللذات عن نفي الصفة
قوله: " قد شبهوه بالمحال " أي لقولهم: " عالم لا بعلم " ونفي العلم يستلزم أنْ يكون محالا. هكذا ألفي في بعض المقيدات والله اعلم.
وقول خطيب الخطباء الرئيس الحاجب الفيه المحدث الرحال سيدي أبي عبد الله بن مرزوق التلمساني رحمه الله تعالى:
وجماعة عرفت لعمري بالسفه ... وتمسك بظلال أهل الفلسفة
عدلت عن النهج القويم فلقبت ... عدلية وعدولها عن معرفة
ضلت وقالت لن يرى ربي الورى ... يوم الجزاء فألزت نفي الصفة
هذا وكم من زلة زلت وكم ... من مذهب ذهبت به في متلفه
وكذاك أسلمت الأمور لنفسها ... هيهات تنقذ نفسها من متلفه
كيف السبيل لصرفها عن غيها ... والعدل يمنع صرفها والمعرفة
وقال سعد الدين الالتفتزاني رحمه الله عند ذكر البيتين اللذين أنشدهما(3/301)
الزمخشري ما نصه: ولقد عورض ما أنشده وأنشأه من الهذيان. قال الإمام المحقق محي السنة قامع البديعة كامل الدين المظفر ردا عليهم:
لجماعة كفروا برؤية ربهم ... ولقائه حمر لعمري موكفة
هم عطلوه عن الصفات وعطلوا ... عنه الفعال فيها لها من منكفة
هم نازعوا الخلق حتى أشركوا ... بالله زمرة حاكة وأساكفه
هذا غلقوا أبواب رحمته التي ... هي لا تزال على العصاة موكفة
ولهم قواعد في العقائد رذلة ... ومذاهب مجهولة مستنكفة
يبكي كتاب الله من تأويلهم ... بدموعهم المنهلة المستوكفة
وكذا أحاديث النبي دموعها ... منهم على الخدين غير مكفكفه
فالله أمطر في سحاب عذابه ... وعقابه أبدا عليهم أوكفه
انتهى لكلام السعد رحمه الله.
وقال الطيبي رحمه الله: وأجابه بعض أهل السنة بقوله:
عبا لقوم ظالمين تستروا ... بالعدل ما فيهم لعمري معرفة
البيتين وقد تقدم أنهما لصاحب الانتصاف حسبما صرح بذلك الإمام ابن مرزوق فبان أنه المعنى بقول الطيبي: أجاب بعض أهل السنة والله اعلم.
قلت: وقد رأيت بتلمستان بخط الفقيه أبي عبد الله محمّد بن الحداد الوادي
آشي ثم الغرناطي نزيل تلمستان رحمه الله جوابا بديعا جدا للشيخ الإمام ابن الجبير اليحصبي أحد أعلام المناخرين بالأندلس ونقلته ن خطه الحسن وهو:
وجماعة منشوءة بدعية ... مصروفة عن رشدها متعسفة
حاروا وسموا قومهم عدلية ... عدلوا ولكن عن طريق المعرفة(3/302)
قوم نفوا عن ربهم أحكامه ... في خلقه لمّا نفوا عنه الصفة
غطوا على التعطيل بالتنزيه إذ ... ضلوا ضلال الأسرة المتفلسفة
فطريقهم أس الضلال وقولهم ... عين المحال محض السفه
الحق جب سنام جبائيهم ... وقناة نجل عبيدهم متقصفة
وتناثرت خرزات نظام لهم ... والكودن العلاف بل المعلفة
والشيخ محمود هو الفيل الذي ... كادوا به المعنى الذي في البلكفة
ما منهم إلاّ حمار صوتت ... في فيه جحفلة ويحسبها شفة
قال وكتب بخطه الرائق تحت قوله إلاّ حمار ما نصه: البادي أظلم. انتهى.
ولا خفاء ببراعة هذا النظم وحسن مساه وتوطئته للتورية البديعة التي هي قوله: " والشيخ محمود " الخ فإنَّ هذا التلميح لقصة الفيل المذكورة في القرآن في قوله تعالى:) ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل (وقد صرح غير واحد من أهل التفسير والسير أنْ اسم ذلك الفيل الذي جاء به أبرهة لهدم الكعبة محمود فجبر بذلك ابن الجبير ما ضاع ن الاتفاق الغريب والله تعالى يجازيه أفضل جزائه وجميع أهل السنة بما أتوا به ن الحجج التي جدعت أنف كل مستريب.
وبعد أنْ كتب ما ذكرته من حفظي راجعت مقيداتي فألفيت بها مما نقلته من خط الوادي آشي المذكور ما نصه: أنشدنا شيخنا وبركتنا العالم الجليل الخطيب المصقع البليغ المفيد إمام(3/303)
وقته في العلوم والتحصيل والفهوم قاضي الجماعة سيدنا أبو عبد الله محمّد بن عليّ بن الازرق رضي الله عنه وأمتع ببقائه وإفادته ووصل أسباب سعادته. قال: أنشدني شيخ الأدباء وحجة البلغاء الكاتب المجيد الأبرع أبو عبد الله محمّد بن الجبير اليحصبي معارضا للبيتين الشهيرين اللذين أنشدهما الزمخشري فعارضهما ابن الجبير بقوله:
وجماعة منشوءة بدعية ... مصروفة عن رشدها متعسفة
الأبيات. قال شيخنا: ولمّا أنشده الأبيات ناظمها كتبها له بخطه الحسن وكتب تحت قول إلاّ حمار البادي أظلم انتهى.
ثم قال الوادي آشي المذكور: ولسيدي ابن الجبير المذكور ومن خطه قيدت:
كلما رمت أنْ أقدم خيرا ... لمعادي ورمت أني أتوب
صرفتني بواعث النفس قسرا ... فتقاعست والذنوب ذنوب
رُبَّ قلب قلبي لعزة خير ... بمتاب ففي يديك القلوب
وله أيضاً وقد أشار عليه الرئيس الكاتب أبو عبد الله الشران بإنشاء صدر لمكاتبات سلطانية:
ذرعي وصدري بالصدور ... هذا يضيق وذا يدور
أنت الملئ بكتبها ... ما للصدور سوى الصدور
فأجابه الشران بقوله:
تجر اجتهادك لن يبور ... فدع الكلام وكن صبور(3/304)
إنَّ الصدور بك ازدهت ... بالدر تزدان الصدور
نقلت هذا كله من خط الفقيه أبي عبد الله محمّد الوادي آشي المذكور آنفا رحمه الله تعالى.
ثم قال الوادي آشي المذكور: سمعت شيخنا الإمام سيدي بن الازرق اصبحي رحمه الله بمجلس تدريسه من الجامع الأعظم بغرناطة يقول: كان أبو محمّد عوف بن يوسف الخزاعي من أهل القيران يقول: الخلائق كلهم أعداء بني آدم وبنو آدم كلهم أعداء المسلمين وجميعهم أعداء أهل السنة. انتهى.
وذكر الرشاطي بسند متصل إلى أنس بن مال رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قول الله تعالى:) وإنَّ جندنا لهم الغالبون (قال: هم أهل السنة والجماعة.
انتهى ما قيدته من خط الوادي آشي المذكور رحمه الله.
وكان رحمه الله ممن حل بتلمستان بعد أخذ غرناطة أعادها الله وحصلت له بها مصاهرة مع أعيانها بني مرزوق ثم آلت إلى مقاطعة حسبما ذكر ذلك في بعض ما له من النظم وكان له نظم لا بأس به فمن ذلك قوله رحمه الله بعد بيت سقط من حفظي مضمنه أنَّ الناس لاموه عندما طلق بنت ابن مرزوق أظنه هكذا:
يلومني الأقوام من بعد مثال سطا ... عليّ ابن مرزوق ومن بإنفاق(3/305)
فقلت لهم كفوا الملام فإنني ... تركت ابن مرزوق وأممت رزاقي
ومن ذلك قوله يرثي الشيخ الإمام الحافظ بل حافظ الإسلام سيدي أحمد بن يحيى الونشريشي الأصل التلمساني نزيل فاس صاحب المعيار وغيره:
لد أظلمت فاس بل الغرب كله ... بموت الفقيه الونشريشي أحمد
رئيس ذوي الفتوى بغير منازع ... وعارف أحكام النوازل الاوحد
له دربه فيها ورأى مسدد ... بإرشاده الأعلام في ذاك تهتدي
وتالله ما في غربنا اليوم مثله ... ولا من يدانيه بطول تردد
عليه من الرحمن أفضل رحمة ... تروح على مثواه وتغتدي
وقوله في رثائه أيضاً:
أبعد ابن يحيى اليوم في الغرب عالم ... يطبق بالفتيا المفاصل مثله
ويعرف من فقه النوازل غاية ... يوقع منها ما به بان نبله
وإنْ جئت للإنصاف لم يبق مثله ... وهذا الجليل ليس ينكر فضله
فإذ كان جاء الموت فالصبر والرضا ... على ما قضي فالحول حوله
وقوله في ذلك:
رأيت نجوم الدين تبكي حزينة ... على فقد حبر كان قطب أولي العليا
فقلت ومن هذا فقال مجيببة ... على الونشريشي رئيس ذوي الفتيا
فصحنا وقلنا: ويلنا ثم ويلنا ... على فقده مذ غاب أظلمت الدنيا(3/306)
عليه من الرحمن أفضل رحمة ... تعاهد مثواه مع لجود والسقيا
وقوله وقد بدل القافية:
رأيت نجوم الدين تبكي حزينة ... على فقد من قد كان قطب زمانه
فقلت ومن فقالت مجيبة ... على الوانشريشي وحيد أوانه
إليه أنتهت في الفقه كل رياسة ... ومعرفة زينت بحسن بيانه
ومذ غاب عنا أظلم الكون كله ... وصار الضحى ليلا لفقد عيانه
وإنَّ عزائي فيه للخلق كلهم ... خصوصا ذوي فقه لعز مكانه
وكانت وفاة الإمام الوانشريشي المذكور يوم الثلاثاء موفى عشرين من صفر من عام أربعة عشر وتسع مائة بمدينة فاس رحمه الله ونجب ولده شيخ شيخنا القاضي سيدي عبد الواحد رحمه الله.
ومن نظمه أعني الوادي آشي المذكور رحمه الله يمدح الفقيه أحمد العبادي يقول:
ومن مثله في العلم فنونه ... مع الدين والتقوى على صغر السن
فأثبته المولى وأثبت أمره ... وزكى علوما حاز في غير ما فن
ومن نظم الوادي آشي المذكور قوله:
يلمسان أرض لا تليق بحالنا ... ولكن لطف الله نسأل في القضا
وكيف يحب المرء أرضا يسوسها ... يهود وفجار ومن ليس يرتضى(3/307)
وقوله رحمه الله:
غريب في تلمسان وحيد ... من الأحباب ليس له مشاكل
وكم فيها من الأصحاب ولكن ... عدمت بها المناسب والمماثل
وكان رحمه الله كثير النسخ والتقليد آية الله في ذلك حتى أني رأيت في خزائن أهل تلمسان بخطه نحو المائة سفر ورأيت بفاس نحو المثان مائة. وأخبرني مولانا شيخ الإسلام عمنا مفتي تلمسان سيدي سعيد بن أحمد المقري رحمه الله أنَّه نسخ بخطه نحو العشرين نسخة من توضيح خليل وكان يحترف بالنسخ رحمه الله ونظمه نظم فقيه وربما يقع له النادر ولولا الإطالة لجلبت أشياء من ذلك زيادة على ما سبق.
ورأيت بخطه رحمه الله ما نصه: ولسيدي محمّد العربي أبقاه الله عند محاصرة النصارى للحضرة:
بالطبل في كل يوم ... وبالنقير نراع
وليس من بعد هذا ... وذاك إلاّ القراع
يا رب جبرك يرجو ... من هيض منه الدراع
لا تسلبني صبرا ... به لقلبي أدراع
وله أيضاً وقد ظفر ببعض المرتدين ممن صار والعياذ بالله غبيا يجره الناس بالحضرة حيا:(3/308)
إلاّ رب مغمور تنصر ضلة ... فحاق به شؤم الضلال وشره
فإنَّ يرتفع عند النصارى بالعتنا ... فكم عندنا من حرف حبل يجره
وله أيضاً:
صور أنْ كنت نبيلا صورة ... دام في تصويرها البحث وطالا
زوجة إنْ دخلت بيتا فقد ... حرمت من بعد ما كانت حلالا
جوابه:
هي إنْ لم تلتبس زوج امرئ ... بنسا بيت قد أعجزن الرجالا
حيث قد أنكرن طرا عصمة ... منه قد ضمن دعواها المقالا
وله أيضاً ملغزا:
ما رجل يعجب من أمره ... من لم يحقق نفسه أمره
حللت له وحرمت زوجته ... في اليوم تثني عشرة مرة
انتهى.
قلت: وهذا أبو عبد الله المذكور هو صاحب الكتاب الذي بحث به سلطان الأندلس أبو عبد الله المخلوع آخر ملوك الأندلس إلى السلطان الشيخ الوطاسي صاحب فاس وقد تقدم ذكره في أول هذا الموضوع فراجعه إنْ شئت.
وقد حلاه الوادي آشي بقوله:(3/309)
" بليغ العصر بل الدنيا وكالك زمامي النظم والنثر بلا ثنيا سيدي محمّد العربي أنسأ الله أجله وبلغه الله أمله ". انتهى.
ورأيت بخط الوادي آشي المذكور ما نصه: من الوثائق المجموعة: إنْ ذكر الموصي في تابه أنْ تنفذ وصيته من سكة كانت تجري في حين الوصية ثم توفي الموصي وقد انقطعت تلك السكة فإن وصيته إنما تنفذ من تلك السكة التي كانت تجري يوم الوصية إلاّ أنْ يكون نص في وصيته أنْ تكون وصيته من النقد الجاري يوم تنفذ الوصية فيكون الله عهد فإن وقعت وصيته مطلقة ولم يشترط صفة فإما يكون ذلك مما يجري يوم التنفيذ وذلك بخلاف الكوالي والديون. انتهى.
قال محمّد الوادي آشي قوله: " إنما تخرج مما يجري يوم التنفيذ إنْ لم يشترط الصفة " والذي في الكافئ لابي عمر خلافه وعلى ما في الكافي في ذلك العمل وبه شاهدت شيخنا المواق يفتي وشيخنا قاضي الجماعة ابن منظور رحمه الله يحكم. انتهى.
ورأيت بخطه رحمه الله ما نصه: وجد الرئيس القاضي أبي يحيى بن عاصم رحمه الله تعالى: الحمد لله.
إنما تستقل العقود الصحيحة وتتم الموجبات الصريحة بثبوتها لدى الحاكم المنعقد ولايته عند تحصيل شروطها صحة وكمالا وذلك بأداء نصاب(3/310)
شهادتها العادلة استتماماً واستكمالاً، فإذا كان أحد شهدائها السلطان الأعظم أو من أقامه السلطان مقامه، وهو قيوم الشرعة الذي ارتضاه الإمام لإنفاذ أحكامها عوضاً منه؛ فإنَّ العمل الجاري بهذه الحضرة عند أهل كتب الأحكام، وهو اللازم اقتفاؤه، إذا أريد ثبوت العقد فيه هذه الشهادة واكتفاؤه؛ أنْ يشهد القاضي الذي به نصاب هذه الشهادة عليها اثنين من شهداء العدالة أنها شهادته، ثم يؤدي عنده هذان العدلان، ويخطب هذا الرسم على ما مرت به شهادته، ويعلم للشهادة من شهد معه أداء وقبولاً، خطاباً عند غيره من القضاة مقبولاً، فإذا كان الفقه هكذا مقرراً، والعمل على هذه السنة محرراً؛ فمن أشهده الآن قاضي الجماعة بحضرة غرناطة فلان بن فلان الأول من شهيدي الرسم فوقه، على أنْ الشهادة الموضوعة فيه أولاً هي شهادته التي بها أشهد، وأنها مكتوبة بخط يده الذي منه تعود وأنَّه تحملها مسؤلة منه تحقيقياً ويؤدي عليها مطلقاً إيجاباً لها وتصديقاً في كذا.
قال الوادي أشي ومن خطه أيضاً: الحمد لله.
القول الظاهر الأدله، الدارج على ارتكاب القضاة الأجلة؛ الجاري لدينا به العمل فيما تقبل به العقود المستقلة، قبول خطاب الحكم العدل مطلقاً وإنْ عزل أو توفى، وخط القاضي المعلوم العدالة إذا ثبت أنَّه خطه بكفي. والقول الآخر هو الذي رجحه غير واحد، وأكثروا على صحته من الحجج والشواهد. وللخروج من الخلاف وصون موعده من الاختلاف؛ أشهد الآن قاضي الجماعة، وقيوم أحكامها المطاعة، فلان بن فلان وصل الله توفيقه، وكافأ(3/311)
تثبته في النظر وتقيقه، بثبوت الرسم فوقه لديه، واستقلاله عنده الاستقلال الكافي المعتمد عليه، لثبوت الرسم فوقه، لصحة الشهادة الأولى، ولإعلامه المعرب عن صحة ثانية الشاهدتين هنالك أداء وقبولاً، فما كان كذلك لمن يرد عليه من القضاة أنْ يقبله على ثاني القولين اتفاقاً، هو الذي أشهد به الآن برهاناً لمّا ثبت لديه من ذلك ومصداقاً؛ تسجيلاً بإشهاده لصحة عقده، وذخيرة لليوم وما يأتي من بعده، وعمدة تقي الحكم على أمل الاحتمالين وأولاهما من إجازته أو رده؛ شهد على قاضي الجماعة المسمى بما فيه عنه من ثبوت وتسجيل وقبول وتعديل؛ وهو في مجلس أحكامه، ومظهر نقضه وإبرامه؛ في كذا. انتهى.
قال محمّد الوادي آشي رحمه الله: هذه المسألة فوق هذا تليه، قد صنف فيها الشيخ الفقيه القاضي الجليل سيدي الحاج أحمد بن عبد الجليل اللخمي - ممن أدركناه بغرناطة مدرساً ونائباً عن قاضي الجماعة بها، وأدينا مراراً شهادات، وحضرنا جنازته رحمه الله - تصنيفاً مفيدا، لخص فيه المسألة وأستظهر بالنقول، ولم يبق لأحد ما يقول.
وأما من كان شاهدا في رسم ثم صادف أنْ صار قاضياً، وطولب بخطابه، فقد نزلت بي هذه بالمنكب، وأنا أنوب بها لضرورة بعض أيام، لمنيب قاضيها إذ ذاك بالحضرة، أواخر شعبان وأوائل رمضان عام سبعة وتسعين وثمان مائة، فصنعت طريقة مختصرة، كنت تلقيتها من شيخنا ابن منظور وأخبرني أنها طريقة شيخه البدوي: أشهدت عدلين على شهادتي، وأديا لدي بذلك فقبلتهما، وشهد على خط(3/312)
الآخر لمغيبه بالحضرة، وكتبت على الغائب: عرف بها عدلان لمغيبه، وعلى شهادتي: أشهدت بها عدلين، وأديا لدي بذلك فقبلتهما، وكتبت أسفله: ثبت بواجبه، وأعلم بذلك فلان، وفقه الله تعالى على من يقف عليه.
ونقلت من خط الوادي آشي المذكور ما نصه: وجدت بخط سيدي وشيخي الكاتب الإمام الأعرف، سيدي محمّد بن الجبير، رحمه الله تعالى وعفا عنا وعنه، ما نصه:
دعاء مبارك لتفريج الأزمات
اللهم إني تبرأت من حولي وقوتي، واستوثقت بحولك وقوتك، أرني عجائب لطفك، وغرائب حكمتك وقدرتك، وأتني بفرج من عندك كما فرجت على يوسف الصديق نبيك، يا ارحم الراحمين.
هذا الدعاء إنْ ذكره أسير أو مسجون أو مكروب تسعين ألف مرة، يقول آخر كل ألف: يا لطيف يا لطيف يا لطيف، بعد البسملة، عاجله الفرج في حين، ونفس الله سبحانه عنه، انتهى.
ومن خطه أيضاً رحمه الله ما نصه: من كلام بعض العلماء، وينسب إلى الأستاذ أبي سعيد بن لب، رحمه الله: قد يأمر بما يريد فلا يكون وقد ينهى عما أراد فيكون، كلف العباد وأراد منهم ما علم أنهم بع عاملون، كلف بما شرع، وجعل له عاقبة،(3/313)
وأراد ما وقع، وقطع الارتباط بين المشرع والواقع، فلا يقتضي أحدهما الآخر. انتهى.
ومن خطه أيضاً ما نصه: ومن شرح خليل لسيدي أبي القاسم بن سراج: يحتاج إذا بيع الفدان وفيه زرع لم ينبت، أنْ يقول عاقد الوثيقة: " وفي الأرض زرع لم ينبت، فهو للمشتري بالعقد على مقتضى الشرع " لأنه إنْ لم يذكر هذا فقد يتنازع المتبايعان بعد ذلك: هل كان الزرع قد نبت أو لم ينبت، فيؤدي إلى اختلاف المتبايعين، انتهى.
ومن خطه أيضاً: وفي شرح عقيدة النسفي للتفتزاني ما نصه: وفي فتاوى قاضي خان: أجمعوا على أنه إذا ارتشى - يعني القاضي - لا ينفذ قضاؤه فيما ارتشى، وأنَّه إذا أخذ القاضي القضاء بالرشوة لا يصير قاضياً ولو قضى لا ينفذ قضاؤه، انتهى.
ومن خطه أيضاً رحمه الله: ولبعضهم وكان شيخنا ابن منظور يستحسنهما غاية هذان البيتان:
لمّا أسر الماء في أذن الحصى ... وقف النسيم ليسمع الأخبارا
فوشى به غرد فخاف فضيحة ... فبكى الغمام فأضحك الأنهارا
ومن خطه أيضاً رحمه الله: حدثني الفقيه العدل سيدي حسن بن القائد الزعيم الأفضل سيدي إبراهيم العراف، أنَّه حضر مرة لإنزال الطلسم(3/314)
المعروف بفروج الرواح، من العلية بالقصبة القديمة من غرناطة بسبب البناء والإصلاح؛ وأنَّه عاينه من سبعة معادن، مكتوباً فيه:
إيوان غرناطة الغراء معتبر ... طلسمه بولاة الحال دوار
وفارس روحه ريح تدبره ... من الجماد ولكن فيه أسرار
فسوف يبقى قليلاً ثم تطرقه ... دهماء يخرب منها الملك والدار
ومن خطه أيضاً رحمه الله: أنشدنا شيخنا القاضي ابن منظور بمجلس إقانه قائلاً: إنْ فقيهاً من رندة كان كثيراً ما يتمثل بهذين البيتين:
أرى الكساد في صنعة الكتبة ... ما إنْ يباع بها شقص ولا عتبة
تباً لصنعة قومٍ رأس مالهم ... حبر تبدده في صفحةٍ قصبة
ومن خطه أيضاً رحمه الله ما نصه: ألفيت بخط شيخ شيوخنا قاضي الجماعة، الحافظ أبي القاسم بن سراج، رحمه الله، ما نصه:
تنبيه
جاءت الرواية في العتبية فيمن اشترى ثمرة على ألا يقوم بالجائحة: أنَّ البيع صحيح والشرط باطل. فلما نزل ما أرى الله به من مجيء النصارى إلى فحص غرناطة، وأفسدوا الزرع، غرم المكترون الكراء، لأن الجيش ليس من الجوائح التي تحط من الكراء، فامتنع الناس بعد ذلك من اكتراء الأرض خوفاً من مجيء النصارى، وأدى ذلك إلى خسارة على الأحباس، فرأيت أنْ تكرى الأرض بشرط أنَّه إنْ جاء النصارى وأفسدوا، أنْ يحط الكراء. فاعتمدت في صحة العقد على قياس العكس، وهو أنَّه لا تفسخ(3/315)
المعاملة بشرط القيام بالجائحة، فيما لا يشرع فيه القيام بالجائحة، ويبقى النظر في الوفاء بالشرط في مسألة الكراء، لمّا في ذلك من عموم المصلحة. انتهى.
ومن خط الوادي آشي المذكور أيضاً ما نصه: قال محمّد بن الحداد الوادي آشي، رحمه الله: وقعت مسألة وهي: رجل رهن بيد آخر داراً له، وحوره أياها، وشرطالمرتهن المنفعة لنفسه، ثم إنَّ الراهن دخل الدار وسكنها، وعادت بيده، واتصل الأمر كذلك إلى تمام الأمد، وحلول الدين، فطلب المرتهن الرهان بكراء المثل، فظهر لي بقصوري وتقصيري، وجهلي المركب وعدم مقدوري، أنَّه لا كراء له، بدليل ظاهر الأقوال والروايات، ومنها ما حكاه في المقرب عن ابن القاسم ونصه: ومن ارتهن دار ثم أذن للراهن أنْ يسكنها، أو يكريها فقد خرجت من الرهن، وإنْ لم يسكن ولم يكر، ومنها ما هو مقرر معلوم أنَّ المتهن إذا ترك كراء الدار ولها خطب وقدر، فمذهب ابن الماجشون أنَّه يضمن كراء مثلها، لأنه تعمد إبطالها، ما لم يكن الراهن عالماً، فإنه لا يضمن حينئذ لأن سكوت الراهن عن ذلك رضاً منه.
وكان شيخنا وإمامنا قاضي الجماعة سيدي محمّد بن الأزرق، ابقى الله بركته، وهو الذي وقعت النازلة بين يديه؛ لا يوافق على ما ظهرلي؛ وينازع في ذلك ويرى إلزام الكراء؛ ونسيت الآن ما كان يستدل به، ولست على تحقيق بما حكم بهفيها آخر الأمر، وذلك في عام تسعين وثمان مائة، بيد أنَّه تكلم فيها مع طلبته بمجلس درسه، وحضرت لذلك وأنا أعطلهم وأقلهم علماً، وأسوئهم فهماً، وأقلهم تحصيلاً ونبلاً، وهلم جرا؛ فأجبت بما قيدت(3/316)
هنا، مستدلاً بما نقلته، فلم يوافقني هو ولا غيره، فضل الله يؤتيه من يشاء، فقد قدر الله أنَّ بضاعتي في العلم مزجاة، ولا حول ولا قوة إلاّ بالله العلي العظيم.
انتهى ما حضرني الآن من كلام الوادي آشي؛ ومقيداته وإفاداته وإنشاداته كثيرة جداً.
وشيخه ابن الأزرق، المشار إليه في كلامه: هو الإمام العلامة الخطيب الحجة، الأعرف المؤرخ، الناظم الناثر الراوية، قاضي الجماعة بحضرة غرناطة، أعادها الله دار إسلام، سيدي أبو عبد الله محمّد بن عليّ بن محمّد، الشهير بابن الأزرق الغرناطي.
قال السخاوي: لازم الأستاذ إبراهيم بن أحمد بن فتوح، مفتي غرناطة، في النحو والأصلين والمنطق، بحيث أنَّه كان جل انتفاعه به، وحضر مجالس أبي عبد الله محمّد بن محمّد السرقسطي، العالم الزاهد مفتيها أيضاً في الفقه، ومجالس الخطيب أبي الفرج عبد الله بن أحمد البقني، والشهاب قاضي الجماعة أحمد بن أبي يحيى الشريف التلمساني. انتهى.
وله تآليف عظيمة النغع وقفت عليها بتلمسان منها شرحه اللحافل على مختصر خليل، وسماه شفاء الغليل، وقد توارد مع ابن غازي على هذه التلسية، فالله أعلم بالسابق منها إليها.
على أني أعتقد أنَّ كل واحد منها لم يسمع بتسمية الآخر. وقد كان مولانا العم، سقى الله ثراه، يقول: لعل تسمية ابن الأزرق شفاء العليل " بالعين ".
قلت: ويبعده إني رأيت الخطبة بخط تلميذه الوادي آشي، السابق أنفاً:(3/317)
الغليل " بالغين "، ومثله بخط عم أبينا الفقيه العلامة، آية الله في معرفة الأحكام، سيدي محمّد المقري رحمه الله.
وهذا الشرح لم يؤلف على مختصر خليل مثله: إقناعاً ونقلاً وفيها، وقد رأيت منه نحو الثلاثة أسفار، ولا أدري هل أتمه أم لا؟ وتمامه يكون في نحو العشرين سفراً، وقد كتبت بتلمسان خطبته في كراسة، وقد أتى فيها بالعجب العجاب، وهي أدل دليل على غزارة علمه، واتساعه في الفروع والأصول، رحمه الله تعالى.
ومن جملة تآليفه: روضة الإعلام، بمنزلة العربية من علوم الإسلام؛ غاية في بابه، سفر ضخم فيه فوائد وحكايات. وكتاب بدائع السلك، وطبائع الملك؛ كتاب بديع في موضوعه لخص فيه مقدمة تاريخ ابن خلدون المسمى بكتاب العبر، وزاد عليه زيادات كثيرة نافعة، وهو في سفر ضخم وقد نقل عنه صاحب المعيار، أعني عن ابن الأزرق، وأظن أنه نقل عنه في الجامع الذي ختم بع المعيار.
وقد ارتحل رحمه الله إلى تلمسان، عند غلبة العدو الكفار على هضم ما بقى بيد المسلمين بلأندلس، ثم ارتحل منها إلى المشرق ولم أقف على وقت وفاته، إلاّ أنَّه كان ارتحاله لتلمسان بعد التسعين وثمان مائة بلا شك، وغالب ظني أنَّ ذلك في أواخر العشرة التي كملت بها تسع مائة سنة للهجرة النبوية، والله اعلم. ولم أتحقق الآن هل دخلها، أعني تلمسان بعد أخذ غرناطة أو قبله، وقد قدمنا أوّل هذا الموضوع وقت أخذها.(3/318)
ومن شعره رحمه الله عند نزوله طاغية النصارى دمرهم الله بموج غرناطة، أعادها الله للإسلام بجاه النبي عليه الصلاة والسلام:
مشوق بخيمات الأحبة مولع ... تذكره نجد وتغريه لعلعُ
مواضعكم يا لائمين على الهوى ... فلم يبق للسلوان في القلب موصعُ
ومن لي بقلب تلظى فيه زفرة ... ومن لي بجفن تنهى منه أدمعُ
رويدك فارقب للطائف موقعاً ... وخل الذي من شره يتوقعُ
وصبراً فإنَّ الصبر خير تميمةٍ ... ويا فوز من قد كان للصبر يرجعُ
وبت واثقاً باللطف من خير راحمٍ ... فألطافه من لمحة العين أسرعُ
وإنْ جل خطب فانتظر فرجاً له ... فسوف تراه في غدٍ عنك يرفعُ
وكن راجعاً لله في كل حالةٍ ... فليس لنا إلاّ إلى الله مرجعُ
ومنه قوله عند وفاة والدته رحمها الله تعالى:
تقول لي ودموع العين واكفة ... ما أفظع البين والترحال يا ولدي
فقلت أين السرى قالت لرحمة من ... قد عز في الملك لم يولد ولم يلدِ
ومن بارع نظمه رحمه الله قوله في المجبنات:
ورب محبوبة تبدت ... كأنها الشمس في حلاها
فاعجب لحال الأنام: من قد ... أحبها منهم قلاها
ومن بديع نظمه رحمه الله قصيدة مدح فيها شيخه الإمام العلامة الجليل(3/319)
أبا يحيى بن عاصم وهي من غرر النظام وحر الكلام وأثبتها لغرابتها:
خضعت لمعطفه الغصون الميس ... وزنا فهام بمقلتيه النرجسُ
ذو مبسم زهر الربا في كسبه ... متنافس عن طيبه متنفس
وموردٍ من ورده أو ناره ... يتنعم القلبالعميد وييأس
فالورد فيه من دموعي يرتوي ... والنار فيه من ضلوعي تقبس
كملت محاسنه فقد ناصر ... ولواحظ نجل وثغر العس
صعب التعطف بالغرام حبيته ... فالحب يحيى والعطف يحبس
غرس التشوق ثم أغرى الوجد بي ... فالوجد يغري والتشوق يغرس
ما كنت أشقى لو حللت بجنةٍ ... من وصله تحيا اديها الأنفس
ألحاظه ورضابه وعذاره ... حور بها أو كوثر أو سندس
وليالي أنس قد أمنت بهن من ... واشٍ ومن رقيب يحرس
أطلعت شمس الراح فيها فاهتدى ... عاش إلينا في الدجى ومغلس
صفراء كالعقيان في الألوان للن ... دمان كالشهبان منها أكؤس
صبت شقيقاً فاستحالت نرجساً ... في مزجها فمورد ومورس
وحبابها يقني بأسنى جوهرٍ ... أنفى لغم المعدمين وأنفس
يجلى بها للغم منها حندساٍ ... قمر عليه من الذؤابة حندس
حتى إذا عمشت مراة البدر من ... صبحٍ بدا تلقاءه يتنفس
ناديته وسنى الصباح محصحص ... ينجاب عنه من الظلام معسعس
يا مطلع الأنوار زهراً يجتنى ... ومشعشع الصهباء ناراً تلمس
بك مجلس الأنس اطمأن وبابن عا ... صم اطمأن من الرياسة مجلس(3/320)
بدر بانوار الهدى متطلع ... غيث بأشتات الندى متبجس
حامى فلم نرتع لخطب يعترى ... ووفى فلم نحفل بدهر ينحس
شيم مهذبة وعلم راسخ ... ومكارم هتن ومجد أقعس
لو كان شخصاً ذكره لبدا على ... أعطافه من كل حمد ملبس
ذاكم أبو يحيى به تحمى العلا ... وبه خلال الفخر طرا تحرس
بيت على عمد الفخار مطنب ... مجد على متن السماك مؤسس
خيم وعرس في حماه فكم حوى ... فيه المراد مخيم ومعرس
إنا لنغدو هيما فينيلنا ... ريا ويوحشنا النوى فيؤنس
حتى أقمنا والأماني منهضا ... تعالى وابتسمنا والزمان معبس
لم ندر قبل يراعه وبنانه ... أنَّ الذوابل بالغمائم تحبس
هن اليراع بها يؤمن خائف ... ويحاط مذعور ويغني مفلس
مهما انبرت فهي السهام يزي لها ... وقع لأغراض البيان نقرطس
تشفى بمأمله التشكي المعترى ... تحبي بمأمنه الحمام المؤيس
فتقص حين تشق منها ألسن ... وتسير حين تقط منها أرؤس
من كأنَّ وشاء بأسرار النهى ... درب بإظهار السرائر يهجس
قد جمع الأضداد في حركاته ... فلذا اطراد فخاره لا يعكس
عطشان ذو ري يبيس مثمر ... عضبان ذو صفحٍ فصيح أخرس
لله من تلك اليراع جواذب ... للسحر منك كأنها النغنبطس
رضنا شماس القول في اوصافها ... فهي التي راضت لنا ما يشمس
وإليكما حللاً تنساب نسجها ... مثلي يفصلها ومثلك يلبس
واهنأ بعيد باسم مبتهل ... وافاك يجهر بالسرور ويهمس(3/321)
واحبس لواء الفجر موقوفا فإنَّ ... الحمد موقوف عليك محبس
وبعد أنْ كتبت هذه القصيدة حدث لي شك: هل هي من نظم القاضي أبي غب بن الأزرق المذكور أو من نظم ابن الأزرق الآخر الذي جرى ذكره في روضة الأعلام وأنشد له مما يكتب في سيف قوله:
إنْ عمت الأفق من نقع الوغى سحب ... فشم بها بارقاً من لمع إيماض
وإنْ نوت حركات النصر أرض عدى ... فليس للفتح إلاّ فعلي الماضي
قلت: ولق صدق رحمه الله في كل ما وصف به قلم الرئيس أبي يحيى بن عاصم الذي تحلت بجواهره لدولة بني نصر نحور ومعاصم فإنه كان آية الله في النظم والنثر وقد تقدم في هذا الموضوع بعض كلامه، وهو قل من كثر؛ ولولا أني أطلت النجعة في هذا الباب، لأتيت بما حصل عندي من كلامه الذي يسحر الألباب؛ وقد أخذ من الفقه ومعرفة الأحكام بحظ بذلك فيه نظراءه، والنفرد في عصره بطريق الأدب، فكان كل أنداده لا يدركه بل يسير وراءه حتى قال الوادي آشي: إنَّ ابن عاصم أبا يحيى، هو ابن الخطيب الثاني، على أنَّ الدولة النصرانية في زمانه وهت منها المباني؛ ومع ذلك فكان رحمه الله يجبر صدع الواقع، ثم اتسع بعده الخرق على الرقع؛ وقد ألمنا فيما سلف من هذا الكتاب بالتعريف به، وذكرنا جملة من كلامه، فراجع ذلك فيما تقدم.
ومن بديع نظمه رحمه الله قوله قاصداً مخاطبة شيخه الحافظ قاضي الجماعة أبي القاسم بن سراج وقد طلب منه الاجتماع به زمان فتنة، فظن أنَّه يستخبره عن سر من أسرار السلطان، فباعده معتذراً ولم يصدق الظن:(3/322)
فديتك لا تسأل عن السر كاتباً ... فتلقاه في حال من الرشد عاطل
ونضطره إما لحالة خائن ... أمانته أو خائض في الأباطل
فلا فرق عندي بين قاض وكاتبٍ ... وشى ذا بحق أو قضى ذا بباطل
عود إلى الرد على بيتي الزمخشري
ولنرجع إلى ما كنا فيه من ذكر الرد على البيتين اللذين أنشد الزمخشري فنقول: ومن ذلك قول الإمام ابن عاصم، حسبما نقله عنه العبدري رحمهما الله:
قل للذي سمى الهداة أولى النهى ... حمراً لأن سلب الهدى والمعرفة
فغدا يرجع الاعتزال جهالةً ... ويروقه زور وشاة وزخرفه
الحق أبلج واضح لكنه ... يعشى عيون أولى الضلالة والسفه
اخسأ فقولك طائح كهباءةٍ ... طاحت بها هوج الرياح المعصفه
سوغت ذم جماعة سنيةٍ ... قد أحرزوا من كل فضل أشرفه
قطفوا أزهار كل علم نافعٍ ... وأتوا بكل بديعةٍ مستطرفة
قوم هم قمعوا الضلال وحزبه ... بمعاولٍ حكت المواضي المرهفة
هم شيعة الحق الذي ما بعده ... إلاّ مهاوٍ في الضلالة متلفه
آراؤهم يجلو البصائر نورها ... ويميط أدواء القلوب المدنفه
أقصر فإن شقاقهم كفر فلا ... تدع الرشاد لعصبةٍ متعسفة
من شذ عن سنن الجماعة قد غوى ... جاءت بذا الكتب الصحاح معروفة(3/323)
قال العبدري وقد نظم في مثل هذا القاضي أبو حفص بن عمر، فقال:
أجعلتم العلماء حمراً موكفه ... هذا لأنكم أو لو تلك الصفة
أجعلتم صفة الأله وفعله ... ونسبتموه لغيره بالزخرفه
وأردتم تنزيهه فوقعتم ... في الشرك والإلحاد والأمر السفه
خالفتم سنن النبي وصحبه ... وتبعتم في الزيغ أهل الفلسفة
انتهى.
ومما سلك هذا السبيل في الرد على هذين البيتين المتقلصي الظلال، الشيخ الإمام العالم النظار المتبحر، سيدي إبراهيم بن هلال، فقال:
عجبا لقوم عادلين عن الهدى ... ودعوا أولي الحق الحمير الموكفة
وتقبلوا عدليته لمّا رأوا ... بمقالة شنعاء رأى الفلسفة
ما ذاك إلاّ من عمى لبصيرةٍ ... وهوى هووا من أجله في متلفة
وأتوا بما دان المجوس وانهم ... حقا مجوس الأمة المتشرفة
هذا وكم من بدعة وضلالةٍ ... من رد حق بالمحال وبالسفة
ردوا القرآن وما تواتر نقله ... من رؤية الباري وهم نفوا الصفة
فالعدل مع هذي المخازي منتفٍ ... والجور معها مثبت والسفسفة
ولقاضي الجماعة الفقيه العلامة المفسر، الدراكة البياني، سيدي الرئيس(3/324)
أبي القاسم بن أبي النعيم قاضي حضرة فاس المحوطة بالله، في هذا التاريخ، أبقي الله جلاله:
فيه المجوسية بشرك كفرت ... وصلاح إيجاب ونفي للصفة
وبرؤية الباري تجلى غيهم ... في نفيها وتستروا بالفلسفة
وأنشدني الفقيه الأديب الحاج الرحال الحسيب الأصيل، سيدي عليّ بن أحمد الشامي الخزرجي، حفظه الله لنفسه، سالكا سنن هؤلاء الأعلام، ومتشبثا بأذيال حزبهم، ومتمسكاً بوثقى عروتهم السنية وقربهم، وكتب لي ذلك بخطه أيضاً، حفظه الله تعالى آمين:
يا من أقام على الضلالة معكفه ... ولوى عن الحق الجلى واستنكفه
لا بد من يوم تهل من ... رب العباد مواهب مستو كفه
ويرى به رب العلا رغما على ... انف العداة العائبين البلكفه
وتقول إذ تمسي طريدا ليتني ... أمسيت فيه مع الحمير الموكفه(3/325)
وقد آن لنا أنْ نمسك عنان القلم الذي جمح، فقد طال بن الكلام في هذه الترجمة، ومن نظر ما أوردنا بعين الرضا ولمح، التمس لنا أحسن الأعذار وأغضى وسمح، والحديث ذو شجون، وكما قيل في الامثال، وربما تكثر المناسبات وتنثال؛ ومقصودنا الفائدة، وهذه الأشياء المجلوبة بها غاية، والله يوفقنا إلى عمل يرضي به عنا، ويدفع كل خطب أتعب وعسى يقبل منا، ويعاملنا بمحض كرمه تطولا ومنا، فليس لنا رب سواه، لا اله إلاّ هو.
وصلى الله على سيدنا محمّد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً؛ ولا حول ولا قوة إلاّ بالله العلي العظيم، وهو حسبنا.(3/326)