بالإنحاد المفضي إلى الإلحاد، وكذا نظم والده وفي أواخر أمره نصب في داره منبراً وصار يصلي الجمعة هو ومن يصاحبه مع أنه مالكي المذهب يرى أن الجمعة لا تصح في البلد ولو كبر إلا في المسجد العتيق من البلد، وله ديوان شعر وموشحات وفصول مواعظ ومن شعره:
أنا مكسور وأنتم أهل جبر ... فارحموني فعسى يجبر كسري
يا كرام الحي يا أهل العطا ... انظروا لي واسمعوا قصة فقري
علي بن أبي بكر بن سليمان بن أبي بكر بن عمر بن صالح الهيثمي الشيخ نور الدين أبو الحسن ولد سنة خمس وثلاثين وصحب الشيخ زين الدين العراقي وهو صغير فسمع معه من ابتداء طلبه على أبي الفتح الميدومي وابن الملوك وابن القطرواني وغيرهم من المصريين ومن ابن الخباز وابن الحموي وابن قيم الضيائية وغيرهم من الشاميين ثم رحل معه جميع رحلاته وحج معه جميع حجاته ولم يكن يفارقه حضراً ولا سفراً وتزوج ابنته وتخرج به في الحديث وقرأ عليه أكثر تصانيفه وكتب عنه جميع مجالس إملائه وخرج زوائد الكتب الستة مسند أحمد والبزار وأبي يعلى ومعاجم الطبراني الثلاثة مفردات ثم جمعها في كتاب واحد محذوف الأسانيد وجمع ثقات ابن حبان فرتبها على حروف المعجم وكذا ثقات العجلي ورتب الحلية على الأبواب وصار كثير الاستحضار للمتون جداً لكثرة الممارسة وكان هيناً ليناً خيراً ديناً محباً في أهل الخير لا يسأم ولا يضجر من خدمة الشيخ وكتابة الحديث وكان سليم الفطرة كثير الخير كثير الاحتمال للأذى خصوصاً من جماعة الشيخ(2/309)
قرأت عليه الكثير قرينا للشيخ ومما قرأت عليه بانفراده نحو النصف من مجمع الزوائد له ونحو الربع من زوائد مسند أحمد ومسند جابر من مسند أحمد وغير ذلك وكان يودني كثيراً ويشهد لي بالتقدم في الفن جزاه الله عني خيراً وكنت قد تتبعت أوهامه في كتابه مجمع الزوائد فبلغني أن ذلك شق عليه فتركته رعاية له؛ مات في شهر رمضان.
عيسى ابن حجاج السعدي العالية الشاعر الشطرنجي وكان يذكر أنه من ذرية شاور بن مجير؟ ملك مصر ومهر في الأدب وقال الشعر فأجاد فيه ورحل إلى الشام ولقي الصفدي وغيره وكان يذكر أنه سمع من الصفي الحلي ثم مدح الأعيان وكان يستحضر اللغة عمل بديعية على قافية الراء وقرظها له المجد إسماعيل الحنفي وغيره فهجاه ابن العطار بقوله:
عيسى ومن قرظوه ... ما شمت فيهم رئيسا
وما رأيت أناساً ... إلا حميراً وعيسا
ومن شعر عيسى:
تهن بشهر كم به من حلاوة ... وجد لي ببر لا يضيع ثوابه
فأن لساني صارم وفمي له ... قراب فأرجو أن يحلى قرابه
ومنه:
أيا رب الجناب الرحب جد لي ... وكثر في العطاء ولا تقلل
وما تهديه لي من خشكنان ... نهار العيد كبر أو فهلل(2/310)
محمد بن أحمد بن محمد بن أبي الفتح بن أبي سالم شمس الدين ابن الألكابي الحلبي، ولد بحلب خامس شعبان سنة ثمان وأربعين وحفظ المنهاج وعرضه على الزين الباريني وتفقه عليه ونسخ شرح المنهاج لابن الملقن بخطه، وكان والده من الفقهاء بحلب وينوب في بعض البلاد وعرض عليه ذلك بعده فامتنع وتزهد ولبس طريق التصوف، وسافر إلى القدس فلبس الخرقة من الشيخ عبد الله البسطامي، ثم رجع إلى بلده حلب وانقطع بزاوية خارج باب الجبان، وصار معتقداً مقبلاً على شأنه ديّناً بهيّ المنظر وتلمذ له جماعة، وحجّ مراراً وجاور في بعضها، واشتهر عند أهل حلب وبنيت له زاوية، ولبس منه جماعة الخرقة، وكان الأكابر يتردّدون إليه ويتبرّكون به ولا يزداد مع ذلك إلا تواضعاً وتعبّداً، وكان منور الشيبة حسن الخلق والخلق كثير الحياء بهيّ المنظر وسكن بعد الكائنة العظمى في دار القرآن المجاورة للجامع الكبير إلى أن مات بعد الزوال في تاسع ذي القعدة، وحضر جنازته لا يحصون كثرة، نقلته من تاريخ حلب لابن الخطيب الناصرية.
محمد بن صالح بن عمر بن أحمد الحلبي المعروف بابن السفاح ناصر الدين، ولي كتابة الإنشاء ثم ترقى إلى أن ولي كتابة السر بحلب، ثم تحوّل منها فوقع على يشبك بالقاهرة وعيّن لكتابة السر بالقاهرة فلم يقدر ذلك، ومات في تاسع عشر المحرّم، وكانت قد انتهت إليه الرئاسة عند يشبك وكان عليه اعتماده في مهماته، وكان عالي الهمة عارفاً بالسياسة كثير المروءة شديد العصبية كثير المحبة للعلماء والصالحين، وحصلت له محنة في سلطنة الظاهر وصودر ثم توجه إلى القاهرة بعد وقعة(2/311)
تنم فاتصل بالأمير يشبك واستقر في التوقيع بين يديه إلى أن مات فكنت رأيته عنده، وكان لطيف الشكل رحمه الله تعالى.
محمد بن عباس بن محمد بن حسين بن محمود بن عباس الصلتي ثم المعري شمس الدين، ولد في سنة خمس وأربعين أو قبلها، وهو سبط البرهان بن وهيبة، ونشأ في حجر خاله بدر الدين بن وهيبة، وولي قضاء غزة في أوائل هذا القرن مضافاً إلى القدس ومن قبل ذلك قضاء بعلبك وحمص وحماه مراراً، ثم قدم القاهرة فسعى في قضاء المالكية بدمشق فوليه ولم يتم أمره، ثم ولي قضاء دمشق على مذهب الشافعي بعد الوقعة أشهراً، ثم عزل ومات معزولاً، وكان مفرطاً في سوء السيرة قليل العلم وكان قد اشتغل قليلا وأذن له شمس الدين ابن خطيب يبرود في الإفتاء، وذكره ابن حجي في تاريخه في حوادث سنة ثمان وثمانين قال: وفيها ولي ابن عباس قضاء بعلبك وهو رجل جاهل وكان الذي عزل به رجل من أهل الرواية يدرس بدار الحديث بها فجاء هذا لا دراية ولا رواية وإنما كان يتولّى بالرّشوة لبعض من لا خير فيه، مات في أول جمادى الأولى، وكان إذا ولي القضاء إنما يكتب له مجرداً عن الأنظار والوظائف فإنه كان أرضى بهما أهل البلد ورضي بالقضاء مجرّداً، ومدّة ولايته لقضاء دمشق في المرّتين سنة وشهر.
محمد بن عبد الرحمن الصبيبي المدني اشتغل بالفقه ودرس في الحرم النبوي، ومات بصفد وقد بلغ الخمسين.(2/312)
محمد بن عبد الرحيم بن علي بن الحسن بن محمد بن عبد العزيز بن محمد الحنفي ناصر الدين المعروف بابن الفرات المصري، سمع من أبي بكر ابن الصناج راوي دلائل النبوّة وتفرّد بالسماع منه، وسمع الشفاء للقاضي عيّاض من الدلاصي والثواب لآدم من ابن عبد الهادي، وأجاز له أبو الحسن البندنيجي وتفرد بإجازته في آخرين، وكان لهجاً بالتاريخ فكتب تاريخاً كبيراً جدّاً بيّض بعضه فأكمل منه المائة الثامنة ثم السابعة ثم السادسة ثم هكذا صنع في نحو من عشرين مجلّداً ثم شرع في الخامسة وشرع في تبييض المائة الرابعة فأدركته الوفاة وكتب شيئاً يسيراً من أوّل القرن التاسع، وتاريخه في هذا كثير الفائدة إلاّ أنه بعبارة عامّية جدّاً، وكان يتولّى عقود الأنكحة ويشهد في الحوانيت ظاهر القاهرة مع الخير والدين والسلامة، مات ليلة عيد الفطر سنة سبع وله اثنتان وسبعون سنة.
محمد بن علي الكفرسوسي شمس الدين الخطيب حفظ القرآن وتعانى النسخ، وكان مأموناً خياراً أضرّ بأخرة، ومات في شهر رمضان.
محمد بن عمر بن علي السحولي، بضم المهملتين، اليمني ثم المكي المؤذّن أبو الطيِّب، ولد سنة 732 في رمضان، وسمع الشفاء على الزبير ابن علي الأسواني وهو آخر من حدّث عنه، وسمع على الجمال المطري وغيره، وأجاز له عيسى الحجي وآخرون، سمعت منه قليلا، مات يوم التروية عن ستٍّ وسيعين سنة، وكان حسن الخط جيّد الشعر أضر بأخرة.
محمد بن قزموز الزّرعي شمس الدين تفقّه قليلاً وفضل ومهر ونظم الشعر الحسن، وولي قضاء القدس وغيره، ثم توجّه إلى قضاء الكرك فضعف ورجع إلى دمشق فمات بها في رجب وقد بلغ السبعين.(2/313)
محمد بن محمد بن سالم بن علي بن إبراهيم الحضرمي المالكي سمع من الزبير بن علي الأسواني الشفاء ومن الجمال المطري وحدّث، ومات بالقاهرة في شعبان، بلغ الثمانين أو جاوزها، وكان مذموم السيرة.
محمد بن محمد بن عبد اللطيف بن أحمد بن محمود بن أبي الفتح الربعي المعروف بابن الكويك سراج الدين أبو الطيّب، سمع من الميدومي وغيره، وهو أخو شيخنا شرف الدين أبو الطيّب الأصغر، مات في وسط السنة.
محمد بن محمد الطوخي بدر الدين الوزير، ولي وزارة الشام ثم القاهرة مراراً، ومات معزولا وكان يكثر الحج في أيام عطلته جاوز السبعين.
محمّد بن أبي محمّد المعروف بشمس أحد من كان يعتقد بمصر أقام بدار الزعفران بجوار جامع عمرو، ومات في رجب.
محمّد بن يوسف الصالحي المؤذن ولد قبيل الخمسين، وسمع قليلاً وكان جهوري الصوت بالأذان على كبر سنه، مات بطرابلس في صفر.
موسى بن محمّد بن قبانا الشيخ شرف الدين ابن أخت الخليلي الموقت كان أفضل من بقي بالشام في علم الهيئة، وكان رئيس المؤذنين بجامع تنكز وغيره، وكان خيراً، عنده انجماع عن الناس ولا يدخل فيما لا يعنيه ولا ينسب نفسه إلى العلم لا هذا ولا غيره، وله تواليف مفيدة مات في المحرم.(2/314)
أبو القاسم الحبحابي المغربي الدمشقي المالكي أحد شهود الحكم بدمشق وكان من أعيان فقهائهم، مات في شعبان.
الماحوزي والد الخواجا شمس الدين كان قبل الكائنة في حانوت بالخواصين وبعدها في مكان آخر وكان منزله عند قبر عاتكة جاوز الستين ومات في ربيع الأول.(2/315)
سنة ثمان وثمانمائة
استهلت والسلطان ضعيف يرمي الدم والحمى وأشيع موته ثم تعافى، وزينت البلد في الثالث عشر منه وفي ثامن عشر المحرم توجه نوروز على نيابة الشام وسار معه جمع كثير وفي الثالث والعشرين منه وصل رسول نائب الشام شيخ إلى الناصر واسمه يلبغا المنجكي في طلب الصلح والاعتذار عما جرى وكان صحبة الرسول الشيخ شهاب الدين ابن حجي والشيخ شمس الدين ابن قديدار فسمع الناصر الرسالة ولم يعد الجواب وكان نوروز حاضراً لذلك وخرج بعد قليل مسافراً إلى نيابة الشام ونزل الشيخان عند القاضي جلال الدين البلقيني والرسول عند أمير آخور.
وفي الثالث من المحرم وصل أمير الحاج وذكر أنه لم يفارقهم إلا من ينبع خوفاً من العرب الذين في الطريق بين مكة وينبع.
وفي السابع من المحرم قبض شيخ نائب الشام على سودون الظريف نائب الغيبة بدمشق وسجنه بالصبيبة وقبض على كمشبغا الرماح وغيره وألزم القضاة وكاتب السر بمال وصادرهم به وسلمهم لابن باشلي وولاه القضاء فأخذهم من بين يديه مشاة من القلعة إلى العادلية فرسم عليهم بالنورية فهربوا في أثناء الليل ثم سعوا عند النائب وبذلوا ما وقع عليه الاتفاق وأذن لهم في الحكم واستناب علاء الدين ابن أبي البقاء الشافعي ابن باشي المذكور في قضاء صيدا وبيروت واستمر نوروز متوجهاً إلى الشام واتفق أن نائبها كان توجه إلى الصبيبة فدخل نوروز إلى دمشق في ثاني عشري صفر بغير قتال.
وفي السابع من صفر تغير السلطان على بعض الأمراء وتخيل منهم إرادة الركوب عليه منهم يشبك ابن ازدمر وإينال باي ابن قجماس فأمر بإمساك يشبك بن ازدمر(2/316)
وكان رأس نوبة كبيراً وأمسك معه أميران آخرين وسفرهم إلى الإسكندرية للاعتقال بها فتغيب إينال باي ابن قجماس وهو أمير آخور لما بلغه ذلك ويقال إنه طاف ليلاً على جماعة من الأمراء ليركبوا معه فأبوا فهرب وهرب معه سودون الجلب فأمر الناظر بالحوطة على دار إينال باي فأحيط على موجوده فغضب كثير من المماليك الظاهرية لذلك وظنوا أن يشبك ظهر وأنه عند السلطان وأنه هو الذي رتبه في ذلك فركبوا تحت القلعة ... بمصر ثم عاودوا الركوب في سادس ربيع الأول وسطوا على أرغون وأرادوا قتله فهرب ولما اشتد الأمر ازداد تخوف السلطان منهم فأراد الهرب فأشير عليه بإحضار المحبوسين من الأمراء وتأمين الهاربين ففعل ذلك وكان ما سنذكره.
وفي تاسع صفر استقر فخر الدين ابن المزوق في نظر الجيش وصرف بدر الدين ابن نصر الله واستقر محمّد بن شعبان في الحسبة وصرف صدر الدين ابن العجمي ثم أعيد صدر الدين في السابع والعشرين من صفر وفي الحادي عشر منه استقر شمس الدين الأخنائي في قضاء الشافعية بالقاهرة وصرف القاضي جلال الدين البلقيني.
وفي العاشر من صفر حضر إينال باي بن قجماس وجاء إلى السلطان معتمداً على أمان كتبه ابن غراب عنه فعاتبه الناصر، فيقال إنه أغلظ له في الجواب فأمر بنفيه إلى دمياط بطالاً واستقر في وظيفته جرباش ثم صرف واستقر فيها سودون المحمدي واستقر باش باي رأس نوبة عوضاً عن يشبك ابن ازدمر وفي قضاء المالكية جمال الدين عبد الله ابن القاضي ناصر الدين التنسي في مستهل ربيع الأول وهو شاب صغير كان عند وفاة أبيه من أجمل أهل زمانه فاتفق أنه خدم بعض الأمراء لما كان في حبس(2/317)
الإسكندرية فتعصب له فولي القضاء فقام القاضي جلال الدين البلقيني وجماعة على أهل الدولة فعزل بعد يومين وأعيد جمال الدين البساطي في ثالث ربيع الأول وفي الخامس منه أعيد القاضي جلال الدين وصرف الأخنائي وهي الخامسة للبلقيني وفي السادس منه ثارت الفتنة بين الناصر وأمرائه فتخيلوا منه وتخيل منهم واجتمع جمع كثير من المماليك عند بيبرس لرغم الناصر وتواعدوا على الركوب فهرب تغرى بردى ودمرداش.
وفي الثامن منه ظهر يشبك وأتباعه مثل تمر وجركس المصارع وقانباي العلائي وفي الخامس عشر منه أحضر الأمراء المحبوسون بالإسكندرية إلى القاهرة قطلوبغا الكركي ويلبغا الناصري وإينال حطب وسودون الحمزاوي ثم أحضر إينال باي من دمياط ثم أحضر يشبك بن أزدمر من الإسكندرية في تاسع عشر شهر ربيع الأول وفي العشرين منه قبض على كاتب السر فتح الله وتسلمه مشد الدواوين ثم صودر على خمس مائة ألف وهي قريب من أربعة آلاف دينار إذ ذاك وأطلق ولزم بيته واستقر سعد الدين ابن غراب في كتابة السر فباشرها من هذا الوقت إلى أن عاد الناصر إلى المملكة فتركها لابن المزوق وأعيد ابن نصر الله إلى نظر الجيش ولبس ابن غراب بزي الأمراء وأعطي تقدمة وفي الثاني والعشرين منه أمر الناصر يشبك ابن ازدمر أن يستقر في نيابة ملطية فامتنع(2/318)
فألبس غصباً ورسم عليه وأمر الحاجب أن يخرجه من القاهرة وأمر أزبك الإبراهيمي أن يستقر في نيابة طرسوس فامتنع أيضاً ولم يحضر الخدمة وتشوش أكثر المماليك من ذلك والأمراء الجراكسة وتخيلوا من الناصر أنه يريد إبعادهم وتقديم أخواله الروم وكان ذلك يظهر منه كثيراً فكثر الهرج والمرج وإشاعة ركوب الأمراء على الناصر فغلب عليه الخيال إلى أن حمله ذلك على الهرب فتغيب يوم الأحد خامس عشر ربيع الأول وقت القيلولة وفقد فلم يعلموا له خبراً فقيل إنه خرج من باب القرافة مختفياً وركب فلم يعلم خبره لأنه نهى من اتبعه عن إتباعه فرجع عنه وليس معه إلا مملوك واحد وهو بيغوت فعادا إلى الجيزة ثم رجعا إلى بيت سعد الدين ابن غراب فاختفى عنده ولم يتحققوا أين هرب بل أشيع أنه قتل سراً وصار ابن غراب يطالعه بالأخبار يوماً بيوم ويدبر معه أمر يشبك وغيره ويعلمه بما يشتد به الحقد منه على أقاربه كبيبرس وإينال باي وغيرهما ممن يخالف هواه هوى يشبك إلى أن كان ما سنذكره فلما بلغ الأمراء غيبة الناصر اجتمعوا في آخر النهار ببيت الأمير الكبير بيبرس ثم بالاصطبل بعد أن جمعوا القضاة والخليفة وتشاوروا إلى أن استقر رأيهم على سلطنة أخيه عبد العزيز فأحضروه ولقبوه المنصور وعقدوا له البيعة في تلك الليلة واستقر بيبرس الصغير لالاة السلطان واستقر في الثامن والعشرين منه بيبرس الكبير قريب السلطان(2/319)
أتابكاً وآقباي أمير سلاح وسودون الطيار أمير مجلس وسودون المحمدي أمير آخور وباش باي رأس نوبة كبيراً ورسطاي حاجب الحجاب وخلع على المباشرين المستقرين على سعد الدين ابن غراب وهو كاتب السر وعلى ابن المزوق وهو ناظر الجيش وعلى فخر الدين بن غراب وهو الوزير وعلى القضاة الأربعة وهم البلقيني وابن العديم والبساطي وسالم وكان ما سنذكره، وفي صفر عزل الصدر ابن العجمي عن الحسبة وقرر ابن شعبان ثم صرف بعد خمسة عشر يوماً وأعيد الصدر وصرف القاضي جلال الدين عن القضاء في نصف صفر وأعيد الأخنائي ثم أعيد القاضي جلال الدين في خامس ربيع الأول.
وفي تاسع عشري ربيع الأول رجم الأستادار وشج وجهه فدخل إلى السلطان واستعفى ورجع إلى بيته فطرد الأعوان.
وفي ربيع الآخر توجه نوروز نائب الشام لقتال شيخ بالصبيبة واجتمع شيخ وجكم ومن معهما فوقع القتال بينهم فانكسر نوروز ودخل شيخ دمشق فأمر بضرب عنق جقمق الحاجب لأمر اتهمه به فقتل صبراً وذلك في حادي عشر ربيع الآخر وأحضر شيخ السليماني وكان نائب صفد ثم طرابلس ثم قبض عليه جكم لما حكم على طرابلس وسجنه وأخذ ماله فهرب إلى صهيون ثم قدم دمشق فاستقر بها أميراً عند نوروز وحضر معه الوقعة فقبض عليه وأمر جكم بقتله فقتل وغلب شيخ على دمشق وفوض القضاء لشهاب الدين الحسباني وخطب بالجامع فلم يقبل أحد من النواب القدماء عنه النيابة فاستناب جماعة من جهته منهم ابنه وصهره فيقال إنهم استأذنوا القاضي الحنفي لتصح أحكامهم وأراد الأمير جكم أن يتوجه إلى طرابلس فوصل كتاب النائب بها يلتمس المصالحة فتأخر توجه جكم ووصل نوروز إلى بحيرة حمص في ناس قليل فتوجه شيخ وجكم(2/320)
ومن يتبعهما لقتاله فهرب إلى حماة فتوجه الأميران إلى جهة حماة لقصده ثم عرجا إلى طرابلس فهرب نائبها إلى حماة فدخل شيخ وجكم طرابلس فنزل جكم بدار النيابة ووقع يوم دخولهم مطر كثير جداً فلما بلغ ذلك نائب حلب توجه أيضاً إلى حماة فاجتمعوا كلهم عند نوروز ووافقهم جمع كثير من التركمان منهم ابن صاحب الباز فوقعت الوقعة بين جكم وشيخ وبين دقماق نائب حماة ومن انضم معه ظاهر حماة في أواخر رجب فانكسر دقماق وملكا حماة وقتل دقماق بين يدي جكم ونهبت حماة وكان نوروز قد توجه إلى حلب هو ومن معه لأن دمرداش كان تقدمهم وأوهمهم أنه يجمع لهم التركمان فلما وصلها غلب على حلب فوصل شاهين الحسني ومعه رسول شيخ إلى دمشق يطلب شيخ وجكم إلى القاهرة ثم بعد عودة الناصر إلى السلطنة أرسل سودون الطيار ومعه ولاية شيخ على الشام وجكم على حلب ودمرداش على حماة ودخل شيخ إلى دمشق في أواخر رجب ولبس خلعة الناصر ولم تخرج دمشق في هذه المدة عن حكمه في الصورة الحسية وكان بعد ذلك ما سنذكره، وكان دمرداش متشتتاً عند التركمان.
وفيها كائنة عبد الوهاب بن الجباس المصري وكان يحترف في حانوت عطار فسعى أن يكون سمساراً فأهين ومنع فخدم عند بدر الدين الكلستاني كاتب السر فسعى له(2/321)
حتى صار شاهداً ثم سعى إلى أن ولي الحسبة بمصر ثم بالقاهرة ثم لما ولي جمال الدين التنسي قضاء المالكية وهو شاب طمع هذا فسعى في قضاء الشافعية عند ابن غراب وكان ابن غراب قد غضب من الشافعي في شيء فنوه بذكر ابن الجباس وكان في غاية الجهل الثغ زرئ الهيئة فقام في ذلك الشيخ زين الدين الفارسكوري وادعى عليه عند ابن العديم بقضايا وآخر أمره كتبت عليه قسامة أن لا يلبس طيلساناً ولا يركب بزي القضاة وأهين وعزر وحبس ثم شفع فيه فأطلق وذلك في ربيع الأول من هذه السنة.
وفي أوائل رجب استقر ابن خطيب نقرين في ولاية قضاء الشام وكان قد سافر مع جكم وتقرب له برواية أحاديث الملاحم المكذوبة وبشره بأنه يلي السلطنة وبأنه ينتصر على أعدائه فلما غلب على حماة سأل نائب الشام أن يقرره في قضاء دمشق فكتب له توقيع بذلك قال ابن حجي: وكان ابن خطيب نقرين آية في الكذب والزور مشهوراً بذلك مع الشهرة التامة بعدم الدين حتى أن جكم أرسله رسولاً إلى نائب الشام في أواخر هذه السنة فخلع عليه خلعة حرير بطراز ذهب فلبسها وخرج وهو فرحان وقد تطيلس فوقها، ثم كبس بيته فوجد فيه أمور منكرة فختم عليها، ثم بعد وصول نائب الشام شيخ إلى دمشق كاتب يشفع في ابن الحسباني، فوصل توقيعه بذلك في شعبان، فباشر القضاء وصرف ابن الخطيب.
وفي السادس من جمادى الآخرة ظهر الناصر وصعد إلى القلعة ضحوة النهار فكانت مدة غيبته سبعين يوماً إلا يوماً، وكان يشبك وجماعة اتفقوا مع الناصر وهو في بيت(2/322)
ابن غراب فأركبوه إلى بيت سودون الحمزاوي بالباطلية، فلما أصبحوا ركبوا ولا علم عند بيبرس وأتباعه بظهور الناصر بل ظن أن الأمراء البطالين مثل يشبك ومن معه قد ركبوا عليه فركب هو أيضاً بالرميلة، فخرج الناصر ومن معه من المماليك فحملوا على بيبرس ومن معه وطلبوا باب القلعة ففتح لهم واليها الباب، فطلع الناصر القصر وانخذلت طائفة بيبرس فهرب سودون المارداني واختفى وخرج بيبرس إلى ظاهر المدينة فأرسل إليه سودون الطيار فأحضره وأرسله مقيداً إلى الإسكندرية، واستقر يشبك في الأتابكية عوضه في ثامن جمادى الآخرة، واستقر سودون الحمزاوي دويداراً عوضاً عن سودون المارداني واستقر جركس المصارع أمير آخور عوضاً عن سودون المحمدي ثم أمسك الناصر جماعة من الأمراء الذين كانوا مع بيبرس وتأمروا وحكموا في دولة أخيه المنصور وسجنهم واستقر سودون من زاده في نيابة غزة عوضاً عن سلامش.
وفي نصف جمادى الآخرة استقر شرف الدين يعقوب التباني في نظر الكسوة ووكالة بيت المال عوضاً عن ولي الدين الدمياطي موقع بيبرس، ثم صرف عن ذلك بعد أيام، واستقر ابن البرجي في ثامن عشري جمادى الآخرة، ثم أعيد ابن التباني في رابع رجب لذلك بعناية قطلوبغا الكركي، وفي أواخر جمادى الآخرة استقر تمراز الناصري نائب السلطنة بعد شغورها مدة طويلة.
وفي نصف رمضان استقر القاضي ولي الدين ابن خلدون في قضاء المالكية عوضاً عن البساطي، ثم لم ينشب ابن خلدون أن مات في خامس عشريه، واستقر جمال الدين ابن التنسي بعناية قطلوبغا الكركي، ثم صرف في سادس عشر شوال وأعيد البساطي.(2/323)
وفي شوال استقر كاتبه في درس الحديث بالشيخونية عوضاً عن شمس الدين المدني والقاضي الحنفي كمال الدين ابن العديم في مشيختها عوضاً عن الشيخ زاده الخرزباني.
وفيها رجع منكلى بغا من بلاد الشرق وكان توجه رسولاً إلى تمرلنك في العام الماضي.
وفي رمضان أفرج نائب الشام عن جماعة ممن كانوا مسجونين بقلعة الصبيبة، ومنهم سودون الظريف واستقر أميراً كبيراً بدمشق، ثم قبض عليه لأمر صدر منه، واستقر عوضه بكتمر الساقي وسجن سودون المذكور.
وفيه رجع نوروز وعلاّن إلى حلب بموافقة جكم على ذلك. وأرسل جكم إلى نائب الشام بذلك فوافق عليه، واستمر دمرداش عند التركمان يستحثهم ويجمعهم على قصد جكم ومن معه بحلب، ووصل إليه تقليد حماة فقوي بذلك؛ وفي رمضان اشتد الغلاء بدمشق وبلغت الغرارة من ستمائة إلى سبعمائة، فنادى النائب في الفقراء بالاجتماع فاجتمعوا بالميدان، ففرقهم على الأغنياء ما بين الأمراء والقضاة والتجار، فقل سؤالهم وخف صياحهم وسكتوا.
وفيه استولى التركمان على كثير من البلاد الشمالية وكان رأسهم إلياس ويقال اسمه فارس ابن صاحب الباز، ثم وصلوا إلى حماة فغلب عليها، وكان دمرداش قد وصل إليها لما جاءه تقليد النيابة بها فهجم عليه ابن صاحب الباز، فهزمه إلى أن وصل إلى دمشق مكسوراً، فوصل إلى حمص فاستأذن له نائبها نائب الشام في دخوله دمشق فأذن، فدخلها وعظم الأمر من التركمان فجمع النائب القضاة وتشاوروا في مال يجمعونه بسبب طرد التركمان، فطال النزاع إلى أن اتفقوا على أخذ أجرة شهر من كل بستان(2/324)
ودار وحانوت وغير ذلك، فشرعوا في جبايتها، ثم بطل ذلك ونودي بالرد على من أخذ منه شيء، ولما بلغ جكم أن دمرداش عند نائب الشام شيخ تغيظ عليه، لأنه كان عدوه وكان كتب قبل ذلك إلى شيخ يستنجده على التركمان، فتقاعد عليه فغضب أيضاً.
وفي شوال وصل إلى جكم قاصد السلطان يطلب منه إرسال نوروز وغيره من الأمراء المنسحبين، فحماهم جكم وشتم القاصد ورده بغير جواب.
وفيها في شوال كانت الوقعة العظمى بين جكم والتركمان ورئيسهم فارس ويدعى إلياس ابن صاحب الباز صاحب أنطاكية وغيرها، وكان قد غلب على أكثر البلاد الشمالية ودخل حماة فملكها، وكان عسكره يزيد على ثلاثة آلاف فارس غير الرجالة، فواقعه جكم بمن معه فكسره كسرة فاحشة، وعظم قدر جكم بذلك وطار صيته ووقع رعبه في قلوب التركمان وغيرهم؛ ثم إنه بعد ذلك واقع نعيراً ومن معه من العرب فكسره، ثم توجه جكم إلى أنطاكية وأوقع بالتركمان، فسألوه الأمان وأن يمكنهم من الخروج إلى الجبال وإلى مواطنهم القديمة وسلموا إليه جميع القلاع التي بأيديهم، فتقرر الحال على ذلك وأرسل إلى كل قلعة واحداً من جهته، ودخل إلى حلب مؤيداً منصوراً، فسلم فارس ابن صاحب الباز الغازي ابن أوزون التركماني، وكانت بينهما عداوة فقتله وقتل ولده وجملة من جماعته، وكان أميراً كبيراً شجاعاً بطلاً، استجد بأنطاكية مدرسة بجوار تربة حبيب النجار، وكان قد استولى على معظم معاملة حلب ومعاملة طرابلس، فصار في حكمه أنطاكية والقصير والشغر وبغراس وحارم وصهيون واللاذقية وجبلة وغير ذلك، فلما أحيط به تسلم جكم البلاد ورجعت معاملة كل بلد إليها على ما كانت أولاً، وكاتب جكم نائب الشام يطلب منه إرسال دمرداش ويعاتبه على تأخره عن نصره مرة بعد مرة، فاستشعر دمرداش، أن نائب الشام يقبض عليه ويرسله إلى جكم فهرب دمرداش، وأعاد نائب الشام إلى جكم الجواب بذلك فلم يعجبه وعزم على قصد دمشق ومحاربة النائب، فبرز في شوال والتقى مع ابن صاحب الباز(2/325)
وجمعهم من التركمان فكسرهم كسرة ثانية وضرب أعناق كثير منهم صبراً وقتل نعيراً وأرسل برأسه إلى القاهرة، ولما وصل دمرداش من هروبه إلى الرملة جاءه توقيع من الناصر بولاية طرابلس فرجع لذلك، واستمر قصد جكم إلى جهة دمشق فوصل إلى سلمية وأرسل جرباش إلى حمص، فاستعد نائب الشام لقتاله ووصل توقيع دمرداش بنيابة حلب عوضاً عن جكم من القاهرة فتجهز صحبة نائب الشام، ثم وصل إليهم العجل بن نعير طالباً بثأر أبيه وكذلك ابن صاحب الباز طالب ثأر أبيه وأخيه وكان معهم من العرب والتركمان خلق كثير وتوجهوا بعد عيد الأضحى إلى جهة حلب، ووصل توقيع العجل بن نعير بإمرة أبيه، ووصل نائب الشام ومن معه إلى حمص في نصف هذا الشهر وتكاتبوا مع جكم في الصلح، فلما كان في الثالث والعشرين من ذي الحجة وقعت الوقعة بينهم فانكسر عسكر أهل الشام، ووصل شيخ ودمرداش إلى دمشق منهزمين، وكانت الوقعة بالرستن، وذلك أن نائب الشام ومن معه كانوا في الميمنة وأن العرب كانوا في الميسرة فحمل جكم ومن معه على الميمنة فحطمها ثم حمل على الميسرة فثبتوا ساعة ثم انهزموا، ورحل نائب الشام ومن معه من دمشق بعد أن أخذ منها خيولاً وبغالاً وتوجه إلى جهة مصر، ودخل جماعة من جهة نوروز بعده إلى دمشق وهرب ابن الحسباني وعلاء الدين نقيب الأشراف، وتأخر البقية من القضاة والمباشرين فلاقوا نوروز وسلموا عليه فدخل دمشق في أواخر ذي الحجة، وقتل علان بين يدي جكم صبراً وكذلك طولو، ثم دخل جكم بعد يوم وبالغ جكم في الزجر عن الظلم وعاقب على شرب الخمر فأفحش حتى لم يتظاهر به أحد وكانت قد فشت بين الناس، ونادى في دمشق أن لا يظلم أحد على أحد ومن أساء على الحكم أو الحسبة فعل به وفعل به، وانسلخت السنة وهم على ذلك،(2/326)
ولما ظهر الناصر واستقر في السلطنة ثانياً جهز إلى شيخ التقليد بنيابة الشام وإلى نوروز التقليد بنيابة حلب، وتوجه شيخ مع نوروز ليساعده على من يخالفه وكان دقماق نائب حماة وعلان نائب حلب، وبكتمر جلق نائب طرابلس قد اتفقوا على منع نوروز من ذلك، فالتقى الفريقان فكسرهم شيخ وهجم على حماة من نهر العاصي وغلب عليها، وقتل دقماق في هذه الوقعة وفر بقية الأمراء إلى جهة حلب، فتبعهم شيخ فنازلهم فتركوها وتوجهوا نحو المشرق، وتسلم حلب وسلمها لجكم ورجع إلى الشام؛ وقد بسط العينتابي في تاريخه هذه الوقعة وأظهر التعصب فيها لجكم، لأنه كان ينتمي إليه فقال في حوادث ذي الحجة سنة ثمان:
وفيها كانت وقعة عظيمة بين جكم وشيخ بالرستن بين حماة وحمص، فانكسر نائب الشام شيخ كسرة شنيعة وانهزم إلى أن وصل إلى الرملة، وقد كان شيخ وجكم صديقين، لكن شيخ لما رأى ما اتفق لجكم من النصر على ابن صاحب الباز كبير التركمان وعلى نعير كبير العرب وقتلهما على يده بعد أن عجز فيهما الظاهر برقوق وغيره حسده وخشي أن تستمر هذه السعادة إلى أن يتسلطن فكاتب فيه إلى الناصر انه عاصي، وكل ذلك بدسائس يشبك لأن شيخاً كان من جهته وكان يشبك يروم السلطنة فكان يعادي كل من يستشعر منه أنه يروم مثل يروم، فكان يحرض اتباعه على جكم. قال: وقد قتل في هذه الوقعة من أتباع يشبك جماعة منهم طولو وعلان، وتفرق شمل شيخ إلى الغاية حتى لم يبق معه ممن كان اجتمع له من العساكر وهم نحو عشرة آلاف مائة نفس. قال: وكان جكم في هذه الوقعة في دون الألفين لكن النصر يؤتيه الله لمن يشاء.
وفيها قدم ركب العراق بعد أن كان له تسع سنين قد انقطع.
وفيها حاصر العرب المعروفون بالحجافلة مدينة عدن حتى عز الماء بها جداً وبلغت الراوية وهي قدر قربة الكتف المصرية خمسين درهماً، فخرج إليهم العفيف عبد الله بن الوجيه عبد الرحمن العلوي وأخوه في عسكر، فقتل العفيف في المعركة وكان شاباً حسناً كثير الفضل للغرباء أحسن الله جزاءه قتل في رابع صفر وله ثلاثون سنة.(2/327)
وفي شعبان استقر جمال الدين ابن القطب في قضاء الحنفية بدمشق والقاضي عز الدين ابن المنجا في قضاء الحنابلة بها عوضاً عن ابن عبادة، وفيه استقر صدر الدين ابن الأدمي في كتابة السر عوضاً عن الشريف علاء الدين، وفي رمضان وصل أبو العباس الحمصي قاضياً على الشام عوضاً عن علاء الدين ابن أبي البقاء، ثم استقر بعد ثلاثة أيام من سفر أبي العباس من حمص شهاب الدين الحسباني، وكان نائب الشام قد استقر فيها بغير توقيع فباشر إلى أن وصل توقيعه كما قدمنا ذكره، فلما سمع أبو العباس بذلك دخل الشام مختفياً ثم رجع إلى مصر هارباً، ثم كتب النائب يشفع في علاء الدين ابن أبي البقاء أن يعود، ثم وصل أبو العباس متولياً في ذي القعدة فسلم على النائب فلكمه في عمامته، ثم وصل توقيع ابن الحسباني بعد ثلاثة أيام فاستمر.
وفي رمضان ظهر سودون المارداني من الاختفاء فأودع سجن الإسكندرية.
وفي العشرين منه مات ابن غراب سعد الدين إبراهيم بن عبد الرزاق ابن غراب، وكان جده غراب أول من أسلم من آبائه وباشر بها أي بالإسكندرية إلى أن اتهم بأنه كان ممن دل الفرنج لما هجموا الإسكندرية على عورات المسلمين، فقتله ابن عرام سنة سبع وستين وسبعمائة، ونشأ ابنه عبد الرزاق إلى أن ولي نظر الإسكندرية ومات في نحو الثمانين، وخلف ولدين صغيرين أكبرهما يسمى ماجداً وأصغرهما إبراهيم، فلما تمكن محمود من الظاهر دخل الإسكندرية فآوى إليه إبراهيم وهو يومئذٍ يكتب في العرصة تحت كنف أخيه ماجد الذي يلقب بعد ذلك فخر الدين ويسمى محمّداً، فقربه محمود ودربه وخرجه إلى أن مهر بسرعة وجادت كتابته وحمد محمود ذهنه وسيرته فاختص به، وتمكن منه بحيث صار يدري بجميع أموره وتعلم لسان الترك حتى حذق فيه، فاتفق أنه عثر عليه بخيانة، فخاف ابن غراب من سطوته بل استدرك نفسه وانضوى على ابن الطبلاوي وهو يومئذ قد قرب من قلب(2/328)
الظاهر في ولاية القاهرة، فلم يزالا به حتى بطش بمحمود وآل أمره إلى استنقاذ أمواله ومؤنه بحبس أولى الجرائم، وتقلب ابن غراب في ماله فيما يستحيى من ذكره لكثرته، ولازم خدمة ابن الطبلاوي إلى أن رقاه فولي نظر الخاص، ثم ناطح ابن الطبلاوي إلى أن قبض عليه بإذن الظاهر، ثم كان من أوصياء الظاهر، ثم اختص بيشبك فكان معه ظهيراً له في تلك الحروب والتقلبات حتى ذهب إيتمش وتنم وغيرهما من أكابر الظاهرية. ثم تشتت شمل أكثر الباقين، وتمكن ابن غراب حتى استحضر أخاه فخر الدين فقرره وزيراً، ثم استقر في كتابة السر ونظر الجيش، وأضاف إليه نظر الخاص، ثم لبس الأستادارية، ثم تزيا بزي الجند وضرب على بابه الطبول، وعظم جداً حتى أنه لما مرض كان الأمراء الكبار يعودونه قياماً على أرجلهم، وكان هو السبب في فرار الناصر وتركه المملكة وإقامته عنده تلك المدة مختفياً حتى تمكن مما أراد من إبعاد من يود الناصر وتقريب من يبغضه، فلما تكامل له جميع ما أراد لحظته عين الكمال بالنقص، فمرض مدة طويلة بالقولنج إلى أن مات، فلما عاد الناصر إلى المملكة بتدبير ابن غراب ألقى إليه بالمقاليد، فصار يكثر الامتنان على جميع الأمراء بأنه أبقى لهم مهجهم وأعاد إليهم ما سلبوه من ملكهم وأمدهم بماله عند فاقتهم، وكان يصرح بأنه أزال دولة وأقام أخرى، ثم أعاد الأولى من غير حاجة إلى ذلك، وأنه لو شاء أخذ الملك لنفسه من غير مانع، وأهان كاتب السر فتح الله وصادره ولبس مكانه، ثم ترفع عن كتابة السر فولاها كاتباً عنده يقال له الفخر ابن المزوق، وكانت جنازته مشهودة، فمات ضحوة نهار الخميس ليلة التاسع عشر من رمضان وبات في قبره ليلة الجمعة وتعجب الناس لذلك، ولا عجب فيه فقد مات الحجاج ليلة سبع وعشرين من رمضان، ولكن كان ابن غراب محبوباً إلى العامة لما قام فيه في الغلاء والفناء من إطعامه للفقراء وتكفينه الموتى من ماله،(2/329)
وكان يحب الانفراد بالرياسة، مليح الشكل معرق الصورة شديد الزهو، يظهر التعفف، شديد العجب مفضالاً وهاباً وافر الحرمة كثير البذل والله يسامحه، وكان قد بلغ في المملكة ما لم يبلغه أحد، مات بعلة القولنج الصفراوي بعد أن صار أميراً مقدم ألف، وتنقل في الولايات من نظر الخاص والجيش والأستادارية وكتابة السر وغير ذلك على ما سلف في الحوادث، وكان يدري اللغة التركية مع الدهاء والمكر والمعرفة التامة بأخلاق أهل الدولة، ولقد تلاعب بالدولة ظهراً لبطن، وخدم عند الأضداد، وعظم قدره حتى شاع أنه لا بد أن يلي السلطنة ولم يوجد له كثير من المال بل مات وعليه من الديون ما لا يدخل تحت الحصر.
وفي أواخر ذي الحجة استقر فتح الدين فتح الله في كتابة السر عوضاً عن فخر الدين ابن المزوق، الذي كان من جهة ابن غراب.
وفي ليلة النصف من ذي الحجة خسف القمر في أواخر الليل فاستمر إلى بعد أذان الفجر.
ذكر من مات
في سنة ثمان وثمانمائة من الأعيان
إبراهيم بن عبد الرزاق بن غراب مضى ذكره في الحوادث.(2/330)
إبراهيم الحنبلي الصواف برهان الدين أحد نواب الحكم، كان من طلبة القاضي موفق الدين، مات في العشرين من رمضان.
أحمد بن إبراهيم بن سليمان العكاري ثم الطرابلسي المعروف بابن العلم، نسبة إلى جده علم الدين سليمان، تفقه ببلده، ثم دخل دمشق واشتغل بها على الحسباني ورحل مع الياسوفي إلى حلب، فسمع بها في سنة سبعين على الكمال ابن النحاس والكمال ابن حبيب وأحمد بن قطلو وغيرهم، وولي قضاء عكار، وكانت لديه فضيلة ويتكسب من الشهادة، ثم دخل مصر، وقرأ على البلقيني، قال القاضي علاء الدين: اجتمعت به بطرابلس، وكان فاضلاً مات في صفر هذه السنة بطرابلس.
أحمد بن طوغان بن عبد الله الشيخوني المعروف بدويدار النائب، مات أبوه وهو صغير فرباه سودون النائب فباشر الدويدارية عنده وأثرى، وكان يحب أهل الخير والصلاح، ثم ترامى على أهل الحديث واختص بهم ولازم مطالعة كتب أهل الظاهر واشتهر بذلك حتى صار مأوى لمن ينسب إلى ذلك وكان يتعانى العمل بما يقتضيه قول أهل الطب فيما يتعلق بالغداء والعشاء، فيكثر الحمية في زمن الصحة، ولا يأكل إلا بالميزان فلا يزال معتلاً، مات في جمادى الأولى بالإسكندرية والله يرحمه.
أحمد بن عبد الله المعروف بالشيخ حطيبة بمهملتين مصغراً الدمياطي أحد المجذوبين الذين يعتقد فيهم العامة الولاية، قيل: إنه كان متزوجاً فأحب المرأة فبلغه أنها اتصلت بغيره، فحصل له من ذلك طرف خبال، ثم تزايد به إلى أن اختل عقله ونزع ثيابه وصار عرياناً، وله في حالته هذه أشعار منها قال موالياً:
سرى فضحتي وأنتي سركي قد صنت ... قصدي رضاك وأنتي تطلبي لي العنت
ذليت من بعد عزي في الهوى ما هنت ... يا ليت في الخلق لا كنتي ولا أنا كنت
مات في أول المحرم، نقلت ترجمته من خط الشيخ تقي الدين المقريزي.(2/331)
أحمد بن عماد بن يوسف الأقفهسي الشافعي المعروف بابن العماد أحد أئمة الفقهاء الشافعية في هذا العصر، اشتغل قديماً وصنف التصانيف المفيدة نظماً وشرحاً، وله أحكام المساجد وأحكام النكاح وحوادث الهجرة وغير ذلك، سمعت من نظمه من لفظه وكتب عنه الشيخ برهان الدين محدث حلب من فوائده.
أحمد بن محمّد بن إسماعيل بن عبد الرحيم بن يوسف بن شمير بن خازم المصري أبو هاشم ابن البرهان الظاهري التيمي، ولد في ربيع الأول سنة أربع وخمسين، واشتغل بالفقه على مذهب الشافعي، ثم صحب شخصاً ظاهري المذهب فجذبه إلى النظر في كلام أبي محمّد بن حزم فأحبه، ثم نظر في كلام ابن تيمية فغلب عليه حتى صار لا يعتقد أن أحداً أعلم منه وكانت له نفس أبية ومروءة وعصبية ونظر كثير في أخبار الناس فكانت نفسه تطمح إلى المشاركة في الملك وليس له قدم فيه لا من عشيرة ولا من وظيفة ولا من مال. فلما غلب الملك الظاهر على المملكة وحبس الخليفة - أي في سنة 785 - غضب ابن البرهان من ذلك وخرج في سنة خمس وثمانين إلى الشام ثم إلى العراق يدعو إلى طاعة رجل من قريش، فاستقرى جميع الممالك فلم يبلغ قصداً، ثم رجع إلى الشام فاستغوى كثيراً من أهلها وكان أكثر من يوافقه ممن يتدين لما يرى من فساد الأحوال وكثرة المعاصي وفشو الرشوة في الأحكام وغير ذلك، فلم يزل على ذلك إلى أن نمى أمره إلى بيدمر نائب الشام فسمع كلامه وأصغى إليه إلا أنه لم يشوش عليه لعلمه أنه لا يجيء من يده شيء، ثم نمى أمره إلى نائب القلعة ابن الحمصي وكان بينه وبين بيدمر عداوة شديدة، فوجد الفرصة في التألب على بيدمر فاستحضر ابن البرهان واستخبره وأظهر له أنه مال إلى مقالته فبث عنده جميع ما كان يدعو إليه فتركه وكاتب السلطان وأعلمه بقصتهم، فوصل كتاب السلطان(2/332)
إلى بيدمر يأمره بتحصيل ابن البرهان ومن وافقه على رأيه، وأمره أن يسمرهم، فتورع بيدمر عن ذلك وأجاب بالشفاعة فيهم والعفو عنهم وأن أمرهم متلاش وإنما هم قوم خفت أدمغتهم من الدرس ولا عصبية لهم، ووجد ابن الحمصي الفرصة لعداوته لبيدمر فكاتب السلطان أن بيدمر قد عزم على المخامرة فوصل إليه الجواب بمسك ابن البرهان ومن كان على مثل رأيه وإن آل الأمر في ذلك إلى قتل بيدمر، ولما أحضر ابن البرهان إلى السلطان استدناه واستفهمه عن سبب قيامه عليه فأعلمه أن غرضه أن يقوم رجل من قريش يحكم بالعدل وأعلمه بأن هذا هو الدين ولا يجوز غيره، وزاد في نحو ذلك فسأله عمن معه على مثل رأيه من الأمراء فبرأهم وأمر بضربه، فضرب هو وأصحابه وحبسوا بالخزانة المعدة لأهل الجرائم، وذلك في ذي الحجة سنة ثمان وثمانين، ثم افرج عنهم في ربيع الأول سنة إحدى وتسعين فاستمر ابن البرهان مقيماً بالقاهرة على صورة إملاق حتى مات في أربع بقين من جمادى الأولى من هذه السنة وحيداً غريباً فريداً، وحضرت جنازته والصلاة عليه في نحو سبعة أنفس لا غير، وكان حسن المذاكرة والمحاضرة عارفاً بأكثر المسائل التي يخالف فيها أهل الظاهر الجمهور، يكثر الانتصار ويستحضر أدلتها وما يرد على معارضها، وأملى وهو في الحبس مسألة رفع اليدين في السجود ومسألة وضع اليمنى على اليسرى ورسالة في الإمامة، سمعت من فوائده كثيراً، وكان كثير الإنذار لما حدث بعده من الفتن ولا سيما ما حدث من الغلاء والفساد بسبب رخص الفلوس حتى رأى عندي قديماً مرّة خابياً كبيراً من الفلوس فقال لي: احذر أن تقتنيها فإنها ليست رأس مال، وكان كذلك فإنها في ذلك الوقت كان القنطار منها يساوي عشرين مثقالاً أو أكثر، وآل الأمر(2/333)
في هذا العصر إلى أنها تساوي أربعة مثاقيل ثم صارت تساوي ثلاثة، ثم اثنين وربع ونحو ذلك، ثم انعكس الأمر بعد ذلك وصار من كان عنده منها شيء احتيط به لما رفعت قيمتها من كل رطل منها بستة دراهم إلى اثني عشر، ثم إلى أربعة وعشرين، ثم تراجع الحال لما فقدت، ثم ضربت فلوس أخرى خفيفة جداً، وجعل سعر كل رطل أكثر من ثلاثين، وظهر في الجملة أنها ليست مالاً يقتنى لوجود التخلل في قيمتها وعدم ثباتها على قيمة واحدة، قرأت بخط البرهان المحدث بحلب: أنشدني أبو العباس أحمد بن البرهان عن الشيخ برهان الدين الآمدي قال: دخلت على العلاّمة أبي حيّان فسألته عن القصيدة التي مدح بها ابن تيمية فأقر بها وقال: كشطناها من ديواننا، ثم دعا بديوانه فكشف وأراني مكانها في الديوان مكشوطاً، قال المحدث: فلقيت الشيخ برهان الدين الآمدي فقال لي: لم أنشده إيّاها ولا أحفظها، إنما أحفظ منها قطعاً، قال: فكان الآمدي قد ذكر لي قبل ذلك الحكاية بزيادات فيها، ولم يذكر القصيدة، قال: ثم لقيت ابن البرهان بحلب في أوائل سنة سبع وثمانين فذاكرته بما قال لي
الأمدي فقال لي: أنا قرأتها على الأمدي فظهر أنه لم يحرر النقد في الأول، والقصيدة مشهورة لأبي حيان وأنه رجع عنها. مدي فقال لي: أنا قرأتها على الأمدي فظهر أنه لم يحرر النقد في الأول، والقصيدة مشهورة لأبي حيان وأنه رجع عنها.
أبو بكر بن عبد الرحمن بن فيروز تقي الدين الحواري، كان يقرئ أولاد القاضي تاج الدين السبكي، وسمع من بعض أصحاب الفخر، ثم ولي قضاء أذرعات، مات في المحرّم وله بضع وستون سنة.
جقمق الصفوي الحاجب بدمشق، قبض عليه في المحرم سنة خمس ثم أرسل إلى غزّة، فلمّا ولي نوروز في هذه السنة استصحبه لدمشق وقرره في الحجوبية، فلما انكسر نوروز مات.(2/334)
دقماق الظاهري كان من الخاصكية وكان معه بالكرك - قال القاضي علاء الدين في تاريخه كان شكلاً حسناً شجاعاً كريماً، عنده حشمة زائدة وأدب كثير، وكان ممن فرّ في وقعة شقحب مع كمشبغا الكبير إلى حلب، فأقام بها، ثم أمّره الظاهر نيابة حلب ثم نيابة ملطية، فاستمرّ بها مدّة، ثم ولاّه الناصر بعد تنم نيابة حماه، ثم كان ممن أسر مع اللنكية، ومن بعد تنم ولي نيابة صفدن ثم نيابة حلب في سنة لأربع وثمانمائة فإنه واقع دمرداش النائب قبله فانتصر عليه، فلما كان في سنة ستٍّ وثمانمائة تخيل من الناصر فهرب ووليها غيره، ثم بعد أشهر دخلها بغتة فملكها، ثم واقعه الذي كان نائبها مع جمع جمعه من التركمان فانهزم، وذلك في ثاني رجب منها، ثم رضي عليه الناصر وولاّه نيابة حماة بعد وقعة السعيدية، فلما كان في هذه السنة حاصره شيخ وجكم إلى أن كان من أمره ما كان وقتل، وكان ذلك في شعبان.
الشيخ زاده العجمي الحنفي قدم من بلاده إلى حلب سنة أربعٍ وتسعين، وهو شيخ ساكن يتكلم في العلم بسكون ويتعانى حل المشكلات، فنزل في جوار القاضي محب الدين ابن الشحنة فشغل الناس، وكان عالماً بالعربية والمنطق والكشاف. وكان له اقتدار على حلّ المشكلات من هذه العلوم وقد طارحه سراج الدين الفوي بأسئلة من العربية وغيرها نظماً ونثراً منها في قول الكشاف إن الاستثناء في قوله تعالى: " إنّا أُرْسِلْنا إلى قومٍ مُجرِمين، إلاّ آلَ لوطٍ " متصل أو منقطع، فأجابه جواباً حسناً بأنه إن كان يتعلّق بقوم يكون منقطعاً، لأن القوم صفتهم الإجرام أو بمن الضمير في صفتهم فيكون متصلا، واستشكل أن الضمير هو الموصوف المقيد بالصفة، فلو قلت: مررت بقوم مجرمين إلا رجلاً صالحاً، كان الاستثناء منقطعاً، فينبغي أن يكون الاستثناء منقطعاً في الصورتين، فأجاب بأنه لا إشكال، قال: وغاية ما يمكن أن يقال إن الضمير المستكن في المجرمين وإن كان عائداً إلى القوم بالإجرام إلا أن إسناد الإجرام إليه يقتضي تجرده عن اعتبار اتصافه بالإجرام فيكون إثباتاً للثابت إلى آخر كلامه،(2/335)
ومن نظمه في الجواب أيضاً وهي قصيدة طويلة أوّلها يقول فيها:
ولا الشعر من دأبي ولا هو شيمتي ... ولا أنا من خيل الفكاهة في الخبر
ثم دخل القاهرة وولي بعد ذلك تدريس الشيخونية ومشيختها، فأقام مدة طويلة إلى أن كان في أواخر هذه السنة فإنه طال ضعفه فشنع عليه القاضي كمال الدين ابن العديم أنه خرف ووثب على الوظيفة فاستقر فيها بالجاه، فتألم لذلك هو وولده ومقت أهل الخير ابن العديم بسبب هذا الصنيع، ومات الشيخ زاده عن قرب، وكان له ولد يسمى محموداً كثير الفضل والعلم عارفاً بالعلوم الآلية، وأقبل على الحديث يسمعه ويشغل فيه، وناب عن أبيه في الشيخونية فحرم من وظيفة أبيه، فقرّره جمال الدين في مدرسته لتدريس الحنفية فانجبر بذلك.
سالم بن سعيد بن علوي الحسباني أمين الدين، قدم القدس وهو ابن عشرين سنة فتفقّه بها، ثم قدم دمشق في حياة السبكي واشتغل وداوم على ذلك، وتفقه بعلاء الدين بن حجي وغيره، وأخذ النحو عن السكسكي وغيره، ثم قدم القاهرة فقرأ في النحو على ابن عقيل وفي الفقه على البلقيني وقدم معه دمشق، لما ولي قضاءها وولاّه قضاء بصرى ثم لم يزل يتنقل في النيابة بالبلاد إلى أن مات، وكان مكبّاً على الاشتغال وفي ذهنه وقفة وكان مخلا، مات في جمادى الأولى وقد جاوز السبعين.
شاهين بن عبد الله السعدي الطواشي، خدم الأشرف فمن بعده وتقدم في دولة الناصر، وولي نظر الخانقاه البيبرسية وغيرها.(2/336)
الشيخ السليماني، ولي صفد ثم طرابلس، ثم قبض عليه جكم وسجنه بقلعة صهيون، ثم خلص منها وعاد إلى طرابلس، ثم ولي تقدمة في نيابة نوروز بدمشق، ثم قتله جكم في بعض المغازي في هذه السنة.
طاهر بن الحسن بن عمر بن الحسن بن عمر بن حبيب بن شريح الحلبي زين الدين أبو العز ابن بدر الدين، ولد بعد الأربعين، واشتغل بالعلم وتعانى بالأدب، ولازم الشيخين أبا جعفر الغرناطي وابن جابر، وأسمع من إبراهيم بن الشهاب محمود، وأجاز له من الشام أحمد بن عبد الرحمن المرداوي ومحمد بن عمر السلاوي وغيرهما، ومن القاهرة شمس الدين ابن القماح وغيره، وتعانى الإنشاء ببلده وقرر موقعا، ثم سكن القاهرة واستقر بها موقعا وولي عدة وظائف، ومهر في النظم والنثر، وعمل شرحاً على البردة وخمسها أيضاً، وذيل على تاريخ أبيه بطريقته، ونظم تلخيص المفتاح، وطارح الأدباء القدماء منهم فتح الدين ابن الشهيد بأن كتب له بيتين، فأجابه بثلاثة وثلاثين بيتاً، وطارح أيضاً سراج الدين عبد اللطيف الفيومي نزيل حلب ونظم كثيراً، وأحسن ما نظم محاسن الاصطلاح للبلقيني، وليس نظمه بالمفلق ولا نثره، وله قصيدة تسعة أبيات قافيتها: عودي، وله فيما لا يستحيل بالانعكاس بيت واحد مع التزام الحروف المهملة،(2/337)
وله:
أيا فاضلاً في العلا سوله ... له العلم والحلم صارا معا
أعد حال ملك وحل عدو ... ودع لحوكل ملاح دعا
ودم سالماً لا عداك السرور ... ولا رام سعدك ساع سعى
وله:
قلت له إذ ماس في أخضر ... وطرفه البابنا يسحر
لحظك ذا أو أبيض مرهف ... فقال لي: ذا موتك الأحمر
وكانت وفاته في سابع عشر ذي الحجة سنة ثمان وثمانمائة، اجتمعت به وسمعت كلامه وأظن أني سمعت عليه شيئاً من الحديث ومن نظمه ولم اظفر به إلى الآن.
عبد الله بن عبد الرحمن العلوي، تقدم ذكره في الحوادث.
عبد الرحمن بن علي بن خلف الفارسكوري الشيخ العلامة زين الدين الشافعي ولد سنة خمسٍ وخمسين، وقدم القاهرة ولازم الاشتغال وتفقه على الشيخ جمال الدين والشيخ سراج الدين وغيرهما، وسمع الحديث فأكثر، وكتب بخطه المليح كثيراً ثم تقدم وصنّف وعمل شرحاً على شرح العمدة(2/338)
لابن دقيق العيد، جمع فيه أشياء حسنة، وكان له حظٌّ من العبادة والمروءة والسعي في قضاء حوايج الغرباء لاسيّما أهل الحجاز، وقد ولي قضاء المدينة ولم يتم له مباشرة ذلك، واستقر في سنة ثلاث وثمانمائة في تدريس المنصورية، ونظر الظاهرية ودرسها فعمرها أحسن عمارة وحمد في مباشرته، وقد جاور بمكة وصنف بها تصنيفاً يتعلّق بالمقام، وكان يودّني وأودّه وسمعت بقراءته وسمع بقراءتي، وأسفت عليه جدّاً، وقد سئل في مرض موته أن ينزل عن بعض وظائفه لبعض من يحبه من رفقته فقال: لا أتقلّدها حيّاً وميتاً، مات في رجب وله ثلاث وخمسون سنة.
عبد الرحمن بن محمّد بن محمّد بن محمّد بن الحسن بن محمّد بن جابر بن محمّد بن إبراهيم بن محمّد بن عبد الرحيم الحضرمي المغربي المالكي المعروف بابن خلدون، ولد سنة 733، وسمع من الواد ياشي وغيره وقرأ القرآن على أبي عبد الله بن محمّد بن سعد بن بزال إفراداً وجمعاً، وأخذ العربية عن أبيه وأبي عبد الله محمّد الخضائري وأبي عبد الله بن بحر، وأخذ الفقه عن محمّد بن عبد الله الحياني وقاضي الجماعة ابن عبد السلام، وأخذ عن عبد المهيمن الحضرمي ومحمّد بن إبراهيم الإربلي شيخ المعقول بالمغرب، وبرع في العلوم وتقدم في الفنون ومهر في الأدب والكتابة، وولي كتابة السر بمدينة فاس لأبي عنان ولأخيه أبي سالم ورحل إلى غرناطة في الرسلية سنة تسع وستين، وكان ولي بتونس كتابة العلامة، ثم ولي الكتابة بفاس، ثم اعتقل سنة ثمان وخمسين نحو عامين، ودخل بجاية بمراسلة صاحبها فدبّر أموره، ثم رحل بعد أن مات(2/339)
إلى تلمسان باستدعاء صاحبها فلم يقم بها، ثم استدعاه عبد العزيز بفاس فمات قبل قدومه فقبض عليه، ثم تخلّص فسار إلى مراكش، وتنقّلت به الأحوال إلى أن رجع إلى تونس سنة ثمانين فأكرمه سلطانها فسعوا به عند السلطان إلى أن وجد غفلة ففرّ إلى المشرق، وذلك في شعبان سنة أربعٍ وثمانين، ثم ولي قضاء المالكية بالقاهرة، ثم عزل وولي مشيخة البيبرسية ثم عزل عنها ثم ولي القضاء مراراً كان آخرها في رمضان من هذه السنة فباشره ثمانية أيام فأدركه أجله، وكان ممن رافق العسكر إلى تمرلنك وهو مفصول عن القضاء، واجتمع بتمرلنك فأعجبه كلامه وبلاغته وحسن ترسّله إلى أن خلّصه الله من يده، وصنّف التاريخ الكبير في سبع مجلّدات ضخمة ظهرت فيه فضائله وأبان فيه عن براعته، ولم يكن مطّلعاً على الأخبار على جليّتها لا سيما أخبار المشرق وهو بين لمن نظر في كلامه، وكان لا يتزيّا بزيّ القضاة بل هو مستمر على طريقته في بلاده، مات في خامس عشري رمضان، قال لسان الدين بن الخطيب في تاريخ غرناطة: رجل فاضل جمّ الفضائل رفيع القدر أصيل المجد وقور المجلس عالي الهمّة قويّ الجأش متقدّم في فنون عقلية ونقلية متعدد المزايا شديد البحث كثير الحفظ صحيح التصوّر بارع الخط حسن العشرة مفخر من مفاخر المغرب، قال: هذا كله في ترجمته والمذكور في حد الكهولة: وقال العينتابي في ترجمة ابن خلدون: مات فجأة بعد أن أعيد إلى القضاء بثلاثة أيام وكان فاضلاً صاحب أخبار ونوادر ومحاضرة حسنة وله تاريخ مليح، وكان يتهم بأمور قبيحة، كذا قال.(2/340)
عبد العزيز بن سليم المحلى عز الدين الشافعي، كان عارفاً بالوثائق، وولي قضاء المحلّة. مات بمكة مجاوراً عن ستين سنة.
علي بن أحمد بن علوان النحريري نور الدين شاهد الطواحين السلطانية، مات في أواخر جمادى الأولى، وكان كثير التودّد، وقد سمع من الشيخ محمّد القرمي وحدّث عنه.
علي بن ... الشيخ علاء الدين الكاتب المجود كاتب المنسوب الملقب بعصفور موقع الدست، ووقع عن جماعة من أكابر الأمراء، وهو الذي كتب عهد الناصر فرج في دولته الثانية، ومات عقب ذلك فقال فيه بعض أدباء العصر:
قد نسخ الكتاب من بعده ... عصفور لنا طار للخلد
مذ كتب العهد قضى نحبه ... وكان منه آخر العهد
وقد كتب عليه جماعة من الأعيان وانتفعوا به، وكان يكتب على طريقة ياقوت، وكان شيخنا الزفتاوي صديقه يكتب طريقة ابن العفيف، ودخل علاء الدين عصفور صحبة سودون قريب السلطان دمشق ووصل معه إلى حلب، فنهب مع من نهب بأيدي اللنكية ولكنه نجا من الأسر، وكان بارعاً في كتابة المنسوب على طريقة الشاميين وولي توقيع الدست فكان بعضهم يقول: ضاع عصفور في الدست، مات في رجب.
فارس بن صاحب الباز التركماني، كان أبوه من أمراء التركمان فلما وقعت(2/341)
الفتنة اللنكية جمع ولده هذا فاستولى على أنطاكية، ثم قوي أمره فاستولى على القصر، ثم وقع بينه وبين دمرداش في سنة ست وثمانمائة فانكسر دمرداش، ثم جمع دمرداش لقتاله بأنطاكية فحاصره وكان جكم مع فارس ثم رجع عنه بغير طائل، فاستولى فارس على البلاد الغربية كلها وعظم شأنه وبنى بأنطاكية مدرسة حسنة، واستولى على صهيون وغيرها من عمل طرابلس، وصارت نواب حلب كالمحصورين معه لما استولى على أعمالهم، فلما ولي جكم نيابة حلب تجرّد له وواقعه فهزمه ونهب ما معه، واستمر جكم وراءه إلى أن حاصره بأنطاكية سنة ثمان وثمانمائة، ولم تزل الحروب بينهما إلى أن طلب فارس الأمان فأمّنه ونزل إليه وسلّمه لغازي بن أوزون وكان عدوّه فقتله وقتل معه ابنه وجماعة منهم في شوّال، واستنقذ جكم البلاد كلها من أيدي ابن صاحب الباز وهي أنطاكية والقصر والشغر وحارم وغير ذلك، وانكسرت بقتل فارس شوكة التركمان.
قوام بن عبد الله الرومي الحنفي قوام الدين، قدم الشام وهو فاضل في عدة فنون فصاهر بدر الدين ابن مكتوم وولي تصديراً بالجامع وشغل فأفاد وصحب النوّاب، وكان سليم الباطن كثير المروءة والمساعدة للناس، مات في ربيع الآخر بدمشق.
ماجد بن عبد الرزاق المعروف بابن غراب القبطي الملقب فخر الدين، سمّى نفسه محمّد بن عبد الرزاق لما ولي المناصب بالقاهرة، وكان جدّه نصرانيّاً بالإسكندرية(2/342)
يتعانى صناعة الكتابة، فكان ممن اتهم بإعانة الفرنج على نهب الإسكندرية، فلما توجهوا عنها خاف فأسلم، ولما مات نشأ ولده عبد الرزاق واشتهر بمعرفة الكتابة والأمانة إلى أن ولي نظر الإسكندرية، ومات بعد الثمانين وخلف ماجداً وإبراهيم وهو الأصغر، فاتصل إبراهيم بالأمير محمود الأستادار في سلطنة الظاهر برقوق وتلقب سعد الدين، وتنقلت به الأحوال على ما تقدم في الحوادث، وعظم قدر أخيه فخر الدين في الرياسة، وولي الوزارة ونظر الخاص وغير ذلك، كل ذلك بعناية أخيه، ولم يكن فيه من آلات الرياسة شيء بل كان يلثغ لثغة قبيحة ويسير سيرة جائرة، ولما مات أخوه خمل وخمد وآل أمره إلى أن مات في حبس الأمير جمال الدين الأستادار، وتقدمت ترجمته في آخر الحوادث من هذه السنة.
محمّد بن أبي بكر شمس الدين الجعبري الحنبلي العابر كان يتعانى صناعة القبان، ونزل في دروس الحنابلة ونزل في سعيد السعداء وفاق في تعبير الرؤيا، ومات في جمادى الآخرة، وهو والد شيخنا.
محمّد بن أبي بكر بن سليمان بن أحمد العباسي أمير المؤمنين المتوكل على الله أبو عبد الله بن المعتضد بن المستكفي ابن الحاكم، ولد في سنة نيّف وأربعين أو نحوها، وتولى الخلافة في سنة ثلاث وستين بعهد من أبيه إليه، واستمر في ذلك إلى أن مات في شعبان من هذه السنة سوى ما تخلل من السنين التي غضب فيها عليه الملك الظاهر برقوق من ولاية قريبه، واستقر في الخلافة بعده ولده أبو الفضل العباسي ولقب المستعين(2/343)
بالله، وكان قد عهد قبله بالخلافة لولده الآخر المعتمد على الله أحمد ثم خلعه وولي هذا واستمر ذلك مسجوناً إلى أن مات، ولما هرب الأشرف شعبان من عقبة أيلة سأل طشتمر المتوكل أن يبايع له بالسلطنة فامتنع وقال: بل اختاروا من شئتم وأنا أولّيه، فقدم معهم وأقيم المنصور بن علي بن الأشرف، وقام بتدبير الملك إينبك فخلع المتوكل من الخلافة وأقيم قريبه زكريّا بن إبراهيم في ثالث عشري صفر سنة تسع وسبعين، ثم أعيد بعد شهر إلى أن تسلطن برقوق فحسن له جماعة من أهل الدولة وغيرهم طلب الملك فكاتب الأمراء والعربان مصراً وشاماً وعراقاً وبث الدعاة في الآفاق، فنمّ عليهم صلاح الدين بن تنكز في رجب سنة خمس وثمانين وأخبره عن حالة الطنبغا أن الخليفة اتفق مع قرط الكاشف أن الظاهر إذا ركب إلى الميدان قبض عليه ووافقهم إبراهيم بن طلقتمر أمير جندار، فاستدعى الخليفة في الحال وقيّده وسجنه في برج القلعة وقبض على إبراهيم وقرط فوسط قرط وحبس إبراهيم، وأقام عمر في الخلافة ولقب الواثق، ثم مات عمر وأقيم أخوه زكريّا ولقب المستعصم، واستمر المتوكل في الحبس إلى أن خرج يلبغا الناصري فأفرج برقوق عن الخليفة في صفر سنة إحدى وتسعين، لأنه بلغه أن الناصري يشنع عليه كونه سجن الخليفة فأمر بالتضييق عليه فمنع الناس من الدخول عليه، فلما قوي الناصري أفرج عنه في ربيع الأول وأحضره عنده وتحادث معه ساعة وأعطاه مالاً وثياباً، ثم أحضره في أول يوم من جمادى الأولى وخلع عليه وأركبه حجرة شهباء وأركبه من باب النحاس وأمره بالانصراف إلى داره، وركب معه الأمراء والقضاة، ونشرت على رأسه الأعلام السود، وفرح الناس به فرحاً عظيماً، ولم يبق أحد حتى خرج لرؤيته فكان يوماً مشهوداً، فلما قدم الناصري وغلب على المملكة وأزال دولة برقوق قال يلبغا الناصري للخليفة بمحضر من الأمراء يا مولانا أمير المؤمنين ما ضربت بسيفي هذا إلا في نصرتك، وبالغ في تعظيمه وتبجيله، فأشار عليه بإعادة حاجي بن شعبان إلى المملكة ثم أخرج منطاش الخليفة والقضاة معه لما(2/344)
خرج برقوق من الكرك، فلما انتصر برقوق جدّد له الخليفة الولاية بالسلطنة وأحسن إليه، واستمر على حاله إلى أن مات برقوق فقلد السلطنة لولده الناصر فرج، ومات في أيامه محمّد بن أبي بكر بن محمّد بن الشهاب محمود بن سلمان بن فهد الحلبي الأصل الدمشقي شمس الدين بن شرف الدين ولد في شعبان سنة 734، وأحضر في الخامسة المنتقى من معجم ابن جميع علي البرزالي وأبي بكر بن قوام وشمس الدين ابن السراج والعلم سليمان المنشد بطريق الحجاز في سنة تسعً وثلاثين، وسمع في سنة ثلاث وأربعين من عبد الرحيم بن أبي اليسر والشرف عمر بن محمّد بن خواجا إمام ويعقوب بن يعقوب الحريري والعز محمّد بن عبد الله الفاروثي وغيرهم الأولين من مشيخة الفخر وحدث، وكان شكلاً حسناً كامل البنية مفرط السمن، ثم ضعف بعد الكائنة العظمى وتضعضع حاله بعد ما كان مثرياً، وكان كثير الانجماع عن الناس مكبّاً على الاشتغال بالعلم، درس بالبادرائية نيابة، وكان كثير من الناس يعتمد عليه لأمانته وعقله، مات في خامس عشري جمادى الأولى وله أربعٌ وسبعون سنة ونصف سنة، وكان أبوه موقع الدست بدمشق وقد ولي قبل ذلك كتابة السر.
محمّد بن الحسن الأسيوطي شمس الدين كان عالماً بالعربية حسن التعليم لها، انتفع به جماعة وكان يعلم بالأجرة وله في ذلك وقائع عجيبة تنبئ عن دناءة شديدة وشح مفرط، وكان منقطعاً إلى القاضي شمس الدين ابن الصاحب الموقع، ونبغ له ولده شمس الدين محمد لكن مات شابّاً قبله رحمهما الله تعالى.(2/345)
محمّد بن عبد الله الخضري - بضم المعجمة بعدها معجمة مفتوحة - المصري نزيل مكة الطبيب كان يتعانى الطب والكيمياء والنارنجيّات والنجوم، وأقام بمكة مجاوراً بها مدّة، لقيته بها سنة ست، ودخل اليمن فأقبل عليه سلطانها الناصر، فيقال إن طبيب الناصر دسّ عليه من سمّه فهلك، وكان هو أتهم بأنه دسّ على الرئيس شهاب الدين بن المحلى التاجر سمّاً فقتله في آخر سنة ستٍّ وثمانمائة.
محمد بن عبد الرحمن بن أحمد بن إبراهيم بن جملة بن مسلم المحجي الأصل المشقي كمال الدين كان رئيساً محتشماً متمولاً باشر نظر ديوان السبع ثم تركه ومات في المحرم.
محمّد بن عبد الرحمن بن عبد الخالق بن سنان البرشنسي - بفتح الموحدة وسكون الراء وفتح المعجمة بعدها نون ثم سين مهملة - اشتغل قديماً وسمع الحديث من القلانسي ونحوه وحدث وأفاد ودرس مع الدين والخير، وله منظومة في علم الحديث وشرحها، وشرح أسماء رجال الشافعي وكتاباً في فضل الذكر وغير ذلك، سمعت عليه قليلا، ومات وله سبعون سنة.
محمّد بن محمّد بن أحمد بن علي بن عبد الكافي السبكي أبو حاتم ابن أبي حاتم بن أبي حامد ابن الشيخ تقي الدين اشتغل قليلا، وناب في الحكم من سنة تسعين عن ابن الميلق إلى أن مات في إحدى الجماديين وله أربع وخمسون سنة.
محمّد بن محمّد بن أحمد بن محمّد بن أحمد الفارسي الأصل القدسي ثم الدمشقي المعروف بابن المهندس أخو شيخنا شهاب الدين وهو الأصغر أعني محمدا، ً نشأ صيِّناً جيِّداً، وصحب الشيخ فخر الدين السيوفي وبمكة الشيخ عبد الله اليافعي، وكانت له في نشأته أحوال صالحة ثم باشر بعض الدواوين وحصل أموالاً ولم تحمد(2/346)
سيرته، وكان قد سمع من الميدومي وغيره، ومات في شوال ودفن بتربته التي أنشأها شرقي الشامية البرانية بدمشق.
محمّد بن محمّد بن أسعد بن عبد الكريم بن سليمان بن يوسف بن علي بن طنجا الثقفي القاياتي فخر الدين أبو اليمن اشتغل قليلاً، وسمع الحديث من نور الدين الهمداني وغيره، ونسخ بخطه الكثير، وجاور بمكة مراراً، وتلا بالسبع على بعض المتأخرين، وكان قد استقر في قضاء مصر والجيزة نيابة، فباشرها مدة طويلة منفرداً ثم اشترك معه غيره مع استمراره على أنه الكبير فيهم، وعيّن للقضاء فامتنع ولازم النيابة إلى أن مات، وخلّف مالاً طائلاً وأوصى بثياب بدنه لطلبة العلم ففرّقت فيهم، مات في رجب وقد جاوز الثمانين.
محمّد بن محمّد بن حسن الأسيوطي شمس الدين بن شمس الدين، اشتغل بالفقه والحديث والعربية وتقدم ومهر في عدة فنون ورافقنا في السماع كثيرا، مات بعد أبيه في هذه السنة أحسن الله عزانا فيه.
محمّد بن محمّد بن محمّد الخضر ابن شمري الزبيري العيزري الغزي، ولد في ربيع الآخر سنة أربع وعشرين وتفقه بالقاهرة على ابن عدلان وأحمد بن محمّد العطار المتصدر بالجامع الحاكمي ومحيى الدين ولد مجد الدين الزنكلوني وقرأ على البرهان الحكري ورجع إلى غزة سنة 744 فاستقرّ بها، ودخل دمشق فأخذ عن البهاء المصري والتقي والتاج السبكيّين وغيرهم، وأذن له البدر محمود بن علي بن هلال(2/347)
في الإفتاء وأخذ عن القطب التحتاني، وصنف تصانيف في عدة فنون، وكتب إلى أسئلة في عدة علوم، وله مناقشة على جمع الجوامع، وذكر أنه شرحه واختصر القوت للأذرعي وله تعليق على الشرح الكبير للرافعي ونظم في العربية أرجوزة سمّاها قضم الضرب في نظم كلام العرب، ومات في نصف ذي الحجة هذه السنة، وقال القاضي تقي الدين الشهبي وقفت له على اعتراضات على فتوى للشيخ سراج الدين البلقيني فوصلت إلى ولده القاضي جلال الدين فردّ عليه وانتصر لأبيه، فبلغه ذلك فانتصر لنفسه وردّ ما قاله القاضي جلال الدين.
محمّد بن موسى بن عيسى بن علي الدميري ثم المصري أبو البقاء كمال الدين الشافعي ولد في حدود الخمسين وتكسب بالخياطة ثم طلب العلم وسمع المسند تامّاً من العرضي وغير ذلك، ولازم خدمة الشيخ بهاء الدين السبكي وتخرّج به وبغيره، وكان اسمه كمالاً وبذلك كان يكتب بخطه في كتبه ثم تسمّى محمّداً، ومهر في الفقه والأدب والحديث وشارك في الفنون، ودرّس بدرس الحديث بقية بيبرس وفي عدّة أماكن، ووعظ وأفاد وخطب فأجاد، وكان ذا حظٍّ من العبادة تلاوةً وصياماً ومجاورة بالحرمين وقد ذكر عنه كرامات وكان يخفيها وربما أظهرها وأحالها على غيره، وصنّف شرح المنهاج في أربع مجلّدات، لخّصه من كلام السّبكيّ وطرّزه بفوائد كثيرة من قبله، ونظم في الفقه أرجوزة طويلة، وصنّف حياة الحيوان، أجاده وأكثر فوائده مع كثرة استطراده فيه من شيء إلى شيء، وشرع في شرح ابن ماجه فكتب مسودّته وبيّض بعضه، ومات في ثالث جمادى الأولى.(2/348)
محمّد بدر الدين بن منهال ناب في الحسبة وغيرها، وكان يرخي العذبة ويباشر عند بعض الأمراء.
محمّد الحنبلي المعروف بابن المصري شمس الدين، كان من نبهاء الحنابلة يحفظ المقنع وهو آخر طلبة القاضي موفّق الدين موتاً، وكان قد ترك وصار يتكسّب في حانوت بالصّاغة.
محمود بن أحمد بن إسماعيل بن العز الحنفي القاضي محيى الدين بن نجم الدين بن عماد الدين ابن الكشك، اشتغل قليلا وناب عن أبيه واستقل بالقضاء وقتاً، ولما كانت فتنة تمر دخل معهم في المنكرات وولي القضاء من قبلهم ولقب قاضي المملكة واستخلف بقية القضاة من تحت يده، وخطب بالجامع ودخل في المظالم وبالغ في ذلك فكرهه الناس ومقتوه ثم أطلع تمر على أنه خانه فصادره وعاقبه وأسره إلى أن وصل تبريز فهرب ودخل القاهرة فكتب توقيعه بقضاء الشام فلم يمضه نائب الشام شيخ، واستمرّ خاملاً إلى أن مات، وتفرّق أخوه وأولاده وظائفه ثم صالحوه على بعضها، ومات محيى الدين في ذي الحجة، وهو والد رئيس الشام شهاب الدين.
محمّد أمير العرب نعير - بنون ومهملة مصغر - هو محمد بن حيار - بالمهملة المكسورة ثم التحتانية الخفيفة - بن مهنا بن عيسى بن مهنا بن مانع بن حديثة الطائي أمير آل فضل بالشام يلقب شمس الدين ويعرف بنعير ولي الإمرة بعد أبيه ودخل القاهرة مع يلبغا الناصري ولما عاد الظاهر من الكرك وافق نعير منطاشا(2/349)
في الفتنة المشهورة وكان مع منطاش لما حاصر حلب ثم راسل نعير نائب حلب إذ ذاك كمشبغا في الصلح وتسلمه منطاش ثم غضب برقوق على نعير وطرده من البلاد فأغار نعير على بني عمّه الذين قرروا بعده وطردهم، فلما مات برقوق أعيد نعير إلى إمرته ثم كان ممن استنجد به دمرداش لما قدم اللنكية فحضر بطائفة من العرب فلما علم أنه لا طاقة لهم بهم نزح إلى الشرق، فلما نزح التتار رجع نعير إلى سلمية ثم كان ممن حاصر دمرداش بحلب ثم جرت بينه وبين الأمير جكم وقعة فكسر نعير ونهب وجيء به إلى حلب فقتل في شوال منها وقد نيف على السبعين، وكان شجاعاً جواداً مهاباً إلاّ أنه كثير الغدر والفساد وبموته انكسرت شوكة آل مهنّا وكان الظاهر خدعه ووعده حتى سلم منطاش وغدر به فلم يف له الظاهر بما وعده بل جعل يعد ذلك عليه ذنباً وولي بعده ولده العجل(2/350)
يحيى التلمساني في التي بعدها.
//الجزء السادس
بسم الله الرحمن الرحيم
سنة تسع وثمانمائة
في الثالث من المحرم استقر شمس الدين محمّد بن عبد اللطيف المناوي الملقب بالبديية.
وفيها مات ناصر الدين الطناحي في المحرم أو صفر وكان إمام السلطان واستقر تاج الدين عبد الوهاب بن نصر الله في نظر الأحباس عوضاً عنه وكان الطناحي يتعانى الكيمياء ويفسد ماله فيها.
واستهلت وقد غلب نوروز على دمشق وخرج عنها نائبها فتوجه إلى الرملة، ورجع جكم من دمشق في أوائل المحرم طالباً البلاد الحلبية.، وتوجه نوروز إلى جهة شيخ ليقبض عليه، فاستمر شيخ متوجهاً إلى الديار المصرية فوصل إليها في الثالث من صفر فنزل الميدان، فأكرمه السلطان وهاداه أكثر الأمراء وعظمه، وصحبه حينئذٍ ولدا ابن التباني بواسطة الأمير قطلوبغا الكركي، ووصل أيضاً دمرداش نائب حلب كان والطنبغا العثماني حاجب دمشق ويونس الحافظي نائب حماة وسودون الظريف وآخرون، وخلع على شيخ في السادس من صفر، ورجع نوروز من الرملة بعد أن فاته شيخ ومن معه فأوقع بالعرب في صرخد وجاء بجمال كثيرة ودخل دمشق في أواخر صفر، وفي مستهل ربيع الأول برز شيخ ودمرداش ومن معهما من العساكر إلى جهة الشام لقتال نوروز وجكم، وخرج معهما سودون الطيار أمير سلاح وسودون الحمزاوي الداودار، ثم خرج الناصر في ثامن الشهر وعسكر بالريدانية(2/351)
واستخلف بالقاهرة تمراز نائباً في الغيبة، ورحل من الريدانية ثاني عشره، ثم دخل غزة في رابع عشر ربيع الأول، ثم دخل دمشق في سابع ربيع الآخر، وحمل الشتر بين يده شيخ نائب الشام، ورحل السلطان من الريدانية صبح يوم الجمعة فخرج الناس من القاهرة لما بلغهم ذلك كالوزير وناظر الخاص والقاضي الشافعي قبل صلاة الجمعة وتأخر كثير منهم إلى أن صلوا الجمعة وركبوا ووصلوا إلى غزة في ثاني عشري ربيع الآخر، وجهز السلطان قبل سفره أخويه المنصور عبد العزيز وإبراهيم إلى الإسكندرية وأرسل معهما قطلوبغا الكركي وإينال حطب يحتفظان بهما، فلم يلبثا أن ماتا في يوم واحد في العشر الأول من ربيع الآخر، وأحضرا إلى القاهرة ميتين ودفنا في تربة أبيهما وحضر مع الأمير الذي كان موكلاً بهما محضر مثبوت بأنهما ماتا بقضاء الله وقدره، وكان نوروز لما بلغه حركة السلطان إلى الشام جهز سودون المحمدي في عسكر إلى الرملة وأمر بشنق فواز أمير عرب حارثة فشنق، ووصل إليه إينال باي بن قجماس ويشبك بن أزدمر هاربين من القاهرة، ووصل معهم سودون المحمدي هارباً من الرملة، ودخل الرملة جبريل والعثماني وشاهين دويدار نائب الشام، وفي سابع عشر ربيع الآخر خرج نوروز ومعه العسكر إلى قصد قتال ابن بشارة وأرسل بكتمر جلق لجمع العشير، ثم رجع نوروز إلى البقاع ولحق به بكتمر وتوجها(2/352)
إلى بعلبك، ثم توجهوا إلى ناحية حمص في أواخر الشهر، ودخل شاهين دوادار النائب في سابع عشري ربيع الأول إلى دمشق، ثم وصل أستاذه ودمرداش إلى الشام آخر يوم في ربيع الأول، واستقر الطنبغا العثماني في نيابة صفد، وعمر بن الهدباني حاجب الحجاب بدمشق، واستقر سودون بقجة في نيابة طرابلس.
وفي ربيع الآخر سعت جماعة من مماليك السلطان لطلب النفقة، فأمر السلطان بمسك جماعة منهم وشنق جماعة، وفي نصف ربيع الآخر برز السلطان إلى جهة حلب، واستقر صبيحة ذلك اليوم نجم الدين عمر بن حجي أخو الشيخ شهاب الدين في قضاء الشام واستقر علاء الدين بن نقيب الأشراف الدمشقي في كتابة السر ووصل في هذا الشهر شمس الدين الأخنائي إلى دمشق وكان قد مل من السعي في قضاء الشافعية بمصر وتناوب ذلك مع القاضي جلال الدين البلقيني أربع مرات وفي الآخر استعان البلقيني عليه بجمال الدين الأستادار فألزمه بالسفر صحبة العسكر إلى الشام فسافر وفارقهم إلى القدس.
وفي ربيع الأول غضب الناصر على قضاة حماة ورسم عليهم وصادرهم وأهانهم ووضع في رقابهم الزناجير لكونهم أثبتوا محضراً صورته أنهم سمعوا طائراً بحماة يقول: اللهم انصر جكم، وكان قبل ذلك قد رسم على قضاة الشام وطلب من كل واحد منهم مالاً كثيراً فوزن أكثره في الترسيم، فطلب من علاء الدين ابن أبي البقاء مالاً فاختفى ثم مات قريباً، ودخل الناصر حلب في أواخر ربيع الآخر وصحبته القضاة البلقيني والكمال ابن العديم والبساطي وسالم، فهرب نوروز وجكم وتمربغا المشطوب عن حلب وعدوا الفرات،(2/353)
فأقام الناصر بحلب إلى أن استهل جمادى الآخرة، وأرسل العساكر في طلبهم فلم يلحقوا منهم أحداً، فرجعوا إليه بذلك، وفي غضون ذلك صادر السلطان قضاة طرابلس وقضاة حلب لعلة قيامهم مع جكم، ورجع متوجهاً إلى القاهرة وقرر في نيابة حلب جركس المصارع وفي نيابة طرابلس سودون بقجة وفي نيابة دمشق شيخ، فلما تحقق جكم ومن معه من رحيل السلطان من حلب رجع إلى حلب، فهرب جركس المصارع منه إلى دمشق فدخلها قبل أن يخرج السلطان منها وأقام جكم ومن معه بحلب، وفي جمادى الأولى استقر صدر الدين ابن الأدمي في قضاء الحنفية بدمشق عوضاً عن ابن الكفري، وكان ابن الجواشي توجه إلى حلب يسعى في ذلك فرجع خائباً، ودخل السلطان دمشق في جمادى الآخرة ويشبك معه وهو ضعيف.
وفي نصف جمادى الآخرة أعيد شمس الدين ابن الأخنائي إلى قضاء الشام وصرف ابن حجي واستضاف الأخنائي الخطابة ومشيخة السميساطية والغزالية ونظر الحرمين إلى وظيفة القضاء، وكانت هذه الوظائف قد أفردت لشهاب الدين ابن حجي من مدة وكان تارة يستقل بها وتارة يشركه غيره فيها، فلما استضافها الأخنائي سعى فيها الباعوني فانفرد بها وكتب توقيعه بذلك.
وفي هذا العشر الأوسط رحل الناصر إلى جهة مصر فوافته الأخبار بما صنع جكم وبأن جماعة نوروز وصلوا إلى حماة وبعضهم إلى حمص، فنادى في العسكر بالرجوع إليهم(2/354)
فتخاذلوا وخرج بعضهم يوهم أنه متوجه إليهم وبعضهم إلى جهة مصر فما وسع الناصر إلا الرجوع إلى مصر، وخلع على شيخ وقرره في نيابة دمشق وأمره أن يجمع النواب ويتوجه إلى صفد، فخرج هو ودمرداش ويونس العثماني إليها وتوجه الناصر في ثاني عشري جمادى الآخرة.
وفي ذي القعدة زلزلت أنطاكية زلزلة عظيمة فمات تحت الردم عدد كثير، قيل مائة وقيل: أكثر؛ وفي رجب هرب سودون الحمزاوي من الناصر فتحصن بقلعة صفد فلما قصد نوروز دمشق خرج منها شيخ فتحيل على سودون الحمزاوي وأخذ منه صفد فتحصن بها، وذلك بعد أن أمن إليه الحمزاوي وكاتب نوروز وجكم بسببه وسأل منهما أن يكون هو وشيخ وهما يداً واحدة على من خالفهم، وجاءه جواب نوروز بالصغو إلى ذلك فلم يفجأه إلا وشيخ قد ملك القلعة وحال بينه وبينها فهرب إلى نوروز واستولى شيخ على جميع ما وجده للحمزاوي هناك.
وفي شعبان سلم فخر الدين ابن غراب للأستادار فصادره وأهانه، وفيه شرع نوروز في عمارة القلعة وجد في ذلك واجتهد وعمل فيه الترك والعامة وتزاحموا على ذلك وفرضوا بسبب ذلك على الأراضي أموالاً كثيرة وشق ذلك على الناس وشرعوا في إقطاع الأوقاف والأملاك وكثر السعي عند نوروز في الوظائف بالبراطيل وانتزاعها من أربابها وقبض على كثير من التجار، فصودروا حتى كان أهل دمشق يشبهون(2/355)
تلك الأيام بأيام تمرلنك كذا قرأت في تاريخ ابن حجي بل قال إنها أبشع، قال: وتنوعوا في ظلم الناس واقتراح الذنوب لهم، ظهر أهل الفساد ظهوراً عظيماً.
وفي أواخر شعبان خرج إينال باي بن قجماس ويشبك ابن أزدمر وسودون الحمزاوي وسودون المحمدي وأسن باي في جماعة كثيرة إلى غزة، وكان شيخ قد قبض على نائبها جبريل وجهز شيخ مماليك الحمزاوي في مركب، فاتفق أنهم فكوا قيودهم وغلبوا الموكلين بهم وطلعوا إلى أستاذهم بغزة، وفي شعبان مات قطلوبغا الكركي وإينال حطب وكانا من أعوان يشبك.
وفي مستهل رجب مات ركن الدين عمر بن قايماز الأستادار.
وفيها خطب جماز إمرة المدينة فأرسل إليه من مصر أن يقتتل هو وثابت فمن غلب كان الأمير، فاقتتلا في ذي القعدة فغلبه جماز واستولى على المدينة.
وفي التاسع من جمادى الآخرة بويع للأمير جكم بالسلطنة، ولقب الملك العادل، وضربت السكة باسمه، وخطب له بحلب، ثم أرسل دعاته إلى البلاد فأطاعه جميع النواب بالممالك الشامية والشمالية وخطب له بها، ولم يتأخر عن طاعته غير صفد لإقامة شيخ بها ومن معه بل خطب له من غزة إلى الأبلستين، وانتزع البيرة من كزل وكان عصى بها، وحلف له نوروز ومن بعده بدمشق في ذي القعدة وكذا من بعده من الأمراء، فقدر الله تعالى أن مدته لم تطل، فإنه استولى على القلاع التي بيد التركمان كلها، ولم يتأخر عليه سوى آمد، كانت مع محمّد بن قرا يلك فعصى عليه، فخرج إليه جكم(2/356)
بأبهة السلطنة وعدا الفرات من البيرة، فراسله عثمان بن طورغلي وهو المعروف بقرا يلك يسأله الصلح ويخضع له، فلم يصغ إليه بل قال: لا أرجع عنه إلا أن جاء وقبل رجلي في الركاب، فإن شئت عفوت عنه وإن شئت قتلته، فرجع رسله إليه بذلك فاستعد للحصار، وأشار على جكم أكثر من معه من الأمراء أن يقبل هدايا قرا يلك ويرضى منه بالطاعة ويحقن الدماء ويرجع فلم يصغ لذلك، ثم وصل إليه الملك الطاهر عيسى صاحب ماردين وحاجبه فياض وكانا شيخين كبيرين قد طالت مدتهما في مملكة ماردين فأطاع جكم ووصل إليه بعسكره، فقوي عزمه على حرب قرا يلك واستند إلى ما شهر عن المذكور من الظلم والإفساد، فلما قربوا من آمد حطموا على التركمان واشتبك القتال، فقتل ولد قرا يلك في المعركة فانكسر التركمان، فتبع جكم آثارهم فوقعت فرسه في حفرة من الحفر التي جرت عادتهم بإعدادها للمكيدة؛ وقيل: بل جاءه حجر رماه به تركماني في مقلاع فأدماه، فوقع من فرسه وتكاثروا عليه وذبحوه وانهزم عسكره، فلما فقد وتحقق قرا يلك قتل جكم أمر بالتفتيش عليه بين القتلى، فوجدوه فلم يعرفوه إلا بترسه وبحناء رجليه وكان لا يفارق ذلك، وانهزم عسكر جكم هزيمة شنيعة، ونهبتهم التركمان، واستلبوا منهم الخيل والبغال والجمال والأمتعة ما لا يوصف كثرة، وقتل في الوقعة ناصر الدين بن شهري الحاجب كان بحلب ومقبل نائب عينتاب الإربلي وصاحب ماردين وحاجبه، وهرب تمربغا المشطوب فاختفى، وكانت الوقعة في خامس عشر ذي القعدة، ووصل خبرها إلى الشام في ذي الحجة، ووصل إلى مصر في أواخرها(2/357)
وقد أشار صاحب ماردين على جكم بالتأني وقت القتال، فخالفه حتى تلفت أرواحهم، وبلغني أن التركمان قطعوه أعضاء وأرسلوا كل عضو إلى ناحية افتخاراً بقتله لشدة بأسه وهيبته في قلوب التركمان والعرب، ثم أرسلوا برأسه إلى القاهرة في السنة الآتية، ولما بلغ الناصر ذلك فرح به وأمر بضرب البشائر، ثم أحضرت الرؤس فطيف بها في الأسواق وعلقت على باب زويلة وزينت البلد أياماً، وذلك في الثامن عشر من المحرم في السنة المقبلة وكان جكم من مماليك الظاهر وأول ما أعطي تقدمة بعد هزيمة أيتمش من القاهرة واستقر رأس نوبة كبيراً، ثم استقر دويداراً كبيراً بعد أن بارز يشبك بالعداوة فانتصر عليه وحبس يشبك، ثم في سنة أربع انهزم جكم وسجن بقلعة المرقب وراح جكم كأن لم يكن، فكانت مدة سلطنته بدعواه قدر شهرين، وكان شجاعاً بطلاً يحب العدل والخير إلا أنه كان مقداماً على سفك الدماء فكان يهاب لذلك، وقد كان ابن قرا يلك يظن أنه لا يقف في وجهه ولا يجسر على قتاله.
وفي ذي القعدة بعث شيخ إلى نابلس جيشاً فقبضوا على عبد الرحمن ابن المهتار وأحضروه إلى صفد فقتل بحضرته، وكان المذكور قد عصى بأخرة على الناصر واتفق مع نوروز، فأرسله إلى نابلس فصادر أهلها وبالغ في ظلمهم فكانت تلك عاقبته.
وفي أوائل ذي القعدة خرج شيخ من صفد ومن معه فوصل إلى قابون، فهرب منه الحمزاوي إلى غزة فاجتمع هو ومن بها من الأمراء ووقعت الوقعة عند حلبين، فقتل في المعركة إينال باي بن قجماس، ويقال بل قتل بين يدي شيخ صبراً، وقتل في المعركة(2/358)
أيضاً يونس الحافظي الذي كان نائب حماة، وأسر الحمزاوي وانهزم سودون المحمدي ويشبك ابن أزدمر وغيرهما، فجمع نوروز العساكر وتوجه لقتال شيخ وسار في نصف ذي القعدة، فقبضوا في شقحب على الأمير بلاط السعدي فكان شيخ أرسله ليكشف الأخبار.
وفي ثالث عشري ذي القعدة خطب للملك الناصر بدمشق، وعين نوروز جماعة يتوجهون إلى القاهرة بسبب السؤال للناصر في الرضى عنه، فتوجهوا ثم رجعوا لما بلغهم تصميمه على قصد دمشق.
وفيها استولى تمربغا المشطوب على حلب وذلك أنه لما هرب من الوقعة التي كانت بين جكم وبين قرا يلك جاء مع طائفة من المغل إلى جهة حلب، فوجد ابن دلغادر قد جمع التركمان وحاصرها فأوقع بهم وكسرهم ودخل البلد وعصت عليه القلعة، فلما بلغهم قتل جكم سلموها له فاستولى على ما بها من الحواصل وعلى ما بحلب أيضاً من الخيول والمماليك المخلفة عن جكم، واستقرت قدمه بحلب وانسلخت السنة وهو بها.
وفيها كائنة ابن الحبال.... وفي هذه السنة تواترت الأخبار أن نيسابور خسف بها وراح من أهلها خلق كثير وهي التي يقال لها نشادر وأن صاحب هرمز مات وولي ولده مكانه، فعظم على الناس ورد المكس إلى ربع ما كان عليه.
وفيها استقر في مملكة ماردين شهاب الدين أحمد بن إسكندر بن الصالح إسماعيل لما قتل الطاهر الأمجد عيسى في الوقعة مع جكم وتلقب الصالح وجده صالح هو ممدوح الصفي الحلي بتلك القصائد الطنانة وستأتي قصته في حوادث سنة إحدى عشرة إن شاء الله تعالى(2/359)
ووقع في هذه السنة والتي بعدها والتي قبلها من تلاعب الجهلة بمنصب الحسبة ما يتعجب من سماعه حتى أنه في الشهر الواحد يليه ثلاثة أو أربعة وسبب ذلك أنهم فرضوا على المنصب مالاً مقرراً فكان من قام في نفسه أن يليه يزن المبلغ المذكور ويخلع عليه ثم يقوم آخر فيزن ويصرف الذي قبله واستمر هذا الأمر في أكثر دولة الملك الناصر فرج، وفي رمضان وقع الطاعون بالقاهرة وفشا الموت واستمر إلى آخر السنة.
ذكر من مات
في سنة تسع وثمانمائة من الأعيان
إبراهيم بن محمّد بن دقماق صارم الدين مؤرخ الديار المصرية في زمانه كان جده دقماق أحد الأمراء الناصرية ونشأ هو محباً في الفن التاريخي فكتب بخطه منه ما لا يحصى وجمع تاريخاً على الحوادث وتاريخاً على التراجم وجمع طبقات الحنفية وحصلت له بسببه محنة في سنة أربع وثمانمائة ذكرتها في الحوادث وولي في آخر الأمر إمرة دمياط فلم تطل مدته فيها ورجع إلى القاهرة فمات بها في ذي الحجة في أواخرها وقد جاوز الستين، وكان مع اشتغاله بالأدب عرياً عن العربية عامي العبارة، وكان جميل العشرة، فكه المحادثة، كثير التودد، قليل الوقعة في الناس.
أحمد بن إسماعيل بن عبد الله الحريري شهاب الدين اشتغل بالعلم ومهر في الطب والهيئة والمعقولات ونظر في الأدب، وتزيا بزي العجم، وكان مملقاً جداً، اجتمعت به في الكتيين مراراً، وسمعت من نظمه وفوائده، ثم اتصل بالملك الظاهر بأخرة فأعطاه وظائف الشيخ علاء الدين الأقفهسي فأثرى وحسنت حاله، وتزوج وسلك الطريق الحميدة مات في خامس ذي القعدة بمصر.(2/360)
أحمد بن خاص التركي الحنفي شهاب الدين أحد الفضلاء المتميزين من الحنفية، مات في هذه السنة بالقاهرة، أخذ عنه بدر الدين العيني المحتسب وكان يطريه.
أحمد بن صدقة بن تقي العزى - نسبة إلى عز الدين ابن جماعة - كانت أمه تزوجت مفتاح بن عبد الله عتيق البدر بن جماعة وكان في خدمة عز الدين، أخذ الفقه واشتغل قليلاً، ثم لازم سوق الكتب في حانوت، ثم افتقر فصار ينادي على الكتب، وكان ينسخ مع ضعف خطه، وكان ساكناً ضعيف الحال والبنية.
أحمد بن عبد الله العجمي الحنبلي شهاب الدين أحد الفضلاء الأذكياء، أخذ عن كثير من شيوخنا، ومهر في العربية والأصول، وقرأ في علوم الحديث، ولازم الإقراء والاشتغال في الفنون، مات عن ثلاثين سنة بالطاعون في شهر رمضان بالقاهرة.
أحمد بن عمر بن علي بن عبد الصمد البغدادي الجوهري شهاب الدين، ولد سنة خمس وعشرين وقدم من بغداد قديماً مع أخيه عبد الصمد، فسمعا من المزّي والذهبي وداود بن العطار وغيرهم، وسمع بالقاهرة من شرف الدين بن عسكر، وكان محبّاً في العلم والعلماء مع المروءة التامة والخير، وكان يحب التواجد في السماع مع المعرفة التامة بصنف الجوهر والمذاكرة الحسنة، قرأت عليه سنن ابن ماجه بجامع عمرو بن العاص، وقرأت عليه قطعة كبيرة من طبقات الحفّاظ للذهبي وقطعة كبيرة من تاريخ بغداد للخطيب، مات في ربيع الأول وقد جاوز الثمانين وتغيّر ذهنه قليلا.(2/361)
أحمد بن محمّد بن عبد الغالب الماكسيني ولد في سنة ثمان وثلاثين، وسمع من جماعة وحدث وهو من بيت رواية، وكان يكتب القصص ثم جلس مع الشهود بالعادلية وكان يكتب خطّاً حسناً، مات في صفر.
أحمد بن محمّد بن عمر القليجي شهاب الدين ولد شمس الدين كان من موقعي الحكم وناب أيضاً وكان حسن العشرة إلاّ أنه لم يشتهر بالعلم وكان بيده وظيفة إفتاء دار العدل فاستقر بعده فيها ابن الطرابلسي.
أحمد بن محمّد بن قماقم الدمشقي الفقاعي شهاب الدين كان أبوه فقاعيا فاشتغل هو بالعلم، فأخذ عن علاء الدين ابن حجي، وقرأ بالروايات على ابن السلاّر، وكان يفهم ويذاكر، قدم القاهرة سنة الكائنة العظمى فأقام بها مدة، ثم رجع إلى دمشق فمات بها في جمادى الآخرة، وكان قد اجتمع بي مراراً وسمع بقراءتي على البلقيني في الفقه والحديث، وقماقم لقب أبيه قال ابن حجي: كان يستحضر البويطي وسمعت البلقيني يسميه البويطي لكثرة استحضاره له، وقد درس بالأمجدية، ومات في جمادى الآخرة.(2/362)
أحمد بن محمّد بن نشوان بن محمد بن نشوان بن محمّد بن أحمد الحوراني الدمشقي الشيخ شهاب الدين بن نشوان ولد سنة سبع وخمسين وقدم دمشق فقرأ القرآن، وأدب أولاد شهاب الدين الزهري فصار يحفظ بتحفيظهم التمييز للبارزي ودار معهم على الشيوخ والدروس إلى أن تنبه وفضل، وأذن له الزهري في جمادى الأولى سنة إحدى وتسعين، واستقر في تدريس الشامية البرانية وتصدر بالجامع وناب في الحكم بعد الفتنة الكبرى، وانتفع به الطلبة، وقصد بالفتاوى وكان يحسن الكتابة عليها، وكان يتكلم في العلم بتؤدة وسكون وإنصاف، وحصل له استسقاء فطال مرضه به إلى أن مات في جمادى الأولى من هذه السنة.
أحمد بن محمّد الطنبذي بدر الدين أحد الفضلاء المهرة، أخذ عن أبي البقاء والأسنوي ونحوهما، وأفتى ودرّس ووعظ، وكان عارفاً بالفنون ماهراً في الفقه والعربية فصيح العبارة، وله هنات سامحه الله.
أحمد بن محمّد البالسي الأصل ثم الدمشقي شهاب الدين الحنفي الجواشني اشتغل في صباه، وصاهر أبا البقاء على ابنته، وأفتى ودرس وناب في الحكم، وولي نظر الأوصياء وظائف كثيرة بدمشق، وكان حسن السيرة، ثم ناب في الحكم، ثم سعى في القضاء استقلالا فباشر قليلا جداً، ثم عزل ثم سعى فلم يتم له ذلك، ومات في جمادى الآخرة.
إسماعيل بن ناصر بن خليفة الباعوني عماد الدين، كان شيخ الناصرية من عمل صفد على طريقة الفقراء، وهو أخو القاضي شهاب الدين الذي ولي قضاء دمشق، وكانت لإسماعيل وجاهة وثروة وتجارة، وعاش سبعين سنة ومات في ذي الحجة.
أبو بكر بن محمّد بن إسحاق السلمي شرف الدين ابن القاضي تاج الدين المناوي ولد قبل الستين، وأجاز له ابن جماعة فهرسة مرويّاته، واشتغل قليلا وقرأ(2/363)
التنبيه، وسمع على الشيخ بهاء الدين بن خليل وغيره، وناب في الحكم عن ابن عمه صدر الدين، وكان مزجى البضاعة وقد درس بعدة أماكن وخطب بالجامع الحاكمي، مات في جمادى الآخرة وقد قارب الستين.
جكم بن عبد الله أبو الفرج الظاهري كان من مماليك الظاهر وأول ما أمره طبلخاناة في سنة موته، واستقر رأس نوبة بعد موته وذلك في خامس ذي القعدة سنة إحدى، وقيل: مات قبل أن يتأمر وأول ما شهر أمره في تاسع ذي القعدة سنة إحدى وثمانمائة بعد موت أستاذه بقليل واستقر هو وتنكز بغا وآقبغا الأشقر وخير بك وسودون من زاده وباش باي نوب صغارا، وكان هو الذي قيد أيتمش بعد هزيمة تنم وسجنه هو والأمراء بالقلعة، وكان يحب العدل والإنصاف فلم يمكن أحداً من الفساد بدمشق في تلك الوقعة، فلما عاد الناصر إلى مصر أمره تقدمة عوضاً عن دقماق بحكم انتقاله لنيابة حماة، ولم يخرج فيمن خرج في وقعة اللنك، فلما كان التاسع من شوال سنة ثلاث ثارت الفتنة بين الأمراء فقام جكم وسودون الطيار وطرباي وطائفة، ثم ولحق بهم سودون طاز أمير آخور ومعه من الخيول السلطانية ما احتاج إليه، فعرض الناصر على جكم نيابة صفد فامتنع، فأرسل إليه نوروز ومعه القاضي الشافعي وهو يومئذٍ ناصر الدين الصالحي، فعوق نوروز عنده فرجع القاضي إلى الناصر فأخبره، فتخلى الناصر عن يشبك وكان هو المطلوب، فتحاربوا فانهزم يشبك ونهبت داره ثم قبض عليه وبعثه هو ومن معه إلى الإسكندرية، واستقر جكم دويداراً عوضاً عن يشبك وصار هو المشار إليه وباشر بحرمة ومهابة ونادى(2/364)
بالقاهرة: من ظلم فعليه بباب جكم واستبد بأحوال المملكة إلى أن نافره سودون طاز، فثارت بينهما الفتنة في شوال سنة أربع وكان لهم وقعة في أواخر السنة ففر جكم ونوروز، ثم عاد نوروز إلى الطاعة وأحيط بجكم فسجن بالإسكندرية هو وسودون طاز، واتفق أنه هرب إلى شيخ نائب دمشق فأقام عنده إلى أن كانت وقعة يشبك مع الناصر حتى كانت وقعة السعيدية، فلما كان من انهزام الناصر منها وذلك في ذي الحجة سنة سبع انعزل يشبك وأتباعه واختفوا بالقاهرة ورجع شيخ وأتباعه إلى دمشق، وليس لذلك سبب إلا تعاظم جكم وتصريحه بإرادة السلطنة لنفسه فنافسوه في ذلك وخذلوه، ثم اتفق جكم وشيخ وحاربا نوروز وكان الناصر قد جعله نائب الشام، ثم كتب الناصر لجكم بنيابة حلب فدخلها وقتل بها جماعة، فانحرف شيخ عنه لكونه تمالأ مع نوروز عليه، ثم اخذ جكم أنطاكية، ثم واقعه نعير فهزمه وغنم شيئاً كثيراً ثم قتل نعيراً بعد ذلك، ثم ولى الناصر دمرداش نيابة حلب فسار هو وشيخ ومعهم العجل ابن نعير فقاتلهم جكم بالرستن فهزمهم، فرجع شيخ إلى مصر ونوروز إلى دمشق، فسار الناصر إلى قتال جكم ففر إلى البيرة، فدخل الناصر حلب ثم عاد إلى دمشق، فرجع جكم وملك حلب، وأراد الناصر الرجوع إلى حلب فخالفه العساكر وتفرقوا، فقوي جانب جكم وتسمى بالسلطنة وتلقب العادل ورتب المملكة وضرب السكة باسمه وخطب له بحلب، وأطاعه نوروز ولبس خلعته وقبل له الأرض وخطب باسمه، وأقام جكم الحرمة ونشر العدل وعظم المهابة زائداً على الحد وقوي جداً واستخف بأمر الناصر، وخرج لمحاربة التركمان ليستريح خاطره منهم إذا قصد مصر،(2/365)
فكان من أمره ما كان، وكانت سلطنته في رابع شوال من السنة وقتله في حادي عشر ذي القعدة منها، وكان نائب البيرة أظهر مخالفته فخرج إليه بالعسكر الحلبي فطلب الأمان فأمنه، فاستمر ذاهباً بالعسكر إلى ماردين فأطاعه صاحبها ونزل بعسكره، وكان من أمر قتله ما كان، وكان جكم شجاعاً مقداماً مهاباً يتحرى العدل ويحب الإنصاف، وكان يصغي لنظم الشعر، ويحب سماعه، ويجيز عليه الجوائز السنية.
حسن بن علي بن عمر الإسعردي صاحبنا بدر الدين كان من بيت نعمة وثروة فاحب سماع الحديث فسمع فأكثر وكتب الطباق وحصل الأجزاء وسمع من أصحاب التقي سليمان ونحوهم وأحب هذا الشأن وذهبت أجزاؤه في وقعة تمرلنك وقد رافقني في السماع وأعطاني أجزاء بخطه وبلغني أنه حدث في هذه السنة بدمشق ببعض مسموعاته ومات بدمشق في ربيع الأول.
حسن بن محمّد بن حسن بن إدريس بن حسن بن علي بن عيسى بن علي بن عيسى بن عبد الله بن محمّد بن القاسم بن يحيى بن يحيى بن إدريس بن إدريس بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي الحسني الشريف بدر الدين ابن ناصر الدين بن حصن الدين ابن نفيس الدين المعروف بالنسابة وهو سبط الشريف النسابة حسن بن علي بن سليمان بن مكي بن كاسب بن بدران بن حسن بن عبد الله بن محمّد بن عبد الله بن علي بن جعفر بن علي بن محمّد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمّد بن علي بن حسين بن علي سمع من الوادي آشي والميدومي وغيرهما وحدث وولي مشيخة الخانقاه البيبرسية نحواً من عشرين سنة ثم ثار عليه الصوفية لسوء(2/366)
سيرته فيهم فعزل عنهم ثم أعيد وكان عارفاً بأنساب الأشراف كثير الطعن في كثير ممن يدعي الشرف وقد رام الخلافة مرة وكان يذكر أن أمه حسينية وقد ذكرنا نسبها وأن أم أبيه من بني العباس وهي صفية خاتون بنت الخليفة المستمسك بالله محمّد ابن الحاكم وكان كثير المعاشرة للقبط وكان عارفاً بالسعي كثير الدهاء مات في سادس عشر شوال وقد تجاوز الثمانين ممتعاً بسمعه وبصره وأصله من سرسة وتكسب بالشهادة مدة وكان يتطاول إلى الخلافة مع جهل مفرط وقلة ديانة عفا الله تعالى عنه.
خليل بن عبد الله البابري الحنفي الشيخ خير الدين كان فاضلاً في مذهبه محباً للحديث وأهله مذاكراً بالعربية كثير المروءة، وقد عين لقضاء الحنفية مرة فلم يتم ذلك وولي قضاء القدس في سنة 84.
رسول بن عبد الله القيصري ثم الغزي شهاب الدين الحنفي قدم دمشق في حدود السبعين وهو فاضل وسمع من ابن أميلة وابن حبيب ثم ولي نيابة الحكم بدمشق في أول دولة الظاهر ثم ولي قضاء غزة في أيام ابن جماعة وحصل مالاً كثيراً بعد فقر شديد ثم مات بدمشق في جمادى الآخرة وقد شاخ.
الشيخ زاده الخرزباني الحنفي تقدم في التي قبلها.
صدقة بن محمّد بن حسن السرميني فتح الدين كان فاضلاً في مذهبه أخذ عن ابن أبي البقاء السبكي وسمع من بعض أصحاب الفخر بدمشق وسمع مع أصحابنا ومعنا كثيراً وكان ضيق الحال.
صدقة بن محمّد بن حسن الإسعردي كان من خواص ابن غراب وكان واسطة حسنة عنده وبنى تربة وجامعاً ومات في ربيع الآخر بمكة.(2/367)
صديق بن علي بن صديق الأنطاكي شرف الدين ولد سنة بضع وأربعين وقدم من بلاده بعد الستين فاشتغل بالعلم ونزل في المدارس ورافق الصدر الياسوفي في السماع فأكثر عن ابن رافع وسمع من بقية أصحاب الفخر وغيرهم وكان على دين وصيانة ولم يتزوج ثم سكن القاهرة وصار أحد الصوفية بالبيبرسية وكان يتردد إلى دمشق مات بالطاعون في رمضان اجتمعت به ولم أسمع منه بل أجاز لي.
عبد الله بن خليل بن يوسف المارداني جمال الدين الحاسب انتهت إليه رياسة علم الميقات في زمانه وكان عارفاً بالهيئة مع الدين المتين وله أوضاع وتواليف وانتفع به أهل زمانه وكان أبوه من الطبالين ونشأ هو مع قراء الجوق وكان له صوت مطرب ثم مهر في الحساب وكان شيخ الخاصكي قد قدمه ونوه به مات في جمادى الآخرة.
عبد الله بن شيرين الهندي الحنفي جمال الدين نزيل القاهرة سمع من ابن عبد الهادي وحدث وخطب بالظاهرية البرقوقية وكان يحدث عن الهند بعجائب الله أعلم بصحتها.
عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الرحمن بن الخشاب الحنفي اشتغل بالعلم بالشام ثم قدم القاهرة وناب في الحكم عن ابن العديم ثم ولي قضاء الشام في هذه السنة فوصل مع العسكر فباشره يومين ثم سعى عليه ابن الكفري فأعيد ثم ماتا جميعاً في هذا الشهر وبينهما في الوفاة يوم واحد ومات هذا ولم يبلغ الثلاثين رأيته بالقاهرة ولم يكن ماهراً في العلم.
عبد الرحمن بن محمود بن عثمان البصروي نزيل دمشق زين الدين القرشي،(2/368)
تعانى الكتابة ودخل ديوان التوقيع بدمشق ثم قدم القاهرة سنة اللنك فالتجأ إلى فتح الدين كاتب السر فراج عليه ونفق سوقه لديه حتى عول عليه في أمر الديوان وصار المشار إليه فيه لحسن تأنيه وأخلاقه ومعرفته وحسن خطه ونفاذ رأيه وكان جميل المعاشرة، وطعن في لسانه فكان فتح الله يتعجب من ذلك لكونه لم يكن فيه أعظم من نطقه فابتلي فيه ولم يكمل الخمسين.
عبد الرحمن بن يوسف بن الكفري الحنفي زين الدين ولد سنة إحدى وخمسين وحضر على ابن الخباز في الثالثة سنة أربع وخمسين، وأسمعه أبوه من جماعة، سمعت منه في الرحلة، وولي القضاء غير مرة بعد الفتنة، ولم يكن محمود السيرة وكان يتجر بالكتب ويعرف أسماءها مع وفور جهل بالفقه وغيره، مات في يوم الأحد ثالث ربيع الآخر.
عبد الكافي بن محمّد بن أحمد بن فضل الله الشافعي جمال الدين كاتب السر بطرابلس كان رئيساً فاضلاً أديباً، له نظم ونثر كثير الاستحضار للتاريخ والأدب، وذكر أنه ولد في المحرّم سنة ستٍّ وثلاثين وسبعمائة، وآخر العهد به سنة أربعٍ وثمانمائة بطرابلس، ذكره القاضي علاء الدين في تاريخ حلب وذكر أنه أجازه بحلب مروياته وكان قدمها ثم رجع فمات بطرابلس فلتحرر سنة وفاته.(2/369)
عبد الكريم بن محمّد بن عبد الكريم بن عبد النور بن منير الحلبي ثم المصري قطب الدين ابن تقي الدين ابن الحافظ قطب الدين، سمع من الحسن الإربلّي وأحمد بن علي المستولى وغيرهما، وتصرف بأبواب القضاة، سمعت منه مات في نصف السنة وله ثلاث وسبعون سنة.
عبد الهادي بن عبد الله بن خليل بن علي بن عمر بن مسعود البسطامي المقدسي نزيل القاهرة كان شابّاً فاضلاً ماهراً، سمع الحديث ونظم الشعر وكتب الطباق ودار على الشيوخ، ثم اجتمع عليه أتباع أبيه فتمشيخ فيهم، ودخل القاهرة فاستوطنها وراج أمره بها حتى مات وله نحو الثلاثين سنة، سمعت من نظمه ببيت المقدس، ورافقني في بعض السماع على بعض المشايخ في أول سنة ثلاث وثمانمائة.
علي بن إبراهيم القضامي علاء الدين الحموي الحنفي أحد الفضلاء، أخذ العربية عن سري الدين ابن هاني المالكي والفقه عن أمين الدولة ابن وهبان، وتمهر وبهرت فضائله وولي قضاء بلده، وقدم القاهرة سنة الكائنة العظمى فاشتهرت فضائله وعرفت فنونه، وحدّث وأفاد، سمعت منه، وسمع من نظمي وأكثر الثناء عليه، مات في ربيع الآخر، ومن نظمه:
خذ بيدي يا كريم خذ بيدي ... قد عيل صبري وقد وهى جلدي(2/370)
إن لم تجد لي فمن يجود على ... ضعفي فلا إمرة ولا بلدي
علي بن أحمد اليمني من أهل أبيات حسين، كان كثير العناية بالفقه وجمع فيه كتاباً كبيراً وكان يلقّب بالأزرق.
علي بن عبد الرحمن اليبرودي ثم الدمشقي، ابن أخي العلاّمة شمس الدين خطيب يبرود، سمع من بقية أصحاب الفخر وأخذ عن ابن رافع كثيراً، وتفقّه على عمّه وعلى ابن قاضي شهبة، وكان يفهم جيداً، مات في ذي القعدة بخليص وهو محرم، قال ابن حجي: إنه كان مقتراً على نفسه جماعة للمال ولم يتزوج فيما علمت.
علي بن محمّد بن عبد البر السبكي علاء الدين ابن أبي البقاء، ولد سنة 57 بدمشق ونشأ بمصر وقدم دمشق مع والده سنة خمس وسبعين ودرس بالصارمية، وولي قضاء(2/371)
القدس مرتين في دولة الظاهر ومرّتين في دولة الناصر وكان يذاكر بالفقه ويشارك في غيره وأوّل ما استقرّ في سنة ستٍّ وتسعين فحضر قراءة تقليده قضاة الشام وقضاة مصر، مات في هذه السنة من رعب أصابه بسبب مال طلب منه على سبيل القهر، فاختفى عند إبراهيم ابن الشيخ أبي بكر الموصلي فمات مختفياً رحمه الله تعالى، قال ابن حجي: كان رئيساً محتشماً ذكيّاً فاضلاً وهو آخر البيت السبكي ومات مختفياً من الملك الناصر فرج.
عمر بن منصور بن سليمان سراج الدين القرمي الحنفي المعروف بالعجمي ترافق هو وجمال الدين القيصري فلما ولي جمال الدين حسبة القاهرة قرره في حسبة مصر ثم ولي هو حسبة القاهرة ودرس بجامع ابن طلون في الفقه وفي التفسير بالمنصورية وغير ذلك، وكان لشدة صحبته لجمال الدين يظن أنه أخوه وليس كذلك، وكان حسن العشرة محمود المباشرة حسن الصلاة جميل الصورة مليح الشكل طلق المحيّا وكان يقال له عمر فلق لأنه كان إذا أراد تأديب أحد قال هاتوا فلق، مات في العشر الأول من جمادى الآخرة، قال العينتابي: كان يعرف بعض العلوم ولكنه كان عريض الدعوى وكان ولي حسبة القاهرة في دولة منطاش فتأخر بسبب ذلك عند الملك الظاهر.
قطلوبغا الكركي أحد الأمراء الكبار في الدولة الناصرية كان شابّاً حسناً في دولة الظاهر، حفظ القرآن وكان يحسن القراءة بالألحان وكان في زمن إمرته يحب العلماء ويجمعهم ويحسن إليهم ويتذاكرون عنده، توفي في شعبان وقد تقدم له ذكر في مواضع من الحوادث.(2/372)
محمّد بن أحمد بن إبراهيم بن محمّد بن إبراهيم بن أبي بكر الطبري المكي الشافعي أبو اليمن إمام المقام سمع من عيسى الحجي والزين أحمد بن محمّد ابن المحب الطبري وابن عم أبيه عثمان بن الصفي الطبري وقطب الدين بن مكرم وعثمان بن شجاع بن عيسى الدمياطي وعيسى ابن الملك المعظم، وأجاز له يحيى بن فضل الله وأبو بكر بن الرضي وزينب بنت الكمال ونحوهم، وولي إمامة المقام نيابة ثم استقلالاً، وكان خيِّراً سليم الباطن، يعتقده كثير من الناس، وهو آخر من حدّث عن عيسى ومن ذكر بعده بالسماع وعن يحيى بالإجازة، ناهز الثمانين فإنه ولد في شعبان سنة ثلاثين، سمعت منه قليلا، ومات في صفر.
محمّد بن إسماعيل بن علي القلقشندي الشيخ شمس الدين بن العلاّمة تقي الدين المصري ثم المقدسي، ولد سنة 55، وسمع من الميدومي وغيره وأخذ عن خاله الشيخ صلاح الدين العلائي وعن والده تقي الدين، ومهر وبهر وساد حتى صار شيخ بيت المقدس في الفقه وعليه مدار الفتوى، مات في رجب، أرَّخه ابن حجّي.
محمّد بن أنس الحنفي الطنتدائي ناصر الدين نزيل القاهرة كان عارفاً بالفرائض، أقرأها لجماعة وانتفعوا به، وكان حسن السمت كثير الديانة محبّاً في الحديث، كتبت منه الكثير، ومات وله دون الأربعين، وقد سمع من ناصر الدين الحراوي وغيره.(2/373)
محمّد بن أبي بكر بن أحمد النحريري المالكي أخو خلف، ناب في الحكم وتنبه في الفقه ودرس ومات في نصف السنة.
محمّد بن فهيد المصري الشيخ شمس الدين المغيربي نشأ في خدمة الصالحين ولازم الشيخ عبد الله اليافعي بمكة وكان كثير الحج والمجاورة وصحب طشتمر الدويدار فنوّه بذكره وكان الظاهر يعظِّمه، ودخل معه دمشق فكان يصلّي بجانبه في المقصورة فوق جميع الأمراء وكان حسن العشرة كثير المخالطة لأبناء الدنيا وله مع أهل الحرمين مواقف، مات في جمادى الآخرة وقد جاوز الستين.
محمّد بن محمّد بن جعفر الدمشقي الشريف شمس الدين، مات في شهر رمضان سنة تسع وثمانمائة بالقاهرة، وكان من الصوفية بسعيد السعداء، وكان جاور بمكة عدة سنين، ثم ولي طرابلس مدة طويلة ولم يكن يعرف شيئاً من العلم واتفق له أنه قال في الدرس وهو قاضٍ، عن سعيد أبي جبير، وكان مع ذلك جواداً ثم نقل إلى قضاء طرابلس فاستمر فيها نحو عشر سنين، فعزل في سنة أربع وثمانمائة بجمال الدين الحسناوي ثم عاد واستمر إلى أن مات، إلاّ أنّ الأمير جكم كان أرسل بعزله فوصل الخبر وقد مات، وكان كثير الرياسة والحشمة ومكارم الأخلاق وتقريب أهل العلم، وكان للشعراء فيه مدايح.
محمّد بن محمّد بن عبد الرحمن بن حيدرة الدجوي تقي الدين أبو بكر، ولد سنة سبع وثلاثين، وسمع من ابن عبد الهادي والميدومي والعرضي وغيرهم، وتفقّه واشتغل وتقدم ومهر، وكان ذاكراً للعربية واللغة والغريب والتاريخ، مشاركاً في الفقه وغيره، وكان بيده عمالة المودع الحكمي فشانته هذه الوظيفة، وكان كثير الاستحضار دقيق الخط، سمعت منه وكتب لي تقريظاً حسناً على بعض تخاريجي، وكان يغتبط بي كثيراً ويحضُّني على الاشتغال، نوّه السّالمي بذكره وقرره مسمعاً عند كثير من الأمراء فحدّث مراراً بصحيح مسلم، وممن قرأه عليه طاهر بن حبيب الموقع، مات في أواخر ربيع الآخر، وقيل في ثاني عشر جمادى الأولى.(2/374)
محمّد بن معالي بن عمر بن عبد العزيز الحلبي نزيل القاهرة ثم مكة، جاور كثيراً وسكن القاهرة زماناً، وحدّث عن أحمد بن محمّد الجوخي ومحمود بن خليفة وابن أبي عمر وغيرهم، واشتغل قليلا وتنبه، وكان يذاكر بأشياء حسنة، سمعت منه قليلا، مات بمكة.
مسعود بن شعبان بن إسماعيل بن عبد الرحمن بن إسماعيل بن مسعود بن علي بن محمّد بن عبيد بن هبة الله الطّائيّ الحلبي، أصله من دير حسان ونشأ فتفقّه قليلا، ثم صار ينوب في أعمال البر عن القضاة، ثم ولي قضاء حلب عوضاً عن ابن أبي الرضى، ثم عزل ثم أعيد، ثم عزل بابن مهاجر سنة تسعين وسبعمائة، ثم ولاّه شهاب الدين الزهري قضاء حمص، وكان يعرف طرق السعي وله دربة في الأحكام، واشتهر بأخذ المال من الخصوم، فحكى لي نائب الحكم جمال الدين ابن العراقي الحلبي وكان خصيصاً به أنه أوصاه أن لا يأخذ من أحد الخصمين إلا لمن يتحقق أنه الغالب، وسار مع كمشبغا لما توجه للظاهر عند خروجه من الكرك، فلم يزل صحبة الظاهر إلى أن دخل القاهرة فرعى له ذلك، فلما استقرت قدمه في الملك ولاّه قضاء دمشق وقضاء حمص قبل ذلك وتنقل في الولايات إلى أن استقرّ بطرابلس، وكان جاهلاً مقداماً فسعى في الفتنة حتى ولي القضاء بدمشق وبغيرها، ومات في هذه السنة في رمضان، قال القاضي علاء الدين ابن خطيب الناصرية في تاريخ حلب: كان رئيساً كريماً حسن الأخلاق محتشماً، يحب أهل العلم ويكرمهم.
مصطفى بن عبد الله القرماني شارك في الفقه والفنون، ودرس للحنفية بالصرغتمشية، وقرره سودون من زاده في مدرسته أول ما فتحت، ومات في سابع عشر من جمادى الآخرة.(2/375)
نعير أمير العرب تقدم في التي قبلها.
يحيى بن محمّد التلمساني الأصبحي المالكي النحوي نزيل المدينة، سمع من أبي الحسن البطرني وأبي عبد الله بن مرزوق وأبي القاسم العريني، وأجاز له الواد ياشي وابن يربوع وغيرهما، وشارك في الفقه ومهر في العربية، مات بعد أن رجع من الحج في المحرّم وله خمس وستون سنة، وكان قد أضر قبل موته.
يحيى بن منصور التونسي المالكي كان من فضلاء التونسيين معتقداً فيهم، حجّ فرجع فمات بين خليص ورابغ وقد بلغ الستين.
يوسف بن الحسن بن محمّد بن الحسن بن مسعود بن علي بن عبد الله ابن خطيب المنصورية الحموي القاضي جمال الدين، ولد في سنة 37، واشتغل بحماة فأخذ عن بهاء الدين الإخميمي المصري بدمشق وصدر الدين الخابوري وتاج الدين السبكي وجمال الدين الشريشي، وجدّ ودأب وحصّل إلى أن تميّز ومهر وفاق أقرانه في العربية وغيرها من العلوم، وشرح الاهتمام مختصر الإلمام في ست مجلدات وألفيّة ابن مالك وفرائض المنهاج وغير ذلك، وله نظم حسن وشهرة ببلده وغيرها، أخذ عن ابن المغلي وابن البارزي وغيرهما، وانتهت إليه مشيخة العلم بالبلاد الشمالية ورحل الناس إليه وكان خيراً ساكناً، قال ابن حجي: فاق الأقران، ومات في تاسع شوال(2/376)
منها بحماة، وكتبت عن القاضي علاء الدين ابن خطيب الناصرية عنه قصيدة دالية نبوية.
يوسف بن عبد الله الضرير جمال الدين الحنفي أحد الفضلاء في مذهبه، جاوز الخمسين.
موفّق الدين الروميّ، ولي قضاء غزّة ثم قضاء حلب ثم قضاء العسكر بالقاهرة ثم قضاء القدس، ثم مات بالقاهرة في رجب، قال العينتابي: كان من طلبة أكمل الدين وتولّى قضاء الحنفيّة بعده بإشارته، وكان ديِّناً مشاركاً في العلوم إلا أنه كان مكثراً من الكلام لهّاجاً سريع الغضب.(2/377)
سنة عشر وثمانمائة
في أوائلها نازل التركمان مدينة حلب فحصرها علي بك بن خليل بن قراجا بن دلغادر ومعه عدة أمراء من التركمان وعدّة من أمراء العرب فنازلوا حلب أياماً وقاتلهم العوام ومن بها وكان بها يومئذ تمربغا المشطوب قد استنابه الناصر بها بعد قتل جكم فرحلوا ولم يظفروا بشيء في تاسع المحرم، وكان لعلي بك ولد محبوس بقلعة حلب فصانع أهل حلب أباه بإرساله إليه مكرّماً فما أفاد ذلك وجد في الحصار ونازل العجل ابن نعير حماة وحاصرها ونهب علي بك ومن معه القرى التي حول حلب وجدوا في الحصار، وبالغ أهل حلب في الذّبِّ عن أنفسهم وانتدبوا للقتال وهان عليهم الأمر خشية على أموالهم وحرمهم بحيث أنهم كانوا كل يوم لا يرجعون إلاّ وقد أنكوا في التركمان نكاية كبيرة، وكان القائم معهم في ذلك تمربغا المشطوب، فلم يزالوا على ذلك إلى ثاني عشر صفر فرجعوا لمملكتهم لما بلغهم أن نوروز أوقع بالعجل ومن معه من العرب على حماه وكسرهم وتجهز من حماه إلى جهة حلب، فلما دخل نوروز حلب وصل الناصر إلى دمشق، ثم راسله الناصر وقرره في نيابة دمشق وقرر تمربغا المشطوب في نيابة حلب واستهلت، فارتفع الطاعون من الديار المصرية بعد أن كان اشتدّ الخطب به.
وفي أول المحرّم تجهزّ الناصر إلى الشام لحرب نوروز، وفي الثامن منه وصل عدة مماليك، فقبض عليهم شيخ في وقعة غزة الآتي ذكرها ثم قدم كتابه يستحث الناصر على التوجه إلى الشام، فخرج السلطان في العشر الأخير من المحرم ورخص الشعير في هذه السنة جدا بحيث كان يباع بالصالحية مع وجود العسكر كل إردب بدرهمين فضّة.(2/378)
وفي العشرين من المحرم درس ناصر الدين ابن العديم وهو شاب أول ما بلغ في المنصورية، نزل له أبوه عنها فحضره يشبك فمن دونه من الأمراء والقضاة وكان حينئذ أمرد، ونهب حاج المغاربة ومن انضمّ إليهم من الإسكندرية وغيرهم في رجوعهم بين المدينة وينبع.
وفيه أرسل قرا يلك رأس جكم إلى العجل بن نعير فأرسله إلى القاهرة فوصل إلى الشام في المحرم.
وفي المحرم أرسل الناصر إلى نوروز في طلب الصلح، فأذعن لذلك وأرسل له الأمير بلاط الذي كان في أسره في العام الماضي، ثم أرسل نوروز تاج الدين ابن الزهري وعبد الملك ابن الشيخ أبي بكر الموصلي وجماعة إلى شيخ في طلب الصلح فلقوه في بحيرة قدس، فأعاد الجواب بالإذعان إلى الصلح، واعتذر لما طلب نوروز منه أن يشفع له إلى السلطان بأن يعطيه نيابة حلب بأن الأمر فات، ووصلت عساكر السلطان إلى غزة وشاع في دمشق أن شيخ يريد التوجه إلى دمشق، فاستعدّ له نوروز وبرز إلى سطح المزّة، وفي غضون ذلك وصل بكتمر جلق من ناحية طرابلس منهزماً، أوقع به شاهين الدويدار الشيخي، فأرسله نوروز إلى جهة شيخ مع عسكر فلم ينل طائلاً.
وفيها كملت عمارة قلعة دمشق وكان ابتداؤها في العام الماضي، وصرف على عمارتها مال كثير جداً، وظلم بسببه أكثر الخلق من الشاميين وغيرهم وعاد رسل نوروز إليه بأمر شيخ كما تقدم وبأنه وصلت إليه خلعة النيابة من السلطان، وكان خروج الجاليش من القاهرة وأنه لا يقاتل نوروز ولا يواقعه بل ينتظر مجيء السلطان،(2/379)
فلما تحقق نوروز ذلك خذله بعض أصحابه منهم قجقار وقمش وتوجهوا إلى شيخ، فرحل نوروز إلى برزة وتوجه نحو البلاد الشمالية، ودخل شيخ دمشق بغير قتال في تاسع صفر ووصل معه الطنبغا العثماني وكان الناصر أمره على نيابة طرابلس، وفي الثامن عشر من المحرم وصل رأس جكم ورأس ابن شهري صحبة حاجب بن نعير وعلّقا بالقاهرة، وكان خروج الجاليش من القاهرة في ثاني عشري المحرم وفيه يشبك وتغري بردي وبيغوت وسودون بقجة وعلان، وخرج الناصر في الثامن والعشرين منه وتوجه من الريدانية في ثاني صفر، واستناب في غيبته تمراز ومعظم الأمر والنهي لجمال الدين الأستادار، وقد ضربت عنق والي الفيوم بحضرته في داره بأمر اقتضى عنده قتله فقتل، فلما كان في السابع عشر من صفر خرج شيخ لملاقاة الجاليش، ودخل يشبك ومن معه في تاسع عشره، ودخل السلطان في الثاني والعشرين من صفر بأبّهة السلطنة في احتفال زائد، وحمل نائب الشام القبة على رأسه بين يديه، ودخل جمال الدين الأستادار وقد جمعت له الوظائف المتعلقة بالمباشرين من قبل أن يخرج السلطان من مصر مثل الوزارة والإشارة ونظر الخاص والأستادارية والكشف ونحو ذلك، فرسم على القضاة وعلى كاتب السر والوزير الشاميين وأهانهم وطلب منهم أموالاّ عظيمة، وضرب الوزير بالمقارع، وضرب المالكي تحت رجليه ونسبه إلى أنه حكم بغير ولاية، وقرر عوضه عيسى، وهرب الحنفي ابن القطب دونهم فقرر عوضه صدر الدين الأدمي،(2/380)
وفي خامس عشري صفر قبض على يشبك وشيخ بين يدي الناصر واعتقلا بدار السعادة، فبلغ ذلك جركس المصارع فهرب وهرب شاهين دوادار شيخ وجماعة، ثم هرب أتباع شيخ وأتباع يشبك أوّلاً فأوّلاً ثم هرب علان وجانم وأينال المنقار وخلق كثير فوق الخمسمائة من الأمراء والخاصكية والمماليك فتفرقوا في البلاد، ووصل كثير منهم إلى نوروز منهم علان وأينال المنقار وجانم وجقمق أخو جركس فآواهم، وجقمق هذا هو الذي ولي السلطنة بعد اثنتين وثلاثين سنة من هذا الوقت، واستقر بيغوت في نيابة الشام.
وفي تاسع ربيع الأول قبض على تمراز نائب الغيبة بالقاهرة وحبس بالبرج بأمر الناصر واستقر مكانه سودون الطيّار، وكان تمراز قد صرف الشيخ محمّد البلالي عن مشيخة سعيد السعداء وقرر فيها الخادم خضر السراي، فلم يلبث أن قبض عليه بعد اثني عشر يوماً فعدّ ذلك من كرامات البلالي، وتكلموا له فأعيد وعزل خضر، ولما جلس يشبك وشيخ بالقلعة خدعا نائب القلعة ووعداه وأوسعا له في الأماني، فانخدع وعمل على إخراجهما والهرب معهما، وكان الناصر قد دخل عليهما ليلاً وبيده سيف فعاتبهما وأراد قتلهما، فاتفق أنهما ترققا له فتركهما تلك الليلة فأصبحا هاربين وذلك في ثالث ربيع الأول، فهرب كل واحد في جهة، فأرسل الناصر بيغوت الذي قرره في نيابة الشام في جيش، فاتفق أنهم أدركوا نائب القلعة واسمه مُنْطَق فقتلوه ورجعوا برأسه، وخفي خبر يشبك وشيخ، فأما شيخ فإنه اختفى بدمشق بغير اختياره فإنه واعد فرسه في مكان معيّن فأبطأ عليه حتى فضحه الصبح فاختفى لما أراد الله من بقائه، وأما يشبك فإنه استمر هو وسودون بقجة وجركس وتمام أربعين نفساً اجتمعوا عليه وساروا إلى جهة حمص، ثم لحق به شيخ وطائفة كثيرة وأرسلا شاهين إلى جهة حلب يكشف الأخبار، فظفر به نوروز فسجنه بقلعة حلب، وروفع(2/381)
حسين بن منصور المحتسب باختفاء شيخ عنده فضرب بالمقارع، ثم ظهرت براءته فخلع عليه بالحسبة، ثم سأل الناصر عن نوروز فقيل له إنه هرب إلى حلب، فأرسل إليه خلعة بنيابة الشام بشرط أن يرسل إليه الأمراء الذين خامروا على السلطان، فقبض عليهم نوروز وأرسلهم، منهم أينال المنقار وعلان وجقمق واسن باي، أرسلهم صحبة سلامش فولاّه السلطان نيابة غزة، وأرسل إلى نوروز بنيابة الشام، فقبلها وشرط أن لا يدخل الشام حتى يخرج الناصر منها، فرحل الناصر من دمشق وصحبته هؤلاء الأمراء، وقبض أيضاً على سودون الحمزاوي وأقبردي وجماعة كثيرة من الأمراء الصغار عدّتهم سبعة عشر أمير واستقر بكتمر جلق في نيابة طرابلس، وكان دخول الناصر إلى القاهرة في رابع عشري ربيع الآخر، فأمر بقتل الأمراء المذكورين، فقتلوا إلا أينال المنقار وعلان فحبسا بالإسكندرية وكذلك يلبغا الناصري. وكان الناصر قد جدّ في هذه النوبة في السير إلى مصر بحيث أنه أقام في الطريق عشرة أيام فقط وطلع القلعة والأمراء بين يديه قد أركبوا خيولاّ مقيّدين من تحت آباط الخيل ووراء كل واحد وجاقي راكب بيده سكين مصوب بها إلى ناحية بطنه، وأما يشبك فإنه لما هرب ومن معه ولحق بهم شيخ وكثر جمعهم وتحققوا رحيل السلطان من دمشق وقد جعل فيها بكتمر جلق نائب الغيبة عن نوروز وأمره إذا وصل نوروز أن يتوجّه إلى نيابة طرابلس، فلما بلغهم ذلك رجعوا إلى دمشق فهجموا عليها في الثامن من ربيع الآخر، فهرب بكتمر جلق نائب طرابلس ودويدار نوروز، وكان قد قدم إلى الناصر قبل رحيله وقبض على الغرز أستادار نوروز وغيره وشرعوا في جباية الأموال والخيول بعد النداء بالأمن، ورجع الذين ودّعوا الناصر فاختفى بعضهم، وظهر بعضهم واستخرج شيخ من دار السعادة مالاً له كان مدفوناً وأجمعوا أمرهم واجتمع عليهم من يرى رأيهم، فبلغهم في حادي عشر ربيع الآخر أن بكتمر(2/382)
جلق وطائفة معه قليلة قد نزلوا ببعلبك، فخرج يشبك وجركس ومن معهما ليوقعا به، وتأخر شيخ بدمشق، فخرجوا إلى بعلبك من طريق حمص لئلاّ يفطن بهم، فصادفوا مجيء نوروز وعسكره وقد انضم إليه بكتمر جلق ومن معه فوقعت العين على العين فتحاربوا عند وادي معنه من كروم بعلبك، فكاثرهم نوروز بمن معه فقتل يشبك وجركس وفارس دوادارهم، وأرسلت رؤوسهم إلى الناصر فوصلت إليه إلى القاهرة وكان علم بذلك وصل إليه وهو بالطريق في العريش، فلما بلغ شيخ خبرهم خرج من دمشق على طريق جرود في ليلة الجمعة ثالث عشره، ودخل نوروز دمشق في رابع عشر ربيع الآخر ونودي بالأمان، ورجع بكتمر جلق نائب طرابلس إلى بلده ويشبك ابن ازدمر نائب حماة إلى بلده في العشرين منه، وفي سادس عشري ربيع الآخر حكم بعض القضاة بقتل سودون الحمزاوي قصاصاً بأمر السلطان، فقتل بين يديه، ثم شاع أنه ذبح بين يديه كثير من الأمراء المأسورين وغيرهم، وفي ثالث جمادى الأولى استقر تغري بردي أتابك العساكر بالقاهرة عوضاً عن يشبك وكمشبغا المزوق عوضاً عن جركس المصارع، وذلك في اليوم الذي قدم فيه قاصد نوروز
برؤوسهما، وفي آخر جمادى الأولى تجهز نوروز إلى الجهة الشمالية لمحاربة شيخ، ثم قيل إنه كاتبه وإنهما قصدا الاجتماع والتصافي، فاجتمعا في الطريق وانفرد كل منهما عن جماعته، واتفق مجيء دويدار السلطان ومن معه مكاتبات كثيرة، فلما سمع باتفاق الأميرين رجع إلى مصر وتوجه الأميران بعسكرهما إلى بلاد ابن بشارة فأوسعوها نهباً، وهرب ابن بشارة ثم قبض عليه نائب صفد.،(2/383)
وفي سابع رجب سجن بكتمر جلق بقلعة دمشق، ودخل الأميران دمشق في ثامن رجب بعد أن رضي شيخ بطرابلس وأخذ في التجهيز إليها، ثم خرج في ثامن عشر رجب وودّعه نوروز، واستقر معه في قضاء طرابلس تاج الدين محمّد بن القاضي شهاب الدين الحسباني، ثم فرّ بكتمر جلق في عاشر رمضان من سجن قلعة دمشق، فتوجه إلى صفد ثم إلى غزة، ثم بسط نوروز يده في المصادرات فبالغ في ذلك حتى أن بعض التجار كانوا يترحّمون على تمرلنك، وفرض على جميع الجهات جليلها وحقيرها حتى الخانات والحمّامات وأرباب المعايش حتى الذين يبيعون الخزف تحت القلعة حتى باعة السراطين حتى الباعة في الطبالي حتى انقطعت الأسباب وتعطلت المعايش، نقلت ذلك من تاريخ ابن حجي.
وفي رجب ضرب عبد الله المجادلي بين يدي نوروز ضرباً مبرحاً لكثرة شكوى الرؤساء منه أنه يؤذيهم بلسانه وسعيه، ثم شفع فيه فأرسل، وفي شعبان قبض نوروز على يشبك الموساوي، وكان السلطان أرسله إلى نيابة الكرك وكان نوروز قد أرسل إليها سودون الحاجب فمنع يشبك المذكور، فرجع إلى غزة وفيها سلامش فحاربه فأسر يشبك، وقعت فرسه في طين فوقع، فأرسله إلى نوروز فسجنه بدمشق في أول رمضان.
وفيه كان السيل العظيم بطرابلس، قيل إنهم ما رأوا مثله، فهدم أبنية كثيرة وهلك بسببه خلق كثير.
وفي رمضان هرب بكتمر جلق من القلعة فتوجه إلى نابلس، فبلغ ذلك نوروز فخرج إليه ففر إلى غزة، ثم وصل يشبك بن أزدمر من حماة، فبلغه وهو في حمص أن تمربغا المشطوب نائب حلب قصد النزول على التركمان فبيتوه وكسروه ورجع منهزماً، فردّ(2/384)
يشبك جماعته إلى حماة لحفظ البلد وأقام هو بدمشق في ناس قليل وأرسل إلى نوروز يعلمه بذلك، فقدم نوروز دمشق ورجع يشبك إلى حماة، ودار نوروز في الرملة وقاقون والغور أكثر من شهر، ثم رجع وكان قد نهب للعرب إبلاً كثيرة، فلما تحققوا أنه دخل دمشق كبسوا عليها فاستنقذوها وبلغه ذلك فخرج إليهم فلم يظفر بهم، ثم قبض على نقيب الأشراف علاء الدين كاتب السر ونسبه إلى مكاتبة المصريين، ثم بذل الشريف مالاً وأطلق، ثم عزل ابن القطب من قضاء الحنفية بدمشق وولي ابن القضامي قاضي حماة وكان هرب من نائبها فسعى فولى والواقع في نفس الأمر أن القضاء باسم صدر الدين بن الأدمي من الناصر، وفي رمضان صرف الباعوني من خطابة القدس واستقر شهاب الدين بن حجي في الخطابة بجامع دمشق، وفي شعبان كاتب شيخ الناصر يسأله أن يوليه نيابة الشام بشرط أن يكفيه جميع أعدائه ويقبض عليهم فأجابه إلى ذلك، وكان بمصر يومئذ صدر الدين بن الأدمي وقد هرب منذ هرب شيخ ويشبك خوفاً من نوروز فأقام بالقاهرة، فولاّه الناصر قضاء الحنفية بدمشق وولى نجم الدين ابن حجي قضاء الشافعية بها، وأرسلهما إلى شيخ وهو بطرابلس ليعلماه برضى السلطان عنه وتفويض نيابة دمشق إليه، وحضرا حلف السلطان والأمراء له، وخرجا من القاهرة في أول شوال ومعهما الطنبغا شلاق الحاجب والطنبغا شقل ومعهما تقليد بكتمر جلق بنيابة طرابلس ويشبك ابن أزدمر بنيابة حماة، فوصلوا إلى شيخ في البحر في شهر ذي الحجة وهو على المرقب، وكانوا توجهوا في النيل إلى دمياط ثم إلى عكّا ثم إلى صفد ثم إلى طرابلس في البحر الملح، وتلقاهم شيخ وقبل الرسالة ولم يلبس خلعة النيابة، وأرسل قاصده إلى نوروز يخبره بذلك، وكان نوروز قد بلغه الخبر فأرسل فأصدا يستكشف ذلك فأرسل إليه شيخ(2/385)
الخلعة والتقليد وابن الأدمي القاضي الحنفي وجماعة من الأمراء، فوصلوا إلى نوروز وأعلموه بعدم قبول شيخ النيابة وأحضروا إليه التقليد والخلعة، فرضي بذلك وأمر بتزيين البلد، وكان قد نادى في العسكر بالتجهيز ففترت همته بذلك، وكان نجم الدين بن حجي قد تغيب فلم يصل صحبة المذكورين.
وفي ذي القعدة قدم نائب حلب تمربغا المشطوب إلى دمشق لتأكيد الاتفاق بينه وبين نوروز، وكان بلغ نوروز عنه أنه مالأ عليه فقدم ليظهر لنوروز كذب ما نقل عنه، فأقام أسبوعاً ورجع، وفي أوائل ذي الحجة حاصر شاهين دويدار شيخ صهيون، فغلب عليها وأرسل إلى دمشق بذلك، فضربت البشائر.
وفي هذه السنة استقر أرغون شاه النوروزي في الأستادارية بدمشق، ولم يزل تنتقل به الأحوال حتى ولي الوزارة بالقاهرة في الدولة المؤيدية ثم ولي الأستادارية بالقاهرة في الدولة الصالحية.
وفي سادس جمادى الأولى توجه السلطان بثياب جلوسه إلى بيت قراقجا وكان مريضاً فعاده، ثم توجه إلى بيت الأستادار فقدم له طوالة خيل، ثم توجه إلى تربة والدته بين القصرين في مدرسة والده فزارها وأنعم على أهل المدرسة ببلد أنبوبة، ليزداد خراجها في معاليمهم وفرحوا بذلك واستمر بقية عمره، ثم توجه إلى بيت رأس نوبة الكبير وهو بالقرب من الجامع الأزهر فدخل إليه، ثم توجه إلى بيت الحاجب الكبير كزل وهو بالقرب من باب البرقية فدخل إليه، ثم صعد القلعة، وكان عهد الناس بعد بعداً شديداً من سلطان يفعل مثل هذا التبذل ولم يعرف ذلك وقع لملك من ملوك مصر قبله، وقد تبعه على ذلك من جاء بعده.
وفيها قتل دريب بن أحمد بن عيسى الحرامي أمير حلى المدينة التي بين مكة واليمن(2/386)
على ساحل البحر في حرب بينه وبين كنانة وهم العرب النازلون بها، واستقل أخوه موسى بالإمرة وكان شريك أخيه دريب فيها لكن لا كلام له معه، فلما قتل موسى انفرد موسى بالإمرة، فلما أن غلبت كنانة ثار حسن بن عجلان عليه فانتزع منه البلد فلجأ موسى إلى الناصر صاحب اليمن، فسأل ابن عجلان أن يكف عنه فترك له بلده، فاستمر بها إلى أن مات كما سيأتي في سنة ثمان عشرة.
وفي أواخر ربيع الآخر أحضر زين الدين عبد المعطي الكوم الريشي إلى منزل جمال الدين الأستادار فضربه بحضرة القضاة الأربعة سبعمائة عصى وسجنه، وحصل له من الناس مجيئه وتوجهه إلى الحبس صفع عظيم، وكان السبب في ذلك أنه كان يتردد إلى أقباي الحاجب فأقامه في عمارة له برأس البندقانيين وأقباي يومئذ نائب الغيبة وكان المذكور ينوب عن الحنفي في الحكم وعنده رسل فيأمرهم بصفع من يريد ممن يتحاكم إليه فتحاماه الناس، فصار يرسل لمن يريد إهانته من بياض الناس فيصفع بحضرته، وشاع عنه انه رفع له شاب نحو العشرين سنة وأدعى عليه أنه أكره صغيراً مراهقاً حتى فسق به فأمر في الحال من بحضرته من الفعلة الذين في العمارة أن يفسقوا به قصاصاً بزعمه، فعظمت الشناعة عليه بذلك، فأرسل الأمير أحمد ابن أخت الأستادار وهو يومئذ ينوب عن خاله إليه فهرب واحتمى بأقباي، فعلم أقباي بصورة الحال فأرسله إلى نائب الأستادار فضربه، واجتمع عليه من تقدم له منه أذى من العوام فكادوا يقتلونه، وبالغوا في إهانته وصفعه ثم خلص وعاد إلى ما كان عليه، فلما قدم العسكر شكى ولد القاضي الحنفي له ما جرى وكان هو يبالغ في الإساءة لولد الحنفي ويزدري بجميع النواب، فتمالئوا عليه وأنهوا إلى الأستادار قضيته فضربه كما تقدم وسجنه، ثم بلغ خبره السلطان فأمر بإحضاره فضربه بالمقارع، وأقام في الحبس مدة طويلة، ثم خلص بعهد ذلك بمدة وتناسى الناس الخبر، وأظهر هو الرجوع عن تلك(2/387)
الطريقة فعاد إلى نيابة الحكم عن قضاة الحنفية وبلغ من أمره في سلطنة الأشرف أن القاضي زين الدين التفهني امتنع من استنابته فأرسل إليه ناظر الجيش وكاتب السر برهان الدين الشريف برسالة عن السلطان بأمر القاضي باستنابته، وصار يحضر مجلس السلطان أحياناً فيسخر منه، وحضر المولد النبوي، واستمر على طريقته ومجونه إلى أن مات في أواخر سنة ثلاث وثلاثين مقهوراً بسبب أنه كان له صرّة ذهب خشي عليها من السراق فأودعها عند بعض القضاة، ثم احتاج إلى شيء منها فادّعى أنها سرقت من منزله وحلف له على ذلك، فما استطاع أن ينازعه في ذلك لشدّة سطوة القاضي المذكور وبادرته فكمد فمات.
وفيها أرسل ملك الهند ببنجالة واسمه أحمد خان بن مير خان ابن ظفر خان وكان أبوه كافراً فأسلم هو وقيل حده وأحرق عم أبيه واسمه لاك فأرسل إلى مكة خيمة حمراء كبيرة جدا ليظل بها الطائفين حول البيت، فنصب بعضها وأخر أكثرها متوقفاً على إذن صاحب مصر، ثم تنوسيت وتملكها صاحب مكة لنفسه.
وفيها بنيت المدرسة البنجالية بالجانب اليماني مما يلي صنعاء وصرف عليها ألوف دنانير ورتب بها مدرسين وطلبة وغير ذلك، وأهدى ملك بنجالة لأهل مكة شاشات كثيرة جدا حتى قيل إن الذي خص صاحب مكة وحده ألف شاش.
وفيها بدأ جمال الدين الأستادار في إنشاء مدرسته برحبة باب العيد وذلك في خامس جمادى الأولى.
وفيها بعد قتل جكم جمع خليل بن قراجا بن علي بن دلغادر التركماني الذي يقال له علي بك جمعاً من التركمان وقصد حلب لإخراج من فيها من اتباع جكم وكان جكم قد حبس ولده بالقلعة، فلما وصل إلى مرج دابق أرسلوا إليه ولده، فتوجه إلى أن نزل بالميدان الأخضر شمالي البلد، وخرج أهل البلد لقتاله فكسرهم، وذلك في سادس عشر(2/388)
المحرم، واستمر يحاصرهم ونهب القرى وأفسد فساداً عظيماًن ثم انتقل عن الجهة الشمالية إلى الجهة القبلية وجدَّ في الحصار، واتفق أن نوروز هرب لما وصل الناصر - كما سيأتي ذكره - فوصل إلى حماة، فوجد العجل ابن نعير يحاصرها وأهلها في شدة، فلما وافى نوروز أوقع بالعجل فانهزم، ثم استمر نوروز طالباً حلب، فهرب منه علي بك بن دلغادر وحصل الفرج لأهل حماة من حصار العرب ولأهل حلب من حصار التركمان وذكر القاضي علاء الدين ابن خطيب الناصرية في تاريخه أن بعض أهل حلب رأى شيخنا سراج الدين البلقيني في المنام فقال له: قل لبرهان الدين المحدث يقرأ عمدة الأحكام ليفرّج الله عن أهل حلب، فقصّها على البرهان فاجتمع جمع فقرأها البرهان ودعوا، فاتفق أنهم في آخر النهار كسروا فرقة حاصرتهم في حلب، وبعد يومين رحلوا بأسرهم عن حلب، وحصل الفرج ولله الحمد، وذلك في ثاني عشر صفر.
ذكر من مات
في سنة عشر وثمانمائة من الأعيان
أحمد بن محمّد بن أبي العباس الحفصي ابن أخي السلطان أبي فارس صاحب بجاية، مات في هذه السنة فقرر السلطان بدله أخاه الريّان محمّداً.
إسماعيل بن عمر المغربي المالكي نزيل مكة، جاور بها مدة، وكان خيراً فاضلاً عارفاً بالفقه يذكر له كرامات، مات في شهر رمضان.
أبو بكر بن أحمد بن عبد الرحمن المدني فخر الدين المعروف بالشامي كان خيراً ديناً، اشتغل كثيراً وتيقّظ، وسمع من بعض أصحاب الفخر، وناب في الحكم، وكان كثير التوجّه إلى الشام ومصر، مات في المحرم عن ستين سنة، وقد أسرع إليه الشيب جدّاً.(2/389)
أبو بكر بن محمّد الصرخدي تقي الدين بن تطماج الدمشقي ولد بعد الستين بقليل، وسمع من بعض أصحاب الفخر، وجوّد الخط على الزيلعي وعلم الناس الخط المنسوب، واشتغل في الفقه والنحو، وعمل نقابة الحكم، أصبح مقتولاً في آخر جمادى الأولى بدمشق بمنزل سكنه ولم يعرف قاتله.
بهادر بن عبد الله الأرمني مولى ابن سند سمع معه من جماعة منهم أبو العباس المرداوي وحدث ومات في شوال، سمعت منه بدمشق كتاب الصفات للدار قطني بسماعه من ابن القيّم.
جركس المصارع كان من خواص الظاهر وتقدم بعده وقد ذكر في الحوادث. وكان شهماً شجاعاً فاتكاً من زمرة يشبك، وقد ولي نيابة حلب للناصر في سنة تسع وثمانمائة ولم يقم بها إلا مدة إقامة الناصر بها ورجع معه خوفاً من جكم، وهو أخو الأمير جقمق الذي ولي أتابكية العساكر بعد ذلك ثم تسلطن.
سيف بن عيسى السيرامي سيف الدين نزيل القاهرة، وكان منشأه بتبريز، ثم قدم حلب لما طرقها تمرلنك، ثم استدعاه الظاهر من حلب فقرره في المشيخة بمدرسته عوضاً عن علاء الدين السيرامي سنة تسعين ثم ولاّه الظاهر مشيخة الشيخونية بعد وفاة عز الدين الرازي مضافة إلى الظاهرية وأذن له أن يستنيب عنه في الظاهرية ولده الكبير واسمه محمود فباشر مدة ثم ترك الشيخونية واقتصر على الظاهرية وكان ديناً خيِّراً كثير العبادة، وكان شيخنا عز الدين ابن جماعة يثني على(2/390)
فضائله، مات في ربيع الأول وولي المشيخة بعده ولده يحيى أبقاه الله تعالى وسمّاه الشيخ تقي الدين المقريزي يوسف وترجم له في الياء آخر الحروف وقال علاء الدين في تاريخ حلب: قيل اسمه يوسف.
عبد الله بن أحمد بن علي بن محمّد بن قاسم أبو المعالي ابن المحدِّث شهاب الدين العرياني الشافعي ولد سنة اثنتين وسبعمائة، وأحضره أبوه على الميدومي وأسمعه على القلانسي والعرضي وغيرهما ثم طلب بنفسه فسمع الكثير وحصل الأجزاء ثم ناب في الحكم وفتر عن الاشتغال وكان يقرأ الحديث بالقلعة ولم يكن يتصاون مات في عاشر رمضان.
عبد الله بن أبي بكر بن يحيى الروقري اليماني الشافعي أحد الفضلاء من أهل تعز، أفتى ودرّس بالمظفّريّة، وكان مشكور السيرة.
عبد الله بن محمّد الهمداني الحنفي مدرّس الجوهرية بدمشق، كان يدري القراآت ويقرئ، وكان خيراً عارفاً بمذهبه، مات في جمادى الأولى وقد بلغ السبعين.
عبد الرزاق بن عبد الله المجاور بالجامع الأموي كان أحد المعتقدين وله اتباع وللناس فيه اعتقاد توجه في سنة عشر إلى القاهرة فمات بها في ذي القعدة.
عبد العزيز بن عبد الجليل بن عبد الله النمراوي الفقيه الشافعي عز الدين مات في تاسع ذي القعدة.
محمّد بن أحمد بن سليمان بن يعقوب بن علي بن سلامة بن عساكر بن حسين(2/391)
بن قاسم بن محمّد بن جعفر الأنصاري البيساني الأصل ثم الدمشقي أبو المعالي جلال الدين ابن خطيب داريّا ولد سنة خمس وأربعين، وعني بالأدب ومهر في اللغة وفنون الأدب وشهد في القيمة، وقال الشعر في صباه ومدح الأشرف شعبان لما فتح مدرسته بقصيدة قرأها عليه الشيخ بمدرسته ومدح أبا البقاء وولده والبرهان ابن جماعة فمن بعدهم ثم هجا البرهان ومدح القاضي جلال الدين البلقيني بقصيدة لاميّة طويلة جداً سمعتها من لفظه وفيها: جلال الدين يمدحه الجلالي، وتقدم في الإجادة إلى أن صار شاعر عصره غير مدافع، وقد طلب الحديث بنفسه كثيراً، وسمع من القلانسي ومن بعده ولازم الشيخ مجد الدين الشيرازي صاحب اللغة وصاهره، سمعت من شعره ومن حديثه، وطارحته ومدحني وكان بعد الفتنة أقام بالقاهرة مدة في كنف ابن غراب ثم رجع إلى بيسان فسكنها، ومات في ربيع الأول ببيسان من الغور الشامي، وكان له بها وقف فسومح بخراج ذلك وأقام هناك.
محمّد بن زكريا المريني صاحب بلد الغتاب، لما مات أحمد بن محمّد ابن أبي العباس واستقر أخوه زكريا بدله قصدهم محمّد وكان مقيماً بفاس وأعانه صاحبها أبو سعيد عثمان ابن أبي العباس ابن أبي سالم وملكها فلم يزل أبو فارس يعمل عليه حتى انفضَّ عنه جمعه وقبض عليه وقتله في ذي الحجة من هذه السنة.
محمّد بن عبد الحكم ويقال له علي بن أبي علي عمر بن أبي سعيد عثمان بن عبد الحق المريني، كان أبوه صاحب سجلماسة ومات بتروجة بعد أن حجّ في سنة سبع وستين فنشأ ولده هذا تحت كنف صاحب تلمسان، ثم إن عرب المعقل نصبوه في سنة تسع وثمانين أميراً على سجلماسة وقام عاملها علي بن إبراهيم بن عبوس بأمره ثم تنافرا(2/392)
فلحق محمّد بتونس، فلما استقر أبو فارس في المملكة توجه محمّد إلى الحج فدخل القاهرة وحج ورجع فصار يتردد إلى أبي زيد بن خلدون وساءت حاله وافتقر حتى مات.
محمّد بن محمّد بن يعقوب الجعبري بدر الدين بن بدر الدين الدمشقي اشتغل بالعلم وولي بعض المدارس بدمشق وسمع من جماعة ومال إلى مذهب الظاهر وولي نظر الأسرى وغيرها بدمشق، وولي قضاء صفد، وكان مشكور السيرة، مات في شوال.
محمّد بن الشاذلي المحتسب كان عريّاً من العلم غاية في الجهل، كان خردفوشيّاً ثم صار بلاّناً، ثم صحب ابن الدماميني، ثم ترقّى إلى أن ولي حسبة مصر ثم القاهرة مراراً بالرشوة، ومات في صفر.
موسى بن عطية المالكي اللقاني الفقيه سمع من إبراهيم الزفتاوي سنن ابن ماجه قرأ عليه الكلوتاتي بعضاً، وهو والد شمس الدين محمّد صاحبنا أبقاه الله، ومات والده في هذه السنة.
وفيها مات سودون الطيّار في أواخر شوال وكان عفيفاً شجاعاً بطلاً وكان كثير التوقير للعلماء.
وفيها مات محمّد بن الأمير محمود الأستادار في بيت جمال الدين الأستادار، وذلك في ذي القعدة.(2/393)
وفيها مات شاهين قزقا، وكان من الخاصكية، فنقله الناصر شيئاً بعد شيء إلى أن صار مقدم ألف، فمات عن قرب في ذي القعدة.
وفيها مات مقبل الزمام في مستهل ذي الحجة، وهو باني المدرسة بالبندقانيين ووقف عليها أملاكه، وخلف موجوداً كثيراً.(2/394)
سنة إحدى عشرة وثمانمائة
استهلت هذه السنة ومصر في غاية الرخاء كثير جدّا، والقمح بنحو مائة درهم والشعير بنحو سبعين والذهب يومئذ بمائة وأربعين المثقال، وفي الثاني من المحرم برز نوروز إلى صفد، ثم انثنى إلى شعسع، ثم انثنى إلى بكتمر جلق ومعه محمّد وحسين وحسن بنو بشارة فاقتتلوا، فقتل بينهم جماعة وحرقت الزروع وخربت القرى وكسرهم وأقام بالرملة، وكان قد جهز الناصر عسكراً إلى سودون المحمدي بغزة ليستنقذوها منه صحبة نائبها الطنبغا العثماني ثم مضوا إلى صفد فخرجوا في النصف من المحرم وفيهم باش باي وهو يومئذ رأس نوبة الكبير والطنبغا العثماني وطوغان وسودون بقجة، وكان بكتمر جلق وجانم قد خرجا قبل ذلك من صفد إلى غزة فملكاها، ففر منها سودون المحمدي فلحق بنوروز، فرجع نوروز فقاتلهم كما تقدم، وأقام بالرملة، فبلغ ذلك العسكر المجهز من مصر وهم بالعريش وكان فيهم طوغان وباش باي وسودون بقجة فدخلوا إلى مصر في صفر، ولما تحقق نوروز رجوعهم قصد صفد ليحاصرها، فقدم عليه الخبر بحركة شيخ إلى دمشق، وكان قد جمع من التركمان والعرب والترك جمعاً وسار من حلب في ثاني عشر ربيع الأول، فرجع نوروز فسبقه إلى دمشق ثم برز إلى برزة، فقدم عليه سودون المحمدي هارباً من بكتمر جلق وكان قد خالف نوروز إلى غزة فغلب عليها وفرّ سودون منه فتراسل شيخ ونوروز في الكف عن القتال ولم ينتظم لهما أمر، وصمّم شيخ على أخذ دمشق، وباتا على أن يباكرا القتال، فأمر شيخ بوقيد النيران في معسكره واستكثر من ذلك ورحل جريدة إلى شعسع فنزلها وأصبح نوروز فعرف برحيله فتوجه إلى دمشق فدخلها في الخامس من صفر(2/395)
وفي ثانيه قدم عليه تمربغا المشطوب من حلب، وشرع نوروز في بيع الغلال التي كان أعدها بقلعة دمشق، وفي الرابع عشر منه نزل قبة يلبغا وسار إلى شعسع فلقي بها شيخ وهو يومئذٍ في نفر قليل نحو الألف وقد تفرق أصحابه فالتقيا فتقاتلا فانكسر نوروز ويقال كان معه أربعة آلاف نفس ولم يكن مع شيخ سوى ثلاثمائة نفس، وركب شيخ أقفيتهم، فدخل نوروز دمشق في الثاني عسر من صفر مجتازاً وأعقبه شيخ فدخل دمشق بغير قتال ودخل دار السعادة ونادى بالأمان، ولبس خلعة النيابة التي وافته من السلطان بعد أن سار إلى قبة يلبغا فركب من ثم وركب معه القضاة والأعيان، ومن جملتهم نجم الدين ابن حجي بقضاء الشافعية، وقبض على جماعة من النوروزية وأفرج عن جماعة من المسجونين وجهز بكتمر جلق ودمرداش لحرب نوروز فبرزا في عسكر في أواخر صفر قاصدين حلب، وكان نوروز لما انهزم استصحب معه يشبك الموساوي أسيراً فسجنه بقلعة حلب ثم اختلف نوروز وتمربغا المشطوب فصعد تمربغا القلعة وأطلق الموساوي، وكان المشطوب تلقى نوروز وأكرمه وقام له بما يليق به وأشار عليه بالطاعة للسلطان وأن يرسل بطلب الأمان، فامتنع من ذلك ورحل عن حلب إلى جهة ملطية فقدم الموساوي دمشق في أواخر صفر يريد القاهرة، ثم أطلق شيخ جماعة من المسجونين الأمراء وغيرهم وظهر جماعة ممن كان اختفى منهم وفي ربيع الآخر قبض على ناظر الجيش تاج الدين ابن رزق الله وعلى أخيه وصودرا على ستة آلاف دينار وصودر المحتسب على ألف دينار واستقر في نظر الجيش علم الدين ابن الكويز وفي ديوان شيخ صلاح الدين ابن الكويز وشهاب الدين الصفدي في كتابة السر بدمشق وشهاب الدين الباعوني في الخطابة بالجامع الأموي، وفي الأستادارية بدر الدين ابن محب الدين فبسط يده في المصادرة فأخذ من ابن المزلق خمسة آلاف(2/396)
دينار حصلها من التجار، وصالح القضاة على ألف وخمسمائة دينار، ففرضوها على المدارس، وفرض على جميع القرى ما يحتاج إليه من الشعير، وجمع شيخ العساكر وخرج إلى نوروز وكان تمربغا بحلب ومعه يشبك بن أزدمر.
وفي ربيع الآخر قدم صدر الدين ابن الأدمي إلى دمشق وبيده ولاية القضاء وكتابة السر، وكان قد قدم بذلك من العام الماضي فما مكنه من المباشرة وأهانه وتعوق بسبب ذلك في البلاد الشمالية، فلما وصل أمضى له شيخ وظيفة القضاء خاصة، ثم توجه شيخ إلى جهة حلب وأرسل عسكراً فحاصروها، فسلمها لهم تمربغا المشطوب، واجتمع عنده أحمد بن رمضان وغيره من التركمان وفر إليه جماعة من النوروزية منهم سودون المحمدي وسودون اليوسفي، فرحل في طلب نوروز فلحق أعقابه وقبض على جماعة من أصحابه وكان قرر في حلب قرقماس ابن أخي دمرداش وأرسل عسكراً في طلب نوروز، ورجع إلى دمشق فدخلها في أبهة عظيمة، ولحق العسكر بالتركمان بأنطاكية، وأوقعوا بهم واستنقذوها منهم، وقتل حسين بن صدر الباز في المعركة، وغلب أحمد بن رمضان على نوروز، فمنع عنه العسكر وقتل قطلوبغا الجاموس نائب قلعة حلب، ثم فر نوروز من أسر التركمان فاستولى على قلعة الروم، وكان يشبك بن أزدمر قد فر إلى نوروز واجتمعا بأنطاكية، ولما رجع شيخ إلى دمشق أطلق ناظر الجيش من الترسيم وكذلك الوزير المنفصل، وقرر ابن الموصلي في الحسبة وشرط عليه أن لا يأخذ من الباعة ضيافة القدوم، فكان المشاعلي ينادي بين يديه بذلك وهو لابس الخلعة.
وفي جمادى الأولى قبض الناصر على جماعة من الأمراء وذبحهم وسجن منهم بيغوت وسودون بقجة بالإسكندرية، وفي أواخره استقر أرغون الرومي أمير آخور وصرف كمشبغا المزوق، وفي أول رجب دخل شيخ دمشق راجعاً من حلب وبعث بجماعة من الأمراء فسجنهم بقلعة الصبيبة.
وفي جمادى الأولى منع الأمير جمال الدين من الحكم بين الناس وأمر بالاقتصار على ما يتعلق بالأمور السلطانية، فكان ذلك ابتداء انحطاط منزلته وهو لا يشعر.(2/397)
وفي جمادى الآخرة مات الأمير باش باي رأس نوبة الكبير وكان معه نظر الشيخونية.
وفي أواخر رجب فر المماليك الذين كانوا في السجن بدمشق لما بلغهم خلاص نوروز من أسر التركمان وتوجهوا إليه منهم تمربغا المشطوب، وركب شيخ في طلبهم فلم يلحقهم.
وفيها فر شمس الدين ابن التباني إلى الشام فقرره شيخ نائبها في نظر الجامع الأموي وغير ذلك من الوظائف وقربه وأدناه وذلك في رجب، ثم نقل الناصر عنه شيء أغضبه فهم بالقبض على أخيه شرف الدين، ففر أيضاً إلى شيخ بالشام فولاه خطابة الجامع الأموي بعد أن كان صرف عنه الباعوني وقرر فيه ناصر الدين البارزي وكان قد فر من حماة من يشبك بن أزدمر واتصل بشيخ، فاختص به ونادمه وولاه الخطابة، وقرر ابن التباني في قضاء الشام للحنفية، وفيه ألزم النائب أهل دمشق بعمارة مساكنهم والأوقاف التي داخل البلد وضرب فلوساً جدداً نودي عليها كل ثمانية وأربعين بدرهم، وفي شعبان وصل يشبك الموساوي رسولاً من الناصر إلى شيخ يطلب منه بعض الأمراء الذين كانوا خامروا عليه، فاعتذر فأعاد عنه الجواب بما سنذكره بعد.
وفي رمضان بلغ النائب أن يشبك الموساوي نقل عنه للناصر أنه ساع في العصيان عليه، فأرسل نجم الدين ابن حجي قاضي الشام بكتب ومحاضر تشهد له بأنه مستمر على الطاعة وأن يشبك كذب عليه فيما نقله عنه، فوصل ابن حجي بالكتب عنه فقبل عذره وكتب أجوبته واقترح عليه بأن يرسل من عنده من الأمراء المسجونين، وأنه إن تباطأ في إرسالهم حتى يمر شهر ثبت عليه ما نقل عنه من العصيان، فامتنع من إرسالهم وشرع الناصر في التجهيز إلى الشام بهذا السبب.
وفي هذه السنة أعيد التجديد بالقدس وبالرملة للأربع قضاة.(2/398)
وفيها قتل الناصر أينال الأجرود وتمربغا، وكانا أميرين من أخوة بيغوت، وقتل بالإسكندرية عدة أمراء منهم سودون من زاده صاحب المدرسة المتقدم ذكرها وكذلك بيغوت، وفي ذي القعدة قتل عمر بن علي بن فضل أمير آل جرم بحيلة من نائب الكرك محمّد التركماني وكان عمر قد عصى وخالف، فغدر به محمّد المذكور وأرسل برأسه إلى مصر فطيف به.
وفيها في ثالث رجب أكمل جمال الدين يوسف البيري البجاسي أستادار السلطان مدرسته بالقاهرة برحبة العيد ورتب فيها مدرسين على المذاهب الأربعة ودرس حديث، فالشافعي همام الدين الخوارزمي وهو شيخ الصوفية، والمالكي.....، والحنفي بدر الدين محمود بن الشيخ زاده، والحنبلي فتح الدين أبو الفتح ابن الباهي، ومدرس الحديث كاتبه، ومد في أول يوم سماطاً هائلاً وملأ الفسقية بالسكر المكرر واستمر حضور المدرسين في كل يوم، يحضر واحد ويخلع عليه عند فراغه، فلما كان بعد أسبوع جدد فيها درس تفسير وقرر المدرس قاضي القضاة جلال الدين البلقيني وعمل له إجلاساً في قوله تعالى: " إنما يعمر مساجد الله " واستمر بعد ذلك يدرس من هذا الموضع،(2/399)
وبعد قليل نم بعض الناس على جمال الدين بأنه عمل مدرسة وبالغوا في وصفها وما بها من الرخام والزخرفة وأنه ما اكتفى بذلك حتى شرع في أخرى بباب زويلة، فاستفسره الناصر عن ذلك ففهم من أين أتى فقال: إنما شرعت في عمل صهريج ومسجد وفيه مدرس على اسم مولانا السلطان ليختص بثواب ذلك، فأرضاه بذلك وقد لزم غلطه فصيره له حقيقة فلم يكمل جمال الدين من ذلك الوقت سنة حتى قبض عليه وأهلك كما سيأتي.
وفيها كملت مدرسة الخواجا علاء الدين الطرابلسي بسويقة صاروجا بدمشق.
وفيها نودي في شعبان بالقاهرة أن لا يركب أحد الخيل والبغال إلا الأجناد الذين في خدمة السلطان أو الأمراء خاصة، ثم سعى للقضاة فأذن لبعضهم ثم صار يؤذن بمراسيم سلطانية للواحد بعد الواحد من ديوان الإنشاء، واشتد الأمر في ذلك فصار المماليك ينزلون من رأوه راكباً فرساً إلا أن أخرج لهم المرسوم؛ ثم بطل ذلك في أواخر السنة.
وفي سادس عشر رجب صرف ناصر الدين ابن العديم من قضاء الحنفية واستقر أمين الدين الطرابلسي بعناية جمال الدين الأستادار.
وفي عاشر شعبان جاءت زلزلة عظيمة في نواحي بلاد حلب وطرابلس فخرب من اللاذقية وجبلة وبلاطيس أماكن عديدة وسقطت قلعة بلاطيس، فمات تحت الردم خمسة عشر نفساً وخربت شعر بكاس كلها وقلعتها، ومات جميع(2/400)
أهلها إلا نحو خمسين نفساً، وانشقت الأرض وانقلبت قدر بريد من القصير إلى سلقوهم، وهي بلد فوق جبل، فانتقلت عنه قدر ميل بأشجارها وأبنيتها وأهلها ليلاً ولم يشعروا بذلك، وكانت الزلزلة بقبرص، فخرب منها أماكن كثيرة، وكانت بالجبال والمناهل، وشوهد ثلج على رأس الجبل الأقرع، وقد نزل البحر وطلع وبينه وبين البحر عشرة فراسخ؛ وذكر أهل البحر أن المراكب في البحر الملح وصلت إلى الأرض لما انحسر البحر، ثم عاد الماء كما كان ولم يتضرر أحد.
وفيها ألزم القضاة أن يخففوا من نوابهم فاستقر للشافعي أربعة وللحنفي ثلاثة وللمالكي كذلك وللحنبلي اثنان، فدام ذلك قليلاً ثم بطل.
وفيها تجهز الناصر إلى دمشق فأمر قبل خروجه بقتل من بالإسكندرية وغيرها من المسجونين؛ فقتل بيبرس ابن أخت الظاهر وبيغوت وسودون المارداني في آخرين، وفي أواخر السنة قتل فخر الدين ابن غراب غيلة وكان في سجن جمال الدين الأستادار وكان يسمى ماجداً فسمي في أيام وزارته وعظمة أخيه محمّداً، وكان سيئ السيرة جداً، وكان يلثغ لثغة قبيحة، يجعل الجيم زاياً والشين المعجمة مهملة، وأخرج من السجن بيت الشهاب ابن الطبلاوي ميتاً، وقتل في السجن أيضاً ناصر الدين محمّد بن كلفت الذي ولى إمرة الإسكندرية وشد الدواوين وولاية القاهرة مرات، وفي رمضان نودي بالقاهرة أن لا يتعامل أحد بالذهب البتة ومنع من بيع الذهب المصبوغ والمطرز، وكتب جمال الدين على أهل الأسواق قسامات بذلك ولقي الناس من ذلك تعباً، ثم سعى جمال الدين في ذلك إلى أن بطل ونودي أن يكون المثقال بمائة فأخفاه أكثر الناس ولم يظهر بيد أحد من الناس فوقف الحال ثم نودي أن يكون بمائة وعشرين بعد أن كان بلغ مائة وسبعين.(2/401)
وفي ذي القعدة بعد امتناع شيخ من إرسال الأمراء المطلوبين إلى السلطان راسل نوروز في الصلح وراسل سودون الجلب بالكرك يستميله، وكان دمرداش اهتم بحرب نوروز وجمع عليه الطوائف، فانكسر نوروز عن عينتاب واستولى دمرداش ورجع إلى حلب.
وفيها نازل شيخ نائب طرابلس تمربغا المشطوب بحلب، فانحصر تمربغا بالقلعة وتوجه شيخ لجهة أنطاكية، ثم بلغه أن نوروز توجه إلى حلب فرجع من أنطاكية إلى جهة دمشق، فكانت الوقعة بالقرب من ... وفي يوم الجمعة ثاني عشري ربيع الآخر اتفق أهل التنجيم على أن الشمس تكسف قريب الزوال ويتغطى منها نحو نصف الجرم، فاتفق أن كانت ذلك اليوم بدمشق مغيمة والمطر نازلاً فلم يظهر صحة ما قالوه بمصر، فاتفق أن خطيب الجامع الأموي شهاب الدين ابن الباعوني بعد صلاة الجمعة جمع الناس وصلى بهم صلاة الكسوف؛ فأنكر الناس عليه ذلك لأنه اعتمد قول المنجمين، وعلى تقدير صحة قولهم فكانت الشمس قد انجلت، ثم إنه كبر في أول ركعة ثلاث تكبيرات سهواً، وأعجب من ذلك أن السماء كانت بالقاهرة في ذلك اليوم صاحية ولم يظهر أثر كسوف البتة.
وفيها في رجب مات باش باي رأس نوبة فقرر مكانه في وظيفته أينال الساقي وفي هذه السنة قدم الحاج في ثاني عشر المحرم وأميرهم بيسق وكان قد قبض بمكة على قرقماس أمير الركب الشامي، فتخوف أن يبلغ خبره أهل الشام فيبعث إليه من يستنقذه منه بين أيلة ومصر، فبادر وترك زيارة المدينة وأعنف الناس في السير حتى هلك جمع كثير من الناس.(2/402)
وفيها فوض الناصر إلى حسن بن عجلان سلطنة الحجاز، فاتفق موت ثابت بن نعير وقرر حسن مكانه أخاه عجلان بن نعير، فثار عليهم جماز بن هبة الدي وكان أمير المدينة وأرسل إلى الخدام بالمدينة يستدعيهم فامتنعوا، فدخل المسجد النبوي وأخذ ستارتي باب الحجرة وطلب من الخدام تسعة آلاف درهم على أن لا يتعرض للحاصل فامتنعوا، فضرب كبيرهم وكسر القفل وأخذ عشر حوايج خاناة وصندوقين كبيرين وصندوقاً صغيراً بما في ذلك من المال وخمسة آلاف شقة بطائق وصادر بعض الخدام ونزح عنها، فدخل عجلان بن نعير ومعه آل منصور فنودي بالأمان، ثم قدم عقبه أحمد بن حسن بن عجلان ومعه عسكر وصحبتهم أبو حامد بن المطري متولياً قضاء المدينة عوضاً عن الشيخ أبي بكر بن حسين وباشر في ذلك في أثناء السنة فلم تطل مدته ومات في آخرها؛ وفيها جهز الدينار الناصري على زنة الأفلوري وتعامل به الناس.
وفي شعبان صرف ابن حجي عن القضاء وأعيد ابن الإخنائي.
وفي شوال قبض على الإخنائي ونقم عليه مكاتبة نوروز فبرطل بثلاثمائة ثوب بعلبكي فأطلق، ثم قدم توقيع ابن حجي فعاد إلى القضاء وصرف الإخنائي وصرف الباعوني عن خطابة دمشق، وقرر فيها القاضي ناصر الدين البارزي.
وفي التسع منه قدم يشبك الموساوي دمشق فتلقاه شيخ وأكرمه وتوجه من عنده إلى حلب، ثم رجع في أواخر رمضان فأكرمه شيخ وأعاده إلى القاهرة، وفي نصف شعبان قرئ كتاب الناصر بدمشق بإلزام الناس بعمارة ما خرب من المدارس بدمشق، وفيه استقر ناظر الجيش بدمشق ناظراً على القدس والخليل وناظر أوقافهما، وفيه قرر شيخ الطنبغا القرمشي حاجب الحجاب بدمشق عوضاً عن برسباي بحكم تسحبه.(2/403)
وفيه في العشر الأخير من رمضان خرج شيخ إلى جامع دمشق فدخله حافياً متواضعاً وتصدق بصدقات كثيرة، وذلك في ليلة الحادي والعشرين منه، وأصبح يطلب أرباب السجون، فأدى عنهم وأطلقهم.
وفيها غلب قرا يوسف على تبريز فملكها انتزاعاً من أيدي التمرية وكانت بيده قبل ذلك.
وفيها حج بالناس من القاهرة أحمد بن الأمير جمال الدين الأستادار وغرم جمال الدين على حجة ولده هذه أربعين ألف دينار وزيادة، وفي ذي القعدة هبت رياح شديدة عاصفة بالقاهرة، وانسلخت هذه السنة والناصر على العزم على العود إلى دمشق لمحاربة شيخ وأعدائه منها.
وفيها نازل قرا يلك عثمان بن قطلوبك التركماني صاحب آمد ماردين وبها الصالح أحمد بن إسكندر بن الصالح الأرتقي آخر ملوك بني أرتق فاستنجد بقرا يوسف فأنجده ثم طلب منه أن يقايضه بالموصل عوضاً عن ماردين فتراضيا على ذلك وأعطاه عشرة آلاف دينار وألف فرس وعشرة آلاف شاة وزوجه بابنته فتحول إلى الموصل واستولى نواب قرا يوسف على ماردين وزالت منها دولة الأرتقية بعد أكثر من ثلاثمائة سنة وانتهت بذلك دولة بني أرتق من ماردين، ثم لم يلبث الصالح بالموصل سوى ثلاثة أيام ومات فجأة هو وزوجته جميعاً، فيقال إنه دس عليهم سم، وتحول أولاده محمّد وأحمد وعلي ومحمود إلى سنجار، فأقاموا بها إلى أن ماتوا سنة 14 بالطاعون.(2/404)
ذكر من مات
في سنة إحدى عشرة وثمانمائة من الأعيان
مات فيها من الأمراء أرسطاي نائب الإسكندرية وكان من كبار الأمراء الموجودين، باشر في دولة الملك الظاهر رأس نوبة كبيراً وكانت له حرمة عند المماليك، وولي الحجوبية الكبرى في دولة الناصر ومات بالإسكندرية في العشر الأوسط من ربيع الآخر وبشباي - بفتح الموحدة وسكون المعجمة بعدها موحدة أخرى خفيفة - تنقل في سلطنة الناصر حتى استقر رأس نوبة كبيراً، فمات في جمادى الآخرة بالقاهرة، وأينال الأجرود ذبح مع من أمر الناصر بذبحهم من الأمراء وكذلك أرنبغا وبيبرس ابن أخت الظاهر وسودون المارديني وبيغوت وثابت بن نعير بن منصور بن جماز بن شيحة الحسيني أمير المدينة، وليها سنة تسع وثمانين وعزل عنها بجماز، ثم وليها بعد عزل جماز، ومات في هذه السنة.(2/405)
إبراهيم بن علي الباريني الشاهد أمام مسجد الجوزة، سمع من ابن أميلة الجزء الأول من مشيخة الفخر، وكان أحد العدول بدمشق، مات في ذي الحجة وقد جاوز الخمسين.
أحمد بن عبد الله بن الحسن بن طوغان بن عبد الله الأوحدي شهاب الدين المقرئ الأديب، ولد في المحرم سنة إحدى وستين وقرأ بالسبع على التقي البغدادي، ولازم الشيخ فخر الدين البلبيسي، وسمع على ناصر الدين الطبردار وجويرية وابن الشيخة وغيرهم، وسمع معي من بعض مشايخي، وكان جده الحسن بن طوغان قدم من بلاد الشرق سنة عشر وسبعمائة فاتصل بصحبة بيبرس الأوحدي نائب القلعة وناب عنه بها فشهر بذلك، وكان شهاب الدين هذا لهجاً بالتاريخ وكتب مسودة كبيرة لخطط مصر والقاهرة، بيض بعضه وأفاد فيه فأجاد، وله نظم كثير أنشدنا منه، فمنه:
إني إذا ما نابني ... أمر نفى تلذذي
واشتد منه جزعي ... وجهت وجهي للذي
مات في تاسع عشري جمادى الأولى.
أحمد بن علي بن إسماعيل بن إبراهيم بن موسى البلبيسي الأصل المقرئ المالكي(2/406)
المعروف بابن الظريف تاج الدين، سمع من ناصر الدين التونسي وغيره، وطلب العلم فأتقن الشروط ومهر في الفرائض، وانتهى إليه التمهر في فنه مع حظ كبير من الأدب ومعرفة بحل المترجم وفك الألغاز مع الذكاء البالغ، وقد وقّع للحكام وناب في الحكم، وكان يودني كثيراً وكتب عني من نظمي، وقد نقم عليه بعض شهاداته وحكمه ثم نزل عن وظائفه بأخرة وتوجه إلى مكة، فمات بها في شهر رجب، وقد نسخ بخطه تاريخ الصفدي الكبير وتذكرته بطولها، ورأيت بخطه في سنة مجاورته شرح عروض ابن الحاجب وغير ذلك.
أحمد بن محمّد بن ناصر بن علي الكناني المكي ولد قبل الخمسين ورحل إلى الشام، فسمع من ابن قوالبح وابن أميلة بدمشق ومن بعض أصحاب ابن مزيز بحماة، وتفقه حنبلياً وكان خيراً فاضلاً، جاور بمكة فحصل له مرض أقعده فعجز عن المشي حتى مات سنة 811.
أحمد بن محمّد التلعفري ثم الدمشقي شهاب الدين كاتب المنسوب، مات بدمشق كهلاً، ويقال كان أستاذاً في ضرب القانون، حسن المحاضرة.
أحمد بن محمّد اليغموري شهاب الدين ولي الحجوبية وشد الدواوين بدمشق وكان مشهوراً بمعرفة المباشرة، رأيته عند جمال الدين الأستادار وكان يظهر محبة العلماء ويعجبه مباحثهم ويفهم جيداً، مات في جمادى الأولى.(2/407)
أبو بكر بن محمّد بن أحمد بن عبد العزيز الدمشقي البعلوي الأصل تقي الدين ابن شيخ الربوة، اشتغل في الفقه ومهر في مذهب أبي حنيفة ودرس بالمقدمية وأفتى، وكان قد اشتغل على الشيخ صدر الدين ابن منصور وغيره مات في ربيع الأول عن ستين سنة ويقال إنه تغير حاله في الحكم والفتوى بعد فتنة اللنك.
أبو بكر بن محمّد بن صالح الجبلي - بكسر الجيم بعدها موحدة ساكنة - ابن الخياط الشافعي اليمني تفقه بجماعة من أئمة بلده ومهر في الفقه ودرس بالأشرفية وغيرها من مدارس تعز وتخرج به جماعة وكان يقرر من الرافعي وغيره بلفظ الأصل وكان مشاركاً في غير الفقه وله أجوبة كثيرة عن مسائل شتى وولي القضاء مكرهاً مدة يسيرة ثم استعفى، مات في شهر رمضان رأيته بتعز.
أبو بكر بن محمّد السجزي أحد النبهاء من الشافعية مات في جمادى الآخرة الجنيد بن أحمد ... البلباني الأصل نزيل شيراز سمع من أبيه بمكة من ابن عبد المعطي والشهاب ابن ظهيرة وأبي الفضل النويري وجماعة، وبالمدينة وبلاده وأجاز له القاضي عز الدين ابن جماعة ومن دمشق عمر بن أميلة وحسن ابن هبل والصلاح ابن أبي عمر في آخرين خرج له عنهم الشيخ شمس الدين الجزري مشيخة وحدث بها ومات في هذه السنة بعد أن صار عالم شيراز ومحدثها وفاضلها أفادنا(2/408)
عنه ولده الشيخ نور الدين محمّد لما قدم رسولاً عن ملك الشرق بكسوة الكعبة في سنة ثمان وأربعين.
سليمان بن عبد الناصر بن إبراهيم الأبشيطي الشافعي الشيخ صدر الدين ولد قبل الثلاثين واشتغل قديماً وبرع في الفقه وغيره وكتب الخط الحسن وجمع ودرس وأفاد وأفتى وسمع من الميدومي وغيره وناب في الحكم بالقاهرة وغيرها وكانت فيه سلامة وكان صدر الدين المناوي يعظمه وعجز بأخرة وانهرم وتغير قليلاً مع استحضاره للعلم جيداً جاوز الثمانين.
شعيب بن عبد الله أحد من كان يعتقد بالقاهرة من المجذوبين كان يسكن حارة الروم، مات في رجب.
ضياء الدين ضياء بن عماد الدين التبريزي، كان ديناً فاضلاً محباً في الحديث، كثير النفور عن الاشتغال بالعقليات ملازماً لقراءة الحديث وسماعه وإسماعه مع نزول إسناده ملازماً للخير، مات في هذه السنة، أخبرني بذلك الشيخ عبد الرحمن التبريزي صاحبنا، وهو ترجمه لي.
عبد الرحمن بن يوسف ابن الكفري الحنفي تقدم في سنة تسع وثمانمائة.
علي بن أحمد بن عماد الدمياطي العلاف المعروف بابن العطار كان يجيد نظم المواليا ويحفظ منها شيئاً كثيراً، كتب عنه الشيخ تقي الدين المقريزي وقال لقيته شيخاً مسناً.
قلت لكل المنى عقد الجفا حلى ... وسكر الوصل في دست الوفا حلى
قالت جمالي بأنواع البها حلى ... والغير قد حاز حسني وأنت في حلى(2/409)
علي بن موسى بن أبي بكر بن محمّد الشيبي من بني شيبة حجبة الكعبة وكان محمّد والد جده دخل اليمن فوصل إلى حرض فخرج إلى الحارث ساحل مور وهو واد عظيم به عدة قرى منها الحسانية قرية أبي حسان بن محمّد الأشعري وكان ممن يعتقد فاتفق أن طائفتين من قومه وقعت بينهم فتنة فقتل بينهم قتيل فاستوهب دمه فقالوا له بشرط أن تسكن معنا فأسس لهم مكان قرية فسكنوه وهو معهم فنسب إليه وكانت له أخت فزوجها بمحمد والد أبي بكر لأنه تفرس فيه الخير فأقام عندهم فلما حملت توجه لمكة وعهد لامرأته إن ولدت ذكراً أن تسميه أبا بكر ففعلت فمات الشيخ أبو حسان فخلفه في زاويته ولد أخيه أبو بكر المذكور وكان لأبي حسان اتساع من الدنيا وكانت النذور تصل إليه من عدة بلاد فظهرت لأبي بكر كرامات وخلفه في زاويته ولده علي كان كثير العبادة والتجريد ويقال إنه قعد مدة لا يأكل في الأسبوع غير مرة ولم يتعلق بشيء من أمور الدنيا وخلفه في مكانه ولده إسحاق بن علي وكان على طريقته إلى أن مات، فخلفه أخوه موسى وكان عابداً صاحب مكاشفات وكرامات وكان ذكياً مذاكراً، فلما مات قدم ولده موسى ابن علي بن أبي بكر، فاشتهر بالصلاح والذكاء والسخاء وحسن الخلق وكثرة الخير وطول الصمت، وكان يدمن على سماع الحديث والتفسير على الفقيه أحمد العلقي، وكان نزل فيهم وتزوج الفقيه علي بن موسى أخته، وكان الشيخ علي يذاكر بكثير من الحديث والتاريخ والسيرة مع المحافظة على الوضوء وصلاة الجماعة، وكان موسعاً عليه في الدنيا ويلبس أحسن الثياب، وله ولد اسمه عبد الله نصب بعده بالزاوية، وكان كثير التلاوة، ومات في سنة إحدى وثلاثين وثمانمائة، وسيأتي ذكر قريبه محمّد بن أحمد بن حسين بن أبي بكر الشيبي فيمن مات(2/410)
سنة تسع وثلاثين وثمانمائة، نقلت ذلك من ذيل تاريخ اليمن للجندي بذيل الشيخ حسين بن الأهدل.
عمر بن إبراهيم بن محمّد بن عمر بن عبد العزيز بن محمّد بن أحمد بن هبة الله بن أحمد بن هبة الله بن أحمد بن يحيى بن زهير بن هارون بن موسى بن عيسى بن عبد الله بن أبي جرادة محمّد بن عامر العقيلي القاضي كمال الدين أبو القاسم الحلبي ثم المصري المعروف بابن العديم، ولد سنة أربع وخمسين واشتغل ببلده، وناب في الحكم ثم استقل به في سنة أربع وتسعين عوضاً عن ابن الجاولي، فباشره بحرمة وافرة وحصل أملاكاً وثروة كبيرة، وكان وجيهاً عند الكبار وله حرمة وافرة، وأصيب في اللنكية ثم دخل القاهرة في آخر السنة، وقدم القاهرة غير مرة وفي الآخر استوطنها لما طرق الططر البلاد الشامية، فأسر مع من أسر ثم تخلص بعد رجوع اللنك فقدم القاهرة في شوال، وحضر مجلس القاضي أمين الدين الطرابلسي قاضي الحنفية، ثم سعى وولي القضاء بها في سادس عشري شهر رجب سنة خمس وثمانمائة، ثم درس بالشيخونية انتزعها من الشيخ زاده بحكم اختلال عقله لمرض أصابه، وكان له ولد نجيب غاية في الذكاء حسن الخلة قد ناب عن والده مدة فما قدر على مقاومته، وعاشر الأمراء وأهل الدولة وكبر جاهه وعظم ماله وكان لا يتحاشى من جمع المال من أي وجه كان، وقد سمع من ابن حبيب وأبيه، وكان من رجال الدنيا دهاءً ومكراً ماهراً في الحكم ذكياً خبيراً بالسعي في أموره يقظاً غير متوان في حاجته كثير العصبية لمن يقصده مات قبل رجب بنحو عشرين يوماً بعد أن نزل لولده محمّد وهو شاب عن تدريس الشيخونية وقبلها المنصورية وباشرهما في حياته، وأوصاه أن لا يفتر عن السعي في القضاء فامتثل أمره واستقر بعده، وكان الكمال كثير المروءة متواضعاً بشوشاً كثير الجرأة والإقدام والمبادرة في القيام في حظ نفسه، محباً في جمع المال بكل طريق عفا الله عنه.(2/411)
قال القاضي علاء الدين في تاريخه: استقل بالقضاء سنة أربع وتسعين وسبعمائة عوضاً عن جمال الدين ابن الحافظ فباشره بحرمة وافرة وكان رئيساً له مروءة وعصبية عارفاً بأمور الدنيا ومعاشرة الأكابر ومخالطة أهل الدولة.
عيسى بن موسى بن صبح الرمثاوي الشافعي أحد العدول بدمشق، مات في أول عشر السبعين.
قاسم بن علي بن محمّد بن علي الفاسي أبو القاسم المالكي سمع من أبي جعفر الطحاوي الخطيب والقاضي أبي القاسم ابن سلمون وأبي الحسين محمّد بن أحمد التلمساني في آخرين يجمعهم برنامجه، وتلا بالسبع على جماعة، وقرأ الأدب وتعانى النظم، جاوز بمكة فخرج له صاحبنا غرس الدين خليل الأقفهسي مشيخة وحدث بها، وكان يذكر أنها سرقت منه بعد رجوعه من الحج ويكثر التأسف عليها، لقيته بالقاهرة، وأنشدني لنفسه إجازة:
معاني عياض اطلعت فجر فخره ... لما قد شفي من مؤلم الجهل بالشفا
مغاني رياض من إفادة ذكره ... شذا زهرها يحيي من أشفى على شفا
مات بالمارستان المنصوري، وكان قد مدح جمال الدين الأستادار وأثابه.
محمّد بن إبراهيم بن بركة العبدلي شمس الدين المزين الشاعر المشهور الدمشقي ولد سنة إحدى وثلاثين وسبعمائة ومهر في نظم الشعر خصوصاً المقاطيع من عدم معرفته بالعربية رأيته بدمشق وأنشدني كثيراً من مقاطيعه المجيدة وكان يذكر انه أخذ عن ابن الوردي والصفدي وبينه وبين الشيخ أبي بكر المنجم أهاجي وكان وصوله إلى(2/412)
حلب في صفر ثم دخل دمشق واتفق أن التمرية أسروه فاستصحبوه في سنة ثلاث وثمانمائة إلى سمرقند فأقام بها مدة ثم خلص منهم وسافر في هذه السنة فقدم إلى دمشق فاستعاد وظائفه ولكن لم يعش إلا يسيراً بعد أن قدم بدون شهر وكان يذكر أنه رأى النبي صلّى الله عليه وسلّم في المنام فبشره أنه يتخلص من الأسر ويعود إلى دمشق فكان كذلك وعمل مائة مليح عارض بها الصلاح الصفدي وابن الوردي وسماها شين العرض بالملاح بعد الزين والصلاح، ومن شعره في مليح شافعي:
للشافعي عذار ... يقول قولاً زكيا
لا خير في شافعي ... إن لم يكن أشعريا
مات في جمادى الآخرة.
محمّد بن إبراهيم بن عبد الله الكردي الشيخ شمس الدين المقدسي نزيل القاهرة ولد سنة سبع وأربعين وسبعمائة وصحب الصالحين ثم لازم الشيخ محمّد القرمي ببيت المقدس وتلمذ له ثم قدم القاهرة فقطنها وكان لا يضع جنبه بالأرض بل يصلي في الليل ويتلو، فإن نعس أغفى إغفاءة وهو محتب ثم يعود، ومن شعره:
لم يزل الطامع في ذلة ... قد شبهت عندي بذل الكلاب
وليس يمتاز عليهم سوى ... بوجهه الكالح ثم الثياب
وكان يواصل الأسبوع كاملاً، وذكر أن السبب فيه أنه تعشى مع أبويه قديماً فأصبح لا يشتهي أكلاً، فتمادى على ذلك ثلاثة أيام، فلما رأى أن له قدرة على الطي تمادى(2/413)
فيه فبلغ أربعاً، ثم انتهى إلى سبع، وكان يعرف الفقه على المذهب الشافعي وكان يكثر من قوله في الليل:
قوموا إلى الدار من ليلى نحييها ... نعم ونسألها عن بعض أهليها
ويقول أيضاً: " سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا " وكان يذكر أنه يقيم أربعة أيام لا يحتاج إلى تجديد وضوء مات بمكة في ذي القعدة.
محمّد بن أحمد بن عبد الله القزويني ثم المصري الشيخ شمس الدين سمع من مظفر الدين ابن العطار وغيره وكان على طريقة الشيخ يوسف الكوراني المعروف بالعجمي لكنه حسن المعتقد كثير الإنكار على مبتدعة الصوفية اجتمعت به مراراً وسمعت منه بخليص أحاديث وكان كثير الحج والمجاورة بالحرمين، مات في شعبان بمكة.
محمّد بن حسين بن الأمين محمّد بن القطب محمّد بن أحمد بن علي القسطلاني أبو الحسن زين الدين المكي سمع من عثمان بن الصفي وغيره ومات في ربيع الآخر عن نحو سبعين سنة فإن مولده سنة 43.
محمّد بن عبد الرحمن بن محمّد بن أحمد بن خلف الخزرجي المدني، أبو حامد رضي الدين ابن تقي الدين ابن المطري، ولد سنة ست وأربعين وسبعمائة، وسمع من العز ابن جماعة وأجاز له يوسف الدلاصي، والميدومي، وغيرهما من مصر، وابن الخباز، وجماعة من دمشق. وكان نبيهاً في الفقه وله حظ من حسن خط ونظم ودين، وكان مؤذن الحرم النبوي وبيده نظر مكة، ثم نازع صهره شيخنا زين الدين ابن الحسين في قضاء المدينة، فوليه في سنة إحدى عشرة، فوصلت إليه الولاية وهو بالطائف فرجع إلى مكة، وسار إلى المدينة فباشره بقية السنة، وحج فمرض، فمات عقب الحج في سادس عشر ذي الحجة عن إحدى وستين سنة.(2/414)
محمّد بن علي بن محمّد بن محمود بن يحيى بن علي بن عبد الله بن منصور السلمي شمس الدين الدمشقي المعروف بابن خطيب زرع، كان جد والده خطيب زرع فاستمرت بأيديهم وولد هذا في ذي الحجة سنة أربع وسبعين، وكان حنفياً فتحول شافعياً وناب في قضاء بلده، ثم تعلق على فن الأدب ونظم الشعر، وباشر التوقيع عند الأمراء، ثم اتصل بابن غراب ومدحه وقدم معه إلى القاهرة، وكان عريض الدعوى جداً واستخدمه ابن غراب في ديوان الإنشاء، وصحب بعض الأمراء وحصل وظائف ثم رقت حاله بعد موت ابن غراب إلى أن مات في ذي القعدة وهو القائل:
وأشقر في وجهه غرة ... كأنما في نورها فجر
بل زهرة الأفق لأني أرى ... من فوقها قد طلع البدر
وله فيما اقترح عليه فيما يقرأ مدحاً فإذا صحف كان هجواً:
التاج بالحق فوق الرأس يرفعه ... إذا كان فرداً حوى وصفا مجالسه
فضلاً وبذلاً وصنعاً فاخراً وسخا ... فاسأل الله يبقيه ويحرسه
مات في ذي القعدة.
محمّد بن محمّد بن عبد القادر بن محمّد بن عبد الرحمن بن يوسف البعلبكي ثم الدمشقي المعروف بابن الفخر، كان خيراً في عدول دمشق، مات في شعبان.(2/415)
محمّد بن محمّد بن علي بن منصور الحنفي بدر الدين ابن قاضي القضاة صدر الدين، ولد سنة ست وخمسين تقريباً وولي قضاء العسكر في حياة أبيه وتدريس الركنية، وخطب بجامع منكلى بغا، وكان قليل البضاعة وكانت له دنيا ذهبت في الفتنة، مات في رمضان.
محمّد بن محمّد بن محمّد بن عبد الله بن محمّد بن فهد الهاشمي نجم الدين، سمع من العز ابن جماعة وابن عبد المعطي وغيرهما وحدث، وأقام بأصفور وصعيد مصر مدة، ثم رجع ومات بمكة في ربيع الأول وقد جاوز الخمسين، وهو والد صاحبنا تقي الدين ومات أبوه كمال الدين في سنة سبعين.
محمّد بن محمّد بن محمّد بن عبد البر بن يحيى بن علي بن تمام السبكي جلال الدين ابن بدر الدين بن أبي البقاء الشافعي المصري، ولد قبل سنة سبعين، واشتغل في صباه قليلاً، وكان جميل الصورة لكنه صار قبيح السيرة كثير المجاهرة بما أزرى بأبيه في حياته وبعد موته بل لولا وجوده لما ذمّ أبوه، وقد ولي تدريس الشافعي بعد أبيه بجاه ابن غراب بعد أن بذل في ذلك داراً تساوي ألف دينار، وولي تدريس الشيخونية بعد صدر الدين المناوي بعد أن بذل لنوروز مالاً جزيلاً وكان ناظرها، مات في جمادى الأولى.(2/416)
محمّد بن موسى بن محمّد بن محمود بدر الدين ابن شرف الدين ابن شمس الدين بن الشهاب الحلبي الأصل ثم الدمشقي، ولد سنة سبعين تقريباً، وولي وكالة بيت المال ثم كتابة السر بدمشق يسيراً ثم نظر الجيش، وكان كثير التخليط والهجوم على المعضلات مع كرم النفس ورقّة الدين، مات في صفر خنقاً بأمر جمال الدين الأستادار.
يلبغا بن عبد الله السالمي الظاهري، كان من مماليك الظاهر، ثم تمهر وصيره خاصكيّاً. وكان ممن قام له بعد القبض عليه في أخذ صفد فحمد له ذلك، ثم ولاّه النظر على خانقاه سعيد السعداء سنة سبع وتسعين ووعده بالإمرة ولم يعجلها له، فلما كان في صفر سنة ثمانمائة أعطاه إمرة عشرة وقرره في نظر الشيخونية في شعبان، وكان يترقب أن يعمل نيابة السلطنة فلم يتم ذلك، ثم جعله الظاهر أحد الأوصياء فقام بتحليف مماليك السلطان لولده الناصر وتنقلت به الأحوال بعد ذلك فعمل الأستادارية الكبرى والإشارة وغير ذلك على ما تقدم ذكره مفصلاً في الحوادث، ثم في الآخر ثار الشر بينه وبين جمال الدين فعمل عليه حتى سجنه بالإسكندرية، وكان طول عمره يلازم الاشتغال بالعلم ولم يفتح عليه بشيء منه سوى أنه يصوم يوماً بعد يوم ويكثر التلاوة وقيام الليل والذكر والصدقة، وكان لجوجاً مصمماً على الأمر الذي يريده ولو كان فيه هلاكه ويستبد برأيه غالباً، وكان سريع الانفعال مع ذلك وكان يحب العلماء والفضلاء ويجمعهم، وقد لازم سماع الحديث معنا مدة وكتب بخطه الطباق، وأقدم علاء الدين ابن أبي المجد من دمشق حتى سمع الناس عليه صحيح البخاري مراراً، وكان يبالغ في حب ابن عربي وغيره من أهل طريقته ولا يؤذي من ينكر عليه، مات مخنوقاً وهو صائم في رمضان بعد صلاة عصر يوم الجمعة، وما عاش جمال الدين بعده إلا دون عشرة أشهر، ومن محاسنه في مباشراته أنه قرر ما يؤخذ في ديوان المرتجع على كل مقدم خمسين ألفاً وعلى الطبلخانات عشرين ألفاً وعلى أمراء العشرات خمسة آلاف فاستمرت إلى آخر وقت، وكان المباشرون في دواوين الأمراء قبل هذا إذا قبض على الأمير أو مات يلقون شدة من جور المتحدث على المرتجع، فلما تقرر هذا كتب به ألواحاً ونقشها على باب القصر وهي موجودة إلى الآن(2/417)
وهو الذي رد سعر الفلوس إلى الوزن وكانت قد فحشت جداً بالقدم حتى صار وزن الفلس خروبتين وكان يذكر أنه من أهل سمرقند وأن أبويه سمياه يوسف وانه سبي فجلب إلى مصر مع تاجر اسمه سالم فنسب إليه واشتراه برقوق وصيره من الخاصكية، وأول ما نبه ذكره ولاية خانقاه سعيد السعداء كما تقدم وذلك في جمادى الأولى سنة سبع وتسعين، وكان يحب الاجتماع بالعلماء، ثم ولي إمرة عشرة في تاسع شعبان سنة إحدى وثمانمائة ونظر خانقاه شيخو فباشره بعنف، ثم صار أحد الأوصياء لبرقوق وهو الذي قام بتحليف الأمراء للناصر فأول ما نسب إليه من الجور أنه أنفق في المماليك نفقة البيعة على أن الدينار بأربعة وعشرين ثم نودي عند فراغ النفقة أن الدينار بثلاثين فحصل الضرر التام بذلك، ثم استقر في الأستادارية في ثالث عشر ذي القعدة سنة..... فسار سيرة حسنة عفيفة وأبطل مظالم كثيرة، منها تعريف منية بني خصيب وضمان العرصة وأحصاص الغسالين، وأبطل وفر الشون وكسر ما بمنية الشيرج وناحية شبرى من جرار الخمر شيئاً كثيراً وتشادد في النظر في الأحكام الشرعية وخاشن الأمراء وعارضهم فأبغضوه، وقام في سنة ثلاث وثمانمائة فجمع الأموال لمحاربة تمرلنك، زعم فشنعت عليه القالة كما تقدم وقبض عليه في رجب منها، وتسلمه ابن غراب وعمل أستاداراً وأهانه وعوقب وعصر ونفي إلى دمياط ثم أحضر في سنة خمس وثمانمائة وقرر في الوزارة والإشارة فباشرهما على طريقته في العسف فقبض عليه وعوقب أيضاً وسجن، ثم أفرج عنه في رمضان سنة سبع وعمل مشيراً فجرى على عادته ثم قبض عليه وسلم لجمال الدين الأستادار فعاقبه ونفاه إلى الإسكندرية فرجمته العامة وهو يسير في النيل فلم يزل بالسجن إلى أن بذل فيه جمال الدين للناصر مالاً جزيلاً فأذن في قتله فقتل، وكانت له مروءة وهمة عالية.(2/418)
سنة اثنتي عشرة وثمانمائة
استهلت والناصر مصمم على قصد دمشق للقبض على نائبها شيخ لكونه امتنع من إرسال الأمراء الذين طلبهم منه، وقبض على رسوله لذلك وهو كمشبغا الجمالي، وكان جمال الدين الأستادار قد جهز ولده أميراً على الحاج فتكاسل بالتجهيز ليحضر ولده قبل رحيلهم، والناصر يستحثه وهو يسوف إلى أن تحقق مكره فصمم عليه، فخرج في السابع من المحرم تغرى بردى مقدم العسكر ومعه من المقدمين أقباي وطوغان وعلان وإينال المنقار وكمشبغا المزوق ويشبك الموساوي وغيرهم من الطبلخانات والمماليك ونزلوا بالريدانية، وسعى ابن العديم في قضاء الحنفية فأعيد إليها وصرف ابن الطرابلسي وكان قد قبض نفقة السفر فلم يستعدها منه جمال الدين بل أضاف إليها مشيخة الشيخونية انتزعها من ابن العديم، وركب الناصر من القلعة في الحادي عشر منه فرحل تغرى بردى ومن معه في ذلك اليوم وقرر الناصر أرغون الرومي في نيابة الغيبة بالاصطبل ويلبغا الناصري لفصل الحكومات بالقاهرة، وقرر أحمد ابن أخت جمال الدين نائب غيبة عن خاله في الأستادارية وكزل الحاجب الكبير على عادته.(2/420)
وفي أوائل المحرم برز شيخ إلى المرج فأقام بها ثم أرسل إلى القضاة في حادي عشره وأرادهم على أن تقطع الأوقاف، فتنازعوا في ذلك إلى أن صالحوه بثلث متحصل تلك السنة، وأرسل إلى قلعة صرخد فحصن بها أهله وما يعز عليه وملأها بالأقوات والسلاح، واستفتى العلماء في جواز مقاتلة الناصر، فيقال إن ابن الحسباني أفتاه بالجواز، فنقم عليه الناصر بعد ذلك لما دخل دمشق وسجن، وكان ممن قام في ذلك أيضاً شمس الدين محمّد التباني وكان قد رحل من مصر إلى شيخ بدمشق فأكرمه وبلغ ذلك الناصر فأهانه فيما بعد، ثم أطلق شيخ المسجونين من الأمراء بدمشق وأرسل سودون المحمدي إلى غزة وشاهين دواداره إلى الرملة وقبض على يحيى بن لاقي، وكان يباشر مستأجرات الناصر وعلى ابن عبادة الحنبلي وصادره على مال كثير واستناب بدمشق تنكز بغا ونزل بالمرج إلى جهة زرع ووصل الناصر إلى غزة في ثالث عشري المحرم، ففر المحمدي ونزل تغرى بردى الرملة في حادي عشريه ففر منه شاهين ووصل هو والمحمدي إلى شيخ فتحول إلى داريا، فقدم عليه قرقماش ابن أخي دمرداش فاراً من صفد وكان الناصر استناب فيها الطنبغا العثماني فقدم بها ففر منه قرقماش ثم قدم نائب حماة جانم في أواخر المحرم فرحلوا جميعاً نحو صرخد، واستصحب جماعة من التجار الشاميين وألزمهم بعشرة آلاف دينار فوصل ثاني يوم رحيله كتاب الناصر إلى من بدمشق بإنكار أفعال شيخ ويحث عليهم في محاربته لمخالفة أمر السلطان.
وفي أول صفر نم أقبغا دويدار يشبك على جماعة من الأمراء مثل علان وإينال المنقار وسودون بقجة وغيرهم من الظاهرية أنهم يريدون الركوب على الناصر لتقديمه مماليكه عليهم وكان جمال الدين الأستادار وافقهم على ذلك ولم يعلم أقبغا بذلك فماج العسكر ليلة الأحد ثانيه، واضطرب الناس وكثر قلق الناصر وخوفه إلى أن طلع الفجر، وكان نادى في العسكر بالتوجه إلى جهة صرخد لقتال شيخ فأصبح سائراً إلى جهة دمشق، وكان استشار(2/421)
كاتب السر والأستادار فيما يفعل فاتفقوا على أنه يقبض على علان وإينال وسودون بقجة المغرب ويركب الأستادار إلى ظاهر العسكر ليقبض على من يفر من المماليك إلى جهة شيخ، فلما تفرقوا راسل الأستادار المذكورين بما هم به السلطان فهربوا، ومنهم تمراز وقرا يشبك وسودون الحمصي وآخرون، فنزل الناصر الكسوة في سادس صفر ودخل دمشق في سابعه وطلب ابن الحسباني فاعتقل وابن التباني فهرب، وأطلق الناصر المسجونين بالصبيبة، وقرر بردبك في نيابة حماة عوضاً عن جانم ونوروز في نيابة حلب، ثم عزل وقرر دمرداش على حاله وبكتمر جلق في نيابة الشام.
وفي نصف صفر أو بعده قدم بكتمر جلق نائب طرابلس ودمرداش نائب حلب إلى الناصر.
وفي السادس عشر منه وجه الناصر إلى قرى المرج والغوطة وبلاد حوران وغيرها بطلب الشعير للعليق وقرر على كل ناحية قدراً معيناً فعظم الخطب على الناس في جبايته.
وفي العشرين من صفر ظفر جمال الدين بناصر الدين ابن البارزي وكان قد اتصل بخدمة الشيخ فولاه خطابة الجامع الأموي وصرف الباعوني، فشكاه الباعوني لجمال الدين فأحضره بين يديه وضربه ضرباً شديداً واستعاد منه معلوم الخطابة وأمر باعتقاله، وكان السبب في ذلك أن جمال الدين انتزع خطابة القدس من الباعوني لأخيه شمس الدين البيري فترامى عليه الباعوني فعوضه بخطابة دمشق فتعصب جمال الدين يومئذٍ للباعوني لهذا السبب.
وفي ثاني عشري صفر أمر جمال الدين بقتل شرف الدين محمّد بن موسى بن محمّد بن الشهاب محمود، وكان قد عمل كتابة السر بحلب فحقد عليه جمال الدين أشياء أضمرها في نفسه منه لما كان خاملاً بحلب.(2/422)
وفيه استعفى نجم الدين ابن حجي من قضاء دمشق، فولاه الناصر الباعوني وقرر ابن حجي في قضاء طرابلس، وصرف ابن القطب من قضاء الحنفية وقرر شهاب الدين ابن الكشك.
وفي آخر صفر ركب الخليفة والقضاة بأمر الناصر ونادى في الناس بدمشق يحضهم على مقاتلة شيخ في كلام طويل يقرأ من ورقة.
وفي الثاني من ربيع الأول برز الناصر إلى جهة صرخد ففر إليه من الشيخية برسباي وسودون اليوسفي ووصل إلى قرية عيون تجاه صرخد.
وفي السابع من ربيع الأول وقعت الحرب فقتل من الفريقين ناس قليل وفر جماعة من السلطانية إلى شيخ، فاشتد حذر الناصر من جميع من معه وتخيل أنهم يخذلوه إذا التقى الجمعان، فبادر إلى القتال فانهزم تمراز وكان في مقدمة شيخ وثبت شيخ ولم يزل يتقهقر إلى أن دخل جذلان مدينة صرخد وانتهب السلطانية وطاقه وجميع ما كان لأصحابه من خيل وأثاث، وفر شيخ فدخل القلعة ومعه ناس قليل فأصعد الناصر طائفة من مماليكه إلى أعلى منارة الجامع ورموا عليهم بالنفط والحجارة والأسهم الخطابية، وانتهب مدينة صرخد، وانهزم تمراز وسودون بقجة وسودون الجلب وسودون المحمدي وتمربغا المشطوب في عدد كثير إلى جهة دمشق، وأرادوا أن يهجموها فمنعتهم العامة، فرجعوا إلى جهة الكرك وتسلل كثير منهم فدخلوا دمشق، ووصل كتاب الناصر عقبهم بأن من ظفر بأحد من المنهزمين وأحضره فله ألف دينار، فاشتد الطلب عليهم.
وفي نصف ربيع الآخر قبض على الكليتاني والي دمشق وضرب ضرباً شديداً وعلى علم الدين وصلاح الدين ولدي ابن الكويز لكونهما من جهة شيخ وكذلك الصفدي فتسلمهم نوروز، وطلب الناصر المنجنيق من دمشق إلى صرخد فنصبه على القلعة وكان شيئاً مهولاً وصل إليه على مائتي جمل، واستكثر من طلب المدافع والمكاحل من الصبيبة وصفد ودمشق ونصبها حول القلعة، فاشتد الخطب على شيخ ومن معه فتراموا على تغرى بردى(2/423)
الأتابك وألقوا إليه ورقة في سهم من القلعة يستشفعون به، فجاء إلى السلطان وشفع عنده وألح عليه إلى أن أذن له أن يصعد إليهم ويقرر الصلح، فتوجه صحبته الخليفة وكاتب السر وجماعة من ثقات السلطان وذلك في أواخر الشهر، فجلسوا كلهم على شفير الخندق وجلس شيخ داخل باب القلعة ووقف أصحابه على رأسه، فطال الكلام بينهما إلى أن استقر الأمر على أنه لا يستطيع أن يقابل السلطان حياء منه، فأعيد الجواب عليه فأبى إلا أن ينزل إليه ويجتمع به، فلم يزل تغرى بردى به إلى أن أجاب إلى الصلح فرجع هو وكاتب السر فسلم لهما كمشبغا الجمالي وأسنبغا دلاهما بحبل ثم أرخى ولده وعمره سبع سنين ليرسله إلى الناصر فصاح وبكى من شدة الخوف، فرحمه الحاضرون فرد إلى أبيه، واستبشر الفريقان بالصلح وكان العسكر الناصري قد مل من الإقامة بصرخد لكثرة الوباء بها وقلة الماء والزاد هذا مع كون الأهواء مختلفة، وأكثر الناصرية لا يحبون أن يظفر الناصر بشيخ لئلا يتفرغ لهم فطلعوا في آخر يوم من الشهر وحلفوا الأمراء وأفرج شيخ عن ابن لاقي وعن تجار دمشق، وبعث للناصر تقدمة عظيمة ولبس تشريفه واستقر في نيابة طرابلس، وما فرغ من ترتيب ذلك إلا وأكثر المماليك السلطانية من مصر قد ساروا إلى جهة دمشق، فاضطر الناصر إلى الرحيل إلى دمشق فتوجه وجهز شيخ ولده الصغير في أثر السلطان، فوصل مع تغرى بردى فأكرمه وأعاده إلى أبيه ورحل الناصر عن دمشق في ربيع الآخر فوصل إلى غزة بعد أن زار بيت المقدس في سابع عشر منه.
وأما شيخ فخرج من صرخد وانضم إليه جمع كثير من أصحابه وتوجه إلى ناحية دمشق، وأرسل إلى بكتمر جلق نائب الشام يستأذنه في دخول دمشق ليقضي أشغاله ويرحل إلى طرابلس، فمنعه حتى يستأذن السلطان، وكتب إليه بحيلة من دخوله دمشق، فأجابه بمنعه من دخولها وإن قصد دخولها بغير إذن يقاتلوه، فاتفق وصول شيخ إلى شقحب في عاشر جمادى الأولى فأوقع بكتمر جلق ببعض أصحابه، فبلغه ذلك فركب بمن معه فلم يلبث بكتمر أن انهزم، ونزل شيخ قبة يلبغا ثم دخل دمشق في حادي عشره، وهو اليوم الذي وصل فيه الناصر إلى القلعة بمصر وتلقاه الناس، فأظهر بأنه لم يقصد القتال ولا الخروج(2/424)
عن الطاعة، وأنه لم يقصد إلا النزول في الميدان خارج البلد ليتقاضى مهماته ويرحل إلى طرابلس وأن بكتمر هو الذي بغى عليه، ثم استكتبهم في محضر بصحة ما قال وجهزه إلى السلطان صحبة أمام الصخرة المقدسة فوصل في آخر جمادى الآخرة، فغضب السلطان وضرب الإمام بالمقارع ووسط الجندي الذي كان رفيقه، واستمر بكتمر في هزيمته إلى جهة صفد فأقام شيخ بدمشق وأعطى شمس الدين ابن التباني نظر الجامع الأموي وشهاب الدين ابن الشهيد نظر الجيش بدمشق، ثم صرفه في جمادى الآخرة، وقرر صدر الدين ابن الأدمي وقرر في خطابة الجامع شهاب الدين الحسباني ثم أعاده ثم قسم الوظائف بينهما، واستقر الحسباني في قضاء الشافعية، ثم توجه شيخ بعساكره إلى جهة صفد فطرقها شاهين الدويدار في جماعة على حين غفلة، فاستعدوا لهم فرجعوا واستمر شيخ في طلب بكتمر إلى غزة، وكان بكتمر قد سار متوجهاً إلى القاهرة، وصحبته بردبك نائب حماة ونكباي حاجب دمشق والطنبغا العثماني نائب صفد ويشبك الموساوي نائب غزة فتلقاهم السلطان، فلما يئس منهم شيخ رجع إلى دمشق بعد أن قرر في غزة سودون المحمدي وبالرملة جاني بك، ثم أرسل الناصر يشبك الموساوي في جيش إلى غزة فحارب سودون المحمدي فانكسر ونهب الذي له ولحق بجهة الكرك، ثم جمع عسكراً ورجع إلى غزة فانكسر الموساوي ورجع إلى القاهرة، وقتل علان نائب صفد، فأرسل شيخ إلى سودون المحمدي بنيابة صفد فوليها في نصف شعبان.
وفي أواخر جمادى الأولى قدم نوروز وقد خلص من التركمان إلى حلب، فتلقاه دمرداش وأكرمه وكاتب الناصر يعلمه به ويسأله أن يعيد نوروز إلى نيابة الشام، ويشبك ابن أزدمر إلى طرابلس وتغرى بردى ابن أخي دمرداش إلى حماة، فأعجب الناصر ذلك وأجاب سؤاله وجهز إليه مقبل الرومي ومعه التقاليد بذلك، وصحبته خمسة عشر ألف دينار مدداً لنوروز، وتوجه في البحر لخوفه من شيخ أن يسلك البر، وكان يشبك ابن أزدمر وتغرى(2/425)
بردى قد توجها إلى حماة، ففر منهما جانم الذي من جهة شيخ فغلبا عليها، ووصل مقبل إلى نوروز بحماة ومعه تقليده بنيابة الشام فلبس الخلعة.
وفي سابع عشر جمادى الآخرة قبض سبان نائب قلعة صفد على الطنبغا العثماني، فوصل علان من جهة شيخ فغلب على صفد فثار عليه أهل صفد لما بلغهم خبر غزة، ففر إلى دمشق فدخلها وتوجه أبو شوشة صديق التركماني من صفد بطائفة، فكبسوا من كان بها من جهة شيخ فهربوا إلى دمشق.
وفي رابع عشريه برز شيخ برزة بعساكره قاصداً حماة وقدم دمرداش إلى حماة لنجدة نوروز ومعه عساكر حلب وطوائف من التركمان ومن العرب وشيخ يحاصر حماة، فلما بلغه قدومهم ترك وطاقه وأثقاله، وتوجه إلى ناحية العربان، فركب دمرداش فأخذ الوطاق واشتغل أصحابه بالنهب فرجع شيخ بأصحابه عليهم، فاشتدت الحرب بينهم فقتل جماعة وأسر آخرون وكسرت أعلام دمرداش وأخذت طبلخاناته، ونزل شيخ على بعيرن واستمر في حصار حماة.
وأما دمشق فإن سودون المحمدي بعد أن استماله نوروز بعث به إلى دمشق بعد أن عاث في بلاد صفد وصادر أهل قراها وكان جقمق دوادار شيخ بدمشق، قد وزع على القرى والبساتين مالاً لنفقة عسكر أستاذه، فزحف سودون المحمدي إلى داريا في سابع رمضان، فقاتله الشيخية منهم الطنبغا القرمشي ومن معه.
وفي أثناء ذلك قدم سودون بقجة وإينال المنقار مدداً للشيخية فتقنطر المحمدي عن فرسه، فأركبوه وتفرق جمعه، ولحق بنوروز وقبض على نحو الخمسين من أصحابه، وقد شاهين دوادار شيخ يستحث على استخراج المال، وتأهب سودون بقجة للتوجه إلى صفد نيابة عن شيخ، وكتب شيخ إلى الناصر كتاباً يخدعه فيه ويعلمه أن نوروز يريد الملك لنفسه، ولا يطيع أحداً أبداً ويقول عن نفسه(2/426)
إنه لا يريد إلا طاعة السلطان والانتماء إليه، ويعتذر عما جرى منه ويصف نفسه بالعدل والرفق بالرعية، ويصف نوروز بضد ذلك ونحو ذلك من الخداع، فلم يجبه الناصر عن كتابه.
وفي الثالث عشر من شوال وصلت عساكر شيخ إلى صفد فنازلوها وفيها شاهين الزردكاش فجرت لهم حروب وخطوب إلى أن جرح شاهين في وجهه ويده وهرب وأسر أسندمر كاشف الرملة فوصل إلى صفد يشبك الموساوي من القاهرة، وسودون اليوسفي وبردبك من جهة نوروز، فقوي بهم أهل صفد، فرجع من الشيخية قرقماش إلى دمشق، وأمده شيخ بنجدة كبيرة، وأخذ من دمشق آلات القتال، ورجع إلى صفد، فاشتد الخطب واشتد القتال بين الفريقين، وكانت الدائرة على الشيخية، وانهزم قرقماش وجرح وقتل عدة من أصحابه، وأسر أهل صفد لكنهم بين قتيل وجريح، وقتل ابن مهنا الأكبر وعورت عين ابنه الآخر، وأصيبت رجل ابنه الثالث وأبلى هو بلاء عظيماً، وكذلك محمّد بن هيازع، وهؤلاء عربان تلك البلاد فخرجوا بعد الوقعة فعاثوا في البلاد وأفسدوا، ورجع يشبك الموساوي إلى غزة، فكاتب الناصر بما اتفق، واشتد الخطب على أهل دمشق بسبب ذلك، وجبيت منهم الخيول والأموال، وكل ذلك وشيخ بحمص يحاصر نوروز ومن معه بحماة، فلما بلغه ذلك جهز عسكراً إلى أصحابه يمدهم به، فمضوا إلى نيسان وكبسوا محمّد بن هيازع أمير عرب آل مهدي، وأخذوا ما كان معه، وتوجهوا إلى صفد فحاصروا شاهين الزردكاش أيضاً.(2/427)
وفيها طرق قرا يوسف بغداد فملك عراق العجم وديار بكر ووصل إلى الموصل فملكها وسلطن ابنه محمّد شاه، وكتب بذلك إلى شيخ وأعلمه أنه تفرغ من تلك الجهات، وأنه عزم على الحضور إلى الشام نجدة للأمير شيخ لما بينهما من المودة والعهود، فاستشار شيخ أصحابه فأشاروا عليه بأن يجيبه إلى ما طلب من الحضور إليه ليستظهر بهم على أعدائه، فخوفه تمراز الناصري من عاقبة ذلك وأشار عليه بأن يكاتب الناصر بحقيقة ذلك، وأنه يخشى من استطراق قرا يوسف في بلاد الشام أن يتطرق منها إلى مصر فأخرجوا به.
وفي السادس من ذي الحجة توجه الدويدار إلى البقاع للاستعداد لبردبك لما طرق الشام، فوصلت كشافة بردبك في التاسع عشر إلى عقبة بيحورا، ثم نزل هو شقحب فتأهب من بالقلعة بدمشق، وخرج العسكر مع سودون بقجة والقرمشي، فوقع القتال فانكسر جاليش سودون بقجة والقرمشي، وحمل هو على عسكر بردبك فكسرهم، ثم انهزم بردبك على خان ابن ذي النون، فرجع إلى صفد، ونهب من كان معه، واجتمع جميع الشيخية وتوجهوا قاصدين غزة.
وفي هذا الشهر اشتد الحصار على نوروز ودمرداش بحماة، فقتل بينهما أكثر من كان معهما من التركمان، وانضم أكثر التركمان إلى شيخ ووصل إليه العجل بن نعير نجدة له بمن معه من العرب في ثاني عشر ذي الحجة فخيم بظاهر حماة، فوقع القتال بين الطائفتين واشتد الخطب على النوروزية، فمالوا إلى الخداع والحيلة، ولم يكن لهم عادة بالقتال يوم الجمعة، فبينما الشيخية مطمئنين إذ بالنوروزية قد هجموا عليهم وقت صلاة الجمعة، فاقتتلوا إلى قبل العصر، فكانت الكسرة على النوروزية فرجعوا إلى حماة، وأسر من النوروزية جماعة منهم سودون الجلب وشاهين الأباشي وجانبك القري وغيرهم فأرسلوا إلى السجن بدمشق ثم إلى المرقب، وغرق بردجا أمير التركمان بنهر العاصي وكذلك أرسطاي أخو يونس وآخرون وتسحب منهم جماعة(2/428)
وغنم الشيخية منهم نحو ألف فرس، وتفرق أكثر العساكر عن نوروز، ولحق كثير منهم بشيخ فتحول إلى الميدان بحماة، ونزل هو والعجل به، وكتب إلى دمشق بالنصر، فدقت بشائره وزينوا البلد.
فلما كان ليلة الاثنين سادس عشر ذي الحجة، ركب تمربغا المشطوب وسودون المحمدي وتمراز نائب حماة في عسكر ضخم فكبسوا العجل بن نعير ليلاً، فاقتتلوا إلى قريب الفجر فركب شيخ نجدة للعجل واشتد القتال، فخالفهم نوروز إلى وطاق شيخ فنهبه ورجع إلى حماة، وكتب دمرداش إلى الناصر يستنجده ويحثه على المجيء إلى الشام وإلا خرجت عنه كلها، فإنه لم يبق منها إلا غزة وصفد وحماة وكل من بها من جهته في أسوء حال.
وفي ذي الحجة مال أكثر التركمان إلى شيخ وأطاعوه، وجاءه الخبر بأن أنطاكية صارت في حكمه وجهز شاهين داوداره وإيدغمش وملكوا حلب فصارت بأيديهم، واشتد الأمر على دمرداش ونوروز فاستدعيا أعيان أهل حماة فألزماهم بأن كتبوا إلى العجل كتاباً يتضمن أن نوروز هرب من حماة، ولم يتأخر بها غير دمرداش، وسألوه أن يأخذ له الأمان من شيخ، فظن العجل أن ذلك حق فركب إلى شيخ وأعلمه بذلك فظنه حقاً، وبعث فرقة من مماليكه ومن عرب العجل، فتسوروا على سلالم ونزلوا المدينة من السور ظانين قلة بالبلد من النوروزية، فوثبوا عليهم وقتلوهم جميعاً وعلقوا رؤوسهم على السور، وأتوا رجلين من جهة العجل فألزموهما أن كتبا إلى العجل بأن نوروز قد أسرنا وقد أطلعنا على أنه تصالح مع شيخ على أن شيخ يسلك إليه ويصطلحا على البلاد، فظن العجل ذلك صحيحاً فركب لوقته متوجهاً إلى بلاده، فبلغ ذلك الشيخية، فركب شيخ في طائفة ليسترضيه ويرده، فأعقبه نوروز ودمرداش في أثره فنهبوا وطاقه وخيله واستمر العجل ذاهباً، فرجع شيخ فوجد أثقاله قد نهبت فرجع من حمص إلى العريسين، فكاتب نوروز في طلب الصلح فلم يتم ذلك وانسلخت السنة وهم على ذلك.(2/429)
ذكر حوادث أخرى
غير ما يتعلق بالمتغلبين
فيها في ثالث ربيع الآخر قرر جماز بن هبة في إمرة المدينة عوضاً عن عجلان بن نعير، وفيها استقر جمال الدين الكازروني في قضاء المدينة خاصة دون الخطابة، فاستمرت بيد ابن صالح.
وفي صفر فشا الطاعون بحمص وحماة وطرابلس ومات به خلق كثير.
وفيه واقع التركمان الأمير نوروز بملطية فكسروه كسرة شنيعة.
وفيه رتب جمال الدين الأستادار للقاضي جلال الدين البلقيني على تصدر بالجامع الأموي خمسمائة درهم في الشهر يقبضها من مباشري الجامع ألف درهم قرأت ذلك بخط القاضي شهاب الدين ابن حجي رحمه الله.
وادعى شهاب الدين ابن نقيب الأشراف على صدر الدين ابن الأدمي بأنه سب الناصر، فعقدوا له مجلساً فأنكر فشهد عليه الشهاب المذكور فاستخصمه صدر الدين وقال إنه عدوه، فبلغ ذلك نائب الغيبة فصدق صدر الدين وأطلقه، ثم اتفق ابن الكشك وصدر الدين على قسمة الوظائف بينهما، وأشهد ابن الأدمي على نفسه أنه إن عاد إلى السعي في القضاء يكون لابن الكشك عنده ألف دينار، وحكم نائب الحنفي بصحة التعليق والمالكي بصحة الالتزام، ثم بطل ذلك عن قرب، وحكم ابن العديم ببطلان ذلك الحكم لأن صدر الدين أثبت عنده أنه كان يومئذٍ مكرهاً، وأعيد ابن الأدمي إلى القضاء قبل خروج الناصر من دمشق.
وفي رابع عشر ربيع الآخر عقد عقد بنت الناصر على بكتمر جلق وهو أسن من أبيها، وتولى الناصر العقد لقنه إياه القاضي جلال الدين وقبله للزوج تغرى بردى الأتابك.
وفي ثامن عشره أعيد ابن الأدمي إلى قضاء الحنفية وصرف ابن الكشك.(2/430)
وفي جمادى الأولى قدم من حلب جمال الدين الحسفاوي قاضي الشافعية بها، ومحب الدين ابن الشحنة قاضي الحنفية بها، وأخوه قاضي المالكية بها، وكانوا طلبوا من جهة السلطان لكونهم بايعوا جكم بالسلطنة وأفتوه بقتال السلطان، ثم هرب ابن الشحنة وأدخل الآخران القاهرة.
وفي التاسع من جمادى الأولى نزل السلطان بلبيس فقبض على جمال الدين الأستادار وعلى ابنه وابن أخته وعامة من يلوذ بهم، وهرب أخوه شمس الدين البيري وطائفة، وكان الناصر قد تخيل منه في هذه السفرة أنه تمالأ عليه، وأنه يريد أن يمسكه، ووجد أعداؤه سبيلاً إلى الحط عليه عنده إلى أن تغير عليه وأمسكه، ودخل الناصر القلعة في حادي عشره وتقدم إلى كاتب السر فتح الله بحفظ موجود جمال الدين فاستعان فتح الله على ذلك بالقضاة فلم يزل جمال الدين وولده يخرجان ذخيرة بعد ذخيرة إلى أن قارب جملة ما تحصل من موجودهما ألف ألف دينار، وأحضره الناصر مرة وتلطف به ليخرج بقية ما عنده وجد وأكد اليمين واعترف بخطائه واستغفر فرق له وأمر بمداواته، فقامت قيامة أعدائه وألّبوا عليه إلى أن أذن لهم في عقوبته وسلمه لهم، فلم يزالوا به حتى مات خنقاً بيد حسام الدين الوالي، وقطعت رأسه فأحضرت بين يدي الناصر، فردها وأمر بدفنه، وذلك في حادي عشر جمادى الآخرة، واستقر تاج الدين عبد الرزاق ابن الهيصم في الأستادارية موضع جمال الدين، فلبس زي الأمراء وترك زي الكتاب، واستقر أخوه مجد الدين عبد الغني في نظر الخاص، وسعد(2/431)
الدين ابن البشيري في الوزارة وأضيف إلى تقي الدين ابن أبي شاكر ناظر ديوان المفرد أستادارية الأملاك والذخائر السلطانية عوضاً عن أحمد ابن أخت جمال الدين؛ ومن غريب ما اتفق في ذلك أنه كان ظفر من تركة بعض الأكابر بحاصل فيه ذهب وعلبة ملأى فصوص وجواهر نفيسة، فبلغ السلطان ذلك، فطلبه من الأمير جمال الدين فأنكره وأودع ذلك عند جندي يقال له جلبان، فلما قبض على جمال الدين وأمر بحمل ما عنده من الأموال ذكر أن له عند جلبان وديعة نحو عشرة قفف ذهباً، فطلع المذكور فغلب عليه الخوف فأحضر الذهب والعلبة التي فيها الجواهر، فانبسط الناصر، وبلغ ذلك جمال الدين فشق عليه مشقة شديدة.
وفي أواخر جمادى الأولى استقر شهاب الدين أحمد بن أوحد الخادم بالخانقاه الناصرية بسرياقوس في مشيختها عوضاً عن شمس الدين القليوبي بحكم وفاته.
وفي سابع جمادى الآخرة امسك بلاط أحد المقدمين وكزل حاجب الحجاب، وبعثا إلى الإسكندرية للاعتقال، وقرر يلبغا الناصري في الحجوبية.
وفي تاسعه صرف ابن شعبان عن الحسبة وأعيد الطويل وفيه صرف البرقي عن قضاء العسكر، واستقر حاجي فقيه.
وفي حادي عشر جمادى الآخرة استقر علاء الدين الحلبي قاضي غزة في مشيخة بيبرس عوضاً عن شمس الدين البيري أخي جمال الدين بحكم تسحبه بعناية فتح الله؛ واستقر نور الدين التلواني في تدريس الشافعي عوضاً عنه بعناية قردم.
وفيه أحضر الناصر الشيخ شهاب الدين الزعيفريتي، وكان نقل له عنه أنه كتب ملحمة زعم فيها أن الملك يصل لجمال الدين ثم إلى ابنه أحمد، ونظم ذلك في قصيدة، فأمر الناصر بقطع لسانه وبعض عقد أصابع يده اليمنى، واعتقل ثم أفرج عنه، وأقام ببيته مدة(2/432)
الناصر يظهر الخرس إلى أن أقبلت الدولة المؤدية وتكلم، فعد ذلك من قوة تمكنه من عقله، وعظيم جلده وصبره، ولم يمتنع أيضاً من الكتابة، بل كتب مع فساد بعض أصابعه لكن دون خطه المعتاد.
وفي سابع رجب أعيد ابن شعبان إلى الحسبة وعزل الطويل؛ ثم عزل ابن شعبان واستقر محمّد بن يعقوب الدمشقي في ثامن عشر من رجب، ثم صرف في ثاني شعبان واستقر كريم الدين الهوى.
وبلغ النيل في هذه السنة في الزيادة إلى اثنين وعشرين ذراعاً، وكسر الخليج في أول يوم من مسرى وثبت إلى نصف هاتور، وبلغ سعر القمح من ذلك في شعبان إلى ثلاثمائة الإردب، والشعير والفول إلى مائتين، والحمل التبن إلى مائة وعشرين.
وفي شعبان قبض الشيخية بدمشق على الإخنائي قاضي الدمشقية وكانوا قد نقموا عليه فكاتبه نوروز فسجن بالقلعة، ثم هرب منها إلى صفد، فأكرمه النائب بها من جهة الناصر، وهو شاهين الزردكاش، وأرسل الإخنائي إلى الناصر يغريه بالأمير شيخ ويحثه على سرعة الحركة إلى الشام.
وفي أواخر شعبان فوض شيخ خطابة جامع دمشق لشرف الدين التباني وكان قد فر من القاهرة إليه في أواخر العام الماضي، فأنكر الشاميون ذلك، لعهدهم أن الخطابة إنما هي للشافعية، فكاتبوه بذلك، فاستناب الباعوني وباشر شرف الدين التباني مشيخة السميساطية خاصة، وأضيف إليه درس الخاتونية، وتصدر بالجامع الأموي.
وفي مستهل رجب قبض على نصراني فادعى عليه أنه كان أسلم، وأقيمت عليه البينة بذلك فاعترف فعرض عليه الإسلام فامتنع فضربت رقبته بين القصرين.(2/433)
وفي ثالث عشر شعبان قتل شخص شريف لأنه ادعى عليه أنه عوتب في شئ فعله فعزر بسببه، فقال: قد ابتلى الأنبياء، فزجر عن ذلك فقال: قد جرى على رسول الله في حارة اليهود أكثر من هذا، فاستفتى في حقه فأفتوا بكفره، فضربت عنقه بين القصرين بحكم القاضي المالكي شمس الدين المدني.
وفي ثالث عشر شوال أعيد ابن شعبان إلى الحسبة وصرف الهوى، وفي الثالث والعشرين منه كان الناصر توجه إلى وسيم عند مرابط خيله فرجع منه، فلما وصل الميدان بالقرب من قناطر السباع أمر بالقبض على قردم الخازندار. وكان شاع عنه وهو في السفر أنه اتفق مع جمال الدين على الفتك بالسلطان وأمر أيضاً بالقبض على أينال الساقي وهو حينئذ رأس نوبة كبير، فقبض على قردم وشهر أينال سيفه فلم يلحقه غير الأمير قجق، فضربه على يده ضربة جرحه بها، واستمر أينال هارباً، ثم ظفر به في ذي الحجة فسجن في الإسكندرية، ثم آل أمره إلى أن صار تاجراً في المماليك يجلبهم من البلاد ويربح منهم الربح الكثير، وقد قدم في الدولة المؤيدية مرتين بذلك وحصل مالاً طائلاً، وسجن قردم بالإسكندرية.
وفي شوال استقر ابن خطيب نقرين في قضاء دمشق وصرف الحسباني، وفيه استقر شمس الدين محمّد بن علي بن معبد المدني في قضاء المالكية وصرف البساطي.
وفي أواخر ذي القعدة استقر حسام الدين في ولاية القاهرة.
وفيه صرف الزيدي، وكان ظالماً فاجراً ولي شد الدواوين فأباد أصحاب الأموال وبالغ في أذاهم فكان عاقبة أمره أن ضربت عنقه صبراً بالقاهرة.(2/434)
وفي ذي الحجة قدم على شيخ بحمص الشيخ أبو بكر بن تبع وذكر أن شخصاً حضر إليه وذكر له أنه رأى النبي صلّى الله عليه وسلّم في المنام وهو يقول: ارجع عما أنت فيه وإلا هلكت، قال: يا رسول الله! ما يصدقني، قال: اذهب إلى ابن تبع فقل له يذهب إليه، قال: فإن لم يقبل من ابن تبع. قال: قل له فليقل له ما كلامه كيت وكيت، وذكر له ذكراً جرت عادة شيخ أن يحوط به نفسه عند النوم وعند القتال، فقص أبو بكر بن تبع ذلك على شيخ فصدق الإمارة وكتب إلى دمشق بأنه رجع عن المظالم، وكتب إلى أتباعه بالكف عن المصادرات ورد الأوقاف إلى أهلها ونودي بذلك في البلد، وكتب إلى قضاة دمشق بالكشف عن شمس الدين ابن التباني، وكان قد فوض إليه نظر الجامع والأوقاف وظهر عليه جملة مستكثرة ثم جاملوه وكتبوا له محضراً بأنه حسن المباشرة وأرسل مرجان الهندي خازندره يكشف عن حسابات الأوقاف وإلزام المباشرين عليها بعمارتها.
وفيها قتل محمّد بن أميرزا شيخ بن عم تمرلنك سلطان فارس، قام عليه أخوه إسكندر شاه فغلبه وكان محمّد كثير العدل والإحسان فيما يقال فتمالأ عليه بعض خواصه فقتله تقرباً إلى خاطر أخيه إسكندر واستولى إسكندر على ممالك أخيه فاتسعت مملكته.
وفيها أفرط النيل في الزيادة إلى تكملة العشرين ثبت ثباتاً زائداً عن العادة إلى نصف هاتور، ثم يسر الله بنزوله على العادة.
وفي أول يوم من جمادى الآخرة ضرب إمام قبة الصخرة بالمقارع بأمر السلطان وحبس بسجن ذوي الجرائم، والسبب فيه أنه قدم رسولاً من شيخ يعتذر عن قتال بكتمر جلق وأنه الذي بدأه بالقتال، فلم يلتفت له فأمر بضرب هذا وتوسيط رفيقه وهو من المماليك، وفيها مات داود بن سيف أرغد الحطي - بفتح المهملة وكسر المهملة الخفيفة بعدها ياء خفيفة - الحبشي الأمحري - بحاء مهملة - صاحب مملكة الحبشة وقدمت رسله على الظاهر(2/435)
بهدية، وجهز له الظاهر هدية ورسولاً وهو برهان الدين الدمياطي فذكر أنه رآه حاسر الرأس عرياناً وعلى جبينه عصابة حمراء وكذا كان سلفهم فلما مات داود أقيم ابنه تدروس فهلك سريعاً فأقيم أخوه إسحاق فسلك سبيل الملوك وتزيا بزي أهل الحضر والسبب فيه أن نصرانياً كان يقال له فخر الدولة حصلت له كائنة بمصر ففر إلى الحبشة فقربه إسحاق فرتب له المملكة وأشار عليه بأن يتزيا بغير زي قومه وجبا الأموال وضبط الأمر ودخل إليه مملوك يقال له الطنبغا فتعلم من عنده صناعة الحرب والرمي بالنشاب واللعب بالرمح ورتب له زردخاناه فصرف فحظي عنده وصار يركب وبيده صليب جوهر كبير إذا قبض عليه برز طرفاه من كبره، وكان شديد البأس على من يجاوره من المسلمين من الجبرت وغيرهم، وكان سعد الدين رأس الجبرت يحاربه، وفي الغالب يكون سعد الدين منه في ضيق، وقتل من المسلمين في تلك الوقائع ما لا يحصى فلم يزل كذلك إلى أن مات إسحاق في ذي القعدة سنة ثلاث وثلاثين، وقام بعده ابنه أندراس، فهلك لأربعة أشهر من موت أبيه فقام من بعده عمه خرساي فهلك في رمضان سنة أربع وثلاثين، فأقيم بعده سلمون بن إسحاق.
وفي غضون ذلك نجا جمال الدين ابن سعد الدين ملك المسلمين ودهم الحبشة وأوقع بهم وصاروا منه في حصر شديد على ما اتصل بنا.
وفيها مات أحمد بن ثقبة بن رميثة بن أبي نمى الحسني المكي أحد أمراء مكة، وكان قد اشترك مع عنان في الولاية الأولى مع كونه مكحولاً لما مات ابن عمه أحمد بن عجلان بن رميثة وأم ولده محمّد.
وفيها قتل جماز بن هبة بن جماز بن منصور الحسيني أمير المدينة وقد كان أخذ حاصل المدينة ونزح عنها فلم يمهل وقتل في حرب جرت بينه وبين أعدائه، وكان يظهر إعزاز أهل السنة ويحبهم بخلاف ثابت بن نعير.(2/436)
وفي ذي الحجة استقر تاج الدين محمّد بن الحسباني في وكالة بيت المال والحسبة وإفتاء دار العدل وقضاء العسكر وبذل على ذلك ألف دينار وكانت الحسبة مع ناصر الدين ابن الجاي وما عدا ذلك مع تقي الدين يحيى الكرماني، فصرفا عنها وفيها مات أقباي الكبير وكان رأس نوبة الأمراء في جمادى الآخرة، وترك من العين ألف دينار هرجة، واثني عشر ألف دينار إفرنجية ومن الغلال والخيول والدواب ما قيمته فوق ذلك، حصل ذلك من الظلم وكان حاجباً مدة طويلة غشوماً ظلوماً، فاستأصل الناصر تركته، وفيها مات طوخ الخازندار في جمادى الآخرة وبلاط الإسكندرية وقجاجق الدويدار.
ذكر من مات
في سنة اثنتي عشرة وثمانمائة من الأعيان
أحمد بن سعيد بن أحمد السماقي الحسباني الشاهد بسوق صاروجا أخو القاضي شرف الدين قاسم مات في جمادى الأولى عن سبعين سنة بدمشق.
أحمد بن عبد اللطيف بن أبي بكر بن عمر الشرجي ثم الزبيدي اشتغل كثيراً ومهر في العربية وكذا كان أبوه سراج الدين ودرس شهاب الدين بالصلاحية بزبيد اجتمعت به وسمع علي شيئاً من الحديث وسمعت من فوائده مات بحرض عن أربعين سنة.
أحمد بن محمّد بن أبي الوفا محمّد بن محمّد الشاذلي شهاب الدين(2/437)
المشهور بتبن وفا أخو الشيخ علي الماضي سنة سبع وثمانمائة وأحمد هو الأسن وعلي هو الأشهر، وكان عند أحمد سكون وقلة كلام وليس له نظم وكان يذكر له أحوال حسنة ولم يكن يعمل المواعيد إلا مع خواص أصحابه ونبغ له أبو الفضل محمّد ففاق الأقران في النظم والذكاء ومات غريقاً بعد أبيه بسنة، وكانت وفاة شهاب الدين في شوال وله ست وخمسون سنة.
أبو بكر بن عبد الله بن ظهيرة المخزومي أخو الشيخ جمال الدين اشتغل قليلاً وسمع من عز الدين ابن جماعة وغيره، ومات في جمادى الأولى بمكة.
أبو بكر بن عبد الله بن قطلوبك المنجم الشاعر، تعانى التنجيم والآداب، وكان بارعاً في النظم والمجون وله مطارحات مع أدباء عصره أولهم شمس الدين المزين ثم خطيب زرع ثم على البهائي، واشتهر بخفة الروح والنوادر المطربة؛ ومات في صفر، وهو القائل:
حنفي مدرس حاز خدّاً ... كرياض الشقيق في التنميق
لو رآه النعمان في مجلس الدر ... س لقال النعمان هذا شقيقي(2/438)
وله في شمس الدين المزين الشاعر زجل أوله:
لعمرك يا مزين أمسى ... ناقص البراعه
لكن في الحرام حيث ... تجده كامل البضاعه
سيرك يا ربيط سير ... محلول من قبيح فعالك
وأنت حرامي مجروح ... وعرضك بحالك
وتهجي المنجم أما ... تبصر شاعر حالك
لا تلعب بذكاعي ... وتعمل رقاعه
أنصحك وأسقيك شربة ولا سم ساعه
فلما مدح الشيخ علي البهائي بدر الدين ابن الشهاب محمود بقصيدته التي أولها:
ألا يا نسمة الريح ... قفي أبديك تبريحي
قفي أخبرك عن جسمي ... وإن شئت أقل روحي
فناقضه المنجم بقوله:
ضراط البغل في الريح ... على فرش من الشيح
وشرب الخل ممزوجاً ... بأمراق القواليح
ونقلي يابس الزعرور مع بعر التماسيح
ونيك ليس بالتعميق بل حك وتشطيح
وقوم في جنان البلح قد فازوا بتسليحي
وبيتي من دمشق الشا ... م ليلاً غير ممسوح
وتعويض بأكل اللف ... ت من تلك التفافيح
وسمعي في حقول الفجل أصوات الذراريح
على شيز الضفاديع التي في بحر أطفيحي
أحبّ إلي من شعر ... شبيه الشيح في الريح
بتوشيح كتوشيح ... وتحسين كتقبيح
وتلميع كتليح الدباغات المناسيح
إذا عاناه معصوم ... شكى داء المساليح(2/439)
وغاد ببرءه يشكو ... من القولنج والريح
تراني حين أسمعه ... بصدر غير مشروح
أقول لنفسي اعتزمي ... وعن أبياته روحي
قريض من مقالته ... على الحمى لدى الروح
وناظمه أخو جهل ... من القوم المشاليح
ووزن الشعر يشغله ... بنقصان وترجيح
بنظم منظم يطفي ... إشعات المصابيح
ولولا بدر دين الدين مخدومي وممدوحي
لأظلم بيت أفكاري ... ولم أظفر بتوضيح
ولا عارضت في شعري ... ألا يا نسمة الريح
أنشدنيها بقصتها ناصر الدين البارزي بالقاهرة ثم أنشدنيها بقصتها ولده القاضي كمال الدين بالبيرة على شاطئ الفرات في سنة آمد وأنا للإنشاد الثاني أضبط.
أبو بكر بن علي الحمصي سيف الدين المعمار اشتهر بذلك وقد تقدم في فنه، وعاش أزيد من تسعين سنة بدمشق.
خليل بن محمّد بن خليفة بن عبد العالي الحسباني ابن عم شهاب الدين وصهره على ابنته، كان خيراً ديّناً وورث من أبيه مالاً جزيلاً، وغرم أكثره في تزويج ابنة عمه المذكور، ثم كان في آخر أمره أن طلقت منه، وقد ولي قضاء حسبان.
عبد الله بن أحمد اللخمي التونسي الفرياني - بضم الفاء وتشديد الراء بعدها تحتانية خفيفة وبعد الألف نون - كان فاضلاً مشاركاً في الفقه والعربية والفرائض مع الدين والخير؛ مات راجعاً من مكة إلى مصر، ودفن بعقبة أيلة في المحرم.(2/440)
عبد الرحيم بن محمود بن محمّد بن عبد الرحيم بن عبد الوهاب بن علي بن عقيل السلمي البعلبكي، زين الدين، خطيب بعلبك وابن خطيبها، ولد سنة تسع وعشرين أو قبلها ومات أبوه سنة خمس وثلاثين وهو الكاتب المجود المشهور بهاء الدين محمود، فرباه جده، وولي عبد الرحيم خطابة بلده، وكانت بيد سلفه منذ أربعمائة سنة فيما يقال، وقد حدث عبد الرحيم عن الحجار وغيره بالإجازة، وكان من أعيان شهود بلده موصوفاً بالخير؛ مات في ربيع الأول.
علي بن الحسن بن أبي بكر بن الحسن بن علي بن وهاس الخزرجي موفق الدين الزبيدي، اشتغل بالأدب ولهج بالتاريخ فمهر فيه، وجمع لبلده تاريخاً كبيراً وآخر على الحروف وآخر في الملوك، وكان ناظماً ناثراً اجتمعت به بزبيد، وكتب لي مدحاً؛ مات في أواخر هذه السنة وقد جاوز السبعين.
علي بن محمّد بن إسماعيل بن أبي بكر بن عبد الله بن عمر بن عبد الرحمن الناشري موفق الدين الشاعر المشهور الزبيدي اشتغل بالأدب ففاق أقرانه ومدح الأفضل ثم الأشرف ثم الناصر، وكانوا يقترحون عليه الأشعار في المهمات، فيأتي بها على أحسن وجه، وكانت طريقة شعره الانسجام والسهولة دون تعاني المعاني التي لهج بها المتأخرون،(2/441)
وحج في سنة عشرة ورجع فمات بنواحي حرض في المحرم، أو في الذي بعده، وقد جاوز الستين، رأيته بزبيد وسمعت منه قليلاً.
قجاجق بن عبد الله الدويدار الناصري، وكان حسن الخلق لين الجانب مسرفاً على نفسه وولي الدويدارية الكبرى فباشرها بلطف ورفق، مات في أواخر السنة، وقيل في سادس المحرم من التي تليها.
محمّد بن أحمد بن أبي القاسم الوزير كمال الدين ابن المقرئ الزبيدي ناب في الوزارة باليمن، وناب عن القاضي مجد الدين الشيرازي في القضاء، وكان فاضلاً.
محمّد بن عبد الله بن أبي بكر الشيخ شمس الدين القليوبي الشافعي اشتغل بالعلم وتلمذ للشيخ ولي الدين الملوي، ورأيت سماعه على العرضي ومظفر الدين ابن العطار في جامع الترمذي، وما أظنه حدث عنهما، واشتهر بالدين والخير، وكان متقللاً جداً إلى أن قرر في مشيخة الخانقاه الناصرية بسرياقوس شيخاً بها فباشرها إلى أن مات في جمادى الأولى وكان متواضعاً ليناً.
محمّد بن عبد الله الخردفوشي: أحد من كان يعتقد مات في ربيع الآخر.
محمّد بن عبد الرحمن بن يوسف الحلبي المعروف بابن سحلول ناصر الدين، كان عمه عبد الله وزيراً بحلب، ولد سنة...... وسمع المسلسل(2/442)
بالأولية من أحمد بن عبد الكريم، وسمع عليه الأربعين المخرجة من صحيح مسلم بسماعه على زينب الكندية عن المؤبد، وسمع من ابن الحبال جزء المناديلي، أنا عبد الخالق بن علي بن واصل البصري ثنا أبو جعفر السعيدي ثنا أبو القاسم إبراهيم بن محمّد المناديلي، وولي مشيخة خانقاه والده فكان أهل حلب يترددون غليه لرياسته وحشمته وسؤدده، ومكارم أخلاقه، وكان مواظباً على إطعام من يرد عليه ثم عظم جاهه لما استقر جمال الدين الأستادار في التكلم في المملكة فإنه كان قريبه من قبل الأم لأن أم جمال الدين بنت عبد الله عم شمس الدين المذكور وكان استقر في مشيخة الشيوخ بعد موت الشيخ عز الدين الهاشمي، ثم سافر من حلب إلى القاهرة فبالغ جمال الدين في إكرامه وجهزه إلى الحجاز في أبهة زائدة وأحمد ولد جمال الدين يومئذٍ أمير الركب فحج وعاد فمات بعقبة أيلة في شهر الله المحرم، وسلم مما آل إليه أمر قريبه جمال الدين وآله.
محمّد بن عمر بن إبراهيم بن القاضي العلامة شرف الدين هبة الله البارزي، ناصر الدين الحموي، قاضي حماة هو وأسلافه كان موصوفاً بالخير والمعرفة، فاضلاً عفيفاً، مشكوراً في الحكم، باشر القضاء مدة ومات بحماة في هذه السنة وجده هبة الله هو القاضي شرف الدين البارزي العالم المشهور.
محمّد بن محمّد بن موسى بن سليم - بفتح المهملة - الحجاوي، كان من أهل العلم بالهيئة، وولي وظيفة التوقيت بالجامع الأموي، ثم انتقل إلى حجا بلده فمات هناك في شعبان.
محمّد بن محمّد بن موسى بن محمّد بن محمّد بن محمود بن سلمان الحلبي الأصل الدمشقي بدر الدين ابن الشهاب محمود، ولد في حدود الخمسين ونشأ بدمشق واشتغل وتعانى الأدب، ونظم الشعر وولي(2/443)
كتابة السر بدمشق وطرابلس وكان ولي توقيع الدست بحلب وكان رئيساً، ذكياً كريماً، له مروءة وعصبية إلا أنه كان ينسب إلى أشياء غير مرضية، كتب عنه القاضي علاء الدين في ذيل تاريخ حلب من نظمه، ومات في السجن بدمشق سنة 812 على يد جمال الدين الأستادار.
نصر الله بن أحمد بن محمّد بن عمر التستري الأصل ثم البغدادي نزيل القاهرة جلال الدين أبو الفتح ولد في حدود الثلاثين ومات أبوه وهو صغير، فرباه الشيخ الصالح أحمد السقا وأقرأه القرآن واشتغل بالفقه على مذهب الحنابلة؛ وسمع الحديث من جمال الدين الخضري وكمال الدين الأنباري وأبي بكر بن قاسم السنجاري في آخرين وأسانيدهم نازلة، وقرأ الأصول على الشيخ بدر الدين الأربلي وأخذ عن الكرماني شارح البخاري، شرح العضد على ابن الحاجب وولي تدريس الحديث بمسجد يانس ببغداد ومدارس الحنابلة كالمستنصرية والمجاهدية، وصنف في الفقه وأصوله ونظم كتاباً في الفقه في ستة آلاف بيت، وأرجوزة في الفرائض مائة بيت جيدة في بابها، وله مختصر ابن الحاجب ومدايح نبوية، وكان يذاكر الناس ببغداد مدة وانتفع الناس بذلك، وخرج من بغداد لما شاع أن اللنك قصدها فوصل إلى دمشق فبالغوا في إكرامه، وكان مقتدراً على النظم والنثر، ثم قدم القاهرة في سنة تسعين وتقرر في تدريس الحنابلة بمدرسة الظاهر برقوق وكان قد امتدحه وعمل له رسالة في مدح مدرسته، وحدث بالقاهرة بجامع المسانيد لابن الجوزي سماعه له بإسناد نازل إلى مؤلفه، مات في عشري صفر بعد أن مرض طويلاً.(2/444)
نصر الله بن محمّد الصرخدي ناصر الدين أحد الفضلاء، مات في أحد الربيعين.
يوسف بن أحمد بن محمّد بن أحمد بن جعفر بن قاسم البيري، ثم الحلبي نزيل القاهرة الأمير جمال الدين، ولد سنة 752 وكان أبوه خطيب البيرة فصاهر الوزير شمس الدين بن سحلول فنشأ جمال الدين في كنف خاله وكان أولاً بزي الفقهاء وحفظ القرآن وكتباً في الفقه والعربية، وسمع من شمس الدين ابن جابر الأندلسي قصيدته البديعية. وعرض عليه ألفية ابن معطي وأخذ عنه في شرحها له بحلب، ثم قدم مصر بعد سنة سبعين وهو بزي الجند فخدم أستادار الأمير بجاس وعرف به وطالت مدته عنده، ثم ترقى إلى أن تزوج بنت أستاذه وعظم قدره ومحله، فباشر الأستادراية عند جماعة من الأمراء كبيبرس وسودون الحمزاوي وغيرهما، وعمر الدور الكبار وعمر في داخل القصر بجوار المدرسة السابقية منزلاً حسناً، فيقال إنه وجد فيه خبيئة للفاطميين واشتهر ذكره بالمروءة والعصبية وقضاء حوائج الناس فقام بإعباء كثير من الأمور وصار مقتصداً للملهوفين يقضي حوائجهم ويركب معهم إلى ذوي الجاه، ولم يزل معظماً نافذ الكلمة إلى أن قرر في الأستادارية رابع رجب سنة سبع وثمانمائة بعد أن هرب ابن غراب مع يشبك فشكرت سيرته، ثم وقع بينه وبين السالمي لتهور السالمي فقبض عليه في ذي الحجة واستبد بالأمر إلى أن قرر في الأستادارية الكبرى عوضاً عن ابن قيماز في رابع رجب سنة ثمان بعد أن(2/445)
رسم عليه في بيت شاد الدواوين يوماً وليلة واستمر مع ذلك يتحدث في أستادارية الأمير الكبير بيبرس، ثم لما تغيرت الأمور التي بسطناها في سنة ثمان وثمانمائة وتمكن ابن غراب من المملكة أراد الفتك بجمال الدين، ثم اشتغل عنه بمرضه ولم يلبث أن هلك، فاستولى جمال الدين على الأمور واستضاف الوزارة ونظر الخاص والكشف بالوجه البحري واستقر مشير الدولة، ثم لما قتل يشبك صفا الوقت له وصار عزيز مصر على الحقيقة، لا يعقد أمر إلا به ولا تفصل مشورة إلا عن رأيه، ولا تخرج إقطاع إلا بإذنه، ولا يستخدم أحد من الأمراء ولو عظم كاتباً عنده إلا من جهته، ولا تباع دار حتى تعرض عليه، ولا يكتب مكتوب على قاض حتى يستأذنه، ولا يباع شيء من الجوهر والصيني ولا من آنية الذهب والفضة ولا من الفرو والصوف والحرير ولا من كتب العلم النفيسة حتى يعرض عليه، ولا يلي أحد وظيفة ولو قلت حتى نواب القضاة إلا بأمره، ثم تجاوز ذلك حتى صار لا يخرج إقطاع ولو قل إلا بمشورته ولا يحكم أمير في فلاحه حتى يؤامره، ولا تكتب وصية حتى تعرض عليه أو يأذن فيها، وخضع له الآمر والمأمور، وكثر تردد الناس إلى بابه حتى كان رؤساء الدولة من الدويدارية وكاتب السر ومن دونهما ينزلون في ركابه إلى منزله، ولا يصدر أحد منهم إلا عن رأيه، ثم شرع في انتهاك حرمة الأوقاف فحلها أولاً فأولاً حتى استبدل بالقصور الزاهرة المنيفة بالقاهرة كقصر يشبك والحجارية وغيرهما بشيء من الطين من(2/446)
الجيزة وغيرها، وكان قبل ذلك يتوقى في الظاهر فربما رام استبدال بعض الموقوفات فيعسر عليه القاضي إلى أن تجتمع شروط ذلك عند من ذهب إلى جوازه فيبادر هو بدس بعض الفعلة إلى ذلك المكان في الليل فيفسد في أساسه إلى أن يكاد يسقط فيرسل من يحذر سكانه، فإذا اشتهر ذلك بادر المستحق إلى الاستبدال ومن غفل منهم أو تمنع سقط فينقص من قيمته ما كان يدفعه له لو كان قائماً، ثم بطلت هذه الحيلة لما زاد تمكنه بإعانة القاضيين الحنفي تارة والحنبلي أخرى سمعت القاضي كريم الدين ابن عبد العزيز يقول: كنت في جنازة فتوجهت للمقبرة فوافقت ابن العديم ففتحت له انتهاك حرمة الأوقاف بكثرة الاستبدال، فقال لي: إن عشت أنا والقاضي مجد الدين - وأشار إلى الحنبلي - لا يبقى في بلدكم وقف، والعجب أن رؤساء العصر كانوا ينكرون أفعال جمال الدين في الباطن رعاية له وفرقاً منه، فما هو إلا أن قتل فتوارد الجميع على أتباعه فيما سن من ذلك حتى لم يسلم من ذلك أحد منهم، ولم يزل الأمر يتزايد بعد ذلك، ثم لم يزل جمال الدين يترقى ويحصل الأموال ويداري بالكثير منها ويمتن على الناصر بكثير من الأموال التي ينفقها عليه إلى أن كاد يغلب على الأمر، وفي الآخر صار يشتري بني آدم الأحرار من السلطان، فكل من تغير عليه استأذن السلطان في إهلاكه واشتراه منه بمال معين يعجل حمله إلى الناصر ويتسلم ذلك الرجل فيهلكه، فهلك على يده خلق كثير جداً، وأكثرهم في التحقيق من أهل الإفساد.
وفي الجملة كان قد نفذ حكمه في الإقليمين مصر والشام، ولم يفته من المملكة سوى اسم السلطنة مع أنه كان ربما مدح باسم الملك ولا يغير ذلك ولا ينكره، وتقدم أنه قتل في جمادى الآخرة، ولقد رأيت له بعد قتله مناماً صالحاً حاصله أني ذكرت وأنا في النوم ما كان فيه وما صار إليه وما ارتكب من الموبقات، فقال لي قائل: إن السيف محاء للخطايا، فلما استيقظت اتفق(2/447)
أني نظرت هذا اللفظ بعينه في صحيح ابن حبان في أثناء حديث، فرجوت له بذلك الخير، ولعمري لقد ارتكبوا في حقه منذ قبض عليه إلى أن قتل ما لم يرتكبه في حق ممن دونه فيما كان فيه من الإهانة والإفراط في ظلم البراء من أهله حتى وضعت امرأته سارة بنت الأمير بجاس وهي حامل على دست نار فأسقطت ورأت من الذل ما لا يوصف وماتت بعد ذلك قهراً فلله الأمر.
يونس بن قاضي الصنمين نقيب الشافعي لم يكن محمود السيرة فيما يقال(2/448)
مات سنة 813.
سنة ثلاث عشرة وثمانمائة
استهلت والأمير شيخ يحاصر الأمير نوروز بحماة وبيد شيخ غالب المملكة الشامية وفي تلك المدة اتصل القاضي ناصر الدين البارزي بالملك المؤيد، فلم يزل في خدمته إلى أن مات في أيام سلطنته.
وفي خامس المحرم استولى شاهين دويدار شيخ على حلب وحاصر القلعة ووصل إلى شيخ الطنبغا القرمشي راجعاً من المرقب وقد حبس فيه المأسورين فعمل نائب الغيبة فأذن لسودون بقجة أن يخرج إلى الدورة فيحصل منها ما يمكن تحصيله ويأخذه لنفسه.
وفي الثالث والعشرين من صفر خرج جاليش الناصر إلى قصد الشام وفيه من الأمراء بكتمر جلق وطوغان ويلبغا الناصري وشاهين الأفرم وغيرهم.
وفي سابع عشر منه توجهوا من الريدانية وخرج السلطان في رابع ربيع الأول بالعسكر بعد أن عمل المولد النبوي في أول ليلة من ربيع الأول، وجلس عن يمينه ابن زقاعة ودونه الشيخ نصر الله ودونه بقية المشايخ، وعن يساره القضاة، وأنعم في هذه السنة على قاضي الحنابلة بمائة دينار ليتجهز بها دون بقية القضاة، وقرر في مشيخة التربة التي أكمل عمارتها، وكان أبوه أسسها صدر الدين أحمد ابن العجمي ورتب عنده الصوفية.(2/449)
وفي السادس منه أمر بأخذ ما في الطواحين والمعاصر من الخيل والبغال فصيرت إلى العسكر، وبلغ الأميرين تحرك الناصر إليهما من القاهرة فأذعنا إلى المصالحة على أن يكون دمشق وما معها لشيخ وحلب وما معها لنوروز وأن يستقل كل منهما بمملكته، وتركا ذكر اسم الناصر من مكاتباتهما وصارا يكتبان بدل الملكي الناصري الملك لله، فلما تقرر ذلك عزما على مسك دمرداش وابن أخيه قرقماش فهرب دمرداش ولحق بالعجل بن نعير ثم سار إلى الناصر، وهرب أيضاً مقبل الرومي فلحق بالناصر لما قدم غزة ورجع شيخ إلى دمشق ومعه يشبك بن أزدمر وأفرج عن سودون الجلب وغيره من المأسورين بقلعة المرقب وأشاع أنه يريد التوجه إلى عسكره فتوجه إلى العربان فأوقع بهم وأخذ لهم جمالاً وأغناماً كثيرة، وخرج من دمشق ومعه جانم نائب حماة متوجهاً إلى جهة حلب ووصل القاضي شمس الدين الإخناي مع الناصر فأعيد إلى قضاء دمشق وصرف الباعوني عن خطابة القدس وخطب الإخناي، وأما نوروز فمضى إلى حلب فتسلمها واستمر السلطان في السير إلى الشام وقرر في نيابة الغيبة أرغون نائب السلطنة وكمشبغا الجمالي في القلعة وإينال الصصلاني الحاجب لفصل الحكومات وأنفق في هذه السفرة من الموال ما لا يدخل تحت الضبط فأعطى لتغري بردي وبكتمر جلق ستة آلاف دينار ولكل مقدم ألفي دينار ولكل طبلخاناه خمسمائة ولكل أمير عشرين ثلاثمائة ولكل أمير عشرة مائتين ولكل مملوك مائة فكانت النفقة وحدها نحو خمسمائة ألف دينار خارجاً عن الخيول والجمال وما يحتاج هو إليه من الترك والخلع وغير ذلك(2/450)
فلما وصلوا إلى غزة بلغهم خبر شيخ فبادر بكتمر جلق فأسرع السير فوصل إلى دمشق في سابع عشري ربيع الأول صبيحة خروج شيخ منها فأدرك جماعة من أصحاب شيخ فقبض عليهم، وقدم الناصر صبيحة ذلك جريدة ليكبس شيخ ففاته، ثم قدمت أثقال الناصر ونودي بالأمان وقرر الناصر في نيابة دمشق نوروز ونودي بذلك ليطمئن ويحضر إليه، وقرر في نيابة طرابلس يشبك الموساوي بعد أن بذل فيها مائة ألف دينار. وبرز الناصر إلى برزة في العشر الأول من ربيع الأول واستناب بدمشق شاهين الزردكاش وقبض على شرف الدين موسى الملكاوي واتهمه بإخفاء صدر الدين ابن الأدمي وكان إذ ذاك قاضي الحنفية وكاتب السر عند شيخ فدلّ عليه، فلما أتاه الطلب هرب ثم قبض عليه فسجن بقلعة دمشق في سابع جمادى الأولى واستمر مسير الناصر إلى حلب ثم خرج منها في نصف الشهر، فلما أحسّ الأمراء بمسيره مضوا إلى مرعش فتلقاهم علي بك وناصر الدين بك ولدا خليل بن بلغادر فأقاموا عندهما، ثم بلغهم خروج الناصر من حلب في طلبهم فرحلوا إلى غلوا ثم إلى قيسارية فنزل الناصر بالابلستين وكتب إلى شيخ ونوروز يخيّرهما بين الخروج عن مملكته أو الوقوف لمحاربته أو الوصول إلى خدمته ليفعل فيهما ما شاء وأنه عزم على الإقامة بمكانه السنتين والثلاث حتى ينال غرضه منهم، فأجابه شيخ يعتذر بما خامر قلبه من الخوف وأنه المانع من الحضور وأنه لا يقابل السلطان أبداً وأنه إن لم يسمح له السلطان بنيابة دمشق فلينعم عليه بنيابة أبلستين ولنوروز بنيابة ملطية وليشبك بن أزدمر بعينتاب ويفرق القلاع على بقية الأمراء ليحفظوها فإنهم أحق من التركمان والأكراد المفسدين، فلم يرض السلطان بذلك وأرسل إلى دمشق يستدعي الأموال وأمرهم(2/451)
أن يوزعوا البساتين وغيرها من الطواحين والحمامات وغيرها نصف ما كان يأخذه نوروز، وأهل القرى حينئذ يجبى منهم الشعير وأحدثوا عليهم شعيراً آخر ليزرع للفصيل التي ترعاه الخيل. ووصل إلى الناصر من التركمان والعربان ونواب القلاع خلق كثير، ووصلت إليه رسل قرا يوسف ورسل صاحب ماردين ورسل قرا يلك بتقادمهم وهداياهم، فكثرت العساكر وقلت الأقوات وظهر الملل في العسكر وبدت نفرتهم من طول الإقامة فألزم ولدا دلغادر محمّد بك وعلي بك بالقبض على نوروز وشيخ ومن معهما وطردهما من البلاد ورجع إلى حلب، فلما رجع توجه سودون الجلب من عسكر نوروز وشيخ فغلب على الكرك، وخرج نائب دمشق في طلبه فلما بلغه أنه مر عليه فلم يدركه وفاتهم أيضاً جانم وقرقماش فتوجها إلى ملطية ثم افترقا فقدم قرقماش على الناصر بحلب فأكرمه وولاه نيابة صفد، ثم قدم جانم فولاه نيابة طرابلس، ثم قدم تغرى بردى ابن أخي دمرداش فقرر في نيابة صفد وعوض عنها أخوه قرقماش بحلب وكان استناب في دمشق
بكتمر جلق وكان استناب حيدر نائب قلعة المرقب على طرابلس فتوجه إليها، وبها حسن بن محب الدين أستادار شيخ وعلم الدين وصلاح الدين ولدا ابن الكويز من جهته فحاصرهم ثم صرف عن النيابة وسار إليها جانم المذكور قبل، وأرسل الناصر إلى الطنبغا العثماني وقانباي المحمدي يطلبهما من دمشق فتوجها إليه في خامس رجب، ووصل بكتمر جلق في السادس منه فاستقر بها ووصل فيروز الخازندار لإخراج من بقي من المماليك بدمشق، ووقعت بين نائب البيرة وبين سودون المحمدي حرب، وأرسل الناصر من أخذ قلعة الروم، وأرسل بلبان يحاصر كزل من الشيخية بصهيون وأرسل تنكز إلى حصن الأكراد ومعه ابن إينال، وأرسل إلى دمشق بالقبض على جماعة من المخامرين. تمر جلق وكان استناب حيدر نائب قلعة المرقب على طرابلس فتوجه إليها، وبها حسن بن محب الدين أستادار شيخ وعلم الدين وصلاح الدين ولدا ابن الكويز من جهته فحاصرهم ثم صرف عن النيابة وسار إليها جانم المذكور قبل، وأرسل الناصر إلى الطنبغا العثماني وقانباي المحمدي يطلبهما من دمشق فتوجها إليه في خامس رجب، ووصل بكتمر جلق في السادس منه فاستقر بها ووصل فيروز الخازندار لإخراج من بقي من المماليك بدمشق، ووقعت بين نائب البيرة وبين سودون المحمدي حرب، وأرسل الناصر من أخذ قلعة الروم، وأرسل بلبان يحاصر كزل من الشيخية بصهيون وأرسل(2/452)
تنكز إلى حصن الأكراد ومعه ابن إينال، وأرسل إلى دمشق بالقبض على جماعة من المخامرين.
فلما كان السادس من رجب ركب بكتمر جلق ورفع علم السلطان ونادى من أطاع السلطان فليقف تحت العلم فتسارعوا إليه إلا قليلاً مضوا إلى الميدان ودقوا طبلاً، وقبضوا على قانباي ونكباي وتوجهوا فتبعهم بقية العسكر فلم يلحقوهم واستمر أولئك إلى أن دخلوا الكرك وكبيرهم بردبك الخازندار، فلما بلغ الناصر خبر الكرك أرسل تقليد نيابتها لسودون الجلب ليستميله بذلك، ثم رحل الناصر فوصل إلى دمشق في أواخر رجب، ولما تحقق شيخ ونوروز رحيله من حلب توجها إلى عينتاب وسلكا البرية طالبين الشام، فركب الناصر من حلب على حين غفلة فقدم دمشق في أربعة أيام، واستأذنه القاضي جلال الدين في التوجه إلى القاهرة بسبب تجهيز صرر الحرمين فأذن له فسار منها في ثامن شعبان، وسار أيضاً مجد الدين ابن الهيصم ناظر الخاص فقدم القاهرة في ثامن عشر شهر شعبان، وبالغ في المصادرات وطلب الأموال من غير حقها حتى أنه أحضر صحبته مراسيم بإبطال المواريث الأهلية حتى صار أنه من له ولد أو والد فلم يمهل ومات في ليلة العشرين منه وسر الناس بموته، وظفر الناصر بستة من أصحاب شيخ بدمشق فأمر بهم فوسطوا، وقدم الخبر بوصول شيخ ونوروز إلى أرض البلقاء في مائتين وخمسين فارساً، وكان سبب ذلك أنهم تفرقوا بعد رجوعهم عن قيسارية عند تل ياسر؛ ولحق بدمشق وحلب منهم عدة وافرة واختفى آخرون(2/453)
ومر شيخ ونوروز في خواصهما إلى تدمر فامتاروا منها ثم مضوا إلى صرخد ولم يستقروا بها ثم مضوا إلى البلقاء ودخلوا إلى القدس، ثم رجعوا إلى غزة فدخلوها في سادس عشري شعبان ومات منهم بالبلقاء تمربغا المشطوب وإينال المنقار بالطاعون في حسبان ولحق بهم سودون الجلب من الكرك فاخذوا من غزة كثيراً من الخيول ثم رحلوا منها في صبيحة الثالث من رمضان ورجع الجلب إلى الكرك فجهز الناصر في أثرهم بكتمر جلق على عسكر كثير، فسار إلى زرع ثم ألحقه بطوغان، فساروا في أواخر شعبان فاجتمعوا بقاقون في الثاني من رمضان فساروا جميعاً إلى غزة فقدموها في ثالثه، وقد رحل منها شيخ وأصحابه بكرة النهار فوجدوا نائب غزة جاني بك قد تبعهم إلى الزعقة فاستراحوا بغزة وبعث بكتمر شاهين الزردكاش وغيره على البرية إلى القاهرة يحذرهم مجيء شيخ ومن معه وخرج من غزة في الخامس من رمضان واستمر شيخ ومن معه متوجهين إلى القاهرة فمات شاهين دويداره بالصالحية، فدفنه هناك، وحزن عليه كثيراً وكان من الفرسان المعدودين ميمون النقيبة لم يرسله أستاذه في جهة إلا وكان على وجهه النصر واستمر شيخ ومن معه إلى القاهرة، فاستعد أرغون نائب الغيبة ومن معه للحصار، فوصلوا في الثامن من رمضان وهم شيخ ونوروز ويشبك بن أزدمر وبردبك وقنباي وسودون بقجة وسودون المحمدي ويشبك العثماني وقمش وأتباعهم، والتف عليهم جمع كثير من عرب الشرقية فتوجه شيخ من ناحية المطرية إلى بولاق إلى الميدان الكبير إلى الصليبة إلى الرملة فبرز لهم أينال الصصلاني الحاجب فصدهم عن القلعة فتوجهوا إلى بيت نوروز بالرملة واجتمع عليهم خلق كثير من الغوغاء وأرسل شيخ رجلاّ إلى القاهرة فنادى بالأمان ورفع الظلم ورخص سعر الذهب والقمح، فمال الناس إليه وساعدوه(2/454)
فتوجه بمن معه إلى مدرسة الأشرف فملكها ثم مدرسة حسن ورموا على الإصطبل ففر منهم أرغون فدخل القلعة بمفرده وأمر شيخ بإخراج من في جميع الحبوس من المسجونين فأطلقوا وكان بعض ذلك بمباشرة يشبك بن أزدمر بحيث أنه هدم ما فوق خوخة إيدغمش وسهل الدخول للراكبين منها فدخلوا وفتحوا باب زويلة، فهرب حسين والي القاهرة وتوجه إلى حبس الديلم فكسر بابه وأخرج من فيه وأمر شيخ بتتبع الخيول من الإصطبلات وغيرها فأخذ منها ما يحتاج إليه ثم هجم على باب السلسلة فأخذ الإصطبل وجلس في الحراقة وتوجهوا إلى باب القلعة فطلبوا فتحه فكلمهم الزمام من وراء الباب فقال إن حريم السلطان في القلعة فقالوا: مالنا غرض في النهب بل نريد أن نأخذ ابن السلطان فنسلطنه، فقال: ليحضر منكم إلى باب السر اثنان أو ثلاثة فيحلفوا وأنا أسلمه لكم وقصد إعطاءه ليحضر العسكر السلطاني فباتوا، فلما أصبحوا لاحت بوارق العسكر وارتفع العجاج وأشيع أن الناصر وصل فارتفعت الأصوات في القلعة بذلك وهللوا وكبّروا، فركب شيخ وأصحابه من ساعتهم نحو باب القرافة فكبا بالأمير شيخ جواده، فبادر أصحابه فأركبوه غيره ولم يجسر أحد على
اتباعهم وكان العسكر الواصل فيه بكتمر جلق وطوغان ومن معهما فقبضوا من المذكورين على جماعة منهم بردبك وبرسباي وقراكشك وكان السبب في قدوم هؤلاء بهذه السرعة أن الناصر لما وصل دمشق وقيل له إن نوروز ومن معه توجهوا إلى صرخد جهز بكتمر جلق وطوغان الدويدار ويشبك الموساوي وقنباي واسنبغا الزردكاش والطنبغا العثماني ومن معهم وكانوا قدر ألف نفس ليحاصروا نوروز ومن معه، ويقبضوا عليهم فلما وصلوا إلى صرخد قيل لهم قد توجهوا إلى غزة فاستمروا خلفهم إلى غزة فقيل لهم توجهوا نحو مصر، فاختلفوا فقال بكتمر ومن معه: ما معنا مرسوم بالرواح لمصر، وخالفهم الأكثر فاحتاج أن يوافقهم وتوجهوا إلى مصر مسرعين فاتفق وصولهم حين أراد نائب الغيبة بالقلعة أن يسلم القلعة فبطل ذلك فجأة، وظن شيخ ومن معه أن السلطان في العسكر المذكور فانهزموا، ولو تحقق أن رأسهم بكتمر لما انهزم لعلمه أن بكتمر المذكور لا يقوم قدامه، واعتذر من قدم من عدم اتباعهم للمنهزمين أن خيولهم كانت أعيت، وكذلك الرجال من توالي الركض حتى أدركوا ما أدركوا، فسار شيخ بمن معه إلى إطفيح ثم إلى السويس، فأخذوا منها عليقاً وجمالاً، وسار بهم شعبان بن عيسى في درب الحاج إلى نخل وافترقوا حينئذ فرقتين: فرقة رأسها نوروز ومعه يشبك بن أزدمر وسودون بقجة، وفرقة فيها شيخ ومعه سودون قراصقل وسودون المحمدي، فوصلوا إلى الشوبك ثم إلى الكرك فتلقاهم سودون الجلب وأدخلهم المدينة، فلما كان في وسط ذي القعدة توجه شيخ إلى الحمام بالكرك ومعه قنباي المحمدي وسودون وطائفة يسيرة، فبادر أحمد بن أبي العباس الحاجب بالكرك وأراد الفتك به ومعه جمع كثير فاقتحموا الحمام فسبقهم بعض مماليك شيخ فأعلمه، فنهض وفي وسطه مئزره وفي يده طاسة الحمام فقاتلهم فأخرجهم من الحمام، ثم تكاثروا عليه فأدركه نوروز في جماعة فكسرهم، وقد أصاب شيخ سهم فخرج منه بسببه دم كثير فسقط مغشياً عليه، فحمل على بساطه وأقام أياماً لا يعقل، وقتل في هذه الكائنة سودون بقجة وكان شاباً وكان زوج بنت تمراز وكان مع ذلك محبّاً في العلماء، فلما وقع ذلك خشي سودون الجلب من الأمراء أن ينسبوه إلى الفتنة المذكورة، فهرب منهم إلى ماردين وعزم على المضي إلى قرا يوسف، فبلغه أنه مشغول بمحاربة ملوك الترك مثل إيدكي وإبراهيم الدربندي وشاه رخ بن تمرلنك، فتأخر عن المضي إليه ونودي بالقاهرة بتهديد من آوى أحدا من الشيخية والنوروزية، وبسط حسام الدين الوالي في أذى من ينسب إليهم حتى منعه بعد ذلك نائب الغيبة، وأخذ بكتمر جلق من الأستادار السلطاني ألف دينار وألزم المحتسب ببيع قمح له بألفي دينار وإحضار ثمنها، فعجز عن ذلك وهرب وعزل نفسه، وهو شمس الدين بن الدميري ومات بعد قليل في رمضان وأخذ بكتمر من تجار الشام مالا جزيلا قرضاً، وتوجه في السادس عشر يريد دمشق، فوصل إلى غزة في الثاني والعشرين منه. اعهم وكان العسكر الواصل فيه بكتمر جلق وطوغان ومن معهما فقبضوا من المذكورين على جماعة منهم بردبك وبرسباي وقراكشك وكان السبب في قدوم هؤلاء بهذه السرعة أن الناصر لما وصل دمشق وقيل له إن نوروز ومن معه توجهوا إلى صرخد جهز بكتمر جلق وطوغان الدويدار ويشبك الموساوي وقنباي واسنبغا الزردكاش والطنبغا العثماني ومن معهم وكانوا قدر ألف نفس ليحاصروا نوروز ومن معه، ويقبضوا عليهم فلما وصلوا إلى صرخد قيل لهم قد توجهوا إلى غزة فاستمروا خلفهم إلى غزة فقيل لهم توجهوا نحو مصر، فاختلفوا فقال بكتمر ومن معه: ما معنا مرسوم بالرواح لمصر، وخالفهم الأكثر فاحتاج أن يوافقهم وتوجهوا إلى مصر مسرعين فاتفق وصولهم(2/455)
حين أراد نائب الغيبة بالقلعة أن يسلم القلعة فبطل ذلك فجأة، وظن شيخ ومن معه أن السلطان في العسكر المذكور فانهزموا، ولو تحقق أن رأسهم بكتمر لما انهزم لعلمه أن بكتمر المذكور لا يقوم قدامه، واعتذر من قدم من عدم اتباعهم للمنهزمين أن خيولهم كانت أعيت، وكذلك الرجال من توالي الركض حتى أدركوا ما أدركوا، فسار شيخ بمن معه إلى إطفيح ثم إلى السويس، فأخذوا منها عليقاً وجمالاً، وسار بهم شعبان بن عيسى في درب الحاج إلى نخل وافترقوا حينئذ فرقتين: فرقة رأسها نوروز ومعه يشبك بن أزدمر وسودون بقجة، وفرقة فيها شيخ ومعه سودون قراصقل وسودون المحمدي، فوصلوا إلى الشوبك ثم إلى الكرك فتلقاهم سودون الجلب وأدخلهم المدينة، فلما كان في وسط ذي القعدة توجه شيخ إلى الحمام بالكرك ومعه قنباي المحمدي وسودون وطائفة يسيرة، فبادر أحمد بن أبي العباس الحاجب بالكرك وأراد الفتك به ومعه جمع كثير فاقتحموا الحمام فسبقهم بعض مماليك شيخ فأعلمه، فنهض وفي وسطه مئزره وفي يده طاسة الحمام فقاتلهم فأخرجهم من الحمام، ثم تكاثروا عليه فأدركه نوروز في جماعة فكسرهم، وقد أصاب شيخ سهم فخرج منه بسببه دم كثير فسقط مغشياً عليه، فحمل على بساطه وأقام أياماً لا يعقل، وقتل في هذه الكائنة سودون بقجة وكان شاباً وكان زوج بنت تمراز وكان مع ذلك محبّاً في العلماء، فلما وقع ذلك خشي سودون الجلب من الأمراء أن ينسبوه إلى الفتنة المذكورة، فهرب منهم إلى ماردين وعزم على المضي إلى قرا يوسف، فبلغه أنه مشغول بمحاربة ملوك الترك مثل إيدكي وإبراهيم الدربندي وشاه رخ بن تمرلنك، فتأخر عن المضي إليه ونودي بالقاهرة(2/456)
بتهديد من آوى أحدا من الشيخية والنوروزية، وبسط حسام الدين الوالي في أذى من ينسب إليهم حتى منعه بعد ذلك نائب الغيبة، وأخذ بكتمر جلق من الأستادار السلطاني ألف دينار وألزم المحتسب ببيع قمح له بألفي دينار وإحضار ثمنها، فعجز عن ذلك وهرب وعزل نفسه، وهو شمس الدين بن الدميري ومات بعد قليل في رمضان وأخذ بكتمر من تجار الشام مالا جزيلا قرضاً، وتوجه في السادس عشر يريد دمشق، فوصل إلى غزة في الثاني والعشرين منه.
وفي رمضان قبض على شرف الدين وشمس الدين ولدي التباني وعلي محب الدين ابن الشحنة وشهاب الدين ابن شغري من حلب فقيدوا وأحضروا إلى دمشق فسجنوا بالقلعة، وأرسل الناصر إلى جانم نائب طرابلس وتغري بردي نائب صفد فقدما عليه بدمشق، فأرسلهما في عسكر إلى جهة شيخ فخرجوا في سابع عشر رمضان، فوصل الخبر بما اتفق في القاهرة، فاستعادهم وأرسل أقبغا دويدار يشبك إلى القاهرة بخلع إلى الأمراء المذكورين مع الثناء عليهم بما فعلوه، وكان الخبر قد اتصل إلى الناصر بتقاعد طوغان وبكتمر عن القبض على شيخ ونوروز ومن معه مع قدرتهم على ذلك فأسرّ ذلك في نفسه، ثم جاءه الخبر بأخذ أصحابه قلعة صرخد.
وفي العشرين من شوال أخرج بالذين قبض عليهم الناصر من دمشق مقيدين للتوجه بهم إلى مصر، ثم توجه دمرداش إلى بلد الخليل ومعه عسكر لكشف أخبار الأمراء الهاربين من القاهرة.(2/457)
وفي العاشر من ذي القعدة نودي بالعسكر أن يخرجوا إلى باب النصر، وتتبعت الحمير من الدواليب والبساتين ليحمل عليها الأمتعة السلطانية، فتضرّر الناس بذلك كثيراً وكثر الدعاء عليه.
وفي الخامس عشر منه خرج السلطان إلى الغوطة فنهب عقربا، وكان قد سعى عنده أن الأمراء الهاربين بها، فلم يجد منهم أحداً وعظم الضرر بالناحية المذكورة.
وفي سابع عشره خرج الناصر من دمشق ونزل بقبة يلبغا ورجع بكتمر جلق بخلعة على نيابة الشام، فلما كان في سلخ ذي القعدة ألزم قضاة الشام بعشرة قراقل والتجار بعشرة أخرى وفي ذي القعدة خامر أقبغا شيطان وكان على المرقب من جهة شيخ فسار إلى جهة حلب مظهراً لطاعة السلطان، وتوجه السلطان إلى جهة الكرك لما تحقق حلول الأمراء بها، وأرسل حريمه إلى القاهرة فوصلوا ووصل صحبتهم أكثر الأثقال والقضاة في ذي الحجة، ووصل الناصر إلى الكرك فحاصرها، فمشى تغري بردي وتمراز الناصري في الصلح بين الناصر وبين الأمراء إلى أن استقر الأمر على أن يكون شيخ في نيابة حلب وتستمر قلعة المرقب بيده، وأن يكون نوروز في نيابة طرابلس وشرط الناصر عليهما أن لا يخرجا إمرة ولا إقطاعاً ولا وظيفة إلا بأمره وان يسلما قلعة الكرك ومدينتها له، وكذلك يسلم شيخ قلعة صرخد وقلعة صهيون وحلف الجميع على الوفاء بذلك وخلع عليهم وعلى من معهما خلعاً كثيرة وقرر يشبك بن أزدمر أتابك العساكر بدمشق وسودون بن عبد الرحمن أميراً بمصر وقايتباي المحمدي أميراً بحلب، ونزلوا الجميع إلى الناصر وأكلوا على سماطه وعملوا الخدمة عنده، ورحل الناصر من الكرك إلى القدس وسار تغري بردي إلى جهة دمشق وقد استقر نائبها عوضاً عن بكتمر جلق، فأقام الملك الناصر بالقدس خمسة أيام ورجع متوجهاً إلى القاهرة.(2/458)
ذكر الحوادث الخارجة عن حروب المتغلبين
في المحرم استقر قراجا شاد الشربخاناة دويداراً كبيراً عوضاً عن قجاجق بحكم موته فلم ينشب أن مات وهو متوجه صحبة العسكر بالصالحية في ثالث صفر، ودفن في جامعها ثم نقل بعد ذلك إلى القاهرة. قال العينتابي: كان فاسقاً قليل الخير وخلف موجوداً كثيراً احتاط عليه السلطان، وفيه أولم بكتمر جلق على عرس بنت الناصر وبنى بها ليلة الجمعة حادي عشره.
وفي ليلة الحادي والعشرين منه اجتمع رجلان من العوام بدمشق فشربا الخمر فاصبحا محروقين ولم يوجد بينهما نار ولا اثر حريق في غير بدنهما وبعض ثيابهما، وقد مات أحدهما وفي الآخر رمق، فأقبل الناس أفواجاً لرؤيتهما والاعتبار بحالهما، وفيه فشا الطاعون بطرابلس وحوران وبالس ودمشق، ووقع جراد بالرملة والساحل، وفيه توجه أحمد ابن أويس في عسكر بغداد إلى تبريز ليستولي عليها وقد سار صاحبها قرا يوسف إلى أرزنكان لقتال قرا يلك التركماني وكان بينهما عداوة، فبلغ ذلك قرا يوسف وأن أحمد ابن أويس اتفق مع شاه رخ بن تمرلنك وغيره على قرا يوسف، فرجع قرا يوسف عن محاربة قرا يلك، وتوجه إلى تبريز فجمع أحمد بن أويس عسكراً كثيراً فيهم ابن الشيخ إبراهيم الدربندي وأمراء البلاد، فاقتتلوا في يوم(2/459)
الجمعة ثاني عشري ربيع الآخر، فانكسر ابن أويس، وفقد ابن أويس وولده علي وكثير من الأمراء، وأسر ابن الشيخ وعدة من الأمراء، واستولى قرا يوسف على تبريز وغيرها، ويقال إن ابن أويس اختفى في عين ماء فدخل عليه بعض الفرسان فأراد قتله فعرفه بنفسه فأحضر إلى قرا يوسف فأكرمه واستمر معه في الاعتقال فيقال إنه قتل خنقاً، وحاصر محمّد بن قرا يوسف بغداد أشهراً وبها بخشاش مملوك أحمد فلم يصدق بموت أحمد، واستمر على الخطبة له ثم أقام صبياً يقال له أويس ابن أخي أحمد فسلطنه، ثم قامت ببغداد ضجة في الليل قتل فيها بخشاش وأشيع أن الذي أمر بقتله أحمد بن أويس وأنه حي يرزق وأنه ظهر ببغداد وصارت الأوامر تخرج من دار أحمد على لسانه، واستقر عبد الرحيم بن الملاح موضع بخشاش وأعيدت الخطبة باسم أحمد وبطل أمر أويس، فرجع محمّد بن قرا يوسف بمن معه عن حصار بغداد ثم قتل عبد الرحيم بن الملاح وأشاعت أم الصبي أويس أن أحمد بن أويس قتل، فأعادوا ابنها إلى السلطنة، فعاد عليهم محمّد فحاصرهم، فأشيع ثانياً أن أحمد حي وقد وقعت ضجة عظيمة وشاع أن أحمد ظهر فاجتمع الناس إلى داره، فخرج إليهم شخص في زي أحمد على فرس فقبلوا له الأرض وذلك ليلاً فسألوه أن يظهر لهم نهاراً فواعدهم وظهر لهم عند غروب الشمس فصاحت العامة هذا السلطان أحمد! وظنوا ذلك حقيقة، ثم ظهر فساد ذلك وأن ذلك كله تخرج على أم أويس، وآل الأمر إلى غلبة محمّد بن قرا يوسف على بغداد، ونزح عنها أويس بمن معه فسار إلى تستر فملكها وانقضى أمر أحمد بن أويس، وكانت غلبة محمّد على بغداد في أول سنة أربع عشرة(2/460)
وهربت مرضعة حسن بن أحمد بن أويس إلى حلب، فقدمت به في رمضان، وقيل إن قرا يوسف لما ظفر به سلمه لبعض أصحابه وقال إني لم أنصر عليه بقوتي لكن بغدره وكان قرا يوسف لا يحب القتل فخشي من فر إلى قرا يوسف من أحمد أن يطلقه فيهلكهم فتسببوا في قتله إلى أن لم يجد بداً من الأمر بقتله فأمر بخنقه ظاهراً وأسر إلى من يخنقه أن يبقى عليه، ثم أحضر شخصاً شبهه، فشنقه فرضي أصحابه بذلك ولهذا كان قرا يوسف وولده محمّد ومن عرف القصة إذا أشيع أن أحمد حي يصدقون بذلك ولا يتوقفون وقد أشيع بعد ست سنين من هذا التاريخ أنه حي.
وفيه في ثالث عشري صفر نودي بالقاهرة أن تكون الفلوس باثني عشر درهماً لكل رطل، وكانت بستة والذهب بمائتين منها واشتد الأمر وفقد الخبز وغلقت الأسواق فغضب الناصر من ذلك وكان قد حصل من الفلوس جملة كثيرة لتحسين بعض الناس له ذلك وسولت له نفسه أنه إذا صيرها باثني عشر لكل رطل ربح في كل ألف ألفاً أخرى فاشتد عليه مخالفتهم لأمره وهم أن يضع السيف في العامة وبات الناس في كرب ثم لم يزل به الأمراء حتى أذن أن يكون بتسعة كل رطل، فنودي بذلك فسكن الحال قليلاً وظهرت المآكل ثم شفع إليه الأمراء أن يعيدها لما كانت عليه لما حصل لهم من العطلة في تجهيزهم إلى السفر فنودي عليها بستة فضجت الأسواق وقيل كان السبب أنه سأل عن سعر الحديد الذي ينعل به الخيول والبغال وعن سكك الحديد والسلاسل، فقيل له كل رطل باثني عشر فأنكر ذلك، وقال الفلوس من النحاس وهو أغلى من الحديد فكيف يكون النحاس أرخص من الحديد، فلما تخيل المماليك أن ذلك بسببهم ونفروا منه رجع عن ذلك.(2/461)
وفيها انحط سعر الغلال بعد سفر الناصر إلى الشام حتى وصل الشعير من مائة وخمسين إلى ستين وقس على ذلك.
وفي هذه السنة كثرت الفتن بجبل نابلس بين ابن عبد الستر وابن عمه عبد القادر شيخي العشير وعظم البلاء بحيث أن الدرب انقطع من السالك.
وفي جمادى الأولى استقر محمّد التركماني في نيابة الكرك.
وفيه توجه عثمان بن طرغلي المعروف بقرا يلك إلى أرزنكان وحرق ديارها وجلا أهلها معه إلى بلاده.
وفيه اقتتل سليمان بن أبي يزيد مع أخيه موسى وهزمه وحصره بأخلاق وآل الأمر إلى استيلاء موسى على مملكة أخيه ومات أخوه في هذا العام.
ووقع بين ابن قرمان وبين ابن كريمان قتال، وكثرت الفتن بين التركمان، واستعرت البلاد ناراً فلله الأمر.
وفي جمادى الآخرة وصل الفرنج الذين استأذنوا الناصر في العام الماضي لما دخل القدس أن يجددوا عمارة بيت لحم، فواصلوا في هذا العام إلى يافا ومعهم عجل وصناع وأخشاب فاخرجوا المرسوم واستدعوا الصناع للعمل بالأجرة فأتاهم عدة وشرعوا في إزاحة ما بطريقهم من الأوعار ووسعوا الطريق بحيث تسع عشرة أفراس ولم تكن تسع غير فارس وأحضروا معهم دهناً إذا وضعوه على الصخرة سهل قطعها فلما رجع الناصر إلى دمشق عرف نصحاؤه بسوء القالة في ذلك فكتب إلى أرغون كاشف الرملة يمنعهم من ذلك والقبض عليهم وعلى من معهم من الصناع وآلات السلاح والجمال والدهن فختم على مخازنهم وحملهم ومعهم(2/462)
ما رسم به إلى الناصر.
وفي ثاني عشري رمضان استقر تاج الدين عبد الوهاب ابن نصر الله في نظر الكسوة ووكالة بيت المال بعد موت الطويل.
وفي سابعه استقر شهاب الدين ابن الكشك في قضاء الحنفية بدمشق ونجم الدين ابن حجي في قضاء الشافعية بطرابلس.
وفي رمضان أوقع قرقماش بالتركمان، ونهب منهم غنماً كثيراً وجمالاً ومالاً، فوافاه كتب الناصر يأمره بالوصول إليه، فوصل وأهدى له من كسبه من التركمان أربعة آلاف رأس غنم.
وفي شوال قبض الناصر على جانبك القرمي فضربه ضرباً مبرحاً، وسجنه بالقلعة.
وفي ذي القعدة قدم الأستادار تاج الدين ابن الهيصم والوزير سعد الدين البشيري إلى القاهرة لتحصيل الأموال، فأظهر الأستادار مرسوم الناصر بقبض ترك الموتى جميعها من ذوي الأموال مطلقاً سواء من كان له وارث أم لم يكن، فعظمت المصيبة وكثرت الشناعة وبالغ في استرجاع الميراث ممن أخذه بحق من ولد وأخ وزوج وزوجة وغير ذلك، فشاع بين الناس أن الناصر أمر بتغيير حكم الله.
وفي هذه السنة كان في أول العام وباء ببلاد فلسطين وحوران وعجلون ونابلس وطرابلس فمات خلق كثير جداً، ثم كان في آخرها الطاعون بدمشق ونواحيها، وفيها تناقصت الأسعار بالقاهرة فبلغ القمح مائة وثلاثين والشعير مائتين والذهب مع ذلك غال جداً فبلغ الإفرنجي مائتي درهم والهرجة مائتين وعشرين، وفيها جدد مرجان الهندي خازندار شيخ الجامع بحكر السماق، ورتب في إمامته شهاب(2/463)
الدين الأذرعي ابن أخي قاضي أذرعات إماماً، ورتب فيه كمال الدين الزابحي متصدراً لسماع الحديث.
وفيها عزر القاضي شمس الدين الإخنائي قاضي الشام جمال الدين عبد الله المجادلي بسبب ما يكثر من المذكور من النميمة بين الناس فضربه وحبسه، وشكره الناس على ذلك قرأت ذلك بخط ابن حجي.
وفي هذه السنة كانت الحادثة العظيمة بفاس من بلاد المغرب حتى خربت وذلك أن ملكها وهو أبو سعيد عثمان بن أحمد بن إبراهيم بن علي بن عثمان بن يعقوب بن عبد الحق قرر في تدبير مملكته الحاجب عبد الله بن الطريفي فأوقع بينه وبين أبي فارس صاحب إفريقية، وجهز محمّد بن أبي يحيى بن زكريا بالعسكر ليحاصر تونس، فما زال أبو فارس ينصب له أشراك المكايد حتى أوقعه وهزمه ومزق عسكره، فلما تمكن من ذلك كاتب ابن الأحمر بأن يفرج عن محمّد بن عبد العزيز بن أبي سالم، وكان معتقلاً عنده مع جماعة من ذرية بني مرين ممن يرشح للملك، فأفرج عنه وسلطنه في أول شعبان منها وجهزه، فأجاز البحر حتى نازل فاس في ذي الحجة، فخرج عبد الله بن الطريفي لقتاله فكبا به فرسه، فقبض عليه محمّد وأمر به فأحرق، واستمر في حصار فاس وكان ما سنذكره في التي بعدها إن شاء الله تعالى.(2/464)
ذكر من مات
في سنة ثلاث عشرة وثمانمائة من الأعيان
إبراهيم بن محمّد الرصافي كان من ذوي اليسار فقطع عليه الطريق فقتل.
أحمد بن أويس بن الشيخ حسن النوين بن حسين بن أقبغا بن أيلكان بن القال غياث الدين سلطان العراق كان مولده سنة..... وأول ما ولي إمرة البصرة من أخيه حسين، فلما اختلف الأمراء على حسين خرج من بغداد إلى تبريز فقدم أحمد بالجنود واغتال أخاه وقام بالسلطنة وذلك في صفر سنة أربع وثمانين، وقبض على أعيان الأمراء فقتلهم وأقام أولادهم، فثار عليه من بقي ببغداد مع أخيه شيخ على شاه زاده.
فآل الأمر إلى أن قتل واستبد أحمد فسار السيرة الجائرة وقتل في يوم واحد ثمانمائة نفس من الأعيان وانهمك في اللذات واتفق أن اللنك نازل شاه منصور صاحب شيراز وقتله وبعث برأسه إلى بغداد والتمس منهم ضرب السكة باسمه فلم يطعه أحد، فأخذ تبريز ولم يزل إلى أن نازل بغداد في شوال سنة خمس وتسعين، ففر منه بأهله وما يعز عليه من ماله، فلحقه عسكر اللنك بالحلة فهزموه ونهبوا ما معه وخربوا الحلة وقصد الشام، وأما اللنك فإنه أفقر أهل بغداد بالمصادرة ومات تحت عقوبته فوق الثلاثة آلاف. وأما أحمد فوصل إلى الرحبة واستأذن الظاهر في القدوم عليه، فأجابه بما يطيب خاطره وأمر النواب بإكرامه، وجهز له الأمير أزدمر وصحبته ثلاثمائة ألف، وتلقاه المطبخ السلطاني فنصبت له الموائد، وركب الظاهر إلى لقائه، وذلك في صفر سنة ست وتسعين، ونزل له عن المسطبة،(2/465)
وأسرع أحمد لتقبيل يده فلم يوافق وعانقه وبكى وطيب خاطره وأجلسه معه على البساط بغير كرسي، ثم خلع عليه وأركبه فرساً، وسايره إلى أن وصل القلعة، فأرسله إلى بيت أعده له مطل على بركة الفيل، ثم أرسل له الظاهر بنحو عشرة آلاف دينار ومائتي قطعة قماش وعدة خيول وعشرين مملوكاً وعشرين جارية، ثم قدم ثقل أحمد ثم أحضره الظاهر دار العدل، ثم تجهز السلطان وسافر بالعساكر إلى حلب بعد أن تزوج أخت أحمد واسمها تندى ودخل بها في ربيع الآخر، ثم سار فدخل دمشق في العشرين من جمادى الأولى فأقام بها، وجهز أحمد بن أويس في أول شعبان ورسم له بجميع ما يحتاج إليه، فدخل بغداد في رمضان فوجد بها مسعود الخراساني من جهة اللنك ففر وأقام أحمد ببغداد، واستخدم جنوداً من العرب والتركمان، ووقع الوباء ببغداد، ففر أحمد إلى الحلة، وجرى على سيرته السيئة من سفك الدماء والجد في أخذ أموال الرعية، ولم يزل على ذلك إلى أن عاد اللنك طالباً الشام، ففر أحمد إلى قرا يوسف بن قرا محمّد بن بيرم خجا صاحب الموصل واستنجد به فسار معه، وكان أهل بغداد قد كرهوه فحاربوه وهزموهما معاً، فدخلا بلاد الشام واستأذنا أمير حلب وكان يومئذٍ دقماق من جهة الناصر فرج، ذلك في شوال سنة اثنتين وثمانمائة، فلم يأذن لهم فخرج لمحاربتهم فاقتتلوا قتالاً شديداً، فانهزم أهل حلب وأسر دقماق ففدى نفسه بمائة ألف، فبلغ الناصر ذلك فغضب وأمر بتجهيز عساكر الشام فتوجهوا ففر قرا يوسف فأوقعوا بأحمد فكسروه ونهبوا ما معه وبعثوا بسيفه إلى الناصر، ثم قدم اللنك بلاد الشام وخربها في سنة ثلاث وخرج منها وكان أحمد حينئذ قد فر إلى بلاد الروم،(2/466)
وأرسل اللنك إلى بغداد عسكراً ثم تبعهم وحاصرها ثم أخذها عنوة ووضع السيف فيها، وذلك في شوال سنة ثلاث بعد رحيله من الشام ويقال إنه قتل من أهلها نحو مائتين وخمسين ألف نفس وبنى برؤوسهم مساطب وفارقها وهي خراب، ولما بعد اللنك رجع أحمد إلى بغداد فأقام بها قليلاً فثار عليه ولده طاهر بن أحمد ففر منه وأتى إلى قرا يوسف فسار معه وقاتلا طاهر بالحلة فانهزم وغرق، ودخل أحمد بغداد ثم غدر أحمد بجماعة كانوا عنده من جهة قرا يوسف عدتهم خمسون نفساً من أعيان دولته، فغضب قرا يوسف وسار لمحاربة أحمد، فهرب ثم اختفى في بئر ببغداد، فأمر قرا يوسف بطم البئر، فطمت فما شكوا في هلاكه، فاتفق أنه كان بها فرجة فخرج منها ومضى إلى تكريت ثم إلى حلب، وملك قرا يوسف بغداد فأرسل إليه اللنك ابن ابنه مرزا أبي بكر بن مرزا شاه بن اللنك ففر قرا يوسف، فنهبه الأعراب بالرحبة فقدم دمشق فأنزله نائبها شيخ، ثم قدم قرا يوسف في رجب سنة سبع ووافقه على سيره إلى مصر صحبة يشبك حتى كانت وقعة السعيدية ورجع الجميع منهزمين، فأفرج شيخ عن أحمد في شوال فتوجه إلى بغداد في سادس عشر ذي الحجة فملكها، وتوجه قرا يوسف إلى الموصل وكتب إلى أحمد فاجتمعا ونازلوا مرزا أبي بكر بالسلطانية، فقتل في آخر سنة ثمان وملك قرا يوسف تبريز ورجع أحمد إلى بغداد، فاستأذنه قرا يوسف فيمن يقيمه في السلطنة، فأذن له بإقامة ولده بزق ففعل، وذلك في سنة إحدى عشرة، فقدم مرزا شاه في طلب ثأر ولده فواقعه قرا يوسف فقتل، وغنم قرا يوسف جميع ما كان معه وهو شيء كثير فتقوى به واتفق في غضون ذلك أن أحمد لما تغلب على طباعه من الغدر مضى إلى تبريز فملكها، ونهب جميع ما وجده لقرا يوسف وولده، فرجع إليه وقاتله فانهزم منه، وذلك في(2/467)
ربيع الآخر سنة ثلاث عشرة، فلم يزل أحمد يتطلبه إلى أن ظفر به فأكرمه، ثم سجنه ثم دس عليه من خنقه فمات في آخر يوم من ربيع الآخر، واستقرت قدم قرا يوسف في بغداد وتبريز وكان منه ما ذكر في ترجمته، وكان أحمد سفاكاً للدماء، متجاهراً بالقبائح وله مشاركة في عدة علوم كالنجوم والموسيقى، وله شعر كثير بالعربية وغيرها؛ وكتب الخط المنسوب، وكانت له شجاعة ودهاء وحيل ومحبة في أهل العلم. ع الآخر سنة ثلاث عشرة، فلم يزل أحمد يتطلبه إلى أن ظفر به فأكرمه، ثم سجنه ثم دس عليه من خنقه فمات في آخر يوم من ربيع الآخر، واستقرت قدم قرا يوسف في بغداد وتبريز وكان منه ما ذكر في ترجمته، وكان أحمد سفاكاً للدماء، متجاهراً بالقبائح وله مشاركة في عدة علوم كالنجوم والموسيقى، وله شعر كثير بالعربية وغيرها؛ وكتب الخط المنسوب، وكانت له شجاعة ودهاء وحيل ومحبة في أهل العلم.
أحمد بن الشهيد كان أولاً يتعانى صناعة الفراء، ثم اشتغل قليلاً وباشر في ديوان السلطان، ثم ولي الوزارة، ثم وقعت فتنة اللنك وهو وزير فاستصحبه معه إلى بلاده، ثم خلص منهم بعد يسير وورد دمشق، فباشر نظر الجيش وغيره في شعبان.
أحمد بن علي بن خلف الطنبدي نزيل القاهرة يعرف بالحسيني لأنه كان ينزل الحسينية، وقد لازم الشيخ سراج الدين وعلق من فتاويه قدر مجلدة وكتب خطاً حسناً، مهر في قراءة الحديث والعربية وشارك في الفنون، وسمع معنا قليلاً؛ مات في جمادى الآخرة.
أحمد بن علي بن يوسف المحلي المعروف بالطريني الملقب بمشمش، سمع الكثير بقراءة شيخنا العراقي من العرضي ومظفر الدين العسقلاني وغيرهما، وحدث باليسير وأجاز لي، وكان شاهداً في شؤون المفرد ومباشراً في بعض المدارس، وكان ساكناً خيراً؛ مات في جمادى الأولى.(2/468)
أحمد بن محمّد بن أحمد بن محمّد بن عمر بن رضوان الحريري شهاب الدين الدمشقي المعروف بالسلاوي، ولد سنة ثمان وثلاثين أو نحوها، وكان أبوه يتعانى التجارة في الحرير، فتزوج امرأة من ذرية الشيخ محمّد بن عمر السلاوي فولد له أحمد ومات عن قرب فتربى يتيماً، ثم اشتغل وتفقه على علاء الدين ابن حجي والتقى الفارق، وسمع الحديث بنفسه فأخذ عن جده محمّد بن عمر السلاوي وتقي الدين بن رافع وابن كثير، ثم أخذ في قراءة المواعيد، وقرأ الصحيح مراراً على عدة مشايخ وعلى العامة، وكان صوته حسناً وقراءته جيدة؛ وولي قضاء بعلبك سنة ثمانين ودرس وأفتى ثم ولي قضاء المدينة بعد سنة تسعين، ثم تنقل في ولاية القضاء بصفد وغزة والقدس وغيرها، وكان كثير العيال، وقد سمعت بقراءته صحيح البخاري إلا ما فاتني منه بمكة المشرفة على العفيف النشاوري سنة85. واجتمعت به بعد ذلك وكانت بيننا مودة ومات في صفر، وهو آخر من بقي من فقهاء الشافعية وأكبرهم سناً، وذكر ابن حجي أنه قرأ على الحافظين ابن رافع وابن كثير.
أحمد بن محمّد الدهان رئيس المؤذنين بالجامع الأموي، كان شجي الصوت، عارفاً بالميقات، وقد عمر حتى صار أقدم المؤذنين عهداً وأعرفهم وأشجاهم صوتاً، عاش أربعاً وثمانين سنة، وقد دخل بلاد العجم تاجراً وأقام هناك مدة، وكان عنده خبرة بالأمور، ومات في ذي القعدة.
أبو بكر بن محمّد بن تبع الدمشقي الصالحي، ولد في المحرم سنة أربع وخمسين، واشتغل قليلاً، وكان خيراً يقرأ في المصحف بعد الصلاة بجامع دمشق وعلى قراءته أنس، وكان يحيي في رمضان بجامع الحنابلة فيقصد لسماع قراءته لطيبها مات في المحرم عن تسع وخمسين سنة.(2/469)
خليل بن محمّد الجندي الصوفي بالخاتونية المقرئ، جمع السبع على شرف الدين خادم السميساطية وأقرأ؛ مات في صفر رحمه الله.
شاهين الشجاعي دويدار شيخ كان من خيار الأمراء، وكان شجاعاً، مقداماً، مات في شعبان بالصالحية التي بقرب مصر.
عبد الرحمن بن محمّد بن عبد الناصر بن تاج الرياسة المحلي الزبيري القاضي تقي الدين ولد سنة بضع وثلاثين ثم قرأت بخط من أثق به عنه أن مولده سنة أربع وثلاثين، واشتغل قديماً ووقع على القضاة، وصاهر القاضي موفق الدين الحنبلي على ابنته، وكان قد سمع من أبي الفتح الميدومي وحدث عنه، ثم ناب في الحكم مدة طويلة من زمن القاضي عز الدين ابن جماعة، وكانت معه عدة جهات من الضواحي ينوب فيها، وقرره الملك الظاهر في القضاء سنة تسع وتسعين في جمادى الأولى، فباشره إلى أثناء رجب سنة إحدى وثمانمائة فصرف ثم أعيد المناوي، واستمر بطالاً خاملاً إلى أن مات، وكان الناصر قد عين عنده للقضاء عند القبض على جمال الدين ثم لم يتم ذلك، وكان عارفاً بالشروط والوثائق، وباشر القضاء مباشرة حسنة لم يذمه فيها أحد، وكان مطرحاً للتكلف بعد عزله، يمشي في الطريق وحده، وفوض له القاضي جلال الدين تدريس الناصرية والصالحية فباشرهما، وكتب قطعة على التنبيه؛ ومات في أول شهر رمضان.(2/470)
علي بن إبراهيم بن عدنان الحسيني علاء الدين الدمشقي، ولد سنة خمسين، فباشر نقابة الأشراف بالشام بعد موت أبيه، ثم ولي كتابة السر غير مرة، ولم يكن ماهراً، وكان ليناً، متواضعاً، بشاشاً رئيساً، وأصيب بإحدى عينيه بأخرة، فانقطع إلى أن مات في شهر ربيع الأول.
علي بن إبراهيم بن المؤرخ شمس الدين محمّد بن أبي بكر بن إبراهيم بن عبد العزيز الجزري ثم الدمشقي، ولد سنة ثمان وأربعين ومات أبوه وله سنة، فرباه عمه نصير الدين وأسمعه من جماعة من أصحاب الفخر وحضر على المرداوي صاحب عمر الكرماني بالحضور، وحدث وقرأ الحديث، وأعاد بالتقوية وباشر في نظر الأيتام مع خفض الجناح وطهارة اللسان ولين العريكة، وحج غير مرة، وجاور وعلق في الوفيات، واجتيح في شيء كثير من ماله في فتنة اللنك، ولم يكن فيه ما يعاب به إلا مباشرته مع قضاة السوء.
علي بن أحمد بن أبي بكر بن عبد الله الأدمي الشافعي، ذكر أنه سمع من القلانسي وحدث عنه ولازم الشيخ ولي الدين المنفلوطي ونحوه، واشتغل كثيراً وتنبه وشغل وأفاد ودرس وأفتى وأعاد وشارك في الفنون، وانتفع به أهل مصر كثيراً مع الدين المتين والسكون والتقشف والانجماع، وكان يتكلم على الناس بجامع عمرو، ثم تحول(2/471)
إلى القاهرة وسكن جوار جامع الأزهر، ومات في رابع شعبان عن سبعين سنة، وأسف الناس عليه.
علي بن زيد بن علوان بن صبرة بن مهدي بن حريز يكنى أبا زيد الردماوي الزبيدي وقد تسمى بأخرة عبد الرحمن، ولد بردما وهي مشارف اليمن دون الأحقاف في جمادى سنة إحدى وأربعين ونشأ بها وجال في البلاد، ثم حج وجاور مدة وسكن الشام ودخل العراق ومصر، وسمع من اليافعي والشيخ خليل وابن كثير وابن خطيب يبروذ، وبرع في فنون من حديث وفقه ونحو تاريخ وأدب، وكان يستحضر من الحديث كثيراً ومن الرجال ويذاكر من كتاب سيبويه ويميل إلى مذهب ابن حزم، ثم تحول إلى البادية فأقام بها يدعو إلى الكتاب والسنة، فاستجاب له حيار بن مهنا والد نعير فلم يزل عنده حتى مات. واستمر ولده نعير على إكرامه فكانت إقامته عندهم نحو عشرين سنة، فلما كانت وقعة ابن البرهان وبيدمر وقرط خشي على نفسه فاختفى بالصعيد ثم قدم القاهرة وقد ضعف بصره، ومات في أول ذي القعدة وكان شهماً قوي النفس له معرفة بأحوال الناس على اختلاف طبقاتهم، وكان كثير التطور يتزيا في كل قليل بزي غير الزي الذي قبله ومن شعره:
ما العلم إلا كتاب الله والأثر ... وما سوى ذاك لا عين ولا أثر
إلا هوى وخصومات ملفقة ... فلا يغرنك من أربابها هذر
فعد عن هذيان القوم مكتفياً ... بما تضمنت الأخبار والسور(2/472)
نقلت ترجمته من خط الشيخ تقي الدين المقريزي والعهدة فيه عليه.
علي بن عبد الرحمن بن محمّد بن أحمد الربعي الرشيدي نور الدين نزيل القاهرة قدمها فاشتغل بالعلم ولازم البلقيني ثم الدميري ودرس بعده في الحديث بقبة بيبرس وكان قد فاق في استحضار الفقه فصار كثير النقل كثير البحث وكان يقظاً نبيهاً كثير العصبية؛ مات في شهر رجب وقد جاوز الخمسين ودرست بعده بالقبة للمحدثين.
علي بن عبد الرحمن الصرنجي نور الدين، سمع صحيح مسلم علي ابن عبد الهادي وسنن أبي داود على عبد القادر بن أبي الدر، سمعت منه قديماً وحديثاُ، وحدث في العام الماضي مع الشيخ نور الدين الأبياري بالسنن في البيبرسية وكان صوفياً بها، مات في شعبان.
علي بن محمّد بن علي الدمشقي علاء الدين بن الحريري، ولد سنة تسع وثلاثين، واشتغل على مذهب الحنفية وتعانى حفظ السير والمغازي وكان يستحضر منها شيئاً كثيراً، وكان كثير اليسار فتزوج الشيخ شهاب الدين الغزي ابنته فماتت بعد أبيها بقليل.(2/473)
علي بن مسعود بن علي بن عبد المعطي بن أحمد بن عبد المعطي المالكي أبو الحسن المكي الخزرجي، ولد سنة أربعين وسمع من عثمان بن الصفي الطبري سنن أبي داود، من إبراهيم بن محمّد بن نصر الله الدمشقي مشيخته وحدث بمكة، وكان مشاركاً في الفقه مع الديانة والمروءة، مات في تاسع المحرم.
علي بن مصباح الشيخ نور الدين، كان أحد الفضلاء في الفقه خيراً كثير الإطعام، نزل في زاوية بمنية الشيرج وتردد في القرى وتعانى الزراعة، مات في شوال وسط السنة وهو والد شمس الدين محمّد خال سيدي عبد الرحيم الأبناسي.
عمر بن محمّد الطرابلسي الشاعر الماهر نزيل القاهرة قدمها ومدح رؤساءها، ومات في شهر رجب عن نحو من خمسين سنة، أنشدني كثيراً من شعره.
فاطمة بنت أحمد بن محمّد بن علي بن محمّد بن علي بن عبد الله بن جعفر بن زيد الحسينية الحلية أم الحسن أخت الشريف نقيب الأشراف، ولدت سنة اثنتين أو ثلاث وثلاثين، سمعت على جدها لأمها جمال الدين إبراهيم ابن الشهاب محمود في ذي القعدة سنة سبع وثلاثين، وأجاز لها المزي وجماعة وحدثت بحلب، قال القاضي علاء الدين: كانت عاقلة دينة وماتت في العشر الأول وقد جاوزت الثمانين(2/474)
سنة.
محمّد بن أحمد بن عبد الملك الدميري شمس الدين ناظر البيمارستان ومفتي دار العدل ولي الحسبة مراراً وكان عارفاً بالمباشرة وحصل من البيمارستان مالاً كثيراً جداً يوفره مما كان غيره يصرفه في وجوه البر وغيرها، فاتفق أن الناصر اخذ منه جملة مستكثرة في بعض تجريداته؛ مات في رمضان.
محمّد بن أحمد بن محمّد بن محمّد بن محمّد بن أحمد بن علي بن محمّد بن سليم بن حناء المصري شمس الدين ابن عز الدين ابن شمس الدين ابن شرف الدين ابن زين الدين بن محيي الدين ابن بهاء الدين المعروف بابن الصاحب، ولد سنة أربع وستين، واشتغل قليلاً وتقدم في ديوان الإنشاء وناب في كتابة السر مدة وأقام بالشام زماناً، ثم درس بعد أبيه بالشريفية وغيرها وكان وجيهاً ذا مروءة وبر ومعروف؛ مات فجأة فيقال إنه سم، وله شعر وسط، ولم يكن يتصون، وينسب إلى تعاطي المنكر، والله أعلم بسره، وتمزق ماله من بعده، سامحه الله.
محمّد بن أحمد الجرواني نزيل القاهرة، ولد سنة تسع عشرة، وكان يذكر أنه سمع من الحجار فلم نظفر بسماعه، وكان عارفاً بالوثائق وله فيها تصنيف، وخطه حسن، وله نظم يزعمه لكنه بغير وزن ولا معنى، وكان قد انتسب إلى الحسن بن علي وصار شريفاً، وكان يطعن في نسبه، ويقال إنه كان أولاً يكتب الأنصاري.
محمّد بن خاص بك التركي الحنفي بدر الدين كان ينسب إلى(2/475)
الظاهر بيبرس من جهة النساء وقد اشتغل في مذهب الحنفية فبرع وأخذ عن أكمل الدين وغيره، وكان يجيد البحث مع الديانة والمروءة والعصبية لمذهبه وأهله؛ مات في خامس شهر رجب وقد جاوز الخمسين.
محمّد بن علي بن محمّد بن عمر بن عيسى الشيخ شمس الدين ابن القطان المصري الشافعي وكان أبوه قطاناً وأخوه كذلك، واشتغل هذا بالعلم ومهر ولازم الشيخ بهاء الدين ابن عقيل فصاهره على بنت له من جارية وسكن مصر ودرس وأفتى وصنف وناب في الحكم بأخرة فتهالك على ذلك إلى أن مات في أواخر شوال، وكان أخبرني أن مولده بعد سنة ثلاثين، قرأت عليه وأجاز لي، وذكر أنه قرأ الأصول على الشيخ عماد الدين الأسنائي ولم يحصل له سماع في الحديث على قدر سنه، وقد حدث بصحيح مسلم بإسناد نازل وسمع معنا على بعض شيوخنا كثيراً وبقراءتي وكان ماهراً في القراآت والعربية والحساب.
محمّد بن محمّد بن عباد الوهاب المناوي المعروف بالطويل شمس الدين صهر كاتب السر فتح الله تقدم بجاه صهره فولي الحسبة وكالة بيت المال ونظر الأوقاف ونظر الكسوة وتنقلت به الأمور في ذلك، وولي الحسبة مراراً بالقاهرة، مات في شعبان وكان له بعض اشتغال ومشاركة ومعرفة بشيء من الهيئة وكان قليل العلم ووجد بخطه على محضر تسمع الدعوة وقد ناب في الحكم لما كان محتسباً وبعد ذلك.
محمّد بن محمّد بن محمّد بن النعمان بن هبة الله الهوي نزيل القاهرة كريم الدين، اشتغل قليلاً وولي الحسبة ببلده، ثم تزيا بزي الجندي وولي شد البلد وظلم وعسف،(2/476)
ثم قدم القاهرة وتقدم عند الناصر بالمسخرة فولي الحسبة مراراً، أولها في ثالث جمادى الآخرة سنة خمس وثمانمائة ومنادمة السلطان؛ ومات في شعبان، وولي الحسبة بعده زين الدين محمّد ابن شمس الدين الدميري، وكان يقال إن الهوي هو الذي أشار على السلطان بأن من مات لا يعطى وارثه ولو كان ولده من ميراثه شيئاً بل يؤخذ للديوان السلطاني، وتقدم بذلك ابن الهيصم فاتفق موت الهوي فعوملت تركته بذلك، أخبرني بذلك الصاحب بدر الدين ابن نصر الله.
محمّد بن سعد الدين محمّد بن نجم الدين محمّد البغدادي نزيل القاهرة شمس الدين الزركشي، مهر في القراآت وشارك في الفنون وتعانى النظم، وله قصيدة في العروض استحسنها القاضي مجد الدين الحنفي ويقال إنه شرحها، ونظم العواطل الخوالي ست عشرة قصيدة على ستة عشر بحراً ليس فيها نقطة، وقد راسلني ومدحني وسمعت منه كثيراً من نظمه، ولازمني طويلاً ورافقني في السماع أحياناً، وجرت له، في آخر عمره محنة؛ ومات في ذي الحجة.
محمّد بن محمّد الشوبكي شمس الدين قدم دمشق وتفقه بها وتولى وظائف وخطابة مات في المحرم.
محمّد بن محمود بن بون الشيخ الخوارزمي الحنفي المعروف بالمعيد نزيل مكة، أعاد بدرس يلبغا بمكة فعرف بالمعيد، وأم بمقام الحنفية زيادة على ثلاثين سنة(2/477)
فإنه وليها سنة ثمانين، وحدث عن العفيف والنشاوري والأمين الأقشهري وغيرهما، وحج خمسين حجة، وكان عارفاً بالعربية مشاركاً بالفقه وغيره، وقد حدث بالإجازة العامة عن الحجار، ومات في جمادى الأولى وقد جاوز الثمانين.
محمّد بن أبي اليمن الطبري تقدم ذكر أبيه قريباً وكان هو يلقب زكي الدين ويكنى أبا الخير، أم في المقام، وقتل ليلاً خطأً، ظنه بعض العسس لصاً، فضربه فصادف منيته وله أربعون سنة.
وفيها مات ابن حمامة قارئ الحديث تحت النسر في رمضان. وشهاب الدين الزملكاني وعلاء الدين البانياسي ناظر الجامع الأموي وكان مشكوراً، وتمربغا المشطوب مطعوناً بحسبان وتمربغا الحافظي في المحرم، وتغرى برمش أستادار شيخ خامر عليه إلى الناصر فولاه الأستادارية بالشام، فبالغ في الظلم والعسف فسلطه الله عليه فصادره وعاقبه حتى مات، وقراجا الداودار ولي بعد قجاجق ثم ضعف فمات أول ما خرج الناصر إلى الشام في ربيع الأول، ومجد الدين عبد الغني ابن الهيصم كما تقدم.
وشاهين المحمدي الدويدار الشيخي تقدم في الحوادث(2/478)
وقرا كشك الحاجب بالقاهرة في شوال، وكان عين لإمرة الحج فمات قبل أن يخرج وأحمد بن أويس كما تقدم وإينال الجلالي ويقال له إينال المنقار، مات بغزة في شعبان لما دخلها مع شيخ ونوروز وكان يحب العلماء والفضلاء.... وشهاب الدين الدويداري كاشف الجيزة في حادي عشري شعبان وخلف موجوداً كثيراً جداً.(2/479)
//الجزء السابع
بسم الله الرحمن الرحيم
سنة أربع عشرة وثمانمائة
فيها دخل الناصر إلى القاهرة في ثاني عشر المحرم وزار القدس في طريقه ولم يفقد أحد ممن كان صحبته إلا ابن الفريخ الحكيم فإنه اغتيل في الطريق، وفي يوم وصوله إلى القلعة عزل زين الدين ابن الدميري من الحسبة، واستقر شمس الدين يعقوب الدمشقي وكان قد صاهر إلى تقي الدين بن أبي شاكر، وفي سادسه دخل تغرى بردى نائب الشام.
وفي الثامن منه دخل الأميران شيخ ونوروز دمشق فتلقاهما نائب الشام، وتوجه شيخ من دمشق إلى حلب. وتوجه قرقماش من حلب يريد صفد، وتوجه نوروز يريد طرابلس، فوصلا إلى مقر نيابتهما وحكما بما أرادا فقدم الخبر على الناصر في ربيع الأول أنهما خالفا ما حلفا عليه وأخرجا الإقطاعات لمن أرادا وأرسل كل منهما يحاصر بعض القلاع التي لم تدخل في نيابتهما، فتغير خاطر الناصر لذلك.
وفي الرابع والعشرين من المحرم وصل بكتمر جلق إلى القاهرة فتلقاه السلطان وخلع عليه وعلى دمرداش نظر المارستان على العادة، ودخل الناصر البلد وهما معه بخلعتيهما فدخل مدرسة جمال الدين وكانت قد غيرت من اسم جمال الدين لاسمه، ودخل دمرداش المارستان ومعه القاضي فتح الله كاتب السر وعليه خلعة أيضاً، واستناب الأمير ولد ناظر الجيش صلاح الدين بن بدر الدين بن نصر الله في النيابة عنه في المارستان.
وفي حادي عشر منه صرف صدر الدين ابن العجمي عن مشيخة التربة الظاهرية واستقر حاجي فقيه عوضاً عنه. وقبض على صدر الدين فسلم للأستادار بسبب أن الناصر لما أراد التوجه إلى الشام أودع عند كل شيخ من المشايخ المشهورين الذين جرت عادتهم بالتردد(2/480)
عشرة آلاف دينار فلما عاد أحضر كل أحد ما استودعه إلا صدر الدين واحمد بن اوحد وهو شيخ السرياقوسية، فأما ابن أوحد فضمن دركه ابن أبي شاكر فلم يلحقه عتاب، وأما صدر الدين فكان قد حج واستبضع بذلك المال بضاعة، فلما عاد قبض عليه وألزم ببيع تلك البضاعة فباعها بثمن بخس وبقي عليه من الوديعة قريب من ألفي دينار، فلم يزل في الترسيم إلى أن شفع فيه بعض الكبار فأطلق وبقي من المال زيادة على الألف فذهبت مجاناً.
وفي المحرم أراد الناصر بإشارة بعض القبط أن يأخذ من المدرسة الجمالية برحبة العيد ما بها من الرخام وكان عجباً في الحسن انتقاه جمال الدين من بيوت كبار وجعله فيها فعزم على ذلك فأشار عليه كاتب السر فتح الله أن يترك المدرسة على ما هي عليه لسوء السمعة في ذلك والتزم أن يصيرها ملكه ثم يوقفها هو فتنسب ويبطل منها اسم جمال الدين، فأصغى لذلك فتكلم فتح الله مع القضاة إلى أن صوروا له في ذلك صورة وحكموا بصحتها ومحوا اسم جمال الدين من المدرسة وأثبت اسم عبد الناصر وصارت الجمالية هي الناصرية، وذلك من أظرف ما يسمع، ولم يكن قصد فتح الله في ذلك إلا الخير على ما اطلعنا عليه من باطن القصة، ودخلها الناصر في أواخر المحرم وصلى بها وقرر من بها من المدرسين والطلبة على حالهم في الأغلب، واستقر دمرداش أتابك العسكر بالقاهرة وبكتمر جلق أميراً كبيراً بها وتكلم دمرداش هو وفتح الله في البيمارستان المنصوري.
وفي صفر جهز الناصر جماعة من الأمراء البطالين والمماليك إلى الشام على إقطاعات هناك ليكونوا عونا لنائب الشام فتوجهوا.(2/481)
وفي حادي عشر منه استقر تقي الدين ابن أبي شاكر في نظر الخاص عوضاً عن مجد الدين عبد الغني بن الهيصم الذي مات في السنة الماضية.
وفي الرابع والعشرين منه قبض على يشبك الموساوي وقنباي رأس نوبة وكمشبغا المزوق في آخرين وسجنوا بالإسكندرية، وعزل تمراز من الإمرة وصيره طرخاناً وقرر له شيئاً يكفيه وخيره بين الإقامة بالقاهرة أو دمياط فاختار دمياط فأرسل إليهاا.
وفي أواخر صفر وردت هدية من مانويلي صاحب القسطنطينية وتدعى اصطنبول، وقرينها كتاب يصف محبته ويوصي بالنصارى من أهل ملته.
وفي أوائل صفر استقر سودون بن عبد الرحمن في نيابة غزة. وفي سلخ صفر انقطع طوغان الدويدار عن الخدمة خوفا على نفسه من واش وشى به أنه يريد الركوب على الناصر، فأرسل يلبغا الناصري ودمرداش فلم يزالا به حتى أصعداه إلى الناصر فعاتبه واعتذر فسلم له غريمه وخلع عليه، وفيه ارتفع الطاعون عن دمشق وما حولها وكان ابتدأ من شوال فأحصى من مات من أهل دمشق خاصة فكانوا نحواً من خمسين ألفاً، وخلت عدة من القرى وبقيت الزروع قائمة لا تجد من يحصدها.
وفي ربيع الأول أطلق أينال الساقي من سجن الإسكندرية وصرف شرباش كباشة عن الإمرة وأرسل إلى دمياط بطالا، وقبض الناصر على جمع كثير من المماليك الظاهرية ممن أتهمهم بالممالأة عليه وسجن جماعة بالبرج ثم ذبحهم بعد وقبض إلى خيرباك وقتل جماعة ممن سجن(2/482)
بالإسكندرية ثم بالغ في القبض عليهم بأنواع الحيل حتى زادت عدة المسجونين في رمضان على أربعمائة نفس. وفي صفر توجه موسى بن أبي يزيد بن عثمان بعد استيلائه على مملكة أخي سلمان بعد قتله إلى مملكة أخيه فاستخلف كرسجي على بلاد أبيه مراد واستعد لقتال أخيه فالتقيا في شعبان من هذه السنة.
وفي أول ربيع الآخر زوج الناصر أخته بيرم من أسنبغا الزردكاش وسيره شاد الشربخاناه، وكان يقال إن اسمه محمد وإنه شامي، فغير اسمه وصار إلى ما صار.
وفي الثالث عشر منه قرر فخر الدين عبد الغني بن أبي الفرج الذي كان ولي كاشف الوجه البحري ونائب قطيا في أستادارية الناصر وسلم له تاج الدين ابن الهيصم الأستادار وحواشيه، فبسط فخر الدين يده في الظلم وبالغ في ذلك كما سيأتي.
وفي هذه السنة دامت الحرب بين قرا يوسف وقرا يلك أكثر من شهر فقتل بينهما خلق كثير فخرب قرا يوسف بلاداً كثيرة لغريمه، وهرب غريمه إلى بعض الأماكن، فوصل الخبر إلى قرا يوسف بأن شاه رخ بن تمر قصد تبريز فترك أثقاله ورجع مسرعاً، فعاد قرا يلك فنهبها وتوجه لتخريب بعض بلاد غريمه، ووقع الفناء في شعبان في عسكر قرا يوسف فأرسل يطلب الصلح من قرا يلك، فلم يوافقه على ذلك ونهب سنجار وأخذ قفل الموصل وأوقع بالأكراد فافتدوا منه بمائة ألف وألف رأس غنم.
وفيها كانت الفتن والحروب بين التركمان، وغيرهم، فتوجه نائب عينتاب إلى قلعة الروم فقبض عليه طوغان نائبها واعتقله فلم يزل به شيخ نائب حلب حتى أفرج عنه(2/483)
وقبض نائب صهيون على نائب اللاذقية فقتله، وحاصر بعض التركمان أنطاكية فأسر نائبها واعتقله، وحاصر نوروز قلعة صهيون فصالحه أهلها على مال، واجتمع نوروز وشيخ على قتال العجل بن نعير ففر منها فاستولى على عانة، فبعث ابن قرا يوسف عسكراً فكسره ومضى إلى الأنبار فتخوف أهل بغداد منهم فأرسل إليهم بالأمان، فنزل شيخ على سرمين ونوروز على جبلة وأرسل الناصر لما بلغه ذلك يعاتبهما وأرسل إلى شيخ يحذره بما فيه صنيعه وأمره أن يجهز يشيك العثماني وبردبك وقنباي الخازن دار محتفظاً بهم وأن يرسل سودون الجلب إلى دمشق فلم يوافق على ذلك فأرسل الناصر إلى دمشق يأمرهم بتحصين قلعة دمشق، فبالغ غرس الدين خليل أستادار الشام في المظالم بالشام وقرر الشعير على الجهات، واتفق شيخ ونوروز لما بلغهما تغير الناصر عليهما فأرسلا عسكر! إلى حماة لأخذها وراسلا قرا يوسف فسار أحمد الجنكي، أحد ندماء شيخ وبهلوان مملوك نوروز، فعاد جوابه في آخر شوال بما طاب به خاطرهما وأما الناصر فجد وعزم على السفر وبالغ في القبض على الناس في المصادرات ووقعت الشناعة بذلك وفحش أخذ أموال الناس بغير طريق ولا شبهة، وكل ذلك على يد فخر الدين الأستادار في ذلك على الحد، ثم أراد فخر الدين القبض على الوزير وناظر الخاص، فبادراه وقبضا عليه بعد أن استمالا الناصر على ذلك في حين غفلة منه، ففجيء الناس من الفرح مالا مزيد عليه، وكان فخر الدين قد استمال تاج الدين بن الهيصم الذي كان أستاداراً قبله وكلم السلطان فألبسه خلعة رضا، فلما قبض على فخر الدين قبض عليه أيضاً وأهين، فعوقب فخر الدين عند الوزير بأنواع العقوبات فلم يعترف بشيء ولم توجد له سوى ستة آلاف دينار وشيء كثير من جرار(2/484)
الخمر، فباعوها كل جرة بنصف دينار فحصل منها جملة مستكثرة.
واستقر منكلى أستادار جركس في الأستادارية الكبرى.
وفي العشر الأخير من رجب قبض الناصر على جمع كثير من الأمراء والمماليك منهم عاقل وإينال الصصلائي وأرغون وسودون الظريف وشرباش وسودون الأسندمري وجانيك، وقتل جماعة ووسط جماعة وسجن جماعة وكان السبب في ذلك أن مملوكاً أحضر ورقة فيها خطوط جماعة من الأمراء والمماليك أرادوا الفتك به فقبض على من وجد اسمه فيها، وكان كبيرهم جانم فوجده حينئذ في إقطاعه بالوجه البحري فجهز طوغان الدويدار، فاقتتلا في البر ثم على ظهر النيل في المراكب فانتصر طوغان فألقى جانم نفسه في الماء فرمي بالسهام حتى هلك فقطع رأسه.
وفي شعبان أمر الناصر بالقبض بدمشق على يشبك بن أزدمر وجماعة من الأمراء الذين يخشى منهم الممالأة على الناصر مع نوروز وشيخ، وكان تغرى بردى قد ابتدأ به مرضه فأرسل إلى قرقماش نائب صفد، فحضر فقبض على تمرار الأعور وخشكلدي وغيرهما وسجنهم بقلعة الصبيبة وفر يشبك بن أزدمر إلى نوروز، فاتفق هو وسودون الجلب وقويا عزم شيخ ونوروز على المخامره ومضى ما كل مرتاب، واستمال شيخ محمد بن دلغادر أمير التركمان، فمال: أحضر له عساكره، فولاه عينتاب وأرسل خلعاً ومالاً، ثم توجه شيخ إلى قلعة عمه وعدى الفرات ليوقع بالعربان، فغرق طائفة من أصحابه فأنشأ مركباً بناحية الباب قريباً من حلب طوله نحو ثلاثين خطوة، فأرسل نائب قلعة الروم جماعة فأحرقوه، وقبض في شوال بدمشق على ناصر الدين ابن البارزي وعلى شهاب الدين الحسباني لكونهما يكاتبان شيخ بالأخبار، فسجنا بقلعة دمشق في سابع عشر شوال، فتوجه تاج(2/485)
الدين محمد ابن الحسبابي إلى القاهرة يسعى في خلاص أبيه، فأمر بإطلاقه فأطلق في أواخر ذي الحجة، وقبض الناصر على جماعة من الأمراء والممالك فوسط بعضهم وشنق بعضهم، وذبح بحضرته مائة نفس من أكابر الظاهرية، منهم حزمان نائب القدس، وومغلباي ومحمد بن قشماش، وبالغ في ذلك حتى أنه ركب مرة إلى الصيد ورجع فأمر الوالي بقتل عشرة من مماليكه تخلفوا عن الركوب معه وعاد من الصيد فمر بشارع القاهرة وهو بثياب جلوسه في دون المائة وهو يطفح سكراً حتى يكاد لا يثبت على الفرس.
وفي أواخر ربيع الأول قبض على أحمد بن جمال الدين الأستادار وعلى أحمد وحمزة ولدى أخيه وعلى ناصر الدين أخي جمال الدين وجماعة من قرابتهم، فعوقبوا وطولبوا بالأموال، فمات ناصر الدين تحت العقوبة ولم يوجد له إلا شيء يسير، واستخرج من أحمد ابن أخيه ستة آلاف دينار، ثم خنق الأحمدان وحمزة ليلة السادس عشر من جمادى الأولى وقتل الثلاثة ظلماً.
وفي يوم السبت ثامن عشر شعبان كتب علم الدين ابن جنيبة أحد رؤساء الأطباء للناصر ورقة دواء مسهل، فأمره أن ينزل ويطوف على الأمراء والمباشرين ويعلمهم أن السلطان يشرب يوم الأحد دواء، فحمل كل منهم تقدمة فحمل الوزير ألفي دينار وأشياء كثيرة من المأكولات، وكذلك ناظر الخاص لكن دونه في النقد، والأستادار حتى المحتسب، وكان أول من سن ذلك من ملوك مصر واستمرت بعده في كل سنة عند دخول الورد؟(2/486)
وفي شهر رمضان نادى المماليك بالأمان وأنهم عتقاء رمضان، فظهر منهم جماعة تزيد على الثلاثين فحضروا الخدمة فوعدهم بالخير، ووعدهم يوماً أن يخرج لهم خيولهم أو بدلها من الإصطبل، فلما اجتمعوا أمسكهم أجمع، وجلس يوماً آخر لتفرقة القرفلات فأمسك منهم جماعة، ثم ذبحوا في شوال.
وفي هذه السنة غلا الزيت الحار إلى بلغ الرطل تسعة.
وفي شوال توجه الناصر إلى الإسكندرية وشن الغارات على الجهات البحرية لنهب الأغنام والخيل والجمال حيث وجدت ودخل الناصر الإسكندرية في ثامن عشر شوال، فقدم عليه مشايخ تروجة بتقاديمهم فخلع عليهم، ثم أمسكهم وساقهم في الحديد واحتاط على أموالهم، فهرب باقيهم إلى برقة ورجع إلى القاهرة، وفي حال إقامته بالإسكندرية شكى المغاربة أنه يؤخذ منهم ثلث أموالهم في المكس ويؤخذ من الفريخ العشر، فغضب من ذلك وأمر أن لا يؤخذ من المغاربة إلا العشر، فشكر المسلمون له ذلك فكانت من حسناته النادرة وكانت حركته إلى الإسكندرية آخر سعده، فلما قدم وصل كتاب نوروز يعتذر عما بلغه عنه وقرينه فحضر آخر فيه شهادة أربعين رجلاً أنه مقيم على الطاعة، فلم يلتفت الناصر لذلك.
وفي نصف ذي القعدة أمر الناصر أن يكون الفلوس كل رطل باثني عشر درهماً، فغلقت الحوانيت فغضب السلطان وأمر مماليكه الجلبان بوضع السيف في العامة فشفع فيهم الأمراء فقبض على جماعة وضربوا بالمقارع وقتل رجلاً وشنقه بسبب الفلوس، ثم أنحل أمر الفلوس بعد النفقة(2/487)
ونودي في سادس عشر ذي الحجة أن يكون بستة الرطل على العادة الأولى، وفي أواخر الشهر ضرب الناصر عنق أحمد بن محمد ابن الطبلاوي بيده، ثم استدعى بنت صرق وهي إحدى زوجاته فذبحها بيده ولفها مع ابن الطبلاوي في بساط وأمر أن يدفنا في قبر واحد، وكان قد وشى بها أنها تتنكر وتخرج من القلعة فتنزل إلى ابن الطبلاوي المذكور.
وأنفق الناصر لنفقة السفر وخرج الجاليش في سابع عشري ذي القعدة، وخرج الناصر في الثامن من ذي الحجة وقد تباهى في ملابس عسكره وجر ثلاثمائة جنيب بسروج الذهب الثقيلة وبعضها مرصع بالجوهر وكنابش الزركش والعرقيات الحرير واللجم المسقطة وزهاء ثلاثة آلاف فرس ساقها جشارا، وأعقبها عدداً كثيراً من العجل التي تجرها الأبقار وعليها آلات الحصار، وبعدها خزانة السلاح على ألف جمل، وخزانة المال مختومة على أربع مائة ألف دينار، والمطبخ وفيه ثلاثون ألف رأس من الغنم وكثير من البقر والجاموس، والحريم في سبع محفات، حتى بلغ عدة الجمال التي تحمل ذلك ثلاثة وعشرين ألف جمل، واستقر يلبغا الناصري نائب الغيبة واسنبغا نائب القلعة، وكانت نفقة المماليك لكل واحد سبعون ناصرياً، وصرف للأمير الكبير خمسة آلاف دينار ومثلها لبكتمر، ولغيرهما من الأمراء الكبار لكل واحد ثلاثة آلاف دينار، ونحر الناصر الضحايا بالتربة الظاهرية تربة أبيه -، ورحل من التربة بعد صلاة العصر من يوم الجمعة حادي عشر ذي الحجة في طالع اختاره له الشيخ إبراهيم بن زقاعة وسار(2/488)
ليلة السبت ثالث عشرة وأتفق في هذا اليوم اجتماع نوروز وشيخ بحمص وفر إليهما جمع كثير، ونادى الناصر بأن أحداً لا يرحل قبله فبلغه أن واحداً رحل قبله فركب بنفسه ووسط بحضرته ونصب مشنقة ذهب بها معه، فما وصل إلى غزة حتى قتل عدة من الغلمان بسبب ذلك، فلما نزل بغزة وسط عشرين نفساً من الظاهرية وهو لا يعقل من السكر، ففر أكثر العسكر منه، فبلغه في تلك الساعة أن الجاليش الذي تقدمه خامر عليه، فركب وجد في طلبهم وكان أمراء الجاليش وصلوا إلى دمشق في سادس عشري ذي الحجة ودخلوا إلى تغري بردى وهو في غاية المرض فأعلموه بسوء سيرة الناصر وخوفهم منه واجتماع كلمتهم على اللحاق بالأميرين وتوجهوا في آخر الشهر إلى جهتهما فخالفهم شاهين الزردكاش فقبضوا عليه، وجد الناصر في السير فلم يلحقهم فالبس عسكره وقد ظهرت عليه علامة الخذلان، ودخل دمشق وقت الزوال من سلح السنة، وكان بعد ذلك ما سنذكره في حوادث السنة الآتية.
وفي هذا السنة مات السلطان المنصور ويقال له الصالح حاجي ابن الأشرف شعبان بن حسين بن الناصر وكان مقيماً بالدور السلطانية في قلعة الجبل منذ خلعه الظاهر في الثانية من سنة اثنتين وتسعين إلى أن مات في تاسع عشرة شوال بعد أن تعطلت حركة يديه ورجليه منذ سنين وعاش أزيد من أربعين سنة، قال العينتابي: كان شديد البأس على جواريه لسوء خلقه من غلبة السوداء ولم يزل مشغولاً باللهو والسكر.
وفيها قتل من الظاهرية مأتي أمير وخاصكي وجمدار وغيرهما نحو من سبعمائة رجل، أراد(2/489)
الناصر بإزالتهم توطيد ملكه فانعكس الأمر وكان قتلهم في الحقيقة من أعظم الأسباب في توطيد ملك الملك المؤيد فسبحان من بيده الملك.
وفيها قتل الأمير تمراز الناصري الذي ولى نيابة السلطنة بالقاهرة قتل بالإسكندرية، وكان لا بأس به، وكان من خواص برقوق، وأمر أربعين في زمانه، ثم أمر تقدمة في سنة اثنتين وثمانمائة، ثم ثيابه الغيبة في فتنة اللنك ثم ولي نيابة السلطنة في سنة تسع وثمانمائة وناب في الغيبة في سنة اثنتي عشرة ثم قبض عليه في أوائل هذه السنة وسجن بدمياط ثم بالإسكندرية ثم قتل في عيد الأضحى، وكان يحب العلماء ويكرمهم ويعتقد في الصالحين، وكان تركياً خالصاً حسن الصورة.
وفيها قتل خايربك وكان قد ناب في غزة وأعطى تقدمة. وفيها قتل يشبك الموساوي الأمير وكان أعطى تقدمة ثم ولى نيابة طرابلس وكان نائب غزة مدة طويلة، قال العينتابي: ظلم أهلها ظلماً فاحشاً وكان أفقم سبئ المعتقد رديء المذهب متجاهراً باللواط، قتل بالإسكندرية أيضاً. وفيها ناب الأمير جانم، كان قد أعطى تقدمة وناب في غزة وفي حماة وفي طرابلس، قال العينتابي: لم يشتهر عنه إلا كل شر، والأمير قزدمر الحسني كان أعطى تقدمة وتولى خازنداراً كبيراً ولم يكن به بأس - قاله العينتابي: وقنباي وأقبغا القديدي المعروف بدويدار يشبك كان مقدما عند يشبك ثم استقر عند الناصر دويدار صغيراً وأمره عشرة، وكانت له وجاهة ومعرفة ويقتدى برأيه في كثير من الأمور، قال العينتابي: كان يدعي الحكمة ووفور العقل مع خبث ومكر وحب لجمع المال ولم يشتهر عنه خير قط وحصل في أيام يشبك مالاً جماً، ثم لم يزل في ازدياد إلى أن مات في ليلة الخميس ثالث عشر شوال، وخلف شيئاً كثيراً تمول بعده منه جماعة واستولى السلطان على غالبه.(2/490)
وفي رجب رجم رجل تركماني بدمشق اعترف بالزنا وهو محصن وذلك بدمشق فكتف تحت القلعة وأقعد في حفرة فرجم حتى مات. وفيها مات علي بن محمد الأخميمي فكان يدعي أنه شريف وأصله بغدادي وقد ولى الوزارة وشد الدواوين وغير ذلك -.
وفيها مات فيروز الطواشي وكان قد تقدم عند الناصر ومات في رجب، وكان شرع في مدرسة واشترى لها مكاناً بالغرابليين ليبني به ربعا وغيره فمات قبل الفراغ، فأقر الناصر وقفه ونقله من المدرسة إلى التربة وأضاف الوقف كله إلى مدرسته، فأخذ دمرداش العمارة بإنعام الناصر وشرع فيها ثم فجئه السفر، ثم آل أمرها إلى أن اشتراها زين الدين عبد الباسط في الدولة المؤيدية واسمها قيسارية وربعا فأتقن ذلك غاية الإتقان، وذلك في سنة 823 فما بعدها.
وفيها قتل سلمان - بضم السين المهملة - ابن أبي يزيد صاحب برضا وغيرها من بلاد الروم، واستولى على مملكته أخوه موسى بعد حروب وقعت بينهما.
وفي هذه السنة في ربيع الآخر قبض على أحمد بن جمال الدين وعلى أحمد وحمزة ابني أخت جمال الدين وعلى شمس الدين وناصر الدين أخوي جمال الدين فصودروا وعوقبوا إلى أن مات في العذاب ناصر الدين وقتل الأحمدان وحمزة خنقاً.
وفي ربيع الآخر وصلت طائفة من الجنوية إلى الإسكندرية فوجدوا طائفة من الكسلان فقاتلوهم، فخاف منهم أهل الإسكندرية وأغلقوا الأبواب، وبلغت عدة القتلى ألفي نفس، وأسر الكسلان من الجنويين رجلاً يقال له النساوي فأرسلوه إلى الناصر فألزمه بمائة(2/491)
ألف دينار فذكر أن ماله تحت حوطة الجنويين فقبض على تجارهم بالإسكندرية، فغضبوا وساروا بمراكبهم إلى الطينة فسبوا نساء وصبيانا وكانت بينهم وقعة كبيرة، فخرج طائفة من أهل دمياط لنجدتهم وكبيرهم محيي الدين ابن النحاس وكان ملازماً للجهاد بثغر دمياط، وفيه فضيلة تامة، وجمع كتاباً حافلا في أحوال الجهاد، فقتل في المعركة مقبلاً غير مدبر، وغنم الفرنج من أهل الطينة مالاً كثيراً ثم مضوا.
وفي ذي القعدة في ثاني عشر منه نازل الفرنج الطينة أيضاً في أربعة أغربة، فقاتلهم المسلمون قتالاً عظيماً إلى الليل، فمضى الفرنج إلى الساحل القديم فنهبوا ما وجدوا فيه ورجعوا من الغد إلى القتال، فقدم في الحال غراب للمسلمين فاحتاط به الفرنج، فألقى من فيه من المسلمين أنفسهم إلى البحر فنجوا إلى البر بالسباحة، ثم وافى أناس من دمياط مقاتلة فتكاثر المسلمون على الفرنج واستنقذوا منهم الغراب المذكور بعد قتال شديد فانهزم الفرنج وقد قتل بعضهم - والحمد لله.
وفي جمادى الأولى أمر السلطان بهدم مدرسة الأشرف شعبان ابن حسين التي على باب القلعة وجد الهدم فيها وكانت من أعظم الأبنية، وكان جمال الدين قد اشترى من أولاد الأشرف كثيراً من الآلات التي بنيت بها لأن الأشرف مات قبل أن تكمل فبسط يده في تحويل بابها فأخذ الشبابيك والأبواب والبوابة وكثير من الحجارة حتى الكتب الموقوفة فاستعان بالجميع في مدرسته،(2/492)
ثم جاء الناصر في هذه السنة فعكره مكان بقعتها، لأن المتغلبين صاروا يستعينون بها على حصار القلعة بالنزول فيها فهدمها، فصارت رابية عالية، وحول ما ينتفع به من حجارتها وأخشابها إلى الأمكنة التي يريدها، فبقيت كذلك إلى أواخر دولة المؤيد، فأمر بعمارتها مارستانا وسكن به بعض المرضى، ومات المؤيد فحولوه بعده جامعاً ومنزلاً للواردين، وأمر في هذا الشهر أيضاً بهدم الدور الملاصقة لصور القلعة تحت الطبلخاناة وغيرها، فهدمت من ثم باب القرافة وتشتت سكانها.
وفيه ختم على جميع الحواصل التي يظن أن بها فلوسا بالقاهرة، وندب الناصر لذلك أحمد بن الطبلاوي والي القاهرة قبل قتله ومجد الدين سالم بن سالم قاضي الحنابلة ففتحا حواصل الناس ونقلا ما فيها من الفلوس وأعطيا لكل واحد ثمن فلوسه ذهبا في كل قفة ثلاث ناصرية وكان قيمتها يومئذ ثلاثة وثمن، فجمع منها شيء كثير، فكان ذلك هو السبب في مناداته عليها في كل رطل باثني عشر درهما! كما تقدم، ويقال إن الذي أخبره برخص الفلوس وإن قيمتها قبل ذلك كانت تقتضي أن يكون كل رطل بعشرين درهماً الشيخ سراج الدين البهادري أحد الأطباء، فجره إلى ذلك الطمع الكامن في نفسه قبل ذلك إلى أن نادى عليها باثني عشر، فلم يمش له ذلك إلا بالمشقة فترك بعد أن حصل من البلاد ما حصل.
وفيها كانت بين الحجاج من أهل دمشق وبين العرب بناحية زيزا محاربة، فجرح أمير الحاج ومات من تلك الجراحة.(2/493)
وفيها مات صاحب الهند غياث الدين أبو المظفر أعظم شاه بن اسكندر شاه بن شمس الدين صاحب بنكاله.
وفيها قتل وزيره يحيى بن عرب شاه ويلقب جان جهان. وفيها مات مرجان زمام الملك الأشرف ثم الناصر صاحبا اليمن وقد ولي إمرة زبيد.
وفيها قتل وبير بن نخبار بن محمد عقيل بن راجح بن إدريس ابن حسن بن قتادة الحسني أمير ينبع، وليها أزيد من عشرين سنة وقتل أخوه مقبل وابنه على قتلى كثيرة ممن اتهموهم بقتله لأنه قتل غيلة، واستقر في إمرة ينبع بعده أخوه مقبل منفرداً، واستمر إلى أن خلع بعده بضع عشرة سنة، واستقر عقيل ابن وبير مكانه كما سيأتي.
وفيها كان السعيد محمد بن أبي فارس بن عبد العزيز بن أبي سالم إبراهيم المريني يحاصر فأس وبها أبو سعيد بن أحمد بن أبي سالم، فهزمه أهل فأس بعد شهرين وذلك في صفر منها ووقع الإفساد في الزروع وقوى القوى على الضعيف واشتد الغلاء وكان الأردب عندهم بربع دينار فارتفع بعد ذلك أضعاف مضاعفة، ثم رجع السعيد إلى حصار فأس وقد انتهبت الأعمال والنواحي في ربيع الآخر وحصرها نحواً من عشرين يوماً ثم هزموه فتوجه إلى سلا ثم جمع عسكراً ورجع في شعبان وحصر البلاد وبنى مقابلها مدينة سماها المنصورة وانقضت السنة وهو على ذلك تم ملك البلد، ثم قام عليه عبد الواحد بن أبي حمو واسمه موسى، وفر السعيد إلى تونس فهلك ببلد العناب، وطالت مدة عبد الواحد وسنذكر أمره في سنة سبع وعشرين(2/494)
إن شاء الله تعالى.
ذكر من مات
في سنة أربع عشرة وثمانمائة من الأعيان
إبراهيم بن أحمد بن حسين الموصلي ثم المصري نزيل مكة، أقام بها ثلاثين سنة وكان مالكي المذهب، يتكسب بالنسخ بالأجرة مع العبادة والورع والدين المتين وكان يحج ماشياً من مكة ومات بها، أثنى عليه تقي الدين المقريزي.
إبراهيم بن أبي بكر الماحوزي الأصل ثم الدمشقي تفقه قليلاً وسلك طريق التصوف مع الدين المتين وكان كثير المال ولا يقبل لأحد شيئاً وينهى أصحابه أن يأكلوا لأحد شيئاً، وكانت تلك طريقة والده الشيخ أبو بكر الموصلي، وكان للناس فيه اعتقاد زائد وقل أن يرد أحد من الأمراء رسالته وكان لا يمشي لأحد مطلقا مع الثروة الزائدة مات راجعاً من الحج في المحرم ودفن بتبوك لم يبلغ الستين، وكان قد حج عشرين حجة وفي كل مرة يحصل للناس به النفع الزائد رحمه الله تعالى.
أحمد بن إبراهيم بن محمد صاحب مصنف الجهاد.
أحمد بن عبد الله الرومي ويعرف بالشيخ صارو وهو الأشقر بالتركية، قدم من بلاده فعظمه نائب الشام شيخ قبل أن يتسلطن، ثم صار من خواصه ثم سكن الشام وكان يقبل شفاعته ويكرمه وولاه عدة وظائف وكان كثير الإنكار للمنكر، وقد حج وجاور ومات في شعبان بحلب عند شيخ لما ولى نيابتها وقد شاخ.(2/495)
أحمد بن علي أحمد بن محمد بن سليمان بن حمزة الدمشقي ثم الصالحي الحنبلي شهاب الدين ابن فخر الدين ابن نجم ابن عز الدين خطيب الجامع المظفري.
أحمد بن محمد بن مفلح الصالحي الحنبلي شهاب الدين أخو الشيخ تقي الدين، ولد سنة 754 واشتغل قليلاً وسمع من جماعة، ثم انحرف وسلك طريق الصوفية والسماعات، ومات أبوهما الشيخ شمس الدين سنة ثلاث وستين.
أحمد بن محمد بن أبي القاسم الحوراني ثم العثماني شاهد المطبخ السلطاني كان محبا في أهل الخير، مات في ثالث ربيع الأول، وكانت مباشرته للمطبخ من أول دولة الأشرف فأقام في الوظيفة المذكورة نحو خمسين سنة.
أعظم شاه غياث الدين ابن اسكندر شاه ابن شمس الدين السجستاني الأصل ملك الهند كان غلبة سلفه على دلى بعد رجوع اللنك، وكان اللنك لما دخل الهند حاربه يلو مملوك فيروز شاه بن نصرة شاه ثم انهزم يلو فلما رجع اللنك عاد ايلو فخرج عليه خضر خان بن سليمان فقتله وقبض على نائبه دولة يار واستولى خضر على المملكة فلما مات قام بعده ولده مبارك شاه في ملك دلى وقام شمس الدين السجستاني في ملك بنكالة ثم مات فقام بعده ابنه اسكندرشاه ثم قام بعده ابنه أعظم شاه - وكان له حظ من العلم والفهم والخير، وهو الذي أنشأ المدرسة البنكالية بمكة والبنكالية الأخرى بالمدينة وكان له معروف كثير. ومات في سنة أربع عشرة، وملك ابنه حمزة بعده فثار عليه مملوكه شهاب وقتله فسلط عليه فندوا ملك الكفرة فقتله، ثم ثار ولد فندو عليه فقتله وتسمى محمداَ وأسلم ويلقب جلال الدين أبا المظفر(2/496)
وجدد مآثر من شعائر الإسلام والمساجد، وأرسل إلى مكة بأموال يتصدق بها سنة اثنتين وثلاثين، ثم أرسل هدية إلى مصر بعدها وطلب التقليد من الخليفة، فجهز مع رسوليه سهمك وترغوب في سنة ثلاث، فأعاد جوابه سنة أربع وصحبته مال للخليفة وللسلطان هدية.
أقبغا القديدي وتمراز الناصري وجانم وحاجي بن الأشرف شعبان تقدموا في الحوادث.
حسين بن علي بن محمد بن عبد الرحمن الأذرعي ثم الصالحي بدر الدين ابن قاضي أذرعات تفقه في صباه على الشرف ابن الشريشي والنجم بن الحاني وتعانى الأدب وفاق في الفنون ودرس وأفتى وناظر، وناب في الحكم ثم تركه تورعاً وولى عدة إعادات وهو ممن أذن له البلقيني بالإفتاء لما قدم الشام سنة ثلاث وتسعين وكان يثني عليه كثيراً، ودخل القاهرة بعد الكائنة العظمى، وكانت بيننا مودة، سمعت منه نظما وسمع مني، وكان بأخرة قد انجمع الناس، مات بالطاعون في المحرم رحمه الله تعالى.(2/497)
خابرك تقدم في الحوادث.
خليل بن عبد الله الأذرعي المعروف بالقابوني، كان صالحاً مباركاً منقطعاً عن الناس مثابراً على العبادة قليل الكلام كثير الحج مع فقره، وكان الناس يأتمنونه على الصدقات التي يريدون إرسالها إلى مكة، وكان أهل مكة يستبشرون به إذا حج لكثرة إحسانه م، وكان للشاميين فيه اعتقاد زائد، مات في صفر بالطاعون وله ثلاث وستون سنة، وحضر الناس جنازته حتى النائب، وقد نسخ الكثير للناس وخطه حسن.
عبد الرحمن بن أحمد بن محمد بن أبي الوفاء الشاذلي أبو الفضل ابن الشيخ شهاب الدين، اشتغل في صباه قليلاً، وتعانى النظم فقال الشعر الفائق، وكان ذكياً حسن الأخلاق لطيف الطباع، غرق في بحر النيل هو ومحمد بن عبيد اليشكالشي وعبد الله بن أحمد بن محمد التنيسي جمال الدين قاضي المالكية وابن قاضيهم، ومن نظمه أراه في مرثية محبوب له:
مضت قامة كانت أليفة مضجعي ... فلله ألحاظ لها ومراشف
ولله أصداغ حكين عقاربا ... فهن على الحكم المضي سوالف
وما كنت أخشى أمس إلا من الجفا ... وإني على ذاك الجفا اليوم آسف
رعى الله أياماً وناسا عهدتهم ... جياداً ولكن الليالي صيارف(2/498)
ومن نظمه غزل قصيدة على هذا الروي:
وبي ذهبي الخد صيغ لمحنتي ... يطيل امتحانا لي وما أنا زائف
يذيب فؤادي وهو لا غش عنده ... فيا ذهبي اللون إنك حائف
وفي فمه شهد وشهد مكرر ... وفي خده ورد وورد مضاعف
له أعين أني رأته توابع ... وأعينه أيضا لقلبي خواطف
عبد السلام بن محمد الزرعي أحد سكان المجاهدية بدمشق، كان خيرا أمينا موثوقاً به، قرأت ذلك بخط ابن حجي، مات في أواخر السنة.
عبد الوارث بن محمد بن عبد الوارث البكري المالكي أخو الشيخ نور الدين المقدم ذكره ونسبه في سنة ست وثمانمائة مات فيها بينبع راجعاً من الحج في المحرم.
عقيل بن سريجا بن محمد الملطي الأصل المارديني نزيلها قطب الدين أبو عبد القاهر بن المحقق زين الدين، اشتغل على أبيه وحدث عنه بشيء من تصانيفه بحلب. قال القاضي علاء الدين في تاريخ حلب: كان شيخاً حسناً على الكهولة أقرب، قدم علينا بلادنا سنة ثمان وتسعين، فكتب عنه شيخنا برهان الدين شيئاً من نظم أبيه الشيخ سريجا، وتكلم على الناس بالجامع الكبير وكان كثير الاستحضار، ورجع إلى بلاده بحصن كيفا فمات هناك في هذه السنة ومن إنشاده عن أبيه:
حفظ الحديث رواية ودراية ... وعلومه تسند إلى الإيمان
لا جاحد في من حداه على الفتى الن ... حرير بعد تلاوة القرآن(2/499)
وهي طويلة.
علي بن سيف بن علي بن سليمان اللواتي الأصل الأبياري النحوي المصري نزيل دمشق، ولد سنة بضع وخمسين بالقاهرة ونشأ بغزة يتيما فقيرا فحفظ التنبيه، ثم دخل دمشق فعرضه على التاج السبكي فقرره في بعض المدراس وأستمر في دمشق وأخذ عن العنابي وغيره ومهر في العربية وشغل الناس بدمشق وأدب أولاد ابن الشهيد وقرأ عليه التفسير، وسمع من الكمال ابن حبيب وابن أميلة وغيرهما، وكان خازن كتب السمساطية، وحصل كثيرا من الوظائف والكتب، وفاق في حفظ اللغة وعني بالأصول فقرأ مختصر ابن الحاجب دروساً على المشايخ، وأكثر مطالعة كتب الأدب وصار يستحضر من الأنساب والأشعار والأخبار شيئاً كثيراً، ولم يتزوج قط ثم نهب جميع ما حصله في فتنة اللنك وكان عارفاً بأيام الناس حسن الخط كثير الأنجماع دخل القاهرة بعد الكائنة العظمى فأقام بها وحصل كتباً، ثم قدم دمشق ثم رجع فعظمه تمراز وكان يومئذ نائباً وتعصب له ففوض له مشيخة البيبرسية بعد موت النسابة فعارضه جمال الدين الأستادار وانتزعها منه لأخيه شمس الدين البيري ثم قرره في تدريس الشافعي بعد موت جلال الدين ابن أبي البقاء، فعارضه جمال الدين أيضاً وانتزعها منه لأخيه وعوضه تدريس الشيخونية، فدرس بها يوما واحداً ثم نزل عنها لي بمال واستمر على انجماعه، وحدث بالبيبرسية بسنن أبي داود وجامع الترمذي عن ابن أميلة وبغير ذلك، وحدث بالفصيح بسماعه من ابن حبيب، وسمعت منه يسيراً، وكان فقير النفس شديد الشكوى، وكلما حصل له شيء اشترى به كتباً، ثم تحول بما جمعه إلى دمشق في هذه السنة، وذكر لنا القاضي علاء الدين أنه قرأ عليه جزأً جمعه شيخه العنابي في الفعل المتعدي والقاصر وأنه لم يستوعبه كما ينبغي، قال: وذكر أن في الإصبع أحد عشر لغة فأنشدته(2/500)
البيت المشهور وفيه عشرة وطالبته بالزائدة فلم يستحضرها ولكنه صمم على العدد، وذكر لي أنه جمع جزأ في الرد على تعقبات أبي حبان لكلام ابن مالك - انتهى ومات بالشام في ذي الحجة عن نحو سبعين سنة، وتفرقت كتبه شذر مذر.
علي بن محمد بن علي بن عبد الله الحلبي علاء الدين ابن القرمي نشأ بدمشق واحترف بالنسخ وبالشهادة، ثم وقع على الحكام وناب في الحكم عن البرهان الصنهاجي المالكي، وولى قضاء المجدل وتوقيع الدست ثم قضاء غزة بعناية فتح الله وكان صديقه قديما، ثم ولى قضاء دمياط مضافاً لغزة ومشيخة البيبرسية بالقاهرة، وخطابة القدس، وكان متواضعاً بشوشاً كثير المداراة والخدمة للناس ولا يمر به أحد بغزة إلا أضافه وخدمه وراح وهو يشكره، وقد سمع في صباه ابن أميلة وجماعة من أصحاب الفخر وابن القواس على ما أخبرني به، وكانت بيننا مودة مات في آخر السنة.
فيروز الخازندار الرومي، تربى مع الناصر فرج من صغره فاختص به، وكان جميل الصورة نافذ الكلمة، ولى نظر الخانقاه بسرياقوس، ومات في تاسع رجب وهو شاب، وكان عمر أماكن كثيرة ووقف وقفا على تدريس بالأزهر وغيره، فاستولى الناصر على جميع أوقافه فصيرها للتربة الظاهرية.
قاسم بن أحمد بن أحمد بن موسى بن أحمد بن حسين ابن يوسف ابن محمود الحلبي الأصل العينتابي الكتبي أحد الفضلاء في الحساب والهندسة والنجوم والطلسمات وعلم الحرف والطب، وكان مفرطاً في الذكاء، وهو ابن أخي القاضي بدر الدين العينتابي، وهو الذي ترجمه وذكر أن مولده في سنة ست وتسعين، ومات في رابع عشر المحرم مطعوناً بمصر وصلى عليه بجامع الأزهر، قال: وكان له صديق يقال له خليل بن إبراهيم الخياط من(2/501)
أهل بلده فقال لما رأى جنازته وقد صلى عليها من حضر صلاة الجمعة: يا رب اجعلني مثله! فمات ليلة الجمعة المقبلة وصلى عليه كما صلى على صديقه وعاش أبو قاسم بعده مدة -.
قزدمر الحسني تقدم في الحوادث.
محمد بن إسماعيل بن يوسف بن عثمان الحلبي الشيخ شمس الدين الناسخ المقري كان دينا خيراً يتعانى نسخ المصاحف مع المعرفة بالقراآت أخذ عن أمين الدين ابن السلار وغيره، واقرأ الناس وانتفعوا به، وقد جاور بالحرمين نحو عشر سنين ودخل اليمن فأكرمه ملكها، وكان قد بلغ غاية في حفظ القرآن بحيث أنه يتلو ما شاء منه ويسمع في موضع آخر ويكتب في آخر من غير غلط، شوهد ذلك منه مرارا، مات في ربيع الآخر وقد جاوز السبعين، وهو عم شرف الدين أبي بكر الموقع المعروف بابن العجمي.
محمد بن خليل بن محمد العرضي الشيخ شمس الدين الغزي، ولد قبل سنة ستين، واشتغل بالفقه فمهر فيه إلى أن فاق الأقران وصار يستحضر أكثر المذاهب مع المعرفة بالطب وغيره مات في جمادى الأولى.
محمد بن عبيد بن عبد الله البشكالسي المالكي زين الدين، كان أبوه من أعيان أهل مذهبه وناب في الحكم، وأفتى وحدث عن عز الدين ابن جماعة وغيره، ونشأه ولده هذا ذكياً فاشتهر ذكره بالفضل، وكان يتعاشر مع جماعة من الفضلاء فاتفق أنهم توجهوا إلى شاطئ النيل فركبوا شختوراً فانقلب بهم فغرقوا.
محمد بن علي بن إبراهيم بن عدنان بن جعفر بن محمد بن عدنان ابن جعفر الحسيني الشريف ناصر الدين ابن كاتب السر، وكان فاضلاً ماهراً في الأنساب كثير الاشتغال إلا أنه جامد الذهن، وكان كثير التقشف لا يتعاني الملابس ولا المراكيب،(2/502)
سمع معنا كثيراً، وكانت بيننا مودة، وكان أعجوبة زمانه في السعي كثير الدهاء، دخل القاهرة مرارا بسبب السعي لأبيه في كتابه السر فكان غالبا هو الغالب، وحصل لنفسه في غضون ذلك كثير من الوظائف والتداريس والأنظار، وكان يتبرأ من التشيع ويتهم به: قال ابن حجي: كان دينا صينا لا تعرف له صبوة، وقد عين لكتابة السر فلم يتفق ذلك، ومات في صفر بالطاعون وله سبع وثلاثون سنة.
محمد بن علي بن عمر بن علي بن محمد الدمشقي المعروف بابن الأريلي سبط ابن الشريشي، مات في المحرم.
محمد بن محمد بن محمد بن محمد بن يوسف الدمشقي فتح الدين بن الشيخ شمس الدين ابن الجزري نزيل بلاد الروم ثم دمشق، باشر الأتابكية بدمشق إلى أن مات في صفر مطعوناً، وكان جيد الذهن يستحضر كثيراً من الفقه ويقرئ بالروايات ويخطب جيداً، ترجمه ابن حجي فقال: وكان ذكيا جيد الذهن يستحضر التنبيه ويقرأ بالروايات، أخذ ذلك عن أبيه وعن الشيخ صدقة وغيرهما، ومات في صفر مطعوناَ ولم يكمل الأربعين، وقد رأيته بالقاهرة، هو ولد صاحبنا الشيخ شمس الدين، وعاش بعده دهراً، وكان قد تسحب من أبيه لما توجه إلى بلاد الروم، ثم حضره إلى القاهرة برسالة ابن عثمان بسبب المدرسة الصلاحية وكانت مع والده، فوثب عليها بعده القمني فنازعه فتعصب للقمني جماعة فغلب ابن الجزري، فنازع جلال الدين ابن أبي البقاء في تدريس الأتابكية ونظرها، فلم يزل إلى أن فوضها له برغمه، ثم تصالحا وفوضها له باختياره، وباشرها إلى أن مات.(2/503)
محمد بن مسكين بن مسعود الشبراوي اشتغل كثيراً وكان مقتدرا على الدرس فدرس كتاب الشفاء وعرضه، ثم درس مختصر مسلم للمنذري ولم يكن بالماهر مات في سلخ السنة.
محمد بن الحنبلي شمس الدين شاهد القيمة، وكان من كبار الحنابلة وقدمائهم وكان ورعاً قليل الكلام على سمت السلف مات في رابع ربيع الأول وقد بلغ الستين.
هود بن عبد الله المحابري الدمشقي، مات في أوائل السنة.
يحيى بن محمد بن حسن بن مرزوق المرزوقي الجبلي - بكسر الجيم وسكون الباء الموحدة - الشافعي اليمني، تفقه على رضى الدين ابن الرداد وسمع من علي بن شداد واشتغل كثيراً وكان عابداً ديناً خيراً، يتعانى السماعات على طريق الصوفية ويجتمع الناس؛ عنده لذلك، مات في جمادى الآخرة وقد بلغ ثمانين سنة.
يشبك الموساوي تقدم في الحوادث.
يوسف بن أحمد بن عبد الله بن الصائغ وهو لد شيخنا أبي اليسر المقدم ذكره قريباً وكان ثقيل البدن خفيف الروح كثير المجون حسن المذاكرة، ولي تدريس الدماغية ونظر الرباط الناصري، مات في المحرم.
يوسف بن محمد النحاس جمال الدين المعروف بابن القطب الحنفي، وكان يجلس في الشهود ثم ولى الحسبة مرة ثم ناب في الحكم، ثم سعى في القضاء بعد فتنة اللنك فوليه مرارا، وكان عربا عن العلم وباشر مباشرة غير محمودة، مات في المحرم لم يكمل السبعين.(2/504)
سنة خمس عشرة وثمانمائة
استهلت والناصر قد رحل في آثار الأمراء الذين خامروا عليه، فدخل دمشق كما قدمنا في سلخ السنة الماضية وخرج منها في سادسه، ووقع في أول يوم منه تقرير ابن الكشك في قضاء الحنفية وكان عماد الدين ابن القصاص قاضي الحنفية بحماة، قد جرت له مع يشبك ابن أزدمر وكائنة قبيحة جدا فخرج من حماة إلى دمشق فبذل لنوروز نائب الشام مالاً فولاه قضاءها، ثم عزل فتوجه إلى مصر فقرره طوغان وهو بغزة في قضاء الشام فوصل الى دمشق، فلم يتمكن من المباشرة لدخول الشريف ابن بنت عطاء بتوقيع قضاء الحنفية بدمشق فباشر، ثم دخل الناصر دمشق فأعاد ابن الكشك، فولى قضاء دمشق ثلاثة أنفس في عشرة أيام، وأفرج الناصر عن ناصر الدين ابن البارزي ونكباي الحاجب وسار إلى جهة حمص وقد بلغه أن الأمراء دخلوا بها، فبلغه أن الأمراء رحلوا إلى بعلبك فوصل ا، فوجدهم قد توجهوا إلى البقاع على جهة وادي التيم لقصد القاهرة فتوجه م، فمضوا إلى جهة الصبيبة وهو يتبعهم حتى نزلوا باللجون، فأشار عليه نصحاؤه أن يرجع إلى دمشق حتى يستريح العسكر ثم يتوجه م فيأخذهم من الصبيبة، فأبى ولج في طلبهم وظن أنهم في قبضته وأن الذي أشار عليه بذلك غشه وأتهمه لهواه فيهم، ثم ركب في ساعته وساق فما وصل إلى اللجون حتى تقطعت عساكره ولم يبق معه إلا اليسير، وذلك في ثالث عشر المحرم، وكان الأمراء قد دخلهم الخوف منه فعزموا على أن يتوجهوا في الليل من وادي عارا إلى جهة الرملة ثم يقصدوا حلب من طريق البرية ولم يخطر لهم أن يقاتلوه خوفاً منه وعجزاً عنه، فساعة وقوع عينه عليهم حمل واقتحم فيهم، فارتطمت خيول الذين معه في وحل كان هناك وخامرت طائفة منهم فقتل في المعركة مقبل الرومي وكان الناصر قد فسخ عقد(2/505)
أخته من نوروز وزوجها لمقبل، فقصده نوروز فقتله في المعركة وقتل الطنبغا سقل وجرح سكب فمات من جراحه بعد ذلك بأيام، ووقعت في الناصر جراحة فانهزم راجعاً إلى دمشق، فأشار عليه بعض من ينصحه أن يتم مستمراً إلى القاهرة، فامتنع لما أراد الله من هلاكه وتوجه إلى دمشق فأدركه الليل في بيت تركماني فعرفه فأنزله عنده وكان معه حينئذ ثلاثة أنفس فأقام في الليل يسيراً حتى استراح، ثم قدم له التركماني حجرة وكان فرسه قد أعيا فركبها ووعده بمال وإقطاع وتوجه إلى دمشق فتحصن بالقلعة، واحتاط الأمراء بالخليفة والقضاة وكاتب السر وناظر الجيش وبجميع ما كان مع الناصر من المال والخيل مما لم يتركه محتسبا، فانتقل الأمراء من الخوف إلى الأمن ومن الذل إلى العز، وتقدم شهاب الدين الأذرعي أمام شيخ وهو ابن أخي بدر الدين ابن قاضي أذرعات فصلى بالقوم المغرب فقرأ " واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس فاوئكم وأيدكم بنصره " - الآية
فوقعت الموقع لمناسبة الحال وأصبح الأمراء ورأسهم شيخ ونوروز فاشتوروا فيما يفعلونه وكان كاتب السر فتح الله قد خاف من الناصر فأشار عليهما أن يكتبا إلى القاهرة بما اتفق بحفظ القلعة والبلد ويكتب الخليفة بمثل ذلك، وتوجه قجقارا القردمي بذلك فوصل آخر الشهر، ورحل الأمراء إلى دمشق فوصلوا في نصف المحرم، وكان الناصر قدم تلك الليلة وطلع القلعة واستدعى القضاة والأعيان، ورغبهم فيما لديه ووعدهم بالعدل والجميل فمالوا معه وشجعوه، فتلاحق به العسكر شيئاً بعد شيء، ووجد تغري بردى نائب الشام قد مات في ذلك اليوم فقرر عوضه دمرداش، واخذ بالاستعداد وأخرج الأموال والسلاح، فاجتمع له جمع كثير وانفق فيهم، وقواهم بالمدافع والمكاحل ورفع الجسور عن الخنادق، وأمر القضاة أن يركبوا مع القاضي جلال الدين البلقيني وكان قد تقدم(2/506)
قبل الوقعة إلى دمشق وينادي بأن الناصر قد أبطل المكوس وأزال المظالم، ويطلب منهم الدعاء، فتعصب له عوام الشام، فلما كان في الثامن عشر من المحرم نزل الأمراء قبة يلبغا، فندب الناصر لهم عسكراً فخرج م سودون الجلب وسودون المحمدي فهزموهم ثم ارتحلوا فنزلوا غربي البلدة ووقفوا من جهة القلعة فتراموا بالنشاب، ثم نزل نوروز بدار الطعم وشيخ بدار غرس الدين الأستادار وضم معه الخليفة وكاتب السر والقضاة ونزل بكتمر جلق وقرقماش، فمنعوا الميرة عن الناصر وقطعوا نهري دمشق، فتعطلت الحمامات وغلقت الأسواق وعظم الأمر واشتد القتال وكثرت الجراحات.
وفي ثالث عشري المحرم لحق بالأمير شيخ ناصر الدين ابن العديم قاضي الحنفية وشهاب الدين الباعوني وشهاب الدين الحسباني وكانوا بالصالحية. وناصر الدين البارزي وصدر الدين الأدمي وكانا من أخصاء شيخ فأنس بهما وعرفاه بأحوال البلد مفصلة، وبسط ناصر الدين ابن العديم لسانه في الناصر فبلغ ذلك الناصر، فقرر ابن الشحنة في قضاء الحنفية بالقاهرة عوضا عنه ويقال، إن ناصر الدين المذكور كان ممن شهد الوقعة باللجون وأحيط به مع الخليفة والمباشرين.
وفي الرابع والعشرين من المحرم وسط بلاط أشق شاد الشربخاناة وبلاط أمير علم وكان كل منهما يذبح المماليك الظاهرية بين يدي الناصر بالقاهرة.
وفي يوم السبت خامس عشري المحرم أشهر غلبة الخليفة بخلع الناصر من الملك لما ثبت عليه من الكفريات الانحلال والزندقة وحكم ناصر الدين ابن العديم بسفك دمه.
واستقر في السلطنة الخليفة المستعين بالله أبو الفضل العباس بن المتوكل العباسي، ولم يغير لقبه، وبايعه الأمراء ومن حضره، وكان رأي الأمراء قد اجتمع على ذلك، فلم يوافقهم الخليفة إلا بعد شدة وتوثق منهم بالإيمان فاشتد امتناعه وصمم فبادر كاتب السر(2/507)
فتح الله فأرسل جماعة منهم محمد بن مبارك الطازي، هو أخو الخليفة لأمه ورتب معه ورقة فيها مثالب الناصر وأن الخليفة عزله من السلطنة فلا يحل لأحد من المسلمين القتال معه ولا مساعدته فإنه فعل وفعل - وعدد مثالب الناصر، وقرأه شخص منهم جهراً ودار بها على الوطاق كله حتى بلغ ذلك الناصر وتحققه وتوعد الخليفة بكل سوء ظنا منه أن ذلك من تدبيره، فبلغ ذلك الخليفة فسقط في يده وأيس من صلاح الناصر له، فأجاب إلى ما التمسوه منه من القيام بالأمر، فبايعوه كلهم فحلفوا له على الوفاء وأحضروا له لباس الخظيب الأسود فلبسه وجلس على كرسي وقام الكل بين يديه وقرر بكتمر جلق في نيابة الشام وقرقماش في نيابة حلب وسودون الجلب في نيابة طرابلس والأميرين شيخ نوروز في ركابه يدبران الأمر، ونادى منادي الخليفة ألا أن فرج بن برقوق خلع من السلطنة ومن حضر إلا أمير المؤمنين وابن عم رسول الله فهو آمن، فتسلل الناس عن الناصر، وكتب المستعين إلى القاهرة باجتماع الكلمة له، وأمر يلبغا الناصري بحفظ البلد، فلما كان صبحة هذا اليوم قدم الحاج فتلقاهم شيخ وبعث كل طائفة إلى الجهة التي قصده ومنعهم أن يمروا تحت القلعة.
وفي سابع عشري المحرم استقر برهان الدين الباعوني في قضاء الشافعية بالقاهرة عوضا عن البلقيني وشهاب الدين الحسباني في قضاء الشافعية بدمشق عوضا عن الإخنائي واشتغل الأميران بحصار الناصر، وقتل في هذه الفتنة خلق من الأمراء منهم يشبك العثماني، ولما بلغ الناصر ما صنع فتح الله عزله من كتابة السر وقرر عوضه فخر الدين ابن المرزوق وأضاف نظر الخاص إلى الوزير سعد الدين بن البشيري وكان معه بدمشق.(2/508)
وفي ثاني صفر قدم قجقار القردمي القاهرة فذكر الواقعة، فأراد اسنبغا الزردكاش أن يقبض عليه فمنعه يلبغا الناصري وقرأ كتبه واشتهر الخبر، ورتب الناصري لقجقار ما يليق به وبمن معه وهم نحو ثلاثين نفرا، ثم قدم كزل العجمي وعلى يده كتب من الخليفة والأمراء بما تقدم من خلع الناصر، وقدم بعده ساع من عند الناصر يخبر فيه بأنه ملتجئ إلى القلعة، ثم قدم قصروه وعليه خلعة الخليفة وكتاب إلى الناصري ومن بالقاهرة من الأعيان فقرئ، وأرسل إلى الجامع الطولوني فقرأه ابن النقاش ثم إلى الجامع الأزهر فقرأه مسطرها - كما سيأتي.
وفي السادس من صفر شاع بين الناس أن قرا يلك وغيره من التركمان قد وصلوا نجدة إلى الناصر فنادي شيخ بتكذيب ذلك وأن المذكورين جاليش تمر لنك فاحذروهم، ثم اجتمع الجميع وأعادوا بيعة المستعين وجددوا له الأيمان وأنهم رضوا بأن يكون حاكماً عليهم وأنه المستبد بالأمور من غير معارضة أحد منهم له.
وفي الثاني من صفر اشتد القتال وحمل شيخ بمن معه فانهزم أصحابه وثبت هو ثم تراجعوا وصدقوا الحملة فانهزم أصحاب الناصر ووصل شيخ إلى طرف القنوات، فجاء دمرداش فأعلم الناصر أنه قد سهل القبض عليه وسأله أن يندب معه رجالاً، فناداهم فلم يجبه أحد فأعاد فأجابه بعضهم بجواب فيه جفاء وإذا العسكر قد احتيط بأن نوروز كبسهم، فهربوا بحيث لم يبق بين يدي الناصر أحد، فملك شيخ الميدان والإصطبل، فأشار دمرداش على الناصر أن يرحل إلى حلب، فقام فدخل حريمه ليلاً وتجهز فلم يخرج، فاستبطأه دمرداش فتركه وسار، وقام ناس على الأسوار فنادوا: نصر الله أمير المؤمنين! فلما سمع الرماة ذلك تخوفوا على أنفسهم ففروا، فركب الناصر فرسه ودار(2/509)
على السور فلم يجد أحدا فعاد إلى القلعة، فركب شيخ ودخل من باب القصر وملك المدينة ونزل بدار السعادة، وامتدت أيدي الغوغاء إلى النهب فبالغوا، ونزل المستعين في البلد، ويقال إن دمرداش لما رأى أن حال الناصر تلاشى احتال لنفسه فقال للناصر: أروح أنا وابن أخي واجمع عسكراً من التركمان وغيرهم فمال الناصر لكلامه وأعطاه مالاً كثيراً لذلك فتوجه من دمشق ومعه نحو مائتي نفس، فلما رأى الذين مع الناصر ذلك خارت قواهم ووهنوا، فرأى الناصر علامة الخذلان فقال لهم: من شاء أن يستوثق لنفسه فليفعل، فتفرقوا، ثم تحول شيخ إلى الإصطبل، وأنزل بكتمر جلق في دار السعادة، فلما كان يوم الأحد بعث الناصر يطلب الأمان ويستحلف الأمراء، فحلفوا له على ما أراد وأرسلوا له أخا الخليفة لأمه محمد بن مبارك الطازي فطال بينه وبينه الكلام ولم يفترقا على طائل فعاد والرمي عليهم من أعلى القلعة فعادوا الحصار، فاضطره الأمر إلى أن ينزل ليلة الاثنين ومعه أولاده يحمل بعضهم ويحمل معه بعضهم وهو يمشي من باب القلعة إلى الإصطبل، فلما رآه شيخ قام وقبل الأرض وأجلسة بصدر المجلس فسكن روعه فبات تلك الليلة، وأصبح شيخ يوم الاثنين فلم يجتمع به، واجتمع الأمراء عند المستعين يوم الثلثاء بدار السعادة فاشتوروا فيما يصنعونه بالناصر، فاتفق رأيهم على أن يمضوا فيه حكم ابن العديم، فأخذ في ليلة الأربعاء من الإصطبل فحبس في مكان من القلعة وحده لا يصل إلا من يناوله حاجة المأكول والمشروب خاصة وترك فريداً إلى ليلة السبت سادس عشر صفر، فدخل عليه محمد بن مبارك الطازي ورجل من خواص شيخ وآخر من خواص نوروز ورجلان من المشاعلية، فلما رآهم أحس بالشر فقام ودافع عن نفسه فبادره المشاعلية حتى صرعاه بعد ما أثخنا جراحه وتقدم أحدهما فخنقه، فلما ظن أنه أتلفه قام عنه فتحرك فعاد مرة بعد مرة ففرى أوداجه بخنجر كان معه ثم سحبه بعد ما سلبه فألقاه على مزبلة تحت السماء ليس عليه سوى لباسه وعيناه مفتوحتان، يمر به القريب والبعيد وقد صرف الله قلوبهم عنه فلا أحد يترقق له ولا يحن له بل ربما مد بعضهم يده فعبث بلحيته ثم حمل(2/510)
ليلة الأحد فغسل وكفن وصلى عليه ودفن بقبر بباب الفراديس، ولم تكن له جنازة مشهودة فسبحان المعز المذل! وكان شيخ يحلف أنه لم يكن يريد قتله ولم يرد إلا أن يسجنه ببعض الأماكن مرفها ويرتب له ما يأكل ويشرب ووافقه جماعة من الأمراء منهم يشبك ابن أزدمر إلا أن نوروز وبكتمر جلق لم يأمنا عاقبته فحرضا على قتله وساعدهما حكم ابن العديم فقتله بسيف الشرع فقتل، ولقد كان الناصر هذا أعظم الناس خذلاناً لدين الإسلام وأشأمهم طلعة على المسلمين والعجب أنه ولد لما أقبل يلبغا الناصري ومنطاش فبشر أبوه فسماه بلغاق - يعني فتنة، فما خلص أبوه من الكرك سماه فرجا فكان اسمه الأول هو الحقيقي.
وفي عاشر صفر قبض على الإخناي وابن المزوق والغرس الأستادار وعبد الرزاق ناظر الجيش وصودروا، وخلع على صدر الدين ابن الأدمي بكتابة السر بدمشق، وعلى الأموي بقضاء المالكية بها، وتقرر الأمر بين الأمراء أن يكون الأميران مدبران الأمر بين يدي الخليفة وأن ينزل شيخ بباب السلسلة وينزل نوروز في بيت قوصون، فلما كان الخامس والعشرين من صفر التمس نوروز من الخليفة أن يقرره على نيابة الشام فأجابه إلى ذلك وخلع عليه وصرف عنه بكتمر جلق واستقر أميراً كبيراً بالقاهرة، واعتل نوروز بأنه يخشى وقوع الفتنة وأن التدبير لا يكون إلا لشخص واحد، فأجيب لذلك وفوضت له كفالة الشام كله، وجعل له تعيين النواب في البلاد وتعيين الإقطاعات لمن يراه وكذلك أمر القضاة والمباشرين، فيطالع الخليفة بمن يرى تقريره فيكتب له تقليده.(2/511)
وفي السابع والعشرين من صفر أعيد جلال الدين البلقيني إلى قضاء الشافعية بالقاهرة وعزل الباعوني، فكانت مدته نحو شهر اسما بلا مباشرة، وصرف نوروز ابن الأدمي عن كتابة السر وقرر فيها البصروي وصرف الحسباني عن قضاء الشافعية بدمشق وقرر الأخناني فتوجه مع الحسباني إلى وطاق الخليفة، فكتب له توقيعاً بخطابة الجامع ونظر الأسرى ومشيخة السميساطية ونصف الناصرية، فضرب نوروز على الخطابة وأبقاها مع الباعوني، ثم بقي نصف الناصرية مع شهاب الدين ابن نقيب الأشراف، ثم قرر الباعوني في المشيخة، فلم يبق مع الحسباني سوى نظر الأسرى ثم انتزعت منه.
وفي ثامن صفر وصلت الأخبار إلى القاهرة صحبة كزل بما جرى للناصر وقرئت الكتب بذلك على الناس، وكذب اسنبغا الزردكاش ذلك وأراد إثارة فتنة، فساس يلبغا الناصري الأمر حتى سكن اضطرابه، ووصل كتاب الخليفة بأن يسلم يلبغا القلعة فأذعن له وتوجه إلى داره، وصدرت الكتب من الخليفة إلى أمراء التركمان والعربان والعشير ومفتتحها: من عبد الله ووليه الإمام المستعين بالله أمير المؤمنين، وخليفة رب العالمين، وابن عم سيد المرسلين، المفترضة طاعته على الخلق أجمعين، أعز الله ببقائه الدين إلى فلان.
وفي الثامن من ربيع الأول توجه الخليفة وشيخ ومن معهما إلى القاهرة فدخلوا في يوم الثلاثاء ثاني شهر ربيع الآخر بعد أن تلقاهم الناس إلى قطيا وإلى الصالحية وإلى بلبيس، وحصل للناس من الفرح بذلك ما لا يزيد عليه، ونادوا في الناس برفع المظالم والمكوس.
وفي سادس عشرة توجه نوروز من دمشق إلى حلب وقرر في نيابتها سودون الجلب فمات معه في حادي عشر ربيع الأول، واستقر يشبك ابن أزدمر في نيابة طرابلس وخرج نوروز من حلب وطلب دمرداش فوصل إلى عينتاب فقطع دمرداش الفرات، فرجع نوروز فوجد سودون الجلب قد مات فقرر في نيابة طرابلس طوخ ورجع إلى دمشق فدخلها في أوائل رجب، وتوجه الطنبغا القرمشي نائبا على صفد،(2/512)
وقد ضرب نوروز الدراهم الخالصة زنة الواحد نصف درهم والدينار بثلاثين منه، وفرح الناس بها وكانت معاملاتهم قد فسدت بالدراهم المنشوشة النيروزية وكان منه بها قديما في كل درهم عشرة فضة وتسعة أعشاره نحاس.
وفي شهر ربيع الأول استقر الشيخ محب الدين محمد بن الأشقر شرف الدين عثمان الكراوي في مشيخة الخانقاه الناصرية بسرياقوس وكان شيخها شهاب الدين ابن أوحد قد قام عليه الصوفية لما بلغهم خير الملك الناصر لأنه كان يستطيل عليهم بصحبته فآذوه ورموه بكل عظيمة وكان جديراً بذلك، فخشي على نفسه منهم فبادر بالنزول عن الخانقاه المذكورة للمذكور لمعرفته بمحبة الناس له لحسن سياسته، فأمضى له يلبغا الناصري النزول واستقر بها، وخرج ابن أوحد إلى ملاقاة معارفه من المصريين في العسكر، واستقرت قدم بن أشقر في سرياقوس، وكان قد تزوج بنت البرهان المحلى وهي أخت زوجة الخليفة، فخرج إلى لقائه فتلقاه بإكرام وتعظيم.
وفي الثاني من ربيع الأول دخل الخليفة القاهرة فشقها والأمراء بين يديه فاستمر إلى القلعة فنزلها، ونزل شيخ الإصطبل بباب السلسلة، وكان شيخ يظن أن الخليفة يتوجه إلى بيته ويستعفي من السلطنة، فلما لم يفعل ذلك أعرض عنه وأبقى له من يخدمه من حاشيته، واستقرت الخدمة عند شيخ وأمسك اسنبغا الزردكاش، فادعى عليه مدع بموجب القتل فقتل، وقبض على أرغون وسودون الأسندمري وكمشبغا، المزوق، وقرر في نيابة الإسكندرية خليل الحشاري عوضا عن قطلوبغا الخليلي بحكم موته.(2/513)
وفي الثامن منه صعد شيخ والأمراء إلى القصر وجلس الخليفة على تخت الملك فخلع على شيخ خلعة عظيمة بطراز لم يعهد مثله وفوض أمر المملكة بالديار المصرية في جميع الأمور وكتب له أن يولي ويعزل بغير مراجعة وأشهد عليه بذلك ولقب نظام الملك، وقرر طوغان دويدارا وشاهين الأفرم أمير سلام وإينال الصصلائي في الحجوبية، وخلع على يلبغا الناصري وسودون الأشقر، وقرر الطنبغا العثماني في نيابة غزة عوضا عن سودون بن عبد الرحمن، ونزلوا كلهم في خدمة شيخ، فلما كان في اليوم الذي يليه عرض شيخ الأجناد وفرق الإقطاعات وقرر جمقمق دويدار في خدمة الخليفة وأسكنه القلعة وتقدم بأن لا يمكن الخليفة من كتابة علامة إلا بعد عرضها على شيخ، فاستوحش الخليفة حينئذ وضاق صدره كثر قلقه واتضع جانبه وصار الملك كله لشيخ فسبحان من له الأمر كله.
وفي حادي عشر استقر صدر الدين ابن العجمي في حسبة القاهرة وصرف ابن الدميري، وخلع على المباشرين باستقرارهم على عادتهم، وخلع على تاج الشويكي، واستقر والي القاهرة واستقر بدر الدين حسن ابن محب الدين أستادارا وسكن بيت جمال الدين واستقر شهاب الدين أحمد الصفدي ناظر المارستان عوضا عن فتح الله وناظر الأحباس عوضا عن تاج الدين ابن نصر الله أخي ناظر الجيش بدر الدين وقام جد القيام في دفع ذلك فلم يجب سؤاله، واستقر ناصر الدين البارزي في توقيع الأمير عوضاً عن تاج بن نصر الله وشرف الدين ابن التباني في وكالة ببيت المال ونظر الكسوة وفي قدوم القوم إلى القاهرة انحلت الأسعار ورخصت الغلال، وزاد النيل زيادة وافرة(2/514)
بحيث أنه عند الناروز كان قد وفى ثمانية عشرة ذراعا واستبشر الناس بذلك، وخف الظلم جداً وتعطلت الرمايات والمصادرات وبيع الأنفس الأحرار والمجاهرة بالمحارم في الجملة.
وفي السادس عشر من جمادى الأولى قرئ تقليد الأمير شيخ بتفويض الخليفة له بأمور المملكة وجميع ما قد اشتهر من خلافته.
وفي ثالث عشر منه جلس في الحراقة وبين يديه القضاة والأمراء والمباشرون وقرأ كاتب السر عليه القصص كما جرت العادة عند السلاطين في دار العدل ولم يبق له من السلطنة سوى اسمها والسكة والخطبة، واستمر يعمل عنده الخدمة كل اثنين وخميس.
وفي رابع عشر منه قرر صدر الدين ابن الأدمي في قضاء الحنفية بالقاهرة وصرف ابن العديم بالمال حتى أعيد إلى الشيخونية في رجب، وصرف أمين الدين من الطرابلس وأرسل جقمق إلى بلاد الشام بتقاليد النواب من جهة الخليفة.
وفي الثامن من جمادى الآخرة مات بكتمر جلق وكان قد لسعته عقرب من مدة شهرين فتمرض منها حتى مات، ونزل شيخ للصلاة عليه راكبا والناس مشاة فخلا الجو لشيخ بموت بكتمر، وفيه جهزت سارة بنت الملك الظاهر إلى زوجها نوروز بدمشق فخرج يلقاها إلى الرملة فوصلت وهي ضعيفة، فتوجه بها إلى القدس فماتت هناك.
ولما دخل القدس اتصل به شمس الدين محمد بن عطاء الله الهروي، فقرره في تدريس الصلاحية عوضا عن الشيخ زين الدين القمني وكان الوظيفة بيد القمني ويستنيب فيها شهاب الدين ابن الهائم، فمات ابن الهائم فخلت عن تدرس فوثب عليها الهروي، وفي جمادى الآخرة قرأ البارزي موقع شيخ بين يديه القصص في غير أيام الخدمة فكثر الناس على بابه وقل تردادهم على فتح الله فبدأ جانبه في الانحطاط،(2/515)
وفي يوم السبت تاسع عشرين رجب عقد مجلس بين يدي شيخ بسبب مدرسة جمال الدين وادعى أخوه شمس الدين علي فتح الله كاتب السر أنه واضع يده عليها ظلماً فأجاب بأنها صارت للناصر بوجه شرعي وأنه فوض له النظر عليها، فبدر ابن الأدمي فقال: حكمت بإعادتها إلى وقف جمال الدين وكذلك أوقافها على ما كان جمال الدين وقفها، وانفصل الأمر على ذلك.
وفي رجب شكى أخو جمال الدين الأستادار وعائلته ما أصابهم من الناصر وانتزاع أوقافهم، فحكم صدر الدين ابن الأدمي بإبطال ما صنعه الناصر وبإعادة وقف جمال الدين على حاله وصرف الفرائض من الربع إلى ورثة جمال الدين، وكان فتح الله سعى في ضد ذلك فلم يجب سؤاله واتضع جانبه جدا وسعى أخو جمال الدين حينئذ فاستعاد البيبرسية بحكم أنها كانت بيده وخرجت عنه لعلاء الدين الحلبي ثم نزل عنها لكائنة، فلم يزل أخو جمال يسعى إلى أن اشترك معه في المشيخة.
ثم انتزعها كلها في سنة عشرة ثم استعادها كاتبه كلها في سنة ثماني عشرة.
وفي مستهل شعبان بويع الأمير شيخ بالسلطنة باتفاق من أهل الحل والعقد الذي حضروا من الأمراء والقضاة والمباشرين ثم صعد إلى القصر فجلس على تخت الملك، وقبل الأمراء الأرض فصافحه القضاة وأصحاب الوظائف، وقررهم على وظائفهم، وأرسل إلى الخليفة ليشهد عليه بتفويض السلطنة له على عادة من تقدمه فأجاب بشرط أن ينزل من القلعة إلى بيته، فلم يوافقه السلطان على ذلك بل استنظره أياماً، ولقب السلطان بالملك المؤيد بعد أن شاوروه في ذلك فاختار هو هذا اللقب، وكنت حاضراً في وظيفة إفتاء دار العدل فاتفق أنهم اختلفوا في تكنيته فقلت الذي يوافق التأييد هو النصر فاتفقوا على تكنيته أبا النصر وافترق المجلس على ذلك،(2/516)
واتفق في يوم سلطنته قدوم جمقمق الدوادار راجعاً إلى دمشق لتقليد النواب - فتلقاه نوروز وخلع عليه ظانا أن الأمر على ما كان عليه، فلما كان في ثامن عشرة رجع إلى دمشق فقبض عليه نوروز وسجنه.
وفي السادس من شعبان توجه طرباي بخلعه استقرار لنوروز في نيابة الشام فلما بلغه ذلك أعاد جواباً قبيحا وأفحش في الرد وكاتبه كما كان يكاتبه من قبل فرجع الرسول مسرعا فوصل في أول يوم من رمضان فجهز المؤيد الشيخ شرف الدين ابن التباني في ثامن عشرة رسولا إلى نوروز يعظه ويشير عليه بالدخول في الطاعة، فقدم عليه في سابع شوال، فلم يلقه بإكرام ومنعه من الاجتماع بالناس، وقبض على نجم الدين ابن حجي وكان خرج مع الحجاج فوشي به إلى نوروز أنه يريد التوجه من مكة إلى مصر فحبسه بالقلعة ثم أفرج عنه بعد خمسة عشر يوما وأرسل نوروز إلى الأمراء من البلاد أن يوافوه بدمشق لحرب المؤيد، فوصل تغري بردي ابن أخي دمرداش وطوخ وقمش ويشبك بن أزدمر، فاستقر الرأي أن يرجعوا إلى بلادهم ويتجهزوا ويعودوا إلى دمشق، ثم وصل الخبر بمجيء إينال الرجبي وجانبك الصوفي في عسكر من جهة المؤيد إلى غزة فملكوها، وهرب كاشف الرملة إلى نوروز فجهز نوروز جيشاً إلى غزة فتوجه معه كاشف الرملة فكبسوا إينال الرجبي بالقدس فكسروه وأرسل إلى دمشق وكان زوج أخت نوروز فخامر عليه، فلما حضر إلى نوروز بصق في وجهه ثم أطلقه وتوجه عسكر نوروز فأخذوا غزة، فهرب جانبك الصوفي إلى صفد.(2/517)
وفي الثامن من شعبان عمل المؤيد الخدمة بدار العدل في الإيوان وكانت قد انقطعت من مدة طويلة وقرر الأمراء فيلبغا الناصري أتابك العساكر وطوغان دويدارا كبيرا وشاهين الأفرم أمير سلاح، وقانباي المحمدي أمير أخور وسودون الأشقر رأس نوبة، خلع على القضاة والمباشرين.
واستقر شمس الدين التباني في قضاء العسكر عوضا عن جمال الدين ابن القطان.
وكان استقر في الوظيفة بعناية الخليفة فعزل.
وفي هذا اليوم صرف نوروز شهاب الدين الأموي عن قضاء المالكية وأعاد عيسى فرحل الأموي إلى القاهرة.
وفي شعبان تجهز طوغان ومعه عسكر إلى البحيرة لدفع عرب لبيد وكانوا قد أفسدوا فقتل منهم جماعة فرحلوا إلى الإسكندرية فحاصروها فتجهز م قرقماش ابن أخي دمرداش.
وفي الثاني من رمضان جمع ود والنصارى، وحضر جماعة من أهل العلم منهم ابن النقاش وشمس الدين التباني وشهاب الدين بن سنقري مع المحتسب ابن العجمي وكتب أسماء أهل الذمة وقررت عليهم الجزية على قدر أحوالهم، على الغني أربعة دنانير والوسط ديناران والفقير دينار واحد، فبلغت الجزية في هذا السنة عشرة آلاف دينار، وكانت في العام الماضي ألفا وخمسمائة فقط.
وفي شوال أرسل المؤيد آقبغا الأسندمري إلى دمرداش بتقريره نائباً بحلب، وفي تاسعه قبض على سودون المحمدي بالقاهرة وأرسل إلى الإسكندرية لأنه كان يميل إلى نوروز، وقبض على كاتب السر فتح الله وعوق بالقلعة وأحيط بداره - وقبض على حواشيه، ثم صرف في ليلة الجمعة وألزم بمائة ألف دينار، وحمل في ليلة الأحد إلى بيت الأستادارا وشرع في بيع حواصله،(2/518)
وقرر ناصر الدين البارزي في كتابه السر عوضا عن فتح الله، وكان صدر الدين الأدمي قد عين لذلك من قبل فاتفق له رمد أشفى منه على العمى، فاستقر البارزي وسجن فتح الله بالقلعة في أواخر شوال، ثم عوقب في سادس ذي الحجة على ظهره عقوبة بالغة وعصر حتى كاد أن يموت، ثم أهين إهانة بالغة ثم حول في ثامن ذي الحجة إلى ناظر الخاص فانزله في دار مضيفاً عليه وكان المؤيد وقد نقل الخليفة المستعين من القصر فأنزله في دار من دور القلعة ومعه أهله ووكل به من يمنع من الاجتماع به، فبلغ ذلك نوروز فجمع القضاة والعلماء في سابع ذي القعدة واستفتاهم عما صنعه المؤيد بالخليفة من خلعه وسجنه فأفتوا بعدم جواز ذلك وافترقوا عن غير شيء، وفي هذا الشهر انتهت عمارة قلعة دمشق إلى أن صارت أحسن مما كانت وأعمر، وتوسع نوروز في النفقات والعطايا حتى أنه أعطى تغري بردى ابن أخي دمرداش ثمانية آلاف دينار ويشبك بن أزدمر خمسة آلاف دينار - وقس على ذلك، وكثرت مصادراته للناس فأخذ من خليل الأستادارا وحده مائتي ألف دينار، ويقال إنه وجد مع ناس من أهل البقاع ذهباً فأنكر عليهم، فاعترفوا أنهم نبشوا لدفن ميت فوجودا ناووسا ففتحوه فوجدوا فيه ذهباً كثيراً فاقتسموه فتتبع نوروز من أخذه واستعاد منه ما قدر عليه، فحصل له نحو ثلاث غرائر ملأى ذهباً فيما قيل.
وفي تاسع شوال سجن سودون المحمدي بالإسكندرية.
وفي ذي القعدة قطع الدعاء للخليفة بمكة ودعي للمؤيد وحده وكان من أول دولة المستعين يدعى لهما.(2/519)
وفيه مات طوغان نائب قلعة الروم فتغلب عليها دمرداش ثم وصل تقليد بنيابة حلب فسار ا، واستقر في تاسع ذي الحجة وخطب باسم المؤيد بها، وكان أهل حلب قد ركبوا على يشبك بن أزدمر وأخرجوه منها بسبب كثرة ظلمه لهم وأخذ أموالهم بغير تأويل، فلما خرج إلى البر يتنزه أغلقوا في وجهه أبواب البلد، فوقعت بينهم حروب ببانقوسا فكسروه فرجع إلى دمشق مستنصراً بنوروز، وأرسل أهل حلب إلى دمرداش وكان مقيما بقلعة الروم من حين هرب من دمشق والناصر في الحصار فأمروه عليهم، وأثار أهل طرابلس بأصحاب طوخ وكان مقيما بحماة فقتلوه أستاداره وولده وأخرجوا الحاجب بعد ما خرج، وأرسل نوروز من استولى على غزة، وهرب نائبها فلجأ إلى العرب فأقام عندهم.
وفي الثالث من ذي الحجة قرر المؤيد قرقماش ابن أخي دمرداش في نيابة الشام وأمره بقتال نوروز فوصل إلى الرملة ثم رجع بغير قتال، وكان نوروز قد راسل المؤيد يسأله أن يستمر في نيابة الشام وأن يستبد بها فلم يجب على سؤاله وعرف أنها مكيدة.
وفي الثالث من ذي الحجة استقر شرف الدين ابن التباني بعد أن وصل من الرسلية لنوروز في تدريس الشيخونية ومشيختها عوضا عن ابن العديم، وكان ابن العديم حج واستخلف في التدريس الشيخ سراج الدين قارئ الهداية، وفي المشيخة شهاب الدين ابن سفري.
وفي أواخر ذي الحجة صرف ابن العجمي من الحسبة وألزم بمال حمله واستقر محمد بن شعبان على بذل خمسمائة دينار دفعة واحدة معجلة وفي كل شهر مائة دينار، وكان سعر الغلال في هذه السنة رخيصة بمصر جدا حتى بلغ الشعير(2/520)
كل ويبة دينارين ونوى التمر واسمه الفصا دينارا وكل ثلاثة أرطال بقسماط بدينار، وفيها غلا سعر الفلفل جدا، ووصل الفرنج على العادة فأبى تجار المسلمين أن يبيعوه لهم إلا بسعر مائتين وأربعين فوصلوهم إلى مائتين وعشرين فامتنعوا ورجعوا ولم يشتروا شيئاً، وذلك في سنة خمس عشرة فدخلت سنة ست عشرة والأمر على ذلك، وكان السلطان جهز مع شيخ علي الكيلاني أحد التجار بخمسة آلاف دينار يشتري له بها من الفلفل بقصد التجارة، فاتفق أن صاحب اليمن أرسل إلى مكة جملة مستكثرة من الفلفل وأمر قاصده أن يعتمد على ما يشيره شيخ علي فبلغ سعره بخمسة وعشرين كل مائة من، فأخذ منها بالخمسة آلاف التي هي للسلطان بهذا السعر فأتى على أكثره وباع القاصد بقية ما معه على التجار بسعر خمسة وثلاثين، ولما وصل الذي اشترى للسلطان بيع باثني عشر ألف دينار فعظم قدر شيخ علي عنده جدا.
وفي آخرها غلا الكتان جداً وغلا بسبب ذلك القماش المعمول من الكتان وتبعه جميع الأقمشة القطنية.
وفيها اشتد البلاء على أهل فاس باستمرار حصار السعيد إياها إلى أن قدرت هزيمته أيضاً في شعبان، ثم عاد في شوال فخرجوا فقاتلوه فكبا به فرسه فأخذ وقتل.
وفي أثناء ذلك وقع الفساد في تلك البلاد واستولى المفسدون وقطعت الطرقات ومات بفاس من الناس مالا يحصى عدده جوعا، ثم أعقبه الوباء حتى يرى الدار ليس فيه أحد حي.
ومن النوادر أن قلعة دمشق لما كملت عمارتها على يد نوروز حضر عنده شخص عجمي(2/521)
فقطع له آلة بطريق الهندسة بحيث يطلع الماء من النهر في دلوين يديرهما شخصان من نحاس فيجري الماء إلى الطارمة بالقلعة بغير علاج بهيمة ولا حامل يصعد الدلو فيصب في الإناء الذي أعد له وينزل فيطلع الأخر كذلك، وأظهر نوروز في إمرته هذه بدمشق من العدل ما لا يوصف حتى توفرت الدواعي من الواردين على حكاية ذلك حتى أن المؤيد كان أرسل إلى القدس أميرين وهما جانبك الصوفي وإينال الرجبي في عسكر فخرج نائب القدس وظفر بإينال وفر جانبك إلى صفد، وأرسل نائب القدس إينال إلى نوروز، فلما وصل أكرمه وخلع عليه وأعطاه واستقر عنده.
وفيها مات شاهين الحسني وكان تقدم في دولة الناصر وحج بالناس وولي نظير البيبرسية وغيرها فمات، وعلي بن مبارك بن رميشة الحسني كان عين لإمرة مكة عند غضب الناصر على حسن بن عجلان في سنة اثنتي عشرة ولم يتم أمره.(2/522)
ذكر من مات
في سنة خمس عشرة وثمانمائة من الأعيان
إبراهيم بن أحمد بن حسين الموصلي المالكي، تفقه واحترف بتأديب الأطفال بالقاهرة، ثم حج فجاور وسلك طريق الورع والنسك وصار يتكسب بالنسخ ويحج ماشيا وكان غاية في الورع والتحري، مات في عشر السبعين.
أحمد بن أحمد بن أحمد بن النشار شهاب الدين أحد موقعي الحكم كان من أعيان الدماشقة حسن الخط والخطابة، مات في شهر رمضان وهو ممن وافق اسمه اسم أبيه وجده.
أحمد بن إسماعيل بن خليفة الحسباني ثم الدمشقي الشيخ شهاب الدين ابن الشيخ عماد الدين، ولد سنة 749 واشتغل في حياة أبيه وبعده، وأخذ عنه وعن غيره وسمع الكثير وقرأ بنفسه، وطلب الحديث فأكثر من الأجزاء والمسانيد، ومهر في الفن وضبط الأسماء واعتنى بتحرير المشتبه وكتب بخطه أشياء، وكان ذكيا سريع القراءة والكتابة، وشارك في الفقه والعربية، والأصول، وولي تدريس الحديث بالأشرفيه وغيرها، وناب في الحكم ثم اشتغل في دولة المؤيد بغير إذن الناصر فكان يتورع ويستبد بتنفيذ الأحكام إلى إذن بعض رفقته، ثم امتحن في أيام الناصر كما تقدم، ثم ولي القضاء أياماً قلائل في دولة المستعين، وكان ممن أعان على موجب قتل الناصر وكان قد فتر عن الاشتغال واشتغل بحب الرئاسة ونشأ ابنه تاج الدين فازداد الأمر فسادا، وكان لما قبض عليه في سنة اثنتي عشرة أشيع موته(2/523)
وانه خنق فأرخه الشيخ شهاب الدين ابن حجي رفيقه في تلك السنة، وقال في ترجمته: اشتغل في الفقه عند أبيه وفي الفرائض وفي العربية عند العنابي فبرع فيها وسمع الكثير في دمشق ومصر وقرأ بنفسه قراءة صحيحة وكان صحيح الذهن جيد الفهم حسن التدريس إلا أنه كان شرها في طلب الوظائف كثير المخالطة للدولة شديد الجرأة والإقبال على التحصيل انتهى. ثم صرب على ترجمته وأرخه على الصحة في هذا السنة وقال: عزل غير مرة وامتحن مراراً وفي كل مرة يبلغ الهلاك ثم ينجو، وقد تغير بأخرة لما جرى عليه من المحن وكان يحب ولده فيرميه في المهالك، ومقته الناس بسببه ولا يبالي بهم، قلت: وأخبرني الشيخ نور الدين الأيباري أنه عذله لما دخل القاهرة في ولده فقال: يا أخي! الناس يحسدونه لأنه أعرف منهم بالتحصيل، فعرفت أنه لا يفيد فيه العتاب، وقال القاضي تقي الدين الشهبي: جرت له مع ابن جماعة فتنة وأوذي أذى كثيراً ثم نجا، قلت: وكان شيخنا البلقيني يحبه ويعظمه وشهد له أنه أحفظ أهل دمشق للحديث حتى ولى الأشرفية، وقد اجتمعت به بدمشق فأكرمني وأعارني كتبه، وأجزاءه التي كان يضن بها عن غيري، ثم قدم القاهرة بعد الكائنة فأعطيته جملة من الأجزاء وشهد لي بالحفظ في عنوان تعليق التعليق، وسمعت منه بدمشق قليلا، وكان قد شرع في تفسير كبير أكمل منه كثيراً وعليه فيه مآخذ ثم عدم في الكائنة - رحمه الله تعالى وكان عنده كرم مفرط قد يفضي إلى الأشراف، وفيه شجاعة وإقدام، مات في شهر ربيع الآخر.(2/524)
أحمد بن أبي بكر بن علي بن محمد بن أبي بكر بن عبد الله بن عمر بن عبد الرحمن بن عبد الله بن يعقوب الناشري الزبيدي - بفتح الزاي - شهاب الدين ابن رضي الدين بن موفق الدين الفقيه الشافعي، عني بالعلم وبرع بالفقه وشارك في غيره، تخرج به أهل بلده مدة طويلة، وولي قضاء زبيد فراعى الحق في أحكامه فتعصبوا عليه فعزل، وانتهت رئاسة الفتوى ببلده، وكان شديد الحط على صوفية زبيد المنتمين إلى كلام ابن العربي وكان يستكثر من كلام من يرد عليه فجمع من ذلك شيئاً كثيراً في فساد مذهبه ووهاء عقيدته، اجتمعت به بزبيد ونعم الشيخ كان مات في خامس عشري المحرم وقد جاوز السبعين.
أحمد بن محمد بن عماد بن علي المصري ثم المقدسي شهاب الدين ابن الهائم الشافعي، ولد سنة ثلاث وخمسين واشتغل بالقاهرة وحصل طرفا صالحا من الفقه وعني بالفرائض والحساب حتى فاق الأقران في ذلك ورحل من الآفاق، وصنف التصانيف النافعة في ذلك، ودرس بالقدس في أماكن وناب عن القمني في تدريس الصالحية مدة فلما قدم نوروز القدس في أماكن وناب عن القمنى في تدريس الصالحية مدة فلما قدم نورز القدس في هذا السنة لملاقاة زوجته بنت الظاهر قرر الهروي كما تقدم ثم قسمها بينه وبين ابن الهائم لقيام أهل البلد معه، ثم جهز القمني توقيعاً من الخليفة إلى ابن الهائم بنزع الهروي، فلم يمض نوروز ذلك واستمرت بيده بعد موت ابن الهائم إلى أن ولى القضاء بالقاهرة واستمرت أيضا إلى أن رجع ابعد عزله مرتين، ومات ابن الهائم في جمادى الآخرة، اجتمعت به ببيت المقدس وسمعت من فوائده.(2/525)
الطنبغا بن عبد الله التركي الدمشقي مولى ابن القواس سمع من الحجاز بعض صحيح البخاري ولم يظهر سوى قبل موته بقليل، وقد استجازه بعض أصحابنا ولم نعلم أنه حدث، وهو آخر من سمع من الحجاز من الرجال.
أي ملك بنت إبراهيم بن خليل بن محمود البعلية ثم الدمشقية أخت الشيخ جمال الدين ابن الشرائحي، سمعت بعناية أخيها من ابن أميلة ومن بعده وحدثت معه، سمعت منها وسمعت بقراءتي ماتت في ربيع الأخر.
أبو بكر بن علي بن يوسف الهاشمي الحسني الموصلي نزيل القاهرة، اشتغل كثيراً، وكان يميل إلى المذهب الظاهري وامتحن بسبب ذلك مرة، وكان يحفظ شيئاً من البخاري بأسانيده وكثيراً من كلام ابن تيمية وكان فقيراً، قانعاً، ملازماً للصلاة والعبادة، حسن السمت، يتكلم على الناس بالجامع الحاكمي، مات في حادي عشري جمادى الأولى.
تغرى بردى الكمشبغاوي الرومي، كان جميل الصورة رقاه الظاهر حتى صيره أمير مائة في نصف رمضان سنة أربع وتسعين، وولي نيابة حلب في ذي الحجة سنة ست وتسعين، فسار فيها سيرة حسنة وأنشأ بها جامعاً كان ابن طولون ابتدأ في(2/526)
تأسيسه ووقف عليه قرية من عمل سرمين ونصف السوق الذي كان له بحلب، قرر في الجامع مدرستين شافعاً وحنفيا فقرر أولا شمس الدين القرمي ثم صرفه وقرر جمال الدين الملطي الذي كان ولى القضاء بالديار المصرية بعد ذلك، وقرر نور الدين الصرخدي في تدريس الشافعية، ثم صرف تغرى بردى بأرغون شاه وطلب إلى مصر فأعطى تقدمه وكان من توجه إلى الشام مع ايتمش فنفي إلى القدس، ثم ولي نيابة دمشق ثم صرف ففر إلى دمرداش بحلب، ثم فارقه وتوجه في البحر إلى مصر فقربه الناصر وأعطاه تقدمة، ثم استقر سنة ثلاثة عشرة أتابك العساكر، ثم قرره في نيابة دمشق في آخر السنة فمرض في أواخر سنة أربع عشرة، فمات في الأسبوع الذي دخل فيه الناصر منهزماً وذلك في المحرم سنة خمس عشرة، قال القاضي علاؤ الدين في تاريخه: كان عنده عقل وحياء وسكون، ثم قال أيضاً: كان كثير الحياء والسكون حليماً عاقلا مشارا بالتعظيم في الدول، قلت وكان جميلاً حسن الصورة جداً، وكان يلهو لكن في سترة وحشمة وإفضال، والله يسمح له.
جار الله بن صالح بن أحمد بن عبد الكريم الشيباني المكي، سمع على تاج الدين ابن بنت أبي سعد ونور الدين الهمداني وعز الدين ابن جماعة وشهاب الدين الهكاري وحدث عنهم، قرأت عليه أحاديث من جامع الترمذي بمدينة ينبع وكان خيراً عاقلا، مات في هذا السنة، وهو الذي قال فيه صدر الدين بن الأدمي البيتين المشهورين وسنذكرهما في ترجمته.(2/527)
خليل بن الوزير جمال الدين ابن بشارة الدمشقي، كان شابا فطنا ذكياً محباً للتاريخ، وكان يؤرخ الحوادث ويضبطها ويذاكر بأشياء حسنة إلا أنه مقبل على اللهو، مات قبل الكهولة.
رقية بنت العفيف عبد السلام بن محمد بن مزروع المدينة، حدثت بالإجازة عن شيوخ مصر، والشام كالختني وابن المصري وابن سيد الناس من المصريين والبندنيجي والمزي من الشاميين، ماتت عن سبع وثمانين سنة.
سعد بن عبد الله الحبشي، عتيق الطواشي لشير الجمدار، اعتنى به سيده وعلمه القرآن ورتبه في وظائف، واستمر بعد سيده على طريقة حسنة وتزيا بزي الفقهاء، وكان محبا في السنة وأهلها، جميل العشرة كثير الحج يقال إنه حج ستين حجة، ومن أعجب ما كان يحكيه أنه شاهد بعض الغلمان باع ما حصل له من مائدة السلطان بأربعة دراهم فكان فيها ربع قنطار لحم وستة أرطال حلوى خارجا عما عدى ذلك.
سليم بن عبد الله الضرير الصالحي، اشتغل بالفقه ومهر فيه، مات بدمشق.
طيبغا الشريفي عتيق الشريف شهاب الدين نقيب الأشراف بحلب، سمع مع أولاده من الجمال بن الشهاب محمود، وتعلم الخط معهم من الشيخ حسن ففاق في الخط الحسن وكتب الناس عليه، واستقر في وظيفة تعليم الخط بالجامع الكبير وتسمى عبد الله، ثم أجلسه الكمال ابن العديم مع العدول وفر في الكائنة العظمى إلى دمشق فأقام بها مدة وحدث بها وعلم الخط إلى أن مات، ذكره(2/528)
القاضي علاؤ الدين في تاريخه وقال: كتبت عليه بحلب وقرأت عليه الحديث بالقاهرة في سنة ثمان وثمانمائة، ومات في آخر هذه السنة.
عائشة بنت علي بن محمد بن عبد الغني بن منصور الدمشقية، سمعت مع زوجها الحافظ شمس الدين الحسيني من ابن الخباز والمرداوي ومن بعدهما وحدثت، ماتت في رمضان عن بضع وستين سنة.
عبد الله بن محمد بن طيمان - بفتح المهملة وسكون التحتانية - المصري جمال الدين الطيماني الشافعي نزيل دمشق ولد قبل السبعين بيسير وحفظ الحاوي الصغير، لازم البلقيني وعز الدين بن جماعة واشتغل بالقاهرة ونبغ في الفقه وشارك في الفنون ثم نزل دمشق وأفتى ودرس، ومات مقتولاً في حصار الناصر دمشق بغير قصد من قاتله، وكان يلبس زي العجم قريباً من زي الترك وكان ذكياً ماهراً لا يتكلم إلا معرباً ويتعانى طريق الصوفية مات في صفر ولم يكمل الخمسين ومات صهره ابن حسان والد صاحبنا شمس الدين بن حسان بعده بيسير وكان من أهل القدس فقدم دمشق فقطنها، ولازم الطيماني وكان الطيماني يتردد إلى دمشق بسبب وقف له فحضر أول مرة قدمها عند الشيخ نجم الدين ابن الجاني ثم قدمها مرارا وفي الأخيرة حضر عند الشيخ شرف الدين الغزي فاستحضره كلام الأسنوي في المهمات مرة بعد مرة فقال له الغزي: أنت درست المهمات إني بت أطالع هذه المواضع وأنت تحفظها أكثر مني وقال ابن حجي: قدم علينا فاضلاً فلازم التحصيل وشغل الفلكية وأفتى وصنف، وقال القاضي تقي الدين الشهبي: شرع في جمع أشياء لم تكمل، واختصر شرح(2/529)
الغزي على المنهاج وضم أشياء من شرح الأذرعي، وفد درس بالركنية والعذراوية والظاهرية والشامية.
عبد الله بن محمد بن التقي الحنبلي تقي الدين ابن قاضي الشام عز الدين، درس بعد أبيه فلم ينجب، ثم ولى القضاء بعد الفتنة بطرابلس، مات في رمضان.
عبد الله الشريفي الكاتب، كان اسمه طيبغا - تقدم قريباً.
علي بن محمد بن أبي بكر العبدري الشيبي الحجي المكي، ولي حجابة البيت مراراً وكان حسن الخط، حصل كتباً كثيرة بخطه.
عمر بن عبد الله الهندي سراج الدين الفافا - بفاءين - كان كثير النطق بالفاء فلقب بذلك وكان عارفاً بالفقه والأصول والعربية، أقام بمكة أزيد من أربعين سنة فأفاد الناس في هذه العلوم، ومات في ذي الحجة عن سبعين سنة.
فرج بن برقوق بن أنس الناصر بن الظاهر، ولد سنة إحدى وتسعين(2/530)
في وسط فتنة يلبغا الناصري ومنطاش فسماه أبوه بلغاق ثم سماه فرجا، وأجلس على التخت في يوم جمعة النصف من شوال سنة إحدى وثمانمائة وعمره عشر سنين وستة أشهر، وقد تقدمت أخباره في الحوادث.
قانباي قريب بيبرس ابن أخت الظاهر كان من الأمراء في دولة الناصر وكان ممن عصى عليه فسجنه في القلعة فلما وصل الخبر إلى القاهرة بكسرة الناصر قتله اسنبغا نائب القلعة ويقال إن الناصر كان قرر معه ذلك.
محمد بن أحمد بن علي بن عمر بن سعد الدين الحبشي المتولي ملك المسلمين بالحبشة أبو البركات، استقر بعد أخيه حق الدين فاتسعت مملكته وكثرت جيوشه، واستمر على محاربة الحطى، وفي أيامه مات بعد علي، وكان حق الدين قد حبسه فأقام في الحبس نحو ثلاثين سنة مات سنة 815 وكانت مدة مملكته نحو أربعين سنة - هكذا استفدته من بعض تعاليق شيخنا -.
محمد بن أحمد بن محمد بن عبد الله بن محمد بن أبي بكر الطبري زين الدين أبو الخير بن زين الدين أبي الطاهر بن جمال الدين ابن الحافظ محب الدين، سمع قليلاً من الفخر القونوي وابن بنت سعد وابن جماعة والعلائي، وأجاز له أحمد بن علي الجزري، وله أيضا إجازة من ابن القماح وابن عالي والمستولي ونحوهم ومن الحسن بن السديد وأبي حيان وابن الأخوة وابن عبد الهادي والمزي وحفيد ابن عبد الدائم وغيرهم وتفرد بإجازة الجزري بمكة وحدث بأشياء كثيرة بالإجازة عن جماعة من المصريين والشاميين وبرع في العلم وعرف بالمروءة مات في رمضان.
محمد بن أحمد بن محمد بن علي بن سعيد بهاء الدين أبو حامد بن أبي الطيب ابن بهاء الدين الأنصاري إمام المشهد ولد سنة سبع وستين وسبعمائة وأحضره أبوه وأسمعه على بعض أصحاب الفخر وابن القواس ونحوهم، وتوفي أبوه وهو صغير فأدبه رجل أعمى، وبرع من صباه وكان صحيح الفهم دينا عاقلاً نشأ نشأة حسنة(2/531)
وأفتى ودرس، وعرض عليه حموه شهاب الدين الحسباني النيابة في الحكم فامتنع، مات في ذي القعدة بعلة الاستسقاء.
محمد بن الحسن بن عيسى بن محمد بن أحمد بن مسلم بن محي جمال الدين المكي الحلوي - بفتح المهملة واللام الخفيفة - المعروف بابن العليف - بمهملة ولام وفاء مصغر - كان من مدينة حلي فنزل بمكة وتعانى النظم فمهر فيه وفاق أقرانه إلا أنه كان عريض الدعوى يحسب أن شعره يشبه شعر المتنبي وأبي تمام، ولد بحلي سنة 742 وتردد إلى مكة وسمع من العز بن جماعة وكان غاليا في التشييع، ومدح أمراء مكة وينبع ومدح أيضاً الإمام صلاح ابن علي صاحب صنعاء وملوك اليمن والحجاز، وانقطع إلى حسن بن عجلان، ومات في سابع شهر رجب سنة خمس عشرة وثمانمائة، وذكر أنه رأى في النوم وهو صبي قائلاً يقول له: أنا نجي البحتري وأنا نجيك فقلت: الحمد لله ارتحلتك جذعا وارتحلتك بازلاً، ومن مدائحه في الناصر لدين الله صلاح بن علي بن محمد صاحب صنعاء:
جادك الغيث من طلول بوالي ... كبروج من النجوم خوالي
فقدت بيض إنسها فتساوى ... بيض أيامها وسود الليالي
قاسمتني وجدي بها فتساوى ... حالها بعد من أحب وحالي
ومن مديحها:
وترى الأرض إذا يهم بمغزا ... ته في رعدة وفي زلزال
فإذا أرسل الجنود عليها ... لعافات ترومه وتكال
قرأت سأل سائل بعذاب ... واقع في سهولها والجبال
وله فيه من اخرى:
يا وجه آل محمد في وقته ... لم يبق بعدك منهم إلا قفا(2/532)
لو كانت الأشراف آل محمد ... كنت العلوم لكنت فيها المصحفا
أو كانت الأتراك الأنبياء ... لكملت منها المصطفا
أو كانت الأسباط آل محمد ... بابن الرسول لكنت فيها يوسفا
محمد بن عبد الله بن العجمي ناصر الدين الدمشقي كان جنديا يباشر في الأستادارية ثم ترك ولبس زي الصوفية وصحب الشيخ أبا بكر الموصلي ثم بنى زاوية بالعقيبة الصغرى وعمل شيخها، وأسكن بها فقراء فكان يطعمهم وكثر أتباعه، وصار يتكسب من المستأجرات وكان حسن الشكل واللحية بهي المنظر، مات في جمادى الأولى وله ثلاث وستون سنة.
محمد بن عبد الله الصفدي أمين الدين كان من مسلمة السامرة، وسكن دمشق بعد الكائنة العظمى، وكان عالماً بالطب مستحضراً إلا أنه لم يكن ماهراً بالمعالجة بل إذا شخص له غيره المرض نقل أقوال أهل الفن فيه، وكان بارع الخط فرتب موقعاً، واعترته في آخر غفلة بحيث صار يسأل عن الشيء في حال كونه يفعله وينكره لشدة ذهوله. مات في صفر.
محمد بن عبد السلام بن محمد الكازروني تقي الدين ناب في الحكم بالمدينة وكان نبيها في الفقه، مات في صفر.
محمد بن عثمان بن محمد السلمي السويدي ثم الدمشقي، سمع من ابن الشيرجي جزء الأنصاري ومن علي بن موسى الصفدي وتقي الدين ابن رافع وجماعة ووقع في الحكم في ولاية البلقيني للقضاء بدمشق وفاق أقرانه في ذلك قال ابن حجي: كان صحيح العدالة محرراً عارفاً بالشروط انفرد بذلك في وقته مع حسن خطه وجودة حفظه، وقد حدث قليلاً، مات في ربيع الأول.(2/533)
محمد بن عمر بن مسلم بالتشديد ابن سعيد الدمشقي نزيل القبيبات شمس الدين القرشي أخو شهاب الدين ابن الشيخ زين الدين، سمع مع أخيه كثيراً، وكان يذاكر بأشياء من الشعر وفنون الأدب كثير المزاح، عاش نحواً من ستين سنة.
محمد بن محمد بن محمد بن علي بن أحمد البعلبكي جمال الدين ابن اليونانية، ولد أول سنة 752 وسمع الحديث وقرأ ودرس وأفتى وشارك في الفضائل، وكان عارفاً بأخبار أهل بلده. وهو ابن أخي الشيخ شمس الدين البعلبكي. محمد بن محمد بن محمد بم محمود بن غازي بن أيوب بن محمود بن الختلو الشيخ محب الدين أبو الوليد بن الشحنة الحنفي والشحنة هو جده الأعلى محمود الأول وكان أبوه من أهل الفضل، مات سنة ست وسبعين، وولد له أبو الوليد سنة تسع وأربعين، واشتغل قديما ونبغ وتميز في الفقه والأدب والفنون، وولي قضاء حلب قديماً سنة ثمان وستين وسبعمائة وصرف جمال الدين ابن العديم ثم أعيد ابن الشحنة، وصرف جمال الدين ابن العديم ثم اتمير ابن الشحنة ثم صرف بعد كائنة الناصري مع برقوق وصرت له امور ولي مرة مدة بعد موت إبراهيم بن العديم ثم إلى سنة ثلاث وتسعين، فعزل لما قدم الظاهر حلب، وامتحن حتى أراد الظاهر قتله ثم سجن ثم صودر، واعتنى محمود الأستادارية به واختص به وله فيه مدائح، ثم استخلصه وقدم معه القاهرة وأقام بها مدة نحو ثلاث سنين، ثم رجع إلى حلب فأقام ملازماً بالاشتغال والتدريس ونشر العلم، ثم أعيد أول قدمة قدمها الناصر فرج وأقام مدة ثم حصل له أنكاد إلى أن ولي جكم نيابة حلب(2/534)
وكان ممن قام مع جكم لما تسلطن فنقم عليه الناصر ذلك وقبض عليه، ثم هرب ثم رضي عليه وولاه قضاء حلب في سنة تسع وثمانمائة، ثم امتحن في سنة ثلاث عشرة وأحضر إلى القاهرة، ثم رضي عنه الناصر وولاه تدريس الجمالية بعد موت مدرسها محمود بن الشيخ زاده، ثم ولاه قضاء الحنفية بالقاهرة وهو بدمشق في الحصار، فلما زالت دولة الناصر أعيد ابن العديم لقضاء الديار المصرية واستقر ابن الشحنة في قضاء حلب وأعطى تداريس بدمشق وتوجه صحبة النائب، فمات يوم الجمعة في ثاني عشر ربيع الآخر، وكان نزل عن وظائفه بالقاهرة لصدر الدين ابن الأدمي، وأنزل صدر الدين له عن وظائفه بدمشق، وكان كثير الدعوى والاستحضار عالي الهمة، وعمل تاريخاً لطيفا فيه أوهام عديدة، وله نظم فائق وخط رائق، عاش خمسا وستين سنة، ومن نظمه:
ساقي المدام دع المدام فكل ما ... في الناس من وصف المدامة فيكا
فعل المدام ولونها ومذاقها ... في مقلتيك ووجنتيك وفيكا
وله:
أسير بالجرعا أسيرا ومن ... همي لا أعرف كيف الطريق
في منحنى الأضلع وادي الغضا ... وفوق سفح الخد وادي العقيق
وقرأت في ذيل تاريخ حلب للقاضي علاؤ الدين: أنه باشر قضاء دمشق مرة في أيام كان شيخ نائبها(2/535)
وله ألفية رجز تشتمل على عشرة علوم، وألفية اختصر فيها منظومة النسفي وضم امذهب أحمد، وله تواليف أخرى في الفقه والأصول والتفسير.
محمد بن محمد بن محمد بن يوسف بن علي بن يوسف بن عياش الجوخي الدمشقي التاجر، سمع من ابن الخباز وحدث عنه بجزء ابن عرفة وحضره أيضاً علي علي بن العز، عمر وكان ذا ثروة واسعة، وتحكى عنه غرائب من شحه، وكان أسن من أخيه أحمد المقرئ، مات في رمضان وقد جاوز الستين.
محمد بن مسعود النحريري الشافعي نزيل مكة، أفاد الطلبة بها في الفقه.
مسعود بن عمر بن محمود بن إيمان الأنطاكي شرف الدين النحوي نزيل دمشق قدم إلى حلب وقد حصل طرفا صالحاً من العربية، ثم قدم دمشق فأخذ عن الصفدي وابن كثير والعنابي والصدر بن منصور، وتقدم في العربية وفاق في حسن التعليم حتى كان يشارط عليه إلى أمد معلوم(2/536)
بمبلغ معلوم وكان يكتب حسنا وينظم جيداً، وكان يتعانى الشهادة ولم يكن بالمحمود فيها، وكان مزاحاً قليل التصون، مات في تاسع شعبان وهو في عشر الثمانين.
موسى بن سعيد المصري نزيل دمشق شرف الدين ابن البابا كان أبوه يخدم ابن الملك بالحسينية ونشأ هو على طريقته ثم اشتغل وكتب الخط الحسن وشارك في الفنون مع التقلل والفقر والدعوى العريضة في معرفة الطب والنجوم وغير ذلك، ثم اتصل بخدمة فتح الله فحصل وظائف بدمشق وأثرى وحسنت حاله، حج ثم رجع فمات في شعبان وله خمس وسبعون سنة، اجتمعت به مراراً وسمعت من فوائده، ووجدت بخط الشيخ تقي الدين المقريزي عنه أنه أخبره أنه جرب مراراً أن من وضع الشيء بمكان وزم نفسه منذ يضعه إلى أن يبعد عنه فإن النمل لا يقربه.
ومن الترك: سودون الجلب أحد مماليك الظاهر. وكان من مثيري الفتن، ولي نيابة الكرك من قبل الناصر ثم استبد بها وأظهر العدل وفي الآخر أعطى نيابة حلب بعد قتل الناصر، فمات من جراحة أصابته برجله في ربيع الآخر.(2/537)
سنة ست عشرة وثمانمائة
في المحرم غلا الكتان جداً حتى بلغ الرطل منه ثلاثين درهما وغلا بسبب ذلك صنف القماش. وفيه ثار أهل حلب على يشبك بن أزدمر فقتل من الفريقين جماعة وانكسر يشبك وتوجه إلى نوروز بدمشق فكاتب أهل حلب دمرداش فدخل حلب وملكها.
وفيه مات الأمير تغري بردى نائب الشام إذ ذاك وكان من خيار الأمراء في العدل مع أنه كان كثير الإسراف على نفسه، وكان يحب العلماء والعلم ويعرف المسائل عديدة أتقنها مع التواضع، وهو من قدماء الأمراء، أمر رأس نوبة كبير في أيام الظاهر، ثم ولي نيابة حلب ثم ولي أتابك العساكر في أواخر دولة الناصر فرج.
وفي العشرين منه توجه قرقماش في عسكره ليأخذ الشام بزعمه، فلما بلغ ذلك أخاه تغري بردى فارق نوروز وتوجه إلى صفد وانتمى إلى المؤيد، ودخل قرقماش غزة فملكها، ووصل أخوه وقد قرره المؤيد في نيابة حماة. فسارا ومعهما الطنبغا العثماني بالعساكر، فبلغهم عود نوروز من حلب إلى دمشق فأقاموا بالرملة وكان نوروز قد توجه إلى حماة ليقاتل دمرداش ففر دمرداش إلى حلب، فتبعه نوروز وملك حلب وقرر في نيابتها طوخ وفي نيابة طرابلس قمش، ورجع إلى دمشق في أواخر صفر، فسار دمرداش إلى حلب بعد عوده فقاتله النوروزية، فدام الحصار إلى أن بلغ دمرداش أن العجل بن نعير وافى لنصرة نوروز، ففر دمرداش إلى العمق ثم إلى إعزاز وكان ما سنذكره بعد ذلك،(3/7)
وتوجه نوروز إلى الرملة ففر قرقماش بمن معه إلى أن وصل الصالحية بطرف الرمل، فرجع نوروز إلى دمشق.
وفيه شدد على صدر الدين بن العجمي في بقية المال الذي تأخر عليه، فباع موجوده وأورد نحو ثلاثمائة دينار وعجز عن الباقي، ثم قرر في نظر المواريث على أن يحمل ما يتحصل منه إلى الخزانة، ثم صرف في شعبان وأضيف ذلك إلى مرجان، ثم قرر في مشيخة التربة الظاهرية، وصرف عنها زين الدين حاجي فقيه في سادس رجب ثم صرف مرجان وأعيد النظر لصدر الدين في أواخر شوال.
وفيه فشا الطاعون بمصر وكان أكثره في الأطفال، وكان الحر أزيد من العادة فبلغ من يموت كل يوم مائة نفس.
وفيه ثار بالمؤيد وجع المفاصل في رجليه، فلم يزل بتعاهده إلى آخر عمره.
وفي صفر تزايد الطاعون فبلغ الموتى في كل يوم مائة وعشرين وعز البطيخ الصيفي حتى بيعت الواحدة بخمسمائة درهم.
وفي رابع عشر المحرم نقل فتح الله من بيت ناظر الخاص لي وتاج الوالي فأنزله بدار، فأقام بها وحيداً فريدا يقاسي ألم العقوبة ويترقب الموت، فلما كان في ثاني شهر ربيع الأول منع خدمه من الدخول، ثم خنق في ليلة السادس منه، وأخرج من الغد فدفن بتربته، ولم يجسر أحد على تشييع جنازته، وكان في يوم الجمعة قد توجه قاضي الحنفية صدر الدين ابن الأدمي وهو من أعظم المولبين عليه فأشهد عليه أنه رجع عن وقفه وصيره موقوفاً على أولاد المؤيد وذريته وأثبت ذلك وحكم به، فقدر الله تعالى أنه أعيد إلى شرطه الأول بعد تسعة عوام سواء في ربيع الأول سنة خمس وعشرين وحكم بإبطال ما حكم به صدر الدين المذكور، ولم يمهل صدر الدين هذا حتى أخذه الله قريباً.
وفي سادس ربيع الأول وقع الحريق بالقلعة فعظم أمره واستمر إلى تاسعه.(3/8)
وفي سابع ربيع الآخر سجن الأمير قصروه بالإسكندرية؛ وسط فارس المحمودي تحت القلعة وكان نم على طوغان أنه يريد الوثوب على المملكة، فحاققه طوغان فأنكر فقتله السلطان.
وفي ثامن عشر ربيع الآخر استقر شهاب الدين الأموي المغربي في قضاء المالكية بالقاهرة وعزل شمس الدين المدني.
وفي رابع عشري ربيع الأول قتل العجل بن نعير أمير العرب من آل فضل، وذلك أنه حضر لنصر النوروزية، وكان طوخ بعث عسكراً إلى سرمين وبها دوادار دمرداش فكسره فثار عليهم مأسر منهم كثيراً فسجن دمرداش منهم طائفة وخدع طائفة وقتل أخرى، فركب طوخ وقمش إلى تل السلطان فالتقيا بالعجل فسألاه أن يوافقهما لحرب دمرداش فأجاب إلى ذلك، فرحلا بالعسكر وتأخر العجل، فبلغهما أنه اتفق مع دمرداش فأجاب إلى ذلك، فرحلا بالعسكر وتأخر العجل، فبلغهما أنه اتفق مع دمرداش فاستعدا له، فلما ركب أرسلا في ضيافة فحضر، فثار به جماعة منهم فقتلوه ورحلوا إلى حلب وكتبوا إلى نوروز في طلب النجدة، فجمع حسين بن نعير العرب وجاء إلى دمرداش، فحضروا جميعاً إلى حلب وحصروها وتحصن طوخ وقمش بالقلعة، فلم يثبت دمرداش ورجع.
وفي ربيع الأول ظهر الخارجي الذي ادعى أنه السفياني وهو رجل عجلوني يسمى عثمان اشتغل بالفقه قليلاً بدمشق ثم قدم عجلون فنزل بقرية الجيدور ودعا إلى نفسه، فأجابه بعض الناس فأقطع الإقطاعات ونادى أن مغل هذا السنة مسامحة ولا يؤخذ من أهل الزراعة بعد هذه السنة التي سومح بها سوى العشر، فاجتمع عليه خلق كثير من عرب وعشير وترك، وعمل له ألوية خضراء وسار إلى وادي إلياس وبث(3/9)
كتبه إلى النواحي ترجمتها بعد البسملة: السفياني إلى حضرة فلان أن يجمع فرسان هذه الدولة السلطانية الملكية الإمامية الأعظمية الربانية المحمدية السفيانية ويحضر بخيله ورجاله مهاجراً إلى الله ورسوله ومقاتلاً في سبيل الله لتكون كلمة الله هي العليا. فثار عليه في أول ربيع الآخر غانم الغزاوي وجهز طائفة فطرقوه وهو بالجامع بعجلون فقاتلهم، فقبضوا عليه وعلى ثلاثة من أصحابه، فاعتقل الأربعة وكتب إلى المؤيد بخبره، فأرسلهم إلى قلعة صرخد.
وفي خامس ربيع الآخر قبض على الوزير وناظر الخاص، وقرر في نظر الخاص بدر الدين بن نصر الله عوضاً عن ابن أبي شاكر، وقرر في نظر الجيش علم الدين ابن الكوير عوضاً عن ابن نصر الله، وقرر تاج الدين ابن الهيصم في الوزارة عوضاً عن البشيري وصودر البشيري وابن أبي شاكر على مال كثير، فأما الوزير فتسلمه ابن الهيصم ثم تسلمه الأستادار وصولح على مال كثير وشرع في تحصيله، وأما ابن أبي شاكر فعوقب بين يدي المؤيد ثم أطلقه وتقرر عليه مال يحمله، فباع موجوده واقترض ثم صار يطلب بالأوراق حتى سد ما طلب منه فلما كان في تاسع عشري رجب خلع عليه واستقر أستادار الذخيرة، وبدر الدين هذا هو حسن بن نصر الله بن حسن أصله عن فوة، وذكر أن جده(3/10)
كان خطيب أدكو وأن أباه ولد بفوة وتعانى المباشرة وتعلم الحساب، وولد له ابنه حسن هذا في ربيع الآخر سنة ست وستين ونشأ بفوة، وتنقل في المباشرات بها ثم بالإسكندرية، ثم استقر في نظر الخاص بالقاهرة عوضاً عن ابن البقري في جمادى الأولى سنة ست وثمانمائة واستمر بالقاهرة، ثم ولى الوزارة في شوال منها، ثم عزل عن نظر الخاص في سنة سبع وثمانمائة بالفخر ابن غراب، ثم صرف عن الوزارة في جمادى الأولى منها، ثم استقر في نظر الجيش عوضاً عن علم الدين الذي يقال له أبوكم في جمادى الآخرة منها، ثم أضيف الخاص والوزارة في شعبان ثم صرف عن الوزارة في رمضان وعن نظر الخاص في صفر سنة ثمان، ثم صرف عن الوزارة في رمضان وعن نظر الخاص في صفر سنة ثمان واستمر في نظر الجيش إلى أن عزل عنها هذه السنة، واستقر في نظر الخاص على أن عزل عنها في آخر دولة المؤيد وولي الأستادارية ثم صرف عنها بعد ذلك، ثم انقطع عنها في منزله في دولة الأشرف إلى أن ولي كتابة السر بعد موت ولده صلاح الدين وذلك في ذي القعدة سنة إحدى وأربعين، ثم صرف في ربيع الآخر سنة 42 واستمر في منزله مقيماً. وفي حادي عشر ربيع الآخر ضرب محمد بن شعبان المحتسب أكثر من ثلاثمائة عصي بين يدي المؤيد، وأشهد عليه أنه لا يسعى في الحسبة، وأضيفت الحسبة إلى صدر الدين ابن الأدمي - وهو أول من جمع بين القضاء والحسبة - ثم صرف في العشرين منه وقرر منكلي بغا الحاجب - وهو أول تركي ولي الحسبة فيما نعلم،(3/11)
وفيه وصل الطنبغا العثماني وجانبك الصوفي إلى القاهرة، استمر قرقماش وتغرى بردى بقطيا، واستقر جانبك رأس نوبة عوضاً عن سودون الأشقر وسودون الأشقر أمير مجلس.
وفي جمادى الأولى أراد طوغان الوثوب على الملك، فوشى به إلى المؤيد فاحترز منه، فلما كان ليلة السادس عشر من الشهر كان طوغان قد واعد من اتفق معه إلى الحضور فمضى عامة الليل ولم يحضر أحد فلما قرب الفجر هرب في مملوكين فاختفى بمصر - عند ابن بنت الملكي كاتب الجيش وكان قد تزوج ابنته، وجرى عليه منه ما لا خير فيه، فإنه زعم أنه وجدها ثيبا فأغرم والدها مالاً كثيراً، فلما نزل ما أمكنه رده بل آواه، ثم تخيل في الإعلام به، فأصبح المؤيد فعرف بذلك فأمر بالنداء بالأمان، فلما كان ليلة الجمعة وشى بطوغان، فأخذ مكانه وأرسل إلى الإسكندرية مقيداً، فبقي معتقلاً إلى المحرم ثماني عشرة فمات في الحبس.
وفي الحادي والعشرين منه قبض على جماعة ممن كان اتفق مع طوغان منهم سودون الأشقر وكمشبغا العنساوي، فتوجه بهما برسباي إلى الإسكندرية ومعهما مغلباي وثلاثة معه ووسطوا، واستقر قجق حاجباً بدلاً عن الصصلائي، واستقر الصصلائي أمير مجلس عوضاً عن سودون، وكان ممن اتهم بممالأة طوغان شاهين الأفرم، فخلع عليه خلعة رضا وبرئت ساحته، واستقر جانبك المؤيدي دوادارا كبيراً وكان ثاني الدويدارية.
وفي سلخ جمادى الآخرة صرف ابن محب الدين عن الأستادارية واستقر فخر الدين ابن أبي الفرج وأضيف الكشف، واستقر ابن محب الدين مشير الدولة ولقب من يومئذ المشير حتى صار لا يعرف إذا ذكر إلا بها مدة طويلة.(3/12)
وفي رجب تزوج إبراهيم بن المؤيد بنت الناصر التي كانت زوج بكتمر جلق، ودخل بها فوجدها بكراً وعمل له مهم كبير، وفيه عزل قرقماش عن نيابة الشام وقرر في نيابة صفد عوضاً عن الطنبغا القرمشي وأحضر القرمشي إلى القاهرة، وهرب قطلو أتابك الشام من نوروز إلى القاهرة، فأكرمه المؤيد وأمره تقدمة، وقرر تغرى بردى أخو قرقماش في نيابة غزة عوضاً عن الطنبغا العثماني.
وفي نصف رجب خرج نوروز إلى صفد فرحل قرقماش إلى الرملة ثم وصل إلى القاهرة، فأكرمه المؤيد وأقام أخوه بقطية، وكان من شأنهما وعادتهما أن لا يجتمعا بموضع واحد بل يكون أحدهما غائباً فإذا قبض على أخيه سعى هو في تخليصه.
فلما كان يوم السبت أول يوم من رمضان قدم دمرداش عمهما فأجل المؤيد مقدمه وخلع عليه، وكان قد تحير في أمره بعد هزيمته من حلب فأشار عليه أكبر أصحابه أن يتوجه إلى نوروز، وكان بعث ذهباً كثيراً والتمس منه أن يحضر، فلم يوافقهم لأجل حضور أجله، فركب في البحر إلى أن وصل إلى دمياط، ثم استأذن على المجيء إلى القاهرة فأذن له، فوصل فأكرمه المؤيد، وأرسل سابع رجب عسكراً مقدمهم قجقار القردمي وأظهر أنهم يريدون كبس عرب أكثر فيها أهل الفساد، وأسر م القبض على تغري بردى من قطيا، ثم استدعى دمرداش وابن أخيه قرقماش وجمع الأمراء في ليلة السبت ثامنه فأفطروا عنده، فلما انقضى السماط أمر بالقبض عليهما وبعثهما من ليلته إلى الإسكندرية، ثم قدم قجقار ومن معه وصحبتهم تغري بردى في العاشر منه فسجن بقلعة الجبل(3/13)
ثم قتل، وسكن كثير من الفتن بعد قتل هؤلاء الثلاثة، وكان دمرداش من قدماء الأمراء في هذا الوقت، أمر في زمن الظاهر وناب في عدة من البلاد وكان فصيحاً، وله في قلعة حلب آثار حسنة من الإصلاح بعد التخريب الذي وقع من اللنكية، وكان حسن الفهم قد جرب الأمور وحنكته التجارب، وكان من رجال العالم إلا أنه لم يكن ميمون النقيبة، وقد مضى كثير من أحواله في الحوادث.
وفيه - أعنى شهر رجب في أواخره - ثار بالناس السعال والنزلات والحميات وغيرها من الأمراض ولكنها كانت سليمة، وكذلك بدمشق، وغلا لذلك سعر السكر النبات حتى عز وجوده وكذا الزيت الحلو، وكان الطاعون ببلاد الروم وامتد إلى حلب وحماة.
وفي عاشر رمضان قرر ناصر الدين ابن العديم في قضاء الحنفية عوضاً عن صدر الدين ابن الآدمي بحكم موته.
وفي ثالث عشرة قرر قانباي في نيابة الشام، واستقر الطنبغا العثماني في وظيفة أمير أخور، وقرر إينال الصصلائي في نيابة حلب وسودون قراصقل في نيابة غزة.
وفي ثامن شوال قرر بدر الدين ابن محب الدين في نيابة الإسكندرية عوضاً عن خليل الدشاري وصرف من المشورة.
وفي ذي القعدة توجه السلطان إلى الربيع، فألزم التاج الوالي من بالقاهرة من ود والنصارى بحمل الخمور، فوزعت على الأسارى وغيرهم وكانت قضية فاحشة جداً،(3/14)
ورجع السلطان من السرحة في حادي عشري ذي القعدة، وفيه أرسل بعض الجيش والعسكر وفيهم نائب حلب إينال الصصلائي ونائب الشام قانباي ونائب حماة تاني بك البجاسي ونائب طرابلس سودون بن عبد الرحمن وطرباي نائب غزة ومعهم جمع كثير.
وفي سابع عشر ذي الحجة خلع المستعين من الخلافة وكانت مستمرة باسمه من يوم عزل من السلطنة، فلما عزم المؤيد إلى الشام طلب داود بن المتوكل بحضرة القضاة فألبس داود خلعة سوداء وأجلسه بينه وبين القاضي الشافعي البلقيني وقرره في الخلافة عوضاً عن أخيه المستعين ولقبه المعتضد، وفي هذا الشهر قرر شمس الدين ابن التباني في قضاء الحنفية بدمشق، وأنفق على المماليك السلطانية لكل نفر مائة دينار ناصرية.
وفي السابع والعشرين منه نصب الخيام السلطاني بالريدانية، وضرب الوزير تاج الدين ابن الهيصم بالإصطبل السلطاني وطيف به على جمل في الإصطبل منكسا على أن كان يهلك، ثم خلع عليه خلعة الرضا، قدم فخر الدين الأستادار من الصعيد وقد أباد أهله، وصحبته من العبيد والإماء والذهب والحلى والسلاح والغلال ما يفوق الوصف وشرع في رمى الاصناف التي أحضرها فعظم البلاء به إلا أنه على أهل الريف أكثر منه على أهل البلد، وفيها في جمادى الآخرة دخل الشريف رميثة بن محمد بن عجلان مكة في جمع من أصحابه فأقاموا بها إلى الظهر ولم يحدث شرا، فدخل عمه عقبة حسن بن عجلان في عسكره فاطمأن الناس، وفيها مات من الأكابر عمر بن السلطان الملك المؤيد وله عشر سنين أو دونها،(3/15)
وتاج الدين رزق الله ويقال له عبد الرزاق ناظر الجيش في دمشق، تنقل في زمن تنم في الولايات إلى أن مات، ومبارك شاه الظاهري، ولي كشف الصعيد ونيابة الإسكندرية والوزارة والأستادارية والحجوبية، وكان في بداية أمره يخدم الملك الظاهر وهو جندي، فلما تأمر ثم تسلطن رقاه وتنقل في الدول إلى أن مات في رمضان.
وفي هذه السنة وقعت بمكة كائنة عجيبة وهو أن جمالا يقال له حسن الفاروثي كان يكري من مكة إلى المدينة فرأى بعض جماله قد أسن فأراد بيعه وأن يشتري بثمنه غيره فباعه للجزار فاعتقله بالمجزرة لينحره، فانفلت والناس في صلاة العشاء فدخل المسجد الحرام، فأرادوا أن يخرجوه فعجزوا عن إخراجه فرفعوا الأمر إلى القاضي جمال الدين ابن ظهيرة فأمرهم بحفظ الطواف منه، فباتوا يحرسونه ويمنعونه من الدخول إلى المطاف، فلما كان الثلث الأخير هجم جمة ثم طاف ثلاثة أشواط ثم ذهب في الثالث إلى جهة مقام الحنفية فسقط ميتا، وحفرت له حفيرة فدفنوه بها.
ذكر من مات
في سنة ست عشرة وثمانمائة من الأعيان.
إبراهيم بن أحمد بن محمد بن خضر الصالحي ولد في رمضان سنة أربع وأربعين، واشتغل على أبيه، وناب في القضاء بمصر، ودرس وأفتى وولي إفتاء دار العدل، وكان جريئاً مقداماً، ثم ترك الاشتغال بأخرة وافتقر، ومات في ربيع الأول، وكانت وفاة أبيه، في سنة 785.(3/16)
إبراهيم بن محمد بن بهادر بن عبد الله بن أحمد الغزي المعروف بابن زقاعة - بضم الزاي، وقد يجعل سيناً مهملة، وتشديد القاف - كان يدعي أنه من بني نوفل بن عبد مناف، وأنه ولد سنة خمس وأربعين وسبعمائة، سمعت كلا منهما من لفظه، وذكر لي من أثق به عنه غير ذلك في مولده، وكان أعجوبة زمانه في معرفة الاعيان واستحضار الحكايات والماجديات مقتدر اعلى النظم عارفا بالأوفاق، وما يتعلق بعلم الحرف مشاركا في القراآت والنجوم وطرف من الكيما، وقد عظمه الظاهر جدا ثم الناصر حتى كان لا يسافر إلا في الوقت الذي يحده له، ومن ثم نقم عليه المؤيد ونالته منه محنة يسيرة في أول دولته وشهد عليه عنده جماعة من الطواشية، وغيرهم بأمور منكرة فأغضى عنه، وكان في بداية أمره قد تزهد وساح في الجبال ثم رجع إلى غزة، واجتمعت به غير مرة وأخذت من نظمه وأجاز لي قبل ذلك بالقاهرة، ثم سكن القاهرة من بعد ثلاث وثمانمائة، وجاور في هذا العشر سنة بمكة، ونظمه كثير وغالبه وسط ويندر له الجيد وفيه السفساف، مات في العشر الأوسط من ذي الحجة بمنزله بمصر على شاطئ النيل ودفن خارج باب النصر، وغلط من أرخه سنة ثماني عشرة.
أحمد بن أبي بكر بن يوسف بن عبد القادر بن يوسف بن خليل ابن مسعود بن سعد الله الخليلي ثم الدمشقي الحنبلي ولد في سنة ست وثلاثين وسبعمائة أو التي بعدها(3/17)
وسمع من أبي محمد بن القيم طرق زر غبا تزدد حبا لأبي نعيم وغير ذلك، وكذا سمع من والده والعماد أحمد بن عبد الهادي وأبي الهول الجزري وآخرين، وحدث، سمع منه الفضلاء - أجاز لي، وكانت وفاته في ليلة الأربعاء. ثاني عشر المحرم.
أحمد بن أبي أحمد بن الشنبل - بضم المعجمة وسكون النون بعدها موحدة مضمومة وهو مكيال القمح بحمص - أبو العباس الحمصي اشتغل ببلده، وولي قضاءها، وقدم القاهرة مرارا ونزل في خانقاه سعيد السعداء، ثم سعى في قضاء دمشق فوليه في آخر سنة ست وثمانمائة، ثم عزل عن قرب، وكان نبيها في الفقه مع طيش فيه.
أحمد بن الجوبان، الذهبي الدمشقي، شهاب الدين الكاتب المجود، كان كثير المداخلة للدولة بسبب التجارة وكانت له دنيا، واعتنى به المشير فأرسله إلى صاحب اليمن بكتاب المؤيد، فلم ينل منه غرضا ورجع إلى مكة، فمات بها في ثاني عشر ذي الحجة، وكان حج معنا من القاهرة في سنة خمس عشرة وتوجه ثم إلى اليمن.
أحمد بن حجي بن موسى بن أحمد بن سعيد بن غشم بن غزوان ابن علي بن مشرف بن تركي الحسباني شهاب الدين بن علاء الدين، ولد في رابع المحرم سنة إحدى وخمسين وسبعمائة، وتفقه على أبيه وجماعة غيره منهم شمس الدين بن أبي الحسن الغزي وابن قاضي شهبة وأبي البقاء السبكي، وسمع الحديث من جماعة من أصحاب الفخر منهم العماد بن الشيرجي واحمد بن إسماعيل ومحمد بن حميد وابن أميلة والصلاح ابن أبي عمر، وكتب الكثير وتميز وتقدم في الفقه والحديث مع الدين والصيانة والإنجماع، وجمع نكتا إلى الألغاز للأسنوي، وجمع تاريخاً مفيداً، ودرس وأفتى وولي خطابة(3/18)
الجامع الأموي ونظر الجامع مرارا، وآخر ما علق من تاريخه إلى ذي القعدة سنة خمس عشرة، وقدم القاهرة مرارا آخرها في الرسلية عن الملك المؤيد قبل سلطنته سنة ثمان، وحصل نسخة من تعليق التعليق وشهد لي في عنوانها بالحفظ وكتب خطه في أصلي، وأريد على قضاء الشافعية مرارا فامتنع، وولي أخوه الأصغر نجم الدين وهو حي، وانتهت في آخر وقته رئاسة العلم بدمشق، عاش خمساً وستين سنة، وجمع أسماء شيوخه على حروف المعجم، وكان أشياخه ونظراؤه يثنون عليه، وقد شرح قطعه من المحرر لابن عبد الهادي، وله نكت على المهمات وعلى الألغاز، وكان ديناً خيراً، له حظ من عبادة، رأيت في تاريخه في ترجمة والده، وقال: رأيت أبي في النوم في أواخر شهر رجب سنة ثلاث وثمانين وسبعمائة في الأسدية فقمت خلفه فقلت: كيف أنتم؟ فتبسم وقال: طيب، فمشيت معه إلى الباب، فكان من جملة ما سألته أيهما أفضل الاشتغال بالفقه أو الحديث؟ فقال: الحديث بكثير، قال: فقلت له: ادع لي فدعا لي بثلاث: بوفاء الدين، وخاتمة الخير - ونسيت الثالثة، ثم التفت إلى كالمودع فقال: إنهم يشكرونك، فقلت: من؟ قال: الملائكة، فقلت: بالله! قال: نعم، قال: فاستيقظت مسروراً. قال القاضي تقي الدين الشهبي: ولد في المحرم سنة إحدى وخمسين، وحفظ التنبيه، وسمع الحديث فأكثر، واستجيز له من بلاد شتى، وجمع لنفسه معجماً(3/19)
مجرداً للتراجم، وأخذ الفقه عن أبيه وابن قاضي شهبة وأبي البقاء وعن الاذرعي والحسباني وابن قاضي الزبداني وابن خطيب يبرود وتاج الدين السبكي وشمس الدين الموصلي والعنابي، وأذن له في التدريس والإفتاء، وناب في الحكم مدة، وجمع الدارس في أخبار المدارس في اخبار المدارس - وهو كتاب نفيس يدل على اطلاع كثير، وذيل على تاريخ ابن كثير، بدأ فيه - من سنة إحدى وأربعين، وشرح المحرر لابن عبد الهادي ولم يكمل، وله نكت على الألغاز للأسنوي. أحمد بن علي بن النقيب الحنفي، تقدم في فقه الحنفية وشارك في فنون، ولد سنة 51 ومات سنة 861 وكان يؤم بالمسجد الأقصى.
أحمد بن ناصر بن خليفة بن فرج بن عبد الله بن يحيى بن عبد الرحمن المقدسي الناصري الباعوني - وناصرة من عمل صفد - القاضي شهاب الدين الباعوني نزيل دمشق - وباعونة قرية - بالقرب من عجلون، وكان أبوه حائكاً ثم اتجر في البز وولد له أحمد وإسماعيل، وكان إسماعيل الأكبر، فنشأ يصاحب الفقراء وسكن صفد(3/20)
وتصوف، وناب في الحكم بالناصرة فتخرج به أخوه أحمد، وحفظ المنهاج ولازم الاشتغال وكان قوي الذكاء، عرض محفوظاته على تاج الدين السبكي وابن خطيب يبرود وابن قاضي الزبداني وابن قاضي شهبة وغيرهم وأخذ عنهم وانتفع بهم، وأخذ النحو عن العنابي وأجاز له، وكان مولده في سنة إحدى وخمسين تقريباً، واشتغل بالفقه وسمع الحديث، وكان ذكياً فطنا فقال الشعر وكتب الخط الجيد، ثم وقعت له كائنة مع أهل صفد لكونه مدح منطاش وغض من برقوق، فخرج منها خائفاً يترقب حتى قدم القاهرة ونزل بخانقاه سعيد السعداء، وكان السالمي يعرفه من صفد فنوه به عند الظاهر حتى أحضره عنده وقربه، وعامله معاملة أهل الصلاح، وولاه خطابه جامع دمشق، وولاه القضاء بدمشق في ذي الحجة، وباشر بحرمة وافرة، وكان عريض الدعوى كثير المنامات التي يشهد سامعها بأنها باطلة، ثم عزل وحصلت له إهانة فسجن، ثم أطلق ولزم داره، ثم ولي خطابة بيت المقدس، ثم ولاه الناصر قضاء دمشق سنة اثنتي عشرة فباشره مباشرة - حسنة بعفة ونزاهة ومداراة وحرمة، وعزل بقيت معه وظائف فاستمر فيها، ونظم كتاباً في التفسير، وهو الذي أثبت المحضر المكتتب على الناصر بالعظائم الشنيعة، ثم لما توجه المستعين إلى القاهرة أقام الباعوني بدمشق إلى أن مات، وكان طوالا مهاباً فصيح العبارة جميل المحاضرة حسن المذاكرة سريع الدمعة جداً مقتدراً على ذلك حتى حكى لي من شاهده يبكي بعين واحدة، وكان عفيفاً نزهاً لا يحابى ولا يداهن ولا يعاب إلا بالإعجاب والتزيد في الكلام والمنامات، ثم كان ممن قام في خلع الناصر فولاه المستعين قضاء الديار المصرية، ثم صرف بعد استقرار الأمر من غير أن يباشره لم يرسل إلى القاهرة نائباً، ثم ولي خطابة الجامع بدمشق ثم صرف، وقد اجتمعت به ببيت المقدس،(3/21)
وأنشدني من نظمه، وسمعت عليه جزءاً سمعه من أحمد بن محمد الأيكي صاحب الفخر ثم اجتمعت به بالقاهرة، وهو القائل:
ولما رأت شيب رأسي بكت ... وقالت عسى غير هذا عسى
فقلت البياض لباس الملوك ... وإن السواد لباس الأسى
فقالت صدقت ولكنه ... قليل النفاق بسوق النسا
وله قصيدة في العقيدة أولها:
أثبت صفات العلي وأنف الشبيه فقد ... أخطا الذين على ما قد بدا جمدوا
وضل قوم على التأويل قد عكفوا ... فعطلوا وطريق الحق مقتصد
قال القاضي تقي الدين الشهبي: كان يكاتب السلطان فيما يريد فيرجع الجواب بما يختار، وانضبطت الأوقاف في أيامه، وحصل الفقهاء مالا كانوا لا يصلون قبله، وانتزع مشيخة الشيوخ من ابن أبي الطيب كاتب السر. وقال أيضاً: وقعت له أمور تغير خاطر برقوق عليه منها وكان طلب منه اقتراض مال الأيتام فامتنع، فعزل في جمادى الآخرة سنة ست وتسعين بعدما باشر سنتين وشهرا، وعقدت له بعد عزله مجالس ولفقوا عليه قضايا فلم تسمع عليه - مع كثرة من تعصب عليه - أنه ارتشى في حكم ولا أخذ من قضاة البر شيئاً، ثم إنه بعد ذلك ولي خطابة القدس مدة، ثم ولاه الناصر خطابة دمشق والمشيخة، ثم أضاف االقضاء في صفر سنة اثنتي عشرة، ثم صرفه شيخ بعد ثلاثة أشهر.
قال: وكان خطيباً بليغاً، له اليد الطولى في النظم والنثر والقيام التام في الحق، وكتب بخطه كثيراً وجمع أشياء، مات في رابع المحرم.
أحمد الخالدي أحد القراء بصفد، وكانت عنده عبادة وخير وله شهرة، مات بصفد في ذي القعدة.(3/22)
أبو بكر بن حسين بن عمر بن عبد الرحمن بن أبي الفخر بن نجم بن طولو العثماني المراغي نزيل المدينة زين الدين بن حسين الشافعي، ولد سنة ثمان أو تسع وعشرين، واشتغل بالقاهرة فسمع الحديث من صالح بن مختار وعبد القادر بن الملوك وأحمد بن كشتغدى وأخذ عن الشيخ تقي الدين السبكي والشيخ جمال الدين الأسنوي، ثم دخل المدينة فاستوطنها، وأجاز له قديما في سنة تسع وعشرين أبو العباس الحجار وأحمد ابن مزير والبرزالي والمزي وآخرون، خرجت له عنهم أربعين حديثاً عن أربعين شيخاً، وخرج له الحافظ جمال الدين ابن موسى مشيخة عن شيوخه بالسماع والإجازة وحدث بها، وتفرد بالرواية عن أكثر شيوخه، وعمل شرحا على المنهاج واختصر تاريخ المدينة، سمعت عليه بمنى وبالمدينة وبمكة، وولي قضاء المدينة وخطابتها سنة تسع وثمانمائة، ثم عزل بزوج بنته أبي حامد بن المطري، ومات في سادس عشر ذي الحجة، وكان بعض من يتعصب عليه ينسبه إلى الخرف والتغيير، ولم يمع ذلك فقد سمعت عليه بمكة سنة خمس عشرة وهو صحيح وأخبرني من أثق به أنه استمر على ذلك، عاش دون تسعين سنة إلا يسيرا.
أبو بكر بن يوسف بن أبي الفتح العدني رضي الدين ابن المستأذن حج كثيراً وقدم القاهرة، وتعانى النظر في الأدب ومهر في القراآت، وتكلم على الناس بجامع عدن وخطب، ولم ينجب سمعت، من نظمه وسمع مني كثيراً، مات وقد جاوز السبعين - جابر بن عبد الله الحراشي - بمهملتين وبعد الألف معجمة - ولد سنة ست وخمسين ونشأ بها، وتعانى التجارة ثم خدم الشريف حسن بن عجلان وكان نظير الشاد له في أمور مكة، واشتهر بالأمانة والحرمة وبحسن المباشرة حتى قرر(3/23)
لبني حسن الرسوم وزادهم، وبني بجدة فرضة، ثم تغير على مخدومه حسن بن عجلان ووالى أصحاب ينبع وباشرهم وعمل لهم قلعة ولمدينتهم سورا، وكان السبب في ذلك أن حسن بن عجلان تنكر عليه في رمضان سنة تسع فقبض عليه، ثن أفرج عنه فتوجه إلى اليمن، ثم قدم مصر موليا على حسن فما أفاده ذلك، فرجع وكان قد دخل مصر أيضا فثار عليه الناصر وصادره وحمله في الحديد فتسلمه، ثم أفرج عنه وأعاده إلى ولاية جدة، فباشرها على عادته، فاتهمه حسن بموالاة بن أخيه رميثة بن محمد بن عجلان، وكان رميثة قد هجم على مكة في جمادى الآخرة سنة ست عشرة وهجم على جدة منها، فقام جابر في الصلح فلم يفده ذلك عند حسن إلا التهمة موالاة رميثة، ثم ظفر به حسن فشنقه على باب شبيكة، وكان داهية ماكراً داعية إلى مذهب الزيدية، أرسل به الناصر إلى حسن بن عجلان سنة ثلاث عشرة فقتله بعد ذلك في هذا السنة في النصف من ذي الحجة.
حسام الدين حسام بن عبد الله الصفدي وكان ممن يعتقد ببلده، وله زاوية بحارة يعقوب بصفد، مات في شهر ربيع الأول.
حسن بن علي بن محمد الأبيوردي حسام الدين، الشافعي الخطيب نزيل مكة، كان عالماً بالمعقولات: ثم دخل اليمن واجتمع بالناصر ففوض تدريس بعض المدارس بتعز فعاجلته المنية، وكان قد أخذ عن الشيخ سعد الدين التفتازاني مع الدين والخير والزهد وله من التصانيف ربيع الجنان في المعاني والبيان وله غيره ذلك.(3/24)
رزق الله بن فضل الله بن يونس القبطي تاج الدين ابن أبي الكرم ويقال له عند الرزاق - أول ما باشر ديوان النائب ثم ولي نظر الجيش بدمشق - فباشرها مدة وعزل في أثناء ذلك بسبب تغير الدول وكان ريئيسا محتشماً كثير المداراة إلى الناس والعصبية لمن يقصده، مات في رجب.
عائشة بنت محمد بن عبد الهادي بن عبد الحميد ابن عبد الهادي ابن يوسف بن محمد بن قدامة، المقدسي الأصل أبوها الصالحية، ولدت سنة أربع وعشرين وسبعمائة، وأحضرت في الرابعة على الحجاز سنة ست وعشرين، وسمعت عليه أربعي الطائي وأربعي الحجار وغير ذلك، وأسمعت صحيح مسلم على جماعة من أصحاب ابن عبد الدائم ومعظم السيرة على عبد القادر بن الملوك، وشاركت أختها فاطمة في كثير من المسموعات والمجازات وتفردت، وممن أجاز لها إبراهيم بن صالح بن العجمي من حلب، والشيخ شرف الدين البارزي من حماة، والبرهان الجعبري من بلد الخليل، وعبد الله بن محمد بن يوسف من نابلس، وتفردت بالسماع من الحجار ومن جماعة، وسمع منها الرحالة فأكثروا، وكانت سهلة في الإسماع سهلة الجانب، ومن العجائب أن ست الوزراء كانت آخر من حدثت عن ابن الزبيدي بالسماع ثم كانت عائشة آخر من حدثت عن صاحبه الحجار بالسماع وبين وفاتهما مائة سنة، ماتت في ربيع الأول.
عبد الله بن محمد بن أحمد بن قاسم، العمراني الحرازي المكين عفيف الدين، ابن القاضي تقي الدين ابن الشيخ شهاب الدين، عني بالعلم وتنبه في الفقه، ومات بمكة وله بضع وستون سنة.(3/25)
عبد القوي بن محمد بن عبد القوي، البجائي المغربي المالكي، الفقيه، نزيل مكة، تفقه وأفاد ودرس وأعاد وأفتى، وكان خيراً دينا، مات في شوال وقد جاوز الستين.
عثمان بن إبراهيم بن أحمد بن فخر الدين البرماوي، اشتغل كثيراً ومهر في القراآت وولي تدريس الظاهرية فيها بعد الشيخ فخر الدين إمام الجامع الأزهر، وكان نبيهاً في العربية، وسمع الحديث كثيراً ورافقنا في بعض ذلك، واستملى بعض مجالس عند شيخنا العراقي، وناب في الحكم، مات فجأة عند خروجه من الحمام في تاسع عشر شعبان ولم يكمل الخمسين، وكان أبوه قد عمر فاستقبله بعشر ستين.
العجل بن نعير بن حيار بن مهنا يقال اسمه يوسف بن محمد، ولد بعد الثمانين ونشأ في حجر أبيه، ثم لما بلغ العشرين فارقه ومال مع جكم، ولما وقع بين جكم وبين ابن صاحب الباز حضر نعير في نصر ابن صاحب الباز والباز وابنه مع جكم، فلما كسر جكم نعيرا وأسره أحضر ابنه العجل فقبل يده وأعرض عنه وذلك سنة ثمان، ثم هرب العجل من جكم فقرر جكم في إمرة العرب فضل بن علي بن نعير، ثم حاصر العجل حماة، فجاء نوروز من دمشق فأوقع به وكسره ونهب له شيء كثير، ثم اتصل العجل بشيخ وحضر معه حصار حماة ونوروز بها، فلما ولي شيخ نيابة حلب فر منه العجل، فخرج شيخ إلى تل السلطان لمنع العجل من قسم إقطاعات العرب وقسمها هو، ثم إن نوروز تصالح مع العجل ورد عليه إقطاعه بعد قتل الناصر،(3/26)
ثم لما ولي نوروز يشبك بن أزدمر حلب وطردوه عنها واختاروا دمرداش وكان بقلعة الروم بطالا حضر نوروز إلى حلب فهرب دمرداش وقرر نوروز بحلب طوخ فلما رجع نوروز طرق دمرداش - حلب بغتة فاستنجد طوح بالعجل فحضر فرحل دمرداش، ثم فهم طوخ من العجل عدم المناصحة واتفق أن العجل طلبه لضيافة عملها له فتعلل، فركب العجل إلى طوخ في نحو العشرة أنفس فلاقاه طوخ في نحو العشرين فلما التقيا وتصافحا أمسك طوخ يد العجل وأشار إلى بعض أتباعه فقتله، وذلك في تاسع عشر ربيع الأول، ويقال إنه كان حينئذ سكراناً وكان شهما فتاكاً محبا للخمر شديد السطوة والجرأة، فلما قتل من أغضبه بغير موجب قتل، وبقتله انكسرت شوكة آل مهنا.
على بن عبد الله المصري نور الدين القرافي الحنفي، ناب في الحكم ومهر في ذلك، وشارك في مذهبه، مات في رمضان.
علي بن محمد بن محمد الدمشقي. صدر الدين ابن أمين ابن الأدمي الحنفي، ولد سنة سبعين، واشتغل بالأدب ونظر في الفقه وكتب الخط الحسن، وناب في الحكم(3/27)
وولي كتابة السر ونظر الجيش بدمشق، واشتغل بالقضاء بدمشق ثم بالقاهرة، وجمع له القضاء والحسبة في دولة المؤيد كما تقدم وقد أصيب مرارا وامتحن، ودخل القاهرة مع المؤيد فقيراً جداً حتى أنه احتاج إلى نزر يسير اقترضه من بعض أصحابه، ولما مات خلف من المال جملة مستكثرة، وكان لا يتصون ولا يتعفف - سامحه الله مات في رمضان بعلة الصرع القولنجي وبها مات أبوه، ومن نظمه ما أنشدني لنفسه وكنت قد اقترحت عليه أن يعمل على نمط قولي
نسيمكم ينعشني والدجى ... طال فمن لي بمجيء الصباح
ويا صباح الوجه فارقتكم ... فشبت هما إذ فقدت الصباح
فعمل ذلك في سنة سبع وتسعين، وأنشدنيه عنه جماعة ثم لقيته فأنشدنيه لنفسه:
ما متهمي بالصبر كن منجدي ... ولا تطل رفضي فإن على ل
أنت خليلي فبحق الهوى ... كن لشجوني راحما يا خلي ل
عمر بن الشيخ خلف الطوخي، سقط من سطح جامع الحاكم فمات وكان خيراً حسن السمت.(3/28)
فتح الله بن معتصم بن نفيس الداودي التبريزي، فتح الدين الحنفي، ولد سنة تسع وخمسين، وقدم مع أبيه إلى القاهرة فمات أبوه وهو صغير فكفله عمه بديع بن نفيس، فتميز في الطب وبرع، وقرأ المختار في الفقه، وتردد إلى مجالس العلم وتعلم الخط وباشر العلاج، وصحب بيبغا السابقي في أيام الأشرف واختص به، فرافقه من ممالكيه الأمير شيخ الصفوي، وكان بارع الجمال فانتزعه برقوق لما قبض على السابقي وصار من أخص المماليك عنده، فزوج فتح الله أمه وفوض أموره وأسكنه معه، فاشتهر حينئذ وشاع ذكره، واستقر في رئاسة الطب بعد موت عمه بديع، ثم عالج برقوق فأعجبه، وكان يدري كثيراً من الألسنة ومن الأخبار فراج عند الظاهر واختص به وصار له مجلس لا يحضر معه فيه غيره، وباشر رئاسة الطب بعفة ونزاهة، فلما مات الكلتساني قرره الظاهر في كتابه السر بعد أن سعى فيها بدر الدين ابن الدماميني بمال كثير فلم يقبل عليه الظاهر أحد أوصيائه واستمر في كتابه السر بعده، ولم ينكب إلا في كائنة ابن غراب ثم عاد، وكانت خصاله كلها حميدة إلا البخل والحرص والشح المفرط حتى بالعارية، وبسبب ذلك نكب فان يشبك لما هرب من الوقعة التي كانت بينه وبين الناصر ترك أهله وعياله بمنزل بالقرب منه فلم يقرئهم السلام ولا تفقدهم بما قيمته الدرهم الفرد فحقد عليه ذلك، وكان ذلك أعظم الأسباب في تمكين ابن غراب من الحط عليه، فلما كانت النكبة المشهورة لجمال الدين كان هو القائم بأعبائها، وعظم أمره عند الناصر من يومئذ وصار كل مباشر جل أو حقر(3/29)
لا يتصرف إلا بأمره، فلما انهزم الناصر وغلب شيخ استمر به وقام بالأمر على عادته إلى أن نكبه في شوال سنة خمس عشرة وثمانمائة واستمر إلى أن مات، قرأت بخط الشيخ تقي الدين المقريزي: كان لفتح الله فضائل جمة غطاها شحه حتى اختلق عليه أعداؤه معايب برأه منها فإني صحبته مدة طويلة تزيد على العشرين ورافقته سفراً وحضرا فما علمت عليه إلا خيراً بل كان من خير أهل زمانه عقلاً وديانة وحسن عبادة وتأله ونسك ومحبة للسنة وأهلها وانقياداً إلى الحق مع حسن سفارة بين الناس وبين السلطان والصبر على الأذى وكثرة الاحتمال والتؤدة وجودة المحافظة وكان يعاب بالشح بماله فإنه كان يخذل صديقه أحوج ما يكون وقد جوزي بذلك، فإنه لما نكب هذه المرة تخلى عنه كل أحد حتى عن الزيارة فلم يجد معينا ولا مغيثاً فلا قوة إلا بالله.
فضل بن عيسى بن رملة بن جماز أمير آل علي، كان ممن نصر برقوق لما خرج من الكرك فصار وجيهاً عنده ولم يزل إلى أن قتله نوروز في ذي القعدة، وولي الإمرة خمساً وثلاثين سنة.
محمد بن إبراهيم بن عبد الحميد بن علي الموغاني نزيل مكة، اشتغل بالأدب ونظم الشعر وكان به صمم فكان لذكائه يدرك ما يكتب له في الهواء وما يكتب في كفه بالإصبع ليلاً، مات بمكة وقد قارب الستين، وقد حاكاه في ذلك صاحبنا عبد الرحمن بن علي الحلبي الأصل سبط الشيخ أبي أمامة ابن النقاش.(3/30)
محمد بن أحمد بن خليل، المصري شمس الدين الغراقي - بالمعجمة وتشديد الراء بعد الألف قاف - اشتغل كثيراً وتمهر في الفرائض وشغل الناس فيها بالجامع الأزهر وكثرت طلبته، وأم بالجامع المذكور نيابة مع الدين والخير وحسن السمت والتواضع والصبر على الطلبة، وكان يقسم التنبيه والمنهاج فيقرن بينهما جميعاً في مدة لطيفة، وقد سمع من عز الدين ابن جماعة بمكة وحدث وجاور كثيراً، وكان يعتمر في كل يوم أربع عمر، ويختم كل يوم ختمة، مات في خامس شعبان.
محمد بن عبد الله الججيني الحنفي الملقب القطعة، كان من أكبر الحنفية معرفة باستحضار الفروع مع جمود ذهنه، وكان خطه رديئاً إلى الغاية، وكان رث الهيئة خاملاً، مات في رمضان.
محمد بن عمر العوادي - بفتح المهملة والواو الخفيفة - جمال الدين التعزي، اشتغل ببلده وشغل الناس كثيراً، واشتهر وأفتى ودرس ونفع الناس وكثرت تلامذته(3/31)
ثم ولي القضاء ببلده، فباشر بشهامة وترك مراعاة أهل الدولة، فتعصبوا عليه حتى عزل، وقد أراق في مباشراته الخمور وأزال المنكرات وألزم ود بتغيير عماتمهم، ثم بعد عزله أقبل على الاشتغال والنفع للناس إلى أن مات.
محمد بن محمد بن سلام، الإسكندراني ثم المصري، نزيل جزيرة الفيل، ناصر الدين، أحد التجار الكبار بالقاهرة، صاهر البرهان المحلي على ابنته فعظم أمره، ثم لما مات خلف أموالاً عظيمة فتصرف في أكثرها محب الدين المشير وغيره وتمزقت أمواله، وكان عمر دارا جليلة بجزيرة الفيل، فاستأجرها ناصر الدين البارزي وشيدها وأتقنها وأضاف امباني عظيمة إلى أن صارت دار مملكة أقام بها لملك المؤيد مدة، ثم بعد ذلك عادت الدار إلى أصحابها وفرق بين المساكين، ومات في أول هذه السنة.
محمد بن محمد بن عثمان، الدمشقي، القاضي شمس الدين الإخناي السعدي، كان يذكر أنه من ذرية شاور وزير الفاطميين، ولد سنة سبع وخمسين، وأشتغل قليلاً وناب في الحكم عن البرهان ابن جماعة بدمشق في بعض البلاد ثم ناب بدمشق، ثم ولي قضاء حلب في سنة سبع وسبعين عوضاً عن ناصر الدين خطيب يبرين نحو سنتين ثم دمشق في الأيام الظاهرية والناصرية، ثم ولي قضاء الديار المصرية مراراً ثم أخرجه جمال الدين الأستادار إلى دمشق فولي قضاءها مراراً أيضاً، ثم امتحن مراراً، وكان شكلاً ضخماً حسن الملتقى كثير البشر والإحسان إلى الطلبة عارفاً بجمع المال كثير البذل على الوظائف والمداراة للأكابر، وكان قليل الفقه فربما افتضح في بعض المجالس ولكنه يستر ذلك بالبذل والإحسان، اجتمعت به عند السالمي وعند(3/32)
الكركي ولم يتفق أنني اجتمعت به في منزله لا بدمشق ولا بالقاهرة، وكنت بدمشق سنة اثنتين وثمانمائة وهو قاضيها فلم أجتمع به، وما كنت حينئذ أدمن الاجتماع بأحد من الرؤساء ولكني اجتمعت به في مجلس الحديث في بيت قطلوبغا الكركي ومرة أخرى في بيت يلبغا السالمي، وكان يقول: أنا قاضي كريم والبلقيني قاض عالم - عفا الله عنه مات في رجب ولم يكمل السبعين.
محمد بن محمد بن محمد بن مسلم بن علي بن أبي الجود ناصر الدين ابن الغرابيلي الكركي، ولد بها سنة 53، وكان أبوه من أعيانها فنشأ في نعمة، واشتغل بالعلم والآداب، وصاهر العماد الكركي على ابنته، وسكن القاهرة سنين، ثم ولي نيابة قلعة الكرك، ولما عزل سكن القدس إلى أن مات في شعبان، وكان فاضلاً يرجع إلى دين، وأنجب ولده الحافظ تاج الدين الغرابيلي الذي مات سنة خمس وثلاثين.
موسى بن أحمد بن موسى الرمثاوي ثم الدمشقي الشافعي، شهاب الدين،(3/33)
ولد سنة ستين تقريباً، واشتغل وأخذ عن الشيخ شرف الدين الغزي ولازمه وأذن له في الإفتاء، وأخذ الفرائض عن محب الدين المالكي وفضل فيها، وأخذ بمكة عن ابن ظهيرة، وأخذ طرفاً من الطب عن الرئيس جمال الدين. وكتب بخط ومهر، وتعانى الزراعة، ثم تزوج بنت شيخه الشرف فماتت معه، فورث منها مالاً ثم بذل مالا، حتى ناب في الحكم واستمر، ثم ولي قضاء الكرك سنة أربع وعشرين، قال ابن قاضي شبهة في تاريخه: كان سيئ السيرة وفتح أبواباً من الأحكام الباطلة فاستمرت بعده، وكان عنده دهاء، ومات بدمشق في ربيع الأول، وقيل إنه سم وصاهر الإخناي وقد امتحن مرة.(3/34)
سنة سبع عشرة وثمانمائة
استهلت وقد صمم السلطان المؤيد على سف الشام لقتال نوروز فخرج في رابع محرم من القلعة إلى الريدانية في قليل من العسكر، واستناب الطنبغا العثماني في باب السلسلة، وقرر للحكم الحاجب، وفي القلعة صماي وبردبك، وقرر صدر الدين ابن العجمي في نظر الجيش بدمشق، وصرف عن التربة الظاهرية، وأعيد احاجي فقيه، وأعيدت المواريث لديوان الوزارة، وفي هذا اليوم هبت ريح شديدة تلاها رعد وبرق ومطر غزير وبرد ملأ وجه الأرض كل واحد قدر ... وأكبر من ذلك فخربت عدة دور، وجمع منه الكثير حتى بيع في الأسواق بستة كل رطل، وأحضروا للسلطان منه وهو معسكر بالريدانية في طبق، فأعجبه ذلك واستبشر به وتفاءل بأنه يدك بلاد الثلج، وكان ذلك في بشنس من الأشهر القبطية وقد وقع قريب من ذلك سنة تسع وتسعين في سلطنة الظاهر برقوق، واستمر متوجهاً في تاسع المحرم ومعه الخليفة الجديد والقضاة وأرباب الدولة ثم رحل فنزل على قبة يلبغا في ثامن صفر، وكان سبب تباطئه في السير الاحتراز على نفسه من أعدائه وممن معه، وفي غضون ذلك كان يحضر جماعة بعد جماعة من الظاهرية والناصرية يفرون من نوروز، وأكثرهم ممن كان يؤثر الإقامة بالديار المصرية، ومن أسباب ذلك أنه كان وقع الغلاء في الشام(3/35)
ثم التقت طلائع الفريقين فترجحت طليعة نوروز وكان شيخ بشقحب فركب م فدهمهم فانهزم أصحاب نوروز واستعد نوروز للحصار وحصن القلعة، فبعث المؤيد مجد الدين قاضي الحنابلة في طلب الصلح فامتنع فوقعت الحرب، ووصل كزل نائب طرابلس فحمل بمن معه فانهزم نوروز كعادته وامتنع بالقلعة، وملك المؤيد البلد ونزل بالميدان وحاصر القلعة إلى أن ضاق نوروز بالأمر ومال إلى طلب الصلح فأرسل قمش فقرر له الصلح، ونزل هو يشبك ابن أزدمر وسودون كسا وبرسبغا وإينال وغيرهم، فقبض عليهم جميعا وقتلوا في ليلتهم، وبعث برأس نوروز إلى القاهرة، فوصلوا بها على باب القلعة، صحبه شرباش فاشوق وكان يومئذ أمير عشرة، وكان أول ما تقدم نوروز تقدمة في صفر سنة سبع وسبعين في اليوم الذي تآمر فيه شيخ طبلخاناة، ثم توجه المؤيد إلى جهة حلب في ثامن جمادى الأولى، ثم توجه منها في أول جمادى الآخرة إلى الابلسيتن، ودخل إلى ملطية وقرر قواعد البلاد، ووافاه نواب القلاع فقرر من أراد وصرف من رأى صرفه، وقتل طوغان نائب قلعة الروم وقرر فيها جانبك الحمزاوي ورجع إلى القاهرة، واستناب في ملطية كزل وفي حلب إينال الصصلاي وفي حماة تنبك البجاسي وفي طرابلس سودون بن عبد الرحمن، وفي الكرك يشبك المشد - وقد صارت خرابا من الفتن، ثم قدم دمشق فوصل في ثالث رجب فاستناب فيها قانباي المؤيد - وسار القدس فوصلها في أول شعبان، ومضى إلى غزة فاستناب فيها طرباي، وسار منها فدخل سرياقوس في رابع عشري شعبان وأقام بها إلى آخر الشهر، وعمل أوقاتا بالقراء والمغنيين والسماعات، وفرق على أهل الخانقاه مالاً، وركب يوم الأربعاء سلخ شعبان فبات بالريدانية، وأصبح يوم الخميس فعسكر وطلع إلى القلعة، فانتقض عليه ألم رجله من ضربان المفاصل وانقطع به مدة.(3/36)
وفي ثامن رمضان نفي شرباش كباشة وأرغون إلى القدس، واستقر الطنبغا العثماني أتابك العساكر بالقاهرة بعد موت يلبغا الناصري وكان قد مات في حال رجوعهم من الشام.
وفي ثاني عشرة قبض على قجق وننبغا المظفري وتمنتمرءارق وسجنوا بالإسكندرية، وعزل الأموي عن قضاء المالكية وأعيد جمال الدين الأقفاصي، وقرر صماي في نيابة الإسكندرية، وأحضر ابن محب الدين وكان قد ظلم فيها وعسف في غيبة المؤيد، فوصل في آخر الشهر وقدم تقدمة قومت بخمسة عشر ألف دينار فخلع عليه وأعيد إلى الإستادارية، وكان ابن أبي الفرج قد هرب من حماة إلى بغداد لأمر بلغه من السلطان خاف منه على نفسه، فسد تقي الدين ابن أبي شاكر متعلقات الأستادارية في هذه المدة إلى هذا الغاية، وفيه ضيق على الخليفة المستعين وكان قد أفردت له في القلعة دار فأقام فيها هو وأهله وخدمه، ثم نقل إلى البرج الذي كان الظاهر برقوق سجن فيها والده الخليفة المتوكل، فأقام فيه في ضيق شديد إلى أن أخرجه في ذي الحجة من السنة المقبلة إلى الإسكندرية.
وفي خامس عشر رمضان استقر سودون القاضي حاجباً كبيراً عوضاً عن قجق واستقر قجقار القردمي أمير مجلس وجانبك الصوفي أمير سلاح عوضاً عن شاهين الأفرم بعد موته، واستقر تاني بك ميق رأس نوبة عوضاً عن جانبك الصوفي، واستقر كزل العجمي أمير جندار عوضاً عن شرباش كباشة، واستقر اقبائي الخازندار في الديودارية الكبرى عوضاً عن جاني بك الدويدار، وكان قد مات في هذا السفرة من سهم أصابه في حصار دمشق فضعف منه إلى أن مات بحمص.
وكان سعر الغلال في هذا الشهر من هذه السنة في غاية الرخص حتى كان ثمن كل(3/37)
ثلاثة أردب من القمح ديناراً واحداً هذا في البلد، وأما في الريف فكان يصح بالدينار الواحد أربعة أرادب وخمسة أرادب، وكثر حمل النارنج حتى بيع كل مائة وعشر حبات بدرهم واحد بندقي ثمنه من الفلوس اثنا عشر درهما.
وفي شوال سجن بالإسكندرية سودون الأسندمري وقصروه وكمشبغا الفيسي وشاهين الزردكاش، وأحضر كمشبغا العيساوي من دمياط، وفيه أمر المؤيد بضرب الدراهم المؤيدية فشرع فيها وكان ما سنذكره في السنة المقبلة.
وفيه جلس المؤيد في الحكم بين الناس بالإصطبل، واستقر ذلك يوم السبت والثلاثاء أول النهار وفي يوم الجمعة بعد الصلاة، وكان يسمع الحكومة ويردها غالباً إلى القضاة إذا كانت شرعية.
وفي ليلة الخميس رابع عشر شوال خسف القمر وظل منخسفاً قدر أربع ساعات.
وفيه راجت الدراهم البندقية وحسن موقعها من الناس، وحض المؤيد الإستادار وغيره من المباشرين على مصادرة أهل الظلم من البرد دارية والرسل والمتصرفين، وكانوا قد كثروا جداً في أيام جمال الدين يوسف وتزايدت أموالهم بحيث أن واجداً منهم يقال له سعد أنشأ ببركة الرطلي داراً صرف عليها نحو خمسين ألف دينار، فمال عليهم ابن محب الدين وصادر أكثرهم، واشتد المؤيد في جلوسه للحكم على طائفة القبط وأسمعهم ما(3/38)
يكرهون. وضرب جماعة منهم بالمقارع وحط من قدرهم، وأوقع التوكيل بود والنصارى حتى ألزموا بحمل عشرين ألف دينار مصالحة عما مضى لهم من الجزية، واستقر زين الدين قاسم البشتكي في تحصيل ذلك منهم وفي نظر الجوالي.
وفي سلخ شوال أضيفت حسبة القاهرة ومصر إلى التاج الوالي وقبض على منكلي بغا الحاجب المحتسب فوكل به أياما ثم أطلقه.
وفي أول يوم من ذي القعدة توجه السلطان إلى وسيم بالجيزة ثم توجه إلى تروجة. وقرر كمشبغا الميساوي في كشف الوجه البحري وفي شوال سعى كاتب السرابن البارزوي في احضار القاضي علاء الدين المغلى قاضي حماه فاذن له فاحضر في ذي القعدة فوجد السلطان في سفره تروجة. فأقام عند كاتب السر إلى أن قدم السلطان ثم كان ما سنذكره في السنة المقبلة.
وفي هذا السنة كثر الوباء بكورة البهنسا فمات خلق كثير.
وفي خامس ذي الحجة كان أمير الحاج وهو جقمق الدويدار قد منع عبيد أهل مكة من حمل السلاح في الحرم، فاتفق أن واحداً منهم دخل ومعه سيفه ولم يسمع النداء، فأحضر إلى جقمق فضربه وقيده، فبلغ ذلك رفقته فأرادوا إثارة الفتنة، فبادر جقمق فأغلق أبواب المسجد وأدخل خيله فيه ومشاعله، فهجم عبيد مكة بالسلاح ركوباً على الخيل إلى المسجد، فمشى أهل الخير وأشاروا عليه بإطلاق ذلك العبد تسكينا للفتنة، فأطلقه(3/39)
فسكنت، وقام الشريف حسن بإطفاء الفتنة ومنع القواد من القتال بعد أن وقع بينهم الشر، وحصل لبعض الحاج عند الدفع من عرفة نهب وجراج، وقتل في المعركة جماعة، ولم يحج أكثر أهل مكة خوفا على أنفسهم.
وفيها مات يغمور بن بهادر الدكري من أمراء التركمان هو وولده بالطاعون في أول ذي القعدة.
وفيها تواقع قرا يوسف وشاه رخ ابن تمر لنك، ثم اصطلحا وتصاهرا.
وفي أواخر السنة عيد شاه رخ عيد النحر بمدينة قزوين، وأرسل إلى قرا يوسف يلتمس منه أموراً ذكرها، فكان ما سنذكره في العام الآتي.
وفيها مات غير من تقدم من الأمراء سليمان بن هبة بن جماز ابن منصور الحسيني مسجوناً في آخر ذي الحجة وقد ولي إمرة المدينة مرة، وفي أولها مات طوغان.
وفي هذه السنة جددت مئذنة جامع الأزهر وكانت أصلحت في سنة ثمانمائة فكملت في هذه السنة فأمر المؤيد بتجديدها، فهدمت وأعيدت بحجر منحوت، وجددت تحتها بوابة جديدة وكتب عليها اسم السلطان، وكان تكميل ذلك في السنة المقبلة.
وفيها أخذ الفرنج سبتة، وكان السبب في ذلك أن أحمد بن أبي سالم المريني نزل عنها لابن الأحمر صاحب غرناطة، فانتقل ما كان فيها من العدد والأسلحة والذخائر إلى غرناطة، ثم اتفقت الفتنة المقدم ذكرها في سنة أربع عشرة بين السعيد وقريبه أبي سعيد إلى أن(3/40)
قتل السعيد، وأعقب ذلك الغلاء والوباء بمدينة فاس والغرب كله، فولى السعيد على فاس رجلا سامهم سوء العذاب، ثم أرسل أبو سعيد ارجلاً من أقاربه يقال له صالح، بن صالح فتناهى في الظلم وفشا فيهم الموت، وبلغ ذلك الفرنج فعمروا عليهم عدة مراكب فحصر صالح أهل الجبال وأنزلهم على البلد، فرجع الفرنج إلى جزيرة بين سبته وجبل الفتح يسمى طرف القنديل فأقام بها، فطال الأمر على أهل الجبال وظنوا أن الفرنج رجعوا إلى بلادهم وقلت على أهل الجبال الأزواد فتفرقوا، فبلغ ذلك الفرنج فنازلوا أهل سبتة فقاتلوه فغالبهم بالكثرة، وملكوا منهم المينا، فخرج المسلمون بأهلهم وأموالهم وما قدروا عليه، فدخل الفرنج البلد في سابع شعبان من هذا السنة، ونقلوا ما كان بها حتى الكتب العلمية، وكان بها منها شيء كثير إلى الغاية، ونقلوا ما وجدوا بها من الرخام والآلات والأمتعة حتى الأنوال، وتركوها قاعا خرابا، ومع ذلك فهي بأيدهم فلا قوة إلا بالله.
ذكر من مات
سنة سبع عشرة وثمانمائة من الأعيان.
احمد بن أبي أحمد، المقرئ الحلبي، اعتنى بالقرآن فكان يقرئ بمسجد يجاور الشاذبختيه بحلب مدة، ثم تحول من حلب إلى القدس قبل الوقعة العظمى، ثم انتقل(3/41)
إلى دمشق فأقام بها، ثم إلى طرابلس فتأهل بها واستمر إلى أن مات في شوال سنة 817 أثنى عليه القاضي علاء الدين في تاريخه على خيره ودينه.
أحمد بن عبد الله المالقي. الناسخ، كان شافعي المذهب إلا أنه يحب ابن تيمية ومقالاته، وكان حسن الخط كتب ثلاثمائة مصحف وعدة نسخ من صحيح البخاري وأشياء غير ذلك، مات في شوال مطعوناً، وأرخه القاضي تقي الدين ابن قاضي شهبة في جمادى الأولى سنة خمس عشرة - فليحرر هذا.
أبو بكر بن علي بن سالم بن أحمد الكناني، تقي الدين العامري، ابن قاضي الزبداني، ولد في ذي الحجة سنة خمسين، واشتغل بدمشق فبرع في الحساب، وشارك في الفقه قرأ في الأصول، وولي قضاء بعلبك وبيروت، وقدم القاهرة بعد الفتنة الكبرى، وكان أسر مع التمرية ثم تخلص وأخبر عن بعض من أسره أنه قال له: علامة وقوع الفتنة كثرة نباح الكلاب وصياح الديكة في أول الليل، قال: وكان ذلك قد كثر في دمشق قبل مجيء تمر لنك، وكان يقرأ في المحراب جيداً، وولي قضاء كفرطاب، وتقدم في معرفة الفرائض والحساب، وكان ديناً خيراً يتعانى المتجر، مات بدمشق في ذي الحجة.(3/42)
حسن بن موسى بن مكي القدسي الشافعي بدر الدين قاضي القدس، سمع من الميدومي جزء ابن عرفة، جزء البطاقة، وغير ذلك وحدث عنه وولي قضاء القدس مراراً وكان مزجي البضاعة في العلم، مات عن ستين سنة.
سعد بن علي بن إسماعيل الهمداني الحنفي ثم العيني، سعد الدين، نزيل حلب، كان فاضلاً عاقلاً ديناً، له مروءة ومكارم أخلاق، وله وقع في النفوس الخيرة ونفعه للطلبة وإحسانه م بعلمه وجاهه، مات في أول شعبان وخلف ولده سعد الدين سعد الله، ولم تطل مدته بل مات سنة 21 ولم يكهل.
شاهين الأفرم، مات في الرملة عند توجههم إلى قتال نوروز، وكان مشهوراً بقلة الدين بل كان بعض الناس يتهمه في إسلامه، وذكر لي الشيخ برهان الدين ابن زقاعة شيئاً من ذلك، وقال العينتابي: كان مدمنا على الخمر واللواط، ولم يشتهر عنه خير ولا معروف مع كثرة أمواله.
عبد الله بن صالح بن أحمد بن عبد الكريم بن أبي المعالي الشيباني المكي، سمع من عثمان بن الصفي الطبري والفخر النوري والسراج الدمنهوري وغيرهم وتفرد بالرواية عنهم بمكة، وكان خطيباً بجدة، مات في ربيع الآخر وقد قارب الثمانين، وقد تقدم ذكر أخيه جار الله بن صالح.(3/43)
عبد الله بن علي بن محمد بن علي بن عبد الله بن أبي الفتح الكناني العسقلاني الحنبلي، جمال الدين سبط القلانسي، ولد سنة خمسين، وأحضر عند الميدومي، وأسمع القلانسي والعرضي وابن الملوك، وحدث بالكثير في آخر أمره واحب الرواية فأكثروا عنه، وكان أبوه قاضي القضاة وكان هو بزي الجند مع الدين والعبادة وعلى ذهنه مسائل نفيسة، مات في نصف السنة بالقاهرة.
عبد الرحمن بن حيدر بن أبي بكر بن علي الشيرازي الدهقلي التاجر، سمع من أحمد بن محمد الجوخي وغيره بدمشق، وكان أبوه من طلبة الحديث فأسمعه الكثير ثم ضاعت أسمعته، لقيته بزبيد فحدثني عن ست العرب بنت محمد بن الفخر، ثم لقيته بعدن فحدثني عن ابن الجوخي وأجاز لي، ومات في جزيرة من جزائر الهند وقد قارب السبعين.
عبد الرحمن بن علي بن يوسف الحسن بن محمود الزرندي الحنفي المدني، ابن القاضي نور الدين، ولد قبل سنة خمسين، واشتغل، وسمع من العلائي، وولي قضاء المدينة بعد أخيه أبي الفتح سنة أربع وثمانين إلى أن مات(3/44)
إلا أنه عزل مرة سنة أربع وثمانمائة ثم أعيد، وولي حسبة المدينة أيضاً، وحدثنا بمسلسل التمر بالمدينة ولم أضبط ذلك عنه، وتفرد بالإجازة من الزبير بن علي الأسواني راوي الشفاء، مات في ربيع الأول.
عبد الرحمن بن عمر بن أحمد بن عبد الله بن المهاجر زين الدين، ولد سنة، وولي مشيخة خانقاه الصالح بحلب ثم ولي كتابة السر بها ثم ولي نظر الجيش، وكان حسن السيرة؛ مات في شعبان بعد أن أرتفع الطاعون.
عبد الرحمن بن محمد الحضرمي، الزبيدي، وجيه الدين، سمع من خاله عيسى بن أحمد بن أبي الخير الشماخي وعلي بن شداد، وأجاز له خالاه عبد الرحمن وإبراهيم ابنا أحمد بن أبي الخير، وكان يحفظ كثيراً من أحاديث الأحكام ويذاكر بأشياء حسنة وأشعار؛ مات في أول المحرم وله ثلاث وثمانون سنة.
محمد بن عبد الله بن ظهيرة بن أحمد بن عبد الله بن عطية بن ظهيرة ابن مرزوق بن محمد بن سليمان المخزومي المكي الشافعي، جمال الدين، أبو حامد، ولد سنة خمسين تقريباً ثم تحرر لي أنه ولد في شوال سنة إحدى وخمسين وعني بالحديث فرحل فيه إلى دمشق وحلب وحماة ومصر والقدس وغيرها، وحصل الأجزاء والنسخ، وكتب الكثير بخطه الدقيق الحسن، وبرع في الفقه والحديث، وشغل الناس وأفادهم نحو من أربعين سنة بمكة،(3/45)
ومن شيوخه في الحديث بدمشق أبن أميلة وابن الهبل وابن أبي عمر صلاح الدين من أصحاب الفخر وجماعة من أصحاب التقى سليمان ومن بعدهم، ومن شيوخه في الفقه بمكة عمه أبو الفضل النويري، وبدمشق البهاء السبكي وقرأ عليه الحديث بمصر، والأذرعي بحلب، والبلقيني بمصر، ولازم شيخنا العراقي في الحديث وقد خرج له صاحبنا غرس الدين خليل معجماً عن شيوخه بالسماع والإجازة في مجلد وقد شرح هو قطعة من الحاوي، وله عدة ضوابط نظما ونثرا، وله أسئلة تدل على باع واسع في العلم، استدعى الجواب عنها من شيخنا البلقيني فأجابه عنها، وهي معروفة تلقب الأسئلة الملكية، ومن ضوابطه في المواطن التي يزوج فيها الحاكم، انشدها عنه رفيقه الحافظ برهان الدين بحلب وذكر إن شيخنا البلقيني لما سمعها أعجبه وبالغ في شكره لقوله فيها إسلام أم الفرع وهي لكافر:
عدم الولي وفقده ونكاحه ... وكذاك غيبة المسافر قاصر
وكذاك إغماء وحبس مانع ... أمة لمحجور توارى القادر
إحرامه وتعزز مع عضله ... إسلام أم الفرع وهي لكافر
وحدث بكثير من مروياته بالمسجد الحرام وقد سمعت منه وحدثني من لفظه، وهو أول شيخ سمعت الحديث بقراءته بمصر ي سنة ست وثمانين وقد ولي قضاء مكة سنة ثمانمائة - وعزل وأعيد مراراً، ومات وهو قاض في شهر رمضان وكان كثير العبادة والأوراد مع السمت الحسن والسكون والسلامة - رحمه الله تعالى.
محمد بن عزيز الواعظ، الحنفي، كان فاضلاً ذكياً، ولي مشيخة اليونسية(3/46)
ودرس بغير مكان، وكان حسن الخط والعشرة كريم النفس، كتب بخطه كثيراً؛ ومات في جمادى الآخرة.
محمد بن محمد بن محمد، المخزومي الإسكندراني، فتح الدين، سمع من ابن نباتة سيرة ابن هشام وحدث بها عنه بمكة، وكان يتعانى التجارة فنهب مرة وأملق وأقام بزبيد ينسخ للملك الأشرف، ثم حسنت حاله وتبضع فربح، ثم والى الأسفار إلى أن أثرى وجاور بمكة، ثم ورد في البحر قاصداً القاهرة؛ فمات بالطور في أوائل شعبان.
محمد بن يعقوب بن محمد بن إبراهيم بن عمر، الشيرازي الشيخ العلامة مجد الدين، أبو الطاهر الفيروزابادي، كان يرفع نسبه إلى الشيخ أبي إسحاق الشيرازي صاحب التنبيه، ويذكر أن بعد عمر أبا بكر بن أحمد بن أحمد ابن فضل الله بن الشيخ أبي إسحاق، ولم أزل أسمع مشايخنا يطعنون في ذلك مستندين إلى أن أبا إسحاق لم يعقب، ثم ارتقى الشيخ مجد الدين درجة فادعى بعد أن ولي قضاء اليمن بمدة طويلة أنه من ذرية أبي بكر الصديق وزاد إلى أن رأيت بخطه لبعض نوابه في بعض كتبه محمد الصديقي، ولم يكن مدفوعاً عن معرفة إلا أن النفس تأبى قبول ذلك، ولد الشيخ مجد الدين سنة تسع وعشرين وسبعمائة بكازرون وتفقه ببلاده، وسمع بها من محمد بن يوسف الزرندي المدني صحيح البخاري وعلى بعض أصحاب الرشيد بن أبي القاسم، ونظر في اللغة فكانت جل قصده في التحصيل فمهر فيها إلى أن بهر وفاق(3/47)
أقرانه، ودخل الديار الشامية بعد الخمسين فسمع بها وظهرت فضائله وكثر الآخذين عنه، ثم دخل القاهرة، ثم جال في البلاد الشمالية والمشرقية ودخل الهند، وعاد منها على طريق اليمن قاصداً مكة ودخل زبيد، فتلقاه الملك الأشرف إسماعيل بالقبول، وكان ذلك بعد وفاة جمال الدين الريمي قاضي الأقضية باليمن كله فقرره الأشرف مكانه وبالغ في إكرامه مرارا فاستقدت قدمة بزبير واستمر في ذلك الى ان مات وقدم في هذه المرة مكة وأقام بها وبالطائف، ثم رجع وصنف القاموس المحيط في اللغة لا مزيد عليه في حسن الاختصار وميز فيه زياداته على الصحاح بحيث لو أفردت لكانت قدر الصحاح وأكثر في عدد الكلمات وقرئ عليه؛ وكان أولاً ابتدأ بكتاب كبير في اللغة سماه اللامع والمعلم العجاب الجامع بين المحكم والعباب، وكان يقول لو كمل لكان مائة مجلد، وذكر عنه الشيخ برهان الدين الحلبي أنه تتبع أوهام المجمل لابن فارس في ألف موضع وكان مع ذلك يعظم ابن فارس ويثني عليه، وقد اكثر المجاورة بالحرمين، وحصل دنيا طائلة وكتبا نفيسة لكنه كان كثير التبذير، وكان لا يسافر إلا وصحبته عدة أحمال من الكتب، ويخرج أكثرها في كل منزلة ينظر فيها ويعيدها إذا رحل، وكان إذا أملق باعها، وكان الأشرف كثير الإكرام له حتى أنه صنف له كتابا وأهداه له على أطباق فملأها له دراهم، وصنف للناصر كتابا سماه تسهيل الوصول إلى الأحاديث الزائدة على جامع الأصول، والإصعاد على رتبة الاجتهاد في أربعة أسفار، وشرع في شرح مطول على البخاري ملأه بغرائب المنقولات، وذكر لي أنه بلغ عشرين سفراً(3/48)
إلا أنه لما اشتهرت باليمن مقالة ابن العربي ودعا االشيخ إسماعيل الجبرتي وغلب على علماء تلك البلاد، صار الشيخ مجد الدين يدخل في شرح البخاري من كلام ابن العربي في الفتوحات ما كان سببا لشين الكتاب المذكور، ولم أكن أتهم الشيخ بالمقالة المذكورة إلا أنه كان يحب المداراة، وكان لناشري فاضل الفقهاء بزبيد يبالغ في الإنكار على إسماعيل - وشرح ذلك يطول، ولما اجتمعت بالشيخ مجد الدين أظهر لي إنكار مقالة ابن العربي وغض منها، ورأيته يصدق بوجود رتن الهندي وينكر على الذهبي قوله في الميزان أنه لاوجود له، قال الشيخ مجد الدين: إنه دخل قريته ورأى ذريته وهم مطبقون على تصديقه، وقد أوضحت ذلك في ترجمة رتن من كتاب الإصابة ومن تصانيفه شوارق الأسرار في شرح مشارق الأنوار، والروض المسلوف فيما له اسمان إلى ألوف، وتحبير الموشين فيما يقال بالسين والشين، وكان يقول: ما كنت أنام حتى أحفظ مائتي سطر، ولم يقدر له قط أنه دخل بلداً إلا وأكرمه متوليها وبالغ في إكرامه مثل شاه شجاع صاحب تبريز، والأشرف صاحب مصر، والأشرف صاحب اليمن، وابن عثمان صاحب التركية، وأحمد بن أويس صاحب بغداد، وغيرهم، ومتعه الله بسمعه وبصره إلى أن مات، سمع الشيخ مجد الدين من ابن الخباز وابن القيم وابن الحموي وأحمد بن عبد الرحمن المرداوي واحمد بن مطر النابلسي والشيخ تقي الدين السبكي، ويحيى بن علي بن(3/49)
محلي بن الحداد وغيرهم بدمشق في سنة نيف وخمسين، وبالقدس من العلائي والتباني، وبمصر من القلانسي ومظفر الدين وناصر الدين التونسي وابن نباتة والفارقي والعرضي والعز وجماعة، وبمكة من خليل المالكي والتقي الحرازي، ولقي بغيرها من البلاد جمعاً جماً من الفضلاء وحمل عنهم شيئاً كثيراً وخرج له الجمال المراكشي مشيخة، واعتنى بالحديث، اجتمعت به في
زبيد وفي وادي الخصيب، وناولني جل القاموس وأذن لي مع المناولة أن أرويه عنه، وقرأت عليه من حديثه عدة الأجزاء، وسمعت منه المسلسل بالأولية بسماعه من السبكي، وكتب لي تقريظاً على بعض تخريجاتي أبلغ فيه، وأنشدني لنفسه في سنة ثمانمائة بزبيد بيتين كتبهما عنه الصلاح الصفدي في سنة سبع وخمسين بدمشق وبين كتابتهما عنه ووفاته ستون سنة: يد وفي وادي الخصيب، وناولني جل القاموس وأذن لي مع المناولة أن أرويه عنه، وقرأت عليه من حديثه عدة الأجزاء، وسمعت منه المسلسل بالأولية بسماعه من السبكي، وكتب لي تقريظاً على بعض تخريجاتي أبلغ فيه، وأنشدني لنفسه في سنة ثمانمائة بزبيد بيتين كتبهما عنه الصلاح الصفدي في سنة سبع وخمسين بدمشق وبين كتابتهما عنه ووفاته ستون سنة:
أخلانا الأماجد إن رحلنا ... ولم ترعوا لنا عهداً وإلا
نودعكم ونودعكم قلوبا ... لعل الله يجمعنا وإلا
مات في ليلة العشرين من شوال وهو ممتع بحواسه وقد ناهز التسعين.
نوروز كان ممن مماليك الظاهر، وأول ما رقاه خاصكيا، ثم أمير أخور عوضاً عن بكلمش سنة ثمانمائة، وكان قبل ذلك أمره رأس نوبة صغيرا في شهر رجب سنة سبع وتسعين وسبعمائة، ثم رام القيام على السلطان فنم عليه بعض المماليك فقبض عليه في صفر سنة إحدى وثمانمائة وقيده وحمل إلى الإسكندرية فسجن ثم نقل إلى دمياط ثم(3/50)
أفرج عنه في سنة اثنتين وثمانمائة واستقر رأس نوبة كبيراً واستقر في نظر الشيخونية، وحضر قتال ايتمش ثم وقعة اللنك ورجع مع من انهزم، واستمر ينتقل في الفتن على ما مر في الحوادث إلى أن قتل في ربيع الآخر، وكان متعاظماً سفاكا للدماء عبوسا مهابا شديد البأس، وكان مشؤم النقيبة، ما كان في عسكر قط إلا انهزم، ولا حفظ له أنه ظفر في وقعة قط، وهو الذي عمر قلعة دمشق بعد اللنك، قال العينتابي: كان جباراً ظالماً غشوماً بخيلاً - كذا قال وقد سمعت الشيخ تقي الدين المقريزي يقول سمعت نوروز هذا يقول ما معناه إني ليشق على أن لا يكون في مماليك أستاذي الملك الظاهر رجل كامل في أمور المملكة وتدبير الرعية والرفق بهم.
يشبك بن أزدمر كان مشهورا بالشجاعة والفروسية، وقال العينتابي: كان ظالماً لم يشتهر عنه خير - كذا قال، وقد باشر نظر - الشيخونية، ورأيت أهلها يبتهلون بالدعاء له والشكر منه.
يلبغا الناصري كان من خيار الأمراء، مات ليلة الجمعة في شهر رمضان.(3/51)
سنة ثماني عشرة وثمانمائة
في الثاني من المحرم قدم المؤيد بعد أن قرر على مشايخها أربعين ألف دينار فكانت مدة غيبته شهرين.
وفي عاشره افرج عن بيبغا المظفري وبكتمر اليوسفي من سجن الإسكندرية.
وفيها استعد قرا يوسف للحرب بينه وبين شاه رخ بن تمر لنك وذلك أن ابن تمر لنك استناب في فارس بعد أن غلب عليها وانتزع من مملكتها ابن أخيه إسكندر بن مرزة بن تمر لنك أخاه رستم وأمر بالإسكندر فكحل ثم أطلق، فجمع الإسكندر جمعاً، وحارب أخاه فانهزم الإسكندر، فأمر به عمه فقتل وتسلم شاه رخ السلطانية وتفرغ وجه شاه رخ لقرا يوسف وكان أرسل يطلب منه قريتين عينهما وامرأة أخي وابنة أخي وكان قرا يوسف قد أسرهما ويقال إنه تزوجهما، ويلتمس منه أن يلتزم بديات من قتل من إخوته ورد ما وصل من أموالهم وأن يضرب السكة باسمه ويخطب له في بلاده فلم يفعل قرا يوسف ذلك واستعد للحرب من أواخر العام الماضي وأرسل إلى ابنه محمد شاه من بغداد وينبه عساكره المتفرقة في البلاد.
وفيه قدم كتاب فخر الدين بن أبي الفرج من بغداد بأنه مقيم بالمستنصرية وإنما هرب خوفاً على نفسه ويسأل العفو ويطلب الأمان، وكان استشفع بالشيخ محمد بن قديدار الدمشقي فأرسل كتابه قرين كتابه، فأجيب بما طيب خاطره.(3/52)
وفيه وصل كتاب أقبقا النظامي من جزيرة قبرس وكان قد توجه من العام الماضي لفك إساري المسلمين بأنه وجد هناك خمسمائة أسير وأزيد فافتكهم بثلاثة عشر ألف دينار، وأنه أرسل للفرنج المبلغ الذي كان جهزه معه وهو عشرة آلاف دينار وسمح له متملك قبرس بالباقي، وحمل منهم إلى جهة مصر مائتي أسير وفرق الباقي في سواحل الشام.
وفيها قتل طوغان الدويدار وسودون المحمدي ودمرداش المحمدي واسنبغا الزردكاش بسجن الإسكندرية وأقيم عزاؤهم بالقاهرة.
وفيه هزم إينال الصصلاي نائب حلب كردى بن كندر التركماني وانتهب من غنمه شيئاً كثيراً فاستعان عليه بعلي بن دلغادر، فدخل بينهما في الصلح حتى رجع إينال عنه إلى حلب.
وفي المحرم في هذه السنة ابتدأ الطاعون بالقاهرة، وتزايد في صفر حتى بلغ في ربيع الأول في كل يوم ثمانين نفساً ثم ارتفع في ربيع الآخر.
وفي مستهل صفر صرف مجد الدين سالم الحنبلي عن قضاء الحنابلة وأمر بلزوم بيته.
وفي الثاني عشر منه قرر في منصبه علاء الدين علي بن محمود بن مغلي الحموي وكان قد قدم من حماة في أواخر السنة الماضية والسلطان بالبحيرة.
واستقر قضاء حماة بيده وأذن له أن يستنيب عنه من شاء وسعى مجد الدين عند اقباي الدويدار فقام معه في ذلك قياماً كلياً ولم يفد ذلك شيئاً.(3/53)
وفيه عزل شهاب الدين بن سفري عن قضاء العسكر، وقرر فيه تقي الدين أبو بكر بن عمر بن محمد الختني الحموي الحنفي وكان قدم صحبة ابن مغلي المذكور.
وفي صفر كثر ضرب الدراهم المؤيدية، ثم استدعى المؤيد القضاة والأمراء وتشاوروا في ذلك، وأراد المؤيد إبطال الذهب الناصري وإعادته إلى الهرجة فقال له البلقيني: في هذا إتلاف شيء كثير من المال، فلم يعجبه ذلك وصمم على إفساد الناصرية وأمر يشبك ما هو حاصل عنده وضربه هرجة، فذكر لنا بعد مدة أنه نقص عليه سبعة آلاف دينار، وأمر القضاة وغيرهم أن يدبروا رأيهم في تسعير الفضة المضروبة فاتفقوا على أن يكون كل درهم صغير بتسعة دراهم وكل درهم كبير بثمانية عشر على أن يكون وزن الصغير سبعة قراريط فضة خالصة ووزن الكبير أربعة عشر قيراطاً واستمر ذلك وكثرت بأيدي الناس وانتفعوا بها، ونودي على البندقية: كل وزن درهم بخمسة عشر.
وفي صفر وقع الشروع في حفر الرمل الكائن بين جامعي الخطيري ببولاق والناصري المعروف بالجديد بمصر، وكانت الرمال قد كثرت هناك جدا بحيث كان ذلك أعظم الأسباب في تخريب منشاة المهراني ومنشاة الكتان وموردة الحبس وزريبة قوصون وحكر ابن الأثير وفم الخور، وكانت هذه الأماكن في غاية العمران، فلما انحسر عنها النيل ودام انحساره خربت فاتفق أن السلطان ركب إلى هذا النواحي وكان عهده بها عامرة فسأله عن سبب خرابها فأخبر به، فأراد حفر ما بين الجامعين ليعود الماء اصيفاً وشتاء، وشرع حينئذ في الأمر بعمارتها فابتدأ بذلك في عاشر صفر، فنزل كزل العجمي وهو يومئذ أمير جندار، فعلق مائة وخمسين رأسا من البقر لتجرف الرمال، ثم تلاه سودون القاضي فاستمر العمل بقية صفر وربيع الأول، فلما كان يوم(3/54)
الثاني من ربيع الأول ركب السلطان ومعه الأمراء وغيرهم إلى حيث العمل في حفر البحر ونزل في خيمة نصبت له ونودي بخروج الناس إلى الحفير فخرجت جميع الطوائف وغلقت الأسواق وعمل فيه حتى الأمراء وأرباب الدولة والتجار واستمر العمل، ثم دخل الناس في العمل حتى الصوفية الذين بالظاهرية بين القصرين فإنهم توجهوا لتوجه ناظرها أمير أخور ثم أعفوا من العمل، ثم صار يخرج كل يوم أمير كبير ومعه طوائف لا تحصى، وتكرر النداء في القاهرة بالخروج إلى العمل واستمر طوال هذا الشهر، وما أفاد ذلك شيئاً بعد طول العناء.
وفي صفر قبض على شاهين الأيد كاري بحلب وسجن بالقلعة، ومات سنقر الرومي بسجن الإسكندرية.
وفيه سأل حسن ابن بشارة أن يستقر في مشيخة العشير ويحمل ثلاثين ألف دينار فأجيب على ذلك، وأرسلت خلعة مع يشبك الخاصكي فأعطاه ثلاثة عشر ألف دينار - وأحيل عليه أرغون شاه أستادار الشام بالباقي، فبلغ ذلك أخاه محمداً فغضب واقتتلا، فانكسر محمد وانهزم إلى جهة العراق.
وفي المحرم تسلم أحمد بن رمضان مدينة طرطوس عنوة بعد أن حاصرها سبعة أشهر وسبى أهلها وخطب فيها للمؤيد، وأرسل إلى نائب حلب فأعلمه بذلك.
وفيه أرسل حسين بن نعير ملك العرب يسأل قرا يلك أن يشفع له إلى السلطان وإرسال قوده وكتابه، فأجيب إلى ذلك.
وفي هذا الأيام حاري كرسجي بن أبي يزيد بن عثمان محمد بن قرمان صاحب قونية، فانكسر محمد وانتزعت منه بلاده سوى قونية.(3/55)
وفي ربيع الأول عزل حسن بن عجلان عن إمرة مكة وقرر ابن أخيه رميثة بن محمد بن عجلان فبلغ ذلك ابن عجلان، فصادر التجار المقيمين بمكة وأخذ منهم أموالاً عظيمة.
وفي صفر الموافق لتاسع بشنس من شهور القبط في وسط الربيع حدث بمصر برق ورعد هائل لم يعهد مثله في هذا الزمان وأعقبه مطر كثير جداً بحيث سالت الأودية سيلا كثيراً تغير منه ماء النيل.
وفيه أول ربيع الأول أنكر المؤيد على القضاة كثرة النواب فخففوا منهم كثيراً، فاستقر للحنفي ستة وللشافعي أربعة عشرة بشرط أن لا يرتشوا.
وفيه قبض على آق بلاط نائب عينتاب وعلى شاهين الرزدكاش وسجنا بقلعة حلب.
وفيه استقر محي الدين المدني الموقع في كتابة السر بدمشق وكان أقام بالقاهرة مدة طويلة وباشر التوقيع بها، ثم نقل في هذا الشهر إلى دمشق.
وفيه أمر السلطان أستاداره ووزيره وناظر خواصه في مصادرة المباشرين فصودروا على خمسين ألف دينار قررت عليهم على مراتبهم وشرعوا في جبايتها.
وفيه ابتدئ بعمارة المدرسة المؤيدة داخل باب زويلة، وسببه أن المؤيد كان حبس في خزانه شمائل أيام فتنة منطاش فنذر لئن الله نجاه وملكه القاهرة أن يبني مكانها جامعاً يقام فيه ذكر الله فابتدأ في الوفاء بنذره، فأول شيء بدأ به أخذ القيسارية المعروفة بسنقر الأشقر مقابل سوق الفاضل فنزل التاج الوالي وجماعة من أرباب الدولة وابتدئ بالهدم فيها وما بجوارها وانتقل السكان بها، فلما كان في الرابع من(3/56)
جمادى الآخرة ابتدئ بحفر الأساس وشرع في العمل وقرر الأمير ططر شادا على العمارة وبهاء الدين ابن البرجي الذي كان محتسباً مرة في النظر على العمارة المذكورة وكان صديق ططر فسعى له في ذلك فاستمر.
وفي أواخر ربيع الأول قدم على المؤيد شمس الدين شمس بن عطاء الله الرازي المعروف بالهروي وكان من أعوان تمر لنك، فأرسله إلى جهاته فخانه فتهدده، ففر منه إلى بلاد الروم فالتمس من ابن قرمان أن يجمع بينه وبين عالم بلادهم شمس الدين الغناري، فامتنع ابن قرمان من ذلك، وقال: هذا رجل منسوب على العلم والغناري عالمنا فلا يسهل بنا أن يغلب عالمنا ولا أن ينكسر خاطر هذا الغريب، فأكرمه بأنواع من الكرامات غير ذلك فصرفه عن بلاده، فدخل الشام وحج ثم رجع إلى القدس فانتزع الصلاحية بعناية نوروز من القمني واستمر بها مدرسا ثم سعى عليه القمني في دولة المستعين فعزل واستقر القمني ولم ينفذ ذلك لغلبة نوروز على البلاد الشامية. فلما توجه المؤيد إلى قتال نوروز لقيه الهروي فقرره في الصلاحية، ولما رجع إلى القاهرة لقيه أيضاً فاستأذنه أن يحضر إلى القاهرة فأذن له فحضر، فخرج إلى لقائه جماعة، وتعصب له كثير من مشايخ العجم، وشاع عنه أنه يحفظ أثني عشرة ألف حديث، وانه يحفظ صحيح مسلم بأسانيده، ويحفظ متون البخاري، فاستعظم الناس ذلك ودار القمني على الأمراء يلتمس أن يسألوا المؤيد أن يحضر الهروي ويعقد له مجلسا بالعلماء ليظهر له أنه مزجي البضاعة في العلم، فلم يزل يسعى في ذلك إلى أن أجاب السلطان، وكان الهروي قد اجتمع به وأحضره المولد الخاص، وأرسل إلى القاضيين البلقيني وابن مغلي، فتكلموا بحضرته ولم يمعنوا في ذلك وكان من جملة ما سأل(3/57)
الهروي عنه حينئذ هل ورد النص على أن المغرب لا تقصر في السفر؟ فقال: نعم، جاء ذلك من حديث جابر في كتاب الفردوس لأبي الليث السمرقندي، فلما انفصلوا روجع البستان لأبي الليث فلم يوجد فيه ذلك، فقيل له في ذلك فقال للسمرقندي بهذا الكتاب ثلاث نسخ: كبرى ووسطى، وصغرى، وهذا الحديث في الكبرى ولم يدخل الكبرى هذا البلاد فاستشعروا كذبه من يومئذ، وأنزله السلطان دارا حسنة بالقاهرة ورتب له رواتب جليلة، وهاداه أهل الدولة فأكثروا من فاخر الثياب وغيرها، فلما كان يوم الخميس ثامن عشر شهر ربيع الآخر، أحضر المؤيد الهروي المذكور وأمر القضاة الأربعة ومشايخ الفنون من العلماء بالحضور، وكان مجلساً حافلاً بالمنظرة التي داخل الحوش السلطاني، فكان أول شيء سئل عنه الهروي على من سمع منه - صحيح البخاري، فاختلق في الحال إسناد إلى أبي الوقت، زعم أن أباه حدثه عن شيخ يقال له أحمد بن عبد الكريم البوشنجي، عاش مائة وعشرين سنة عن آخر يقال له أبو الفح الهروي عاش أيضا مائة وعشرين سنة عن أبي الوقت، فقال له كاتبه: أولادنا يرون الصحيح إلى أبي الوقت بمثل هذا العدد برجال أشهر من هؤلاء وكان المذكور قد ضبط عنه الرحالة أول ما قدم بيت المقدس منهم صاحبنا الحافظ جمال الدين محمد بن موسى المراكشي ثم المكي أنه يروي الصحيح(3/58)
عن علي بن يوسف بن عبد الكريم عن ناصر الدين محمد بن إسماعيل الفارقي عن ابن أبي الذكر الصقلي عن الزبيدي عن أبي الوقت وهذا الإسناد أيضاً أظنه مما اختلق بعضه، وذلك أن الكرماني الذي شرح البخاري هو محمد بن يوسف بن عبد الكريم وهو ذكر في مقدمة شرح البخاري أنه سمع الصحيح من جماعة منهم الفارقي المذكور بالإسناد المذكور، فأن كان الهروي صادقاً فيكون أخذه عن أخيه على إن كان للكرماني أخ اسمه علي، ثم قال بعض خواص السلطان: ينبغي أن يفتح السلطان المصحف فأول شيء يخرج يقع الكلام فيه، فأحضر مصحف فتناوله السلطان بيده وفتحه فخرج قوله تعالى: " لو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دابة ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى " الآية، فتكلموا في معاني لو فبدر من الشيخ همام الدين الخوارزمي شيخ الخانقاه الجمالية وكان قد حضر مع الهروي حمية له لأنه كان يذكر أن الهروي قرأ عليه، وكان الهروي قد صاهره على ابنته، فتعصب الهمام للهروي على البلقيني، وكان غرضهم إذا أغضبوه يتغير مزاجه لما عرفوا من سرعة انفعاله وعدم صبره على الضيم فتواصوا على أن يغضبوه، فكلمه الهمام بكلام أزعجه فقال: مثلك يقول لمثلي هذا! فقال: نعم، أنا أفضل منك، ومن كل شيء، فبدر كاتبه فقال(3/59)
له: يا شيخ! هذا الإطلاق كفر، فجحد أن يكون قال ذلك وكان السلطان قد سمعه لأنه كان جالساً إلى جانبه، فأظهر مع ذلك انزعاجاً على كاتبه لكونه خالفه، فقال: أنشد الله رجلا سمع ما سمعت إلا شهد به فشهد! تقي الدين
الجيني وآخر، فقال: ما قصدت بهذا الإطلاق إلا الحاضرين، فقيل له: إذا سلم ذلك ففيه دعوى عريضة، وإساءة أدب واشتد انزعاج البلقيني من ذلك حتى قال: ما أساء أحد علي الأدب منذ بلغت الحلم مثل اليوم. وصار لا ينتفع بنفسه بقية ذلك اليوم فتم لهم ما أبرموه إلا أنهم خذلوا بهذا السقطة، وكانوا قد رتبوا مع الشيخ شرف الدين التباني على ما أخبر به بعد ذلك أن يسأل الهروي في المجلس عن حديث الوضوء بالنبيذ ومن خرجه، فسأله عن ذلك - مع أنه لا يتعلق بما كانوا فيه، فبادر أن قال: رواه الترمذي قال ثنا هناد بن السري ثنا شريك ثنا أبو قرارة عن أبي زيد عن ابن مسعود رضي الله عنه ورواه ابن ماجه قال ثنا العباس بن الوليد الدمشقي ثنا مروان بن محمد ثنا قاسم بن عبد الكريم عن حنش الصنعاني عن ابن عباس عن عبد الله بن مسعود، فقال له كاتبه: هذا الإسناد الذي سقته لابن ماجه غلط، وليس في ابن ماجه، ولا غيره من الكتب الستة أحد اسمه قاسم بن عبد الكريم، وأيضا فليس في سياق ابن ماجة أن الحديث لابن عباس عن ابن مسعود، وليس لفظه مطابقاً للفظ سياق الترمذي، فقال الهروي: فما هو الصواب في هذا الإسناد؟ فقال له: يكتب ما قلت وأنا أبين موضع الغلط ويحضر ابن ماجه، فإن كان كما قلت وإلا تبين خطاءك فلم يجسر أحد أن يكتب ذلك حتى أشار السلطان إلى تقي الدين الجيني فكتب ذلك، فظهر الصواب مع كاتبه فسقط عليه راو وأبدل وأحدا بآخر، والساقط ابن لهيعة شيخ مروان بن محمد، والمبدل قيس بن الحجاج فجعله الهروي قاسم بن عبد الكريم، ووضحت مجازفة الهروي(3/60)
حينئذ، ومال السلطان إلى كاتبه وصار يغمزه بعينه تارة ويرسل من يسر من خواصه أن لا تترك منازعة الهروي، فقوي عليه بذلك وقال حينئذ: يا شيخ شمس الدين! أنت تدعي أنك تحفظ اثني عشر ألف حديث وقد ارتاب من بلغه عنك ذلك في صحته، وأنا أمتحنك بشيء واحد وهو أن تسرد لنا في هذا المجلس اثني عشر حديثا من كل ألف حديث حديثاً واحداً بشرط أن تكون هذه الأحاديث متباينة الأسانيد، فإن أمليتها علينا إملاء أو سردتها سرداً أقررنا لك بالحفظ وإلا ظهر عجزك، فقال: أنا ما أستطيع السرد ولكن أكتب فقال له الإملاء نظير الكتابة فقال: لا، إلا أنا أكتب، فأحضر له في الحال دواة وورق، فشرع يكتب فلم يستتم البسملة إلا وهو يرعد ولم يكتب بعدها حرفاً واحداً وقال: لا أستطيع أكتب إلا خالياً فيأمر السلطان أن أختلي في بيت وأنت في بيت ويكتب كل من حفظه ما يستطيعه، فمن كتب أكثر كان أحفظ، فقال له كاتبه: إنا لم نحضر لنتخاير في سرعة الكتابة، مع أن شهرة كاتبه بسرعة الكتابة غير خفيه ولكن أراد إظهار عجز الهروي عما ادعاه من الحفظ، والتمس منه أن يكتب في المجلس حديثاً واحداً ليتبين للحاضرين خطاءه فيه فلم يستطع فضلا عن أن يمليه، فطال الخطب في ذلك وكل أحد ممن يتعصب له يقصد ان ينصره بكلام وكل احد ممن يتعصب عليه يدفع ما يقول للقائل، وكلما فترت همتهم في ذلك أو كادت يرسل السلطان بعض خواصه لكاتبه يحدفه عليه إلى أن قرب وقت الصلاة للظهر، وكان ابتداء الحضور ضحى النهار فقمنا إلى صلاة الظهر ثم تحولنا إلى البستان على شاطئ البركة الكبرى، فقال السلطان للشيخ زين الدين القمني: ما لك لم تتكلم في هذا المجلس مع الهروي؟ فقال: نعم، أتكلم معه في مسائل الوضوء فإنه لا يعرف شيئاً، وشرع في خطابته على عادة شقاشقه فلم ينجع شيئاً،(3/61)
ومد السماط فأكل الجماعة ثم جيء بالحلواء ثم بالفاكهة فقرأ قارئ " مثل الجنة التي وعد المتقون تجري من تحتها الأنهار أكلها دائم وظلها " - الآية. فقال الشيخ نور الدين البلواني وهو ممن حضر المجلس: الظل لا يكون إلا عن ضوء والجنة لا شمس فيها ولا قمر! فأجابه بعض الحاضرين وانجر الكلام إلى الحديث الذي أخرجه البخاري ومسلم: سبعة يظلهم الله في عرشه يوم لا ظل إلا ظله - الحديث، فقال كاتبه: هل فيكم من يحفظ لهذا السبعة ثامناً؟ فقالوا: لا، فقال: ولا هذا الذي يدعي أنه يحفظ اثني عشر ألف حديث - وأشار، فسكت، فأعاد عليه فسكت، فقال له بعضهم فهل: تحفظ أنت ثامنا؟ فقال: نعم: أعرف ثامنا وتاسعا وعاشراً وأعجب من ذلك أن في صحيح مسلم الذي يدعي هذا الشيخ أنه يحفظه كله ثامن السبعة المذكورين، فقيل له: أفدنا ذلك، فقال: المقام مقام امتحان لا مقام إفادة وإذا صرتم في مقام الاستفادة أفدتكم
ثم جمع كاتبه بعد ذلك ما ورد في ذلك، فبلغوا زيادة على عشر خصال زائدة على السبع المذكورة في الحديث المذكور، وكان أبو شامة قد نظم السبعة المشهورة في بيتين مشهورين، فجمع كاتبه سبعة وردت في أسانيد جياد فنظمها في بيتين، ثم جمع سبعة ثالثة بأسانيد فيها مقال ونظمها في بيتين آخرين، وانقضى المجلس بصلاة العصر، فلما أرادوا القيام قال كاتبه للسلطان: يا خوند! أدعي على هذا إن لي عنده دينا، فقال: ماهو؟ فقال: اثنا عشر حديثاً، فتبسم وانصرفوا، فلما كاد كاتبه أن يخرج من باب الحوش طلبه فعاد، فوجد السلطان قد قام ليقضي حاجته فوقف مع خواصه إلى أن يحضر، فقال له كاتب السر: إن السلطان قال: قد استحييت من فلان كيف يتوجه بغير ثواب! فقلت له: إن كان شيخ البيبرسية وانتزعها منه أخو جمال الدين ظلما، فلما استتم كلامه حضر السلطان فأشار إلى كاتب السر أن يعلم كاتبه بما تقرر من أمر البيبرسية فقال له ان السلطان قد اعاد اليك مشيخة البيرسية فشكرت له ذلك ثم قلت له قررتني في مشيخة البيبرسية ونظرها وعزل من هو مقرر فيها بحكم أنه انتزعها مني بغير حجة، فقال: نعم، فأشهدت عليه بذلك من حضر، وفي غداة غد ليست بها خلعة وحضرتها وصرف أخو جمال الدين منها، ثم عوض بعد سنتين مشيخة سعيد السعداء بعد موت البلالي - كما سيأتي - بعناية الأمير ططر الذي ولى السلطنة في سنة أربع وعشرين، وكان أخو جمال الدين قد استعان على كاتبه بتنبك يبق فاستعان تنبك باقباي الدويدار الكبير وبططر المذكور وكلموا السلطان مرارا في ذلك فامتنع، فلما أيسوا منه عدلوا إلى المخادعة، فلم يزل ذلك في نفس ططر إلى أن قرر المذكور في الخانقاه السعيدية بعد موت البلالي وكفا الله شره، وأما الهروي فإن طائفة من العجم، وغيرهم سعوا عند الأمراء، وسألوا السلطان أن ينعم عليه بما ينجبر به خاطره وخاطر صهره، فأحضر يوم الاثنين ثاني عشري ربيع الآخر وخلع عليه جبة بسمور وأركب فرسا مسروجاً ورجع إلى منزله ومعه طائفة من الأمراء وغيرهم، وأشيع بأنها خلعة استمرار تدريس الصلاحية، فسقط في يد القمني وانزعج من ذلك لأنه كان أعظم الأسباب فيما وقع للهروي، وإنما سعى في ذلك لينتزع منه الصلاحية لكونها كانت بيده قبل ذلك فدار على الأمراء وغيرهم فما أجيب إلى ذلك، فلما يئس سأل أن يعوض عنها بسموح مركب في البحر لا يؤخذ منه على ما يحضر فيها مكس، فكتب له بذلك واطمأنت نفسه واستمر يؤجرها هو بأجرة بالغة في الزيادة لتتوفر دواعي التجار على ركوبها، فإذا وصلوا أخذ المستأجر من التجار الأجرة مضاعفة بسبب رفع المكس، واستمر الهروي بعد ذلك مقيما بالقاهرة إلى أن خرج صحبة ركاب السلطان إلى الشام فقرره في نظر القدس والخليل زيادة على مشيخة الصلاحية كما سيأتي. م جمع كاتبه بعد ذلك ما ورد في ذلك، فبلغوا زيادة على عشر خصال زائدة على السبع المذكورة في الحديث المذكور، وكان أبو شامة قد نظم السبعة المشهورة في بيتين مشهورين، فجمع كاتبه سبعة وردت في أسانيد جياد فنظمها في بيتين، ثم جمع سبعة ثالثة بأسانيد فيها مقال ونظمها في بيتين آخرين، وانقضى المجلس بصلاة العصر، فلما أرادوا القيام قال كاتبه للسلطان: يا خوند! أدعي على هذا إن لي عنده دينا، فقال: ماهو؟ فقال: اثنا عشر حديثاً، فتبسم وانصرفوا، فلما كاد كاتبه أن يخرج من باب الحوش طلبه فعاد، فوجد السلطان قد قام ليقضي حاجته فوقف مع خواصه إلى أن يحضر، فقال له كاتب السر: إن السلطان قال: قد استحييت من فلان كيف يتوجه بغير ثواب! فقلت له: إن كان شيخ البيبرسية وانتزعها(3/62)
منه أخو جمال الدين ظلما، فلما استتم كلامه حضر السلطان فأشار إلى كاتب السر أن يعلم كاتبه بما تقرر من أمر البيبرسية فقال له ان السلطان قد اعاد اليك مشيخة البيرسية فشكرت له ذلك ثم قلت له قررتني في مشيخة البيبرسية ونظرها وعزل من هو مقرر فيها بحكم أنه انتزعها مني بغير حجة، فقال: نعم، فأشهدت عليه بذلك من حضر، وفي غداة غد ليست بها خلعة وحضرتها وصرف أخو جمال الدين منها، ثم عوض بعد سنتين مشيخة سعيد السعداء بعد موت البلالي - كما سيأتي - بعناية الأمير ططر الذي ولى السلطنة في سنة أربع وعشرين، وكان أخو جمال الدين قد استعان على كاتبه بتنبك يبق فاستعان تنبك باقباي الدويدار الكبير وبططر المذكور وكلموا السلطان مرارا في ذلك فامتنع، فلما أيسوا منه عدلوا إلى المخادعة، فلم يزل ذلك في نفس ططر إلى أن قرر المذكور في الخانقاه السعيدية بعد موت البلالي وكفا الله شره، وأما الهروي فإن طائفة من العجم، وغيرهم سعوا عند الأمراء، وسألوا السلطان أن ينعم عليه بما ينجبر به خاطره وخاطر صهره، فأحضر يوم الاثنين ثاني عشري ربيع الآخر وخلع عليه جبة بسمور وأركب فرسا مسروجاً ورجع إلى منزله ومعه طائفة من الأمراء وغيرهم، وأشيع بأنها خلعة استمرار تدريس الصلاحية، فسقط في يد القمني وانزعج من ذلك لأنه كان أعظم الأسباب فيما وقع للهروي، وإنما سعى في ذلك لينتزع منه الصلاحية لكونها كانت بيده قبل ذلك فدار على الأمراء وغيرهم فما أجيب إلى ذلك، فلما يئس سأل أن يعوض عنها بسموح مركب في البحر لا يؤخذ منه على ما يحضر فيها(3/63)
مكس، فكتب له بذلك واطمأنت نفسه واستمر يؤجرها هو بأجرة بالغة في الزيادة لتتوفر دواعي التجار على ركوبها، فإذا وصلوا أخذ المستأجر من التجار الأجرة مضاعفة بسبب رفع المكس، واستمر الهروي بعد ذلك مقيما بالقاهرة إلى أن خرج صحبة ركاب السلطان إلى الشام فقرره في نظر القدس والخليل زيادة على مشيخة الصلاحية كما سيأتي.
وفي هذه السنة قبض اقباي الدويدار على الشيخ شرف الدين التباني بسبب الكسوة التي عملت في هذه ألسنة وأغرمه مالا كثيراً باع فيه دار قد استجداها في دول المؤيد، وعزل عن نظر الكسوة، ورد السلطان أمرها إلى ناظر الجيش علم الدين ابن الكوير، وأمده بألف دينار مضافا إلى ما يتحصل من وقفها، فعملت في السنة المقبلة فجاءت في غاية الحسن وفي جمادى الأولى عصى قانباي على السلطان وزين له الشيطان أن يستبد بالملك وكان السلطان لما بلغه طرف من ذلك عزله من نيابة الشام وقرر فيها الطنبغا العثماني، وفي أثناء ذلك في رجب عثر بالقاهرة على كتاب من قانباي على جانبك الصوفي فأحضر جانبك وسئل عن ذلك فأنكر، فعوقب عقوبة عظيمة وعصرت رجلاه ليقر على من وافق قانباي على العصيان والمخامرة، واستقر الطنبغا القرمشي أميراً كبيراً عوضاً عن العثماني، واستقر تاني بك ميق أمير أخور عوضاً عن القرمشي واستقر سودون قرا صقل حاجب الحجاب عوضاً عن سودون القاضي، واستقر سودون القاضي رأس نوبة عوضاً عن سنقر، وأرسل إلى قانباي(3/64)
جلبان أمير أخور لإحضاره إلى القاهرة واستقراره بها أميرا، فوصل جلبان في أول جمادى الآخرة وبلغه الرسالة فأظهر الامتثال وأخذ في نقل حريمه من دار السعادة إلى بيت الغرس الأستادار بطرف القبيبات فبينا جلبان المذكور ومعه أرغون شاه وتنبغا المظفري، ومحمد بن منجك ويشبك الأتمشي يسيرون تحت القلعة إذ وصل يلبغا كماج الكاشف إلى داريا فخرج قانباي فاتفقا على محاربة المؤيدية، فبلغهم ذلك(3/65)
فتأهبوا للحرب، ثم وقع القتال من بكرة النهار إلى العصر، فانهزم المؤيدية، ومروا على وجوههم إلى صفد، واستمر محمد بن منجك في هزيمته إلى القاهرة، ودخل قانباي دمشق فنزل دار السعادة وحاصر القلعة وتراموا بالسهام والمجانيق فاستظهروا عليه فتحول إلى خان السلطان، ووصل طرباي نائب غزة مطاوعاً له على العصيان وانضم اليه ثاني بك البجاسي نائب حماه وسودون الدجي بن عبد الرحمن نائب طرابلس وجماعة وكاتب نائب حلب اينال الصصلاي فوافقه على العصيان أيضاً وخرج في عسكره من حلب لملاقاته، فخرج قانباي بمن أطاعه إلى جهة حلب، ولما بلغ قانباي خروج المؤيد إلى حربه توجه إلى جهة حلب - من طريق البرية وكان نائب حماة لما أظهر العصيان اتفق أنه خرج إلى المعرة فلما أراد دخول حماة منعه أهلها، فلما وصل قانباي إلى تلك الجهة انضم واجتمعوا كلهم بحلب، وكان شاهين الدويدار بحلب خالف إينال الصصلاي في العصيان، وطلع إلى القلعة وحصنها واجتهد في قتال المخالفين، فحاصرهم إينال نحو شهرين ونصف، فبلغ الطنبغا العثماني الذي استقر نائب الشام خبر قانباي ومن معه فتوجه إلى جهتهم ومعه العسكر المندوب من القاهرة والذين كانوا انهزموا إلى صفد إلى أن وصلوا برزة،(3/66)
فوجدوا قانباي قد تقدم فتبعوه فأخذوا من ساقته أغناما ووصل قانباي إلى سلمية في سلخ رجب، ثم رحل من حماة في ثاني عشر شعبان فوافاه إينال نائب حلب وسودون ابن عبد الرحمن نائب طرابلس وكثر جمعهم، ووصل إلى القاهرة محمد ابن إبراهيم بن منجك في ثالث عشري رجب فحقق للسلطان عصيان قانباي وأخبره بالوقعة التي انهزم هو فيها منه، فلم يكذب السلطان خبراً وأصبح منزعجاً فأنفق في العسكر وعين من يسافر معه منهم، وأعفي القضاة والخليفة من السفر معه لكن سار معه القاضي الحنفي ناصر الدين ابن العديم باختياره، وسار جريدة بعد وصول ابن منجك بأيام يسيرة وذلك في ثاني عشري رجب، وقرر نيابة الغيبة ططر وقرر سودون قرا صقل حاجب الحجاب وقطلوبغا التيمي نائب القلعة وعزل ابن الهيصم عن الوزارة في تاسع عشر رجب وشغرت الوزارة فقرر أبوكم في نظر الدولة ليسد المهمات في غيبة السلطان بمراجعة الأستادار.
واستمر السلطان في سفره فدخل دمشق في سادس شعبان وكان قد دخل غزة وخرج منها في يومه ثم خرج من دمشق في ثامن شعبان، فلما كان في ثاني عشر شعبان قبل أن يصل السلطان بعسكره التقى عسكر قانباي وإينال ومن معهما وعسكر السلطان فالتقى العسكران فانكسر قانباي الدويدار وأسرهم وجماعة من العسكر وانهزم بعضهم فاتفق موافاة السلطان صبيحة ثاني يوم الوقعة وقد نزل العسكر واستغلوا بالنهب واطمأنوا، فطلعت أعلامه عليهم من وراء أكمة فولوا(3/67)
الأدبار ولم يلو أحد على أحد، فقبض المأسورون في الحال على من أسرهم واستعادوا ما نهب منهم ورجع الناهب منهوباً والغالب مغلوباً وأسر إينال الصصلاي وشرباش كباشة وتمنتمر واقبغا النظامي وجماعة، واستمر السلطان على حلب والأسارى بين يديه مشاة في الأغلال والقيود فطلع القلعة، واستمر قانباي في هزيمته إلى جهة اعزاز فلقيه بعض التركمان فآمنه وأنزله عنده، ثم غدر به وقبض عليه وأحضره إلى السلطان فأمره به وبإينال الصصلاي وبكباشة وتمنترا فقتلوا وأرسلت رؤسهم إلى القاهرة فعلقت على باب زويلة ثم أرسل بها إلى الإسكندرية فطيف بها، وفر سودون بن عبد الرحمن وطرباي وغيرهما فنجوا في هزيمتهم وقرر السلطان اقباي الدويدار في نيابة حلب وجار قطلي في نيابة حماة ويشبك الشربخاناه في نيابة طرابلس، وفي مدة إقامة السلطان بحماة قدم عليه أبو يزيد بن قرا يلك بهدية من أبيه وتهنئة له بالنصر على أعدائه فأكرم مورده ورده إلى أبيه ومعه هدية مكافأة على هديته.
وفيها فر كزل نائب ملطية إلى التركمان خوفا من السلطان لأنه كان قد وافق قانباي على العصيان عليه، وعزم السلطان على الإقامة بحماة بقية السنة لحسم مادة الفتن وللقبض على من تسحب من النواب الذين خامروا وهم كزل نائب ملطية وسودون بن عبد الرحمن نائب طرابلس وطرباي نائب غزة، ثم فتر عزمه عن الإقامة وأرسل طوغان نائب صفد إلى القاهرة على تقدمة ألف وأذن له في سفر البحيرة ليحصل شيئاً يكون عوناً له على تجديد ما نهب له في الوقعة، وكانت الوقعة في رابع عشر شعبان، واستمر المؤيد يقفو أثر المهزمين إلى قلعة الأمارب فبات بها ثم أصبح فدخل إلى حلب وأقام بحلب إلى ثاني عشر شوال(3/68)
ثم رجع إلى القاهرة فدخلها في ثاني عشري ذي القعدة.
وفي رمضان في ليلة الجمعة ثالثه أخذ رجل سكرانا وهو يشرب الخمر بالنهار، فضرب الحد وطيف به، فثار به عامة الصليبة فقتلوه ثم أججوا ناراً فألقوه فيها حتى مات حريقاً.
وفي شوال ليالي توجه الحاج ابتدأ الغلاء العظيم بالقاهرة مع وجود الغلال وزيادة الماء وكثرة الزرع وكان أول السنة في الغلال من الرخص شيء عجيب بحيث أن القمح الذي هو في غاية الجودة لا يتجاوز نصف دينار كل إردب ودونه قد يبتاع بالدينار ثلاثة أرادب وذلك في كثير من الأوقات، وأعظم الأسباب في هذا الغلاء كثرة الفتن بنواحي مصر من العرب وخروج العساكر م مرة بعد مرة ففي كل مرة يحصل الفساد في الزروع ويقل الأمن في الطرقات فلا يقع الجلب كما كان.
وفي أواخر ذلك توجه الأستادار لدفع العرب المفسدين في وقت قبض المغل فعاث من معه في الغلال وأفسدوا وعادوا واتفق وقوع القحط بالحجاز والشام فكثر التحويل في الغلال إلى النواحي من أراضي مصر وصعيدها، واتفق أن بعض الناس ممن له أمر مطاع في غيبة السلطان أراد التجارة في القمح فصار يحجر على من يصل لشيء منه أن يبيعه لغيره فعز الجالب فرارا منه فوقع في البلد تعطيل في حوانيت الخبازين، ووقع الفساد من ذلك قليلاً قليلاً بحيث لا ينتبه له إلى أن استحكم فبلغ الإردب من القمح إلى ثلاثمائة وكذلك الحمل من التبن، وتزاحم الناس على الخبز في الأسواق إلى أن فقد من الحوانيت وصار الذي من شأنه أن يكتفي بعشرة أرغفة لو وجد مائة لاشتراها لما قذف في قلوبهم من خشية فقده وصار من عنده شيء من القمح يحرص على أن لا يخرج منه شيئاً خشية أن لا يجد بدله فتزاحم الناس على الأفران إلى أن قفلت صاروا يبيعوه من الأسطحة وآل الأمر إلى أن فقد القمح وبلغ الناس الجهد وانتشر الغلاء في قبلي مصر وبحريها،(3/69)
واتفق أن الوجه البحري كان مقلا من الغلال بسبب الفأر الذي تسلط على الزرع في هذا السنة فاحتاجوا على جلبه من الصعيد، وأمسك أهل الصعيد أيديهم عن البيع لما بلغهم من منع المحتسب من الزيادة في السعر فاشتد الأمر وعم البلاء ولما رأى التاج الوالي وهو المحتسب يومئذ ذلك استعفى من الحسبة فقرر نائب الغيبة فيها القاضي شمس الدين محمد ابن يوسف الحلاوي في العشرين من شوال فباشر أياماً قلائل فلما أهل ذو القعدة تزايدت الأسعار واشتد الزحام بالأفران فخشي المحتسب على نفسه فاستعفى، وأعيد أمر الحسبة إلى الوالي وهو التاج الشوبكي وذلك في حادي عشر ذي القعدة وقد امتدت الأيدي للخطف، واجتمع ملا يحصى ببولاق لطلب القمح، وتعطل غالب الأسواق من البيع والشراء بسبب اشتغالهم في تحصيل القوت، لأن بعضهم كان يتوجه إلى الأفران من نصف الليل ليحصل له من الخبز، وبعضهم يتوجه إلى السواحل ليحصل له شيء من القمح فمنهم من يجده ومنهم من يرجع خائباً، فقلت أصناف المآكل وعظم الخطب وصارت المراكب من القمح إذا وصلت إلى الساحل تربط في وسط النيل خشية من النهب بالساحل ويتوجه الناس افي الشخاتير ليشتروا منها، ثم وقع التحجير على من يشتري زيادة على إردب وصار معظم الواصل يقسم على الطحانين ليطحنوه للفرانين ويحمل إلى حوانيت الخبازين، ومع ذلك فالزحام عليه شديد حتى مات جماعة من الزحمة وغرق جماعة في البحر عند التوجه إلى المراكب الواصلة، وخرج الناس في ثامن عشر ذي القعدة إلى الصحراء يستكشفون هذا البلاء ومقدمهم(3/70)
القاضي جلال الدين البلقيني فوقفوا قريباً من قبة النصر فضجوا ودعوا بغير صلاة، وأتفق أن القاضي واجه التاج الوالي فأشار عليه أن يختفي خشية عليه مما اتفق لابن النشو بدمشق في آخر القرن الماضي على تقدم شرحه لأن الألسنة كانت انطلقت في حقه أن سبب الغلاء منه فرجع مختفياً، ورجع بعد ذلك الموقف وقد تيسر وجود الخبز قليلاً ثم فقد أشد مما تقدم فركب التاج الوالي إلى البلاد القريبة وتتبع مخازن القمح وألزم أصحابها بالبيع وقسم على الطحانين مقادير احتياجهم، فبلغت البطة الدقيق مائة درهم وزاد الأمر فانتهت إلى مائتين وبلغ القمح إلى ثلاثمائة درهم كل إردب، وبلغ الفول إلى ثلاثمائة، والأرز إلى ألف وثمانين، وتزايد في غضون هذه الأيام سعر الذهب إلى أن بلغ الهرجة مائتين وثمانين كل مثقال، وندب نائب الغيبة إلى كل فرن طائفة من الترك لمنع من ينهب وقعد حاجب الحجاب بنفسه على بعض الأفران واجتهد في ذلك حتى رأى الخبز على الحوانيت، وكان من اللطف الخفي في هذه المدة طلوع الزرع فاستغنى الناس لبهائمهم بالربيع ثم استغنوا لأنفسهم بأكل الفول الأخضر ثم فريك الشعير، وخرج الناس من ابتداء ذي الحجة أفواجا أفواجاً إلى الأرياف، ثم استشعر من عنده قمح من أهل الحصار والصعيد.........فأطلقوا أيديهم في البيع وكثر الجلابة من التجار فكثر الوصل، ومع ذلك فالغلاء مستمر والطالب للقمح غير قليل.
وفي هذا السنة قدم فخر الدين ابن أبي الفرج من بغداد فالتقى بالسلطان، فأكرمه وعفا عنه ذنبه الماضي وولاه كشف الشرقية والغربية والبحيرة وقطيا، فقدم القاهرة في أواخر شوال وأقام بها قليلاً وخرج إلى عمله ليحصل الأموال على عادته، وخرج السلطان من حلب في أوائل ذي القعدة وقبض على سودون القاضي وسجنه بدمشق، واستقر بردبك عوضه رأس نوبة،(3/71)
وخرج إبراهيم ولد السلطان من القاهرة لملاقاة أبيه في أواخر ذي القعدة وصحبته كزل العجمي وغيره، ووصل السلطان إلى سرياقوس في نصف ذي الحجة فعمل هناك وقتا حافلاً بالقراء والسماع على العادة وهب الصوفية الخانقاه شيئاً كثيراً، وأصبح في السادس عشر فنزل الريدانية بكرة ومد السماط هناك وخلع على من له عادة بذلك وطلع القلعة من يومه، ونودي من الغد بالأمان وأن لا يتكلم أحد في سعر الغلال فإن الأسعار بيد الله ومن زاحم على الأفران فعل له كذا وكذا، وتصدى للنظر في أمر القمح بنفسه، وجهز مرجان الخازندار وعبد الرحمن السمسار بمال جزيل إلى الصعيد ليشتروا بها قمحا ويحضرونه بسرعة ليكثر بالقاهرة وتبطل المزاحمة على الخبز، وانسلخت السنة والأمر على ذلك.
وفي خامس عشر ذي الحجة استقر جقمق الدويدار دويدار كبيراً عوضاً عن اقباي، واستقر يشبك دويدار ثانيا موضع جقمق.
وفي آخر السنة نودي على الذهب أن يكون الهرجة بمائتين وخمسين بعد ما كان بلغ مائتين وثمانين وشدد السلطان في ذلك وتوعد عليه.
واستقر إبراهيم المعروف بخرز في ولاية القاهرة عوضاً عن التاج ونقل التاج إلى أستادارية الصحبة.
وفيها في صفر استقر رميثة بن محمد بن عجلان في إمرة مكة عوضاً عن عمه حسن بن عجلان، فلم يتهيأ له الدخول إلى مكة إلا مع الحجاج، فدخلها في ذي الحجة،(3/72)
ونزع عنها حسن وأولاده، وحاشيته، فاستقر أميراً بها إلى أن كان ما سنذكره في السنة الآتية.
وفيها في ربيع الآخر أهين ود والنصارى إهانة بالغة في استخراج الذهب الذي قرر عليهم في وفاء الجزية الماضية ونالهم محمد الأعوان كلف كثيرة.
وفي هذه السنة كثر عبث العربان بالوجه القبلي والبحري، واشتد بأسهم وثارت الأحامدة من عرب الصعيد وهم ناقلة من أراضي الحجاز من آل بلي سكان دامة فما فوقها على جهة ينبع، فتحولوا إلى الصعيد الأعلى ونزلوا فيه واتخذوه وطنا، ووثبوا على والي قوص فقتلوه وقتلوا خلقا معه.
وفيها في ربيع الآخر توجه تنبغا المظفري إلى دمشق فاستقر بها أميراً كبيراً، ونقل طوغان من نيابة صفد إلى حجوبية دمشق، ونقل خليل الجشاري من حجوبية دمشق على نيابة صفد، وكان المتوجه من القاهرة إينال الأزعري.
وفيه توجه محمد شاه بن قرا يوسف صاحب بغداد إلى ششتر فحاصرها وفيها بقية آل أويس، فقاتلوه، ومنعوا البلد.
وفي جمادى الأولى استقر أقبردي المنقار في نيابة الإسكندرية عوضاً عن صماي.
وفي ربيع الآخر توجه نائب حلب إينال الصصلاي ونائب طرابلس سودون التركماني قبل المخامرة على جرائد الخيل في طلب كردي بن كندر التركماني ففر منهم. فأخذوا(3/73)
أعقابه واستولوا على كثير من أغنامه وأبقاره، ثم توجهوا على قلعة دربشاك فحاصروها ثلاثاً فأخذوها، وفر عن كردى أكثر أصحابه فتسحب على مرعش وانضم فارس بن مردخان ابن كندر.
وفيه توجه نائب ملطية كزل في طلب حسين بن كبك وأخيه سولو وكانا قد نازلا حرباص من أعمال ملطية وأحرقاها فأدركهما فتحصنا بقلعة كركر، فقتل من جماعتهما خلقا ورجع إلى ملطية فخرجا وجمعا عليه من التركمان والأكراد جمعا كثيراً ورجعوا عليه فقاتلهم وهزمهم. وفيها سقطت دار من الدور القديمة التي أخذت لتضاف إلى المدرسة التي ابتدأ السلطان في إنشائها داخل بابي زويلة، فمات تحت الردم منهم أربعة عشر نفسا.
وفي جمادى الآخرة طرق سودون القاضي الجامع الأزهر، وهو يومئذ حاجب الحجاب ونظر الجامع بعد عشاء الآخرة ومعه كثير من أعوانه، وكان بلغه أنه حدث بالجامع من الفساد بمبيت الناس فيه مالا يعبر عنه، فأمر بعدم المبيت فيه فلم يرتدعوا فطرقهم، فوقع من أعوانه النهب في الموجودين، فامتنعوا بعد ذلك من المبيت، وأخرج بعد ذلك ما بالجامع من الصناديق والخزاين للمجاورين لأنها ضيقت على المصلين.
وفيها في أولها كانت كائنة الشيخ سليم - وهو بفتح السين - وذلك أنه كان بالجيزة بالجانب الغربي من النيل كنيسة للنصارى فقيل إنهم جددوا فيها شيئاً كثيراً، فتوجه الشيخ سليم من جامع الأزهر ومعه جماعة فهدموها، فاستعان النصارى بأهل الديوان من القبط فسعوا عند السلطان بأن هذا الشيخ افتات على المملكة وفعل ما أراد بيده بغير حكم حاكم، فاستدعى بالمذكور فأهين، فاشتد ألم المسلمين لذلك، ثم توصل(3/74)
النصارى ببعض قضاة السوء إلى أن أذن لهم في إعادة ما تهدم فجر ذلك لهم أن شيدوا ما شاؤا بعلة إعادة المنهدم الأول فلله الأمر.
وفيها صرف حسين بن نعير عن إمرة العرب واستقر حديثه ابن سيف في إمرة آل فضل فوقع بينهما حرب فغلب حديثه، وتوجه حسين إلى الرحبة فأفسد زروعها، ثم التقيا في أواخر رجب فقتل حسين في المعركة وبعث برأسه إلى القاهرة.
وفيها قدم رسول كبير البنادقة من الفرنج إلى القاهرة بهدية من صاحبه وكتاب، فعرب الكتاب، وقرئ على السلطان وقبلت الهدية وأمر السلطان ببيعها وصرف ثمنها في العمارة التي أحدثها، وقرر لذلك كل هدية تصل من كل جهة.
وفيها أوقع آل لبيد من عربان العرب الأدنى من نحو برقة بأهل البحيرة بحري مصر، فكسروهم ونهبوا منهم زيادة على ثلاثة آلاف بعير وأضعافها من الأغنام، وانهزم أهل البحيرة إلى الفيوم، ورجع أولئك وأيديهم ملأى من الغنائم.
وفي رجب نقل سودون القاضي من الحجوبية فصار رأس نوبة كبير ونقل رأس(3/75)
نوبة وهو تنبك بيق فصار أمير مجلس، واستقر سودون قرا صقل حاجبا بدل سودون القاضي.
وفيها عزل صدر الدين العجمي عن نظر الجيش بدمشق وأهين وصودر، واستقر ابن الكشك قاضي الحنفية في وظيفته.
ذكر من مات
في سنة ثماني عشرة وثمانمائة من الأعيان
إبراهيم بن بركة المصري سعد الدين ابن البشيري ولد في ذي القعدة سنة ست وستين، وخدم لما ترعرع في بيت ناظر الجيش تقي الدين بن محب الدين، ثم تنقل في الخدم عند الأمراء وغيرهم إلى أن ولي نظر الدولة، وباشر عند جمال الدين واعتمد عليه في أمر الوزارة ثم استقل بالوزارة بعد جمال الدين إلى أن قبض عليه في الدولة المؤيدة كما تقدم في سنة ست عشرة، فلزم منزله إلى أن مات في صفر من هذه السنة، ولم يتفق له عند القبض أن يضرب ولا مكنت منه أعداؤه، وكان جيد الإسلام، وهو الذي جدد الجامع بالقرب من منزل سكنه ببركة الرطلي، وكان عارفا بالمباشرة، وسلك طريق الوزراء السالفين من الحشمة الترتيب.
أحمد بن محمد بن أحمد عرندة، المحلى شهاب الدين الوجيزي الناسخ، ولد سنة اثنتين وأربعين وسبعمائة بالمحلة، ثم قدم القاهرة فحفظ الوجيز فعرف به،(3/76)
وأخذ عن علماء عصره، ولازم القاضي تاج الدين السبكي لما قدم القاهرة، وكتب الكتب له ولغيره شيئاً كثيراً جداً، وكان صحيح الخط ويذاكر بأشياء حسنة، ثم حصل له سوء مزاج وانحراف ولم يتغير عقله وكان عارفاً بالحساب، مات في جمادى الأولى.
اسنبغا الزردكاش، كان أصله من أولاد حلب فباع نفسه ويسمى اسنبغا، وتوصل إلى أن خدم الناصر فحظي عنده وارتفعت منزلته حتى زوجه أخته واستنابه لما خرج إلى السفرة التي قتل فيها، فجرى من اسنبغا ما تقدم شرحه إلى أن قبض عليه وحبس بالإسكندرية فقتل بها؛ قال العينتابي: كان ظالماً غاشماً لم يشتهر عنه إلا الشر.
إينال بن عبد الله الصصلاي، كان من الظاهرية تنقل في الخدم إلى أن ولي الحجوبية الكبرى بالقاهرة، وكان ممن انضم إلى شيخ فولاه نيابة حلب في شوال سنة ست عشرة وكان ممن حاصر معه نوروز إلى أن قتل نوروز ورجع إلى ولايته بحلب، وكان شكلاً حسنا عاقلا شجاعا عارفا بالأمور قليل الشر، ثم كان ممن عصى على المؤيد هو وقانباي نائب الشام ونائب طرابلس ونائب حماة، فآل أمرهم إلى أن انهزموا وأسروا، وقتل إينال بقلعة حلب في شعبان من هذه السنة، ورأيت الحلبيين يثنون عليه كثيراً، ولما خامر على المؤيد لم يحصل لأحد من أهل بلده منه شر بل طلب أخذ القلعة فعصى عليه نائبها فحاصره أياماً ثم تركه وتوجه إلى الشام - ذكره القاضي علاء الدين في ذيل تاريخه -.(3/77)
أيوب بن سعد بن علوي الحسباني الباعوني الدمشقي، ولد سنة تسع وأربعين، وحفظ التنبيه وعرضه على ابن حملة وطبقته، وأخذ عن العماد الحسباني وذويه، ثم فتر عن الطلب واعتذر بأنه لم تحصل له فيه نية خالصة، وكان ذا أوراد من تلاوة وقيام وقناعة واقتصاد في الحال وفراغ عن الرئاسة مع سلامة الباطن، مات في صفر.
حاجي بن عبد الله زين الدين الرومي، المعروف بحاجي فقيه شيخ التربة الظاهرية خارج القاهرة، كان عريا من العلم إلا أن له اتصالاً بالترك كدأب غيره، مات في شوال، واستقر في مشيختها الشيخ شمس الدين البساطي بعناية الأمير ططر نائب الغيبة، وكان السبب في ذلك أن نائب الغيبة كان لا يحب القاضي جال الدين البلقيني فاتفق أن البلقيني أفتى فتيا فخالفه فيها كاتبه، والبساطي المذكور، فنم إليه بعض أهل الشر بذلك، فوقف على ما كتبناه وتغير منه واحتشم مع كاتبه، وتقوى على جانب البساطي لضعفه إذ ذاك فأرسل وأحضره فأسمعه ما يكره وبالغ في إهانته، فخرج وهو يدعو عليه فطاف على من له به معرفة يشكوه، فبلغ ذلك الأمير ططر فغضب من ذلك، واتفق موت حاجي فقيه فعينه في المشيخة مراغما للبلقيني، ولم يستطع البلقيني تغيير ذلك بل(3/78)
استدعى البساطي المذكور وأظهر الرضا عليه وخلع عليه فرجية صوف من ملابسه واسترضاه لما علم من عناية الأمير ططر به فالله المستعان.
خلف بن أبي بكر، النحريري المالكي، أخذ عن الشيخ خليل في شرح ابن الحاجب، وبرع في الفقه، وناب في الحكم، وأفتى ودرس، ثم توجه إلى المدينة فجاور بها معتنياً بالتدريس، والإفادة، والانجماع والعبادة إلى أن مات بها في صفر عن ستين سنة.
دمرداش المحمدي الظاهري، كان من قدماء مماليك الظاهر، ولما جرت فتنة منطاش كان خاصكيا، وكان معه في الوقعة ففر مع من انهزم إلى حلب، فلما استقرت قدم الظاهر في السلطنة حضر فولاه نيابة طرابلس، ثم نقله إلى الأتابكية بحلب فأقام مدة، ثم ولاه نيابة حماة، ثم مات الظاهر وهو نائبها فحاصره تنم لما أراد أن يتسلطن فأطاعه ووصل صحبته إلى غزة ففر إلى الناصر، فولاه نيابة حلب بعد قتل تنم، وذلك في رمضان سنة اثنتين وثمانمائة، ففي تلك السنة غزا التركمان فكسروه، الكسرة الشنيعة، ثم كان من شأن اللنكية ما كان فيقال إنه باطنهم وفي الظاهر حاربهم وانكسر، ثم أمسكه اللنك من القلعة واستصحبه إلى الشام بغير قيد ولا إهانة، فلما قرب من الشام هرب إلى الناصر، ثم لما فر الناصر ومن معه من اللنكية توجه هو إلى جهة حلب، فلما نزح اللنك ومن معه دخل دمرداش إلى حلب في جمع جمعه، وذلك في شعبان سنة ثلاث فأقام حاكما بحلب، فولى الناصر دقماق نيابة حلب فواقع دمرادش ففر إلى التركمان، ثم وبعد مدة ولاه الناصر نيابة طرابلس فاستمر بها إلى سنة ست، ثم نقله إلى نيابة حلب في رمضان منها، ثم واقعة جكم في سنة سبع فانهزم إلى إياس، ثم ركب البحر ووصل إلى القاهرة، ثم نكص راجعاً إلى التركمان، ثم هجم على حلب بغتة فاستولى عليها في سنة ثمان، ثم أخرجه منها نوروز فتوجه إلى حماة فهجم عليها بغتة، ثم أخرج منها فتوجه إلى دمشق فأقام عند نائبها شيخ الذي تسلطن بعد ذلك،(3/79)
ثم كان معهم في وقعة السعيدية ووجه نائباً بحلب من قبل الناصر، ودخل الناصر إلى حلب سنة تسع وهو في خدمته، ثم رجع إلى مصر واستصحبه وقرر في نيابة حلب فأخرجه منها شيخ ففر إلى أنطاكية، فلما توجه الناصر في طلب شيخ فر منه إلى الأبلستين، فسار دمرداش في خدمة الناصر إلى أن قرره بمصر أتابكا، ثم كان في خدمة الناصر إلى أن حضر بدمشق فاستأذنه في أن يتوجه إلى جهة حلب ويجمع له عسكراً كثيراً فأذن له فتوجه إلى حلب فلما بلغه قتل الناصر واستقرار نوروز بالمملكة الشامية خرج من حلب لما بلغه توجه نوروز إليها فوصل إلى قلعة الروم فأقام بها، فلما بلغه سلطنة شيخ وأظهر نوروز مخالفته مال أولاً إلى نوروز وكاتبه أن يقرره في نيابة حلب ففعل، وبها يومئذ من جهته يشبك بن أزدمر، فوردت مكاتبات المؤيد لمن بحلب أن تعانوا دمرداش على الركوب على ابن أزدمر، ففعلوا وكسروا، وذلك في ذي الحجة سنة خمس عشرة، ودخل دمرداش إلى حلب حاكما، ووصلت إليه الخلعة من مصر، ثم بلغه في صفر سنة ست عشرة خروج نوروز من دمشق طالباً البلاد الحلبية فتوجه نحو العمق، فدخل نوروز إلى حلب في صفر وقرر فيها طوخ نائبا ورجع نوروز إلى صفد فحاصره دمرداش فاستنصر طوخ بالعرب فنكص دمرداش إلى العمق، ثم كانت بينه وبين طوخ وقعة عظيمة انكسر فيها دمرداش، وذلك في ربيع الآخر سنة ست عشرة، وفر دمرداش إلى أنطاكية وغيرها، ثم ركب البحر إلى القاهرة فتلقاه المؤيد بالإكرام وأعطاه تقدمة، وكان قرقماش وتغرى بردى ابنا أخي دمرداش صحبة المؤيد لما دخل مصر، فأعطى كل منها تقدمة وولي قرقماش نيابة الشام فخرج هو وأخوه، ثم رجع من غزة وأقام هناك، فجهز المؤيد عسكرا إلى الإيقاع بالعرب وتقدم إليهم بالقبض على تغرى بردى في وقت عينه لهم، ثم قبض هو على دمرداش وقرقماش في رمضان سنة سبع عشرة واعتقلهما بالإسكندرية، وكانت وفاة دمرداش بها في المحرم سنة ثماني عشرة؛(3/80)
وكان دمرداش مهيباً عاقلاً مشاركاً في عدة مسائل كثير الإكرام لأهل العلم والعناية بهم، اجتمعت به فوجدته يستحضر كثيراً من كلام الغزالي وغيره، قال القاضي علاء الدين الحلبي في تاريخه: كان لا يواجه أحدا بما يكره، وقد بنى جامعا بحلب ووقف عليه أوقافا كثيرة، وله زاوية بظاهر طرابلس لها أوقاف كثيرة، وهذا بخلاف قول العينتابي: ليس له معروف.
طوغان الحسيني قتل بمحبسه بالإسكندرية في المحرم، وكان أصله من جلبان الظاهر برقوق ثم ترقى إلى أن ولي الدويدارية الكبرى للناصر ثم المستعين ثم المؤيد، ثم قبض وحبس كما تقدم في الحوادث وخلف أموالاً جمة، وهو صاحب الصهريج والسبيل في رأس حارة برجوان.
عبد الله بن أبي عبد الله الفرخاوي جمال الدين الدمشقي، عني بالفقه والعربية والحديث ودرس وأفاد، وكان قد أخذ عن العنابي فمهر في النحو، وكان يعتني بصحيح مسلم ويكتب منه نسخا، وقد سمع من جماعة من شيوخنا بدمشق، وفرخا - بالفاء والخاء المعجمة المفتوحتين بينهما راء ساكنة - قرية من عمل نابلس، مات في عمل الرملة في ...
عبد الله بن أبي عبد الله العرجاني الدمشقي - بضم المهملة وبعد الراء جيم، كان من أتباع الشيخ أبي بكر الموصلي، ونشأ في صلاح وعبادة، وكان سريع الدمعة، وعنده نوع من الغفلة وخشوع وسرعة بكاء، وباشر أوقاف الجامع الأموي مدة، ولكن لم يعرف شيئاً(3/81)
من حاله، مات راجعاً من الحج بالمدينة النبوية، ويقال إنه كان يتمنى ذلك، وقد غبطه الناس ببلوغ أمنيته في موطن منيته، وذلك في ذي الحجة، رحمه الله تعالى.
علي بن أحمد بن علي بن سالم، الزبيدي موفق الدين، أصله من مكة، ولد بها سنة سبع وأربعين، وعني بالعلم وبرع في الفقه والعربية، ودخل إلى مصر والشام وأخذ عن جماعة ثم رجع إلى مكة، وتحول إلى زبيد فمات بها في ذي القعدة.
قانباي كان من مماليك ... وتنقلت به الأحوال إلى أن قدم مع المؤيد في سنة خمس عشرة، واستقر دويداراً كبيراً ثم نقل إلى نيابة الشام كما تقدم في سنة سبع عشرة وثمانمائة ثم عصى كما في شرح الحوادث، فلما هزم هو ومن معه فر إلى شمالي حلب فنزل عند بعض التركمان فغدر به وأحضره إلى السلطان في رابع عشر شعبان، وكان حسن الصورة جميل الفعل، بنى برأس سويقة الغربي مدرسة، فقرر بها مدرسين للشافعية والحنفية، ووقف لها وقفاً جيداً.
محمد بن أحمد بن محمد بن جمعة بن مسلم الدمشقي الصالحي الحنفي عزيز الدين المعروف بابن خضر، ولد سنة اثنتين وسبعين وسبعمائة، واشتغل ومهر، وأذن له في الإفتاء، وناب في الحكم، وصار المنظور في أهل مذهبه بالشام، مات في شوال.(3/82)
محمد بن جلال بن أحمد بن يوسف، التركماني الأصل شمس الدين ابن التباني الحنفي، ولد في حدود السبعين، وأخذ عن أبيه وغيره، ومهر في العربية والمعاني وأفاد ودرس، ثم اتصل بالملك المؤيد وهو حينئذ نائب الشام فقرره في نظر الجامع الأموي وفي عدة وظائف، وباشر مباشرة غير مرضية، ثم ظفر به الناصر فأهانه وصادره فباع ثيابه واستعطى باليد فساءه - وأحضره إلى القاهرة ثم أفرج عنه، فلما قدم المؤيد القاهرة عظم قدره، ونزل له القاضي جلال الدين البلقيني عن درس التفسير بالجمالية، واستقر في قضاء العسكر، ثم رحل مع السلطان في سفرته إلى نوروز فاستقر قاضي الحنفية بها، ودرس بأماكن، وكانت له في كائنة قانباي اليد البيضاء، ثم توجه السلطان إلى حلب استدعاه وأراد أن يرسله إلى ابن قرمان فاستعفى، ثم رجع فمات بدمشق في تاسع عشري رمضان، وكان جيد العقل، وباشر قضاء الحنفية مباشرة لا بأس بها، ولم يكن يتعاطى شيئاً من الأحكام بنفسه بل له نواب يفصلون القضايا بالنوبة على بابه.
محمد بن محمد بن محمد، الحموي ناصر الدين بن خطيب نقيرين الشافعي - ولد ... واشتغل قليلاً، وترامى على الدخول في المناصب إلى أن - ولي قضاء حلب سنة اثنتين وتسعين فباشرها مباشرة غير مرضية، فعزل بعد سنة ونصف وتوجه إلى القاهرة ليسعى، فأعاده الظاهر إلى تغري بردى نائب حلب فحصلت له محنة وإهانة وحبس بالقلعة، ثم عاد إلى القضاء في سنة ست(3/83)
وتسعين فباشرها قليلاً، ثم صرف بعد سنة - بالإخناي فسافر عنها، واستمر ينتقل في البلاد بطالاً إلى أن عاد إلى ولاية قضاء حلب في أيام نيابة شيخ بها في أواخر دولة الناصر ثم عزل لما عزل المؤيد عنها - ثم عاد بعد قتل الناصر واستقرار شيخ مدبر المملكة للخليفة المستعين - إلى قضائها، وفي غضون ذلك ولي قضاء دمشق مرة وطرابلس أخرى، ولما قام نوروز بدمشق بعد قتل الناصر قربه، فلما قتل نوروز وقبض عليه شيخ في سنة ثمان عشرة، وجده جقمق الدويدار باللجون فقبض عليه وحبسه بصفد بأذن من السلطان، فلما وصل السلطان إلى دمشق في فتنة قانباي أخرج ابن خطيب نقيرين من حبس صفد ميتا، ويقال إن ذلك كان بدسيسة من كاتب السر ابن البارزي، لأنه كان يعاديه في الأيام الناصرية والنوروزية، ولما بلغ السلطان موته أنكر ذلك ونقم على ابن البارزي وكان يتهدده به كل حين، وكان ابن خطيب نقيرين قليل البضعة كثير الجرأة كثير البذل والعطاء إلا أنه يتعانى التزوير بالوظائف والدروس ينتزعها من أهلها بذلك، والله يسامحه.
نجم بن عبد الله القابوني، أحد الفقراء الصالحين، انقطع بالقابون ظاهر مدينة دمشق مقبلا على العبادة مدة - وكان صحب جماعة من الصالحين الزهاد - وكان ذا اجتهاد وعبادة وتحكى عنه كرامات وللناس فيه اعتقاد، مات في صفر.(3/84)
سنة تسع عشرة وثمانمائة
استهلت والغلاء بالقاهرة مستمر، ففي ثاني المحرم أرسل السلطان فارس الخازندار الطواشي بمبلغ كبير من الفضة المؤيدية، ففرقها على الجوامع والمدارس والخوانق، فكان لكل شيخ عشرة دنانير وإردب قمح، ولكل طالب أو صوفي أربعة عشرة مؤيدياً، ومنهم من تكرر اسمه حتى أخذ بعضهم في خمس مواضع، ثم فرق في السؤال مبلغاً كثيراً لكل واحد خمسة مؤيدية، فكان جملة ما فرق أربعة آلاف دينار، ثم رسم بتفرقة الخبز على المحتاجين، فانتهت تفرقته في كل يوم ستة آلاف رطل، واستمر على ذلك قدر شهرين، وتناهى سعر القمح في هذا الشهر إلى ثمانمائة درهم الإردب، وقرر السلطان في الحسبة الشيخ بدر الدين العينتابي وأضاف إليه إينال الأزعوري وذلك في الخامس من المحرم، وألزم الأمراء ببيع ما في حواصلهم فتتبعها إينال.
وفي سادس المحرم وردت عدة مراكب تحمل نحو ألفي إردب قمح فركب إينال ليفرقها مع المحتسب، فاجتمع خلق كثير فطرد الناس عن القمح خشية النهب فتزاحموا عليه فحمل عليهم، فمات رجل في الزحمة، وغرقت امرأة، وعمد إينال إلى أربعة رجال فصلبهم، وضرب رجلين ضرباً مبرحاً، ونهب الناس في هذا الحركة من العمائم والأردية شيء كثير، وسألت أدمية جماعة من ضرب الدبابيس.
وفي الثاني عشر من المحرم سفر الخليفة المستعين إلى الإسكندرية فسجن بها، وسفر معه أولاد الناصر فرج وهم فرج ومحمد وخليل وكان الذي سافر بهم صهر كاتب السر(3/85)
ابن البارزي واسمه كزل الأرغون شاوى، وفي هذا الشهر كثر البرسيم الأخضر، فانحط بكثرته سعر الشعير واستغنت البهائم عنه.
وفي صفر تيسر وجود الخبز في حوانيت الباعة، وفي آخره قدم مرجان من الصعيد وعلى يده شيء كثير من الغلال وقد انحط السعر بالقاهرة، فرسم له أن يبيع ما اشتراه بالسعر الحاضر ولو خسر النصف.
وفي رابع عشر ربيع الآخر صرف العينتابي من الحسبة وأعيد ابن شعبان، وفي آخره استقر العينتابي في نظر الأحباس بعد موت شهاب الدين الصفدي ثم صرف ابن شعبان في رجب منكلي بغا ويقال إنه أول من أضيفت وظيفة الحسبة من الترك.
وفيها أوقع أقباي نائب حلب بالتركمان بناحية العمق وكبيرهم كردي بك بن كندر ومن انضم إليه فهزمهم وانتصر عليهم، ثم أوقع أقباي بالعرب بأرض البيرة فكسرهم بعد أن نال عسكره منهم مشقة عظيمة ووهن.(3/86)
وفي ثاني عشر المحرم نقلت الشمس إلى برج الحمل فدخل فصل الربيع، وابتدأ الطاعون بالقاهرة فبلغ في نصف صفر كل يوم مائة نفس، ثم زاد في آخره مائتين، وكثر ذلك حتى كان يموت في الدار الواحدة أكثر من فيها، وكثر الوباء بالصعيد والوجه البحري حتى قيل إن أكثر هو هلكوا، وفي طرابلس حتى قيل إنه مات بها في عشرة أيام عشرة آلاف نفس، وبلغ عدد الأموات بالقاهرة في ربيع الأول ثلاثمائة في اليوم، ثم في نصفه بلغوا خمسمائة، وفي التحقيق بلغوا الألف لأن الذين يضبطون إنما هم من يرد الديوان وأما من لا يرده فكثير جداً، وماتت ابنتاي غالية وفاطمة، وبعض العيال، وكان كل من طعن مات عن قرب إلا النادر، وإن أهل فاس أحصوا من مات منهم في شهر واحد فكان ستة وثلاثين ألفا، حتى كادت البلدان تخلو من أهلها وتصدى الأستادار لمواريث الأموات، ثم ابتدأ الموت في النقص من نصف ربيع الأول إلى أن انتهى في أول ربيع الآخر إلى مائة وعشرين، ثم بلغ في تاسعه إلى ثلاثة وعشرين، وتزايد الموت بدمشق وكان ابتداؤه عندهم في ربيع الأول فبلغت عدة من يموت في ربيع الآخر في اليوم ستين نفساً، ثم بلغ مائتين في أواخره ثم كثر في جمادى الآخرة بها، وكذلك وقع في القدس وصفد وغيرها، ثم ارتفع في آخر ربيع الآخر فنزل في الثالث والعشرين منه إلى أحد عشر نفسا.(3/87)
وفيه قدم مفلح رسول صاحب اليمن بهدية جليلة إلى الملك المؤيد، فأكرم مورده وأمر بأن يباع الهدية وتصرف في عمارة المؤيدية فحصل من ثمنها جملة مستكثرة، وعين كاتبه للتوجه إلى اليمن في الرسلية عن السلطان فاستعفى من ذلك فأعفى، وعمل الملك المؤيد الخدمة في إيوان دار العدل، ورتب الجند في القلعة ما بين الباب الأول إلى باب الدار المذكورة قياما في هيئة جميلة مهولة، وطلب قاصد صاحب اليمن فأحضر فرأى ما يهال وقدم الكتاب الواصل صحبته ثم أحضر الهدية بعد ذلك على مائتي جمال وخلعت عليه خلعة سنية.
وفيها مات أحمد بن رمضان أمير التركمان وكان قديم الهجرة في الإمارة وقد تقدم في حوادث سنة خمس وثمانين قتل أخيه إبراهيم واستقراره بعده إلى هذا الغاية وكان معه أذنة وإياس وسيس وما ينضم إلى ذلك وكان يطيع أمراء حلب طوراً ويعصى عليهم طوراً.
وقدم على الناصر فرج سنة ثلاث عشرة، فخلع عليه وتزوج ابنته ورده إلى بلاده مكرماً.
وفيه في الثاني عشر من المحرم قرر تقي الدين عبد الوهاب بن أبي شاكر في الوزارة وكانت بيده مباشرة النظر على ديوان سيدي إبراهيم ابن السلطان، فقبل الوزارة بعد تمنع شديد وكانت شاغرة منذ سفر السلطان في العام الماضي، فباشرها مباشرة حسنة.
وفي أواخر المحرم جمع السلطان الصناع من الحجارين أمرهم أن يقطعوا العمارة بجامعه داخل باب زويلة من مكان عينه تحت دار الضيافة وأقام هناك يوماً كاملاً،(3/88)
وفي هذا الشهر ركب كزل نائب ملطية في جماعة من المخامرين فهجم على مدينة حلب فقاتلوه، فقتلت طائفة وأنهزم.
وفيه استقر عمر بن الطحان في نيابة قلعة صفد.
وفيه كانت الفتن بين عرب الرحوم وعرب العاند بأرض القدس والرملة وغزة.
وفيه قبض على إينال أحد أمراء دمشق وسجن بالقلعة.
وفيه قبض على ابن أبي بكر بن نعير ففر أخوه أحمد ثم قتل في جمادى الآخرة، ونزل أخوه الآخر فأحرق الرحبة.
وفي المحرم جمع السلطان القضاة والعلماء وأحضر من يتكلم في العمارة، وذكر أن الشيخ شرف الدين ابن التباني تكلم معه في أن كثير من الأمور التي باشرها من يتكلم بالعمارة لا تجري على أحكام الشرع من أخذ بيوت الناس بغير رضاهم، وهدم الأوقاف بغير طريق ونحو ذلك، فأصغى السلطان وجمع الجميع فأدار الكلام بينهم فتعصبوا الجميع على ابن التباني وفجر عليه أحمد بن النسخة شاهد القيمة ووافقه غيره، إلى أن عجز عنهم وأعيته أجوبتهم، فانفصل المجلس على غير شيء، وحققوا للسلطان أنه متعصب عليهم وأن له غرضا في الوقيعة فيهم، والتزم له القضاة بأنهم لا يجرون أموره في العمارة إلا على الوجه الشرعي المعتبر المرضي وانفصلوا على ذلك وسيسألون(3/89)
أجمعين عن ذلك، واستمرت في سفر العمارة بالجامع ونودي أن لا يسخر فيه أحد، وأن يوفى الصناع أجرهم بغير نقص، ولا يكلف أحد فوق طاقته، واستمر ذلك.
وفي أول صفر أمر السلطان القضاة الأربعة بعزل جميع النواب وكانوا قد قاربوا مائتي نفس، فمنعوا من الحكم، ثم عرضهم في ثاني عشر صفر، وقرر للشافعي والحنفي عشرة عشرة وللمالكي خمسة وللحنبلي أربعة، ثم سعى كثير ممن منع عند كاتب السر بالمال إلى أن عادوا شيئاً فشيئاً.
وفي نصف صفر نودي أن لا يزوج أحد من العقاد أحداً من مماليك السلطان إلا بأذنه.
وفي ربيع الأول عرض السلطان أجناد الحلقة فمر به شيخ يقال له قطلوبغا السيفي وكان قد أمر في دولة منطاش تقدمة ألف ثم أهين بعد زوال دولته وخمل في الأيام الظاهرية إلى أن صار بأسوء حال، فعرفه السلطان فسأله عن حاله فأعلمه بسوء حاله، فاتفق أن السلطان كان تغير على أقبردي المنقار نائب الإسكندرية وعزله فقرر هذا في نيابتها بغير سعي ولا سؤال ولا قدرة حتى أنه لم يجد ما يتجهز به.
وفي سابع عشر شهر ربيع الأول أشهد عليه السلطان بوقف الجامع الذي جدده، ثم اشتد الأمر في العمارة في وسط السنة، وتباهى أهل الدولة في جلب الرخام إليها من كل جهة وكذلك الأعمدة.
وفيه ثار عليه ألم رجله وصار ذلك يعتاده في قوة الشتاء وفي قوة الصيف ويخف عنه في الخريف والربيع.
وفي ربيع الأول هجم الفرنج نستروه فنهبوا بها وحرقوا ثم قدموا في ربيع الآخر إلى يافا فأسروا من المسلمين نساء وأطفالاً، فحاربهم المسلمون ثم أفتكوا منهم الأسرى منهم بمال، ثم كان منهم ما سنذكره قريباً.(3/90)
وفيه هم السلطان بتغيير المعاملة بالفلوس، وجمع منها شيئاً كثيراً جداً، وأراد أن يضرب فلوساً جدداً، وأن يرد سعر الفضة والذهب إلى ما كان عليه في الأيام الظاهرية، فلم يزل يأمر بترخيص الذهب إلى أن انحط الهرجة من مائتين وثلاثين إلى مائتين وثمانين والأفلوري إلى مائتين وعشرة، وأمر أن يباع الناصري بسعر الهرجة ولا يتعامل به عددا وعدل أفلوريا من الذهب بثلاثين من الفضة، فاستقر ذلك إلى آخر دولته، ثم كان ما سنذكره في سنة خمس وعشرين.
وفي هذا الشهر جردت طائفة من الأمراء إلى الصعيد لقتال العرب المفسدين به، وجردت طائفة أخرى لقتال من بالوجه البحري، فرجع المجردون إلى الوجه البحري وقد غنموا أموالاً وأغناماً وجمالاً، وحصل لفخر الدين الكاشف من ذلك ما لا يدخل تحت الحصر حتى كان جملة ما حمله للسلطان في مدة يسيرة أكثر من مائة ألف دينار.
وفيه اشتد الغلاء بالرملة ونابلس وكثر فساد محمد بن بشارة بمعاملة صفد.
وفيه كان وقعة بين نائب حلب وكزل فانهزم كزل، وجرح وجماعة من أصحابه، استولى حسن بن كبك على ملطية فأساء السيرة بها، وغلب نائب حلب على حميد بن نعير وهزمه، وغنم منه مالا جزيلاً - وجمالاً.
وفيه توجه حديثة بن سيف أمير آل الفضل إلى الرحبة صحبة نائبها عمر ابن شهري وطائفة عسر الشام، ففر عذراء وسبى ولدا على ابن نعير، فرجع العسكر الشامي وأقام حديثة(3/91)
على الرحبة، ونزل قريباً من تدمر، فأتاه عذراء في ثلاثة آلاف نفس، فوقعت بينهم مقاتلة عظيمة، وكان النصر لحديثة.
وفيه غضب السلطان علي بدر الدين الأستادار المعروف بابن محب الدين وشتمه وهم بقتله وعوقه بالقلعة، فتسلمه جقمق على ثلاثمائة ألف دينار، وكان عاجزاً في مباشرته مع كثرة إدلاله على السلطان وبسط لسانه بالمانة عليه حتى أغضبه.
فلما كان في الخامس والعشرين من هذا الشهر وهو ربيع الأول أعيد فخر الدين ابن أبي الفرج إلى الأستادارية، واستمر بدر الدين في المصادرة، ثم اشتد الطلب عليه في أول جمادى الآخرة، وعوقب بأنواع العقوبات، ثم خلع في رابعه على فخر الدين، واستقر مشيراً ثم نقل المذكور إلى بيت فخر الدين الأستدار فقبض على امرأته وعوقبت فأظهرت مالاً كثيراً، ثم أفرج عن ابن محب الدين في أواخر رجب، وقرر كشف الوجه القبلي بعد أن قرر عليه مائة ألف دينار باع فيها موجوده وأثاثه وأثاث زوجته بعد أن عوقبت واستدان شيئاً كثيراً.
وفي هذا الشهر أمر السلطان الخطباء إذا وصلوا إلى الدعاء له في الخطبة أن يهبطوا من المنبر درجة أدبا ليكون ذكر - اسم الله ورسوله في مكان أعلى من المكان الذي يذكر فيه السلطان، فصنع كاتبه ذلك في الجامع الأزهر وابن النقاش ذلك في جامع ابن طولون، وبلغ ذلك القاضي جلال الدين فما أعجبه كونه لم يبدأ بذلك فلم يفعل ذلك في جامع(3/92)
القلعة، فأرسل السلطان يسأله عن ذلك فقال: لم يثبت هذا في السنة، فسكت عنه وترك فعل ذلك بعد ذلك، وكان مقصد السلطان في ذلك جميلاً.
وفي ذي القعدة أخذ نائب طرابلس قلعة الجواي وهي من قلاع الإسماعيلية عنوة وخربها حتى صارت أرضاً.
وفي أخر ربيع الآخر ابتدأ النيل في الزيادة ثم توقف ونقص أربعة عشر إصبعا، فأرسل السلطان طائفة من القراء إلى المقياس، فأقاموا، فيها أياماً يقرؤن القرآن وتطبخ لهم الأطعمة، وأمر سودون صوفي حاجب الحجاب أن يركب إلى شاطئ النيل ويحرق ما يجده هناك من الأخصاص التي توضع للفساد ويظهر الفسقة فيها المناكر من الزنى وشرب الخمر واللواط متجاهرين بذلك غير محتشمين منه فأوقع بهم فنهب بعضهم بعضاً، فقدر الله بعد ذلك بوفاء النيل وزاد بعد الوفاء - زيادة بالغة إلى أن انتهت إلى عشرين ذراعاً سواء وثبت إلى وقت انحطاطه ثباتاً حسناً.
وفي ثاني عشري ربيع الآخر دخل مينا الإسكندرية مركب من الفرنج ببضاعة فثار بينهم وبين بعض العتالين شر آل إلى القتال فأخذ الفرنج مركبا فيها عدة من المسلمين فبعث إليهم النائب غريمهم العتال فردوا ما أخذوه من المسلمين وانتقموا من العتال، ثم وثبوا على مركب وصلت للمغاربة فأخذوها بما فيها، فما نجا منها غير خمسة عشر رجلاً سبحوا في الماء.(3/93)
ثم في سادس عشر جمادى الآخرة قدم صلاح الدين بن ناظر الخاص إلى الإسكندرية لتحصيل ما بها من المال فبينا هو في الخمس وبين يديه أعيان البلد إذ أسر شخص أن الفرنج الذين وصلوا في ثمانية مراكب قد عزموا أن يهجموا عليه ويأسروه، فلم يكذب الخبر وقام مسرعاً فتسارع الناس فسقط فانكسرت رجله، وحمل إلى داره ثم أركب إلى النيل ثم ركب إلى أن وصل القاهرة منزعجاً وهجم الفرنج عقب صنعه ذلك، فكاثرهم أهل البلد حتى أغلقوا باب البحر، فعاثوا فيمن هو خارج الباب من المسلمين فقتلوا منهم عشرين رجلاً وأسروا جماعة تزيد عن السبعين وأخذوا ما ظفروا به وصعدوا مراكبهم، ثم حاصروا البلد فتراموا بالسهام جميع الليل، فأخذ كثير من المسلمين في الفرار من الإسكندرية وقام الصياح على فقد من أسر أو قتل، فاتفق قدوم مركب من المغاربة ببضاعة فمال الفرنج عليهم فقاتلوهم، فدافعوا عن أنفسهم حتى أخذوا عنوة وضربوا أعناقهم وأهل الإسكندرية يرونهم من فوق الأسوار ما فيهم منعة، ووصل ابن ناظر الخاص بعد أن خرج أبوه لما سمع الخبر وخرج صحبته جماعة من الجند، ثم سار الشيخ أبو هريرة بن النقاش في أناس من المطوعة على نية الجهاد في سبيل الله فقدموا الإسكندرية فوجدوا الفرنج قد أخذوا ما أخذوا وساروا مقلعين في مراكبهم. وفات ما فات.
وفيه نفى كزل العجمي إلى غزة ثم إلى صفد فسجن بالقلعة، واستمر إلى أن أطلق في أيام الظاهر ططر في سنة أربع وعشرين.
وفيها أحدث الوالي وهو خرز على النصارى واليهود برسم المماليك في المحمل في رجب المصادرة لهم على خمر كثير فتجوهوا في بعضه ببعض أهل الدولة فحقد(3/94)
ذلك عليهم، ثم استأذن السلطان وركب وكبس سويقة صفية خارج القاهرة، والكوم خارج مصر، فأراق عدة جرار من الخمر، وكتب على أكابرهم إشهادات بأمور اقترحها عليهم حتى كف عنهم.
وفي ربيع الآخر نقل جانبك الصوفي من سجنه بالقاهرة بالقلعة إلى الإسكندرية.
وفيه نزل العرب المعروفون بلبيد على ريف البحيرة في خمسمائة فارس سوى المشاة فأوقعوا بأهلها.
وفيه قبض على ابن بشارة وهو محمد بن سيف بن عمر بن محمد ابن بشارة وكان قد زاد إفساده في طريق الشام وقطع الطريق فحمل إلى دمشق.
وفي رجب غضب السلطان على نجم الدين ابن حجي بسعاية شهاب الدين الشريف ابن نقيب الأشراف عليه وكانت بينهما منازعة أفضت على العداوة الشديدة حتى رحل إلى القاهرة في السعي عليه، فلم يزل به إلى أن أوصل بالسلطان ما يقتضي الغضب عليه، فأرسل بالكشف عليه بعد النداء بعزله وأن من له عليه حق يحضر إلى بيت الحاجب فاستمر النداء أياماً فلم يثبت عليه شيء، ثم نقل إلى المدرسة البيبرسية بالشرف الأعلى ورسم عليه وقرر في الحكم اثنان من نوابه وكتب عليه له إشهاد بما بيده من الوظائف وأنه إن ظهر بيده زيادة على ذلك كان عليه عشرة آلاف دينار على سبيل النذر لعمارة الأسوار، واستمر غضب السلطان عليه، وعرض منصب القضاء بدمشق على كاتبه مراراً فامتنع وأصر على الامتناع فأراده على ذلك ورغبه فيه حتى صرح بأن للقاضي بدمشق(3/95)
في الشهر عشرة آلاف درهم فضة معاليم قضاء وأنظار إذا كان رجلاً جيداً فإن كان غير ذلك كان ضعف ذلك، فأصر على الامتناع وبالغ في الاستعفاء، فسعى بعض الشاميين لابن زيد قاضي بعلبك، فقرر في قضاء دمشق على ثلاثمائة ثوب بعلبكي، وفي عقب ذلك قدم نجم الدين ابن حجي القاهرة، فأنزله زين الدين عبد الباسط ناظر الخزانة عنده، وقام بأمره، ولم يزل إلى أن صلح حاله عند السلطان وأعاده على القضاء في بقية السنة، فلبس الخلعة بذلك في رابع ذي الحجة، وعاد من كان منكرا على كاتبه في الامتناع مادحاً على ذلك وكان شق هذا القدر على كثير من الناس حسداً وأسفا فلله الحمد على ما أنعم.
وفي جمادى الأولى تقاول فخر الدين الأستادار وبدر الدين ابن نصر الله ناظر الخاص بين يدي السلطان فأفضى الحال إلى السلطان ألزم ناظر الخاص بحمل خمسين ألف دينار.
وفي رجب قبض فخر الدين الأستادار على شمس الدين بن محمد بن مرجونة وكان متدركاً بجوجر، ثم سعى إلى أن ولي قضاءها فأمر بتوسيطه فوسط وذهب دمه هدرا، وأحيط بموجوده فبلغ نحو خمسين ألف دينار، فحملها إلى السلطان.
وفي ربيع الآخر شغر قضاء الحنفية بموت ابن العديم، فسعى فيه جماعة وكاد أمره أن يتم للقاضي زين الدين التفهني، بحيث أنه أجيب وبات على أن يخلع عليه(3/96)
في يوم الاثنين ثامن عشر ربيع الآخر، ثم تأخر ذلك وأمر السلطان بطلب ابن الديري من القدس، فوصل الخبر فتجهز وحضر في الثالث عشر من جمادى الأولى وهرع الناس للسلام عليه ثم اجتمع بالسلطان ففوض قضاء الحنفية في يوم الاثنين سابع عشر جمادى الأولى - فباشره بصرامة ومهابة.
وفي أواخر شعبان استقر زين الدين قاسم العلائي في قضاء العسكر وإفتاء دار العدل عوضاً عن تقي الدين بن الجيتي بحكم وفاته في الطاعون وشغرت الوظيفتان هذه المدة، وكان سعى فيها شمس الدين القرماني خادم الهروي فأجيب إلى أحديهما، ثم غلبه قاسم عليهما.
وفي ذي الحجة قدمت خديجة زوج ناصر الدين بك بن خليل بن قراجا بن دلغادر على المؤيد في طلب ولدها، وكان السلطان استصحبه معه من بلادهم فأكرم مجيئها ورتب لها رواتب وجمع بينها وبين ولدها، وهذه هي التي تزوج بعد ذلك الملك الظاهر جقمق ابنتها في ثلاث وأربعين، وقدم أبوها طائعاً فأكرم غاية الإكرام.
وفي رجب غضب قاضي الحنابلة القاضي علاء الدين ابن المغلي من الدويدار الكبير فعزل نفسه، ولزم منزله، وكان السبب في ذلك أن حكومة رفعت إلى الدويدار في جمال الدين الإسكندراني نقيب القاضي، فبعث يطلبه فامتنع قاضيه من إرساله، فأرسل بعض نوابه يسأل عن القضية فأفحش القول له فأعاد الجواب فغضب لاعتماده على كاتب السر فقام كاتب السر في تسكين القضية إلى أن أصلح بينهما وتحيل على السلطان حتى أمر له بخلعه فخلعت عليه بسبب قدومه بعد غيبته، وأوهم السلطان أنه خشي لطول الغيبة أن يكون ولايته بطلت فأذن له فلبس الخلعة، وقرره على ولاية القضاء ومشى الأمر على السلطان في ذلك، وذلك كله من جودة تدبير كاتب السر وقوة معرفته بسياسة الأمور.
وفي شعبان مات أيدغمش التركماني في الاعتقال بدمشق.(3/97)
وفيها فوض أمر النظر على الكسوة للقاضي زين الدين عبد الباسط بعد أن استعفى منها ناظر الشيخ فأعفي.
وفي شعبان قبض على محمد بن عبد القادر وأخيه عمر بغزة وحملا إلى القاهرة.
وفيه قدمت هدية كرسجي بن أبي يزيد بن عثمان من بلاد الروم فأكرم قاصده وقبلت هديته وأمر بصرف ثمنها في العمارة.
وفي سابع رمضان عزل خرز من ولاية القاهرة واستقر أقبغا شيطان وكان بيده شد الدواوين فاستمرت معه، ثم انتزعها منها خرز واستمر خرز في نيابة الجيش أيضاً.
وفيه قدم بركات بن حسن بن عجلان إلى القاهرة، ومعه خيل وغيرها فقدمها، فقبلت منه وأنزل عند ناظر الخاص وكتب تقليد أبيه بعودة إلى إمرة مكة، وعزل رميثة، فوصل الكتاب في شوال فبعث إلى آل عمر القواد وكانوا مع رميثة فاستدعاهم إلى الرجوع في طاعته فامتنعوا وقاموا مع رميثة محاربين لحسن، فركب حسن إلى الزاهر ظاهر بمكة في ثاني عشر من شوال، ووافاه مقبل بن نخبار أمير ينبع منجداً له بعسكره، ثم دخلوا مكة بعسكر بقرب العسيلة فوقعت الحرب هناك فانكشف رميثة ومن معه وغلب حسن ومن معه فدخلوا البلد بعد أن أحرقوا الباب، وكثرت الجراحات في الفريقين، فخرج الفقهاء والفقراء بالمصاحف يسألون حسن بن عجلان الكف عن القتل فأجابهم، فخرج رميثة من مكة هو ومن معه وتوجهوا إلى جهة اليمن، ودخل حسن مكة في سادس عشر من شوال فغلب عليها ونادى بالأمان واستقرت قدمه وأقام ولده بركات في القاهرة ثم سار منها بإذن السلطان في أول ذي القعدة فوافى الحجاج قبل ينبع،(3/98)
وفي رمضان حضر السلطان مجلس سماع الحديث بالقلعة وفيه القضاة ومشايخ العلم، فسألهم عن الحكم في شخص يزعم أنه يصعد إلى السماء ويشاهد الله تعالى ويتكلم معه، فاستعظموا ذلك، فأمر بإحضاره فأحضر وأنا يومئذ معهم، فرأيت رجلاً ربعة عبل البدن أبيض مشربا بحمرة كبير الوجه كثير الشعر منتفشه، فسأله السلطان عما أخبر به، فأعاد نحو ذلك وزاد بأنه كان في اليقظة وأن الذي رآه على هيئة السلطان في الجلوس وأن رؤيته له تتكرر كثيراً، فاستفسره عن أمور تتعلق بالأحكام الشرعية من الصلاة وغيرها، فأظهر له أنه جاهل بأمور الديانة، ثم سئل عنه فقيل أنه يسكن خارج باب القرافة في تربة خراب وإن لبعض الناس فيه اعتقاد كدأبهم على أمثاله، فاستفتى السلطان العلماء، فاتفق رأيهم على أنه إن كان عاقلاً يستتاب فإن تاب وإلا قتل، فاستتيب فأمتنع، فعلق المالكي الحكم بقتله على شهادة شاهدين يشهدان أن عقله حاضر، فشهد جماعة من أهل الطب أنه مختل العقل مبرسم، فأمر السلطان به أن يقيد في المارستان، فأستمر فيه بقية حياة السلطان، ثم أمر بعد موت السلطان بإطلاقه.
وفي شوال كانت الفتن بين أهل البحيرة فقتل موسى بن رحاب وحلاف بن عتيق وحسين بن شرف وغيرهم من شيوخهم، وتوجه الأستادار لمحاربتهم ففتك فيهم، وقدم في ذي القعدة ومعه من الغنم والبقر شيء كثير ووصل في طلبهم إلى العقبة الصغرى، ثم توجه منها إلى جهة برقة فسار أياماً ثم رجع.
وفيه قدم ركب التكرور في طلب الحج ومعه شيء كثير من الرقيق والتبر.(3/99)
وفيه قدم إلى دمشق الخاتون زوجة إيدكي صاحب الدشت في طلب الحج وصحبتها ثلاثمائة فارس فحجوا صحبة المحمل الشامي.
وفي ذي القعدة أفرج عن سودون الأشقر من الإسكندرية وأرسل على القدس بطالا.
وفي أواخر شوال قلع باب مدرسة حسن، وكان الملك الظاهر قد سده من داخله ومنع من الصعود منه، ثم هدمت بعد ذلك بمدة البوابة، ثم اشترى الملك المؤيد الباب من ذرية حسن والتنور الذي هو داخله بخمسمائة دينار، فركبا بجامعه الذي أنشأه بباب زويلة.
وفي أوائل رمضان أعيد قاسم البشتكي إلى نظر الجوالي بعد أن كان عزل وصودر وأهين.
وفيه عاود المؤيد ضعف رجليه بالمفاصل.
وفي رمضان نودي على المؤيدي أن يكون بثمانية والأفلوري بمائتين وثلاثين والفلوس كل رطل بخمسة ونصف، فكان في ترخيص الذهب سبب إلى تكثير الفضة، وأما ترخيص الفلوس فلا يعقل معناه فإنه رخيصة جداً بالستة وكان في الستة ترفق بمن لا يد له بالحساب لسرعة إدراك نصفها وثلثها وربعها وغير ذلك بخلاف الخمسة والنصف.
وفي سادس شوال قدمت رسل قرا يوسف على المؤيد فسمع الرسالة وأعاد الجواب.
وفي أواخر شوال مات أمير الركب الأول قمارى وكان أمير عشرة، فسار بالركب الأمير صلاح الدين ابن ناظر الخاص صاحب بدر الدين ابن نصر الله وكان قد حج في هذه السنة، فشكروا سيرته فيهم بعد أن وصلوا.
وفي العشرين من ذي القعدة استقر فخر الدين في الوزارة مضافاً إلى الأستادارية بعد موت تقي الدين ابن أبي شاكر.
وفيه غلا البنفسج بالقاهرة حتى لم يوجد منه شيء البتة، ووجدت باقة واحدة فبيعت بعشرين درهماً فضة.(3/100)
وفيه حاصر نائب طرابلس قلعة الجوابي إحدى قلاع الإسماعيلية، فأخذها عنوة وخربها حتى صارت أرضا وفي آخره - مات محمد بن هيازع أمير آل مهدي من العرب فقرر مكانه مانع بن سنيد.
وفي أول ذي الحجة أمر جقمق الدويدار بعرض أجناد الحلقة ليسافروا صحبة ركاب السلطان إذا تجهز للبلاد الشمالية، فاشتد عليهم جقمق وحلف السلطان ناظر الجيش بطلاق زوجته وبكل يمين أنه لا يكتم عنه شيئاً، فاشتد الأمر على أجناد الحلقة جداً، ثم أمر السلطان أن يعرضوا عليه فكان ما سنذكر في السنة الآتية.
وفي عاشر ذي الحجة يوم عيد النحر أنزل المستعين بالله أبو الفضل العباس بن محمد العباسي إلى ساحل مصر على فرس وبفرج وخليل ومحمد أولاد الملك الناصر فرج في محفة وتوكل بهم الأمير كزل الأرغون شاوي وكان أحد الأمراء بحماة وزوج بنت كاتب السر فسار بهم إلى الإسكندرية، وكان المستعين لما خلعه المؤيد من الملك نقله من القصر إلى دار من دور القلعة ومعه أهله وحاشيته ثم نقله إلى برج قريب من باب القلعة وكان الظاهر(3/101)
حبس فيه أباه المتوكل ثم نقله في هذا الشهر إلى الإسكندرية فأنزله في برج من أبراجها ولم يجر عليه معلوما ولا راتبا وانتهت هذا السنة وقد بلغت النفقة على الجامع المؤيدي أربعين ألف دينار ذهباً.
وفي ثاني عشر ذي الحجة توجه السلطان إلى الربيع فأقام برسيم خمسة عشر يوماً، ونزل ليلة السابع والعشرين من ذي الحجة في حراقته الذهبية فجمع له بعض الناس له عدة مراكب وزينوها بالوقيد الكثير، وكان الهواء ساكنا فكانت ليلة معجبة.
وفي هذه السرحة قدم الأستادار عشرة آلاف دينار ومائة وخمسين جملاً غير الخيول - واستمر ذلك سنة بعده على المباشرين.
وفيها مات أحمد - ابن رمضان أحد أمراء التركمان وكان بيده سيس وأذنة فاختلف أولاده بعده.
وفيها بلغ السلطان في يوم الأربعاء الثامن من ذي الحجة أن نائب الحكم ببلبيس أخبر أنه ثبت عنده هلال ذي الحجة ليلة الثلثاء، فانزعج على القاضي الشافعي ونسبه إلى التفريط في الأمور المهمة. وتكلم في القضاة كلهم بكلام خشن.
وفي هذه السنة غلب الأمير بهار بن فيروز شاه بن محمد شاه ابن تهمتم بن جردن شاه بن طغلق بن طبق شاه سيف الدين بن قطب الدين على ملك هرمز، وكان حسام الدين بن عدي قد خرج على أبيه وغلب على هرمز، فثار عليه بهار المذكور في هذه السنة ففر منه إلى جزيرة تاردب، ثم حج سنة عشرين وثمانمائة.(3/102)
ذكر من مات
في سنة تسع عشرة وثمانمائة من الأعيان.
أحمد بن أبي أحمد الصفدي شهاب الدين، الشامي نزيل القاهرة، كان قد قدم في التوقيع عند الملك المؤيد حيث كان نائباً، ثم قدم معه القاهرة وظن أنه يلي كتابة السر، فاختص القاضي ناصر الدين البارزي بالسلطان وكان يكره الصفدي لطرش فيه، فأراد الإحسان وجبر خاطره فقرره في نظر المارستان، ونظر الأحباس، فباشرهما حتى مات في ربيع الأول ولم يكن محموداً، وقرر عوضه في المارستان تقي الدين يحيى بن الشيخ شمس الدين الكرماني، وفي نظر الأحباس بدر الدين محمود العيني.
أحمد بن رمضان التركماني الأجقي صاحب أذنة وسيس وإياس وغيرها، ولي الإمرة من قبل الثمانين، واستمر يشاقق العسكر الشامي تارة ويصالحوه أخرى، وتجردوا أول مرة سنة ثمانين فكان ما ذكر في الحوادث، وتجهزوا ثاني مرة سنة خمس وثمانين، فكسر أمير عسكره إبراهيم أخوه، فلما كانت الفتنة العظمى ورجع اللنك إلى العراق استقرت قدم أحمد هذا، ولم يزل في ذلك إلى أن مات في أواخر هذا السنة، وكان شيخاً كبيراً مهيباً شهماً، وهو الذي تزوج الناصر ابنته، وكانت له اليد البيضاء في طرد العرب عن حلب في ذي الحجة سنة ثلاث وثمانمائة. كما تقدم.
أحمد بن عبد الله، الذهبي، اشتغل قليلاً وحفظ المنهاج، ثم صحب الشيخ(3/103)
قطب الدين وغيره، وسافر بعد اللنك إلى القاهرة فعظم بها، وسافر معه أكابر الأمراء في الاعتناء بعمارة الجامع الأموي والبلد، وحصل له إقبال كبير، ثم عاد إلى مصر في أول الدولة المؤيدية، ثم توجه رسولاً إلى صاحب اليمن وحصلت له دنيا، ثم عاد فمات في جمادى الأولى.
أحمد بن عبد الرحمن بن عبد الناصر، الزبيري شهاب الدين بن القاضي تقي الدين الزبيري، أحد موقعي الحكم، كان قد مهر في صناعته وحصل فيها مالاً جزيلاً وورثه أخوه علاء الدين. وكان شهاب الدين شديد الإمساك وأخوه شديد الإتلاف فوسع الله بموت الشهاب على علاء الدين، ويقال إنه ورث منه نحو ألفي دينار غير البيوت، مات في نصف ذي الحجة.
أحمد بن علي بن محمد بن محمد بن عبد الرحمن، الفاسي ثم المكي المالكي الحسني شهاب الدين، والد قاضي المالكية بمكة تقي الدين، ولد سنة أربع وخمسين وسبعمائة وعني بالعلم فمهر في عدة فنون خصوصاً الأدب، وقال الشعر الرائق، وفاق في معرفة الوثائق، ودرس وأفتى وحدث قليلاً سمع من عز الدين ابن جماعة وأبي البقاء السبكي وغيرهما، وأجاز لي، وباشر شهادة الحرم نحواً من خمسين سنة، ومات في حادي عشري شوال.
أحمد بن عمر بن قطينة - بالقاف والنون مصغر باشر شد الخاص ثم تنقلت به الأحوال إلى أن ولي الوزارة في سنة اثنتين وثمانمائة فلم ترسخ فيها قدمه بل أقام جمعة واحدة وعزل، وتنقلت به الأحوال إلى أن مات في آخر المحرم.(3/104)
أحمد بن أبي أحمد بن محمد بن سليمان، المصري المعروف بالزاهد، انقطع في بعض الأمكنة فاشتهر بالصلاح، ثم صار يتتبع المساجد المهجورة فيبني بعضها ويستعين بنقض البعض في البعض، ثم أنشأ جامعاً بالمقس وصار يعظ الناس خصوصاً النساء، ونقموا عليه فتواه برأيه من غير نظر، جيد في العلم مع سلامة الباطن والعبادة، مات في رابع عشري ربيع الأول.
أحمد بن القاضي، أصيل الدين محمد بن عثمان، الاشليمي شهاب الدين، ناب في الحكم، ومات في صفر مطعوناً.
أحمد بن محمد بن نشوان بن محمد بن نشوان بن محمد بن أحمد، الحوراني ثم الدمشقي الشافعي، ولد سنة سبع وخمسين وسبعمائة، واشتغل بالعلم ومهر في الفقه(3/105)
واشتهر بالفضل، وناب في الحكم بدمشق وأفتى ودرس.
وكان أول أمره أقرأ أولاد الزهري فحصل معهما عن مشايخ ذلك العصر إلى أن مهر فظهر فضله، وأذن له البلقيني في الإفتاء سنة ثلاث وتسعين، وجلس للاشتغال وأفتى، وحمدت فتاويه مع وفور عقله وحسن تأنيه وإنصافه في البحث وحسن محاضرته، ومات في جمادى الأولى.
أحمد بن محمد المرتقي أحد فضلاء الحنابلة، ناب في الحكم واشتغل كثيراً، وكان خيراً صالحاً. مات في العشرين من ذي القعدة.
أحمد بن يوسف بن عبد الرحمن، اليمني المعروف بابن الأهدل، أحد من يعتقده الناس باليمن، جاور بمكة زماناً، وهو من بيت صلاح وعلم، مات في سادس عشر ذي الحجة.(3/106)
أرغون الرومي، ولى نيابة الغيبة للناصر فرج، وكان يرجع إلى دين وخير، مات في ذي القعدة بالقدس بطالا.
أبو بكر بن عثمان بن محمد الجيتي - بكسر الجيم وسكن التحتانية بعدة مثناة - الحموي الحنفي، أحد فضلاء أهل حماة، عارف بالعربية، حسن المحاضرة، قدم صحبة علاء الدين بن مغلي من حماة فنزل على كاتب السر ابن - البارزي فأكرمه وأحضره مجلس السلطان وولاه قضاء العسكر وغيره، مات في الطاعون في آخر ربيع الأول.
تاني بك الجركسي مشد الشربخاناة، تنقل في الخدم إلى أن ولي إمرة الحج في سنة ثماني عشرة، وقدم في أول هذه السنة وهو ضعيف، وقد شكر الناس سيرته، فمات في صفر.
ظهيرة بن حسين بن علي بن أحمد بن عطية بن ظهيرة، المخزومي المكي أبو أحمد، سمع على عز الدين بن جماعة وغيره، وأجاز له القلانسي ونحوه، مات في صفر وقد جاوز السبعين بمكة.(3/107)
عائشة بنت أنس الجركسية أخت الملك الظاهر، وكانت في السن قرية منه وعاشت بعده دهراً وقد أسنت، وهي والدة بيبرس الذي ولي أتابكية العسكر وغير ذلك من الوظائف، ماتت في ذي القعدة.
عبد الرحمن بن سليمان بن عبد الرحمن بن محمد بن سليمان بن حمزة، المقدسي الحنبلي، من بيت كبير ولد في ذي الحجة سنة إحدى وأربعين، وسمع من عبد الرحمن بن إبراهيم بن علي بن بقا - الملقن وأحمد ابن عبد الحميد بن عبد الهادي وغيرهما وحدث، مات بالصالحية.
عبد الرحمن بن محمد بن علي بن عبد الواحد بن يوسف بن عبد الرحيم، الدكالي الأصل ثم المصري أبو هريرة بن النقاش، ولد في رابع عشر ذي الحجة سنة سبع وأربعين، وسبعمائة بالقاهرة، واشتغل بالعلم ودرس بعد وفاة أبيه وله بضع عشرة سنة، وسمع من محمد بن إسماعيل الأيوبي والقلانسي والبياني وغيرهم، واشتهر بصدق اللهجة وجودة الرأي وحسن التذكير والأمر بالمعروف مع الصرامة والصدع بالوعظ في خطبته وقصصه، وصارت له وجاهة عند الخاصة والعامة، وانتزع خطابه جامع ابن طولون من ابن بهاء الدين السبكي فاستمرت بيده، وكان يقتصد في ملبسه مفضالا على المساكين كثير الإقامة في منزله مقبلاً على شأنه عارفاً بأمر دينه ودنياه يتكسب من الزراعة وغيرها، ويبر أصحابه مع المحبة التامة في الحديث وأهله، وله حكايات مع(3/108)
أهل الظلم، وامتحن مراراً ولكن ينجو سريعاً بعون الله، وقد حج مراراً وجاور، وكانت بيننا مودة تامة؛ مات في ليلة الحادي عشر من ذي الحجة، ودفن عند باب القرافة، وكان الجمع في جنازته حافلاً جداً فرحمه الله تعالى.
عبد الرحمن بن يوسف الكردي الدمشقي الشافعي زين الدين، حفظ التنبيه في صباه، وقرأ على الشرف بن الشربشي، ثم تعاني عمل المواعيد فنفق سوقه فيها، واستمر على ذلك أكثر من أربعين سنة وصار علي ذهنه من التفسير والحديث وأسماء الرجال شيء كثير، وكان رائجاً عند العامة مع الديانة وكثرة التلاوة، وكان ولي قضاء بعلبك ثم طرابلس، ثم ترك واقتصر على عمل المواعيد بدمشق، وقدم مصر وجرت له محنة مع القاضي جلال الدين البلقيني، ثم رضي عليه وألبسه ثوباً من ملابسه واعتذر له فرجع إلى بلده، وكان يعاب بأنه قليل البضاعة في الفقه ولا يسأل مع ذلك عن شيء إلا بادر بالجواب، وحفظ ترجيح كون المولد النبوي كان في رمضان لقول ابن إسحاق إنه نبئ على رأس الأربعين، فخالف الجمهور في ترجيح ذلك، وله أشياء كثير من التنطعات، ولم يزل بينه وبين الفقهاء منافرة، ويقال إنه يرى بحل المتعة على طريقة ابن القيم وذويه؛ ومات مطعوناً في شهر ربيع الآخر وهو في عشر السبعين.
عبد الكريم بن إبراهيم بن أحمد، الحنبلي الكتبي كان من خيار الناس في فنه، وكان للطلبة به نفع، فإنه كان يشتري الكتب الكثيرة وخصوصاً العتيقة ويبيع(3/109)
لمن رام منه الشراء من الطلبة برأس ماله أو بفائدة بعينها ويشترط له أنه متى رام بيع ذلك الكتاب يدفع له رأس ماله، فكان الطالب ينتفع بذلك الكتاب دهراً ثم يأتي به إلى السوق فينادي عليه، فإن تجاوز الثمن الذي اشتراه باعه، وإن قصر عنه أحضره فاشتراه منه برأس ماله ولا يخرم معهم في ذلك وكان الناصر فرج ولاه الحسبة على الصلاة، فكان يلزم الناس بالصلاة وتعليم الفاتحة وجرت له في ذلك خطوب يطول ذكرها وكان مأذوناً له في الحكم لكن لا يتصدى لذلك ولا يحكم إلا في النادر وله ورد وقيام في الليل؛ مات في حادي عشر ذي القعدة.
عبد الوهاب بن عبد الله ويدعى ماجد بن موسى بن أبي شاكر أحمد ابن أبي الفرج بن إبراهيم بن سعيد الدولة القبطي الوزير تقي الدين بن فخر الدين بن تاج الدين بن علم الدين، يعرف بالنسبة لجده فيقال له ولكل من آل بيته: ابن أبي شاكر، ولد سنة سبعين أو في التي بعدها ونشأ في حجر السعادة وتنقل في المباشرات إلى أن باشر نظر الديوان المفرد في آخر الدولة الظاهرية واستمر بيده إلى أن مات، وباشر استادارية الأملاك والذخائر والمشاجرات والأوقاف وعظم عن الناصر بحسن مباشرته، ثم ولي نظر الخاص بعد موت مجد الدين بن الهيصم ثم قبض عليه في جمادى الأولى سنة ست عشرة وصودر على أربعين ألف دينار باع فيها موجوده وبقي في الترسيم بشباك الظاهرية الجديدة يستجدي من كل من يمر به من الأعيان حتى حصل مالاً له صورة، وأفرج عنه وأعيد إلى مباشرة الذخيرة والأملاك، ثم قرر في الوزارة بعد صرف تاج الدين ابن الهيصم فباشرها مباشرة حسنة وشكره الناس كلهم، فلم تطل مدته حتى مات بعد تسعة أشهر من وزارته في حادي عشر شوال أو ذي القعدة(3/110)
- وكان بعيداً عن النصارى ومتزوجاً من غيرهم، وهي علامة حسن إسلام القبطي، وكان يكثر فعل الخير والصدقة مع الانهماك في اللذة، وحدث في وزارته الوباء فلم يشاحح أحداً في وراثة وكثر الدعاء له، وكان عارفاً بالمباشرة ويحب أهل العلم، وكان شديد الوطأة على العامة إلا أنه باشر الوزارة برفق لم يعهد مثله، وكان موصوفاً بالدهاء وجودة الكتابة.
عبد الوهاب بن محمد بن أحمد بن أبي بكر، الحنفي القاضي أمين الدين بن القاضي شمس الدين الطرابلسي نزيل القاهرة، ولد سنة 774 واشتغل في حياة أبيه وولي القضاء مستقلاً بعد موت الملطي فباشره بعفة ومهابة، وكان مشكور السيرة إلا أنه كان متعصباً لمذهبه مع إظهار محبة للآثار عارياً من أكثر الفنون إلا استحضار شيء يسير من الفقه، وقد عزل عن القضاء بكمال الدين ابن العديم، ولزم منزله مدة طويلة، ثم تنبه بصحبة جمال الدين فتقرر بعنايته في القضاء ومشيخة الشيخونية، ثم زال ذلك عنه في الدولة المؤيدية، وانتزعت من أخي وظيفة إفتاء دار العدل فقررت لابن سفري ثم لابن الجيتي، واستمر أمين الدين خاملاً حتى مات بالطاعون في خامس عشري ربيع الأول.
ومن العجائب أن ناصر الدين بن العديم أوصى في مرض موته بمبلغ كثير يصرف لتقي الدين ابن الجيتي الحنفي ليسعى به في قضاء الحنفية لئلا يليه ابن الطرابلسي قبل موت ابن العديم وكذلك ابن الجيتي.
علي بن الحسين بن علي بن سلامة، الدمشقي تفقه على الشيخ عماد الدين الحسباني وغيره، وكانت له مشاركة في الأدب ونظم الشعر الوسط، ودرس في دمشق، ومات سنة 829.(3/111)
علي بن عيسى بن محمد، علاء الدين أبو الحسن بن أبي مهدي، الفهري البسطي، اشتغل ببلاده ثم حج ودخل الشام ونزل بحلب على قاضيها الجمال النحريري، وقرأ بحلب التسهيل وعمل المواعيد بالجامع - وكان يذكر في المجلس نحو سبعمائة سطر يرتبها أولاً ثم يلقيها ويطرزها بفوائد ومناسبات، ثم رحل إلى الروم وعظم قدره ببرصا، وكان فاضلاً ذكياً أديباً يعمل المواعيد بالجامع فذكر لي - الشيخ برهان الدين المحدث أنه كان يرتبه يوم الأربعاء فيبلغ سبعمائة سطر وينظره يوم الخميس ويلقيه يوم الجمعة سرداً، وذكر لي - أنه أنشده لابن الحباب الغرناطي اللغز المشهور في السمك.
كتبتم رموزاً ولم تكتبوا ... كهذا الذي سبيله واضحه
قال: وأنشدني عنه أناشيد ثم دخل الروم فسكنها وحصل له ثروة، ثم دخل القرم وكثر ماله، واستمر هناك إلى أن مات في هذا السنة.(3/112)
علي بن محمد بن علي بن الحسن بن حمزة بن محمد بن ناصر، الحسيني أبو الحسن، والد المحدث الشهير الشريف شمس الدين، مات أبوه سنة خمس وستين وسبعمائة وهو صغير فحفظ القرآن والتنبيه وقرأ على ابن السلار وابن اللبان ومهر في ذلك حتى صار شيخ الإقراء بالقرمية. وكتب الخط المنسوب، وجلس مع الشهود مدة ووقع وكان عين البلد في ذلك، وولي نقابة الأشراف مدة يسيرة، وولي نظر الأوصياء أيضاً؛ مات في شوال.
غانم بن محمد بن محمد بن يحيى بن سالم، جلال الدين الخشبي - بمعجمتين مفتوحتين ثم موحدة - المدني الحنفي، ولد سنة إحدى وأربعين وسبعمائة وسمع متأخراً من ابن أميلة وغيره بدمشق، سمعت منه يسيراً، وكان له اشتغال ونباهة في العلم ثم خمل وانقطع بالقاهرة، ومات بالطاعون.(3/113)
قمارى كان أمير الركب الأول، فمات متوجهاً إلى الحج في شوال وكان شاد الزردخاناه.
محمد بن أحمد بن أبي بكر البيري ابن الحداد، أخذ عن أبي جعفر وأبي عبد الله الأندلسيين، وتمهر في العربية، وكان يحفظ المنهاج، وكان يستحضر أشياء حسنة، وحدث عن شرف الدين ابن قاضي الجبل وغيره.
مات بالبيرة في هذه السنة، أرخه البرهان المحدث الحلبي.
محمد بن أحمد بن عثمان بن عمر، التونسي المالكي المعروف بالوانوغي أبو عبد الله - بتشديد النون المضمومة وسكون الواو بعدها معجمة، ولد سنة تسع وخمسين، وسمع من أبي الحسن البطرني وأبي عبد الله بن عرفة ولازمه في الفقه وغيره، وعني بالعلم وبرع في الفنون مع الذكاء المفرط وقوة الفهم وحسن الإيراد وكثرة النوادر المستظرفة، والشعر وكان كثير الوقيعة في أعيان المتقدمين وعلماء العصر وشيوخهم شديد الإعجاب بنفسه والازدراء بمعاصريه، فلهجوا بذمة وتتبعوا أغلاطه في فتاويه، أقام بمكة مجاوراً ثم بالمدينة دهراً مقبلاً على الاشتغال والتدريس والتصنيف والإفتاء والإفادة، وجرت له بها محن وكان قد اتسعت دنياه، اجتمعت به المدينة ثم بمكة وسمعت من فوائده؛ مات في سابع عشر ربيع الآخر بمكة، وله أسئلة مشكلة كتبها للقاضي جلال الدين البلقيني فأجابه عنها وكان هو قد بعث بنقض الأجوبة.
محمد بن إسماعيل بن علوان، الزبيدي - بفتح الزاي - ثم المهجمي، ولي قضاء المهجم مدة، وكان نبيهاً مشكور السيرة.
محمد بن أيوب بن سعيد بن علوي، الحسباني الأصل الدمشقي الشافعي، ولد(3/114)
سنة بضع وسبعين، واشتغل وحفظ المنهاج في الفقه والمحرر لابن الهادي وغيرهما، وأخذ عن الزهري والشريشي والصرخدي وغيرهم، ولازم الملكاوي حتى قرأ عليه أكثر المنهاج، ومهر في علم الفقه وفي الحديث، وجلس للاشتغال بالجامع والنفع إلى الطلبة، وكان قليل الغيبة والحسد بل حلف أنه ما حسد أحد، مات مطعوناً في ربيع الآخر وقد تقدم ذكر والده قريباً.
محمد بن أبي بكر بن عبد العزيز بن محمد بن إبراهيم بن سعد الله ابن جماعة عز الدين ابن شرف الدين بن عز الدين بن بدر الدين، ولد سنة سبع وأربعين وسبعمائة بمدينة ينبع، وسمع من القلانسي والعرضي والبياني وجده وغيرهم، وأحضر علي الميدومي، وأجاز له جماعة من الشاميين والمصريين بعناية الشيخ زين الدين العراقي، ونشأ مشتغلاً بالعلم، ومال إلى المعقول فاتقنه حتى صار أمة وحده وبقيت طلبة البلد كلها عيالاً عليه في ذلك، وصنف التصانيف الكثيرة المنتشرة وقد جمعها في جزء مفرد، وضاع أكثرها بأيدي الطلبة والموجود فيها التصنيف الأول من حاشية العضد وشرح جميع الجوامع، وقد أخذت عنه هذين الكتابين، وله على كل كتاب أقرأه مع أنه كاد أن يقرئ جميع هذه المختصرات التصنيف والتصنيفان، والثلاثة ما بين حاشية ونكت وشرح، وكان أعجوبة دهره في حسن التقرير، ولم يرزق ملكة في الاختصار ولا سعادة في حسن التصنيف بل بين لسانه وقلمه كما بينه هو وآحاد طلبته، وكان ينظم شعراً عجيباً غالبه غير موزون ويخفيه كثيراً إلا عمن يختص به ممن لا يدري الوزن، وأقرأ التنبيه والوسيط وأقرأ شرح الألفية لولد المصنف وكتب عليه تصنيفا وأقرأ التسهيل وأقرأ الكشاف والمطول لسعد الدين وكتب عليه شيئاً سماه المعول والشرح(3/115)
الصغير لسعد الدين أيضاً وكتب عليه شيئاً وسماه سبك النضير في حواشي الشرح الصغير، ونظر في كل فن حتى في الأشياء الصناعية كلعب الرمح ورمي النشاب وضرب السيف والنفط حتى الشعوذة حتى في علم الحرف والرمل والنجوم ومهر في الزيج وفنون الطب، وكان من العلوم بحيث يقضي له في كل فن بالجميع هذا مع الانجماع عن بني الدنيا وترك التعرض للمناصب، وقد نفق في سوق الدولة المؤيدية وكارمه السلطان عدة مرار بجملة من الذهب ومع ذلك كان يمتنع من الاجتماع به ويفر إذا عرض عليه ذلك وحضر معنا المجلس المعقود للهروي في السنة الماضية فلم يتكلم في جميع النهار كله مع التفاتهم واستدعائهم منه الكلام حتى سأله السلطان في ذلك المجلس عن تصنيفه في لعب الرمح فجحد أن يكون صنف شيئاً، وكان يبر أصحابه ويساويهم في الجلوس ويبالغ في إكرامهم، وكان لا يتصون عن مواضع النزه والمقترحات، ويمشي بين العوام ويقف على حلق المنافقين ونحوهم، ولم يتزوج فيما علمت بل كانت عنده زوجة أبيه فكانت تقوم بأمر بيته ويبرها ويحسن إليها، ولم يتفق له أن يحج مع حرص أصحابه له على ذلك، وكان يعاب بالتزي بزي العجم من طول الشارب وعدم السواك حتى سقطت أسنانه، وبلغني أنه كان يديم الطهارة فلا يحدث إلا توضأ، ولا يترك أحد يستغيب عنده أحد، هذا مع ما هو فيه من محبة الفكاهة والمزاح واستحسان النادرة، لازمته من سنة تسعين إلى أن مات، وكان يودني كثيراً ويشهد لي في غيبتي بالتقدم ويتأدب معي إلى الغاية مع مبالغتي في تعظيمه حتى كنت لا أسميه في غيبته إلا إمام الأئمة، وقد أقبل في الأخير على النظر في كتب الحديث واستعار من ابن العديم تخريج أحاديث الرافعي الكبير لشيخنا ابن الملقن وهو في سبع مجلدات فمر عليه كله(3/116)
واختصره على ما ظهر له وفرغ منه عند موت ابن العديم ثم مات هو بعد ذلك بيسير، وكان ينهى أصحابه عن دخول الحمام أيام الطاعون فقدر أن الطاعون قد ارتفع أو كاد فدخل هو الحمام فخرج فطعن عن قرب، فمات في ربيع الآخر وفي العشرين منه، واشتد أسف الناس عليه، ولم يخلف بعد مثله.
محمد بن أبي بكر بن محمد بن أبي الفتح، البيري شمس الدين ابن الحداد، ولد سنة ... وتفقه على الزين الباريني ومهر، ثم رحل إلى القاهرة وتصرف وكان يذاكر بأشياء حسنة، وسكن بعد اللنك بحلب دهراً ثم رجع إلى بلده البيرة، فأقام بزاويته إلى أن مات في رجب.
محمد بن بهادر اللطيفي أحد الأمراء باليمن وقد ناب في وصاب وغيرها، وكان محباً في أهل الخير.
محمد بن سيف بن محمد بن عمر بن بشارة، مات مقتولاً في القاهرة وحشي جلده تبناَ وحمل إلى صفد في ذي الحجة.
محمد بن طيبغا التنكزي ناصر الدين، كان أبوه من مماليك تنكز نائب الشام، فولد له هذا في رمضان سنة إحدى أو اثنتين وستين وحفظ الحاوي، واشتغل(3/117)
ولازم الشيخ شهاب الدين بن الحباب مدة وهو بزي الجند، ثم بعد اللنك - صار يقرأ البخاري ويتكلم في حال القراءة على بعض الأحاديث، وقد - انقطع عند المصلى فتردد الناس، وكان يغلظ للترك وغيرهم وربما آذاه بعضهم، وكان يستحضر كثيراً من الفقه والحديث - والتفسير إلا أنه عريض الدعوى جداً مع أنه متوسط في الفقه، ومات في شهر رمضان.
محمد بن محمد المشهدي شمس الدين بن القطان، أخذ عن الشيخ ولي الدين الملوي ونحوه واعتنى بالعلوم العقلية، واشتغل كثيراً حتى تنبه، وكان يدري الطب ولكن ليست له معرفة بالعلاج، سمعت من فوائده، ومات في الطاعون عن نحو ستين سنة.
محمد بن علي بن معبد القدسي المالكي المعروف بالمدني، ولد سنة تسع وخمسين، واشتغل قليلاً وأخذ عن جمال بن خير ولازمه، وسمع الحديث من محي الدين بن عبد القادر الحنفي وحدث، ثم ولي تدريس الحديث بالشيخونية فباشره مع قلة علمه به مدة ثم نزل عنه، ثم ولي القضاء بعناية فتح الله كاتب السر في الأيام الناصرية، ثم صرف ثم أعيد ثم صرف في الأيام المؤيدية ثم أعيد، وكان مشكوراً في أحكامه، ووقعت له كائنة صعبة مع شريف حكم بقتله، فأنكر عليه ذلك أهل مذهبه ولم يكن بالماهر في مذهبه، مات في عاشر ربيع الأول.
محمد بن عمر بن إبراهيم بن محمد بن عمر بن عبد العزيز بن محمد بن أبي جرادة، العقيلي الحلبي نزيل القاهرة ناصر الدين ابن العديم الحنفي، تقدم نسبه في ترجمه أبيه سنة إحدى عشرة، ولد سنة اثنتين وتسعين بحلب وأسمع على عمر بن أيدغمش مسند حلب وعلى غيره، وقدم القاهرة مع أبيه وهو شاب فشغله في عدة فنون(3/118)
على عدة مشايخ، وقرأ بنفسه على شيخنا العراقي قليلاً من منظومته، وكان يتوقد ذكاء مع هوج ومحبة في المزاح والفكاهة إلى أن مات أبوه وأوصاه أن لا يترك منصب القضاء ولو ذهب فيه جميع ما خلفه، فقبل الوصية ورشا على الحكم إلى أن وليه، ثم صار يرشوا أهل الدولة بأوقاف الحنفية بأن يؤجرها لمن يخطر له منهم ببال بأبخس أجرة ليكون له عوناً على مقاصده إلى أن كان يخربها ولو دام قليلاً لخربت كلها، وصار في ولايته القضاء كثير الوقيعة في العلماء قليل المبالاة بأمر الدين كثير التظاهر بالمعاصي ولا سيما الربا سيئ المعاملة جداً أهوج متهوراً، وقد امتحن في الدولة الناصرية على يد الوزير سعد الدين البشري وصودر وهو مع ذلك قاضي الحنفية.
ثم قام في موجب قتل الملك الناصر قياماً بالغاً ولم ينفعه ذلك لأنه ظن أن ذلك يبقيه في المنصب فعزل عن قريب كما تقدم في الحوادث، وقد ذكرنا في الحوادث تنقلاته في القضاء والشيخونية، ثم لما وقع الطاعون في هذه السنة ذعر منه ذعراً شديداً وصار دأبه أن يستوصف ما يدفعه ويستكثر من ذلك أدوية وأدعية ورقي، ثم تمارض لئلا يشاهد ميتاً ولا يدعى إلى جنازة لشده خوفه من الموت، فقدر الله أنه سلم من الطاعون وابتلى بالقولنج الصفراوي، فتسلسل به الأمر إلى أن اشتد به الخطب فأوصى ومن جملة وصيته ما قدمته من قصة ابن الطرابلسي، فلما بلغه أن ابن الطرابلسي مات قبله سر بذلك وأشهد عليه أنه رجع عما كان أوصى به لابن الجيتي، فقدر الله تعالى أن ابن الجيتي أيضاً قد مات قبله بعشرة أيام، ثم مات ابن العديم في ليلة السبت تاسع شهر ربيع الآخر.(3/119)
أبو البركات محمد بن أبي السعود محمد بن حسين بن علي بن أحمد بن ظهيرة، المخزومي المكي كمال الدين، ولد سنة أربع وستين وسبعمائة، وأحضر على عز الدين بن جماعة ولم يعتن بالعلم بل كان مشتغلاً بالتجارة مذكوراً بسوء المعاملة، وولي حسبة مكة ونيابة الحكم عن قريبه الشيخ جمال الدين، فعيب جمال الدين بذلك، وأنكر عليه من جهة الدولة فعزله، فسعى هو في عزل جمال الدين وبذل مالاً في أوائل الدولة المؤيدية فلم يتم له ذلك حتى مات جمال الدين، فتعصب له بعض أهل الدولة فولي دون السنة ثم ولي مرة ثانية في هذا السنة دون الشهرين، ومات معزولاً في ثالث عشري ذي الحجة بعلة ذات الجنب.
محمد بن محمد بن عبد الله شمس الدين ابن مؤذن الزنجبيلية، اشتغل وهو صغير، فحفظ مجمع البحرين والألفية وغيرها، وأخذ الفقه عن البدر المقدسي، وابن الرضي، ومهر في الفرائض وأخذها عن الشيخ محب الدين، واحتاج الناس فيها، وجلس للاشتغال بالجامع الأموي، وكان خيراً ديناً مات في شوال.
محمد بن محمد بن محمد بن إبراهيم الحسباني شمس الدين رئيس المؤذنين بالجامع الأموي، وكبير الشهود بدمشق، كان عارفاً بالشروط سريع الكتابة ذكياً يستحضر كثيراً من الفقه والحديث مع كثرة التلاوة، مات في شعبان.
محمد بن محمد بن محمد بن محمد بن عبد الدائم، الباهي أبو الفتح نجم الدين الحنبلي، وبرع في الفنون، وتقرر مدرساً للحنابلة في مدرسة جمال الدين برحبة باب(3/120)
العيد، وكان عاقلاً رصيناً كثير التأدب؛ مات في ليلة الجمعة رابع عشري ربيع الأول بالطاعون عن بضع وثلاثين سنة.
محمد بن محمد الكوم، الربشي تاج الدين ابن شمس الدين نقيب درس الحنابلة، مات في ربيع الأول مطعوناً ولم يبلغ الخمسين، وكان موصوفاً بحسن المعاملة.
محمد بن الشيخ ... الدين، الحلواني، مات في يوم الخميس رابع عشي صفر مطعوناً، وكان كثير المجازفة في القول سامحه الله.
محمد بن.....قطب الدين الأبرقوهي أحد الفضلاء ممن قدم القاهرة في رمضان سنة ثماني عشرة فأقرأ الكشاف والعضد وانتفع به الطلبة، ومات في أواخر صفر مطعوناً.
مساعد بن ساري بن مسعود بن عبد الرحمن، الهواري المصري، نزيل دمشق، ولد سنة بضع وثلاثين، وطلب بعد أن كبر فقرأ على الشيخ صلاح الدين العلائي وولي الدين المنفلوطي وبهاء الدين بن عقيل والأسنوي وغيرهم، ومهر في الفرائض والميقات، وكتب بخطه الكثير لنفسه ولغيره، ثم سكن دمشق وانقطع بقرية عقربا، وكان الرؤساء يزورونه وهو لا يدخل البلد مع أنه لا يقصده أحد إلا أضافه وتواضع معه، وكان ديناً متقشفا، سليم الباطن، حسن الملبس، يستحضر الكثير من الفوائد وتراجم الشيوخ الذين لقيهم،(3/121)
وله كتاب في الأذكار سماه بدر الفلاح في أذكار المساء والصباح، ومات بقرية عقربا شهيداً بالطاعون، وكان دميم الشكل جداً رحمه الله.
مفتاح الطواشي، الحبشي ثم اليمني، ولي إمرة عدن للأشرف.
مقبل بن عبد الله، الطواشي الأشقتمري الرومي، كان جمدار عند الظاهر والناصر وكان ملازماً لديانة محباً للفقهاء، اشتغل بالعلم كثيراً، وحفظ الحاوي الصغير فصار يذاكر به، حسن القراءة للقرآن جداً، ثم عمر مدرسة بالتبانة وقرر فيها مدرستين وطلبة، وكان قد أسر مع اللنكية من دمشق ثم خلص، وحضر مع الرسل الواردين من اللنك في سنة ست وثمانمائة وجاور عامين متواليين قبل موته، ومات بالطاعون.
موسى بن أحمد بن عيسى، الحرامي - بالمهملتين - أمير حلي انفرد بإمرتها بعد أخيه دريب، ثم أخرجه حسن بن عجلان منها، ثم عاد إليها حتى مات في هذه السنة.
موسى بن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الناصر بن عالي بن عمر الشريف شرف الدين الشطنوفي، ولد في حدود الأربعين، ومات في ذي القعدة، وكان حسن المحاضرة كثير النادرة وينظم شعراً كثيراً وسطاً.
همام بن أحمد الخوارزمي - هكذا رأيت بخطه، وقد يدعى محمداً أيضاً، الشيخ همام الدين الشافعي، اشتغل في بلاده ثم جاء إلى حلب قبل اللنكية، فأنزله القاضي(3/122)
شرف الدين أبو البركات في دار الحديث البهائية، فأقام بها، ثم قدم القاهرة في أوائل الدولة الناصرية، واشتمل عليه بعض الأمراء فحصل له بعض المدارس، ثم نزل عنها للحاجة، فلما عمر جمال الدين مدرسته عين له، ووصف وبالغ في الوصف فاستحضره وأشخص به وأسكنه بيتاً قريباً منه ورتب له الرواتب الواسعة، ثم لما فتحها أسكنه في المسكن البهي الذي عمر له وأجلسه شيخا بها وقرر له معاليم ورواتب خارجاً عن ذلك وهدايا وعطايا ومراعاة وسماع كلمة فنبه بعد أن كان خاملاً، وتحلى بما ليس فيه بعد أن كان عاطلاً وانثال عليه الطلبة لأجل الجاه، فكان يحضر درسه منهم أضعاف من هو منزل فيه، وأقرأ في المدرسة المذكورة الحاوي والكشاف، ثم طال الأمر فاقتصر على الكشاف وكان ماهراً في إقرائه إلا أنه بطيء العبارة جداً بحيث يمضي قدر درجة حتى ينطق بقدر عشر كلمات، وكانت له مشاركة في العلوم العقلية مع إطراح التكلف وسلامة الباطن، يمشي في السوق ويتفرج في الحلق في بركة الرطلي وغيرها، وكانت له ابنة ماتت أمها فصار يلبسها بزي الصبيان ويحلق شعرها ويسميها سيدي علي. وتمشي معه في الأسواق إلى أن راهقت، وهي التي تزوجها الهروي فحجبها بعد ذلك، وقد ذكرت ما اتفق له في المجلس المعقود للهروي مات في العشر الأخير من ربيع الأول وقد جاوز السبعين.
يوسف بن عبد الله المارديني الحنفي، قدم القاهرة ووعظ الناس بالجامع الأزهر، وحصل كثيراً من الكتب مع لين الجانب والتواضع والخير والاستحضار لكثير(3/123)
من التفسير والمواعظ؛ مات في الطاعون وقد جاوز الخمسين، وخلف تركة جيدة ورثها أخوه أبو بكر: ومات بعده بقليل سنة 822هـ.
نور الدين بن قوام البالسي ثم الصالحي.(3/124)
سنة عشرين وثمانمائة
استهلت والسلطان على قصد السفر لتمهيد أمور البلاد الشمالية فعلق الجاليش في خامس المحرم ونودي على الفلوس أن تكون سعر كل رطل ستة فاستقامت الأحوال، وأمر طرغلي بن صقل سيز السفر لجمع التراكمين فتوجه، وفرقت النفقات في نصف الشهر فكان لكل مملوك عشرة آلاف درهم يكون حسابها من الذهب أربعين مثقالاً، وكانت النفقة من الخزانة للأمير الكبير خمسة آلاف دينار ولأمير آخور أربعة آلاف، ولمن دونه من المقدمين لكل واحد من الطبلخاناة خمسمائة ولكل أمير عشرة مائتين.
وفي أول هذه السنة بلغ أقباي الدويدار نائب حلب تغير خاطر السلطان عليه فركب على الهجن جريدة في أسرع وقت فوصل إلى قطيا واستأذن في الوصول، فأمر السلطان بتلقيه، فتلقوه بسرياقوس، وجهز إليه مركوب وكاملية، فلقي السلطان يوم السبت محرم 24 المحرم، فلامه السلطان على سرعة الحركة فاعتذر، فقرره على نيابة الشام وأمره بالمسير إلى دمشق فسار جريدة على الخيل.
وفيه ضرب الدنانير من عشرة مثاقيل وخمسة، وكان السالمي قبل ذلك ضرب ذلك ثم بطل فجدده المؤيد، فكان الذي يحصل له الدينار منها لا يجد صيرفيا يصرفه، فلما كثر التشكي من ذلك بطلت.
واستناب في حلب قجقار القردمي أمير سلاح، وجهز أقبغا أمير أخور للقبض على الطنبغا العثماني نائب الشام والحوطة على موجوده وسجنه بالقلعة فتوجه لذلك مسرعا. ونودى للأجناد البطالين أن يخدموا عند الأمراء وعند السلطان، ومن وجد بعد ذلك بطالاً - بغير خدمة لا يلومن إلا نفسه! ثم قبض على جماعة ممن لم يمتثلوا الأمر فسجنوا(3/125)
وخرج السلطان إلى الريدانية في سادس عشري المحرم، وقرر نيابة الغيبة طوغان أمير آخور، وقرر في القلعة أزدمر شايه، وكان قدم أمير المحمل في أول السنة، وقدم القاصد إلى السلطان بخيمة كبيرة بلغت النفقة عليها عشرة آلاف دينار، وتقدم الجاليش صحبة إبراهيم ولد السلطان ومعه قجقار نائب حلب وجماعة من الأمراء وسار السلطان في رابع صفر، وتأخر بالقاهرة فخر الدين الأستادار وعين نائب الغيبة له مائتي مملوك يكونون صحبته من أجناد القلعة وسافر القضاة صحبة السلطان على العادة إلا المالكي فكان قريب العهد بالقدوم من الحج فأعفي عن السفر، وأتفق أن شهاب الدين القرداج كان استقر مؤذناً في الركاب السلطاني فتغيب عن السفر فورد، المرسوم بعد مدة بالقبض عليه وبتجريسه فجرس ثم حبس إلى أن جاء الخير بقدوم السلطان فأفرج عنه وأذن له في ملاقاته.
في ثاني عشر صفر وصل ناصر الدين ابن خطاب الحاجب بدمشق بسبب الطنبغا العثماني وقد قبض عليه وسجن بقلعة دمشق، وكان الخبر لما وصل بذلك أذعن وحل سيفه بيده وهو حينئذ بالحزبة وتوجه صحبة العسكر إلى دمشق فسجن بالقلعة، ونزل السلطان غزة في نصف صفر، ونزل بمصطبة استجدها بظاهر المدينة، فقدم خليل الجشاري نائب صفد وحسن بشارة مقدم البلاد الصفدية عليه.
ثم توجه إلى جهة دمشق وأمراء العربان ومشايخ البلاد يردون إلى أن وصل مرج الكتيبة في سابع عشري صفر، وقدم عليه قصاد أمراء التركمان يسألون الصفح عنهم ويعدونه بحضورهم إلى الطاعة، فأجيبوا بأنهم إن صدقوا في ذلك وصلوا وإلا فليتخذ كل منهم نفقاً في الأرض أو سلماً(3/126)
في السماء.
ثم قدم أقباي نائب الشام في العسكر، ودخل السلطان دمشق أول ربيع الأول، ولم ينزل القلعة بل استمر سائراً إلى أن نزل بالمصطبة التي استجدها لنفسه ببرزة وابنه إبراهيم حامل القبة على رأسه فكان يوماً مشهوداً.
وفي ليلة الجمعة عمل المولد هناك على العادة وأرسل في ثامنه زين الدين الخواجا إلى محمد بن قرمان برسالة.
وفي تاسعه قدم يشبك نائب طرابلس.
وفي عاشره دخل السلطان حمص وقدم نائب حماة جارقطلو فأعيد إليها من ساعته لعمل المهمات السلطانية.
وفي ثالث ربيع الأول أفرج السلطان عن سودون القاضي وأعطاه إقطاع اقبردى المنقار بعد موته، وتوجه السلطان على حماة فقدم عليه بها حديثة بن سيف أمير آل فضل وغنام بن زائل أمير آل موسى فتشاجرا في قتل سالم بن طويب فسكن السلطان ما بينهما، ثم عرض عليه تقادم لأمراء فقبلها، ثم سار متوجهاً إلى حلب فخيم في ليلة الثلثاء سابع عشرة بمنزلة تل السلطان وكانت قديماً تعرف بالعبيديين، وأصبح فاستعرض العساكر هناك، ثم رحل إلى قنسرين فقدم بها قجقجار القردمي نائب حلب بعساكرها، ثم قدم طغريل بن صقيل سيز بعساكره وهم ألف وخمسمائة فارس.
وفي يوم السبت حادي عشر ربيع الأول ركب السلطان عند الفجر وشرع في صف الأطلاب وتعبية العساكر بنفسه، ودخل حلب وهو في الميمنة من شرق حلب بين النيرب وجيرين وشقها إلى أن نزل المصطبة الظاهرية خارجها، ودخلت الميسرة من الجهة الأخرى والتقوا بالميدان الأخضر، وترقب وصول الرسل التي أرسلها إلى أطرافه، فقدم في ثاني(3/127)
عشري ربيع الأول خليل بن بلال الكردي نائب مدينة إياس ومعه مفاتيح قلعتها، فقرر في نيابتها صاروجاء مهمندار حلب.
وقدم عليه في ثالث عشر منه جمع كثير من التركمان والعربان، ثم جهز نائب الشام ونائب حماة وعسكرهما ومن انضم إليهما من تركمان وعرب إلى جهة ملطية وقرر داود بن أوزر وجماعة بالعمق، وقرر في نيابة حلب يشبك اليوسفي، وفي نيابة القلعة شاهين وأرغون وأمره بتقوية البرجين اللذين جددهما جكم، فأكمل عمارتهما وشيدهما وحصنهما، فصارا كقلعتين استخرجتا من القلعة الكبرى وعظم شأن القلعة بهما، وأمر المؤيد بعد ذلك بتكملة سور حلب فشرع فيه وطلب العمال من البلاد حتى جدوا فيه وتعب أهل حلب في عمله، ثم سار الجاليش السلطاني ومقدمهم الطنبغا القرمشي في عدة من الأمراء، وتوجه السلطان في ثاني ربيع الآخر على جهة العمق، فقدم عليه رسل محمد بن قرمان وفيهم مصلح الدين مرسل قاضي عسكره وصحبته هدية وكتاب اعتذار عن تقصيره وطبق فضة مسكوكة باسم المؤيد، فعنف السلطان الرسول وعدد له خطأ مرسله في امتناعه عن تجهيز مفاتيح طرطوس، وفي عدم قبضه على كزل وغيره من المتسحبين فاعتذر مصلح الدين، فصفح عنه وأمره بالجلوس وفرق الدراهم على الحاضرين، وقدم في ذلك اليوم رسول ابن عثمان، ثم قدم إبراهيم بن رمضان وابن عمه وأكثر التركمان الأوجيقية وقدمت معهم أم إبراهيم وأولاده الصغار، فأكرمهم السلطان وخلع عليهم وأنفق فيهم، وأرسل مصلح لإحضار مفاتيح طرطوس بشرط إن مضى جمادى الأولى ولم يحضرها مشى السلطان على بلاد ابن قرمان، وتوجه قجقار نائب حلب إلى جهة طرطوس فقدم بين يديه شاهين الأيدكاري فدخل طرطوس وتحصن نائبها مقبل بالقلعة، فنزل(3/128)
قجقار فحاصر القلعة إلى أن أخذها بالأمان في أواخر ربيع الآخر.
وأخذ مقبل ومن معه وسجنوا - وسار السلطان على جهة مرعش على الأبلستين وحضر إلى قجقار لما نزل بغراص خليفة الأرمن بمفاتيح قلعتي سيس وبادوز، فجهزهم السلطان فخلع علي القصاد.
وقرر في نيابة قلعة سيس الشيخ أحمد أحد العشراوات بحلب، ووصل نائب الشام إلى ملطية في خامس ربيع الآخر فوجد حسن بن كبك قد أحرقها فلم يبق منها إلا اليسير ولم يتأخر من أهلها إلا الضعيف العاجز ونزح فلاحوها فتوجه في آثارهم وأعلم السلطان، فأرسل السلطان ولده إبراهيم ومعه جقمق الدويدار وجماعة من الأمراء فساروا مجدين ودخلوا الأبلستين للقبض على ابن دلغادر، ففر منهم وأخلى البلاد، فتوجهوا منها وأوقعو بمن في كلد من التركمان وبمن في خان السلطان وبمن صار وشر ولحقوا محمد بن دلغادر في سادس عشره وهو سائر بحريمه وأثقاله فاحتووا على جميع ماله، وخلص هو في جريده من الخيل، وقبض على جماعة من أصحابه، ومن جملة ما نهب له مائة بختي كل واحد قدر الفيل،(3/129)
ورجع نائب الشام وقد قرر أمر ملطية، وفر حسين بن كبك إلى بلاد الروم، وتوجه نائب حماة إلى جهة كختا وكركر فنازل القلعتين وقد أحرق نائب كختا أسواقها، ثم أمد السلطان نائب الشام بعسكر آخر، وقدم كتاب محمد بن دلغادر يسأل العفو عن أن يسلم قلعة درندة، فأجيب إلى ذلك فقدم ولده ومعه هدية ومفاتيح القلعة.
وفي أواخر الشهر قدم قاصد علي ابن دلغادر ومعه هدية وكتاب فأضاف له السلطان نيابة الأبلستين مع نيابة مرعش، وتوجه السلطان في ثامن عشري الشهر إلى درندة وبات عليها واستدعى بآلات الحصار فوصلت مفاتيح قلعة خيدروس، وأوقع الأمير استنبك بن إينال بمحمد بن دلغادر فقطعت يد ولده الكبير في الوقعة، ثم ركب السلطان بنفسه على درندة، وطلبوا الأمان فأمنهم يوم الجمعة سلخ الشهر، وفيهم داود بن محمد بن قرمان فألبسه السلطان خلعة واستولى على القلعة وقرر في نيابة ملطية ودوركي منكلي بغا الأرغون شاوي.
وفي سادس جمادى الأولى وجه محمد بن شهري عسكراً فقاتلوا بقلعة خرت برت فأخذوها فجهز من أهلها أحد عشر رجلاً، فأمر السلطان بصلبهم على قلعة درندة، ثم رجع السلطان إلى الأبلستين يريد بهنسا وكختا وكركر وأرسل من هنا رسول قرا يوسف واسمه دنكز بجواب كتابه وصحبته هدية مع رسول من جهة السلطان، ثم وصل رسول من جهة قرا يوسف صحبة القاضي حميد الدين قاضي عسكره ووصل كتاب محمد شاه بن قرا يوسف وكتاب سر عمر حاكم أذربيجان،(3/130)
وتوجه السلطان إلى بهنسا بعد أن وجه إليها نائب الشام، فتسلم نائب الشام القلعة من طغرق بن داود بن إبراهيم بن دلغادر وأخذه صحبته ورجع إلى لقاء السلطان، فالتقيا به عند حصن منصور فرضي على طغرق، ونزل قجقار نائب حلب على كختا وكركر، ثم أردفه السلطان بنائب حماة ونائب طرابلس ونزل السلطان بحصن منصور في أواخر جمادى الآخرة، فقدم عليه رسول قرا يلك بهدية، وقدم عليه رسول الملك العادل سليمان الأيوبي صاحب حصن كيفا بهديته، وقرر في نيابة قلعة الروم منكلي بغا عوضاً عن أبي بكر بن بهادر الياسري وقرر في نيابة بهنسا كمشبغا الركني، ونازل كختا ونصب للرمي على قلعتها مدفعا - فبينا هو كذلك إذ ورد الخبر بأن قرا يوسف قصد قرا يلك، فالتجأ قرا يلك إلى السلطان وكاتبه واحتمى به واشتد الحصار على قلعة كختا ولم يبق إلا أخذها فطلب صاحبها الأمان، فآل الأمر إلى أنه يبعث ولده لهنا وينزل عن القلعة بعد رحيل السلطان، فتوجه السلطان إلى جهة كرر وسارت الأثقال إلى عينتاب فنازل السلطان قلعة كركر في أوائل جمادى الآخرة ونزل قرقماش من قلعة كختا فتسلمها نواب السلطان، وطرق جماعة من عسكر قرا يوسف قلعة تناسر فنهبوا بيوت الأكراد، وعدا منهم جماعة الفرات فركب عليهم بغا نائب ملطية فساروا إلى خرت برت، وقرر السلطان شاهين الحاجب في نيابة كركر وكزل بغا في نيابة كختا.
وفي سابع رجب عاود السلطان ألم رجله فركب المحفة عجزاً عن ركوب الفرس، فنزل الفرات في مركب وصحبته خاصته إلى أن وصل قلعة الروم وقرر أمرها.
وفي سابع رجب قدم كتاب اقباي نائب الشام أن قجقار نائب حلب رحل عن حصار(3/131)
كركر بغير علمه، فوصل كتاب قجقار يعتذر عن ذلك بأنه بلغه أن قرا يوسف واقع قر يلك فهزمه وأن من معه خافوا من قرا يوسف، فلما حل ذلك رحل فأجيب نائب الشام بأن يستمر على الحصار، ووقع الغضب على قجقار، ثم طلب خليل نائب كركر الصلح من نائب الشام فراسل السلطان في ذلك، ودخل السلطان حلب في ثالث عشر رجب فوجد أهلها في وجل شديد من قرب قرا يوسف، فاطمأنوا بحضور السلطان، وأمر السلطان بتكملة القصر الذي كان جكم قد شرع في عمارته فعمر في أسرع وقت، وقعد السلطان فيه في آخر الشهر وأمر بصلب مقبل القرماني ورفاقه، ووصل النواب في سابع عشر رجب، فأغلظ السلطان لقجقار يوبخه على سرعة رحيله، فأجاب بغلظة فأمر بالقبض عليه فسجن بقلعة حلب ثم أفرج عنه من يومه وأرسله إلى دمشق بطالاً، وقرر يشبك نائب طرابلس في نيابة حلب، وقرر بردبك في نيابة طرابلس، وقرر ططر رأس نوبة موضع بردبك، ونقل جارقطلو إلى نيابة صفد، وقرر في نيابة حماة نكباي ونقل خليل الجشاري نائب صفد حاجباً بطرابلس فاستعفى فأعفي، وقرر عوضه سودون - قرا صقل وتوجه النواب إلى بلادهم، وحضر السلطان حميد الدين رسول قرا يوسف ورسول صاحب حصن كيفا يسأل أن ينعم عليه بانتسابه إلى السلطان واستمراره نائباً من نوابه، فخلع على قاصده وخلع على قاصد قرا يوسف وأعيد إلى مرسله.
وفي شعبان أصلح السلطان بين حديثه أمير آل فضل وبين غنام ابن زامل وحلفهما على الطاعة، وخلع على محمد بن دلغادر بنيابة الأبلستين.
ووصل قاصد كردي بك ومعه سودون اليوسفي أحد من هرب في وقعة قانباي فسمر تحت قلعة حلب ثم وسط.(3/132)
وفي شعبان قبض ابن عثمان على محمد بن قرمان وعلى ولده مصطفى بعد أن حاصره بقونية واستولى عليها وعلى غالب بلاد ابن قرمان قيسارية وغيرها.
وفي أواخر شعبان سجن طرغلي وابن عمه طغريل ابنا سقل سيز وسجنا - بقلعة حلب، وقرر محمد بك - التركماني في نيابة شيزر عوضاً عن طرغلي، وقرر مبارك شاه في نيابة الرحبة عوضاً عن عمر ابن شهري.
ووصل في سابع عشر شعبان كتاب قرا يلك واسمه طورغلي التركمان بأنه اصطلح مع قرا يوسف وتسلم قرا يوسف عنه مدينة صور وعوضه عنها بألف ألف درهم، ومائة فرس ومائة جمل ورحل عنه إلى تبريز في رابع شعبان، فقريء كتابه على العسكر فاطمأنت نفوس أهل حلب بعد أن كانوا تهيئوا للرحيل إلى القاهرة فراراً من قرا يوسف، وثم وصلت الكتب من نائب البيرة وقلعة الروم ونائب كختا ونائب ملطية بنظير كتاب قرا يلك، فرحل السلطان من حلب في ثامن عشر شعبان، ودخل دمشق في ثالث رمضان، وقبض على أقباي نائب الشام وسجنه بقلعة دمشق، وكان المؤيد قد اشتراه صغيراً، ورباه ورقاه في خدمته إلى أن صار دويداراً كبيراً ثم ولاه نيابة حلب ثم دمشق وكان يتدين ويحب العدل ويسمو بنفسه وعلو همته إلى معالي الأمور، وكان السلطان غضب منه لكونه آوى جماعة من العصاة الذين خرجوا مع قانباي فهم به، فبلغه ذلك فقدم مسرعاً فأغضى السلطان عنه ورده إلى نيابة الشام، فنقل عنه بعض أعدائه أنه يهم بالخروج على السلطان، فاستدعاه السلطان يوم الركب ووبخه وعدد له من ذنوبه وأمر بالقبض عليه، وقرر تنبك في نيابة الشام بعد امتناع، ورضى عن قجقار القردمي وقرره أميراً بتقدمة ألف بمصر، وأفرج عن الطنبغا العثماني ونقله إلى القدس بطالاً، وقرر في نيابة حلب يشبك اليوسفي وفي نيابة القلعة شاهين الدويدار الأرغون شاه - فأحسن السيرة وشرع في تحصين البرجين بسفح القلعة: أحدهما(3/133)
وهو القبلي سوق الخيل، والآخر وهو الشمالي على باب الأربعين، وبذل الجهد في ذلك، وأمر المؤيد بعمارة السور القديم. الذي استهدم من زمن هلاكو وهو محيط بمدينة حلب.
وبرز السلطان من دمشق في رابع عشرة، وقدم بيت المقدس في خامس عشر منه، وفرق على الفقراء مالاً، وجلس بالمسجد الأقصى بعد الصلاة، وقريء البخاري بحضرته من ربعة وختم، ومدح الوعاظ، وكان وقتاً حسناً، ثم توجه إلى الخليل فزار وتصدق أيضاً، ووصل إلى غزة في ثامن عشر منه، وصلى العيد على المصطبة المستجدة ظاهر غزة، ورحلوا من آخر يوم العيد فقدم خانقاه سرياقوس تاسع الشهر فأقام بها إلى رابع عشر شوال، وبات ليلة النصف بخليج الزعفران فأصبح باكره فرأيته - خلع على الأمراء وأصحاب الوظائف، وكانت خلع القضاة بسمور إلا المالكي فإنها كانت بسنجاب لكونه لم يسافر معهم، ودخل القاهرة في نصف الشهر وابنه إبراهيم يحمل القبة على رأسه فشق القاهرة وقد زينت له، ودخل جامعه الجديد ومد له - الأستادار سماطاً حافلاً فأكل منه، ثم مد له سماط آخر حلوى فتنوهبت، ثم ركب إلى القلعة وفرش الأستادار لخيله شققاً حريراً من أوائل الحسينية إلى القلعة.
وفي تاسع عشرة استقر طوغان أمير آخور عوضاً عن تنبك يبق نائب الشام، وقرر الطنبغا المرقبي وكان نائب قلعة حلب في الحجوبية الكبرى، وقرر قجقار القردمي أمير سلاح على عادته قبل نيابة حلب، وخلع على الأستادار بالاستمرار وأضيفت إليه أستادارية إبراهيم ابن السلطان، ورخصت الجمال عند خروج الحجاج جد الكثرة ما ورد مع العسكر.
ثم ركب السلطان في ثاني عشري شوال إلى الصيد ورجع فنزل بيت الأستادار، فخدمه بعشرة آلاف دينار، وركب من منزله حتى شاهد الميضاة، التي أنشأها الأستادار بجوار الجامع المؤيدي، وكان فرغ الأستادار منها في مدة يسيرة.(3/134)
وفي خامس عشري من شوال استعفى فخر الدين الأستادار من الوزارة فقرر فيها أرغون شاه وكان أستادار نوروز بالشام في السادس والعشرين من شوال فباشر الوزارة بحرمة وصولة، وقدم الأستادار للسلطان عند قدومه من السفر أربعمائة ألف دينار عيناً، ثمانية عشرة ألف إردب غلة، فمن ذلك أربعين ألف دينار حصلها من ديوان الوزارة بعد التكفية في هذا المدة اللطيفة، وثمانون ألف دينار جباها من النواحي، وثلاثون ألف دينار من ماله هو، وكان حمل إلى الشام قبل ذلك مائة ألف دينار، فاستعظم السلطان ذلك وتقرر عنده أنه لا نظير له في المباشرين، ولم يسمع فيه بعد ذلك لومة لائم، فعوجل فخر الدين عن قرب ولم ينفعه ما ظلم الناس به.
وفي يوم الثلاثاء العشرين من شوال أدير المحمل وقرر أمير الحاج يشبك الدويدار الثاني، ولم تكن العادة بإدارته إلا يوم الاثنين أو الخميس واتفق أن أمير الركب هذا لما بلغه ما وقع لأخيه آقابي - نائب الشام خشي على نفسه فهرب من المدينة بعد الرجوع، فقام بأمر الحاج اسنبغا الفقيه إلى أن وصلوا إلى القاهرة، وأخبر الحاج لما رجعوا بأن السنة كانت شديدة الرخص حتى بيع الجمل الدقيق بستة دنانير أفلورية - ويقال إنه استقام على الذي جلبه باثني عشر.
وفي الرابع والعشرين من شوال أخرج قباي ومن بالقلعة من المسجونين فخرج نائب القلعة في إثره إلى باب الجديد وركب نائب الشام فأغلق آقباي باب القلعة واعتصم بها، وحاصره تنبك يبق وراسل السلطان بذلك، واستمر يومين، فوشي إلى النائب بأن آقباي قد خرج في النهر ومشى فيه إلى طاحون باب الفرج فقبض عليه هناك وعلى بعض أصحابه، فعوقب عقوبة شديدة على صنيعه ثم قتل بأمر السلطان وقدم برأسه في الثاني من ذي الحجة، وقرر في نيابة القلعة شاهين الحاجب الثاني وقرر في الحجوبية عوضه كمشبغا طولو.
وقرر في تقدمة التركمان عوضه شعبان بن اليغموري أستادار الديوان المفرد بدمشق.
وفي تاسع ذي القعدة وصل رسول قرا يلك في هذا الشهر فانحل سعر عامة المبيعات من الغلال وغيرها، وكان في الظن أن يلغو(3/135)
ذلك بقدوم العسكر فجاء الأمر بخلاف ذلك.
فلما كان في ذي الحجة قلت الغلال وزاد سعر القمح وغيره مائة درهم الإردب وأزيد، وكان السبب في ذلك قلة المطر في الشتاء فجفت الزروع وهافت، فمنع من عنده قمح وغيره من البيع، فلطف الله تعالى بنزول الغيث في رابع عشر ذي الحجة وهو الموافق لإمشير فجادت الزروع ونمت وزكت وتراخى السعر ولله الحمد.
وفيها عصى محمد شاه بن قرا يوسف على أبيه في بغداد وامتنع من الوصول فأراد أبوه أن يحاصره، فأشير عليه بعدم التعرض له فتركه، وشرع محمد المذكور في جمع المال فحصل منه شيئاً كثيراً.
وفيها قتل الشيخ نسيم الدين التبريزي نزيل حلب وهو شيخ الحروفية وقد تقدم ذكر شيخه فضل الله في حوادث سنة أربع وثمانين، وأما هذا فإنه سكن حلب وكثر(3/136)
أتباعه وشاعت بدعته فآل أمره إلى أن أمر السلطان بقتله فضربت عنقه وسلخ جلده وصلب، وقد وقع لبعض أتباعه كائنة في سلطنة الأشراف وأحرقت كتابه معه فيه هذا الاعتقاد وأردت تأديبه فحلف أنه لا يعرف ما فيه وأنه وجده مع شخص فظن أن فيه شيئاً من الرقائق فأطلق، بعد أن تبرأ مما في الكتاب المذكور تشهد والتزم أحكام الإسلام، وكان سبب وقوع ذلك أن شخصاً شريفاً قدم من الشام وذكر أنه لم يزل يسعى في الإنكار على هؤلاء إلى أن عثر بهذا وكتب له مرسوم بالقيام عليهم في بلاد الشام، ثم قدم علينا شخص من أهل أنطاكية فذكر لنا عنهم أموراً كثيرة وكتب له مراسيم بالقيام عليهم وذلك في سنة 841
من الحوادث غير ما يتعلق بسفر السلطان
في المحرم وضعت جاموسة ببلقس مولوداً برأسين وعينين وأربعة أيد وسلسلتي ظهر ودبر واحد ورجلين اثنتين لا غير وفرج واحد أنثى والذنب مفروق باثنين، فكانت من بديع صنع الله.
وفي العشرين من المحرم عرض القاضي زين الدين عبد الباسط الكسوة التي استعملها(3/137)
فكانت في غاية الحسن، وكان الموت في جمال الحاج كثيراً فتضرر طوائف من الحاج وغلا السعر معهم.
وفي أواخر المحرم صرف منكلي بغا عن الحسبة وأعيد محمد بن يعقوب.
وفي صفر توجه فخر الدين الأستادار إلى الوجه البحري فأسعره ناراً من كثرة المصادرات حتى فرض على كل قرية وكفر وبلد ذهباً معيناً فحصله في أسرع مدة ومنع من بيده رزقه من قبض خراجها. وكان ذلك شيئاً عظيماً إلا أنه رجع عن ذلك. واستقوى على المستضعفين وتتبع من يعرف بالمال في الوجه البحري فبالغ في استخلاص الذهب منهم بالمصادرة والرماية وغير ذلك.
وفي ربيع الأول ابتدأ فخر الدين الأستادار بهدم الأماكن التي بظاهر المقس إلى قنطرة الموسكي إلى ما يقابل داره الجديدة التي كانت تعرف بدار بهادر الأعسر وكانت تعرف قديماً بدار الذهب وهي مطلة على الخليج الحاكمي. فشرعوا في الهدم ونقل التراب فدخل في ذلك من الدور والمساجد والحوانيت ما يكون قدر مدينة كبيرة، وأراد أن يعمل ذلك بستاناً كبيراً فشرع فيه، ثم أجرى الماء بعد وفاء النيل من الخليج الناصري ومات قبل أن يتم ما أراد من ذلك فصارت تلك النواحي مكانة مهولة بالأتربة.
وفي حادي عشر ربيع الأول قدم فخر الدين بن أبي الفرج من الوجه البحري، وفيه تهدمت الدور التي أحدثت فوق البرج الذي يجاور باب الفتوح واتخذ هناك مكان وأمر السلطان بحبس أولى الجرائم فيه عوضاً عن خزانة شمائل، وفيه كثر الإرجاف بمجيء الفرنج فشرع أهل الإسكندرية في حفر الخندق واستعدوا لذلك.
وفيه شرع فخر الدين في التجهز إلى جهة الصعيد ليفعل فيها ما فعله في الوجه(3/138)
البحري، فاستعد لذلك وجمع فرسان العربان من كل جهة وأوسع لهم في إخراج العدد التامة من أنواع السلاح، ووسع لهم في العطايا.
وخرج في سادس عشره في جمع كثير فأوقع بطوائف منهم يقال لهم عرب لهانة بناحية القلندون والأشمونين فانهزموا، واستمر متوجهاً وحصل له من البقر والجاموس والجمال والغنم ما لا يدخل تحت الحصر فإن بعضه هلك وبعضه وصل وشرعوا في رميه على الناس وقرر على البلاد الصعيدية نحو ما قرر على البلاد البحرية.
وفيه مات فرج بن الناصر فرج بن الظاهر برقوق بالإسكندرية مطعوناً، فشاع بالقاهرة أنه هو وأخوه والخليفة ماتوا جميعاً فلهج الناس بأنهم ماتوا بالسم، ثم تبين فساد ذلك وأنه لم يمت إلا هذا وحده بالطاعون، وانكسرت بموته حدة كثير من المماليك السلطانية الناصرية، وكانوا في كل وقت يشاع أنهم يريدون الثورة ليسلطنوه، وفشا الطاعون بالإسكندرية ودمياط، ووقع منه بالقاهرة شيء يسير بلغ في اليوم أربعين نفساً.
ومن الحوادث أن السلطان نزل في سادس ذي الحجة وحده بغير أمير من الأمراء إلى الجامع بباب زويلة فنظره وطلع إلى أعاليه وشاهد المواضع التي أخرت من الأبنية ولم يكن صحبته سوى الأستادار وكاتب السر ونحو عشرة من المماليك، فلما نزل من الجامع دخل بيت كاتب السر ثم خرج مه فدخل بيت زين الدين عبد الباسط ناظر الخزانة الشريفة.
وفي سابع عشر ربيع الآخر سقط من العمارة بالمؤيدية عشرة أنفس، فمات أربعة وكسر ستة.(3/139)
وفي أواخر ربيع الآخر توجه مفلح رسول صاحب اليمن وصحبته بكتمر السعدي مملوك ابن غراب رسولاً عن السلطان.
في يوم الجمعة ثاني جمادى الأولى أقيمت الخطبة بالجامع المؤيدي ولم يكمل منه سوى الإيوان القبلي وخطب به عز الدين عبد السلام ... أبن أحمد المقدسي الشافعي نيابة عن القاضي ناصر الدين البارزي، وتوجه الصاحب بدر الدين بن نصر الله ناظر الخاص إلى الشام في عاشر الشهر ومعه محضر بما أنفق في المؤيدية وكان ولده صلاح الدين حينئذ شاداً بها، ثم قدم فخر الدين الأستادار من الصعيد ومعه ستة آلاف بقرة وثمانية آلاف رأس غنم وألفا جمل وألفا قنطار قند، ومن العبيد والإماء شيء كثير جداً خارجاً عن الذهب، وشرع في رمي ذلك على الناس فعم الضرر أهل البوادي والحواضر، وحصل في هذه المدة اللطيفة من المال شيئاً كثيراً أرصده لمجيء السلطان.
وفي جمادى الأولى وقف النيل ونقص شيئاً كثيراً، ثم عاد واستمرت الزيادة فانحل سعر القمح بعد أن غلا.
وفي جمادى الآخرة صرف ابن يعقوب عن الحسبة وقرر عماد الدين ابن بدر الدين ابن الرشيد المصري، وكان ينوب في الحسبة عن التاج وغيره فسعى في الحسبة عن التاج وغيره فسعى في الحسبة استقلالاً عند نائب الغيبة، وألزم تعمير البرجين اللذين أحدهما بباب السلسلة تحت القلعة، وقدرت الغرامة عليهما بخمسمائة دينار فلم يمكن الأستادار مخالفته وكان ابن(3/140)
يعقوب من جهته، فاستمر معزولاً وساءت حال عماد الدين بعد ذلك وهرب كما سيأتي، ولو سلك طريق أبيه لكان أولى به فإن أباه ناب في الحسبة أربعين سنة متوالية ولم يطلب الاستقلال قط فمضى على سداد إلى أن مات، وانتهت زيادة النيل في هذه السنة في سادس عشر توت إلى عشر أصابع من عشرين ذراعاً.
وفي السادس من شعبان أمسك نصراني زنى بامرأة مسلمة فاعترفا بالزناء فحكم شرف الدين عيسى الأقفهسي برجمهما، فرجما خارج باب الشعرية ظاهر القاهرة عند قنطرة الحاجب، وأحرق النصراني ودفنت المرأة، وعاب الناس على القاضي صنيعه هذا من عدة أوجه منها استبداده بذلك وإسراعه بالحكم ودعوى المرأة الإكراه ولم يقبل ذلك منها إلا ببينة فأحضرت واحداً ولم يؤخرها حتى تسمع الشهادة لكون النصراني أسلم لما تحقق الرجم وغير ذلك، ثم جاني المذكور وتنصل مما نقم عليه، فالله أعلم.
وفي سادس شعبان رفع إلى الأستادار أن نصرانياً في خدمته يقال له ابن الحضري وقع منه ما يقتضي إراقة دمه فأحضر القاضي المالكي وكان من جيرانه وحضر معه خلق كثير، فادعى عليه فأنكر، فتشطرت البينة فحكم القاضي بتعزيره، فعند ما جرد ليضرب أسلم فترك واستمر، يباشر وهو غير محب الدين الآتي ذكره، وقرئ البخاري بالمدرسة المؤيدية، وحضر من كان يحضر في القلعة.
وفي هذا الشهر منع النصارى من تكبير العمائم، ولبس الفراجي والجبب بالأكمام الواسعة كهيئة قضاة الإسلام، وركوب الحمر الفره واستخدام المسلمين.(3/141)
وفي نصف شعبان وصل كتاب السلطان من حلب بشرح سيرته في السفرة المذكورة في بلاد الروم وما ملك من القلاع التي لم يملكها أحد من الترك قبله وغير ذلك. فقرأته في الجامع الأزهر وكان يومه مشهوداً.
وفي الثامن عشر من شعبان أسلم الأسعد ابن الحضرمي النصراني كاتب الأستادار، وكان يميل إلى المسلمين حتى حفظ قطعة القرآن وشدا طرفا من النحو، فسماه فخر الدين محمداً ولقبه محب الدين.
وفي رمضان مات قاضي الحنابلة بدمشق شمس الدين ابن عبادة، وقرر بعده القاضي عز الدين المقدسي الحنبلي، ومات ابن عرب في أواخر ذي القعدة، واستقر عوضه في تدريس المؤيدية الشيخ محب الدين أحمد بن الشيخ نصر الله البغدادي.
وفي ثامن عشر رمضان توجه بركات بن حسن بن عجلان إلا مكة، والتزم فخر الدين الأستادار عنه وعن أبيه بمال للسلطان.
وفيه هم فخر الدين بنقل سجن أصحاب الجرائم المسمى بالخزانة إلى نصر الحجازية واستأجره وأمر بعمارته، ثم شغل عنه فلم يتم.
وفي ثامن ذي القعدة سار إبراهيم بن سلطان إلى الوجه القبلي لأخذ تقادم العربان وولاة الأعمال فقام بخدمته ابن محب الدين الكاشف.(3/142)
وفي حادي عشر ذي القعدة قدم محمد وخليل ولدا الناصر فرج من الإسكندرية بعد الاعتقال بإذن السلطان، وقدمت رمة أخيهما فرج فدفنت عند جده الملك الظاهر.
وفي ذي القعدة خرج السلطان إلى البحيرة فوصل إلى رأس القصر، ثم رجع فنزل القصر الذي أنشأه كاتب السر بالشاطئ الغربي قريب منباية.
ثم في هذا الشهر كان لبعض أهل الصعيد غنم يزيد على عشرين ألف رأس فرعت في بعض المراعي فماتت عن آخرها، وقيل إن ذلك من المراعي وكان فيه من حشائش السم.
وفي سلخ ذي القعدة نودي أن يكون كل رطل ونصف من الفلوس بنصف درهم فضة من المؤيدية، وبلغ الذهب إلى مائتين وثمانين والأفلوري إلى مائتين وستين، وأمر الأستادار والوزير وناظر الخاص أن يشتريا من الفلوس ما استطاعوا، ففرض على الأستادار مائة ألف دينار وعلى الآخرين مائة ألف دينار، وأمر أن يحصلوا بثمنها فلوساً، ونودي: من كان عنده فلوس فليحملها إلى الديوان السلطاني وينكل من امتنع من حملها أو سافر بها، وساق فخر الدين الأستادار في الأضاحي إلى السلطان خاصة ألف رأس من الكباش العلوفة ومائة وخمسين بقرة، وقام عنه في التفرقة على الأمراء وغيرهم بعشرة آلاف رأس.
وفي سادس عشريه نزل السلطان إلى الجامع المؤيدي ثم إلى بيت كاتب السر وهو بثياب جلوسه.
وفي رابع عشري ذي القعدة أضيفت الحسبة إلى أقبغا شيطان الوالي وصرف عماد الدين، وقرر سودون القاضي في كشف الصعيد وصرف بدر الدين ابن محب الدين وأمر بإحضاره.(3/143)
وفي تاسع عشري ذي الحجة قدم إبراهيم بن السلطان من السفر.
وفي ذي الحجة كانت الفتنة بدمياط، وكان وإليها ناصر الدين محمد السلاخوري سيء السيرة غاية في الظلم والفسق كثير التسلط على نساء الناس وأولادهم. فتعرض لناس يقال لهم السمناوية يتعيشون بصيد السمك من بحيرة تنيس ومساكنهم بجزائر يقال لها العزب بضم العين وفتح الزاي بعدها موحدة فأنفوا من سوء فعله وفحش سيرته فتجمعوا ليوقعوا به ففر إلى داره فحاصروه الأدب أنهما ليسا له لأنه لم يقع له قريب من ذلك. بها، فرماهم بالنشاب فقتل منهم واحداً وجرح ثلاثة، فازداد حنقهم وتكاثروا إلى أن هجموا عليه. فهرب في البحر في سفينة إلى الجزيرة فتبعوه فتناوبوا ضربه وردوه إلى البلد وحلقوا نصف لحيته وشهروه على جمل والمغاني تزفه ثم قتلوه. ثم أخرجوا الوالي من الحبس فأرادوا إثبات محضر يوجب قتله، فبادر سفهاؤهم فقتلوه وسحبوه وأحرقوه بالنار ونهبوا داره وسلبوا حريمه وأولاده فقتل من أولاده صغير في المهد وقيل مات من الرجفة، فكانت هذه الكائنة من الفضائح.
وفي تاسع عشري ذي الحجة طرق جمع من الحرامية وفيهم فارسان داخل القاهرة فمروا على باب الجامع الأزهر ووصلوا إلى رحبة الأيدمري، فنهبوا عدة حوانيت وقتلوا رجلين ورجعوا إلى حارة الباطلية فتوزعوا فيها فلم يتبعهم أحد، فكانت من الفضائح أيضاً.
وفيها في أواخرها مالت المئذنة التي بنيت على البرج الشمالي بباب زويلة للجامع المؤيدي، وكادت أن تسقط واشتد خوف الناس منها وتحولوا من حواليها فأمر السلطان بنقضها، فنقضت بالرفق إلى أن أمن شرها، وعامل السلطان من ولى بناءها بالحلم بعد(3/144)
أن كان أرجف بأنه يريد أن يغرمهم جميع ما أنفق فيها، فهدمت وشعر في بناء التي تقابلها، واتفق أن كان ناظر العمارة بهاء الدين ابن البرجي كما تقدم فأنشد تقي الدين بن حجة في ذلك:
على البرج من بابي زويلة أنشئت ... منارة بيت الله والمعهد المنجي
فأخنى بها البرج الجنيت أمالها ... ألا صرحوا يا قوم باللعن للبرجي
وقال شعبان بن محمد بن داود الأثاري في ذلك وكان قدم القاهرة في هذه السنة.
عتبنا على ميل المنار زويلة ... وقلنا تركت الناس بالميل في هرج
فقالت قربني برج نحس أمالني ... فلا بارك الرحمن في ذلك البرجي
وكنت قلت قبل ذلك وأنشدتهما في مجلس المؤيد:
لجامع مولانا المؤيد رونق ... منارته بالحسن تزهو وبالزين
نقول وقد مالت عن القصد أمهلوا ... فليس على جسمي أضرمن العين
فأراد بعض الجلساء العبث بالشيخ بدر الدين العيني فقال له إن فلانا قرض بك. فغضب واستعان بمن نظم له بيتين ينقض هذين البيتين ونسبهما لنفسه، وعرف كل من يذوق الأدب أنهما ليسا له لأنه لم يقع له قريب من ذلك.(3/145)
وأنشد بعض الأدباء بنقض الأمرين وهو نجم الدين ابن النبيه الموقع:
يقولون في ميل المنار تواضع ... وعين وأقوال وعندي جليها
فلا البرج أخنى والحجارة لم تعب ... ولكن عروس أثقلتها حليها
وفي هذه السنة ملك أويس بن زادة بن أويس بن حسين البصر، انتزعها من مانع أمير العرب بعد حروب، وكانوا انتزعوها منهم من إمارة عمه أحمد بن أويس من أوائل القرن، وقوى أويس المذكور وانضم إليه عسكر عمه.
وفي أواخر هذه السنة هرب يشبك الدويدار الثاني من المدينة النبوية وهو يومئذ أمير الحاج المصري، والسبب في هربه أنه بلغه ما اتفق في أفباي نائب الشام وكان من إخوته فخاف، وبلغه أيضاً أن السلطان كتب إلى مقبل أمير ينبع أن يقبض عليه، فأخر مقبل ذلك إلى أن رحل المذكور من المدينة فقبض عليه هناك، فاستشعر ذلك فاختفى بعد رحيل الحاج من المدينة، فلما نزلوا البركة لم يقفوا له على خبر فسار بهم أقبغا الزيني دويداره وترفق في سيره بالحاج ونبالغ في الإحسان م، فقدموا وهم يشكرونه، وكان الرخص كثيراً وكذلك المياه، ووصل يشبك في هربه إلى بغداد، فتلقاه محمد شاه بن قرا يوسف فأكرمه ثم هرب منه إلى قرا يوسف نفسه في سنة اثنتين وعشرين فأكرمه وأقام عنده.(3/146)
ذكر من مات
في سنة عشرين وثمانمائة من الأعيان
إبراهيم صاحب شماخي وتلك البلاد، وهو من جملة من ينتمي لقرا يوسف.
أحمد بن أبي أحمد الفراوي المالكي، اشتغل كثيراً وبرع في العربية وغيرها وشارك في الفنون وشغل الناس، وقد عين مرة للقضاء فلم يتم ذلك، مات في تاسع عشر شعبان.
أحمد بن الحسين بن إبراهيم الدمشقي محي الدين ابن المدني، ولد سنة إحدى أو اثنتين وخمسين، وعني بصناعة الإنشاء وباشر التوقيع من صغره في أيام جمال الدين ابن الأثير، وكان عاقلاً ساكناً، ودخل مصر بعد فتنة اللنك وباشر التوقيع ثم قدم مع شيخ ومعه صهره بدر الدين بن مزهر، فولي كتابة السر بدمشق في أوائل سنة ثماني عشرة، وكان عارفاً متودداً لا يكتب على شيء يخالف الشرع، وكان عنده انجماع عن الناس، وكان ينسب للتشيع، ومات في صفر وقد أنجب ولده نجم الدين حفظه الله.
أحمد بن يهود، الدمشقي الطرابلسي شهاب الدين النحوي الحنفي، ولد سنة بضع وسبعين وتعانى العربية فمهر في النحو واشتهر به واقرأ فيه، وشرع في نظم التسهيل فنظمه في تسعمائة بيت، ثم أخذ في التكملة فمات قبل أن ينتهي، وكان تحول بعد فتنة اللنك إلى طرابلس فقطنها، وانتفع بها أهلها إلى أن مات بها في آخر هذه السنة، وكان يتكسب بالشهادة.
أحمد الريفي الدمشقي ثم المكي، كان يؤدب الأولاد بدمشق خيرا(3/147)
ً كثير التلاوة، ثم إنه توجه إلى مكة وجاور بها نحواً من ثلاثين سنة وتفرغ للعبادة على اختلاف أنواعها، وأضر في آخر عمره، ومات بمكة.
أقباي الدويدار المؤيدي، قدمه المؤيد إلى أن ولاه الدويدارية الكبرى ثم نيابة حلب - وقد تقدم ذكر قتله في الحوادث.
أقبردي المنقار، مات بدمشق ولم يكن محمود السيرة.
أبو بكر بن محمد الجبرتي العابد، كان يلقب المعتمر لكثرة اعتماره، وكان على ذهنه فوائد، وللناس فيه اعتقاد، وينسبونه إلى معرفة علم الحرف، جاور بمكة ثلاثين سنة، ومات في سابع المحرم.
خضر بن إبراهيم، الروكي خير الدين نزيل القاهرة، كان من كبار التجار كأبيه، مات مطعونا في ذي الحجة.
داود بن موسى الغماري المالكي، عني بالعلم ثم لازم العبادة وتزهد، جاور بالحرمين أزيد من عشرين سنة، وكانت إقامته بالمدينة أكثر منها بمكة، مات في مستهل المحرم.
سالم بن عبد الله بن سعادة بن طاحين القسنطيني نزيل الإسكندرية، وكان أسود اللون جداً فكان يظن أنه مولى وأما هو فكان يدعي أنه أنصاري، وكان للناس فيه اعتقاد وبين عينيه سجادة، وقد لازم القاضي برهان الدين بن جماعة واختص به وصار له صيت وطار له صوت، ثم صحب جمال الدين محمود بن علي الأستادار وكان له تردد كثير إلى القاهرة ومحاضرة حسنة، وعلى ذهنه فنون، وله أناشيد وحكايات، ومات بالإسكندرية في آخر هذه السنة وقد جاوز الثمانين.(3/148)
عبد الله بن إبراهيم خليل، البعلبكي الدمشقي جمال الدين ابن الشرايحي ولد سنة ثمان وأربعين وسبعمائة، وأخذ عن الشيخ جمال الدين بن بردشْ وغيره، ثم دخل دمشق فأدرك جماعة من أصحاب الفخر وأحمد بن شيبان، ونحوهم فسمع منهم، ثم من أصحاب ابن القواس وابن عساكر، ثم من أصحاب القاضي والمطعم ومن أصحاب الحجار ونحوه ومن أصحاب الجزرى وبنت الكمال والمزي، فأكثر جداً وهو مع ذلك أمي، وصار أعجوبة دهره في معرفة الأجزاء والمرويات ورواتها والعالي والنازل. وليه مع ذلك فضائل ومحفوظات ومذاكرة حسنة، وكان لا ينظر إلا نظراً ضعيفاً، وقد حدث بمصر والشام، سمعت منه وسمع معي الكثير في رحلتي وأفادني أشياء، وكان شهماً شجاعاً مهاباً جداً كله، لا يعرف الهزل، وكان يتدين مع خير وشرف، قدم القاهرة بعد الكائنة العظمى فقطنها مدة طويلة، ثم رجع إلى دمشق وولي تدريس الحديث بالأشرفية إلى أن مات في هذه السنة.
عبد الله بن أحمد بن عبد العزيز بن موسى بن أبي بكر، العذري جمال الدين البشبيشي، ولد في عاشر شعبان سنة 762، وقرأ في الفقه والنحو، وأخذ عن شيخنا الغماري وابن الملقن، وتكسب بالوراقة وكتب الخط الجيد، وصنف كتاباً في المعرب وكتاباً في قضاة مصر، ونسخ بخطه كثيراً، وناب في الحسبة عن صاحبنا الشيخ تقي الدين المقريزي، وكان ربما جازف في نقله، سمعت من فوائده كثيراً، ومات بالإسكندرية في ذي القعدة.
عبد الرحمن بن محمد بن حسين، السكسكي البربهي التعزي، أحد الفضلاء باليمن، برع في الفقه وغيره، ثم حج فلما رجع مات وهو قافل في ثالث المحرم.(3/149)
عبد الوهاب بن نصر الله بن حسن، الفوي نزيل القاهرة تاج الدين أخو ناظر الخاص، ولد سنة ستين وسبعمائة، وباشر بجاه أخيه كثيراً من الوظائف مثل نظر الأوقاف والأحباس وتوقيع الدست ووكالة بيت المال ونيابة كاتب السر في الغيبة وخليفة الحكم الحنفي، وكان يحب العلم والعلماء ويجمعهم عنده ويتودد لهم، مات في ثالث عشر جمادى الآخرة، وكان أبوه إذ ذاك حياً فورثه مع أولاده.
محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن عبد العزيز، النويري ثم المكي القاضي عز الدين ابن القاضي محب الدين ابن القاضي جمال الدين ابن أبي الفضل العقيلي الشافعي، ولد سنة أربع أو خمس وسبعين واشتغل وهو صغير، وناب لأبيه في الخطابة والحكم، ثم اشتغل بعد وفاته في رمضان سنة تسع وتسعين إلى أن صرف في ذي الحجة سنة ثمانمائة بالشيخ جمال الدين ابن ظهيرة، ثم وليها مراراً، ثم استقرت بيده الخطابة وغيرها وانفرد جمال الدين بالقضاء، فلما مات سنة تسع عشرة استقر العز في الخطابة ونظر الحرم والحسبة حتى مات عز الدين في هذه السنة في ربيع الأول، وكان مشكور السيرة في غالب أموره، والله يعفو عنه.
محمد بن أبي بكر بن علي، المكي ثم الزبيدي - بفتح الزاي - جمال الدين(3/150)
النويري المصري ولد بالذروة من صعيد مصر سنة تسع وأربعين ونشأ بها، ثم سكن مكة وصحب القاضي وسمع من عز الدين بن جماعة، واشتغل قليلاً، وكان حسن التلاوة، طيب الصوت. ثم دخل اليمن بواسطة القاضي أبي الفضل رسولاً من مكة إلى السلطان واتصل بالأشرف صاحبها، فحظي عنده ونادمه وتولى حسبة زبيد، ثم تركها لولده الظاهر، وكان حسن الفكاهة فقرب من خاطره وصار ملجأ للغرباء لاسيما أهل الحجاز، واستمر في دولة الناصر بن الأشرف على منزله بل عظم قدره عنده، وكان ذا مروءة وتودد ونوادر ومزاح، وقد تزوج كثيراً جداً على ما أخبرني به، وهو أخو صاحبنا نجم الدين المرجاني شقيقه، مات الجمال المصري في ذي القعدة وخلف عشرين ولداً ذكراً.
محمد بن علي بن جعفر، البلالي نزيل القاهرة الشيخ شمس الدين وبلالة من أعمال عجلون، نشأ هناك وسمع الحديث واشتغل بالعلم، وسلك طريق الصوفية وصحب الشيخ أبا بكر الموصلي، ثم قدم القاهرة فاستوطنها بضعاً وثلاثين سنة، واستقر في مشيخة سعيد السعداء مدة متطاولة مع التواضع الكامل والخلق الحسن وإكرام الوارد، وصنف مختصر الإحياء فأجاد فيه، وطار اسمه في الآفاق ورحل بسببه، ثم صنف تصانيف أخرى، وكانت له مقامات وأوراد، وله محبون معتقدون ومبغضون منتقدون، مات في رابع عشر شوال وجاوز السبعين.(3/151)
محمد بن علي بن عبد الرحمن بن محمد بن سليمان بن حمزة، عز الدين ابن العلاء ابن البهاء بن العز بن التقي سليمان المقدسي الحنبلي، ولد سنة أربع وستين وسبعمائة، وعني بالعلم، وسمع على ست العرب بنت محمد ابن الفخر وغيرها، ومهر في الفقه والحديث، وأخذ عن ابن رجب وابن المحب، وكان يذاكر بأشياء حسنة وينظم الشعر، ولما توقف على عنوان الشرف لابن المقرئ أعجبه فسلك على طريقه نظماً حسب اقتراح صاحبه مجد الدين عليه فعمل قطعة أولها:
أشار المجد مكتمل المعاني ... بأن أحذو على حذو اليماني
وحفظ المقنع، وناب في القضاء عن صهره شمس الدين النابلسي، ثم استقل به، ثم عزل بابن عبادة فأكثر المجاورة بمكة، ثم ولي المنصب بعد موت ابن عبادة فلم تطل مدته، ومات عن قرب في ذي القعدة، ودرس بدار الحديث الأشرفية بالجبل، وكان ذكياً فصيحاً، وكان في آخر عمره عين الحنابلة.
محمد بن محمد بن عبادة بن عبد الغني بن منصور الحراني الأصل الدمشقي الحنبلي شمس الدين، اشتغل كثيراً فمهر وصار عين أهل البلد في معرفة المكاتيب مع حسن خطه ومعرفته، وكان حسن الشكل بشوش الوجه حسن الملتقى، ثم ولي القضاء بعد اللنك مراراً بغير أهلية فلم تحمد سيرته، وكثرت في أيامه المناقلات في الأوقاف، وتأثل لذلك مالاً وعقاراً، وكان عرياً عن تعصب الحنابلة في العقيدة، مات في رجب وله سبع وخمسون سنة وقد غلب عليه الشيب.
موسى بن علي بن محمد، المناوي ثم الحجازي الشيخ المشهور المعتقد، ولد سنة بضع وخمسين ونشأ بالقاهرة. وعنى بالعلم على مذهب مالك حفظ الموطأ وكتب(3/152)
ابن الحاجب الثلاثة وبرع في العربية، وحصل الوظائف ثم تزهد وطرح ما بيده من الوظائف بغير عوض وسكن الجبل وأعرض عن جميع أمور الدنيا، وصار يقتات بما ينبته الجبال، ولا يدخل البلد إلا يوم الجمعة ثم يمضي، ثم توجه إلى مكة سنة سبع وتسعين وسبعمائة فسكنها تارة والمدينة تارة على طريقته، ودخل اليمن في خلال ذلك، وساح في البراري كثيراً وكاشف وظهرت له كرامات كثيرة، ثم في الآخر أنس بالناس إلا أنه يعرض عليه المال الكثير فلا يقبله بل يأمر بتفرقته على من يعينه لهم ولا يلتمس منه شيئاً، وقد رأيته بمكة سنة خمس عشرة، وقد صار من كثرة التخلي ناشف الدماغ يخلط في كلامه كثيراً ولكنه في الأكثر واعي الذهن، ولا يقع في يده كتاب إلا كتب فيه ما يقع له سواء كان الكلام منتظماً أم لا، وربما كان حاله شبيه حال المجذوب، وكان يأخذ من بعض التجار شيئاً بثمن معين وينادي عليه بنفسه حتى يبيعه فيوفي صاحب الدين وينفق على نفسه البقية، ولم يكن في الغالب يقبل من أحد شيئاً، وكان يكاتب السلطان فمن دونه بالعبارة الخشنة والورع الزائد، مات في شهر رمضان، وقيل في شعبان.
مهنا بن عبد الله، المكي، كان من كبار الصلحاء، مات بمكة.
نعمان بن فخر بن يوسف، الحنفي شرف الدين، ولد سنة ثلاث وأربعين، وكان والده عالماً فأخذ عنه. قدم دمشق وجلس بالجامع بعد اللنك للأشغال ودرس في أماكن، وكان ماهراً في الفقه بارعاً في ذلك، مات في شعبان.
يحيى البجيلي، أصله من بجيلة زهران من ضواحي مكة، فأقام بمكة يتعبد حتى اشتهر، ومات في هذه السنة.
يوسف بن عبد الله، البوصيري نزيل القاهرة، أحد من يعتقده الناس من المجذوبين، مات في سادس عشري شوال، ويحكي بعض أهل القاهرة عنه كرامات.(3/153)
سنة إحدى وعشرين وثمانمائة
استهل العشر الثالث من المائة التاسعة والخلفية المعتضد داود، والسلطان الملك المؤيد شيخ، وملك اليمن الناصر أحمد بن الأشرف، وأمير مكة حسن بن عجلان، وأمير المدينة عزيز بن هيازع، وأمير بلاد قرمان محمد بك بن علي بك بن قرمان ومرقب وما معها كرسجى ابن عثمان، وملك الدشت وصراي أيدكي وملك تبريز وبغداد قرا يوسف، ونائبه ببغداد ابنه محمد، وملك فارس وخراسان وهراة وسمرقند شاه رخ ابن اللنك، وملك تونس وما معها من المغرب أبو فارس، وسلطان الأندلس ابن الأحمر وأمير تلمسان ... وأمير فاس..
وفي ثالث المحرم زوج السلطان أستاداره ببعض أمهات أولاده بعد أن أعتقها، فعمل لها مهما عظيماً ذبح فيه ثمانية وعشرين فرساً وغير ذلك، وكان إذ ذاك ابتدأ به المرض فلم ينتفع بنفسه.
وفي أول هذه السنة ركب الطنبغا الجكمي نائب درندة على حسين بن كبك فتقنطرت به فرسه فقبض عليه وقتل، ونزل ابن كبك على ملطية فحاصرها، فبلغ السلطان ذلك فكتب إلى البلاد الشامية أن يخرجوا العساكر إلى قتال حسين بن كبك.(3/154)
وفي يوم الرابع من المحرم صلى السلطان الجمعة بالجامع الطولوني فخطب به القاضي الشافعي وكان قد طلع ليخطب به في القلعة على العادة، فوجد السلطان قد ركب قبل الأذان لصلاة الجمعة فتبعه فدخل الجامع الطولوني فدخل قاعة الخطابة، فوجد خطيب الجامع وهو ولد ابن النقاش قد تهيأ ليخطب فتقدم هو وصعد المنبر، وحصل للخطيب بذلك قهر.
وفي الثالث من جمادى الأولى قتل حسين بن كبك، وذلك أن تغرى بردى الجمكي هرب من المؤيد من كختا فأقام بملطية عند نائبها الأمير منكلي بغا، فسار حسين بن كبك إلى ملطية فحاصرها، فهرب تغري يردى إلى حسين بن كبك فأكرمه، ثم سار حسين إلى أرزنكان وتغرى بردى صحبته ليحاصر بزعمه صاحبها، فغدر تغري بردى بحسين وهما جالسان يشربان فضربه بسكين في فؤاده فمات، وهرب إلى ملطية ثم توجه منها إلى حلب، فجهزه نائبها إلى المؤيد وأعلمه بما صنع، فأكرمه وخلع عليه وأعطاه إقطاعاً وخيلاً، وأمر لأمراء أن يخلعوا عليه، فحصل له شيء كثير.
وفي الخامس من المحرم توجه السلطان إلى وسيم فأقام هناك نحو العشرين يوماً، ثم رجع فنزل بالقصر الغربي بمنبابة وأمر الوالي أن يشعل البحر، فحصل من قشور النارنج والبيض ومن المسارج شيئاً كثيراً إلى الغاية، وعمرها بالزيت والفتائل، فأوقدها وأرسلها في الماء، ثم أطلق في غضون ذلك من النفط الكثير، فكانت ليلة عجيبة مر فيها من الهزل والسخف ما لا عهد للمصريين بمثله، وكان الجمع في الجانبين من الناس المتفرجين متوفراً وفي البحر من المراكب جمع جم.
وفي سادس عشري المحرم قبض على بيبغا المظفري أمير سلاح واعتقل بالإسكندرية، وذلك أن بعض الناس وشى به إلى السلطان فتخيل منه فقبض عليه.
وفي الثامن والعشرين من المحرم نودي بالقاهرة أن كل غريب يرجع إلى وطنه! فاضطربت الأعاجم وسعوا في منعه إلى أن سكن الحال واستقروا.(3/155)
وفي رابع صفر وسط قرقماس نائب كختا في جماعة خارج باب النصر، وكانوا ممن أحضر صحبة السلطان في الحديد.
وفي سادس صفر عاد السلطان أستاداره في مرضه فقدم له خمسة آلاف دينار، وتوجه من بيته إلى بيت ناظر الخاص فقدم له ثلاثة آلاف دينار.
وفي هذه الشهر شرع السلطان في تنقيص سعر الذهب فنودي عليه في عاشر صفر أن يكون الهرجة بمائتين وثلاثين والأفلوري بمائتين وعشرين وأن تحط الفضة المؤيدية فتصير بسبعة دراهم كل نصف، فماج الناس وكثر اضطرابهم، فلم يلتفت إليهم وأستمر الحال، ثم أمر الوالي وهو المحتسب أن يطلب الباعة وتحط أسعار المبيعات بقدر ما انحط من سعر الفضة والذهب.
وفي نصف ربيع الأول جمع الوالي الباعة وأصعدهم إلى القلعة فقرر معهم جقمق الدويدار أن يكون الدرهم المؤيدي هو المتعامل به دون الذهب والفلوس ويكون النقد الرائج. وأن لا يأخذ التاجر في كل مائة ليشتري بها شيئاً ويبيعه عن قرب إلى درهمين، وطل من يومئذ النداء في الأسواق بالدراهم من الفلوس وصار النداء بالدراهم بالفضة المؤيدية.
وفي أول صفر عاد السلطان الأمير الكبير من مرض وقع له. ثم رجع إلى بيت جقمق الدويدار فأقام به إلى آخر النهار.
وفي شهر ربيع الأول قدم علاء الدين محمد الكيلاني الشافعي من بلاد المشرق فزار الإمام الشافعي ثم رجع فاجتمع بالسلطان، وكان قد وصف بفضل زائد وعلم واسع، فلم(3/156)
يظهر لذلك نتيجة ولم يظهر له معرفة إلا بشيء يسير من الطب، فكسد سوقه بعد أن نفق وتولى ناكصاً خاملاً.
وفي رابع عشره انتقض ألم السلطان برجله.
وفي هذا الشهر كاتب أهل طرابلس السلطان في سوء سيرة عاملهم وهو برد بك الخليلي وتجاوزه الحد في الظلم وترك امتثال مراسيم السلطان، فأرسل يطلبه، ومنعه أهل طرابلس من الدخول وكان قد خرج للصيد، فأرسل يطلبه، فقدم القاهرة في آخر ربيع الأول، فقرر في نيابة صفد بعد أن قدم مالاً جزيلاً بعناية زوج ابنته جقمق الدويدار.
وفيه قام أهل المحلة على وإليها ورجموه بسبب مبالغته في طلب الفلوس، ونزح كثير منهم إلى القاهرة، ووصل الذهب عندهم إلى سعر مائتين وتسعين من غير هذا الفلوس، واشتد الأمر في طلبها.
وفيه تنكر السلطان على القاضي جلال الدين البلقيني بسبب كثرة النواب، فبادر البلقيني فعزل من نوابه ستة عشر نفساً، ثم أمر بالتخفيف منهم فعزل منه أيضاً أربعين نفساً، ولم يتأخر منهم سوى أربعة عشر نائباً، ووقعت لأحد النواب الذين بقوا وهو سراج الدين الحمصي كائنه في حكم حكم به وعقد له مجلس فنقض حكمه وتغيب، والسبب فيه أن القمنى أراد ارتجاع بستان المحلى الذي بالقرب من الآثار فرتب الأمر مع كاتب السر والقاضي علاء الدين ابن مغلى وكان صديقه، فلما حضر القضاة وأهل الفتيا ظهر للسلطان التعصب فسألني عن القضية وقال: أنت تعرف الحال أكثر من هؤلاء؟ فذكرت له جلية الأمر باختصار، فبادر الحنفي ابن الديري وحكم بنقض حكم الحمصي، ثم قدم شمس الدين الهروي من القدس فأكرمه السلطان وأنكر على بعض القضاة عدم ملاقاته وشكر من لاقاه وسلم عليه، فانثالت عليه الهدايا والتقادم وأجريت له رواتب.(3/157)
وفي ربيع الأول مات الشريف علي نقيب الأشراف، فاستقر بعده في النيابة ولده حسن، وفي نظر الأشراف فخر الدين الأستادار وكان أبل من مرضه.
وفيه وقع بالغربية مطر عظيم وفيه برد كبار زنة الحبة منه مائة درهم تلفت منه زروع كثيرة آن حصادها حتى أن مارسا فيه ثمانمائة فدان تلف عن آخره ومات أغنام كثيرة بوقوعه عليها.
وفيه أفرج عن سودون الاسندمري من سجن الإسكندرية.
وفي الثاني من جمادى الأولى فقبض على أرغون شاه الوزير وسلم للأستادار. وكذلك آقبغا شيطان الوالي، فتتبع حواشيهما وأسبابهما، واستقر علي بن محمد بن الطبلاوي في ولاية القاهرة عوضاً عن أقبغا ومحمد بن يعقوب الشامي في الحسبة عوضاً عنه وبدر الدين ابن محب الدين في الوزارة عوضاً عن أرغون شاه، وأفرج عن أرغون شاه في عاشر جمادى الأولى، ثم خلع عليه أمير التركمان فسار في جمادى الأول.
فلما كان يوم الأحد سابع عشري جمادى الأولى منع القاضي جلال الدين من الحكم بسبب شكوى جماعة للسلطان لما نزل إلى الجامع بباب زويلة من ابن عمه شهاب الدين العجمي قاضي المحلة وذلك في يوم السبت سادس عشريه فشغر المنصب يوم الأحد والاثنين، فلما كان يوم الثلاثاء استقر شمس الدين الهروي في قضاء الشافعية بالقاهرة ونزل معه جقمق الدويدار وجماعة من الأمراء والقضاة وحكم بالصالحية على العادة. وكان الهروي قد قدم قبل ذلك في آخر ربيع الأول، فبالغ العجم في التعصب له، وتلقاه بعضهم من بلبيس وبعضهم من سرياقوس، ونزل أولا بتربة الظاهر على قاعدة الأمراء، ثم طلع إلى القلعة صباحاً وسلم على السلطان يوم الأحد مستهل ربيع الآخر.
ولما استقرت قدم الهروي في القضاء راسل البلقيني يطلب منه المال الذي تحت يده من وقف الحرمين فامتنع، وكان أستأذن السلطان صبيحة عزله هل يدفع المال للهروي أم لا! فأمر له أن يتركه تحت يده،(3/158)
وكان البلقيني لما استقرت قدمه بعد سفر الإخناي إلى الشام في سنة ثمان وثمانمائة قد ضبط مال الحرمين وجعله في موضع من داره فتأخر في هذه المدة نحو خمسة آلاف دينار، فصعب على الهروي منعه من التصرف في ذلك، وظهر لمن اطلع على ذلك من حواشي السلطان أنه غير مؤتمن عند السلطان وإنما أراد بولايته نكاية البلقيني.
وفي العشرين من جمادى الآخرة عرض الهروي الشهود وأقرهم، ولم يستنب سوى عشرة، ثم زاد عددهم قليلاً قليلاً إلى أن بلغوا عشرين، واستمر يركب بهيئته بلبس العجم ولم يخطب بالسلطان على العادة واعتذر بعجمة لسانه، فاستناب عنه ابن تمرية وكان يخطب بمدرسة حسن فوصفه الأمير ططر للسلطان، فأذن له في النيابة عن الهروي، وباشر الهروي القضاء بصرامة شديدة وإعجاب شديد زائد، ثم مد يده إلى تحصيل الأموال فأرسل رجلاً من أهل غزة يقال له نصف الدنيا إلى الصعيد ومعه مراسيم بعلاماته وقرر على كل قاض شيئاً، فمن بذله كتب له مرسومه ومن امتنع استبدل به غيره، فكثر فحش القول فيه، ثم فوض إلى الأعاجم مثل العينتابي وابن التباني ويحيى السيرامي وشمس الدين الفرياني الذي عمل قاضي العسكر قضاء بلاد اختاروها، فاستنابوا فيها وقرروا على النواب أن يعملوا لهم شيئاً معيناً. وأرسل إلى الوجه البحري آخر على تلك الصورة، ثم تصدى للأوقاف سواء كانت مما يشمله نظره أم لا ففرض على من هي بيده شيئاً معلوماً وصار يطلب من الناظر كتاب الوقف فيحضره له فيحبسه حتى يحضر له ما يريد، فترك كثير منهم كتب أوقافهم عنده حتى عزل فاستخلصوها.
وفي أول هذه السنة حاصر إبراهيم بن رمضان طرسوس واستمر محاصراً لها أربعة أشهر وأكثر، فكاتب نائبها شاهين الأيدكاري السلطان يستنجده ويعلمه بأنه بلغه أن(3/159)
محمد بن قرمان عزم على التوجه إلى طرسوس، فلما كان في الخامس عشر من شهر رجب نازل محمد بن قرمان طرسوس، فانتمى إبراهيم بن رمضان المذكور، فبلغ ذلك السلطان فأرسل إلى حموة بن إبراهيم المذكور يقرره في مكان أبيه في نيابة أذنة ويحرض نائب حلب على اللحاق بشاهين الأيدكاري بطرسوس، ووقع بين أهل طرسوس وابن قرمان حرب شديد، فاتفق أن ثار بمحمد بن قرمان وجع باطنه فاشتد عليه، فرحل عنها في سابع شعبان.
وفيها تواقع على بن دلغادر وأخوه محمد فانتصر وانهزم علي، فأدركه يشبك نائب حلب فأضافه محمد وقدم له وحلف له على طاعة السلطان.
وفيها أوقع تنبك نائب الشام يعرب آل علي قريباً من حمص، فنهب منهم ألف جمل وخمسمائة جمل، فباع الرديء منها وجهز البقية وهي ألف وثلاثمائة إلى السلطان.
وفيها استنجد نائب ملطية السلطان فكتب إلى نائب طرابلس أنه يتوجه بعسكرها بحدة له، وأرسل مالاً كثيراً يعمر به خاناً وقيسارية وطاحوناً وزاوية ويوقف ذلك عليها. وجملة المال أربعون ألف دينار.
وفي ثاني عشر جمادى الآخرة قرر شهاب الدين أحمد الأموي في قضاء دمشق عوضاً عن عيسى المغربي المالكي.
وفي سادس عشرة ضرب عنق المقدم على بن الفقيه أحد المقدمين بالدولة بعد أن ثبت عنه ما يوجب إراقة دمه.
وفي جمادى الأولى أوقع سودون القاضي كاشف الوجه القبلي بعرب بني فزازة ونهب أموالهم وقتل منهم خلقاً كثيراً، فهرب من نجا منهم إلى البحرية، فتلقاهم دمرداش نائب الكشف بالوجه البحري فاستأصلهم ونهب أموالهم فانحسم أمرهم.(3/160)
وفيه سجن جار قطلي نائب حماة بالإسكندرية.
وفيه توجه الأستادار فخر الدين إلى الوجه القبلي وختم بالجيزة، وسار في طوائف كثيرة من العربان والمماليك، وشرع في تتبع العربان المفسدين، فلما انتهى إلى هوارة فروا منه فتتبعهم إلى قرب أسوان فقاتلوه، فقتل منهم نحو المائتين، وانهزم البقية إلى جهة ألواح الداخلة.
وفيها في جمادى الأولى نفل شاهين الزرد لحاش من الحجوبية بدمشق إلى نيابة حماه ونقل بلبان من نيابة حماه إلى الحجوبية بدمشق.
وفيه خلع على علي بن أبي بكر الجرمي أمير جرم، واستقر على عادته.
زفيه جهز السلطان إلى نائب الكرك نواب القدس والرملة وغزة ليجتمعوا معه على كبس بني عقبة، وأسر إلى نائب غزة أن يقبض على نائب الكرك، وكان السلطان غضب عليه لكونه لم يخرج لملاقاته حين عاد من بلاد الروم، فقبضوا عليه في جمادى الآخرة وحمل إلى دمشق فسجن بها.
وفي الثالث والعشرين من ربيع الآخر استقر برسباي الدقماقي أحد مقدمي الألوف بالقاهرة في نيابة طرابلس عوضاً عن بردبك نقلاً من كشف التراب، ونقل بردبك إلى نيابة(3/161)
صفد، وأعطى فخر الدين الأستادار إقطاع برسباي، وأعطى بدر الدين الوزير إقطاع فخر الدين، ثم اعتقل برسباي بقلعة المرقب في شعبان كما سيأتي، وهو الذي آل أمره إلى استقراره في السلطنة بعد خمس سنين.
وفي هذه الشهر كتب محضر المئذنة المقدم ذكرها وهدمت، وأغلق باب زويلة بسبب ذلك ثلاثين يوماً، ولم يقع منذ بنيت القاهرة مثل ذلك.
وفي جمادى الأولى تحرك عزم السلطان على الحج، وقويت همته في ذلك، وكتب إلى جميع البلاد بذلك وأمرهم بتجهيز ما يحتاج، وعرض المماليك الذين بالطباق وغيرهم من يسافر معه للحج وأخرج الهجن، فجهز جملة من الغلال في البحر إلى ينبع وجدة، وركب إلى بركة الجيش، فعرض الهجن في شعبان. ثم ركب إلى قبة النصر ومر في شارع القاهرة وبين يديه الهجن وعليها الحلل والحلي، وجد في ذلك واجتهد إلى أن بلغه عن قرا يوسف ما أزعجه. ففترت همته عن الحج ورجع إلى التدبير فيما يرد قرا يوسف عن البلاد الشامية وأمر بالتجهيز إلى الغزاة.
وأرسل في ثاني رمضان بتتبع الغلال المجهزة إلى الحج وكان ما سنذكره إن شاء الله قريباً.
وفي حادي عشر جمادى الأولى ولد للسلطان ولد اسمه موسى، فأرسل مرجان الخازندار مبشراً به إلى البلاد الشامية، فكان في حركته سبب عزل القاضي نجم الدين ابن حجي قاضي الشافعية بدمشق، وذلك أنه وصل إلى دمشق فأعطاه كل رئيس ما جرت به العادة ولم ينصفه القاضي الشافعي فيما زعم، فلما رجع في شعبان أغرى السلطان به ونقل له عن النائب أنه يشكو من القاضي الشافعي المذكور وأنه سأله في حكومة، فغضب بسببها(3/162)
وبادر بعزل نفسه، فلما تحقق السلطان ذلك غضب عليه لكونه بادر بعزل نفسه بغير استئذان، وكتب إلى النائب بحبسه بالقلعة، واستمرت دمشق شاغرة عن قاض إلى أوائل شوال، فاستعطف السلطان عليه حتى رضي عنه وأعاده، ومات موسى بن السلطان المذكور في ليلة شوال.
وفي سادس عشر جمادى الأولى دخل السلطان المارستان المنصوري وصلى في محراب المدرسة أولاً ركعتين. وكان الشيخ نصر الله أخبره أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم جالساً في المحراب المذكور والسلطان قدامه يقرأ عليه سورة والضحى. ثم دخل إلى المرضى فتفقد أحوالهم، ثم إلى المجانين فقام ذلك اشخص الذي تقدم في سنة تسع عشرة وثمانمائة أنه ادعى أنه يرى الله عز وجل في اليقظة وثبت عند المالكي أنه مختل العقل فسجن بالمارستان، فكلم السلطان لما رآه وسأله أن يفرج عنه فلم يجبه.
وكان السلطان فوض أمر الأوقاف إلى مسعود الكجحاوي الذي تقدم ذكره في أخبار تمر لنك فكان من جملة أعوان الهروي ثم وقع ما بينهما وصار الهروي يؤلب عليه ويذكر معايبه وتصادق مع ابن الديري عليه، ثم دس الهروي إلى أحمد الحنبكي ورقة يذكر فيها أنه ثبت في جهة البلقيني لجهة الأوقاف والأيتام مائة ألف دينار، فعرضها أحمد على السلطان وشنع على البلقيني، فاستعظم السلطان ذلك وبحث عن القضية إلى أن تحقق أنها من اختلاق الهروي فأعرض عن ذلك.
وفي الثالث من جمادى الأولى قدم طائفة من أهل الخلي يشكوا إلى السلطان من الهروي وأنه أعطى بعضهم بيضاً وألزمه بعدده دجاجاً، فأرسلهم السلطان وأمره أن يخرج لهم مما يلزمه، فلم يصنع شيئاً وتمادى على غيه، فأغضى السلطان عنه ولزم فيه غلطه.(3/163)
وفي أول شعبان وجد السلطان في مجلسه ورقة فيها شعر وهو:
يا أيها الملك المؤيد دعة ... من مخلص في حبه لك ينصح
انظر لحال الشافعية نظرة ... فالقاضيان كلاهما لا يصلح
هذا أقاربه عقارب وابنه ... وأخ وصهر فعلهم مستقبح
غطوا محاسنه بقبح صنيعهم ... ومتى دعاهم للهدى لا يفلح
وأخو هراة بسيرة اللنك اقتدى ... فله سهام في الجوارح نجرح
لا درسه يقرأ ولا أحكامه ... تدري ولا حين الخطابة يفصح
فافرج هموم المسلمين بثالث ... فعسى فساد منهم يستصلح
فعرضها السلطان على الجلساء من الفقهاء الذين يحضرون عنده فلم يعرفوا كاتبها وطارت الأبيات، فأما الهروي فلم ينزعج من ذلك، وأما البلقيني فقام وقعد وأطال البحث والتنقيب عن ناظمها، فتقسمت الظنون واتهم شعبان الأثاري وكان مقيماً بالقاهرة وتقي الدين ابن حجة وشخص ينظم الشعر من جهة بهاء الدين المناوي أحد نواب الشافعي وغيرهم وكانت هذه الأبيات ابتدأ سقوط الهروي من عين السلطان وكانت قد أعجبت السلطان حتى صار يحفظ أكثرها ويكرر قوله: أقاربه عقارب.(3/164)
فلما كان في رمضان قرئ البخاري بالقلعة على العادة فحضر الهروي وقد اختلق لنفسه أسناداً ليقرأ عليه به صحيح البخاري وأرسل إلى القارئ وهو شمس الدين الجبتي فتناوله منه وهو من أهل الفن فعرف فساده فاقتضى رأيه أن جامله، فلما ابتدأ بالقراءة قال بعد أن بسمل وحمدل وصلى ودعا: وبالسند إلى البخاري، فاستحسن ذلك منه، وخفي على الهروي قصده وظن أنه نسي الورقة، وتمادى الحضور والسلطان تارة يحضر وتارة لا يحضر إلى أن افتقد القاضي الحنبلي فسأل عن سبب تأخره، فعرفه كاتب السر أنه يزدري الهروي ويسلبه عن العلم ولا سيما الحديث، فأذن السلطان للبلقيني في حضور مجلس الحديث، فحضر وجلس بجانب الهروي، فلما بلغ ذلك القاضي الحنبلي حضر أيضاً وتجاذبا البحث، وحضر مع البلقيني كثير من أقاربه ومحبيه فصار يركب في موكب أعظم من الهروي، وتحامى كثير من النواب الركوب مع الهروي خوفاً من البلقيني ومما يقاسونه من السب الصريح من أتباعه، فتقدم الهروي إلى النواب والموقعين بأن لمن لم يكب معه فهو ممنوع، فتحامى كثير من الناس النيابة عنه وأصر آخرون، فوقع لواحد منهم يقال له عز الدين محمد ابن عبد السلام المنوفي بحث مع البلقيني فسطا عليه وسأل المالكي أن يحكم فيه، فاستدعى به إلى بيته وحكم بتعزيره، فعزر ومنع عن الحكم، ثم وقع لآخر منهم يقال له شهاب الدين السيرجي فأرسل البلقيني يطلبه إلى بيته، فامتنع منه واعتصم بالهروي، ثم حضر الختم فلم يحضر البلقيني وخلع على الهروي وعلى بقية القضاة، فامتنع الديري من ليس خلعته لكونها دون خلعة الهروي، فاسترضى فرضي.
فلما كان في التاسع عشر من ذي الحجة حضر السلطان في خاصته في جامعه بباب زويلة واجتمع عنده القضاة، فتنافس كل من القاضيين الهروي والديري وخرجا عن الحد في السباب والفحش في القول، ثم سكن السلطان ما بينهما فسكن. وكان السبب في ذلك أنهما اجتمعا للسلام على السلطان بعد رجوعه من الوجه البحري فتباحثا(3/165)
في شيء. فنقل الهروي نقلاً باطلاً وعزاه لتفسير الثعلبي، فاستشهد الديري بمن حضر على ذلك وجمع التفاسير وأحضرها ليطلع بها إلى القلعة، فاتفق حضور السلطان بالجامع فأعاد البحث، فأخرج النقل بخلاف ما قال الهروي فجحد، فاستشهد عليه من حضر فلم يشهد أحد، فسأل السلطان من الفقير إلى الله تعالى كاتبه ومن القاضي المالكي عن حقيقة ذلك، فأخبراه بصدق ابن الديري، ثم أخرج ابن الديري عدة فتاوى بخط الهروي كلها خطأ، فجحد أن يكون خطه، فحلف الديري بالطلاق الثلاث أن بعضها خطه وانفصل المجلس على أقبح ما يكون.
وفي ثالث جمادى الآخرة وشى إلى السلطان بالأمير جقمق الدويدار أنه مخامر على السلطان وأنه يكاتب قرا يوسف منذ كان السلطان بكختا، وكان الواشي بذلك رجلاً يقال له ابن الدربندي، وكان قد اتصل بالسلطان من الطريق فجهزه إلى الحج بحسب سؤاله، فلما رجع ادعى بأنه ينصح السلطان وأن جقمق استدعاه ليرسله برسالة إلى قرا يوسف جواباً عن كتاب حضر، فأعلم السلطان جقمق بذلك ولم يسم له الناقل، فقلق قلقاً عظيماً وكاد أن يموت غماً، واستعطف السلطان حتى أعلمه بالناقل، فطلبه منه فسلمه له، فعاقبه فاعترف بأنه كذب عليه بتسليط بعض الأمراء عليه، وأحضر من بيته وتداً مجوفاً بالحديد من رأسه في طيه كتاب رق لطيف مكتوب بالفارسية بماء الذهب جواباً عن الأمير جقمق لقرا يوسف، وطلب جقمق الخراطين وأراهم الوتد فعرفه بعضهم وقال: نعم، أنا خرطت هذا لشخص أعجمي ولم يعطني أجرته إلى الآن، فأحضر المذكور فعرفه، ثم تتبعوا من يكتب بالعجمي، واتهموا الشيخ نصر الله إلى أن ظهرت براءة ساحته، وغمز على أعجمي كان ينزل في مدرسة العتباني، ثم مرض فحمل إلى المارستان فهدد، اعترف أن الكتاب خطه وأن ابن الدربندي هو الذي أملأه عليه وادعى ابن الدربندي أن الذي ألجأه إلى ذلك الأمير الطنبغا الصغير بغضاً منه في جقمق، فغرق الدربندي في النيل، ونفي الشخص(3/166)
الذي استعمل الوتد إلى قوص، ومات الكاتب عن قرب بالمارستان، وبرئت ساحة جقمق عند السلطان ولم يتغير ما بينه وبين الطنبغا الصغير لتحققه كذب ابن الدربندي. واشتد غضب جقمق من طائفة العجم، فرسم عن إذن السلطان بتسييرهم إلى بلادهم، وشدد في ذلك حتى ألزم من بالخوانق وبالمدارس بالسفر فضجوا وتعصب لهم الهروي وغيره، ولم يزالوا يستعطفون السلطان إلى أن أهمل أمرهم.
وفي ثامن جمادى الآخرة قدم فخر الدين الأستادار من الصعيد وصحبته عشرون ألف رأس من الغنم سوى ما تلف وألف وثلاثمائة رأس رقيق وثلاثة آلاف رأس بقر وتسعة آلاف رأس جاموسة ومن القند والعسل شيء كثير جداً، فقوم عليه جميع ذلك بمائة ألف دينار والتزم بالقيام بها، ثم بعد مجيئه من الصعيد خلفته هوارة في ألف فارس وألفي راجل فكبسوا على سودون القاضي الكاشف، وكان عنده حينئذ ينال الأزعري أحد مقدمي الألوف فتواقعوا، فبلغ ذلك السلطان فأرسل نجدة عظيمة فيها جقمق الدويدار وططر رأس نوبة والطنبغا المرقبي وقطلوبغا التنمي في جمع كثير، فتوجهوا فوجدوا الأميرين قد انتصرا وقد قتل منهم جماعة، وكانت الدائرة على هوارة فانهزموا، وحمل منهم عشرون رأساً إلى القاهرة. ثم وصل الأمراء فتتبعوا هوارة إلى أن أوقعوا بهم أيضاً، فقتلوا منه نحو الخمسين وهرب باقيهم إلى الواحات الداخلة وتركوا حريمهم وأموالهم، فغنموا منهم شيئاً كثيراً، وقدموا القاهرة في ثامن شعبان وصحبتهم ألفا جمل واثنا عشر ألف رأس غنم سوى ما تلف وسوى ما توزعه الأمراء وأتباعهم، وجهز أزدمر الظاهري أحد المقدمين في عدة من العسكر للإقامة ببلد الصعيد بسبب العربان المفسدين.
وفيها مات إبراهيم ابن الدربندي صاحب بلاد الدشت، فتوجه قرا يوسف في ستة آلاف فارس إلى شماخي، فواقعه ابن إبراهيم في عساكر الدشت فهزمه وقتل منهم ناس كثير، وتوجه ابن تمر لنك إلى جهة تبريز لمحاربة قرا يوسف، فاشتغل قرا يوسف بما دهمه(3/167)
من ذلك، فمشى قرا يلك إلى ماردين وهي من بلاد قرا يوسف، فكسر عسكرها وقتل منهم نحواً من سبعين نفساً، واخذ من بلادها ثماني قلاع ومدينتين، وحول أهل اثنتين وعشرين قرية بأموالهم وعيالهم ليسكنهم ببلاده، واستمر على حصار ماردين، فلما بلغ ذلك قرا يوسف انزعج منه وسار، ففر منه إلى آمد فتبعه ونازله بها، فانهزم منه إلى قلعة نجم وأرسل إلى نائب حلب ليستأذنه في الدخول إليها، فاشتد الأمر عنه على أهل حلب خوفاً من عسكر قرا يوسف وتهيأوا للخروج منها، وأرسل نائب حلب كتابه وكتاب قرا يلك بما اتفق من قرا يوسف.
وفيه أن قرا يوسف كبس قرا يلك بعد أن عدا الفرات ووصل إلى نهر المرزبان، فهجموا عليه من سميساط، فوقعت بينهم مقتلة بمرج دابق في ثاني عشر شعبان، فانهزم قرا يلك ونهبت أمواله، ونجا في ألف فارس إلى حلب، فأذن له نائبها في دخولها، فرحل أكثر أهل حلب عنها، وبلغ ذلك أهل حماة فنزحوا عنها حتى ترك كثير من الناس حوانيتهم مفتحة فم يمهلوا لقفها، فلما قرئ ذلك على السلطان انزعج وانثنى عزمه عن الحج وأمر بالتجهز إلى الشام وكتب إلى العساكر الإسلامية بالمسير إلى حلب، وكان دخول الخبر بذلك يوم الاثنين ثالث شعبان بعد المغرب على يد بردبك نائب عينتاب، وذكر أن ولد قرا يوسف وصل إلى عينتاب فرمى فيها النار فهرب النائب منها، وأن السبب في ذلك تحريض يشبك الدويدار الذي كان أمير الحاج، وهرب من المدينة فيقال إنه اتصل بقرا يوسف وأغراه على أخذ الممالك الشامية، ثم ظهر أن ذلك ليس بحق كما سيأتي، وجمع الأمراء والخليفة والقضاة ليتشاورا في هذه القضية، فلما اجتمعوا سألهم عن البلقيني وكان قد أمرهم بأن يحضر، فعرب بأنه لم يبلغ ذلك فانزعج على بدر الدين العيني لكونه كان رسوله، واستمر ينتظره إلى أن حضر، فلما حضر عظمه، فقص عليهم قصة قرا يوسف وما حصل لأهل حلب من الخوف والجزع وجفلتهم هم وأهل حماة حتى بلغ ثمن الحمار خمسمائة درهم والأكديش خمسين ديناراً، ثم ذكر لهم سوء سيرة قرا يوسف وأن عنده أربع زوجات فإذا طلق واحدة رفعها إلى قصر له وتزوج غيرها حتى بلغت عدة من في ذلك القصر أربعين امرأة يسميهن السراري ويطأهن(3/168)
كما يطأ السراري بملك اليمين، ثم اتفق الحال على كتابة فتوى تتضمن سوء سيرته فصورت وكتبت، وكتب عليها البلقيني ومن حضر المجلس، تتضمن جواز قتاله، وأعجب السلطان ما كتبه الحنبلي فأمر أن ينسخ ويقرأ على الناس، وانصرفوا ومعهم مقبل الدويدار الثاني والخليفة والقضاة، فنادوا في القاهرة بأن قرا يوسف طرق البلاد الشامية وأنه يستحل الدماء والفروج والأموال ويخرب الديار فالجهاد جهاد! ولا أحد يتأخر أحد عن المساعدة بنفسه وماله! فذهل الناس عند سماع هذا النداء ودهاهم ما كانوا عنه غافلين واشتد القلق جداً، وكتب إلى نائب الشام أن ينادي بمثل ذلك وفي كل مدينة، ويضيف إلى ذلك أن السلطان واصل بعساكره، ثم نودي في أجناد الحلقة بأن يتجهزوا للسفر، ومن تأخر منهم صنع به كذا وكذا! فاشتد الأمر عليهم واستمر عزمهم، وخيروا بين المشي في خدمة الأمراء وبين الاستمرار في أجناد الحلقة، وكان السبب في ذلك أن كثير من أجناد الحلقة يخدم في بيوت الأمراء، فلذلك قلت العساكر المصرية بعد كثرتها لأن العسكر كان قبل الدولة الظاهرية ثلاث أقسام: الأول مماليك السلطان، وهم على ضربين: مستخدمين ومملوكين، ولكل منهم جوامك وراتب على السلطان، القسم الثاني مماليك الأمراء، وهم على ضربين أيضاً كذلك، ومن شرط المستخدمين هنا وهناك أن لا يكونوا من القسم الثالث وهم أجناد الحلقة، وهم عبارة عمن له إقطاع بالبلاد يستغله، فلما كثر استخدام السلطان والأمراء من أجناد الحلقة اتحد أكثر الجند فقل العدد بذلك، فأراد السلطان أن يردهم إلى عادتهم الأولى فشدد في ذلك، ومع ذلك فلم يبلغ الغرض ولا كاد لتواطي، المباشرين في ذك على أخذ الرشوة والله المستعان.
وأما قرا يلك فإنه بعد أن التجأ إلى حلب ركب معه يشبك الشيخي نائب حلب وعسكر بالميدان ثم توجه قرا يلك ومعه العسكر. فبلغه أن طائفة من عسكر قرا يوسف قد(3/169)
قربت من البلاد، فركب قبل الصبح فأوقع بالمقدمة فهزمها. واستفهم من بعض من أسره فأعلمه أن قرا يوسف بعينتاب وأنه أرسل هؤلاء ليكشفوا الأخبار، ثم وردت كتب قرا يوسف إلى نائب حلب وإلى السلطان يعتذر من دخوله إلى عينتاب ويعاتب على إيواء عدوه قرا يلك ويعلم السلطان بأنه باق على مودته ومحبته وأنه لا يطرق بلاده، وأن قرا يلك بدأه بالشر وأفسد في ماردين وغيرها، وحلف في كتابه أنه لم يقصد بلاد السلطان ولا دخول الشام وإنما تقدمه إليه الطائفة الملتجئة من عساكر صاحب مصر، وجهز السلطان لنائب حلب خلعة وضمن كتابه شكره على ما صنع بحلب، وكان الأمر كله على ما ذكره، فإن قرا يوسف أفحش السيرة في ماردين وأسرف في القتل والسبي حتى باع الأولاد والنساء وأحرق المدينة حتى وصل ثمن صغير منهم إلى درهمين، فلما تحقق السلطان ذلك فتر عزمه عن السفر، ولما طرق قرا يوسف عينتاب هجم عليها عسكره فنهبوها وأحرقوا أسواقها، فاجتمع أهلها وصالحوه على مائة ألف درهم وأربعين فرساً، فرحل عنها إلى جهة البيرة في طلب قرا يلك فحصر البيرة فقاتلوه أهلها يومين، فهجم البلد وأحرق الأسواق وامتنع أهلها منه بقلعتها، ثم رحل في تاسع عشر رمضان إلى بلاده، وكاتب السلطان أيضاً يذم قرا يلك ويذم سيرة قرا يلك ويحذره من عواقب صداقته وما أشبه ذلك، وعوقب قرا يوسف على ما صنعه بأهل عينتاب والبيرة، فمات ولده شاه بصق وكان هو السلطان والمشار في دولة والده، فحزن عليه جداً، وكانت وفاته بقرب ماردين.
وفي هذه الحركة ابتدأ أمر الهروي في الانحلال، فأخبرني المحتسب بدر الدين العيني أن السلطان لما انزعج من قصة قرا يوسف وشكا إلى خواصه صورة الحال وأن عنده من الأموال ما يكفي تفرقته على العسكر إلا أنه يخشى إن فرقه أن يحصل له كسره مثلاً فيرجع إلى غير شيء فيفسد الحال، وكان الحزم عنده أن يكون وراءه بعد التفرقة ذخيرة لأمر إن تم، وكرر ذلك في مجالسه، واستشار من يجتمع به في ذلك حتى صرح بأنه يريد أن(3/170)
يجمع مالاً يفرقه على العساكر ويترك الذي عنده عاقبة ولو أن الذي يجمعه يكون قرضاً، فبلغ ذلك الهروي فقال لأحمد الجنكي: لو أراد السلطان أن أجهز له عشرة آلاف لابس من غير أن يخرج من خزانته دينارً ولا درهماً من غير أن أظلم أحداً من الرعايا فأنا أقدر على ذلك، فسئل عن الكيفية، فقال: يسلم لي ستة أنفس: ولدي ابن الكويز وابن البارزي وعبد الباسط وابن نصر الله وابن أبي الفرج، فبلغ ذلك أحمد الجنكي للسلطان فبثها في خواصه فبلغت المذكورين، فاتفقت كلمتهم على نكب الهروي ونسبته إلى كل بلية وأنه لم يكن قط عالماً ولا ينسبوه لعلم ولا ولي القضاء قط وما وظيفته إلا استخلاص المال وشد الديوان ونحو ذلك، فبالغوا في تقرير ذلك في ذهن السلطان، واستعان كل واحد منهم بفريق وأعانوه على ذلك حتى سقط من عين السلطان، وذكر لهم السلطان بأنه كان قال له وهو متوجه إلى قتال قانباي إن أردت المال فخذه من ابن المزلق وابن مبارك شاه وسمي غيرهما من المنسوبين إلى المال من أهل دمشق، فأكد ذلك عند السلطان تصديق ما ينسب من محبة الظلم، وكان ذلك سبباً في إطراحه.
وفي حال دخول قرا يوسف البلاد الحلبية فر منه كثير من التركمان الأوشرية وغيرهم فنزلوا على صافيتا من عمر طرابلس فافسدوا في تلك البلاد على عادتهم، فأرسل م برسباي نائب طرابلس ينهاهم عن الفساد. ثم صحت الأخبار برحيل قرا يوسف فراسلهم برسباي في الرحيل إلى بلادهم، فأجابوا إلى ذلك وتجهزوا، فكبس عليهم على غرة منهم في أواخر شعبان، فقتل منهم مقتلة عظيمة قتل فيها ثلاثة عشر نفساً من عسكر طرابلس منهم سودون الأسندمري وانهزم برسباي، وقد أفحش التركمان في سلب الطرابلسيين حتى رجعوا عراة، فلما بلغ ذلك السلطان غضب وأمر باعتقال برسباي بقلعة المرقب، ثم أفرج عنه بسعي ططر وكان من إخوته ونقله إلى دمشق ثم أعطاه تقدمة بها، فاستمر فيها إلى أن كان عاقبة أمره أن تولى السلطنة بعد هذا، واستبد بالأمر كله بعد ثلاث سنين، وجهز سودون القاضي إلى طرابلس أميراً عليها عوضاً عنه، فسافر في شوال.(3/171)
ولما وصل قرا يوسف في رجوعه إلى ماردين مات ابنه الأصغر، فيقال إنه من شدة حزنه عليه قال كلاماً شنيعاً وسيأتي بيانه في حوادث سنة ثلاث وعشرين إن شاء الله.
ولما رجع قرا يوسف إلى تبريز غضب على ولده إسكندر واعتقله، وأرسل إلى ولده الأكبر محمد شاه صاحب بغداد، وكان عصى عليه فصالحه.
وفي شوال قدم صريغاً دويدار يشبك نائب حلب وصحبته شهاب الدين أحمد بن صالح بن محمد بن السفاح كاتب سر حلب باستدعاء السلطان لهما بشكوى النائب، فوقفا بحضرة السلطان وتنصلا مما نسب ما شكيا من النائب بإضعاف ما شكى منهما، فأمر صربغا بالاستقرار على وظيفته وسفر إلى حلب، واستعفى ابن السفاح من العود خوفاً على نفسه فأعفي، واستقر في خدمة كاتب السر على توقيع الدست.
وفي تاسع عشر ذي الحجة قدمت أم إبراهيم بن رمضان من بلاد المشرق تستعطف السلطان على ولدها، فأمر السلطان باعتقالها فاعتقلت، وعرض أجناد الحلقة وانتقى منهم من يصلح للسفر صحبة ولده، وكان قد عزم على تجهيزه إلى بلاد ابن قرمان لما تقدم من صنيعه بطرسوس، وكان أهل طرسوس بعد رحيل محمد بن قرمان عنهم قد كاتبوه بأن يرسل م عسكراً ليسلموا م نائبهم شاهين الأيدكاري لسوء سيرته فيهم، فأرسل م ولده مصطفى فقدم في رمضان فأخذ المدينة وحصر القلعة حتى أخذ شاهين فأرسله إلى أبيه في الحديد.
وفي أول جمادى الآخرة توجه نائب حلب في عساكرها ومن أطاعه من التركمان إلى قلعة كركر ليحاصرها، فتحصن خليل نائبها في القلعة وخلا أكثر أهل كركر عنها، فأقام عليها أربعين يوماً ورمى كرومها وحرقها وحرق القرى التي حولها حتى تركها(3/172)
بلاقع، ولم يزل كذلك حتى فقد عسكره العليق فرجع إلى حلب ولم يتمكن من أخذ قلعة كركر.
وفي أول جمادى الآخرة شرع السلطان في بناء المارستان تحت القلعة، فأمر بتنظيف التراب والحجارة التي بقيت من هدم المدرسة الأشرفية، وتمادى العمل في ذلك مدة.
وفي شعبان بعد كسر الخليج غرق ولد لبعض البياعين فأراد دفنه، فمنعه أعوان الوالي حتى يستأذنه، فمضى فاستأذنه فأمر بحبسه، ثم قيل له وهو في الحبس: إنك لا تطلق حتى تعطي الوالي خمسة دنانير، فالتزم بها وخرج فباع موجوده وما عند امرأته أم الغريق فبلغ أربعة دنانير واقترض دينارً وأخذ ولده فدفنه وترك المرأة وهرب من القاهرة، فبلغ ذلك السلطان فساءه جداً. وطلب ابن الطبلاوي الوالي المذكور فضرب بحضرته بالمقارع في الخامس من شوال ولم يعزله، واستمر في الولاية إلى أن كان ما سنذكره في السنة الآتية.
وفيها حاصر محمد بن قرمان طرسوس وانتزعها من نواب المؤيد، وكان المؤيد انتزعها من التركمان وكانوا استولوا عليها بعد فتنة اللنك، فبلغ ذلك المؤيد فجهز عسكراً ضخماً وأرسل معهم ولده إبراهيم فخرجوا في أول السنة المقبلة.
وفي هذه السنة انتهت زيادة النيل إلى عشرة أصابع من تسعة عشر ذراعاً، وذلك أنه كان يوم النيروز وكان يومئذ سادس عشري رجب قد انتهى إلى أصبع من تسعة عشر ثم نقص نصف ذراع ثم تراجع إلى أن كانت هذه غايته، وارتفع سعر الغلال بسبب ذلك، ولما أسرع هبوط النيل بادر كثير من الناس إلى الزرع قبل أوانه، فصادف الحر الشديد والسموم ففسد أكثره بأكل الدود، فارتفعت الأسعار في القمح والفول والبرسيم بسبب(3/173)
ذلك، وعز وجود التبن حتى بلغ الحمل دينارً وكان قبل ذلك كل خمسة أحمال بدينار، ثم ارتفعت الأسعار في ذي الحجة وقل وجود الخبز في الأسواق، وبلغ سعر الفول ثلاث مائة كل إردب لعزته، ولم يبلغ القمح سوى مائتين وخمسين.
وفي تاسع شعبان نودي أن لا يتعامل الناس بالدينار المشخص الأفرنتي إذا كان ناقصاً، وكان سبب ذلك أن الأفرنتي زنة المائة منه أحد وثمانون مثقالاً وربع مثقال، هكذا يحضر من بلاده، فولع به الصيارفة وغيرهم فصاروا يقصونه منهم ويبردونه إلى أن استقر حال المائة ثمانية وسبعين وثلث وانتظم الحال على ذلك، فكان في الكثير منهم نقص فاحش بحسب ما يقع حين القص من جور القص ففسدت المعاملة جداً، فنودي أن لا يتعامل بالناقص عن درهم وثمن بل يقص ردعاً لهم عن القص، فمشوا على ذلك شيئاً يسيراً ثم رجعوا إلى ما كانوا عليه.
وفي أوائل شعبان عظم الشر بين فخر الدين الأستادار وبدر الدين ابن نصر الله وتفاحشا بحضر السلطان، ورمى ابن نصر الله فخر الدين بعظائم منها أنه قال له: أكثر ما ثمن به على السلطان حمل المال وجميع ذلك مما يعرف يصنعه قطاع الطريق ولولا الدين لكنت أصنع كما تصنع بأن أرسل غارة على قافلة من التجار فأبيتهم فيصبحوا مقتولين وآخذ أموالهم ونحو ذلك من القبائح، فلم يكترث السلطان بذلك وأصلح بينهما.
فلما كان يوم التاسع من شعبان قبض على بدر الدين وسلم لفخر الدين، فما شك أحد في هلاك بدر الدين، فعامله فخر الدين بضد ما في النفس وأكرمه وقام له بما يليق به وأرسل إلى أهله بأن يطمئنوا عليه، وركب من الغد إلى السلطان وهو ببركة الحبش بعرض الهجن لأجل الحج، فلم يزل به يترفق له ويتلطف به ويلح عليه في السؤال في أن يفرج عن ابن نصر الله إلى أن أجابه، فلما أن عاد أركبه دابته إلى داره فبات بها، وركب في بكرة النهار الثاني عشر منه إلى القلعة ورجع وقد خلع عليه، فسر الناس به سروراً كثيراً وعدت هذه المكرمة لابن أبي الفرج واستغربت من مثله.(3/174)
وفي الثالث من ذي القعدة قبض على بدر الدين بن محب الدين الوزير الذي كان يقال له المشير، وتسلمه أبو بكر الأستادار بعد إخراق شديد وإهانة، وكان قد سار في الوزارة سيرة قبيحة وتتبعت حواشيه فقبض عليهم ثم أفرج عنهم على مال، وقرر في الوزارة بدر الدين بن نصر الله وأعطى تقدمة ألف، فنزل الأمراء في خدمته وسر الناس وضربت الطبلخاناة في آخر النهار على بابه، ولم يقع ذلك لصاحب قلم تزيا بزي التركية من المتعممين قبله بل الذين وصلوا إلى ذلك من ذوي الأقلام، غيروا هيأتهم ولبسوا عمائم الترك سوى هذا، وقد تبعه من بعده على ذلك ما سنبينه في الحوادث إن شاء الله تعالى.
وفي رمضان أكملت عمارة المدرسة الفخرية بين السورين، وقررت فيها الصوفية، وفوضت مشيختها للشيخ شمس الدين البرماوي، ودرس الحنفية للقاضي شمس الدين الديري. ودرس المالكية للقاضي جمال الدين المالكي، ودرس الحنابلة للقاضي عز الدين البغدادي ثم القدسي الذي ولي عن قرب تدريس الحنابلة بالمؤيدية، ولم يستطع فخر الدين الأستادار الحضور عند المدرسين لشدة مرضه وتمادى به الأمر إلى أن مات في سادس عشر شوال ودفن بها في فسقية اتخذت له بعد موته.
واستقر في الاستاوارية نائبة في الكشف على الوجه القبلي ابو بكر ابن قطلبك بن المزرق وكان زوج اخته فسكن في داره.
واستقر في نظر في الإشراف عوضاً عنه كاتب السر ابن البارزي. وأوصى فخر الدين بجميع موجوده للسلطان وعينه في دفاتر، واشتملت قيمتها ما بين عين وأثاث على أربعمائة ألف دينار، فتسلمها أصحاب السلطان ولم يشوش على أحد من أولاده، وإنما صودر بعض حاشيته على مال وأطلقوا.
وفي شوال حضر القضاة القصر الكبير وقد لبس الأمراء والمباشرون الخلع على العادة فلبس القضاة خلعهم إلا الحنبلي فسلموا على السلطان، فتغيظ على الحنبلي لعدم لبسه(3/175)
خلعته وقال له: إن العادة جرت أن القضاة يحضرون معهم بخلعهم! فقال: ظننت أنه يخلع عليهم من عند السلطان فلم أحضر بخلعتي، فلم يعجب ذلك السلطان فكأنه أراد تلافي خاطره فاستأذنه في إنشاد آبيات مدح له فيه فأذن له، فأنشده وهو قائم فأطال، فمل منه وقطع الإنشاد وركب الفرس ومضى وأظهر النفار لما ركب.
وفي حادي عشر ذي القعدة توجه السلطان إلى الوجه البحري للسرحة وانتهى إلى مريوط فنزل فأقام بها أربعة أيام فأعجبه البستان الذي هناك. وكان الظاهر بيبرس قد استجده هناك وكان كبيراً جداً وفيه فواكه عجيبة وآثار منظره بديعة وبئر لا نظير لها في الكبر وعليها عدة سواقي من جوانبها. وكان البستان المذكور قد صار للمظفر بيبرس ووقفه على الجامع الحاكمي، فتقدم السلطان إلى بعض خواصه باستئجاره وتجديد عمارته فشرع في ذلك، ورجع السلطان من الوجه البحري فأدركه عيد الأضحى بناحية وردان، فخطب به كاتب السر ابن البارزي وصلى به صلاة العيد وضحى هناك، وفقد الناس بالقاهرة ما كان يألفونه من تفرقة الأضاحي لغيبة السلطان والأمراء والله المستعان.
ووصل في الثاني عشر إلى البر الغربي فغدا إلى بيت كاتب السر بن البارزي(3/176)
فبات فيه ليلة الثلثاء وطلع إلى القلعة سحراً. فوافاه القضاة والأعيان للسلام عليه، فتكلم الديري على قوله تعالى " يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قومن من قوم عسى أن يكونوا خيراً منهم " فنقل الديري سبب النزول فنازعه الهروي، وكان بينهم ما سنذكره في حوادث أول السنة المقبلة.
وفيها استقر القاضي جمال الدين محمد بن أحمد بن محمد بن محمود بن إبراهيم ابن روزبة الكازروني ثم المدني الفقيه الشافعي في قضاء المدينة الشريفة مضافاً إلى الخطابة والإمامة وصرف عبد الرحمن بن محمد بن صالح. ومولد الكازروني فيما قرأت بخطه في سابع عشر ذي القعدة سنة 757.
ذكر من مات
في سنة إحدى وعشرين وثمانمائة من الأعيان
إبراهيم بن بابي - بفتح الموحدتين - العواد المغني، كان مقرباً عند السلطان أبي النفس، المنتهي في جودة الضرب بالعود، ولم يخلف بعده مثله، مات ليلة الجمعة مستهل شهر ربيع الأول ببستان الحلي وكان قد استأجره وعمره.
اجترك القاسمي في مشترك.
أحمد بن أبي بكر بن محمد بن الرداد، المكي ثم الزبيدي الصوفي ثم القاضي شهاب الدين الشافعي ولد سنة ثمان وأربعين، ودخل اليمن فاتصل بصحبة السلطان الأشرف إسماعيل بن الأفضل فلازمه، واستقر من الندماء ثم صار من أخصهم به، وكانت لديه فضائل كثيرة ناظماً ناثراً ذكياً إلا أنه غلب عليه حب الدنيا والميل(3/177)
إلى تصوف الفلاسفة، فكان داعية إلى هذه البدعة يعادي عليها، ويقرب من يعتقد ذلك المعتقد، ومن عرف أنه حصل نسخة الفصوص قربه وأفضل عليه، وأكثر من النظم والتصنيف في ذلك الضلال المبين إلى أن أفسد عقائد أكثر أهل زبيد إلا من شاء الله، ونظمه وشعره ينعق بالاتحاد، وكان المنشدون يحفظون شعره فينشدونه في المحافل يتقربون به، وله تصانيف في التصوف، وعلى وجهه آثار العبادة لكنه كان يجالس السلطان في خلواته ويوافقه على شهواته إلا أن لا يتعاطى معهم شيئاً من المنكرات ولا يتناول شيئاً من المسكرات، وولي القضاء بعد الشيخ مجد الدين بسنتين وكان الناصر ابن الأشرف ترك القضاء شاغراً هذه المدة ينتظر قدوم عليه بزعمه، فسعى فيه بعض الأكابر للفقيه الناشري فخشي ابن الرداد أن يتمكن الناشري من الإنكار عليه في طريقته، لن الناشري كان من أهل السنة وشديد الإنكار على المبتدعة، وكان يواجه ابن الرداد بما يكره والشيخ مجد الدين يداهنه فبادر إلى طلب الوظيفة من الناصر والناصر لا يفرق بين هذا وهذا ويظن أن ابن الرداد عالم كبير فولاه له مع كونه مزجي البضاعة في الفقه عديم الخبرة بالحكم فأظهر العصبية وانتقم ممن كان ينكر عليه بدعته من الفقهاء فأهانهم وبالغ في ردعهم والحط عليهم، فعوجل وصاروا يعدون موته من الفرج بعد الشدة ومات في ذي القعدة، وقد سمعت من نظمه وأجاز في استدعاء أولادي.
أحمد بن علي بن أحمد، القلقشندي نزيل القاهرة، تفقه وتمهر وتعانى الأدب، وكتب في الإنشاء وناب في الحكم، وكان يستحضر الحاوي وكتب شيئاً على جامع المختصرات، وصنف كتاباً حافلاً سماه صبح الأعشى(3/178)
في معرفة الإنشاء وكان مستحضراً لأكثر ذلك، مات في جمادى الآخرة عن خمس وستين سنة.
أقبغا شيطان، وكان حسن المباشرة قليل الفسق، ولي شد الدواوين ثم الولاية ثم الحسبة وجمع بين الثلاثة مرة، وقتل في ليلة سادس شعبان.
الطنبغا العثماني مات في ثاني عشر شوال بطالا بالقدس.
بردبك الخليلي، نائب صفد، مات في نصف شهر رجب.
بيسق أمير أخور الظاهري، مات بالقدس بطالاً، وكان الناصر نفاه إلا بلاد الروم فقدم في الدولة المؤيدية فلم يقبل المؤيد عليه ثم نفاه إلى القدس فمات بها في جمادى الآخرة، وله آثار بمكة، وكان كثير الشر شرس الخلق جماعاً للأموال مع البر والصدقة.
حسين بن علي بن محمد بن داود، البيضاوي الأصل المكي أبو عمر بدر الدين المعروف بالزمزمي، ولد قبل السبعين، وأجاز له الصلاح ابن أبي عمر وابن أميلة وحسن بن الهبل وجماعة من القادمين مكة بعد ذلك، واشتغل بالعلم ومهر في الفرائض والحساب، وفاق الأقران في معرفة الهيئة والهندسة، وحدث باليسير، مات في ذي الحجة وقد جاوز الخمسين.
حسين بن كبك - تقدم في الحوادث.
خليل بن محمد بن محمد بن عبد الرحيم بن عبد الرحمن، الأقفهسي المصري المحدث المفيد، يلقب صلاح الدين وغرس الدين، ويكنى أبا الصفا، ويعرف بالأشقر، ولد سنة ثلاث(3/179)
وستين وسبعمائة تقريباً، واشتغل بالفقه قليلاً واشتغل في الحساب والفرائض والأدب، ثم أحب الحديث فسمع بنفسه قبيل التسعين من عزيز الدين المليجي وصلاح الدين البلبيسي وصلاح الدين الزفتاوي وأبي الفرج بن المعزى ونحوهم من الشيوخ المصريين، ثم حج سنة خمس وتسعين وجاور فسمع بمكة من شيوخها، ثم قدم دمشق أول سنة سبع وتسعين ليسمع من شيخنا بالإجازة أبي هريرة بن الذهبي، وكان قد أجاز له جماعة ليس عنده إذ ذاك اشهر من أبي هريرة، فلما وصل إلى دمشق لقي بها شيخنا بالإجازة شهاب الدين ابن العز فأكثر عنه وأخذ عن ابن الذهبي، وسمع الكثير من حديث السلفي بالسماع المتصل وبالإجازة الواحدة، ثم قدم سنة ثمان وتسعين فلازمنا في الأسمعة وسافر صحبتي إلى مكة في البحر فجاور بها، ثم رحل إلى دمشق مرة ثانية فأقام بها فرافقني في السماع في سنة اثنتين وثمانمائة بدمشق ورجع معي إلى القاهرة، ثم حج في سنة أربع وجاور سنة خمس فلقيته في آخرها مشمراً على ما أعهده من الخير والعبادة والتخريج والإفادة وحسن الخلق وخدمة الأصحاب، واستمر مجاوراً من تلك السنة إلى أن خرج إلى المدينة ثم توجه في ركب العراق، ثم ركب البحر إلى كنباية من بلاد الهند ثم رجع إلى هرمز، ثم جال في بلاد المشرق فدخل هراة وسمرقند وغيرهما، وصار يرسل إلى كتبه إلى مكة بالتشوق اوإلى أهله، وقد خرج لشيخنا مجد الدين الحنفي مشيخة ولشيخنا جمال الدين ابن ظهيرة معجماً وحرج لنفسه المتباينات فبلغت مائة حديث، وخرج أحاديث الفقهاء الشافعية، ونظم الشعر الوسط ثم جاد شعره في الغربة وطارحني مراراً بعدة مقاطيع، ثم بلغني أنه مات في أول سنة إحدى وعشرين بيزد، خرج من الحمام مات فجأة، وأرخه الشريف الفاسي في سنة عشرين - فالله أعلم.(3/180)
سارة بنت محمد بن أزدمر حماتي، ماتت في المحرم.
سعد الله بن سعد بن علي بن إسماعيل، الهمذاني، قدم إلى حلب مع والده وهو شاب، وكان أبوه سكن عينتاب، واشتغل سعد الله هذا في العلم وتفقه حنفياً ومهر في ودرس في حلب بمدارس منها، فاتفق أنه فجأة الموت في رابع جمادى الأولى وأسف الناس عليه، وكانت جنازته حافلة - ذكره القاضي علاء الدين في ذيل تاريخ حلب.
سليمان بن علي، القرشي اليمني المعروف بابن الجنيد، سمع على ابن شداد وغيره، وولي قضاء عدن مرة، رأيته بعدن ومات بها.
سودون الأسندمري - تقدم في الحوادث.
عبد الله بن إبراهيم بن احمد، الحراني ثم الحلبي الحنبلي، كان يذكر أنه من ذرية ابن أبي عصرون، وكان شافعي الأصل، وولي قضاء الشغر شافعياً وكذا كانت له وظائف في الشافعية، ثم انتقل بعد مدة حنبلياً وولي قضاء الحنابلة بحلب كأنظاره، وقال القاضي علاء الدين في تاريخ حلب: كان حسن السيرة، ولي القضاء ثم صرف ثم أعيد مراراً، ثم صرف قبل موته بعشرة أشهر فمات في شعبان.
عبد الله بن علي بن يحيى بن فضل الله، العدوي جمال الدين ابن كاتب السر.(3/181)
ولد سنة أربع وخمسين، وأحضر على العرضي وأسمع على التباني واستمر يلبس بزي الجندية وله إقطاع، واستمر من حياة أبيه إلى أن مات محارفاً وكان مستوراً، ثم فسد حاله إلى أن عمل نقيباً في بيوت الحجاب، وقد سمع منه بعض أصحابنا قليلاً. وهو آخر إخوته موتاً.
عبد الرحمن بن هبة الله، الملحاني اليماني، جاور بمكة، وكان بصيراً بالقراآت سريع القراءة، قرأ في الشتاء في يوم ثلاث ختمات وثلث ختمة، وكان ديناً عابداً مشاركاً في عدة علوم، مات في رجب.
عبد الغني بن عبد الرزاق بن أبي الفرج، الأرمني الأصل، كان جده من نصارى الأرمن فأسلم وولي نظر قطياً وولايتها والوزارة وغيرهما كما تقدم، وكان مولد فخر الدين سنة أربع وعشرين وسبعمائة، وتعلم الكتابة والحساب، وولي قطيا في راس القرن في جمادى سنة إحدى وثمانمائة، ثم صرف وأعيد لها مراراً، ثم ولاه جمال الدين الأستادار كشف الشرقية سنة إحدى عشرة، فوضع السيف في العرب وأسرف في سفك الدماء وأخذ الأموال، فلما قبض على جمال الدين واستقر ابن الهيصم في الأستادارية بذل عبد الغني أربعين ألف دينار، واستقر مكانه في ربيع الآخر سنة أربع عشرة، ثم صرف في ذي الحجة منها بعد أن سار سيرة عجيبة من كثرة الظلم وأخذ المال بغير شبهة أصلاً والاستيلاء على حواصل الناس بغير تأويل، وفرح الناس بعزله، وعوقب فتجلد حتى رق له أعداؤه، ثم أطلق وأعيد إلى ولاية قطيا، فلما(3/182)
قتل الناصر وولي المؤيد ولي كشف الوجه البحري، ثم ولي الأستادارية في جمادى الأولى سنة ست عشرة، فجادت أحواله وصلحت سيرته وأظهر أن الذي سار به أولاً إنما كان من عيب الناصر لكنه أسرف في أخذ الأموال من أهل القرى، وولي كشف الصعيد فعاد ومعه من الخيول والإبل والبقر والغنم والأموال ما يدهش من كثرته، ثم توجه إلى الوجه البحري ففرض على كل بلد وقرية مالاً سماه ضيافة، فجمع من ذلك مالاً جزيلاً في مدة يسيرة، ثم توجه إلى ملاقاة المؤيد لما رجع من وقعة نوروز فبلغه أن المؤيد سمع بسوء سيرته وعزم على القبض عليه، فهرب إلى بغداد وأقام عند قرا يوسف قليلاً، ثم لم تطب له البلاد فعاد ورمى بنفسه على خواص المؤيد، فأمنه وأعاده إلى كشف الوجه البحري، ثم أعاده إلى الأستادارية في سنة تسع عشرة، فحمل في تلك السنة مائة ألف دينار فسلم له الأستادار قبله بدر الدين بن محب الدين وأمر بعقوبته، فكف عنه فأخذ من يده وتوجه لحرب أهل البحيرة ومعه عدة أمراء في شوال سنة تسع عشرة فكان الكل من تحت أمره، ووصل إلى حد برقة ورجع بنهب كثير جداً، ثم لما مات تقي الدين ابن أبي شاكر أضيفت الوزارة في صفر سنة إحدى وعشرين، فباشرها بعنف وقطع رواتب الناس وبالغ في تحصيل الأموال ويحوزة، فكان يوفر كل قليل مالاً يحمله للمؤيد فيجل في عينه ويشكره في غيبته مع لين جانبه للناس وتودده لهم، وكان في كل قليل يصادر الكتاب والعمال، ثم توجه إلى الوجه البحري وأخذ الضيافة على العادة ولاقى السلطان لما رجع من الشام بأموال عظيمة. ثم توجه إلى الصعيد وأوقع بأهل الأشمونين ورجع بأموال كثيرة جداً، ثم استعفى عن الوزارة في شوال سنة عشرين فاستقر أرغون شاه، ثم مرض فعاده السلطان في مرضه، فقدم له خمسة آلاف دينار فأضاف نظر الإشراف،(3/183)
ثم توجه الوجه القبلي فأوقع بالعرب وجمع مالاً كثيراً جداً، ثم أصابه الوعك في رمضان واستمر في مرضه ذلك إلى أن مات في نصف شوال سنة 831، واشتد أسف السلطان عليه، وعاش سبعاً وثلاثين سنة، وكان عارفاً بجمع المال شهماً شجاعاً ثابت الجأش قوي الجنان، وكان في آخر عمره قد ساد وجاد سوى ما اعتاده من نهب الأموال، وقد جمع منها في ثلاث سنين ما لا يجمعه غيره في ثلاثين سنة، وكان جده يصحب ابن نقولا الكاتب فنسب فلهذا كان يقال له أبو الفرج بن نقولا أو هو اسم جده حقيقة.
وفي الجملة أبو الفرج أول من أسلم من آبائه ونشأ أبوه مسلماً ثم دخل بلاد الفرنج، ويقال إنه رجع إلى النصرانية، ثم قدم واستقر صيرفياً بقطية وولي نظرها ثم إمرتها، ثم تنقلت به الأحوال وبولده من بعده على ما تقدم مشروحاً.
علي بن أحمد بن علي بن حسين بن محمد بن حسين بن محمد بن حسين بن محمد بن زيد بن حسين بن مظفر بن علي بن محمد بن إبراهيم بن محمد بن عبد الله بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، الأرموي الأصل نزيل القاهرة نقيب الأشراف شرف الدين ابن قاضي العسكر، وأمه خاص بنت الظاهر أنسب بن العادل كتبغا، وكان معدوداً في رؤساء البلد لإفضاله وكرمه من غير شهرة بعلم ولا تصون، ومات في تاسع عشر ربيع الأول عن نحو الستين.
علي بن أحمد بن عمر بن حسن، المهجمي، كان يسكن بيت الفقيه من عمل بيت حسين باليمن وهو من بيت الصلاح، وللناس فيه(3/184)
اعتقاد كبير، ويحكى عنه رحمه الله تعالى مكاشفات وكرامات مع وفور حظ من الدنيا.
قطلوبغا الخليلي، نائب الإسكندرية وقد تقدم ذكر ولايته في الحوادث، ومات في نصف ذي الحجة، ولم تطل مدته في السعادة، واستقر بعده في نيابة الإسكندرية ناصر الدين محمد بن العطار الدمشقي نقلاً من دويدارية نائب الشام ا، وهو صهر كاتب اسر.
لؤلؤ الطواشي المجبوب كاشف الوجه القبلي، وليه مرتين ثانيهما في رجب سنة ثماني عشرة، ثم عزل وصودر وأخذ منه مال جزيل بعد العقوبة الشديدة، ثم ولي شد الدواليب ومات وهو على ذلك، وكان من الحمقى المغفلين والظلمة الفاتكين في صورة الناسكين، مات في شوال.
محمد بن حسين بن محمد بن محمد بن خلف الله، الشمني - بضم المعجمة والميم وتشديد النون - ثم الإسكندري المالكي كمال الدين، ولد سنة بضع وستين، واشتغل بالعلم في بلده ومهر، ثم قدم القاهرة فسمع بها من شيوخنا وممن قبلهم وسمع بالإسكندرية، وقدم في الحديث وصنف فيه وتخرج ببدر الدين الزركشي والشيخ زين الدين العراقي، ونظم الشعر الحسن، ثم استوطن القاهرة وأصيب في بعض كتبه. وتنزل بالمدرسة الجمالية طالباً في درس الحديث، ثم نزلت له عنه في سنة تسع عشرة فدرس به، ثم عرضت(3/185)
له علة في أواخر سنة عشرين، ثم تفقه ورجع إلى منزله وتمرض به إلى أن مات في شهر ربيع الأول.
محمد بن علي بن نم، الكيلاني غياث الدين ابن خواجا على التاجر، ولد في حدود السبعين، وكان أبوه من أعيان التجار فنشأ ولده هذا في عز ونعمة طائلة، ثم شغله أبوه بالعلم بحيث كان يشتري له الكتاب الواحد بمائة دينار وأزيد ويعطي معلميه فيفرط، فمهر في أيام قلائل واشتهر بالفضل ونشأ متعاظماً، ثم مات أبوه وتنقلت به الأحوال، والتهى عن العلم بالتجارة فصعد وهبط وغرق وسلم وزاد ونقص إلى أن مات خاملاً مع أنه كان سيئ المعاملة عارفاً بالتجارة محظوظاً منها إلا أنه تزوج جارية من جواري الناصر يقال لها سمراء فهام بها وأتلف عليها ماله وروحه وأفرطت هي في بغضه إلى أن قيل إنها سقته السم فتعلل مدة ولم تزل به حتى فارقها فتدله عقله من حبها إلى أن مات ولهاً بها، وبلغني أنها تزوجت بعده رجلاً من العوام فأذاقها الهوان وأحبته، فأبغضها عكس ما جرى لها مع غياث الدين، وبلغني أنها زارت غياث الدين في مرضه واستحللته فحاللها من شدة حبه لها وكانت قد ألزمته بطلاق زوجته ابنة عمه فطلقها لأجلها، وقد طارحني غياث الدين بمقاطيع عديدة وألغاز وترافقنا في السفر، ومن شعر غياث الدين في سمراء قصيدة مطولة أولها:
سلوا سمراء عن جربي وحزني ... وعن جفن حكى هطال مزن
سلوها هل عراها ما عراني ... من الجن الهواتف بعد جن(3/186)
سلوا هل هزت الأوتار بعدي ... وهل غنت كما كانت تغني
يقول في آخرها:
سأشكوها إلى مولى حليم ... ليعفو في الهوى عنها وعني
وهذا آخر من عرفنا خبره من المتيمين، مات في سابع عشر شوال.
محمد بن محمد بن عبد اللطيف بن أحمد بن محمود بن أبي الفتح، أبو الطاهر الشيخ المسند شرف الدين ابن عز الدين أبي اليمن ابن الكويك الربعي التكريتي ثم الإسكندراني نزيل القاهرة، ولد في ذي القعدة سنة سبع وثلاثين، وأجاز له فيها المزي والبرزالي والذهبي وبنت الكمال وإبراهيم بن الفريشة وابن المرابط وعلي بن عبد المؤمن بن عبد في آخرين، وأحضر في الرابعة على إبراهيم بن علي الزرزاري، وأسمع من أحمد بن كشتغذي وأبي نعيم الإسعردي وابن عبد الهادي وغيرهم، ولازم القاضي عز الدين ابن جماعة، وتعانى المباشرات فكان مشكوراً فيها، وتفرد في آخر عمره بأكثر مشايخه، وتكاثر عليه الطلبة ولازموه، وحبب التحديث ولازمه، قرأت عليه كثيراً من المرويات بالإجازة والسماع، من ذلك صحيح مسلم في أربعة مجالس سوى مجلس الختم،(3/187)
ولم يزل على حاله متقطعاً في منزله ملازماً للأسماع إلى أن مات في أواخر ذي القعدة من هذه السنة وقد أكمل أربعاً وثمانين سنة، ولم يبق بعده بالقاهرة من يروي عن أحد من مشايخه لا بالسماع ولا بالإجازة بل ولا في الدنيا من يروي عمن سميت من مشايخه المذكورين رحمه الله تعالى.
محمد ناصر الدين ابن البيطار، كان في ابتداء أمره يتعانى صناعة البيطرة، ثم قرأ القرآن واشتغل بالفرائض فمهر في ذلك، ثم أقبل على الفقه ففاق أقرانه، وأقرأ في الجامع مدة ولم يترك جائزته ويسترزق منه، وكان صالحاً خيراً ديناً، مات في ربيع الآخر.
مشترك ويقال له اجترك القاسمي، من كبار الأمراء، تنقل في الولايات منها نيابة غزة، مات في جمادى الأولى.
يوسف بن محمد بن عبد الله، الحميدي جمال الدين الحنفي، نسب إلى امرأة كان يقال لها أم حميد، ونشأ بالإسكندرية وتفقه حتى برع وولي قضاء الحنفية بها وكان موسراً، مات في خامس عشري جمادى الآخرة وقد زاد على الثمانين، وكان لا بأس به.(3/188)
سنة اثنتين وعشرين وثمانمائة
استهلت يوم الجمعة ثاني إمشير من الشهور القبطية.
في أول المحرم جهز إبراهيم بن السلطان وصحبته من الأمراء الكبار الطنبغا القرمشي وططر وجقمق وآخرون وصحبته علي بن قرمان وكان قد فر من أخيه محمد إلى السلطان والتجأ فجهز ابنه نصرة له فكان ما سيأتي ذكره، وتوجه من الريدانية في ثاني عشري المحرم، وكان السبب في هذه السفرة أن محمد بن قرمان أغار على طرسوس في السنة الماضية، فقبض على نائبها شاهين الأيدكاري فوصل دمشق في سادس صفر وتلقاه النواب، ثم وصل حلب في أول ربيع الأول ثم وصل إلى كركر في ثامن عشر ربيع الآخر فحاصر القلعة، وهرب ابن قرمان في مائة وعشرين فارساً وأخذ منها مالاً ورجالاً فقيدهم، وتوجه إلى لارندة فنازلها وهي قاعدة بلاد ابن قرمان وكان ما سنذكره بعد ذلك إن شاء الله تعالى، ثم وصل إلى قيسارية وهي أعظم بلاد ابن قرمان في تاسعه، ثم وصل إلى قونية في نصف ربيع الآخر بعد ما مهد أمور قيسارية ورتب أحوالها وخطب فيها باسم السلطان ونقش اسم السلطان على بابها، وقرر في نيابتها محمد بن دلغادر نائب السلطنة بقيسارية، ولم يتفق ذلك لملك من ملوك الترك بعد الظاهر بيبرس فإنه كان خطب له بها ثم انتقض ذلك.
وفيه قدم عجلان بن نعير من المدينة مقبوضاً عليه من إمرة المدينة، ووصل بكتمر السعدي من رسالته إلى صاحب اليمن ومعه كتاب الناصر صاحب اليمن وهديته.(3/189)
وفيها قرر ناصر الدين بك واسمه محمد بن دلغادر في نيابة قيسارية عن السلطان مضافاً إلى نيابة الأبلستين، وكان تاني بك نائب حلب استولى على طرسوس فأمره المؤيد أن يسلمها لناصر الدين بك فجمع محمد بن قرمان عسكراً، واستقر مقبل الدويدار الثاني شاد العمارة بالجامع المؤيدي عوضاً عن ططر.
وفي ثامن عشري المحرم حضر السلطان بالجامع المؤيدي وحضر عنده القضاة فسألهم عما أعلم به الحجاج من استهدام المسجد الحرام واحتياجه إلى العمارة، ومن أي جهة يكون المصروف على ذلك، فجالوا في ذلك إلى أن سأل القاضي الحنبلي قاضي الشافعية الهروي عن أربع مسائل تتعلق بذلك فأجابه فخطأه في جميعها، وتقاول القاضيان الشافعي والحنفي حتى تسابا. وأفحش الديري في أمر الهروي حتى قال: أشهدك يا مولانا السلطان أني حجرت عليه أن يفتي وحكمت بذلك، فنفذ حكمه المالكي والحنبلي في المجلس، وبلغ الهروي من البهدلة إلى حد لم يوصف، وأعان على ذلك شدة بغض الناس له وتمم عليه ورحيل أعوانه وأنصاره مثل ططر وغيره مع ما هو عليه من قلة العلم وعجمة اللسان.
فلما كان في الثامن من شهر ربيع الأول قدم طائفة من الخليل والقدس صحبة الناظر عليهم حينئذ وهو حسن الشكلي فشكون منه أنه أخذ منهم مالاً عظيماً في أيام نظره. فابتليت بالحكم بينهم بأمر السلطان، فتوجه الحكم على الهروي فخرج في الترسيم، فلما حاذى المدرسة الصالحية خرج الرسل الذين بها من جهة الحنفي فأدخلوه قاعة الشافعية وتوكلوا به. فأرسل قاصده إلى مرجان الخازندار، فنزل بنفسه وسب الموكلين به ونقله إلى داره.
وفي الثاني عشر منه أمر السلطان أن يوكل بالهروي فوكل به أربعة، فشرع في بيع بعض موجوده وأشيع أنه عزم على الهرب، ثم أمر بإعادة ما أودع تحت يده من مال(3/190)
أجناد الحلقة وجملته ألف ألف وستمائة ألف، فوجد منه ألف ألف وتصرف في ستمائة ألف، فكثرت القالة فيه والشناعة عليه بسبب ذلك، ومنع ابن الديري نواب الهروي من الحكم واستند إلى أن الهروي ثبت فسقه فانعزل بذلك ولو لم يعزله السلطان، فكفوا.
فلما كان السابع عشر من ربيع الأول نزل السلطان إلى جامعه واستدعى بالبلقيني فأعاده إلى القضاء، ففرح الناس به جداً لبغضهم في الهروي - وكان ما سنذكره بعد ذلك.
وفي خامس صفر استقر صدر الدين ابن العجمي في الحسبة، وفرح الناس به لمعرفته وعفته.
وفي سادس عشره توجه ابن محب الدين أمير بطرابلس من جملة الأمراء.
وفي ثامن عشره عمل الوقيد بالبحر كالسنة الماضية.
وفي أواخر صفر ثار المماليك الذين في خدمة السلطان بالطباق وأرادوا إحداث فتنة وامتنعوا من حضور الخدمة وذكروا أن سبب ذلك حقارة الجامكية، فأمر السلطان أن يزاد كل واحد منهم على قدر ما يريد فرضوا وسكنت الفتنة. وفيه أرسل الطنبغا المرقبي إلى الصعيد وصحبته رقم (؟) أمير هوارة، فطرقه الأعراب فكانت بينهم مقتلة عظيمة، ثم انهزم العرب إلى الميمون وغنم الطنبغا ومن معه من أغنامهم ودوابهم شيئاً كثيراً جداً.
وفي صفر فشا الطاعون بالشرقية والغربية وابتدأ بالقاهرة ومصر، ثم كثر جداً في ربيع الأول، وكان في الأطفال كثيراً جداً، وعم الوباء في بلاد الفرنج، وفيه عمرت قناطر شينين فبلغ مصروفها خمسة آلاف دينار جمعت من بلاد الجيزة حتى من الإقطاعات والرزق.(3/191)
وفي تاسع عشري ربيع الأول كسفت الشمس قبيل الزوال فاجتمع الناس بالجامع الأزهر، فصليت بهم صلاة الكسوف على الوصف المعروف في الأحاديث الصحيحة بركوعين مطولين وقيامين مطولين وكذلك في جميع الأركان المقصودة وغير المقصودة، ثم خطبت بهم ما يقتضي ذلك بعد أن انجلت الشمس والحمد لله، واتفق وقوع زلزلة في هذا اليوم بمدينة أرزنكان، هلك بسببها عالم كثير وانهدم من مباني القسطنطينية شيء كثير وهدمت قيسارية بناها ابن عثمان في برصا وما حولها وهلك بسبب ذلك ناس كثير.
وفي ربيع الأول ركب المحتسب والوالي فطافا بأمر السلطان على أماكن الفساد بالقاهرة وأراقا من الخمور شيئاً كثيراً، ومنع المحتسب النساء من النياحة على الأموات في الأسواق وعزر طائفة منهن. وألزم ود والنصارى بتضييق الأكمام وتصغير العمائم وبالغ في ذلك.
وفيه تشاجر الوزير والأستادار وتفاحشا، وخلع عليهما في تاسع عشرة والتزما بحمل مائة ألف دينار.
وفي المحرم قبض على محمد بن بشارة، وذلك أن السلطان كان أرسل ناصر الدين محمد بن إبراهيم بن منجك إلى دمشق وأمره أن يحتال على ابن بشارة، فراسله إلى أن ضمن له عن السلطان الرضا، فلما اطمأن لذلك أرسل أمان السلطان وحلف وأرسل له(3/192)
خلعة فلبسها وأقبل إلى دمشق، فتلقاه وبالغ في إكرامه فآمن، فينا هو آمناً في سوق الخيل فتلقاه ابن منجك فدخلا جميعاً إلى بيت نكباي نائب الغيبة، فلم يستقر به المجلس حتى قبض عليه، فدفع عن نفسه بسيفه وجرح من تقدم فتكاثرت السيوف على رأسه، وقض على عشرين من أصحابه فوسط منهم أربعة نفر واعتقل ابن بشارة بدمشق، ثم أمر السلطان بإحضاره فأحضر في رابع عشري جمادى الأولى.
وفي خامس ربيع الآخر خدع الهروي الموكلين به من الأجناد ففر إلى بيت قطلوبغا التنمي فبلغ ذلك السلطان، فأمر الوالي الأمير التاج بنقله من بيت التنمي إلى القلعة فسجنه بها في البرج، ثم أنزله التاج في ثاني عشر من الشهر إلى الصالحية وقد اجتمع بها القضاة فادعى التاج على الهروي بالمال الذي ثبت عليه، فالتزم بأنه عنده وهو قادر عليه وأنه أدى بعضاً وسيؤدي الباقي، فسجنه في قبة الصالح ووكل به جماعة يحفظونه، ثم نقل في ثامن عشري الشهر المذكور إلى القلعة، لأنه كرر شكواه من كثرة سب الناس له من بغضهم فيه حتى خشي أن يأتوا على نفسه، ثم بادر التاج ونقل الهروي من جامع القلعة إلى مكان عنده بالمطبخ، ثم سعى عند السلطان في أمره إلى أن أمره بإطلاقه، فنزل إلى دار استكراها له مرجان الخازندار وراء مدرسة الجاي، فأقام بها إلى السنة الآتية.
وفي الثاني من جمادى الأولى ولد الملك المظفر أحمد بن الملك المؤيد شيخ فقدر الله أنه يلي السلطنة في أول سنة أربع وعشرين وعمره سنة واحدة وثمانية أشهر وأيام.
وفي الثالث من جمادى الأولى قرر كاتبه في تدريس الشافعية بالمؤيدية، وقرر يحيى(3/193)
بن محمد بن أحمد العجيسي في تدريس المالكية، وقرر عز الدين عبد العزيز بن علي بن العز الذي كان قاضي القدس في تدريس الحنابلة، وتأخر تقرير مدرس الحنفية وغيره.
وفيها مات رئيس الأطباء إبراهيم بن خليل بن علوة الإسكندراني وكان حاذقاً في الطب، وقدم شخص يقال له نظام الدين أبو بكر محمد بن عمر بن أبي بكر الهمذاني الأصل التبريزي المولد سنة 757 وكان فاضل الشام فأحضره السلطان إلى القاهرة وكان ادعى في الطب والتنجيم دعوى عريضة وتناظر هو وسراج الدين عمر بن منصور بن عبد الله البهادري الحنفي، فاستظهر لبهادري عليه بكثرة استحضاره وذكائه وجمود أبي بكر المذكور، فلما كاد أمر البهادري أن يتم نكت عليه كاتب السر أنه لا يدري العلاج وإن كان يدري الطب وأن يده غير مباركة فإنه ما عالج أحداً إلا مات من مرضه ونصيحة السلطان واجبة، واستشهد بجماعة منهم ابن العجمي فوافقوه فانحل السلطان عنه وصرفهم، ثم أمرهم أن يتوجهوا إلى المارستان ويكتبوا لمن فيه أوراقً لينظر في أمرهم أيهم أصح كتابة، فلم ينجع من ذلك شيء، ثم قرر في رئاسة الطب بدر الدين ابن بطيخ.
وفي السابع من جمادى الأولى أحضر بطرك النصارى في الإصطبل بعد أن جمع القضاة والمشايخ فسأله عما يقع في الحبشة من إهانة المسلمين فأنكر ذلك، ثم انتدب له المحتسب فأنكر عليه تهاون النصارى بما يؤمرون به من الصغار والذل، وطال الخطاب في معنى ذلك واستقر الحال بأن لا يباشر أحد من النصارى في دواوين السلطان ولا الأمراء ولا غيرهم.(3/194)
ثم أغرى شهاب الدين الإمام ابن أخي قاضي أذرعات السلطان بالأكرم فضائل النصراني كاتب الوزير، فاستدعى به وضربه بالمقارع بحضرته وشهره بالقاهرة عرياناً وسجنه، ثم آل أمره إلى أن أمر السلطان بأن يقتل فقتل، فصغر النصارى العمائم ولزموا بيوتهم وضيقوا أكمامهم ومنعوا من ركوب الحمر بالقاهرة وإذا خرجوا في ظاهرها ركبوها عرضاً، فأنف جماعة من النصارى من الهوان فأظهروا الإسلام فانتقلوا من ركوب الحمر إلى ركوب الخيل المسومة وباشروا فيما كانوا فيه وأزيد منه. وألزم النصارى ألا يدخلوا الحمامات إلا وفي أعناقهم الجلاجل وأن يلبس نساؤهم المصبغات ولا يمكنوا من الأزر البيض، فاشتد الأمر عليهم جداً وسعوا جهدهم في ترك ذلك فلم يعفوا لتصميم السلطان على ذلك.
وفي ثانية قدم الطنبغا المرقبي والأستادار أبو بكر من الصعيد، ودم الأستادار ما حصله من أموال هوارة فكان مائتي فرس وألف جمل وستمائة جاموسة وألف وخمسمائة بقرة وخمسة عشر ألف راس من الضأن.
وفي جمادى الأولى شرع في عمل الصهريج بجوار خانكاه بيبرس من جهة الملك المؤيد.
وفيه تغير كاتب السر ناصر الدين ابن البارزي على محتسب القاهرة صدر الدين ابن العجمي بعد أن كان هو الذي يقربه من السلطان ويسعى له فأخذ في أسباب إبعاده عن السلطان، وأعان ابن العجمي على نفسه بلجاجته وتماديه في غيه، فاتفق أن السلطان في هذه الأيام كان عاوده وجع رجله وانضاف إلى ذلك وقوع وجع في خاصرته وكان في كل سنة ينصل عن قرب في قوة الشتاء وقوة الصيف، فمنذ عالجه أبو بكر العجمي اشتد ألمه أكثر من كل سنة، فاتفق أنه استفتى وهو في شدة الوجع عن جواز الجمع بين الصلاتين بعذر المرض فأفتاه بذلك بعض الشافعية من خواصه، فسأل بعض الحنفية(3/195)
فقال له: قلد الشافعي في هذه المسألة فاتفق حضور ابن العجمي في صبيحة ذلك اليوم فدارت المسألة بين الفقهاء الذين يحضرون عند السلطان، فبالغ ابن العجمي في الرد على من أفتى بذلك، فقيل له: قد أفتى به ابن عباس من الصحابة، فقال: أنا ما أقلد ابن عباس وإنما أقلد أبا حنيفة! هذا الذي اضبطه من لفظه فادعى عليه بعد ذلك بتاليب كاتب السر عند القاضي الحنفي ابن الديري انه قال ومن هو ابن عباس بالنسبة الى ابي حنيفة. فطلبه ابن الديري بالرسل حتى أحضروه مهاناً ووكل به بالصالحية.
وفي تاسع عشره طلب ابن الديري ابن العجمي فعزره من غير إقامة بينة عليه بشيء مما ادعى عليه به، ثم أفرج عنه فجمع نفسه عن الكلام في الحسبة، فبلغ ذلك السلطان فأنكر ذلك واستدعاه وخلع عليه وأقره على الحسبة، ففرح الناس بذلك فرحاً عظيماً، وكانوا اتهموا القبط في الممالأة عليه وظنوا أن ابن البارزي قبطياً، وليس كذلك وإنما هو أعان على نفسه حتى اسخط الرؤساء عليه.
وفي جمادى الآخرة تحول السلطان من القلعة في محفة إلى بيت ابن البارزي المطل على النيل وكانا البارزي قد استأجر بيت ناصر الدين بن سلام وأضاف عدة بيوت مجاورة له وأتقن بنيانها ووضعها وضعاً غريباً على قاعدة عمائر بلدة حماة، فأعجب السلطان ذلك إعجاباً شديداً واختار الإقامة به حتى يبل من مرضه، فأقام بها من نصف جمادى الآخرة إلى نصف رجب واستدعى الحراقة الذهبية، فكان يركب من بيت ابن البارزي إلى القصر الذي بأنبابة ثم منه إلى بيت ابن البارزي وتارة ينام في الحراقة الليل كله وتارة يتوجه إلى الآثار فيها ويرجع إلى رابع عشر رجب، فتحول إلى بيت الخروبي بالجيزة وكان قد أحضر الحراريق المزينة التي جرت العادة بتزيينها في ليالي وفاء النيل فاستصحبها صحبته مقلعة إلى الخروبية، واجتمع الناس للفرجة في شاطئ النيل من بولاق إلى مصر، فمرت في تلك الليالي للناس من النزه والبسط ما لا مزيد عليه مع الإعراض عن المنكرات لإعراض السلطان عنها، وكان قد تاب من مدة وأعرض عن(3/196)
المنكرات إعراضاً تاماً، ثم ركب في سادس عشر رجب من الخروبية في الحراقة إلى المقياس، ثم نزل في الحراقة الصغيرة إلى الخليج على العادة وركب فرسه وطلع القلعة، وكان وصول الملك إبراهيم بن السلطان إلى قيسارية ونائبها يومئ ناصر الدين محمد بن خليل بن دلغادر فقرره على نيابته.
وفي سادس عشر جمادى الأولى وصل إبراهيم بن السلطان إلى لارندة وأركلى بها وأرسل يشبك نائب حلب فأوقع بالتركمان ونهب منهم شيئاً كثيراً وأرسل عسكراً ضخماً إلى محمد بن قرمان فكبسوا عليه ففر منهم ونهب جميع ما وجدوا له من مال وأثقال وخيل وجمال، ثم غلب العسكر المصري على بلده وهي كرسي بلاد ابن قرمان، وقرر الملك إبراهيم بن السلطان المؤيد في مملكة ابن قرمان أخاه علياً وخطب في جميع تلك البلاد باسم المؤيد وضربت السكة باسمه، ثم رجع ابن السلطان إلى حلب وأقام بها لعمارة سورها وأرسل يستأذن أباه على الرجوع وكان دخوله حلب في ثالث شهر رجب، وكان إبراهيم بن السلطان قبل رجوعه من حلب قد أرسل تاني بك ميق نائب الشام إلى طرسوس فملكها، ثم إلى أذنة فواقع مصطفى بن محمد بن قرمان وإبراهيم بن رمضان فهزمها، فتوجها إلى قيسارية في سادس عشر شعبان فقاتلهم محمد بن دلغادر فقتل مصطفى بن محمد بن قرمان في المعركة وقبض على أبيه محمد ابن قرمان فاعتقل، وأرسلت راس مصطفى إلى القاهرة فوصلت قبل وصول ابن السلطان وذك في سادس عشر رمضان، ثم توجه الى القاهرة فتلقاه السلطان(3/197)
الى سرياقوس ووصل معه نائب الشام تاني بك ميق ودخلوا القاهرة في ثامن عشرى شهر رمضان. وكان ابن السلطان قرر في بلاد محمد بن قرمان أخاه على بن قرمان وتسلم قيسارية محمد ابن دلغادر فواقعه محمد بن قرمان فانكسر وقبض عليه وجهز إلى القاهرة، وكان قدوم إبراهيم ابن السلطان المؤيد دمشق في خامس عشر رمضان فساروا في تسعة أيام ودخل معهم نائب الشام وخلع عليهم جميعاً وزينت لهم البلد، وكان السلطان استدعى نائب الشام فحضر مسرعاً وطلع إبراهيم ابن السلطان وبين يديه الأسارى من بني قرمان وغيرهم في القيود منهم نائب نكدة، وكانت سفرة إبراهيم بن السلطان هذه خاتمة سعادة الملك المؤيد، فإنه نشأ له هذا الولد النبيه وتم له منه هذا النصر العظيم والشهامة الهائلة، وجاء الأمراء وغيرهم يشكرون من سيرته ولا يذم أحد منهم شيئاً من خصاله، ثم رجع إلى أبيه في أسرع مدة مؤيداً منصوراً، فلحظتهم عين الكمال فما أخطأت وما حال الحول إلا وأحوالهم قد تغيرت وأمورهم قد تهافتت - فسبحان من لا يتغير ولا يتبدل! وفي ثالث شوال قرر جقمق في نيابة الشام عوضاً عن تاني بكي ميق وقرر تاني بك ميق في تقدمة ألف على إقطاع جقمق، واستقر مقبل الدويدار الثاني في وظيفة جقمق في الدوادارية الكبرى.
وفي شعبان اجتمع العوام بالإسكندرية فهجموا أماكن الفرنج فكسروا لهم ثلاثمائة قنينة خمر ثمنها عندهم أربعة آلاف دينار ثم أرقوا ما وجدوه من الخمور، ولم يعلم لذلك أصل ولا سبب.
وفيها اجتمع ملوك الفرنج على حرب ابن عثمان صاحب برصا، فاستعد لهم.
وفي يوم الخميس ثامن شهر ربيع الآخر فشا الطاعون وكثر موت الفجأة حتى ذعر الناس.(3/198)
فأمر السلطان المحتسب أن ينادي بصيام ثلاثة أيام أولها يوم الأحد حادي عشر، فصاموا ثلاثة أيام وخرجوا يوم الخميس نصف ربيع الآخر إلى الصحراء، فخرج الفقهاء والمشايخ والعلماء والقضاة والعامة، وتوجه الوزير وأستادار الصحبة إلى تربة الملك الظاهر فنصبوا المطابخ السلطانية وباتوا في تهيئة الأطعمة والخبز، ثم ركب السلطان بعد صلاة الصبح ونزل من قلعة الجبل لابساً ثياب صوف وعلى كتفيه مئزر صوف مسدل وعليه عمامة صغيرة جداً لها عذبة مرخاة عن يساره وهو متخشع منكسر النفس وفرسه بقماش ساذج، فوجد الناس قد اجتمعوا وحضروا الجميع مشاة. فوقف السلطان بينهم وعجوا بذكر الله، فنزل السلطان عن فرسه وقام على قدميه والقضاة والخليفة والمشايخ حوله وخلفهم من الطوائف ممن يتعسر إحصاؤه، فبسط السلطان يديه ودعا وبكى وانتحب والناس يرونه وبقي على ذلك زماناً طويلاً، ثم توجه إلى جهة التربة فنزل وأكل وذبح بيده مائة وخمسين كبشاً سميناً وعشر بقرات وجاموستين وجملين وهو يبكي ودموعه تنحدر بحضرة الناس على لحيته، وترك الذبائح مضطجعة كما هي وركب إلى القلعة، فتولى الوزير وأستادار الصحبة تفرقتها على الجوامع والخوانك والزوايا، وقطع منها شيء كثير ففرق على من حضر من الفقراء، وفرق من الخبز نحو من ثلاثين ألف رغيف، وبعث إلى السجون عدة أرغفة وقدور أطعمة، واستمر الناس في الخشوع والخضوع إلى أن اشتد حر النهار فانصرفوا، فكان يوماً مشهوداً لم يتقدم له نظير إلا ما جرت العادة به في الاستسقاء، وهذا زعموا أه لاستكشاف البلاء فيسر الله عقب ذلك برفع الوباء، وبلغ عدة من يرد الديوان من الأطفال خاصة من صفر إلى سلخ ربيع الآخر نحو أربعة آلاف طفل، ومن جميع الناس سواهم قدر أربعة آلاف أخرى وأكثر ما انتهى إلى ثمانمائة في الديوان، ويقال جاوز الألف والمائتين.
وفي ربيع الآخر اتفق بمصر كائنة عجيبة وهو أن شخصاً كان له أربعة أولاد ذكور فلما وقع الموت في الأطفال سألت أمه أن يختنهم ليفرح بهم قبل أن يموتوا، فجمع الناس لذلك على العادة وأحضر المزين فشرع في ختن واحد بعد آخر، وكل من يختن يسقى(3/199)
شراباً مذاباً بالماء على العادة، فمات الأربعة في الحال عقب ختنهم، فاستراب أبوهم بالمزين وظن أن مبضعه مسموم فجرح المزين نفسه ليبرئ ساحته فانقلب فرحهم عزاء، ثم ظهر في الزير الذي كان يذاب فيه الشراب حية عظيمة ماتت فيه وتمزقت فكانت سبب هلاك الأطفال - ولله الأمر.
وفي التاسع عشر من شهر رجب وشى الشيخ شرف الدين بن التباني بناظر الكسوة زين الدين عبد الباسط بأنه خالف شرط الواقف في عمل الكسوة، فعقد له بسبب ذلك مجلس وأحضرت الكسوة، فسأل السلطان القضاة: هل يجوز أن يعمل في الكسوة هذا الذهب والزخرفة مع أن شرط الواقف أن يفرق ما فاض من المال بعد عمل الكسوة على العادة في وجوه البر، فتعصب الشافعي لعبد الباسط وقال: هذا من وجوه البر، فنازعه الحنبلي في ذلك، فلم يصغوا واستمر الحال.
وفي شعبان تزايد ألم السلطان ثم عوفي وركب إلى بركة الحجاج وأجرى الخيل هناك وسابق بينهما بحضرته، ثم ركب إلى بركة الحبش وسابق بين الهجن.
وفيه سرق الإفرنج رأس مرقص أحد من كتب الأناجيل الأربعة من الإسكندرية وكانت موضوعة في مكان، ومن شأن اليعاقبة من النصارى أن لا يولوا بطركا حتى يمضي إلى الإسكندرية ويوضع هذه الرأس في حجره ثم يرجع، ولا تتم هذه البطركية إلا بذلك، فتحيل بعض الفرنج حتى سرقها من الإسكندرية، فاستعظم النصارى اليعاقبة ذلك ووقفوا للسلطان بسبب ذلك، وحج بالناس في هذه السنة التاج الوالي.
وفي رمضان ثارت بالملك الناصر أحمد صاحب اليمن سوداء فاختل عقله واعتقل، وأقيم في الملك عوضاً عنه أخوه حسين بن الأشرف، وأعانه على ذلك الأمير محمد بن زياد الكاملي، وكان الغلاء يومئذ ببلاد اليمن شديداً، ووقع عليه جراد أهلك زروعهم.(3/200)
وفي رمضان غلت الأسعار وبلغ الإردب من القمح ثلاثمائة درهم وأزيد، وسبب ذلك كثرة الحرامية بالنيل، فقل الجلب من الوجه القبلي وحمل من الوجه البحري إلى الصعيد من الغلال ما لا مزيد عليه لشدة الغلاء الذي هناك حتى أكلت القطاط والكلاب، وكان سبب ذلك الغلاء بمصر أن النيل نزل بسرعة فزرعوا في الحر على العادة في السنين الماضية فأفسدت الدودة البرسيم، وتأخر المطر في الخريف والشتاء في الوجه البحري فلم تنجب الزروع، وخرج السلطان إلى سرحة البحيرة فأتلف شيئاً كثيراً.
وفي رابع عشر شوال عقد مجلس بسبب قرقماش أحد المقدمين من الأمراء، فادعى عليه مملوك أنه قطع أنفه وأذنه، فأنكر فأحضر البينة، فدفعه السلطان للقاضي المالكي.
وفي سابع عشر شوال رحل جقمق إلى دمشق لولاية إمرتها، وقرر قطلوبغا التنمي في إمرة صفد عوضاً عن مراد خجا، ورسم بنفي مراد خجا الشعباني إلى القدس.
وفي يوم الجمعة حادي عشري شوال قرر الشيخ شمس الدين بن الديري في مشيخة المؤيدية وتدريس الحنفية بها، ونزل السلطان إلى الجامع وخلع عليه، وباشر فرش سجادته إبراهيم ابن السلطان، وتكلم على قوله تعالى " الذين إن مكنهم في الأرض أقاموا الصلوة " الآية وخلع على كاتب السر ابن البارزي، واستقر خطيباً وخازن الكتب، ومد السماط الكبير فأكل الخواص ثم تناهبه العوام، وعرض للسلطان الطلبة فقرر من شاء وصرف من لم يصلح في نظره، وخطب ابن البارزي خطبة بليغة أجاد فيها أداء وإنشاء، واستقر في تدريس التفسير بالمؤيدية بدر الدين ابن الأقصرائي، وفي تدريس الحديث بدر الدين العينتابي، وخلع على ولد كاتب السر القاضي كمال الدين خلعة السفر إلى الحجاز وكذلك على شهاب الدين الأذرعي إمام السلطان، ثم ركب السلطان من يومه إلى الجيزة فأقام ثلاثة أيام.(3/201)
وفي سادس ذي القعدة قرر الشيخ زين الدين عبد الرحمن بن علي ابن عبد الرحمن التفهني في قضاء الحنفية عوضاً عن شمس الدين ابن الديري وتوجه السلطان من يومه الى مسرحة البحيرة واستناب في عنبتة اينال الابزعري وقرر مهنأ بن عيسى في امرة ال جرم عوضاً عن علي بن أبي بكر بعد قتله ولبس خلعة من مخيم السلطان وكان قتل علي في حرب بينه وبين محمد بن عبد القادر النابلسي شيخ العشير بها في شوال.
وفيها قتل محمد بن بشارة بالقاهرة في آخر شوال وصدقة بن رمضان أحد الأمراء بالتركمان في سيس.
وفي ذي الحجة ألزم المحتسب النساء أن لا يعبرن جامع الحاكم، وألزم الناس أن لا يمر أحد منهم إلا وهو مخلوع النعل وشدد على القومة في ذلك، فاستمر ذلك وطهر المسجد من قبائح كانت تقع من النساء والرجال والشباب والصبيان.
وفي خامس ذي الحجة وردت هدية علي بك بن قرمان نائب السلطنة بنكندة ولارندة ولؤلؤة.
وفي خامس ذي القعدة قبض جقمق نائب الشام على نكباي الحاجب واعتقله بأمر السلطنة، وصلى السلطان عيد الأضحى بالطرانة وخطب به، وصلى العيد ناصر الدين ابن البارزي(3/202)
كاتب السر على العادة، وقدم القاهرة ثالث عشر ذي الحجة ونزل في بيت ابن البارزي فأقام به يومين ثم رحل إلى القلعة.
وفي السابع والعشرين وصل محمد بن علي بن قرمان صاحب قيسارية وقونية وغيرها من البلاد الرومية مقيداً فأنزل في بيت مقبل الدويدار، ثم احضر إلى الموكب السلطاني في السنة المقبلة.
وفيها غلت الأسعار بمكة جداً فبلغت الغرارة خمسة وعشرين ديناراً وهي إردب بالمصري وربع إردب، وحج في هذه السنة الأمير الكبير الطنبغا القرمشي وطوغان أمير آخور وخرجا بعد الحاج بمدة وقدما قبلهم بمدة فغابا ستين يوماً.
ذكر من مات
في سنة اثنتين وعشرين وثمانمائة من الأعيان
أحمد بن عبد الله بن بدر بن مفرج بن يزيد بن عثمان بن جابر، أبو نعيم العامري الغزي ثم الدمشقي شهاب الدين، أحد أئمة الشافعية بدمشق، ولد سنة بضع وخمسين بغزة، وأخذ عن الشيخ علاء الدين بن خلف وحفظ التنبيه، وقدم دمشق بعد الثمانين وهو فاضل فأخذ عن الشريشي والزهري وشرف الدين الغزي بلديه وغيرهم ومهر في الفقه والأصول، وجلس بالجامع يشغل الناس في حياة مشايخه وأفتى ودرس(3/203)
وأعاد واشتهر، ثم أصيب بماله وكتبه بعد الفتنة اللنكية، وناب في القضاء وعين مرة مستقلاً فلم يتم ذلك، وولي إفتاء دار العدل واختصر المهمات ودرس بأماكن وأقبل على الحديث، ولم يبق بالشام في أواخر عمره له من يقاربه في رئاسة الفقه للشافعة إلا ابني نشوان، وهو من أناءه الباعوني في ولايته القضاء الأولى، فلم يزل بعد ذلك في ارتفاع، وكان يرجع إلى دين وعفة من صغره مع علو همة ومروءة ومساعدة لمن يقصده مع عجلة فيه مع عفة في القضاء وحسن عقيدة وسلامة باطن، فكان صديقنا المرجاني يقرظه ويفرط فيه، وجاور في آخر أمره بمكة فمات بها مبطوناً في شوال وله اثنتان وستون سنة، كتب على الحاوي وجمع الجوامع واختصر المهمات اختصاراً حسناً وأجاز لولدي محمد، وبلغني أن صديقه محمد نجم الدين المرجاني صاحبنا رآه في النوم فقال له: ما فعل الله بك؟ فتلا عليه " يليت قوى يعلمون بما غفر لي " الآية، قال القاضي تقي الدين الأسدي: جرت له محنة سنة خمس وتسعين، وحج وجاور ثلاث مرات، وناب في الحكم بعد الفتنة، واستمر وباشر المارستان والجامع فانحط بسبب ذلك، وكان فصيحاً ذكياً جرياً مقداماً، بديهته أحسن من رويته وطريقته جميلة، باشر الحكم على أحسن وجه.
أحمد بن عبد الرحمن بن محمد بن أحمد، المطري المدني، سمع من العز ابن جماعة، وعني بالعلم. وكان يذاكر بأشياء حسنة، ثم تزهد ودخل اليمن فأقام بها نحواً من عشرة أعوام، وكان ينسب إلى معاناة الكيمياء، مات في أول ذي الحجة.(3/204)
أحمد بن محمد بن محمد بن عثمان، البارزي، ولد كاتب السر، مات في تاسع عشر ربيع الآخر.
أحمد بن محمد بن محمد بن يوسف بن عياش. الجوخي الدمشقي، نزيل تعز، ولد سنة ست وأربعين، وتعانى بيع الجوخ فرزق منه دنيا طائلة، وعني بالقراآت فقرأ على العسقلاني إمام جامع طولون وجماعة غيره، وكان محظوظاً في بيع الجوخ، ويقرأ كل يوم نصف ختمة، وكان يواظب على الصلاة الأولى بالجامع الأموي، وكان قد أسمع في صغره على علي بن العز عمر حضوراً جزء ابن عرفة وحدث به عنه، وقرأ بدمشق على شمس الدين محمد بن أحمد اللبان وعبد الوهاب بن السلار، وسمع أيضاً من ابن التباني وابن قوالح، وتصدى للقراآت فانتفع به جمع من أهل الحجاز واليمن، وكان غاية في الزهد في الدنيا فإنه ترك بدمشق أهله وماله وخيله، خدمه وساح في الأرض، وحدث وهو مجاور بمكة، واستمر في إقامته باليمن في خشونة من العيش حتى مات، وكان بصيراً بالقراآت، دينا خيراً، جاور بمكة مدة، ثم دخل اليمن فأقام عدة سنين، وكان كثير الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأخذ عنه جماعة في القرآن تلقينا احتساباً، وأنجب ولده المقرئ عبد الرحمن مقرئ الحرم.
تندو بنت دسين بن أويس، كانت بارعة الجمال وقدمت مع عمها أحمد بن أويس إلى مصر، فتزوجها الظاهر برقوق ثم فارقها، فتزوجها ابن عمها شاه ولد بن شاه زاده بن أويس، فلما رجعوا إلى بغداد ومات أحمد أقيم شاه ولده في السلطنة، فدبرت عليه تندو زوجته حتى قتل وأقيمت بعده في السلطنة، فحاصرهم محمد شاه بن قرا يوسف سنة،(3/205)
فخرجت في الدجلة حتى صارت إلى واسط ثم ملكت تستر، وأقاموا معها محمود بن شاه ولد فدبرت عليه حتى قتل لأنه كان ابن غيرها، واستقلت بالمملكة مدة وذلك في سنة تسع عشرة، وجذبت العرب بالبصرة وصار في مملكتها الجزيرة وواسط، يدعى لها على منابرها ويضرب السكة باسمها إلى أن ماتت في هذه السنة، فقام بعدها ابنها أويس ابن شاه ولد وكان منها، وتحارب هو وأخوه محمد ثم سار أويس إلى بغداد بعد محمد شاه ابن قرا يوسف، فقتل أويس في الحرب بعد سبع سنين.
سليمان بن فرح سليمان، الحجي الحنبلي علم الدين أبو الربيع ابن نجم الدين أبي المنجا، ولد سنة سبع وستين وسبعمائة، واشتغل علي ابن الطحان وغيره، ورحل إلى مصر فأخذ عن ابن الملقن وغيره، ثم عاد بعد فتنة اللنك فناب في القضاء وشارك في الفقه وغيره وشغل بالجامع ودرس بمدرسة أبي عمر، وكان قصير العبارة متساهلاً في أحكامه، مات في ربيع الآخر.
سودون القاضي نائب طرابلس، مات في رابع عشر ذي القعدة. عبد العزيز بن مظفر بن أبي بكر محمد بن(3/206)
يعقوب بن رسلان، البلقيني قريب شيخ الإسلام سراج الدين البلقيني عز الدين، اشتغل علي سراج الدين، ورافقنا في سماع الحديث كثيراً، وناب في الحكم، وكان سيئ السيرة في القضاء، جماعة للمال من غير حله في الغالب، زريّ الملبس، مقتراً على نفسه إلى الغاية، وخلف مالاً كثيراً جداً فحازه بعده ولده، وكان يذاكر بالفقه حسناً ويشارك في بعض الفنون، وقد درس بمدرسة سودون من زاده بالتبانه، ومات في ثالث عشري جمادى الأولى.
عبد اللطيف بن أحمد بن علي، الفاسي نجد الدين الشافعي، سمع معنا كثيراً من شيوخنا، ولازم الاشتغال في عدة فنون، وأقام بالقاهرة مدة بسبب الذب عن منصب أخيه تقي الدين قاضي المالكية إلى أن مات مطعوناً في هذه السنة.
عمر بن أحمد بن عبد الواحد، شاد زبيد، كان له اعتناء بالعلم رحمه الله تعالى.
فضل الله بن عبد الرحمن بن عبد الرزاق بن إبراهيم بن مكانس، مجد الدين بن فخر الدين، ولد في شعبان سنة سبع وستين ونشأ في نعمة وعز في كنف أبيه، فتخرج وتأدب ومهر ونظم الشعر وهو صغير السن جداً، وكان أبوه يصحب الشيخ بدر الدين البشتكي فانتدبه لتأديب ولده، فخرجه في أسرع مدة، ونظم الشعر الفائق، وباشر في حياة أبيه توقيع الدست بدمشق وكان أبوه وزيراً بها، ثم قدم القاهرة وساءت حالته بعد أبيه، ثم خدم في ديوان الإنشاء وتنقلت رتبته فيه إلى أن جاءت الدولة المؤيدية، فأحسن القاضي ناصر الدين البارزي كثيراً واعتنى به ومدح السلطان بقصائد وأحسن السفارة له فأثابه ثواباً حسناً،(3/207)
وكانت بيننا مودة أكيدة اتصلت نحواً من ثلاثين سنة وبيننا مطارحات وألغاز، وسمعت من لفظه أكثر منظومه ومنثورة، وجمع هو ديوان أبيه ورتبه، وشعره في الذروة العليا وكذلك منثوره، وجمع هو ديوان أبيه ورتبه، وشعره في الذروة العليا وكذلك منثورة لكن نظمه أحسن منه، وكان قليل البضاعة من العربية فربما وقع له اللحن الظاهر وأما الخفي فكثير جداً، مات في يوم الأحد خامس عشري شهر ربيع الآخر.
كزل الأرغون شاوي أحد الأمراء بحماة وزوج بنت كاتب السر، وكان قد ناب في الكرك، ثم في الإسكندرية ثم عزل، فمات في أواخر المحرم.
محمد بن إبراهيم، العلوي جمال الدين، أخو الفقيه نفيس الدين، حضر على والده وحدث عنه، مات بتعز.
محمد بن أبي البركات محمد بن أحمد بن الرضي إبراهيم بن محمد، الطبري المكي، أبو السعادات، إمام المقام الشافعي، سمع من الجمال ابن عبد المعطي وغيره، مات في جمادى وقد جاوز الخمسين.
محمد بن عبد الله بن شوعان، الزبيدي الحنفي، انتهت الرئاسة في مذهب أبي حنيفة بزبيد، ودرس وأفاد.
محمد بن عبد الماجد، العجمي سبط العلامة جمال الدين بن هشام الشيخ شمس الدين، أخذ عن خاله الشيخ محب الدين ابن هشام، ومهر في الفقه والأصول والعربية، ولازم الشيخ علاء الدين البخاري لما قدم القاهرة، وكذلك الشيخ بدر الدين(3/208)
بن الدماميني، وكان كثير الأدب فائقاً في معرفة العربية ملازماً للعبادة وقوراً ساكناً، مات في العشرين من شعبان، وكانت جنازته حافة، ودفن بالصوفة رحمه الله.
محمد بن عمر، الحموي الأصل نظام الدين التفتازاني، كان أبوه حصرياً فنشأ هذا بين الطلبة، وقرأ في مذهب أبي حنيفة، وتعانى الآداب واشتغل في بعض العلوم الآلية، وتكلم بكلام العجم وتزيا بزيهم، وتسمى نظام الدين التفتازاني، وغلب عليه الهزل والمجون وجاد خطه، وقرر موقعاً في الدرج وكان عريض الدعوى، مات في رابع عشري ذي القعدة عن نحو الستين، وله شعر وسط، قرأت بخط القاضي محب الدين الحنبلي: كان حسن المنادمة، لطيف المعاشرة، ولم يتزوج قط وكان متهماً بالولدان، وكان يأخذ الصغير فيربيه أحسن تربية فإذا كبر وبلغ حد التزوج زوجه.
محمد بن قاسم، الأجدل ناظر زبيد ثم عدن، ولي إمرة الحج وغيرها.
محمد بن محمد بن عبد الله بن محمد بن فرحون، أبو البركات اليعمري المالكي، قاضي المدينة، مات بها في المحرم.
محمد بن محمد بن علي بن يوسف، الزرندي الشافعي بهاء الدين بن محب الدين، ولي قضاء المدينة وخطابتها في سنة تسع، ثم عزل فدخل دمشق ثم دخل الروم فانقطع خبره ثم قدم، ومات بالطاعون في القاهرة.
محمد بن محمد بن علي، بدر الدين ابن الخواجا شمس الدين ابن البراق الدمشقي، أحد أكابر التجار، فجع به أبوه، وكان قد نبغ ف معرفة التجارة وسافر مراراً إلى اليمن وغيرها، ومات في هذه السنة بعدن، ويقال إنه مات مسموماً ولم يكمل الثلاثين.(3/209)
محمد بن محمد بن محمد، النحريري أبو الفتح فتح الدين المعروف بابن أمين الحكم، سمع على جماعة من شيوخنا، وعني بقراءة الصحيح، وشارك في الفقه والعربية، وأكثر المجاورة بالحرمين، ودخل اليمن فقرأ الحديث بصنعاء وغيرها، ثم قدم القاهرة بأخرة فوعك ومات بالمارستان عن نحو من خمسين سنة.
محمد بن محمد بن محمود، الجعفري البخاري الشيخ شمس الدين، اشتغل ببلاده ثم قدم مكة فجاور بها، وانتفع الناس به في علوم المعقول، مات بمكة في العشر الأخير من ذي الحجة عن ست وسبعين سنة.
محمد بن يعقوب بن إسماعيل، الشيباني المطري المكي، سمع من عز الدين ابن جماعة والموفق الحنبلي وغيرهما، وولي خطابة وادي نخلة وقبا، مات وله سبعون سنة.
محمد المعروف بابن شبيب، القصري التاجر، وكان مقلاً ثم أكثر السفر إلى الإسكندرية إلى أن أثرى فتردد إلى مكة، وقد كان أولاً يشتغل ويحضر دروس شيخنا ابن الملقن وسمع عليه الكثير، مات في 12 شوال.
مسعود بن محمود، الكجحاني، كان ولي نظر الأوقاف - وقد مرت سيرته في الحوادث وهي من اقبح السير، مات في 12 جمادى الأولى.
الهادي بن إبراهيم بن علي بن المرتضى، الحسني الصنعاني الزيدي، عني بالأدب ففاق فيه، ومدح المنصور صاحب صنعاء، مات يوم عرفة، وله أخ يقال له(3/210)
محمد بن إبراهيم مقبل على الاشتغال بالحديث شديد الميل إلى السنة بخلاف أهل بيته.
يحيى بن بركة بن محمد بن لاقى، الدمشقي. كان أبوه من أمراء دمشق، ونشأ هو في نعمة ثم خدم أستاداراً وصار من الأمراء. وقدم القاهرة مراراً، وتقدم في الدولة المؤيدية وصار مهمنداراً وأستادار الحلال.
ثم تنكر له جقمق بسبب كلام نقله للسلطان، فأظهر جقمق أن الأمر بخلاف ذلك، فالتمس جقمق من السلطان أن يمكنه منه فأذن له، فرسم بنفيه من القاهرة فأخرج على حمار، فمات في أثناء الطريق غريباً طريداً في حادي عشر صفر، ودفن بغزة.
يوسف بن شريكار، العينتابي، ولد سنة ست وستين بعينتاب، وتعانى القراآت فمهر فيها وانتفعوا به. وكان يتكلم على الناس بلسان الوعظ، وكان فصيح اللسان حلو المنطق مليح الوجه، له يد في التفسير، وعاش خمساً وستين سنة - ذكره العينتابي في تاريخه.(3/211)
سنة ثلاث وعشرين وثمانمائة
في الثاني من المحرم جلس السلطان في إيوان دار العدل، وجلس القضاة والمفتون ومن له الجلوس من الأمراء. ووقف الباقون وبقية العسكر صفوفاً، وأحضر مم بن قرمان مقيداً صحبة داود بن ناصر الدين محمد بن خليل بن محمد بن دلغادر التركمانيِ، فوقف داود مع الأمراء وأخر ابن قرمان، وقرئت القصص على العادة وركب السلطان إلى القصر فأحضر ابن قرمان وداود فخلع على داود. وعاتب السلطان ابن قرمان على تعرضه لطرسوس وعلى قبح سيرته في رعيته فسأل العفو، ثم بدر منه أن قال: يا مولانا السلطان لمن تعطى البلاد؟ فاستسمجه وقال له: ما أنت وهذا؟ ثم أمر به فأخرج فاعتقل، فأقام في الاعتقال سنة كاملة، ثم أفرج عنه بعد موت السلطان المؤيد وأعيد إلى بلاده ثم أرسل للسلطان فاستكتبه إلى نوابه بالبلاد بتسليم القلاع والبلاد كلها ويحذرهم عن تأخير ذلك لئلا يقتل ففعل، فكان هذا المجلس أفخر مجلس جلسه السلطان وأفخمه، ثم جلس في أواخر الشهر مجلساً آخر لحضور رسول كرسجي بن أبي يزيد بن عثمان بهدية من صاحبه فقرئ كتابه وقبلت هديته، وشرع في تجهيز هدية صحبة قاصد من جهة السلطان، فعين له قجقار شقطاي من أتباع إبراهيم ابن السلطان.
وفي أوائل المحرم غدر عذراء بن علي بن نعير بنائب الرحبة أرغون شاه، فقبض عليه وحمله إلى عانة.
وفي رابع الحرم قدم على يار التركماني أحد الأمراء الإينالية منهم، فأكرمه السلطان.
وفيه استقر شاهين الزردكاش في نيابة طرابلس نقلاً من نيابة حماة، واستقر(3/212)
في حماة إينال اليوسفي نقلاً من نيابة غزة، واستقر أركماس الجلباني في نيابة غزة.
واستقر نكباي بعد الإفراج عنه من سجن دمشق في نيابة طرسوس.
وفي حادي عشر المحرم قرر شمس الدين محمد بن مغالي الحيتي في مشيخة الخانقاه المستجدة بالجيزة التي انتزعت من الخروبي وكانت وقفاً على الذرية ثم على الزاوية المجاورة لها فأخفي كتاب الوقف واشتريت للسلطان من الورثة بقدر حصصهم، وغالبهم أشهد عليه ولم يقبض الثمن، واستمر ذلك إلى أن مات المؤيد وندموا على عدم قبض الثمن.
وفي سادس عشر المحرم قرر عز الدين عبد العزيز بن علي بن العز الحنبلي مدرس الحنابلة بالمؤيدية في قضاء الحنابلة بدمشق، وقرر عوضه في المؤيدية محب الدين ابن نصر الله البغدادي.
وفي العشرين من المحرم أفرج عن برسباي الدقماقي من قلعة المرقب، واستقر في مقدمي الألوف بدمشق، وهو الذي ولي السلطانة في سنة خمس وعشرين كما سيأتي.
وفي المحرم وقع المطر الغزير بالوجه البحري فأخصبت الزروع بعد أن كانت جفت وكثر الغلاء بالوجه القبلي فبلغ الإردب دينارين.(3/213)
وفي أوائل المحرم تسلم علي بن قرمان بلاد أخيه، وعصت عليه قلعة قونيا فحاصرها، وخطب باسم المؤيد في جميع تلك البلاد، ووصلت هدية على المذكور إلى السلطان في صفر وهو في ربيع خيله.
وفي العشرين من صفر نزل السلطان إلى بيت كاتب السر على شاطئ النيل، وعمل الوقيد في ليلة الثاني والعشرين وبالغ المباشرون في رمي النفط وترتيب السرج.
وفي سادس عشريه نزل السلطان إلى بيت أبي بكر الأستادار يعوده، فقدم تقدمة سنية على العادة. وفيه شاع الخبر بأن قرا يوسف قد تأهب للمجيء إلى الشام، وكان بلغه ما نودي به في حقه في القاهرة، وكان أرسل يطلب التمكين من قرا يلك فلم يجب سؤاله، ثم أرسل يطلب من السلطان الجواهر التي كان السلطان أخذها منه وهو مسجون بدمشق، فرد جوابه بما يكره فتهيأ لدخول البلاد الشامية، فاستعد السلطان لذلك وكان قد لهج قبل ذلك بالمسير إلى بغداد وتمادت الأيام ولا يزداد إلا تصميماً على ذلك.
وفي الثامن والعشرين من المحرم سخط السلطان على صدر الدين ابن العجمي بسبب كلام نقل له عنه وهو أنه يتمنى موته ويدعو عليه. وواجهه بذلك أحمد بن الشيخ محمد المغيربي في مجلس السلطان، وتفاحشا في القول فأكد قول ابن المغيربي جماعة دسهم كاتب السر ابن البارزي لبغضه في ابن العجمي، فأمر السلطان بإخراجه من القاهرة وأن يستقر كاتب السر بصفد، فكتب توقيعه في الحال وألزم بالخروج من بيته في يومه(3/214)
ولم يمهل ليتجهز، فودع أهله وخرج وهم يبكون كأنما يساق إلى الموت، فسار يوم الجمعة إلى سرياقوس فأقام بها وبات بها فجاءه مستعجل يستحثه، فاتفق أنه بلغ السلطان شناعة ما عومل به من ذلك فأنكره وتغيظ على كاتب السر وقال: من أمرك أن تزعجه؟ وأمر برده إلى القاهرة، فرجع يوم السبت فأقام عند الدويدار إلى يوم الاثنين، فاصعده إلى القلعة وخلع عليه خلعة حسنة وأمره بالسفر لكتابة سر صفد، فشفع له الطنبغا الصغير راس نوبة أن يقيم ويستمر في الحسبة، فقبل ذلك السلطان فرجع إلى منزله وقد فرح الناس به فرحاً شديداً، ونزل كاتب السر ولم يطلع على ما صنع الطنبغا الصغير فوجد القناديل في الشارع قد صففها الباعة فأنكر عليهم ومال أتباعه عليها بالطفئ والتكسير، فما وصل إلى بيته إلا وابن العجمي قد شق القاهرة بخلعة الحسبة، فجهر العامة بسب ابن البارزي وأسمعوه المكروه جهاراً كلما مر بهم، وكثر ذلك حتى هم بالإيقاع ببعضهم ثم سكت وسكتوا، وأشيع أن السلطان غضب على ابن البارزي وأنه يريد عزله، فخلع عليه في سادس صفر خلعة الرضا، وكان أصل الشر بين المحتسب وكاتب السر أن السلطان نزل إلى مدرسته في خامس صفر، فلما رجع مر في طريقه بخباز فاخذ منه رغيفاً ودخل إلى بيت الأستادار عائداً له من مرضه، فوزن الرغيف فجاء نصف رطل فأنكر على المحتسب، وكان يذكر أن الرغيف ثماني أواق، فشق على المحتسب لما بلغه وضرب الخباز ضرباً مبرحاً، وكان من جهة كاتب السر فأرسل يشفع له فضربه بحضرة القاصد، فبلغه ذلك فشق عليه، وبلغ السلطان خبر ابن العجمي من الطنبغا الصغير وتمراز الأعور فدبر هذه القضية المتعلقة بكتابة السر بصفد، فإنهما جلسا عنده يلعبان الشطرنج فقال أحدهما للآخر: إن زركت عليّ بليت بما بلي(3/215)
به ابن العجمي؟ فاستفهم السلطان فاخبره، ثم آل أمره إلى أن الوزير شفع في المحتسب عند كاتب السر وأحضره عنده وأصلح بينهما.
وفي رابع صفر قدم العالم شمس الدين محمد بن حمزة بن محمد، الحنفي، الرومي المعروف بابن القناري قاضي الممالك الرومية وكان قد حج في العام الماضي وعاد إلى القدس، فاستقدمه السلطان ليستفهمه عن أحوال البلاد فقدم وأكرم، وحضر يوم الخميس للمولد السلطاني بعد أن طلب مرة بعد مرة، فما وصل حتى دخل الليل فالس تحت شيخ المؤيدية ابن الديري، وأشار لهم المؤيد أن يتكلموا في شيء من العلم، فتكلموا فلم ينطق القناري، ثم توجه بعد صلاة العشاء ثم أحضر المولد الخاص ودارت معه مباحث نفيسة، وكان ممن حضر ابن العجمي فتكلم بشيء أنكره عليه كاتب السر وواجهه بتكفيره، فأصبح منزعجاً يحصل الكتب التي تشهد له بصحة ما قال، وعادت العداوة كما كانت أو أشد.
وفي خامس ربيع الأول أبل أبو بكر الأستادار من مرضه قليلاً وركب واستصحب تقدمة قيمتها ثلاثون ألف دينار فخلع السلطان عليه، ونزل إلى بيته فانتكس فأقام أربعة أيام ومات، فتكلم السلطان مع الوزير أن يفوض الأستادارية بغير إمرة، فأبى إلا بتقدمة فصاح السلطان عليه وقال: تقدمة للوزارة وتقدمة للأستادارية؟ هذا لا يكون ثم أعرض عنه واستدعى شخص يقال له يشبك الإينالي، وكان أرسله قبل ذلك لكشف التراب فسار بالناس سيرة سيئة فشكوا منه فعزل، فاختاره الآن للأستادارية الكبرى فقرره فيها وخلع عليه، وقرر الوزير في أستادارية ابنه إبراهيم، ثم انتزعت منه بعد قليل وقرر فيها يوسف الحجازي الذي كان يدبر أمر طوغان، وأعطى ولده صلاح الدين الحاجب إمرة طبلخاناة.(3/216)
وفي الثاني والعشرين من ربيع الأول سافر ابن القناري وصحبته أحمد بن الشيخ شمس الدين الجزري وهو صهره إلى بلاد الروم، وصحبته من جهة السلطان قجقار شقطاي برسالة السلطان إلى ابن عثمان، وسار القناري بتجمل هائل وكان قد جامل أهل البلد وجاملوه، ولم تنتشر عنه دعوى كما انتشرت عن غيره، وكتم ما يبوح به في بلاده من محبة ابن العربي وشغل الناس في الفصوص وغيرها، فأقام هذه المدة بالقاهرة مجموع الخاطر قليل الفضول إلى أن سافر سالماً.
وفيه عقد مجلس بسبب زيادة الجوامك لمدرّسي المنصورية، وقام في ذلك الشيخ شمس الدين القمني فحصل بينه وبين المحتسب كلام سيئ وتساخطا، فقام السلطان وتركهم ولم يستقر لهم أمر، وكان ذلك بالمدرسة المؤيدية.
وفي ربيع الآخر أمر السلطان ببناء المنظرة التي خربت في التاج والسبع في وجوه وأن يبني حولها بستان، فشرع في ذلك.
وفي رابع عشري ربيع الأول أمر السلطان بإبطال مكس الفاكهة مطلقاً، بطل ونقش على الجامع المؤيدي، وفيه كثر الوباء بالإسكندرية وما حولها وكثر الإرجاف بمسير قرا يوسف إلى الجهة الشامية. واشتد بالسلطان ألم رجله وحبس الإراقة، ثم عوفي في أول جمادى الِأولى وركب وفرح الناس.
وفي هذه المدة أغرى السلطان بولده إبراهيم وأنه كان يتمنى موته ويعد الأمراء بمواعيد إذا وقع ذلك،(3/217)
وبلغ كاتب السر عنه أنه يتوعده بالقتل وتأكد بغضه عنده فحقد عليه ودس على السلطان من أعلمه أنه يتمنى موته لكونه يعشق بعض حظاياه ولا يتمكن منها بسببه إلا خفية، ورتب له على ذلك إمارات وعلامات إلى أن أبغض السلطان ولده وأحب الراحة عنه، ورتبوا له أنه صمم على قتله بالسم أو بغيره إن لم يمت عاجلاً من المرض لما في نفسه من محبة الاستبداد، فأذن لبعض خواصه أن يعطيه ما يكون سبباً لقتله من غير إسراع، فدسوا عليه من سقاه من الماء الذي يطفأ فيه الحديد، فلما شربه أحس بالمغص في جوفه فعالجه الأطباء مدة وندم السلطان على ما فرط فيه، فتقدم الأطباء بالمبالغة في علاجه فلازموه نصف شهر إلى أن أبل قليلاً من مرضه فركب في نصف الشهر إلى بيت عبد الباسط بشاطئ النيل. ثم ركب إلى الخروبية بالجيزة فأقام بها وكاد أن يتعافى، فدسوا من سقاه ثانياً بغير علم أبيه، فانتكس واستمر إلى آخر الشهر فتحول إلى الحجازية، ثم حمل في ثالث عشر جمادى الآخرة إلى القلعة فمات ليلة الجمعة خامس عشره، فاشتد جزع السلطان عليه إلا أنه تجلد، وأسف الناس كافة على فقده وأكثروا الترحم عليه، وشاع بينهم أن أباه سمه إلا أنهم لا يستطيعون التصريح بذلك، ولم يعش أبوه بعده سوى ستة أشهر تزيد أياماً، كدأب من قتل أباه أو ابنه على الملك قبله عادة مستقرة وطريقة مستقرأة - فإنا لله وإنا راجعون، وصار الذين حسنوا له ذلك يبالغون في ذكر معايبه وينسبونه إلى الإسراف والتبذير والمجاهرة بالفسق من اللواط والزنا والخمر والتعرض لحرم أبيه وغير ذلك مما كان برياً من أكثره بل يختلقون أكثر ذلك ليتسلى أبوه عن مصابه به.
ولقد حكى لي من شاهده في السفرة التي تجرد فيها إلى البلاد القرمانية منه ما يقضي منه العجب من ذلك،(3/218)
وذكره القاضي علاء الدين في ذيل تاريخ حلب فقال: كان شاباً حسناً شجاعاً، عنده حشمة مع الكرم والعقل والسكون والميل إلى الخير والعدل والعفة عن أمور الناس، ودفن بالجامع المؤيدي، وحضر أبوه الصلاة عليه يوم الجمعة وأقام إلى صلاة الجمعة، وخطب به ابن البارزي خطبة حسنة سبك فيها قوله صلى الله عليه وسلم " تدمع العين ويحزن القلب ولا نقول ما يسخط الرب وإنا بك يا إبراهيم ولمحزونون " فأبكى السلطان ومن حضر، ولم يتفق أن السلطان بعد ذلك دخل المؤيدية، ووقع الخلل في أهل دولة المؤيد واحداً بعد واحد كما سنذكره، ولم يتهنأ لهم عيش يجمعهم بعد ذلك.
وفي حادي عشر جمادى الآخرة صرف على ابن الطبلاوي من ولاية القاهرة وضرب بين يدي السلطان بالمقارع وصودر على مال، واستقر فيها ناصر الدين ابن أمير آخور.
وفي أول يوم من هذا الشهر كملت عمارة الجامع الذي جدده ابن البارزي بجوار منزله وكان يعرف بجامع الأسيوطي، وصلى السلطان فيه الجمعة وخطب به البلقيني، وفي ثانيه نودي أن الحجاب لا يحكمون في الأمور الشرعية؟ فسعى الأمراء في نقض ذلك، فنقض بعد يومين ونودي لهم بالإذن بالحكم.
وفي جمادى الأولى أرسل القاضي الحنفي إلى الحاجب الكبير يطلب من عنده غريماً فضرب الحاجب الرسول، فتوجه الحنفي إلى الشافعي فاستعان به فاجتمعا بالسلطان وشكيا ذلك فأنكر على الحاجب وأرسل وأهانه وقال له: لو كنت أنا وطلبت إلى الشرع لسارعت؟ وأمر فنودي بالمشاعلي أن الديون الشرعية لا يحكم فيها إلا القضاة؟ فشق ذلك على الحاجب وقبض على بعض المشاعلية فضربه، وجرسوه ومروا به من على باب الصالحية. فبلغ الحنفي فبادر الحاجب واعتذر بأنه لم يضربه إلا بشكوى عليه بجناية أخرى. وسكن الحال.
وفي الثامن عشر من جمادى الآخرة توقف النيل من سادس أبيب وتمادى على ذلك(3/219)
سبعة أيام، فنودي في الناس بصيام ثلاثة أيام ثم خرجوا إلى الصحراء يستسقون. فاجتمعوا ونزل السلطان والقضاة والمشايخ وكثر الجمع جداً، وحضر السلطان راكباً بمفرده فجلس على الأرض، فصلى بهم القاضي ركعتين كهيئة صلاة العيد، ثم رقي منبراً وضع له هناك فخطب خطبتين حث الناس فيهما على التوبة والاستغفار وحذرهم ونهاهم وتحول فوق المنبر، والسلطان في ذلك يبكي وينتحب وقد باشر في سجوده التراب بجبهته، ثم ركب السلطان والعامة محيطة به، فدعا له بعضهم بالنصر فقال: سلوا الله فإنما أنا واحد منكم، واتفق أن نودي على النيل في صبيحة ذلك اليوم باثني عشر ذراعاً، فتباشر الناس بإجابة دعائهم، فاتفق أن السلطان سبح في النيل وهو مقيم في بيت كاتب السر الذي على شاطئ النيل فنودي من الغد بزيادة ثلاثين إصبعاً، فاستبشر الناس بذلك وقالوا إن ذلك ببركة السلطان، فسمع السلطان بذلك فأنكره عليهم وقال: وأنا عنده أسمع: لو علمت بسباحتي يقع ذلك لما سبحت، لأن مثل هذا يضل به العامة، وفي هذه الأيام أشيع أن قرا يوسف حاصر ولده محمد شاه ببغداد واستصفى أمواله، ثم تبين كذب ذلك وأن قرا يوسف كان قد تهيأ للمسير إلى البلاد الشامية. فشغله عنها خروج شاه رخ بن تمر.
وفي نصف رجب أمر السلطان مقبل الدويدار أن يلبس صدر الدين ابن العجمي خلعة بكتابة سر صفد وأن يخرجه في الحال، ففعل ذلك وانجمع عن الحسبة وسعى أن يقيم بالقاهرة بطالاً وأن يعفي من كتابة سر صفد، فشفع له عند السلطان فأعفي وألزم بالتوجه إلى القدس بطالاً، فسار في يوم الثلاثاء ثامن عشره، فلما كان في ثالث عشري رجب وجد في أول النهار فرس ابن العجمي وفرس غلامه مع بدويين فانتزعتا منهما وأحضرتا إلى بيت الأستادار فشاع أن ابن العجمي قتل، وخرج نساؤه مشققات الثياب نائحات حتى صعدن القلعة، وصرحوا بتهمة ابن البارزي(3/220)
بقتله فأنكر السلطان ذلك وجزم بأنه اختفى بالمدينة، ثم بعث ليكشف عن قتله وبحث من أرباب الإدراك عن ذلك فلم يوقف له على خبر، ثم نودي بتهديد من أخفاه وترغيب من أحضره فلم يفد ذلك شيئاً واستمر مفقود الخبر، فلما كان في أواخر الشره أشيع أنه أرسل إلى أهله كتاباً يخبرهم فيه أنه فر من خوفه على نفسه واختفى، وتوطن خواطرهم عليه وأنه في قيد الحياة فاطمأنوا لذلك وشاع الخبر، فطلب زوج ابنته الذي نقل عنه أنه قرأ الكتاب فأحضر إلى السلطان فاعترف بقراءة الكتاب، فسئل أن يحضر الكتاب فادعى أنه رماه في البئر، فغضب السلطان منه وأمر بضربه فضرب تحت رجليه واعتقل، وتحقق الناس أن ابن العجمي في قيد الحياة إلا اليسير منهم فتمادوا على غيهم ونسبوا ابن البارزي إلى أنه اختلق الكتاب ودسه على أهل ابن العجمي، وحقق أمر حياته اطمئنان أهله بعد ذلك الجزع المفرط، وبالغوا في الطمأنينة حتى أدخلوا بعض بناته على زوجها.
وفي العشرين من رجب استقر صارم الدين إبراهيم بن الوزير ناصر الدين ابن الحسام في الحسبة ملتزماً بألف دينار يحملها للخزانة، فباشر وهو بزي الجند ولم تشكر سيرته، وأساء الناس الظن بابن البارزي لسوء اختياره لهذا، لأنه هو الذي قام بأمره في ذلك بعد أن كان زين الدين الدميري قد تعين لذلك.
وفي حادي عشري رجب توجه السلطان إلى الآثار فزاره وبر من هناك من الفقراء، ثم توجه إلى المقياس فأمر بهدم الجامع المجاور له وتوسيعه، وكان أمر بتجديد الميدان الناصري مقابل الجزيرة الوسطانية فشرع الوزير في تجديده وصرف عليه مالاً كثيراً فتوجه السلطان فبات به ليلة، وفي صبيحتها وهو ثالث عشري رجب قدم بدر الدين العيني من بلاد ابن قرمان.(3/221)
وفي الثالث عشر من شعبان برزت العساكر بالأمراء الذين أمروا بالإقامة بحلب لحراستها خشية من طروق قرا يوسف وهم الطنبغا القرمشي الأتابك وطوغان أمير آخور والطنبغا الصغير راس نوبة وشرباش عاشق وجلبان الأرغون شاوي والطنبغا المرقبي الحاجب الكبير وأزدمر النائب وسفروا في نصف شعبان.
وفي هذه السنة توجه قرا يلك إلى أرزنكان وبها بير عمر نائباً من جهة قرا يوسف، فنازله إلى أن قبض عليه وعلى أربعة وعشرين نفساً من أهله وأولاده وقتل من عسكره ستين رجلاً وغنم شيئاً كثيراً ورجع منصوراً، فبلغ ذلك قرا يوسف فاشتد غيظه وصمم على قصد البلاد الشامية، وكان السبب في ذلك أن بير عمر المذكور كان أوقع بولد قرا يلك فقبض عليه وجهزه إلى قرا يوسف فقتله، فبلغ ذلك قرا يلك فحنق منه وطرقه في بلده حتى قبض عليه ثم قتل قرا يلك بير عمر المذكور وأرسل برأسه إلى القاهرة، فوصل بها قاصده في أول شعبان فوقع الشروع بالتهيؤ للسفر، وكتبت محاضر بكفر قرا يوسف وولده وأثبت على القضاة، وكان القائم في أمرها تصدر الدين بن العجمي قبل عزله فعزل ولم يتم أمرها فتولى أمرها كاتب السر، وطيف بها على مشايخ العلم فكتبوا في ظاهرها بتصويب الحكم المذكور، ولطف اله تعالى أنني وافقتهم بالكتابة بعد إلزام السلطان لي تم كاتب السر بذلك فالتزمت به ولكن قدر الله بلطفه أنني ما كتبت في ذلك شيئاً إلى الآن، فجمع في رابع شعبان القضاة والأمراء وقرئت عليه الفتاوى فسألني السلطان عن سبب امتناعي عن الكتابة، فاعتذرت بأنهم بدأوا بغيري، فأشار إلى كاتب السر أن يكتب نسخة جديدة ويرسلها إلي. فغالطت بلك ولطف الله مرة بعد مرة أخرى، ونزل القضاة في ذلك اليوم وبين أيديهم بدر الدين البرديني يقرأ من ورقة استنفار الناس إلى قتال قرا يوسف وولده وتعديد قبائحهما، فاضطرب الناس،(3/222)
وكان مما ادعى به على قرا يوسف أنه قال: أنا اشرب الخمر وألوط وشاه رخ يصلي ويصوم وسننظر من ينتصر منا؟ وأن ابنه لما مات سل سيفاً وأشار به إلى السماء وقال: إن كنت رجلاً تعال خذني إلا الصبي ما في أخذه رُجلة، وأنه التمس من القاضي جعفر أن يعقد له على امرأة، فقال له: أنت لك أربع نسوة فلا تحل لك الخامسة في شرع محمد، فقال: كان هذا جائع النفس - وأنه أشار إلى شاب أمرد جميل الصورة فقال: هذا الهي الذي أعبده ما هو خير من عبادة الحجارة، فقال له بعض من حضر: هذا كفر، فقال: إن لم يكن الإله فهو أخو الإله - إلى غير ذلك.
وفي شعبان ادعى علي ناصر الدين ابن أمير آخور الوالي بأنه قتل رجلاً ظلماً بغير موجب شرعي، فأنكر فأقيمت عليه البينة، فحكم القضاة بقتله بين يدي السلطان، فأمر به أن يقتل في المكان الذي قتل فيه وعلى الهيئة التي قتل المذكور فيها ففعل به ذلك، واستقر في ولاية القاهرة شاب يقال له بكلمش ابن فري من أولاد الحسينية، كان أبوه والي العرب وكان هو عمل ولاية بلبيس ونح ذلك، وهو بالنساء أشبه منه بالرجال، فالتزم بمال كثير يحمله إلى الخزانة فقرر في الولاية فهان أمرها جداً لعدم هيبته وتماديه على الفجور والسكر حتى كان بعض المقدمين في أيامه أحشم منه، وصار العوام يلقبونه قندورتي، لانه طرقه امر يوجب الفزع فارادى أن يقول: ناولوني قباء، فقال: قندورني فبقيت عليه.
وفي الثاني عشر من شعبان تزود الطنبغا القرمشي بنت الملك المؤيد وعقد عقده بالجامع المؤيدي، ثم برز في صبيحة ذلك اليوم إلى الريدانية وصحبته الطنبغا الصغير رأس نوبة وطوغان أمير آخور والطنبغا المرقبي الحاجب وجلبان ثاني أمير آخور وأزدمر الناصري وشرباش الكريمي في آخرين توجهوا إلى حلب ليقيموا بها خشية من طروق قرا يوسف،(3/223)
فلما وصلوا إلى حلب أمسكوا نائبها إينال النوروزي فحبس بقلعة الشام، وقرر في نيابة حماة آق بلاط الدمرداشي، فلما وصلوا إلى حلب استوحش منهم نائبها يشبك اليوسفي، لأنه استشعر حين عزل نائب حماة أنهم أمروا بالقبض عليه أيضاً وأساء عشرتهم ولم يحسن قراهم ولا ملتقاهم وأقيم الشر، ثم لم يلبث أن بلغه موت السلطان - فكان ما سنذكره في السنة المقبلة، وعرض السلطان المماليك الرماحة بالميدان وتكرر ركوب السلطان في البحر في هذا الشهر إلى الآثار تارة وإلى الخروبية أخرى وإلى المقياس.
وفي الرابع عشر من رمضان قرر تاج الدين ابن الهيصم في نظر ديوان المفرد عن صلاح الدين ابن الكوز بحكم وفاته.
وفي أول رمضان ثار على السلطان ألم رجله وابتدأ بكاتب السر مرضه.
وفي ثالث رمضان ذبح جمل بغزة فأضاء اللحم كما يضيء الشموع، وشاع ذلك وذاع حتى بلغ حد التواتر، وفيه أنه رميت من لحمة قطعة لكلب فلم يأكلها.
وفي رمضان ختم البخاري فوقع بين التفهني الحنفي وبين ابن المغلي الحنبلي مباحثة فاستطال الحنفي على الحنبلي، وأعانه عليه غالب من حضر، لما تقدم من استطالة الحنبلي عليه وعلى غيره.
وفي عاشر ذي القعدة عزل بدر الدين بن نصر الله عن نظر الخاص، وتسلم الخزانة مرجان الخازندار.(3/224)
وفي ثامن شوال مات كاتب السر ناصر الدين ابن البارزي وابتدأ بالسلطان مرضه الذي مات فيه، ثم أرجف بموته في ثاني عشري شوال فاضطرب الناس، ثم عوفي في آخره وزينت البلد وتوجه بعض الأمراء بالبشارة، وباع فرساً على العادة فاشتراها علم الدين داود بن الكويز ناظر الجيش باثنين وسبعين ألفاً مؤيدية يكون حسابها ألفين وأربعمائة دينار وحملها إلى السلطان فتصدق بها.
وفي الحادي والعشرين من شوال ظهر ابن العجمي فشفع فيه الشيخ يحيى السيرامي عند السلطان فرضي عنه وفرح به أصحابه وأمنه السلطان، واستمر يتردد إلى الأعيان على عادته.
وفي ثالث عشري شوال استقر كمال الدين محمد بن ناصر الدين البارزي في كتابة السر عوضاً عن أبيه، واستقر بد الدين بن مزهر في نيابة كتابة السر عوضاً عن كمال الدين، وكان ابن مزهر منذ مات البارزي هو الذي يباشر.
وفي أوائل ذي القعدة دل شهاب الدين، الملقب دُرّابه على ذخيرة لناصر الدين البارزي فحولت إلى القلة ومقدارها يزيد على سبعين ألف دينار ما بين هرجة وافلورية وناصرية والناصرية أقلها، فاستشعر الناس أنها ذخيرة لفتح الله لأن ابن البارزي دخل صحبة المؤيد قبل أن يشتهر بالمال الكثير، وفي مدة المؤيد ما كانت المعاملة إلا بالأفلورية وأما الهرجة فقليل جداً فاستولى الملك على ذلك المال وأضافه إلى بيت المال.
وفي ذي القعدة أحضر من بعض بلاد الغربية من الوجه البحري محضر يتضمن أن امرأة وبنتها خرجتا تلتقطان ما يسقط من الحب فوجدتا خرقة عتيقة فيها صرة قديم قعد ذلك فوجد فيها بضعة وأربعين مشخصاً وجهر ذلك إلى السلطان(3/225)
فوقفنا عليه وأمرنا أن نقرأ ما فين نقشه، فوجدت على الدينار الذي دفع إليّ ضرب هذا الدينار سنة إحدى وثمانين ومائة، وإذا به قد ضرب في خلافة الرشيد بن هارون بن المهدي، وأظن بقية الذهب من ذلك النمط.
وفي ثامن شعبان كسر الخليج وانتهت زيادة النيل في هذه السنة إلى ... ، وكان فصل الربيع قليل الحر جداً. وتحرك الطاعون في الفسطاط دون القاهرة وبالإسكندرية بالصعيد ثم تحرك بالقاهرة في أول بؤنة قليلاً ثم ارتفع وكان الصيف قليل الحر أيضاً.
وفي جمادى الآخرة أحدثت جمعة بالمدرسة التي أنشأها زين الدين عبد الباسط ناظر الخزانة جوار منزله وأذن له السلطان في إقامتها وأقيمت وبجوارها بنحو سبعة أبيات مكان تقام فيها الجمعة عند ابن وفا، وقرر فيها شيخ خانقاه بها وهو صاحبنا عز الدين عبد السلام العجلوني - وذلك في أول يوم رجب.
وفيها رفع إلى القاضي الشافعي أن شخصاً يقال له أبو بكر العزولي يدعي المشيخة ويتكلم على الناس فضبطوا عليه أنه قال: الأنبياء عرايا عن العلم لقوله تعالى " قالوا سبحنك الله لا علم لنا إلا ما علمتنا " ونح ذلك من الأشياء الشنيعة، فمنعه القاضي من الكلام بعد أن عزره بالقول، وهذا أبو بكر هو أخو شمس الدين رئيس المؤذنين بجامع ابن طولون، وفي ذي القعدة مات قرا يوسف التركماني الذي تملك تبريز وبغداد وغيرهما، وخمدت الفتنة بموته جداً.(3/226)
لطيفة: اشتهر بين الناس أن الذي يريد أن يعرف مقدار نيل السنة ينظر في أول يوم من مسرى إلى منتهى الزيادة فيزيد عليها ثمانية أذرع، حتى سمعت الإمام عز الدين ابن جماعة يحكي ذلك عن أبيه عن جده، وأن بدر الدين ابن جماعة كان يعتمد لك ويدعي أنه لا يخطئ، فاتفق في هذه السنة أنه أخطأ، ثم تأملت فوجدته أخطأ أيضاً في سنة 15، وبيان ذلك أنه في أول يوم من مسرى في هذه السنة كان أكمل ثمانية أذرع وثلاثة عشر إصبعاً، فلو أضيف اثمانية أذرع لكان يلزم أن تكون غاية الزيادة ستة عشر ذراعاً وثلاثة عشر إصبعا
والفرض انه انتهى في هذه السنة إلى ثمانية عشر ذراعاً وثلاثة أصابع، وأما في سنة خمس عشرة فكان في أول يوم من مسرى قد بلغ ستة عشر ذرعاً، فلو زيد ثمانية لبلغ أربعاً وعشرين، ولم يقع ذلك.
وفي العشرين من شوال عهد المؤيد لولده أحمد بالسلطنة وعمره سنة ونصف، وكان مرضه اشتد وأرجف بموته ثم تنصل ودخل الحمام وزينت البلد، ثم ركب واجتاز بالقاهرة إلى منظرة التاج.
ذكر من مات
في سنة ثلاث وعشرين وثمانمائة من الأعيان
إبراهيم ابن السلطان الملك المؤبد - تقدم في الحوادث.
تغرى برمش ابن يوسف بن عبد الله التركماني زين الدين الحنفي، قدم القاهرة شاباً وقرأ على الجلال التباني وغيره وداخل الأمراء الظاهرية وصارت له عصبية وكان يتعصب للحنفية ويحب أهل الحديث مع ذلك وينوه بهم ويتعصب(3/227)
لأهل السنة ويكثر الحط على ابن العربي وغيره من متصوفي الفلاسفة، وبالغ في ذلك حتى صار يحرق ما يقدر عليه من كتب ابن العربي وربط مرة كتاب الفصوص في ذنب كلب، وصارت له بذلك سوق نافقة عند جمع كثير، وقام عليه جماعة من أضداده فما بالى بهم، ولما تسلطن المؤيد عرفه فقربه وأكرمه فقرر عنده بعض تلامذته واستأذنه في الحج والمجاورة، فصار إلىمكة فأقام بها من سنة سبع عشرة إلى أن مات، وصار تلميذه ذلك ينفق سوقه به ويحصل له الأموال ويرسلها وقام له جاه عريض ويم يكن بالماهر في العلم ولكن مشى حاله بالجاه وكتب له توقيع بتغيير المنكرات فأبغضوه ورموه بالمصائب حتى قال فيه شعبان بن داود الآثاري من أبيات:
مبارك أبرك منه ما ترى
وقد ترجمه الشيخ تقي الدين المقريزي فبالغ في ذمه فقال رضي من دينه وأمانته بالحط على ابن العربي مع عدم معرفته بمقالته، وكان يرمي في نفسه بشنيعة وكان قد اشتغل فما بلغ ولا كاد لبعد فهمه وقصوره، وكان يتعاظم مع دناءته ويتمصلح مع رذالته حتى انكشف للناس سيرته وانطلقت الألسن تذمه بالداء العضال مع عدم مداراته وشدة انتقامه ممن يعارضه في أغراضه، ولم يزل على ذلك حتى مات بمكة ليلة الاربعاء مستهل المحرم.
خليل بن عبد الرحمن بن الكويز صلاح الدين ناظر الديوان المفرد، مات في العاشر من شهر رمضان، وكان الجمع في جنازته متوفراً، وكان متواضعاً كثير البشاشة حسن الملتقى كثير الصدقة.
عبد الله بن شاكر بن عبد الله بن الغنام، القبطي الصاحب كريم الدين،(3/228)
ولي الوزارة في حياة الاشرف ثم باشرها مراراً، وحج كثيراً وجاور، وجعل داره مدرسة، وعمر أزيد من تسعين سنة، ومات في سادس عشري شوال، ودفن بمدرسته بالقرب من الجامع الأزهر، وكان موصوفاً بالعسف في مباشرته، واستمر خاملاً أكثر من ثلاثين سنة.
عبد الله بن محمد. السمنودي جمال الدين الشافعي، اخذ عن الشيخ جمال الدين الأسنوي وأبي البقاء والشيخ محمد الكلاي، ولازم الشيخ سراج الدين البلقيني، ودرس بأماكن فنفع الناس مع المروءة والعصبية والقيام في مصالح أصحابه، مات في سلخ رجب ودفن في مستهل شعبان.
عبد الله بن مقداد، جمال الدين الأقفهسي المالكي، تفقه على الشيخ خليل وغيره، وشرح الرسالة، وكان قلي الكلام في المجالس مزجي البضاعة في غير الفقه، وولي القضاء مرتين، وناب أولاً في الحكم، ومات وهو على القضاء في رابع عشر جمادى الأولى وقد قارب الثمانين فيما سمعته يقول، ولما مات اتفق أهل الدولة على إقامة جمال الدين يوسف ابن نعيم البساطي، ثم صرف ذلك عنه لابن ابن عمه شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان البساطي، وشمس الدين أفقه وأكثر معرفة بالفنون من جمال الدين لكن جمال الدين أسن وأدرب بالأحكام وأشهم.
علي القلندري صاحب الزاوية خارج الصحراء، كان أحد من يعتقد.(3/229)
قرا يوسف بن قرا محمد التركماني، كان في أول أمره من التركمان الرحالة فتنقلت به الأحوال إلى أن استولى بعد اللنك على عراق العرب والعجم، ثم ملك تبريز وبغداد وماردين وغيرها، واتسعت مملكته حتى كان يركب في أربعين ألف نفس، وكان نشأ مع والده، وكان قد تغلب على الموصل ثم ملكها بعده، وكان ينتمي إلى أحمد بن أويس، وتزوج أحمد أخته وكان يكاتب صاحب مصر وابنه بعد أحمد بن أويس في مهماته - وقد تقدم ذكر شيء من ذلك في الحوادث، ثم وقع بينهما وقتل أحمد رسله فغزاه فهرب أحمد منه، فملك بغداد سنة خمس وثمانمائة، فأرسل اللنك عسكراً فهرب وقدم دمشق، وكان أحمد لما هرب قدمها فتصالحا، ثم توجه قرا يوسف مع يشبك ومن معه إلى القاهرة، فلما كان من وقعة السعيدية سنة سبع وثمانمائة ما كان رجع، وتوجه من دمشق في صفر سنة ثمان إلى الموصل ثم إلى تبريز، ثم واقع مراراً أبي بكر بن مرزا شاه بن اللنك فقتله في ربيع الآخر سنة ثلاث عشرة واستبد بملك العراق، وسلطن ابنه محمد شاه ببغداد بعد حصار عشرة أشهر، ثم ثار أهل بغداد وأشاعوا أن أحمد بن أويس حي، فخرج محمد شاه من بغداد وكاتب أباه بما اتفق فرجع ودخل بغداد، وفر آل أحمد بن أويس إلى تستر، ودخلها محمد شاه في جمادى الأولى سنة أربع عشرة، وفي غضون ذلك كانت لقرا يوسف مع ليدكي ومع شاه رخ ابن اللنك ومع الشيخ إبراهيم الدربندي وقائع، ثم سار إلى محاربة قرا يلك وكان بآمد ففر منه وتبعه، ودامت الحرب مدة ثم حصر شاه رخ بتبريز فرجع قرا يوسف، وتبعه قرا يلك فنهب سنجار ونهب قبل أهل الموصل وأوقع بالأكراد، واختلف الحجال بين شاه رخ وقرا يوسف حتى تحالفا وتصالحا وتصاهرا، ثم انتقض الصلح سنة سبع عشر وتحاربا.(3/230)
وفي سنة عشرين طرق البلاد الحلبية، ثم صالحه قرا يلك، ثم رجع يريد تبريز خوفاً من شاه رخ.
وفي سنة إحدى وعشرين كانت بينه وبين قرا يلك عثمان بن طورغلي وقعات حتى فر قرا يلك فقدم حلب، انتقل الناس من حلب خوفاً من قرا يوسف وكان قد وصل إلى عينتاب، وكتب إلى المؤيد يعتذر بأنه لم يدخل هذه البلاد إلا طلباً لقرا يلك لكونه هجم على ماردين وهو من بلاد قرا يوسف فأفحش في القتل والأسر والسبي بحيث بيع صغير واحد بدرهمين وحرق المدينة، فلما جاء قرا يوسف أحرق عينتاب وأخذ من أهلها مالاً كثيراً مصالحة وتوجه إلى البيرة فنهبها، ثم بلغه أن ولده محمد شاه عصى عليه ببغداد فتوجه وحصره واستصفى امواله وعاد إلى تبريز، فمات في ذي القعدة وقام من بعده ابنه إسكندر بتبريز، واستمر محمد شاه ببغداد، وكان قرا يوسف شديد الظلم قاسي القلب لا يتمسك بدين، واشتهر عنه أن في عصمته أربعين امرأة، وقد خربت في أيامه وأيام أولاده مملكة العراقين - وتقدم كثير من أخباره في الحوادث.
محمد بن الطنبغا القرمشي ولد الأمير الكبير، كان شاباً حسناً شهماً شجاعاً، مات مسلولاً ويقال إنه سقي السم، وأسف عليه أبوه جداً.
محمد بن بوزنة البخاري، يلقب نبيرة - بنون وموحدة وزن عظيمة، ذكر أنه من ذرية حافظ الدين النسفي، ونشأ ببلاده وقرأ الفقه وسلك طريق الزهد، وحج في هذه السنة وأراد أن يرجع إلا بلاده فذكر أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم في النوم فقال له: إن الله قد قبل حج كل من حج في هذا العام وأنت منهم - وأمره أن يقيم بالمدينة، فأقام فاتفقت وفاته يوم الجمعة ودفن بالبلقي.(3/231)
محمد بن علي السوهاي ثم المصري جمال الدين، أحد العدول بمصر، كتب المنسوب على شيخنا أبي علي الزفتاوي وانتفع به الناس في ذلك، مات في شهر رجب وقد جاوز الخمسين.
محمد بن علي الحبري الشرابي أبوه وأما هو فباشر في أعوان الحك للمالكية، ثم وقعت واقعة سجن بسببها ثم حكم بحقن دمه وأطلق ثم عمل في دكان سكري، ثم توصل إلى أن عمل حسبة مصر ثم القاهرة، وكان عامياً جلفً قليل الخير كثير الشر. لقبه شرف الدين.
محمد بن محمد بن حسين، المخزومي البرقي شمس الدين الحنفي، كان مشهوراً بمعرفة الأحكام مع قلة الدين وكثرة التهتك. وقد باشر عدة أنظار وتداريس، مات في جمادى الأولى.
محمد بن العلامة شمس الدين محمد بن سليمان، ابن الخراط الحموي شمس الدين الشاعر المنشي الموقع، أخذ عن أبيه وغيره وقال الشعر فأجاد، ووقع في ديوان الإنشاء، وكان مقرباً عند ابن البارزي، ولم يكمل الخمسين، وعاش أخوه زين الدين عبد الرحمن بعده وهو أسن منه إلى سنة أربعين.(3/232)
محمد بن محمد بن عبد الله بن أحمد، شمس الدين الصغير - بالتصغير - الطبيب المشهور، ولد في 15 جمادى الأولى سنة 745، وكان أبوه فراشاً، فاشتغل هو بالطب وحفظ الموجز وشرحه وتصرف في العلاج فمهر، وصحب البهاء الكازروني، وكان حسن الشكل له مروءة، مات بعد مرض طويل في عاشر شوال.
محمد بن محمد بن عثمان، القاضي ناصر الدين البارزي كاتب السر، ولد في شوال سنة تسع وستين، وحفظ الحاوي في صغره واستمر يكرر عليه ويستحضر منه، وتعانى الآداب وقال الشعر، وكتب الخط الجيد، ثم ولي قضاء بلده وكتابة السر بها وقضاء حلب وكتابة السر بالقاهرة طول دولة المؤيد. وكان لطيف المنادمة كثير الرئاسة ذا طلاقة وبشر وإحسان للعلماء والفضلاء على طريقة قدماء الكرماء، ومات في يوم الأربعاء ثامن شوال، ومشى الناس في جنازته من منزله بالخراطين إلى الرميلة، ولم يصل السلطان عليه لأنه كان في غاية الضعف حينئذ.
محمد بن محمد بن محمد بن سعيد، الصغاني جمال الدين ابن الضياء ولد قاضي مكة، ناب في عقود الأنكحة، ومات بمكة في ربيع الأول.(3/233)
محمد بن موسى بن علي بن عبد الصمد بن محمد بن عبد الله، المراكشي الأصل ثم المكي الحافظ جمال الدين أبو المحاسن ابن موسى، ولد في ثالث رمضان سنة سبع وثمانين، وحفظ القرآن، وأجاز له وهو صغير قبيل التسعين وبعدها أبو عبد الله بن عرفة وتقي الدين ابن حاتم وناصر الدين ابن الميلق وجماعة وتفقه، وحبب الطلب فسمع بمكة على مشايخ مكة كابن صديق ومن دونه وعلى القادمين عليها كعلاء الدين الجزري وعبد الرحمن الدهقلي وشهاب الدين ابن منيب، وأخذ علم الحديث عن الشيخ جمال الدين ابن ظهيرة والحافظ تقي الدين الفاسي والحافظ صلاح الدين الأقفهسي وتخرج به في المعرفة في طريق الطلب والعالي والنازل، ورحل إلى الديار المصرية فسمع من شيوخها ثم رحل الشام فأدرك عائشة بنت عبد الهادي خاتمة أصحاب الحجار، وجال في رحلته فسمع بحلب وحماة وحمص وبعلبك والقدس والخليل وغزة والرملة، وسمع بالإسكندرية وغيرها، ثم رجع وقد كمل معرفته، وخرج لغير واحد من مشايخه منهم الشيخ زين الدين بن حسين ومحمل تراجم مشايخه فأجاد فيها، وخرج لنفسه أربعين متباينة متوافقات لكن لم يلتزم فيها السماع بل خرج فيها بالإجازة، ثم رحل اليمن فسمع بها ومدح الناصر أحمد فأجازه وولاه مدرسة هناك، فأقام بتلك البلاد وصار يحج كل سنة، وكان ذا مروءة وقناعة وصبر على الأذى باذلاً لكتبه وفوائده، وكان موصوفاً بصدق اللهجة وقلة الكلام وعدم ما كان عند غيره من أقرانه إباءة من اللهو وغيره من صباه إلى أن مات، فلما كان في هذه السنة قدم حاجاً فعاقهم الريح فخشي فوات الحج فركب في البر وأجهد نفسه فأدركه، وتوعك واستمر مريضاً إلى أن مات في ثامن عشري ذي الحجة ودفن بالمعلى.
محمد الشهير بابن بطالة كان أحد المشايخ الذين يعتقدهم أهل مصر، وله زاوية بقنطرة الموسكي، وكانت كلمته مسموعة عند أهل الدولة، واشتهر جداً في ولاية(3/234)
علاء الدين ابن الطبلاوي، وكانت جنازته مشهودة، حملها الصاحب بدر الدين بن نصر الله ومن تبعه، ومات في خامس عشري شهر ربيع الأول وقد جاوز الثمانين.
موسى بن محمد بن نصر، البعلبكي المعروف بن السقيف القاضي شرف الدين أبو الفتح، ولد سنة اثنتين وخمسين، واخذ الفقه عن الخطيب جلال الدين والحديث عن عماد الدين ابن بردس وغيرهما، واشتغل بدمشق عند ابن الشريشي والزهري وغيرهما ومهر، وتصدى للإفتاء والتدريس ببلده من أول سنة إحدى وثمانين وهلم جرا، وولي قضاء بلده مراراً فحسنت سيرته، وكان كثير البر للطلبة سليم الباطن، يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وله أوراد وعبادة، وانتهت رئاسة الفقه ببلده إلى أن مات في هذه السنة في جمادى الآخرة.
ناصر الدين بن أحمد بن منصور بن مزني البسكري، كان أبوه من أمراء الغرب صاحب ثروة ومعرفة فحج هو ووقع للسلطان غضب على أبيه فأوقع به، فاستمر ناصر بالقاهرة واشتغل وكان لهجاً بالتاريخ وأخبار الرواة جماعة لذلك ضابطاً له مكثراً منه جداً، وأراد تبييض كتاب واسع في ذلك فأعجلته المنية، ومات في شعبان مها ولم يدخل الكهولة.
يوسف بن الشيخ إسماعيل بن يوسف، الأنبابي الشيخ جمال الدين ابن القدوة(3/235)
إسماعيل، أخذ الكثير عن شيوخنا وقرأ في الفقه والعربية والأصول وأكثر جداً ثم انقطع بزاوية أبيه بأنبابة، وأحبه الناس واعتقدوه، وحج مراراً، وكان يذكر لنفسه نسباً في سعد بن عبادة، ومات في شوال وخلف مالاً كثيراً جداً.
يوسف بن محمد، التركماني المعروف بقرا يوسف بن بيرم خواجا - تقدم في قرا يوسف.(3/236)
سنة أربع وعشرين وثمانمائة
استهلت يوم الاثنين ورئي الهلال في تلك الليلة كبيراً ودام حتى غاب الشفق، وسمعنا بعض الجند يقول إنه رآه ليلة الأحد، كذا ثبت في حلب وكان يوم الاثنين حادي عشر طوبة، وفي أوله اشتد مرض السلطان وأرجف بموته وحصل له ذرب مفرط واستمر إلى أن مات ضحى يوم الاثنين ثامن السنة، وحضر موته الشيخ يحيى السيرامي وبعض الأمراء، ثم اجتمع الأمراء والقضاة والخليفة وسلطنوا ابنه أحمد ولقب المظفر وذلك قبل تجهيز والده، وكان القائم بذلك الأمير ططر وهو يومئذ أمير مجلس، ثم جهز الملك المؤيد وتقدم للصلاة عليه الخليفة، ثم حمل من القلعة إلى مدرسته التي أنشأها داخل باب زويلة، ودفن بها في القبة التي دفن فيها ولده إبراهيم، وتأسف الناس عليه جداً وأكثروا الترحم عليه، وأمطرت السماء ساعة المسير بجنازته مطراً غزيراً جداً حتى مشى الناس في الوحل إلى المدرسة، واخبرني بعض أصحابنا أنه شاهد البرد ينزل من السماء كباراً، وكانت مدة سلطنة المؤيد ثماني سنين وخمسة أشهر وثمانية أيام، وكان ابتدأ استقراره في نيابة الشام في سنة خمس وثمانمائة، فاستوفى في الملك عشرين سنة أميراً صرفاً وفي معنى السلطان وسلطاناً، وكان شهماً شجاعاً عالي الهمة كثير الرجوع إلى الحق محباً في الشرع وأهله صحيح العقيدة كثير التعظيم لأهل العلم والإكرام لهم والمحبة في أصحابه والصفح عن جرائمهم، ومحاسنه جمة.
وفي عقب دفن السلطان قبض على الأمير قجقار القردمي وحبس بالقلعة، وكان(3/237)
شاع في مدة مرض المؤيد أنه يريد الركوب عليه فلم يقع ذلك، فلما مات المؤيد كان الأمراء مقيمين بالقلعة فلم يتوجه مهم في الجنازة إلا القليل فبادر الأمير ططر وقبض على قجقار، وكان قجقار أراد ذلك فلم يتهيأ له وكان يريد أن يكون هو المتكلم في المملكة فحيل بينه وبين ما أراد، واستقر ططر بتدبير المملكة ولف المؤيديه عليه وقربهم وأمرهم، ونودي في يوم الخميس بالإنفاق على الجند، فأنفق لكل واحد ثمانين ديناراً وأربعة آلاف فلوساً، وكان في خزانة المؤيد جملة مستكثرة من الفلوس، ولم يفتح الأمير ططر الخزانة إلا بحضرة القضاة، فاخذ منها قدر أربعمائة ألف دينار للنفقة، ثم أغلقها وختم عليها وسلم الختم والمفتاح للقاضي المالكي، ثم قبض على جلبان رأس نوبة إبراهيم بن المؤيد وعلى شاهين الفارسي وهما من كبراء الأمراء فأضيفا إلى القردمي وجهز الثلاثة إلى الإسكندرية في يوم الجمعة، وتسحب مقبل الدويدار في طائفة خوفاً على أنفسهم من الحبس فتوجهوا قبل الشام ونزلوا البحر من جهة دمياط في الطينة واستمروا إلى جهة طرابلس وكانوا اتفقوا على الركوب على ططر، وكان فيهم أسندمر النوري أمير طبلخاناة وكان من رؤس النوب ومعه من أمراء العشرة مبارك شاه وجلبان وكمشبغا الحمزاوي ويلخجا الساقي واجتمعوا بالرميلة فتأخر عنهم من كان أحضر واتفق معهم فساقوا هاربين، فتبعهم جاني بك الصوفي ويشبك الأستادار وتاني بك ميق فلم يلحقوهم.
وفي الثالث عشر من المحرم استقر بدر الدين بن نصر الله في نظر الخاص مضافاً إلى الوزارة وصرف مرجان الهندي عن التحدث في الخاص، واستقر صدر الدين ابن العجمي في الحسبة وصرف إبراهيم بن الحسام وفرح الناس به، ورتب الأمير ططر للمحتسب في كل يوم دينارين على الجوالي وشرط عليه أن يبطل الدكة ويتوفر ما كان المحتسب يأخذه من البياعين، ثم استقر في الوزارة تاج الدين بن كاتب المناخات في ثاني عشري المحرم،(3/238)
وفيه نودي في الجند أن يحضروا ليعاد م ما كان قبض منهم بسبب التجريدة من المال من أيام المؤيد ومباشرة الهروي القضاء، فعظم فرحهم بذلك ودعاؤهم وشرع في إعطائهم ذلك.
وفي النصف من المحرم خلع على الأمير ططر خلعة معظمة واستقر نظام المملكة، واستقر تغري بردي بن قصروه أمير آخور وجاني بك الصوفي أمير سلاح وعلي باي دويدارا كبيراً عوضاً عن مقبل، ولقب ططر نظام الملك، وخلع على جماعة آخرين من الأمراء.
وفي الثاني عشر منه استقر إينال الأزعري حاجب الحجاب وخلع على القضاة باستمرارهم وعلى كاتب السر وناظر الجيش وناظر الخاص وناظر الإصطبل بالاستقرار أيضاً، ثم استعفى ناظر الجيش من وظيفته فروجع فصمم وتوجه إلى الجيزة فأقام بها، فلما كان في الخامس والعشرين منه قرر في كتابة السر وقرر كاتب السر في نظر الجيش وباشرا ذلك جميعاً، ولبس كمال الدين الخلعة بذلك، في هذا اليوم وتأخر لبس ابن الكويز الخلعة إلى يوم الاثنين تاسع عشري الشهر أو سلخه.
واستقر مرجان الخازندار في نظر الجوالي.
وفي السابع والعشرين من المحرم توجه يشبك الأستادار إلى الصعيد لدفع المفسدين من العرب واستخلاص الأموال من الفلاحين.
وفي أواخر الشهر خرج الأمراء المجردون من حلب، وكان المؤيد أرسلهم في الظاهر لحفظ البلاد من قرا يوسف، وفي الباطن لإمساك يشبك، وأحسن يشبك بذلك فأخذ حذره منهم ولم يتمكنوا منه، فلما بلغتهم وفاة المؤيد سافروا قاصدين القاهرة فلم يودعهم نائبها يشبك اليوسفي، فبلغهم أنه يريد الغدر بهم فحذروا منه، وتبعهم هو فتتبع آثارهم ظاناً أنهم على غفلة عنه فكبسهم فوقع الحرب بينهم، فكبا به فرسه فظفروا به فقتلوه، ورجعوا إلى حلب وقرروا الطنبغا الصغير في إمرتها وتوجهوا إلى جهة دمشق، فلما بلغ ذلك ططر في ربيع الأول أخرج إقطاع الطنبغا هذا وأوقعت الحوطة على حواصله، ثم أخرجت إقطاعات بقة الأمراء فاستقر تاني بك ميق أتابكا على إقطاع القرمشي، ثم أخرجت(3/239)
إقطاعات بقية الأمراء المجردين صحبة الطنبغا القرمشي ووقع التباين بين الطائفتين، وكانوا أرسلوا إلى العرب والتركمان الكبكية يأتونهم، فصادف وصولهم يوم نزول العسكر بعين مباركة، وكان نائب القلعة شجاع الدين أحس بالشر من يشبك فأخذ حذره منه وحصن القلعة، فأراد يشبك بحلب فلم يظفر به فخرج طالباً العسكر، فرمى عليه نائب القلعة بالحجارة والسهام فسار وهو يرعد ويتوعده، فما أحسن العسكر المصري إلا وقد طرقهم بمن معه ظناً منه أنه يأخذهم على غرة، وفطنوا به فظفروا به وقتل في المعركة ورجعوا إلى حلب، وكان يشبك المذكور سيئ السيرة حتى أن بعض مماليكه خرج إلى كفر نوران لمهم لأستاذه فرجع فافترى عليه كذبة فلم يكذب أستاذه الخبر ورجع بعسكره، فأوقع بهم فأبادهم قتلاً ونهباً وفسقاً وسبى الذرية، وأحضر أربعة عشر نفساً من شيوخهم وكهولهم فصلبهم.
وفي حادي عشر صفر وصل سيف يشبك اليوسفي الذي كان شاد الشربخاناه - ومات المؤيد وهو نائب حلب - وقرينه رأسه، أرسل ذلك الأمراء الذين قتلوه، واتفق الطنبغا القرمشي وجقمق نائب الشام ومن معهم على مباينة المصريين، ثم وقع بينهم الخلف ومال القرمشي إلى المصريين.
وفي صفر خلع على الدويدار الكبير على باي وعلى كاتب السر ابن الكويز بنظر المؤيدية وحضراها، وعلى أمير آخور تغرى بردى بنظر الظاهرية، وعلى راس نوبة بنظر الشيخونية، وعلى إينال الأزعري بنظر جامع الأزهر وعمرو بن العاص، وباشروا وظائفهم.
وفي ربيع الأول أخرجت إقطاعات الأمراء المخالفين وجددت الأيمان للمظفر وللقائم بدولته ططر، وكتب له تفويض عن الخليفة وشهد فيه القضاة ثم حكموا بصحته،(3/240)
ودخلت في رأسه النخوة ولهج بالاستبداد تلويحاً وتصريحاً وأخذ في أسباب ذلك واعانه عليه قوم آخرون، وشرع في إرضاء من خشي شره ومخالفته بالمال.
وفي يوم الخميس أول يوم من ربيع الأول ثم ثبت أنه ثانية عمل المولد السلطاني وأحضر المظفر فاجلس مجلس أبيه وهو ابن سنتين بل لم يكملهما، فجلس ساكتاً لا يتكلم ولا يقلق ولا يعبث قدر ساعة رملية ثم رفع، ثم أعيد عند مد السماط فجلس مجلس أبيه أيضاً على الصفة الأولى من السكون، وبلغ جقمق نائب الشام ما وقع بمصر فاستولى على القلعة وأمسك نائبها.
وفي خامسه نزلت الشمس برج الحمل، وفي صفر أطلق ناصر الدين محمد بن قرمان الذي كان قبض عليه في سنة 22 وفوضت أمور بلاده لأخيه علي فأعيد محمد إلى مملكته، وسار في يوم الجمعة خامس عشري صفر من البحر، وسار معه شمس الدين الرومي المعروف بشاكر والهروي، وزوده الأمير ططر بمال وقماش وخيل وخيام وجهز معه سفراً، فيقال إن الريح عصفت عليهم فتوجهت المركب نحو قبرس، فبلغ ذلك صاحبها فكارمه بهدية، وفي يوم الأربعاء حادي عشره أمسك كمال الدين ابن البارزي وعوق من وقت العصر إلى صبيحة الاثنين، فشفع فيه صهره ابن الكويز واستكتبه خطه بستة آلاف دينار.
وفيه قبض علي ناصر الدين بن العطار الذي كان نائباً بالإسكندرية ثم أفرج عنه بعد أيام، وفيه وصل يشبك الإينالي الأستادار من الصعيد بعد أن أجاح أهله(3/241)
فصرف بعد قليل من الأستادارية، واستقر فيها صلاح الدين ابن ناظر الخاص في سابع عشر ربيع الأول.
وفي يوم الاثنين العشرين من شهر ربيع الأول كان أول الخمسين؟ عند المصريين، وحصل فيه حر شديد وسموم مفرط، وكان ذلك في أواخر آذر وأوائل نيسان، فاشتد ذلك حتى صار كأشد ما يكون في تموز ولو كان لا برد الماء لهلك الناس، ثم ارتفع ذلك بعد عشرة أيام وأمطرت السماء مطراً غزيراً برعد وبرق وغاد مزاج الفصل إلى العادة من البرد المتوسط.
وفي شهر ربيع الآخر أقيمت خطبة في تربة الزمام خارج الصحراء بالقرب من جامع طشتمر وحضرها جماعة من ضيق المكان جداً وحكم بصحة ذلك القاضي الحنفي.
وفيه استقر شمس الدين محمد بن قاضي القضاة الحنفي التفهني في قضاء العسكر وإفتاء دار العدل عوضاً عن شمس الدين القرماني المعروف بشاكره الهروي بحكم انتقاله إلى بلاده صحبة ابن قرمان.
وفي رابع ربيع الآخر نزل الأمير ططر في موكب كبير ومعه جمع كثير من الأمراء والخاصكية والمماليك وغيرها فدخل المدرسة المؤيدية، وزار المؤيد وضيفه شيخها بحلاوة عجمية.
وفي رابع عشري صفر قبض على ابن وباب وكان من قطاع الطريق بالاطفحية، وقد جمع كثيراً من المفسدين وسماهم بأسماء الأمراء، فإذا مرت مركب فيها غلة سأل عن صاحبها، فإذا قيل الأمير فلان، استدعى بذلك الذي سمي باسمه فقال له: هذه مركبك خذها، واستطالوا على الناس جداً.
وفي ربيع الآخر نازل عذراء أمير العرب ببلاد حلب فخرج الطنبغا الصغير النائب إذ ذاك بها فأوقع به فكسر عذراء وانتهب جماله ومواشيه، وهرب في أسوء حال ورجع العسكر(3/242)
الحلبي منصوراً، ثم توجه النائب المذكور إلى جهة ابن كبك التركماني، فالتقى الجمعان بين قلعة المسلمين وعينتاب فكان القتال واشتد الخطب، ثم وقع النصر للحلبيين فأوقعوا بالتركمان وانتهبوهم وغنموا منهم شيئاً كثيراً جداً وقتل منهم جماعة واسر جماعة فوسط منهم بسوق الخيل.
وفي ربيع الآخر رخص الورد جداً بحيث بيع على رؤوس الباعة على حساب كل ألف وردة بقدر عشرين درهماً بمعاملة القاهرة فيكون بالدينار الهرجة المصري خمسة عشر ألف وردة، فلما كان في سنة ست وعشرين كان قليلاً، وأكثر ما رخص أن كان على الضعف من هذه السنة.
وفي سابع ربيع الآخر أنفق الأمير ططر نفقة السفر لكل مملوك مائة دينار، وأعطى القضاة من النفقة لكل واحد كما لواحد من المماليك، وخلع على القضاة الأربعة جبباً بسمور.
وفي جمادى الأولى ادعى شخص من عرب الصعيد يقال له عزام النبوة زعم أنه رأى فاطمة الزهراء بنت النبي صلى الله عليه وسلم في اليقظة فأخبرته عن أبيها أنه سيبعث بعده، وأطاعه ناس وخرج في ناحيته، فقام عليه نجم الدين عبد الرحمن بن عبد الوارث البكري وسعى إلى أن قبض عليه فضربه تعزيزاً وحبسه وأهانه فرجع عن دعواه وتاب - هكذا أخبرني به - عبد الرحمن المذكور.
وفي التاسع عشر من ربيع الآخر خرجت العساكر المصرية متوجهة إلى الشام بسبب مخالفة الأمراء بالشام عليهم، وكان الأمراء قد توجهوا من حلب بعد قتل نائبها يشبك إلى دمشق وانضم م مقبل الدويدار الذي كان تسحب وتحالفوا الجميع على المعاونة وعلى تقدمة الدولة المؤيدية وطرد النوروزية، فبلغ ذلك ططر فأنفق في العساكر في تاسع الشهر وبذل(3/243)
الأموال ولم يرد سائلاً حتى نفد بيت المال الذي كان المؤيد ادخره ولم يبق معه منه إلا القليل صحبته، وقرر الأمير ططر في الإصطبل جقمق أخا جركس المصارع وهو الذي ولي السلطنة بعد الأشرف، ونائب الغيبة قانباي الحمزاوي، ونائب القلعة قطج وضرب خامه في الرابع عشر بالريدانية، ثم خرج في المقدمة على باي الدويدار والحاجب إينال وغيرهما، ثم توجه العساكر في يوم الجمعة الثاني والعشرين منه ووصل جاليش الشاميين إلى غزة، فلما بلغهم وصول العساكر انهزموا بغير لقاء، واستأمن جلبان أمير آخور وإنيال النوروزي وحضرا إلى المصريين في أثناء طريق غزة، وتوارد غالب من كان في المقدمة إلى أن كان الذي حضروا عن ططر بغزة ستمائة نفس منهم، وكان دخولهم غزة في ثاني جمادى الأولى يوم الاثنين في دست كبير وأبهة هائلة، ثم وقع بين الشاميين مباينة فقام الطنبغا القرمشي ومن انضم من الأمراء المجردين على جقمق ومن معه، فانكسر جقمق وقر هو ومقبل الدويدار وطوغان أمير آخور إلى صرخد فتحصنوا بها، استقر الطنبغا القرمشي حاكماً بدمشق، ووصلت عساكر المصريين إلى دمشق في نصف الشهر، وألقى القرمشي ومن معه بالمقاليد وطلبوا الأمان ودخلوا في الطاعة، فأمسكوا بعد قليل وقتلوا، ثم جهزت طائفة إلى صرخد بسبب جقمق ومن معه، واستقر قطلوبغا التنمي بطالاً وشرباش عاشق والطنبغا المرقبي بطالين بالقدس، واستقر ثاني بك ميق نائب الشام وقرر عوضه جاني بك الصوفي أتابك العساكر.
وفي رابع ربيع الآخر قتل راشد بن بقرا أمير العرب بالشرقية واستقر عوضه شعبان بن عيسى، وكان راشد مشكور السيرة، وفي ليلة الثلاثاء سادس عشر جمادى الآخرة أمطرت السماء بعد المغرب مطراً يسيراً، وذلك بعد نزول الشمس السرطان بليلتين.(3/244)
وفي يوم السبت العشرين منه ابتدئ النداء على زيادة النيل، وكانت القاعدة أربعة أذرع وعشرين إصبعا.
وفي سلخ جمادى الآخرة توقف النيل، ثم استمرت الزيادة ورخصت الأسعار.
وفي رمضان ورد مرسوم السلطان بقتل الأمراء المسجونين بالإسكندرية فقتلوا، منهم قجقار القردمي.
وفي الرابع من رمضان أحضر إلى صدر الدين ابن العجمي المحتسب رجب بن سليمان غلام ابن خير ومعه جمع كثير، فذكروا أنهم كبسوه مع صبي وهو يلوط به نهاراً، فأمر بضربه بالعصي وبالدرة وحبس وكان قد أنكر ذلك لما شهدوا عليه، فأمر شخصاً أن يكشف عن ذكره ويعصره ففعل فخرج منه المني فلم يسمع فأفحش منها، ثم أطلق هذا الرجل واستمر على حاله، وكان هذا يخدم القاضي ابن خير فصار بعده يستجدي من الطلبة ويرافقهم في الطلب وفي سماع الحديث فسمع كثيراً لكنه يزن بالهنات ولا يزال يحصل في مكروه من ذلك إلى أن وقعت له هذا الواقعة فكانت أشد شيء اتفق له، ثم اتفق أن المحتسب عزل بعد يومين فرجع رجب إلى عادته وعاش بعد صدر الدين دهراً، ولما توجه الطنبغا القرمشي ومن معه من الأمراء وهم طوغان أمير آخور وجلبان وآزدمر الناصري وجرباش إلى دمشق وتأخر من رفقتهم الطنبغا الصغير في نيابة حلب واتفقوا مع جقمق نائبها الذي كان دويدار المؤيد على مخالفة المصريين، ثم وقع بينهم الحرب فانتصر الطنبغا وفر جقمق ومن وافقه إلى صرخد فتحصنوا بها ووصل ططر مع العسكر المصري إلى الغور، فكتب القرمشي إلى ططر بطاعته هو ومن معه ثم خرجوا إلى ملاقاة العسكر إلى أن دخلوا دمشق وخلع على الجميع، فلم يمض نهار دخولهم حتى قبض على القرمشي وقتل واعتقل جماعة غيره ممن كان معه،(3/245)
واستقر إينال الجكمي في نيابة حلب، ثم خرج ططر بالعسكر إلى حلب فاستمر بها نحو أربعين يوماً حتى قرر الأمور بها وقرر في نيابتها تغري بردى الذي يقال له ابن قصروه ونقل إينال الجكمي وحضر أمراء القلاع ونواب البلاد عنده ودخلوا تحت طاعته، ثم رحل عنها طالباً دمشق وكان خروج العساكر صحبة ططر من حلب في ثاني عشر شعبان قاصدين دمشق فوعك ططر في الطريق ثم عرفي ودخل دمشق في الرابع والعشرين من شعبان، فأقام بها قليلاً وقبض على إينال الجكمي وإينال الأزعري ويشبك الأنالي الأستادار وجلبان وأزدمر الناصري وعدة معهم من الأمراء الأربعينات والعشرات واعتقلهم وذلك في الثامن والعشرين من شعبان، وبات تلك الليلة عنده ثاني بك ميق النائب بدمشق وغيره من خواصه فلما أصبح يوم الجمعة سلخ شعبان طلب الخليفة والقضاة الأمراء إلى القلعة فبايعوه بالسلطنة، وخلع المظفر أحمد لصغره وعجزه، وخطب له ذلك اليوم على المنابر بدمشق وما قاربها، واستمر إلى رابع عشر رمضان فرحل بعد صلاة الجمعة طالباً الديار المصرية وقرر بدمشق نائبها تاني بك ميق المذكور، وقرر في طرابلس تاني بك البجاسي نقلاً من نيابة حماة وقرر في نيابة حماة جارقطلي، فدخل القاهرة يوم الخميس رابع شوال، وكان استقر أركماس الجلباني نقلاً من نيابة....إلى نيابة طرابلس عوضاً عن شاهين الزردكاش، ووصل رسول جقمق ومن معه من صرخد في طلب الأمان، فجهز م بعض الموقعين وهو بدر الدين ابن مزهر صحبة الأمير برسباي الدقماقي وهو الذي ولي السلطنة بعد ذلك ووصل مقبل سفيراً منهم، ثم توجه بدر الدين ابن مزهر(3/246)
موقع الدست فاستنزل الأمراء من صرخد وأحضرهم إلى دمشق فقتل جقمق في شعبان وحبس طوغان أمير آخور.
وفي أواخر رجب عزل إينال الجكمي من نيابة حلب واستقر بها تغرى ابن قصروه.
وفي شعبان أمسك جماعة من الأمراء منهم يشبك الأنالي الذي كان أستاداراً وعلى باي الدويدار وإينال الأزعري وآخرون فحبسوا وقبض على الأمراء المؤيدية لما أرادوا الوثوب إلى ططر في آخر شعبان وهم على باي الدويدار وجلبان ومغلباي وإينال الجكمي ويشبك الأنالي وأزدمر الناصري، وكان طلب أولاً الدويدار ومغلباي ثم طلب الباقين واحداً واحداً فلما تكاملوا بالقلعة قبض عليهم ثم أودعهم الاعتقال ليلة الجمعة، وبات عنده بقية الأمراء مثل نائب الشام تاني بك ميق وإينال العلائي وجاني بك الصوفي وبرسباي الدقماقي وهو الذي ولي السلطنة بعد ذلك واستقر برسباي دويداراً كبيراً، وجعل الدويدار أتابك دمشق، وجاني بك الصوفي أتابك مصر ويشبك أمير آخور، فلما أصبح يوم الجمعة تاسع عشري شعبان الموافق لأول يوم من السنة القبطية تسلطن ططر بدمشق ولقب الملك الظاهر، وكني أبا الفتح وبايعه الخليفة والقضاة المصرية والشامية وخطب له على منبر دمشق، ووصلت الطاعة من نواب البلاد: وكان خروج ططر من حلب بالعساكر يوم الاثنين ثاني عشر شعبان فنزل بعين مبارك يومين، ووصل وهو بها علي بك بن خليل بن قراجا بن دلغادر أمير التركمان بناحية مرعش طائعاً فتلقاه بالإكرام وفوض نيابة عينتاب ودرنده وغير ذلك مضافاً لما بيده وأذن له بالتوجه، وسار ططر إلى جهة الشام ليلة الأربعاء رابعة عشرة، فوصل وهو بمنزلة ...(3/247)
مقبل الدوادر نائب الشام بوصول جقمق وطوغان من قلعة صرخد فسر بذلك، ودخل دمشق يوم السبت رابع عشري شعبان، وأحضر الأميرين فقبلا الأرض فأمر بتوجيه طوغان إلى القدس بطالاً وبإعادة جقمق إلى السجن فأعيد، فقدرت وفاته ليلة الثلاثاء سابع عشري شعبان ودفن ليلة يوم الأربعاء بمدرسته التي أنشأها بدمشق عند باب الجامع الشمالي، وكان ظالماً غشوماً متطلعاً إلى أموال الناس، وفيه وقع المحتسب صدر الدين ابن العجمي والتاج الوالي مخاصمة ثم اصطلحا، ثم جاء الأمر بعزل صدر الدين واستقرار جمال الدين يوسف البساطي الذي كان قاضي المالكية في الحسبة واستقر في خامس شهر رمضان، والتزم صدر الدين بأن لا يتردد إلى أحد، وضيق على بعض أتباعه ثم أفرج عنهم، واستمر البساطي في الحسبة إلى أن مات الظاهر ططر فصرف في ثالث عشري ذي الحجة وأعيد ابن العجمي.
وفي رابع عشر شهر رمضان توجه السلطان الظاهر والعساكر من دمشق إلى جهة الديار المصرية، ودخل القاهرة في رابع شوال وكان يوماً مشهوداً.
واستقر برسباي دويداراً كبيراً، ويشبك الذي كان دويداراً صغيراً ولي إمرة الحاج، وفر من المدينة أمير آخور وطرباي حاجباً كبيراً، ودخل هؤلاء بالخلع إلى القلعة.
واستقر مرجان الخازندار زماما، وصودر كافور وألزم بيته، فسكن في تربته بالصحراء.
وفي هذا الشهر وصل جماعة من الأمراء المتسحبين في زمن المؤيد وهم سودون بن عبد الرحمن الذي ولي نيابة الشام بعد ذلك وطرباي الذي ولي الأتابكية بعد ططر ويشبك الدويدار الذي كان فر من المدينة الشريفة وهو أمير الحاج وقجقار السيفي مراد خجاوي وخليل ابن أمير سلاح وجماعة، فلما وصلوا إلى الفرات تبعهم ابن كلجا موسى الكردي وجمع عليهم عسكراً من التركمان والعرب، فوقع بينهم القتال فقتل خليل المذكور وانهزم الباقون بأسوء حال فتلقاهم نائب حلب......(3/248)
وكان وصول السلطان شقحب في آخر جمادى الأولى، فقام عسكراً حلب مع نائب القلعة شاهين الأرغون شاوي، ورمى عليه وفاجأه بمن تبعه مفاجأة منعته من الكبس، فخرج من دار السعادة حاسراً حافياً وتفرق جمعه، فتوجه بمن معه إلى حلب فلم يمكنوه من دخولها فاستمر ذاهباً، فاختلف في أمره، وكان معه كمشبغا الجمالي أميراً كبيراً كان بحلب فانقطع ذكرهما، وقرر المظفر في نيابة حلب، إينال الجكمي، وآق بلاط الدمرداشي في إمرة كمشبغا، وأحمد ابن سبري حاجب الحجاب، وبردبك نائب سيس أمير عشرة، ودخل إينال الجكمي نائب حلب في رابع رجب ... وطلب السلطان الظاهر أركماس الجلباني فأمره بالوصول إلى الشام ليسافر معه إلى القاهرة، فاستشعر الشر فتسحب وخرج من طرابلس بمن معه قاصداً حلب، فلما وصل إلى صهيون ركب عليه جماعة من التركمان والفلاحين فأخذوا عليه المضايق ونهبوا أثقاله، وفر هو نفر قليل إلى ناحية الشغر من عمل حلب.
فلما وصل إلى ديركوس أمسك وبعث نائب حلب سيفه إلى السلطان واعتقله واستقر في نيابة حماة جارقطلي وتوجه نائب حماة وهو تاني بك البجاسي إلى طرابلس.
وفي رجب وصل المظفر ومدبر دولته ططر رسول شاه رخ ابن اللنك يخبر فيه أنه نازل بتبريز وبها إسكندر بن قرا يوسف فهزمه وملكها شاه رخ، ووصل ولد قرا يلك من أبيه مهنئاً للظاهر بالسلطنة فخلع عليه وكتب إلى والده بالرضا وتقريره في البلاد، ووصل رسول صاحب الحصن مهنئاً بالسلطنة فأكرم.
وفي النصف من شوال استقر الشيخ ولي الدين ابن شيخنا الحافظ زين الدين العراقي في قضاء القضاة الشافعيين عوضاً عن البلقيني بحكم وفاته.
وفي ذي القعدة استقر زين الدين عبد الباسط بن خليل ناظر الخزانة في نظر الجيش وعزل كمال الدين ابن البارزي، فكانت مدة ولايته سنة ما بين كتابة سر ونظر جيش(3/249)
ولزم بيته بطالاً، وقرر له في الجوالي كل يوم دينار، وانتزع شرف الدين بن عبد الوهاب بن نصر الله من عبد الباسط نظر الخزانة ونظر المشاجرات السلطانية بالشام وغير ذلك مما كان يباشره ومن ذلك نظر الكسوة.
وفي هذه السنة حججت بعد أن توجه الحاج بعشرة أيام على رواحل فوصلت م بالقرب من الحوراء ورافقتهم إلى مكة ثم عدت صحبتهم، وكانت الوقفة يوم الجمعة بعد تنازع بمكة مع أن العيد كان بالقاهرة يوم الجمعة، وفيه سار شاه رخ إلى بلاده لما بلغه أن ولده خرج عليه، فكر راجعاً وترك تبريز، فرجع اإسكندر بن قرا يوسف.
واستمر الظاهر ططر موعوكاً ينصل تارة ويشتد به المرض أخرى، وصار يحضر الموكب داخل القاعة البيسرية عجزاً عن الركوب، وتمادى به ذلك إلى أن اشتد به المرض في ذي الحجة فأوصى وعهد بالملك لولده وقرر الدويدار الكبير برسباي أتابك العساكر، ومات الظاهر في يوم الأحد خامس ذي الحجة، فكانت سلطنته خمس وتسعون يوماً.
واستقر في السلطنة بعده ولده الملك الصالح محمد وهو ابن تسع سنين واستقر الدويدار الكبير في تربيته وسكن الأشرفية التي كان يسكنها ططر قبل السلطنة، واستقر جاني بك الصوفي أتابك العسكر، فلما كان يوم الجمعة بعد صلاة العيد تحيل بعض الممالك على جاني بك فأمسكوه وكان قد ركب بالرميلة فرموا عليه بالسهام فخرج جاني بك من باب الإصطبل وخرج برسباي من باب السر فوقع القتال بينهم فأمسك وأمسك يشبك أمير آخور وأرسلا إلى الإسكندرية في حادي عشر ذي الحجة، واستقر طرباي أتابك العساكر، واستقر(3/250)
برسباي نظام الملك وسودون بن عبد الرحمن دويداراً كبيراً، وكان جاني بك قد أغلظ على المباشرين بدواوين السلطان ففرحوا بالقبض عليه، وكان ابن نصر الله استعفى من الأستادارية فأعفي، واستقر أرغون شاه وبسط يده بالظلم فكفه برسباي، واتفقوا على أن ينفقوا نفقة البيعة لكل شخص خمسين ديناراً، ثم تأخرت ذلك.
وفيها انقرض ملك بني مرين من فاس بقتل صاحبها أبي سعيد عثمان بن أحمد بن إبراهيم بن علي بن عثمان بن يعقوب بن عبد الحق المريني، قتله مدبر مملكته عبد العزيز اللبابي وقتل إخوته وأولاده وأكابر البلد وأبطالها وشيوخها وكانت فتنة كبيرة، وأقام محمد بن أبي سعيد في المملكة واستبد هو بتدبير الأمور، ولم ينتظم من يومئذ لبني مرين أمر - فسبحان من لا يزول ملكه! وفيها لما رجع السلطان من الشام لاقاه الهروي فشكى من حسن ناظر القدس وطلب أن يعاد ما أخذ منه من المال وأن يعاد نظر القدس، فأمر بإعادة المال وهو ثلاثة آلاف دينار، ولم يجبه إلى تولية النظر بل رتب له على الجوالي كل يوم ديناراً.
وفيها همّ تغري بردى ابن قصروه بالعصيان، وأحضر كزل المؤيدي الذي كان هارباً من المؤيد ببلاد الروم، وجمع الأمراء بدار العدل بحلب وأمسك جماعة منهم وجاهر بالعصيان، فبلغ الظاهر ذلك فاستناب تاني بك البجاسي نائب طرابلس فوصل إلى حلب وصبته العساكر، وكان الأمير آق بلاد الدمرداشي الذي استقر أميراً كبيراً بحلب قد فر من تغري بردى لما أحس بقبض الأمراء فاستمر في فراره إلى حماة، ودخل جاني بك حلب وفر تغري بردى منها، وكتب الظاهر إلى عسكر الشام وغيرها بالتوجه إلى حلب للقبض على تغري بردى(3/251)
فتوجهوا، وكان نائب الشام تاني بك ميق العلائي ضعيفاً فتأخر بدمشق، وبلغ تغري بردى الخبر فاضطربت أحواله وأراد الفرار، فقام عليه أهل القلعة وأهل البلد وقاتلوه، فهرب على وجهه بغير قتال فوصل إلى العمق فاجتمع بكزل هذا وهو الصهيوني المؤيدي تحت حارم، وكان قد أرسله قبل ذلك ليجمع له التركمان فرجع وقد جمع عوناً، فأشار بأن اطرق أهل حلب بغتة، فلما هجموها بادر أهل البلد فصدوهم عن ذلك ورموهم بالحجارة وناوشوهم القتال واجتمعوا عليهم وقد نزلوا ليلاً فوقع عليهم مطر عظيم بحيث تفرق جمعه فخاف على نفسه فولى راجعاً إلى جهة الشمال واتفق له ذلك كله والأمراء الذين تجهزوا من الشام لقتاله قد وصلوا إلى المعرة فجدوا السير إلى أن دخلوا حلب، ولبس تاني بك خلعة النيابة ونزل بدار العدل، ثم انتخب عسكراً وتوجه في أثر تغري بردى إلى جهة كركر، وانقضت هذه السنة على ذلك.
ومن الحوادث في غيبة العسكر توجه قانباي الحمزاوي إلى الصعيد لإصلاح أمورها، ورجع إلى القاهرة في مستهل جمادى الآخرة.
وفيها اجتمع أهل الشيخونية فالتمسوا من نائب الغيبة أن لا ينفصل عنهم شمس الدين القرمشي من التحدث في أوقافهم، وكان إينال راس نوبة قد أقامه فأحسن التدبير وقرر الأمور، فلما ورد الخبر باستقرار إينال في نيابة حلب تعصب قوم للشيخ شرف الدين التباني شيخ المكان، وكان القرمشي قد ضيق عليه ومنعه من التصرف، فأغرى به أهل الشيخونية وتعصبوا للقرمشي فأعاده الحمزاوي، فأوقدت له الشموع وحضر وقت المغرب ووعدهم بالجميل، وغضب الشيخ شرف الدين من ذلك فصرف عنهم القرمشي، واستقر تقي الدين بن حجة موقع الدست في مكانه، فلما استقر قصروه راس نوبة أعاد القرمشي، فقام أهل الشيخونية وكتبوا على الشرف التباني محضراً بأنه لا يحسن المباشرة وغير ذلك.
وفي يوم الاثنين الرابع من شعبان نودي على النيل بثلاثين إصبعاً، فتراجع النيل(3/252)
وكان الوفاء في يوم السابع عشر من مسرى وكسر في الثامن عشر منه، وانتهت زيادته في هذه السنة في ويم الجمعة ثامن عشري مسرى ثمانية عشر ذراعاً ونصفاً.
وفي أواخر ذي القعدة غضب القاضي ولي الدين من بعض الأمراء فعزل نفسه، وكان السلطان مشغولاً بالمرض ثم أفاق فطلب أن يوصي، فحضر القضاة فكلمه الوزير في إعادة القاضي فأشار برأسه أن نعم، واستمر وكان ذلك في الثاني من ذي الحجة، ولما عاد الظاهر إلى القاهرة تتبع المؤيدية فنفى بعضاً وأخرج إقطاعات بعض وسجن بعضاً غير من قتل، وقدم المماليك الظاهرية فأمر بعضاً وكبر بعضاً، وارتفعت رؤس النوروزية، وأمر الظاهر بكتابة المراسيم لأمراء مكة والمدينة بالإعفاء من التقادم التي كانوا يدفعونها للأمراء الذين يحجون، فخف عنهم بسبب ذلك ظلم كان يعم الناس، لأنهم كانوا يفترضون غالب ذلك من التجار ولا يطمع أحد منهم في الوفاء، وشرط في المرسوم أن لا يتعرض أحد من أمراء الحجاز للتجار ولا للمجاورين باقتراض ولا نوع من أنواع الظلم، وأمر بنقش ذلك على العواميد التي في صف أبواب الصفا.
وفيها وقعت في النيل زيادة لم يعهد قبلها في الوقت الذي وقعت فيه، وذلك أنه بعد أن انحط وزرع الناس البرسيم وغيره وانقضى شهر بابه من الأشهر القبطية، وقطعت الزيادة في العشر الأخير من هاتور، وذلك بعد وقت انتهاء الزيادة بأربعين يوماً، فزاد زيادة مفرطة بحيث أغرق كثيراً من الزروع واستأنف أصحاب البرسيم زراعته، ثم ارتفع سعر القمح ثم انخفض يسيراً.
وفي خامس عشري ذي الحجة أعيد صدر الدين ابن العجمي إلى الحسبة وصرف القاضي جمال الدين البساطي، وأعيد علي بن قطيط إلى حسبة مصر وصرف ابن المهندس وكان باشرها ثلاثة أيام،(3/253)
وفي رجوع الحاج كان الرخاء كثيراً إلى الغاية، وكذا كان بمكة لكن كانت بضائع اليمن لم تلحق الموسم فكانت الأنواع التي يحتاج الأجل الهدية غالية بحيث يساوي الذي قيمته عشرة دراهم أكثر من عشرين، وكان البرد شديداً جداً بحيث أصبح الناس في تيه بني إسرائيل، فوجدوا الماء جليداً حتى في القرب والزمزميات.
وفي هذه السنة قرر الظاهر ططر التاج عبد الرحمن بن الكركي في قضاء حلب، وكان تاني بك ميق نائب الشام سأل الظاهر في ذلك عوضاً عن علاء الدين ابن خطيب الناصرية فأجابه، فحضر علاء الدين القاهرة بسبب السعي في عوده.
وفي ليلة الأحد سادس ذي الحجة مات الظاهر ططر، فلما كان ليلة العيد اضمر جاني بك الصوفي الغدر فذكر بعض الناس ذلك لبرسباي، فخاف جاني بك وركب بباب السلسلة فاجتمع الأمراء عنده، فاتفق أنهم قصدوا بيت تنبغا المظفري ليأخذوه معهم فلما تكاملوا عنده اتفقوا على قبض جاني بك ويشبك، وهرب قرمش ثم قبض عليه وجهز الثلاثة للإسكندرية.
واستقر برسباي نظام الملك ومدبر دولة الصالح أحمد بن الظاهر ططر، واستقر طرباي أتابك العساكر المصرية، وسودن بن عبد الرحمن دويداراً، وتنبغا المظفري أمير سلاح، وأزبك رأس نوبة وجقمق حاجب الحجاب، وقجق أميراً كبيراً.
ذكر من مات
في سنة أربع وعشرين وثمانمائة من الأعيان
أحمد بن إبراهيم بن ملاعب، الفلكي الحلبي، أصله من سرمين، انتهت رئاسة حل الزيج وعمل التقاويم، وكان مقرباً عند الأمراء بحلب وتقاويمه رائجة في البلاد، وعليه اعتمادهم عند إرادة الحروب، وله إصابات كثيرة يحفظها الحلبيون، وسمعت القاضي ناصر الدين البارزي يبالغ في إطرائه، ووصفه غيره بقلة الدين وترك(3/254)
الصلاة وانحلال العقيدة، وكان يقال عنه إنه يشرب المسكر، قال القاضي علاء الدين، ولم يكن عليه أنس أهل الدين، ونزح عن حلب خوفاً من الطنبغا القرمشي لكائنة جرت له معه، وهي أنه لما أراد أن يركب ومنع القرمشي قال له ابن ملاعب: ما هو جيد، فخالفه وركب فقتل، وذكر القاضي علاء الدين من إصاباته أنه قال لنوروز لما كان شيخ يحاصره بحماة كان استصحب ابن ملاعب معه فوعد بتخلخل عسكر شيخ ويحصل له نكدة، فلما أصبحوا لم يقع شيء إلى العصر فإن سهماً أصاب جبهة شيخ فجرحه فحصل في عسكره رهج واضطراب، قال: وسمعته مراراً يقول إن هذا الذي أقوله ظن وتجربة لا قطع فيه، وسكن صفد ومات بها في هذه السنة وقد جاوز الثمانين.
أحمد بن أحمد بن عثمان، الدمنهوري، شهاب الدين المعروف بابن كمال، كان كثير الحج والمجاورة، وكان يعظ الناس بمكة عند باب العمرة، ويكثر من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم حتى ضبط أنه صلى عليه في يوم واحد مائة ألف مرة، مات في آخر المحرم عن بضع وسبعين سنة.
أحمد بن هلال، الحلبي شهاب الدين، اشتغل قديماً بالقاضي شمس الدين بن الخراط وغيره، وكان مفرط الذكاء، وأخذ التصوف عن شمس الدين البلالي، ثم توغل في مذهب أهل الوحدة ودعا وصال كثير الشطح وجرت له وقائع، وكان أتباعه يبالغون في إطرائه ويقولون: هو نقطة الدائرة - إلى غير ذلك من مقالاتهم المستبشعة.
الطنبغا القرمشي كان من أمراء الظاهر، ثم كان ممن انتمى بعد الظاهر إلى يشبك، ثم كان في الذين انتقلوا في البلاد الشامية في الفتن في الأيام الناصرية، وكان في الآخر مع شيخ، فلما ولي النيابة بحلب جعل حاجباً كبيراً، ثم قرره أتابكا وفي زمن(3/255)
سلطنته ودخل معه مصر، ثم تنقل في الإمرية إلى أن استقر أتابكا، ثم جهز المؤيد إلى حلب كما تقدم وقتل بدمشق، وكان من خيار الأمراء - رحمه الله.
جقمق كان من أبناء التركمان، فاتفق مع بعض التجار أن يبيعه ويقسم ثمنه بينهما ففعل، فتنقل في الخدم حتى تقرر دويداراً ثانياً عند الملك المؤيد قبل سلطنته ثم استمر، وكان يتكلم بالعربي لا يشك من جالسه أنه من أولاد الأحرار، ثم استقر دويداراً كبيراً إلى أن قرره الملك المؤيد في نيابة الشام، فاظهر العصيان بعد موته فآل أمره إلى أن قتل صبراً في شعبان هذه السنة.
شيخ بن عبد الله المحمودي كان قدومه القاهرة على ما أخبرنا به في السنة التي قدم فيها أنص والد برقوق، فعرض على برقوق قبل أن يتسلطن فرام من صاحبه بيعه فاشتط في الثمن وكان ابن اثنتي عشرة سنة ولكن كان جميل الصورة، فاتفق موت الذي جلبه فاشتراه محمود تاجر المماليك بثمن يسير وقدمه لبرقوق فأعجبه، واستمر ينسب لمحمود وتربى في المماليك الكتابية ثم جعل خاصكياً ثم جعل من السقاة، ونشأ ذكياً فتعلم الفروسية من اللعب بالرمح ورمي النشاب والضرب بالسيف وغير ذلك، ومهر في جميع ذلك مع جمال الصورة وكمال القامة وحسن العشرة، وأمر عشرة في أيام الظاهر، وكان ممن سجن من ممالك الظاهر في فتنة منطاش بخزانة شمائل، فنذر إن نجاه الله منها أن يجعلها مسجداً، ففعل ذلك في سلطنته،(3/256)
وتأمر على الحاج سنة مات الظاهر سنة إحدى وثمانون، ثم لم يزل في ارتقاء إلى أن ولي نيابة الشام، وجرت له من الخطوب والحروب ما مضى مفصلاً في الحوادث، وكانت مدة كونه في السلطنة ثماني سنين وخمسة أشهر وثمانية أيام، وأقام في الملك عشرين سنة ما بين نائب ومتغلب وأتابك وسلطان، وكان شهماً شجاعاً عالي الهمة كثير الرجوع إلى الحق محباً في العدل متواضعاً، يعظم العلماء ويكرمهم، ويحسن إلى أصحابه ويصفح عن جرائمهم، يحب الهزل والمجون لكن مستتراً، ومحاسنه جمة - والله يتجاوز عنه يمنه وكرمه! قال العيني في تاريخه: هو من طائفة من الجراكسة يقال لهم: كرموك، ويقال إنه من ذرية إينال بن أركماس بن شرباش ابن طنجا ابن جرباش بن كرموك، وكان كرموك كبير طائفته وكذلك نسله، ولما مات كان في الخزانة ألف ألف دينار وخمسمائة ألف دينار من الذهب على ما قيل، فلم تمض السنة وفيها دينار واحد.
ططر بن عبد الله الظاهري كان من مماليك الظاهر ثم كان في خدمة ابنه الناصر إلى أن أخرج إلى البلاد الحلبية بسبب جكم، فلما رجع الناصر إلى مصر استمر ططر مع جكم، ثم لما قتل جكم استقر أميراً بحلب وتمريغا المشطوب يومئذ النائب بحلب، فاستمر فيها مدة طويلة وهو في أثناء ذلك ينتمي لنوروز إلى أن وقع بين شيخ ونوروز وانكس نوروز استمر مع المؤيد، فلما اقتسما البلاد بعد قتل الناصر قدم مصر مع المؤيد، واستمر في خدمته إلى أن تسلطن وحاصره مع النوروزية وهو يظهر خدمة المؤيد ويداريه ويبالغ في ذلك إلى أن أمره طبلخاناة ثم أمره تقدمة، ثم لما توجه لقتال قانباي استنابه بالإصطبل، ثم لما مات المؤيد استقر نظام الملك وخرج بالعساكر إلى الشام، ثم تسلطن بعد أن رجع من حلب وقدم مصر، فلم تطل مدته كما مضى في الحوادث، وكان يحب العلماء ويعظمهم مع حسن الخلق والمكارم الزائدة والعطاء الواسع. ذكر(3/257)
لي قبل أن يتسلطن قي ليلة المولد النبوي في ربيع الأول من هذه السنة أنه كان في آخر الدولة المؤيدية في الليلة التي مات في صبيحتها المؤيد قد ضاقت يده لكثرة ما كان يصرف وقلة متحصلة حتى أن شخصاً قدم له مأكولاً فأراد أن يكافيه عليه فلم يجد قي حاصله خمسة دنانير إلى أن أرسل يقترضها من بعض خواصه فكلهم يحلف أنه لا يقدر عليها إلى أن وجدها عند أحدهم قلم يكن بين ذلك وبين أن استولى على المملكة بأسرها وعلى جميع ما في الخزائن السلطانية التي جمعها المؤيد سوى سبعة أيام؛ وأمرني أن أكتب هذه الواقعة قال في التاريخ فإنها أعجوبة، ولما وصل إلى دمشق وقتل الطنبغا القرمشي ومن معه قرر في نيابة حلب إينال الساقي، ثم لما قدم حلب أقام بها أربعين يوماً أو أكثر وقرر في نيابتها تغرى بردى بن قصروه، وبعد السلطنة نقل تانى بك البجاسي من نيابة حماة إلى نيابة طرابلس وقرر في نيابة حماة جارقطلي.
عبد الله بن محمد بن عمر بن أبي بكر بن عبد الوهاب بن علي بن نزار.
الظفاري عفيف الدين، كان جده الأعلى عبد الوهاب انتزع ظفار من يد الجواد أي بكر بن إبراهيم بن المنصور عمر بن علي بن رسول، واستمر في ملكها وتناوبها أولاده إلى أن حاربهم علي بن عمر بن كثير الكثيري فانهزم عبد الله وأخوه أحمد، فأما أحمد فانقطع خبره، وأما عبد الله فاستمر يتنقل إلى البلاد إلى أن دخل مكة، ثم دخل القاهرة(3/258)
وحيداً فقيراً فحضر عندي وشكى إلي حاله فبررته، وسكن بالجامع الأزهر مع الفقراء إلى أن مات.
عبد الرحمن القاضي جلال الدين بن شيخ الإسلام سراج الدين عمر بن رسلان بن نصير بن صالح بن عبد الخالق البلقيني، ولد في جمادى سنة ثلاث وستين وسبعمائة وتفقه بأبيه، وكان ذكياً جداً فحفظ التدريب وبحث في الحاوي، ودخل مع أبيه إلى دمشق لما ولى القضاء وهو صغير، ولم يقف له في طول عمره على سماع شيء لا بمصر ولا بدمشق إلا على والده ومع ذلك فكان من عجائب الدنيا في سرعة الفهم وجودة الحافظة، وأول شيء ولى توقيع الدست، ثم ولى قضاء العسكر بعد موت أبيه بدر الدين، وكان شديد البأو تياها، ومن لم يقل له: قاضي القضاة، يغضب منه، وله مع القضاة وغيرهم وقائع، فلما تحقق موت صدر الدين المناوي ووثوب القاضي ناصر الدين ابن الصالحي على المنصب شق عليه وسعى إلى أن ولى في رابع جمادى الآخرة سنة أربع وثمانمائة كما تقدم، ثم سعى عليه الصالحي وعاد ثم مات فولى الإخنائي، ثم سعى على الإخنائي فعاد، ثم تناوب معه مراراً وفي آخرها استقرت قدمه من سنة ثمان وثمانمائة إلى أن صرف بالباعوني بعد قتل الناصر سنة خمس عشرة، ثم أعيد عن قرب من شهر واحد واستمر(3/259)
إلى أن صرف بالهروي سنة إحدى وعشرين، ثم أعيد بعد عشرة أشهر فلم يزل إلى أن مات - وقد مضى بسط ذلك في الحوادث، وكان قد اعتراه وهو بالشام قولنج فلازمه في العود وحصل له صرع فكتموه، ولما دخل القاهرة عجز عن الركوب في الموكب فأقام أياماً عند أهله، ثم عاوده الصرع في يوم الأحد سابع شوال، ثم عاوده إلى أن مات وقت أذان العصر من يوم الأربعاء عاشر شوال، وصلي عليه ضحى يوم الخميس ودفن عند أبيه، وتقدم في الصلاة عليه الشيخ شمس الدين ابن الديري، قدمه أولاده، ولم تكن جنازته حافلة، وكان يذكر الناس في التفسير كل يوم جمعة من حين وفاة أبيه إلى شوال سنة ثلاث وعشرين، وكان ابتدأ فيه من الموضع الذي انتهى أبوه، وقطع عند قوله: " من عمل صالحاً فلنفسه ومن أساء فعليها وما ربك بظلام للعبيد ".
عبد القادر بن إبراهيم بن محمد بن إبراهيم بن عبد الله بن يوسف الصلاح ابن الزكي الأرموي المسند، مات ليلة الاثنين ثاني عشر شوال من هذه السنة.
عبد الوهاب بن أحمد بن صالح بن أحمد بن خطاب، البقاعي الفاري - بالفاء والراء الخفيفة - الدمشقي أبو نصر تاج الدين الزهري، ولد سنة سبع وستين، وحفظ التمييز وغيره، واشتغل على والده وعلى النجم ابن الجابي والشريشي وغيرهم، ونشأ هو وأخوه عبد الله على خير وتصون، ودرس في حياة أبيه بالعادلية الصغرى واستمرت بيده إلى أن مات، ودرس بعد أبيه بالشامية البرانية، وولي إفتاء دار العدل، وناب في الحكم(3/260)
مدة طويلة، وولاه الأمير نوروز القضاء بإتقان الفقهاء عليه بعد موت الإخناي فباشره مباشرة حسنة، فلما غلب المؤيد على نوروز صرفه ولم يعرض له بسوء فلزم الشباك الكمالي بجامع دمشق يفتي وبالشامية يدرس، وكان حسن الرأي والتدبير ديناً، وله حظ من عبادة إلا أنه لم يكن مشكوراً في مباشرة الوظائف؛ مات في شهر ربيع الآخر. قال القاضي تقي الدين الأسدي: كان يستحضر التمييز إلى آخر وقت، وكان عاقلاً ساكناً، كثير التلاوة يقوم الليل، كثير الأدب والحشمة، طاهر اللسان؛ مات في ربيع الأول.
علي المعروف بالشيخ حدندل، كان أحد من يعتقد وهو مجذوب؛ مات في صفر.
قجقار القردمي، أحد الأمراء الكبار، ولي نيابة حلب في زمن المؤيد سنة عشرين ثم نقله منها إلى دمشق أميراً، ثم أقدمه القاهرة وأمره، فلما مات المؤيد أراد أن يتسلطن فعوجل وأمسك قبل دفنه ثم قتل في هذه السنة، وكان جواداً مهاباً، مثير الحشمة والأدب، وكأنه بلغ الستين، وملت في سلطنة الناصر تنقلت به الأحوال إلى أن صار في صحبة المؤيد لما ولي نيابة حلب فاستمر إلى أن تسلطن فأمره تقدمة(3/261)
فصار من أمراء الألوف، ثم ولاه نيابة حلب سنة عشرين عوضاً عن اقباي، فلما توجه السلطان إلى الروم كان في صحبته فقرره في حصار كركر مع عدة أمراء، فلما طرق قرأ يوسف البلاد فر قجقار إلى حلب، فبلغ السلطان ذلك فغضب عليه ثم رضى عنه وجهزه إلى الشام بغير إمرة، ثم أعيد لما رجعوا إلى القاهرة، ثم تجهز مع ولد السلطان إلى بلاد ابن قرمان، فلما عاد عظم قدره، وامتدت عينه عند ضعف المؤيد إلى السلطنة وحرص على ذلك، فسبقه ططر فقبض عليه فكان آخر العهد به.
كردى بك أمير التركمان بالعمق ابن كدير التركماني، استولى على العمق من أعمال حلب بعد موت ابن صاحب الباز، وكان يقع بينه وبين أمراء حلب فتارة يصافيهم وتارة ينابذهم، وكان قد كثر جمعه بعد قتل جكم وطمع في الاستيلاء على ما حوله من القلاع فجمع له تمربغا المشطوب نائب حلب في أيام الناصر عسكراً وقصده وهو بطرف العمق من جهة الشمال فوقعت الوقعة، وكانت الكسرة على العسكر الحلبي فقوى تمر كردي بك، وكان إذا ولي دمرداش نيابة حلب يطمئن ويصانعه بخلاف غيره، ولما ولي الملك المؤيد نيابة حلب في أواخر دولة الناصر، نازله بالعمق وكردى بك تحت الجبل بالقرب من بقراس، فهجم كردى بك بعسكره على شيخ، فثبت له إلى أن وقعت الكسرة على عسكر كردى بك فانهزم وتشتت عسكره، واستمر كردى بك هارباً وخرج الناصر طالباً القبض على شيخ ونوروز، فكان من أمره ما كان وقتل وصارت السلطنة للمؤيد، فلما ولي دمرداش نيابة حلب حضر كردى بك ووافقه على معاملة الأمير طوخ وهو نائب حلب، فقوى طوخ ورجع كردى بك وصحبته دمرداش إلى العمق، ثم توجه إلى مصر وآل أمره إلى القتل، واستمر كردى بك في بلاده وأظهر طاعة المؤيد، فلما مات ودخل الظاهر ططر حلب في سنة أربع وعشرين حضر كردى بك، واتفق أن ططر كان من(3/262)
جملة الأمراء صحبة تمربغا المشطوب فتذكر الواقعة لما رآه فأمر بشنقه، فقتل وشنق وعلقت رأسه بجف كلب، وذلك في آخر رجب من هذه السنة؛ وكان كردى بك قليل الشر للمسافرين والقوافل في أيامه آمنة - نقلته من ذيل تاريخ حلب.
محمد بن إبراهيم، البوصيري شمس الدين الشافعي، كان خيراً ديناً، كثير النفع للطلبة، يحج كثيراً، ويقصد الأغنياء لنفع الفقراء، وربما استدان للفقراء على ذمته ويوفي الله عنه، وكانت له عبادة، وتؤثر عنه كرامات، مات في سادس ربيع الآخر.
محمد بن أحمد، ناصر الدين الهذباني الكردي الطبردار، كان من أبناء الأجناد، فتعلق بمجالسة العلماء فصحب الكمال الدميري ثم نور الدين الرشيدي، وكان يتدين ويسرد الصوم ويواظب الجماعة ولا يقطع صلاة الصبح بالجامع الأزهر، يقوم نحو ربع الليل يتمشى من منزله بحارة بهاء الدين إلى الأزهر فيصلي به الصبح كل يوم، وكان يكتسب من التجارة في الحوائص ثم كبر وترك، لازمني مدة، وكان على ذهنه أشياء.
محمد بن خليل بن هلال، عز الدين الحاضري الحلبي الحنفي، ولد في إحدى الجماديين سنة سبع وأربعين وسبعمائة، ورحل إلى دمشق فأخذ بها عن جماعة منهم ابن أميلة، قرأ عليه سنن أبي داود والترمذي، ودخل القاهرة فأخذ عن الشيخ ولي الدين المنفلوطي والشيخ جمال الدين الأسنوي، ورحل إلى القاهرة مرة أخرى وجمع على العسقلاني إمام الجامع الطولوني، وتفقه ببلده وحفظ كتباً نحو الخمسة عشر كتاباً في عدة فنون، وأخذ عن الشيخ حيدر وغيره، ورافق الشيخ برهان الدين سبط ابن العجمي، وأخذ عن مشايخها كثيراً سماعاً واشتغالاً، وقرأ على شيخنا العراقي في علوم الحديث وأجاز له، ولازم العلم إلى أن انفرد وصار المشار ببلاده، وولي(3/263)
قضاء بلده ودرس وأفتى، وكان محمود الطريقة مشكور السيرة، مات في شهر ربيع الأول، وصليت عليه صلاة الغائب بالجامع الأزهر في أواخر جمادى الأولى، قال البرهان المحدث بحلب - ومن خطه نقلت: لا أعلم بالشام كلها مثله ولا بالقاهرة مثل مجموعه الذي اجتمع فيه من العلم الغزير والتواضع والدين المتين والمحافظة على صلاة الجماعة والذكر والتلاوة والاشتغال بالعلم، قلت: وكان المؤيد يكرمه ويعظمه - رحمها الله تعالى. محمد بن سويد شمس الدين المصري أخو بدر الحسن مات في هذه السنة بالصعيد محمد بن عبد الرحمن، ابن أبي الخير محمد بن أبي عبد الله، الفاسي رضى الدين أبو حامد الحسني المكي، ولد في رجب سنة خمس وثمانين وسبعمائة، وسمع الحديث وتفقه ودرس وأفتى، وولي قضاء المالكية في شوال سنة سبع عشرة عوضاً عن مستنيبه وابن عمه القاضي الشيخ تقي الدين، ثم عزل عن قرب فناب عن القاضي الشافعي، مات في ربيع الأول، وكان خيراً ساكناً متواضعاَ ذاكراً للفقه، وأخوه محب الدين أبو عبد الله محمد كان أسن من أخيه، أجاز له ابن أميلة وغيره، ومهر في الفقه.
محمد بن البرجي، بهاء الدين، ولي الحسبة مراراً ووكالة بيت المال وكان قد صاهر الشيخ سراج الدين على ابنته فولد له منها ولده بدر الدين محمد، ثم ماتت فتزوج بدر الدين ابن الشيخ المدعوة بلقيس فأولدها أولاداً، وكان استقر في شهادة العمائر السلطانية بواسطة ططر، ومات في أول صفر عن سبعين سنة.
يوسف الصفي - نسب إلى الصف من الإطفيحية، كان شيخاً مهاباً كثير البر والإيثار للفقراء قائماً بأحوالهم يأخذ لهم من الأغنياء، واتفق في آخر عمره(3/264)
أن شخصاً جاء فقال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم يقول لي قل للشيخ يوسف يزورنا، فحج ثم رجع الى القدس ثم رجع فمات، وله كرامات كثيرة.
لون الدين السطحي، كان مقيماُ بسطح جامع الحاكم وللناس فيه اعتقاد، انقطع ثلاثين سنة لا يخرج من منزله إلا يوم الجمعة، يغتسل ويعود، وكانت جنازته مشهودة.(3/265)
سنة خمس وعشرين وثمانمائة
استهلت يوم الجمعة آخر يوم من.... وفيها ولدت فاطمة بنت القاضي جلال الدين البلقيني ولداً خنثى وفرج أنثى من تقي الدين رجب ابن العماد قاضي الفيوم، وقيل إن له يدين زائدتين، نابتتان في كتفيه، وفي رأسه قرنان كقرني الثور، فيقال: ولدته ميتاً، ويقال: بعد أن ولدته.
وفيها وقع بين أمير مكة حسن بن عجلان وبين القواد فتنة وتعصبوا عليه مع ابن أخيه رميثة بن محمد بن عجلان، فاستعان حسن بمقبل أمير ينبع فخرج في عسكره إلى جهة اليمن، فصالح القواد حسن بن عجلان واخرجوا رمثية عنهم فتوجه الى جهة اليمن ورجع مقبل إلى بلده، ودخل الركب المصري من الحجاز في ثالث عشري المحرم، فأمسك تمرباي أمير الركب وأرسل إلى دمياط بطالا، وفي صفر نفي ايتمش إلى القدس بطال وكان قد عظم في دولة ططر وأراد الاستقلال بتدبير المملكة ونازع المباشرين فعملوا عليه حتى نفي، ثم أمر بعوده إلى القاهرة بعد ذلك عند إمساك طرباي، وفي ليلة رابع عشرة خسف القمر خسوفاُ شديداً بحيث لم يبق منه إلا اليسير وذلك في الثلث الأخير من الليل ولم يشعر أكثر الناس به،(3/266)
وفيه انقطع طرباي عن الخدمة السلطانية غضباً من برسباي، لأن بعض الأمراء مات فرام طرباي أخذ إمرته لبعض أصحابه فعارضه برسباي فتوجه طرباي إلى الربيع عند خيله بالجيزة، فأراد برسباي ملاقاته فأمر الوزير بإرسال ما جرت به العادة لأمثاله وعتبه على تأخير، وقيل إنه ضرب الوزير بسبب تأخير ذلك فبادر هو والأستادار وناظر الخاص إلى إرسال ما جرت العادة وذلك في العشرين من صفر، واستمر طرباي عند خيله فروسل فامتنع حتى سار بشبك الأعرج أحد الأمراء فخلف له وطيب خاطره، فلما استهل شهر ربيع الأول حضر الخدمة في يوم الثلثاء ثاني هذا الشهر؛ ثم أشاع برسباي أنه يريد أن يعمل المركب بالإيوان لحضور رسل ابن قرا يوسف، فحضر أهل المركب ومن جملتهم طرباي. فلما تكاملوا قيل لههم: الخدمة في الإيوان اليوم بطالة، فانصرفوا وأحضرت الرسل بالقصر ثم جلسوا في السماط فقال برسباي لطرباي: أنتم ما تعرفون أني كبير الأمراء؟ قال: نعم، قال: فلم تخالفون أمري؟ وأشار بالقبض على طرباي، فقام فجذب السيف فحمى نفسه، فهجم عليه قصروه أمير آخور فناوشه، فضربه برسباي من خلفه فجرح يده فسقط منها السيف، فأمسك وأمسك معه أميران من جهته وأرسلوا إلى الإسكندرية صحبة إينال الششماني فاعتقلوا بها.(3/267)
وفي شهر ربيع الأول نازل تغري بردى بن قصوره الذي كان نائب حلب بعض القلاع فهزمه التركمان، فاستجار ببعضهم فأمنه، وفيه هبت ريح ذات سموم بالكرك وما حولها فأفسدت المزارع وقل الماء جداً بتلك البلاد وبالقدس وما حولها وتفرق أهل تلك البلاد من القحط.
وفي شوال انتزع وقف الطرحى من القاضي الحنفي، ثم سعى أشد سعي حتى أعيد له وضم في نظره شخص آخر، وانتزع وقف قراقوش من القاضي الشافعي وأضيف إلى التاج الوالي وأمره أن يجمع متحصله ويبني منه خان السبيل، ففعل ذلك وجدد بناءه وقرر فيه غير من كان يتناول ريعه، وألزم أولاد البلقيني بغرامة مبلغ جيد بسبب ذلك، وألزم من كان يرتب عليه من الأغنياء بإعادة ما قبضوا منه، فاشتد الأمر عليهم ثم أفرج عنهم وفطموا عنه، وفيه عمل المولد السلطاني في حادي عشر ربيع الأول وحضر الملك الصالح والأمراء.
وفي الخامس عشر منه قبض على مرجان الخازندار وسلم لأرغون شاه الأستادار وكان حينئذ زماماً، فطلب منه مال كثير وضرب بعض أتباعه ضرباً شديداً ثم استقر مال مصادرته على ثلاثين ألف دينار، فعجل منها عشرين ألف دينار وضمنه بعض الأكابر بالعشرة وأطلق في آخر الشهر.
وفيه ادعى على شمس الدين محمد بن عبد المعطي الكوم الريشي الحنفي أنه قذف الشيخ شمس الدين محمد بن حسن الحنفي بالبغاء وأنه هو الفاعل به وأن ذلك كان بواسطة شهاب الدين الكوم الريشي أحد قراء الليث، وكانت الدعوى عليه عند قاضي القضاة الحنفي زين الدين التفهني وكان يكرهه لبذاء لسانه، فضربه القاضي بعد أن قامت عليه(3/268)
البينة، وكان الذي قام عليه بالدعوى شهاب الدين أحمد بن عبيد الله أحد نواب الحنفي، ويقال إن ممن شهد عليه الشيخ شرف الدين التباني والقاضي بدر الدين ابن التنيسي، فأرسل بعد ضربه إلى الحبس مكشوف الرأس، ثم أطلق بعد ثلاثة أيام بشفاعة نظام المملكة، واتفق حضور الذي ضربه عنده ومعه شهاب الدين الذي ادعى عليه فسأله عن القصة فتكلم ابن عبيد الله بشيء، فنهره كاتب السر فقال له الأمير: أنت الذي كان أخي فلان يتعشقك وغرم عليك مالاً كثيراً! وأمر بالتوكيل به وعزله من النيابة فاعتقل، ثم شفع به بعد أيام فأطلق وأعيد إلى عادته في النيابة وكان قد بالغ في أذى الكوم الريشي فعد ذلك عقوبة له، ورثوا للكوم الريشي مع بغضهم فيه لجنونه وتعترسه وكثرة مجونه، ولما أطق الكوم الريشي رافع بدر الدين محمود بن عبيد الله أخا الشهاب المذكور عند الأمير الكبير وأنه يفعل أشياء منكرة، فأحضره الأمير وضربه بحضرته وكتب عليه قسامة أن لا يحكم، ثم شفع فيه بعد مدة فأعيد.
وفي خامس شهر ربيع الآخر قبض الوزير الأستادار أرغون شاه على كريم الدين ابن الوزير تاج الدين الذي ولي الوزارة والأستادارية ثم كتابة السر فيما بعد وكان يباشر ديوان الاستيفاء المفرد عن أبيه، ثم أطلق بعد أن صودر على مال.
وفي السادس منه قدم تاني بك ميق نائب الشام فخلع علبه باستمراره وعظمه برسباي(3/269)
جداً وتكلم الأمير الكبير معه في أمر السلطنة فوافقه على ذلك، فلما كان في الثامن من ربيع الآخر يوم الأربعاء قبل الظهر بقدر درجتين عقد له الملك وهو في المرقد بالأشرفية ثم ألبس الخلعة وجلس على التخت وفوض الخليفة وعقدت له البيعة ولقب الملك الأشرف، وخلع في صبيحة ذلك اليوم علي تنبغا المظفري واستقر أميراً كبيراً أتابك العساكر وتحول إلى البيت الذي فيه طرباي مقابل القلعة وانتقل إلى بيت ططر وغيرها من بيوت السلطنة واستقر فيها الأشرف، واستقر آقبغا التمرازي أمير مجلس عوضاً عن قجق بحكم انتقاله إلى وظيفة أمير سلاح عوضاً عن تنبغا واستقر تنبغا المظفري أتابك العساكر، وخلع الملك الصالح محمد فكانت مدة سلطنته أربعة أشهر، وخلع على نائب الشام خلعة السفر واستقر معه حسين بن السامري في نظر الجيش، وانفصل ابن الكشك عن نظر الجيش وبقي معه قضاء الحنفية وسافر، وعمل الأشرف موكباً حافلاً، وأحضرت رسل الفرنج الكسلان، ومنع السلطان من تقبيل الأرض له واقتصر على يده ودوره.
وفي ليلة الاثنين ثالث عشر ربيع الآخر أمطرت السماء بالقاهرة مطراً استمر الليل كله وقطعة من النهار وذلك في حادي عشر برموده وهو من المستغربات، وفي الشعر الذي استقر فيه الأشرف في السلطنة أمر بإبطال القدر الذي كان يأخذه من يسافر بالأمير المنفصل عن إمرته إذا حبس أو نفي، وكان المقرر لذلك ألفي دينار إلى ألف دينار إلى دونها بحسب مقاديرهم فأبطل ذلك وأمر أن ينقش في اللوح الرخام فوق النقش الذي جعله السالمي في دولة الناصر فرج بسبب المرتجع من الإقطاع عند انتقال الإمرة - وقد تقدمت الإشارة في الحوادث.(3/270)
وفي جمادى الأولى جهز الأشرف إلى مكة مقبل القديدي بسبب عمارة ما وهي من المسجد الحرام وطلب من القاضي الشافعي ما كان القاضي جلال الدين البلقيني ذكر للمؤيد أنه تحصل عنده من ذلك وهو سبعة آلاف دينار فكشف القاضي الشافعي عن ذلك فوجد المختص بعمارة الحرمين قدر ألقي دينار أو يزيد قليلاً وباقي ذلك لعدة جهات من أوقاف وغيرها كانت مودعة تحت يد الجلال، فلم يقبل الأشرف ذلك وألزم المباشرين على الأوقاف المتعلقة بالحرمين بذلك، فلاذوا بالقاضي فأذن لهم في الاقتراض، ثم ضاق بهم الأمر فتعلق على ورثة جلال الدين فاستعيدت منهم ألف دينار كان والدهم أخذها من مال الحرمين على أنها من معلومه وكان أقام مدة طويلة لا يتناول من مال الحرمين معلوماً، فشهد عليه القاضي علاء الدين الحنبلي أنه كان تبرع بذلك، وكان نائب دمشق تاني بك ميق ونائب حلب تغري بردى ونائب حماه تاني بك البجاسي ونائب طرابلس أركماس الجلباني ثم صرف واستقر بعده ثم صرف تغري بردى من حلب إلى بهنسا وتحصن بقلعتها هو وكزل الذي كان هرب من المؤيد إلى ملطية، ونقل البجاسي إلى نيابة حلب وتولى نيابة حماه جارقطلي الصهيوني.
وفيه صرف شرف الدين بن تاج الدين عبد الوهاب ابن نصر الله من نظر الخزانة السلطانية وغيرها وأعيد ذلك لزين الدين عبد الباسط، فكانت ولاية شرف الدين لذلك نحو سبعة أشهر، وانصرف غير مشكور لبأو كان فيه ودعوى عريضة.
وفي الثامن من جمادى الأولى نودي أن لا يباشر نصراني في ديوان أحد من الأمراء، ثم انتقض ذلك بعد مدة، وكذا كان ضيق عليهم في الأيام المؤيدية ثم تراجعوا قليلاً قليلاً.(3/271)
وفي التاسع منه جدد كاتب السر علم الدين ابن الكويز خطبة بالمدرسة البقرية مقابل باب منزله لتعاظمه أن لا يتوجه إلى الجامع الحاكمي ماشياً وإشفاقه من الإنكار عليه أن يتوجه راكباً مع قرب المسافة. وفي هذا الشهر أشار كاتب السر أيضاً بإبطال المارستان الذي أتخذه الملك المؤيد تحت القلعة مكان الأشرفية الشعبانية وأقام فيه خطيباً ظناً منه أنه يتقرب بذلك.
وفي هذه السنة كان فصل الربيع مختلف المزاج جداً ما بين حر شديد وسموم وما بين برد شديد وما بين ذلك.
وفي أواخر رمضان صرف أرغون شاه من الأستادارية وقرر فيها أيتمش الخضري.
وفي هذا الشهر حدثت كائنة غريبة وهو أن عبد الرحمن السمسار في الغلال كان اشترى دارا من ابن الرندي بشاطئ النيل فزخرفها وأتقنها وغرم عليها على ما يقال أكثر من خمسة آلاف دينار وقفها على جهات، وجعل صورة الوقف في خشب محفوراً فيه يقرأ كل أحد فلما مات شهد جماعة عند بعض نواب الحنفي بأنها وقف وذكروا شروطها بخلاف ما ظهر بعد ذلك محفوراً في الخشب. فاتفق أن المباشرين بديوان المفرد وجدوا على عبد الرحمن مسطوراً لجهة السلطان بمال جزيل فلم يوجد له ما يوفى منه فأمر ببيع داره، فقيل له إنها وقف فهدمها، فهدمت فكانت كائنة شنيعة، وبيع رخامها على حدة وخشبها على حدة، ثم باع ورثته أنقاضها، وبلطت الوقفية الأصلية الزور.
وفي جمادى الأولى ألزم الأشرف البزازين أن لا يبيعوا شيئاً من القماش بالنسيئة ولا يشتروه، فحصل لهم بذلك ضيق كبير، ثم أفرج عنهم وألزموا أن لا يخبروا الشراء مبهماً، بل إن كان نقداً فنقد وإن كان نسيئة فنسيئة.(3/272)
وفي عاشر جمادى الآخرة قدم الهروي القاهرة فنزل بمدرسة ابن الغنام وهرع الناس السلام عليه إلا الديري وابن المغلي، ثم رام الهروي السعي في شيء من الوظائف، فعاجله كاتب السر ابن الكويز، فألزمه الأشرف بالرجوع إلى بيت المقدس، فتباطأ إلى نصف رجب يترجى الإقبال فلم يجب إلى ذلك وخلع عليه خلعة السفر فسافر.
وفي جمادى الآخرة اختطف تمساح في البحر - رجلاً من الصيادين كان نزل ليقبض على سمكة صادها فصاده التمساح وصار يصعد به إلى وجه الماء حتى يشاهده الناس ثم يغطس به إلى أن هلك.
وفيه شنق بعض العوام نفسه قهراً من زوجته كان طلقها وهو يحبها، فاتصلت بغيره، وركلته فيه فقتل نفسه، وفيه جب شخص عجمي مذاكيره بسبب أمرد كان يعشقه ولا يقدر عليه، فاتفق أنه أمكنه من نفسه فلم ينتشر ذكره فقطعه، فحمل إلى المارستان فمات. وفي أواخره قدم جار قطلي نائب حماة، فخلع عليه وأعيد ا.
وفي رجب أفرج عن الخليفة العباسي الذي ولي السلطنة وكان المؤيد سجنه بالإسكندرية فنقله إلى دمياط لكونها أبسط له، فلم يوافق واستأذن أن يقيم بالإسكندرية بغير سجن، فأجيب إلى ذلك.
وفي ثامن رجب حدث بالقاهرة زلزلة لطيفة،(3/273)
وفي أوائله عصى إينال نائب صفد وأطلق المسجونين بها وهم جلبان أمير آخور وإينال الجكمي رأس نوبة كان ثم نائب حلب ويشبك الأنالي الأستادار ووجد بصفد نحو مائة ألف دينار فتقوى بها وأرسل كتبه إلى الأمراء، فلم يوافقه من بالقدس فأرسلوا كتابه مصر فكوتب مقبل الذي كان دويدار وقرر - بعد قتل جقمق نائب الشام إمرة بدمشق بأن يتوجه إلى صفد نائباً بها، وكوتب نائب الشام فجمع العسكر وتوجه إلى صفد، فلما كان في العشر الأوسط من رجب أوقع إينال صفد - بالأعراب فكسروه، ففارقه الأمراء المسجونين الذين - كان أطلقهم فتوجهوا إلى دمشق طائعين، ثم أراد تغري بردى الكبكي الوثوب بنائب دمشق ففطن له فقتل. واتهم الأمراء الذين جاءوا طائعين بالخديعة في ذلك فقبض عليهم، ثم أطلق جلبان وسجن الآخران.
وفي هذه السنة كان المطر والبرد بالحجار شديداً، وأمطرت بنواحي صفد برداً بلغ وزن كل واحدة ثلاثين رطلاً بالمصري، ووجدت على باب بعض البيوت منها بردة لابدة مثل الثور.
وفي الثالث والعشرين من شهر رجب وصل قاصد النائب بالإسكندرية ومعه قاصد من صفد بكتاب يستدعيه فقبض على قاصد نائب صفد وخلع على قاصد نائب الإسكندرية، واستمر مقبل الذي استقر في نيابة صفد يحاصر نائبها المنفصل في القلعة إلى شوال، فنزل إينال بالأمان، فقبض عليه ودقت البشائر بالقاهرة، وأرسل بشمس الدين ابن العسال وكان قد ولي كتابة السر بها ونظر الجيش، فضرب بالمقارع بحضرة السلطان لكونه كاتب عن نائبها إلى نائب الإسكندرية وأمر بقطع يده فشفع به، وصادف زيادة النيل في ذلك اليوم يعني ثالث رجب عشرين إصبعا فسر الناس به وتباشروا بالرخاء والأمن، ثم نودي عليه في ثامن عشري رجب خمسين إصبعا، وفي(3/274)
اليوم الذي يليه ذراع، فأكمل أربعة عشر ذراعاً في خامس عشري أبيب وهو شيء لا عهد للناس به من دهر طويل، ثم أكمل ستة عشر ذراعاً في ثامن عشري أبيب، وكسر الخليج في تاسع عشريه وهو ثالث شعبان.
وفي السادس والعشرين من رجب خرج الركب الرجبي وكان لهم خمس وعشرون سنة لم يخرجوا، وحج خلق كثير منهم تاج الدين ولد القاضي جلال الدين البلقيني.
وفي ليلة الرابع عشر من شعبان خسف القمر حتى لم يبق من جرمه إلا اليسير، فاستمر من قبل نصف الليل إلى أن تكامل الجلاؤه طلوع الفجر.
وفي أول شعبان جلس السلطان للحكم بين الناس فطلب مدرسي القمحية وهم جمال الدين البساطي ومن يشركه فأهينوا وألزموا بالقيام - بمال لأجل عمارتها، وأرجف بأن أرضها الوقف أقطعت لبعض المماليك لكن لم يتم ذلك.
وفي حادي عشري شعبان صرف ابن العجمي عن الحسبة واستقر بدر الدين العيني، وجعل ما للمحتسب وهو في اليوم ديناران من الجوالي واحد للمحتسب وواحد لابن العجمي، وفيه حمل المظفر أحمد بن المؤيد من القلعة إلى الإسكندرية نهاراً فحبس بها في برج إلى أن مات بعد ذلك.
وفي الثاني والعشرين من شعبان أثبت أن أوله الاثنين شهد اثنان عند شمس الدين الأسيوطي المعروف بزوج الحرة النائب في الحكم فقبلهما، ولزم من ذلك أن يكون أول رمضان يوم الأربعاء، فلما كان ليلة الثلثاء خرجوا لترائي الهلال فما رأوا، ثم تراءوا ليلة الأربعاء فلما تكلم أحد برؤيته، ثم غاب ليلة الخميس مع مغيب الشفق وكثر كلام الناس في الشهادة الماضية.(3/275)
وفي سادس عشر رمضان اشتهر نائب صفد الذي كان عصي فقبض ومعه نحو من ثلاثين نفراً ممن عصي معه، فقطعت أيديهم ونفوا من القاهرة مشاة فمات أكثرهم في الطريق.
وفي رمضان انتهى حصار قلعة بهنسا على يد نائب حماة فنزل تغرى بردى الأقبغاوي المعروف بابن قصروه بالأمان، ووقع في أثناء الحصار في كزل الصهيوني - نشابة فمات منها، وتدلى كمشبعا من القلعة ليهرب، ففطن به فقطع الحبل فوقع فتكسر.
وفي شهر رمضان أمر السلطان بإعادة الأذان بمئذنتي الناصر حسن بالرميلة، وكان الظاهر برقوق قد أمر بتعطيلها وعدم التوصل إلى صعودهما ثم أمر الناصر بهدم سلميهما، فأعيد ذلك بعد بضع وثلاثين سنة، وأعيد فتح الباب الكبير المجاور للقبور وكان الظاهر أمر بسده بالحجارة ففتح الآن وأزيلت الحجارة، وكان المؤيد قد نقل الباب إلى مدرسته فعمل للحسنية الآن باب جديد.
وفيها خرج العرب على أبي فارس صاحب تونس فسار في آثارهم نحواً من عشرة أيام حتى أوقع بهم وخضعوا له.
وفيها جهز أبو فارس عسكراً إلى الفرنج في البحر فنذروا بهم فبيتوهم فانهزموا، فغضب أبو فارس على قائد الجيش ونسبه إلى النهاون وضربه وأهانه وشرع في تجهيز جيش أخر، واتهم العامة أن صاحب فاس واطأ الفرنج على المسلمين فثاروا عليه فقتل بينهم مقتلة عظيمة.(3/276)
وفيها قوي صاحب تلمسان واستجد عسكراً.
وفيها كان الغلاء المفرط بحلب، ثم أعقبه الطاعون فمات بشر كثير. وفي أوائل هذا السنة آخذ الفرنج سبتة من أيدي المسلمين بعد أن كانت في أيديهم.....
وفي رمضان استقر قطلوبغا حاجي التركماني ثم الحلبي في نظر الأوقاف وهو حمو الظاهر ططر وصار جد زوج السلطان الأشرف، فكان يقال له: أنو السلطان، فباشر بشدة وعنف.
وفيها أنهى بعض الخاصكية أن بلد التدريس بالجامع العمري المعروف بالخشابية ليس يستحق، لأن المدرسة الموقوف عليه لا يعرف، فأمر بإخراجها أقطاعاً، ثم شفع في مستحقيها فاستقرت بأيديهم واستهلكت.
وفي شوال أمر القاضي ولي الدين القاضي الشافعية بحبس ابن القوصية قاضي أسيوط، فشفع فيه المحتسب بدر الدين العينتابي فأخرج في الترسيم فشفع فيه كاتب السر، فامتنع القاضي من إطلاقه حتى يدفع ما في جهته من مال الحرمين، فتعصب له أيتمش الخضري فاستخلصه من أيدي الرسل، فبلغ القاضي فغضب ومنع نوابه من الحكم، فبلغ ذلك السلطان فأمر بإعادة ابن القوصية إلى الحبس واستدعى القاضي سراج الدين عمر ابن موسى - الحمصي(3/277)
الذي كان ينوب عن الشافعي، وجرى بسببه على صهره القاضي جلال الدين البلقيني ما جرى فقرره الشافعي في قضاء أسيوط عوضاً عن ابن القوصية فتوجه اواستمر مدة طويلة.
وفي ذي القعدة نزل السلطان إلى المطعم ورجع فاجتاز بالمدينة وقد زينت له فدخل العمارة التي استجدها بالركن المحلق.
وفي الثالث منه نفى عبد الله أخو أمير سعيد الكاشف بالوجه القبلي ودمرداش الكاشف بالوجه البحري إلى عينتاب، وأمر بنفي ابن القوصية، قاضي أسيوط معهما، ثم شفع فيه فتأخر وفي بابه وقع برد شديد عند نزول النيل وبادر الناس إلى للزرع، ثم وقع البرد في أوائل هاتور، ثم أعقبه حر شديد وسموم ففسد أكثر البرسيم، رعته الدود فأفسدت منه بالجيزة شيئاً كثيراً.
وفي أواخر ذي القعدة عز وجود اللحم الضأني وقل الجالب للأضحية، وبقي الناس بسبب ذلك....(3/278)
وفي ذي القعدة صرف إيتمش الخضري من الأستادارية وأعيد أرغون شاه، ثم أضيفت إلى أرغون شاه الوزارة في ثامن ذي الحجة منها وكان الوزير تاج الدين ابن كاتب المناخات قد استقر في الرابع من ذي الحجة، ثم قبض عليه في الثاني عشر منه وصودر على مال يقال ثمانية آلاف دينار، واستمر معزولاً.
وفي التاسع عشر من ذي الحجة وهو الموافق لثالث أيلول من القبطية ورد خبر الورد بالقاهرة، وهذا أسرع ما رأيت منه بها.
وفي السادس والعشرين منه وصل المبشر بسلامة الحاج، فقطع المسافة في خمسة عشرة يوماً، وهذا أسرع ما أدركناه من ذلك.
وفي رجب صرف القاضي بدر الدين ابن خطيب الدهشة عن قضاء حماة، واستقر زين الدين عمر بن أحمد بن مبارك ابن الخزري عوضاً عنه.
وفي شوال صرف القاضي نجم الدين ابن حجي عن قضاء دمشق بتاج الدين ابن الكركي نقلاً من قضاء حلب، واستقر علاء الدين ابن خطيب الناصرية في قضاء حلب، كعادته نقلاً من طرابلس، وأعيد ابن النويري إلى طرابلس.
وفي السادس من ذي الحجة صرف القاضي ولي الدين العراقي عن قضاء الشافعية، واستقر عوضه علم الدين صالح بن شيخنا - شيخ الإسلام سراج الدين وكان جلال الدين أخوه لما مات نظمت:(3/279)
مات جلال الدين قالوا ابنه ... يخلفه أو فالأخ الكاشح
فقلت تاج الدين لا لائق ... بمنصب الحكم ولا صالح
فكان كما قلت فإنه تولى فظهر منه التهور والإقدام على ما لا يليق وتناول المال من أي جهة كانت حلالاً أو حراماً ما لا كان يظن به ولا ألف الناس نظيره من أحد ممن ولي القضاء للشافعية بالقاهرة في الدولة التركية.
وكان فطر النصاري اليعاقبة في هذه السنة في اليوم الثاني من حلول الشمس برج الثور، وهو سابع عشر برموده، وهو التاسع عشر من ربيع الآخر.
وفي الثامن عشر من برموده أمر السلطان بلبس الأبيض فسبق العادة الأولى عشرين يوماً، وكان المؤيد قد أخر ذلك عن العادة قدر عشرين يوماً، فتباينا في ذلك جداً، واتفق أن البرد كان موجوداً أشد مما كان قبل ذلك إلا في وسط النهار.(3/280)
وفي العشرين من ربيع الآخر استقر برهان الدين الشافعين قاضي صفد في كتابة السر بدمشق عوضاً عن الشريف، وأمر بإحضار الشريف إلى القاهرة وصودر على مال جزيل يقال عشرة آلاف دينار، وكان في نفس السلطان منه وهو أمير، ثم نقلت كتابة السر من البرهان لحسين ناظر الجيش، فجمع الوظيفتين بعناية صهره أزبك.
وفي شهر ربيع الآخر وقعت بدمياط كائنة بين العرب وفيه وقعت بالصعيد كائنة بين العرب في هوارة فقتل فيها أمير العرب سليمان ابن غريب بنواحي الأشمونين، وعاث العرب من أجلها في البلاد حتى قتل الذي توجه من القاهرة إلى الصعيد يبشر بسلطنة الملك - الأشرف فجهز السلطان م عسكراً، فلم يظفروا منهم بشيء لأنهم فروا، فرجع العسكر وقد أفسدوا في البلاد ببسط أيديهم إلى بعض الضعفاء فنهبوا بعضا وسبوا بعضاً وباعوا الأحرار على أنهم عبيد وإماء فلا حول ولا قوة إلا بالله.
وفي الثامن عشر من شوال أدير المحمل، وخرج إلى الحج جمع كثير جداً بحيث انقسموا ثلاثة ركوب وأمير المحمل ياقوت الحبشي مقدام المماليك، وأمير الوسط جاني بك الخازندار، وأمير الأول اسندمر، وخرجوا في تجمل زائد وأبهة كثيرة، ووصل ركب المغاربة وقاضيهم صاحبنا زين الدين عبد الرحمن الرشكي، وانفرد عنهم ركب الينابعة فصاروا خمسة ركوب.
ذكر الحوادث الواقعة في هذه السنة
فيها أحضر إلى قرقماش الدويدار الثاني امرأة ادعى عليها بدين مطلت به فضربها، فأخرجت من يدها مكتوباً بإثبات إعسارها، فلم يلتفت وأعاد ضربها. ثم ضربها مر ة ثالثة فماتت، فرفع الأمر للسلطان فأمر بدفنها وذهب دمها هدراً،(3/281)
وقد ولي قرقماش هذا بعد ذلك إمرة حاجب الحجاب مدة بالقاهرة ثم آل أمره إلى أن ركب على الملك الظاهر جقمق بعد أن كان هو القائم في سلطنته. فلم يتم له أمر وقبض عليه وسجن بالإسكندرية ثم قتل في سنة 842.
وفيها كان الطاعون الشديد بحلب حتى يقال مات فيه سبعون ألفاً وخلا أكثر البلد من الناس.
وفيها اشتد السلطان في أمر الأوقاف التي على المدارس والجوامع والمساجد والزوايا وأحواض السبيل والأخذ على أيدي مباشرتها وإلزامهم بالقيام بها، وبالغ قطلوبغا ناظر الأوقاف في إهانتهم وباشر بصرامة وقوة وشهامة، ثم طال العهد فتناول الرشوة وسقطت مهابته.
ذكر من مات
في سنة خمس وعشرين وثمانمائة من الأعيان.
إبراهيم بن أحمد، البيجوري الفقيه الشافعي برهان الدين، ولد في حدود الخمسين أو قبلها، وأخذ عن الأسنوي ولازم البلقيني، ورحل إلى الأذرعي بحلب سنة 777 وبحث معه. وكان الأذرعي يعترف له بالاستحضار وشهد له الشيخ جمال الدين الحسباني عالم دمشق بأنه أعلم الشافعية بالفقه، في عصره، وذكر جمال الدين ابن الأذرعي أن البيجوري كان ينسخ القوت كل مجلد في شهرين وفي كل ليلة ينظر على مواضع فيصلح الأذرعي بعضها وينازعه في بعضها، وقال محيي الدين المصري: فارقته سنة خمس وثمانين وهو يسرد الروضة حفظاً، وكان ديناً خيراً متواضعاً لا يتردد لأحد سليم الباطن لا يكتب على الفتوى تورعاً، وولي بأخرة مشيخة الفخرية بين السورين، وأجاز لأولادي. وكثر تأسف الناس عليه فإنه كان ينفع الطلبة جداً حتى كانوا يصححون عليه تصانيف العراقي فيهذبها ويهديهم إلى الصواب مما يقع فيها من الخطأ نقلاً وفهماً، وكانوا يطالعون العراقي بذلك فلا يزال الصلح في تصانيفه ما ينقلونه له عنه، ولم يكن في عصره من يستحضر الفروع الفقيهة مثله، ولم يخلف بعده من يقارنه في ذلك، مات في يوم السبت 14رجب، وكان على طريقة السلف.
إبراهيم بن محمد الشافعي برهان الدين ابن خطيب بيت عذراء، ولد سنة اثنتين وخمسين بعجلون، وقدم مع أبيه صغيراً، وكان أبوه خطيب عذراء فحفظ إبراهيم المنهاج واشتغل على شيوخ العصر، وأذن له ابن خطيب يبرود، ورحل إلى الأذرعي بحلب ورافق ابن عشائر وكان حينئذ يستحضر الروضة حتى كان يرد على الاذرعي في بعض ما بفتى به ويدل على المسألة في الروضة في غير مظنتها، وتصدى للقاضي شهاب الدين ابن أبي الرضى حتى أخذ عليه في ثلاثين فتياَ أخطأ فيها حتى نسبه في بعضها لمخالفة الإجماع مع شدة ذكاء ابن أبي الرضى إذ ذاك، وكان البلقيني يفرط في تقريظه والثناء عليه، ثم ولي قضاء صفد بعناية الشيخ محمد المغيربي، ثم عزل ثم أعيد، ثم أقام بدمشق من سنة ست وثمانمائة بطالاً وحصلت له فاقة، ثم حصل له تصدير بالجامع، وكان يحفظ كثيراً من شعر المتنبئ ويتعصب له ويحفظ أشياء من كلام السهيلي، وكان حسن الشكل سهل الانقياد سليم الباطن، وله شرح على المنهاج فيه غرائب، ولم يكن له يد في شيء من العلوم إلا الفقه خاصة، مات في سابع عشري المحرم بالفالج وقرر ابن منكلي بغا له في جامع ولده بحلب تدريساً وذلك في سنة ثلاث وتسعين فاتفق حضور الشيخ سراج الدين البلقيني صحبة الملك الظاهر فسأله أن يحضر إجلاسه، فلما حضر قال له: تدرس أنت أو أنوب عنك فقال: تكلم يا مولانا شيخ الإسلام! قال علاء الدين في تاريخه: كان يميل إلى القضاء كثيراً، ثم كرهه في آخر زمانه ونزل له نجم الدين ابن حجي عن نصف تدريسه الركنية، فدرس فيها قليلاً ومات.
أحمد بن إبراهيم بن المحلي، شهاب الدين الشاهد، سمع من أبي الفتح القلانسي وغيره، وأجاز لأولادي، وكان أحد الصوفية بالركنية بيبرس ويتكسب بالشهادة ببولاق جاوز الثمانين.
أحمد بهاء الدين بن الفخر عثمان بن التاج محمد بن إسحاق المناوي. كان قد استقر في وظائف أبيه شركة مع أخيه بدر الدين، ناب في الحكم، ودرس بالمجدية وغيرها، وكان حسن البشر والتودد محباً في أهل العلم، وقد عين للقضاء مرة وكانت نفسه تسمو إلى ذلك فلم يتفق له، ولما مات قررت وظائفه كلها بيد ولده علي وهو صغير جداً فاستنيب عنه خاله جلال الدين ابن الملقن، وكان موت بهاء الدين في رمضان وله نحو أربعين سنة.(3/284)
أحمد بن محمد بن محمد بن أبي غانم بن الحبال، البسكري، مات يوم الجمعة سابع عشري شهر رجب من هذه السنة.
أحمد المعروف باليمني شهاب الدين أحد القراء بالجوق، تلمذ للشيخ شمس الدين ابن الطباخ وقرأ معه وحاكاه، وكان للناس في سماعه رغبة زائدة، ولم يخلف بعده من يقرأ على طريقته؛ مات في صفر.
أبو بكر بن إبراهيم بن محمد بن مفلح، المقدسي الأصل الدمشقي الصالحي الحنبلي صدر الدين بن تقي الدين. ولد سنة ثمانين وتفقه قليلاً، واستنابه أبوه وهو صغير واستنكر الناس ذلك، ثم ناب لابن عبادة وشرع في عمل المواعيد وشاع اسمه وراج بين العوام وكان على ذهنه كثير من التفسير والأحاديث والحكايات مع قصور شديد في الفقه، وولي القضاء استقلالا في شوال سنة سبع عشرة، فباشر خمسة أشهر ثم عزل، واستمر على عمل المواعيد؛ ومات في جمادى الآخرة.(3/285)
حسن بن سودون، الفقيه، كان بارع الجمال في سلطنة المؤيد لكن أصيب في بصره فعشي إحدى عينيه، وتزوج ططر أخته قديماً فعظم في دولته، ثم تأمر تقدمة في ولاية ابن أخته الصالح محمد لكن لم يمتع بالإمرة فإنه لم يزل موعوكاً إلى أن مات في يوم الجمعة ثالث عشر صفر، وأسف أبوه عليه فصبر وتجلد، وكان موته سبب التغير والمنافرة بين الأميرين الكبيرين: طرباي وبرسباي.
سليمان بن إبراهيم بن عمر الفقيه نفيس الدين التعزي العلوي، نسبه إلى علي بن ... سمع أباه وابن شداد وغيرهما، وعني بالحديث وأحب الرواية واستجيز له من جماعة من أهل مكة، وسمع مني وسمعت منه، وكان محباً في السماع، والرواية محثاً على ذلك مع عدم مهارة فيه فذكر لي أنه مر على صحيح البخاري مائة وخمسين مرة ما بين قراءة وسماع وإسماع ومقابلة، وحصل من شروحه كثيراً، وحدث بالكثير وكان محدث أهل بلده، وقرأ للكثير على شيخنا مجد الدين الشيرازي ونعم الرجل كان! لقيته بزبيد وبتعز في الرحلتين وحصل لي به أنس، وحدثني بجزء من حديثه يخرجه لنفسه زعم أنه مسلسل باليمنيين وليس بالأمر في غالبه كذلك: مات في ذي الحجة وقد جاوز الثمانين.(3/286)
صالح بن شهاب الدين أحمد بن صالح السفاح، ولد سنة خمس وتسعين وأحضر على ابن أيذغمش وأسمع علي ابن صديق وقرأ شيئاً في النحو، ثم لما ولي أبوه كتابة السر استقر في توقيع الدست وناب عن أبيه، وكان محتشماً متودداً إلى الناس وافر العقل، ومات بالطاعون في جمادى الآخرة، وهو سبط القاضي شرف الدين الأنصاري قاضي حلب.
صالح بن عيسى بن محمد بن عيسى بن داود بن سالم، الصمادي كان جده سالم من تلامذة الشيخ عبد القادر، وبنيت لسلفه زاوية بصماد قبلي بصرى ونشأ هذا بزاويته، وله أتباع وشهرة، وكان له مزدرعات ومواشي ويضيف الواردين كثيراً، وكلمته مسموعة عند أهل البر؛ ومات في رمضان عن نحو السبعين.
صدفة بن سلامة بن حسين بن بدران بن إبراهيم بن حملة الضرير الجيدوري، ثم الدمشقي، ولد سنة بضع وخمسين، وعني بالقراآت فقرأ الشاطبية على العسقلاني إمام جامع ابن طولون، وقرأ التيسير على أبي الحسن الغافقي وأقرأ القراآت بالجامع الأموي وأدب خلقاً، وانتفعوا به، وله تواليف في القراآت؛ مات في عاشر جمادى الأولى.
عبد الرحمن بن محمد بن طولو بغا. النتكزي أسد الدين مسند الشام، ولد سنة ... وسمع من ... وتفرد وحدث، وحج في سنة أربع وعشرين فحدث بمكة، ورجع فمات بدمشق في 12 ذي القعدة من هذه السنة.(3/287)
عثمان بن سليمان الصنهاجي من أهل الجزائر الذين بين تلمسان وتونس، رأيته كهلاً قد جاوز الخمسين وقد شاب أكثر لحيته، وطوله إلى رأسه ذراع واحد بذراع الآدميين لا يزيد عليه شيئاً وهو كامل الأعضاء، وإذا قام قائماً يظن من رآه أنه صغير قاعد. وهو أقصر أدمي رأيته. وذكر لي أنه صحب أبا عبد الله بن الفخار وأبا عبد الله ابن عرفة وغيرهما، ولديه فضيلة ومحاضرة حسنة علي بن أحمد بن علي المارديني سمع من ابن قواليح صحيح مسلم بدمشق وحدث عنه؛ ومات بمكة في شوال.
علي الملك صير الدين بن الملك سعد الدين محمد، ملك المسلمين بالحبشة وكان شجاعاً حتى يقال إنه زجر فرسه في بعض الوقائع وقد هزمه العدو وقد وصل إلى نهر عرضه عشرة أذرع فقطع النهر ونجا ملك بعد أبيه، وجرت له مع كفرة الحبشة وقائع عدة، وكان عنده أمير يقال له حرب جوس من الأبطال: مات صير الدين مبطوناً في هذا السنة، واستقر بعده أخوه(3/288)
منصور.
عمر بن عبد العزيز بن أحمد بن محمد سراج الدين الخروبي، ولد سنة إحدى وأربعين وسبعمائة أو في التي بعدها، ولم أجد له سماعاً على قدر سنة ولو اعتنى به لأدرك الإسناد وقد كان له حرص على سماع الحديث فسمع بقراءتي كثيراً وجاوز الثمانين ممتعاً بسمعه وبصره وعقله، وكان كثير العبادة من صلاة وتطوع وصيام تطوع وأذكار، وتنقلت به الأحوال ما بين غني مفرط وفقر مدقع، فأول ما مات أبوه كان يعد من التجار، ثم ورث أباه هو وأخوه نور الدين الذي مات سنة ثلاث وثمانمائة فاتسع حاله وأثرى واشتهر بالمعرفة وحسن السيرة، ثم تناقض حاله فمات عمه تاج الدين بمكة سنة خمس وثمانين وأوصي وورث منه فأثرى، واتسع حاله، ثم تناقص إلى أن مات قريبهم محمد بن زكي الدين الخروبي في سنة أربع وتسعين وهو شاب فورث منه مالاً جزيلاً فتراجع حاله، ثم تناقص حاله إلى أن مات أخوه بدر الدين فورث ماله واتسعت دائرته وحسن حاله، ثم تناقص حاله بعد ثلاث سنين إلى أن ماتت أخته آمنه فورث منها مالاً جزيلاً فحسنت حاله ووفى كثيراً من دينه، ثم لم يزل بسوء تدبيره إلى أن مات فقيراً إلا أن ابنته فاطمة ماتت قبله في هذا السنة فورث منها شيئاً حسنت به حاله قليلاً لكنه مات وعليه ديون كثيرة، وخلف خمسة أولاد ذكور منهم شمس الدين محمد وكان ضيق اليد جداً فمات بمدينة بعلبك، وثانيه شقيقه شرف الدين محمد ثم عز الدين محمد. ثم بدر الدين محمد، ثم فخر الدين سليمان، فكان نابغتهم بدر الدين، فإنه كان حصل من تركة آمنه بغير علم أبيه قدراً جيداً، وأخذ من والدته، وهي تجار بنت ناصر الدين بن مسلم كبير التجار بمصر أبوها كان سيئاً كثيراً فأثرى وعمر بيتهم ثم لم يلبث أن مات في الطاعون العام سنة ثلاث وثلاثين،(3/289)
ثم مات عز الدين سنة اثنتين وأربعين ولم يبق إلا شرف الدين وسليمان وهما في غاية القلة - فسبحان الذي لا يزول ملكه! فأصبحوا لا ترى إلا مساكنهم بعد أن كانوا يشار م بالأصابع في الثروة وصاروا كآحاد الناس بل في الحضيض.
غرير بن هيازع بن هبة الحسيني، أمير المدينة وأمير ينبع، كان وقع بينه وبين عجلان بن نعير ابن عمه أخو ثابت اختلاف كما كان بين أسلافهما فهجم غرير على حاصل المسجد فأخذ منه مالاً جزيلاً، فأمر السلطان أمير الركب بالقبض عليه، فقبض عليه في ذي الحجة وأحضر صحبة الركب إلى مصر، فاعتقل بالقلعة فمات بعد ثمانية عشر يوماً، وكان خاله مقبل بن بختيار أمير ينبع قد جهز قدر المال الذي نسب أنه أخذه وأرسل به مع قصاده إلى السلطان فبلغ القاصد أنه مات فرجع بعضهم إلى ينبع بالمال واختفى بعضهم بالقاهرة، وكان مدة إمرة غرير على المدينة ثماني سنين، وهو بالغين المعجمة مصغراً.
محمد بن أحمد بن أحمد بن محمد بن أحمد، الشريف بدر الدين الحسنين نقيب الأشراف بحلب، تقدم ذكر والده عز الدين وهو من شيوخنا بالإجازة، وولي هذا نقابة الأشراف بعد والده، قال القاضي علاء الدين في تاريخ حلب: كان بارعاً يستحضر شيئاً من التاريخ ويذاكر به ثم ولي كتابة السر بحلب في سنة إحدى وعشرين ومائتين من جهة المؤيد فجمع الوظيفتين، قال: وكان كتب وصية وجعلها في جيبه وصار يلهج بذكر الموت إلى أن وقعت وفاته في جمادى الآخرة وجاوز الأربعين بقليل وكان الجمع في جنازته مشهودا، أثنى عليه البرهان المحدث.(3/290)
محمد بن أحمد أبو المعالي الجبتي الحنبلي شمس الدين، ولد سنة خمس وأربعين وسبعمائة، وسمع من عمر بن حسن ابن أميلة والعماد بن كثير وغيرها، وتفقه بابن قاضي الجبل وابن رجب وغيرهما، وتعانى الآداب فمهر، وكان فاضلاً مستحضراً مشاركاً في الفنون، وقدم إلى القاهرة في رمضان سنة أربع وثمانمائة وقد حدث ببعض مسموعاته وقص على الناس في عدة أماكن وناب في الحكم، وكان يحب جمع المال مع مكارم الأخلاق وحسن الخلق وطلاقة الوجه والخشوع التام ولا سيما عند قراءة الحديث. سمعنا بقراءته صحيح البخاري في عدة سنين بالقلعة وسمعنا من مباحثة وفوائده ونوادره وما جريانه، وكان حسن القراءة يطرب إذا قرأ ويحسن عمل المواعيد، وكان قد صحب العماد بن كثير فكان ينقل عنه الفوائد الجليلة، وناب في الحكم في بعض المجالس وكان لا يتصون. وولي بالقاهرة مشيخة الغرابية بجوار جامع يشبك ثم مشيخة الخروبية بالجيزة وبها مات فجأة فإنه اجتمع في يوم الثلثاء سادس عشري المحرم فهنأني بالقدوم من الحج ورجع إلى الجيزة في آخر نهار الأربعاء فمات ليلة الخميس وقت العشاء ثامن عشري المحرم وقد أكمل السبعين فرأيت في تاريخ ابن حجي في حوادث سنة اثنتين وثمانمائة في ذي القعدة وقع حريق بدمشق فانتهى إلى طبقة بالبراقية وهي بيد الشيخ شمس الدين الحبتي ولم يكن يسكنها، فوجدوا بها جراراً ملأى خمراً فكثرت الشناعة عليه عند تنم النائب، قلت: وكنت في تلك الأيام بدمشق وبلغني أنهم شنعوا عليه وأنه بريء من ذلك، وبعضهم(3/291)
كان ينكر عليه ويتهمه وأمره إلى الله - عفا الله تعالى عنه! واستقر مكانه بالجيزة فضل الله بن نصر الله البغدادي.
محمد بن الجمال عبد الله. الرومي الحنفي صدر الدين، ناب في الحكم وكان حسن التودد ويتعمم دائماً على آذنيه.
محمد بن علي بن خالد، الشافعي شمس الدين المعروف بابن البيطار، سمع من عبد الرحمن بن الشيخ علي بن هارون المعاري مشيخة تخريج شيخنا العراقي وسمع من غيره ولازمنا في السماع على المشايخ كثيراً، وكان وقوراً ساكناً حسن الخلق كثير التلاوة.
محمد بن علي بن قرمان، الأمير ناصر الدين، كان أمير بقصرية ونكدة ولا رندة، وما والاها من البلاد الحلبية غيرها، ثم امتدت عينه إلى أخذ طرسوس وهو من معاملات حلب، وطمع فيها لوقوع الاختلاف بين الأمراء المصرية فحاصرها وملكها، فلما استقر المؤيد في المملكة جهز عسكراً فاستنقذها منه وقرر فيها نائباً، ثم جمع ابن قرمان جيشاً وتوجه إلى طرسوس فأخذها. فجهز المؤيد ولده إبراهيم في العسكر المقدم ذكره في سنة إحدى وعشرين فملكوا طرسوس وهرب منهم ابن قرمان، وسلموا طرسوس بأمر المؤيد لناصر الدين بن دلغادر.
واستقر في إمرة البلاد القرمانية على أخو ناصر الدين فلما(3/292)
رجع إبراهيم إلى القاهرة وقع بين ابن قرمان وبين ابن دلغادر وقعة انهزم فيها ابن قرمان وأسر وحمل إلى القاهرة فدخلها وكان يوماً مشهوداً، فلما مات المؤيد أفرج عنه ططر وتوجه إلى بلاده في أوائل سنة أربع وعشرين، فاستمر إلى أن توجه إلى حصار بعض القلاع فأصابه حجر في جبهته فصرعه ومات في هذه السنة.
محمد بن علي بن أحمد، الزراتيتي المقرئ الحنبلي إمام الظاهرية البرقوقية الشيخ شمس الدين، ولد سنة سبع وأربعين، وعني بالقراآت ورحل فيها إلى دمشق وحلب، وأخذ من المشايخ، واشتهر بالدين والخير، سمع معنا الكثير وسمعت منه شيئاً يسيراً، ثم أقبل على الطلبة بأخرة فأخذوا عنه القراآت ولازموه وختم عليه جمع كثير وأجاز لجماعة، وانتهت الرئاسة في الإقراء بمصر ورحل محمد الأقطار وأجاز رواية مروياته لأولادي، ونعم الرجل كان!(3/293)
مات في يوم الخميس سادس جمادى الآخرة بعد أن أضر.
محمد عز الدين بن الشيخ عز الدين بن محمد بن خليل بن هلال، الحاضري قاضي الحنفية، بحلب، قال البرهان المحدث بحلب: ولي القضاء فسار سيرة جميلة، مات بالطاعون.
محمد بن قاضي المسلمين شرف الدين موسى الأنصاري ولي الدين أبو زرعة خطيب الجامع الكبير بحلب؛ مات في رجب بالطاعون أيضاً.
محمد جلبي السلطان ويلقب كرشي ولد السلطان أبي يزيد بن مراد بن أرخان بن عثمان جق صاحب الأوجاق، وما معها من بلاد الروم.(3/294)
محمد المعروف بابن المحب شمس الدين أحد قراء الجوق، وكان تلمذ للشيخ شمس الدين الزرزاي رفيق ابن الطباخ، فأخرجت جنازته هو وأحمد اليمني الماضي معاً وصلي عليهما.
محمود بن محمد، الأقصراي بدر الدين، كان مولده سنة بضع وتسعين، وتفقه واشتغل كثيراً ومهر. ولازم شيخنا عز الدين ابن جماعة وغيره من الأئمة، ودرس بالأيتمشية، ثم اتصل بالملك المؤيد فعظم قدره، ثم أقرأ ولده إبراهيم في الفقه وازداده منزلته عند الظاهر ططر، فلما كان في أوائل شوال سنة أربع اعتل بالقولنج الصفراوي فتمادى به إلى أن مات. كان فاضلاً بارعاً ذكياً مشاركاً في فنون. حسن المحاضرة مقرباً من الملوك، حسن الود، كثير البشر، قائماً في قضاء حوائج من يقصده، كثير العقل والتؤدة، وقد درس في التفسير بالمؤيدية وغير ذلك؛ مات في ليلة الثلثاء في المحرم ولم يبلغ الثلاثين.
يعقوب بن عبد الله، الخاقاني الفاسي، كان من أبناء البربر وتعلق بالاشتغال، فلما رأى الفساد الحادث بفاس بسبب الفتنة بين السعيد وبين أبي سعيد في سنة 17 فصار يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويكف أيدي المفسدين فتبعه جماعة وقويت شوكته، وحاول ملوك فاس القبض عليه فأعياهم أمره إلى أن قتل أبو سعيد، وأرسل ابن الأحمر يعقوب المريني إلى فاس فلم يتم الأمر، فأرسل أبا زيان ابن أبي طريف ابن أبي عفان فحاصر فاس، وقد اشتدت شوكة يعقوب الخاقاني واستفحل أمره، ففتك فيمن بقي من بني مرين وساعد أبا زيان وقام بأمره، فدخل فاس وقتل عبد العزيز الكناني وعدة من أقاربه - كما تقدم ذكره في سنة أربع وعشرين. ثم أرسل ابن الأحمر محمد بن أبي سعيد فعسكر على فاس، ففر منه أبو زيان فمات ببعض الجبال، وقتل يعقوب الخاقاني، ثم مات محمد عن قرب فأقيم ابن أخيه عبد الرحمن، فثار به أهل فاس فقتلوه وقتلوا ولده وأخاه وأقاموا رجلاً من ولد أبي سعيد، وقام بمكناسة(3/295)
وهي على مرحلة من فاس أبو عمر بن السعيد، وقام بتازي وهي على مرحلة ونصف من فاس شخص من ولد السعيد أيضاً، فصار في مسافة مرحلتين ثلاثة ملوك ليس بأيديهم من المال إلا ما يؤخذ ظلماً، فتلاشى الحال وخربت الديار وقتلت الرجال، والحكم لله العلي الكبير! نقلت هذا من خط الشيخ تقي الدين المقريزي عمن نقله من بعض من يثق به من المغاربة القادمين إلى الحج - والعلم عند الله تعالى.(3/296)
//الجزء الثامن
بسم الله الرحمن الرحيم
سنة ست وعشرين وثمانمائة
في المحرم على قطلوبغا حاجي باستمراره في نظر الأوقاف وألزم القاضي الشافعي أن يرتب له معلوما، فرتب له على الأوقاف الحكيمة في الشهر ألف وخمسمائة.
وفي يوم عاشوراء سعى القاضي الشافعي المنفصل فأحضر بين يدي السلطان فدعا له وخلع عليه جبة بسمور وقدمت له بغلة، وشق ذلك على صالح المستقر. وفيه وصل الخبر بأنه وقع في بيروت برد كبار حتى وزنت واحدة فبلغ وزنها ربع قنطار شامي ويقال أكثر من ذلك، وكان بغزة وفلسطين محل شديد فأمطرت في هذا الشهر فتراجع السعر، ولولا ذلك لنزح جميع أهل تلك النواحي منها. وفي أول المحرم كانت الوقعة بين مقبل بن نخبار الحسني صاحب الينبع وبين أمير الركب الثاني، وذلك أن عقيل بن وبير بن نخبار ابن أخي مقبل وقع بينه وبين عمه بسبب الإمرة، لأنها كانت مشتركة بين وبير ومقبل وكان وبير الأكبر والمشار إليه، فلما مات استقل مقبل فارتغم عقيل بذلك وسعى في الشركة فأجابه الأشرف إلى ذلك، وأرسلت إلى عقيل خلعة من الأشرف فلبسها ولم يظهر من مقبل لذلك إنكار، فلما توجه الحاج إلى مكة وثب مقبل على عقيل فقيده، ثم خشى من المصريين إذ رجعوا من الحج فنزح بأهله وماله ومن أطاعه إلى بعض الأودية، فلما قدموا إلى بدر راجعين من زيارة المدينة فجرد منهم جماعة فانتهوا إليه فوجدوه في بعض الأودية فوقع بينهم القتال، فانهزم مقبل ومن معه وانهزم معه رميثة بن محمد بن عجلان وكان خالف على عمه حسن بن عجلان، وانتهب العسكر المصري ما كان لمقبل وأفحشوا في الفسق والتعرض للحرم، ولما وصلوا إلى ينبع قرروا أميرها عقيل وتوجهوا إلى جهة مصر، ثم رجع مقبل إلى ينبع(3/297)
بعد رحيلهم بأيام فأوقع بابن أخيه عقيل ومن معه وكادت الكسرة تقع على عقيل، ثم تراجع أصحابه وهزموا عنه وأسروا محمد بن المؤذن وكان يكثر النميمة بينهم، فشنقه عقيل على باب المدينة وأرسل بخبر الهزيمة إلى القاهرة، واستمرت هزيمة مقبل إلى الشرق، والتجأ رميثة بن محمد بن عجلان أمير المدينة ليشفع له إلى عمه حسن بن عجلان، فتوجه معه إلى مكة.
وفي العشر الأواخر من المحرم وقع بنواحي حوران برد كبار على صور خشاش الأرض والماء، كخنفسة ووزعة وحية وعقرب وسرطان وضفدع وغير ذلك - هكذا ذكر علاء الدين ابن أبي الشوارب الشاد بتلك الناحية أنه شاهد ذلك، وقد ذكر الحافظ علم الدين البرزالي في تاريخه في حوادث سنة ست عشرة وسبعمائة أنه وقع ببارين من عمل حماة برد كبار على صفة حيوانات مثل حية وسبع وعقرب وطيور مختلفة وصفة رجال في أوساطهم شبه حوائص، وأنه ثبت بمحضر على قاضي الناحية واتصل بقاضي حماة.
وفي ثاني عشري المحرم صرف الدين ابن العجمي من نظر الجوالي، واستقر فيها زين الدين قاسم بن القاضي جلال الدين البلقيني بمال بذله لجاني بك الدويدار الثاني، وكان استقر في الدويدارية بعد قدومه من الحج وهو شاب له دون العشرين، وتصدى للحكم بين الناس وهرعوا إليه لعلمهم بمنزلته عند السلطان، وكان السلطان لما سجن بقلعة المرقب أراد جقمق نائب الشام إذ ذاك أن جاني بك المذكور ينضم إليه ويخدم عنده وتحيل عليه بكل طريق، فلم يوافق ولازم سيده وهو في السجن وصبر معه على الضيق، فشكر له ذلك.
وفي تاسع عشري المحرم عزر فتح الدين محمد بن محمد بن المؤيد موقع الحكم للشافعي وجمال الدين عبد الله بن عمر النحريري موقع الحكم للمالكي بسبب شهادة قيل إنها زورت(3/298)
عليهما أو منهما فأمر الدويدار الكبير بقطع أكمامهما وتجربسهما بالقاهرة ماشيين وتألم الناس لذلك، وقيل إنهما كانا مظلومين، وتوجه ابن المؤيد إلى القدس خجلا من الناس.
وفي ثامن عشري صفر عقد مجلس بسبب الفلوس، فاستقر الأمر فيها على تمييزها مما خالطها كما سيأتي، ونودي على الفلوس أن الخالص بسبعة كل رطل، والمخلوطة كل رطل بخمسة دراهم، وحصل بين الباعة بسبب ذلك منازعات.
ثم في أواخر رمضان نودي على الفلوس المنقاة بتسعة وبمنع المعاملة من المخلوطة أصلاً، فسكن الحال ومشى.
وفيه عزز فخر الدين عثمان المعروف بالطاغي خازن كتب المدرسة المحمودية بالموازينين ظاهر القاهرة فضرب بين يدي السلطان، وكان قد رفع عليه أنه فرط في الكتب الموقوفة وهي من أنفس الكتب الموجودة الآن بالقاهرة، لأنها من جمع القاضي برهان الدين ابن جماعة في طول عمره فاشتراها محمود من تركة ولده ووقفها وشرط أن لا يخرج منها شيء من المدرسة واستحفظ لها إمامه سراج الدين، ثم انتقل ذلك لعثمان المذكور بعد أن رفع على سراج الدين المذكور أنه ضيع كثيراً منها، فاختبرت فنقصت نحو مائة وثلاثين مجلدة، فعزل سراج الدين وقرر عثمان، فاستمر يباشر ذلك بقوة وصرامة وجلادة وعدم التفات إلى رسالة كبير أو صغير حتى أن أكابر الدولة وأركان المملكة يحاوله الواحد منهم على عارية كتاب واحد وربما بذلوا له المال الجزيل فيصمم على الامتناع حتى اشتهر بذلك، فرافع عليه شخص من الناس أنه يرتشي في السر، فاختبرت العشر سواء، لأنها كانت أربعة آلاف مجلدة فنقصت أربعمائة، فالتزم بقيمتها فقومت بأربعمائة دينار فباع فيها موجوده وداره وتألم أكثر الناس له، ولم يكن عيبه سوى كثرة الجنف على فقراء الطلبة وإكرام ذوي الجاه.(3/299)
وفي أول شهر ربيع الأول قرر قصروه أمير آخور في نيابة طرابلس، وقرر جقمق الذي كان استقر حاجباً كبيراً في مكانة أمير آخور في ثاني عشرة، واستقر في الحجوبية أزبك الأشقر وعمل المولد السلطاني، فحضر القاضي الشافعي المعزول وأجلس رأس الميسرة، وتحول الحنفي من ثم فجلس الشافعي المستقر في الميمنة.
وفي أوائل العشر الثاني منه رفع شخص من أهل الرملة في كاتب السر علم الدين ابن الكويز إلى السلطان قصة من جملتها أنه تواطأ هو وجماعة من أهل الدولة على إعادة السلطنة للمظفر بن المؤيد، وفي القصة: إن كاتب السر لا يصلح أن يكون اسلميا، وإن الذي يليق في وظيفة كتابة السر من يكون من أهل العلم والمعرفة بالألسنة إلى أوصاف أخرى - يرمز فيها بالهروي، وذكر لي الشيخ شرف الدين ابن التباني أن الذي رفعها أول ما قدم نزل عند المحتسب وهو صديق الهروي، وفي نفسه من كاتب السر أمور كثيرة، فأمر السلطان بنفي الذي رفعها إلى قوص، فخرج مع نقيب الجيش في الترسيم، الذي رفعها محمد بن بدر الأرسوفي، وكان شيخاً من بلدة الشيخ على ابن عليم بالرملة، فلما كان شهر ربيع الآخر خرج السلطان إلى وسيم بالجيزة في زمن الربيع، وكانت أول تعدية عداها إلى الجانب الغربي في البحر منذ تسلطن، ويقال إنه كان عزم على الإقامة نصف شهر فأقام أسبوعاً، ورجع وقد بلغه أمر أزعجه، ووقف له سائس من السواس في طريقه فزعم أنه رأى الشيح أحمد البدوي في النوم وةبين يديه نار وهو يطفئها، وكلما أطفأها عاد لهبها، فسأله عن ذلك؛ فقال: هذه نار أطفئها عن السلطان، فشاع بعد ذلك أن السلطان ظفر باثنين أو ثلاثة أرادوا الفتك به،(3/300)
وابتدأ بكاتب السر وجعه، فيقال إنه دس عليه السم فوعك أياماً ثم ابل من مرضه وركب ثم انتكس واحتجب عن العواد ولازمه الأطباء، فيقال إن نصرانياً أراد أن يدفع عنه وهم كونه مسموماً فشرب بوله، ففرح بذلك وأعطاه خمسين ديناراً، ثم صار يحصل له شبيه السبات، ويقال إن النصراني وعك بعد ذلك، وفي غضون هذه الأيام أمر السلطان بإعادة الشيخ محمد بن بدر من قوص، فأعيد في أواخر شهر ربيع الآخر وتوجه لحال سبيله.
وفي العشرين من ربيع الأول انقضت أيام الحسوم وكانت شديدة البرد إلى الغاية، ولقد تذكرت لما مرت بنا في سنة ست وثلاثين وثمانمائة بعد ذلك بعشر سنين وهي في غاية الحر - فسبحان الحكيم! واستمر كاتب السر منقطعاً في بيته موعوكاً إلى العشر الثاني من رجب فعوفي ودخل الحمام وركب إلى القلعة ثم اجتمع بالسلطان، فأذن له أن يتأخر في منزله أياماً لتكمل عافيته، فأرسل إليه عقب ذلك تقدمة تشتمل على ثياب حرير وصوف وذهب، فخلع على محضرها أخيه سليمان بن الكويز، وفي العشرين من ربيع الآخر رخص القمح جداً حتى انحط إلى ستين درهما الإردب بحيث يحصل بالدينار المختوم أربعة أرادب، وهذا غاية الرخص فإن عبرة الديار المصرية أن يكون الإردب بدينار، فما زاد فهو غلاء بحسبه وما نقص عن ذلك فهو رخص بحسبه.
وفي رابع عشري شهر ربيع الآخر هبت ريح برقة تحمل تراباً أصفر إلى الحمرة، وذلك قبل غروب الشمس، فاحمر الأفق جداً بحيث صار من لا يدري السبب يظن أن بجواره حريقاً، وصارت البيوت كلها ملأى تراباً ناعماً جداً يدخل في الأنوف وفي جميع الأمتعة، ثم لما تكاملت غيبوبة الشفق أسود الأفق وعصفت الريح وكانت مقلقة، فلو قدر أنها كانت تصل إلى الأرض لكان أمراً مهولاً، وكثر ضجيج الناس في الأسواق والبيوت بالذكر والدعاء والاستغفار إلى أن لطف الله تعالى بادرار المطر، فتحولت الريح جنوبية باردة، ولم تهب هذه الريح منذ(3/301)
ثلاثين سنة، وهي ريح هائلة عاصفة سوداء مظلمة، فانتشرت حتى غطت الأهرام والجيزة والبحرواشتدت حتى ظن كل أحد أنها تقتلع الأبيات والأماكن، فدامت تلك الليلة ويوم الأربعاء إلى العصر، وكانت سبباً في هيف الزرع بالوجه القبلي وغلاء سعر القمح.
وفي ربيع الآخر قدم أخو رميثة بن محمد بن عجلان يخطبان إمرة مكة عوضاً عن عمهما حسن بن عجلان ظناً منهما طرد القياس في عقيل ومقبل، فانعكس عليهما الأمر فقبض عليهما وحبسا، وقرر قرقماش الشعباني وعلى بن عنان في إمرة مكة وسافرا معاً. وفيه وصل تاني بك البجاسي نائب حلب فسلم على السلطان، وهرع الناس للسلام عليه، ثم خلع عليه وأعيد إلى إمرته وتوجه ثالث جمادى الأولى. وفيه وقع بين نائب دمشق وقاضيها الشافعي نجم الدين ابن حجي تشاجر وادعى أن القاضي أشار عزل نفسه، وتولد من ذلك شر كبير سيأتي ذكره، وورد الخبر بأن الجراد وقع بالمدينة فأفسد الزرع بها وجرد الخوص من النخل، وقاسوا منه شدة عظيمة.
وفي أوائل ما نقلت الشمس إلى الثور بعد أن اشتد الحر جداً عاد البرد الشديد حتى كان نظير الذي كان والشمس في برج القوس وهذا من العجائب، وبعد يومين أمطرت السماء مطراً غزيراً في معظم الليل، واستمر البرد قدر أسبوع.
وفي اليوم الثامن عشر من حلول الشمس الثور أمطرت السماء مطراً شديداً غزيزاً، واستمر إلى أن أكثر الوحل في الطرقات كأعظم ما يكون في الشتاء مع الرعد الكثير والبرق، وقد تلف بذلك ما في المقائي من الزروع والنبات شيء كثير، وغلا(3/302)
السعر بسبب ذلك، ويقال إنها أمطرت بمدينة المحلة من البرد الكبار ما يتعجب منه وهبت ريح شديدة بمدينة أنبابة فهدمت بسببها بيوت كثيرة، وقلعت أصول نخل وشجر.
وفيه كائنة سرور المغربي المالكي، كان قدم من تونس إلى الإسكندرية وصار يذكر الناس ويقع في حق بعض الرؤساء، فتعصبوا عليه ومنعه نائب الحكم من الكلام، فدخل القاهرة فسعى في عزل القاضي، فتعصب كاتب السر للقاضي، فخرج سرور إلى الحج ثم عاد فرفع إلى السلطان أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام وبين يديه خمسة أنفس مسلسلين رأسهم كاتب السر ابن الكويز، وأنه مد يده إلى عيني ابن الكويز ففقاهما وقال له: أفسدت شريعتي! وسعى في عزل الناظر والقاضي فأمر بإحضارهما، فأما الناظر فذب عنه صهره ناظر الخاص، وأما القاضي فحضر وصودر على مال، وكتب سرور لبعض أصحابه بالإسكندرية كتاباً يخبر فيه أن النائب والناظر والقاضي عزلوا بسبب كلامه فيهم، فبلغ ذلك النائب فكاتب السلطان في أمره وحط عليه، فتعصب له بعض الأكابر فأمر السلطان بنفي سرور من الإسكندرية، فوكل به بالقاهرة وأخرج مهاناً إلى الإسكندرية، ثم أنزل في مركب إلى الغرب فتوجه إليها، فوصل إلى صاحب تونس وأخذ منه كتاباً بالشفاعة فيه، فلما وصل إلى الإسكندرية قبض عليه النائب وسجنه وألزمه بالعود إلى الغرب، فاتفق أن الذي كان أرسل إلى الإسكندرية يحفظها من الفرنج كما سأذكره بعد، لما حصل الأمن من الفرنج قرر نائبها وهو آقبغا التمرازي وصرف النائب الذي كان بها وهو أسندمر النوري، وخلص سرور من الشدة بذلك وافرج عنه، وأرسل النائب الكتاب الذي استصحبه إلى السلطان، فسكن الأمر خصوصاً بعد موت ابن الكويز.(3/303)
ومن العجائب أن المذكور جرت له في سلطنة الظاهر جقمق في سنة ست وثلاثين مناقشة مع القاضي أدت إلى أن بعض الأكابر حط عليه فبالغ فأمر السلطان بنفيه، فلما حصل بالإسكندرية أغلظ للنائب فأنزلوه في مركب تسير إلى الغرب ورئيسها إفرنجي، فوصل كتاب بالشفاعة فيه، وإعفائه من التغريب، فعوق النائب قراءة الكتاب إلى أن تحقق أن المركب سارت به، فقرأ الكتاب وأعاد الجواب بفوات الأمر؛ ثم لم نطلع له على خبر إلى أن سطرت هذه الأحرف في شعبان سنة سبع وأربعين ثمانمائة، وجزم جماعة بأنه أعدم، ولم يلبث القاضي بعده إلا يسيراً وهلك.
وفي رجب حضر الأستادار من الصعيد وحضر صحبته شيء كثير من الأبقار والأغنام، فجمع الجزارين والقيطامين وغيرهم لمشتراها، فاجتمع جمع كثير في مركب فغرقت بهم، فلم يسلم منهم إلا القليل، وذلك في مبادئ زيادة النيل؛ وكان الطاعون بالشام حتى قيل إن جملة من مات في أيام يسيرة زيادة على خمسين ألفاً، ووقع الطاعون بدمياط فمات عدد كثير من الرقيق والأطفال.
وفي رجب شكا نائب الشام من ابن حجي قاضي الشافعية ونسبه إلى أمور معضلة، فأمر بالكشف عليه. فندب لذلك بعض الجند وصحبته شمس الدين محمد الأنصاري المدعو أبا شامة الدمشقي الذي كان أمين الحكم عنده، فنقم عليه أموراً فعزله، فتوجه إلى القاهرة فأقام بها يغض من ابن حجي ويذكر مساويه عند الأمراء وغيرهم، فلما وقعت هذه الكائنة ذكر بعضهم للسلطان أن أبا شامة يعرف مساوي ابن حجي، فسفره ليكشف عليه،(3/304)
وكان السبب في تغير نائب الشام عليه أنه كان بدمشق خمارات عليها ضمان للنائب فركب القاضي وأمر بإغلاقها. فشق ذلك على النائب وأحضر الضامن وخلع عليه ونادى له بالاستمرار، فنفر الناس من ذلك واجتمع عند بيت القاضي من لا يحصى كثرة، فركب القاضي والناس معه فكسروا أواني الخمر وأراقوها، فغضب النائب من ذلك ورفع إلى السلطان أن القاضي يقيم من يشهد بأن فلاناً الذي مات عن غير وارث له وارث فيثبت ذلك ويتسلم المال، وأنه حصل عنده من هذه الجهة أموال كثيرة ممن ليس له وارث إلا بيت المال، فتغيظ السلطان من ذلك، فلما وصل الأمر بالكشف عليه بالغ النائب في نكايته ومكن عدوه منه، وأقدم أبو شامة فسجل على نفسه أنه ثبت عنده أن في جهة القاضي نجم الدين ابن حجي لبيت المال عشرين ألف دينار، وحكم بذلك، ووصل حكمه بالقاضي الحنفي فنفذه، وطولع السلطان بذلك فكتب باستخلاص ذلك من ابن حجي، فقدر الله تعالى في غضون ذلك موت النائب وانفرج الهم عن القاضي، وكتب توقيعه من القاهرة باستمراره وغرم في ذلك مالاً كثيراً.
وفي هذه السنة ابتدئ بعمارى المدرسة الأشرفية بالحريرين بجوار الوارقين، وأخذت الدور التي هناك وغالبها أوقاف، فتحيل في إبطالها بوجوه من الحيل، وتولى القيام في تعميرها ناظر الجيش عبد الباسط، وفيه رفع إلى الدوادار الكبير سودون من عبد الرحمن أن القاضي جمال الدين الطنبذي المعروف بابن عرب حكم محاكمة غير مرضية، فأمر القاضي الشافعي بأن يعزله، واقام في بيته بعد أن أهين بحضرة الدوادار، وعزل القاضي عقب ذلك من النواب اثني عشر نفساً، ثم لم يفد ذلك حتى أمر أن لا يزيد على عشرة نواب فعزل الجميع، وانتقى عشرى أكثرهم أقاربه واصهاره، فكثر كلام المنفصلين فيه، واتفق أن القاضي المالكي كانت عنده محاكمة فأرسل الدوادار طلبها وطلب نقيبه الجلال القزويني فامتنع، فأغلظ الدوادار القول، فعزل القاضي نفسه، ثم أعيد بشرط أن(3/305)
يعزل نقيبه المذكور فصرفه، وأمر أن يقتصر من نوابه على ستة أنفس، وأن يقتصر الحنفي على ثمانية، وأن يقتصر الحنبلي على أربعة؛ فأطاعوا كلهم إلا الحنبلي فلم يصرح بعزل أحد من نوابه وكانوا ثمانية.
وفيه حضر مملوك أيتمش الخضري وزعم أن بالمحلة كنزاً فيه مائة ألف إردب دنانير، فسلمه السلطان للأستادار، فكشف عن الأمر فلم يوجد لما قاله صحة، وشهد فيه بأنه خفيف العقل.
وفيها رام نائب الشام من متروك شيخ العرب بالشام أن يحضر إلى طاعته فامتنع، وبذل له مالاً فأبى، وقصده بالمحاربة ففر، فأعجزه تحصيله، وفسد الدرب بسبب ذلك وكانت الطرق آمنة.
وفي سادس شعبان مات تاني نائب الشام، واستقر عوضه تاني بك البجارسي نقلا من نيابة حلب إلى نيابة الشام.
وفي رمضان أمر السلطان بإحضار العلماء لسماع صحيح البخاري بالقلعة، فهرعوا لذلك وكثر الجمع جداً، وممن حضر الشيخ شمس الدين ابن الديري شيخ المؤيدية الذي كان قاضياً قبل ووقع بيه وبين ابن المغلي قاضي الحنابلة مباحث أدت إلى مسافهة، فلما كثر اللغط أفرد الطلبة بمجلس بالقصر الأسفل والقارئ لهم الشيخ سراج الدين قارئ الهداية، وعين السلطان من النبهاء عدداً يسيراً يحضرون بالقصر الأعلى ويحضرهم السلطان فاستمر على ذلك سنين ثم كثر لغط الذين يحضرون وزجروا مراراً فلم ينزجروا، فأمرهم السلطان بالقراءة في داخل القصر الأسفل، وصار هو يحضر في شباك منفرداً يشرف عليهم، وكان ابتداء ذلك في سنة أربع وثلاثين بعد أن كان يقعد بينهم ساكناً لا يتحرك له يد ولا رجل ويقرر الشيخ شهاب الدين الكلوتاتي الحنفي يقرا بين يدي الشيخ سراج الدين قارئ الهداية كل يوم في القصر البراني الكبير.
وفي شعبان واطا جاني بك الصوفي السجان بمحبس الإسكندرية فهرب معه، ولما وصل الخبر بذلك اضطرب العسكر وانزعج الناس من ذلك ونذب طائفة للتفتيش عليه، ودام ذلك مدة(3/306)
وهدمت بسببه دور وضربت جماعة ولم يظهر له أثر إلى حين تسطيرها في شعبان سنة ست وثلاثين، فسافرنا مع السلطان إلى الشام ولم يظهر له خبر محقق؛ وذكر لي من أثق به أنه حي موجود بالقاهرة.
وفيه كثرت الأخبار بأن الفرنج تحركوا على بلاد المسلمين، فجهزت عدة أجناد إلى السواحل، فندب عدة إلى دمياط، وعدة إلى الإسكندرية وغيرهما.
وفي ثالث عشري رمضان نفي طيبغا مملوك ناظر الخاص ابن نصر الله، وكان شاباً جميلاً رباه وهو صغير، فلما ترعرع انتزعه منه المؤيد فصيره من الخاصكية، ثم عاد بعد موت المؤيد إلى أستاذه، فاتفق أن ناقة من الهجن الخاص نفرت من إصطبل السلطان فصارت لطيبغا فيقال إن حسنا الهجان واطأه على أخذها فطلبت منه فجحدها، فأمر السلطان بحبس حسن وعزله بسببها من وظيفته، ثم جعل شريكاً للذي انتزعها منه بعد عشر سنين.
وفيه سار إسكندر بن قرا يوسف فنزل ماردين وحاصرها حتى تسلمها وانهزم منه قرا يلك ثم نازل آمد، ففر قرا يلك إلى شاه رخ وكان قد سار من بلاده إلى تبريز فحاصرها حتى ملكها، فلما بلغ ذلك إسكندر وإخوته أولاد قرا يوسف، توجهوا إلى جهة تبريز فالتقى بهم شاه رخ فكانت الهزيمة على ابن قرا يوسف فخرب شاه رخ تبريز ونقل أموالها ورجع إلى بلاده، وانهزم اسكندر إلى الجزيرة ورجع قرا يلك إلى آمده ثم رجع(3/307)
اسكندر إلى تبريز، وكان في ماردين أمير من قبل اسكندر اسمه ناصور، أمر عليها تسع سنين إلى سنة خمس وثلاثين وثمانمائة.
وفي شوال حج شرف الدين ابن تاج الدين ابن نصر الله وبيده يومئذ نظر الكسوة ونظر الأشراف، فلما سار الحجيج يومين أخرج عنه نظر الأشراف، واستقر فيه نقيب الأشراف حسين بن علي الأموي بواسطة الأمير جاني بك، وخرج عنه نظر الكسوة لصدر الدين ابن العجمي.
وفي أواخر شوال صرف زين الدين قاسم بن البلقيني من نظر الجوالي، وأعيدت لصدر الدين أيضاً.
وفي التاسع والعشرين من رمضان نودي على الفلوس الخالصة بتسعة الرطل، وكانت الفلوس قد قلت جداً فظهرت.
وفي هذه السنة وجد قتيل بقرية، فأمسك الوالي أهل تلك البلاد ولا يدري هل القاتل منهم أم لا، فأمر السلطان بقطع أيدي بعضهم وآناف بعضهم وتوسيط بعضهم، فاستوهبهم أحمد دواداره المعروف بالأسود ليقررهم فلاحين له في بلاد خراب أراد أن يعمرها، فوهبهم له.
وفي يوم السبت سادس عشري شوال نزل السلطان من القلعة بعد الظهر في أناس قلائل إلى أن دخل من باب زويلة فوصل إلى المدرسة التي أنشئت له فرآها ورجع مسرعاً، وتلاحق به بعض الأمراء إلى أن صعد القلعة؛ ولم يتفق له مثل ذلك قبل هذه المدة.
وفي شوال قرر عبد القادر بن عبد الغني بن أبي الفرج الذي كان أبوه أستادارا كبيراً في كشف الجسور والشرقية، وفي شوال أيضاً صرف أرغون شاه من الوزارة، وقرر فيها كريم الدين ابن كاتب المناخات الذي كان أبوه فيها وانفصل، وصرف أيضاً من الأستادارية، واستقر فيها ناصر الدين(3/308)
ابن آبو قبالي الدمشقي وكان استدارا نائب الشام، وصودر أرغون شاه على مال، ثم أفرج عنه واستقر استادارا على المتعلقات السلطانية بالشام على عادته.
وفي رمضان جاء الخبر من صاحب قبرس أن البحر مشغول بمراكب الفرنج فأمر لعدة من الأمراء والمماليك بالإقامة للرباط بالسواحل وهي: رشيد ودمياط وتستراوة.
وفيه قرئ البخاري بحضرة السلطان في القصر الأعلى، وكانت العادة أن يقرأ في القصر الأسفل.
وفي أوائل ذي القعدة توجه ناظر الجيش وجماعة إلى الحج، فأدرك الحجاج قبل ينبع، وزار المدينة في ذهابه ورجع مسرعاً، فدخل القاهرة في يوم عاشوراء.
وفي ثالث عشر ذي العقدة الموافق لثاني عشري بابه أمطرت السماء مطراً غزيراً برعد وبرق وكثرت الأوحال، وفيه أمر السلطان بتحجير السكر وأن لا يتعاطى أحد بيعه إلا من حاصله، وأن لا يشتري إلا لخاصكي، وكتب على من كان يتعانى ذلك قسامات، فضاق عليهم الأمر، وقام في ذلك نور الدين الطنبذي أحد أكابر التجار وحسن للسلطان وأحضر شخصاً من جهته، فأقامه في تعاطي بيع ذلك وشرائه، والتزم أنه يحصل من ذلك جملة دنانير ربحا، فدام الأمر إلى أن حضر ناظر الجيش فأفسد ما كان الطنبذي فعله وأبطل التحجير بعد أن كان الضرر قد حصل لأكثر الناس.
وفي سابع عشر ذي الحجة زلزلت الأرض بعد مضي ساعتين أو نحوهما من الليل وكانت خفيفة.
وفيها بعد موت ابن الكويز ادعى تاج الدين ابن الهيصم الذي كان عمل الأستادارية في زمن الناصر والوزارة في زمن المؤيد أن ابن الكويز انتزع منه دارا كانت ملكه(3/309)
بالبركة وهدمها وبنى بها دارا جديدة ورام انتزاعها من ورائه، فتعصب له جماعة عند السلطان، فطلب ابن الهيصم وأهانه، وانتزع منه المستندات التي تشهد له بملك الدار المذكورة ووقفها، وهذه الدار صارت بعد ذلك ملكاً لابن مزهر، ثم بيعت بعده إلى أن صارت لابن كاتب المناخات ثم لزوجته فوقفتها، وقد تقدم استقرار تاني بك في نيابة دمشق نقلاً من حلب وذلك بعد موت تاني بك ميق بدمشق، ولما كان في السنة المقبلة أظهر العصيان فكان ما سنذكره
ذكر من مات
في سنة ست وعشرين وثمانمائة من الأعيان
إبراهيم بن مبارك شاه الإسعردي الخواجا التاجر المشهور صاحب المدرسة بالجسر الأبيض، كان كثير المال واسع العطاء كثير البذل بخلاف قريبه الخواجا شمس الدين بن المزلق؛ فمات هذا في رجب مطعوناً ولم يكمل الستين، وعاش ابن المزلق ... بعده دهراً طويلاً.
أحمد بن رسلان السفطي أحد من جد ومهر إلى أن صار يستحضر الكثير من الفروع الفقهية ويباحث ويستشكل ويفهم قليلاً وهو من كبار الطلبة بالخانقاه الشيخونية؛ مات في ربيع الأول وقد أكمل الستين.(3/310)
أحمد بن عبد الرحيم بن الحسين بن عبد الرحمن، العراقي الإمام الحافظ شيخ الإسلام أبو زرعة، ابن شيخنا وأستاذنا حافظ العصر شيخ الإسلام زين الدين، ولد في ذي الحجة سنة 762، وبكر به أبوه فأحضره عند المسند أبي الحرم القلانسي في الأولى وفي الثانية، واستجاز له من أبي الحسن الفرضي، ثم رحل به الشام في سنة خمس وستين وقد طعن في الثالثة، فأحضره عند جمع كثير من أصحاب الفخر ابن البخاري وأنظارهم، ثم رجع فطلب بنفسه وقد أكمل أربع عشرة سنة، فطاف على الشيوخ، وقرأ بنفسه، وكتب الطباق وفهم الفن، واشتغل في الفقه والعربية والمعاني والبيان، وأحضره مجلس الشيخ جمال الدين الأسنوي ومجلش الشيخ شهاب الدين ابن النقيب وغيرهما، وأسمع على أبي البقاء وقبله القاضي عز الدين ابن جماعة، وأقبل على التصنيف فصنف أشياء لطيفة في فنون الحديث، ثم ناب في الحكم وأقبل على الفقه فصنف النكت على المختصرات الثلاثة، جمع فيها بين التوشيح للقاضي تاج الدين السبكي وبين تصحيح الحاوي لشيخنا ابن الملقن، وزاد عليهما فوائد من حاشية الروضة للبلقيني ومن المهمات للأسنوي، وتلقى الطلبة هذا الكتاب بالقبول ونسخوه وقرأوه عليه، واختصر أيضاً المهمات وأضاف إليها حواشي البلقيني على الروضة، وكان لما مات أبوه تقرر في وظائفه، فدرس بالجامع الطولوني وغيره، ثم استقر شيخاً بالجمالية بعد موت همام الدين، ثم ولى القضاء الأكبر كما تقدم، وصرف عنه فحصل له سوء مزاج من كونه صرف ببعض تلامذته بل ببعض من لا يفهم عنه كما ينبغي، فكان يقول: لو عزلت بغير فلان ما صعب علي! واستيعاب قضاياه يطول، وكان من خير أهل عصره بشاشة وصلابة في الحكم وقياماً في الحق وطلاقة وجه وحسن خلق وطيب عشرة؛(3/311)
مات في يوم الخميس السابع والعشرين من رمضان - رحمه الله تعالى! أكمل ثلاثاً وستين سنة وثمانية أشهر، ودفن بجنب أبيه - رحمهما الله تعالى.
أحمد بن عبد الله، القزويني شهاب الدين نقيب الحكم، وكان حنفياً يستحضر كثيراً من الأحكام المتعلقة بمذهبه، وباشر ذلك عند ابن الطرابلسي وولده مدة، ثم لما عزل أمين الدين بابن العديم اتصل هو بالجلال البلقيني فقرره نقيباً مضافاً لغيره، فاستمر هو ومات ابن مخلوف، ثم مات السثيني وكان لا بأس به لولا مكر فيه ودهاء، ولما ولى العراقي رام الاستقرار عنده فأبعده، فلما ولي البلقيني الأصغر خدمه إلى أن مات بعد ضعف شديد مدة، وكان مولده في سنة 761؛ ومات في شهر ربيع الأول.
أحمد بن عثمان بن يوسف، الخرتباوي البعلي، ولد سنة 771، واشتغل على ابن اليونانية والعماد بن يعقوب وسمع عليهما، ثم ولي قضاء بعلبك ثم قدم دمشق، وكان فاضلاً في الفقه وغيره، وعنده سكون واجماع وعفة؛ مات في جمادى الأولى مطعوناً. تاني بك الذي يقال له ميق ولي إمرة الحجوبية بالديار المصرية وولي أتابكا بها ثم ولي نيابة دمشق، كان قد خاف من الطاعون فصار ينتقل يميناً وشمالاً، فلما ارتفع الطاعون عاد إلى دمشق فمات بغير الطاعون يوم الاثنين 8 شعبان - وقد تقدم ذكره في الحوادث.
خديجة بنت الملك الأشرف شعبان بن حسين زوج قاسم البشتكي، وهي آخر أولاد الأشرف من النساء وفاة، وكانت توصف بعقل ورئاسة.
خليل بن عبد الوهاب بن سليمان، الأنصاري صلاح الدين ابن نجم الدين ابن السيرجي، ولد سنة 747، وتفقه قليلاً وباشر كثيراً من أوقاف المدارس كالشامية الجوانية،(3/312)
وكان قوي النفس كثير الحشمة والكرم، وكان أعيان الفقهاء يترددون إليه، وهو الذي عمر الشاميتين بعد حريقهما في فتنة اللنك، ثم ضعف جانبه وقوي عليه الحكام، وصارت إقامته بالمجدل وقف الشامية، وآل أمره إلى فقر شديد؛ ومات في شهر رمضان، وهذا آخر من بقي من آل بيتهم.
داود بن عبد الرحمن بن داود، الشوبكي الأصل المعروف بابن الكويز علم الدين أبو عبد الرحمن. مات في صبيحة يوم الاثنين سلخ رمضان بمنزله ببركة الرطلي بعد أن طال مرضه كما تقدم سببه في الحوادث. وكنت عدته في نصف رمضان فوجدته صحيح العقل والبدن لا يشكو ألماً ولكنه غلب عليه الوهم بحيث أنه في أثناء كلامه كان يجزم بأنه ميت من تلك الضعفة، وكانت أمور المملكة في طول مدة مرضه لا تصدر إلا عن رأيه وتدبيره، وكان يجتمع بالسلطان خلوة ويذكر أنه إذا ركب يتأذى بالركوب كذلك إن دخل الحمام أو الجامع كان أبوه من أهل الشوبك ثم سكن الكرك وهو نصراني يتعانى الديونة واسمه جرجس، فلما كان سنة سبع وستين ضيق يلبغا على جميع النصارى الملكية خصوصاً الشوابكة واتهموا بأنهم مالؤا الإفرنج على الإسكندرية، فأسلم هو وكثير منهم وتسمى عبد الرحمن، وخدم نائب الكرك وتقرب منه حتى قرره في كتابه السر، ثم تحول إلى حلب فخدم كمشبغا الكبير وقدم معه القاهرة صاحب ديوانه، ورأيته شيخاً طوالا كبير اللحية،(3/313)
ونشأ ابنه علم الدين هذا ترفا صلفا مسعود الحركات، فصاهر ابن أبي الفرج، وكان أخوه خليل أسن منه، ثم اتصلا بشيخ نائب الشام قبل سلطنته فخدماه وهو ينوب في طرابلس ثم في دمشق ثم في حلب، ثم قدما معه القاهرة فعظم شأنهما وكبر قدرهما، وباشر علم الدين نظر الجيش بطرابلس ثم بدمشق، وامتحن هو وأخوه في وقعة صرخد وصودرا، ثم لما تسلطن المؤيد تقرر في نظر الجيش، ثم اختص بالظاهر ططر وتقرر عنده كاتب السر في أيامه، وصولح ولده بعد موته على أربعين ألف دينار، وكان يتدين ويلازم الصلاة ويصوم تطوعاً ويتعفف عن الفواحش ويلازم مجالسة أهل الخير مع طول الصمت، فكان يستر عواره بذلك إلا أنه لما ولى كتابة السر افتضح للكنة فيه وعدم فصاحة وضبطت عليه ألفاظ عامية، ومع ذلك فكان وقاره وحسن تدبيره وجودة رأيه تستر عواره، واستقر بعده في كتابة السر قريبه جمال الدين يوسف وكان قد قدمه في عهد المؤيد وقرره في نظر الجيش بطرابلس، فاتفق أن الأشرف لما ولى نائبها في أيام المؤيد تقرب إليه وخدمه فصارت له به معرفة فلما مات علم الدين قرره في وظيفته، فباشرها قليلا بسكون وعدم شره وتلطف بمن يقصده وحلاوة لسان ثم صرف بعد قليل، كما سيأتي ذكره في التي بعدها. ومن فعلاته المستحسنة - أي صاحب الترجمة - أنه لما كان بشقحب صحبة الظاهر راجعاً إلى مصر إستأذنه في زيارة القدس فتوجه من طريق نابلس، فشكا إليه أهل القدس والخليل ما أضر بهم من أمر الجباية وكانت لنائب القدس، وتحصل منها لفلاحي القرى إجحاف شديد ويتحصل للنائب ألوف دنانير، ولمن يتولى إستخراج ذلك ضعفه، فلما رجع إستأذن السلطان في إبطال هذه المظلمة، فأذن له وكتب بها مناشير، فقرئت بالقدس والخليل، وكثر الدعاء له بسبب ذلك،(3/314)
مات في يوم الإثنين سلخ شوال ولم يبلغ الخمسين.
زينب بنت الملك الظاهر برقوق، كانت من الجمال بمكان ثم تزوجت بعد أبيها ... ثم تزوجها ... ثم تزوجها الملك المؤيد ومات عنها، فكانت بنت سلطان وأخت سلطان وزوج سلطان، وتزوجت بعد المؤيد قجق العيساوي، وماتت في عصمته في ليلة السبت 28 ربيع الأول، وهي آخر أولاد الظاهر لصلبه وفاة، وكانت أرأس إخوتها، وأمها أم ولد رومية.
سالم بن سالم بن أحمد بن سالم بن عبد الملك بن عبد الباقي بن عبد المؤمن بن عبد الملك، المجد المقدسي الحنبلي، يجتمع مع القاضي موفق الدين عبد الله بن عبد الملك في عبد الملك، اشتغل في بلاده ثم قدم القاهرة سنة 64، وأقام بها إلى أن ولى قضاء الحنابلة بعد موت الموفق أحمد ابن نصر الله في سنة ثلاث وثلاثمائة، ولم يزل مستقراً فيه إلى أن صرف بعلاء الدين ابن مغلى في أوائل سنة ثماني عشرة، فاستمر خاملاً إلى أن مات وليس بيده سوى تدريس الجمالية ومدرسة حسن، وضعف مدة متطاولة وخلف عدة أولاد صغار أسنهم مراهق، وكان مولده سنة ثمان وأربعين، وتفقه واشتغل حتى مهر ونبغ في المذهب وشارك في الفنون، وكان يستحضر المحرر في الفقه، وناب في الحكم، وعاش سبعاً وسبعين سنة، وكان الناصر فرج يثق به، وأرسله مرة إلى الصعيد للحوطة على تركة ابن عمر ثم صار يأتمنه على ما يصنع يده عليه من الأموال، وكان يبالغ في النصيحة له في ذلك، فمقته الناس لإعانته على الظلم، ولعله كان معذوراً فالله يسمح له.(3/315)
سودون الفقيه كان كبير الشراكسة تلمذ للشيخ لاجين الجركسي وكان أعجوبة في دعوى العلم والمعرفة مع عدمهما، وكان الكثير منهم يعتقد أنه لابد أن يلي السلطنة، كما كانوا يزعمون ذلك في شيخه، واتفق أن زوج إبنته وهو الظاهر ططر ولى السلطنة فارتكبت من يتعصب له في الشطط وقال: ظهر المراد في ططر، فلم ينشب ططر أن مات، ولم يحظ سودون في ولايته بطائل فضلا عما بعدما، وكان يكثر سؤال من يجالسه عن الشئ المعضل، فإذا أجابه عنه نفر منه قائلاً: ليس الأمر كذلك، ثم يعيد الجواب بعينه مظهراً أنه غيره، وله من ذلك عجائب، مات في 12 صفر.
عبد الله بن محمد القرافي جمال الدين، مهر في العربية، وأخذ عن الشيخ أبي الحسن الأندلسي، وعمل مقدمة لطيفة يتوصل بها إلى معرفة الإعراب بأسهل طريق، وانتفع به جماعة، مات في ربيع الأول.
عبد الرحمن بن محمد بن إسماعيل، القلقشندي ثم القدسي زين الدين إبن الشيخ شمس الدين سبط الشيخ صلاح الدين العلائي، اشتغل على أبيه وغيره، وأحب الحديث وطلبه، وكتب الطباق بخطه، وصنف ونظم، وكان فاضلا نبيها، سمع معي في الرحلة إلى دمشق كثيراً بها وبنابلس والقدس وغيرهما، وصار مفيد بلده في عصره، وقدم القاهرة في هذه السنة فأسمع ولده بها من جماعة، وكان حسن العقل والخط حاذقاً، رجع إلى بلده فمات بها وأسفنا عليه - رحمة الله تعالى.(3/316)
عبد الرحمن بن محمد بن صالح، المدني قاضي طيبة زين الدين، ولد سنة...... وسمع من ... وحدث قليلا وكان مزجى البضاعة، أقام في قضاء المدينة وخطابتها نحواً من ثلاثين سنة إلا أنه عزل في أثناء ذلك وأعيد مراراً، مات ليلة السبت في صفر، واستقر في وظيفته ولده أبو الفتح محمد.
عبد العزيز بن علي بن أحمد، النويري ثم المكي العقيلي عز الدين، تفقه على مذهب الشافعي وحفظ الفقه، ومهر، وقرأ سنن أبي داود على الشيخ سراج الدين البلقيني سنة اثنتين وثمانمائة، وكان أبوه مالكي المذهب فخالفه، وأقام بالقاهرة مدة وأخذ عن شيوخها، وأذن له الشيخ برهان الدين الأبناسي وبدر الدين الطنبذى، ثم دخل اليمن وولى القضاء بتعز ثم رجع إلى مكة فمات في هذه السنة بها في 21 ذي الحجة، وما أظنه جاوز الخمسين ثم رأيت مولده سنة ثمان وسبعين وسبعمائة.
عبد القادر ويدعى محمد ابن قاضي الحنابلة علاء الدين علي بن محمود ابن المغلي، السلماني ثم الحموي الحنبلي، مات وقد راهق، وقد نبغ وحفظ المحرر وغيره ونشأ على طريقة حسنة، وأسف أبوه عليه جداً ولم يكن له ولد غيره، فمات في نصف ذي القعدة.
عبد الوهاب ... بن تاج الدين ابن الرملي ناظر الدولة، ولد سنة أربعين أو قبلها بسنة، وتنقل في الخدم إلى أن ولي نظر الدولة بالقاهرة فاستمر على ذلك مدة، ثم شاركه صهره سعد(3/317)
الدين البشيري مدة طويلة، ثم استقل البشيري بالوزارة، واستمر هو إلى أن مات، وقد أحضره المؤيد ليحاسب الهروي على ما احتاجه من أموال القدس والخليل، فسأله عن مولده فقال: لي الآن اثنان أو ثلاث وثمانون سنة، وكان ذلك في سنة 22 وكان قد أسن وارتعش، ومات مفصولاً قبل موته بدون السنة، وكان يحب أهل الخير ويكثر الصدقة ويتبرأ من تناول المكس والأكل من ثمن ما يكون منه وكان يقول: أنا أستدين جميع ما آكله وألبسه حتى لا أتعاطى الحرام بعينه والله أعلم بغيبه.
علي بن رمح بن سنان بن قنا نور الدين، تفقه، وسمع من عز الدين ابن جماعة وابن القارئ وغيرهما ولكنه لم ينجب وصار بآخرة يتكسب في حوانيت الشهود إلى أن مات، وهو أحد الصوفية بالخانقاه البيبرسية، جاز الثمانين.
علي بن محمد بن محمد بن سالم بن موسى بن سالم بن أبي المكارم بن إسماعيل بن عبد السلام إمام الدين بن العميد. والعميد لقب عبد السلام المذكور، وكان العميد قاضي دمياط، وولي عدة من آباء إمام الدين القضاء، ثم ولي هو قضاء دمياط مدة ثم ولي قضاء المحلة، وكان عارفاً بالشروط قليل العلم، وجلس مع الموقعين مدة وناب في الحكم بالقاهرة، وكان بشوشاً جميل المعاشرة خبيراً بأمور الدنيا، مات في مستهل شعبان وله خمس وسبعون سنة.
عمر بن عبد الله بن عامر بن أبي بكر بن عبد الله سراج الدين الأسواني نزيل القاهرة، تعاني الآداب وسلك طريق المتقدمين في النظم، وكان عريض الدعوى كثير الازدراء لمن ينظم الشعر من أهل عصره، لا يعد أحداً منهم شيئاً ويقول: شعرهم بعر مقزدر، هو يقول: من يجعل لي خطراً على أي قصيدة شاء من شعر المتنبي حتى أنظم أجود منها!(3/318)
وكان قد دخل الشام وأخذ عن أدبائها ثم قدم القاهرة فاستوطنها من سنة تسعين، ولم يكن نظمه بقدر دعواه إلا أن ابن خلدون كان يطربه ويشهد له بأنه أشعر أهل العصر بعد ابن خطيب داريا، وكان للأسواني مشاركة في لغة وقليل من العربية، وما علمته ولي شيئاً من الوظائف، وقد حضر عندي في إملاء شرح البخاري، وأملي على الطلبة من نظمه أبياتاً في معرفة أسواق العرب في الجاهلية وهي رجز، وسمعت من لفظه قصيدة مدح بها المؤيد لما تسلطن بعناية الأدمي فغض منه البارزي، وكان يجتدي بشعره ويقلد المانة من يسمعه منه، ومن عنوان نظمه قوله:
إن ذا الدهر قد رماني بقوم ... هم على بلوتي أشد حثيثاً
إن أفه بيهم بشيء أجدهم ... لا يكادون يفقهون حديثا
واتفق بأخرة أنه مدح أبا فارس صاحب تونس فأرسل إليه بصلة، قيل إنها مائة دينار فقبضها وهو موعوك، فنزل المارستان فطال ضعفه ثم عوفي، فذكر بعض أصحابه أنه كان دفنها وغيرها في مكان، فلما رجع ووجدها جعلها في مكان آخر وانتكس فضعف أياماً يسيرة، مات بالمارستان ولم توجد الذهبية المذكورة ولا غيرها، مات في ربيع الأول وقد جاوز الستين.
عمر بن محمد، الصفدي - بنون مفتوحة ثم ياء تحتانية ساكنة ثم نون - زين الدين، اشتغل قديماً ومهر حتى صار يكاد يستحضر الكفاية لابن الرفعة، وأخذ عن علاء(3/319)
الدين حجي بدمشق وأنظاره، وسمع من ابن قواليح، وناب في الحكم في بلاد عديدة في معاملات حلب، ثم قدم القاهرة قبل سنة عشرين ونزل بالمؤيدية في طلبة الشافعية، ومات بها في جمادى الأولى وقد جاوز السبعين بل قارب الثمانين، فإنه ذكر ما يدل على أن مولده في حدود الخمسين، وكان كثير التقتير على نفسه، ووجد له مبلغ فوضع بعض الناس يده عليه ولم يصل لوارثه منه منه شيء - عفا الله عنه.
فارس بن عبد الله، الخازندار الرومي الطواشي، مات في النصف من المحرم، وكان قد تقدم في الدولة المؤيدية، وجود الخط على الشيخ عبد الرحمن بن الصائغ، وحفظ القرآن وتلاه على جماعة، واستقر بعده خشقدم خازندارا.
قطلوبغا التنمي أحد أمراء الألوف ثم ناب بصفد، مات في ليلة السبت سنة ست وعشرين ربيع الأول بدمشق بطالا -.
محمد بن الحسين بن عبد المؤمن ... الكازوروني ثم المكي جمال الدين أبو أحمد(3/320)
المؤذن، وله سنة بضع وأربعين، وأحضر على تاج الدين محمد بن أحمد بن عثمان بن أبي سعد الشهاب الهكاري والعز بن جماعة والنور الهمداني، وولي رئاسة المؤذنين بالحرم الشريف بعد البهاء عبد الله بن علي الكازوروني؛ ومات في ربيع الأول.
محمد بن خالد شرف الدين الشنشي - بفتح الشينين المعجمتين بينهما نون مفتوحة - كان موقع الحكم للشافعية، وكان ماهراً في صناعته، قوى الهمة شديد الجلد متثبتاً، لم يزل يحضر الدروس طالباً الوظائف المتعلقة به مع كبر السن إلى أن انقطع قدر شهر ومات في ثامن ربيع الآخر وقد جاوز الثمانين؛ ولو كان تصدى لسماع الحديث لأدرك إسناداً عالياً.
محمد بن عبد الله بن عمر بن يوسف، المقدسي الصالحي الحنبلي المعروف بابن المكي شمس الدين. ولد سنة إحدى وخمسين وسبعمائة، وتفقه قليلاً وتعانى الشهادة، ولازم مجلس القاضي شمس الدين ابن التقي، وولي رئاسة المؤذنين بالجامع الأموي وكان من خيار العدول عارفاً جهوري الصوت حسن الشكل، طلق الوجه منور اشيبة؛ مات في جمادى الأول بعد أن أصيب بعدة أولاد كانوا أعيان عدول البلد مع النجابة والوسامة فماتوا بالطاعون.
محمد بن علي بن أحمد، الغزي الحلبي المعروف بابن الركاب شمس الدين، ولد سنة ثمان وثلاثين وسبعمائة بغزة، وتعاني الاشتغال بالقراآت فمهر، وقطن بحلب، واشتغل في الفقه بدمشق مدة، ثم أقبل على التلاوة والإقراء فانتفع به أهل حلب، وكان قد أقرأ غالب أكابرهم، وأقرأ الفقراء بغير أجرة، وممن قرأ عليه قاضي حلب علاء الدين ابن خطيب الناصرية، وكان قائماً في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومواظبة الإقراء مع الهرم؛(3/321)
مات في تاسع عشر شهر ربيع الأول.
محمد بك بن علي بك قرمان، ناصر الدين تملك البلاد القرمانية مات في صفر من حجر أصابه في جبهته في حربه مع قرايلك.
محمد بن الشيخ شمس الدين محمد بن عبد الدائم البرماوي، مات ولم يبلغ العشرين، وكان قد مهر وحفظ عدة كتب، وتوجه مع أبيه إلى الشام فمات بالطاعون، فأسف عليه أبوه ولم يقم بالشام بعدها بل قدم القاهرة، وأحسن الله عزاه.
محمد المعروف بابن النحاس المقرئ في الجوق، شمس الدين، كان صاهر الشيخ شمس الدين الزرزاي، وقرأ على طريقته لكن لم يكن يدانيه بل كان في رفقته من يقرأ أطيب صوتاً منه لكن تقدم عليهم بالسكون وكثرة المال؛ مات في ربيع الأول.
محمد القادري الصالحي الشيخ، كان منقطعاً بزاوية بصالحية دمشق، وله أتباع ولهم أذكار وأوراد وينكرون المنكر، وشيخهم قليل الاجتماع بالناس، وكان بين المنقبض والمنبسط؛ مات في رجب بالطاعون.
محمد القباقبي الشيخ شمس الدين الحنبلي الصالحي، كان من قدماء الحنابلة ومشايخهم، وكان يتبذل ويتكلم بكلام العامة ويفتي بمسألة الطلاق وقد أنكرت عليه غير مرة، ولم يكن ماهراً في الفقه؛ مات في ذي القعدة وقد قارب الثمانين.(3/322)
سنة سبع وعشرين وثمانمائة
في الثامن من المحرم قدم ناظر الجيش عبد الباسط وشيخ علي الكيلاني وفخر الدين النوروزي والأمير قجق والأمير أركماس الظاهري، وكانوا حجوا فسبقوا ودخلوا في هذا اليوم، وصحبة ناظر الجيش مقبل أمير الينبع فأنزل دار الضيافة ووصل الركب في العشرين من المحرم الأول فسبق العادة بثلاثة أيام، وفي المحرم حضر مقبل نائب صفد فخلع عليه باستمراره.
وفيه وقع مطر عظيم في أواخر المحرم، دام خمسة أيام متوالية، ولم يعهد مثله منذ دهر بمصر.
وفيه استقر سودون من عبد الرحمن في نيابة دمشق عوضاً عن تاني بك البجاسي الذي استقر بها في العام الماضي، وكان استكثر من شراء المماليك وعزم على الخروج فبلغ ذلك السلطان، فعزله واستناب سودون وأمره بالقبض على تاني بك، فخرج سودون في السادس والعشرين من المحرم، فوصل الخبر بأن تاني بك نائب الشام أظهر العصيان، فوقع بينه وبين الأمراء بالشام وقعة فكسرهم تاني بك، فاستمروا في هزيمتهم إلى أن تلاقوا مع سودون في جسر يعقوب فمالوا وتبعهم تاني بك فحال بينهم الجسر، فأراد تاني بك أن يكبس على سودون فحذر منه وتوجه إلى دمشق وأمر شاهين نائب القدس أن يستعد لتاني بك بالحرب، وجد سودون في الوصول إلى دمشق حتى دخلها، فبلغ ذلك تاني بك فرجع خلفهم حتى وقع الحرب بدمشق، فكبا فرس تاني بك داخل باب الجابية فأمسك في الحال وحبس، ووصل الخبر بذلك صحبة على هجين في ستة أيام، فدقت البشائر، وسكنت الفتنة، ثم أحضرت(3/323)
رأس تاني بك إلى القاهرة فعلقت بباب زويلة، وكان السلطان عزم على إرسال عسكر مدد السودون فبطل ذلك.
وفي السادس والعشرين من المحرم استقر على بن عنان بن مغامس الحسني في إمرة مكة عوضاً عن حسن بن عجلان، وجهز السلطان معه عسكراً لمحاربة حسن، وكتب إلى قرقماس الذي حج في هذه السنة ويوم تأخر بالينبع أن يعين عل بن عنان، فإذا غلب علي يستقر في الإمرة ويرجع قرقماس إلى القاهرة، فخرجوا في أول ربيع الأول.
وفي يوم السبت الثاني والعشرين من المحرم استقر كاتبه في قضاء الشافعية بالقاهرة وما معها.
وفي يوم الثلاثاء أول صفر شرعت في الإملاء بالخانقاه البيبرسية أستملي على الشيخ زين الدين رضوان بن محمد العقبي.
وفي عاشر صفر قدم شمس الدين الهروي من القدس، فسلم على السلطان في الثاني عشر منة، وسكن مدرسة ابن الغنام بجوار بدر الدين العيني المحتسب.
وفي الرابع والعشرين من صفر قرر الشيخ سراج الدين قارئ الهداية في مشيخة الشيخونية بعد موت الشيخ شرف الدين التباني بعد وفاته، وقدمت له فرس من خيل السسلطان فركبها وتوجه بخلعته، ومعه أزبك رأس نوبة وهو يومئذ ناظر الشيخونية، ومشى معه جمع كثير من الطلبة، فصلى بالمدرسة ركعتين وتوجه إلى منزله بين القصرين.(3/324)
وفي ربيع الأول مالت المئذنة بالجامع الأزهر التي عمرت في سلطنة المؤيد سنة تسع عشرة، فأمر السلطان الأشرف بهدمها، فهدمت وأعيدت من أصح ما يكون.
وفي ثامن عشري شهر ربيع الأول استقر أزبك الأشقر دوايدارا كبيراً نقلاً من رأس نوبة، واستقر تغرى بردى المحمودي رأس نوبة نقلاً من الحجوبية، وخلع عليهما بذلك.
وفيه أنهى الشيخ شمس الدين البرماوي إلى السلطان أن شرط المؤيد أن لا يكون المدرس بها قاضياً وأعانه قوم آخرون، فانتزع تدريس الشافعية بالمؤيدية من كاتبه، فسعى كاتبه إلى أن أظهر كتاب الوقف وقد سكت عن الشرط المذكور فأعيد ذلك لكاتبه. وعوض البرماوي بأن ينوب عن علي حفيد العراق في جهاته بثلث المعلوم، فباشر ذلك.
وفي صفر ختن السلطان ولده محمداً وعمل له فرحاً كبيراً، فيقال إن الأعياد لقطوا في طشته بالذهب الكثير، فأمر به فجمع وأعطى المزين منه مائة ورفع الباقي للخزانة.
وفي التاسع من شهر ربيع الآخر استقر شمس الدين الهروي في كتابه السر بعد سعي شديد ووعد ببذل مال كثير، وانفصل جمال الدين الكركي والناس له شاكرون لحسن سيرته ولين جانبه، وكان يتشكى من رفقته ويستعفى إلى أن سعى الهروي فعزل، وأما الهروي فلبس تشريفاً كله حرير أبيض وطرحه حرير وحجرة بسرج ذهب وكنبوش زركش. وهرع الناس للسلام عليه، وكان الهروي لما قدم سلم الناس عليه إلا الحنبلي واستمر على ذلك، وكان حضر المولد السلطاني قبل ولاية كتابة السر فامتنع الحنيلي من الحضور بحضرته وتمادى على عدم السلام عليه، ثم أصلح السلطان بي الهروي وابن الديري وكان يطلق لسانه في الهروي فاصطلحا، فلما ولى الهروي ساءه ذلك وتكلم في الخلوة فبالغ.(3/325)
وفيه أمسك رجل من الصوفية بالمؤيدية وجدت عنده آلات الزغل، فأمر السلطان بقطع يده، فشفع فيه فأخرج وضرب ضرباً مبرحاً وسجن ثم أطلق مع المسجونين في أواخر شعبان.
وفي أوائل هذه السنة وقع بمكة وباء عظيم بحيث مات في كل يوم أربعون نفساً، وحصر من مات في ربيع الأول ألفاً وسبعمائة، ويقال إن إمام المقام لم يصل معه في تلك الأيام إلا إثنين وبقية الأئمة بطلوا لعدم من يصلي معهم.
وفي سابع جمادى الأولى أقيمت الجمعة بالمدرسة الأشرفية الجديدة برأس الحريريين، واستقر ناصر الدين الحموي الواعظ خطيبها.
وفي رابع عشر جمادى الأولى قدم القاضي نجم الدين ابن حجى من الشام إلى القاهرة، فاستقر في كتابة السر في العشرين من جمادى الآخرة، وركب معه جميع الأمراء الأماثل ولاقاه القضاة إلى قرب القلعة وصرف الهروي وصادف قول القائل:
صرف الكمال البارزي ويوسف ... وأخو هراة لمثلها يتوقع
وفي شهر ربيع الآخر كان قدوم الشيخ شمس الدين محمد بن محمد بن محمد الجزري المقرئ إلى دمشق طالبا للحج من شيراز، وكان قد قدم المدينة ثم مكة ورجع إلى شيراز، ثم قدم هذه السنة وقد تمت له ثلاثون سنة منذ فر إلى بلاد الروم ثم إلى بلاد العجم، وولى قضاء فارس وغيرها، وانتفع الناس به في القراآت والحديث.
وفي جمادى الأولى وصل قرقماس وعلي بن عنان إلى مكة فدخلاها بغير قتال، ونزح حسن بن عجلان عن مكة، ووصلت عند دخول علي بن عنان إلى جدة مركبان من الهند فتوجه إلى جدة لتعشيرها وفرح بذلك، لأنه يستعين بذلك على حاله.(3/326)
وفي جمادى الآخرة عقد مجلس بسبب أخذ الزكاة من التجار وكان ابن حجى أو الهروي حسن للسلطان ذلك، فأمر بحضور القضاة بالصالحية وأن يحضر معهم الهروي وابن حجى، فانفصل الأمر على أن كاتبه قال لهم: أما التجار فإنهم يؤدون إلى السلطنة من المكوس أضعاف مقدار الزكاة وهم مأمونون على ما تحت أيديهم من الزكاة وأما زكاة المواشي فليس في الديار المصرية غالباً سائمة، وأما زكاة النبات فغالب من يزرع من فلاحي السلطان أو الأمراء، فقال القاضي الحنفي وهو زين الدين التفهني مرجع جميع الأموال في إخراج الزكاة إلى أربابها إلا زكاة التجارة فللإمام أن ينصب رجلاً يقيم على الجادة يأخذ من المسلمين ربع العشر، ومن أهل الذمة نصف العشر، ولا يؤخذ من المسلم في السنة أكثر من مرة، وقال المالكي والحنبلي نحو ما قال كاتبه، وانفصل المجلس على ذلك وانفرجت عن التجار وغيرهم.
وفي جمادى الآخرة استقر الأمير ناصر الدين ابن العطار في نظر القدس والخليل، وصرف حسن وصودر على مال، ثم تعصب له بعض الأمراء فخفف عنه، وفيه قدم الشريف شهاب الدين الذي كان كاتب السر بدمشق إلى القاهرة وخلع على شهاب الدين ابن الكشك بقضاء الحنفية وسافر.
وفي رابع عشر جمادى الآخرة ماتت زوجة السلطان أم ولده محمد فدفنها بالمدرسة الأشرفية التي شرع في بنائها برأس الحريريين، وكانت وقفت عدة أماكن على جهات معينة، فطلب السلطان المكاتيب وحرقها، واستولى على الأماكن المذكورة بعد أن ثبتت وحكم بها العيني.(3/327)
وفي أواخر شعبان أطلق السلطان أهل الحبوس حتى أهل الجرائم ظناً أن في ذلك قربة فالله المستعان! وفي ثالث عشر جمادى الآخرة وصل علاء الدين علي بن موسى الرومي، وكان وصوله في البحر إلى دمياط ثم وصل في بحر النيل إلى بولاق، فتلقاه العيني وأنزله بجواره وأطلعه إلى السلطان فسلم عليه في مستهل رجب، وامتحنه كاتب السر بمسألة فبهت فلم يجب عنها، وبادر العيني فأجاب عنه.
وفي الثالث من رجب استقر الشيخ علاء الدين الرومي علي بن موسى في مشيخة الأشرفية وحضر إجلاسه جماعة من الأعيان، وكان أكرمه السلطان إكراماً زائداً، فلما كان في شهر رمضان أرسل إليه جملة من القمح والسكر والذهب، ثم استأذنه في الحج فأعطاه مركوباً ونفقة ووصى عليه من حج صحبته من الأمراء.
وفيه توقف النيل في العشر الثاني من مسرى ونقص إصبعاً وأمطرت السماء، وخرجت العادة أن المطر إذا وقع والنيل في زيادة نقص، فاضطرب الناس لذلك وماجوا، وازداد سعر القمح سبعين درهماً كل إردب، فلطف الله وزاد النقص وكسر الخليج في ثالث عشرى مسرى واطمأن الناس وتراجع السعر.
وفي ثالث عشرى رجب إستأذن ابن الديري في السفر إلى القدس، فيقال: خشى أن يدخل رمضان فيلزم بحضور سماع الحديث فيجلس الهروي فوقه، فاتفق أن البخارى لما قرئ حضر السلطان وعن يمينه الشافعي ثم الحنفي ثم المالكي، وعن يساره الهروي ثم الحنبلي(3/328)
ثم شيخ الأشرفية ثم الشيخ يحيى شيخ الظاهرية ثم شيخ الشيخونية قارئ الهداية. ثم صار يحيى يجلس خلف السلطان ليسأله عما يريد فهم معناه من المباحث.
وفيها في جمادى الآخرة قدم تونس الأمير محمد أبي تاشقين عبد الرحمن بن أبي حمو موسى من بني عبد الواد ويعرف بإبن الزكاعنة فاستنجد بصاحبها، فسار معه أبو فارس سلطانها إلى تلمسان وجهز معه عسكراً، ففر منه عبد الواحد إلى فاس وملكها إبن الزكاعنة. وقام بدعوة أبي فارس وكان ما سنذكره سنة إحدى وثلاثين وثمانمائة.
وفي سابع رمضان ضرب الأمير الكبير بيبغا المظفري نور الدين الطنبذى كبير التجار ضرباً مبرحاً لعناد وقع منه في حقه، فبادر الحاجب الكبير واستخلصه من يده، فأنهى الأمر إلى السلطان فأضمر ذلك ولم يظهره وأغرى بيبغا زين الدين الدميري بالطنبذى فادعى عليه أنه اشترى منه بستاناً وهو في المصادرة والبستان المذكور كان أبوه وقفه، فعقد بسبب ذلك مجلس فلم ينفصل لهم أمر، فلما كان في التاسع والعشرين من شوال قبض على بيبغا المظفري وسجن بالإسكندرية، واستقر عوضه الأمير قجق بأقطاعه وزيد من أقطاع بيبغا شيئاً، وقسم بقية أقطاعه بين تغرى برمش نائب القلعة واينال الجكمى وكان بطالا بالقدس فأحضر بالإرسال إليه من القدس، وكان في أيام المؤيد شاد الشربخاناة، ثم استقر رأس نوبة كبيراً بعد المؤيد، ثم تولى نيابة حلب مدة يسيرة ثم قبض عليه وحبس، ثم أفرج عنه الملك الأشرف وأقام بالقدس بطالاً ثم أرسل إليه بعد إمساك بيبغا المظفري، فقدم في نصف ذي القعدة وخلع عليه واستقر أمير مجلس عوضا عن إينال النوروزي، واستقر إينال أمير سلاح عوضا عن قجق الذي استقر عوضا عن بيبغا، وانتهت زيادة النيل في هذه السنة إلى خمسة عشر إصبعاً من ثمانية عشر ذراعاً وكسر الخليج في ثالث عشرى مسرى، فباشر ذلك محمد بن السلطان ومعه أزبك الدويدار، ثم توقف النيل أياما وإرتفع سعر القمح، ثم تراخى فشرق غالب البلاد.(3/329)
وفي يوم الأحد الخامس والعشرين من رمضان ختم البخارى بحضرة السلطان، فخلع على القضاة على العادة، وخلع على العيني والهروي جبتين بسمور. فغضب الحنبلي وواجه السلطان وهو لابس الخلعة التي خلعت عليه بالعتاب وأغلظ عليه فحنق منه، وتوجه على غير شئ واستمر مغضباً فلم يحضر يوم العيد فازداد الحنق، ثم إنه استعان بولي الدين السفطي عند رأس نوبة الكبير تغرى بردى المحمودي، فأحضره عند السلطان واعتذر فقبل عذره، ثم إستأذن للحج فأذن له فأكترى وتجهز جهازاً واسعاً وهيأ لنفسه محفة ولأهله عدة محائر، فبلغه أن السلطان أمر أنه إذا قضى حجه من المدينة إلى الشام ويقيم ببلدة حماة بطالاً، فترك الحج وفرق جميع ما هيأه من الزاد حتى كان من جملته مائة علبة حلوى، وتصدق بجميع الدقيق والبقسماط وغير ذلك على الفقراء، فاتفق أنه عقب ذلك سقط من سلم في داره فتألم فخذه، فعولج وأقام مدة متمرضاً ثم عوفى، ودخل الحمام ثم انتكس، فلم يزل حتى عاوده القولنج في السنة المقبلة فمات كما سنذكره. وفي هذه المرة جددت للمشايخ الذين يحضرون سماع الحديث فراجى بسنجاب، وهو أول ما فعل بهم ذلك، وكانت عدتهم نحو العشرين، ثم ازداد الأمر إلى أن زادوا على المائة في سنة 42، ثم قطع جمعهم عن ذلك في سنة 846.
وفي هذه السنة جهز السلطان إلى بلاد الفرنج مركبين وأخرج إليهم من بيروت مركباً ومن صيدا مركبا، فاجتمعوا وعدتهم ستمائة مقاتل وصحبتهم ثلاثمائة فرس، ونازلوا جزيرة الماغوصة فانتهبوها وأحرقوا ما بها من القرى وما بساحلها من المراكب، وقدموا سالمين غانمين وفرح الناس بذلك، وكان رجوعهم في شوال فقدموا في العشرين من ذي القعدة، وكان عدد الأسرى ألفاً وستمائة نفس،(3/330)
واستهل شوال يوم السبت.
وفي الثامن من ذي القعدة صرف كاتبه عن القضاء، واستقر شمس الدين الهروي وباشر كعادته وفي عيد الأضحى وقع بين بعض المماليك السلطانية تشاجر بسبب قسمة الأضحية فتراموا بالحجارة، فوقع منها بالقرب من السلطان وبعض الأمراء فغضب من ذلك وتلافى الأمر لئلا يفحش.
وفي سادس ذي الحجة قام جماعة من الصوفية بخانقاه سرياقوس على شيخهم ابن الأشقر وكان قد حج في هذه السنة، ورافع فيه صيرفي الخانقاه واسمه إبراهيم، فكاد الأمر يخرج عنه لكن انتصر له ناظر الجيش واستمهل السلطان عن إخراج وظيفته حتى يرجع من الحج.
ذكر من مات
في سنة سبع وعشرين وثمانمائة من الأعيان.
أحمد الملك الناصر بن الملك الأشرف، إسماعيل بن الأفضل، عباس ابن المجاهد علي، صاحب اليمن - تقدم تمام نسبه في ترجمة أبيه. ومولده سنة ... واستقر في المملكة بعد أبيه سنة ثلاث وثمانمائة، وجرت له كائنات تقدم ذكر أكثرها، وكان فاجراً جائراً، مات بسبب صاعقة سقطت على حصنه من زجاج، فارتاع من صوتها فتوعك ثم مات في سادس عشر جمادى الآخرة، قال الله تعالى: ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء.(3/331)
أحمد بن عبد الله، شهاب الدين البوتيجي الشافعي، تفقه ومهر، وكان يستحضر المنهاج عن ظهر قلبه، وكان يتكسب بالشهادة ثم تركها تورعاً.
أحمد بن عيسى بن أحمد المقرئ، نزيل الجامع الأزهر، الشيخ شهاب الدين المالكي الصنهاجي، مات في سابع المحرم وكان ماهراً في العربية والقراآت والفقه، منتصباً لإقراء الناس جميع نهاره وأكثر ليله، لا يمل من ذلك، وانتفع به بشر كثير، وكثر التأسف عليه.
أحمد القاضي محب الدين بن الشيخ جمال الدين محمد بن عبد الله إبن ظهيرة، المخزومي الشافعي، قاضي مكة وابن قاضيها ومفتيها وابن مفتيها، ولد في جمادى الأولى سنة تسع وثمانين، وحفظ المنهاج وعدة كتب، وتفقه بوالده وغيره، وأذن له في الإفتاء الشهاب الغزي والشهاب ابن حجى وغيرهما، وكان ماهراً في الفقه والفرائض والحساب والفلك، حسن السيرة في القضاء، ولي من سنة ثماني عشرة إلى أن مات إلا أياماً يسيرة سنة تشع عشر كان عزل فيها ثم أعيد، ومات في جمادى الأولى، وخلت مكة بعده ممن يفتي فيها على مذهب الشافعي، وكان مشكور السيرة لما ولي القضاء.
أحمد الحجيراني اللؤلؤي الشيخ شهاب الدين، كان أبوه خطيب قرية حجيرا، ونشأ هو في طلب العلم وقرأ على ابن الحباب ثم صحب الشيخ الموصلي، وكان يرتزق من ثقب اللؤلؤ، وحصل كتبا كثيرة، ومات في المحرم عن نحو الستين بقريته.
أبو بكر بن عمر بن محمد، الطريني ثم لمحلى الشيخ الفاضل المعتقد(3/332)
زين الدين، كان صالحاً ورعاً حسن المعرفة بالفقه على مذهب مالك قائماً في نصر الحق، وله أتباع وله صيت كبير، مات في حادى عشر ذي الحجة وقد جاوز الستين.
تاني بك البجامي نائب دمشق، تنقل في الخدم في أيام الناصر فرج، وولى نيابة حماة في أيام المؤيد سنة سبع عشرة، ثم كان ممن خامر مع قانباي، فلما انكسروا هرب إلى التركمان فسار آقباي وراءه إلى الغمق، فانهزم إلى بلاد الروم، فلما مات المؤيد دخل إلى دمشق فولاه ططر نيابة حماة، ثم نقله إلى طرابلس في رمضان سنة 24 بعد أن تسلطن في ذي الحجة من السنة، ثم قرر في أيام الصالح ابن ططر في نيابة حلب عوضاً عن تغري بردى ابن قصروه بحكم عصيانه فسار لقتاله وانضم إليه عسكرها وغيره، فلما وصلوا إلى حلب هرب تغرى بردى وانضم إلى كزل الصهيوني الذي كان هارباً من المؤيد وأقاما في بهنسا فحاصرهما تاني بك بها، فمات كزل في الحصار، ثم نقل تاني بك إلى نيابة دمشق لما مات تاني بك العلائي المعروف بميق وذلك في رمضان فدخلها في شوال، فلما كان في صفر من هذه السنة بلغ السلطان عنه شئ فكتب إلى الحاجب بالركوب عليه، فركبوا فقاتلوه فانكسروا منه، ودخل إلى دار العدل فأظهر الإحسان والمخامرة على السلطان، فجهز إليه سودون من عبد الرحمن الذي كان دويدارا كبيراً في عسكر، فلما بلغ ذلك تاني بك البجاسي خرج إليهم فلما وصل إلى جسر يعقوب خالفوه في الطريق إلى دمشق فدخلوها، فرجع هو وسار حتى وصل إلى قبة يلبغا فوصلها وقد تعبت خيوله وخيول من معه ومع ذل فقصدهم، فقاتلوه فانكسروا منه، فسار في إثرهم إلى أن جاوز باب الجابية(3/333)
فسقطت رجل فرسه في حفرة من القناة فوقع فأمسكوه، فأمر بقتله فقتل بقلعة دمشق في شهر ربيع الأول، وكان كثير الحياء والشجاعة والشفقة، وقد أحسن في تلك السنة إلى الحاج لما رجعوا فإنهم لقوا مشقة عظيمة بتراكم الرياح بحوران، فخرج إليهم بنفسه ومعه أنواع الزاد حتى الزرابيل وفرقت فيهم، فانتفع الغني والفقير وأفرطوا في الدعاء له، فكان عاقبته الشهادة - سامحه الله تعالى.
سليمان الملك العادل بن المجاهد غازي بن الكامل محمد بن الموحد أبي بكر بن المعظم توران شاه بن الصالح أيوب بن الكامل أبي المعالي أبي بكر محمد بن أيوب أقعد ملوك الأرض في مملكة حصن كيفا إلا صاحب صعدة الإمام الزيدي فإنه أقعد في المملكة منه، وأما العادل هذا فأقام في مملكة الحصن نحو الخمسين سنة، وله فضائل ومكارم وأدب وشعر واعتناء بالكتب والآداب، واستقر بعده في مملكة الحصن ولده الملك الأشرف أحمد(3/334)
بن سليمان، ثم قتل أحمد في سنة ست وثلاثين. واستقر في مملكته ولده عزيز الدين الفضيل - وقد قدمت في حوادث سنة تسع عشرة ذكر يوسف ابن أخي العادل سليمان المذكور.
عبد الله بن محمد بن محمد بن محمد بن زيد، البعلبكي المعروف بابن زيد، ولد سنة ستين تقريباً، وأسمع على ... وتفقه على ابن الشريشي والقرشي وغيرهما بدمشق، ثم ولي قضاء بلدة قبل اللنك ودرس وأفتى، ثم ولي قضاء طرابلس في سنة عشر، ثم ولاه المؤيد قضاء دمشق عوضاً عن نجم الدين بن حجى(3/335)
في سنة تسع عشرة ثم في سنة ست وعشرين في أيام الأشرف، وكانت مدته في الولايات يسيرة جداً، الأولى ستة أشهر والثانية شهرا ونصفاً، ولما صرف في النوبة الثانية حصل له ذل كبير وقهر زائد، وذهب غالب ما كان حصله في عمره، ولحقه فالج إلى أن مات في شهر ربيع الأول.
عبد الله بن مسعود بن علي، الملبى القرشي أبو محمد المعروف بابن القرشية، أخذ عن أبيه عن الواد ياشي وعن أبي عبد الله بن عرفة وأبى على عمر بن قداح الهواري أحد من أخذ عن محمد بن عبد السلام شارح ابن الحاجب وأحمد بن إدريس الزواوي شيخ بجاية بل أخذ عنه المسلسل بالأولية ومصافحة المعمرين وأبى عبد الله بن مرزوق وأبى الحسن البطرني في آخرين يتضمنهم فهرسته رأيتها بخطه، وقد أجاز فيها لأبي الفرج سرور بن عبد الله القرشي الحلبي دارا في رجب سنة 822، ومات بتونس في هذه السنة على ما ذكر لي الشيخ أبو الفرج سرور المذكور وهو ابن أخيه.
عبد الرحمن بن علي بن يوسف بن الحسن بن محمد، القاضي زين الدين أبو الفرج الزرندي قاضي الحنفية بالمدينة، ولد في ذي القعدة سنة ست وأربعين بالمدينة، وسمع على عز الدين ابن جماعة وصلاح الدين العلائي وأجاز له الزبير بن علي الأسواني فكان خاتمة أصحابه، مات في ربيع الأول.
عبد الوهاب تاج الدين المعروف بابن كاتب المناخات، تقدم ذكر ولايته الوزارة في الحوادث وأنه صرف وصودر، ثم صرف على عقب وفاة الأستادار الذي صرف بموته(3/336)
وهو ناصر الدين ابن أبو والى، وأعيد صلاح الدين ابن نصر الله، وكان تاج الدين ضخماً طوالا ريض الأخلاق عارفاً بالكتابة، وباشر الديوان المفرد مدة طويلة.
علي بن عبد الكريم نور الدين القوي، سمع من الشيخ حمال الدين ابن نباتة وأحمد بن يوسف الخلاطي وغيرهما، وحدث بالكثير، سمعت عليه السيرة النبوية لابن هشام ونعم الشيخ كان! مات في خامس ذي الحجة وبلغ الستين.
علي بن لؤلؤ، نور الدين، كان عالماً عاملاً متورعاً، لا يأكل إلا من عمل يده ولم يتقلد وظيفة قط، وكان ملازماً للإقراء بالجامع الأزهر وغيره، وانتفع به الناس، وله مقدمة في العربية سهلة المأخذ، مات في عشر الستين....
فاطمة بنت قجقار، زوج الملك الأشرف برسباي وأم ابنه محمد، ماتت ودفنت في المدرسة التي استجدها بالحريريين، وصلى عليما أمام باب الستارة،(3/337)
وتقدم الشافعي للصلاة عليها والسلطان والأمراء وغيرهم خلفه، وكانت جنازتها حافلة، وقرئ عليها ليلاً ونهاراً، ماتت في خامس عشرى جمادى الآخرة.
قاسم بن سعد بن محمد، الحسباني شرف الدين المعروف بالسماقي، ولد سنة ثمان أو تسع وأربعين، وقرأ الكتب واشتغل قليلاً، وتعانى الشهادة ثم صار موقعاً للحكام، واستنابه ابن حجى، فباشر القضاء ولم يترك الجلوس مع الشهود، ثم ولي قضاء حمص، وكان قليل البضاعة كثير الجرأة متساهلاً في الأحكام، مات في شعبان.
محمد بن أحمد المبارك الحموي الحنفي ابن الخرزي، ولد قبل سنة ستين، واشتغل على الصدر بن منصور وغيره من أشياخ الحنفية بدمشق، ثم سكن حماة، وتحول إلى مصر بعد اللنك وناب عن بعض قضاة الحنفية، ثم تحول إلى دمشق ودرس، وكان مشاركاً في عدة فنون إلا أن يده في الفقه ضعيفة، وكان كثير المرض، مات في شعبان.
محمد بن أبي بكر بن علي بن يوسف، الذروي الأصل الصعيدي ثم المكي نجم الدين المعروف بالمرجاني، ولد سنة ستين أو في التي بعدها بمكة، وأسمع على العز بين جماعة وغيره، وقرأ في الفقه والعربية، وتصدى للتدريس والإفادة، وله نظم حسن ونفاذ في العربية وحسن عشرة، ورحل في طلب الحديث إلى دمشق فسمع من ابن خطيب المزة وابن المحب وابن الصيرفي وغيرهم بإفادة الياسوفي وغيره، وكان يتثنى عليه وعلى فضائله، وحدث قليلاً، مات في شهر رجب، وقد سمعت منه قليلاً من حديثه ومن نظمه وكانت بيننا مودة.(3/338)
محمد بن عبد الله بن سعد بن أبي بكر بن مصلح بن أبي بكر بن سعد، المقدسي الحنفي، القاضي شمس الدين ابن الديري، كان أبوه من التجار فولد له هذا في سنة إثنتين أو ثلاث وأربعين وسبعمائة، والديري نسبة إلى مكان ببردا من جبل نابلس، وتعانى الفقه والاشتغال في الفنون وعمل المواعيد، ثم تقدم في بلده حتى صار مفتيها والمرجوع إليه فيها، وكانت له أحوال مع الأمراء وغيرهم يقوم فيها عليهم ويأمرهم بكف الظلم واشتهر ذكره، فلما مات ناصر الدين بن العديم في سنة تسع عشرة استدعاه المؤيد فقرره في قضاء الحنفية بالقاهرة وكان قدمها مراراً، فباشرها بشهامة وصرامة وقوة نفس، ثم انمزج مع المصريين وساس الناس، وكان منقاداً لما رام به منه ابن البارزي، فلما كملت عمارة المؤيدية سأل السلطان أن يقرره في مشيختها، فأجابه بعد أن كان عين لها بدر الدين ابن الأقصراني، وظن ابن الديري أن السلطان لايخرج عنه القضاء فجاء الأمر بخلاف ظنه، فلما قرره في المشيخة قال له - ونحن نسمع: الآن استرحنا واسترحت - يشير بذلك إلى كثرة الشكاوى من الأمراء فيه، وقرر في قضاء الحنفية القاضي زين الدين التفهني، وكان ابن الديري كثير الإزدراء بأهل عصره، لا يظن أن أحداً منهم يعرف شيئا مع دعوى عريضة وشدة إعجاب، يكاد يقضي المجالس بالثناء على نفسه، مع شدة التعصب لمذهبه والحط على مذهب غيره - سامحه الله تعالى! مات في سابع ذي الحجة ببيت المقدس. وكان يأسف على فراقه يقول: سكنته أكثر من خمسين سنة ثم أموت في غيره! فقدرت وفاته به. وذكر العيني في تاريخه أنه زاد على التسعين، وليس كما قال فإنه كان يقول إن مولده سنة خمس وأربعين، فسألته عن سبب إختلاف قوله فذكر أنه لا يحققه وإنما يجيب بطريق الظن، والذي صدرت به الكلام هو الذي حصل من الإستقراء من مجموع(3/339)
كلامه، واستقر ولده سعد الدين في مشيخة المدرسة المؤيدية، وخلع عليه في الرابع والعشرين من ذي الحجة.
يعقوب بن جلال واسمه رسولا ويسمى أيضاً أحمد الرومي التباني الحنفي الشيخ شرف الدين، ولد سنة ستين تقريباً، وتفقه على أبيه وغيره ومهر في العربية، وأحب الحديث وشرع في شرح المشارق، وكان يستحضر كثيراً من فروع الحنفية مع براعة في العربية والمعاني والبيان ومع بشاشة الوجه وطلاقة اللسان وكرم النفس والسخاوة، جواداً، وكان أول ما ولى التدريس والخطابة والإمامة بمدرسة الجائي في حدود سنة تسعين، وولي مشيخة تربة قجا السلحدار، وولى مشيخة قوصون مدة ثم رغب عنها، وولي نظر القدس بعناية ايتمش ثم صرف عنه، وولي في سلطنة المؤيد مشيخة الشيخونية ونظر الكسوة ووكالة بيت المال، ثم صرف عن الكسوة وحصلت له جائحة مع الدويدار بسببها فصرف عنها واستمر في الوكالة وفي الشيخونية حتى مات فجأة، وجرت له خطوب مع الناصر فرج واتصل بالمؤيد فعظم قدره عنده، ولو كان يصون نفسه ما تقدمه أحد! ورقت حاله بعد موت المؤيد جداً، واستقر بعده في وكالة بيت المال نور الدين الصفطي شاهد الأمير الكبير، واستقر في الشيخونية بعده الشيخ سراج الدين قارئ الهداية، وذكر العيني أنه عاش زيادة على سبعين - فالله أعلم.(3/340)
سنة ثمان وعشرين وثمانمائة
في ثامن المحرم حضر المبشر بالصالحية وذكر أنه تعوق بسبب مقبل، وكان مقبل قد فر من القاهرة فصار ينزل في طريق الحاج وربما حصل ممن يصحبه لمن يمر به أذى، وتأخر قدوم الحاج عن العادة يومين فقدم الأول في الرابع والعشرين والمحمل في الخامس والعشرين، وذكروا أنهم تأخروا بمنى يوماً من أجل بهار السلطان، وتأخروا في وادي مرو يوماً آخر بسبب حسن بن عجلان لأنه أشيع أنه يدخل مكة إذا خرج الحاج، فأقام أمير الحاج ومن معه من الجند يوماً حتى تحققوا عدم صحة ذلك.
وفي الرابع عشر منه حضر يوسف بن قطب الدين الحنفي من حلب وأظهر الإزدراء بعلماء الحنفية وأنه ليس فيهم مثله فأمر السلطان بحمع فضلاء الحنفية فحضروا بمجلسه وأحضرت فتاوى كتبت من نسخة واحدة فدفع للشيخ نظام الدين يحيى شيخ الظاهرية واحدة وللشيخ بدر الدين العينتابي واحدة وللشيخ سراج الدين قارئ الهداية وهو يومئذ شيخ الشيخونية واحدة ولصدر الدين ابن العجمي واحدة وللشيخ سعد الدين ابن الديري شيخ المؤيدية وكان استقر فيها بعد موت أبيه واحدة وللشيخ يوسف واحدة، وأمروا أن يكتبوا عليها منفردين، فأجابوا إلى ذلك إلا يوسف فقال: أنا لا أكتب إلا بمنزلي، فسجلوا عليه العجز وكتبوا كلهم غيره، ودفع السلطان لقاضي الحنفية رين الدين التفهني الفتاوى لينظر من أصاب منهم ممن أخطأ، وانفصل الأمر على ذلك.
وفي يوم الجمعة سادس عشر المحرم وصل طوخ الذي كان توجه أميراً على العسكر المجهز إلى مكة في العام الماضي نجدة لقرقماس وعلي بن عنان، فأخبر أن الركب تأخر خروجهم عن مكة يومين بسبب أن التجار سألوا أمير الركب أن يتأخر لأجلهم يوماً ففعل، فطلب منه قرقماس أن يتأخر يوما آخر ففعل، وتوجه من في الركب الأول والثاني مع قرقماس فأوقعوا بابن حسن بن عجلان، وجرح من الطائفتين جماعة وانهزم ابن حسن.(3/341)
وفيها سارت الهدية من مصر إلى بلاد العجم لملكها شاه رخ بن اللنك، وكان أرسل يسأل في أن يؤذن له في كسوة الكعبة من داخل فكتبت أجوبته.
وفي ربيع الأول جهز السلطان إلى مكة عسكراً. وفيه أرسل الشيخ محمد بن قديدار ولده إلى صاحب قبرس يسأل أن يطلق من عنده من أسرى المسلمين ليسعى له في التمكين في زيارة القمامة، فعوق ولده فضج الشيخ من ذلك وكان من غزو المسلمين قبرس ما سيأتي ذكره، وكمل الغراب الذي أنشأه السلطان لغزو الفرنج وأنزل البحر وكان يوماً مشهوداً. وفيه وصل رسل قرايلك من التركمان......
وفي سابع عشر ربيع الآخر قدم نائب الشام فخلع عليه وأعيد إلى إمرته على عادته، وشفع في طرباي بأن يطلق من سجن الإسكندرية إلى دمياط، فأجيب إلى ذلك، ووقع في العشر الأخير من أمشير حر شديد حتى نزع الناس الفراء والجوخ وظنوا أن الشتاء انقضى، فلم يكن إلا خمس ليال حتى عاد البرد أشد مما كان. وفي هذا الشهر أوقع قرقماس أمير الحجاز بأهل الطائف وذلك لأنهم قطعوا الميرة عن مكة، فأذعنوا له وحصل بمكة أمن كثير ورخاء زائد.
وفيه توجه الشيخ شمس الدين ابن الجزري إلى بلاد اليمن، فأكرمه ملكها وسمع عليه الحديث وأنعم عليه بمال وأطلق له كثيراً من تجارته بغير مكسها، ورجع في البحر كما سافر منه، وعجب الناس من شدة حرصه مع كثرة ماله وعلو سنه.(3/342)
وفي سابع عشر ربيع الآخر شكا نائب الشام إلى السلطان من حسين كاتب السر، ففوض أمر ولايته وعزله له.
وفي جمادى الأولى وقع بدمياط حريق عظيم حتى يقال احترق قدر ثلثها، وهلك من الدواب والناس والأطفال شئ كثير.
وفي جمادى الأولى كملت مدرسة السلطان التي أنشأها بجوار الحانقاه السرياقوسية الناصرية، وقرر فيها شيخاً وصوفية، وفي العاشر منه استقر بدر الدين بن نصر الله في الأستادارية عوضاً عن ولده صلاح الدين بحكم استعفائه، وبعد يومين استقر كريم الدين عبد الكريم ابن سعد الدين المعروف بابن كاتب جكم في وظيفة نظر الخاص عوضاً عن ابن نصر الله المذكور، فحصل لإبن نصر الله بذلك مشقة عظيمة، فباشر الأستادارية بمفردها إلى ثامن شعبان فأمسك هو وولده، واستقر في الأستادارية زين الدين عبد القادر بن أبي الفرج، وهو شاب أمرد.
وفي جمادى الآخرة والشمس في برج الثور في خامس بشنس من الأشهر القبطية أمطرت السماء مطراً غزيراً جداً، ثم في الثامن عشر منه قرب نقل الشمس إلى الجوزاء، أمطرت أيضاً مطراً غزيراً عقب ريح شديدة هبت ليلاً، وكان الورد في هذه السنة قليلاً جداً، وفي عاشره قبض على نجم الدين ابن حجى كاتب السر وعوق في البرج بالقلعة، ثم نفي إلى الشام، ووكل به شرطي معه في سلسلة من حديد وأهين جداً، وألزم الموكل به أن ينادي عليه في كل بلد دخله، فإذا وصل إلى دمشق نودي عليه: من كانت له عليه ظلامة فليطلبها! وأحيط بداره وحمل جميع ما فيها، فلما وصل غزة وافاه كتاب السلطان بإطلاقه وإكرامه وإيصاله إلى دمشق وإقامته بها بطالاً، وكان السبب في ذلك أنه باشر كتابة(3/343)
السر بغير خبرة بإصلاح الوظيفة وسلك مع المصريين طريقته في حدة الخلق والبادرة الصعبة مع الإقبال على اللهو في الباطن فيما يقال، ثم إنه كان ألزم بعشرة آلاف دينار فحمل منها خمسة فطولب بالخمسة الأخرى ولوزم بالمطالبة، فضج من ذلك وكتب للسلطان ورقة يذكر فيها أنه منذ ولي السلطنة غرم كذا وكذا ألف دينار وفصلها ومن جملتها للباشرين لفلان كذا ولفلان كذا لمن لا يسمى كذا - ورمز إلى جانبك الدويدار، فبلغ ذلك من نسب إليهم الأخذ منه، فحنقوا منه وأمالوا عليه جانبك وهو شاب حاد الخلق قوي النفس كثير الإدلال على مخدومه، فشكا من كاتب السر للسلطان والتمس منه أن يمكنه منه، فأذن له - فأخرجه على الصورة المذكورة، ثم قام ناظر الجيش عليه حتى هدأ خلقه، ورجعه عما كان أمر به من المبالغة في إهانته، ورأى أن المقصود قد حصل بزيادة وربح الجميل عليه بتخليصه من الشدة المذكورة، والتزم عنه بمال يحمله إذا وصل إلى دمشق، ففعل ذلك ودخل دمشق ولزم بيته بطالاً، وجفاه أكثر الناس إلى أن كان في السنة المقبلة منه ما سيأتي ذكره.
ومن الإتفاق العجيب أنه طلب بطرك اليعاقبة فراجعه في شئ خاطبه به فأغضبه، فأمر بضربه فضرب على رجليه نحو أربعمائة عصى، فاغتاظ القبط لذلك وبالغوا في التأليب على ابن حجى إلى أن اتفق له ما ذكر، واستقر في كتابة السر بعده بدر الدين محمد بن بدر الدين محمد ابن أحمد - بن مزهر الدمشقي، وكان قدم مع المؤيد أحد الموقعين، واستقر في نظر الإصطبل وتقدم وصار أحد الرؤساء في دولة المؤيد لكن كان لا يرفع رأسه مع وجود ابن البارزي، فلما مات استقر نائب كاتب السر وكبير الموقعين وصار يصرف أكثر الأمور في مباشرة كمال الدين ولد البارزي، ثم لما استقر علم الدين بن الكويز في كتابة السر كان هو القائم بأكثر الأمور وسماه السلطان خليفة كاتب السر وراج عليه وعرف أخلاقه وتمكن منه إلى أن تقرر في كتابة السر بعد كائنة ابن حجى في ثامن عشرى جمادى الآخرة، فباشرها أربع سنين متوالية.
وفي ثاني عشر رجب قرئ تقليده بالمدرسة الأشرفية، فوقع من علاء الدين الرومي(3/344)
شيخها إساءة أدب في حق القاضي الحنفي فعزره بالكلام وأقامه من المجلس، ثم شكا الحنفي لمن حضر من المباشرين فبلغوا الأمر للسلطان، فأمر بإخراجه من المدرسة فكشف الحنفي رأسه، وأصلح بينهما ناظر الجيش وصرف رأي السلطان عن عزله بعد أن كان أمر بتقرير الشيخ سراج الدين قارئ الهداية مكانه، واشترط عليه لزوم الأدب في البحث - وترك البحث بعده ... -.
وفي الثامن من شهر رجب صرف الهروي عن قضاء الشافعية وتقرر كاتبه، قرأت بخط قاضي الحنابلة محب الدين: كان يوماً مشهوداً وحصل للناس سروران عظيمان: أحدهما بولايته لأن محبته معروفة في قلوب الناس، والثاني بعزل الهروي فإن القلوب كانت اتفقت على بغضه لإساءته في ولايته وارتكابه الأمور الذميمة. وفي الثامن من رجب توجه القاضي المستقر إلى مصر في موكب عظيم، ومعه من القضاة ونوابهم والفقهاء من لا يكاد يحصر، وكان يوماً مشهوداً، انتهى ما نقلته من خطه ورحل الهروي من القاهرة خفية من شدة مطالبات الناس له، وذلك في التاسع عشر منه.
وفي رجب هيأ الأشرف العسكر الذي ندبه لغزو الفرنج وأميرهم جرباش الحاجب الكبير وأنفق فيهم، وعين لذلك جماعة من الأمراء - والمماليك السلطانية -، وسافروا في شهر رمضان، فوصلوا إلى ساحل الماغوصة في سادس عشرى شهر رمضان، فسمع بهم صاحبها فبذل لهم الطاعة وجهز لهم الأموال ودلهم على عورات صاحب جزيرة قبرس فأقاموا ثلاثاً، ثم توجهوا إلى جزيرة في البحر فيها الماء الحلو فتزودوا منها، ووقع لهم بعض الفرنج في البحر فقاتلوهم إلى أن فر الفرنج ورجع المسلمون إلى أماكنهم ثم التقوا في البر فانكسر المشركون أيضاً(3/345)
وغنموا منهم، وكان غالب العسكر مع ذلك مقيما في المراكب خشية أن يكيدهم الفرنج بأن يملكوا عليهم البحر، ثم بلغهم أن صاحب قبرس تجهز لهم في جمع كثير، فتوجهوا في المراكب إلى جهة طرابلس، فرمتهم الريح إلى الطينة مقابل دمياط وكاتبوا السلطان بذلك، فأذن لهم في دخول دمياط فدخلوها في شوال، ثم أذن لهم في دخول القاهرة فدخلوها ومعهم عدة من السبى نحو الألف رأس، فتسلم السلطان جميع الغنيمة وفرق في الجيش مالا من عنده، وشاع الخبر أن صاحب قبرس كاتب نائب الشام في طلب الصلح، وكان ما سيأتي ذكره.
ذكر غزاة قبرس الأولى
سنة ثمان وعشرين وثمانمائة.
تقدم في حوادث سنة سبع ما وقع من الوقعة بين المسلمين وبين الفرنج في ساحل اللمسون المتصل بجزيرة قبرس، فلما رجعوا بالغنيمة والأسرى أمر الأشرف بتجهيز الأغربة والإستكثار منها، فجد في ذلك وأرسل إلى طرابلس والإسكندرية ودمياط وبيروت، وأمر بتركيز الجند في السواحل حفظا لها من عادية الفرنج، فاتفق أن جابوش صاحب قبرس جهز غرابا وسلورة وشحنهما بالرجال والعدد، وأمرهم بتتبع السواحل ونهب ما استطاعوا وإفساد ما قدروا عليه، فلم يبلغوا من ذلك غرضا لحفظها بالجند، فاتفق أنهم احتاجوا إلى الماء فانتهوا إلى مكان يقال نهر الكلب، فلما رآهم الحرس كمنوا لهم، فلما لم يروا أحداً دخلت السلورة النهر وهو ضيق فخرج عليهم الكمين فأحرقوها وأسروا من فيها ورجع من في الغراب إلى قبرس، ولما تكاملت العمارة جهز الأشرف الجند، وتوجه صحبتهم من المطوعة عدد كثير، وركب إلى الساحل فعرض الجميع وسافروا إلى دمياط، وكان جابوش - صاحب قبرس - جهز أميراً يقال له باله في تسعة أغربة، فوقف على فوهة دمياط يمنع أغربة المسلمين من الدخول في البحر الملح فوقف هناك، فصادف مجئ العمارة من الإسكندرية فقصدوهم فانهزموا منهم بغير قتال، وسافر الجميع من فم دمياط إلى طرابلس فانضم إليهم المراكب المجهزة منها ومن بيروت، واجتمع(3/346)
فيها من الأمراء والجند والمطوعة ومن العشير والزعر عدد كثير، ثم راسل كبيرهم وهو جرباش الكريمي جابوش في الدخول في الطاعة فامتنع، فسافروا إلى جهته فوصلوا إلى الماغوصة، فطلع الخيالة وأكثر المشاة وضربوا خيامهم بالبر، فحضر رسول صاحب الماغوصة ومعه ضيافة وقال إنه في الطاعة، فأعطوه أماناً وركبوا في الحال فداسوا من قدروا عليه وأوسعوهم تخريباً وتحريقاً، وكان ذلك في رمضان، وأوقع الله الرعب في قلوب الذين كفروا حتى كان الثلاثة من المسلمين يدخلون الضيعة وفيها ما بين المائة والخمسين فلا يمتنع عليهم أحد، ثم صادفهم أخو جابوش في ألف فارس وثلاث آلاف رجال غير الكمناء، ثم إنه قذف في قلبه الرعب فرجع بمن معه، ولما تمت لهم في الماغوصة أربعة أيام وقد أوسعوها نهباً وأسراً قصدوا الملاحة وأحرقوا ما مروا عليه إلى مكان يقال له رأس العجوز، فوجدوا هناك أميراً فأسروا من معه وقتلوه، ثم صادفوا تسعة أغربة وقرقورة مشحونة مقاتلة فلا قاهم المسلمون، فانكسر للنصارى زورق وفر من فيه إلى البر فأسرهم المسلمون، وكان من تدبير صاحب قبرس أنه أرسل أخاه في الجبال فأرسل المقاتلة في البحر، فرجع أخوه بغير قتال وهزم الله أهل البحر، ووصلوا إلى الملاحة وضربوا خيامهم بها، وشنوا الغارة في الضياع، وقتلوا الذي كان أميراً على الملاحة، ويقال إنه كان شديداً على أسرى المسلمين، وكان يقال له: عين الغزال، وكان جابوش أمده بأربعة أحمال زرد خاناة على عجل، فأحاط بها المسلمون ثم جمعوا الغنائم والأسرى ورجعوا إلى المراكب إلى أن وصلوا إلى اللمسون، فحاصروا الحصن الذي هناك فأخذوه عنوة وملؤا أيديهم من الغنائم والأسرى وأحرقوا الحصن، وكان ذلك في يوم الخميس مستهل شوال،(3/347)
وجهز الأمير جرباش مبشراً بالفتح، ويقال إن عدة من قتل في مدة نصف شهر من الفرنج خمسة آلاف، ولم يقتل من المسلمين في هذه الغزاة إلا ثلاثة عشر نفساً، وكان طلوعهم إلى القلعة بالأسرى والغنائم يوماً مشهوداً وكان في بقية شوال منها.
وفي رجب قدم مقبل الحسني الذي كان أمير الينبع بخديعة من صديقه فحر الدين التوريزي التاجر، فلم يزل به حتى قدم معه إلى القاهرة بعد أن توثق له بالأمان، فأمر السلطان بحبسه غير مضيق عليه.
وفي السابع والعشرين من شعبان زلزلت الأرض بمصر والقاهرة قدر درجتين، وكان أمراً مهولاً إلا أنه لم يقع بها هدم شئ من الأماكن إلا اليسير فنسأل الله العفو والعافية.
وفي سابع عشرى ذي القعدة نودي على الفلوس بأن يكون كل رطل منها بإثني عشر درهماً، وكانت قد قلت جداً بحيث صار الشخص يشتري من الدرهم الفضة رغيفاً فلا يجد الخباز ما يكمل به حقه من الفلوس، وكان السبب في ذلك أنه اجتمع عند السلطان منها مقدار كثير، فشاع بين الناس أنه ينادي عليها بزيادة في سعرها، فأمسك أكثر الناس عن إخراجها ممن عنده شئ منها رجاء الربح، فعزت بسبب ذلك، فلما نودي سكنت نفوسهم وأخرجوها فكثرت في الأيدي.
وفي أواخر ذي القعدة وصل يشك الجركسي وكان - جلب - من بلاد الجركس فأخذه الفرنج فأقام عندهم وتعلم ما يصنعه البهلوان، فدخل القاهرة فأوصلوه إلى السلطان، فأسلم ورتب في طبقة المماليك، ثم أراد أن يرى السلطان شيئاً من فنه، فنصب حبلاً على رأس مئذنة حسن وطرفه على رأس الأشرفية فمشى عليه، ورمى بالمكحلة وهو فوقه وأوتر قوس الرجل ورمى به، ولما فرغ خلع عليه السلطان وأركبه فرساً وأنعم عليه الأمراء بجملة دراهم.
ولما صرف جمال الدين الكركي من كتابة السر بمصر قرر في نظر الجيش بدمشق بعد مدة، وذلك في أواخر رمضان، وكان حسين جمع بين وظيفتي كتابة السر ونظر الجيش بعناية أزبك الدوادار، فصرف من نظر الجيش.(3/348)
وفي ذي القعدة عزل أزدمردجايه عن الأمرة وأمر بلزوم منزله، ثم بشره ياقوت المقدم الحبشي - مقدم المماليك - بالرضا عنه، فخلع عليه كاملية بسمور، وأمر بأن يخرج مع كاشف الصعيد لقتال العرب.
وفي رمضان ادعى على الشيخ شمس الدين بن الشيخ سراج الدين عمر الميموني، وكان أبوه من أعيان الطلبة الشافعية عند شيخنا سراج الدين البلقيني وغيره، وكان نقيب درس الخشابية، ونشأ ولده هذا طالباً للعلم فمات أبوه وهو صغير، فتعاني طريقة الفقراء وأقام في زاوية ونصب له خادماً فبقي مدة، ثم ترك وواظب الحج في كل سنة، وكان كثير التلاوة جداً؛ فاتفق أنه ذكر لبعض الناس أنه رأى زين الدين التفهني في المنام في حالة ذكرها سيئة جداً، فادعى عليه أنه قال: قد أباح لي سيدي اللواط والخمر والحشيش والفطر في رمضان - إلى أشياء من هذا الجنس، فأنكر، فشهد عليه جماعة وثبت ذلك عن ابن الطرابلسي نائب الحنفي، ثم استفتى علماءهم فأفتوه بأن ذلك زندقة، فاتفق أن الحنفي ذكر ذلك للسلطان واستأذنه في إمضاء الحكم عليه فأمر بإحضاره، فلما كان يوم الاثنين سادس شوال أحضر إلى القصر وفي رقبته سلسلة فسلم ثم قال: يا عبد الرحمن اتق الله - يخاطب القاضي التفهني؛ فغضب وقال: حكمت بزندقتك وسفك دمك؟ وقال للحنبلي: نفذ لي، فقال: حتى ينفذ الشافعي؟ فامتنع، فسألني السلطان فقلت: وقعت عندي ريبة تمنع من تنفيذ هذا الحكم، فإني أعرف هذا وقد ذكر لي أن في عقله خللاً والقاضي سارع بالحكم في حال غضبه وتعصب العين للميموني وأحضر النقل بأن الزنديق إنما يقتل عندهم إذا كان داعية، وطال البحث في ذلك. وقام الحنفي ليقتله وأرسل إلى الوالي، فأشار عليه بعض ألزامه بالتأني في أمره، ثم عقد مجلس حافل بسببه وتغضب أكثر الجند وأكثر المباشرين عليه تبعاً للتفهني، ولم يبق معه سوى خشقدم الخازندار وللسلطان إليه ميل، فطال النزاع في أمره فاتفق أن قال في جملة ما خاطب به للتفهني: يا سيدنا قاضي القضاة؟ أتوب إلى الله من رؤيا المنامات من اليوم، فازداد حنقه منه، وكايده العيني فتعصب له، ثم اتفق الحال على حبسه،(3/349)
فلما كان في أول ذي القعدة اجتمع الحنفي بالسلطان وقرر معه أنه ينفى إلى بعض البلاد الحلبية، ثم أرسل ناظر الجيش في خامس ذي القعدة إلى التفهني وكاتبه، فأصلح بينهما وأرسل لكل منهما بغلة.
وفي الثامن من ربيع الأول قرر جمال الدين يوسف السمرقندي في قضاء حلب عوضاً عن شمس الدين ابن أمين الدولة بحكم عزله، وكان هذا قدم في أواخر دولة المؤيد فاعتنى به الظاهر ططر وهو أمير، وأعانه على الحج، وقرره في عدة وظائف بحلب، فتوجه إليها وباشرها إلى أن وقع بينه وبين القاضي المذكور، فرتب عليه من يشهد عليه بأمر صدر منه، وذلك بالمدرسة السارخية في سوق النشاب ففر خفية منها، فقدم القاهرة وشكا حاله للسلطان فعزل القاضي وقرره مكانه، فلما بلغ القاضي ذلك وصل إلى القاهرة، فقام معه بعض الرؤساء فما أفاد، وأمر بعوده إلى حلب بطالاً.
وفي سابع ذي الحجة ثار جماعة على المحتسب وهو القاضي بدر الدين العيني بسبب إهمال أمر الباعة وشدة غلاء الخبز مع رخص القمح. ورفعوا للسلطان فلم يأخذ لهم بيد بل ضرب جماعة منهم وهدد جماعة وحبس نحو العشرة، فعدم الخبز من الحوانيت وتزاحموا على الأفران، ثم تراجع الحال، وكثر الخبز مع زيادة السعر في الشعير والقمح والفول - وكان ما سيأتي ذكره في أول السنة.
وفي الثالث والعشرين من ذي الحجة وصل بالمبشر من الحاج وأخبروا بالرخاء الكثير في الحجاز، وأنه نودي بمكة أن لا تباع البهار إلا على تجار مصر، وأن لا يكون البهار إلا بهار واحد، وأخبر بأن الوقفة كانت يوم الاثنين وكانت بالقاهرة يوم الأحد، فتغيظ السلطان ظناً منه أن ذلك من تقصير في ترائي الهلال، فعرفه بعض الناس أن ذلك يقع كثيراً بسبب اختلاف المطالع؛ وبلغني أن العيني شنع على القضاة بذلك السبب فلما اجتمعنا عرفت السلطان أن الذي وقع يقدح في عمل المكيين عند من لا يرى باختلاف المطالع، حتى لو كان ذلك في رمضان للزم المكيين قضاء يوم، فلما لم يفهم المراد سكن جأشه،(3/350)
وفي هذه السنة كانت وقعة الفأر باللجون من طريق الشام، وكان قد كثرت فراخه حتى شاهد بعض الناس كثيراً منها يخرج بأولادها الصغار فيتركونها عند البيوت ويأتونها بالقمح في سنبله فيدخله الأولاد في البيوت، ومن رجع ووجد شيئاً من القمح لم يحول إلى البيت ضرب ولده الضرب المبرح، وتسلط الفأر على زروع الناس وتضرروا من ذلك ضرراً كبيراً - قرأت ذلك بخط قاضي الحنابلة محب الدين، ثم عقب ذلك وقع بين الفئران مقتلة عظيمة، وشاهد الناس منها جملة كثيرة. بعض مقطوع الرأس ومقطوع الرجل ومقطوع اليد ومنها الموسط، وصار منهم أكوام كثيرة، وفي شعبان ارتفع سعر الغلى فوصل الفول إلى مائتين والشعير إلى مائة وخمسين، ثم ازداد السعر في ذي القعدة ووصل الفول إلى ثلاثمائة، وكذلك القمح، ثم تراجع القمح إلى مائتين وخمسين. وفي آخرها ماتت زوجة السلطان - وكانت ابنة عمه - بوادي الصفراء، وكانت خاملاً فوضعت وماتت في نفاسها. فبلغ السلطان فحزن عليها كثيراً.(3/351)
ذكر من مات في سنة ثمان وعشرين وثمانمائة من الأعيان أحمد بن أبي بكر بن علي بن عبد الله بن بوافي بن يحيى بن محمد بن صالح، الأسدي المعشمي الشيخ شهاب الدين الشهير جده بالطواشي، ولد بعد الستين، وأحضر في الثالثة على ابن جماعة، وأسمع على الفروي والضياء الهندي، وأجاز له الكمال ابن حبيب ومحمد بن جابر وأبو جعفر الرعيني وأبو الفضل النويري والزرندي والأميوطي وغيرهم، وكان خيراً ديناً منقطعاً عن الناس؛ مات يوم الجمعة سابع عشر شعبان بمكة، وصلى عليه بعد الصلاة، وشيعه جمع كثير منهم أمير مكة علي بن عنان.
أحمد بن عبد الرحيم بن أحمد بن الفصيح، الكوفي الأصل ثم البغدادي ثم الدمشقي، شهاب الدين، نزيل القاهرة، كان جده من أهل العلم والطلب للحديث وحدث أبوه بالسنن الكبري للنسائي وتفرد به عن ابن المرابط بالسماع وكان حنفي المذهب، ونشأ ابنه هذا يتعاني التجارة، ثم عمل نقيب الحكم الحنفي بدمشق، ثم سكن القاهرة مدة وتردد إلى القاهرة، وكان يحب الانجماع ولا يباشر إلاناساً مخصوصين، وكان ابن الأدمي يكرمه ويعظمه لأنه كان يقرب له من جهة النساء، فقرره في النقابة بالخانقاه(3/352)
البيبرسية في سنة خمس عشرة، فاستمر فيها إلى أن مات في أول يوم من شعبان وله بضع وسبعون سنة، وكان قليل الكلام كثير المعرفة بالأمور الدنيوية، وما أتردد أنه سمع على ابن أميلة ومن قبله لكن لم أقف على ذلك تحقيقاً، وسألته عن ذلك فلم يعترف به، وسألته أن يجيز لجماعة فامتنع ظناً منه أن ذلك على سبيل السخرية به لسعة تخيله.
تغري بردى المؤيدي المعروف بابن قصروه نائب حلب، كان مات بها محبوساً في ربيع الأول.
سليمان بن عبد الرحمن بن داود بن الكويز، أخو كاتب السر علم الدين، ورث من أخويه صلاح الدين وعلم الدين. أما صلاح الدين فلكونه شقيقه، وأما علم الدين فلكونه وصيه، فكثر ماله، ووقع بينه وبين ابن أخيه عبد الرحمن بن علم الدين تنازع في شيء ففسد بذلك من المال عليهما شيء كثير، وكان سليمان يلقب بدر الدين حسن الصورة جميل الفعال شديد الحياء عاقلاً وقوراً، باشرا استيفاء الدولة وغير ذلك، وهو أصغر الإخوة؛ ومات في حادي عشر المحرم.
شعبان بن محمد بن داود، المصري، وكان يقال له: الموصلي، ثم زعم أن اسم أبيه محمد بن داود ويقال إن داود - كان ممن تشرف بالإسلام فأحب أن يبعد عنه وصار يكتب الآثارى نسبة إلى الآثار النبوية لكونه أقام بها مدة، وكان قد تعانى الخط المنسوب، فجاد خطه بملازمته لشيخنا شمس الدين الزفتاوي، وصار رأس من كتب عليه وأجازه، فصار يكتب للناس، ثم اتفق أنه شرب البلاذر فحصل له طرف نشاف، واقام مدة عارياً من الثياب والعمامة، ثم تماثل قليلاً وطلب العلم، ولازم الشيخ بدر الدين الطنبذي والشيخ شمس الدين الغماري، وتعانى النظم فنظم نظماً(3/353)
سافلاً أولاً ثم أكثر من ذلك حتى انصقل قليلاً ونظم نظماً وسطاً، ومن نظمه لما عزل البلقيني بالهروي واتفقت الزينة للمحمل فعلق شخص يسمى الترجمان على باب داره بالجنميين حماراً بسرياقات على رؤوس الناس بأحسن هيئة وتردد الناس للفرجة عليه فقال:
أقام الترجمان لسان حال ... عن الدنيا يقول لنا جهارا
زمان فيه قد وضعوا جلالاً ... عن العليا وقد رفعوا حمارا
ثم أقبل على ثلب الأعراض وتمزيقها بالهجو المقذع، ونظم أرجوزة في العربية وأرجوزة في العروض، وتعلق على توقيع الحكم فقرر به، ثم عمل نقيب الحكم - بمصر، ثم استقر في الحسبة بمال وعد به، ثم ارتكبه الدين بسبب ذلك ففر من مصر في سنة إحدى وثمانمائة، ودخل اليمن فمدح ملكها فاعجبه، وأثابه، ومدح أعيانها وتقرب منهم، ثم انقلب يهجوهم كعادته، فأمر السلطان الملك الناصر أحمد بن الأشرف إسماعيل بنفيه إلى الهند فأركب في المراكب الواصلة من تانة واقام بها وأكرم، ثم عاد إلى طبعه فأخرج منها - وقد استفاد مالاً فأصيب بعضه، ورجع إلى اليمن فلم يقم بها، وتوجه إلى مكة فأقام بها مدة طويلة، وأظهر بها من القبائح ما لا يحمل ذكره ونصب نفسه غرضاً للذم، وتزوج جارية من جواري الأشرف يقال لها خود، فاتخذها ذريعة إلى ما يريده من الذم والمجون وغير ذلك، فصار ينسب نفسه إلى القيادة والرضا بذلك لتعشقه فيها - إلى غير ذلك، وكان فيه تناقض فإنه يتماجن إلى أن يصير أضحوكة، ويتعاظم إلى أن يظن أنه في غاية التصون، وكان شديد الإعجاب بنظمه، لا يظن أن أحداً يقدر على نظيره، مع أنه ليس بالفائق بل ولا جميعه من المتوسط بل أكثره سفساف كثير الحشو عري عن المعنى البديع،(3/354)
ثم قدم القاهرة سنة عشرين وهجا بهاء الدين ابن البرجي الذي كان يتولى الحسبة قديماً، ثم صادف أن ولي الهروي القضاء فهجاه ومدح البلقيني وأثابه، ولعله أيضاً هجا البلقيني، ثم توجه إلى دمشق فقطنها إلى أن قدم القاهرة سنة سبع وعشرين ومدحني بقصيدة تائية مطولة، ولا أشك أنه هجاني كغيري، ثم رجع إلى دمشق ثم قدم القاهرة فمات يوم وصوله في سابع عشر شعبان، وخلف تركة جيدة، قيل: بلغت ما قيمته خمسة آلاف دينار، وكان مقتراً على نفسه. فاستولى على ماله شخص ادعى أنه أخوه وأعانه على ذلك بعض أهل الدولة، فتقاسما المال، ووقف كتبه وتصانيفه بالباسطية؛ وعاش بضعاً وستين سنة.
صالحة أو زينب بنت صالح بن رسلان ابن نصير البلقيني، وهي والدة القاضي علم الدين صالح بن شيخنا شيخ الإسلام سراج الدين، تزوجها الشيخ وهي ابنة عمه فأولدها صالحاً وعبد الخالق، ثم قدمت على الشيخ أخته من بلقينة فذكرت للشيخ أنها أرضعت زوجته هذه، فبحث الشيخ عن ذلك حتى وضح له، فلما علم صحة قولها اجتنبها. وذلك قبل موته بعشر سنين، ثم لما مات تزوجت بعده زوجاً بعد زوج من العوام، وكانت موصوفة بالخير؛ وعاشت نحو الستين وماتت في حادي عشر المحرم.
طوغان أمير آخور، مات مقتولاً بقلعة المرقب في ذي الحجة، وكان قد ولى عدة وظائف.(3/355)
عثمان بن محمد فخر الدين الدنديلي الشاهد، سمع من أبي الحسن العرضي، وأجاز لأولادي، وسمعت عليه جزءاً من حديث ابن حذلم أنا العرضي أنا الفخر ابن البخاري؛ جاوز الثمانين ومات في 18 شوال.
عثمان بن ... التلاوي المعروف بالطاغي، خازن الكتب بالمدرسة المحمودية، وقد تقدم ذكر صرفه عنها في حوادث سنة ست وعشرين وكان شديد الضبط لها، ثم حصل له من تسلط عليه بالخديعة إلى أن وقع التفريط فذهب أكثر نفائس الكتب، وكان في أول أمره أقرأ القاضي جلال الدين البلقيني القرآن، وتمشيخ بالمشهد النفيسي ولقي جماعة من الاكابر؛ ومات في 14 المحرم.
علي بن أحمد بن محمد بن سلامة بن عطوف، السلمي المكي نور الدين ابن سلامة، ولد سنة ست وأربعين بمكة، واشتغل وعني بطلب الحديث ورحل فيه، فسمع بدمشق من ابن أميلة والصلاح ابن أبي عمر وابن كثير وغيرهم، وبحلب من ابن حبيب وغيره، وببغداد من عمر بن علي القزويني وعبد الدائم ابن عبد المحسن بن الخراط وغيرهما،(3/356)
وبالقاهرة من التقي البغدادي وقرأ عليه القراآت، أكثر عنه صاحبنا زين الدين رضوان، وحدث بالقاهرة ومكة وصار مسندها، وكان عارفاً بالقراآت، وأخذ الفقه عن جماعة ولم ينجب، وله نظم، وكان يباشر شهادة الحرم المكي، ولم يكن يشكر في شهادته مع التأله والتعبد، وخرج له ابن فهد معجماً، انتزع أكثره من معجم ابن ظهيرة تخريج الأقفهسي؛ ومات في يوم السبت 24 شوال.
علي بن محمود بن أبي بكر، القاضي علاء الدين، السلماني ثم الحموي، المعروف بابن المغلي، الحنبلي، ولد سنة 771، وتفقه ببلده ثم بدمشق، فاخذ عن جماعة منهم زين الدين ابن رجب، وكان يتوقد ذكاء فحفظ جملة من المختصرات في العلوم، كالمحرر في الحديث لابن عبد الهادي، والفروع في المذهب لابن الحاجب، والتلخيص للقزويني، والتسهيل لابن مالك؛ وكان يحفظ كثيراً من الشروح والقصائد الطوال، وينظم الشعر الوسط، ويكرر على محفوظاته المختصرة، ويستحضر شيئاً كثيراً من الفنون؛ وما أظن أنه كان في عصره من يدانيه في ذلك وإن كان فيهم من هو أصح ذهنا منه، ولي قضاء حماة بعد التسعين، ثم ولي قضاء حلب في سنة أربع وثمانمائة، ثم ولي قضاء الديار المصرية من سنة سبع عشرة إلى أن مات مضافاً إلى قضاء حماة فكان يستنيب فيها، وكان ذلك بعناية كاتب السر ابن البارزي، ومع طول ملازمته للاشتغال ومناظرته للأقران والتقدم في العلوم لم يشتغل بالتصنيف، وكنت أحرضه على ذلك لما فيه من بقاء الذكر فلم يوفق لذلك، وكان شديد البأو والإعجاب حتى وصفه بعضهم بأنه(3/357)
يحيط علماً بالمذاهب الأربعة - مع احتمال ما يقع ممن يناظره من الجفاء، ويكظم غيظه ولا يشفي صدره، ويكرم الطلبة ويرفدهم بماله وكان واسع الحال جداً، لأنه كان في الأصل تاجراً لم يزل يتكسب، وكان كثير ... وكان ممن أعان علم الدين صالح البلقيني على ولاية القضاء وصرف ولي الدين العراقي. لأن العلم كان يتلمذ له والعراقي كان يتمشيخ عليه فأحب أن يكون رفيقه من يعترف له دون من يتعاظم عليه فأعان على ذلك بقلبه وقالبه فانعكس الأمر، وندم بعد أن تورط وصار يبالغ في الذم من العلم، ووقفت على خطه نفساً كتبها في حقه بالغ فيها في الحط عليه، ثم عوقب بأن أصيب بولده قبل إكمال الحول من عزل العراقي ثم أصيب بنفسه، وكذا صنع الله بأن الكويز فإنه كان الأصل الكبير في هذه الكائنة فلم ينتفع بنفسه بعدها إلا قليلاً واستمر موعوكاً ستة أشهر إلى أن مات عقب موت العراقي بشهر واحد ويجتمع الكل عند الله تعالى؟ وقد ذكرت في حوادث سنة سبع وعشرين ما اتفق له من العزم على الحج ثم تركه ذلك ووقوعه من السلم وتوعكه، فلما أهلت السنة انتكس وثار به القولنج الصفراوي فيقال إنه دس عليه السم فمات منه بعد أن حصل له الصرع قدر شهر، وذلك يوم الخميس في العشرين من صفره، واستقر في قضاء الحنابلة بعده محب الدين أحمد بن الشيخ نصر الله التستري ثم البغدادي، وخلع عليه في الرابع والعشرين من صفر.
فرحة بنني ماتت في يوم الأربعاء تاسع شهر ربيع الآخر وكانت حجت في العام الماضي مع زوجها الشيخ محب الدين بن الأشقر ورجعت موعوكة إلى أن ماتت عن ثلاث وعشرين سنة وتسعة أشهر - عوضها الله الجنة.(3/358)
فضل الله بن نصر الله بن أحمد، التستري الأصل ثم البغدادي الحنبلي أخو قاضي الحنابلة محب الدين، كان قد خرج من بلاده مع أبيه وإخوته وطاف هو البلاد ودخل اليمن ثم الهند ثم الحبشة وأقام بها دهراً طويلاً، ثم رجع إلى مكة فجاور بها قليلاً وصحب بها الأمير يشبك الساقي الأعرج وكان المؤيد نفاه إلى مكة فجاور بها صحبته، ثم لما رجع يشبك إلى القاهرة وتأمر حضر فضل الله إلى القاهرة فأكرمه، واتفق موت الشيخ شمس الدين الحبتي فشغرت عنه مشيخة الخروبية فقرر فيها فضل الله المذكور بعناية يشبك المذكور بعد أ، كان تقرر فيها غيره، فاستمر بها إلى أن مات في شهر ربيع الأول وهو ابن ستين سنة أو جاوزها.(3/359)
محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد الحريري شمس الدين البيري أخو جمال الدين الأستادار ولد في حدود الخسمين، وتفقه على أبي البركات الأنصاري، وسمع من أبي عبد الله بن جابر وأبي جعفر الغرناطي نزيل البيرة بحلب وقرأ عليهما وتفقه، وولي قضاء البيرى مدة ثم قضاء حلب سنة ست وثمانمائة، ثم تحول إلى القاهرة في دولة أخيه بعد أن كان عزله حكم لما غلب على حلب فتوجه إلى مكة فجاور بها، ثم قدم أبي القاهرة فعظم قدره وعين للقضاء، ثم ولي مشيخه البيبرسية بعد الشريف النسابة، ثم درس بالمدرسة المجاورة للشافعي بعد جلال الدين ابن أبي البقاء، ثم انتزعتا منه بعد كائنة أخيه، ثم أعيدت إليه البيبرسية في سنة ست عشرة وصرف عنها بكاتبه في سنة 18، ثم قرر في مشيخة سعيد السعداء بعد موت البلالي سنة عشرين، وكان قد ولى خطابة ببيت المقدس؛ ومات في سحر يوم الجمعة 24 ذي الحجة، واستقر بعده في مشيخة الصلاحية شهاب الدين أحمد بن المحمرة الذي كان بها مخبزياً قبل ذلك، ثم ارتقى منها إلى ولاية القضاء بدمشق، ثم عاد إلى المشيخة بالقاهرة، ثم نقل منهاإلى مشيخة الصلاحية ببيت المقدس.(3/360)
محمد بن أحمد بن محمد بن عبد العزيز اللخمي النستراوي شمس الدين ابن أخي القاضي كريم الدين ناظر الجيش، ولد سنة سبعين تقريبا، وباشر الديوان مدة إلى أن ولي عمه نظر الجيش فباشر قليلاً، ثم ترك ذلك وزهد ولبس الثوف، وسمع معنا على كثير من مشايخنا، وكان يحب أهل الخير وينفر غاية النفرة ممن يتزوكر، وأقام على قدم التصوف سبعاً وثلاثين سنة مع صحة العقيدة وجودة المعرفة والصبر على قلة ذات اليد ومات ليلة الجمعة 12 شعبان.
محمد بن القاضي شهاب الدين أحمد، الدفري المالكي شمس الدين، ولد سنة بضع وستين، وتفقه على مذهب مالك، وأحب الحديث فسمعه وطاف على الشيوخ وسمع معنا كثيراً من الممايخ، وكان حسن المذاكرة جيد الاستحضار، درس بالناصرية الحسينية وغيرها، وكان قليل الحظ؛ مات في العشرين من جمادى الأولى.
محمد بن إسماعيل بن محمد بن محمد بن هانئ اللخمي المالكي، القاضي ناصر الدين ابن القاضي سري الدين أبي الوليد قاضي حلب ثم طرابلس، ولد سنة نيف وأربعين واشتغل قليلاً وناب عن أبيه فعابوا على أبيه ذلك، ثم ولي قضاء حماة ثم حلب في سنة ست وسبعين، ثم ولي حماة وطرابلس وغيرها مراراً، ثم ولاه نوروز قضاء دمشق سنة ست عشرة فساءت سيرته جداً، ثم صرفه المؤيد إلى قضاء طرابلس سنة سبع عشرة فاستمر فيها عدة سنين؛ كتب عنه القاضي علاء الدين وذكره في تاريخ حلب فقال كتبت عنه بطرابلس لما وليت قضاءها وكان هو قاضي المالكية بها وكان ظريفاً كريماً مسناً جواداً حسن الاخلاق، مات في أوائل سنة 828 بطرابلس.
محمد بن أبي بكر بن عمر، المخزومي المالكي المعروف بابن الدماميني بدر الدين الإسكندراني، ولد سنة ثلاث وستين وسبعمائة، وتفقه بالإسكندرية وتعاني الآداب ففاق في النظم والنثر والخط ومعرفة الشروط. واستنابه ابن التنسي في الحكم ودرس بعدة مدارس، ثم قدم معه القاهرة وناب في الحكم أيضاً وتقدم ومهر واشتهر ذكره، ثم تحول إلى الإسكندرية واستمر بها ينوب في الحكم ويشغل في العلم ويتكسب من التجارة، ثم حصلت له محنة فقدم القاهرة وعين للقضاء، وقام معه في ذلك ابن البارزي فلم يقدر فتوجه إلى الحج ثم دخل اليمن فلم يحصل له إقبال، فدخل الهند فحصل له إقبال كبير وأقبلوا عليه وأخذوا عنه(3/361)
وعظموه، وحصل له مال له صورة فاتفق أن بغتة الأجل فمات هناك في شعبان في هذه السنة عن نحو سبعين سنة، ومن نظمه:
قلت له والدجى مول ... ونحن بالأنس في التلاقي
قد عطس الصبح يا حبيبي ... فلا تشتمه بالفراقي
محمد بن محمد بن محمد بن أحمد بن المحب عبد الله بن أحمد بن محمد، المقدسي الصالحي شمس الدين، ولد في شوال سنة 755، وأحضره أبوه عند ... وأسمعه على ابن قيم الضيائية، وأحمد بن الجوخي وعمر ابن أميلة وست العرب في آخرين، وحدث، وشرع في شرح البخاري وتركه بعده مسودة، وله نظم ضعيف، وكان يقرأ الصحيحين على العامة، وأجاز لأولادي غير مرة؛ ومات بطيبة المكرمة في هذه السنة، وكان يذكر عن نفسه أنه رأى مناماً من نحو عشرين سنة يدل على أنه يموت بالمدينة، وسمعوه منه قبل أن يخرج إلى هذه السفرة للحج، فاتفقت وفاته بالمدينة في رمضان من هذه السنة، وهو بقية البيت من آل المحب بالصالحية.
محمد الحموي النحوي المعروف بابن العيار شمس الدين، كان في أول أمره حائكاً ثم تعاني الاشتغال فمهر في العربية، وأخذ عن ابن جابر وغيره، ثم سكن دمشق، ورتب له على الجامع تصدير بعناية البارزي، وكان حسن المحاضرة ولم يكن محموداً(3/362)
في تعاطي الشهادات؛ مات في ذي القعدة.(3/363)
سنة تسع وعشرين وثمانمائة
في حادي عشر المحرم صرف بدر الدين العينتابي من الحسبة واستقر فيها اينال الششماني وكان أمير عشرة، وسعر القمح يومئذ مائتان وخمسون، والشعير والفول جميعاً كل إردب بثلاثمائة أزيد من سعر القمح، وعز اللحم حتى بيع البقرى بتسعة كل رطل، وبيع المطبوخ من الضأنى بعشرين، وكان سعر الذهب البندقي كل مشخص بمائتين وخمس وعشرين، ثم كثر اللحم بعد ولاية الششماني، ثم تزايد القمح إلى أربعمائة إلى أن دخل جمادى الأولى فانحل السعر إلى ثلاثمائة ومائتين في ...
وفي المحرم قدم حسن بن عجلان من مكة بوساطة ناظر الجيش، وقام معه إلى أن أعيد إلى إمرة مكة، وأمر بإعادة الجيش الذين أقيموا بمكة لحفظها من حسن، وصرف على بن عنان عن إمرة مكة، وبذل حسن مالاً كثيراً اقترضه من التجار بالقاهرة، وكتب تقليده وأرسله إلى مكة، وأقام هو لإحضار بقية ما وعد به.
وفي مستهل صفر أمر السلطان القضاة أن يلزموا العوام بالصلاة، فاجتمعوا في ثانيه بالصالحية ومعهم المحتسب ونائب الوالي، وكتبوا ورقة لتقرأ على الناس، وتولى قراءتها بعض نواب الحكم من باب النصر إلى جامع طولون في الشارع الأعظم.
وفي خامس عشر صفر عقد مجلس بالقضاة وبياض الناس من التجار، وشاور السلطان القضاة في إبطال المعاملة بالدنانير البندقية المشخصة، فاستحسنوا ذلك، وضربت الأفلورية أشرفية، ونودي بمنع المعاملة بالبندقية، فظن الناس أن المعاملة بالدراهم البندقية تبطل فنودي بإبقائها.(3/364)
وفي يوم الخميس السابع من ربيع الأول عمل المولد النبوي وابتدأوا به من بعد الخدمة، ومد السماط بعد صلاة العصر وفرغ بين العشاءين، وكانت العادة أن يبدأ بعد الظهر ويمد السماط المغرب ويفرغ عند ثلث الليل.
وفي السادس والعشرين من شهر ربيع الآخر صرف القاضي زين الدين التفهني عن قضاء الحنفية وقرر في مشيخة الشيخونية عوضاً عن الشيخ سراج الدين قارئ الهداية بحكم وفاته، وكان السراج لما مات سعى جماعة في المشيخة فأمر السلطان بجمعهم فاجتمعوا، وتعصب جماعة من أهل الشيخونية للتفهني فقرره السلطان فيها، ففرح بذلك ظناً منه أنه يضمها إليه مع القضاء، فلما لبس الخلعة بها أحضر العينتابي فألبس الخلعة بولاية القضاء، فسقط في يدي التفهني وندم حيث لا ينفعه الندم ونزل الشيخونية كئيباً، ورجع أكثر الناس مع العينتابي إلى الصالحية ثم إلى منزله.
وفي رابع عشري ربيع الآخر صرف الشيخ علاء الدين الرومي عن مشيخة الأشرفية، وقرر عوضه الشيخ كمال الدين ابن الهمام، ولم يكن له في ذلك سعي، وإنما كان تقرر درسه بقبة الصالح فطلب إلى القلعة وألبس الخلعة، وكان سبب عزل علاء الدين أن شخصاً من الصوفية مات وخلف مالاً جزيلاً فاحتاط عليه نقل عنه أمور فاحشة، فغضب السلطان وأمر بإخراجه وعزل منها وتقرير كمال الدين.
وفي ربيع الآخر كتبت الجارة الجودرية في التفتيش على جاني بك الصوفي، ولسبب فيه أن كتاب نائب الشام ورد وفيه أنه مختفي عند شخص جندي فلم يوجد، فأمر أهلها بإخلائها وحرقها، فرحلوا وتتبعت آثار جاني بك فلم يوقف له على أثر.
وفي الثالث عشر من جمادى الآخرة صرف القاضي محب الدين أحمد بن نصر الله عن قضاء الحنابلة، واستقر عز الدين عبد العزيز ابن علي بن أبي العز المقدسي الذي كان ولي قضاء الشام ودرس بالمؤيدية، وكان قبل ذلك قديماً ولي قضاء بيت المقدس، ثم فر(3/365)
من الشام لكائنة وقعت له مع الباعوني فوصل إلى بغداد وولي القضاء بها؛ وكان ربما افتخر فقال: وليت قضاء الشام والعراق ومصر ولم يقع ذلك لأحد من أقراني.
وفي أول يوم من رجب أدير المحمل، ولم تجر العادة بذلك بل كان يدار في النصف أو قبله أو بعده بقليل.
ذكر غزوة قبرس الكبرى
بلغ الأشرف أن جابوش - ويقال: جينوس - بن جاكم بن بيدو بن أنطون بن جينوس صاحب قبرس وكان قد ملكها من سنة ثمانمائة فراسل ملوك الفرنج يستنفزهم على المصريين ويشكو ما جرى على بلاده، فأرسل كل منهم له نجدة، وأرسل ملك الكتيلان ابن أخيه بمركب وفرسان، وجد جابوش في عمارة المراكب والقراقر وعزم على قصد الإسكندرية تأسياً بوالده، فإنه هو الذي كان طرقها في آخر سنة ست وستين ودخلها عنوة في آخر المحرم أوائل صفر سنة سبع وانتهبها - وأسر منها خلائق والقصة مشهورة؛ فأمر السلطان لما بلغه ذلك بعمارة الأغربة والحمالات، وجد في ذلك وبذل الأموال، فلما تكاملت العمارة انحدرت إلى قوة ويقال إنه بلغت عدة العمارة أغربة وحمالات وزوارق - مائى قطعة وزيادة؛ وندب السلطان ينال الجكمي وتغري بردى المحمودي وغيرهما من الأمراء الكبار والصغار للغزاة وأن يكون ينال على من في البحر والآخر على من في البر وأن لا يعارض أحدهما الآخر، وكان معهم من الأمراء مراد خجا الشعباني - وإياس ويشبك الشاد واينال الأجرود وسودون اللكاشي وجانم المحمدي وغيرهم؛ وتلاقت المراكب من الإسكندرية مع المراكب المصرية بثغر رشيد في رجب، فاتفق أن الريح هاجب في بعض الليالي، فانكسرت أربع حمالات ومات فيها مائة فرس، وتسعة أنفس، وبلغ السلطان ذلك فتطير جماعة من الأمراء وثبت هو ولم يتطير، وقال له كاتب السر وهو يومئذ بدر الدين بن هرمز:(3/366)
يا مولانا السلطان! إن من كان أوله كسر يكون في آخره جبر؛ ولما بلغ قراقر الإسكندرية ما جرى على الحمالات رجع أميرهم فأقام بعا تحت العساكر، فلما كان مستهل شعبان هجم عليهم غراب وقرقوران مملوءة من المقاتلة جهزهم صاحب قبرس ليأخذوا من يجدونه بساحل الإسكندرية لعلمه بمسير القراقز الخمس إلى جهته بإعلام من بالبلد من الفرنج له، فدخلوا وهم يظنون أن الخمس قراقب في رشيد، فواجهوهم فأرشقوهم رمياً بالنشاب إلى أن هزموهم فاتفق أنهم خرجوا مقلعين فوافتهم أغربة أرسلها إليهم من برشيد من الجند، فلم يزل الجند مجتمعين والمراكب توافيهم من كل جهة إلى الرابع والعشرين من شعبان، فساروا مقلعين حتى وصلوا إلى اللمسون فوجدوا الحصن الذي كانوا أحرقوه قد عمر وشحن بالمقاتلة فأحاطوا به في السابع والعشرين، وصعد يشبك قرقش وهو من الفرسان المعدودين وقد ولي إمرة الموكب الأول في الحج بعد ذلك في سنة 44، فصعد هو ومن معه على سلم من خشب وتبعهم خلق كثير، فهرب الفرنج الذين في الحصن بعد أن كانوا أوقدوا قدور الزفت تغلي ناراً ليصبوها على من يصعد إليهم من المسلمين، فهزمهم الله تعالى وملكوا البرج الأول؛ وأحاط بعض المسلمين بالأسكتية وهي قرية من قبرس خارجة عن حكم جابوش نظير الماغوصة وهي مع البنادقه، فطلبوا من المسلين الأمان فأمنوهم، فحملوا إليهم الهدايا والضيافات، فسألوهم عن جابوش فقالوا إنه مستعد في خمسة آلاف فارس وسبعة آلاف راجل، فراسلوه بأن يدخل تحت الطاعة ليؤمنوه على نفسه وجنده وبلده وإلا مشوا عليه وخربوا قصره وأسروه وقتلوه، فلما بلغته الرسالة أخذته حمية الجاهلية فقتل الرسول وأحرقه، فبلغ المسلمين الخبر في مستهل رمضان فانقسموا قسمين النصف مع المحمودي في البر والنصف مع الجكمي في البحر، فلم يزل أهل البر سائرين حتى وصلوا موضع الكنيسة فوجدوها خراباً والبئر الذي بها قد هدم، فحفروا حوله فظهر الماء فشربوا بعد أن كانوا عطشوا. ثم ساروا في جبال وتلال وهم صوام والحر شديد فنزلوا للقائلة في ظلال الشجر وإذا بصارخ صرخ: جاءكم العدو! فثاروا وركبوا وحصلت رجفة عظيمة، وكان جابوش لما قتل الرسول ركب في عساكره بعد عرضهم، وجهز قراقرة في البحر للإحاطة بمن في البحر من المسلمين،(3/367)
فلما تراءى الجمعان انحاز إلى بساتين هناك، وجعل بينه وبين المسلمين نهراً، وتقدم نحو الخمسمائة من المقاتلة فبرز لهم من المسلمين خمسة تغري بردى وقطلوبغا المؤيدي المصارع وعلان فبادروا الأبراج فلحق بهم ابن القاق مقدم العشير بالشام ومعه نحو الثلاثين فتنادوا: يا وجوه العرب ويال جركس! إن أبواب الجنان فتحت، إن متم كنتم شهداء، وإن عشتم عشتم سعداء بيضوا وجوهكم وأخلصوا الله العمل؛ فحملوا حملة واحدة، فنصرهم الله تعالى؛ وقاتل يومئذ قطلوبغا قتالاً عظيماً فعثر جواده فقام عنه وقاتل راجلاً إلى أن قتل، فلما رأى جابوش أمر
عسكره في إدبار وقد استظهر عليهم أهل الإسلام ركن إلى الهرب ثم إن عسكره خالفوه وحملوا، فصبر لهم المسلمون واشتد الأمر، فاتفق أن جابوش وقع عن فرسه فنزل أصحابه فأركبوه، فوقع ثانياً فنزلوا وأركبوه، فكبا به الفرس ثالثاً فدهشوا وذهلوا عنه، وانكسر عسكره وولوا الأدبار، فرآه بعض الترك فأرشقوهم نبلاً، فلم يزالوا كذلك إلى أن غربت الشمس، وقيل إن جملة من قتل منهم في ذلك اليوم ستة آلاف؛ ثم رجع المسلمون فنزلوا على الماء وباتوا على أهبة، فلما أصبحوا توجه يشبك الشاد ومن معه إلى جبل الصليب فخربه وما حوله من الديارات، وأحضروا الصليب الذي كان به وكانوا يعظمونه حتى سموه صليب الصلبان، ثم سار المحمودي بالعسكر إلى جهة الملاحة، وتوجه بعض العسكر إلى من بالمراكب، فأعلموهم بما وقع من المسلمين، أن صاحب قبرس مقيد، وأن أخاه قتل، وأن ابن أخي صاحب الكتيلان الذي جاء نجدة له مقيد، ثم وصل العسكر وكان ثاني شهر رمضان. ره في إدبار وقد استظهر عليهم أهل الإسلام ركن إلى الهرب ثم إن عسكره خالفوه وحملوا، فصبر لهم المسلمون واشتد الأمر، فاتفق أن جابوش وقع عن فرسه فنزل أصحابه فأركبوه، فوقع ثانياً فنزلوا وأركبوه، فكبا به الفرس ثالثاً فدهشوا وذهلوا عنه، وانكسر عسكره وولوا الأدبار، فرآه بعض الترك فأرشقوهم نبلاً، فلم يزالوا كذلك إلى أن غربت الشمس، وقيل إن جملة من قتل منهم في ذلك اليوم ستة آلاف؛ ثم رجع المسلمون فنزلوا على الماء وباتوا على أهبة، فلما أصبحوا توجه يشبك الشاد ومن معه إلى جبل الصليب فخربه وما حوله من الديارات، وأحضروا الصليب الذي كان به وكانوا يعظمونه حتى سموه صليب الصلبان، ثم سار المحمودي بالعسكر إلى جهة الملاحة، وتوجه بعض العسكر إلى من بالمراكب، فأعلموهم بما وقع من المسلمين، أن صاحب قبرس مقيد، وأن أخاه قتل، وأن ابن أخي صاحب الكتيلان الذي جاء نجدة له مقيد، ثم وصل العسكر وكان ثاني شهر رمضان.
فلما كان يوم الخميس خامسه ساروا إلى الأفقيسة - وهي كرسي المملكة، فلما رأى الفرنج الذين في القراقر خلف البحر من الجند حطموا على اكب المسلين، فأمر الجكمي من بقي معه بمدافعتهم وأرسل إلى المحمودي يعلمه فأعاد عليه أكثر العسكر وتأخر معه طائفة، فلما رجعوا وجدوهم في وسط القتال فأعلنوا بالتكبير، فأجابهم من في البحر وبادروا إلى طلوع المراكب ومشوا على مراكب الفرنج، فاشتد القتال إلى أن دخل الليل فحجز بينهم، فلما طلع الفجر أبعدت مراكب الفرنج عن المسلمين، فلما هبوا تفطن(3/368)
الجكمي فلم يجد الريح تساعدهم، فتبعهم إياس الجلالي فقطع مركباً ووقع القتال بينهم، وكان بالمركب ثلاثمائة مقاتل غير الأتباع، فرمى عليهم بالسهام الحطابية حتى ما بقي أحد منهم يجسر يخرج رأسه فطلع المسلمون وملكوها وقتلوا أكثر من بها.
واستمرت بقية المراكب هاربة في البحر حتى غابوا عن الأعين، وكفى الله المؤمنين القتال بهزيمة من في البحر من الفرنج! وكان سبب ثيابهم في القتال أنهم لم يعلموا ما اتفق لملكهم من الأسر ولعسكره من الهزيمة، واستمر المحمودي حتى أخذ المدينة هو ومن معه وذلك في يوم الجمعة خامس شهر رمضان، فخشى من مع المحمودي على أنفسهم لقلتهم فشجعهم المحمودي، ثم دخل القصر فوجد به من الأمتعة ما لا يحصى، فأقاموا بها صلاة الجمعة وأذنوا على صوامع الكنائس، ثم خرجوا يوم السبت ومعهم الغنائم الكثيرة والأسرى، فلما وصلوا إلى المراكب اجتمعوا وأحصوا عدد الأسرى فكان ثلاثة آلاف وسبعمائة نفس.
واختلف رأيهم في الإقامة والمطالعة بما وقع من الفتح وانتظار وصول الرسول بالجواب أو التوجه بالأسرى والغنائم والعود إذا أراد السلطان مرة أخرى لاستئصال بقية الفرنج والاستيلاء على بقية الغنائم، فغلب الرأي الثاني، وصحبتهم الغنائم والأسرى ومن جملتهم عظيمهم وهو مقيد، فلما وصلوا إلى ساحل بولاق أركب صاحب قبرس وولده وابن أخي صاحب الكتيلان على بغال عرج وأعلامه منكسة أمامه وحملتالغنائم والأسرى على الجمال والبغال وشقوا المدينة، وكان ذلك يوم الاثنين ثامن شوال، ومعه الأمراء والجند، ولم يبق بمصر والقاهرة وضواحيها كبير أحد إلا حضر الفرجة حتى سدوا الأفق، وكان أول الحمالين باب المدرج وآخرهم بولاق، فلما وصلوا به إلى القلعة كشف رأسه وكب على وجهه حتى قبل الأرض عند الباب، ثم أحضر بين يدي السلطان فقبل الأرض مراراً وسقط مغشياً عليه، فلما أفاق ردوه إلى مكان أعد له وكانت صورة دخولهم أنهم ترتبوا من الميدان الكبير ثم أدخلوهم من باب القنطرة فشقوا القاهرة، واجتمع أهل البلد حتى لم يتخلف كبير أحد، فكان أمراً مهولاً من كثرة الخلق، وجاز الأمراء ثم الأسرى ثم الغنائم، ونصبوا تاج الملك وأعلامه منكسة وهو راكب(3/369)
على بغلة مقيد، فلما وصل إلى المدرج باس الأرض ومشى في قيده إلى أن وقف قدام السلطان بالمقعد، وحضر ذلك أمير مكة ورسل ابن عثمان ورسل ملك تونس ورسل أمير التركمان ورسل ابن نعير وكثير من قصاد أمراء الشام، فكان اتفاق حضورهم من المستغرب، فلما رأى السلطان عفر وجهه في التراب بعد أن كشفه، وخلع السلطان على الأمراء، ثم قرر عليه مائتا ألف دينار، يحمل منها هو بمصر النصف ويرسل النصف إذا رجع، وألزم بحمل عشرين ألف دينار كل سنة، ثم أفرج عنه بعدان حمل ما قرر عليه معجلاً، وتوجه فأرسل شيئاً بعد شيء إلى أن أكمل ما أرسله خمسة وسبعين ألف دينار؛ وقدرت وفاته عقب ذلك، ويقال إنه كان فهماً عاقلاً ينظم الشعر بلسانه ويعربه بالترجمان بالتركي فأملأ على بعض من معه هذه الأبيات:
يا مالكاً ملك الورى بجسامه ... انظر إلي برحمة وتعطف
وارحم عزيزاً ذل وامنن بالذي ... اعطاك هذا الملك والنصر الوفي
إن لم تؤمني وترحم غربتي ... فبمن ألوذ ومن سواكم لي يفي
فلما قرئت على السلطان وعرف معناها رق له وقال: عفوت عنه، وتقرر الحال معه بعد ذلك أن يكون نائباً عن السلطان في قبرس وما معها وأن يقرر عليه لبيت المال في كل سنة ألفي ثوب صوف ملونة قيمتها قريب من عشرين ألف دينار وأن يعجل بسبعين ألف دينار خارجاً عن الذي يحتاج إليه للحاشية فألبس تشريفاً ومركوباً وعذبة، وتوجه المسفر صحبته إلى الإسكندرية، فطلب جميع التجار من الفرنج المقيمين بها فأقرضوه المبلغ جميعه، فعجل به قبل أن يصل إلى بلاده، وكان أمير الإسكندرية يومئذ آقبغا التمرازي فأمر بعرض جميع من بها من الجند فكانت عدتهم ألفين وخمسمائة ملبس، واجتمع من الرعية ما لا تحصى عدتهم فاصطفوا له سماطين على طريقه، فلما رأى كثرتهم قال: الله إن كل من في بلاد الفرنج ما يقاوم أهل(3/370)
الإسكندرية وحدهم! وقد تقدم أن أباه رمى بطرس هو الذي كان هجم على الإسكندرية في سلطنة الأشرف شعبان بن حسين فقدر الله تعالى أن ولده جابوش يدخلها في صورة الأسير في سلطنة الأشرف برسباي - ولله الحمد على جزيل هذه النعمة! وكان رتب له رواتب تقوم بكفايته وكفاية من يخدمه، وكان من أمره ما سأذكره إن شاء الله تعالى في السنة الآتية، وفرح المؤمنون بنصر الله تعالى وكان ذلك على غير القياس، فإن الجند الذين توجهوا إلى قبرس لم يكن لهم عادة بركوب البحر ولا بالقتال فيه فمن الله على المسلمين بلطفه ونصرهم، ولو كانت الأخرى لطمع الفرنج في بلاد المسلمين خصوصاً السواحل، وطار خبر هذه الغزاة إلى الآفاق وعظم بها قدر سلطان مصر ولله الحمد! وأنشد الأديب زين الدين عبد الرحمن بن محمد ابن الخراط موقع الدست بالقلعة قصيدة فائية أولها:
بشراك يا ملك الملوك الأشرف ... بفتح قبرس بالحسام المشرف
فتح لشهر الصوم تم قتاله ... من أشرف في أشرف في أشرف
أحيا الجهاد وكان قبل على شفا ... من تركه فشفيته حتى شفي
قالت دمى تلك الديار وقد عفا ... إنجيلهم أهلاً بأهل المصحف
وفي طويلة يقول في آخرها:
لم تخلف مثلك فاتكاً ... ملكاً ومثلي شاعراً لم تخلف
فيك التقى والعدل والإحسان في ... كل الرعية والوفا والفضل في
وبيع السبي والغنائم وحمل الثمن إلى الخزانة السلطانية وفرق في الذين جاهدوا(3/371)
منه بعضه بعد أن كان السلطان هم أن يقسم الغنيمة بالفريضة الشرعية ثم انثنى عزمه عن ذلك.
وفي ثالث شعبان ابتدئ بقراءة الحديث بالقلعة وبدأ القارئ يقرأ في صحيح مسلم، وأمر السلطان بإحضار القضاة المنفصلين فجلسوا عن يسار السلطان، وجلس كاتبه عن يمينه وبجانبه العينتابي ثم المالكي ثم عبد العزيز الحنبلي، وجلس المشايخ يمنة ويسرة وهم يزيدون على العشرة، ووقعت فوائد ومباحث فظهرت مقادير انحطاطاً وارتفاعاً، فلما كان يوم الختم خلع على القضاة التشاريف على العادة لكنهم كانوا سبعة، وخلع على المشايخ بسعي العيني فراجى صوف بسنجاب وفرجية وهو بسمور وهي أول سنة خلع فيها على المشايخ وكانوا نحو عشرة.
وفي النصف من ذي القعدة وصل نجم الدين ابن حجي الذي كان كاتب السر وبقي في السنة الماضية فلم يزل يسعى ويكاتب يبذل المال إلى أن أجيب وأذن له بالمجيء إلى القاهرة بعناية من كان السبب في صرفه وهو جانبك الدويدار، فلما استقر بالقاهرة سعى في قضاء الديار المصرية، فأجيب سؤاله واستدعى بديوان خطب فحفظ منه خطبة عيد النحر ظناً منه أنه ربما أفضت إليه الولاية عاجلاً فاحتاج إلى أن يخطب يوم العيد، وأمر بخياطة ملابس القضاة من فوقانية ونسج عذبة وغير ذلك، ففي غضون ذلك وصل الشريف شهاب الدين نقيب الأشراف الحسيني الذي كان ولى القضاء عوضا عنه لما أسفر في كتابة السر ومعه من الهدايا والتحف ما لا يوصف كثرة وذلك في أواخر ذي الحجة، فأهدى للسلطان وبقية الكبار هدايا خليلة حتى لم يدع من شاء الله من الرؤساء حتى أهدى له فقلب الله القلوب، وقرر ابن حجى في قضاء الشام وأمر بأن يرجع الشريف بطالا، فتوجها إلى الشام في السنة المقبلة.(3/372)
وفيها في ذي القعدة بلغ عجلان بن ثابت بن هبة الحسني أمير المدينة أن السلطان عزله وولى ابن عمه خشرم بن جماز بن هبة فقبض على الخدام والقضاة ونهب المدينة، فلما وصل خشرم مع أمير الحاج الشامي وجد عجلان أخلى المدينة فأقام خشرم وتوجه الركب الشامي إلى مكة، فعاد عجلان فأمسك خشرم وخرب بيوتاً كثيرة وأحرق بيوتاً وسلم منه بيوت الرافضة، وكان قد أقام من الرافضة قاضياً اسمه الصيقل وكان يرسل إليه غالب الأحكام.
وجلى أهل المدينة إلا الرافضة وإلا القاضي الشافعي فإنه كان استنزل شخصاً من أقارب خشرم يقال له مانع فأجاره. وفيها استقر مقبل الرومي في نيابة صفد عوضاً عن اينال الخازندار بحكم مخامرته هو وأخوه وكان يومئذ نائب القلعة فاتفقا فتحيل مقبل عليهما حتى قبض عليهما فقتلا.
وفيها خرجت العساكر إلى هابيل بن قرايلك بمدينة الرها فغلبوا عليها وانتهبوها، واسروا هابيل وأحضروه إلى القاهرة فسجن بالقلعة حتى مات في الطاعون، الكائن في سنة ثلاث وثلاثين وثمانمائة.
وفيها جهز السلطان برسبغا إلى ينبع وقرقماس الشعباني إلى مكة، فغلب برسبغا على صاحب ينبع وجهزه في الحديد إلى السلطان، وأقام قرقماس بمكة فمهد البلاد وقطع أثر المفسدين.
ذكر من مات
في سنة تسع وعشرين وثمانمائة من الأعيان
أحمد بن محمد بن مكنون، شهاب الدين المنافي القطوي، ولد بها سنة تسع وسبعين وأبوه إذ ذاك الحاكم بها، ونشأ نشأة حسنة وحفظ الحاوي، واشتغل في(3/373)
الفرائض، ولازم الشيخ شمس الدين الغراقي في ذلك، وكان يستحضر الحاوي وكثيراً من شرحه، واشتغل في الفقه قليلاً، ثم ولي قضاء قطية بعد أبيه، ثم ولي قضاء غزة بعناية القاضي ناصر الدين ابن البارزي في أول الدولة المؤيدية، ثم استقر في قضاء في دمياط مع بقاء قطية معه فاستناب فيها قريبه زين الدين عبد الرحمن واستمر في دمياط في غاية الإعزاز والإكرام، فلما انفصلت الدولة المؤيدية تسلط عليه أناس بالشكاوى والتظلم، وكان كثير الاحتمال حسن الأخلاق، وصاهر عندي على ابنتي رابعة ودخل بها بكرا ابنة خمس عشرة سنة فولدت منه بنتاً ثم مات عنها، فتزوجها الشيخ محب الدين ابن الأقر فماتت عنده - عوضها الله الجنةَ! ومات ابن مكنون في شهر رمضان وكثر الأسف عليه.
اينال النوروزي أمير سلاح مات في أول ربيع الآخر بالقاهرة. أبو بكر بن محمد بن عبد الله الشيخ تقي الدين الحصني ثم الدمشقي الفقيه الشافعي، ولد سنة 752، وتفقه بالشريشي والزهري وابن الجابي والصرخدي والغزي وابن غنوم، وأخذ عن الصدر الياسوفي ثم انحرف عن طريقته، وحط على ابن تيمية وبالغ في ذلك، وتلقى ذلك عنه الطلبة بدمشق، وثارت بسبب ذلك فتن كثيرة، وكان يميل إلى التقشف، ويبالغ في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وللناس فيه اعتقاد زائد، ولخص المهمات في مجلد، وكتب على التنبيه،(3/374)
وكانت وفاته في 141 جمادى الآخرة، قال القاضي تقي الدين الأسدي: كان خفيف الروح منبسطاً، له نوادر، ويخرج إلى التنزه ويحث الطلبة على ذلك، مع الدين المتين والتحري في أقواله وأفعاله، وتزوج عدة نساء ثم انقطع وتقشف وانجمع، وكل ذلك قبل القرن، ثم ازداد بعد الفتنة تقشفه وانجماعه وكثرت مع ذلك أتباعه حتى امتنع من مكالمة الناس، ويطلق لسانه في القضاة وأصحاب الولايات، وله في الزهد والتقلل من الدنيا حكايات تضاهي ما نقل عن الأقدمين، وكان يتعصب للأشاعرة، وأصيب في سمعه وبصره فضعف، وشرع في عمارة رباط داخل الباب الصغير فساعده الناس بأموالهم وأنفسهم، ثم شرع في عمارة خان للسبيل ففرغ في مدة قريبة، وكان قد كتب بخطه كثيراً قبل الفتنة، وجمع تواليف كثيرة في الفقه والزهد.
حسن بن سويد، المصري المالكي القاضي بدر الدين، كان أصله من سوق شنودة وسلفه من القبط، ويقال إن أباه كان يبيع الفراريج، ذكر لي ذلك بعض ثقات المصريين عن شيخنا شمس الدين المراغي أنه شاهده، ورزق سويد هذا من الأولاد جماعة نبغوا وصاروا من أعيان الشهود بمصر منهم شمس الدين الأكبر وبدر الدين هذا، ولازم الاشتغال في مركز الشافعية بباب العبد(3/375)
والمتجر الكارمي، ومجلس القاضي فخر الدين القاياتي، ودروس الشيخ شمس الدين المراغي، ثم حصل مالاً واتجر به إلى اليمن في سنة ثمانمائة ثم عاود البلاد مراراً واتسعت حاله جداً، وتزوج بنت الهوريني التي من بنت القاياتي بعد موت زوجها والد الشيخ سيف الدين الحنفي فاستولى على تركة القاياتي بعد موته وأدخل معه فيها من شاء، وبنى مدرسة تقابل حمام جندر ومات قبل أن تكمل، وأوصى لها بأربعة آلاف دينار لتكميلها فصيرها أولاده بعد جامعاً وأبطلوا ما كان صيره هو من كونها مدرسة، ولم يدرس بها تدريساً، وحصل في ذلك خبط كثير؛ مات في أوائل صفر.
حسن بن عجلان بن رميثة، الحسني أمير مكة السيد الشريف، وكان قدم صحبة قرقماس من الحجاز في المحرم، واجتمع بالسلطان، وقرره في إمرة مكة على عادته وألزم بثلاثين ألف دينار، أحضر منها خمسة آلاف وأقام ليتجهز فتأخر سفره إلى أن كان في سادس عشر جمادى الآخرة فمات، وكان أول ما ولي الأمرة بعد قتل أخيه علي بن عجلان في ذي القعدة سنة سبع وتسعين، فكانت مدة إمرته اثنتين وثلاثين سنة سوى ما تملكها من ولاية غيره، وكان في هذا الشهر قد تجهز وأخرج أثقاله ظاهر القاهرة، وقدم ولده بركات في رمضان من مكة فالتزم بما بقي على والده، والتزم كل سنة بأن يحمل عشرة آلاف دينار، والتزم أن يكون(3/376)
ما جرت به العادة من مكس جدة يكون له، وما تجدد من مراكب الهند يكون للسلطان خاصة.
خليفة المغربي الأزهري الشيخ المعتقد، مات في 21 المحرم فجأة في الحمام، وكان قد انقطع للعبادة بالجامع الأزهر نيفاً وأربعين سنة، ووجد له شيء كثير.
شمس بن عطاء الله، الهروي القاضي شمس الدين واسمه محمد بن عطاء الله بن محمد بن محمود بن محمود بن فضل الله بن الرازي الهروي الشافعي، مولده بهراة سنة 767، كان إماماً بارعاً في فنون من العلوم ويقرئ في المذهبين الشافعي والحنفي والعربية والمعاني والبيان، ويذاكر بالأدب والتاريخ، ويستحضر كثيراً من الفنون، وله تصانيف تدل على غزر علمه واتساع نظره وتبحره في العلوم، وتقدمت أخباره مفصلة في سنة ثماني عشرى، وفي سنة إحدى وعشرين، وفي سنة سبع وعشرين، وكان قد حج في سنة ثمان وعشرين، ثم رجع إلى القدس فمات به وهو شيخ الصلاحية في ثامن عشر ذي الحجة، وكان شيخاً ضخماً طوالاً أبيض اللحية مليح الشكل إلا أن في لسانه مسكة.
علي بن عبد الله بن محمد بن الحسين بن علي بن إسحاق بن سلام ابن عبد الوهاب(3/377)
بن الحسن بن سلام الدمشقي علاء الدين أبو الحسن الشافعي، ولد سنة خمس أو ست وخمسين، وحفظ القرآن والتنبيه والألفية ومختصر ابن الحاجب، وتفقه على علاء الدين ابن حجي وابن قاضي شهبة وغيرهما كالشهابين الزهري والحسباني، وارتحل إلى القاهرة فقرأ بها الأصول على الضياء القرمي والمختصر على الركراكي المكي وكان يطريه حتى كان يقول: كان يعرفه أكثر من مصنفه، فاشتهر وتميز ومهر، فكان يبحث في حلقة ابن خطيب يبرود فينتشر البحث بين الطلبة بكثرة تفننه وإشكالاته، وأصيب في الفتنة الكبرى بما له وفي يده بالحرق، وأسروه فسار معهم إلى ماردين ثم انفلت منهم، وقرره نجم الدين ابن حجي في الظاهرية البرانية بعد وفاة أخيه، ونزل له التاج الزهري عن العذراوية بمساعدة ابن حجي، ودرس بالركنية بعد ابن خطيب عذراء، وكان يحفظ كثيراً من الرافعي وإشكالات عليه وأسئلة حسنة، ويقرئ في الفقه إقراء حسناً وكذا المختصر، وله يد في النظم والأدب والنثر، وكان بحثه أقوى من تقريره، وكان مقتصداً في ملبسه وغيره شريف النفس حسن المحاضرة، وكان ينسب إلى نصرة مقالة ابن عربي، فإذا حوقق في أمره تبرأ من تلك المقالات ويتحمل لها تأويلات والله أعلم بغيبه، وكان يطلق لسانه في جماعة من الكبار، واتفق أنه حج في هذه السنة فلما رد من الحج والزيارة مات في وادي بني سالم في أواخر ذي الحجة، وحمل إلى المدينة فدفن في البقيع وقد شاخ،(3/378)
لقيته قديماً بدمشق وسمعت من فوائده، وكان أخذ الفقه عن الحسباني وابن الزهري والأصول عن الضياء القرمي.
عمر بن علي بن فارس، الشيخ سراج الدين الخياط الطواقي الحنفي المعروف بقارئ الهداية، وكان في أول أمره خياطاً بالحسينية وتنزل في طلبة البرقوقية وتمهر في الفقه وغيره، واستقر قارئ الشيخ علاء الدين السيرامي بها فلقب بقارئ الهداية تمييزاً له عن سراج الدين آخر كان يقرأ في غيره، وسمع الحديث من ... وتقدم في الفقه إلى أن صار المشار إليه في مذهب الحنفية، وكثرت تلامذته والأخذ عنه، وولي مشيخة الشيخونية بأخرة بعد ابن التباني، فلما مات استقر فيها زين الدين التفهني بعد عزله عن القضاء بالعيني، واستقرت بقية وظائف سراج الدين بيد ولده، وناب عنه فيها صاحبنا عبد السلام البغدادي، مات في ربيع الآخر بعد أن أنتهت إليه الرئاسة في مذهبه، وصار المعول على فتياه مع جلالته في أصول الفقه والعربية والنحو وغيرها، وشارك في فنون كثيرة، وكان مقتصداً في ملبسه ومركبه، يتعاطى حوائجه من الأسواق بنفسه ولم يؤثر ذلك في جلالته وعظمته في النفوس ومهابة السلطان ممن دونه له هذا وهو غير ملتفت لأهل الدولة بالكلية، ولما ولى مشيخة الشيخونية أراد التوجه إليها ماشياً من مسكنه بالظاهرية، فأرسل إليه الأشرف فرساً وألزمه بركوبها، فلما ركبها أخذ بيده عصا يسوقها بها حتى وصل إلى الخانقاه، فنزل عنها كما ينزل عن الحمار برجليه من ناحية واحدة، هذا وهو على ما هو عليه من الوقار والأبهة التي لم يبلغها أصحاب الشكائم والعمائم.(3/379)
قجق الظاهري أتابك العساكر بالديار المصرية، مات في تاسع رمضان.
محمد بن أحمد بن ظهيرة بن أحمد بن عطية بن ظهيرة، المخزومي المكي الشافعي، ابن عم الشيخ جمال الدين محمد بن عبد الله بن ظهيرة، يلقب كمال الدين ويكنى أبا الفضل، ولد في شهر ربيع الآخر سنة ست وخمسين، وسمع من عز الدين ابن جماعة والشيخ خليل المالكي والموفق الحنبلي وابن عبد المعطي، وناب في الخطابة، وحدث، وأضر بأخرة؛ ومات في صفر.
محمد بن محمد بن أبي القاسم، أبو عبد الله الرخاجي، أحد مشايخ الصوفية بزبيد، كان قد تقدم عند الأشرف إسماعيل ثم عند ولده الناصر، وكان يلازمه وينادمه ويحضر معه جميع ما يصنعه من خير وشر من غير تعرض لإنكار، وكان حسن الوساطة؛ مات في رابع عشر ذي القعدة وله ست وسبعون سنة.
يوسف بن خالد بن أيوب، القاضي جمال الدين الحسفاوي الشافعي، نشأ(3/380)
بحلب وقرأ في الفقه على ابن أبي الرضى وقرأ عليه القراآت، ثم سافر إلى ماردين فأخذ عن زين الدين سربجا وولي قضاء ملطية مدة، ثم دخل القاهرة ولي قضاء حلب ثم قضاء طرابلس ثم كتابة السر بصفد، وكان حسن الشكل فائق الخط قوي النظم؛ مات بطرابلس في ثالث عشر المحرم.(3/381)
سنة ثلاثين وثمانمائة
أولها السبت ففي الثامن منه خلع على نجم الدين بن حجي بقضاء الشام عالى قاعدته وصرف الشريف شهاب الدين فأقام قليلاً، ثم أمر السلطان بسفره إلى الشام بطالاً، فأول شيء صنعه ابن حجي أنه قرب أبا أسامة الذي كان أثبت عليه المال الجزيل فيما مضى ظلماً وعدواناً فأحسن إليه، ثم استدعى منه أن يثبت على الشريف نظير ما أثبت عليه، فأجابه إلى ذلك فبادر وفعل، وطولع السلطان بذلك فألزم الشريف بما ثبت عليه وعد ذلك من العجائب، واشتهر أبو أسامة بالأحكام الباطلة، واستعاذ كل مسلم من شره لجرأته على الأمور الفظيعة، فخشى عاقبة ذلك فتحزل إلى القاهرة فسكنها مدة، ثم أخرج منها بعد لا بارك الله فيه. وكان صرف الشريف من وظيفة القضاء مما يعد من الخوارق، فإنه لم يكن بقي أحد من أهل الدولة له مال إلا وتعصب له أن يستمر، فعاكس السلطان الجميع.
وفي المحرم نودي على أهل الذمة أن يصغروا عمائمهم وأن لا يدخلوا الحمامات مع المسلمين ومن دخل منهم فليكن في عنقه جلجل أو طوق حديد إلى أشياء كثيرة اخترعها المحتسب تبعاً لغيره، فضجوا من ذلك ورفعوا أمرهم إلى السلطان، فأحضر القضاة في ثالث عشر المحرم وسألهم ما يجب عليهم! فتقر الحال أن لا يدخلوا الحمام إلا بخيط في رقبة ويكون فيه خاتم من حديد أو رصاص، وأن لا يتعرض لعمائمهم الملونة كبرت أو صغرت، وأن نساءهم يتميزن من النساء المسلمات بشيء يكون قدر الكف أو أصغر من لون عمائم رجالهن؛ فصنع ذلك وكتب على أكابرهم والتزموا به.
وفيها صرف خشرم عن إمرة المدينة وأعيد عجلان.
وفي ذي الحجة منع من البيع في داخل المسجد الحرام، ومن نصب الصواوين داخله، ومن نقل المنبر عند خطبة الجمعة من مكانه بجانب المقام إلى ظهر الكعبة.(3/382)
وفي أواخر شعبان تكلمت مع السلطان في أن لا يطفأ القناديل في رمضان إلا قبيل طلوع الفجر لما يحصل للناس من الإجحاف ممن ينام ثم يستيقظ عطشان فلا يجد القناديل تقد فيظن أن الأكل والشرب حرم وليس كذلك، فوافق السلطان على ذلك ثم عقد لذلك مجلس، فاتفق من حضر على أنه يترتب على ذلك أن يغلط من كان يعرف العادة المستمرة فيبطل صومه، فتوقف الأمر واستمرت العادة - ولله الأمر.
وفي هذه السنة صرف أبو السعادات محمد بن أبي البركات محمد بن أبي السعود ابن ظهيرة عن قضاء مكة واستقر الجمال محمد بن علي الشيبي، ولما حج مع الناس استقر في مباشرة الحكم، وأمر بسد أبواب الحرم كلها إلا أربعة أبواب، فحصل للناس بذلك مشقة شديدة فكان ما سنذكره.
وفيها وصلت من الهند من صاحب بنجالة هدايا جليلة لجماعة من الناس خصوصاً الشيخ علاء الدين محمد بن محمد بن محمد البخاري ثم الهندي نزيل القاهرة، ووصلت أيضاً هدايا من صاحب الهند.
وفي العشر الأخير من شعبان انكشفت رأس بعض المماليك وهو يلعب بالرمح، فظهر أنه أقرع فضحكوا منه. فسأل السلطان أن يقرره شاد القرعان، فكتب له مرسوم بذلك، فكان يدور على الناس فمن ظن به أنه أقرع كشف رأسه فإن وجده أقرع أخذ منه ثلاثة دراهم فضة وثلثاً ثم اضمحل أمره بعد قليل.
وفيها قدم سودون نائب الشام، ثم رجع إلى إمرته بعد عشرة أيام، وصرف أزدمر شايه عن إمرته بالقاهرة وقرر حاجباً بحلب.
وفيها خرج عرب الشرق من الحجاز على أهل الركب العراقي فانتهبوهم، وكان من جملتهم ولدان لحسن بن عجلان كانا انتجعا المشرق، فأكرمهما الملوك اللنكية وغيرهم ورجعا بمال ونهب، وذهبت للتجار العراقيين أموال عظيمة كثيرة جداً.(3/383)
وفي أواخر السنة بلغ السلطان أن بعض التركمان نازل الملطية، فأمر بتجريده ثم بطلت، وجهز قانباي البهلوان أميراً عليها.
وفي خامس عشري شهر ربيع الآخر مات كافور الزمام، وكان قد عمر وقارب التسعين، ودفن في تربة بناها بالصحراء.
وفي عاشر جمادى الآخرة قبض على تغري بردى المحمودي، وهو يومئذ راس نوبة كبير، وكان حينئذ يلعب مع السلطان بالأكرة في الحوش، وذكر أن ذنبه ما نقل عنه أنه اختلس من الأموال من قبرس وشيع في الحال إلى الإسكندرية مقيداً.
ومن عجائب ما اتفق له في تلك الحال أن شاهد ديوانه شمس الدين محمد بن الشامية لحقه قبل أن يصل إلى البحر فقال له وهو يبكي: يا خوندّ هل لك عندي مال؟ وقصد أن يقول: لا، فشفعه ذلك بعده عند السلطان وغيره، فكان جوابه له: أنا لا مال لي بل المال للسلطان، فلما سمعها ابن الشامية، دق صدره، واشتد حزنه وسقط ميتاً من غير ضعف ولا علة.
وفي آخر يوم من ذي القعدة استقر بهاء الدين ابن نجم الدين ابن حجي في قضاء الشام مكان والده، وبذل في ذلك ثلاثين ألف دينار - وسيأتي ذكر قتل أبيه في ترجمته.
ذكر من مات
في سنة ثلاثين وثمانمائة من الأعيان
أحمد بن إبراهيم بن محمد بن عبد الله بن عرب أبو العباس المعروف بابن عرب اليماني الزاهد بالشيخونية، انتقل أبوه من اليمن إلى بلاد الروم فسكنها وولد(3/384)
له بها أحمد هذا فنشأ بمدينة برصا، فكان يقال له: ابن عرب، على عادة الروم والترك في تسمية من لم يكن منهم عرب، ونشأ أحمد هذا نشأة حسنة، ثم قدم القاهرة وتنزل في القاعدة التي استجدها أكمل الدين صوفياً، وقرأ على خير الدين سليمان بن عبد الله، ونسخ بالأجرة واشتغل، ثم انقطع عن الناس فلم يكن يجتمع بأحد، واختار العزلة مع المواظبة على الجمعة والجماعة، واقتصر على ملبس خشن جداً وقنع بيسير من القوت، ومهما اطلع على أن أحداً من الباعة عرفه فحاباه لم يعد إليه، وكان يتنكر ويشتري قوت يومين أو ثلاثة بعد العشاء ويدخل الجامع من أول النهار يوم الجمعة، ولا يكلم أحداً في حال ذهابه ولا إيابه، فأقام على هذه الطريق أكثر من ثلاثين سنة ولم يكن في عصره من داناه في طريقته، وكان يدري القراآت، مات ليلة الأربعاء ثاني شهر ربيع الأول، ومن عجائب أمره أنه لما مات كان الجمع في جنازته موفوراً، وأكثر الناس كانوا لا يعلمون بحاله ولا بسيرته فلما تسامعوا بموته هرعوا إليه، ونزل السلطان من القلعة فصلى عليه بالرميلة، وأعيد إلى الخانقاه فدفن بها، وتنافس الناس في شراء ثياب بدنه فاشتروها باغلاء الأثمان، فاتفق أن جملة ما اجتمع من ثمنها حسب فكان قدر ما تناوله من المعلوم من أول ما نزل بها إلى أن مات لا يزيد ولا ينقص، فعد ذلك من كراماته رحمه الله.
أحمد بن موسى، شهاب الدين المتبولي المالكي موقع الحكم، حدث عن البياني وغيره، أخذ عنه جماعة، ومات في يوم الأربعاء 8 ربيع الأول عن خمس وثمانين سنة.(3/385)
أحمد بن يحيى بن عبد الله الحموي الرواقي الصوفي شهاب الدين أبو العباس، ولد سنة 747. وذكر أنه سمع بمكة على العفيف عبد الله اليافعي في سنة 55، وتلقن الذكر ولبس خرقة التصوف من الشيخ يوسف بن عبد الله بن عمر بن خضر الكوراني، واسندها له عن الشيخ نجم الدين الأصفهاني عن نور الدين عبد الصمد عن الشيخ شهاب الدين السهروردي، وتعاني طريق التصوف، وسكن في الأخير حماة، وتردد إلى طرابلس وغيرها، وزار القدس سنة سبع وعشرين؛ قال القاضي علاء الدين: كان صالحاً خيراً ديناً ناسكا؟ ً مسلكاً، يستحضر أشياء حسنة عن الصوفية، اجتمعت به بطرابلس فأنشدني وساق له عن أبي حيان قصيدة أولها:
لا خير في لذة من دونها حذر ... ولا صفا عيشة في ضمنها كدر
فلا ترم رقعة بين الأنام فقد ... حست منامك الأخبار والسير
والرفع من بعده نصب وفاعله ... عما قليل بحرف الجر ينكسر
وهي نحو العشرين بيتاً، لا يشبه نظم أبي حيان ولا نفسه ولا يتصور لمن ولد سنة سبع وأربعين أن يسمع من أبي حيان الذي مات قبل ذلك بمدة، ولقد عجبت من خفاء(3/386)
ذلك على القاضي علاء الدين ثم خشيت أن يكون بين الرواقي وأبي حيان واسطة، وقد زعم أنه أنشدها له العلامة جمال الدين عبد الله بن يوسف بن هشام قال: أنشدنا أبو حيان، ولا يعرف أن ابن هشام أخذ عن أبي حيان شيئاً بل كان يجتنبه. قال: وكان الرواقي يقيم بحماة ويأتي طرابلس، ثم بلغني أنه توجه إلى القدس وأقام به ومات ما بين ثمان وتسع وعشرين.
أحمد بن يوسف، الزعيفريني شهاب الدين الأديب البارع كان ينظم الشعر ويكتب المنسوب، ويتكلم في معرفة علم الحرف ويخبر عن المغيبات، ولذلك مال إليه جماعة من الأكابر وأثرى، وامتهن في سنة ثمانمائة واثنتي عشرة وقطع الناصر لسانه وعقدتين من أصابعه، ورفق به المشاعلي عند قطع لسانه فلم يمنعه من الكلام، وكان السبب في ذلك أنه نظم لجمال الدين ملحمة أوهمه أنها قديمة وأنه يملك، وصار بعد موت الناصر يكتب بشماله، وكتب مرة إلى الصدر ابن الأدمي:
لقد عشت دهراً في الكتابة مفرداً ... أصور منها أحرفاً تشبه الدرا
وقد عاد خطي اليوم أضعف ما ترى ... فهذا الذي قد يسر الله لليسرى(3/387)
فأجابه:
لئن فقدت يمناك حسن كتابة ... فلا تحتمل هماً ولا تعتقد عسرا
وأبشر ببشر دائم ومسرة ... فقد يسر الله العظيم لك اليسرى
أحمد بن البدر بن محمد بن أويس، المغربي نزيل طرابلس، قرأ بالروايات على أبي زيد عبد الرحمن بن المعلم سليمان بن إبراهيم التونسي نزيل طرابلس في سنة اثنتين وثمانين وسبعمائة فقرأه علي أبي عبد الله محمد بن محمد بن سلامة الأنصاري، ولبس خرقة التصوف من محمد بن أحمد بن محمد بن المهندس بحصن الأكراد في السنة المقبلة، وذكر انه لبسها من علي بن محمد بن محمد بن أبي الفتح عبد المحمود بمدينة بحصن الأكراد سنة 54؛ ومات ابن البدر المذكور بطرابلس في ذي القعدة، وسمع من بهادر القرمي ومحمد بن هبة الله بن وهبة وأحمد بن علي بن محمد الأرموي ومحمد بن مظفر الحسيني وعلي بن اليونانية.
أويس بن شاه ولد لابن شاه زاده ابن أويس صاحب بغداد، قتل في الحرب بينه وبين محمد شاه بن قرا يوسف، واستولى محمد شاه على بغداد مرة أخرى.
بركوت بن عبد الله المكيني شهاب الدين عتيق سعيد بن عبد الله المكيني عتيق مكين الدين اليمني، كان حبشياً صافي اللون حسن الخلق كثير الإفضال محباً في أهل العلم وأهل الخير كثير البر لهم واللطف بهم، لقي حظاً عظيماً من الدنيا وتنقلت به الأحوال، وبنى بعدن أماكن عديدة، ثم تحول إلى مكة فسكنها وبنى بها داراً عظيمة، وصاهر إلى بيت المحلي التاجر فنكح بنته آمنة واستولدها، وكان كثير التزوج والأولاد، ومات له في حياته أكثر من خمسين ولداً، وما مات حتى تضعضع حاله، وذلك في ذي القعدة بعدن وله نحو الستين.
عبد الله الملك المنصور بن الناصر أحمد بن الأشرف إسماعيل صاحب اليمن، مات(3/388)
في جمادى منها، واستقر بعده الأشرف إسماعيل بن الناصر احمد.
عبد الرحمن بن محمد بن محمد بن محمود بن غازي بن أيوب بن محمود ابن ختلو، الحلبي فتح الدين ابن الشحنة أخو العلامة محب الدين أبي الوليد، كان أصغر سناً من أخيه، واشتغل كثيراً في الفقه حنفياً حتى ناب عن أخيه في الحكم ثم تحول بعد الفتنة العظمى مالكياً، وولي القضاء ثم عزل وخصل له نكد لاختلاف الدول، ثم عاد في سنة خمس عشرى من قبل نوروز ثم من قبل المالك المؤيد إلى أن مات، قال القاضي علاء الدين: رافقته في القضاء وكان صديقي وصاحبي، وعنده مروءة وحشمة، وأنشد له من نظمه وهذا عنوانه:
لا تلوموا الغمام إن صب دمعا ... وتوالت لأجله الأنواء
فالليالي أكثرن فينا الرزايا ... فبكت رحمة علينا السماء(3/389)
عمر بن حجي بن موسى بن أحمد بن سعد، السعدي الحسباني الأصل الدمشقي نجم الدين أبو الفتوح بن حجي الشافعي، ولد سنة 767 بدمشق، وقرأ القرآن، ومات والده وهو صغير، وحفظ التنبيه في ثمانية أشهر، وحفظ كثيراً من المختصرات، وأسمعه أخوه الشيخ شهاب الدين من ابن أميلة وجماعة، واستجاز له من جماعة، وسمع هو بنفسه من جماعة كثيرة، وأخذ العلم عن أخيه وابن الشريشي والزهري وغيرهم، ودخل مصر سنة تسع وثمانين فأخذ عن ابن الملقن، ولازم الشرف والعز ابن جماعة وغيرهم، وأذن له ابن الملقن، والبدر الزركشي الأنطاكي مدة وتعلم العربية، وكان قليل الاستحضار إلا أنه جيد الذهن حسن التصرف، وأول ما حج سنة ست وثمانين، ثم ولي إفتاء دار العدل سنة اثنتين وتسعين، وجرت له كائنة مع الباعوني فضربه هو والعزي وغيرهما وطوف بهم وسجنوا بالقلعة، وذلك في رمضان سنة خمس وتسعين، ثم حج سنة تسع وتسعين وجاور، وولي قضاء حماة مرتين، ثم ولي قضاء الشام في ربيع الآخر سنة تسع وثمانمائة، ثم انفصل بعد شهرين، ثن أعيد في شوال سنة عشر، ثم صرف مراراً، وهكذا كانت مدة ولايته إحدى عشرة سنة وأشهر في مدة إحدى وعشرين سنة، وعدد ولاياته سبع مرات، وقدم مصر سنة(3/390)
اللنك بعد أن نجا منهم بحيلة غريبة، فناب في الحكم عن الجلال البلقيني، ثم عاد وولي قضاء طرابلس سنة اثنتي عشرة قدر شهرين، وحبسه نوروز في شوال سنة خمس عشرى وهم بقتله ثم نجا منه، وقبض عليه مرة أخرة قبل ذلك فهرب من الموكلين به بحيلة عجيبة، ثم قبض عليه في جمادى الأولى سنة ست عشرة، ثم تحيل وخلص وقدم القاهرة، ثم رجع مع المؤيد حتى قتل نوروز، واستقر في القضاء إلى أن قام عليه الحاجب فنودي عليه وحبس بالقلعة، ثم خلص وقدم مصر ورجع متولياً، ثم في سنة إحدى وعشرين سجن بالقلعة ثم أطلق، وحج سنة اثنتين وعشرين، فاستناب الشريف شهاب الدين بن عدنان مع ما كان بينهما من العداوة الشديدة، والسبب في ذلك أن النواب سطوا عليه واختلفوا فيمن يصلح منهم أن ينوب عنه في غيبته فعاقبهم بأن أقام عليهم الشريف، فكان ذلك أول طمع الشريف في الدخول في المنصب ثم قام مع جقمق نائب الشام بعد موت المؤيد وأشار على نائب القلعة بتسليمها إليه، فلما وصل ططر ومن معه لم يؤاخذ بذلك، وحج في تلك السنة سنة أربع وعشرين، وهم بالدخول إلى مصر ليلى عوض البلقيني ثم رجع إلى دمشق، وبلغه ولاية العراقي فقعد، ثم قام عليه نائب الشام في سنة ست وعشرين وتألب عليه أعداؤه وهموا بقتله، ثم اتفق مرض النائب فاشتغل بنفسه ومات فجاءته الولاية في رمضان منها، ولم يزل يتقلب في الأمور إلى أن قرر في كتابة السر بالقاهرة، فلم يمش له فيها حال، وتغير عليه غالب أصحابه، وعادى من كان يحبه قبل ذلك، فصرف صرفاً شنيعاً كما تقدم في الحوادث، ثم استأذن في الوصول إلى مصر فأذن له، فقرر في قضاء الشام في محرم هذه السنة، وحصل له عند عوده تعظيم زائد، وتسلط على الشريف عدوه وآذاه كثيراً وعمل عليه إلى أن قتل في منزله غيلة وذهب دمه هدراً،(3/391)
وكان ذكياً فصيحاً حسن الملتقى والمباسطة يلقي الدروس بتأن وتؤدة مع ذلك كثير الإحسان للطلبة والواردين عليه بدمشق إلا أنه انعكس في ذلك في ولايته كتابة السر وصار على ضد ما كان يعهد منه، وكان كثير التلون سريع الاستحالة، وكان قتله في ليلة الاثنين ثاني ذي القعدة.
عمر بن طرخان بن شهري، الحاجب الكبير بحلب، مات في حادي عشري شهر رجب.
عمر بن الشيخ شمس الدين محمد بن اللبان، المصري، أخذ القراآت عن والده وتصدر للاقراء وكان ساكناً سليم الباطن، وكان غالية في الشطرنج؛ مات في شعبان عن نحو ثمانين سنة.
محمد بن إبراهيم بن محمد الدمشقي الأصل البشتكي، كان أبوه فاضلاً فنزل بخانقاه بشتاك الناصري فولد له الشيخ بدر الدين هذا بها، وكان جميل الصورة، فنشأ محباً في العلم، وحفظ القرآن وعدة مختصرات، وتعاني الأدب فمهر فيه، ولازم ابن أبي حجلة وابن الصائغ، ثم قدم ابن نباتة مصر فلازمه وكتب عنه ديوان شعره، ثم رافق جلال الدين ابن خطيب داريا ودخل معه دمشق واجتمع بفضلائها، وأخذ عن البهاء السبكي وغيره بالقاهرة،، وصحب الشيخ بهاء الدين الكازروني مدة ونسخ له كثيراً، وكان أحد الأفراد في كثرة النسخ حتى كان ينسخ في اليوم خمسة كراريس، فإذا تعب اضطجع على جنبه وكتب خمسة أخرى كما يكتب وهو جالس، وكتب ما لا يدخل تحت الحصر وكتب للكازروني المذكور كثيراً من تصانيف ابن العربي، ثم رجع عن ذلك بعد موته وصار داعية إلى الحط على(3/392)
مقالة ابن العربي، وأحب المذهب الظاهري على طريقة ابن حزم، وامتحن بسبب ذلك بمكة على يد أبي الفضل النويري قاضيها وكان جاور بها بعد الثمانين، وامتحن أيضاً بالقاهرة على يد البرهان الإختاني وحبس ثم أطلق، وصحب فخر الدين ابن مكانس، وأقرأ ولده وأدبه، وتخرج به فمهر في الأدب، وله مطارحات مع أدباء أهل العصر وهاجي جماعة منهم، وكان هو كثير الإنجماع، يرجع إلى دين متين مع محبته في المجون والخلاعة، ثم أقلع وتاب ولازم الإنجماع، وكان حسن الأخلاق في أول ما يصحب ثم لا يلبث أن يتغير، وفي الجملة كان عديم النظير في الذكاء وسرعة الإدراك إلا أنه تبلد ذهنه بكثرة النسخ، وقد مدح القاضي برهان الدين بن جماعة بعدة قصائد طنانة، سمعت منه كثيراً من شعره ومن فوائده، وكانت وفاته فجأة، دخل الحمام فمات في الحوض يوم الاثنين ثالث عشري جمادى الآخرة، ومن نظمه:
كنت إذا الحوادث دنستين ... فزعت إلى المدامة والنديم
لأغسل بالكؤس الهم عني ... لأن الراح صابون الهموم
قاسم المؤيدي الدوادار، كان ولي الإسكندرية ثم إمرة بحلب، ثم استمر بها إلى أن قتل في المحرم.
كافور أغتمشي الزمام، مات يوم الأحد خامس عشري ربيع الآخر وقد قارب الثمانين، وهو صاحب المدرسة التي تجاه حارة الديلم، واستقر بعده في الزمامية خشقدم الظاهري.
محمد بن المحدث عماد الدين إسماعيل بن محمد بن بردس بن رسلان البعلبكي الحنبلي الشيخ تاج الدين أبو عبد الله، ولد ليلة التاسع والعشرين من جمادى الآخرة سنة 45، وسمع من أبيه أسمعه الكثير من ابن الخباز وتفرد به، وسمع أيضاً من محمد بن يحيى وشقيراء وابن الجوخي وابن أميلة، وأجاز له العرضي والبياتي وابن نباتة والعلائي وغيرهم، وانتفع به الرحالة، وكان محباً لنشر العلم وللرواية(3/393)
طلق الوجه حسن الملتقى كثير البشاشة مع الدين والعبادة وملازمة الأوراد والصلابة في الدين، وله نظم وتأليق وصدقة في السر، مات في شوال، وقد أجاز لي غير مرة.
محمد بن خالد بن موسى، الحمصي القاضي شمس الدين المعروف بابن زهرة - بفتح الزاي - الحمصي الحنبلي، مات في ثالث عشري شهر رجب، وهو أول حنبلي ولي قضاء حمص، وكان أبوه خالد شافعياً فيقال إن شخصاً رأى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: إن خالداً ولد له ولد حنبلي! فاتفق أنه كان ولد له هذا فشغله لما كبر بمذهب الحنبلية، وقرأ على بدر الدين بن اشناب ببعلبك وعلى الشيخ شرف الدين ابن قاضي الجيل وزين الدين بن رجب بدمشق، وولي قضاء حمص.
محمد بن عبد الواحد بن العماد محمد بن القاضي علم الدين أحمد بن أبي بكر، تقي الدين الإخنائي المالكي نائب الحكم، كان من خيار القضاة، مات في سادس ذي الحجة بمكة وكان جاور بها في هذه السنة.(3/394)
محمد بن محمد بن محمد بن محمد بن محمد بن محمد بن الإمام أبي حامد محمد بن محمد بن محمد، الغزالي الشافعي محي الدين أبو حامد الطوسي، قدم(3/395)
من بلاده إلى حلب في شهر رمضان سنة ثلاثين وثمانمائة بعد أن كان دخل الشام قديماً، وسمع من زين الدين عمر بن أميلة مسند الوقت وحدث عنه في هذه المقدمة، وجده الثامن فيما زعم هو حجة الإسلام أبو حامد الغزالي المشهور - كذا ذكر ذلك عنه الشيخ برهان الدين سبط ابن العجمي فيما قرأت بخطه والقاضي علاء الدين في ذيل تاريخه ووصفاه بالعلم والدين، قال في الذيل: رأيت أتباعه وتلامذته يذكرون عنه علماً كثيراً وزهداً وورعاً، وأخبر عنه بعض الطلبة أنه حج مراراً منها واحدة ماشياً على قدم التجريد، وكان معظماً في بلاده، قال: وبلغني أنه رأى ملك الموت فسأله: متى أموت؟ فقال: أنت تموت في العشر، فما درى أي عشر، فاتفق أنه مات في حلب في العشر الأخير من شهر رمضان سنة ثلاثين، وكانت جنازته مشهودة، أخد عنه إبراهيم بن علي الزمزمي المكي.(3/396)
سنة إحدى وثلاثين وثمانمائة
في ثالث المحرم لبس السلطان الصوف وكان ذلك قبل العادة بمدة والحر موجود واستمر بعد ذلك أياما ووقع الندى وأمطرت السماء قليلاً، ودخل كيهك من شهور القبط وهو أول الأربعين عند المصريين ولم يقع البرد بل كان نظير فصل الربيع واستمر ذلك إلى أن نقلت الشمس إلى الجدي ولم يعهد ذلك.
وفي الثالث من المحرم قدم الحمل من قبرس وهو خمسون ألف دينار.
وفيها قتل عذراء بن علي بن نعير أمير آل فضل، واستقر بعده أخوه مذحج.
وفي ثاني عشر صفر صرف القاضي الحنبلي عز الدين عبد العزيز ابن علي المقدسي وأعيد القاضي محب الدين بن نصر الله، وكان عز الدين أحس بأن يعزل فمكر بأن سأل ناظر الجيش أن يسأل له السلطان في الإعفاء، فبلغ السلطان ذلك فأعجب به وقال: لولا أنه رجل جيد ما طلب الإعفاء، وأمر أن يستمر فظن حصول مقصوده بذلك من الاستمرار وصبر على ذلك مدة، وسخط منه كاتب السر لأمر اقتضاه فاحتال عليه بأن قال للسلطان: هذا الحنبلي شيخ كبير وقد تكرر سؤاله الإعفاء وأن يقرر له رزق على جهة حل يأكل منها ويعبد الله ويدعو للسلطان، فأمر السلطان بإجابته لذلك، فخلع على محب الدين ولم يشعر عز الدين بذلك، فضج ودار على الأمراء فلم ينجع، وقرر له في الشهر على وقف تنبغا التركماني معلوم النظر، وكان يظن أنه بما تحيل به يستمر فانعكست حيلته.(3/397)
وفي صفر أمر بتحكير قصب السكر وأن لا يزرعه أحد إلا السلطان، ثم بطل ذلك بعد قليل، وفيه أمر بهدم ما كان اليهود أحدثوه من بناء درب محدث يغلق على كنيستهم وسياج كالسور، حازوا فيه كثيراً من دور المسلمين التي تهدمت، وكانوا فعلوا ذلك في سنة ثلاث وعشرين بغير إذن من حاكم، فقام الشريف شهاب الدين النعماني في ذلك، وكان لما أنكر عليهم لبسوا على قاضي الحنابلة وأخذوا خطه على قصة، وكان القائم معهم في ذلك نقيب الحنبلي جمال الدين عبد الله الإسكندراني، فحمل النعماني أعيان الناس على الحنبلي حى أوضح له القصة فحكم بهدم ما أحدثوه من السياجات والأبواب والخوخ، وسجل على نفسه بذلكم في سنة أربع وعشرين، فلما كان في هذه السنة رفعوا للقاضي الحنفي العينتابي قصة، فأذن فيها لبعض النواب ممن كان الشافعي منعه من الحكم وكان من شيعة الهروي فتوسل للعينتابي بذلك، فأذن له في الحكم وعين عليه هذه القصة، فكتب محضراً يتضمن أن الذي كانوا جددوه مختص بالكنيسة وليس فيه شيء من أبنية المسلمين ولا من حقوقهم وإنما تعصبوا عليهم في القصة التي تقدم ذكرها، فأثبت ذلك وأذن لهم في إعادة ما كان الحنبلي حكم بهدمه، فسارعوا إلى بنيانه، فقام النعماني وحمل الناس على العبنتابي حتى نفذ حكم الحنبلي، ثم أخذ النعماني في التشنيع على النائب الذي تعاطى ذلك وهو عبد الله البرلسي حتى اتصلت القصة بالسلطان، فأذن للشافعي والحنبلي أن يتوجها بمفردهما ومعهما ناظر الأوقاف إلى المكان المذكور ويشخصوه وينظر القاضيان فيما حكم به ابن المغلي ثم البرلسي ويفعلا فيه الواجب، فتوجها يوم الجمعة ثاني عشري صفر، وكان النعماني استكتب شيوخ المصريين في محضر شهدوا فيه أن الذي أعيد الآن هو عين ما كان ابن المغلي أمر بهدمه، وأذن العينتابي لليهود في كتابة محضر بأنه غيره وكتب فيه جماعة، فلما تأملت المحضرين وشاهدت الأمكنة المجددة أغنت المشاهدة عن الخبر فظهر الحق بيد النعماني، لكن رأيت الغوغاء قد اجتمعوا ومعهم المساحي والمعاول، فلو أذنت بهدم شيء ما(3/398)
لهدمت الكنيسة كلها ونهب ما فيها، وكان ذلك وقت العصر فقلت لهم: لا بدمن كشف كنيسة النصارى حتى ينظر ما أحدثوا أيضاً وبهدم الجميع، فأعجبهم ذلك وافترقنا على العود في أول النهار، ثم استوفى الشافعي والحنبلي الشروط في المسألة وحكما بهدم ما أحدث وإبطال حكم البرلسي، وكان البرلسي قبل ذلك خشي القالة فأشهد على نفسه بأنه رجع الحكم المذكور، ثم توجه لكاتب السر فأعلمه بذلك واتصل ذلك بالسلطان، وكنت عند الافتراق أمرت الوالي أن يزيل ما أحدثوه من الأبنية الجديدة كلها بالليل، ففعل ذلك وانحسمت المادة بعون الله تعالى.
وفي ربيع الأول غلا السعر بسبب هبوب الريح المريسية، فمنعت المراكب من الوصول من الوجه البحري بالغلال، وعز وجود الخبز بالأسواق أياماً، ثم فرج الله وانحل السعر في جمادى الأولى، ورخص القمح وغيره.
زفي شهر ربيع الآخر شدد السلطان في أمر الخمر وأمر بإراقة ما يوجد منها في مظانها في جميع البلاد، وكذلك الحشيش أمر بإحراق ما يوجد منها، فأهريق من الخمر وأحرق من الحشيش ما لا يحصى كثرة، وأكثر ذلك كان بدمياط وكان في القاهرة وغيرها من الأعمال على ذلك ضمان وعليه إقطاعات لأناس، فبطل ذلك ولله الحمد، ثم أعيد قليلاً قليلاً بدسائس أهل الظلم والمكر حتى عاد كما كان بعد مدة قريبة.
وفيها أبطلت المعاملة بالبنادقة وضربت اشرفية، وحصل بذلك لخيار المسلمين سرور كثير، وفيه حضر من أكابر أهل دمياط جماعة وشكوا من ابن الملاح الكاتب النصراني الملكي وأنه يتجاهر باللواط، ويستخدم من يكون جميل الصورة من أبناء البلد، ويبالغ في إظهار الفاحشة، حتى أنه ربما قام بحضرة الناس فخلا به الشاب منهم بحيث لا يواريه إلا جدار المخدع أو شبهه ثم يخرجان معاً على الهيئة الدالة على المراد، وكثر ذلك منه، وأنف جماعة من الناس ومنعوا أولادهم من الخدمة عنده، وهو يفسدهم بكثرة العطية ومعاقرة الخمر والغناء، مع ما هو فيه من الجاه العريض حتى كان والي البلد يقف في خدمته، ومهما قاله لا يرد(3/399)
ومهما فعله لا يتعقب، ومن نازعه في شيء أفسد حاله عند ناظر الخاص المتكلم على البلد؛ فرفعوا في أمره قصة تتضمن هذا وغيره من المفاسد، فعقد له مجلس بحضرة السلطان، فلما ادعى عليه أنكر، فقامت البينة بشيء من ذلك فبادر وأسلم وحكم بإسلامه ولقب محب الدين. وشرط عليه الشافعي أنه متى ثبت عليه شيء مما وقع فيه أو وقع في حق أحد ممن قام عليه في ذلك رتب عليه مقتضاه! وتهدده في ذلك، فأذعن والتزم وتوجه إلى دمياط وحسنت سيرته بالنسبة لما كان أولاً - والله أعلم بغيبه.
وفيه منع الفرنج من حمل الخمر من بلادهم ثم بعد مدة عادوا، وفيه جعل على تجار الشام ثلاثة دنانير ونصف إن حملوا البهار إلى بلادهم زيادة على المكس المعهود، ثم بعد سنين بطل ذلك والتزموا بعدم الحمل.
وفي الخامس من جمادى الأولى غضب السلطان على فيروز الساقي بسبب أنه تكلم في القاضي الحنفي العيني ونسبه إلى أمور معضلة من تناول الرشوة والحكم بالعرض وتعاطي الأسباب المفسقة، فأراد السلطان الاستثبات في ذلك فأحضر الحنفي، وأراد من فيروز أن يواجهه ويحاققه، فخارت قوى الطواشي فاعتذر واستغفر، فاشتد غضب السلطان وأمر بأن بنفي بعد أن ضرب بحضرته ضرباً شديداً، ثم شفع فيه بأن يكون توجهه إلى المدينة الشريفة فأجاب، وتوجه فأقام بها سنة ثم أذن له في الرجوع.
وفي جمادى الأولى عند نزول الشمس برج الحمل أمطرت السماء يومين متواليين مطراً غزيراً لم يقع في هذه السنة قبل ذلك، ووقع في أول يوم من برمودة والشمس في الحمل حر شديد وسموم نظير ما جرت العادة أنه يقع في تموز.
وفيه لبس السلطان الأبيض قبل العادة بسبعة وثلاثين يوماً لشدة ما وقع من الحر، ثم لم يلبث البرد أن عاد أشد ما كان واستمر إلى مضي عشرين يوماً.(3/400)
وفيه وقع بالشام مرض عام، وكثر موت الخيل بها وبحماة.
وفي جمادى الأولى خلع الأشرف إسماعيل بن الناصر أحمد صاحب اليمن من الملك، وكان السبب فيه أن وزيره الشرف إسماعيل بن العفيف عبد الله بن عبد الرحمن بن عمر العلوي قصر في مرتبات الجند، فطالبوه مراراً فلم ينصفهم، فرفعوا أمرهم للسلطان، فأحالهم على الوزير، فتألموا وهجموا على الدار فخرج إليهم شقير أمير جندار، فضربوه بالسيوف حتى برد، وقتلوا الشاد الكبير، واسمه عندهم مشد المشدين، وهجموا على الأشرف وقبضوا عليه وعلى علي بن الحسام لاجين، وسجنوا الأشرف وأمه وحظيته، وكان كبيرهم مملوكاً يقال له برقوق من مماليك الناصر، فاتفق رأيهم أن يخرجوا يحيى بن ناصر من محبسه يسلطنوه ففعلوا ولقبوه الظاهر، ونهبوا دار السلطان، واستقرت سلطنة يحيى بن الناصر وحبس الأرف إسماعيل في الموضع الذي كان فيه يحيى، وهو في حصن ثعبات من بلاد تعز، وصودر الوزيران، وعظم أمر الشهاب أحمد بن الأمير محمد بن زياد الكاملي، وكان أبوه من أكابر أمراء الأشرف بن الأفضل ثم صار هو الآن كبير الأمراء، وظهرت من الظاهر يحيى شجاعة ومعرفة ومهابة.
وفي الثالث من جمادى الآخرة ادعى على شمس الدين محمد بن الشيخ عز الدين حسن الرازي الحنفي أحد نواب الحكم بأنه وقع في حق النبي صلى الله عليه وسلم فأنكر، ثم ادعى عليه نقيب الحنفي أنه قال له: أنت يهودي، فأنكر، فأقام عليه البينة بذلك فعزر، وحكم الحنفي بحقن دمه وسكنت القضية
وفي جمادى الآحرة وصل إلى الشيخ علاء الدين ابن البخاري من صاحب كلبرجا من بلاد الهند ثلاثة آلاف شاش، ففرق منها ألفاً على الطلبة الملازمين له، من جملتها مائة(3/401)
شاش لصدر الدين ابن العجمي ليوفي بها دينه، ويقال إن صاحب الهند كان قرأ على الشيخ علاء الدين لما كان بالهند، فراسله فأشار عليه أن يرسل لفقراء الطلبة صدقة فأرسل ذلك، ثم فرق الشيخ علاء الدين على الطلبة كثيراً من الشاشات، وعمل لهم وليمة في بستان ابن عنان صرف عليها ستين ديناراً، ووصلت هدية صاحب الهند للسلطان، وهي مائتاشاش، ومائتا إزار بيرمي، وستون نافجة من المسك الطيب، وأربعة أسياف محلاة فيها نحو خمسمائة مثقال.
وفيها عزم الشيخ علاء الدين ابن البخاري على الحج واستاذن السلطان فامتنع، فألح مرة بعد مرة فأرسل إليه كاتب السر بدر الدين بن مزهر، فلم يزل يرجعه إلى أنقبل يده فأطاع وأقام.
وفي السادس من جمادى الآخرة أخذت الحوانيت التي فيهاالسيوفية والصيارف ظاهر الصاغة وعلوها وقد أخذ فيه الجوانب، واستبدل النصف والربع بمال جزيل يعمر به في البرع الباقي لجهة وقفه على الصالحية فعمر عمارة جديدة، وصارت أجرة الربع أزيد من أجرة الكل بالنسبة لما كان يفضل بعد الصرف في ترميمه.
وفي أول يوم من رجب عمل الموكب السلطاني وكان حافلاً جداً، والسبب فيه قدوم رسول من ابن عثمان يستأذن في الحج ومعه هدية جليلة.
وفيه التمس الشيخ علاء الدين محمد بن محمد بن محمد البخاري من السلطان أن يبطل إدارة المحمل حسماً لمادة الفساد الذي جرت العادة بوقوعه عند إدارته في الليل والنهار من ارتكاب المنكرات والتجاهر بالمعاصي، فأمر السلطان بجمع القضاة وكاتب السر وأن يتوجهوا إلى الشيخ علاء الدين ويتكلموا معه في هذه المسالة، فوقع الكلام فقلت: ينبغي أن ينظر في السبب في هذه الإدارة فيعمل بما فيه المصلحة منها ويزال ما فيه المفسدة، وذلك أن الأصل فيه إعلام أهل الآفاق أن الطريق من مصر إلى الحجاز آمنة، وأن من شاء أن يحج فلا يتأخر لخشية خوف الطريق؛ وذلك لما كان حدث قبل ذلك من انقطاع الطريق(3/402)
إلى مكة من جهة مصر كما هي الآن منقطعة غالباً عن العراق، فالإدارى لعلها لا بأس بها لهذا المعنى وما يترتب عليها من المفاسد يمكن إزالته بأن يبطل الأمر بزينة الحوانيت، فإنها السبب في جلوس الناس فيها، وكثرة ما يوقد فيها من الشموع والقناديل، ويجتمع فيها من أهل الفساد، فإذا ترك هذا وأمر السلطان من تعاطي إدارة المحمل من غير تقدم إعلام الناس بذلك حصل الجمع بين المصلحتين، وانفصل المجلس على ذلك؛ ووقع في هذا المجلس ذكر ابن العربي الصوفي، فبالغ الشيخ علاء الدين في ذمه وتكفيره وتكفيرمن يقول بمقالته، فانتصر له المالكي وقال: إنما ينكر الناس عليه ظاهر الألفاظ التي يقولها، وإلا فليس في كلامه ما ينكر إذا حمل لفظه على مراده بضرب من التأويل، فانتشر الكلام بين الحاضرين في ذلك، وكنت مائلاً في ذلك مع الشيخ علاء الدين، وأن من أظهر لنا كلاماً يقتضي الكفر لا نقره عليه، وكان من جملة كلام الشيخ علاء الدين الانكار على من يعتقد لوحدة المطلقة وكان من جملة كلام المالكي أنتم ما تعرفون الوحدة المطلقة، فاستشاط البخاري غضباً وأقسم بالله أن السلطان إن لم يعزل المالكي من القضاء ليخرجن من مصر! والتمس من كاتب السر أن يسأل السلطان في إزالة أشياءمن المظالم الشنيعة، ومن جملتها أن المسلم يؤخذ منه المكس أكثر ممكا يؤخذ من النصراني إذا أحضرا بضاعة واحدة، بحيث صار كثير من المسلمين يجعل بضاعته باسم النصراني ويتقلد له المانه، وأكد عليه في قصة المالكي، فأعاد كاتب السر على السلطان جميع ما اتفق، فأمر السلطان بإحضار القضاة عنده، فحضروا فسئلوا عن مجلس علاء الدين، فقصه كاتب السر بحضرتهم، ودار بين السافعي والمالكي في ذلك بعض كلام، فتبرأ المالكي من مقالة ابن العربي وكفر من يعتقدها، فصوب الشافعي قوله، وسأل السلطان ماذا يجب على المالكي، وهل تكفير(3/403)
الشيخ علاء الدين له مقبول، وهل يستحق العزل أو التعزير! فقلت: لا يجب عليه شيء بعد اعترافه هذا وهذا القدر كاف منه، وانفصل المجلس على ذلك؛ وأرسل السلطان يترضى علاء الدين ويسأله بأن لا يسافر، فأبى وسلم له حاله وقال: يفعل ما أراد، وهم بعزل القضاة لاختلاف قولهم الأول عند علاء الدين والثاني عنده، فبين له كاتب السر أن قولهم لم يختلف وأوضح له المراد فرضي، واستمر المالكي بعد أن كان أراد أن يقرر الشيخ شهاب الدين بن تقي الدميري أحد نوابه مكانه، وحضر المجلس المذكور، وأحضرت خلعته، فبطل ذلك.
وفي السادس والعشرين من رجب هبت ريح شديدة ملأت الأزقة والبيوت تراباً، ودام ذلك من أول النهار إلى آخره، وفي بعض الليل.
وفي رمضان توجه سعد الدين إبراهيم بن المرة الكاتب لأجل المكوس من تجار الهند بحدة فعمر بجدة جامعاً وفرضة وصارت مينا عظيمة، وجهز السلطان أمير يقال له أرنبغا من أمراء العشراوات، وجهز معه خمسين مملوكاً لدفع بني حسين والقواد عن التعرض إلى جدة والإعراض عن النهب، وحج بالركب الأول ينال الششماني راس نوبة وبيده يومئذ حسبة القاهرة فاستناب فيها دويداره شاهين، فمشى الأمور إلى أن وصل أستاذه، فلم يشكر سيرته لكثرة نومه وإغفاله أمر اللصوص وفيه قبض على قطج أحد أمراء الألوف وحمل إلى الإسكندرية، وقبض على جرباش قاشق أمير مجلس ونفي إلى دمياط مطلقاً، فأقام بها واتجر وتمول، واستقر اينال الأجرود في نيابة غزة، وأعبد تنبغا المظفري من القدس واستقر في إمرة جرباش قاشق المذكور وذلك في العشر الأخير من ذي القعدة.
وفي خامس ذي الحجة قبض على أزبك الدويدار، واستقر مكانه اركماس الظاهري، واستقر تمراز الذي كان نائب غزة في وظيفة اركماس راس النوبة الكبير،(3/404)
ووصل في هذه السنة المحمل من العراق بعد أن انقطع عشر سنين أو اكثر. جهزه في هذه السنة حسين بن علاء الدولة ابن أحمد بن أويس أمير الحلة ومغيرة بن سقم أمير العرب، ووقف الحاج يومين للاختلاف في الهلال.
وفي ذي الحجة انحط سعرالقمح بعد أن كان بلغ أربعمائة إلى ثلاثمائة وخمسين، ثم انحط بعد ذلك أيضاً وفتحت الشؤن السلطانية وغيرها وبيع منها فحصل الاتساع، وكان السعر بلغ مائتين وعشرين، والتبن مائة وثمانين كل حمل، ثم أنحط إلى أربعين درهماً كل حمل.
وفي ثامن رمضان استقر قانصوه النوروزي في نيابة طرسوس وكان أمير عشرة، وأضيف إقطاعه إلى الديوان المفرد، وفي جمادى الآخرة قرر طرباي في نيابة طرابلس، وكان قد أذن له أن يقيم بالقدس بطالاً، فتحول من ثم إلى طرابلس واستمر في إمرتها إلى..
وفي شهر ربيع الآخر أفرج عن جنبوس الفرنجي صاحب قبرس على فدي مبلغه مائة ألف دينار، وأن يطلق عندهم من أسرى المسلمين وجهز إلى الإسكندرية، وفيه قدم مركبان من فرنج الكتيلان لأخذ الإسكندرية بغتة، فوجدوا أهلها قد أيقظهم متولي قبرس بهم، فلم يحصل لهم مقصود.
وفيه أمر السلطان بإراقة الخمور فتتبعت من عند كل من يتعاناها من المسلمين وأهل الذمة، وشدد في ذلك وكتب به إلى البلاد الشامية وغيرها، وكتب إلى الإسكندرية بإلزام الفرنج بإعادة ما جلبوه من الخمور إلى بلادهم، واتفق في دمياط أن بعض الفقهاء أراق خمراً فعارضه بعض الخاصكية وأهانه، فبلغ ذلك السلطان فأمر بضرب ذلك الخاصكي ضرباً(3/405)
مبرحاً، حتى أن بعض الأمراء وهو اخو السلطان قام ليشفع فيه، فضربه معه فضربا معاً، ثم أمر بإحراق الحشيش والمنع من زرعها. وفيها نقض ابن الركاعنة طاعة أبي فارس صاحب تونس، فسار إليه واجتمع به عبد الواحد بن أبي حمو وهو عمه، ففر ابن الركاعنة، وأقام أبو فارس عبد الواحد المذكور في ملك تلمسان وفاس ورجع - وكانما سيأتي ذكره سنة ثلاث وثلاثين.
وفي السابع من رجب استقر كمال الدين ابن البارزي في كتابة السر بدمشق عوضاً عن حسين السامري بحكم وفاته وكان له منذ عزل من نظر الجيش مقيما؟ ً بالقاهرة سبع سنين، واستقر شهاب الدين ابن نقيب الأشراف بدمشق في نظر الجيش عوضاً عن حسين أيضاً، وكان جمعهما.
وفي عاشره استقر عز الدين بن عبد السلام بن داود بن عثمان المقدسي في تدريس الصلاحية بالقدس عوضاً عن الشيخ شمس الدين البرماوي بحكم وفاته، واتفق في هذه السنة من العجائب أن الفول نزل عليه الصقيع بالصعيد فافسده وهو أخضر، شرق كثيرمن الأراضي فلم يزرع، وأكلت الدودة مواضع مزدرعة، فكانت هذه الأمور الثلاثة في العادة ينشأ عنها الغلاء، وانضاف إلى ذلك نزول النيل بسرعة، فزرعوا في شدة الحر، ثم تسلطت الدودة مع ذلك، فتحرك السعر قليلاً ثم لم يرتفع لشئ من الغلة رأس، وتمادى الأمر على ما كان حتى جاء المغل الجديد، ثم غلا السعر في أيام زيادة النيل فزاد سعر كل إردب مائة درهم، وانحلت الأسعار بعد وفاء النيل، وكان ببلاد الصعيد الأعلى وباء شديد ومرض حاد ومات بسببه خلائق في رجب وشعبان، واستمر إلى ... وفي سادس عشر شوال نودي بأبطال المعاملة بالدراهم البندقية واللنكية، وأخرجت الدنانير الأشرفية، ونودي أن يكون بمائتين خمسة وعشرون، وأبطلت المعاملة بالأفلورية.(3/406)
وفي السادس من ذي الحجة قبض على أزبك الدويدار الكبير، واستقر عوضه أركماس رأس نوبة النوب، واستقر في وظيفته تمران الذي كان نائب غزة -.
وفيها استقر جوهر القنقباى خازندار ثانيا، ثم بعد قليل استقر عوضا عن خشقدم خازندار كبيرا، واستقر خشقدم زماما بعد موت الزمام.
وفي سابع عشر ذي الحجة استقر التاج الوالي مهمندارا عوضا عن خرز، فاجتمعت له عدة وظائف: ولاية القاهرة والحجوبية وشد الدواوين والمهمندارية، مع استمراره في مجالسة السلطان ومنادمته.
ذكر من مات
في سنة 831 من الأعيان.
إبراهيم بن عبد الله الشامي الملقب خرز، قدم مع المؤيد فولاه المهمندارية بعد ابن لاقي ومات وقد ولى ولاية القاهرة، ومات في العشر الأخير من ذي القعدة.
أزدمر شايه أحد الأمراء الكبار المقدمين -، نقل لنيابة ملطية في أول سنة ثلاثين، ثم رجع إلى حلب أميراً، ومات بها في سادس شهر ربيع الآخر، وكان من مماليك الظاهر ثم صار من أتباع شيخ، فلما تسلطن أمره.
إياس الحاجب الظاهري، كان أحد الأمراء الأربعين، ثم أخرج إقطاعه وانفصل من الحجوبية، ومات بطالاً.
بكتمر بن عبد الله، السعدي مملوك سعد الدين بن غراب، تربى صغيراً عنده وتعلم الكتابة والقراءة، وكان فصيحاً ذكياً، ترقى إلى أن سفره السلطان إلى صاحب اليمن، ثم علد فتأمر وتقدم، وكان فاضلاً شجاعاً عارفاً بالأمور، مات في يوم الخميس 13 ربيع الأول.(3/407)
جانبك الدوادار الأشرفي كان اشتراه وهو صغير، ثم رقاه كما تقدم في الحوادث، وأمره طبلخاناة في المحرم سنة ست وعشرين، وأرسل إلى الشام لتقليد النواب فأفاد مالاً عظيماً، وتقرر أولاً خازندار ثم تقرر دويدار ثانياً بعد سفر قرقماس إلى الحجاز، وصارت غالب الأمور منوطة به، وليس للدوادار الكبير معه كلام وتمكن من سيده غاية التمكن، حتى صار ما يعمل برأيه يستمر، وما يعمل بغير رأيه ينقض عن قرب -، وشرع في عمارة المدرسة التي خارج باب زويلة، وابتدأ به مرضه بالمغص ثم انتقل إلى القولنج، وواظبه الأطباء بالأدوية والحقن ثم اشتد به الأمر فعاده أهل الدولة كما هم من الخدمة السلطانية فحجبوا دونه، فبلغ السلطان فنزل إليه العصر فعاده واغتم له وأمر بنقله إلى القلعة، وصار يباشر تمريضه بنفسه مع ما شاع بين الناس أنه سقي السم، وعولج بكل علاج إلى أن تماثل ودخل الحمام ونزل إلى داره، فانتكس أيضاً لأنه ركب إلى الصيد بالجيزة فرجع موعوكاً، وتمادى به الأمر حتى مات، فنزل السلطان إلى داره وحضره وركب في جنازته وصلى عليه تحت القلعة، وكان شاباً حاد الخلق عارفاً بالأمور الدنيوية كثير البر للفقراء شديداً على من يتعاطى الظلم من أهل الدولة، وهم الأشراف مراراً أن يؤمره تقدمة فلم يقدر ذلك، وكان هو في نفسه وحاله أكبر من المقدمين، مات في ليلة الخميس سابع عشرى شهر ربيع الأول عن خمس وعشرين سنة - تقريباً -، وماتت زوجته بعده بستة أيام، فيقال إنه كان جامعها لما أفاق من مرضه قبل النكسة فأصابها ما كان به من الداء، ونقل السلطان أولاده عنده وبنى لهم خان مرور بالقرب من بين القصرين وكان قد استهدم، فأخذه بالربع وعمره عمارة متقنة بحيث صار الذي يتحصل من ريعه يفي لأهل الربع بالقدر الذي يتحصل من جميعه.(3/408)
جانبك بن حسين بن محمد بن قلاون سيف الدين بن الأمير شرف الدين ابن الناصر بن المنصور، ولد سنة بضع وخمسين، وأمر طبلخاناة في سلطنة أخيه الأشرف شعبان، ولما زالت دولة آل قلاون استمر ساكناً بالقلعة مع أهل بيته، وكانت عدتهم إذ ذاك ستماءة نفس، فما زال الموت يقلل عددهم إلى أن تسلطن الأشرف برسباي، فأمر بهم أن يسكنوا من القاهرة حيث شاؤا فتحولوا، ولم يكن فيهم يومئذ أقعد نسبا من جانبك بل كان قبله بقليل ولد الناصر حسن وقد تقدمت وفاته في ... وأناف جانبك على السبعين.
حسن بن أحمد بن محمد، البرديني بدر الدين، قدم من السيوفة صغيراً ونشأ بالقاهرة فقيراً، ونزله أبو غالب القبطي الكاتب بمدرسته التي أنشأها بجوار باب الخوخة، فقرأ على الشيخ شمس الدين الكلائي ولم يتمهر في شئ من العلوم، بل لما ترعرع تكسب بالشهادة، ثم ولى التوقيع واشتهر به وكانت لديه معرفة بالأمور الدنيوية فراج على ابن خلدون فنوه به، وكذا صدر الدين المناوي، ولم ينتقل في غالب عمره عن ذلك ولا عن ركوب الحمار، حتى كان بأواخر دولة جمال الدين الأستادار فإن فتح الله نوه به، فركب الفرس وناب في الحكم وطال لسانه، واشتهر بالمروءة والعصبية فهرع الناس إليه لقضاء حوائجهم وصار عمدة القبط في مهماتهم يقوم بها أتم قيام - فاشتد ركونهم إليه - وخصوه هم بها فلايثق أحد منهم فيها بغيره، فصارت له بذلك سمعة، وكان يتجوه على كاتب السر فتح الله بناظر(3/409)
الجيش ابن نصر الله، وعلى ناظر الجيش بكاتب السر فتح الله، وعلى سائر الأكابر بهما معاً، فحوائجه مقضية عند الجميع، ولما باشر نيابة الحكم أظهر العفة ولم يأخذ على الحكم شيئاً، فأحبه أكثر الناس وفضلوه على غيره من المهرة لهذا المعنى، وحفظت عنه كلمات منكرة مثل إنكاره أن يكون في الميراث خمس أو سبع لأن الله لم يذكره في كتابه، وغير ذلك من الخرافات التي كان يسميها المفردات، وحج بأخره فذكر لي صلاح الدين بن نصر الله عنه أموراً منكرة من التبرم والإزدراء - فنسأل الله العفو! وكان مع شدة جهله عريض الدعوى غير مبال بما يقول وبفعل مات في يوم الإثنين خامس عشرى رجب وقد أناف على الثمانين.
حسين نجم الدين بن عبد الله، السامري الأصل كاتب السر بدمشق، وقد جمع بينها وبين نظر الجيش بعناية صهره زوج بنت امرأته ازبك الدوادار، واستقر بعده كمال الدين البارزي في كتابة السر بدمشق وشهاب الدين الشريف نقيب الأشراف في نظر الجيش، وكان موت حسين المذكور في - يوم الأربعاء لست بقين من جمادى الآخرة -، وكان عريا عن العلوم جملة والعجب أنه كان باسمه التدريس بدار الحديث الأشرفية بدمشق! وأول ولايته لكتابة السر كان في أول سنة إثنتي عشرة، ثم صرف وباشر عند الأمراء، وأول(3/410)
ولايته نظر الجيش سنة خمس وعشرين في صفر، ثم أضيفت إليه كتابة السر في جمادى الآخرة منها وصرف عن كتابة السر في سنة ثمان وعشرين، ثم أعيدت إليه في ربيع الآخر سنة ثلاثين، واستمرتا معه إلى أن مات.
سعيد بن عبد الله المغربي، المجاور بالجامع الأزهر وأحد من يعتقد ويزار، وكان عنده مال جم من ذهب وفضة وفلوس يشاهده الناس فلا يجسر أحد على أخذ شئ منه، وكان عنده ذهب هرجة يخرجه أحيانا ويصففه، وقد شاع بين الناس أن من اختلس منه شيئا أصيب في بدنه، فلا يقربه أحد، وكان حوله قفاف ذوات عدد ملأى من الفلوس، وكان يحضر أحياناً ويغيب أحياناً إلى أن مات - يوم الأربعاء - في تاسع عشر ربيع الآخر بعد مرض طويل، وقد زاره السلطان مرة، ولما مات حمل المال الذي وجد له لبيت المال، وكانت جنازته حافلة.
شرف بن أمير، السرائي ثم المارديني الكاتب المجود، تعانى الكتابة إلى أن أتقن الخط على الطريقتين ابن البواب وياقوت، وتعلم منه أهل تلك البلاد، وقدم حلب على رأس القرن، ثم حج في سنة تسع وعشرين، وذكر أن اللنك طلبه من صاحب ماردين، فتغيب هو كراهية من قربه اللنك، ثم نزل حصن كيفا وسكنها، وعلم الناس بها الكتابة، قربه صاحبها، قرأت ترجمته في تاريخ القاضي علاء الدين بحلب - أيده الله -.
عبد الغني المعروف بابن الجيعان مستوفي الخاص، كان متمولا عارفاً بأمور الديوان وبالمتجر، وقد حج في سنة ست وثمانمائة، مات في جمادى الآخرة، وكان كثير السكون، وفي لسانه لثغة قبيحة، وعمر دارا هائلة بقرب الجامع أخذ فيها أملاك الناس، فقدر أنها آل نظرها إلى بيت زوجته التي كانت زوجاً لأزبك - الدوادار - فباعتها بأبخس ثمن وهو ألف دينار في سنة إحدى وأربعين، وذكر لي كمال الدين كاتب السر في سنة خمس وأربعين أن مصروفها كان أكثر من عشرة آلاف دينار.(3/411)
قجقار شقطاي أحد الأمراء الصغار، تقدم في دولة المؤيد وقرر رأس نوبة ولده إبراهيم وتوجه رسولاً إلى ملك الططر، وعظم قدره في دولة الأشرف فصار زردكاشا، واستقر بعده فيها أحمد بن الأسود الذي كان دويدارا صغيراً وكان مشكور السيرة كثير الرفق بالفلاحين عارفاً بعمارة الأرض.
كمشبغا الجمالي، أحد أمراء الأربعين، كان عاقلاً وقوراً متديناً، واستنابه الناصر فرج في بعض سفراته إلى الشام، ولما كانت دولة المؤيد بطل من الإمرة وولى النظر على الخانقاه بسرياقوس وحمدت سيرته، ومات بحلب بطالاً في سادس ربيع الآخر وجاوز الثمانين.
محمد بن أحمد بن علي، الشيخ شمس الدين الرملي المعروف بالشامي، ولد سنة 744، وسمع من أبي الحسن العرضي وتفرد بالرواية عنه بالسماع، وسمع أيضاً من القلانسي وغيره، وسمع من موفق الدين القاضي وتفقه عليه، ولازم صهره ناصر الدين، وناب في الحكم مدة، وكان جلداً قوياً يمشي وقد جاوز الثمانين من بين القصرين إلى الشيخونية ليحضر وظيفة التصوف والدرس، ويلازم دروسه في الطلب يمشي على رجليه ويقضي حوائجه وحوائج الناس بنفسه، ولم يكن ماهراً في العلم ولا متصوناً في الدين ولا متثبتاً في الحكم، وكان على ذهنه ماجريات طريفة، وتعصب على مجد الدين سالم لما عزل من الحكم، وقام مع ابن المغلى قياماً عظيماً حتى كان يخدمه في جميع ما يحتاج إليه حتى في شراء زيت القنديل، يتعاطاه بنفسه، مات في 22 شعبان - سامحه الله -.(3/412)
محمد بن أحمد بن موسى بن عبد الله، الشيخ شمس الدين الكفيري العجلوني الأصل الدمشقي، ولد في العشر الأول من شوال سنة 757، وحفظ التنبيه، وأخذ من ابن قاضي شهبة وغيره، ولازم الشيخ شمس الدين الغزي مدة طويلة واشتهر بحفظ الفروع وكتب بخطه الكثير نسخاً لنفسه ولغيره، وناب في الحكم وولى بعض التداريس، وحج مراراً وجاور، وولى مرة قضاء الركب، وجمع شرحاً على البخارى في ست مجلدات وكان قد لخص شرح ابن الملقن وشرح الكرماني ثم جمع بينهما، نقلت ترجمته من ابن قاضي شهبة ونقلت من خط غيره أنه أجاز له محمد بن أحمد المنبجي ويوسف بن محمد الصريفي، وأنه سمع على ابن أميلة وابن أبي عمر وابن قواليح وابن المحب وابن عوض والعماد وابن السراج وابن الفصيح وغيرهم وأنه صنف عين النبيه في شرح التنبيه واختصر الروض للسهيلي فسماه زهر الروض، وكان لا يعرف شيئاً من العلوم سوى الفقه، وينظم ولا يعرف العروض، وكان كثير التلون، مات في 13 المحرم.
محمد بن حسين، شمس الدين التروجي المالكي، اشتغل وتعاني النظم فقال الشعر الحسن فأكثر، مات تحت الهدم في تاسع عشر صفر عن ستين سنة.(3/413)
محمد بن عبد الدائم بن عيسى بن فارس، البرماوي الشيخ شمس الدين، ولد في نصف ذي القعدة سنة 763، وكان اسم والده فارساً فغيره البرماوي، وتفقه وهو شاب، وسمع من إبراهيم بن إسحاق الآمدي ومن عبد الرحمن بن علي القارئ وغيرهما، وسمع معنا من جماعة من المشايخ، ولازم الشيخ بدر الدين الزركشي وتمهر به، وحضر دروس الشيخ سراج الدين البلقيني وقرأ عليه بعضها وقد سمعت بقراءته على الشيخ مختصر المزني، وأول ما تخرج بقريبه الشيخ مجد الدين إسماعيل وقد عاش بعده، وكان حسن الخط كثير المحفوظ قوى الهمة في شغل الطلبة حسن التودد لطيف الأخلاق ضيق المال كثير الهم بسبب ذلك، ثم اتسع حاله بأخرة، وله منظومات وتصانيف منها شرح العمدة ومنظومة في أسماء رجالها وشرحها وشرح البخارى في أربع مجلدات، وكان غالب عمره خاملاً، ثم ولي نيابة الحكم عن ابن أبي البقاء، وصحب ولده جلال الدين، ثم ناب عن الجلال البلقيني ثم عن الإخنائي، ثم ترك ذلك وأقبل على الإشتغال، وكان للطلبة به نفع وفي كل سنة يتم كتاباً من المختصرات فيأتي على آخره ويعمل له وليمة، ثم استدعاه نجم الدين ابن حجى وكان رافقه في الطلب عند الزركشي فتوجه إلى دمشق، فقرره في وظائف كثيرة واستنابه في الخطابة والحكم ونوه به، فلما مات ولده محمد وكان ولداً نجيبا وحفظ عدة مختصرات(3/414)
أسف عليه وكره الإقامة بدمشق، فزوده ابن حجى وكتب له إلى معارفه كتباً أطراه فيها إلى الغاية، فتلقاها أولئك بالقبول واعتقدوا فيه تلك الأوصاف فقاموا معه حد القيام حتى قرروه في مباشرة وظائف الشيخ ولي الدين العراقي نيابة عن حفيده وكانت عند موته قررت باسمه، فباشر الجميع بعد إن كان العراقي قد أوصى أن ينوب عن حفيده في درس الحديث من عينه وكذا في دروس الفقه، وباشر بعض ذلك وقرر الناظر الشرعي على أوقاف المدرسة الجمالية الشيخ ناصر الدين البارنباري أحد المهرة في العلوم في نيابة المشيخة والتدريس، وباشر ذلك مدة مع شدة استحقاقه من أوجه، فلم يلتفت البرماوي لذلك بل لبس للنيابة عن الصغير تشريفاً وباشر الجميع، ولم يرع حق البارنباري مع ظهور استحقاقه فباشر البرماوي ذلك من أثناء سنة تسع وعشرين، إلى أن حج في سنة ثمان وعشرين جاور بمكة سنة تسع وعشرين، فلما حضر أول سنة ثلاثين قرر في تدريس الصلاحية ببيت المقدس عوضاً عن الهروي في آخر المحرم ثم سافر إلي القدس في رجب من هذه السنة فباشرها نحو السنة مع ملازمة الضعف له إلى أن مات، وتفرقت كتبه وتصانيفه شذر مذر - عفا الله تعالى عنه! واستقر في تدريس الصلاحية بعده عز الدين عبد السلام بن داود بن عثمان المقدسي بعناية القاضي بدر الدين بن مزهر كاتب السر، وتأخر سفره إلى ذي القعدة، وكان نزل عن غالب وظائفه بمصر والقاهرة ببذل من المنزول له كتدريس الحديث بالجمالية وتدريس(3/415)
الخروبية في الفقه بمصر، استقدمه ابن حجي إلى دمشق سنة إحدى وعشرين، فأجلسه بالجامع يقرئ ويفتي ثم رجع إلى مصر، ثم استقدمه سنة ثلاث وعشرين وفاستنابه في الحكم، وولي إفتاء دار العدل عوضاً عن الشهاب الغزي، ثم ولاه تدريس الرواحية وغيرها عوضاً عن برهان الدين بن خطيب عذراء، وتدريس الأميننية عوضاً عن عز الدين الحسباني، وعكفت عليه الطلبة فأقرأفي جمادى ورجب وشعبان الحاوي في سنة والتنبيه في سنة والمنهاج في سنة.
محمد بن يعقوب، البخانسي شمس الدين الدمشقي، ولي حسبة الشام ثم القاهرة في سنة اثنتي عشرة وثمانمائة وولي وزارة دمشق؛ ومات في ثالث المحرم.
محمد بن يوسف بن عبد الرحمن تقي الدين القرشي الدمشقي، ولد سنة نيف وستين، وتعاني المباشرات إلى أن ولاه نوروز الوزارة بدمشق ثم كتابة السر، وولي قضاء طرابلس سنة ست عشرة، ثم رجع إلى دمشق وباشر التوقيع، واستمر ينوب في كتابة السر إلى أن مات، وكان فاضلاً في فنه ساكناً كثير التلاوة منجمعاً عن الناس؛ ثم مات في جمادى الآخرة.(3/416)
محمد بن خطيب قارا، الشيخ شمس الدين، كان متمولاً، ولي قضاء صفد وحماة وغيرهما يتنقل في ذلك، وفي اواخر أمره تنجز مرسوماً من السلطان بوظائف الكفيري ونيابة الحكم بدمشق، وقدمها فوجد الوظائف انقسمت بين أهل الشام، فجمع أطرافه وعزم على السعي في قضاء دمشق، وركب البحر ليحضر بما جمعه إلى القاهرة، فغرق وذهب ماله، وذلك في رجب منها.
يشبك بن عبد الله الأمير الكبير الساقي الأعرج الظاهري، اشتراه برقوق وهو شاب، ثم تأمر في اول دولة الناصر، وخرج من القاهرة في كائنة جكم ونوروز ببركة الجيش، فتنقل في تلك السنين في الفتن إلى أن قتل الناصر فصار من فريق نوروز فأرسله إلى قلعة حلب ليحفظها، وكان من إخوة ططر وقد صار من فريق المؤيد، فلم يزل يراسله حتى حضر عند المؤيد، فلما قتل نوروز أراد المؤيد قتل يشبك، فشفع فيه ططر فاعفاه من القتل، وأمر بتسفيره إلى مكة بطالاً، فتوجه إليها ودخل اليمن، ثم سعى له إلى أن عاد إلى القدس فأقام به بطالاً، فلما تمكن ططر من المملكة أمر بإحضاره فوصل إليه وهو بدمشق، وتوجه معه إلى حلب فاقامه في حفظ قلعتها، ثم لما رجع وتسلطن أرسل إليه فحضر فأمره، ثم كان من كبار القائمين بدولة الأشرف وسلطته فرعى له ذلك وأسكنه في القلعة معه، ثم صيره أتابك العساكر بعد قطج، وكان من خيار الامراء محباً في الحق وفي اهل الخير كثير الديانة والعبادة كارهاً لكثير من الامور التي تقع على خلاف مقتضى الشرع، وعك صبيحة موت جانبك فلم يزل يتنقل في المرض إلى أن مات يوم السبت الثالث من جمادى الآخرة، واستقر في الأتابكية بعده جراقطلي نقلاً من نيابة حلب، واستقر نور الدين ابن مفلح على نظر المارستان بعد أن كان نور الدين السفطي قد سعى فيها ليعود إليها، فلم يتم له أمر بعد أن هيئت خلعته وكذا سعى فيها جماعة، فبطل سعيهم.(3/417)
سنة اثنتين وثلاثين وثمانمائة
في أولها نقص النيل عن الغاية التي انتهى إليها ذراعاً وثلثي ذراع فإنه كان انتهى إلى عشرين ذراعاً، ثم أسرع في النقص حتى منع السقائين من الملء من الخليج في عاشر الشهر، وصار الماء على ستة عشر ذراعاً وذلك في رابع عشر بابه، فبادر الناس إلى الزراعة واشتغلوا بها، فلما كان في النصف منه وذلك في أواخر بابه وقع برق متوالي من الغروب إلى أن مضت من الليلة هجعة فوقع رعد شديد مزعج فتمادى، ثم أعقبه مر كافواه القرب إلى أن مضى ثلث الليل الأول، فدلفت السقوف من البيوت الكبار فضلاً عن الصغار وسقطت أماكن وانزعج الناس انزعاجاً ما عهد مثله في هذه الازمنة في مثل هذا الوقت، وأصبحت أزقة البلد كالخلجان وكثر الوحل جداً وشراع الناس في تنظيفها، ولم يعهد مثل ذلك بالقاهرة إلا إذا أمطرت مراراً، ووصل الخبر بانها أمطرت بالبهنسا برداً في قدر بيضة الدجاجة والحمامة، وهلك بسبب ذلك من الحيوان شيئ كثير جداً. وفي ربيع الأول شغب الجند على الأستادار ونهبوا بيته بسبب تأخير النفقة، فاحضر السلطان الأستادار فضربه بحضرته ثم خلع عليه واستمر، وأنفق من خزانته شهرين، وعمل المولد السلطاني على العادة في اليوم الخامس عشر، فحضره البلقيني والتفهني وهما معزولان، وجلس القضاة المسفزون على اليمين وجلسنا على اليسار والمشايخ دونهم، واتفق أن السلطان كان صائماً، فلما مد السماط جلس على العادة مع الناس إلى إن فرغوا، فلما دخل وقت المغرب صلوا ثم أحضرت سفرة لطيفة، فاكل هو ومن كان صائماً من القضاة وغيرهم.(3/418)
وفي شهر ربيع الآخر التزم نور الدين الطنبذي كبير التجار بالقاهرة أن يأخذ من السلطان ستين الف دينار ليتجر له فيها ويقوم للأستادار بالربح، وكانت له به عناية لأنه كان صديقه وصديق أبيه من قبله فأجيب لذلك، فشرع في تحكير السكر وأن لا يباع إلا بأمره، ودخل في امور شنيعة وكثر الدعاء عليه، وعورض كثير من أهل الدولة في ذلك ولم يستمر ذلك إلى آخر السنة.
وفي ربيع الآخر أمر السلطان نواب القضاة أن لا يحبس أحد على أقل من ألف، وفيه نزل السلطان من القلعة مختفياً إلىالقاهرة فدخل بيت القاضي ناظر الجيش بغتة، فاندهش الرجل وقدم ما تيسر، ثم صحبه بألفي دينار وخيل وبغال وتقدمة، وفي هذا الشهر نودي على الفلوس أن يباع الرطل المنقى منها بثمانية عشر درهماً، ففرح من كان عنده منها حاصل، وحزن من عليه منها دين، لما يقاسمونه من نواب الحكم في إلزامهم إعطاء ذلك بالوزن الاول، وفيه بحث كثير وثبت أن ذلك لا يلزم على الإطلاق بل لا بد من الشروط، واقتضى الحال كتابة مراسيم للشهود أن لا يكتبوا وثيقة في معاملة ولا صداق ولا غيره إلا بأحد النقدين: الذهب أو الفضة، بسبب شدة اختلال أحوال الناس واختلاف أحوال الفلوس التي صارت هي النقد عندهم في عرفهم مع عزة الفلوس وعدمها، كان يكتبون ذلك بالفلوس مع تحققهم أن لا وجود لها، أن لا حقيقة لذلك الإقرار، ثم إذا نودي عليها بأن يزاد سعرها يصير من كتبت له يطالب بذلك الوزن فأجحف ذلك بالناس، فحسمت هذه المادة من هذا التاريخ على يد من وفقه الله لذلك وهو كاتبه، وتمادى الاختلاف بسبب ما كان كتب اولاً، فلم يزل يضمحل بحمد الله تعالى.
وفي رجب استقر جلال الدين محمد بن بدر الدين محمد بن مزهر في كتابة السر عوضاً عن أبيه وهو شاب أمرد كثير الخجل والسكون، فباشره معه شرف الدين(3/419)
سبط ابن العجمي، وقام معه بأعباء الوظيفة إلى أن انفصل عن قرب، وكوتب الشريف بن عدنان كاتب السر بدمشق فتباطأ في الحضور.
وفي يوم الجمعة الثاني من شعبان تأخر اللحم عن المماليك الذين في الطباق يوم الخميس فأصبحوا يوم الجمعة - فصبح منهم بيت الوزير جمع فهجموا عليه بيته الذي بحارة زويلة فكسروا أبوابه ونهبوا ما فيه، وكسرت عدة أواني من الصيني، واستلبوا ثياب النساء والجواري، وأفسدوا رخام منزله، وهرب الوزير في بيت الجيران، ثم ثارت في سادس شعبان بين جماعة من المماليك السلطانية وبين الأمير الكبير جارقطلي، فأرادوا أن يهجموا عليه فاغلقت الأبواب، فأرادوا إحراق الدار فبرز إليهم راكباً، فنكصوا عنه ودخلوا بين القصرين، فوقعت في العوام هجة فأغلقت أبواب المدينة، وأمسك من مماليك الأمير الكبير ثلاثة أنفس فضربوا بحضرة السلطان، فبلغ ذلك الامير الكبير فغضب وسكنت الفتنة، ثم إن السلطان تلطف بالمماليك.
وفي اوائل شعبان هجم ساحل الإسكندرية خمسة مراكب من الفرنج فعبثوا، فبادر عبد القادر بن أبي الفرج الأستادار وساق معه جماعة من عرب البحيرة ودخل الإسكندرية، فقويت بهم نفوس أهل الثغر ونكص الفرنج على أعقابهم بعد أن جرح منهم جماعة، وكفى الله المؤمنين القتال.
وفي ذي القعدة هرب قنصل الفرنج الجنوية ومن معهم الذين كانوا مقيمين بالإسكندرية، وفي جهتهم لتجار المسلمين أكثر من عشرين ألف دينار، وكانت إقامتهم بالإسكندرية قد طالت حتى أن اكثرهم إنما ولد بها، وكاوا يخرجون في كل يوم بعد عشائهم فيتمشون بالساحل عادة لهم بعد الأكل، فلما كثرت عليهم المظالم التي لم يألفوها رتبوا أمرهم وهربوا في(3/420)
بعض المراكب ووجدوا في نواحيهم مركبين حضر من بلادهم فردوهم، فانزعج السلطان والمسلمون لذلك - وكان ما سنذكره.
وفي تاسع ذي القعدة كسر الخليج الناصري، وكان النيل وصل في اول يوم من ذي القعدة وهو يوم الجمعة إلى خمسة عشر ذراعاً وشيء، ثم وصل في رابعه إلى تسعة عشر إصبعاً من السادس عشر وتوقف أربعة ايام، فضج الناس وأقبلوا على شراء القمح وغيره خشية استمرار التوقف، فجمع السلطان القضاة والفقراء عنده وقرئ عنده القرآن وابتهلوا بالدعاء واصبح، في اليوم الثامن فركب إلى الآثار فزار ودع وتصدق، فاتفق أنه أوفى في صبيحة ذلك اليوم، وباشر كسر الخليج محمد ولد السلطان.
وفي نصف ذي الحجة استقر الشريف شهاب الدين احمد بن علي ابن عدنان الحسني نقيب الأشراف بالشام في كتابة السر بمصر، وألبس خلعة خضراء بطرحة خضراء، وصرف جلال الدين ابن مزهر وكان قد استقر فيها بعد والده، ولم يعهد في الدولة التركية أن وظيفة كاتب السر تمتهن هذا الامتهان بحيث يتولاها شاب صغير وتدور بين ثلاثة في سنة واحدة ولم تكن العادة أن يتولاها إلا من جرب عقله ومعرفته ثم لا ينفصل عنها إلا بالموت غالباً.
وفي جمادى الآخرة حاصر ابن قرا يلك مدينة خرت بزت فبلغ ذلك السلطان، فجرد عدة من الامراء والمماليك وأنفق فيهم وارسل إلى المماليك الشامية بالخروج معهم، فإلى أن وصلوا تصالح قرا يلك والنائب بها وتسلمها قرا يلك، فوصل العسكر بعد ذلك إلى الرها، فانتهبوها وقتلوا من أهلها مقتلة عظيمة وافحشوا في ذلك، واسروا ولد قرا يلك وارسلوه إلى القاهرة، واتفق ورود الخبر بذلك يوم وفاء النيل في تاسع ذي القعدة.
وفي شوال وعك كاتبه ثم عوفي في ذي القعدة، فاستعرض أهل السجون فصولح من له دين من مال كاتبه، وحصل لجمع كثير من الناس فرح كبير، أما صاحب الدين فلياسه(3/421)
من حصول شيء من المسجون، وأما المسجون فلما كان يقاسيه من شدة الحر وغيره من الضيق - فلله الحمد.
وفيها نازل إسكندر رسل محمد - ابن قرا يوسف السلطانية وقتل متوليها من جهة شاه رخ ملك الشرق ووقعت بينه وبين إسكندر بن قرا يوسف وقع، فانكسر إسكندر وانهزم إلى الجزيرة وقد تمزق عسكره.
وفي هذه السنة غزاه شاه رخ ملك الرق ابن قرا يوسف فأوقع به خارج تبريز، ودخل شاه رخ تبريز فخربها بحيث صارت قاعاً صفصفاً، وجلا أهلها عنها إلى سمرقند؛ وأعقب رحيله عنها جراد عظيم أفسد الزرع كله، وعاثت الاكراد بعده فيمن بقي فما أبقوا لهم شيئاً.
وفيها أغار قرا يلك على الرها فنازلها وأخذ قلعة خرت برت، وسلمها لولده، فتوجهت العساكر إليها فحاصروا الرها وبها هابيل بن قرا يلك واسمه عثمان، فلم يزالوا حتى أخذوها ونهبوها، وأفحشوا حتى بلغني لما دخلت حلب أنهم فعلوا فيها شيئاً أشد مما فعل التتر بدمشق من التحريق والتخريب والفساد بالنساء والصبيان وقتل الانفس بالسيف والتحريق - فلله الأمر.
وفيها أنقطع جسر زفته فغر البلد وخربت منه عدة دور.(3/422)
وفي أول هذه السنة تلفت السلطان إلى المتجر بإغراء الخازندار له، فامر بتجهيز مال إلى جدة ليشتري له وحجر على الفلفل أن يشتري لغيره، وألزم جميع التجار أن لا يتوجه أحد ببضاعة إلى الشام ولا غيرها بل إلى القاهرة ولا يباع إلا بالإسكندرية بعد أن يكتفي السلطان، والزم الفرنج بشراء الفلفل بزيادة خمسين ديناراً عن السعر الواقع، فاشترى الفرنج شيئاً ورجعوا باكثر بضائعهم وما معهم ن النقد إلى بلادهم، فلم يحصل للسلطان مقصوده، وحصل على التجار من البلاء مالا يوصف، وتمادى الامر على ذلك ولا يزداد الأمر في سنة إلا شدة.
وفيه حجر على باعة الثياب البعلبكي والموصلي والبغدادي ثم بطل ذلك.
وفيه حجر على السكر مدة ثم بطل أيضاً.
وفي شهر ربيع الآخر عقد مجلس عند كاتب السر اجتمع فيه القضاة ومشايخ العلم بسبب أن السلطان اشترى من وكيل بيت المال أرضاً ثم وقفها، وثبت ذلك عند الشافعي ونفذه الباقون إلا الحنفي فادعى أن الحكم باطل، واستند إلى أن علم الدين ولد شيخنا البلقيني ذكر له البطلان، ووافقه بعض نواب الحكم من الشافعية المنفصلين، وكان القائم في امر الشراء المذكور ناظر الجيش، فامر كاتب السر أن يستفتي علماء الشافعية في ذلك، فأفتوا بالجواز إلا القمني والعلم، فلما حضروا وقع البحث في ذلك، فرجع القمني وقال: إذا استوفى الحاكم الشروط صح البيع، وكان قبل ذلك كتب بأن البيع لا يصح وأطلق، وأما العلم فاعتل بأنه يلزم من ذلك اتحاد الموجب والعابل وذلك لا يختص كما يتعاطى الجد لحفيده، وأن وكيل بيت المال وكيل السلطان فإذا اشترى السلطان من وكيله فكأنه اشترى من نفسه، وفاته ما صرح به جماعة من العلماء بأن وكيل بيت المال وكيل عن الجهة للمسلمين لا عن خصوص السلطان، وإنما وظيفته ولاية لا نيابة وقد صرح بذلك السبكي وغيره؛ ثم ظفرت بأن ذلك صنع للسلطان صلاح الدين في وقف الصلاحية ببيت المقدس ونقله السبكي في فتاويه، وقال الأذرعي في شرح المنهاج: اغتر بعض الناس بتسميته وكيلاً فقال: إنه ينعزل بموت السلطان، هو غلط، ثم أحضر حكم الدين البلقيني في مثل ذلك وكذلك من قبله أبو البقاء وعز الدين ابن جماعة، فاصر على دعوى البطلان وأصر الحنفي على الامتناع ن التنفيذ اعتماداً على قول المذكور مع قصوره في الفهم ونزارة ما عنده من العلم، ثم حملته العصبية على أن اجتمع بالسلطان وعرفه أن البيع باطل وأن الشافعية راعوا القاضي الشافعي فوافقوه فيما عمل، فأمرهم بالاجتماع عنده فحضروا يوم الاثنين ثامن الشهر المذكور، فبدا الشافعي فسأل الحنفي: لم امتنعت من تنفيذ هذا الحكم؟ فقال: لأن الشافعية قالوا إنه باطل فوقفته على فتاوي الشافعية فاسند الامر للقمني وللعلم فوقفته على فتوى القمني الثانية فقال: هذا لا يعتمد عليه لأنه تناقض، فسئل العلم في المجلس عن مستنده في دعوى البطلان فقال: نص الشافعي في عيون المسائل أن الوالي في رعيته بمنزلة الوصي في مال اليتيم، فسئل ما وجه الدلالة من هذا النص لصورة المسألة، فخلط في جوابه وانتقل فأخرج له نص الشافعي في مختصر المزني بأن المراد بذلك فيما يتعلق برعاية المصلحة للجهتين فكابر، فرد عليه من حضر وقالوا: إذا كان الكلام مطلقاً وذكر له في موضع آخر قيد وجب الحمل عليه وعمل بالخاص، ثم استظهر الشافعي بأن للسلطان أن يقف ما يراه من أراضي بيت المال على من يراه، وأن الوصي ليس له ذلك في مال اليتيم، فدل على أن النص ليس على عمومه، فاستمر على العناد فبان للجماعة قصوره وتعصبه. وأما الحنفي فتبين له أن لا حجة للقمني والعم فأصر على التعصب وقال: لا يجب على التنفيذ وكأنه خشي أن ينفذ في الحال فيقال إنه غلب فجنح إلى هذا العذر، وانفصل المجلس على ذلك؛ وسئل علماء الحنفية عن ذلك فقالوا: بل يجب على الحاكم إذا اتصل به حكم غيره وسأله صاحب الحق التنفيذ أن يفعل، وممن كتب بوجوب ذلك عليه وإثمه إذا لم يفعل التفهني وابن الديري ونظام الدين السيرامي وصدر الدين ابن العمي وعبد السلام البغدادي وكمال الدين ابن الهمام بدر الدين القدسي وأمين الدين الأقصر أي والقاضي المالكي والقاضي الحنبلي، فيما بلغه ذلك استفتى فما إذا حصلت عند العجمي ريبة في الحكم هل يجب عليه أن ينفذه مع الريبة، فطافوا بها فلم يكتب عليها أحد، فأشير عليه بأن يرجع وينفذ، فآل الأمر إلى أن نفذ الحكم بعد ذلك في السادس عشر من الشهر المذكور.
وفي اواخر شهر ربيع الآخر قدم فيروزمن المدينة وخلع عليه بعد أيام وعاد إلى مكانه، وزاد تمكناً بحيث اقتصر السلطان من القدماء عليه وعلى التاج الوالي وولي الدين ابن قاسم وأحمد الأحدب الشامي ومراد العجمي - هؤلاء قدماء الحضرى، ومن طرأ عليهم من غيرهم مقتوه إلىأن يخرجوه.
وفي يوم الاثنين مستهل جمادى الآخرة استقر شهاب الدين أحمد ابن محمد بن صلاح المعروف بابن المحمرة وبابن السمسار في قضاء الشام عوضاً عن أبي البقاء ابن حجي، وبقيت بيده مشيخة سعيد السعداء وتدريس الشيخونية وغير ذلك من جهاته بالقاهرة، فاستناب فيها وسافر في رجب
وكان السلطان طلب العلم البلقيني وفوض إليه قضاء الشام فامتنع وقال: أنااوثر به وجه السلطان في هذا الشهر مرة علىهذا، فقال له: قد بعث النبي صلى الله عليه وسلم معاذاً إلىاليمن فلم بعتذر بمثل هذاّ فتعجب من حضر من استحضاره هذه القصة المناسبة، ولم يؤثر ذلك في العلم لشوقه إلى العود بالقاهرة، فلما استقر ابن المحمرة أرسل له السلطان محقة وأذن له أن يستنيب في وظائفه بالقاهرة. وفه استقر جمال الدين يوسف ابن الصفي الكركي في نظر الجيش بدمشق عوضاً عن الشريق شهاب الدين، واستقر شمس الدين محمد بن علي بن عمر الصفدي في قضاء الحنفية بدمشق عوضاً عن القاضي شهاب الدين ابن الكشك نقلاً من القضاء بطرابلس، واستقر في قضاء طرابلس ولد الصفدي المذكور.
وفي ليلة الخميس ثاني عشر جمادى الآخرة هبت ريح بالتراب برقة الأهواء، فأثارت منه ما ملأ البيوت وكاد الناس يهلكون من الغم وأصبح الجو أصفر.
وفي ليلة النصف خسف القمر ولم يشعر به أكثر الناس.
وفي ثالث شعبان استقر نظام الدين عمر بن القاضي تقي الدين إبراهيم ابن الشيخ شمس الدين محمد بن مفلح في قضاء الحنابلة بدمشق عوضاً عن القاضي شهاب الدين ابن الحبال، وكان ابن الحبال قد ضعف بصره حتى قيل إنه عمي وقوي صمعه وضعفت قوته، فلما استقر نظام الدين وبلغه ذلك تحول إلى بلده طرابلس، فأقام بها إلى أن مات في السنة المقبلة.
وفي شعبان هجم جماعة من المماليك بيت الوزير فنهبوا، وكانت كائنة شنيعة؛ وفيه اشتد فساد المماليك الجلب وأفسدوا حتى منع السلطان الناس عن العمل إلا عن أمره إشفاقاً عليه، وسار الامراء إلى خرت برت فأوقعوا بمن فيها. وفيه وقع الوباء بدرندا. وفيه قدم نائب الشام سودون من عبد الرحمن وقدم معه كاتب السر ابن البارزي ثم رجعا على وظيفتيهما، وسار بعدهم العسكر المجهز إلى البلاد الحلبية وهم: الحاجب الكبير والدويدار الكبير وغيرهما، ومعهم من الطبلخانات والعشراوات جماعة ومن المماليك السلطانية أربعمائة نفس، فوصلوا إلى حلب وأقاموا بها لحفظها من التركمان، ثم وقعت لهم مع التركمان وقعة قتل فيها ولد لقرايلك صاحب تلك البلاد، وصادف وصول الخبر بذلك يوم وفاء النيل، فحصل للناس بذلك بشران، وشاع أن قرا يلك مات ثم تبين كذب الإشاعة. وفيها قدم بيرم التركماني صاحب هيت فاراً من أصبهان من قرا يوسف، فأكرمه السلطان واجرى له راتباً ثم أقطعه ناحية من الفيوم. وفيها في رجب استقر سودون من عبد الرحمن أتابك العساكر نقلاً من نيابة الشام، واستقر في نيابة الشام جارقطلي عوضاً عنه.
ذكر من مات
في سنة 832 من الاعيان
أحمد بن إبراهيم بن أحمد بن أبي بكر بن عبد الوهاب، المرشدي المكي أخو محمد وعبد الواحد، ولد سنة ستين وسبعمائة، وسمع من عبد الرحمن بن عل التغلبي ابن القارئ جرء ابن الطلابة أنا الأبرقوهي، ومن محمد بن أحمد بن عبد المعطي صحيح ابن حبان أنا الرضي والصفي الطبريان، ومن عبد الله بن أسعد اليافعي صحيح البخاري، ومن عز الدين ابن جماعة من مناسكه الكبرى - ومن غيرهم،(3/423)
وأجاز له الصلاح ابن أبي عمر وابن أميلة وابن هبل وابن قواليح وأبو البقاء السبكي وآخرون، وحدث؛ ومات بمكة يوم الخميس رابع ذي القعدة، وقد حدث قبل موته بسنة بشرح السنة لبغوي بإجازة من بعض شيوخه، ومن قبل موته بشهر بالشمائل بإجازته من الصلاح المذكور.
أحمد بن عمر بن أحمد بن عيسى، الشاب التائب شهاب الدين المصري الشاذلي، نزيل دمشق، ولد في ذي الحجة سنة سبع وستين، واشتغل بالفقه قليلاً، وتعاني المواعيد فمهر فيها، وكان يلقي من حفظة عنان، وطاف البلاد في ذلك فدخل اليمن مرتين ثم العراق مراراً ودخل حصن كيفا وكثيرا من بلاد الشرق وأقام بدمشق مدة وحج مراراً، وكان فصيحاً ذكياً يحفظ شيئاً كثيراً، وله رواج زائد عند العوام، وبنى عدة زوايا بالبلاد؛ مات في رجب.
برسبغا الجلباني، تقدم في أيام الناصر فرج بواسطة عبد اللطيف الطواشي وكان(3/424)
يخدمه، واستقر في الدويدارية، وكان فصيحاً عارفاً لا يظن من عرفه إلا أنه من أولاد الناس، وكان نفي في الدولة المؤيدية إلى القدس، ثم أعيد في الدولة الأشرفيةوباشر الدوالب السلطانية بالصعيد؛ مات في شهر رجب.
خشرم بن دوغان بن جعفربن هبة الله بن جماز بن منصور بن جماز مع رفيقه كما ذكرنا في عجلان.
رابعة بنتي زوج شيخ الشيوخ محب الدين ابن الأشقر ماتت وكان مولدها في رجب سنة إحدى عشرة، وكانت قد تأهلت بشهاب الدين ابن مكنون قبله، وسمعت معي في سنة خمس عشرة من الشيخ زين الدين ابن حسين بمكة، وأجاز لها جمع كثيرمن أهل مصر والشام - عوضها الله الجنة.
سعد الآمدي سعد الدين، نزل بطرابلس وشغل الناس في الحاوي، ولم يكن مشكوراً في دينه؛ مات في جمادى منها.
عبد المعطي زين الدين الكوم الريشي الحنفي، مات في هذه السنة - وقد تقدم خبره في حوادث سنة عشر وثمانمائة.(3/425)
عجلان بن نعير بن منصور بن جماز بن شيحة بن قاسم، العلوي الحسيني، أمير المدينة، قبض عليه في سنة إحدى وعشرين وثمانمائة فسجن ببرج في القلعة، ثم أفرج عنه بمنام رآه القاضي عز الدين عبد العزيز بن علي الحنبلي فقصه على المؤيد، وأمر بالإفراج عنه في ذي الحجة. وقتل فيها ايضاً قريبه خشرم بن دوغان بن جعفر بن هبة الله ابن جماز بن منصور.
علي بن حسين بن علي، الحاضري نور الدين، ولد في جمادى الأولىسنة 755، واشتغل وباشر عدة وظائف سلطانية، وكان كثير التودد طلق الوجه حسن العشرة، وكان في دولة منطاش قد أهين ونفي، ثم عظم لما عاد الظاهر وتولى ابن أخيه بيبرس الدويدارية؛ مات في العشرين من شعبان وقد شاخ ورق حاله.
علي بن محمد بن يوسف، التوريزي نور الدين، كان أبوه من كبار التجار ونشأ هو في كنفه، ثم مات أبوه واشتهر بالتجارة أخواه الجمال محمد والفخر أبو بكر، وتعاني هذا السفر إلى بلاد الحبشة والتجارة بها فشهر بذلك، وصارت له عندهم منزلة وصورة كبيرة ووجاهة، وصارت كلمته عندهم مقبولة لقيامه في خدمتهم بما يرومونه من النفائس التي يحضرها لهم من القاهرة وغيرها، فلما أكثر من ذلك نقم عليه بعض الناس موالاته للكفار الحبشة ونسبوه إلى شراء السلاح لهم والخيول، وعثر عليه مرة بشيء من ذلك في الدولة المؤيدية، فاستتيب وأقسم أنه لا يعود، فلما كان في أثناء العام الماضي زعم بعض من يتعصب عليه أنه توجه رسولاً من ملك الحبشى إلىملك الفرنج يستحثه على المسلمين، وهذا عندي لا يقبل لأن معتقد الطائفتين(3/426)
مختلف، ويقال إنه دخل بلاد الفرنج بسبب تحصيل صليب عندهم بلغ أمره ملك الحبشة فاحب أنيراه، ولما شاع ذلك عنه خشي عى نفسه في مكان بالقرب من الخانقاه الناصرية بسرياقوس، فنم عليه عبد السلام الجبرتي ووشى به إلى السلطان فامر والي القاهرة فقبض عليه، فوجد معه امتعة من ملابس الفرنج وشيئاًمن سلاح وناقوسين من ذهب وكتاب فيه مراسلة من صاحب الحبشة يستدعي منه أشياء يصوغها من صلبان ونواقيس ويحضه على أن يشتري له مسماراً من المسامير التي سمر بها المسيح بزعمهم، والكتاب كله بالحبشية فعرب فحبس، ثم عقد له مجلس ففوض السلطان أمره للمالكي وذلك في حادي عشر جمادى الأولى، فتسلمه المالكي، وسمع عليه الدعوى فأنكر، فشهد عليه صدر الدين ابن العجمي، والشيخ نصر الله وآخرون وشهد أكثرهم بالاستفاضة، فأعذر إليه فيمن شهد عليه، فادعى عداوة بعضهم وأعذر لبعضهم، فحم بقتله بشهادة من أعذر لهم، فضربت عنقه بين القصرين تاسع عشر الشهر المذكور وهو يعلن بالشهادتين وقراءة القرآن ويتبرأ من كل دين يخالف دين الإسلام، فتسلمه أهله فغسلوه وصلوا عليه ودفن، ثم بعد أيام أعاد السلطان لأهله ماكان وجد له بين لأكثر الناس أنه مظلوم، وذكر لي خادمي فاتن الطواشي الحبشي - وكان على هذا هو الذي جلبه من بلاد الحبشة - أنه كان ببلاد الحبشة يواظب على الصلاة والتلاوة، ويؤدب من لم يصل من أتباعه، وعنده فقيه يقرئ أولاده واتباعه القرآن، وللمسلمين به نفع، وهم به في بلاد الحبشة في إكرام واحترام؛ ولم يمتع منشهد عليه بل لحق به بعد قليل كما سيأتي - والله أعلم بغيبه.
علي بن محمد بن الصفي، علاء الدين بن صدر الدين بن صفي الدين الأردبيلي، شيخ الصوفية بالعراق، قدم دمشق سنة ثلاثين ومعه أتباع فحج وجاور، ثم قدم دمشق(3/427)
ولده ومعه جمع كثير، وذكروا أن له ولوالده بتلك البلاد اكثر من مائة ألف مريد؛ ومات علاء الدين المذكور بعد رجوعه من الحج ودخوله بيت المقدس في شهر ربيع الآخر.
علي السفطي نور الدين، كان يتعاني الشهادة عند الامراء، وباشر نظر المارستان مدة، ثم ولي وكالة بيت المال والكسوة؛ ومات في اواخر جمادى الآخرة وقد جاوزالخمسين.
محمد بن إبراهيم بن أحمد، الشيخ شمس الدين الصوفي، ناظر المارستان، ولد سنة تسع وأربعين واشتغل بالعلم، وأحب المذهب الظاهري والانتماء إلى الحديث، ورافق برهان الدين ابن البرهان لما دخل بغداد، ثم اتصل بالملك الظاهر برقوق وقام معه لما عاد إلى السلطنة، فرعى له ذلك وولاه نظر المارستان، ثم خشي منه فاستأذنه في الحج وتوجه فدخل اليمن وجال فيالبلاد، ثم عاد بعد موت الظاهر بمدة فأقام بالقاهرة منجمعاً، وكان يرجع إلى دين وتعبد، وعمي مدة إلى أن مات في مسجد بالكافوري في ليلة الثلاثاء ثالث عشر المحرم منها.
محمد بن إبراهيم بن عبد الله، الشيخ شمس الدين الشطنوفي الشافعي ولد بعدالخمسين وقدم القاهرة شاباً، واشتغ لميرزق الإسناد العالي بل كان عنده عن التقى الواسطي ونحوه، واشتغل بالفقه ومهر في العربية، وتصدر بالجامع الطولوني في القراآت(3/428)
وفي الحديث بالشيخونية، وانتفع به الطلبة لاتصابه لشغلهم متبرعاً بالجامع الازهر، وكان كثير التواضع مشكور السيرة؛ مات في ليلة الاثنين سادس عشري ربيع الأول بعد علة طويلة.
محمد بن أحمد بن علي، الحافظ تقي الدين أبو الطيب الفاسي ثم المكي المالكي، مفيد البلاد الحجازية وعالمها، ولد سنة خمس وسبعين وسبعمائة وأجاز له بإفادة الشيخ نجم الدين المرجاني ابن عوض وابن السلار وابن المحب وجماعة من الدماشقة، وعني بالحديث فسمع بعد التسعين من جماعة ببلده، ورحل إلى القاهرة والشام مراراً، وولي قضاء بلده للمالكية، وهو أول مالكي ولي القضاء بها استقلالاً، وصنف أخبار مكة وأخبار ولاتها وأخبار من احتل بها من أهلها وغيرهم عدة مصنفات طوال وقصار، وذيل على العبر للذهبي وعلى التقييد لابن نقطة، وعمل الاربعين المتباينة وفهرس مروياته، وكان لطيف الذات حسن الاخلاق عارفاً بالامور الدينية والدنيوية، له غور ودهاء وتجربة وحسن عشرة وحلاوة لسان، ويجلب القلوب بحسن عبارته ولطيف إشارته، رافقين في السماع كثيراً بمصر والشام واليمن وغيرها، وكنت أوده وأعظمه وأقوم معه في مهماته، ولقد ساءني موته وأسفت على فقد مثله - فلله الامر! وكان قد أصيب ببصره وله في ذلك اخبرا، ومكن من قدحه فما أطاق ذلك ولا أفاده؛ ومات في رابع شوال.
محمد بن سعيد، الصالحي، شمس الدين، نسبة للصالح صالح بن الناصر، وكان سعيد مولى بشير الجمدار وبشير مولى الصالح فنسب شمس الدين لمولى مولاه، وكان(3/429)
أحد القراء في الجوق بالنغم، ويلقب سويدان، وهو آخر الحلبة الأولى من تلامذة الشيخ خليل المشبب وممن قرا مع الزرزاي وابن الطباخ، وقد حظي في أيام الناصر فرج، وولي حسبة القاهرة مراراً وقد جاوز السبعين، وكانت بيده مشيخة العلانية وإمامة القصر وغير ذلك؛ مات في يوم الاثنين صفر.
محمد بن عبد الله بن حسين، المعروف بابن المواز شمس الدين، اشتغل كثيراً ونزل في بعض المدارس، وكان يؤدب أولاد أبي هريرة ابن النقاش، الغالب عليه الانجماع؛ ومات فجأة يوم الأحد في ربيع الأول.
محمد بن عبد الله، شمس الدين الزفتاوي الملقب فت فت، كان يكتسب بالشهادة ثم عمل التوقيع وتقدم في ذلك وأقرأ أولاد بعض الرؤساء وكان ينوب في الحكم في بعض المراكز، وكان كثير التلاوة، خيراً، سليم الباطن، أكمل الثمانين.
محمد بن عبد الوهاب بن محمد، الشيخ ناصر الدين البارنباري الشافعي، ولد قبيل السبعين بيسير، وقد قدم القاهرة فاشتغل ومهر في الفقه والعربية والحساب والعروض وغير ذلك، وتصدر بالجامع الأزهر احتساباً، وكان من خيار الناس، ودرس وخطب وأفتى، واقرأ مدة بالقاهرة ودمياط وقد ذكرت ما جرى له مع شمس الدين البرماوي في السنة الماضية، وأصاب ناصر الدين عقب ذلك فالج أبطل نصفه، واستمر به موعوكاً إلى أن مات في ليلة الأحد حادي عشر شهر ربيع الأول وقدناف علىالسبعين.
محمد ويدعى الخضر بن علي بن أحمد بن عبد العزيز بن القاسم، النويري الشافعي، ولد في ربيع الآخر سنة 762، وتفقه قليلاً، واسمع على العز ابن جامعة(3/430)
وابن حبيب وابن عبد المعطي والاميوطي ومن بعدهم، وأجاز له البهاء ابن خليل والجمال الأسنوي وأبو البقاء السكي وغيرهم، وناب في الحكم عن قريبه عز الدين بن محب الدين ابن ابي الفضل، وولي قضاء المدينة مدة يسيرة ولم يصل إليها بل استناب ابن المطري وصرف، وكان ضخماً جداً؛ مات في رابع عشر ذي الحجة وقد دخل السبعين، وانصلح بأخرة، وهو والد أبي اليمن خطيب الحرم.
محمد بن بدر الدين محمد بن أحمد بن مزهر، الدمشقي بدر الدين، ولد سنة 786، ونشا في كنف ابيه ثم مات أبوه عنه وهو صغير، فكفله زوج أخته محي الدين أحمد المدني، وتولى التوقيع عنده لما ولي كتابة السر بدمشق، فاتصل بالمؤيد وخدمه وقدم.. ثم سلمه إلى نائب القلعة يشبك بن أزدمر فحبسه عنده وضيق عليه إلى أن وقع الإفراج عنه بعد قتل الناصر، فقدم مع التجريدة إلى القاهرة، فولي نظر الإصطبل، وباشر توقيع الدست مع البازري، ثم صار نائب كاتب السر في مباشرة ولده فمن بعده إلى أن استقر فيها استقلالاً فكانت مدته في ذلك نيابة واستقلالاً نحو تسع سنين، لأنه باشر ذلك عقب وفاة ناصر الدين ابن البازري في ثامن شوال سمة ثلاث وعشرين، وباشر في غضونها نظر الجيش نيابة عن ناظر الجيش لما حج في سنة ست وعشرين، وكان فصيحاً مفوهاً عارفاً بالامور الدنيوية عرياً عن معرفة الأمور الأخروية، إنماهمه الاعظم تحصيل الدرهم ولو كان فلوساً، حتى حصل في هذه المدة ما يزيد على مائتي ألف دينار تمزقت بعده، وبقي منها ما اشتراه من العقار فإنه بقي لذريته، وكان ابتدأ مرضه في اول ربيع الآخر حصلت له ذبحة في حلقه فصار ينفث الدم قليلاً، ولم ينقطع عن الركوب إلى الحادي والعشرين من الشهرالمذكور، فحصل له(3/431)
رعاف كثير حتى أفرط فانقطع بسببه، ولازمه الاطباء وأكثروا له من الحقن والأدوية إلى أن استفرغوا قوته كلها مع ما يخرج من أنفه من الدم، ثم تنوعت به الأمراض من القولنج وغيره إلى أن مات في ليلة الأحد اثنتين وعشرين جمادى الآخرة عن نحو الخمسين، واشيع بأنه سم وكان هو يلوح بذلك، ولم يغب ذهنه في طول مرضه، وحرص مراراً على أن يوصي ببر أو صدقة أو خلاص ذمة فلم يقدر له ذلك ومات باحماله لم يحط عنه منها شيء إلا أن كان اغتيل فإن في ذلك كفارة كبيرة، وكثر الثناء السيء عليه بعد موته بسوء معاملته وطمعه - والله يسمح له! فلقد كان يقوم في الحق أحياناً، وله بر وصلة وصدقة لبعض الناس ومحبة في الصالحين ومروءة وعصبية لاصحابه - رحمه الله تعالى! واستقر بعده في كتابة السر ولده جلال الدين.. محمد ولقب بلقب أبيه بدر الدين ولم يستمر ذلك، وخلع على شرف الدين سبط ابن العجمي بنيابة كتابة السر، وتلقى الامور عن جلال الدين لصغر سنه، ويقال إنه أخذ لأجل ذلك من مال أبيه مائة ألف دينار.(3/432)
سنة ثلاث وثلاثين وثمانمائة
في المحرم استقر الوزير كريم الدين ابن كاتب المناخات في نظر الديوان المفرد مضافاً للوزارة، وفيه أمطرت في حمص ضفادع خضراء امتلأ منها الأزقة والأسطحة ووصل الخبر بذلك.
وفيه شغب الجند المماليك فزيد في أرزاقهم كل واحد أربعمائة فسكنوا.
وفيها رجع إسكندر بن قرا يوسف إلى تبرير فملكها بعد رحيل شاه رخ، ووقع لها الغلاء المفرط حتى أكلوا الكلاب.
وفي شوال أغار على قرقماس بنحسين بن نعير على ابن عمه مدلج ابن علي بن نعير، فانهزم قرقماس ودخل مدلج ومن معه بيوت قرقماس فنهبوها، فكر عليهم قرقماس بمن معه فقتل مدلج، وذلك في ذي القعدة وعمره نحو العشرين سنة، فقدم سليمان بن عذراء إلى القاهرة فأمره الأشرف على العرب عوضاً عن عمه مدلج فوصل إلى حلب في سادس ذي القعدة، وورد على يده مثال للأمراء المجردين أن يتوجهوا مع نائب حلب ليقبضوا على قرقماس، فبلغ ذلك قرقماس فأرسل يطلب الأمان، فورد المثال السلطاني بطرده عن البلاد، فتوجهوا الجميع من حلب يوم الجمعة سابع ذي القعدة وقرقماس يومئذ محاصر مدينة جعبر، فأسرعوا السير فادركوه وهو على المهد تجاه جعبر على شاطئ الفرات، فلما رآهم ركب وانهزم فركبوا في إثره وتشاغل بعض العرب الذين معهم والعسكر بالنهب، واستمر العسكر ف إثر قرقماس فأبعد عنهم وقد تعبت خيولهم وغلمانهم، فكر فيهم قرقماس ومن معه فقتلوا الدشاري(3/433)
وكان على الساقة وأخذوا غالب الخيول التي وقفت والتي وجدوها، وقتل من العسكر جماعة في تلك الوقعة ونهبت بعض خيامهم وأثقالهم ورجعوا إلى العرب في إثرهم يتخطفونهم، ولما تحقق قرقماس رجوعهم خشي عاقبتهم فتوجه إلى جهة الشرف، فدخل الامراء إلى حلب سابع عشر ذي القعدة وقد نهب من أثقالهم وخيولهم وسلاحهم شيء كثير جداً.
وفيها ورد كتاب شاه رخ ملك الشرق يستدعي من الأرف هدايا منها كتاب في العلم منها فتح الباري بشرح البخاري لابن حجر فجهزت له ثلاث مجلدات من أوائل الكتاب، ثم عاد طلبه في سنة تسع وثلاثين فلم يتفق تتمة الكتاب.
وفيها نقض عبد الواحد بن أبي حمو بيعة أبي فارس صاحب تونس، فجهز أبو فارس إليه ابن أخيه ابن الركاعنة، فظفر بعبد الواحد عمه فقتله واستقر في مملكة تلمسان في ذي القعدة منها.
وفيها مات أزبك الدويدار وكان قد نفي إلى القدس بطالاً في شهر بيع الأول منها بعد ضعف طويل.
وفي مستهل جمادى الأولى سافرالناس إلى مكة ليجاوروا بها صحبة سعد الدين ابن المراة وكان استقر ناظراً على مكس البهار الوارد عليه في جدة.
وفيها أوقع قرا يلك بملطية وماردين، وساق بعد ذلك إلى البلاد الحلبية حتى وصل عينتاب يعيث وينهب.
وفيها هلك صاحب الحبشة إسحاق بن داود بن سيف أرغد الحبشي الأمخري في ذي القعدة، وأقيم بعده ولده أندراس بن إسحاق فملك أربعة أشهر، وأقيم عمه خرنباي بن داود فتملك سبعة أشهر ثم هلك، فأقيم سلمون ين إسحاق بن داود المذكور فهلك سريعاً، فأقيم(3/434)
بعده صبي صغير إلى أن هلك في الطاعون الذي كان عندهم سنة تسع وثلاثين - فذكرت ذلك هنا تحصيلاً للفائدة، وكانت ولاية إسحاق إحدى وعشرين سنة منذ مات أبوه.
وفي زمانه حصرت دولته بعد أن كانت همجاء، وكان أبوه يركب وهو عريان كزي بقية الحبشة فصار هذا يركب في الملابس الفاخرة وشعار الملك، والسبب فيه أن قبطياً كابتاً كان يقال له فخر الدولة فر من حادث حدث له فدخل بلاد الحبشة بكتاب البترك، فحظي عند إسحاق ورتب له أمور المملكة وجبي الأموال، وصادف دخول أمير من الجراكسة يقال له الطنبغا معزق وكان يعرف أنواع العمل بالسلاح والفروسية فعلم جماعة منهم رمي النشاب والطعن بالرمح والضرب بالسيف، وكانوا لا يعرفون القتال إلا بالحراب، وعمل له زردخاناة ملأها بجميع آلات السلاح مما كان يجله له التجار الذين يترددون إلى بلاده خصوصاً على التوريزي الذي ذكرنا قتله قبل ذلك وقد ذكرت خبره فيما مضى.
وفي المحرم جهز أو فارس عسكراً في البحر إلى جزيرة صقلية فنازلوا أولاً مازر فأخذوها عنوة وحصروا مألقة فانهزم من جملة الجند العلوج واخذ، فانهزم بهزيمته جماعة واستشهد بعض الأعيان، ثم تراجعوا وقبضوا على العلج وبعثوه إلى أبي فارس فأمدهم بجيش.
وفيها كان الغلاء الشديد بحلب ودمشق والطاعون بدمشق وحمص.
وفي يوم الخميس سادس عشري صفر صرف كاتبه والعيني عن وظيفة الحكم، واستقر فيها التفهني والبلقيني، واستقر صدر الدين ابن العجمي في مشيخة الشيخونية عوض التفهني، وشرط على الشافعي عشرة نواب، وللحنفي ثمانية، وللمالكي ستة، وللحنبلي أربعة؛ ولا يولى أحد من غير مذهبه.(3/435)
وفيها حجر المحتسب اينال الششماني على جلاب القمح من البيع وشغل الطحانين جميعهم بشراء القمح من شؤن السلطان، واستمر على ذلك مدة فكثرت الغلال من الجلابة فانحط السعر كثيراً - ولله الحمد.
وفي الرابع من ربيع الآخر يوم الأربعاء صرف اينال الششماني من الحسبة وأعيد العني إليها.
وفي التاسع منه أمر بإحضار نائب الإسكندرية الامير آقبغا التمرازي، وقرر في نيابتها شهاب الدين أحمد الدوادار المعروف بالاسود ابن الأقطع.
وفي خامس عشريه استقر آقبغا الجمالي عوضاً عن عبد القادر بن أبي الفرج في وظيفة الأستادارية، لكونه كان التزم بحمل مائة ألف دينار بعد التكفية، ثم لما تمادى الحال عجز فآل أمره إلى الإهانة كما سياتي ذكره، وسلم عبد القادر وألزمه لآقبغا، ثم أفرج عنهم على مال.
وفي رجب مات ياقوت، ويلقب فخر الدين الحبشي مقدم المماليك، واستقر عوضه نائبه فيها خشقدم الرومي اليشبكي - وكان من مماليك يشك واشتهر في أيام المؤيد وترقى وعرف بالحرية.
وفي رجب أيضاً قدم تغري بردى المحمودي من دمياط، فامر أن يتوجه إلى دمشق أميراً كبيراً.
وفي ذي القعدة أضيفت وظيفة الأستادارية الكبرى للوزير فباشرهما معاً. وقبض على آقبغا الجمالي وعوقب، ثم افرج عنه وولي كشف الجسور في أواخر السنة.
وفي ثامن عشرة ركب السلطان إلى مصر، ثم ركب النيل إلى المقياس وخلقه، وفتح الخليج الناصري بحضرته، وهي اول سنة فعل فيها ذلك بنفسه.
وفي ذي القعدة ظهر للحاج من جهة البحر كوكب يرتفع ويعظم ويرتفع منه شرر كبار، فلما أصبحوا اشتد عليهم الحر فهلك من المشاة عالم كثير، وتلف من جمالهم وحميرهم(3/436)
كثير - واشتهر أمر الطاعون في الوجه البحري فيقال مات بالمحلة خمسة آلاف نفس وبالبحرارية تسعة آلاف، ومات في الإسكندرية في كل يوم مائة وخمسون إلى غير ذلك، وعد هذا من النوادر لأنه وقع في قوة الشتاء وكان قبل ذلك قد فشا في برصا وغيرها من بلاد الروم حتى بلغ عدد من يموت في اليوم زيادة على الألف على ما قيل، فلما استهل ربيع الآخر كان عدة من يموت بالقاهرة اثنتي عشرة نفساً، وفي آخره قاربوا الخمسين.
وفي أول يوم من جمادى الأولى بلغوا مائة، فنودي في الناس بصيام ثلاثة ايام وبالتوبة وبالخروج إلى الصحراء في اليوم الرابع، وخرج الشريف كاتب السر والقاضي الشافعي وجمع كثير من بياض الناس وعوامهم، فضجوا وبكوا ودعوا وانصرفوا قبل الظهر، فكثر فيهم الموت أضعاف ما كان وبلغ في اليوم ثلاثمائة بالقاهرة خاصة سوى من لا يرد الديوان؛ ووجد بالنيل والبرك شيء كثير من الاسماك والتماسيح موتى طافية، وكذا وجد في البرية عدة من الظباء والذئاب.
ومما وقع فيه من النوادر أن مركباً ركب فيها أربعون نفساً قصدوا الصعيد، فما وصلت إلى الميمون حتى مات الجميع؛ وان ثمانية عشر صياداً اجتمعوا في مكان، فمات منهم في يوم واحد أربعة عشر فجهزهم الأربعة، فمات منهم وهم مشاة ثلاثى، فلما وصل الآخر بهم إلى المقبرة مات؛ وبلغ في سلخ جمادى الأولى إلى ألف وثمانمائة.
وفي رابع جمادى الأولى بلغت عدة الموتى بالقاهرة خاصة في اليوم ألف نفس ومائتي نفس، ووقع الموت في مماليك السلطان حتى زاد في اليوم على خمسين نفساًمنهم، وانتهى عدد من صلى عليه في اليوم خمسمائة وخمسين نفساً، وضبط جميع المصليات في يوم فبلغت ألفي نفس ومائتين وستاً وأربعين نفساً،(3/437)
ووقع الموت في السودان بالقرافة إلى أن مات منهم ماتحو ثلاثة آلاف، وعز وجود حمالي الموتى وغساليهم ومن يحفر القبور حتى عملوا حفائر كباراً كانوا يلقون فيها الأموات، وسرق كثير من الأكفان، ونبشت الكلاب كثيراً فأكلتهم من أطراف الأموات، ووصل في الكثرة حتى شاهدت النعوش من مصلى المؤمني إلى باب القرافة كأنها الرخم البيض تحوم على القتلى، وأما الشوارع فكانت فيها كالقطارات يتلو بعضها بعضاً.
وفي جمادى الأولى وعك يوسف ولد السلطان فتصدق عنه بوزنه فضة.
وفي نصف جمادى الآخرة جمع الشريف كاتب السر أربعين شريفاً اسم كل منهم محمد وفرق فيهم مالاً، فقرأ بعد صلاة الجمعة بالجامع الازهر ما تيسر من القرآن، فلما أن قرب العصر قاموا فدعوا وضجوا. وكثر الناس معهم في ذلك إلى أن صعد الأربعون إلى السطح فأذنوا العصر جميعاً وانفضوا، وكان بعض العجم قال للشريف إن هذا يدفع الطاعون، ففعل ذلك فما ازداد الطاعون إلا كثرة حت دخل رجب، فلما دخل رجل تناقص؛ قرأت بخط قاضي الحنابلة محب الدين أن شخصاً يقال له على الحريري كان له أربعة مراكب فيها مائة نفر وعشرون نفراً ماتوا كلهم بالطاعون إلا واحداً، ولما اشتد الامر بالطاعون أمر السلطان باستفتاء العلماء عن نازلة الطاعون هل يشرع الاجتماع للدعاء برفعه أو يشرع القنوت له في الصلوات؟ وما الذي وقع للعلماء في الزمن الماضي؟ فكتبوا الأجوبة وتشعبت آراؤهم وتحصل منها على انه يشرع الدعاء والتضرع والتوبة، وتقدم قبل ذلك التوبة، والخروج من المظالم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وانهم لا يستحضرون عن أحد من السلف أنهم اجتمعوا لذلك إلا أن الاجتماع أرجى للإجابة؛ وأجاب الشافعي بجواز القنوت، لأنها نازلة وقد صرح الشافعية بمشروعية القنوت في النوازل، وأجاب الحنفي والمالكي بالمنع، واجاب الحنبلي بأن عندهم روايتين ومن جوزه خصه بالإمام الاعظم في غير يوم الجمعة؛ ثم طلب القضاة والعلماء إلى حضرة السلطان(3/438)
فقرئت الفتاوى وفسرها له محب الدين ابن الأقصراني فأجاب: أنا أتابع الصحابة والسلف الصالح ولا أخرج بل كل أحد يبتهل إلى الله تعالى في سره! ثم سالهم عن المراد بالمظالم التي كتبوا في الفتاوى أنهم يخرجون منها، فذكروا اشياء مجملة فقال: مهما تجدد بعد الظاهر برقوق أنا أزيله! فقال له الشافعي: قد نجدد في هذه السنة ثلاث مظالم: التشديد على التجار الكارمية في بيع البهار للسلطان وإلا منعوا من التجارة فيه، والتشديد على الباعة في طرح النطرون والتحكير على القصب أن لا يزرع إلا في بلاد السلطان، فلم يتحصل من الجواب عن ذلك كبير امر، وأمر السلطان القضاة والامراء بأن يامروا الناس بالتوبة والإقلاع عن المعاصي والإكثار من الطاعات ونحو ذلك، ونودي بالقاهرة بمنع النساء من الخروج إلى الترب، وتوعد المكاري بالشنق والمرأة بالتغريق وانصرفوا على ذلك؛ ففي الحال دخل إليه بعض خدمه فأخبره أن ابنه الكبير محمداً طعن، وذكر القاضي زين الدين التفهني أنه رأى في النوم حسام الدين درغان الخادم بالشيخونية وكان من جملة من مات في هذه السنة بالطاعون فسأله عن حاله فقال: الجنة مفتحة للمسلمين، سمعت ذلك منه، وكان حسام الدين رجلاً جيداً كثير النفع للطلبة بالشيخونية منذ اقام بها وباشر الخدمة بها مباشرة حسنة.
وفيها في جمادى الآخرة أمر السلطان القضاة والحجاب وغيرهم أن لا يحبسوا أحداً على دين! فاستمر ذلك إلى شوال منها، وحكى أبو بكر ابن نقيب الأشراف - وكان باشر بعد موت أخيه شهاب الدين أمور كتابة السر من قبل أن يلبس الخلعة - أن السلطان ورد عليه كتاب فلم يجد من يناوله إياه حتى استدعى مملوك من بعض الطباق.
وفي ثامن عشر شعبان بلغ السلطان أن كمال الدين بن الهمام عزل نفسه من مشيخة المدرسة الاشرفية فسئل عن السبب في ذلك، فأخبر أن وظيفة شغرت عن صوفي فعين فيها(3/439)
شخصاً وعارضه جوهر اللألأ فنزل غيره فغضب وقام بعد أن حضر التصوف وقت العصر فقال: اشهدوا على أني عزلت نفسي من هذه الوظيفة وخلعتها كما خلعت طيلساني هذا! ونزع طيلسانه ورمى به وتحول في الحال إلى بيت له في باب القرافة، فلم يعرج السلطان عليه، وقرر أمين الدين يحيى بن الأقصرائي في المشيخة، ونعم الرجلان هما! فنزل أمين الدين لابن أخيه محب الدين ابن مولانا زاده عن المشيخة بمدرسة جاني بك.
وفيها سقط العيني عن بغلته فانكسرت رجله، فأقام عدة أشهر منقطعاً واستقر محب الدين المذكور يقرأ عند السلطان السير والقصص التي كان يقرأها العيني.
وفي ثامن عشر شعبان شكى برد بك الحاجب فطلبه، فادعى عليه الشاكي أنه ضرب بغير ذنب، فقال: طلبته فامتنع، فأرسله إلى الحنفي فحكم بعزله عن وظيفته فعزل اياماً، ثم أوصى خصمه فصفح عنه فتكلموا له مع السلطان فأعاده.
وفي تاسع رمضان قرر السلطان في مدرسته بقية المذاهب ولم يكن نزل بها أولاً إلا الحنفي.
وفي ثامن عشر رمضان استقر القاضي شهاب الدين ابن السفاح في كتابة السر وكانت شعرت بموت جلال الدين ابن مزهر، وتكلم فيها شرف الدين ابن الأشقر نيابة إلى أن دخل ابن السفاح، واستقر ولده عمر في وظائفه بحلب.
وفي رمضان وصل كتاب شاه رخ صحبة شريف اسمه هاشم بغير ختم أوله: ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل، ثم خاطب السلطان فيه بالأمر وأرعد وأبرق وتهدد، فكتب إليه جوابه من جنس كتابه.(3/440)
وفي ذي الحجة وصل شاه رخ إلى تبريز في عساكر هائلة وتاخرت إدارة المحمل إلى ثامن شعبان بسبب شغل المماليك الرماحة بأنفسهم وبمن ماتت من رفقتهم وأداروه على العادة المعهودة.
وفي شعبان اشتغل بدر الدين بن الأمانة بتدريس الفقه بالشيخونية وجمال الدين ابن المحبر بمشيخة الصلاحية، وكان ابن المحمرة استنابهما في وظيفتيه المذكورتين لما توجه قاضياً بالشام وسعيا إلى أن استقلا، ثم لما عزل هو وعاد استعادهما، ثم لما سارإلى مشيخة الصلاحية بالقدس لم يعد إلى استنابتهما.
ذكر من مات
في سنة ثلاث وثلاثين وثمانمائة
من الأعيان إبراهيم بن ناصر الدين بن الحسام، الصقري صارم الدين، نشأ طالباً للعلم فتأدب وتعلم الحساب والكتابة والأدب والخط البارع، وقد ولى الحسبة بالقاهرة في أوخر ايام المؤيد؛ ومات في ثامن عشر جمادى الآخرة مطعوناً.
إبراهيم بن أحمد بن وفاه، الشاذلي أبو المكارم، ولد سنة 88 ومات في هذه السنة مطعوناً.
إبراهيم بن المؤيد شيخ واخوه الملك المظفر أحمد ماتا صغيرين بالإسكندرية.
أحمد ولد ناظر الجيش عبد الباسط شهاب الدين - مات في مستهل شعبان، وكان قد بلغ ونبغ وناب عن والده في كتابة العلامة فطعن، وكانت جنازته حافلة.
أحمد بن علي بن إبراهيم بن عدنان، الشريف شهاب الدين الحسيني الدمشقي،(3/441)
ولد سنة 744 ونشأ بدمشق ومع والده نقابة الأشراف وكان فيه جرأة وإقدام، ثم ترقى بعد موت أبيه فولى نقابة الأشراف، ثم ولي كتابة السر في سلطنة المؤيد، ثم ولي القضاء بدمشق في سلطنة الأشرف، ثم ولي كتابة السر في ذي الحجة سنة اثنتين وباشرها إلى أن مات بالطاعون في جمادى الآخرة.
أحمد بن علي بن عبد الله بن علي بن حاتم بن محمد بن يوسف، البعلي الأصل الحنبلي القاضي شهاب الدين ابن الحبال الطرابلسي، ولد سنة تسع وأربعين، وتفقه وسمع الحديث، ثم كان مع الذين قاموا في السعي في إزالة دولة الظاهر وأخ معهم وضرب، واشتهر بعد اللنك بطرابلس وعظم شأنه، ثم ولي القضاء بها وصار أمر البلد إليه، وكان يقوم على الطلبة ويرد عنهم، ويتعصب لعقيدة الحنابلة، ثم نوه به ابن الكويز فنقله إلى قضاء دمشق في أول دولة ططر فدخلها في جمادى الأولى سنة أربع وعشرين، فاستمر إلى أن صرف في سنة اثنتين وثلاثين في شعبان بسبب ما اعتراه من ضعف البصر والارتعاش وثقل السمع، وكانت الأمور بسبب ذلك تخرج كثيرة الفساد، وكان مع ما أصابه كثير العبادة ويلازم صلاة الجماعة، وكان منصفاً لأهل العلم قليل البضاعة في الفقه؛ ورحل إلى طرابلس فمات بها في شهر ربيع الأول بعد قدومه بيوم.
أحمد بن محمود بن محمد بن عبد الله، القيسري صدر الدين المعروف بابن العجمي، ولد سنة 777، واعتنى به أبوه(3/442)
في صغره، وصلى بالناس التراويح بالقرآن أول ما فتحت الظاهرية في سنة 88 وهو ابن إحدى عشرة سنة لم يكملها، وأقرأه الفقه والعربية والمعاني والبيان. وأحضر له المؤدبون والمعلمون وترعرع وبرع، وباشر التوقيع في ديوان الإنشاء، ثم ولى الحسبة مراراً ونظر الجوالي وغير ذلك، وتنقلت به الاحوال كما مضى في الحوادث؛ مات في الطاعون في الرابع عشر من شهر رجب.
أزبك الدوادار مات بالقدس بطالاً يوم الثلاثاء - في سادس عشر ربيع الأول.
إسحاق بن إبراهيم بن أحمد بن محمد، التدمري تاج الدين خطيب الخليل، ذكر أنه أخذ عن قاضي حلب شمس الدين محمد بن أحمد بن المهاجر وعن شيوخنا العراقي وابن الملقن وغيرهما، وأجاز له ابن الملقن في الفقه؛ ومات ليلة العيد من شهر رمضان.
إسحاق بن داود صاحب الحبشة مات في هذه السنة، وقد قدمت نبأه في ترجمة أبيه سنة 812.
أبو بكر بن علي بن إبراهيم بن عدنان، الشريف الماضي أخوه أحمد قريباً، ولد سنة تسعين تقريباً، ونشأ بزي الجندية، ثم بعد ذلك تزيا بزي المباشرين، وكان الغالب عليه الديانة والخير والعفة، وانطلقت الألسن بالثناء عليه، وعين بعد أخيه لكتابة السر وباشر بغير تولية، فعوجل بالطاعون أيضاً ومات في رجب ولم يبق بعد أخيه سوى ستة عشر يوماً.
ابو بكر بن عمر بن عرفات بن عوض بن أبي السعادات بن أبي الظاهر محمد بن أبي بكر بن احمد بن موسى بن عبد المنعم بن علي بن عبد الرحمن بن سالم بن عبد العزيز بن أحمد بن علي بن ضياء الدين عبد الرحمن بن أبي المعالي سالم بن الأمير المجاهد عز العرب وهب بن مالك الناقل من أرض الحجاز بن عبد الرحمن بن مالك بن زيد بن ثابت الأنصاري الخزرجي الشيخ زين الدين القمني - هكذا رأيت نسبه بخطه وأملاه على بعض الموقعين، ولا شك أنه مركب ومفتري، وكذا لا يشك من له أدنى معرفة بالأخبار(3/443)
أنه كذب، وليس لزيد بن ثابت ولد يسمى مالكاً، وتلقيبه عبد الرحمن بن سالم ضياء الدين من أسمج الكذب، فإن ذلك العصر لم يكن التلقيب فيه - بالإضافة للدين، وكان مولده على ما كتب بخطه سنة ثمان وخمسين، وذكر لي بلفظه أنه حضر درس الشيخ جمال الدين وهو بالغ وعرض عليه التنبيه، فيحتمل أن يكون بلغ وهو ابن ثلاث عشرة سنة أو ذهل حين كتب مولده، وقدم القاهرة في حدود السبعين، واول شيء رأيته من سماعه في جمادى سنة أربع وسبعين من الشيخ بهاء الدين بن خليل ثم في رمضان سنة ثمان وسبعين، سمع في البخارى على التقي عبد الرحمن بن أحمد البغدادي، وسمع أيضاً من عبد الله بن الناجي وعبد الله بن مغلطاي وصلاح الدين البلقيني، ثم من تقي الدين بن حاتم وابن الخشاب وعزيز الدين المليجي، ونشأ يتيماً فقيراً بجامع الأزهر، ثم اتصل بعلاء الدين بن قشتمر فنبه قليلاً، ثم تنقلت به الاحوال إلى أن صحب قلطماي الدويدار في سطلنة الظاهر فصار له ذكر، واتفق تسحب الشيخ شمس الدين ابن الجزري إلى بلاد الروم فشغرت عنه الصلاحية فوثب عليها، وكان رحل إلى الشام قبل التسعين فسمع ابن المحب وابن الذهبي وابن العز والبرهان بن جماعة وهو يومئذ قاضي الشام ومحمد بن أحمد بن عبد الرحمن المنبجي الأسمري والكمال بن النحاس وابن خطيب يبرود وابن الرشيد وناصر الدين محمد بن عمر بن عوض بصالحية دمشق، وسمع من متقدمي شيوخنا كالشامي والغزي والصردي والمطرز وابن صديق وابن أبي المجد ثم الحلاوي والسويداوي ومن الحافظين والأبناسي واللقيني والهيثمي شمس الدين وابي بكر بن حسين المراغي - وخرج له ابن الشرائحي مشيخة عن أربعة وأربعين شيخاً وحدث بها مرتين وكان يتبجح بها لكنه لا يعرف عالياً من نازل، وكان عريض الدعوى كثير المجازفة - سامحه الله! مات في رجب مطعوناً.
برد بك السيفي أحد مقدمي الألوف بمصر، مات في يوم الاحد عاشر جمادى الأخرى(3/444)
بالطاعون وهو والد فرج.
بيبغا المظفري التركي كان من مماليك الظاهر، وتأمر في دولة الناصر وعمل الأتابكية وقد سجن مراراً ونكب -، وكان قوي النفس؛ مات ليلة الأربعاء - سادس جمادى الآخرة.
حسن العلقمي بدر الدين ناظر الأوقاف مات بالقاهرة، وكان حسن العشرة والأخلاق بساماً، جاوز الستين.
زين خاتون بنتي وهي بكر أولادي ولدت في رجب سنة اثنتين وثمانمائة، وتعلمت الكتابة والقراءة، واسمعتها من الشيخ زين الدين العراقي والشيخ نور الدين الهيثمي، وأجاز لها كثير من المسندين من أهل دمشق؛ وماتت وهي حامل بالطاعون فجمعت لها شهادتان.
سرداح بن مقبل بن نخبار بن مقبل بن محمد بن راجح بن إدريس بن حسين بن أبي عزيز، الحسني؛ الينبعي ولي أبوه إمرة الينبع مدة ثم قبض عليه وحبس بالإسكندرية في سنة خمس وعشرين إلى أن مات بها وكحل ولده، فيقال إنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فمسح عينيه فأبصر واتهم السلطان من كحله - فالله أعلم.
العباس بن المتوكل بن المعتضد أمير المؤمنين المستعين أبو الفضل ولد في سنة 20000 واستقر في الخلافة بعهد من أبيه في شهر رجب سنة ثمان وثمانمائة، فلما انهزم الناصر فرج وحوصر بدمشق بويع للمستعين بالسلطنة مضافة للخلافة فتصرف بالولاية(3/445)
والعزل، وفي الحقيقة إنما كان له العلامة والخطبة وضربت السكة في الذهب والفضة باسمه، فلما توجه العسكر إلى مصر كان الأمراء كلهم في خدمته على هيئة السلطنة ولكن الحل والعقد للأمير شيخ ثم سكن الإصطبل وصار الجميع إذا فرغت الخدمة من القصر نزلوا في خدمته إلى الإصطبل، فأعيدت الخدمة عنده ووقع الإبرام والنقض ثم يتوجه دويداره إلى السلطان فيعلم على المناشير والتواقيع، فلم يزل على ذلك إلى أن تسلطن المؤيد فلم يوافق العباس على ذلك فصرح المؤيد بعزله من الخلافة وقرر فيها اخاه داود ولقب المعتضد، فلما خرج المؤيد إلى نوروز ارسله إلى الإسكندرية فاعتقل بها، فلم يزل بها إلى أن تكلم ططر في المملكة، فأرسل في إطلاقه وأذن له في المجئ إلى القاهرة، فاختار الاستمرار في سكنى الإسكندرية لأنه استطابها، وحصل له مال كثير من التجارة، فاستمر إلى أن مات بالطاعون شهيداً، وخلف ولده يحيى.
عبد اللهبن محب الدين خليل بن فرج بن سعيد جمالد الدين، القدسي الأصل الدمشقي البرماوي، ولد في حدود الستين، وقرأ على ابن الشريشي وابن الجابي وغيرهما، ودخل مصر فحمل عن جماعة، وجاور بمكة مدة طويلة، ثم قدم الشام فاقام على طريقة حسنة وعمل المواعيد واشتهر، وكان شديد الحط على الحنابلة وجرت له معهم وقائع؛ ومات في ربيع الآخر.
عبد البر بن القاضي جلال الدين محمد بن قاضي القضاة بدر الدين محمد ابن البقاء كان شاباً جميل الصورة طيب النغمة، وكان قد أذن له في نيابة الحكم في(3/446)
اواخر السنة الماضية، ثم سافر إلى الشام ورجع فمات في سابع عشر شهر رجب ولم يكمل الثلاثين.
عبد الغني بن جلال الدين عبد الواحد بن إبراهيم المرشدي ثم المكي نسيم الدين، اشتغل كثيراً ومهر وهو صغير، وأحب الحديث فسمع الكثير وحفظ وذاكر، ودخل اليمن فسمع من الشيخ مجد الدين، وكتب عني الكثير؛ ومات مطعوناً بالقاهرة.
عبد القادر بن عبد الغني بن أبي الفرج، المكي، ولي الاستادارية كأبيه، ومات في يوم الأربعاء سابع عشري - جمادى الآخرة.
عبد الكريم، كريم الدين ابن سعد الدين بركة، القبطي المعروف بابن كاتب جكم، كان أبوه يخدم الوزير علم الدين بن كاتب سيدي ثم تعلق بخدمة الأمراء فخدم عند الأمير حكم فشهر به، واستقر بعده ولده سعد الدين - إبراهيم وصاهر تاج الدين ابن الهيصم قبل أن يلي الأستادارية، واستقر مستوفي الدولة في مباشرة ابن نصر الله، ثم ولي نظر الدولة وباشر ديوان السلطان قبل أن يتسلطن، ثم سعى في نظر الخاص لما ولي ابن نصر الله الاستادارية، فباشر بسكون وحشمة ونزاهة، وأكثر من زيارة الصالحين ومن الفقراء، والزم ولديه إبراهيم ويوسف الذي ولوا الخاص بعده واحداً بعد واحد بالاشتغال بالعلم وأحضر لهم من يعلمهم العربية والكتابة، وكانت وفاته سادس عشر شهر - ربيع الاول قبل وقوع الطاعون، واستقر ولده إبراهيم فاستمر - في وظيفته وهو امرد، ولم يظن أحد أنه يستمر لصغر سنه لكنه استعان أولاً بجده لامه ثم استقل بالأمور بعد وفاته وقد تدرب، وكان يتكلم بالتركي ويحسن المعاشرة مع لثغة في لسانه، وخلفه أخوه جمال الدين يوسف وفاق أخاه وإياه.
علي بن تاج الدين عبد الوهاب بن القاضي ولي الدين، العراقي تقي الدين.(3/447)
علي بن عنان بن مغامس بن رميثة بن أبي نمي، الحسني المكي الشريف مات بالقاهرة في ثالث جمادى الآخرة مطعوناً، وقد ولي إمرة مكة مرة ودخل الغرب بعد أن عزل عنها فأكرمه أبو فارس، وكان حسن المحاضرة ويذاكر بالشعر وغيره ومات بالقاهرة.
علي الأسيوطي الشيخ ويقال له أبو الخلق، وكان ممن يعتقد ويذكر عنه مكاشفات كثيرة.
عمر القاضي سراج الدين، النويري الشافعي، قاضي الشافعية بطرابلس، مات في جمادى الآخرة.
قاسم بن الامير كمشبغا الحموي، وكان أحد الحجاب الصغار.
كشبغا الفيسي الكاشف المزوق الظاهري، كان جريئاً على سفك الدماء، مات منفياً بدمشق في 14 ربيع الآخر وقد ناهز الثمانين.
ماجد بن أبي الفضائل بن سناء الملك فخر الدين ابن المزوق، كان من أولاد الكتبة، وخدم عند سعد الدين ابن غراب، فولي بعنايته نظر الجيش وكتابة السر واحدة بعد أخرى، ثم ولي نظر الإصطبل، ثم تعطل في الدولة المؤيدية وما بعدها إلى أن مات في ليلة الخميس 12 رجب.
محمد بن أحمد بن سليمان، الاذرعي الحنفي شمس الدين، أخذ عن ابن الرضي والبدر المقدسي في مذهب الحنفية، ثم بعد اللنك انتقل إلى مذهب الشافعي وولي قضاء بعلبك وغيرها، ثم عاد حنفياً وناب في الحكم ودرس وأفتى، وكان يقرأ البخاري جيداً، ويكتب على الفتوى كتابة حسنة وخطه مليح، وتوجه إلى مصر في آخر عمره فعند وصوله طعن فمات غريباً شهيداً في جمادى الآخرة.(3/448)
محمد تاج الدين بن العماد إسماعيل، البطرني المغربي الأصل نزيل دمشق، كان في خدمة القاضي علم الدين القفصي وعمل نقيبه، ثم بعد موته ولي قضاء طرابلس، ثم رجع وناب عن القاضي المالكي، وكان عفيفاً في مباشرته، ويستحضر طرفاً من الفقه؛ مات بالطاعون في صفر.
محمد بن الملك الأشرف برسباي، وكان قد عين للسلطنة بعد أبيه مات في يوم الثلاثاء 26 جمادى الأولى مطعوناً وقد ناهز الاحتلام، ودفن بالمدرسة(3/449)
الأشرفية.
محمد بن ططر السلطان الصالح بن الطاهر، خلع في خامس عشر ربيع الأول سنة خمس وعشرين، وأقام عند السلطان الملك الأشرف مكرماً إلى أن طعن، ومات في سابع عشري جمادى الآخرة هذه السنة.
محمد بن الناصر فرح بن الظاهر برقوق، مات بسجن الإسكندرية في يوم الاثنين حادي عشري جمادى الىخرة مطعوناً عن 21 سنة، ودفن بها ثم نقل إلى مصر.
محمد بن عبد الحق بن إسماعيل بن أحمد الانصاري السبتي صاحبنا، كتب إلي وشرح البردة، وله يد في النظم والنثر والتصوف، وكان حسن الطريقة.
محمد بن عبد الواحد بن أبي بكر بن إبراهيم بن محمد، السنقاري شرف الدين نزيل هون ولد في المحرم، سنة 773، وتفقه قليلاً، وأخذ عن المشايخ، وكان أبوه موسراً فمات في الثمانين، ونشا هو يتعاني التجارة والزراعة ويتردد إلى القاهرة، وتقلبت به الأمور، وكان فاضلاً مشاركاً متديناً، وكان يقول: ما عشقت قط ولا طربت قط، مات في الطاعون في جمادى الآخرة، وكان يحكي عن ناصر الدين محمد بن محمد بن عطاء الله قاضي هو أنه كان بجانب داره نخلة جربها بضعاً وثلاثين سنة، فإن قل حملها توقف النيل، وأن كثر زاد، وأنها سقطت في سنة ست وثمانمائة فقصر النيل تلك السنة ووقع الغلاء المفرط.
محمد بن عبد الوهاب بن نصر الله، شرف الدين أبو الطيب بن تاج الدين، ولد في ذي القعدة سنة سبع وتسعين، ونشأ في حجر السعادة وتعلم الكتابة واشتغل بالعلم، وكتب في الإنشاء، وعظم في دولة الظاهر ططر، وولاه نظر الكسوة ودار الضرب ونظر الأشراف وغير ذلك؛ ومات في سابع عشري ربيع الىخر بمرض السل.
محمد بن عمر بن عبد العزيز، بن أمين الدولة قاضي الحنفية بحلب شمس الدين؛ مات يوم الخميس 12 شعبان.
محمد جلال الدين بن بدر الدين محمد بن بدر الدين محمد بن مزهر، ولد سنة 14 وحفظ القرآن واشتغل قليلاً، فلما مات أبوه في سنة اثنتين وثلاثين قرر مكانه في كتابة السر فباشرها، والاعتماد في ذلك على شرف الدين الموقع وكان قد تقرر في نيابة كتابة السر وانفصل بدر الدين المذكور،(3/450)
وكان لقب في أيام مباشرته في كتابة السر بلقب أبيه بدر الدين، ومات بالطاعون - يوم الإثنين سنة ست وعشرى رجب -.
محمد زين الدين بن القاضي شمس الدين محمد بن محمد بن أحمد ابن عبد الملك، الدميري المالكي، كان حسن الصورة، له قبول تام عند الناس لكثرة حشمته، وقد ولي الحسبة مراراً، وبيده التحدث في المارستان نيابة عن الأمير الكبير على قاعدة أبيه، ولم أظنه جاوز الخمسين ومات في 3 شعبان.
محمد الإسكندراني شمس الدين العروف بابن المعلمة، ولي حسبة القاهرة مدة، وكان مالكياً فاضلاً مشاركاً في العربية وغيرها، مات في شعبان.
مدلج بن علي بن نعير واسمه محمد بن حيار أمير آل فضل وكان ولي إمرة العرب بعد أخيه وعذراء ودخل في الطاعة، ثم وقع بينه وبين ابن عمه قرقماس قاتل أخيه عذراء الوقعة المقدم ذكرها في الحوادث، وقتل مدلج في 2 ذي القعدة منها بظاهر حلب.
مرجان الهندي مملوك شهاب الدين بن مسلم، أخذه المؤيد قبل أن يلي السلطنة قهراً من أستاذه، فنجب عنده وترقت منزلته جداً إلى أن اتضعت في أيام ططر فمن بعده، وصودر إلى أن مات في سادس عشرى جمادى الآخرة.
ناصر بن محمد البسطامي الشيخ ناصر، من تلامذة الشيخ عبد الله البسطامي، ثم قدم القاهرة وقطنها، مات بها في الطاعون.
نصر الله بن عبد الرحمن بن أحمد بن إسماعيل، الأنصاري الشيخ جلال الدين الروياني العجمي الحنفي، ولد سنة ست وستين، وتجرد وبرع في علم الحكمة والتصوف،(3/451)
وشارك في الفنون، وكتب الخط الفائق، وقدم القاهرة مجرداً، واتصل بأمراء الدولة وراج عليهم لما ينسب إليه من معرفة علم الحرف وعمل الأوفاق، وسكن المدرسة المنصورية، وكان مفضالاً مطعاماً محباً للغرباء فهرعوا إليه ولازموه، وقام بأمرهم وصيرهم سوقه التي ينفق منها وينفق بها، واستخلص بسبب ذلك من أموال الأمراء وغيرهم ما أراد حتى كان كثير من الأمراء يفرد له من إقطاعه أرضاً يصيرها رزقة ثم يسعى هو حتى يشتريها ويحبسها، وكان فصيحاً مفوهاً حسن التأني عارفاً بالأمور الدنيوية عرياً عن معرفة الفقه، له اقتدار على التوصل لما يطلب، كثير العصبية والمروءة، حسن السياسة والمداراة، عظيم الأدب، جميل العشرة، وله عدة تصانيف في علم الحرف والتصوف، منها غنية الطالب فيما اشتمل عليه الوهم من المطالب، وإعلام الشهود بحقائق الوجود، ومات في ليلة الجمعة سادس شهر رجب بالطاعون.
- ياقوت الأرغون شاوي الحبشي مقدم المماليك، مات مطعوناً في يوم الإثنين ثالث رجب، ودفن بمدرسته التي أنشأها بالصحراء - هابيل بن قرا يلك، مات مسجوناً بالقلعة مطعوناً.
هاجر خوند بنت منكلى بغا زوج برقوق، ماتت في رابع رجب، وأمها خوند فاطمة بنت الأشرف شعبان بن حسين بن قلاوون -.
يحيى نظام الدين بن الشيخ سيف الدين بن محمد بن عيسى السيرامي،(3/452)
ولد سنة..... وكان حسن التدريس والتقرير، جيد الفهم، قليل التكلف، قوي الفهم، متواضعاً مع صيانة، قليل الشر كثير الإنصاف، ولم يكن في أبناء جنسه مثله، وكان قد اختص بالمؤيد وسامره، وكان يبيت عنده كثيراً من الليالي ويثق به ويعقله، ولما وقع الطاعون استكان وخضع وخشع، ولازم الصلاة، على الأموات بالمصلى إلى أن قدر الله أنه مات بالطاعون في أواخره.
يحيى بن الإمام شمس الدين محمد بن يوسف بن علي، الشيخ تقي الدين الكرماني الشافعي، ولي نظر المارستان وكان ثقيل السمع، وكان قد ضعف وطال رمده، ثم مات مطعوناً في يوم الخميس ثاني عشرى جمادى الآخرة.
يشبك أخوالسلطان الأشرف وكان أسن منه لكن السلطان أسرع إليه الشيب دونه، طعن فاقام أياماً يسيرة، ويقال إنه مات ساجداً، وكان شديد العجمة وتعلم اللسان التركي، ولم يفقه بالعربي إلا القليل، وكان فيه عصبية لمن يلتجئ إليه ومكارم أخلاق.
يعقوب بن إدريس بن عبد الله بن يعقوب، الشهير بقرا يعقوب الرومي النكدي الحنفي، نسبة إلى نكدة من بلاد ابن قرمان، ولد سنة تسع وثمانين، واشتغل في بلاده،(3/453)
ومهر في الأصول والعربية والمعاني وكتب على المصابيح شرحاً وعلى الهداية حواشي، ودخل البلاد الشامية، وحج سنة تسع عشرة ثم رجع وأقام بلارندة يدرس ويفتي، ثم قدم القاهرة بعد موت المؤيد فاجتمع بمدير المملكة ططر، فأكرمه إكراماً زائداً ووصله بمال جزيل، فاقتنى كتباً كثيرة ورجع إلى بلاده فاقام بلارندة إلى أن مات في شهر ربيع الأول.
يوسف بن إبراهيم بن عبد الله بن داود بن أبي الفضل بن أبي المنجب ابن أبي الفتيان، الداودي الطبيب جمال الدين، مات في أول شهر رجب وله زيادة على التسعين.(3/454)
سنة أربع وثلاثين وثمانمائة
استهلت وقد غلا سعر الذهب إلى أن بلغ مائتين وخمسة وسبعين، وانتهت فيه زيادة النيل إلى تسعة عشر ذراعاً وعشرين إصبعاً، وخرج الأمراء المجردون في آخره ثم أمر بعودهم فعادوا ن خانقاه سرياقوس، وفيه رخص الفول جداً حتى صار بدرهمين ونصف فضة وزنا كل إردب والشعير كل إردب بثلاثة، والقمح بستة ونصف، وهذا غاية الرخص إلا ما تقدم في دولة المؤيد، فإن القمح نزل فيه إلى ستة دراهم بندقية، وفيه خرج السلطان إلى الصيد بالهيئة الكاملة فشق المدينة وخرج من باب الشعرية ثم عاد من يومه.
وفيها حصل للحاج عطش عند رجوعهم بمنزلة الوجه فمات منهم ناس كثير، قيل: قدر ثلاثة آلاف، كلهم من الركب الأول، ومات من الجمال والدواب شيء كثير جداً، وذهب لمن مات من الاموال ما لا يحصى.
وفيها حجر السلطان على المباعة أن لا يتبايعوا إلا بالدراهم الأشرفية التي جعل لكل درهم منها بعشرين من الفلوس، وانتفع الناس بها بالميزان، وشدد في الذهب أن لا يزاد في سعره، فإذا قل ازداد، ولم يزل الأمر يتمادى على ذلك إلى أن بلغ كل دينار أشرفي مائتين وخمسة وثماتين درهماً من الفلوس. واستقر الأمر على ذلك إلى آخر الدولة الأشرفية.
وفيها استبد ابن الركاعنة صاحب فاس وتلمسان بالمملكة، فسار إليه أبو فارس صاحب تونس بنفسه وظفر به، وقرر في المملكة أحمد بن أبي حمو، وذلك في رجب سنة أربع وثلاثين.
وفي ربيع الآخر جهز السلطان الفعلة وأهل المعرفة بالبناء لإصلاح الآبار وأماكن المياه التي في طريق الحجاز.(3/455)
وفيها حفرت بعيون القصب بئر عظيمة فعظم النفع بها، وكانت عيون القصب تجري من واد عظيم ينبت فيه القصب الفارسي ويجري الماء بين تلك الغابات، وكان للحاج به رفق بحيث يبيتون فيه ليلة، ثم عمرت تلك العيون وصاروا يقتنعون بالحفائر، وكان الماء الذي يخرج منها يفسد في ليلته، فأشار ناظر الجيش لما حج بحفر بئر هناك فخرج ماؤها عذباً، وحفروا قبل ذلك بئرين بزعيم وقبقاب، فاستغنى الناس بهما عن ورود الوجه، والوجه مكان فيه بئران لا يحصل الماء فيهما إلا بالمطر، فإذا لم يقع المطر ووردهما الحاج لم يجدوا فيهما إلا النزر اليسير، وفي الغالب يقع لهم العطش والهلاك فاستغنوا بالبئرين عن الوجه.
وفيها استقر تاج الدين عبد الوهاب ابن الخطير في نظر الديوان المفرد بعد موت تاج الدين ابن الهيصم، وهو من بيت كبير في القبط، وكان اسمه جرجس ولقبه الشيخ التاج، فأسلم على يد السلطان الأشرف قبل أن يتسلطن، وذلك في الأيام المؤيدية، وخدم في ديوان الخاص، ثم ولاه الأشرف نظر الإصطبل بحكم شغوره عن بدر الدين بن مزهر لما ولى كتابة السر وأستادرية ولد السلطان، فشكرت سيرته وأمانته وحسن سياسته وكثرة بره.
وفي ثاني عشر جمادى الأولى سار سعد الدين القبطي المعروف بابن المرأة إلى مكة بسبب المكس المتعلق بالتجار الواصلين إلى جدة، وخرج معه نحو ألف نفس للمجاورة فلما كانوا فيها بين الوجه وأكرى وجدوا عدة موتى ممن مات بالعطش في العام الماضي، فلما نزلوا رابغ خرج عليهم الشريف زهير بن سليمان بن زبان بن منصور بن جماز بن شيحة الحسيني ومن معه وكانوا نحو مائة فارس وأرادوا نهبه فصالحوهم على مال بعد أن وقعت بينهم مناوشة وقتل بينهم قلائل من الطائفتين، ودخلوا مكة في ثامن عشرى جمادى الآخرة عرب زبيد، فصالحوهم على مائة دينار بذلها ابن المرأة من ماله -.(3/456)
وفي ثاني عشر رمضان نودي بمنع المعاملة بالفضة اللنكية وبأن الذهب الأشرفي - الدينار - بمائتين وخمسين.
وفي سادس عشرى جمادى الأولى أعيد كاتبه إلى وظيفة القضاء الشافعية وهي المرة الثانية.
وفيها مات شهاب الدين أحمد الأسود الدويدار نائب الإسكندرية المعروف بابن الأقطع فاستقر جانبك الناصري رأس نوبة إبراهيم بن المؤيد الشهير بالتور نائبا بالإسكندرية وكان من مماليك يلبغا الناصري.
وفي ذي القعدة جرى بين شخص في خدمة كاتب السر ابن السفاح يقال له ابن الناظر الصفدي وبين مملوك لابن السفاح مشاجرة فاغتاله فقتله بسكين، فاطلع عليه بعض الخدم فنم عليه، فانزعج كاتب السر لذلك وحرص على أنه يعرف السبب، فقيل إنه كان بسبب صبي تعايرا عليه، وقيل إن ابن الناظر ذكر لقاتله أنه يعرف السحر وأنه قتل شخصاً بسحره وأن العلماء أفتوه بقتل من يقتل بسحره فما أفادته هذه الدعوى، وبلغ السلطان الخبر فاستدعاه فلما سأله واعترف أمر بقتله، فحرص كاتب السر على أن يؤخر قتله إلى أن يحضر أولياء المقتول، فامتنع السلطان وأمر بتوسيطه، وحصل لكاتب السر من ذلك مشقة شديدة لقصة مملوكه وكان يميل إليه ولفقد صديقه وكان يأتمنه على كثير من أحواله - فلله الأمر.
وفي ذي الحجة استقر التاج الوالي الشويكي في نظر الأوقاف الجكمية، وقرر له من مال الأوقاف في الشهر ثلاثة آلاف، ولم يباشر شيئاً بل قنع بالمعلوم المذكور.
وفي يوم الإثنين من ذي القعدة الموافق لثامن عشرى أبيب أوفى النيل وكسر الخليج وزاد بعد ذلك، فكان في أول يوم من مسرى سبعة عشر ذراعاً وأصابع من الثامن عشر، ولا يحفظ ذلك اتفق فيما مضى قط، وأعجب منه أنه زاد ثاني يوم الوفاء نصف ذراع ولم يحفظ فيما مضى مثل ذلك إلا في سنة ست عشرة فإن الملك المؤيد صاحب حماة ذكر في تاريخه بنظير ذلك في هذا العصر أن النيل أوفى تاسع عشرى أبيب وقال إنه غريب.
وفي شعبان كانت الزلزلة، بغر ناطة وخسف بعدة أماكن وعدة مواضع وانهدم بعض(3/457)
القلعة، ودامت الأرض تهتز أياماً، وسقط من جدار الجامع الأعظم، وخاف أهل البلد كلهم فخرجوا إلى الصحراء.
وفيها غزاهم الفرنج فكادوا يقبضون عليهم قبض اليد، فأدركهم الله بالفرج، فخرج الشيخ يحيى بن عمر عثمان بن عبد الحق شيخ الغزاة في ألفين من الجند، وسار نصف الليل حتى بعد عن عسكر الفرنج، وقرر مع أهل البلد أن يخرجوا إلى الفرنج فإذا حملوا عليهم انهزموا أمامهم، ففعلوا وطمع الفرنج في أهل البلد - وإذا بالشيخ يحيى قد دهمهم بمن معه من خلفهم - فأطلق النيران في معسكرهم، فجاءهم الصريخ فرجعوا، فركب المسلمون أقفيتهم أسراً وقتلا، فقيل بلغ عدة القتلى زيادة على ثلاثين ألفاً والأسرى إثني عشر ألفاً.
وفي الرابع والعشرين من المحرم عقد مجلس بين أمير آخور جقمق العلائي الذي ولي السلطنة بعد ذلك وبين القاضي زين الدين التفهني وكان يومئذ مدرس الخنفية بمدرسة قانباي، فقرئ محضر يتضمن أن قانباي فوض النظر للتفهني والزمام ثم عزلهما، وأحضر جقمق جماعة يشهدون بذلك، فأسر السلطان لناظر الجيش كلاماً فغاب والشهود معه ثم عاد فقال: اتفقت شهادتهم، ثم أمر السلطان بعقد مجلس بالصالحية وادعى وكيل جقمق على وكيل التفهني أن التفهني حكم في المدرسة المذكورة بغير طريق شرعي، فأجاب وكيل التفهني بأن جقمق ليس ناظراً إلى أن يثبت ذلك، فوصل كتاب الوقف بالشافعي فوجد فيه أن النظر بعده لم يكون أمير آخور يوم ذلك، فقال الوكيل: هذا يقتضي التقييد بذلك الوقت وليس فيه تعميم، فقال الشاهدان على الواقف: نحن نشهد على الواقف أنه جعل النظر بعده لمن يكون أمير آخور، فوقع البحث في ذلك، فادعى وكيل الحنفي أنه له دافعاً، فأمهل ثلاثة أيام، فحكم الحنبلي في غضون ذلك بمقتضى ما شهد به الشاهدان وأن ذلك مقبول ولا يقدح في شهادتهما وإنما هو تفسير لما أبهم؛ وانفصل الأمر على ذلك.
وفي سابع عشر المحرم وصل الأمراء الذين كانوا مجردين بحلب، وأمر السلطان بإخراج بعض العسكر إلى البلاد الحلبية لدفع قرايلك عن ملطية وكان نائبها قانباي البهلوان أرسل لطلب المدد،(3/458)
فلما تجهز الأمراء وصل الخبر بالإستغناء عن ذلك فأمر برجوعهم فرجعوا بعد أن رحلوا مرحلة واحدة، وقيل كان السبب أن نائب الشام أرسل يذكر للسلطان أنه لا حاجة إلى إرسال أحد من مماليك السلطان، فتخيل منه وأراد إختبار حاله فأرسل له كتاباً صحبة ساعي يستدعى حضوره إلى القاهرة، فوصله الكتاب وهو راكب فخرج في الحال إلى ظاهر دمشق واستدعى آلة السفر وتوجه فوصل في سادس جمادى الآخرة، فأكرمه السلطان وخلع عليه بالإستمرار، وعمل له السلطان ضيافة بخليج الزعفران، وسافر في ثالث عشر الشهر الذي جاء فيه.
وفي هذه السنة قرئ البخارى على العادة، فكثر من يحضر من آحاد الطلبة الذين يقصدون الظهور ومنعوا فشغبوا، وصار لغطهم يزيد وسوء أدبهم يفحش فهددوا فلم يرتدعوا، فأمر السلطان في المجلس الثاني أن تكون القراءة في القصر التحتاني، وصار إذا جاء يجلس في الشباك الذي يطل من القصر الفوقاني على القصر التحتاني، وحصل بذلك للقضاة ولأعيان المشايخ اتضاع منزلة، وعظم اللغط بالنسبة لما كان يحضره السلطان، وصار السلطان بعد ذلك يتشاغل بكتابة العلامة فيجتمع عنده من يتعلق بها ويصير بالتبعية له في أعلى منزلة بالنسبة لمن هو في الحقيقة فوقهم؛ ولما رأى ابن البلقيني أنه ما بقي يظهر له مقصود انقطع عن الحضور، واستمر إلى سنة أربعين، فسعى في العود كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
وفيها توجه قرقماس الشعباني وهو يومئذ الحاجب الكبير إلى الصعيد، فلاقاه موسى بن عمر شيخ عرب هوارة وقدم له تقدمة، فلما رجع بلغ موسى أن ابن عمه عمران استقر مكانه وعزله، فخاف موسى ودخل البرية بمن أطاعه، وتوجه الوزير إلى قرقماس ليتعاونا على رجوع موسى فعجزا عنه. ثم لم يزل الوزير يراسل موسى ويتلطف به حتى عاد، وأحضره إلى السلطان فخلع عليه ثم أمسكه بعد أيام ثم حبسه، فبلغ ذلك عربه فأفسدوا في البلاد وأحرقوا الغلال، ووصل عبد الدائم شيخ الفقراء ومعه طائفة من الفقراء في شوال، فهرع الناس للسلام عليه والتبرك به، وكان قد أذن لموسى بن عمر في التوجه(3/459)
إلى السلطان وضمن له السلامة، فلما سمع بحبسه جاء للشفاعة فيه، فأرسل لهم السلطان القاضي بدر الدين العيني فأحضرهم عنده وتأدب معهم وكانوا ثلاثة: عبد الدائم، وشجاع، والعريان، وأتباعهم، وقبل السلطان شفاعتهم وأذن لهم في تسليم ابن عمر بعد أن يحلفه كاتب السر عند العيني، ففعل ذلك ورجعوا.
وفي جمادى الأولى شاع عن أهل التقويم أنهم اتفقوا أن الشمس تكسف في ثامن عشري هذا الشهر بعد الزوال، فتأهب السلطان وغيره لذلك وترقبها إلى أن غربت، ولم يتغير منها شيء البتة.
وفي يوم الخميس ثاني عشر شهر رجب تزوج سيدي محمد ولد الأمير جقمق بنت أحمد بن أرغون شاه، وعمل له أبوه وليمة عظيمة وقدم له السلطان ومن دونه تقادم سنية.
وفي شوال أرسل السلطان ثلاثمائة مملوك إلى جزيرة قبرس بمطالبة صاحبها بما استقر عليه من المال في كل سنة، وأوصاهم أن يرسوا على بعض الجزائر ويراسلوه، فإن أجاب بالامتثال رجعوا وصحبتهم ما يوصله لهم، وإن امتنع اعتصموا ببعض الجزائر وراسلوا السلطان، فعادوا بعد بضعة وعشرين يوماً وصحبتهم أثواب صوف بقيمة ثلاثة آلاف دينار.
وفيها حجب خوند جلبان زوج السلطان، وكانت أمته فأعتقها وتزوجها وصيرها أكبر الخوندات، وجهزها في هذه السنة تجهيزاً عظيماً، وأرسل صحبتها جوهر اللالا وناظر الجيش ونصب في الودك المتعلق بها على شاطئ النيل وكان امراً مهولاً، وسافروا بالمحمل من أجلها في 7 شوال ورحلوا به من البركة يوم الحادي والعشرين منه قبل العادة بثلاثة أيام.
وفي 12 ذي القعدة أوفى النيل ستة عشر ذراعاً، ونودي عليه بزيادة نصف ذراع بعد الستة عشر، وذلك في تاسع عشري أبيب، وقد تقدم في سنة خمس وعشرين انه أوفى في تاسع عشري أبيب أيضاً ولكن بزيادة اصبعين على الستة عشر فقط، وأوفى قبل ذلك في سنة ست عشرة آخر يوم من أبيب وهي من النوادر، وافسد تعجيل الزيادة من الزروع التي بالجزائر شيئاً كثيراً كالبطيخ والسمسم.(3/460)
وفيها قدم الامير ناصر الدين محمد بن إبراهيم بن منجك في ذي القعدة، فأخبر أن نائب الشام اقام أياماً محتجباً، فأنكر عليه وسباي الحاجب الكبير فأجابه بالشتم والضرب والإهانة وخرج النائب إلى ظاهر البلد فأقام هناك، فوقع الراي على رجوع ابن منجك بخلعة استمرار للنائب وأخرى للحاجب وأن يصلح بينهما، فبادر وصحبته سودون ميق وهو يومئذ أمير آخور ثاني فاصلحا بينهما واستمر الحال، واشتهر فيها وقوع زلزلة بالأندلس هدم بها من الأمكنة شيء كثير.
وفيها نودي على الذهب بأن كل أشرفي بمائتين خمسة وثلاثين ومن خالف ذلك شنق في يده فاستمر على ذلك.
وفها قدم غادر بن نعير على السلطان مفارقاً لاخيه قرقماس، فأكرمه وأمره عوضاً عن أخيه، فلما رجع عصى وآذى بعض الناس، فأرسل السلطان إلى نائب حلب ونائب حماة أن يركبوا عليه، فبلغه ذلك فهرب وأحاطوا بما وجدوه من ماله.
وفيها أرسل شاه رخ قرايلك في طلب إسكندر بن قرا يوسف فواقعه، فانهزم اسكندر وفر إلى بلاد الكرج فنزل بقلعة سلماس، وبعث إليه شاه رخ عسكراً فقاتلوه إلى أن انهزم ونجا بنفسه جريحاً، فاتفق أنه وقع الغلاء ثم الوباء في عسكر شاه رخ فكر راجعاً إلى بلاده.
وفي العشرين من ذي الحجة مات فارس الذي كان رأس المماليك المقيمين بمكة لكف أذى وكان غيره قد توجه عوضه مع الحاج ورجع هو مبشراً فمات في الطريق، وتاخر قدوم المبشرين بسبب ذلك يومين عن العادة، فقدموا في ثامن عشري ذي الحجة وأخبروا بالرخاء لكن كان الماء قليلاً.
ذكر من مات
في سنة أربع وثلاثين وثمانمائة من الأعيان
إبراهيم بن علي بن إسماعيل بن إبراهيم برهان الدين البلقيني الأصل المعروف بابن الظريف بالظاء المعجمة وتشديد التحتانية، ولي نيابة الحكم بالحسنية في ولاية البلقيني، ثم أضيفت إليه نيابة الحكم بالقاهرة ومصر وباشر مباشرة حسنة، وكان حسن العشرة والمعاملة كثير الإسراف على نفسه - سامحه الله! مات في يوم السبت ثاني عشر - شوال بعد مرض طويل.(3/461)
أحمد الدوادار نائب الإسكندرية المعروف بابن الأبتع، مات يوم الأحد تاسع جمادى الآخرة بالقاهرة.
إسماعيل بن أبي الحسن بن علي بن محمد، البرماوي الشافعي ولد في حدود الخمسين، ودخل القاهرة قديماً وأخذ عن المشايخ وسمع، ومهر في الفقه والفنون، وتصدى للتدريس، وخطب بالجامع العمري بمصر؛ مات في يوم الأحد الخامس عشر - نصف ربيع الآخر.
إسماعيل الرومي الطبيب الصوفي المقيم بالخانقاه البيبرسية، كان يقرئ العربية والتصوف والحكمة، وامتحن بمقالة ابن العربي ونهى مراراً عن إقرائها، ولم يكن محمود السيرة ولا العلاج، وكان من صوفية البيبرسية؛ مات في تاسع شوال.
حمزة بن يعقوب، الحريري الدمشقي؛ مات في صفر.
شاهين الرومي المزي عتيق تقي الدين أبي بكر المزي، وكان عارفاً بالتجارة، على طريقة سيده في محبة أهل الخير، ووصاه على أولاده فرباهم، ثم مات بالقولنج وهم صغار فأحيط بموجوده، فيسر الله تعالى القيام في أمرهم مع السلطان إلى أن أسعدته، فصار الذي لهم في ذمو شاهين، وظهر لشاهين أخ شقيق، فلما أثبت نسبه قبض ما بقي من تركة أخيه بعد مصالحة ناظر الخاص؛ وكان موته في ثالث عشري ذي القعدة.
عبد الله بن محمد بن مفلح بن محمد بن مفرج، المقدسي ثم الصالحي الشيخ شرف الدين ابن القاضي شمس الدين أخو القاضي تقي الدين، ولد في ربيع الأول سنة خمسين ومات أبوه وهو صغير، فحفظ المقنع ومختصر ابن الحاجب، وأخذ عن بعض مشايخ أخيه وسمع الحديث، وأجاز له عز الدين ابن جماعة وجمال الدين ابن هشام النحوي وغيرهما، وسمع من جده لأمه جمال الدين المرداوي وشرف الدين بن قاضي الجبل وغيرهما، وافتى ودرس واشتغل وناظر وناب في الفضاء دهراً طويلاً وصار كثير المحفوظ جداً، وأما استحضار فروع الفقه فكان فيه عجباً مع استحضار كثير من العلوم، وكان ينسب إلى المجازفة في النقل أحياناً وعليه مآخذ دينية، وانتهت إليه رئاسة الحنابلة في زمانه، وعين للقضاء غير مرة فلم يتفق ذلك، وولي ابن اخيه في حياته وقدم عليه؛ مات في ليلة الجمعة ثاني ذي القعدة، أرخه مؤرخ الشام وأرخه قاضي الحنابلة في خامس عشر شوال.
عبد الرحمن وجيه الدين بن الجمال، المصري، ولد بزبيد سنة وتفقه، وتزوج بنت عمه النجم المرجاني، وقطن مكة وأشغل الناس بها في الفقه واشتهر بمعرفته؛ ومات في 17 رجب.
عبد الرزاق بن سعد الدين تاج الدين إبراهيم ابن الهيصم، كتب في الديوان المفرد ثم ولي الاستادارية بعد جمال الدين، ثم ولي الوزارة في الدولة المؤيدية ونكب مراراً؛ ومات في يوم الخميس العشرين من ذي الحجة.(3/462)
عمر بن منصور، الشيخ سراج الدين البهادري الحنفي، ولد سنة بضع وستين، واشتغل بالفقه والعربية والطب والمعاني وغير ذلك حتى مهر واشتهر ودرس وناب في الحكم، وصار يشار إليه في فضلاء الحنفية وفي الأطباء ولم يكن محمود العلاج؛ مات في العشر الثاني من شوال.(3/463)
محمد ناصر الدين ابن أرغون، المارداني القبيباتي، ولد سنة خمسين وسبعمائة، ونشأ في خدمة الأمراء من عهد آقتمر عبد الغني النائب وهلم جراً، وولي الجيزة والحجوبية والأستادراية عند غير واحد، وكان عارفاً بالأمور، وصحب الناس وعرف أخلاق أهل الدولة وعاشرهم ومازجهم، ثم أقبل على الاشتغال بالفقه حتى صار يستحضر كثيراً من المسائل الفقهية، ويقرأ عنده في الروضة وغيرها، ويكثر من مسايلة من يلقاه من العلماء، وسمعت منه فوائد ولطائف، وكان من جملة من ينتمي إلى أصهارنا بقرابة من النساء؛ مات في رمضان.
محمد بن الأشراف برسباي محمد بن الحسن بن محمد، الشيخ شمس الدين الحسني ابن أخي الشيخ تقي الدين الحصني، اشتغل على عمه ولازم طريقته في العبادة والتجرد، ودرس بالشامية وقام في عمارة البادرائية؛ ومات في شهر ربيع الأول، وكان شديد التعصب على الحنابلة.
محمد بن حمزة بن محمد بن محمد، الرومي العلامة شمس الدين الحنفي المعروف بابن الفنري - بفتح الفاء والنون مخففاً، ولد في سنة 751 في صفر، وأخذ ببلاده عن العلامة علاء الدين المعروف بالأسود شارح المغني وعن الكمال محمد بن محمد المعري والجمال محمد بن محمد بن محمد الأقصرائي وغيرهم ولازم الاشتغال، ورحل(3/464)
إلى الديار المصرية سنة ثمان وسبعين وله عشرون سنة، فأخذ عن الشيخ أكمل الدين وغيره، ثم رجع إلى الروم فولي قضاء برصا مدة؛ ثم تحول إلى قونية فأقام بها، فلما وقع الحرب بين ابن قرمان وابن عثمان وانكسر ابن قرمان أخذ ابن عثمان الشيخ شمس الدين المذكور إلى برها ففوض إليه قضاء مملكته وارتفع قدره عنده فوصل عنده المحل الأعلى وعذق به الأمور كلها وصار في معنى الوزير واشتهر ذكره وشاع فضله، وكان حسن السمت كثير الفضل والإفضال غير أنه يعاب بنحلة بن العربي وبأنه يقرىء الفصوص ويقرره، ولما قدم القاهرة لم يتظاهر بشيء من ذلك، وحج سنة اثنتين وعشرين، فلما رجع طلبه المؤيد فدخل القاهرة واجتمع بفضلائها، ولم يظهر عنه شيء مما كان رمي به من المقالة المذكورة، وكان بعض من اعتنى به أوصاه أن لا يتكلم في شيء من ذلك، فاجتمع به فضلاء العصر وذاكروه وباحثوه وشهدوا له بالفضيلة، ثم رجع إلى القدس فزاره، ثم رجع إلى بلاده وكان قد اثرى إلى الغاية حتى يقال إن عنده من النقد خاصة مائة وخمسين ألف دينار، وكان عارفاً بالقراآت والعربية والمعاني، كثير المشاركة في الفنون، ثم حج سنة ثلاث وثلاثين على طريق أنطاكية ورجع فمات ببلاده في شهر رجب وكان قد أصابه رمد وأشرف على العمى بل يقال إنه عمي ثم رد الله عليه بصره فحج هذه الحجة الأخيرة شكر الله على ذلك، وله تصنيف في أصول الفقه جمع فيه المنار والبزدوي وغيرهما، وأقام في عمله ثلاثين سنة، وأقرأ العضد نحو العشرين مرة، كتب لي بخطه بالإجازة لما قدم القاهرة.
محمد تقي الدين بن الشيخ نور الدين علي بن أحمد بن الأمين، المصري ولد سنة ستين، وتفقه قليلاً، وتكسب بالشهادة مدة طويلة، وكان يحفظ شيئاً كثيراً من الآداب والنوادر، واشتهر بمعرفة الملح والزوائد المصرية وثلب الأعراض خصوصاً(3/465)
الأكابر، فكان بعض الأكابر يقربه لذلك، ولم يكن متصوناً في نفسه ولا في دينه - والله يسامحه! مات في شوال.
محمد بن الناصر فرج - محمد بن محمد بن محمد بن محمد الحافظ - الإمام المقرئ شمس الدين ابن الجزري، ولد ليلة السبت الخامس والعشرين من شهر رمضان سنة 751 بدمشق، وتفقه بها، ولهج بطلب الحديث والقراآت، وبرز في القراآت، وعمر مدرسة للقراء سماها دار القرآن وأقرأ الناس، وعين لقضاء الشام مرة، وكتب توقيعه عماد الدين بن كثير ثم عرض عارض فلم يتم ذلك.
وقدم القاهرة مراراً، وكان مثرياً وشكلاً حسناً وفصيحاً بليغاً، وكان باشر عند قطلبك استادار ايتمشن فاتفق أنه نقم عليه شيئاً فتهدده، ففر منه فنزل البحر إلى بلاد الروم في سنة ثمان وتسعين، فاتصل بابي يزيد ابن عثمان فعظمه، وأخذ أهل البلاد عنه علم القراآت وأكثروا عنه، ثم كان فيمن حضر الوقعة مع ابن عثمان واللنكية، فلما أسر ابن عثمان اتصل ابن الجزري باللنك فعظمه وفوض له قضاء شيراز فباشره مدة طويلة، وكان كثير الإحسان لأهل الحجاز، وأخذ عنه أهل تلك البلاد في القراآت وسمعوا عليه الحديث، ثم اتفق أنه حج سنة اثنتين وعشرين فنهب ففاته الحج وأقام بينبع ثم بالمدينة ثم دخل مكة، فجاور إلى أن حج ورجع إلى العراق، وكان كاتب المؤيد يأذن له في دخول القاهرة، فمات المؤيد في تلك السنة فرجع، ثم عاد في سنة ست وعشرين وحج ودخل القاهرة سنة 127 فعظمه الملك الأشرف وأكرمه وحج في آخرها وأقام قليلاً، ودخل اليمن تاجراً فاسمع الحديث(3/466)
عند صاحبها ووصله ورجع ببضاعة كثيرة، فقدم القاهرة في سنة سبع وأقام بها مدة إلى أن سافر على طريق الشام ثم على طريق البصرة إلى أن وصل إلى شيراز، وقد انتهت إليه رئاسة علم القراآت في الممالك، وكان قديماً صنف الحصن الحصين في الأدعية ولهج به أهل اليمن واستكثروا منه، وسمعوه علي قبل أن يدخل هو إليهم ثم دخل إليهم فأسمعهم، وحدث بالقاهرة بمسند احمد ومسند الشافعي وبغير ذلك، وسمع بدمشق وبمصر من ابن أميلة وابن الشيرجي ومحمود بن خليفة وعماد الدين بن كثير وابن أبي عمر وإبراهيم بن أحمد بن فلاح والكمال بن حبيب وعبد الرحمن بن أحمد البغدادي وغيرهم وبالإسكندرية من عبد الله الدماميني وابن موسى وببعلبك من أحمد بن عبد الكريم؛ وطلب بنفسه وكتب الطباق وعني بالنظم، وكانت عنايته بالقراآت أكثر، وذيل طبقات القراء للذهبي وأجاد فيه، ونظم قصيدة في قراءة الثلاثة، وجمع النشر في القراآت العشر جوده، وذكر أن ابن الخباز أجاز له واتهم في ذلك، وقرأت بخط القاضي علاء الدين بن خطيب الناصرية انه سمع الحافظ أبا إسحاق إبراهيم سبط ابن العجمي يقول: لما دخلت دمشق قال لي الحافظ صدر الدين الياسوفي: لا تسمع مع ابن الجزري شيئاً؛ قلت: وقد سمعت بعض العلماء يتهمه بالمجازفة في القول، وأما الحديث فما أظن ذلك به إلا إنه كان إذا رأى للعصريين شيئاً أغار عليه ونسبه لنفسه، وهذا أمر قد أكثر المتأخرون منه ولم ينفرد به؛ وكانت وفاته في أوائل سنة ثلاث وثلاثين، وكان يلقب في بلاده الإمام الأعظم،(3/467)
ولم يكن محمود السيرة في القضاء، واوقفني فتأملتها فوجدته خرجها بأسانيده من جزء الأنصاري وغيره وأخذ كلام شيخنا العراقي في أربعينه العشاريات بنصه، فكأنه استخرج عليها مستخرجاً بعضه بالسماع وأكثره بالإجازة، ومنه ما خرجه شيخنا من جزء ابن عرفة فإنه رواه عن ابن الخباز بالقراءة فأخرجه ابن الجزري عن ابن الخباز بالإجازة.
محمد جمال الدين ابن الشيخ بدر الدين يوسف بن الحسن بن محمود، الحلواني، قدم القاهرة سنة 34 فأكرم. ثم طلبه صاحب الحصن بن الاشرف فجهزه إليه، فمات بمصر في هذه السنة، وكان فاضلاً في عدة علوم، وما اظنه أكمل أربعين سنة.
محمد بن الشيخ بدر الدين، الحمصي المعروف بابن العصياتي، اشتغل كثيراً، وكان في أول أمره جامد الذهن ثم اتفق أنه سقط من مكان فانشق رأسه نصفين ثم عولج فالتأم فصار حفظة ومهر في العلوم العقلية وغيرها، وكان يرجع إلى دين وينكر المنكر ويوصف بحدة ونقص عقل؛ مات في صفر -.
محمد بن ناصر الدين الشيخي، تولى الوزارة للناصر، ثم عزل في سنة أربع وثمانمائة، وصودر بسبب انه ظهر عنده من يعمل الزغل ويخرجه على الناس، فقبض عليه وعوقب إلى أن مات في ذي القعدة. واستقر بعده في الوزارة سعد الله بن عطايا.
محمود بن أحمد بن محمد، الفيومي الأصل نور الدين الحموي ابن خطيب الدهشة، ولد سنة خمسين وسبعمائة، وسمع من جماعة وتفقه ببلده على علمائها في ذلك العصر ودخل الشام ومصر طالب علم، ثم ولي قضاء حماة في أول دولة المماليك المؤيد وباشر مباشرة حسنة بعفة ونزاهة وصرف بزين الدين ابن الخزري في أوائل سنة ست(3/468)
وعشرين، واختصر القوت للأذرعي وسماه لباب القوت، وله تكملة شرح المنهاج للسبكي، وشرح الكافية الشافية في العربية، وله منظومة في الخط وشرحها، وهذب المطالع لابن قرقور في قدر ضعفه وانتهت إليه رئاسة المذهب بحماة مع الدين والتواضع المفرط والعفة، والانكباب على المطالعة والاشتغال والتصنيف، وكان مشاركاً في الأدب وغيره وحسن الخط؛ مات في يوم الخميس تاسع عشر شوال بحماة، وكانت جنازته مشهودة، ومن نظمه:
وصل حبيبي خبر ... لانه قد رفعه
ينصب قلبي غرضاً ... إذ صار مفعولاً معه
وبينه وبين الشيخ بدر الدين ابن قاضي أذرعات مكاتبات منظومة(3/469)
سنة خمس وثلاثين وثمانمائة
وفي تاسع عشر المحرم وصل الأمير طرباي نائب طرابلس فسلم على السلطان وخلع عليه، فأقام خمسة أيام ورجع إلى بلده.
وفي شهر رمضان منها استقر دولات خجا الظاهري في ولاية القاهرة عوضاً عن التاج، واستقر التاج في بقية - وظائفه، وكان هذا ظالماً غاشماً، ولي كشف الوجه القبلي فتعدى الحد في العقوبة حتى كان يأمر بأن ينفخ في دبر من يريد عقوبته حتى تندر عيناه وينفلق دماغه، ثم ولي كشف الوجه البحري، ثم استقر في الولاية فجمع كل من في سجن الوالي من أولى الجرائم فأطلقهم، وحلف جهد يمينه أنه متى ظفر بأحد منهم وسطه وفعل ذلك ببعضهم فكفوا، وركب في الليل وطاف وأكثر من ذلك، وألزم الباعة بكنس الشوارع ورشها ووقيد القناديل في حوانيتهم كل ليلة، ومنع النساء من الخروج إلى الترب أيام الجمع، فاستمر على ذلك قدر شهرين ثم أعيد التاج.
وفي الخامس من صفر انتشر بمصر جراد كثير في الآفاق ولكن لم يحدث منه شر، ووردت الأخبار بأنه وقع فيما بين بغداد وتبريز فلم يدع خضراء وكثر فساده، وعم الغلاء حتى حدث منه الشدائد وأعقبه الوباء المفرط، وفيه أعيد آقبغا الجمالي لكشف الوجه القبلي، وفي ربيع الآخر نزل بعض المماليك من الطباق لنهب بيت الوزير وكان استعد لهم(3/470)
فلم يظفروا به ولا بشيء منه، فلما أصبح استعفى من الأستادارية، فقرر السلطان فيها الصاحب بدر الدين بن نصر الله في ثالث عشري ربيع الآخر، فباشرها شهرين ثم انفصل وأعيد آقبغا الجمالي في جمادى الآخرة، وسبب ذلك أنه كان حصل من الصعيد بالظلم والعسف مالاً كثيراً فرافعه بعض الناس فسعى في الحضور فأجيب، فسعى في الأستادارية على أن يزن عشرة آلاف دينار ويلتزم بالتكفية فأجيب، ثم حوقق على جهات احتاط عليها فزيد على الذي وعد به خمسة آلاف دينار فالتزم بها.
وفيها أجريت العيون حتى دخلت مكة فامتلأت برك باب المعلي ومرت على سوق الليل إلى الصفا فعم النفع بها، وكان القائم على ذلك سراج الدين ابن شمس الدين بن المراق كبير التجار بدمشق، وصرف على ذلك من مال نفسه شيئاً كثيراً، وفي السابع والعشرين من جمادى الآخرة صرف القاضي زين الدين التفهني من قضاء الحنفية وأعيد العيني، وكانت علة التفهني طالت لأنها ابتدأت به من ذي الحجة، فأقام مدة وعوفي ثم انتكس واستمر، وتداولته الأمراض إلى أن أشيع موته، واستقر في قضاء الحنفية بدر الدين العينتابي، وبلغ التفهني ذلك فشق عليه وركب في اليوم الثاني إلى القرافة حتى شاهده الناس ليتحقق أن العينتابي يقول عليه أنه بلغ الموت لكن لم يفد ذلك فلما دخل شوال مات، وكان مولده سنة بضع وستين. فإن القاضي شمس الدين البساطي ذكر أنه يعرفه من سنة ثمانين وهو بالغ، وكان في غضون مرضه نزل لولده شمس الدين محمد - عن تدريس الصرغتمشية، فشق ذلك على العينتابي وقام فيه وقعد، فصده ناظر الجيش عنه، وأمضى السلطان النزول، فلما مات التفهني صودر ولده على خمسمائة دينار، وكان(3/471)
التفهني سمع الحديث من النجم ابن الكشك وغيره واشتغل على جماعة من المشايخ، وأول من نوه به كاتب السر الكلستاني، وكان أصله من تفهنة إحدى القرى الغربية وأبوه طحان، ومات وهو صغير فرباه أخوه شمس الدين محمد، فلما ترعرع دخل القاهرة ونزل في كتاب السبيل بالصرغتمشية، ثم صار عريفاً بالمكتب، ثم نزل في الطلبة ثم نزل في طلبة الشيخونية، فلما نوه به الكلستاني ناب في القضاء وحمدت سيرته، ولازم الاشتغال وحسن خطه، وكتب على الفتاوى فأجاد، وكان حسن الأخلاق كثير الاحتمال شديد السطوة، إذا غضب لا يطاق وإذا رضي لا يكاد يوجد له نظير - رحمه الله تعالى.
وفي شعبان صرف القاضي شهاب الدين بن المحمرة عن قضاء الشام واستقر كمال الدين البارزي وخلع عليه يوم الجمعة ثاني شعبان مع استمراره في كتابة سر الشام، فلما بلغ الشام توجه إلى بيت المقدس فصام شهر رمضان هناك وقدم بعد شوال إلى القاهرة، وكان لما سار إلى الشام استناب بدر الدين ابن الأمانة في تدريس الشيخونية وجمال الدين ابن المجبر في مشيخة الصلاحية، فلما تمادت إقامته هناك استنجز مرسوم السلطان بالاستقلال، فلما عاد إلى القاهرة استعاد الوظيفتين منهما بإذن السلطان ولم يلتفت إلى شرط الواقف أن من غاب عن وظيفته أزيد من مدة مجاورة الحاج أخرج منها، وهذا بخلاف شرط سعيد السعداء فإن شرط واقفها أن من غاب عن وظيفته يعود إليها إذا عاد ولو طالت غيبته، فحجة ابن الأمانة قائمة وحجة ابن المجبر داحضة.
وفيها وصل من زنوك الصين عدة ومعهم من التحف ما لا يوصف فبيع بمكة،(3/472)
وفيها أسر حمزة بن قرايلك صاحب آمد، ساره ناصر الدين أمير ماردين وسجنه، لأن أباه كان يغير على معاملة مادرين ويكثر الفساد، فسار قرايلك حتى نازل ماردين وحاصرها مدة إلى أن ملكه، وهرب ناصر الدين أميرها وخلص حمزة بن قرا يلك، واستمرت ماردين في يد قرايلك.
وفي رجب قدم نائب الشام أيضاً مطلوباً فوصل في حادي عشري رجب وخلع عليه في ثاني عشري رجب، واستقر أتابك العساكر عوضاً عن جار قطلي وخلع على جار قطلي بنيابة الشام عوضه، وتوجه في أول شعبان منها.
وفيها صمم السلطان على السفر إلى البلاد الشمالية بسبب قرا يلك وتجهز غالب الناس ولم يبق إلا السفر، فقدم قاصد قرا يلك وصحبته مفاتيح قلعة ماردين وكان قد غلب عليها وقتل صاحبها، ففتر العزم في هذه السنة.
وفيها أراد السلطان عمل دار العدل كما كانت في أيام الظاهر برقوق، فبادروا إلى ترميمها وإصلاح ما تشعث منها، وجلس يوماً ثم ترك. وفيها حج ركب المغاربة وركب التكرور ومعهم بعض ملوكهم. وفيها اشتد تحجير السلطان على التجار وألزمهم بعدم بيع بضائعهم إلا بإذنه، ثم جمعهم في رمضان وسألهم أن يبيعوا عليه جميع ما عندهم من الفلفل بسعر خمسين الحمل، فشق عليهم ولم يجدوا بداً من المطاوعة وكانوا قد باعوه عليهم من قبل السلطان قبل ذلك بسعر ثمانين، فذكر له بعضهم ذلك فلم يلتفت إليه، ثم كتب مراسيم وأرسلت الشام والحجاز والإسكندرية أن لا يبيع أحد البهار ولا يشتريه إلا السلطان،(3/473)
وفي ذي القعدة عقد مجلس حضره القضاة الأربعة وقرقماس الحاجب الكبير بإذن السلطان بسبب ما حكم به نائب الحنفي من هدم دار ابن النقاش. وكان السبب في ذلك أن علم الدين البلقيني كان سأل ناظر الجيش أن يتنزع له من كاتبه نظر جامع طولون ونظر الناصرية ليسكت عن طلب العود للقضاء والسعي فيه، فرضي كاتبه بذلك وفوض له ذلك وأخذ به توقيعاً سلطانياً، فمن حمقه أنه هنأ السلطان بعيد الفطر فسأله عن أمر النظرين فشكر السلطان فقال له: ينبغي أن يشكر القاضي الذي أعطاك، فقال: أنا ما أعطاني إلا السلطان، وهذا غاية في الحمق والجهل، فإن الواقف شرط النظر للقاضي الشافعي فلو ولاه السلطان لغيره لم تصح ولايته، فلما بلغني ذلك صرحت بعزله، فما بالي بذلك واستمر يتحدث فيهما افتياتاً من غير مبالاة، فلا استمر على التحدث في جامع طولون استخرج من أوراق أخيه محضراً كان كتبه على ابن النقاش يتضمن أن أمين الدين الطرابلسي حيث كان قاضي الحنفية حكم عليه بسد السراب الذي فتحه في جدار الجامع ليستطرق منه إلى الدخول وان البيت الذي بناه من جملة حريم الجامع فيكون له حكم المسجد، وسأل القاضي بدر الدين العينتابي أن يأذن لأحذ نوابه أن يحكم بذلك، فأسند ذلك للقاضي ناصر الدين الشنشي، فحكم وعرض ذلك على السلطان، فاستعظم الناس هدم البيت المذكور بعد مضي أربعين سنة أو أكثر، وشاهد ذلك أكابر العلماء والأئمة، فأمر السلطان بعقد مجلس، فلما اجتمعوا ادعى مدعي على ولد ابن النقاش بأن البيت في أيديهم يجب هدمه، لأنه عمر في حريم الجامع فله حكم المسجد، وأنه يجب عليهم أجرة المثل عن المدة الماضية في تركة أبيهم إلى أن مات ثم في المدة التي منذ مات يجب من ريعه، فأجاب بأن أباه استأذن القاضي جلال الدين البلقيني في استئجار المذكورة فأذن لنائبه القاضي ولي الدين العراقي في النظر في ذلك فاستوفى الشروط وأذن لبعض العدول في إجارته فأجره بأجرة معينة - مدة معينة ليبني في ذلك الزمان ما أراد واتصل ذلك بالعراقي وحكم به، وذلك مصير منهم إلى أن الأرض المذكورة ليست مسجداً؛ فاتصل ثبوت ذلك بالقاضي المالكي في المجلس لكونها شهادة على الخط ثم اتصل بالشافعي، فحكم بابقاء البناء المذكور وعدم التعرض لهدمه، وكان ابن النقاش قد سد الإستطراق المذكور فحاول العلم(3/474)
أن يهدم ما سده ثم يبني، فلم يوافقه أحد، وانفصل المجلس على ذلك وقصر حكم نائب الحكم بأن الساحة المذكورة الدائرة حول الجامع من حريم الجامع وأن لها حكم الجامع على ما بناه فيه مما لم يتقدم به حكم أحد من الحكام، وحصل للعلم والحنفي من ذلك حنق زائد، فأما العلم فبذل جهده في السعي ليعود إلى القضاء فتعذر عليه ذلك، وأما الحنفي فصار يمتنع من حضور المجالس مع الشافعي ولله الحمد.
وأدير المحمل في هذه السنة في ثالث رجب، وفي هذه السنة منع الناس من السفر في وسط السنة إلى الحجاز صحبة ابن المرأة خشية عليهم من نهب العرب، وكان كسر الخليج في الخامس من مسرى، وانتهت الزيادة في هذه السنة إلى أحد وعشرين إصبعاً من ثمانية عشر ذراعاً في آخر مسرى، ووصل المبشر يوم الجمعة خامس عشرى ذي الحجة، فقطع المسافة في أربعة عشر يوماً، وهذا أسرع ما سمع في ذلك.
وفي سابع عشر شعبان وهو الثالث والعشرون من برموده أرعدت السماء وأمطرت مطراً غزيراً، في هذه السنة تقطع غالب الجسور التي عملت للنيل، فشرق بسبب ذلك كثير من الأراضي، وفي أول رمضان تراءى الناس الهلال فخفى عليهم، فشهد به إثنان بعد العشاء فثبت، فلما أصبح السلطان استغرب ذلك لكونه تراءى هو ومن معه ومكانهم بالقلعة مرتفع جداً وكانت السماء صاحية، فاستدعى بالشهود فحضروا عنده، فامتحنهم بأن فرق بينهم وبأن(3/475)
ألزمهم أن يشيروا إلى الجهة التي رأوا الهلال فيها في أول ليلة، ففعلوا فلم يخطئوا فمضى الأمر، واتفق في هذه السنة أنهم لم يروا الهلال ليلة الترائي، ثم ثبت في اليوم الثاني من ذي الحجة، فتوافق العيدان في المعنى المذكور، وفيه أكثر السلطان من الركوب إلى الصيد والتنزه حتى ركب في يوم واحد إلى بيت ناظر الجيش ثم إلى بيت ناظر الخاص فحملا له تقادم جليلة، وفيه استقر الوزير كريم الدين ابن كاتب المناخات في كتابة السر مضافاً للوزارة في ثالث شوال عوضاً عن ابن السفاح، وكان السلطان أرسل إلى شهاب الدين ابن الكشك قاضي الحنفية بدمشق بأن يحضر ويستقر في كتابة السر، فأرسل بالإعتذار وبذل مالاً على الكف عنه، فأجيب واستقر كريم الدين، فباشر قليلاً ثم صرف بعد قليل لما حضر ابن البارزي، وفي ذي القعدة استقر القاضي عز الدين عبد العزيز بن علي البغدادي في قضاء الحنابلة بدمشق وفي أواخر جمادى الأولى صرف العينابي من الحسبة، واستقر صلاح الدين بن بدر الدين بن نصر الله.
وفي شوال قتل نصراني وقع في حق داود عليه السلام فحبس مدة ليسلم فأصر فقتل.
وفي هذه السنة ثارت فتنة عظيمة بين الحنابلة والأشاعرة بدمشق، وتعصب الشيخ(3/476)
علاء الدين البخارى نزيل دمشق على الحنابلة وبالغ في الحط على ابن تيمية وصرح بتفكيره، فتعصب جماعة من الدماشقة لابن تيمية، وصنف صاحبنا الحافظ شمس الدين ابن ناصر الدين جزءاً في فضل ابن تيمية وسرد أسماء من أثنى عليه من أهل عصره فمن بعدهم على حروف المعجم مبيناً لكلامهم وأرسله إلى القاهرة، فكتب له عليه غالب المصريين بالتصويت، وخالفوا علاء الدين البخارى في إطلاقه القول بتفكيره وتفكير من أطلق عليه أنه شيخ الإسلام، وخرج مرسوم السلطان على أن كل أحد لا يعترض على مذهب غيره ومن أظهر شيئاً مجمعا عليه سمع منه، وسكن الأمر؛ واستقر جارقطلي في نيابة الشام في ثامن عشرى رجب، وفيه ألزم أهل سوق الخيل أن لا يبيعوا لمعم فرساً ولا لجندي من أولاد الناس، ثم بطل ذلك عن قرب، وفيه وقع الفناء في الخيول، فأخذت الناس من الربيع ثم شفع فيهم فأعيد أكثرها، وتوجه عدة من الأمراء إلى بلاد الريف لأخذ الخيول من أيدي الفلاحين.
وفي ثالث ربيع الآخر أمر السلطان بإخراج من في السجون على الديون والمصالحة عنهم، وفي أولها اهتم السلطان بأمر الأسعار وأمر بإخراج البذر من حواصله للأراضي البائرة، فكثر الزرع وفرح الناس بذلك وتراجع السعر(3/477)
وفيها مات جينوس بن ثاني الفرنجي متولي قبرس الذي كان أسر، ووصل الخبر بذلك في ذي القعدة، واستقر ولده مكانه فبذل الطاعة لصاحب مصر والتزم بما كان أبوه التزم به وأرسل مع رسل السلطان إليه بذلك أربعة وعشرين ألف دينار وكان السلطان الأشرف جهز إلى جوان ابن جينوس الفرنجي متولي قبرص رسولاً، فقابله بالإكرام وقبل الأرض قائماً أمام الكتاب وأجاب بالطاعة وأنه نائب عن السلطان، وجهز المال الذي كان تأخر على والده وجهز سبعمائة ثوب صوف ملونة، وسألوا السلطان أن يكون عندهم نائب من جهته، فأرسل إليهم أميراً ومعه أربعون مملوكاً.
وفيها اشتهر خراب الشرق من بغداد إلى تبريز، وكثر الغلاء حتى بيع الرطل اللحم بنصف دينار، وأكلوا الكلاب والميتات، ثم فشا الوباء في العراق والجزيرة وديار بكر. وفيها أمر القضاة بإحضار جميع نوابهم إلى السلطان ليعرفهم، ففعلوا ذلك في أول ذي القعدة، ثم أمروا بتأخير النواب، فسألهم السلطان عن النواب فوقع الكلام إلى أن قال السلطان: يستقر للشافعي خمسة عشر وللحنفي عشرة وللمالكي سبعة وللحنبلي خمسة، فامتثلوا ذلك ثم قال: لا يستنب أحد من غير مذهبه بالقاهرة وأما الضواحي فيستنيب الشافعي عز الدين الحنبلي في قضاء الشام عوضاً عن نظام الدين ابن مفلح.(3/481)
ذكر من مات
في سنة خمس وثلاثين وثمانمائة من الأعيان.
أحمد بن إسماعيل، الأشيطي الشيخ شهاب الدين، تفقه قليلاً، ولزم قريبه الشيخ صدر الدين الأبشيطي، وأدب جماعة من أولاد الأكابر، ولهج بالسيرة النبوية فكتب منها كثيراً إلى أن شرع في جمع كتاب حافل في ذلك، وكتب منه نحواً من ثلاثين سفراً يحتوي على سيرة ابن إسحاق وما وضع عليهما من كلام السهيلي وغيره وعلى ما احتوت عليه المغازي للواقدي، وضم إلى ذلك ما في السيرة للعماد بن كثير وغير ذلك، وعنى بضبط الألفاظ الواقعة فيها؛ ومات في سلخ شوال وقد جاوز السبعين.
أحمد بن صالح بن محمد بن محمد بن أبي السفاح، شهاب الدين ابن السفاح كاتب السر بحلب ثم بالديار المصرية، ولد سنة 72، وسمع من الكمال ابن حبيب وجماعة من الحلبيين، وحفظ القرآن. وتعانى الكتابة في التوقيع إلى أن مهر فيه، وولي نظر الجيش بحلب، فباشر التوقيع عند يشبك بعد أخيه ناصر الدين، ثم ولي كتابة السر بصفد ثم بحلب مرتين، ثم قدم القاهرة واستقر في توقيع السلطان قبل سلطنته، فلما تسلطن استقر به كاتب السر ابن الكوين في كتابة السر ببلده بحلب إرادة للراحة منه، فتوجه إليها بعد أن كان يباشر توقيع الدست مدة، فلما كان من وفاة الشريف شهاب الدين كاتب السر ما كان وتبعه أخوه أو بكر شغرت وظيفة كاتب السر وذكر لها جماعة، فاقتضى رأي السلطان تقرير هذا فأرسل إليه، فقدم في شهر رمضان سنة ثلاث(3/482)
من حلب، واستقر في أواخره، واستمر فيها إلى أن وعك في شهر رمضان هذه السنة فلم يلبث سوى خمسة أيام ومات. وكان قليل الشر غير مهاب ضعيف التصرف قليل العلم جداً، وكان السلطان يمقته في طول ولايته مع استمرار خدمته له ببدنه وماله، ويقول إنه أزعجه بشئ هدده به فضعف قلبه من الرعب ومات منها؛ قال القاضي علاء الدين: هو أخي من الرضاعة وكان صديقي وفيه حشمة ومروءة وعصبية وقيام في حاجة من يقصده؛ ومات في ليلة الأربعاء 14 رمضان عن ثلاث وستين، وعينت بعده للقاضي شهاب الدين ابن الكشك قاضي الحنفية بدمشق فعاد جوابه بالإستعفاء فعيب عليه، والتزم بمال يحمله بسبب الإعفاء، وعين القاضي كمال الدين البارزي، فإلى أن يحضر استقر الوزير كريم الدين مضافاً إلى الوزارة، واستقر في الأستادارية آقبغا الجمالي إلى أن قدم جمال الدين.
أحمد بن تقي الدين عبد الرحمن بن العلامة جمال الدين بن هشام، المصري النحوي شهاب الدين، اشتغل كثيراً بمصر، وأخذ عن الشيخ عز الدين ابن جماعة وغيره. وفاق في العربية وغيرها، وكان يجيد لعب الشطرنج، وانصلح بأخرة، وسكن دمشق فمات بها في رابع جمادى الآخرة.
أحمد بن عثمان بن محمد بن عبد الله، الحنفي ابن الكلواتاني الشيخ شهاب الدين، ولد في شهر رمضان سنة ست وستين وسبعمائة، وأجاز له قديماً القاضي عز الدين ابن جماعة،(3/483)
وأحب الحديث بعناية صديق أبيه شمس الدين ابن الوفاء فسمع وهو مترعرع منه الكثير، ثم طاف على الشيوخ في سنة تسع وتسعين وسبعمائة وهلم جرا إلى أن مات، ما فتر ولا ونى ولكنه لم ينجب ولم ينتقل عن الحد الذي ابتدأ فيه في الفهم والمعرفة والحفظ والقراءة درجة بل كان شديد الحرص على الاشتغال في الحديث والفقه والعربية والقراآت، وأعلى من عنده بالسماع ناصر الدين محمد بن علي الحراوي صاحب الدمياطي، وسمع من أصحاب ابن الصواف وابن القيم ثم من أصحاب أصحاب النجيب ثم من أصحاب أصحاب الفخر ثم من أصحاب ست الوزراء وابن الشحنة والواني والدبوسي والحنفي ثم من بعدهم حتى قرأ على أقرانه ومن سمع بعده، وخرج لنفسه شيئاً لم يكمله، وشرع في اختصار تهذيب الكمال فكتب منه شيئاً وتركه، ونسخ بخطه من تصانيف شيوخنا ثم من تصانيف أقرانه كالقاضي ولي الدين وكاتبه وغيرهما شيئاً كثيراً، وخطه ردئ وفهمه بطئ ولحنه فاشي لكنه كان ديناً خيراً كثير العبادة، على وجهه وضاءة الحديث، وكان في أكثر عمره متقللاً من الدنيا حتى كان يتكسب بالشهادة، ثم قرر في قراءة الحديث في القلعة بأخرة بعد الشيخ سراج الدين قارئ الهداية، ومات في 14 جمادى الآخرة.
جينوس بن جاكم بن بيدو بن أنطون بن جينوس متملك قبرس وصاحب الواقعة مع المسلمين، هلك واستقر ابنه في قبرس بعده.
حسين بن علاء الدولة بن أحمد بن أويس، آخر ملوك العراق من ذرية أويس، وكان اللنك أسره وأخاه حسناً، وحملهما إلى سمرقند ثم أطلقا، فساحا في الأرض فقيرين مجردين، فأما حسن فاتصل بالناصر فرج وصار في خدمته ومات عنده قديماً. وأما حسين فتنقل في البلاد إلى أن دخل العراق فوجد شاه محمد بن شاه ولد بن أحمد بن أويس وكان أبوه صاحب البصرة فمات فملك ولده شاه محمد، فصادفه حسين قد حضره الموت فعهد إليه بالمملكة فاستولى على البصرة وواسط وغيرهما ثم حاربه أصبهان شاه(3/484)
بن قرا يوسف، فانتمى حسين إلى شاه رخ بن اللنك، فتقوى بالانتماء إليه وملك الموصل واربل وتكريت وكانت مع قرا يوسف، فقوي اصبهان شاه واستنقذ البلاد وكان يخرب كل بلد ويحرقه - إلى أن حاصر حسيناً بالحلة منذ سبعة أشهر، ثم ظفر به بعد أن أعطاه الامان فقتله خنقاً في ثالث صفر هذه السنة.
خالد بن قاسم بن محمد، العاجلي ثم الحلبي زين الدين، ولد في رمضان سنة 753، ولازم القاضي شرف الدين بن فياض وولده أحمد، واخذ عن شمس الدين ابن اليانونية، وأحب مقالة ابن تيمية، وكان من رؤوس القائمين مع أحمد بن البرهان على الظاهر، وهو آخر من مات منهم، وتنزل بالآثار النبوية، وكان قد غلب عليه حب المطالب فمات فلم يظفر بطائل، ونزله المؤيد بمدرسته في الحنابلة؛ ومات في ثالث ذي الحجة.
عبد الله بن نور الدين محمد بن قطب الدين عبد الله بن حسن بن يوسف بن عبد الحميد بن أبي الغيث، البهنسي قطب الدين، ويقال له أيضاً جمال الدين، ولد في رجب سنة 755، واشتغل وسمع الحديث وقال الشعر وكان موسراً لكنه كان كثير التقتير على نفسه جداً وأصيب في عقله بأخرة وأكمل الثمانين؛ مات في شهر رمضان. قرأت بخط الشيخ تقي الدين المقريزي: أنشدني جمال الدين البهنسي لنفسه:
إذا الخل قد فاجاك بالهجر فاسطبر ... وسامح له واغفر بنصح وداره
فإن عاد فاقتله ولا تذكر اسمه ... فحول طريق القصد عن باب داره(3/485)
عبد الرحمن بن علي بن عبد الرحمن بن علي بن هاشم، التفهني القاضي زين الدين الحنفي، ولد سنة بضع وستين، وسأل اخاه شمس الدين أحد من ينوب في الحكم عن النائب بها عن مولده فذكر أنه ولد سنة 43 وأنه أسن من القاضي زين الدين بعشرين سنة، ولست أرتاب في مجازفته في كل ذلك، ومات أبوه وهو صغير فانتقل إلى القاهرة وهو شاب، وتنزل في مكتب اليتامى بمدرسة صرغتمش، ثم ترقى إلى أن صار عريفاً وتنزل في الطلبة هناك، ولازم الاشتغال ودار على الشيوخ فمهر في الفقه والعربية وجاد خطه وشهر اسمه وخالط الأتراك وصحب بدر الدين محمود الكلستاني كاتب السر فاشتهر ذكره، وناب في الحكم عن الطرابلسي ثم عن ابن العديم كمال الدين ونوه به كمال الدين عند الأكابر، وكان قد تقرر في طلب الشيخونية كمال الدين مشيختها فصار من أفاضلهم، وولي تدريس الصرغتمشية بعناية ابن العديم بعد أن تنازع فيها هو والشيخ شرف الدين التباني، وحصرها التباني ثم انتزعها منه، وتزوج فاطمة بنت شهاب الدين المحلي كبير التجار بمصر ثم انتزعها منه، وسعى في قضاء الحنفية بعد موت ناصر الدين ابن العديم، وراج أمره ثم لم يتم ذلك وولي شمس الدين بن الديري، ثم لما قرر المؤيد الديري في مشيخة المؤيدية فوض إليه قضاء الحنفية في ذي القعدة سنة اثنتين وعشرين فباشره مباشرة حسنة، وكان حسن العشرة، كثير العصبية لأصحابه، عارفاً بأمور الدنيا عارفاً بمخالطتهم، على أنه يقع منه في بعض الأمور لجاج شديد يعاب به ولا يستطيع أن يتركه، وصرف عن القضاء في سنة تسع وعشرين وبالعيني، ثم أعيد في سنة ثلاث وثلاثين، ثم صرف قبل موته في جمادى الآخرة؛ ومات تاسع شوال، وقد انتهت إليه رياسة أهل(3/486)
مذهبه، ويقال إن أم ولده دست عليه سماً، لأن زوجته لما ماتت ظنت أم ولده أنها تنفرد به، فتزوج امرأة وأخرج الأمة فحصلت لها غيرة، والعلم عند الله تعالى - والله يسامحه.
عمر بن أبي بكر بن عيسى بن عبد الحميد، المغربي الأصل البصروي زين الدين، قدم دمشق فاشتغل بالفقه والعربية والقراآت وفاق في النحو، وشغل الناس وهو بزي أهل البر، وكان قانعاً باليسير حسن العقيدة، موصوفاً بالخير والدين، سليم الباطن، فارغاً من الرياسة؛ مات في 4 جمادى الآخرة.
عيسى بن محمد بن عيسى، الأقفهسي شرف الدين أحد نواب الحكم، تفقه وعرف كثيراً من الفروع وكان يستحضرها، وناب في الحكم مدة طويلة؛ ومات في جمادى الآخرة، ولم يكن مشكوراً، وأظنه جاوز الثمانين وكان يذكر أنه حضر درس الشيخ جمال الدين الأسنوي ثم لازم شيخنا البلقيني وقرأ عليه في تاج الأصول، ورأيت خطه له بذلك، وفيه أنه أذن له في التدريس، وفيه إلحاق الفتوى بخط شرف الدين نفسه الذي لا يخفي فوق قشط، وكانت إجازة الشيخ له في سنة 75، فعاش بعدها ستين سنة، وكان يذكر أنه ناب في الحكم في بعض البلاد عن البرهان ابن جماعة - سامحه الله تعالى.
محمد بن سعد الدين، جمال الدين، ملك الحبشة المسلمين، قتل في جمادى الآخرة، وكانت ولايته بعد فقد أخيه منصور في سنة ثمان وعشرين، وكان شجاعاً بطلاً مديماً لجهاد وكان عنده أمير يقال له حرب جوس، كان نصرانياً فأسلم فحسن إسلامه، وكان لا يطاق في القتال، فهزم الحبشة الكفار مراراً وأنكأ فيهم، وغزاهم جمال الدين مرة ومعه حرب جوس فغنم غنائم عظيمة حتى بيع الرأس الرقيق بربطة ورق،(3/487)
وانهزم منهم مرة الحطي صاحب الحبشة، ولم يزل جمال الدين على طريقته في الجهاد حتى ثار عليه بنو عمه فقتلوه في هذه السنة، وكان من خير الملوك ديناً ومعرفةً وقوةً وديانةً، وكان يصحب الفقهاء والصلحاء، وينشر العدل في أعماله حتى في ولده وأهله، ومن جملة سعده هلالك الحطي إسحاق بن داود بن سيف أرغد في أيامه في سنة ثلاث وثلاثين، وأقيم بعده اندراس، واسلم على يد جمال الدين خلائق من الحبشة، واستقر بعده في مملكة المسلمين أخوه شهاب الدين أحمد ويلقب بدلاي، فأول ما صنع جد حتى وجد قاتل أخيه فاقتص منه.
محمد أبو عبد الله بن صاحب المغرب أبي فارس عبد العزيز، مات وكان ولي عهد أبيه، وأسف عليه أبوه أسفاً كثيراً، وكان موصوفاً بالشهامة ومكارم الأخلاق، لا يعرف له صبوة إلا في الصيد، وكان أبوه قد تخلى له عن الملك غير مرة فيمتنع ويبالغ في الامتناع، فقدرت وفاته بطرابلس المغرب بزاويته التي أنشأها هناك، وكثر الأسف عليه، ويقال إنه كان مغرماً بالجواري، وكان أبوه يعرف ذلك فكان يقول له: إياك والنساء ويكرر ذلك في المجلس حتى يخجله ولا يرتدع، وكان حدث له ورم في ركيتيه، فكان أبوه يخشى عليه من كثرة الجماع. فقدر أن وفاته كانت بسبب ذلك فيما يقال.
محمد بن ناصر الدين محمد بن محمد، الحافظ تاج الدين الكركي ابن الغرابيلي سبط العماد الكركي، ولد سنة ست وتسعين بالقاهرة حيث كان جده لامه ونقله أبوه إلى الكرك حيث عمل إمرتها، ثم تحول به إلى القدس سنة سبع عشرة، فاشتغل وحفظ عدة مختصرات كالكافية لابن الحاجب والمختصر الأصلي والإلمام والألفية في الحديث، ولازم الشيخ عمر البلخي فبحث عليه في العضد والمعاني والمنطق، وتخرج أيضاً بنظام الدين قاضي العسكر(3/488)
وبابن الديري الكبير، ومهر في الفنون إلا الشعر، ثم أقبل على الحديث بكليته فسمع الكثير وعرف العالي والنازل، وقيد الوفيات وغيرها من الفنون، وشرع في شرح على الإلمام، وذكر لي بعض اصحابه أنه أقبل على الحديث من سنة خمس وعشرين، فأقبل لي النظر في التواريخ والعلل، وسمع الكثير ببلده، ورحل إلى دمشق ورحل إلى القاهرة فلازمني إلى أن حرر نسخته من المشتبه غاية التحرير، واغتبط به الطلبة لدماثة خلقه وحسن وجهه وفعله، وقدرت وفاته في جمادى الآخرة بعد أن هم بالحج صحبة ابن المرأة فلم يتهيأ له ذلك، ووعك إلى إن مات وكان من الكملة فصاحة لسان وجرأة ومعرفة وقياماً مع أصحابه ومروءة وتودداً وشرف نفس وقناعة باليسير وإظهاراً للغني مع قلة الشيء، وقد عرض عليه كثير من الوظائف الجليلة فامتنع واكتفى بما كان يحصل له من شيء كان لأبيه، وكان الأكابر يتمنون رؤيته والاجتماع به لما يبلغهم من جميل أوصافه، فيمتنع إلا أن يكون الكبير من أهل العلم - رحمه الله تعالى.
يحيى بن عبد الله، القبطي علم الدين أبوكم، باشر نظر الأسواق ثم ولي الوزارة في دولة الناصر فرج، ثم خمل وحج وجاور بمكة مرة - إلى أن مات في 22 رمضان بالقاهرة وقد جاوز السبعين، وكان إسلامه حسناً.(3/489)
سنة ست وثلاثين وثمانمائة
في المحرم حولت السنة الخراجية على العادة، وكان أول السنة الخراجية ثاني يوم المحرم، وكان أوله يوم الجمعة فأول السنة الخراجية يوم السبت، وكان الذهب الأشرفي حينئذ بمائتين وسبعين، وانتهت زيادة النيل إلى خمسة أصابع بعد العشري، وفي السادس والعشرين منه غضب السلطان على آقبغا الجمالي الأستادار وضربه بحضرته عدة مقارع ونحو ثلاثمائة عصا على ما قيل، وأنزل على حمار إلى بيت والي الشرطة وأعيدت الاستادراية إلى الوزير، وانفصل من ولاية كتابة السر، وكوتب جمال الدين محمد بن ناصر الدين محمد البازري وكان قد استقر قاضي الشافعية ليلى كتابة السر، فوصل في أول الجمعة تاسع عشر ربيع الأول، ولم يلبث حتى حمل المال الذي قرر عليه بسبب ذلك، وخلع عليه في يوم السبت العشرين منه، وقرئ تقليده في يوم الخميس ثامن جمادى الأولى، فلم يقم إلا قليلاً حتى تحرك السلطان للسفر إلى الشام فخرج معه، واستقر في قضاء دمشق صهره بهاء الدين ابن حجي، وعرضت كتابة السر على شهاب الدين ابن الكشك، فاعتذر بضعف بصره، فقرر فيها تاج الدين عبد الوهاب بن أفتكين وكان أحد الموقعين بها ويتوكل عن كاتب سر مصر ابن مزهر، وكان الشتاء في هذه السنة معتدلاً بحيث لم يقع به برد شديد سوى أسبوع، وبقيته يشبه مزاجه فصل الربيع في الاعتدال، وفي هذا الشهر أظهر السلطان الجد في التوجه إلى بلاد الشمال، وأعلم الناس بذلك فتجهزوا، وفي حادي عشر جمادى الآخرة أنفق على العسكر ثم أنفق في - المماليك السلطانية والأمراء في سلخ جمادى الآخرة - وهم ألف وسبعمائة.(3/490)
وفي ربيع الأول استقر محيي الدين يحيى بن حسن بن عبد الواسع الحيحاني المالكي في قضاء دمشق عوضاً عن الشهاب الأموي بحكم وفاته، وفي ثاني عشر شهر رجب أدير المحمل المكي بغير زينة ولا سوق الرماحة ولا رمي النفط ولم يصل المحمل إلى مصر على العادة بل رجعوا به من الصليبية.
وفيها حج صاحب التكرور في جمع كثير، فلما رجع من الحج سار إلى الطور ليركب البحر، فمات ودفن بالطور.
وفي رجب كائنة القاضي سراج الدين الحمصي بطرابلس مع الشيخ شمس الدين ابن زهرة شيخ الشافعية بطرابلس، وذلك أنه بلغه ما وقع بين علاء الدين البخاري والحنابلة في أمر الشيخ تقي الدين ابن تيمية وأن البخاري أفتى بأن ابن تيمية كافر وأن من سماه شيخ الإسلام يكفر، فاستفتى عليه بعض من يميل لابن تيمية من المصريين فاتفقوا على تخطئته في ذلك وكتبوا خطوطهم، فبلغ ذلك الحمصي فنظم قصيدة تزيد على مائة بيت بوفاق المصريين، وفيها أن من كفر ابن تيمية هو الذي يكفر، فبلغ ذلك ابن زهرة فقام عليه فقال: كفر القاضي، فقام أهل طرابلس على القاضي وأكثرهم يحب ابن زهرة ويتعصب له، ففر الحمصي إلى بعلبك وكاتب أهل الدولة، فأرسلوه له مرسوماً بالكف عنه واستمراره على حاله، فسكن الأمر.
وفي صفر استقر في نيابة البحيرة حسن بك بن سالم الدكري أحد أمراء التركمان، وخلع عليه وأمر له بمائة قرقل ومائة قوس ومائة تركاش وثلاثين فرساً،(3/491)
وفي أواخره ضربت رقبة نصراني كان أسلم خوفاً من الوالي لأنه ظفر به مع امرأة مسلمة ثم بدا له بعد ثلاثة أيام فارتد، فقتل فأحرقت جثته، وفي سابع عشر جمادى الآخرة أعيد دولات خجا إلى ولاية القاهرة.
ذكر السفرة الشمالية
في يوم الجمعة تاسع عشر شهر رجب
وهو أول يوم نزلت فيه الشمس الحمل رحل السلطان من الريدانية قبل صلاة الجمعة بقدر نصف ساعة، فصلينا الجمعة بالقاهرة وسرنا فبتنا مع العسكر بالعكرشة، ورحل سحراً فوصل بلبيس قبل الظهر، ورحل طلوع الفجر فنزل الحطارة بعد الظهر، ورحل نصف الليل فوصل الصالحية بعد طلوع الشمس يوم الاثنين، ثم رحل منها في ثالثة الثلاثاء إلى الغرابي فنزلها بعد العشاء بكثير فقطع أربعة برد: بتر الوالي ثم العقولة ثم بتر حبوة ثم الغرابي، ورحل يوم الأربعاء وقت الزوال فوصل قطيا بعد العصر والأثقال بعد المغرب، وأقام إلى أن رحل منها بكرة الجمعة فوصل السوادة بعد العشاء، وهي ثلاث برد -: معن ثم المطيلب ثم السوادة، ثم رحل(3/492)
قبل طلوع الشمس فوصل إلى العريش بعد العشاء وهي ثلاثة برد الورادة ثم برد ويل فبات بالعريش ليلة الأحد ورحل في الثالثة إلى الحروبة ثم الزعقة قبل المغرب، ثم رحل بعد نصف الليل أول يوم من شعبان فاجتاز على رفخ ثم خان يونس ثم نزل خارج غزة، ثم دخلها وقت العصر سلخ رجب فدخلها - في موكب عظيم فبات خارجها إلى جهة الشام، وسلمنا على السلطان يوم الثلاثاء وهنأناه بالسلامة وبالشهر، وكان ثبت عندهم يوم الاثنين، وحصل من الجند في زرع الناس فساد كبير، وأقام بها ليلة الخميس فرحل فوصل إلى المجدل بعد طلوع الشمس، ونزل بموضع يقال له السكرية، ووقع في تلك الليلة برد شديد عند السحر أشد من الشتاء المعتاد بعد إن كان في النهار شديداً إلى الغاية، ورحل بعد المغرب على طريق العوجاء ولم يدخل الرملة واجتاز بسازور، ورحل قبل طلوع الشمس يوم السبت إلى قاقون وهي منزلة نزهة لكثرة الخضرة والنضارة فنزل بعد العصر، ورحل إلى اللجون ونزل - قبل الفجر، وهي منزلة وعرة إلى الغاية فنزل بعد الظهر، ورحل يوم الاثنين أول النهار فنزل ببيسان وهي طريق وعرة بعد المغرب، ورحل قبل الفجر إلى جسر أم جامع - وحصل لهم فيه وحلة عظيمة عند القنطرتين وهناك النهر من بحيرة طبرية، فوصل إلى الكرك آخر النهار ليلة العاشر،(3/493)
وطلع العقبة وهي كثيرة الوعر مع الخضرة في أرضها فنزل بالخربة الظهر، وبات ليلة الحادي عشر فوصل نائب الشام والقضاة أول النهار وسلموا، وسار ليلة الجمعة سحراً إلى العدوانية فنزل الظهر، وفي الطريق قنطرة حصل عندها ازدحام شديد، ورحل ليلة السبت إلى شقحب بعد الظهر والطريق إليها شديد الوعر جداً، وفيه مخاضات وهي أرض فيحاء خضرة، ووصل ليلة الرابع عشر قبل الفجر إلى قبة يلبغا ورم على خان ذي النون والكسوة فبات ليلة النصف واصبح فعمل الموكب ودخل دمشق من أول النهار إلى أن وصل الخيام ببرزة، وهبت في آخر النهار ريح شديدة، وفي صبيحة يوم الثلاثاء سادس عشرة هنينا السلطان بالسلامة، وعقدت مجلس الإملاء بدمشق فاستملي القاضي نور الدين بن سالم، وحضر الحافظ شمس الدين ابن ناصر الدين والقاضي شهاب الدين ابن الكشك وجمع وافر.
وفي السابع عشر عقد مجلس بسبب وقف حكم فيه نائب الحنفي، فاعترضه الشيخ علاء الدين البخاري وأفتى بنقض حكمه، فاتفق الجماعة على استمرار الحكم ونفذوه بحضرة الدويدار الكبير، وامتنع ابن حجي من التنفيذ حتى يأذن له الشيخ علاء الدين، فلم يلتفتوا إليه، وصلينا الجمعة بالقابون، ورحل طلوع الفجر العشرين منه فنزل بمرج عذراء، ورحل بعد صالة الفجر وفي الطريق مخاضات ووعر ونزل القطيفة ووصل النبك في صبيحة الثاني والعشرين،(3/494)
ورحل وقت الظهر إلى مكان عيون القصب، واجتاز في هذه الرحلة بقارا وحسيان وكانت شديدة المشقة، ووصل هناك نائب طرابلس ونائب حماة، ورحل قبل الفجر رابع عشري شعبان إلى حمص فنزل بظاهرها يوم الخميس، ورحل منها صبح الجمعة وزار خالد بن الوليد وأمر لمن فيه بمائة دينار وكان الزحام على جسر الرستن شديداً ونزل الرستن في أرض وعرة ورحل سحرا ودخل حماة بعد طلوع الشمس يوم السبت، ورحل بعد صلاة الفجر يوم الاثنين فنزل العيون نصف الليل ورحل قبل الزوال فنزل تل السلطان وأمطرت السماء على الناس مطراً شديداً ولاقوا شدة حتى نزلوا نصف الليل تل السلطان فبات ليلة الخميس، وهنئ السلطان بالشهر ووصل قضاة حلب فسلموا وذكروا أنهم لم يروا هلال رمضان ليلة الثلاثاء ثم تبين أنه ثبت عندهم ورحل يوم الخميس ثم نزل قنسرين ليلة الجمعة، ثم رحل فنزل عين مباركة بعد الظهر يوم الجمعة، ثم دخل صبيحة السبت خامس شهر رمضان في موكب هائل إلى حلب، فنزل الشافعي عند القاضي الشافعي، والحنفي في منزل وحده، والمالكي والحنبلي جميعاً في مدرسة، وكانت الإقامة بحلب خمسة عشر يوماً وفي أثنائها استقر محي الدين ابن الشحنة في قضاء الحنفية بحلب، وكانت الوظيفة شاغرة منذ تحول بأكثر إلى القاهرة، وحضر إلى السلطان أكابر أمراء التركمان مثل ابن رمضان وابن قراجا وابن دلغار ومن أمراء العرب،(3/495)
وفي الثامن من شهر رمضان أغار.. وفي السادس عشر من شهر رمضان تقدم إلى جهة الفرات نائب طرابلس ونائب صفد ونائب حماة ونائب غزة، وجاء الخبر بان الجسر عمر وأتقن وأن قرقماس البدوي العاصي أرسل جماعة ليحرقوه فأمسك منهم أكثر من عشرين نفساً وسافر بعدهم نائب حلب في تاسع عشر شهر رمضان، ورحل السلطان وجميع العسكر في ليلة الحادي والعشرين من رمضان، وأذن للقاضيين المالكي والحنبلي في الإقامة بحلب، وسافر صحبته الشافعي، وكان الحنفي استأذنه أن يزور أهله بعينتاب فأذن له، فلما رحل السلطان من حلب أرسل إليه مرسوماً أن يلاقيه بالبيرة، وفي رابع عشري رمضان أغار قرقماس البدوي على ابن الأقرع البدوي فقتله واستاق من ماله نحو مائتي بعير، وخرج نائب الغيبة بحلب في طلبه فلم يظفر به، وفي يوم الجمعة اجتاز السلطان الجسر المعد على الفرات واجتاز العسكر بعده أولاً فأولاً فلم يتكاملوا إلى بقية يوم الأحد لكثرتهم، فلما كان يوم الأحد وقت الظهر أذن السلطان للقاضيين الشافعي والحنفي في الرجوع، فلما سلم عليه الشافعي خيره بين الإقامة وبالبيرة أو بحلب، فاختار التوجه صحبة الحنفي إلى عينتاب ليأكل ضيافته ببلده، ثم توجه إلى حلب، فأذن في ذلك واصحبه أميرا صحبته خمسة من الرماة، وتوجها صحبة الأمير(3/496)
فدخلا عينتاب قبل العيد بثلاثة ايام ثم صلينا العيد، وتوجهت إلى جهة حلب، وتخلف العيني ببلده أياماً ثم وصل إلى حلب في حادي عشر شوال، وفي الثامن والعشرين من شوال كسفت الشمس بعد العصر واستمرت إلى وقت الغروب فانجلت بعد أن صليت بالجماعة بالجامع الكبير صلاة الكسوف على الصورة المشروعة في السنة النبيوية فما سلمت إلا وقد انجلت، وغربت الشمس فصلينا المغرب بالجامع وانصرفنا بغير خطبة، وكنت بعد السلام من الصلاة أرسلت بعض الشهود ليصعد المنارة ليشاهد الشمس هل تم انجلاءها! فصعد وعاد بأنها انجلت انجلاء تاماً، وذكر أنه صادف في طلوعه رجلاً يفجر بشاب في سلم المنارة، وتعجبت من جرأته في مثل تلك الحالة؛ أما العسكر فاستمر السلطان حتى وصل الرها فعبروها فوجدها خالية، واستمر إلى آمد فنازلها أول يوم وقتل من الفريقين جماعة وتبين أن بها ولد قرايلك وجماعة من العسكر وهي في غاية الحصانة، فلم يقدر عليها فنصب عليها منجنيقاً أقام في عمله مدة، وتبين أن قرا يلك مقيم بجبل بالقرب من آمد، فتوجه إليه بعض العسكر وأوقع به ساقة العسكر فانهزم مكبدة، ثم عطف عليهم
لما عرف بعدهم من الجريدة فأوقع بهم فانهزموا وراموا من أمير الجريدة أن يتبعه فخشوا من كيده فتركوه، وبلغ السلطان ذلك فغضب منه، ويقال إن نائب الشام كان غضب من تقدم اينال الجكمي عليه فقصر في طلب قرا يلك مع قدرته عليه لشهامته وفروسيته، وكل شيء له أجل محدود لا يتعداه، وصاروا في شدة في زمن حصار آمد من كثرة الحر والذباب ووخم الأرض من الجيف المقتولة، وعزت الأقوات فوضعوا أيديهم في الزروع التي في ضواحي البلد فأفسدوها، ونقلوا ما بها من الشؤن فتوسعوا به، واتخذوا أرحية ليطحن لهم غلمانهم فيقتاتوا بذلك، ودام الأمر خمسة وثلاثين يوماً إلى أن ملوا ولم يظفروا بشيء فتراسلوا في الصلح، فاستقر الأمر على أن يخطب للسلطان ببلاده، وأن لا يتعرض لأحد من جهة السلطان ولا من معاملات بلاده، ولا يمكن أحداً من جهته يقطع طريق التجار ولا القوافل وأن يسلم أكثرها فأجاب إلى ذلك وانتظم الأمر، وتوجه القاضي شرف الدين سبط ابن العجمي كبير موقعي الدست لتحليفه فحلفه ورجع، وتوجه السلطان بالعساكر إلى الرها فدخلها في تاسع عشر ذي القعدة، وقرر بها نائباً اينال الأجرود الذي كان نائباً بغزة، وجعل عنده مائتي مملوك ليحفظها، وأعطاه تقدمة قانباي البهلوان بحلب، وأعطى قانباي تقدمة تغرى بردى المحمودي بدمشق وقدم إلى حلب، فتلقيناه بالباب وبزاعة في اليوم الأحد رابع عشري ذي القعدة، ودخل حلب في ليلة الاثنين بغير موكب، وأقام بالمخيم أيضاً، واستهل به شهر ذي الحجة، ثم خرج منها يوم السبت السابع منه، فدخل دمشق يوم الخميس التاسع عشر منه ونزل بقلعتها، ونزل الجند ينهبون الناس وحصل الضرر بهم ولكن لم يفحش، ثم رحل منها يوم السبت الثاني والعشرين منه، وفي مستهل ذي الحجة أرسل قرقماس بن نعير ولده إلى السلطان بهدية سنية، ومن جملتها فرس كان اشتراه بألف دينار، ورد على السلطان فرساً سرقه منه تركمانيان فظفر به معهما فجهزهما مع الفرس، فأعجب السلطان ذلك وخلع على ولده وأمر بشنق التركمانيين؛ وذكر الشيخ شهاب الدين أبو بكر بن محمد بن شادي الحصني أين يعقوب بن قرايلك أمير خرت برت على معتقد النسيمي المقتول بحلب، وأنه يرى تحريم معاملة خادم الحرمين وأرسل ينكر على أبيه، وكذا أنكر عليه أخوه علي بك أمير كماخي، وأن قرا يلك راسل اينال الأجرود يتهدده، فأراد قتل رسوله ثم شفع فيه وضربه ورده رداً عنيفاً؛ فبلغ ذلك قرا يلك فندب عسكره إلى القتال فامتنعوا، وأنه بلغه أن السلطان أراد العود إلى آمد فأمر بإحراق جميع المراعي التي حولها وكان قرايلك خرج من آمد إلى أرمس وترك بآمد ولده، فلما زحف العسكر على آمد قتل مراد بك بن قرا يلك بسهم، ونزل محمود بن قرا يلك في عسكر على جبل مشرف على العسكر فصار يتحدى من خرج، فندب السلطان سرية فأحضروا عشرين رجلاً منهم فوسطوا تجاه القلعة. لما عرف بعدهم من الجريدة فأوقع بهم فانهزموا وراموا من أمير الجريدة أن يتبعه فخشوا من كيده فتركوه، وبلغ السلطان ذلك فغضب منه، ويقال إن نائب الشام كان غضب من تقدم اينال الجكمي عليه فقصر في طلب قرا يلك مع قدرته عليه لشهامته وفروسيته، وكل شيء له أجل محدود لا يتعداه، وصاروا في شدة في زمن حصار آمد من كثرة الحر والذباب ووخم الأرض من الجيف المقتولة، وعزت الأقوات فوضعوا أيديهم في الزروع التي في ضواحي البلد فأفسدوها، ونقلوا ما بها من(3/497)
الشؤن فتوسعوا به، واتخذوا أرحية ليطحن لهم غلمانهم فيقتاتوا بذلك، ودام الأمر خمسة وثلاثين يوماً إلى أن ملوا ولم يظفروا بشيء فتراسلوا في الصلح، فاستقر الأمر على أن يخطب للسلطان ببلاده، وأن لا يتعرض لأحد من جهة السلطان ولا من معاملات بلاده، ولا يمكن أحداً من جهته يقطع طريق التجار ولا القوافل وأن يسلم أكثرها فأجاب إلى ذلك وانتظم الأمر، وتوجه القاضي شرف الدين سبط ابن العجمي كبير موقعي الدست لتحليفه فحلفه ورجع، وتوجه السلطان بالعساكر إلى الرها فدخلها في تاسع عشر ذي القعدة، وقرر بها نائباً اينال الأجرود الذي كان نائباً بغزة، وجعل عنده مائتي مملوك ليحفظها، وأعطاه تقدمة قانباي البهلوان بحلب، وأعطى قانباي تقدمة تغرى بردى المحمودي بدمشق وقدم إلى حلب، فتلقيناه بالباب وبزاعة في اليوم الأحد رابع عشري ذي القعدة، ودخل حلب في ليلة الاثنين بغير موكب، وأقام بالمخيم أيضاً، واستهل به شهر ذي الحجة، ثم خرج منها يوم السبت السابع منه، فدخل دمشق يوم الخميس التاسع عشر منه ونزل بقلعتها، ونزل الجند ينهبون الناس وحصل الضرر بهم ولكن لم يفحش، ثم رحل منها يوم السبت الثاني والعشرين منه، وفي مستهل ذي الحجة أرسل قرقماس بن نعير ولده إلى السلطان بهدية سنية، ومن جملتها فرس كان اشتراه بألف دينار، ورد على السلطان فرساً سرقه منه تركمانيان فظفر به معهما فجهزهما مع الفرس، فأعجب السلطان ذلك وخلع على ولده وأمر بشنق التركمانيين؛ وذكر الشيخ شهاب الدين أبو بكر بن محمد بن شادي الحصني أين يعقوب بن قرايلك أمير خرت برت على معتقد النسيمي المقتول بحلب، وأنه يرى تحريم معاملة(3/498)
خادم الحرمين وأرسل ينكر على أبيه، وكذا أنكر عليه أخوه علي بك أمير كماخي، وأن قرا يلك راسل اينال الأجرود يتهدده، فأراد قتل رسوله ثم شفع فيه وضربه ورده رداً عنيفاً؛ فبلغ ذلك قرا يلك فندب عسكره إلى القتال فامتنعوا، وأنه بلغه أن السلطان أراد العود إلى آمد فأمر بإحراق جميع المراعي التي حولها وكان قرايلك خرج من آمد إلى أرمس وترك بآمد ولده، فلما زحف العسكر على آمد قتل مراد بك بن قرا يلك بسهم، ونزل محمود بن قرا يلك في عسكر على جبل مشرف على العسكر فصار يتحدى من خرج، فندب السلطان سرية فأحضروا عشرين رجلاً منهم فوسطوا تجاه القلعة.
وفيها حاصر إسكندر بن قرا يوسف قلعة ساهي وكان صاحبها من نوابه، فلما رجع إسكندر من محاربته مع شاه رخ أرسل إليه النائب ولده ليهنئه بالسلامة، وكان شاباً جميلاً فحبسه عنده يرتكب منه الفاحشة فيما قيل، ثم أرسله لأبيه، فلما أخبر أباه بما جرى له عصى على إسكندر فتوجه إليه وحاصره فلم يظفر منه بشيء، وكان للإسكندر في تلك القلعة عدة من النساء فخشي عليهن من أيدي أعاديه لحصانتها، فنفذ الأمير إلى النسوة المذكورات فقسمهن بينه بين ولده الذي أفحش فيه الإسكندر وبين ابن عمه وجعلوهن بمنزلة السراري لهم، فبلغ ذلك الإسكندر فزاد في حنقه.
وفي ذي الحجة توقف النيل عن العادة ونقص منه عدة أصابع قبل الوفاء واستمر ذلك ستة أيام، فضج الناس وغلا السعر قليلاً، ثم وقعت الزيادة وأوفى وكان ما سنذكره في السنة المقبلة إن شاء الله تعالى.
وفي هذه السنة قبض ايدكي بن أبي يزيد بن عثمان صاحب الروم على أخيه أرصر بك فأكحله وسجنه مدة طويلة، فاتفق أنه مات في هذه السنة وكان له مملوك يخدمه في السجن اسمه طوغان فدس له جارية في صورة مملوك فأقامت عنده للوطىء حتى اشتملت(3/499)
منه على حمل فولدت منه ذكراً سماه سليمان وبنتاً فلما مات أخذهما طوغان وأمهما وهرب بهم من السجن إلى حلب فلاقى السلطان لما عاد من آمد وشكا له حاله، فأكرمه وجهز الأخوين إلى القاهرة ورتب له راتباً وأسكنهما القلعة إلى أن جرى لهما ما سيأتي ذكره في سنة أربعين.
ذكر الحوادث
في غيبة السلطان الأشرف بالقاهرة
قرأت بخط الشريف صلاح الدين الاسيوطي في أوائل شعبان: دخل سائل إلى السوق الحاجب يسال فقال له تاجر: يفتح الله! فتناول من يد التاجر أوراق حساب خطفاً وخرج هارباً، فاتبعه التاجر ليأخذ منه الحساب - فخطف من جزار سكينة وضرب بها التاجر فمات في الحال وأظهر الفقير التجانن فحمل إلى المارستان، وذهب دم التاجر هدراً.
وفي رمضان تخاصم أقيماوي ولحام على نصف فضة فخنق أحدهما الآخر فوقع مغشياً عليه فمات بعد يومين، وتخاصم اثنان من المسحرين فضرب أحدهما الآخر فسقط ميتاً، وطلق عجمي زوجته ثم ندم فتبعها في زقاق فضربها بسكين فماتت، وتزوج بعض مشاهير البزازين بنت أمير فعشقت عليه عبداً أسود فأدخلته في زي امرأة وقالت لزوجها إنها بنت أمير كبير، فعمل لها ضيافة وجلست يومها مع ذلك العبد والزوج لا يجسر على دخول البيت إكراماً لها، فلما دخل الليل سألته أن يبيت في طبقة وحده وتبيت هي مع حوند إكراماً لها، فقبل ذلك ونامت هي مع محبوبها فسكرا فسولت لها نفسها أن اتفقت معه أن يقتل زوجها فهجم عليه بسكين فضربه فخابت الضربة، فاستغاث فأمسك العبد وضرب فأقر فأمضى فيه الحكم. وأما الزوجة فحلفت لزوجها أنها هي وبنت الأمير باتتا تلك الليلة وما علمتا بقصة ذلك العبد أصلاً، فصدقها واستمر معها.
وفها احترق بيت البرهان المحلي التاجر الذي على شاطئ النيل بمصر، وكان أعجوبة الدهر في إتقان اليناء وكثرة الرخام والزخرفة والمنافع الكثيرة من القاعات والأروقة،(3/500)
فاحترق جميعه وسلمت المدرسة التي بجواره وهي من إنشاء المحلي أيضاً، وكان يقال إن مصروف بيت المحلي المذكور خمسون ألف مثقال ذهباً، وذلك في شعبان، ووقع الجريق في مصر والقاهرة في عدة أماكن لكنها لا يقارب هذا، وكان سعر القمح بكل دينار أشرفي إردب ونصف مصري يكون ثمنها من الفضة بالوزن ستة دراهم الإردب، ومن الفضة الكاملة دون العشرة وهذا في نهاية الرخص، وحج بالناس أينال الششماني والحاج قليل جداً فساروا ركباً واحداً، وفي غيبة السلطان وقع في عدة أماكن الحريق، منها بيت المحلي كما تقدم، واحترقت غلال كثيرة في الجرون بناحية شيبين القصر.
وفي رابع عشر ذي القعدة خسف القمر، في ليلة الثالث عشر من جمادى الأولى خسف القمر كله قدر ثلاث ساعات، وفي الثامن عشر جمادى الآخرة أسفر اسنبغا الطياري إلى جدة لتحصيل المكوس الهندية، وأرسل معه سعد الدين ابن المرأة كاتباً على عادته واسنبغا شاداً عليه، وسافر معه جماعة لقصد المجاورة من تجار وغيرهم.
وفيها قدم مقبل الرومي نائب صفد وقدم هدية هائلة وخلع عليه خلعة استمرار، وتوجه إلى بلاده في جمادى الأولى، وكانت له إلى الآن في نيابة صفد نحو عشر سنين.
وفي شهر رمضان منها ذكر لي رفيقنا الفاضل إبراهيم بن حسن ابن عمر البقاعي أنه رأى ي النوم قبل إن ندخل إلى حلب أن السلطان مات وأنه صار يتعجب من كونه مات على فراشه واستيقظ ثم لم يظهر لنا تعبير ذلك المنام والعلم عند الله تعالى.(3/501)
وفيها انتزع أصبهان ابن قرا يوسف بغداد من مراد بن محمد فبعث أربعين رجلاً في زي القلندرية وقرر معهم أن يقتلوا البوابين ويفتحوا له الباب في يوم معين ففعلوا ففر محمد، ثم استولى أصبهان على بغداد فسار فيها أفحش سيرة - ولله الأمر.
ذكر من مات
في سنة ست وثلاثين وثمانمائة من الأعيان
إبراهيم بن حجاج، الأبناسي برهان الدين، اشتغل كثيراً وسكن زاوية سميه الشيخ برهان الدين الأبناسي، وانتفع الطلبة له؛ ومات بعد ضعف طويل في سابع عشري ربيع الآخر.
أحمد الملك الأشرف بن العادل سليمان ابن المجاهد غازي بن الكمال محمد(3/502)
بن العادل أبي بكر بن الأوحد عبد الله بن المعظم توران شاه بن الصالح نجم الدين أيوب صاحب مصر ابن الكامل محمد صاحب مصر ابن العادل أبي بكر صاحب مصر ابن الأمير نجم الدين أيوب بن شادي بن مروان - الأيوبي صاحب حصن كيفا وكان خرج في عسكره لملاقاة السلطان على حصار آمد فاتفق انه نزل لصلاة الصبح فوقع به فريق من التركمان فأوقعوا به على غرة فقتل، ووصل بقية أصحابه وولده إلى السلطان، فقرر ولده في مملكة أبيه، وكان فاضلاً ديناً، له شعر حسن، وقفت على ديوانه وهو يشتمل على نوائح في أبيه وغزل وزهديات، وغير ذلك، وكان جواداً محباً في العلماء - رحمه الله تعالى! واستقر في مملكته ولده الملك الصالح خليل وهو على طريقة والده في محبة العلماء خصوصاً الشافعية، وله نظم أيضاً، وقدم أخوه شرف الدين يحيى بتقدمة أخيه على السلطان بآمد، فخلع عليه وكتب عهد أخيه ولقب بالملك الكامل، وسار في بلاده سيرة حسنة ونشر العدل، واستوزر القاضي زين الدين عبد الرحمن بن عبد الله بن المجير وهو قاضي شافعي عالم حسن السيرة، ووقع من قرا يلك تعرض للإفساد ببعض بلاده فأرسل إليه يهدده، فخضع له وصالحه على أن كلاً منهما لا يتعرض لبلاد الآخر - واستمر الصلح بينهما.
أحمد بن عبد الله بن محمد بن محمد، الأموي القاضي شهاب الدين المالكي، نشأ بدمشق وتعاطى الشهادة وكتب جيداً وخدم البرهان التادلي ثم ولي قضاء طرابلس، ثم ولي قضاء دمشق سنة خمس وثمانمائة نحو ثلاثة اشهر، ثم أعيد سنة ست وثمانمائة فامتنع النائب من إمضاء ولايته، ثم ولي من قبل شيخ سنة اثنتي عشرة وانفصل بعد أربعة اشهر وهرب مع شيخ إلى بلاد الروم وقاسى شدة، ثم لما تسلطن شيخ ولاه القضاء بالديار المصرية وذلك في شهر ربيع الآخر سنة ست عشرة، فباشر دون السنة بأيام، وكان شيخ يكرهه ويسميه الساحر ولكن كان بعض أهل الدولة يراعيه، ثم استقر في قضاء الشام سنة إحدى وعشرين ونحو أربعة أشهر ثم أعيد في جمادى الآخرة سنة أربع وعشرين(3/503)
واستمر إلى أن مات بسبب أن الأشرف كان يعتقده، لأنه بشره وهو في السجن بأنه سيلي السلطنة فلما تسلطن اتفق أنه كان حينئذ قاضياً فاستمر به ولم يسمع فيه كلام أحد مع شهرته بسوء سيرته والجهل الزائد، وكان متجاهراً بأخذ الرشوة، وحصل مالاً طائلاً تمزق بعده؛ مات ليلة الثلاثاء حادي عشر صفر.
أحمد بن غلام الله بن أحمد بن محمد، الميقاتي شهاب الدين الكوم الريشي اشتغل في فن النجوم وعرف كثيراً من الأحكام وصار يحل الزيج ويكتب التقاويم واشتهر بذلك؛ مات في صفر وقد أناف على الخمسين.
أبو بكر زين الدين الأنبابي الشافعي، أحد نواب الحكم، وكان كثير الاشتغال، أخذ عن الشيخ علاء الدين الأقفهسي وابن العماد والبلقيني وغيرهم وكان خيراً؛ مات في شعبان.
تاني بك الناصري أحد أمراء العشرات، رأس نوبة، ويعرف بالبهلوان؛ مات في شوال.
جاني بك الحمزاوي، ولي نيابة غزة، قتل بها في ذي الحجة -.
تغرى بردى المحمودي، تنقل في الخدم إلى أن ولي تقدمة ألف وقرر راس نوبة كبيراً، ثم صرف وحبس بعد أن كان رأس الذين غزوا الفرنج بقبرس، ثم أفرج عنه وقرر أميراً بدمشق؛ ومات في قتال قرا يلك في ذي القعدة.(3/504)
سودون ميق الظاهري، أحد أمراء الألوف بمصر؛ مات في آخر شوال.
حسن بن شرف الدين أبي بكر بن أحمد، الشيخ بدر الدين القدسي الحنفي وهو يومئذ شيخ الشيخونية، قرر فيها لما أعيد التفهني في رجب سنة 33 إلى القضاء وكان أولاً ينوب عنه، واشتغل قديماً من سنة ثمانين وهلم جراً بالقدس ثم بدمشق ثم بالقاهرة، وكان فاضلاً في العربية وغيرها؛ مات ثالث ربيع الآخر وكان ذلك يوم الخميس - وقد قارب السبعين، واستقر بعده في تدريس جامع المارداني الشيخ سعد الدين ابن الديري فلبس بعض الناس على السلطان أنه نزل له، وكان السلطان أمر بترك النزولات وعدم إمضائها، فغضب وأمر بتقرير محب الدين بن الشيخ زاده فيها، فتالم الناس لسعد الدين، واعتذر محب الدين بأنه لم يكن له في ذلك سعي ولا يقدر على مخالفة السلطان خشية على نفسه، واستقر في مشيخة الشيخونية عوضاً عن القدسي الشيخ باكير الملطي نقلاً من قضاء حلب، وتأخر حضوره إلى رجب، وباشر، وهو أبو بكر بن إسحاق الحنفي وأصله من ملطية وسكن حلب مدة، وهو كثير السكوت، قليل البضاعة، حسن الهيئة.(3/505)
عبد الرحمن بن محمد، القزويني المعروف بالحلالي - بمهملة ولام وثقيلة - الشيخ زين الدين من أهل جزيرة ابن عمر، وهو ابن أخت العالم نظام الدين عالم بغداد، ولد سنة بضع وسبعين، وأخذ عن أبيه وغيره، وبرع في الفقه والقراآت والتفسير، وحج، وقدم حلب لطلب زيارة القدس فزار، ثم رجع إلى حلب وهو في سن الكهولة وظهرت فضائله، ودخل القاهرة في سنة 34 وأخذوا عنه ثم رجع؛ فلما وصل إلى بلده مات بعد أربعة اشهر، وذلك في سنة ست وثلاثين ظناً - قاله القاضي علاء الدين قال: واجتمعت به فرأيته عالماً بالفقه والمعاني والبيان والعربية، وله صيت كبير في بلاده وكان عالمها، قرأت بخط عبد الرحمن بن محمد الحلالي الشافعي القزويني أنه يروى البخاري عن قاضي المدينة عن الحجار ولم يسمه، وأنا أظنه شيخنا زين الدين ابن حسين، فإنه كان يروي عن الحجار بالإجازة وهو آخر من حدث عنه بها فيما أعلم وأنه يرويه عن المحدث شمس الدين ابن كثير بسماعه له على الحجار، وكتب خطه في أواخر سنة 831.
عبد الوهاب بن أفتكين الذي ولي كتابة السر في العام الماضي بدمشق، مات في آخر السنة، وقرر السلطان عوضه في كتابه السر بدمشق نجم الدين ابن المدني نقلاً من نظر(3/506)
الجيش بالشام إليها، وأرسل توقيعه بذلك في أواخر ذي الحجة، فوصل في آخر المحرم وباشر ونعم الرجل هو.
عثمان الأمير فخر الدين بن الأمير ناصر الدين محمد الطحان الحاجب بحلب، كان مات في خامس عشر المحرم خارج حلب - وأحضر إليها في سابع عشرة ودفن فيه. علي بن عمر الكثيري انتزع ظفار من عبد الله بن محمد بن عمر ابن أبي بكر بن عبد الوهاب بن علي بن نزار انطفاري، واستمر فيها إلى هذه الغاية.
علي بن محمد بن نور الدين بن جلال الدين، الطنبذي، انتهت إليه رياسة التجار بالديار المصرية، وكان كثير الحج، كثير الإسراف على نفس، حسن المعاملة، وشاهدته يقرض المحتاج بغير ربح مراراً، وكان له بر الجماعة ومروءة في الجملة على ما فيه؛ مات في ليلة الجمعة 14 صفر وقد جاوز السبعين.
علي بن يوسف بن عمر بن أنور، صاحب مقدشوه في عصرنا، ويلقب المؤيد بن المظفر بن المنصور.
محمد بن جوهر، المدير في الجيش؛ مات بحلب في رمضان.
محمد بن عبد الرحيم بن أحمد، المنهاجي المعروف بسبط ابن - اللبان الشيخ شمس الدين الشافعي، ولد بعد السبعين، واشتغل قديماً، وأخذ عن مشايخ العصر كالعز بن جماعة وشمس الدين بن القطان، وقرأ على ابن القطان صحيح البخاري بحضوري، وقرأ على ترجمة البخاري يوم الختم، وتعاني نظم الشعر فتمهر فيه، وله(3/507)
عدة قصائد ومقاطيع، ومهر في الفقه والأصول، وعمل المواعيد وشغل الناس، ولزم بأخرة جامع عمرو بن العاص يقرأ فيه الحديث والمواعيد ويشغل الناس، وكان حسن الإدراك واسع المعرفة بالفنون، حج هذه السنة من البحر فسلم، ودخل مكة في شهر رجب فجاور إلى زمن إقامة الحج فحج وقضى نسكه ورمى جمرة العقبة ثم رجع فمات بمنى قبل أن يطوف طواف الإفاضة، سمعت من نظمه، وطارحني مراراً، وكتب عني كثيراً.
محمد بن عبد الحق بن إسماعيل، السبتي أبو عبد الله، ولد سنة 783، وأخذ عن الحاج أبي القاسم بن أبي حجة ببلده، ووصل إلى غرناطة فقرأ بالأدب، وقدم القاهرة سنة 32 فحج، وحضر عندي في الإملاء فزار وأوقفني على شرح البردة له، وله آداب وفضائل؛ مات في صفر.
محمد بن علي بن موسى، الشيخ شمس الدين الدمشقي المعروف بابن قديدار. ولد سنة 152 تقريباً، لأنه قال: كتب في فتنة تنبغا روس رضيعاً، وقرأ القرآن في صغره، وحفظ المنهاج والعمدة والألفية، وتلا بالسبع على جماعة منهم ابن اللبان، وصحب الشيخ أبا بكر الموصلي والشيخ قطب الدين، وأقبل على العبادة، واشتهر من بعد سنة تسعين حتى أن اللنك لما طرق الشام أرسل من حماه وحمى من معه، وكان شيخ المؤيد يعظمه، وأرسله في سنة ثمان وثمانمائة رسولاً عنه إلى الناصر، فاجتمعنا به بالقاهرة ومصر وسمعنا من فوائده، وكان سهل العريكة، لين الجانب، متواضعاً جداً، محباً في العلماء والمحدثين، وكان قدم رفيقاً له في ذلك الشيخ شهاب الدين بن حجى فنزلا بمدرسة البلقيني ثم بمدرسة المحلى على(3/508)
شاطئ النيل ثم رجعا، وبنى شيخ له زاوية، وكان يتردد إلى بيروت للمرابطة، وله بها زاوية فيها سلاح كثير، وكلمته نافذة عند الفرنج، ويكتب إليهم بسبب المسلمين فيقبلون ما يكتب به، وحصل له في آخر عمره ضعف في بدنه وثقل سمعه؛ ومات ليلة عيد الفطر ودفن صبيحتها، وكانت جنازته مشهودة، وصلينا عليه بحلب صلاة الغائب.
منكلى بغا الحاجب وهو من مماليك الظاهر، اشتغل كثيراً، وكتب الخط الحسن، وولي حسبة القاهرة في دولة المؤيد، وأرسله الناصر فرج إلى اللنك، وكان يذاكر بشئ من الفقه؛ مات - في ليلة الخميس - في حادى عشر ربيع الأول.
يوسف جمال الدين بن صاروجا بن عبد الله، المعروف بالحجازي، تنقلت به الأحوال في الخدم، وعمل أستادارا، وتقدم في أواخر دولة الناصر عند الدويدار طوغان، وكان زوج ابنته ويدعوه: أبي، وكثر ذلك حتى صار يقال له: أبو طوغان، وكان عارفاً بالأمور.
خوند والدة عبد العزيز بن برقوق.(3/509)
سنة سبع وثلاثين وثمانمائة
أولها الثلاثاء بلا نزاع، فإن الهلال غاب ليلة الثلاثاء قبل العشاء بنحو نصف ساعة، وفي الحساب أولها الإثنين، وفي أول يوم منها أوفى النيل، ثم كسر الخليج في يوم الأربعاء الثاني منه، واستمرت الزيادة إلى يوم وصول العسكر، واستهلت ونحن بالطريق إلى غزة، ورحل السلطان منها يوم الخميس يوم عاشوراء، وساق على الطريق التي توجه فيها، وأرسل إلى القدس خمسة آلاف دينار صدقة، وكان الوصول إلى بلبيس يوم الجمعة ثامن عشرة، ومات ما بين غزة وبلبيس من الجمال والبغال والحمير والخيول مالا يحصى كثرة بحيث صارت الأرض منتنة الرائحة مع شدة الحر، ووصل إلى خانقاه سرياقوس ليلة السبت، فأصبح فدخل القاهرة في موكب عظيم جداً، وشق القاهرة وأمامه الخليفة والقضاة والأمراء. وزينت له المدينة. وبعد يومين وصل الحاج وأخبروا بالرخاء والأمن وأنه مات منهم في طريق المدينة خلق كثير من شدة الحر، وأمطرت السماء مطراً غزيراً، فنقص النيل نقصاً فاحشاً وكان انتهى إلى سبع عشر إصبعاً من ثمانية عشر ذراعاً، فبادروا إلى كسر سد الأميرية فظهر النقص فيه، وانكشف كثير من الأراضي، واستشعر الناس الغلاء فبادروا إلى خزن الغلال - والله المستعان.
ثم تراجعت الزيادة إلى أن نودي بإصبع من ثمانية عشر، ثم عاد النقص وأظنه لكسر الصليبي، فنودي في يوم الأحد عاشر صفر الموافق لثالث عشر توت بإصبع لتكملة ستة عشر إصبعاً(3/510)
من سبعة عشر ذراعاً، وبلغ سعر القمح مائة وثمانين بعد أن كان بتسعين، والفول بمائة وعشرة، والشعير كذلك، وامتدت الأيدي إلى تحصيل الغلال إما للمؤنة وإما للتجارة فاشتد الخطب - ولله الأمر! ومع ذلك فلطف الله بأهل مصر لطفاً عظيماً كما سيأتي بيانه بحيث أن جميع من خزن القمح ندم على ذلك لعدم إرتفاع سعره في طول المدة، وفيها أرسل يوسف بن محمد بن يوسف ابن محمد بن يوسف بن محمد بن الأحمر إلى أبي عبد الله محمد بن نصر بن أبي عبد الله بن الأحمر المعروف بالأيسر عسكراً حاصره وهو بالمرية، وكان من شأنه أنه ثار على محمد بن الموال ففر إلى مالقة فجمع عسكراً ونازل ابن الموال فغلب عليه فقتله، ثم ثار عليه محمد بن يوسف والد يوسف المذكور فغلب على غرناطة، ففر الأيسر إلى تونس فأقام في كنف أبي فارس حتى جهز معه عسكراً إلى غرناطة، فملكها ثالث مرة وقتل محمد بن يوسف، فثار عليه يوسف ولده فقتله وكان صحبة أبي فارس منذ قتل أبوه، فلما مات أبو فارس توجه إلى صاحب فنشالة الفرنجي فأمده بعسكر، وكتب إلى أهل رندة ومالقة وغيرها أن يعينوه، وإلى أهل غرناطة أن يطيعوه، وتهددهم إن خالفوه، فسار يوسف فملك رندة ودخل غرناطة وفر منه الأيسر واستقر فيها، فلما كان في هذه السنة جهز إلى الأيسر عسكراً وهو بالمرية.
وفي شعبان طلب من البلاد بالوجه البحري خيول، فوظف على كل بلد فرس واحد، وعلى البلد الكبير إثنان أو ثلاثة، وإن لم يوجد فيه خيل أخذ عوض الفرس خمسة آلاف، فكانت مظلمة حادثة، - وفيه - في التاسع والعشرين منه كان ختان يوسف ابن السلطان الذي ولي السلطنة بعد أبيه ولقب العزيز وعمره يومئذ نحو تسع(3/511)
سنين، أو هو ابن عشر ودخل في الحادية عشرة، وختن معه عدة من أولاد الأمراء وغيرهم، وكان مهماً حافلاً؛ ورأيت في كتاب بعض من يذكر الحوادث أن امرأة طلقت وهي حامل فكتمت حملها وتزوجت، ثم طلقها الزوج فتزوجت بثالث ثم بعد ذلك أخذها الطلق ووضعت ولداً صورته صورة الضفدع في قدر الطفل، فسترها الله بأن أماته - قرأت ذلك بخط الشيخ تقي الدين المقريزي، وأعيد التاج إلى ولاية القاهرة عند قدوم السلطان إلى القلعة وعزل دولات خجا، ثم أعطى ولاية القليوبية والمنوفية في ربيع الآخر، وانتهت زيادة النيل إلى سبعة عشر ذراعاً وسبعة عشر إصبعاً، ثم نقص بعد النيروز دفعة واحدة قدر ذراع ثم عادت الزيادة إلى أن كاد يكمل السابع عشر، فنقص أيضاً قدر خمسة عشر إصبعاً، ثم عادت الزيادة في العشرين من توت فتناهت إلى قدر عشرين إصبعاً من السابع عشر، ثم عاد النقص واستمر وشرقت غالب البلاد العالية من الصعيد الأعلى فما دونه، وشرق بعض بلاد الجيزة وما والاها، ومع ذلك لطف الله تعالى بالمسلمين في هذه السنة المباركة لطفاً عظيماً بحيث أن سعر القمح مع ارتفاعه قليلاً لم ينقطع الواصل منه، واستمر ذلك إلى أن جاء المغل الجديد وتناقص السعر، وفي صفر أعيد آقبغا الجمالي إلى كشف الوجه القبلي، وفي ليلة السبت تاسع ربيع الأول هبت ريح شديدة قلعت كثيراً من الأشجار بدمياط من أصولها، فتساقطت نخيل كثيرة وفسدت أشجار الموز، وفسد كثير من الأقصاب، وأسف كثير من الناس على ما تلف من ماله،(3/512)
وشاع أن في أوائله وقع سراق الفرنج على سبعة مراكب للمغاربة المسلمين، فأسروا من فيها، ونهبوا الأموال والبضائع، وأحرقوا ثلاثة منها وساروا بأربعة، وفي ثامن عشر ربيع الأول أخرج إقطاع الأمير - الكبير - سودون بن عبد الرحمن وكان نائب الشام وأمر بلزوم بيته، فأرسل سودون في صبيحة ذلك اليوم جميع ما عنده من الخيل والجمال والبغال للسلطان، ولم يقرر في المارستان أحداً ولا في الأتابكبية، وأضيف الإقطاع إلى الديوان المفرد، ثم أمر بنفيه إلى دمياط في جمادى الآخرة، فاستمر بها إلى أن مات، والعجب أنه ولد له في ذا الشهر مولود من جارية ولم يكن له ولد ذكر، وقيل إنهم تكلموا مع السلطان في إحضاره إلى القاهرة ثم لم يتم ذلك وفي يوم الخميس ثاني عشر شهر ربيع الآخر نزل السلطان في عدد يسير فدخل المرستان وقرر أمره ونادى بأنه الناظر عليهم، ومن كانت له حاجة أو ظلامة فليحضر إلى باب السلطان! وفيه استقر إينال الششماني في نيابة صفد بحكم وفاة مقبل. - وفيه - في ثالث عشرى شوال استقر خليل بن شاهين الصفوي في نظر الإسكندرية، وكان أبوه يسكن القدس ونشأ ابنه هناك، ثم قدم القاهرة وتزوج أخت خوند جلبان زوج السلطان فعظمت حرمته، وسعى في حجوبية الإسكندرية ثم في نيابتها.
وفي صفر ألزم الوزير بحمل ما يوفر من العليق في ديوان الدولة وفي ديوان المفرد، فكان جملته سبعين ألف إردب،(3/513)
وفي ربيع الأول عملت مكحلة لرمي المنجنيق من نحاس وزنها مائة وعشرون قنطاراً بالمصري، ونصبت خارج باب القرافة، ورموا بها إلى جهة الجبل بأحجار زنة بعضها قدر ستمائة رطل.
وفيه وصل كتب من دمياط بأنه هبت بها رياح عاصفة - فتقصفت نخيل كثيرة، وتلفت أشجار الموز وقصب السكر من الصقيع -، وانهدمت عدة دور، - وفزع الناس من شدة الريح حتى خرجوا إلى ظاهر البلد - وسقطت صاعقة فأحرقت شيئاً كثيراً، ثم نزل المطر فدام طويلاً.
وفيها وقع بمكة سيل عظيم طبق ما بين الجبلين، وانهدمت بمكة دور كثيرة، ووصل الماء إلى قرب باب الكعبة، وطاف بعض الناس سبحاً، وأقام الماء يوماً بالحرم إلى أن صرف، وفاضت زمزم إلى أن شرع الماء بها هدراً قرأت في كتاب علي بن إبراهيم الأبي الزبيدي نزيل مكة لما كان في ليلة الحادي والعشرين من جمادى الأولى وقع بمكة مطر غزير سالت منه الأودية وكانت ليلة الجمعة، فأصبحوا وقد صار في المسجد ارتفاع أربعة أذرع - ماء -، فأزيلت عتبة باب إبراهيم فخرج الماء من المسفلة، فبقى من الطين في المسجد نحو نصف ذراع، وتهدمت في تلك الليلة دور كثيرة، ومات تحت الردم جماعة،(3/514)
وقرأت في كتاب صاحبنا شهاب الدين الجرهي أنه تلف له كتب كثيرة من السيل، وعقب هذا السيل وباء.
وفي يوم الأربعاء رابع عشر جمادى الآخرة وعك السلطان فاستمر بالقولنج خمسة أيام ثم تماثل وعدته فوجدته كما به، ثم عدته في أول يوم من شهر رجب فوجدته تماثل، ثم صلى الجمعة ثاني شهر رجب وكانوا أرجفوا بموته وتحزبوا أحزاباً، ووجل الناس من إثارة الفتنة، وفي أوائل شعبان قرئ البخاري في القلعة على العادة، وحضر شخص عجمي يقال له شمس الدين - محمد - الهروي ويقال له ابن الحلاج كهل من أبناء الأربعين ادعى أنه يعرف مائة وعشرين علماً، فأظهر بأواً عظيماً وشرع يسأل أسئلة مشكلة، وظهرت منه أمور تدل على إعجاب زائد فآل أمره إلى أن وقعت منه أمور أنكرت من جهة المعتقد، فزجر فخذل بعد ذلك وصار كآحاد الطلبة، واعتذر بعد ذلك أن بعض الناس أغراه بذلك ظناً منه أن ينقص من قدر كاتبه، فأبى الله ذلك وحاق المكر السيئ بأهله - ولله الحمد! وفيه في الجملة ذكاء وعلى ذهنه فوائد كثيرة وعنده استعداد ويعرف الطب، وعدت عليه سقطات، وبحث مع سعد الدين بن الديري فلم يحبه، وقرر من جملة المشايخ ورتب له ما يكفيه.(3/515)
وفيه استعفى الوزير كريم الدين من الوزارة وشكا من كثرة المصروف وقلة المتحصل، فاسترضى بزيادة بلد أضيفت له فاستمر، ثم تغيب في يوم السبت ثالث عشرى رجب بعد أن طلع القلعة، واستقر في الوزارة أمين الدين إبراهيم الذي كان ولي نظر الدولة، وهو ولد مجد الدين عبد الغني ابن الهيصم الذي كان ولي نظر الخاص في دولة الناصر فرج، ولبس الخلعة في هذا اليوم المذكور، وهرع الناس للسلام عليه بمنزله ظاهر باب القنطرة بالقرب من الميس، فلما كان يوم الثلاثاء استقر ولده وهو صغير السن في نظر الدولة، وألبس خلعة لذلك وشغرت الأستادارية، وتكلموا مع السلطان في استقرار جانبك مملوك ناظر الجيوش عبد الباسط فيها فأجاب لذلك، ثم بطل ذلك وسعى ناظر الجيش في إعفائه، - وتغيظ السلطان على المباشرين، وألزم ناظر الخاص فيما قيل بالمباشرة فيها، واستعفى - فأمر أن ينادي بأمان الأستادار، فبلغه ذلك فظهر، وذلك في السابع والعشرين منه، وطلع إلى السلطان، فخلع عليه قباء كان عليه، ونزل إلى داره وفرح الناس - به - وكان يوماً مشهوداً - تم في.... -، ومن حوادث سنة 37 أنه أحصى من في الإسكندرية من الحاكة فوجد فيها ثمانمائة نول، وكان ذلك وقع في سنة 797، فبلغوا أربعة عشر ألف نول بمباشرة جمال الدين محمود الأستادار، ونحو هذا أن كتاب الجيش أحصوا قرى مصر قبلها وتحررها، فبلغت عدتها ألفين ومائة وسبعين قرية؛ وقد ذكر بعض القدماء في أوائل دولة الفاطميين أن عدتها عشرة آلاف.
وفيها أعيد جلال الدين أبو السعادات على القضاة في جمادى الآخرة عوضاً عن الجمال محمد بن علي الشيبي، وفي رجب سافر الناس صحبة أرنيغا إلى مكة.(3/516)
وفي ذي القعدة استقر الشيخ شمس الدين محمد - بن أحمد - المالكي الفرياني المغربي في قضاء نابلس شافعياً وسافر إليها، وهو كثير الإستحضار للتواريخ، وكان يتعانى عمل المواعيد بقرى مصر وبدمياط وبلاد السواحل، وصحب الناس، وهو حسن العشرة نزهاً عفيفاً، وقد حدث بحلب عن أبي المجالس البطرني وما أظنه سمع منه فإنه ذكر لنا أن مولده سنة ثمانين ببلده وكان البطرني بتونس ومات بعد سنة تسعين، ورأيت له عند أصحابنا بحلب إسناداً للمسلسل بالأولية مختلفاً إلى السلفي وآخر أشد اختلافا منه إلى نصر الوائلي، وسئلت عنهما فبينت لهم فسادهما، ثم وقفت مع جمال الدين ابن السابق الحموي على كراسة كتبها عنه بأسانيده في الكتب الستة أكثرها مختلق وجلها مركب، وأوقفني الشيخ تقي الدين المقريزي له على تراجم كتبها له بخطه كلها مختلفة إلا الشئ اليسير - والله المستعان! ثم وقفت على ذلك بخط الفرياني المذكور وهو بضم الفاء وتشديد الراء بعدها ياء آخر الحروف وبعد الألف نون.
وفي رمضان ألزم السلطان القاضي بدر الدين ابن الأمانة بالحج لأنه ترجم له بأنه من المياسير وأنه قارب الثمانين ولم يحج فسأله فقال؛ حججت وأنا صغير، فقال: لا بد أن(3/517)
تحج حجة الإسلام هذه السنة، فأجاب وحج ورجع سالماً، وجرى نظيره للعراقي فمات كما تقدم، ومن العجب أن ابن الأمانة لما ألزم تكره ذلك كثيرا؛ وفي يوم السبت عاشر ذي الحجة يوم عيد الأضحى ولد لمحمد ولدي ابنة سماها بيرم، ثم ماتت عن قرب بعد أن استهلت السنة، وفي يوم السبت خامس عشرى ذي الحجة وافق سابع مسرى كسر الخليج على العادة، وحصل للناس السرور بالوفاء، وكانت الوقفة بمكة يوم الجمعة، وكان الحج كثيراً، وحج جقمق وهو يومئذ أمير سلاح في أواخر ذي القعدة على الرواحل وصحبته خلق كثير، فحج ورجع أيضاً في العاشر من المحرم.
وفي هذه السنة كثر فساد الفرنج الكتيلان، فأخذوا عدة مراكب للتجار وأسروا من فيها، وباعوهم أسرى، وكاتب صاحبهم السلطان ينكر عليه إلزامه للفرنج بشراء بضائعه من الفلفل وغيره، فمزق السلطان كتابه لما قرئ عنه.
وفي التاسع والعشرين من شعبان ليلة السبت تراءى الناس الهلال فلم يروه، وأجمع أهل الفن أنه تغيب مع غيبوبة الشمس، فحضر ولد شهاب الدين أحمد بن قطب الدين(3/518)
محمد بن عمر الشيبي فأخبر أنه رأى الهلال، وكان المحتسب حاضراً وكانوا كتبوا الورق على العادة بتضمن عدم الرؤية، وحضرت إلى السلطان فقلت للمحتسب: استصحب هذا معك، فتوجه به فذكر أنه صمم على أنه رآه، فسأل السلطان عنه فأثنوا عليه لكونه يقرب لجليس السلطان ولي الدين ابن قاسم، فأمر بالعمل بما يقتضيه الشرع، فحكم الحنبلي بمقتضى شهادته ونودي في الناس بالصيام، وذكر أن الناس بمد عدة ثلاثين تراءوا الهلال ليلة الإثنين فلم يروه، ولم يجئ أحد من البلاد يخبر برؤيته ليلة الأحد، لكن نحن اعتمدنا على حكم الحنبلي وأكملنا العدة ثلاثين ولم نتعرض للترائي ومن زعم أن الناس خرجوا للترائي فقد وهم، وإنما شاع أن بعض الناس تراءى فلم ير شيئاً، واتفق أن غالب الجهات المتباعدة وكثيراً من المتقاربة عيدوا يوم الإثنين.
وكان وفاء النيل في الثامن عشر من ذي الحجة، وصادف أنه أول يوم من مسرى وكان في العام الماضي تأخر إلى العشر الأخير منه، فبسبب ذلك التأخير وهذا الإسراع وقع الوفاء في أول العام وفي آخره، ولكن لزم منه أنه لم يقع في العام المقبل وفاء بل تأخر إلى أن دخل العام الذي يليه، فصار كالعام الوفاء مرتين وخلا عن العام الذي يليه، وهو من النوادر.
وفيها كانت لا ينال الأجرود النائب بالرها وقعة مع التركمان، وسببها أن بعض أتباعه كان في تسيير خيله فوقع بطائفة منهم فثار بهم فقتل منهم، فخرج إينال نجدة له - فخرج عليه كمينهم - فوقع بينهم قتال فقتل بين الطائفتين جماعة ودخل إينال المرقب فبلغ ذلك السلطان فكتب إلى نائب حلب قرقماس أن يتوجه بالعسكر إلى الرها، وكتب إلى سائر الممالك الشامية أنهم إن تحققوا نزول قرايلك على الرها أن يتقدموا بعساكرهم إلى اللحاق بقرقماس لقتال قرايلك.(3/519)
وفيها أخرب أصبهان بن قرا يوسف بغداد وتشتت أهلها منها، وأخرب قبل ذلك الموصل.
وفيها جهز السلطان الجنيد أمير آخور إلى الغرب لمشتري الخيول، فعاد ومعه كتب من تونس وهدية من صاحبها وخيول جياد اشتراها.
ذكر من مات
في سنة سبع وثلاثين وثمانمائة من الأعيان.
إبراهيم بن داود بن محمد - بن أبي بكر - العباسي ولد أمير المؤمنين المعتضد ابن المتوكل العباسي، ولم يكن بقى له غيره، وكان رجلاً حسناً كبير الرئاسة، قرأ القرآن وحفظ المنهاج واشتغل كثيراً، وخلف أباه لما سافر خلافة حسنة شكر عليها، ومات بمرض السل في ليلة الأربعاء ثالث عشر ربيع الأول بالقاهرة ولم يكمل الثلاثين، ولم يبق لأبيه ولد ذكر، وذكر أنه تمام عشرين ولدا ذكرا.
أحمد بن محمود بن أحمد بن إسماعيل - بن محمد - بن أبي العز، الدمشقي شهاب الدين الحنفي المعروف بابن الكشك، انتهت إليه رئاسة أهل الشام في زمانه، وكا شهماً قوي النفس مستحضراً لكثير من الأحكام، ولي قضاء الحنفية استقلالاً مدة ثم أضيفت إليه نظر الجيش في الدولة المؤيدية وبعدها ثم صرف عنهما معاً، ثم أعيد لقضاء الشام وعين لكتابة السر بعد موت شهاب الدين ابن السفاح، فاعتذر لضعف يعتريه وهو عسر البول،(3/520)
وكانت بينه وبين نجم الدين ابن حجى معاداة فكان كل منهما يبالغ في الآخر، لكن كان ابن الكشك أجود من ابن حجى - سامحهما الله تعالى! عاش ابن الكشك بضعاً وخمسين سنة وكانت وفاته ليلة الخميس سبع ربيع الأول بالشام.
إسماعيل بن أبي بكر بن المقرئ عالم البلاد اليمنية، شرف الدين أصله من الشرجة من سواحل اليمن، وولد سنة خمس وستين وسبعمائة بأبيات حسين، وسكن زبيد، ومهر في الفقه والعربية والأدب، وجمع كتاباً في الفقه سماه عنوان الشرف، يشتمل على أربعة علوم غير الفقه، يخرج من رموز في المتن عجيب الوضع، اجتمعت به في سنة ثمانمائة ثم في سنة ست وثمانمائة، وفي كل مرة يحصل لي منه الود الزائد والإقبال، وتنقلت به الأحوال، وولي إمرة بعض البلاد في دولة الأشرف، ونالته من الناصر جائحة تارة وإقبال أخرى، وكان يتشوف لولاية القضاء بتلك البلاد فلم يتفق له. ومن نظمه بديعية التزم أن تكون في كل بيت تورية مع التورية باسم النوع البديعي، وله مسائل وفضائل، وعمل مرة ما يتفرع من الخلاف في مسألة الماء المشمس فبلغت آلافا، وله شرح - مختصر - الحاوي في مجلدين، وحج سنة بضع عشرة، وأسمع كثيراً من شعره بمكة رحمه الله تعالى.(3/521)
آقبغا الجمالي الذي كان عمل الأستادرية الكبرى غير مرة، وفي الآخر ولاه السلطان كشف البحيرة فتوجه إلى هناك فأغار على بعض العرب، فتجمعوا عليه وذهب دمه هدراً، وكان أهوج مقداماً غشوماً، وهو من مماليك كمشبغا الجمالي، وخرج الوزير الأستادار عبد الكريم ابن كاتب المناخات بعسكر فجمع العرب وأمنهم وأحضرهم إلى السلطان في 21 ربيع الآخر.
أبو بكر بن علي بن حجة، الحموي الحنفي، الشيخ الأديب الفاضل، شاعر الشام، تقي الدين الأزراري، كان في ابتداء أمره يعقد الأزرار، وكان يخضب بالحمرة، ثم تعانى النظم فتولع أولاً بالأزجال والمواليا ومهر في ذلك وفاق أهل عصره، ثم نظم القصائد ومدح أعيان أهل بلده، ودخل الشام فمدح برهان الدين ابن جماعة قبل التسعين بقصيدة كافية أعجبته، فطاف بها على نبهاء عصره فقرظوها له، ودخل بسبب ذلك إلى القاهرة فدل على القاضي فخر الدين بن مكانس ومدحه وطارح ولده وكتب له على القصيدة، ومن نظمه:
سرنا وليل شعره ينسدل ... وقد غدا بنومنا مسفرا
فقال صبح ثغره مبتسما ... عند الصباح يحمد القوم السرى
ومنه:
في سويدا مقلة الحب نادى جفنه ... وهو يقنص للأسود صيدا
لا تقولوا ما في السويداء رجال ... فأنا اليوم من رجال السويدا
واجتمعت به إذ ذاك، ثم عاد مرة أخرى فتأكدت الصحبة، ولما رجع في الأول صادف الحريق الكائن بدمشق لما كان الظاهر يحاصر دمشق بعد أن خرج من الكرك وكان أمراً مهولاً، فعمل فيه رسالة وكاتب بها ابن مكانس وهي طويلة، وأقام بحماة يمدح أمراءها وقضاتها، وله قصيدة في علاء الدين ابن أبي البقاء قاضي دمشق، ومدح أمين الدين الحمصي كاتب السر حينئذ وغيره ودخل القاهرة، ثم نوه به القاضي ناصر الدين البارزي في الدولة المؤيدية فعظم أمره وشاع ذكره، وكان نظم قصيدة بديعية على طريقة شيخه المعز الموصلي وشرحها في ثلاث مجلدات، وجمع مجاميع أخرى مخترعة وله في المؤيد غرر القصائد وقرر في ديوان الإنشاء منشئ الديوان، وعمل في طول(3/522)
الدولة المؤيدية من إنشائه مجلدين في الوقائع، ودخل مع المؤيد بلاد الروم، فلما انقضت الدولة المؤيدية رق حاله فرجع إلى بلده حماة فأقام بها على خير إلى أن مات في الخامس والعشرين من شعبان، سمعت من نظمه كثيراً، وسمعت عليه معظم شرحه على بديعيته وجملة من إنشائه، ولقيته بحماة سنة ست وثلاثين ذهاباً وإياباً، وبيننا مودة أكيدة - والله المسؤول إن يرحمه ونعم الرجل كان - رحمه الله تعالى.
أبو بكر المقيم ببولاق، أحد من كان يعتقد، وكان مقيماً بالحسينية ظاهر القاهرة ثم تحول إلى بولاق وبنيت له زاوية، فاتفق أنه أمر بأن يبنى له بها قبر فبنى، فلما انتهت عمارته ضعف فمات فدفن فيه في المحرم، ويحكى عنه كرامات، ومكاشفات - وكان في الغالب ثملاً -.
جار قطلي نائب الشام، تنقل في الخدم إلى أن ولي نيابة حماة في الدولة المؤيدية ثم نقل إلى نيابة حلب عوضاً عن تاني بك البجاسي واستقر البجاسي في نيابة دمشق فكان دخوله(3/523)
إلى حلب في شوال سنة ست وعشرين، ثم نقل إلى القاهرة في سنة ثلاث وثلاثين فأمر تقدمة، ثم قرر أتابك العساكر بها ثم نقل إلى نيابة دمشق بعد عزل سودون من عبد الرحمن، فكانت مدة ولايته لها قدر سنة واحدة إلى أن مات - ليلة الإثنين في تاسع عشر - في شهر رجب، وكان شهماً مسرفاً على نفسه، يحب العدل والإنصاف ولم يخلف ولداً، واستقر بعده في نيابة الشام قصروه نائب حلب نقلاً منها، واستقر عوضه في نيابة حلب قرقماس الحاجب الكبير، واستقر عوضه في الحجوبية يشبك المشد، ومن الاتفاق أن رفيقاً لي رأى لما كنا في سفرة آمد قبل أن ندخل حلباً وذلك في رمضان أن الناس اجتمعوا فطلبوا من يؤم بهم فرأوا رجلاً ينسب إلى الصلاح فسألوه أن يؤم بهم فقال بل يؤم بهم قرقماس، ففي الحال حضر قرقماس فتقدم فصلى بهم، فوليها بعد ذلك بدون السنة، ونفى سودون من عبد الرحمن الذي كان نائب الشام إلى دمياط بعد أن كان بذل في نيابة الشام ستين ألف دينار يعجل نصفها ويجهز ويرسل نصفها بعد الولاية فلم يجب، واستقر عوضه في إمرته الأمير الكبير إينال الجكمي أمير سلاح، واستقر عوضه آقبغا التمرازي أمير سلاح وكان أمير مجلس، واستقر عوضه أمير مجلس جقمق أمير آخور، واستقر عوضه أمير آخور تغرى برمش الذي كان نائب الغيبة في سفر الشام، كل ذلك في يوم الخميس سلخ رجب، وفي الثالث من شعبان ماتت أم تغرى برمش المذكور، وكان الجمع في جنازتها حافلاً ومنع ابنها أكابر الناس من المشي في جنازتها وركب وركبوا إلى مصلى المؤمني.
رمبثة بن محمد بن عجلان، الحسني الذي كان ولي إمرة مكة، وكان خرج في طائفة من العسكر للوقيعة ببني إبراهيم على نحو من ثمانية أيام من مكة، فقتل في المعركة.(3/524)
عبد الله بن عبد الله العفيف المعروف بالأشرفي كان مملوكاً رومياً اشتراه أرغون الفاخوري ورباه، فتعلم الخط وحذق اللسان العربي وتعانى الخدم، فرآه البرهان المحلى - التاجر - فأعجبه، فاشتراه من أرغون ثم أعتقه، ثم تنقلت به الأحوال حتى اتصل المذكور بالملك الأشرف إسماعيل صاحب اليمن، فعظم عنده جداً وفوض إليه أمر المتاجر بعدن، وصار يكتب بخطه الأشرفي واشتهر بها، فشرق به المحلى وتولدت بينهما العداوة، وكان يباشر بصرامة وشهامة وبعض عسف مع معرفة تامة، فلم يزل على ذلك من سنة ثمانمائة يتنقل الحال في ذلك بينه وبين نور الدين ابن جميع إلى أن مات الأشرفي وتولى ولده الناصر ومات ابن جميع، وتحول العفيف الأشرفي إلى مكة فسكنها نحواً من عشر سنين، ثم تحول إلى القاهرة فقطنها، واستقام أمره إلى أن قدر أنه خرج في تجارة إلى جهة طرابلس فأسر من طائفة من الفرنج وقعوا بالمركب الذي هو فيه فانتبهوا ما معه، واستمر في الأسر نحواً من أربع سنين إلى أن مات في هذه السنة في ربيع الآخر.
عبد الله جمال الدين بن الشيخ شمس الدين محمد بن محمد، العراقي الحلبي الأصل نزيل القاهرة، ولد سنة 64 تقريباً بحلب، وكان أبوه من صدور علمائها، وتربى هو بعد موته عند الشيخ شهاب الدين الأذرعي، وحصل له وظائف أبيه، ثم تعلق بعد أن كبر بولاية الحكم فناب في عدة بلاد وولي قضاء بعض البلاد على غير مذهبه، ولم يكن متحرياً وكان يعرف الشروط، ويستكثر من شراء الكتب مع عدم فراغه للاشتغال، وقدم القاهرة سنة إحدى وعشرين فقطنها إلى أن مات، وفي هذه السنة قيل للسلطان إنه لم يحج، فأرسل إليه في العشر الأخير من شوال، فسأله عن ذلك فاعترف، فأمره أن يحج(3/525)
في هذه السنة، فبادر إلى الإجابة وأظهر الفرح بذلك، فنزل في الحال فتجهز وتوجه صحبة الركب الأول، فقدرت وفاته بمغارة نبط - ذاهباً - على ما بلغنا، ولم أعرف له سماعاً في الحديث ولا حدث، وكان مبغضاً للناس بغير سبب غالباً - عفا الله عنه -.
عبد الله بن مسعود، التونسي المكي الشيخ الجليل المعروف بابن القرشية أخذ عن والده وذكر أنه.... قرأت بخطه أن من شيوخه شيخنا بالإجازة أبا عبد الله بن عرفة وقاضي الجماعة أبا العباس أحمد بن محمد بن جعدة أخذ عن محمد بن عبد السلام شارح ابن الحاجب، ومنهم أبو القاسم أحمد بن أبي العباس الغبريني، أخذ عن أبي جعفر بن الزبير وعن ابن عربون وابن هارون، ومنهم أبو العباس أحمد بن أدريس الزواوي شيخ بحاية، وحدث بالحديث المسلسل بالأولية ومصافحة المعمر، ومنهم أبو عبد الله بن مرزوق، ومنهم أبو الحسن محمد بن أبي العباس أحمد الأنصاري البطرني، وذكر أنه قرأ عليه القراآت وسمع عليه كثيراً من الحديث وألبسه خرقة التصوف، ومنهم أبو العباس أحمد بن مسعود بن غالب البلنسي، أخذ عن الوادياشي وعن أبي عبد الله بن هزال.
عبد العزيز السلطان أبو فارس بن أبي العباس أحمد بن محمد بن أبي بكر بن يحيى بن إبراهيم بن يحيى بن عبد الواحد بن عمر الهنتاني الحفصي صاحب تونس، مات وهو قاصد إلى تلمسان وقد مضى كثير من أخباره في الحوادث، قرأت بخط صاحبنا أبي عبد الله محمد ابن عبد الحق الهنتي فيما كتب من سيرته أنه بلغه أنه كان لا ينام من الليل إلا قليلاً حتى حزر مقدار ما ينامه بالليل أربع ساعات لا يزيد قط بل ربما نقصت، وليس له شغل إلا النظر في مصالح ملكه، وكان يؤذن بنفسه ويؤم بالناس في الجماعة ويكثر من الذكر ويقرب أهل الخير، وقد أبطل كثيراً من المفاسد والتركاس بتونس منها العيالة وهو مكان يباع فيه الخمر للفرنج ويحصل منه في السنة شئ كثير وكان لأكثر الجيش عليه رواتب فأبطله وعوضهم - وأخرج المحسس بولده، قال - وشكى إليه قلة القمح - بالسوق - فدعا تجاره فعرض عليهم قمحاً من عنده وقال: أريد بيع هذا بسعر دينار ونصف، فاسترخصوه، فأمر ببيعه بذلك السعر وأن لا يشتري أحد من غيره بفوق ذلك، فاحتاجوا أن يبيعوا بذلك القدر فترك هو البيع فبلغه أنهم زادوا قليلاً فأمر بأن يباع ما عنده بسعر دينار واحد، وتقدم إلى خازنه أنه إن وجد القمح بالسوق لا يبيع من عنده شيئاً وإلا باع بسعر دينار فاضطروا إلى أن باعوا، فكانت تلك من أحسن الحيل في تمشية حال الناس، ولم يكن ببلاده كلها شئ من المكوس ولكنه كان يبالغ في أخذ الزكاة والعشر،(3/526)
وكان محافظاً على عمارة الطرق حتى أمنت القوافل في أيامه في جميع بلاده. وذكر أنه حضر محاكمة مع منازع له في بستان إلى القاضي فحكم عليه، فقبل الحكم وأنصف الغريم، وكان إذا مر في الأسواق يسلم، ولا يلبس الحرير ولا يجلس عليه ولا يتختم بالذهب. وكانت صدقاته إلى الحرمين وإلى جماعة من الصلحاء بالقاهرة وغيرها مستمرة، وما سافر قط مع كثرة أسفاره إلا قدم بين يديه صدقات للزوايا وكذلك إذا عاد، وكتب إليه ابن عرفة مرة: والله لا أعلم يوماً يمر - علي ولا ليلة - إلا وأنا داع لكم بخير الدنيا والآخرة فإنكم عماد الدين ونصرة المسلمين؛ مات في 14 ذي الحجة عن ست وسبعين سنة بعد أن خطب له بفاس وتلمسان وما والاهما من المدن والقرى إحدى وأربعين سنة وأزيد، وقام من بعده حفيده المنتصر أبو عبد الله محمد بن الأمين أبي عبد الله محمد ابن أبي فارس.
عبد العزيز عز الدين بن القاضي بدر الدين محمد بن عبد العزيز بن الأمانة، مات في سابع عشرى جمادى الأولى، وكان شاباً صالحاً عفيفاً فاضلاً، اشتغل كثيراً ودرس وعمل المواعيد بالجامع الأزهر.
علي بن حسين ابن عروة المشرقي ثم الدمشقي الحنبلي أبو الحسن ابن زكنون، ولد قبل الستين وكان في ابتداء أمره جمالاً، وسمع علي بن يحيى بن يوسف الرحبي ويوسف الصيرفي ومحمد بن محمد بن داود وغيرهم، وكان يذكر أنه سمع من ابن المحب ثم أقبل على العبادة والإشتغال فبرع، وأقبل على مسند أحمد فرتبه على الأبواب، ونقل في كل باب ما يتعلق بشرحه من كتاب المغنى وغيره، وفرغ في مجلدات كثيرة، وكان منقطعاً في مسجد يعرف بمسجد القدم خارج دمشق، وكان يقرئ الأطفال ثم انقطع ويصلي الجمعة بالجامع الأموي ويقرأ عليه بعد الصلاة في الشرح،(3/527)
وثار بينه وبين الشافعية شر كبير بسبب الاعتقاد، وكان زاهداً عابداً قانتاً خيراً لا يقبل لأحد شيئاً، ولا يأكل إلا من كسب يده؛ توفي في ثاني عشر جمادى الآخرة، وكانت جنازته حافلة.
عمر بن علي بن حجى، الشيخ الحنفي البسطامي، أصله من العجم، وصحب بعض الفقراء، ودخل القدس فلازم الشيخ عبد الله البسطامي فعرف به، وأخذ عن الشيخ محمد القرمي، ثم قدم مصر وسكن بقرب اللؤلؤة بالعارض، وكان خيراً ساكناً، يعتقدون الناس فيه، وله مدد من عقار يملكه ويستأجره، وكان قد أقعد وهو مع ذلك ملازم الصلاة والذكر، وقل أن ترد رسائله؛ مات في حادي عشر ذي الحجة وقد قارب التسعين، وسمعت بعض الناس يذكر أنه جاوز المائة وليس كما يظن.
قطلو بغا حجى البانقوسي حمو الظاهر ططر، ولي نظر الأوقاف في أيام الأشرف مدة، وباشر بعنف شديد ثم لانت عريكته، ثم انفصل ومات في يوم السبت 25 صفر.
محمد بن أحمد، المالكي فتح الدين ابن النعاس - بالعين والسين المهملتين - أحد موقعي الحكم، كان حسن الخط عارفاً بالوثائق، وولي الخطابة بمدرسة ناظر الجيش عبد الباسط وكان يتلمذ لإبن وفاء وتقدم في الصلاة عليه بإشارة ناظر الجيش بحضور القاضي الحنبلي وغيره من الأعيان. ولم يتفق لي حضورها.(3/528)
محمد بن أبي بكر بن محمد بن سلامة. المارديني الحلبي الحنفي الشيخ بدر الدين، اشتغل ببلده مدة ولقى أكابر المشايخ وحفظ عدة مختصرات ومهر في الفنون وشغل الناس، وقدم إلى حلب مراراً فاشتغل بها ثم درس في أماكن وأقام بها مدة عشر سنين ثم رجع، ولما غلب قرايلك على ماردين نقله إلى آمد فأقام مدة، ثم أفرج عنه فرجع عنه إلى حلب فقطنها، ودرس في عدة مدارس، ثم حصل له فالج قبل موته بنحو عشر سنين فانقطع، ثم خف عنه وصار ثقيل الحركة، وكان حسن النظم والمذاكرة، اجتمعت به في حلب، وذكر لي أن مولده سنة خمس وخمسين ومدحني بقصيدة رائية وأجبته عنها، ومات ثانى صفر سنة 837، وكان فقيهاً فاضلاً صاحب فنون من العربية والمعاني والبيان، وأخذ عن شريحاً وجماعة، وقد ذكرت له ترجمة حسنة في معجمي ومات وله اثنتان وثمانون سنة ولم يخلف بحلب بعده مثله.
محمد ابن أبي بكر بن محمد السمنودي المقرئ تاج الدين الشهير بابن تمرية، ولد قبل الثمانين بيسير، وكان أبوه تاجراً بزازاً، فنشأ هو محباً في الإشتغال مع حسن الصورة والصيانة وتعانى القراآت فمهر فيها، ولازم الشيخ فخر الدين بالجامع الأزهر والشيخ كمال الدين الدميري، وولي خطابة جامع بشتاك، وأخذ أيضاً عن الشيخ خليل المشبب، مات يوم الجمعة عاشر صفر.(3/529)
محمد بن عبد الله السلمي الشيخ بدر الدين، مات في تاسع عشر ذي الحجة.
محمد بن علي بن محمد بن أبي بكر، قاضي مكة جمال الدين القرشي العبدري المكي الشيبي أبو المحاسن، ولد في رمضان 779، وسمع على برهان الدين ابن صديق وغيره، وله إجازة من النشاورى والحافظ العراقي ونحوهما، وتعانى الأدب والنظر في التواريخ، وصنف أشياء لطيفة، منها ذيل على حياة الحيوان سماه طيب الحياة، ومن نظمه قوله في القاضي جلال الدين لما أعيد إلى القضاء بعد الهروي في سنة إثنتين وعشرين:
عود الإمام لدى الأنام كعيدهم ... بل عودة لا عيد عاد مثاله
أجلى جلال الدين عنا غمة ... زالت بعون الله جل جلاله
وولى سدانة البيت في سنة 27، ثم ولي قضاء مكة بعد صرف أبي السعادات في سنة ثلاثين فباشره، فحمدت سيرته وأضيف إليه نظر الحرم، ولم يكن يعاب إلا بما يرمى به من تناول لبن الخشخاش.
قال القاضي تقي الدين الشهبي: ولي حجاجة البيت سنة 28 وولي قضاء مكة سنة ثلاثين وجمع مجاميع كثيرة، منها تعليق على الحاوي وطيب الحياة مختصر حياة الحيوان مع زوائد، وكان رحل إلى شيراز وبغداد، وكتب بخطه حوادث زمانه؛ مات ليلة الجمعة ثامن عشرى ربيع الأول عن نحو من سبعين سنة.
محمد بن علي الحكري - بدر الدين -، ولي أبوه القضاء مدة لطيفة، كما تقدم ذكره في سنة ست وثمانمائة، ونشأ ابنه هذا نشأة حسنة واشتغل كثيراً ثم ناب في الحكم مدة، وكان جميل الصورة حسن المعاشرة متواضعاً، فاشتغل ومهر وبحث المقنع والمستوعب على القاضي الحنبلي، وكتب بخطه كثيراً؛ ومات في أول شهر ربيع الأول، طلعت له جمرة في قفاه فمات بها، وعاش ثلاثاً وخمسين سنة(3/530)
محمد بن قطلبك الكماخي - بالخاء المعجمة - شمس الدين، أحد نواب الحنفي؛ مات في الخامس من جمادى الآخرة، وكان مذموم السيرة.
محمد بن محمد بن محمد بن القماح، التونسي المحدث بها أبو عبد الله، سمع من أبي عبد الله بن عرفة وجماعة وحج فسمع من شيخنا تاج الدين ابن موسى خاتمة من كان عنده حديث السلفي بالعلو بالسماع المتصل بالقاهرة من شيخنا حافظ العصر زين الدين العراقي ومن مسند القاهرة برهان الدين السامي وجماعة، ورجع إلى بلاده فعنى بالحديث واشتهر به وكاتبني مراراً بمكاتبات تدل على شدة عنايته بذلك ولكن بقدر طاقته في البلاد، وقد ولي قضاء بعض الجهات بالمغرب، وحدث بالإجازة العامة عن البطرني الأندلسي مسند تونس وخاتمة أصحاب ابن الزبير بالإجازة وعن غيره من المشارقة وحدث بالكثير؛ مات في أواخر شهر ربيع الآخر، كتب إلي بوفاته الشيخ عبد الرحمن البرشكي من تونس وقال: كان حسن البشر سمح الأخلاق محباً للحديث وأهله - رحمه الله تعالى.
محمد بن شفشيل، شمس الدين الحلبي، أحد الفقهاء بها، اشتغل كثيراً وفضل، سمعت من نظمه بحلب، وكتب عني كثيراً؛ مات في جمادى الأولى.
محمد بن الفخر، المصري ناصر الدين المعروف بابن النيدي.. كان أبوه(3/531)
تاجراً، فنشأ هو محباً في العلم فمهر في العربية، وصاهر شيخنا العراقي على ابنته، ثم ماتت معه فتزوج بركة بنت الشيخ ولي الدين أخي زوجته الأولى ومات وهي في عصمته وخلف ولدين وكان معروفاً بكثرة المال فلم يظهر له شيء وله بضع وستون سنة.
محمد بن فندو ملك بنجالة جلال الدين أبو المظفر ويلقب بكاس، وكان سبب تملكه لها أن أباه كان كافراً فثار على شهاب الدين مملوك سيف الدين حمزة بن غياث الدين أعظم شاه بن إسكندر شاه بن شمس الدين، فغلبه على بنجالة وأسره، وكان أبو المظفر قد اسلم فثار على أبيه واستملك منه البلاد، وأقام شعار الإسلام، وجدد ما خربه أبوه من المساجد، وراسل صاحب مصر بهدية، واستدعى بعهد من الخليفة وكانت هداياه متواصلة بالشيخ علاء الدين البخاري نزيل مصر ثم دمشق، وعمر بمكة مدرسة هائلة، وكانت وفاته في شهر ربيع الآخر، واقيم بعده ولده المظفر أحمد شاه وهو ابن أربع عشرة سنة.
محمد الدمشقي المعروف بابن تيمية ناصر الدين، وكان يتعانى التجارة ثم أتصل بكاتب السر فتح الله وبشمس الدين بن الصاحب وسافر في التجارة لهما، وولي قضاء الإسكندرية مدة، وكان عارفاً بالطب، ودعاويه في الفنون أكثر من علمه؛ مات في تاسع شهر رمضان وقد جاوز السبعين.(3/532)
مقبل بن عبد الله الرومي الذي كان دويدارا عند موت المؤيد، وفر إلى الشام فرقاً من ططر، ثم أمنه واستعان به على جقمق الذي كان نائب الشام ثم استقر في النيابة بصفد فباشرها مدة طويلة وحسنت سيرته فيها وسمعته، وكان فارساً بطلاً عارفاً بالسياسة؛ مات بصفد في يوم الجمعة 29 ربيع الأول، واستقر في نيابتها بعده اينال الششماني وكان قريب العهد من المجئ من إمرة الحاج وهم يشكون من جوره ووهنه - فلله الأمر(3/533)
وقدم جماعة من المقادسة والخليلية يشكون من نائبها أركماس الجلباني أنواعاً من الظلم والأذية - لجميع الطوائف، ومما أعتمده أنه حبس القاضي شمس الدين البصروي وهو يومئذ قاضي الشافعية وزعم أنه استنقذه من العوام لئلا يرجموه وحجر على المياه التي لبيت المقدس فختم على الآبار ومنع الناس من الاستفاء منها إلا بثمن - إلى غير ذلك، فلما علم السلطان بسيرته أمر بعزله وقرر غيره في الإمرة وهو أخو - تغرى برمش الذي ناب عن السلطان في الغيبة.
سنة ثمان وثلاثين وثمانمائة
كان أولها يوم الخميس، فيها كائنة شمس الدين محمد المعروف بابن الادمي الجوهري، كان أحد طلبة العلم واشتغل كثيراً، وتنزل في بعض المدارس، ثم ترك فلزم التسبب بالبضاعة، فاتفق أنه حضر مجلس جوهر الخازندار فأراد أن يطريه، فقال له: أنت سئلت لهذه الوظيفة ويوسف عليه السلام سأل فيها فأنظر كم بين السائل والمسؤل! وأعاد ذلك مرة أخرى، فقال: فانظركم بين المقامين. فشاع ذلك عنه فبادر إلى الحنفي واعترف فحقن دمه وحكم له باستمراره على الإسلام، ونفذ ذلك، وبلغ ذلك الشيخ يونس الالواحي فثار كعادته فاستشكى واستكثر من الاستفتاء على ذلك، فبلغ الخازندار فشق عليه وتوعد يونس. قلت: واستمر ابن الأدمي على حالته وتنصل من ذلك، وتالم لما نسب إليه من ذلك ومن غيره.
وفيها أعيد ناصر الدين بن عز الدين البكري إلى قضاء الفيوم عوضاً عن رجب بن العماد الفيومي، ثم صرف وأعيد رجب بعناية جوهر الخازندار.
وفيها في المحرم قدم السيد الشريف تاج الدين بن عبد الله الحسيني الشيرازي رسولاً من قبل السلطان شاه رخ بن تيمور وقدم هدية للاشرف، وسأل أن يؤذن له في كسوة البيت الحرام، وكانت الهدية ثمانين ثوباً من الحرير الاطلس وألف قطعة فيروزج، وتاريخ كتابه في ذي الحجة سنة ست وثلاثين، ولقيت السيد المذكور فوجدته(3/534)
فاضلاً متواضعاً، ذكر لي انه تزوج بنت السيد الشريف الجرجاني صاحب التصانيف وأن السيد الشريف المذكور ذكر له انه اشتغل بالقاهرة، وأخذ عن أكمل الدين وغيره، وأقام بالخانقاه السعيدية أربع سنين، ثم خرج إلى بلاد الروم ثم لحق ببلاد العجم ورأس هناك، وكان قدومه من جهة الحجاز فحج ووصل مع الحجاج، ثم عقد الموكب وأحضر الرسول المذكور ومعه ولده وذكر أنه رزقه من بنت الشريف الجرجاني وهو كهل من أبناء الثلاثين وله فضيلة أيضاً، ثم في اثناء صفر أحضر الرسول والقضاة المصرية ودار بينهم كلام يتعلق بالرسالة المذكورة، وانفصل المجلس على أن السلطان اعتذر من الإجابة خشية أن يتطرق إلى ذلك غيره من الملوك، وقنع الرسول بهذا الجواب، ثم جهز معه أقطوه الذي كان دويدار صغيراً ثم صار مهمندار السلطان رسولاً من قبل سلطان مصر بهدية وجواب، وسافروا من طريق الشام، وأظهر السلطان بعد ذلك حنقاً على القضاة في عدم مبالغتهم في الرد على الرسول فيما احتج به على تعين غجابة مرسله وكانوا استفتوا على ذلك أهل العلم بالقاهرة فأجابوا، وتواردت أجوبتهم على المنع، ومنهم من أجاب من قبل أن يسال بل كتب السؤال والجواب بخطه معاً، فمن عجيب ذلك أن بعضهم كتب لا يجوز ذلك لما فيه من تعطيل الوقف، وكتب الآخر لا يجوز لسلطان مصر الإجابة لذلك لما فيه من الافتيات على سلطان مصر - إلى غير ذلك من الاستدلالات الواهية، كل ذلك زعموا لطلب مرضاة السلطان، فقدر الله تعالى أنه لم يعجبه شيء مما كتبوا به أجمعين، ولم أعرج في جوابي إلا على ما تقدم من أن ذلك يفضي إلى تسليط غيره لطلب ذلك - فينخرق السياج وترتفع الخصومة،(3/535)
ولما شاع غضب السلطان من القضاة تحرك صالح البلقيني في العود إلى القضاء، وذكر القاضي - شمس الدين بن القاضي زين الدين التفهني الذي كان أبوه في وظيفة القضاء بالقاهرة أن يستقر في وظيفة أبيه، فيقال إنه مال إلى ذلك وسعى أو سعى له فيه، ولم ينبرم لواحد منهما أمر - والأمر بيد الله تعالى يفعل ما يشاء ويختار.
وفي المحرم شرع الأمير سودون المحمدي في عمل سقف الكعبة بأمر الملك الأشرف. فبدأ فيه في نصف الشهر وعمله سقفاً جديداً، فشرع فيه أوائل شهر ربيع الأول منها، وهدم منارة باب السويقة وعمرها جديدة فوجد فيها مالاً.
وفي أوائل صفر صرف بهاء الدين أبو البقاء محمد بن القاضي نجم الدين ابن حجي عن قضاء الشام، وقرر شهاب الدين ابن المحمرة عوداً على قدر التمس منه أن يدفع للسفر بذلك خمسمائة دينار، فامتنع وصمم، فغضب السلطان وأمر بنفيه إلى القدس بطالاً أو مكة قاضياً، فأجاب إلى مكة واستمهل إلى رجب أو شوال، فسعى حينئذ لسراج الدين عمر بن موسى بن حسن الحمصي الذي كان نائب الحكم باسيوط من الصعيد ثم ولي قضاء طرابلس، فأجيب ساعيه بمال جزيل وأرسل إليه خلعته وصرف شمس الدين محمد بن شهاب الدين بن الكشك عن قضاء الحنفية بدمشق أيضاً، وقرر شمس الدين الصفدي على مال جزيل، وتوجهت خلعة الصفدي أيضاً وفي وسط صفر قصر الوزير المستقر عن قرب وهو امين الدين إبراهيم بن مجد الدين عبد الغني ابن الهيصم الذي ناظر الدولة وكان أبوه ناظر الخاص ومن قبل في الديوان المفرد فقصر في تجهيز المرتبات السلطانية، فهجم جماعة من المماليك الجلب على داره(3/536)
فنهبوا ما وجدوا فيها، ثم توجهوا إلى منزل الاستادار وهو كريم الدين عبد الكريم بن تاج الدين عبد الوهاب بن كاتب المناخات فنهبوا ما وجدوا فيه أيضاً، ثم توجهوا إلى منزل - ناظر الجيوش زين الدين عبد الباسط بن خليل فأفحشوا في نهب ما قدروا عليه منها، فلما أصبحوا بكر الوزير والأستادار فشكيا حالهما، ثم أراد ناظر الجيش أن يحضر بين يدي السلطان فمنعه وراسله بأن يتوجه إلى الإسكندرية حتى تنكسر شوكة المماليك، فصعب ذلك عليه وراسل السلطان يستعفيه، فأعفاه وأمره بالحضور فحضر، واستقر الحال على أنه يتكفل بأمر الوزير ويسعفه في جمع ما يحتاج إليه وستمر الاستادار على حاله، ثم بعد يومين استقر جانبك دويدار ناظر الجيش في وظيفة الاستادراية وقبض على الاستادر وصودر واستتر الوزير. فأمر السلطان ناظر الدولة - وهو سعد الدين إبراهيم بن كريم الدين عبد الكريم بن سعد الدين كاتب حكم في الكلام في الوزارة، فلما أصبح ألزمه السلطان بأن يستقر وزيراً.
فامتنع فأمر بضربه، وضرب ضرباً مبرحاً، وتوجه إلى منزله ملزوماً بتكفية الوزارة، وكان ذلك يوم الثلاثاء ثالث عشر صفر، فصار ينظر في أمور الوزارة إلى أن استقر أخوه جمال الدين يوسف فباشر بشدة وعسف، واستقر قبطي يقال له ابن قطارة في نظر الدولة وألزمه بسد الأمور، ثم في يوم الأربعاء ضرب الاستادار ضرباً مبرحاً وعصر وألزم بخمسين ألف دينار، فشرع في بيع دوره ودواليبه وقماش أهله وعرض مماليكه وجواريه للبيع.
وانتهت زيادة النيل في سابع عشري توت إلى عشرين ذراعاً ونصف ذراع، وانفتق من الخليج فتق فنفذ إلى ناحية شبراً ومنية الشيرج، فغرق من ذلك شيء كثير، وبقي الناس أياماً في شدة.
وصرف والي الشرطة عمر أخو التاج الشويكي عن ولايته وأعيد دولات خجا الذي كان استقر في سنة ست وثلاثين وصرفه نائب الغيبة، فأعيد وباشر سد المقطع المذكور.(3/537)
وفي ربيع الآخر قدم أرغون شاه من الشام وهو الذي كان ولي الوزارة قبل ذلك بالقاهرة، واستقر عوض الحمصي بطرابلس ولد قاضيها شهاب الدين وهو صدر الدين محمد بن أحمد بن محمد النويري ببذل ثلاثمائة دينار.
وفي ربيع الآخر قبض قرقماش نائب حلب على ولد ناصر الدين ابن صدر الباز التركماني بسبب أن أباه نزع ابن أخيه من نيابة مرعش وكان السلطان قرره فيها، فانتمى إلى نائب حلب فكاتب فيه، فأذن له أن يسير إلى مرعش ويقرره في نيابته ويخرج من عائده، فتوجه لذلك فوقع بينهم مناوشة، فكسرهم وقبض على ابن ناصر الدين المذكور وجماعة وأحضرهم إلى حلب وكاتب بذلك، فعاد إليه الجواب عن ذلك.
وفي جمادى الأولى أول يوم منه أمر السلطان القضاة بقراءة كتب الاوقاف بالمدارس الكبار والخوانق وأتباع شرط الواقفين فيها وشدد في ذلك، فلما كان يوم الأربعاء رابعه اجتمعوا بالشيخونية وقرئ كتاب الوقف فقال لهم الشافعي: يقام ناظر بشرط الواقف ليعمل بالشرط وينفذ تصرفه. فانفصلوا على ذلك، ثم حضر المشايخ والطلبة يوم الثلاثاء حادي عشره عند السلطان، فقال لهم: ما فعلتم؟ فقالوا: الحال يتوقف على ناظر يتكلم. فقال للشيخ: أنت ناظر! فقال: وكذلك كاتب السر، فأمر كاتب السر في الكلام معه، فحضروا يوم الأربعاء وقرئ شرط الواقف فتكلموا أولاً في البيوت فوجدوا الشرط أن يسكنها العزاب، فوجد من المترددين نحو العشرين، فأمر أن يخرج من المتزوجين بعددهم ويسكن المترددون ووعدوا بأن يحضر لكتابة ذلك من يوثق له فلم يحضر أحد، وحضروا يوم العشرين بالصالحية فقرئ كتاب وقف الناصري، فترددوا فيمن يستحق النظر هل هو الشافعي أو المالكي! ونزل إلى الشيخونية جمدار فأخبر الشيخ وهو في الحضور أن السلطان رسم أن كل أحد على حاله فسروا بذلك وقرؤا للسلطان، ثم تبين للسلطان أن الذي قام في ذلك كان فيه هوى وتعصب، وأشير عليه بترك الناس على حالهم، وأن الذي يصل إليهم من المعاليم هو من جملة أموال المسلمين وهم مستحقون(3/538)
إلى غير ذلك من الاعتذارات إلى أن أمر بترك ذلك وخمدت الكائنة واستمر الامر على ما كان.
في المحرم قدمت هدية قرا يلك وفيها دراهم مكتوب عليها سكة السلطان الأشرف. وفيه استقر جانبك الذي كان نائباً بالإسكندرية حاجباً عوضاً عن بردبك الإسماعيلي بحكم نقله إلى دمياط، ونودي يوم النوروز بزيادة إصبعين فصار على أربع عشرة إصبعاً من الذراع العشرين ولا يحفظ مثل ذلك فيما مضى.
وفيه استمر إسكندر بن قرا يوسف على قلعة شاهين وكان الأمير بها من قبل أن يستمر رمضان وقد قدمت بسبب عصيانه عليه، وهي على مسيرة يومين من تبريز فاستمر فيها إلى الآن، فحاصرها إلى أن نفد زاده ومات في الحصار، فملكها الإسكندر واستنقل نساءه بها.
وفيها رفع داود الكيلاني التاجر عن قاضي مكة أموراً عظيمة من الظلم والأحكام الباطلة، وسعى في أن يقرر في نظر الحرم عوضه على مال بذله فأجيب، فراجع أمير مكة وذم داود المذكور وذكر أنه أمر سودون المحمدي الذي جهز من القاهرة لترميم البيت والحرم أن ينظر في ذلك إلى أن يعود المرسوم من القاهرة، فأجيب بتقرير سودون المذكور في ذلك.
وفيها استقر سفر الذي تجهز من مصر لقبض المكوس الهندية بجدة في البحر وبطل السفر من البر، وكان للناس فرح كبير لأن كثيراً من المسلمين يحبون المجاورة بمكة فكان السفر في هذه الأيام يحصل لهم به صيام رمضان بمكة والعمرة والمجاورة وفي غضون ذلك يحصل للكثير منهم المكاسب، وجدد في هذه السنة مرسوم بأن لا يؤخذ من تجار الهند إلا العشر من كل شئ معهم بضاعة من غير تكليف للدرهم الفرد، فإن وجد منهم مصري أو شامي يؤخذ منه الخمس عقوبة(3/539)
لهم على مخالفة الأمر، وإن وجد يمني أخذ جميع ماله، واتفق أن قرئ هذا المرسوم تجاه الحجر الأسود، ثم راجع أمير مكة السلطان في ذلك حتى أمر بالتسوية بين الجميع بعد ذلك.
وفي ليلة التاسع والعشرين من صفر سقط صبي لعبد الرحمن بن فيروز عمره ست سنين من منزلهم الذي على الخليج الناصري في الماء فغرق، فتتبعوه في الماء فلم يقدروا عليه، فبعد يومين وجدوه في بركة في آخر الخليج فدفنوه، فلما كان بعد ذلك ظهروا على أن جارية لهم سوداء غضبت من أمه فألقته في الماء وهو نائم، فتحيلوا عليها حتى أقرت كيفية ذلك، فرفعوا الأمر إلى بعض نواب المالكي فحكم بتغريقها في المكان الذي ألقت فيه الصبي، فألقوها موثقة بالكتاف، فتخبطت في الماء قليلاً وانغمست فماتت، وذلك في تاسع عشرى الشهر المذكور. وانتهت زيادة النيل على ما زعم القياس إلى عشرين ذراعا ونصف والحس لا يقبل ذلك بل لم يكمل العشرين ولكن الري كان عاماً في جميع البلاد العالية.
شهر ربيع الأول أوله الثلاثاء الموافق لثامن بابة، ونقص النيل نحو الذراع، وتشاغل الناس بزرع البرسيم على العادة، وفيه ادعى على والي الشرطة عند المالكي بأنه ضرب شخصاً حتى مات، فأجاب بأنه أتى به إليه وهو سكران فضربه الحد وما زاد عليه وأقيمت البينة بذلك، فدرأ عنه القتل، وبلغ السلطان ذلك فأنكره، واتفق أن أولياء المقتول أبرؤا الوالي وطاح دم ذلك القتيل.(3/540)
وفي أول يوم - منه - استقر يوسف بن كريم الدين عبد الكريم ابن سعد الدين بن كاتب جكم في الوزارة وخلع عليه، وهرع الناس للسلام عليه، وخلع على أخيه - إبراهيم - خلعه الرضا واستقر في نظر الخاص، واستمر الأستادار في المصادرة فعرض جميع عقاراته وكل ما يملكه للبيع، واستقرت مصادرته على عشرين ألف دينار. فسلم للتاج أستادار الصحبة على المال المذكور، فأقام في منزله حتى أورد نحو أربعة ألف دينار؛ وعمل المولد السلطاني يوم الخميس الثالث منه.
وفيه أغار ولد قرايلك على معاملة ملطية ودوركي ونهب شيئاً كثيراً، وتوجه أبوه للإغارة على الرها.
وفي أواخر جمادى الآخرة استقر تاج الدين عبد الوهاب بن الخطير ابن نصر الله القبطي ناظر الإصطبل في الوزارة بعد القبض على جمال الدين يوسف ابن كريم الدين ابن كاتب جكم ومصادرته، وكان يوسف قد استعفى بسبب قلة المتحصل وكثرة المصروف، فأعفاه السلطان ولكنه قبض عليه وعلى أخيه ناظر الخاص وصادرهما على مال يقال إنه ثلاثون ألف دينار، ثم خلع في صبيحة ذلك اليوم يوم الإثنين السابع عشرى جمادى الآخرة على ناظر الخاص مستمراً، وأمر الخطير أن يتكلم في الوزارة بغير ولاية إلى أن يرى من يتكلم، فتكلم في ذلك يوم الأحد ويوم الأثنين، ثم خلع عليه يوم الثلاثاء بالوزارة، وشرع ناظر الخاص وأخوه في بيع أملاكهم ورزقهم من أراضي وعقار، ثم خفف عنهما من مال المصادرة نحو النصف، واستمر ناظر الخاص، واستقر أبو الحسن بن تاج الدين في نظر الإصطبل عوض والده.(3/541)
من الحوادث
فيها تولية دولات خجا كشف منفلوط واستقرار علاء الدين علي ابن محمد ابن الطبلاوي الذي كان والياً في الأيام الناصرية فرج وبعدها في الولاية، وكان له مدة طويلة خاملاً، فاستقر في سابع عشر جمادى الأولى.
وفيها استقر جلبان نائباً بطرابلس نقلاً من حماة، واستقر قانبائي الحمزاوي في نيابة حماة نقلاً من إمرته بالقاهرة، واستقر خجا سودون عوضاً عن قانبائي، وأضيف إقطاع سودون خجا للوزير تقوية له.
وفي هذا الشهر جدد سودون المحمدي سقف الكعبة وأتقنه، وحمل إليه من الرخام من القاهرة لمرمة الحجر وشاذروان البيت.
وفيها كانت الوقعة بين الأمراء وبين عرب هوارة فقتل منهم جماعة، فعين السلطان يوم السبت أول يوم من جمادى الآخرة وهو السادس من كانون الثاني كريم الدين الذي كان أستادارا ووزير كاتب المناخات فتوجه لكشف الوجه القبلي وألبس خلعة بزي الأمراء وفرح الناس بذلك، وصحبه محمد الصغير الذي كان كاشفاً قبله ودويداراً في خدمته، وأمر على الدم ولي الكشف القبلي أيضاً والوجه البحري مرة أخرى، واستمر ناظر الخاص رأس نوبة بين يديه فتوجه إلى الصعيد فأصلح أحوال العرب ورجع، والسبب في ذلك أن تغري برمش أمير آخور خرج في السرحة التي جرت بها العادة فالتزم له الكاشف واسمع محمد الصغير بمقدار من المال عن السرحة، فبلغ ذلك أكابر العرب فتحالفوا على أن لا يعطوا أحدً شيئاً ووقع بينهم تناوش، فراسل أمير آخور السلطان، فجرد له جماعة من أكابر الأمراء فتوجهوا في هذه السنة وكان ما سيأتي.(3/542)
وفيها وثب فياض بن ناصر الدين محمد بن دلغادر على ابن عمه حمزة أمير مرعش فأخرجه واستقر بها بغير تولية من السلطان، فتوجه الأمير قرقماس نائب حلب فقبض على فياض المذكور وولاها لابن عمه حمزة بك بن علي بن بك بن دلغادر، فبلغ ذلك ناصر لدين بك والد فياض المذكور وهو يومئذ أمير الأبلستين وقيصرية فشق عليه، وجهز قرقماس فياضاً المذكور إلى القاهرة فسجن بالقلعة.
فبعث ناصر الدين زوجته خديجة والدة فياض تشفع في ولدها وجهز معها هدية ومفاتيح قيصرية وأن يكون زوجها ناصر الدين بك نائباً عن السلطان فيها، فوصلت حلب في رمضان فوصلت القاهرة في آخر شوال، فقبلت هديتها وأفرج عن ولدها وأعطي نيابة مرعش، واستقر أبوه على حاله بقيصريه، وكان إبراهيم بن قرمان راسل السلطان أن يعطيه قيصرية على أن يحمل كل سنة عشرة آلاف دينار وغيرها، فأمره قرقماس نائب حلب أن يتجهز إلى أخذها ويسلمها لابن قرمان، فوقع لصاحبها ما ذكر فبطل ذلك، وفي أثناء ذلك لجأ حمزة إلى ابن عمه سليمان بن ناصر الدين بك واجتمع جانبك الصوفي الذي كان أميراً بمصر وسجن بالإسكندرية وهرب من أول الدولة الأشرفية بعد أن اختفى ثلاث عشرة سنة واستمرار السلطان في التنقيب عليه، فجز داوداره ومحمد بن كند غدي ابن رمضان إلى ناصر الدين بك ابن دلغادر بالأبلستين فحلفاه على أنه إذا قدم عنده جانبك الصوفي لا يسلمه ولا يخذله، ثم اجتمع جانبك بسليمان بن دلغار فتلقاه هو وأمراؤه وأمراء قلماس بن كبك ومحمد ابن قطلبك ونزلوا بملطية فجاء إليهم ناصر الدين بك ثم توجهوا جميعاً إلى محمد بن قرا يلك وهو بقلعة كركر فقواهم ثم نازلوا قلعة ديركي وضايقوا أهلها بالحصار وجاء قاصد شاه رخ إلى قرا يلك يأمره بالمسير إلى قتال إسكندر بن قرا يوسف فترك جابي بك الصوفي ومن معه بدوركي وتوجه بجماعته إلى ملطية فحاصرها فمشى عليه إسكندر وأغار على أرزن الروم فأخذها ففر قرا يلك إلى آمد فأقام بها ثم خرج إلى ارقنين فلما كان في صفر سنة تسع وثلاثين التقى إسكندر بن قرا يوسف وقرا يلك على أرزن الروم، فخرج على قرا يلك كمين لإسكندر فهزمه، فلما كاد يؤخذ رمى بنفسه في خندق المدينة فغرق، فطلع به أولاده بعد ذلك فدفنوه هناك، فجاء إلى اسكندر من عرفه بذلك، فأرسل من(3/543)
أخرجه من قبره بعد ثلاثة أيام وحز رأسه ورأس اثنين من أولاده، وثلاثة من ألزامه وأرسلهم إلى القاهرة فنصبت على باب زوبلة، وذلك في ربيع الأول وزينت القاهرة فرحاً بذلك، وأكرم السلطان قصاد الإسكندر وأعطاهم مالاً وقماشاً بقدر عشرة آلاف دينار، وكتب سليمان بن دلغادر إلى جانبك الصوفي بأنه معه معيناً له على مقاصده، فاغتر بذلك فاجتمعا بملطية، فبالغ في إكرامه والمناصحة له، وأقاما على ذلك مدة، ثم خرجا يوماً للصيد والتنزه فأبعدا في ذلك، وكان جانبك قد رتب فرسانه وجماعته على حصار ديركي، فقبض أصحاب سليمان على جانبك وقيدوه، وسرى به سليمان على الدمس ليلة كاملة حتى صبح الأبلستين فسجنه، وراسل السلطان الملك الأشرف يعلمه بالقبض عليه.
وفيها جرد أربعة أمراء من الألوف إلى عرب البحيرة، والسبب في ذاك أن وكانت طائفة من عرب لبيد قحلت بلادهم فدخلوا البحيرة وصالحوا أهلها، فمكنوهم من التوجه إلى عرب محارب بالوجه القبلي، فنزلوا في الأراضي التي بارت من الزرع وطلع فيها مرعى يقال له الكتيح - بكاف ومثناة ومهملة مصغر - فلم يمكنهم الكائف من الرعي فيه إلا ببذل مال، فأنفقوا من ذلك ووقع بينهم قتال، فكان ذلك سبب بعث الأمراء فنهبوا منهم كثير من جمالهم وفروا من أيديهم، فرجع الأمراء في شعبان.
وفي رمضان الوافق لبرمودة من أشهر القبط عند دخول فصل الصيف وقع بمصر مطر غزير دلفت منه البيوت وجاء سيل عظيم بحيث أقام بالصحراء أياماً.(3/544)
وقرأت بخط الشيخ تقي الدين المقريزي ورأيت في كتاب ورد من أرض الحبشة فيه: وفي أول رجب أي سنة ثمان وثلاثين غزا الأمير خير الدين أخو السلطان مدلاي بن سعد الدين بلاداً للقرم فتح سبعة أبواب من أبواب الحطى وانتصر عليهم، وقتل أميراً من ألزام الحطى وحرق بلادهم، وأخذ من المال غنيمة شيئاً كثيراً وقتل منهم عدداً كثيراً، ورجعوا ومعهم من الذهب والفضة والزرد والدروع والوصفان كثير، ولم يسوقوا شيئاً من الإبل والبقر والغنم ولا العجائز والشيوخ بل جعلوا عليهم علامات، وخربوا ست كنائس وعدة قرى ورد ألف بنت من المسلمين، ووصفوا خير الدين بعدل كثير والرخاء عندهم كثير.
وفيها مات الحطى ووقع الخلف بعده. ثم اتفقوا على صبي صغير وسلطانهم مدلاي عادل خير.
وفيها وقع الوباء في بلاد المسلمين والكفار فمات به خلق كثير جداً، وفي شوال منها خرج خير الدين أيضاً غازياً.
وفيها في شعبان راجت الفلوس التي ضربها السلطان عن كل درهم ثمانية عدداً منها وأبطل الفلوس الأول، وصار الرطل من هذه بحساب سبعة وعشرين درهماً ومن القديمة بثمانية عشر، فكانت تؤخذ من الباعة وتحمل لدار الضرب لتضرب جديدة وتمشي الأمر على ذلك ولكنها قليلة لعدم الاعتناء بكثرتها لقلة المتحصل منها.
وفيها نقل قانصوه النورزي من نيابة طرسوس إلى الحجوبية بحلب، ونقل الحاجب طوغان إلى إمرة مائة بدمشق، وقرر يوسف ابن فلدوا في نيابة طرسوس.
وفي ربيع الأول استقر سراج الدين عمر بن موسى الحمصي في قضاء حلب نقلاً من قضاء طرابلس عوضاً عن بهاء الدين ابن حجي، ويقال إنه بذل ثلاثة آلاف دينار، واستقر(3/545)
شمس الدين محمد بن علي بن عمر بن علي بن مهنا بن أحمد الصفدي في قضاء دمشق عوضاً عن شمس الدين بن الكشك، وشرط عليه بذل ألفي دينار، فلما وصل إليه التوقيع والخلعة امتنع ورحل إلى القاهرة مستعفياً، وكان قد أقام في قضاء طرابلس مدة طويلة، ثم ولي قضاء دمشق عوضاً عن شهاب الدين ابن الكشك ثم صرف وأعيد ابن الكشك، فلما رحل السلطان إلى جهة حلب قرره لما رجع في عدة بلاد نزعها من نواب ابن الكشك واستمر ابن الكشك في القضاء، فلما مات ابن الكشك أمل أن يعود فقدم عليه ولد ابن الكشك على مال كثير بذله واستقر هذه المدة اللطيفة ثم صرف، فلما امتنع ابن الصفدي من الوالية بالشرط المذكور واستعفى أعفي ورجع إلى دمشق من فوره على ما بيده من المدارس واستمر ابن الكشك ثم ألزم ابن الصفدي بالتوجه إلى صفد فسار إليها فيما قيل، ولد في ذي القعدة سنة 775، وذكر أنه سمع موطأ القعنبي على ابن حبيب الكمال قرأ عليه ابن فهد منتفى منه وقرأه عليه كاملاً صاحبنا البقاعي ثم ظهر بطلان لهما ورجعا عن روايته لاشتباهه عليهما.
وفيه ثار شمس الدين الهروي على القاضي علم الدين صالح، وادعى أن بيده وظائف كثيرة بغير شروط الواقفين، فتعصب له ناظر الجيش ودافع عنه، واستمر على ما بيده واندفع الهروي بذلك، ثم عمل ناظر الجيش مولده في السابع والعشرين من الشهر أرسل إليه فأصلح بينهما - والله المستعان.
شهر ربيع الآخر أوله الأربعاء بالرؤية، في أوائله منع الوالي السقائين من الملء من الخليج الحاكمي ثم الناصري، ونقص الماء إلى أن صار في مقدار الوفاء، فكانت مدة ما انتفع أهل البلد بالخلجان نحو المائة يوم، وفي الرابع منه وقعت زلزلة لطيفة وزالت بسرعة.(3/546)
وفي أوله وصلت البنادقة وهم تجار القطائع من الفرنج الذي يسمونها القطائع فتأخروا عن عادتهم نحو العشرين يوماً ولم يصلوا في العام الماضي، وعجلوا عن عادتهم في الذي قبله بنحو الشهرين، ولم يحفظ ذلك فيما مضى بل الذي تمادى عليه حالهم أنهم يصلون في أول العشر الثاني من بابة ويرجعون في أوائل هاتور، فألزم السلطان التجار بعدم البيع إلى أن يباع ما يتعلق به، وطلب من الفرنج أن يشتروا منه الفلفل بمائة وعشرين كل جمل، فامتنعوا وتراضوا مع نائب الإسكندرية إلى أن يشتروا منه ثلاثمائة جمل بسعر كل جمل بمائة، ومشوا ولم يشتروا من المسلمين جملاً واحداً، وكسدت بضائع التجار واشتد أسفهم وشق عليهم ذلك مشقة شديدة - والأمر بيد الله.
وفي السادس منه - ووافق ثاني عشر هاتور - أمطرت السماء وقت العصر، وسرح السلطان في هذا اليوم ورجع وقد صاد، وفي أواخر امشير في العشر الأخير من رجب وقع برد شديد، وحصل المطر أياماً وسر الناس بذلك، وتمادى البرد نحوا من عشرة أيام أشد مما كان في طوبة وكهيك، ثم عاد فراح الوقت كما كان، وفي الجملة من نحو ثلاثين سنة ما عهد أقل برداً من فصل الشتاء في هذه السنة.
وفي نصف شوال أعيد التاج الوالي إلى ولاية القاهرة وعزل ابن الطبلاوي، وفيه قطعت إصبع عبد القدوس بن الجيعان لما تكرر منه من التزوير. وفيه اهتم السلطان بأمر الجسور وأمر بإتقانها، وندب لذلك تمرباي الدوادار الثاني والوزير فاجتهدا في ذلك، ثم ضاق بالوزير الحال في المصروف فاستعفى وكان ما سنذكره.(3/547)
وفيها نازل اصبهان بن قرا يوسف صاحب بغداد الموصل فراسل صاحبها رمال قرا يلك، فأمده بودله محمود في مائتي فارس، فأنزلهم عنده كالمسجونين فراسل محمود أباه، فأمده بأخيه محمد بن قرايلك في ألف فارس، فنزل على الموصل ولم يمكن من رؤية أخيه، وكان قرا يلك برأي العين فتوجه على نصيبين، فبلغه إن إسكندر بن قرا يوسف قصد محاربته بعد فراره من شاه رخ ملك الشرق.
وفي التاسع عشر من جمادى الآخرة سافر تغري برمش أمير آخور إلى سرحة الصعيد في تجمل كبير ونزل معه غالب الأمراء فودعوه ووقع له مع عرب الصعيد وقعة قتل فيها من أصحابه جماعة، وبعث يطلب نجدة، فأمر تمراز رأس نوبة بالتوجه إليه، وأمر كل أمير مقدم أن يرسل معه عشرين مملوكاص وتكمل له من غير المقدمين ثلاثمائة، وسافر في سابع جمادى الآخرة.
وفي أول شعبان أمر السلطان القاضي الشافعي إذا حضر المجلس لسماع الحديث إن يحضر صحبته فلقة وعصى، ومن تعدي في كلامه أو أساء الأدب أدب وأكد في ذلك.
وفي رمضان أمر السلطان بترك أكثر الخلع التي قررت لمن يحضر سماع الحديث، ثم شفع فيهم وقيل له: لو كان هذا قبل أن يحضروا، فإن كان ولا بد وقد قضوا المدة كلها تصرف لهم هذا العام ثم يعلموا ويقطعوا فيما يستقبل، فأمر بالصرف لهم.
وفي أواخر رمضان حضر عند السلطان شريف من الشام ومعه أوراق بخط الشيخ علاء الدين البخاري فيما يتعلق بالنسيمي وشيخه فضل الله، وأن بالشام ومصر جماعة على عقيدته، وأنه تصدى لتتبعهم وكشف عورتهم، وأنه وجد بالقاهرة شخصاً منهم، فقرئ كتاب الشيخ علاء الدين فأمر السلطان بإحضار الرجل وما في بيته من ورق ففعل ذلك، وهذه هي الطائفة المبتدعة المعروفة بالحروفية ثم بالنسيمية، فلما كان في رابع شوال عقد مجلس(3/548)
بالقصر عند السلطان وأحضرت الكتب وبعضها من كلام شيخه وهي باللسان الفارسي فقرأ من أول واحد منها شيئاً يسيراً وفسره بالعربي وهي مقالة مركبة من قول المشبهة والاتحادية، فقرأ الشافعي خط الشيخ علاء الدين وفيه أن شعر الإنسان في وجهه ورأسه سبعة شهور: شعر أجفانه الأربعة وحاجباه ورأسه، وأن في وجهه سا آخر سبعة، وأن عقد أصابعه في اليدين أربعة عشر. فذلك عدد حروف المعجم ونحو من هذا. وفيه أن الإلهية انتقلت من الله لآدم ومن آدم لآخر إلى أن انتقلت لفضل الله وكلاماً من هذا حاصله إن الله هو الحروف؛ ثم أحضر الرجل فسئل عنها فقيل إنه شراها من حصن كيفا بثلاثين درهماً ولا يعتقد شيئاً مما فيها وأعلن بالشهادتين والتبرئ من كل دين يخالف دين الإسلام وصرح بكفر من صنف هذه الكتب وشيخه أو يعتقد ما فيها، فقال له الشافعي إن كنت صادقاً فاحرق هذه الكتب بيدك.
فامتثل ذلك بعد أن حاد عن الجواب وباشر إحراق ذلك بنفسه، ثم سأل السلطان: هل على إثم إذا أخرجت هذا ومثاله من بلادي؟ فقال: لا، فنودي من عرف من أهل مذهب النسيمي ووجد عنده شيء من كتبه وأحضره للسلطان كان له مائة دينار، ثم أمر فنودي أن يخرج جميع العجم من القاهرة والقلعة بأسرهم ولا يتأخر منهم إلى ثلاثة أيام، ثم لم يتم ذلك. وفي يوم الأحد ثاني عشر شعبان أشيع موت زين الدين عبد الرحمن بن الشيخ شهاب الدين أحمد بن حمدان الأذرعي، وكان مولده في المحرم سنة 755 واشتغل على أبيه وغيره، وسمع من الصدر ابن غنوم جزءاً من الخلعيات سنة بضع وستين بسماعه من العراقي أنا ابن عماد، وسمع الكثير من شيوخ ذلك العصر بحلب وغيرها، وقدم مع أبيه دمشق فأسمعه من ... ،(3/549)
وأجاز له جماعة تفرد بالرواية عنهم لكني لا أعلم أنه حدث عنهم بشيء غير جزء أو جزءين ثم ظهر أنه لم يمت إذ ذاك، فذكر لي ابن فهد أنه توجه إليه هو وغيره من الرحالة كالبقاعي وابن الإمام في هذه السنة فمات بعد وصولهم إليه بقليل، وكان قدومه القاهرة سنة بضع عشرة فاستوطنها وولي نيابة الحكم، ثم ولي قضاء دمنهور الوحش والبحيرة فاستقرت قدمه بها بعد منازعات، وأقام على ذلك بغير منازعة أكثر من عشر سنين، وكان فاضلاً يستحضر أشياء في الفقه ويذاكر بأشياء حسنة، وله نظم حسن ومدحي قديماً وحديثاً، واستهل شهر رمضان الخميس ووافق برمهات.
وفيها وصلت هدية نائب الشام وفيها مائة وخمسون فرساً وعشرة قطرة جمال وألف ثوب بعلبكي ومثلها بطان وخمسون قباء سمور ووشق وعشرة آلاف دينار ونعالاً خيل من ذهب ومسامير فضة، قيل إن في كل نعل خمسين ديناراً، وقيل إن مجموع قيمتها ثلاثين ألف دينار، وكان قدومهم سابع عشر ذي الحجة.
وفي سادس شهر رمضان هبت ريح شديدة باردة وتراب كثير عم القاهرة وسقط عدة من الدور، وفي الثالث عشر منه أمطرت ليلاً، وتمادى ذلك في أول النهار مع رعد وبرق. وذلك عند حلول الشمس برج الثور، ثم تمادى المطر ذلك اليوم كله لكن بغير توالي حتى توحلت الأرض كلها ووكفت البيوت، ثم أمطرت صبيحة ذلك اليوم بعد الفجر مطراً غزيراً جداً حتى وكفت البيوت وفسدت الأمتعة والزروع - والأمر لله وحده!(3/550)
وهبت ريح شديدة وقت العصر من اليوم الماضي حتى انتصف النهار ثم انجلت عن قرب.
وفيه استقر.. في كشف الوجه القبلي، وصرف كريم الدين ودخل القاهرة، وفي آخر يوم من رمضان خطبت بجامع عمر بن العاص، قايضت الشيخ شمس الدين محمد بن يحيى بما كان معي من خطابة جامع الأزهر بما معه من نصف خطابة جامع عمرو، وكان أكثر الفاكهة في هذه السنة غير ناجب بسبب كثرة الماء ولفقده في البساتين، ثم تأخر المطر في الشتاء كله فكان الورد قليلاً وكذا المشمش والليمون حتى بيعت الليمونة الواحدة بنصف درهم، وأمطت في عشي يوم الجمعة سابع شوال قبل المغرب مطراً خفيفاً، ووافق ذلك الحادي عشر من بشنس والشمس يومئذ في أواخر برج الثور، وأمطرت أيضاً يوم السبت بعد أن هبت ريح عاصف بتراب ثم انجلت، واستمر البرد في طرفي النهار شديداً بنحو ما كان في فصل الشتاء أو دونه يسيراً ولكن في وسط النهار وفي جوف الليل يقع فيهما بعض الحر، وتأخر لبس الصوف إلى يوم الجمعة سابع شوال المذكور فتأخر عن العام الماضي نحو عشرين يوماً، وزاد النيل في غير أوانه في اول العشر الثالث من بشنس، وتعجل بنحو عشرين يوماً، وغرقت بعض الأمتعة.
وفي الثامن عشر من شوال طيف بالمحمل وخرج إلى بركة الجب وأميرهم تمربائي الدوادار الثاني وأمير الأول المحتسب صلاح الدين بن الصاحب بدر الدين بن نصر الله، ورحلوا من البركة الحادي والعشرين منه، وفي أواخر بشنس من الأشهر القبطية زاد النيل قبل أوان عادته زيادة عظيمة، وغرق غالب ما زرع من المقاث البطيخ والسمسم وغيره في الجزائر وفسد للناس شيء كثير من(3/551)
البطيخ ونحوه، ثم عادت الزيادة في أوائل بؤنة، وكل ذلك قبل الوقت الذي جرت فيه العادة بالزيادة. فلما كان الثاني عشر من بؤنة وهو أول وقت المعتاد زاد أيضا بحيث بلغت الزيادة في المدة المذكورة نحو ستة أذرع ثم نقص نحو ذراع ونصف، ثم لما كان في الخامس والعشرين من بؤنة وهو اليوم الذي جرت فيه العادة بابتداء القياس وجد الماء قد بلغ إلى أحد عشر ذراعاً وعشرة أصابع وقد كان قد بلغ ثلاثة عشر ذراعاً لكن نقص في أول العشر الأخير، وهذا شيء لم يعهد مثله بمصر، وأكثر ما وصل إلى يوم الخامس والعشرين إلى عشرة أذرع ولكنها لم تفتح زيادتها قبل الأوان، وزاد في اليوم السادس والعشرين إصبعين، وفي الذي بعده إصبعين ثم ثلاثة، ثم توقف عن الزيادة من ثامن عشري بؤنة إلى رابع أبيب، ثم زاد فيه إصبعاً وإصبعاً ثم إصبعين وتمادى، وكان نقص سبعة عشر إصبعاً، وتحرك سعر القمح فازداد كل يوم شيئاً إلى أن وصل إلى مائتين وخمسين بعد إن كان بمائة وثمانين، وفي آخر يوم من المحرم وهو اليوم الثاني من أيام النسىء كانت الزيادة خمسة أصابع فانتهى إلى تسعة عشر ذراعاً وأربعة أصابع، وصادف أنه كان في العام الماضي في مثل هذا اليوم من أيام النسيم كان انتهى إلى هذا القدر سواء، وهذا من عجائب الاتفاق، وفي أول ذي القعدة وصل الخبر من شيراز من شاه رخ بأنه جهز إلى مكة كسوة للكعبة وهي التي كان عقد المجلس بسببها في أوائل هذه السنة وجهزت الرسل بالأجوبة، فجهز هو الكسوة من قبل أن يعود عليه الجواب وانزعج السلطان وكان من سيأتي ذكره.
وفي الرابع والعشرين من ذي القعدة كسرت عدة جرار تزيد على المائتين من الخمور فيها كبار تسع الواحدة نحو القطار، وذكر أنها لشخص يقال له أبو بكر بن الشاطر سمسار(3/552)
القماش الإسكندراني، وكان لكسرها في وسط البحر رجة واجتمع فيه خلق كثير. والسبب فيه أنه عثر عليه في بعض الحواصل بساحل بولاق فاستعان بأناس من الجند.
فهجموا على الذين عثروا عليهم فضربوهم، فهربوا فحولوا جميع ذلك إلى مركب وانحدروا بهم إلى قرب شبرا، فتوجه إليهم الوالي فقبض عليهم. فتمكنوا منهم وأخذوا الجرار، فرجعوا بأهالي الساحل فكسروها وكان يوماً مشهوداً.
وفيها وقع بين جماعة من نواحي الزبداني فتنة، فقتل خطيب الجامع وجماعة نحو الستة عشر نفساً، واتهم بذلك زين الدين بن صادر الاستادار فبلغ السلطان ذلك فأرسل يستدعيه ويأمره أن يحضر معه بتقدمة، فبادر إلى الحضور، فلما وصل إلى قطيا جهز السلطان عمر الوالي وأمره أن يقتله حال اجتماعه به، فلاقاه إلى بليس فقتله وحمل رأسه إلى السلطان، وهو عبد الرحمن بن محمد بن صادر، ولي الأستادارية في المستأجرات والحمامات السلطانية، وكان أستادار جقمق دويدار الملك المؤيد بالقاهرة، وتنقلت به الاحوال بعده إلى أن مات عن نحو من سبعين سنة. وفيه خرج عرب بني لام على المبشرين بالوجه فقتلوا منهم اثنين وسلم المبشر وهو بيرم خجا القرشي، فدخل في الثامن والعشرين من ذي الحجة وليس معه شيء من الكتب، وذكر أنه نهب لهم أشياء وأنه كان معه نفائس حصلها فجاء مسلوباً، وفي يوم الثلاثاء ثاني عشر ذي الحجة خرج شهاب الدين ابن المحمرة على مشيخة الصالحية بالقدس، فصادف قدوم عز الدين القدسي فالتقيا بالخانقاه الناصرية، ودخل(3/553)
عز الدين يوم الأربعاء ثالث عشر ذي الحجة القاهرة، واستمر بها على نيابة القضاء فقط، وصرف عز الدين الناعوري عن قضاء حمص وأضيف ذلك إلى قاضي الشام.
ذكر من مات
في سنة ثمان وثلاثين وثمانمائة من الأعيان
أحمد بن عبد الخالق بن عبد العزيز، الاسيوطي شهاب الدين، سمع من أبيه ومن عبد الرحمن بن القارئ وأجاز له، وكان يواظب التكسب بالشهادة في جامع ظاهر الوراقين، وكتب في الاستدعاآت بأخرة وحدث به وسمع الفضلاء، ومات في ثاني عشر ربيع الآخر.
أحمد شاه بن أحمد بن حسن شاه بن بهمن سلطان كلبركة شهاب الدين أبو المغازي، أقام في مملكته أربع عشرة سنة وكان خيراً، له مآثر بمكة، واستقر بعده ابنه ظفر شاه واسمه حميد أيضا.
أحمد بن عمر، البلبيسي البزاز شهاب الدين، مات في يوم الجمعة ثاني عشر رجب(3/554)
وقد جاوز الثمانين، وكان من خيار التجار ثقة وديناً وأمانةً وصدق لهجة، وله عدة مجاورات بمكة، وسمع الحديث الكثير وأنجب أولاداً رحمه الله تعالى.
إبراهيم السلطان أمير زه ابن القان معين الدين شاه رخ ابن الطاغية تيمور خان صاحب شيراز، كتب الخط المنسوب قارب ياقوت، ومات في رمضان، ووجد عليه أبوه وأهل شيراز.
أحمد بن ناصر الدين محمد بن أبي بكر بن رسلان بن نصير، البلقيني شهاب الدين، ابن أخي شيخنا سراج الدين، مات في السادس والعشرين من رجب بعلة السل، ولد سنة ست وتسعين، ولما ترعرع كان بان عم أبيه القاضي جلال الدين قاضياً وقد استناب أباه فتعلم القرآن، وحفظ كتباً. ودربه أبوه في توقيع الحكم، واشتغل في القراآت والعربية، وكان حسن الصوت بالقرآن، أم بالمدرسة الملكية بالقرب من مشهد الحسين، ووقع في الحكم، ثم ناب في القضاء بأخرة، وخدم ابن الكويز وهو كاتب السر ثم ابن مزهر، فأثرى وصارت له وجاهة وحصل جهات، ثم تمرض أكثر من سنة، ودفن عند أبيه بمقابر الصوفية. أحمد بن محمد، ناصر الدين المعروف ابن أمية الحكم، وكان ينوب في الحكم بمصر وعدة بلاد من البهنساوية، وكان له مدة منقطعاً بمرض عرض له فالج فانقطع بسببه.
أحمد بن محمد - الماجري المصمودي الشيخ ...
أحمد الحنبلي شهاب الدين الحلبي المعروف بالخازوق، ولي قضاء الحنابلة بها مراراً، وفي سنة خمس صرف وتقرر ابن الرسام، فدخل القاهرة ليعود إلى القضاء فتعذر ذلك مدة إلى أن قرر، فلما وصل لدمشق ضعف فتوصل إلى حلب في محفة فدخلها مريضاً، فاستمر على ذلك إلى أن مات بعد دخوله حلب بقليل.(3/555)
إسماعيل بن علي بن محمد بن داود بن شمس بن عبد الله بن رستم، البيضاوي الزمزمي. المؤذن بمكة، يكنى أبا الطاهر ويلقب مجد الدين، ولد سنة ست وستين، وأجاز له صلاح الدين ابن أبي عمر وعمر بن أميلة وأحمد ابن النجم وحسن بن مقبل وآخرون، وكان يتعانى النظم، وله نظم مقبول ومدائح نبوية من غير اشتغال بالآلة، ثم أخذ العروض عن الشيخ نجم الدين المرجاني ومهر، وكان فاضلاً، ورحل إلى القاهرة فسمع من بعض شيوخنا، وكان قليل الشر مشتغلاً بنفسه وعياله مشكور السيرة ملازماً لخدمة قبة العباس، وله سماع من قدماء المكيين، وحدث بشيء يسير، سمعت من نظمه، وأخوه إبراهيم ولد سنة 777، وأجاز لي في سنة 787 النشاوري والشهاب ابن ظهيرة وآخرون، واشتغل في عدة فنون، وأخذ عن أخيه حسين علم الفرائض والحساب فمهر فيهما.
أبو بكر بن أحمد بن عبد الله بن الهليس، رفيقي زكي الدين المهجمي الأصل ثم المصري، ولد بعد السبعين بيسير، ونشأ في حال بزة وترفه، ثم اشتغل بالعلم بعد أن جاوز العشرين ولازم الشيوخ، وسمع معي من عوالي شيوخي مثل البرهان الشامي وابن الشيخة وابن أبي المجد وبنت الأذرعي وغيرهم فأكثر جداً، وأجاز له عامة من أخذت عنه في الرحلة الشامية، ورافقني في الاشتغال على الأبناسي والبلقيني والعراقي وغيرهم.
ثم دخل اليمن في سنة ثمانمائة فاستمر بالمهم وبعدن إلى أن عاد من قريب فسكن مصر، ثم ضعف بالذرب واختل عقله جداً - وثم منه جيرانه فنقلوه إلى المارستان المنصوري، فأقام به نحو شهرين ومات، وصليت عليه ودفنته بالتربة الركنية بيبرس في سلخ المحرم.(3/556)
باني سنقر بن شاه رخ بن تيمور صاحب مملكة كرمان، مات في ذي الحجة.
أبو بكر الشيخ تقي الدين اللوبياني الفقيه الشافعي، أحد الفضلاء الشافعية بدمشق فباشر تدريس الشامية الجوانية وغيرها، ومات في شوال.
حسين بن علي بن سبع، المالكي شرف الدين وبدر الدين البوصيري، ولد سنة 45، وسمع على المحب الخلاطي أكثر الدارقطني أنا الدمياطي وصفة التصوف لابن طاهر خلا من أول الزهد إلى آخر الكتاب، وسمع أيضا على عز الدين بن جماعة غالب الأدب المفرد للبخاري، وعرض على مغلطاي شيئاً من محفوظه وأجاز له، وكان من الطلبة بالشيخونية، وحدث، سمع منه رضوان وابن فهد والبقاعي وغيرهم، واجاز لابني محمد ومن معه، ومات في ربيع الأول.
طرباي الظاهر نائب طرابلس، وبها مات في يوم السبت ثالث رجب فجأة.
خضر بن أحمد، اصله من.. وكان يتجر في الزيت ثم في البر يجلبه ويبيعه، وأنجب ابنه إبراهيم صاحبنا، وذكر أن مولده سنة سبع وأربعين فبلغ التسعين وكان عجز بأخرة وانقطع فآواه ولده إلى أن مات.(3/557)
زهير بن سليمان بن زبان بن منصور بن جماز بن شيحة الحسني، قتل في حرب وقعت بينه وبين أمير المدينة مانع بن علي بن عطية بن منصور بن جماز في شهر رجب، وقتل معه جمع من بني حسين، منهم ابن عزيز بن هيازع الذي كان أبوه أمير المدينة، وكان زهير فاتكاً يقطع الطريق ومعه جماعة، كما تقدم في حوادث سنة أربع وثلاثين.
عبد الله بن سلمان المحلي جمال الدين أحد موقعي الحكم، وقد ناب في الحكم في بعض الجهات وفي بعض النواحي بالقاهرة قليلاً، مات في يوم الاثنين ثاني عشر رجب.
عبد الرحمن بن أبي بكر بن عبد الرحمن بن محمد بن سليمان بن حمزة المقدسي زين الدين، ولد في رمضان سنة 789، وأسمعه عمه الكثير من ابن المحب وابن عوض وابن داود وابن الذهبي وابن العز، مات فجأة في 14 شهر ربيع الآخر، فمن مسموعه على ابن العز السادس من مسند أنس من المختارة للضياء والثاني والسبعين منها، وسمع على ابن داود الثاني من أمالي المحاملي رواية ابن أبي عمر ابن مهدي أنا سليمان ابن حمزة.
عبد الرحمن بن نجم الدين عمر بن عبد الرحمن بن حسين بن يحيى ابن عبد المحسن، المسند زين الدين أبو زيد القبابي ثم المقدسي الحنبلي، ولد في 13 شعبان سنة 49، وأجاز له أبو الفتح الميدومي وجل شيوخ شيخنا.
العراقي، وسمع من الشيخ تقي الدين السبكي وصلاح الدين ابن أبي عمر وابن أميلة وصلاح الدين(3/558)
العلائي وناصر الدين التونسي والتباني وابن رافع وأحمد بن النجم إسماعيل والخلاطي وابن جماعة ومغلطائي وابن نباتة والرساوي وحسن بن هبل، وشيوخه بالسماع والإجازة نحو المائة وخمسين نفساً خرجت له عنهم مشيخة، وأجاز لي غير مرة، مات في سابع شهر ربيع الآخر ببيت المقدس، وقد أكثر عنه الرحالة وقصد لذلك، وبلغ سبعين سنة إلا قليلا، وتفرد بأكثر مشايخه.
عبد الواحد بن إبراهيم بن أحمد بن أبي بكر بن عبد الوهاب، الفوي الأصل ثم المكي العلامة النحوي جلال الدين أبو المحامد الشهير بالمرشدي، ولد في جمادى الآخرة سنة ثمانين بمكة، وأسمع على النشاوري والأميوطي والشهاب بن ظهيرة وغيرهم، ورحل إلى القاهرة فسمع بها من بعض شيوخنا، ومهر في العربية، وقرأ الأصول والمعاني والفقه، وكان نعم الرجل مروءة وصيانة؛ ومات في يوم الجمعة 24 شعبان، وكثر الأسف عليه.(3/559)
علي بن طيبغا بن حاجي بك، التركماني الشيخ علاء الدين العينتابي الحنفي، كان فاضلاً وقوراً، مهر في الفنون، وقرره السلطان الأشرف مدرساً وخطيباً بالتربة التي أنشأها بالصحراء؛ مات في طريق الحجاز ودفن بالقرب من الينبع.
علي بن محمد بن موسى بن منصور، المحلي ثم المدني الشيخ نور الدين، كان مولده في جمادى الأولى سنة 754 بالمدينة، وسمع علي ابن حبيب وابن خليل وابن القارئ وأبي البقاء السبكي وغيرهم، وأجاز له ابن أميلة وابن هبل وابن أبي عمر، وحدث باليسير وأجاز لنا: ومات يوم مات في الثالث من شوال وليس ببلاد الحجاز أسند منه.
عمر البسطامي المقيم بالعارض بسفح المقطم، كان كثير الذكر مستمراً عليه لا يفتر عنه لسانه، وتحكى عنه كرامات، وللناس فيه اعتقاد وعمر نحو التسعين.
.... تقدم في التي قبلها فيحرر.
فاطمة بنت خليل بن أحمد بن أبي الفتح المقدسية ثم القاهرية زوج غازي الحنبلي، ولدت في ... وأجاز لها أكثر شيوخ القباني الذين ذكروا قبل، وخرجت لها مشيخة اضفتها إلى مشيخة القباني، وحدثت بأخرة، سمع منها الطلبة؛ وماتت في أول يوم من جمادى الأولى وقد تفردت عن بعضهم.
محمد بن المنصور بن أبي فارس بن عبد العزيز بن المنتصر ملك الغرب عم(3/560)
أبيه الحسين، وكان فاضلاً ذكياً شاطراً، يحفظ المذهب وكثيراً من معاني الحديث، وكحل.
محمد بن عبد الله بن عبد القادر، الشيخ نجم الدين الواسطي السكاكيني، يقال إنه قرأ على العاقولي ومهر في القراآت والنظم والفقه، يقال إنه أقرأ الحاوي ثلاثين مرة، وله شرح على منهاج البيضاوي، ونظم بقية القراآت العشر وتكملة للشاطبي على طريقته حتى يغلب على سامعه انه نظم الشاطبي وخمس البردة وبانت سعاد؛ مات بمكة في سادس عشري شهر ربيع الآخر.
محمد بن علي، جمال الدين التوريزي التاجر، تنقلت به الاحوال، وتولى ببلاد اليمن التحدث في المتجر السلطاني بعدن ثم صرف، وكان تسحب من القاهرة من ديون ركبته في سنة 24 ولم يعد إليها، ومات في هذه السنة بمكة، وهو أخو على المذكور قبل بسنتين المقتول سنة أربع وثلاثين.
محمد بن محمد بن عمر، تقي الدين بن شيخنا سراج الدين البلقيني؛ مات في أول ليلة الثاني عشر من شوال، ودفن صبيحة ذلك اليوم الأربعاء على أبيه وجده، وكان مولده سنة تسع وثمانين مات أبوه وهو طفل فرباه جده، وحفظ القرآن وصلى بالناس وهو صغير له نحو عشر سنين، ودرس في المنهاج، ولازم الشيخ كمال الدين الدميري وغيره، وكان ذكياً حسن النغمة، ونشا في إملاق، ولما ولي عمه القضاء نبه قليلاً، وولي(3/561)
بأخرة نيابة الحكم بمنية الأمراء وغيرها من الضواحي، ودرس بعد موت عمه جلال الدين في الفقه بجامع طولون، وتمول بملازمة ناظر الجيوش عبد الباسط، وحصل وظائف وإقطاعات ورزقاً، وصار كثير المال جداً في مدة يسيرة. وسيرته مشهورة وسبب تقدمه عند المذكور مشهور، وتقدم في الصلاة عليه عمه علم الدين وله نحو الخمسين، وخلف ولداً كبيراً وآخر صغيراً وابنتان، وقد حدث عن جده بشيء يسير، قرأ بعض الطلبة عليه كتاب الجمعة للنسائي بسماعه من جده أنا إسماعيل البلقيني بسنده.
محمد ناصر الدين بن الشيرازي نقيب الجيوش، مات في يوم الثلاثاء رابع عشر شهر ربيع الآخر عن بضع وخمسين سنة، وكان تام القامة كثير المداراة محبباً إلى الناس لكنه كان مسرفاً، وله في هذه الوظيفة مدة طويلة.
تقي الدين بن الجيعان أخو كاتب ديوان الجيش، وكان ساكنا وقوراً يباشر في عدة جهات....، وكانت جنازته حافلة، وكثر التاسف عليه.
عماد الدين السرميني موقع الدست بدمشق، وكان فاضلاً ذكياً، مات في شوال وقد بلغ الأربعين أو قاربها.
الحطي ملك الحبشة الكافر - لا رحم الله فيه - بغرز إبرة.(3/562)
سنة تسع وثلاثين وثمانمائة
استهلت بالخميس، ووافق ذلك رابع مسري من شهري القبط. وبلغت زيادة النيل فيه إلى دون خمسة عشر ذراعاً. ثم وقع الوفاء وكسر الخلج في يوم الاثنين خامس المحرم ووافق ثامن مسري، وكان نظير ذلك في العام الماضي في سابع مسري، وزاد من الذراع - السابع عشر أربعة اصابع، وباشر ذلك ولد السلطان، وكان يوماً مشهوداً، وسر الناس بذلك، وتباشروا بانحطاط السعر - فلله الحمد.
واستمرت الزيادة بعد ذلك إلى أن كان في آخر يوم من مسري قد انتهى إلى تسعة عشر ذراعاً سوى إصبع واحد. ولم يعهد مثل هذا فيما مضى من السنين سوى في السنة الماضية - فالله المحمود على كل حال.
وفيه وصل إلى حلب رسل من قبل جانبك الصوفي، فبلغ السلطان ذلك فجهز لنائبها بقتلهم فقتلوا، ثم تبين أن ذلك كان في آخر - في السنة الماضية، وكان النيروز يوم الثلاثاء، خامس صفر، وكانت السنة القبطية كبيساً ولم يلعب أحد فيه لنهي السلطان عن ذلك وبلغت زيادة النيل فيه تسعة عشر ذراعاً وثمانية عشر إصبعاً، وساوى العام الماضي في ذلك وزاد ثلاثة أصابع ثم زاد في أول يوم من توت إصبعين، وفي الثاني إصبعاً، وكان في العام الماضي قد نقص في أول يوم من توت أربعة أصابع ومع ذلك فلم ترو عدة بلاد من الجيزية التي كان من شأنها أن تروى من ستة عشر لفساد الجسور - والأمر لله! ثم يسر الله أن زاد حتى وفي قدر العام الماضي ولم يكن أحد يظن ذلك، وانتهت زيادة النيل في أول يوم من بابة إلى عشرين إصبعاً، ورئي شهر ربيع الأول ليلة(4/9)
السبت، وثبت ذلك فلم ينقص منه إلى الرابع من شهر ربيع الآخر سوى قدر ذراع، ودخل هاتور من الأشهر القبطية وهو على ثباته، وتأخر زمان الزرع عن العادة، وضج الناس من ذلك، وغلا السعر في القمح وغيره إلى أن بلغ القمح نحو الدينار ثم تناقص.
وفيها استدعى شاه رخ قرا يلك وأمره بقتال إسكندر فكان ما حكيناه في السنة الماضية، ووصل أحمد بن شاه رخ نجدة لقرا يلك، فلقوا إسكندر على ميافارقين، فقتل من الفريقين جمع جم، وانهزم إسكندر إلى بلاد الروم، فوصل إلى أفشر وكاتب صاحب مصر فقام متوليها بخدمته، ودل عليه أحمد بن شاه رخ، فسار في طلبه فتبعه العسكر فانهزم ودخل توقات من بلاد الروم، فأرسل صاحبها يستأذن ملك الروم مراد بن محمد بن عثمان - في أمره -، فأرسل إليه هدية بما قيمته عشرة آلاف دينار وأمر بإكرامه، فإلى أن يصل إليه ذلك جرى على عادته من الفساد والنهب، فشق ذلك على متولى توقات وراسل صاحبه، فأمر برد الهدية وإخراج إسكندر من بلاده، فسار إلى جهة بلاد القرانية، وراسل شاه رخ ملوك الروم وجهز لهم خلعاً وأمرهم بطرد اسكندر وملك أحمد بن شاه رخ ملك الروم وتزوج بنت قرايلك، ولما وصل الخبر للسلطان شرع في التجهيز للسفر وعرض أجناد الحلقة، وفي الثالث من شهر ربيع الأول خلع على شرف الدين أبي بكر بن سليمان الحلبي سبط ابن العجمي كبير الموقعين ونائب كتابة السر بكتابة السر بحلب، وقرر ولده مكانه في جهاته، وهو معين الدين عبد اللطيف، وجهز إلى كاتب السر بها زين الدين(4/10)
عمر بن السفاح بالحضور، لأن كاتب السر ابن السفاح بحلب كتب يحذر من - غائلة - قرقماس وأنه يريد الخروج عن الطاعة، ففطن قرقماس فراسل يطلب الحضور، وصادف توجه النجاب بطلبه فسبق قاصده، فعرف السلطان براءته مما رمى به وأذن له في المجئ، وحنق على ابن السفاح وعزله من كتابة السر وأمره بالقدوم، ثم شفع فيه أن يستمر بطالاً، وتوجه شرف الدين، واتفق قدوم قرقماس على الهجن في أربعة عشر يوماً في سادس ربيع الأول، فلما قدم أكرم.
وفي صبيحة وصوله خلع أمير سلاح مكان جقمق، وخلع على إينال الجكمي الأمير الكبير بنيابة حلب. وعين جقمق الذي كان أمير سلاح في وظيفته، وعوتب قرقماس بأنه راسل جانبك الصوفي، فتنصل وكان ما سيأتي، ثم سافر إينال الجكمي وشرف الدين في الرابع عشر من شهر ربيع الأول إلى مدينة حلب، - وخلع على جقمق مكان الجكمي قبل ذلك - في السابع منه، وخلع عليه أيضاً بنظر المارستان - في السادس عشر منه -، والعجب أنه بعد ثلاث سنين ولي السلطنة في هذا الشهر، وحضر المولد السلطاني في الثالث عشر منه وجلس رأس الميمنة وجلس قرقماس رأس الميسرة، ثم جاء ولد السلطان فجلس فوقه وكان السرور طافحاً على جقمق وقرقماس مكتئب.
وفي حادى عشر ربيع الآخر وصل الخبر بموت قصروه نائب الشام، فقرر مكانه إينال الجكمي الذي توجه قريباً إلى حلب، وتوجه القاصد إليه بنقله عن حلب إلى دمشق، وقرر تغرى برمش أمير آخور التركماني نائباً بحلب، فسار في أول الشهر إلى جهة حلب وخرج في بحمل زائد، وقرر عوضه جانم أخو السلطان الأشرف من أمه أمير آخور، وخلع عليه في سابع جمادى الأولى - أيضاً -، وأمر تغرى بردى المؤذى تقدمة، وورد كتاب صاحب حصن كيفا يخبر فيه بمنازلة شاه رخ تبريز وإذعان إسكندر بن قرا يوسف له، ثم ظهر أن إسكندر انكسر ودخل شاه رخ تبريز ونزل من رساع يشتى(4/11)
فيها، وأرسل عسكراً مع ولده إبراهيم يتبع إسكندر فدخل اسكندر بلاد صاحب مصر واستأذنه في الإقامة بها، فأجابه الأشرف لذلك، فأرسل إليه هدية وآثره بجملة من المال، وورد كتاب نائب ملطية يخبر فيه بإمساك جانبك الصوفي، وتاريخه ثامن عشر ربيع الأول، ثم أحضرت رأس عثمان بن قرايلك وولده وعلقتا بباب زويلة - وذكر نائب ملطية في كتابه أنه - وقع بينه وبين قوم آخرين من التركمان حرب فسقط عن فرسه في المعركة - فغرق - فلم يشعر به إلا بعد يومين - فعرف، وكوتب السلطان فأمر السلطان بإحضار رأسه - وشرح نائب ملطية أموراً - كثيرة -، فأرسلت إليه هدية وأمر، ووصل قاصد ابن دلغادر يخبر بإمساك جانبك - الصوفي -، ووصل جمال الدين يوسف بن عبد الله الكركي قريب ابن الكويز الذي كان ولي كتابة السر بعد موته قدر نصف سنة ختام سنة ست وعشرين وأوائل سنة سبع وعشرين، ثم صرف وولي أخيراً نظر الجيش بالشام فاستمر فيه، ثم صرف ثم أعيد مدة فوصل مطلوباً في أول يوم من شهر ربيع الآخر فتوعك، واستمر إلى أن خلع عليه يوم السبت سادس جمادى الأولى بكتابة سر الشام وصرف من نظر الجيش، فاستقر فيها بهاء الدين بن حجى وكان وليها مرة قبل هذه، وفي أواخر شهر ربيع الآخر غلا سعر القمح فتزايد وقل الخبز من الحوانيت فضجت العامة، فأمر السطان بفتح الشؤن - والبيع - منها، فمشى الحال قليلاً وتزايد السعر إلى أن بلغ القمح أربعمائة والفول مائتين والشعير مائة وسبعين، وسكن الحال بوجود ذلك وبيع الرغيف الذي زنته نصف رطل بدرهم ونصف قنطار من الدقيق - ويسمى عندهم بطه - بمائة وعشرة، وهذا كله والري قد شمل الأرض قبلها وبحررنها فكيف لو كان فيه تقصير! اللهم الطف بعبادك يا رب العالمين.
وفيها وقع الطاعون ببرصا فدام أربعة أشهر، وفيه قبض على جانبك الصوفي وقد تقدم ذكر ظهوره في السنة الماضية فاتفق أنه توجه هو قرمش الأعور وابن سلامش وابن قطلبك إلى محمد بن قرايلك فقواهم، فنازلوا قلعة(4/12)
دوركي ونهبوا ما حولها، ثم توجه محمد إلى أبيه بأمر شاه رخ لقتال إسكندر، وتوجه جانبك ومن معه إلى ملطية فحاصروها، فأظهر له سليمان بن ناصر الدين بن دلغادر أنه معه، فكتب إليه أن يقدم عليه، فقدم في مائة وخمسين فارساً، فتلقاه جانبك فأظهر له المناصحة حتى اطمأن إليه، ثم غدر به وقبض عليه وتوجه له ليلاً حتى دخل الأبلستين، وكتب إلى نائب حلب يعلمه بأنه قبض عليه في سابع عشر ربيع الأول ويقر في مقابلته خمسة آلاف دينار، فجهز نائب حلب كتابه إلى السلطان بمصر، وجهز ناصر الدين قاصده إلى ولده سليمان أن يرسل إلى صاحب مصر بالإعلام بذلك - ويخبر جنبك ليتخذ عنده يداكي يطلق ولده فياضاً ولم يكن بلغه إطلاقه، ففي غضون ذلك وصلت إليه خديجة وابنها فياض، وأرسل جانبك كتاباً إلى يلبان نائب درنده يستميله، فقبض على قاصده وسجنه وأرسل بكتابه إلى الأشرف، فتحقق غدر ابن دلغادر، ووقع الإرجاف بأمر جانبك، وكثر القال والقيل لا سيما ممن يتعصب له، وكان ناصر الدين قبل ذلك نازله تغري برمش نائب حلب، ففر منه فأمر أهل الأبلستين بالرحيل منها وأحرقها. ونهب العسكر من بقي بها. فكانت غيبته خمسين يوماً.
وفي شوال رجع شاه رخ إلى الشرق، واستناب بتبريز شاه جهان وأنعم عليه بجميع نساء إسكندر بن قرايوسف، ووجد مع جانبك بعد القبض عليه كتاب شاه رخ يحرضه على أخذ البلاد الشامية ويعده بأنه يرسل إليه ولده أحمد نجدة له بالعساكر، فقلق صاحب مصر من ذلك وكتب إلى نواب الشام بالاستعداد.
وفي ربيع الآخر نودي بعرض أجناد الحلقة، فعرضوا على السلطان فقال: اخرجوا كلكم، من قدر على فرس ركب فرساً، ومن قدر على حمار ركب حماراً، وفي سابع عشره ورد الأمير شاهين الأيدكاري وصحبته قصاد إسكندر بن قرا يوسف ومعهم راس قرا يلك ورأس ولديه، فأمر السلطان بالرؤوس فطيف بها وزينت القاهرة - وعلقت الرؤوس على باب زويلة وحمل إلى الإسكندر مال.(4/13)
وفي آخر الشهر سابع عشر منه تجهز شاذ بك راس نوبة بمال وفرس وسرج ذهب وكنبوش مزركش إلى سليمان بن دلغادر وابنه ناصر الدين ليسلما - جانبك الصوفي، فجاء الخبر بعد قليل - بأنهما أخذا المال وأطلقا جانبك، قدم شاذ بك في حادي عشر رجب بذلك، فشق على السلطان وكاتب أهل البلاد بالشام ونادى في العسكر بالتجهيز للسفر، وكاتب ملك الروم أن يتأهب للترافق معه على قتال شاه رخ، ثم جهز السلطان جماعة من الأمراء وهم الأمير الأتابك جقمق الذي ولي السلطنة بعده والد يدار أركماس الحاجب الكبير ويشبك ونائب القلعة تنبك وتغري بردى البكلمشي المعروف بالمؤذي - وقرا قجا الحسني - الذي صار أمير آخور وتاني بك نائب القلعة وتغري برمش الذي صار دويدار كبيراً، وخجا سودون وألف فارس من مماليكه وألف فارس من جند الحلقة، وأنفق فيهم سبعة عشر ألف دينار، وتوجهوا إلى حلب فالتقوا بأميرها تري برمش وساروا جميعاً، وقبض على مملوك لابن دلغادر توجه من جهتهم ليكشف حال أهل حلب فدلهم على جانبك الصوفي أنه مقيم بالأبلستين، فتوجهوا ففر منهم جانبك، وهجموا البلد فاحتملوا - ونهبوا ما فيها وعادوا إلى حلب، وتخلف عنهم خجا سودون بعينتاب، فاجتمع جاني بك ومن معه على أن يكبسوه فلاقاهم فوقعت بينهم محاربة شديدة انجات عن أخذ قرمش الأعور وجماعة معه، وفر جانبك وسجن قرمش ومن أسر معه بقلعة حلب، ثم جهزت رأس قرمش بعد قتله إلى القاهرة.
وفي رابع عشري رمضان قدم اسلماس بن كبك التركماني إلى القاهرة مراغماً لجانبك الصوفي، فأكرمه السلطان وخلع عليه وجهزه إلى بلاده، وقرر شاذ بك في نيابة الرها عوضاً عن أينال الاجرود وأمر بإحضار أينال.
وفي هذه السنة أكثر السلطان من النزول إلى الصيد، ونزل غير مرة إلى الضواحي، ومنها إلى جامع عمرو فصلى ركعتين، وإلى خليج الزعفران مرة وغير ذلك.
وفي ثالث عشري ربيع الآخر رسم بعقد مجلس بالقضاة ليتشاوروا في جمع المال لقتال اللنك، ثم أعفوا من ذلك وأشار السلطان بأن من ينسب إلى الغنى يجهز ما يقدر عليه من المقاتلة، وقرر على القاضي الشافعي خمسة عشر وعلى الحنفي عشرة ونحو ذلك.(4/14)
وفي أواخر شهر ربيع الآخر شاع أن شاه رخ قاصد البلاد الشامية، فنودي في أجناد الحلقة بالعرض فعرضوا عند الدويدار الكبير، وحصل لهم مشقات كبيرة خصوصاً لصعاليكهم، واستمر التشديد عليهم.
وفيه خلع علي ولي الدين محمد بن تقي الدين أبي القاسم بن عبد الرحمن ابن عبد الله بن محمد بن عبد القادر الششيني نزيل المحلة نديم السلطان ناظر الحرمين عوضاً عن سودون المحمدي وشيخ الخدام بالمدينة عوضاً عن بشير التنمي، ثم خلع على الصاحب كريم الدين ابن الصاحب تاج الدين ابن كاتب المناخات بالنظر علي الكارم بجدة، وشرع في التجهيز صحبة ابن قاسم، وخلع على يلخجا الثاني أخو الطنبغا الصغير - بشادية جدة عوضاً عن نكار، وخرجوا وصحبتهم جماعة لقصد العمرة والمجاورة وهو الركب الرحبي في نحو أربعمائة جمل، وساروا في يوم الثلاثاء رابع عشر جمادى الآخرة، ووصل نكار إلى القاهرة محتفظاً به، ويقال إنه أهين وصودر على مال، وكان نكار المذكور توجه إلى جدة فلم ينجع كما نجع من قبله، فسخط عليه لسوء تصرفه.
وفي جمادى الأولى وصل الخبر من اقطوه الذي كان توجه رسولاً إلى شاه رخ بأنه وصل إلى حلب وصحبته رسل من شاه رخ، فأجيب بالإذن لهم في المجئ، فلما كان في جمادى الآخرة وصل اقطوه سالماً كما سيأتي.
وفي ذي الحجة وصلت هدية ملك بنجالة إلى السلطان فغرق المركب، وقام الصاحب كريم الدين ومن معه إلى أن استخرجوا الشاشات من البحر وأصلحوها بالقصار وجهزوها وفات ما عدا ذلك،(4/15)
وكان أصلها أن السلطان جهز هدية إلى ملك بنجالة فمات، فأرسل ولده أحمد بن أبي المظفر جواب الهدية بتحف كثيرة، فاتفق أن الريح ألقتهم بجزيرة قرب ديبة، فمات الطواشي الذي من جهة السلطان، فاحتاط صاحب ديبة على موجوده وترك الهدية، فوصلت إلى جدة فغرقت دون ذلك، فبلغ السلطان فشق عليه وأمر بالقبض على كل من وصل مكة من بنجالة، فقبض عليهم وعلى أموالهم حتى أفتكوها بغرامة ما فسد من الهدية.
ودخل فصل الشتاء في يوم الأربعاء السابع عشر من كيهك وقد اشتد البرد بالديار المصرية جداً كاشد ما عهد في وسط الشتاء، وكان برد ذلك في الثالث والعشرين من جمادى الأولى، وكان ابتداء شدة البرد في يوم العشرين منه قبل انفصال الشمس عن القوس بثلاثة ايام، وتزايد البرد مع عدم الهواء والسحب وما جرت به العادة في الشتاء بمصر بل الهواء غير مزعج الهبوب مع شدة برده، وأكثر ما تهب من جهة الشرق عن يسار القبلة.
وفي الحادي والعشرين من كيهك صار الماء الذي في البرك وبقايا الخلجان جليداً، فجمع منه شيء كثير جداً بحيث صار أصحاب المزايل يجمعونه فيبيعونه، والناس يتسارعون إلى شرائه والتناول منه ويظنون أنه من جملة الثلج، وكثر ذلك جداً بحيث لم يسمع ينظير ذلك في هذه الأعصار، وكان الأمر في العام الماضي قبل هذه الأيام بالعكس من استمرار الحر وعدم البرد البتة - فسبحان من له الملك.(4/16)
وفي السادس عشر منه صرف خليل نائب الإسكندرية عن الإمرة والنظر، وذكر لنا خليل بن شاهين المذكور أنه في ولايته أبطل ما كان مقرراً على الباعة لجهة الحسبة وهو في كل شهر ثلاثون ألفاً يحمل إلى ديوان النيابة، ونقش ذلك في رخامات جعلت على أبواب البلد، وأنه وجد ابن الصفير الناظر على الثغر أخذ ما بالمجانيق التي بقاعة السلاح من الرصاص فعمر به حماماً له، فطالع بذلك السلطان فأمر بانتزاعه منه فانتزع، وعمر بالمجانيق كما كانت، وجدد بها واحداً كبيراً ووضعه على برج يقال له الضرغام، ووصف لنا ما بالقاعة من العدد فكان شيئاً كثيراً وأمراً مهولاً حتى أنه قيل إنه في بعض الكائنات احتيج إلى أخذ ورق منها فأخرجت منها خمسة آلاف فلم يؤثر في كثرتها.
وفي العشرين منه استقر سرور المغربي ناظراً وقاضياً بالثغر ولبس الخلعة بذلك، وبلغني أنه عوتب فقال إن الجمع بينهما جائز لأن الذي ينظر عليه ليس مكساً بل هو زكاة الأموال من المسلمين، وما يؤخذ من الكفار ليس بمكس، ثم بعد يوم أهين وضرب على ما بلغني، ثم قرر اقباي اليشبكي الدويدار في إمرة الإسكندرية، ثم قرر خليل المذكور في نظر دار الضرب بالقاهرة عوضاً عن ابن قاسم وكان قد استناب فيها أخاه فصرف.
وفي يوم الثلاثاء سابع عشري جمادى الآخرة منها - أو في شهر رجب وصل أقطوه الدويدار الذي كان رسولاً إلى شاه رخ ابن تمرلنك وصحبته رسل منه، فاجتمع بالسلطان في يومه ثم وصل الرسل يوم الأربعاء وانزلوا بالقاهرة، ثم أخذ منهم الكتاب فقرئ وفيه إنكار ما يصنع بمكة من اخذ - المكوس والتحذير من أمر إسكندر ابن قرا يوسف والإذن له في دخول هذه البلاد وأن يخطب له بمصر وتضرب السكة باسمه والتغليط في ذلك والتهديد، وصحبة الرسول خلعة بنيابة مصر وتاج، ثم راسله القاصد بان معه كلاماً مشافهةً، فأحضر يوم السبت فأداه، فأمر - بضربه وضرب رفيقه، فضربا ضرباً مبرحاً وغمسا في ماء البركة في شدة البرد ولكن بثيابهما حتى كادا يهلكان غماً، ثم أمر بإخراجهما فأعيدا إلى المكان الذي أنزلا فيه، ثم أمر بنفيهما إلى مكة في البحر، فحجا وتوجها إلى العراق،(4/17)
وعزم السلطان على السفر إلى البلاد الحلبية بالعساكر، وكاتب الأشرف بن عثمان أن يكون عوناً على شاه رخ، وجهز المراسيم إلى بلاد الشام بتجهيز الإقامات، وكتب إلى جميع المدن الكبار بتجهز العساكر واستخدام جند من كل بلد - فالله يختم بخير.
وفيها أدير المحمل على خلاف العادة، وأمر مشايخ الخوانق أن يركبوا في صوفيتهم بغير رماحة وأن يلاقوا المحمل من الجامع الجديد إلى الرميلة ويرجع القضاة من هناك.
وفيها وقعت بقرب عسفان بين سرية من أمير مكة وبين بعض العرب من بطون حرب، فتحيل عليهم العرب وأظهروا الهزيمة فرجعوا عليهم وقتلوا منهم مقتلة وانهزم من بقي، وممن قتل الشريف ميلب بن علي بن مبارك بن رميثة، وغنموا منهم اثنين وثلاثين فرساً وجملة من السلاح.
وفي يوم الخميس السابع من شهر رجب استقر شيخ الشيوخ محب الدين محمد بن الشيخ شرف الدين عثمان المعروف بابن الأشقر في كتابة السر الشريف عوضاً عن القاضي كمال الدين ابن البارزي.
واستقر ولده شهاب الدين أحمد في مشيخة الشيوخ بسرياقوس عوضاً عن والده وباشر، وهرع الناس للسلام عليه فركب هو مسرعاً فطاف على كبراء الدولة فسلم عليهم ورجع ونظر في الأمور، ورجع من يسلم عليه يتوجع للمنفصل على العادة.
وفي رمضان نقل قانصوه إلى دمشق بتقدمة ألف عوضاً عن جانبك المؤيدي لموته، ونقل حسن ناظر القدس على إمرة قانصوه بدمشق.
وفي جمادى الآخرة صرف أمين الدين القسطلاني عن قضاء المالكية بمكة وأعيد أبو عبد الله النويري.(4/18)
وفي رجب أوقع تغري برمش نائب حلب بالتركمان بمدينة مرعش، فقتل منهم جماعة وأسر جماعة وغنم منهم غنيمة كثيرة، ورجع إلى حلب سالماً.
وفيها في الخامس من جمادى الآخرة استقر جمال الدين ابن الصفي الكركي كاتب سر دمشق عوضاً عن يحيى بن المدني بحكم عزله، واستقر بهاء الدين بن حجي في نظر الجيش عوضاً عن جمال الدين، واستقر الشريف بدر الدين محمد بن علي بن أحمد الجعفري في قضاء الحنفية بدمشق عوضاً عن الشريف ...
وفيها نازل اسكندر بن قرا يوسف أرزن الروم فأخذها، وفر منه قرا يلك إلى آمد بعد ليلة إلى أرقنين.
وفيها وقع بين طوائف من الإفرنج حروب هائلة، وأنجد المنتصر صاحب تونس بعض الطوائف وكانت أمه منهم، فكانت النصرة لهم على الباقين.
وفيها حصر العرب مدينة تونس، وكان المنتصر ضيق عليهم ومن معهم - ومنعهم من دخول تونس، فانتمى إليهم ابن عمه زكرياء بن محمد بن أبي العباس وأمه بنت أبي فارس، وكان المنتصر مريضاً فأنجد عثمان أخو المنتصر أخاه، وكانت بينهم مقتلة عظيمة.(4/19)
وفيها عزل جمال الدين يوسف بن أبي أصيبعة من نظر الجيش بحلب، وأضيف لزين الدين ابن السفاح كاتب السر.
وفي ذي الحجة خرجت طائفة من العرب من غزة على مبشري الحاج ففتكوا بهم وسلبوهم، فمشوا حتى وقعوا على بعض ذوي الدول من جهينة، فآووهم وكسوهم وحملوهم إلى القاهرة، وحج في هذه السنة أمير ديبه وبلاد الهند، واسمه حسن بن أبي بكر بن حسن الشهير بابن بدر ويلقب الناصر.
وفيها وقع الوباء ببلاد كرمان وفشا الطاعون بهراة حتى سمعت اقطعوه الذي كان رسولا إلى شاه رخ ملك الشرق يقول - إنه سمع وهو عند شاه رخ أن عدة من مات بهراة ثمانمائة ألف. وتوجه شاه رخ في جمع عظيم لقتال اسكندر بن قرا يوسف، والسبب في ذلك أن اسكندر كان نازل قلعة شماخي من بلد شروان وقاتل صاحبها خليل ابن إبراهيم الدربندي مدة، فاغتنم غيبة اسكندر في الصيد فهجم على عسكره فقتل منهم ناساً واسر ولد اسكندر وابنته وزوجته، فبعث بالابن إلى شاه رخ فسيره إلى سمرقند، ووقف خليل بنت اسكندر وزوجته في الخرابات مع البغايا، فلما عاد اسكندر غلب على شماخي(4/20)
حتى خربها ونهب ما بها من الأموال وأفحش في القتل والسبي، فهرب خليل واستنجد بشاه رخ فخرج في نصرته، وظفر اسكندر ببنت خليل وامرأته فوقفهما في البغايا، وألزم واحدة منهما أن تمكن خمسين رجلاً يزني بها جزاء ما فعل خليل، وكان خروج شاه رخ في ربيع الأول فنزل على قزوين في رجب، وأمر فيروز شاه أمير الأتراك أن يتوجه إلى البلاد ما بين قزوين إلى السلطانية إلى تبريز وسائر العراقين وينادي بعمارة ما خرب من البلاد وزراعة ما تعطل من الأرض وغراس البساتين وحط الخراج عمن زرع إلى خمس سنين وإعانة الزراع والفلاحين بالبذر والمال.
فلما بلغ آبهان بن قرا يوسف خبره راسل شاه رخ بأنه في طاعته فكف عنه - ثم أرسل شاه رخ ولده أحمد إلى ديار بكر في ذي الحجة، وأقام على قرا باغ وجد في عمارة تبريز، واظهر العدل إلى أن كان ما سنذكر في السنة المقبلة.
وفي هذا الشهر نزلت الشمس برج الحمل في يوم الأحد ثالث عشري شعبان في النصف من برمهات من أشهر القبط، وانقضى فصل الشتاء والبرد أشد ما كان كنحو الذي كان في طوبة من اشهر القبط وهو كانون من أشهر الروم، ثم بعد ثلاثة أيام هجم الحر دفعة واحدة فدام على ذلك سبعة أيام، ثم عاد البرد على الحال واستمر في رمضان إلا أنه في العشر الأخير منه تناقص ووقع بعض الحر.
وفي يوم الخميس سادس عشري شعبان برز الأمراء بمقدمة العسكر المجرد إلى حلب إلى الريدانية وخرج آخرهم يوم الجمعة، وهم سبعة أمراء فيهم الأتابك والدويدار الكبير والحاجب الكبير فتوجهوا، فلما استهل شهر رمضان بيوم أشيع خروج بقية العسكر مع السلطان ثم فتر العزم.(4/21)
وفي شهر رجب اجتمعت طائفة من عرب بني حرب ومنازلهم حول عسفان بعد أن كانوا يفرقون في أعمال ... فنهبوا غنماً لبعض أهل مكة، فقبض ابن عجلان على الغنم وردها لأصحابها وأنكر عليهم.
فاعتذروا بأنهم اتفقوا مع والده حسن بن عجلان إن لا حرج عليهم من قبله فيما يفعلونه في غير الحرم، فأنكر ذلك وأمر بالغارة عليهم، فخرج إليهم طائفة من أهل مكة منهم أخوه علي بن حسن ووزيره سليمان وميلب بن علي بن مبارك بن رميثة وخرج أرنبغا مقدم المماليك المقيمين بمكة من قبل سلطان مصر ومعه عشرون مملوكاً، وذلك في الثالث عشري من شهر رجب، فأوقعوا بهم فقتلوا منهم طائفة وانهزم الباقون واستاقوا إبلاً كثيرةً واشتغل من طلب النهب، فكمن لهم بعض من انهزم في مضيق فأخذوهم على غرة، فقتل ميلب وفر أرنبغا وقتل من أهل مكة نحو الثلاثين ومن الترك ثمانية أنفس ونهب جميع ما معهم ودخلوا مكة في أسوأ حال، وفاز العرب بالغنيمة وتوجهوا إلى بلادهم فصادفهم وصول الوزير وولي الدين بن قاسم ويلخجا الذي قرر شاداً على البهار بجدة، فبلغهم طرف من الفضة فأخذوا حذرهم، فمروا بمكان الوقعة فدفنوا بعض القتلى وتوجهوا خائفين فلم يلقوا أحداً ودخلوا مكة سالمين في أول يوم من شعبان، فتوجه أرنبغا ومن بقي معه من الترك إلى القاهرة، فدخلوها في أوائل العشر الثاني من شهر رمضان، وذكروا أنه وصل إلى مكة ناس من التجار ومعهم بضائع من قبل شاه رخ ابن اللنك أمر بيعها بمكة وتفرقتها فيها صدقة على من عينه من أهل مكة، وان المتكلم على البضائع من قبل سلطان مصر أساء عشرتهم وأخذ منهم عشور ما معهم وكاتب السلطان يستأذنه في تمكينهم من بيع ما أحضروه ومن تفرقته.
وفي السابع من شهر رمضان قرر خليل الذي كان نائب الإسكندرية في الوزارة وصرف تاج الدين الخطير وكان قد أظهر العجز، فاتفق أن لحم المماليك الاجلاب تأخر فرجموه فسعى في الاستعفاء فأناط السلطان الأمر بناظر الجيش، فتروي في الأمر ثم قرر هذا، فباشر دون الشهر ثم عجز وقصر -، فتغيظ السلطان فتلافى ناظر الجيش الأمر(4/22)
وآل الأمر - إلى أن صرف خليل عن الوزارة، وتكلم ناظر الجيش في ذلك إلى أن يصل كريم الدين ابن كاتب المناخات - من جدة، فأقام ناظر الدولة يتصرف ويراجعه، واستمر الحال إلى أن قدم كريم الدين، واستهل شوال يوم الأربعاء، فلبس السلطان الأبيض، وذلك قبل العادة القديمة بأسبوعين - فإن العادة جرت أن يكون ذلك في ثامن بشنس فوقع هذا في الثالث والعشرين من برمودة.
وفي ليلة السبت ثاني ذي القعدة ولد علي بن محمد ابن كاتبه، أنشأه الله صالحاً في دينه ودنياه، وأمطرت في صبيحة هذا اليوم بعد طلوع الشمس واستمر في طول النهار أحياناً، وذلك في رابع عشري بشنس، وكان تقدم قبل ذلك سموم حارة في معظم النهار في الجمعة التي قبلها وفي الليل واضر ذلك بكثير من الخضراوات. وفيه نودي بمنع ضرب أواني الفضة وآلاتها، وشدد على من يحمل الدراهم المضروبة إلى الحجاز، لان التجار يستفيدون فيها لرغبة الهنود في الفضة فلذلك قلت بأيدي الناس.
وفيه استقر شمس الدين الصفدي في قضاء الحنفية بدمشق على مال يحمله، وكان قدم القاهرة ليخف عنه فزيد عليه.
وفي ليلة السبت خامس عشري الشهر هبت هواء باردة بحيث عاود الناس لبس الصوف وخصوصاً في الليل وفي أوائل النهار، وذلك عند انفصال فصل الربيع ودخول فصل الصيف.
واستهل شهر - ذي الحجة بالسبت وكنا تراءيناه فتعسرت رؤيته ثم ثبت في اليوم الثاني.
وفي يوم الخميس سادس ذي الحجة نودي على البحر، وكانت القاعدة يومئذ سته أذرع وستة عشر إصبعاً.
وفيها وصل حمزة بك بن علي بن دلغادر فوقف بين يدي السلطان، فقبض عليه وسجن.(4/23)
وفيها وقعت بين خجا سودون ومن معه من جيش حلب وبين قرمش ومن معه من اتباع جانبك الصوفي بعينتاب وقعة كبيرة أمسك فيها قرمش وجماعة ممن فر إلى جانبك، وسر السلطان بذلك لما وصل إليه الخبر -.
وفيها على ما قرأت بخط الشيخ تقي الدين المقريزي أنه بلغه في مجاورته بمكة هذه السنة أن أندراس الحطي صاحب مملكة الحبشة الكفرة مات في الطاعون العظيم الذي وقع في بلاد الحبشة حتى مات بسببه من لا يحصى من المسلمين والنصارى، وأقيم بعده ولد له صغير، فغزاهم شهاب الدين أحمد الملقب بدلاي ملك المسلمين بالحبشة، فغنم وسبى وفتح عدة قرى، واستنقذ الباني وهي بلدة من بلاد المسلمين كان العدو غلب عليها، فأنزل بها ألف بيت من المسلمين، وأقام أخاه خير الدين في بلد ركله، ونشر العدل وأمنت الطريق في زمانه - ولله الحمد.
وفي هذه السنة فشا الوباء في بلاد اليمن سهلها وجبلها إلى صعدة وصنعاء، وفي مقابلها من بلاد بربر والحبشة والزنج.
ذكر من مات
في سنة تسع وثلاثين وثمانمائة من الأعيان
إبراهيم أمير زاه بن شاه رخ صاحب شيراز، وكان قد ملك البصرة، وكان فاضلاً حسن الحظ جداً، مات في رمضان.
أحمد بن شاه رخ ملك الشرق، مات في شعبان بعد أن رجع من بلاد الجزيرة(4/24)
وأرزن الروم فحزن عليه أبوه، واتفق أنه مات له في هذه السنة ثلاثة أولاد كانوا ملوك الشرق بشيراز وكرمان، وهذا كان أعهدهم، ويقال له أحمد جوكي.
أحمد بن عبد العزيز، الشبكي ثم الشيرازي الشيخ همام الدين، قرأ على الشريف الجرجاني، قرأ عليه المصباح في شرح المفتاح، وقدم بمكة فنزل في رباط اشت، فاتفق أنه كان يقرئ في بيته فسقط بهم البيت إلى طبقة سفلى فلم يصب أحد منهم بشيء وخرجوا يمشون، فلما برزوا سقط السقف الذي كان فوقهم وكان حسن التقرير قليل التكلف مع لطف العبارة وكثرة الورع عارفاً بالسلوك على طريق كبار الصوفية، وكان يحذر من مقالة ابن العربي وينفر عنها، مات في خامس عشري شهر رمضان.
أحمد بن محمد بن علي بن إسماعيل بن علي بن محمد بن محمد، الزاهدي الخباز المعمر العابد شهاب الدين، خادم ضريح الشيخ رسلان لدمشق، ذكر أنه ولد سنة 739، واسمع من زينب بنت الكمال وغيرها فقرؤا عليه بإجازتها ولم يظهر له سماع؛ ومات في تاسع جمادى الأولى وله مائة سنة وسنتان.
إسماعيل بن عبد الخالق، الأسيوطي مجد الدين ابن الشيخ، كان وقوراً، ملازماً حانوت الشهود، قليل الشر، وله سماع وحضور وإجازة من عبد الرحمن بن القارئ؛ مات في ثاني المحرم.(4/25)
بابي سنقر بن شاه رخ صاحب كرمان، مات في ذي الحجة، وكان ولي عهد أبيه، وفيه شجاعة موصوفة.
تاج بن سينا بن عبد الله، الشويكي - بالشين المعجمة والكاف مصغر نسبة إلى الشويكة مكان ظاهر دمشق - المعروف بالتاج الوالي، وقديماً كان يعاني خدمة الأكابر في الحاجة، وذكر لي أنه كان يخدم الشيخ شهاب الدين ابن الجابي بدمشق، ذكر لي مراراً ما يدل على أن مولده كان بعد الخمسين، واتصل بالملك المؤيد قبل سلطنته بعد أن اتصل بالأمير الطنبغا القرمشي فخدمه وراح عليه، فلما استقر في الملك بالقاهرة ولاه الشرطة فباشرها، وفوض إليه في أثناء ولايته أمر - الحسبة، فكان في مباشرته ذلك الغلاء المفرط، ثم في أواخر الدولة صرف عنها واستقر استادار الصحبة، وفي مرض موت المؤيد أعيد، وحصل له في أوائل دولة الأشرف(4/26)
انحطاط منزلة وهو مستمر على الولاية ثم خدم الأشراف فراج عليه أيضاً واستقر معه مضافاً إلى الولاية المهمدارية وأستادار الصحبة وشاد الدواوين والحجوبية ونظر الأوقاف العامة وغير ذلك، فأما الشرطة فكان الذي يباشرها عنه غالباً أخوه عمر، ثم في الآخر صار كالمستبد ثم صرف واستقر غيره ثم صرف مرة أخرة وأعيد ابن الطبلاوي، ثم صرف ومات وهو على هذه الوظائف كلها، مات بعلة - بعسر البول في آخر يوم العشرين من المحرم، وبلغني أنه كان لقي منه شدائد، وكان يعتريه قبل هذا بحيث أنه شق مرة فخرجت حصاة كبيرة وأفاق دهراً، ثم عاوده ثم كانت هذه القاضية، وكان حسن الفكاهة، ذرب اللسان لا يبالي بما - يقول، وتنقل عنه كلمات كفر مخلوطة بمجون لا ينطق بها من قبله دون - ذرة من إيمان، فإن كان ... مرضاً نفعه فإنه كان كثير الصدقة والبر المستمر، ولم يتعرض السلطان لماله وترافع أخوه عمر وزوجته وقرر عليها خمسة آلاف دينار، ثم أعفيت من ذلك باعتناء أهل الدولة.
جلبان خوند الجركسية زوج السلطان ووالدة ولده يوسف الذي قرر أميراً كبيراً وهو مراهق، وكانت من جواريه فأعتقها وتزوجها وحظيت عنده، وحجت سنة أربع وثلاثين، فكانت في عظمة زائدة مفرطة، وماتت بعلة الصرع في يوم الخميس ثاني شوال، وقد أقدم السلطان من أهلها عدداً كثيراً أحضرهم من بلاد الجركس وأقطعهم وخولهم، وخلفت من الأمتعة والملابس والنقد شيئاً كثيراً جداً يقال يقرب من سبعين ألف دينار.
الحسين الإمام العلامة المفتي الأمير ابن أمير المسلمين أبي فارس، الحفصي، وكان أخوه لما مات في العام الماضي استقر ولده في المملكة، ثم أراد الحسين الثورة فظفر به فقتله وقتل أخوين له، وعظمت المصيبة بقتل الحسين، وكان فاضلاً مناظراً ذكياً - ذكر لي ذلك صاحبنا الشيخ عبد الرحمن البرشكي رحمه الله تعالى.
خشقدم الخصي الظاهري كان خازندار السلطان ثم صرف عنها، واستقر زماماً إلى أن مات، وخلف مالاً جزيلاً يقارب مائة ألف دينار، منه غلال مخزونة قومت(4/27)