[الطريق من غانة إلى تادمكّة]
1472 فأمّا الجادة من غانة إلى تادمكّة وبينهما مسيرة خمسين «1» يوما، فمن غانة إلى سفنقو ثلاث مراحل، وهي على النيل وهي آخر عمل غانة. (إلى تادمكرة، وبينهما مسيرة عشرين يوما) «2» . ثمّ تصحب النيل إلى بوغرات فيه قبيل من صنهاجة يعرفون بمداسة. وأخبر الفقيه (أبو محمّد) «3» عبد الملك أنّه رأى في بوغرات طائرا يشبه الخطاف يفهم من صوته كلّ سامع إفهاما لا يشوبه لبس: قتل الحسين قتل الحسين يكرّر مرارا، ثمّ يقول:
بكربلا مرّة واحدة. قال عبد الملك: سمعته أنا ومن حضر من المسلمين معي.
ومن بوغرات إلى تيرقى. ثمّ تسير منها في الصحراء إلى تادمكّة، وتادمكّة أشبه بلاد الدنيا بمكّة (شرفها الله وزادها تشريفا وتعظيما) «4» . (ومعنى تاد عندهم هيئة إذ أنّها على هيئة مكّة) «5» ، وهي مدينة كبيرة بين جبال وشعاب، وهي أحسن بناء من مدينة غانة ومدينة كوكو. وأهل تادمكّة بربر مسلمون وهم يتنقّبون كما «6» يتنقّب بربر الصحراء، وعيشهم من اللحم واللبن ومن حبّ تنبته الأرض من غير اعتمال، ويجلب إليهم الذرّة وسائر الحبوب من بلاد السودان، ويلبسون الثياب المصبّغة (بالحمرة من القطن) «7» والنولي وغير ذلك، وملكهم يلبس عمامة حمراء وقميصا أصفر وسراويل زرقاء. ودنانيرهم تسمّى الصلع لأنّها ذهب محض غير مختومة.
ونساؤهم فائقات الجمال لا تعدل بهنّ أهل بلد حسنا، والزنا عندهم مباح، وهنّ يبادرن التجّار أيّتهنّ تحمله إلى منزلها.(2/880)
[الطريق من تادمكّة إلى القيروان]
1473 فإن أردت من تادمكّة إلى القيروان فإنّك تسير في الصحراء خمسين يوما إلى وارجلان «1» ، وهي سبعة حصون للبربر أكبرها يسمّى أغرم أن يكامن «2» ، أي حصن العهود «3» . ومنها إلى مدينة قسطيلية أربعة عشر يوما، (ومن قسطيلية إلى القيروان سبعة أيّام على ما تقدّم. وبين وارجلان وقلعة أبي طويل مسيرة ثلاثة عشر يوما) «4» .
[الطريق من تادمكّة إلى غدامس]
1474 ومن تادمكّة إلى غدامس أربعون مرحلة في الصحراء، والماء فيها على مسيرة اليومين والثلاثة أحساء. وغدامس مدينة لطيفة «5» كثيرة النخل والمياه وأهلها بربر مسلمون. وبغدامس دواميس كانت سجنا للكاهنة الّتي كانت بإفريقية.
وأكثر طعام أهل غدامس التمر، والكمأة تعظم عندهم حتّى تتّخذ فيها الأرانب جحرة. وبين غدامس وجبل نفوسة سبعة أيّام في الصحراء، وبين نفوسة ومدينة «6» أطرابلس ثلاثة أيّام على ما تقدّم.(2/881)
1475 وطريق آخر من تادمكّة إلى غدامس: تسير من تادمكّة ستّة أيّام في عمارة سغمارة، ثمّ في مجابة أربعة أيّام إلى الماء «1» ، ثمّ في مجابة ثانية «2» أربعة أيّام، وفي هذه المجابة الثانية معدن لحجارة تسمّى تاسي النسمت، وهي حجارة تشبه العقيق وربّما كان في الحجر الواحد ألوان من الحمرة والصفرة والبياض وربّما وجد فيها في النادر الحجر الجليل الكبير، فإذا وصل به إلى أهل غانة غالوا فيه وبذلوا فيه الرغائب، وهو أجلّ عندهم من كلّ علق يقتنى، وهو يجلى ويثقّب بحجر آخر يسمّى تنتواس «3» كما يجلى الياقوت ويثّقب بالسنباذج، لا يعمل فيه الحديد شيئا إلّا بالتنتواس ولا يوصل إليه ولا يعلم موضعه حتّى ينحر الإبل على معدنه وينضج دمه، فحينئذ يظهر ويلقّط. وفي بونو معدن للتاسي أنسمت أيضا، ومعدن هذه المجابة أفضل.
1476 وتسير من هذه المجابة الثانية «4» إلى مجابة ثالثة، وفي هذه المجابة معدن الشبّ ومنه يحمل إلى البلاد. وتسير من هذه المجابة إلى مجابة رابعة أحد عشر يوما في رمال جرد لا ماء فيها ولا نبت، يتزوّد الرفاق الماء والحطب فيها كما يتزوّد الطعام والعلف، وعلى يسار السائر في هذه المجابة جبل الرمل الأحمر الّذي يتّصل بسجلماسة، وهو الّذي يكون فيه الفنك والثعلب الدهي «5» ، وهو آخر حدّ إفريقية.(2/882)
1477 وإذا سار السّائر من بلاد كوكو على شاطىء البحر غربا انتهى إلى مملكة يقال لها الدمدم «1» يأكلون من وقع إليهم، ولهم ملك كبير وملوك تحت يده، وفي بلدهم قلعة عظيمة عليها صنم في صورة امرأة يتألهون له ويحجّونه.
1478 وبين تادمكّة ومدينة كوكو تسع مراحل، والعرب تسمّي أهلها البزركانيّين «2» . وهي مدينتان مدينة للملك ومدينة للمسلمين، وملكهم يسمّى قندا. وزيّهم كزي السودان (من الملاحف وثياب الجلود وغير ذلك بقدر جدّة الإنسان منهم، وهم يعبدون الدكاكير كما يفعل السودان) «3» .
ويضرب لجلوس الملك الطبل وترقص النساء السودانيات بالشعور الجثلة «4» .
المسترسلة، ولا يتصرّف أحد منهم في مدينته حتّى يفرغ من طعامه ويقذف باقيه في النيل، فيجلبون عند ذلك ويصيحون فيعلم الناس أنّه قد فرغ من طعامه. وإذا ولي منهم ملك دفع إليه خاتم وسيف ومصحف يزعمون أنّ أمير المؤمنين بعث بذلك إليهم. وملكهم مسلم لا يملّكون غير المسلمين، ويزعمون أنّهم إنّما سمّوا كوكو لأنّ الّذي يفهم «5» من نغمة طبلهم ذاك، وكذلك أزور وهيروزويلة يفهم من نغمة طبلهم زويلة زويلة. وتجارة أهل بلد كوكو بالملح وهو نقدهم، والملح يحمل من بلاد البربر يقال لها توتك من معادن تحت الأرض إلى تادمكّة، ومن تادمكّة إلى كوكو. (وبين توتك) «6» وتادمكّة ستّ مراحل.(2/883)
ذكر نبذ من سير البربر وسياساتهم سوى ما وقع منها مفترقا في موضعه من هذا الكتاب
1479 ذكروا أنّ رجلا شيخا خرج مع امرأته وكانت شابّة يريد قلعة حماد، فصحبه في بعض الطريق (فتى شابّ) «1» كلف بتلك المرأة وكلفت به، فتواطيا على أن يدّعي كلّ واحد منهما زوجيّة الآخر ويسقطا الشيخ. فلمّا وصلا إلى القلعة شكا ذلك الشيخ إلى حماد ما دهمه من أمرهما ووصف له حاله معهما.
فوقف حماد الشاب والمرأة فتقارا على نكاحهما وأنكرا ما يدّعيه الشيخ. فجعل حماد يباحث الشيخ هل صحبهم في طريقهم أحد أو هل له شبهة «2» ، فقال: ما صحبنا في طريقنا أحد غير هذا الكلب، فأندلى لكلب كان معه.
فأمر الشيخ بربط الكلب إلى تمرة أو وتد (كان هناك، ثمّ أمر المرأة بحلّه، فذهبت إليه فأرسلته) «3» . ثمّ أمرها بربطه والكلب لا ينكر شيئا من ذلك.
ثمّ قال للشابّ: قم فارسل الكلب ثمّ اربطه. فلمّا همّ بذلك نبحه الكلب وأنكره، فقال للمرأة: هذا زوجك الشيخ وهذا الفاسق يخلّفك «4» عليه.
وأمر بضرب عنق الفتى.
1480 وذكر أنّ رجلا «5» كان له امرأتان وكان كلفا بآخرتهما نكاحا. فقالت له الأولى: إنّ هذه الّتي تكلف بها تخونك وإنّها تفجر مع غلام لها. فاستعمل الركوب والسقوط عن الدابّة وسيق إلى منزل امرأته الأخيرة محمولا لا يقلّب(2/884)
عضوا بزعمه، فاجتمع أهله ونساؤه إليه يمرّضونه ويلطّفونه إلى أن مضى هزيع من اللّيل «1» ، فعزم عليهم وصرفهم إلى منازلهم، وبقي مع امرأته واستعمل النوم والتثاقل حتّى كأنّه مغمى عليه. فرأى امرأته قد خرجت عنه إلى البيت الّذي كان فيه المتّهم بها، فجمع حسّه وصار عند باب البيت يستمع «2» ، فسمعه يقول لها: أبطأت عليّ وتركتني بلا عشاء.
فقالت «3» : حبسني عنك شغلي بهذا الرجل، فلا تلمني فأنت للنفس وهو للولد. فصمت على ما سمع وتغافل عنه ورجع إلى مضجعه. فما كان إلّا ضحى الغد حتّى تنادى حي ذلك الموضع وأصباحاه. فثاروا إلى العدوّ ورأى هذا الساقط التحامل على نفسه والأنفة من تخلّفه، فلبس سلاحه وركب فرسه وحمل ذلك المتّهم فيمن حمل من أتباعه معهم السلاح. فلمّا برزوا إلى عدوّهم أمر ذلك المتّهم بالتقدّم بين يديه، فلم يجد الى الحيدة سبيلا.
فلما خالط «4» به العدو وكلل عنه مدبرا، فكان اول صريع ولم يعلم احد شيئا من أمرهما. ثمّ انصرف إلى منزله فحمدت امرأته الله على سلامته، فقال لها: لكنّ الّذي للنفس لم يسلم، فإنّي إنّما للولد. فعلمت أنّه قد سمع مقالتها فقالت: أرسلني إلى أهلي. فقال: اذهبي. فلمّا أبطأت عليه أتى أهلها فقال: ما بال امرأتي لا تعود إلى منزلها؟ فقالوا له: إنّا لا نقدر على صرفها. فقال: وأنا لا أقدر على فراقها. فلجّ بهم الأمر حتّى افتدت منه بجميع ما حمل إليها في صداقها وما تكلّف لها عند إملاكها، فلمّا قبض ذلك ووصل إليه قال لهم: أمّا إذ وصلت إلى حقّي فإنّ الشأن كيت وكيت، وأخبرهم بالقصّة. فقرّرها أهلها واستبانوا الريبة فيها فقتلوها. فبلغ بسياسته إلى التشفّي منها بغير يده وتخلّص من عشيرته «5» وعشيرة امرأته واسترجع جميع حقّه.(2/885)
1481 وشبيه بهذا عن بعض كبرائهم أيضا أنّه اتّهم امرأته وأخبر أنّه إذا غاب خالفه رجل من أهل ناحيته إلى امرأته. فاستعمل سفرا بعيدا وذكر ذلك لقبيله، فتجهّز معه نفرا لذلك «1» . فلمّا صاروا وانتهوا إلى أدنى مرحلة اعتذر لهم بعذر يضطرّه إلى الانصراف (وعزم عليهم في النفوذ لطيّتهم) «2» فكرّ راجعا حتّى أتى بعض الشعاب مساء، فأخفى فيه فرسه وسلاحه وأتى أهله متستّرا متجسّسا «3» ، فتسلّق جدارا أو مكانا يطلع منه على منزله آمنا أن يعلم به منه. فرأى امرأته على ما يكره مع ذلك الرجل المتّهم. فولّى راجعا إلى الشعب ولبس سلاحه وركب فرسه وأتى المنزل. فلمّا علم به أهله ارتاعوا وأخفوا ذلك الفاجر في بيت من الدار. ودخل ربّ المنزل غير مكترث واعتذر في رجوعه بعذر قبلته امرأته وجعلت «4» تحاول له طعاما. فلمّا كمل قربته إليه، فقال: احضري ضيفك. قالت: وهل لي من ضيف؟ قال: نعم هو ذاك في البيت الكذا. فناكرته فقام إليه واستخرجه وقال: هلمّ إلى طعامنا.
فقال له: ما لي إلى الأكل من حاجة وإنّي إلى الموت أحوج لما نالني من هذه الفضيحة. قال: لا بأس عليك فقد افتتن من هو خير منك، ولم يزل به حتّى طعم.
1482 ثمّ أرسله عن منزله مستترا مسلّما لم يربه بريب. ثمّ أقبل على امرأته فقال:
لا تعيي ممّا جرى لك فإنّ النساء قد يزللن ويملن بهواهنّ، والمعصوم من الناس قليل، وعندي من الستر لأمرك والطي لخبرك ما يسرّك، وقد علمت أنّه لم يحملك على ما صنعت إلّا هوى غلب عليك غيّه، وأنا تارك بينك وبين هذا الّذي أحببته تنكحينه وتتشفّين منه جهارا من غير ريبة، على أن تشترطي(2/886)
لي شرطا وتعقد لي على نفسك عقدا تلتزمينه. فأجابته إلى ذلك وقالت: ما شرطك؟ قال: إنّك إذا أكملت عنده عاما أن ترسلي إليّ فأمرّ بك وهو حاضر، فتخرجين إليّ متزيّنة في ثياب تشفّ «1» وتتكلّمين معي في أمره وتتشكّين سوء عشرته فستحمله الغيرة على طلاقك، فأعود إلى حالي معك بعد أن تقضي حاجة نفسك وترتفع عنّي الريب في أمرك باختيارك لي على هذا الّذي قد مال بك. وقد علم سوء خلق صاحبه وتهافته إلى الشرّ وقلّة ملكه لنفسه «2» . فعاقدته على ذلك.
1483 ثمّ أرسل إلى أبيها وأهل بيتها فصنع لهم طعاما فأطعمهم، ثمّ قال لهم: سلوا ولّيتكم كيف كانت «3» صحبتي لها ومعاشرتي إيّاها. فسألوها فأثنت خيرا ووصفت مجاملة وبرّا. فقال: اسألوها ما بالها أتريد المقام عندي. فسألوها فقالت: إنّي أكرهه وأبغض قربه وأحبّ بعده ولا أجد من نفسي معينا على غير ذلك، وقد جاهدتها على الاستمرار «4» في صحبته، فعزفت بي عن ذلك عزوفا لا رجعة معه، فلا تتركوني معه فإنّ ذلك يقتادني إلى الحمام ويفضي بي إلى أنواع السقام، وقد تبرّأت إليه من جميع حقّه. والزوج في ذلك كلّه يظهر الرغبة فيها والاشفاق من مفارقتها. فما انفض «5» جمعهم حتّى ملكت أمرها ورجعوا «6» على زوجها ما صيّر إليها من حقّها وشكروه على برّه بها وولوها الملامة في جميع أمرها. فلمّا حلّت «7» للأزواج كان الغادر «8» بها أوّل خاطب لها، فتزوّجته ومكثت معه حولا وهي تستبطي مرور الحول لما خبرته من فضل الأوّل على هذا. فلمّا انقضى بعثت إلى الأوّل على ما عاقدته معه، فخرج مارّا على منزلها فتلقّته في قميص يصفها «9» وينمّ بجسمها تشكو زوجها وهو قاعد مع جماعتها «10» . فلمّا رأى ذلك لم يتمالك(2/887)
غيرة أن قام إليها وطعنها طعنة كانت فيها نفسها. فعمد إليه أهلها وإخوتها فقتلوه. واختلف الفريقان وزحف بعضهم إلى بعض، فكادت الحرب تفنيهم. وتمّ للزوج الأوّل المراد فيهما ولم يرزأ في نفسه ولا في ماله بمقدار قلامة.
1484 وحدّثوا أنّ حمادا قال: ما تداهى أحد قطّ عليّ ولا خدعني إلّا امرأة وكعاء من البربر «1» . قيل له: وكيف كان ذلك؟ قال: نعم إنّ صاحبا كان لي بالقيروان نشأ معي نشأة واحدة لم يفرق بيننا مكتب ولا مشهد «2» ، وكنت قد خلطته بنفسي وجعلته محلّ أنسي. فلم يزل على ذلك حتّى صرت إلى ما أنا فيه ففقدته فجعلت أفتقده فلا أقدر عليه ولا أجد سببا للوصول إليه. فلمّا أن عتبت على أهل باغاية وشننت عليها الغارات لم أنشب «3» صبيحة ذلك اليوم أن سمعت مناديا ينادي: يا لله يا للأمير «4» . فقلت: ما بالك ومن أنت؟ فقال: أنا فلان بن فلان. فإذا به صاحبي المطلوب قد حبسه عنّي نسكه وغلب على هواه ورع يملكه. فأظهرت البشر بمكانه والجذل «5» بشأنه، ولو شفع في جميع أهل باغاية لشفعته. فجعلت ألطّفه وأؤنّسه وهو كالولهان، فسألته عن أمره فقال إنّه فقد بنته فيمن فقد من النساء. فقلت له: والله لو خرجت إليّ بالأمس لحقنت دماء أهل بلدك «6» لحرمتك عندي. فقال: القدر غالب والمحروم خائب.(2/888)
1485 قال حماد: ثمّ أمرت القواد فأحضروا جميع ما كان في جيوشهم من النساء فعرف فيهنّ بنته. قال: فأمرت بسترها وحملها مع أبيها، فرفعت صوتها قائلة: لا والله يا حماد، لا رجعت مع أبي ولا رجعت مع الّذي غصبني.
قلت: وما تريدين ويلك؟ قالت: إنّي لا أصلح إلّا للملوك فلا حاجة لي في السّوقة. فلمّا سمع ذلك أبوها سكن ما كان في نفسه وظنّ أنّها قد فتنت وفسدت عليه. قال حمّاد: فقلت لها: ومن أين لا تصلح إلّا للملوك؟
قالت: لأنّ عندي علما لا أشارك فيه ولا يدّعيه غيري. قلت: ألا أريتنا شيئا من ذلك؟ فقالت: نعم، تأمر بقتل إنسان «1» تحضر أمضى سيف أتكلّم عليه بكلمات تمنع من تأثيره «2» ويعود بيد حامله أكلّ من قائمه. قال حمّاد: فقلت: الّذي يجرّب هذا فيه لمغرور. قالت: أو يتّهم أحد أن يريد قتل نفسه؟ قلت «3» لا. قالت: فإنّي أريد أن يجرّب ذلك فيّ. فتكلّمت على سيف اختاروه ومدّت عنقها، فضربها السيّاف ضربة أبان رأسها.
فاستيقظت من غفلتي وعلمت أنّها تداهت عليّ وكرهت العيش بعد الّذي جرى لها وعليها «4» . واستبان لأبيها من ذلك مثل الّذي بان لي، فجعل يلقي بنفسه عليها ويتمرّغ في دمها أسفا لما حلّ به منها واغتباطا بها لما رأى من عظم أنفتها واختيارها الموت على ما نزل بها.
1486 وبنو وارسيفان «5» قبيل من البربر إذا أرادوا مباشرة «6» الحرب تقرّبوا بذبح بقرة سوداء للشماريخ- وهم عندهم الشياطين- ويقولون: هذا ذبح للشماريخ، ويفتحون أوعيتهم في تلك الليلة من الطعام والعلف فلا «7» يكون له «8» وكاء ولا سداد، ويقولون: هذا طعام وعلف للشماريخ. فإذا غدوا(2/889)
للقتال توقّفوا «1» حتّى يروا زوابع الريح فيقولون: قد جاءت الشماريخ أولياؤكم لتفديكم «2» ، فيحملون عند ذلك فينتصرون بزعمهم. ويقولون إنّ ذلك لا يخطيهم وجماعتهم يعتقد ذلك غير مستترين به. وهم إذا أضافوا الضيف جعلوا من طعامه للشماريخ ويزعمون أنّه يأكلونه «3» الّذي يوضع لهم. وينهون عن ذكر اسم الله عند شيء من ذلك «4» .
ذكر بلاد الأندلس وخواصّها والمشهور من مدنها «5»
1487 ذكر أنّ اسمها في القديم إبارية «6» من وادي أبره «7» ، ثمّ سمّيت بعد ذلك باطقة «8» من وادي بيطى «9» ، وهو نهر قرطبة، ثمّ سمّيت إشبانية من أجل «10» رجل ملكها في القديم كان اسمه إشبان. وقيل إنّما «11» سميّت بالاشبان لأنّ الأشبان سكنوها «12» في أوّل الزمان على جرية النهر وما والاه «13» . وقال قوم إنّ اسمها على الحقيقة إشبارية مسمّاة من بشيرى، وهو الكوكب «14» المعروف بالأحمر. وسمّيت بعد ذلك بالأندلس من أسماء الأندليش «15» الّذين سكنوها على ما يأتي ذكره.(2/890)
1488 وحدّث الأوائل عن الأندلس بعبارات مختلفة، وحدّها قسطنطين حدودا ستّة جعل الجزء الأوّل من حدودها من مدينة نربونة «1» ، وهو حدّ ما بين غاليش «2» وبين الأندلس، وأضاف إليها سبع مدن بما حواليها وهي بطرّش وطليوشة ومقلونة «3» ونومشو وقرقشونة. وفي قرقشونة هذه الكنيسة العظمى عندهم تسمّى شنت مرية غراثية «4» فيها سبع سوار «5» من فضّة ولها يوم عيد يرده العجم من الآفاق. وبينها وبين برشلونة «6» مسيرة «7» خمسة وعشرين يوما.
1489 وجعل الجزء الثاني من مدينة براقرة «8» وهو حوز جليقية وشلطيانة «9» وهو بلد ابن غومس، وجعل لها اثنتي عشرة مدينة (بما حواليها، منها مدينة) «10» برطقال ومدينة توذي ومدينة أورية ومدينة لكّه ومدينة برطانية ومدينة أشتيرقية «11» ومدينة شنتا ياقو «12» ، وفيها كنيسة الذهب ولها يوم يرد «13» فيه من إفرنجة ومن رومة ومن جميع نواحيهم كلّها، ومدينة إيرية «14» ومدينة بطقة «15» ومدينة شارة.(2/891)
1490 وجعل الجزء الثالث من مدينة طركونة وأضاف إليها مدينة سرقسطة «1» وأشقة ولاردة «2» وطرطوشة وتطيلة وأعمال بلد ابن شانجو كلّها وبلد بليارش وبرشلونة وجرندة «3» ومدينة أنبوريش «4» ومدينة بنبلونة ومدينة أوقة ومدينة قلهرّة ومدينة طرسونة ومدينة أماية.
1491 وجعل الجزء الرابع عشرين مدينة قاعدتها مدينة طليطلة وأضاف إليها مدينة أوريط ومدينة شقوبية ومدينة أركبيقة «5» ومدينة وادي الحجارة «6» ومدينة شقونسة ومدينة أكشومة «7» ومدينة بلنسية ومدينة بلازية ومدينة أوريولة ومدينة آلش «8» ومدينة شاطبة ومدينة دانية ومدينة بياسة ومدينة قسطلونة (ومدينة منتيشة ومدينة وادي آش) «9» ومدينة بسطة ومدينة أرش وهي بجّانة.
1492 وجعل الجزء الخامس قاعدته مدينة ماردة «10» وأضاف إليها اثنتي عشرة مدينة وهي باجة ومدينة أكشونبة (ومدينة صيوتلة) «11» ومدينة يابرة وشنترة وشنترين والأشبونة وقلنبرية وقورية وشلمنقة «12» وصمورة وهي محدثة برّا إلى شنت ياقوب «13» .(2/892)
1493 وجعل الجزء السادس قاعدته مدينة إشبيلية وأضاف إليها لبلة وقرطبة وقرمونة ومورون ومدينة مرشانة والجزيرة وتاكرنا وريه وأشبونة واستجة «1» وقبرة وأعمالها إلى بجّانة وإلبيرة وجيان ومنتيشة «2» (وبيرة وأرجونة) «3» وملكونة وأبدة وبياسة.
1494 وبلد الأندلس مثلّث الشكل، فالركن الواحد منها الموضع الّذي فيه صنم قادس بين المغرب والقبلة بإزاء جبل إفريقية المسمّى أدلانية «4» ، ومنه يخرج إلى «5» البحر المتوسّط الخارج إلى الشام الآخذ بقبلي الأندلس. والركن الثاني هو بشرقي الأندلس بين مدينة نربونة «6» ومدينة برذيل بإزاء «7» جزيرتي ميورقة ومنورقة بمجاورة البحرين البحر المحيط والبحر الشامي المتوسّط، وبينهما المدخل الّذي يعرف بالأبواب، وهو المدخل إلى الأندلس من الأرض الكبيرة على بلد إفرنجة، ومسافته بين البحرين مسيرة يومين، ويقابل مدينة برذيل مدينة نربونة على البحر المحيط. والركن الثالث حيث ينعطف البحر من الجوف إلى الغرب حيث المنارة في الجبل الموفي على البحر، فيه الصنم العالي المشبه بصنم قادس، وهو البلد الطالع على بلد برطانية «8» . وقال أوروشيوش «9» : يسمّى البلد الّذي فيه الصنم برغشية، وحيث هذا الصنم ينقطع حوز جليقية.(2/893)
1495 فمن جوفي الأندلس وغربيه البحر المحيط، وفي قبليه البحر الشامي وهو البحر المعروف ببحر تيران، ومعناه الّذي يشقّ دائرة الأرض. وفي شرقيه منحرفا إلى الجوف يسيرا بلد البشكنش آخذا مع نهر أبره إلى بلد شنت مرية. وذكر بطليموس «1» أنّ قلوباطرة «2» فتحت في الجبل الحاجز بين الأندلس وإفرنجة طريقا بالحديد والنار والخلّ، وكان فعلها ذلك من العجائب.
ذكر فضل الأندلس وغريب أخبارها.
1496 والأندلس شامية في طيبها وهوائها، يمانية في اعتدالها واستوائها، هندية في عطرها وذكائها، أهوازية في عظيم جبايتها «3» ، صينية في جواهر معادنها، عدنية في منافع سواحلها. فيها آثار عظيمة (للأوّل من اليونانيّين) «4» أهل الحكمة وحاملي الفلسفة. وكان من ملوكهم (الّذين أثروا) «5» الآثار بالأندلس هرقلش، وله الأثر في الصنم بجزيرة قادس وصنم جليقية والآخر «6» في مدينة «7» طركونة الّذي لا نظير له.(2/894)
[ذكر جبال الأندلس
1497 ومن الجبال المشهورة بالعظم في بلد الأندلس، منها جبل إلبيرة وهو جبل الثلج، وهو متّصل بالبحر «1» المتوسّط منتظم بجبل ريه ولاصق بالجزيرة مع البحر. ويذكر ساكنوه أنّهم لا يزالون يرون الثلج نازلا «2» فيه شتاء وصيفا.
وهذا الجبل يرى من أكثر بلاد الأندلس ويرى من عدوة البحر ببلاد البربر.
وفي هذا الجبل أصناف الفواكه العجيبة، وفي قراه المتّصلة به يكون أفضل الحرير والكتّان «3» الّذي يفضّل على كتّان الفيوم.
1498 ومنها جبل ألبرت، وهو الحاجز بين بلاد الإسلام وبلد غاليش ومبتدأه من البحر القبلي (المتوسّط المجاور) «4» طرطوشة ومنتهاه إلى البحر الغربي بين الأشبونة وجليقية.
ومنها الجبل الحاجز بين بلاد إفرنجة وبلاد الصقالبة.(2/895)
ذكر ما خصّت به الأندلس من الأشجار والمعادن والأحجار
1499 يوجد «1» في ناحية دلاية من إقليم البشرة عود النضوح لا يقارنه العود الهندي ذكاء وعطرا، وقد سيق منه إلى خيران الصقلبي «2» صاحب ألمرية أصل كان منبته بين أحجار هناك. وبأكشنبة جبل يعرف بجبل الجنّة كثيرا ما يتضوّع منه ريح العود الذكي إذا أرسلت فيه النار. وببحر شحذونة يوجد أطيب العنبر العربي الوردي، وفي جبل المنتلون المحلب «3» الّذي لا يعدل به. قال أحمد بن محمّد بن موسى الرازي: وهو المقدم في الأفاوه المفضّل في أنواع الاشنان لا ينبت بشيء من الأرض إلّا بالهند وبالأندلس.
1500 وفي جبل بإلبيرة السنبل الفائق الطيب، وبنواحي المنتلون يكون البرباريس العجيب. وبجبل أندة يوجد القسط الطيّب المرّ المذاق، ويوجد أيضا بالجبل المنسوب إليه جبل القسط، وهو بين حصن «4» قاشتروا ومارتش. والجنطيانا يجلب «5» من الأندلس إلى جميع الآفاق، وهو عقير رفيع يوجد بلبلة.
1501 وبجزيرة سطين الزبد النفيس المصمّغ الطرفين، ويوجد بجبال قلعة أيوب المرّ الطيّب، وأطيب كهرباء الأرض بشذونة درهم منها يعدل دراهم من(2/896)
المجلوبة. وأطيب القرمز قرمز الأندلس وأكثر ما يكون بنواحي إشبيلية ولبلة وشذونة وبلنسية، ومن الأندلس يحمل إلى الآفاق. وبناحية لورقة «1» من ناحية تدمير يكون حجر الأزورد الجيّد، وقد يوجد في غيرها. وعلى مقربة من حصن منتون من عمل قرطبة معدن البلّور بجبل شجيران، وهو بشرقي قبرة. وحجر البجادي موجود بناحية مدينة الأشبونة، في جبل هناك يتلألأ فيه ليلا كالسرج. والياقوت الأحمر يوجد في ناحية حصن منت ميور من عمالة مالقة، إلّا أنّه دقيق جدّا لا يصلح للاستعمال لصغره. وحجر يشبه الياقوت الأحمر في ناحية مدينة بجّانة في خندق بقرب قرية ناشر يوجد أشكالا مختلفة كأنّه مصنوع حسن اللون صبورا على النار.
1502 وحجر المغنطيس الجاذب للحديد يوجد بموضع يعرف بالصنهاجيّين من كورة تدمير. وحجر الشادنة بجبل قرطبة كثير، وهو يرقي الدم ويستعمل في ذلك التذاهيب. والحجر اليهودي «2» في ناحية حصن البونت، وهو أنفع شيء للحصى. وحجر المرقشيتا الذهبية في جبال أنطاندة الّتي لا نظير لها في الدنيا ومن الأندلس يحمل إلى جميع الآفاق لفضلها. والمغنيسيا بالأندلس كثير، وكذلك حجر الطلق، ويوجد اللؤلؤ بناحية مدينة برشلونة، إلّا أنّه جامد اللون. والمرجان يخرج من بحر الأندلس، وقد خرج منه في ساحل بحر إلبيرة «3» من عمل المرية ما لقط منه في أقلّ من شهر نحو ثمانين قنطارا.
ومعدن الذهب بنهر لادرة يجمع بها منه كثير، ويجمع أيضا في ساحل الأشبونة.(2/897)
1503 ومعادن الفضّة بالأندلس كثيرة في كورة تدمير وجبال حمّة بجّانة، وبإقليم كرتيش من عمل قرطبة معدن فضّة جليل. وبأكشونبة «1» معدن القصدير لا نظير له يشبه الفضّة، وله معادن بناحية إفرنجة وليون «2» . ومعدن الزئبق في جبل البرانس ومن هناك يتجهّز به إلى الآفاق. ومعدن الكبريت الأحمر بالأندلس ومعادن الأصفر كثيرة. ومعادن التوتيا الطيّبة بساحل إلبيرة بقرية تسمّى بطرنة، وهي أزكى توتيا وأقوى في صنع النحاس، وبجبال قرطبة توتيا وليست كالبطرنية. ومعدن الكحل المشبه بالاصبهاني بناحية مدينة طرطوشة يحمل منها إلى جميع البلاد. ومعادن الشبوب والحديد والنحاس والرصاص بالأندلس أكثر من أن تحصى.
1504 والأندلس دار جهاد وموطن رباط قد أحاط بشرقها وشمالها وبعض غربها أصناف أهل الكفر. وروي عن عثمان بن عفان رضه أنّه كتب إلى من انتدب إلى غزو الأندلس: أمّا بعد فإنّ القسطنطينية إنّما تفتح من قبل الأندلس وإنّكم إن استفتحتموها كنتم شركاء من يفتحها في الأجر والسلام.
وروي عن كعب الأحبار أنّه قال: يعبر البحر إلى الأندلس أقوام يفتحونها يعرفون بنورهم يوم القيامة.
1505 ودخل الأندلس رجل واحد من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقال عبد الملك بن حبيب: اسمه المنيذر الإفريقي. ويروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنّه قال: من قال(2/898)
رضيت بالله ربّا إلى آخرها فأنا الزعيم له لآخذنّ بيده فأدخله الجنّة. ودخلها من التابعين حنش بن عبد الله بن عمرو بن حنظلة بن نهر بن قنان بن ثعلبة بن ثامر النسائي يكنّى أبا راشد، وهو صنعاني من صنعاء الشام ويعدّ في المقرّبين، ويقال حنشن بن علي، والصواب بن عبد الله، وهو الّذي أسّس المسجد الجامع بسرقسطة، وكان مع علي بالرّقة. فلمّا قتل انتقل إلى مصر، وموضع محرابه وقبره بسرقسطة معلوم. ومنهم علي بن ربّاح «1» اللخمي البصري ويكنّى أبا موسى، لقي أبا هريرة وعمرو بن العاص وعلقمة بن عامر وروى عنهم، وقبره أيضا بمدينة سرقسطة معلوم. ومنهم حيوة بن رجاء التميمي وأبو عبد الرحمان بن عبد الله بن يزيد الجبلي «2» الأنصاري وعياض بن عقبة الفهري وموسى بن نصير بن عبد الرحمان بن يزيد يقال بكري ويقال لخمي. ويقال إنّ نصيرا وحمدان مولى عثمان من سبي عين التمر وإنّ نصيرا أعتقه صبيح مولى أبي العاص بن أميّة. ومن كتب الخزانة غير المترجم أنّ نصيرا أصابه خالد بن الوليد في علوج عين التمر وادّعوا أنّهم رهن وأنّهم من بكر بن وائل، فصار نصير وصيفا لعبد العزيز بن مروان فأعتقه، فمن أجل هذا يختلف فيه.
1506 وعقد الوليد لموسى على إفريقيّة سنة ثلاث وثمانين، وكان مولد موسى سنة تسع عشرة في خلافة عمر بن الخطّاب رضه. وكان معاوية قد جعل نصيرا أبا موسى على حرسه «3» ، فلم يقاتل معه عليّا رضه. فقال له معاوية: ما منعك في الخروج معي على علي ولم تكاف يدا لي عليك؟ فقال له: لم يمكنّي أن أشكرك بكفر من هو أولى بشكري منك. قال: ومن هو؟ قال: الله تعالى.(2/899)
1507 ومسافة ما يملك المسلمون من الأندلس- وذلك من أكشونبة «1» إلى مدينة أشقة- فذلك ثلاثمائة فرسخ طولا، ومن قرطاجنة الحلفاء إلى الفهمين ثلاثون فرسخا عرضا.
ذكر مدينة قرطبة
1508 ذكر أنّ تفسير قرطبة بلسان القوط قرظبة بالظاء المعجمة، ومعناه بلسانهم القلوب المختلفة، وقيل: معنى «2» قرطبة آخر «فاسكنها» . ودور «3» مدينة قرطبة في كمالها ثلاثون ألف ذراع، [ولها من الأبواب باب القنطرة وهو بقبليّها ومنه يعبر النهر على القنطرة، والباب الجديد وهو بشرقيّها، وباب عامر وهو بين الغرب والجوف منها، وغيرها. وقصر مدينة قرطبة بغربيّها متّصل بسورها القبلي والغربي. وجامعها بإزاء القصر من جهة الشرق، وقد وصل بينهما بساباط يسلك الناس تحته من المحجة العظمى الّتي بين الجامع والقصر إلى باب القنطرة] «4» . وكان طول مسقف البلاطات من المسجد الجامع وذلك من القبلة إلى الجوف قبل الزيادة مائتين وخمسا وعشرين ذراعا، والعرض من الشرق إلى الغرب قبل الزيادة مائة ذراع وثلاثين ذراعا. (ثمّ زاد الحكم في طوله في القبلة مائة ذراع وخمس أذرع) «5» .
فكمل الطول [ثلاثمائة ذراع وثلاثين ذراعا] «6» . وزاد محمّد بن أبي عامر بأمر هشام بن الحكم في (عرضه من) «7» جهة الشرق ثمانين ذراعا. فتمّ العرض مائتين (وثلاثين ذراعا) «8»(2/900)
1509 وكان عدد بلاطاته أحد عشر بلاطا عرض أوسطها ستّ عشرة ذراعا، [وعرض كلّ واحد من اللّذين يليانه شرقا واللّذين يليانه غربا أربع عشرة ذراعا] «1» وعرض كلّ واحد من الستّة الباقية إحدى عشرة ذراعا. وزاد ابن أبي عامر فيه ثمانية بلاطات عرض كلّ واحد عشرة أذرع. وطول الصحن من المشرق إلى المغرب مائة وثمان وعشرون ذراعا، وعرضه من القبلة إلى الجوف مائة وخمس أذرع، وعرض السقائف المستديرة بصحنه عشر أذرع فتكسيره ثلاثة وثلاثون ألف ذراع ومائة وخمسون ذراعا.
1510 وعدد أبوابه تسعة منها ثلاثة في صحنه غربا وشرقا وجوفا وأربعة في بلاطاته اثنان غربيان واثنان شرقيان، وفي مقاصير النساء من السقائف بابان. وجميع ما فيه من الأعمدة ألف عمود ومائتا «2» عمود وثلاثة وتسعون عمودا أساطين «3» رخام كلّها. وقباب «4» مقصورة الجامع مذهّبة وكذلك جدار المحراب وما يليه قد أجرى فيه الذهب على الفسيفساء، وثريات المقصورة فضّة محضة. وارتفاع الصومعة اليوم- وهي من بناء عبد الرحمان بن محمّد- ثلاث وسبعون ذراعا إلى أعلى القبّة المفتّحة الّتي يستدير فيها المؤذّنون. وفي رأس هذه القبّة تفّاح ذهب وفضّة وارتفاعها إلى مكان الآذان أربع وخمسون ذراعا، وطول كلّ حائط من حيطانها على الأرض ثماني عشرة ذراعا.
وعدد المساجد «5» بقرطبة على ما أحصي وضبط أربعمائة وواحد وتسعون مسجدا.(2/901)
1511 وبقرطبة أقاليم كثيرة وكور جليلة، وكانت جباية هذه الأقاليم في أيّام الحكم بن هشام «1» من ناضّ الحشر وناضّ الطبل وناضّ البيزرة للعام مائة ألف دينار وعشرين ألف دينار، ومن وضيفة القمح مديا أربعة آلاف مدي وستّمائة مدّي وسبعة وأربعين مدّيا، ومن الشعير سبعة وأربعين ألف مدّي.
1512 قال المؤلّف: عقب الفتنة الّتي كانت على رأس أربعمائة من الهجرة واستمرّت إلى وقتنا هذا- وهو سنة ستّين وأربعمائة- عفت آثار هذه القرى وغيّرت رسوم ذلك العمران، فصار أكثرها خلاء بندب «2» ساكنيه. وكذلك حكم الله في كلّ جديد أن يبليه وفي كلّ أهل أن يخليه حتّى يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين.
ذكر مدينة إشبيلية
1513 وهي قديمة أوّلية، زعم أهل العلم باللسان اللطيني «3» أنّ أصل تسميتها إشبال «4» معناه المدينة المنبسطة، ويقال إنّ الّذي بناها يوليش قيصر وإنّه أوّل من تسمّى قيصر. وكان سبب بنائه إيّاها أنّه لمّا دخل الأندلس ووصل إلى مكانها أعجب بكرم ساحته وطيب أرضه وجبله المعروف بجبل «5»(2/902)
الشرف، فردم على النهر الأكبر مكانا وأقام فيه المدينة وأحدق عليها بأسوار «1» من صخر صلب، وبنى في وسط المدينة قصبتين متقنتين عجيبتين تعرفان بالأخوين، وجعلها «2» أمّ قواعد الأندلس واشتقّ لها اسما من اسمه ومن اسم رومية فسمّاها مدينة «3» رومية يوليش، ولم تزل معظّمة عند العجم من ذلك الوقت. وقد كان منها رجال ولوا قيادة العجم العظمى والمملكة بمدينة رومية. وروى ابن وضّاح أنّ المرأة الّتي قتلت يحيى بن زكريا عليه السلام من إشبيلية من قرية طالقة. وقد قيل إنّ رأس إشبيلية لقيصر أكتبيان «4» .
1514 ومدينة إشبيلية موفية «5» على النهر وهو في غربيّها. ويذكر في بعض الأخبار أنّ إشبان بن طيطش من ذرّية طوبيل «6» بن يافث بن نوح عليه السلام، كان أحد أملاك الاشبانيّين «7» خصّ بملك أكثر الدنيا وأنّ بدء ظهوره كان من إشبيلية، فغلظ أمره وبعد صيته وتمكّن في كلّ ناحية سلطانه. فلمّا ملك نواحي الأندلس وطاعت له أقاصى البلاد خرج في السفن من إشبيلية إلى إيليا فغنمها وهدمها وقتل بها من اليهود مائة ألف وسبى مائة ألف وفرّق في البلاد «8» مائة ألف، وأنقل «9» رخامها إلى إشبيلية وماردة وباجة «10» ، وأنّه صاحب المائدة الّتي ألفيت بطليطلة وصاحب الحجر الّذي وجد بماردة وصاحب قليلة الجوهر الّتي كانت بماردة أيضا على حسب ما ذكر (في فتح الأندلس) «11» ، وأنّه حضر خراب بيت المقدس الأوّل مع بخت نصر وحضر الخراب الّذي كان مع قيصر بشبشيان وأدريان «12» ، ويذكر أنّه من طالقة «13» إشبيلية. وفي سنة عشرين من دولته أتقن بنيان إيلياء. وكان(2/903)
من «1» مضى من ملوك الأعاجم يتداولون بمسكنهم أربعة من مدن الأندلس: إشبيلية وماردة وطليطلة وقرطبة، ويقسمون أزمانهم على الكينونة بها.
1515 وكان سور إشبيلية من بناء الإمام عبد الرحمان بن الحكم بناه بعد غلبة المجوس عليها بالحجر أحكم بناء. وكذلك جامعها اليوم من بنائه وهو من «2» عجيب المباني وجليلها، وصومعته بديعة الصنعة غريبة العمل أركانها الأربعة عمد (فوق عمد) «3» إلى أعلاها، في كلّ ركن ثلاثة أعمدة. فلمّا مات عبد الرحمان بن إبراهيم بن حجّاج- وذلك في محرّم سنة إحدى وثلاثمائة- (قدّم أهلها) «4» أحمد بن مسلمة، وكان من أهل البأس والنجدة، فأظهر العناد وجاهر «5» بالخلاف، فأخرج إليه (عبد الرحمان بن محمّد) «6» قائدا (من قوّاده) «7» بعد قائد حتّى افتتحها على يدي الحاجب يوم الاثنين لخمس خلون من جمادى الأولى سنة إحدى وثلاثمائة «8» ، (واستعمل عليها سعيد) «9» بن المنذر المعروف بابن السليم، فهدم سورها وألحق أعاليه بأسفله وبنى القصر (القديم المعروف بدار الإمارة) «10» وحصنه بسور صخر رفيع وأبراج منيعة «11» ، وهو على ذلك إلى اليوم. وبنى سور المدينة (في الفتنة بالتراب. وله من) «12» الأبواب باب أبي العاص «13» غربي ومنه الخروج إلى الشرق، وباب حميدة غربي أيضا (بإزاء المقبرة، وباب قرمونة) «14» شرقي.
ويطلّ على إشبيلية جبل الشرف، وهو شريف البقعة كريم التربة دائم الخضرة فراسخ في فراسخ طولا وعرضا، لا تكاد تشمس منه بقعة لالتفاف زيتونه واشتباك غصونه. ولها كور جليلة ومدن «15» كثيرة وحصون شريفة.(2/904)
1516 وبإشبيلية آثار للأوّل كثيرة، وبها أساطين [عظام تدلّ على هياكل كانت بها] «1» . وإشبيلية من الكور (المجنّدة نزلها جند حمص) «2» ، ولواؤهم في الميمنة بعد لواء جند دمشق.
1517 ولإشبيلية من الأقاليم: إقليم المدينة، (إقليم ألية) «3» ، إقليم السهل، إقليم الشعراء، إقليم البصل، إقليم طالقة، إقليم الشرف «4» ، إقليم الوادي، إقليم طشانة، إقليم الفحص، إقليم قرطشانة «5» ، إقليم المنستير. وانتهت جبايتها في أيّام الأمير الحكم بن هشام خمسة وثلاثين ألف دينار ومائة دينار.
وفي إقليم طالقة وجدت صورة جارية من مرمر (معها صبي وكأنّ حيّة تريده) «6» ، لم يسمع في الأخبار ولا رئي في الآثار صورة أبدع منها جعلت في بعض الحمّامات وتعشّقها جماعة من العوامّ.
[ذكر الجزيرة]
1518 ومدينة «7» الجزيرة على ربوة مشرفة على البحر ولها أقاليم «8» . وكانت جباية كورة الجزيرة ستّمائة دينار وثمانية عشر دينارا. قال محمّد بن وضّاح: حدّثنا زهير بن عبّاد الكلاعي عن ابن عمّ وكيع بن الجرّاح الكوفي [قال] : لقيته(2/905)
بمصر ولقيته في رحلتي الثانية بالشام وأخذت عنه علما كثيرا شيخ ثبت، قال: أهل الجزيرة من بلاد الأندلس هم الّذين أبوا أن يضيفوا موسى والخضر عليهما السلام. بها أقام الخضر الجدار وخرق السفينة وأسلم الجلندى، وكان يأخذ كلّ سفينة غصبا كما قال الله تعالى في كتابه العزيز «1»
ذكر ماردة وبطليوس
1519 ماردة بجوفي قرطبة منحرفة إلى الغرب قليلا، وكانت مدينة ينزلها الملوك الأوائل «2» ، فكثرت بها آثارهم والمياه المستجلبة إليها. وكان قد أحدق بها سور عرضه اثنتا عشرة ذراعا وارتفاعه ثماني عشرة ذراعا، وعلى بابها كتابة ترجمتها: براءة لأهل إيليا من عمل في «3» سورها خمس عشرة ذراعا.
ولماردة حصون وأقاليم، من ذلك مدلّين وحصن مورش (وحصن أمّ غزالة وحصن الأرش) «4» وحصن أمّ جعفر وحصن الجزيرة وحصن الجناح وحصن الصخرة المعروفة بصخرة أبي حسّان وحصن لقرشان وحصن سنت أقروج «5» في غاية الارتفاع لا يعلوه طائر البتّة لا نسر ولا غيره، وغيرها من الحصون (يكثر ذكرها) «6» .
1520 وبطليوس هي حديثة الاتّخاذ، بناها عبد الرحمن بن مروان المعروف بالجلّيقي بإذن الأمير محمّد لمّا أخرجه من قلعة الحنش «7» ولجأ إلى حصن مرنيط «8»(2/906)
من حصون جلّيقية، انعقد سلمه «1» على أن يستقرّ ببطليوس ويتّخذها دارا، وهي إذ ذاك خالية، فبناها لنفسه ومن معه. فلمّا توطّد «2» له الملك كتب إلى الأمير عبد الله- وقد تولّى الأمر- أن يجدّد له سجلّا على بلده وعقدا على قومه المولّدين، فأجابه إلى ذلك. ثمّ كتب إليه ألّا مسجد جامع له يعلن فيه الدعاء للأمير ولا حمّام يغتسل فيه، فهم على كثرتهم بادية وإن تحضّروا.
وسأله أن يرسل إليه فعلة يبنون له الجامع والحمّام فيلحق البلد بالحواضر، فأجابه إلى ما أراد. ولبطليوس أقاليم وحصون كثيرة.
ذكر مدينة طليطلة
1521 معنى طليطلة باللطيني تولاظو، معناه فرح ساكنها يريدون لحصانتها ومنعتها.
وفي كتب الحدثان كان يقال: طليطلة الأطلال، بنيت على الهرج والقتال، إذا وادعوا الشرك، لم يقم لهم سوقة ولا ملك، على يد أهلها يظهر الفساد، ويخرج الناس من تلك البلاد. ومدينة طليطلة قاعدة القوط ودار مملكتهم، ومنها كانوا يغزون عدوّهم وإليها كان يجتمع جنودهم، وهي إحدى القواعد الأربع المتقدّم ذكرها وهي أقدمهنّ، ألفتها القياصرة مبنية، وهي أوّل الإقليم الخامس من السبعة الأقاليم الّتي هي ربع معمور الأرض، وإليها ينتهي حدّ الأندلس الأدنى ويبتدئ بعدها الذكر للأندلس الأقصى. وأوفت على نهر تاجه وبها كانت القنطرة الّتي كان يعجز الواصفون عن وصفها «3» ، وكان خرابها في أيّام الإمام محمّد. ومن خواصّها أنّ حنطتها لا تتغيّر ولا تسوّس على مرّ السنين (يتوارثها الخلف) «4» عن السلف، وزعفران طليطلة هو الّذي يعمّ البلاد ويتجهّز به إلى الآفاق، وكذلك الصمغ السماوي «5» .(2/907)
1522 وأوّل من نزل بها من ملوك الأندلس لوبيان، [وهو الّذي بنى مدينة رقوبل، وهي على مقربة من طليطلة، وسمّاها باسم ولده، ومنها ولّى الأساقفة على الكور وبها مجتمعهم للمشورة، وكان عددهم ثمانين أسقفا لثمانين مدينة من حوز الأندلس كجلّيقية وطركونة وقرطاجنة. وكانت قبل ولايته فرقا، فائتلف أمر الناس وانقطع الخلاف وأحبّه الخاصّ والعامّ. وهو الّذي بنى الكنائس الجليلة والمعالم الرفيعة، وبنى الكنيسة المعروفة بالمردقة واسمه مزبور على بابها، وهي بين حاضرة إلبيرة ووادي آش] «1» .
(ولها أقاليم وحصون) «2» .
[ذكر طلبيرة]
1523 ومدينة طلبيرة أقصى «3» ثغور المسلمين وباب من الأبواب الّتي يدخل منها إلى أرض المشركين، وهي قديمة على نهر تاجه «4» .(2/908)
[ذكر تطيلة]
1524 وكان بتطيلة «1» بعد الأربعمائة من الهجرة أو على رأسها امرأة لها لحية كاملة سابغة «2» كلحى الرجال، وكانت تتصرف في الأسفار وسائر ما يتصرّف فيه الناس حتّى أمر قاضي الناحية «3» نسوة من القوابل «4» بالنظر إليها، فأحجمن عن ذلك «5» لما عايّنه «6» من منظرها فأكرههنّ على ذلك فإذا بها امرأة، فأمر القاضي بحلق لحيتها وأن تتزيّا بزيّ النساء ولا تسافر إلّا مع ذي محرم.
ولتطيلة مدن وبناءات، منها طرسونة «7» وغيرها، وقلعة أيّوب «8» محدثة.
[ذكر مدينة بربشتر]
1525 ومدينة بربشتر من بلاد بربطانية «9» وبعضها في ملك المسلمين وبعضها للعجم اليوم. وحصن بربشتر على نهر تارة «10» ، وبربشتر من أمّهات مدن الثغر الفائقة في الحصانة البائنة في الامتناع.(2/909)
1526 وقد غزاها على غرّة (وقلّة عدد من أهلها) «1» وعدّة أهل غاليش والروذمانون، وكان عليهم رئيس يسمّى البيطين وكان في عسكره نحو أربعين ألف فارس، فحاصرها أربعين يوما حتّى افتتحها، وذلك سنة ستّ وخمسين وأربعمائة. فقتلوا عامّة رجالها وسبوا فيها من ذراري المسلمين ونسائهم ما لا يحصى كثرة «2» . ويذكر أنّهم اختاروا من أبكار جواري «3» المسلمين وأهل الحسن منهنّ «4» خمسة آلاف جارية وأهدوهنّ إلى صاحب القسطنطينية وأصابوا فيها من الأموال والأمتعة ما يعجز عن وصفه. وفتحها بعد ذلك أحمد (بن سليمان) «5» بن هود صاحب سرقسطة مع أهل الثغور واستنجد «6» بحلفائه من رؤساء الأندلس [ونهد إليها في جمع كثيف ذوي جدّ وحدّ، ففتحها الله عزّ وجلّ على يديه عنوة، فقتل المقاتلة وسبى النساء والذرية] «7» وأدخل منها سرقسطة نحو خمسة آلاف سبية ونحو ألف فرس وألف درع وأموالا كثيرة وثيابا جليلة. وكان افتتاحه لها لثمان خلون من جمادى الأولى سنة سبع وخمسين وأربعمائة. ومنذ ذلك تسمّى أحمد بن سليمان المقتدر بالله.
ولبربشتر حصون ...
[ذكر مدينة برشلونة]
1527 وأمّا مدينة برشلونة فهي من القسم الثالث من الأندلس مسوّرة على ساحل(2/910)
البحر، واليهود بها يعدلون النصارى كثرة ولها ربض «1» خارج منها.
وصاحب برشلونة اليوم راي مند بن بلنقير بن برّيل، وكان خرج يريد بيت المقدس سنة ستّ وأربعين وأربعمائة فنزل مدينة نربونة على رجل من كبراء أهلها، فتعشّق امرأته وتعشّقته، ثمّ تمادى في سفره حتّى وصل بيت المقدس، ثمّ كرّ راجعا حتّى أتى نربوتة فنزل على ضيفه بها، وليس له همّ إلّا امرأته، فتحكّم ذلك التعاشق بينهما واتّفق معها على أن تعمل الحيلة في الهروب إليه من بلدها فيزوّجها من نفسه. فلمّا وصل إلى برشلونة أرسل إليها قوما من اليهود في ذلك. ودخل «2» صاحب طرطوشة في الأمر فأوصلهم في الشواني إلى نربونة، فلم تتوجّه اليهود الحيلة في أمرها وأحسّ «3» زوجها ببعض شأنها وكان بها كلفا، فثقّفها فكان تثقيفه لها سببا لمعونة «4» أهلها على مرادها. فوصلت مع قوم منهم إلى برشلونة، فنزل راي مند عن امرأته وتزوّج النربونية، فلبست الأولى المسوح وخرجت مع جماعة من أهل بيتها إلى رومة حتّى أتت عظيمها وصاحب الدين بها، وهو الّذي يسمّونه البابه، فشكت إليه ما صنع زوجها وأنّه تركها بغير سبب، وهو أمر لا يحلّ في دينهم، وأنّه «5» لا يجوز لهم فعله، وإنّما حمله على ذلك عشقه للنربونية «6» . وشهد لها شهود قبلهم، فحرم البابه على صاحب برشلونة دخول الكنائس وأمر ألّا يدفن له ميّت وأن يتبرّأ منه جميع «7» من يعتقد النصرانية. فلمّا علم ذلك علم أنّه لا حيلة له معه ولا بقاء في أفق يكون فيه لنصراني حكم. فبذل الأموال ودسّ مشاهير الأساقفة والقسيسين وأوطأهم على الشخوص إلى البابه وأن يشهدوا له بأنّه تقصّى «8» عن نسب المرأة الّتي ترك فوجدها منه بقربى يحرّمها عليه، وأنّ النربونية فرّت من زوجها لذلك لأنّه كانت منه بنسب وكان يكرهها على المقام معه. فنفذ القوم إلى البابه وشهدوا للقومس «9» ما أوطأهم عليه، فقبلهم «10» وأباح له دخول الكنائس ودفن من مات له وسائر ما حجر عليه.(2/911)
ذكر بلد جلّيقية
1528 قسمه الأوائل على أربعة أقسام، فالقسم الأوّل هو الّذي يلي «1» الغرب وينحرف إلى الجوف. وساكنوه هم الجلالقة وموضعهم جلّيقية، وكانوا حوالي مدينة براقرة الّتي هي متوسّطة الغرب. ومدينة براقرة هي مدينة أوّلية «2» من بنيان الروم، وقواعدهم ودور مملكتهم شبيهة «3» بمدينة ماردة في إتقان بنائها وصنعة أسوارها «4» ، وهي اليوم مهدومة الأكثر خالية هدمها المسلمون وأجلوا «5» أهلها.
1529 القسم الثاني هو المسمّى (بأشتورش وسمّي) «6» بذلك بواد لهم يقال له أشتر ومنه شرب جميع بلادهم. والقسم الثالث ما كان (من جلّيقية بين الغرب) «7» والقبلة ويسمّى أهله البرتقالش «8» . والقسم الرابع ما كان بين الشرق والقبلة ويسمّى بقشتيلة «9» ، وقشتيلة القصوى وقشتيلة الأدنى، فالأدنى «10» من حصونها (غرنون والقصير وبرغش وأماية) «11» .(2/912)
جملة القول في بلاد الجلّيقيّين وغيرهم من قبائل النصارى إلى بلد الصقالبة على ما أورده إبراهيم بن يعقوب الإسرائيلي الطرطوشي
1530 قال إبراهيم «1» : بلد الجلّيقيّين سهل جميعه والغالب على أرضه «2» الرمل وأكثر أقواتهم «3» الدخن والذرّة، ومعولهم في الأشربة على شراب التفاح والبشكة «4» ، وهو شراب يتّخذ من الدقيق. وأهله أهل غدر «5» ودناءة أخلاق لا يتنظّفون ولا يغتسلون في العام إلّا مرّة أو مرّتين بالماء البارد، ولا يغسلون ثيابهم منذ يلبسونها إلى أن تنقطع عليهم، ويزعمون أنّ الوسخ»
الّذي يعلوها من عرقهم تنعم أجسامهم (وتصحّ أبدانهم) «7» . وثيابهم أضيق الثياب وهي مفرّجة يبدو من تفاريجها أكثر أبدانهم. ولهم بأس وشدّة «8» لا يرون الفرار عند اللقاء (في الحرب) «9» ويرون الموت دونه.
ذكر بلاد إفرنجة
1531 في وسط الإقليم الخامس، وهواؤها غليظ لشدّة بردها ومصيفها معتدل.
وهو بلد كثير الفاكهة غزير الأنهار المنبعثة من ذوب «10» الثلج، ومدائنه متقنة الأسوار محكمة البناء. وآخر حدودها بحر الشام وحدّ آخر البحر المحيط، البحر(2/913)
الشامي بقبليّها والبحر المحيط بجوفيّها، وتتّصل ببلاد رومة أيضا [من ناحية القبلة وتتّصل أيضا] «1» من ناحية الجوف ببلاد الصقالبة بينهما شعراء ملتفّة مسيرة الأيّام الكثيرة، وتتّصل في الشرق أيضا بالصقالبة وتتّصل في الغرب بالبشكنس «2» ، وتتّصل أيضا ببلاد بيورة «3» وهم الّذين يعرفون بالأمانيش «4» ولهم كلام غير كلام الإفرنج.
1532 وتتمادى [أعمال] إفرنجة في الطول والعرض مسيرة شهرين في شهرين مع غيرها من القبائل، ويحجز بين بلاد إفرنجة وبلاد الصقالبة في الجوف والشرق الجبل المعترض بين البحرين. فيتمادى بلد الإفرنج مع ساحل البحر القبلي الشامي حتّى يلزق «5» بجزيرة رومة وبلد لنقبرذية «6» . ويتمادى مع الجبل المعترض في الجوف إلى البحر المحيط. ويتّصل بالصقالبة بلاد المجوس المعروفين بالأنقلش. وسيوف إفرنجة تفوق سيوف الهند.
[ومنها يرد الرقيق من بلاد الصقالبة، ولا يكاد يرى ببلاد إفرنجة زمن ولا ذو عاهة. والزنا في غير ذوات الأزواج عند الإفرنج غير منكر، وإذا حلف أميرهم أو كبيرهم حانثا استهانوه ولم يزالوا يعيّرونه بذلك. وأبناء الأشراف عندهم يسترضعونهم في الأباعد ولا يعرف الابن أبويه حتّى يعقل، وإذا عقل ردّ إليهما فيراهما كالسيّدين ويكون لهما كالعبد. وكانت مملكتهم مجتمعة وأمرهم ملتئما حتّى ثار على رجل من ملوكهم يسمّى قارله قومس مع ملك يقال له رودبيرت، وذلك في عهد الإمام عبد الله، فحشد له قارله وزحف بعضهما إلى بعض فقتله قارله وأسر أصحاب رودبيرت قارله فمكث أسيرا أربعة أعوام، ثمّ هلك بأيديهم فافترق ملكهم واقتسم] «7» .(2/914)
[ويحكى أنّ موسى بن نصير لمّا غزا الأندلس أراد أن يخرق ما بقي عليه من بلاد إفرنجة ويفتح الأرض الكبيرة حتّى يتّصل بالناس إلى الشام مؤملا أن يتّخذ مخترقة تلك الأرض طريقا مهيعا يسلكه أهل الأندلس في مسيرهم ومجيئهم من المشرق وإليه على البرّ لا يركبون بحرا، وأنّه أوغل في بلاد إفرنجة حتّى انتهى إلى مفازة كبيرة وأرض سهلة ذات آثار. فأصاب فيها صنما عظيما قائما كالسارية مكتوبا فيه بالنقر كتابة عربية قرئت فإذا هي: يا بني إسماعيل انتهيتم فارجعوا. فهاله ذلك فقال: ما كتب هذا إلّا بمعنى. فشاور أصحابه في الاعراض عنه وجوازه إلى ما وراءه، فاختلفوا عليه. فأخذ برأي جمهورهم وانصرف بالناس، وقد أشرفوا على قطع البلاد وتقصّي الغاية] «1»
ذكر البرتونين(2/915)